الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إعداد
السيدة: فردوس محمد مصطفى
السيد: سيد على حسين
مراجعة ومتابعة:
السيد/سيد على حسين
بسم الله الرحمن الرحيم
(حرف العين)
العائذ
- بعين مهملة فى أوله فألف فياء مهموزة فذال معجمة - كما فى:
«رسالة البيان والإعراب عمن بمصر من الأعراب» للمقريزى، ويستعمل بين عامة الناس المهملة، وهو اسم لخطة من مديرية الشرقية بجوار الجبل الشرقى فى شمال بلبيس وجنوب الصوّة وشرقى بردين.
تشتمل على عدة قرى وكفور منها: الدهسانية، والمهنوية والخربة وسنيكة والجبلة والوراورة والمسيد، وفى جميعها نخيل كثير وأشجار ومساجد عامرة، وأكثر أبنيتها باللبن وكذا سائر قراها وكفورها؛ مثل الكفر القديم الواقع فى شرقى مصرف بلبيس الآخذ من الترعة الشرقاوية بنحو ثلثمائة متر وفى شرقى الدهسانية بنحو أربعمائة متر، وكفر سليمان فى شمال الكفر القديم بنحو ألف متر، وكفر بغدادى أباظة فى شمال كفر سليمان بنحو خمسمائة متر، وفى جنوب عمريط بنحو ألف وخمسمائة متر، وكذا كفر أباظة الذى أنشأه سليمان أباظة فى شمال ترعة شرويدة بنحو ثلثمائة متر، وفى
شرقى بردين بنحو خمسة آلاف متر، ومنها كفر عياد الموضوع على ترعة صغيرة خارجة من مصرف بلبيس فى شرقى سنيكة بنحو ربع ساعة، وفي جنوب المسيد بقليل، وليس بكفر سليمان وكفر بغدادى نخيل، بخلاف باقى تلك الكفور؛ فنخيلها غاية فى الكثرة مع اختلاف أصنافه واتصال بعضه ببعض، حتى إن الكفور التى بداخله لا ترى من الخارج، ومنه الصنف العامرى الذى تكلمنا على سبب تسميته بذلك فى الكلام على ناحية القرين، وفى تلك الكفور أبنية من الآجر، مشيدة لأكابرها بمناظر مبلطة، ومضايف متسعة، يكرم فيها الأمير والفقير.
وفى: (تاريخ ابن خلدون) أن أهل العائذ عرب يمنيون بحسب الأصل، وهم بطن من بطون كهلان، ولهم حظوظ فى الدول قبل الإسلام وبعده، وكان ورودهم الديار المصرية فى أول القرن السابع من الهجرة، وكان عليهم ضمان السابلة من مصر إلى عقبة أيلة إلى الكرك، انتهى.
وعن «المقريزى» أن أهل العائذ فخذ من جذام نزلوا بين القاهرة وعقبة أيلة، انتهى.
ولا منافاة بين كلام ابن خلدون وما نقل عن المقريزى، لأن جذاما فرع من كهلان، ففى:«رسالة البيان والإعراب عمن بمصر من الأعراب» ، أن جذاما اسمه عامر، ويقال عمرو بن عدى بن الحارث بن مرة بن أدد ابن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان، وجذام أخو لخم واسمه مالك، وإنما قيل لهما لخم وجذام، من أجل أنهما تخاصما، فجذم جذام بفمه إصبع لخم أخيه فقطعه، والجذم القطع، ولخم لخم وجه أخيه جذام، أى لطمه، فخصر عينه فسمى لخما، وقيل غير ذلك، قال ثم إن جذاما لحقت بالشام، فانتمت إلى سبأ ولحقوا باليمن، ثم قسم جذاما إلى بطون، ثم قال: والعائذ - بذال معجمة - بطن من جذام ينسبون إلى عائذ الله، وقيل ينسبون إلى عائذة إحدى بطون جذام، وللعائذ من القاهرة إلى عقبة أيلة، انتهى.
وفى شرح العلامة الشيخ محمد الأمير الكبير على مجموعه فى فقه مالك أن الفخذ فرع من البطن، كما أن الفصيلة فرع من الفخذ وأن للعرب فى فروعهم أسماء مجموعة على الترتيب فى قول الأجهورى:
قبيلة قبلها شعب وبعدهما
…
عشيرة ثم بطن تلوه فخذ
وليس يؤوى الفتى إلا فصيلته
…
ولا سداد لسهم ماله قذذ
وفى (القاموس): القذة - بالضم - ريش السهم والجمع قذذ، انتهى.
فبنو هاشم مثلا فصيلة من بنى عبد مناف، الذين هم فخذ من قصىّ التى هى بطن من كلاب، التى هى عشيرة من بنى مرة الذين هم قبيلة من كعب، وكعب هى الشعب وهكذا/بالاعتبار، ثم إن أهل العائذ فى أول أمرهم نزلوا ببلاد قديمة كانت فى تلك الجهة، اندرس أكثر آثارها، ولم يبق إلا أسماؤها مثل عزيزية القصور، وسنتة، وقسورية، فاستولوا على أرضها ومزارعها، واستخدموا من بقى من أهلها بما لهم من البأس والقوة، واستمروا كذلك زمنا مديدا، ودائما يوجد فيهم عائلات مشهورة، وكان من أشهرهم عائلة أولاد منصور، وتسمى بالمناصرة، إقامتهم بالكفر القديم، وكان كبيرهم شيخ العرب إبراهيم العائذى متكلما على قبيلة العائذ جميعها زمن الفرانساوية، وجاء العزيز المرحوم محمد على، وهم فى خشونة العرب، ولهم مناوشات كثيرة مع غيرهم من قبائل العرب، وليس عليهم شئ مما على الفلاحين، فكانوا ربما حصل منهم تعدّ على الناس والبلاد المجاورة.
ولما عمل العزيز الطرق التى دانت له بها جميع رقاب أهل القطر، دخلوا تحت طاعته وأتمروا بأوامره، وكانوا قد خوّلهم الله أموالا وعقارات ونخيلا، فحصل تخييرهم بين معافاتهم من أن يعاملوا معاملة
الفلاحين، بشرط أن ينزع ما تحت أيديهم من الأراضى والنخيل، كغيرهم من عرب الجبال والخيوش، وبين أن يعاملوا معاملة الفلاحين، ويبقى لهم ما تحت أيديهم، فاختاروا الفلاحة، وسيقوا سوق فلاحى مصر، وعوملوا بمعاملتهم، من دفع الأموال وحفر الترع، وعمل القناطر، وجرف الجسور، وغير ذلك، فبعد أن كان إبراهيم العائذى شيخ قبيلة العائذ كلها، جعل ناظر قسم فى جانب بلبيس، ثم مأمورا عليه أيضا، ثم قامت عليه الأهالى وأدعوا عليه أنه سلب منهم أشياءهم، فسلم لهم، وأعطاهم من ماله محافظة على شرفه، فصدر الأمر بطرده من الخدم الميرية، ولزم بيته بكفر إبراهيم، وهو الذى أنشأه وسمى باسمه، وبقى محفوظ المقام محترما إلى أن توفى سنة 1252 اثنين وخمسين ومائتين وألف، وكان شجاعا جوادا، وأعقب ذرية ذكورا وإناثا.
فمن أولاده سليمان الصاوى، كان شيخا على بلدتهم بعد موت والده إلى أن توفى سنة 1265 خمسة وستين ومائتين وألف، ومنهم ابنه على، كان ناظر قسم العائذ مدة ثم مات سنة أربع وسبعين.
ومن أشهر عائلات العائذ، وأعظمها رتبة، وأرفعها مكانا، عائلة أولاد أباظة، تقلبت فى الرتب السنية، والمناصب الديوانية منهم جملة، فأسبقهم فى ذلك الأمير الجليل ذو المجد الأثيل، المرحوم حسن أغا أباظة، جعله المرحوم إبراهيم باشا سر عسكر والد الخديوى إسماعيل باشا شيخ مشايخ نصف الشرقية سنة سبع وعشرين ومائتين وألف وقت تشريفه جهة بردين للمساحة العمومية، وبعد مدة جعل ناظر نظار نصفها، ثم مأمور جانب شيبة وهى المركز، ثم مأمور جانب هيهيا وهى المركز أيضا، ثم باشمعاون الشرقية والدقهلية، ثم عوفى من الخدامة لمرض قام به، وبقى معافى مشتغلا بشأنه وزروعاته، وكان يزرع نحو أربعة آلاف فدان إلى أن توفى سنة 1265 خمسة وستين ومائتين وألف، وكان
كريما جوادا فصيح اللسان، ومن آثاره مسجد عظيم أنشأه فى كفر أباظة مقام الشعائر إلى الآن، وبنى ضريح الشيخ تاج الدين ومقبرتهم الآن عنده بعد أن كانت بمشهد الطواحين.
أما ابنه السيد باشا أباظة، فقد فاق أباه، ونال من المجد أعلاه، ولد بكفر أباظة وتربى به وقرأ القرآن وشيئا من الحساب على الفقيه الشيخ عوض الجزار الذى كان مرتبا لتعليمهم، وكانت العلماء تفد عليهم كثيرا فأقام عندهم منهم جماعة فصار يتعلم منهم، ثم لازمه الشيخ خليل العزازى إلى أن توفى، وكان عالما فاضلا فنجب على يديه وتأهل للمناصب، فجعل أولا مأمور جهة هيهيا وسنه نحو ست عشرة سنة، ثم انتقل إلى جهة شيبة، ثم قسمت الشرقية نصفين، فجعل وكيل نصفها القبلى والمركز منية القمح، ثم انتقل إلى قسم شيبة، ثم إلى قسم العائذ، ثم تعهدت الأكابر بالبلاد، فتعهد بنحو عشرين بلدا من بلاد الشرقية، وكل ذلك فى مدة العزيز المرحوم محمد على وابنه إبراهيم باشا سر عسكر والد الخديوى إسماعيل باشا، ثم قعد عن الخدم الديوانية فى جميع مدة المرحوم عباس باشا، ولما تولى المرحوم سعيد باشا ورحب صدره لأولاد العرب، أنعم عليه برتبة أمير ألاى وجعله مدير البحيرة، ثم رقاه فقلده بوكالة الداخلية، ثم جعله ناظرا على مضابط المعية، وأحيل عليه مع ذلك نظر قلم عرضحالاتها، ثم جعل وكيل مديرية الروضة، وهى الغربية والمنوفية وكانتا يومئذ مديرية واحدة.
ولما تولى الخديوى إسماعيل باشا على الديار المصرية جعله عضوا فى مجلس المنصورة، فبقى فيه ثلاثة أشهر، ثم جعل مدير القليوبية، ثم وكيل مجلس الاستئناف بوجه بحرى، وشرف برتبة المتمايز، وأحسن إليه بنيشان مجيدى، ثم جعل رئيس مجلس زراعة النصف الثانى من الوجه البحرى ستة أشهر، ثم جعل عضوا بمجلس
الأحكام، ثم وكيل تفتيش عموم الأقاليم، وشرف برتبة أمير ميران، ثم جعل مدير عموم وجه بحرى، ثم جعل عضوا بمجلس الأحكام ثانيا، ثم عوفى من الخدامة لمرض قام به إلى أن توفى إلى رحمة الله فى سنة 1292 اثنين وتسعين ومائتين وألف، وكان رحمه الله سهل الأخلاق حسن التلاق، وملك من الأطيان نحو ستة/آلاف فدان فى نحو خمس عشرة قرية، وله من المآثر مسجد عظيم أنشأه بشرويدة، وأنشأ بها أيضا مدرسة لتعليم أولاده وأولاد أتباعه القرآن الشريف والخط والحساب واللغة العربية والتركية، وله بها كتبخانة تشتمل على نحو خمسة آلاف مجلد، وله فى البحر الحلو جوار شراعية كثيرة، وقد أعقب ستة عشر ولدا من الذكور، ومثلها من الإناث، وسنبين بعضا منهم.
وأما سليمان باشا أباظة ابن المرحوم حسن أغا أباظة، فإنه ولد بكفر أباظة أيضا، وتعلم القرآن الشريف وفن الحساب وبعض علوم الشريعة على مذهب الإمام الشافعى، وتعلم علم النحو والعروض والأدب على الفاضل الشيخ خليل العزازى المذكور، وبقى ببلده خليط أخيه السيد باشا أباظة مدة، ثم اقتسما، فأقام فى زراعته بطاهرة مقبلا على شأنه محمود السيرة إلى أن ندب للخدامة، فجعل ناظر قسم منية القمح فى سنة إحدى وسبعين وسنه نحو عشرين سنة، ثم نقل إلى قسم العائذ، ثم جعل معاونا أول بمديرية الشرقية، ثم ناظر قسم بلبيس، ثم قسم منية القمح ثانيا، ثم تعطلت مطاليب قسم بلبيس، فأعيد إليه لنجابته، ثم أحسن إليه برتبة البيكباشى، وجعل مفتشا أول بالنصف الثانى من الشرقية ومركزه أبو كبير، ثم مفتش عموم شفالك الشرقية جميعها والمركز كفر الحمام، وكوفئ على حسن إدارتها برتبة قائم مقام، ثم بعد ستة أشهر أنعم عليه برتبة أمير ألاى، ثم جعل مفتش النصف الأول من الشرقية والمركز بردين، ثم مدير الغربية، ثم لبعض
الأسباب جعل ناظر عرب وجه بحرى بمركز الزقازيق، ثم جعل مدير القليوبية والمركز بنها العسل، ثم مدير الشرقية، وأنعم عليه برتبة أميرميران، وأعطى نيشانين، ولم يسبق ذلك لغيره من أقرانه.
وله من الآثار مسجد عظيم بناه بطاهرة، ووقف عليه أطيانا، ورتب به الشيخ حسن الدحلوب من علماء ناحية المنير يقرأ درس فقه على مذهب الإمام الشافعى، ودرس نحو، ويجتمع فيه من التلامذة من البلاد المجاورة نحو ثلاثين تلميذا، وله كتبخانة فيها نحو ألفى كتاب، وفى المسجد مزولة من عمل الشيخ خليل العزازى، وساعة لمعرفة الأوقات، وتملك من الأطيان نحو ألفى فدان فى عدة بلاد، وله بها وابورات لسقى الزرع وحلج القطن، وله من الأولاد الذكور والإناث عدة أكبرهم حسن بك، قرأ القرآن فى بلده لدى معلم خاص، وتعلم بعض علوم العربية، وبعض اللغة التركية، ثم ألحق بمدرسة بنها مدة، ثم بعد ذلك أقام بزراعة أبيه.
وأما أولاد السيد باشا أباظة، فمنهم الشيخ عبد الرحمن أباظة، ولد بكفر أباظة وانكف بصره، وقرأ القرآن الشريف، وتعلم بعض علوم فقهية ونحوية فى بلده، ثم أرسله والده إلى الأزهر وسنه خمس عشرة سنه، فأقام به عشر سنين، فحصّل تحصيلا عظيما، ثم رجع إلى بلده بأمر أبيه، وتولى أمر الزراعة ومشيخة البلد، ويقال إنه كان عنده عتو كبير، وجبروت زائد على الأهالى.
ومنهم أحمد بك أباظة، نشأ بكفر أباظة وقرأ به القرآن، وتعلم بعض العربية، ثم ألحق بمدارس المحروسة، فتعلم بعض العلوم واللغات، ثم خرج منها برتبة ملازم ثان فى العساكر المشاة، ثم عوفى ثم جعل عضوا فى مجلس شورى النواب، وشرف برتبة البيكباشى، وأعطى نيشانا مجيديا مع من أنعم عليهم بالرتب والنياشين من عمد البلاد، ثم
أنعم عليه الخديوى إسماعيل باشا برتبة قائم مقام، وجعله وكيل مديرية البحيرة، ثم وكيل مديرية الدقهلية، ثم القليوبية ثم جعله مفتشا فى شفالك النصف الأول من الشرقية، ثم رئيس مجلس القليوبية، وأنعم عليه برتبة أمير ألاى.
ومنهم عثمان بك أباظة، نشأ بكفر أباظة المذكور، وبه تربى وقرأ القرآن، وبعض العلوم ثم تولى أمر زراعة أبيه، ثم دخل فى الخدامات الميرية، فجعل ناظر قسم منية القمح، ثم ناظر قلم قضايا مديرية الشرقية برتبة البيكباشى، ثم وكيل مديرية الشرقية، ثم مفتش الزنكلون والحوش بعد جعل التفتيشين تفتيشا واحدا، وهما تعلق ابراهيم باشا ابن أخى الخديوى إسماعيل باشا، وقد أنعم عليه برتبة أمير ألاى.
ومنهم مأمون بك أباظة، نشأ بذلك الكفر وقرأ به القرآن، وتعلم بعض العلوم ثم ألحق بمدارس المحروسة، ثم خرج منها إلى زراعة أبيه، ثم دخل فى خدمة الميرى، فجعل حاكم خط ثم ناظر قسم ثم عوفى.
ومنهم سليمان بك أباظة، ولد بذلك الكفر أيضا، وقرأ القرآن به وبعض العلوم على الشيخ العزازى، ثم ألحق بالمدارس الملكية، فكان فيها بارعا نجيبا، ثم خرج منها وأقام بالمدرسة التى أنشأها والده بشرويدة مدة ثم أقام بزراعة أبيه، ثم وظف برياسة مجلس بلبيس.
ومنهم إسماعيل بك أباظة، نشأ بكفر أباظة وقرأ به القرآن، ثم ألحق بمدرسة بنها ثم بمدرسة المبتديان، ثم التجهيزية، ثم الإدارة وقرأ بها العلوم واللغات، والشريعة الإسلامية، والقوانين الإفرنجية، ثم مات والده، فلحق ببلده وأقام بالزراعة، وجعل له عزبة أقام بها، ثم صار معاونا أول بمديرية الشرقية.
ومنهم إبراهيم بك أباظة، ولد بكفر أباظة، وتعلم القرآن بشرويدة وبعض العلوم، ثم ألحق بالمدارس الميرية بالمحروسة وبرع فى الفنون/ واللغات، ثم أخرجه والده منها مع نجابته وأقامه فى الزراعة إلى الآن.
ومنهم أمين بك أباظة، نشأ بشرويدة، وقرأ بها القرآن، ثم أدخل مدرسة المبتديان ثم التجهيزية، ثم أخرج منها أيضا وأقيم فى الزراعة التى لهم فى ناحية البورة، ثم إن باقى أولاده صغارا وأطفالا لم يدخلوا فى ميادين الرجال.
وأما حاشية حسن أغا أباظة الذى هو أصل هذه الشجرة المباركة، فمنهم بغدادى أباظة أخو حسن أغا أباظة، نشأ بكفر أباظة إلى أن ظهر ظهور الرجال، وحسنت له بأخيه الأحوال، فجعل شيخ مشايخ جانب بلبيس، ثم مأمور قسم هيهيا، ثم عوفى من الخدامات سنة 1255 خمس وخمسين ومائتين ألف إلى أن توفى إلى رحمة الله سنة 1275 خمس وسبعين ومائتين وألف، وكانت زراعته نحو خمسمائة فدان، وقد أنشأ فى حياته كفرا وكان يسكنه وبنى فيه مسجدا وغرس نخيلا وأشجارا، ورزق من الأولاد أربعة ذكورا وأربعة إناثا، ترقى أحدهم، محمد أباظة فجعل عضوا فى مجلس شورى النواب، ثم رئيس مجلس بلبيس، ثم مأمور ضبطيته.
ومنهم: سليمان أباظة القمحاوى، ابن عم حسن أغا أباظة، نشأ بكفر أباظة إلى أن جعل شيخ خط، ثم ناظر قسم العائذ فى مدة العزيز محمد على، ثم توفى سنة 1261 إحدى وستين ومائتين وألف، وترك ولدين:
أحدهما: محمد المهدى، قرأ القرآن وجاور بالأزهر فجوّد القرآن وتعلم بعض العلوم، ثم رجع فأقام فى زراعتهم بجزيرة أبى نملة.
وثانيهما: عبد الله أفندى قرأ القرآن بكفر أباظة، ودخل مدرسة خاله السيد باشا أباظة، فتعلم بها بعض الفنون واللغة التركية، ثم أقام بأبى نملة مع أخيه وأمه إلى أن جعل معاونا بمديرية الشرقية وسنه إذ ذاك عشرون سنة تقريبا.
ومنهم حسين بن عبد الرحمن أباظة ابن عم حسن أغا أباظة، نشأ بكفر أباظة إلى أن بلغ مبلغ الرجال، فجعل شيخ خط الشوبك ثم حاكم خطها، ثم عوفى من الخدامات سنة تسع وأربعين، فأقام بأرض الشوبك، واستحوذ هناك على نحو ألفى فدان، وبنى بها كفرا يسمى كفر أبى حسين، وأنشأ فيه مسجدا، وتوفى سنة 1282 اثنين وثمانين ومائتين وألف، وكان مهذب الأخلاق، كريم السجايا، كثير الأضياف، لبشاشته وحسن ملاقاته، رحمة الله عليه.
ومن مشاهير العائذ: عياد كريم المهناوى، من المهنوية، نشأ بها وتعلم رماحة الخيل حتى برع فيها، ثم جعل شيخ بعض العائذ، ثم ملاحظا، ثم ناظر نظار العائذ، ثم مأمور جانب بلبيس، وأنشأ كفرا يسمى باسمه إلى الآن، ثم توفى سنة 1262 اثنتين وستين ومائتين وألف، وترك من الأولاد نحو عشرة ذكور وإناث، أكبرهم عبد الله بن عياد، تولى بعد أبيه مشيخة الخط، ثم جعل ملاحظا ثم ناظرا ثم رجع شيخا على كفره، ثم انتخب فى أعضاء مجلس شورى النوّاب، ثم توفى سنة 1292 اثنتين وتسعين ومائتين وألف، وله من الأولاد الذكور ثلاثة، أحدهم عياد، جعل حاكم خط زمنا ثم عوفى، وثانيهم عبد الله شيخ قريته.
وبالجملة فأهل العائذ من أشهر عائلات العرب بالديار المصرية، ويذكرون كثيرا فى كتب التواريخ؛ كتاريخ ابن خلدون والمقريزى وغيرهما.
ترجمة ابن خلدون
(فائدة): ابن خلدون هو القاضى ولى الدين عبد الرحمن بن محمد ابن محمد الحضرمى المالكى المولود سنة 733 ثلاث وثلاثين وسبعمائة، وسمع من الوادياشى وغيره، وأخذ الفقه عن قاضى الجماعة
ابن عبد السلام وغيره، وبرع فى العلوم وتقدم فى الفنون، ومهر فى الأدب والكتابة، وولى كتابة السر بمدينة فاس، ثم دخل القاهرة فولى مشيخة البيبرسية وقضاء المالكية، وصنف:(التاريخ الكبير)، ومات فى رمضان سنة 808 ثمان وثمانمائة، قاله فى «حسن المحاضرة» ويقال إنه كان قاضى حلب وقت أن استولى عليها تيمور لنك، ووقع من ضمن الأسراء فعرفه ولاذ به وأخذه معه إلى سمرقند.
وحكى له يوما أنه ألف تاريخا تكلم فيه على جميع الوقعات وتركه فى مصر، ويخاف وقوعه فى يد السلطان برقوق، فقال له تيمور لنك:
«وكيف السبيل إلى الإتيان بهذا الكتاب» ، فقال:«تأذن لى أن أسافر إلى مصر وأحضر به» ، فأذن له، ولعل هذا الكتاب هو المعنون بكتاب:
«العبر وديوان المبتدأ والخبر فى أيام العرب والعجم والبربر» .
وفى: (المنهل الصافى)، لأبى المحاسن أن ابن خلدون ولد بتونس فى مبدأ شهر رمضان سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة، وتعلم بها، وتوفى والده فى طاعون سنة تسع وأربعين وسبعمائة هجرية، فدخل فى خدمة أمير تونس أبى إسحق إبراهيم بن السلطان أبى بكر الخامس من بنى حفص، ثم فارق تونس سنة أربع وثمانين، وأقام بالقاهرة من بلاد مصر، وعينه السلطان برقوق قاضى القضاة المالكية سنة ست وثمانين، وعزل عنها بسبب تعصب الأمراء عليه سنة سبع وثمانين، ثم أعيد لها بعد موت برقوق سنة ثمانمائة وواحد، ثم عزل عنها أيضا وسافر إلى الشام مع السلطان فرج الملك الناصر، وأخذ أسيرا فى أخذ تيمورلنك دمشق، ثم أطلق مع من أطلق ورجع إلى مصر، وتعين بها مرة ثالثة قاضى القضاة سنة ثلاث وثمانمائة، ثم عزل وعاد إليها مرارا، ثم مات/سنة ثمان وثمانمائة يوم الأربعاء الخامس والعشرين من رمضان، وله من العمر أربع وسبعون سنة وخمسة وعشرون يوما، انتهى.
عباده
قرية من قرى مصر، وإليها ينسب كما فى:«خلاصة الأثر» محمد ابن أحمد بن عصبة بن الهادى، من ذرية الشيخ إسماعيل الحضرمى موقف الشمس المدفون ببلدة الضحى، بقرب بيت الفقيه ابن عجيل، واشتهر بالعبادى نسبة لجده لأمه العارف بالله محمد البكرى العبادى نسبة إلى عبادة - قرية بمصر - وكان جده المذكور من أكابر الأولياء.
ولد صاحب الترجمة بمكة سنة ثمان وعشرين وألف تقريبا، وظهرت له فى أواخر عمره خوارق عجيبة مع أنه كان سالكا طريق الملامتية فى تخريب الظاهر بأكل الحشيش، وكانت وفاته سنة ثلاث وثمانين وألف، ودفن ببيته قرب قبر أبيه وجده لأمه بقرب جبل شظا على طريق الذاهب إلى المعلاة. انتهى.
العبّاسة
قال المقريزى فى خططه: هذه القرية فيما بين بلبيس والصالحية من أرض السدير، سميت بالعباسة بنت أحمد بن طولون، فإنها خرجت إلى هذا الموضع مودعة لبنت أخيها قطر الندى بنت خمارويه بن أحمد ابن طولون لما حملت إلى المعتضد، وضربت هناك فساطيطها، ثم بنت قرية فسميت باسمها، ولم تزل هذه القرية منتزها لملوك مصر، وبها ولد العباس بن أحمد بن طولون فسماه لذلك أبوه العباس.
وولد بها أيضا الملك الأمجد تقى الدين عباس بن العادل أبى بكر بن أيوب، وكان الملك الكامل محمد بن العادل يقيم بها كثيرا، ويقول:«هذه تعلو مصر، إذا أقمت بها أصطاد الطير من السماء والسمك من الماء والوحش من الفضاء، ويصل الخبز من قلعة الجبل إلىّ بها فى قلعتى وهو سخن» ، وبنى بها دورا ومناظر وبساتين، وبنى أمراؤه بها أيضا عدة
مساكن فى البساتين، ولم تزل العباسة على ذلك حتى أنشأ الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل المنزلة الصالحية، فتلاشى حينئذ أمر العباسة، وخربت المناظر فى سلطنة الملك المعز أيبك.
فلما كانت سلطنة الملك الظاهر ركن الدين بيبرس مر على السدير - وهو فم الوادى - فأعجب به، وبنى فى موضع اختار منه قرية سماها الظاهرية، وأنشأ بها جامعا وذلك فى سنة ست وستين وستمائة. انتهى.
وبلدة العباسة القديمة هى الآن فى شرقى الترعة الإسماعيلية بالبر الأيمن قريبا من شاطئها، وكان فيها قديما جزيرة بعضها باق إلى الآن فى البر الأيسر من الترعة الإسماعيلية، وهو مرتفع عما حوله من الأراضى، والبعض أخذته الترعة فى مرورها، وقد وجد فى أثناء الحفر بعض آثار قديمة منها عمود من الصوّان، هو الآن موجود على شاطئ التحويلة التى توصل ماء الإسماعيلية إلى ترعة الوادى، وطولها تسعمائة متر، وفى فم تلك التحويلة هويس عند الإسماعلية لدخول وخروج المراكب المتردّدة بين الإسماعيلية وترعة الوادى؛ لنقل البضائع إلى الزقازيق وبالعكس.
وفى زمن العزيز محمد على، كان مرتبا بناحية العباسة عساكر من الخيالة لخفر الطريق المارة فى الصحراء، وهى طريق مطروقة بالمسافرين إلى الشام والسويس. وفى البر الغربى للإسماعيلية تجاه العباسة كفر يقال له كفر العباسة، بقرب الهويس على نحو مائتى متر، وأطيان العباسة وكفرها من ضمن الأطيان الموقوفة على المكاتب الأهلية من المراحم الخديوية التى قدرها ثمانية عشر ألف فدان وأربعمائة وخمسة وخمسون فدانا كلها فى الوادى، وتنقسم إلى خمس نظارات هذه واحدة منها، وزمامها خمسة آلاف وستة وثلاثون فدانا،
والأربعة الأخر هى نظارة القرين، وزمامها ألفان وخمسمائة وثمانون فدانا، ونظارة الشرقى وهى أربعة آلاف وثلثمائة وأحد وثمانون فدانا، ونظارة القديمة ألفان وستمائة وتسعة وستون فدانا، ونظارة الجديدة ثلاثة آلاف فدان وستمائة وتسعة وثمانون فدانا، والمنزرع من ذلك كله ثلاثة عشر ألف فدان ومائة وأحد وستون فدانا فقط والباقى بور، وتحدّ تلك الأطيان جميعها من الجهة الغربية بآخر أطيان العباسة، ويفصلها عن طين قرية أبى حماد بربخ البلعوم، ومن الجهة القبلية تحد بالجبل، ومن بحرى تحد بترعة الإسماعيلية والوادى، وحدّها الشرقى أطيان الهيش التابعة لأورمان أبى بلح ملك ذات العصمة والدة الخديوى إسماعيل باشا، وجميعها أيضا تروى بالراحة إلا نحو خمسمائة فدان فتروى بالآلات، ويزرع بها كافة الأصناف، ومن ذلك الأرز، ويتحصل من الفدان أردب ونصف من الأرز الأبيض، ومن الذرة أردبان ونصف، ومن الشعير ثلاثة أرادب، ومن الحلبة أردبان ونصف، ومن القمح أردبان، ومن القطن الشعر قنطار ونصف.
وبتلك النظارات ستة وأربعون ما بين قرية وكفر وعزبة لا حاجة لذكر أسمائها، وأبنية جميعها بالطوب المتخذ من الرمل والطين وهو المستعمل فى كثير من بلاد الشرقية، وفيها كثير من النخيل والأشجار، وفى رمالها توجد الأرضة؛ وهى دابة صغيرة لا يزيد طولها عن ثلاثة ميلليمتر، تشبه فى شكلها الجراد، تأكل الأخشاب والمفروشات والورق والملابس، وتختفى/عن الأعين حتى تحصل مقصودها من أكل الخشب فلا يدرى أهل المنزل مثلا إلا بسقوط السقوف فيجدونها منخولة.
وفى غربى العباسة مقام الأستاذ الشيخ عثمان على شاطئ الإسماعيلية الأيمن. انتهى.
ثم إن من حوادث العباسة ما نقل كترمير عن كتاب: «السلوك» أن الملك الصالح عليا وأخاه السلطان خليلا ابنى السلطان قلاوون خرجا للصيد فى سنة ثلاث وثمانين وستمائة، فنزلا بناحية العباسة، وكان معهما الأمير بيبرس الفرقانى وجملة من الرماة وأقاموا هناك عدة أيام، واصطاد الملك الصالح على طيرا يسمى «كى» ، ثم اجتمعت الرماة فلعبوا الخطة، ونقل أيضا عن بعض مؤرخى العرب أن «الكى» طير يسطو على الأسماك، ونقل عن السيوطى أنه طير معلق فى عنقه جرابه، واستنتج من ذلك أن «الكى» هو الطير المعروف بالرخم، ثم بعد ذلك رمى أخوه الملك خليل طيرا آخر، وبلغ الخبر السلطان، فأرسل يقول:«لمن يدعى الملك الصالح على أى لمن ينتسب ومن أستاذه فى ذلك» .
وكانت العادة أن من اصطاد أول مرة وأصاب فى رمى الصيد ينتسب لمن هو أقدم منه فى ذلك، ليكون له أستاذا أو شيخا، فإن لم يقبله من انتسب إليه انتسب لآخر وهكذا، ولا ينتسب إلا لمن له عراقة فى الرمى، أميرا كان أو فقيها أو غيرهما، فانتسب الملك الصالح علىّ إلى السلطان منصور صاحب حماة، وأرسل إليه الطير الذى اصطاده الصالح على مع هدية وخطاب من السلطان وخطاب آخر من الصالح على، فتلقى ذلك بالقبول، ووضع الطير فوق رأسه وكسا النجاب حلة، وأرسل هدية فيها عشرة أنداب من البندق الذهب، كل ندب خمس بندقات، كل بندقة وزنها عشرة دنانير، وعشرون ندبا من البندق الفضة كل بندقة تزن مائة درهم، وبدلة حرير مزركشة بها ألف دينار من الذهب وحياصة مكللة، وجراوة من الذهب بها بندق وعشرون سهما وأشياء أخر، وقيمة الجميع ثلاثون ألف دينار، ويطلق الندب أيضا على خمسة من الرجال، والجراوة مخلاة يوضع فيها بندق الرمى، والخطة - بضم الخاء - لعبة من ألعاب العرب، نقل «كترمير» عن بعض المؤلفين أن العادة لعب الخطة على الطيور المصروعة.
ترجمة عماد الدين عبد الرزاق العباسى وأخويه
وإلى هذه البلدة ينسب كما فى: «الضوء اللامع» الشيخ عبد الرزاق ابن محمد بن أحمد العباسى الشافعى موقع نائب قجماس الإسحاقى، يعرف بعماد الدين، ولد بالعباسة سنة تسع وثلاثين وثمانمائة، وقدم إلى القاهرة واشتغل بالقراءة، فحفظ «الإرشاد» لابن المقرى و «ألفية الحديث» و «جمع الجوامع» وغير ذلك، وأخذ عن البوتيجى والحصنى والمناوى، وحج غير مرة، وأقرأ مماليك المشار إليه حين كان خازندارا، واستمر فى خدمته سفرا أو حضرا، وأنشأ دارا حسنة بالقرب من بيت ابن معين الدين من رحبة العيد، وعرف بالعقل والتودّد والفهم، حتى رجح على أخيه، ثم ضيق عليه بعد موت أستاذه، وباع داره وغيرها، ونفى إلى لواح أو غيرها، فدام مدة ثم شفع فيه، وعاد فأقرأ بعض المماليك وانتظم أمره بعض انتظام. انتهى.
ولم يذكر تاريخ وفاته، وله أخوان أكبر منه: عبد الوهاب التاج الأمين العباسى ومحمد أمين الدين العباسى، فأما عبد الوهاب فكان شافعيا أيضا، ولد بالعباسة سنة ثمان وعشرين وثمانمائة فتحول إلى القاهرة بعد حفظ القرآن، فحفظ المنهاج، وحضر دروس العلم البلقينى وغيره، وكان يعلم الزين بن مزهر وإخوته، وناب فى أماكن من الشرقية، ثم أضاف إليه الزين زكريا قضاء بلبيس وغيرها، وحج وجاور ودخل الشام وغيرها.
وأما محمد فكان يعرف بأمين الدين العباسى الشافعى، ولد سنة ثمان وثلاثين بالعباسة، وتحوّل مع أخويه فسكنوا الجديرية، وأكمل بها القرآن وحفظ:«البهجة» ، و «ألفية ابن مالك» و «جمع الجوامع» وغيرها وأخذ عن البوتيجى والنسابة والجلال البكرى والزين زكريا والبلقينى وغيرهم، وسمع البخارى فى الظاهرية القديمة، وصحب الصلاح
المكينى، واختص بقجماس لكونه ناب عن أخيه فى إقراء مماليكه، وحج غير مرة، وزار بيت المقدس والخليل، ودخل الشام ونزل مدرسة سعيد السعداء وغيرها كالمزهرية، وكان خبيرا بدنياه مقبلا على بنى الدنيا، ولم ينفك عن الأخذ عمن دب ودرج حتى أشير إليه بالفضيلة التامة، وكتب على مجموع الكلائى وغيره، وإقراء الطلبة مع عقل وسكون، مات سنة سبع وثمانين وثمانمائة، ودفن بقرب الروضة خارج باب النصر بحوض يشهر بتربة القبانى، ووجد مما لم يكن يظن به زيادة عن ألف دينار سوى كتبه وأثاثه. انتهى.
عجرود
وهى محطة من محطات الحاج المصرى، على بعد عشرين كيلو متر من السويس، فى الشمال والشمال الغربى وفى الجنوب الغربى لأولاد جرمى، على بعد ثلاثة وعشرين كيلو متر، وبها بئر نقر فى الحجر، عمقها سبعون مترا، وماؤها مر، وعليها ساقية تخرج الماء فى حوض لمنافع الحجاج، وليس هناك آثار عتيقة، فلعل هذا المحل حدث فى الإسلام بعد تحويل الطريق الذى كان يمر فى الوادى على ناحية العباسة، وأرض عجرود مرتفعة عن سطح ماء البحر الأوسط قدر مائة متر وخمسة أمتار، وبعد عجرود قلعة مربعة بها أربعة أبراج فى زواياها/كانت لمحافظة الطريق، وفى داخلها قطع من الصوّان والرخام.
انتهى مترجما من كتب الفرنساوية.
وفى كتاب: «درر الفرائد المنظمة فى أخبار الحاج وطريق مكة المعظمة» ، أن بعجرود خانا جديدا أنشأه المرحوم السلطان أبو النصر قانصوه الغورى على يد الأمير الكبير خير بك المعمار، أحد مقدمى الألوف فى سنة خمس عشرة وتسعمائة، بعد الخان الذى كان فيه قديما
من إنشاء الحاج البلك الجوخندار، وأصلحه الناس من بعده، وبها بئر وساقية، وكان به أربع فساق أصلها إنشاء الملك الناصر حسن، وجددت بعد ذلك ثم جعلت الفساقى اثنتين، واستجد فى الدولة المظفرية فسقية ثالثة، وهى على ذلك إلى الآن عدتها ثلاثة، وماء هذا المورد مالح جدا لا يكاد يسيغه الشارب. وفى سنة ثمان وثلاثين وتسعمائة حصل للركب فى هذا المورد عطش شديد، وضرر بالغ، لقلة الاعتناء بملء بركه بحيث أننى رأيت الفقراء ينشفون الفساقى بخرق ويمصونها، وينصب به سوق يرقى إليه من بلبيس والسويس لقربهما منه.
ثم قال: وهذا المنهل أول المناهل من بركة الحاج، ومنه تفترق الطرق إلى ثغرة حامد، فمن عجرود إلى الثغرة من طريق القباب ثلاث مراحل، وان قصد مبعوق فمرحلة، وإن قصد عيون موسى فمرحلة، ومنها إلى الثغرة مرحلتان. قال القاضى أبو العباس السروجى فى مناسكه:«وصفة عيون موسى أنها كوم مرتفع بأعلام يوجد الماء بأعاليه ولا يوجد بأسافله، وإن أخذ السالك من طريق قلعة صدر فهو وعرفيه بعد ومشقة، ولا يسع الركب العام، والطرق الأربعة المتفرقة تجتمع فى ثغرة حامد» انتهى كلام القاضى.
وبالقرب من عجرود حفائر ماء عذب كان فى عمارة ومصانع يسمى عند العرب أبا حماطة - بفتح الحاء المهملة والميم بعدها ألف وطاء وهاء للسكت - وبالقرب منه أيضا ماء طيب يقال له: «المشاش» معروف. وفى ابتداء السير من عجرود يكون الترتيب والتعقيب فى زماننا. انتهى.
وأول من عقب الحجاج عند رحيلهم من البركة الأمير جمال الدين الإستادار عندما استقر ولده شهاب الدين أمير المحمل سنة تسع
وثمانمائة، وملخص بيان سير الحاج بعد ما تقدم فى الكلام على بركة الحاج أن الركب يبيت بعجرود، ويتقدّم أمر أمير الحاج بجماعته وخدمه بتفريق العليق والجرايات اليومية المعبر عنها بالوجبة سحرا على المشاعل، ويأمر بكتابة أكابر الركب وعدد جمالهم، ويجعل لكل من الأكابر محلا معينا، ويرحل من عجرود طلوع الشمس، ويجمع الركب من الطليعة إلى الساقة، ويضبط أطرافه ونواحيه بجماعة من العسكر، ويأذن للأكابر الذين عينهم بالتقدم على طرق معلومة بعد الدليل والفراشين والسقائين أولا فأول، ويضبط عدة جمالهم، ثم يليهم الزردخانة والطلب.
وحاصله أن يكون الأكابر الأعيان تجاه الركب بعد الأدلاء، وركب أمير الحاج الخاص به والتجار وأصحاب الحمول والأموال فى قلب الركب، والفلاحون ورعاع الناس آخره، ثم يسير حتى يمر بالشبحة وبعض الأعلام.
وفى سنة خمس وخمسين وتسعمائة كان مسير الحاج إلى القرب من المنصرف بعد المغرب بخمس درج، مائة وأربعين درجة لدخول الصنجق، وكانت هذه المرحلة شاقة لطول سيرها وثقل الجمال بالأحمال، فبات تلك الليلة بدار المعشة إلى قبيل الفجر بثلاثين درجة، وهذه هى العادة فى تلك الرحلة لراحة الجمال ولاستقبال السير المتعب فى الرمل الشاق، وعدم الأمن من سراق بنى عطية لاستيلائهم على الربع، فإنهم يختلطون بأهل الركب، وعليهم ثياب بيض وعمائم، ويختلسون الجمال ليلا خصوصا وقت الرحيل من تلك المنزلة، فيظن من يراهم أنهم أصحاب الجمال.
وقد اتفق فى سنة ثلاث وخمسين وتسعمائة للقاضى درويش قاضى المحمل أنه أوقف جماله محملة بين الأقطار لانتظار قطار المحمل، فسحبت بجملتها من بين الجمال، ولم يظهر لها خبر، وألزم أمير العائذ بثمنها وما معها، وفى تلك المرحلة وما بعدها رمل كثير وفضاء وحدرات وأعلام وحجارة وحفر، وكان الرحيل قبل الفجر بثلاثين درجة، فسار ونزل من عقبة المنصرف، واستمر إلى أن قطع وادى القباب وغدى بالشّبحة آخر الرمل - بشين معجمة مشددة بعدها موحدة وحاء مهملة - مفتوحات.
وهذه الدار أول من نزلها فى الدولة المظفرية المرحوم جانم الحمزاوى فى سنة إحدى وثلاثين، وهى أول المحجر بعد الرمل، وتسمى «وادى القباب» لقباب مبنية به، وكله رمل صعود وهبوط وتلال.
وذكر أبو عبيد البكرى فى: «المسالك» أن وادى القباب يعرف قديما بقبر أبى حميد، ومبعوق برأس وادى القباب عند الجرنيات، وهذه الرحلة فى الغالب شاقة على الجمال خصوصا فى شدة القيظ، والإقامة بها للمغدة قليل جدا، وسار إلى ثغرة حامد، وحامد - اسم رجل من العرب كان قاطنا بها فسميت باسمه - فكان المسير إلى قبيل المغرب، وطريقها وعر بين جبال وصعود وهبوط ومضيق وشقيف جبل، وبالقرب من الثغرة بمسيرة بريدين مورد ماء للعرب يسمى: الطوال - بطاء مهملة مشددة فواو مخففة فألف فلام - والعادة أن الركب يبيت بهذه المنزلة أيضا، ويكون/أمير الحاج على يقظة من هاجم أو مختلس.
ففى سنة سبع وثلاثين فى ولاية المعز الجمالى يوسف الحمزاوى، تعرض بنو عطية لجمال السقائين بآخر الثغرة، فأخذوها بما عليها من القرب وكانت عددا وافرا، فلذا اعتاد أمراء الركب زيادة التأهب هناك للحراسة بالخيول والفرسان إلى أن يمر الركب، ثم بعد مسير خمس
وستين درجة غدّى برأس التيه، وهو فضاء مطلق، بيمناه الطور ويسراه العريش، وبالتيه بقرب جبل حسن على بريد ونصف من دار المعشى عين ماء تجرى تسمى صدر - بفتح الصاد المهملة والدال - والتيه محل المشقة فى زمن البرد لشدته به، وفى زمن الحر لقلة الماء به ووقوع العطش، فليتحفظ على الماء بالصيف، فإنه قاع فياح لا ماء به ولا نبات، وقال أبو عبيد البكرى فى:«المسالك» بعد ذكر أيلة: ثم تسير مرحلتين فى فحص التيه الذى تاه فيه بنو إسرائيل، حتى توافى ساحل البحر بموضع يقال له بحر فاران؛ وهو البحر الذى غرق فيه فرعون، ومن هناك إلى القلزم مرحلة، وفاران من مدن العماليق (وسيأتى الكلام عليها)، قال أبو عبيد: و «التيه أربعون فرسخا فى مثلها، وأول حدّه ما بين قبر أبى حميد وأرض نخر، وفيه مات موسى وهارون عليهما السلام» . انتهى.
وكانت الإقامة بالدار أربعين درجة ليتكامل الركب، وسار قبل الظهر بخمس وعشرين درجة، فغدّى فى راحل ورحيل؛ وهو جبل يشبه عند رؤيته من بعد رحل الجمل، وعشى بالقرب من آخر التيه فكان المسير إلى قرب المغرب، وأقام بالدار إلى بعد العشاء، وهى المنهل الثانى يصلونها فى سادس يوم من البركة، وأرضها وطريقها محجر أبيض ورمل لطيف، ويسمى بطن نخر - بنون مفتوحة بعدها خاء معجمة مكسورة - ذكرها أبو عبيد البكرى فقال: «وبطن نخر منهل من مناهل الحاج، وهى قرية ليس بها نخيل ولا شجر، يسكنها نفر من الناس، ويقال لها أيضا: بطن نخل - باللام - لسواف تسفى على الناس فيه ترابا رقيقا، كأنما نخل بمنخل، وبها خان أنشأه السلطان قانصوه الغورى على يد الأمير الكبير خير بيك المعمار أحد المقدمين فى سنة خمس عشرة وتسعمائة، وبه حصار ونوباجية من الترك والقواصة.
وكان الخان ضيقا فعرض صاحبنا زين الدين خولى السواقى السلطانية أمره على كافل المملكة المصرية على باشا سنة تسع وخمسين وتسعمائة، فأمره بتوسعته من مال السلطان، وأمر بصرف ما يحتاج إليه من الخزانة، فتوجه إليه بالمعمارية والمؤن الوافرة، واجتهد فى توسعته فزاد فيه زيادة عظيمة وجاء فى غاية من الحسن (قلت: وقد تقدمت ترجمة زين الدين هذا فى الكلام على بركة الحاج) قال: وبنخل ثلاث برك، وكانت أربعة من إنشاء سلار، فتعطلت واحدة وبها بئران أحدهما بساقية والأخرى بسلم، وينصب بها سوق كبير يؤتى له من قطيا وغيرها، ومنها يرجع الخولى زين الدين بعد سقيه الحاج إلى القاهرة، ويرجع بصحبته العاجز والمنقطع والمريض من أهل الركب، وله عادة على أمير الحاج لملء المنهلين ثلاث من القفاطين الخاصة، واستجد له فى سنة ستين بالرجعة قفطان رابع، وله ولجماعة السواقين والخفرة بالمنهلين من الجوخ المخيط ثمانية وعشرون جوخة، ومن الملاليط عشرة، ومن السكر المكرر خمسة عشر رأسا، ومن الحلوى المجامع كذلك.
ولما حج الأمير عيسى بن إسماعيل أمير عرب بنى عونة بالبحيرة فى سنة ثلاث وستين أنعم عليه بخمسة قفاطين من المذهبات الغاليات الأسعار، ومن الجوخ الكرزى والشيشينى العال أربعين جوخة، ومن السكر قنطارين خارجا عن الملاليط والحلوى المعتادة، ولم يكن لوالده ولا عمه عادة من ذلك سوى قنطارين من المنقش الدون، ومن الجوخ المفصل بديوان القلعة عشرة، ومن الملاليط والسكر والحلوى والعجلونى الأصفر من كل صنف كذلك، وإنما زيدت له هذه الزيادات وفخمت لوجاهته وقربه من الدولة بالنسبة إلى أسلافه، ومن هذا الحد أيضا يرجع أمير العائذ بخيله إلى
القاهرة زاعما أن هذا آخر دركه، وبنو عطية لا يقرونه على هذا القول، وله قفطان مذهب عند رجوعه من هذا المحل إن كان الحج سليما من الضوائع، وله فى نظير الخفارة أقطاع سلطانية يستغلها كالأدلاء، وبالقرب من نخل بقدر بريد حفائر تسمى عند العرب: الرواد - بتشديد الراء وضمها مع فتح الواو وتخفيفها - وبالقرب منها أيضا: تزويدة صدر، وهى مشهورة، ومنهل نخل يميل ماؤه إلى العذوبة إلا أنه ثقيل فى المعدة، وربما أورث الاستكثار منه أمراضا باطنية كالاستسقاء.
وفى نخل فى الغالب ينتظم حال الركب، ويعتدل القطّار ويستقيم أمر ذلك. وكانت الإقامة بها فى سنة خمس وخمسين وتسعمائة إلى قبيل الظهر بخمس وستين درجة، وسار إلى وادى الفيحاء فكان مسيره سبعين درجة، وبالقرب منه وادى القريص؛ وهو أرض متسعة ذات حصى كثير، وأقام هناك من الغروب إلى بعد العشاء بأربعين درجة، وسار فعدى حدرة وادى القريص، بقرب أبيار العلالى، فكان مسيره مائة وخمسين درجة، وهو محل أفيح قبله حدرة كبيرة وبئران، إحداهما: البيدرة، والثانية: /للعلالى، وفسقية وحوش وقبتان، وفى بعض الأحيان يوجد بالفسقية ماء متغير من بقايا الأمطار، وكانت إقامته بدار المغدى خمسا وعشرين درجة وسار قبيل الظهر حتى أناخ قريبا من عراقيب البغلة بمحل يقال له: المنيدرة - بميم مضمومة فنون مفتوحة فتحتية ساكنة فدال وراء مفتوحتان - وكان مسيره خمسا وتسعين درجة، والعراقيب: جمع عرقوب، وفى «الصحاح»: العرقوب من الوادى موضع فيه انحناءات كثيرة. وقال «الفراء» : ما أكثر عراقيب هذا الجبل، وهى الطرق الضيقة فى متنه، وفى «القاموس»: العرقوب ما انحنى من الوادى، وطريق فى الجبل، والعراقيب: خياشيم الجبال أو الطرق الضيقة فى متونها. انتهى. فبات
بالدار إلى الفجر، وسار فقطع العراقيب، وهى عقبة صغيرة ومحجر وصعود وهبوط، ومر على الأرض البيضاء والجفارات.
وكان وصول الصنجق إلى السطح قبل العصر بخمس درج، ومدة سيره مائة وثمانون درجة، شيلة واحدة عنها رحلتان، والعادة أن يرحل من أبيار العلائى إلى العراقيب، فيبيت بها ويسير منها قبل طلوع الفجر، فيغدى بالجفارات بعد الشروق، ويرحل إلى السطح، وبقرب عراقيب البغلة على نصف بريد بئر تسمى: ثمد الحصى، وبقرب سطح العقبة بثلث بريد مورد ماء يسمى: القطّار - بشد الطاء المفتوحة - والجفارات: اسم لحفائر بالطريق، كجفارات الحاكة، وسطح العقبة قاع أفيح يوجد بأرضه ماء المطر فى بعض الأوقات ينزل الركب بآخره بقرب رأس النقب، والعادة أن يبادر أمير الركب إلى دخول السطح فى وقت يسع تجهيز جمال الشعارة والربائع قبل الركب، ومعه فرقة من العسكر ليمنع كثرة الازدحام، ويبيت غالب الركب وأمير الحاج بالسطح إلى طلوع الفجر.
وفى سنة خمس وخمسين وتسعمائة أقام هناك إلى قبيل الفجر بثمان درج، وسار بعد أن فرق المشاة من الرماة على رءوس الجبال يمينا وشمالا، ونزل أمير الحاج ودواداره يسهلان الطريق فى المضايق مع حفظ الساقة بالعسكر والقواسة، فكان غالب الركب بمناخ عقبة أيلة أذان الظهر، وذكر ابن العطار فى مؤلفه أن مقدار النزول من النقب إلى المناخ سبع ساعات، وكان هذا النقب على غاية من الضيق والوعر، فأصلحه الملوك السالفون، منهم الملك الناصر محمد بن قلاوون أصلحه مرتين، والسلطان الأشرف الغورى على يد الأمير الكبير خير بيك المعمار.
ولما كانت ولاية داود باشا فى سنة نيف وأربعين وتسعمائة جهز ناظر الأموال محمد جلبى إلى عقبة أيلة، فكشف عما يحتاج إليه ذلك النقب من الإصلاح الكلى، ومعه أكابر المعمارية، وصور صورة تلك الأرض ومسالكها فى أوراق عرضت على داود باشا، ثم جهزت إلى السلطان سليمان، وعرض عليه أمر العمارة فبرز الأمر السلطانى بعمل ذلك، وعين أمين صحبة القاضى أبى المنصور أحد أعيان الكتبة بالديوان السلطانى، واستمر العمل فى ذلك النقب إلى أن تكامل فى مدة تزيد على السنة، فصار مسلكا حسنا ومرتقى هينا.
(قلت): وقد تقدم الكلام على أيلة فى حرف الألف، وإنما فى كتاب «عجائب البلدان» ، أن عقبة أيلة على جبل عال صعب المرتقى يكون ارتفاعه والانحدار منه يوما كاملا، وهى طرق لا يمكن أن يجوز فيها إلا رجل واحد، وعلى جانبها أودية بعيدة المهوى انتهى.
قال صاحب كتاب: «الحاج» : أقول: وصفتها أن الركب يبتدئ بالنزول فى أوعار وصعود وهبوط إلى أن ينزل إلى الدار الحمراء المسماة بلون تربتها ثم يصعد منها إلى حدرة طويلة وعرة وفيحاء حمراء ثم فيحاء بيضاء وشقيف جبل تحت واد عميق ومضيق، ثم صعود وحدرة تسمى الحلزون، إلى أن ينزل بآخرها إلى فيحاء حمراء متسعة يستريح فيها الركب يسيرا، ثم عقبة وحدرة وأودية كبار، ثم يصعدون بين جبال سود، ثم يهبطون إلى الفضاء والبحر، وتسمى هذه العقبة قنطرة البحر المالح، إلى أن يحط الركب فى الطلعة بين ساحل البحر والجبل من أيلة فى اليوم التاسع من يوم الرحيل من البركة، وهى مستهل ذى القعدة غالبا، وفى الرجعة يحط بساحل البحر، بعد أن يمر على جميع النخل ويجعله وراء.
وللصلاح الصفدى فى رؤية هلال ذى القعدة:
هلال ذى القعدة أبصرته
…
وقد توجهنا إلى الحجة
كأنه حزة بطيخة
…
صفراء أو شقة أترجة
ثم قال: ولنذكر أمر الدرك وتقسيمه بالنقب والمناخ فنقول: «اعلم أن درك النقب من السطح إلى جانب البحر المالح حيث المحل الذى يزين به أمير الحاج طلبه عند دخوله، ومحطته بالمناخ، ويعرف قديما بالحمام، إما لكون هذا المحل كان به حمام قديم، أو لأجل أن بعض الحجاج عند نزوله من النقب يغتسل هناك، ورأيت فى يد الشيخ شاهين بن حسين بن نجيعة بن هرباس بن مسعود شيخ بنى عطية الوحيدات مربعة قديمة من الملوك السالفين، فيها أن غاية حد الدرك إلى الحمام.
وينقسم درك النقب أربعة أقسام لأربع بدنات من بنى عطية
،
الربع الأول لمشايخ الوحيدات يقبض ذلك
/ - الشيخ عمر بن شاهين وعبد الدائم أخوه ومن تبعه، وعمّر المذكور فى زمننا عين هذه الطائفة، وهو الذى يقبض جميع المبلغ من العائد بيده، ويفرقه لأربابه، وتارة لا يرضى بقية الشركاء بقسمته من يده؛ لأنه يتنفل عليهم بقسم خامس له من المائتى دينار، فيكون له خمسان وللباقين ثلاثة أخماس، وحضرته فى عام من الأعوام قسمها على هذا الشرح، فلم يعجب بقية أهل الدرك ذلك ولم يذعنوا له فيها، ومن الوحيدات حسن بن ندال وأولاده، وأولاد الفقير عيد وعميرة ومن معهم وجماعات كثيرة، وحصة هذه الطائفة على طريق الاعتدال الربع، فيكون خمسين دينار إلا على ما ادعاه عمر بن شاهين من أن له الخمسين فيكون لهم خمس المائتى دينار.
والقسم الثانى لطائفة المساعيد من بنى عطية، ومن أكابرهم:
عتيق بن مسعود بن دعيم وعليان بن مشور وعمران بن حويران.
والقسم الثالث لطائفة الرتيمات من بنى عطية، ومنهم: محمود بن رافع وغنام ورفقتهم.
والقسم الرابع لطائفة الترابين من بنى عطية أيضا، منهم: سلمان العديسى ومحمد بن عجرمة وأولاده، وونيس ورفقتهم، لا يتميز قسم عن قسم فى المبلغ إلا ما ادعاه عمر بن شاهين استطالة عليهم.
وأما المناخ وحده فحد من جانب البحر محل الزينة لأمير الحاج إلى بويب العقبة، وهى البناء الذى على قنة الجبل، وكان المبشرون يصعدون إليه فى مرورهم بأعلامهم، ويذكرون فى الذهاب ما معناه أن الحاج قد دخل المفازة من بابها وأغلق ما وراءه فلا يفتح إلا إذا عاد، وكان الشيخ محمد المعروف بأبى جريدة المبشر يواظب على ذلك، ويعده كالرتبة له، وكان دركه لطائفة من بنى شاكر الحجر يدعون بأولاد راشد ويقال لهم المراشدة، ويشاركهم فى ذلك طائفة من بنى عطية الكرك تسمى بالكعابنة واستمروا على ذلك إلى نيف وأربعين وتسعمائة فى ولاية المرحوم جانم بن قصروه لإمرة الحاج.
فلما استولى جماعة الحويطات على المناخ، وكثر عددهم ونما نخلهم، واشتهروا بالفساد ولم يرتدعوا بقتل بعضهم، وشاركهم فى ذلك المفسدون المستعدّون لملاقاة الركب فى كل سنة؛ لأن الحاج يقيم بهذا المناخ ذهابا وإيابا ستة أيام، ويرد عليه طوائف العرب من عنزة والمشوبك وحسما وغير ذلك من البلاد مع قلة عدد بنى شاكر، وانقطاع طائفة الكعابنة عنهم، وقلة المعلوم فى نظير خفارة هذا المحل الكثير الخطر، فعجزوا عن القيام بحفظ الدرك، واستولت الحويطات على المناخ، ولم يقدروا على دفعهم، وكثر ضررهم بالنخل ومن جوانب الركب، وصارت تلك البقعة وطنا للحويطات الجيل الذين جبلوا على الفساد وإيذاء العباد.
واتفق أنه لما ولى الأمير جانم بن قصروه لإمرة الحاج فى سنة ست وأربعين، وكان ذلك قبل الشروع فى عمارة النقب وتسهيل طرقه، تأخر نزول الركب وسبقه أمير الحاج إلى المناخ، واعتمد فى الركب على بعض جماعته، فلم يجد الركب من يسهل طريقهم، فاستمروا ينزلون من النقب شيئا فشيئا إلى الليل، ففزعت بنو عطية بالنخل وبجوانب الركب وبالطرقات تنهب وتعرى، والصياح يتزايد من كل جهة، وكثرت الغوغاء على أمير الحاج لإهماله، فلما أصبح طلب مشايخ الحويطات بالأمان، فطيب خواطرهم ووعدهم بكل جميل، وحضر مؤلف هذا الكتاب (يعنى كتاب: الحاج) صحبة قاضى المحمل إلى مخيم أمير الحاج، وأشهد أمير الحاج على مشايخ الحويطات بالقيام بالدرك، ورتب لهم من ماله ألفى نصف من الفضة، وقرر لهم ما كان لبنى شاكر من ديوان السلطنة وهو من الفضة ثمانمائة وخمسة عشر نصفا، وجعل لهم ما كان لبنى شاكر من الجوخ المخيط والشاشات والملاليط، وزادهم عليه من ماله وأشهد على نفسه بدفع هذا القدر فى كل سنة، ودفع لهم ذلك، فداهنوه إلى أن عزل بعد تنظيف النقب فى سنة اثنتين وخمسين بولاية الأمير أيدين الرومى للإمرة فى تلك السنة، فدفع لهم نصف القدر فى الطلعة، وذكر أنه يعطى باقيه فى حالة الإياب بعد الصعود إلى السطح ولم يفعل ذلك عند عوده.
ثم ولى بعده الأمير حسين كاشف البهنساوية والفيوم، وكان من الفروسية بمكان، فاتفق أنهم تعرضوا لبعض الحجاج بالنقب وسلبوه، فلما نزل أمير الحاج إلى المناخ وقت المغرب، لبس لأمة حربه، وخرج ومعه المشاعل والطوف من الوطاق، كأنه يريد حراسة الركب ليلا، فلم يشعر عرب الحويطات إلا وقد فاجأهم فى بيوتهم كبسا، وأطلق فيها النار ليحرقها، فهربت الرجال، فأدرك منهم ثلاثة من أعيانهم، فقطع
رءوسهم واحترق بعض الأطفال فى المهد، وأحاط على نيف وسبعين امرأة منهم غير الأولاد، وأتى بهم صحبة الترك إلى خان عقبة أيلة، فحبسهم بها فكفوا وعفوا مدة إقامته بالمناخ، ولم يسمع بسارق ولا صارخ مطلقا، ولم يعطهم فى تلك السنة الدرهم الواحد، ورحل ولم يعطهم شيئا، وترك نساءهم وأولادهم بالخان إلى أن تكلم معه بعض أصحابه فى الإفراج عنهم لكونهم نساء وصبيانا، فجهز رسولا من عنده بمكاتبة إلى باش الخان يأمره بإطلاقهم فأطلقوا، ولم يضع لأحد فى ولايته بهذا الدرك ولا غيره عقال بعير، ثم ولى/إمرة الحاج بعده مصطفى باشا فلم يعطهم من ذلك شيئا، واستمر الأمر على ذلك وشرهم وفسادهم لا ينقطع ولا يمتنع.
والحويطات أصحاب درك المبشر المتوجه بالمكاتبات إلى القاهرة، وسأل نجدى بن بسام شيخ أولاد عمران من الحويطات الأمير يوسف الحمزاوى أن يكتب له مرسوما بتقدير عادة على كل مبشر، فبرز أمره بذلك فى سنة إحدى وأربعين، وقرر على كل من يتوجه من طريق الشام بالكتب مائتى نصف من الفضة وبلا كتب مائة.
وهما قسمان: الأول آل عمران ويسمون أولاد عمران، شيخهم نجدى بن بسام وعتيق بن سباح، ومنهم: أولاد مدلج وأولاد حميد ..
القسم الثانى: العلاويين، شيخهم عويضة، ومنهم أولاد عوض، وأولاد سالم، وأولاد التمار، أولاد سليمان، أولاد غافل، أولاد فراج، أولاد رافع، أولاد أحمد، أولاد عيد، والبدول منهم أولاد عاصى، أولاد جبر، أولاد حسين، أولاد معروف، السويعديون منهم: سريع بن عيسى، وأعدادهم متوافرة وشرورهم متضاهرة.
وأما بنو عطية فهم طوائف كثيرة، ونذكر ما تيسر منهم، فمنهم:
العمارين - بعين مهملة مفتوحة وميم مفتوحة وراء مهملة مكسورة بعدها ياء مثناة تحتية ساكنة ونون آخر الحروف - منهم أحمد بن هضيبة، ومحمود بن هلال، وغريب ودارج بن حجاج، ومحمد بن بدين المقتول على يد قيت الدوادار أمير الحاج فى سنة ست وخمسين وتسعمائة، وهم خفراء نخل، ويلوذون بالخولى زين الدين من جهة درك خان نخل وملء الفساقى والقيام معه فى ذلك.
ومنهم الترابين - بألف ولام للتعريف وتاء مفتوحة وراء مهملة كذلك بعدها باء موحدة مكسورة وياء تحتية ساكنة ونون آخر الحروف - يختصون بثمد الحصى والفيحاء ووادى العراقيب وآبار العلائى نزولا وطرقا، وليس لهم مقرر أصالة إلا الربع من خفارة عقبة آيلة كما قدمنا ذكره.
وقد ذكرنا بقية عرب درك النقب، ونعيدهم هنا لفائدة؛ وهى أن عرب الوحيدات - بواو مضمومة وحاء مهملة مفتوحة بعدها ياء ساكنة ودال مفتوحة وتاء مثناة آخر الحروف - وشيخهم الآن عمر بن شاهين ابن حسين، والمقرر لهم قديما على درك الخان القديم - الذى كان بناه الظاهر بيبرس وهدم فى الأيام الغورية، وأعيد بناؤه جيدا على يد الأمير خير بك المعمار فى سنة خمسة عشر وتسعمائة - صرة قدرها اثنان وأربعون دينارا ونصف دينار، وتسمى فى عرفهم النجيعة؛ لأنها قررت فى زمن جده نجيعة بن هرماس بن مسعود، وفى نسبته إلى الجدود خلاف بين أهل النسب من عرب بنى عطية، ويسمى الدرك على هذه أيضا بدرك الباب والضبة أى باب الخان، وهى مستمرة المصرف إلى تاريخه، ولم يكن لهذه الطائفة قديما غير هذه الصرة، ثم قرر لوالده شاهين بن حسين نجيعة فى الدولة المظفرية على يد
الأمير خير بك ملك الأمراء المكنى به عن نيابة الديار المصرية، مرتب بطريق الإنعام لأعلى درك وقدره مائتان وخمسون دينارا، واستمر مدة ثم من بعده لأولاده إلى تاريخه.
ثم لما ولى الأمير المعظم محمد جلبى ناظر أموال الديار المصرية وتوجه للكشف على عمارة النقب - كما قدمنا ذكره - كان عمر بن شاهين من المخصوصين بالتردد إلى بابه بالقاهرة، فاعتنى به، وقدر له من الخزائن السلطانية لنفسه وأولاده خمسمائة دينار إنعاما أيضا لأعلى درك، فبسبب انفراده فى هذا التقرير تشوشت خواطر بقية أصحاب درك النقب، لكونهم ليس لهم إلا ما ذكرنا من المقرر على العائذ.
وأما من ديوان السلطنة فليس لهم درهم واحد، وكثر حسدهم له ظاهرا أو باطنا، وهم على ذلك إلى تاريخه، فصار مقبوض الشيخ عمر ابن شاهين فى كل سنة أشرفية صغيرة تسعمائة واثنين وتسعين دينارا ونصف دينار، منها ما يخص رفقته عن ثلاثة أرباع درك نقب أيلة من مقرر العائذ، وباقى ذلك له ولأخيه عبد الدائم ولبقية إخوته وذويه.
وأما عرب المساعيد فهم أصحاب درك مبشر الحاج فى العود، منهم: عتيق بن مسعود بن دعيم، وعيسى قريبه، وعليان بن مسور ابن دعيم، ولهم عن درك الباب والضبة بخان عقبة أيلة قديما سبعة وأربعون دينارا ونصف دينار، وهى مستمرة الصرف إلى تاريخه، ثم قدر لمسعود بن دعيم فى الدولة المظفرية إنعاما عليه من غير درك خمسون دينارا، واستمرت بيد ولده من بعده.
واعلم أن درك مبشر الحاج لهذه الطائفة، فمتى جهز أمير الركب مبشره إلى القاهرة بالعود ولم يدفع لهم عادتهم ويرض خاطرهم على ذلك كان توجهه على خطر كبير، كما اتفق مثل ذلك مرارا عديدة، وعاد الجاويش وهو مسلوب ومجروح، ولم يقدر على التوجه منهم.
وأما عرب الرتيمات فليس لهم مقرر أصالة، وإنما لهم ربع الدرك فى النقب على العائذ لا غير، وهم رابع الأقسام فى درك النقب، ومن أعيان بنى عطية طائفة الرشيدات، وأدركت منهم أعيانا من أهل القوة والفروسية والخيول العديدة والعدد الوافر، منهم: يغنم بن رومان، وكان المشهور منهم صالح بن مدلج وأولاد فريج، فأفناهم الموت والقتل فى الوقائع والحروب لشراسة أخلاقهم، وبقيت منهم بقية ليست كالأولين، /منهم: عيسى بن نعيم بن هانئ، وعمه محمد بن هانئ ولد الجارية، وهرون بن فريج، وهم أوسع دركا من غيرهم من بنى عطية، ولهم المقرر أصالة من بويب مناخ عقبة أيلة إلى مغارة شعيب إلى المحل المعروف بكبيدة بعدها وهو آخر درك بنى عطية.
ومنه أول درك بنى عقبة وسيأتى ذلك فى بابه، ومنهم طائفة الحوارين، وأصلهم حضرى، منهم: عمران بن حويران، وهو شريك لعتيق بن مسعود فى درك الباب والضبة بخان عقبة أيلة، ومنهم الأحبوات، منهم أولاد أبى سنينة أصحاب درك الدلالة على المياه والأحطاب من عقبة أيلة إلى شرفة بنى عطية، ولهم مقرر قديم من الخزائن السلطانية عشرة دنانير.
ومن بنى عطية: طائفة السواركة، وهم أهل عزم واختلاس من الركب، ولهم بعض الخيول الأصائل، ولتوارد فسادهم بالركب لا يقابلون أمراء الحاج، فإنهم كانوا أصحاب سواقة مغارة شعيب لسقاية الحاج، ولهم مرتب إلى الآن يقبضه لهم عيسى بن نعيم، وقدره عشرون دينارا مستمرة الصرف على يد الرشيدات، وكان منهم:
جساس بن سليم السواركى.
والجبارات - بجيم معجمة مضمومة وباء موحدة مفتوحة بعدها راء مهملة مفتوحة وتاء مثناة آخر الحروف - ليس لهم درك ولا مقرر،
والعميرات من أولاد عياد، والقديرمات من جماعة نعيم بن رمان بن هانئ، والرزيقات والحديرات السماسمة من أولاد سعيد، والمناضير - بضاد معجمة مكسورة - والترومة، والمعازى النازلون بحسما، والكعابنة بنو عطية الكرك أصحاب درك المناخ، منهم: سلام بن بيص وإخوته سليم وسلامة ورفقتهم، والسلالمة من أولاد معروف أهل فساد، يتتبعون الركب للاختلاس والأذى من مغارة شعيب وبعدها فى الغالب، والمعاريف من لفيف بنى عطية، والخرصى كالسعادنة، وأولاد عياد، وقد عرفت أهل الدرك منهم والسواقة والدلالة وما عدا ذلك، فمنهم أعداد وعداد وشرور وفساد.
وبعقبة أيلة آبار، منها فى داخل الخان واحدة، وماؤها عذب سائغ من بناء السلطان الغورى مع الخان، وفى الخارج بئران داخل النخل، وماؤهما عذب وهما منهل الحاج، وبئران خارج النخل حيث الفضاء وماؤهما دون ذلك يسمونها آبار العرب، وكل من أراد الماء بقرية هناك فليحفر من الأرض مقدارا قريبا يرى ماء عذبا أحسن من ماء الآبار، وتختلف الحفائر فى العذوبة، فبعضها أحلى من بعض وأعذب، والله أعلم.
ومدة الإقامة بالمناخ ثلاثة أيام بيوم الدخول إليها فى الذهاب ومثلها فى الإياب، وفى رجوع الحجاج والتجار إليها جرت العادة أن صاحب المكس الملتزم بماله إما أن يحضر بنفسه، أو يجهز من يعتمد عليه إليها، ومعه المفتش والأعوان للفحص على القماش والبهار وما عساه أن يحضر صحبة أهل الركب، فيفتشون ويضبطون سائر ما يحضر صحبة الحجاج من ذلك، ويكتبونهم بدفاترهم، وعند وصول القافلة عجرود يحجزون المحمل هناك بالعنف والشدة، ويستمر صحبة المكاسة إلى خان العادل خارج القاهرة، فيعوّق هناك إلى أن يأخذوا العشر من كل صنف إذا أنصفوا.
ثم لما ولى الرجل الصالح على باشا على مصر، أمر فى عام سبع وستين صاحب المكس أن يعافى تجار درب الحاج من نصف العشر إكراما لهم، ويأخذ منهم نصف العشر فقط، وجهز مشالا إلى أمير الحاج بعقبة أيلة يأمره بالجهر بالنداء بذلك لجماعة التجار، ففعل ذلك وكثر الدعاء من الوفد وعقب ذلك موته فى سادس صفر الخير عام ثمان وستين.
وينصب بالمناخ سوق كبير فيه من البضائع والفواكه ما لا يوجد فى غيره، وقد يتفق فيه فى بعض الأوقات من كثرة الفواكه والثمار والزبيب والقراصية واللوز الغزى والرمان والعنب والتفاح والكمثرى والجوز المجلوب من غزة والكرك والشوبك والقدس والطور ما لا يوجد فى غيره إلا بأغلى ثمن، ويجلب إليها صحبة الركب الغزى الدبس والدقيق والشعير والزيت والشيرج، وبها الأغنام واللبن والحشيش علوفة الجمال، والتمر الصادق الحلاوة الحسن الرؤية، والعسل النحل، ويباع بها المحكات المأخوذة من البحر المالح، ورأيت بها ملحا أبيض نقيا فى شكل قوالب السكر يباع بسوقها زمن المواسم، لا يشك من رآه أنه سكر طبرزز، فسألت عن صناعته، فأخبرت أنه طل ينزل ليلا، فتوضع القوالب الفخار فى سطوح الخان ليلا فتصبح مملوءة جامدة وتباع، وهذا من غريب ما يحكى، ويوجد بها الخيل والبغال والحمير والجمال، والمحاور والشقادف، وسائر ما يحتاج إليه الركب والرجال الخدمة.
وأيلة آخر حد مصر وأول الحجاز، وبالجملة فهو منهل مغدق على أهل الركب، يحصل لهم به ومنه غاية الرفق من كل مطلوب، حتى ما يلبسه من أصابه البرد من الفراء الغزاوى، والبشوت وغير ذلك.
الربع الثانى وهو أقصر الأرباع، منازله إحدى عشرة منزلة
، وهو أكثر مياها من الذى قبله، وشجره كثير إلى الغاية، ساعاته خمس وتسعون وثلث من ساعة، جملتها بالدرج ألف وأربعمائة وثلاثون درجة، وبه دركان وبعض الثالث.
الأول: للرشيدات من بنى عطية، وأوله من/البويب، وهو البناء الذى على قنة الجبل باخر المناخ، وقد تقدم ذكره، وآخره المحل الذى يدعى عند العرب بكبيدة - تصغير كبدة - وهو بآخر مغارة شعيب، يسير الركب منها قليلا إلى أرض حصباء فى لون الحمرة إلى السواد، قال ورأيت فى الدفاتر القديمة أنه كان يحاذى هذا المحل شجرة سدر، فكانوا يحدون نهايته إلى السدرة.
والثانى: درك بنى عقبة، وأوله يحاذى آخر كبيدة، وأول المحل المعروف بطىّ الناشر، وهى أرض بيضاء فيحاء فى درك عرب المناصير الحسيسات من بنى عقبة - بالصاد المهملة المكسورة - ثم بعد المناصير درك الخرشة من بنى عقبة، ثم درك الخرشة الشواريق منهم، ثم درك العطيشات أيضا، ثم درك المسالمة منهم، ثم درك المناصير الرقيعات منهم، وهم آخر الدرك، وآخره تحت حدرة رامة.
فإذا نزل الركب من حدرة رامة كان فى أول درك بلى، ففى سنة خمس وخمسين سارت الشعارة من مناخ عقبة أيلة قبل الفجر بخمس وأربعين درجة، وتبعهم الركب بعد خمس درج من غير العادة والعادة قبل الفجر، فسار إلى قبل الظهر بخمس عشرة درجة لأول الركب، ودخل الصنجق قبله بعشرة إلى ظهر الحمار بعد أن مر على دوار حقل - بفتح الحاء - وهى قرية قرب أيلة كما فى:(القاموس). وبحقل فى آخره حدرتان ومضيق ملاصق لجانب البحر، وفى آخر حقل حفائر ماء عذب جفار سائغ يصعد إلى ظهر الحمار، وهما حدرتان: اليمنى أوسع من اليسرى، والعادة القديمة أن يتغدى الركب بآخر حقل لأجل التزود من الماء.
وفى بعض السنين فى نيف وأربعين شرب بعض أهل الركب من الماء المذكور فحصل لهم خلل فى عقولهم على تفاوت فى ذلك، وأقاموا على ذلك نحو ثلاثة أيام، وعوفوا من ذلك، فيقال أن تلك الحفيرة المشروب منها كان بها نوع من النبات يسمى الداتورة خالط أجزاء الماء، فحصل منه ذلك؛ لأنى رأيته فى بعض السنين قد كثر نباته فى الأرض من الشرفة إلى البويب وإلى البركة المعروفة بالجب، وقد كثر فى تلك السنة فى بعض تلك الأراضى حتى صارت كالبساط الأخضر الربيعى.
وبالقرب من دوار حقل بمقدار ربع بريد بئر تسمى مبركا - بفتح الميم وسكون الباء الموحدة وراء مهملة مفتوحة بعدها كاف ساكنة - وبحقل أيضا واد إلى حسما، ومدة السير إلى ظهر الحمار مائة درجة، وهو فضاء فوق علوة ويصعد إليه من حدرة طويلة كثيرة المحجر، وبجانبها أخرى، وهما متعبان للجمال والرجال، والعادة أن الركب إن غدّى بظهر الحمار أقام مقدار ثلاثين درجة، ثم يسير إلى ما بين الجرفين فيعشى به، ومدة سيره خمس وخمسون درجة، ويقيم إلى بعد العشاء بخمسين درجة، ويسير إلى شرفة بنى عطية فيغدى بها رأس وادى عفان - بضم العين وتخفيف الفاء - ومدة سيره مائة وثلاثون درجة، هذا ما فيه راحة الجمال والجمّال، خصوصا ما تحويه هذه المراحل، وتشمل عليه من المشقات المشهورة، واستقبال الأيام المسماة بالتسعشرية إلى الينبع.
وأما فى سنة خمس وخمسين فأقام بظهر الحمار إلى بعد العصر من غير عادة خمسا وخمسين درجة، وسار قبل المغرب بعشرين درجة سيرة واحدة، فقطع عش الغراب؛ وهو جبل صغير يمر عليه فى وسط الطريق بين الجبال، وغدّى مع طلوع الشمس بآخر الحدرة؛ التى هى أول عفان، فكان المسير إليها فى مائتين وستين درجة، ومثل ذلك
من أخبث السير وأرذله، كما لا يخفى على ذى لب يمر بين الجرفين على حدرات بشاطئ البحر المالح وجروف تراب، ثم يدخلون الوادى يسارا والشرفة كالزلاقة المبنية مسطحة يساوى منتهاها سطح عقبة أيلة ووادى عفان.
وبهذه الرحلة من المياه الوارد عليها العرب حفيرات، فبالقرب من بين الجرفين بمقدار نصف بريد حفيرة تسمى الحميضة - بحاء مهملة مضمومة وميم مفتوحة بعدها ياء ساكنة وضاد معجمة مفتوحة وهاء - ومن الشرفة بمقدار ثلثى بريد حفيرة تسمى البوارة - بباء موحدة بعدها واو مفتوحة وراء كذلك - وبرأس عفان عند قبر الشفاف بمقدار نصف بريد حفيرة جفار، تسمى وجيرا - بواو ومضمومة وجيم مفتوحة بعدها ياء تحتية ساكنة وراء مهملة مفتوحة.
وبهذه الشرفة تضرب الأمثال فى شدة المشاق للجمال، ويقال:
«لا حج إلا بعرفة، ولا جمال إلا بعد الشرفة» لكن مشقتها العظمى على الجمال فى الرجعة، وبردها زمن الشتاء شديد جدا، وفى أيام الاعتدال لا تخلو من البرد، وأتذكر فى أواخر السنين من ولاية المرحوم جانم بن قصروه، أنه وقع بالرجعة فى هذا المحل برد شديد فى غير زمنه، بحيث أنه أوقف حال السائرين لشدته، ولقد وقع لى وكنت راكبا بغلة فلم أملك نفسى على ظهرها من شدة البرد فوقعت إلى جانب شجرة، ولا زلت جالسا إلى أن طلعت الشمس، وصرت فى ضحوة النهار، وافتقدت ما تنبل فى ذلك اليوم من الجمال، فكان يزيد على ألف جمل (وقوله:«تنبل» أى مات، كما فى: القاموس).
/وأقام أمير الحاج فى تلك السنة بالدار ستين درجة، وسافر قبل الظهر بخمس عشرة درجة، فمر على قبر الشفاف وهو رجل من بنى عقبة، قاتل الحجيج ونهبهم، فقتل هو ومن معه، ورجم قبره، فهم
يرجمونه إلى الآن، فعشى بالقرب من المظلة بدار الرجعة أذان المغرب، وكان بينه وبين دار المعشة المعتادة خمس عشرة درجة، ومدة سيره لدخول الصنجق تسعون درجة، وبالقرب من المظلة بقدر ثلث بريد حفيرة تسمى القصير - بضم القاف المثناة بعدها صاد مفتوحة وياء مثناة تحتية ساكنة وراء مهملة - وأما المخارس إلى حسما فعند عش الغراب مخرس، وعند قبر الشفاف بوادى عفان مخرس أيضا، وعرب الحويطات من بنى عطية تتبع هذا الدرك فى الغالب للأذى والفساد، خصوصا من قلة خفارته بذهاب فرسان الرشيدات بالموت - كما قدمنا - وما بقى منهم ففى قلة مع سعة الدرك وطول مدته، وتقصد الحويطات لهم فى ذلك، والعادة فى الإقامة بعدها إلى بعد العشاء بخمسين درجة.
ففى سنة خمس وخمسين أقام إلى بعد العشاء بأربعين درجة، وسار إلى مغارة شعيب، فكان مسيره إلى قبل طلوع الشمس بأربع عشرة درجة؛ مائة وثلاثين درجة لدخول الصنجق، ووقف الدليل عند دخول الحاج مضيق الدار نحو عشر درج، وإلا فعادتها الأصلية مائة وعشرون درجة، وبها شجر المقل كثير، ومن الأحطاب ما لا يقدر قدره لكثرة ما بها من شجر أم غيلان وشوك السعدان، واستجد بها نخل لبنى عطية، فإن المتقدمين فى السن ذكروا ذلك، وأنه لم يكن بذلك المحل - فيما تقدم - نخل مطلقا، وأراد مصطفى باشا فى أول ولايته السابقة أن يحرق هذا النخل لشدة غيظه وحنقه منهم، فأطلق النار فيه ليغيظهم بذلك، فأشار عليه بعض الحاضرين بمجلسه أن يكف عنه ففعل.
والمغارة بالجبل يتحصل بها الماء من الأمطار، وكان موردها فى القديم للوفد بئرا بساقية وفسقية وطبقة بقبة، ورأيت المغار سفليا
متسعا، وبه منفذ صغير ثان من جانب الساقية، والساقية مبنية بالطوب الأحمر، وبئرها واسعة المقدار، ولها خطير مبنى بالآجر، وبالساقية بيت لخزن التبن ومحل للسواق، وتجاه ذلك بناء بالآجر شبه مسجد، ويظهر لى أنه كان مسقفا، فإنى رأيت بصدره سلما لطيفا معقودا، يصعد منه إلى سطحه. وللساقية مجراة بالأرض طويلة من الحجر النحيت الأبيض، تصب فى فسقية كبرى، فى مقدار فسقية بركة بأرض الرمادة يشبه أنه كان منهلا جليلا، ورأيت فى البناء عدة من التواريخ المنقوشة فى ألواح من الحجر، قرأت فى بعضها اسم السلطان قايتباى، ويظهر لى أنه جدد ما بها وتاريخا داخلا من الأول يظهر لى أنه نقش فى نيف وثمانمائة، فإنى جهدت للبيان عن المكتوب فيه فغلبتنى رثاثته لقدمه، ولم أفسر منه سوى إنشاء مولانا الشريف السلطان ولعله برسباى، ورأيت هناك آثار سور مبنى بقطع من الحجر الأبيض الصغير مستطيلا على طرف الجبل، ومن داخل السور هيئة خندق محفور لطيف، والبناء ماش على طرف الجبل إلى مسافة كبيرة، ولعله كانت هناك قرية لطيفة، وبها سلطان والله أعلم بذلك.
ورأيت هناك حفرا كثيرة بالإبزيم، علمنا أنها السبب لذلك، وسواقها طائفة من بنى عطية، ويدعون بالسواركة، ولهم عشرون دينارا من ديوان السلطنة، فلما منح الله هذا المحل كثرة الماء الطيب، وفتح الله تعالى على وفده بحسن الارتواء منه استغنوا عن ذلك المورد بماء الحفائر الحلوة المعادلة لماء النيل فى الحلاوة والخفة وعدم التغير بطول المكث فى القرب، واستمرت الدنانير تصرف لجماعة السواركة كما قدمنا ذكر ذلك.
ومن غريب ما وقع فى هذا المورد فى عام سبع وستين وتسعمائة، أن الركب ورد الماء ضحوة، فبمجرد أن شربت الجمال من
الحفائر توعكت وضعفت، منها ما سقط ميتا على الحفيرة، ومنها ما وقع فيه الفناء الوحىّ بعد ساعة وأكثر، واستمر الحال على ذلك بهذا المورد حتى أوجب أن الركب أقام بهذه المنزلة فى الطلعة يومين وليلة لعجزه عن الرحيل، ولم يشاهد مثل ذلك قبله، ثم أثر الماء فى بعض الحجاج فحصل الموت الوحىّ لهم، وكان الوقت صائفا فأعان وجود الحر والهواء الحار على ذلك فى الجمال وبعض الرجال، ودفع الله ذلك عن وفده بعد أيام قلائل.
وأرض مدين بشاطئ البحر على يوم من المغارة (وسيأتى الكلام عليها فى حرف الميم) ثم قال: وبالقرب من المغارة بمقدار نصف بريد حفيرة تسمى: الكوز - بكاف مضمومة وواو بعدها زاى معجمة - وكانت الإقامة بها إلى قبل الظهر بعشر درج إلى انتهاء الرى، ولم يبق على المياه أحد يستقى إلا بعض الربائع، فسار منها قليلا ومر على كبيدة - اسم لأرض حصاؤها من الحمرة إلى السواد تشبيها بلون الكبد - وهى آخر درك الرشيدات من بنى عطية، واستقبل درك بنى عقبة فمر على طى الناشر؛ وهى أرض فيحاء بيضاء صاحب دركها الآن أيتلى بن عقاب بن سليمان/الأعرج من المناصير وإخوته وأولاده، وسار عنها إلى أن عشى بالقرب من الدار المعتادة المعروفة بأم رجيم - بضم الراء المهملة وفتح الجيم المعجمة بعدها ياء تحتية وميم - المشهورة عند عامة الحجاج بقبر الطواشى، فصار للدار لدفنه بها كالعلم عليها، وكان مسيره قبل المغرب بخمس عشرة درجة سبعين درجة، والعادة خمس وثمانون درجة للدار الأصلية التى قصر عنها بخمس عشرة درجة.
ودرك هذا المحل لطائفة من بنى عقبة تدعى الخرشة، والخرشة:
بدنات عديدة متفرقة، وهؤلاء يعرفون من بينهم بالنجادات أولاد نجاد
العشرة؛ وهم جماعات متعددة يقوم بالدرك فى كل سنة شخص منهم بالنوبة يخدم أهل الركب فى دركه، ويقبض المعلوم المرتب له بديوان الذخيرة ويتوجه، والسنة التى بعدها تكون لغيره من أقاربه وطائفته، وبالقرب منها بمقدار ثلثى بريد عين ماء تجرى تسمى هرم - بضم الهاء وسكون الراء وميم بعدها - ومن أم رجيم إلى حسما مقدار نصف يوم، وكانت الإقامة بها إلى بعد العشاء بثلاثين درجة، ثم سار إلى عيون القصب ثلث طريق مكة إلى بعد الشمس بعشر درج، فكان مدة سيره مائة وستين درجة لتأخره عن دار قبر الطواشى بخمس عشرة درجة، وعادته للعيون مائة وأربعون درجة من الدار الأصلية التى تأخر عنها، ودركها متعدد لأقوام متفرقة.
واعلم أن أول درك بنى عقبة من كبيدة - المتقدم ذكرها - فيمر على: طى الناشر، وهو درك أيتلى الأعرج المنصورى الحسيسى - بضم الحاء - ونهايته أول أم رجيم، ومن أم رجيم إلى المحل المعروف بمثالة - بميم مكسورة أول الحروف وثاء مثلثة مفتوحة بعدها لام مفتوحة وهاء للسكت - لأيتلى بن فاضل من أولاد نجاد العشرة ورفقته من نجادات الخرشة، ومن مثالة إلى حدرة عيون القصب درك فينان بن صدر الدين حسن بن سلمة من بنى عقبة، ويسمى دركه بالقرقف - بقافين بينهما راء مهلملة ساكنة - وهو مضيق عيون القصب، وكان الركب أولا يسير منه إلى العيون، ثم فى بعض الأيام الجركسية تمرد صاحب الدرك لاختلاف بينه وبين أمير الحاج، فحمل إلى هذا المضيق الشوك والحطب، وأججه نارا ليمنع الركب من سلوكه إلى أن يرضوا خاطره بترتيب صرة له، وعادة فكان لهم من ورائه طريق إلى العيون، لا مضيق به ولا شدة على جانب البحر، وهو الطريق الآن، فسار الركب منه إلى العيون وتداولته الأمراء
بعد ذلك، وتركت تلك الطريق المسماة بالقرقف من ذلك التاريخ، فإنه مضيق بين جبلين، ومن حدرة عيون القصب إلى المحل المعروف بورىّ النار - تصغير ورى - ينقسم إلى أقسام:
(القسم الأول): البحر وهو لطائفة كثيرة من بنى عقبة تدعى المسالمة أصحاب درك البحر، وهم: جمعان بن رفيع وابن عصيلة، وأولاده سبع وإخوته، ونجدى بن أبى بكر بن نجدى وأولاده، وعلى بن نجدى، ومن معهم، كما هو مبين عند ذكر بدناتهم.
(القسم الثانى): جانب البحر من البر، وهو درك نجدى بن أبى بكر بن نجدى من المسالمة، ويشاركه فى ذلك الوقت بعض المسالمة.
(القسم الثالث): من جانب الجبل ومبرك الحاج، وذلك درك عمرو ابن عامر بن داود أمير بنى عقبة العمر، والمتاريك العوامر، والمزايدة وأولاده، وله على ذلك المرتبات الوافرة من الخزائن العامرة والتشاريف السلطانية والخلع المنوعة السنية، ويشاركه فى ذلك أيضا شويمى بن حسين بن عيسى بن سويبط، من بنى عقبة المناصير الحسيسات وأولاده، وليس لبنى عقبة العمر والمذكورين درك فى البحر ولا فى جانبه مطلقا؛ وإنما تنفرد المسالمة بذلك فقط.
(القسم الرابع): درك مجرى العيون داخل الوادى، ويسمى عند أهل الدرك المغيسل - تصغير مغسل - لكثرة غسل الركب ثيابهم فى ذلك المحل، وهو درك فينان بن عتيق بن داود بن رسال، وله مرتب يختص به على الدرك.
وحيث قسمنا هذا الدرك إلى أقسامه، فنشرع فى ذكر بدنات العرب من بنى عقبة:
أما المسالمة فلهم من البر جانب البحر فقط بعيون القصب، وبدناتهم كثيرة، وحد دركهم من جزيرة عينونة المتصلة بالبحر إلى ما جاور قبر الشيخ مرزوق الكفافى، وإلى القرب من حدرة رامة آخر درك بنى عقبة، ومصطلحهم الذى توافق عليه آباؤهم وأسلافهم من القديم، وتوارثه الخلف عن السلف فى درك البحر وما ينصلح به من المراكب، فينقسمون فى الدرك أثلاثا لكل ثلث سنة، يستولى ذلك الثلث على ما يكون فى تلك السنة المتعلقة به من السكر إن كان أو غيره، لا يتعدى هذا الحد قوم على رفاقهم من ثلث آخر.
فالثلث الأول لطائفة من المسالمة تدعى الهشائمة، منهم ملعب ابن محمد بن هشيمة وإخوته محمد وعمر وملجام وأولادهم ومن معهم، ويشاركهم فى هذا الثلث طائفة النجادة، منهم نجدى بن أبى بكر بن نجدى، وغدير بن على بن نجدى، وأبو بكر ومن معهم من النجادة.
والثلث الثانى لطائفة تدعى المقارنة، منهم: معزى بن سياح بن مجرى بن مقرن بن عصيلة بن حسن بن عملاس بن مجرى بن مسلم، وهو الذى تنسب إليه طائفة المسالمة، فيقال لهم: المسالمة، ومسلم بن عقال، /وعقال هذا أبو طائفة يقال لها العقالات، وهو أصل من أصول بنى عقبة جد العمرو والمناصير والمسالمة، وعقال بن عمرو وهو والد العمر والذين شيخهم الآن عمرو بن عامر بن داود وعمرو بن سياح، وسياح أبو طائفة الخرشة من بنى عقبة والزبدة وعمرو، ووالد سياح محمد ومحمد والد آل إبراهيم، والمساعيد من بنى عقبة، وعقبة والد بنى واصل وبنى عطية وبنى شاكر الحجر والفقعة، وبنى واصل جميدة، ويشارك معرى فى الثلث الثانى أحمد بن سبع بن مجرى وعرب البحيرات من المسالمة، منهم: تركى بن عيسى ومتيريك بن متروك بن بحير.
والثلث الثالث لطائفة الفيايضة من المسالمة، وهم: جمعان بن رفيع بن عقيلة وأولاده، وأخوه كليب وأولاده، ولميلم وموسى كردوس وأولادهما ومن يشاركهم، وطائفة المسالمة تجمع بدنات كثيرة. انتهى.
ثم نذكر منها جملة فارجع إليه إن شئت.
ثم قال: وأما أصحاب درك البر بعيون القصب، فنذكر ذلك على التفصيل: فحده طولا من آخر القرقف الذى هو مضيق عيون القصب تحت الحدرة إلى المحل المعروف بورى النار، وحده عرضا من جزيرة عينونة المتصلة بالبحر إلى قبر الشيخ برهان الدين إبراهيم الأبناسى إلى مجرى العيون، وقد رأيت بالدفاتر القديمة السلطانية أن شويمى ابن حسين من المناصير خاصة، يتصل دركه عن الركب الأول فقط فى الدولة الجركسية إلى المويلح، وأما فى زمننا فلا يشارك أهل المويلح ولا يشاركونه لأن الركب الأول قد بطل، ثم ذكر جملة من بدنات بنى عقبة.
ثم قال: ولنرجع إلى ذكر عيون القصب فنقول: يصلونها فى اليوم الرابع من العقبة، والبحر الملح قريب منها، وربما ترسو عليها بعض الزعائم لبيع الغلال على أهل الركب، يجلبونه وغيره من الدقيق والمأكولات من بندر الطور، وماؤها المورود خارج من الوادى جار على نجيل أخضر وقصب فارسى وشجر من المقل، ولذلك هو سريع التغير إلى العفونة يصلح للغسل والاستعمال، والعادة الآن أن الركب يقيم بها إلى قبل الظهر بعشر درج ويرحل، وذكر ابن العطار أن الركب كان يبيت بها غالبا فى زمنه، وذكر المقريزى ما يدل على ذلك، فإنه قال فى تاريخه:(السلوك فى دول الملوك)، أن فى شهر القعدة سنة أربع وثلاثين وثمانمائة استجد بطريق الحجاز فى المنزلة المعروفة بعيون القصب بئر احتفرت بإشارة القاضى زين الدين عبد الباسط،
فعظم النفع بها، وذلك أننى أدركت بعيون القصب ماء يخرج من بين الجبلين يسيح على وجه الأرض، فينبت من القصب الفارسى وغيره شئ كثير، ويرتفع فى الماء حتى يتجاوز قامة الرجل فى عرض كثير، فإذا نزل الحاج عيون القصب أقاموا يومهم على هذا الماء، فيغتسلون منه ويتبردون، ثم انقطع هذا الماء وجفت هذه الأشعاب، فصار الحاج إذا نزل هناك احتفر حفائر يخرج منها ماء ردئ إذا بات فى القرب أنتن، فأغاث الله العباد بهذه البئر، وخرج ماؤها عذبا. انتهى كلامه.
(وأقول): قد أعاد الله ذلك الماء الجارى والأقصاب والنجيل على أحسن عادة، وما أدركنا هذا المحل من باكورة العمر إلا على هذه الصفة، ولا شاهدنا أهل الركب يحفرون شيئا من الحفائر، ولا يجنحون إليه مطلقا، والبئر المذكورة موجودة الآن ولا نفع بها إلا إذا نزحت العيون لطول السنين، وأما تغير الماء بسرعة فهو على ذلك بواسطة ما يكدّره من المنابت، ونزلنا فى هذا الوادى كثيرا، وتكرر ترددنا إليه فى أوقات حسنة مع كثير من الأمراء وغيرهم، وجلب إلينا فى هذا المحل مرارا عديدة من الأسماك الطرية التى تصطاد بساحل البحر، وهناك صيادون فى قوارب لذلك، ومن بيض السمك وهو كصغار بيض الدجاج، وفى قدره ومثاله يطبخ ويؤكل، ومن الأغنام السمان واللبن والسمن والعسل النحل والبطيخ الكبير القدر الحسن الطعم، والتفاح المجلوب من قرية معتادة والعنب فى بعض الأحيان والتمر.
وأما فى زمن الحر الشديد فذلك الوادى لا يكاد يوصف ما يمر به على الركب من شدة المشقة؛ لكثرة هوائه الحار المهلك المنشف للقرب القاتل لمن أراد الله انقضاء أجله من المشاة والفقراء وأهل التعب، وقد ذكرت بعض ذلك مفرقا فى تعاقب السنين، ومحطة الركب
فى الذهاب فوق الحدرة وفى الإياب تحت الحدرة بالقرب من قبر الشيخ إبراهيم الابناسى الشافعى (الذى ذكرنا ترجمته فى قرية أبناس)، وهو فى ضمن قبة عالية مبنية فوق جبل، وبها أيضا قبر عامر بن داود والد عمرو بن عامر صاحب درك المنزلة.
ثم فى عام سبع وستين وتسعمائة حصل للحاج - وكان فى زمن الصيف - هواء حار وعطش ولهيب، أعقبه موت بعض الحجاج فجأة، فتوفيت زوجة أقطر دوادار الحاج من الأمراء الجراكسة، وهى بنت قانصوه ساقى السلطان الغورى وأمها فى وقت واحد بالطلعة، فحملتا ودفنتا جميعا داخل القبة، وعمل لهما شواهد من الأحجار هناك، وينزل الركب فى هذا الدرك فى حالة الذهاب والإياب نهارا فيغدى به، وفى الغالب فى الإياب ينزل على الأشائر.
والمرتبات على هذا الدرك أكبر مرتب فى هذا الدرب لصاحب دركه، وهو الآن/الشيخ عامر بن عمرو بن داود أمير بنى عقبة المتاريك العوامرة، وأولاده صالح وهو أكبرهم، وسبتيان وفواز وإخوتهم، فله لنفسه ولأولاد إخوته وأقاربه من الأشرفية القديمة ألف وتسعمائة وثمانية وأربعون دينارا ونصف دينار، وله ثمن قفطان من أمير الحاج خمسة عشر دينارا ونصف دينار، ما يخص أقاربه من ذلك أربعمائة دينار، والباقى من القدر المذكور له، ولهم من الجوخ المخيط بديوان القلعة وأمير الحاج ما عدته خمس وأربعون جوخة، غير الملاليط والعجلونى والسكر والمجامع الحلوى والدقيق والعليق لركابهم، والقيام بواجبهم إلى تقدمهم، وذلك خارج عما يقبضه أولاد سلامة بن فواز عرف بجفيان بطريق الوكالة عنهم، والضمان لما يأتى منهم إنعاما لهم فى كل سنة ألف دينار.
وأما بقية أرباب الدرك والمرتبات بهذا المحل فجماعة كثيرون، ولكل منهم ما يخصه بالديوان السلطانى غير ما ذكرنا، وأما عادة المبشر لطائفة بنى عقبة فهو على ما أذكر مما هو لطائفة العمرو ستة دنانير، ولطائفة العطيشات مثل ذلك.
وللقاضى محيى الدين بن عبد الظاهر:
كتبت لكم من أعين القصب التى
…
جرى فى نواحيها بذكركم طرب
فإن أطرب التشبيب فيها بذكركم
…
فكم أطرب التشبيب من أعين القصب
وكانت الإقامة بعيون القصب فى سنة خمس وخمسين إلى قبل الظهر بعشر درج، وسار قليلا فغدى فى ورى النار آخر درك العيون، واستمر سائرا إلى الشرمة - بالشين المفتوحة - وهى درك حسن ابن شهوان وأولاده ومن معه من بنى عقبة العمر والعطيشات، وإنما سميت بذلك لأن الشرمة اسم عين تجرى بالقرب منها من باب تسمية المحل باسم الحال، فكان سيره إلى المغرب خمسا وسبعين درجة، وكان نزوله دون الدار المعتادة؛ لأنه قصر عنها بنحو عشر درج أو أكثر منها تقريبا، وصفتها أنها أودية بشاطئ البحر وأراض مسطحة، وآخر درك الشرمة محل يقال له عند العرب: الشويكة - تصغير شوكة - وذكر ابن العطار أن اسم هذه المنزلة (الصلاهى)، وبالقرب من الشرمة بمسافة قليلة عين ماء تجرى تسمى: رأس تريم - بتاء مفتوحة وراء مهملة ساكنة وياء مفتوحة بعدها ميم - وبدار معشة الشرمة بالقرب منها مخرس إلى حسما يسمى: سدر - بفتح السين المهملة بعدها دال مهملة ساكنة - وبالقرب من عيونه مخرس يسمى: يرنب - بفتح الياء المثناة التحتية وسكون الراء ونون مفتوحة بعدها باء موحدة - وكانت الإقامة فى سنة خمس وخمسين إلى بعد
العشاء بأربعين درجة، وسار إلى المويلح ويسمى: النبك عند أهل الدرك، يسير إليها أولا بين كهوف وجبال، ثم محجر وحدرات متعددة ومحاطب شجر، وكان وصوله إليها قبل الشمس بخمس درج، ومدة سيره مائة وأربعون درجة لدخول الصنجق والمحطة بجانب البحر الملح، وبها صيادون للسمك فى قوارب لطاف، ويجلب إليها الدقيق والفول والفاكهة من الطور صحبة النصارى للبيع على الحجيج كالعيون، ويحصل بذلك رفق للركب، ويوجد بها الحشيش لعلوفة الجمال والأغنام فى الغالب تجلبه العرب، والسراق بها كثيرون خصوصا ليلا، لكثرة محاطب الشجر وأكثر ذلك فى حالة الإياب، فقد شاهدنا ذلك كثيرا ومرت لنا أوقات فى كتابة وقائع الحجيج بهذه المنزلة بالرجعة متعددة فليتنبه لذلك أمير الركب، وجبل الشار بها، ويرى من يومين متقدما ومتأخرا، أو الظاهر أن المنزلة سميت باسم مائها المورود قديما، فإن الشيخ محب الدين العطار قال: وبها بئران ماؤهما قليل الحلاوة للحاج آل ملك.
(وأقول): إن المويلح وصف للماء تصغير مالح، وهو كذلك عند قلة الأمطار، وأما عقب السيول فيميل إلى عذوبة يسيرة لكنه ثقيل.
وأما آل ملك فإنه صاحب الجامع الذى فى خارج باب النصر، وهو الأمير سيف الدين، أصله ممن أخذ فى أيام الملك الظاهر بيبرس من كسب الأبلستين لما دخل فى بلاد الروم في سنة ست وسبعين وستمائة، وصار إلى الأمير سيف الدين قلاوون، وهو أمير قبل سلطنته، فأعطاه لابنه الأمير على، ولا زال يترقى فى الخدم إلى أن صار من كبار الأمراء المشايخ ورؤوس المشورة فى أيام الملك الناصر محمد بن قلاوون، وولى نيابة حماة ثم ولى نيابة السلطنة بقلعة الجبل، فأول شئ بدأ به أن بعث والى القاهرة إلى خزانة البنود فكسر
ما فيها من أوانى الخمر، وكان الناصر محمد قد أسكن بها الأسارى المأمورين عند مجيئه من الكرك، فكثر عددهم، وأكثروا من اعتصار الخمر حتى بلغت جرار الخمر الذى اعتصروه فى سنة واحدة اثنين وثلاثين ألف جرة، وتظاهروا ببيع الخمر، فقصدهم أهل الفسوق من الرجال والنساء والمردان، وصارت حانة يعلن فيها بأنواع الفواحش، من الزنا واللواط والقمار وشرب الخمر، وانفسد بها كثير من نساء الناس وأولادهم، ولم يقدر أحد على إنكار ذلك، فنزل إليها الوالى والحاجب، وأزالوا ما كان بها من الفساد وهدموها كلها، واشترى الأمير قمارى أرضها فحكرها، وبنيت بها الدور وزال بذلك فساد كثير، ومنع من نصب الخيم على شاطئ النيل، /وكانت من أعظم المفاسد، فانكف الناس عن التظاهر بالمعاصى فى ولايته، إلى أن تولى الكامل شعبان، فأخرجه إلى دمشق نائبا، ثم تولى صفد نائبا بها فى آخر ربيع الآخر سنة سبع وأربعين وسبعمائة، ثم سأل فى الحضور إلى مصر فرسم له بذلك، فلما وصل إلى غزة أمسكه نائبها، وجهز إلى الإسكندرية فى السنة المذكورة فخنق بها، وكان خيرا فيه دين وعبادة، يميل إلى أهل الخير والصلاح، وله آثار بطريق الحجاز، من جملتها هذان البئران، وبهما للوفد نفع كثير خصوصا فى الرجعة عند عدم الماء بأرض الوجه وطول المسافة فى عدم الماء الذى يسوغ شربه.
ومن المتجددات فى مناهل درب الحاج ما عرض فى أمره، وأمر به الباشا المفخم على أغا عند ولايته باشا بالديار المصرية فى عام سبع وستين وتسعمائة، فجهز صاحبنا الأمير قيت بن عبد الله الداوودى كتخدا جماعة العسكر الجراكسة، وأحد الأعيان الموصوف بالفروسية والشجاعة والهمة، وهو من مماليك المرحوم السلطان قانصوة الغورى، إلى عمارة حصار كبير ومعقل خطير يكون بالمويلح موئلا
ومعقلا لحفظ أموال التجار والرعايا، وردعا لأهل الفساد والبلايا، تكون مساحته من الجهات الأربع دائر خمسمائة ذراع بذراع العمل، من كل ناحية مائة وخمسة وعشرون ذراعا، فتوجه فى السنة المذكورة وصحبته فئة كثيرة من العساكر المنصورة من كل بلك طائفة، وجهزت إليه المعمارية والآلات والمدافع وما يحتاج إليه من المأكولات والأسباب برا وبحرا، وعينت له أغربة بجانب ساحل المويلح لنقل ما يحتاج إليه ذهابا وإيابا، وطلب مشايخ الأدراك وأعيانها للحراسة والمعاونة على هذا المهم، وشرع فى موضع الأساس على القياس المشروح فتم دائر الأساس، وعقد الباب وأربعة أبراج بدائره من كل جانب، وعدة ما يوضع فيها من المدافع سبعة وأربعون مدفعا، وبداخله حواصل ومنافع فى بقية سنة سبع وستين، بحيث لما توجه الركب شاهد البناء والترتيب، ثم اعتنى المعمار بحفر الآبار هناك، فحفر قيت المذكور بئرا، وجعلها وقفا لمولانا الخندكار المعظم، وبنى بئرا ثانيا من ماله، وجعلها وقفا له، ثم لما توجه الأمير عثمان بن أزدمر باشا أميرا على الركب فى تلك السنة أمر ببناء بئر ثالثة ففعل ذلك، ثم قبل عود الركب إلى المويلح وجدها فرغت فوقفها على المسلمين، فتم بها خمسة آبار وذكر لى قيت المعمار أنه يريد أن يحفر بئرا داخل القلعة فيصير هناك قديما وحديثا ستة آبار، وشربت من ماء المتجددات فرأيته عذبا سائغا شرابه.
وذكر لى أيضا أنه بعد فراغ الحصار يريد أن يبنى خانا لطيفا كالذى على نخل وعجرود لودائع أهل الركب، وصارت المويلح من أجلّ مناهل الحجاز، أثابه الله تعالى، لكن لم يبن الخان الثانى اللطيف، واقتصر على الأول فإنه كفاية، لأنه حصار كبير فيه نفع للمسلمين للخزن والحماية وبه طبلخاناة رومية تضرب على بابه بكرة وعشية كغيره.
وبالقرب من المويلح بمسافة قليلة مورد يدعى: عين الوايلى - بفتح الواو وياء مثناة تحتية مكسورة ولام بعدها - كذلك، وبها مخرس إلى حسما، وأصحاب الدرك بها فى زمننا أولاد الشيخ شمعون بعد والدهم، وهو شمعون بن أبى بكر بن شاروق من أكابر مشايخ الخرشة الشواريق الرشيدات من بنى عقبة، وعاش دهرا إلى أن ارتعش رأسه، وكان لى به إلمام فى الدرب، وأولاده أبو بكر وهو أكبرهم، وعبد الله وهو أسنهم، وجربيع وسعيدان وسالم وحمود وحامد، وعبد الله وحمد وعبيد، وجملة ذلك عشرة أنفار، ولكل نفر أولاد،
ومن بدنات الخرشة المشهورة: النشابشة أولاد سعد، منهم:
سعيفان بن شمعون، الرشيدات منهم: سلامة بن منجد وعصن ولده، وإخوته وأولادهم، وهم أصحاب المرتب بديوان القلعة المنصورة يقبضون ذلك، ومن يحضر منهم من ملاك الكرك والشوبك وغزة إلى عقبة أيلة بالطلعة ويعودون، وهو إنعام من غير درك كأولاد سعيفان، المفصلات منهم: رحمة بن عزيز، المساعدة منهم: حسن بن عاصى، السروات منهم: حصين بن يغنم، البريكات منهم: حسين بن عويق، المباركات منهم: حميد بن حجير، الفريعات منهم: سرحان بن ذئب، الغويطات منهم: سليمان بن مرشد، الذئبة منهم: أولاد صباح، النجادات منهم: مرشد بن عطيفة، وعيد بن يرجس، وجبر بن وقاد أولاد نجاد العشرة أصحاب درك أم نجيم، المناجدة منهم: سلامة بن منجد بن عصن ولده المتقدم ذكرهما، العمارات منهم: هلال بن عون، الحوارين أولاد أبى بكر، العجينين منهم: بسيط وغريب بن زبيع.
وماء هذا المورد لا يكفى الحاج عند وروده سرعة حتى يحصل لهم الرى التام العام، فلذلك كانت الإقامة عادة للاستقاء من المورد بقية النهار وصدرا من الليل، ففى سنة خمس وخمسين أقام إلى بعد
العشاء بخمسين درجة، وسار فغدّى بالموضع المعروف بدبة، وهو آخر درك المويلح، ومر على الحدرات والوغرات والعقبات، والعراقيب المعروفة بوادى الطبق، وجبل الأشياف، وكانوا قديما ربما يغدّون به ويسمونه وادى الأشياف؛ /لأن أحجار ذلك الجبل إذا انكسرت فى ذلك الوادى تصير شبه الأشياف ألوانا وصفة.
ومرحلة الطبق متعبة لما فيها من الصعود والهبوط والمضايق والعراقيب، ولكثرة المشقات الحاصلة من مرور الركب بوادى الطبق، ومر فى هذه السنة علي المحل المعروف بطىّ الكبريت، وهو جبل مشرف رفيع الرأس، يرى بعد مجاوزته فى صدر البرية، وجاوزه وغدّى بدار السلطان قايتباى رحمه الله تعالى، وهى المستجدة فى زمنه، حيث نزل بها عند توجهه إلى مكة، وبطلت المنزلة بوادى الأشياف أو بطىّ الكبريت من حينئذ، وكان المسير من دار السلطان قبل شروق الشمس بخمسمائة وخمس وعشرين درجة، يسيرون إليها بين محاطب شجر ومحاجر وعتاتير، وإذا أسالت تلك الأرض يعسر سلوكها جدا على الجمال والرجال والركبان، لأن هناك سبخة ندية من ماء البحر الملح. وإذا جاء السيل أزلقها جدا، وعجن أرضها فيعسر فيها السلوك على خف الجمل وحافر البهيمة، وقد جربنا ذلك مرارا.
وبالقرب من دار السلطان وادى القسطل، سمى به لقسطل يوجد به أحيانا. وبالقرب منه بمسافة قليلة مورد للعرب يدعى البيضاء - بباء موحدة مفتوحة تليها مثناة تحتية ساكنة وضاد معجمة مفتوحة - وقبلها بالقرب من طى الكبريت عين تجرى تسمى دار المعرّش - بتشديد الراء المفتوحة - وبالقرب من دار السلطان مخرس إلى حسما يدعى الخريطة - بخاء معجمة مضمومة وراء مفتوحة بعدها ياء ساكنة وطاء مهملة مفتوحة وهاء للسكت - وبالقرب من حدرة رامة مخرس أيضا.
وذكر ابن العطار فى مختصره أن الركب يرحل من المويلحة إلى وادى الأشياف فى مرحلة، وجعلها خمس ساعات، ومنها إلى القسطل منزله، وعدّها الحادية عشرة من العقبة، ثم قال: وهى نصف مرحلة ولم يذكر طى الكبريت، وأما دار السلطان فمستجده بعده، كما استجد نزول الحاج بمنى بالقرب من بيت الشريف أمير مكة أيضا من زمن الأشرف قايتباى كما تقدم ذكره، وهى دار الركب الآن، فيغدّى بها ويرحل قبل الظهر بأربعين درجة، فيمر على وادى القسطل وحدرة على شقيف الجبل، وهو المشهور بشق العجوز، وله نظير فى درب الحاج من الشام، يمشون فوق وتحت بالوادى، وبأوله ذهابا طريق قليلة المسالك والزحام، لكنها يصعد إليها من الجبل الذى على يمنة السالك، ويستمر صاعدا إلى أن يهبط إلى جانب البحر الملح، وهى شاقة السلوك على المحارات والأحمال، ثم ينجرّون على جور كبار ومحجر، وفى بعض الأحيان مخايض البحر الملح، وبعض الأحيان توجد بعض المراكب إما مارة أو راسية على الشاطئ، واستمر إلى قبر الشيخ الصالح المعتقد مرزوق الكفافى أعاد الله علينا من بركاته، وهو بشاطئ البحر وعليه حظير من الخشب، تزوره المارة عليه، ويقرءون عند قبره سورة الفاتحة ويدعون بما أحبوا، وهناك موقف مبشر الدار لأخذ النذور، وبعض الحجاج من العامة يكسرون عند قبره أوانى الزجاج المملوءة بماء الورد الممسك، يحملون ذلك بصحبتهم من القاهرة لذلك، ويعتقدون التبرك بمثله، وهو من الإسراف الذى لا طائل تحته ولا ثواب فيه. فلو دفع ثمن ذلك لفقير ومنقطع فى ذلك الوادى، وقصد به الثواب والتبرك بزيارة الشيخ كان أولى.
وفى سنة تسع وخمسين، جدد الأمير فائق بن داود باشا وهو باشا الملاقاة الأزلمية على قبر الشيخ وصندوقه ستارة فسرقت، ثم
جددها فى سنة ستين أيضا، وأوصى بها أصحاب الدرك، وبالقرب من كفافة مورد لتزويدة أهل الركب، وسلمى داخل الوادى بها آبار حلوة لآل ملك المتقدم ذكره، وهو أبعد من كفافة بنصف مرحلة تقديرا. ولا يحملون الماء من ثم إلا تزويدا، وللشيخ ناصر الدين بن مليق حين ورد سلمى، وكان حصل لهم عطش تبركا من شعره:
شكرنا لسلمى حين دارت كؤسها
…
علينا وكان الشكر من بعد سكرنا
سكرنا لديها بارتشاف رضابها
…
فعشنا بذاك السكر من بعد موتنا
ونادى لسان الحال فى حيها اغنموا
…
ظهورى فالأزلام رجس بعيدنا
وله فى كفافة:
كفتنا أكف من كفافة أكفأت
…
علينا زلالا من غيوث نداها
فلله ذاك الغيث كم عم ظامئا
…
وكم ظمئت منه كبود عداها
رعى الله راحات لراحاتنا أتت
…
لراح بها يحلو القلوب صداها
وأما الأدراك من دار السلطان إلى آخر درك بنى عقبة، فسنذكرها قريبا، وكان مدة المسير من دار السلطان إلى الشيخ مرزوق إلى بعد العصر بعشرين درجة، ومائة وعشر درج لدخول الصنجق، فعشى بجوار قبر الشيخ مرزوق واستراح، وأقام إلى بعد العشاء بأربعين درجة، وسار إلى قطع حدرة رامة، وتسمى أيضا أم البسيس، أو عقبته على كلا الوجهين، /ووصل الأزلم بعد الشمس بخمس عشرة درجة، فكان مدة مسيره مائة وسبعين درجة.
واعلم أن من المحل المعروف بدبة المويلح، إلى المحل المعروف بدار السلطان، درك جماعة من عطيشات بنى عقبة، منهم: حميد بن
محمود بن مغامس، وحماد ورفقتهم، والمقرر لهذا الدرك تافه القدر، ومن دار السلطان إلى المحل المعروف بشق العجوز إلى القسطل درك طائفة من المسالمة من بنى عقبة، منهم على بن كتيلة وأولاده، وسبع ابن جمعان ورفقتهم، ومن القسطل إلى حدرة رامة حد درك بنى عقبة من بلىّ درك المناصير الرقيعات، منهم: فواز وإخوته، أولاد حبشى ابن سياح بن مصاول بن العجيل، وقد علمت أن آخر انتهاء درك بنى عقبة يكون ابتداء درك بلىّ، وحده من تحت حدرة رامة، وبلى هم أولاد شهاب الدين أحمد بن ثعيلب - تصغير ثعلب - وانتهاء دركهم إلى أكرى، فمن حدرة رامة إلى المحل المعروف بتلبة درك فسقة بن سالم ابن عريفطة وجبار بن أدريس، وكلاهما من أصحاب درك الغنيبات وعرب الجعافرة من بلى، ومن معهم داخلون فى هذا الدرك إلى تلبة - بكسر التاء الفوقية وسكون اللام بعدها باء موحدة - ومن تلبة إلى اصطبل عنتر والفيحاء ووادى الأراك إلى المحل المعروف بكبره - بكسر الكاف وسكون الموحدة بعدها راء مهملة مكسورة وهاء - درك جماعة الغدائرة من بلى، وهم: شاهين بن أحمد بن عزيز وصبيح بضم الصاد - وحسن أولاد سلامة بن غدير وأولاد ذبوب ومن معهم، ومن كبره أول حد الوجه فمنه إلى المحل المعروف ببشيغة الوجه درك حلاس بن نصار بن جماز وولده حميد وعمرو بن أحود بن نصير، وسالم وحسن أولاد على بن نصير، من بلى الأحامدة.
ومن بشيغة الوجه إلى مفرش النعام إلى أكرى درك عمران بن خليفة بن عمران ومشايخ المسلمات وأحمد بن بيص، وأما أكرى فالهيش الذى بها وهو محل الماء والحفائر والأثل الذى هناك درك أولاد قناع بن على من جعافرة الشنابلة ومن معهم، ومناخ الركب أكرى فقط درك عمرو بن سبع بن غنام وأولاده من بلى الجواهرة، وسيأتى ذلك.
وأما الربع الثالث وهو من الأزلم إلى الينبع
، فهو من الأرباع المعطشة إن لم يكن بالوجه ماء، وأطولها وأوحشها مراحل أربع عشرة مرحلة، ساعاته مائة وخمس عشرة ساعة عنها ألف وسبعمائة وخمس وعشرون درجة. والأزلم: قال فى (القاموس): الزلم - محركة - قدح لا ريش عليه وسهام كانوا يستقسمون بها فى الجاهلية، الجمع أزلام وزلمتا المعز زنمتاها، ويقال للوعل والدهر الشديد الكثير البلايا الأزلم، وزلم أخطأ، وازدلم أنفه: استأصله، ورأسه قطعه، والزلم نبات لا بزر له ولا زهر، وإنما سمى هذا المحل بهذا الاسم لخباثة أرضه وسباخته وكثرة أفاعيه، وملوحة مائه جدا، وقلة نبات الأرض به خصوصا زمن المحمل، والمشقات الحاصلة للوفد بشرب مائه، وبعد المسافة عن الماء العذب الصائغ ذهابا وإيابا وغير ذلك، وهو نصف طريق مكة، يصلون إليها فى سابع يوم العقبة.
وكانت العادة السابقة أن يتغدى الركب تحت حدرة رامة، ويسير نحو ثلاثين درجة إلى الأزلم وهو فضاء بين جبال محيطة به، وبه أربعة آبار من الماء الملح جدا لا يكاد يسيغه الشارب، ويوجد بجدرها أوراق السنا المسهل، وكان بها خان خراب للناصر محمد بن قلاوون فهدم فى ولاية السلطان قانصوة الغورى، وأعيد جديدا فى سنة ست عشرة وتسعمائة على يد الأمير خشقدم أحد أمراء العشرة، وهو المتولى لقتل الجازانى بمكة لما كان باشا بها، وهذا الربع كالربع الأول، ومدته ثمانية أيام، ويوم التاسع يكون الركب فى الينبع فى صبيحته.
ومن الأزلم طريق إلى زاعم وقبقاب فى عرض الوادى مقدار مرحلة، وقدرها ابن العطار بسبع ساعات من الأزلم، وبه آبار ماء عذب، ومن الأزلم إلى أكرى أيضا طريق متسع حسن السلوك يسمى عند
العرب (درب أبى القزاز) اسم لحفائر ماء حلوة تروى الحاج، ويستغنى بها عن ورود ماء الوجه، وبهذا الطريق أيضا منهل يسمى أم طين، وهى دون أبى القزاز فى الكفاية، وهذه الطريق أطول مسافة من المعتاد مقدار مرحلة، وذكرها ابن العطار فى مختصره، وذكر أنه سلكها، وهذا الطريق مشهور يتداوله السلاك من العرب، وأما الحجاج في مرورهم فلا أعلم أنهم مروا، وإنما تذكر مشايخ الدرك ذلك لبعض الأمراء، فلا يرون سلوكه إلا جسا وخوفا من السراق، وهو توهم لا أصل له، أو لاعتيادهم الطريق المسلوك
(ذكر المقريزى) فى كتابه: (السلوك) أن فى سنة أربع وثلاثين وثمانمائة حفر الأمير شاهين الطويل بئرين بموضع يقال له: زاعم وقبقاب، وذلك أن الحاج كان إذا ورد الوجه تارة يجد فيه الماء وتارة لا يجده، فلما هلك الناس من العطش فى السنة الماضية بعث السلطان شاهين هذا فحفر البئرين بناحية زاعم؛ حتى لا يحتاج الحاج إلى وروده الوجه، فيروى الحاج منها، وعم الانتفاع بها، وبطل سلوك الحاج على طريق الوجه من هذه السنة. انتهى كلامه.
(قلت): وقد عدم الماء أيضا من آبار الوجه بالكلية لشدة توالى المحن/وعدم الحيا بهذا الوجه، وكان امتنع المطر بتلك الأرض مطلقا من مدة تزيد على عشر سنين، بحيث أن أهل تلك الأودية جميعها من العرب ترحلوا عنها وتفرقوا فى البلاد، وغالبهم نزل بريف مصر، ولا يكاد يوجد بتلك الأرض بعد الركب أحد؛ لشدة المحن وتزايد بالينبع جدا، حتى هلكت الماشية وعجفت الجمال، وعجزت عن نقل حب الدشيشة إلى المدينة المنورة لذلك، وقل الماء بالعيون التى بتلك الأراضى، إلى أن منّ الله - وله الحمد - بتوالى الأمطار فى آخر سنة ثلاث وستين، وفى سنة أربع وستين اخضرت الأرض وأعشبت، وصلح حال الحجاز والقرى التى حوله وفى طريقه، وسال وادى الوجه بعد تلك المحن، ولله الحمد.
وبخان الأزلم نوباتجية من الترك والقواسة كغيره، وفيه تحفظ ودائع أهل الركب بالرجعة، ورأيت الباشا به يأخذ معلوما على الودائع، وأفحش ذلك فى سنة ستين وتسعمائة فى ولاية مصطفى باشا، وصاروا أيضا يغالطون الحجيج ببعض الودائع، فكثرت الشكوى فى تلك السنة، وذكروا لأمير الركب أن هذا الخان وما قبله وقفه السلطان الغورى على مصالح الوفد وخزن ودائعهم، وجعل فيه دقيقا لمأكولات من يرد عليه من المنقطعين وأبناء السبيل بطول السنة، ولم يعين لذلك معلوما مطلقا، ولا أذن فى أخذه، فطلب أمير الحاج الباشا وأغلظ عليه، وطلب قاضى المحمل وشهوده ومؤلف هذا الكتاب لتحرير ما أخذه الباشا من الوفد، فكان شيئا له قدر وافر، فأعاده لأربابه، وأمر لهم بأخذ نصف واحد من كل اسم فقط، فإنهم كانوا يأخذون بحسب ما يسنح لهم على كل اسم، هذا ما وقع فى تلك السنة، والله أعلم.
وأرض الأزلم سبخة قليلة النبت كثيرة الأفاعى رديئتها، وأتذكر أننى جلست أكتب على ضوء الشمع فى سنة إحدى وأربعين فى ولاية المرحوم الأمير يوسف الحمزاوى، فقصدتنى أفعى غريبة الشكل فى طول الذراع وأغلظ من الساعد، بوجه مدور كبير، به عينان كالمسمارين، وبرأسها ذؤابتان من الشعر يمينا وشمالا، من فوق قرنين لطيفين كالمعز، فقربت منى لأجل الضوء لأن له إليه ميلا، فرآها الغلمان فأسرعوا وطرحوا عليها طشتا كبيرا، وتحيلوا على قتلها فقتلت، وطيف بها فى الركب للتعجب من شكلها.
وللصلاح الصفدى فى معنى ذلك شعر:
وحية أرض أقفرت جنباتها
…
إذا ما مشت فى رمله تتدرج
فأقبح بأرض ضبها مات بالظما
…
وجدول أفعاه بها يتموج
وعرب بلى أصحاب الدرك طوائف كثيرة، وبالقرب من حدرة رامة قبل الأزلم حفيرة ماء حلو، فوق المحل المعروف عند العرب بدبة رزيقة - براء مضمومة وزاى مفتوحة وياء بعدها ساكنة وقاف مفتوحة - وتسمى هذه الحفيرة نويبعة، من النبع تصغير نابعة، والماضى منه نبع. والأزلم من المناهل الكبار المعدة لاستعداد المحتاج من الحاج، وينصب به سوق كبير تجمع فيه الباعة ما حملته من الزاد والعليق وغيره لتبيع على الحجيج، خصوصا بالرجعة عند حضور جماعة الملاقاة بما معهم من البضائع والمأكولات، إلا أن الإقامة به بمقدار زائد عن الحاجة لا طائل تحتها لتضرر أهل الركب بشدة ملوحة مائه خصوصا فى زمن شدة الحر وعدم الأمطار.
واتفق فى سنة خمس وخمسين وتسعمائة ساعة نزول الركب بواديه أن نزل المطر وسال، حتى شاهدته بحرا يجرى تجاه باب الخان، فملأ منه أهل الركب قربهم، ورويت منه بهائمهم وجمالهم، فكانت الإقامة فى تلك السنة بالوفد يومين على ذلك الماء الصافى والمنهل العذب المصافى، وسار بعد العشاء بثلاثين درجة إلى رأس وادى تلبة بالقرب من سماوة ودخاخين بعد طلوع الشمس بعشر درج، فكانت مدة سيره مائة وستين درجة.
وفى تلك الجهات بالقرب من تلبة ثلاث مياه:
الأول: الأبّيض - بهمزة مضمومة وباء موحدة مفتوحة مشددة وياء مثناة تحتية ساكنة وضاد معجمة - والثانى يسمى: العليا - بعين مهملة مفتوحة ولام ساكنة وياء مفتوحة.
والثالث يسمى: المغيرا - بضم الميم وفتح الغين المعجمة بعدها ياء ساكنة وراء مفتوحة - وبالقرب من دار المغدى بعد الرحيل من الأزلم فى الذهاب قريبا من تلبة من جهة المشرق عين ماء حلوة
تجرى تسمى: الشعبين - بكسر الشين المعجمة المشددة وسكون العين بعدها باء موحدة مفتوحة وياء ساكنة ونون آخر الحروف - ومن جهة المغرب حفيرة تسمى: يقاك - بياء مفتوحة وقاف مشوبة بكاف - وبالقرب من وادى السماوة والدخاخين موضع يعرف عند العرب بدرب الشلوح بنحو بريد ونصف حفائر تدعى قبقاب، وبالقرب من سماوة والدخاخين مخرس إلى حسما.
وأقام أمير الحاج بالدار إلى قبل الظهر بخمس وثلاثين درجة، فكانت مدة الإقامة اثنتين وثلاثين درجة، وسار إلى أن قطع إسطبل عنتر، وهو فضاء صغير بين جبال ووعر وحدرات ومضيق، ويرى البحر المالح من أماكن، ومنه ممر على مكان يسمى: بحر آمل بين جبال وعرة/إلى أن عشى بأرض الشرينة والعلم السعدى، فكان سيره إلى قبل المغرب بخمس عشرة درجة لدخول الصنجق مائة درجة، وأرض إسطبل عنتر بها الحرامية والسراق، وبها نهب الركب الغزاوى سنة إحدى وأربعين وثمانمائة.
وبالقرب من إسطبل عنتر من جهة المشرق بنحو ثلاثين بريدا عين ماء تجرى تسمى: المسماة - بميم أولى مكسورة وثانية مفتوحة بينهما سين ساكنة - وبالقرب من مضيق إسطبل عنتر حفائر ماء حلو تسمى النخيرة وأم الطين، فأم الطين: حفيرة كبيرة من شرقى الجبل الأحمر الذى تراه من الإسطبل. والنخيرة: حفيرتان من غربيه، والشرنية طرطور جبل يرى عند الذهاب، ودركها لجماعة من الغدائرة، منهم: مشعل بن سامان بن غدير ورميح بن شانة بن رميح.
وأما وادى الأراك، ففيه شجر خضر، وبه يبنت الأراك، وفى وسطه جبل كان عليه حصن مبنى، وفيه يقول الشهاب بن حجلة:
أيا وادى الأراك حويت حسنا
…
أراك قد افتخرت به أراكا
أروح وقد ختمت على ضميرى
…
بحبك أن يمر به سواكا
وأما أصحاب درك إسطبل عنتر، فهم: شاهين بن أحمد بن غدير، وصبيح وحسين أولاد سلامة بن غدير، ومن معهم، من الإسطبل والفيحاء ووادى الأراك إلى كبره - أول حد الوجه - ومن المخارس إلى أرض حسما بالقرب من الإسطبل - من ورائه - موضع يقال له الصفحة - بصاد مشددة مفتوحة بعدها فاء ساكنة وحاء مهملة مفتوحة - والعادة أن يقيم الركب خمسين درجة بعد العشاء ويرحل.
ففى سنة خمس وخمسين أقام أربعين درجة، وسار إلى أن غدى بالقرب من الوجه والرحبة، ولم ينزل الوجه لعدم وجود الماء به، فكان مسيره إلى قبل الشمس بنحو خمس درج مائة وأربعين درجة، وأقام بدار المغدّى أربعين درجة إلى قبل الظهر بثمان وثلاثين درجة، وسار فمر على الوجه والرحبة وقطع النهدين، وعشى بأول مفرش النعام، فكان سيره إلى قبيل المغرب بعشر درج لدخول الصنجق مائة وخمس درج.
ولنتكلم على ذلك باختصار فنقول:
أما المسير إلى الوجه والرحبة فإنه يسير فى فضاء ومضيق وعر وجبال إليه، والوجه تحت الوادى وبه آبار حلوة أصلحها آل ملك المتقدم ذكره، ثم أمر بإصلاحها فى الدولة العثمانية الوزير الكبير المعظم إبراهيم باشا فى سنة إحدى وثلاثين وتسعمائة على يد المرحوم جانم الحمزاوى، فجهزت المعمارية إلى ذلك الوادى فى وسط السنة الثانية، وأقامت لذلك الإصلاح شهورا على يد الشهاب أحمد الأزبكى الأمين على العمارة، ورتب الوزير لأصحاب الدرك على تنظيف هذه الآبار وحراستها وتسهيل طرقها من مال وقفه مرتبا قدره فى كل سنة أربعمائة دينار مستمرة الصرف، تحمل من الخزائن السلطانية على يد أمير الحاج فى كل سنة لا تنقطع ولا تمتنع.
وأما الرحبة ففيها البئر المالح، وأصحاب الدرك من مشايخ بلى الأحامدة وأكابرهم، وهم: الشيخ حلاس بن نصار بن جماز وأولاده، وعمر بن أجود بن نصير ومن معهم، ولهذا الوادى زمن السيول والأمطار محاسن ومعاهد وأوقات وآثار تشنف بذكرها المسامع عند وروده وطيب أوقات تلهج بها ألسنة وفوده، فهى فى ذلك المنهل كالغرر والفرائد، ولا تزال الألسنة رطبة بتذكر تلك المعاهد، لأن ماءه أطيب مياه الدرب وأعذبها وأخفها وأحلاها، وللشعراء فى هذا المنهل أقوال، فلنذكر منها ما تيسر.
فللعلامة قطب الدين النهروانى المكى مفتى الحنفية بها:
أقول ووادى الوجه سال من الحيا
…
وقد طاب فيه للحجيج مقام
على ذلك الوجه المليح تحية
…
مباركة من ربنا وسلام
وللأديب نور الدين بن الجزار الشافعى:
ولما رأيت الوجه سال من الحيا
…
وقد طاب فيه للحجيج مقام
وعاينت ركب الحج حل بسفحه
…
وقد ضربت فى جانبيه خيام
ومد إلى الغيث الهطول أكفه
…
فجاد عليه بالعطاء غمام
فقلت على الوجه المليح تحية
…
من الله ما سح الربا وسلام
والعرجاء: محل بين الوجه والنهدين، وأدخل فى طريق الحجاج، ذكروا أنه كان به مياه قديمة من حفائر تحت النهدين، وله درك مبلغه فى القديم مائة دينار، ما هو على الركب الأول أربعون دينارا، وباقى ذلك على المحمل، وقد اختلف سليمان بن سلطان من جعافرة الشنابلة مع جماعته من العرب، وترافعوا إلى الأمير أنسباى حاجب الحجاب أمير الحاج إذ ذاك فى/الدولة الجركسية، فجعلها مرتبا لا دركا، فاستمرت على ذلك، ثم فى الأيام المظفرية قرر له ملك الأمراء
خير بك على المبلغ المذكور زيادة ستين دينارا، وهو الآن يصرف لأولاده وإخوته ومن معهم.
وقال السروجى الحنفى فى مناسكه: والعرجاء اسم ماء على جانب الوادى، بينه وبين الوجه مرحلة، يوجد فيه الماء فى بعض الأزمنة.
انتهى.
وفوق عن الوجه بنحو نصف بريد ماء يسمى: ألكرّ - بفتح الهمزة وضم الكاف وتشديد الراء - وبالوجه مخرس إلى حسما، وأما النهدان: فهما جبلان صغيران متقابلان على صورة النهدين فى الوضع، وقد جمع الدرب المصرى من صفات الذوات الآدمية الحيوانية الوجه والعيون والحنك والنهدين، ومن البهيمية عرقوب البغلة وظهر الحمار، وأما مفرش النعام ويسمى بركة أكرى، فيسيرون له فى مضايق وحدرة كبيرة ثم فضاء واسع ومرعى، وهو درك مشايخ السلمات من بلى، منهم: عمران بن خليفة بن عمران، وأحمد وجماعتهم، وحدّ دركهم من بشيغة الوجه إلى مفرش النعام إلى أكرى، وبالقرب من مفرش النعام بنحو نصف بريد ماء يسمى: سفان - بسين مهملة بعدها فاء مفتوحتين ونون آخر الحروف - وكانت الإقامة بالدار إلى بعد العشاء بثلاثين درجة، وسار إلى أن قطع مفرش النعام، ووصل إلى وادى أكرى شيلة واحدة، فكان المسير إلى بعد الشمس بعشرين درجة، مائة وثمانين درجة لدخول الصنجق، وذلك لموجب عدم الماء بالوجه، وخوف العطش فى طول المدة، وإنما كانت مائة وثمانين درجة، لأن الرحلة السابقة لم تكن بالمفرش، وإنما كانت بالقرب منه بنحو الثلاثين درجة أو أكثر؛ لأن المسافة من أرض المفرش إلى أكرى من تسع ساعات إلى عشر بحسب سير الجمال فإنه يختلف.
وأكرى: حد أرض بلى من جهينة، وهى فضاء واسع ومرعى، وماؤها حفائر جفار غير سائغة، وهى مختلفة، منها ما هو مالح جدا، ومنها ما هو دونه، وإذا لم تكن الأرض سائلة من المطر فالملوحة متزايدة وبالضد، وتزعم الجمالة أن ماءها خبيث لشرب الجمال وليس بصالح، وأنه يضرها بخلاف ماء الأزلم، وأكرى أرضها مدورة الشكل كالكرة فلعل اسمها مشتق من شكلها، وغيرته العامة بألفاظها، قال فى (القاموس): الأكرة - بالضم - لغية فى الكرة، والحفرة يجتمع فيها الماء فيغرف صافيا، والأكر والتأكر حفرها، ومنه الأكار للحراث، الجمع: أكرة، كأنه جمع آكر فى التقدير، وأرضها رديئة سبخة، وأفاعيها قتالة فى الغالب، وبمناخها دركان: فالأثل ومحل الحفائر ويسمى الهيش درك جعافرة الشنابلة، منهم: أولاد قناع، ومناخ الركب فقط درك عمرو بن سبع بن غنام. وأولاده من بلى الجواهرة، وهو غاية درك عرب بلى، ومن أكرى إلى طرف الحنك بغير درك، وطرف الحنك فقط درك تركى بن شوفان بن عبيد، ويدعى بن رقطية، ومنه إلى المحل المعروف بالجريرة، وهى الحدرة السوداء أول درك الشريف أمير الينبع إلى مناخ الركب بالينبع.
(وأما المياه) فبالقرب من أكرى حد بلى من جهينة بمقدار نصف بريد حفائر ماء تسمى: الضيّقة - بتشديد الضاد المعجمة المكسورة وياء تحتية بعدها وقاف مثناة فوقية مشوبة بالكاف - وبالقرب من طرف الحنك بنحو ثلثى بريد عين ماء تجرى تسمى: خفا - بخاء معجمة مضمومة بعدها فاء مشددة - وبالقرب من بئر القروى بنحو نصف بريد عين تجرى تسمى: الضحى - بضاد معجمة مشددة مكسورة وياء تحتية مشددة - وبالقرب من أكرى محل يدعى الوفدية، مخرس إلى حسما، وبأكرى مخرس ثان، وبالقرب من العقيق أول المضيق من الطلعة عن يسار الركب مخرس إلى حسما، وخرج منه
بنو الأم على الركب سنة ثلاثين وتسعمائة فى ولاية الأمير جانم الحمزاوى، ولم يظفروا منه بشئ.
ولحافظ العصر الشيخ شهاب الدين بن حجر رحمه الله تعالى:
أحبتنا لا تنسوا الود من فتى
…
قريح حريق الجسم مقلته عبرى
تذكر فى أرض الحجاز دياركم
…
فلم يتأنس بالعقيق ولا أكرى
وكانت الإقامة بأكرى يوما وليلة، وسار إلى طرف الحنك والماضى من الشمس عشر درج قبل الظهر بخمس وستين درجة، فكان مسيره إلى أن قطع طرف الحنك وهو فضاء واسع كبير، وطرف جبل على يسار الركب ذهابا، وهو المسمى بالحنك، وكان المعشى بالقرب من حدرة بئر القروى قبل المغرب بخمس عشرة درجة، مائة وثلاثين درجة لدخول الصنجق الحدرة، وعرب العترة يأتون من حوالى المدينة الشريفة، وحدودهم من طرف الحنك من الجهة القبلية إلى المدينة الشريفة إلى آبار على إلى جبل مفرح، وربما يتبع الحاج نفر منهم فى الأحيان من أكرى.
والعترة بدنات، منهم: حجاج، وجبارة، والمصاليخ وبشر، وولد على، والشملان، والعمارات، والسبعة - بسين مهملة مشددة مضمومة - والسحاليين، وبنو سليمان، والطوالعة، والجلاس - بفتح الجيم المعجمة واللام - والحسنة، والفدعان، والشراعبة، ووهب.
وأقام إلى بعد/العشاء بخمس وعشرين درجة، وسار إلى أن مر على بئر القروى والمحاطم، وبئر القروى هذا يقال إنه كان ماء لبنى هلال فى الأعصر الماضية، فعفت واندرست على طول الدهر.
وحكى أن الشريف عواز بن عجل بن رميح وزير صاحب مكة نزل هناك فى بعض السنين، وأمر عبيده بحفر هذه البئر، وقصد الكشف عن أمرها، فحفروا فيها إلى أن ظهرت لهم أرض ردية، وإذا ببعض
العبيد الذين يحفرون يقول أطلعونى فقد قتلت، فأصعدوه إلى فم البئر، وإذا به ميت مكسور العنق، فيقال إن الجن عمار البئر قتلته، فأمر الشريف بإبطال الحفر وتركها على حالها، وغدّى بعد الشمس بخمس عشرة درجة بالقرب من وادى خربان، فكان سيره مائة وسبعين درجة، وهو فضاء بطريقه محاطب وشجر وعقبة سوداء المحجر وعرة تدعى: الحريرة - تصغير حرة بفتح الحاء - ومنها تحضر جماعة لملاقاة صاحب الينبع بخيولهم ورجالهم صحبة من يعتد عليه، والغالب فى زماننا أن يكون النائب عليهم الشريف معزى وولد أخيه لأجل حراسة الوفد، وعادته قفطان أوسط، إما من البنك المذهب أو من السرنك العال، ولجماعته من الجوخ المخيط أربعة، ومثلها من الملاليط، ولهم العليق لخيولهم، والمأكولات من السنيح لرجالهم، والسكر والحلوى لكبيرهم، ومكارم الأخلاق على ما جرت به العوائد، والإقامة بدار المغدى بوادى خربان خمسة وعشرون درجة، وسار قبل الظهر بخمسين درجة إلى الحوراء، فكان مدة سيره لدخوله إليها مع الصنجق مائة درجة، والوصول قبل المغرب بثلاثين درجة.
والحوراء - بالهمزة الممدودة - مكان وقرب المدينة، وهو مرفأ سفن مصر، وهى قرية من قرى الحجاز تباع فيها العجوة، وبها قوارب لطاف لصيد السمك، وهى بساحل البحر، وماؤها حفائر جفار غير سائغ، والعامة يقولون: إذا وصلت الحوراء عب لنجوك حورة، لأنه يسهل الباطن لشدة ملوحته، ويعذب يسيرا فى بعض الأحيان إذا سأل الوادى، والمراكب المتوجهة إلى الحجاز تستقى منها، وبها شجر الآراك أيضا.
وفى كتاب «عجائب البلدان» الحوراء: قرية صغيرة وبها معدن البرام، ويحمل منها إلى سائر أقطار الأرض، وشربهم من آبار عذبة، وهى على ساحل بحر القلزم، وبدار الركب فى الذهاب علوة، بها قبور
جماعة من أعيان الركب، منهم المقدم الكبير محمد بن العظمة، انتقل بالوفاة بالحريرة، وحمل فى محفة أمير الحاج إلى هناك فدفن بهذه العلوة، وعلى قبره لوح من الحجر منقوش فيه تاريخ وفاته، أحضره محمد بن العظمة ولده من مكة ليكون تاريخا لوفاته، ورسما لقبره.
وسلطان بن حويلى بن عامر من أمراء عرب البحيرة، وهو قريب عيسى بن إسماعيل وأخوه عامر، توفى سنة خمس وخمسين وتسعمائة، وتأخر أمير الحاج بهذه الدار لوفاته ليلة كاملة، وبها جماعة من المماليك الجراكسة السلطانية مدفونون بجوارهما، والحوراء من مناهل الحجاز.
وفى سنة تسع وأربعين وتسعمائة، فى ولاية المرحوم جانم بن قصروه، أحضر إليه البلاصية وحشا أبيض الباطن أسود الظاهر، له صماخ بلا أذن، أكبر من الكلب بيسير نتن الريح، يسمى الظربان بالظاء المعجمة - فضرب ظهره بالسيوف الحادة فلم تؤثر فى جلده، إلى أن ضرب على جلد بطنه الأبيض فأثر فيه فقتله. ودرك الحوراء - كما قدمنا ذكره - من جملة درك أمير الينبع إلى مناخ الينبع.
ولأبى عبد الله الفيومى:
يا منهل الحوراء أذكرتنى
…
بالنيل لو لم تنقضى فورا
بيتى على شاطئه محملى
…
والأنهر الجارية الحورا
ثم قال: حكى المقريزى فى كتابه: «السلوك» أن فى ليلة السبت خامس عشر ذى القعدة سنة ثلاث وثلاثين وثمانمائة ظهر للحاج وهم سائرون من جهة البحر المالح كوكب يرتفع ويعظم ثم ينفصل منه شرر كبار، ثم اجتمعوا فلما أصبحوا اشتد عليهم الحر فهلك من المشاة ثم من الركبان عالم كثير، وتلف من جمالهم وحميرهم عدد وافر عظيم، وهلك أيضا فى بعض أودية ينبع جميع ما كان فيه من
الإبل والغنم، كل ذلك من شدة الحر والعطش. وبالقرب من الحوراء حفيرة تسمى الركزة - بضم الراء المهملة المشددة بعدها كاف ساكنة - ماؤها طيب. وبالقرب من العقيق بنحو ثلث بريد ماء يسمى: لعبوب - بلام مفتوحة بعدها عين ساكنة وباءين موحدتين - الأولى منهما مضمومة بينهما واو - وبات الركب تلك الليلة بالحوراء كما تقدم، ورحل منها بعد طلوع الشمس بخمس عشرة درجة، وسار إلى أن قطع العقيق، وصحين المرمر، وبعضهم أسميه عبهل، وغدّى فى الدار المعتادة بصحين المرمر وعشى، فكانت مدة سيره مائة وثلاثين درجة إلى قبل المغرب بثلاث عشرة درجة لدخول الصنجق.
والعقيق من مضايق الحجاز المشتهرة، ومن أمثال العامة المهملة: إن عدت لك يا عقيق لفنى بالعتيق. ومما يعد من الصنيع الكبير والمانية على العامة مع بعضها: أنت حملتنى بالعقيق؛ إذا عدد له معروفا/أو ذكر له صنيعا. وبه شجر البلسان البرى، وأخذناه من رءوس جباله مرارا، يمر الركب به فى مضيق وجبال وعرة، وفيحاء ومضيق منحدر، وعقبة وحدرة، وواد يسمى وادى العقيق، وحمل من هذا المحل فى سنة نيف وأربعين وتسعمائة شجر البلسان، ومن مدرج الإمام عثمان رضي الله عنه، ومن حوالى فساقى مكة المشرفة إلى القاهرة المحروسة مغروسا فى الطين الموضوع فى شقادف من الخشب المتقنة المحكمة الصنعة بخولى يسقيه ويقوم عليه، إلى أن زرع بغيط البلسان بأرض المطرية، وذلك بإشارة الرئيس الكبير بدر الدين القوصونى لداود باشا، وكان عدة الشجر المنقول ستين شجرة، ولابن رحاب من قصيدة:
يا رعى الله جيرة الجرعا
…
وقباب عهدتها بقباء
وسقى وادى العقيق غمام
…
من ربوع تربو على الأنواء
كم قطعنا بها ليالى وصل
…
بدوام اللقا وطيب الهناء
ينبع الدمع بالعقيق وتهمى
…
من جفونى للمقلة الحوراء
وصفة صحين المرمر؛ أرض مستديرة كالكرة، ذات رمل أبيض غزير، كثيرة الأفاعى، وفى الغالب يكون لونها بلون رمل أرضها، وخصوصا فى الكوادى حول النبت الذى به، وبها ثقوب لسكناها، وكانت الإقامة به إلى العشاء بثلاثين درجة، وسار إلى وادى نبط، وبعضهم يسميه المغيرة، فكان مسيره إلى قبل الفجر بخمس وعشرين درجة مائة وثلاث درج، وهو منهل من المناهل المشهورة، والمياه المذكورة به ثلاث آبار من الماء الحلو الطيب، تعطلت إحداها فعمرها وجددها صاحب المقام المفخم والباشا المعظم، مدبر أحوال العالم مصطفى باشا أمير الحاج، فى سنة ست وخمسين وتسعمائة، وحفرها ونظفها وحمل إليها الحجارة والنورة من الينبع، وجهز إليها الفعلة والمعمارية وصرف عليها مبلغا له صورة، إلي أن عادت أحسن من غيرها، وأغزر من بقية الآبار التى بنبط، ونقش تاريخ عمارتها فى لوح من الحجر موضوع بسفح الجبل بالقرب من منها، أثابه الله تعالى.
ثم فى عام سبع وستين وتسعمائة، كتب على باشا والى مصر إلى الشريف دراج بن هجار، لعمارة آبار وادى نبط وتنظيفها، فإنه بعد تنظيف مصطفى باشا علا السيل والرمل على الآبار، فقل ماؤها،.
وعادت المشقة من قلة الرى العام للحجيج، فقام دراج فى ذلك بقلبه وهمته، وتوجه بنفسه إليها، وصحب معه من المعمارية والنورة والآلات من الينبع ما فيه كفاية، وصرف على تنظيف الآبار مبلغا له قدر عظيم، ووجد بئرا رابعة مندرسة الآثار فحفرها، ورم عمارتها المتهدمة من داخلها، فعادت حسنة غزيرة الماء، وصار فى هذا المورد أربعة آبار، فعم النفع به، وبنى فى مقابلة الآبار من جانب الجبل صفة عالية يجلس عليها من يريد الجلوس، وذكر لى كاتبه جماز بن مقبول الينبوعى لما ورد إلى مصر بأوراق مصرف العمارة أن جملة ما صرف
على عمارة الآبار ستمائة دينار من الذهب ونيف، وكان حضر بذلك ليعرضه على على باشا، فوجده قد مات فى سادس صفر سنة ثمان وستين، فعاد بأوراقه إلى الينبع. وللوفد بهذه الآبار رفق كبير خصوصا إذا لم يكن بالوجه ماء، فإن الحاج لا يرد على ماء حلو طيب بعد مغارة شعيب عليه السلام إلا منها بعد المويلح الآن، وفى زمن المطر يصير بالوادى الذى به الآبار المذكورة نجيل أخضر، ويباع بنبط الشواء المعمول فى التنور، والعجوة والبطيخ والفجل مجلوبا من الينبع، ومفازة نبط حد جهينة من بنى حسن، يصل إليها رابع عشر يوما من عقبة أيلة فى مضايق وحدرة، وشجر الأثل بها كثير، وأصحاب درك سقايتها بنو حسان، وطوائف عرب جهينة بتلك النواحى كثيرون، وللشهاب أحمد بن أبي حجلة:
مفازة نبط أخصب الله أرضها
…
ولا زال يهمى بالمياه بها الجو
يقال لها بحر الحجاز لأنها
…
بها الماء مثل البحر لكنه حلو
وله أيضا فى ذلك:
جئنا مفازة نبط والمياه بها
…
للواردين بها فى الحج ما شاءوا
فلم نرد بعد صافى مائها ثمدا
…
بالدرب حتى بدا فى ينبع الماء
وكانت الإقامة بنبط إلى قبل الظهر بخمسين درجة ثمانيا وسبعين درجة، وسار إلى أن مر على طراطير الراعى، وعدّى الدار المعتادة وهى آجل، وغدّى بها بخمس عشرة درجة، وعشّى بالقرب من وادى النار، فكان المسير إلى قبل المغرب/بثمان درج مائة وخمس درج، والطريق بين جبال، وبعضهم يسمى المنزلة بطرطور الراعى، وبعضهم بالأباطح - جمع أبطح - وللشهاب أحمد بن أبى حجلة:
مررت بوادى النار والليل مقبل
…
وقد مال جفن الليل والغمض للصلح
فلما اختفى طرطور راعيه فى الدجى
…
توليت رعى النجم عنه إلى الصبح
وله أيضا:
أسير بوادى النار والقلب فى الحشى
…
يكاد لريح هب فيه يذوب
ولولا نسيم هب من نحو طيبة
…
لما كان عيشى فى هواه يطيب
وأقام إلى بعد العشاء بثلاثين درجة، وسار إلى أن قطع وادى النار بين جبال ورمل، والمرور به فى النهار وخصوصا فى زمن القيظ شاق جدا، ومر على الخضيراء من أعمال الينبع، وقطع ثلاث وعرات، وغدّى بجانب الجبل الأحمر فى مكان أفيح قبل الشمس بخمس درج لدخول الصنجق، فكان مدة مسيره مائة وخمسين درجة، وأقام بدار المغدى خمسا وثلاثين درجة، وسار قبل الظهر بأربعين درجة إلى أن قطع بقية الوعرات كملا، وعددها سبعة كبار، ويليها سبعة أخر دونها، وتسمى هذه المرحلة بالسبع وعرات، وبالمحاطب أيضا لكثرة الشجر بها، وقيل لأن أهل الينبع يجمعون منها حطبهم، ومن هذه الوعرات ثلاث كبار، ومضايق وحجارة كبار، وحدرات والمنزلة المعتادة بعد المحاطب.
وفى تلك السنة مر على المنزلة المعتادة التى هى دارين البقر، وعشّى بوادى تما - بتاء مثناة فوقية مفتوحة بعدها ميم وألف - بالقرب من جبل الزينة مكان أفيح، ويسمى: وادى الفجرة أيضا بجوار جبل كبير، قبل المغرب بعشرين درجة لدخول الصنجق، فكانت مدة سيره خمسا وتسعين درجة، وجرب العادة بحضور أمير الينبع للسلام على أمير الحاج بهذه الدار فى نفر قليل ويعود، وفى هذه
الليلة تكون الإشارات ثلاثة؛ إحداها بدار المعشى بوادى الفجرة أو بوادى تما أو بدارين البقر، والثانية بجبل الزينة لنزول أمير الحاج وأهل المحامل للزينة من ثم، والثالثة بالينبع لنزول أهل السبق والفراشين بخيامهم ومن يتبعهم من السوقة على ما جرت به العادة.
وكانت الإقامة فى سنة خمس وخمسين بوادى تما إلى قبل الفجر بخمسين درجة، وسار فكان سيره إلى جبل الزينة أربعين درجة قبل الفجر بعشر درج، ولدخول الحاج إلى الينبع خمسا وخمسين درجة من وادى تما، وذلك فى صبيحة يوم الجمعة حادى عشر ذى القعدة سنة خمس وخمسين.
والعادة حضور أمير الينبع بخيوله الملبسة ورجاله وزينته وأعلامه وطبله فى هيئة جميلة إلى القرب من جبل الزينة، وينزل عن فرسه عند الملاقاة، فتبسط له سجادة من عمل الروم كبيرة، تكون مهيئة صحبة غلمان الطشتخاناه، فيستقبل القبلة ويصلى ركعتين، هو ومن معه من قريبه وولده وقاضى الينبع، ثم بعد الصلاة يلبس التشريف السلطانى المجهز من الديوان صحبة أمير الحاج، وينعم أمير الحاج من عنده على ولده وقريبه وقاضى الينبع بثلاث تشاريف من المخمل المذهب، والقاضى دونهم فى ذلك، ثم يتقدم أمير الينبع، فيقبل خف جمل المحمل طاعة للسلطنة الشريفة وانقيادا لأوامرها المنيفة، ويركب فرسه ويساير أمير الحاج، وتجتمع عساكره مع العسكر الذين بصحبة أمير الحاج، ويسيرون فى ذلك الركب الجليل إلى المخيم بالينبع، فيترجل أمير الينبع عن فرسه، وكذلك من معه، ويجلسون فى مخيم أمير الركب لسماع الحكم المجهز إليه على يد أمير الحاج، ومعظم ما فيه حسن القيام بتلقى أمير الحاج وأهل الركب والاجتهاد فى حراسة الركب، بحيث لا يضيع منه عقال بعير، وإجراء
أمير الحاج على أتم العوائد، والتأكيد فى هذا المعنى، فيقرؤه صاحب الديوان على أمير الينبع بحضور الملأ الذين يحويهم ذلك المجلس، ويأخذ حكمه ويتوجه بموكبه إلى داره، وهذا هو المصطلح الذى أدركنا من تقدمنا عليه، ثم يشرع أمير الحاج ساعة وصوله وجلوسه فى تجهيز جماعة من ثقاته إلى الزيارة الشريفة النبوية صحبة دليل، وله عادة على ذلك من الفضة مائة نصف كبيرة، وجوخة مخيطة، وهذه الزيارة لمن تأخر فى الإياب بالينبع لمصالح أمير الحاج وحراسة حمل التجار، ومن لا يزور من أهل الركب لحفظ أسبابهم كما هو معلوم.
(وينبع) - بالفتح ثم السكون وضم الموحدة وإهمال العين - مضارع نبع الماء أى ظهر، وهى من نواحى المدينة على أربعة أيام منها، وإنما أفردت عن المدينة فى الأعصر الأخيرة، سميت به لكثرة ينابيعها، قال بعضهم: عددت بها مائة وسبعين عينا، ولما أشرف عليها على رضي الله عنه، ونظر إلى جبالها قال: لقد وضعت على تقى من الماء عظيم.
قال السيد السمهودى فى: (تاريخ المدينة النبوية): وسكانها جهينة وبنو ليث والأنصار، وهى اليوم فى زمننا لبنى حسن العلويين، وروى ابن أبى شيبة أن عمر بن الخطاب رضى الله/عنه أقطع عليا ينبع، ثم اشترى على إلى قطيعة عمر أشياء، وروى أنه لما خرج طلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد يترقبان عير أبى سفيان، فأجازهما صاحب الينبع، فلما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ينبع أقطعها له، فقال: إنى كبير، ولكن أقطعها لابن أخى، فأقطعها له، فابتاعها منه عبد الرحمن بن سعد الأنصارى بثلاثين ألف درهم، فخرج عبد الرحمن بن سعد إليها، فأصابه سافيها وريحها فقذرها، وأقبل راجعا، فلحق بعلى بن أبى طالب دون ينبع، فقال: من أين جئت، قال: من ينبع، وقد سيبتها
فهل لك أن تبتاعها، فقال علىّ قد أخذتها بالثمن، قال: هى لك. وعن عمار بن ياسر قال: أقطع النبى صلى الله عليه وسلم عليا بذى العشيرة من ينبع، ثم أقطعه عمر بعدما استخلف إليها قطيعة، واشترى على قطيعة، وكانت أموال على بينبع عيونا متفرقة تصدق بها، وروى أحمد بن الضحاك أن أبا فضالة خرج عائدا لعلى بينبع، وكان مريضا فقال له: ما يسكنك هذا المنزل، لو هلكت لم يلك الأعرب جهينة، فاحتمل إلى المدينة فإن أصابك قدر وليك أصحابك، فقال على: إنى لست بميت من وجعى هذا، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلىّ أن لا أموت حتى أضرب، ثم تخضب هذه - يعنى لحيته - من هذه يعنى هامته.
ومسجد العشيرة معروف ببطن ينبع، وهو مسجد القرية التى ينزلها الحاج المصرى بينبع فى وروده وصدوره، والعين اليوم الجارية عنده لكن لا يعرف بهذا الاسم. وروى ابن زبالة عن على بن أبى طالب رضي الله عنه، أن النبى صلى الله عليه وسلم صلى فى مسجد ينبع بعين بولى. قال:
المجد، وهذا المسجد اليوم من المساجد المقصودة المشهورة، والمعابد المشهودة المذكورة، تحمل إليه النذور، ويتقرب إلى الله تعالى له بالزيارة والحضور، ولا يخفى على النفس المؤمنة ما هناك من روح ظاهر على ذلك المكان، وأنس يشهد له بأنه حضره سيد الإنس والجان، وبها مياه عديدة، أشهرها الآن عين البركة، وعين على رضي الله عنه.
وقال صاحب «تقويم البلدان» : والينبع مدينة بالقرب من المدينة، وورد ذكرها فى الحديث، قال ابن سعيد: والينبع بها عيون وجفير وحصن، وهى منازل بنى الحسن رضي الله عنه، ولها فرضة على البحر على مرحلة منها، قال ابن حوقل: وينبع حصن به نخيل وماء وزرع، وبها وقف لعلى بن أبى طالب رضي الله عنه يتولاه هو وأولاده،
وبقرب ينبع جبل رضوى، مطل عليها من شرقيها، ومن رضوى يحمل حجر المسن إلى سائر الأقطار، وبينه وبين المدينة سبع مراحل، قال: ورضوى جبل ضيق ذو شعاب وأودية، قال: ورأيته من ينبع أخضر، قال: وأخبرنى من طاف فى شعابه، أن به مياها كثيرة، وهو الجبل الذى زعمت طائفة يعرفون بالكيسانية أن محمد بن على المعروف بابن الحنفية يقيم به. انتهى كلامه.
وفى (المشترك): وينبع آخر الربع الثالث من أرباع الحجاز، يدخلونه ضحى يوم السادس عشر من عقبة أيلة، وبه مياه جارية ونخيل وزروع، وبه الآن جامعان معطلان من الخطبة، وغالب أهل القرية على مذهب الزيدية، والجامعان إنشاء الشريف هلمام بن أجود، من أمراء الينبع فى سنة اثنتين وخمسين وثمانمائة، وأذانهم بحىّ على خير العمل، وينبع: عين جارية حلوة من خارج البلد شرقيها، فتمر بالمدينة وتمدها عيون أخر إلى غربى المدينة، وداخلها سوق به بعض دكاكين وصاغة وحوانيت يفرش بها التجار أنواع القماش أيام المواسم للبيع على أهل القرية والواردين إليها، وبها الحدائق والخانات والأفران والبيوت، وقد خربت ودثرت منها أماكن كثيرة جدا، وليس لها الآن باب يتوصل إليها منه إلا آثار باب خراب، ذكر لى أنه كان فى القديم يسمى باب المشانيق، وقد أنشأ بها صاحبنا السيد الشريف دراج بن هجار بن مغنى بن دراج بن وبير أميرها بيتا حسنا، وبجانبه دارا أخرى لسكنى ولده الكبير السيد الشريف على المدعو ذغيليب فى سنة تسع وخمسين وتسعمائة، وبيّضه بالنورة من داخله وخارجه، ولم يكن بالينبع الآن دار أحسن منها. وينصب بخارجها أيضا أيام المواسم سوق كبير، فيه المأكولات والدقيق، والفول والبضائع والعليق، مما يبيعه السوقة الذين هم أهل القرية، والذين هم صحبة الحاج، وبهذه
القرية يدع أهل الركب ودائعهم إلى العود فى بيوت الثقات من أهلها، وقاضيها الآن صاحبنا الشيخ برهان الدين إبراهيم بن يحيى بن محمد ابن عبد الوهاب بن شمس الدين محمد بن أحمد بن زبالة - بفتح الزاى - الشافعى، وليس بالقرية فيما يظهر لى شافعى من أهل السنة والجماعة غيره وذويه، فإن غالب أهل قرى الحجاز على مذهب الزيدية، يستبيحون دماء الشافعية، وليس بقرية من قراهم جامع بمئذنة يقام فيه شعار الدين، ويعلن فيه بالأذان مطلقا، وإنما يوجد فى بعضها المساجد بلا مآذن.
وعلى مرحلة من الينبع البندر الذى بساحل البحر المالح غربا، وبه خان وحصار ونوتجية وجماعة/الشريف يأخذون المكس، الذى يسمونه:(الزالة) من أهل الركب المار بهذا البندر، وهى عادة أمير الينبع يستعين بها على مصروف إمرته، وقدرها لكل حمل من أى صنف كان ثمانية أنصاف سليمانية، وللبندر حاكم من جانب أمير الينبع وكاتب لضبط ذلك، وعلى أمير الينبع عوائد ومصاريف لجماعة أمير الحاج على لبس التشريف فى كل سنة، بطريق المكارمة، وحسن القيام بخدمة السلطنة، ورعاية من يرد من جانبها لا بمقررات سلطانية، وهى لجماعة الدللاء بالركب خمسة وعشرون دينارا قديمة، وصرفت مرارا على يد وزيره زيادة بزيادة إلى ستين دينارا، ولداود أمير الحاج ثلاثون دينارا، وصرفت ليد يشبك بن مانى من الجراكسة ولمن بعده خمسون دينارا بطريق المكارمة، وللخازندار خمسة وعشرون دينارا وللمباشرين مثله، ولقاضى المحمل وشهوده عشرة دنانير، وللجاويشية خمسة عشر دينارا، ولشاد المطبخ وخولة الأغنام ومن معهم عشرون دينارا، ولحامل الصنجق عشرة ولشاد المحمل وأتباعه عشرة، وللمتوجه من جانب أمير الحاج بعادته من الهدية إليه ثلاثون دينارا.
وتفصيل ذلك أن للتركى المقدم خمسة عشر دينارا، ولغلمان الطشتخاناه والركابخاناه اثنا عشر دينارا، وللسراجين ثلاثة دنانير، فيكون جملة ذلك ثلاثين دينارا، ولبواب أمير الحاج المسمى بالقابجى - فى اللغة التركية - أربعة دنانير.
وأما بقية جماعة أمير الحاج ويسمون فى عرف أهل الينبع البيوتيين فجملة ما لهم عادة مائة دينار، وتفصيلها: لشاد السنيح ومقدم العكامة عشرة دنانير، ولشاد الماء ورؤساء السقائين عشرة، ولغلمان الطشتخاناه عشرة، وللزردخاناه أربعة دنانير ونصف دينار، وللركبخاناه سبعة دنانير ونصف دينار، ولمقدم الضوية والمبيتين ثلاثة دنانير ونصف دينار، ولجماعة الزردخاناه من الزركاش والنفطية ستة دنانير، وللطبلخاناه الرومية أربعة دنانير، وللمصرية ديناران، ولجماعة الفراشين خمسة دنانير، ولأستادار المطبخ وجماعة الطباخين عشرة دنانير، وللأمير آخورية جميعها عشرة دنانير، وللسعاة ديناران، وللسلاخورية ثلاثة دنانير، وللهجانة الخاصة جميعها سبعة دنانير، وللإمام والمؤذن باقى ذلك. وهذا جميعه بطريق المكرمة كما قدمنا.
ولأبى عبد الله الفيومى فى ينبع وبدر:
إن كان قد قضى الفراق وصدنى
…
عنكم حجاز من نوى لا يرفع
فأنا الذى دمعى العقيق وحاجرى
…
يا بدر بعد البعد عنكم ينبع
وأهل بدر يستبشرون بالقرب من أم القرى عند وصولهم إلى الينبع، فمنهم من يجتمع مع أصحابه عند العيون والحدائق والنخل الذى هناك، ويطبخون النبات المعروف بالملوخية، ويأكلون بمسرة وهناء، وبالينبع من المأكولات: الأغنام والسمن والعسل النحل،
والتمر اللبان، والدجاج والأوز يوجد قليلا، والملوخية والباذنجان، والليمون والفجل والمخلل، وماعدا ذلك مجلوب مع الحاج أو من مكة.
وفى غالب أوقات إقامات الركب بالينبع، تهب ريح شديدة، وتثور عليهم من سوافى الرمل والتراب ما تضيق به النفوس وتقلق له القلوب، وتضعف به الأبصار، ويتمنى المسافر سرعة رحيله منها خصوصا فى زمن استواء البلح، وفى أوقات معروفة عند أهل القرية.
والينبع من المناهل الكبار يصل إلى أمير الحاج بها ما جهزه من حموله وما يحتاجه، ليأخذ منه ما يكفيه إلى مكة المشرفة، وما يحتاجه لطريق الزيارة الشريفة ولرجوعه منها إلى الأزلم، وما فضل من ذلك يباع للتوسعة على المقومين والحجاج، ليحصل الرفق بوفد الله تعالى خصوصا إن كف أمير الحاج عن الباعة من أهل القربة ولم يمنعهم من البيع إلا بعد فراغ ما عنده، فيكون سببا لرخاء الأسعار بها خلافا لما يفعله بعض الطماعين من أمراء زمننا الذين لا خلاق لهم فيكون سببا للغلاء والقحط.
وبالينبع عدة خيوف يقال إنها نحو الستين خيفا، منها ما هو سكنى بنى إبراهيم وغيرهم، ومنها الضيقة - بضاد معجمة مكسورة مشددة بعدها ياء ساكنة وقاف مفتوحة - وخيف حسين، والليثنة - بياء تحتية مفتوحة وثاء مثلثة بعدها ونون مفتوحة تليها - والعيين - بعين مهملة بعدها ياء مثناة تحتية مفتوحة وأخرى مثلها ساكنة ونون - والبقاع مفرده بقعة، ومدسوين - بميم مفتوحة بعدها دال ساكنة وسين مضمومة، والنجيل - بنون مشددة مضمومة وجيم مفتوحة بعدها ياء ساكنة ولام آخر الحروف، واليسيرة، وعين حسن، وعين على، والفجة - بفاء وجيم بعدها - وخيف عين حديد، والجديدة، وعين حارف، وشعثاء - بشين معجمة مفتوحة - وعين على أيضا، وعين عجلان، والجابرية - من المجابرة بالجيم - وعين
سلمان، والسكيبة من السكب، وخيف ابن عبد، وعين عبد الله، والمزرعة من الزرع، وعيينة، والنوى، والمهرانية، وخيف دراج، والعشيرة، والمبارك من البركة، والبركة.
وأما بنو إبراهيم فطوائف، منهم: الصفحة - بصاد مهملة مشدّدة مفتوحة بعدها فاء مفتوحة أيضا وحاء كذلك - وهذه/البدنة تنقسم إلى أربعة طوائف، وهم: الشرفاء العوالى، والجميعات، والصراصرة، ومنهم: ابن شاكر وعامر بن مبارك ومنهم: قعود بن عمر، والمعالقة منهم: حضرى بن معتق، ومنهم طائفة تدعى: الموالى، وبدنات هذه الطائفة أربع وعددهم وافر نحو نصف بنى إبراهيم، وهم الرياحين منهم: سعيد بن متمس، والثقافة وأهل البقاع، ومن الأولى: ناصر الثقفى، ومن الثانية: حميد بن مانع وقومه، ومنهم طائفة السيابسة، وهم أقسام: أهل الزيارة وهم نازلون بالسويق - قرية من قرى الينبع - وأهل الدهناء وهى القرية المعروفة، يمر الحاج عليها إلى واسط، منهم:
محمد رواس وولده ودعان وجبارة بن سليمان، والمهاينة - بألف ولام بعدها ميم وهاء - وهم نازلون بالسويق، أيضا منهم: مشعل بن راجح، وعائدة بن ثاقب، ومنهم: الكثران - بكاف مكسورة بعدها ثاء مثلثة ساكنة وراء مفتوحة - وهم نازلون بالسويق أيضا، منهم: محمد بن حسان وخلف الله بن رجب.
ومن بنى إبراهيم طائفة يقال لها: القرون - جمع قرن - وهم أربع بدنات منها: الكنشة شاهين وولده، والقمامزة - بقاف مفتوحة بعدها ميم وألف فاصلة بعدها ميم ثانية مكسورة وزاى مفتوحة وهاء آخر الحروف - من شيوخهم: هودن بن على، وذوى محمد، منهم:
زيد، والشريرات منهم: محمد ورفقته، وعادة الإقامة بها لراحة الحجاج والجمال ثلاثة أيام، ويتوجه إلى مكة المشرفة، فيرحل من الينبع،
ويستقبل
الربع الرابع، وهو لطيف ومراحله مأنوسة
، وعدتها ثلاث عشرة مرحلة، وساعاته مائة واثنتان، وهى ألف وخمسمائة وثلاثون درجة من الينبع، وكان الرحيل منها فى سنة خمس وخمسين بعد العشاء بسبعين درجة فى الليلة المسفرة عن اليوم الرابع والعشرين من شهر ذى القعدة إلى مكة المشرفة، فمر على الدهناء وكانت السبخة ماطرة، فحصل للوفد بسبب ذلك مشقة وعناء، وغدى بآخر المحاطم من غير العادة بعد الدار المعتادة بعشرين درجة، فكان مسيره مائة وثلاثين درجة.
والدّهناء بلد سيدى الشيخ العارف بالله أحمد البدوى، وكانت قرية عامرة يسكنها بنو إبراهيم قديما، وكان بها بيوت ومساجد، وحدائق وأشجار، وعيون جارية حلوة، يتزود منها الحجاج عند مرورهم، فلما سعوا فى الأرض بالفساد، وبالغوا فى أذى وفد الله والعباد، وأكثروا من الشقاق والعناد، وكانوا عصبة مع الشريف بن سبع لأذى الوفد المصرى والشامى، واتفق لهم ما قدمنا ذكره حتى آل أمرهم إلى أن برز أمر السلطان الغورى بتجهيز العساكر لقطع دابرهم على يد الأمير خير بك أحد المقدمين، فقطعت رءوسهم وعملت مساطب، ثم عقب ذلك توالت المحن على تلك القرية فخربت، وغارت تلك العيون، وجفت تلك الأشجار، وصارت مثلا من الأمثال، وكانت أحرى بقوله عز وجل:{وَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ}
(1)
.
وبالدهناء مشجر ومحاطب بكثرة، ينبغى أن يكون الدليل على يقظة فى مسيره وقت ضوء القمر، وفى بعض السنين يمر الركب
(1)
سورة النحل، الآية 112.
على المحاطب من العلو صوب القرية، فيكون أسهل وأقصر مدة فى سيره، وأصحاب الدرك بها الآن طائفة من بنى إبراهيم الصيارف، يدعون العيايشة - بياءين مثناتين من تحت - منهم: محمد بن دواس، والقوادحة أيضا، وكان المغدى بمحل بعد الدهناء يسمى مفرح العذيبية، فأقام به إلى قبل الظهر بأربعين درجة، وكان الماضى من الشمس أربعين درجة، وسار إلى أن أناخ بمنزلة واسط، وتسمى:
العذيبية أيضا، وكان مسيره إلى ما بعد العصر بخمس عشرة درجة خمسا وتسعين درجة لدخول الصنجق، وهى فضاء واسع قربها كثيب من الرمل وجبال صغار، قال السيد فى كتابه:(وفاء الوفا): واسط أطم لبنى حدارة، وأطم آخر لبنى خزيمة رهط سعد بن عبادة، وآخر لبنى مازن بن النجار، وموضع بين ينبع وبدر، وجبل تنبطح سيول العقيق عنده، ثم تفضى إلى الجبخانة، وفيه يقول كثير عزة:
أقاموا فأما آل عروة غدوة
…
فبانوا وأما واسط فمقيم
فعشى الركب بها، ولأهل الركب فى تلك الليلة عادة لا تنقطع، وبدعة لا تمتنع، لم يدل على فعلها دليل من كتاب، ولا جاءت بفعلها سنة، ولا ورد بها خطاب، وغاية ما فيها الإسراف فى إيقاد الشموع، يجعلونها فى الرحالات والإقتاب والمحامل استبشارا بقربهم من المحل الذى كان به نصره سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، وتأييده بالملائكة - كما سيأتى ذكره قريبا إن شاء الله تعالى - وكانت الإقامة إلى ما بعد العشاء بخمسين درجة، والعادة أن تكون سبعين، وسار فكان سيره من واسط إلى بدر وحنين قبل الفجر بخمس وعشرين درجة تسعين درجة.
وأما حدود الدرك فمن الينبع إلى الدهناء لمحمد بن دواس ورفقته، ومن الدهناء إلى المحل المعروف بالغربية إلى حدرة الرمل
التى ينحدر منها الركب إلى بدر وحنين المسماة بالأبرقين فى درك عرب زبيد الشام منهم: حمدان بن زهير بن سالم ومن معه، ومن الأبرقين إلى آخر بدر وحنين/إلى المحل المعروف بالصفحة درك الشرفاء البدريين، منهم: سالم بن عامر بن هبة، وعامر بن خضير، وحسين بن محمد بن مخدم، وعبد الله بن حرى ورفقتهم، ومن الصفحة - بصاد مهملة مشددة مفتوحة بعدها فاء ساكنة وحاء مهملة مفتوحة وهاء آخر الحروف - يعود درك زبيد الشام أيضا، ويستمر هذا الدرك إلى المحل المعروف ببستان القاضى، فهو آخر درك زبيد الشام، وينعتون أيضا عند أهل الحجاز بزبيد المسداد، رباعة حمدان، وزبيد - بضم الزاى وفتح الباء الموحدة - والمسداد - بكسر الميم وفتح الدال الأولى وسين ساكنة بعد الميم - طوائف متعددة منها ذوى أحمد، وذوى على، وذوى سالم، والجليدات والقنافدة والمشاهير، وذوى عالم وبدر من المناهل الحجازية وحنين أمامها، وليست المرادة فى الآية، وكيفية سلوكهم إلى بدر أن يسيروا أولا فى فضاء، ثم مضيق رمل، ثم وعر بين جبلين؛ الشرقى رمل، والغربى مختلط حجر ورمل، يسميان بالأبرقين وهما مشرفان، ثم ينزلون من جسر طويل كان حدا بين المسلمين والكفار فى غزاة بدر.
وببدر مسجد الغمامة؛ وهو موضع الأريكة التى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا عليها، يشرف على القتال والغمامة مظللة عليه.
وقال السيد فى: (تاريخ المدينة) إنه العريش الذى بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر عنده المسجد، وهو قريب من بطن الوادى بين النخيل، والعين قريبة منه، وفى جهة القبلة مسجد آخر يسميه أهل بدر مسجد النصر، وقيل أن المسجد موضع حوض النبى صلى الله عليه وسلم يوم الغزوة فى شهر رمضان سنة اثنتين من الهجرة، وخلفه فى جهة الغرب قبور الشهداء من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.
وأما محلة أهل الركب، ففيها نخل وبيوت وعين ماء تجرى، والفسقية التى بها والقبة التى عليها يروى منها الحاج ويفضل عنهم، مستجدة الإنشاء بأمر السلطان قانصوه الغورى على يد العلائى علاء الدين بن الإمام ناظر الخواص الشريفة فى سنة خمس عشرة، ورتب لها فى تلك السنة مرتبا من ديوان السلطنة الشريفة، يصرف للإشراف بها عن الدرك وملء الفسقية، وجدّد بها السيد الشريف نجم الدين أبوغى بن بركات أمير الأقطار الحجازية مسجدا فى نيف وخمسين وستمائة.
وبالجملة فبدر من البقاع المشرفة بالآثار النبوية، ومنها التزوّد إلى المدينة المنورة المصطفوية، وكان بها نصرة النبى صلى الله عليه وسلم على أهل الكفر والنفاق، وإمداده بالملائكة على خيول بلق مسومين سابلين العذبات بالاتفاق، وبها البقعة التى تضمنت الشهداء، الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، والمحل الذى آوى تلك الأجساد الشريفة، الذين دأبوا مع نبيهم لإقامة هذا الدين وإظهاره بنفوس زكية مطمئنة.
وفى: (الدر المنثور) للجلال السيوطى عند قوله تعالى: {وَ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَ أَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}
(1)
أخرج أحمد وابن حبان عن عياض الأشعرى قال: شهدت اليرموك وعلينا خمسة أمراء؛ أبو عبيدة ويزيد ابن أبى سفيان، وابن حسنة، وخالد بن الوليد، وعياض وليس عياض هذا، قال: وقال عمر: إذا كان قتال فعليكم أبو عبيدة، فكتبنا إليه أنه حاس إلينا الموت واستمددناه، فكتب إلينا أنه قد جاءنى كتابكم تستمدونى، فإنى أدلكم على من هو أعز نصرا وأحضر جندا الله عز وجل، فاستنصروه فإن محمدا صلى الله عليه وسلم قد نصر يوم بدر فى أقل من عدتكم، فإذا جاءكم كتابى هذا، فقاتلوهم ولا تراجعونى، فقاتلناهم فهزمناهم أربعة فراسخ.
(1)
سورة آل عمران، الآية 123.
وأخرج ابن المنذر عن على بن أبى طالب رضي الله عنه، قال: بدر بئر، وفى:(تاريخ المدينة) للسيد: بدر - بالفتح ثم السكون - بئر حفرها رجل من غفار اسمه بدر بن قريش بن مخلد بن النضر بن كنانة، وقيل: بدر رجل من بنى ضمرة سكن ذلك الموضع فنسب إليه، ثم غلب اسمه عليه، ويقال: بدر اسم البئر التى بها سميت بذلك لاستدارتها أو لصفاء مائها فكان البدر يرى فيها.
وحكى الواقدى إنكار ذلك كله عن غير واحد من شيوخ بنى غفار، قالوا: إنما هى ماؤنا ومنازلنا، وما ملكها أحد قط يقال له بدر، وإنما هو علم عليها كغيرها من البلاد. وأخرج ابن أبى شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم، عن الشعبى، قال: كانت بدر بئرا لرجل من جهينة، يقال له: بدر، فسميت به، وأخرج جرير عن ابن الضحاك، قال: بدر ماء عن يمين طريق مكة بين مكة والمدينة.
وللصلاح:
أتينا إلى البدر المنير محمد
…
نجد السرى حتى نزلنا على بدر
فهذا بديع ليس فى اللفظ مثله
…
وهذا جناس ليس فى النظم والنثر
والعادة أن أمير الحاج يخزن ببدر فى الذهاب جميع ما يحتاج إليه عند العود، لابتداء الزيارة الشريفة إلى الينبع؛ من المأكولات والعليق، والشمع المجهز إلى الحجرة الشريفة النبوية والحضرة الجليلة المصطفوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام.
وببدر أمران مستمران فى الغالب لا يعلم سببهما:
الأول: أنه لا يزال يسمع عند مرور الركب بين/الأبرقين، ونزوله من الحدرة فى الغالب وبالخصوص ليلة الجمعة صوت غريب كالطبل، وسمعته مرارا عديدة، وفى بعضها أشد من بعض، ولم أر فى الأثر ما
يدل على ذلك، إلا ما نقله السيد السمهودى فى:(تاريخ المدينة) عن المرجانى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شهد بدرا بسيفه الذى يدعى العضب، وضربت فيها طبلخاناة النصر، فهى تضرب إلى قيام الساعة.
والثانى: أنه فى كل سنة فى الغالب يقدر الله تعالى بغرق نفر من الحاج إما من المصرى أو من الشامى، فى الذهاب أو فى الإياب، وقد يتفق الغرق بعد الإيذان بالرحيل، فيقال: إن البركة بها سكان من الجان يحصل منهم ذلك، ويكون سببا للغرق، ويقال غير ذلك، والله أعلم بحقيقة ذلك.
وعرب صبح كثيرا ما يتعرضون للوفد ببدر ليلا، ولهذا كان ورودها فى ضوء النهار أحسن وأولى فى الأمان من ظلمة الليل، فإن عرب صبح المذكورين أذاهم متصل بأهل الركب من الينبع إلي حيث يصلون فى التتبع. وتجاه القرية وادى الصفراء، ومنها أى من بدر لرابغ أربع مراحل، وفى سنة خمس وخمسين كانت الإقامة بالدار إلى بعد الشمس بثلاثين درجة، وسار بين جبال بدر والجبل الأيمن به فلج، قيل صلى فيه النبى صلى الله عليه وسلم وليس بصحيح، كما نبه عليه القاضى عز الدين بن جماعة فى:(منسكه)، ثم بمضيق وعر ورمل، وبعده فضاء خضر واسع، ومر على الرملة المسماة بعالج.
وفيها يقول الصلاح الصفدى:
فى وسط رمل عالج
…
عجيبة أبينها
رأيت فيها حية
…
أشبه لى تكوينها
حياتها البتر غدا
…
بياضها يشينها
مفتاح عاج أبيض
…
أسنانه قرونها
وحط بأول القاع المسمى بقاع البزوة - والقاع اسم لكل مكان واسع مستو من الأرض - قال فى «القاموس» : القاع أرض سهلة مطمئنة، قد انفرجت عنها الجبال والآكام، وجمعها قيع وقيعة وقيعان وأقواع، ويسمى طرف الجنحا والجنت، فكان سيره إلى قبل المغرب لدخول الصنجق، ومدى الدار المعتادة مائة وعشر درج.
وفيه يقول الصلاح الصفدى:
قد سلكنا القاع المديد الذى أض
…
حى مضافا دون البقاع لبزوه
فهو قاع لا نبت فيه تراه
…
عين سار وكم لنا فيه سروه
وأقام بعد العشاء بأربعين درجة، وسار إلي أن مر على القاع الكبير، وغدّى بعد الشمس بعشر درج، فكان المسير مائة وأربعا وخمسين درجة، والعادة مائة وأربعون درجة لاختلاف سير هذه السنة، وهو فائق عن المعتاد، ويسمى: غيقة - بالفتح ثم السكون ثم قاف وهاء - موضع بساحل البحر قرب الحار، يصب فيه وادى ينبع ورضوى، قاله عرام. وقال السكونى: هو ماء لبنى غفار. وقال ابن السكيت: غيقة أخباء على شاطئ البحر فوق العذيبية، وتسمى أيضا بوجه، يمرون بفضاء، وباليسار جبل القرود وهم السراق به تشبيها بالقرود لا أن به قرودا على الحقيقة، أخبرنى بذلك آل الدرك، وللصلاح:
مررنا بقاع البزوة الأفيح الذى
…
عليه صريح الذم راح حسيسا
وكان به للماء قدر وعزة
…
وكان به قدر الحشيش خسيسا
فسرنا به يومين والثالث انقضى
…
وقد أذهبت فيه النفوس نفيسا
وكم زيلع وافى وموسى بكفه
…
لينحر فى وسط المفازة عيسا
وقام بدار المغدى خمسا وعشرين درجة، وسار والباقى للظهر خمس وأربعون أو خمسون درجة إلى أن مر على الحدرة وبئر الشريف
نجم الدين أبى تمى بن بركات بن محمد بن بركات بن حسن بن عجلان أمير مكة وبستان القاضى، وعشى بعد البستان بشئ يسير، فكان مسيره قبل المغرب بعشر درج فوق الحدرة، وتسمى عقبة ودان، قال السيد فى تاريخه: ودان - بالفتح ودال مهملة مشددة آخره نون - قرية من نواحى الفرع لضمرة وغفار وكنانة، على ثمانية أميال من الأبواء أكثر نصيب من ذكرها، وفيه قوله:
أقول لركب قافلين عشية
…
قفاذات أوشال ومولاك قارب
قفوا أخبرونى عن سليمان إننى
…
لمعروفه من أهل ودان راغب
فعاجوا فأثنوا بالذى أنت أهله
…
ولو سكنوا أثنت عليك الحقائب
وقال أبو زيد: ودان من الجحفة على مرحلة، وبينها وبين الأبواء ستة أميال، وكان بها مقامى بالحجاز رئيس لبنى جعفر بن أبى طالب، ولهم بالفرع وسباية ضياع وعشيرة، وبينهم وبين الحسنيين حروب، ولم يزل كذلك حتى استولت طائفة من/اليمن تعرف ببنى حرب على ضياعهم، والبستان بعد الفضاء محاطب شجر، يختفى فيه الراكب بجمله، ويرى منه البحر على بعد، وهو آخر حد درك زبيد الشام، وأول حد درك زبيد اليمن، وحده من بستان القاضى إلى الحدرة والمضيق الذى آخر وادى العميان، وأول وادى مر الظهران. ومن شيوخهم شهاو ابن مالك بن رومى وأولاده: داهش وعلى وإخوتهم، وكان الدرك قديما مقسما بين جماعات بمعاليم معلومة، منهم: البشريون، والعصيفيون، وبنو سليم، فاستولت أولاد رومى على الدرك جميعه، وهم فى الحقيقة من باطن السيد الشريف أبى نمى بن بركات الآن بعد حروب اتفقت لهم مع سلفه إلى أن أذعنوا بالطاعة له، كما هو مشهور بتلك الأقطار، وللصلاح وقد جد فى السير ليلا:
إن السرى أغمض أجفاننا
…
وللنجوم الزهر أطراق
والليل بحر قد غدا شرقه
…
وماؤه بالصبح رقراق
وشجة الفجر برأس الدجى
…
بالشفق المحمر سمحاق
وأقام إلى بعد العشاء بأربعين درجة، وسار إلى رابغ الإحرام، فكان المسير إلى قبل الفجر لدخول الصنجق مائة وخمس درج، والوصول إليها فى المحاطب والفضاء يوم الرابع من الينبع، وهى بجانب البحر، بها حفائر، تارة يكون ماؤها بوجود المطر فى غاية العذوبة، وتارة عند عدمه يميل إلى الملوحة يسيرا، وبها قرية ومسيل ماء، وعشش ومزارع، وأهلها زمن الموسم يتسببون على الحاج، فيبيعون الحشيش للعلف والأغنام والحطب والبطيخ فى أوانه والشواء.
ومحل ميقات الإحرام الجحفة، وهى تقابلها يسارا صوب الجبل وأمامها قليلا، وهى ميقات أهل مصر ولأهل الشام من طريق تبوك، وقال صاحب:(المطالع): هى قرية جامعة بمنبر على طريق المدينة من مكة، وهى مهيعة وإنما سميت الجحفة لأن السيل أجحفها، وهى على ستة أميال من البحر، وثمان مراحل من المدينة، وقيل: نحو سبع مراحل من المدينة وثلاث من مكة، وفى:«وفاء الوفا» : الجحفة - بضم الجيم وسكون الحاء المهملة - أحد المواقيت، قرية كانت كبيرة ذات منبر على نحو خمس مراحل وثلثى مرحلة من المدينة، وعلى نحو أربع مراحل ونصف من مكة، وكانت تسمى أولا: مهيعة، كمعيشة - بالمثناة التحتية - ويقال لها: مهيعة كمرحلة اسم للجحفة، قال الحافظ المنذرى: لما أخرج العماليق بنى عبيل إخوة عاد من يثرب نزلوها، فجاءهم سيل الجحاف فجحفهم، وذهب بهم فسميت حينئذ الجحفة، وقال عياض: سميت الجحفة لأن السيول أجحفتها وحملت أهلها، وقيل: إنما سميت بذلك من سنة سيل الجحاف سنة ثمانين، لذهاب السيل بالحاج وأمتعتهم، ولم يكن بالجحفة الآن آثار تعرف سوى مسجد بقيت آثاره بالأرض.
ولأبى عبد الله الفيومى:
لم أنس بالجحفة يوما غدا
…
عقلى من أهواله زائغ
يوم لحوم الخلق فيه استوت
…
من حره وانقلبت رابغ
ويستحب لأمير الركب أن يجتهد فى سيره ليدخل إلى رابغ سحرا أو مع الشمس؛ بأن يبادر الرحيل من بدر ليكون معه فسحة للدخول إلى رابغ فى وقت فيه فسحة، ليؤدوا المناسك فى سعة من الوقت، ويحصل لهم الإحرام على حالة الطمأنينة والكمال، ولا يرحل بهم منها إلا بعد صلاة الظهر، وفى سنة خمس وخمسين أقام بها إلى بعد الشمس بخمسين درجة من غير العادة، فإنه سار قبل الظهر بثلاثين درجة، ومر على الجرينات كملا وعشى، وكان سيره لدخول الصنجق قبل المغرب بعشر درج مائة درجة والعادة ثمانون درجة، والجرينات كيمان رمل متفرقة فى أرض مستوية، وتلك التلال والأجران على خط وضبط وتموج، يقول من رآها: إنها وضعت بمقدار لا تختلط بما حولها من الأرض الصماء، ولا يضرها مرور الرياح ولا يكدرها، وللصلاح الصفدى:
هذى بيادر رمل
…
تروى الأعاجيب عنها
الريح طول الليالى
…
تسفى وتكتال منها
والوضع لم يتغير
…
وشكلها لم يخنها
وأقام إلى بعد العشاء بثلاثين درجة، وسار إلى طارف قديد - اسم لجبل بالقرب من قديد كزبير - قرية جامعة بين مكة والمدينة، كثيرة المياه، قاله البكرى، وكان مسيره لبعد الشمس بخمس درج لدخول الصنجق مائة وخمسين درجة، والمحطة واسعة كثيرة المرعى والحشيش أيام المطر، وفيها محاطب فيغدّى ويتهيأ لعقبة السويق.
ومن العوائد المتقدمة أن أمراء الحاج يبادرون بتجهيز السقائين لنصب الحيضان الجلد الكبار بسحائبها سفل الحضرة الكبرى، ويملؤونها من/السكر المذاب لسقاية الحاج، فيعمون بذلك الكبير والصغير والغنىّ والفقير، ويعدون ذلك من مكارم الأخلاق وسعة الإنفاق، ومن الفرح بالوصول إلى القرب من أم القرى، والاستبشار بتلك المعاهد المكرمة التى بعث منها خير الورى.
وكانت الإقامة بالدار فى سنة خمس وخمسين ثمانا وعشرين درجة، وسار إلى أن مر على عقبة السويق المعترضة فى الجبل، الكثيرة الرمال والوعر، وهى سقيا السويق والسكر بها، ونزل بخليص فضاء واسع كثير الإنس، وبه حصن على جبل ومزروعات وخضر، وبطيخ وبعض كرم وأشجار ليمون، وبه الأغنام والحشيش لعلف الجمال، وكان مسيره لدخول الصنجق بعد الظهر بعشرين درجة سبعين درجة.
وخليص، قال الأسدى: عين غزيرة كثيرة الماء، وعليها نخل كثير وبركة، ومشارع ومسجد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال الأسدى أيضا:
من قديد إلى عين بزيغ ثمانية أميال وشئ وهى خليص، وذكر آبارا كثيرة بقديد، قال: وعقبة خليص ثلاثة أميال، وهى عقبة مقطع حرة تعترض الطريق، يقال لها ظاهر النزعة، والشجر ينبت فى تلك الحرة، وعند الحرة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيكون حينئذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم فى تلك المسافة مسجدان: عند حرة عقبة خليص مسجد، وعند العين المسماة بخليص مسجد، ذكره السيد السمهودى فى:(تاريخ المدينة): وخليص من المنازل التى أشرق فى تباشير الدياجى صباحها، وطاب بنزولها المقيل والمراح فعم برها وصلاحها، وتزودوا من صوبها وصيبها ما لاح به عليهم فلاحها، ومنح الله فيها وبها وفده
من عينها الصافية زلالا غدقا، ومن أغنامها وبطيخها ما طاب غذاء وحسن مرتفقا، وقد خلص فيها الوفد من مشقات عقبة السويق، ومقاساة شدة الهول والرمل الذى ينزل فيه الجمل إلى الركبة مع شدة التزاحم، وكثرة التلاحى والتلاحم، وعدم التعاطف والتراحم، وللصلاح:
يقول سائق ركبى
…
ولات حين مناص
لقد بلينا بدرب
…
بطول يوم القصاص
فقلت جئ بى خليصا
…
وابشر بحسن الخلاص
وللشهاب أحمد بن أبى حجلة:
حثثنا المطايا من خليص عشية
…
وطرفى إلى أفق السماء ترددا
ولما بدا فيه الهلال لناظرى
…
ذكرت جبين العامرية إذ بدا
وقد وجدت عين خليص، وأصلحت فى سنة أربعين وسبعمائة، وأصلحت البركة التى بها بعد خرابها وتلاشيها، وكان الإصلاح على يد أمين جدة، وعمل بجانبها قبة لطيفة فى غاية الأنس، تشرف على البركة، وأول من أنشأ هذه البركة لسقاية الحاج أرغون النائب، وسنذكر ترجمته باختصار، وأتذكر نزول الركب فيها فى سنة ثمان وثلاثين وتسعمائة، فإذا البركة خراب متلاشية، والعين نازحة، وحصل للركب بواسطة ذلك غاية المشاق فى تلك الرحلة، ولما عرض أمر ذلك على السلطان سليمان عين ملوك الزمان من بنى عثمان، لا زالت صدقاته الشريفة بأيدى كرام بررة مرفوعة، ومبراته المنيفة للوافدين بهذا الدرب وآل الحرمين الشريفين غير مقطوعة ولا ممنوعة، برز أمره الشريف بعمارة العين وإصلاحها، وتجديد عمارة البركة على أكمل حالات صلاحها، وذلك فى ولاية سليمان باشا نائبه بمصر، وأقيم عليها نفر من عسكر جدة، يدعى بخير الدين الرومى شادا على
العين، بجامكية وجراية لا يظعن عنها شتاء ولا صيفا، ولا يقصر فى تنظيفها وحراستها ربيعا ولا خريفا، وتزوج امرأة من ذوى رومى، وأولدها ولدا ذكرا، واستمر هذا المورد من أجلّ الموارد الحجازية، ومن ألطف البقاع الجليلة المكية.
ولما حج الوزير الكبير لطفى باشا، وهو من صهورة السلطان بعد عزله من الوزارة العظمى فى سنة نيف وأربعين وتسعمائة، توفى فى أحد أعيان مماليكه الخاصة بهذه المنزلة، فدفع إلى خير الدين شاد العين مائة دينار من الذهب الجديد، يبنى على قبره بناء ويتصدق بالباقى من ذلك، فأدار على قبره بناء وبيضه بالنورة، ثم بنى لنفسه بيتا يشتمل على حوش كبير، ومجلس وبوابة حسنة، واستمر يسكنها والدار ظاهرة فى خليص، وتوفى خير الدين المذكور سنة اثنتين وستين وتسعمائة، واستقر ولده عوضه فى هذه الخدمة رحمه الله تعالى.
وبخليص مزار مدفون به رجل يمانى مشهور بالصلاح والبركة، فى ضمن بناء بالقرب من البركة، وله خادم وهو مجاور للقبور التى بتلك المحل وزرنا قبره مرارا.
***
ترجمة أرغون النائب الناصرى
وأما أرغون النائب الدوادار الناصرى، فهو نائب السلطنة، أحد المماليك المنصورية، اشتراه قلاوون صغيرا لولده الملك الناصر محمد، فربى معه ولاذ به حتى فى توجهه إلى الكرك، فأنعم عليه بالإمرة فى شوّال سنة تسع وسبعمائة، وقدمه إلى/أن خلع عليه، وعمله نائب السلطنة بمصر بعد بيبرس المنصورى، فسار أحسن سيرة، وحج فى سنة خمس عشرة، وخلص كثيرا من الناس من شدائد كان السلطان أراد ينزلها بهم، وخلف السلطان فى غيبته للحج من أول ذى القعدة إلى أن قدم المحرم سنة عشرين، ومشى من مكة إلى عرفة، وقضى الحج ماشيا على قدميه بسكينة فى هيئة الفقراء، ومات بحلب ليلة السبت ثامن عشر شهر ربيع الآخر سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة، عن بضع وأربعين سنة، رحمه الله تعالى.
*** وكانت الإقامة بخليص إلى ما بعد العشاء بأربعين درجة والعادة ستون، وسار فمر على مدرج عثمان رضي الله عنه وبئر وادى عسفان، وغدى بأول الديسة؛ اسم لمحل نبت بعد الشمس بعشر درج، فكان مدة مسيره مائة وخمسا وأربعين درجة، يسيرون من خليص فى الفضاء فى محاطب إلى الديسة، واللصوص هناك بكثرة، ثم يدخلون مدرج الإمام عثمان، والعامة ينسبونه للإمام على رضي الله عنه، وهو كثير الوعر صعب المسالك وبه مضايق، إلى بئر عسفان بها ماء عذب سائغ شرابه، يقال إن النبى صلى الله عليه وسلم شرب منه، يتزودون منها وربما يسمون المنزلة بها.
وعسفان - بالضم ثم السكون وبالفاء - كانت قرية جامعة بين مكة والمدينة على نحو يوم من مكة، سميت بذلك لعسف السيول فيها، وذكر الأسدى بها آبارا وبركا وعينا تعرف بالعولاء.
وبعد عسفان منزلة العقلة، التى صلى فيها النبى صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف، حين كان العدو فى جهة القبلة، ويجب على أمير الركب أن لا يمر بوفد الله تعالى فى مدرج عثمان فى الذهاب والإياب إلا نهارا، لما فيه من كثرة الوعر وصعوبة المسلك، وتعاريج الطرق.
وفيه يقول الصلاح الصفدى:
طوينا الفلا نبغى الوصول لمكة
…
فناحت علينا الورق من عذب البان
وكم مدرج قد راح فى كفن البلا
…
ليوم التلاقى فى مدرّج عثمان
وبه شجر البلسان البرى، وبعضهم يقول أن البشام يوجد كثيرا فى رءوس الجبال وفى أماكن منه، وأقام بدار المغدى عشرين درجة، وسار فى فضاء نير ونور وشجر إلى أن مر على طارف المنحنى، وتسمى عند الأدلاء طارف البرقاء، وعشى بالقرب من جبل المنحنى، وكان مسيره إلى قبل المغرب لدخول الصنحق بخمس درج مائة وعشرين درجة.
وللشهاب بن أبى حجلة:
أسير ولى شوق إلى أرض مكة
…
له فى الحشا والقلب مرسى ومرسخ
إذا ما بدت شامخات جبالها
…
فإنى على أهل البسطة أشمخ
وبهذه المنزلة فى هذا الزمن يحضر السيد الشريف جازان، ولد أخى الشريف ابن نمى أو أحد أقاربه فى بعض التجمل لملاقاة أمير الركب والسلام عليه، وكانت العادة السابقة ملاقاته بوادى مر الظهران،
وللقادم من جانب الشريف قفطان مذهب وحسن الرعاية، وتجهيز الغداء أو العشاء من خاص المأكولات وأنواع الحلوى والسكر المكرر، ويستمر صحبة أمير الحاج.
وأما قبل تاريخه فكان حده العمرة ومساجد أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، ومن هنا يحضر الشريف صاحب مكة فى خيل كثيرة لملاقاة أمير الحاج والسلام عليه أول العمرة، ويتوجه الشريف إلى مكة، وينزل أمير الحاج بالظاهر يبيت به، ويدخل مكة ليلا بمشاعله وفوانيسه للطواف، وفى صبيحة ذلك النهار تكون العرضة المشهورة، ويحضر الشريف صاحب مكة للبس تشاريفه فى موكب جليل بسناجقه وأعلامه وطبوله، وقد بطل ذلك من سنة ثمان وخمسين، وصار يستمر الشريف جازان صحبة أمير الحاج إلى وادى الزاهر، فإذا نزل هناك فارقه وتوجه، ثم يحضر بعده الشريف عجل بن عرار بن عجل وزير مكة، فى بعض الخيول، وأحد أعيان جماعة الشريف للسلام على أمير الحاج فى الزاهر ويعود، ثم فى صبيحة ذلك يحضر الشريف صاحب مكة بعسكره، ويقف راكبا بعيدا من الوطاق، ويرسل بطلب القفاطين المعتادة، فيلبس ما يخصه وهو راكب، ثم يلاقيه أمير الحاج راكبا فيسير معه يسيرا، ثم يتوجه الشريف من جهة الشبيكة إلى منزله، ويستمر أمير الحاج يسير وحده إلى أن ينزل بمحله إما إلى المدرسة وهو العادة أو إلى الوطاق بالمعلاة.
وفى سنة خمس وخمسين كانت الإقامة بجبل المنحنى، بالقرب منه عشرين درجة، وسار فقطع جبل العميان؛ سمى بذلك لكثرة من يحضر هناك من فقراء مكة، وغالبهم من العميان للسؤال من الحاج وطلب الصدقة، وجرت عادة كل جماعة منهم بإشعال النيران حولهم، ويجلسون كبارا وصغارا، ولكل حلقة شيخ يترجم بما معناه أنهم
مستحقون الصدقة، وإن فعلها لمثلهم من أفضل القريات عند الله تعالى، ويساعده من حوله بقولهم بلسان واحد: يا الله، ويجلسون بهذا المحل عند ورود الحاج إلى مكة وعند صدوره منها، وكان نزول أمير الحاج إلى وادى مر الظهران ليلا، واستمر سائرا إلى/وادى الزاهر، عند سبيل عبد الباسط المعروف بسبيل الجوخى شيلة واحدة، وكان مسيره مائة وخمسين درجة، ودخوله بعد الشمس بخمس درج، والمسير إليه من بطن مر ويسمى الوادى، يسيرون فى محاطب وفضاء، ومضيق وعر بين جبلين، وهو آخر درك ذوى رومى، ثم القرية بعده بها حدائق وعيون، وبنيان ومسجد، وعين كبيرة.
ويقابلها أبو عروة قرية أخرى مثلها منزلة الشاميين، ويسمى وادى مر، وعند أهل الحجاز وادى فاطمة، ومنه إلى مساجد السيدة عائشة رضي الله عنها، بعد مسجد السيدة ميمونة رضي الله عنها بسرف، ثم أعلام الحرم بالأرض والجبال، وهو مكان عمرة التنعيم، وبينه وبين مكة فرسخ مسيرة ساعة ونصف، فيمرون على مضيق الثنية إلى وادى الزاهر، ويغتسلون لدخول مكة، والسنة المبيت بذى طوى، ثم يدخلون صبيحة ثانى يوم على العادة مكة المشرفة، بعد تزيين المحامل ولبس التشاريف السلطانية، ولأمير مكة قفطانان:
أحدهما: من المخمل الأحمر، أو الشطمة المذهب، به أزرار من الفضة المطلية عدتها ستة.
والثانى: من الشيب الأعلى المفرى بالسمور الطرش، ولوزيره قفطان مذهب، ولقاضى مكة شيب أعلى، هذا ما يحمل من الخزائن السلطانية لمكة المشرفة، وأما من خزانة الطشتخاناه الأميرية، فلأخى الشريف أمير مكة قفطان خاص مذهب. وفى سنة ستين وتسعمائة ألبس السيد الشريف بشير أخو أمير مكة الصغير قفطان شيب ثان تكريما من غير عادة.
ولمكة طريقان: باب الشبيكة بالجادة، وباب المعلاة بعد الثنيتين وحدرة باب المعلاة، فيدخلون من هذا الباب بأعلامهم وطبولهم، وينزل أمير الحاج بالمدرسة الأشرفية قايتباى، ويتوجه الشريف إلى منزله، ويتفرق الحاج بمكة فى البيوت والسرح وبالأبطح.
وللشهاب بن أبى حجلة:
ولم أنس إذ وافيت مكة بكرة
…
ودمعى من المعلى بها يتحدر
طويت إليها شقة البيد فى السرى
…
وأنوارها من ذى طوى لى تنشر
وله أيضا:
بذل كنوز الدمع فى مكة
…
يغلب بذل المال فى الغالب
فكيف أخشى فى الورى مهلكا
…
ومطلبى شعب أبى طالب
انتهى باختصار.
***
العجميّين
قرية من مديرية الفيوم، هى رأس قسم، موقعها فى غربى مدينة الفيوم على نحو ثلاث ساعات، وفى الجنوب الغربى لقرية سيزو، ومبانيها من اللبن والآجر، وبها مساجد جامعة، وشون أصناف، وحدائق بكثرة تشتمل على أنواع الفواكه والرياحين ونخيل نحو مائة وخمسة وعشرين ألف نخلة، وكان يخصص عليها زمن العزيز محمد على باشا فى كل يوم ألف مقطف من الخوص للوازم العمليات بالقطر المصرى، وكان يرد عليها الخوص من البلاد فيشترونه لذلك.
ومن أهالى الناحية حزين أغا، كان ناظر قسم زمن العزيز محمد على، وجعل فى زمن الخديوى إسماعيل باشا من نواب الشورى، وفيها أيضا شجر الزيتون، وكان الأهالى سابقا يوردون المتحصل منه فى شون الأصناف ويأخذون ثمنه وكذلك الورد، ثم يستخرج ماء الورد وزيت الزيتون على طرف الميرى، ثم بطل ذلك، وصار كل إنسان يتولى زيتونه وورده بنفسه يفعل به كيف يشاء.
وللعجميين بحر فمه من اليوسفى بقرب مدينة الفيوم، وله قنطرة بعينين، والأهالى يسمون العيون أبوابا، والعادة أن العين لها باب من الخشب يفتح ويقفل بحسب الحاجة، ثم إن ذلك البحر يمتد إلى جهة الغرب نحو ساعتين، فتوجد به نصبة ينقسم عندها إلى قسمين:
القسم القبلى لهذه الناحية، والبحرى لناحية أبشواى الرمان وناحية أبى كساه، وأبى جنشوا، وبقرب العجميين فى شمالها ينقسم أيضا بنصبة إلى قسمين: البحرى لناحية أبى كساه، والقبلى لناحيتى أبشواى وأبى جنشوا، وهذا الفرع الأخير يمتد مغربا إلى أن يقرب من
أبى جنشوا، فتوجد به نصبة ينقسم عندها قسمين: القبلى يكون لأبى جنشوا، والبحرى لناحية أبشواى الرمان، وتسمى أيضا أبشيه، وهى مشهورة بعمل الجبن المسمى بالجبن الأبشيهى، كما أن جبن المنزلة لجودته مشهور بالمنزلاوى، ولها شهرة أيضا بعمل ثياب الصوف الجيدة، ويشاركها فى ذلك من بلاد الفيوم عدة قرى، كقرية المنزلة، وقلم شاه، وسرسا. وأما قرية أبى كساه فشهرتها العنب، لجودة عنبها عن عنب غيرها من بلاد الفيوم، فإن حبه وإن كان صغيرا لكنه شديد الحلاوة ورقيق الجلدة، وإن ترك على أصله جف وتزبب. ولناحية أبى كساه خزان فى شرقيها، حاجزه الشمالى مبنى بالآجر والمونة، وطوله يقرب من مائتى ذراع، وسمكه يختلف من ذراعين إلى ثلاثة، وارتفاعه نحو عشرة أذرع، ومساحته نحو مائتى فدان، ويمتد فيه الماء إلى جهة الجنوب نحو نصف ساعة.
***
ترجمة المرحوم عبد الله بك السيد
ثم إن ممن تربى من أهالى العجميين فى ظل أنعم العائلة المحمدية، وحاز قصب السبق بين أقرانه، الفاخر المرحوم عبد الله بيك السيد، تربى فى مدرسة الألسن تحت نظارة رفاعة بيك، وأتقن فنونها وفنون الإدارة الملكية/وشهد له أقرانه بالألمعية والعرفان، وسافر إلى بلاد فرنسا ليتقن علم الإدارة، فأقام هناك مدة طويلة حتى تمكن غاية التمكن، وحضر إلى مصر بالشهادات الكافية، فتعين أولا لتدريس علم الإدارة بالمحروسة، ثم توظف بمدرسة المهندسخانة ببولاق، ثم جعل من أعضاء القومسيون الذى تشكل فى عهد المرحوم عباس باشا للنظر فى دعوى أقامها على الحكومة شخص أفرنجى يدعى الخواجه روشتى، تتعلق بمادة احتكار صنف السنامكى، ثم جعل ناظرا على قلم التوصيات بالخزينة المصرية، ثم رئيسا على مجلس التجار بالإسكندرية، ثم من أعضاء القومسيون الذى تشكل تحت إدارة أدهم باشا لتسوية ديون المرحوم إلهامى باشا وحصر تركته، وذلك فى عهد المرحوم سعيد باشا، ثم توظف فى عهد أفندينا الخديوى إسماعيل باشا بجملة وظائف بالمالية، والداخلية، وتصفية القومبانية الزراعية، وأرسل فى مأموريات مهمة إلى بلاد أوروبا من طرف الحضرة الخديوية، ثم تعين ثانيا رئيسا على مجلس تجار إسكندرية، ثم عضوا بمحكمة الاستئناف الكبرى بالإسكندرية، ثم لحقته الوفاة من مدة يسيرة، وتحسر عليه كثير من الناس لكونه من أنجب أبناء الوطن.
وممن لحقته العناية من أهالى البلدة أيضا، وعمته نعم العائلة المحمدية، حضرة إسماعيل أفندى كساب، دخل الجهادية البيادة نفرا من بلده فى زمن المرحوم عباس باشا، وفى زمن المرحوم سعيد باشا ترقى إلى رتبة اليوزباشى، وفى عصر الخديوى إسماعيل ترقى إلى رتبة البيكباشى، وله إلمام بالكتابة وصار بالألايات البيادة.
العجيرة
- بفتح العين المهملة وكسر الجيم وبالياء التحتية والراء المهملة وهاء التأنيث - قرية من مديرية الدقهلية بمركز دكرنس فى بحرى المنزلة، على نحو ألف قصبة ومائتين، وأبنيتها بالمونة، وبها جامع بمنارة مقام الشعائر، ودوار لبياض الأرز، وجنان ونخيل، وسواق لسقى مزروعات الصيف، وصهريج، وسوق تباع فيه الأسماك، ورى أرضها من بحر الشبول، وتكسب أهلها من زراعة القطن والأرز وصيد السمك، وبها دوار ضيافة لعمدتها مصطفى قاسم وقصر مشيد له.
عدوة
- بكسر العين المهملة وسكون الدال وبعدها واو ثم هاء التأنيث ثلاث قرى بمصر:
الأولى: قرية من مديرية المنية بقسم مغاغة، واقعة فى غربى البحر اليوسفى بقليل فى الجنوب الغربى لناحية سلقوس بنحو ستة آلاف متر، وبها جامع بمئذنة ومعملا دجاج، وقليل مصابغ، وزراعة أهلها صنف الكتان، ولها سوق كل يوم أحد، وفيها عائلة مشهورة بالكرم والثروة، ولهم أبنية مشيدة ومضايف متسعة.
ترجمة العلامة الشيخ حسن العدوى
ومن هذه العائلة العالم الفاضل الشيخ حسن العدوى الحمزاوى المالكى، ولد بهذه القرية سنة إحدى وعشرين ومائتين وألف، وحفظ القرآن بها ثم التحق بالجامع الأزهر فتعلم العلم به، فتلقى الفقه والتفسير والحديث عن العلامة الشيخ محمد الأمير الصغير، وبعض الأدب والمنطق عن البرهان القويسنى شيخ الجامع الأزهر، والسعد والمطول وجمع الجوامع عن الشيخ مصطفى البولاقى، وجلس للتدريس فى سنة اثنتين وأربعين، فقرأ جميع الفنون المتداولة بالأزهر، وانتفع به الطلبة، واشتهر بحفظ السنة وسير الصالحين، وأخذ عنه كثير من مدرسى الأزهر، وله تأليفات عديدة منها: تقرير على صحيح البخارى سماه: «النور السارى» و «حاشية على شرح الزرقانى» فى فقه مالك و «شرح إرشاد المريد فى علم التوحيد» ، و «النفحات النبوية» و «مشارق الأنوار» و «تبصرة القضاة فى المذاهب الأربعة» و «المدد الفياض على متن الشفاء» للقاضى عياض، و «النفحات الشاذلية شرح البردة البوصيرية» ، وله حب شديد للطلبة فتراه دائما يسعى فى مصالحهم والشفاعة لهم، وتنفيس الكربات عنهم، وأمراء مصر يكرمونه ويقبلون شفاعته.
وقد بنى مسجدين عظيمين أحدهما ببلده، والآخر بمصر القاهرة بجوار سيدنا الحسين على الشارع الجديد، بداخله ضريح الشيخ الشنوانى، وهو مسجد جليل له منارة يقام فيه الجمعة والجماعة، ويدرس فيه العلم على الدوام لتوسطه بين الأزهر والمشهد الحسينى، وكان إتمام بنائه سنة تسعين من القرن الثالث عشر، وبنى بجواره حماما ومساكن ووقفها على ذلك الجامع، ومع ذلك فكان ساكنا
بالأجرة من ابتداء طلبه، ولم يمتلك بيتا لسكناه إلا فى آخر أمره، وكانت له زراعة متسعة نحو ألف فدان، وله كرم زائد ومكارم أخلاق، وكان له مرتب فى الروزنامجة، يصرف له كل شهر ألف ومائتان وخمسون قرشا، وتوفى رحمه الله فى القاهرة ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان سنة 1303، ودفن فى الضريح الذى كان أعده لنفسه بجوار ضريح الشيخ الشنوانى فى مسجده المذكور.
الثانية: قرية من مديرية الشرقية بمركز العلاقمة فى شمال العواسجة بنحو ألف ومائتى متر، وفى الجنوب الشرقى للشبراويين بنحو ثلاثة آلاف متر، وفيها مسجد ونخيل وأشجار.
الثالثة: قرية من مديرية الفيوم بقسم المدينة، فى شرقى ناحية مطرطارس بنحو ألفين وخمسمائة متر، وفى الجنوب الغربى لمدينة الفيوم بنحو خمسة/آلاف متر وستمائة، وبها جامع بمنارة، ومعامل لاستخراج النيلة، وبدائرها حدائق ونخيل كثير.
عرابة أبى كريشة
هى عبارة عن عدة نجوع من قسم المنشأة بمديرية جرجا، واقعة فى وسط الحوض بين البحر والجبل، فى غربى العسيرات وجرجا إلى ناحية الشمال، ولا يتوصل إليها من زيادة النيل إلا فى المراكب، وبها نخيل وبستان أنشأه المرحوم عليوة أغا أبو كريشة، وعليوة أغا المذكور ابن أحمد أغا أبى كريشة الشهير، كانت والدته جارية سوداء، ولذلك كان أسود كالعبد، وولى نظارة قسم جرجا وبرديس فى زمن العزيز محمد على وفى زمن المرحوم عباس باشا، وكان والده ناظر قسم قبله فى أول جعل نظار الأقسام من أولاد العرب سنة تسع وأربعين ومائتين وألف، وكان له شهرة فى الكرم، وكان إذا ركب يركب خلفه كثير من عبيده، وبلغت زراعته نحو ستة عشر ألف فدان، ومثله فى الشهرة بل أشهر منه عبد الله أبو فواز بناحية العسيرات، وفى تلك المديرية أيضا قرية تسمى عرابة أبى ذهب، وهى مثل عرابة أبى كريشة، وأصل أهلهما واحد وعوائدهم متحدة.
العربات المدفونة
هذه المدينة كانت قديما من أعظم مدن الأقاليم القبلية، فكانت تلى فى العظم مدينة طيبة التى بقيت دهرا طويلا تختا للديار المصرية، وكانت تسمى فى الأزمان السابقة «أبيدوس» وذكر استرابون أنه كان بها سراية لميمون مثل التى كانت له فى مدينة طيبة، وكانت موضوعة على اعوجاج فى النيل بعيدة عنه فى داخل الأرض آخر أرض الزراعة تحت جبل ليبيا، والماء يصل إليها من فرع كان فمه فى الصعيد
الأعلى، وكان سيره تحت الجبل الغربى، ومنه كان فم البحر اليوسفى الداخل فى بلاد الفيوم، وقد انعدم هذا الفرع الآن بسبب علو الأرض، وانتقل فم البحر اليوسفى فى الأزمان السابقة أيضا إلى النيل، ومن آثار هذا الفرع ما يسمى عند أهالى الأقاليم الوسطى ومديرية الجيزة باللبينى، ثم إنه لم يستمر على ما كان عليه فى الأزمان القديمة، بل صار قطعا متفرقة لكل قطعة منها اسم يخصها، والظاهر أن هذا الفرع هو الذى كان سببا فى وجود هذه المدينة العظيمة.
والمدينة الأخرى التى كانت بالقرب منها المسماة فى كتب مؤلفى الروم: «ديوسبوليس باروا» يعنى طيبة الصغرى، وموضعها الآن قرية (هو)، وقد اندرس هاتان المدينتان فى الأزمان القديمة، وخلفتهما مدينة بطليموسه التى كانت تخت الأقاليم القبلية فى زمن البطالسة، وكانت لا تنقص عن مدينة منفيس - كما قال استرابون - وفيما بعد صار رأس المديرية مدينة جرجا التى أخذ اسمها من اسم مارى جرجس؛ أحد مقدسى النصارى.
وكانت تلك المديرية تشتمل على مائة وإحدى وتسعين قرية، وكان عدد أهلها ثلثمائة وسبعة وأربعين ألفا وخمسة وخمسين نفسا.
ومما ذكرناه يعلم أن هذا الموضع فى جميع الأزمان كان محلا لمدينة عظيمة ومركزا من مراكز الأقاليم القبلية، وقد علم من تحقيقات مرييت فى تاريخه أن مقر فراعنة العائلة الأولى والثانية؛ هو مدينة طين أوطينيس، وهى على قول بركش مدينة كانت بقرب مدينة أبيدوس، أو هى قسم من مدينة أبيدوس، وكانت مدة الأولى مائتين وثلاثا وخمسين سنة، وكان أول فرعون منها قبل المسيح بخمسة آلاف وأربع سنين، ومدة الثانية ثلثمائة سنة واثنتين.
ثم إن الآثار الموجودة الآن هى آثار مدينة أبيدوس المذكورة، ولشهرتها وجب علينا تجديد موضعها تبعا لمن ذكرها من المؤلفين، ففى «خطط انتونان» أن بين مدينة ديوسبوليس باروا (هو)، ومدينة أبيدوس ثمانية وعشرين ميلا، ولو قيس على الخرطة من (هو)، التى هى مكان مدينة ديوسبوليس إلى هذه المدينة، لوجد ما بينهما واحدا وأربعين ألف متر، وهو الثمانية والعشرون ميلا المذكورة، وقد قدر بلين ما بين مدينة أبيدوس والنهر بسبعة أميال ونصف، والآن بين المدفونة وأقرب نقطة من النيل سبعة آلاف وخمسمائة متر، وهى عبارة عن خمسة أميال، ويظهر أن النيل أكل من الشاطئ الشمالى، وتحول عن الشاطئ الآخر، كما يحصل ذلك فى نقط كثيرة من وادى النيل فى كل سنة، ثم أنه كان حول هذه المدينة أرض خصبة صالحة للزرع، وبسبب الإهمال وتغير الأحوال صارت الرمال تسطو هناك كل سنة، وتغطى الأرض شيئا فشيئا حتى أفسدت أرضها بالكلية، فخربت البلد وفارقها أهلها من زمن مديد، والآن فى محل المدينة قريتان:
إحداهما: تسمى الخربة، والأخرى: الخرابة، وهما عرضة لتسلط الرمال عليهما، والسبب الموجب لسيلان الرمال فى هذه الجهة، هو أن فى مقابلة أبيدوس واديا متسعا تنسف الأرياح منه الرمال، وتنشرها على الأرض.
وكانت الأراضى والبلاد والمبانى فى الأزمان السالفة محفوظة من ذلك، إما بترع تجرى فيها المياه وتطهر كل سنة، وإما بأبنية من الآجر سميكة يختلف ارتفاعها باختلاف الحاجة، وذكر «بولو تارك» أن أمراء مصر كانوا يختارون الدفن فى مقابر تلك المدينة؛ لاعتقادهم أن القبر الحقيقى لأوزريس/لا يوجد إلا فيها وفى مدينة منفيس، وذكر أمايان مارسلان أنه كان فى المدينة كاهن يخبر بالغيب اسمه بيزا وكان له
شهرة عظيمة فى سائر الديار المصرية، وذكر كثير من المؤلفين أن تلقين الأسرار الدينية كان فى هذه المدينة، كما كان فى عدة مدن مثل مدينة بوباسط، ومدينة الطينة، وفى زمن الرومانيين كان فيها رباط من العساكر الخيالة. والمسافر إليها للاطلاع على آثارها الباقية - بعد خروجه من مدينة جرجا متجها إلى الجنوب الغربى - يمر أولا فى أراض مزدرعة، تقطعها ترع وجسور مكسورة بالطوب، تمتد إلى أرض الصحراء فى اتجاهات مختلفة، لحفظ المياه فى زمن النيل حتى يروى الأراضى، فإذا وصل إلى الرمل الذى فى نهاية الجسر الأعظم يسير تقريبا ثلاثة أرباع ساعة على خط حدود الرمل، فيصل إلى قرية الخربة الموجودة فى نهاية خراب المدينة القديمة، فيرى فيها قطعا متنوعة من شقاف وصخور، ثم يمشى وسط الخراب بقدر ألف ومائتى متر، فيصل إلى قرية الخرابة، وهى منقسمة إلى كفرين.
ومن مرسى البلينا إلى أبيدوس، طريق يصعد فيه نحو تسعة آلاف متر، فإذا وصل إليها القاصد رأى الآثار القديمة التى صار كشفها فى عصر الخديو إسماعيل باشا من الرمال، وهى ثلاثة معابد ومدفن واحد، وكان نزح الأتربة منها بمعرفة مارييت بك وملاحظته، حتى انكشف جميعها فوجدت أبنيتها فى غاية من الإتقان، وعليها كتابات مفيدة، وبعض أودها معقود بحجارة كبيرة، طول الواحد منها خمسة أمتار، ملحوم بعضها فى بعض، وتتكئ من أطرافها على أكتاف من الحجر المنحوت.
والعارفون باللغة المصرية القديمة، نسبوا أحد المعابد إلى سيتى الأول، والذى بناه هو سيتى المذكور ورمسيس الثانى، وهو من أجمل المبانى كجميع ما نسب إلى سيتى الأول، ولم يمكن الوقوف إلى الآن على الغرض الذى جعل له هذا المعبد على هذا الوضع، فإنه مشتمل
على سبعة حيشان، فى كل حوش خلوة للعبادة كأنها تشير إلى سبعة من المقدسين، والثانى منسوب إلى رمسيس ولده، والثالث معبد أوزريس؛ وفيه قبة يمتنع فيها آلات الطرب، كالناى والمغانى، بخلاف الجارى فى حق سائر المقدسين، وآخر ما كشف من المعابد معبد سينى المركب من السبع محلات، عليها كتابات ونقوش، فيها اسم سينى ورمسيس الثانى، وفى هذا المعبد وجد الجدول المعروف بجدول الملوك، وهو أكمل من الجدول الموجود فى خزانة الآثار بمدينة لندرة تحت مملكة الإنكليز، والملك سينى ورمسيس مرسومان فى ذلك المعبد، وأمامها نقش أسماء خمسة وسبعين ملكا غير سينى المذكور، وسلسلة الملوك تنتهى إلى مينيس مؤسس السلطنة المصرية، ومعبد رمسيس الثانى فى بحرى معبد سينى ولم يبق منه غير بعض الحيطان.
وجدول الملوك الموجود فى لندرة كان فى هذا المعبد، فنقله الإنكليز بحجارته، ومعبد أوزوريس فى الجهة البحرية من هذا المكان، وتربته كانت بقربه وكانت محترمة عند المصريين فى ذلك الوقت كاحترام الحرم الشريف عند المسلمين، أو كاحترام الكنيسة الكبرى فى رومة الآن، ولم يمكن العثور عليها إلى وقتنا هذا، وربما يعثر عليها من الحفر الجارى الآن، وأما القبور التى عثر عليها فهى من زمن العائلة الرابعة والثانية عشر والثالثة عشر والعائلة الأخيرة قبل المسيح بألفين وثمانمائة سنة، وبين معابد أبيدوس وناحية بلينا مسافة نحو اثنى عشر كيلو متر، وعربات المدفونة الآن قرية من قسم برديس من مديرية جرجا فى شرقى تلول المدينة الأصلية، وفى حافة الجبل وغربى بنى جميل وبحرى سمهود، وأكثر أهلها مسلمون، وتكسبهم من الزرع، وفيها نخيل وأشجار ومساجد، وقاصدها يسير
إليها من البلينا فى طريق وسط أرض الزراعة، وفى أيام النيل يركب جسر برديس المبتدأ من البحر إلى الجبل، والمسافة ثلاث ساعات، وفيه قناطر يقال لها قناطر يعقوب، عندها ينعطف المسافر إلى الجهة الجنوبية نحو ساعة فيصل إلى العربات، وذكر استرابون أن ألواح الأول من الثلاث واحات التى فى صحراء الليبيا فى مواجهة مدينة أبيدوس على مسافة سبعة أيام.
العريش
قال المقريزى فى خططه: العريش مدينة فيما بين أرض فلسطين وإقليم مصر، وهى مدينة قديمة من جملة المدائن التى اختطت بعد الطوفان، قال الأستاذ إبراهيم بن وصيف شاه: إن مصرايم بن بيصر ابن حام بن نوح عليه السلام كان غلاما مرفها، فلما قرب من مصر بنى له عريشا من أغصان الشجر، وستره بحشيش الأرض، ثم بنى له بعد ذلك فى هذا الموضع مدينة وسماها درسان، أى باب الجنة، فزرعوا وغرسوا الأشجار والجنان من درسان إلى البحر، فكانت كلها زروعا وجنانا وعمارة، وقال آخر: إنما سميت بذلك لأن بيصر بن حام ابن نوح تحمل فى ولده وهم أربعة ومعهم أولادهم فكانوا ثلاثين، ما بين ذكر وأنثى، وقدم ابنه مصر بن بيصر أمامهم نحو أرض مصر حتى خرج من أرض الشام، فتاهو أو سقط مصر فى موضع العريش، وقد اشتد تعبه ونام، فرأى قائلا يبشره بحصوله فى أرض ذات خير/ ودر وملك وفخر، فانتبه فزعا فإذا عليه عريش من أطراف الشجر، وحوله عيون ماء، فحمد الله وسأله أن يجمعه بأبيه وإخوته، وأن يبارك له فى أرضه فاستجيب له، وقادهم الله إليه فنزلوا فى العريش وأقاموا به، فأخرج الله لهم من البحر دواب ما بين خيل وحمير، وبقر وغنم
وإبل، فساقوها حتى أتوا موضع مدينة منف، فنزلوه وبنوا فيه قرية سميت بالقبطية «مافه» - يعنى قرية ثلاثين - فنمت ذرية بيصر حتى عمروا الأرض، وزرعوا وكثرت مواشيهم، وظهرت لهم المعادن، فكان الرجل منهم يستخرج القطعة من الزبرجد يعمل منها مائدة كبيرة، ويخرج من الذهب ما تكون القطعة منه مثل الإسطوانة، وكالبعير الرابض.
وقال ابن سعيد عن البيهقى، كان دخول إخوة يوسف وأبويه عليهم السلام عليه بمدينة العريش، وهى أول أرض مصر لأنه خرج إلى تلقيهم حتى نزل المدينة بطرف سلطانه، وكان له هناك عرش وهو سرير السلطنة فأجلس أبويه عليه، وكانت تلك المدينة تسمى فى القديم بمدينة العرش لذلك، ثم سمتها العامة مدينة العريش فغلب ذلك عليها، ويقال إنه كان ليوسف عليه السلام حرس فى أطراف مصر من جميع جوانبها، فلما أصاب الشام القحط وسارت إخوة يوسف لتمتار من مصر، أقاموا بالعريش، وكتب صاحب الحرس إلى يوسف أن أولاد يعقوب الكنعانى يريدون البلد لقحط نزل بهم، فعمل إخوة يوسف عند ذلك عرشا يستظلون به من الشمس حتى يعود الجواب، فسمى الموضع: العريش، وكتب يوسف بالإذن لهم فكان من شأنهم ما قد ذكر فى موضعه.
ويقال للعريش الجفار فهذا كما ترى وابن وصيف شاه
(1)
أعرف بأخبار مصر، ثم إنه فى سنة خمس عشرة وأربعمائة طرق عبد الله بن إدريس الجعفرى العريش بمعاونة بنى الجراح وأحرقها، وأخذ جميع ما فيها، وقال القاضى الفاضل: وفى جمادى الآخرة سنة سبع وسبعين وخمسمائة ورد الخبر بأن نخل العريش قطع الإفرنج أكثره، وحملوا جذوعه إلى بلادهم وملئت منه، ولم يجدوا مخاطبا على ذلك.
(1)
لم يسبق ذكر ابن وصف شاه فى النص، ويبدو أن بالأصل المطبوع اضطربا بهذا الموضع.
ونقل عن ابن عبد الحكم أن الجفار بأجمعه كان أيام فرعون موسى فى غاية العمارة بالمياه والقرى والسكان، وأن قول الله تعالى:
{وَ دَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَ قَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ}
(1)
عن هذه المواضع، وأن العمارة كانت متصلة منه إلى اليمن، ولذلك سميت العريش عريشا، وقيل إنها نهاية التخوم من الشام، وإن إليها كان ينتهى رعاة إبراهيم الخليل عليه السلام بمواشيه، وإنه عليه السلام اتخذ به عريشا كان يجلس فيه حتى تحلب مواشيه بين يديه، فسمى العريش من أجل ذلك، وقيل إن مالك بن ذعر بن حجر بن جديلة بن لخم كان له أربعة وعشرون ولدا، منهم العريش بن مالك وبه سميت العريش لأنه نزل بها وبناها مدينة، وعن كعب الأحبار أن بالعريش قبور عشرة من الأنبياء. انتهى.
ومما يدل على أن العريش من بلاد مصر، ما قاله الكندى إنه لما أرسل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب الكتاب إلى عمرو بن العاص، وكان متوجها إلى فتح بلاد مصر، صادفه الرسول بالكتاب وهو برفح، فلم يأخذه منه ودافعه وسار حتى نزل العريش، وقيل له إنها من مصر، فدعا بالكتاب وقرأه على المسلمين، وقال: تعلمون أن هذه القرية من مصر، قالوا: نعم، قال: فإن أمير المؤمنين عهد إلىّ إن لحقنى كتابه ولم أدخل أرض مصر أن أرجع، وقد دخلت أرض مصر، فسيروا وامضوا على بركة الله وعونه. انتهى.
وفى رحلة النابلسى المشهور بين الأنام أن العريش أول حدود مصر وآخر حدود الشام، وفيها جوامع عامرة بداخل أحدها قبر الشيخ محمد الدمياطى صاحب الولاية والتقريب، تلميذ الشيخ نور الدين الدمياطى صاحب الدمياطية، وقد وصفها السيد محمد كبريت فى رحلته بقوله:
(1)
سورة الأعراف، الآية 137.
ثم أتينا بعد للعريش
…
وإنه فى ساحل وحيش
ما فيه إلا الرمل والبرغوث
…
وليس فيه للغريب غوث
وفيه أيضا قلعة وزاوية
…
وبعض دور فى فناها خاوية
انتهى.
وهى قرية مشهورة فى كتب التواريخ، ومنها الجد التاسع والثامن لابن عباد ملك الأندلس، فارق مدينة العريش إلى الأندلس وسكن بأرض إشبيلية، قال ابن خلكان فى وفياته: إن ابن عباد هو المعتمد على الله أبو القاسم محمد بن المعتضد بالله أبى عمر وعباد بن الظافر المؤيد بالله أبى القاسم محمد قاضى إشبيلية بن أبى الوليد إسماعيل ابن قريش بن عباد بن عمرو بن أسلم بن عمرو بن عطاف بن نعيم اللخمى، من ولد النعمان بن المنذر اللخمى آخر ملوك الحيرة، وكان بدء أمرهم فى بلاد الأندلس أن نعيما وابنه عطافا أول من دخل إليها من بلاد المشرق من أهل العريش، القرية القديمة الفاصلة بين الشام والديار المصرية، فى أول الرمل من جهة الشام، وأقاما بها مستوطنين بقرية بقرب تومين من أقاليم/طشانة من أرض إشبيلية، وامتد لعطاف عمود النسب من الولد إلى الظافر محمد بن إسماعيل القاضى، فهو أول من نبغ منهم فى تلك البلاد، وتقدم باشبيلية إلى أن ولى القضاء بها، فأحسن السياسة مع الرعية والملاطفة بهم، فرمقته القلوب، وكان يحيى بن على بن حمود الحسنى المنعوت بالمستعلى صاحب قرطبة، وكان مذموم السيرة فتوجه إلى إشبيلية محاصرا لها فلما نزل عليها اجتمع رؤساء إشبيلية وأعيانها، وأتوا القاضى محمد المذكور، وقالوا له أما ترى ما حل بنا من هذا الرجل الظالم وما أخذ
من أموال الناس، فقم بنا نخرج إليه ونملكك ونجعل الأمر إليك ففعل، ووثبوا على يحيى فركب إليهم وهو سكران فقتل وتم له الأمر، ثم ملك بعد ذلك قرطبة وغيرها من البلاد، وقصته مشهورة مع من زعم أنه هشام بن الحكم آخر ملوك بنى أمية بالأندلس، الذى كان المنصور بن أبى عامر قد استولى عليه وحجبه عن الناس، وكان يصدر الأمور عن غير إشارته، ولا يمكنه من التصرف، وليس له سوى الاسم والخطبة على المنابر، فإنه كان قد انقطع خبره مدة نيف وعشرين سنة، وجرت أحوال مختلفة فى هذه المدة، ثم قيل للقاضى محمد المذكور بعد تملكه واستيلائه على البلاد إن هشام بن الحكم فى مسجد بقلعة رياح، فأرسل إليه من أحضره وفوض الأمر إليه، وجعل نفسه كالوزير بين يديه.
وفى هذه الواقعة يقول الحافظ أبو محمد بن حزم الظاهرى فى كتاب: «نقط العروس» أخلوقة لم يقع فى الدهر مثلها، فإنه ظهر رجل يقال له خلف الحصرى بعد نيف وعشرين سنة من موت هشام بن الحكم المنعوت بالمؤيد، وادعى أنه هشام فبويع وخطب له على جميع منابر الأندلس فى أوقات شتى، وسفك الدماء، وتصادمت الجيوش فى أمره، وأقام المدعى أنه هشام نيفا وعشرين سنة، والقاضى محمد بن إسماعيل فى رتبة الوزير بين يديه، والأمر إليه، ولم يزل الأمر كذلك إلى أن توفى المدعو هشاما، فاستبد القاضى محمد بالأمر بعده، وكان من أهل العلم والأدب والمعرفة التامة بتدبير الدول، ولم يزل ملكا مستقلا إلى أن توفى ليلة الأحد لليلة بقيت من جمادى الأولى سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة، وقيل إنه عاش إلى قريب الخمسين وأربعمائة ودفن بقصر إشبيلية.
ولما مات محمد القاضى، قام مقامه ولده المعتضد بالله أبو عمرو عباد، قال أبو الحسن على بن بسام صاحب كتاب:«الذخيرة» فى حقه:
ثم أقصى الأمر إلى عباد سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة، وتسمى أولا بفخر الدولة ثم بالمعتضد قطب رحى الفتنة، ومنتهى غاية المحنة، وكان رجلا جبارا أبرم الأمر متناقضا، لم يثبت له قائم ولا حصيد ولا سلم منه قريب ولا بعيد، متهورا لا تتحاماه الدهاه، وجبانا لا تأمنه الكماه، ضبط شأنه حتى طالت يداه واتسع بلده، وكثر عديده وعدده، وكان قد أوتى أيضا من جمال الصورة، وتمام الخلقة وبساطة البنان وثقوب الذهن، ما فاق به على نظرائه، قد حصل من الأدب على قطعة وافرة علقها من غير تعمد لها ولا إمعان النظر فى مطالعتها، فكانت له سجية على تحبير الكلام، وقرض الشعر وأخباره فى جميع أفعاله وأنحائه غريبة بديعة، وكان ذا كلف بالنساء، فاستوسع باتخاذهن، ففشا نسله، وكان له من الولد نحو العشرين ذكورا والعشرين إناثا، ومن شعره:
شربنا وجفن الليل يغسل كحله
…
بماء صباح والنسيم رقيق
معتقة كالتبر أما بخارها
…
فضخم وأما جسمها فرقيق
ولم يزل فى عز سلطانه واغتنام مساره، حتى أصابته علة الذبحة فلم تطل مدتها، وتوفى يوم الاثنين غرة جمادى الآخرة سنة إحدى وستين وأربعمائة، ودفن ثانى يوم بمدينة إشبيلية.
وقام بالمملكة بعده ولده المعتمد على الله أبو القاسم محمد، قال أبو الحسن على بن القطاع السعدى فى كتاب:«لمح الملح» : إن المعتمد المذكور أندى ملوك الأندلس راحة، وأرحبهم ساحة، وكانت حضرته ملقى الرحال، وموسم الشعراء وقبلة الآمال، حتى إنه لم
يجتمع بباب أحد من ملوك عصره من أعيان الشعراء وأفاضل الأدباء ما كان يجتمع ببابه، وتشتمل عليه حاشيتا جنابه، وكان شاعرا أديبا، فمن شعره:
أكثرت هجرك غير أنك ربما
…
عطفتك أحيانا علىّ أمور
فكأنما زمن التهاجر بيننا
…
ليل وساعات الوصال بدور
وكان المعتمد بن عباد أكبر ملوك الطوائف وأكثرهم بلادا، وكان يؤدى الضريبة للأذفونش، فلما ملك الأذفونش طليطلة لم يقبل ضريبة المعتمد طمعا فى أخذ بلاده، وأرسل إليه يهدده ويقول له:
تنزل عن الحصون التى بيدك ويكون لك السهل، فضرب المعتمد الرسول وقتل من كان معه، فبلغ الخبر الأذفونش فأحضر آلات الحصار، فاجتمع مشايخ الإسلام وفقهاؤهم، وجاءوا إلى القاضى عبد الله بن محمد بن أدهم وفاوضوه فيما نزل بالمسلمين.
وآخر ما اجتمع عليه رأيهم أن يكتبوا/إلى أبى يعقوب بن يوسف بن تاشفين ملك الملثمين صاحب مراكش يستنجدونه، وأخبر القاضى المعتمد فوافقه على ذلك وألزمه بأن يمضى إليه بنفسه، فخرج من عنده وكتب إلى يوسف بن تاشفين بصورة الحال وسيره إليه مع بعض عبيده، فلما وصله خرج مسرعا إلى مدينة سبتة فى بر مراكش مقابلة الجزيرة الخضراء، وهى مدينة فى بر الأندلس، وأقام بسبتة، وأرسل إلى مراكش يستدعى من تخلف بها من جيشه، فلما تكاملوا عنده أمرهم بالعبور، وعبر آخرهم وهو فى عشرة آلاف مقاتل، واجتمع بالمعتمد وقد جمع أيضا عساكره، وتسامع المسلمون بذلك، فخرجوا من كل البلاد طلبا للجهاد.
وبلغ الأذفونش الخبر وهو بطليطلة، فخرج فى أربعين ألف فارس غير من انضم إليه، وكتب الأذفونش إلى الأمير يوسف كتابا يتهدده وأطال الكتابة، فكتب يوسف الجواب فى ظهره:«الذى يكون ستراه» ورده إليه، فلما وقف عليه ارتاع قلبه لذلك، وقال هذا رجل عارم، ثم التقى الجيشان فى مكان يقال له الزلاقة من بلد بطليوس، فكانت النصرة للمسلمين، وهرب الأذفونش بعد استئصال عساكره، ولم يسلم معه سوى نفر يسير، وكان ذلك فى منتصف رجب من سنة تسع وسبعين وأربعمائة، وهذه الوقعة من أشهر الوقائع، ويؤرخ بعامها فى بلاد الأندلس، فيقال عام الزلاقة، وثبت المعتمد فى ذلك اليوم ثباتا عظيما، وأصابه عدة جراحات فى وجهه وبدنه، وشهد له بالشجاعة وغنم المسلمون، ورجع الأمير يوسف إلى بلاده والمعتمد إلى بلاده.
ثم إن الأمير يوسف عاد إلى الأندلس فى العام الثانى، وقد أعجبه حسن بلادها وبهجتها، وما بها من المبانى والبساتين والمطاعم وسائر أصناف الأموال التى لا توجد فى مراكش، فإنها بلاد بربر وأجلاف العرب، وجعل خواصه يحسنون له أخذها، ويغرون قلبه على المعتمد بأشياء نقلوها عنه، فتغير عليه وقصده، وجهز إليه العساكر، وقدم عليها سير بن أبى بكر الأندلسى، فوصل إلى إشبلية وبها المعتمد، فحاصره أشد محاصرة، وظهر من مصابرة المعتمد وشدة بأسه وتراميه على الموت بنفسه ما لم يسمع بمثله، والناس بالبلد قد استولى عليهم الفزع وخامرهم الجزع، يقطعون سبلها سياحة، ويخوضون نهرها سباحة، ويترامون من شرفات الأسوار.
فلما كان يوم الأحد لعشرين من رجب سنة أربع وثمانين وأربعمائة، هجم عسكر الأمير يوسف البلد وشنوا فيها الغارات، ولم
يتركوا لأحد شيئا، وخرج الناس من منازلهم يسترون عوراتهم بأيديهم، وقبض على المعتمد وأهله، وكان قد قتل له ولدان قبل ذلك، أحدهما المأمون وكان ينوب عن والده فى قرطبة، والثانى الراضى وكان ينوب عنه فى رندة، وهى من الحصون المنيعة، ولأبيهما فيهما مراث عديدة.
ولما أخذ المعتمد قيدوه من ساعته، وجعل مع أهله فى سفينة، قال ابن خاقان فى:«قلائد العقيان» فى هذا الموضع: ثم جمع هو وأهله وحملتهم الجوارى المنشآت، وضمتهم كأنهم أموات، فساروا واليوم يحدوهم والنوح باللوعة لا يعدوهم، وفى ذلك يقول أبو بكر محمد بن عيسى إسماعيل الدانى المعروف بابن اللبانة:
تبكى السماء بدمع مع رائح غادى
…
على البهاليل من أنباء عباد
وهى قصيدة طويلة من جملتها:
يا ضيف أقفر بيت المكرمات فخذ
…
فى ضم رحلك واجمع فضلة الزاد
وتألم المعتمد يوما من قيده وضيقه وثقله فأنشد:
تبدلت من ظل عز البنود
…
بذل الحديد وثقل القيود
وكان حديدىّ سنانا زليقا
…
وعضبا رقيقا صقيل الحديد
وقد صار ذاك وذا أدهما
…
يعض بساقى عض الأسود
ثم إنهم حملوا إلى الأمير يوسف بمراكش، فأمر بإرسال المعتمد إلى مدينة أغمات، واعتقاله بها إلى الممات.
قال ابن خاقان: ولما أجلى عن بلاده، وأعرى من طارفه وتلاده، وحمل إلى السفين، وأحل فى العدوة محل الدفين، تندبه منابره
وأعواده، ولا يدنو منه زوّاره ولا عوّاده، بقى آسفا تتصعد زفراته، وتطرد أطراد المذانب عبراته، لا يخلو بمؤانس، ولا يرى إلا غريبا بدلا عن تلك المكانس، ولما لم يجد سلوّا، ولم يؤمّل دنوّا، ولم ير وجه سره مجلوّا، تذكر منازله فشاقته، وتصور بهجتها فراقته، وتخيل استيحاش أوطانه، وإجهاش قصره إلى قطانه، وإظلامه من أقماره، وخلوه من حراسه وسماره.
وفى اعتقاله يقول أبو بكر الدانى قصيدته المشهورة التى أولها:
لكل شئ من الأشياء ميقات
…
وللمنى من مناياهن غايات
/والدهر فى صبغة الحرباء منغمس
…
ألوان حالاته فيها استحالات
ونحن من لعب الشطرنج فى يده
…
وربما قمرت بالبيدق الشاة
انفض يديك من الدنيا وساكنها
…
فالأرض قد أقفرت والناس قد ماتوا
وقل لعالمها الأرضى قد كتمت
…
سريرة العالم العلوى أغمات
وهى قصيدة جليلة، لكنه غلط فى إثبات التاء فى الشاة، وإنما هو بالهاء الملك العجمى.
وله أيضا فى حبسه قصيدة عملها بأغمات منها:
تنشق رياحين السلام فإنما
…
أفض بها مسكا عليك مختما
أفكر فى عصر مضى لك مشرقا
…
فيرجع ضوء الصبح عندى مظلما
إلى أن قال فيها:
وإنى على رسمى مقيم فإن أمت
…
سأجعل للباكين رسمى موسما
بكاك الحيا والريح شقت جيوبها
…
عليك وناح الرعد باسمك معلما
ومزق ثوب البرق واكتسب الضحى
…
حدادا وقامت أنجم الجوّ مأتما
وكان قد انفكت عنه القيود يوما، فأشار لذلك بقوله منها:
قيودك ذابت فانطلقت لقد غدت
…
قيودك منهم بالمكارم أرحما
عجبت لئن لان الحديد وقد قسوا
…
لقد كان منهم بالسريرة أعلما
سينجيك من نجى من الجب يوسفا
…
ويؤويك من آوى المسيح ابن مريما
وله فى البكاء على أيامهم وانتشار نظامهم عدة مقاطيع وقصائد مطولات يشتمل عليها جزء لطيف، وحكى أنه لما عزم على الانفصال عنه بعث إليه المعتمد عشرين دينارا وشقة بغدادية وكتب معها عدة أبيات منها:
إليك النزر من كف الأسير
…
فإن تقبل تكن عين الشكور
تقبل ما يكون له حياء
…
وإن عذرته أحوال الفقير
قال أبو بكر: فرددتها إليه لعلمى بحاله، وكتبت إليه أبياتا منها:
سقطت من الوفاء على خبير
…
فذرنى والذى لك فى ضميرى
تركت هواك وهو شقيق نفسى
…
لئن شقت برودى عن عذورى
إلى أن قال فيها:
وأعجب منك أنك فى ظلام
…
وترفع للعفاة منار نور
رويدك سوف توسعنى سرورا
…
إذا عاد ارتقاؤك للسرير
وسوف تحلنى رتب المعالى
…
غداة تحل فى تلك القصور
ودخل عليه يوما بناته السجن وكان يوم عيد، وكن يغزلن للناس بالأجرة فى أغمات، حتى إن إحداهن غزلت لبيت صاحب الشرطة الذى
كان فى خدمة أبيها وهو فى سلطانه، فرآهن فى أطمار رثة وحالة سيئة، فصدعن قلبه، وأنشد:
فيما مضى كنت فى الأعياد مسرورا
…
فساءك العيد فى أغمات مأسورا
ترى بناتك فى الأطمار جائعة
…
يغزلن للناس لا يملكن قطميرا
برزن نحوك للتسليم خاشعة
…
أبصارهن حسيرات مكاسيرا
يطأن فى الطين والأقدام حافية
…
كأنها لم تطأ مسكا وكافورا
ودخل عليه - وهو فى هذه الحالة - ولده أبو هاشم، والقيود قد عضت بساقيه عض الأسود، والتوت عليه التواء الأساود السود، فلما رآه بكى، وقال أبياتا منها:
قيدى أما تعلمنى مسلما
…
أبيت أن تشفق أو ترحما
دمى شراب لك واللحم قد
…
أكلته لا تهشم الأعظما
يبصرنى فيك أبو هاشم
…
فينثنى والقلب قد هشما
ارحم طفيلا طائشا لبه
…
لم يخش أن يأتيك مسترحما
/وارحم أخيات له مثله
…
جرعتهن السم والعلقما
منهن من يفهم شيئا فقد
…
خفنا عليه للبكاء العمى
والغير لا يفهم شيئا فما
…
يفتح إلا لرضاع فما
وقد أطال ابن خلكان فى ترجمته وما قاله وما قيل فيه، ثم قال:
وأشعار المعتمد وأشعار الناس فيه كثيرة، وقد جاوزنا الحد فى تطويل ترجمته، وسببه أن قصته غريبة لم يعهد مثلها، ودخل فيها حديث أبيه وجده فطالت، وكانت ولادته فى شهر ربيع الأول سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة بمدينة باجة من بلاد الأندلس، وملك بعد وفاة أبيه وخلع فى
التاريخ المتقدم ذكره، وتوفى فى السجن بأغمات لإحدى عشرة ليلة من شوال، وقيل فى ذى الحجة سنة ثمان وثمانين وأربعمائة، ومن النادر الغريب أنه نودى فى جنازته بالصلاة على الغريب، بعد عظم سلطانه وجلالة شانه، فتبارك من له البقاء والعزة. واجتمع عند قبره جماعة من الشعراء الذين كانوا يقصدونه بالمدائح، ويجزل لهم المنائح، رثوه بقصائد مطولات، وأنشدوها عند قبره، منهم أبو بحر عبد الصمد شاعره المختص به، فمن قصيدته:
ملك الملوك أسامع فأنادى
…
أم قد عدتك عن السماع عوادى
لما نقلت عن القصور ولم تكن
…
فيها كما قد كنت فى الأعياد
أقبلت فى هذا الثرى لك خاضعا
…
وجعلت قبرك موضع الإنشاد
فلما فرغ من إنشادها قبل الثرى ومرغ جسمه وعفر خده، فأبكى عليه كل من حضر، ورأى أبو بكر الدانى حفيد المعتمد وهو غلام وسيم، قد اتخذ الصياغة صناعة، وكان يلقب فى أيام دولتهم فخر الدولة، وهو من الألقاب السلطانية عندهم، فنظر إليه وهو ينفخ الفحم بقصبة الصائغ، فقال من جملة قصيدة:
صرفت فى آلة الصواغ أنملة
…
لم تدر إلا الندى والسيف والقلما
يد عهدتك للتقبيل تبسطها
…
فتستقل الثريا أن تكون فما
يا صائغا كانت العليا تصاغ له
…
حليا وكان عليه الحلى منتظما
للنفخ فى الصور هول ما حكاه سوى
…
أنى رأيتك فيه تنفخ الفحما
وأغمات - بفتح الهمزة وسكون الغين المعجمة وفتح الميم وبعد الألف تاء مثناة من فوق - بليدة وراء مراكش بينهما مسافة يوم، قال:
وأما أبو بكر بن اللبانة، فما رأيت تاريخ وفاته فى شئ من الكتب ولا من يعلم ذلك، لكن رأيت فى كتاب:«الحماسة» التى صنفها أبو الحجاج يوسف البياسى أن ابن اللبانة قدم ميورقة فى آخر شعبان سنة تسع وثمانين وأربعمائة، انتهى باختصار كثير.
ثم إن عند مدينة العريش صحراء متسعة، يوجد بها الطيور والحيوانات البرية كبقر الوحش وحمره، فلذا فى كتاب كترمير أن السلطان بيبرس فى توجهه من مصر إلى الشام سنة ستمائة وإحدى وستين، كان يتعاطى الصيد فى طريقه مع أمرائه، وكل يحب الصيد، فلما وصل إلى العريش، جعل من جنوده حلقة فيها ثلاثة آلاف رجل، أحاطوا بجزء كبير من الأرض، ليصطادوا ما بداخل الحلقة من الغزلان ونحوها، ثم أخذوا يضيقون الحلقة شيئا فشيئا، مع المحافظة على ما بداخلها من الحيوانات حتى قبضوا على ما بها من الوحوش، انتهى.
والحلقة هى الدائرة من كل شئ، كحلقة الخاتم وحلقة العلم وحلقة العسكر المحيطة بالملك أو بالأمير، وعند المغول هى اسم للدائرة المتكونة من الصيادين، لينحصر فيها طائفة من أنواع الصيد، قال فخر الدين الرازى: كانت حلقة جنكيز خان دائرها مسافة ثلاثة أشهر، ثم تتضايق شيئا فشيئا، فيجتمع فيها من الحيوانات ما لا يحد كثرة، وقال فى:«مسالك الأبصار» كانت مناشير جند الحلقة من السلطان كمناشير الأمراء، وكان لكل أربعين منهم مقدم ليس له عليهم حكم ولا تكلم إلا فى ترتيبهم فى مواقفهم، فكان أمر مواقفهم فى الحلقة إليه، وكانت لهم إقطاعات، منها ما يبلغ ألفا وخمسمائة دينار ونحوها، وهى إقطاعات أعيان الحلقة، وإقطاعات العسكر كانت لا تنقص عن مائتين وخمسين دينارا، وقال خليل الظاهرى: أما أجناد الحلقة فكانت عدتهم قديما أربعة وعشرين ألف جندى، كل ألف لها
أمير يقال: مقدم الألف، وكل مائة من الألف له باش ونقيب، ومنهم من هو بحرى يركز بالقلعة المنصورة، ومنهم من يركز فى غيبة السلطان بمراكز معينة من مصر والقاهرة، ومنهم من يوجه فى المهمات الشريفة، وقال صاحب:«ديوان الإنشاء» : إن جند الحلقة ليس عليهم خدمة إلا فى المهمات/السلطانية، وكانت عدتهم اثنى عشر ألف جندى ثم تناقصوا، وكانوا لا ضابط لهم ولا تماثل، بل ربما كان لجبانهم بقدر رزق سبعة أو ثمانية من الشجعان وبالعكس، ومنهم من كان باسمه عبرة دنانير جيشية ولا متحصل لها، وعدة المقدمين من جند الحلقة فى زماننا أربعون، لهم رأى مسدد ووجاهة فى العسكر، يحضرون فى المواكب الحافلة فى الإيوان، ويكونون باشات على مقطعى الحلقة فى السفر إلى المهمات الشريفة. انتهى مترجما منه.
ثم إن هذه المدينة ليست قريبة من النيل، وطريقها متصل ببورت سعيد، وقد غطت الرمال التى جلبتها الرياح جميع آثارها القديمة، ولم يبق بها سوى قلعة من مبانى الدولة العثمانية، من سنة اثنتين وستين وسبعمائة، على بعد نصف ساعة من البحر الرومى، كان القصد منها حفظ الطريق من العريش إلى حدود قاطية، وحفظ الكورنتينا وعوائد الجمارك، ولكثرة الرمال فى أراضيها لا يزرع فيها إلا الشعير وقليل من القمح، ولا يقوم محصولها بمؤنة أهلها إلا نحو ثلاثة أشهر عند سلامة الزرع، نعم يزرع بها صنف البطيخ بكثرة، حتى إن أهلها يربعون عليه مواشيهم، وأغلب مؤنتهم الشعير المجلوب إليهم من الشام ومصر، وربما اقتاتوا البطيخ بأن يشووا صغيره ويأكلوه، وبها قليل نخيل فى جوانبها، وبقرب شط البحر الملح لهم عيون عذبة الماء، يستقون منها ويزرعون عليها شيئا من الخضر بقدر كفايتهم، نحو سلق وملوخية، وبامية وباذنجان أسود وجزر فى أرض قابلة
للزرع إلا أنهم غير ملتفتين لذلك، وفى حواليها كروم عنب وتين قليلة المحصول؛ لقلة المياه وتسلط الرمال، وأهلها نحو ألفى نفس وخمسمائة، ما بين ذكر وأنثى، غالبهم دائم الأسفار إلى مصر والشام على الإبل لضرورة المعاش.
ولا يتبع هذه القرية بلاد، وإنما حواليها جماعة من الباشبوزق تخلفوا من العساكر، الذين كانوا قديما محافظين بالقلعة، وهؤلاء لا كسب لهم سوى صيد السمك، والشغل على الإبل، وحواليها أيضا عرب من قبيلة يقال لها السواركه، تفرقوا بطونا، فمنهم بطن يقال لهم الدهجانه، وبطن الرميلات، وبطن الخناصرة، وبطن الفرادات، وجميع هؤلاء العرب لم يشتهروا إلا بصيد الطيور مثل العصفور البلدى والغراب والحدأة والسمانى، وفى كل سنة ينزل هناك سيل، يمر على العريش وينزل فى البحر ولا ينتفع منه بشئ، ثم إنه كان بهذه البلدة وقعة بين إبراهيم الخليجى الخارجى مع عساكر المكتفى بالله فى سنة مائتين وثلاث وتسعين.
وحاصل ذلك على ما نقل فى «دائرة المعارف» لابن الوردى أن الخليجى الخارجى واسمه إبراهيم، كان أحد قواد بنى طيلون، وكان فى نواحى مصر تخلف عن محمد بن سليمان من قوادهم أيضا، وذلك لما ولى المكتفى عيسى بن محمد النوشزى على مصر سنة مائتين واثنتين وتسعين، فكتب عيسى إلى المكتفى بالخبر، وكثرت جموع الخليجى وزحف إلى مصر، وخرج النوشزى هاربا إلى الإسكندرية، وملك الخليجى مصر، وبعث المكتفى العساكر مع فاتك، مولى أبيه المعتضد وبدر الحمامى، وعلى مقدمتهم أحمد بن كيغلغ، فى جماعة من القواد، ولقيهم الخليجى على العريش فى صفر سنة مائتين وثلاث وتسعين فهزمهم، ثم تراجعوا وزحفوا إليه، وكانت بينهم حروب فنى
فيها أكثر أصحاب الخليجى وانهزم الباقون، فظفر عسكر بغداد، ونجا الخليجى إلى فسطاط مصر واختفى به، ودخل قواد المكتفى المدينة، وأخذوا الخليجى وحبسوه، فأخبر المكتفى بذلك فكتب بحمله ومن معه إلى بغداد، فبعث بهم فاتك فحبسوا ببغداد. انتهى.
وفى: (تاريخ الجبرتى) من حوادث سنة ألف ومائتين وثلاث عشرة، أن بونابرت سر عسكر الفرنساوية، استولى على مدينة العريش فى توجهه إلى الشام، وكان بها جملة من المماليك، ونحو ألف عسكرى من المغاربة والأرنؤط، فحضر إليهم الفرنسيس الذين كانوا فى المقدمة فى آخر شعبان، وأحاطوا بالقلعة ووقع القتال بين الفريقين، واستمر من بالقلعة يدافعون عن أنفسهم إلى أن حضر بونابرت بجيوشه بعد أيام، فاشتد الحصار فأرسل من بالعريش إلى غزة يستنصرون بهم، فأرسلوا لهم نحو السبعمائة عسكرى وعليهم قاسم بيك أمين البحرين، ولم يتمكنوا من الوصول إلى القلعة، لتحلق الفرنساوية بها وإحاطتهم حولها، فنزلوا قريبا من القلعة فكبسهم عسكر الفرنسيس بالليل، فاستشهد قاسم بيك وجماعة وانهزم الباقون، ولم يزل أهل القلعة يحاربون إلى أن فرغ منهم البارود والذخيرة، فطلبوا عند ذلك الأمان، فأمنوهم، ومن القلعة أنزلوهم، وذلك بعد حصار أربعة عشر يوما، فلما نزلوا على أمانهم، أرسلوا المماليك والكشاف إلى مصر مع الوصية بهم وتخلية سبيلهم، فحضروا مصر فى الخامس والعشرين من رمضان، وأخذوا سلاحهم وخلوا سبيلهم، وأما باقى العسكر الذين كانوا بقلعة العريش، فبعضهم انضاف إلى عسكر الفرنساوية، فأعطوهم جامكية وعلوفة، وجعلوهم بالقلعة مع عساكرهم، والبعض لم يرضوا بذلك فأخذوا سلاحهم وأطلقوهم، ولما ورد إلى مصر خبر نصرة الفرنساوية،
ذهبت طائفة بالبيارق إلى/الجامع الأزهر، وطلبوا الشيخ الشرقاوى، وسلموه تلك البيارق، وأمروه برفعها على منارات الجامع، فنصبوا بيرقين ملونين على المنارة الكبيرة ذات الهلالين، عند كل هلال بيرقا، وعلى منارة أخرى بيرقا، وعند رفعهم ذلك ضربوا عدة مدافع من القلعة.
ثم سار بونابرت إلى الشام يريد فتحها، وفى تسع عشرة من رمضان وصل بعسكره إلى خان يوسف، وفى صبحها دخلوا غزة، واستولوا عليها، وفى الثالث والعشرين منه وصلوا إلى الرملة واستولوا على ما بها من الذخيرة، وفى السادس والعشرين وصلت مقدمتهم إلى يافا، وحاصروها، وفى غرة شوال استولوا عليها بعد محاربات، وأمن من بها من أهل مصر ودمشق وحلب، وأرسلوهم إلى بلادهم سالمين، وقتل من العسكر نحو أربعة آلاف، وأرسلوا بيارقها إلى مصر ورفعوها على الأزهر، بعضها على الباب الكبير فوق المكتب، والبعض على الباب الذى عند حارة كتامة، ثم استولوا على حيفة، ثم حاصروا عكا وقاموا عنها فى شهر الحجة، ثم عادوا إلى مصر ليلة الجمعة غرة المحرم افتتاح سنة أربع عشرة.
وفى شهر رجب من هذه السنة وصل الوزير الأعظم يوسف باشا، وصحبته نصوح باشا إلى العريش وحاصروها، وبعد قليل استولوا عليها فى تاسع عشر الشهر، وقتلوا من بها من الفرنساوية، واستحوذوا على ما كان فيها من الذخيرة والجبخانة وآلات الحرب، وصعد مصطفى باشا الذى باشر الاستيلاء على القلعة مع جملة من العسكر وبعض الأجناد المصرية إلى داخل القلعة، فاتفق أن وقعت نار على مكان بجبخانة البارود المخزون هناك فاشتعلت، وطارت القلعة بما فيها واحترقوا وماتوا وفيهم الباشا المذكور، ومات كثير ممن كان
خارجا عنها وبقربها بما نزل عليهم من النار والأحجار، ولما تحقق الفرنساوية أخذ العريش، وأن العثمانية زاحفون على مصر، تهيأ سر عسكرهم وخرج من القاهرة بجنوده وخيم بالصالحية، وقد كان قبل استيلاء العثمانية على قلعة العريش أرسل إلى سنيت كبير الإنجليز مراسلات؛ ليتوسط بينهم وبين العثمانين فى الصلح، ثم ورد فرمان من حضرة الوزير قبل وصوله لجهة العريش خطابا لجمهور الفرنساوية، باستدعاء رجلين من رؤسائهم وعقلائهم ليتشاوروا معهما على أمر يكون فيه المصلحة للفريقين، فوجهوا إليه من طرفهم بوسليك رئيس الكتاب، وزرت سر عسكر الصعيد، فنزلوا فى البحر على دمياط، وبعد اجتماعهم بالعريش وإجراء اللازم عادوا ومعهم الدفتردار، ورئيس كتاب الوزير لكتب شروط الصلح، فنزلوا بالصالحية وتم عقد الصلح على اثنين وعشرين شرطا، طبعت فى طومار كبير، وورد الخبر إلى القاهرة، وفرح الناس بذلك فرحا شديدا، وأرسل سر عسكر الفرنساوية مكاتبة بصورة الحال إلى قائمقام، فجمع أهل الديوان وقرأ عليهم ذلك، ثم طبعوا منه نسخا كثيرة، وانظر تلك الشروط فى الجبرتى، وقد تعرضنا لها فى كتابنا التاريخ.
وفى رحلة الشيخ عبد الغنى النابلسى بعض بيان للطريق من العريش إلى المحروسة، لا بأس بسوق بعضها، قال: 144 لما دخلنا العريش نزلنا فى مكان عند باب القلعة، وصلينا فى الجامع داخل السور، ثم زرنا قبر الشيخ الدمياطى فى جامع آخر، وهناك فى تلك البلاد مكان مبارك يقال له اليزك - بفتح المثناة التحتية والزاى المعجمة وفى آخره كاف - ويقال إنه متصل بالغار الذى فى بلاد الخليل عليه السلام، وسرنا من العريش إلى أن وصلنا إلى بئر المساعيد - بفتح الميم والسين المهملة وبعدها ألف فعين مهملة فمثناة تحتية فدال
مهملة - وهناك سبيل معمر بجدران الحجر، فاستقينا منه وملأنا الركاوى، ثم سرنا إلى قبر الساعى وهو قبر مشهور هناك، ثم سرنا إلى محل البرقات - بفتح الموحدة والراء المهملة - وهى منزلة من منازل القافلة، فنزلنا هناك وصلينا الظهر، ثم سرنا بلا شر ولا حر ونزلنا فى الغروب بمكان فى البرية، فأكلنا وأطعمنا الخيل، ثم سرنا فى ذلك الطريق الكثير الرمل حتى مررنا على أم الحسن؛ وهو مكان فيه خان متهدم البنيان من قديم الزمان، ثم سرنا إلى مكان يسمى رءوس الأدراب، وفى نصف الليل وصلنا إلى بئر العبد، وهى منزلة من منازل القافلة، قال السيد محمد كبريت فى رحلته:
ثم أتينا بعد بئر العبد
…
فى سفح واد ماله من وفد
وماؤه مر زعاق مالح
…
ولم يكن فيه هواء صالح
ثم سرنا إلى طلوع الشمس، فنزلنا بالفلاة واسترحنا حصة يسيرة، وسرنا حتى وصلنا إلى منزلة قطية، ثم سرنا ومررنا على الرمل الكثير العسير المسمى برمل الغرّابى، قال وذكر المقريزى فى خططه، فى سبب رمل الغرابى أن شداد بن هداد بن شداد بن عاد، عدا إلى أرض مصر، وغلب لكثرة جيوشه على ملك مصر أشمن بن مصر ابن بيصر بن حام بن نوح، وهدم ما بناه هو وآباؤه، وبنى لنفسه أهراما ونصب أعلاما زبر عليها الطلسمات، واختط موضع الإسكندرية، وأقام هناك دهرا إلى أن نزل به وبقومه وباء، فخرجوا من أرض مصر إلى جهة وادى القرى فيما بين المدينة النبوية والشام، وعمروا/الملاعب والمصانع لحبس المياه التى تجتمع من الأمطار والسيول، وكان سعة كل مصنع ميلا فى ميل، وغرسوا النخيل وغيره وزرعوا أصناف الزروعات، وامتدت منازلهم إلى العريش والجفار فى أرض سهلة ذات عيون تجرى وأشجار مثمرة وزروع كثيرة، فأقاموا
بهذه الأرض دهرا طويلا، حتى عتوا وبغوا وتجبروا وطغوا، وقالوا نحن الأكثرون الأشدون قوة الأغلبون، فسلط الله عليهم الريح فأهلكتهم، ونسفت مصانعهم وديارهم حتى سحلتها رملا، فما تراه من هذه الرمال بأرض الجفار بين العباسة حيث المنزلة التى تعرف اليوم بالصالحية، إلى العريش من رمل مصانع العادية وسحالة صخورهم لما أهلكهم الله بالريح ودمرهم تدميرا وإياك وإنكار ذلك لغرابته، ففى القرآن الكريم ما يشهد لصحته، قال تعالى:{وَ فِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ}
(1)
أى كالشيء الهالك البالى، وقيل الرميم: نبات الأرض إذا يبس ودبس، وقيل: الورق الجاف المنحطم مثل الهشيم، والرميم: الخلق البالى من كل شئ.
انتهى.
ثم جئنا إلى بئر الدويدار - بضم الدال المهملة وفتح الواو وياء مثناة تحتية ساكنة وفتح الدال المهملة بعدها ألف وراء - وهو بئر كبير والآن غلب عليه الرمل فردمه، لكن حوله حفر صغار فيها ماء يغلب عليه الملوحة، قال السيد محمد كبريت فى رحلته:
ثم إلى بئر الدويدار الردى
…
جئنا وما أقبحه من مورد
ونزلنا هناك حصة من الزمان نحن ومن معنا، وأكلنا ما تيسر من الزاد، ثم ركبنا وسرنا على بركة الله، ولم نزل فى ذلك الرمل الكثير سائرين إلى أن مررنا على المكان المسمى باللواوين، وهى لوواين كثيرة مثل الصفة الكبيرة، وكل واحد منا بجانبه بركة من الملح، فقطعنا اللواوين ثم بتنا هناك فى البرية، ثم ركبنا فى نصف الليل، فأشرفنا فى الصباح على قرية الصالحية، ولم نزل سائرين إلى أن نزلنا بها فى مزار الولى الصالح الشيخ حسن الليفى الصامت
(1)
سورة الذاريات، الآية 41، 42.
العجمى، ثم سرنا فى الصباح فمررنا على قرية الخطاطر - بفتح الخاء المعجمة والطاء المهملة بعدها ألف وطاء مهملة مكسورة وراء مهملة - وهى قرية عظيمة واسعة كبيرة، بها النخيل الكثير الذى لا يعد ولا يحصى، ثم سرنا إلى أن وصلنا فى وقت الضحوة الكبرى إلى القرين - كزبير - فبتنا هناك، وسرنا فى الصباح حتى مررنا على كفر أبى حماد - بفتح الكاف وسكون الفاء وبالراء - وفيه قبر أبى حماد ولىّ من أولياء الله تعالى، وعلى قبره قبة عظيمة، ثم سرنا حتى وصلنا إلى بلدة بلبيس - بضم الموحدة ولام ساكنة ثم باء موحدة مفتوحة ثم ياء تحتية ساكنة ثم سين مهملة على ما هو المشهور - وقيل غير ذلك (انظر: بلبيس).
ثم سرنا فمررنا بالطريق على قبة بعمارة حسنة، ذكروا لنا أن فيها قبر الشيخ العراقى صاحب كتاب:«السفينة العراقية» وهو المسمى بالشيخ محمد بن عراق، وقد ذكره الشعراوى والمناوى فى طبقاتهما فى ترجمة الشيخ محمد بن المنير، فقال المناوى فى ابن المنير: إنه كان سريع العطب لمن يؤذيه، وقال الشعراوى: كان ابن المنير رضي الله عنه يحمل لأهل المدينة ما يحتاجون إليه من الزاد والسكر والصابون والخيط والإبر والكحل، لكل واحد منهم عنده نصيب، فكانوا يخرجون يتلقونه من مرحلة، وكان سيدى محمد بن عراق ينكر عليه ذلك، ويقول إن هذه الأشياء يحملها من الأمراء وتجار مصر، ولا تخلو من الحرام والشبهات، فبلغه ذلك فمضى إليه حافيا مكشوف الرأس، فلما وصل إلى خلوته بالحرم النبوى قبل القبة ووقف غاضا بصره، وقال: يا سيدى يدخل محمد بن المنير، فلم يرد عليه سيدى محمد بن عراق، فكرر عليه الكلام فلم يرد عليه شيئا، فرجع منكسرا، فلما بلغ ذلك سيدى عليا الخواص، قال: وعزة ربى قتله، وعزة ربى قتله، فجاء الخبر بأن ابن عراق مات بعد خروج الحاج من
المدينة بعشرين يوما، فهذا هو الصحيح أن ابن عراق مات فى المدينة ودفن هناك، ولم يذكر الشيخان ترجمته فى طبقاتهما.
ثم سرنا فمررنا على قبة أخرى يقال إنه دفن فيها الشيخ الولى المشهور بالمنير - بتشديد الياء التحتية - قال الشيخ عبد الوهاب فى (الطبقات): سيدى الشيخ محمد المنير أحد أصحاب سيدى إبراهيم المتبولى، وكان يحج فى كل سنة، ويقدس بعد أن يصل إلى مصر ويقيم شهرا، قال سيدى عبد الوهاب: وأخبرنى رضي الله عنه قبل وفاته أنه حج سبعا وستين حجة، هذا لفظه لى بالجامع الأزهر وهو معتكف أواخر رمضان، وكان رضي الله عنه يكره الكلام فى طريق القوم من غير سلوك ولا عمل، ويقول هذا بطالة، ومكث نحو ثلاثين سنة يقرأ فى النهار ختمة، وفى الليل ختمة، وكانت عمامته من صوف أبيض، مات سنة نيف وثلاثين وتسعمائة.
ثم سرنا إلى أن أشرفنا على بلدة الخانقاه، فبتنا بها واجتمعنا بالفاضل الشيخ عبد اللطيف الكمالى مفتى الشافعية ببلاد الخانقاه، ثم سرنا منها فمررنا فى الطريق بسبيل علام - بتشديد اللام - فصادفنا صديقنا وابن بلادنا حضرة الشيخ عمر القباقبى، الذى هو من دمشق الشام، وقد/خرج من مصر إلى لقائنا، مع جناب صديقنا الشيخ أحمد ابن الشيخ عامر ابن الشيخ نور الدين ابن الشيخ محمد ابن الشيخ قاسم من ذرية سيدى عبد البارى العشماوى - بكسر العين المهملة وسكون الشين المعجمة وفتح الميم بعدها ألف وواو وياء النسبة - صاحب التصنيف فى مذهب الإمام مالك رضي الله عنه، والشيخ أحمد المذكور تابع حضرة الشيخ زين العابدين البكرى، الذى له حكم الولاية فى الخانقاه بطريق التوجيه من جهة السلطنة العلية، فسرنا بعد السلام والتحية، حتى دخلنا إلى بلدة مصر المحروسة،
ذات الربوع العامرة بالخيرات المأنوسة، وكان دخولنا من:(باب الشعرية) فقرأنا الفاتحة للشيخ عبد الوهاب الشعراوى وغيره من الأولياء الصالحين، ثم سرنا إلى دار صديقنا الشيخ زين الدين البكرى الصديقى، فتلقانا بصدره الرحيب، وأجلسنا فى مجلسه المطل على بركة الأزبكية، وتذاكرنا معه فى بعض المسائل العلمية، والمطارحات الأدبية والقصائد الشعرية. انتهى المراد منه.
العرين
بلدة من مديرية الشرقية، هى رأس مركز، وبها المركز، وفيها مجلسان للدعاوى والمشيخة، وفى قبليها على نحو ألف متر خط السكة الحديد الموصل إلى الصالحية، وأبنيتها باللبن الرملى والطينة الصفراء، ويحيط بها برك ماء، وفى غربيها جزيرة رمال، وبها مقبرة لأموات المسلمين، وسوقها كل يوم سبت، وبها مسجدان عامران ودكانان غربى السكة يباع فيهما البقل ونحوه، ونخيلها محيط بها، وأغلب تكسب أهلها من الزراعة المعتادة ومن تمر النخل، وأطيانها ألف وأربعمائة وتسعة وستون فدانا، وأهلها جميعا ستمائة وخمس وأربعون نفسا.
عزبة شلقان
قرية جديدة من مديرية القليوبية، على الشط الشرقى للفرع الشرقى من النيل، تجاه قناطر بحر الشرق من القناطر الخيرية فى جنوب شلقان بنحو ألف ومائتى متر، حدثت بعد سنة سبعين ومائتين وألف، وسبب حدوثها إنشاء القناطر الخيرية، وكان قبل ذلك جملة عزب صغيرة فى محل القلعة السعيدية متفرقة فى ذلك المحل
المسمى برأس الدلتا، فكان منها عزبة بقرب بحر الشرق تعرف بعزبة البحرية لسكنى العساكر البحرية بها، ومنها عزبة كانت بقرب بحر الغرب، وكانت محلات الميرى مثل التيمرخانه (ورشة اصطناع الحديد)، وورشة ضرب الطوب، ووابور الحمرة ومخزن العموم والطواحين، ومخبز العساكر، ومساكن الإفرنج المهندسين والصناع موزعة على الانتظام بين قنطرتى الشرق والغرب، ولكثرة العساكر الشغالة والمستخدمين بها، كان هناك أسواق دائمة يباع فيها جميع ما يلزم للمقيمين بها، ثم فى بعض السنين حصل فى النيل زيادة فائقة، فنشعت محلات السكن بالمياه، وتهدم أغلب تلك العزب، وانتقلت إلى أماكن أخرى بين البحرين أيضا.
ثم فى أول حكم المرحوم سعيد باشا، جرى التصميم على عمل القلعة السعيدية، وجمع لها العمال والعساكر والمستخدمون، فكثرت بتلك العزب الناس والمبانى، وراجت البضائع، وفى شهر ذى الحجة سنة ثلاث وسبعين حضر المرحوم سعيد باشا لمشاهدة العمل، فلما رأى تلك العزب أمر بإزالتها، فهدمت كلها فى يوم واحد، وتشتت سكانها، وتلف كثير من بضائعهم ومبانيهم، وسكن بعضهم عزبة شلقان المذكورة، وكانت صغيرة فاتسعت، وبعضهم سكن بعزبة المناشى، ولم يبق فى داخل الاستحكامات إلا المبانى الميرية، ثم فى سنة أربع وسبعين هدمت أيضا، لتكميل الاستحكامات وما يلزم لها من الخنادق وخلافها.
وفى سنة خمس وسبعين صار البدء فى استحكامات المناشى، وهدمت القرية التى كانت هناك، وانتقل أكثر أهلها إلى عزبة شلقان، فازدادت أهلها وكثرت مبانيها، حتى صارت بلدة كبيرة مشتملة على أسواق وحوانيت وقهاو وخمارات، وصار يوجد بها جميع البضائع، ويأتى إليها أهل البلاد المجاورة لقضاء حوائجهم منها، وترسو عندها المراكب، فيجد المسافرون جميع لوازمهم.
وفى سنة ست وسبعين صدر أمر المرحوم سعيد باشا لمحافظ القلعة وقتئذ سعادة قاسم باشا بنقل عزبة شلقان إلى جهة الجنوب بنحو ثلاثة آلاف متر، وعين لها قطعة أرض من شفلك اللخميين، وأمهل الناس لضرب الطوب وتجهيز اللوازم، فاشتغل كثير منهم بذلك، ثم بعد قليل صدر الأمر برفت جميع العمال من القلعة من بنائين وخلافهم، فبطل العمل وأخذت القرية من حينئذ فى التقهقر، وارتحل منها كثير من سكانها لعدم ما يتعيشون به هناك، فلما جلس الخديوى إسماعيل باشا على تخت هذه الديار، وصدر أمره بتعييننا فى نظارة القناطر الخيرية، وكانت هذه العزبة أخذت فى التلاشى والخراب لقلة الأشغال هناك، لأن أكثر سكانها كانوا أرباب حرف وبياعين، وكان نظار الأقسام يتعدون عليهم بالمظالم، وكان عرفاؤها يسلبون أموال من بها، فمنعنا ذلك كله عنها، ورتبنا لها مشايخ وخفراء، وجعلت إدارتها تابعة لديوان القناطر الخيرية، وجعل على أرض مساكنها حكر يدفع للميرى كل سنة بالعدالة، ضرورة أن هذه الأرض ملك للميرى، وكانت المشايخ والحكام/قبل ذلك يأخذونه لأنفسهم بمحض الظلم، ولحسن موقع تلك القرية، والاحتياج إليها فى مصالح القناطر والعمائر التى هناك، قد استحصلنا من الخديوى إسماعيل باشا على أمر بإعطاء أهلها ثلاثين فدانا إنعاما، يتملكونها ويبنون فيها المساكن برسم عملناه لذلك، وأن لا يتعرض لهم بشئ من مطلوبات المديريات، بل يعاملون معاملة القاهرة ونحوها.
ثم إننا انتقلنا إلى مصالح أخرى، ومكثت حينا لم يبن فيها، ثم من بعد ذلك دخلتها العمارية ثانيا، وكثرت سكانها حتى صاروا ألفين وستمائة وثلاثا وسبعين نفسا ذكورا وإناثا، تكسبهم من التجارة والصنائع، ففيها جملة نجارين وحدادين ونحاتين وبنائين وخبازين
وخياطين وطحانين، وجزارين وبزازين وعطارين وخضرية، ودخاخنية وحلاقين وإسكافية، وقهوجية وخمرجية وغير ذلك، ولها سوق دائم يشتمل على كل شئ مما فى المدن من المأكل والملابس وخلافها، وفيها حوانيت ممتدة على شاطئ البحر بوضع حسن، وشارع متسع معتدل، ولها مينا مزدحمة بالمراكب، ولها سوق كل يوم أحد يؤتى إليه من البرين.
وفى شمال هذه القرية وابور الطوب الجارى فيه العمل للوازم المصالح الميرية وكذا وابور الحمرة، وقبل إحالة مصلحة القناطر علينا، كانت العادة فى عمل الحمرة أن يضرب لها الطوب، ثم يحرق فى كوش بلدية، فكان هذا العمل يحتاج لكثير من الشغالة والزمن، ويلزم له مصاريف جسيمة فأبطلنا ذلك، واكتفينا بحرق الأتربة والقلاقيل الحاصلة من قلب الأرض بالمحاريث، وجعلنا لذلك كوشة بشكل مخصوص لحرقه فيها، فنجح العمل وصار يتحصل من الحمرة أجود وأكثر مما كان يتحصل فى السابق، وبسبب عظمها وقربها من الوابور، كان ناتجها أقل كلفة من الأول، لعدم احتياجه إلى كثرة الشغالة، واستغنى بها عن الكوش القديمة جميعها، وهى الآن المستعملة فى عمل الحمرة، وهى عبارة عن شكل يقرب من خمسة عشر مترا، وعرضه يقرب من نصف الطول، وفى محورى الطول والعرض قناتان يوضع بهما الوقود من الحلفاء والحطب ونحوهما، وحائط القناتين من الطوب اللبن غير الملتحم بعضه ببعض، بل يتخلله فراغ لتتمكن النار بالنفوذ من خلاله إلى الفحم الحجرى المجاور لها الموضوع فى المواضع المتروكة بين أسطر الطوب المفروش به جميع أرض الكوشة، وقد جعلنا الفراغات على خطوط مستقيمة، وجعلنا الفرش ثلاثة صفوف أو أربعة متقاطعة بالتعامد،
فإذا تم ذلك يملأ المجريان بالحطب ونحوه، وتملأ الفراغات بالحجر الفحمى الكبير، ثم تعقد المجارى بطوب من غير بناء، ويوضع التراب على حالته التى جاء عليها من الغيط على طبقة قدرها ثلث متر بالتساوى، ويوضع الفحم فوق سطوح المجارى فقط، ثم تغطى الأتربة بطبقة من الفحم الناعم بقدر اثنين سنتيمترا، وبعد ذلك يوضع فوق الجميع طبقة من التراب، وفوقها طبقة من الفحم الناعم، وهكذا بالتساوى فى جميع الطبقات، حتى يبلغ ارتفاع الكوشة خمسة أمتار.
ومن اللازم الضرورى أن تجعل أوجه الكوشة من الخارج مائلة إلى الداخل، بحيث تكون بعد تمامها فى صورة هرم ناقص، قاعدته العليا أصغر من السفلى، وتلك الأوجه تبنى من القلاقيل الكبيرة بالانتظام، وكذلك ظهرها بحيث ترى مستوية، وإذا بلغ ارتفاع الكوشة نحو مترين أوقدت فيها النار من أبواب المجارى، فيشتعل الوقود، ويصل اللهب إلى الفحم، فتسرى النار فى جميع جرمها، وحينئذ تهتم الشغالة برص طبقات التراب والفحم إلى أن تبلغ إلى الارتفاع المطلوب، ثم يدلكون سطحها الأعلى بالطين فتصير كلها مدلوكة، وتقفل أبواب المجارى وتترك بنارها ترعى فيها خمسة عشر يوما، ثم يبرد سطحها، وتظهر فيه علامات الاستواء، فتفتح وتؤخذ إلى الوابور، وقد عمل من هذا النوع كوش بلغ مكعبها ثلاثة آلاف متر، وتحتاج إلى ثلاثين يوما فى الرص والحريق والتبريد، ويلزم لها من الشغالة قريب من مائة نفس.
عزبة عبد الرحمن
قرية صغيرة من مديرية الدقهلية بمركز دكرنس، فى شرقى البحر الصغير بمسافة نحو ألف وأربعمائة قصبة، وعنها ثلاثة تلول:
واحد فى جهتها الغربية على بعد خمسمائة قصبة يعرف بالتل الأحمر، مساحته تقرب من خمسين فدانا، به شجر يشبه شجر الغيلان، له ثمرة تشبه حب المرجان فى القدر واللون، وطعمه حلو، تسميه العرب حب المصع - بميم وصاد وعين مهملتين - وفى هذا التل دوار وشفلك للدائرة السنية.
والثانى: فى جهتها البحرية على بعد ستمائة قصبة، ارتفاعه نحو خمسة عشر مترا.
والثالث: فى جهتها البحرية على بعد تسعمائة قصبة، يعرف بتل البلاصين، ارتفاعه نحو اثنى عشر مترا، وبها جامع، وتكسب أهلها من زرع الأرز والقطن والحبوب.
عزبة المناشى
قرية فى بر الجيزة غربى النيل، أصغر من عزبة شلقان، وسميت بذلك لقربها من قرية المناشى الواقعة فى جنوب محور القناطر الخيرية بنحو ثمانمائة متر، وهى مستجدة أيضا مع عزبة/شلقان، وسبب أحداثها هو ما ذكر فى عزبة شلقان، وفيها أرباب حرف وصنائع وتجار ومزارعون، وعندها مرسى للمراكب، ولها سوق دائم وسوق عمومى كل يوم خميس، ويوجد فيه ما يحتاج إليه من حنطة وشعير وفول، وجبن وسمن، وفواكه وخضر ولحم بأنواعه، وقماش وعقاقير ومواش وغير ذلك، حتى الجلة التى يوقد بها، وعدد أهلها الآن نحو ألف نفس، وما جرى لعزبة شلقان من الخراب ثم العمار جرى لهذه، بل هذه كانت قد انتقل أهلها عنها بالمرة، ثم عادوا إليها.
العزيزية
- بفتح العين وكسر الزاى الأولى وياء ساكنة وزاى - خمس قرى بمصر منسوبة إلى العزيز بن المعز الذى كان متغلبا على مصر، منها: العزيزية والعزيزية كلتاهما بالشرقية، والعزيزية والسلنت - بفتح السين وتشديد اللام وسكون النون والتاء - فى ناحية المرتاحية، والعزيزية فى السمنودية، والعزيزية فى الجيزة، انتهى من:(مشترك البلدان).
فإحداها من مركز القنيات بمديرية الشرقية، على الشاطئ الغربى لبحر مويس، فى شرقى ناحية الولجة بنحو ألفين وثلثمائة متر، وفى الجنوب الغربى لمنية القمح بنحو ثمانية آلاف متر، ويقال لها عزيزية القصور، وبها سوق على بحر مويس، يشتمل على حوانيت وقهاو، وبها منزل مشيد لعمدتها حسنين نصر، وبها مكاتب أهلية ومساجد عامرة، أشهرها مسجد أبى عامر له منارة، وبها عدة مصابغ ومعمل فراريج، وفيها نخيل وأشجار وسواق، وفى قبليها مقام ولىّ يقال له إدريس الرفاعى، وبها أرباب حرف وتجار ومجلسا دعاوى ومشيخة، وسوقها كل يوم خميس، وأطيانها ثلاثة آلاف وأربعمائة وتسعون فدانا، وجملة أهلها ثلاثة آلاف وثلاث وتسعون نفسا، وقد نشأ منها المحدث الكبير والعلامة الشهير الشيخ على العزيزى.
ترجمة الشيخ على العزيزى
قال فى: «خلاصة الأثر» : هو الشيخ على العزيزى البولاقى الشافعى، كان إماما فقيها محدثا متقنا ذكيا سريع الحفظ، بعيد النسيان مواظبا على النظر والتحصيل، كثير التلاوة سريعها، متوددا متواضعا كثير الاشتغال بالعلم محبا لأهله، خصوصا أهل الحديث،
حسن الخلق والمحاضرة مشارا إليه فى العلم، شارك النور الشبراملسى فى كثير من شيوخه، وأخذ عنه واستفاد منه، وكان يلازمه فى دروسه الأصلية والفرعية وفنون العربية، وله مؤلفات كثيرة نقله فيها يزيد على تصرفه، منها:«شرح على الجامع الصغير للسيوطى» فى مجلدات، و «حاشية على التحرير» للقاضى زكريا، و «حاشية على شرح الغاية لابن قاسم» فى نحو سبعين كراسة، وأخرى على شرحها للخطيب، وكانت وفاته ببولاق فى سنة سبعين وألف، وبها دفن رحمه الله تعالى، وفى الجبرتى أن الشيخ على بن على بن على بن على - أربع مرات - ابن مطاوع العزيزى الشافعى الأزهرى أه.
ترجمة الشيخ محمد بن عبد ربه العزيزى
وفيه أيضا أن منها العلامة الشيخ محمد بن عبد ربه بن على العزيزى اشتهر بابن الست، ولد سنة ست عشرة وقيل ثمان عشرة ومائة وألف، وسبب تسميته بابن الست، أن والدته كانت سرية رومية اشتراها أبوه وأولدها إياه، وكان قد تزوج بحرائر كثيرة فلم يلدن إلا الإناث، حتى قيل إنه ولد له نحو ثمانين بنتا، فاشترى أم ولده هذا، فولدته ذكرا ففرح به كثيرا، ورباه فى عز ورفاهية، وقرأ القرآن مع الشيخ على العدوى فى كتاب واحد، فلذلك اعتشر بالمالكية وصار مالكى المذهب، وتفقه على الشيخ سالم النفراوى، واللقانى، والشبراملسى، وسمع على الشيخ عبد الله بن على النمرسى (المسلسل بالأولية) وأوائل الكتب الستة. وسنن النسائى الصغرى المسماة بالمجتبى، والمسلسل بالمصافحة والمشابكة والسبحة وغير ذلك، وأخذ عليه أيضا منلا عصام على السمرقندية، وشرح رسالة الوضع، وشرح الجزرية وغير ذلك، وأخذ المعقول عن الشيخ
أحمد الملوى، والشيخ عبده الديوى، والشيخ الأطفيحى، والخليفى، وأخذ طريق الشاذلية عن الشيخ أحمد الجوهرى، والشيخ الملوى، وهما أخذاها عن سيدى عبد الله بن محمد المغربى القصرى الكنكسى، وكان المترجم لا يتداخل فى أمور الدنيا، ولا يتفاخر فى ملبس، ولا يركب دابة، ولا يدخل بيت أمير، ولا يشتغل بغير ذكر الله والعلم ومدارسته، وصنف:«حاشية على الزرقانى على العزية» وهى مستعملة بأيدى الطلبة، و «ديباجة وخاتمة على أبى الحسن على الرسالة» ، و «خاتمة على شرح الخرشى» ، و «ديباجة على إيساغوجى فى المنطق» ، و «حاشية على الحفيد على العصام» ، و «تكملة على العشماوية» ، و «شرحا على آية الكرسى» ، و «شرحا على الخوصية فى التوحيد» ، ولم يزل مقبلا على شأنه حتى توفى فى سنة تسع وتسعين ومائة وألف عن أربع وثمانين سنة، انتهى.
ومما قيل فيه وفى حاشيته على الزرقانى:
حاشية للفاضل ابن الست
…
هل تدرى معنى لفظة ابن الست
معناه هل من عالم يشبهه
…
فى جهة من الجهات الست
العزيزية والسلنت
قرية من مديرية الدقهلية بمركز نوسا الغيط، على الشاطئ الشرقى لبحر طناح، وغربى منية/الأكراد بنحو ثلاثة آلاف متر، وفى جنوب ناحية منية خيرون بنحو ألف وخمسمائة متر.
العزيزية ويقال لها: العجيزية
قرية من مديرية الغربية بمركز سمنود، على الشاطئ الغربى لترعة الساحل فى شرقى شبرى ملس بنحو سبعمائة متر، وفى
جنوب منية هاشم بنحو ألف ومائتى متر، وبها جامع بمئذنة، ويتبعها كفر صغير.
العزيزية، ويقال لها: العجيزية، أيضا
قرية من مديرية الجيزة بقسم ثان، فى شمال منية رهينة بنحو ألف وخمسمائة متر، وفى الجنوب الغربى للحوامدية بنحو ألفين وتسعمائة متر، وبدائرها نخيل كثير.
ولعل الخامسة هى العزازية المعروفة بكفر عزازى أو كفر عزاز من قرى الشرقية، وستأتى فى حرف الكاف.
العسيرات
- بالتصغير مع سكون التحتية - هى عبارة عن عدة قرى من قسم المنشأة بمديرية جرجا، أعظمها أولاد حمزة وأولاد جبارة، كلاهما على الشاطئ الغربى للنيل، وباقيها منتشر إلى الجبل الغربى فى حدود ناحية العرابة، بينها وبين جرجا نحو ساعة وربع، وأبنيتها كأبنية الأرياف، ما خلا منازل أعيانها فإنها مشيدة ذات غرف وقصور، وأكبرهم وأكثرهم شهرة بل أشهر أعيان بلاد جرجا بيت أبى فواز، فإنهم عائلة موسومة بالكرم، لكن لهم عتو زائد وغلظ قلب، وكان منهم عبد الله أغا ناظر قسم زمن العزيز محمد على، وقد نزل عنده العزيز مرة، وكذلك المرحوم سعيد باشا نزل عند ابنه إبراهيم، وكان للمرحوم عبد الله منزلة عند سر عسكر إبراهيم باشا. وقد رتب له أرضا يزرعها قمحا لخاصته، فكل سنة يرسل منها القمح للخاصة، وكانت قمحة بيضاء تعرف بقمحة الذكر اليوسفى، لها عرق عظيم عند العجن يشبه عرق اللبان، وكانت لا توجد إلا عنده، وقد كثرت الآن فى مديرية جرجا وأسيوط.
ومن عتوّ عبد الله أبى فواز أنه كان يضرب ديك الفراخ البلدى بالعدة والكرابيج، ثم يأمر به إلى المطبخ، ويضرب الناس ألوف الكرابيج بلا سبب، وذلك أنه كان كثير السكر لا تخلو دماغه منه، وهكذا أكثر هذه العائلة، يستعملون الشراب والخلاعة، إلا أن لهم كرما زائدا بحيث يبيت عندهم المئات من الفقراء والأعيان، ولهم مطبخ خارج المنزل له طباخ من الرجال، وفى مدة إبراهيم بن عبد الله كان من اللزوم أن يبيت خروف محمر زائد عما يؤكل فى العشاء، حرصا على ما عسى أن يطرقهم ليلا من الضيفان. وبالجملة فلم يكن عندهم من الخصال الحميدة إلا إطعام الطعام، وربما كان هذا رياء وسمعة، لكن منهم الآن شيخ العرب إسماعيل بن أبى رحاب بن عبد الله، نشأ على مكارم الأخلاق والصلاح والتقوى، وملازمة الأذكار والأوراد، يحب العلماء والصالحين، له سمت حسن وجمال وجلال وسماحة وفصاحة.
عشما
قرية من مديرية المنوفية من أعمال منوف، بحرى ترعة السحيمية على نحو خمسمائة وستين مترا، وبينها وبين طنتدا نحو أربع ساعات، وأبنيتها باللبن والآجر وأكثرها أرض، وبها جامع قديم رممه الحاج على شعير سنة عشرين ومائتين وألف، وهو من عائلة مشهورة فيها من عدة أجيال يقال لها عائلة أولاد شعير.
ومنهم الآن: السيد أفندى شعير، ومحمود أفندى شعير، ومحمد محمد شعير، وحسن أفندى شعير، ومحمد أفندى بدوى شعير، وأحمد حسين شعير، وترقى منهم: محمد بك شعير إلى رتبة قائمقام، ثم صار رئيس المجلس المحلى بمديرية المنوفية، وعلى بك شعير برتبة بيكباشى، ولهم فيها قصور مشيدة، وجنان منها جنينة فى قبليها نحو خمسة وعشرين فدانا، وجنينة فى بحريها نحو سبعة
أفدنة، فيها نخيل ورمان وتفاح، وسفرجل وخوخ ولوز وخرنوب وبرتقال وبرقوق، والورد بأنواعه والفل والياسمين، وحصى اللبان وغير ذلك، وفى داخل الجنينة ثلاثة كشكات حواليها الرياحين، ومفروشة بالفرش النفيسة، وفيها أيضا ثلاث مضايف مشهورة، وأهلها مسلمون وعدتهم ذكورا وإناثا نحو ألف وأربعمائة نفس، وأطيانها ألف وأربعمائة واثنان وثمانون فدانا، كلها مأمونة الرى، جيدة المتحصل، ويزرع بها صنف القطن والمزروعات المعتادة، وفيها أربع سواق معينة عذبة الماء، وبها جياد الخيل والبغال والحمير والأنعام، وليس لها سوق.
وفى: (حاشية السفطى على ابن تركى شرح العشماوية) فى مذهب مالك أنها قرية كثيرة الخصب، وقيل أن بعض الصحابة دعا لأهلها بالبركة، وأن منها الإمام العالم الربانى الشيخ عبد البارى العشماوى، صاحب:(متن العشماوية)، وهو متن صغير كثير النفع فى مذهب مالك، وفى الجبرتى: الشيخ الفقيه المحدث المسند محمد ابن حجازى العشماوى الشافعى الأزهرى، تفقه على الشيخ عبده الديوى، والشهاب أحمد بن عمر الديربى، وسمع الحديث على الزرقانى، وبعد وفاته أخذ الكتب الستة عن تلميذه الشهاب أحمد بن عبد اللطيف المنزلى، وانفرد بعلو الإسناد، وأخذ عنه غالب فضلاء عصره، توفى يوم الأربعاء الثانى والعشرين من جمادى الأولى سنة سبع وستين ومائة وألف، وقد رثاه الشيخ حسن الإدكاوى بقصيدة وهى:
/ما بين حرقة أدمعى وتولهى
…
نار يؤججها لهيب تولهى
وحشاشة ذابت وقلب كلما
…
وجهته للصبر لم يتوجه
يا حسرتى والبين صال ومقلتى
…
فى حندس الغفلات لم تتنبه
حتى أباد القطب شمس الدين من
…
من بعده العلماء لم تتفوّه
يا أمة الإسلام يا أهل الهدى
…
علماؤه من مبتدأ ومنتهى
قد مات عشماويكم تبا لمن
…
بالمجد عن ثوب التأسف ينتهى
يا حزن دم يا دهر سم رتب التقى
…
من بعده وافعل بها ما تشتهى
يا أرض مدى يا سماء تشققى
…
يا شمس نوحى يا نجوم تأوهى
يا أعين الفضلاء فى روض له
…
من بعده بالله لا تتنزهى
من بعده للترمذى ومسلم
…
أو للبخارى الصحاح الأوجه
مات التقى والزهد معه قد انطوى
…
فى قبره من رامه لم يشبه
يا رب عوض فيه ملة أحمد
…
خيرا به يا من إليه توجهى
فالشافعى نادى ليوم مصابه
…
أواه ضاع مذاهبى وتفقهى
يا روحه فى جنة الفردوس من
…
نعم الإله تنعمى وتفكهى
فى روضة أرّخته بجواره
…
لمحمد مهما أحب ويشتهى
127 122 86 11 - 731
سنة 1167 هـ
وفى: (تاريخ الجبرتى) أن أهل قرية عشما كانوا قد خرجوا عن طاعة الفرنسيس، وقاموا على عساكرهم مع عدة بلاد، وذلك فى زمن فتنة مصر التى قتل فيها شيخ طائفة العميان الشيخ سليمان الجوسقى والشيخ أحمد الشرقاوى والشيخ عبد الوهاب الشبراوى وغيرهم، وكان ذلك فى شهر جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة من القرن الثالث عشر، فجهز الفرنساوية طائفة من المغاربة الذين بالفحامين بواسطة عمر القلقحى، وجعل رئيسهم عمر المذكور، وسيروهم إلى جهة بحرى لقتال هؤلاء العصاة، فضربوا عشما، وقتلوا كبيرها المسمى بابن
شعير، ونهبوا داره ومتاعه ومواشيه، وكان شيئا كثيرا جدا، وقتلوا إخوته وأولاده، ولم يتركوا منهم إلا ولدا صغيرا جعلوه شيخا عوضا عن أبيه. انتهى.
العطف
- بفتح أوله وسكون ثانيه - قرية صغيرة فى مأمورية بلاد الأرز من مديرية البحيرة، موقعها فى شمال فم المحمودية على بعد ألف وخمسمائة متر، وبها منزل مشيد لعمدتها عباس الركابى، وسوقها:
(سوق المحمودية) يوم الاثنين، وفى جنوبها فم ترعة الإتكاوية من جهة شمال المحمودية، وعليها كفر صغير يسمى كفر مليط، به أماكن منتظمة أغلبها على دورين بالآجر والمونة، وفم الخليج الناصرى القديم واقع بينها وبين ترعة الإتكاوية، وللآن تشاهد جوانبه مرتفعة عن أرض المزارع نحو مترين، وفم مقطع حلق الجمل واقع فى شمال العطف على بعد ألفى متر، وكان انقطاعه فى طارئ البحر على عهد المرحوم العزيز محمد على باشا، ولم يمكن سده إلا بعد مضى سنتين، ورمى فيه جملة من المراكب والأحجار، ومن شدة جريان الماء فيه وقت الزيادة استبحر واتصل بكوم الغرف الواقع فى البرية على بعد ثمانية آلاف متر من العطف، وأكل منه جانبا، فاستخرج منه كثير من الطوب الأحمر أخذ فى بناء المحمودية والأشوان التى كانت بها للميرى، وكذلك استخرج منه جملة من أحجار الطواحين والمعاصر، وهى الآن موجودة بفمه، ولم يزل مرور القوارب ببحيرة إتكو جاريا عند زيادة النيل، لأجل صيد السمك لأن العادة أنه يخرج
/كثيرا مع خروج النيل، ثم إن هذه القرية قد أخذت من الشهرة طرفا بالأمير على بن سليمان، فإنه منها نشأ وإليها ينتسب كما فى:«الدرر المنظمة فى أخبار الحج وطريق مكة المعظمة» ، وقد ترجمه فقال: هو الأمير على بن سليمان بن جويلى بن سليمان، من أعيان مشايخ بنى عونة بإقليم البحيرة، وهو ولد عم الأمير عيسى بن إسماعيل شيخ عرب الإقليم، حج فى عام اثنين وخمسين وتسعمائة زمن ولاية الأمير المرحوم أيدمر الرومى، وحج بصحبته ولده سليمان، وهو أكبر أولاده وأشهرهم، وكانت أولاده الذكور نيفا وثلاثين ولدا، كلهم فرسان خيل، وغالبهم حسان الأشكال، بيض الوجوه كالترك، فلما حج فى هذه السنة عم الحج برا وخيرا.
وكانت تلك السنة شديدة المشاق على الوفد، من الغلاء وموت الإبل، وفقد المأكولات والعليق بالرجعة حتى بيعت كل عليقة بالرجعة يوم حضور الملاقاة بستة عشر نصفا كبيرة، والرطل البقسماط أو الدقيق بنصف ولا يكاد يوجد، ويقاس على ذلك، وأما موت الجمال ففحش جدا، حتى مشت النساء والصبيان، فشمر الأمير على المشار إليه عن ساعد جده واجتهاده، وهيأ للوفد غاية ما يجده من استعداده، وصار هو وولده سليمان فى ساقة الركب، لحمل المريض والمنقطع وما عساه أن يرمى بالساقة من حمل التجار والحجاج، سواء كان غنيا أو فقيرا، قويا أو ضعيفا، وصحب معه من الشقادف لحمل الفقراء نحو بضع وعشرين جملا، وعم المحتاجين بتفرقة الزاد والماء صباحا ومساء، بحيث أنه حصل بوجوده فى الركب تلك السنة غاية النفع والخير، وكان نفعه فيها عاما بواسطة تلك المشاق التى اتفق حصولها للوفد.
قال: وقد ذكر لى من لفظه أنه بحمد الله خص بعدم موت شئ من جماله، فلم يحصل الفرد من أفرادها موت ولا ضرر مطلقا، ورجعت بالسلامة دون غيرها من الجمال ببركة أفعاله السديدة وأثر نيته الحميدة، التى نواها لأهل الركب أثابه الله تعالى، ثم قال: ولنا به صحبة وإقامة فى منزله فى القرية المعروفة بالعطف، غربى فوة من أقاليم البحيرة مدة تزيد على خمسين يوما متوالية، وله همة عالية ومكارم سديدة مرضية وافية، أربى فيها على من تقدمه فى السفر إلى مكة، من أعيان مشايخ إقليمه وأقاربه، فإنه كان بصحبته فى تلك السنة قريبه المدعو تركى من أولاد عامر، فلم يحصل منه نفع لأحد مطلقا.
العفادرة
قرية بمديرية أسيوط من قسم الشروق، شرقى النيل وقبلى الشامية على ربع ساعة منها، بها نخيل وأشجار، ومسجد جامع وجنينة وقصر مشيد، كلاهما للأمير الخطير سعادة عبد اللطيف باشا، وله هناك أبعادية وبها جنائن أخر صغيرة، وتكسب أهلها من الزرع.
العقال
قرية بجوار الجبل الشرقى بقسم بوتيج من مديرية أسيوط، فى جنوب البدارى، وفى شمال رياينة أبى أحمد، فيها مساجد عامرة ونخيل وأشجار، وأبنيتها من أحسن أبنية الأرياف، لخصوبة أرضها، وجودة محصولها، ويسار أهلها، وتمر بقربها ترعة قاو التى فمها من بحرى ناحية قاو، تقطع جسر العقال بقنطرة فى غربيها، حتى تصب
فى حوض البدارى، طولها يقرب من خمسة آلاف قصبة، وللناحية جملة كفور متفرقة؛ منها كفر على شاطئ البحر يقال له: كفر العقال، وكفر يقال له: نزلة علام، فيه بيت عمدتها المرحوم عبد العال العقالى على شاطئ البحر، وكان صاحب ثروة وزراعة كثيرة، وقد أحسن إليه الخديوى برتبة قائمقام بعد وقعة قاو، لما جمع أهل بلده ومنعهم من العصيان مع من عصى، بل قام بهم مع العساكر على العصاة، فحظى بالقبول إلى أن توفى سنة سبع وثمانين ومائتين وألف، وترك أولادا منهم عمدة الناحية الآن وأملاكا كثيرة وقصورا مشيدة، وبنى جامعا فاخرا، ومنزلهم عامر إلى الآن.
وسبب تلك الوقعة رجل من الصعيد الأعلى يزعم أنه شريف جعفرى، ويتسمى بأحمد الطيب، وإنما هو الشقى، كان يتردد على هذه الجهة والأهالى تعتقده، واجتمع عليه كثير من الناس وأعطوه العهود على أنفسهم بالطاعة، فكانت طاعتهم معصية وصلاحهم فسادا ونصرهم للدين إذلالا، وذلك أنه أتت إليه ذات يوم أمة مسلمة مملوكة لبعض نصارى قاو، تشكو إليه أن سيدها يريد وطأها وهى ممتنعة منه، فأحضر النصرانى وخيره بين بيعها وعتقها منعا للحرمة، فامتنع النصرانى وأصر على تملكها، فلم يحسن الشيخ التدبير وأخذها جبرا من النصرانى وآذاه، وهم بسلب أمواله، فرفع النصرانى الشكوى للحكومة، فطلب حاكم الجهة الجارية من الشيخ فامتنع من تسليمها، فتوجه إليه ناظر القسم، فلم يعبأ به، وازداد فى أذى النصارى، وأظهر عدم المبالاة بالحكومة، واجتمع عليه كثير من أهل بلاد الشرق، فجاءه مدير جرجا وأسيوط ورفاعة أغا صنجق الأربعمائة، ومعهم بعض
عساكر وعرب، فرفعوا عليهم السلاح ونصبوا رايات الحرب، وجعل من جماعته سر عسكر وضباط، كترتيب الجهادية، وأغراهم الحمق والسفه إغراء كثيرا، فتعين عليهم الأمير شاهين باشا بشرذمة قليلة من العسكر، ومعهم بعض مدافع، وبوصولهم إلى هناك ضربوهم بمدفع مزقهم كل ممزق، وقتل الشيخ وكثير من جماعته شر قتلة، ونفى كثير منهم إلى البحر الأبيض، وخربت قاو والرياينة والشيخ جابر والنطرة، وتفرقت نساؤهم وذراريهم فى البلاد، وسلبت أموالهم، ومات كثير منهم فى الجبال، ثم أدركتهم المراحم الخديوية فعفا عمن بقى منهم، فرجعوا إلى أوطانهم، ورد إليهم ما بقى من أموالهم، وذكرنا من ذلك طرفا فى الكلام على قرية قاو.
العلاقمة
موقع هذه القرية على البر الشرقى من فرع أبى الأخضر، قبلى ناحية الصوالح/بنحو ألف وتسعمائة متر، وهى رأس مركز بمديرية الشرقية، وفى قبليها قنطرة على بعد ألف وخمسمائة متر، وهى ذات نخيل وأشجار متنوعة، وبها ديوان المركز، ومجلسه ومجلس الدعاوى والمشيخة ومساجد ومكاتب أهلية وأضرحة لبعض الصالحين، وارتفاع أرضها عن أرض المزارع نحو مترين، وبها سوق كل أسبوع، يباع فيه المواشى وخلافها، وزمام أطيانها ثلاثة آلاف وثلثمائة وثلاثة أفدنة، وعدد أهلها ألف نفس وستة، وتكسبهم من الزرع، ويزرع بها صنف الدخان كثيرا.
ترجمة العلامة الشيخ حسن بن حرمى العلقمى الشافعى
وينسب إليها كما فى: «الضوء اللامع» للسخاوى حسن بن أحمد ابن حرمى بن مكى بن فتوح، بدر الدين أبو محمد ابن الشهاب أبى العباس بن المجد العلقمى القاهرى الشافعى، والد البهاء محمد، ولد بالعلاقمة قبيل السبعين وسبعمائة وقدم القاهرة، فحفظ القرآن والعدة والمنهاج وألفية ابن مالك وغيرها، وعرض فى سنة إحدى وثمانين فما بعدها على الأبناسى، وابن الملقن، والكمال الدميرى وأجازوا له، وأخذ الفقه عن البلقينى، والقراءات عن الفخر البلبيسى إمام الأزهر، وكذا أخذ عن موسى الدلاصى، وناب فى القضاء عن الصدر المناوى فمن بعده بالقاهرة وغيرها، وكان ناظر الأوقاف، وعرف بالرئاسة والحشمة، مات فى سادس عشر رجب سنة ثلاثة وثلاثين وثمانمائة بالقاهرة عن نحو من خمس وستين، وكان حسن العشرة والأخلاق بساما، رحمه الله تعالى. انتهى.
عنيبس
- بعين مضمومة ونون مفتوحة ومثناة تحتية ساكنة وموحدة مكسورة وسين - بلدة من قسم طهطا بمديرية جرجا، واقعة فى جنوب طهطا الغربى على أقل من ساعة، وفى شرقى السوهاجية بأقل من ذلك، أبنيتها من الآجر واللبن والطين، على تلول مرتفعة يظهر أنها آثار بلدة قديمة، ونخيلها فى جوانبها، وفيها بيت مشهور للمرحوم إبراهيم يوسف العنيبسى، كان ناظر قسم زمن العزيز محمد على، وكان معروفا بالمكر والخداع وسوء الطوية، وكان رأس صف الصوامعة فى زمن الفتن التى كانت قائمة فى البلاد، فكانت بلاد طهطا
صفين، صف الصوامعة وصف الوناتنة، وكان رئيس هذا الصف السيد عبد الرحمن عمدة أم دومة، فكانت الحكام ترسل الحاج إبراهيم وأمثاله للإصلاح بين البلاد، فيتعصب مع قومه فى الباطن، ثم مات قبل سنة ستين وترك ابنا أسود مثل العبد، فنشأ من غير تربية وساءت سيرته، واتهم فى قتيل ممن كانوا يلوذون به، فطردته الحكومة، وحكمت بنفيه، ثم مات ولم يعقب ذكورا، ولم يعلم له عاصب، إنما قام بعض أهل بلده وادعى العصوبة له، وجرى على إثبات ذلك مدة عند الحكام والقضاة حتى أثبت نسبه، والآن منزله يسكنه أزواج بناته من أولاد الدقيشى من ناحية نزة.
ثم اشتهر بعده بيت الحاج إبراهيم المزيكى فى جهتها الغربية، وبنى أبنية حسنة، وكان رجلا حسن الأخلاق، وقد مات وترك إخوته وأولاده وعمدتها الآن منهم، وفيها مساجد عامرة وقليل من أبراج الحمام، وأكثر أهلها مسلمون، وتكسبهم من الفلاحة، ويزرع بأرضها صنف الفول بكثرة، ويزرع بها الثوم والكزبرة والكمون، ويمر عليها الجسر العمود الذى بين طارئ السوهاجية وطارئ البحر الكبير، ويقال له جسر عنيبس.
العونة
قرية صغيرة من مديرية أسيوط بقسم الشروق، على شاطئ البحر الأعظم، بحرى قرية الساحل بربع ساعة، وبها جامع وكنيسة للأقباط، وتكسب أهلها من الزرع.
عيذاب
- بعين مهملة مكسورة فمثناة تحتية ساكنة معجمة فألف فموحدة - كما فى (القاموس)، وفى:(تقويم البلدان) لأبى الفداء أنها بفتح العين، وكذا فى ابن خلكان، قال: وهى بليدة على شاطئ بحر جدة، يعدّى منها الركب المصرى المتوجه إلى الحجاز على طريق قوص فى ليلة واحدة فى أغلب الأوقات، فيصل إلى جدة، وفى:«درر الفرائد المنظمة فى أخبار الحاج وطريق مكة المعظمة» أنها مدينة على ساحل بحر جدة، غير مسوّرة، أكثر بيوتها الأخصاص، وفيها الآن بناء مستحدث بالجص، وهى من أجلّ مراسى الدنيا، بسبب أن مراكب اليمن والهند تحط فيها وتقلع منها، زيادة على مراكب الحجاج الصادرين والواردين، وهى فى صحراء لا نبات فيها ولا يؤكل بها شئ إلا المجلوب، لكن أهلها يرتفقون بالحجاج والتجار، ولهم على كل حمل طعام يحملونه ضريبة معلومة خفيفة المؤنة، وما من أهلها ذوى اليسار إلا من له الجلبة (السفينة) والجلبتان، تحمل الحجاج ذهابا وإيابا فهى تعود عليهم برزق واسع، وفى بحر عيذاب مغاص على اللؤلؤ فى جزائر قريبة منها، يستخرج منه جوهر نفيس له قيمة سنية، يذهبون إلى تلك الجزائر فى الزوارق، ويقيمون فيها، فيعودون
بما قسم لهم لكل واحد منهم، بحسب حظه من الرزق، والمغاص بها قريب القعر ليس ببعيد، ويستخرجونه فى أصداف لها أرواح كأنها نوع من الحيتان، أشبه شئ بالسلحفاة، فإذا انشقت ظهرت الشفتان من داخلها، كأنهما محارتا فضة، ثم يشقون عليها فيجدون بها الحبة من الجوهر قد غطاها لحم الصدف، فيجتمع لهم/من ذلك بحسب الحظوظ.
وعيذاب لا رطب فيها ولا يابس، عيشهم بها عيش البهائم، فسبحان محبب الأوطان إلى أهلها، على أنهم أقرب إلى الوحش منهم إلى الإنس، والركوب من جدة إليها آفة للحجاج عظيمة، والأقل منهم من يسلم؛ وذلك أن الرياح تلقيهم على الأكثر فى مراسى بصحار يتعدى منها مما يلى الجنوب، فتنزل إليهم البجاة؛ وهم نوع من السودان ساكنون بالجبال، فيكترون منهم الجمال، ويسلكون بهم غير طريق الماء، فربما هلك أكثرهم عطشا، وأخذوا ما معهم من نفقة وسواها، ومن الحجاج من يتعسف تلك المجهلة على قدميه، فيضل ويهلك عطشا، والذى يسلم منهم يصل إلى عيذاب فى أسوأ حال.
وجلاب هذا البحر لا يستعمل بها مسمار البتة، إنما هى مخيطة بأمراس من قشر جوز الهند المسمى بالترجيل، ويخللونها بدسر من عود النخل، فإذا فرغوا من إنشاء الجلبة على هذه الصفة سقوها بالسمن أو بدهن الخروع، وبدهن القرش - وهو أحسنها - والقرش حوت عظيم فى البحر يبتلع الغرقى، وإنما يدهنون الجلاب لتليين عودها وترطيبها لكثرة الشعاب المعترضة فى هذا البحر.
وأخشاب هذه الجلاب مجلوبة من الهند واليمن، وشراعها حصر منسوجة من خوص شجر المقل، فجميعها متناسبة فى اختلاف البنية ووهنها، فسبحان مسخرها على تلك الحال، ولأهل عيذاب فى الحجيج أحكام الطواغيت، لأنهم يشحنون المراكب بهم حتى يجلس بعضهم على بعض كأنها أقفاص الدجاج المملوءة حرصا على الكراء، حتى يستوفى صاحب الجلبة ثمنها فى مرة واحدة، ولا يبالى بصنع البحر فيها.
وأهل عيذاب الساكنون بها طائفة من البجاة، ولهم سلطان من أنفسهم، يسكن معهم فى الجبال المتصلة بها، وربما جاء فى بعض الأحيان وقابل الوالى الذى من جانب الغز إظهارا للطاعة، وطائفة البجاة أضل من الأنعام سبيلا، وأقل عقولا، لا دين لهم سوى كلمة التوحيد، ووراء ذلك من مذاهبهم الفاسدة ما لا ينحصر، وهم عراة يسترون عوراتهم بخرق. انتهى، نقله صاحب كتاب:«درر الفرائد» عن ابن جبير، أحد فضلاء المغرب من غرناطة، من رحلة رحلها من مصر إلى عيذاب، وقد تقدم الكلام على البجاة مبسوطا فى (حرف الباء).
وغرناطة - بفتح الغين المعجمة وسكون الراء وفتح النون وبعد الألف طاء مهملة ثم هاء - مدينة بالأندلس كما فى ابن خلكان عند ترجمة القاضى عياض، وقال فى كتاب:(الدرر) أيضا نقلت عن هذا الفاضل المغربى الغرناطى من رحلته التى رحلها من مصر الفسطاط إلى عيذاب، ثم ركب البحر منها إلى ساحل جدة، جملة مما يتعلق ببيان طرقات هذه المسافة ومياهها ومراحلها.
وملخص ذلك أنه قال: كان انفصالنا من مصر الفسطاط، وصعودنا فى النيل على الصعيد قاصدين إلى قوص، يوم الأحد ثالث المحرم سنة تسع وسبعين وخمسمائة، والقرى فى طريقنا متصلة فى شاطئ النيل، وكذا البلاد الكبار، ثم وصف البلاد وبعض القرى فيما بين الفسطاط وقوص، وقال: كان مقامنا فى النيل ثمانية عشر يوما، ودخلنا قوص فى التاسع عشر، وهى محط الرحال ومجمع الرفاق، وملتقى الحجاج المغاربة والمصريين ومن يتصل بهم، ومنها يتوجهون بصحراء عيذاب، وإليها انقلابهم من الحج، قال: وبرزنا منها بعد قضاء مآربنا من زاد وسواه إلى المبرز؛ موضع بقبلى البلد قريبا منه، فسيح الساحة محدق به النخيل، فيه الحاج والتجار ويوزن به ما يحتاج إلى وزنه على الحمالين، ويرحلون منه إلى موضع يعرف بالحاجر تبيت القافلة به، ومنه إلى موضع يعرف بقلاع الضياع، وكان المبيت بموضع يعرف بمحطة اللقيطة، كل ذلك فى صحراء لا عمارة بها، ثم رحلنا غدوة فنزلنا على ماء يعرف بالعبدين؛ يذكر أنهما ماتا عطشا فيه قبل أن يردا فسمى ذلك المحل بهما، وقبراهما به، والإقامة به لتزوّد الماء ثلاثة أيام، وسرنا بصحراء ينبت فيها العشب حيث يحن النيل، والقوافل صادرة وواردة، والمفازة مغمورة بالأمن ثلاثة أيام بلياليها، وينزل يوم الرابع على ماء يعرف بماء برقاش، وهى بئر معينة، يرد فيها من الأنام والأنعام ما لا يحصيهم إلا الله سبحانه وتعالى، ولا يسافر فى هذه الصحراء إلا بالإبل لصبرها على الظمأ، وأحسن ما يركب عليه ذو الرفاهية الشقاديف، وأحسن أنواعها
اليمانية؛ وأكثر المسافرين يركبون الإبل على أحمالها فيكابدون من سموم الحر عناء ومشقة.
والمقصد من قوص إلى عيذاب على طريقين:
أحدهما: يعرف بطريق العبدين وهى المشروحة، وهى أقصر مسافة.
ولها طريق أخرى دون قرية على شاطئ النيل تسمى مرقة، وتجتمع هاتان الطريقان بالقرب من ماء برقاش المذكورة، ولها مجتمع آخر على ماء يعرف بساعب، أمام ماء برقاش بيوم، والإقامة ببرقاش يوم وليلة للتزود من الماء، ويرحل منه إلى ماء ساعب، وهذا الماء من حفائر تحفر، ويسقى منها، يتزود منها الماء لثلاثة أيام، إلى ماء بموضع يعرف بأمتان، وهناك طريق آخر إلى ماء بموضع آخر يعرف بالحميثرى، بينه وبين ساعب يوم واحد، غير أن الطريق إليه وعر للإبل، وماء أمتان المذكورة من بئر/معينة، وهو أطيب مياه الطريق وأعذبها، فتروى القوافل النازلة عليها على كثرتها، لما فيها من البركة، مع كثرة القوافل التى لو وردت نهرا من الأنهار لما وسعها لا سيما الواصلة من الهند إلى اليمن، ومن اليمن إلى عيذاب، وأكثر ما شهدنا أحمال الفلفل وأنها لتوازى التراب قيمة، وأعجب ما شوهد بهذه الصحراء أنك ترى أحمال الفلفل والقرفة وسائر السلع مطروحة لا حارس لها، تترك بهذه السبيل إما لإعياء الإبل الحاملة لها، أو لغير ذلك من الأعذار، فتبقى فى موضعها إلى أن يتسلمها صاحبها مصونة من الآفات، على كثرة المار عليها من أنواع الناس.
ورحلنا من أمتان إلى محل ماء يعرف بمجاج قريب من الطريق، وتزودنا الماء منه لأربعة أيام إلى ماء بموضع يعرف بالعشراء على مسافة يوم من عيذاب، ومن هذه المرحلة نسلك الوضح، وهى رملة تتصل بساحل بحر جدة يمشى فيها إلى عيذاب، وهى فيحاء مد البصر يمينا وشمالا، فرحلنا من مجاج سالكين الوضح إلى أن سرنا بآخر الوضح نحو ثلاث مراحل من عيذاب، ومنها إلى العشراء، وهو مورد ماء ومنه إلى عيذاب مرحلتان، وبهذا الموضع كثير من شجر العشر، وهو شبيه بشجر الأترج لكن لا شوك له، وماء هذا الموضع ليس بخالص العذوبة، وهو فى بئر غير مطوية، وألفيت الرمل قد انهال عليها وغطى ماءها، ومنها إلى منزلة تعرف بماء الحبيب، وهو موضع بمرأى العين من عيذاب، وعلى ميلين منها، وماؤه فى بئر معينة وهو جب كبير تستقى منه القوافل وأهل البلد.
وكان نزولنا فى عيذاب بدار تعرف بمريح، دار أحد قوادها، فكانت إقامتنا بها ثلاثة وعشرين يوما فى سوء حال وعيش ردئ، واختلال من الصحة لقلة الغذاء والهواء الحار الذى يذيب الأجسام، وما ظنك ببلاد كل شئ فيها مجلوب حتى الماء، والحلول بها من أعظم المكاره التى حف بها السبيل إلى البيت العتيق، ويذكرون أن سليمان بن داود عليه السلام كان اتخذها سجنا للفراعنة، وكان المسير من عيذاب فى البحر يوم الثلاثاء والريح مختلف، فدخلنا مرسى جدة يوم الثلاثاء القابل، فالمسافة ثمانية أيام. انتهى ما ذكره فى رحلته مع اختصار.
ومدينة عيذاب فى محل مدينة بيرنيس القديمة، التى وضعها بطليموس فيلودو الفرس على البحر الأحمر، بينها وبين القصير القديم ألف وثمانمائة غلوة كما فى البيريل، وقد تقدم الكلام عليها فى (حرف الباء)، وفى صحرائها يوجد معدن الزمرد ومعدن النحاس، وقد بسطنا الكلام على ذلك فى (حرف الصاد) مع بعض ما يتعلق بعيذاب، وفى:«تقويم البلدان» لأبى الفداء: قد اختلف فى عيذاب، فبعضهم يحد ديار مصر على وجه تدخل فيه وهو الأشبه، لأن الولاية فيها من مصر، وهى من أعمال مصر حقيقة، وبعضهم يجعلها من بلاد البجاة، وبعضهم يجعلها من بلاد الحبشة، وهى فرضة لتجار اليمن والحجاج الذين يتوجهون من مصر فى البحر، فيركبون من عيذاب إلى جدة، قال ابن سعيد: وعرض البحر بين عيذاب وجدة درجتان، وهى أشبه بالضيعة منها بالمدن. انتهى.
ترجمة ابن قلاقس
وفى تاريخ: «وفيات الأعيان» للقاضى أحمد بن خلكان أن ابن قلاقس الشاعر توفى بعيذاب سنة سبع وستين وخمسمائة، وكانت ولادته بثغر الإسكندرية سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة، وهو أبو الفتوح نصر الله بن عبد الله بن مخلوف بن على بن عبد القوى بن قلاقس اللخمى الأزهرى الإسكندرى القاضى الأعز، كان شاعرا مجيدا وفاضلا نبيلا، ومن شعره قصيدة قصد بها القاضى الفاضل عبد الرحيم مجير الدين بن الأشرف بهاء الدين، أولها:
ما ضر ذاك الريم أن لا يريم
…
لو كان يرثى لسليم سليم
وما على من وصله جنة
…
أن لا أرى من صده فى جحيم
أغيد ما همت به روضة
…
أعل جسمى لا كون النسيم
وكان كثير الحركات والأشعار، وفى ذلك يقول:
والناس كنز ولكن لا يقدر لى
…
إلا مرافقة الملاح والحادى
وفى آخر وقته دخل بلاد اليمن، وامتدح بمدينة عدن أبا الفرج ياسر بن أبى الندى صاحب بلاد اليمن، فأحسن إليه وأجزل صلته، وفارقه وقد أثرى من جهته، فركب البحر فانكسر المركب به، وغرق جميع ما كان معه بجزيرة الناموس قرب دهلك، فعاد إليه وهو عريان، وأنشده قصيدته التى أولها:
صدرنا وقد نادى السماح بنا ردوا
…
فعدنا إلى مغناك والعود أحمد
وهى من القصائد المختارة، ثم أنشده قصيدة يصف بها غرقه، أولها:
سافر إذا حاولت قدرا
…
سار الهلال فصار بدرا
/والماء يكسب ما جرى
…
طيبا ويخبث ما استقرا
وبنقلة الدرر النفي
…
سة بدّلت بالبحر نحرا
يا راويا عن ياسر
…
خبرا ولم يعرفه خبرا
اقرأ بغرة وجهه
…
صحف المنى إن كنت تقرا
والئم بنان يمينه
…
وقل السلام عليك بحرا
وغلطت فى تشبيهه
…
بالبحر فاللهم غفرا
أو ليس نلت بذا غنى
…
جما ونلت بذاك فقرا
وله فى جارية سوداء:
رب سوداء وهى بيضاء معنى
…
نافس المسك عندها الكافور
مثل حب العيون يحسبه النا
…
س سوادا وإنما هو نور
ومحاسن ابن قلاقس نادرة، ودخل صقلية وكان بها بعض القواد يقال له أبو القاسم بن الحجر، فاتصل به وأحسن إليه، وصنف له كتابا سماه:(الزهر الباسم فى أوصاف أبى القاسم) وأجاد فيه، وقلاقس - بقافين الأولى مفتوحة والثانية مكسورة وبينهما لام ألف وفى آخره سين مهملة - جمع قلقاس وهو معروف.
قال: ويعدّى من عيذاب إلى جدة فى ليلة واحدة غالبا، ومنها إلى مكة - حرسها الله - مسافة يوم. وبجدة قبر أم البشر حواء رضي الله عنها، وهو ظاهر يزار. انتهى.
وذكر ابن بطوطة فى سياحته أن فى طريق عيذاب بمنزلة حميثرى قبر الولى الشيخ أبى الحسن الشاذلى، فإنه قال: أخبرنى الشيخ ياقوت الحبشى، عن شيخه أبى العباس المرسى، أن الشيخ أبا الحسن الشاذلى كان يحج فى كل سنة، فيجعل طريقه على صعيد مصر، ويجاور بمكة شهر رجب وما بعده إلى انقضاء الحج، فيزور القبر الشريف، ويعود على الدور الكبير إلى بلده، فلما كان فى بعض السنين - وهو آخر سنة خرج فيها - قال لخديمه: استصحب فأسا وقفة وحنوطا وما يجهز به الميت، فقال له الخديم: ولماذا يا سيدى، فقال له: إلى حميثرى سوف ترى؛ وحميثرى بصعيد مصر فى صحراء عيذاب منزل به عين ماء زعاق، وهى كثيرة الضباع، فلما بلغ حميثرى اغتسل الشيخ أبو الحسن وصلى ركعتين، وقبضه الله عز وجل فى آخر سجدة من صلاته ودفن هناك، قال ابن بطوطة: وقد زرت قبره وعليه قبة مكتوب فيها اسمه ونسبه متصلا إلى الحسين بن على رضي الله عنهما. انتهى.
ترجمة الشيخ أبى الحسن الشاذلى
وفى كتاب: (المفاخر العلية فى المآثر الشاذلية) لابن عباد أن أبا الحسن الشاذلى هو شيخ الطريقة ومعدن الحقيقة الشريف الحسيب النسيب، ذو النسبتين الطاهرتين الروحية والجسمية، كريم العنصرين المحمدى العلوى الحسنى الفاطمى، المربى الكامل أبو الحسن على الشاذلى بن عبد الله بن عبد الجبار بن تميم بن هرمز بن حاتم بن قصى بن يوسف بن يوشع بن ورد بن أبى بطال على بن أحمد بن محمد بن عيسى بن إدريس بن عمر بن إدريس، المبايع له ببلاد المغرب، ابن عبد الله بن الحسن المثنى، ابن سيد شباب أهل الجنة، وسبط خير البرية أبى محمد الحسن ابن أمير المؤمنين على ابن أبى طالب كرم الله وجهه، ابن فاطمة الزهراء بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولد بقرية غمارة من إفريقية، قريبة من بستة، وهى من المغرب الأقصى فى نحو ثلاث وتسعين وخمسمائة من الهجرة، وكانت وفاته رضي الله عنه فى شهر شوال عام ست وخمسين وستمائة، وعمره ثلاث وستون سنة، ودفن بحميثرى فى برية عيذاب من الديار المصرية. قال رضي الله عنه: لما وصلت فى سياحتى إلى الديار المصرية، وسكنت بها، قلت: يا رب أسكنتنى بلاد القبط أدفن بينهم، فقيل لى: يا على تدفن فى أرض ما عصيت عليها قط، قال سيدى ماضى بن سلطان: لما توجه الشيخ فى سفرته التى توفى فيها، قال:
احملوا معكم فأسا ومسحاة، فإن توفى منا أحد واريناه التراب، ولم يكن لنا بذلك عادة متقدمة فى جميع ما سافرنا معه، فكان ذلك إشارة لموته، وفى ليلة وفاته جمع أصحابه وأوصاهم بأشياء، وقال لهم: إذا أنا مت فعليكم بأبى العباس المرسى، فإنه الخليفة من بعدى، وبات
متوجها إلى الله تلك الليلة، يقول: إلهى إلهى حتى قرب الفجر فسكت، فظننا أنه نام، فكلمناه فلم يتكلم، فحركناه فوجدناه ميتا، رحمه الله تعالى، فاستدعينا سيدى أبا العباس المرسى، فغسله وصلينا عليه ودفناه بحميثرى فى واد على طريق الصعيد.
وكانت له مكاشفات وكرامات أشهر من أن تذكر، وقد لبس خرقة التصوف من الشيخ أبى عبد الله محمد ابن الشيخ أبى الحسن على المعروف بابن حرازم، ومن أبى عبد الله عبد السلام بن بشيش وغيرهما، وأجل مشايخه سيدى عبد السلام بن بشيش، وعلى يديه كان فتحه، وإليه كان ينتسب إذا سئل عن شيخه، وبشيش - بالباء الموحدة - ابن/منصور بن إبراهيم الحسنى ثم الإدريسى، من ولد إدريس بن عبد الله بن حسن المثنى بن الحسن السبط، ومقامه بالمغرب كالشافعى بمصر، واشتهر فى المغرب بمشيش، وهو من إبدال الحرف بأخيه، وفى (الطبقات) عن أبى العباس المرسى أن الشيخ عبد السلام بن مشيش رضي الله عنه مات مقتولا، قتله ابن أبى الطواجن ببلاد المغرب. انتهى.
وكان سيدى أبو الحسن الشاذلى رضي الله عنه آدم اللون، نحيف الجسم، طويل القامة، خفيف العارضين، طويل أصابع اليدين كأنه حجازى، فصيح اللسان عذب الكلام، كان يقول إذا استغرق فى الكلام:
ألا رجل من الأخيار، يعقل عنا هذه الأسرار، هلموا إلى رجل صيره الله بحر الأنوار، وكان يقول: أخذت ميراثى من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلو أن الجن والإنس يكتبون عنى إلى يوم القيامة لكلوا وملوا.
ومما قيل فى مدحه:
أما الإمام الشاذلى طريقه
…
فى الفضل واضحة لعين المهتدى
فانقل ولو قدما على آثاره
…
فإذا فعلت فذاك آخذ باليد
وقال بعضهم:
تمسك بحب الشاذلى ولا ترد
…
سواه من الأشياخ إن كنت ذا لب
فأصحابه كالشمس زاد ضياؤها
…
على النجم والبدر المنير من الحب
وقال آخر:
تمسك بحب الشاذلى فإنه
…
له طرق التسليك فى السر والجهر
أبو الحسن السامى على أهل عصره
…
كراماته جلت عن الحد والحصر
انتهى باختصار من كلام طويل.
وقد ترجمه الشعرانى فى طبقاته، وذكر جملة وافرة من كلامه وحكمه، وقال إن شاذلة - بالشين والذال المعجمتين - قرية من إفريقية. ثم قال: وقد أفرده ابن عطاء الله وتلميذه أبو العباس بالترجمة، وها أنا أذكر لك ما ذكره فيها فأقول: قد ترجم رضي الله عنه فى كتاب: (لطائف المنن): سيدى الشيخ أبا الحسن رضي الله عنه بأنه قطب الزمان والحامل فى وقته لواء أهل العيان، حجة الصوفية، علم المهتدين، زين العارفين، أستاذ الأكابر، زمزم الأسرار، ومعدن الأنوار، القطب الغوث الجامع أبو الحسن على الشاذلى رضي الله عنه، لم يدخل طريق القوم حتى كان يعد للمناظرة فى العلوم الظاهرة، وشهد له الشيخ أبو عبد الله النعمان بالقطبانية، جاء رضي الله عنه فى هذه الطريق بالعجب العجاب، وكان الشيخ تقى الدين بن دقيق العيد رضي الله عنه يقول: ما رأيت أعرف بالله من الشيخ أبى الحسن الشاذلى رضي الله عنه، ومن كلامه رضي الله عنه: عليك بالاستغفار وإن لم يكن هناك ذنب، واعتبر باستغفار النبى صلى الله عليه وسلم بعد البشارة واليقين بمغفرة ما تقدم من ذنبه وما تأخر، هذا فى معصوم
لم يقترف ذنبا قط وتقدس عن ذلك، فما ظنك بمن لا يخلو عن العيب والذنب فى وقت من الأوقات، وكان رضي الله عنه يقول: إذا عارض كشفك الكتاب والسنة فتمسك بالكتاب والسنة، ودع الكشف، وقل لنفسك: إن الله تعالى قد ضمن لى العصمة فى الكتاب والسنة، ولم يضمنها لى فى جانب الكشف والإلهام ولا المشاهدة، مع أنهم أجمعوا على أنه لا ينبغى العمل بالكشف ولا الإلهام ولا المشاهدة إلا بعد عرضه على الكتاب والسنة. وكان يقول: من أحب أن لا يعصى الله تعالى فى مملكته فقد أحب أن لا تظهر مغفرته ورحمته، وأن لا يكون لنبيه صلى الله عليه وسلم شفاعة، وكان يقول: إذا لم يواظب الفقير على حضور الصلوات الخمس فى الجماعة فلا تعبأن به. وكان يقول:
ليس هذا الطريق بالرهبانية، ولا بأكل الشعير والنخالة، وإنما هو بالصبر على الأوامر واليقين فى الهداية، وكان يقول: من لم يزدد بعلمه وعمله افتقارا لربه وتواضعا لخلقه فهو هالك .. إلى آخر ما قال.
انظر: (الطبقات) فإن فيها من حكمه رضي الله عنه العجب العجاب.
***
طرف من سياحة ابن بطوطة
ولنورد هنا طرفا من سياحة ابن بطوطة لما فيها من الفوائد الجمة، قال: اكترينا الجمال من إدفو فى أعلى الصعيد، واجتزنا النيل منها إلى قرية العطوانى، وسافرنا إلى عيذاب مع طائفة من العرب تعرف بدعيم، فى صحراء لا عمارة بها خمسة عشر يوما، وفى بعض منازل طريقها نزلنا بحميثرى حيث قبر الولى أبى الحسن.
ثم وصلنا مدينة عيذاب، وأهلها من البجاة، وهم قوم سود الألوان، ولا يورثون البنات شيئا، وكان إذ ذاك ثلثا متحصل مدينة عيذاب لملك البجاة، ويقال له: الحدرى، والثلث لملك مصر الناصر، وكان ملك البجاة قدم إليها لحرب الأتراك، فانهزموا أمامه وأحرقوا المراكب، وحصلت فتن بين البجاة والترك، وتعذر سفرنا منها لجدة، فعدت مع العرب إلى صعيد مصر إلى قوص، وانحدرت منها فى النيل إلى أن وصلنا إلى مصر، فبت بها ليلة، وقصدت بلاد الشام فى شعبان سنة ست وعشرين وتسعمائة، فوصلت مدينة بلبيس ثم إلى الصالحية، ودخلت منها إلى الرمال، ومن/منازلها السواد والواردة وقطية والمطيلب والعريش والخروبة ورفح، وبكل منزل فندق يسمونه الخان ينزل به المسافرون بدوابهم، وبه سانية الماء وحانوت يشترى منه المسافر ما يحتاج إليه لنفسه ودابته، ثم أنه ذكر فى كتاب سياحته أيضا جملة من المواضع المشهورة والمشاهد المأثورة، كقبور بعض الأنبياء والصالحين وموالدهم ومنازلهم ونحو ذلك، حيث قال ما ملخصه:
إن بمدينة الخليل عليه الصلاة والسلام الغار المقدس فى مسجدها، وبه قبر إبراهيم وإسحق ويعقوب وزوجاتهم عليهم الصلاة والسلام، وفى طريق القدس قبر يونس عليه الصلاة والسلام، وفى مدينة عسقلان كان المشهد الشريف لرأس الحسين بن على رضي الله عنهما قبل أن ينقل إلى مصر، وفى مدينة الرملة الجامع الأبيض، يقال إن فى قبلته ثلثمائة من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مدفونون، وقبر أمين هذه الأمة أبى عبيدة بن الجراح فى واد بين جبلين، يقال له الغور فى الطريق بين عجلون وعكا، وفى هذا الطريق قرية يقال لها:
القصير، بها قبر معاذ بن جبل رضي الله عنه، وبمدينة عكا قبر نبىّ الله صالح عليه الصلاة والسلام، وبمدينة طبرية فى مسجدها المعروف بمسجد الأنبياء قبر النبى شعيب عليه الصلاة والسلام، وقبر ابنته زوج الكليم موسى، وقبر نبىّ الله سليمان عليهما الصلاة والسلام، وبالقرب منها جب يوسف عليه الصلاة والسلام.
ومن قرية بيروت يسافر إلى زيارة قبر يعقوب أبى يوسف الذى يزعمون أنه من ملوك الغرب، وهو بجهة تعرف بكرك نوح، وعليه زاوية بناها السلطان صلاح الدين بن أيوب، وبخارج مدينة حمص قبر خالد بن الوليد رضي الله عنه، وبمعرة النعمان بخارجها على نحو فرسخ منها قبر أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، وبمدينة حلب مشهد يقال إن إبراهيم الخليل كان يتعبد به، ويقال لها حلب لأن الخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان يسكنها، وكانت له غنم يسقى الفقراء ألبانها، فكانوا يجتمعون ويقولون حلب إبراهيم، فسميت بذلك. وبظاهر أنطاكية نهر العاصى، وبها قبر حبيب النجار، وبمدينة جبلة قبر الولى الصالح إبراهيم بن أدهم، وبمدينة دمشق جامع بنى أمية، بناه أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك بن مروان، وبمقبرة دمشق بين باب الجابية والصفير قبر أم حبيبة زوج النبى
صلى الله عليه وسلم وأخيها معاوية، وقبر بلال مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقبر أويس القرنى، وقيل إن قبره ببرية لا عمارة فيها بين المدينة والشام، وقيل: قتل بصفين مع على رضي الله عنهما، وبظاهر دمشق على طريق الحاج مسجد الأقدام، به حجر فيه أثر قدم موسى عليه السلام، وهم يعظمون هذا المسجد ويتضرعون به عند الشدائد، وبجبل قاسيون شمال دمشق الغار الذى ولد فيه إبراهيم عليه السلام.
وببلاد العراق قرية يقال لها: برصه بين الحلة وبغداد، ويقال إن مولد إبراهيم كان بها، وفى آخر جبل قاسيون الربوة ذات القرار، والمعين: مأوى المسيح عليه السلام، وبه مغارة الدم، دم هابيل بن آدم عليه الصلاة والسلام، وهو الموضع الذى قتله أخوه به، ويقال إن قبر على رضي الله عنه بمدينة مشهد على من بلاد العراق، وهى مدينة حسنة، وأهلها كلهم رافضة، ولا حاكم بها إلا نقيب الأشراف، وأهلها تجار كرام أهل شجاعة، والروضة مشيدة البناء مزينة بالنقوش والفرش وقناديل الذهب والفضة، ولها خزانة عظيمة بيد النقيب، لأن النذور من سائر البلاد تجئ إليها. ومن مرض أو أهمه شأن نذر لها فيجدون بركة ذلك، وليلة المحيا عندهم فى السابع والعشرين من رجب، يجتمع الناس لها من الأقطار، يأتى لها من فارس وخراسان وكرمان والعراق كل مقعد، فيجتمع منهم العشرون والثلاثون، فيجعلونهم فوق الضريح بعد العشاء، والناس ينتظرون برأهم وقيامهم، وهم بين مصل وراكع وذاكر وداع، فإذا كان وقت نصف الليل يقومون كلهم صحاحا من غير سوء، وهذا الأمر مستفيض عندهم، وقبر الولى الصالح العارف بالله تعالى سيدى أحمد الرفاعى بقرية من قرى العراق، يقال لها: أم عبيدة، على مسافة يوم من مدينة واسط، قال: وبعد مجلس الذكر بعد العصر كان فقراء الرواق أعدوا أحمالا
كثيرة من الحطب وأججوها نارا عظيمة، ودخلوا فى النار، منهم من يأكل منها، ومنهم من يتمرغ فيها، ومنهم من يدوسها حتى أطفؤوها.
وقال: وقد اتفق لى ببلاد الهند أنى كنت ببلد، فقدم على تلك البلد جماعة من الفقراء الحيدرية، بأيديهم وأعناقهم أطواق من حديد، كبيرهم رجل أسود كالح اللون، فطلبوا منى أن أقول لوالى البلد أن يأتيهم بالحطب ليؤججوا النار للدخول إليها فى السماع، فقلت له فأتاهم بعشرة أحمال حطب، أججوها نارا، ولما أخذوا فى السماع صاروا يرقصون ويتمرغون فيها حتى أطفؤوها، وطلب منى كبيرهم قميصا فأعطيته قميصا فى النهاية من الرقة، فلبسه وجعل يتمرع به فى النار، ويضربها بأكمامه حتى طفئت، ثم جاء إلىّ بالقميص والنار لم تؤثر فيه.
وبمدينة البصرة مسجد على بن أبى طالب، وكان بواسطها، وهو /الآن على ميلين من عمرانها، يصلون به الجمعة، ثم يغلق إلى الجمعة الآتية، وبه المصحف العثمانى الذى كان عثمان يقرأ فيه عند قتله، وبها قبر الزبير بن العوام رضي الله عنه وطلحة بن عبيد الله وحليمة السعدية وأبى بكرة وأنس بن مالك رضى الله تعالى عنهم.
وبمدينة شيراز مشهد أحمد بن موسى أخى الرضى، وهو مشهد عظيم لديهم، وبه تربة الإمام القطب الولى الشيخ أبى عبد الله بن خفيف، وهو قدوة بلاد فارس كلها، ومشهده له عندهم أشد تعظيم، ويؤتى إليه بالنذور من سائر بلادها.
وفى مدينة كازرون الواقعة على مسيرة يومين من شيراز قبر الشيخ أبى إسحق الكازرونى نفع الله تعالى به، وهو معظم عند أهل
الهند والصين، ومن عادة بحر الصين أن ركابه إذا اختلفت عليهم الريح أو خافوا لصوص البحر نذروا لأبى إسحق نذرا، فإذا وصلوا بالسلامة يأتيهم أناس من خدام زاوية الشيخ يطلبون ذلك منهم.
وفى مدينة الزيديين الواقعة بعد مدينة كازرون قبر زيد بن ثابت، وقبر زيد بن أرقم من الأنصاريين صاحبى الرسول صلى الله عليه وسلم.
وفى مدينة الحلة - وهى مدينة كبيرة مستطيلة مع الفرات، أهلها إمامية اثنا عشرية - مسجد على بابه ستر حرير مسدول يقولون له:
مسجد صاحب الزمان، يقولون: إن محمد بن الحسن العسكرى دخل هذا المسجد وغاب فيه، وبمدينة كربلاء مشهد الإمام الحسين رضي الله عنه، وهو من المشاهد العظيمة، وأهل البلد إمامية اثنا عشرية.
وبمدينة بغداد قبر الإمام الأعظم أبى حنيفة رضي الله عنه، وعليه زاوية ومسجد، وبالقرب منه قبر الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه، وقبر الشبلى والسرى السقطى وبشر الحافى وداود الطائى وأبى القاسم الجنيد من أئمة الصوفية.
وبمدينة سامرا مشهد لصاحب الزمان عند الرافضة.
وبقرب مدينة الموصل مدينة نينوى العتيقة بلد النبى يونس بن متى على نبينا وعليه الصلاة والسلام.
وبخارج مدينة ظفار مسجد يقال أن به قبر النبى هود عليه السلام، وعلى مسيرة نصف يوم منها الأحقاف منازل قوم عاد.
وبين مدينة ظفار وعدن فى البر مسيرة شهر فى صحراء، وبينها وبين حضرموت ستة عشر يوما، وبينها وبين عمان عشرون يوما،
ومدينة ظفار فى صحراء منقطعة لا قرية فيها ولا عمارة لها، وهى قذرة منتنة كثيرة الذباب، لكثرة ما يباع بها من السمك والتمر، وعلف دوابهم وغنمهم من السمك، ولم أر ذلك فى سواها، ودراهمهم من النحاس والقزدير، وبها التنبول: والنرجيل، وهما لا يكونان إلا بالهند.
والتنبول شجر يعرش كما تعرش دوالى العنب، ويجعل له معرشات من القصب كالدوالى، ويغرس بقرب النرجيل فيعرش عليه، ولا ثمر للتنبول، وإنما المقصود منه ورقه، وهو يشبه ورق العليق، وأطيبه الأخضر، وتجتنى أوراقه فى كل يوم، وأهل الهند يعظمونه تعظيما شديدا، وإذا قدم أحدهم على الآخر فأعطاه خمس ورقات منه فكأنما أعطاه الدنيا خصوصا إن كان المعطى من الأمراء، وإعطاؤه عندهم أعظم من إعطاء الذهب والفضة.
وكيفية استعماله أن يؤخذ قبله الفوفل، وهو يشبه جوز الطيب، فيكسر قطعا صغارا، ويجعل فى الفم ويعلك، ثم يؤخذ ورق التنبول فيجعل عليه شئ من البورق ويمضغ مع الفوفل، وخاصيته أنه يطيب النكهة ويذهب روائح الفم، ويقطع ضرر شرب الماء على الريق، ويفرح آكله، ويعين على الجماع.
والنرجيل: هو جوز الهند، وشجره من أغرب الأشجار شأنا، وهو شبه النخل، لا فرق بينهما، وتثمر النخلة منه اثنى عشر عذقا فى السنة، يخرج فى كل شهر عذق، فترى على الشجرة بعضها صغيرا وبعضها كبيرا، وبعضها يابسا وبعضها أخضر، هكذا أبدا، وجوزه يشبه رأس ابن آدم؛ لأن فيه شبه العينين والفم، وداخلها شبه الدماغ إذا كانت خضراء، وعليها ليف شبه الشعر، وهم يصنعون منه حبالا يخيطون منها المراكب عوضا عن مسامير الحديد.
وفى بعض جزائر أهل الهند يتجرون فى غزل ليفه المسمى عندهم بالققبرى - بفتح القاف الأولى وسكون الثانية وفتح الموحدة والراء - فإنهم يدبغون الليف بالماء فى حفر على الساحل، ويضربونه بالمدارى حتى ينعم، ويغزلونه رفيعا، ويبرمون منه الحبال؛ فتخاط بها المراكب بالهند والصين واليمن، وهى خير من القنب، ويكون فى المراكب عوضا عن مسامير الحديد، ويصنعون منه الحبال الكبار للمراكب، والجوزة منه خصوصا بجزيرة زبية المهل قدر رأس الآدمى، وعادة أهل هذه الجزيرة أنهم لا يكتبون على الكاغد إلا المصاحف وكتب العلم، وأما الرسائل والأوامر والصكوك فيكتبونها على سعف نخل النرجيل بحديدة معوجة كالسكين، ويزعمون أن حكيما من حكماء الهند فى غابر الزمان كان متصلا بملك الهند ومعظما لديه، وكان بينه وبين الوزير معاداة، فقال للملك: إن رأس هذا الوزير إذا قطع ودفن يخرج منه نخلة تثمر بثمر عظيم يعود نفعه على أهل الهند ومن سواهم، فقال له الملك: وإن لم يظهر من رأسه ما ذكرت، فقال: اصنع برأسى مثل رأسه، فأمر الملك بقطع رأس الوزير، فأخذه الحكيم وغرس نواة تمر فى دماغة، وعالجها حتى صارت شجرة، وأثمرت بهذا الجوز. قال/ابن بطوطة: وهذه الحكاية من الأكاذيب، وإنما ذكرتها لشهرتها عندهم، ومن خواص هذا الجوز تغذية البدن، وإسراع السمن وتحمير الوجه، وأما الإعانة على الباه فأمره فيها عجيب، ومن عجائبه أنه يصنع منه الحليب والزيت والعسل.
فأما صناعة العسل فإنهم يقطعون العذق الذى يخرج منه الثمر، ويتركون منه قدر إصبعين يقطر فيه ما يسيل من ماء العذق، ويجمعونه مساء وصباحا كذلك، ثم يطبخونه كطبيخ عقيد العنب، فيصير عسلا مقويا شديد الحلاوة، ويصنعون منه الحلواء.
وأما صناعة الحليب فإنهم يفتحون من الجوزة طرفا، ويصبون فى صحفة ما ينزل منها، ثم يكشطون بحديدة ما بقى بالجوزة لاصقا، ويمرسون كل ذلك مرسا جيدا، فيصير كاللبن لونا وطعما ويأتدمون به.
وأما صناعة الزيت فإنهم يأخذون الجوز بعد نضجه وسقوطه عن شجره، فيزيلون قشره ويقطعونه قطعا، ويجعل فى الشمس، فإذا ذبل طبخوه فى القدر واستخرجوا زيته، وبه يستصبحون ويأتدمون.
وفى مدينة قونية قبر الشيخ الصالح القطب جلال الدين المعروف بمولانا، وهو شيخ كبير القدر، ويذكر أنه كان فى ابتداء أمره فقيها مدرسا تجتمع عليه الطلبة، فدخل عليه يوما بمدرسته رجل يبيع الحلواء وعلى رأسه طبق، فلما أتى إلى المجلس قال له الشيخ: هات طبقك، فأخذ الحلوائى قطعة من الحلواء، وأعطاها للشيخ فأكلها، وخرج الحلوائى ولم يطعم أحدا سوى الشيخ، فخرج الشيخ فى إثره وترك الدرس، فأبطأ على الطلبة فخرجوا فى طلبه، فلم يعرفوا له مستقرا، ثم إنه عاد إليهم بعد أعوام وقد توله، وصار لا ينطق إلا بالشعر الفارسى، فكان الطلبة يتبعونه ويكتبون ما يصدر عنه من ذلك الشعر، وألفوا منه كتابا سموه بالمثنوى، وأهل تلك البلاد يعظمون ذلك الكتاب.
وبخارج مدينة خوارزم نهر جيحون وقبر الشيخ نجم الدين الكبرى من كبار الصالحين، وعليه زاوية، وقبر العلامة جار الله الزمخشرى، وزمخشر: قرية على مسافة أربعة أيام من خوارزم.
وفى مدينة بخارى قبر الإمام أبى عبد الله محمد بن إسماعيل البخارى مصنف الصحيح رضى الله تعالى عنه، وهى فى برية رمال لا عمارة بها، وهى قادة ما وراء نهر جيحون. وبخارج مدينة سمرقند قبر قثم بن العباس رضى الله تعالى عنهما، استشهد يوم فتحها،
وعليه زاوية عظيمة، يتبركون به حتى كفار التتار، ومنها يسافر إلى مدينة نسف، وإليها ينسب أبو حفص النسفى، ثم إلى مدينة ترمذ وإليها ينسب أبو عيسى محمد الترمذى مؤلف:(الجامع الكبير) فى السنن.
وبمدينة طوس من مدن خراسان قبر أبى حامد الغزالى رضي الله عنه وهى بلدته، وبعدها مدينة مشهد الرضى، وبها مشهد على بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن على زين العابدين بن الإمام الحسين رضى الله تعالى عنهم أجمعين، وعلى المشهد قبة عظيمة مزينة بالفرش الحرير وقناديل الذهب، وفى القبة بإزاء قبر الرضى قبر أمير المؤمنين هارون الرشيد، يضعون عليه الشمعدانات، وإذا دخل الرافضى للزيارة يضرب قبر الرشيد برجله، ويسلم على قبر الرضى. والشيخ أبو يزيد البسطامى من مدينة بسطام، وقبره بها، ومعه فى قبة واحدة أحد أولاد جعفر الصادق، وهى من مدن خراسان.
وبمدينة غزنة قبر الملك المجاهد صاحب الفتوحات بالهند محمود بن سبكتكين، وبخارج مدينة كنكار - بفتح الكاف الأولى والنون - وهى كرسى جزيرة سيلان قبر الشيخ الشيرازى، وسلطان هذه المدينة وأهلها يزورونه ويعتقدونه، وهو كان الدليل إلى القدم، ولما قطعت يده ورجله صار الأدلاء أولاده، وسبب قطعه أنه ذبح بقرة، والحكم عند كفار الهنود أن من ذبح بقرة ذبح مثلها، وجعل فى جلدها وأحرق، وكان الشيخ عثمان معظما عندهم فقطعوا يده ورجله، وأعطوه مجبى بعض الأسواق.
والياقوت العظيم والبرهمان إنما يكون فى هذه البلدة، ويحفر على الياقوت فيوجد فى أحجار بيضاء متشعبة، وهى التى يتكون الياقوت فى أجوافها، فتقطع للحكاكين فتحك حتى تفلق عن الياقوت،
فمنه الأحمر والأصفر والأزرق ويسمونه النيلم، وعادتهم أن ما بلغ ثمنه من الياقوت ستة دنانير فهو للسلطان، يعطى ثمنه ويأخذه، وما نقص عن تلك القيمة فهو لأصحابه.
والقدم هو قدم آدم عليه السلام، وهو فى جبل سرنديب، وهو من أعلى جبال الدنيا، يرى على مسيرة سبعة أيام فى البحر، قال ابن بطوطة: ولما صعدناه كنا نرى السحاب أسفل منا قد حال بيننا وبين رؤية أسفله، وفيه كثير من الأشجار التى لا يسقط لها ورق، وفى الجبل طريقان إلى القدم، أحدهما: يعرف بطريق بابا، والآخر: يعرف بطريق ماما، يعنون آدم وحواء عليهما السلام، وقد نحت الأولون درجا بالجبل يصعد عليها، وغرزوا فيها أوتاد الحديد يتمسك بها من يصعده، وهى عشر سلاسل؛ اثنتان من جهة أسفل الجبل وسبع متوالية بعدها، والعاشرة تسمى بسلسلة الشهادة، لأن الإنسان إذا وصل إليها ونظر إلى أسفل الجبل أدركه الوهم، فيتشهد خوف السقوط، وبعد العاشرة مغارة الخضر عليه السلام، موضع فسيح، وعند بابها عين ماء تنسب إليه أيضا مملوء بالسمك/الحوت، ولا يصيد أحد منه شيئا. وبمغارة الخضر يترك الزوار ما معهم من زاد ومتاع وأسباب، ويصعدون منها ميلين إلى أعلى الجبل، حيث القدم الكريمة، والقدم الكريمة فى صخرة سوداء بموضع فسيح وقد غاصت القدم فى الصخرة حتى صار موضعها منخفضا، وطول القدم أحد عشر شبرا، وبأسفل الجبل مغارة شيئم؛ وهو شيث بن آدم عليه السلام.
وبقرية أت قلنجت - بفتح الهمزة وتاء مثناة ساكنة وفتح القاف واللام وسكون النون وفتح الجيم وسكون التاء المثناة من فوق - من جزيرة سرنديب قبر الشيخ أبى عبد الله، وبمدينة دينور - بكسر الدال
المهملة وياء تحتية ونون فواو مفتوحتين - الصنم المعروف بدينور فى كنيسة عظيمة، فيها نحو الألف من البراهمة، ونحو خمسمائة من بنات أكابر الهنود يغنين ويرقصن كل ليلة عند الصنم. انتهى.
ترجمة ابن بطوطة صاحب الرحلة المشهورة
(فائدة) ابن بطوطة كما فى كتاب: «دائرة المعارف» هو أبو عبد الله محمد بن محمد بن إبراهيم اللواتى المغربى الطنجى المشهور بابن بطوطة، من أصحاب الرحلات المشهورة، ومن مشيخة طنجة، ويعرف فى البلاد الشرقية بالشيخ شمس الدين، ولد فى طنجة سنة ست بعد الثلثمائة والألف ميلادية، وتوفى فى سنة ثمان وسبعين بعد الألف والثلثمائة، وقد سبق بالتقوى وحب الوقوف على أخبار الأمم وأحوال البلدان، إلى الذهاب إلى جميع الأماكن التى جرت فيها حوادث ذات علاقة دينية، فساح فى الأقطار المصرية والفارسية، والصورية والعربية والصينية والتترية والهندستانية، وبعض جزائر البحر وجزائر الهند وأواسط إفريقة وأسبانية. وقد كتب رحلته وأودعها أخبارا مهمة غريبة لذيذة نافعة.
وقد ذكره الإمام ابن خلدون فى مقدمة تاريخه المشهور، فقال: إنه ورد بالمغرب لعهد السلطان أبى عنان من ملوك بنى مدين رجل من مشيخة طنجة ويعرف بابن بطوطة، كان قد رحل منذ عشرين سنة قبلها إلى الشرق، وتقلب فى بلاد العراق واليمن والهند، ودخل مدينة دهلا حاضرة ملك الهند؛ وهو السلطان محمد شاه، واتصل بملكها، وكان له منه مكان، واستعمله فى خطة القضاء بمذهب المالكية فى عمله، ثم انقلب إلى المغرب، واتصل بالسلطان أبى عنان، وكان يحدث
عن شأن رحلته، وما رأى من العجائب بممالك الأرض، فيأتى بما يستغربه السامعون، وأكثر ما كان يحدث عن دولة صاحب الهند، فقال: إنه إذا خرج إلى السفر، أحصى أهل مدينته من الرجال والنساء والولدان، وفرض لهم رزق ستة أشهر يدفعه لهم من عطائه، وعند رجوعه من سفره يدخل فى يوم مشهود، يبرز فيه الناس كافة إلى صحراء البلد، ويطوفون به، وينصب أمامه منجنيقات يرمى بها شكائر الدراهم والدنانير على الناس، إلى أن يدخل إيوانه، وأمثال هذه الحكايات
…
فتناجى الناس بتكذيبه أه. وقد أنكر عليه ابن خلدون فمنعه الوزير لسلطان فارس بن وردار عن إنكار شئ ليس له برهان على إنكاره. أهـ باختصار.
(حرف الغين)
الغرّاقة
- بفتح الغين المعجمة وشد الراء المهملة فألف فقاف فهاء تأنيث - بلدة بقرب الجوف من الوجه البحرى من الشرقية.
ترجمة الشيخ الغرّاقى الشافعى
وإليها ينسب كما فى: «الضوء اللامع» للسخاوى محمد بن محمد ابن محمد بن على بن يوسف بن الباز الأشهب أبو البركات الغراقى الشافعى، وكان يعرف بابن كباب - بكاف مفتوحة وموحدتين الأولى مشددة - ولد بالغراقة وحفظ بها القرآن والعمدة والمنهاجين وألفيتى الحديث والنحو، والزهر البسام فيمن حوته عمدة الأحكام من الأنام
نظم البرماوى، والجعبرية فى الفرائض، والحاجبية، ثم تحول إلى القاهرة، فأكب على الاشتغال على الجمال عبد الله الحنبلى، والشريف ابن الكويك، وأجاز له جماعة، منهم: رقية بنت يحيى بن مزروع، وكان جل انتفاعه من الشمس البرماوى، وأخذا أيضا عن الشمسين:
الشطنوفى والغراقى والولى العراقى وغيرهم فى كل فن حتى الحساب /والميقات، والروحانى والنظم والنثر، ولم ينفك عن ملازمة الاشتغال والاستكثار، ولا تحاشى من الأخذ عمن دب ودرج، وأذن له البرماوى وغيره فى الإفتاء والتدريس، وناب فى القضاء بعد تمنع زائد، وزار بيت المقدس، ودخل الشام غير مرة، ودخل حلب رفيقا للمعين عبد اللطيف بن العجمى، وأخذ حينئذ عن حافظها البرهان شرحه على الشفاء بتمامه، وقطعة من شرحه على البخارى وغير ذلك.
وكان إماما بارعا دينا خيرا سمحا شديد التواضع، كثير التودد حسن العشرة، طارحا للتكلف كثير المماجنة مع أصحابه، سمحا بالعارية قادرا على إبراز ما فى نفسه بأحسن عبارة مع السرعة، لا منتهى لنادرته الحلوا، ولا تمل مجالسته، ومحاسنه جمة، وهو من بيت صلاح وفضل، يقال إن عليا جده أبا أبيه هو الشيخ على المصرى المعتقد المدفون بمنزله بالبريح بالقرب من دمشق، قال ويذكر أن الشيخ رسلان المدفون بالسبعة من دمشق من أجدادنا ولكن لم أر لذلك مستندا شافيا، كل ذلك مع عدم سعة العيش، وكان معه تدريس المدرسة النابلسية بالقرب من سعيد السعداء، وكذا قرأ بغيرها وأفتى وكتب بخطه الكثير، وكان نعم الرجل، مات سنة ثمان وخمسين وثمانمائة، ودفن بتربة مجاورى الأزهر بين الطاولية وتربة سليم خارج باب البرقية، وحج عنه رحمه الله تعالى.
ترجمة الشيخ شمس الدين الغراقى
وأما محمد الشمس أبو السعود الغراقى فهو أخوه شقيقه، ولد بالغراقة أيضا، وتحوّل منها مع أبيه وأخيه وهو مميز، فنزلوا الصحراء بتربة يلبغا، وحفظ القرآن والعمدة، والملحة وألفية النحو والمنهاج الفرعى، واليسير من:(التنبيه) - كتاب أبيه - واشتغل وحصل، وأجاز له أشياخ عصره، وحج مرارا ودخل الإسكندرية، وتكسب بالشهادة دهرا إلى أن كف بصره، فقطن فى بيته مدة، وتحول لعدة أمكنه، وحدث بالصحيح والنسائى والشفاء والعمدة، وكان محبا فى ذلك، مشاركا فى فوائد ونكت وحكايات، مات سنة تسع وثمانين وثمانمائة بقنطرة الموسكى، عند ابن أخيه، ودفن بحوش الأشرف برسباى المجاور لتربته.
ولهما أخ ثالث شقيق هو: محمد أبو مدين، سمع على الشمس الشامى الحنبلى ثلاثيات مسند أحمد، وحدث صغار الطلبة، وكان من أهل القرآن، كثير التلاوة له، وتكسب ماء ورديا بالفحامين، مات سنة أربع وتسعين وثمانمائة أو التى قبلها. انتهى.
الغرق السلطانى
قرية من قسم العجميين ببلاد الفيوم، واقعة فى قبلى المدينة نحو أربع ساعات، وهى آخر بلاد الفيوم من الجهة القبلية، وأبنيتها باللبن والآجر والدبش المستخرج من البلاد القديمة، فإن فى غربيها بنحو ثلث ساعة آثار مدينة على تل مرتفع من بلاد الريان، تسميها الأهالى: مدينة ماضى، وبها إلى الآن أحجار معاصر بكثرة، وفى شرقى هذه الناحية حائط ممتد فى الشمال والجنوب نحو مائتى قصبة، مبنى من الطوب الأحمر والمونة، كان خزانا فى سالف الأزمان واندرس، وبه قناطر لتوصيل الماء لبلاد الريان.
وفى الجنوب الغربى لناحية الغرق شرقى مدينة ماضى بركة تسمى عند الأهالى: (البركة الحارة) كانت مجمع تصافى مياه البلاد الغربية، مثل الغرق وطوطون ومدينة ماضى وما جاورها، ثم اندثرت وضاعت معالمها، ثم إن فم بحر الغرق خارج من فرع خارج من اليوسفى شرقى بحر العرب، فبعد سيره جنوبا نحو ثلثمائة قصبة فى عرض نحو ست قصبات يكون فمه من الجهة الشرقية، فيسير فى الجبل، وفى بعض المحلات يكون مقطوعا بالآلات، ويدور مع الجبل حتى يكون فى جنوب طوطون، فينقسم بنصبة إلى قسمين: فالبحرى لناحية طوطون، والقبلى يمر مغربا إلى ناحية الغرق، وطوله نحو سبعة آلاف قصبة.
غزالة
قريتان بمصر كلتاهما من مديرية الشرقية، يقال لإحداهما:
غزالة الخيس، وهى بقسم بلبيس فى جنوب سفط الحناء بنحو ثلاثة آلاف متر، وبها جامع ونخيل، ويقال لها: منية غزال الشرقية، وقد تكلمنا عليها فى المنيات.
والأخرى بقسم العلاقمة، فى الشمال الغربى لقنتير بنحو ألفين وخمسمائة متر، وفى الشمال الشرقى لكفور البكارشة بنحو ألف وخمسمائة متر، وبها جامع ونخيل، وفى شرقيها على بعد خمسمائة متر ضريح يعرف بضريح الغزالى.
غمّازة
- بفتح الغين المعجمة وشد الميم فألف فزاى معجمة فهاء تأنيث - قريتان بمصر كلتاهما من مديرية الجيزة فى شرق إطفيح ومن أعمالها.
إحداهما: غمّازة الكبرى، فى شرقى ناحية الإخصاص بنحو ألف متر، وفى الجنوب الغربى لناحية الشرفاء بنحو ألفى متر، وفيها جامع ومعمل دجاج ونخيل كثير، وجبانتها بالجبل الشرقى على بعد خمسمائة متر، ولها سوق فى كل أسبوع، وتكسب أهلها من الفلاحة وغيرها.
والثانية: غمّازة الصّغرى، على شاطئ البحر الأعظم، فى شمال ناحية الأقواز بنحو أربعة آلاف متر، وفى جنوب ناحية الأخصاص بنحو خمسة آلاف وخمسمائة متر، وبها جامع ونخيل.
غمرين
قرية من مديرية المنوفية بقسم منوف، فى جنوب ناحية الواط بنحو ثلاثة آلاف متر، وفى الشمال الغربى لمنوف بنحو ثلاثة آلاف وخمسمائة متر، وبها جامع بناؤه باللبن، وبها ضريح ولى يعرف بالشيخ منصور وعليه قبة، ويعمل له ليلة كل سنة، وبها أنوال لنسيج الثياب الصوف، وزراعة أهلها كمعتاد الأرياف، ويقال لها: غبرين - بالباء الموحدة بدل الميم - والظاهر أنه ينسب إليها الشيخ الغمرينى المالكى المشهور.
الغنائم
بلدة كبيرة من مديرية أسيوط بقسم بوتيج، بحاجر الجبل الغربى، على شاطئ السوهاجية فى شمال أم دومة، وفى جنوب ناحية المشايعة على نحو ساعة، وهى مستطيلة فى أطراف بساط الجبل، من الشمال إلى الجنوب مسيرة نحو ساعة، إلا أنه يتخللها فضاء متعدد، وفيها مساجد مقامة الشعائر وكنيسة أقباط، وسويقة دائمة وسوق عمومى كل يوم خميس، وفيها نخيل كثير، وشجر المقل قليلا، وأهلها زراعون، وكثير منهم يسافر إلى الواحات بمثل العدس والقماش، ويجلبون من هناك مزروعات الواحات، مثل المشمش والتمر والنيلة ويتجرون فيه.
الغورى
قرية من مديرية المنوفية بقسم مليج، فى غربى بركة السبع بنحو ثلاثة آلاف متر، وفى شمال ناحية مليج بنحو ألفين وخمسمائة /متر، وبها جامع بمئذنة، وأبنيتها بالآجر واللبن، وبها أشجار قليلة.
غيّاضة
- بغين معجمة مفتوحة فتحتية مشددة فألف فضاد معجمة فهاء تأنيث - قريتان بمصر كلتاهما من مديرية بنى سويف، ومن قسم ببا الكبرى.
إحداهما: غياضة الشرقية، واقعة فى شرقى النيل بسفح الجبل الشرقى، شمال ناحية جبل النور بنحو ألفين وأربعمائة متر، وفى الجنوب الشرقى لناحية الشيخ أبى النور بنحو سبعمائة متر، وبها جامع ونخيل كثير.
والأخرى: غياضة الغربية، واقعة على الشاطئ الغربى للنيل، فى الشمال الشرقى لقنبش بنحو ثلاثة آلاف متر، وفى شمال طنسا بنحو ثلاثة آلاف وستمائة متر، وبها جامع ونخيل، وفى غياضة يزرع نوع من الدخان المشروب بكثرة، ويسمى الدخان الغياضى، وأكثر أهلهما مسلمون.
غيتة
قرية بمديرية الشرقية من قسم بلبيس، فى غربى الترعة الإسماعيلية بنحو ثلثمائة متر، وفى الجنوب الغربى لمدينة بلبيس بنحو أربعة آلاف وخمسمائة متر، وفى شرقى الزوامل بنحو ثمانية
آلاف ومائتى متر، وبها جامع بمنارة، وبدائرها نخيل كثير، وأكثر زراعتها صنف الحناء، وأكثر أهلها مسلمون، ولعلها المشهورة فى الكتب باسم
غيفة.
و غيفة
هذه ذكرها المقريزى عند الكلام على رمال الغرابى، وقال: إنها تقارب مدينة بلبيس، من الفسطاط إليها مرحلتان، كانت منزل قافلة الحاج، ويقال إن صواع الملك الذى فقد من مدينة مصر وجد فى رحال إخوة يوسف عليه السلام بغيفة هذه، وقال أيضا - فى الكلام على نزول العرب بريف مصر - أن أهل الحوف خرجوا على الليث بن الفضل البيودى أمير مصر، وذلك أنه بعث بمساحين يمسحون عليهم أراضى زرعهم، فانتقصوا من القصبة أصابع، فتظلم الناس إلى الليث، فلم يسمع منهم، فتعسكروا وتجاروا إلى الفسطاط، فخرج إليهم الليث فى أربعة آلاف من جند مصر فى شعبان سنة 186 فالتقى معهم فى رمضان، فانهزم عنه الجند فى ثانى عشرة وبقى فى نحو المائتين، وحمل بمن معه على أهل الحوف فهزمهم حتى بلغ بهم غيفة، وكان التقاؤهم على أرض جب عميرة.
(حرف الفاء)
فاران
قال المقريزى: هى مدينة بساحل بحر القلزم، من مدن العماليق، على تل بين جبلين، وفى الجبلين ثقوب كثيرة مملوءة أموانا، ومن
هناك إلى بحر القلزم مرحلة واحدة، ويقال له: هناك ساحل بحر فاران، وهو البحر الذى أغرق الله فيه فرعون، وبين مدينة فاران والتيه مرحلتان، والتحقيق أن فاران والطور كورتان من كور مصر القبلية، وهى غير فاران المذكورة فى التوراة، فإن تلك اسم لجبال الحجاز، وكانت مدينة فاران من جملة مدائن مدين إلى اليوم، وبها نخيل كثير مثمر، أكلت من ثمره، وبها نهر عظيم، وهى خراب تمر بها العرب.
انتهى باختصار.
وفى كتاب: «درر الفرائد المنظمة فى أخبار الحاج وطريق مكة المعظمة» أن فى سفح أحد الجبلين بيعة للنصارى، وهى حصن عليه سور من حجارة وشرفات وأبواب من حديد، بداخله عين ماء عذب، وعلى العين درابزين من نحاس لئلا يسقط فيه أحد، وقد أجرى ماؤها فى قناة رصاص، إلى ما حوالى الدير من الكروم والأشجار، ويقال: كان على هذه العين شجر العليق الذى آنس موسى عنده النار، وعلى خطوات من هذا الدير أول العقبة التى يصعد منها إلى طور سيناء، وهى ستة آلاف وستمائة وستون مرقاة، قد نحتت ودرجت فى الصخر، فإذا أقطعت تلك المراقى صرت إلى مستو من الأرض فيه أشجار وماء عذب، وهناك كنيسة على اسم أمليا النبى عليه الصلاة والسلام. انتهى.
فارس
قرية من قسم إدفو بمديرية إسنا على الشاطئ الغربى للنيل، فى بحرى بنبان المقابلة لقرية دراو، وفيها نخيل كثير، ويزرع فى أرضها نباتة تسمى الجرمة، تشبه نباتة البطيخ فى ورقها وامتداد عروشها، وثمرها يشبه البطيخ الصغير المعروف بالقرقر، وبزره كثير ويشبه بزر البطيخ الخروبى أو أصغر، وطعمه كطعمه، وذلك البزر هو
المقصود منه، فيجفف فى الشمس كما يفعل بالقرع العوّام والحنظل، ثم يخرج منه البزر ويباع بالأردب.
وفى هذه الأزمان أعنى سنة اثنتين وتسعين ومائتين بعد الألف بلغ ثمن الأردب ما ينيف عن مائة وخمسين قرشا عملة ديوانية، وربما زاد فى بعض الأحيان كثيرا، وأكثر من يشتريه اليهود، فيستعملونه يوم سبتهم أكلا يتسلون به عن الدخان، لتركهم إياه فى ذاك اليوم، ولا يأكلونه إلا بعد وضعه فى الماء حتى تنفتح رءوسه، ثم يحمص بالنار، ويباع فى مصر وغيرها، وقد يطبخ أخضر مثل القرع، ويزرع أيضا فى بلاد أخر من قسم إدفو مثل الرادسية والفوزة وقرية هناك تسمى البحيرة، وأكثر زرعه بين بنبان وفارس، ويصلح لزرعه كل أرض تصلح لزرع القثاء سيما أرض الرمل والحواجر، وإنما يزرع بالنقر مثل البطيخ، ويتبع قرية فارس عدة كفور، كما أن قرية سلوة وبنبان ودراو وأبا الريش التابع لمدينة أسوان يتبع كلا منها عدة كفور.
فارسكور
هذه القرية مركز من مراكز مديرية الدقهلية، واقعة على الجانب الشرقى للبحر الشرقى، وبها ضبطية ومجلس المركز/والمحكمة الشرعية، وحوانيت وخانات ومعاصر للزيوت، وخمسة مساجد بمنارات، وبناؤها بالطوب الأحمر، وبها وابورات وأشوان للميرى، ولها سوق كل يوم أحد تباع فيه المواشى والملبوسات والحبوب والعقاقير وغيرها، ولأهلها شهرة فى صناعة التلى، وأعبية الصوف والبشوت، وتكسبهم من ذلك ومن التجارة والزرع، ثم إن هذه البلدة قد مر لها فى العصور الماضية نكبات وشدائد، حتى أنها نهبت وأحرقت عن
آخرها فى سنة ألف ومائتين وثمانية عشر، وذلك كما فى الجبرتى: أنه فى ابتداء ما كان العزيز محمد على باشا واليا على مصر، كانت الفتن متراسلة، والحروب غير منقطعة بين عساكره وعساكر المماليك، وفى أثناء ذلك حصل بينه وبين عساكره وحشة بسبب جماكيهم وعلوفاتهم، فقاموا عليه وحاربوه، وأخرجوه من مصر بمعونة طاهر باشا، ثم قامت الينكشارية على طاهر باشا وقتلوه.
وذهب محمد باشا إلى المنصورة، ثم منها إلى دمياط، وبقى بفارسكور إبراهيم باشا ومملوكه سليم كاشف حاكم المنوفية بجملة من العسكر، فتحصنوا بها، فسار إليهم حسن بيك أخو طاهر باشا بطائفة وتحارب معهم، فملك منهم فارسكور فنهبوها وأحرقوها وفسقوا بنسائها، وفعلوا ما لا خير فيه، وقتل سليم كاشف، ثم إن بعض أكابر العساكر المهزمين أرسل إلى حسن بيك يطلب منه الأمان، وكان ذلك خديعة منهم، فأرسل لهم أمانا فحضروا إليه، وانضموا لعساكره، وهم مع ذلك يراسلون أصحابهم، ويشيرون عليهم بالعود فعادوا وتأهبوا للحرب ثانيا، فخرج إليهم حسن بيك بعساكره وخلفه المنضافون إليه، فلما التحم الحرب بينهم، كان حسن بيك مع عساكره فى وسط أعدائهم، فنالوا منهم وأثخنوهم، وقتلوا منهم جماعة عظيمة، وانهزم باقيهم إلى فارسكور، فتلقاهم أهل البلدة وكملوا قتلهم بالنبابيت والمساوق والحجارة جزاء لما فعلوه معهم، ولم ينج منهم إلا من كان فى عزوة أو هرب إلى جهة أخرى، وحضر جماعة منهم إلى مصر فى أسوأ حال. انتهى.
ثم عمرت هذه البلدة ثانيا، وزالت عنها تلك الشدائد فى زمن العزيز محمد على وأنجاله من بعده إلى الآن، وهى بلدة ذات اعتبار قديما، ونشأ منها علماء وأفاضل.
ترجمة قاضى القضاة الفاضل الشيخ محمد بن عمر الفارسكورى
فمن علمائها كما فى (خلاصة الأثر): الأستاذ الفاضل الشيخ محمد بن عمر بن محمد بن أبى بكر الملقب بتقى الدين، قاضى القضاة الفارسكورى المصرى المولد، نزيل قسطنطينية، من أفضل فضلاء الزمان، وأبلغ البلغاء نظما ونثرا وبراعة، وكان وهو بمصر اتصل بخدمة قاضيها شيخ الاسلام يحيى بن زكريا، وتوجه بخدمته إلى الديار الرومية، وأقام بها، ولازم على قاعدتهم، ودرس هناك، وما زال عند المولى المذكور فى المكانة المكينة إلى أن دبت لأجله عقارب الحسد من حواشيه وندمائه، وطفقوا يركبون الصعب والذلول فى ذمه، فأبعده عن مجلسه وأقصاه، فلزم العزلة وغضت عنه الأبصار، ورمى فى زاوية الهجران، وله فى ذلك أشعار ورسائل يشير بها إلى سوء معاملتهم معه، ومنها أبياته المشهورة التى يقول فيها:
من الرأى ترك الترك إنى بلوتهم
…
فلم أرهم فى الخير يوما ولا الشر
وكم من جهول بى ولم يدر جهله
…
ولم يدر على أنه بى لا يدرى
مدحت فلم ينجح هجوت فلم يفد
…
وعهدى بأشعارى تؤثر فى الصخر
فلا يأملوا من بعد خيرى كما مضى
…
فقد حيل بين الخير وليأمنوا شرى
ولا يطمعوا فى المدح منى ولا الهجا
…
فقد شط شيطانى وتبت عن السحر
وأدت العذارى من بنات خواطرى
…
بقلبى وأم الشعر طلقها فكرى
البيت الأول سبكه من الحديث، وهو ما أخرجه الطبرانى عن ابن مسعود: «اتركوا الترك ما تركوكم، فإن أول من يسلب أمتى ملكهم، وما خولهم الله بنو قنطوراء، وبنو قنطوراء الترك، وهى جارية لإبراهيم عليه السلام، من نسلها الترك. ثم لما مات أستاذه المذكور ولى بعد وفاته قضاء القدس، وكان من الأدب والبلاغة والشعر وصحة التخيل، والانطباع فى الذروة العليا، وكان عارفا بكثير من الفنون، كثير الاطلاع، وجمع مدائح أستاذه هذا التى مدح بها فى بلاد العرب أيام قضائه بحلب ودمشق ومصر، والتزم أن يذكر الشاعر عند إيراد شئ من شعره، ولا يزيد على توصيفه بكلمة أو كلمتين، واعتذر عن إطالة التراجم بقوله فى أوله: وكنت أردت أن أترجم كل شاعر منهم عند إيرادى شعره، وأتكلم فى حقه هناك بما عساه أن لا يتعدى به طوره، بل يوقفه عند قدره، وذلك بعد رعاية المطابقة لمقتضى الحال، وحيثما تثبت دعوى فضله عند حاكم العقل من شهود المقال، فاخترت وقتا بعد جمع هذه القصائد، حررت فيه الطالع والغارب، وضبطت غب اطلاعى على/الفرائد منها والفوائد مقامات الجوزهرات ومقدمات الكواكب، ثم نظرت نظرة فى النجوم، واستخرجت المجهول منها من المعلوم، فظهر أنه لا شئ أدل من شعر المرء على عقله، ولا أصدق من ذلك الطل على وبله، كما قيل:
وإنما الشعر لب المرء يعرضه
…
على الأنام فإن كيسا وإن حمقا
فاكتفيت فى الدلالة على فضائله بذلك المقدار، وناهيك منه بدلالة النور على النار، والشمس على النهار. انتهى.
ومما أورد فى كتابه المذكور من أشعاره الغضة الشهية قوله من قصيدة مطلعها:
ما هبت الريح بريح الرند
…
إلا أثارت ساكنا من وجدى
وأخرى أولها:
قد حركت طرب الغريب العانى
…
كأس المدام الخندريس العانى
طافت بهالتها البدور يحثها
…
غمات إسحق ورقص غوانى
لو خامرت صلد الحجارة لاستحى
…
أن لا يرى فى خفة السكرانى
وله أشعار غير ذلك مذكورة هناك، قال: وقد ذكره الخفاجى فى كتابه، وقال فى حقه فى الخبايا فاضل أديب، وحبيب ابن حبيب، وإذا طابت الأصول زكت الفروع، وإذا صحا الجو أشرق بدره فى الطلوع، وقد ضمنى وإياه عقد الاجتماع، بعدما كانت درر مآثره ملأت صدف الأسماع، فرأيت الناس فى رجل والدهر فى ساعة، وجلى علىّ فى سوق العروس أنفس بضاعة، وشاهدت فى مرآة سمائه وجوه محاسن صفاته، مما تقر به عيون المدائح، وتنشرح له صدور المجالس، وتطيب نفوس المكارم، فطفت بكعبة فضائله، ونزهت عيون المنى فى رياض شمائله، وانتشيت من صهبائه، وتنقلت بإنشاده وإفتائه، وما كل قول حسن، ولا كل خضراء خضراء الدمن، وشكوت دهرا ألف شملى بشمله، وعرفنى بضالة الفضل فى ظله، ولم أقل إذ مدّ لى به أيادى الامتنان، إن دهرى يضمن بالإحسان، ثم أنشد له من شعره قوله مضمنا:
تقول سلمى بعد ما تبت عن
…
هواى وعن ذى الخال لست بتائب
تواصل واوات بخد معذر
…
وتجفو بلا ذنب ذوات الذوائب
إليك فإنى لست ممن إذا اتقى
…
عضاض الأفاعى نام فوق العقارب
وقوله من قصيدة فى المديح:
يا من محياه يستسقى به المطر
…
وعدله كاد ينسى عنده عمر
إن كنت تبغى بنار الهجر تجربتى
…
إنى على الحالتين العنبر العطر
وسوف ينبيك صبرى فى الجحيم على
…
جفاك هل أنا ياقوت أم الحجر
إلخ
…
ما قال، وقال الفيومى فيه: هو روض آداب، أو حوض يملأ بأعذب شراب، حبر شمائله الصبا، قد ساد من عصر الصبا سيدا لأدبا، فاق أقرانه أدبا وحسبا، وله إنشاء وشعر نضير، وروض أدبه كله ربيع خضير. انتهى.
وبالجملة فكانت محاسنه كثيرة جدا، وكانت وفاته بدمشق، وهو مارّ إلى القدس فى رجب سنة سبعة وخمسين وألف، ودفن بمقبرة باب الصغير، بالقرب من بلال الحبشى رضى الله تعالى عنه. أه باختصار كثير.
***
ترجمة والد قاضى القضاة الفارسكورى
وذكر أيضا ترجمة والده، فقال: هو عمر بن محمد بن أبى بكر المصرى الشهير بالفارسكورى، العلامة الأديب المتفنن، ذكره عبد البر الفيومى فى:«المنتزه» وقال فى وصفه: عالم نشرت ألوية فضله على الآفاق، وفاضل ظهرت براعة عمله فتحلى بها فضلاء الحذاق، له اليد الطولى فى العلوم العقلية والنقلية، والراحة البيضاء فى تعاطى أنواع الفنون الرياضية، وبالجملة فهو عالم متضلع، وأستاذ قام بالإفادة وهو متولع، وقد انتفع به كثير من العلماء، وتصدر من طلبته بمصر جم غفير من العظماء، ثم قال المحبى: ووجدت فى بعض المسودات لبعض الفضلاء ذكره ووصفه بالتفوق وجلالة القدر، وكان شافعى المذهب، وله من التآليف ما لم يسمح بمثله الفلك الدوار، منها كتاب:«ناشئة الليل» و «نظم الارتشاف» ، ورسائل شتى فى علم الهيئة، ونظم القطر فى علم النحو وسماه بالنبات، وجعل أبياته على عدد لفظه، وله كتاب:«جوامع الإعراب وهوامع الآداب» فى العربية أيضا نظم فيه: (جمع الجوامع وشرحه همع الهوامع للسيوطى) واستوعب فيه استيعابا زائدا، وقال فى آخره:
فرّغته فى مبتدأ ذى الحجة
…
لتسعة الأشهر من ذى الحجة
نظمت فيها الخمسة الآلاف مع
…
خمس مئين بالثوان والتبع
/وخمسة المئين باقى العدة
…
فى نحو شهر قبل هذى المدة
فكملت فى عشرة شهور
…
مبدلة المعسور بالميسور
فى عام نظميه فقلت مجمله
…
الحمد لله على التيسير له
وقوله: فى عام نظميه، يعنى أنه فرع منه فى سنة خمس وألف، وقوله: الحمد لله على التيسير له تاريخ ثان فليتنبه له.
ومن فائق شعره قوله من قصيدة كتبها لولده وهو بالروم:
الدار بعدك لا تروق لناظرى
…
والربع بعدك لا يشوق لخاطرى
قد كان لى من ساكنيه أحبة
…
كجآذر بين العقيق وحاجر
فتفرقوا كنظيم عقد جواهر
…
عبثت بهن يد انفصام الناثر
ومنها أيضا:
أمن البصيرة والعمى يغشى الهدى
…
حتى يرى الأعمى بصورة باصر
لكن أحذرك الزمان وأهله
…
من كائد أو ماكر أو غادر
أو مظهر بالختل سنّ تبسم
…
وإذا اختبرت فناب ذئب كاشر
والدهر مغن عن نصيحة واعظ
…
يروى الغرائب خابرا عن خابر
والله يلهمك الصواب لترعوى
…
وتؤوب أوبة صابر أو شاكر
إن كان ذاك فحبذا ولربما
…
كان النهى للنفس أنهى زاجر
أو كانت الأخرى فرفقة يوسف
…
وبكاء يعقوب الكئيب الصابر
والصبر داعى النصر ما من صابر
…
لكريهة إلا يغاث بناصر
والقهر للناسوت ضربة لازب
…
والحكم لله العلى القاهر
ومن مستحسن شعره قوله:
إذا كانت الأفلاك وهى محيطة
…
علينا قسيا والسهام المصائب
ورام بها البارى فأين فرارنا
…
وسهم رماه الله لا شك صائب
وله غير ذلك
…
وكانت وفاته يوم السبت سابع عشر شوال سنة ثمان عشرة وألف بدمياط، وحمل إلى بلده فارسكور ودفن بها. أه.
ترجمة الشيخ محمد بن موسى العبيدى الفارسكورى
وقد ذكر الجبرتى فى حوادث سنة إحدى وثمانين ومائة وألف أن منها الفقيه الأصولى النحوى الشيخ محمد بن موسى العبيدى الشافعى الفارسكورى، أخذ عن الشيخ على قايتباى، وعن الشيخ الدفرى، والشيخ البشبيشى والنفراوى، وكان آية فى المعارف والزهد والورع والتصوف، وكان يلقى دروسا بجامع قوصون على طريقه الشيخ العزيزى والدمياطى، ثم توجه إلى الحجاز، وجاور بالمسجد الحرام سنة واحدة، وألقى هناك دروسا وانتفع به خلق كثير، ومات بمكة سنة إحدى وثمانين ومائة وألف، ودفن بالقرب من قبر السيدة خديجه رضي الله عنها وعنه. انتهى.
ترجمة المرحوم محمد بيك جبر الفارسكورى
وممن لحقته العناية الربانية، وانغمس فى بحار إحسانات العائلة المحمدية ونفحات الحضرة الخديوية الأمير محمد بيك جبر، من أهالى هذه البلدة، دخل العسكرية نفرا فى زمن المرحوم عباس باشا، وفى زمن المرحوم سعيد باشا ترقى إلى رتبة اليوزباشى، وفى زمن الخديوى إسماعيل باشا ترقى فى الرتب إلى أن أنعم عليه برتبة أمير ألاى، وأحسن إليه بسرية من سرارى السراى العالية، وقد سافر فى حرب الحبشة، واستشهد هناك فى وقعة جورة سنة 1293.
فاقوس
- بفاء فألف فقاف فواو فسين مهملة - هى بلدة من مركز الصوالح بمديرية الشرقية، واقعة فى جزيرة من رمل، بعض أبنيتها باللبن الرملى، وبعضها بالطوب الرملى، وليس بها منازل بدورين إلا نحو منزلين، وسقوفها من خشب النخل وجريده والعبل وحطب الذرة الطويلة.
وبها مسجدان بناؤهما باللبن، أحدهما غير مسقوف، وبجوارها فى الشمال الغربى جزيرة بها مقابر وضريح لبعض الصالحين، وبها نخيل كثير، وتكسب أهلها من المزروعات المعتادة وثمر النخل، وبها مكتب لتعليم القراءة والكتابة، وأرباب حرف وصيادون للسمك، ويتبعها كفر صغير فى شمال الطريق، بعده عنها نحو ألفين وخمسمائة متر.
وفى غربيها تل قديم كبير سعته نحو تسعمائة فدان، وهو ممتد إلى بحر فاقوس، وارتفاعه من نحو عشرين مترا إلى عشرة أمتار، ومن كثرة أخذ السباخ منه صار قطعا متفرقة، والسكة الحديد الموصلة إلى الصالحية مارة بوسطه، وبجواره فى الجنوب الشرقى مقام/الأستاذ السيد صالح البلاسى البطائحى، وأمامه مصلى مبنى بالطوب الأحمر، ويعقد له كل سنة مولد حافل يجتمع فيه خلق كثيرون، وتضرب فيه أرباب الأشائر وغيرهم الخيام، ويكون فيه البيع والشراء.
وهناك أيضا مقام ابنه السيد على الشهيد، وخادمه الشيخ محمد عتبة، وبوسط ذلك التل ترعة جهينة، وترعة السكة الحديد، وبجواره من الجنوب الغربى قنطرة فاقوس بثلاث عيون تمر عليها السكة الحديد، وبجوار القنطرة من شرقيها شون الملح وجملة منازل يسكنها جماعة من المطرية يبيعون الفسيخ.
وفى جنوب القنطرة إلى الشرق محطة السكة الحديد ذات أبنية فاخرة برصيف مبنى بالحجر الدستور، وفى جنوب المحطة بأعلى التل جملة منازل ودكاكين لجماعة من الدول المتحابة، وبجواره من الجهة الجنوبية نخيل لناحية منية الكرم، وكفر محمد إسماعيل متصل بذلك التل، ومقدار زمام تلك الناحية مع الكفر التابع لها أربعمائة وثلاثة وتسعون فدانا وكسور.
فاو
فى «مشترك البلدان» أنها بفاء فألف فواو صحيحة معربة، قريتان بمصر: فاو يعيش، قرية بالصعيد فى مرج بنى هميم من عمل قوص، وفاو جعل، قرية بمرج بنى هميم أيضا، وبالصعيد من ناحية إخميم قرية يقال لها قاو - بالقاف - ليست من هذا الباب فاعرفه انتهى.
قلت: بل فى ناحية إخميم قرية يقال لها فاو - بالفاء أيضا - غير قرية قاو بالقاف، وهى فى شرقى النيل وفى الشمال الشرقى لساقية قلتة بنحو ألفى متر، وفى جنوب ناحية الكتكاتة بنحو ألفى متر أيضا، وهى من قسم سوهاج بمديرية جرجا فى شمال إخميم بنحو ثلاث ساعات.
فمن هذا الاسم حينئذ ثلاث قرى بالصعيد، هذه واللتان بالصعيد الأعلى، كلتاهما من قسم أبى مناع بمدير قنا.
إحداهما: تعرف الآن بفاو قبلى، وهى فى جنوب أبى مناع بنحو خمسة آلاف متر، وفى غربى دشنا بنحو ثمانية آلاف متر، وبها جامع بمنارة وضريح للشيخ الفاوى، مشهور يزار، ويعمل له مولد كل سنة يستمر سبعة أيام، ولها سوق كل أسبوع يباع فيه الغلال والقماش والعقاقير والغنم ونحو ذلك.
والأخرى: تعرف الآن بفاو بحرى، وهى فى غربى فاو قبلى بنحو سبعمائة متر، وبها جامع بمنارة أيضا، وبكل منهما نخيل وأشجار، وكذا فى فاو الإخميمية نخيل قليل ومساجد وبعض دورها على تلول عالية، وبعضها على الأرض، وفى جهتها البحرية قبور قديمة دارسة، أمواتها ظاهرة من أكل البحر وأخذ السباخ، وعندها أحجار كبار ملقاة، وفى جنوبها على نحو ربع ساعة تل مرتفع سعته نحو عشرين فدانا، تأخذ منه الأهالى السباخ، وليس به سكان إلا بويتات فوقه لبعض الفقراء مبنية من الطين، وليس له نخيل ولا أشجار ويظهر أنه محل قرية قديمة.
ترجمة الشيخ عثمان الفاوى، وكذا الشيخ عثمان بن عتيق الفاوى
وإلى إحدى قريتى الصعيد الأعلى ينسب الشيخ عثمان الفاوى ترجمه فى: (الطالع السعيد) بأنه عثمان بن محمد بن نابت الفاوى، ينعت بنور الدين، اشتغل بالفقه فى مذهب الشافعى على الشيخ محيى الدين يحيى بن زكيب، وتولى بالدير والبلاص ثم بدمامين، وتوفى بقوص سنة سبع أو ثمان وسبعمائة، ونابت بالنون.
وكذا عثمان بن عتيق بن نابت الفاوى، قرأ القراءات على ابن خمسين والسراج الدندرى، وكان مشارف الأوقاف الحكمية بقوص، وكان فيه مكارم أخلاق، توفى بقوص سادس صفر سنة سبعمائة وثلاث وعشرين.
فدمين
قرية من بلاد الفيوم فى قسم العجميين، واقعة فى شمال المدينة الغربى على نحو ساعتين، يشقها بحر سنهور، وسكان الشاطئ القبلى أكثرهم مسلمون، عكس الشاطئ البحرى، وأطيانها كثيرة، وأغلبها بساتين كرم وتين وزيتون ونخيل، منها بستان تبلغ سعته نحو ثلثمائة فدان، يسميه أهل الناحية إسطنبول، ويشبهها فى كثرة البساتين عدة قرى مثل: سنترو وأبى كساه وطبهار والعجميين والسيلين، ودونها فى ذلك ناحية سنهور وبشيه وجردو، وعادة أهلها أن يخرجوا رجالا ونساء إلى البساتين للتنزه، فيقيمون فى اللذات وشرب النبيذ إلى الغروب، وهذا دأبهم أبدا، وفيها شجرة زيتون عتيقة كبيرة تظل جملة من الناس، وقد توجه إليها العزيز محمد على باشا ونظرها، وقيل له إنها تحصل كل سنة نحو مائة إردب زيتون.
فرشوط
- بفتح الفاء وسكون الراء المهملة وضم الشين المعجمة فواو فطاء مهملة - قرية من مديرية قنا هى رأس مركز فى غربى النيل بأكثر من ساعة، وفى شمال قرية الكوم الأحمر على نحو ربع ساعة، وفى جنوب قرية القمانة على نحو ثلث ساعة، يقابلها فى البر الشرقى قرية نجع ابن سالم، وكانت فى السابق من خط قوص، وكانت تسمى برشوط - بالباء - وكان فيها كنيستان.
إحداهما: باسم مريم البتول والدة عيسى المسيح عليه السلام.
والأخرى: باسم ميكائيل عليه السلام، أحد رؤساء الملائكة الأربع عليهم السلام كما فى كتب الأقباط - وأبنيتها بالآجر الأحمر، بعضها
على ثلاث طبقات، وبها فوريقة أقمشة متروكة الآن، وبها قيساريتان بدكاكين وقهاو وخمارات وأربع وكائل وجوامع عامرة، أحدها بمئذنة.
وفى جهاتها الشرقية جامع شيخ/العرب همام، بنى منذ مائة وثمان عشرة سنة، وبها الآن كنيسة واحدة للأقباط، وفيها دار متسعة بمضيفة حسنة لبعض أكابرها الشيخ محمد بن سحلى، وهو رجل غنى يزرع نحو ألفى فدان، وفيها ضريح الشيخ الضمرانى بداخل مسجد وعليه قبة، ويعمل له مولد كل سنة، وبها معملا دجاج، وجنات، وجبانتها بحاجز الجبل الغربى، وأطيانها نحو خمسة آلاف فدان، وتزرع القمح والشعير والفول والبرسيم والقصب وهى مشهورة به، وكان بها نحو ستين عصارة، يصنع بها السكر الخام وغيره، وبها سوق دائم، ومنها: أحمد أغا أبو هارون من الهوارة، كان ناظر قسم، وكان يزرع نحو ثلثمائة فدان قصبا.
ترجمة شيخ العرب همام
وكانت فى بعض الأعصر الماضية من أعظم بلاد الصعيد، وكيف لا ومنها الجناب الأجل، والكهف الأظل، ملجأ الفقراء والأمراء، ومحط رجال الفضلاء والكبراء، الأمير شرف الدولة شيخ العرب همام بن يوسف بن أحمد بن محمد بن همام بن صبيح بن سيبية الهوارى، عظيم بلاد الصعيد وأميره وحاكمه من أدناه إلى أقصاه، وكان له جنود وعدد وذخائر، ودانت له الرقاب وذلت له الصعاب، وكان خيره يعم القريب والبعيد، وكان إذا نزل بساحته الوفود والضيفان تلقاهم الخدم وأنزلوهم فى أماكن معدة لأمثالهم، وأحضروا لهم جميع ما يلزم من السكر وعسل الشمع وغير ذلك، ثم ترتب لهم الأطعمة فى الغداء
والعشاء والصباح، والمربيات والحلوى كذلك مدة إقامتهم، ولو أقاموا شهورا، وكان الفراشون والخدم يهيئون أمر الفطور من طلوع الفجر، فلا يفرغون منه إلا ضحوة النهار، ثم يشرعون فى أمر الغداء من الضحوة الكبرى إلى قرب العصر، ثم يشرعون فى العشاء فلا يفرغون منه إلا بعد العشاء
…
وهكذا، وكان ينعم بالجوارى والعبيد، والسكر والغلال والتمر والعسل.
وكان له برسم زراعة قصب السكر اثنا عشر ألف ثور، خلاف المعد للحرث ودرس الغلال، والسواقى والطواحين والجواميس والأبقار الحلابة وغير ذلك، وأما شون الغلال وحواصل السكر والتمر بأنواعه فشئ لا يعد ولا يحد، وكان له دواوين وعدة كتاب من الأقباط، لا يبطل شغلهم أبدا، وكانت له صلات وإغداقات وغلال يرسلها للعلماء وأرباب المظاهر وغيرهم بمصر وغيرها فى كل سنة.
ولم يزل هذا شأنه حتى ظهر أمر علىّ بيك الكبير، وحصل من وقائعه مع خشداشيه ما حصل، وسافر على بيك إلى الصعيد، وانضم إلى صالح بيك، ثم بعد ذلك غدر على بيك بصالح بيك فقتله، وخرجت عشيرته إلى الصعيد، وأخبرت شيخ العرب همام بذلك، فاغتم على فقد صالح بيك غما شديدا لأنه كان صديقا له، فحمله ذلك على أن أشار عليهم بذهابهم إلى أسيوط وتملكهم إياها، وقال لهم إنها باب الصعيد، فذهبوا إليها ودخلوها ليلا وملكوها، وهرب من كان فيها، ووصل الخبر إلى على بيك فأرسل تجريدة بددت شمل العصاة، وقتل منهم من قتل، وفر من فر، ثم توجه محمد بيك أبو الذهب لقتال همام لما ثبت لديهم من خيانته، وأرسل إلى عبد الله ابن عم همام يستميله، ووعده ببلاد الصعيد عوضا عن شخ العرب همام، فركن عبد الله إلى وعده، وصدق تمويهاته، وتقاعس عن القتال مع ابن عمه، وثبط
طوائفه، فعند ذلك تحقق عند شيخ العرب همام أنه مطلوب وأنه لا بد مغلوب، خصوصا مع ما وقع من فشل كبار الهوارة وأقاربه ونفاقهم عليه، فلم يسعه إلا الارتحال من فرشوط، وتركها بما فيها من الخيرات، وذهب إلى جهة إسنا فمات مكمودا مقهورا فى ثامن شعبان من سنة ثلاث وثمانين ومائة وألف، ودفن فى بلدة تسمى: قولة، عليه رحمة الله، وخلف من الأولاد الذكور ثلاثة، وهم: درويش وشاهين وعبد الكريم.
وبعد موته دخل محمد بيك أبو الذهب فرشوط، وملكها ونهبها، وأخذ جميع ما كان بدوائر همام وأقاربه، وزالت دولة شيخ العرب همام من بلاد الصعيد من ذلك التاريخ، ولما رجع محمد بيك إلى مصر، أخذ معه درويش ابن شيخ العرب، فإنه لما مات أبوه أشاروا عليه بالمقابلة، وانفصل عنه قومه، فمنهم من ذهب إلى درنة، ومنهم من ذهب إلى الروم والشام وغيرها، ولما وصلوا مصر أسكنه محمد بيك فى مكان بالرحبة المقابلة لبيته، وكان يركب لزيارة المشاهد والناس يتفرجون عليه، وكان وجيها طويلا أبيض اللون أسود اللحية جميل الصورة، ثم إن على بيك أعطاه بلاد فرشوط والوقف بشفاعة محمد بيك، وذهب إلى وطنه فلم يحسن السير والتدبير، وأخذ أمره فى الانحلال، وعين عليه من يطالبه بالأموال والذخائر، فأخذوا جميع ما وجدوه، فحضر إلى مصر والتجأ إلى محمد بيك، فأكرمه وأنزله بمنزل بجواره، ولم يزل مقيما به حتى خرج محمد بيك من مصر مغاضبا لأستاذه على بيك، فلحق به وسافر إلى الصعيد - انظر الجبرتى - وقد كتبنا طرفا من ذلك فى مدينة سيوط وغيرها.
ترجمة الشيخ حاتم الفرشوطى
وكانت هذه البلدة أيضا منبعا للأفاضل والعلماء الأماثل، ذكر فى:
(الطالع السعيد) منهم: جماعة، حيث قال: منها العالم الكبير والإمام الشهير الشيخ حاتم بن أحمد بن أبى الحسين يكنى أبا الجود الفرشوطى، كان فاضلا وله معرفة بعلوم الأوائل من/فلسفة، وكان أديبا وله نظم ونثر، وله مقامة أولها: روى فى الأخبار عن حاتم العطار، قال: خرجت بظاهر بعض الأمصار لأقضى وطرا من الأوطار، فنظرت إلى أعلام على أطلال، تلوح على البعد كالجبال، ففسحت الخطا فى السعى إليها، وعولت فى سرعة المسير عليها، فإذا هى روضة قد زهت أوساق بواسقها، وأمرعت أفنان حدائقها، وذللت قطوفها، وجلت عن الإحصاء صنوفها، ثم قال فى وصف أهلها: كحور متكئين على سرر متقابلين، قد قمصوا قمص الوقار، وتحللوا بحلل البهار والنضار، يتناشدون الأشعار الأوسية والملح الأديبة، ويتواردون الأخبار النبوية والخطب الوعظية، ويتناظرون فى الآراء الطبية والأحكام الفلكية، ويتناقدون فى النسب الهندسية والألحان الموسيقية، ويتجادلون فى المعارف الربانية والنواميس الإلهية، فبينما هم على تلك الحال، إذ ورد عليهم رجل من الرجال
…
إلخ. وهى مقامة طويلة بين فيها معرفته بهذه الفنون، توفى ببلده فى حدود السبعين وستمائة أو ما يقاربها، انتهى.
ترجمة الشيخ حمزة الملقب بسعد الدين
وفيه أيضا أن منها العالم العلامة الشيخ حمزة بن مفضل المالكى، المنعوت سعد الدين، كان فاضلا أديبا شاعرا استوطن إسنا، ويحكى أنه كان يملى فى المجلس الواحد على عشرة أنفس فأكثر فى فنون مختلفة، توفى بإسنا فى حدود السبعين وستمائة تقريبا.
ترجمة الشيخ عثمان المعروف بابن مجاهد
ومنها العالم الفاضل الشيخ عثمان بن أيوب يعرف بابن مجاهد، وينعت بعون الدين، كان فاضلا أديبا شاعرا، ومن كلامه:
يا ربع طيبة لى إليك راسيس
…
وقف عليك مدى الزمان حبيس
ساعات قربى منك هن سعادة
…
وساعات بعدى عيدهن نحوس
سقيا لأيام الوصال وطيبها
…
والحى والمغنى الغنىّ أنيس
إلى آخر قصيدة طويلة، وكان ظريف الشكل حسن الخلق، متواضع النفس، ملازما للتلاوة، عديم الطلب مع فاقته، قانعا بالقليل من الرزق، توفى ببلده فى مستهل شوال سنة تسعة وثلاثين وسبعمائة.
ترجمة الشيخ محمد بن حمزة، المنعوت بالمجد
ومنها الأستاذ الكامل الشيخ محمد بن حمزة بن سعد، ينعت بالمجد، كان شاعرا أديبا، ومن كلامه:
أنخ المطى برامة يا حادى
…
فهناك غاية مقصدى ومرادى
انزل بساحة عرب جيران النقى
…
فهناك بالتحقيق ضاع فؤادى
واسأل أهيل الحى أن يترفقوا
…
بمتيم صب حليف سهاد
طلق الحشى قد ذاب من ألم الجوى
…
وأسير هجر ما له من فاد
توفى ببلده فى سنة ثلاث عشرة وسبعمائة.
ترجمة الشيخ على الشاورى
ومنها - كما فى الجبرتى - الإمام الفقيه الشيخ على بن صالح بن موسى بن أحمد بن عمارة الشاورى المالكى، مفتى فرشوط، قدم إلى الأزهر، وقرأ العلوم، ولازم الشيخ عليا العدوى، وتفقه عليه، وسمع الحديث من الشيخ أحمد بن مصطفى الإسكندرى وغيره، ثم رجع إلى فرشوط فتولى إفتاء المالكية، وسار فيها سيرا حسنا، وكان لشيخ العرب همام فى حقه عناية شديدة وصحبة أكيدة، ثم لما تغيرت أحوال الصعيد قدم إلى مصر مع ابن شيخ العرب همام، وما زال بها حتى توفى فى ثالث عشر شعبان من سنة خمس وثمانين ومائة وألف، ودفن بالمجاورين، رحمه الله تعالى.
فرسيس
- بفتح الفاء وسكون الراء وكسر السين المهملة وياء ساكنة وسين أخرى - قريتان بمصر، إحداهما فرسيس الصغرى فى ناحية الشرقية، وفرسيس الكبرى فى جزيرة قويسنة، كذا فى:(مشترك البلدان).
فأما فرسيس الكبرى فمن مديرية الغربية بمركز زفتة، شرقى ترعة الخضراوية على بعد ألف متر، وفى غربى ناحية الغريب بنحو ألفين وسبعمائة متر، وفى شرقى دمنهور الوحش بنحو ألفين ومائتى متر، وبها جامع بمئذنة ويتبعها كفر صغير.
ترجمة الشيخ الفرسيسى
وينسب إلى هذه القرية - كما فى: «الضوء اللامع» للسخاوى - محمد بن حسن بن على بن عبد الرحمن الشمس الفرسيسى المصرى الصوفى المقرى، يعرف بالفرسيسى - بفتح الفاء وسكون الراء وكسر المهملتين بينهما تحتانية - قرية شهيرة بين زفتة وتفهنا من الغربية، ولد فى رابع رجب سنة تسع عشرة وسبعمائة، وأخذ عن أبى الفتح بن سيد الناس، وأحمد بن كشتغدى وغيرهما، وسمع على أولهما السيرة النبوية، وحدث وسمع منه الأئمة، مات فى رجب سنة ست وثمانمائة، رحمه الله تعالى. انتهى.
وأما فرسيس الصغرى فمن مديرية الشرقية بمركز الإبراهمية، فى الجنوب الشرقى لناحية كراديس بنحو ألفين وخمسمائة متر، وفى شمال بهنباى بنحو ألف وثمانمائة متر.
الفرعونيّة
قرية من مديرية المنوفية بقسم أشمون جريس، فى شرقى رياح المنوفية والغربية على نحو مائتى متر، وفى جنوب بئر شمس بنحو ثلاثة آلاف وخمسمائة متر، وفى الجنوب الغربى لساقية أبى شعرة بنحو ثلاثة آلاف/ومائتى متر، وبها جامع بمنارة، واسمها مأخوذ من اسم ترعة قديمة كانت تسمى الفرعونية، فمها عند هذه القرية، وتمر بناحية منوف وعدة بلاد إلى أن تصب فى فرع النيل الغربى عند قرية نادر، وفى أول أمرها كانت صغيرة معدة لرى جزء من الأراضى، وبسبب شدة انحدارها أخذت فى الاتساع والاستعماق سنة سنة، حتى صارت تجذب أكثر مياه بحر الشرق إلى بحر الغرب، فنشأ من ذلك
مضار جسيمة لأكثر مديريات الوجه البحرى، وتكررت الشكوى من الأهالى للحكام، فعملت جسور متينة فى زمن البيكوات، وعين للمحافظة عليها عساكر تقيم بها، ومع ذلك ففى بعض السنين كانت تنقطع الجسور، وتحمل مشاق شديدة فى سدها.
ففى الجبرتى، فى حوادث سنة ألف ومائتين وسبعة، أنه وقع الاهتمام فى شهر شعبان بسد خليج الفرعونية بسبب احتراق البحر الشرقى، ونضوب مائه، حتى ظهرت فى النيل كيمان رمل هائلة، من حد المقياس إلى البحر المالح، وصار البحر سيول جدول تخوضه الأولاد الصغار، ولا يمر به إلا صغار القوارب، وانقطع الجالب من جميع النواحى، إلا ما تحمله المراكب الصغار بأضعاف الأجرة، وتعطلت دواوين المكوس، فأرسلوا إلى سدها رجلا سليمانيا وصحبته جماعة من الإفرنج، وأحضروا أخشابا عظيمة، ورتبوا عمل السد قريبا من كفر الخضرة، وركبوا الآلات فى المراكب، ودقوا ثلاثة صفوف خوابير من أخشاب طوال، فلما أتموا ذلك كان الصناع قد فرغوا من تطبيق ألواح فى غاية الثخن، شبه البوابات العظام، مسمرة بمسامير عظيمة ملحومة بالرصاص، وصفائح الحديد مثقبة بثقوب مقيسة على ما يوازيها من بخوش مبخوشة بالخوابير، وتبعتهم الرجال بالشوانى المملوءة بالحصى والرمل من الأمام والخلف، وتبع ذلك الرجال الكثيرة فى العمل بغلقان الأتربة والطين، حتى قاربت التمام ولم يبق إلا اليسير.
ثم حصل الفتور فى العمل، بسبب أن المباشر على ذلك أرسل إلى مراد بيك بالحضور ليكون إتمامها بحضرته، ويخلع عليه ويعطيه ما وعده به من الإنعام عند التمام، فلم يحضر مراد بيك، وغلبهم الماء فتلف جانب من العمل، وكان أيوب بيك الصغير حاضرا، ومرغوبه أن
لا يتم ذلك لأجل بلاده، فأصبح مرتحلا، وتركوا العمل، وانفض الجمع بعد أن أقام العمل من أوائل شعبان إلى أواسط شوال.
ثم نزل إليها آخرون، وطلبوا جملة مراكب موسوقة بالأحجار، وشرعوا فى عمل سد من المكان القديم عند فم الترعة، ودقوا خوابير كثيرة، وألقوا أحجارا عظيمة، وفرغت الأحجار، فأرسلوا بطلب غيرها، فلم يسعفهم القطاعون، فشرعوا فى هدم الأبنية القديمة والجوامع التى بساحل النيل، وقلعوا أحجار الطواحين التى بالبلاد القريبة منها، واستمروا على ذلك حتى قوى النيل فى الزيادة ولم يتم العمل، ورجعوا كالأول، وذهب فى ذلك من الأموال والغرامات والمراكب والأخشاب ما لا يحد ولا يعد.
وفى سنة اثنتى عشرة اجتهد فى سدها المصريون حتى سدوها، وبقى ذلك إلى أن استولت الفرنساوية على مصر، فتشكى أهل المنوفية والبحيرة إلى رئيس الفرنساوية بنوبارت من إدامة سدها، وعدم فتحها بعد نزول النيل، مع أن ذلك كان هو العادة القديمة، وكانوا ينتفعون بها عند فتحها، فصدرت أوامره لحاكم المديرية بالنظر فى ذلك، وتحول النظر فيها إلى مدير الهندسة، فقدم تقريرا بعمل هويس عند منوف لتتأتى مصلحة الرى والتجارة معا، وقال إنه لا يتأتى الوفاء بالغرضين إلا بذلك، وبسبب اشتغالهم بالحروب، وعدم طول إقامتهم بمصر، لم يجروا ذلك العمل، وكانت هذه الترعة داخلة فى ضمن تصميم عمومى عملوه لنقل البضائع الواردة فى البحر الأحمر على مدينة السويس إلى مدينة الإسكندرية، بأن يعمل ترعة من السويس إلى البرك المرّة، ويحفر الخليج القديم المعروف بخليج أمير المؤمنين، من ابتداء البرك المرّة إلى أن تلاقى مع بحر مويس بقرب بوباسط، ومن بحر مويس بواسطة فرع النيل الشرقى يتوصل إلى
الفرعونية، ومنها إلى بحر الغرب، ثم تعمل ترعة إلى الإسكندرية، وفى ذلك التصميم عدة هويسات وقناطر ومبان ولم يتم ذلك كما مر، ثم بعد رحيلهم من هذه الديار استمر إهمال هذه الأمور التى منها المنافع العمومية، وأهمل أمر الجسور وغيرها، فانفتحت تلك الترعة، وحصل منها الضرر العام.
وفى ربيع الأول من سنة إحدى وعشرين ومائتين وألف اهتم العزيز محمد على بسدها، وعين لها السيد محمد المحروقى، وكانت قد انفتحت من محل ينفذ إلى جهة الترعة المسماة بالفيض، وكان ذلك بمباشرة أيوب بك الصغير، لئلا ينقطع الماء عن بلاده، فتهورت هذه الناحية أيضا واتسعت، وقوى اندفاع الماء إليها حتى جف البحر الغربى والشرقى، وتغير ماء النيل، وظهرت فيه الملوحة من حدود المنصورة، وتعطلت مزارع الأرز وشرقت بلاد البحر الشرقى، وشربوا الأجاج وماء الآبار والسواقى، فحصل العزم على سدها، وتقيد بذلك السيد محمد المحروقى وذو الفقار كتخدا، وطلبوا المراكب لنقل الأحجار من الجبل، وذهب ذو الفقار إلى جهة السد، /وجمع العمال والفلاحين، وسيقت إليه المراكب المملوءة بالأحجار من أول شهر صفر إلى وقت تاريخه، وجبوا الأموال من البلاد لأجل النفقة على ذلك، ثم سافر السيد محمد المحروقى أيضا، وبذل جهده ورموا بها من الأحجار ما يضيق به الفضاء فى الكثرة.
وتعطل بسبب ذلك المسافرون لقلة المراكب وجفاف البحر الغربى، والخوف بالسلوك فيه من قطاع الطريق والعرب، فكانت مراكب المعاشات التى تأتى بالمسافرين وبضائع التجار ترسو على محل العمل، وينقل ما بها من الشحنة والبضائع إلى البر، ثم ينقل إلى السفن والقوارب التى تنقل الأحجار، ثم يأتون بها إلى ساحل بولاق، فيخرجون ما فيها إلى البر، وتذهب السفن والقوارب إلى نقل الأحجار،
ولا يخفى ما يحصل من ذلك فى البضائع من التلف والضياع والسرقة وزيادة الكلف ونحو ذلك من الخسارات، وطال أمد هذا الأمر، وفى أواخره نزل الباشا للكشف على الترعة، فغاب يومين وليلتين، ثم عاد إلى مصر. انتهى. ولم يفهم منه هل سدت فى تلك المدة أم لا.
وفيه أيضا أنه قوى الاهتمام بسدها فى شهر ذى الحجة سنة ثلاث وعشرين، وتعين لذلك شخص يسمى عثمان السلانكلى، الذى كان مباشرا على جسر الإسكندرية، وسافر إليها أول الشهر، وفى منتصفه سافر الباشا وصحبته حسن باشا لمباشرتها، وأمر بسوق الأحجار، وجمعوا لذلك عدة كبيرة من المراكب، تشحن بالأحجار والأخشاب كل يوم، وجلب لها الرجال من القرى للعمل.
وفى غرة ربيع الأول من سنة أربع وعشرين كمل سدها، واستمر العمل فيها بعد ذلك لتأييد السد بالأحجار والمشمعات والأتربة نحو ستة أشهر، وصرف عليها من الأموال ما لا يحصى، وجرى البحر الشرقى وغزر ماؤه، وجرت فيه السفن من دمياط بعد أن كان مخاضة، وأقام بالسد عمر بيك تابع الأشقر لخفارته وتعهد الخلل. انتهى.
ويؤخذ منه أنها انفتحت بعد ذلك، فإنه ذكر فى حوادث سنة ست وعشرين أن الباشا نزل فى يوم الاثنين رابع عشر ربيع الأول من تلك السنة إلى المترعة الفرعونية للاهتمام بسدها، ونقل الأحجار فى المراكب، وأقام عند السد أربعة أيام، ثم ذهب إلى الإسكندرية عندما أتته الأخبار بمجئ الإنكليز لأجل مشترى الغلال، فذهب ليبيعها عليهم. انتهى.
ومن جميع ما مر، يعلم أن هذه الترعة كانت من الأمور المعتنى بها، وكان يترتب دائما على جسرها الخفرة والمحافظون، وفى كل حين يصير مرمة سدها وتقويته حتى لا تنقطع، وصرفت عليها
مصاريف جسيمة، وكان البحر يدخلها فى أيام زيادته من جهة بحر رشيد ومن تصافى الترع، وبذلك كان انتفاع البلاد المجاورة لها، ولما صار الشروع فى اتساع دائرة الزراعة الصيفية، وعملت الترع والخلجان اللازمة لذلك فى جميع المديريات البحرية، صار الاستغناء عن هذه الترعة بالكلية، وسدت من جهة الغرب أيضا، وبقيت زمنا يصرف فيها المياه المجاورة لها، وأخذت فى الارتدام.
وفى زمن المرحوم سعيد باشا أعطى أغلبها أباعد، وجرى فيها الإصلاح، وللآن باق منها برك بقرب منوف وغيرها، وفى الجبرتى أيضا أن قرية الفرعونية كانت فى التزام محمد أغا كتخدا الجاويشية سابقا، وكان مقيما بها وقت وقعة المماليك بقلعة الجبل بمصر، وبسبب ما بينه وبين كتخدا الباشا من المنافرة من مدة سابقة، أرسل كتخدا إلى كاشف المنوفية قبل الحادثة بيوم يأمره بقتله، فأرسل الكاشف طائفة من العسكر، فدخلوا عليه وقت الفجر فى شهر صفر سنة ست وعشرين ومائتين وألف، وهو يتوضأ لصلاة الصبح، فقتلوه واحتزوا رأسه وأخذوها إلى مصر.
وحاصل حادثة المماليك المذكورة أن العزيز محمد على لما قلد ابنه طوسون باشا سر عسكر الركب المتوجه إلى الحجاز، وخرجت جيوشه إلى قبة العزب، نوه أيضا بتوجيه عساكر إلى جهة الشام لتمليك يوسف باشا محله الذى كان عزل عنه، وجعل رئيسهم شاهين بيك الألفى، وعينوا يوم الجمعة للسفر، فلما كان يوم الخميس طاف ألاى جاويش بالأسواق على الهيئة القديمة فى المناداة للمواكب العظيمة، وهو لابس الضلمة والطبق على رأسه، وراكب حمارا عاليا، وأمامه مقدم بعكاز، وحوله قبجية ينادون بقولهم:(يارن ألاى) ويكررون ذلك فى أخطاط المدينة، وطافوا بأوراق التنبيهات على كبار
العسكر والأمراء المصريين الألفية وغيرهم، يطلبونهم للحضور فى باكر النهار إلى القلعة، ليركب الجميع بتجملاتهم وزينتهم أمام الموكب.
فلما أصبح يوم الجمعة، ركب الجميع فى الساعة الخامسة، وطلعوا إلى القلعة وطلع المصريون بمماليكهم وأتباعهم وأجنادهم، فدخل الأمراء عند الباشا وصبحوا عليه، وجلسوا معه حصة، وشربوا القهوة وتضاحك معهم، ثم انجر الموكب على الوضع الذى رتبوه، فانجر طائفة الدلاة وأميرهم المسمى أزون على، ومن خلفهم الوالى والمحتسب والأغا والوجاقلية والألداشات المصرية، ومن تزيا بزيهم، ومن خلفهم طوائف العسكر الرجالة والخيالة، والبيكباشيات وأرباب المناصب، وإبراهيم أغا أغا الباب، وسليمان بك البواب يذهب ويجئ ويرتب الموكب.
/وكان العزيز قد بيت قتل جميع الأمراء المماليك وأتباعهم؛ ليتخلص من شرهم، ويريح القطر من أذاهم ونهبهم وسلبهم، وأسر ذلك إلى حسن باشا وصالح قوج والكتخدا فقط، وفى صبح ذلك اليوم أسروا به إبراهيم أغا أغا الباب، فلما انجر الموكب وانفصل الدلاة ومن خلفهم من الوجاقلية والالداشات المصرية عن باب العزب، أمر صالح قوج عند ذلك بغلق الباب، وعرف طائفته بالمراد، فالتفتوا ضاربين للمصريين، وقد انحصروا بأجمعهم فى المضيق المنحدر، وهو الحجر المقطوع فى أعلى باب العزب، فيما بين الباب الأسفل والباب الأعلى الذى يتوصل منه إلى سوق القلعة.
وكانوا قد أوقفوا عدة من العسكر على الحجر والحيطان، فلما حصل الضرب من التحتانيين، أراد الأمراء الرجوع إلى القهقرى، فلم يمكنهم ذلك لانتظام الخيول فى مضيق النقر، وأخذهم ضرب البنادق
والقرابين من خلفهم أيضا، وعلم العساكر الواقفون بالأعلى المراد، فضربوا أيضا، فلما رأى المصريون ما حل بهم، ارتبكوا فى أنفسهم، وسقط فى أيديهم، وتحيروا فى أمرهم، ووفع منهم أشخاص بكثرة، فنزلوا عن الخيول، واقتحم شاهين بيك وسليمان بيك البواب وآخرون، وعدة من مماليكهم راجعين إلى فوق والرصاص نازل عليهم من كل ناحية، ونزعوا ما كان عليهم من الفراوى والثياب الثقيلة، ولم يزالوا سائرين شاهرين سيوفهم، حتى وصلوا إلى الرحبة الوسطى المواجهة لقاعدة الأعمدة، وقد سقط أكثرهم، وأصيب شاهين بيك وسقط إلى الأرض، فقطعوا رأسه وأسرعوا بها إلى الباشا ليأخذوا عليها البقاشيش.
وكان الباشا عندما ساروا بالموكب قد ركب من ديوان السراى إلى بيت الحريم، وهو بيت إسماعيل أفندى الضربخانة، وأما سليمان بيك البواب، فهرب من حلاوة الروح وصعد إلى حائط البرج الكبير فتابعوه بالضرب، حتى سقط وقطعوا رأسه أيضا، وهرب كثير إلى بيت طوسون باشا فقتلوهم، وأسرف العسكر فى قتل المصريين، وسلب ما عليهم من الثياب، وقتلوا معهم من وافقهم من طوائف الناس وأهالى البلد وكل من تزيا بزيهم، وقبضوا على من أدرك حيا، وقتلوهم فى حوش الديوان، واستمر القتل من ضحوة النهار إلى أن مضى حصة من الليل على المشاعل، هذا ما حصل بالقلعة.
وأما أسفل المدينة فإنه عندما أغلق باب القلعة، وسمع من الرميلة صوت الرصاص، وقعت الكبسة فى الناس، واتصلت بأسواق المدينة، وأغلق الناس الحوانيت، وانتشرت العساكر إلى بيوت الأمراء المصريين ومن جاورهم كالجراد، ونهبوها نهبا بليغا حتى حلى النساء.
وركب الباشا ضحوة ثانى يوم، ونزل من القلعة بموكب حافل، ومنع النهب، ودخل بيت الشرقاوى وجلس عنده ساعة لطيفة، وكذا ابنه طوسون دخل البلد، ومنع العسكر من الإفساد والنهب، وأرسل الباشا كتخدا باشا إلى القرى والبلدان لضرب عنق من وجدوه بها من الكشاف التابعين للمصريين، فضربت أعناقهم، ومات فى هذه الوقعة نحو الألف ما بين أمير وكاشف وجندى، وكانوا يحملونهم على الأخشاب ويرمونهم عند المغسل بالرميلة، وقد عروهم من ثيابهم، ثم يلقونهم بحفرة من الأرض قيل إنها بقرة ميدان، ولم ينج من الألفية إلا أحمد بيك زوج عديلة هانم، فإنه كان غائبا بناحية بوش، وأمين بيك تسلق من القلعة وهرب إلى ناحية الشام.
وممن قتل يومئذ من مشاهيرهم شاهين بيك كبير الألفية، ونعمان بيك، وحسين بيك الصغير، ومصطفى بيك الصغير، ومراد بيك الكلارجى، ومرزوق بيك ابن إبراهيم بيك الكبير، إلى آخر ما فى الجبرتى، وقد وجدت أم مرزوق بيك عليه وجدا عظيما، وطلبته فى القتلى، فعرفوا جثته بعلامة فيه وجمجمته يكونه كان كريم العين، فأخرجوه وكفنوه ودفنوه فى تربتهم، وذلك بعد يومين من الحادثة، واجتمع عندها كثير من نساء المقتولين، وأقاموا على الحزن شهورا، وفى يوم الحادثة أرسل محرم بيك صهر العزيز حاكم الجيزة، فجمع ما للمصريين من الخيول والهجن وغيرها، وفى ثامن الشهر نودى على نساء المقتولين بالعود إلى بيوتهن. انتهى.
وكان موتهم رحمة الله للعباد وعمارة للبلاد، وأمنت بعدهم السبل برا وبحرا.
الفرماء
- بفتح أوله وثانيه ممدودا وقد يقصر - مدينة تلقاء مصر قاله البكرى، وفى (تقويم البلدان): إنها بلدة على شاطئ بحر الروم خراب، وهى بالقرب من قطية، على بعد يوم، قال ابن حوقل وبها قبر جالينوس، وعن ابن سعيد أن عند الفرماء بقرب بحر الروم من بحر القلزم حتى يبقى بينهما نحو سبعين ميلا. انتهى.
وقال ابن خالويه: إنها سميت بأخى الإسكندر وكان يسمى الفرماء، وكان كافرا، وهى قرية أم إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام. انتهى.
قاله المقريزى، قال: وكانت الفرماء على شط بحيرة تنيس، وكانت مدينة حصينة، وبها قبر جالينوس الحكيم، وبنى بها المتوكل على الله حصنا على البحر، تولى بناءه عنبسة بن إسحق أمير مصر فى سنة تسع وثلاثين ومائتين عندما بنى حصن دمياط وحصن تنيس.
وقال اليعقوبى: الفرماء أول مدن مصر من جهة الشمال وبها أخلاط/من الناس، وبينها وبين البحر الأخضر ثلاثة أميال، وقال ابن الكندى: الفرماء أكثر عجائب وأقدم آثارا من غيرها، ويذكر أهل مصر أنه كان منها طريق إلى جزيرة قبرس فى البر، فغلب عليه البحر، ويقولون أنه كان فيما غلب عليه البحر مقطع الرخام الأبلق، وأن مقطع الأبيض بلوينة، وقال يحيى بن عثمان: كنت أرابط فى الفرماء، وكان بينها وبين البحر قريب من يوم، يخرج الناس والمرابطون فى أخصاص على الساحل، ثم علا البحر على ذلك كله، وقال ابن قديد:
وجه ابن المدير - وكان بتنيس إلى الفرماء - فى هدم أبواب من
حجارة شرقى الحصن، احتاج أن يعمل منها جيرا، فلما قلع منها حجرا أو حجرين خرج أهل الفرماء بالسلاح، فمنعوه من قلعها، وقالوا هذه الأبواب التى قال الله فيها على لسان يعقوب عليه السلام:{يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ}
(1)
.
والفرماء بها النخل العجيب، الذى يثمر حين ينقطع البسر والرطب من سائر الدنيا، فيبتدئ هذا الرطب حين يأتى كوانين، فلا ينقطع أربعة أشهر حتى يجئ الثلج فى الربيع، وهذا لا يوجد فى بلد من البلدان، لا بالبصرة ولا بالحجاز ولا باليمن ولا بغيرها، ويكون فى هذا البسر ما وزن البسرة الواحدة فوق العشرين درهما، وفيه ما طول البسرة نحو الشبر والفتر.
وقال ابن الكندى أيضا: وبها مجمع البحرين، وهو البرزخ الذى ذكره الله عز وجل فقال:{مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (19) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ}
(2)
وقال: {وَ جَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً}
(3)
وهما بحر الروم وبحر الصين، والحاجز بينهما مسيرة ليلة ما بين القلزم والفرماء، وليس يتقاربان فى بلد من البلدان أقرب منهما بهذا الموضع، وبينهما فى السفر مسيرة شهور.
وقال ابن المأمون البطانحى فى حوادث سنة تسع وخمسمائة أن يغدونى ملك الإفرنج، وصل إلى أعمال الفرماء، فسير إليه الأفضل ابن أمير الجيوش العساكر مع والى الشرقية، فلما تواصلت العساكر، وعلم يغدونى أن العساكر متواصلة إليه، وتحقق أن الإقامة لا تمكنه، أمر أصحابه بالنهب والتخريب والإحراق، وهدم المساجد، فأحرق
(1)
سورة يوسف، الآية 67.
(2)
سورة الرحمن، الآية 19، 20.
(3)
سورة النمل، الآية 61.
مساجدها وجميع البلد، وعزم على الرحيل، فأخذه الله سبحانه وتعالى، فشق أصحابه بطنه وملؤوه ملحا وأخذوه إلى بلاده، وأما العساكر الإسلامية، فإنهم شنوا الغارات على بلاد العدو، وعادوا بعد أن خيموا على ظاهر عسقلان، وبلغ المنفق فى هذه النوبة وعلى ذهاب يغدونى وهلاكه مائة ألف دينار.
وفى شهر رجب سنة خمس وأربعين وخمسمائة، نزل الإفرنج على الفرماء فى جمع كبير، وأحرقوها ونهبوا أهلها، وآخر أمرها أن الأمير شاور خربها، لما خرج منها متوليها ملهم أخو الدرغام، فاستمرت خرابا لم تعمر بعد ذلك. انتهى ملخصا من المقريزى.
ونقل لينان بيك عن مؤرخى الإفرنج أن الفرماء كانت مدينة من مدن مصر بنيت فى زمن العرب، ولم تبق غير مدة يسيرة، وفى القرن الثالث عشر من الميلاد كانت قد آل أمرها إلى الخراب، وذكر أبو الفداء فى تخطيط مصر، نقلا عن ابن حوقل، أنه رأى فى مدينة الفرماء قبر غليان الطبيب، ورده العالم سوارى بأن غليان دفن فى مدينة بيرجرام، التى هى وطنه، وغاليان المذكور كان قد تلقى الطب فى مدرسة الإسكندرية، وسافر إلى مدينة رومة وعمره أربع وثلاثون سنة، وكان واسع العلم والمعرفة ذا شهرة عظيمة، واختاره القيصر مر قوريل حكيمه، ومن بعده كان حكيما لاثنين من القياصرة، ثم فى آخر عمره فارق رومة، وذهب إلى مدينة بيرجرام، فأقام بها إلى أن مات وعمره ثلاث وستون سنة، ولعل القبر الذى رآه ابن حوقل بمدينة الفرماء هو قبر الأمير بومبيوس، وكان قريبا من جبل كامسيوس كما قال بلين.
وذكر أبو الفداء بناء على قول ابن سعيد أن برزخ السويس عرضه فى هذا الموضع ثلاثة وعشرون فرسخا، وأن عمرو بن العاص أراد حفر ترعة فيه ليصل بين البحرين فمنعه عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وبهذه المدينة قبر جالينوس الحكيم، كما فى كتاب:«سرح العيون شرح رسالة ابن زيدون» للفاضل جمال الدين محمد بن نباتة المصرى، قال فيه: وجالينوس هو آخر الحكماء المشهورين، ويسمى خاتم الأطباء والمعلمين، فإنه عند ظهوره وجد صناعة الطب قد كثرت فيها أقوال الأطباء السوفسطائيين، ومحيت محاسنها، فانتدب لذلك وأبطل آراءهم، وشيد آراء أبقراط والتابعين له ونصرها، وساح وطلب الحشائش، وجرب وقاس أمزجتها وطبائعها، وشرح الأعضاء، ووضع الكتب النفيسة فى هذه الصناعة، وهى مادة الأطباء إلى يومنا هذا، وأشهرها الكتب الستة التى شرحها الإسكندرانيون، ولم يأت بعده إلا من هو دون منزلته.
وكانت وفاته بعد مبعث المسيح عليه السلام ولم يره، حكى أنه لما بلغه دعوى المسيح صلوات الله عليه إحياء الموتى، وخلق الطير، وإبراء الأكمه والأبرص، قال لمن حوله من التلاميذة: إن علم من هذا المدعى بما لا تستقل به الطبيعة، سفه قبل ما ادعاه لا يخاطب، ويحمل فيما ادعاه على ما تقدم العلم منه من السفه، وإن لم يعلم منه سفه تقدم دعواه يطالب بالبيان لإمكانه مما وراء عالم الطبيعة، وذلك سبيل كل ناطق/يقوم فى ابتداء كل قرن يأتى من الزمان للاضطرار إليه عند ظهور الفساد فى الأرض، سبيله الدعوى بما لا تستقل به الطبيعة، لانقياد الناس إلى طاعته بعد القيام بصحة ما ادعاه، فمن سلك سبيله بعد ذلك تمت حركته، ثم تجهز للاجتماع به، وسار إليه فمات فى طريقه بمدينة الفرماء، وهى على شاطئ بحيرة تنيس، وبها قبره، ولما اشتد به المرض قيل له ألا تتداوى، قال: إذ نزل قدر الرب بطل حذر المربوب، ونعم الدواء الأجل ثم مات مبطونا، ومات أرسطاطاليس بالسل، ومات أفلاطون مبرسما، ومات أبقراط مفلوجا.
ومن حكايات جالينوس عن نفسه قال: مررت بشيخ يزرع شجرة، فقلت: يا شيخ ما تزرع، فقال: شجرة ثمرتها لى ولك، قلت: وما هى، قال: شجرة المشمش، ثمرتها لى لأنى آخذ ثمنها، ولك لأنها تكثر المرضى فتأخذ من أموالهم، وحكى عن نفسه فى معرفة التشريح، قال: أعرف رجلا شكا ضعف شهوة الطعام، فوضعت على رقبته أدوية فبرئ لأن فى العضوين المجاورين للعرقين النابضين شعبة إلى فم المعدة تنال منها الحس، وكان فى رقبة ذلك الرجل خنازير، فقطعها الأطباء، فأضر ذلك بتلك القصبة التى منها الشعبة، وبرئت رقبته، وصار ضعيف الشهوة عن الطعام، فوضعت عليها الأدوية المقوية فبرئ.
ومن كلامه: الإنسان سراج ضعيف، كيف يدوم ضوؤه بين رياح أربع يعنى الطبائع. وقال: الإنسان إلى تجنب ما يضره أحوج منه إلى تناول ما ينفعه، وقال: من كان له درهم فليجعل نصفه فى النرجس، فإنه راعى الدماغ، والدماغ راعى العقل، ورأى مصارعا كان لا يرمى أحدا قد صار طبيبا، فقال: الآن كما صرعت الناس. انتهى.
فائدة
قال دساسى: إن ابن الكندى هو أبو عمر أو أبو عمرو محمد بن الكندى بن يوسف، قال المقريزى: هو أول من كتب خطط مصر، ولم يذكر تاريخ كتابتها، وقال السيوطى فى:«حسن المحاضرة» : إن محمد ابن يوسف بن يعقوب صنف: (فضائل مصر) وكتاب: (قضاة مصر) كان فى زمن كافور. انتهى. وقد ألف ابن زولاق ذيلا على كتاب: قضاة مصر للكندى. انتهى. وفى كتاب: «كشف الظنون» أن ابن الكندى مات سنة ست وأربعين ومائتين هجرية.
فزارة
- بفاء وزاى مفتوحين وبعد الألف راء فهاء تأنيث - عدة قرى ببلاد مصر، منها: فزارة قرية من مديرية سيوط بقسم نزالى جنوب غربى البحر الأعظم بقليل، وفى شمال نزالى جنوب بنحو ثلثى ساعة، وشرقى ناحية سنبو بنحو ساعة، فى مقابلة قصير العمارنة، التى هى فى شرقى البحر الأعظم، وبها جامع وشون غلال للميرى، ومحل ينزله الحاكم، وفى شرقيها جنينة لسليم باشا السلحدار، وله بها أطيان، وكانت فى عهدته سابقا، وبدائرها نخيل كثير، ولها سوق جمعى، وقد نشأ منها حضرة الأمير على بيك إبراهيم أحد أعضاء مجلس استئناف بالإسكندرية.
فزارة
قرية صغيرة بقسم سوهاج من مديرية جرجا، بين جهينة ونزة، ونخيلها متصل بنخيل جهينة، بل بيوتهما متجاورة، كأنهما بلدة واحدة، وترعة السوهاجية تمر فى شرقيها قريبا، فهى فى طرف بساط الجبل الغربى كناحية جهينة.
فزارة
قرية من قسم بنى سويف، فى شمال سفط رشين بنحو ألف وثلثمائة متر، وفى الجنوب الغربى لناحية ننا - بنونين فألف - بنحو ألفين وثلثمائة متر، وبها جامع وقليل نخيل.
فزارة
قرية من مديرية البحيرة بمركز دفينة، على الشاطئ الغربى لفرع رشيد، وفى قبلى دفينة بنحو ربع ساعة، وفى شمال منية السعيد كذلك، وبها جامع بداخله ضريح يعرف بضريح الشيخ موسى كساب الشافعى، وبها ضريح يقال له ضريح الشيخ على بدير الفزارى، وفى بحريها حديقتان وقليل نخيل وأشجار، وأغلب أهلها مسلمون، وقد نشأ منها على أفندى رشيد، خوجة رياضة بالمدارس الحربية برتبة صاغقول أغاسى.
والظاهر أن أهالى هذه القرى من عرب فزارة قيس، كما يؤخذ من كتاب:(البيان والإعراب عمن بأرض مصر من الأعراب) للمقريزى، فإنه قال: وبأرض مصر أيضا فزارة قيس، وهم بنو فزارة بن ذبيان - بضم الذال المعجمة وكسرها - ابن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس بن عيلان، وسمى فزارة واسمه عمر، ولأن سعد بن ذبيان أخاه فزر ظهره، فكانت به فزرة، فسمى فزارة.
وفى فزارة هذه عدة عشائر، كبنى شمخ وظالم ومرة ومازن وشكم وسعد ولوذان وغير ذلك، وفزارة هذه منها جماعة بالصعيد، وجماعة بضواحى القاهرة فى قليوب وما حولها، وبهم عرفت البلد المسماة بخراب فزارة. انتهى، وإلى هذه القرية تنسب ترعة فزارة التى تستمد منها بحيرة اتكو، وفم هذه الترعة بحرى سكن الناحية المذكورة.
الفشن
- بفاء مفتوحة فشين معجمة ساكنة فنون - مدينة قديمة من مدن الأقاليم الوسطى، بينها وبين البحر نحو ثلثمائة قصبة، واسمها القديم القبطى فنشى - بتقديم النون على الشين - كما فى خطط الرومانيين وكتب المؤرخين، وقد ورد عن السلف أن بعدها عن مدينة هيراكليو خمس وعشرون ميلا روميا، وبعدها عن محطة تامونتى عشرون ميلا فقط.
وفى بعض/كتب الجغرافيين أن مدينة الفشن مبنية فى محل مدينة فنشى المذكورة، لأن البعد بين مدينة أهناس التى هى محل مدينة هيراكليو وبين مدينة الفشن سبعة وثلاثون ألف متر، وذلك عين الخمسة والعشرين ميلا المذكورة، ومدينة تاكونا كانت فى الجهة البحرية من مدينة أكسورينكوس، وعلى بعد عشرين ميلا من سينا من جهة الجنوب، والقبط يطلقون على تاكونا اسم شيندر، ومحلها الآن قرية شرونة.
وكانت الفشن من ضمن أعمال البهنسا، ثم صارت فيما بعد من مديرية المنية إلى الآن، وبجوارها استجد فى زمن العزيز محمد على ترعة فمها من قبليها، وكانت تتفرع بالقرب منها فرعين، فرعا يمر من شرقيها، بينها وبين ديوان أحمد باشا طاهر، وفرعا يمر من غربيها، ثم يلتقيان من بحريها، فتستمر داخلة فى الحيضان نحو 8000 قصبة، فتروى جملة حيضان، ويتفرع منها فروع تروى حوض السمسطاط السطانى، وزمامه قريب من 4000 فدان، والآن قطعتها ترعة الإبراهمية.
وقد بنى بها أحمد باشا طاهر لما كان مدير الأقاليم الوسطى سنة 1244 قصرا وديوانا، وبها قشلاق للعساكر، وبها جوامع بمنارات أشهرها جامع الشيخ شمردن، وبه ضريحه مشهور، وبها سوق دائم بدكاكين عامرة بالسلع وقهاو ونحو ذلك، وسوقها العمومى كل أسبوع، يجتمع فيه خلق بكثرة، وكانت قبل أحمد باشا ملحقة بالأرياف، فأصلح فيها وعمر، ورتب فيها عوائد مستحسنة مما فى البنادر، فقد قيل أنه منع جلوس النساء فى الحارات وخروجهن مكشوفات، وألزمهم بإغلاق الأبواب، وكنس الحارات، وإدامة النظافة، حتى تخلق كثير منهم بذلك، واستمرت كذلك إلى الآن، بل ازدادت عمارتها تبعيتها للدائرة السنية، وحدوث الترعة الإبراهيمية بجوارها ومحطة السكة الحديد، وإقامة ناظر القسم بها، فقد كثرت فيها المبانى والسكان، ونمت فيها الأرزاق.
ذكر بعض أحوال أحمد باشا طاهر
ثم إن أحمد باشا المذكور هو ابن طاهر باشا الآتى ذكره، تعين حاكمدار الوجه القبلى من سيوط إلى إسنا فى نحو سنة 1237، وهو الذى أنشأ عتبة الترعة السوهاجية - كما ذكرنا ذلك هناك - وفى سنة ثمان وثلاثين ظهر رجل من الصعيد الأعلى اسمه الشيخ أحمد تلقب بالمهدى، واجتمع عليه خلق كثير من بلاد كثيرة، وأظهر مخالفة الحكام، وطرد بعضهم من بلاد الصعيد، وقامت معه البلاد، وتجرأ على نهب أشوان الديوان، وأخذ الأموال الميرية، وكان يعطى المأخوذ منه أوراقا بختمه بالاستلام، فقام أحمد باشا طاهر وجهز العساكر، وتجهز أيضا الشيخ أحمد المذكور، وتقابل معه فيما بين ناحية الخربة
والشرفاء من بلاد قنا، فحصلت بينهم وقعة مهولة مات فيها من جموع الشيخ أحمد ألوف كثيرة، ثم فر هاربا إلى بلاد الحجاز، وانقطع خبره.
وفى سنة 44 جعل أحمد باشا حكمدار الأقاليم الوسطى، وجعل إقامته فى ناحية الفشن، وبنى بها هذه المبانى، وأصلح فيها كثيرا وأزال بعض تلولها، وفى سنة خمسين رفع من الخدمة، وبقى بيته إلى أن توفى فى سنة ثمان وستين هجرية، وكان ذا حدة وتكبر جبارا ظلوما غليظ القلب، قتل كثيرا من الناس أيام حكمه، لكنه قلل المفسدين من بلاد الصعيد والأقاليم الوسطى، وكان محبا للنساء، وخلف كثيرا من الذرية ذكورا وإناثا، باق منهم إلى الآن ستة من الذكور، وأربع من الإناث.
وترك كثيرا من العقار، وقد وقف أكثرها على زوجته، فمن أملاكه:
قصر بجزيرة بدران فى بحرى بولاق وبستان هناك نحو سبعين فدانا، وقد آل ذلك بالشراء إلى المرحوم طوسون باشا ابن المرحوم سعيد باشا، وبنى بها سراى بهجة نضرة، ومنها المنزل المعروف بثلاثة ولية فى الأزبكية، وهو الذى مات فيه، واشتراه المرحوم عباس باشا، وشرع فى بناء سراى فيه لنفسه، ومات قبل إتمامها، وهى الآن فى ملك الدائرة السنية، وسراى العتبة الخضراء التى هى الآن محل ديوان الداخلية والأشغال العمومية، ثم نقلا منها، وجعل فيها مجلس الحقانية المختلطة، هى ما بناه المرحوم عباس باشا فى هذا المنزل ماعدا الجنينة، وبعض زيادات فإنها حدثت فى مدة الخديوى إسماعيل باشا، وباقى السراى يقيم به عساكر المحافظة المعروفون بالكمسيون، وله منزل كبير بجوار سيدنا الحسين قريب من المحكمة الشرعية، إلى غير ذلك من الأملاك الكثيرة، التى يبلغ إيرادها شهريا نحو مائتى جنيه على ما يقال، غير الأمتعة والأثاث الكثير.
ومع كثرة مخلفاته فذريته من بعده لم ينجحوا، بل اغتروا بكثرة الأموال، وأمنوا غائلة الدهر، فخانهم وقهرهم، وصرفوا الأموال فى غير وجهها، وخالطوا الأوباش، وغلبت عليهم طباعهم، سيما مع عدم تربيتهم الأصلية، وقد حاول الديوان إصلاحهم، ورتب بعضهم فى الوظائف الميرية، فلم يصلحوا وساء سيرهم وسيرتهم، وركبتهم الديون، والتحقوا بمن لا خلاق لهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ترجمة طاهر باشا
وأما والده فقد ترجمه الجبرتى فى تاريخه، فقال: هو الصدر المعظم والدستور المكرم الوزير طاهر باشا، ويقال إنه ابن أخت العزيز محمد على، وكان ناظرا على ديوان الجمرك ببولاق، وعلى الخمارات، وكانت مصارفه من ذلك، /وشرع فى عمارة داره التى بالأزبكية، بجوار بيت الشرايبى، تجاه جامع أزبك على طرف الميرى، واحترق منها جانب، ثم هدم أكثرها، وخرج بالجدار إلى الروضة، وأخذ منها جانبا، وأدخل فيه بيت رضوان كتخدا، الذى يقال له: ثلاثة ولية، تسمية له باسم عمودى الرخام الملتقيين على مكسلتى الباب الخارج، وشيد البناء بخرجات فى العلو متعددة، وجعل بابه مثل باب القلعة، ووضع فى جهتيه العمودين المذكورين، وصارت الدار كأنها قلعة مشيدة فى غاية من الفخامة، فما هو إلا أن قارب الإتمام وقد اعتراه المرض، فسافر إلى الإسكندرية بقصد تبديل الهواء، فأقام هناك أياما، وتوفى فى شهر جمادى الثانية سنة ألف ومائتين وثلاث وثلاثين، وأحضروا جثته أواخر الشهر، ودفنوه فى مدفنه الذى بناه محل بيت الزعفرانى بجوار السيدة زينب بقناطر السباع، وترك ابنه مراهقا، فأبقاه الباشا على منصب أبيه ونظامه وداره. انتهى.
ولكن أخبرنى من أثق به أن طاهر باشا ليس ابن أخت العزيز محمد على، وإنما هو من بلده، فهو من ناحية قوله، ثم أن فى جنوب هذه البلدة بنحو أربعمائة متر فوريقة تبع الدائرة السنية لعصر القصب وعمل السكر، وهى فوريقة إنكليزية محضرة من فابريكة الخواجه أندرسن، وفى غربيها بنحو مائتى متر محطة السكة الحديد، يخرج منها فرع يوصل إليها وفرع صغير يوصل إلى النيل، وفوق جنبة السكة كوبرى يمر عليه فرع لنقل القصب من الغيطان، يمتد مغربا نحو خمسمائة متر، ويتفرع ثلاثة فروع.
أحدها: يتجه إلى الشمال، ويمر فى شرقى البوج ونزلة البابا على بعد مائة وخمسين مترا، ويستمر إلى الزاوية الخضراء، فيكون طوله خمسة آلاف متر.
والآخر: متجه إلى الشمال الغربى حتى يتلاقى مع جنبة جسر الحوشة، وطوله ألفان وخمسمائة متر.
والثالث: يتجه جنوبا بقدر ألفى متر، ثم مغربا بقدر ألف وسبعمائة خمسين مترا، فيتلاقى مع جنبة جسر الحوشة أيضا.
وأراضى هذا التفتيش ثلاثة عشر ألف فدان وأربعمائة، ويزرع منها ستة آلاف قصبا، والباقى يزرع قمحا وفولا وشعيرا وغير ذلك، وجميعها تروى من الترعة الإبراهيمية بالفيضان فى زمنه، وبالآلات المركبة على الجنبة والإبراهيمية فى غير زمن الفيضان، ثم إنه يتحصل من الفوريقة كل يوم ستمائة وخمسون قنطارا من السكر الأبيض، ومائتان وخمسون قنطارا من السكر الأحمر، وستون قنطارا من السبيرتو.
الشيخ فضل
قرية صغيرة فى الشط الشرقى للنيل من مديرية المنية، تجاه بنى مزار، بها مسجد صغير ونخيل، ويزرع فى أرضها قصب السكر بكثرة للدائرة السنية، وعندها فوق البحر وابور لسقى القصب والقطن، وهى تابعه لتفتيش بنى مزار.
فوّة
- بضم الفاء وتشديد الواو - بلدة بالقرب من الإسكندرية فى وسط البلاد من أماكن ديار مصر المشهورة فى الكتب القديمة. انتهى من:
(تقويم البلدان).
وهى مدينة قديمة كبيرة من مدن مصر، بمركز دسوق من مديرية الغربية على الشاطئ الشرقى لفرع رشيد، وفى شمال دسوق على بعد ساعتين، وكانت تسمى فى زمن الفراعنة الأول ميتليس، قال استرابون: إنه قد ورد على أرض مصر زمن الفرعون بسيماتيك كثير من المليذيين فى ثلاثين مركبا، وأرسوا عند مصب الفرع البليوتينى (فرع رشيد)، وتحصنوا فى هذا الموضع، وبنوا به مدينة سموها:
ميتليس، وفى ذلك الوقت كان هذا الموضع فوق البحر المالح، وكان مرسى للسفن، وقد حقق الجغرافيون أن مدينة فوّة فى محل مدينة ميتليس القديمة، وفى كتب النصرانية كانت تسمى: ميسيل، ثم إن البحر المالح أخذ فى البعد عنها بسبب رسوب الطمى هناك، حتى صار بعده عنها سنة سبع وسبعين وسبعمائة وألف ميلادية تسعة فراسخ، وهى المسافة التى اتسعت بها أرض مصر من وقت فرعون بسيماتيك إلى هذا التاريخ.
وكانت هذه المدينة فى الأعصر الخالية على غاية من العمارة والثروة، حتى إنها فى القرن الخامس عشر من الميلاد كانت أعظم مدينة بعد القاهرة، كما ذكر ذلك العالم النباتى بلون الفرانساوى، الذى ساح فى الديار المصرية بعد تغلب الدولة العلية عليها بخمس عشرة سنة، ومما أخبر عنه أنه كان بمدينة فوة عدة قناصل للدول الأفرنجية، كما كان ذلك فى الإسكندرية ونحوها من مدن مصر الشهيرة القريبة من البحر، وكانوا كالرهائن عن الدول الخارجية، قال خليل الظاهرى فى الكلام على الإسكندرية: وبه - أى ثغر الإسكندرية - قناصل هم كبار الإفرنج من كل طائفة رهينة، كلما حدث من طائفة أحدهم ما يشين فى الإسلام يطلب منه. انتهى.
وقد تكلم العالم دساسى فى الجزء الثانى من كتابه: «الأنيس المفيد» عن العالم مران على تاريخ دخول القناصل الديار المصرية وغيرها من بلاد المشرق، وعلى كيفية دخولهم، فقال: كان ببلاد الشام فى سنة سبع عشرة ومائة وألف ميلادية قنصل من بلاد ونديق، وأنه حصلت معاهدة بين البندقانيين والملك العادل سلطان مصر سنة ست وثلاثين وستمائة هجرية موافقة/لسنة ثمان وثلاثين ومائتين وألف ميلادية، وقال إن القناصل ترتبت بمصر قبل سنة ستمائة وثمانين هجرية، وفى تلك السنة جرت معاهدة بين الملك المنصور أبى الفتح قلاوون وبين الملك الفونس ملك بلاد أرجون وجزيرة صقلية، وتكلم على جملة معاهدات جرت فى هذا التاريخ، وعلى أمور تتعلق بالتجارة لرعايا الطرفين، وعلى حوادث البحر، وعلى ما كان يلزم من المساعدات للمراكب الغرقى، وعلى لصوص البحر والأسارى من الجهتين، وعلى الدعاوى التى كانت بين التجار وعلى الهاربين والحجاج وعوائد الديوان من الجمرك ونحوه، وعوائد أخرى، ثم تكلم أيضا على شروط عقدت بين الجنويين وسلطان مصر، سنوردها لك.
قال: واختلف فى التاريخ الذى ترتبت فيه القناصل البندقانيون، فذهب بعض المؤرخين إلى أن ذلك كان بالثغور الداخلة فى حكم السلطان سنة ثمان وثمانين وثلثمائة وألف ميلادية، وبعضهم إلى أنه كان فى سنة أربعين وثلثمائة وألف، وأنه قد استحصل على الرخصة من البابا باستعمال مراكب التجارة بين الشام ومصر، وبناء على ذلك عقدت شروط بين جمهورية ونديق والسلطان، وتعين قنصلا فى الإسكندرية الأمير بيير الحجر جستيانو وأقام بالإسكندرية، وكان هو أول قنصل بمصر من طرف الدولة، ثم بعد سنتين من هذا التاريخ تعين من طرف الدولة أيضا قنصل لجهة الشام، وأقام أولا بدمشق ثم انتقل إلى حلب، وأما تونس وبلاد الأرمن فترتيب القناصل بها من سنة سبعين ومائتين وألف ميلادية.
وقد تكلم العالم سندى على شروط عملت بين سلطان مصر والبندقانيين فى سنة اثنتين وأربعين وثلثمائة وألف، قال دساسى:
الحق أن ذلك كان سنة ست وأربعين وثلثمائة وألف، وهو الموافق لما ذكره المقريزى فى كتاب:«السلوك» ، حيث قال: إنه فى شعبان سنة خمس وأربعين وسبعمائة هجرية، موافقة سنة خمس وأربعين وثلثمائة وألف ميلادية، حضرت رسل من البندقانيين يطلبون عقد مصالحة، وأن يعاملوا بالرفق، ويؤمنوا على أنفسهم وأموالهم، ويرخص لهم فى البيع ممن أحبوا، فصدرت الأوامر لناظر الخاص بأن لا تؤخذ بضائعهم غصبا، وأن يدفع ثمن ما يؤخذ نقدا، وأن لا يجبروا على بيع ما لا يرغبون بيعه، وأن يؤخذ على ما يرد من بضائعهم اثنان فى المائة عوضا عما كان يؤخذ أولا وهو أربعة ونصف فى المائة، وذلك لأجل زيادة رغبة الفرنج فى كثرة جلب البضائع إلى هذه الديار، وقبل تلك المدة قد كثر عددهم بالإسكندرية بسبب رعاية الحكومة لهم وإكرامهم.
ونقل المقريزى أنه فى سنة سبع وعشرين وسبعمائة هجرية وقعت مشاجرة بين المسلمين والنصارى، فبحث حاكم الإسكندرية عمن تسبب فى ذلك من المسلمين وعاقبه، وفى شعبان من هذه السنة حضرت رسل من طرف البابا من مدينة رومة ومعهم هدايا وخطاب يطلب فيه على جهة الرجاء حماية النصارى من طرف الحكومة ورعاية حقوقهم، وفيه يذكر أنه يكون للمسلمين المقيمين عندهم والداخلين من الإكرام والرعاية مثل ما لهم فى بلاد المسلمين، فكان الأمر كذلك، وقال أيضا: إنه من عهد الملك الصالح نجم الدين أيوب إلى هذا الوقت لم ترد رسل من البابا.
وذكر ابن الفرات فى: (تاريخ حرب الصليب) أن فى سنة سبع وستين وستمائة هجرية فى سلطنة الملك بيبرس، كان بمصر رسول من طرف البابا، ثم لما حصلت المساعدة من البندقانيين لملك قبرس، وأغارت عساكرهم على الإسكندرية فى ثلاثة وعشرين من المحرم سنة سبع وستين وتسعمائة، كما ذكر ذلك المقريزى وأبو المحاسن - اضمحل حال تجارة البندقانيين والفرنج.
وقال المقريزى أيضا: إن من جملة المراكب التى حاصرت على الثغر تحت إمرة بطرس بن ديوك بن حوج ملك قبرس خمسا وعشرين مركبا كانت للبندقانيين، ومركبين للجنويين، وعشرة مراكب لجزيرة رودس وخمسة للفرنساوية، والباقى لأهالى قبرس، قال: ولما ارتحلوا عن المدينة وركبوا البحر، أوقع السلطان القبض على كل من بقى من النصارى بمصر والشام، وأحضر البطرك، وألزموا بإحضار جميع ما تحت أيديهم من النقود والأموال، ليفدى به السلطان أسرى المسلمين، وأمر السلطان بالهجوم على جميع منازلهم، وأمر المسلمون بدفع ما عليهم للنصارى، ولما عرف النصارى ما حل بهم من سوء عاقبة ما فعلوه حتى تعطلت متاجرهم اجتهدوا فى إصلاح ذات البين، ورجعوا عن قبيح أفعالهم.
وفى شهر رجب من السنة المذكورة حضرت رسلهم بهدايا ومكاتبات من ملوكهم للسلطان، وفيها: إنهم يلتزمون أوامر السلطان، ويكونون معه، ويلزمون ملك قبرص برد الأسارى .. وما انتهبه من الإسكندرية، ويطلبون عقد مصالحة، وأن يخلى بين تجارهم وبين ثغر الإسكندرية كما كان قبل ذلك، وأن تفتح كنيسة بيت المقدس للزيارة، وكانت قد قفلت وقت حادثة الإسكندرية، فأكرم السلطان الرسل، وقبل هداياهم، ولم يقبل عمل الصلح، وأخبر أنه عازم على محاربة ملك قبرص، وتخريب/جزيرته.
وفى ذى القعدة من تلك السنة حضر رسول من متملك جنوة ومعه ستون أسيرا من الذين أسروا من الإسكندرية، ومعهم هدايا للسلطان وللأمير يلبغا، ومعهم خطاب يذكر فيه أن هؤلاء الستين أسيرا هم الذين عنده، وأنه لم يعلم بالوقعة إلا بعد حصولها، وأنه لو تمكن من قتل ملك قبرس لقتله، وقد أكثر الأسارى فى مدحه وإكرامه إياهم وحسن معاملته فقبلت هداياه، وفى الثامن عشر من جمادى الأولى سنة ثمان وستين وسبعمائة حضرت رسل من طرف متملك جنوة أيضا، يطلبون الإذن لتجارهم بالورود إلى ثغر الإسكندرية فأذن لهم فى ذلك.
وفى غرة صفر سنة اثنتين وسبعين وسبعمائة، حضرت رسل من فرنسا لطلب الصلح، فحلفوا على أن لا يخونوا ولا يغدروا، ثم خلعت عليهم الخلع، وسافروا ومعهم رسل من طرف السلطان لتحليف ملكهم أيضا على ذلك، وأخذت منهم رهائن بقيت بالقلعة.
وفى شهر جمادى الأولى حضر باقى الأسارى الذين كانوا عنده، فأجرى عقد الصلح وفتحت كنيسة بيت المقدس.
ونقل دساسى أيضا عن المقريزى أنه فى سنة سبع وثمانين وسبعمائة، استولى الأسطول المصرى على سفينة من مراكب الجنويين بسبب تعد حصل من النصارى، وفى شهر شعبان من تلك السنة حضر رسول من طرف ملك القسطنطينية ومعه هدايا ومكاتبة إلى ملك مصر، وفيها يطلب الإذن لتجار بلاده بالتجر فى بلاد مصر والشام، وأن يجعل من طرفه قنصلا فى الإسكندرية مثل باقى الفرنج، فرخص له فى ذلك، وفى آخر جمادى الثانية من هذه السنة حضر رسول الفرنج بهدايا للسلطان، ثم حقق أنه كان من طرف البندقانيين، وكان حضوره فى سنة سبعمائة وتسعين أو سبعمائة وإحدى وتسعين.
وفى نصف شعبان من سنة تسعين وسبعمائة حضر رسول من طرف الجنويين يتكلم فى شأن من قبض عليه من الفرنج، وذلك أنه كان قد سمع السلطان أن الفرنج قد قبضوا على بعض أقاربه، فى إتيانهم من بلاد الجركس ومرورهم فى طريق البحر، فأوقع القبض على من بالإسكندرية من النصارى وعلى أمتعتهم. وفى شهر الحجة جاء الخبر أن الخواجة على أخا الخواجة عثمان قادم إلى الإسكندرية مع جميع أقارب السلطان، وفى التاسع عشر من المحرم سنة إحدى وتسعين حضروا جميعا ومعهم هدايا من طرف الجنويين والفرنسيس، فقبلت هداياهم وخلعت على رسلهم الحلل. وفى العشرين من رمضان سنة خمس وعشرين وثمانمائة قابل السلطان رسل ملك الفرنسيس فى دار العدل ومعهم هدية.
وحقق كترمير أن هؤلاء الرسل ليسوا من جهة الفرنسيس، وإنما هم من جهة فلونس، وكان حضورهم للقاهرة فى ثلاثة من شهر سبتمبر سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة وألف مسيحية، وكان
حضورهم أمام السلطان فى ثمانية من الشهر، وكان الغرض من حضورهم أربعة أشياء.
الأول: الإذن لهم بالتجارة فى بلاد السلطان.
الثانى: تقرير مقدار الجمرك على البضائع الواردة والصادرة على قدر المقرر على الجنويين.
الثالث: أن يرخص لهم فى إقامة قنصل من طرفهم بالإسكندرية وبيروت.
الرابع: أن يرخص لهم فى تسيير معاملتهم الذهب والفضة فى جميع المملكة، فأجيبوا إلى جميع ذلك مع أمور أخر طلبوها وأجيبوا فيها.
ونقل دساسى أيضا عن كتاب: «السلوك» أن أغلب البضائع الواردة من بلاد البنادقة كانت أنواع الأقمشة، وكانت هى المرغوبة، وكان المصريون يتغالون فيها ويلبسونها كثيرا سيما النساء، حتى قيل: إنه فى الثالث والعشرين من شوال سنة ثلاث وتسعين وسبعمائة نودى بالقاهرة أن لا تلبس امرأة قميصا واسعا، ولا تزيد فى تفصيل القميص على أربعة عشر ذراعا، وكان النساء قد بالغن فى توسعة القمصان، حتى كان القميص الواحد يفصل من اثنين وتسعين ذراعا من البندقى الذى عرضه ثلاثة أذرع ونصف، فتكون مساحة القميص زيادة عن ثلثمائة وعشرين ذراعا، واستعمله نساء الملوك والصعاليك حتى فحش ذلك، فحصل التنبيه على تركه. وفى ثانى شهر الحجة من هذه السنة ندب الأمير كمشبغا نائب الغيبة جماعة نزلوا إلى أسواق القاهرة وشوارعها، وقطعوا أكمام النساء الواسعة، فامتنع النساء من يومئذ أن يمشين بقمصان واسعة مدة الأمير كمشبغا، ثم عدن إلى ذلك بعد عود السلطان.
ولولا خوف الإطالة ما ذكرنا بعض ما يتعلق بأصناف بضائع الفرنج الواردة إلى مصر والشام، وإنما نذكر هنا حادثة غريبة هى أنه فى شهر ربيع الثانى سنة سبع وعشرين وثمانمائة - على ما نقله دساسى عن المقريزى - ظهر بالقاهرة عند بعض الناس كثير من عظام الآدميين، فأحضروا أمام صاحب الشرطة، وسئلوا عن هذه العظام، فأجابوا بعد تعذيبهم أنها عظام موتى الآدميين، وأنهم يخرجون الرمم من القبور، ويطبخونها فى الماء، فيخرج منها دهن يعلو سطح الماء، فيأخذونه ويبيعونه للنصارى، القنطار بخمسة وعشرين دينارا، فأطيل سجنهم، ثم خلى سبيلهم، وترك ذلك وتنوسى.
وذكر المقريزى أيضا/فى خصوص تجارة جدة حادثة لا بأس بذكرها، وهى أنه فى سابع ربيع الأول من سنة ثمان وعشرين وسبعمائة سير الأمير أرمبغا أحد أمراء العشرات تجريدة إلى مكة وفيها مائة مملوك، وتوجه سعد الدين إبراهيم بن المره أحد الكتاب لأخذ المكوس على المراكب الواصلة من الهند إلى جدة، وكانت العادة قديما أن مراكب تجار الهند ترد إلى عدن، ولم يعرف قط أنها تعدت بندر عدن.
فلما كان سنة خمس وعشرين خرج من مدينة كاليكوت ناخداه اسمه إبراهيم، فلما مر على باب المندب جوّز إلى جدة بفراره حنقا من صاحب اليمن، لسوء معاملته للتجار، فاستولى الشريف حسن بن عجلان على ما معه من البضائع، وطرحها على التجار بمكة، فقدم إبراهيم المذكور، فى سنة ست وعشرين على المندب، ولم يعبر عدن، وتعدّى جدة، وأرسى بمدينة سواكن، ثم بجزيرة دهلك، فعامله صاحبها أسوأ معاملة، فعاد فى سنة سبع وعشرين وجوّز عن عدن،
ومر بجدة يريد ينبع، وكان بمكة الأمير قرقماس، فما زال يتلطف بإبراهيم حتى أرسى على جدة بمركبين، فجامله أحسن مجاملة، حتى قويت رغبته، ومضى شاكرا مثنيا.
وعاد فى سنة ثمان وعشرين ومعه أربع عشرة مركبا موسوقة بضائع، وقد بلغ السلطان خبره، فأحب أخذ مكوسها لنفسه، وبعث ابن المره لذلك، فصارت جدة من حينئذ بندرا عظيما إلى الغاية، وبطل بندر عدن إلا قليلا، ولم تكن جدة مرسى إلا من سنة خمس وعشرين من الهجرة، فإن عثمان بن عفان رضي الله عنه اعتمر منها، فكلمه مواليه أن يحول الساحل إلى جدة، وكان فى الشعيبية زمن الجاهلية، فحوله إلى جدة، ومن كان من وراء قديد يحملون من الجار والأبواء، وكان ما يحمل إلى هذه المواضع قوت أهل الحرمين وعيشهم. انتهى.
ولنرجع إلى ما يتعلق بالجنويين وصلحهم مع السلطان، فنقول:
قد مر أنه أخذ عليهم شروطا وحلفهم عليها، وعاهدوه على التزامها وذلك بحضور الأساقفة والرهبان، وهذه صورة هدنتهم وأيمانهم أمام مولانا السلطان، كما وجدته فى رسالة فيها بعض مصالحات: أقول وأنا البرت أسبينولا رسول البوزسطا ودكركان والقباطين أوبرت أسبينولا وكرات دوريا والمشايخ وأصحاب الرأى والمشورة كمون الجنوية: أحلف بالله والله والله العظيم، وحق المسيح وحق الصليب المقدس، وحق الإنجيل المقدس، إله واحد، وحق الست مريم، وحق الأربعة أناجيل: لوقا ومتى ومرقس ويوحنا، وصلواتهم وتقديساتهم، وحق الصوت الذى نزل من السماء على نهر الأردن فزجرهم، وحق الآباء والمعمودية، وحق الإنجيل المقدس، وحق دينى ومعبودى أننى ألتزم لمولانا السلطان الملك المنصور السيد الأجل العالم العادل سيف الدنيا والدين، سلطان مصر والشام وحلب، وسلطان اليمن
والحجاز سلطان بيت مكة البيت العالى، أعزه الله تعالى، سلطان القدس والبلاد المقدسة وبلاد الساحل وفتوحات المسلمين وفتوحاته، سلطان طرابلس الساحل إلى طرابلس الغرب، سلطان الشرق والغرب، سلطان الملوك، ملك سائر العرب والعجم، سلطان جميع الإسلام قلاوون الصالحى، وولده السلطان الملك الأشرف، صلاح الدنيا والدين، خليل الله يحفظهم وينصرهم، بمرسوم البوزسطا والقباطين والمشايخ كمون الجنوية المذكورين وجميع الجنوية، أنهم يحفظون ويحترمون ويكرمون جميع المسلمين رعاية مولانا الملك المنصور، وولده الملك السلطان الأشرف، الذين يجيؤون إلى بلاد مولانا السلطان، والذين يخرجون من بلاد مولانا السلطان - من سائر البلاد والأقاليم من بلاد الفرنج والروم والمسلمين من الرسل والتجار وغيرهم - سالمين ومكسورين فى السفن والمراكب والطرائد والشوانى، وغيرها من المراكب والبضائع والنفوس، وأموالهم ومماليكهم وجواريهم، فى مراكبهم فى البر والبحر، وفى جميع أماكن كمون الجنوية، وما يفتحونه من البلاد، ويحكمون عليه فى تاريخ هذه الهدنة، وما دامت الليالى والأيام والشهور والسنوات والأعوام دائما. وأن جميع الجنوية يكرمون ويحترمون ويحفظون جميع المسلمين الذين يحضرون إلى بلاد مولانا السلطان، والذين يخرجون ويسافرون منها فى البر والبحر، لا يتعرضون إليهم، ولا يمكنون من التعرض لهم بأذية ولا ضرر ولا عدوان، لا فى نفس ولا فى مال، لا فى مجئهم ولا فى رواحهم، ويكونون آمنين مطمئنين فى نفوسهم وأموالهم وأرواحهم من جميع الجنوية، وممن تحت حكم كمون الجنوية على ما تقدم ذكره.
وأنهم يحفظون جميع التجار المسلمين وغيرهم الذين يسافرون فى مراكب الجنوية وغيرهم رائحين وجائين، فى جميع الأماكن التى
بكمون الجنوية وغيرهم من بلاد الفرنج وبلاد الروم وبلاد المسلمين، ويكون من يسافر من المسلمين معهم، ومع غيرهم محفوظين آمنين مطمئنين، لا يتقوى عليهم أحد، ولا يؤذيهم فى سفرهم ولا فى مقامهم ولا سكناهم، وإن سافر أحد من المسلمين فى مراكب غير مراكب الجنوية من أعداء الجنوية أو غيرهم/لا يتعرضون لأحد من المسلمين، وإن أخذوا عدوّهم يكون المسلمون جميعهم محفوظين آمنين فى نفوسهم وأموالهم ومماليكهم وجواريهم، فى رواحهم ومجيئهم، ولا يعوقهم الجنوية بسبب أحد، ولا يأخذون المسلم عن غيره، ولا يطلبونه بدين ولا بدم إن لم يكن ضامنا ولا كفيلا.
استقرت هذه الفصول وهذا الصلح وهذه الشروط بين مولانا السلطان الملك المنصور وولده الأشرف، وبين البوزسطا والقباطين والمشايخ والمشورين من أصحاب الرأى والمشورة كمون الجنوية المذكورين، وحلف على ذلك البرت أسبينولا الرسول المذكور، بحضور بونفالش أسطورلا، ودانيال تنكريد، وافرنجسيكزروب ورتريوبو كنجرا، ورافرا القنصل وتنكر يدفليروى، وكتب بتاريخ ثالث عشر ماى سنة ألف ومائتين وتسعين من مولد عيسى عليه السلام، وكتب بين السطور بالفرنجى: نسخة ذلك سطرا سطرا وكلمة كلمة، وكتب الرسول خطه أعلى هذه الهدنة بالفرنجى بيده، والكاتب بالفرنجى بين السطور المعروف بالحاكم (القاضى) بلنجى الجنوى كاتب الرسول وكمون الجنوية (نسخة خط الأسقف الذى حلّف الرسول). حلف الرسول المذكور البرت أسبينولا، ومن حضر صحبته من القناصلة وتجار الجنوية على نسخة هذا اليمين والصلح والفصول المشروحة فيها بتاريخ رابع عشر أيار سنة ستة آلاف وسبعمائة
وثمانية وتسعين (من تاريخ الدنيا) بحضورى وأنا الفقير الحقير بطرس أسقف مصر، والإنجيل المطهر بين يدى ويدى الرسول، وهو واقف مكشوف الرأس، وكتب ذلك بخط يدى شهادة عليهم بأنهم حلفوا باليمين العظيمة على الإنجيل والصليب بحضور من يضع خطه من الكهنة والرهبان (نسخة خطوط من حضر هذا الحلف).
وحضرت ذلك، وشهدت به وكتبته إرسانى الريس بدير القصر، حضرت ذلك، وشهدت به وكتبته، الشرف منا حضر ذلك، وشهد به ميخائيل الراهب من طور سينا، وبعد ذلك بالفرنجى خطوط جماعة بونفاس القنصل الجنوى أنسكير صاحب السفينة، التجار دانيال شعار التجار، رافرا، القنصل، المحتشم دينير يركه تنكره.
تحررت هذه الفصول المذكورة فى يوم الأحد ثانى جمادى الأولى سنة تسعة وثمانين وستمائة، أحسن الله خاتمتها، وقرأ ما فيها من القلم الفرنجى المنقول إلى العربى شمس الدين عبد الله المنصورى، وترجم عليه لتحقيق التعريب والشهادة بصحته سابق الدين الترجمان وعز الدين أيبك الكبكى الترجمانى فى التاريخ المذكور.
ونسخة اليمين التى حلف عليها الرسل وكتبوا خطوطهم عليها بالفرنجى بحضور الأسقف: والله والله والله وحق المسيح وحق المسيح وحق المسيح، وحق الصليب وحق الصليب، وحق الأب والابن وروح القدس، وحق الست مارية أم النور، وحق الأناجيل الأربعة التى نقلها متى ومرقس ولوقا ويوحنا، وحق التلامذة والحواريين، وحق الصوت الذى نزل على نهر الأردن فزجزه، وحق دينى ومعبودى واعتقادى فى دين النصرانية، وحق اللاهوت والناسوت والتالوت وحق السيد المسيح الرب المعبود أننى لم أخف شيئا مما وجد لهؤلاء التجار المسلمين من أموالهم ولا بضائعهم، ولا اطلعت على أنه بقى
منهم أحد فى الأسر، ولا على أنه بقى لهم شئ عند أحد من الجنوية وأخفيته عنه، وإننى والله وحق المسيح لم أحضر معى ولا مع رفقتى مبلغا عوض ما عدم لهم من الكمون ولا من الجنوية، أخذته غير ما أحضرته ثمن السكر والكتان والفلفل وثمن المركب، وهو ألف وستمائة دينار ولم أحضر زيادة على ذلك، وأن هذه الجملة المحضرة هى التى بيع بها المركب والسكر والفلفل والكتان، وعدتها من غير زيادة على ذلك ولا نقص، وإن ظهر بعد هذا اليمين ما يخالف شيئا منها، وظهر أنا نحن أخفينا أحدا من هؤلاء المسلمين من مال هؤلاء التجار أو خبيناه أو تركناه وراءنا، ولم نحضره، أو أحضرنا صحبتنا مبلغا عوض ما عدم لهم، وشهد علينا بذلك أحد من جنسنا أو ممن يقبل قوله من غير جنسنا، كان علينا غرامته وقيمته قيمة ما يظهر، وأننى والله وحق المسيح ما أخفيت شيئا من ذلك، وإن كنت قد أخفيت شيئا من ذلك من مالهم وبضائعهم وأعلم من أخفاه فأكون محروما من دينى معتقدا ما يخالف الرب المسيح ولاهوته أننى لم أعلم غير ذلك، (نسخة الشهادة عليهم).
شهدت وأنا بطرس أسقف مصر الملكى على جميع ما فى أعلى هذه الورقة على رسول الجنوية، واسمه البرت إسبينولا رسول الجنوية، وكتبت خطى نهار الخميس تاسع آيار سنة ستة آلاف وسبعمائة وثمانية وتسعين. انتهى.
وقوله: والطرائد والشوانى، قال كترمير فى ترجمة كتاب (السلوك): الطرائد جمع طريدة، وهى مركب برسم حمل الخيل، وأكثر ما يحمل فيها أربعون فرسا، والشوانى جمع شانى أو شنى أو شينية؛ نوع من المراكب يجذف بمائة وأربعين مجذافا، وفيها المقاتلة والجذافون ويسمى الغرّاب أيضا، ويقال: أخذ من العدو شانيا أو عشرة
شوان، ويقال: الحراقات والشوانى، والحراقات: جمع حراقة ويقال الحراريق، /وهى سفن فيها مرامى النار، وقد يعبر عن السفينة بقطعة، فيقال: ركبوا البحر فى ثلاثين قطعة من أساطيلهم، والأسطول كلمة رومية؛ اسم للمراكب الحربية المجتمعة، ويستعمل اسما للسفينة الواحدة، فيقال: وصله بعشرة أساطيل، وجهز له مائة وثمانين أسطولا، وكان معهم سبعون أسطولا من غربان وشوانى.
ومن أسماء المراكب أيضا البطسة وجمعها، بطس، يقال: جهز الفرنج بطسا متعددة، وجعلوا على سوارى البطس أبراجا، ووجدوا بطسة فيها ثلثمائة من الفرنج، وبطسة كبيرة تشتمل على ميرة وذخيرة، ومن أسماء المراكب أيضا: العشاريات، يقال: رميت العشاريات بين يديه. انتهى.
وأما العقبة، فقد نقل كترمير عن الجبرتى أنها مركب تنقش بأنواع الألوان، ويركب عليها مقعد من الخشب المصنع، ويجعل له شبابيك وطاقات من الخرط، ويصفح بالنحاس الأصفر، ويزين بأنواع الزينة والستائر، ويرفع عليه بيارق ملونة وشراريب، ولا يركب فيه إلا الباشا ونحوه. انتهى.
وكانت مينا فوّة مجمعا للمراكب المنحدرة والمقلعة بأنواع البضائع فى النيل وفى خليج الاسكندرية، وبسبب قربها من مدينة كانوب (بوقير) انتقل إليها كثير من عوائد أهلها، فكانت بها حارات لا يسكنها إلا المتبرجات من النساء كما كان ذلك فى مدينة كانوب، وكما هو الآن بمدينة طنتدا، ثم لما أهمل خليج الإسكندرية وكثر الطمى به، تعطل سير السفن به وتحولت التجارة عنه، وصارت تتبع فرع رشيد، وتصل إلى الإسكندرية من المالح، فكان ذلك سببا فى ثروة رشيد وعمارتها، وتقهقرت مدينة فوة.
وفى سنة ألف وسبعمائة وسبع وسبعين ميلادية، ساح فى أرض مصر العالم سوارى الفرانساوى، ودخل مدينة فوة، فرأى أغلب حاراتها متعطلة عن الحركة، وتهدم أكثر مبانيها، وحصل الخراب فى مساجدها، وتعطلت عن الشعائر، ولم يكن بها إذ ذاك غير قليل من السكان، ولم تزل تتقلب فى الأحوال والحوادث، فتارة تتقدم وتارة تتأخر، وفى وقتنا هذا هى عامرة جيدة البناء، منازلها على دورين أو ثلاثة مع المتانة بالمونة القوية، ومساجدها كثيرة نحو الثمانية عشر، ما بين جامع وزاوية، وكلها مقامة الشعائر، وبعضها قديم جدا مع المتانة وحسن الوضع، حتى يخيل للناظر أنها جددت فى زمن قريب، ولبعضها منارات ولجامع أبى النجاة الذى فوق البحر منارة مرتفعة عن أرض الجامع نحو ثمانين مترا، ولم تتغير مع طول الزمان، وأقدم جوامعها فيه ضريح مشهور لسيدى عبد الله البرلسى، ثم جدد فى سنة ألف ومائتين وسبع وسبعين من طرف المرحوم مصطفى باشا أخى الخديوى إسماعيل، ولقرب بعضها من البحر، تملأ ميضأته وأخليته منه، ولبعضها البعيد عنه آبار على عادة المساكن.
ترجمة الأمير حسن بن نصر الله الأستادار
وفى: (الضوء اللامع) للسخاوى أن أحد مساجدها التى على البحر كان مدرسة حسنة، أنشأها الأمير حسن بن نصر الله الأستادار، وجعل فيها خطبة وتدريسا، قال: وكانت ولادته بفوة فى ربيع الأول سنة ست وستين وسبعمائة، وتزوج بابنة ناظرها ابن الصغير، وقدم القاهرة وهو فقير جدا، فكتب التوقيع بباب القاضى، ثم خدم شاهدا فى ديوان أرغون شاه أمير مجلس فى دولة الظاهر برقوق، ثم ولى الحسبة ونظر الجيش، ثم الوزارة ثم الخاص فى دولة الناصر فرج،
وكذا فى الدولة المؤيدية، ثم صودر مرارا، ثم عمل الأستادارية فى دولة الصالح محمد ثم أعيد إلى الخاص، ثم إلى الأستادارية فى الدولة الأشرفية عوضا عن ولده صلاح الدين محمد، ثم صودر هو وولده المذكور، ثم أعيد إلى الأستادارية، ثم عزل عن قرب إلى أن مات ولده، فاستقر بعده فى كتابة السر، ولم يلبث أن عزله الظاهر، واستولت عليه الأمراض المختلفة حتى مات فى سلخ ربيع الأول سنة ست وأربعين وثمانمائة، ودفن بتربته التى فى الصحراء خارج الباب الجديد عند ولده صلاح الدين، وكان شيخا طوالا ضخما، حسن الشكالة مدور اللحية، كريما شهما، مع بادرة وحدّة وصياح، وإقدام على الملوك وانهماك على اللذات، وكان يتأنق فى المأكل والمشارب، وله مآثر منها هذه المدرسة، وأصل آبائه من قرية إدكو بالمزاحميتين من أعمال القاهرة، كان جده الأعلى الشرف محمد بن أحمد خطيبها، وبعده تعالى ابنه البدر المباشرة وفطن للحساب، وباشر عند سيف الدين الكنانى متولى فوة، وولد له نصر الله، فنشأ بها، وباشر بها ثم بالإسكندرية عدة وظائف. انتهى.
وفى طرف فوّة الجنوبى الغربى فوق البحر ديوان تفتيش عهدة عصمتلو والدة الخديوى إسماعيل باشا، يشتمل على جميع خدمة الدائرة من نظار الزراعة والكتبة والمخزنجية وغيرهم، وبه مفتش العهدة مصطفى بك، ولها بالناحية حديقتان ذواتا أفنان وبهجة، تشتملان على جميع الفواكه والرياحين، ولها بها أيضا وابوران؛.
أحدهما: معد لضرب الأرز، والآخر: داخل ورشة الطربوش فوق البحر، لسقى الزروعات الصيفية، وفى قبليها وابور لضرب الأرز لإسماعيل غنية وأخيه وبعض أهل البلد، وفيها فوريقة لنسج القطن، وورشة لعمل الطربوش، وكان لها شهرة بذلك زمن العزيز محمد على، وكان
/طربوشها يشبه فى الجودة الطربوش المغربى أو يقاربه، وكان يتحصل من ذلك كل شهر نحو مائة وأربعة وعشرين ألف طربوش، وكان صوف الطربوش فى الغالب يجلب إليها من بلاد الفرنج، وقد بطل ذلك الآن، وصارت الورشتان فى دائرة ذات العصمة المذكورة.
وفى خارجها قصر للست بيزاده كريمة مرضعة سر عسكر والد الخديوى، ولها بها أبعادية أيضا، وبها أيضا دائرتا أرز للأهالى، وحمامان قديمان مستعملان إلى الآن يأتيهما الماء من البحر، وبها نحو ثمانية عشر مكتبا لأطفال المسلمين من الأهالى، وثلاث معاصر للزيت ومصابغ عديدة، ومعمل دجاج، وفيها أرباب حرف بكثرة كالحدادين الذين يصطنعون التوابيت والنوارج ونحو ذلك، والنجارين والنحاتين والنحاسين والقلافطة، والنساجين للقطن والصوف، والغرابلية والنشارين، والزياتين والخبازين والقهوجية، وباعة الدخان والشرابات، والجزارين والخياطين والبنائين، ومن يفتل الحبال للمراكب وخلافها، ومنها التجار المشهورون، وسوقها دائم بحوانيت عامرة يباع فيها الملبوس والمطعوم، غير السوق الجمعى كل يوم سبت، يأتى إليه من البرين، أهلها مسلمون، وعدتهم ذكورا وإناثا ثمانية آلاف ومائتان وخمسون نفسا.
وأطيانها ثلاثة آلاف فدان وستمائة واحد وثلاثون فدانا، منها فى عهدة والدة الخديوى إسماعيل سبعمائة فدان وثمانية وخمسون فدانا، وجميعها مأمونة الرى، جيدة المتحصل، ويزرع فيها الأرز كثيرا والقطن وباقى المزروعات المعتادة، وفيها كثير من أضرحة الأولياء، مثل: الشيخ إسماعيل الغرباوى والشيخ أحمد النحاس وأبى العطاء والجوجرى وسالم أبى النجاة الأنصارى، والشيخ نمير والشيخ شعبان
وسيدى عبد الرحيم القنائى، والشيخ محمد خلف، والسادات الكورانية، ومقامهم بها مشهور، ولهم مرتب مائتا قرش فى الروزنامجه المصرية، والشيخ الزهورى وأبى الليف، والشيخ عبد الله العريف، وسعد الله والفقاعى وأبى طاقية، والسادات البرهانية والأخوين أسامة وقسامة وغيرهم رضى الله عن الجميع.
وتجاه المدينة جزيرة للأورباويين نحو خمسة وعشرين فدانا، لهم فيها وابور ثابت للطحين والحليج، وعليها معدية من طرفهم، يتوصل بها من يريد الطحن، وبين فوة ودسوق فى الطريق المجاورة للبحر توجد قرية علوى ومنية الأشراف والسالمية ومحلة مالك، وبمدينة فوة أشراف وعلماء وجملة من حملة القرآن الشريف.
ترجمة الشيخ محمد بن النبيه القلاقسى الشافعى
وممن نشأ منها كما فى: «الضوء اللامع» محمد بن على بن محمد بن النبيه الفوى الشافعى المعروف بالقلاقسى، قرأ ببلده وبالقاهرة، وحفظ العمدة وغالب الحاوى وغيرهما، وجود الخط وناب فى الأوقاف، وتكلم للخاص فى نظر الوجه البحرى، واستقر فى نظر الإصطبل السلطانى، ثم تضعضع حاله حتى مات بالقاهرة سنة ثمان وستين وثمانمائة.
وكان ذكيا أديبا كريما، حسن الشكالة والمحاضرة، متواضعا بشوشا، وله مجاميع لطيفة، منها:«جود القريحة ببذل النصيحة» فى مجلد لطيف، و «النصيحة الفاخرة لمتبع الفئة الفاجرة» فى ثلثمائة بيت، و «روضة الأديب ونزهة الأريب» فى مجلدين، واختصر:«حلبة الكميت» وسماه: «المنعش» ومن مشايخه البرهان الكركى، والعلم البلقينى والحناوى. انتهى.
ترجمة الشيخ أبى الفتح الفوى
ومن علمائها أيضا كما فى (ذيل الطبقات للشعرانى): أبو الفتح الفوى، وقد ترجمه فقال: ومنهم الشيخ الإمام العلامة المعتزل عن الناس، المقبل على عبادة ربه، الشيخ أبو الفتح الجلال الفوى الشافعى رضي الله عنه، صحبته نحو عشر سنين، فما أظن أن كاتب الشمال كتب عليه خطيئة واحدة، كان كثير الصيام والقيام، وحفظ الجوارح وكف البصر، أخذ العلم عن جماعة، منهم: الشيخ شهاب الدين الرملى، والشيخ أبو الحسن البكرى، وما رأيت أصبر منه على الوحدة، وأوقاته كلها معمورة بالخير ليلا ونهارا، وما رأيته قط يتردد إلى أحد من أبناء الدنيا، ولا يزاحم على وظيفة دنيوية، ولا ذكر أحدا من أقرانه بسوء، ولا حسد أحدا منهم على جاه، رضي الله عنه، ولم يذكر تاريخ موته.
ترجمة الشيخ زين الدين الفوى
وينسب إليها كما فى الجبرتى المفتى الفاضل النبيه زين الدين أبو المعالى حسن بن على بن منصور بن عامر الفوى الأصل، المكى، ينتهى نسبه إلى الولى الكامل سيدى محمد بن زين النحراوى، ولد بمكة سنة اثنتين وأربعين ومائة وألف، وبها نشأ، وأخذ العلم عن الشيخ عطاء بن أحمد المصرى، والشيخ أحمد الأشبولى وغيرهما، وأتى إلى مصر فحضر دروس الشيخ الحفنى، وله انتسب، وأجازه فى الطريقة البرهامية الشيخ منصور هدية، وألف وأجاد، وكان فصيحا بليغا ذكيا حاد الذهن جيد القريحة، له سعة إطلاع فى العلوم الغريبة، ونظم رائق مع سرعة الارتجال، وقد جمع كلامه فى ديوان، هو على
فضله عنوان، ومن مؤلفاته:(شرح صيغة القطب سيدى إبراهيم الدسوقى) جمع فيه شيئا كثيرا من الفوائد، وألف كتابا فى مناقب أستاذه الحفنى، وله (حاشية على شرح شيخ الإسلام على البردة) و «حاشية على شرحه على الجزرية» و «رسالة فى خصوص رواية السوسى عن يحيى اليزيدى عن أبى عمرو» ثم نظمها، وكتاب:
(الحقائق والإشارات/إلى ترقى المقامات) و (الحلل السندسية على أسرار الدائرة الشاذلية) و (كشف الرموز الخفية بشرح الهمزية) ووسع الاطلاع على: (مختصر أبى شجاع) وهو كتاب حافل يبلغ أربع مجلدات، و (مسرة العينين بشرح حزب أبى العينين) و (قصة المولد النبوى) و (نظم الأزهرية) فى النحو، وعمل منظومة فى تاريخ مصر سماها: ب (الحجج القاهرة فى تاريخ مصر القاهرة) وغير ذلك رسائل ومنظومات كثيرة ومناسك حج كبيرة، وسكن فى الآخر بولاق، وبها توفى ليلة الجمعة الرابع والعشرين من رمضان سنة ست وسبعين ومائة وألف. انتهى.
***
ترجمة الشيخ محفوظ الفوى
وينسب إليها أيضا الشيخ محفوظ الفوى، وهو كما فى الجبرتى:
الأستاذ الذاكر الشيخ محفوظ الفوى، تلميذ سيدى محمد بن يوسف، كان فاضلا عارفا ورعا زاهدا، مات فى غرة جمادى الثانية سنة ثمان وسبعين ومائة وألف، ودفن قريبا من مشهد السيدة نفيسة رضي الله عنها. انتهى.
فيشة
- بكسر الفاء وسكون الياء وفتح الشين المعجمة وهاء التأنيث - خمسة قرى كلها بمصر، قاله فى:(مشترك البلدان) وهى هذه:
فيشة الصغرى
قرية من مديرية المنوفية بمركز سبك، غربى ترعة السرساوية بنحو مائة وخمسين مترا، وأبنيتها بالطوب الأحمر واللبن، وبها جامعان، أحدهما: بمنارة أنشأه الشريف عبود من أهالى المحروسة سنة ثمانين وألف، وكان إذ ذاك ملتزم الناحية، وبها معمل دجاج، وكنيسة جددت سنة ثلاثين ومائتين وألف، وجملة من الأقباط، وسبعة بساتين مشتملة على أنواع الفواكة، ومقام سيدى يحيى وسيدى هارون المغربى وسيدى عمر وسيدى البهلول، وترقى منها جرجس وصفى سنة تسع وثمانين إلى رتبة البيكوية، وهو بها إلى الآن، وعبد الملاك أفندى مأمور مركز بالمديرية.
وزمامها ألف فدان وثلثمائة فدان، وستة وتسعون فدانا، جميعها تروى من النيل، وبها اثنتان وثلاثون ساقية معينة عذبة المياه، ولها شهرة بتربية النحل، واستخراج عسله، ومنها إلى منوف مسافة ساعتين.
فيشة الكبرى، ويقال لها: فيشة الحمراء
قرية من مديرية المنوفية بمركز منوف، على الشاطى الغربى لفرع الفرعونية، وفى الجنوب الغربى لمرس الليانة بنحو أربعة آلاف متر، وفى جنوب منوف العلاء بمثل ذلك، وبها جامع ومعمل دجاج.
ترجمة الشيخ الفيشى المالكى
وفى: (حاشية السفطى على شرح ابن تركى، على متن العشماوية) فى مذهب مالك رضي الله عنه أن فيشة متعددة فى بلاد مصر البحرية. قال: ولا أدرى عين القرية التى ينسب إليها العالم العامل سيدى محمد بن محمد بن أحمد الفيشى، من أعيان المالكية بمصر، المتوفى فى رجب سنة سبع عشرة وتسعمائة.
ومن أشياخه الناصر اللقانى والتتائى والدميرى والطخيخى والشمس اللقانى ومحمد الشامى صاحب (السيرة). ومن تلامذته البدر القرافى القاضى، ووصف بكمال الدين والخير والذكاء. ذكره سيدى أحمد بابا. أه.
فيشة سليم، ويقال لها: فيشة المنارة
قرية من مديرية المنوفية بمركز تلا، فى الشمال الغربى لكفر الشيخ سليم بنحو ثلاثة آلاف متر، وفى الجنوب الغربى لطنتدا بنحو أربعة آلاف متر، وبها جامع بمنارة ومعمل دجاج.
ترجمة الشيخ محمد الفيشى الشافعى
وإليها ينسب الشيخ محمد بن محمد بن محمد بن عبد الرحمن الفيشى الأحمدى الشافعى، ويعرف بابن بطالة - بكسر الباء - ولد بفيشة المنارة، وحفظ القرآن والتنبيه وألفية النحو، وقدم القاهرة فقطن زاويه أبيه بقنطرة الموسكى، واشتغل رفيقا للفخر عثمان المقسي، وابن قاسم عند الشرف السبكي، والأمشاطى والقاياتى والونائى والبوتيجى فى الفقه والعربية وغيرهما، ثم قام بأمر الزراعة ونحوها، وحج صحبة ركب الأتابك، ثم رجع فقطن بطنتدا وتلك النواحى.
وهو إنسان متودد ذكى، حسن الملتقى والمحاسن، مات سنة ست وتسعين وثمانمائة أو أول التى تليها. انتهى. وقد ذكرنا ترجمة أبيه وجده فى الكلام على زاوية أبيه المذكورة.
فيشة بلخابة
قرية من مديرية البحيرة بمركز دمنهور، فى الشمال الغربى لناحية الرحمانية بنحو عشرة آلاف متر، وفى الشمال الشرقى لدمنهور بنحو عشرة آلاف وخمسمائة متر.
فيشة بنا، ويقال: فيشة الحمير
قرية من مديرية الدقهلية بقسم نوسة الغيط، على الشاطئ الغربى لترعة المنصورية، وفى الشمال الغربى لصهرجت بنحو ألف وثلثمائة متر، وفى الشمال الشرقى لسنباط بنحو خمسة آلاف متر، وبها جامع.
الفيّوم
- بفتح الفاء وتشديد المثناة التحتية ثم واو وميم - كورة فى ديار مصر فى الجنوب الغربى للفسطاط، على مسيرة نحو ثلاثة أيام، واقعة فى وهدة، قد سيق إليها نهر من النيل منسوب إلى يوسف الصديق عليه السلام.
ومدينة الفيوم قاعدة ولاية، وبها حمامات وأسواق ومدارس شافعية ومالكية، وهى راكبة على النهر من جانبيه، وللفيوم بساتين كثيرة.
وقال العزيزى: بين الفسطاط والفيوم ثمانية وأربعون ميلا انتهى من: (تقويم البلدان) لأبى الفداء، وقال غيره: الفيوم كلمة قبطية، جعلها قدماء الأقباط علما على الإقليم المسمى عند قدماء اليونانيين أرسنويه، ومعناها فى لغتهم البحر، لأن فى بمعنى آل ويوم بمعنى بحر لاشتمال ذلك الإقليم على البحيرة العظيمة، /التى هى حده من الجهة الغربية، فكلمة الفيوم معرّبة من القبطية.
وقال المسعودى أن معنى الفيوم ألف يوم، وقال ابن الكندى فى كتاب:«فضائل مصر» : الفيوم من بناء يوسف النبى عليه الصلاة والسلام، بالوحى دبرها، وجعلها ثلثمائة وستين قرية، يجبى منها كل يوم ألف دينار، وإذا قصر ماء النيل فى سنة من السنين مار بلد مصر كل يوم قرية من الفيوم، وليس فى الدنيا كورة بنيت بالوحى غيرها، وليس فى الدنيا أنفس منها ولا أخصب ولا أكثر خيرا ولا أغزر أنهارا، وأنهارها عدد أنهار البصرة وأفضل، وكذا تفضل أنهار دمشق، وسكنها يوسف عليها السلام لما أيس من إيمان الريان فرعون مصر، فقال له:
أنا أرد عليك ملكك، وأتحول عنك، فإنى لا أستطيع مجاورة الكفار، ثم رحل عنه إلى الفيوم، وعمرها هو ومن آمن معه، وخرق لهم جبريل عليه الصلاة والسلام قطعة من النيل، وصار هناك مدينتان تسميان الحرمين، وأراد الريان أن يبصرهما فاستأذن يوسف عليه الصلاة والسلام، فقال: لا يدخلهما إلا مؤمن، ولم يؤمن الريان وما دخلهما.
قال ابن زولاق: وحدثنى أحمد بن محمد بن طرخان الكاتب، قال:
عملت على الفيوم لكافور الإخشيدى فى سنة خمس وخمسين وثلثمائة، فعقدت بها ستمائة ألف دينار وعشرين ألف دينار، ومنها من المباح الذى يعيش الناس فيه من أهل التعفف ما لا يضبط ولا يحاط بعلمه، وذلك غير المرافق والخيرات التى تحت أيدى الملاك. انتهي.
وقال القاضى الفاضل فى كتاب: (متجددات الحوادث) ومن خطه نقلت أن الفيوم بلغت فى سنة خمس وثمانين وخمسمائة مبلغ مائة ألف واثنين وخمسين ألف دينار وسبعمائة وثلاثة دنانير.
وقال البكرى: والفيوم معروف هناك، يغل فى كل يوم ألفى مثقال ذهبا. وقال هيرودوط: إن مدينة الفيوم كانت تسمى أيضا مدينة التماسيح. وقال ابن حوقل: إن مدينة الفيوم على شاطئ وادى اللاهون، وأرضها خصبة كثيرة الفاكهة وأنواع المحصول، وهواؤها ردئ مضر، وأكثر محصولها الأرز، وبها جميع أنواع المحصولات، وفى خارج المدينة خراب كثير. وكان يحيط بالمدينة قديما سور نظرت بعضه موجودا جهة الصحراء، وكانت أبراجه موجودة لكنها مردومة بالرمل. انتهى.
وفى خطط المقريزى فى الكلام على المدارس أن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب: أنعم على ابن أخيه الملك المظفر تقى الدين أبى
سعيد عمر بن نور الدولة شاهنشاه بن نجم الدين أيوب بالفيوم، وأعمالها مع القايات وبوش، وقد أنابه عنه بديار مصر عوضا عن الملك العادل أبى بكر بن أيوب، فقدمها سنة تسع وسبعين وخمسمائة، وكانت له فى أرض مصر وبلاد الشام أخبار وقصص، ومواقف عديدة فى الحرب مع الفرنج، وله فى أبواب البر أفعال حسنة، وله بمدينة الفيوم مدرستان: أحدهما للشافعية والأخرى للمالكية، وكان عنده فضل وأدب وشعر حسن، وكان جوادا شجاعا كثير الإحسان، مات سنة سبع وثمانين وخمسمائة، ودفن بحماة. انتهى.
وفى الخطط أيضا فى الكلام على الفيوم ما نصه: قال اليعقوبي:
كان يقال فى متقدم الأيام مصر والفيوم لجلالة الفيوم وكثرة عمارتها، وبها القمح الموصوف، وبها يعمل الخيش. قال القضاعى: الفيوم مدينة دبرها يوسف النبى عليه السلام بالوحى، وكانت ثلثمائة وستين ضيعة، كل ضيعة منها تمير مصر يوما واحدا، فكانت تمير مصر السنة، وكانت تروى من اثنى عشر ذراعا، ولا يستبحر ما زاد على ذلك، فإن يوسف عليه السلام اتخذ لهم مجرى ورتبه ليدوم لهم دخول الماء فيه، وقوّمه بالحجارة المنضدة وبنى به اللاهون.
وقال ابن رضوان: الفيوم يخزن فيه ماء النيل، ويزرع عليه مرات فى السنة، حتى إنك ترى هذا الماء إذا خلى يغير لون النيل وطعمه، وأكثر ما تحسن هذه الحالة فى البحيرة التى تكون فى أيام القيظ بسفط ونهيا، وصاعدا إلى ما يلى الفيوم، وهذه حالة تزيد فى رداءة أهل المدينة يعنى مصر، ولا سيما إذا هبت ريح الجنوب، فإن الفيوم فى جنوب مدينة مصر، على مسافة بعيدة من أرضها.
وقال القاضى السعيد أبو الحسن على ابن القاضى المؤتمن بقية الدولة أبو عمرو عثمان بن يوسف القرشى المخذومى فى كتاب:
(المنهاج فى علم الخراج): وهذه الأعمال من أحسن الأشياء تدبيرا
وأوسعها أرضا، وأجودها قطرا، وإنما غلب على بعضها الخراب لخلوها من أهلها، واستيلاء الرمل على كثير من أرضها.
الدستور الذى يتضمن بيان العامر والغامر من أرض الفيوم
وقد وقفت على دستور عمله أبو إسحق إبراهيم بن جعفر بن الحسن بن إسحق، لذكر خلجان الأعمال المدثورة وما عليها من الضياع. وقد أوردته ههنا وإن كان مما قد دثر، ومنه ما تغيرت أسماؤه، ومنه ما جهلت مواضعه بالدثور، ولكن أوردته ليعلم منه حال العامر والغامر الآن، ويستقصى به من له رغبة فى عمارة ما يقدر عليه من الغامر، وفى إيراده مصلحة ليعلم شرب كل موضع ونسخته.
(دستور) على ما أوضحه الكشف من حال الخلج الأمهات بمدينة الفيوم، وما لها من المواضع، وشرب كل/ضيعة منها، ورسمها فى السد والفتح والتعديل والتحرير، وزمان ذلك عمل فى جمادى الآخرة سنة 422. نبتدى بعون الله وحسن توفيقه بذكر حال البحر الأعظم الذى منه هذه الخلج، فنذكر مادته التى صلاحه بصلاحها.
خليج الفيوم الأعظم: يصل الماء إلى هذا الخليج من البحر الصغير المعروف بالمنهى ذى الحجر اليوسفي، وفوقه هذا البحر عند الجبل المعروف بكرسى الساحرة من أعمال الأشمونين، ومنه شرب بعض الضياع الأشمونية والقيسية والإهناسية، وعلى جانبيه ضياع كثيرة شربها منه وشرب كروم ما له كروم منها.
قال: الحجر اليوسفى: والحجر اليوسفى جدار مبنى بالطوب والجير المعروف عند المتقدمين بالصاروج، وهو الجير والزيت،
وبناؤه من جهة الشمال إلى الجنوب، ويتصل من نهايته من الجنوب بجدار، بناؤه مثل بنائه على استقامة من الغرب إلى الشرق، ويحصره ميلان منه فى نهايته، وطوله مائتا ذراع بذراع العمل، ويتصل بهذا الجدار على طول ثمانين ذراعا منه من جهة الغرب نهاية الجدار الأعظم من الجنوب.
وفائدة بناء الجدار الأعظم رد الماء إذا انتهى إلى حدود اثنى عشر ذراعا إلى مدينة الفيوم، وطول ما يتصل منه الجدار الذى من جهة الغرب إلى الشرق ثم يتصل بالميل، ثم ينخفض من حدود هذا الميل إلى الميل مثله، يقابله من جهة الشمال خمسون ذراعا، وبعد ما بين هذين الميلين وهو المنخفض مائة ذراع وعشرة أذرع، ومقدار المنخفض منه أربعة أذرع، وهذا المنخفض هو الذى يسد بجسر من حشيش يسمى لبشا، وعرض ما يجرى عليه الماء وهو موضع اللبش، وما يقابله إلى جهة الشرق أربعون ذراعا، وعليه مسك اللبش الثانى، ويتصل بهذا الميل إلى جهة الشمال ما طوله ثلثمائة واثنان وسبعون ذراعا، ثم يتصل به على نهاية هذا الطول جدار يمر على استقامته إلى الحجر مبنى بالحجر، طوله على استقامته إلى جهة الشرق مائة ذراع.
ثم ينخفض أيضا من حيث يتصل بهذا الجدار ما طوله عشرون ذراعا، وقدر المنخفض منه ذراعان، وهذا المنخفض أيضا يسد بجسر حشيش يسمى (اللكبد) وطول بقية الجدار إلى نهايته من جهة الشمال مائة وستة وثلاثون ذراعا.
وقبالة هذا بطوله منه مبلط، وفيه قناطر مبنية بالحجر، وكانت قديما ترد الماء إلى الفيوم من الخليج القديم، الذى عنده السدود اليوم، وكان عليها أبواب وعدتها عشر قناطر قديمة، فيكون جميع ذرع الجدار الأعظم من نهايته سبعمائة واثنين وسبعين ذراعا بذراع العمل، دون
الجدار المعترض من الغرب إلى الشرق، ويمر هذا الجدار الأعظم من كلتا جهتيه جميعا حتى يتصل بالجبل، فتوجد آثاره فى القيظ مرورا على غير استقامة، وعرضه مختلف، وكلما انتهى إلى سطحه قل عرضه، وعرض أعلاه مع الظاهر من أسفله جميعا ستة عشر ذراعا، وفيه منافس يخرج منها الماء، وهى برابخ زجاج ملونة تشبه المينا، ومنها أزرق وسليمانى. وهو من العجائب الحسنة فى عظم البناء وإتقانه، لأنه من الأبنية اللاحقة بمنارة الإسكندرية وبناء الأهرام، فمن معجزته أن النيل يمر عليه من عهد يوسف عليه السلام إلى هذه الغاية، وما تغير عن مستقره.
ويدخل الماء من هذا البحر فى هذا الزمان إلى مدينة الفيوم من خليجها الأعظم، ما بين أرض الضيعتين المعروفتين بدمونة واللاهون، ومنه شرب هاتين الضيعتين وغيرهما سيحا، ومنه شرب كرومها بالدواليب على أعناق البقر، وإن قصّر النيل عن الصعود إلى سوادها سقيت منه على أعناق البقر وزرعت، وينتهى فى الخليج الأعظم إلى خليج يعرف بخليج الأواسى، وليس عليه رسم فى سد ولا فتح ولا تعديل، وينتهى إلى الضيعة المعروفة ببياض، فيملأ بركها وغيرها من البرك، وللبرك مقاسم يصل إلى كل مقسم منها لغايته ومقدار شرب ما عليه، وينتهى إلى الضيعة المعروفة بالأوسية الكبرى، فمنه شربها من مقسمين لها، وبرسمها باب، ومنه يشرب نخلها وشجرها، وعلى هذا الحد طاحونة تعمل بالماء، ثم ينتهى إلى ثلاثة مقاسم، آخرها الضيعة المعروفة بمر طينة، منها مقسم لها، ومقسم لقبالات عدة، والمقسم الثالث يسقى أحد أحياء النخل، وبهذا الحى سواق وبساتين قد خربت، وجميز دائر به وكان بها بيوت فى أفنية النخل، ثم ينتهى إلى حى ثان على صفة الأول، ثم ينتهى إلى الضيعة
المعروفة بالجوية فيملأ بركها، وينتهى إلى ثلاثة مقاسم فى صف، وفوقها خليج معطل، ويشرب من هذه المقاسم عدة ضياع، ثم ينتهى الماء من هذا الخليج إلى البطس، وهو نهايته.
وعلى الخليج الأعظم بعد هذا أباليز شربها منه من أفواه لها سيحا، فإذا نضب ماء النيل نصب على أفواهها برسم صيد السمك شباك، ثم ينتهى الخليج الأعظم على يمنة من يريد الفيوم إلى خليج يعرف بخليج سمسطوس، منه شرب سمسطوس وغيرها، وأباليز كثيرة تجاوز الصحراء من المشرق منه ومن قبليه، وهى ما بين هذا الخليج وخليج الأواسى، ثم ينتهى الخليج الأعظم أيضا إلى خليج ذهالة، ومنه شرب عدة ضياع، وعليه يزرع الأرز وغيره، ثم ينتهى الخليج الأعظم إلى ثلاث خلج، ثم ينتهى إلى خليج/بينطاوة، وبهذا الخليج ثلاثة أبواب قديمة يوسفية، سعة كل باب منها ذراعان بذراع العمل، ويمر فيه الماء، وينتهى أيضا إلى بابين يوسفيين.
ورسم هذا الخليج أن يسد هو وسائر المطاطية على استقبال عشر تخلو من هاتور إلى سلخه، ويفتح على استقبال كيهك إلى عشر تبقى منه، ثم يسد إلى عشر تخلو من طوبة، ثم يفتح ليلة الغطاس إلى سلخ طوبة، ثم يسد على استقبال أمشير إلى عشر تبقى منه، ثم يفتح لعشر تبقى منه إلى عشر تخلو من برمهات، ثم يفتح إلى عشر تخلو من برمودة، ثم يعدل فى موضعه، وقد خرب ما على بحريه من الضياع، ويشرب منه عدة ضياع، ولهذا الخليج مفيض معمول تحت الجبل بقبو، يخرج منه الماء فى زمن تكاثره، ثم ينتهى الخليج الأعظم إلى:
خليج دله
وهو من المطاطية، وحكمه فى السد والفتح والتعديل والتحسين كما تقدم، وهو على يسرة من يريد المدينة، وله بابان يوسفيان مبنيان بالحجر، سعة كل منهما ذراعان وربع، ومنه شرب عدة ضياع أمهات وغيرها، وفى وسطه مفيض لزمان الاستبحار، يفتح فيفيض الماء على البركة العظمي، وفى أقصى هذه البركة أيضا مفيض له أبواب يقال إنها كانت من حديد، فإذا زادت فتحت الأبواب فيمضى الماء إلى الغرب، وقيل إنه يمر إلى سنتريه، وكان على هذين الخليجين بساتين وكروم كثيرة تشرب على أعناق البقر، وينتهى الخليج الأعظم إلى:
خليج المجنونة
سمى بذلك لعظم ما يصير إليه من الماء، وحكمه فى السد وغيره على ما ذكر، ومنه شرب ضياع كثيرة، وبه تدار طواحين، وإليه تصير مصالات مياه الضياع القبلية، وإلى بركة فى أقصى مدينة الفيوم تجاور الجبل المعروف بأبى قطران، ويلقى ما ينصب من مصالات الضياع البحرية فيها. وهى البركة العظمى، ثم ينتهى الخليج الأعظم إلى:
خليج تلالة
وله بابان يوسفيان متينان مبنيان بالحجر، سعة كل منهما ذراعان وثلثا ذراع، وليس فيه رسم سد ولا فتح ولا تعديل ولا تحييز إلا فى تقصير النيل، فإنه يحيز بحشيش، ومنه شرب طوائف المدينة وعدة أراض وضياع، وفيه فوهة خليج البطس الذى إليه مفاضل المياه، وفيه أبواب تسد حتى يصعد الماء إلى أراضى مرتفعة بقدر معلوم، وإذا
حدث بالسد حدث يفسده كانت النفقة عليه من الضياع التى تشرب منه بقدر استحقاقها، ثم ينتهى الخليج الأعظم إلى خلجان من جانبيه فى قبليه وبحريه، ثم ينتهى إلى:
خليج صموه
وهو على يمنة من يريد مدينة الفيوم، وهى من المطاطية، وله بابان يوسفيان سعة كل منها ذراعان ونصف، وحكمه حكم ما تقدم، ومنه شرب طوائف كثيرة وعدة ضياع، وينتهى إلى أربعة مقاسم بأبواب، وإلى خلجان تسقى ضياعا كثيرة منها:
خليج تبدود
فيه عين حلوة فإذا سد هذا الخليج سقى منها أراضى ما جاورها، وظهرت هذه العين لما عدم الماء، وحفر هذا الموضع ليعمل بئرا، فظهرت منه هذه العين فاكتفى بها، ثم ينتهى الخليج الأعظم إلى خلجان بها شاذروانات ومقاسم قديمة يوسفية، وبها أبواب يوسفية، بها رسوم فى السد والفتح يشرب منها ضياع كثيرة، ورسم الترع أن يسد جميعها على استقبال عشرة أيام تخلو من هاتور إلى سلخه، وتفتح على استقبال كيهك مدة عشرين يوما، وتسد لعشر تبقى منه إلى الغطاس، وتفتح يوم الغطاس إلى سلخ طوبه، وتسد على استقبال أمشير عشرين يوما، ثم تفتح لعشر تبقى منه إلى عشرين من برمهات، وتفتح لعشرة أيام تخلو من برموده، ثم تعدل فيهتم بعمارتها، ولهم فى التعديل قسم تعطى منه كل ناحية شربها بالعدل بقوانين معروفة عندهم، وقد اختصرت أسماء الضياع التى ذكرها لخراب أكثرها الآن. انتهى مقريزى.
وقال أيضا عند ذكر الخلجان: إن خليج الفيوم والمنهى مما حفره نبى الله يوسف الصديق عليه السلام، عندما عمر الفيوم، وهو مشتق من النيل لا ينقطع جريه أبدا، وإذا قابل النيل ناحية ديروط سريام التى تعرف اليوم بدروط الشريف، يعنى ابن ثعلب النائب فى أيام الظاهر بيبرس، تشعبت منه فى غربيه شعبة تسمى:(المنهى) تستقل نهرا يصل إلى الفيوم، وهو الآن عرف ببحر يوسف، وهو نهر لا ينقطع جريانه فى جميع السنة، فيسقى الفيوم عامة سقيا دائما، ثم ينجرّ فضل مائه فى بحيرة هناك، ومن العجب أنه ينقطع ماؤه من فوهته، ثم يكون له بلل دون المكان المندي، ثم يجرى جريا ضعيفا دون مكان البلل، ثم يستقل نهرا جاريا لا يقطع إلا بالسفن، ويتشعب منه أنهار، وينقسم قسما يعم الفيوم، فيسقى قراه ومزارعه وبساتينه وعامة أماكنه. انتهى.
وقال أبو الفداء: إن أول (خليج المنهى) فى ديروط (سريان) وقال بعض علماء الإفرنج: أوله فى ناحية ديروط الشريف، وهى عين ديروط سريام، وقد سبق ذلك فى حرف الدال عند الكلام على دروط، وجعل خليل الظاهرى فم (المنهى) فى ناحية المنشأة، وعدل الإدريسى عن أقوال من تقدمه، وقال إن (المنهى) ينفصل عن النيل قريبا من ناحية صول، وهى بلدة كبيرة على بعد يوم فى الجهة/البحرية من إخميم، وهى عامرة بكثير من الناس، وفيها كثير من الحوانيت والنخيل والأشجار، ثم إن هذا النهر يتوجه نحو الغرب إلى أن يكون شرقى الواحات، فيروى كثيرا من أراضيها، ومنه تكون جميع أنهر الفيوم، ولم يستدل على بلدة صول المذكورة، والظاهر - كما ذكر بعضهم - أنها ملوى، ولم يوافقه غيره من الجغرافيين، إذ بين أخميم وملوى مسيرة ثلاثة أيام لا يوم واحد.
وذكر خليل الظاهرى أيضا أن خليج الفيوم الكبير ينتهى إلى بركة مالحة، يوجد فيها من التماسيح كثير، وقال الإدريسى إنها تنتهى إلى بركة كل من أكنى وتهامت، وظن بعض الفرنج أن الأولى هى بركة الغرق، والأخرى بركة التماسيح، ولم يوافقه على ذلك كترمير، وقال:
إن تهامت محرفة عن تنهامت - كما هى فى عبارة ابن حوقل - وإن عبارة الإدريسى لا تفيد بحيرتين بل بحيرة واحدة، كما تفيد عبارة ابن حوقل، ولم يبن سيف الدولة بن حمدان على خرطته فى الفيوم إلا بحيرة واحدة، وربما كانت بركة قارون أو القرن، ومكتوب بقربها ما ترجمته: هنا بحيرة أكنى وتنهامت الممتدة مسيرة يومين فى جبال من الرمل الأصفر، وفى الشتاء تكون هذه البركة مستورة بكثير من الطيور التى لا ترى كثرتها فى غيرها، ومن ذلك يظهر أنه ليس لأكنى وتهامت إلا بحيرة واحدة، وذكر بعض الفرنج أن ماء هذه البركة مر فى جهة منها وحلو فى جهة أخرى، فهل كان ذلك سببا فى تسميتها بهذين الاسمين. انتهى.
وقد تكلم هيرودوط على عمارة كانت بقرب مدينة الفيوم فقال: إن من أشهر المبانى العتيقة التى يذكرها المؤرخون قديما وحديثا (الدابراند) ومعناها سراية التيه، بناها الملوك الاثنا عشر الذين جلسوا على تخت مصر سوية بعد سيتوس. ونقل بعض شارحيه عن ديودور الصقلى أنها من بناء منديس، وفى بعض العبارات أن بانيها منيس، ويمكن الجمع بين هذه الأقوال بأنه تعاقب على بنائها جملة من الملوك، من ابتداء وضعها إلى انتهائه. ويقوّى ذلك أن الاثنى عشر ملكا لم يملكوا إلا خمس عشرة سنة، كان فى آخرها كثير من الفتن الداخلية، فيبعد أن تكون أسست وتممت فى هذه المدة القصيرة الكثيرة الفتن، مع أنها عمارة جسيمة لا يساويها غيرها، قال
هيرودوط: وقد شاهدتها فوجدتها فوق الوصف تشييدا واتساعا، ولا يماثلها شئ من مبانى اليونان، بل هى أعظم من الأهرام التى لا يساويها شئ من العمائر، ولا معابد مدينتى أفيزوساموس، مع أنهما من أعظم المبانى، وهى مدينة واحدة خلافا لمن زعم تعددها، لكنها مشتملة على اثنى عشر حوشا محوطة بأسوار، أبوابها يخالف بعضها بعضا، ستة فى جهة الشمال متجاورة، ومثلها فى جهة الجنوب، ويحيط بالكل سور واحد، وعدد أودها العليا ألف أودة وخمسمائة، والسفلى كذلك، وقد دخلت العليا، ومنعتنى الخدم عن دخول السفلى، وقالوا: إنها مدفن التماسيح المقدسة، والملوك البانين لها. وما شاهدته لا يشبهه شئ من بناء الآدميين، فيندهش الإنسان من اختلاف المسالك الموصلة إلى الحيشان والمساكن مع اعوجاجها والموصلة من المساكن إلى الإود وإلى الدهاليز، وسقف جميع ذلك من الحجر المزين بالنقوش والكتابة، وحول كل حوش دهليز على أعمدة من الحجر، وفى خارجها أهرام فى أركانها، ارتفاع كل واحد خمسون أرجى (خمسة أقدام ونصف فرنساوية) وصور الحيوانات منقوشة فى سطوحها، ويتوصل إليها من سرداب تحت الأرض، قال: وموضعها فوق بحيرة ماريس، على بعد من شاطئها بقرب مدينة التماسيح (مدينة الفيوم).
وقال استرابون: إنها فى محل انعطاف الفرع الخارج من النيل، المنصب فى بحيرة مريس، وهذا يوافق ما قاله ديودور من أن الملوك الذين بنوها اختاروا من الليبيا موضعا بقرب محل انصباب الخليج فى البحيرة، وبنوا به تربة بأحجار كبيرة، وكلاهما لا يخالف قول هيرودوط: إنها فى أعلى البحيرة. وجعلها بعضهم قبلى مدينة الفيوم، على بعد مائة استادة، وبعضهم قال إنها محل قصر قارون، وهذا لا
يصح، فإن قصر قارون صغير، طوله ست عشر توازه، فأين هو من سراية كانت تجتمع فيها رجال الست عشرة مديرية فى زمن الرومانيين، وبعضهم جعلها فى الخراب القريب من سنهور، وهذا يقرب من الحق، فإن هذا الخراب على بعد أربعين إستاده من النهاية البحرية للخليج، ومائة إستاده (غلوه) من مدينة الفيوم، وبالجملة فالحق إنها كانت فى أرض الليبيا، حيث يتصل الفرع الخارج من النيل بالبحيرة، وإنها كانت بأعلى مدينة التماسيح التى سميت فيما بعد أرسنويه، وهى مدينة الفيوم. أه. وقد بسطنا الكلام على بحيرة مريس فى جزء الخلجان من هذا الكتاب فليراجع.
ونقل المقريزى عن ابن عبد الحكم إنه لما تم الفتح للمسلمين، بعث عمرو بن العاص جرائد الخيل إلى القرى التى حولها، فأقامت الفيوم سنة لا يعلم المسلمون بمكانها حتى أتاهم رجل، فذكرها لهم، فأرسل عمرو معه ربيعة بن حبيش بن عرفطة الصدفى، فلما سلكوا فى المجابة لم يرو شيئا، فهموا بالانصراف، فقالوا: لا تعجلوا، فإن كان قد كذب فما أقدركم على/ما أردتم، فلم يسيروا إلا قليلا، حتى طلع لهم سواد الفيوم، فهجموا عليها، فلم يكن عندهم قتال، وألقوا بأيديهم، قال ويقال: بل خرج مالك بن ناعمة الصدفى وهو صاحب الأشقر على فرسه، ينفض المجابة ولا علم له بما خلفها من الفيوم، فلما رأى سوادها رجع إلى عمرو وأخبره بذلك، قال: ويقال بل بعث عمرو بن العاص قيس بن الحرث إلى الصعيد، فسار حتى أتى القيس فنزل بها، وبه سميت القيس، فراث على عمرو خبره، فقال ربيعة بن حبيش: كفيت، فركب فرسه فجاز عليه البحر وكانت أنثى، فأتاه بالخبر، ويقال إنه جاز النهر حتى انتهى إلى الفيوم، وكان يقال لفرسه الأعمى. انتهى.
وقال ابن حوقل: إن أكثر محصولها الأرز، وبها جميع أنواع المحصولات، إذ فى خارج المدينة خراب كثير، والمديرية مأخوذة من اسم المدينة، وكانت فى القديم عليها سور، نظرت بعضه موجودا جهة الصحراء. وكانت أبراجه موجودة لكنها مردومة بالرمل.
ذكر ديورة الفيوم وكنائسها
وأما ديورة الفيوم وكنائسها فقد تكلم عليها أبو صلاح وغيره، قال أبو صلاح: إن من ديورة الفيوم ديرين مشهورين، وهما دير قلمون ودير النقلون، ويقال له دير الخشبة، ودير غبريال الملك، وهو تحت مغارة فى الجبل الذى يقال له طارف الفيوم، وهذه المغارة تعرف عندهم بمظلة يعقوب، يزعمون أن يعقوب عليه السلام لما قدم مصر كان يستظل بها، وهذا الجبل مطل على بلدين يقال لهما إطفيح شبيلا وشلا، ويجلب الماء لهذا الدير من بحر المنهى، من تحت دير سدمنت، وله عيد يجتمع فيه نصارى الفيوم، وطريقه تنزل على الفيوم، ولا يسلكها إلا القليل من المسافرين.
ودير قلمون فى تربة تحت عقبة يتوصل منها إلى الفيوم، يقال لها:
عقبة الغريق، وبنى هذا الدير على اسم هويل الراهب، وكان فى زمن الفترة ما بين عيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم، ومات فى ثامن كيهك، وفى هذا الدير نخل كثير، ثمره العجوة، وفيه أيضا شجر اللبخ، وثمره بقدر الليمون، وطعمه حلو فى مثل طعم الرامخ، ولنواه عدة منافع.
وقال أبو حنيفة فى كتاب: (النبات): ولا ينبت اللبخ إلا بأنصنا، وهو عود تنشر منه ألواح السفن، وربما أرعفت ناشرها، ويباع اللوح منه بخمسين دينارا، وإذا شد لوح منها بلوح وطرحا فى الماء سنة التأما وصارا لوحا واحدا. وقد بسطنا القول فى ذلك عند الكلام على أنصنا.
وعند هذا الدير أيضا قصران كبيران عاليان مبنيان بالحجارة لبياضهما إشراق، وفيه عين ماء تجرى وفى خارجه عين أخرى، وبهذا الوادى عدة معابد قديمة.
وثم واد يقال له: الإميلح، فيه عين ماء تجرى، ونخيل مثمرة تأخذ العرب ثمرها، وخارج هذا الدير ملاحة يبيع رهبان الدير ملحها، فتعم تلك الجهات، وذكر أبو صلاح أن على شاطئ المنهى فى المحل المعروف بأقلة الزيتون دير ديودور الذى أصله من الفيوم، واستشهد بالصعيد، وسمى هذا الدير والكنيسة التى هناك باسمه ودفن بها.
وفى الفيوم كنائس كثيرة، منها بالمدينة كنيسة ميكائيل، وهى عظيمة السعة، محمولة على أعمدة عديمة المثال، ومحلها قريب من الباب المسمى بباب السور. وكنيسة أخرى لمريم البتول خارجة عنها، وأخرى لمرقورا الشهيد جددها أبو زكريا، وأخرى للملكية بحارة الأرمن، وكنيسة مرقورا والملك جبريل وكنيسة المسيح ودير باسم الحواريين، وفى قسم قانو وقسم نكليفة كنيسة بوجرج، وكنيسة البتول وكنيسة ميكائيل الملك، ودير الصليب موجود فى قسم قانو، ولا يصلى فيه إلا مرة فى السنة وذلك فى يوم عيد الصليب، وكنيسة بوجرج قريبة من هذا الدير، وفى قسم سبلة دير باسم: العذراء البتول، وبالقرب منه قصر جديد على الطريق لم يتم، ودير الإخوة وبه كنيسة باسم الشهيد بومينة، وكنائس أخرى، وبقرب حجر اللاهون دير باسم إسحق، وكنيسة باسم مريم البتول عظيمة الاتساع مشابهة لدير قلمون، وبقربها كنيسة أخرى باسم إسحق، والدير موضوع على الجبل بحرى اللاهون فى جنوب الفيوم، بموضع يعرف باسم بير نيوده، يحيط به ثلاثة أسوار من الحجر، وإليه يذهب كثير من الناس.
انتهى.
وبالجملة فأكثر الكتب المتعلقة بمصر بل جميعها تصف الفيوم بكثرة المشتملات، ومن ذلك السمك الكثير، فقد ذكر مؤرخ بطارقة الإسكندرية فى:(تاريخ الشهداء) أنه انكشف فى الفيوم بركة متسعة بها كثير من البلطى فيصطادونه، ويتوسعون فيه بالبيع وغيره، وفى كل يوم ينقل منه إلى الفسطاط مقدار عظيم، وإن بعض أصحابه نقل له أنه بمروره من القاهرة إلى الفسطاط قابل فى طريقه عشرين جملا من البلطى، خلاف ما كان يمر بغير هذه الطريق، وبخلاف الباقى ببلاد الجزيرة وغيرها، وكانت عادتهم نقله من الفيوم إلى الجيزة على الجمال، ويباع فى سوقها، وينقل إلى جهات مصر، وكانت تعطى لمن يلتزمها فى السنة بستين دينارا.
وكان البلطى نوعين: كبيرا وصغيرا، فالذى وزن الواحدة منه أربعة أرطال تباع العشرة منه بتسعة دراهم، وما فوقها تباع العشرة منه بعشرة دراهم، والكبير تباع العشرة منه بخمسة عشر درهما، وكانت الواحدة منه ربما تزن خمسة عشر رطلا أو أكثر، وأنه/بلغه من دلال سوق السمك بالجيزة أن ما يرد إليها كل يوم مائة وثلاثون حملا، كل حمل مائتان، فتكون عدة السمك ستة وعشرين ألفا، فانتفعت به أهل مصر لغلاء اللحم حينئذ، فإن رطله كان يباع بدرهمين أو أكثر، والسمك كان يوجد طول السنة، ويباع فى جميع الأسواق.
وقد تكلم هيرودوط على سمك الفيوم وغيره، فقال إن السمك من قديم إلى الآن قد يملح ويبقى فى جميع السنة، والمستهلك بين الأهالى كثير، فضلا عما يطعم للحيوانات المقدسة، ويألف أكله كثير من الناس، والقيسون لا يأكلونه، ولما زاد اختلاط الأغراب بالمصريين كثر صيده، وصار فرعا من فروع الإيراد، فكان إيراد بحيرة الفيوم فى اليوم طالان واحد، وهو عبارة عن خمسة آلاف وأربعمائة فرنك تقريبا،
ويستمر ذلك كل سنة ستة أشهر، وفى باقى السنة يكون الإيراد كل يوم عشرين مينا، عبارة عن ألف وثمانمائة فرنك، إلى آخر ما قال.
انظر ذلك فى الكلام على سوهاج من (حرف السين)
ثم إن بلاد الفيوم كانت من إقطاعات فخر الدين عثمان الأستادار فى سلطنة الملك الكامل، لما فى المقريزى أنه كان بالقاهرة فى موضع يعرف بالبرقية، برج حمام يسمى ببرج الفيوم، وكان بناؤه بأمر الأمير فخر الدين عثمان الأستادار فى زمن السلطان الكامل، وكان الفيوم من ضمن إقطاعاته، فكان حمام البريد يأتى بأخبار المديرية إلى هذا الأمير، فينزل بهذا البرج، ويأخذ الأخبار منه إليها، فمن هذه الأسباب سمى برج الفيوم. انتهى.
ثم إن بحر يوسف يشق مدينة الفيوم، فيمر فى وسطها، وعليه قنطرتان قديمتان، يعبر عليهما: إحداهما فى مبدأ المدينة، توصل إلى الأسواق التى بداخلها، والثانية فى آخرها البحرى، وفوق هذه جامع.
وفى زمن العزيز محمد على باشا صار تجديد القنطرة الأولى من أصلها لاختلال حصل بها، وكان ذلك سنة 1259 هجرية، ومبانى المدينة بالطوب الآجر وحاراتها ضيقة غير مستقيمة، وبها خانات وحوانيت وقهاو وغير ذلك مما تشتمل عليه المدن، وفى جهتها الغربية سوق دائم يقال له سوق العمور، وبها عدة مساجد جامعة بمنارات.
وأشهرها جامع الروبى، نسبة إلى الشيخ الروبى المدفون بجواره، وهو مشهور يزار، وله مولد كل سنة فى نصف شعبان يجتمع فيه خلق كثيرون، وبعض عوام تلك الجهة يزعمون أنه من نسل روبيل أخى نبى الله يوسف عليه السلام.
ومدينة الفيوم الآن على النهاية القبلية من المدينة القديمة التى آثارها الآن تلول عالية متسعة، تبلغ مساحتها نحو ألف فدان، وتعرف عند الأهالى بكيمان فارس، ومقابرها فى تلك التلول، وتزعم الأهالى أن المسلمين وقت الفتح أحرقوها، وأغلب مهمات المدينة الجديدة مستخرجة من تلولها، وقد أخرج رستم باشا وقت أن كان ناظر جفالك العزيز محمد على سنة 1262 عدة أعمدة جعلها فى منزله الذى بناه هناك، وهى من الرخام الأبيض، وقد بنى بها فى سنة 1268 مبيضة لأقمشة الكتان، والآن بها اسبتالية المديرية، بناها حسن بيك الشماشيرجى بعد أن استولى على الواحات وسيوة بتجريدة من العساكر عينه عليها العزيز محمد على حتى دانت، ودخلت تحت الحكم، ولم تكن قبل ذلك داخلة تحت الطاعة.
وفى خارج المدينة شونة أصناف بنيت أيضا زمن العزيز محمد على، وكان بها معصرة لاستخراج زيت الزيتون ومحل لصناعة الزيتون الأخضر والأسود ومحل لاستخراج ماء الورد، وكان جميع المتحصل من ذلك خاصا بالعزيز، ولا يباع منه إلا الزائد.
وبنى العزيز أيضا فى جهتها الشرقية سراى كان ينزل بها، وجعل حولها بستانا، وبينها وبين بحر يوسف نحو ثلاثين قصبة، وبحر مطر طارس فى غربيها بنحو عشرين قصبة، وهو بحرى شونة الأصناف.
وقد سكن هذه المديرية كثير من الأمراء، ولهم فيها منازل متينة رفيعة القيمة، وفى المدينة عدة صهاريج كانت تملأ وقت الفيضان لينتفع بها عند جفاف بحر يوسف، وبها حمام مستعمل إلى اليوم، وعدة معاصر لزيت الزيتون، وكان الزيتون يزرع فى كثير من بلاد الفيوم، مثل سينرو وفدمين والعجميين، وجردو وطبهار والسنبلاوين
وغيرها. وكان يورد فى شونة الأصناف، ويصرف ثمنه لأربابه، ثم يعصر، وكذلك الورد كان يجمع ويباع بالقنطار، والبلاد المشهورة بزرع الورد هى ناحية دار الرماد، والعلام وقحافة والمدينة والسنباط، وكانت العادة أن أصحاب الزيتون يبيعونه لتجار المدينة، وهم يصنعونه ويتجرون فيه فى جهات القطر، وكذلك الورد، وبالمدينة عدة بساتين ذات فواكه ورياحين تحاكى فى ذلك بلاد الشام، ونواحيها المشهورة بالبساتين والفواكه سيما العنب الجيد المشهور بعنب الفيوم، هى ناحية سينرو وفدمين والسنبى وشهور وأبو كساه والعجميين وطبهار، فإن أغلب هذه البلاد مشحونة بالعنب، وفى ابتداء سنة 1270 قل الورد هناك حتى كاد ينعدم من الفيوم، واستمر على ذلك ثمان سنين، ثم أخذ فى الازدياد من ابتداء سنة 1285.
والآن أيضا اتصلت سكة حديد الوجه القبلى بفرع إلى الفيوم، يبتدئ من الوسطى، قرية ببلاد بنى سويف، ويمر فى حوض الرقة/ إلى الجبل، ومن هناك إلى قصب سيلة، ثم يمر بالبطس، ثم يسير على جسر الخزان القديم، ومن هناك يستقيم إلى ناحية المصلوب، ثم يكون فى المدينة، فأوّل الخط محطة الوسطى، وآخره محطة الفيوم بقرب الشونة، ثم امتد هذا الفرع فى داخل مديرية الفيوم، فيمر بناحية سينرو من قبليها، وبناحية العجميين من بحريها، ثم بقرب ناحية بشية ثم أبى كساه وهى نهايته الآن.
وهناك فوريقة لعصر القصب من إنشاء الخديوى إسماعيل باشا وبالمدينة أنوال لصنعة الخيش الشغل الذى كان يطلب لجهات الميرى، وأما صنعة الدفافى الصوف الجيدة الرفيعة، والزعابيط كذلك، فتوجد فى ناحية بشيه وأبشواى الرمان والنزلة ونحوها بسبب جودة الصوف الأبيض، المأخوذ من أغنام العرب المقيمين بأرض الفيوم، وقد طلب
المرحوم إبراهيم باشا من هذا الصوف، وعمل منه كساوى لنفسه، واستحسنه وقدمه على الجوخ، وسوق المدينة العمومى كل يوم أحد يؤتى إليه من سائر الجهات، وهو غير سوقها الدائم، والآن بواسطة السكة الحديد يؤتى إليه من مديرية بنى سويف وغيرها.
ولها الآن كنيسة ودير يعرف بدير العذراء عند ناحية العرب الواقعة قبلى المدينة على نحو ساعة، وكلاهما من بقايا المعابد القديمة، وكان بها أحبار وعلماء قبل الإسلام وبعده، فقد ذكر المقريزى فى خططه عند الكلام على تاريخ اليهود وأعيادهم أسماء جماعة من علماء اليهود، منهم العالم ابن سعيد الفيومى، وهو على ما ذكر فى كتاب:
(الفهرست) لأبى الفرج، كان من علماء اليهود وأفاضلهم المتمكنين من اللغة العبرانية، وتزعم اليهود أنها لم تر مثله، واسمه سعيد الفيومى، ويقال سعد، وكان قريب العهد، قال وقد أدركه جماعة فى زماننا، وله من الكتب كتاب:(المبادى) وكتاب (الشرائع) وكتاب:
(تفسير أشعيا) وكتاب: (تفسير التوراة) نسقا بلا شرح، وكتاب:
(الأمثال) وهو عشر مقالات، وكتاب:(تفسير أحكام داود) وكتاب:
(تفسير النكت) وهو تفسير زبور داود عليه السلام، وكتاب:(تفسير السفر الثالث من النصف الآخر من التوراة) مشروح، وكتاب:(تفسير كتاب أيوب) وكتاب: (إقامة الصلوات والشرائع) وكتاب: (العبور) وهو التاريخ. انتهى.
ترجمة الشيخ شعبان الفيومى
وقد نشأ منها علماء إسلاميون كثيرون، وذكر صاحب:(خلاصة الأثر) أن من علمائها الفاضل الشيخ شعبان الفيومى الأزهرى الشافعى الإمام الفقيه المتضلع من العلوم الشرعية، شيخ الأزهر نفع الله بعلمه، فما قرأ عليه أحد إلا انتفع به، وحصلت له بركته، ولد بالفيوم سنة عشرة وألف هجرية تقريبا، وحفظ القرآن، ودخل إلى مصر، وأخذ عمن بها من أكابر العلماء كالشهاب القليوبى والشمس الشوبرى، وكان ملازما لهما سنين عديدة، وكان يستغرق أوقاته فى إقراء العلم والتدريس فى العلوم النافعة، وكان يقرأ عليه كل يوم ما ينيف على مائة طالب، وله فى كل يوم ثلاثة دروس حافلة، واحد بعد الفجر إلى قريب طلوع الشمس، والثانى بعد الظهر، والثالث بعد العصر، وهذا دأبه دائما، وكان يجتمع فيها من طلبة العلم خلق كثير، وكان محافظا على الجلوس فى الأزهر، لا يخرج منه إلا لحاجة، وكان يستحضر كتب الفقه المتداولة بين المصريين، وتخرج به كثير من العلماء، منهم العلامة منصور الطوخى وإبراهيم البرماوى وعطية الشواربى وغيرهم.
وكان قليل الكلام كثير الاحتشام، لا يتردد إلى أحد، معظما عند العلماء مشهورا بالورع، وكان إذا قرأ القرآن يكاد يغيب عن حواسه، وكان كثير الدعاء لمن يقرأ عليه، ولا يسمع منه كلام إلا فى تقرير مسائل العلم، وكان إذا مر فى السوق يمر مسرعا مطرق الرأس، وله كرامات ظاهرة، منها أن رجلا تسلط عليه فكان إذا مر مطرقا يحاكيه ويتمثل به ويطرق رأسه مثله، فأتى إليه ذات يوم وهو مطرق ففعل مثله وأطرق رأسه فلم يقدر على رفعه، ولا تحريكه يمينا ولا شمالا، ثم
أتى إليه واعتذر وتاب، فعفا عنه ودعا له، فعافاه الله تعالى ببركته، ومنها الاستقامة فى جميع الأحوال التى هى أوفى كرامة، توفى بمصر فى جمادى الأولى سنة خمس وسبعين وألف، ودفن بتربة المجاورين، رحمه الله.
ترجمة الشيخ عبد البر الفيومى العوفى الحنفى
وذكر فى (حرف العين) أن منها: عبد البر بن عبد القادر بن محمود بن أحمد بن زين الفيومى العوفى الحنفى، أحد أدباء الزمان الموفقين، وفضلائه البارعين، كان كثير الفضل جم الفائدة، شاعرا مطبوعا مقتدرا على الشعر، قريب المأخذ سهل اللفظ، حسن الإبداع للمعانى، مخالطا لكبار العلماء والأدباء معدودا من جملتهم.
أخذ العلم بمصر عن الشيخ أحمد الوارشى الصديقى، والأدب عن الشيخ محمد الحموى، والقراءات عن الشيخ عبد الرحمن اليمنى، وفارق وطنه، فحج أولا، وأخذ بمكة عن ابن علان الصديقى، وكتب له إجازة مؤرخة بأواخر ذى الحجة سنة اثنين وأربعين وألف، ثم دخل دمشق وحلب فى سنة ثمان وأربعين، وأخذ بحلب عن النجم الحلفاوى الأنصارى، ولزمه للقراءة عليه فى:(شرح الدرر) فى الفقه مع (حاشية الوانى) و (شرح ابن ملك على المنار) مع حواشيه الثلاث:
عزمى زاده وقرا كمال والرضا ابن الحنبلى الحلبى، و (شرح الجامى) مع حاشيته لعبد الغفور، /و (مختصر المعانى) مع حاشيته للخطائى، ثم خرج إلى الروم فورد مورد العلامة أبى السعود الشعرانى، وقرأ عنده (جامع الأصول) للربيع اليمنى، وهو فى
تحرير الأحاديث و (شرح الهمزية) لابن حجر بتمامه، ونصف (سيرة الخميس) أو قريبا منه، وجانبا من (فتاوى قاضيخان) وبعض (فرائض السراجية) وكثيرا من مباحث التفسير وأجازه، ولزم الشهاب الخفاجى فقرأ عليه بعض (شرح المفتاح) للتفتازانى، وبعض شرح نفسه على الشفاء، وكتب له خطه على هامش الكتابين، ولما ولى قضاء مصر استصحبه معه إلى صلة رحمه واستنابه بين بابى الفتح والنصر، وصيره معيدا لدرسه فى حاشيته على تفسير البيضاوى، وفى (شرح صحيح مسلم) للنووى، وأخذ بالروم عن المولى يوسف بن أبى الفتح الدمشقى إمام السلطان.
وولى من المناصب إفتاء الشافعية بالقدس مع المدرسة الصلاحية، ودخل دمشق وأقام بها فى حجرة بجامع المرادية نحو سنتين، ولم يقدر على الدخول إلى المقدس خوفا من الشيخ عمر بن أبى اللطف مفتى الشافعية قبله، ثم لما مات الشيخ عمر ترحل إليها ومكث بها أياما، ولما لم ينل حظه من أهلها ترك الفتوى والتدريس، ورأى المصلحة فى الرجوع إلى الروم، فانتقل إليها وأقام بها مدة، ثم انتظم فى سلك الموالى فولى بعض مناصب، ومات وهو معزول.
وله تآليف كثيرة حسنة الوضع، أشهرها كتاب:(منتزه العيون والألباب فى بعض المتأخرين من أهل الآداب) جعله على طريقة الريحانة إلا أنه رتبه على حروف المعجم، وجمع فيه (بين شعراء الريحانة) و (شعراء المدائح) الذى ألفه التقى الفارسكورى، وزاد من عنده بعض متقدمين وبعض عصريين، وهو مجموع لطيف، وفيه يقول الأديب يوسف البديعى:
كتاب ذى الفضل عبد البر منتزه ال
…
عيون أحسن تأليف ومنتخب
حوى محاسن أقوام كلامهم
…
فى النظم والنثر يلفى زبدة الأدب
رأى البديعى ما فيه فحقق أن
…
ما مثل رونقه فى سائر الكتب
وله: (حاشية على شرح الهمزية) لابن حجر، صغيرة الحجم، وكتاب:(بلوغ الأدب والوسول بالتشرف بذكر نسب الرسول) وكتاب: (اللطائف المنيفة فى فضل الحرمين وما حولهما من الأماكن الشريفة) وكتاب: (حسن الصنيع فى علم البديع) وله بديعية على حرف النون وشرحها، ومطلعها:
لما تذكرت سفح الخيف والبان
…
أهل دمعى وروى روضة البان
وله رسالة فى التوشيع سماها: (إرشاد المطيع) ورسالة سماها:
(مشكاة الاستنارة فى معنى حديث الاستخارة) و (رسالة فى القلم) وأخرى فى: (السيف) وله شعر كثير غالبه مسبوك فى قالب الإجادة، وعليه رونق الانسجام والبلاغة، فمن ذلك قوله:
تبدى مليك الحسن فى مجلس البسط
…
بقدّ كغصن البان أو ألف الخط
وأبدى على شرط المحبة حجة
…
مسلمة أحكامها قط ما تخطى
ومن شرطه فى الخد قبلة عاشق
…
فكان مداد الحسن فى ذلك الشرط
ومن لطائف شعره قوله فى الغزل:
لى حبيب قد سالماه
…
عذبا وطرفاه سالماه
فيا خليلاى عذر صب
…
جودا وإلا فسالماه
فالطرف هام من التجافى
…
طول الليالى قد سال ماه
وساكن القلب مذ رآه
…
يهيم بالوجد سال ما هو
الأول: ساء بالهمز مقصور للشعر، ولمى: أى الريق فاعل، وإساءته: منعه لوراده، والثانى: ماض والألف للتثنية، والثالث: أمر لاثنين، والرابع: من الإسالة، والماء قصر للضرورة، والخامس: من السؤال، سهلت الهمزة ضرورة، وما سؤال على سبيل تجاهل العارف.
وله قصيدة ميمية عارض بها ميمية شيخ الإسلام أبى السعود العمادى التى مطلعها:
أبعد سليمى مطلب ومرام
…
وغير هواها لوعة وغرام
ومطلع قصيدته هو هذا:
أهيل النقى هل بالديار مقام
…
وهل حى سلمى مسكن ومقام
وهى طويلة تنيف على ثمانين بيتا، وقد تضمنت حكما كثيرة، ولولا طولها لذكرتها كلها، وقد ختم كتابه:(المنتزه) بها، ولم يذكر بعدها إلا تاريخ ابتداء إنشائه لهذا الكتاب، وهو يوم الخميس سادس عشر صفر سنة خمس وخمسين، وتاريخ الفراغ/من تبيضه كله وهو يوم الأحد الحادى والعشرين من المحرم سنة ستين وألف، وكانت وفاته سنة إحدى وسبعين وألف بقسطنطينية.
ترجمة الشيخ أحمد بن أحمد العطشى الفيومى
والفيومى نسبة إلى الفيوم، وهى بلدة مشهورة فى إقليم مصر، وإليها أيضا ينسب كما فى:(تاريخ الجبرتى) الإمام الفاضل الشيخ أحمد بن أحمد بن عبد الرحمن بن محمد بن عامر العطشى الفيومي الشافعى، كان أحد المتصدرين بجامع ابن طولون، وكان له معرفة فى الفقه والمعقول والأدب، وكان يخبر عن نفسه بأنه يحفظ اثنى عشر
ألف بيت من شواهد العربية وغيرها، أخذ عن الأشياخ المتقدمين، وكان إنسانا حسنا منور الوجه والشيبة، مات فى سادس جمادى الثانية عن نيف وثمانين سنة، بعد المائة والألف.
ترجمة الشيخ إبراهيم الفيومي شيخ الجامع الأزهر سابقا
وينسب إليها أيضا كما فى الجبرتى: الإمام المحدّث الشيخ إبراهيم بن موسى الفيومى المالكى شيخ الجامع الأزهر، تفقه على الشيخ محمد بن عبد الله الخرشى، قرأ عليه (الرسالة) وشرحها، وكان معيدا له، وتلبس بالمشيخة بعد موت الشيخ محمد شنن، ومولده سنة اثنتين وستين وألف، وأخذ عن الشبراملسى والزرقانى والشهاب أحمد البشبيشى والجزائرلى الحنفى، وأخذ الحديث عن الشيخ يحيى الشاوى وعبد القادر الواطى وعبد الرحمن الأجهورى وإبراهيم البرماوى وآخرين، وله:(شرح على العزية) فى مجلدين، توفى سنة سبع وثلاثين ومائة وألف عن خمس وسبعين سنة. انتهى.
ترجمة الشيخ سليمان الفيومى المالكى
وفيه أيضا فى حوادث سنة أربع وعشرين ومائتين وألف أن هذه المدينة ولد بها الأستاذ الشيخ سليمان الفيومى المالكى، وحضر إلى مصر وحفظ القرآن، وجاور برواق الفيمة بالأزهر، ولازم الشيخ الصعيدى فى أول مجاورته، فكان يمشى خلف حمار الشيخ، وعليه دراعة من صوف وشملة صفراء، ثم حضر دروسه ودروس الشيخ
الدردير، واختلط مع المنشدين، وكان صوته حسنا، وكان يذهب معهم إلى بيوت الأعيان فى الليالى، وينشد معهم، ويقرأ الأعشار، فيعجبون منه، ويكرمونه زيادة على غيره، ثم اجتمع على بعض الأمراء المعروفين بالبرقوقية من ذرية السلطان برقوق، وكانوا نظارا على أوقاف السلطان المذكور، فراج أمره وكثرت معارفه بالأغوات الطواشية، فتوصل بهم إلى نساء الأمراء، وصار له زيادة قبول عندهم وعند أزواجهم، وصار يتوكل لهم فى القضايا والدعاوى، وتجمل بالملابس وركب البغال، وتزوج بامرأة بناحية قنطرة الأمير حسين وسكن بدارها، وماتت وهى على ذمته فورثها.
ثم لما مات الشيخ محمد العقاد تعين المترجم لمشيخة رواق الفيمة، وبنى له محمد بيك المعروف بالمبدول دارا عظيمة بحارة عابدين، فاشتهر ذكره وعلا شأنه وطار صيته، وسافر فى بعض مقتضيات الأمراء إلى دار السلطنة، ثم عاد إلى مصر، فأقبلت عليه الهدايا من الأمراء والأعيان والأغوات والحريمات، واعتنوا بشأنه وزوّجته الست زليخا زوجة إبراهيم بيك الكبير بنت عبد الله الرومى، فتصرف فى أوقاف أبيها، وكان من ضمنها عزب البر تجاه رشيد، فاشتهر بالبلاد البحرية والقبلية، وكان كريم النفس جدا يجود بما عنده، مع حسن المعاشرة والبشاشة والتواضع والمواساة للكبير والصغير والجليل والحقير، وطعامه مبذول للواردين، ومن أتى إلى منزله لحاجة أو زائرا له لا يمكنه من الذهاب حتى يتغدى أو يتعشي، وإذا سأله أحد حاجة قضاها كائنة ما كانت، ومما اتفق مرارا أنه يركب من الصباح فى قضاء حوائج الناس، فلا يعود إلا بعد العشاء الأخيرة.
ثم لما حضر حسن باشا الجزائرلى إلى مصر، وارتحل الأمراء المصريون إلى الصعيد، وأحاط بدورهم، وطلب الأموال من نسائهم،
وقبض على أولادهم، وأنزلهم فى سوق المزاد، التجأ إلى المترجم الكثير من نساء الأمراء الكبار فآواهم، واجتهد بنفسه فى حمايتهن والرفق بهن مدة إقامة حسن باشا بمصر، وكذلك فى إمارة إسماعيل بيك، ثم لما رجع أزواجهن بعد الطاعون إلى إمارتهم ازداد المترجم عندهم قبولا، فكان يدخل بيت الأمير، ويطلع محل الحريم، ويجلس معهن ويكرمونه، ولم يزل على هذه الحالة إلى أن طرقت الفرنساوية البلاد المصرية، وأخرجوا منها الأمراء، وخرجت النساء من بيوتهن، وذهبن إليه أفواجا أفواجا حتى امتلأت داره وما حولها من الدور، وتصدى المترجم وتداخل فى الفرنساوية، ودافع عنهن، وأقمن بداره شهورا، وأخذ أمانا لكثير من الأمراء المصرية، وأحضرهم إليها، وأحبته الفرنساوية وقبلت شفاعته، وقررته فى رؤساء الديوان الذى رتبوه لإجراء الأحكام بين المسلمين، ولما نظموا أمور القرى والبلدان المصرية على النسق الذى جعلوه، ورتبوا على مشايخ كل بلدة شيخا ترجع أمور البلد ومشايخها إليه، جعلوا المترجم شيخ المشايخ، وبقى على ذلك إلى أن انقضت أيامهم وحضرت العثمانية والمترجم فى عداد العلماء والرءوس، وافر الحرمة شهير الذكر، ولما قتل خليل أفندى الرجائى الدفتردار وكتخداى بيك فى حادثة مقتل طاهر باشا، التجأ إليه أخو الدفتردار وخازنداره وغيرهما، فواساهم حتى/سافروا إلى بلادهم، ولم يزل على شهرته إلى أن توفى فى شهر ذى الحجة من سنة أربع وعشرين ومائتين وألف، ودفن بالمجاورين، رحمه الله تعالى.
(حرف القاف)
قاو
- بقاف فألف فواو - بلدة بالصعيد الأوسط فى شرقى النيل، تجاه ما بين طهطا وطما، تحت سفح الجبل فى شمال قرية الهريدى.
وكلمة: (قاو) قبطية معناها الجبل لأنها بقربه، وعندها بهذا الجبل مغارات كثيرة منحوتة كانت مساكن رهبان النصارى فى الأزمان السابقة، وكانت هذه البلدة تسمى عند قدماء المصريين:(تكوو) وفى بعض كتب القبط أنها كانت تسمى طوو، وكان اليونان يسمونها:
أنطيوبوليس، وهى كلمة مركبة من كلمتين: أنطيو، الذى هو اسم لأحد الأعوان عند الرومانيين، وبوليس التى معناها مدينة، فيكون معنى الكلمتين بعد التركيب مدينة أنطيو.
وزعم اليونان أن أنطيو هو ابن الأرض الذى قتله هرقول خنقا بين السماء والأرض بعد أن تحير فى أمره، لأنه كان كلما مس الأرض برجليه ازداد قوة، فلم يتمكن من قتله إلا فى السماء، وهذا من خرافات اليونان، أو أن ذلك لغزله معانى إشارية يفهمها أربابها، كما فى كتب الفرنساوية، قالوا: وكانت هذه البلدة فى الأزمان السابقة على شاطئ البحر، ثم تباعد عنها، كما حصل ذلك لكثير من المدن، فإن مدينة ملوى مثلا بعد أن كانت على ساحله الغربى تحول عنها بقدر ألفين وثلثمائة متر، وكانت مدينة المنية بعيدة عنه لجهة الغرب، فقرب منها حتى صارت على شاطئه إلى غير ذلك.
وفى زمن الرومانيين كان يقيم بقرب هذه البلدة على بعد أميال فرقة من عساكرهم، وكانت فى تلك المدة رأس خط ثم تخربت، ولم يبق بها إلا الآثار، فلهذا سماها المقريزى: قاو الخراب.
وفى كتب الفرنساوية أيضا أن آثارها العتيقة تدل على أنها بلغت من الاعتبار فى الأزمان السابقة مبلغا عظيما، فإن بها بربى وأثر معبد وتلالا متعددة، وعمائر كثيرة فى جهتها الغربية بقى منها عدة أعمدة يحيط بها سور عظيم، مع ما ينضم إلى ذلك من المغارات المنحوتة فى الجبل التى تبلغ أبعاد بعضها مائتى متر طولا ومائة وثلاثين عرضا، وشكل أعمدتها فى شكل نخل البلح سواء، ولا يرى مثل ذلك فى أعمدة غيرها من العمائر، وطول بدن العمود منها مع تاجه وقاعدته أحد عشر مترا ونصف، وقطره الأسفل متران واثنان وثلاثون جزءا من المتر، وارتفاع التاج متران ونصف، وقاعدته ستة أعشار متر، وفوق التاج صحفة فى ارتفاع أربعة أمتار وثلاثة وثلاثين جزءا من المتر، وبين كل عمودين ثلاثة أمتار وأربعون جزءا من مائة من المتر، وارتفاع ذلك المعبد مقدار ثلث عرضه بالتحرير، ويظهر بالتأمل فى أجزائه أن المصريين كان لهم قوانين لا يتعدونها فى مبانيهم، كالقوانين الجارية الآن بل أدق، فإذا فرضنا أن ارتفاع العمود والصحفة والقاعدة منقسم إلى عشرة أقسام متساوية، نجد الكرنيش ثلاثة أجزاء والقطر جزأين، وارتفاع الباب ستة أجزاء، والتاج جزآن وكرنيشه واحدا ونصفا، وما فوقه كذلك، وارتفاع المداميك نصف جزء، وارتفاع البناء كله ثلاثة عشر ونصف، فبالتأمل نرى أن العشر هو نصف قطر القاعدة السفلى، فيكون هو المدول الذى على مقتضاه كانت تحسب أجزاء المبانى، وبتطبيقه على عمارة قاو يرى أن الواجهة أربعون مدولا أعنى أنها قدر الارتفاع ثلاث مرات أو أنها مائة ذراع، وارتفاع العمود 35
ذراعا، وارتفاع التاج خمسة أذرع، وارتفاع الباب خمسة عشر ذراعا، وقطر العمود خمسة أذرع، والذراع المعتبر هنا هو الذراع الذى قدره 0،463 الداخل فى ضلع قاعدة الهرم 500 مرة.
ويتعجب الإنسان من كثرة الحجارة الضخمة الملقاة هناك، التى كانت داخلة فى البناء، فقد قيس بعضها فوجد طوله 9،87 أمتار وارتفاعه 1،45 وعرضه 1،6، وتفوق هذه الحجارة ضخامة الحجارة المبنية به سرايات طيبة، فإن مكعب الحجر من هذه 33،95 متر، فلو فرض أن وزن المتر الواحد خمسون قنطارا، والبالغ وزن الحجر الواحد 1144 قنطارا وكسرا، فكيف كانوا يصنعون فى قطعها ونقلها ووضعها فى البناء. انتهى.
ثم إن بين قاو وإخميم مسافة نحو سبعة وأربعين ألف متر، وقد خلفت هذه البلدة ثلاثة قرى فى تلك الجهة، إحداها: تسمى (قاو الكبيرة) و (قاو الشرق) وهى فى شرقى النيل فى جنوب رباينة أبى أحمد، وفى الجنوب الشرقى لناحية طما الواقعة فى غربى النيل، والثانية:(قاو النواورة) فى شرق البحر أيضا فى جنوب (قاو الكبيرة) وفى شمال رباينة الهريدى، والثالثة: تسمى (قاو الغرب) فى غربى النيل تجاه قاو الكبرى، بين مشطا وطما وأبو الجميع واحد، وطباعهم وعوائدهم وتكسباتهم متحدة، ولغتهم تقلب الجيم دالا والشين المعجمة سينا مهملة، فيقولون فى الجمل مثلا: الدمل، وفى الشعير:
السعير، وقد كانوا قديما أهل بله مغفلين، حتى يقال إنهم أغاروا مرة على قرية غربى النيل ونهبوها، فملأ أحدهم غرارة من الدجاج وأنزلها فى البحر وعدى البحر بالعوم، وهو يجرها خلفه/فى الماء إلى البر الآخر، فمات الدجاج وهو لا يدرى أن الماء يغرقه، وملأ أحدهم غرارة من السكر، وجرها فى البحر حتى نفد ما فيها وهو لا يدرى.
وفى جميعها نخيل وأشجار، وفى الشرقيتين أبنية متينة ومساجد بخلاف الغربية، فلانتقالها بسبب جور النيل عليها، تجد أبنيتها خفيفة أكثرها من الطين غير المضروب.
ويتبع تلك القرى عدة نجوع صغيرة فى شرقى النيل وفى غربيه، وكانوا أهل يسار لخصوبة أرضهم وجودة محصولها، حتى أن قيمة قمحها أكثر من قيمة غيره، وكذا دخانها وسلجمها وخشخاشها، وكنت تجد فيها جياد الخيل، والطقومة المحلاة، والفرش النفيسة، وأنواع النحاس والملابس الفاخرة، إلى أن كانت سنة 80 ثمانين أو إحدى وثمانين، فأتاهم من كان سببا فى إزالة تلك النعم عنهم، وإبادة كثير من أنفسهم وأموالهم، وتخريب بيوتهم، وهو رجل من الصعيد الأعلى، كانوا يسمونه الشيخ أحمد الطيب، يزعم أنه شريف جعفري، ويدعى العلم والولاية والمكاشفات، فلغفلتهم احتفلوا به ودخلوا فى طاعته، وأعطوه العهود على أنفسهم بالطاعة لله ولرسوله، فجرهم إلى معاصى الله تعالى، حتى جعلهم من البغاة الخارجين عن طاعة الإمام، فآل أمرهم إلى أن سلط عليهم الخديوى إسماعيل باشا شرذمة من العساكر مع بعض الأمراء فقتلوا كثيرا منهم، وخربوا بيوتهم، وسلبوا أموالهم، وأمر بكثير منهم فنفوا إلى البحر الأبيض مدة حياتهم، ثم عفا عن باقيهم، لكن ذهبت بهجتهم وقلت أموالهم، وظهرت عليهم الكآبة والفاقة من يومئذ، وقد بسطنا الكلام فى تلك الواقعة عند الكلام على العقال فانظره.
***
القايات
- بقاف بعدها ألف ثم ياء آخر الحروف فألف فمثناة من فوق - بلدة من أعمال البهنسا بحسب ما كان، وهى الآن من أعمال المنية بقسم بنى مزار، موضوعة غربى بحر يوسف بقرب الجبل الغربي، فى شمال البهنسا بنحو ساعتين ونصف، وأغلب مبانيها بالآجر وبها مسجدان:
أحدهما: مسجد الأستاذ الشيخ عبد اللطيف الآتى ذكره، وهو مسجد كبير، به أعمدة من الرخام الأبيض، وله منارة، وبجواره من الخارج مقام الأستاذ المذكور، وعليه قبة شامخة ترى من بعيد.
والثانى: مسجد قديم تهدم كله، وقد شرع الآن الأستاذ الشيخ محمد نجل الأستاذ الشيخ عبد الجواد فى بنائه.
وبها مبان مشيدة أنشأها نجل الشيخ لنزول الضيوف وغيرهم، منها ما هو بالحجارة المنحوتة، وما هو بالآجر والمونة، بشبابيك محكمة الصنعة وعليها ألواح الزجاج، وجعل فيها الفرش العظيمة، وكل ما يحتاج إليه حتى أدوات الوضوء والفوط والبشاكير والسجادات وغير ذلك، وبالبلد نخيل مختلف الأنواع، وفيها نخلة موجودة إلى الآن، تثمر فى السنة نحو الستة أرادب، كما حدّث به من يوثق به، وبها جملة من أبراج الحمام، وجنتان ذواتا أفنان لذرية الشيخ عبد الجواد، وتكسب أهلها من الزروع وغيره.
ترجمة شمس الدين أبو عبد الله محمد القاياتى الشافعى
وإليها ينسب قاضى القضاة شمس الدين أبو عبد الله محمد بن على بن يعقوب ابن الشيخ نور الدين القاياتى الشافعى، محقق عصره، وأحد النوابغ الثلاثة الذين ظهروا فى وسط الدولة الأشرفية، وكانوا أعجوبة عند المناظرة، ثانيهم: البرهان الأبناسى، ثالثهم: الونائى، كما قال محب الدين القطان فيهم:
وثلاثة كانوا بمصر أئمة
…
فى غاية الإتقان والأثبات
ظهروا بدورا فى سعود سعادة
…
ثم اختفوا متتابعى الأوقات
برهان أبناس فتى حجاجة
…
وأخو وناء ومزدهى قايات
ولد سنة خمس وثمانين وسبعمائة تقريبا ببلده القايات، وقرأ بها القرآن، ثم نقله والده إلى القاهرة، وجعله تحت نظر عمه الشيخ ناصر الدين، فأكمل بها حفظ القرآن، ثم حفظ أصول ابن الحاجب، والألفية والتسهيل وغيرها، ودأب فى الاشتعال بأنواع العلوم، المنقول منها والمفهوم، حتى صار إمام محرابها، وموئل طلابها، مع غاية العفة والديانة، والورع والصلاح والأمانة.
أخذ عن أئمة كثيرين، منهم عمه المشار إليه، والولى العراقى، والعز بن جماعة، والسراج البلقينى، والسراج بن الملقن، والشمس القرافى وغيرهم، وشاركه فى بعض ذلك ولده أبو الفتح، وتلقن الذكر من الشيخ إبراهيم الإدكاوى، وله على:(المنهاج) شرح اعتني فيه برد كلام الإسنوى، وله:(ذيل ونكت على المهمات) وكان فكاكا لصعاب المشكلات، ولاه السلطان جقمق قاضى القضاة بعد خلع السراج البلقينى، وكان قد صمم على عدم الإجابة، فحسن له الكمال بن البارزى أن يجيب، فأجاب.
وقد أجمع أهل وقته على أنه باشره بعفة ونزاهة وتثبت كثير، حتى إنه لم يأذن إلا لعدد قليل من النوّاب، واقتصر فى بابه منهم على ثلاثة بالنوبة: العز بن عبد السلام، والمحيوى الطوخى، والولولى السيوطى، وتولى تدريس الشافعى، والأشرفية والبرقوقية والعزازية، ونظارة البيبرسية والشيخونية، ومشيخة خانقاة/سعيد السعداء، وخطابة الأزهر.
ولذا قال السخاوى: لم يجتمع لأحد من الفقهاء فى هذه الأزمان ما اجتمع له، وكان متعففا عن معاليمها جميعها، وتولى ابنه الأكبر أبو الفتح بعده خانقاة سعيد السعداء، وابنه الأصغر أحمد المدرسة البيبرسية، وهما معا الأشرفية والبرقوقية والعزازية، وهو ابن أخت القاضى فخر الدين القاياتى.
وقد ترجمه السيوطى فى: (حسن المحاضرة) وأثنى على أوصافه الباهرة، وذكر أن والده لازم دروسه ثلاثين سنة، وترجمه الحافظ السخاوى فى:(الذيل) وهذه الترجمة مختصرة منه، وكانت وفاته بمصر تاسع عشر المحرم سنة خمسين وثمانمائة، وصلى عليه الخليفة، ودفن بخانقاة سعيد السعداء، رحمة الله عليه. انتهى.
ومن ذريته الآن صاحب الأخلاق المرضية، والسير الحسن والسيرة السنية حضرة على أفندى المشهور بالقاضى، باشكاتب تفتيش وجه قبلى.
ترجمة سيدى عبد اللطيف القاياتى
وإليها ينسب أيضا الإمام العارف، كنز العلوم والمعارف، الولى الكبير والعالم الشهير، سيدى عبد اللطيف ابن سيدى الحاج حسين ابن الشيخ عطية ابن سيدى عبد الجواد القاياتى، من أولاد الشيخ ياسين القاياتى، من أولاد الشيخ أبى البقاء المدفون بقلعة الكبش، ومقامه بها معروف يزار، قد جدده ابنه سيدى عبد الجواد سنة ثمان وستين ومائتين وألف تقريبا، وله زاوية صغيرة متصلة بالمقام، إلا أنها هجرت لتطاول السنين، وينتهى نسب عبد اللطيف إلى الصحابى الجليل، حامل السنة والتنزيل، سيدى أبى هريرة رضى الله تعالى عنه، كما أخبر هو بذلك النسب، ووصل إلينا ذلك من ذريته وأتباعه الثقات.
نشأ رضي الله عنه بالقايات، فقرأ بها القرآن، ثم رحل إلى القاهرة، فأخذ العلم عن جماعة أجلاء، منهم: الإمام العالم الراسخ القدوة المرشد إلى الله تعالى الشيخ عبد العليم السنهورى، نسبة إلى سنهور - بلدة بالفيوم - ومدفنه بحارة المدرسة بقرب الأزهر ظاهر يزار، تلوح عليه الأنوار، ومناقبه شهيرة، ومنهم: الهمام العلامة الشيخ محمد الشنويهى، المدفون ببلدة شنويه من أعمال القليوبية، وضريحه بها معروف يزار، وأخذ عن غيرهما من علماء الوقت.
ثم بعد تضلعه من العلوم، أقام ببلده القايات، فانتهت إليه الفتوى فى تلك الجهة، وغيّر كثيرا من المنكرات، وكان مسموع الكلمة ممتثل الأمر، ثم اجتمع بقطب وقته الولى الأمى الشريف الحسينى سيدى الحاج إبراهيم الشلقامى العمرانى، من ذرية سيدى أبى العمران، مولده بشلقام ومقامه ومسجده بآبة الوقف؛ وهما قريتان متجاورتان،
فطلب منه الطريق، فدله على أستاذه الشيخ عبد العليم أحد مشايخه فى العلم، فرحل إليه فلقنه الذكر، وأمره بالتردد على الأستاذ الشلقامى لتقارب بلديهما، فجد واجتهد وحصل له الفتح والمدد فى مدة يسيرة، ثم أذن فاشتهرت الطريقة على يده شهرة تامة.
وكان رضي الله عنه جبلا راسخا فى العلم والمعرفة، شديد الورع كثير الحلم والصفح، دائم الكرم ذا هيبة ووقار، متمسكا بالسنة فى جميع أحواله. توفى سنة ثمان وخمسين بعد الألف والمائتين، بعد أن عمر بضعا وثمانين سنة، ودفن بالقايات، وقد أفرد مناقبه بالتأليف ولده الروحى الجامع بين الشريعة والحقيقة، الإمام الكامل والعالم الفاضل، الشيخ خليفة السفطى المتوفى فى أوائل سنة ثلاث وتسعين.
ترجمة الشيخ عبد الجواد القاياتى
وبعد موت المترجم، قام مقامه ابنه الإمام الأمجد والبطل الأوحد، مؤيد السنة وناصر الدين، مربى الفقراء والمريدين، العارف المعتقد الشيخ عبد الجواد بن الشيخ عبد اللطيف، نشأ بالقايات فى حجر والده، فقرأ بها القرآن، ثم نقله إلى القاهرة، فأخذ العلم عن جماعة منهم: النور النجارى الذى مقامه بالقرافة الكبرى ظاهر يزار، وكان غالب أخذه عنه وجل تردده إليه بوصاية والده، وكان الشيخ يجله غاية الإجلال، ويقدمه على جميع الطلاب، ويقول إنه من الأولياء وسيكون له شأن، وأخذ عن غيره من أئمة الوقت، وأخذ الطريق عن والده، فجد واجتهد، فلما أحس والده بالرحيل إلى جناب الجليل، أمره بالتلقين والإرشاد، فقام بإحياء تلك الشعائر أتم قيام، وبلغ فى الكرم والحلم الغاية، مع تمسكه بالسنة المحمدية فى جميع شئونه، وكثرت أتباعه كثرة فائقة، وطار صيته ونفذ قوله وامتثل أمره.
وبنى لوالده المقام والمسجد، ورتب له فى ليلة الجمعة والسبت مقرأة عظيمة، يحضرها كثير من أهل العلم والقرآن، وجعل به خزانة كتب من جميع العلوم الشهيرة؛ من تفسير وحديث وفقه ولغة ونحو وصرف، ومنطق وتوحيد وأصول وتصوف وغير ذلك، وصار يحث الناس على تعليم أولادهم القرآن والعلم، ويعينهم على ذلك، حتى كثر أهل العلم والقرآن بتلك النواحى بسببه، وكان له فى كل يوم وليلة ميعادان لقراءة العلم، من: تفسير وحديث وتصوف وغيرها، لا يترك ذلك سفرا ولا حضرا، مع الاشتغال بالإرشاد وقرى الوارد، وكان يجل الكبير والصغير، خصوصا أهل العلم والقرآن، ولا يذكر أحدا بسوء، ولا يقابل شخصا بمكروه إلا إذا وقع منه المكروه، وكان يربى اليتامى والمساكين والأرامل، ويتودد إليهم، وكراماته أشهر من أن تذكر.
وله من التآليف كتاب: / «مجموع الفتاوى» يشتمل على أجوبة المسائل التى سئل عنها على مذهب الإمام الشافعى، ورسائل فى الانتصار لأهل الطريق فى أمور أنكرت عليهم، وكتاب فى أشياء من غوامض الطريق، توفى رضي الله عنه ليلة الجمعة لسبع وعشرين من المحرم سنة سبع وثمانين ومائتين وألف، وعمره ثمان وخمسون سنة تقريبا، ودفن بجوار والده داخل المقام، وجعل على ضريحه مقصورة حسنة، وله مع والده كل عام مولد حافل يعمل فى نصف ربيع الثانى، ويستمر إلى أوائل جمادى الأولى، تسعى إليه الناس من أقصى الصعيد وأقصى البحيرة، ما بين زوار وتجار، وتروج فيه بضائع كثيرة، وتظهر فيه نفحات كبيرة، وتنصب به خيام شتى للأعيان وملاعب للفرسان، وجمع لأهل الزوايا وغيرهم من أرباب المزايا.
وقد أعقب من الذكور ولدين، وهما: الشيخ محمد والشيخ أحمد، نشآ بالقايات، فحفظا القرآن، ثم نقلهما والدهما إلى الأزهر تحت نظر
صهرهما وتلميذ جدهما الشيخ خليفة السفطى، فأخذا عن جماعة من الأفاضل، منهم: الشيخ خليفة المذكور، والشيخ محمد الإنبابى شيخ الجامع الأزهر الآن، وشيخ المالكية سيدى الشيخ محمد عليش عليه رحمة الله، والشيخ محمد الخضرى الدمياطى، والعلامة المحقق الشيخ محمد الأشمونى، وأخذا الطريق عن والدهما، ثم بعد وفاته قام بالإرشاد والتلقين أكبرهما الشيخ محمد بإجازة من والده قبيل وفاته، بحضرة جماعة من الأخيار مع صلاحية أخيه لذلك أيضا، إلا أن القائم بالإرشاد عندهم لا يكون إلا واحدا، فلذا أقام الشيخ محمد بالبلاد مقام والده، لا يأتى مصر إلا زائرا بعد أن درس بالأزهر بإجازة أكابر المشايخ وحضره الجم الغفير.
وأما الشيخ أحمد فلم يزل بالجامع الأزهر مشتغلا بتدريس العلم، وقد جعل شيخ رواق الفشنية بعد وفاة صهره الشيخ خليفة السفطى، وكلاهما مشهود له بالعلم والكرم، ولهما مؤلفات منها للشيخ محمد:(منظومة البيان الصغرى والكبرى وشرحهما) وله:
(شرح على نظم رسالة اليوسى فى البيان) لأخيه الشيخ أحمد، وللشيخ أحمد (منظومة فى النحو) و (شرح على منظومة ابن الشحنة فى المعانى والبيان والبديع) وغير ذلك.
القباب
قريتان بمصر، إحداهما (القباب الكبرى) وهى قرية من مديرية الدقهلية بمركز دكرنس، على الشاطئ الغربى للبحر الصغير، وفى الجنوب الغربى لمنية النحال بنحو ألفين ومائتى متر، وفى الشمال القبلى لناحية دموه السباخ بنحو أربعة آلاف وخمسمائة متر، وبها جامع وضريحان لبعض الصالحين وأشجار، وزمامها نحو ستمائة فدان، وبجانبها من الجهة البحرية ترعة القباب الكبرى، وتكسب أهلها من زراعة القطن وباقى الحبوب، ومنهم الصيادون للسمك.
الثانية: (القباب الصغرى) قرية بمديرية الدقهلية بمركز دكرنس، على الشاطئ الغربى للبحر الصغير، وفى الجنوب الغربى لمنية النحال بنحو ثلاثة آلاف متر، وفى جنوب القليوبية بنحو ألفين وثمان مائة متر، وبها جامع وأشجار على البحر الصغير، وزمامها نحو ألف فدان، وتكسب أهلها من القطن وباقى الحبوب.
قراقص
قرية من مديرية البحيرة بمركز دمنهور، موقعها على ترعة الشنويط قبلى فرع الرحمانية بنحو مائة قصبة، أبنيتها بالآجر واللبن، وبها جامع بمنارة، ومنازل مشيدة وجنينة صغيرة، وبها مقام ولى يقال له: الشيخ القطراوى، ظاهر يزار، وتعداد أهلها مائة وسبع وستون نفسا، وزمامها ألفان ومائة وأربعون فدانا، وتكسب أهلها من الزرع وغيره.
القرشية
قرية من مركز الجعفرية بمديرية الغربية، فى شرقى (محلة روح) بقليل، وكانت تبع دائرة الخديوى إسماعيل باشا، وعندها محطة السكة الحديد الواصلة إلى زفتة، وبها وابور لحلج القطن، وورشة لعمارة وابورات الدائرة ومحل التفتيش، وفيها بساتين وبحر سبطاس المار تحت السكة الحديد يمر فى غربيها بقرب.
ترجمة ثاقب باشا
وهذه القرية وإن كانت صغيرة، ولكن نشأ منها من أكابر الأمراء المرحوم ثاقب باشا - أحسن الله إليه - وهذا لقبه، وكان اسمه محمدا، وقد حضر إلى مصر صغيرا، ودخل بنفسه مدرسة المهندسخانة بالقلعة سنة 1228 هجرية، وكان يقال له إذ ذاك محمد أفندى، وفى سنة 33 عين لترعة المحمودية بمعية أحمد أفندى البارودى، وسليمان أفندى طاهر، والشيخ عبد الفتاح، وفى سنة 36 ندب للمساحة فى الوجة القبلى مع يوسف أفندى الدهشورى، ومصطفى أفندى رستم أحد خوجات قصر العينى، برتبة صنف أول، بمرتب مائتين وخمسة وسبعين قرشا ديوانية، وفى سنة 39 عين هو ويوسف أفندى الدهشورى مع الخواجة بيروتى باشمهندس جهة قبلى، لحفر فم اليوسفى. أى الفم الجديد الواقع قبلى دروط الشريف المتصل بالبحر المذكور فى جنوب قرية المنضرة، ويعرف بين الأهالى بفم الهورى، وبعضهم يسميه البيروتى، وهو فى جنوب الفم القديم الواقع فى شمال بنى يحيى، مارا فى بحرى دروط الشريف، وبين الفمين نحو ثلثمائة قصبة، والقصبة ثلاثة أمتار وخمسون جزءا من مائة من المتر، وهى التى انحط عليها/الرأى فى سنة 1255 هجرية فى مجلس من المهندسين متشكل من ليتان بيك، وأدهم باشا، وبهجت أفندى، وأزهرى أفندى، وإبراهيم أفندى وهبى، ومحمد أفندى عبد الرحمن.
وكانت القصبة قبل ذلك مختلفة الطول، فكان منها ما طوله ثلاثة أمتار وخمسة وستون جزءا، وما هو أقل من ذلك، فصدرت مخاطبة من شريف باشا عليها أمر العزيز محمد على باشا فى هذا الصدد، فحصلت المذاكرة من المذكورين فى ذلك، وتم المجلس على جعل القصبة واحدة فى جميع الأقاليم، فحررت ثلاثة أمتار وخمسة
وخمسين جزءا، وعملت المعدلات وأرسلت إلى سائر الجهات، وهى المستعملة إلى الآن بين المساحين والأهالى.
ثم عين المرحوم ثاقب باشا فى أثناء حفر الفم اليوسفى، على رمى الدبش والمراكب فيما يلى منفلوط من البحر لحفظها من فعل النيل حيث تسلط عليها، وأخذ كثيرا من دورها ومساجدها الفاخرة، ثم فى سنة إحدى وأربعين ومائتين وألف سافر إلى الحجاز مع العساكر، وأنعم عليه برتبة يوزباشى بمرتب خمسمائة غرش غير التعيين، وأقام هناك مع العساكر سنين، وحضر الوقعات التى كانت مع الوهابية، وعاد إلى مصر سنة 1247 سبع وأربعين ومائتين وألف، فتعين باشمهندس القليوبية برتبته.
وفى سنة 1251 سافر البلاد الشامية إلى قولاق بوغاز، وأنعم عليه برتبة صاغقول أغاسى، بمرتب ألف ومائتى قرش غير التعيين، فأقام هناك مع العساكر مدة، ثم عاد إلى مصر سنة 56 فجعل معاونا مع بهجت باشا فى بناء القناطر الخيرية، وفى سنة 62 جعل مفتش هندسة بحر الشرق برتبته.
وفى ذاك الوقت تعين بهجت باشا فى المنوفية والغربية، ومظهر باشا فى البحيرة والجيزة، كلاهما برتبة أمير ألاى، وفى زمن المرحوم عباس باشا سنة 1266 أنعم عليه برتبة بكباشى، بمرتب أربعة آلاف قرش، ثم أنعم عليه برتبة أمير ألاى، وفى زمن المرحوم سعيد باشا لزم بيته مدة قليلة، ثم أنعم عليه الخديوى برتبة ميرميران، وجعله مفتشا بالبحيرة والجيزة وبنى سويف والفيوم، ولم يزل ينتقل فى الوظائف الهندسية، ومن وظائفه أنه كان مأمور تقسيم مياه بحر الشرق، وقد أقام مدة فى أرباب المعاش بالماهية الكاملة فى الروزنامة، وتوفى إلى رحمة الله وهو فى هذه الوظيفة فى شهر القعدة سنة 1291 هجرية.
وكان رحمه الله كثير الاجتهاد فى أداء ما يناط به من المصالح، حسن المعاملة والمعاشرة، وكان حريصا على الدنيا، واشترى جملة أملاك وعقارات بالقاهرة وخانا عظيما بمدينة طندتا، وله أطيان بعضها بالوجه البحرى بمديرية القليوبية وهو الأكثر، وبمديرية الدقهلية والجيزة، منها مائتان أنعم عليه بها المرحوم عباس باشا، وبعض الباقى عهدة وبعضه مشترى.
ومن آثاره ترعة السرقاوية من فمها إلى ناحية شبين القناطر، تعين لحفرها منذ كان باشمنهدس القليوبية، وقنطرة الفم بنيت أيضا بمباشرته، وقد تزوج فى سنة 1249 بنت الأستاذ الشيخ محمد الدمنهورى، أحد فضلاء الأزهر المشهورين، لها جملة أوقاف منها:
فندق فى شارع السكة الجديدة، وقد رزق منها بابن وبنتين، وإحدى البنتين تزوجت بمعتوقه، والأخرى تزوجت بإبراهيم أفندى ممتاز خوجة بالمبتديان ابن المرحوم مصطفى أفندى رسمى، مصحح الوقائع سابقا، وأما ابنه فقد أقام بالمدارس مدة ولم ينجح، ثم خرج فى الوظائف الملكية قليلا ثم رفت ولزم بيته لقبح سيره.
قرنفيل
قرية بمديرية القليوبية من مركز أجهور الكبرى، وفى شمال سندبيس بنحو ألفين وأربعمائة متر، وفى الجنوب الشرقى لأجهور الكبرى بنحو ألف وستمائة متر، وبها مسجدان، وثلاثة أضرحة داخل ثلاث قباب، وبها منزل كبير لعمدتها بيومى الكومى، وحدائق وسواق معينة، وبها أنوال لنسج الصوف، ومصابغ، وتكسب أهلها من الزراعة وغيرها.
القرين
قرية من مركز الصوالح بمديرية الشرقية، واقعة فى شرقى الزقازيق بنحو عشرين ألف متر، وفى الشمال الغربى لناحية أبى حماد، وفى شمال ترعة الوادى فى أرض رمال، ويمر فى وسطها الطريق السلطانى الموصل إلى الشام، وبناؤها باللبن الرملى، وبها مسجد عامر أنشأه السلطان قايتباى، ووقف عليه أطيانا، هى الآن من أطيان كفر غرار، وجعل له ساقية، وكان قد تخرب حتى كاد ينمحى أثره، فقام بعمارته بركات أفندى أبوديب من عرب بنى واصل النازلين بهذا المكان.
وبناحية القرين نخيل كثير، منه صنف يقال له: العامرى، نسبة إلى رجل من أهلها كان يدعى أبا عامر، كان أحضر من بلاد الحجاز فى رجوعة من الحج نخلتين صغيرتين من هذا الصنف، غرسهما فى إناء من خشب، وقد ملأه طينا، وجعل يسقيهما حتى وصل بلدة القرين، فغرسهما بها فعاشا وأثمرا ثم نتج فى أسفلهما فسلان، فنقل تلك الفسلان بعيدا عن أمهاتها، وخدمها بالسقى وغيره حتى كبرت وأثمرت، ثم أنتجت فسلانا وهكذا حتى كثر هذا الصنف بتلك الناحية، لأن له نموّا فى الأرض الرملة، وقد نقل منه فى بلاد أخر غير مرملة فلم يساو ما فى الأرض/المرملة، وقد كثر هذا الصنف فى بلاد الشرقية، وبتلك الناحية مجلس دعاوى، وآخر للمشيخة ومكاتب أهلية، وسوقها كل يوم أربعاء يباع فيه كافة المواشى وأصناف كثيرة، ويحفها من الجهة القبلية والشرقية جبل ارتفاعه من عشرين مترا إلى عشرة، وفى ذلك الجبل نخيل متنوّع التمر من نخيل الناحية، وأغلب تكسب أهلها من ناتج النخل كثماره، وليفه يفتلونه حبالا وشبكا، ويضفرون الخوص مقاطف وقففا، ومن المزروعات المعتادة وهى جملة
جملة كفور بين كل كفرين مسافة أقل من مائة متر إلى مائتين، ونخيلها فى داخل البيوت وخارجها، وزمام أطيانها ثلاثة آلاف وثلثمائة وأحد وتسعون فدانا.
وعدد أهلها أربعة آلاف وسبعمائة وتسع وأربعون نفسا، ومنهم جماعة من عرب بنى واصل وبنى شيبان وبنى عقبة، وسبب نزولهم بها كما فى مناقب سيدى عزاز ابن السيد محمد البطائحى، الذى مقامه بالجزيرة البيضاء من بلاد الشرقية أنه لما نزل بها السيد إبراهيم ابن سيدى عزاز المذكور، أقام بها معه هؤلاء العرب محبة له، وكان ذا أحوال عجيبة ومكارم أخلاق، وبعد وفاته بها استمروا هناك، وزرعوا نخيلا وبنوا منازل، وكان ذلك سببا لعمارة الوجه الجنوبى من القرين. انتهى.
* قال الشيخ عبد الغنى النابلسى إن بقرية القرين قبر الشيخ قاسم ولىّ من أولياء الله الصالحين، فى قبة مستقلة وعليه عمارة، وقبر الشيخ مساور - بميم مضمومة وسين مهملة وواو مكسورة وراء مهملة - وعليه قبة قديمة البنيان، يقال إنها من عمارة الكاشف حمزة، وقد أخبرنا بعض أهل القرين أن الشيخ قاسما والشيخ مساورا أخوان، يقال أن الشيخ مساورا أصله من مكة، ثم سكن بلدة القرين، ومات بها، وقد عمر السلطان قايتباى بالقرب منه بئرا عظيمة، وهى الآن تسمى بئر قايتباى، وبقربه قبر الولى الشيخ أبى العون، توفى فى سنة خمس وسبعين وألف، وله كرامات مشهورة. انتهى.
ومن حوادثها - كما فى الجبرتى - أنه بعد دخول الفرنسيس بلاد مصر سنة 1213، واستيلائهم عليها كان الحجاج قد نزلوا بلبيس، واكترى حجاج الفلاحين ركائب العرب فأوصلوهم إلى بلادهم، وكان ذلك فى شهر صفر، ومنهم من أقام ببلبيس، وأما أمير الحاج صالح
بيك فإنه لحق بإبراهيم بيك وصحبته جماعة من التجار، ولما بلغ ذلك الفرنسيس قاموا ودخلوا بلبيس فى الثامن والعشرين من الشهر، وأرسلوا من وجدوه بها من الحجاج إلى مصر بدون أن يشوّشوا عليهم، وصحبتهم طائفة من عساكرهم، ولما جاء الرائد إلى الأمراء وأخبرهم بوصول الفرنج، ركبوا ليلا وترفعوا إلى جهة القرين، وتركوا التجار وأصحاب الأثقال، فلما طلع النهار حضر إليهم جماعة من العرب، واتفقوا معهم على أن يحملوهم إلى القرين، وحلفوا لهم وعاهدوهم أن لا يخونوهم، فلما توسطوا بهم الطريق نقضوا العهد، ونهبوا حمولهم وتقاسموا أمتاعهم وعرّوهم، وفيهم كبير التجار السيد أحمد بن المحروقى، وكان ما يخصه نحو ثلثمائة ألف ريال فرانسا من النقود وبضاعة من جميع الأصناف الحجازية، ولحقهم عسكر الفرنساوية، فذهب السيد أحمد المحروقى إلى سر عسكرهم، وواجهه وصحبته جماعة من العرب المنافقين، فشكا له ما حل به وبإخوانه، فلامهم على غفلتهم وركونهم إلى المماليك والعرب، ثم قبض على أبى خشبة شيخ بلد القرين، وقال له: عرفنى مكان المنهوبات، فقال:
ارسل معى جماعة إلى القرين، فأرسل معه جماعة فدلهم على بعض الأحمال، فأخذها الفرنج ثم تبعوه إلى محل آخر وخرج منه إلى غيره، ثم ذهب هاربا، فرجع العسكر بحمل ونصف حمل لا غير، وقالوا: هذا الذى وجدناه، والرجل فرّ من أيدينا، فقال سر عسكر لا بد من تحصيل ذلك، ثم طلبوا منه الإذن فى التوجه إلى مصر، فأرسل معهم عدة من عسكره أوصلوهم إلى مصر، وأمامهم طبلهم فى أسوأ حال، وصحبتهم أيضا جماعة من النساء اللاتى كن خرجن من مصر ليلة الحادثة، وهن أيضا فى أسوأ حال كما تقدم فى الكلام على إنبابة.
وفى ثانى ربيع الأول وصل الفرنساوية إلى القرين، وكان إبراهيم بيك ومن معه وصلوا إلى الصالحية، وأودعوا مالهم وحريمهم هناك، وضمنوا العرب وبعض الجند حفظهم، فأخبر بعض العرب الفرنساوية بمكان الحملة، فركب سر عسكر وقصد الإغارة على الحملة، وعلم إبراهيم بيك بذلك، فركب هو وصالح بيك وعدة من الأمراء والمماليك، وتحاربوا معهم ساعة، أشرف فيها الفرنسيس على الهزيمة.
وبينما هم كذلك إذا بالخبر وصل إلى إبراهيم بيك بأن العرب مالوا على الحملة يقصدون نهبها، فعند ذلك فر بمن معه، وتركوا قتال الفرنسيس، ولحقوا بالعرب وأجلوهم عن متاعهم، وقتلوا منهم عدة وارتحلوا إلى قطيا، ورجع سر عسكر إلى مصر، وترك عدة من العسكر متفرقين فى البلاد. انتهى.
وفى موضع آخر منه أن فى أواخر شهر ذى الحجة سنة ألف ومائين وأربع عشرة، بعد انهزام الوزير يوسف باشا فى وقعة الفرنساوية، حصلت نادرة لسر عسكر الفرنساوية كليبير، وهى أنه فى سيره خلف الوزير لما قرب من القرين، قامت عليه طائفة من الفلاحين/بالنبابيت، وكان قد انفرد عن عسكره بأربعين من فرسانه، فلما رأوه فى قلة وظنوا أن عسكر المسلمين قادمة مع عثمان بيك هجموا عليه وضاربوه، حتى ضربه بعض الفلاحين بنبوت، فأصاب السرج فكسره، وضرب ترجمانه بسيف فوقع على الأرض ولم يمت، فأحس بهم عسكر المسلمين، فركبوا عليهم وحاربوهم، واستصرخ كليبير بعسكره فلحقوا به، ودام القتال بينهم من الضحى إلى العصر، وانكف الفريقان، وجلس بعضهم أمام بعض، ودخل الليل ولم يأخذ المسلمون حذرهم، فعند انشقاق الفجر رأوا أنفسهم فى وسط
الفرنسيس، وقد تحلقوا حولهم دائرة بيكارية، ففزعوا وطلب كل منهم أن ينجو بنفسه، فاخترقوا الدائرة ونفذ البعض وقتل البعض، وكان فيمن نفذ عثمان بيك، فلحق بالوزير وأخبره، فلم يسعه إلا الارتحال، ولما تحقق الفرنساوية فراره رجعوا إلى مصر إلى آخر ما هو مسطر فى الكلام على المطرية. انتهى.
القسّ
- هى بفتح القاف وبعدها سين مهملة مشددة - بلدة كانت فى الشمال الشرقى لمصر، وكانت واقعة فوق البحر المالح فيما بين السوادة والواردة، آثارها باقية إلى اليوم، وبينها وبين مدينة الفرما نحو ستة برد فى البر، وهناك تل عظيم من الرمل خارج فى البحر الشامى، يقطع الفرنج عنده الطريق على المارة، وبالقرب من ذلك التل سباخ ينبت فيها ملح، تحمله العرب إلى غزة والرملة، وبقرب هذه السباخ آبار يزرع عليها عرب تلك الجهة المقاثئ، وإليها تنسب الثياب القسية.
القصر
عدة قرى بمصر، منها:(القصر) قرية من قسم أسيوط، واقعة فوق البحر فى البر الشرقى، بالقرب من الحاجر بنحو ثلثمائة متر، وفى شرقى ناحية المعصرة بنحو ألف وخمسين مترا، وقبلى ناحية أولاد بدر والقوطة بنحو ستمائة وخمسة وعشرين مترا، وبدائرها نخيل وسواق.
ومنها:
(القصر والصياد)
بلدة من مديرية قنا بقسم فرشوط على الشاطئ الشرقى لنهر النيل، تجاه قرية أبى حمادى تابع بهجورة، بها جامعان: أحدهما بمنارة وأبراج حمام، وفيها نخيل كثير، وجملة سواق على شط النيل، ولأهلها شهرة برماحة الخيل، ويتبعها جملة كفور منتشرة من البحر إلى الجبل، كلها ذات نخيل وأبراج حمام، ولها مع قراها جزيرة نحو اثنى عشر ألف فدان، وكانت فى الزمن السابق لا تروى إلا عند كثرة النيل، لعلوّ أرضها وعدم امتداد ترعتها، وفى سنة 1259 أجريت هناك عملية هندسية صارت بها مأمونة الرى، ولو عند قلة النيل بأن سد الخور الشرقى بعمل جسرين جسيمين، طول كل منهما نحو سبعين قصبة، وعرضه نحو خمس عشرة قصبة، وارتفاعه ثلاث قصبات، وصارت مياه حوض فاو عند صرفها تمر بهذه الجزيرة فترويها، ويزرع فيها قصب السكر كثيرا والبطيخ وسائر المقاثئ، وبالناحية جملة عصارات لعصره واستخراج السكر الخام، ثم بسبب كثرة الماء فى هذه الجزيرة أحدثت لمديرية جرجا ترعة تأخذ المياه من هناك وتمر من جبل الطارق لرى بلاد البلابيش.
ومنها:
(قصر بغداد)
قرية بمديرية المنوفية من مركز تلا، على الجانب الغربى لبحر سيف فى الجنوب الغربى للدلجمون بنحو أربعة آلاف متر، وفى الشمال الشرقى لطنوب بنحو ثمانية آلاف متر، أغلب أبنيتها من اللبن، وبها جامع من الآجر، وتكسب أهلها من الزرع.
ترجمة سليمان أفندى حلاوة
ومنها نشأ حضرة سليمان أفندى قبودان المعروف بحلاوة، ولد بها فى سنة خمس وثلاثين ومائتين وألف، وفى سنة خمس وأربعين
ألحق بمدرسة الإسكندرية، فتعلم بها القراءة والكتابة وشيئا من فن العربية، وفى ابتداء سنة سبع وأربعين ألحق بمدرسة الطوبجية من ضمن خمسة وستين تلميذا، فتعلم بها العلوم الرياضية، وأحرز رتبة جاويش ثم باشجاويش، ثم جعل خوجة فرقة مع إدامة التعلم على كل من حضرة الأمير مظهر باشا، والأمير بهجت باشا، ثم ترقى إلى رتبة الملازم فى سنة خمسين مع إدامة التدريس لتلك الفرقة، وفى أواخر سنة ثلاث وخمسين ألحق بمدرسة الدوننمة بوظيفة خوجة فى فن الهندسة والحساب، مع تعلم فن البحرية على معلمين من الأجانب، أحدهما: طليانى، والآخر: مالطى، وكان تعليمهما بواسطة ترجمان، بسبب عدم معرفتهما اللغة العربية. ومن ذلك كان التعليم لا يثبت فى أذهان التلامذة لعدم البراهين على القضايا، قال المترجم: لما تعلمت هذا الفن، وجدت أصولها مبنية على قوانين المثلثات المستقيمة الأضلاع والمثلثات الكروية التى هى من فن الهندسة الذى نعلمه، فأجريت تطبيق قضاياه على تلك القوانين.
وبعد موت المعلمين المذكورين أحيل علىّ تعليم التلامذة فن البحرية، مع تدريس الحساب والهندسة، فحصل للتلامذة التقدم فيه بمعرفة براهينة.
وفى تلك المدة تعينت لكشف المواقع التى يمكن إقامة العساكر بها فى حدود الحكومة المصرية من جهة غربى الإسكندرية، والكشف عن الأبعاد التى يمكن مرسى السفن الأجنبية عليها، /وبيان بعدها عن البر، فأديت جميع ذلك، ورسمت الخريطة المبينة له، ثم تعينت للكشف عن جميع ليمانات السواحل وموقعها، مع رسم الخرائط الشافية لذلك، وقدمتها لمحل الاقتضاء.
وفى سنة إحدى وسبعين ألغيت المدرسة البحرية، وألحقت بضابطان وابور فيضجهاد ركوبة الخديوى، وأحيل علىّ تصحيح ساعات القورنومتر مع حساب سفرية الوابور، وحينئذ أحرزت رتبة اليوزباشى، وفى سنة إحدى وثمانين أحرزت رتبة صاغقول أغاسى، وجعلت سوارى وابور سمنود، وترقيت فى ظل الساحة الخديوية إلى رتبة البيكباشى، وفى تلك السنة سافرت بهذا الوابور إلى بلاد المغرب لتوصيل جملة من حجاج المغاربة على طرف المراحم الخديوية، وقد كان بهم داء الحادث، فامتنع الأجانب من إنزالهم فى مراكبهم، وكانوا ألفا وثمانمائة وخمسا وأربعين نفسا، صرف لهم ولنا ثلاثون ألف أقة بقسماط إحسانا من الحضرة الخديوية، وكانوا من قبائل شتى غلاظ الطباع، وكنا نعاملهم باللين ولا ينجع فيهم، ومما اتفق أن أحدهم أمسك رقبتى وجذبها بقوة يريد تقبيل رأسى، فتألمت من ذلك ألما شديدا، وأمرت بإمساكه وضربه بالتيلة، فهاج المغاربة، وقالوا إن هذا مصافحة بلادنا، فعند ذلك ألزمتهم أن لا يعودوا لمثلها، ومن أراد السلام فليسلم من بعيد.
وفى ثانى يوم جاء آخر يشكو إلىّ، فدفعنى بيده فى صدرى، وقال إن أحد المغاربة فعل معى هكذا وأخذ متاعى، فضربته أيضا وحذرته، وكانوا عند تفريق البقسماط عليهم يؤذون العساكر ويتخطفونه، ويسلبون حق المريض والعاجز، فانتخبنا نحو ثلاثين قائدا من ضمنهم أولاد وزير حكومة فاس، فجعلناهم فى محل مخصوص، وألزمناهم النظر فى قضايا المغاربة ودعاويهم فأبوا، فانتخبنا خمسة من علمائهم، جعلنا منهم أربعة قضاة وواحدا مفتيا، وجعلنا على الدعوى فرنكا يأخذه القضاة لأنفسهم ممن عليه الحق، فالتفت القضاة لدعاويهم، وطمعوا فى جمع المال، فكانوا يأخذون من كل من المدعى
والمدعى عليه فرنكا، ويكتبون الدعوى ويقدمونها إلى المفتى، فيكتب لنا بما يستحق الجانى، فكنا نعامل بعضهم بالضرب والبعض بالسجن، والبعض بتشغيله فى نقل الفحم إلى محل الأفران، فبتلك الأسباب قلت دعاويهم وبطل تشكيهم.
وكان يموت منهم كل يوم نحو عشرين نفسا، فنجد كثيرا من الموتى عرايا ليس عليهم ما يستر العورة، وينكر الأحياء سلب ثيابهم، فكنا نغسلهم ونلقيهم فى البحر، ولما تكاثر فيهم الإسهال والموت حصل لخدمة الوابور المرض، فانتخبنا من أقوياء المغاربة جملة لخدمة الوابور بدلا عن العساكر، وصرفنا لهم من التعيين زيادة عن استحقاقهم الأصلى، ومما اتفق أن رجلا منهم كان له على آخر ريالان، وكلما طلبهما منه يقول له: اترك ريالا فى سبيل الله وأعطيك الريال الآخر، وترافعا إلينا، فقلنا لرب الحق: خذ منه الريال واصبر عليه بالريال الآخر إلى بلده حيث إنه فقير، فأفادنا صاحب الحق أنه ليس بفقير، وأنه سرق وهو فى مكة المشرفة مائة بينتو وها هى على وسطه، ففتشناه فوجدنا المائة بينتو، فأخذناها وسلمناها لشيخ القبيلة، وحجزنا منها خمسة؛ ليشترى لذلك السارق كل يوم دجاجة، لأنه كان مريضا، فكان يصرخ كالمجنون من الصباح إلى المساء، ويقول: لا أريد الدجاج، وهذه النقود حق أولادى، ثم يأكل الدجاجة حتى شفى من مريضه.
وكان رجل منهم يسأل الصدقة من أهل الوابور، فلما مات وجدنا حوله المغاربة يتخاصمون، فسألنا أحدهم، فقال: إنهم نهبوا أمواله، ولم يعطونى قسما معهم، فجمعنا النقود منهم، فإذا هى مائة وأربعون بينتو، غير كيس مملوء من بقسماط الصدقة، فسلمنا هذه النقود لشيخ القبيلة من بعد أخذ الشهادة منهم بأنه أمين يؤدى الأمانة إلى
أهلها، وأخذنا عليه سندا بالاستلام، وبعد برهة حضر طائفة منهم وقالوا إنه غير أمين، وهذا فلان - لرجل منهم - مشهور بالصلاح والديانة، فأخذنا المبلغ من الأول وسلمناه للثانى، وبعد برهة عادوا وقالوا: إنه رجل خائن، وهذا فلان أهل لتحمل الأمانة، فأعطيناها له، وما زالوا كذلك حتى ظهر لنا بالبحث أنهم يطلبون من مستلم المبلغ قسمته بينهم، فيأبى المستلم فيقدحون فيه، وأخير سلمنا المبلغ لوكيل المغاربة بجزيرة ماعون.
ثم لما وصلنا إلى بنى غازى وأردنا إخراج مغاربة تلك الجهة لم يقبلوا منهم إلا اثنين وعشرين شخصا، وردوا علينا الباقى لدعواهم عدم معرفتهم، ثم توجهنا إلى مالطة فلم يقبلونا داخل الليمان، بسبب الموت الواقع فى المغاربة، وأرسلونا إلى مرسى فى جنوب مالطة، وأرسلوا لنا الفحم والمياه، ثم قمنا إلى طرابلس، فقبلوا منهم أهل البلد وردوا علينا العرب، مع أنهم من عرب بلادهم، ثم قمنا إلى تونس فلم يقبلوا شخصا واحدا، بل رتبوا الحرس حول السفينة لمنع الخروج منها، ثم قمنا إلى جزيرة ماعون التابعة لحكومة أسبانيا، وأجرينا بها أصول الكرنتينة، فأخرجنا المغاربة إلى البر فى محل الكرنتينة، وبعد مضى خمسة عشر يوما اكترينا سفينتين/ شراعيتين بمعرفة قنصل البلد، وأنزلنا بهما حجاج تونس وطرابلس والجزائر قهرا عنهم، وصرفنا لهم مقدارا من البقسماط، ثم قمنا بالباقين إلى مدينة طنجة التابعة لحكومة فاس، فلم يقبلوا أحدا، فمكثنا يومين لذلك فلم يقبلوا، وليس بعد طنجة إلا أمريكة، فعدنا بهم إلى ليمان جبل طارق، وحررنا جرنالا إلى وكيل حكومتنا بجميع ما صار معنا، فأمرنا بالإقامة إلى انتهاء هذه القضية، وأمرنا سرا أن لا نخبر الحكومة الإنكليزية بموت أحد من المغاربة، وفى ثانى يوم ورد جواب
من حاكم البلد، يذكر فيه أنه إذا مات من المغاربة أحد وألقى فى البحر يصير تجريمنا عن كل ميت ستين ليرة، مع أن الموت إذ ذاك كان واقعا فيهم.
وجاءت زوارق الحكومة تفتش على الموتى فى قاع البحر حوالى سفينتنا، فكنا نربط الموتى فى الحبال ونعلقهم فى البحر، بحيث لا يصلون الأرض، وكلما اجتمع مقدار من الأموات، نطلب الإذن بتبديل الهواء فى وسط البحر، ونذهب بعيدا عن البر ونقذف الموتى فى البحر، ولم يزل هذا حالنا حتى أتانا الأمر بإيصالهم إلى جزيرة مقدور فى البحر المحيط الغربى التى عرضها 31،30 ساعة شمالا، وطولها مغربا نصف نهار غرنويج 9،46 ساعة فسافرنا بهم، وأخرجناهم بتلك الجزيرة، وهى بساحل أفريقية فى البحر الأتلانتيكى، وأجريت عليهم الكرنتينة أحدا وعشرين يوما، وكانت إقامة المغاربة بالسفينة أربعة أشهر.
ولما أردنا التوجه إلى السويس من طريق أطراق أفريقيا بالمحيط الغربى، طلب مهندس الوابور تعمير المكينة، وكان ذلك ضروريا، فرجعنا إلى جبل طارق لأخذ البراتكة، فامتنعوا من ذلك حتى نعطيهم كشف مقدار من مات من المغاربة، وقد علمنا أنا إذا أخبرناهم بالصحيح لا يعطونا براتكة، فأخبرناهم أنه مات منهم دون المائة، فلم يصدقوا، وامتنعوا من إعطائنا براتكة، فتوجهنا إلى الإنكلترة للتعمير بها فعمرنا السفينة والمكينة بلوندره، وأخذنا منها الفحم اللازم، وسافرنا إلى جزيرة مديربا، التى عرضها 32،43 ساعة شمالا، وطولها 16،39،30 ساعة مغربا، وكان ذلك فى فصل الشتاء وشدة البرد، فأقمنا بتلك الجزيرة ستة أيام، وفيها كثير من أنواع الفواكه كالتفاح والكمثرى والخوخ ونحو ذلك.
ثم قمنا إلى جزيرة سنتلينا التابعة لحكومة الإنجليز، عرضها 15،55 ساعة جنوبا، وطولها 5،44 ساعة مشرقا، وعند مرورنا بخط الاستواء وجدنا من الحر الشديد ما لا مزيد عليه، ولما حللنا بالجزيرة تلقانا حاكمها بالإكرام، وأحضر لنا عربة ركبنا فيها للاطلاع على سجن بونابرت، وأطلعنا على الأوانى والآلات التى كان يأكل فيها، وفى ثانى يوم حضرت لنا مائدة من طرفه، فأكلنا معه، وأهدينا له علبة تمر جلبى، وجانبا من العود القاقلى، وجانبا من الجاوى، ففرح بذلك، وطلب منا أن نرسل له تقاوى النخل إذا وصلنا إلى بلادنا ليغرس ذلك فى بلاده، وأهدى لنا مقدار وافرا من الخوخ والعنب والتفاح والكمثرى والموز.
وأقمنا هناك سبعة أيام ثم سافرنا، فجزنا رأس عشم الخير، وعرضها 34،22 ساعة جنوبا، وطولها 18،24 ساعة مشرقا، وكان بهذا المحل برد شديد لأن الشمس كانت فى شمال خط الاستواء، وهذا المحل فى جنوبه، ثم وصلنا إلى جزيرة ماشزمن حكومة الإنجليز، عرضها 20،9 ساعة جنوبا، وطولها 57،32 ساعة مشرقا، وفى هذه الجزيرة كثير من فواكه الهند، وبها قصب السكر كثير، وله فيها فوريقات لعصره، وعمل السكر منه، وبها الموز ليس له قيمة لكثرته، ورأينا شجرا كبيرا طلعه مثل القاوون الذى يأتى من مالطة، فى القدر والطعم واللون، إلا أن حبه صغير أسود مثل حبة البركة، ورأينا شجرا طلعه ظروف طوال بداخلها لبن جيد الطعم، وهناك بطيخ لذيذ الطعم يعمل من قشره بعد تجفيفه كشكول يعطى للشحاذين، وبها أشجار شبه النخل، يخرج منها عسل قريب الطعم من عسل النحل، وجوز الهند - وهو على شجره - أكبر من البطيخ، ومدة إقامتنا بها سبعة أيام.
ثم قمنا فمررنا على خط الاستواء ثانيا، وسرنا فى شماله فوصلنا إلى عدن التابعة لولاية اليمن، وعرضها 12،47 ساعة شمالا، وطولها 45،01 ساعة مشرقا، فأقمنا بمدينة عدن نحو يومين، ثم قمنا فمررنا من بوغاز باب المندب، الذى عرضه 12،41 ساعة شمالا، وطوله 43،24 ساعة شرقا، فوصلنا إلى جدة لرجاء شحن الوابور بالحجاج أو البضائع، فلم يحصل، فتوجهنا إلى ينبع وشحناه بنحو ألف وخمسمائة نفس من الحجاج، فوصلنا إلى السويس ودخلنا الكرنتينة لحادث كان بهم، فعدنا بهم إلى الطور، ومكثنا بهم فى الكرنتينة خمسة وعشرين يوما، ثم عدنا إلى السويس.
وكانت مدة سفرى من قيامى من لوندرة إلى وصولى للسويس ثلاثة أشهر وستة أيام، رأيت فيها حلول فصل الشتاء مرتين، الأولى:
عند قيامى من لوندرة، والثانية: عند مرورى بالرجاء الصالح الذى عرضه 34،22 ساعة جنوبا فى طول 18،24 ساعة شرقا، وأيضا رأيت فيها فصل الصيف مرتين، وذلك عند مرورى بخط الاستواء مرتين، ورأيت فصل الخريف وفصل الاعتدال، وقد أقمت/سوارى بهذا الوابور إلى سنة سبع وثمانين ومائتين وألف.
وحينئذ كان قد صدر الأمر بإنشاء مدرسة البحرية، وتعين لتعليم التلامذة مكلوب باشا، فأقام بها مدة، ثم جعل رئيس الليمانات المصرية، فطلبت من السويس، وتعينت لتعليم التلامذه فنون البحرية والعلوم الرياضية، فأدرت حركة تعليمهم حسب المرغوب، وهو أن يعلموا ابتداء أصول لوزاندار ودرجتين من علم الجبر، ثم علم المثلثات المستقيمة الأضلاع والمثلثات الكروية، مع تطبيق قضايا الفنون البحرية على تلك المثلثات، فحصل النفع بذلك، وأنجحت التلامذة، وقد جمعت كتابا فى ذلك بديعا سميته:(الكوكب الزاهر فى فن البحر الزاخر) وهو الجارى به التعليم إلى الآن.
وبالجملة فقد تقلبت فى الوظائف والبلاد، فسحت فى البحر سواحل بر الشام وبر الأناضول وجزائر البحر الأبيض، وبحر الروملى وسواحل إيطاليا وفرانسا وأسبانيا بالبحر الأبيض وبالبحر المحيط الغربى بسواحل بورتيكيز وجميع سواحل إنكلتره. انتهى.
*** ومنها: (القصر): قرية من قسم سيوط على الشط الشرقى للنيل، فى شرقى المعصرة بنحو ألف متر، وفى جنوب أولاد بدر والقوطة بنحو ستمائة متر، وبدائرها نخيل.
ومنها: (قصر حيدر): بقرب ببلا، وفى شرقى الترعة الإبراهيمية.
ومنها: (قصر هور): قرية من بلاد ملوى بقرب قرية نواى.
ومنها: (قصر نصر الدين).
ومنها: (قصر رشوان) بلد من بلاد وردان فى ناحية الفيوم، بقيت من عدة بلاد هناك، وهى بلدة حسن بيك الشماشرجى.
القصير
- بضم القاف وفتح الصاد المهملة ثم ياء آخر الحروف وراء مهملة - مينا على بحر القلزم، على ثلاثة أيام من قوص، فى مفازة، وهى فرضة قوص.
القضّابة
قرية من مديرية الغربية، بمركز كفر الزيات، واقعة على الشط الشرقى للبحر الأعظم، أبنيتها كمعتاد الأرياف، ولها قناطر تنسب إليها، وبها ثلاث زوايا، ووابورات لحلج القطن، وقصر مشيد كان للمرحوم عثمان بيك متعهدها سابقا، ومنزل بجنينة ليوسف أفندى، وتعداد أهاليها ذكورا وإناثا ألف وستمائة وثلاثون نفسا، وزمامها ألف وثمانمائة وثمانية عشر فدانا، ورىّ أرضها من بحر النيل، وبها طريق إلى ناحية بسيون.
قطريا
- بالياء المثناة التحتية - قرية كانت فى مديرية البحيرة، كان أهلها نصارى، وكانوا ممن سباهم عمرو بن العاص فى فتح الإسكندرية، كأهل سلطيس وبلهيب، وسبخا لما نقضوا تم ردهم بأمر من سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وهى الآن من ضمن مدينة دمنهور، وإحدى نواحيها الخمسة، وليست منعزلة عن المساكن، وموقعها غربى السكة الحديد القاسمة لدمنهور.
قطية
فى «تقويم البلدان» : إنها على بعض يوم من الفرما، وقال خليل الظاهرى فى كتابه:(زبدة كشف الممالك وبيان الطرق والمسالك) أن قطية ليست من الأقاليم، وإنما هى بمفردها، وهى مزم الدرب، حتى لا يمكن التوصل إلى الديار المصرية إلا منها، وبها حرسية ونخيل كثيرة، ولها مينا وهى الطينة على شط البحر المحيط، وعمر هناك الملك الأشرف - تغمده الله برحمته - برجين، ويصب من هناك فرقة من بحر النيل. انتهى.
وفى (رحلة النابلسى): قطية - بفتح القاف بعدها طاء مهملة ساكنة - هى مكان أخذ المكوس من كل من يمر من ذلك الطريق، فيأخذ الكاشف من جهة الأجناد المصرية خفارة الأموال والخيل والدواب التى للتجار وغيرهم ممن يمر فى تلك البرية، قال السيد محمد كبريت:
والظلم فى قطية كل الظلم
…
يضرب فى الأمثال بل فى النظم
قد أنشأ الظلم بها هناد
…
وقام فى مقامه الأوغاد
وبها نخيل كثير عنده جامع. انتهى.
القطيّفة
- بضم القاف وفتح الطاء ومثناة تحتية ومشددة مكسورة وفاء وهاء تأنيث - قريتان بمصر كلتاهما بالشرقية، كذا فى:(مشترك البلدان).
فالأولى: يقال لها: (قطيفة العزيزية) وهى قرية من مديرية الشرقية بمركز منا القمح، على الشاطئ الشرقى لمصرف أبى الأخضر، وفى الشمال الشرقى لناحية شبلنجة بنحو سبعمائة متر، وفى شمال ناحية العزيزية بنحو ألفين وسبعمائة متر، وبها جامع بمنارة فى داخله ضريح ولىّ يعمل له مولد كل سنة، ولها سوق فى كل أسبوع.
الثانية: يقال لها: (قطيفة مباشر)، وهى من مركز الإبراهيمية، فى غربى الإبراهيمية بنحو أربعة آلاف متر، وفى الشمال الشرقى لشوبك أكراش بنحو أربعة آلاف متر.
القطيعة
بلدة من قسم سيوط، على الشاطئ الغربى للنيل، يمر بها الجسر الخارج من سيوط إلى جهة قبلى، بينها وبين سيوط نحو ساعتين، ويقال لها الآن:(المطيعة) - بالميم فى أولها - وجميع أسس أبنيتها بالآجر لكثرة النشع فيها زمن من الفيضان، وفيها شارع متسع مستقيم من الشمال إلى الجنوب، وفيها مساجد عامرة، وفيها بيت مشهور يقال له:(بيت أبى كريشة) كان منه عمر أبو كريشة ناظر قسم فى زمن العزيز محمد على، وكان فيها الحاج مراد من ذوى الأموال، وبنى أبنية مشيدة، ومناظر بشبابيك الحديد والزجاج /والخرط، ثم توفى ولم يخلف ذرية، وأكثر أهلها زراعون، وبعضهم ملاحون فى المراكب، وبعضهم يفحمون حطب السنط، ويتجرون فيه، لوجود هذا الصنف فى بحريها بكثرة على شاطئ البحر، وفيها نخيل بكثرة أيضا وجنات، ويزرع بأرضها السلجم والحمص، وباقى المزروعات المعتادة، وفيها معصرة زيت ومعمل دجاج، ولها سوق كل يوم اثنين.
قفط
فى: (تقويم البلدان): أنها - بكسر القاف وسكون الفاء وفى آخره طاء مهملة - بليدة تحت قوص من بر الشرق على بعض من مرحلة منها، موقوفة على الأشراف، وهى أقرب إلى الجبل من النيل، قال الإدريسى فى:(نزهة المشتاق): ومدينة قفط متباعدة عن النيل من الجهة الشرفية، وأهلها شيعة، وهى مدينة جامعة متحضرة، بها أخلاط من الناس، ومنها إلى قوص فى الجهة الشرقية من النيل سبعة أميال. انتهى.
وفى كتب الفرنساوية أنها مدينة قديمة بالصعيد الأعلى، سماها قدماء اليونان قبطوس، وتعرف فى مؤلفات كل من الإدريسى وأبى الفداء والبغوى باسم: قفط، وذكرها القزوينى بهذا الاسم فى جغرافيته المسماة: ب (عجائب البلدان) وهى فى قسم واد، قال بعض الإفرنج:
إنه ربما كان هو الوادى الذى كان به الخليج، الذى فتحه بطليموس بين النيل والبحر الأحمر، وطريق القصير وبيرنيس فى واد قريب منه،
واسم الأقباط ربما كان مأخوذا من اسمها، لأن مذهب أتوشيت أول ظهوره كان بها وبما جاورها من القرى، وقبل ظهور الديانة المسيحية بأرض مصر كان أهلها يقدسون المقدسة إزيس، وينسبون إليها زيادة النيل، فيجعلون فيضانه من دموعها، وقال المقريزى: إنها كانت فى الدهر الأول مدينة الإقليم، وإنما بدا خرابها بعد الأربعمائة من تاريخ الهجرة النبوية، وآخر ما كان فيها بعد الستمائة من سنى الهجرة أربعون مسبكا للسكر وست معاصر للقصب، ويقال: كان فيها قباب بأعالى دورها، وكانت إشارة من يملك من أهلها عشرة آلاف دينار أن يجعل فى داره قبة، وبالقرب منها معدن الزمرد.
ولمدينتى (قفط) و (قوص) أخبار عجيبة فى بدء عمارتهما، وما كان فى أيام القبط من أخبارهما، إلا أن مدينة قفط فى هذا الوقت متداعية للخراب، وقوص أعمر، والناس فيها أكثر، وكان بقفط بربا، ثم قال: وفى سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة كانت فتنة كبيرة بمدينة قفط، سببها أن دعيا من بنى عبد القوى ادعى أنه داود بن العاضد، فاجتمع الناس عليه، فبعث السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب أخاه الملك العادل أبا بكر بن أيوب على جيش فقتل من أهل قفط نحو ثلاثة آلاف، وصلبهم على شجر ظاهر قفط، بعمائمهم وطيالستهم، وذكر أبو صلاح أنه كان بداخلها وفى جوارها كثير من الديورة والكنائس،
وأشهرها كنيسة مريم العذراء وكنيسة صوير ودير العذراء ودير أنطوان ودير شنودة وديران باسم تبيدور، ودير للنساء وكنيسة باسم الملك ميكائيل على قمة الجبل. انتهى.
وهى الآن فى نهاية تلول البلد القديم من الجهة الغربية، رأس قسم واقعة فى حوض أبنود بين الجبل والبحر فى شرقى ترعة سنهور، أكثر أبنيتها بالآجر وبها ثلاثة مساجد، أحدها: بمنارة وهو مسجد قديم، وبها معامل فراريج ونخيل كثير، وبها كوهرجلة، وكان بها قشلاق للعسكر، وقنا فى بحريها على نحو ثلاث ساعات ونصف، وفى شرقيها بالجبل بئر يقال لها: بئر عنبر، قد بنى عليها المرحوم سر عسكر إبراهيم باشا والد الخديوى إسماعيل باشا سبيلا وحوضا ومساكن للحجاج، ويحيط بذلك أشجار السنط، وإلى الآن لخدمة السبيل مرتب يؤخذ من الدائرة السنية الخديوية، ومن بئر عنبر إلى قنا محطة واحدة، ومنها أيضا إلى اللقيطة فى الجبل محطة فيها جملة آبار عذبة الماء، ومن اللقيطة إلى الوكالة الزرقاء، وهى محطة ذات آبار، ومن الوكالة الزرقاء إلى أم حمص وآبارها، ومن أم حمص إلى آبار الإنجليز، وهى بئر فى الطريق ينزل إليها بثلثمائة سلم من عمل العزيز محمد على، ومن آبار الإنجليز للسد، وفيه آبار حلوة، وبعد السد تمر الطريق على محل يعرف بالعنبجة، به ماء مرّ لا يشرب، خارج من الجبل يجرى على الأرض، ويختفى تحت الجبل، ثم من العنبجة إلى القصير، وهذه الطريق يقال لها طريق الرصفة، وهناك طريق أخرى تسمى طريق الباز، أولها من اللقيطة إلى آبار اللاز ومن آبار اللاز إلى آبار قش، ثم منها إلى العنبجة، ثم منها إلى القصير، وبينه وبين قفط مسافة أربعة أيام.
وفى زمن المرحوم عباس باشا، عملت إشارات أبراج فى طريق الرصفة، وفى أثناء العمل كانت الأرضة تأكل الأخشاب، فلذلك لم تستعمل تلك الإشارات، وهذه المحطات يجتمع عندها القوافل الصاعدة والهابطة للسقى والاستراحة.
وبناحية قفط بستان ليوسف أفندى مدير قنا سابقا، وكان قبل ذلك متعهد تلك الناحية، وله إلى الآن بها أطيان، ولها سوق كل يوم ثلاثاء.
وفى: (الطالع السعيد) أنه نشأ منها جماعة من أفاضل العلماء، منهم الشيخ إبراهيم بن أبى الكرم، ذكره ابن خلف فى تاريخه، وكان عالما فاضلا أديبا شاعرا، وتولى القضاء ببوش، توفى فى شوال سنة اثنتين وعشرين/وستمائة.
ترجمة الشيخ إبراهيم بن يوسف الشيبانى المقدسى القفطى
ومنها: الشيخ إبراهيم بن يوسف بن إبراهيم بن عبد الواحد بن موسى بن أحمد بن محمد بن إسحق بن محمد الشيبانى المحتد، المقدسى المولد، الحلبى المنشأ والوفاة، الوزير المؤيد أخو الوزير الأكرم، سمع الحديث من الشريف بن هاشم عبد المطلب بن أبى الفضل الهاشمى، وحدث بدمشق وحلب ووزر بحلب بعد أخيه. ومن كلامه:
يا قمرا حاز كل ظرف
…
وجاز فيما حواه وصفى
منزلك القلب إن زمان
…
عاند فى أن يراك طرفى
ضمك جبر لكسر قلب
…
عليه فتح الهموم وقفى
ولد بالقدس فى رابع عشر المحرم سنة أربع وتسعين وخمسمائة، ومات بحلب سنة ثمان وخمسين وستمائة.
ترجمة الشيخ إسماعيل بن محمد القفطى
ومنها الشيخ إسماعيل بن محمد بن أحمد بن أبى النصر بن على ابن أبى النصر، كان مجازا بالفتوى، وتولى الحكم ببلده وغيرها، والخطابة ببلده، توفى بها سنة إحدى وسبعين وستمائة.
ترجمة شيث بن إبراهيم القفطى
ومنها: شيث بن إبراهيم بن محمد بن هدية بن الحاج الفقيه المالكى القفطى، كان قيما بالعربية، وله فيها تصانيف منها:
(المختصر والمقتصر) و (حز الغلاصم وإفحام المخاصم) وكان ملوك مصر يجلونه، ويعظمون قدره، ويرفعون ذكره، وكان حسن العبادة، لم يره أحد ضاحكا ولا هازلا، وكان يسير سير السلف الصالح فى أقواله وأفعاله، ومن كلامه:
اجهد لنفسك إن الحرص متعبة
…
للقلب والجسم والإيمان يرفعه
فإن رزقك مقسوم سترزقه
…
وكل خلق تراه ليس يدفعه
فإن شككت بأن الله يقسمه
…
فإن ذلك باب الكفر تقرعه
ولد بقفط، ثم انتقل بعد سنين إلى قنا، وكان من العلماء العاملين، وكف بصره فى آخر عمره، ولهم بقفط حارة تعرف بحارة ابن الحاج، توفى سنة ثمان وتسعين وخمسمائة.
ترجمة الشيخ على بن يوسف القفطى
ومنها: على بن يوسف بن إبراهيم بن عبد الواحد بن موسى بن محمد بن إسحق بن الشيبانى، كان له دراية فى الهندسة وجميع العلوم والتواريخ، تولى الوزارة فى حلب فى أوائل سنة أربع عشرة وستمائة، ثم عزل ثم أعيد.
وله تصانيف فى فنون منها كتاب: (أخبار المصنفين وما صنفوه)، وكتاب:(أنباء الرواة فى أنباه النحاة) وكتاب: (تاريخ اليمن)، وكتاب:(تاريخ مصر فى أيام الملك الناصر صلاح الدين) وكتاب:
(تاريخ بنى بويه) وكتاب: (تاريخ الملوك السلجوقية) وكتاب: (أشعار اليزيدين) وغير ذلك، ولد بقفط سنة ثمان وستين وخمسمائة، ومات بحلب سنة ست وأربعين وستمائة.
ترجمة الشيخ محمد بن صالح، المنعوب بالشمس القفطى
ومنهم: محمد بن صالح بن محمد، المنعوت بالشمس، كان فقيها أديبا شاعرا، وتولى الحكم بسمهود والبلينا وجرجا وطوخ، وتوجه صحبة الشيخ تقى الدين إلى دمشق، توفى سنة ثمان وتسعين وستمائة. أه.
ترجمة بهاء الدين هبة الله الشافعى القفطى
وذكر صاحب: (حسن المحاضرة) أن منها بهاء الدين هبة الله بن عبد الله بن سيد الكل القفطى الشافعى، ولد سنة ستمائة وقيل في أواخر المائة قبلها، وتفقه وبرع في علوم كثيرة، وولى الحكم بإسنا، ودرس وقصده الطلبة من كل مكان، وانتهت إليه رياسة العلم فى إقليمه، وصنف تفسيرا وكتبا كثيرة في علوم متعددة، مات بإسنا سنة سبع وتسعين وستمائة، عن مائة سنة أو نحوها، رحمه الله تعالى.
القلزم
مدينة قديمة كانت على شاطئ البحر الأحمر، وهى - بضم القاف وسكون اللام وضم الزاى المعجمة ثم ميم - كما فى:(تقويم البلدان) لأبى الفداء، قال: والقلزم بليدة كانت على ساحل بحر اليمن من جهة مصر، وإليها ينسب البحر، فيقال: بحر القلزم، بالقرب منها غرق فرعون، وهى على اللسان الغربى، لأن بحر القلزم يأخذ من الجنوب إلى الشمال، ويمتد منه ذراعان طاعنان فى الشمال، وأحدهما شرقى الآخر، فعلى طرفى الشرقى أيلة، وعلى طرفى الغربى القلزم، وعلى رأس البر الداخل فى البحر بين القلزم وأيلة الطور، وهو داخل فى البحر إلى جهة الجنوب، وبين القلزم والقاهرة نحو ثلاث مراحل.
انتهى.
ويقال لها: قليزمة - بالتصغير - وفى كتب الفرنج أنه ليس فى الدنيا بلد تسمى بالقلزم إلا تلك المدينة التى أخنى عليها الزمان، قال كترمير: ولا يقرب من محلها الآن إلا مدينة السويس، وهى الميناء الكبرى بين مصر وبلاد آسيا. وقال أيضا: قد قرأت فى ترجمة جان القصير، أنه اضطر إلى مفارقة صحراء سيتا تخلصا من أذى المتوحشين، وقصد قرية قليزمة لوجود كثير من الوثنيين بها، واختار لإقامته جبل أنطوان على بعد يوم من قليزمة، واتخذ لسكنه صخرة فوق نهير جعل فيها حفرة كالمغارة، بناها من الحجر، شبه مسكنه الذى كان له فى صحراء سيتا، وفى بعض الأحيان كان يتوجه إلى القرية لينصر أهلها، ولما مات دفن بقرية قليزمة بقرب مقابر الثلاثة الشهداء المحترمين فى الكنيسة، وهم: عيطاناس وبجيمى وجزوه أو سزوه، الذى أقام كذلك بجبل أنطوان سبعين سنة. انتهى.
ثم قال: ولا يلزم مما تقدم أن قرية قليزمة كانت قريبة/من جبل أنطوان، فإن الصخرة التى سكنها الراهب ليست هى الجبل، وإنما هى قطعة منعزلة، ويؤكد ذلك ما ذكره القديس جيروم من أن مسكن (جان القصير) على صخرة مرتفعة تمتد نحو ألف خطوة، وفى أسفلها منابع ماء بكثرة، بعضها يضيع فى الرمل، والبقية تجتمع وتكون قناة ماء ينبت على شطوطها كثير من النخل، يكسو هذا المحل رونقا وبهجة، وكان مسكن الراهب مربعا طوله وعرضه سواء بقدر ما يكفى النائم.
وفى قمة الجبل مغارتان بهذا القدر، كان يأوى إليهما القديس أنطوان إذا أراد التخلى عن تلاميذته أو غيرهم من الناس، وكان يصعد إلى الجبل بواسطة نقور شبيهة بسلم حلزونى، وهذا الوصف يوافق
ما ذكره أبو صلاح والمقريزى، ونص المقريزى: هذا الدير يسار إليه فى الجبل الشرقى ثلاثة أيام بسير الإبل، وبينه وبين بحر القلزم مسافة يوم كامل، وفيه غالب الفواكة مزروعة، وبه ثلاثة أعين تجرى، والذى بناه أنطونيوس، ورهبان هذا الدير لا يزالون دهرهم صائمين، لكن صومهم إلى العصر فقط ثم يفطرون، ما خلا الصوم الكبير، والبرمولات فإلى طلوع النجم، والبرمولات هى الصوم كذلك بلغتهم.
وأنطونيوس يقال له أنطونه كان من أهل قمن. فلما انقضت أيام الملك دقلطيانوس، وفاتته الشهادة أحب أن يعوض عنها عبادة توصل إلى ثوابها أو قريبا من ذلك فترهب، فكان أول من أحدث الرهبانية للنصارى، عوضا عن الشهادة، وواصل أربعين يوما ليلا ونهارا طاويا لا يتناول طعاما ولا شرابا، مع قيام الليل، وكان هكذا يفعل فى الصيام الكبير كل سنة، ونقل كترمير عن المقريزى وأبى صلاح أن جثة هذا الراهب فى مغارة كان يأوى إليها فى عباداته، والدير والكنيسة التى هى باسمه فى قمة الجبل، يحيط بهما سور مستدير، وفيه بستان متسع نحو فدان وثلث، يوجد به النخل والتفاح والكهرباى وغير ذلك، وأنواع مختلفة من الخضروات، ويقال إن عدد نخيله ألف نخلة، وبالدير قصر جيد البناء، شاهق الارتفاع، معدّ للمدافعة عن الدير، وخلاوى الرهبان محيطة بالبستان، ونصارى هذا الدير من الطائفة اليعقوبية، كان له أوقاف كثيرة فى القاهرة وغيرها.
وفى (خطط أنطونان) فى قياس الطريق من بابليون إلى أرض العرب، قال: إن من هيروبوليس إلى سيرابيو ثمانية عشر ألف خطوة، ومن سيرابيو إلى قليزمة خمسون ألف خطوة، وهذه الأبعاد صادقة باعتبار أنها جارية فى طول الخليج القديم، الذى كان متصلا بالنيل والبحر الأحمر، وباعتبار أن مدينة هيروبوليس كانت فى المحل
المعروف باسم أبى خشيب، الموجود فى نهاية وادى السبعة آبار، ومما يؤكد ذلك ما ذكر فى الخطط المذكورة من أن البعد بين مدينة الطينة والسيرابيو ستون ألف خطوة، فلو تعين على الخرطة نقطة السيرابيو بناء على هذا البعد لوقعت فى المحل المعروف بالسيرابيوم الآن، وأن الخمسين ألف خطوة منها إلى القلزم تقع على التل الموجود فى النهاية الشمالية بالقرب من السويس.
وبعض علماء الفرنج زعموا أن مدينة هيروبوليس كانت فى نهاية الخليج الغربى للبحر الأحمر، وأنكر ذلك كترمير لما قاله بطليموس أن خليج تراجان يمر بهذه البلدة فى وسطها، وقد تحقق من استكشافات الفرنج عند دخولهم مصر أن هذا الخليج كان يصب فى البحر الأحمر عند نهايته، بقرب المحل الذى به الآن بندر السويس.
ولو كان الأمر كما زعموا، لوجد لهذه المدينة آثار، مع أنه لا يوجد إلا آثار قليزمة، وذكر الأقدمون أن خليج القلزم كان يمتد فى شمال مدينة السويس إلى برك متسعة منحطة عن مياه البحر المالح انحطاطا يختلف من عشرة أمتار إلى خمسة عشر، وإلى الآن يشاهد به طبقات من الملح سميكة، وفى بعض مواضعه تكون شبه قبة، سمكها عشران من المتر، وفى بعض آخر يرى الماء المالح على بعد أربعة أمتار من سطحه، والعرب تأخذ الملح من هذه الملاحة، وتبيعه فى مصر والشام، وجميع ذلك يدل على أن خليج القلزم كان يمتد إلى هذا الموضع، وبسبب قرب مدينة هيروبوليس منه سمى الخليج باسمها، وبقى له هذا الاسم مدة بعد تحوله إلى موضعه الذى هو به الآن.
وزعم بعضهم أنه كان يوجد مدينتان، كل منهما تسمى قليزمة أو قلزم، وأنكر كترمير ذلك بعد البحث، وقال إن أقدم جغرافيى العرب، كابن حوقل والمسعودى لم يذكروا إلا مدينة واحدة باسم القلزم، وهى
الواقعة فى نهاية الخليج الغربى للبحر الأحمر، وفى الخرطة المورثة عن سيف الدولة بن حمدان لم يكن إلا مدينة واحدة بهذا الاسم، ومحلها فى الرسم يطابق محل التل الكائن بقرب السويس من جهة الشمال.
وقال المسعودى أن ملكا من الأقدمين شرع فى حفر خليج بين بحر القلزم وبحر الروم، ولم يتم له ذلك بسبب أن بحر القلزم وجد أعلى من بحر الروم، واختار هذا الملك أن مبدأ الخليج من جهة البحر الأحمر يكون من المحل المعروف بذنب التمساح، على بعد ميل من القلزم، وهناك قنطرة تمر عليها قوافل الحج ونحوه.
والخليج المبتدأ من هذا الموضع كان/ينتهى إلى قرية حماه، ثم حفر بعد ذلك خليج آخر يسمى الزبير والحصاة، يخرج من بحيرة تنيس ودمياط، فكان ماء بحر الروم والبركة يدخل فى هذا الخليج، الذى كانت نهايته الموضع المعروف بكعيكعان، ويتصل بالخليج الآخر عند قرية أحماة، وعلى هذا فكانت المراكب الآتية من بحر الروم تصعد إلى هذه القرية، والمراكب الآتية من بحر القلزم تتبع خليج ذنب التمساح، فتتقابل المراكب فى وسط الطريق، فيحصل هناك البيع والشراء بين التجار، وتنقل من بحر إلى آخر فى أيسر مدة.
وقد رغب الخليفة هارون الرشيد فى اتصال البحرين بخليج يخرج من النيل من نهاية الصعيد، ثم عدل عن ذلك لخوفه من ضياع ماء النيل، وقصد وصلهما بخليج ينتهى إلى الفرما فى خط تنيس، فحوله يحيى بن خالد عن ذلك، وقال: إنه إن حصل ذلك، تدخل مراكب الروم فى بحر الحجاز، وتصل إلى جدة والمدينة ومكة، وتضر بالحجاج.
وقبل ذلك كان عمرو بن العاص قد رغب فى وصل البحرين كذلك، فلم يرخص له سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فى ذلك، وقال:
إن فى ذلك بابا لإغارات الأروام وهجومهم. انتهى.
وفى عصرنا هذا قد فتح ذلك الخليج، واتصل: بالبحر الأحمر والرومى، لأسباب أوجبت فتحه، وقد تكلمنا عليه عند ذكر الخلجان، فى جزء مخصوص، وذكر الإدريسى فى وصفه الطريق من الفسطاط إلى مكة أن القلزم على هذا الطريق بعد عجرود والبئر المسمى بئر السويس، وأن البعد بين الفسطاط والقلزم تسعون ميلا، وقال المقريزى نقلا عن القضاعى أن من الفرما إلى القلزم يوما وليلة، وعند ذكر البحر الأحمر قال إنه يسمى بحر القلزم، نسبة إلى مدينة على شاطئه الغربى فى الجهة الشرقية من مصر، وقال إنها الآن متخربة، وأن البحر الأحمر بعد أن يصل إلى هذه المدينة ينعطف إلى الجنوب، وقال القلقشندى أن مدينة القلزم فى ساحل البحر الأحمر بقرب السويس، وقال ابن الوردى عند تكلمه على البحر الأحمر أن كورة القلزم واقعة بين مصر والشام، وكان بها مدينتان عظميتان، أخربتا بعد دخول العرب.
وكانت الأهالى تجلب الماء من عين سدير التى فى وسط الرمل، وماؤها مالح، ومن القلزم الواقعة فى نهاية بحر العجم إلى بحر الشام أربع محطات، ولم تكن القلزم مدينة كبيرة، ومن كتب عليها من مؤرخى العرب سماها القلعة، وهذا يوافق اسمها القديم الرومى، وقال المقريزى: الخليج الواصل من النيل إلى البحر الأحمر كان ينتهى إلى المحل المعروف بذنب التمساح بقرب القلزم، وجعل المسعودى هذا الموضع على بعد ميل من المدينة، وقال شمس الدين بن أبى السرور أن هذا الخليج ينتهى إلى قرب مدينة القلزم من المحل الذى به السويس، والقنطرة التى ذكرها المسعودى هى التى سماها المقريزى قنطرة القلزم، ولم يستدل على الزمن الذى ظهرت فيه مدينة السويس، ولم يتكلم عليها المقريزى.
ونقل كترمير عن كتاب فى وصف دير الطور لم يعلم مؤلفه، أن قبلى عجرود على مسافة يوم يكون للبحر الأحمر على ساحله الغربى مينا صغيرة تسمى السويس، وبقربها قلعة القلزم، وحدد بعض السباحين بعد قلعة القلزم عن السويس بثمانمائة توازة، وقال آخر إن قلعة القلزم محل مدينة أرسنويه فى شمال السويس على بعد قليل، وفيها يشاهد آثار مجرى من الحجر كان لجلب المياه من بئر نبع، وقال عبد اللطيف البغدادى: إن بقرب القلزم محاجر الصوان الأحمر.
وقال المقريزى: إن القرامطة استولوا على هذه المدينة سنة 360 من الهجرة، وأسروا حاكمها، وقال أيضا - عند ذكر التيه - إن التيه أرض قريبة من إيليا، بينهما عقبة لا يكاد الراكب يصعدها لصعوبتها إلا أنها مهدت فى زمان خمارويه بن أحمد بن طولون، والراكب يسير مرحلتين فى بعض التيه حتى يوافى ساحل بحر فاران، حيث كانت مدينة فاران، وهناك غرق فرعون، والتيه مقدر بأربعين فرسخا فى مثلها، وفيه تاه بنو إسرائيل أربعين سنة، لم يدخلوا مدينة، ولا أووا إلى بيت، ولا بدلوا ثوبا، وفيه مات موسى عليه السلام.
ويقال إن طول التيه نحو من ستة أيام، واتفق أن المماليك البحرية لما خرجوا من القاهرة هاربين فى سنة 652 مر طائفة منهم بالتيه فتاهوا فيه خمسة أيام، ثم تراءى لهم فى اليوم السادس سواد على بعد فقصدوه، فإذا مدينة لها سور وأبواب كلها من الرخام أخضر، فدخلوها وطافوا بها، فإذا هى قد غلب عليها الرمل حتى طم أسوارها ودورها، ووجدوا بها أوانى وملابس، فكانوا إذا تناولوا منها شيئا تناثر من طول البلى، ووجدوا فى صينية بعض البزازين تسعة دنانير ذهبا، عليها صورة غزال وكتابة عبرانية، وحفروا موضعا فإذا حجر على صهريج ماء فشربوا منه ماء أبرد من الثلج، ثم خرجوا ومشوا
ليلة فإذا بطائفة من العرب فحملوهم إلى مدينة الكرك، فدفعوا الدنانير لبعض الصيارفة، فوجدوا عليها أنها ضربت فى أيام موسى عليه السلام، ودفع لهم فى كل دينار مائة درهم، وقيل لهم أن هذه المدينة الخضراء من مدن بنى إسرائيل، ولها طوفان رمل يزيد تارة وينقص أخرى، لا يراها إلا تائه، /ففى هذه العبارة قد جعل المقريزى وادى التيه بعيدا عن السويس، والسياحون أجمعون متفقون على أن التيه هو الوادى الذى بين القاهرة والبحر الأحمر، والمقريزى نفسه وافق على ذلك فى موضع آخر حيث قال: إن دير سرياقوس خارج القاهرة فى بحريها، على بعد أربعة أميال منها، وتيه بنى إسرائيل يبتدئ من المحل المعروف بسماسم سرياقوص، ولا يمكن الجمع بين هذين القولين إلا بفرض أن التيه يبتدئ بالقرب من مصر ويمتد خلف البحر الأحمر فى طول حدود الشام.
قلشان
قرية من مديرية البحيرة بمركز النجيلة، فى شرقى فرع سكة الحديد الجديد، وفى جنوب السكة الطوالى، وأغلب بنائها باللبن، وبها جامع بمنارة، وغربيها جنينة مشتملة على فواكه ورياحين، وبداخلها قصر مشيد لمحمد بيك الصيرفى عمدتها، وفى قبليها مقام ولى يعرف بسيدى عامر، يعمل له مولد كل عام أربعة أيام، وبها إحدى عشرة طاحونا ووابور حلاجة لمحمد بيك المذكور، وزمام أطيانها ألفا فدان، وأكثر أطيانها تروى من ترعة أبى دياب، وتكسب أهلها من الزرع وغيره.
قلقشندة
وهى - بفتح القاف وسكون اللام وفتح القاف الثانية والشين المعجمة وسكون النون وفتح الدال المهملة وبعدها هاء ساكنة - قاله ابن خلكان، وهى قرية من مديرية القليوبية بمركز قليوب، واقعة قبلى ترعة كوم تبين بنحو ألف متر، وفى شرقى أجهور الكبرى بنحو ألف وخمسمائة متر، وغربى شبرى هارس بنحو ثلاثة آلاف، وبينها وبين القاهرة نحو ثلاثة فراسخ، وأكثر أبنيتها بالآجر، وبها جامع بمنارة ودوار أوسية لورثة المرحوم محو بيك، ولهم بها أكثر من ألف فدان، وفيها أشجار كثيرة.
ترجمة الإمام الليث بن سعد رضي الله عنه
وقال ابن خلكان أيضا: يقال إن من أهلها الإمام الليث، وهو أبو الحارث الليث بن سعد بن عبد الرحمن، إمام أهل مصر فى الفقه والحديث، كان مولى قيس بن رفاعة، وهو مولى عبد الرحمن بن خالد ابن مسافر الفهمى، وأصله من أصبهان، وكان ثقة سريا سخيا، قال الليث: كتبت من علم محمد بن شهاب الزهرى علما كثيرا، وطلبت ركوب البريد إليه إلى الرصافة، فخفت أن لا يكون ذلك لله تعالى فتركته.
وقال الشافعى رضي الله عنه: الليث بن سعد أفقه من مالك، إلا أن أصحابه لم يقوموا به، وكان ابن وهب يقرأ عليه مسائل الليث، فمرت به مسألة، فقال رجل من الغرباء: أحسن والله الليث كأنه كان يسمع مالكا يجيب فيجيب هو، فقال ابن وهب للرجل: بل كان مالك يسمع الليث يجيب فيجيب هو، والله الذى لا إله إلا هو ما رأينا أحدا قط أفقه من الليث.
وكان من الكرماء الأجواد، ويقال إن دخله كان فى كل سنة خمسة آلاف دينار، وكان يفرقها فى الصلات وغيرها، وقال منصور بن عمارة:
أتيت الليث فأعطانى ألف دينار، وقال: صن بهذه الحكمة التى آتاك الله تعالى، ورأيت فى بعض المجاميع أن الليث كان حنفى المذهب، وأنه ولى القضاء بمصر، وأن الإمام مالكا أهدى إليه صينية فيها تمر فأعادها مملؤة ذهبا، وكان يتخذ لأصحابه الفالوذج، ويعمل فيه الدنانير، ليحصل لكل من أكل كثيرا أكثر من أصحابه.
وكان قد حج سنة ثلاث عشرة ومائة، وهو ابن عشرين سنة، وسمع من نافع مولى ابن عمر رضي الله عنهما، وكان الليث يقول قال لى بعض أهلى: ولدت سنة اثنتين وتسعين للهجرة، والذى أوقن سنة أربع وتسعين فى شعبان، وتوفى يوم الخميس وقيل يوم الجمعة منتصف شعبان سنة خمس وسبعين ومائة، ودفن يوم الجمعة بمصر فى القرافة الصغرى، وقبره أحد مع المزارات رضي الله عنه. وقال السمعانى: ولد فى شعبان سنة أربع وعشرين ومائة، والأول أصح، وقال غيره ولد سنة ثلاث وتسعين، والله أعلم بالصواب، وقال بعض أصحابه: لما دفنا الليث بن سعد سمعنا صوتا، وهو يقول:
ذهب الليث فلا ليث لكم
…
ومضى العلم قريبا وقبر
قال: فالتفتنا فلم نر أحدا، والفهمى - بفتح الفاء وسكون الهاء وبعدها ميم - هذه النسبة إلى فهم؛ وهو بطن من قيس عيلان خرج منها جماعة كثيرة انتهى.
وفى: (تحفة الأحباب وروضة الطلاب) للسخاوى ما ملخصه، قال يونس بن عبد الأعلى: كان يدخل لليث كل سنة مائة ألف دينار، وما وجبت عليه زكاة قط، وقال محمد بن عبد الحكم: كان يدخل لليث كل
سنة أكثر من ثمانين ألف دينار وما وجبت عليه زكاة قط، لأن الحول كان لا ينقضى حتى ينفقها، وكانت له قرية بمصر يقال لها: الفرما، مهما حمل إليه من خراجها يجعله صررا، ويجلس على باب داره، ويعطى من مر به من المحتاجين صرة صرة، حتى لا يدع من ذلك إلا اليسير. وحمل إلى بغداد ليفتى الرشيد فى زوجته زبيدة، وأمر له بخمسة آلاف دينار، فردّها، وقال: ادفعها لمن هو أحوج منى.
وقال يحيى بن بكير: كانوا يزدحمون على باب الليث، فيتصدق عليهم فلا يترك أحدا، وتصدق وأنا معه على سبعين بيتا من الأرامل، ثم بعث غلاما له بدرهم فاشترى به خبزا وزيتا، ثم جئت إلى بابه، فرأيت عنده أربعين/ضيفا، فأخرج إليهم اللحم والحلوى، فلما أصبح قلت لغلامه: بالله عليك لمن الزيت والخبز، قال: لسيدى. فتعجبت من كونه يطعم أضيافه اللحم والحلوى، وهو يأكل الخبز والزيت.
ومن مناقبه أن رجلا من أهل مصر صودر فى أيامه، ونودى على داره، فبلغت أربعمائة درهم، فاشتراها الليث، وبعث يونس بن عبد الأعلى الصدفى يأخذ المفاتيح، فوجد فى الدار أيتاما وعائلة، فقالوا:
بالله عليك اتركنا إلى الليل؛ حتى ننظر خربة نذهب إليها، فجاء إلى الليث وأخبره بالقصة فبكى، وقال له: عد إليهم وقل لهم: الدار لكم، ولكم ما يقوم بكم فى كل يوم. وقال حسن بن سعد خرجنا مع الليث إلى الإسكندرية ومعه ثلاث سفن، سفينة فيها مطبخه، وسفينة فيها عياله، وسفينة هو فيها وأصحابه، فقلنا له: يا سيدى نسمع منك أحاديث ما هى فى كتبك، فقال: لو كان كل ما فى صدرى موضوعا فى كتبى، ما وسعتها هذه السفينة.
وروى الفتح بن محمود عن أبيه، قال: بنى الليث داره فهدمها ابن رفاعة فى الليل، ثم بناها فهدمها أيضا، فلما كانت الليلة الثالثة أتاه آت
فى منامه، وقال: اسمع يا أبا الحرث: {وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (5) وَ نُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ}
(1)
فأصبح فإذا ابن رفاعة قد لحقه الفالج ومات.
وقال محمد بن وهب: سمعت الليث يقول: إنى لأعرف رجلا لم يأت بمحرّم قط، فعلمنا أنه يعنى نفسه، لأن هذا لا يعلم من أحد، وقال أيضا: شاهدت جنازة الليث، فما رأيت جنازة أعظم منها، ولا أكثر خلقا، ورأيت الناس كلهم عليهم الحزن، ويعزى بعضهم بعضا، فقلت لأبى كل من الناس صاحب الجنازة، قال: لا يا بنى، ولكن كان عالما كريما حسن العقل كثير الأفضال. ويروى أن الشافعى رضي الله عنه وقف على قبر الإمام الليث وقال:(لله درّك يا إمام، لقد حزت أربع خصال لم يكملن لعالم: العلم والعمل والزهد والكرم). وهو أحد مشايخ البخارى ومسلم، ولو استوعبنا مناقبه لضاق عنها هذا المختصر، وكان قبره مصطبة، ثم بنى عليها هذا المشهد بعد سنة أربعين وستمائة، وقيل إن الذى بناه ابن التاجر، وهو مكان مبارك معروف بإجابة الدعاء.
ترجمة الإمام شعيب ابن الإمام الليث
وبهذا المشهد أيضا قبر ابنه الإمام الفقيه المحدث شعيب بن الليث بن سعد، كان من أجلاء العلماء المحدثين، قال ابن أبى الدنيا:
حج شعيب بن الليث سنة فتصدق بمال عظيم، فمر عليه رجل من العلماء فسأل عنه، فقيل له: هذا العالم الكريم ابن الكريم، ولما دخل دمشق جاءه رجل وقال له: أنا عبد أبيك، معى لأبيك تجارة ألف دينار،
(1)
سورة القصص، الآية 5، 6.
وأنا الآن فى الرق، فخذ مال أبيك واعتقنى إن شئت، فأعتقه وأعطاه المال، قال الخطابى: فلا أدرى أيهما أحسن، العبد فى إقراره بالمال والرق، أم السيد حيث أعتقه وأعطاه المال.
وحكى عنه أنه جاءه إنسان وقال له: يا سيدى، كان والدك يعطينى فى كل شهر مائة دينار، فأعطاه مائة دينارا إلا دينارا، فقال له: أعجزت عن الدينار، فقال: لا، ولكن فعلت ذلك تأدبا مع والدى، ومات رحمه الله بعد أبيه، وعلى قبره باب يغلق، وليس بالمكان قبر سواه، ومعه فى القبر أخوه لأمه محمد بن هارون الصدفى. أه.
ترجمة الإمام سيدى عبد الوهاب الشعرانى
وذكر صاحب: «الدرر المنظمة فى أخبار الحاج ومكة المعظمة» أن هذه القرية ولد بها الإمام العلامة المعتقد المسلك. مربى المريدين، قدوة العلماء والصالحين، عبد الوهاب بن أحمد بن على بن أحمد بن محمد بن زرفا - بفتح الزاى المعجمة - ابن موسى ابن السلطان أحمد بمدينة تلمسان، فى عصر الشيخ أبى مدين ابن السلطان سعيد ابن السلطان قاشين. بن السلطان محيى بن السلطان زرفا ابن السلطان زيان ابن السلطان محمد ابن السلطان موسى. هكذا نقلت هذه النسبة من خط المترجم فى كتاب:(الطبقات) له ثم قال بعد موسى:
ورأيت فى نسبتنا القديمة ثلاثة أسماء مطموسة بينه وبين السيد محمد بن الحنفية ابن الإمام على بن أبى طالب رضي الله عنه، الشعرانى - بالنون - نقلا من خطه: الشافعى الصوفى المسلك.
كان مولده فى السابع والعشرين من شهر رمضان من شهور سنة ثمان وتسعين - بتقديم التاء المثناة - وثمانمائة بناحية
قلقشندة المذكورة، بدار جده لأمه، ثم عادت به أمه بعد أربعين يوما من ولادته إلى قرية أبيه، وهى المعروفة بساقية أبى شعرة، من أعمال المنوفية، فنشأ بها وهاجر منها إلى القاهرة المعزية وسنه اثنتا عشرة سنة، فأقام بالجامع الغمرى سبع عشرة سنة، كما نقل ذلك من خطه فى (الطبقات) له عند ترجمة الشيخ أبى العباس الغمرى، وذكر أنه حفظ فيه العلم، وشرح الكتب، وسلك طريق الصوفية، ورتب مجلس الصلاة على النبى صلى الله عليه وسلم فى سنة ثمان عشرة وتسعمائة.
ثم تحول من الغمرى إلى المدرسة المعروفة بأم خوند، بخط كافور الإخشيدى، بالقرب من سكنه الآن، لأن جماعة من أهل الغمرى حسدوه على اجتماع الناس عليه فى مجلس الصلاة فتعصبوا عليه، وبسطوا ألسنتهم فى شأنه، وأسمعوه غليظ القول، وتحالفوا على المصحف أن لا يحضروا معه مجلس الذكر والصلاة على النبى صلى الله عليه وسلم، وغير ذلك مما لا فائدة فى ذكره، فلما انعزل عنهم بمدرسة أم خوند، التأم إليه جماعة يحضرون/مجلسه المشتمل على الذكر والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان ممن بجوار هذه المدرسة الأمير محيى الدين بن يوسف عرف بابن أصيبعة، لإصبع زائدة لوالده، وكان متقلدا إذ ذاك مناصب سنية وافرة العدد، وممن هو دونه الجمال بن الأمير المنسوب إلى شرف الدين واقف الجامع خارج الحسينية المعروف به، ولعله من أمراء الحسينية سابقا، وقيل فى نسبه غير ذلك، وأن نسبتهم إلى الأمير شرف الدين لا أصل لها، وللمذكور عدة أولاد، من أعيانهم:
شرف الدين ومحمد، فكان الأمير محيى الدين يتردد إلى المدرسة فى أوقات الصلوات، ويجمع عليه أولاد الجمال بن الأمير، بمقتضى الجوار للتشرف به إذ ذاك، فكان يجتمع بمجلس الشيخ، ويعتقده
ويعول عليه، ثم إن أولاد الأمير احتفلوا به، وذكروه فى مجالسهم بسوق أمير الجيوش، وعظموا شأنه، فكانوا أول من عززه ونصره، وأشهر ذكره وخبره.
وكان بجوار المدرسة أيضا أخوان مجيدان، أحدهما: لقب بسعد الدين، وهو من أقباط مصر، وينسب إلى خدمة الأمير أرزيك الناشف، أحد أمراء الجراكسة، والثانى: هو القاضى عبد القادر، أكثر مالا ورزقا وطينا، وكان مع خدمة أرزيك مصاهرا للقاضى شرف الدين ابن الخرزى القبطى، وعرف بالصغير، وهو رأس ديوان السلطان بالقلعة المحروسة، وعمدة إقليم مصر وسائر جهاتها فى الدولتين، فكان يقصد نفعه بإرساله مساحا للطين السلطانى بالأقاليم، فجمع من ذلك رزقا عديدة اختلسها لنفسه، وكتب بها مستندات شرعية، ومحا عنها الرسم الأول، فلما كان الفتح الثانى السليمانى، وتغيرت الأحوال وانقضت تلك الدولة، خشى عند الفحص والتفتيش أن ينزع ذلك الطين - الذى جمعه - من يده، والحالة هذه، فكان من عناية الله تعالى بالشيخ عبد الوهاب أن عبد القادر الأرزيكى دبر تدبرا قصد حماية ذلك الطين به، فأعانه الله عليه ويسر له، وهو أنه اشترى قطعة أرض مكملة الجدار على الخليج الحاكمى، تجاه الدرب الكافورى، وعمرها مدرسة على الصفة التى هى بها، وجعل بها مدفنا لم يرد الله تعالى أن يدفن فيه، ونقل إليها الشيخ عبد الوهاب الشعرانى، ووقف عليه تلك الحصص الطين المتفرقة، التى كان يخشى من تبعاتها عند انتباه السلطنة والدولة للفحص عنها، فكان هذا الوقف على جهات بر للشيخ عبد الوهاب الشعرانى وذريته، ولجميع القاطنين عنده بالمدرسة رجالا ونساء وصغارا، وكان ذلك قدرا حافلا.
ولما تم ذلك، وكتب مكاتيب الوقف بمضمون ما شرطه، وأشهد به على نفسه، هرع الناس من كل أوب من الأقاليم، وانقطعوا عند الشيخ بالزاوية، وقطنوا بها، وانتظم حينئذ مجلس الذكر، وشاع ذكر الشيخ والمدرسة والوقف بالأقاليم، فاجتمع عنده الجم الغفير، وكثر بها القاصدون والواردون، وأقبلوا إليها من كل حدب ينسلون، من الفقراء والزمنى والعميان والشبان والأطفال والنساء، واشتهر الشيخ اشتهارا تاما، ولحظته العيون بالوقار، وأقبلت نحوه القلوب، وعطفت عليه الخواطر، ولو لم يكن سوى اجتماع هذه الأعداد الوافرة على مجلس الذكر، وعلى الطعام فى الصباح والمساء، لكان ذلك كافيا، وكان دأبه تصنيف الكتب العديدة، فى علمى الشريعة والحقيقة. واختصر بعض مؤلفات ابن عربى كالفتوحات الملكية وغيرها، وألم بالشيخ علىّ الخواص الأمىّ البرلسى، القاطن بخط سويقة اللبن فى زمنه، واشتهر بصحبته مع الشيخ أفضل الدين.
وجمع مؤلفا كبيرا شرح فيه معانى ما التقطه من كلام الشيخ على الخواص وألفاظه، وسماه كتاب:(الجواهر والدرر) وفيه مسائل مستغربة، وكتب على المؤلف المذكور أعيان علماء ذلك العصر كالشيخ أحمد النجار الحنبلى الفتوحى، والشيخ شهاب الدين بن الشبلى الحنفى، والشيخ ناصر الدين الطبلاوى الشافعى، والشيخ ناصر الدين اللقانى المالكى وغيرهم، وأثنوا على المؤلف والمؤلف.
وله من المؤلفات كتاب: (المنهج المبين فى أدلة جميع المجتهدين) وكتاب: (كشف الغمة عن جميع الأمة) و (لواقح الأنوار القدسية فى اختصار الفتوحات المكية) لابن عربى، و (طهارة الجسم والفؤاد من سوء الظن بالله تعالى والعباد)، وكتاب:(البحر المورود فى المواثيق والعهود التصوفية) وكتاب: (الميزان الخضرية المدخلة
لجميع أقوال المتكلمين فى العقائد الشرعية) ذكر أنه اجتمع بالخضر عليه السلام بسطح الجامع الغمرى، وتباحث معه مليا، ورتب الأسئلة والأجوبة على مباحثه، ولذلك نعت الكتاب به، وكتاب:(الأنوار القدسية فى بيان آداب العبودية)، وكتاب:(النور الفارق بين المريد الصادق وغير الصادق) وكتاب: (القول المبين فى بيان آداب الطالبين)، وكتاب:(الأخلاق الزكية والعلوم اللدنية)، وكتاب:(لوائح الأنوار القدسية فى مناقب الفقهاء والصوفية)، وكتاب:(الجوهر المصون فى علوم كتاب الله المكنون)، ذكر أنه جميع فيه ثلاثة آلاف علم، وكتاب:(الأخلاق المتبولية المفاضة من الحضرة المحمدية)، وكتاب:(الأجوبة المرضية عن أئمة الفقهاء والصوفية) وكتاب: (منهج الصدق والتحقيق فى تفليس غالب/المدعين للطرق) وكتاب: (هادى الحائرين إلى رسوم أخلاق العارفين)، و (السر المرقوم فيما اختص به أهل الله من العلوم)، و (فرائد القلائد فى علم العقائد)، وكتاب:
(اليواقيت والجواهر فى بيان عقائد الأكابر) و (مفحم الأكباد فى بيان مواد الاجتهاد)، وكتاب:(علامات الخذلان على من لم يعمل بالقرآن) و (تنبيه المغترين أواخر القرن العاشر فيما خالفوا فيه سلفهم الطاهر)، و (قواعد الصوفية) و (القول المتين فى الرد عن الشيخ محيى الدين بن عربى)، وكتاب:(كشف الحجاب والران عن وجه أسئلة الجان) ذكر أن الجان أرسلوا إليه شخصا منهم فى صورة كلب أصفر، يسألون منه الجواب عن نيف وسبعين سؤالا فى التوحيد، وقالوا: قد عجز علماء الجن عن الجواب عنها، وجهزوا له الأسئلة فى ورقة مطوية فى فم الشخص كالسنبوسكة، خطها يشبه خط الإنس، فنزل إليه ذلك الشخص فى صورة كلب من طاقة قاعته المجاورة للمدرسة التى على الخليج الحاكمى، وكان الجواب لهم هذا المؤلف فى نحو خمسين ورقة.
ومن مؤلفاته أيضا كتاب: (المنن والأخلاق) فى بيان وجوه التحدث بنعمة الله عليه، منها أنه قال: حفظت القرآن وسنى سبع سنين، قال صاحب:(الدرر المنظمة): وقد نقلت من كتاب: (المنن) المذكور، وأنه قال: ومما أنعم الله به علىّ، كشف حجابى فى أوائل دخولى فى طريق القوم، حتى سمعت تسبيح الجمادات والحيوانات، وذلك أنى كنت أصلى المغرب خلف الشيخ أمين الدين بن النجار إمام جامع الغمرى بالقاهرة، فانكشف الحجاب عن قلبى من صلاة المغرب إلى طلوع الشمس، فصرت أسمع كلام أهل مصر، ثم اتسع الأمر إلى قرى مصر، ثم سائر الجوانب إلى البحار المحيطة، وسمعت تسبيح سمك البحر المحيط الذى ما بعده بحر، وهو يقول:(سبحان الملك الخلاق، رب الجمادات والحيوانات والنبات والأرزاق، سبحان من لا ينسى أحدا من خلقه، ولا يقطع بره عمن عصاه) وذلك فى سنة ثلاث وعشرين وتسعمائة، ثم إن الله رحمنى وأسدل علىّ الحجاب، ولولا ذلك لذهل عقلى، وقال فى الكتاب المذكور:(ومما أنعم الله به علىّ وتفضل، عدم قولى بالجهة فى جانب الحق جل وعلا، من حين كنت صغيرا عناية من الله عز وجل، لا يعمل عملته، ولا يخير قدمته، ولا بسلوك الطريق على يد شيخ، وقد هلك فى هذا الباب خلائق لا يحصون، وقال أيضا فى الكتاب المذكور: ومما أنعم الله به علىّ معرفتى بأصوات الشرفاء من ذكر أو أنثى من وراء حجاب، وأميز صوت الشريف من صوت غيره، كما أعرف كلام النبوة من المدرج فيه، وكما أعرف الكلام المزور فى المكاتيب من غيره بمجرد رؤية الخط، وكما أعرف جميع ما جناه العبد من رؤية وجهه وغير ذلك مما هو مذكور فى: (الدرر المنظمة) وغيرها.
ونقل عن المترجم أن مؤلفاته تزيد على سبعين مؤلفا، ولم تزل شهرته تتزايد ومشايخ العرب وأكابر القاهرة يترددون إليه فى المدرسة الأرزيكية، ورسائله مقبولة عندهم فى الغالب عند كل مهم وقضية، واتفق من عناية الله تعالى به أنه لما فتش على الرزق السلطانية وغيرها تفتيشا عاما فى ولاية على باشا الوزير الكبير سنة نيف وخمسين وتسعمائة، وكشف عن رزق مدرسته وما حبس عليه وعلى مريديه بها، ظهر فساد أصول ذلك، وشهد أحمد الراشدى كاتب أوقاف الجيوش المنصورة بما يطعن فى الوقف والمحصور على جارى عادته، ولا يعارض فيما بيده، وكتب عرضه إلى الباب السلطانى، بما كان سببا لإفادته، فعاد الجواب بإجرائه فيه على أحسن العوائد وأتم الفوائد، من غير منازع له فى ذلك ولا مدافع، إنعاما من الإمام الأعظم واستجلابا للدعاء من الموقوف عليه فى مجالس الذكر وأوقات العبادات التى هى المغنم.
وعطفت على إشارات الشيخ الخواطر، ولهجت بذكر محبته ألسن مشايخ العرب والأكابر، حتى صار الحال فى الغالب لا يتولى أحد منصبا سلطانيا إلا بعد أن يجتمع بالشيخ ويأخذ خاطره فى شأنه، وربما مرّ على زاويته بتشريفه وموكبه، ونزل على بابها، وأوقف من معه خارجها، ودخل إلى الشيخ وقبل يده، ثم عاد إلى حاله مستبشرا باجتماعه به، ومعتمدا على ما صدر من ألفاظه، وانفرد فى القاهرة بكثرة القبول والإقبال، وأخذ خاطره من الأكابر والأصاغر فى غالب كل قضية وولاية وحال، مع تواضعه جدا خصوصا لذوى المناصب وأكابر الدولة والمتولين ممن يتردد إليه من الأمراء والأعيان، وإقباله بكليته عليهم إذا حضروا عنده فى كل وقت وأوان، وإعراضه عمن سواهم حالة اجتماعه بهم، وربما انفرد بذاته معهم فى مكان، وتبرعه بحمل
حملاتهم، وبذل جهده فى تحصيل إراداتهم، ومقصوده بذلك سرعة قبول شفاعته لديهم، وقضاء مآرب من يقصدهم ويعتمد عليهم، وربما أثقلته فى بعض الأوقات حملة من الحملات، فيرد عليه بسبب ذلك من الواردات، ما يأمر بسببه الفقراء والأطفال والقاطنين بزاويته بالصعود إلى سطحها والمنارة، والتضرع إلى الله بجليل الابتهالات، وربما رمى نفسه طرحا على الأعتاب متغلبا فى ذلك الحال الذى يرد عليه، أو فى /طريق الباب.
وربما خرج من زاويته عشاء منفردا ماشيا لوارد أو حال ورد عليه، فلا يتبعه أحد من الفقراء لهيبته، ولا يومئ إليه، وحج مرارا متقللا، سواء كان متلبسا بالفرض أو متنفلا. منها فى سنة سبع وأربعين وتسعمائة، وفى سنة ثلاث وخمسين، وثلاث وستين، ولم تزل مدرسته مأوى للفقراء والمجاورين، ولهم بها الراتب فى الغداة والعشى من ذلك الوقف، وما يفتح الله به على تداول الأوقات والسنين، مع إحياء ليلة الاثنين والجمعة، واجتماع العدد الوافر والجم الغفير بعد صلاتها فى تلك البقعة، وملازمته لإلقاء الدروس من الفقه ومن مصنفاته التصوفية على مريديه فى أوقات متعددة، من غير بحث من أحد الفقهاء المترددة. وربما حملت إليه الصلات والهبات من النقود والأصناف المتنوعات، فتارة يخص بها المجاورين وتقسم عليهم على كل الحالات، وتارة يمنع من قبول ذلك بأدنى الإشارات؛ وله فى مثل ذلك وقائع معدودة وأحوال مشاهدة ومقصودة.
وقد أجمع على اعتقاده والتردد إليه وأخذ إشاراته والعمل بها الجم الغفير من الأعيان المتنوعة المراتب وغيرهم من كل جليل وحقير، واجتمع عنده وانقطع لديه على سماط الله الأعداد الوافرة رجالا ونساء
وصغارا، ومنهم المتزوج والمنفرد، وغالبهم على قراءة القرآن وتلاوته يجتمع ويعتمد، ولهم من الراتب والكسوة ما هو جار عليهم من ريع الوقف، ومن بعض الأكابر والمعتقدين، أعاد الله علينا وعليهم من بركات أوليائه ونفحاتهم آمين.
ولم يزل الشيخ مكبا على العبادات والأذكار، والاشتغال بتصنيف الكتب، وإلقاء الدروس فى مدرسته آناء الليل وأطراف النهار، وجميع أهل مصر قاطبة يلهجون بذكره، ويقصدون التبرك فى مآربهم بنهيه وأمره، وكثرت منه المكاشفات والإشارات، وتردد إلى أعتابه أمراء الألوية فمن دونهم، وخضع لأوامره الأمراء والباشوات، إلى أن تشوق إلى ما عند الله. وحان قدومه على الله، فأبدى ذات يوم قلقا واضطرابا سببه تغير أحوال الدين بإقليم مصر، وتواتر نموّ الفواحش والمنكرات والإسفار عنها نقابا، فقال فى وقت من الأوقات ما معناه: لقد طاب الموت، لما رأى من الفساد وسوء الحالات، فلم يمض غير لمحة الطرف حتى ورد عليه وارد المنية، وبدا به حال عظيم اعتقل به لسانه وبطلت حركته بالكلية، فاستمر طريحا داخل داره، والأكابر والأصاغر واردون إلى زاويته، مستفهمون عن أخباره، إلى أن توفى عصر يوم الاثنين الثانى من شهر جمادى الأولى عام ثلاث وسبعين وتسعمائة، ومدة تمرضه أحد وعشرون يوما، فاجتمع لوفاته الخلائق من كل أوب، وخرج نعشه من زاويته يوم الثلاثاء إلى مصلى جامع الأزهر فى مشهد حافل جدّا، بحيث إن الخلائق متواصلة من زاويته إلى الجامع.
وممن صلى عليه على باشا بمصر ومن دونه من أمراء الألوية ومشايخ العرب والأعيان، وقاضى العسكر ومن يليه من القضاة ومشايخ العلم والفقهاء والتجار، وفقراء الزوايا، ولم يستطع أحد أن يدنو من نعشه لشدة الازدحام عليه، وتجاه نعشه فقراء الذكر بأعلامهم وهم أعداد متوافرة يذكرون نوبة، بحيث صارت رؤية
مشهده تدهش العقول، قال صاحب:(الدرر المنظمة): ولا أعلم أننى رأيت مشهدا لعالم سابقا أو ولىّ لله كمشهده، ولا جمعا كجمعه. صلى عليه بالأزهر وحمل نعشه من المقصورة، والخلائق تصيح بالتأسف على وفاته، وطيب ذكره، وعاد والخلائق على حالها فى الازدحام إلى فسقية بنيت له بجانب زاويته فى حال تمرضه، وفتح له باب منها ودفن فى تلك الفسقية، وقد كان كمل عملها فى وقت خروج روحه رضي الله عنه ونفعنا ببركاته آمين. انتهى.
ترجمة العارف بالله سيدى على بن شهاب، جدّ سيدى عبد الوهاب الشعرانى
وذكر فى طبقاته رضي الله عنه ترجمة جده الأدنى فقال: هو الشيخ الإمام العارف بالله تعالى سيدى على بن شهاب، جدى الأدنى، كان رضي الله عنه من المدققين فى الورع، ويقول: الأصل فى الطريق إلى الله تعالى طيب المطعم، وكان إذا طحن فى طاحون يقلب الحجر، ويخرج ما تحته من دقيق الناس، يعجنه للكلاب، ثم يطحن ويخلى للناس بعده الدقيق من قمحه، ولم يأكل فراخ الحمام الذى فى أبراج الريف إلى أن مات.
وكان والدى رحمه اله يأتيه بفتاوى العلماء بحله، فيقول: يا ولدى كل من الخلق يفتى بقدر ما علمه الله عز وجل، ثم يقول: إنها تأكل الحب أيام البذار، ويطيرونها بالمقلاع، ويجعلون لها أشياء تجفلها فى الجروين، ولو كان الفلاحون يسمحون بما يأكله الحمام، ما فعلوا شيئا من ذلك، ثم بالغ فتورع عن أكل عسل النحل، وقال: رأيت أهل الفواكه ببلادنا يطيرونها عن زهر الخوخ والمشمش ونحوهما، ولا يسمحون بأكل أزهارهم
…
إلى آخر ما ذكره عنه من الورع البالغ النهاية، فانظره.
ثم ذكر مشايخه الذين أدركهم فى القرن العاشر، كسيدى محمد المغربى الشاذلى، وسيدى محمد بن عنان، وسيدى أبى العباس الغمرى
…
إلى آخره، قال: وقد سبقنى إلى نحو ذلك سيدى عبد العزيز الديرينى فى منظومة له. انتهى، وقد ذكرنا بعضا منها فى ترجمته.
ترجمة الشيخ عبد الرحمن بن الشيخ الشعرانى
وفى «حرف العين» من: (خلاصة الأثر) ترجمة الشيخ/عبد الرحمن الشعرانى، ولد الشيخ المترجم، حيث قال: عبد الرحمن بن عبد الوهاب بن أحمد بن على بن أحمد بن محمد بن زوفا بن موسى ابن أحمد السلطان بمدينة تونس فى عصر الشيخ أبى مدين ابن السلطان سعيد ابن السلطان قاشين ابن السلطان يحيى ابن السلطان زوفا الشعراوى، ويقال: الشعرانى أيضا، المصرى الأستاذ العالم الصالح ابن الإمام الكبير العابد الزاهد، صاحب التآليف الكثيرة السائرة، وينتهى نسبهم إلى الإمام محمد بن الحنفية رضي الله عنه، وكان عبد الرحمن هذا لطيف الذات حسن الخلال.
ولما مات والده فى سنة ثلاث وسبعين وتسعمائة، قام بعده بزاويته المعروفة به بين السورين، فقام عليه أولاد عمه، ومقدمهم الشيخ عبد اللطيف، وسلك سبيل عمه والد صاحب الترجمة فى الكرم والبذل والإيثار، حتى بملبوسه فضلا عن طعامه، وكان عبد الرحمن يرمى بالإمساك، فمال فقراء الزاوية عليه مع عبد اللطيف، فترافعوا للحكام غير مرة، وكاد أمرهم يتم، فلم يلبث عبد اللطيف أن مات، واستقر الأمر لصاحب الترجمة، فصار معظما عند الحكام، وانتظم أمر الزاوية، لكنه أقبل على جمع المال، ثم ترك المدرسة، وتحول بعياله فسكن على بركة الفيل، وصار لا يأتى إلى الزاوية إلا يوم الجمعة غالبا،
فتلاشت أحوالها جدا، حتى صار مجلس ليلة الجمعة يجلس فيه نحو اثنين أو ثلاثة أول الليل، ثم يغلب عليهم النوم، وكان فى زمن والده يصعد المؤذنون من نحو نصف الليل، فيحصل من إيقاظ النيام، والاشتغال بالذكر والتهجد والقيام، والأنس التام ما يثلج الصدور، ويحث على فعل الحبور.
وبالجملة فبيتهم مبارك لا يزال متصل المدد، وفيه الخير والبركة، وكانت وفاة صاحب الترجمة فى أواخر سنة إحدى عشرة بعد الألف، ودفن بزاوية والده رحمهما الله تعالى. انتهى.
ترجمة الشيخ محمد حجازى الواعظ القلقشندى
وفى «خلاصة الأثر» أيضا أن من قلقشندة محمد حجازى بن محمد بن عبد الله الشهير بالواعظ القلقشندى الشافعى، الإمام المحدث المقرى، خاتمة العلماء، كان من الأكابر الراسخين فى العلم، واشتهر بالمعارف الإلهية، وبلغ فى العلوم الحرفية الغاية القصوى، مع كونه كان يغلب عليه حب الخمول وكراهية الظهور.
فنشأ بمصر وحفظ القرآن وعدة متون فى النحو والقراءات والفقه، وعرضها على علماء عصره، وأخذ عن جماعة من العلماء، منهم: الحافظ النجم الغيطى، والشيخ الجمال بن القاضى زكريا، والشيخ أحمد بن أحمد بن عبد الحق السنباطى والشيخ عبد الوهاب الشعراوى، والشمس محمد الرملى، والشيخ شحاذة اليمنى، والسيد الأرميونى، والشمس العلقمى، والشيخ كريم الدين الخلوتى، وأجازه المحدث المسند أحمد بن سند بثلاثيات البخارى فى حدود السبعين وتسعمائة. وأخذ عن عضد الدين محمد بن أركماس اليشيكى التركى
الحنفى، رفيق الشيخ عبد الحق الكافيجى، وله مشايخ كثيرون. وأما من أخذ عنه فالشمس البابلى وعامة الشيوخ المتأخرين بمصر.
وألف كتبا كثيرة نافعة، منها: شرح الجامع الصغير للسيوطى، وهو شرح جامع مفيد سماه:«فتح المولى النصير شرح الجامع الصغير» وقد وصل حجمه إلى اثنى عشر مجلدا. وله «شرح على ألفية الحديث» التى للسيوطى أيضا، وله:«سواء الصراط فى بيان الأشراط» ، وهو كتاب جليل فى أشراط الساعة أوصلها فيه إلى ثلثمائة.
وله: «القول الشفيع فى الصلاة على الحبيب الشفيع» ، و «شرح على الطيبة الجزرية» ، و «شرح على الأربعين المضاهية للأربعين النووية» للحافظ السيوطى، و «شرح على القواعد والضوابط والنووية» ، و «قطعة على تلخيص ابن أبى جمرة لصحيح البخارى، ورسالة سماها: «القول المشروح فى النفس والروح» ، و «البرهان فى أوقات السلطان» و «الجواب المصون فى آية: {إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ»، و «تنبيه اليقظان فى قول سبحان» ، و «القول المثبوت فى قصة هاروت» . وغير ذلك مما يطول ذكره.
كانت ولادة المترجم فى الليلة السابعة عشرة من ذى القعدة سنة سبع وخمسين وتسعمائة بمنزلة أكرى من منازل الحاج المصرى حال التوجه إلى بيت الله الحرام، وتوفى بمصر بعد أذان العصر من يوم الأربعاء سادس عشر شهر ربيع الأول سنة خمس وثلاثين وألف، ودفن عند والده بتربة فيها ولىّ الله تعالى الشيخ محمد الفارقانى، داخل جامع يعرف بالشيخ المذكور، بسوقية عصفور، بالقرب من المدابغ القديمة، انتهى.
قلمة
قرية من مديرية القليوبية بمركز قليوب، على الشاطئ الغربى لترعة أبى المنجى، فى شمال قليوب بنحو أربعة آلاف متر، وفى جنوب ناحية سنديون بنحو ثلاث آلاف وثلثمائة متر، وبها جامع جليل تقام به الجمعة والجماعة، ويقرأ فيه الشيخ محمد القلماوى:(صحيح البخارى) وغيره، وأول من شيده الخربطلى وفى سنة اثنتين وتسعين ومائتين وألف جدده الشيخ محمد القلماوى بأحسن من حاله الأول.
ترجمة الشيخ أحمد الضوى، المعروف بأبى لبد
وبها أضرحة جماعة من الصالحين، كالشيخ أحمد الضوّى، الذى ترجمه المحبى فى:«خلاصة الأثر» بأنه أحمد الضوّى المصرى المعروف بأبى لبد، لأنه كان يتعمم بعدة برد، ويضع على رأسه عده لبد، ويجعلها واحدة فوق واحدة، المجذوب اليقظان، الهائم السكران، /كان مقيما بقلمة بقرب قليوب، لا يأوى غالبا إلا للكيمان، وله كرامات وأحوال غزيرة، منها ما حكاه الحمصانى أنه كان له اطلاع على الخواطر، ما وقف إنسان تجاهه إلا كاشفه بما عنده، توفى سنة سبعة عشرة بعد الألف. انتهى.
ومن أصحاب الأضرحة بها الشيخ نجم الدين يقال إنه عصرى سيدى أحمد البدوى، والشيخ عبود والشيخ النابتى، والشيخ إسماعيل البرى، والشيخ محمد الأنصارى، والشيخ منصور. وأهلها مسلمون، ليس فيها من النصارى إلا بيت واحد.، وأبنيتها جيدة، وفيها مضايف، ونحو اثنتى عشرة ساقية ذات وجهين، ووابور كومبيل لسقى الزرع، وزمام أطيانها ألف وخمسمائة فدان، منها لفتحى أفندى كاتم السر ثلثمائة وعشرون فدانا، ويزرع فى أرضها القطن كثيرا، ولها شهرة بعمل الجبن الحلوم.
ترجمة الشيخ محمد أبو عيسى القلماوى الشافعى الأزهرى
ومن أجل أهلها الفاضل الهمام الشيخ محمد بن عيسى القلماوى الأزهرى الشافعى، حفظ القرآن ببلده، وقدم إلى الأزهر وهو ابن اثنتى عشرة سنة، فتلقى العلم من مشايخ عصره، واجتهد وحصل وفاق أقرانه فى كل فن، وتصدر للتدريس، فقرأ كبار الكتب، وشهد له مشايخه، ومن مشايخه الشيخ الدمهوجى، والسيد مصطفى الذهبى، والشيخ أحمد المرصفى، وشيخ الإسلام الشيخ إبراهيم البيجورى.
وممن أخذ عنه الشيخ حسين المرصفى نجل شيخه، والشيخ زين المرصفى، والمرحوم الشيخ إبراهيم سرور، والشيخ محمد أبو النجاء، والشيخ عبد القادر الرافعى الحنفى رئيس المجلس الثانى من مجلسى المحكمة الشرعية بالمحروسة، والشيخ محمد الحسينى الشافعى رئيس مصححى الكتب والعلوم بدار الطباعة الكبرى ببولاق. والشيخ حسين الطرابلسى مفتى الأوقاف سابقا، والشيخ سليم البشرى مفتى السادة المالكية وشيخهم بالجامع الأزهر الآن، أعنى سنة 305 زمن تولية شيخ الإسلام والعلماء بمصر الشيخ الإنبابى مشيخة الجامع الأزهر، والشيخ أحمد الرفاعى المالكى، وغيرهم من جهابذة الأزهر المتصدرين للتدريس.
وفى سنة ست وسبعين ومائتين وألف انقطع ببلده فى رضا والده، يستفيد منه الكبير والصغير، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، إلى أن توفى والده رحمه الله تعالى، فأقام بعده ببلده مدة، ثم رجع إلى الجامع الأزهر، وصار يقرأ فيه الكتب الكبيرة العظيمة، مكبا على تعليم العلوم من فقه وتفسير وحديث ومعقول، وانتفع به كثير من الفضلاء، حتى مرض مرضا شديدا، فتوجه إلى بلده وزاد به المرض، فتوفى إلى رحمة الله تعالى ببلده، ودفن بها. وكان رحمه الله شديد الصلاح، عليه من الهيبة والوقار والسكينة ما لا يقدر قدره، وكان زائد الخمول، رحمه الله رحمة واسعة.
قلوسنا
- بفتح القاف واللام وسكون الواو وفتح السين المهملة وقد ينطق بها صادا مهملة وفتح النون بعدها ألف - قرية بالصعيد الأدنى من مديرية المنية، بقسم بنى مزار، واقعة على الشاطئ الغربى للنيل، قبلى نزلة الشرقيين بنحو ألفين وخمسمائة متر، وشرقى ناحية جوادة بحو أربعة آلاف متر، وأغلب مبانيها بالطوب الأحمر، وبها جامع بمنارة وزاويا للصلاة، وفى وسطها ضريح ولى عليه قبة، وفيها دكاكين وخمارة على البحر، وجنينة عظيمة لمحمد بيك الشريعى، وجملة من النخيل وأبراج الحمام، وقليل من مصابغ النيلة، وسوقها كل يوم أحد، وبها محطة السكة الحديد، ولأهلها شهرة بزراعة العدس وصناعة الفخار الأحمر.
قليوب
- بفتح القاف وسكون اللام وضم المثناة التحتية وسكون الواو وآخره موحدة - مدينة شهيرة هى رأس مديرية القليوبية، واقعة فى شمال القاهرة على نحو ساعة ونصف، وعندها محطة للسكة الحديد، كانت أول محطة بالنسبة للخارج من مصر إلى الإسكندرية، ويتوصل إليها أيضا من طريق شبرى المحفوفة بالأشجار المظلة والأبنية المشيدة، من ابتداء باب الحديد بالقاهرة، وكانت قليوب على الشاطئ الشرقى للبحر السردوسى - كما يؤخذ ذلك من وثيقة قديمة وجدت عند محمد بيك الشواربى، عليها علامة قاضى مصر، مؤرخة بسنة إحدى وتسعين وثمانمائة.
وفى وثيقة أخرى عنده مؤرخة بسنة إحدى وستين وألف وجد التحديد بذلك البحر أيضا فى بيع دار كانت بخط العارف بالله الشيخ
عبد العال، الموجود ضريحه الآن بداخل الفوريقة، فعلى هذا كان البحر السردوسى موجودا إلى ما بعد ذلك التاريخ، ولم يعلم هل كان الماء إذ ذاك يجرى فيه، أو كان بداخله وقت فيضانه، ولم يعلم أيضا نهاية وجوده، وفى محله الآن ترعة صغيرة تسمى السردوسية.
قال ابن جبير فى رحلته: «من أحسن بلد مررنا عليه موضع يعرف بقليوب، على ستة أميال من القاهرة، فيه الأسواق الجميلة، ومسجد جامع كبير حافل مشيد البنيان» . انتهى. ورحلته كانت فى آخر القرن السادس.
وفى كتاب: (لمع القوانين المضية فى دواوين الديار المصرية) للعالم المتفنن عثمان بن إبراهيم النابلسى، الذى ألفه خدمة للملك السعيد نجم الدين أيوب ابن الملك الكامل محمد، أن قليوب كانت ذات بساتين وسنط وأشجار كثيرة، /وأنها كانت كأنها ذخيرة لمهم يعرض، أو لوقت يعسر القطع من الحراج فيه، وأن الحراج كانت كثيرة بالديار المصرية، وحكمها حكم المعادن، وهى لبيت مال المسلمين، ليس لأحد فيها اختصاص، وكان لها ديوان، وقد أهملها أولو الأمر، وصار الناس يقطعون منها ما يختارونه، ويحضرونه إلى ساحل مصر.
ويصالحون ديوان ساحل السنط عن الثلث المقرر للديوان بشئ يسير، ويبيعون بالأموال الكثيرة، فلو أن من له النظر العام تنبه لمصلحة بيت المال، وأقام لكل حرجة مشدا وأمناء، ليس لهم شغل إلا قطع الأخشاب، ونقلها إلى مصر، وادخارها للحاجة، ويباع الباقى لمن يحتاجه، لحصل من ذلك مال جزيل حلال لا مضرة فيه على أحد، وتتوفر قليوب وما حولها. فإنه كان بضواحى القاهرة كالمطرية ونحوها سنط يساوى ما يقرب من مائة ألف دينار، فلما استمر إهمال المصلحة وإهمال الاهتمام باستدعاء ما يحتاج إليه لسواقى البشمور
وغيره صار الوقت يضيق عليهم، فيتفقون على القطع من ضواحى القاهرة، فقطعت تلك الحراج ولم يبق إلا النزر اليسير، وكذلك بضواحى ناى وطنان، ثم مالوا على أشجار قليوب، التى ما كان أحد يقدر أن يقطع منها طرفا من أطراف السنط، لما كان الشهيد (يعنى الملك الكامل) قد نهى عنه، واهتم بحفظ معالم البلاد من النخل والشجر، حتى إنه رسم بمساحة بساتين مصر والقاهرة والجيزة وغيرها، وعد ما فيها من الأشجار والسنط والأثل وغير ذلك، وعملت بها أوراق وخلدت فى الديوان.
وكانت العادة فى قليوب، لما كانت تحت نظر المملوك (يعنى نفسه)، أنه إذا نفق لبعض المزارعين بها شئ من العوامل (بهائم العمل)، وأنهى أنه لا قدرة له على تعويضه، وأن فى بستانه سنطة، يتلف ظلها ما حولها من الشجر، ويسأل أن يمكن من قطعها ليبيعها، ويشترى بثمنها ما يدير به ساقيته، فيوقع المملوك فى ظهر رقعته بالكشف عما أنهاه، فإذا كان صحيحا مكن من قطع ما قيمته قدر حاجته، وثبوت ذلك بالشهود العدول، ومع ذلك فكانوا يسرقون ويبيعون وهم ممنوعون، فكيف وقد أبيح القطع فيها.
ومن العجائب أن المملوك سأل المسعودى واليها الآن عن قليوب، هل اهتم أحد بإنشاء ما غرق من بساتيها، فقال: قد شرعوا، فقال له:
إياك أن تمكن أحدا من قطع شئ من أشجارها، فقال المسعودى:
والله لقد قطعوا منها منذ أيام أربعة آلاف عود، فقال المملوك: لو حفظت الحراج لقطع منها أربعون ألف عود أو خمسون، تكون فى حاصل الصناعة، يصرف منها فى المهمات، فتوفر قليوب، ولو خرج الأمر بإعفاء قليوب من ذلك لعمرت وتراجعت أحوالها إلى الصلاح، بل والله يلزم من قطع من قليوب وترك الحراج العظيمة الكبيرة، ثمن ما قطع من قليوب فى الذمة بالشرع والوضع انتهى.
وقد تكلمنا على الحراج عند الكلام على البهنسة، وكان بقليوب فى عهد قريب ديوان المديرية مستوفيا وإسبتالية للمرضى، ومحكمة شرعية، ثم انتقل ديوان المديرية إلى مدينة بنها فى زمن الخديوى إسماعيل باشا.
وفى سنة أربعين ومائتين وألف أنشأ العزيز المرحوم محمد على بها فوريقة لنسج القطن، وفيما بعد بنى فى محلها قشلاق للعساكر واصطبل للخيول الكعابل، وبها أبنية فاخرة أكثرها على دورين.
وسوق دائم يشتمل على حوانيت ووكائل، غير السوق العمومى كل يوم اثنين.
وبها ستة جوامع تقام بها الجمعة والجماعة والعيدان غير الزوايا، منها: الجامع الكبير فى وسطها، له منارة مرتفعة فى السماء فى غاية من الحسن والمتانة، وكان فى السابق يعرف بالجامع الزينبى، وله أوقاف جارية عليه الآن، كما وجد ذلك بالوثائق المتقدم ذكرها، وعلى منبره وبابه نقوش تدل على أنه جدد فى سنة ثمان وأربعين ومائة وألف من طرف شيخ العرب أحمد الشواربى، ومنها جامع الصالحين، له منارة، وجامع العارف بالله سيدى عبد الرضى فى الجهة القبلية له منارة، وجامع الراعى له منارة، وجامع علاء الدين، وجامع سيدى عوّاض، فى خارجها من الجهة الشمالية به ضريحه، وضريح الأستاذ سيدى يونس الذى نقل فى سنة اثنتين وتسعين ومائتين وألف من ضريحه الذى كان فوق التل المسمى بتل سيدى يونس فى غربيها إلى هذا الضريح، وحضر نقله جم غفير من الناس، والذى تولى إخراجه من القبر الشيخ محمد عيسى القلماوى من أعيان مدرسى الأزهر، ويقال أن بين دفنه ونقله نحو ثلثمائة سنة، وكان لنقله موكب حافل.
ونقل كترمير عن بعض التواريخ أن بها قبر الولى الصالح تقى الدين أبى المكارم عبد السلام بن سلطان الماجرى، من قبيلة هوارة، مات يوم الأحد من ذى الحجة سنة اثنتين وستين وستمائة، وله كرامات مشهورة، أخذ الطريق عن أبى الفتح الواسطى، وعن الشيخ أحمد بن أبى الحسن الرفاعى. انتهى.
وبها أضرحة أخرى مثل ضريح سيدى جمال الدين فى زاويته، وضريح الشيخ أهيب، والشيخ البحاث، ويعمل للجميع موالد سنوية، أشهرها مولد سيدى عواض، يجتمع فيه/خلق كثيرون من القاهرة وغيرها، وتنصب فيه الخيام، ويتسابق بالخيول، وبها صهريجان للماء قديمان.
وفى «ابن اياس» ما يفيد أن قليوب كانت محلا لتلقى من يأتى من القسطنطينية من طرف الملك، وتمد له بها المدات الحافلة، ومثلها فى ذلك خانقاة سرياقوس، وناحية وردان، وأكثر ذلك يكون بقبة العادل، وكانت لوازم المدات من مواش وخلافها توزع على البلاد.
ففى الخامس والعشرين من ربيع الأول سنة ثلاث وعشرين وتسعمائة جاء القاصد من عند السلطان ابن عثمان، ولما وصل إلى دمياط، وبلغ ملك الأمراء قدومه، رسم القاضى بركات بن موسى المحتسب بالتوجه لملاقاته، فخرج إلى قليوب، ورمى على البلاد الشرقية والغربية أبقارا وأغناما وأوزا ودجاجا، ومد له هناك مدة حافلة، قال ابن إياس: إنه صنع له فى تلك المدة أربعمائة رأس غنم، ومثلها أوزا ومثلها دجاجا، وخمسمائة مجمع حلوى، وقيل ألف مجمع، ومد له فى أبى الغيط مدة ثانية مثل ذلك. انتهى.
ترجمة العائلة الشواربية
وأكثر أهل قليوب مسلمون، ومنهم عائلة مشهورة من عدة أجيال تعرف بعائلة الشواربية، يقولون إنهم قبيلة تسمى بهذا الاسم، من عرب الحجاز القاطنين بالصفراء والجديدة، انتقل جدهم الأعلى إلى الشام ثم إلى مصر، وكان دخول بلاد مصر بذريته وأتباعه فى القرن السابع من الهجرة، فنزل أولا على بحر أبى المنجى، وأقام هناك مدة، ثم انتقل إلى قليوب، وأقام بها، واستمرت ذريته بها إلى الآن، وسبب توطنهم تلك الجهة أنه لما شرع السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقدارى فى بناء قناطر بحر أبى المنجى، جعل دركها عليهم، وأنعم عليهم بأطيان رزقة، هى إلى الآن تحت أيدى ذريتهم، وتسمى برزقة الشواربية، من أطيان ناحية البرادعة. ورتب لهم فى مقابلة ذلك بالروزنامجة مبلغا من النقود يصرف لهم كل سنة.
واستمر الصرف لغاية سنة خمس وسبعين ومائتين وألف، ثم تنازلوا عنه لأسباب ولم يكن عليهم درك القناطر فقط، بل درك عدة جهات هناك بموجب وثائق، منها: وثيقة عليها علامة قاضى ولاية الخانقاه وسرياقوس شيخ الإسلام حسن أفندى، بمقتضى البير ولدى المطاع الوارد من الوزير المعظم حضرة مصطفى باشا والى مصر، وكانت مؤرخة بسنة اثنتين وسبعين ومائة وألف، بأن درك تلك الجهات للحاج محمد الشواربى شيخ عرب مدينة قليوب وما معها، وهو صاحب الدرك بنواحى ولاية قليوب. أ. هـ.
وكانت وفاته فى سنة ثمانين ومائة ومائة وألف، وهو ابن المرحوم الحاج أحمد الشواربى المتوفى سنة خمس ومائة وألف، ابن شيخ العرب إبراهيم الشواربى المتوفى سنة عشرين ومائة وألف، ابن
المرحوم عامر الشواربى المتوفى سنة ست وتسعين بعد الألف، ابن المرحوم صالح الشواربى المتوفى سنة ثمانين بعد الألف، ابن المرحوم عامر الشواربى المتوفى سنة أربعين بعد الألف.
هكذا ذكر لى الأمير محمد بك الشواربى مأمور مالية مديرية الجيزة حالا، قال: وكان الدرك من بعد الحاج محمد لابنه المرحوم شيخ العرب منصور المتوفى سنة خمس ومائتين وألف، ثم من بعده لابنه سالم المتوفى سنة ثلاث وثلاثين ومائتين وألف، وسليمان المتوفى سنة ثلاث عشرة ومائتين وألف ولم يعقب. وكانت الذرية لأخيه سالم، فخلف محمدا ومحمودا وحسنا وحسينا. وكان الدرك من بعده لابنه محمد، وكان ابنه حسن عضوا بمجلس الحقانية الذى كان أنشأه العزيز محمد على سنة أربعين، وكان قبل ذلك ناظر قسم وتوفى سنة خمس وخمسين، وتوفى قبله أخوه حسين، وخلف ولدا يقال له خطاب، وتوفى محمود سنة ثلاث وثمانين، وأعقب سالما.
وفى سنة خمس وثمانين تعين سالم بن محمود عضوا فى مجلس شورى النوّاب، ثم مأمورا بضواحى مصر، ثم ناظر قلم بمديرية القليوبية، ثم وكيل مديرية الشرقية، وأحسن إليه برتبة القائم مقام، وتولى محمد مشيخة العرب بعد وفاة والده سالم بن منصور سنة ثلاث وثلاثين، ثم تعين مأمور قسم أول القليوبية، وأنعم عليه بنيشان شرف من ألماس، وأعطى ناحية قليوب عهدة، وكان يزرع بها أربعة آلاف فدان، منها: نحو أربعمائة فدان بدون مال، أنعم عليه بها للإعانة على إطعام الطعام للواردين، ومنها نحو ألف وسبعمائة بنصف الضريبة، تسمى بأطيان العرب، كما فى تاريع المساحة سنة 1228 وهو الذى زاد فى الجامع الكبير توسعة من الجهة الغربية، وأنشأ جامعا بداخل دار الضيافة التى أعدها قدماؤه للمسافرين، وكان
إنسانا دينا صالحا محبا لفعل الخير وأهله سالكا طريق الخلوتية، أخذها عن العارف بالله تعالى الشيخ مصطفى المنادى المتوفى سنة خمس وستين، وضريحه بجامعه المشهور باسمه بدرب الجماميز.
وقد توفى المترجم سنة اثنتين وسبعين، وأعقب ابنه محمد بيك، دخل المكتب بقليوب وهو صغير، فتعلم القراءة والكتابة، وتربى أحسن تربية، وتأدب أحسن تأديب، ولما تأهل للحكم وحسن السياسة أحيلت عليه عهده الناحية سنة إحدى وثمانين، بأمر كريم من الخديوى إسماعيل، وأحسن إليه بالنيشان المجيدى لزيادة الشرف، وفى سنة ثلاث وثمانين جعل/عضوا فى مجلس شورى النواب، وفى سنة أربع وثمانين جعل عضوا فى مجلس ثانى بحر الزراعة بالشرقية، وأحسن إليه برتبة القائم مقام، ثم انتقل بهذه الرتبة إلى وكالة مديرية القليوبية سنة ست وثمانين، ثم وكالة مديرية المنوفية سنة سبع وثمانين، ثم فى سنة ثمان وثمانين أنعم عليه الخديوى إسماعيل برتبة أمير ألاى، وجعل مدير مديرية المنوفية، فأقام بها نحو السنتين، ثم عوفى من الخدامة أشهرا، ثم ندب إليها فجعل مأمور فرقة أولى فى تفتيش الإيرادات بالقليوبية، وفى سنة اثنتين وتسعين جعل مدير مديريتها، ثم عوفى، ثم ندب ثانيا إلى الخدامة، فجعل مأمور مالية مديرية الجيزة، وهو إنسان دين، سهل الأخلاق، حسن التلاق، جواد كريم، قائم بوظائفه مع العفة والنزاهة، له كأسلافه إحسانات جمة، وأفعال خيرية.
وبالجملة فهم من أشهر عائلات تلك الجهة، وعدتهم الآن نحو مائة ونيف وثلاثين من الذكور، أكثرهم أهل يسار وذكاء وفطنة، ولهم بقليوب وغيرها أملاك وعقارات كثيرة، فجميع الحوانيت والوكائل التى بقليوب ملك لهم خاصة، وكذلك الحدائق ذات الفواكه، وهى ثمانية فى جميعها سواق معينة، ولهم بها معملان للدجاج، ووابور لحلج القطن
بجوار محطة السكة الحديد، وثمان وابورات فوق البيسوسية والشرقاوية لسقى القطن والقصب وأنواع الخضروات وغيرها، وزمام أطيان بلدتهم سبعة آلاف فدان، تروى من ترعة البيسوسة وترعة قليوب التى فمها من النيل، فى شرقى فم البيسوسية، على نحو مائتى متر، منها للأهالى ثلاثة آلاف فدان، وللشواربية خاصة أربعة آلاف فدان، يزرعون فيها جميع أصناف الزرع، وربما لا يقتصرون عليها.
وكان سليمان منصور الشواربى شجاعا مقداما مهيبا، حصلت له عدة وقائع وشدائد من الفرنسيس أيام تملكهم هذه البلاد، آلت إلى قتله، وسببها تحشيده الناس على الفرنسيس، وعزمه على تنظيم جيش لمقاتلهم.
ففى «تاريخ الجبرتى» من حوادث شهر رجب سنة ألف ومائتين وثلاث عشرة أن كبير الفرنسيس الذى بناحية قليوب حضر إلى مصر وصحبته سليمان الشواربى؛ شيخ قليوب وكبيرها، فحبسوه فى القلعة، قيل فى سبب ذلك أنه عثروا له على مكتوب وقت فتنة مصر، الذى قتل فيها شيخ العميان الجوسقى، والشيخ أحمد الشرقاوى وغيرهما، وأرسله إلى سرياقوس ليستنهض أهل تلك النواحى للقيام، ويأمرهم بالحضور وقت أن يرى الغلبة على الفرنسيس، وبعد أيام من حبسه قتلوه ومعه ثلاثة رجال من عرب الشرقية، فأنزلوهم من القلعة إلى الرميلة على يد الأغا، وقطعوا رءوسهم وحملوا جثة الشواربى مع رأسه فى تابوت، وأخذه أتباعه إلى بلده قليوب ليدفن مع أسلافه.
وفيه أيضا من حوادث سنة ألف ومائتين وتسع عشرة أن المماليك بعد أن طردتهم الأرنؤد من مصر تشتتوا فى البلاد، وعاثوا فيها بمن معهم من العرب، كما ذكرنا ذلك فى الوائلى وبلبيس وعدة مواضع من هذا الكتاب، ومن ضمن البلاد التى أفسدوا فيها مديرية
القليوبية، حتى إنهم حاصروا كاشف القليوبية فى قليوب، فدخل بمن معه الجامع وتترس به وحارب ثلاثة ليال، وأصيب كثير من المحاربين له، ثم تركوه ففر بمن بقى معه إلى البحر، ونزل فى قارب وحضر إلى مصر، وأخلى لهم البلاد، فأخذوا حملته ومتاعه وجبخانته، وطلبوا مشايخ النواحى مثل شيخ الزوامل وشيخ العائذ، وشيخ قليوب، وألزموهم بالكلف، وضربوا على القرى الضرائب الشاقة مثل ألف ريال وألفين وثلاثة، وعينوا العرب لتخليصها من الأهالى، وعملوا لهم خدما وحق طريق، خلاف المقدر عشرين ألف فضة وأزيد، ومن استعظم شيئا من ذلك وعصى عليهم حاربوا قريته ونهبوها، وسبوا نساءها وقتلوا أهلها، وأحرقوا جرونهم، وهكذا من هذه الفعال.
وفى شهر صفر سنة عشرين نزل الباشا من القلعة، ودخل بيت سعيد أغا، وحضر هناك محمد على وحسن باشا أخو طاهر باشا وعبدى بيك أخوه، وتقلد محمد على باشا ولاية جدة، ولبس فروة وقاووقا، فثارت عليه العسكر، وطلبوا منه العلوفة، فقال لهم: ها هو الباشا عندكم، وركب إلى داره بالأزبكية، وصار ينثر الذهب بطول الطريق، فسارت العسكر إلى أحمد باشا الوالى، ومنعوه من الركوب، فلم يزل إلى ما بعد الغروب، ثم ذهب مع حسن باشا إلى داره، وأشيع فى المدينة حبسه، وفرح الناس وباتوا مسرورين، فلما طلع النهار تبين أنه طلع إلى القلعة فى آخر الليل، وطلع صحبته عبدى بيك والناس ثانيا، وفى ذلك اليوم طلب الباشا من ابن المحروقى وجرجس الجوهرى ألفى كيس، وأشيع أنه عازم على عمل فرضة على أهل البلد، وطلب أجرة الأملاك، بموجب قوائم الفرنساوية.
وفى هذا اليوم ركب طائفة من الدلاة، وذهبوا إلى قليوب، ودخلوها واستولوا عليها وعلى دورها، وربطوا خيولهم على أجرانها، وطلبوا
من أهلها النفقات والكلف، وعملوا على الدور دراهم يطلبونها منهم كل يوم، وقرروا على دار شيخ البلد الشواربى/كل يوم مائة غرش، وحبسوا حريمهم عن الخروج، وكان الشواربى قد عصى فوصل إليه الخبر بذلك، واستمرت العسكر على ذلك، حتى أخذوا النساء والبنات، وصاروا يبيعونهن فيما بينهم.
وبعد أيام أرسل إليهم محمد على باشا، وقرر لهم كلفا على البلاد، فصاروا يقبضونها، ومن عصى عليهم ضربوه ونهبوه، وأرسلوا إلى أبى الغيط فامتنعت عليهم، وخرج أهلها ودفنوا متاعهم بالجيزة، فركبوا إليهم وقاتلوهم، وقتل من الفلاحين زيادة عن مائة شخص، ودلهم بعض الفلاحين على خباياهم بالجيزة، فذهبوا إليها واستخرجوها، وكانت أشياء كثيرة.
وفى ذلك الحين كان المشايخ قد تركوا الأزهر، وأغلق غالب الأسواق والدكاكين، وبطل طلوع المشايخ والوجاقلية ومبيتهم بالقلعة، وحضر الأغا إلى نواحى الأزهر، ونادى بالأمان وفتح الدكاكين وكان ذلك وقت العصر، فعند ذلك تحركت حميتهم، وركبوا فى ثانى يوم إلى بيت القاضى، واجتمع به الكثير من المشايخ والمتعممين والعامة، وصرخوا شرع نبينا بيننا وبين هذا الباشا الظالم، والأولاد تقول: يا متجلى اهلك العثملى، وطلبوا أن يأتى المتكلمون فى الدولة إلى مجلس الشرع للمحاكمة، فحضر سعيد أغا الوكيل وبشير أغا وعثمان أغا قبى كتخدا والدفتدار والشمعدنجى، واتفقوا على كتب عرضحالات بالمطلوبات ففعلوا ذلك، وذكروا فيه طوائف العسكر وتعديهم، وأذى الناس وإخراجهم من مساكنهم، والمظالم والفرض ومال الميرى المعجل، وحق الطريق للمباشرين وغير ذلك، فأخذوا منهم العرض، ووعدوهم برد الجواب يوم الاثنين.
وفى الميعاد أرسل الباشا رقعة الجواب إلى القاضى، يظهر فيها الامتثال، ويطلب حضوره فى الغد مع العلماء، ليعمل معهم مشورة.
فأخذها وحضر بها إلى السيد عمر أفندى، ومنها علموا أنها خديعة.
ففى صبح يوم الاثنين اجتمعوا ببيت القاضى، وقفلوا الأبواب لمنع العامة، وحضر إليهم سعيد أغا والجماعة، ولما تكاملوا ركبوا إلى محمد على، وقالوا له: إنا لا نريد هذا الباشا حاكما علينا، ولا بد من عزله من الولاية. فقال: ومن تريدونه، قالوا: لا نرضى إلا بك، وتكون واليا علينا بشروطنا، فامتنع أولا، وأحضروا له كركا وعليه قفطان، وقام السيد عمر والشيخ الشرقاوى، فألبسوه إياه وذلك وقت العصر، ونادوا بذلك، وأرسلوا إلى أحمد باشا بالخبر، فقال: لا أنا مولى من طرف السلطان، وجمع بالقلعة ذخيرة كثيرة وكرنك بها، وصار يضرب بالمدافع، وحاصره محمد على بالعساكر والمشايخ والأكابر والأهالى.
ولم يزل الأمر على ذلك مدة، ثم حضر فرمان قرئ ببيت محمد على بالأزبكية، مضمونه أن محمد على باشا والى جدة سابقا، هو والى مصر حالا، من ابتداء عشرين ربيع الأول سنة ألف ومائتين وعشرين، حيث رضى بذلك العلماء والرعية، وأن أحمد باشا معزول عن مصر، وأنه يتوجه إلى الإسكندرية بالإعزاز والإكرام، حتى يأتيه الأمر بالتوجه إلى بعض الولايات، وجرت أمور ليس هذا محل شرحها، وانظر الجبرتى.
ترجمة ابن القليوبى الكاتب
وفى كتاب: «دائرة المعارف» أن من هذه البلدة ابن القليوبى الكاتب، وهو على بن محمد بن أحمد بن حبيب، قال ابن سعيد المغربى: وصفه ابن الزبير فى كتاب: (الجنان) بالإجادة فى التشبيهات، وغلا فى ذلك إلى أن قال: إن أنصف لم يفضل عليه ابن المعتز، وذكر أنه أدرك العزيز العبيدى، ومدح قواده وكتابه، وتوفى فى أوائل دولة الطاهر العبيدى، ومن شعره قوله:
وصافية بات الغلام يديرها
…
على الشرب فى جنح من الليل الأسود
كأن حباب الماء فى وجناتها
…
فرائد درّ فى فى عقيق مدرج
ولا ضوء إلا من هلال كأنما
…
تفرق منه الغيم عن نضو دملج
وقد حال بين المشترى من شعاعه
…
وميض كمثل الزئبق المترجرج
كأن الثريا فى أواخر ليلها
…
صحيبة ورد فوق زهر بنفسج
انتهى.
ترجمة الشمس القليوبى
وإليها ينسب كما فى: (الضوء اللامع) محمد بن محمد الشمس القليوبى، ثم القاهرى الشافعى، نزيل القصر بالقرب من الكاملية، والد أبى الفتح محمد المكتب، ويعرف بالحجازى، كان إماما عالما فاضلا ماهرا فى الفرائض والحساب والعربية، محبا فى الأمر بالمعروف، حريصا على تفهيم العلم، مع لطف المحاضرة والخبرة بالأمور الدنيوية، بحيث كان مشارفا بالجمالية، ومباشرا بوقف يلبغا التركمانى، ومحاسنه كثيرة، وحج وجاور واختصر:(الروضة) اختصارا حسنا، ضم إليه من كلام الإسنوى والبلقينى والعراقى
وغيرهم، وكتب على:«الشفاء» تعليقا لطيفا وعلى: (الحاوى) و (مختصر التلخيص) لابن البناء فى الحساب شرحا وغير ذلك، مات فى أواخر جمادى الآخرة سنة تسع وأربعين وثمانمائة، ودفن بتربة خلف الأشرف برسباى. انتهى.
ترجمة الشهاب القليوبى
وقد نشأ منها العالم الكبير والعلم الشهير، الشيخ أحمد القليوبى.
المترجم فى: (خلاصة الأثر) بأنه العالم العامل الفقيه المحدث، /أحد رؤساء العلماء، المجمع على نباهته وعلو شأنه، وكان كثير الفائدة نبيه القدر، أخذ الفقه والحديث عن الشيخ الرملى، ولازمه ثلاث سنين، وهو منقطع ببيته، ولازم النور الزيادى، وسالما الشبشيرى، وعليا الحلبى، والسبكى وغيرهم من مشاهير الشيوخ.
وأخذ عنه منصور الطوخى، وإبراهيم البرماوى، وشعبان الفيومى، وغيرهم من أكابر الشيوخ، وكان مهيبا لا يستطيع أحد أن يتكلم بين يديه إلا وهو مطرق رأسه وجلا منه وخوفا، ولا يتردد إلى أحد من الكبراء، ويحب الفقراء، ولا يقبل من أحد صدقة مطلقا، بل كان فى غالب أوقاته يرى متصدقا، وليس له وظائف ولا معاليم، ومع ذلك كان فى أرغد عيش وأطيب نعيم، وكان متقشفا ملازما للطاعات، ولا يترك الدرس، جامعا للعلوم الشرعية، متضلعا من العلوم العقلية.
وأما معرفته بالحساب، والميقات والرمل فأشهر من أن تذكر، وإمامته فى العلوم الحرفية، وتصرفه فى الأوفاق والزايرجا، وغير ذلك من الفنون، فذلك أمر مشهور، وكان فى الطب ماهرا خبيرا، وكان حسن التقرير، ويبالغ فى تفهيم الطلبة، ويكرر لهم تصوير المسائل والناس فى درسه كأن على رءوسهم الطير، وألف مؤلفات كثيرة، عم
نفعها، منها:(حاشية على شرح المنهاج) للجلال المحلى و (حاشية على شرح التحرير) لشيخ الإسلام، و (حاشية على أبى شجاع) لابن قاسم الغزى، و (حاشية على شرح الأزهرية)، و (حاشية على شرح الشيخ خالد على الأجرومية) و (حاشية على شرح إيساغوجى) لشيخ الإسلام، و (رسالة فى معرفة القبلة بغير آلة)، و (كتاب فى الطب جامع)، و (مناسك الحج)، وغير ذلك من الرسائل والتحريرات المفيدة، وكانت وفاته فى أواخر شوال سنة تسع وستين، والقليوبى نسبة إلى القرية المعروفة، بينها وبين القاهرة مقدار فرسخين أو ثلاث. أه.
قلّين
قرية من مديرية الغربية بمركز كفر الشيخ، موضوعة غربى بحر سيف بنحو ألف وثلثمائة متر، وفى شرقى ناحية صروة بنحو ألف وأربعمائة متر، وفى الشمال الشرقى لناحية المرازقة بنحو أربعة آلاف وخمسمائة متر، وبها جامعان أحدهما بمنارة، وضريحان لبعض الصالحين، يعمل لأحدهما مولد كل سنة، وبها منزل مشيد ودوار وجنينة لعمدتها، وبها جنينة ودوار أوسية للدائرة السنية، وبها نخيل بكثرة، وساقيتان، ومعمل فراريج وأنوال لنسج الصوف، ومصابغ للنيلة، وثلاث دكاكين، ولها سوق فى كل أسبوع، وإليها ينسب الشيخ القلينى.
القمّانة
قرية من قسم فرشوط بمديرية قنا، واقعة فى جنوب فرشوط، غربى الباطن المعروف بالرنان، وعلى جسر القمانة بجوار الجبل الغربى، ويقال الجانب الغربى بهجورة، وفيها نخيل وعصارات للقصب، وأهلها يزرعون ذلك الصنف بكثرة فى شرقى ترعة الرنان.
قمولى
- بفتح القاف وميم مضمومة وواو ولام ألف - بلدة بالصعيد الأعلى من بر الغرب، كثيرة البساتين وقصب السكر، وهى فوق قوص، وعلى بعض مرحلة. انتهى من كتاب:(تقويم البلدان).
وهى من قسم قوص بمديرية قنا، واقعة غربى البحر الأعظم بنحو ربع ساعة، وفى جنوب بيبان الملوك بنحو ساعة، وكانت فيما مضى رأس قسم، وبها جامع بمنارة، وكان بها مكتب أهلى على شاطئ البحر من المكاتب التى أنشأها العزيز محمد على بالمديريات سنة تسع وأربعين ومائتين وألف، وأغلب أبنيتها بالآجر، وبها أبراج حمام كثيرة، وجنان ذوات فواكه، ولها سوق كل أسبوع، وبها نخيل وشجر دوم قليل، وفى قبليها أراض غير صالحة للزرع، ينبت بها الحنظل بكثرة، وتأخذ منه الأهالى للبيع وغيره.
وفى: «تذكرة داود» الحنظل: هو الشرى والصابى، وباليونانية:
دوفو فينا، وقد يسمى: أغريسوفس. وحبه يسمى الهبيد، وهو نبت يمتد على الأرض كالبطيخ إلا أنه أصغر ورقا، وأدق أصلا، وهو نوعان:
ذكر يعرف بالخشونة والثقل والصفار وعدم التخلخل فى الحب. وأنثى عكسه، وجملة الذكر والأخضر من الإناث والمفردة فى أصلها ردئ، يفضى استعماله إلى الموت، وهو ينبت بالرمال والبلاد الحارة، وأجوده الخفيف الأبيض المتخلخل المأخوذ من أصل عليه ثمر كثير، المأخوذ أول آب إلى سابع مسرى بعد طلوع سهيل، ولم يخرج شحمة إلا وقت الاستعمال، وما عداه ردئ، وقوة ماعدا شحمه تبقى إلى سنتين، والشحم ما دام فى القشر يبقى إلى أربع سنين، وهو حار فى الرابعة أو الثالثة، يابس فى الثانية، يسهل البلغم بسائر أنواعه، وينفع
من الفالج واللقوة، والصداع والشقيقة، وعرق النسا والمفاصل والنقرس، وأوجاع الظهر والورك شربا وضمادا، وطبيخه يطرد الهوام، ورماده يرد ألوان العين إلى السواد، فإذا نزع حبه، وجعل فى الواحدة ستة وثلاثون درهما من كل من الزيت وعصارة الشبت، وطبخت حتى تنضج، وصفيت وأعيد طبخ الدهن، حتى يتمحض، وأخذ منه ثلاثة دراهم مع ثمن درهم سقمونيا كل أربعة أيام مرة إلى أن ينتهى، أبرأ من الجذام والأخلاط المحترقة، وإن أودعت النار مملوءة زيتا ليلة نفع الزيت من أوجاع الأذن والصمم، وجلا الآثار طلاء، /وفتح السدد سعوطا، ونقى اليرقان، وحسن اللون، وإن ملئت دهن زئبق بعد نزع حبها وطينت بالعجين، وأودعت النار حتى يحترق، وأخذ وخضب به الشعر ثلاثة أيام وشرب على الريق فى الحمام، سود الشعر جيدا، وأبطأ بالشيب، وقبل البلوغ يمنعه (من مجربات الكندى).
وإذا دلكت به القدمان نفع من أوجاع الظهر والوركين وأسهل كيموسا رديئا، وأوقف الجذام، وكذا إن ملئ ماء العسل وأغلى وشرب وورقه مع الأفتيمون والقرفة، يستأصل السوداء، ويبرئ الماليخوليا والصرع والجنون، وأصله يسكن ألم العقرب، وإن نزع ما فيه وطبخ الخل مكانه سكن الأسنان مضمضة، وأصلح اللثة.
واحتماله مع خرء الفار والعسل والنطرون ينقى الأرحام والمقعدة من الأمراض الرديئة، والحبوب المتخذة منه ومن النطرون تسهل الماء الأصفر والكيموس الردئ، وتخلص من الاستسقاء، ورماد قشره يبرئ الأمراض المقعدة ذرورا. وطبيخ أصله يذهب الاستسقاء والرياح والدم الجامد، وداء الفيل. وسائر أجزائه تنفع من البواسير بخورا، والنزلات أكلا وبدء الماء كحلا مع العسل، وتقلع البياض، وهو يضر الرأس، ويفثى ويقيئ، ويسهل الدم ويصلحه الأنيسون والملح الهندى، والكثيراء والنشا والصمغ يضعفه، وشربته إلى نصف درهم مفردا،
وربعه مركبا، ومن ورقه إلى درهمين بشرط أن يجفف فى الظل، ويلقى فى الحقن صحيحا ومسحوقا.
أما مع المعاجين فالمبالغة فى سحقه أولى، وبدله ثلثه حرملا أو مثله حب الخروع. انتهى.
ترجمة نجم الدين القمولى الشافعى
وفى: (حسن المحاضرة) للجلال السيوطى أن من علماء هذه البلده نجم الدين أبا العباس أحمد بن محمد بن أبى الحرم مكى القمولى الشافعى، كان إماما فى الفقه، عارفا بالأصول العربية.
صالحا متواضعا، صنف:(البحر المحيط فى شرح الوسيط) ولخصه كالروضة فى كتاب سماه: (الجواهر) وله: (شرح كافية ابن الحاجب) و (شرح الأسماء الحسنى) ولى حسبة مصر، مات فى رجب سنة سبع وعشرين وسبعمائة.
ترجمة خالد بن محمد بن جلال القمولى
وفى: (الطالع السعيد) أن من علمائها خالد بن محمد بن جلال القمولى، سمع عن الحافظ أبى الفتح القشيرى، واشتغل بالفقه، وكان كريما جوادا، توفى ببلده فى حدود سنة عشر وأربعمائة. رحمه الله تعالى.
ترجمة عبد العزيز القمولى المالكى
ومنهم: عبد العزيز بن يحيى بن أبى بكر القمولى ينعت بالعز، كان فقيها مالكيا، وكان من الصالحين، كثير التعبد والخلوة والانقطاع بالمدرسة النجيبية، وكان متصدرا بها لإقراء مذهب مالك،
ومقيما بها مدة، وكان جالسا بسوق الشهود بقوص، عاقدا للأنكحة، وكان فقيرا مع ذلك، وكان قليل التحمل للشهادة جدا، وكثير الاحتراز فى العقود، يترك كثيرا منها، وكان يقول: كل مسألة فى مذهب الشافعى فيها خلاف مذهب مالك ما أدخل فيها، وكان حسن الأخلاق، وفيه بسطة مع تقشفه، قال له بعضهم لما سلم عليه عند قدومه من الحجاز: العقبى لك، فقال: إن شاء الله تعالى، لكن لا يكون من البر ولا من البحر، توفى بقمولى فى شوال سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة رحمه الله.
ترجمة محمد بن إدريس القمولى الشافعى
ومنهم محمد بن إدريس بن محمد القمولى الشافعى، المنعوت بالنجم، وكان من الفقهاء الصالحين، ما رأيت خيرا منه فى وطنى فى الفقه، حتى كان يكاد يستحضر الروضة، وينقل من:(شرح مسلم للنووى) كثيرا، ويكاد يستحضر:(الوجيز للواحدى) فى التفسير، وتنبه فى العربية، الأصول والفرائض والجبر والمقابلة وكان لا يغتاب أصلا، ولا يغتاب بحضرته، قائما بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، مضبوط اللسان ثقة صدوقا، خير الطباع، محسنا بما تصل إليه قدرته، ملازما للعبادة والاشتغال بالعلوم، فهيما جيد الإدراك، قانعا باليسير، متقللا من الدنيا، وأحسبه لو عاش لملأ الأرض علما، حج وزار وعاد فتوفى فى قوص حادى عشر جمادى الأولى سنة تسعين وسبعمائة، رحمه الله.
ترجمة يعقوب بن يحيى القمولى الشافعى
ومنهم يعقوب بن يحيى بن يعقوب بن يوسف بن يعقوب بن أحمد بن محمد بن سعيد بن عبد الله بن الوليد بن عمار بن المغيرة المخزومى القمولى، ابن أبى يوسف الفقيه الشافعى الأديب، روى عنه
شيئا من شعره الحافظان ابن محمد عبد العظيم المنذرى، وأبو الحسن يحيى بن العطار، ومن شعره قوله من قصيدة:
طريق العلا إلا عليك حرام
…
وكل مديح غير مدحك ذام
وكل سرىّ للمكارم مبسم
…
وأنت لها دون الأنام سنام
إلى آخرها، ومنه قصيدة أيضا:
فاضرب عن العذل والعذال مختصرا
…
صفحا فليس شج فى الناس مثل خل
واخلع عذارك فيما أنت طالبه
…
ولتنأ عن كل ما يفضى إلى الجدل
إلى آخرها، مولده بقمولى سنة خمس وستين وخمسمائة كذا وجد بخطه أه، لم يذكر تاريخ موته.
قنا
مدينة/كبيرة بالصعيد الأعلى، واقعة شرقى النيل، على شاطئ ترعة خارجة منه فى شمال مدينة قوص بنحو بريد، وهى رأس مديرية تنسب إليها، ولم نعثر على ما كانت عليه فى الأزمان السالفة بعد البحث الكثير فى كتب التواريخ، وإنما رأيت فى كتاب لبعض السياحين أنها كانت تسمى فى زمن الرومانيين نيابوليس، ولا بد أنها كانت ذات أهمية بسبب وقوعها على النيل، وفى طريق مينا القصير وبيرنيس.
وفى رحلة ابن جبير التى كانت فى آخر القرن السادس أن من مدن الصعيد الشهيرة مدينة قنا، وهى بيضاء أنيقة المنظر ذات مبان مشيدة، ومن مآثرها المأثورة صون نسائها والتزامهن البيوت، فلا
تظهر فى زقاق من أزقتها امرأة البتة، صحت بذلك الأخبار عنهن.
وبينها وبين قوص نحو بريد. انتهى.
والآن بها فوريقة بنيت فى زمن العزيز محمد على لنسيج الأقمشة، ثم ترك ذلك، وجعلت محل ديوان المديرية، وقد بنى بها المرحوم فاضل باشا وقت أن كان مدير عموم هناك قصرين مشيدين، أحدهما به محل جلوس المدير ووكيل المديرية وناظر قلم الدعاوى والمحكمة الشرعية، ومجلس الزراعة، والآخر به المجلس المحلى، وبجوار هذين القصرين بستان نضر.
وأبنية المدينة من الآجر فى الغالب واللبن، وأكثرها على دورين، وفيها قشلاق كبير للعساكر، وبجواره إسبتالية للمرضى، وفيها قصور مشيدة لأرباب الثروة والأكابر كالأشراف وغيرهم، وسوق بحوانيت عامرة بأنواع المتاجر الثمينة، كالمقصب والشاهى والجوخ، والأعبية الحجازى وأنواع الملابس، والبن والصابون والنحاس والصينى، وكل ما يوجد فى الأمصار الكبيرة، يجلب إليها من مصر والهند والحجاز والسودان وغيرها.
وأكثر أهلها أرباب حرف، ولكل طائفة شيخ كما فى القاهرة، وهى الآن آخذة فى زيادة التنظيم، وتعديل الشوارع والحارات كمصر والإسكندرية، وبها نحو اثنى عشر وكالة معدة للمتاجر ونزول الأغراب، وبها حمام، وتسعة عشر معصرة لاستخراج الزيت من القرطم والسلجم وغيرهما.
وبها نحو خمسة مساجد جامعة غير الزوايا، أحدهما: الجامع العتيق، كان المرحوم الشيخ على عبد الرازق أحد العلماء الأعلام وقاضى المديرية يدرس به التفسير والحديث وغيرهما، وقد توفى إلى
رحمة الله تعالى سنة 1289 وله جملة أوقاف يصرف عليه منها، وكان قد تخرب وآل إلى السقوط فجدده المرحوم فاضل باشا. والجامع الجديد وجامع الحلوى وجامع سيدى عمر وجامع أبى سلمة، وفيها تكية للفقراء والمساكين تنسب إلى الشيخ السمان صاحب الطريقة المشهورة، وقد رتب لها العزيز محمد على كل سنة ألفا وثمانمائة قرش.
وفيها أوروباويون تجار، ووكيل قنصلاتو الدولة الفرنساوية، وأقباط بكثرة، ولهم فيها كنيسة، وفيها كنيسة أخرى للفرنج، كلاهما فى جانبها الشرقى، ومن أقباطها صاغة لهم سوق يقال له سوق الصاغة، وعلى شمال المديرية عمارة عظيمة أنشأها أيضا المرحوم فاضل باشا، وبنى فيها ثمانية دور، ووقفها على فقراء الحجاج، وقد كان أغلب حجاج القطر يمرون من هناك إلى القصر، وفى عودهم ينزلون عليها، فكانوا يقيمون الأيام لقضاء أوطارهم، فيجدون بها جميع ما يحتاجونه لأنفسهم، وما يستصحبونه لمنازلهم، فكانت البضائع تروج فى تلك الأيام، وتحصل حركة عظيمة للأسواق وغيرهما، حتى للجمالين وأرباب الحرف والكتبة.
ولها على شاطئ النيل مينا عظيمة مشحونة بالمراكب الشراعية والتجارية سيما فى وقت موسم الحج طلوعا ونزولا، وفى وقت الفيضان تدخل المراكب والوابورات فى الترعة الواصلة إليها، فترسو بلصق المدينة من كل جهة، ثم إنه يجلب إليها من بلاد الأرياف على نحو ست ساعات جميع بضائع القرى، نحو الفواكه والخضر والسمن واللبن والجبن والحطب وغيرها، فترى لها ثلاثة أسواق عامرة على الدوام. أحدها: القصبة ذات الحوانيت، والثانى: يشمل على نحو اللحم والخضر والزيوت، والثالث: يشتمل على أصناف الحبوب.
والآن أكثر الحجاج يسافرون فى سكة الحديد على طريق السويس، ومع ذلك لم تنقص حركتها، ولم يقل خيرها لكثرة الناس والخيرات بكل جهة فى عهد الخديوى إسماعيل باشا، وفيها تجار يديمون السفر إلى أرض الحجاز بأنواع الحبوب، ويأتون ببضائع الحجاز واليمن ونحوهما، مثل البن والفلفل والسجادات، فيربحون ربحا عظيما، وعدة أهلها الآن غير الأغراب نحو عشرة آلاف نفس.
وبها جملة من الأضرحة والمقامات المشهورة، مثل ضريح سيدى أبى عبد الله القرشى، وسيدى أبى الحسن الصباغ، وأكبرها وأشهرها ضريح سيدى عبد الرحيم القنائى رضى الله عن الجميع، وجميعهم فى جبانتها فى شمالها الشرقى.
وفى شمال الجبانة الشرقى صحراء متسعة لا يصل إليها ماء النيل، مكسوة بالرمل، ولو وصل إليها لأخصبت، فإنه قد غرس فيها وكيل القنصلاتو بشارة عبيد بستانا، فنما نموا عظيما، وفى شرقى المدينة وجنوبها الشرقى جنان من نخيل وأعناب وغيرهما، كالرمان الطائفى والخوخ والتين، وبالجملة فهى مدينة من مدن مصر الشهيرة الكثيرة/التجار والأشراف والعلماء قديما وحديثا.
ترجمة الشيخ إبراهيم بن عرفات بن أبى المنى
وقد ذكر فى: «الطالع السعيد» من علمائها جما غفيرا، منهم الشيخ إبراهيم بن عرفات القاضى الرضى ابن أبى المنى، كان من الفقهاء الحكام الأجواد المتصدقين، قيل إنه كان يتصدق كل سنة فى يوم عاشوراء بألف دينار، وحكى الفقيه محمد المليح أنه سمع امرأة تقول: جئت إليه يوما فأعطانى، ثم جئت إليه فى رداء فأعطانى،
وتكررت فى أردية مختلفة، وهو يعطينى حتى حصل لى من جهته ستمائة درهم فضة، فاشتريت بها مسكنا، ويقال إنه ملأ مركبا كبيرا يسع ألفى أردب سكرا، وأرسل به غلمانه لبيعه، فغرق منهم فجاءوا ليلا إلى قنا، وطرقوا باب الشيخ أبى يحيى، وسألوه أن يشفع لهم عند سيدهم، فمشى إليه، فلما علم به سجد لله لكون الشيخ أتى منزله، فلم أخبره الشيخ قال: هم أحرار، وهذه ألف دينار صدقة للفقراء، شكرا لمجئ سيدى إلى منزلى. قد تولى الحكم بقنا من طرف قاضى القضاة بمصر، وتوفى ببلده يوم السبت الثانى والعشرين من شوال سنة أربع وأربعين وستمائة، ودفن بجانب سيدى عبد الرحيم.
ترجمة الشيخ أحمد بن إبراهيم بن الحسن بن سيدى عبد الرحيم القنائى
ومنهم الشيخ أحمد بن إبراهيم بن الحسن بن سيدى عبد الرحيم القنائى الشريف المشهور، كان من أهل الصلاح والعلم، تفقه على مذهب الإمام الشافعى، واشتغل بالنحو وبقية العلوم، حتى صار إماما تنتفع لناس بعلومه، وكان ذكى الفطنة، يحفظ الكثير فى الزمن اليسير، حتى حكى جمال الدين القنائى أنه كان يحفظ أربعمائة سطر فى كل يوم. وكان أولا يرعى الغنم حتى بلغ سنه سبعا وعشرين سنة، ثم اشتغل بالعلم وله نظم، توفى بقنا سنة ثمانمائة وثمان وعشرين أو ما يقاربها.
ترجمة الشيخ إسماعيل القنائى
ومنهم الشيخ إسماعيل بن إبراهيم بن جعفر المنفلوطى ثم القنائى المالكى، كان من أهل العلم والصلاح، وله مصنفات ورسائل صوفية ورسائل فى الأحاديث والاستدلال ومقالات، توفى بقنا فى شهر صفر سنة ثلاث وخمسين وستمائة ودفن بالجبانة.
ترجمة الشيخ جعفر بن محمد بن عبد الرحيم القنائى
ومنهم جعفر بن محمد بن عبد الرحيم الشريف القنائى، شيخ الدهر وتحفة العصر، فقيه شافعى، أصولى أديب، ناظم ناثر، كريم كبير المروءة، كثير الفتوّة، حسن الشكل مليح الخط، رحل إلى دمشق واشتغل بها، ثم أقام بمصر للاشتغال، ثم تولى الحكم بالأعمال القوصية، ثم تولى وكالة بيت المال بالقاهرة، ومع ذلك كان يدرس بالمشهد الحسينى، وكان يقال إنه يصلح للخلافة لكماله فضلا ونبلا، ولد بقنا فى آخر سنة تسع عشر وستمائة. وتوفى بمصر ثانى عشر جمادى الأولى سنة ست وتسعين وستمائة.
ترجمة الحسن ابن سيدى عبد الرحيم القنائى
ومنها: الحسن بن عبد الرحيم بن أحمد بن حجون السيد الشريف أبو محمد، كان من فقهاء المالكية، وكان نحويا أصوليا ناظما ناثرا، ومن كلامه يخاطب بعض تلامذة والده:
طهرتم فطهرنا بفاضل طهركم
…
وطبتم فمن أنفاس طيبكمو طبنا
ورثنا من الآباء حسن ولائكم
…
ونحن إذا متنا نورثه الابنا
وسمع بعضهم منه بجامع البهنسا هذه الأبيات:
ولما رأيت الدهر قطب وجهه
…
وقد كان طلقا قلت للنفس شمرى
لعلى أرى دارا أقيم بربعها
…
على خفض عيش لا أرى وجه منكر
وما القصد إلا حفظ دين وخاطر
…
تكنفه التشويش من كل مجترى
وله أيضا:
عرضنا أنفسا عزت علينا
…
عليكم فاستحق لها الهوان
ولو أنا رفعناها لعزت
…
ولكن كل معروض يهان
توفى بقنا سنة خمس وخمسين وستمائة، وكان مولده بها سنة ثمان أو سبع وسبعين وخمسمائة.
ومنها: الحسين بن رضوان بن هبة الله بن صالح، ينعت فخر الدين، كان حاكما بقنا من جهة قاضى قضاة بمصر، وكان مالكى المذهب عالما ورعا.
ترجمة العارف بالله تعالى سيدى عبد الرحيم القنائى
ثم إن أجل من ينسب إليها فلذا ذكر وسطا، وخير الأمور أوسطها، سيدى عبد الرحيم القنائى بن أحمد بن حجون بن محمد بن حمزة بن جعفر الصادق، النزغى المولد السبتى، ونزغا من عمل سبته، وقيل إنه عمارى، ذكره الحافظ الرشيد بن المنذرى، وقال: قال ابنه الحسن من مسراه، وهو شيخ مشايخ المسلمين، وإمام العارفين، رحل من المغرب، وأقام بمكة سبع سنين على ما حكاه بعضهم، ثم قدم قنا وأقام بها وتزوج، وولد له أولاد.
وكانت إقامته بالصعيد رحمة لأهله، اغترفوا من بحر علمه وفضله، وتمتعوا ببركاته، وأشرقت أنوار قلوبهم لما دخلوا فى خلواته، اتفق أهل زمانه على أنه القطب المشار إليه، والمعول فى الطريق عليه، ولم يختلف فيه اثنان، ولا جرى فيه قولان، ولو لم يكن من أصحابه إلا الشيخ الإمام أبو الحسن على بن حميد بن الصباغ
لكفاه عن سائر الأمم، ولأن يهدى بك الله رجلا واحدا خير لك من حمر النعم، فإن/سر الشيخ رحمه الله ظهر فيه حتى نطق بما فيه، وأبدى من سره ما كان يخفيه، وكرامات سيدى عبد الرحيم مستغنية عن التعريف، تكثر أن يسعها تأليف، أو يقوم بها تصنيف، وقد ذكر الناس فيها ما يشفى الغليل، فاكتفيت منها بالقليل:
وليس يصح فى الأذهان شئ
…
إذا احتاج النهار إلى دليل
وقال الحافظ أبو محمد عبد العظيم المنذرى: كان سيدى عبد الرحيم أحد الزهاد المذكورين والعباد المشهورين، ظهرت بركاته على أصحابه، وتخرجوا بصالح أنفاسه، وله مقالات فى التوحيد، وكلمات لا تستفاد من كلمات الأعراب، وأحوال هى نهاية الإغراب، إلى أن توفى بقنا رضي الله عنه وضريحه بها مشهور، ويعمل له مولد كل سنة، يرسم من أول شعبان إلى نصفه، وله تصانيف فى التوحيد ورسائل فى علوم القوم.
وأهل بلده متفقون على إجابة الدعاء عند قبره يوم الأربعاء، يمشى الإنسان حافيا مكشوف الرأس وقت الظهر، ويدعو بالدعاء الآتى ذكره، ويقولون إنه ما حصلت لإنسان مضايقة وفعل ذلك إلا فرّج الله همه، وهم يروونه عن الشيخ أبى عبد الله القرشى، ويقولون: قال القرشى من فعل ذلك ودعا ولم تقض حاجته فليسب القرشى، قال: يصلى ركعتين ويقرأ شيئا من القرآن، ويقول:
اللهم إنى أتوسل إليك بجاه نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، وبأبينا آدم وأمنا حواء، وما بينهما من الأنبياء والمرسلين، وبعبدك عبد الرحيم، اقض حاجتى، ويذكر حاجته. حكى الشيخ محمد بن
حسن القزوينى المحتد أنه كان بقوص وال يقال له: الزرد كاش، قال:
فحمل على ابنى فضربه، فأخبرت بذلك أمه بنت أخى الشيخ عبد الله الأسوانى، وذكرت لها هذا الدعاء، فتوجهت إلى قنا وفعلت ذلك، فلم يقم الوالى إلا أياما يسيره وتوفى.
وكان فى بعض فقهاء الحكام حمى الربع، فتوجه إلى قنا وطلع إلى الجبانة، وفعل ما ذكر فأقلعت عنه الحمى، ومما قلته فيه:
ألا إن أرباب المعارف سادة
…
سرائرهم لله فى طيها نشر
القوم حازوا ما يعز وجوده
…
وجازوا بحارا دونها وقف الفكر
أطاعوا إله العرش سرا وجهرة
…
وقربهم حتى غدا لهم الأمر
فهم فى الثرى غيث الورى معدن القرى
…
وهم فى سماء المجد أنجمها الزهر
فطف بحماهم واسع بين خيامهم
…
ولا تستمع ما قال زيد ولا عمرو
إذا طفت بين الحى تحيا وتشتفى
…
بأسياف عزم دونها البيض والسمر
ومن يعترض يوما عليهم فإنه
…
يعود ومن نيل المنى كفه صفر
وله كرامات كثيرة، وكان مالكى المذهب رضي الله عنه، توفى فى شهر صفر سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة يوم الجمعة بعد صلاة العصر تاسع الشهر، ذكر ذلك زوج بنت بنته الشيخ علم الدين المنفلوطى، وقيل فى أحد الربيعين، وقبره بجبانة قنا لا يكاد يخلو من زائر، يقصده العباد من أقصى البلاد، ويأتى إليه الخلائق من كل فج وواد، ويزدحم الناس فى الدفن عنده، ليستمنحوا رفده، حتى إن القاضى الرضى أعطى جملة على ذلك قيل ألف دينار. انتهى باختصار من:(الطالع السعيد).
وفى: (الطبقات الشعرانى) أن سيدى عبد الرحيم المغربى القنائى رضي الله عنه، ممن جمع الله له بين الشريعة والحقيقة، وآتاه مفتاحا من علم السر المصون وكنزا من معرفة الكتاب والحكمة، قال: ومن كلامه رضي الله عنه أدركت فهم جميع صفات الله تعالى إلا صفة السمع، وكان يقول: الرضا سكون القلب تحت مجارى الأقدار، ينفى التفرقة حالا، وعلم التوحيد جمعا، فيشهد القدرة بالقادر والأمر بالآمر، وذلك يلزمه فى كل حال من الأحوال، وله كلام كثير كله حكم «راجع:(الطبقات) تقف على بعضه».
ويعمل له المولد كل سنة من أول شعبان إلى نصفه، وتهرع إليه الناس من كل فج، مثل مولد سيدى أحمد البدوى، وتربح فيه التجار، وتتسابق فيها الهوارة بجياد الخيل ونجائب الإبل، وأجودهم خيلا وفروسية خيالة يأتون من شرقى أبى مناع - بلدة فى الشمال الشرقى من قنا على بعد ثلاث ساعات - ولهذا المولد مرتب يصرف من خزينة ديوان المديرية، غير ما يصرف فيه من أوقافه.
ترجمة الشيخ على بن محمد القنائى
وفى: (الطالع السعيد) أيضا أن منها: على بن محمد بن جعفر بن محمد بن عبد الرحيم الشريف فتح الدين ابن الشيخ تقى الدين ابن الشيخ ضياء الدين القنائى، كان من الفقهاء/الفضلاء الأدباء الشعراء، جمع وألف وكتب وصنف، واختصر (الروضة) ودرس بالمدرسة الغربية بإسنا مدة، وله يد فى حل الألغاز، وله فيها نظم كثير، منها لغز فى الكمون:
يا أيها العطار أعرب لنا
…
عن اسم شئ عز فى سومك
تبصره بالعين فى يقظة
…
كما يرى بالقلب نومك
توفى بمدينة قوص فى شهر رمضان سنة ثمان وسبعمائة.
ترجمة الشيخ محمد كمال الدين القنائى
ومنها: محمد بن أحمد المنعوت كمال الدين بن ضياء الدين بن القرطبى، نشأ بقنا فتوفى بها سنة ثلاث وتسعين وستمائة، وكان فاضلا فى العلوم كلها، وألف تاريخا فى مجلدات، وكانت له رياسة ووجاهة، حكى الشيخ أثير الدين أبو حيان، قال: وردت قنا وسمعت عليه من أول مسلم، ومدحته بقصيدة منها:
وبيننا نسبة ترعى وإن بعدت
…
لكوننا ننتمى فيها لأندلس
ترجمة الشيخ محمد بن عرفات القاضى
ومنها: محمد بن أحمد بن إبراهيم بن عرفات القاضى شرف الدين، كان أديبا فاضلا، وتولى الحكم والخطابة بقنا، وله خطب ونظم حسن، ومن نظمه:
إذا عرج الحادى بطيبة أو غنى
…
أحن إلى الوادى وأصبو إلى المغنى
أهيم فما أدرى أسجع حمائم
…
أم الغيد بالألحان يشققن لى أذنا
على نائبات الدهر أرجو محمدا
…
يسارى من اليسرى ويمناى فى اليمنى
مناى من الدنيا زيارة أحمد
…
وقصدى فى الأخرى شفاعته الحسنى
وكان سريع الكتابة، حتى قيل إنه كتب بمدة واحدة ثلثمائة سطر أو ما يقاربها، وكان شافعى المذهب، حسن الصورة والشكل، توفى ببلده ليلة الاثنين سابع عشر جمادى الأولى سنة اثنتين وتسعين وستمائة وقد بلغ تسعا وثلاثين سنة.
ترجمة الإمام محمد بن جعفر بن محمد ابن سيدى عبد الرحيم القنائى
ومنها محمد بن جعفر بن محمد ابن سيدى عبد الرحيم القنائى، المنعوت تقى الدين بن ضياء الدين، كان فقيها شاعرا كريما، درس بالمدرسة المسرورية، وتولى مشيخة خانقاه أرسلان الدوادار، وانقطع بها، وله نظم من كلامه عندما حصلت زلزلة فى بعض السنين:
مجاز حقيقتها فاعبروا
…
ولا تعمروا هوّنوها تهن
وما حسن بيت له زخرف
…
تراه إذا زلزلت لم يكن
وتوفى بالقاهرة ليلة الاثنين رابع عشر جمادى الأولى سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة.
ترجمة محمد بن الحسن من ولد سيدى عبد الرحيم القنائى
ومنها: محمد بن الحسن بن عبد الرحيم بن أحمد ابن سيدى عبد الرحيم القنائى، جمع بين العلم والعبادة، والورع الزهادة، وحسن ألفاظه تفعل بالعقول ما لا يفعله العقار مع سكوت ووقار، وكان مالكى المذهب، ويدرس مذهب الشافعى، وكان نحويا فرضيا حاسبا محمود الخلائق، انتفع بعلومه وبركته طوائف من الخلائق، توفى ليلة الاثنين لعشرين من ربيع الآخر سنة ثلاث وتسعين وستمائة بقنا أه من (الطالع السعيد).
ترجمة عبد الجواد بن شعيب القنائى
وذكر المحبى فى: (خلاصة الأثر) أن العالم الفاضل عبد الجواد بن شعيب بن أحمد بن عباد بن شعيب الأنصارى الشافعى، أصله من مدينة قنا ونشأ بغيرها، وأتى مصر وصار من علمائها وأدبائها، وكان صوفى المشرب، إذا حدث أعجب وأبدع وأغرب، وكان كثير الحفظ للأشعار ونوادر الأخبار، ذا نظر فى العلم دقيق، وزيادة حذق وتحقيق، وتقوى ظاهرة ومظاهر باهرة، أخذ عن النور الزيادى ومن فى طبقته، وعنه أخذ جماعة.
وله مؤلفات كثيرة منها: رسالة بديعة في الاستعارات سماها:
(القهوة المدارة فى تقسيم الاستعارة) و (نظم الورقات)، و (النسيم العاطر فى تقسيم الخاطر)، و (العظة الوفية فى يقظة الصوفية)، و (كشف الريب عن ماء الغيب).
شرح الأبيات الثلاثة وهى:
توضأ بماء الغيب إن كنت ذا سر
…
وإلا تيمم بالصعيد وبالصخر
وقد إماما كنت أنت إمامه
…
وصل صلاة العصر فى أول الفجر
فهذى صلاة العارفين بربهم
…
فإن كنت منهم فامزج البر بالبحر
ومن شعره قوله فى ضابط همز الوصل وهمز القطع:
زد همزة الوصل لماض كاغتدى
…
والأمر والمصدر منه وإذا
أمرت من نحو اخش واغز وارم
…
وفى ابنم وابن وفى است واسم
/واثنين واثنتين وايم وامرئ
…
وامرأة وهمز أل كالنبا
وهمز إكرام ونحوه اقطع
…
وفعل ذى تكلم كادّعى
وصفة قد شبهت وفى ندا
…
جلالة حرر وكن معتمدا
عبد الجواد بن شعيب فأدع له
…
كى يلهم الجواب عند المسأله
وله ضابط ما يجوز فيه عود الضمير على المتأخر لفظا ورتبة، وهو قوله:
فى ستة أخر ضميرا لفظا
…
ورتبة واحرص عليها حفظا
الأمر والشأن ورب والبدل
…
نعم وبئس مع تنازع العمل
وله ضابط ما يعلق به العامل عن العمل، وهو قوله:
يعلق فعل القلب ما ثم لا وإن
…
لنفى ولام الابتداء مع القسم
كذلك الاستفهام بالحرف دائما
…
أو الاسم فاعرف أيها المفرد العلم
ومن غزلياته قوله:
ما اصطفى قلبى إلا مصطفى
…
هو حسبى من حبيب وكفى
أسعد الله تعالى طالعا
…
حل فيه وأراه الشرفا
ما عليه لو سقانى ريقه
…
إنه الشهد وفى الشهد شفا
إن وفى الدهر به فى ليلة
…
فهو عندى دائما أهل الوفا
قدم مكة حاجا، وجاور بها سنة ثلاث وستين وألف، وأخذ عنه بها كثير من فضلائها، ورجع إلى بلده واستمر بها إلى أن توفى، وكانت وفاته فى سنة ثلاث وسبعين وألف، رحمه الله تعالى. انتهى.
ثم إن عند مدينة قنا أيضا قطعة أرض تقرب من فدان، تؤخذ منها الطينة الطفلية، التى تصنع منها أوانى الفخار المشهورة فى جميع القطر، من القلل والأباريق والخوابى وغير ذلك، وفيها فواخير لذلك، وصناع بكثرة مع جودة الصنعة وحسن إتقانها، ومع دوام الأخذ من طينة ذلك الفدان، لا تنفد طينته ولا تنقض، بل كل سنة بعد أن يعمه
الماء ينزل عنه، وقد استوت أرضه كما كانت، وذلك أنه مجاور لترعة مصرف قنا، ففى بعض السنين تنزل سيول من الجبل، مختلطة بطينة طفلية، فتتكوّن فى الفدان المذكور، فيتم ما نقص منه، وهكذا كل سنة.
ويخرج من هذه المدينة طريق إلى القصير، تمر أولا بين الجبل وبلاد الساحل إلى جهة الجنوب، حتى تصل إلى بئر عنبر شرقى قفط، ثم تستقيم إلى جهة الشرق حتى تصل القصير فى مسافة أربعة أيام، وفى ذلك الطريق آبار ومحطات، قد ذكرناها عند الكلام على مدينة قفط.
وفى الجبرتى فى حوادث سنة ألف ومائتين وست وعشرين، أنه وقع فى شهر صفر بين الأمراء المصريين وبين أحمد أغا لاظ بقرب مدينة قنا وقعة قتل فيها عدة من عساكره، وكانت هذه الوقعة بعد وقعة دلجة، وكانت الوقائع معهم لا تنقطع، ويكرّون ويفرون إلى أن كانت وقعة القلعة فأبادتهم، ومن بقى منهم انضم إلى إبراهيم بيك الكبير، وطلعوا إلى ناحية إبريم، وتبعتهم العساكر، وضيقوا عليهم الطرق، وماتت خيلهم وإبلهم، وتفرقت عنهم خدمهم، واضمحل حالهم، وحضر عدة من مماليكهم وأجنادهم إلى ناحية أسوان بأمان من الأتراك، فقبضوا عليهم، وقتلوهم عن آخرهم. انتهى.
القنيات
بلدة من بلاد الشرقية فى غربى مدينة الزقازيق بنحو ستة آلاف وأربعمائة متر، وغربى بحر مويس، وهى رأس مركز، بها ديوان بمركز وضبطية، وقاضى شرعى وحكيم ومهندس، ومجلس دعاوى وآخر للمشيخة، وفيها نخيل بكثرة ومساجد ومكاتب وأضرحة لبعض الأولياء، وبها تجار فى القطن وغيره، وأرباب حرف كنسج القطن
والصوف، ولها سوق عمومى كل يوم أحد تباع فيه المواشى وخلافها، وعدد أهلها نحو خمسة آلاف نفس، وقدر أطيانها أربعة آلاف وخمسمائة فدان، والطريق التى بينها وبين الزقازيق على بر الترعة الإسماعيلية الجنوبى.
ترجمة الدكتور سالم باشا سالم
وقد نشأ من هذه القرية الحكيم الماهر الحاذق حضرة سالم باشا سالم، وقد سألته عن ترجمته، فكتب لى ما نصه: «إن أصل والدى رحمه الله من عائلة من الشرقية، ببلدة تسمى بالقنيات، قريبا من الزقازيق بنحو ساعة، وحضر إلى المحروسة سنة ست وثلاثين تقريبا لطلب العلم بالأزهر، وتلقى عن جملة مشايخ منهم: الشيخ حسن القويسنى، والشيخ إبراهيم البيجورى، والشيخ حسن العطار، ومن ماثلهم من العلماء الفخام، وتشرف بالخدمات الميرية بوظيفة واعظ بالألايات المصرية المتوجهة نحو الشام سنة 48 ثمان وأربعين، ففى غيبته هذه ولدت وسميت باسمه.
وبعد/عوده إلى الديار المصرية اجتهد فى تعليمى وتربيتى بالمكاتب الأهلية، وسنى نحو ست سنين، فتعلمت القرآن على الشيخ محمد بسمة أولا، ثم جودت القرآن على الشيخ فتوح البجيرمى أحد المدرسين بالأزهر، ثم دخلت المدارس، وكان دخولى بها على رغبة منى وعلى غير رغبة من والدى، لأنه كان جل قصده تعلمى بالأزهر، مع أنه كان موظفا فى المدراس، وسبب رغبتى فيها أنه كان عندنا ضيف مريض، فأحضر له والدى المرحوم الدكتور إبراهيم بيك النبراوى الشهير، فأجرى له عملية الحصاة فبرئ منها، فرغبت من حينئذ فى تعلم تلك الصناعة، فلحقت بالمدارس.
فمن سنة 58 ثمان وخمسين إلى سنة ستين فى مدرسة الألسن بالأزبكية تحت رياسة المرحوم رفاعة بيك، وفى آخر تلك السنة ألحقت بمدرسة الطب البشرى، وكان مدير المدارس إذ ذاك المرحوم أدهم باشا، وناظر مدرس الطب البشرى المعلم بيرون الفرنساوى، ولم أزل بها مواظبا على دراستى إلى نحو سنة 65 خمس وستين، وحصلت فى تلك المدة العلوم التى تعطى هناك من الفرقة الخامسة إلى الأولى، وكان والدى إذ ذاك مصححا لكتب الطب بتلك المدرسة.
ومن أساتذتى فى فن العربية العلامة الشيخ أحمد عبد الرحيم أبو السعود الطهطاوى وغيره، وكنت مع ذلك أحضر درسا بالأزهر بعد المغرب فى فقه الشافعى على الشيخ على المخللاتى، وحين ما تولى المرحوم إبراهيم باشا فى أواخر سنة 64 أربع وستين، انتخبت بواسطة المرحوم أدهم باشا، وكلوت بيك رئيس الطب بالديار المصرية إذ ذاك للتوجه إلى فرنسا لأجل اكتساب العلوم الطبية بها، كى أكون فيما بعد طبقا للأمر إذ ذاك خوجة من خوجات دار الفنون، التى كان عازفا على إنشائها وبنائها بحوش الشرقاوى، وتدريس جميع الفنون العالية فيها، إلا أن هذا الأمر لم يتم لانتقاله إلى دار البقاء.
وفى أوائل سنة 65 خمس وستين لما تولى المرحوم عباس باشا، وأمر بإلغاء جميع المدارس، وانتخاب مدرسة واحدة سماها بالأورطة المفروزة وجعلها ابتداء بالخانقاة وهى عسكرية، جعلت تلميذا عسكريا لتحصيل الفنون العسكرية بها، فتراءى لى أن جميع ما حصلته من الفنون الطبية بغاية الاجتهاد وسهر الليالى كاد يكون هباء منثورا، فصرت من أجل ذلك متلهف الفؤاد، باكى الطرف ليلا ونهارا،
حيث لم يبق علىّ من التعليم إلا ثلاثة أشهر، وأتعين بوظيفة الحكيم برتبة الملازم الثانى، فتماديت على ذلك نحو ثلاثة أيام، وبينما أنا بهذه المثابة إذ صدر منه أمر بتعيين تلامذة إرسالية من باقى تلامذة مدرسة الطب إلى ألمانيا، وصدور الأمر كان للطبيب الماهر برنير بك، فحين حضر للانتخاب بتلك المدرسة ولم يجد من يليق بتلك المأمورية، وكان مطبوعا فى صحيفة مخيلته اسمى وصورتى، لكثرة ما شاهدنى فى الامتحانات العمومية، فسأل عنى ناظر تلك المدرسة ورئيسها، وكان إذ ذاك معلمى المرحوم محمد بيك الشافعى، فأطنب فى مدحى هو ومن كان حاضرا فى مجلس الانتخاب، وهو المرحوم إبراهيم بيك رأفت وكيل ديوان المدارس، فما كان من ذاك الطبيب المأمور بالانتخاب إلا أن صمم على الحصول على أمر مخصوص بخروجى من المفروزة، وتوجهى إلى ألمانيا، وإن بلغت صعوبة خروجى من الأورطة المفروزة ما بلغت، لأن المرحوم عباس باشا لم يسمح بإخراج أحد منها، فأسعفتنى الألطاف الإلهية بصدور أمر بحضورى إلى مصر، ومعى بعض تلامذة من المدارس المختلفة، ومن مدرسة الطب أيضا للانتخاب منهم، وقد كان، فحضرنا إلى ديوان المدارس بالأزبكية، وناظره إذ ذاك المرحوم كامل باشا، وحضر برنير بيك فكنت أول من صمم على إرساله بدون امتحان، وامتحن غيرى فكان الجميع تسعة أشخاص.
فتوجهنا فى السنة المذكورة إلى بلاد ألمانيا مجتازين من طريق الإسكندرية إلى تريسته بحرا، ومنها إلى ليباخ برا بعربات البوسطة حيث لم يكن إذا ذاك سكة حديد، ومنها إلى منيخ قاعدة بلاد البؤاريا على سكة الحديد، فما كان أعجب لمنظرنا من تلك السياحة، حيث لم
يطرق أذهاننا شئ يقال له سكة حديد، فعندما وصلنا إلى تلك البلدة الشهيرة صرنا فى نظارة أحد المشرعين المعتبرين بتلك البلدة، واسمه:(البارون دوبريل) فأحسن تربيتنا واشتغل بها مع كمال النصيحة والاعتناء بحيث حصلت أنا ومن معى تحت نظارته، ابتداء على اللغة النمساوية، ولم يأل جهدا فى تحصيل العلوم الطبية مع باقى اللغات الضرورية، كاللغة الفرنساوية والإنكليزية، وما لزم من اللغة اليونانية واللاتينية، مع تمريننا على اكتساب عوائد الأوروباوية، بإدخالنا الجمعيات الحافلة، وزيارة العائلات الشهيرة والسياحات المتعددة فى جهات جبال ذاك القطر وغيرها، واطلاعنا على آثار تلك البلدة النفيسة التى أستحقت أن تسمى بأتينه المستجدة، لما فيها من المنشآت العظيمة العتيقة والمستجدة.
وبعد أن أتممت دراستى فى هذه البلدة، حصلت بامتحان عام على رءوس الأشهاد/على رتبة الدكتورية، وكان إذ ذاك حاضرا ما ينيف على عشرين معلما لابسين هيئة الملابس الطبية الرسمية القديمة، أعنى التاج والفرجيات الواسعة الأكمام جدا، وإرخاء الشعور المستطيلة، وبعضهم متقلد بالنياشين، وأنا متقلد بالسيف الصغير حكم عادتهم القديمة مع كل متقلد برتبة الدكتورية، وكان ممن حضر هذا الامتحان بعض المعلمين المشهورين فى كل البلاد لا بخصوص مملكة الببؤويرا، كالمعلم ليبج الكيماوى، وسييلد المشرح، وروت موندا الجراح، وفيفر الطبيب، وكان هذا هو المحامى لى فى حومة هذا المحفل العظيم، وقد أجاد فى مقالة عظيمة راجعها فى خطبة كتابنا:(وسائل الابتهاج فى الطب الباطنى والعلاج)، ترجمة كتاب الشهير نيمير.
وبعد ذلك توجهت فى سنة 70 إلى وبينة طبقا لأمر المرحوم عباس باشا، لأجل الحصول على المعلومات الطبية العملية، وقد اقتدينا بمشاهير عديدة، منهم: المعلم شوه معلم الجراحة، وتلسر واسكودا معلما الطب، والمعلم روكتنسكى معلم التشريح المرضى، والمعلم بيجر وروزاس معلما فن الرمد، والمعلم سجموند معلم الداء الزهرى، والشهير هبرا معلم أمراض الجلد.
وفى هذه السنة توفى المرحوم عباس باشا، وقد تمادينا على تعليمنا العملى بأمر مخصوص من المرحوم سعيد باشا، وفى آخر هذه السنة توجهنا إلى برلين تخت بلاد البروسيا بقصد الاطلاع على أعمال مشاهير الأطباء فى هذه البلدة، على وجه السياحة والاستكشاف، فحظينا بمقابلة المشاهير من الأطباء فى تلك البلاد، واطلعنا على أعمالهم وعظم تقدمهم، ثم رجعنا إلى وبينة، فكأننا اطلعنا فى هاتين البلدتين على جميع عملية الطب، حيث أنهما أكثر تقدما من جميع أوروبا، ومعادلتين للوندرة وباريس.
وفى أواخر سنة 71 صدر الأمر برجوع الرسالة جميعها إلى مصر، وكان المتمم لدراسته والمتحصل على درجة الدكتورية معنا الدكتور حسن الألفى مفتش الصحة بالصعيد الآن، والدكتور مصطفى النجدى، والمرحوم الدكتور مراد، وبعد أن عدنا إلى أوطاننا، واستخدمنا بوظائف حكماء بالأورط السعيدية، وحكيم باشى المرحوم مصطفى بيك السبكى معنا، فصار تأسيس إستبالية مخصوصة بالعساكر السعيدية بالقناطر الخيرية، وكنا نشتغل بملاحظة صحة العساكر ومعالجتهم بهذا المستشفى، وكان من قسمى الطوبجية
بالألايات، وقسم الجراحة بالمستشفى إلا أنا نعد أنفسنا إذ ذاك من العرب الرحالة النزالة، ولم نزل بهذه المثابة سنة 71 وسنة 72.
وفى هذه المدة ترقيت إلي رتبة اليوزباشى الغرديات بمرتب ألف ومائتى غرش.
ثم فى سنة 73 لما فتحت ثانيا مدرسة الطب البشرى بعد اندراسها، وحصل تشكيلها وتعيين خوجاتها، انتخبت بواسطة كلوت بيك بوظيفة خوجة ثانى، فحضرت من الألايات السعيدية إلى مصر، وتوظفت بالمدرسة، وباشرت معالجة المرضى بالإسبتالية الكبرى بقصر العينى، وكذا الأهالى، فكنت أولا معلما ثانيا فى الفسيولوجية، ثم الرمد مع ترجمة دروس الجراحة من الفرنساوية إلى العربية للمعلم ربير، ثم فى سنة 74 صرت معلما ثانيا فى الأمراض الباطينية بالمدرسة، وحكيما ثانيا لقسم الأمراض الباطينية فى الإكلينك مع الشهير برجير بيك، وكان إذ ذاك رئيس المدرسة والإسبتالية، وهو الآن حكيم الحضرة الخديوية.
ثم فى سنة 75 ترقيت إلى رتبة صاغقول أغاسى، وفى سنة 77 انتخبنى المرحوم سعيد باشا حكيما له فى السفرية للأقطار الحجازية بقصد الزيارة، وكانت هذه أول مأمورية كبيرة لى، فصحبناه وتوجهنا معه فى هذه السنة من السويس إلى الوجه بحرا، ومنه إلى المدينة المنورة، على ساكنها أفضل الصلاة والسلام برا، وتوسلنا بالجاه العظيم، ودخلنا معه الحجرة النبوية، وأقمنا بالمدينة نحو خمسة أيام، وعدنا منها إلى مصر بطريق ينبع، وفى تلك السنة انتقلت من المدرسة إلى الجهادية بوظيفة حكيمباشى الألايات عموما، وفى سنة
78 ترقيت وأنا فى هذه الوظيفة إلى رتبة القائم مقام، وعدنا بها إلى المدرسة الطبية بالقصر، وفى سنة 79 صرت معلما أول للأمراض الباطنية، وحكيمباشى قسم الأمراض الباطنية، وفى سنة 81 تشرفت بالرتبة الثانية، وبحكيمباشى الدائرة البهية، وحكيما خصوصيا لذات الدولة والعصمة والدة الحضرة الخديوية.
وفى سنة 82 توجهت إلى الآستانة العلية نائبا بوظيفة حكيم مندوب من الحكومة المصرية إلى مجلس الكونفرانس بالآستانة العليه، لأجل المذاكرة فيما يخص مسألة سريان الكوليرة وثبوت سريانها بالإنسان، وضرب الوسايط الكرنتينية، وكان فى هذا المجلس المؤلف نحو من ثلاثين نفسا أطباء من جميع الدول، وتعلمت إذ ذاك اللسان التركى بعد تأدية مأموريتى، وحصلت على نشان من الدرجة الثالثة المجيدية.
ثم فى سنة 84 توجهت إلى جزيرة كريد للكشف عن صحة العساكر المصرية وإنشاء إسبتالية/لمن كان مريضا بها، وفى سنة 85 رجعنا قبل انتهاء الحرب لأجل السفر مع الفميلية العالية الخديوية إلى الآستانة العلية بوظيفة حكيم، وفيها بعد العود رجعنا إلى وظائفنا الأصلية، وفى سنة 86 توجهت مع الحضرة الخديوية التوفيقية حين كان ولىّ عهد الخديوى السابق بمأمورية وظيفة حكيم مخصوص لركابه إلى الآستانة العلية، ثم إلى النمسا بطريق وارنا ونهر الطونا وأقمنا بها عدة أسابيع، وعدنا ثانيا إلى المحروسة، وحصلت فى هذه السياحة على تشريفى بنيشان من الدرجة الثالثة أيضا من ملك النمسا تشريفا لى لأجل مصاحبتى لمعية الحضرة الخديوية التوفيقية.
وفى سنة 87 توجهت إلى بلاد سويسرا بوظيفة حكيم معالج لدولتلو أفندم حسين باشا، ثانى أنجال الخديوى إسماعيل باشا وناظر المالية، وفى سنة 88 تشرفت برتبة المتمايز مع بقاء وظائفى على ما هى عليه، وفى أثناء مباشرتى لعملية التعليم ترجمت كتاب الشهير نيمير، وسميته كما تقدم:(بوسائل الابتهاج فى الطب الباطنى والعلاج) وفى سنة 90 توجهت إلى الآستانة العلية بمعية الخديوى إسماعيل باشا بوظيفة حكيم فى ركابه، وفى سنة 91 توجهت أيضا إلى الآستانة صحبة ركاب دولتلو عصمتلو أفندم والدة باشا بوظيفة حكيمها المخصوص، وكانت جميع هذه المأموريات هى وخلافها فى زمن الصيف وباقى أيام السنة لم أزل مباشرا لوظيفتى الأصلية فى شأن التعليم العلمى والعملى بالمدرسة الطبية. أه.
***
قوص
فى كتاب: (تقويم البلدان) نقلا عن كتاب: (مشترك البلدان) أنها - بضم القاف وسكون الواو ثم صاد مهملة - مدينة بالصعيد الأعلى، وليس بأرض مصر بعد الفسطاط مدينة أعظم منها، وهى فرضة التجار من عدن، وهى على حافة النيل من البر الشرقى انتهى.
ويقال لها أيضا: (قوص بربر) و (قوص الأقصرين)، وسماها الرومانيون:(أبلوّنو بوليس باروا)، وكانت فى الأعصر الخالية من المدائن الشهيرة جدا، وكان يسكنها - على ما قاله المقريزى - خلق من المريس من أهل النوبة، وقد زعم بعضهم أنها طيوه أوطيس الكبرى، والصحيح أنها (محل أبولينو بولس بروا) كما ذكره «إسترابون، والأب جيورجى» وأنكر ذلك كترمير بعد أبحاث، وفى كثير من الكتب أنها كانت مركز القوافل والتجارة الواردة من عدن ومن البلاد السودانية، قال ابن جبير فى رحلته فى آخر القرن السادس أن قوص مدينة حفلة الأسواق، متسعة المرافق، كثيرة الخلق لكثرة الصادر والوارد من الحجاج والتجار اليمنيين والهنديين وتجار الحبشة، لأنها مخطر للجميع ومحط للرحال ومجتمع الرفاق، وملتقى الحجاج المغاربة والمصريين والإسكندريين ومن يتصل بهم، ومنها يفوّزون بصحراء عيذاب وإليها انقلابهم فى صدورهم من الحج. انتهى.
وبينها وبين قفط فرسخ على قول الياقوتى، وسبعة أميال على قول الإدريسى، وقال ابن الكندى إن فى قوص سائر أصناف التمر، والحطب الكارمى الذى لا رماد له، والفحم الجافى وسائر أنواع الأرطاب والكروم، ومعادن الذهب والجوهر، والنفط الذى ظهر سنة
أربع وثلاثين وثمانمائة، قال وسألت الحكيم الفاضل السديد الدمياطى عن ماء قوص، كم بينه وبين ماء مصر فى التفاوت، فقال: (انتهيت فى السفر إلى الوجه القبلى إلى هوّ وبين مائها وماء مصر كماء سكر وماء صرف، فإذا تأملت ماء أسوان كان بينه وبين ماء هوّ فرق ظاهر، وفيه من الحسن شدة برودة فى الصيف بحيث يصير كأن فيه ثلجا.
وذكر الإمام العلامة كمال الدين جعفر الأدفوى فى كتابه: (الطالع السعيد) أن مسافة إقليم الصعيد فى الطول اثنا عشر يوما بسير الجمال، وعرضه ثلاث ساعات وأكثر وأقل بحسب الأماكن، يعنى العامرة منه، وهو كورتان شرقية وغربية، والنيل فاصل بينهما، ويتصل عرضه فى الكورة الشرقية إلى البحر المالح وبأراضى البجاة، وفى الغربية بألواح. قال: وحكى لى الشيخ العالم فتح الدين محمد بن سيد الناس قال: قال لى الشيخ تقى الدين القشيرى: «تروح إلى قوص تدرس بدار الحديث» فذكرت له بعدها وحرارتها، فقال أين أنت من طيب فاكهتها وعطرة رياحينها، ورطبها من أحسن الرطب، صادق الحلاوة كثير القرّ، وفيه شئ تسيل النواة منه، وهو على عرجونه قبل أن يقطف، وفيه رطب لا يمكن تأخيره بعد أن يجنى غير لحظة لنعومته وكثرة سقره، وقد قال صلى الله عليه وسلم:«رطب طيب وماء بارد إن هذا من النعيم» . انتهى.
وقال خليل الظاهرى: إن مديرية قوص قبلى مديرية أسيوط وإن كرسيها مدينة قوص، وهى أكبر مدن الصعيد، وأشهرها وأعظمها، وبها ينزل جميع تجار الجهات القبلية، ويتوجهون إلى القصير فى مقابلة جدة، وجعلها أيضا عبد اللطيف البغدادى من أعظم مدن مصر، وقال لطرون الفرنساوى: إن معبدها يعزى إلى الملكة كليوباترة زوجة بطليموس أوبزجيت الثانى، وأنها هى التى بنته مع ولدها بطليموس
سوتير، وقال جنيوليون: إن الذى بناه بطليموس/فيلا موطور، ويوجد فى النقوش التى على جدرانه أسماء هؤلاء جميعا، واستنبط بعضهم من الكتابة الرومية التى به أنه سابق على البطالسة، وإنما يعزى إليهم بعض الزيادات فيه.
ثم إن المقدس أبلون المتخذ اسمها القديم من اسمه، كان مقدسا فى مصر، وأنه من أسماء الشمس التى كانت تقدسها أهالى الأرض جميعا بأسماء مختلفة، كما ذكر ذلك الشاعر نونوس من أهالى مدينة إخميم، وكذا غيره حيث قال نونوس: إن الشمس كان اسمها أمون عند أهل ليبيا، وعند المصريين اسمها: أزريس سيرابيس، وعند الأروام:
تارة أبلون وتارة فيبوس، وعند الفرس: ميطر، وعند من على شواطئ الفرات: ببلوّز، والعرب تسميها: سطرة، والعراقيون: جوبيتير، وبعض جهات من الأروام يسمونها: أسكولاب أو باكوس، والفتيكيون يسمونها: أدونيس، والصوريون يسمونها: هرقول. انتهى.
وفى كتاب: (مسالك الأبصار) أيضا أن قوص أكبر مدينة بالصعيد، وفيها تنزل القوافل الواردة من بحر الهند والحبش واليمن والحجاز بعد مرورها بصحراء عيذاب، وفيها كثير من الفنادق والبيوت الفاخرة والحمامات والمدارس والبساتين والحدائق ومزارع الخضروات، ويسكنها سائر أرباب الصنائع والفنون والتجار والعلماء والأغنياء ذوى العقارات والأملاك، وهواؤها فى غاية الحرارة. انتهى.
وقال الكندى: إن بمدينة قوص ست مدارس، وبإسنا مدرستين، وبالأقصر مدرسة، وبأرمنت مدرسة، وبقنا مدرستين، وبهوّ مدرسة، وبقمولى مدرسة. انتهى.
وذكر الإدفوى فى تاريخه فى الصعيد أنها ابتدأت فى العمران وقت أخذ قفط فى التخرب، أعنى من سنة أربعمائة من الهجرة، أنه فى شهر رمضان سنة 672 أتى إلى الملك الظاهر بيبرس بفلوس وجدت مدفونة بقوص، على أحد وجهيها صورة ملك واقف وفى يده اليمنى ميزان، وفى اليسرى سيف، وعلى الوجه الآخر رأس فيه أذن كبيرة وعين مفتوحة، وبدائر الفلس كتابة قرأها راهب يونانى، فكان تاريخه إلى وقت قراءته ألفين وثلثمائة سنة، وفيه:(أنا غياث الملك، ميزان العدل والكرم فى يمينى لمن اطاع، والسيف فى يسارى لمن عصى)، وفى الوجه الآخر:(أنا غياث الملك، أذنى مفتوحة لسماع المظلوم، وعينى مفتوحة أنظر بها مصالح ملكى). انتهى.
وذكر المقريزى أنه كان بقوص دار ضرب للنقود، وفيه أيضا أن المفرد ما برح يخرج من قوص ببشارة وفاء النيل، وقد أوفى عندهم ستة عشر ذراعا، ولا يوفى ذلك بمصر إلا بعد ثلاثة أيام ونحوها، وقال أيضا أن فى أرضها كثيرا من شجر اللبخ، وقال عند تكلمه على منية الناسك أنها من جملة الأطفيحية، عرفت بالناسك أخى الوزير بهرام الأرمنى فى أيام الخليفة الحافظ لدين الله أبى الميمون عبد المجيد بن محمد، ولى من قبل أخيه مدينة قوص سنة 529، وولاية قوص يومئذ أجل ولايات مصر، فجار على المسلمين واشتد عسفه وأذاه لهم، فعندما وصل الخبر بقيام رضوان بن ولخشى على بهرام وهزمه إياه، وتقلده الوزارة بدله، ثار أهل قوص بالناسك فى جمادى الآخرة سنة 531، وقتلوه وربطوا كلبا ميتا فى رجله، وسحبوه حتى ألقوه على مزبلة وكان نصرانيا.
ونقل كترمير عن: (كتاب السلوك) أن العرب قامت ببلاد الصعيد سنة 660، وقتلوا الأمير عز الدين حواس حاكم قوص، فتوجه الأمير
عز الدين أفرم أمير جندار إلى هناك، وقاتل العرب وبدد شملهم بعد عناء شديد، ونقل أيضا عن النوارى، عن القاضى محيى الدين عبد الله ابن عبد الظاهر فى:(سيرة الملك الظاهر بيبرس)، أنه جاء خطاب فى سنة ست وسبعين وستمائة من الحطى ملك الحبشة إلى سلطان مصر الملك الظاهر بيبرس، ومعه خطاب آخر من ملك اليمن.
مضمون خطاب ملك اليمن، أن ملك الحبشة توسل بنا إلى حضرة الملك فى قضية يريد إتمامها، وقد أرسلت هذا الخطاب مع خطابه، وترجمة خطاب ملك الحبشة أقل المماليك بحر أملاك يقبل الأرض.
ويعرض للسلطان الملك الظاهر - أبقى الله دولته - أنه وصل إلينا رسول من حاكم قوص فى خصوص المطران، يذكر فيه أنه حضر عندنا، والحال أنه لم يحضر، ولا يخفى أن بلادنا ملك للسلطان ونحن عبيده، فنرجوه أن يوصى بنا أبانا البطرك، وأن يختار مطرانا عالما فاضلا زاهدا فى الذهب والفضة، ويرسله إلى مدينة: عوان (أسوان) والفقير أحقر المماليك يرسل إلى الملك المظفر ملك اليمن الأشياء المقررة عليه، وهو يتكفل بإرسالها إلى مولانا السلطان، والذى أخر الإرسال إلى الآن هو اشتغالى ببيكار طويل، وقد مات الملك داود وعقبه ابنه على التخت، وفى جيشى مائة ألف فارس من المسلمين، وعدد لا يحصى من النصارى، وجميعهم عبيد لمولانا الملك وتحت أمره، والمطران دائما يسأل الله تعالى ويبتهل إليه فى نصرة مولانا الملك، وبقائه وهلاك أعدائه، ونحن والرعية جميعا نؤمن على دعائه ومن دخل أرضنا من المسلمين، فالفقير متكفل بحمايته إلى أن يعود إلى وطنه، وكل ذلك فى مرضاة مولانا السلطان، والرسول/الذى حضر عندنا من طرف حاكم قوص رجل متعاظم ومتمرض، ولا يخفى أن بلادنا رديئة الهواء، لا يليق أن يدخلها من كان مريضا، ومن
يستنشق هواءها ولو كان صحيحا فإنه يمرض وربما يموت، والرجاء من مولانا الملك أن يرسل لنا مطرانا ينظر فى أحوال الرعية، وهذا ما قصدت إملاءه.
فكتب إليه الملك الظاهر: وصلنى جواب الملك المعظم الخطى، ملك أمحرة أعظم ملوك الحبشة، المتولى على جميع أقطارها، نجاشى هذا العصر، سيف الديانة المسيحية وقوام الملة النصرانية، حبيب الملوك والسلاطين، سلطان أمحرة حفظه الله، قرأت كتابك وفهمت معناه، فأما ما يختص بالمطران فلم يصلنا رسول الملك، وإنما أخبرنا الملك المظفر فى خطابه أنه وصل إليه منكم خطاب مع رسول، وأن الرسول أقام باليمن إلى أن يصله جوابنا ردا لخطابه، وأما من خصوص كثرة العسكر عندكم التى من ضمنها مائة ألف من المسلمين، فإنا نعلم جميع ما هو فى كل قطر من دون أن يخفى علينا منه شئ، ونسأل الله تعالى زيادة عساكر المسلمين فى جميع الأرض، وأما من خصوص رداءة هواء أرض الحبشة، فنقول: إن العمر محدود، ولكل أجل كتاب، فلا يموت أحد إلا عند انقضاء أجله، ألا ترى أن الجرحى فى الحرب قد يحصل لهم الشفاء، ويموت من لم يجرح، فالخلق تحت قضاء الله والبيكار المار الذكر - بباء فارسية فى أوله - من أسماء الحرب، نقل ذلك كترمير عن بعض كتب اللغة، وأنه يقال:
كم حضر مصاف وكم رأى بيكارا، ونهك العسكر طول البيكار، ويقال:
طال بيكارها، ورأى البيكار بين يديه طويلا، وجمعها بياكير. انتهى.
وفى المقريزى أيضا أن مدينة قوص كانت محلا لنفى أرباب الجرائم، وأنه نفى إليها جماعة من الخلفاء العباسيين، منهم الخليفة المستكفى بالله أبو الربيع سليمان، فقد نفى إليها ومات بها سنة 740 ودفن بها، وكان قد نفاه إليها الملك الناصر محمد بن قلاوون سنة
737 هو وأولاده وعيالهم، وكانوا قريبا من مائة نفس، وأجرى لهم بها ما يتقوتون به كما فى:(نزهة الناظرين) قال: وبعد وفاة الملك الناصر فى يوم الأربعاء تاسع عشر شهر الحجة سنة إحدى وأربعين وسبعمائة، تولى الملك ولده المنصور أبو بكر، وأنشد بعض الشعراء عند توليته بيتين:
إذا الناصر السلطان راح لربه
…
فالله منه قائم بمهند
وقد عقد الإسلام إجماعهم على
…
أبى بكر الصديق بعد محمد
فأقام شهرين وأياما، وخلع فى العشر الأخير من شهر صفر عام اثنتين وأربعين؛ لفساده وشربه الخمر، حتى قيل إنه أتى زوجات أبيه، ونفى هو وإخوته إلى قوص، وتهتكت حرم أبيه، وكثر البكاء والعويل بالقاهرة، ثم قتل بقوص وذلك كان مجازاة لما فعله والده بالخليفة المستكفى. انتهى.
وقيل إن لقتله ونفيه سببا آخر، ففى بعض العبارات أنه قتله بها الأمير قوصون لما وشى له به، وقيل له أنه يريد إمساكك، فتحيل عليه وخلعه من الخلافة، ثم نفاه وقتله بها.
وقوصون هذا حضر إلى مصر من بلاد بركة فى الثالث والعشرين من ربيع الآخر سنة 720، ومعه قليل عصى 3 وطسما ونحو ذلك مما قيمته خمسمائة درهم ليتجر فيها، وجعل يطوف بذلك فى أسواق القاهرة، ففى بعض الأيام دخل إلى الإصطبل السلطانى ليبيع مما معه، فأحبه بعض الأوشاقية، وكان صبيا جميلا طويلا، له من العمر ما يقارب الثمان عشرة سنة، فصار يتردد إلى الأوشاقى إلى أن رآه السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون فوقع منه بموقع، فأمر بإحضاره إليه، وابتاع منه نفسه ليصير من جملة المماليك، وتقدم
حتى بلغ أعلى المراتب، فأرسل إلى البلاد وأحضر إخوته وأقاربه، وزوجه السلطان بابنته، وتزوّج السلطان بأخته، فلما احتضر السلطان جعله وصيا على أولاده، ثم آل أمره إن مات قتيلا ليلة الثلاثاء من عشر شوال سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة بالإسكندرية، انظر ترجمته عند ذكر جامعه من هذا الكتاب.
وفى: (نزهة الناظرين) أنه بعد وفاة الملك أبى بكر المنصور، تولى بعده أخوه الملك الأشرف علاء الدين كجك وعمره ست سنين، فأقام ثمانية شهور والأمر فى دولته لقوصون وبشتك، فعزلوه وتوفى بقوص بعد أربع سنين، وفى المقريزى أنه بعد قتل الأشرف شعبان ابن حسين، نفى إليها أيضا الخليفة العباسى المتوكل على الله أبو عبد الله محمد سنة ثمان وسبعين وسبعمائة، وأقيم عوضه فى الخلافة ابن عمه زكريا بن إبراهيم بن محمد فى الثالث والعشرين من صفر سنة تسع وسبعين وسبعمائة، ثم رد من نفيه ولزم بيته إلى عشرين من ربيع الأول، ثم رد إلى الخلافة، ثم سخط عليه الظاهر برقوق وسجنه مقيدا يوم الاثنين أول رجب سنة خمس وثمانين وسبعمائة، وقد وشى به أنه يريد الثورة وأخذ الملك.
وممن نفى إلى قوص أيضا ومات بها كما فى: (خطط المقريزى)، الوزير ابن زنبور وقد تكلم عليه فى باب دور مصر عند ذكر السبع قاعات، فقال: إن ابن زنبور هو علم الدين/عبد الله بن تاج الدين أحمد ابن إبراهيم، المعروف بابن زنبور، وكان أول أمره مباشر استيفاء الوجه القبلى، فلما كانت مصادرة ابن الجيعان كاتب الإصطبل، اختاره السلطان لمباشرة نظر الإصطبل فى سنة سبع وثلاثين وسبعمائة، واستمر إلي أن مات السلطان الملك الناصر محمد، وحكيم الأمير أيدغمش فباشر ابن زنبور استيفاء الصحبة.
فلما مات الملك الصالح إسماعيل، وأقيم فى الملك من بعده أخوه الملك الكامل سيف الدين شعبان بن محمد، نقل إلى وظيفة نظر الخاص، وذلك فى ربيع الآخر سنة ست وأربعين وسبعمائة، فباشر ذلك إلى أخريات رجب نيفا وثمانين يوما، ونقل إلى استيفاء الدولة.
وفى المحرم سنة سبع وأربعين تقرر فى نظر الدولة، فاستمر إلى أن قتل الملك الكامل شعبان، وأقيم فى الملك من بعده أخوه الملك المظفر حاجى فى مستهل جمادى الآخرة سنة سبع وأربعين، فأعيد ابن زنبور إلى نظر خاص، وأضيف إليه نظر الجيش، فباشر ذلك إلى سنة إحدى وخمسين، فأضيفت إليه الوزارة فى يوم الخميس السابع والعشرين من ذى القعدة وخلع عليه، وكان له يوم عظيم جدا، فقام بواجب الوزارة أحسن قيام، ودبر المملكة أحسن تدبير.
ثم فى شوال سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة فى يوم الاثنين خامس عشر شوال، لما عاد السلطان الملك الصالح من دمشق إلى قلعة الجبل، وعمل يوم الخميس سماطا، وخلع على سائر أرباب الوظائف، اتفق لما قدّره الله تعالى أنه حضر إلى الأمير صرغتمش وهو يومئذ رأس نوبة عشرة تشريف غير تشريفه ودون رتبته، فأخذه ودخل إلى الأمير شيخو وألقى البقجة قدامه، وقال: انظر فعل الوزير معى، وكشف الخلعة، فقال شيخو: هذا غلط، وقام وقد أخذه من الغضب شبه الجنون، وقال هذا شغل الوزير، وأنا لا أصبر على أن أهان لهذا الحد، ولا بد لى من القبض عليه، ومهما شئت أفعل به، فخرج فإذا الوزير داخل لشيخو وعليه خلعة، فصاح فى مماليكه خذوه، فكشفوا الخلعة عنه وسحبوه إلي بيت صرغتمش، وسرح مماليكه فى القبض على جميع حاشية الوزير، فقبض على سائر من يلوذ به، لأنهم كانوا قد اجتمعوا بالقلعة، وخالطت العامة المماليك فى
القبض على الكتّاب، وأخذ منهم فى ذلك اليوم شئ كثير، ثم أحاطوا بدوره التى بالصوصة من مصر، وأوقعوا الحوطة على حريمه وأولاده، وختموا سائر بيوته وبيوت حواشيه، وأنزل الوزير فى مكان مظلم من بيت صرغتمش، فلما أصبح طلب ولد الوزير، وسار به صرغتمش إلى بيت أبيه، وأحضر أمه ليعاقبه وهى تنظر، حتى يدلوه على المال، وأخذوا منه شيئا كثيرا، وألزم والى مصر بإحضار بناته، فنودى عليه فى مصر والقاهرة، وهجمت عدة دور بسببهن، ونال الناس من نكاية أعدائهم فى هذه الكائنة كل غرض، فإنه كان الرجل يرمى عدوه بأن عنده بعض حواشى ابن زنبور، فيؤخذ بمجرد التهمة، حتى لقى الناس من ذلك بلاء عظيما.
قال الصفدى خليل بن أيبك الملقب صلاح الدين فى كتاب: (أعيان العصر): وأما ما أخذ منه - أى ابن زنبور - فى المصادرة فى حال حياته، فنقلت من خط الشيخ بدر الدين الحمصى فى ورقة بخطه على ما أملاه القاضى شمس الدين محمد البهنسى، أوانى ذهب وفضة ستون قنطارا، جوهر ستون رطلا، لؤلؤ أردبان، ذهب مكوك مائتا ألف وأربعة آلاف دينار ضمن صندوق، ستة آلاف حياصة ضمن صناديق زركش، ستة آلاف كلوته ذخائر، عدة قماش بدنه، ألفان وستمائة فرجية، صنجة دراهم خمسون ألف درهم، شاشات ثلثمائة شاش، دواب عاملة سبعة آلاف حلابة، ستة آلاف خيل وبغال، ألف دراهم ثلاثة أرادب، معاصر سكر خمس وعشرون معصرة، إقطاعات سبعمائة، كل إقطاع خمس وعشرون ألف درهم، عبيد مائة، خدام ستون، جوار سبعمائة، أملاك القيمة عنها ثلثمائة ألف دينار، مراكب سبعمائة، رخام القيمة عنه مائتا ألف درهم، نحاس قيمة أربعة آلاف دينار، سروج وبدلات خمسمائة، مخازن ومتاجر أربعمائة ألف دينار، نطوع سبعة آلاف، دواب خمسمائة، بساتين مائتان، سواقى ألف وأربعمائة.
وكان فى وقت القبض عليه أشد الناس قياما فى إفساد صورته الشريف شرف الدين على بن الحسين نقيب الأشراف، والشريف أبو العباس الصفراوى، وناظر الخاص والصواف، واستدار الأمير صرغتمش، فأول ما فتحوه من أبواب المكايد أن حسّنوا لصرغتمش أن يأمر بالإشهاد عليه أن جميع ماله من الأملاك والبساتين والأراضى الوقف من مال السلطان دون ماله، فصيّر إليه ابن الصدر عمر وشهود الخزانة فأشهد عليه بذلك، ثم كتبوا فتيا فى رجل يدعى الإسلام، ويوجد فى بيته كنيسة وصلبان وشخوص من تصاوير النصارى ولحم الخنزير، وزوجته نصرانية، وقد رضى لها بالكفر، وكذلك بناته وجواريه، وأنه لا يصلى ولا يصوم ونحو ذلك، وبالغوا فى تحسين قتله، حتى قالوا لصرغتمش: والله لو فتحت جزيرة قبرص، ما كتب لك أجر من الله بقدر ما يأجرك الله على ما فعلته مع هذا، فأخرج فى باشا وزنجير، /وضرب فى رحبة فاعة الصاحب من القلعة بالمقارع، وتوالت عقوبته، ثم صار توجيهه إلى قوص، فأقام بها إلى أن مات يوم الأحد سابع عشر ذى القعدة سنة أربع وخمسين وسبعمائة، وكانت مدة شدته ثلاثة أشهر انتهى باختصار.
وفى المقريزى أيضا أن مصر شرقت بقصور مد النيل سنة ست وثمانمائة، فدهى أهل الصعيد من ذلك ما لا يوصف، حتى إنه مات من مدينة قوص سبعة عشر ألف إنسان، ومات من مدينة أسيوط أحد عشر ألف إنسان ممن غسل وكفن، ومن مدينة هوّ خمسة عشرة ألف إنسان، سوى الطرحى على الطرقات، ومن لا يعرف من العرب ونحوهم، وتعطل من قوص فى الشراقى مائة وخمسون مغلقا - والمغلق عندهم بستان أقله عشرون فدان - وللمغلق ساقية بأربعة وجوه، وذلك سوى ما تعطل مما هو دون ذلك، وهو كثير جدا، حتى تلاشى أمرها، وأمر كثير من البلاد.
وفى سنة ثمانمائة وثمان عشرة قامت العرب الأحمدية، وقتلوا حاكم قوص، وفى تاريخ بطاركة الإسكندرية ذكر اثنين من أساقفتها، وهما تيدور ومرقورا، وفى زمن الأب سيكار كان أسقف نقادة وقفط وقوص وإبريم واحدا، وتكلم أبو صلاح على جملة كنائس فى أرض قوص، ثم قال: ومن خواص مدينة قوص كثرة سام أبرص بها والعقارب القتالات، وكان يقال أن بها أكله العقرب، لأنه كان لا يرجى لمن لسعته حياة، واجتمع بها مرة فى يوم صائف على حائط المسجد صفا واحد سبعون سام أبرص، وكان لا يمشى الإنسان فى حاراتها فى ليالى الصيف إلا ومعه مصباح ومشك يقتل به العقارب، وقال إن معنى كلمة قوص باللغة القبطية الدفن، وسميت به لأنه كان من أهلها أناس مخصوصون بدفن الملوك، ووافقه على ذلك كترمير إذ قال إن هذه الكلمة مصرية ومعناها الدفن.
ثم إنه كان فى هذه المدينة قوم لهم معرفة تامة بصيد الثعابين والحيات والعقارب بواسطة عزائم وأقسام سحرية، يقرءونها عليها، ويسلطونها على من شاءوا متى شاءوا، فتتبعه بكل جهد ولا ترجع عنه إلا إذا أمرت بالرجوع، فكأنهم طائفة الحواة فى القطر المصرى، ويؤيد ذلك ما حكاه المقريزى عن الأمير تكتباى حاكم قوص فى زمن السلطان محمد بن قلاوون، أنه أوقف ذات مرة امرأة ساحرة أو حاوية، وأمرها أن تريه شيئا من عجيب صناعتها، فأخبرته أن سرها الأكبر أن تسحر العقارب وتحركها لما شاءت، فإذا سمت لها شخصا ذهبت إليه، ولا تتعداه فتلدغه وتهلكه، فقال لها أرينى ذلك، وأرجوك أن تجربى فىّ، فأتت بعقرب وتلت عزائمها عليها، ثم أطلقتها فانطلقت وراءه وهو يزوغ منها بجهات شتى، حتى كادت تلدغه، فهرب منها وجلس على كرسى وسط حوض مملوء بالماء، فوقفت على حافته تراود نفسها فى خوضه، ثم جرت على الحائط ومشت بالسقف حتى صارت موازيه
لرأسه، ثم رمت بنفسها فسقطت بالقرب منه وقصدته، فبادر إليها بضربة فقتلها، ثم أمر بقتل تلك المرأة.
وبالجملة فإن أمر العزائم السحرية المستخدمة للثعابيين والعقارب كان من زمن قديم فى أرض أفريقية، وما فى بعض تراجم التوراة أن ثعابا أصم مفقود السمع، لا تؤثر فيه العزيمة يدل على قدم هذا الفن. وفى كتب قدماء الرومان واليونان عبارات شتى فى ذلك، وكانوا يسمون الحواة المذكورين بكلمة: بسيل، وهم طائفة أهالى أفريقية كان ينتقل هذا النص بينهم من الرجال إلى الرجال دون النساء، وقال بلوترك أن هؤلاء الناس يتلون على الثعابين نوعا من العزائم ثم يسلبون بها قواها، ويصيرونها فى هيئة النائم. وقال بلين أن هذه الصفة خاصية فيهم، وإن رأتهم الثعابين فرّت منهم كما تفر التماسيح من رؤية أهالى نتربيت (دندرا)، وكانوا يشفون الملسوعين بمص السم من موضع اللدغ، وأن قاتون رئيس الجيوش الرومانية أخد جملة من الحواة بعد وقعة فرسال، وأسكنهم ببلاده لهذه المزية، وكذا أغسطس - بعد موت كليوبترا بالسم - جلب منهم جماعة يحاولون إحياءها بمص السم منها، ويقال إنه إن لدغ من هذه الطائفة أحد فلا يؤثر فيه السم، والأقدمون تكلموا كثيرا على ذلك، حتى قالوا إنهم كانوا يمتحنون نساءهم بتسليط الثعابين على أولادهم عند ولادتهم، لأجل معرفة عفتهن وبعدهن عن الرجال، وقال كثير من العلماء إن مص موضع اللدغ ليس من خواص هذه الطائفة فقط، بل هو فى قدرة كل إنسان، متى علم الطريق اللائق به، وهذا ليس ببعيد إذ فى جميع الأزمان يوجد ناس فى ديار مصر لهم معرفة تامة بذلك، ويسمون باللغة القبطية:(شاب هوف) بكلميتن، معنى الأولى: آخذة، والثانية:
ثعابين، والعرب يسمونهم الحواة جمع حاو، وفى الزمن الأخير قد توارثه أبناء الطريق الصوفية المسمون بالرفاعية والسعدية.
وفى المقريزى عند ذكر جامع القرافة ما نصه: «قال الشريف محمد بن أسعد الجوانى النسابة. حدثنى الأمير أبو على تاج الملك جوهر المعروف بالشمس الجيوشى، قال اجتمعنا (أى بجامع القرافة) ليلة جمعة جماعة من الأمراء، بنو معز الدولة وصالح وراجح وأولادهم وغلمائهم، وجماعة ممن/يلوذ بنا كابن الموفق والقاضى ابن داود وأبى المجد بن الصيرفى، وأبى الفضل روزبة، وأبى الحسن الرضيع، فعملنا سماطا وجلسنا، واستدعينا بمن فى الجامع وأبى حفص، فأكلنا ورفعنا الباقى إلى بيت الشيخ أبى حفص قيّم الجامع، ثم تحدثنا ونمنا فى الجامع، وكانت ليلة باردة فنمنا عند المنبر، وإذا إنسان نصف الليل ممن نام فى هذا الجامع من عابرى السبيل، قد قام واقفا وجعل يلطم على رأسه ويصيح: وا مالاه وا مالاه، فقلنا له: ويلك ما شأنك، وما الذى دهاك، ومن سرقك وما سرق لك، فقال: يا سيدى أنا رجل من أهل طرا يقال لى أبو كريت الحاوى، أمسى علىّ الليل ونمت عندكم، وأكلت من خيركم وسع الله عليكم، ولى جمعة أجمع فى سلتى من نواحى طرا والحى الكبير والجبل كل غريبة من الحيات والأفاعى، ما لم يقدر عليه قط حاو غيرى، وقد انفتحت الساعة السلة وخرجت الأفاعى، وأنا نائم لم أشعر، فقلت له: إيش تقول، فقال: أى والله يا للنجدات، فقلنا: يا عدو الله أهلكتنا ومعنا صبيان وأطفال، ثم إنا نبهنا الناس وهربنا إلى المنبر، وطلعنا وازدحمنا فيه، ومنا من طلع على قواعد العمد، فتسلق وبقى واقفا، وأخذ ذلك الحاوى يحسس وفى يده كنف الحيات، ويقول: قبضت الرقطاء، ثم يفتح السلة ويضع فيها،
ثم يقول: قبضت أم قرنين، ويفتح ويضع فيها، ويقول: قبضت الفلانى والفلانية من الثعابين والحيات، وهى معه بأسماء. ويقول أبو تليس وأبو زعير، ونحن نقول: إيه، إلى أن قال: بس انزلوا، ما بقى علىّ هم، ما بقى يهمكم كبير شئ، قلنا: كيف، قال: ما بقى إلا البتراء وأم رأسين، انزلوا فما عليكم منهما، قلنا: كذا عليك لعنة الله يا عدو الله، لا نزلنا للصبح، فالمغرور من تغره، وصحنا بالقاضى أبى حفص القيّم، فأوقد الشمع، ولبس صباغات الخطيب خوفا على رجليه، وجاء فنزلنا فى الضوء، وطلعنا المئذنة فنمنا إلى بكرة، وتفرق شملنا بعد تلك الليلة.
وجمع القاضى القيّم عياله ثانى يوم، وأدخلوا عصيا تحت المنبر وسعفا، وشالوا الحصر فلم يظهر لهم شئ، وبلغ الحديث والى القرافة ابن شعلة الكتامى، فأخذ الحاوى فلم يزل به حتى جمع ما قدر عليه، وقال: ما أخليه إلا إلى السلطان، وكان الوزير إذ ذاك يأنس الأرمنى.
وهذه القضية تشبه قضية جرت لجعفر بن الفضل بن الفرات وزير مصر المعروف بابن حزابة، وذلك أنه كان يهوى النظر إلى الحيات والأفاعى والعقارب وأم أربعة وأربعين، وما يجرى هذا المجرى من الحشرات، وكان فى داره قاعة لطيفة مرخمة فيها سلل الحيات، ولها قيم فراش حاو من الحواه، ومعه مستخدمون برسم الخدمة ونقل السلال وحطها، وكان كل حاو فى مصر وأعمالها يصيد ما يقدر عليه من الحيات، ويتباهون فى ذوات العجب من أجناسها، وفى الكبار وفى الغريبة المنظر، وكان الوزير يثيبهم على ذلك أوفى ثواب، ويبذل لهم الأموال، حتى يجتهدوا فى تحصيلها.
وكان له وقت يجلس فيه على دكة مرتفعة، ويدخل المستخدمون والحواة فيخرجون ما فى السلل، ويطرحونه على ذلك الرخام، ويحرشون بين الهوام، وهو يتعجب من ذلك ويستحسنه، فلما كان ذات يوم أنفذ رقعة إلى الشيخ الجليل ابن المدبر الكاتب، وكان من أعيان كتاب أيامه وديوانه، وكان عزيزا عنده. وكان يسكن إلى جوار دار ابن الفرات، يقول له فيها: نشعر الشيخ الجليل - أدام الله سلامته - أنه لما كان البارحة عرض علينا الحواة الحشرات الجارى بها العادات، انساب إلى داره منها الحية البتراء وذات القرنين، والعقربان الكبير وأبو صوفة، وما حصلوا لنا إلا بعد عناء ومشقة، وبجملة بذلناها للحواه، ونحن نأمر الشيخ - وفقه الله - بالتقدم إلى حاشيته وصبيته بصون ما وجد منها، إلى أن تنفذ الحواة لأخذها وردها إلى سللها، فلما وقف ابن المدبر على الرقعة قلبها، وكتب فى ذيلها: أتانى أمر سيدنا الوزير - خلد الله نعمته وحرس مدته - بما أشار إليه فى أمر الحشرات، والذى يعتمد عليه فى ذلك أن الطلاق يلزمه ثلاثا إن بات هو وأحد من أهله فى الدار والسلام. انتهى.
وفى بعض الجرنالات المصرية الفرنساوية المسماة مونيطور، المؤرخة باليوم الأول من شهر سبتمبر سنة 1875 ميلادية نقلا عن بعض من ساح حول الدنيا ما ترجمته أن حواة الهند لا يعلو عليهم أحد فى المهارة فى هذا الفن وخفة اليد والحركة، وعادة يكون معهم قرد يطوفون به فى الأسواق والبلاد، وذلك القرد يحمل فوق رأسه سلة فيها ثعابين، فيلقيها على الأرض على حين غفلة، فتخرج منها الثعابين وتسبح فى الأرض، والناس يتعجبون من ذلك، ثم يتعرض الحاوى لثعبان فيقرصه، والناس تنظر إلى ذلك، ويوهم الحاضرين أن عنده أحجارا فيها خاصية مص السم، فترغب الناس فى شرائها
بالأثمان الغالية، ومن المجرب المحقق فى تلك البلاد أن ضد سميات الأفاعى جذور النبات المسمى فى لغة الهند باسم نجابنون - فجيم فالف - لكنهم لا يبيعون ذلك أبدا، وإذا حاول أحد أن يشتريها منهم قدروا له ثمنا عظيما، ومع ذلك يعطونه غيرها موهمين أنها هى، والحال أنهم أبدلوها من غير أن يشعر المشترى، فإذا استعملها فلا يجد الخاصية.
/ومن أعجب ما يرى ويسمع، أن الحواة يجلبون الثعابين بأنغام الآلات، قال الناقل: أنه حضر عندى ذات يوم أحد الحواة، وأخبرنى أن فى منزلى ثعابين، وطلب الإذن فى إخراجها، فأذنت له بعد أن جردته من ثيابه، وفتشت سلته، فلم أجد فيها غير عقرب كبير أسود قدر الكف، ففى الحال أخذ زمارته، وهى عبارة عن جوزة من جوز الهند، فى رأسها ماسورتان، وفى أسفلها كذلك، وزعق بها زعقة مهولة توقف شعر الرأس، وكنت بقربه أنظر إليه لا أفارقه، ومعنا كثير من أهل البيت والجيران، فلما وصلنا إلى ركن الجنينة، غيّر نغمة الزمارة بنغمات متتالية نحو خمس دقائق، وإذا هو يشير إلى شئ أرانا إياه، ثم طأطأ ومسكه بيده، فإذا هو حية من أشنع الحيات ذات السم القاتل، طولها نحو قدمين ونصف، وفى حال مسكها قرصته قرصة أسالت الدم من أصبعه من دون أن يلتفت إلى ذلك، ووضعها تحت شجرة وجعل يزمر كالأول، ثم مسك حية أخرى لكنها ليست فى السم كالأولى، وبعد أن وضعهما فى السلة، أخرج جذر النجا وعرك به محل القرصة، وقد نظرت إلى الجذر وأمعنت النظر منه، وفى تلك اللحظة قيل لنا أن فى شق تحت شجرة ثعبانا لم يمكّن أحدا إلى الآن أن يقرب منه، فذهبنا مع الحاوى إلى الشق، فأخذ يزمر زمنا ثم أدخل يده فى الشق، فأخرج حية طولها نحو خمسة أقدام ونصف، وقد قرصته فى
قبضة يده، ورأينا محل القرصة جرحا يشبه قطع السكين والدم يسيل منه، والحية لم تهجع بل كانت تعنفه بقوة وشدة، وتحاول قرصه مرة أخرى، فرمى بها إلى الأرض، فرفعت رأسها وهجمت عليه، فمسكها من رأسها، وثبتها فى الأرض بعصى معه، وفتح فاها بخشبة، وأرانا أسنانها، ثم قلعها ورماها فصارت بلا أسنان، ثم أخذ يزمر وأخذت الحية ترقص على النغمات، وتتمايل يمينا وشمالا، وترتفع بصدرها وتهبط إلى الأرض، فإذا مشى تبعته، وإذا التفت التفتت، فكانت كأنما الحاوى طلسم عليها، وقد كمل للحاوى فى زمن قليل من الجنينة والمنزل ست حيات، منها ما يبلغ طوله ستة أقدام، ثلاثة سمها قاتل، وثلاثة دون ذلك، وقد حصل له فى نحو ساعة جملة قرصات استعمل فيها الدلك بجذر النجا فقط، ولم يحصل له أدنى ضرر، وإلى الآن لم يصر وقوف أهل العلم على خواص هذه الجذور.
انتهى.
وهذه الصناعة هى طريق تكسبهم، ثم إن هذه المدينة الآن بعيدة عن النيل بنحو نصف ساعة، وبها سوق كبير دائم يباع فيه الأقمشة وأصناف العقاقير والأبزار، واللحم والخضر ونحو ذلك، وبها نحو خمسة تخوت لاستخراج الزيت من بذر الخس، وبها وكالتان ببيت بهما الواردون، ويربطون بهما مواشيهم ودوابهم، وبها مدارس ومساجد كثيرة جامعة وغير جامعة، منها ما هو بمنارة وما هو بلا منارة، وأطيانها نحو ستة آلاف فدان، يزرع فيها القمح والشعير والجلبان وغير ذلك، وفيها نصارى بكثرة، وهى من قديم الزمان منبع للعلم والعلماء، كما مر التنبيه على مدارسها، وينسب إليها البهاء زهير صاحب الظرف والأدب.
ترجمة البهاء زهير
قال كترمير: هو بهاء الدين أبو الفضل زهير المكى المصرى القوصى، خدم السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب مذ كان نائبا عن أبيه الملك الكامل، وتبعه فى بلاد المشرق، ولما سجن الملك الصالح بقلعة الكرك، أقام هو بنابلس ليقوم له بالخدمة، ولما أفرج عنه التحق به ودخل معه مصر، وبلغ من الرفعة ما لم يبلغه غيره، وكان صاحب سر، وكان مولده بوادى نخلة قريبا من مكة فى سنة خمسمائة وإحدى وثمانين هجرية، وتربى بقوص فى الصعيد الأعلى، ومات بمصر يوم الأحد الرابع من ذى القعدة سنة ستمائة وستة وخمسين، ودفن ثانى يوم وقت الظهر فى تربته بالقرافة الكبرى بقرب الإمام الشافعى رضي الله عنه، وكان جامعا لفنون شتى، وله ديوان مشهور. انتهى.
ومن كلامه:
بنفسى من أسميها بستى
…
فتنظر لى النحاة بعين مقت
وتزعم أننى قد قلت لحنا
…
وكيف وإننى لزهير وقتى
ولكن غادة ملكت جهاتى
…
فلست بلاحن إن قلت ستى
وقد أطال ابن خلكان فى ترجمته، ولم يذكر نسبته إلى قوص، قال: هو أبو الفضل زهير بن محمد بن على بن يحيى بن الحسن بن جعفر بن منصور بن عاصم المهلبى العتكى، الملقب بهاء الدين الكاتب، من فضلاء عصره، وأحسنهم نظما ونثرا وخطا، ومن أكبرهم مروءة، توجه إلى البلاد الشرقية فى خدمة السلطان الملك
الصالح أبى الفتح أيوب ابن الملك الكامل، ثم انتقل فى خدمته أيضا إلى دمشق، ولما اعتقل الملك الصالح بقلعة الكرك أقام هو بنابلس محافظة لصاحبه، ولم يتصل بغيره، ولم يزل على ذلك حتى خرج الملك الصالح، وملك الديار المصرية، فعاد إليها ثانيا فى خدمته، وذلك فى أواخر ذى القعدة سنة سبع وثلاثين وستمائة، وكان فوق ما يسمع فيه من مكارم الأخلاق وكثرة الرياضة ودماثة السجايا، وكان متمكنا من صاحبه، /ولا يتوسط عنده إلا بالخير، ونفع خلقا كثيرا، ومن شعره قوله:
يا روضة الحسن صلى
…
فما عليك ضير
فهل رأيت روضة
…
ليس بها زهير
ومنه:
أنا ذا زهيرك ليس إ
…
لا جود كفك لى مزينه
أهوى جميل الذكر عن
…
ك كأنما هو لى بثينه
قال: وأخبرنى أن مولده فى خامس ذى الحجة سنة إحدى وثمانين وخمسمائة بمكة حرسها الله تعالى، وقال لى مرة أنه ولد بوادى نخلة بقرب مكة، ثم توفى قبيل المغرب يوم الأحد رابع ذى القعدة سنة ست وخمسين وستمائة، ودفن بالقرافة الصغرى بتربته بقرب قبة الإمام الشافعى رضي الله عنه.
ترجمة الإمام ابن دقيق العيد القوصى الشافعى رضي الله عنه
وفى: (حسن المحاضرة) فى ذكر من كان بمصر من الأئمة المجتهدين أن منها الإمام الكبير والعالم الشهير الشيخ تقى الدين أبا الفتح محمد ابن الشيخ مجد الدين على بن وهب بن مطيع القشيرى القوصى، الشهير بابن دقيق العيد.
قال السبكى فى: «الطبقات» هو شيخ الإسلام الحافظ الزاهد الورع الناسك، المجتهد المطلق، ذو الخبرة التامة بعلوم الشريعة، الجامع بين العلم والدين، والسالك سبيل السادة الأقدمين، أكمل المتأخرين، ولد بظهر البحر الملح قريبا من ساحل الينبع، وأبواه متوجهان من قوص للحج يوم السبت الخامس والعشرين من شعبان سنة خمس وعشرين وستمائة، ونشأ بقوص وتفقه بها، ثم رحل إلى مصر والشام وسمع الكثير، وأخذ عن الشيخ عز الدين بن عبد السلام، وحقق العلوم ووصل إلى درجة الاجتهاد، وانتهت إليه رياسة العلم فى زمانه، وشدت إليه الرحال.
قال الحافظ فتح الدين بن سيد الناس: لم أر مثله فيما رأيت، ولا حملت أننى بأجل منه فيما رأيت ورويت، وكان للعلوم جامعا، وفى فنونها بارعا، مقدما فى معرفة علل الحديث على أقرانه، منفردا بهذا الفن النفيس فى زمانه، بصيرا بذلك، شديد النظر فى تلك المسالك، زكى الألمعية وأذكى اللوذعية، لا يشق له غبار، ولا يجرى معه سواه فى مضمار، وكان حسن الاستنباط للأحكام والمعانى من السنة والكتاب بنكت تسحر الألباب، وفكر يستفتح له ما استغلق على غيره من الأبواب، مستعينا على ذلك بما رواه من العلوم، مبينا ما هناك من
مدارك المفهوم، مبرّزا فى العلوم النقلية والعقلية، والمسالك الأثرية والمدارك النظرية، بحيث يقضى له من كل علم بالجميع، وسمع بمصر والشام والحجاز، على تحرّ فى ذلك واحتراز، ولم يزل حافظا للسانه، مقبلا على شأنه، وقف نفسه على العلوم وقصرها، ولو شاء أن يحصر كلماته لحصرها، ومع ذلك فله بالتجريد تخلق، وبكرامات الصالحين تحقق، وله مع ذلك فى الأدب باع وكرم طباع، لم يخل فى بعضها من حسن انطباع، حتى لقد كان الشهاب محمود الكاتب المحمود فى تلك المذاهب، يقول: لم تر عينى آدب منه، وقال أبو حيان: هو أشبه من رأيناه يميل إلى الاجتهاد، قال الشيخ تاج الدين السبكى: ولم أر أحدا من أشياخنا يختلف فى ابن دقيق العيد، هو العالم المبعوث على رأس المائة السابعة، المشار إليه فى الحديث، فإنه أستاذ زمانه علما ودينا، وله مصنفات منها:(الإلمام فى الحديث وشرحه) الذى لم يؤلف أعظم منه، لما فيه من الاستنباطات العظيمة، و (شرح العمدة)، و (الاقتراح فى مصطلح الحديث) وشرح:(العنوان فى أصول الفقه)، وكتاب فى أصول الدين، وله ديوان خطب وشعر حسن، مات يوم الجمعة حادى عشر صفر سنة اثنتين وسبعمائة.
ورثاه الشريف محمد بن محمد بن عيسى القوصى بقصيدة طويلة، مطلعها:
سيطول بعدك فى الطلول وقوفى
…
أروى الثرى من مدمعى المذروف
أمحمد بن على بن وهب دعوة
…
من قلب مسجون الفؤاد أسيف
لو كان يقبل فيك حتفك فدية
…
لفديت من علمائنا بألوف
أو كان من حم المنايا مانع
…
منعتك سمر قنا وبيض سيوف
ما كنت فى الدنيا على الدنيا إذا
…
ولت بمحزون ولا مأسوف
وهى بتمامها فى: (حسن المحاضرة).
وقد أوسع صاحب: (الطالع السعيد) الكلام فى ترجمته، فكتب نحو كراسين فى فضائله التى لا تحصى، ونوادره التى لا تستقصى، قال: وكان مع اجتهاده ووفور علمه وهيبته عند الملوك خفيف الروح لطيفا، على نسك وورع ودين، ينشد الشعر والموشح والزجل والمواليا ويستحسن ذلك، وكان كثير المكارم النفسانية والمحاسن الإنسانية، لكنه كان غالبا فى فاقة، فيحتاج إلى الاستدانة.
قال: وحكى لى شيخنا تاج الدين محمد بن الدشناوى، قال:
حضرت/مرة عنده ليلة، وهو يطلب شمعة، فلم يجد معه ثمنها، فقال لأولاده: فيكم من معه درهم، فسكتوا، وأردت أن أقول معى درهم، فخشيت أن ينكر على، فإنه كان إذ ذاك قاضى القضاة بمصر، فكرر الكلام، فقلت: معى درهم، فقال: لم نسألك.
وكان الشيخ تاج الدين تلميذه وتلميذ أبيه وابن صاحبه، وحكى القاضى شهاب الدين بن الكويك التاجر المكارمى، قال: اجتمعت به مرة، فرأيته فى ضرورة، فقلت له: يا سيدنا ما تكتب ورقة لصاحب اليمن، فكتب ورقة لطيفة فيها هذه الأبيات:
تجادل أرباب الفضائل إذ رأوا
…
بضاعتهم موكوسة القدر والثمن
فقالوا غرسناها فلم نلق طالبا
…
ولا من له فى مثلها نظر حسن
ولم يبق إلا رفضها واطراحها
…
فقلت لهم لا تعجلوا السوق باليمن
وأرسلها إليه، فأرسل إليه مائتى دينار، واستمر يرسلها إلى أن مات - يعنى صاحب اليمن - ومن كلامه رضي الله عنه:
وقائلة مات الكرام فمن لنا
…
إذ عضنا الدهر الشديد بنابه
فقلت لها من كان غاية قصده
…
سؤالا لمخلوق فليس بنابه
لئى مات من يرجى فمعطيهم الذى
…
يرجونه باق فلوذى بنابه
ولما عزل نفسه من القضاء وطلب ليولى ثانية، قام السلطان الملك المنصور لقدومه من بعيد، فصار يمشى قليلا وهم يقولون السلطان واقف، وهو يقول أدينى أمشى، وجلس معه على الجوخ حتى لا يجلس دونه، ثم نزل فغسل ما عليه واغتسل، وقبل السلطان يده، فقال: تنتفع بهذا، حكاه جماعة ممن حضر مجلسه، وقد درس بالفاضلية والمدرسة الشافعية والكاملية والصالحية بالقاهرة، ودرس بقوص بدار الحديث التى بنيت له، وكان أيام قضائه يكتب إلى النواب يذكرهم ويحذرهم.
ومما اشتهر من كتبه ما كتبه إلى المخلص البهنسى قاضى إخميم فى زمنه بعد البسملة: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَ أَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ}
(1)
. هذه المكاتبة إلى فلان - وفقه الله تعالى - لقبول النصيحة، وآتاه قصدا صالحا ونية صحيحة، أصدرتها إليه بعد حمد الله الذى يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور، ويمهل حتى يلتبس الإهمال والإمهال على المغرور، تذكرة بأيام الله تعالى:{وَ إِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمّا تَعُدُّونَ}
(2)
إلى آخر مكتوب طويل، مواعظه تشيب الوليد، وكان يوم موته يوما مشهودا، ودفن يوم السبت بسفح المقطم. انتهى.
(1)
سورة التحريم، الآية 6.
(2)
سورة الحج، الآية 47.
وحكى كترمير عن كتاب: (السلوك) فى سبب عزله نفسه من القضاء، أن تاجرا مات فى سنة سبع وتسعين وستمائة، فادعى رجل أنه أخوه، فأراد نائب السلطنة منكو تيمور أن يحكم بالتركة لذلك الأخ، وتوقف المترجم لعدم ثبوت النسب عنده، وكرر النائب المراسلات له فى هذا الشأن، فأبى إلا الثبوت الشرعى، ثم أرسل له النائب الأمير كرت الحاجب فقام له قاضى القضاة نصف قومة، وبعد جلوسه كلمه فى هذا الشأن، فأبى أن يحكم بمجرد شهادة النائب، ورجع الحاجب بلا حاجته.
فلما ركب قاضى القضاة إلى القلعة، وكان بطريقه مسكن النائب، قابله الحاجب وطلبه أن يدخل عند النائب، وألح عليه وأكثر فى الترجى، فسكت الشيخ قليلا ثم قال له: ليس هناك ما يجبرنى على الامتثال، وقال لمن معه من القضاة: اشهدوا أنى عزلت نفسى من القضاء، وأخبروا السلطان يعين غيرى، ورجع إلى بيته وقفل بابه، وبلغ السلطان ذلك، فلام النائب، وأرسل يعتذر للشيخ ويطلبه للحضور فأبى، فأرسل إليه الشيخ نجم الدين حسين بن محمد بن عمود والطواشى، فأكثرا عليه الترجى حتى أجابهما، وركب إلى السلطان، فقام له وأجلسه بجانبه، وألح عليه فى قبول وظيفته حتى قبلها، وكان النائب حاضرا، فقال القاضى: يا مولانا الملك، ولدك هذا النائب الذى تحبه وتعزه، أنا أدعو الله له، وجعل يفتح يده ويقبضها، وجعل السلطان والحاضرون يتبركون به، حتى أخذ السلطان الخرقة التى وضعها القاضى على المرتبة، وتناول الأمراء كل واحد منها قطعة، يضعونها فى بيوتهم للبركة.
وبالجملة فقد كان رضي الله عنه لا تأخذه فى الله لومة لائم، قال كترمير عن كتاب:(السلوك) أيضا أن نائب السلطنة سلار أمر الأمير جمال الدين عيسى بن الحبار نائب المحتسب أن يستفتى الشيخ فى ضرب ضريبة على الأهالى يستعان بها على الحرب، فتوقف الشيخ، ولم يوافقهم على مقصودهم.
وقد كانت حصلت وقعة صبيحة الثامن والعشرين من ربيع الأول سنة تسع وتسعين وستمائة بين عساكر التتار والمصريين، فى المحل المعروف بمجمع المروج، قريبا من حمص، قال المقريزى:
وهو المسمى الآن وادى الخازندار، انهزم فيها المصريون بعد قتال شديد، وموت كثير من الطرفين. وكان السلطان على مصر يومئذ الناصر محمد بن/قلاوون، وقد استولت التتار على جميع أمتعة العرضى وعلى الخزنة، ودخلوا مدينة دمشق يوم السبت غرة ربيع الثانى وأوقعوا النهب فيها، فركب قاضى القضاة بدر الدين محمد بن جماعة، وشيخ الشيوخ تقى الدين أحمد بن تيمية، وجمع كثير من الوجوه والفقهاء إلى نحو غازان ملك التتار، يلتمسون منه العفو، وكف أذى العساكر عنهم، فقابلوه فى محل يعرف بالنيل، فترجلوا عن خيولهم، وقبلوا الأرض مرارا، فلم يلتفت إليهم، وقال لهم الترجمان عن لسانه: قد صدرت الأوامر برفع الأذى عنكم. فرجعوا ودخلوا دمشق بعد العصر.
وفى يوم الجمعة سابع الشهر، حضر رسول ملك التتار ومعه فرقة من العساكر، فقرأ منشور السلطان فاطمأن به خاطر الناس، وهذه صورته نقلا عن النورى: بقوة الله تعالى، ليعلم أمراء التومان والألوف والمائة، وعموم عساكرنا المنصورة، من المغول والطاويك والأرمن والكرج وغيرهم، ممن هو داخل تحت ربقة طاعتنا، أن الله لما نور قلوبنا بنور الإسلام، وهدانا إلى ملة النبى عليه أفضل الصلاة والسلام {أَ فَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}
(1)
ولما أن سمعنا أن حكام مصر والشام خارجون عن طريق الدين، غير متمسكين بأحكام الإسلام، ناقضون لعهوده، حالفون بالأيمان الفاجرة، ليس لديهم وفاء ولا زمام،
(1)
سورة الزمر، الآية 22.
ولا لأمورهم التئام ولا انتظام، وكان أحدهم إذا تولى سعى فى الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل، والله لا يحب الفساد، وشاع من شعارهم الحيف على الرعية، ومد الأيدى العادية إلى حريمهم وأموالهم، والتخطى عن جادة العدل والإنصاف، وارتكابهم الجور والاعتساف.
حملتنا الحمية الدينية والحفيظة الإسلامية، على أن توجهنا إلى تلك البلاد لإزالة هذا العدوان، وإماطة هذا الطغيان، مستصحبين الجم الغفير من العساكر، ونذرنا على أنفسنا أنه إن وفقنا الله تعالى لفتح تلك البلاد أزلنا العدوان والفساد، وبسطنا العدل والإحسان فى كافة العباد امتثالا للأمر الإلهى:{إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَ إِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَ يَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}
(1)
وإجابة لما ندب إليه الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون فى حكمهم وأهليهم وما ولوا)، حيث كانت طويتنا مشتملة على هذه المقاصد الحميدة والنذور الأكيدة، منّ الله علينا بتبلج تباشير النصر المبين، والفتح المستبين، وأتم علينا نعمته، وأنزل علينا سكينته، فقهرنا الأعادى الطاغية، والجيوش الباغية، وفرقناهم أيدى سبا، ومزقناهم كل ممزق، حتى جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا، فازدادت صدورنا انشراحا للإسلام، وقويت نفوسنا بحقيقة الأحكام، منخرطين فى زمرة من حبيب الله إليهم الإيمان، وزينه فى قلوبهم، وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان، أولئك هم الراشدون فضلا من الله ونعمة، فوجب علينا رعاية تلك العهود الموثقة، والنذور المؤكدة، فصدرت مراسيمنا العالية أن لا يتعرض أحد من العساكر المذكورة على
(1)
سورة النحل، الآية 90.
اختلاف طبقاتها لدمشق وأعمالها وسائر البلاد الإسلامية الشامية، وأن يكفوا أظفار التعدى عن أنفسهم وأموالهم وحريمهم، ولا يحوموا حول حماهم بوجه من الوجوه، حتى يشتغلوا بصدور مشروحة وآمال مفسوحة بعمارة البلاد، وبما هو كل واحد بصدده من تجارة وزراعة وغير ذلك.
ولما كان هذا الهرج العظيم، وكثرة العساكر تعرض بعض نفر يسير من السلاحية وغيرهم إلى نهب بعض الرعايا وأسرهم فقتلناهم، ليعتبر الباقون، ويقطعوا أطماعهم عن النهب والأسر وغير ذلك من الفساد، وليعلموا أنا لا نسامح بعد هذا الأمر البليغ البتة، وأن لا يتعرضوا لأحد من أهل الأديان على اختلاف أديانهم من اليهود والنصارى والصائبة، فإنهم إنما يبذلون الجزية ليأمنوا على أنفسهم، لقول علىّ رضي الله عنه:(إنما يبذلون الجزية لتكون أموالهم كأموالنا، ودماؤهم كدمائنا) والسلاطين موصون على أهل الذمة المطيعين، كما هم موصون على المسلمين، فإنهم من جملة الرعايا، قال صلى الله عليه وسلم:(الإمام راع وكل راع مسئول عن رعيته)، فسبيل القضاة والخطباء والمشايخ والعلماء والشرفاء والأكابر والمشاهير وعامة الرعايا الاستبشار بهذا النصر الهنىّ والفتح السنىّ، وأخذ الحظ الوافر من السرور، والنصيب الأكبر من البهجة والحبور، مقبلين على الدعاء لهذه الدولة القاهرة والمملكة الظاهرة، آناء الليل وأطراف النهار. كتب فى خامس ربيع الآخر سنة تسع وستين وستمائة. انتهى.
وقوله: تومان، قال كترمير: هو اسم لطائفة من العسكر قدرها عشرة آلاف. وقوله: طاريك - بالراء - صوابه: طازيك بالزاى، كلمة
فارسية مأخوذة من النسبة إلى طيى، القبيلة المشهورة/التى منها حاتم الطائى، فإن الفرس يقولون فى الطائى: طازى، ويستعملونه فى كل بدوى، وهى من لغة المغول، فإنهم يقولون لكل فارسى طازك، ويقولون أيضا طاجك، ونطقت بها الأرمن طاجك، واستعملوها دالة على بدوى أو مسلم أو تركى، والشوام يقولون لكل بدوى أو مسلم:
طائى. انتهى.
ثم لما رجع المصريون منهزمين إلى مصر، أراد السلطان ابن قلاوون أن يجهز جيشا ثانيا، ويسير به إلى دمشق، فأمر بجمع كافة الصناع، وتحصيل آلات الحرب، واجتهد الوزير فى جمع النقود من كافة الجهات، وكتب لجميع أعمال مصر بجلب الخيول والبغال والإبل وأنواع السلاح من مزاريق وخلافها، حتى ارتفع ثمن الخيل، فبلغ ثمن الحصان نحو ألف درهم، وجمعت كافة العساكر المتفرقة فى البلاد حتى المطرودون من الخدامة، وانعقد رأى أكابر الدولة على أن يجعلوا فرضة على الأهالى، يستعينون بها على قتال التتار.
فأرسل نائب السلطنة سلار إلى الأمير مجد الدين نائب المحتسب فأحضره، وأمره باستخراج فتوى من عالم الوقت الشيخ تقى الدين بن دقيق العيد، فتوقف الشيخ فى ذلك، فأحضره نائب السلطنة فى جمع من الأمراء، وقال له إن الخزينة خالية من النقود، والأمر لازم إلى ضرب الفرضة على الأهالى لذلك، وألح عليه فلم يتحول عن الامتناع، فحينئذ أظهروا له فتوى عن شيخه عز الدين بن عبد السلام فى زمن الملك المظفر قطز، تؤذن بجواز تحصيل دينار من كل شخص، فأجابهم الشيخ بأن ابن عبد السلام لم يفت بذلك إلا بعد أن أحضر جميع الأمراء ما لديهم من النقود والفضيات حتى حلى النساء والأولاد. وبعد ذلك حلفوا أنهم صاروا لا يملكون شيئا فأفتى بتحصيل
دينار من كل شخص، ونحن فى وقتنا هذا نعلم أن الأمراء يملكون أموالا كثيرة، ويجهزون بناتهم بالجهازات الغالية من الجواهر واللؤلؤ، بل أوعية ماء مراحيضهم من الفضة، ومداسات النساء محلاة بالأحجار النفيسة، ثم قام وخرج من عندهم ممتنعا، ولكن لم ينجع ذلك فيهم، بل صار إحضار ناصر الدين محمد بن الشيخ متولى القاهرة، وأمر بتحقيق اقتدار التجار وغيرهم من سكان مصر والقاهرة، ووزعوا عليهم أموالا بحسب اقتدار كل، من عشرة دنانير إلى مائة، على كافة المديريات فرضة سميت بمقرر الخيالة.
ولم يستحسن الأمراء ذلك، وقرروا على كل أردب يباع من الحبوب خروبة، تؤخذ من المشترى، وأن يؤخذ نصف السمسرة فى كل شئ يباع من أقمشة وغيرها، فإن كان سمسرة ما يباع بمائة درهم درهمين، أخذ نصفهما درهما، وكل هذا غير ما أخذ على سبيل السلفة من التجار الكبار.
فجهزوا جيشا جرارا، وساروا به إلى الشام، وكان نائب دمشق يومئذ من طرف غازان ملك التتار الأمير قبجق، وكان قبل ذلك من أمراء مصر، فكتب إليه السلطان الناصر بالرجوع إلى طاعته، وكذلك كتب إلى غيره من النواب، فلما وصلتهم المكاتبات قام قبجق بعساكره إلى مصر طائعا، وتقابل مع السلطان الناصر فى الصالحية فتلقاه بالإكرام، ورجع معه إلى قلعة الجبل، وارتدت دمشق وأعمالها إلى حكومة مصر من غير قتال، بعد أن أقامت بيد التتار مائة يوم، وكان تلاقيهما بالصالحية عاشر شعبان من السنة المذكورة. انتهى.
ترجمة الشهاب القوصى
وذكر فى: (حسن المحاضرة) أيضا فيمن كان بمصر من الفقهاء الشافعية، أن منها الشهاب القوصى أبا المحامد إسماعيل بن حامد بن أبى القاسم الأنصارى، ولد بقوص فى المحرم سنة أربع وسبعين وخمسمائة، وسمع وتفقه ودرس وحدث، وخرج لنفسه معجما فى أربعة مجلدات، وكان بصيرا بالفقه أديبا أخباريا، روى عنه الدمياطى وغيره، ووقف دار حديث بدمشق، ومات بها فى سابع عشر ربيع الأول سنة ثلاث وخمسين وستمائة رحمه الله تعالى.
ترجمة الشيخ سراج الدين أخى تقى الدين بن دقيق العيد
ومنها سراج الدين بن موسى أخو الشيخ تقى الدين بن دقيق العيد، كان فقيها نظارا شاعرا، تصدر بقوص لنشر العلوم والفتوى، وصنف:(المغنى فى الفقه)، ولد بقوص سنة إحدى وأربعين وستمائة، ومات فى شوال سنة خمس وثمانين.
ترجمة تقى الدين
ومنها تقى الدين أبو البقاء محمد، كان عالما صالحا شاعرا زاهدا ورعا، وكانت والدته أخت الشيخ تقى الدين بن دقيق العيد، ولد بقوص سنة خمس وأربعين وستمائة، وتولى مشيخة الرسلانية بمنشأة المهرانى، وأقام بها إلى أن مات فى جمادى الأولى سنة ثمان وعشرين وسبعمائة.
ترجمة الشيخ محب الدين
ومنها محب الدين علىّ ابن الشيخ تقى الدين بن دقيق العيد، ولد بقوص فى صفر سنة سبع وخمسين وستمائة. وكان فاضلا ذكيا، شرح:(التعجيز) شرحا جيدا، وولى تدريس الهكارية والسيفية، مات فى رمضان سنة ست وسبعمائة، ودفن عند والده، قال فى:(العبر):
وهو زوج ابنة أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله.
ترجمة الشيخ عبد الرحمن اللخمى الحنفى
وذكر أيضا فى ذكر من كان بمصر فى الفقهاء الحنفية، أن منها عبد الرحمن بن محمد بن عبد العزيز اللخمى، وجيه الدين أبا القاسم القوصى، الفقيه النحوى، قال الحافظ الدمياطى: كان/متبحرا فى مذهب أبى حنيفة، درس وناظر وطال عمره، وله تصانيف فى علوم عديدة نظما ونثرا، وتفقه على عبد الله بن محمد بن سعد البجلى مدرس السيوفية. وأخذ النحو عن ابن برى، ولد بقوص سنة خمس وخمسين وخمسمائة، ومات بالقاهرة فى ذى القعدة سنة ثلاث وأربعين وستمائة انتهى من:(حسن المحاضرة).
ترجمة الشيخ محمد بن عيسى الإخميمى
وذكر فى: (الطالع السعيد) أن منها محمد بن عيسى بن جعفر التميمى الإخميمى الأصل، القوصى الدار، كان متوليا الحكم بأرمنت ودمامين وقنا وسمهود والبلينا، وناب فى الحكم بقوص، وله يد فى التوثيق والحساب.
والشيخ إبراهيم بن عبد المغيث المنعوت بجمال
ومنها: إبراهيم بن عبد المغيث القمنى الأنصارى، القوصى الدار، ينعت بجمال، تولى نيابة الحكم بجيزة مصر عن قاضيها. ثم قدم إلى قوص فتولى ناحية هوّ وفرشوط ثم إسنا وإدفو، وتوفى برستو سنة سبع وعشرين وسبعمائة.
والشيخ أحمد المنعوت بالشهاب
ومنها: أحمد بن عيسى بن جعفر، ينعت بالشهاب، ويعرف بابن الكنانى القوصى، كان عالما فاضلا فقيها، تولى وكالة بيت المال بالأعمال القوصية، وتوفى بقوص سنة إحدى أو اثنتين وتسعين وسبعمائة.
والشيخ أحمد القوصى المنعوت بالفتح
ومنها أحمد بن محمد سلطان القوصى، ينعت بالفتح، كان من رؤساء قوص وعلمائها، وتولى وكالة بيت المال بالأعمال القوصية، توفى يوم الجمعة حادى عشر المحرم سنة أربع وسبعمائة.
والشيخ إسماعيل القوصى
ومنها إسماعيل بن أحمد بن إسماعيل القوصى، كان عالما فاضلا تصدر لإقراء القرآن بجامع ابن طولون، وكان أديبا شاعرا، ومن كلامه:
أقول له ودمعى ليس يرقا
…
ولى من عبرتى إحدى الوسائل
حرمت الطرف منك بفيض دمعى
…
فطرفى فيك محروم وسائل
توفى بالقاهرة سنة خمس عشرة وسبعمائة.
والشيخ عبد الكريم السهروردى
ومنها: عبد الكريم بن على السهروردى القوصى، أديب ناظم، ومن كلامه فى هجو بعض التجار، وقد طلب منه جوزة هندية، فلم يرسلها له، فكتب إليه:
طلبت منك جوزة
…
منعتنى من قربها
وكم طلبت زوجة
…
منك فلم تبخل بها
وكان ضامن الزكاة بقوص، ثم ترك ذلك وتصوف، مات بقوص بعد السبعمائة.
والشيخ عثمان القشيرى
ومنها: عثمان بن محمد بن على القشيرى، درس بالمدرسة الفاضلية بالقاهرة، ودرس بقوص وولى بها، وكان له بيت المال، وكان ذكى الفطنة، حاد القريحة، وحاضر الجواب.
والشيخ على بن إبراهيم القوصى
ومنها: على بن إبراهيم بن عبد الملك نور الدين، كان أمين الحكم بقوص، توفى بمكة سنة تسع وخمسين وستمائة.
والشيخ على بن عمر القوصى
ومنها: على بن عمر أبو الحسن الهاشمى، وهو أديب حتى قيل فى حقه: شاب بقوص له بالأدب خصوص، وله قصيدة بالحروف المهملة منها:
أمحرّما وصلا أراه محللا
…
ومحللا صدا أراه حراما
والشيخ فرج القوصى
ومنها: فرج مولى ابن عبد الظاهر، كان من الصالحين، وله رباط بقوص.
والشيخ محمد القوصى
ومنها: محمد بن عبد المغيث ينعت بالزين القمنى، القوصى الدار والوفاة، تولى الحكم فى نجانس وبهجورة، ثم بالأقصرين ثم بالمرج ثم بالبلينا وبسمهود وبرديس. انتهى.
انظر: (الطالع السعيد) فقد ذكر من علمائها جملة وافرة.
والشيخ على القوصى
وينسب إليها السيد الشريف على القوصى ابن السيد عبد الحق، يتصل نسبه بالشيخ يوسف أبى الحجاج الأقصرى، ولد بقوص سنة اثنتين ومائتين وألف، كان والده من أكابر العلماء، درس بالجامع الأزهر إلى أن توفى بمصر سنة اثنتى عشرة ومائتين، ودفن بقرافة المجاورين، ومن مشايخه الشيخ على الصعيدى العدوى، ولما مات التحق ولده المترجم بقوص، فحفظ القرآن ثم التحق بإسنا، وأخذ عن الشيخ عثمان الإسنوى، حتى صار له اليد العليا فى كل فن، ثم التحق بالأزهر، فلازم الشيخ محمد الأمير الكبير مدة يسيرة، وأجازه بما تضمنه سبته، وأخذ عن غيره من علماء الأزهر، ثم سافر إلى قوص، واشتغل بالتدريس بها، ثم ساح فى بلاد العرب وغيرها، واجتمع بسيدى أحمد بن إدريس، فأخذ عنه الطريق، ثم بسيدى محمد السنوسى فلازمه مدة طويلة، وأقام معه بالجبل الأخضر نحو خمس
سنين، وأخذ عنه العلوم الميقاتية والأوفاقية، ودخل بلاد الشام واليمن والقسطنطينية وجزيرة كريد، وأحسن التكلم باللغة التركية، وأشير إليه فى القطر المصرى بأطراف البنان بعد رجوعه من السياحة وكان له اجتماع خاص بوالى مصر المرحوم عباس باشا، وخلع عليه كسوة تشريف، ومن بعده اجتمع بالمرحوم سعيد باشا فى ولايته على مصر، وله تآليف عديدة منها:(شرح على خطبة مختصر السعد التفتازانى على/التلخيص) و (حاشية على مولد سيدى أحمد الدردير) و (رسائل فى علم الفلك على الربع المقنطر والمجيب) و (رسالة فى الأسطرلاب) و (رسائل فى نسبة العصيان لآدم عليه السلام. وكان حينئذ بأرض الحجاز فتعصب عليه العلماء، وشكوه لابن عون شريف مكة، فعقد بينه وبينهم مناظرة فألزمهم الحجة، ثم مدح شريف مكة بقصيدة نحو مائة وخمسين بيتا مطلعها:
حظوظ روحى حظوظى عنهم حجبى
…
فيا حظوظى روحى فالصبا نجبى
ويا نسيم الصبا لب الملاب ورق
…
ورق وارقى أما ليد النقا وطب
وله كلام رقيق نثرا ونظما، فمن ذلك ما كتبه لشيخه السنوسى، وقد حضر له كتاب من عنده يسليه بما وقع له من المتعصبين عليه بأرض الحجاز، ومنهم الشيخ الكتبى والمرزوقى وجمال الليل، قوله:
أتت كتب منكم بفض ختامها
…
تفجر ينبوع المعارف فى القلب
إذا لم تكن كتب الأكابر هكذا
…
حياة لموت القلب لا خير فى الكتب
ومنه فى التورية بالشيخ المرزوقى قوله:
يا من بهمّ الرزق ربع يقينه
…
أقوى فمدّ يدا إلى المخلوق
الله خير الرازقين ضمانه
…
أقوى فثق لا فضل للمرزوقى
ومنه فى التورية بالشيخ جمال الليل، قوله:
نهار الهدى ليل الردى نره اعتدى
…
مضاف جمال فانتدى حاكم العدل
وبت القضا فصلا وقال لذاك لا
…
جمال فربى قد محا آية الليل
ومن كلامه فى الواو يخاطب الشيخ على حسن النابى قوله:
سلام يا على من على لك
…
خلى وحافظ ودادى
من السقم داوى عليلك
…
بربى وربى ودادى
انتهى ما ورد إلينا فى رسالة من إملاء ابن أخيه العلامة الفاضل الأزهرى الشيخ محمد ابن الشيخ أحمد بن عبد الحق القوصى.
ومن ألمعيته وكثرة اطلاعه كان له تصرف واستنباطات للأحكام من الكتاب والسنة، حتى شاع عنه أنه لا يتقيد بمذهب، بعد أن كان مالكيا، وكان يقرأ الحديث مثلا، ويقول هذا ما يرد على مالك، وهذا مما يرد على الشافعى، وهذا مما يرد على أبى حنيفة، ويقول إن باب الاجتهاد لم يزل مفتوحا، وما من إمام من الأربعة المجتهدين إلا وأوصى قبل موته أن من ظهر له الحق على خلاف ما قاله فيتبعه، ويقول: أنا فى الحقيقة متبع للأئمة فى العمل بوصيتهم، وغيرى هو المخالف لهم، وكانت إقامته بمدينة أسيوط، وكان له بها درس دائم بمسجد سيدى جلال الدين السيوطى، ولما طعن فى السن، كان يقرأ الدرس فى البيت ويحضره أكابر علمائها، وله بها دار مشيدة وعقارات ومزارع، وكان لا يذهب إلى بلدته قوص إلا نادرا، وله بها رحم وأملاك من عقارات ومزارع، وتوفى بمدينة أسيوط سنة أربع وتسعين ومائتين وألف، ودفن بجبانتها، وكان رحمه الله يخضب لحيته بالحناء، وكان كثير الذكر، ويطوّل فى الصلاة جدا، حتى كان من لا يعرف ذلك منه يقطع الصلاة إذا اقتدى به.
القوصيّة
- بضم القاف وسكون الواو وكسر الصاد وتشديد المثناة التحتية فهاء تأنيث - بلدة من مديرية أسيوط بمركز منفلوط فى شمال النيل، بعيدة عنه بقدر ألفين وخمسمائة متر، وكانت كما فى بعض كتب الأقباط تعرف قديما باسم (قصحام) وتسميها العرب قصقام، كما يسمونها قوصية، وكانت فى آخر مديرية الأشمونين من جهة الجنوب، وكانت من الأقاليم القبلية، ثم صارت فى زمن الرومانيين من الأقاليم الوسطى، ومبدأ الأقاليم القبلية كان من ترعة فى جنوبها كانت فى زمن الفرنساوية تعرف عند الأهالى بترعة العسل. انتهى.
وعدت فى دفاتر التعداد من مديرية الأشمونين، وفى خطط اليونانيين أن قوصية فى محل قوصة العتيقة، وأن بعد قوصة عن مدينة هرموبوليس أى الأشمونين أربع وعشرون ميلا، ومنها إلى مدينة ليكوا (أسيوط) خمسة وثلاثين ميلا، وقد قيس على الخرطة فوجد بعد قوصية عن أسيوط 46500 متر، وعن الأشمونين 39900 متر، وهو موافق لذلك بفرق يسير، فيمكن أن قوصية تحوّلت عن قوصة إلى جهة الجنوب بشئ قليل.
ويؤخذ من قول المؤرخ إيليان أنها كانت صغيرة لطيفة، وكان أهلها/يعبدون الزهراء، ويسمونها أورانى، ويصورونها فى صورة بقرة، ولم تكن عبادتها خاصة بأهل هذه المدينة، بل كانت لكثير من بلاد مصر، وكانت قوصية فى زمن الرومانيين محل بوستة عسكرية، وبها فرقة من الخيالة، ويوجد فى جهة الجنوب والجنوب الغربى منها تل به كثير من الآجر والشقاف والزجاج ونحوه، ولا يرى فيه أثر للمعبد الذى ذكره إيليان فى مؤلفاته، ويظهر من الآثار الباقية بها أنها كانت قد أحرقت فى الأزمان السابقة، ويؤيد ذلك تسميتها بالمحرقة
فى كتاب أبى صلاح أحد مؤرخى العرب، وذكر أبو صلاح أيضا أنه كان بها خمس وعشرون كنيسة للأقباط، ودير للأرمن بداخلها، واثنان لهم بخارجها، وكان أشهر معابدها كنيسة مريم البتول، وكانت صغيرة، ويقال إنها أول كنيسة بنيت بمصر، وكان بها بئر شاع بين الناس أن ماءها يبرئ من سائر الأمراض، يهرع إليها كل عام فى عيد الفصح خلق كثيرون من جميع البلاد، وكان بقربها قصر قديم، وبالقرب منها معبد صغير منحوت فى الصخر يزوره النصارى ويحترمونه كل الاحترام، لزعمهم أنه كان مسكن البتول أم المسيح.
وذكر المقريزى أنه كان بها كنيستان، إحداهما: للعذراء، والأخرى: لغبريال، وقد تهدمت تلك الآثار، ولم يبق منها سوى دير يعرف بالدير المحرّق - بضم الميم وفتح الراء المشددة - وهو أكبر دير فى هذه الجهة، ويسمى أيضا بالحدراء، وكان به فى زمن الفرنساوية عشرون راهبا ومائتا نفس من الأهالى، وفى شماله قبور أموات النصارى.
وأما قبور مسلميها فكانت فى شرقى النيل بجبل أبى فوده، ولما تخربت القوصية خلفتها سنبو، وهى قرية فى شمالها على نحو ستة آلاف متر، ثم عمرها الشيخ أبو زكريا حاكم الأشمونين وردها لأصلها، ثم هى الآن ذات جنات وبساتين، وفيها مساجد عامرة، منها اثنان بمنارتين، أحدهما: المسجد الكبير فى جهتها الشرقية، والثانى: فى وسطها جدد عمارته أحد مشاهيرها الحاج رميح بالجير والآجر.
وأغلب أبنية البلد باللبن على طبقة أو طبقتين، وقد تجدد بها أبنية تشبه أبنية القاهرة لأكابرها جاد الرب بيك مدير مديرية المنية سابقا، ومفتش شفلك الفشن، والحاج رميح وعائلته، وكان فى السابق ناظر قسم، وكذلك الأروباويون القاطنون بها للتجارات، وفيها وكالتان للحاج رميح عامرتان بالمتاجر، وبها فيخورة وأبراج حمام، ولها سوق كل
يوم خميس، وبها كنيسة فى جهتها البحرية مشيدة عامرة، ومن عادة أهل تلك البلدة أن يعملوا كل سنة مولدا يعرف بمولد الشيخ بخيت، وهو ليلة يجتمع فيها خلق كثيرون، ويكون فيها البيع والشراء والمسابقة بالخيل من العصر إلى الغروب، ثم فى الصبح إلى الزوال.
وفى الليل يشتغلون بالأذكار، وضرب الطبول والكؤسات مع الإنشاد والغناء، فيكونون حلقا حلقا، ويهيئ أهل البلد طعاما كثيرا من اللحم وغيره للعشاء والغداء، ويكون مجمعهم بعد العشاء بجوار مقام الشيخ بخيت، فيستمرون كذلك إلى آخر الليل، وفى جهتها القبلية تل يعرف بالكوم الأحمر به مقابر موتاهم، وفى وسطه بستان نخيل، وفى وسط البستان قطعة أرض ذات رمل أبيض لا نبات فيها يقال لها البربى، يعتقد أهل البلد وما جاورها من البلدان سيما النساء، أنه إذا اضطجع فيها مريض من الأطفال فاستغرق فى النوم كان ذلك دليلا على أنه يشفى من مرضه، وإن لم يستغرق فقل أن ينجو من هذا المرض، وأنه مجرب عندهم صحيح، فلذا تهرع إليها النساء بالأطفال المرضى لأجل ذلك.
ترجمة الشيخ أحمد القوصاوى المالكى
وإلى هذه البلدة ينسب الشيخ أحمد بن عبد الله القوصاوى المالكى، ولد بها سنة خمس وتسعين بعد المائة والألف، وقرأ بها القرآن، وجاور بالأزهر سنة خمس عشرة بعد المائتين، وتصدر للتدريس سنة إحدى وثلاثين، وفى سنة سبع وخمسين تولى مشيخة رواق الصعايدة بالأزهر، وقد قرأ كبار الكتب كالمطول وجمع الجوامع.
وتوفى رحمه الله تعالى فى سنة ست وستين، وكان عالما حليما ذا تؤدة شريف النفس عفيفا أمينا على الأحكام، عاش أغلب عمره فى ضيق عيش، حكى عن نفسه أنه كان فى مبدأ أمره إذا اشتد به الجوع يلتقط قشر البطيخ من خارج الأزهر ويغسله ويسد به رمقه.
قويسنا
قرية من مديرية الغربية بمركز الجعفرية، موضوعة غربى ترعة الخضراوية على بعد ثمانمائة متر، وفى الشمال الشرقى لناحية بجيرم بنحو ألف وستمائة متر، وفى شمال شبراريس بنحو ألف وخمسمائة متر، وأغلب أبنيتها بالآجر، وبها جامعان غير الزوايا ومعمل فراريج.
ترجمة شيخ الإسلام الشيخ حسن القويسنى
وينسب إليها الإمام الفاضل والعالم العامل خاتمة المحققين شيخ الإسلام السيد حسن القويسنى الشافعى، تولى مشيخة الجامع الأزهر سنة خمسين ومائتين/وألف بعد وفاة الشيخ حسن العطار، وفى ذلك يقول من هنأه بالمشيخة معرّضا لسلفه:
ولئن مضى حسن العلوم لربه
…
فلقد أتى حسن وأحسن من حسن
يا شاذلىّ السر فى أعماله
…
وعلومه يا شافعى على العلن
أنت المقدم رتبة ورياسة
…
وديانة من ذا الذى ساواك من
إلى أن قال مؤرخا مشيخته:
مذ صرت شيخ الأزهر الزاهى الهدى
…
أرّخت خير مناصب حق الحسن
وأحسن منه قول بعضهم:
إن يمض كبير عوّضنا
…
خلفا منه الشيخ الأكبر
ولئن وارى عنا حسنا
…
فلقد أبدى الحسن الأنور
إلى أن قال:
قالت بشراه مؤرخة
…
الفضل به زان الأزهر
كان رحمه الله تعالى من شرف النفس وعلو الهمة بمكان، حتى إن العزيز محمد على أحب أن ينعم عليه بشئ من الدنيا فأبت نفسه ذلك، واعتراه الجذب فى آخر عمره، فكان إذا هام وغاب يسأل كل من لقيه غنيا أو فقيرا، فإذا أعطاه شيئا فرقه من ساعته، وبعد صحوه ورجوعه إلى حاله لا يسأل أحدا شيئا، هكذا كان من شأنه فى أيام جذبه، وكان إذا جاء وقت درسه أفاق من جذبه، وقرأ درسه، ولم يزل على حاله إلى أن توفى سنة أربع وخمسين ومائتين وألف، ودفن بمسجد الشيخ على البيومى بالحسينية، وله من التآليف رسالة صغيرة فى المواريث، وشرح على متن السلم فى فن المنطق أملاه على بعض الأمراء فى ذلك الوقت، ومن أجلّ من أخذ عنه شيخ الإسلام الشيخ إبراهيم البيجورى، والسيد مصطفى الذهبى، والشيخ أحمد المرصفى، والشيخ محمد البنانى، وله حفدة، منهم: الكامل الفاضل الشيخ حسن القويسنى شيخ رواق ابن معمر بالأزهر وأحد المدرسين به.
القيس
- بفتح القاف وسكون المثناة التحتية وسين مهملة - قرية من مديرية المنية بمركز بنى مزار فى الجنوب الغربى لبنى مزار بنحو ألف وثمانمائة متر، وفى الجنوب الشرقى للبهنسا الغراء بنحو عشرة آلاف متر، وبها مساجد عامرة، ومنازل مشيدة، وأبراج حمام ونخيل كثير، وأغلب أهلها أصحاب يسار، وتلول البلد القديمة فى غربيها على نحو ثلثمائة متر، وكان لها ولأهناس فى الأزمان القديمة حاكم واحد، وكانت البلد القديمة تسمى قابيس، وكانت ذات أسقفية، وحفظت لها العرب اسمها القديم بتحريف قليل.
وقال الإدريسى أن القيس بلدة قديمة موضوعة على الشاطئ الغربى للنيل، على بعد عشرين ميلا من دهروط، وفى:(خطط المقريزى) أن قيس من البلاد التى تجاور مدينة البهنسا، وكان يقال القيس والبهنسا، قال ابن عبد الحكم: «بعث عمرو بن العاص قيس بن الحرث إلى الصعيد، فسار حتى أتى القيس فنزل بها فسميت به).
وقال ابن يونس: (قيس بن الحرث المرادى ثم الكعبى شهد فتح مصر، يروى عن عمر بن الخطاب، وكان يفتى الناس فى زمانه، روى عنه سويد بن قيس، وقيل: شديد بن قيس بن ثعلبة، وروى عنه عسكر ابن سوادة وهو الذى فتح القرية بصعيد مصر المعروفة بالقيس فنسبت إليه)، وقال ابن الكندى:(ولهم ثياب الصوف وأكسية المرعزى وليست هى بالدنيا إلا بمصر، وذكر بعض أهل الخبرة بمصر أن معاوية بن أبى سفيان لما كبر كان لا يدفأ، فاجتمعوا أن لا يدفئه إلا أكسية تعمل بمصر من صوفها المرعزى العسلى الغير المصبوغ، فعمل له منها عدد بقيس، فما احتاج منها إلا إلى واحدة، ولهم طراز القيس والبهنسا فى الستور (الأبسطة)، والمضارب (الخيم) يعرفون به.
وظهر عندها بالقرب من البهنسا سرب فى أيام السلطان الكامل محمد بن العادل بن أبى بكر بن أيوب، فأمر متولى البهنساوية بكشفه، فجمع له أهل المعرفة بالعوم والغطس، فكانت ما ينيف على مائتى رجل ما فيهم إلا من نزل السرب فلم يجد له قرارا ولا جوانب، فأمر بعمل مركب طويل دقيق بحيث يمكن إدخاله من رأس السرب، وشحنه بالأزواد والرجال، وركب فيه حبالا مربوطة فى خوازيق عند رأس السرب، وحمل مع الرجال آلات يعرفون بها أوقات الليل/والنهار وعدة شموع وغيرها مما يستخرج به النار وتشعل به، وأمرهم أن يسلكوا بالمركب فى السرب حتى ينفد نصف ما معهم من الزاد،
فساروا بالمركب فى ظلمة، وهم يرخون الحبال، ولا يجدون لما هم سائرون فيه من الماء جوانب، حتى قلت أزوادهم، فأبطلوا حركة المركب بالمجاديف إلى داخل السرب، وجرّوا الحبال ليرجعوا إلى حيث دخلوا، حتى انتهوا إلى رأس السرب، فكانت مدة غيبتهم فى السرب ستة أيام، أربعة منها دخولا إلى جوفه وطوافا فى جوانبه، ويومين رجوعا إلى رأس السرب، ولم يقفوا فى هذه المدة على نهايته، فكتب بذلك الأمير علاء الدين الطنبغا والى البهنسا إلى الكامل، فتعجب عجبا كثيرا، واشتغل عن ذلك بمحاربة الفرنج على دمياط، فلما رحلوا عن دمياط، وعادوا إلى القاهرة، خرج بعد ذلك حتى شاهد السرب المذكور انتهى.
***
تم الجزء الرابع عشر ويليه الجزء الخامس عشر، وأوله حرف الكاف