الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إعداد: الباحثين بمركز تحقيق التراث
بسم الله الرحمن الرحيم
حرف النون
(نارادوس)
بلدة كانت بين منوف وسخا على مسافة متساوية، وكانت ذات حمامات وفنادق وسوق ظريف. وسماها ابن حوقل: محلة سرد، وسماها الإدريسى:
هرت، والأول أصح. انتهى من بعض الكتب العربية.
(نبتيت)
بنون مفتوحة فموحدة ساكنة فمثناة فوقية مكسورة فتحتية ساكنة ففوقية.
قرية من مديرية الشرقية بمركز بلبيس، واقعة فى شمال زفيتة مشتول بأقل من ساعتين، وفى الشمال الغربى لناحية المنير على بعد ساعة، وبها زاوية للصلاة، وزراعتها كالمعتاد.
ترجمة الشيخ على النبتيتى الضرير
وإليها ينسب الشيخ على النبتيتى الضرير. قال الشعرانى فى طبقاته: كان من أكابر العلماء العاملين والمشايخ المتكلمين، وكانت مشكلات المسائل ومعضلاتها ترسل إليه، من الشأم والحجاز واليمن وغيرها، فيحلها بعبارة سهلة، وكانت العلماء تذعن له. وكان مقيما ببلده نبتيت بنواحى الخانقاه السرياقوسية، والخلق تقصده من سائر الأقطار، وكان إذا جاء مصر تندلق عليه الناس يتبركون به. قال: وقد بلغنى أن عبد الرّزّاق الترابى-أحد تلامذته- جمع مناقبه نظما ونثرا، فعليك بها. توفى (رحمه الله تعالى) فى يوم عرفة سنة سبع عشرة وتسعمائة، ودفن ببلده، وضريحه بها ظاهر يزار. انتهى باختصار.
ترجمة الشيخ على بن الجمال النبتيتى
ومنها كما فى الطبقات أيضا الشيخ على بن الجمال النبتيتى أحد أصحاب سيدى أبى العباس الغمرى. كان من الرجال المعدودة فى الشدائد، وكان صاحب همة، يكاد يقتل نفسه فى قضاء حاجة الفقراء، وحج هو وسيدى أبو العباس الغمرى، وسيدى محمد بن عنان، وسيدى محمد المنير، وسيدى أبو بكر الحريرى، وسيدى محمد العدلى فى سنة واحدة، فجلسوا يأكلون تمرا فى الحرم النبوى، فقال سيدى أبو بكر الحريرى: لا أحد يأكل أكثر من رفيقه. وكانت ليلة لا قمر فيها، فلما فرغوا عدوّا النوى، فلم يزد واحد عن آخر تمرة واحدة. وكان يسافر كل سنة إلى مكة بالحبوب، يبيعها على المحتاجين، وكان مشهورا بالحذق فى البيع بمكة، لأنه كان يخبر فى الثمن بزيادة عن الناس، ويقول: لا أبيع إلا بذلك الثمن بنفسه. فكل من رضى بذلك الثمن يعلم أنه محتاج فيعطيه، ولا يأخذ له ثمنا، وكل من قال هذا غالى، يعرف أنه غير محتاج فلا يعطيه. وكان يفرق كل سنة الثياب على أهل مكة، ويفرق عليهم السكر، وكذلك على أهل المدينة، فكل من أخبر الناس بذلك يسترد منه ما أعطاه له، ويقول: يا أخى غلطت فيك، هذا ما هو لك.
توفى سنة نيف وتسعمائة، ودفن فى نبتيت بزاويته، رحمه الله تعالى. انتهى.
ترجمة الشيخ إبراهيم النبتيتى
وفى خلاصة الأثر أن منها: الشيخ إبراهيم النبتيتى نزيل القاهرة، المجذوب، صاحب الكرامات والأحوال الباهرة. ذكره المناوى فى طبقات الصوفية، وقال فى ترجمته: كان أولا حائكا فى نبتيت، فأجنب يوما، فدخل مكانا فيه ضريح بعض الأولياء ليغتسل فيه، فجذبه، فخرج هائما وترك أولاده وأهله. وقدم مصر فأقام بجامع إسكندر باشا بباب الخرق نحو عشرين سنة، وبعضهم يسبه، وبعضهم يستقله، وبعضهم يخرجه؛ لما يرى منه من تقذير
المسجد، ثم تحول لمسجد المرة بقرب تحت الربع، ثم تحول إلى بلده نبتيت، فسكنها إلى أن مات.
وقيل له: لم خرجت من مصر؟ قال: لم أدخلها إلا بإذن صاحبها، فلما استقريت بها قدم زين العابدين فلم يأذن لى بالجلوس، فتركته وإياها، فما كان لفقير يدخلها أو يسكنها إلا بإذن منه خاص. وكانت وفاته فى سنة ثمان عشرة بعد الألف، ودفن ببلده، وعمل له أحد وزراء مصر قبة عظيمة.
ترجمة الشيخ على بن عبد القادر النبتيتى
قال: ومنها أيضا على بن عبد القادر النبتيتى، موقت الجامع الأزهر، أحد المتبحرين فى علم الميقات والحساب، من العلماء العاملين الفائقين فى فن الزايرجة والأوفاق، والمنفردين بعلم الدعوة والأسماء بإجماع/أهل الخلاف 3 والوفاق، وكان مع ذلك متفننا فى علم الأدب، قائما بوظائف العبودية، مجدا بالاشتغال، له كفاف وقناعة. أخذ الحديث عن شيوخ منهم أبو النجاء سالم الأجهورى، والفقه عن جمع منهم الشمس محمد المحبى، والعربية عن أبى بكر الشنوانى، وعنه عبد المنعم النبتيتى، ومحمد بن حسين الملا الدمشقى وكثيرون.
وله مؤلفات كثيرة شهيرة نافعة منها: شرح على معراج النجم الغيطى، وشرح على شرح الأزهرية للشيخ خالد، وشرح على شرح الأجرومية-له أيضا- وشرح على الرحبية فى الفرائض، وكتاب حافل فى الأوفاق سماه مطالع السعادة الأبدية فى وضع الأوفاق والخواص الحرفية والعددية، وله رسائل كثيرة فى فنون شتى. وكانت وفاته بمصر فى نيف وستين وألف، ودفن بتربة المجاورين. انتهى.
(نبروه)
بلدة قديمة تابعة لمركز سمنود من مديرية الغربية، واقعة على تل مرتفع
نحو أربعة أمتار على الشاطئ الغربى لبحر نبروه الآخذ من بحر شيبين، أغلب أبنيتها باللّبن، وبها حوانيت وقهاو، وخمارات ومغالق خشب.
وبها ثلاثة مساجد: مسجد الأربعين؛ يقال إنه بنى فى زمن فتح مصر، وقد جدد سنة ثمان وثمانين ومائتين وألف، ما خلا المطهرة والمراحيض-وله منارة لم تكمل. ومسجد الشيخ مجاهد؛ يقال إنه من بناء الظاهر بيبرس، وصار تجديده على طرف تفتيش نبروه للخديوى إسماعيل، وبه ضريح الشيخ مجاهد، عليه قبة جليلة، ومسجد الشيخ عبيد؛ يقال إنه بنى منذ سبعمائة سنة، وبه قبر الشيخ عبيد.
وبها أربعة مكاتب لتعليم القرآن الشريف، أحدها بنى من طرف التفتيش، ورتب له خوجة وعريف، وكسوة كل سنة، وبها وابور كوموبيل تبع تفتيش كريمات المرحوم إلهامى باشا لحلج القطن، ووابور نقالى فى جهتها القبلية لداود باشا، يروى أطيانه التى بناحية نشا فى قوة اثنى عشر حصانا بخاريا، وفى جهتها القبلية بجوار البحر جنينة لعنبر أغا خمسة أفدنة؛ فيها كثير من أنواع الفواكه والخضر. وفى جهتها الشرقية سراى على البحر، أنشأتها الست مهتار فى سنة سبع وسبعين ومائتين وألف، ثم انتقلت إلى عنبر أغا المذكور. وفيها جنينة صغيرة للنزهة، وفى جهتها البحرية على بعد مائة متر قصر يسكنه خدمة الجفلك، بنى فى زمن العزيز محمد على، كان أعده لنزوله عند المرور، ثم صار تعلق دائرة كريمات إلهامى باشا، وبداخله جنينة صغيرة للنزهة، وبجوار البحر قصر لمصطفى أغا مفتش نبروه، أنشأه سنة ست وسبعين ومائتين وألف، وجعل بداخله جنينة صغيرة-ولمصطفى أغا شهرة بالكرم والمروءة-وفيها شونة لأصناف الحبوب وغيرها بجوار القصر الذى به خدمة الجفلك من جهة الجنوب، بنيت مع القصر وبها منازل جيدة لبعض كبرائها وتجارها.
وكان بقربها مدرسة الزراعة التى أنشأها العزيز محمد على، وجلب لها من البلاد الأوروباوية المعلمين والخوجات، وآلات الفلاحة المستعملة فى بلادهم، وجعل فيها من أطفال أهل القطر وشبانهم أربعين تلميذا؛ لدراسة قواعد فن الزراعة الذى عليه مدار الثروة فى كافة البلاد، وإتقان هذا الفن النفيس علما وعملا، وكذا صناعة استخراج السمن والجبن من اللبن؛ لأن العزيز-عليه سحائب الرحمة-كان ديدنه السعى فيما فيه صلاح رعيته، واعتنى بتلك المدرسة وذهب إليها بنفسه، وعاين تلامذتها، وكان يود نجاحها وانتشار فنونها؛ لكن الأهالى والحكام والمأمورون لتمكن عوائدهم الأصلية فى أذهانهم، كانوا لا يرغبون فى هذه الاصطلاحات الجديدة، بل كانوا يعيبونها ويتكلمون فيها، وينسبون إليها عدم الفائدة، وأنها لا تساوى ما يصرف فيها، وكان كل ذلك يبلغ العزيز، ومع ذلك لم يحصل لهمته فتور عن إدارتها، ولا قلت رغبته فيها، حتى كثر الغط بكثرة مصاريفها مع عدم ظهور فوائد جديدة تقطع ألسنة المتكلمين، خصوصا وناظرها الإفرنجى لكثرة ما رأى من الإهمال فيها، والمعاندة من الأهالى، قد تركها، فخلفه ناظر آخر أرمنى، كان متربيا فى بلاد فرانسا فمال عن الغرض المقصود من تعليم الطرق الجديدة، واتبع فى غالب أعماله عوائد الأهالى؛ فاضمحلت ثمرتها بالمرة، وكان ذلك داعيا إلى نقلها من جهة نبروه إلى شبرا الخيمة؛ لتكون تحت نظر موسيو هامون مع مدرسة البيطرة والاصطبلات لما له من الحذق والنصح فى وظائفه، فاجتهد هامون فى ترتيبها وإتقان التعليم فيها على أسلوب البلاد الفرنساوية، وغرس أشجارا ونباتات وخضرا أجنبية، فاكتسب بعض التلامذة طرقا لعلاج النباتات، وتحسين ثمارها وتقوية نموها، غير أن ذلك لم يظهر للمعارضين؛ فداموا على تحسين ما اعتادوه وطرح ما عداه، ومعلوم أن من جهل شيئا عاداه، وأن الأمور التى تحدث فى الأقطار على خلاف المعتاد لطباع أهلها تحتاج لكثرة المزاولة، وزيادة الالتفات، واستعمال الصبر عليها، وبذل الأموال فيها،
حتى يتمكن المنوط بإدخالها فى تلك البلاد من التوفيق بين أحوال هذه الأمور وأحوال/أراضى القطر بالتجربة والامتحان، وتحرى المناسبات شيئا فشيئا. فلو أنهم صبروا والتفتوا وحملوا الناس على التعلم بدلا عن التثبيط، لكان خيرا لهم، ولظهرت ثمرة تلك الأعمال. وصارت مألوفة. لكن لم يتيسر ذلك فاضمحل حالها، وأهمل أمرها، ثم إن زمام مساكن تلك البلدة اثنان وثلاثون فدانا، ورى أرضها من بحر «شيبين» ، وبها ساقيتان؛ إحداهما بجامع الأربعين، والأخرى بجامع سيدى مجاهد. ارتفاع كل عشرة أمتار، وبها مقبرة دارسة بجوار الشيخ مجاهد، ومقبرة يقال لها جبانة الشيخ يحيى فى جهتها الغربية دارسة أيضا، ومقبرة فى جهتها القبلية فيما بين الجرن، وأرض المزارع معدة للدفن، وبها أضرحة لبعض الصالحين كضريح الشيخ يحيى فى جهتها الغربية، وهو الآن متهدم، وضريح الشيخ سعيد، والشيخ إبراهيم الضوينى مهدوم أيضا، والشيخ شرف الدين، وسيدى الأنصارى فى بحريها، وسيدى العراقى فى غربيها، ولهذه الناحية شهرة بزرع القطن، ولها سوق كل يوم اثنين، وأكثر سكانها مسلمون، وفيهم أقباط وأوروباويون. وقد ترقى من أهلها السيد أفندى النقيب، أحد رجال ديوان الهندسة برتبة صاغقول أغاسى.
ترجمة إبراهيم بيك النبراوى
ومن أهلها حضرة المرحوم إبراهيم بيك النبراوى رئيس الأطباء سابقا، ترقى فى الرتب الديوانية إلى أن بلغ رتبة المتمايز. وفى أول أمره أدخله أهله مكتب بلده تعلم فيه الخط وبعض القراءة، ثم تعلق بالبيع والشراء، وترك المكتب. وأرسلوه مرة إلى المحروسة ليبيع بطيخا، فلم تربح تجارته، بل لم يحصل رأس المال فخاف من أهله، ولم يرجع إليهم، ودخل الأزهر، واشتغل بالقراءة، وفى تلك المدة طلب من الأزهر شبان برغبتهم لتعلم الحكمة، فرغب المترجم ودخل مدرسة أبى زعبل، فأقام بها مدة، وترقى إلى رتبة ملازم، ثم تعلقت الإرادة السنية بإرسال جماعة إلى بلاد فرانسا. ليتقّنوا فنون الحكمة،
فانتخب فيمن انتخب للسفر، فسافر هو والمرحوم مصطفى بيك السبكى، والمرحوم محمد على بيك البقلى وغيرهم، فنجبوا فى ذلك الفن، وحضروا إلى مصر سنة تسع وأربعين، وترقى هو إلى رتبة يوزباشى بوظيفة خوجة بمدرسة الطب فى قصر العينى، ثم بعد قليل أحسن إليه برتبة صاغقول أغاسى، ولنجابته وحسن درايته فى فنه اختاره العزيز محمد على باشا حكيمباشى لنفسه، وقربه وتخصص به، وبلغ رتبة أميرالاى وكثرت عليه إغراقات العزيز وانتشر ذكره، وطلبته الفامليات والأمراء، ولم يزل مع العزيز وسافر معه إلى البلاد الأوروباوية سنة ثلاث وستين، وانتخبه أيضا المرحوم عباس باشا حكيمباشى له بعد جلوسه على التخت، واختارته والدته أيضا للسفر معها إلى الحج الشريف، ولما رجع من الحج وجد زوجته الإفرنجية التى كان أتى بها معه من بلاد الإفرنج قد ماتت، فأخرجت له والدة المرحوم عباس باشا إشراقة من جواريها، وأنعمت عليه بها. وبعد أن عاش مدة منعم البال، مترف الأحوال، نزل به داء الربو، فتوفى به سنة تسع وسبعين هلالية، وكان رحمه الله تعالى إنسانا كريم الشيم، رفيع الهمة، يغلب عليه الفرح والانبساط. فكنت تراه دائما مستصحبا للمغانى والآلات. وله ترجمة كتاب فى الأربطة. وهو أنجب من اشتهر فى التجريح، ذو إقدام على ما لم يقدم عليه غيره؛ فمن ذلك أنه كان يشق على أدرة الرجل، ويعمل فيها العمليات المنتجة للصحة. ولم يسبقه فى ذلك غيره. وكان يكتسب من ذلك أموالا جسيمة؛ فملك كثيرا من العقارات والجوارى والمماليك وغير ذلك، وخلف من الزوجة الإفرنجية ثلاثا من البنات، وولدا موجودا إلى الآن فى البلاد الإفرنجية، وخلف من زوجته البدوية ابنه خليل بيك. ولما مات كان عليه ستة عشر ألف جنيه دينا، وخلف ألفا وسبعمائة فدان؛ منها فى ناحية قلما من بلاد القليوبية ثلاثمائة فدان وقعت فى القسمة لأولاد الإفرنجية، وصار بيعها مع ما بها من القصر. وفى زفيتة شلقان وشبرا مائتان وخمسة وستون فدانا، هى الآن تحت
يد ابنه خليل بيك وبنته من الجارية البيضاء، ومنها ستمائة فدان فى ناحية منية الفرماوى، وهى خراجية تحت يد خليل بيك وأخته المذكورين. ومنها فى دجوة ثلثمائة فدان، ومنها فى كفر أبى جندى من الغربية مائة وخمسون فدانا عشورية على ترعة الجعفرية، وكان الوصى عليهم مظهر باشا، فأدار مصالحهم على أحسن حال، حتى وفى الديون جميعها. وفى شرقى هذه البلدة ناحية قصر الجرد، وفى غربيها ناحية درين، وفى بحريها الطيبة، وفى قبليها كفر الحصة، ولها طريقان أحدهما إلى دميرة على نحو ساعة ونصف، والثانى إلى المحلة الكبيرة فى نحو أربع ساعات.
(النجيلة)
بنون فجيم وياء تحتية فلام، وفى آخره هاء التأنيث بصيغة المكبر.
بلدة قديمة. رأس مركز بمديرية البحيرة، واقعة على الشط الغربى لبحر رشيد، وفى جنوبها الغربى قرية زاوية البحر على بعد ثلاثة آلاف متر، وفى قبليها محلة أحمد على بعد ستمائة متر، وهى إحدى البلاد التى اعتنى بها العزيز محمد على باشا، وأجرى فيها التنظيم مثل ناحية جزى. قرية شرقى بحر رشيد من مديرية المنوفية/. ومثل كفر الزيات على الشط الشرقى أيضا من مديرية الغربية. فقد عين العزيز لهذه القرى مهندسين من رتبة ملازم ثان، تحت إمرة موسيو دارنو قائم مقام الفرنساوى سنة أربع وستين ومائتين وألف.
فكان المعين لتنظيم النجيلة مصطفى أفندى أحمد، المتوفى سنة ثمان وسبعين ومائتين وألف. والمعين لتنظيم جزى مصطفى أفندى عبد اللطيف، ثم صار وكيل باشمهندس الشرقية. والمعين لتنظيم كفر الزيات أحمد أفندى عامر، المتوفى آخر سنة أربع وستين؛ وتشتمل ناحية النجيلة الآن على مبان مشيدة من الآجر واللبن، وبها جامع بمنارة غير الزوايا، وقيسارية فوق البحر ذات حوانيت وقهاو، وخمارات. وفيها بجنوبها الغربى شون غلال للميرى، ومن الجهة الشرقية ديوان ناظر القسم، ولها سوق كل يوم أحد. وكان فى هذه
القرية كما فى الجبرتى حادثة حاصلها أن فى سنة اثنتين ومائتين بعد الألف، مر بها العرب الذين طلبهم عبدى باشا للاستعانة بهم على قتال الأمراء المصريين الفارين إلى الصعيد، فعاثوا فى تلك القرية، حتى قتلوا منها نيفا وثلثمائة نفس فى يوم واحد، وفى سنة إحدى وعشرين ومائتين وألف، وقت أن كان الألفى محاصرا لدمنهور، وكانت عساكره تحارب عساكر العزيز محمد على باشا بالرحمانية وحصل بينهم هناك عدة وقعات، كما ذكرنا ذلك فى الكلام على دمنهور، قامت عساكر محمد على باشا راجعة إلى النجيلة، ونصبوا عرضيهم هناك، وحضر الألفى ونصب عرضية تجاههم، وحصل بينهم مقتلة هناك انتصر فيها الألفى، وقتل من الدلاة وغيرهم مقتلة عظيمة إلى آخر ما هو مبسوط فى دمنهور. انتهى.
(النحرارية)
بنون فحاء فراء مهملتين فألف فراء مهملة فمثناة تحتية فهاء تأنيث. قرية من مديرية الغربية بمركز كفر الزيات على الشاطئ الشرقى لبحر الصهريج، فى مقابلة فليب أبيار وفى غربى كفر محمد بنحو ألفى متر، وفى شمال كفر المحروق بنحو ألف وخمسمائة متر، وبها جامع بمنارة، وتكسب أهلها من الزراعة وغيرها، وفى كتاب الروضة الزاهرة، أن هذه البلدة كانت مدينة عظيمة، أنشأها الأمير سنقر نقيب الجيوش المنصورة فى أيام الملك الناصر محمد بن قلاوون، وبالغ فى عمارتها فلما بلغ الملك الناصر ذلك أخذها منه، وصارت بلدة كبيرة من جملة بلاد السلطان، ورغبت الناس فى سكناها، وبنوا بها الدور والقصور والأماكن، وبنى بها السلطان محمد بن قلاوون جامعا وسماه المحمودية، وكان به ثلثمائة وخمسون عمودا، ورتب فيه عشرين درسا، وبنى حول المسجد الدكاكين والفنادق ووقفها على المسجد، وجعل له مائة فدان طينا، يؤخذ خراجها ويصرف على العلماء والمدرسين، وكان بها مائة وعشرون مسجدا كبارا وصغارا، وكان بها عشرون حماما، وستون معصرة للزيت، وغير
ذلك من الأسواق والدكاكين وكانت من أجل المدائن الإسلامية، وهى آخر ما بنى فى مصر من المدائن، والآن قد استولى عليها الخراب من ظلم الولاة والكشوفية. انتهى.
ترجمة العلامة ابن الزين الشافعى
وإليها ينسب كما فى الضوء اللامع للسخاوى محمد بن زين بن محمد بن زين بن محمد بن زين الشمس، أبو عبد الله الطنتدائى الأصل النحرارى الشافعى، ويعرف بابن الزين، ولد قبل الستين والسبعمائة بالنحرارية من الغربية، وحفظ القرآن بأبيار، وارتحل إلى القاهرة فحفظ الشاطبيتين، والتنبيه، والألفية، وقرأ بالسبع وتمام إحدى وعشرين رواية على الفخر البلبيسى إمام الأزهر، وتفقه بالعز القليوبى، وأخذ عن البدر الزركشى، والكمال الدميرى وعمر الخولانى، وآخرين. ونظم السيرة لفتح الدين بن الشهيد، وحج مرتين، وشرح ألفية ابن مالك نظما، وكذا الرائية، وأفرد لقراءة كل من السبعة منظومة، وله نظم كثير فى العلم والمديح النبوى، وأفرد جملة منه فى ديوان كبير جدا، وهو صاحب المنظومة المتداولة فى الوفاة النبوية، ونظم قصة السيد يوسف عليه السلام فى ألف بيت، وسبك الأربعين النبوية فى قصيدة، وهو مطبوع فى غالب شعره على صناعات المعانى، والبيان من المقابلة ونحوها، وربما وقع فى شعره اللحق؛ لعدم إمعان النظر، ولكلامه وقع فى القلوب، وفيه حكم ومعان مع الصلاح والزهد، وكان خيّرا منورا مهيبا، ذا أحوال وكرامات، وأخذ عنه غير واحد من أهل تلك النواحى وغيرها القراآت. وبلغنى أنه كان أصم، فإذا قرئ عليه يدرك الخطأ أو الصواب، بحركات فم القارئ؛ لوفور ذكائه مع صلاحه، ويقال أنه كان أول أمره جزالا، وأنه تزوج امرأة عمياء، فحثته على قراءة القرآن، وأعطته ما دفعه لمن يعلمه، فكان ذلك فاتحا له إلى الخير.
ويحكى أنه قال فى بعض نظمه، ما معناه: إن الله يرضى الكفر للكفار. فأنكر عليه العينى، فقال له: قال جماعة من العلماء: إن المراد بالعباد فى الآية
خاص: أى لعباده المؤمنين، ذكر ذلك النووى فى الأصول والضوابط، فأحضر التفاسير، فوجد الحق معه، فأكرمه وعظمه، وذلك البيت هو./
ويرضى لأهل الكفر كفرا وإن أبوا
…
وما كان مقدورا، فلم يمحه الحذر
مات سنة خمس وأربعين وثمانمائة، بعد رجوعه من الحج، رحمه الله.
ومن نظمه:
تقطعت بمدى التبريح أوصالى
…
كأن ذاك النوى بالقطع أوصالى
أصبحت للعين منكورا وعرفنى
…
سقم كسيت به أثواب أنحال
انظر لحالى ترانى بالضنى عجبا
…
تغيرت منه بين الناس أحوالى
ومقلتى لم تزل بالليل ساهرة
…
ترعى النجوم بإدبار وإقبال
(النخيلة)
بالنون والخاء المعجمة، مصغرا. قرية من قسم أبى تيج بمديرية أسيوط على الشاطئ الغربى للنيل فى جنوب أبى تيج بنحو أربعة آلاف متر، وأبنيتها من أعظم أبنية الأرياف؛ لأنها كانت من بلاد الملتزمين فى الأزمان السابقة، وكان لملتزميها شهرة زائدة، وسيادة على كثير من أهل قرى تلك الجهات، وذريتهم بها إلى الآن، ولهم بها آثار وأبنية مشيدة، وشوارعها وحاراتها متسعة فى غاية من الاعتدال، وبها جوامع عامرة، وكنيسة أقباط، وأكثر أهلها مسلمون، أهل يسار؛ لكثرة أطيانهم، وجودة محصولاتها، ومنهم تجار فى الغلال وغيرها، وفيها نخيل كثير فى داخل المنازل وخارجها، وبساتين نضرة، وجسر الحوّاش الخارج من أبى تيج، يمر عليها مقبلا إلى طما فما بعدها، والطريق السلطانى يمر فى غربيها على نحو سدس ساعة، وهو طريق متسع وبه آبار معينة، وسبل من أبنية الملتزمين مستعملة إلى الآن، ومن عوائد هذه البلدة-ككثير من تلك البلاد-أنه إذا ولد لأحدهم ولد ذكر، فلا بد أن يتخذ له
عما ينتسب إليه، ويركن إليه فى مهماته، مثل الختان والزواج، ولكل منهما على الآخر حقوق؛ فإذا ولد للعم ولد ذكر، كان الولد الأول عما لذلك الولد، وهكذا كالتوارث والمكافات، وعلى الولد تعظيم عمّه، واحترامه، والقيام له إذا أتى على مجلسه، ولا يخالفه فى أمر، ولو كان مثله فى السن أو أكبر، وعلى العم أن يقوم بشأن الولد فى أفراحه، وعادتهم عند غسل المختون، أو الزوج قبل آخر ليلة، أن يجردوه من ثيابه، ويجلسوه فى طشت مثلا، فى وسط العرصه، ويحيط به الناس رجالا ونساء، ويرمون عليه نقطة يأخذها الغاسل وهو الحلاق، والنساء يغنين، فإذا فرغ من الغسل فلا يمكنه الغاسل من لبس ثيابه إلا بشيء من النقود يدفعه عمه لذلك الغاسل، وكذا عند حلق رأسه يترك منه بعضا بلا حلق، ولا يتممه إلا بشيء يدفعه له عمه، فإذا كان عادتهم طواف العريس بالبلد بالدف والمزمار، كما فى بعض البلاد، فعلى العم أن يأتى له بفرس مسرج ملجم وخادم؛ حتى يتم طوافه، يدفع له نقطة تسمى الغرز من الدنانير أو الدراهم، أو الحيوانات أو الأشجار، ويكتب ذلك فى دفتر؛ ليرد إليه عند مثله، ويرسل له كل ليلة من الأسبوع، الذى بعد تمام العرس طعاما مطبوخا من لحم ونحوه، وبعد أسبوع أو أكثر يدعو الزوج أو أبوه أحبته، ويذهب بهم إلى بيت أبى الزوجة، ويكون قد أرسل هناك ذبيحة كما فى عادة بعض البلاد، فيأكلون هناك ويفرق عليهم اللحم، فيأكل كل من أبى الزوج وأبى الزوجة ما ناب الآخر، ويسمى ذلك الصلحة، ثم يحضر لهم إناء من نحاس مثلا، فيضعون فيه نقوطا تأخذه الزوجة.
وأما معتاد ملابسهم، فللرجال زعابيط الصوف، والدفافى الصوف، وثياب القطن والخز، الذى لحمته من قطن، وسداؤه من حرير، بتفصيل يسمى البداوى، بأكمام واسعة مع كشف الصدر، ويلبسون الملاءات الإخميمى ونحوها من القطن الخالص، أو فى حاشيتها حرير نحو ستة أصابع، وعمامة غليظة من الشاش؛ وبعض البلاد يتعمم بالصوف المسمى بالبلّين، بشدّ
اللاّم، ولما دخل التمدن والترفه بلاد مصر لبسوا القفاطين، والجبب الجوخ على هيئة أهل القاهرة، إلا أنهم يلبسون فوقها ثياب القطن والصوف الرفيع المصبوغ بالنيلة، ويلبسون فى أرجلهم اليوم الشرابات، والخفاف فى النادر. بل ذلك للأكابر منهم والحكام. ومعتاد نساء أغنيائهم ملاآت الحرير، وثيابه الواسعة الأكمام كثياب القطن، والطرابيش التى قد تكون مرصعة بالذهب أو الفضة، ويتحلين بالأقراط والخلاخل، وشيء يسمى باللازم، وهو محموديات من الذهب، أو نحوها تثقب وتنظم فى سلك وتوضع فى العنق، والأساور من الفضة، وقد تكون من الذهب، وقد تكون من العاج، وهو سن الفيل.
وأما الفقراء رجالا أو نساء، فيلبسون الصوف والقطن الغليظ، بالتفصيل الواسع البداوى، ويلبس الرجل قلنسوة من صوف والمرأة برنسا من قماش، تزينه بالودع المرصع فوقه، وإذا مات لهم ميت خرج أقاربه من النساء، فيطفن البلد بالصراخ؛ للإعلام به. ويتسخمن بالطين أو النيلة، ومعهن نائحة تضرب بالطار، وتندب الميت، ويرددن عليها. وإذا كان الميت من الأكابر، دفنوا معه إبريقا/وطشتا وشبكا بتركيبة كهرمان، وكيس دخان، وعدة قهوة كاملة 7 وأحسن ملابسه، ويتلقون كل ما كان يستعمله، ويسخم فرسه بالطين، وتمشى خلف جنازته. وهذه عوائد كثير من البلاد، كما علمت.
(نزة)
بنون مفتوحة فزاى معجمة مشددة، فهاء تأنيث من هذا الاسم موضعان، أحدهما خطة فى جنوب طهطها الغربى؛ تشتمل على عدة قرى وكفور، أكبرها نزه الحاجر فى حاجر الجبل الغربى، فوق شط السوهاجية، فى شمال جهنية، بنحو ثلث ساعة. أبنيتها من اللبن الرملى، وفيها مضايف ومساجد، وفى جنوبها الشرقى نخيل، وفيها بيت مشيد لعطية محمود الدقيشى، وهو رجل ذو ثروة، له عملاء يتجرون بماله فى بلاد السودان وغيرها، فى سن الفيل وغيره،
ويتبعها نحو سبعة نجوع منتشرة من شاطئ السوهاجية الغربى إلى بساط الجبل، ويحدها من جهة الشمال، بلاد الهلة، وليس منها فى شرقي السوهاجية إلا نزة الدقيشية، فيها بيت مهران أغا الدقيشى، بدال مضمومة فقاف مفتوحة فياء ساكنة فشين معجمة فياء النسبة. كان ناظر قسم زمن العزيز محمد على، وكان كريما معطاء، وتزوج كثيرا، ومات قبل سنة ثمانين، وترك من الأولاد الذكور نحو أربعة عشر؛ منهم ابنه عطية هو عمدة نزة الآن وأحد أعضاء مجلس شورى النواب، وله شهرة فى الكرم أيضا. ولهم أبنية مشيدة، وقصر كقصور مصر، ينزل به المديريون، وخلافهم، وحديقة وسواق، وعصارة لقصب السكر، ويزرعونه هناك كثيرا. ولمهران أغا أخ اسمه أحمد أغا، جعل ناظر قسم فى زمن الخديوى إسماعيل مدة طويلة، وجمع أموالا كثيرة، وله اعتناء باقتناء الغنم. ويقال إن له طوية سوء ومكر وخديعة.
ومن نجوعها نزلة تسمى المحزّمين بضم الميم وفتح الحاء المهملة وتشديد الزاى المعجمة المفتوحة فميم مكسورة فتحتية فنون.
فيها بيت الحاج سلامة العطون؛ فيه مضيفة متسعة، ومسجد عامر.
وكان ناظر قسم فى زمن العزيز محمد على بعد مهران أغا، وكان كريما، وأعقب ثمانية أولاد ذكور وبيتهم عامر إلى الآن، ولهم جنينة واسعة.
وفى جميع قرى نزه يزرع قصب السكر ويباع فى الأسواق من غير عصر، ولها شهرة بزرع الملوخية والقطن. وفى نزه الحاجر حلاجات للقطن، وأنوال لنسجه محارم وملايات، ومقاطع غليظة. وسوقها كل يوم أحد، ولأهلها عادة بالسفر إلى الواحات، لجلب بضائعها مثل النيلة والأرز والثمر.
والموضع الثانى نزه فى قسم منفلوط من مديرية أسيوط فى غربى منفلوط بأقل من ساعة، وفى جنوب بنى رافع كذلك، وفى شمال بنى عدى بأكثر من ساعة، وفيها نخيل، ومساجد، ومضايف، وأكثر أهلها مسلمون، وتكسبهم من الزرع.
(النسائمة)
بلدة من مديرية الدقهلية بمركز دكرنيس على الشط البحرى لبحيرة الملح، بينها وبين المطرية نحو ألفي قصبة. أغلب أبنيتها بالطوب الأحمر، وبها جامع بمنارة. وأضرحة لبعض الصالحين. وعندها بحيرة يستخرج منها ملح الطعام. وبعض أهلها صيادون للسمك، والبعض يستخرج الجبس من بحيرة الملح. وتكسبهم من ذلك، ومن زراعة الأرز، وبعض الحبوب، وقليل من القطن.
(نسترويه)
مدينة كانت من مدن الوجه البحرى. سميت فى بعض كتب الإفرنج أستوريو، وفى بعضها أستوريون، وفى بعض آخر أستوريونيس. قال خليل الظاهرى بعد أن تكلم على دمياط: ويأتى-أي المسافر-بعد ذلك بحيرة السمناوية، ثم مدينة فوة، ثم قسم البرلس، ثم نسترويه، ثم رشيد.
وقال أحمد العسقلانى: نزلت الإفرنج فى سنة خمس وتسعين وسبعمائة هجرية بأرض مصر قريبا من نسترويه. وفى تاريخ كنيسة الإسكندرية، سميت نسترانى، وكانت تخت أسقفية فى زمن النصرانية، وكان فيها على ساحل البحر معبد فيه قبر الشهيد ثكل، من تلامذة مارى بولص.
وقد بنى عامل مصر يزيد بن عبد الله حصن نسترويه، لما خاف من إغارات الروم، وكانت مدينة حسنة على بحيرة نسبت إليها، فقيل بحيرة نسترويه، وكانت قبل ذلك تسمى بحيرة البشمور. انتهى.
ووصف ابن حوقل طريق الفسطاط إلى الإسكندرية فقال: تبتدئ من شطنوف إلى سبيل العبيد، إلى منوف إلى محل سرد إلى سخا، إلى شبرى مياه، إلى مسيران، إلى سنهور، إلى النجوم إلى نسترويه، إلى البرلسى، إلى عجنة، إلى رشيد. قال: وكان يحيط بنسترويه مياه كثيرة، يصاد منها السمك،
وعلى سمكها قبالة كبيرة للسلطان. وبها قوم مياسير. ويوصل إليها فى المعديات إذا زاد الماء، وإذا نضب توصل إليها بالجسور انتهى. وفى زمن أبى الفداء كانت نسترويه قرية كبيرة، وفى زمن المقريزى اضمحل حالها.
(نشرت)
قرية من مديرية الغربية بمركز كفر الشيخ، واقعة فى شرقى بحر سيف بنحو ألف متر، وفى جنوب ناحية الطويلة كذلك، وفى الشمال الشرقى لكفر الكردى بنحو ألف وتسعمائة متر، وبها جامع وزوايا، وتكسّب أهلها من الزرع.
وإليها ينسب العالم الفاضل الشيخ محمد النشرتى المالكى.
ترجمة الشيخ محمد النشرتى المالكى
شيخ الجامع الأزهر. قال الجبرتى: إنه بعد وفاته حصلت فتنة فى الأزهر فى سنة مائة وعشرين وألف/كان سببها المشيخة والتدريس بالإبتغاوية؛ فافترق المجاورون فرقتين: فرقة تريد الشيخ أحمد النفراوى، والأخرى تريد الشيخ عبد الباقى القلينى. ولم يكن القلينى حاضرا بمصر، فتعصب له جماعة النشرتى، وأرسلوا يستعجلونه للحضور، فقبل حضوره تصدر الشيخ أحمد النفراوى وحضر للتدريس بالإبتغاوية، فمنعه القاطنون بها، وحضر القلينى، فانضم إليه جماعة النشرتى، وتعصبوا له فحضر جماعة النفراوى إلى الجامع ليلا، ومعهم بنادق وأسلحة، وضربوا بالبنادق فى الجامع، وأخرجوا جماعة القلينى، وكسروا باب الإبتغاوية، وأجلسوا النفراوى مكان النشرتى، فاجتمع جماعة القلينى فى يومها بعد العصر، وأغلقوا أبواب الأزهر وتضاربوا مع جماعة النفراوى، فقتلوا منهم نحو العشرة أنفار، وجرح بينهم جرحى كثيرون، وانتهبت الخزائن، وتكسرت القناديل، وحضر الوالى، فأخرج القتلى، وتفرق المجاورون، ولم يبق بالجامع أحد، ولم يصلّ فيه فى ذلك اليوم. وفى ثانى يوم طلع الشيخ أحمد النفراوى إلى الديوان، ومعه حجة الكشف على المقتولين،
فلم يلتفت الباشا إلى دعواه، لعلمه بتعديه. وأمره بلزوم بيته، وأمر بنفى الشيخ محمد شنن إلى بلده الجدية، وقبضوا على من كان بصحبته، وحبسوهم فى الغرقانة. وكانوا اثنى عشر رجلا. وتطاول حسن أفندى نقيب الأشراف على الشيخ النفراوى، والشيخ محمد شنن فى الديوان بحضرة الباشا، واستقر القلينى فى المشيخة والتدريس. ولما مات تقلد بعده الشيخ محمد شنن، وكان النفراوى قد مات، فلما مات الشيخ محمد شنن تقلد المشيخة بعده الشيخ إبراهيم بن موسى الفيومى المالكى، ولما مات فى سنة سبع وثلاثين ومائة وألف، انتقلت المشيخة إلى الشافعية، فتولاها الشيخ عبد الله الشبراوى، انتهى.
(نشيل)
من هذا الاسم قريتان بمصر: إحداهما قرية بمديرية الجيزة من قسم أول، غربى ترعة الزمر بنحو أربعمائة متر، وفى غربى ناحية وراق العرب، بنحو ألفى متر، وفى شمال منية عقبة بنحو ألفين وثمانمائة متر. وبها جامع بمئذنة وبدائرها حدائق ونخيل كثير.
والأخرى قرية من مديرية الغربية، بمركز كفر الشيخ شرقى بحر منية، يزيد على بعد مائة متر، وفى شمال أبشواى الملق بنحو ألفى متر، وفى غربى السجاعية بنحو أربعة آلاف متر، وبها جامع.
(نفرة)
قرية صغيرة من قسم الجعفرية بمديرية الغربية، على الشاطئ الشرقى لترعة حسن، الخارجة من ترعة العطف، الخارجة من النيل. فمها فى بحرى فم القرينين القديم عند ناحية العطف.
وفى البلد مساجد، ومضايف، وبستان لعمدتها عبد الواحد. وأهلها مسلمون ومنهم العلماء والأفاضل، إذ إليها ينسب الشيخ محمد النفراوى.
ترجمة العالم الفاضل
الشيخ محمد بن إسماعيل النفراوى
وقد ترجمه الجبرتى فى تاريخه، فقال: هو العالم الفاضل المحقق الشيخ محمد بن إسماعيل بن خضر النفراوى المالكى. كان والده من أهل العلم والصلاح، عمّر كثيرا حتى جاوز المائة، وانحنى ظهره. وتوفي سنة ثمان وسبعين ومائة وألف. تربى المترجم فى حجر أبيه، وحفظ القرآن، والمتون، وحضر دروس الشيخ سالم النفراوى، والشيخ خليل المالكى، وغيرهما، وحضر المعقول على كثير من الفضلاء، وأنجب ودرس. وكان جيد الحافظة، قوى الفهم، مستحضرا للمسائل الفقّهية والعقلية. ولما بلغ المنتهى فى العلوم المشهورة، مالت نفسه للعلوم الحكمية والرياضية، فأحضره والده للشيخ الجبرتى الكبير، والد المؤرخ، والتمس منه مطالعته عليه، فأجابه إلى ذلك، ورحب به وكان عمره إذ ذاك نيفا وعشرين سنة، فلازم الشيخ ليلا ونهارا؛ حتى اشتهر بنسبته إليه، وتلقى عنه فن الميقات والهيئة والهندسة، والهداية فى الحكمة. وشرحها لقاضى زاده، والجغميني والمبادئ، والغايات والمقاصد فى أقل زمن مع التحقيق والتدقيق، وحضر عليه المطول والمواقف والزيلعى فى فقه الحنفية، وغير ذلك، برواق الجبرت بالأزهر، وتلقى عنه علم الأوفاق أيضا، وأجازه العلامة الملوى والجوهرى والشمس الحفنى، والقطب العفيفى وغيرهم. وكان خطه جيدا حسنا، وكتب كتبا كثيرة، وألف حاشية على شرح العصام على السمرقندية، وأجوبة على الأسئلة الخمسة، التى أوردها الشيخ أحمد الدمنهورى، على علماء العصر، وأعطاها لعلى بيك، وقال: أعطها للعلماء الذين يترددون عليك؛ ليجيبوا عنها، إذا كانوا يزعمون أنهم علماء.
فأخذها على بيك، وأعطاها للشيخ الجبرتى الكبير، وأخبره بمقاله الشيخ الدمنهورى، وكان إذ ذاك شيخا على الجامع الأزهر، فقال له الشيخ الجبرتى:
هذه وإن كانت من عويصات المسائل، يجيب عنها ولدنا الشيخ محمد النفراوى. وهى:
السؤال الأول: فى إبطال الجزء الذى لا يتجزأ.
الثانى: فى قول ابن سينا: ذات الله نفس الوجود المطلق.
والثالث: فى قول أبى منصور الماتريدى: معرفة الله واجبة بالعقل، مع أن المجهول من كل وجه يستحيل طلبه.
والرابع: فى قول البرجلى أن من مات من المسلمين، لسنا نتحقق موته على الإيمان.
والخامس: فى الاستثناء فى الكلمة الشريفة، هل هو متصل أو منفصل؟
فأجاب عنها بأجوبة منطوية على مطارح الأنظار، دلت على/رسوخه وسعة اطلاعه، ومعرفته بدقائق أذكياء الحكماء والمتكلمين. وعانى الرسم، فرسم عدة بسائط ومنحرفات، وحسب كثيرا من الأصول والدساتير، وتصدى لتعليم الطلبة، الذين يأتون من الآفاق، لطلب معرفة العلوم الغربية، وألف متنا على شرح نور الإيضاح، فى فقه الحنفى، باسم الأمير عبد الرحمن كتخدا، وألف رسالة سماها: الطراز المذهّب فى بيان معنى المذهب، وهى عبارة عن جواب على سؤال ورد من الإسكندرية نظما، وكان له سليقة جيدة فى النثر والنظم. ومن نظمه وكتب على باب ضريح السيدة نفيسة، بماء الذهب على الرخام قوله:
عرش الحقائق مهبط الأسرار
…
قبر النفيسة بنت ذى الأنوار
حسن بن زيد بن الحسن نجل
…
م على بن عم المصطفى المختار
وذلك حين جدد بناءه الأمير عبد الرحمن كتخدا. ومن كلامه أيضا ما كتب على باب القبة:
عبد رحمن لعفو قد ترجى
…
قد بناها روضة للزائرين
فلذا أرختها يا زائريها
…
ادخلوها بسلام آمنين
ومن كلامه أيضا قوله:
بالعز سيروا مع السلامه
…
فالسعد أضحى لكم علامه
واللطف حصن مع الكرامه
…
لكم دواما إلى القيامه
وكان به حدة طبيعية، وهى التى كانت سببا فى موته؛ لأنه كان قد حصل بينه وبين الشيخ سليمان البجيرمى منافسة، فشكاه إلى الشيخ الدمنهورى، فأرسل إليه، فلما حضر فى مجلسه بالأزهر تحامل عليه، فقام من عنده، وقد أثر فيه القهر، فمرض أياما، ثم توفى فى شهر جمادى الثانى من سنة خمس وثمانين ومائة بعد الألف رحمه الله تعالى. انتهى.
ترجمة الشيخ أحمد بن الفاضل العلامة
الشيخ سالم النفراوى المالكى
وفى الجبرتى أيضا: إن منها الفاضل المبجل الشيخ أحمد بن الفاضل العلامة الشيخ سالم النفراوى المالكى، نشأ فى حجر والده فى رفاهية وتنعم، ولما مات والده، تعصب له الشيخ عبد الله الشبراوى، وحاز له وظائف والده، وأجلسه للإقراء فى مكان درس أبيه. وكان الشيخ علىّ الصعيدىّ متطلعا للجلوس فى محل أبيه؛ لأنه كان فيه جلّ الطلبة عنده، فلم يمكنه ذلك. ثم اجتهد الشيخ الشبراوى، وأمر طلبة أبيه بالحضور عليه، فاشتهر أمره، وعدّ من الكبار، وترددت إليه الأمراء والأعيان، وصار ذا هيبة وصولة. ولما ظهر شأن على بيك، وتردّد عليه المترجم، راعى له حقه، وحالته التى وجده عليها، وقبل شفاعته، وأحبه وأكرمه. وكان يذهب إليه فى داره التى بالجيزة، ثم لما مات على بيك، وانتقلت الرياسة إلى محمد بيك أبى الذهب، وكان له عناية
بالشيخ الصعيدى تأخر حال المترجم، وتسلطت عليه الألسن، وكثرت فيه الشكوى، وهدموا بيته الذى بالجيزة. ولم يزل يتأخر إلى أن توفى سنة سبع وسبعين ومائتين وألف، رحمه الله تعالى.
(النقيطة)
قرية من مديرية الدقهلية بمركز المنصورة. على الجانب الغربى لترعة المنصورية، قبلى المنصورة بنحو ساعة، وأغلب أبنيتها بالطوب الأحمر، وبها جامع شيد أنشاه عمدتها علي أبو عبد الله، وله بها دوار للضيوف، ويزرع فى أرض هذه البلدة صنف الثوم بكثرة، وأغلب الوارد إلى مصر منها، وليس لها سوق، وإنما يتسوّق أهلها من سوق المنصورة.
ترجمة الشيخ سليمان المنصورى الحفنى
وفى الجبرتى أن هذه القرية ولد بها الفقيه المفتى الشيخ سليمان بن مصطفى بن عمران، الولى العارف الشيخ محمد المنير المنصورى الحنفى، أحد الصدور المشار إليهم. وكانت ولادته فى سنة سبع وثمانين وألف. وقدم الأزهر، فأخذ عن شيوخ المذهب مثل؛ الشيخ شاهين الأرمناوى، والشيخ عبد الحى بن عبد الحق الشرنبلالى، وأبى الحسن على بن محمد العقدى والشيخ عمر الزبيدى، والشيخ عثمان النحريرى، والشيخ فائد الإبيارى شارح الكنز، وأتقن الأصول، ومهر فى الفروع، وتصدر للتدريس والإفادة، ودارت عليه مشيخة الحنفية، ورغب الناس فى فتاويه، وانتفع به الكثير، وكان جليل القدر، عالى الذكر، مسموع الكلمة، مقبول الشفاعة، واستمر على ذلك إلى أن توفى فى سنة تسع وستين ومائة وألف رحمه الله تعالى.
(نهية)
قرية من مديرية الجيزة بقسم أول على الشاطئ الشرقى للبيتى، بينها وبين الجبل الغربى نحو ساعة فى غربى قرية سفط، وهى وسط الحوض لا
يتوصل إليها زمن فيض النيل إلا بالمراكب، وأبنيتها من الطوب المضروب آجر أو لبنا، وبها عدة طواحين، ومصابغ، وأنوال لنسج الصوف، ومقاطع الكتان، والكمبريت، وبها مساجد عامرة منها: مسجد جدده عائلة الزمر بجوار منازلهم، وقاموا بشعائره. بداخله ضريح ولىّ يقال له سيدى عمر. وبها مقامات أخرى:
كمقام سيدى عبد المجيد الصيرفى، ومقام سيدى/أبى فراج، وسيدى عطاء الله، وسيدى تاج الدين، وسيدى شرف الدين، ومقام الأربعين بالجامع الغربى. ولهم حضرات وليال فى كل أسبوع، تشتمل على الأذكار، وتلاوة القرآن. وبها نخيل كثير وأشجار. وفى جهتها القبلية حيضان لتعطين الكتان، ويزرع بأرضها هذا الصنف كثيرا، وقليل من قصب السكر والقطن والنيلة.
وأرضها خصبة صالحة لزرع كافة مزروعات القطر، وأولاد الزمر عائلة مشهورة بهذه البلدة من عدة أجيال، ولهم بها أبنية مشيدة، وقصور كقصور مصر بشبابيك الزجاج والحديد والخرط، وحدائق ذات بهجة، ودائرة متسعة، ومنهم حسن أغا كان ناظر قسم زمن العزيز محمد على، وعامر بيك ابن أخيه، كان مدير الجيزة فى زمن الخديو إسماعيل، وجعل عباس الزمر ناظر قسم، وحسين الزمر دخل الجهادية فى مدة المرحوم سعيد باشا، وترقى إلى رتبة صاغقول أغاسى، ومحمد أفندى الزمر دخل الجهادية البيادة نفرا زمن المرحوم سعيد باشا، وترقى فى زمنه إلى رتبة صاغقول أغاسى، وفى زمن الخديوى إسماعيل باشا أنعم عليه برتبة البيكباشى، وله إلمام بالقراءة والكتابة، ومعرفة بالقوانين العسكرية. وكان الشيخ محمد المهدى الحفنى جد الشيخ محمد المهدى الحنفى، الذى كان ولى مشيخة الجامع الأزهر يتردّد إلى هذه البلدة كثيرا، وله بها عقارات وأطيان باقية تحت أيدى ذريته إلى الآن، وكذا بعدة قرى هناك بل ازدادت دائرتهم ببلاد الجيزة، ولهم نظار فى الزراعة ووكلاء وكتبة، ولهم قصر بقرب الوراق يترددون إليه.
ترجمة الشيخ محمد المهدى الكبير
وقد ترجمه الجبرتى فى تاريخه فقال: هو العلامة الوحيد الشيخ محمد
المهدى الحفنى الشافعى، اهتدى إلى الإسلام وهو صغير على يد شيخ العلم والطريقة الشيخ الحفنى، وأشرقت عليه أنوار الإسلام، وفارق أهله وتبرأ منهم، وكانوا أقباطا، ولازم الشيخ واستمر بمنزله مع أولاده حتى ترعرع، وحفظ القرآن، واشتغل بطلب العلم، وحفظ المتون ولازم دروس الشيخ الحفنى، وأخيه الشيخ يوسف، وغيرهما من مشايخ الوقت مثل الشيخ على الصعيدى العدوى، والشيخ عطية الأجهورى، والشيخ الدردير. واجتهد في التحصيل ليلا ونهارا، وأنجب ولازم مجلس الشيخ الدردير بعد وفاة الشيخ الحفنى، وتصدى للتدريس سنة تسعين ومائة وألف، ولما مات الشيخ محمد الهلباوى سنة اثنتين وتسعين جلس مكانه بالأزهر، وقرأ شرح الألفية لابن عقيل، ولازم الإلقاء والتدريس، فنما أمره، واشتهر ذكره، وصاهر الشيخ محمد الحريرى الحنفى على ابنته، وأقبلت عليه الدنيا، وتداخل فى الأكابر ونال منهم حظا وافرا بحسن معاشرته، وتنميق ألفاظه، ثم اتحد بإسماعيل كتخدا حسن الجزايرلى، وأكثر من التردد عليه، فلما أتته ولاية مصر واستقر بالقلعة، واظب على الطلوع والنزول إلى القلعة، وكان يبيت عنده فى غالب الليالى، فأنعم عليه بالخلع والكساوى، ورتب له مرتبات فى الضربخانة والسلخانة، ووقع فى زمن ولاية إسماعيل بيك الطاعون الذى أفنى غالب أمراء مصر وأهلها. وذلك سنة خمس ومائتين وألف، فاختصه بما أحببه مما انحلّ عن الموتى من إقطاعات ورزق وغيرها، وزادت ثروته وسعيه فى تحصيل الدنيا، وأخذ يتجر ويشارك فى أشياء كثيرة مثل الكتان والقطن والأرز وغير ذلك، والتزم بعدة حصص بالبحيرة، مثل شابور وغيرها بالمنوفية والغربية، وبنى دارا عظيمة بالأزبكية، بناحية الرويعى، بما يقابلها من الجهات الأخرى عند السباط، ولما حضرت الفرنساوية إلى الديار المصرية، وخافهم الناس، وخرج الكثير من الأعيان وغيرهم، هاربين من مصر تأخر المترجم عن الخروج، ولم ينقبض كغيره عن المداخلة فيهم، بل اجتمع بهم وواصلهم ولا طفهم وسايرهم فى أغراضهم، فأحبوه وأكرموه، وقبلوا شفاعته، ووثقوا بقوله، فكان هو المشار إليه فى
دولتهم، ومدة إقامتهم بمصر، والواسطة العظمى بينهم، وبين الناس فى حوائجهم وقضاياهم، وكانت أوامره نافذة عند ولاة أعمالهم، حتى لقب عندهم، وعند الناس بكاتم السر، ولما رتبوا الديوان الذى رتبوه لإجراء الأحكام بين المسلمين فى قضاياهم، كان هو المشار إليه فيه. والموظفون فى الديوان تحت أوامره، وإذا ركب يمشون حوله وأمامه وبأيديهم العصى يوسعون له الطريق، حتى راج أمره فى أيامهم جدا وزاد إيراده وجمعه، واحتوى على بلاد وجهات وأرزاق، وأقاموه وكيلا فى أشياء كثيرة وبلاد وقرى يجبى إليه خراجها، ويأتيه الفلاحون بالهدايا والأغنام والسمن ونحو ذلك، وتقدم إليه دعاويهم، ويفعل بهم ما يفعله أهل الالتزامات من الحبس والضرب، ويبعث الأمان للفارين من الفرنسيس إلى بلاد الشام، والمختفين بالقرى من الأجناد وغيرهم، ويؤمنهم شفقة عليهم ويحمى دورهم وحريمهم، ويمانع عنهم فى غيابهم، ويكون له المنة العظيمة، وبالجملة فكان تصدره فى تلك الأيام نفعا صرفا، كم سدّ ثقوبا واسعة الحروف، وداوى برأيه جروحا وفتوقا، لا سيما أيام الخصومات والتنازع، وما يكدر طباع الفرنساوية من مخارق الرعية، فيتلقاهم بمراهم كلماته/ويسكن حدتهم بملاطفاته ولما مضت أيامهم، وتنكست أعلامهم، ووردت الدولة العثمانية، كان هو أعظم المتصدرين فى مقابلتهم، وقد بنى دارا عند باب الشعرية ولم يتمها، ثم إنه تزوج بابنة الشيخ أحمد البشارى، وكانت قبل ذلك تحت بعض الأجناد، وكانت فى دار جهة التبانة بالقرب من سوق السلاح، وسويقة العزى، ثم اشترى دارا عظيمة بناحية الموسكى، وكانت لبعض عتقاء بقايا الأمراء الأقدمين، يسلك إليها من باب الزقاق الكبير على ظهر قنطرة الخليج، التى تعرف بقنطرة الحفناوى، لقربها من داره، وبهذه الدار مجالس وقيعان متسعة، منها قاعة ذات ثلاثة لواوين مفروشة بأنواع الرخام الملوّن والقيشان، مطّلة على بستان عظيم من حقوقها، وتنتهى حدودها إلى حارة المناصرة، وكوم الشيخ سلامة، وحارة الإفرنج من الناحية
الأخرى. ولما عقد شراءها، دفع لهم دراهم، يقال لها العربون، وكتب حجة الشراء، وأخذ يوعدهم بدفع الثمن، ويماطلهم كعادته فى دفع الحقوق، ثم سافر إلى دمياط، وجعل يطوف فى بلاد التزامه وغيرها مثل المحلة الكبرى، وطنتدا، والإسكندرية، وغاب نحو الخمس سنين، وفى غيبته مات بائع الدار، وبقى من ورثته امرأة، فكانت تتظلم وتشتكى، فأعرضت أمرها لكتخدا بيك إلى أن حضر إلى مصر، فقبضت منه ما أمكنها من ثمن استحقاقها، ثم تقيد لإلقاء الدروس بالأزهر، إلى أن بدت الوحشة بين العزيز محمد على، والسيد عمر مكرم، فتولى السعى عليه سرا هو وباقى الجماعة، حسدا وطمعا؛ ليخلص لهم الأمر دونه، حتى أوقعوا به، وفى يوم خروج السيد عمر أنعم عليه الباشا بنظر وقف سنان باشا، ونظر ضريح الإمام الشافعى رضي الله عنه، وكانا تحت يد السيد عمر يتحصل منهما مال كثير، وعند ذلك رجع إلى حالته التى كان قد انقبض عن بعضها من السعى والتردد على الباشا، وأكابر دولته فى القضايا والشفاعات، وأمور الالتزام، والرزق فى بلاد الصعيد والفيوم وغيرهما، ومحاسبة الشركاء، ويجتمع حول درسه بالأزهر أرباب الدعاوى والفتاوى، فيقطع نهاره وليله طوافا وسعيا، وذهابا وإيابا، ولا يبيت فى بيت من بيوته فى الجمعة إلا مّرة أو مرتين، وكان إذا غاب لا يعلم طريقه إلا بعض أتباعه، وكان يذهب إلى بلد نهية بالجيزة أو غيرها، فيقيم أياما، وإذا قيل له فى ذلك قال:
أنا بيتى ظهر بغلتى، وعلى ما كان فيه من الغنى وكثرة الأمداد والمصرف، تراه مفقود للذة، عديم الراحة البدنية والنفسية. ويتفق أنه يذبح بداره الثلاثة أغنام لضيوف من النساء عند الحريم، ولا يأكل منها، ويذهب إلى بعض أغراضه ببولاق، ويتغدى بالجبن، أو الفسيخ أو البطارخ، ويبيت ولو على نخ أو حصير.
ولما مات الشيخ سليمان الفيومى عن زوجته المعروفة بالبحراوية، وكانت من نساء القدماء، مشهورة بالغنى، وكانت طاعنة فى السن، فاشترت لزوجها جارية بيضاء، وأعتقتها، وزوجتها له، ولم يدخل بها ومات عنهما، كان
المترجم فى عز طنطنته ونفوذ كلمته، وكان يتردّد هناك، وماتت البحراوية لا عن وارث، فوضع يده على دارها ومالها وجواريها ومتعلقاتها، وزوّج الجارية لابنه عبد الهادى، وكأنها سقطت بمالها ونوالها فى بئر عميق، ولما جرد الباشا عساكر إلى الحجاز، مع ابنه طوسون باشا، اختار أن يصحبه المترجم مع السيد أحمد الطهطاوى، وأنعم عليه بأكياس وترحيلة، فسافر معه ورجع. ولما توفى الشيخ الشرقاوى، تعين لمشيخة الجامع ثم انتقضت عليه، وقلدوها الشيخ الشنوانى، فلم يظهر إلا الانشراح وعدم التأسف، وحضر إليه الشيخ الشنوانى فخلع عيه فروة سمور، وزاد فى إكرامه، ثم تملك دارا بالكعكيين، وهى التى كانت سكن الشيخ الحفنى قبل سكناه بالبيت الذى بناحية الموسكى، ولما أخذها شرع فى تجديدها، وفتح بها عمارة واسعة، وكان بجانبها زاوية قديمة بها جملة قبور فهدمها، وأدخلها فى الدار، وأخرج عظام الموتى من القبور، ودفنهم بتربة المجاورين، وجعل مكان القبور مخابئ، وأسكن فى تلك الدار إحدى زوجاته، وأكثر من المبيت فيها، وفى ليلة الجمعة ثانى شهر صفر خرج من بيته، وذهب إلى بيت عثمان سلامة السنارى فتحدث معه حصة من الليل، ثم قام وذهب إلى داره ماشيا، وصحبه الشيخ خليل السنطى يحادثه؛ حتى دخل داره، وانصرف الشيخ خليل إلى داره أيضا، وبعد مضىّ نحو ساعة، وإذا بخادم الشيخ المهدى يناديه، فقام وذهب مع الخادم، حتى دخل على الشيخ، فوجده نائما فى المكان الذى نبشت منه القبور، فجس يده، فقالت له النساء: إنه ميت، وأخبرت زوجته أنه جامعها، ثم استلقى وفارق الدنيا، وحملوه فى تابوت إلى الدار الكبيرة بالموسكى ليلا، وجهز وصلى عليه بالأزهر، ودفن بجانب قبر الشيخ الحفنى، فسبحان الحىّ الذى لا يموت، انتهى. ومن أولاده: الشيخ محمد أمين، كان عالما حنفيا، تولى الفتوى بمصر زمنا، وابتنى فى الدار الذى اشتراها والده، ناحية الموسكى دارا جهة حارة المناصرة، مطلة على البستان الذى بها، ونافذة إليه، ولها باب من المناصرة ينفذ إلى الأزبكية، وقنطرة الأمير حسين، أنفق عليها جملة/
كبيرة من المال، بحيث أن المرخمين أقاموا فى الشغل نحو أربع سنوات، خلاف من عداهم من أرباب باقى الأشغال، وخلاف ثمن الأدوات من الأخشاب وغيرها، وكان يتعاطى التجارة والشركة فى كثير من الأصناف، خلاف الإيراد الواسع الخاص به، وقد توفى إلى رحمة الله تعالى، وترك ولدين أحدهما الشيخ محمد عبد اللطيف، وهو باق إلى الآن.
ترجمة الشيخ محمد العباسى المهدى
والآخر العلامة الشيخ محمد العباسى الحنفى، وكان مفتى السادة الحنفية، وشيخ الجامع الأزهر، ولد بالإسكندرية سنة ثلاث وأربعين ومائتين وألف، ولهم فيها أملاك وأقارب، وقرأ بعض القرآن بها، ثم قدم مصر سنة خمس وخمسين، وتمم حفظ القرآن بالجامع الأزهر، واشتغل بطلب العلم فى سنة ست وخمسين على فضلاء المشايخ، مثل الشيخ إبراهيم السقاء الشافعى، والشيخ خليل الرشيدى الحنفى، وفى سنة أربع وستين كان يحضر فى مقدمة مختصر السعد على الشيخ إبراهيم السقاء، وبينما هو فى حلقة الدرس، إذ حضر إليه رسول من لدن سر عسكر المفخم إبراهيم باشا، والد الخديوى إسماعيل باشا، يندبه بالحضور عند الباشا، فركب معه، وهو متفكر فى أمره؛ حتى وصل إليه، وقابله فأكرمه وبجله، وبعد استقراره فى مجلسه، قال له: بلغنى عنك ما سرنى من السّير الحميد، والرأى السديد، والفطنة والنباهة، فقد وليتك منصب الفتوى المصرية، وعزلت التميمى عنها، ثم خلع عليه خلعة وظيفة الفتوى، وقيل إن سبب توليته الفتوى أنه كان لأبيه، أو جده جامعة بقاضى مصر. عارف بيك، الذى تولّى الصدارة فيما بعد، فلما سافر المرحوم العزيز إبراهيم باشا إلى الأستانة، أوصاه ذلك الصدر بذرية الشيخ المهدى، وقال له: إن كان فيهم من يليق لمنصب أبيه فأقمه، فلما حضر إلى مصر أعطاه منصب الفتوى، وعقد مجلسا حضره حسن باشا المنسطرلى، والشيخ مصطفى العروسى ونحوهم، فاختاروا له الشيخ خليل الرشيدى؛ ليكون
معه أمين فتوى، ثم نزل من القلعة فى موكب عظيم من الأمراء الفخام، والعلماء الكرام، وصار الناس يهنئونه ويمدحونه بالقصائد، من ذلك قصيدة للشيخ محمد شهاب يشير فيها إلى هجو التميمى منها قوله:
قلت لما أن تم بدر التميمى
…
واعتراه نقص الخسوف الشديد
رجع الدر بالفتاوى إلى ما
…
كان فيه من المكان المشيد
فلنعم الرشيد يا ابن أمين
…
ولنعم الأمين يا ابن الرشيدى
وفى سنة أربع وستين جلس للتدريس، فقرأ من الدر المختار لغاية كتاب الطلاق، وتممّه فى بيته، وطالع الأشباه والنظائر فى بيته أيضا، واشتهر بين الناس بالأمانة والعفة والتؤدة، لا يفتى إلا بالأقوال المعتمدة، وفى أواخر سنة سبع وثمانين، تولى مشيخة الجامع الأزهر، بعد عزل المرحوم الشيخ مصطفى العروسى عنها، فخلع عليه الخديوى إسماعيل باشا خلعة المشيخة، وعقد له موكبا حافلا، وجمع بين الوظيفتين، وقام بهما، وقد سعى عند الخديو فى إجراء مرتبات للعلماء، فأجابه ورتب للكثير منهم، ما يقوم بمعاشهم من المرتبات الشهرية والسنوية، وذلك أنه رأى من الحضرة الخديوية مزيد الإقبال والاعتناء بالعلم وأهله، فحث أكابر أهل الأزهر على تقديم أعراض بطلب مرتبات أسلافهم التى كانت لهم، وانحلت فصدر الأمر الكريم، بأن جميع مرتبات العلماء، التى كانت مربوطة بالروزنامجه، وانحلت زمن المرحوم عباس باشا، تربط لأصل الأزهر ثانيا، لكن يصير توزيعها بمعرفة شيخ الجامع على العلماء المشتغلين بالعلم، ومن مات منهم وله أولاد ذكور مشتغلون بالعلم، يعطون مرتب أبيهم، وإلا وزّع بمعرفة الشيخ، فبلغ مجموع المرتبات التى صدر بها الأمر الكريم كل شهر اثنين وخمسين ألف غرش، وأربعمائة وأربعة وأربعين غرشا، وخمسة عشر نصفا فضة، وكل سنة سبعة وثمانين ألف غرش، وثمانمائة وأربعة وعشرين غرشا، وخمس عشر نصفا فضة، وصاروا يستوفون
من الروزنامجه الشهرية كل شهر، والسنوية كل سنة، من ابتداء صدور الأمر فكان هو السبب لذلك الخير العظيم، لأهل الأزهر وانجذاب قلوبهم إليه، والشكر له والثناء عليه، وكان الأزهر لا حرج على من يجلس فيه للتدريس، فربما جلس للتدريس من ليس أهلا بل كان ذلك كثيرا، فالتمس من الحضرة الخديوية، صدور الأمر بالامتحان لمن يريد التدريس، صونا للعلم عن الابتذال، فجعل الخديوى أمر ذلك إليه، فرتب قانونا نشره على أهل الأزهر، أنه لا يجلس للتدريس إلا بعد الامتحان، على يدى الشيخ، وأعضاء مجلسه فى أحد عشر فنا من علوم الشريعة وآلاتها، فبعد التمكن من هذه الفنون حضورا يقدم مريد ذلك عرضا للشيخ، يلتمس الامتحان ليؤذن له فى التدريس، فإن رأى الشيخ فيه أهلية لذلك بشهادة من تلقى عنهم هذه العلوم، ووضع أختامهم على عريضته، عقد له الشيخ مجلس الامتحان من ستة أعضاء من كبار علماء الأزهر، من كل أهل/مذهب اثنان، ما خلا مذهب الإمام أحمد بن حنبل لقلة أهله بالديار المصرية، فيقرّر الممتحن أمامهم من كل فن، وهم يسألونه، لكن بعد مطالعته مواضع يعينونها له، ويعطونه ميعادا لمطالعتها، لكل فن يوما، فإن أجاب فى جميعها، أذن له فى التدريس، وكتبت له منهم شهادة تعرض على الخديوى، فيكتب له فرمانا بالتشريف ويخلع عليه خلعة، وإن أجاب فى بعضها، أذن له فى التدريس فقط، وإن لم يجب منع من التصدر حتى يتأهل، انتهى.
وفى مديرية الغربية قرية تسمى ناهية، أيضا بها ضريح الشيخ محمد الحضرى، المترجم فى طبقات الشعرانى، بأنه كان يتكلم بالغرائب والعجائب، من دقاق العلوم والمعارف، مادام صاحيا، فإذا قوى عليه الحال، تكلم بألفاظ لا يطيق أحد سماعها، فى حق الأنبياء وغيرهم، وكان يقول: لا يكمل الرجل حتى يكون مقامه تحت العرش على الدوام، قال: وضريحه يلوح من البعد، من كذا كذا بلدا، وتوفّى سنة سبع وتسعين وثمانمائة، انتهى.
(نواج)
بنون فواو مفتوحتين، فألف فجيم، قرية بمديرية الغربية، من مركز محلة منوف، فى الشمال الغربى لبرسمباري، بنحو خمسة آلاف متر، وشرقى محلة منوف، بنحو أربعة آلاف متر، وأغلب أبنيتها باللبّن، وبها جامع مبنى بالآجرّ والمونة، وله منارة، وإليها ينسب-كما فى الضوء اللامع للسخاوى محمد بن حسن بن على بن عثمان الشمس النواجى، نسبة لنواج بالغربية، بالقرب من المحلة، ثم القاهرى الشافعى، شاعر الوقت، ويعرف بالنواجى، ولد بالقاهرة بعد سنة خمس وثمانين وسبعمائة تقريبا، ونشأ بزاوية الإبناسى بالمقسم، فحفظ القرآن، والعمدة، والتنبيه، والألفية، والشاطبية، وتلا القرآن تجويدا على ابن الجزرى، بل قرأ عليه لبعض السبع، وعرض بعض محافظيه على الزين العراقى، وأجاز له هو، والهيتمى، وابن الملقن، وأخذ الفقه عن الشمس البرماوى والبيجورى وغيرهما، والعربية عن الشمس الشطنوفى، وابن هشام العجيمى، والعلاء بن المغلى، والعز بن جمّاعة، وسمع الحديث على النور ابن سيف الإبيارى وغيره، وكتب الخط المنسوب على ابن الصانع، وحج مرتين: الأولى فى رجب سنة عشرين، واستمر مقيما حتى حج، ثم عاد مع الموسم، والأخرى فى سنة ثلاث وثلاثين، وحكى كما أورده فى منسكه الذى سماه:(الغيث المنهمر فيما يفعله الحاج والمعتمر)، أنه رأى شخصا من أعيان القضاة الشافعية بالديار المصرية، أراق دما على جبل عرفات، فقال له:
ما هذا؟ فقال: دم تمتّع، فقال: إنه غير مجزئ هنا، قال: ولم؟ قال: لأن شرطه أن يذبح فى أرض الحرم، وعرفات ليست من الحرم. فقال كالمنكر عليه: هذا المكان العظيم ليس من الحرم؟!، قال: فقلت له: نعم، فقال: إذا لم تكن عرفات من الحرم، فما بقى فى الدنيا حرم؟! انتهى.
ومن نظمه فى منسكه:
لا شيء أطيب عندى من مجاورتى
…
ببيت ربى وسعى فيه مشكور
قد أثرت فيّ أفعال الكرام ولل
…
مجاورات كما قد قيل تأثير
ودخل دمياط والإسكندرية، وتردّد إلى المحلة وغيرها، وأمعن النظر فى علوم الأدب، حتى فاق أهل عصره، وأطال الاعتناء بالأدب، فحوى فيه أعلى الرتب، وكتب حاشية على التوضح فى مجلد، وبعض حاشية على الجاربردى، وشرحا للخزرجية فى العروض، وكتابا يشتمل على قصائد فى الغزل و (الشفاء فى بديع الاكتفاء) و (خلع العذار فى وصف العذار) و (صحائف الحسنات فى وصف الخال) و (روضة المجالسة فى بديع المجانسة) و (مراتع الغزلان فى وصف الحسان من الغلمان) و (حلبة الكميت فى وصف الخمر) وكان اسمه أولا (الحبور والسرور فى وصف الخمور) و (عقود اللآلى فى موشحات الأزجال) و (الأصول الجامعة لحكم حرف المضارعة) و (المطالع الشمسية فى المدائح النبوية) وكان متقدما فى اللغة والعربية، وفنون الأدب، مشاركا فى غيرها، حسن الخط، جيد الضبط، متقن الفوائد، كتب لنفسه الكثير وكذا لغيره بالأجرة، وكان سريع الكتابة، حكى التكرورى أنه شاهده، كتب صحيفة فى نصف الشامى فى مسطرة سبعة عشر، بمدة واحدة، وعمل كتابا سماه (الحجة فى سرقات ابن حجة)، واشتهر ذكره وبعد صيته، وقال الشعر الفائق، والنثر الرائق، وجمع المجاميع، وطارح الأئمة، وأخذ عنه غير واحد كالشهاب بن أسد، والبدر البلقينى، ولولا ضيق عطنه، وسوء مزاجه، وسرعة انحرافه، وتعرضه للهجاء، لكان كملة إجماع، ومدح الأكبار، وتموّل من ذلك، وأثرى خصوصا مع مبالغته فى الإمساك، مع مزيد إحسان الكمال البارزى، إليه والزين بنى مزهر حين كونه ناظر الإصطبل، ومن قبلهما الزين عبد الباسط، وقرره أحد صوفية مدرسته، أول ما فتحت، واستقر فى تدريس الحديث بالجمالية والحسينية، وعمل فى الأولى مجالس، وكنت ممن حضر عنده فيه، وكتبت الخطبة التى أنشأها لابن سالم، وكذا كتبت عنه غيرها من
نظمه/ونثره، وسمعت من فوائده، ونكته جملة، مات فى يوم الثلاثاء الخامس والعشرين من جمادى الأولى، سنة تسع وخمسين وثمانمائه، بعد أن برص، عفا الله عنه وإيانا، ومن نظمه فى يوسف بن تغرى بردى:
لك الله المهيمن كم أبانت
…
جلاك اليوسفية عن معالى
وسقت حديث فضلك عن يراع
…
تسلسل عنه أخبار الغوالى
وفى الحافظ ابن حجر:
أيا قاضى القضاة ومن نداه
…
يؤثر بالأحاديث الصحاح
وحقك ما قصدت حماك إلا
…
لآخذ عنك أخبار السماح
فأروى عن يديك حديث وهب
…
وأسند عن عطا بن أبى رباح
وفى الناصرى ابن الظاهر:
أصابعه عشر تزيد على المدى
…
فلا غرور أن أغنت عن النيل فى مصر
فقم وارتشف يا صاح من فيض كفه
…
لتروى حديث الجود من طرق عشر
والفيض نيل مصر، قاله الأصمعى، ونهر البصرة أيضا، وقوله من قصيدة نبوية:
يا من حديث غرامى فى محبتهم
…
مسلسل وفؤادى فيه معلول
روت جفونكم أنى قتلت بها
…
فياله خبرا يرويه مكحول
وقال متغزلا:
إذا شهدت محاسنه بأنى
…
سلوت وذاك شيء لا يكون
أقول حديث جفنك فيه ضعف
…
يردّ به وعطفك فيه لين
وشعره كثير مشهور رحمه الله تعالى.
ترجمة الشيخ محمد بن عيسى النواجى الطنتدائى
ونشأ بها أيضا محمد بن عيسى بن إبراهيم الشمس النواجى الطنتدائى، ثم الأزهرى الشافعى الضرير ولد ببزوك، ونشأ بنواج، ثم تحوّل منها قريب البلوغ إلى طنتدا، فقرأ بها القرآن، ثم تحوّل إلى القاهرة، فقطن الأزهر، وحفظ الشاطبية والمنهاج، وجمع الجوامع، وألفية النحو، والتلخيص والجمل وغيرها، وجدّ فى الاشتغال، فأخذ النحو على السراج الوروى، وأحمد بن يونس المغربى، ونظام الحنفى، وداود المالكى، والفقه والمنطق، وأصول الدين عن الشرف موسى البرمكينى، وكذا من شيوخه المناوى والعبادى، والتقى الحصنى والكافيجى، وأخذ القراآت عن الزين عبد الغنى الهيتمى، والسير عن جعفر السنهورى، واشتدت عنايته بملازمة شيخ الإسلام زكريا الأنصارى، حتى عرف به، ومهر فى فنون، وفاق كثيرا من شيوخه، وطار صيته بالفضيلة التامة والفهم الجيد وتصدى للإقراء، وكثر الأخذ عنه بحيث انتفع به جماعة من رفقائه، فمن فوقهم كل ذلك مع السكون والتواضع، ومزيد العقل والصلاح والديانة، وقد حج وجاور، وأقرأ هناك، ثم عاد واستمر يدرّس ويفيد، إلى أن مات فى ليلة الجمعة سادس عشر من ذى القعدة سنة تسع وسبعين وثمانمائة، بعد تعلله أشهرا بذات الجنب رحمه الله وإيانا. انتهى.
(نواى)
قرية من أعمال سيوط، بمركز ملوى موقعها فى الشمال الغربى لمدينة الأشمونيّن، على بعد ميل، وفى شرقى بحر يوسف، على أقل من ميل، وفي قبلى إبشادة التى سماها اليونانيّون فى خططهم بشاتى، على نحو ميلين، وتعرف بنواى البغال، لما قيل إنها كانت اصطبلا لبغال حاكم الأشمونيّن وهى فى وسط الحوض السلطانى، والآن قد دخلت فى الحوشة الجديدة التى أنشئت لأطيان الدائرة السنية، وأكثر مبانيها باللبن، وبها آثار تدل على أنها كانت بلدة قديمة، فإنه قد ظهر من مدة قريبة بالحفر فى جهتها الغربية،
جدران متسعة وأساسات متينة، حتى إن كثيرا من الناس الآن إذا أراد بناء بيت، يحفر فى تلك الجهة، فيخرج أحجارا وآجرا، ويضعها فى أساساته، وفيها أربعة مساجد، ويزعم بعض النصارى أن المسجد القبلي، كان كنيسة لبعض مقدّسيهم، وفيها أضرحة لبعض الصالحين، كضريح الشيخ مرزوق، وقد هدمه الآن البحر، ولم يبق إلا أطلاله، وضريح الشيخ الطماوى، والشيخ أبى مدين، يعمل له فى كل سنة مولد، وأكثر أهلها مسلمون، وتكسبهم من الزرع المعتاد، وفيها قليل أنوال لنسج ثياب الصوف، وقد نقل البرهان البيجورى، عن الشيخ سعيد شارح السلم، عند قول المتن.
فابن الصلاح والنواوى حرما
…
إلخ.
ترجمة الشيخ حسونة بن عبد الله النواوى
إن النواوى هذا من هذه القرية، وفى عصرنا هذا قد نشأ منها علماء أفاضل مقيمون بالأزهر، منهم الفاضل الشيخ حسونة بن عبد الله أحد المدرسين بالجامع الأزهر، يقرأ الكتب المتسعملة فى مذهب أبى حنيفة، مع تأدية وظيفة تدريس فقه بجامع المرحوم العزيز محمد على بالقلعة، ومثلها لتلامذة دار العلوم/بالمدارس الملكية، وتلامذة مدرسة الإدارة، وقد ألف كتابا فى فقه أبى حنيفة، سماه «سلّم المسترشدين فى أحكام الفقه والدين» ، نحو جزءين وهو مستعمل الآن فى المدارس، وطبع منه نحو ألف نسخة، وله رسائل آخر.
ترجمة الشيخ عبد الرحمن القطب الحنفى النواوى
ومنهم ابن عمه الشيخ عبد الرحمن القطب الحنفى أحد مدرسى الأزهر، أيضا وظّف مساعدا للسيد على البقلى. مفتى مجلس الأحكام بالمحروسة، ثم أنعم عليه الخديوى إسماعيل باشا. بخمسين فدانا، ثم ولى قضاء ولاية الجيزة، وكان بنواى هذه عمدة شهير، يسمى أحمد بن صقر الريدى، كان مقداما شجاعا تهابه الأقران، رأى أن بيتا فى البلد أخذ فى الظهور، فقتل منه
اثنى عشر نفسا فى ليلة واحدة، فى عهد المرحوم سعيد باشا، ثم حصل منه مخالفات على عهد الخديوى إسماعيل باشا، فنفاه إلى السودان فتوفىّ هناك، وليس لهذه القرية سوق، وإنما يتسوق أهلها من سوق الروضة، يوم الثلاثاء، وسوق ناحية القصر يوم الخميس، وهى قرية سميت باسم قصر كان بها لبعض الأمراء، يقال له قصر طومان، آثاره باقية إلى الآن.
(نوسا البحر)
قرية من مديرية الدقهلية، بمركز المنصورة واقعة على الشاطئ الشرقى لبحر دمياط، فى شمال منية سمنود، بنحو ألف وستمائة قصبة، وبها جامع بمنارة، وفوريقة لحلج القطن، وحديقة مشتملة على بعض الثمار، وتكسب أهلها من زراعة القطن. وقصب السكر.
(نوسا الغيط)
قرية من مديريرة الدقهلية بمركز المنصورة، فى غربى ترعة المنصورية بنحو مائة قصبة، وشرقى نوسا البحر بخمسمائة قصبة وبها جامع بمنارة، وأنوال لنسج الصوف، وتكسب أهلها من ذلك، ومن زراعة القطن.
(النويرة)
قرية بالصعيد الأدنى، كانت قديما من إقليم البهنسا، وهى الآن من مديرية بنى سويف، بقسم أول، واقعة على جسر النويرة، شرقى أهناس بنحو ثلاثة آلاف وخمسمائة متر، وفى جنوب قرية قاى بقاف فى أوله وياء تحتية فى آخره، بنحو خمسة آلاف وستمائة متر، وبها جامعان أحدهما بمنارة، ومصبغتان ولها سوق كل يوم أحد، وبها قليل نخيل وأشجار.
مطلب وفاة الأمير علان
وهى مذكورة فى كثير من كتب التواريخ، بسبب من نشأ منها، أو دفن بها من الأكابر، ففى تاريخ ابن زنبل المحلى أنه مات بهذه القرية الأمير علان أحد
أمراء السلطان الغورى، قال: وكان قد انجرح فى وقعة المطرية، التى كانت بين السلطان طومان باى، وعساكر ابن عثمان، فى سنة اثنتين وعشرين وتسعمائة، وكان من رجال طومان باى، وأصله من مماليك قايتباى، ولما انهزم طومان باى بعساكره، اختفى هو مجروحا، وسار حتى عدى النيل إلى بر المنوفية؛ ونزل عند الأمير حسام الدين بن بغداد، فلاقاه أحسن ملاقاة وأكرم نزله، وأحضر له جرّاحا يعالجه؛ ولكن لم يقم عنده أكثر من يوم، لأنه رأى بعين بصيرته، أن القوم يريدون خيانته، والقبض عليه، وتسليمه إلى ابن عثمان، فعزت عليه نفسه، وحملته همته على أن ركب جواده، وتقلد بسيفه، فلم يقدر أحد أن يعترضه، مع ما به من الجراح، وسار مصعدا؛ حتى وصل إلى هذه الناحية، فنقلت عليه جراحاته، ومات بها، وسنه نحو أربعين سنة، ودفن بزاوية هناك، وكان شجاعا جوادا صاحب رأى وتدبير، وحزم وعزم، رحمه الله تعالى. انتهى.
ترجمة الشيخ شهاب الدين أحمد بن عبد الوهاب النويرى
وفى كتاب كشف الظنون أن من هذه القرية الشيخ شهاب الدين أحمد بن عبد الوهاب النويرى.
ينسب إلى قبيلة بكر، وهى بطن من طيّئ ومات فى سنة اثنتين، أو ثلاث وثلاثين وسبعمائة؛ ومن تآليفه كتابه المسمى:«نهاية الأرب فى فنون الأدب» ؛ وهو تاريخ كبير، فى ثلاثين مجلدا، ألفه فى زمن الملك الناصر محمد بن قلاوون، أوله: «الحمد لله رافع السماء، وفاتق رتقها، ومنشئ السحاب، ومؤلف ودقها
…
إلى آخره، قال مؤلفه: وما أوردت فيه إلا ما غلب على ظنى أن النفوس تميل إليه، ورتبه على خمسة فنون.
الأول: فى السماء، والآثار العلوية، والأرض، والعالم السفلى؛ ويشتمل على خمسة أقسام.
الثانى: فى الإنسان وما يتعلق به، ويشتمل على خمسة أقسام.
الثالث: فى الحيوان الصامت، ويشتمل على خمسة أقسام.
الرابع: فى النبات، ويشتمل على أربعة أقسام، وذيلته بقسم خامس من أنواع الطب.
الخامس: فى التاريخ، ويشتمل على خمسة أقسام. انتهى.
قال كترمير عن كتاب السلوك، وقد ذكر النويرى المذكور فى بعض كتبه ترجمة والده، فقال: هو تاج الدين، أبو محمد عبد الوهاب بن أبى عبد الله محمد بن عبد الدائم بن منجى البكرى، تيميّ قرشىّ يلقب بالنويرى؛ وقد تكلمت على هذه النسبة، عند تكلمى على ولادتى فى سنة سبع وسبعين وستمائة، مات-رحمه الله-قبل صلاة المغرب، يوم الخميس، لاثنتين وعشرين من شهر الحجة، سنة تسع وتسعين؛ فى المدرسة الصالحية النجمية، فى قاعة تدريس المالكية، وكان ابتداء مرضه يوم الأربعاء، رابع عشر الشهر، وولادته بالفسطاط، بمدرسة منازل العز، سنة ثمان عشرة وستمائة، وإلى مفارقة روحه لم يترك الصلاة، وفى يوم وفاته توضأ أربع مرات لصلاة العصر، وكان بالإسهال؛ ثم صلى العصر/قاعدا وقبل موته دعا لى ونطق الشهادتين، وقد دفن فى تربة قاضى القضاة، زين الدين المالكى، بالقرافة-رحمه الله تعالى-. انتهى.
ترجمة الشيخ محمد النويرى
وينسب إلى هذه القرية، الشيخ محمد النويرى، الذى ترجمه السخاوى فى الضوء اللامع، حيث قال: هو محمد بن محمد بن محمد بن على بن محمد بن إبراهيم بن عبد الخالق المحب، أبو القاسم بن الفاضل الشمس النويرى الميمونى القاهري المالكى، ويعرف بأبى القاسم النويرى، ولد-كما بخط والده-فى رجب، سنة إحدى وثمانمائة بالميمون، قرية أقرب من النويرة إلى مصر، بنحو نصف بريد، وقدم القاهرة، فحفظ القرآن، ومختصر ابن الحاجب الفرعى، وألفية ابن مالك والشاطبيتين، وتلا بالعشر على غير واحد؛ أجلّهم ابن الجزرى، لقيه بمكة فى رجب سنة ثمان وعشرين؛ وأجاز له هو
والزين بن عياش وغيرهما، ولازم الشاطبى فى الفقه، وغيره من العلوم العقلية، وأذن له فى الإفتاء والتدريس وأخذ على الزين الزركشى صحيح مسلم، ولم يزل يجد فى التحصيل؛ حتى برع فى الفقه والأصلين، والنحو والصرف والعروض والقوافى، والمنطق، والمعانى، والحساب، والفلك، والقراآت، وغيرها، وصنف فى أكثرها، فأكمل شرح المختصر، لشيخه البساطى، وذلك من السلم إلى الحوالة فى كراريس؛ وشرح كلا من مختصرى ابن الحاجب الفرعى والأصلى، والتنقيح للقرافى فى مجلد، وسماه (التوضيح على التنقيح) وعمل أرجوزة فى النحو والصرف والعروض والقوافى، فى خمسمائة بيت وخمسة وأربعين بيتا، سماها (المقدمات) ضمنها ألفية ابن مالك، والتوضيح مع زيادات، وشرحها فى نحو عشرين كراسة، وله أيضا مقدمة فى النحو، لطيفة الحجم، ومنظومة سماها (الغياث فى القراآت الثلاث) الزائدة على السبعة، وهى لأبى جعفر، ويعقوب، وخلف، وشرحها، ونظم النزهة لابن الهائم، فى أرجوزة نحو مائتى بيت، وشرحها فى كراريس، وعمل قصيدة دون ثلاثين بيتا فى علم الفلك، وشرحها؛ وشرح «طيبة النشر فى القراآت العشر» ؛ لشيخه ابن الجزرى، فى مجلدين، «والقول الجاذ لمن قرأ بالشاذ» وكراسة تكلم فيها على قوله تعالى:{إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ} وأخرى فيها أجوبة عن إشكالات معقولية ونحوها، وأخرى من نظمه فيها أشياء فقهية، وغيرها وغير ذلك، وحج مرارا، وجاور فى بعضها، وناب فى القضاء عن شيخه البساطى، ثم تركه وأقام بغزة والقدس ودمشق، وغيرها من البلاد، وانتفع به فى غالب هذه النواحى، وكان إماما عالما متفننا، فصيحا مفوّها، بحاثا ذكيا، آمرا بالمعروف، ناهيا عن المنكر، صحيح العقيدة شهما، مترفعا عن بنى الدنيا، ذا كرم بالمال والإطعام. يتكسب بالتجارة بنفسه، وبغيره، مستغنيا بذلك عن وظائف الفقهاء، ولذا قيل: إنه عرض عليه قضاء القدس، فامتنع.
وحكى البدر السعدى قاضى الحنابلة: أنه بينما هو عنده فى درسه، إذ حضر إليه الشرف الأنصارى، بمربعة، بمرتب العينى، فى الجوالى بعد موته،
وهو فى كل يوم دينار، فردّها وقال: إن جمقمق يروم أن يستعبدنى، فى موافقته بهذا المرتب، وابتنى بالخانقاه السرياقوسية مدرسة، ووقف عليها ما كان فى حوزته من أملاك، وجعل فائضها لأولاده.
قال: وقد اجتمعت به مرارا بالقاهرة ومكة، وسمعت من فوائده، وعلقت من نظمه أشياء، ومن ذلك قوله:
وأفضل خلق الله بعد نبينا
…
عتيق ففاروق فعثمان مع على
وسعد سعيد وابن عوف وطلحة
…
عبيدة منهم والزبير فتم لى
كذا قال عبيدة، وإنما هو أبو عبيدة، وكانت فيه حدة مفرطة واستحالة فى أحواله وطرقه.
مات بمكة فى ضحى يوم الاثنين، رابع جمادى الأول، سنة سبع وخمسين وثمانمائة، وصلّى عليه بعد العصر عند باب الكعبة، ودفن بالمعلاة، بمقبرة بنى النويرى، رحمه الله تعالى. انتهى.
(نيدة)
بفتح النون وسكون الياء وفتح الدال فى آخره هاء التأنيث، قرية من قسم أخميم بمديرية جرجا؛ على الشط الشرقى للنيل، فى شمال أخميم بنحو ساعة، وفى جنوب صوامعة سفلاق بربع ساعة، وفيها مساجد، وأبراج حمام، ونخيل كثير فى داخل البيوت وخارجها، متساو فى الطول، كأنما غرس فى وقت واحد.
سميت باسم النيدة، وهى الطعام المأخوذ من القمح والعسل ونحوه. وقد بينا كيفية عملها فى الكلام على منشأة أخميم. وفى السابق مال على هذه البلدة البحر، فانتقلت مرارا.
والآن قد تركها، وخلّف تحتها جزيزة واسعة، وقد حصلت بينها وبين صوامعة سفلاق مقتله فى سنة أربع وخمسين ومائتين وألف؛ آلت إلى إحراقها.
وذلك أن الأقاليم القبلية كانت الحروب قائمة بينهم، وكانوا منقسمين قسمين: قسم يقال له: الوناتنة، وقسم يقال له: الصوامعة.
كما أن أهالى الأقاليم البحرية كانت صفين سعد وحرام، وكانت قرية نيدة من صف الوناتنة، فقامت الحرب بين الصفين، واستمر ذلك نحو شهرين وقتل/فيها خلق كثير؛ وأحرقت من الوناتنة ناحية نيدة، ومن الصوامعة، قرية الشيخ زين الدين فى شمال طهطا الشرقى، على نصف ساعة، وبعض قرى من الفريقين.
وكانت هذه الواقعة سببا فى سلب السلاح من أيدى الأهالى إلى جانب الديوان، فإنه بعد فراغ القتال توجه سليم باشا السلحدار إلى بندر طهطا، وجمع المديرين والنظار، وأعطى قرارا بجمع السلاح من بلاد الصعيد قاطبة، فجمع كله؛ وحصل فيه تشديد كبير، ولم يزالوا ممنوعين من حمل السلاح واقتنائه إلى الآن.
وصوامعة سفلاق قرية فى بحرى نيدة، على الشط الشرقى للنيل، كانت واقعة على تلول قديمة قد أكلها البحر، إلا جزءا قليلا، ووقع فى البحر عمود كان مدفونا فى التلول، فإذا فى جوفه جملة كثيرة من الذهب القديم، عليه اسم نبى الله يوسف عليه السلام، وقد سقط فى البحر، ولم يحصل منه بعض الأهالى، إلا القليل، ولما استشعرت الحكومة، بذلك ضبطت هؤلاء الأهالى، وسجنتهم مدة، ثم أدركهم العفو من المرحوم سعيد باشا، وقد انتقل أكثر البلد بعيدا عن البحر وبنوا أبنية عظيمة بحارات معتدلة وشوارع، وغرسوا الأشجار والنخيل، وفى قبلى طهطا على نحو نصف ساعة، غربى النيل قرية أخرى
تسمى: الصوامعة يدعى أهل القريتين أنهم أولاد رجل واحد، وتوافقهم فى الطباع والملابس وبعض العوائد ربما يصدق ذلك.
ويقابل نيدة والصوامعة من غربى النيل ثلاث قرى، وهى العجاجية وقلفا ومعيفن، وكلها قريبة من البحر بين سوهاج وجزيرة شندويل، وفيها مساجد ونخيل، وأطيانها عالية يخشى عليها التشريق عند قلة النيل.
(نيلوبوليس)
كلمة يونانية معناها مدينة النيل؛ وهو اسم لمدينة قديمة كانت فى غربى النيل بمسافة يسيرة، وكانت من أعمال أرقادية (أهناس) وفى قبليها على مسافة ثمانية عشر ألف متر وخمسمائة، على ما حققه جغرافيو الإفرنج وكان بقربها قرية يقال لها: تشروب، وفى قبليها قرية ببا، وفى غريبها بحر يوسف، فهى بينه وبين النيل؛ وكان بها معبد النيل، على غاية من الزخرفة.
وكان لها كهنة مقيمون به، وكان للنيل معابد وكهنة فى عدة مواضع على شاطئه؛ لأن المصريين كانوا يقدسونه، كما يقدسون غيره، ويقربون له القرابين، وكانت عادتهم فى ذلك أن لا يذبحوا الثور قربانا، إلا إذا كان مستوفيا لشروط مقررة عندهم، منها: أن لا يكون فيه شعرة سوداء ولا بيضاء، احتراما للعجل أبيس، فإنه كان فيه سواد وبياض.
فكانوا لا يذبحون إلا الأشعل أو الأصهب؛ لأن هذه كانت صفة تيفون.
الذى هو فى زعمهم إله الشر، ويزعمون أن أرواح أصحاب الشرور والقبائح لا تحل بعد خروجها من أجسادها إلا فيما هذه صفاته.
وكان لهم قسيسون يختصون بالكشف عن ذلك. فإذا أرادوا ذبح ثور أتوا به إلى القسيس فينظره ظهرا وبطنا ويخرج لسانه، فينظر فيه، فإذا وجده مستوفيا للشروط، خاليا عن الموانع رضيه لذلك، فيعلمه بعلامات القبول.
فيجعل فى رأسه حبلا من نبات الديس، ثم يطبع عليه فوق شئ من الطين يؤخذ من أرض غير مزروعة، وكان جزاء من قرب قربانا بغير هذه الأوصاف أن يقتل، سدا لباب الخروج عن قوانينهم.
وكيفية الذبح عندهم، أن يقربوا الحيوان إلى المذبح، وقد أوقدت النار، ويذبح القربان بعد ذكر اسم الله، ثم يراق النبيذ بقرب المذبح، ثم يقطعون رأسه قبل سلخه، فيحملونها أوزارهم وأوزار غيرهم من أهل مصر، بأن يقولوا كلاما مضمونه الدعاء، بأن تحمل الرأس عنهم الشرور والأوزار، كأنها تكون فداءهم من الأسواء، فإذا كان فى البلد سوق ترده الأروام باعوها لهم، وإلا رموها فى البحر، ولا يختص تحميل الأوزار بقربان الحيوان، بل كان فى كل قربان، ولو من النبيذ، وكانوا يحرمون أكل الرأس، مطلقا، وأما حرق القربان، والكشف عمّا فى باطنه من الكرش ونحوه، فكانت تختلف فيه العوائد، ففى يوم المقدسة إزيس، يقربون ثورا بعد تقدمة صوم أيام، وبعد سلخه يخرجون مصارينه فقط، ويتركون باقى حشوته بما فيها من الشحم، ثم يقطعون الفخدين والأليتين، والكتف والرقبة، ثم يحشون باقى الجسد خبزا، من خالص الدقيق والعسل والزبيب والتين، والمواد العطرية، ثم يحرقونه، ويرشون النار بالزيت فى مدة الوقود، لأجل زيادة الاتقاد، وفى أثناء ذلك يشتغل الحاضرون بلطم الخدود والصياح، وبعد انتهاء حرقه، يمد السماط من اللحم الباقى المأخوذ من الفخدين والأليتين
…
إلخ وكانت قرابينهم من ذكور البقر دون إناثها؛ لأن الإناث كانت محترمة عندهم إكراما للمقدسة إزيس، التى تمثالها فى صورة امرأة لها قرون بقرة، فكان احترامهم لأنثى البقر، أكثر من احترام باقى الحيوانات، ولذلك كانوا يمتنعون امتناعا كليا من تقبيل الرومى فى فمه، لأكله إناث البقر والرأس، ولا يستعملون سكينته ولا يطبخون فى قدره، ولا يأكلون من لحم ذبح بسكينته.
وقال بعض شراح هيرودوط: إن المنفعة الحاصلة للمصريين من هذا الحيوان هى السبب فى منع ذبح أنثاه لأنها محل/التناسل فلعل هذا هو السبب الأصلى فى ذلك، ثم دخلته العلة الدينية، والآن براهمة الهند يمتنعون من أكل لحم البقر، وهذا القانون جار من قديم الزمان إلى الآن فى كثير من الجهات، وقال برفير: إن المصريين كان يهون عليهم أكل الآدمى عن أكل أنثى البقر، وكانوا إذا مات ثورا أو بقرة يجعلون له جنازة ويرمون الأنثى فى النهر، ويدفنون الذكر فى الضواحى، ويبقون أحد قرنيه بارزا من الأرض دلالة على قبره، وبعد أكل الأرض لحمه تأتى ناس يجمعون العظام، ويأخذونها فى مراكب لدفنها فى مواضع مخصوصة عندهم، وذلك وظيفة لهم ولا يختص ذلك بعظام الذكور البقر بل جميع عظام الحيوانات كذلك، وبسبب أن كل جهة لها مقدس مخصوص، كانت القرابين تختلف باختلاف المقدسين فى أنواعها وشروطها وعوائدهم فيها، ففى قسم طيبة يمتنع ذبح الخروف إلا فى عيد أمون، وإنما يذبح عندهم على الدوام المعز، وفى قسم منديس بالعكس، وأما الخنازير فكانوا لا يتقربون بها إلا إلى باكوس (إله الشراب وإله القمر)، وكان وقت الذبح حين يصير القمر بدرا، ولا يأكلون منه إلا فى ذلك الوقت، وذلك فى يوم من السنة وهو يوم عيد القمر، قاله هيرودوط وقال: وأنا أعرف السبب فى كراهتهم لأكل الخنزير، إلا فى هذا اليوم، ولكن لا أذكره.
وقال شارحو كتابه فى سبب كراهتهم له: إن مسام جسمه تنسد بسبب كثرة شحمه، فلا يخرج منه عرق ولا بخارات، فيكون ذلك سببا فى هيجان جسمه وثورانه، وذلك من دواعى داء الأسد فلذا كرهه المصريون، وتبعتهم اليهود، وإلى الآن لا يذبحه من يأكله من الإفرنج وغيرهم إلا بعد تفتيش لسانه وجسمه، فمتى وجدوا فيه علامة على أنه مصاب بهذا الداء، فلا يذبحونه ولا يأكلونه، ثم إن باكوس هو ازريس، ويسمى (عيده) عند الإفرنج عيد بامبليا، وقال بولوتارك: إن عيد باكوس يشبه عيد المذاكير عند اليونان، وذلك يدل
على أنه الأصل الأكبر فى التناسل، ومن الرسوم الجارية فى هذا العيد، أن يشهر تمثال هذا المقدس بثلاثة مذاكير، يرمزون بذلك إلى أنه الأصل الأول الذى نشأ عنه بقوة التناسل كثرة المخلوقات.
وعادتهم فى ذبح الخنزير قربانا أنهم بعد ذبحه يجمعون رأس الذنب مع الطحال وغشاء الأمعاء ويغطونها بشحمه ويحرقونها، ثم يأكلون باقيه وقت كون القمر بدرا، وكان من لا قدرة له على تحصيل خنزير يحصل تمثالا من التبن على هيئة الخنزير بعد تسويته على النار ويقربه.
وأما فى عيد باكوس فكان يذبح الواحد منهم الخنزير أمام بيته فى الغداة، وبعد ذبحه يعطيه لذابحه مجانا، ثم يعلنون بالعيد كما هو كذلك عند اليونان، وكانوا يخترعون صورة قدر ذراع ويجعلون لها مذاكير قدر ذراع أيضا، ويحركونها بالحبال ويحملها النساء، ويطفن بها فى البلدان، وأمامهن جماعة يضربون بالنار ويغنون، وقال هيرودوط أيضا: إن المصريين كانوا يحكمون بنجاسة الخنزير، حتى إذا مس الخنزير أحدهم، فإنه يذهب إلى البحر حالا فينغمس فيه، وكانوا يمنعون رعاة الخنزير من دخول المعابد، ولا يتزوجون منهم ولا يزوّجونهم ولو كانوا منهم، فكان الراعى لا يتزوج إلا بنت مثله. انتهى.
وقال هيرودوط أيضا: إن المصريين كانوا فى تلك الأزمان إذا وجدوا غريقا لزمهم تصبيره ودفنه مع المقدسين فيكون مقدسا؛ ولا يتولى منه ذلك إلا الكهنة، بحيث لا يمسه غيرهم تعظيما له.
وذهب ويلتير إلى أنه قبل تاريخ المسيح بنحو ألفى سنة، كان المصريون يغرقون فى النيل بنتا بكرا قبل وفائه ليتم فيضانه، ويروى البلاد، وكانوا يعتقدون توقف زيادته على ذلك، ونسب ويلتير ذلك إلى هيرودوط، وقد أنكر شراح كتب هيرودوط ذلك، وقالوا: إنه لا يوجد هذا فى شئ من كتبه، وأنه لم يقل بذلك إلا العرب فى كتبهم مثل المرتضى، والقلقشندى، وذكروا ما
نقل عن عمرو بن العاص من إرساله إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يخبره بذلك، فأرسل إليه بطاقة يلقيها فى النيل إلى آخر ما هو مشهور.
(نيمشوط)
كلمة قبطية معناها الغيطان والسهول، كانت علما على إقليم يمتد على فرع دمياط شرقا، وغربا، وزعم بعضهم أن هذا المحل هو الذى سماه بليناس باسم إيزديس، وأنه كان على الشاطئ الغربى من النيل، فى بحرى مدينة جمنوتى، أى سبنيت العتيقة المشهورة الآن بسمنود.
وكان من مدن ذلك الإقليم مدينة تسمى باسم بانيفوزى (المنزلة) وكانت قاعدة إقليم نوت، وكان محلها على شاطئ بحيرة المنزلة، فى محل المنزلة الموجودة الآن، وقال المؤرخ كاسبان: إن مدينة بانيفوزيس كانت فى خط عظيم الخصوبة، وكان ما يخرج منه يكفى سكان الإقليم مؤنة، فلما هاج البحر المالح، بسبب زلزلة فاض ماؤه على الأراضى المجاورة له فأغرقها، وهدم أغلب القرى، وبدل تلك البلاد الحسنة ببحيرة مالحة، ولم يبق منها إلا ما كان مبنيا على التلال، فصارت كالجزائر وسط البركة، وليس فيها سكان غير الرهبان، فكانوا يأوون إليها للبعد عن مخالطة الناس وكلما هبت رياح الشمال ارتفع ماء البركة، فيغطى سواحل تلك القرى/ويغمر جميع جهاتها، وفى بعض تراجم الرهبان أن هذه المدينة كانت تسمى يانيفوز، وفى بعض المدوّنات ذكر قسم (نيمشوط بانفرا) ومعناه سهول بانفرا واسمه مشتق من مدينة بانفرا، وكان يمتد فى جهتى النيل، ولم يعين موقعه، وإنما ذكر أن الأمير أدريان بعد أن فارق جمنوتى (سمنود) سار على النيل ثلاثة أيام، فوصل إلى سهول بانفرا، فإن فرض أنه سار بالاستقامة من سمنود تكون مدينة بانفرا فى نهاية أسفل الأرض، والمذكور أنه بعد الثلاثة أيام وصل إلى سهول بانفرا، قال كترمير الأولى إن أدريان بعد أن وصل سمنود، دخل فى بحرها، وعلى شاطئه بقرب مصبه تكون مدينة بانفرا.
والظاهر أن هذا الإقليم هو الذى سماه اليونان بالبحائر، أى البرك، وهو الممتد بين فرع فاطمتيق الخارج من النيل، وسواحل البحر المالح، وكان ينقسم قسمين الأول من ملحقات حكم مدينة باشنيسمونيس قاعدة الجزء الأسفل من إقليم سمنود.
والثانى من ملحقات حكم فراجونيس، ويغلب على الظن أن فراجونيس هى مدينة بانفرا المذكورة، وفى هذه البحائر، اختفى فرعون مصر بسماتيك لما نفاه أصحابه الاثنا عشر، وكذلك الملك أميرتيه فإنه اختفى بها، ولم يقدر أحد أن يتوصل إليه بسبب سعة تلك البحائر وشجاعة أهلها، وقال ديودور الصقلى: إن أرض ساحل البحر المجاورة لمصب فرع فاطمتيق، كان بها برك كثيرة، وكانت تمتد فى غالب الظن إلى مصب الفرع البلبتنى، وفى هذه السعة كانت المراعى المعروفة بالبقوليا فى لغة الأروام، وكانت مراعى متسعة يرعى فيها البقر وغيره، وهذا الاسم كان معلوما إلى زمن هيرودوط؛ لأنه ذكر فرعا من النيل باسم بوقوليقى وقال: إنه حفر بأيدى الآدميين، وقد اختلف الجغرافيون فى ذلك الفرع، فبعضهم زعم أنه الفرع المنديزى (فرع طناح)، وظن كترمير أولا أنه فرع سمنود، ثم عدك عن ذلك، لما قاله هيرودوط: إن مدينة بطو عند مصب فرع سمنود وعلى ذلك فهذا الفرع هو الفرع الذى سماه استرابون وبطليموس بفرع سبنيت، وأما الفرع التانيسى فهو فرع تانيس صان الحجر، والفرع البوقوليقى هو الذى سماه استرابون وغيره من الأقدمين بالفرع الفاطمطيقى، بالميم أو الفاطنطيقى بالنون، ومعناه الفرع الوسط، فإن قيل:
كيف يتصور أن فرعا كبيرا مثل الفرع الفاطمطيقى (فرع دمياط) يحفر بالآدميين؟، قلت: الظاهر إنه لم يكن كبيرا فى زمن المؤلف المذكور ضرورة وقوعه بين فرعين كبيرين، يجرى فيهما الماء بكثرة، ولا يجرى فيه إلا قليل من الماء، فلذا قال: إنه من حفر الآدميين، ثم اتسع بعد ذلك بتغير الأحوال،
وبعد هيرودوط بزمن مديد اعتبر ابن حوقل والإدريسى، أن خليج أشمون طناح هو الفرع الأصلى للنيل.
وقال هيرودوط: إن من جملة الجزائر التى فى البحار المار ذكرها جزيرة تسمى كميس، فى بحيرة عميقة واسعة بها مدينة كثيرة السكان من أرباب الثروة حصينة منيعة، وكان هيكل لا طونة بمدينة بوطو (البرلس) قريبا منها، وكان المصريون يعتقدون أنها عائمة غير ثابتة، ولم يذكر ذلك المؤلف المذكور، وكان بالجزيرة معبد باسم أبلون، وهو من الهياكل العظيمة، وفيه ثلاث محاريب، وأما أرض كميس فأغلب زرعها نخيل، وأصناف متعددة من الشجر المثمر والعقيم، وسمى تلك المدينة استرابون باسم هرموبوليس وقد بقى سكانها على العبادة الوثنية زمنا طويلا بعد دخول النصرانية أرض مصر، فلما نفى إليها مرقور بطرك الإسكندرية تنصر أهلها، وهدموا هيكل أيولون الجاهلى، وبنوا مكانه كنسية نصرانية، ومن جزائرها أيضا جزيرة نيكوكس، وجزيرة بصة، وكان سكانها مع كونهم رعاة للغنم وغيرها قطاع طريق ولصوصا، وكانوا فى جهة مستقلة لا تأخذهم الأحكام، وقال هليلودور وغيره: إن الأرض المعروفة بالمراعى عند المصريين منخفضة، ويجتمع فيها كثير من ماء النيل وقت الفيضان، بحيث يصير فى وسطها بركة عميقة، وفى شواطئها وحل وطين كثير، لا يمكن المشى عليه، وكان جميع لصوص مصر وأشقياؤها يسكنونها، بعضهم فى الجزائر المرتفعة عن الماء، وبعضهم فى قوارب لا يفارقونها، فيكون بها نساؤهم وأولادهم، فإذا وضعت المرأة أرضعت المولود فى صغره، فإذا كبر أطعمته من سمك البحيرة المجفف فى الشمس، ومتى حبا الولد ربطته من رجله حتى لا يخرج من المركب، ولا يمنع من الحركة، فكان كل شخص من هؤلاء الرعاة يعتبر هذه البحيرة وطنا له، وكانت على غرض اللصوص لكونها لهم كحصن منيع، وكان غيرهم لا يدرى مسالكها، ومن حرصهم على الاختفاء بها، جعلوا الطرق غير مستقيمة وغير متصلة، فكانوا
آمنين من الهجوم عليهم، وبسبب قلة مائها كانت المراكب الكبيرة لا تتمكن من السير فيها، وكانت القوارب المستعملة عندهم صغيرة خفيفة، منقورة من جذوع الشجر، لا تسع غير اثنين أو ثلاثة، بحيث أنه كان فى الامكان نقلها على الأكتاف/وسكان هذه البحائر طوال القامة ولونهم مفتوح عن لون الهنود يغلب على أجسامهم الغلظ، وأرجلهم قصيرة، وهم دائما عراة الرءوس، يرخون شعورهم على أكتافهم، ولهم خيل يركبونها عارية بلا سروج ولا سرع، ويتكلمون باللسان المصرى، ويتقربون لآلهتهم بالآدميين، وينتشرون فى كل البلاد المجاورة للسرقة والإفساد، والمراكب التى تمر بقرب الساحل قل أن تسلم من السلب، ولهم رئيس يلقبونه بالملك، يرجعون إلى كلمته، وأمره، ومن ضمن أسلحتهم قوالب من الطين غاية فى الصلابة، يجعلون فيها كثيرا من مسامير الحديد، يحدث منها لمن تصيبه جروح شديدة خطرة، وفى زمن القيصر هرقوريل رفع سكان هذه الجهات لواء العصيان، فحاربهم حاكم مصر وهزمهم.
وحقق كترمير أن الأرض المسماة قديما بالبقوليا هى المعروفة بأرض البشمور، وهى ممتدة فى ساحل البحر غربى الفرع الدمياطى إلى بحيرة البرلس، وقد قاومت سكانها الخلفاء زمنا طويلا، وكذا سلاطين مصر، وفى بعض كتب المشرقيين تسمية سكان البشمور باسم بيامى، وهو مشتق من كلمة بياما المصرية التى معناها الراعى، واستعمل هذا الاسم أيضا بهذا المعنى فى تاريخ مرقورا الإسكندرى، وفى ذلك الكتاب أن بحائر سيناء، تهرع إليها مواشى جبل النيتربا، وأن الرعاة من أهل ليبيا، يذهبون بمواشيهم إلى هذه البحائر مرة فى السنة، وقال كترمير: إن كلمة بيامى مأخوذة من كلمة بياما المصرية، وهى قريبة من الاسم الذى يسمى به أهل هذه الجهات، ونقل كترمير أيضا عن عطناس أسقف مدينة قوص، أن لغات المصريين فى الزمن القديم كانت ثلاث لغات لغة الصعيد، ولغة أهل الوجه البحرى، ولغة أهل البشمور.
حرف الهاء
(هربيط)
قرية قديمة من الوجه البحرى فى شمال بوباسط القديمة على نحو عشرين ألف متر، واقعة فوق بحر مويس، وهو فرع صان القديم، وكان قبلها فى موضعها مدينة (فربتيت) فاضمحلت؛ وخلفتها هذه، وهى من مديرية الشرقية، بمركز العلاقمة على الشط الغربى لترعة النصارى، فى شرقى ناحية الخضرية بنحو ألف وخمسن مترا، ثم هى الآن تابعة للدائرة السنية الخديوية.
(هلبا سويد)
قرية من أعمال بلبيس فى ناحية الحاجر بمديرية الشرقية.
ترجمة ولى الله تعالى المشهور بحشيش
وفى خلاصة الأثر أن من هذه القرية على بن أحمد بن حصن المشهور بحشيش الولى، المشهور المصرى ذكره المناوى فى الطبقات، وقال: أصله من هلبا سويد، نشأ على طريق المطاوعة، وأخذ بالريف. وغيره عن جمع من المشايخ منهم والده، والشيخ أبو بكر بن قعود، ومحمد بن الحصين، والكاشف غنيم، والحماقى، ومجاع، ومرجان، وعليم المدفون بالخشيبة، وعلى الجمل، والفتى، وعمر السلمونى، والخضيرى، والبحيرى، وغيرهم، ثم دخل مصر، فصار يبيع الحمص المجوهر، يدور به فى الأسواق، ثم جلس يبيعه بالقرب من سوق تحت الربع، وله أحوال باهرة، وكرامات ظاهرة، لكنه مستور عن أكثر الناس، لا يعرفون إلا أنه رجل مبارك، ومن كراماته أنه إذا زار أحدا من الأولياء ظهرت له روحانيته فتخاطبه، وقع له ذلك مع الشافعى رضي الله عنه.
وذكر أنه رأى جبل قاف أرضا تتحرك بنفسها، وإنها تسمى الرجراج، ليس بها ساكن، وأنه اطلع على بحر الظلمات، وبه بلد لا يبصر أهلها إلا فى الظلمة، وأنه رأى إرم ذات العماد، واجتمع بأصحاب الكهف، قال: ولا بد
لسالك الطريق من رؤيتهم، ورأى روح الله عيسى عليه الصلاة والسلام، واجتمع بالخضر عليه السلام. فوجده يظهر فى صور مختلفة، وبالقطب فوجده يلبس كل يوم لباسا لونه غير لون الآخر، ولم يذكر المناوى وفاته، وقد رأيتها بخط الأخ مصطفى بن فتح الله حرس الله وجوده من الطوارق، وإنها كانت بمصر فى سنة إحدى بعد الألف ودفن بسويقة الصباغين. انتهى
(الهلّة)
بهاء مكسورة فلام مشددة مفتوحة فهاء تأنيث خطة بقسم طهطا من مديرية دجرجا، واقعة فى غربى طهطا، على نحو نصف ساعة، مشتملة على جملة قرى وكفور نحو الستين، منتشرة من حاجر الجبل الغربى إلى شاطئ السوهاجية، ومسافة ذلك نحو ساعة، وتمتد فى الشمال والجنوب نحو ساعتين، يتوسطها جسر كوم بدر الممتد من حاجر الجبل الغربى إلى ترعة شطورة بقرب النيل، ولا تقطعه إلا السوهاجية، فأكبر قراها ناحية الصفيحة، بضم الصاد المهملة المشددة وفتح الفاء المشددة فباء ساكنة فحاء مهملة فهاء تأنيث، وهى واقعة فى شمال جسركوم بدر بنحو ثلث ساعة فى آخر بلاد الهلة من الجهة الشمالية، وأبنيتها جيدة ومساجدها عامرة، وبها كنيسة، ومضايف متسعة، ونخيل كثير فى خلالها وحواليها، ولها سوق صغير كل يوم أحد، ويتبعها نحو خمس عشرة نزلة منتشرة فى جميع جهاتها، وفيها من البيوت المشهورة بيت أبى راية، وبيت أبى شائبة، ومن قرى الهلة، ناحية تل الزوكى على الشط الغربى للسوهاجية فى نهاية بلاد الهلة من الشمال الشرقى، ومنها الحاج زرير الزوكى، كان كبير خمس الهلة، ومن/عائلته الحاج يوسف الزوكى كان مشهورا بالكبر وادعاء الرقة، وهكذا كان أكثر عائلتهم.
ولهم أبنية مشيدة ومضيفة حسنة، وكان للحاج يوسف خيمة ينصبها خارج البلد يقيم بها زمن الصيف تباعدا عن أوخام البلد والروائح الكريهة، وقد توفى من نحو عشر سنين، ويتبع تلك القرية نحو أربعة كفور.
ومنها نزلة عمارة فى نهاية بلاد الهلة من الشمال الغربى فى آخر بساط الجبل مما يلى المزارع، وكان فى جنوبها جسر قديم من حاجر الجبل إلى تل الزوكى آثاره باقية إلى الآن، ولها سوق صغير كل يوم ثلاثاء وتجاهما فى جنوب ذلك الجسر قرية صغيرة تسمى عكا، ويتبعها أيضا نحو خمسة كفور.
وفى البلد أرباب حرف من بنائين ونجارين ونحو ذلك وفيها ثلاثة مساجد، وفى غربيها كنيسة للأقباط، وفيها عائلة يقال لهم أولاد أبى نصير من أكبر بيوت الهلة، لهم منازل ومضايف متسعة، وقصر مشيد فيه شبابيك الحديد والخرط الزجاج والفرش النفيسة، ولهم مسجد متين له منبر من الخشب، ودكة للمبلغين كذلك.
ويقال إن سبب شهرتهم إنه لما كان ابن العزيز سر عسكر إبراهيم باشا والد الخديوى إسماعيل باشا حاكما على الصعيد، قتل من عسكره قتيل، فاتهم فيه الحاج إسماعيل أبو نصير، فطلبه سر عسكر وأهدر دمه، فهرب واختفى مدة، ولما ضاقت عليه الأرض بما رحبت وعرف أنه لا مفر له سافر لمقابلة سرعسكر؛ لعله يعفو عنه وأخذ كفنه على رأسه وتحرى مظان رضاه، فدخل عليه فى حال الغداء، وهو يأكل على حين غفلة من المماليك الواقفين على باب مجلسه، وتمثل بين يديه فرفع بصره إليه وقال له: من أنت؟ فقال:
إسماعيل أبو نصير، جئت أطلب الأمان والعفو فعفى عنه. ويقال إنه أجلسه للأكل معه، ثم طلبه ليتوجه معه إلى حرب الدرعية، فما كان أسرع إجابته، وهناك فى المعركة رأى منه سر عسكر شهامة وفروسية. ويقال إن جواد سر عسكر كبا به فهجم عليه العدو، فكان أبو نصير أشد العسكر ممانعة عنه، وقاوم العدوّ حتى أصابه سيف فقطع إبهام يده، ولم تكل همته حتى ركب سر عسكر جواده، فازداد حبه له من حينئذ، وعاد غانما ظافرا قد حظى بالقبول والشهرة وأعطاه سر عسكر مائة فرس من جياد الخيل على وجه الشركة، وجعل له من نتاجها الإناث، واختص سر عسكر بالذكور، ورتب لها كل سنة عليقا
من الشعير يصرف من شون ساحل طهطا أكثر من مائتى أردب، وأعطاه لربيعها مائة فدان بلا مال بمحل واحد فيما بين بنى حرب وبنجا، وهى باقية مع ذريتهم وتعرف بقبالة المائة إلى الآن، لكنها صارت خراجية، وإلى الآن عندهم بقية من نتاج تلك الخيل، ورتب أيضا لمضيفته أربعة آلاف قرش ديوانية انقطعت فيما بعد، وكان الحاج إسماعيل يتردد إلى المحروسة للزيارة فغرق فى البحر فى بعض أسفاره وهو مصعد، وذلك فى دوائر سنة أربعين ومائتين وألف تقريبا. ولم يعقب ذكورا.
وكان بعد رجوعه من حرب الدرعية مشتغلا بملاذه وشهواته النفسانية؛ من استعمال الشراب وسماع الملاهى والألحان لا ينقطع الرقص والغناء من داره إلا نادرا، وكان أخوه إبراهيم نصير هو شيخ البلد، وكان له احترام، واعتبار، وله العقب، فترك ابنين مات أكبرهما، وهو عمارة إبراهيم، ولم يعقب ذكورا أيضا، والعقب لا صغرهما وهو عثمان إبراهيم، فترك ابنين مات أحدهما كذلك، والموجود الآن أكبرهما، وهو إسماعيل بن عثمان، وهو سالك مسلك عم أبيه فى استعمال الشراب وحب الملاهى والألعاب.
ومنها نزلة القاضى فى حاجر الجبل مما يلى المزارع فى جنوب عمود كوم بدر بنحو مائتى قصبة، وفى جنوب نزلة عمارة بأقل من ساعة، وهى قرية طيبة الهواء حسنة الموقع، أبنيتها من اللبن الرملى، وفيها عائلتان شهيرتان.
الأولى عائلة أبى سديرة تصغير سدرة، كان منهم أبو سديرة كريما شهما شجاعا غليظ القلب لا ينقاد للأحكام، فاجتهد الحكام فى طلبه فسار إلى الشام لملاقاة سر عسكر ابن العزيز، فهناك رضى عنه لما رأى فيه من الشجاعة، وكان يحب الشجعان، ثم أنعم عليه بجعله ناظر قسم بنجا فى أول ترتيب نظار الفلاحين سنة تسع وأربعين ومائتين وألف، وتوفى بعد سنة خمسين، وشاع ذكره سيما فى البلاد البحرية، وجعلوا عليه حكايات تذكر فى مجالس السمر كحكايات أبى زيد الهلالى؛ بسبب ما كان له من الجراءة والوقعات مع الأهالى
والعساكر، وترك أولادا كراما منهم إبراهيم وخليل، مات إبراهيم بعد أبيه بمدة.
وكان خليل مع كرمه جاهلا غشوما؛ أسلمت مرة امرأة من النصارى المنتمين إليه، فجعل يهددها لترجع إلى دينها لاعتقاده أنها مادامت نصرانية فهى كالملك له وإذا أسلمت صارت كأنها تحررت، وشرع النصارى مرة فى بناء كنيسة فيقال إنه أعانهم وضرب له معهم بسهم، وهى كنيسة عامرة إلى الآن. والآن كبير عائلتهم ابنه محمد إلا أنه غير سالك/مسلك أصوله فى الكرم، ومنهم عمدة الناحية إلى الآن، ولهم منزل كبير ودوار واسع، ومسجد داخل دوّارهم.
والثانية عائلة أولاد القاضى، الذى تسمت هذه القرية باسمه، وهو من قضاة العرب الذين يحكمون بين القبائل بقوانين وعوائد مقررة عندهم.
فكان هذا القاضى زمن العزيز محمد على يحكم بين الهلة صغيرهم وكبيرهم فى القصاص وغيره، ولا يستطيع أحد منهم أن يخالفه، وإذا أراد أن يجمعهم لأمر يأمر بإيقاد النار فى الفلاة فيجتمعون، ثم يحكم على المستحق بحضور أكابرهم، فكان يحكم فى القتل والجراحات تارة بالقصاص وتارة بالإهدار، ومعناه: طرد المحكوم عليه من بلاد الهلة، وهدم داره وحرق نخيله، هذا إن كان المقتول من الهلة، فإن كان من غيرهم حكم عليه بالقود، ومعناه عندهم: أن يسلموا القاتل لأولياء المقتول، ويسلموا له الأمر فى قتله أو العفو عنه، إلى أن نزل سرعسكر إبراهيم باشا على الصعيد ومر بالهلة، وسطت عساكره عليهم، فقتل الهلة منهم اثنين، أحدهما الذى اتهم فيه إسماعيل أبو نصير المتقدم ذكره، فأحضر سر عسكر ذلك القاضى وأكابر الهلة، وسألهم عن حكمهم فيمن قتل قتيلا: فقال القاضى: يهدر أو يقتل، فحكم عليهم بحكم قاضيهم، فقطع أغلب نخيلهم وهدم بيوت الكفور القريبة من محل الوقعة وحرثها بالمحراث، ثم قال القاضى: كم من الخيالة يركبون معك؟ قال: ألف ومائتان فقال له: أنت حينئذ آكل مال الهلة، وأمر به فوضع فى فم المدفع، ثم عفا عنه وجعله مساعدا فى جمع الخراج من الهلة، بعد أن عفا عن الجميع
وجعل له فى نظير ذلك مسموحا يأخذه من شون ساحل طهطا، وكذا جعل مساميح لغيره من أرباب المضايف، ومن عائلة هذا القاضى الآن حماد بن مبارك القاضى، له دار واسعة ومضيفة بها منظرة بشبابيك من الخرط، وهو رجل صاحب رأى سديد، يؤدب أولاده ويعلمهم القراءة والكتابة، ويرفعهم عن طباع أهل الهلة من العجب والخيلاء والبطالة، فجعل منهم اثنين فى الأزهر، ومنهم من أناط به مصالح معاشه من زراعة وغيرها، ومنهم أطفال فى المكتب، وله جامع أمام بيته مقام الشعائر رتب خطيبه معلما لأولاده، وفى زمن فيضان النيل ينتقل عند هذه القرية سوق ناحية الكوم الأصفر كل يوم سبت.
ومنها ناحية الجبيرات بجيم فموحدة فمثناة تحتية ساكنة فراء مهملة فألف فتاء مصغرا، وهى واقعة فى حاجر الجبل أيضا فى جنوب نزلة القاضى بلا كبير فصل، بل ليس بينهما إلا نحو خمسة أمتار، وأكثر نخيلها كنزلة القاضى فى الجانب الشرقى، وفيها أبراج حمام وأربعة أضرحة، ذات قباب وبيوت مشيدة، ومضايف متسعة عديدة، وأكبر بيوتها وأعظمها وأشهرها بيت أولاد إسماعيل أبى حمد الله، وكان رجلا صالحا كريما حسن الأخلاق، وأعقب أولادا كانوا على غاية من الكرم وحسن السمت، منهم أحمد بن إسماعيل، كان هو العمدة وفاق أقرانه فى إطعام الطعام وإعطاء العطايا، ومنهم محمد أغافاق أخاه فى الكرم، وجعل ناظر قسم الهلة مدة فى زمن العزيز محمد على وبعده، ثم عوفى، ثم جعل ثانيا ناظر قسم بطهطا، ثم طما، وتعين فى تلك المدة على الأنفار الذين خصصوا على مديرية جرجا فى حفر القنال، الذى وصل البحر الأبيض بالبحر الأحمر، وكانت الأنفار مخصصة على جميع المديريات، ثم عاد ولزم بيته إلى أن توفى، قبيل سنة ثمانين، وكان جميل الصورة طويل القامة حسن الهيئة أبيض اللون بشوشا، سيما عند بيته وكان يحب أكل اللحم، يقدم له الخروف المحمر فلا يبقى منه إلا قليلا، على ما قيل، وقد أعقب كل منهما ابنا جليلا، وقد سلكا مسلك أبويهما فى الكرم، ومحاسن الأخلاق إلى الآن.
وقد جعل عبد الرحمن بن أحمد ناظر قلم مديرية دجرجا، ثم عضوا فى مجلس الزراعة بأسيوط، ثم لزم بيته وجعل رضوان بن محمد، حاكم خط بقسم طهطا، ثم عوفى وهم عمد بلدهم إلى الآن، ولهم قصر مشيد كقصور مصر تنزل فيه الحكام والعرب، ولهم مسجد هدمه وجدده عبد الرحمن بن أحمد؛ فجعله أعظم مساجد الهلة وجعل له منارة، ومنبرا من الخشب، وهو مقام الشعائر كما ينبغى ولهم جنينة فى شرقى البلد أغرقها البحر مرارا، ولا تنقطع ضيوفهم يوما فى السنة.
وبالجملة فهذا البيت أشهر بيوت بلاد طهطا كرما وأكثرها واردا، ويحق أن يقال فيهم:
(لهم جفان كالجوا
…
بى وقدور راسيات)
وفى هاتين القريتين يعمل ليلتان كل سنة فى نصف شعبان، أولاهما وهى ليلة الرابع عشر، يجعلونها للسيد البدوى، والثانية ليلة نصف شعبان، وهى الكبرى يجتمع فيهما نحو عشرة آلاف نفس من الخيالة والفقراء، والمطاوعة وأرباب الأشائر، ومشايخ الطرق والسجادات وأرباب الملاهى، والقهوجية والنقلية وغير ذلك، من نحو العطارين، ويقوم أهل القريتين بلوازم الليلتين من أكل وشرب، ونحو ذلك، فيؤكل فيهما نحو مائتى أردب من القمح والذرة والشعير والفول، ويذبح فيهما نحو الخمسين من الإبل والجاموس، ومن الضأن نحو الثلثمائة، وأكثر ذلك من بيوتهما المشهورة كبيت/أبى سديرة وبيت القاضى، وأكثر الجميع فى ذلك بيت أبى حمد الله قيل: إنه يطحن فى الليلتين نحو ستين أردبا من القمح، والذرة غير الشعير، والفول لعليق الخيل والحمير، فمن قبيل المغرب تخرج البواطى والطشوت الكثيرة العدد مملؤة، وبالثريد للفقراء والمطاوعة، وبعد المغرب تخرج طباق النحاس الكبيرة، للأعيان والمجملين، ويستمر الأكل إلى ثلث الليل، وبعد طلوع الشمس كذلك إلى قرب الظهر.
وفى أول ليلة تنتصب الأذكار وينعقد الجمع فى دوار أبى حمد الله إلى طلوع والفجر. فى الليلة الثانية يكون ذلك غربى القريتين فى بساط الجبل، وينصب فى وسط الجمع صارى مرتفع فى السماء، يدور الذاكرون حوله طوائف طوائف يمسك بعضهم بعضا كالسلسلة، ثم يجلسون حلقة ويجلس المغنون متقابلين؛ فيغنى أحدهم بشئ من كلام القوم أو من سيرهم؛ لكن بألفاظ وتراكيب عامية ملحونة، ثم يجيبه آخر بمثل ذلك، ويذكرون اسم الله تعالى باللحن والتقطيع، ويزعمون أن ذلك طريقة القوم، وتنتصب أيضا الحانات المشتملة على الدف والطار والمزمار، وغير ذلك، وفى طرفى النهار من العصر إلى الغروب، ومن الضحى إلى قرب الظهر، ينتصب كل ذلك أيضا.
وينتصب ميدان المسابقة بالخيل ويجتمع هناك خيل جياد كثيرة من بلاد شتى، عليها طقوم محلاة يركبها شبان متجملون بالملابس، لهم بالرماحة خبرة ودراية، تعجب الناظر هيأتهم وهيئات خيولهم، ويرقصون الخيل على ضرب الطبل كرقص النساء، ومنهم من يضجع حصانه ويوقفه وهو راكبه، ومنهم من يأتى به رامحا على ثلاثة أرجل وإذا اختار أحد الفرسان فارسا، ينزل معه الميدان يرمح إليه، ويشير له بالرمح الذى بيده، المسمى (بالزانة)، ويسمون ذلك إضافة، فينزل معه ويأخذ كل منهما من الميدان جانبا، ويحرص على منع الآخر من دخوله فى جانبه، ويحرص الآخر على دخوله فيه، فمن دخل فى جهة صاحبه ولم يتمكن الآخر منه فهو الغالب، إلى غير ذلك من الألعاب.
وأكثر الفرسان يكونون من بلاد الهلة، ومن ناحية أولاد إسماعيل، وجهينة، ونزة والنخيلة، وأم دومة، والمدمر، وقيل: إن سبب اعتيادهم هاتين الليلتين؛ أنه وقعت معركة بين بلاد الهلة وبلاد جهينة سببها: أن كبير جهينة حلف ليسقين حصانه من بئر العكاوى، فى آخر بلاد الهلة. من جهة الشمال، إغاظة لهم، وكانوا قد منعوه من دخول بلادهم، فخرج ليبر قسمه، وخرج وراءه حزبه، واجتمع حزب الهلة؛ فالتقى الجمعان والتحم الحرب.
فكانت النصرة للهلة على جهينة بين نزلة القاضى والجبيرات فى الرابع عشر من شعبان؛ فجعلوا ذلك موسما كل سنة، وسموه ليلة السيد، ثم ألحقوا به الليلة الأخرى، وذلك قبل استيلاء العزيز محمد على، على الديار المصرية ومنها:
نزلة علىّ بين الحاجر والمزارع أيضا فى جنوب الجبيرات بنحو نصف ساعة، ويتبعها نحو خمسة كفور متقاربة، من ضمنها كفر يسمى (الطوال) هو نهاية بلاد الهلة من الجهة الجنوبية بجوار ناحية نزة، وفيها مع كفورها نحو عشر مضايف، وأربعة مساجد، وفيها بيت أولاد الركوة مشهور بالكرم، وكان منهم همام الركوة، ناظر قسم بعد محمد بن أبى حمد الله، وفيها نخيل جيد، ويزرع فى أرضها البطيخ وقصب السكر ومنها:
الكوم الأصفر فى وسط الحوض الكائن فى جنوب عمود كوم بدر، ويتبعها نحو خمسة كفور، وفيها مع كفورها نحو عشرين مضيفة وسبعة مساجد، ولها سوق كل يوم سبت، ولوقوعها فى وسط الحوض، وإحاطة النيل بها زمن الفيضان ينقل ذلك السوق إلى حاجر الجبل عند نزلة القاضى كما أشرنا إليه. ومنها: كوم بدر، وهى قرية صغيرة ملاصقة لعمود كوم بدر على نحو النصف من السوهاجية، وبساط الجبل وفيها مسجد مقام الشعائر، ومضيفتان ونخيل قليل، ويتبعها كفران فيهما مضايف ونخيل.
ومن قرى الهلة الشيخ مسعود ويتبعها خمسة كفور، وفيها مسجدان وأربع مضايف، ونخيل كثير جيد، ومقام ولىّ الله الشيخ مسعود بجوار مسجده، وله قبة مرتفعة. ومنها:
الجريدات بجيم فراء مهملة فياء تحتية ساكنة فدال فألف فتاء فوقية بصيغة الجمع المصغر، وهى قريتان متجاورتان فوق شط السوهاجية الغربى، فيها مسجدان وست مضايف ونخيل وأبراج حمام. ومنها:
نجع المروّم بضم الميم وفتح الراء المهملة وشد الواو المكسورة وميم، وهى قرية فى شرقى السوهاجية بنحو ربع ساعة، وفى شمال بنجا كذلك، فيها مسجدان ومضايف ونخيل كثير جيد، وفيها بيت مشيد لعمدتها أحمد سلامة، وهو من كرام الناس، وقد توفى سنة تسعين ومائتين وألف، وترك ذرية ذكورا وإناثا، وبيته عامر إلى الآن إلى غير ذلك من القرى والكفور البالغة نحو الستين، وفى جميعها نخيل ومضايف ومساجد وزراعة حسنة، ولكثير منهم خدم وحشم وعبيد وإناث كثير، وأكثرهم لا يباشر زرعه بنفسه وربما عدوا ذلك عيبا، ثم أن أهل الهلة يزعمون أن أصلهم من قبيلة بنى هلال المستوطنين ببلاد تونس، وقيل: أصلهم من حمير اليمن وارتحلوا إلى/تونس، ثم ارتحل بعضهم إلى أرض مصر، وذلك فى القرن السادس وأن نسبهم ينتهى إلى عدنان، كما فى وثائق عند كبرائهم كالقاضى، فنزلوا فى غربى طهطا، وكانت تلك الجهة إذ ذاك لشيخ العرب الجند إلى الكشكى من مشايخ غرب جهينة، فاقطعهم أرضا قليلة، فاستقلوها على كفايتهم، وكان من بنى حرب، وهى قبيلة من عرب الحجاز نجع قاطنون فى غربى طهطا، ولهم أرض يزرعونها، فأسر أهل الهلة فى أنفسهم طردهم والاستيلاء على أرضهم، فاتفق أن بنى حرب دعوا الهلة إلى وليمة فحضروا وتسابقوا بالخيول، ثم نزل الجميع عن خيولهم وتشاغلوا مع بنى حرب بالمباسطة والأكل، وقد كانوا أغروا أتباعهم وخدمهم على خيل بنى حرب؛ فقطعوا ركاباتها وشرائحها وقلعوا اللجم منها؛ ففعلوا، ثم قاموا وركبوا خيولهم وشهروا أسلحتهم على بنى حرب، وهجموا عليهم، فهمّ بنو حرب لركوب الخيل فوجدوها بهذه الصفة، فقتل منهم كثير وفرّ باقيهم، فاستولى الهلة على نصف أطيانهم فى محل يقال له الآن الأخماس على جانبى السوهاجية، فاتسعت أطيانهم حتى زادت عن عشرين ألف فدان غير ما بخلالها من الأباعد، وكان الهلة خمس بدنات لكل بدنة كبير وهى خمس قرين وخمس شحاتة وخمس أبى خزيمة وخمس أولاد علىّ
وخمس السديرات، فاقتسموا جميع الأطيان أخماسا إلى الآن ولكل بدنة من الخمسة قطعة من قرية الصفيحة، بحيث أن من لم يكن له مقسم فيها فليس من الهلة، كما حكم بذلك قاضيهم قديما.
وأكثر أهل الهلة الآن مياسير أصحاب ثروة؛ لخصوبة أرضهم بالطمى المجلوب إليها كل سنة من فرع السوهاجية الخارج فى غربى نجع الهيش من بلاد نزة، ومن ملابس أغنيائهم قفاطين الخزّ والجوخ والثياب الرفيعة، وأواسطهم يلبسون زعابيط الصوف، ومنهم من يتعمم بعمائم الصوف المسماة بالبلين، ويلبس نساء أكابرهم ثياب المقصب وأنواع الحرير الرفيعة، والأواسط يلبسن ثياب الحرير الإسكندرانى الغليظ بأكمام واسعة، وأكل أكابرهم القمح وغيرهم الذرة والشعير، ومن طبائخهم العدس والمدمس ويسمونه بالبليلة، والبامية المهروسة والبامية البورانى، والكبير من البامية يسمونه بالويكة، ولا يذبح فى أسواقهم هزيل المواشى، ويزجرون الجزارين ويلزمونهم بذبح الطيب السمين، وكيفية طبخ اللحم عندهم فى الغالب أنه بعد استوائه فى القدر نصف استواء ينزع من القدر ويوضع فى أوان من الفخار، تسمى (المراجيس) متخذة من الطين والهمر ويوضع عليه السمن والماء والبصل المقلى، ثم تجعل فى التنور بعد أن يحمى ويترك حتى يتم استواؤه، وقد يجعل منه كباب ومدقوق ملتوت بنحو فريك، وطباعهم تميل إلى أكل الأوز كثيرا ويطبخونه محشوا بفريك القمح الملتوت فى السمن، وبعد قرب استوائه يجعلونه فى شئ من السمن، ويدخلونه التنور حتى يتم استواؤه، وكذلك الدجاج والحمام، وأما عجين القمح فيجعلون منه أنواعا الفطير الأبيض وهو الرقاق، والفطير الأحمر وهو ما يرقق بالنشابة، وهى خشبة من الزان أو غيره أقل من غلظ رمح وأطول من ذراع، حتى تكون الفطيرة مثل القرطاس، ثم تطبق على السمن بأن يجعل السمن بين كل طبقتين، ومنه نوع يسمى البقلاوة، وهو ما يقلى فى السمن ومنه نوع يسمى القرص يعجن بالسمن، ثم يخمر ويخبز ومنه القرص
الدماسى، وهو ما يفرطح باليد، ثم يدفن فى الملة، وهى الرماد الحار الخالى من الدخان حتى يسوّى، ثم يمسح من التراب ويفرك فى السمن.
وهذا يأكله فى الغالب الزراعون وأرباب الأشغال الشاقة؛ لأنه يمكث فى البطن ويورث قوة ومنه السكسكية، وقد مر الكلام عليها فى الكلام على الحريقة، ومثل: السكسكية الشرموطية تستوى فى القادوس على بخار القدر إلا أنها لا تخرط، بل توضع فى القادوس رقاقا رقيقا، ومنه الكنافة وهى معروفة ومنه الرشتة وهى الرقاق المخروط المطبوخ فى الماء أو اللبن ومنه غير ذلك، وقد يطبخون من الدقيق شيئا يسمى الكريانة ويسمى الحريرة وهى: أن يغلى الماء أو اللبن فى القدر، ثم يضاف عليه شئ من الدقيق، ويحرّك بمغرفة ونحوها، حتى يمتزج وينعقد ويكون رقيقا مثل العسل، ومن طبائخهم العصيدة، وهى أن يوضع فى القدر ماء قليل، وبعد غليانه يضاف عليه دقيق القمح أو الذرة ويفرك بالمفراك، وهو آلة من الخشب لها رأس أكبر من رأس المغزل، ثم يضاف الدقيق ويفرك وهكذا حتى ينعقد ويغلظ ويجمد ويستوى، ثم يؤكل بالسمن واللبن، وقد يضاف إليه العسل أو التمر، وعادتهم فى الأفراح والجنائز كغيرهم من بلاد طهطا، وقد تقدم ذلك إلا أنهم يزيدون كثرة النقوط المسمى بالغرز، وذلك أنهم فى آخر يوم من الفرح عند حلق رأس المختون، يدفع الحاضرون المدعون من البلد والبلاد المجاورة لوالده شيئا من النقود، كل على حسب حاله، وربما دفع الشخص الواحد عشرة جنيهات، فيجتمع من ذلك لصاحب الفرح شئ كثير ربما يبلغ مائتى جنيه غير ما يساق إليه من/ جمال الغلة والذبائح التى تصير الفقير غنيا.
وقد كان أحد رؤساء الهلة أبو سديرة، إذا قلت الغلة من بيته يعمل فرحا فيمتلئ بيته غلة ونقودا وذبائح، وكذلك من حصل له مصاب كحرق الزرع والجرون، فإنهم يسوقون إليه الغلة والتبن؛ حتى يدخل له مثل ما يدخل من زرعه أو أكثر، وكذلك عند الموت يهيئون الطعام لأهل الميت، ويرسلون الغلال والذبائح، وكذلك عند بناء نحو دار.
وعادة أكابرهم فى مضايفهم أن لا يخرجوا العشاء إلا بعد العشاء بنحو ساعة، وربما تأخر ساعتين عنها، ومنهم من يؤخر الأذان إلى أن يتعشوا، ويقولون: إن فى التأخير رفقا بالضيف إذ ربما يقدم ضيف بعد العشاء، ولا يخرجون الفطور إلا قبيل الظهر، فمن لم يتأخر من الضيفان إلى هذا الوقت يذهب بلا فطور، إلا على القهوة، ومع كونهم يخرجون فى العشاء والغداء شيئا كثيرا، فمن لم يدرك الأكل فلا يخرج له، بل يبقى جائعا إلى خروج الأكل المعتاد، ثم إن نصارى بلاد الهلة قليلون، وكانوا مستعبدين لهم قبل حكم العزيز محمد على، ويقتسمونهم ويتوارثونهم كالمماليك، ويحكمون فيهم ويحامون عنهم ويستخدمونهم كما كان ذلك فى كثير من البلاد، إلا أن أهل الهلة أشد فى ذلك، فإنهم قوم عتاة شم الأنوف، وفى كثير منهم الكبر والخيلاء والجهل.
فمن ذلك أن بعضهم سمع القارئ يقرأ (يسئلونك عن الأهلة) فقال: قد ذكرنا الله فى قرآنه، فلا أحد يماثلنا، ومن ذلك أنهم كانوا لا يرضون بتعليم أولادهم القراءة، ويعدوّن ذلك عيبا وضعفا عن الشجاعة والسلب والقتل.
واتفق أن بعضهم بعث ابنه إلى الأزهر فاجتمع أكابرهم، وذهبوا إليه وألزموه بإحضاره من الأزهر، وقالوا له: إذا نحن علمنا أولادنا القرآن والعلم، فمن يقتل العدوّ ويشرب من دمه؟ وكانوا يجلبون إلى مساجدهم أئمة من البلاد مثل: طهطا ونحوها لمجرد تمام الانتظام وحب الفخر، لا رغبة لهم فى الصلاة والديانة.
ومع ذلك، فمنهم للفقهاء والعلماء إحسانات وهدايا وتفقدات، وعليهم لهم مرتبات سنوية من متحصل الزراعة، بحيث تكاد تفى بزكاة حرثهم، بل ربما يزيد ذلك عن الزكاة، إلا أنهم لا ينوون بها الزكاة، ثم دخلتهم الرقة، ودبت فيهم الرحمة، وحب العلم والعلماء، ورغبوا فى تعليم أولادهم، وجعل كثير منهم عند بيته مكتبا لتعليم أولاده وغيرهم، ومنهم مجاورون بالأزهر إلا أن
فيهم بقية من الطبيعة الأولى، فترى أكثر أرباب المضايف منهم يتخذ عند بيته مسجدا ويجعل له إماما من فقهاء البلد أو غيرها، ويجعله معلما لأولاده وأولاد أتباعه، ويرتب له ما يكفيه سنويا إلا أنه يسلك به مسلك خادم المضيفة؛ بحيث إذا غاب خادم المضيفة فعلى الخطيب كنس المضيفة وتنظيف الفرش وخدمة الضيفان ورب المنزل، ويسقيهم القهوة، ويولع لهم الشبكات ويرونه بعين الاحتقار؛ بحيث لو طلب أن يتزوج، ولو من فقرائهم لا يزوّجونه إلا إن كان من أقربائهم، ولو كان من الأشراف العلويين، ثم إن من الكفور التابعة لتل الزوكى كفرا يسمى (كوم الحامض) فى شرقى السوهاجية وغربى نجع المروم، يحيط به النيل زمن الفيضان من كل جهة، وله رصيف يحميه من الماء، وفيه نخيل ومسجد عامر وبناؤه من الآجر واللبن، وقد نشأ منه حضرة الأمير عبد القادر بيك.
(هوّ)
بلدة بالصعيد الأعلى سماها اليونان فى قديم الزمان ديوسيوليس-بروا- يعنى طيبة الصغرى، وكانت تعرف أيضا باسم (هم) بالميم وكانت قاعدة إقليم من جملة بلدانه بلدة بجوج أو بجج، وهى الآن واقعة على كيمان البلدة القديمة فى طوق الجبل الغربى، وفيها مسجدان قديمان تقام فيهما الجمعة غير الزوايا، وبينها وبين البحر الأعظم جسر طوله نحو أربعمائة قصبة للمحافظة على مياه خليج الرنان، وفيه قنطرتان بسبع عيون أحداهما تفتح فى أول السنة لرى أراضى ناحية القمانة والدهسة، وعند سدها تفتح الثانية لرى أطيان ناحية أبى حمادى وبهجورة وسواحل فرشوط.
وهناك بالجبل بناء متين يشبه القصر كان قد بناه الدفتردار، وبجواره مقام سيدى الأمير ضرار، وهو مشهور يزوره الناس كثيرا، يأتون إليه من أقصى البلدان وأهل البلاد المجاورة يزورنه كل يوم سبت، وله مولد كل سنة ليلة واحدة.
وذكر ابن بطوطة أنه لما ساح فى تلك الجهات، كان بمدينة (هوّ) السيد الشريف الشيخ الصالح أبو محمد عبد الله الحسين، وكان من كبار الصالحين قال فزرته: فلما اجتمعت به سألنى عن قصدى، فأخبرته أنى أريد الحج على طريق جدة فقال: لا يحصل لك هذا فى هذا الوقت، فارجع وإنما تحج أول حجة تحجها على الدرب الشامى، فانصرفت عنه، ولم أعوّل على كلامه، ومضيت على طريقى؛ حتى وصلت إلى عيذاب، فلم أتمكن من السفر، فعدت راجعا إلى مصر، ثم إلى الشام، فكان طريقى فى أوّل حجاتى على الدرب الشامى، حسبما أخبرنى به الشريف نفعنى الله به. انتهى.
(هوارة المقطع)
ويقال لها: هوارة القصب أيضا، قرية من قسم مدينة الفيوم، واقعة فى شمال اليوسفى، بنحو خمسين قصبة، وكانت فى السابق رأس خط، وكان بها للميرى/دوّار أوسية، وأبنيتها باللبن، وفيها جامع بمنارة، ونخيل بكثرة، وحدائق ذات بهجة، وأكثر فاكهتها التين المعروف بالرمادى، نسبة إلى ناحية رماد الواقعة فى شمال سراية الفيوم لكثرته فيها جدا، ويباع فى بلاد الفيوم وبلاد الريف، وبجوار هوارة من جهة الشرق قناطر بعشر عيون فرشها عال، وتنزل منها المياه الزائدة عن طاقة اليوسفى، وهى مبنية فى الخور القديم، المتصل بالبطس المشهور الموصل الماء إلى خزان طمية، وفى شرقى هذه القناطر قطع يقال له: قطع السنط، له رصيف من الحجر الدستور، بناه خورشد باشا السنادى سنة 1236 وقت أن كان مأمور الفيوم، وبجوار الرصيف رصيف آخر من الآجر، طوله نحو ثلثمائة ذراع بالمعمارى، بناه حسن بيك الشماشرجى سنة 1228 بعد ما قطع.
وفى شرقى قطع السنط بنحو ثلثمائة قصبة يوجد بحر ناحية سيلة، وهو لأربعة بلاد، وليس عليه سد، بل هو مفتوح دائما لسيره فى حاجر الجبل،
وفى شرقى ذلك القطع أيضا، بنحو مائة وخمسين قصبة، قطع يقال له: قطع الكوم الأسود، طوله نحو مائتى ذراع، وله رصيف من الآجر، بناه حسين باشا الجوخدار سنة 1245، والكوم الأسود فى شرقى هذا القطع، بنحو مائتى قصبة، واقع على حافتى بحر وردان الذى ارتدم، وفى غربى قرية هوّارة بنحو خمسمائة قصبة جملة قطوع، أيضا يقال لها: قطوع (بلاما) طولها فى الجسر الشرقى لليوسفى ألف ومائتا ذراع بالعمارى، كلها مبنية، منها مائتا ذراع، بناها خورشد باشا بالدستور، ومنها خمسمائة ذراع، بناها الجوخدار بالطوب الأحمر، ومثلها بناها حسن بيك الشماشرجى، والجميع بالمونة، وعرضها يختلف من خمسة أذرع إلى عشرة، وارتفاعها من عشرة إلى سبعة عشر ذراعا.
وخور بلا ماء يدور خلف هوارة حتى يلتقى مع خور القناطر العشرة، ثم يسيران شمالا قدر ساعة من هوارة، فيصبان فى البطس، وفى قبلى ناحية هوّارة، على يسار الذاهب إلى المدينة، سواقى هدير فى آخر رصيف قديم، جيد البناء، ممتد فى الشمال والجنوب نحو ثلثمائة ذراع.
وكانت تلك السواقى لرجل من العسكر، يسمى (بعجم) أو (غلى) وهو أول من ابتدع سواقى الهدير، أعنى التى تدور بالماء، وكان يسكن ناحية دمشقين.
(هور)
بلدة قديمة بالصعيد الأدنى من بلاد البهنسا، عامرة بالأهل، وفيها مساجد ونخيل، وبها مقام الشيخ موسى أبى عمران الجد الخامس لسيدى عبد الوهاب الشعرانى، قال فى طبقاته الكبرى: ومنهم جدى الخامس الشيخ موسى المكنى بأبى عمران، وهو من أجل أصحاب أبى مدين التلمسانى شيخ المغرب، وكان من أولاد السلطان مولاى أبى عبد الله الزغلى بضم الزاى وإسكان الغين المعجمة نسبة إلى قبيلة زغلة من المغرب، وكان سلطان
تلمسان، فلما ترعرع سيدى موسى اختار طريق الله على الملك فتشوش والده لذلك، ثم أطلق له الأمر، فالتحق بأبى مدين، وأخذ عليه العهد، ووقع على يديه الكرامات.
وأرسل أبو مدين عدة من أصحابه إلى مصر، فأرسله من جملتهم وقال له: إذا وصلت إلى مصر فاقصد ناحية هور بصعيدها الأدنى، فإن فيها قبرك، وكان كذلك، وتفرقت أولاده فى البلاد، وجماعة ماتوا بمنشية الأمراء وجماعة ببلنسورة، وساح أولاده إلى بلاد الرجراج مات سنة سبع وسبعمائة على ما قيل رضي الله عنه. انتهى.
(هيرقليوبوليس باروا)
بلدة كانت قديما رأس خط سترويت وكانت على الشاطئ الأيمن لبحر الطينة فى منتصف المسافة بين صان والطينة، ومحلها الآن التل المعروف بتل الشيرج، والطريق بينها وبين الطينة كانت برا لا بحرا، قاله يوسف الإسرائيلى وكان على يمين الذاهب منها إلى الطينة، برك ماء جعل بعض الجغرافيين منها بحيرة البلاح الآن، وعلى الشمال أيضا جملة برك بين مصب بحر صان وبحر الطينة، وكان يتخللها جملة قرى، ولم تكن بحيرة المنزلة فى ذاك الوقت متسعة كما هى اليوم.
والظاهر مما تقدم أنه لما انطمس بحر الطينة، وانقطع جريان النيل فيه غلبت مياه المالح على أراضى تلك الجهات، فحدثت بحائر أخرى على شمال بحر الطينة، ثم أخذت البحائر فى الاتساع، وزحف بعضها على بعض، واختلط قديمها بجديدها، واتصلت ببحيرة المنزلة، وصار الجميع بحرا واحدا، هو بحيرة المنزلة الآن.
وانعدم بسبب ذلك خط سترويت المسماة (ستروم)، الذى كانت أراضيه على طرفى بحر الطنية.
مطلب أخطاط الوجه البحرى فى الزمن السابق
وكان من العشرة إخطاط المنقسم إليها الوجه البحرى إلى دخول الرومانيين أرض مصر، وهى خط أتريب، وخط بوصير، خط ليونتوبوليس، وخط منديس (أشمون طناح) وخط هربيط، وخط بروزوبيت-وخط صار-وخط سمنود-وخط سترويت-وخط صان، ولما دخل الرومانيون هذه الديار جعلوا ذلك الوجه ستة عشر قسما، وذلك فى زمن القيصر أدريان وبعد خمسين سنة من دخول الرومانيين أضيف لتلك الأخطاط خط نيوت أوناتوا، فصارت سبعة عشر فلذا فى جغرافية بطليموس المؤلفة بعد الميلاد/بنحو مائة وخمسين سنة.
إن الوجه البحرى كان منقسما إلى سبعة عشر قسما وهى أتربيت- وبرزيت-وكيزيت-وليونتوبوليس-ومنديزيوس-وميتليت-ونيوت-وأونيفيت- وفربتيت-وفتيمومغوتى-وفتينيوت-وبروزويبت-وساييت-وسبنيت- وسبيريور-وسترويت-وتانيت-وأنفيريور. انتهى.
(هيروبوليس)
مدينة كانت قديما واقعة بقرب نهاية الشمال الشرقى لبلاد مصر، أول من وضعها كما فى كتب الإفرنج القديمة العرب الرعاة الذين كانوا يعرفون باسم الهيكسوس وسموها (أواريس)، وذلك قبل المسيح بألفين واثنتين وثمانين سنة.
وبقيت معروفة بهذا الاسم إلى أن جلاهم عن مصر رمسيس الثانى، صاحب الفتوحات المشهورة، فاستولى على هذه المدينة وسماها باسمه، وذلك قبل المسيح بألف وخمسمائة وإحدى وسبعين سنة، وبقيت معروفة باسم رمسيس إلى سنة أربعمائة وخمس وأربعين سنة قبل الميلاد، فتغير اسمها إلى هيروبوليس، وبقيت تعرف بهذا الاسم إلى أن خربت، وتارة كان يقال لها: مدينة الشجعان أو العسكر أو الرجال.
ويظهر من كلام المؤرخين أن أواريس كانت مقر ملوك الرعاة بعد تغلبهم على الديار المصرية، وطرد فراعنتها الأصليين منها، وعن مانيتون أن قوما
كثيرين وردوا من جهة الشرق، وأغاروا على أرض مصر تحت قيادة ملك يقال له سلاطيس، وإن هذا الملك دخل مدينة منفيس، وضرب على أهلها وعلى أهالى جميع البلاد ضرائب ثقيلة، ورتب عساكره لحفظ البلاد، وألزمهم بالطاعة، وجعل مقر عسكره فى الحد الشرقى من أرض مصر؛ لأجل أن يكون آمنا من إغارات العراقيين إذ ربما يقومون لإرادة دخول مصر، فجعل المحافظة فى محل أواريس القديمة التابعة لمديرية صان بقرب بحر بوباسط، وحصنها بالحصون المنيعة وجعل فيها مائتى ألف من العساكر، وقال يوسف الإسرائيلى: إن الهيكسوس قوم من الشام خرجوا منها بسبب غارات العراقيين عليهم، فدخلوا مصر وسكنوا فى نواحى هيرون (هيروبوليس)، ولما جلاهم رمسيس عنها، بقى منهم بقية تحصنوا فى أواريس فى قطعة من الأرض سعتها عشرة آلاف أرور (والأرور مساحة من الأرض تقرب من ثلثى فدان)، وفى كتاب لينان باشا أيضا أن هذه المدينة كانت قديما واقعة على الطريق المارة من المطرية إلى أرض غسان وبئر سبه (بئر القسم) وفى ترجمة التوراة أن مدينة هيروبوليس فى أرض جيشن وأن يوسف عليه السلام تقابل مع أبيه فى أرض جيشن، وقال فلاويوس يوسف: إن سيدنا يعقوب عليه السلام وفد على مصر من أرض كنعان فتقابل مع ابنه فى هيروبوليس بأرض رمسيس، وذلك قبل الميلاد بألف وسبعمائة وست وستين سنة، ويحتمل أنها على الطريق المارة من مدينة منفيس إلى هذه الأرض لما مر، وجميع الطرق الآتية من أرض كنعان إلى مصر كانت تمر بالعريش، وأما الطريق التى على جنوب ذلك فكانت فى غاية الصعوبة كما هى الآن؛ بسبب كثرة العقبات التى يلزم المار بها اقتحامها، وعادة عرب البادية إلى الآن أن يمروا بتلك الطريق، بسبب وجود الماء والمرعى بجوارها لقربها من ساحل البحر مع كثرة القوافل المارة هناك، وبعد قليل يصلون إلى وادى السبع آبار، وفيه كثير من الماء والمرعى، والآن كثير ممن يذهب من مصر إلى الشام، أو منه إلى مصر من غير العرب طريقهم على قطية-وبئر الدويكتار-والقنطرة-والصالحية والقرين-وبلبيس.
وقد كان الريان فرعون يوسف أنعم على إخوة يوسف ووالده عليه السلام بأرض جيشن ليقيموا بها، وجعل يوسف عليه السلام لوالده مدينة رمسيس؛ لأنها من أخصب أرض مصر، وآثار الزرع الموجودة إلى الآن فى الأرض الواقعة بين القنطرة وقطية، والبرك الواقعة بين رأس الماء والصالحية تدل على أنها كانت من روعة، وكان بها خط يعرف بخط (عرابيا سطروئت) وعلى ما مر عن مترجمى التوراة وعن فلاويوس يوسف من أن يوسف عليه السلام تقابل مع والده فى هيروبوليس فى أرض رمسيس، يلزم أن مدينة هيروبوليس كانت فى المحل المعروف: بالوادى فى وقتنا هذا، أو ضواحيه وإلى الآن فى الطريق بين مصر وغزة أثر مدينة قديمة على شاطئ الخليج القديم تعرف: بتل المسخوطة (وهو أبو خشيب).
وقد اتفق أكثر المؤلفين على أنها كانت فى آخر فرع البحر الأحمر وقال هيرودوط: إن من جبل كاسيوس إلى بحر أترترية (البحر الأحمر) ألف غلوة على حسب قياسه على الخرطة من ابتداء كازرون الذى هو كاسيوس فى عبارة استرابون وهو: تل من الرمل داخل البحر قليل الارتفاع وفيه معبد ينسب إلى جوبنير كاسيوس، وفيه قبر بومبيوس كما اتفق على جميع ذلك الجغرافيون، وعلى ذلك فبالبدء من الرأس المار وهو كازرون مع الاتجاه نحو آخر الخليج الذى يقال له فى تلك الأيام: بركة التمساح بحيث يمر على قطية-والمجرة- وأبى العروق-يكون البعد ألف غلوة باعتبار أن الغلوة سبعة/وتسعون مترا أو مائة متر وبتعيين نهاية ذلك الخليج، بالكيفية السابقة، يتعين موقع مدينة هيروبوليس، إذ هى قريبة من نهايته.
مطلب حفر الخليج الموصل من النيل إلى البحر الأحمر
قال هيرودوط أيضا: إن أول من شرع فى توصيل النيل إلى بحر أترترية (البحر الأحمر) هو نيكوس، بواسطة حفر خليج منه إليه، وإن داريوس ملك الفرس حفره، مرة ثانية، وطوله مسافة أربعة أيام بالسير فيه، وعرضه يسع
مركبين تسيران بالمجداف، ومبدؤه من فرع النيل، فوق مدينة بوباسط بقليل، وقال بلين: قد حصلت الرغبة مرارا فى حفر ترعة، من خليج أيانت، الذى عليه مدينة الشجعا؛ ليتوصل منه إلى الدلتا فى طول اثنين وستين ميلا، وهو أقصر بعد بين النيل، والبحر الأحمر، وأول من فكر فى ذلك سيزوستريس، ومن بعده داريوس ملك الفرس، ثم حفر ثانى البطالسة خليجا ابتدأه من العيون المرة، وجعل طوله سبعة وثلاثين ألفا وخمسمائة خطوة، وعرضه مائتى قدم فى عمق أربعين قدما، ولكن لم يتمه خوفا من غرق أرض مصر، التى زعموا أنها منحطة قدر ثلاثة أذرع عن ماء البحر الأحمر، وقال بعض المؤلفين: إنه لم يكن المانع من إتمامه خوف الغرق؛ بل خوف فساد ماء النيل باختلاطه بالمالح، ثم إنه لو قيس من ناحية باسطة، أو من النيل من محل هذه الناحية إلى السيرابيوم مع المرور على جميع الوادى لكان اثنين وستين ميلا تقريبا.
ويكون السيرابيوم فى آخر الخليج المالح الوارد فى عبارة بلين لأنه كان فى زمنه وفيه بنى بطليموس مدينة أرسينويه، وليس مراده آخر الخليج الذى تكلم عليه هيرودوط؛ لأنه كان قبله بخمسمائة وثمان وأربعين سنة، والطرق التى ذكرها بلين فى تأليف تحقق ما ذكرتا، فى آخر الخليج المالح، فإنه ذكر أن الطريق التى بينها وبين جبل كاسوس قدر ميلين، تمرّ بمساكن العرب بعد نحو ميلين، وبعد نحو ستين ميلا، تلتقى مع طريق بيلوزة، وطريق بيلوزة مارة فى وسط الرمال، يستدل عليها بعلامات من بوص منصوبة فى طولها، والطريق الثالث يبتدئ من ناحية جرة المسماة: لاديس، وهى أقل من ستين ميلا، وجميعها تجتمع، وتصير طريقا واحدا يوصل إلى مدينة أرسينويه التى بناها بطليموس فيلود ولفوس، على خليج شرندره، باسم أخته، كما أنه سمى النهر المار بجداران حيضان أرسينويه باسم بطليموس وكون البعد بين البحر الرومى والسيرابيوم أو مدينة أرسينويه ستين ميلا، صحيح لا شك فيه، لأنا لو قسنا بالبدء من رأس كازرون، مع المرور على الشيح حنيدق، وعلى الخليج المالح،
بأن يتوجه أولا إلى الجنوب الغربى؛ حتى يتوصل إلى قطيا، ثم ينعطف إلى الجنوب؛ حتى يكون عند أبى العروق، على طريق بيلوزة، ثم يتبع هذا الطريق إلى السيرابيوم، يكون ذلك البعد هو المطلوب، وأما الطريق الآخذ من جرة إلى شرقى بيلوزة فهو أقصر الجمع، لأنه أقل من ستين ميلا، وباعتبار أن آثار مدينة جرة، هو الخراب الواقع فى شرقى مدينة بيلوزة، المسمى الآن: تل أم دياب، لا يكون هناك مخالفة؛ لكلام بلين، ولا استرابون القائل: إن جرة على الطريق من جبل كاسيوس، إلى بيلوزة، وبين جرة السيرابيوم، أقل من ستين ميلا، كما يعرف من النظر فى الخرطة.
وقد جعل استرابون البعد من بيلوزة، إلى آخر بحر القلزم، تسعمائة غلوة؛ ولو قيس هذا البعد على الخرطة، بالبدء من الطينة، لوقعت نهايته على النهاية البحرية من حوض السويس، فيكون كلام استرابون موافقا لما تعين من قبل، وعليه تكون مدينة هيروبوليس القديمة، هى نهاية حوض السويس، وإذا اعتبرنا الأبعاد الذى فى كتب الأقدمين بين هذه المدينة، ومدينتى بابلون والقلزم، فلا يتغير موضعها المحدد لها من قبل، ففى خطط أنطوان: إن البعد من بابلون إلى هيروبوليس، بالمرور على عين شمس، وتل اليهودية، وبلد اليهودية، وناحية طو (التل الكبير)، والمسخوطة، ثمانية وسبعون ميلا، يعنى 114930 مترا ومن القلزم إليها. بالمرور على السيرابيوم ثمانية وستون ميلا، يعنى 100196 مترا، فلو قيس على الخرطة من تل القلزم إلى تل المسخوطة، أو رمسيس مع المرور بآثار الخليج الحلو القديم لوجد البعد، ثمانية وستين ميلا رومانيا فتكون مدينة هيروبوليس فى محل تل المسخوطة، ولم يذكر أحد من المؤلفين أنها كانت على شاطئ البحر الأحمر، وإنما قيل إن البحر كان يسمى باسمها، وهذا لا يدل على قربها منه. انتهى، مترجما من كتاب لينان باشا.
(هيهيا)
بلدة من قسم الصوالح بالشرقية، على حافة بحر مويس من جهة الشرق،
بينها وبين الزقازيق نحو عشرة آلاف متر، فى جهة الشمال وفى شمالها ناحية أبى كبير، وبها ديوان لتفتيش الجفلك، ودار حسنة يقيم بها مفتش الجفلك، بداخلها وابور لحلج القطن، وهى ذات نخيل، وبساتين، وبها مساجد عامرة، وعندها دار للأوسية على تل مرتفع بجوار السكة الحديد، من جهة الغرب، وفى شمال البلد مقام الست آمنة، لها كل سنة مولد ثمانية أيام، يحضره أرباب الأشائر والفقراء، وتنصب له الخيام، ويكون فيه البيع والأخذ والعطاء، وبها أرباب حرف، وتجار وكتبة، ومكاتب ومجلسان/للدعاوى والمشيخة، وسوق كل يوم سبت، وأطيانها ألفان، وسبعمائة وثمانية عشر فدانا وكسر، وأهلها أربعة آلاف واثنتان وتسعون نفسا، غير الأوروباويين، وتكسبهم من الزرع وثمر النخل، وفى شرقيها ضريح سيدى أبى النحاس، وعنده جنينة ذات فواكه وأثمار.
حرف الواو
(الواحات)
هى خطة فى غربى بلاد مصر، قال المقريزى فى خططه: بلاد الواحات منقطعة وراء الوجه القبلى، فى مغاربه بين مصر والإسكندرية، والصعيد، والنوبة، والحبشة بعضها داخل بعض، ولا تعدّ فى الولايات ولا فى الأعمال، ولا يحكم عليها وال من قبل السلطان، وإنما يحكم عليها من قبل مقطعها، وهى قائمة بنفسها غير متصلة بغيرها، وأرضها شبية وزاجية بها عيون حامضة الطعم تستعمل كاستعمال الخل، وعيونها مختلفة الطعوم من الحامض والقابض والمالح، ولكل نوع منها خاصية ومنفعة، وهى على قسمين: واحات داخلة، وواحات خارجة، حملتها أربع واحات ويقال إن الواحات ولد حويلا ابن كوش بن كنعان بن حام بن نوح عليه السلام، قال ابن وصيف شاه: ويقال إن قفطريم بن قبطيم بن مصرايم بن بيصر بن حام بن نوح عليه السلام بنى المدائن الداخلة، وعمل فيها عجائب منها الماء القائم كالعمود لا ينحل ولا يذوب، والبركة التى تسمى فلسطين، أى صيادة الطير، إذا مر عليها الطير سقط فيها، وعمل عمودا من نحاس عليه صورة طائر، إذا قرب الأسد، أو الحيات، أو نحو ذلك من تلك المدينة، صفّر تصفيرا عاليا، فترجع تلك الدواب هاربة، وعمل على أربعة أبواب المدينة أربعة أصنام من نحاس، لا يقرب منها غريب إلا ألقى عليه النوم، فلا يستيقظ حتى يأتيه أهل المدينة، وينفخوا فى وجهه، فيقوم، وإن لم يفعلوا ذلك فلا يزال نائما عند الأصنام، حتى يهلك، وعمل منارا لطيفا من زجاج ملوّن، على قاعدة من نحاس، وعمل على رأس المنار صورة صنم من أخلاط كثيرة، وفى يده شئ كالقوس، كأنه يرمى عنها، فإن عاينه غريب وقف مكانه؛ حتى ينحيه أهل المدينة، وكان ذلك الصنم يتوجه الى مهب الرياح الأربعة، من نفسه وقيل إنه على حاله إلى الآن، وإن الناس تحاموا تلك المدينة، على كثرة ما فيها من الكنوز، والعجائب
الظاهرة، خوفا من ذلك الصنم أن تقع عليه عين إنسان، فلا يزال قائما؛ حتى يتلف.
وكان بعض الملوك عمل على قلعة فما أمكنه، وهلك لذلك خلق كثير، ويقال إنه عمل فى بعض المدائن الداخلة مرآة، يرى فيها جميع ما يسأل الإنسان عنه، وبنى غربى النيل، وخلف الواحات الداخلة مدنا عمل فيها عجائب كثيرة، ووكل بها الروحانيين الذين يمنعون منها، فما يستطيع أحد أن يدنو منها حتى يعمل قرابين، أولئك الروحانيين، فيصل إليها حينئذ، ويأخذ من كنوزها ما أحب من غير مشقة ولا ضرر، وبنى الملك صابن السا، وقيل صابن مرقونس بداخل الواحات مدينة، وغرس حولها نخلا كثيرا، وكان يسكن مدينة منف، وملك الأحياز كلها، وعمل عجائب وطلسمات، وردّ الكهنة إلى مراتبهم، ونفى الملهيين وأهل الشر، ممن كان يصحب السادين مرقونس، وجعل على أطراف مصر أصحاب أخبار، يرفعون إليه ما يجرى فى حدودهم، وعمل على غربى النيل منائر، يوقد عليها إذا حزّ بهم أمر أو قصدهم قاصد، وكان لما ملك البلد بأسره، جمع الحكماء إليه، ونظر فى النجوم، وكان بها حاذقا، فرأى أن بلده لا بدّ أن تغرق بالطوفان من نيلها، ورأى أنها تخرب على يد رجل، يأتى من ناحية الشام، فجمع كل فاعل بمصر، وبنى فى ألواح الأقصى، مدينة جعل طول حصنها فى الارتفاع خمسين ذراعا، وأودعها جميع الأموال والحكم، وهى المدينة التى وقع عليها موسى بن نصير، فى زمن بنى أمية، لما قدموا من المغرب، فلما دخل مصر، أخذ على ألواح الأقصى، وكان عنده علم منها فسار سبعة أيام، فى رمال بين الغرب والجنوب، فظهرت له مدينة عليها حصن، وأبواب من حديد، فلم يمكنه فتح الأبواب، فلما أعياه أمرها، مضى، وهلك من أصحابه عدة، قال: وفى تلك الصحارى كانت منتزهات القوم ومدنهم العجيبة، وكنوزهم، إلا أن الرمال غلبت عليها، قال:
وكانت الملوك تعمل الطلاسم، لدفع تلك الرمال، ففسدت طلسماتها، لقدم الزمان، ولا ينبغى لأحد أن ينكر كثرة بنيانهم ولا مدائنهم، ولا ما نصبوه من الأعلام العظام.
فقد كان للقوم بطش، لم يكن لغيرهم، وأن آثارهم لبينة مثل الأهرام والأعلام والإسكندرية، وما فى صحارى الشرق، والجبال المنحوتة، التى جعلوا كنوزهم فيها، والأودية المنحوتة، وما بالصعيد من البرابى، وما نقشوه عليها من حكمتهم.
وأما الواحات الخارجة فقال ابن وصيف شاه: إن البودسير أحد ملوك القبط الأول قفطريم، وهو ابن قفطريم بن قبطيم بن مصرايم بن بيصر بن حام ابن نوح عليه السلام، أراد أن يسير مغربا لينظر إلى ما هنالك، فوقع على أرض واسعة، متخرقة بالمياه، والعيون كثيرة العشب، فبنى فيها منائر ومتنزهات، وأقام فيها جماعة من أهل بيته، فعمروا تلك النواحى، وبنوا فيها: حتى صارت أرض الغرب عمارة كلها/وأقامت كذلك مدة كثيرة، وخالطهم البربر، فنكح بعضهم من بعض، ثم إنهم تحاسدوا، وبغى بعضهم على بعض، وكانت بينهم حروب، فخرب ذلك البلد، وباد أهله، إلا بقية منازل، تسمى الواحات، وقال المسعودى: وأما بلاد الواحات فهى بين بلاد مصر والإسكندرية، وصعيد مصر، والغرب، وأرض الأحابش من النوبة وغيرهم، وبها أرض شبية، وزاجية، وعيون حامضة، وغير ذلك من الطعوم، وصاحب الواحات فى وقتنا هذا، وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة، عبد الملك بن مروان، وهو رجل من لواته، إلا أنه مروانى المذهب، ويركب فى آلاف من الناس، خيلا ونجبا، وبينه وبين الأحابش نحو من ستة أيام، وكذلك بينه وبين سائر ما ذكرنا من العمائر، هذا المقدار من المسافة، وفى أرضه خواص وعجائب، وهو بلد قائم بنفسه، غير متصل بغيره، ولا يفتقر إليه، ويحمل من أرضه التمر والزبيب والعناب، وحدثنى وكيل أبى الشيخ المعز حسام الدين عمرو بن محمد بن زنكى الشهرزورى: أنه سمع أنه فى بلاد الواحات، شجرة نارنج، يقطف منها فى السنة الواحدة أربعة عشر ألف حبة نارنج صفراء، سوى ما يتناثر، وسوى ما هو أخضر، فلم أصدق ذلك لغرابته، وقمت حتى شاهدت
الشجرة، فإذا هى كأعظم ما يكون من شجر الجميز بمصر، وسألت مستوفى البلد عنها، فأحضر إلى جرائد حسباناته، وتصفحها حتى أوقفنى على أن منها فى سنة كذا قطف من النارنجة الفلانية، أربعة عشر ألف حبة، مستوية صفراء، سوى ما بقى عليها من الأخضر، وسوى ما تناثر منها، وهو صغير.
وفى سنة تسع وثلاثين وثلثمائة سار ملك النوبة فى جيش عظيم إلى الواحات، فأوقع بأهلها، وقتل منها، وأسر كثيرا. انتهى. مقريزى باختصار.
وقال أبو الفداء: إن الواحات من ضمن أعمال الصعيد وهى فى وسط الرمل، شبه الجزائر، يسير المسافر فيها ثلاثة أيام فى الجبل؛ حتى يصلها، وهى ثلاث واحات، كلها واقعة غربى الصعيد، خلف الجبل الموازى للنيل.
وفى كتاب تقويم البلدان، الواحات بلاد بديار مصر، كثيرة النخيل، والمياه الجارية، من عيون هناك، ويحيط بالواحات البرارى كالجزيرة فى وسط رمال ومفاوز، وبينها وبين الصعيد مفازة ثلاثة أيام، وقال فى اللباب: ألواح بفتح الألف وسكون اللام وفتح الواو، وفى آخرها حاء مهملة: بلدة بنواحي مصر، مما يلى برية طريق المغرب، وقال ياقوت فى المشترك: واحات بغير ألف ولام، ثلاث كور فى غربى صعيد مصر، خلف الجبل الممتد، بإزاء جريان النيل. قال: ويقال لها واح الأولى، وواح الوسطى، وواح القصوى، وأعمرها الأولى، وبها أنهار وحمامات سخنة وعجائب، وبها زروع ونخيل كثير، وأهلها أهل قشف فى العيش. وقال: بعض من سافر إلى تلك الجهات فى وقتنا هذا، إن خلف الجبل الغربى من ريف مصر محلات منخفضة، فى أحد حدودها تلول مرتفعة، وفى الحد الآخر الجبل، وبها عيون، يسبح منها الماء على وجه الأرض، تعرف قديما بالواحات، وبها بساتين ونخيل كثير، وأرضها صالحة للزراعة، وبها آثار تدل على أنها كانت معمورة بأناس أكثر من أهلها اليوم، وبينها وبين ريف مصر طرق متعددة.
وتنقسم إلى واحات بحرية، وواحات قبلية، وتنقسم القبلية إلى داخلة وخارجة، فالواحات البحرية، وهى الواحات الصغرى، أولها فى محاذاة ناحية سمالوط، التى فى مديرية المنية، وهى خمس قرى. منديشة، والذبو، ومنديشة العجوز، والباويط، والقصر.
وفى تلك القرى يزرع الشعير والأرز، والبرسيم الحجازى، وقليل من القمح وتزرع البامية والملوحية، والبصل والقرع، والقثائى وبساتينها ذوات فواكه كثيرة، وبالقرب منها أودية متسعة، بها الماء والمرعى، وربما زرع فيها الأرز، فمنها وادى الحارة، لأصل منديشة، وعيون بيجوم لأصل الذبو، والحيوز لأصل القصر، ومن الطرق الموصلة من مصر إليها، طريق يخرج من الفيوم، أوله من وادى الريان، ومسيرته ثلاثة أيام فى الجبل، بلا ماء ولا مرعى، فلا بد لسالكه من استصحاب ما يحتاجه، وبعد أن يسير من وادى الريان خمسة عشر فرسخا فى الجنوب الشرقى، يجد آثار دير قديم به كنيستان، فيها صور الحواريين والقديسين، وكتابة قبطية، وذلك فى واد يسمى بالمويلح، ومنها طريق بين البهنسا، ودلجة فى الجبل-أيضا-مسيرة ثلاثة أيام أو أكثر، بلا ماء ولا مرعى، وبعض الناس يسمى هذه الواحات واحات البهنسا، وبينها وبين الواحات القبلية، فى الطريق التى بينهما بلدة صغيرة، عامرة تعرف: بالفرافرة بفاءين بينهما راء مهملة، فألف وبعد الثانية راء مهملة وهاء تأنيث، يزرع فيها الذرة، زيادة عن المزروعات المارة، وفيها شجر الخرنوب، وبالقرب منها واد متسع يعرف بوادى أبى حنس، به نخيل كثير، غير مملوك، وعيون ماء كذلك، قيل: إن عدد نخيله يزيد عن ستة آلاف نخلة، تأتى إليه عرب البادية وغيرهم، فيأخذون منه التمر والليف والجريد.
والخارج من الواحات البحرية إليها، يبيت فى جمعان، ثم فى وادى أبى حنس، ثم فيها ومنها إلى الواحات القبلية، يبيت فى الكرادين، ثم يسير فى الجبل ثلاثة أيام.
وأما الواحات القبلية ففى غربى الجبل أيضا، تجاه ما بين مدينة/أسيوط وإسنا، فالداخلة منها عشر قرى، عدة أهلها الآن ثلاثة عشر ألف نفس، ومائة وثلاث وخمسون نفسا، وهى بلاط، وبدخلو وإسمت، والقصر، والمعصرة، وقلمون، وموط، والهنداوى، والجديدة، والمنديشة، وأكثر تلك القرى أشجار، وعمارة ناحية القصر، فى حدائقها المشمش، والبرتقال، والرمان، والعنب، والعناب، والتين والزيتون، والموز، والبرقوق، والتفاح، والكمثرى والنبق، وغير ذلك.
ويليها فى العمارة قرية قلمون، وعلى خمسة أميال من القصر فى الجنوب الغربى، هيكل رومانى، عليه نقوش، فيها اسم القيصر نيرون، والقيصر طيطوس، وبعض علامات فلكية، وعلى عشرة أميال من قلمون مشرقا، قرية إسمنت، ومن إسمنت إلى بلاط كذلك. وبقرية بدخلو طائفة يقال لهم الشربجية، يزعمون أنهم من ذرية المحافظين، الذين كانوا زمن السلاطين الجراكسة، ولهم الآن اعتبار، ويتجملون دائما بالملابس، وهذه الواحات تابعة لمديرية أسيوط، ومنها إليها طريق يسمى بالدرب الطويل، يبتدئ من ناحية بني عدى، مسيرته خمسة أيام فى الجبل، من غير ماء ولا مرعى، وينزل على ناحية بلاط.
وفى تلك الواحات أربعمائة وأربع وستون عينا، تسبح على الأرض، وتزرع عليها أصناف المزروعات، ويسقى بها النخيل والأشجار، وربما اشترك جماعة فى عين، فيقتسمون الماء، لسقى زروعهم ونخيلهم.
واعلم أن الأموال المخصصة عليهم للديوان، وهى فى وقتنا هذا: أربعة وثمانون ألف قرش، وستمائة قرش، وأحد عشر قرشا، غير خراج النخيل، ونحوه ليست مخصصة على الأطيان، كبلاد الريف، بل على العيون، بحسب قراريط الماء.
فإن العادة عندهم أن يوخذ مقياس من نحو خشب، محزز إلى حزوز متساوية كل حز قيراط؛ ويوضع فى مجرى الماء، على لوح من خشب، فكل قيراط غطاه الماء، عليه من المال كذا، ويختلف ذلك بحسب كبر العين وصغرها، ويقسم الشركاء فيما بينهم بتلك الحزوز أيضا.
وقد يقسمون بالقلد وهو: الرملية ونحوها، من كل ما يعرف به الوقت، وعدد ما لديهم من النخيل اليوم: مائتا ألف وثلاثة عشر ألف، وتسعمائة، وثلاث وخمسون نخلة، عليها من الخراج كل سنة مائة ألف وثمانية وستون ألفا، وأربعمائة وثمانية وثمانون قرشا، وبإضافة متحصل الجملة، والويركو إلى جميع ذلك، يبلغ إيراد هذه النواحى كل سنة، بجانب الديوان مائتى ألف قرش، وسبعة وسبعين ألفا، وستمائة وثمانية وستين قرشا.
وهذا خلاف المخصص على أشجار الزيتون، والمشمش، والعنب، والتين، وقدره أربعة آلاف قرش، ومائة وسبعة وعشرون قرشا.
وخلاف خدمة الصيارف التى قدرها ستة آلاف قرش، وتسعمائة واحد وأربعون قرشا.
والواحات الخارجة أربع قرى هى الخارجة، وجناح، وبولاق، وباريس، وعدة أهلها: خمسة آلاف ومائتان وأربع وعشرون نفسا، وبها من النخيل: ست وستون ألفا، وتسعمائة وثلاثون نخلة، عليها من الخراج كل سنة اثنان وخمسون ألف قرش، وتسعمائة قرش وسبعة قروش، وبها من العيون خمس وستون عينا، على كل عين ثلثمائة، وتسعة وخمسون قرشا، فمال العيون كل سنة سبعة وثلاثون ألف قرش، وثلاثمائة وثلاثة وأربعون قرشا.
فجميع ما عليهم سنويا تسعة وتسعون ألف وثلثمائة، وثلاثة وستون قرشا، وفى جنوب هذه الواحات الخارجة، بمسيرة خمسة أيام، يوجد معدن الشب
الأبيض. فبعد مسيرة يومين من باريس، توجد عين ماء مرة، وبعدها بثلاثة أيام يوصل إلى محل الشب، وهو الذى كان يستخرج منه الشب فى الأزمان السالفة، وهو فى واد تجاه مدينة إدفو، وبقربه عيون ماء عذبة. وكان على قطعى الواحات فى أيام الملك الكامل محمد بن العادل أبى بكر، وفى أيام ابنه الملك الصالح نجم الدين أيوب كل سنة حمل ألف قنطار من الشب إلى القاهرة، ويطلق لهم فى نظير ذلك ما على نصارى الواحات من الجوالى، ثم بطل ذلك، قال ابن مماتى فى رسالته: الشب: حجر يحتاج إليه فى أشياء كثيرة، أهمها: الصبع، وللروم فيه من الرغبة، بمقدار ما يجدونه من الفائدة، وهو عندهم مما لا بد منه، أو لا مندوحة عنه، ومعادنه بصحراء صعيد مصر.
وعادة الديوان أن ينفق فى تحصيل كل قنطار منه، بالليثى ثلاثين درهما. وربما كان دون ذلك، وتهبط به العرب من معدنه إلى ساحل قوص، وإلى ساحل أخميم، وسيوط وإلى البهنسا. ويحمل من أى ساحل كان إلى الإسكندرية أيام جرى الماء فى خليجها. قال: وهو يشترى بالليثى ويباع بالجروى. وآخر ما تقرر بيعه منه على تجار الروم، اثنا عشر ألف قنطار، ومهما زاد على ذلك، كان باجتهاد المستخدمين فيه، مع حفظ قلوب التجار.
فأما سعره فقد كان القنطار تردد من أربعة دنانير، إلى خمسة دنانير، وإلى ستة دنانير، وما بين ذلك، فأما ما يباع بمصر على اللبادين، والحصريين، والصباغين، فمقداره ثمانون قنطارا بالجروى فى السنة/وسعره سبعة دنانير ونصف، وليس لأحد أن يشتريه من العرب، ويرد به ليتجر فيه غير الديوان، ومتى وجد شئ منه مع أحد استهلك حسما للمادة وتغليظا فى العقوبة، ولم تجر العادة بحمل شئ منه إلى دمياط وتنيس، وإنما حمله إلى الإسكندرية.
ومنه نوع يسمى الكوادى يحضر من واحات، ويعتد به المستخدمون فى حوالتها كل قنطار بدينار وقيراطين.
ويمضى ذلك محمولا إلى المتجر، على ما سلف الحديث فيه، والراغب فيه قليل. انتهى.
وفى زمن الأمراء المصريين على رأس المائتين بعد الألف، كان الوادى الكبير الذى فى طريق القافلة السودانية قليل السكان، وكان حاكم جرجا يبعث إليه حاكما يحكمه، ويجمع أمواله، والعادة الجارية إلى اليوم أن قافلة دارفور الواردة إلى الديار المصرية، كل سنة بالتجارات السودانية من الإبل، والرقيق، والسن، والريش، ونحوها، تترك على باريس من هذه الواحات، فيأتى بشيرها إلى مدينة سيوط، بخطاب من الخبير النازل بها من طرف حكومتها، فيكسى كسوة تليق به، واحدا أو متعددا، ثم يرسل معاون بجماعة من العسكر؛ لتلقى القافلة بمكتوب إلى حاكم تلك الجهة، فيجرى حصر البضائع، ويحضر دفترها إلى المديرية، وعليه تقوّم الأشياء، بمعرفة التجار، ثم يؤخذ الجمرك على حسب تلك القيم، ويكسى الخبير أيضا عند قدومه، وفى سنة إحدى وثمانين ومائتين وألف وردت القافلة، فيها ألف جمل، وسبعمائة وسبعة وتسعون جملا، وفيها سن الفيل، وريش النعام، والخرتيت، والتمرهندى، والنطرون وجربان الجلد وغير ذلك.
وكان يؤخذ على الحمل سبعة قروش ونصف، كائنا ما كان، ثم صدر الأمر بجعل الجمرك على القيم على كل مائة من قيم الحيوانات ثمانية قروش، سواء الواردة والصادرة، وكذلك البضاعة، لكن بعد استيفاء عشرة من كل مائة من الثمن الأصلى؛ فبلغ متحصل الجمرك أربعة وأربعين ألف قرش، ومائتين وثلاثة وسبعين قرشا، ولكثرة النخيل فى بلاد الواحات خصص عليها كل سنة من المقاطف للأشغال الميرية تسعة عشر ألفا وثلثمائة وثلاثة وثمانون مقطفا.
ويعلم أن أراضى الواحات فى غاية من الاتساع والخصوبة، لولا قلة الماء، والسكان ومزارع جميع الواحات، ومتاجرها متحدة أو متقاربة، ويستعمل عندهم النبيذ بكثرة، فيعتصرون الغض من ثمر النخل، ويضيفون عليه العسل،
ويتركونه حتى يتخمر، وتدخله الشدة المطربة، فيكون شديد الإسكار وله طعم كطعم التفاح.
وفى زمن الصيف والخريف تكثر هناك الحمى، والعيون التى بها على كثرتها لا تفى بما تحتاج إليه من السقى، وأكثر عيونها مرتدمة من قلة السكان هناك، وكلها صناعية، من حفر الآدميين، وهى التى بها إحياء الموات، فمن فتح عينا ملكها وما حولها.
ولهم فى حفرها طرق وعوائد، فيحفرون أولا الأرض الصلبة، ثم يضعون خشب النخل فى جوانب الحفر، فيوقفون أربع نخلات، فى الأربع جهات، ويثبتونها فى جوانب الحفر، لزيادة التمكين، تدق الخوازيق فى دائر الحفر، ويربط بعضها فى بعض، ثم ترص خلف الخوابير فلقات النخل، أو الصفصاف، أو السنط أو نحوها، بعضها فوق بعض إلى أعلى الحفر، فتكون حائطا من خشب، ولا بد أن يترك ما خلفه فارغا، فيملأ عبلا؛ لمنع ما عسى أن يسقط من الأتربة، ثم يحفرون فى الأراض الصلبة، وبعد كل قليل يضعون ألواحا من الخشب معشقا، بعضها فى بعض فى دائر الحفر، ويوضع خلفها العبل، وهكذا حتى يصل الحفر إلى الحجر الذى تحته الماء.
وعرف ذلك بالتجربة، فحينئذ يتم الحفر، ثم يبنون داخل هذا الحائط حائطا ملتصقا فى دائر البئر، من ألواح خشب السنط، ثم تعمل دمسة من الخشب، إلى نصف البئر، ويشرع فى ثقب ذلك الحجر؛ لتفجير (العين)، فيتخذ لذلك قضيب طويل من حديد، وفى أحد طرفيه حلقة، لربط السلب فيه، وطرفه الآخر محدد كالسهم، وتتخذ سلة من الخوص مخروطية الشكل، على هيئة القمع، مثقوبة من أسفلها، وفى أعلاها أذنان، تربط فيهما الحبال، فيوضع طرف القطيب فى جوف السلة، ويربط السلب فى حلقة القضيب، والحبال فى أذنى السلة، ويمسك الجميع رجال أقوياء واقفون على وجه
الأرض، ويدلى السلة والقضيب فى جوفها إلى وسط الحجر، ثم يرفع القضيب وحده، ثم يرسل فى وسط السلة فينزل بقوة على الحجر فينقب فيه نقبا، ثم يرفع ويرسل كذلك، فيزداد النقب عمقا. وهكذا، وكلما ازداد النقب تنزل السلة فيه، فإذا امتلأت ترابا أخرجت، وطرح ما فيها خارج البئر، ثم أعيدت ويستمر هذا العمل إلى أن تنفجر العين، فيخرج الماء صاعدا؛ حتى يجرى على وجه الأرض، ولا ينقطع أبدا ما دامت البئر مفتوحة، فمن شاء جعل لها بابا يفتح، ويقفل على حسب اللزوم، وبين الواحات والريف من الإسكندرية إلى إسنا جملة من قبائل العرب، يسكنون الجبل والحاجر، فى بيوت من الشعر، ومنهم من يسكن قرى الواحات أو الريف، فمن أكثرهم قبيلة أولاد، على نحو من عشرين ألف نفس، وفيهم أربعة وعشرون شيخا، وكبيرهم ابن محمود إسماعيل العلوانى، وأكثر ما يوجدون وفى جهة/مربوط ومديرية البحيرة، وفى العقبة آخر بلاد الواحات، وهو أيضا شيخ قبيلة الفوائد، وعدتها نحو سبعة آلاف نفس يسكنون جهة الفيوم وبنى سويف والفشن والبهنسا.
وأما قبيلة الجمعيات، فيسكنون فى حاجر الجبل، بقرب قرية القافلة من بلاد البحيرة، عدتهم نحو ألفى رجل، وشيخهم عمر أبو الذهب.
وبالبحيرة أيضا قبيلة الحوابيص فى بحرى كرداسة نحو ألفى نفس وشيخهم عبد الرحيم أبو ثعيلب. وهناك أيضا قبيلة القدادفة والربايع، كلاهما فى مشيخة مسعود الفربى، وأكثر هؤلاء القبائل متسلحون وفيهم نحو ستة آلاف فارس غير الرجالة.
وفى المنصورية وكرداسة من بلاد الجيزة قبيلة النجمة، أكثرهم يسكن القرى، مع لبس زى العرب، وعليهم غنداق من أرض الزراعة، وفى الفيوم قبيلة البراعصة عدتهم نحو ثمانية آلاف نفس، وشيخهم حسين عبد الله بياض، له أبعادية فى ناحية صنرو.
وفيه أيضا قبيلة الحرابى وشيخهم السعداوى الجبالى، له أبعادية فى محاذاة بنوفر من الغربية، وأخرى فى محل يعرف بالمنزلة، وله فى مدينة الفيوم قصر عامر فيه حديقة، وقصر فى بشيتة، وقصر فى الريف عند النواميس.
وأما عمر المصرى فهو شيخ عرب الجوابر، وعدتهم نحو اثنى عشر ألف نفس، يسكنون الحاجر من البهنسا إلى تونة الجبل، وقبيلة ترهونة يسكنون الجبل من محاذاة دلجة إلى دشلوط الواقعة فى حاجر الجبل، تجاه ملوى، وهم نحو ثلاثة آلاف نفس، وعرب الجهمة يسكنون فى محاذاة منفلوط إلى التيتلية وعدتهم، نحو خمسة آلاف نفس، وشيخهم منصور أبو قفة، وعرب العمائم، يسكنون فى محاذاة التيتلية إلى بنى عدى، وهم نحو أربعة آلاف نفس، وشيخهم معتمد زائد. وأما عرب سمالوس فهم قوم ضعاف، متفرقون بالجهات، فمنهم بالفيوم، ومنهم بالغربية، وجميع هؤلاء القبائل لا يساقون سوق الفلاحين، فلا يحفرون الترع، ولا يجرفون الجسور، ولا يبنون القناطر، ولا يسخرون فى شئ، وإنما عليهم للديوان نحو الإبل عند الاقتضاء، وخفارة الدروب، وأكثرهم يتعاطى الأسفار إلى الواحات وغيرها، وكثير منهم له دراية فى الفلاحة، فيستأجرون من الأهالى ويزرعون، ومنهم من له غنداق آل إليه بالشراء أو غيره، ثم إنى قد رأيت وصف بعض بلاد الواحات، ووصف الطريق من ريف مصر إليها ومنها، إلى بلاد دارفور فى رحلة الشيخ محمد بن عمر التونسى، وهى كتاب سماه «تشحيذ الأذهان بسيرة بلاد العرب والسودان» فأحببت إيراد ذلك هنا لما فيه من الفائدة.
قال: لما امتطينا الدهماء للسفر من مصر إلى دار فور من بلاد السودان، نزلنا البحر من الفسطاط، إلى أن قال: فحللنا منفلوط، فأخذنا منها ما احتجنا إليه، ثم أقلعنا حتى دخلنا بنى عدى، فأقمنا فيها رثيما تأهبت القافلة، وخرزوا أسقيتهم، وصنعوا زادهم، ثم جئ بالمطىّ فحملت، وخرجنا فى مهمه قفر؛ حتى وصلنا إلى الخارجة، فى عشية اليوم الخامس، فوجدناها قد دار بها
النخيل دورة الخلخال بالساق، أو التفاف يد العاشق على معاطف المعشوق للعناق. وفيها من التمر ما تشتهيه الأنفس، وتلذ الأعين، مع رخص الأسعار، وحسن تلك الثمار، فأقمنا بها مدة خمسة أيام، وفى صبيحة اليوم السادس ارتحلنا، وسرنا نحو يومين، وفى اليوم الثالث، حللنا بلدة يقال لها (أبيريس) وهى بلدة قد استولى عليها الخراب من ظلم الحكام، وتمزق شمل أهلها بعد الانتظام، ففسد ما به من النخيل، وذهب رونقه بعد أن كان جميل.
ثم سافرنا يومين، ونزلنا فى ثالثهما بلدا يقال لها (بولاق)، وهو من الساكن فى إملاق، قد درست معالم أكثرها، وتصدع بناء أقومها وأشهرها، ومن العجائب أن نخلها فى غاية القصر، وهو حامل للثمر لا يتكلف جانيه للقيام، بل يتناول منه، ولو فى حالة النيام، قيل: إن هذا البلد كان أعمر من كل بلد، فأخنى عليه الذى أخنى على لبد، وتمزق شمل أهله، ولم يبق به أحد، وليس به من الأشجار إلا ما قل، وهو بعض أثل وعبل، فأقمنا فيها يومين، وملأنا القرب وارتحلنا، وللمفازة الحقيقية دخلنا، فمكثنا خمسة أيام فى مهمه قفر، أو بيداء غبراء، ليس فيها من الحشائش إلا عاقول قليل، كما لا يوجد بها شجر يصلح للمقيل، وفى عشية اليوم الخامس وردنا محلا يقال له (الشب) وهو محل بين عرود (كثبان) من الرمل عليه ربح الوحشية، قد هب فأرحنا به يومين، وارتحلنا.
وللمفازة الثانية دخلنا، فقطعناها عنقا وذميلا فى مدة أربعة أيام، نزلنا فى ضحى خامسها، عند بئر يقال لها (سليمة) وبهذه البئر رسوم أبنية قديمة، وهى فى عرض جبل مسمى بهذا الاسم أيضا، ومن خواص هذا المحل أن الحال به، يستأنس به، ولا يستوحش منه، ومن العجائب، أن الشبان من أهل القافلة يصعدون على الجبل الذى هناك، ويضربون الحجارة بعصىّ صغار، كما يضربون الطبول، فيسمع لها صوت كالطبل، ولا يعرف سبب ذلك، أهو تجاويف فى الحجر، أو هى موضوعة على خلو؟، فسبحان من يعلم حقيقة
ذلك. ثم ارتحلنا صبيحة اليوم الثالث، بعد ملء أدوات الماء، ودخلنا مفازة سافرنا فيها خمسة أيام، وصلنا فى ضحى سادسها إلى محل يقال له (لقية)، فوجدنا هناك آبارا/محاطة بالرمل، وماؤها عذب زلال، وقبل وصولنا إلى هذا المحل، عرضت لنا قافلة صادرة من بئر النطرون المسمى: بالزغاوى، وأهلها من عرب يقال لهم (العمائم)، فمكثنا فى لقية يومين، وفى صبيحة اليوم الثالث ارتحلنا للزغاوى، وإذا بهجان أقبل من ناحية دار فور، يخبر بوفاة المرحوم الملك العادل المجيد السلطان عبد الرحمن الرشيد، ملك دارفور وما والاها، وأنه ذاهب إلى مصر؛ لتجديد الخاتم الذى يختم به الأوامر السلطانية؛ لعدم من يتقنه هناك، لابنه السلطان محمد فضل، وذلك لليال مضت من رجب الفرد، سنة مائتين وثمان عشرة بعد الألف، ثم سافرنا خمسة أيام أنخنا فى سادسها ببئر الزغاوى وهو بئر النطرون، وبينه وبين دارفور مسيرة عشرة أيام كاملة فأقمنا به أحد عشر يوما؛ لترعى دوابنا وتقوى على قطع هذه المفازة الدهماء، واجتمعنا بعرب البادية من دارفور، أتوا لهذه البئر؛ ليأخذوا منه ملحا، ونطرونا لدارفور؛ لأن النطرون، وأكثر الملح لا جلب لها إلا من هناك.
ثم ارتحلنا من بئر الزغاوى، فسافرنا عشرة أيام، سفر المجد، نأخذ من أول الليل قطعة، ومن آخره دلجة؛ حتى وصلنا ضحى حادى عشرها إلى المزروب، وهو بئر فى أول أعمال دارفور، وقبله بنحو ثلاث ساعات أو أربع، جاءتنا عرب بقرب من الماء واللبن فاستبشرنا بالسلامة، ثم ارتحلنا نحو أربع ساعات، ووردنا بئرا يقال لها السوينة، فأقمنا فى هذا المحل يومين، وهناك قابلنا قائد الولاية، وكان يسمى الملك محمد سنجق، وهو قائد الزغاوة، وهى قبيلة عظيمة من السودان، وهم يسمون القائد: ملكا. ومعه نحو الخمسمائة فارس، فهنأ القافلة بالسلامة، ثم ارتحلنا وتفرق الناس، فكل أناس أخذوا طريق بلادهم، لأن أهل القافلة ليسوا من بلدة واحدة، فأكثرهم من البلد المشهور المسمى (كوبية)، وبعضهم من (كبكابة)، وبعضهم من (سرف
الدجاج) كالسيد أحمد بدوى الذى سافرت فى صحبته، وبعضهم من (الشعيرية)، وبعضهم من (جديد كريو)، وبعضهم من (جديد السيل)، فأخذنا طريق سرف الدجاج، فسافرنا سفرا هينا نحو ثلاثة أيام، ونزلنا فى رابعها قرب الظهر، فى ظل جبل بقرب بئر، فقلنا هناك حتى أنهر النهار، ثم سرنا وقت المغرب، فدخلنا سرف الدجاج بعد العشاء.
فألقت عصاها واستقر بها النوى
…
كما قر عينا بالإياب المسافر
فأقمت هناك مدة هنيئة، توالت علىّ فيها الولائم؛ حتى جاء عمى، وتوجهت صحبته إلى والدى، وكان بمحل يقال له (أبو الجدول)، بينه وبين سرف الدجاج ستة أيام، فخرجنا من سرف الدجاج، ومررنا بكبكابة، وهى بلد أشبه ببلاد ريف مصر إلا أنها أعمر منها، وأخصب؛ لأنها آهلة بالساكن، مغتصة بالقاطن، وأهلها تجار أغنياء، وعندهم من الرقيق ما لا يحصى كثرة، ولهم نخيل وأرض واسعة، فيها آبار قريبة الماء، يزرعون بها أنواع الخضر والبقول، من بامية، وملوخية، وقرع، وباذنجان، وفقوس، وقثاء، وبصل، وحلبة، وكمون، وفلفل، وحبب رشاد، وكله كما نعهد إلا الفلفل، فإنه حب رفيع، أغلظ من الشعر بقليل، وعندهم بعض شجر الليمون الحامض، وبقربهم جبل يقال له (مرة) وهو جبل يشق إقليم الفور من أوله إلى آخره، مع الاستقامة، وله عدة طرق تصعد الناس منها إليه، ولكل قطعة منها اسم خاص بها، غير الاسم العام، والفور يسكنون فى أعلاه، ولا يألفون الوهاد، ثم توجهنا من كبكابة، بعد أن أخذنا من سوقها ما احتجنا إليه، فسرنا ثلاثة أيام عرض جبل مرة، وصرنا نبيت ببلاد أقوام مستوحشين، يكرهون الضيوف، ثم خرجنا إلى السهل، فبتنا فى محل يقال له (ترتيه)، فأكرمونا هناك.
وفى ضحى اليوم السادس دخلنا البلدة التى فيها والدى المسماة: (بحلة جولتو) وهى من جملة حلل أبى الجدول، وبعد أن أقمت عند والدى ثلاثة أيام، جهزنى أنا وعمى إلى الأعتاب السلطانية بهدايا من عنده، إلى حضرة
السلطان، ووزيره الأعظم، فركبنا من أبى الجدول إلى (تندلتى) وهو مقر السلطان فى أول شعبان سنة ثمان عشرة ومائتين وألف، ويسمى ذلك البلد بلغتهم:(الفاشر) وكل محل سكنه السلطان يسمى عندهم: (فاشرا)، فسافرنا يومين سفرا غير شطيط، ودخلناه ضحوة الثالث، فوجدنا بلدا يموج بالساكن، ويرتج بالقاطن، ما بين راكب وماش، وجالس وغاش، وطبول ترعد، وخيول تركض، فحظينا هناك نبيل المأمول، وحلت هديتنا محل القبول، ودعانى الوزير الشيخ محمد كرا، وكسانى كشميرا أخضر، وجبة خضراء، وقفطانا من القطن الهندى، وأمر لى بجاريتين وعبد، وكتب لأبى كتابا صورته من حضرة من أكرمه الكريم، ولا يفارقه الخير والنعيم الوزير الأعظم المتوكل على من يسمع ويرى، الأب الشيخ محمد كرا، إلى حضرة الأستاذ الأعظم، والملاذ الأفخم، علامة الزمان ونخبة سلالة سيد ولد عدنان السيد الشريف. (عمر التونسى) دام مجده أمين.
أما بعد فإنه قد حضر لدينا نجلكم المكرم، صحبة أخيكم المحترم المعظم بما أهديتموه لنا/حسبما هو مشروح فى جوابكم، ففرحنا غاية الفرح بأمرين.
الأول: اجتماع شملك بقرة عينك.
والثانى: أننا نؤمل إقامتك فى بلدنا، وهذا هو المقصود الأعظم؛ لتحصل لنا البركة بكل أهل البيت، وقد أتحفناه بما صحبه، ونرجو أن يكون مقبولا لديكم، ولولا ما نحن فيه من الأشغال، لكان الأمر أبلغ من ذلك، فالمعذرة إليك، والأمل أن لا تنسانى من صالح دعواتك، والسّلام عليك ورحمة الله وبركاته.
وقدّم لى أيضا الفقيه مالك، جارية ناهدا وجوابا، فتوجهنا بجميع ذلك إلى والدى مسرورين، فأقمنا جميعا مدة شهر رمضان، ثم توجه أبى إلى الفاشر للسلام، واستأذن الأب الشيخ محمد كرا فى السفر إلى تونس، لزيارة أمه
وأخويه، وأعلمه أنه سيتركنى فى بيته وبلاده، أجمع خراجها، وأنتفع بزرعها إلى أن يعود.
وكانت له بلاد أقطعها له السلطان عبد الرحمن، فأخذ عليه المواثيق بالعود، وكتب له عدة أوامر إلى العمال الذين بطريقة أن يعطوه ما يحتاج إليه، ويرسلوا معه جندا إلى الأمن. فرجع إلينا، وجهز نفسه، وباع ما عنده من القطن، وكان ينيف على مائة قنطار؛ لأنه زرع أرضا نحو عشرين فدانا من أفدنة مصر، كان يجمع منها وقت هجوم القطن، كل يوم أربع عشرة ريكة.
والريكة فى عرف أهل السودان كالفقة فى عرف أهل مصر، تسع من الغلال، نحو خمسة أرباع مصرية، وباع الغنم والبقر والحمير، وأخذ جواريه وعبيده، وما حصل لى من الهدايا، ولم يترك لى إلا جارية بعينها بياض، تسمى فرحانة، وعبدين، وامرأتيهما، وحمارا، وهجينا ضعيفا، وترك لى إحدى نسائه تسمى زهرة، وامرأة أخيه، وكل منهما معها بنت، وباع مطامير الغلال، ولم يترك لى إلا مطمورا واحدا.
مطلب صورة وثيقة إقطاع السلطان عبد الرحمن
للشيخ عمر التونسى
وأعطانى وثيقة الإقطاع التى كتبها له المرحوم السلطان عبد الرحمن، ونصّها «من حضرة السلطان الأعظم، والملاذ الأفخم، سلطان العرب والعجم، ومالك رقاب الأمم، سلطان البرين والبحرين، وخادم الحرمين الشريفين، الواثق بعناية الملك المبدئ المعيد، السلطان عبد الرحمن الرشيد، إلى حضرة الملوك والحكام، والشراتى والدمالج، وأولاد السلطان والجبائين، وأهل دولة السلطان، من العرب والسودان»
أما بعد
فإن السلطان المذكور المبرور، المؤيد المظفر المنصور، تفضل وأمدّ بمعونته، وأعطى العلامة السيد الشريف عمر التونسى قطعة من الأرض، كائنة
بأبى الجدول، حاوية لثلاث حلل، من حلة جولتو، والدبة، وأم بعوضة بحدودها المعروفة، وأتخامها الموصوفة، حسبما حدده الملك جوهر للملك خميس، عرفان لا يعارضه فيها معارض، ولا ينازعه منازع، من أهل المملكة، خصوصا جبائى العيش، يتصرف فيها بأى نوع من التصرفات شاء؛ هبة لوجه الله تعالى، وطلبا للثواب، فى دار المآب، والحذر ثم الحذر من الخلاف، والتعرض من الخاص أو العام. انتهى
ثم إن والد حمل أثقاله، وأخذ رقيقه وسرته وأخاه، وتوجه، وأبقانى فى الحلة.
ترجمة السيد محمد عمر التونسى
تم إن المترجم المذكور، قد ذكر سبب رحلته إلى بلاد السودان، ومنه تؤخذ ترجمته بأنه محمد بن السيد عمر بن سليمان التونسى أصلا ومولدا، ولد بتونس فى الساعة الثالثة من يوم الجمعة، منتصف ذى القعدة، سنة أربع ومائتين وألف، وأمه مصرية، حملت به بمصر المحروسة، أيام مجاورة والده بالأزهر لطلب العلم، بعد مقدمه من بلاد السودان، وكان قد ذهب إليها؛ لكشف حال والده، قال المترجم فى سبب رحلته: حكى لى والدى أن جدّه كان من عظماء أهل تونس، وكان وكيلا من طرف سلطان المغرب الشريف، محمد الحسنى، فاجتمع له بذلك مال جزيل، حتى صار من أغنياء أهل زمانه، وخلف ثلاث بنين، تنازعوا فى ميراثه بعد موته، واتفق أن أباه كان من أهل العلم، جيد الحظ، ينسخ الكتاب ويبيعه بضعف ما يبيع به غيره.
ويعرف صباغة الثياب بالألوان، فكان أرفه إخوته معاشا، وأحسنهم ارتياشا، فسافر إلى الحج للزيارة والتجارة، فغرقت سفينته، ولم ينج منها إلا القليل، وهو ممن نجا، فمكث فى رودس مدة ينفق من هيمان كان فى وسطه، فيه بعض ذهب، ثم ركب البحر ثانيا، إلى ثغر الإسكندرية، ومضى إلى
الحج، فقضى ما وجب عليه، ثم خرج من مكة إلى (بندر) أى مرسى جدة، واجتمع بأناس من جزيزة (سنار)، فارتبطت بينهم صحبة، فتوجه معهم إلى بلادهم، فقابلوا به الملك (الملك)، وأعلموه أنه رجل من أهل العلم، غريب الديار، قد انكسرت سفينته، وضاع ما كان حيلته، فرحب به، وأنزله دارا كرامة، وأجرى عليه رزقه، فاستقر جدى بسنار، ونسى أهله وأولاده بتونس، وكان أولاده ثلاثة، أوسطهم المغفور له والدى، كان عمره ست سنين، فانحنى عليهم خالهم المولى الأجل الأكمل الأمثل، الفقيه المحدث السيد أحمد بن العلامة الرحلة السند السيد سليمان الأزهرى صاحب التصانيف العديدة، فلما شب والدى، وبلغ مبلغ الرجال، وكان قد حفظ القرآن، وحضر بعض دروس فى العلم على خاله وغيره، تحرك شوقه إلى الحج ووافقه خاله فتجهزا معا للسفر، وركبا البحر من تونس إلى الإسكندرية، ومنها إلى مصر، ثم توجها إلى القصير، وبينما هما سائران فى القافلة/إذ ناداهما مناد: يا أيها المغاربة، هل فيكم أحد من تونس؟
فقال أبى: نعم من أنت؟
فقال: أنا نسيب أحمد بن سليمان. فعرفه خال أبى، وقال لأبى: يا عمر سلّم على أبيك، فأكب والدى يسلم على أبيه، ويقبل يده، ثم سلم جدى على نسيبه، وهو فى الشبرية، وبعد انقضاء السلام قال أبى لوالده: أتتركنا هذه المدة بدون نفقة، ونحن صغار؟ فقال: ما حيلتى والقضاء والقدر يجريان على وفق الإرادة، ثم توجه والدى وخاله إلى الحج، وتوجه جدى إلى المحروسة وجعلوها الموعد، فلما رجع والدى من الحج إلى المحروسة، وجد جدى قد باع تجارته ورجع إلى سنار.
وأما خاله فتوفى فى مكة المشرفة، فأقام والدى بالقاهرة ينتظر والده، ويحضر العلوم بالأزهر، ثم سافر إلى سنار، فوجد والده قارا فى داره، مغتبطا بعياله، لا يسأل عن غيرهم، فعرض عليه الذهاب معه إلى تونس.
فقال: أما الذهاب فلا سبيل إليه؛ لما علىّ فى تونس من الأموال، لا سيما وقد أخبرت بأن أمك قد تزوجت؛ فسأله الإذن له فى السفر من القافلة المتوجهة، فقال: يكون ذلك إن شاء الله فى قافلة أخرى؛ حتى أجمع لك ما تسافر به، بحيث لا تعود إلا مجبور الخاطر، فاستطال والدى اللبث، وقال:
إنى مشتاق إلى طلب العلم، وخرج مغضبا مع القافلة لا يملك شيئا، فألحق به والده بعد ثلاثة أيام ثلاثة جمال، وأربع جوار، وعبدين، وعلى الجمال أهبة السفر، من مؤنة وماء، وعلى أحد الجمال حمل صمغ، فأخذها والدى، وسار مع القافلة، فضلوا عن الطريق، وأدركهم العطش، وطال عليهم الأمد، فمات الرقيق والجمال، ورجع فقيرا كما كان، ثم من لطف الله تعالى أن مرض خبير القافلة بصداع، أحرمه الهجوع، فكتب له والدى رقعة وضعها على محل الألم، فبرئ لوقته، فاعتقد فى والدى الصّلاح، وأمر بحمله، وأن يحمل له عدل صمغ على إبله، فوصل والدى إلى مصر، وباع الصمغ بخمسة وسبعين فندقليا، واشتغل بطلب العلم فى الأزهر، وتزوج والدتى إذ ذاك، فولدت له ولدا لم يعش، ثم توجه إلى تونس، وأخذ أمى وأمها، وكنت إذ ذاك حملا، فولدت بعد ذلك بخمسة أشهر. ثم قفل بنا إلى مصر؛ لطلب العلم فى سنة سبع ومائتين، فحضر درس الشيخ عرفة الدسوقى، ودرس شيخ المشايخ الشيخ محمد الأمير الكبير، وتولى نقيبا برواق المغاربة، وكان فى عيش متوسط، وفى سنة إحدى عشرة ومائتين وألف ورد عليه كتاب من أخيه لأبيه، بسنار مضمونه: إن والدنا توفى إلى رحمة الله تعالى، وترك جملة كتب سرقت منا، وبقينا بحالة تسر العدو وتسيء الصديق، فعجل بالقدوم إلينا، لتأخذنا معك، نعيش بما تعيش به، فلما قرأ الكتاب بكى، وتعجل بالسفر إليهم، وتركني ابن سبع سنين، فقد ختمت القرآن بداية، ووصلت فى العيادة آخر آل عمران.
وكان لى أخ ابن أربع سنين، وترك لنا نفقة ستة أشهر، فمكثنا سنة، باعت والدتى أشياء كثيرة من نحاس وحلى، ثم جاء عمى الصغير المسمى بالطاهر، فانحنى علينا يربينا، وكان قد جاء للحج والتجارة، ومعه ابن له
كالشمس الضاحية اسمه محمد، كان يذهب معى إلى المكتب، ألمت به أمراض أسكنته القبور، بعد أن حفظ القرآن، وابتدأ فى حضور العلم، فكره عمى المقام بمصر لخلوها من ولده، فسافر إلى الحج ثانيا، وتركنى لطلب العلم بالأزهر، وترك لى نفقة تكفينا أربعة أشهر، ومكث هو أكثر من ذلك، فنفدت، وضاق ذرعى لذلك، وأنا إذ ذاك فى شرخ الشباب، فبقيت متحيرا لا أدرى ما أصنع، واستنكفت أن أترك طلب العلم، وأتعلم إحدى الصنائع، وبينما أنا متحير فى طلب المعاش، إذ بلغنى أن قافلة وردت من دارفور، وكان قبل ذلك بلغنا أن والدى توجه من سنار إليها صحبة أخيه، فتوجهت إليها؛ لأسأل عن أبى، فلقيت رجلا من أهل القافلة، مسنا ذا هيبة ووقار، يسمى السيد أحمد بدوى، فقبلت يده، ووقفت أمامه.
فقال لى: ما تريد؟.
قلت: أسال عن غائب لى فى بلدكم، لعلكم تعرفونه؟
فقال: من هو؟
قلت: اسمه السيد عمر التونسى من أهل العلم.
فقال على الخبير به سقطت، هو صاحبى، وأنا أعرف الناس به، وأرى بك شبها به، فكن ابنه.
فقلت: أنا هو على تغير حالى، وتبلبل بالى.
فقال: يا بنى ما يقعدك عن اللحاق بأبيك؛ لترى عنده ما يهنيك؟
قلت: قلة ذات يدى.
فقال: إن أباك من أعظم الناس عند السلطان، وأكرمهم عليه، وإن أردت التوجه إليه فأنا عليّ مؤنتك، ومركوبك، وراحتك؛ حتى تصل إليه
فقلت: أحق ما تقول؟
فقال: إى وحقّ الرسول، لأن أباك فعل معى معروفا، لا أقدر على مكافأته، فعاهدته على ذلك، وجعلت أتردد إليه؛ حتى تأهب وقال لى: السفر غدا. فبت عنده فى ألذ عيش، وبعد أن صلينا المكتوبة، أبرزنا الأحمال، وحملت على الجمال، وسرنا طلوع الشمس من القاهرة، ثم صلينا الجمعة بالفسطاط، وسرنا فى البحر على بركة الله تعالى إلى آخر ما مر، ثم إن المترجم أقام فى بلاد السودان مدة مترفا منعما معظما، وطاف فى جهاتها، ورأى العجائب، واطلع على بلادها، وعوائدها، كما شرح ذلك فى كتابه المذكور، ثم عاد إلى مصر، وقد فقدت أمواله، وتحولت أحواله، واشتغل بالعلوم وتحصيلها ولم يعدل عن سبيلها/قال فى خطبة كتابه: لما وفقنى الله تعالى لقراءة علوم العربية، وأترع كأسى من بينها بالفنون الأدبية، وحسبت من بنى الأدب وذويه وعشيرته، أناخ الدهر بكلكله على ما بيدى من العين، فغادره أثرا بعد عين. وكانت همتى إذ ذاك مصروفة إلى تحصيل العلوم، وجمع المنثور منها والمنظوم، وحين شاهدت معاندة الزمان لمقتى تمثلت بقول العلامة الصفتى.
هبطت ثريا الشاردات لهمتى
…
وصعدت فى العرفان كل سماء
وفقهت غيرى فى العلوم وإنما
…
بينى وبين المال كل تنائى
فعجبت إذ عقد اللواء لجاهل
…
والفقر عم عمائم الفقهاء
وصفرت الراحة، وعرفت الساحة، ومال المال، وحال الحال، وغار المنبع، ونبا المربع، وناجتنى القرونة أن أسأل بعض أناس المعونة، فتذكرت أن ليس كل أحمر حمه، ولا كل أبيض شحمه، وربما يريق الإنسان ماء وجهه، ولا يحظى بقصده
وإن إراقة ماء الحيا
…
ة دون إراقة ماء المحيا
سيما إذا وقع التعس والنكس، وكان الطلب من نحس.
قال الشاعر:
لقلع ضرس وضنك حبس
…
ونزع نفس وورد رمس
ونفح نار وحمل عار
…
وبيع دار بربع فلس
وقود قرد وفرط برد
…
ودبغ جلد بغير شمس
ونفذ ألف وضيق خسف
…
وضرب ألف بألف قلس
أهون من وقفة لحر
…
يرجو نوالا بباب نحس
لا سيما وقد وجد على بعض الأحجار بقلم قدرة العزيز الجبار، كل من كدّ يمينك، وعرق جبينك، وأن ضعف يقينك، اسأل الله يعينك.
فدخلت فى خدمة من تزينت بلطائفه صفحات الأيام، ونارت بعوارفه حوالك الظلام، ظل الله الظليل على البلاد والأمصار، حامى ذمار الإسلام، وقامع الفجار من أنام الأنام، فى وارف حلمه، وأذاقهم حلاوة عدله فى حكمه، فاتح الحرمين الشريفين، بجيشه المنصور، ومالك الأقطار الشامية بإبراهيمه البطل الغضنفر المشهور، أمير المؤمنين الحاج (محمد على باشا) ولى النعم، أعلى الله سرادق عز دولته، وأيد ملكه بمجده وصولته، وكان أول خدمتى بوظيفة واعظ فى الالاى الثامن من المشاة، وسافرت معه إلى المورة، وكابدت المشقات، وقبل ذلك سافرت إلى بلاد السودان، ورأيت فيها من العجائب ما إذا سطر يكون كزهر بستان، ثم استخدمت فى مدرسة أبى زعبل،
لتصحيح الكتب الطبية، وخصصت منها بتصحيح كتب الأجزأجية، ومكثت على ذلك حتى اجتمعت بأبرع أصل زمانه، حذاقة وفهمها، وأذكى أهل عصره صناعة وعلما، معلم الكيمياء، الحكيم بيرون الفرنساوى، وقرأ عليّ كتاب كليلة ودمنة، باللغة العربية، فذكرت له بعض ما عاينته فى أسفارى من العجائب، فحملنى على أن أزين وجه الدفتر، بإيضاح ما شاهدته، فامتثلت أمره لما له علىّ من اليد البيضاء، ورأيت أن ذلك أجمل بى أيضا لقول صاحب المقصورة
وإنما المرء حديث بعده
…
فكن حديثا حسنا لمن وعى
اهـ. مختصرا.
(وادى بحر بلاما)
هذا الموضع واقع فى غربى وادى هبيب، ولا يفصله عنه غير جسر خفيف من الرمل، وبينه وبين ديورة وادى هبيب، نحو نصف ساعة، وهذا البحر متسع يبلغ ما بين شاطئيه، نحو ثلاثة فراسخ، وقد قذفت الرياح فيه كثيرا من الرمل، لكنه مع ذلك ظاهر وشواطئه واضحة، وهو أقحل خال من الماء والعيون، وقد شاهد فيه السياحون كثيرا من الأشجار المستحجرة، منها ما يبلغ ارتفاعه ثمان عشرة خطوة، وبعضها تم تحجيره، والبعض لم يتم، وشوهد به أيضا سمك مستحجر، وقد استنتج كثير من العلماء من هذه العلامات، مع وجود كثير من الصخور والأحجار الكبيرة والصغيرة، التى لا توجد إلا فى الجهات القبلية، أنه كان بين هذا المحل، وبين النيل اتصال، وأن ماء النيل جرى فى هذا الوادى، ومن يتتبع اتجاهه يجده منتهيا عند الفيوم، ويكون خط مريوط عن يمينه من الجهة البحرية، وهذا الوادى هو طريق العرب الذاهبة إلى الجهات القبلية.
وقال بعض علماء الإفرنج: إن بحيرة مريس التى هى خزان الفيوم، كانت آخر هذا الوادى من الجهة القبلية، ثم انفصل عنها بسبب الإهمال، وتوالى الحوادث، وهذا على ما ذهبوا إليه، من أن بحيرة مريس هى بركة القرن، وأنكر كثير من العلماء ذلك، وقد بينا تفاصيل هذه المسألة عند ذكر بحيرة مريس فى /الفيوم فليراجع.
(وادى حلفا)
يطلق هذا الاسم على بلدة من بلاد النوبة، بالجانب الشرقى للنيل، فى جنوب قرية نجش، بقدر خمسة آلاف متر، وهى رأس قسم يعرف بقسم وادى حلفا، أوله من جهة الشمال، ناحية الشلال الأول، بجوار قصر أنس الوجود، وآخره من الجنوب خور الحلف فى شمال دنقلة بنحو عشرة أيام، ومن أشهر قراه كرسكو، وإبريم، وقرية الدرر التى كانت فى الزمن السابق، أشهر من قرية وادى حلفا.
وكانت مركز الحاكم والقاضى، وبها أسواق، وسواق، ونخيل وأشجار، والآن قرية وادى حلفا، هى أشهر تلك القرى لما اشتملت عليه من محطة البوستة، وشونة الميرى، وإقامة ناظر القسم بها، وفيها أبنية جيدة للميرى، وأنشئت فيها مدرسة، وفيها مساجد، ونخيل، وأشجار، وسواق كثيرة، وأطيانها قليلة، لكنها خصبة، وبها وكائل، وقهاو، وخمارات، وسويقة دائمة، ذات خيام مضروبة من الشعر، يتقى بها الباعة الحر والبرد، ويباع فيها نحو القمح والذرة والتمر الإبريمى، وحب الخروع والنطرون، والثياب المجلوبة من مصر، وعندها تؤخذ عوائد الخفارة من المسافرين صعودا وهبوطا، ويسمونها بالمحبوب، وهى على كل جمل نصف ريال مجيدى، يأخذه متعهد الدر، ولها ميناء على البرين، متسعة جدا، تجتمع فيها السفن الصاعدة والمنحدرة، بالمتاجر السودانية والمصرية، وفيها يجد المسافر ما يحتاجه، وفى بعض كتب الإفرنج أن وادى النيل المسمى بلاد النوبة السفلى، وهو من وادى حلفا إلى أسوان، قليل الاتساع، منحصر بين صخور سود، وطوله ثلثمائة وخمسون ألف متر، وأرض الزراعة فيه قطع متفرقة بين الصخور على الشاطئين، فالمسافر من أسوان إلى وادى حلفا أو عكسه، يرى عن يساره ويمينه واديا دقيقا، فيه قرى صغيرة، أغلبها مركب من خمسة بيوت، أو ستة، يظلها قليل من النخل والدوم، وبعض الأشجار، وأكثرها فى الشط الشرقى، وفى كثير منها آثار
قديمة، ولوقوع القرى فى الأدوية، يطلق اسم الوادى على القرية، أو القرية على الوادى، وتارة يطلق اسم الوادى على خط أو قسم من تلك القرى، وفى زمن اليونان والرومانيين، كان يطلق على بلاد النوبة، اسم إيتوبيا، ومعناه بلاد السودان، ثم من جاء بعدهم، وحكم هذه الجهات من العرب وغيرهم، أطلق على وادى النيل من بعد حدود مصر الجنوبية، اسم (بلاد كوش)، وهذا هو الاسم القديم، الذى سمى به هذا الوادى، فى الكتابة الهيرجليفية، وفى التوراة أيضا، وقد يوجد فى بعض الكتابات، تسمية جزئه المجاور لأرض مصر بالكنز، ويسمى أيضا (بيرابراتا) من اسم البربر، وقد بقى ذلك من عدة قرون إلى الآن، فإن طائفة البربر تسكن هذا الجزء، من بلاد النوبة، ومن جاور منهم ناحية أسوان، يسمون بينهم بالكنوز، وقد دلت الآثار على أن الفراعنة استولوا على أرض كوش، مدة من الزمان، فقد وجد فى وادى حلفا آثار تدل على أن (أزرتازان) الثالث، من عائلة الفراعنة الثانية عشرة، فتح هذه الجهات، وتملكها قبل المسيح بألفين وستمائة وستين سنة، وبقى ذلك فى خلفائه (أمينمها) وغيره، وكثير من فراعنة العائلة التاسعة عشر، مثل [طموزيس الثالث، ورمسيس الثانى] أبقوا بها آثارهم، واستولى ثلاثة من ملوكهم على مصر، وتكونت منهم العائلة الخامسة والعشرون. كما قاله مانيتون، وذلك فيما بين سنة سبعمائة وخمس عشرة، وسنة ستمائة وثمان وثمانين قبل المسيح.
وقد مشى آخرهم وهو (طهراقا) على آثار الفاتحين لتلك الجهة من الفراعنة، وأوسع دائرة ملكه فى بلاد أفريقية وآسيا، ثم بعد ثمانى سنين، تخلى عن تخت مصر، واستقل بالبلاد العليا (يعنى بلاد النوبة)، وجعل تختها مدينة نباطة، وزينها بالمبانى البهجة، والتماثيل العجيبة، ومن حينئذ صارت مملكته تعرف (بإيتوبيا) وذلك فى القرن الثامن قبل الميلاد، وكان ابتداء تلك المملكة من جهة الشمال وادى حلفا، وهى المملكة التى سماها الرومانيون، فى مدة حكمهم بمملكة (مروى) من اسم مدينة مروى، التى كانت تختالها أيضا، فكان بها مدينتان عظيمتان [نباطة ومروى] كما كان فى مملكة مصر
(منفيس وطيب)، وكان يتبع تلك المملكة فى بعض الأزمان، بعض البلاد التى بين أسوان وحلفا، وبسبب ذلك حصل بين المملكتين النزاع الذى ترتب عليه هجوم الرومان على مملكة (إيتوبيا) قبل المسيح بأربع وعشرين سنة، وفيه هدمت مدينة (نباطة) عن آخرها.
وفى سنة ست وتسعين ومائتين ميلادية، فى زمن القيصر، ديوقلطيان؛ لكثرة المصاريف على العساكر المحافظين بتلك الجهة، مع قلة الوارد منها، أمر القيصر قبيلة تعرف: بنباطة، كانت تسكن بقرب الواح الكبير، أن تلتزم بخفارة هذه الجهة فى مقابلة أخذ الإيراد المتحصل مما يلى أسوان إلى مسافة سبعة أيام جنوبا. فبقوا على ذلك إلى القرن السادس، ثم استولى عرب (تلميس) وهم البلمية، على ما فوق أسوان إلى قرب وادى حلفا، فكانت مملكة النوبة من إبريم ففوق، ومن ذلك الحين سمى/العرب وغيرهم ما فوق إبريم ببلاد النوبة.
مطلب وادى الكنوز والعرب والنوبة
(والنوبة) بطن من لواته، وهى قبيلة من البربر، سكنت تلك الجهات، وجهات سرت، والواحات.
ولما جاء الإسلام، ظهرت العرب، وسكن بعضهم بلاد النوبة، واختلطوا بسكانها إلى الآن، فصار بين أسوان، ووادى حلفا ثلاث طوائف من الناس، الكنوز، والعرب، والنوبة، (فالكنوز) وهم البربر فيما بين أسوان، وقرية وادى السباع، (والنوبة) من فوق وادى حلفا إلى الدر (والعرب) بين الاثنين، فى مسافة سبعة وأربعين ألف متر، ويطلق على أرض الكنوز وادى الكنوز. ولسانهم يقال له الكنزى، وهو يقرب من اللسان البربرى، ويقال لأرض العرب، ووادى العرب، وفيهم بقية من الكلام العربى، ولسان أهل النوبة، يقرب من اللسان الكنزى، والآن لا يكاد يعرف هذا اللسان بين البربر والكنوز، ولم تكن هذه
الجهة كبيرة العمران، وإنما عدد أهلها فى الكثير نحو أربعين ألف نفس، وفى شرقى وادى النيل إلى البحر الأحمر تسكن (العبابدة)، ثم إن فى مقابلة وادى حلفا فى البر الغربى قرية تسمى (بهنة) فيها آثار معبد كان فى زمن تطموزيس الثالث من فراعنة العائلة الثامنة عشرة قبل المسيح بسبعة عشر قرنا. وهناك شلال يسمى شلال (وادى حلفا)، وهو أكبر الشلالات اتساعا وارتفاعا، وهو الذى يقصده المؤلفون الأقدمون فى كتبهم، وبينه وبين البلد مسيرة نحو ساعتين، عبارة عن عشرة آلاف متر ومن صخوره، المعترضة فى مجرى النيل ما يبلغ طولها نحو اثنى عشر ألف مترا وأكثر، وارتفاعها فوق سطح الماء، فيما بين ثلاثين مترا وأربعين، وينحدر الماء من أعلى الصخور على مدرجات. منها على هيئة السلم الكبير، واحدة منها أو اثنتان يبلغ ارتفاعها نحو عشرة أمتار، وفى الزمن السابق، كانت المراكب فى وقت احتراق النيل تتعطل عن العبور فيه، فأجرى فيه العزيز المرحوم محمد على إصلاحات سهل بها سير المراكب فيه أكثر السنة، وهناك الشاطئ الغربى كله صخور، ويعلو جميع ذلك الجبل المسمى (حفيرا)، فإن ارتفاعه يبلغ نحو مائة متر، والواقف على قمته يرى فى الجهة الغربية صحراء (سلم)، الممتدة بالاستواء إلى النيل، وفى الجهات الثلاث، يعنى غير جهة الغرب، لا يرى إلا الشلال، وهو الذى يعرف بين العرب ببطن (الحجر)، وفى الجنوب على مسافة بعيدة، يرى خضرة دقيقة كالحزام، تسترها الرمال التى تثيرها الرياح، وفى جميع امتداد الشلال لا يرى غير الصخور السود، وشجيرات ذات شوك، ونباتات سمية، وليس فى ذلك الامتداد مساكن، ولا عمارة ولا يرى المارّ فيه مؤنسا غير الحدا، والرخم الساقط على جيف التماسيح ونحوها. ثم وصف ذلك السياح ما فوق ناحية أسوان إلى وادى حلفا، من مجرى النيل، والقرى التى شاهدها ونحو ذلك.
فقال: ثم إن الذاهب من أسوان إلى وادى حلفا يقابله الشلال الأول، بقرب أسوان، وقد سبق الكلام عليه فى قرية الشلال، وبعد نحو ثلاثة آلاف متر منه
يقابله ملف فى النيل عميق بالجانب الغربى منه يسمى (شيمة الواح)، يعتقد البربر أن بينه وبين الواح الكبير اتصالا تحت الأرض، ثم على بعد خمسة وعشرين ألف متر من قرية فيلة (بيلاق).
مطلب وصف الآثار والقرى من أسوان إلى وادى حلفا
تكون قرية دبوت التى تسمى فى الكتابة الهيروجليفية باسم (تابت)، وفيها معبد بينه وبين النيل نحو ستمائة خطوة أنشأ للمقدسة إزيس فى زمن أركمين أحد ملوك النوبة الذى سماه ديودور الصقلى أرجمين، وكان فى زمن بطليموس فيلودولفوس، وذلك قبل المسيح فيما بين مائتين وخمس وثمانين سنة ومائتين وسبع وأربعين، وله شبه بمبعد الكرنك، وعليه كتابة رومية، قرئ فيها اسم فيلاما طور السابع من البطالسة، وأكثرها مرقوم من زمن القيصر (تبير) وفى خطط (أنطونان) أنه كان بهذه القرية معسكر رومانى، ثم بعد مسيرة ستة عشرة ألف متر تكون قرية (كرداسة) على الجانب الغربى للنهر، وبها معبد صغير على مرتفع من الأرض، وعلى مسافة قليلة من القرية، محجر صوان على بعض صخوره كتابة من زمن القياصرة، ويظهر أنه أخذت منه الأحجار لبناء معابد بيلاق، ومن هذه القرية إلى قرية (تافه)، يعرف مجرى النيل:
بوادى المحرقة من اسم قبيلة من البربر تسكن تلك الجهة، وفى خطط أنطونان أن ذلك الوادى يسمى تافيس، وكان قديما يسمى (هيرنسيكامين) يعنى الجميز المقدس.
وفى قرية تافه شجر الدوم والنخل وبها معبدان من زمن الرومانيين أحدهما متخرب، وتجاهها على الشط الثانى أثر قرية كانت تسمى (كنتراتافس)، وبعدها بقليل يضيق مجرى النيل، وتظهر فيه صخور كثيرة وعلى جانبيه جنادل كبيرة يتعسر معها السير فى البرين، وتلك الصخور عبارة عن الشلال الثانى المسمى: بشلال الكلابشة، والكلابشة قرية فى البر الغربى، على نحو أحد عشر ألف متر من (تافه)، فيها معبد متسع، يظهر أنه كان
أكبر معابد هذه الجهات ما عدا معبد أبى سنبل، وأنه بنى فى زمن الرومانيين ابتدأه القيصر أغسطس، وأتمه كل من القيصر [كاليفولا-وأتراجان-وسوير] وعلى صخوره كتابة يفهم منها أنها أخذت من معبد قديم/كان فى زمن تطموزيس الثالث من فراعنة العائلة الثامنة عشرة، واسم هذه الجهة فى لغة المصريين القديمة (تلميس)، وفى الشمال الغربى بعد قليل يكون محجر يظهر أنه أخذ منه لبناء المعبد، والظاهر من الآثار أن (تلميس) كانت مدينة شهيرة، ثم على نحو ربع ساعة منها يوجد نقر فى الصخر يعرف هناك ببيت الولى عليه كتابة تدل على أنه من زمن رمسيس الثانى، وأنه جعل لمقدسى تلك الجهة آمون راونوم، وهو لطيف، وعلى جدرانه نقوش، تدل على نصرات رمسيس فى بلاد النوبة وآسيا، ثم على نحو أحد عشر ألف متر يكون شلال أبى هور.
وهناك فى وقت انتهاء نقص النيل تمر المراكب بقرب الشط الشرقى فى مضيق كان عليه قديما قلعة هدمت فيما بعد. وبعد ذلك يأخذ النهر فى الاتساع وبعد مسيرة ساعتين يكون معبد (دندور) غربى النيل على ثلثمائة خطوة منه، وفيه صورة إزيس ونقوش رومية من زمن القيصر أغسطس، و (دندور) قرية هناك وفى جنوبها على مسيرة أربعة عشر ألف متر فى البر الغربى تكون قرية (جرف حسين) وسماها أنطونان فى خططه تطزيس، فيها معبد نحت فى الحجر من زمن رمسيس الثانى، جعل للمقدسين (أفتاه-وهاتور- وأنوكى).
وكانت القرية عند قدماء الأقباط تسمى باسم (بيفتاه) ومعناه مسكن أفتاه، وفى مقابلتها فى البر الثانى قرية (كرشا) أو (جرشا) وعلى بعد منها أثر مبان تعرف (بسبجورة) ويعرف وادى النيل بعد هذه القرية بوادى (كستمنة) وعلى بعد مسيرة سبعة عشر ألف متر من قرية كرشا تكون قرية (دكة) وتسمى فى الكتابة الرومية باسم (بسلشيس) وبها معبد بناه الملك أرجين، وكمله بطليموس فيلاماطور وهو باسم المقدس طوط أو هرمس، وهناك كانت وقعة
ملك النوبة مع الرومانيين حيث هجموا على مدينة نباطه، ووجد هناك بعض السياحين كتابة تدل على معدن الذهب الذى فى صحراء تلك الجهة، وتجاه هذه القرية قرية (كبان) وهى قديمة وبها معبد من زمن رمسيس السابع والثامن قبل المسيح باثنى عشر قرنا.
وفى نقوش قريبة منه قرئ اسم (أمينوهتيب) الثالث، كان قبل المسيح بستة عشر قرنا، ثم بعد نحو خمسة آلاف متر فى البر الغربى تكون قرية سماها (أنطونان) فى خططه (كورتية)، وسميت فى الكتابة العتيقة (كيرتية) وفيها معبد للمقدسة إزيس، يظهر من نقوشه أنه كان من زمن تطموزيس الثالث أحد العائلة الثامنة عشرة وأنه جدد فى زمن الرومانيين، وبعدها بستة آلاف متر تكون جزيزة (درار) أو (جرار) وسماها هيرودوط (تشمبسو)، وبعد ستة آلاف متر أيضا يكون آخر وادى المحرّقة، وهو نهاية ملك الرومانيين، وهناك معبد كان لأزيس وأوزريس، وفى زمن النصرانية جعل كنيسة، ومن هناك تأخذ منطقة الأرض الزراعية فى الضيق، ويقل ارتفاع كثبان الرمل التى فى الجانب الغربى، وتقرب من النهر حتى لا يكون إلا الجبل والبحر، وبعد ذلك على مسافة اثنين وثلاثين ألف متر تكون قرية (وادى السباع) فى الجانبين سمتها العرب بذلك؛ لكثرة ما كان بطريق معبدها من صور أبى الهول التى على صورة السبع، وقد ردم أكثر تلك الصور.
وذلك المعبد من إنشاء رمسيس الثانى للمقدس أمون را، وصورة رمسيس بقرب صورة أمون بهيئة مقدس يقدس نفسه، وكانت القرية قديما تسمى بيامين يعنى مسكن أمون، وهى آخر وادى الكنوز وهم طائفة من الناس سكنوا تلك الجهة، وبعدها يكون وادى العرب الممتد إلى ناحية الدر، وبعد تسعة عشر ألف متر من وادى السباع تكون قرية (كرسكو) على الجانب الشرقى فى منتصف الطريق بين وادى السباع والدر، ومنها تخرج طريق قافلة سنار التى تفارق النيل، وتمر فى العتمور حتى تصل إلى أبى حمد فى مسيرة تسعة أيام،
ومن كرسكو ينعطف النيل إلى الشمال الغربى، ويرسم قوسا كبيرا إلى ناحية الدر، ثم يأخذ اتجاهه الأول وهو الجنوب الغربى، وفى كل هذه المسافة من كرسكو إلى الدر وهى ثمانية عشر ألف متر لا تساعد الرياح الشمالية الخالصة ولا الشمالية الغربية سير السفن؛ وإنما تسحب باللبان، وهناك تتسع منطقة أرض الزراعة سيما فى الجانب الأيمن للنهر، وتكثر السواقى وتتقارب القرى، ويكثر النخيل، وشجر السنط، وبعد مسيرة اثنى عشر ألف متر من كرسكو تكون قرية (عمادة) أو (حصابة) على الجانب الأيسر، وبها معبد هجم عليه الرمل، فغطى نحو نصفه، تدل كتابته المصرية القديمة على أنه من زمن أزورتيران الثالث قبل المسيح بسبعة وعشرين قرنا، ويقرأ فيها اسم أمينوهتيب الثانى وتطموزيس الرابع، وفى زمن النصرانية جعل كنيسة، وبعد قرية عمادة بنحو ستة آلاف متر تكون قرية (الدر) أو (الدير) على الجانب الأيمن، وهى أكبر قرى تلك الجهة بعد حدود مصر، ولها شبه بالمدن، وبها معبد نقر فى الحجر من زمن رمسيس الثانى، كان للمقدس أمون را، وفى كتابة هيرجليفية تسمية القرية (بيرا) يعنى مدينة الشمس، ومن هذه القرية تأخذ جوانب النيل فى البهجة والنضرة لكثرة النخيل والأشجار فى الجانبين/.
وبعد مسيرة نحو ساعة وربع من هذه القرية توجد مغارة فى الجبل فى مقابلة جزيرة كيلتيه تسميها الأهالى (الدوكنصرة) على جدرانها كتابة قديمة، ثم بعدها على الجانب الثانى، قبر نقر فى الحجر فى صورة هرم عليه كتابة يقرأ فيها اسم رمسيس الخامس من العائلة العشرين قبل المسيح باثنين وعشرين قرنا، واسم صاحب القبر بويرى، يعنى الابن الملوكى لكوش، وصورته مرسومة كأنه يهدى الهدايا إلى رمسيس المذكور، وبعد خمس ساعات، أو أحد وعشرين ألف متر من الدر، تكون قرية إبريم على الجانب الشرقى، وتسمى فى الكتابة الرومية (أبريمس برو) لتمييزها على أبريميس البعيدة عنها فى الجنوب بقرب (أسطبورا) ولما استولى السلطان سليم على مصر، جعل فيها
حرسا من البشناق فتناسلوا فيها، وفى وقعة قتل المماليك بمصر سنة ألف وثمانمائة وإحدى عشرة ميلادية، فرّ إليها بعضهم، وأقام بقلعتها حتى طردهم عنها سر عسكر المرحوم إبراهيم باشا نجل العزيز، فرحلوا إلى الدرّ، وقد قرئ على آثار معبدها، اسم الملك (طهراقا) أو (طرهاقا) كان قبل المسيح بستمائة وست وثمانين سنة، وهناك مغارات بالجبل، قرئ عليها اسم رمسيس الثانى من العائلة الثامنة عشرة، وفى مقابلة القرية بالجانب الثانى قرية (أنبيا) بها قبر من زمن العائلة العشرين.
وعلى مسيرة ثمانية عشر ألف متر من إبريم تكون قرية (بستان) وعندها فى النهر صخور تعطل سير السفن، ثم على أربعة وخمسين ألف متر تكون قرية (أبى سنبل) وقد مر الكلام عليها فى حرف الألف، وبعدها قرية (فرايج) فى البر الآخر، ثم على نحو ثلاثة عشر ألف متر قرية (فرّاس) بها آثار نقر فى الحجر ليس لها أهمية، ثم على مسيرة تسعة آلاف متر تكون قرية (سرا) على الجانب الشرقى، ثم بعدها بأربعين ألف متر تكون قرية وادى حلفا. انتهى.
مطلب فى الكلام على طريق وادى حلفا
إلى السودان
وأما الطريق من وادى حلفا إلى السودان، فقد كتب بعض ثقات رجال الهندسة رحلة بين فيها الطريق من حلفا إلى دارفور، وكان قد تعين بأمر الخديوى إسماعيل باشا مع عدة من المهندسين أولاد العرب والإفرنج، ومن يلزم من الأطباء والعساكر لاستكشاف الطريق الأقرب إلى تلك الجهة لإجراء ما يلزم فيها من العمائر والمحطات، وكان ذلك فى سنة ثلاث وتسعين ومائتين وألف، ولنورد ذلك ملخصا فنقول: قال ذلك المهندس: إنه يخرج من وادى حلفا طريقان يوصلان إلى دنقلة الأردى، ثم إلى دنقلة العجوز، ومنها إلى دارفور إحدى الطريقين فى البر الشرقى، والأخرى فى البر الغربى، فالتى فى
البر الشرقى حجرية صعبة السلوك ذات صعود وهبوط يندر وجود الرمل فيها، ومسافتها إلى دنقلة الأردى ثمانية أيام بسير الهجين المعتاد، وعشرة أيام بسير القافلة، وفى آخر كل يوم ترد القافلة النيل للاستقاء، وحمل الماء اللازم إلى اليوم الثانى، ولا يسار فى هذه الطريق إلا بخبراء من عرب تلك الجهات، وأجرة الجمل من حلفا إلى شرقى دنقلة الأردى مائة فريض ديوانى.
مطلب فى عوائد العرب المسافرين بالقافلة
وحمل الجمل فيها من أربعة قناطير إلى خمسة، وعلى الجمال كل ما يلزم لحمل الأحمال، كالحبال الليف، والأقتاب، وغيرها، ومع صعوبتها فهى فى غاية الأمن، ويجد المسافر فيها فى القرى التى يمرّ عليها ما يحتاجه كاللحم، والطير، والسمن، واللبن، والتمر، وغير ذلك.
ويلزم من لا عادة له على السفر، أن يجعل سيره على التدريج، بأن يسافر أول يوم نحو أربع ساعات، وثانى يوم أكثر من ذلك، وهكذا حتى يتمكن من سير كل اليوم، بل وجزء من الليل، ومؤنة العرب والجمالة المسافرين مع القافلة تكون عادة من الذرة، يطبخونها حبّا ويسمونها بليلة، والعرب المخصصون لحمل الترحيلات العسكرية أو التجارية هم عرب الكبابيش، وعرب الهواوير، وعرب البشارية وجميعهم من مديرية دنقلة، ومن عوائدهم اللازمة أنهم عند كل صعود ولو قليلا يقولون بصوت عال:[عبد القادر عبد القادر يا كيلانى يا خفير الحوايا] ويكررونها مرات، وكذا عند الرحيل والنزول ويسمون الصعود القليل عقيبة بالتصغير والكبير عقبة بالتكبير.
وبعد تحميل الجمال فى أى وقت، ويسمونه وقت الشديد، يقول الجمال عند نهوض الجمل:[يا شيخ عبد القادر يا كيلانى].
فإذا قرب انتهاء السفر، وظهرت لهم البلد التى يقصدونها، يقومون أمام المسافرين ويرقصون، ويصفقون؛ لأجل أخذ البقشيش، ويسمونه حلاوة السلامة.
وأما الطريق التى فى الغرب فهى رملية، سهلة السلوك، لا صعود فيها ولا هبوط، ولا خشونة إلا قليلا مع زيادة الأمن، فلذا كانت أكثر استعمالا من الشرقية، ومسافتها اثنا عشر يوما بسير القافلة وتسعة أيام بسير الهجين المعتاد، وستة بسير هجين البوسطة ويمكن السير فيها بلا خبير لوضوحها، وإن كانت العادة أن السير فى تلك الطرق بالخبير؛ لأن له منافع غير الدلالة على الطريق، كحمل أثقال المسافرين إذا عطبت رواحلهم، وضبط مسيرهم، ونزولهم سيما إذا كانوا من طرف الحكومة، وعوائدهم فى ورود النيل، وحمل الماء وفى قدر الأجرة، وما يحمله البعير، وغير ذلك كعوائد الطريق الشرقية سواء بسواء، ويلزم حمل مؤنة الجمال أيضا لعدم وجود حشائش أو أشجار تقتاتها/الإبل فى الطريق، وكذلك الطريق الشرقية، وتمرّ تلك الطريق على ناحية (سمنة) وهى قرية صغيرة فى البر الغربى على شط النيل، أطيانها نحو أربعة وثلاثين فدانا، ونخيلها نحو تسع وستين نخلة، وسواقيها نحو عشر، وأهلها نحو مائة وثلاثين نفسا، وتجاهها فى البر الشرقى قرية تسمى (سمنة الشرقية) وعندها شلال يسمى (شلال سمنة) وهو صعب النزول والصعود، وله ثلاثة أبواب، وبالقرب من (سمنة الغربية بربى) تضاف إليها وهى محل على شط النيل طوله نحو عشرين مترا فى عرض تسعة أمتار، مبنى من حجر الصوان الأحمر، طول كل حجر نحو خمسة أمتار فى عرض مترين، وسمك مترين وسقفه من أحجار، وطول الواحد بقدر عرض البربى، وفيها نقوش هيروجليفية ملونة بألوان مختلفة، وفى الجهة الشرقية صف أعمدة، ويظهر أن هذه الأحجار منقولة لعدم وجود مثلها فى تلك الجهة، وإنما هى تشبه أحجار بربى أنس الوجود، أو جبل أسوان، وفيها هواء معتدل جالب للصحة مثل هواء البساتين، وفى جنوبها بنحو ثلثى ساعة قرية صغيرة تسمى (كنتكول) على الشط الغربى أيضا، أبنيتها من الطين غير المضروب، وأغلبها بدون سقوف، وارتفاع أبوابها نحو متر، وعليها أبواب من جريد النخل أو خشبه أو خشب السنط، ولا يوجد
فيها ما يحتاجه المسافر، وكانت من محطات البقر فى نزوله إلى مصر من بلاد السودان، زمن العزيز محمد على، وليس فيها نخيل ولا لها زرع، وبعدها قرية صغيرة تسمى (ملك الناصر) على الشط الغربى أيضا. وهى أحسن بقليل من ناحية كنتكول، وأطيانها نحو ثلاثين فدانا، وفيها خمسون نخلة، وساقيتان، ويزرع الكشرنجيج كثيرا، والذرة الصيفية، وبعدها قرية صغيرة أيضا تسمى (أكمة) أطيانها نحو ثلثمائة فدانا، ونخيلها نحو ثمانمائة، وسواقيها نحو ثمان وعشرين، ويزرع فيها السيم، وهو نبات مثل الفجل، يستخرج من حبه زيت، يستعملونه فى دهن شعورهم وجلودهم، وبعدها محطة تسمى (سلم) كانت محطة بقر، وليس فيها شئ وبعدها ناحية ساقية العبد، وهى محطة بقر، فيها سبع نخلات وساقية، ويسكنها نحو عشرة أنفس، يزرعون نحو عشرة أفدنة، وهناك جزيرة تسمى (جزيرة هاى) وهى جزيرة متسعة، أغلب أرضها مرتفع لا يروى إلا بالسواقى، وفيها آثار معبد قديم، فيه سبعة أعمدة من الزلط الأحمر، وعلى رؤسها علامة الصلبان، وتسمى هذه الآثار عند أهالى تلك الجهة (حلة وردي) ويزعمون أن وردي رجل من المماليك الذين فرّوا إلى بلاد الصعيد، فى مدة العزيز محمد على، وعصى فى تلك الجهة، وحصلت هناك وقعة سالت فيها الدماء، وهناك محل يسمى (مجرى الدماء) بسبب ذلك. وفى هذه الجزيرة قرية تسمى (الجزيرة) أطيانها نحو تسعمائة فدان، وفيها نحو تسعة آلاف نخلة، ومائة وخمس وأربعون ساقية، ويزرع فيها القمح كثيرا، والشعير، والذرة والخضر، ويباع فيها التمر والملح السليمى، وأبراش الخوص، والمرجونات والأطباق الحسنة، والمستخرج من الخوص هو صنعة نسائهم، ومن الليف هو صنعة رجالهم، ويباع فيها أيضا اللحم، والبيض، والدجاج، والحمام ونحو ذلك.
ومنها إلى (سليمة) التى يجلب منها الملح ثلاثة أيام بسير الإبل المحملة (وسليمة) محطة من محطات الدرب الموصل إلى (فاشر دارفور) المسمى
باسم الأربعين، وبعد ساقية العبد (قبة سليم) وهى قرية سكانها نحو ثمانمائة، ونخيلها نحو خمسة آلاف نخلة، وفيها ست عشرة ساقية، وأطيانها نحو مائتى فدان، ويباع فيها التمر، والسمن، والأغنام، وسليم شيخ معتقد عندهم له قبة، وله حضرة كل أسبوع ليلة الاثنين يزوره فيها أهل البلاد المجاورة له، وأكثر مساكنها على دور واحد، وأغلب سقوفها بعقود الطوب؛ من أجل وجود الأرضة التى تأكل الأخشاب، وهكذا أغلب أبنية تلك البلاد، وبعدها ناحية كويه.
الكلام على قرية كويه ومشتملاتها
وهى مثل ناحية قبة سليم، ويوجد فيها التمر والغنم واللبن والبيض والقمح والذرة والبصل، وليس لها سوق، وإنما يشترى ذلك من البيوت، وأطيانها نحو ثلثمائة فدان بقرب البحر، أعظم سعة، فيها مائة وخمسون مترا، ونخيلها نحو ثلاثة آلاف نخلة، ويسكنها نحو مائتى نفس، ونساؤهم يغزلن القطن رقيقا وغليظا ومتوسطا، وينسج كل مقاطع، فالرقيق نمرة (1) والمتوسط نمرة (2) وكلاهما يستعملونه فى ملابسهم، والثالث نمرة (3)، ويسمى قماش القنجة، ويعملونه قلوعا للمراكب، وطول المقطع من قماش القنجة يبلغ خمسة عشر مترا، وهذا المقدار عندهم ثلاثون ذراعا، وثمن المقطع منه يختلف من ريال مجيدى، ونصف إلى ريالين، ومراكبهم صغيرة مثل مراكب الصيادين، إلا أنها أوسع منها، ويسمونها النقر، وحبالها من الليف، وفى شمالها ثلاث جزائر على خط قاطع للنيل، رأس الوسطى منهن لا يركبه النيل زمن فيضانه، بخلاف باقيهن، فيركبه وقد حصل التصميم على عمل كبرى سكة الحديد عليهن، ومن كويه يسار فى (عقبة فقير بنتى)
وهى عقبة طويلة نحو ثمانية وأربعين ألف/متر، لكنها سهلة ولا يوجد بها إلا محطة فقير بنتى، وهى محطة على شط البحر من محطات البقرليس
بها زرع ولا أشجار غير نخيلات لسكان جزيرة أمامها، وفقير بنتى رجل صالح مدفون هناك، ليس له قبة، وله خدم ضعاف قاطنون بجواره.
مطلب الكلام على قرية الحفير والزوراء
ومنها إلى الحفير بلدة فى غربى النيل بقدر ألف ومائتي متر، وهى مركز الخط، ولها كل أسبوع سوقان يوم الخميس ويوم الاثنين، يباع فيها البهائم، والتمر، والسمن، والزيت، والقطن، والأقمشة المصرية، وبعض العقاقير، والدجاج، والحمام، والأوز، والبط، والقمح، والشعير، والترمس، واللوبياء، والكشرنجيج، ونحو ذلك ويتعاملون بالنقود الصاغ الديوانى.
ويشربون من آبار عذبة الماء فى وسط البلد ارتفاعها نحو تسعة أمتار، وفى جهتها الغربية مساكن للنساء الزوانى، وفيها محل لبيع البوزة، وأطيانها نحو سبعمائة فدان، ونخيلها نحو خمسة آلاف نخلة، وفيها اثنتان وستون ساقية، وأهلها نحو ثلاثة آلاف نفس.
وعندها أراضى أخرى صالحة للزرع، لولا وجود الأرضة فيها، ومنها إلى الزوراء وهى بلدة فى البر الغربى على شط النيل، أطيانها مثل أطيان الحفير، وفيها نحو ثمانية آلاف نخلة، وخمسة وأربعون ساقية، وأهلها نحو ستمائة نفس وليس لها سوق، وإنما يشترى من بيوتها نحو الذرة والقمح والسمن، والتمر، والغنم، وفى شمالى الزوراء شونة للميرى.
الكلام على بندر دنقلة الأردى
ومنها إلى بندر دنقلة الأردى.
وهى مدينة كبيرة على الشط الغربى للنيل، وهى مركز المديرية، وأبنيتها من الآجر واللبن وأطواف الطين، وسقوفها من خشب النخل، وأبوابها من الخشب أو جريد النخل متقن الصنعة، وشبابيكها كذلك.
وفيها مسجدان جامعان عامران، أحدهما بمنارة، ينسب إلى سر عسكر المرحوم إبراهيم باشا، والد الخديوى إسماعيل والآخر ينسب إلى سعيد أغاسر سوارى، وبها كنيسة أقباط، وثلاثة أسواق بحوانيت عامرة بالبضائع، واحد لبيع النعال، وواحد لبيع اللحم والخضر والخبز ونحو ذلك، والثالث يباع فيه البضائع التجارية المجلوبة من مصر ونحوها كثياب الحرير والقطن، والجوخ، والعقاقير، والنحاس، وغير ذلك من مشتملات المدن، وفيها دكاكين صاغة، وخياطين وأرباب حرف، وبها وكائل فيها البضائع، وتنزل فيها الغرباء، وفيها ثلاثة بساتين ذات فواكه، وثمار كالقشطة والبرتقال والعنب، والرمان والليمون والتين البرشومى والشوكى والموز وفيها شجر القرقدان، وهو شجر له حب صغير كحب السمسم يشرب كالقهوة، وفيها شجر التمرهندى بلا ثمر، وديوان المديرية فى شمالها الشرقى بجنبه مكتب البوسطة، ومحل الدفتر خانة، وفضاء متسع يقيم به عساكر المحافظة. وهناك الجبخانة، وبستان صغير، ومكتب التلغراف، والطوبخانة، وشونة للميرى، ومساكن للمستخدمين، ومدرسة لتربية الأطفال وتعليمهم الفنون النافعة، افتتحت فى سنة إحدى وثمانين ومائتين وألف من مراحم الخديوى إسماعيل، واسبيتالية للمرضى، وهناك عين ماء معدنية كبريتية حارّة لا ينقطع جريانها وبجوارها حوض مبنيّ بالآجر والمونة يمتلئ من مائها، وينزل فيه المرضى والزمنى، ويعتقدون نفعه، ويوجد بها كل ما يحتاج إليه من مأكولات الناس والبهائم وغير ذلك.
وثمن الأردب من الذرة بها فى سنة ثلاث وتسعين ومائتين وألف، ثلاثة ريالات مجيدية، وأردب القمح بأربعة ريالات مجيدية، والعشرة أرطال من السمن بريال مجيدى، وثمن الخروف من ريال إلى ريال ونصف، وثمن ثور البقر من ريالين إلى أربعة، والجمل الجيد من خمسة وعشرين ريالا إلى ثلاثين، وزمام أطيانها ثلاثة آلاف وخمسمائة وعشرون فدانا، ونخيلها ثلثمائة وخمسون نخلة وفيها أربعون ساقية، ارتفاعها فى زمن احتراق النيل ثمانية أمتار، وعندها ترعة لرى أراضى الزوراء.
وفى الشمال الشرقى لديوان المديرية تمثالان، وجوههما كوجوه الغنم ومحل القرون مثقوب فى رؤسها، يقال إنهما نقلا فى سنة ست وسبعين ومائتين وألف من بربى بجبل البركل بناحية مروى القبلية، وتجاهها فى البر الشرقى ضريح شيخ له قبة يقال له سيدى عكاشة، أمامه شلال يسمى شلال عكاشة ومن بعدها يسار فى طريق سهلة واضحة إلى ناحية السحابة، وهى بلدة على شط النيل مبانيها كمبانى دنقلة يسكنها نحو مائتى نفس وأطيانها نحو ثلثمائة فدان، وفيها ثلاث عشرة ساقية، وألفان وسبعمائة وخمسون نخلة، ويزرع فى أرضها السمسم، والخشخاش والخضر وأنواع الحبوب، ومنها إلى ناحية سالى وهى بلدة على شط النيل يسكنها نحو مائة نفس، وأطيانها نحو مائتى فدان، وفيها سبع سواق، وخمسة آلاف وأربعمائة وثمان وعشرون نخلة، ومنها إلى ناحية البكرى، وهى على الشط أيضا، سكانها نحو مائة وخمسين نفسا، وأطيانها نحو مائة وسبعين فدانا، وفيها اثنتا عشرة ساقية، وألف وستمائة نخلة، ولها سوق كل يوم سبت يباع فيه الودك والفراوى والغزلان والطيور والأجربة المتخذة من جلود الغنم، وسروج الحمير، وأغبطة الجمال، وهى/أنواع بأسماء مختلفة، ومعاملتهم بالصاغ، وأكثر رغبتهم فى الريال المجيدى وأجزائه، ويستعملون فلوس النحاس المصرية القديمة، ويسمونها دمج والقرش الصاغ يساوى عندهم خمسين نصف فضة أو ستين ومنها إلى غرب دنقلة العجوز.
الكلام على دنقلة العجوز
وهى بلدة فى البر الغربى أيضا فيها مركز حاكم الخط، سكانها نحو سبعمائة نفس، ومساكنها مثل ناحية البكرى، وأطيانها نحو سبعمائة فدان، وفيها نحو ألف وسبعمائة نخلة، وسبع وخمسون ساقية، ولها كل أسبوع سوقان يوم الخميس، ويوم الاثنين تضرب فيهما خيام صغيرة، ويباع فيهما أنواع
البوزة، والنعال، والفراء، وعادتهم أن يجعلوا كل أربع فراء قطعة واحدة، ويستعملونها فرشا كالسجادات، ويستعملها العرب أردية يتلفعون بها كشيلان الصوف ويباع فيهما أيضا الحبوب والثياب وغير ذلك.
مطلب الطريق من دنقلة إلى فاشر دارفور
ومن هذه القرية يخرج طريقان طريق إلى فاشر دارفور، وطريق إلى الخرطوم ولنتكلم على طريق فاشر دارفور.
فنقول: هو طريق صعب قاتم الأعماق لا يسار فيه إلا بأهبة وعدة وأزواد ورواحل، وخبراء من العرب المترددين إلى تلك الجهة، وله متعهدون من طرف الديوان يعينون مع القوافل من يلزم من العرب الخبراء، فتخرج القافلة من غرب دنقلة العجوز مغربة، مع الميل إلى جهة الجنوب بقدر درجتين فى طريق مرملة غير واضحة إلى أن تحط فى محل يسمى (سليم البرد) وهو محل ليس فيه شئ سوى الرمل، ومنه فى هذا الاتجاه إلى (الكرعان) وهى: أرض ذات رمل وحصى أحمر وفيها أشجار قليلة، وحشائش تأكلها الإبل، وفى غربيها أحجار صوان توجد عندها الغزلان، وربما يصطاد منها أهل القافلة، ومن كرعان فى ذلك الاتجاه إلى أول وادى (الملك الملح)، وهو واد متسع عرضه نحو ثلاث ساعات بسير الجمل، فيه أنواع من الشجر مثل الطندب، والسلم، وشجر المنتاب، فتحط فى جنوب آبار الماتول بقرب منها، وهناك توجد الغزلان الكثيرة يصطادون منها، وآبار الماتول فى شمال ذلك الوادى، وهى آبار متعددة مرتدمة ومتهدمة، غير اثنتين منها، فإنهما مستعملتان إلى الآن وارتفاعهما نحو سبعة أمتار، وماؤهما مالح عمقه نحو خمسين سنتيمتر، ولا يستعمل إلا لشرب الإبل وغسل نحو الأوانى، ويقول الحكماء: إن شربه للآدميين غير مستحسن، فإذا كان مع القافلة قرب فرغ منها ماء النيل، فإنهم يملؤنها منه. وفى الشمال الغربى لهذه الآبار على بعد ساعتين بيوت من الشعر لعرب من (الكبابيش)
التابعين لمديرية كردفان فى أرض متسعة ذات رمل فيها حشائش ترعاها الإبل، ويقتنون الإبل والبقر والغنم والحمير، ويصطادون بقر الوحش، والثيتل، والغزال يقيمون هناك فى فصل الصيف، وينتقلون فى فصل الخريف إلى جهة أخرى.
ومن آبار الماتول تسير فى الجنوب المائل إلى الشرق بقدر ثلاث درجات حتى تحط فى (الخطيمات) فى الشمال الغربى لجبل الخطيمات (والخطيمات) صحراء متسعة طينتها رملية، وفيها أشجار وحشائش ترعاها الإبل، وبعض طريقها واضح، وبعضها يغطيه الرمل، وربما وجدت هناك السباع، فيلزم التحفظ منها.
ومن هناك فى ذلك الاتجاه إلى آبار السطير وهما بئران فى وادى السطير، ومنحطتان عن الوادى بقدر ستة أمتار، وارتفاع مائهما نحو ثمانية سنتيمتر، وهو ماء عذب يقرب تركيبه من ماء النيل، يشرب منه أهل القافلة، ويملئون منه القرب، ووادى السطير قليل الاتساع عرضه نحو ربع ساعة، وفى أطرافه جبال من حجر الصوان، وفيها بعض رمل، وهناك أشجار شتى، أكثرها شجر الطندب، والسلم، وحيوانات وحشية مثل الغزال والإربل، وهو حيوان قدر الحمار الضخم والطريق هناك واضح، والهواء معتدل، وفى جنوب آبار السطير على نحو ثلاث ساعات، عرب قاطنون صيفا وشتاء، ويوجد عندهم البقر والغنم، وعادتهم عند ورود قافلة أن يأتوا رجالا ونساء للسلام على أهل القافلة، وسلامهم أن يصفق الرجال وترقص النساء نحو ساعتين أو ثلاث، وبعد ذلك يطلبون العادة من أهل القافلة فيعطونهم ما تيسر، وهناك يوجد طريقان يوصلان إلى دارفور، أحدهما معتاد لسير القوافل فيه كثيرا، وهو واضح، معلم بالجبال ونحوها، وسنتكلم عليه، والآخر وعر صعب المسلك، لكنه كثير المرعى والصيد، فلذا تختاره بعض القوافل، وتسلكه.
ونتكلم عليه أولا فنقول: تخرج القافلة للسير فى طريق الأراك ذات الحشائش، والأشجار المتنوعة من السلم بفتحتين، والسلم بكسر فسكون، والطندب وغيرها، فتبيت فى بقعة تسمى الأراك فى غربى وادى الملك، ومنها إلى بقعة تسمى (وعرة الطندب) فيها كثير من شجر الطندب، وهناك الغزلان والإربل، وبقر الوحش يصطاد منه المسافرون للأكل، وفى هذه الأراضى شجر الأراك، والمرخ وشجر الإهليلج، وشجر الظراف وشجر المندراب، وشجر الكنز وهو شجر ذو شوك كثير، يمزق الثياب والجلود، ومنها يسار فى وسط وادى الملك/إلى بقعة تسمى (البان) وهناك يوجد النعامات، والزرافات وبقر الوحش والإربل، وأشجار كثيرة ذات شوك تختفى فيها الوحوش، ويرى هناك أثر الكلب العقور المسمى بالمرعفيب وهو حيوان مفترس، وكذ أثر السبع فيلزم زيادة التحفظ فى تلك الجهة.
وعرب أطراف مديرية كردفان تسرح إلى هذا المحل ليصطادوا منه، ومن هذا المحل تسير القافلة على قنة جبل العين، وهو جبل يرى بعد الخروج من آبار السطير بيوم طوله مسيرة ثلاثة أيام فتحط عند عين فى ذلك الجبل، تسمى (عين حامد) ولد التنكى وهو صياد استكشفها فى خروجه للصيد، حيث وجد عليها أنواع الوحوش، وعين حامد حفرة فى فجوة من الجبل، يجتمع فيها ماء المطر، انخفاضها قدر عشرة أمتار، وارتفاع الجبل عندها نحو مائة متر، وفوقه حشائش وأشجار شتى، وحيوانات وحشية، منها نوع السلحفاة المعروفة عند أهل الإسكندرية بالفكرونة، وهى تشبه الترسة التى توجد فى البحر المالح، ولها أربعة أرجل، ويبلغ طولها إلى ستين سنتيمتر، وعرضها إلى خمسين، ومع تيسر صيدها وسهولته، لها قوة عظيمة، فيقال: إنها وضع عليها نصف أردب ذرة وركب عليها رجل، فمشت بالجميع كأنها لم تحمل شيئا، وفيها جبن، فإذا رأت شخصا أدخلت رأسها بين يديها، ويظهر هناك السبع، وقد رآه بعض المسافرين فى ارتفاع نحو تسعين سنتيمتر مع طول نحو متر، ولونه كلون
الكلب، وهناك تجتمع القوافل، ثم يسار من غربى جبل الزلط، إلى أمام جبل أم فاس فى وادى الملك، وفى تلك الطريق شجر المندراب، وشجر المعراب، وشجر السيال، وشجر الشعات، وشجر الهاشاب، وشجر الإهليلج، وشجرة الكنز.
وبعض الأرض هناك رملية، وبعضها حجرية ذات حصى يظهر فيها أثر المارين، ويحترس فى تلك الجهة من المرعفيب لوجوده بها كثيرا، وهناك جبل يسمى: جبل المرعفيبات، وجبل يسمى: جبل الضباعيات تسير بينهما القوافل، وتبيت فى وسط وادى الملك، وفى طريقها أشجار الشحير والعرد والسمرة والطلح والمرخ والكنز، وغير ذلك من الأشجار المتراكمة الملتفة، بحيث لا يظهر ما بداخلها.
وبعض الأشجار قد أكلتها الأرضة، وصيرتها كيمانا صغيرة، ويوجد هناك القنافذ التى شعرها الريش المعد للكتابة الإفرنجية، ومنه أبيض وأسود وتوجد فى أوكار عمقها نحو ستة أمتار. وفى جنوب جبل المرعفيبات بقدر ثلاث ساعات محطة يتحفظ فيها من النمر لوجوده بتلك الجهة، وشجر الكنز مزاحم للطريق هناك، ومؤذ للمارة فإنه يمزق الثياب وغيرها حتى جلود الإبل، وقد فعل ذلك بقافلة المهندسين والمعاونين والعساكر الذين سلكوا ذلك الطريق لاستكشافه سنة 1293؛ حتى رقعوا ملابسهم الجوخ وغيرها كما قاله بعضهم.
وفى ذلك الطريق أيضا شوك قليل يسمى حسكيت يشبه شوك التين الشوكى، ثم من ذلك المحل إلى آبار البقرية الكبيرة، وهى نحو مائتى بئر فى شرقى جبل البقرية بوسط وادى الملك، لكنها جافة ليس بها ماء غير تسعة وثلاثين بئرا، فيها ماء قليل، ذو رائحة قطرانية ولا عذوبة فيه بسبب جيرية أرضه، وترد عليها قافلة هذه الطريق، وقافلة الطريق الأخرى للاستقاء والاستراحة وملء القرب. وكذلك العرب المسافرون للصيد، وفى زمن الخريف يقيم عليها عرب من حكومة كردفان ويرتحلون عنها فى فصل الصيف؛ لقلة مائها جدا فى ذلك الفصل. وهناك كثير من الحشائش اليابسة، والأشجار مثل شجر السرح،
وشجر القرقران، وشجر الداروت وغيرها من الأشجار التى مر ذكرها، وأرض تلك البقعة غير مستوية، وفيها آثار السباع والوحوش، ونوع من الحيات يسمى أصلة، طوله نحو أربعة أمتار ونصف، ومحيطه نحو أربعين سنتيمتر والإفرنج يسمونه بوكنستكتور، ويقال إنه ليس له سم، والعرب يأكلونه، ويقال: إن هناك ثعبانا يبتلع الغزال. ومن هذا المحل تسير القافلة فى الجهة الغربية لوادى الملك، فتبيت على غير ماء، وكذلك فى الليلة الثانية والثالثة، ثم ترد على آبار (أم بادر) وهى نحو أربعمائة بئر، والذى يستمر فيه الماء منها مائتان وثمانون بئرا، عمق كل منها نحو سبعة أمتار، وماؤها عذب، تركيبه مثل تركيب ماء النيل، وهى بصحراء بين جبال صغيرة تسمى جبال (أم بادر) تمتلئ تلك الصحراء من ماء المطر، ويمكث فيها نحو ثلاثة أشهر، فيهدم الآبار، ويفسدها، فتحفرها العرب الموجودون هناك، وكل جماعة منهم أو واحد له آبار معينة يصلحها ويشرب ويسقى منها ماشيته، وبيوت هؤلاء العرب من أخصاص، وعندهم كثير من الإبل والخيل والحمير والمعز، ويوجد عندهم النعام المتأنس المولد، والزرافات وبقر الوحش، ويشترى منهم ريش النعام، وعادتهم فى مقابلة القافلة مثل عادة عرب السطير، وهم ثلاثة أقسام من ثلاث قبائل.
أحدها من حمر العساكرة فى شياخة إبراهيم ولد المويلح.
والثانى من حمر الدقاقين فى شياخة حمد ولد حامد. وكلا القبيلتين تبع مديرية الفاشر/
والثالث من عرب الكبابيش تحت شياخة فضل الله بيك سالم تبع مديرية كردفان. وهذا المحل كان مجمع العصاة قبل استحواذ الحكومة الخديوية على دارفور، والآن جعلت فيه عساكر من الأربعمائة للمحافظة اللازمة، والعادة أن ترد على هذه الآبار قافلة هذه الطريق، وقافلة الطريق الأخرى، وتقيم للاستراحة أياما، وقبل هذه الآبار بساعات قليلة توجد شجرة عظيمة، تسمى شجرة الحمرة، أو شجرة القنقلوى، قطرها نحو ثلاثة أمتار،
وارتفاع أعلى غصن منها نحو عشرين مترا، ولها ثمر كالجوز الهندى بداخله مادة بيضاء مغطاة مثل: حب الفول اليابس، وطعم تلك المادة مثل الليمون يضعونه على الطبيخ، وجوف ذلك النوع من الشجر خال وفارغ، حتى أن أهل تلك الجهات يخزنون فيه ماء المطر كالصهريج، ويبيعونه على الجلابة وقت مرورهم، وكيفية ذلك أن يفتحوا فتحة فى جسم الشجرة فى ارتفاع نحو تسعة أمتار، بحيث يصعدون إليها بسلم ويملؤنها بالدلو من المياه المجتمعة من المطر فى برك صغيرة، تسمى عندهم فولات أو فول، ويسمونها مخزن الماء، واذا تعدى أحدهم على شجرة غيره، قام عليه صاحبها وقاتله.
والطريق من الجهة الغربية لوادى الملك إلى أم بادر أحسن من طريق عين حامد إلى أم بادر، فإذا قامت القافلة من أم بادر وأرادت سلوك الطريق الأخرى التى لسنا بصددها مرت بطريق بئر الكرنك، وإذا أرادت سلوك الطريق التى نحن بصددها مرت بطريق (أم شنقة) وهى طريق واضحة يمكن سلوكها بلا خبير، لولا ما يتخللها من طرق أخرى موصلة إلى بلاد وآبار يخشى الضلال فيها، وفى تلك الطريق أشجار ذات شوك لكنها قليلة، يمكن التحفظ منها فتبيت على غير ماء، ثم تسير إلى ناحية (أم فوجة) وهى بلدة تابعة لحكمدارية فاشر دارفور تحت جبل فوجة، وأهلها عرب قبائل مختلفة، وبعضهم من أهالى دارفور، ومساكنهم زرابى من أغصان الأشجار، وسقوفها من الخشب والحشيش بعضها على شكل الخيمة وتسمى:(تكل)، وبعضها مسقف على قوائم فى الزوايا الأربعة وتسمى:(ركوبة)، وبعضها مستطيل وسقفه على هيئة ظهر الثور وتسمى:(ظهر الثور) وعندهم كثير من الإبل، والبقر، والغنم، والخيل، والحمير، والدجاج البلدى، ويزرعون على المطر الدخن والذرة الصيفية وقليلا من القطن، والبامية، وآبارها تمتلئ من ماء المطر، وتجف فى فصل الصيف فيحفرونها حتى ينبع منها الماء، فالماء بها موجود صيفا وشتاء؛ ولذلك نقل إليها ديوان المديرية بعد أن كان من ناحية أم شنقة؛ لأن آبارها قليلة العمق
نحو خمسة أمتار بخلاف آبار أم شنقة، فإنها عميقة تبلغ نحو خمسين مترا وتجف فى فصل الصيف، وديوان المديرية فى شمال الآبار وهو كأبنية البلد، وكذلك مساكن المستخدمين، وقد انتقلت إليها التجار من ناحية أم شنقة، فتباع فيها الأشياء اللازمة للمؤنة وغيرها مما تجلبه الجلابة، ويتعاملون بجميع النقود ما عدا العملة النحاس والريال، والذى يقال له ريال بطيرة وهم يقولون له:
ريال بنقطة، وقيمته عندهم خمسة وعشرون قرشا ميرية، وقيمة الريال الشنكو ثلاثة وعشرون قرشا، والمجيدى واحد وعشرون قرشا، وهذا تعامل المستخدمين والتجار، وأما تعامل الأهالى بعضهم مع بعض فهو جار بنوع الثوب.
الطربنة، وهو ثوب من البفتة السمراء طوله نحو ستة وعشرين ذراعا بالذراع البلدى وعرضه ذراع الأثمن، وثمن الثوب فراديتان والفرادية ثلاثة فرينات، والفرينة ست طرقات، ثم تسير فى طريق واضح، وأرض قابلة للزرع، وفيها شجر قليل، ومنه شجر الحمر، وشجر اللبان والقفل، وهى طريق مأمونة لا يوجد فيها إلا الغزال فتبيت على غير ماء، ثم تسير وتحط على آبار الطليح، وهى أكثر من أربعين بئرا والتى فيها الماء منها ست عشرة بئرا، وعمقها نحو اثنى عشر مترا، وموقعها فى أرض منخفضة فى شرقى جبال السروح بنحو ثمانية آلاف متر، وماؤها عذب، والهواء فى تلك الجهة معتدل، وهناك عرب قاطنون صيفا وشتاء ويزرعون على المطر الدخن والذرة والقطن والبامية، والناتج من قطن جميع تلك الجهات غير كاف لملابسهم، ويغزله النساء، وتنسج منه مقاطع أطولها ستة وعشرون ذراعا، طول الذراع تسعة وخمسون سنتيمتر، والمقطع يسمى عندهم ضمورا، وهو على ثلاث درجات بحسب صنعته، ويسميه أهل دنقلة مقطع جوبرى، ويباع فى جهة دارفور بثوب طربنة، أو ثوب ونصف، أو ثوبين، وكل ثوبين من الطربنة بريال شنكو واحد.
وفقراء تلك الجهة عرايا الأجساد، وإنما تستر نساؤهم بالرهط، ولا يستر جميع جسده إلا الأغنياء رجالا ونساء، وعند عرب الطليح البقر والخيل
والحمير، وقليل من الإبل، وعندهم الدجاج البلدى، ويصطاد من تلك الجهات دجاج الغيط الوحشى، ولحمه أحسن من لحم الدجاج البلدى، والواحدة منه قدر اثنتين من الدجاج البلدى، ثم تسير وتبيت على غير ماء، ثم تسير وتحط على آبار شنقة، وهى آبار فى واد قبلى شنقة، تنيف على المائة، ويمتلئ جميعها من المطر أيام نزوله وأكثرها يجف فى فصل الصيف، ويختلف عمقها/من سبعة وثلاثين مترا إلى خمسة وسبعين مترا، وماؤها مر وقليل، وفيه عفونة بسبب جيرية أرضه المتلبسة بالرمل، ويقال إن أول بئر عملت فى أم شنقة هى البئر التى عمقها خمسة وسبعون مترا، وهى مبنية بالحجر فوق سطح الأرض بقدر عشرة أمتار، وتحت ذلك فى الأرض بناء من الآجر بقدر ثمانية أمتار، وما بقى إلى آخر قعرها لا بناء فيه؛ بل هو من أصل أرضها.
الكلام على قرية أم شنقة
وأم شنقة بلدة عامرة فى شمال تلك الآبار، مساكنها كمساكن فوجة، وتجدد فيها الآن أبنية من الحجر على دور واحد، وقد أحدثت الحكمدارية جبخانة بينها وبين الوادى، وهى مجمع التجار الذاهبين من مصر إلى دارفور ومن دارفور إلى كردفان وبالعكس، ولها سوق كل يوم أربعاء، تنصب فيه خيام صغيرة كعادة الأسواق، يباع فيه القماش المصرى وغيره والعقاقير، وأنواع الحبوب والتمر، والتمر الهندى، والنطرون والخرز، وحلقان الصفيح الأصفر، ونحو ذلك، ويوجد فيه الأرز والصابون والسكر الأبيض والأحمر، ونحو ذلك مما يجلب من مصر، ويباع فيه البوزة والعرقى وثمر الحمر، والملاح والشرموط، والفلفل الشطيطة، والكول وسروج الحمير والفراوى، وريش النعام والطواجن، والكنابيش والأزيار والأباريق، والبامية والبصل والبطيخ، وأكثر أهل هذا السوق كغيره من أسواق تلك الجهات النساء، وهن تجار أغلب تلك البضائع، ثم تسير فى طريق واضح، عن يمينه ويساره أشجار قليلة من السلم بكسر فسكون، وهو غير السلم بفتحتين، والقفل وأشجار اللبان، فتحط عند
بئرين فى الشمال الشرقى لجبل الحلة بالقرب منه، ماؤهما عذب، وعمقهما نحو خمسة وستين مترا، وهو جبل مرتفع، يرى من مسيرة ثلاثة أيام.
والحلة بلدة تحت سفحه من الشمال الغربى لذلك الجبل، وهى مركز ناظر القسم، ثم تسير فى طريق واضح، وأشجار مثل ما تقدم، فتحط عند بئر مسرة فى جنوب جبل مسرة، وهى بئر عذبة الماء عمقها نحو أربعين مترا، ومسرة حلة بقرب البئر مساكنها كمساكن فوجة، وكذا مزروعاتها إلا أن أهلها ينتقلون مع الأمطار، ثم تسير من حلة مسرة، فتمر بعد نحو خمس ساعات ببئر تاسومة عند جبل تاسومة، ثم تبيت على غير ماء، ثم تسير فى طريق واضح، فتمر بعد نحو خمس ساعات على آبار أم غالى، وهى خمس وثلاثون بئرا عمقها من سبعة أمتار إلى ثمانية، وعندها يوجد الحمام البرى، ثم تبيت على آبار ناحية أرقد، وهى أربعون بئرا عذبة الماء فى وادى أرقد عمقها من ثمانية أمتار إلى تسعة.
وأرقد بلد بها ناظر القسم، ومساكنها وأهلها مثل ناحية فوجة وترد عليها قافلة هذا الطريق، والطريق الآخر، ثم تسير فتبيت على غير ماء ثم تسير فتحط فى فاشر دارفور مركز الحكمدارية.
الكلام على فاشر دارفور
والفاشر قصبة بلاد دارفور ومركز حكمداريتها، مساكنها وسقوفها مثل مساكن فوجة (فى التكلات والركوبات وظهر الثور). وفيها أبنية من الطوب مسقفة بالأفلاق، وهى للأكابر كعائلة السلطان، وفيها ديوان المديرية والضبطية، وعملت فيها استحكامات خفيفة من الأتربة على هيئة بالنقة رباعية بأسطوانات، وبدائرها خندق صغير، وبداخل الاستحكامات قشلاقات للعساكر المقيمين بها، وهما أورطتان من البيادة والطوبجية السواحل القلاعية وفى جنوب الاستحكامات بيت الجباية، وهو بيت السلطان إبراهيم، عبارة عن
أربعة حيشان متسعة متوالية فى أحدها جملة أود متلاصقة مبنية بالآجر واللبن على دور واحد، ومسقفة بخشب النخل، ويحيط بتلك الحيشان سور مربع الشكل تقريبا، مبنى من الطوب فى ارتفاع ستة أمتار، وبجوار محل الحكمدارية عملت طبخانة، وصمم على عمل مبان أخر للمستخدمين وما يلزم للمديرية، وفيها سوق دائم فيه خيام صغيرة، كخيام أسواق ريف مصر يباع فيه ما يجلب من مصر وخلافها، كالعطارة والثياب، وما يحتاج إليه الحاضر والمسافر، وفى جنوب هذا السوق سوق آخر تباع فيه الحيوانات واللحم وقليل من السمن، ويباع فيه الدخن والبامية، والقطن والنطرون، والملاح والبطيخ والكول والحمر، والكبيجات والأزيار، والأبراش والأطباق، والحطب والشطيطة، والتمر الذى يجلب من بلاد دنقلة، وثمر القظيم، وتمر الطبند، والودك، وقليل جدا من عسل النحل يجلب من جبال مورو من مركز دارفور ويباع فيه البصل والبامية والبوزة والعرقى، والعملة عندهم مثل ناحية فوجة وأم شنقة، وكذا مزروعاتهم، وقد زرع هناك بعض الضباط المصريين نوع الفجل والملوخية، فلم يصلح منهما إلا القليل جدا؛ بسبب قلة الماء هناك، ويوجد فيها تجار من الأروام، يأتون من جهة كردفان أو الخرطوم أو مصر يبيعون بها الملبوسات الإفرنجية والمفروشات وكثيرا مما يباع بالقاهرة، وتأتى تجار من الشوام يبيعون فيها بعض بضائع الشام، وكلا الفريقين يقيمون بزرابى من الحطب بداخلها مخازن مبنية بالطوف ومسقفة بخشب النخل، وأهل البلد يبيعون عليهم ريش النعام والخروس الذهب يجلبونها من بلاد وارى، وهى/ بلاد أخصب من دارفور، وأما الطريق الأخرى من دنقلة العجوز وإلى دارفور، وهى الطريق المعتادة لسير القوافل، فهى أسهل من هذه التى وصفناها، وأوضح منها، ومعلمة بالجبال التى ترى من مسافات بعيدة، وليس بها أشجار تضر بالقافلة، ولا حيوانات مفترسة، ومواردها التى تستقى منها القافلة هى موارد الطريق الأخرى بعينها، والخبراء جميعا لهم خبرة تامة بالطريقين، ووادى
الملك واضح معروف عندهم، وامتداده من آبار السطير إلى محاذاة أم بادر، وأجرة الجمل من دنقلة العجوز إلى فاشر ثلاثة جنيهات مصرية، ويحمل الجمل فى كل من الطريقين أربعة قناطير، وجمل الركوب يحمل الراكب وزاده من مأكول ومشروب، وحمل الجمل من الماء خاصة خمسة قناطير بسبب فراغه، وعدم استمراره، ويلزم صاحب الجمل أن يحضر ثمانية أرطال من الليف؛ لربط المهمات، وأجرة الخبير الواحد أربعة جنيهات مصرية ونصف جنيه.
(وادى هبيب)
بهاء وموحدتين بينهما مثناة تحتية ساكنة بصيغة التصغير قال فى القاموس: هبيب كزبير بن معقل صحابى، وينسب إليه وادى هبيب بطريق الإسكندرية. انتهى.
وفى بعض العبارات أن وادى هبيب واقع فى غربى ريف مصر، نزل به هبيب بن معقل أحد عرب فزارة، من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم، شهد فتح مكة المشرفة، ثم هاجر منها إلى تلك البيداء المصرية، فسماها الإسلام به وقت إيقاد نيران الفتنة، والقيام على عثمان بن عفان رضي الله عنه.
وفى تاريخ بطاركة الإسكندرية أن تلك البيداء كانت قديما قبل اليونان تسمى شهيت أو شبيت، وهما كلمتان قبطيتان كانت تسمى بهما صحراء سيتة، المسماة فيما بعد عند قدماء اليونان ستيس أو طيطيس أو سيتاقا أو سيتوم، وجميع هذه الأسماء مأخوذة من اسم شهيت أو شبيت المصرى الأصلى، وهذه الأسماء تطلق على ما يعم جميع الصحراء، وتطلق بإطلاق خاص على جبل مارى مقير (مقار) أو على نفس ديره، وكان يسمى هذا الجبل فى بعض الكتب جبل الله المقدس، وكان رئيس ديره يتوجه آخر كل سنة من المواسم الكبيرة إلى الإسكندرية لزيارة البطرك، وكان له ثلاث صوامع يتعبد فيها. إحداها بقرب الصحراء الكبرى، والثانية فى منتصف شهيت، والثالثة بقرب محل السكن.
وذكر بعض من ترجم مقار المذكور أن سكنه كان بصحراء متسعة بينه وبين دير النطرون يوم وليلة، وكان الذهاب إليه خطرا جدا؛ لأن المسافر إليه كان إذا ضل عن طريقه ولو قليلا تاه فى واسع تلك الفيافى، وكان قريبا من بركة إيلوس التى بنيت بجوارها الكنائس النصرانية القديمة، وتشاهد نحوها العيون النابعة، وهى بعينها بركة شبيت المذكورة فى بعض مؤلفات سلف الأقباط.
وكان سكان ليبيا (برقة) ورعاة ضواحى جبل نطريه (وادى النطرون) يذهبون إليها كل سنة؛ لتسريح مواشيهم فى الكلأ الذى حول البركة، وكانت هذه الصحراء تسمى أيضا جبل الملح الذى سماه بعضهم جبل النطرون. قال سيراببون: إن مارى مقار طلب من أبيه الإذن بالتوجه إلى جبل النطرون بالشغالة والجمال مع من لهم عادة بالذهاب لاستخراج النطرون من ذلك المحل، وفى تلك الأيام كان بقرب صحراء شهيت قرى كثيرة عامرة بالناس، وكانوا يذهبون إليها لاستخراج النطرون، وكانوا على قلب رجل واحد ويدافع بعضهم عن بعض العرب القاطنين خلف الجبل الذين من عادتهم السلب والنهب من على شاطئ النيل وما حوله من البلاد، ففى ذات يوم أن وصل مقار وأصحابه إلى الجبل أخذهم النوم، فرأى فى منامه إنسانا يقول له: قم وانظر حول هذه الصحراء والصخرة الموجودة بوسطها، فنظر، فلم ير غير مبدأ هذه البحيرة الواقعة بحرى الوادى، والجبل المحيط بها فسمعه يقول: إن جميع هذه الأرض لك تسكنها، فانتبه من نومه، وبعد ثلاثة أيام فارق الجبل، ورجع إلى بيته، وبعد قليل جعل إقامته فى هذه الصحراء، وطاف بجميع جهاتها واختار لنفسه مسكنا بالقرب من بحيرة النطرون، ليكون قريبا من الماء، وجعل مسكنه نقرا فى الحجر، ثم بعد أيام فارق هذا المسكن؛ بسبب القرب من العسكر المحافظين على استخراج النطرون؛ وجعل مسكنه فى رأس صخرة قبلى البحيرة تحت العين وفوق الوادى، وحفر بقرب ذلك المحل بئرا سميت فيما بعد بئر مارى مقار؛ بسبب أنه ألقى فيها، وقيل: إنه حفر أيضا بالصحراء
جملة آبار مع الرهبان ويقال إن الماء بهذه الصحراء قليل، وما يوجد منه له رائحة كريهة تشبه رائحة القار، ووادى النطرون هذا هو غير جبل نطرية، أى وادى النطرون الحقيقى. انتهى.
وقال المقريزى: إن وادى هبيب بالجانب الغربى من أرض مصر فيما بين مريوط والفيوم يجلب منه الملح والنطرون، عرف بهبيب بن معقل بن الواقعة بن حزام بن عفان الغفارى أحد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم شهد فتح مكة وروى عنه أبو تميم الجيشانى، وأسلم مولى نجيب، وسعيد بن عبد الرحمن/ الغفارى وكان قد اعتزل عند فتنة عثمان رضي الله عنه بهذا الوادى فعرف به، وكان لا يفرق بين قضاء دين رمضان، ويجمع بين الصلاتين فى السفر، ويقال لهذا الوادى أيضا وادى الملوك ووادى النطرون. وبرية شيهاب (شيهات) وبربة الأسقيط وميزان القلوب، وكان به مائة دير للنصارى وبقى به سبعة ديور. قال:
وذكرت عند ذكر الأديار من هذا الكتاب، وهو واد كثير الفوائد فيه النطرون، ويتحصل منه مال كثير، وفيه الملح الأندرانى والملح السلطانى (النطرون الأحمر) وهو على هيئة ألواح الرخام، وفيه الوكت (التوتيا)، والكحل الأسود، ومعمل الزجاج، وفيه الماسكة وهو طين أصفر فى داخل حجر أسود يحك فى الماء، ويشرب لوجع المعدة، وفيه البردى أى السمار لعمل الحصر، وفيه عين الغراب، وهو ماء فى هيئة البركة، وطولها نحو خمسة عشر ذراعا فى عرض خمسة أذرع فى غار بالجبل، لا يعلم من أين يأتى ولا إلى أين يذهب؟ وهو حلو رائق، ويذكر أنه خرج من هناك سبعون ألف راهب، بيد كل واحد عكاز، فتلقوا عمرو بن العاص بالطرانة مرجعه من الإسكندرية، يطلبون منه الأمان على أنفسهم وأديارهم، فكتب لهم بذلك أمانا بقى عندهم، وكتب لهم أيضا بجراية الوجه البحرى، فاستمرت بأيديهم، وأن جرايتهم جاءت فى سنة زيادة على خمسة آلاف أردب، وهى الآن لا تبلغ مائة أردب.
مطلب ديور وادى هبيب
وقال عند تكلمه على الديور ما نصه:
وأما وادى هبيب وهو وادى النطرون، ويعرف ببرية شيهات وببرية الأسقيط وبميزان القلوب، فإنه كان به فى القديم مائة دير، ثم صارت سبعة ممتدة غربا على جانب البرية القاطعة بين بلاد البحيرة والفيوم، وهى فى رمال منقطعة، وسباخ مالحة، وبرارى منقطعة معطشة، وقفار مهلكة، وشراب أهلها من حفائر، وتحمل النصارى إليهم النذور والقرابين، وقد تلاشت فى هذا الوقت بعد ما ذكر مؤرخو النصارى أنه خرج إلى عمرو بن العاص من هذه الأديرة سبعون ألف راهب، بيد كل واحد عكاز، فسلموا عليه، وأنه كتب لهم كتابا هو عندهم. فمنها دير أبى مقار الكبير، وهو دير جليل عندهم، وبخارجه ديور كثيرة خربت، وكان دير النساك فى القديم، ولا يصح عندهم بطركية البطرك؛ حتى يجلسوه فى هذا الدير بعد جلوسه بكرسى الإسكندرية، ويذكر أنه كان فيه من الرهبان ألف وخمسمائة راهب لا يزالون مقيمين به، وليس به الآن إلا قليل منهم، والمقارات ثلاثة أكبرهم صاحب هذا الدير، ثم أبو مقار الإسكندرانى، ثم أبو مقار الأسقف، وهؤلاء الثلاثة قد وضعت رممهم فى ثلاثة أنابيب من خشب، وتزورها النصارى بهذا الدير، وبه أيضا الكتاب الذى كتبه عمرو بن العاص لرهبان وادى هبيب، بجراية نواحى الوجه البحرى على ما أخبرنى من أخبر برؤيته فيه.
وأبو مقار الأكير هو مقاريوس، أخذ الرهبانية عن أنطونيوس، وهو أول من لبس عندهم القلنسوة والإشتكيم، وهو سير من جلد فيه صليب، يتوشح به الرهبان فقط، ولقى أنطونيوس بالجبل الشرقى حيث دير العزبة، وأقام عنده مدة، ثم ألبسه لباس الرهبانية، وأمره بالمسير إلى وادى النطرون ليقيم هناك ففعل ذلك. واجتمع عنده الرهبان الكثيرة العدد، وله عندهم فضائل عديدة منها أنه كان لا يصوم الأربعين إلا طاويا فى جميعها، لا يتناول غذاء ولا شرابا
البتة مع قيام ليلها، وكان يعمل الخوص، ويتقوت منه وما أكل خبزا طريا قط؛ بل يأخذ القراقيش فيبلها فى نقاعة الخوص ويتناول منها هو ورهبان الدير ما يمسك الرمق من غير زيادة، هذا قوتهم مدة حياتهم، حتى مضوا لسبيلهم، وأما أبو مقار الإسكندرانى، فإنه ساح من الإسكندرية إلى مقاريوس المذكور، وترهب على يديه، ثم كان أبو مقار الثالث وصار أسقفا. انتهى.
وقال كترمير: إنه فى زمن بنيامين بطرك الإسكندرية توجهت رهبان أبى مقار إليه وترجوه فى حضوره إلى ديرهم؛ لأجل أن يحضر افتتاح الكنيسة التى بنوها باسم أبى مقار، بقرب مساكن الرهبان فى أسفل الجبل؛ لتسهيل أمر العبادة على الشيوخ. انتهى.
قال المقريزى: ومنها دير أبى بخنس القصير يقال إنه عمر فى أيام قسطنطين بن هيلانة. ولأبى بخنس هذا فضائل مذكورة، وهو من أجل الرهبان، وكان لهذا الدير حالات شهيرة، وبه طوائف من الرهبان، ولم يبق به الآن إلا ثلاثة رهبان، ودير إلياس عليه السلام وهو دير للحبشة، وقد خرب دير بخنس كما خرب دير إلياس، أكلت الأرضة أخشابهما فسقطا، وصار الحبشة إلى دير سيدة بخنس القصير، وهو دير لطيف بجوار دير بخنس القصير، وبالقرب من هذه الأديار دير أنبانوب، وقد خرب هذا الدير أيضا، وأنبانوب هذا من أهل سمنود قتل فى الإسلام ووضع جسده ببيت فى سمنود، ودير الأرمن قريب من هذه الأديرة وقد خرب، وبجوارها أيضا دير بوبشاى، وهو دير عظيم عندهم من أجل أن بوبشاى هذا كان من الرهبان الذين فى طبقة مقاريوس وبخنس القصير 50 وهو دير كبير جدا، ودير بإزاء دير بوبشاى كان بيد اليعاقبة، ثم/ملكته رهبان السريان من نحو ثلثمائة سنة، وهو بيدهم الآن ومواضع هذه الأديار يقال لها بركة الأديرة ودير سيدة برموس على اسم السيدة مريم، فيه بعض رهبان وبإزائه دير موسى، ويقال أبو موسى الأسود ويقال برموس وهذا الدير لسيدة برموس، وبرموس اسم الدير، وله قصة حاصلها أن مكسيموس ودوماديوس كانا ولدى
ملك الروم، وكان لهما معلم يقال له أرسانيون فسار المعلم من بلاد الروم إلى أرض مصر وعبر برية شيهات هذه، وترهب وأقام بها حتى مات، وكان فاضلا، وأتاه فى حياته ابنا الملك المذكوران وترهبا على يديه، فلما مات بعث أبوهما فبنى على اسمهما كنيسة برموس، وأبو موسى الأسود، كان لصا فاتكا قتل مائة نفس، ثم أنه تنصر وترهب، وصنف عدة كتب، وكان ممن يطوى الأربعين فى صومه وهو بربرى. انتهى.
وفى تاريخ بطارقة الإسكندرية، أنه كان بقرب دير البرموس كنيسة باسم أزيدور، وحقق كترمير إن البرموس اسم لجبل حجر النسر وموقعه بين صحراء سيتة وجبل النطرون، ودير بوبشاى الذى مر ذكره قد عمره بنيامين بطرك اليعاقبة، وعمر أيضا دير سيدة بوبشاى، على ما ذكره المقريزى عند الكلام على دخول قبط مصر فى دين النصرانية، وقال: إن بنيامين أقام فى البطركية تسعا وثلاثين سنة ملك الفرس منها عشر سنين، ثم قدم هرقل فقتل الفرس بمصر.
مطلب كيفية دخول الفرس
وكيفية دخول الفرس هذه الديار فى هذه المرة على ما ذكره المقريزى: هى أنه فى أيام (قوقا) ملك الروم بعث كسرى ملك فارس جيوشه إلى بلاد الشام ومصر، فخربوا كنائس القدس وفلسطين وعامة بلاد الشام، وقتلوا النصارى بأجمعهم وأتوا إلى مصر فى طلبهم، فقتلوا منهم أمة كبيرة، وسبوا منهم سبيالا يدخل تحت حصر، وساعدهم اليهود على محاربة النصارى، وتخريب كنائسهم، وأقبلوا نحو الفرس من طبرية وجبل الجليل وقرية الناصرية ومدينة صور وبلاد الفرس، فنالوا من النصارى كل منال وأعظموا النكاية فيهم، وخربوا لهم كنيستين بالقدس، وحرقوا أماكنهم، وأخذوا قطعة من عود الصليب، وأسروا بطرك القدس، وكثيرا من أصحابه، ثم مضى كسرى بنفسه من العراق لغزو قسطنطينية تخت ملك الروم فحاصرها أربع عشرة سنة وفى أيام (قوقا) أقيم يوحنا بطرك الإسكندرية على الملكية فدبر أرض مصر كلها عشر سنين.
ومات بقبرس فارا من الفرس فخلا كرسى الإسكندرية من البطريكية سبع سنين لخلو أرض مصر والشام من الروم، واختفى من بها من النصارى خوفا من الفرس.
وقدم اليعاقبة نسطاسيوس بطركا فأقام ثنتى عشرة سنة ومات فى ثانى عشر كيهك سنة 330 لدقلطيانوس، فاسترد ما كانت الملكية قد استولت عليه من كنائس اليعاقبة، ورم ما شعثه الفرس منها، وكانت إقامته بمدينة الإسكندرية، فأرسل إليه أبناسيوس بطرك أنطاكية هدية، صحبة عدة كثيرة من الأساقفة، ثم قدم عليه زائرا فتلقاه وسر بقدومه، وصارت أرض مصر فى أيامه جميعها يعاقبة لخلوها من الروم، فصارت اليهود فى أثناء ذلك بمدينة صور، وأرسلوا بقيتهم فى بلادهم وتواعدوا على الإيقاع بالنصارى وقتلهم، فكانت بينهم حرب اجتمع فيها من اليهود نحو عشرين ألفا، وهدموا كنائس النصارى خارج صور.
فقوى النصارى عليهم وكاثروهم فانهزم اليهود هزيمة قبيحة وقتل منهم خلق كثير، وكان هرقل قد ملك الروم بقسطنطينية وغلب الفرس بحيلة دبرها على كسرى حتى رحل عنهم، ثم سار من قسطنطينية ليمهد ممالك الشام ومصر، وجدد ما خربه الفرس منها فخرج إليه اليهود من طبرية وغيرها، وقدموا له الهدايا الجليلة، وطلبوا منه أن يؤمنهم ويحلف لهم على ذلك، فأمنهم وحلف لهم، ثم دخل القدس وقد تلقاه النصارى بالأناجيل والصلبان والبخور والشموع المشتعلة، فوجد المدينة وكنائسها وقمامتها خرابا فساءه ذلك وتوجع له، وأعلمه النصارى بما كان من ثورة اليهود مع الفرس، وإيقاعهم بالنصارى، وتخريبهم الكنائس، وأنهم كانوا أشد نكاية لهم من الفرس وقاموا قياما كبيرا فى قتلهم عن آخرهم، وحثوا هرقل على الوقيعة بهم وحسنوا له ذلك، فاحتج بما كان من تأمينه لهم وحلفه فأفتاه رهبانهم وبطاركتهم وقسيسوهم بأنه لا حرج عليه فى قتلهم، فإنهم عملوا عليه حيلة حتى أمنهم من غير أن يعلم بما كان
منهم، وأنهم يقومون عنه بكفارة يمينه، بأن يلتزموا ويلزموا النصارى بصوم جمعة فى كل سنة عنه على ممر الزمان والدهور، فمال إلى قولهم، وأوقع اليهود وقعة شنيعة، فأبادهم جميعهم فيها حتى لم يبق فى ممالك الروم وبمصر والشام منهم إلا من فرواستتر.
فكتب البطاركة والأساقفة إلى جميع البلاد بإلزام النصارى بصوم أسبوع فى السنة، فالتزموا صومه إلى اليوم. وعرفت عندهم بجمعة هرقل. وتقدم هرقل بعمارة الكنائس والديور، وأنفق فيها مالا كثيرا، وفى أيامه أقيم أدراسلون بطرك اليعاقبة بالإسكندرية فأقام ست سنين، ومات فى ثامن طوبة فخربت الديور/ وأقيم بعده على اليعاقبة بنيامين المار ذكره.
وأما جبل (برماوس) ويقال براموس الذى كان فيه رهبان الأروام كما يفهم من كلمة برماوس اليونانية، فليس إلا جبل أحجار النسر الذى بين صحراء شيهات وجبل وادى النطرون، وكان به دير عظيم أقام فيه بعض الرومان للترهب، وكان للرومان فيه كنيسة عظيمة بنوها بعد ذلك الدير، على صخور بقرب البركة فى غربى العين العذبة، والظاهر أنه كان بجوارها المحل المسمى:(بتره)، وكان يسكنه أبو موسى الأسود، وكان خلف صحراء سيتة محل يسمى كليمان (السلم)، ولم يكن عامرا كغيره لبعده عن الماء بثمانية عشر ميلا، ومحل يسمى [بيشاف أنتنيرى] ومعناها صحراء الصوامع، وكانت بعيدة عن صحراء سيتة وسماه بعضهم (كليا)، وكان محله على الطريق الموصلة لداخل الصحراء بعيدا من جبل النطرون بعشرة أميال أو ستين غلوة، وكانت صوامع العبادة فيه كثيرة متباعدا بعضها عن بعض، وكان بهذه الصحراء كنيستان إحداهما لأهل المذهب العام من النصارى، والأخرى لأهل الاعتزال. وفى خطط المقريزى أيضا عند ذكر دخول النصارى من قبط مصر تحت طاعة المسلمين، أنه لما كانت الفتنة بين الأمين والمأمون انتهبت النصارى بالإسكندرية، وأحرقت لهم مواضع عديدة، وأحرقت ديور وادى
هبيب، ونهبت. فلم يبق بها من رهبانها إلا نفر قليل وفى أيامه مضى بطرك الملكية إلى بغداد، وعالج بعض خطايا الخليفة، فإنه كان حاذقا بالطب، فلما عوفيت كتب له برد كنائس الملكية التى تغلب عليها اليعاقبة فاستردها منهم، وسبب هذا التغلب أنه لما ملك زبنون لاون الروم أكرم اليعقوبية وأعزهم؛ لأنه كان يعقويبا، وكان يحمل إلى دير يوقنا كل سنة ما يحتاج إليه من القمح والزيت، وفى ذاك الوقت كان شاورس على كرسى البطركية، وكان ملكيا فهرب إلى وادى هبيب ورجع طيماتاوس من نفيه، فأقام بطركا سنتين، وفى زمن نسطايوس ألزم الحنفاء أهل حران وهم الصابئة بالتنصر، فتنصر كثير منهم، وقتل أكثرهم على امتناعهم من دين النصرانية، ورد جميع ما نفاه نسطاوس سلفه من الملكية فإنه كان ملكيا، وأقيم طيماتاوس فى بطريكية الإسكندرية، وكان يعقويبا، فأقام ثلاث سنين، ونفى، وأقيم بدلة أبوليناديوس، وكان ملكيا فجد فى رجوع النصارى بأجمعهم إلى رأى الملكية، وبذل جهده فى ذلك ووافقه رهبان ديور بومقار بوادى هبيب، وأمر الملك جميع الأساقفة بعمل الميلاد فى الخامس والعشرين من كانون الأول، وبعمل الغطاس لست تخلو من كانون الثانى، وكان كثير منهم يعمل الميلاد، والغطاس فى يوم واحد، وهو سادس كانون الثانى، وفى هذه الأيام ظهر يوحنا النحوى بالإسكندرية، وزعم أن الأب والابن وروح القدس ثلاثة آلهة، وثلاث طبائع وجوهر واحد، وظهر يوليان وزعم أن جسد المسيح نزل من السماء، وأنه لطيف روحانى لا يقبل الآلام إلا عند اقتراف الخطيئة والمسيح لم يقترف خطيئة، فلذلك لم يصلب حقيقة ولم يتألم، ولم يمت، وإنما ذلك كله خيال، فأمر الملك البطريك طيماتاوس أن يرجع إلى مذهب الملكية فلم يفعل فأمر بقتله، ثم شفع فيه، وبقى واستمر أمر الكنيسة على الاضطراب إلى أن ملك الروم بوسطيانوس فبلغه أن اليعقوبية قد تغلبوا على الإسكندرية ومصر، وأنهم لا يقبلون بطاركته، فبعث أحد قوّاده وضم إليه عسكرا كثيرا إلى الإسكندرية،
فلما وصل إليها ودخل الكنيسة نزع عنه ثياب الجند، ولبس ثياب البطاركة وقدّس فهمّ ذلك الجمع برجمه، فانصرف وجمع عسكره، وأظهر أنه قد أتاه كتاب الملك ليقرأه على الناس، وضرب الجرس فى الإسكندرية يوم الأحد فاجتمع الناس إلى الكنيسة، حتى لم يبق أحد فطلع المنبر، وقال: يا أهل الإسكندرية إن تركتم مقالة اليعقوبية وإلا أخاف أن يرسل الملك، فيقتلكم ويستبيح أموالكم وحريمكم، فهموا برجمه، فأشار إلى الجند فوضعوا السيف فيهم فقتل من الناس ما لا يحصى حتى خاض الجند فى الدماء، وقيل: إن الذى قتل يومئذ مائتا ألف وفر منهم خلق إلى الديور بوادى هبيب وأخذ الملكية كنائس اليعاقبة، ومن يومئذ صار كرسى اليعقوبية بدير بومقار فى وادى هبيب. انتهى.
وكان فى بعد عن هذا المحل بيداء رحبة تسمى (فرفيريون) أو قلموس، وحكى بعضهم أنها كانت بعيدة من الأماكن المعمورة بنحو مسيرة ثمانية أيام أو سبعة، وتوهم بعضهم أن هذا المحل هو المسمى (بتره) وشك فى ذلك كترمير؛ لعدم الدليل القاطع، وهو غير وادى قلمون الذى كان ينسب لإقليم أرسنويه أى: الفيوم وآثاره باقية إلى الآن واسمه لم يتغير، وهو فى طريق الفيوم بسفح جبل قلمون المسمى أيضا بجبل الغريق، وهو باسم الراهب شمويل، وكان ينتج بنواحيه مقدار كبير من الثمر، فيصنع عجوة، ونوع من النبق المغربى لم يكن بالجهات المصرية، ثمرة فى حجم الليمون وطعمه كحلاوة الجوز الهندى، ينتفع به فى أمور كثيرة.
وحكى أبو حنيفة فى تاريخه فى النباتات، أن ذلك الشجر كان لا ينبت إلا بجوار أنصنا وإن خشبه كان/يستعمل فى السفن، وأن قيمة اللوح الواحد منه خمسون دينارا، وأن من ينشر شجرة يعتريه الرعاف، وإذا ربط من ألواحه لوحان وتركا فى الماء سنة تلاحما وصارا لوحا واحدا. أ. هـ
مطلب دير قلمون
أقول وهذا إنما هو فى اللبخ، وسبق الكلام عليه فى أنصنا، وفى كتب الأقباط أنه كان فى دير قلمون المذكور برجان مبنيان من الحجر على هيئة صرحين عظيمين ارتفاعهما شاهق، وبياضهما ساطع، وكان فى داخله عين جارية، وفى خارجه عين أخرى، وفى وادى قلمون عدد كثير من محال الزهاد السائحين، وفيه أيضا واد صغير يسمى:(إمليح) ترويه عين ماء عذبة فاترة، ويظلله كثير من النخيل، وبجوار (دير مارى قلمون) ملاحة تبع الرهبان، ملحها لسكان خط قلمون.
وقال أبو صلاح: كان ما يتحصل من تلك الملاحة كل سنة مائتى ألف أردب وثلاثة آلاف أردب ملحا، ومن نخله مائتى أردب من التمر. انتهى.
وكنيسة هذا الدير واسعة وهى باسم (مريم العذراء) وكان فى داخل الدير نخيل وزيتون، وكنائس وأبنية عالية مشرفة على الغيطان، ويحيط به سور مستدير، وعلى سطحه مقعد معد لجلوس خفير من الرهبان يكشف لهم خبر من يرد إلى ذلك الدير، اذا رأى أحدا مقبلا يخبرهم به بضرب ناقوس، ينوع ضرباته على حسب حال المقبل من عسكرى أو أمير أو غيرهما ليكرموه بما يليق به، وكان أيضا فى داخل دير قلمون، عين ماء ملح تجرى بلا انقطاع، وتصب فى حوض عظيم، كان يصطاد منه فى أى وقت سمك بلطى أسود اللون طيب الطعم، وفى زمن الشتاء يكون الماء قليلا بذلك الحوض، ومنه تشرب الرهبان.
وباب الدير فى غاية المتانة، مكسوّ بصفائح الحديد، وتجاه دير قلمون جبل يقال له (ريان) كان رئيس الدير يذهب إليه كثيرا. وفى حوادث سنة أربع وتسعين وثمانمائة من تاريخ شهداء النصارى، وهو تاريخ الأقباط كان بذلك الدير مائتان من الرهبان.
مطلب تخريب وادى سيتة
ثم إن سبب تخريب وادى سيتة، إنما هو كثرة إغارات العرب على ديوره ونهبها، وقتل كثير من رهبانها، وأسر جملة منهم، حتى فر من بقى منهم إلى ديور الصعيد، والبحيرة، وسكنوا الأمصار بدل البرارى، فإن العرب المعازة فى آخر القرن الرابع من الهجرة، هجموا على ديور الصحراء، وقتلوا الرهبان، ومن ضمنهم أبو موسى الأسود، ثم حصل مثل ذلك فى سنة 430 أو فى سنة 434، والأقباط يتبركون بقبور أربعين راهبا، ذبحوا فى هذه الصحراء. وفى زمن بطركية دميان حصلت الإغارة على الرهبان كذلك، وفى بطركية مرق حصلت الإغارة على وادى هبيب، وأحرقت الكنائس، وأخذ بعض الرهبان أسيرا، فتفرق باقيهم فى ديور الوجه البحرى والقبلى، وفى زمن الأب شنودة قصد البطرك التوجه إلى وادى هبيب، وعلم بذلك العرب فقاموا من الصعيد، وأغاروا على كنيسة مقار، واستولوا على الأبراج، ونهبوا كل ما بها من فرش وزاد، وفعلوا مثل ذلك فى الديور الأخرى، وفى زمن قيام بنى مدلج نهبت الديور، وقامت العرب فى الصحراء تلتقط كل من خرج من الرهبان للسقى، ولما حصل الأمن عمر البطرك دير مقار، وجعل عليه سورا متينا منيعا.
وفى زمن البطرك زكريا جعل عليه حرسا، وفى سنة اثنتين وستين وستمائة من الهجرة، سافر السلطان بيبرس البندقدارى إلى وادى هبيب للفرجة على ما فيه من الديور، فاطلع على أكثرها أو كلها، وزعم جبلنسكى أن وادى سيتة هو المسمى فى تاريخ بطاركة الإسكندرية باسم سقاطينة، وأنه كان يشتمل على اثنتين وثلاثين قرية، وأنكر ذلك كترمير وقال: إن هذا الاسم من الأسماء التى سمت بها العرب ويبعد وجود هذا القدر من القرى فى واد قد ساح فيه كثير من الإفرنج المتأخرين، مثل يرسبيرالبين وونسيلب وقبين والأب سيكار، وغيرهم ووصفه كل منهم بما لاح له، ولم يقولوا بمثل ذلك، ولو كان له صحة لذكروه.
وقد ألف الأمير أندريوسى نبذة فى وادى النطرون، ولم يذكر ذلك أيضا، وذكر بعض قدماء المؤرخين من الأقباط فى ضمن سيرة مارى مقار الإسكندرانى؛ أنه كان يجرى فى وادى سيتة نهر، ولكن لم يبين ذلك النهر، فهل أراد به سيلا كان يجرى فى بعض السنة؟، أو أراد به نهرليقوس المذكور فى سيرة مارى أطاناس؟ فإنه يفهم من كلام كثير من المؤرخين أن نهرليقوس خليج كان يتفرع من النيل، ثم يصب فى بحيرة مربوط، فلعله كان يمر بقرب وادى سيتة، وربما يؤيد ذلك أن بلديوس ذكر فى مؤلفاته، أن الراهب أمون عداه وكان يسكن الصحراء الداخلة، وأنه هو أيضا عداه فى مركب، وزعم دبويل أن نهر ليقوس هو المسمى: ببحر بلاما.
وقال سوارى وغيره من مؤلفى الإفرنج:، إن وادى بحر بلاما هو مجرى النيل القديم الذى سده منيس أول ملوك مصر، وجعل النيل يجرى فى مجراه الآن بين الجبلين، وزعم الأب سيكار أن نهر ليقوس كان بالصعيد، وهو المسمى الآن باسم:(أبى حمار). وقال كترمير: إن نهر ليقوس ليس هو بحر بلاما البتة، وإنما هو ترعة خارجة من النيل كانت تصب فى بحيرة مربوط، كما صرح به استرابون الجغرافى، ردمتها الرمال وطمى طين النيل بتعاقب الأزمنة.
وفى تواريخ/النصارى كثيرا ما يسمى جبل النطرون باسم يرنوج، وهذا الاسم يوجد أيضا فى دفتر التعداد فى مديرية البحيرة، وقال أحد مؤلفى الإفرنج: إن بين جبل النطرون ومدينة الإسكندرية أربعين ميلا وقال بلديوس:
إنه على بعد يوم ونصف بعد تعدية بحيرة مريوط، وأن بقربه صحراء عظيمة الاتساع تمتد إلى بلاد الإيتوبيا (النوبة) والمورتانى (بلاد المغرب)، وأن جبل النطرون مأخوذ من اسم قرية قريبة منه تسمى:(النطرية) أهلها يستخرجون النطرون، وأنه اجتمع فى مبدأ ظهور النصرانية فى جبل النطرون نحو خمسين ديرا فيها خمسة آلاف راهب تحت رياسة رئيس واحد، ولم يكونوا ملتزمين للسكنى فى مكان واحد، بل كانوا يتفرقون على رغبتهم، وكان بالجبل سبعة
أفران لخبز العيش لرهبان الجبل والصحراء، وكان هناك حكماء، وباعة يبيعون الفطورات وأنواع المشروبات وغيرها، وكان بالجبل كنيسة بها ثمانية قسيسين، وكان الرهبان يأتون إلى الكنيسة كل أسبوع يوم السبت والأحد، وكان بالجبل مضيفة للغرباء يقيمون بها فى الإكرام والاحترام، ولو أقاموا سنين، لكن بعد أسبوع من ابتداء الضيافة يلزمون الضيف بالأشغال. انتهى.
مطلب دير الزجاج
وكثيرا ما تكلم فى تاريخ بطاركة الإسكندرية على دير الزجاج، وأنه كان قريبا من مدينة الإسكندرية، وقد ذكره المقريزى فى خططه فقال: إن هذا الدير خارج مدينة الإسكندرية ويقال له الهنطون وهو على اسم بوجرج الكبير، وأن من شرط بطركية البطرك أن يتوجه من المعلقة بمصر إلى دير الزجاج، ثم أنهم فى هذا الزمان تركوا ذلك. انتهى.
وقال كترمير: قد ذكر فى تاريخ البطاركة أن دير بوسوير الهنطون غربى مدينة الإسكندري. أ. هـ.
وعلى هذا فدير بوسوير هو دير الزجاج المذكور، وأن الهنطون كلمة رومية معناها دير الزجاج.
وقد ذكر فى تاريخ البطارقة أيضا أن عند جبل النطرون مدينة باسم بومينا، والصحراء التى هى بها تسمى بصحراء بومينا أيضا. وقال بعض جغرافى العرب: إن المسافر من ناحية الطرانة فى طريق برقة والمغرب يصل إلى ثلاث مدن خراب فى صحراء واسعة ذات رمل كثير، والعرب تأوى إلى هذه المدن وتختفى هناك لنهب المارين، ويرى بها أبنية مرتفعة، ومحلات معقودة مسكونة ببعض الرهبان، وهناك عين ماء عذب إلا أنه قليل، ومن هناك يتوصل إلى كنيسة بومينا، وهى من أعظم الكنائس، كثيرة الزينة والتماثيل، ولا ينقطع وقود الشمع منها ليلا ونهارا، وفى نهايتها قبر كبير، وصورة جملين من الرخام
راكب عليها رجل واضع إحدى رجليه على جمل والأخرى على الآخر، وإحدى يديه مفتوحة والأخرى مضمومة، ويقال إنه تمثال بومينا، وفيها أيضا تمثال المسيح وزكريا وغيرهما على يمين الداخل، وفى مقابلة هذه التماثيل باب مقفل دائما، وفيها أيضا تمثال العذراء، مغشى بستارتين من الحرير، وكذا تماثيل بعض الأنبياء، وفى خارجها تماثيل أناس أصحاب صنائع مختلفة، وبينهم تاجر رقيق القوام بيده كيس مفتوح من أسفله، وفى وسط الكنيسة قبة تحتها ثمانية تماثيل يقال: إنها صور بعض الملائكة وبجوارها جامع محرابه نحو الجنوب، تدخله المسلمون للصلاة، والأرض التى حول الكنيسة بها كثير من شجر الفواكه، خصوصا اللوز والخرنوب، وكثير من شجر العنب، ومنه يستخرج النبيذ ويرسل إلى مصر.
وفى كل سنة يحضر من الفسطاط ألف دينار إلى الرهبان والعباد المقيمين هناك. انتهى.
مطلب الطريق من الطرانة إلى وادى النطرون
والطريق الموصلة إلى وادى النطرون خارجة من ناحية الطرانة، وهى طريق فى أرض صلبة مغطاة بالحصى والزلط المختلف اللون، وقد نسفت الرياح الرمال من هذه الأرض إلى شاطئ النيل، حتى صارت تلولا كثيرة عند ناحية بنى سلامة، وما قاربها إلى حد بعيد، وغطت مقدارا عظيما من أرض الزراعة، وبعد خروج هذه الطريق من الطرانة واستمرارها إلى جهة الغرب الشمالى نحو ساعتين تستقيم عند المحل المعروف برأس البقرة إلى الغرب الخالص، ومن هناك يهبط المسافر إلى محل متخرب يعرف بالقصر مربع الشكل، مبنى من مواد من ضمنها النطرون، وفى كل زاوية من زواياه برج، ويرى على بعد من هذا المحل ثلاثة ديور: دير البرموس وهو دير الروم، ودير الشوام، ودير أنبا
بشاى، وهذان الديران فى الجهة اليسرى، وهما متقاربان، ويتكون من القصر مع دير البرموس ودير الشوام، مثلث أن اعتبرت قاعدته الخط الذى بين القصر ودير البرموس، وطوله سبعة آلاف ومائتان وواحد وثلاثون مترا وثلاثة أرباع متر، كان البعد بين القصر ودير الشوام سبعة آلاف وأربعمائة وثلاثين مترا وثلثى متر، وبين دير الشوام ودير البرموس تسعة آلاف ومائتان وثمانية وخمسون مترا وربع متر، والطريق التى بين الديور رمال متعبة، وفى بعضها الجبس، وفى بعضها الحجر الجيرى، وبين دير البرموس ودير الشوام يوجد طباشير جيدة، واتجاه وادى النطرون يجعل بينه وبين الخط الجانبى المغناطيسى إلى جهة الغرب/أربعة وأربعين درجة.
مطلب بحائر وادى النطرون
وعدد بحائر وادى النطرون ستة فى اتجاه واحد، منها ثلاثة فى شمال القصر، وثلاثة فى جنوبه، وطولها يمتد نحو فرسخين، وعرضها يختلف من ستمائة متر إلى ثمانمائة، ويفصل بينها رمال.
والبركتان اللتان فى الجهة القبلية يعرفان باسم برك الديورة وإذا حفر فى الجروف التى تلى النيل من تلك البرك، ينبع ماء عذب، وفى الثلاثة الأشهر التى تعقب المنقلب الصيفى، تنشع الأرض، ويظهر ماؤها على وجهها إلى شهر ديسمبر الإفرنجى، ثم يأخذ فى النقص حتى يجف بعض البرك بالكلية، والأرض العالية التى لا تنشع ينبت فيها كثير من السمار الذى تعمل منه الحصر، التى تباع لعموم الناس، وتفرش فى نحو المساجد، وهو غير السمار المغراوى، فإن هذا يجلب من أماكن بعيدة عن وادى بحر بلاما بثلاثة أيام، تسير إليه العرب فى أرض معطشة خالية من الماء ويشتريه أهل منوف، ويعملون منه الحصر الجيدة التى يهادى بها الأكابر، ولا يشتريها إلا الأعيان والأغنياء، واتساع الأرض النابع منها الماء نحو ثمانية وتسعين مترا، ويتكون فى حافة الماء طبقة من النطرون عرضها واحد وثلاثون مترا، ومن تلك البرك ما
طوله سبعمائة متر، وعرضه خمسمائة، ومنها ما هو أقل من ذلك، وعمق مائها نصف متر، وفى أرض قاعها طباشير مختلطة برمل، وأما الشاطئ الثانى الذى ليس فى جهة النيل فهو خال من السمار، ومن الماء العذب، وهذا دليل على أن ماء البركة مستمد من النيل، يمر تحت الأرض، والجبل الفاصل بين الواديين، ويقوى ذلك أن ماءها يزيد وينقص، تبعا للنيل خلافا لمن قال: إن ماءها يأتى من جهة الفيوم، وباختبار تلك المياه ظهر أنها مركبة من موريات الصودا أو كربوناته، ويظهر أن كربونات الصودا تأتى مع مياه النشع، ومياه الأمطار إلى البرك المذكورة.
ولو أن ماء بعض هذه البرك فيه حمرة من مواد أخطبوطية وأول ما يتبلور عند تبخير هذه المياه ملح الطعام ويصير له هذا اللون ورائحة الورد وقال: العالم برطوليه الفرنساوى أن ملح الصودا يتحصل من تحليل ملح الطعام، بواسطة كربونات الجير الموجودة فى الأرض الرطبة الحاصل فيها التحليل، والسبب فى تكون الصودا (النطرون) فى هذه الأرض هو وجود الرطوبة فى هذه الجهات، والحجر الجيرى الذى بين وادى النطرون والنيل.
مطلب ضمان النطرون وأول من حظره وكيفية استخراجه
ثم إن النطرون كان أولا مباحا لجميع الناس، وأول من حظره وجعله فى ديوان السلطان أحمد بن محمد بن مدبر لما ولى خراج مصر، بعد سنة مائتين وخمسين هجرية، فإنه كان من دهاة الناس، وشياطين الكتاب ابتدع فى مصر بدعا، واستمرت من بعده إلى الآن. ولم يكن قبل ذلك على مصر سوى الخراج كما قاله المقريزى فى خططه قال: وقد كان الرسم فيه بالديوان أن يحمل منه كل سنة عشرة آلاف قنطار، ويعطى الضمان منها فى كل سنة قدر ثلاثين قنطارا يستلمونها من الطرانة، فتباع فى مصر بالقنطار المصرى، وفى بحر الشرق والصعيد بالجروى، وفى دمياط بالليثى. قال القاضى الفاضل:
وباب النطرون كان مضمونا إلى سنة خمس وثمانين وخمسمائة بمبلغ خمسة
عشر ألفا وخمسمائة دينار، وحصل منه فى سنة ست وثمانين مبلغ سبعة آلاف وثمانمائة دينار، وأدركنا النطرون اقطاعا لعدة أجناد، فلما تولى الأمير محمود بن على الاستادارية، وصار مدبر الدولة فى أيام الظاهر برقوق، حاز النطرون، وجعل له مكانا لا يباع فى غيره، وهو إلى الآن على ذلك. انتهى.
وقال: قبل ذلك أن النطرون يوجد فى البر الغربى من أرض مصر بناحية الطرانة، وهو أحمر وأخضر، ويوجد منه بالفاقوسية شئ دون ما يوجد فى الطرانة.
وقال: فى موضع آخر إن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، لما زالت على يديه دولة الفاطميين اعتنى بأمر الأسطول، وأفرد له ديوانا عرف بديوان الأسطول، وعين له أشياء تجبى إليه أموالها، مثل أعمال الفيوم، والجيش الجيوشى، وأشجار سنط لا تخصى فى البهنساوية، وسفط رشين، والأشمونين، والأسيوطية، والأخميمية فكان لا يقطع منها إلا ما تدعو الحاجة إليه، وكان منها ما تبلغ قيمة العود الواحد منه مائة دينار، وعين له أيضا النطرون، وكان قد بلغ ضمانه ثمانية آلاف دينار مع أشياء أخر. انتهى.
باختصار وفى زمن الفرنساوية كان النطرون يعطى لملتزمين يتولونه، وكان الذين يشتغلون فيه ست بلاد منها الطرانة، وكفر داود، وكانت أجرتهم تخصم فيما عليهم لجانب الميرى، فإن تأخر أحد عن الشغل المطلوب منه، يدفع أحد عشر نصفا فضة عن كل قنطار، وهى عبارة عن ستين نصف فضة بمعاملة زماننا هذا، وكان الوقت الذى يستخرج فيه هو الذى بين الزرع والحصيد.
فكانت الشغالة وحيوانات الأشغال تجتمع فى الطرانة، وتسير منها إلى ذاك الوادى من الغروب إلى طلوع الشمس، وكانت حيوانات الأشغال عادة مائة وخمسين جملا وخمسمائة حمار، فيجدون النطرون فى قاع البرك فيدخلون فى الماء ويكسرونه من الأرض بمعاول من حديد ويخرجونه إلى البر، ثم يحملونه
على الحيوانات ويرجعون/ولهم خفراء ذهابا وإيابا، وما يجلب فى كل دفعة ستمائة قنطار، كل قنطار ثمانية وأربعون أقة، فيخزن بناحية الطرانة، ومنها يرسل فى مراكب إلى رشيد والإسكندرية والقاهرة، ثم ترسل التجار أغلبه إلى بلاد فرانسا والإنكليز والبناديق، فما يرسل إلى المملكتين الأوليين متساو تقريبا، وأما الثالثة فيرسل إليها نحو خمس المرسل إليهما فقط، وما يبقى فى الديار المصرية يستعمل فى تبييض الكتان، وصنعة الزجاج.
وأما النطرون المستعمل فى النشوق فنوع آخر يجلبه الجلابة من دارفور وسنار، وهو أقوى من النطرون المصرى؛ لاشتماله على كمية أكثر من موميات الصودا.
وقد عرف بالتجربة أن المستخرج جديدا ينقص نحو العشر بعد جفافه ونقله، وكانت قيمة القنطار الذى وزنه ستة وثلاثون أقة ريالا بطاقة، ونقله على المشترى، وعلى الملتزم البارود والرصاص اللازمين للخفراء، وهم ستون خفيرا مرتبون بمعرفة الملتزم وجماكيهم على طرف الميرى.
والعادة أن كل بلد تستعمله كانت تأخذ كل سنة مقدارا معينا من الملتزم وفى ابتداء حكومة العزيز محمد على، قد التزم النطرون رجل من إيتاليا يقال له باقى كان قبل ذلك مستخدما فى مالية دولته. وهرب منها وقت قيام الفتن، وكان عالما نبيلا فأعطاه العزيز رتبة أميرالاى، وعرف بين الناس باسم عمر بيك، وبما جدده فى أمر النطرون حدثت فيه أرباح عظيمة، وهكذا كانت عادة النطرون أن يعطى التزاما بشروط مع الحكومة، والآن أعنى فى سنة اثنتين وتسعين ومائتين وألف هجرية قد ترك ذلك، وصار استخراجه على ذمة الحكومة؛ لأنه أربح وأكثر فائدة ومبلغ ما يستخرج منه كل سنة يقرب من ستين ألف وزانة، والوزانة ستون أقة، وهو يعادل مائة ألف قنطار، وقيمة القنطار فى المتوسط قريب من خمسة وعشرين قرشا ميرية، وأجرة الجمل فى نقله على كل قنطار ثلاثة قروش ميرية، وقد يمكن استخراج مبلغ من النطرون أكثر
من ذلك، لكن يلزم حينئذ عمل الطريقة التى تدعو التجار الأجانب إلى الرغبة فيه، بأن يخلص من المواد الأجنبية فى محل استخراجه، ليخف حمله فيكثر طالبوه، وقد بلغنى من بعض الثقات أن النطرون يوجد أيضا فى جهة الصالحية أقصى بلاد الشرقية من ديار مصر، لكنه قليل بالنسبة لهذا.
مطلب وصف بعض الإفرنج لديور وادى النطرون
ولما كان الفرنساوية بمصر، ساح كثير منهم فى أرجاء ديار مصر وأطرافها، وكتبوا ما رأوه فى سياحتهم، فمن ذلك ما ذكره بعضهم فى سياحته أن بقرب برك النطرون فى وادى سيتة آثار معمل الزجاج، وشاهد هناك الأفران، وقطعا كثيرة من الزجاج، ولم يعلم وقت بنائها، ولا فى أى زمن كانت مستعملة، وإنما يظن بسبب وجود المواد الأولية التى لم تدخل فى صناعة الزجاج، أن هذا المعمل استعمل ثم هجر مرارا، وأن فى وادى النطرون ديورا، منها ثلاثة شكل كل منها مربع مستطيل، والضلع الأكبر فى كل منها يختلف من ثمانية وتسعين مترا إلى مائة واثنين وأربعين مترا، والضلع الأصغر من ثمانية وخمسين إلى ثمانية وستين، والمساحة المتوسطة سبعة آلاف وخمسمائة وستون مترا مربعا، وارتفاع السور ثلاثة عشر مترا، وسمكه من أسفله متران ونصف، وبناء هذه الديور كان فى القرن الرابع من الميلاد، وهو بناء جيد، وفى أعلى السور طرق عرضها متر، يسترها ذروة بها خروق للمدافعة، ولكل دير باب واحد ضيق، ولا يزيد ارتفاعه عن متر ونحو ثلثى متر، وبابه الخشب سميك، ويقوى بترابيس من خشب داخلة فى الحائط، وجميعه مغطى بالحديد، وفى خارج كل باب حجران عظيمان يجعلونها سدا خلف باب الخشب، خوف هجوم العرب، وكانوا يحركونهما عند القفل أو الفتح بعتلة من حديد، وفوق الباب مسلحة بها خروق ينظر منها إلى ما وراء الباب وبقرب المسلحة ناقوس معلق به حبل طويل من الليف نازل إلى الأرض من خارج، فإذا جاء أحد يطلب الفتح حرك الحبل فيصيح الناقوس، وعادتهم
أن لا يفتحوا الباب إلا بعد أن ينزل قسيس بواسطة حبل خفية، بحيث لا يراه أحد فينظر إلى طالب الفتح.
وفى كل دير بئر عمقها ثلاثة عشر مترا، عليها ساقية بقواديس يستعمل ماؤها فى لوازم الدير، وفى سقى حديقة صغيرة فيها أشجار الزيتون والنخل والجميز، ويزرع فيها بعض الخضر، ويزيد ماء تلك الآبار، وتنتهى زيادته فى شهر يناير، وينقص فى زمن الصيف.
وفى دير الشوام شجرة ارتفاعها ستة أمتار ونصف، ومحيطها ثلاثة أمتار وهى شجرة العرديب الهندى، يقال إنه لا يوجد غيرها فى بلاد مصر، ويزعمون أن سبب غرسها أن الرهبان شكوا إلى مارى إفريم الجرمان من إقامتهم فى الصحراء، فأمر أحدهم أن يغرس نبوته فى الأرض، فغرسه فاخضر، وهو هذه الشجرة.
وفى الدير الرابع المسمى بدير مقار بئر مالحة، وفى خارجه على بعد أربعمائة متر بئر عذبة كثيرة الماء وعيون أخر، وأما خلاوى الرهبان فهى ضيقه لا يدخلها النور، وارتفاعها متر وفرشها حصر، وامتعتها جرار وقلل فخار، وأكثرهم ما بين أعمى وأعور ومعيشتهم من الحسنة، وأكلهم الفول والعدس والزيت، وأوقاتهم مستغرقة/فى الصلاة والأدعية والأوراد، وعدّتهم تسعة وخمسون راهبا، تسعة فى دير البرمياس، وثمانية عشر فى دير الشوام، واثنا عشر فى دير أنبابشاى وعشرون فى الرابع، وكلهم تحت حكم بطرك الإسكندرية، والكتب التى بهذه الديور بعضها مكتوب على رق، وبعضها على ورق، وبعضها عربى وبعضها قبطى، وترجمته على هامشه، وهى محطة تنزل عندها العرب ويواسيهم الرهبان خوفا منهم.
وأغلب من يسكن بقرب برك النطرون قبيلة الجوابى، وعدتهم يومئذ [زمن دخول الفرنسيس أرض مصر] ألفان من الرجال غير الإناث والذرارى، فكانوا يقيمون هناك مدة الشتاء، وفى مدة إقامتهم ينقلون النطرون على الإبل، ويأتون
من سيوة بالبلح السيوى على مسافة اثنى عشر يوما أو أكثر، وهم دائما رحالة نزالة لرعى المواشى على عادة أكثر العرب. انتهى.
وذكر بعض مؤرخى الفرنساوية أيضا أن من الطرانة إلى القصر اثنتى عشرة ساعة، ومن القصر إلى النهاية الجنوبية للبرك ساعة ونصفا، ومنه إلى نهايتها البحرية أربع ساعات، ومن دير الشوام إلى دير أنبا بشاى أربعة وأربعون مترا، ومنه إلى دير مقار ثلاث ساعات، ومن دير الشوام أيضا إلى بحر بلاما ساعة ونصف، ومن دير الأروام إليه كذلك، ومن دير مقار إلى بحر بلاما ساعة، ومن دير مقار أيضا لوردان من بنى سلامة إحدى عشرة ساعة.
(الوايلى)
قرية فى شمال القاهرة على نحو ثلاثة آلاف متر بجوار الدمرداش، وفى شمالها قبة الغورى على نحو ألفى متر، فهى من ضواحى المحروسة، ومن مديرية القليوبية بمركز قليوب على شط الإسماعيلية الشرقى، وهى مفترقة إلى نزلتين متجاورتين، وبكل منهما دكاكين قليلة، وأشجار، وليس بها نخيل، وفى الكبرى مسجد بمنارة وجنينة، وفى الصغرى مسجد بلا منارة، وأبنيتهما بالآجر واللبن.
مطلب فتنة الأرنؤد مع المماليك
وفى شهر المحرم سنة تسع عشرة ومائتين وألف هجرية نهبت هذه القرية وما جاورها من القرى، وهدم أغلب دورها، وفارقها أهلها؛ وسبب ذلك كما فى الجبرتى أن الفتنة كانت قائمة بين عساكر الأرنؤد والمماليك، وبدت الوحشة بين أمراء مصر وأمراء الأرنؤد، وتحّذر بعضهم من بعض، وكان البرديسى هو المتكلم على المصريين فى ذاك الوقت، فضرب فرضة على البيوت، وعين لها الأعوان والكتبة والمهندسين، وجعل مع كل واحد طائفة من الكشاف يصقع بأضعاف القيمة، فضجت الخلائق، وكانت العساكر تتبرأ من ذلك، وتساعد
فى رفعها، فمالت قلوب الأهالى إليهم، وابتهل الجميع إلى الله تعالى فى إزالة الأمراء، فاغتاظ البرديسى، وخرج مغاضبا إلى مصر العتيقة وهو يقول: لا بد من تقريرها عليهم ثلاث سنين، وأخذ الأمراء يدبرون على العسكر، وأرسلوا إلى جماعاتهم المتفرقين فى الجهات القبلية والبحرية، فحضروا واجتمعوا بالأزبكية فى يوم الأحد السابع والعشرين من الشهر، فارتاع الناس، وأغلقوا الحوانيت والدروب، وقامت العسكر على الأمراء، واحتاطوا ببيت إبراهيم بيك بالداودية، وكذا ببيت البرديسى بالناصرية، وتفرقوا على باقى بيوت الأمراء، وكان عند البرديسى عدة من العسكر ينفق عليهم، ومنهم الطوبجية وغيرهم، وكان قد عمر قلعة الفرنسيس التى فوق تل العقارب بالناصرية، وأنشأ بها أماكن وشحنها بآلات الحرب والذخيرة والجبخانة، وقيد بها طوبجية، وعساكر من الأرنؤد، وذلك خلاف المقيدين بالأبراج والبوابات التى أنشأها قبالة بيته، جهة قناطر السباع، والجهة الأخرى، فلما وصل إليه عثمان بيك يوسف جعله فى مكانه ببيته وخرج فى ترتيب مهماته، وكان العسكر قد نقبوا نقبا من الجنينة التى خلف داره، فقاتلوا من بالدار ونهبوها، وبلغ الخبر باقى الأمراء، فخرج أغلبهم إلى مصر القديمة، وفى سابع ساعة من الليل، جاء فرمان من أحمد باشا خورشيد حاكم الإسكندرية بولايته على مصر، فأرسله محمد على مع طائفة من العسكر ليلا إلى القاضى، فأطلعوه عليه وأمروه أن يجمع المشايخ فى الصباح فيقرأه عليهم، فامتنع المشايخ من الحضور؛ بسبب قيام الفتنة والحرب فى جميع الأزقة والحارات، وقد تسبب عن تلك الفتنة خروج الأمراء، وإبراهيم بيك هاربين من مصر، وكان من بالقلعة منهم وقت نزولهم منها قد أرادوا أخذ محمد باشا العزتلى، وعلى باشا القبطان، وإبراهيم باشا، وكانوا مسجونين بها فمنعهم عسكر المغاربة من أخذهم، ونهبوا الضربخانة وما فيها من العدد والمطارق والذهب والفضة، وتسلم العسكر القلعة من غير ممانع، وطلعها محمد على، ثم نزل ومعه محمد باشا العزتلى ورفقاؤه، وأمامهم المنادى ينادى بالأمان، وأشاعت الناس رجوع محمد باشا إلى ولاية
مصر حتى هاداه المحروقى، وكان مدة حبسه ثمانية أشهر، فإنه أخذ فى كسرته بدمياط فى آخر ربيع الأول، وأطلق فى آخر يوم من ذى القعدة، وتوجه إلى بلاده فى شهر المحرم.
وبعد خروج الأمراء من مصر نهب العسكر الأموال، وهتكوا الحريم، وخربوا أكثر البيوت، وأخذوا أخشابها، ولو رجع الأمراء عليهم، وهم مشتغلون بالنهب لتمكنوا منهم/لكن غلب عليهم الخوف والحرص على الحياة، وجازاهم الله ببغيهم وظلمهم لعلى باشا، وقتلهم إياه بعد نهب أمواله، وكذا ما فعلوه مع أخيهم الألفى، وعداوتهم له.
فإن الألفى وأتباعه، كانوا مقدار النصف منهم، فلو بقيت كلمتهم متفقة لما حصل لهم ذلك، وبعد هربهم من مصر تفرقوا فى البلاد، واجتمعت عليهم العرب، وصاروا يعيثون فيما حوالى مصر، ويفسدون فى البلاد، وفى أواخر المحرّم عدى منهم كثير إلى جهة حلوان، واحتاط جماعة منهم بناحية المطرية، فهرب أهلها إلى البلاد المجاورة لها، ووصل فريق منهم إلى قبة باب النصر، وباب الفتوح، ونواحى الشيخ قمر والدمرداش، ونهبوا الوايلى، وما جاوره ودخلوا الدور وعروا النساء، ثم ترفعوا إلى جهة الشرقية، وتفرقوا فيها وفى القليوبية، فما وجده مدروسا فى الجرن أخذوه، أو قائما على ساقه رعوه، أو من غير دراس أحرقوه، أو كان من المتاع نهبوه، أو من المواشى ذبحوه وأكلوه، واستمروا على الإفساد فى طوائف البلاد، إلى أن قيض الله لهم من كف أذاهم عن العباد. انتهى.
(واقد)
قرية من مديرية البحيرة بمركز النجيلة فى الجنوب الغربى لزاوية البحر على بعد ألف وستمائة متر، وفى غربى ناحية الصوان بنحو ثلاثة آلاف متر وبها جامع بمنارة.
(وديعة)
خطة فى مديرية جرجا بقسم سوهاج، واقعة فى سفح الجبل الغربى ومايليه من أرض المزارع، وفى الشمال الغربى لمدينة سوهاج بنحو عشرة آلاف متر، وفى جنوب ناحية جهينة بنحو أربعة آلاف متر، وفى غربى ناحية شندويل على نحو ثلاثة آلاف متر، وهى عدة قرى وكفور، بعضها فوق الترعة السوهاجية يمينا وشمالا، وأكثر بيوتها من الطوب الطفلى، وفيها مساجد وأبراج حمام، ونخيل، وأشجار وفى قرى الحاجر منها شجر الدوم، وأكثر أهلها مسلمون من عرب وديعة، القبيلة المشهورة، ومن أعظم قراها قرية البطاح فى شرقى السوهاجية، فيها أبنية من الآجر مشيدة، ومساجد عامرة، وفى أهلها كرم وسخاء، وفى شرقيها مقام ولى عليه قبة، وعنده جملة أشجار وسبيل ماء.
(الورادة)
بفتح الواو وشد الراء وبعدها ألف فدال مهملة فهاء تأنيث: بلدة كانت بين العريش وقطيا، وبينها وبين العريش ثمانية عشر ميلا، وقد تسمى الواردة بألف بعد الواو مع كسر الراء، وفى بعض الكتب تسمى الباردة بالموحدة، وتكلم خليل الظاهرى على المحطات من بلبيس إليها للذاهب إلى الشام فقال:
بلبيس، ثم الصالحية، ثم قطيا، ثم الواردة. ولما كان الثلج ينقل من الشام إلى مصر، كان يقوم من العريش إلى الواردة، وفى تاريخ النوارى أن الملك الناصر بعد موت الملك الكامل استولى على غزة، وساحل الشام، ومدّ إغاراته إلى الورادة. وذكر أبو المحاسن أن بين العريش والورادة موضعا يعرف ببئر العاصى.
انتهى.
من كترمير عن كتاب السلوك وغيره، وفى خطط المقريزى الورادة من جملة الجناز. قال عبيد الله بن عبد الله بن خرداذيه فى كتاب المسالك والممالك: وصفة الطريق والأرض من الرملة إلى إردود اثنا عشر ميلا، ثم إلى غزة عشرون ميلا، ثم إلى العريش أربعة وعشرون ميلا فى رمل، ثم إلى الورادة
ثمانية عشر ميلا، ثم إلى العذيب عشرون ميلا، ثم إلى الفرما أربعة وعشرون ميلا قال الخليفة المأمون:
لليلك كان بالميدا
…
ن أقصر منه بالفرما
غريب فى قرى مصر
…
يقاسى الهمّ والسدما
ثم إلى جرير ثلاثون ميلا، ثم إلى القاصرة أربعة وعشرون ميلا، ثم إلى مسجد قضاعة ثمانية عشر ميلا، ثم إلى بلبيس أحد وعشرون ميلا، ثم إلى الفسطاط مدينة مصر أربعة وعشرون ميلا، وقال جامع تاريخ دمياط: ولما افتتح المسلمون الفرما بعد ما افتتحوا دمياط وتنيس، ساروا إلى البقارة، فأسلم من بها، وساروا منها إلى الورادة، فدخل أهلها فى الإسلام، وما حولها إلى عسقلان، وقال القاضى الفاضل فى متجددات المحرم سنة سبع وستين وخمسمائة:
وصاحبنا الورادة فبتنا على مينا الورادة، فدخلنا الورادة، ورأيت تاريخ منارة جامعها سنة ثمان وأربعمائة، واسم الحاكم بأمر الله عليها، ويقال أخذ اسمها من الورود، ولم يزل جامعها عامرا تقام به الجمعة إلى ما بعد السبعمائة.
وبلد الورادة القديمة فى شرقى المنزلة التى يقال لها اليوم الصالحية، وبها آثار عمائر ونخيل قليل. انتهى.
(الورّاق)
بواو مفتوحة فراء مهملة مشددة فألف فقاف، قريتان متجاورتان من قرى مديرية الجيزة بقسم إنبابة، أحداهما وراق الحضر بحاء مهملة مفتوحة وضاد معجمة ساكنة على الشاطئ الغربى للنيل فى شمال إنبابه بنحو ألفين وثمانمائة متر مقابلة شبرا الخيمة، وأغلب أبنيتها باللبن/وبها مسجد عامر، وضريح ولىّ يقال له الصيفى، وبها أشجار، وليس لها سوق، ويدفن أهلها موتاهم بقرافة مصر ككثير من بلاد الجيزة، ويزرع بأرضها القرطم والذرة الصيفية والنيلية الشامية والبطيخ والشمام.
وفى سنة ثمانين ومائتين وألف أكل البحر جملة من أطيانها. وخلفها فى البر الشرقى والأخرى وراق العرب فى غربى وراق الحضر بنحو ستمائة متر، وهى ثلاثة كفور، بها ثلاثة مساجد، أحدها بمئذنة، وفيها أشجار، وأهلها مسلمون، وتكسبهم من الزرع، ومن بيع السلع بالمحروسة من نحو الجبن واللبن والوقود، ومنهم الفعلة فى أبنية مصر وعمائر الجزيرة، وقد نتج منها جماعة فى الخدامات الميرية، مثل السيد أحمد أفندى مهندس قسم أول بالجيزة.
مطلب وقفية السلطان مراد خان للوراق
والظاهر أن الأصل من هاتين القريتين هى وراق الحضر، والأخرى حادثة بعدها من لواحقها، وإذا أطلق الاسم انصرف إلى الأولى، أو يعم الجميع، وأن هذا هو المراد بما فى بعض حجج الوقفيات، أن السلطان مراد خان وقف هذه القرية على الحرمين الشريفين، وملخص ما فى حجة الوقفية المؤرخة فى أواسط رمضان سنة ست وثلاثين بعد الألف، يقول سعادة بيرام باشا محافظ الممالك المصرية، والأقطار الحجازية، وهو الوكيل الشرعى عن السلطان مراد خان، الواقف الوكالة المفوّضة: قد وقفت القرية المسماة بالوراق، الكائنة بفضاء الجيزة بمصر المحمية، المشتملة على ست عشرة قطعة جزيرة، وهى جزيرة البوصة، وجزيرة أبى جاموس، وجزيرة روضة الفيلى، وجزيرة بحر الماضى، وجزيرة قصر العينى، وجزيرة الدولار، والقطعة المسماة بشاشة، وجزيرة نمارسة المقابلة للوسطى، وجزيرة روضة البحيرة، والقطعة المعروفة بحوض نطاى، بجوار الناحية من جهة الشرق بالبر الغربى، وجزيرة وادى النار، وجزيرة الطير، والقطعة المشهورة بحوض سفل النطاوى، وجزيرة دمنهور الوسطى المواجهة لبيسوس، وأبى منجا، وجزيرة دمنهور الكائنة بجوار دمنهور المذكورة أيضا، والجزيرة الكائنة بجوار السبكية، وروضة البحرية الكائنة تجاه بولاق، وتحتوى على تسعمائة وخمسة عشر فدانا أرضا خراجية، وينتهى حدها من جهة إلى المحل المسمى كواد، ومن جهة إلى جزيرة محمد، وتمامى بيسوس، وجزيرة دمنهور ومن جهة إلى بحرى دمنهور، وساحل بحر
النيل قبلى، سواقى مصر القديمة، ومن جهة إلى ساحل بحر النيل أيضا، وقفا شرعيا بما تشتمل عليه من مرافق ومنافع ولواحق وتوابع، ولإتمام المصلحة والتسجيل قد عين عثمان بيك متوليا عليها.
وبعد أن اعترف المتولى المذكور بتصرفه فيها، اشترط الوكيل المومى إليه أن يقرأ سنويا فى المدينة المنوّرة ومكة المكرمة بحرمهما الشريف المولد النبوى عند اجتماع الحجيج، ويفرّق على من يجتمع بالمجلس الشريف من المسلمين نقل وسكر، ويعطروا بماء الورد، وينجروا بالعود والعنبر، ويصرف فى لوازم ذلك عشرة آلاف صف فضة من ريع القرية المذكورة، وقدره سنويا مائة وخمسة وعشرون ألف فضة، ويكون صرف العشرة آلاف المذكورة بمعرفة شيخ الحرم بالحرمين الشريفين، وأن يشترى سنويا سحابة بلوازمها، ومائة وستون قربة ماء من مصر، ثمن القربة ستون نصفا فضة، وذلك برسم تسبيل الماء يوميا بطريق الحجاز ذهابا وإيابا على المحتاجين من الحجاج المصريين، وكلما فرغت القرب تملأ من الطريق ماء عذبا، وتحمل على ثلاثة وأربعين جملا أجرتهم تسعمائة وأربعة وستون ألفا وخمسمائة نصف فضة، ويستأجر واحد وعشرون سقاء، أجرة الواحد ستمائة نصف فضة، وأن يشترى ثلاثون قنطارا من البقسماط، ثمن القنطار أربعون نصفا فضة، برسم مؤنة مشد السحابة، وجميع خدمتها، ويعطى للمشد ألفان ومائتا فضة يشترى بها جملا، وأربعة آلاف فضة للمصاريف الضرورية، ولخدمة السحابة ألفان برسم ثمن الخلع، وألفان برسم ثمن العليق، وألف واحدة برسم خيمة، وأربعة آلاف نصف برسم ثمن أربعين كليما، ثمن الواحد مائة فضة، ولمرمة القرب ومصاريف الإقامة بمكة والمدينة ثلاثة آلاف، ومائتا فضة، ولثمن الحطب، والسمن، والجنفاص، وأجرة حملة المشاعل ألف نصف، وأن يعطى لمتولى الوقف كل يوم عشرة أنصاف، وللقاضى شهاب الدين العجمى المعين لوظيفة المباشرة فى اليوم أربعة أنصاف، ولكل من السيد أحمد بن السيد عمر القادرى الحسينى المعين
لوظيفة الشهادة، والقاضى محمد الجيزى المعين لوظيفة كاتب الخزينة فى اليوم ثلاثة أنصاف فضة، وباقى الريع وهو خمسة آلاف ومائة نصف، يحفظه المتولى لجانب الوقف، وعلى ذلك حصل الوقف، وجرت الصيغة المسوّغة له، أمام القاضى بحضور الوكيل والمتولى، وحكم بصحة الوقف المذكور. انتهى.
(وردان)
قرية من مديرية الجيزة، انظرها فى حرف الخاء عند الكلام على خربة وردان.
(الوسطى)
قرية من عمل أسيوط فوق الشاطئ الشرقى للنيل، وفى الشمال الشرقى للحمراء/التى هى مينا سيوط، وفيها نخيل كثير وبساتين، وفيها أرباب حرف بكثرة مثل النساجين، والصيادين للسمك، والنوتية، والقلافطة فى المراكب، والنجارين، والفلاحين، وبقربها قرية بصرى كذلك، وبقربها محجر الرخام، الذى أنعم به العزيز على سليم باشا السلحدار.
(وسيم)
بواو فسين مهملة فمثناة تحتية فميم، كما فى خطط المقريزى، وغيرها من كتب العرب، وهو المعروف فى الاستعمال، وفى بعض كتب الإفرنج تسميتها ببوشيم بموحدة فواو فشين معجمة فتحتية فميم، وهى بلدة من مديرية الجيزة، بقسم أول غربى ناحية إنبابة بمسافة قليلة، شرقى الكوم الأحمر فى حوض الجسر الأسود، بينها وبين الجبل الغربى نحو ساعة وربع، وسكة الحديد فى شرقيها بنحو مائتى قصبة، وهى بلدة مشهورة فى الجاهلية والإسلام، ورويت فيها آثار منها ما قاله فى حسن المحاضرة، أخرج ابن عبد الحكم من طريق ابن لهيعة عن بكر بن سوادة عن أبى عطيف عن حاطب بن أبى بلتعة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:(يقاتلكم أهل الأندلس بوسيم حتى يبلغ الدم متن الخيل ثم ينهزمون). انتهى.
وفى خطط المقريزى وغيره، أنها كانت فى زمن فتح مصر من منازل العرب، الذين فتحوا هذه الديار، وذلك أنهم لما أمروا بالتفرق فى البلاد لربيع خيولهم، والارتفاق باللبن ونحوه، ووكل ذلك لاختيارهم، اختار طائفة منهم قرية وسيم، وهم آل عمرو بن العاص، وآل عبد الله بن سعد، إلى آخر ما هو مبسوط فى كتب التواريخ.
وذكرنا منه طرفا فى سمنود، وقد كانت وسيم فى الجاهلية مدينة عظيمة، وكانت تسميها اليونان أقنطوس أو أقنطة أو قنطون، ولما أمر الامبراطور قسطنطين بإعدام عبادة الجاهلية منها بعد تنصره، أمر حاكمها سوتريكوس بهدم ما كان فيها، وفى ضواحيها من هياكل الجاهلية، فهدم هيكل أبو لون العظيم الذى كان بحرى تلك المدينة، وكان محتويا على أموال وافرة جدا، فاستولى عليها، وصرفها فى بناء كنائس نصرانية، ثم هدم أيضا معبد جويتير وجعله كنيسة، وهذا هو الذى حققه الجغرافيون، وهو أن قرية بوشيم هى قرية وسيم المذكورة، وهو كذلك أيضا فى المقريزى، وأبى صلاح، وتاريخ بطاركة الإسكندرية، ودفاتر التعداد. وقال أبو صلاح: إن بهذه البلدة كنيسة باسم العذراء، قد جددها قسيس من الصعيد، اسمه جرجيس، كاتب سر الأمير صندول الظفرى، ثم قال: إنه كان بتلك المدينة ست وستون وثلثمائة كنيسة بناء على اعتماد الروايات، وكلها عامرة بالرهبان والقمامصة، ولا ينقطع إشهار القداس فيها، وكان بقربها دير نهيا.
مطلب الكلام على دير نهيا
وقال أبو صلاح أيضا: إن الذى بنى دير نهيا تاجر أفريقى، وفد على مصر قبل حكم ديوكليتيان بأربعين سنة، وعند استيلاء الخليفة المعز لدين الله على هذه الجهات نصب معسكره أمام هذا الدير، وأقام هناك سبعة أشهر، وغرس فى مقابلته بستانا عظيما، وحفر فى أسفل التل بئرا، وجعل عليه دولابا، وجعل بقربه حوضا لسقاية المارة. قال: وقد ارتدم البئر والحوض
وتخرب البستان، ولم يبق إلا بعض جميز، والخليفة بأمر الله قد أحرق هذا الدير وهدمه، ثم بناه أحد الأمراء من أهالى وسيم، وترتب له بأمر الحاكم إيراد سنوى، ولما توجه الخليفة الآمر بأحكام الله لزيارة محمد بن فاتك، ذهب إلى الدير ليطلع عليه، فوجد بابه منخفضا، فلم يرض الخليفة بالدخول منحنيا، بل جلس، وجعل وجهه لخارج، ودخل القهقرى، ولما جاوز الباب قام ومشى إلى المحراب، وطلب من أحد القسيسين تعيين محل الصلاة، فوقف فيه وجعل القسيس فى مقابلته، ثم طاف بالكنيسة وبعد ذلك أكل عند الرهبان، ثم وهبهم ألف دينار، ورجع قبل الغروب، وكان فى السابق لا يتوصل إلى المحراب إلا بعد نزول وصعود فى عدة درج، وقد ردم الشيخ أبو الفضل الفجوة، وغطاها بحجر، وجعل أمام المحراب سترا متكئا على ثلاثة أعمدة من الرخام.
وكان الخليفة أيام ذهابه للصيد يتوجه مع أمرائه وعساكره لزيارة هذا الدير، وبنى فيه من جهته البحرية منظرة عالية عليها قبة، وجعل بابها خارج الدير، وكان يصعد إليه بسلم من الحجر، وقد أكلت الأرضة خشب هذا القصر من ذاك الوقت فانهدم، ولم يبق منه شئ، وكان الخليفة يتردد إلى هناك، ويقيم ليالى، وكل مرة يأكل هناك، ويهدى إلى الرهبان ألف دينار، فاجتمع لهم من ذلك خمسة وعشرون ألف دينار، فبنوا بها السور الذى كان قد تهدم، وبنوا برجا قريبا منه، فكان ينقل الحجارة والطوب للبناء كل يوم أربعون جملا، وكان فى داخل البرج بئر بها عين ماء، وكانت مغطاة بسقف، وقد طلب الرهبان من الخليفة أن يعطيهم قطعة أرض ليزرعوها فأجابهم إلى ذلك، وأعطاهم ثلاثين فدانا من قسم بهرمس بمديرية الجيزة، فبقيت تلك الأراض تحت أيديهم، إلى أن دخلت الأكراد أرض مصر سنة أربع وستين وخمسمائة، ولم يبق لهم بعد ذلك إلا ما يحصلونه من الصيد، ودخل الدير يوما كاتب من أهل الفسطاط، ليشرب فوجد الماء به قليلا، فحفر فى داخل البرج/فى مقابلة حائطه الجنوبية بئرا، وفى أثناء الحفر عثر العملة فيها على صخرة سمكها
أربعة عشر ذراعا، فقطعوها، وقد بلغ تكاليف كل ذراع دينارا خلاف مصاريف الحفر، وكسوة البئر، والماء المستخرج منها هو الذى ينتفع به الرهبان إلى الآن.
والكنيسة التى بقربه باسم مرت ومريم أخت نزار، المدفون فى هذا الدير، فى مقابلة البئر المذكورة، وفى تلك الكنيسة حوض يصل إليه الماء من البئر، بمجرى تحت الأرض، وقد صار الآن ارتدام ذلك المجرى، وكان فى الدير طاحونة مبنية كطواحين العجم، وكان بقرب الكنيسة قصر مرتفع البناء له ثلاثة أدوار، يصعد إليه من داخل الكنيسة بسلم، وكان قد تهدم، فعمره الكاتب أبو البركات المعروف بابن كتامة، وعمر الحائط الدائر حول الحوض، وعمر القناة الموصلة إليه الماء، وبجوار الدير كنيسة أيضا باسم مارى أنطوان قد تخربت، وفى مقابلته مساكن رهبان مارى مكير، الذين فارقوا ديرهم زمن البطرك بنجمان، وبقربه مدفنان أحدهما عند كنيسة مارى أنطوان، يدفن فيه أساقفة الجيزة، والآخر فى أسفل القصر، يدفن فيه الرهبان وأموات القرى المجاورة، وقد أكلت الأرضة خشب الدير أيضا والكنيسة، فعمرها ابن كتامة، وعوض سقف الخشب بعقود من الحجر، ودفن الأعمدة فى أكتاف من البناء، ولم يترك إلا عمودى الصوّان العتيقين الكائنين أمام صورة العذراء.
ثم قال أبو صلاح: والآن هذا الدير باسم العذراء البتول، وبه سبعة رهبان، وكان فى الزمن السابق تابعا لأسقف الجيزة، ثم جعله البطرك مرك تابعا لنفسه، وأمر أسقف الجيزة أن يحصل كل سنة من الرهبان ثلاثة دنانير، ونقل هو والمقريزى عن الشابشتى أن هذا الدير من أعظم ديور مصر، فى محل لطيف، وفى زمن الفيضان يحيط به الماء من كل جهة، وفى التحاريق تحيط به الأزهار والنباتات الغريبة، فكان بسبب ذلك من المنتزهات المشهورة، وكان به كثير من الرهبان، وبقربه خليج يجتمع فيه كثير من الطيور، وكان المقيمون به يصطادون منها. وقال المقريزى: إن هذا الدير انعدم الآن عن آخره. انتهى.
وفى كتاب حسن المحاضرة للسيوطى أن القاضى شهاب الدين بن فضل الله، كتب إلى الأمير الجاى الدوادار يمدحه، ويمدح مصر وقراها
بلد أنت ساكن فى رباها
…
بلد تحسد الثريا ثراها
قد تعالت إلى السماء بسكنا
…
ك فألقت على البطاح رداها
جمد الطل فى الزهور فخلنا
…
أنه عقد جوهر لرباها
وجرى الماء فى الرياض فقلنا
…
كسرت فوقه المغانى حلاها
مثل ما أنت فى معانيك فرد
…
هى فرد البلاد فى معناها
يقبل الأرض، وينهى أنه لم عبر على هذه الربا المعشبة، والغدران التى كأنها صفائح فضة مذهبة، ثم مر على قرية تعرف بوسيم، تفتر من شنب زهرها عن ثغر بسيم، استحسن مرآها، ونظم فى معناها ما يعرضه على الخاطر الكريم، ليوقف المملوك توقيف عليم، ويتجاوز عن تقصيره تجاوز حليم ومما قيل:
لمصر فضل باهر
…
بعيشها الرغد النضر
فى كل سفح يلتقى
…
ماء الحياة والخضر
وكذلك
ما مثل مصر فى زمان ربيعها
…
لصفاء ماء واعتلال نسيم
أقسمت ما تحوى البلاد نظيرها
…
لما نظرت إلى جمال وسيم
انتهى.
ولم تزل وسيم إلى الآن عامرة بالسكان المسلمين والأقباط، وفيها لأكابرها أولاد غراب، أبنية مشيدة بمضايف متسعة، ومناظر بشبابيك الخرط والزجاج، وهم عائلة مشهورة من أجيال، وكان منهم محمد أغا غراب، كان ناظر قسم زمن المرحوم محمد على باشا، وفيها مساجد عامرة، أحدها بمنارة، وهو لأولاد غراب، وفيها لهم بساتين ذات فواكه، وبها نخيل كثير من نخل
الأمهات، وأرضها خصبة، وأهلها مياسير، وبقرب قرية وسيم غربى النيل قرية سماها أبو صلاح بونمروس، وسماها المقريزى أبا النمرس، وكان فى أبى النمرس كنيسة مارى جرجس، وسماها المقريزى كنيسة بوجرج، وهى التى هدمها المسلمون سنة سبعمائة وثمانين من الهجرة؛ بسبب ضرب الناقوس وقت صلاة الجمعة وتشويش بالهم عند استماع الخطبة، وكان السبب فى هدمها وفود بعض الفقراء الصوفية من أهل زيلع إليها، وبات بها فأخبر أن الناقوس يضرب/وقت الجمعة، فيمنع سماع الخطبة، فاستبشع تلك العادة، والتمس من السلطان شعبان هدم الكنيسة، فلم يجبه لذلك، لأنه كان يكرم الأقباط فذهب ذلك الصوفى إلى المدينة المنورة وأقام بها مدة، ثم عاد فى زمن الأتابك برقوق، ومعه أمر بإزالة تلك الكنيسة يزعم أنه عن النبى صلى الله عليه وسلم، فقبله برقوق، وأمر بقفلها، ثم لما سعى الأقباط ببذل الرشا للتوصل إلى فتحها، أخبره المحتسب جمال الدين بذلك، فأمر بإزالتها بالكلية وبنى مسجدا مكانها وذكر المقريزى أن الأقباط جددوها بعد ذلك، وفى كتب الأقباط قيل: إن فى خط وسيم قرية تسمى فينجوات، ومعناها الزيتون. وقال بعضهم: إنها بعينها قرية وسيم، وقيل غير ذلك، وكثير من السياحين ومؤلفى الأقباط، قالوا: إنها على الشاطئ الغربى للنيل، والصحيح أن قرية الزيتون من مديرية بنى سويف، فى حدود مديرية الجيزة. وفى خطط المقريزى قال ابن عبد الحكم: وخرج عبد الله بن عبد الملك بن مروان أمير مصر إلى وسيم، وكانت لرجل من القبط، فسأل عبد الله أن يأتيه إلى منزله، ويجعل له مائة ألف دينار، فخرج إليه عبد الله بن عبد الملك، وقيل: إنما خرج عبد الله إلى قرية أبى النمرس مع رجل من الكتاب يقال له ابن حنظلة، فأتى عبد الله العزل، وولاية قرّة بن شريك، وهو هناك. فلما بلغه ذلك قام ليلبس سراويله، فلبسه منكوسا، وقيل:
إن عبد الله لما بلغه العزل رد المال على صاحبه، وقال: قد عزلنا، وكان عبد الله قد ركب معه إلى المعدية، وعدى أصحابه قبله، وتأخر فورد الكتاب بعزله، فقال صاحب المال: والله لا بد أن تشرّف منزلى، وتكون ضيفى،
وتأكل طعامى، و والله لا عاد لى شئ من ذلك، ولا أدعك منصرفا فعدّى إليه. انتهى.
وكذلك الملك الظاهر السلطان بيبرس قد نزل ناحية وسيم هذه، ليتفقد أحوال الرعية، وكان ملكا صالحا عادلا قائما بحقوق رعاياه.
قال كترمير: إن السلطان الملك الظاهر بيبرس توجه إلى ناحية وسيم، ومنها خرج إلى الغربية مستخفيا لاختبار أحوال بلاده وحكامها، وكان ابن الهمام يومئذ أكبر حكام تلك الجهات، فوجد الملك سيرهم قبيحا، وسيرتهم ذميمة قد ظلموا العباد، فأوقع القبض على ابن الهمام وولى بدله، ورفعت إليه شكاية فى مباشر هناك نصرانى، فأمسكه وصلبه لما ثبت عليه أنه تكلم بكلام فاحش. ثم قام برجاله وقصد دمياط، ودخل أشمون طناح، ثم سار إلى المنزلة ثم إلى الشرقية. انتهى.
ترجمة العلامة الشيخ محمد الوسيمى
وإلى وسيم ينسب الشيخ محمد الوسيمى المترجم فى خلاصة الأثر، بأنه كان من أجلاء العلماء العاملين فى الديار المصرية، منعزلا عن الناس مقتديا بقول من قال:
لقاء الناس ليس يفيد شيئا
…
سوى الهذيان من قيل وقال
فأقلل من لقاء الناس إلا
…
لأخذ العلم أو إصلاح حال
وكان يقول: كل قرصك، والزم خصك، وكان شافعيا، أخذ عن شيخ الإسلام زكريا، وله روايات عن ابن حجر، وكان شيخ الإسلام يجله لذلك، كعادته مع كل من أدرك الحافظ ابن حجر.
روى عنه النور الزيادى والشبشيرى واللقانى والأجهورى، وكان أكثر قراءته فى منزله، ولا يترك قراءة الحديث، وكانت وفاته سنة ست بعد الألف بمصر،
وعلى روايته عن الحافظ يكون عمر فوق المائة والخمسين سنة، وهذا غريب جدا، والله أعلم.
والوسيمى نسبة إلى وسيم قرية بالجيزة. انتهى.
والآن قريتا وسيم وأبى النمرس من البلدان العامرة الشهيرة فى مديرية الجيزة، وبين أبى النمرس والنيل مسافة نحو ثلثمائة قصبة، وهى فوق جسر شبرى منت، وأكثر أبنيتها بالطوب الأحمر، ولها شهرة بزرع القثاء، ونخل الأمهات بها كثير، وكذلك جملة قرى من هذه المديرية مشهورة بهذا النخل، كناحية المنوات، قبلى هذه القرية، وناحية العجزية، وأم خنان، والبدرشين، وأبى رجوان، والشيخ عثمان، وطموهة، ومزغونة، وأكثر تجار الصينى بالمحروسة القاهرة من ناحية أبى النمرس، وعادة أهلها أن الرجال يخرجون إلى البحر صباحا يستقون الماء على قدر اللازم لمنازلهم كل يوم، ولا تخرج نساؤهم لذلك، وهى عادة جميلة.
(الوليدية)
قرية من قسم سيوط على الشاطئ الغربى للنيل فى شرقى الإبراهيمية وفى الشمال الشرقى لمدينة أسيوط على نحو ثلث ساعة، وفيها نخيل بكثرة ومخبز عمومى يخبز فيه الملاحون وغيرهم، وبها مدابغ للجلود، وكثير من أهلها فى صنعة الملاحة، وبعضهم زراعون ويزرع بأطيانها الدخان البلدى بكثرة.
(ونا)
بلدة من بلاد البهنسا كما فى دفاتر التعداد تضاف إليها بوصير فيقال:
بوصيرونا لتقاربهما، وتقدم فى حرف الباء أن أبا صلاح قال: إن بوصيرونا قريبة من بحر يوسف عليه السلام، وأن فى أرض وناكنيسة لمارى جرجس اهـ وهى/من مديرية بنى سويف بقسم الزاوية شرقى ناحية افوه بنحو ألف متر، وقبلى ناحية بويط بنحو ألفين ومائتين وخمسين مترا وبهذه القرية جامع للصلاة وأبراج حمام، وجملة من النخيل.
ترجمة قاضى القضاة شمس الدين الونائى
وإليها ينسب قاضى القضاة شمس الدين الونائى المترجم فى حسن المحاضرة بأنه محمد بن إسماعيل بن أحمد القرافى قاضى القضاة شمس الدين الشافعى الونائى، ولد فى شعبان سنة ثمان وثمانين وسبعمائة، وأخذ عن الشيخ شمس الدين البرماوى وطبقته، وبرع فى الفقه والعربية والأصول، واشتهر بالفضيلة، وكان ممن جمع المنقول والمعقول، ولى تدريس الشيخونية والصلاحية المجاورة لضريح الإمام الشافعى رضي الله عنه، وقضاء الشام مرتين، ثم صرف ومات يوم الثلاثاء ثامن عشر صفر سنة تسع وأربعين وثمانمائة ا. هـ.
ترجمة الشيخ محمد أبى الفتح بن الفخر الونائى
وينسب إليها أيضا الشيخ محمد بن الفخر الونائى، المترجم فى الضوء اللامع بأنه محمد بن عثمان بن محمد بن محمد بن أبى بكر الشمس أبو الفتح بن الفخر الونائى ثم المصرى الخانكى الشافعى ويعرف بالونائى
ولد على رأس القرن بوناء من الصعيد، وتحول منها إلى مصر القديمة فنشأ بها، وحفظ القرآن، والعمدة، والشاطبيتين، والسخاوية فى متشابه القرآن، والمنهاجين، وألفية النحو والتلخيص، واشتغل بمصر عند قريبه السراج عمر الونائى، وفى القاهرة عند البرهانين البيجورى والأبناسى، وأجاز له ابن الجزرى وغيره، وحج فى سنة سبع وثلاثين، ثم فى سنة سبع وأربعين، ولقى حسينا إلا هدل فقرأ عليه وأجازه.
وكذا زار بيت المقدس، وسافر الشام، وقطن الخانقاه، وأخذ فيها الفقه وغيره عن عالمها البوشى، وولى قضاء الشأم، وتدريس الخانقاه واجتمع الناس عليه، وانتفع به الطلبة خصوصا بعد وفاة البوشى. كل ذلك مع لين جانبه، وفتوته، وإكرامه للواردين، وميله للصالحين، مات فى ثانى شوال سنة تسعين ودفن فى عصر يومه بحوش ظاهر قبة الشيخ عمر النبتيتى رحمه الله. انتهى.
ترجمة محمد أفندى عثمان الونائى
ومن هذه القرية أيضا الأديب اللغوى المتفنن محمد أفندى عثمان بيكباشى بديوان الجهادية، وقد سألته عن ترجمته؛ لوضعها فى هذا الكتاب فكتب لى ما نصه، أنا محمد بن عثمان بن يوسف الحسينى نسبا الجلالى لقبا الونائى بلدا، ووناء هذه بلدة فى قسم بنى سويف قريبة من الجبل الغربى وقلت فى هذا الاسم موريا:
علقته وفى وناء داره
…
ما ضره لو جاد باللقاء
يهجرنى وقد نآى بداره
…
واحر با من هاجر ونائى
قال: وكان والدى من كتبة بيت القاضى، توفى وأنا فى سن السبع، فكتبنى جدى لامى فى مدرسة قصر العينى التى كانت مدرسة المبتدئين، فى عهد المرحوم الحاج محمد على باشا سنة تسع وأربعين ومائتين وألف، وكنت قرأت القرآن بداية قبل دخولى تلك المدرسة، فكان ذلك سببا لامتيازى عن التلامذة وقئتذ؛ لأن أكثرهم كان من الجراكسة، مماليك العزيز محمد على، ومن ثم أرى أن ابتداء تعليم الأطفال بحفظ القرآن، لا يخفى ما فيه من المنفعة فى صون اللسان من الصغر، عن الغلط وتعوّد التلميذ على معرفة القراءة والكتابة، والإملاء بالصحة؛ لأن من تعلم بغير ذلك كالقبط مثلا، لا يرجى اعتدال فى نطقهم، ولا صحة فى قراءتهم، ولا فى كتابتهم أبدا، ثم لما أعرض كلوت بيك فى نقل مدرسة الطب من أبى زعبل إلى قصر العينى نقلت مع التلامذة إلى أبى زعبل، تحت نظارة المرحوم إبراهيم بيك رأفت، فرتبها أحسن ترتيب، وأدخل فيها الحساب والهندسة والنحو، وهناك حصلت طرفا عظيما من الدروس المذكورة، ومكثت بضع سنين، حتى أتى المرحوم رفاعة بيك فأخذنى وتلميذا آخر اسمه حسين عثمان، وكان حسين المذكور نادرة فى قوة المحافظة، فكان سببا لاجتهادى وتحصيلى بالتعب، ما كان يحصله
بغاية الراحة؛ لأنه كان يعلق الدرس فى أقرب وقت، وكنت لا أحفظ الدرس إلا بعد جهد جهيد وأمد بعيد، ولا أترك المطالعة خوفا من أن يفوتنى، ندى هذا عليه سحائب الرحمة، وما عجل به على ريعان صباه إلا احتراقه بنار ذكاه، فقلت فيه:
تعلل من ذكاه وكان حرفا
…
صحيح الجسم كالجمل الهجان
وطبع النار يحرقه ما أتاه
…
ولا يبقى سوى جسد الجبان
وكانت دروسنا فى مدرسة الألسن عبارة عن علوم لغتى الفرنساوية والعربى، كالنحو والمجاز والمنطق، والبديع والعروض والأدب، والجغرافية والحساب والهندسة، والطب والتاريخ والخط والرسم، وذلك غير حفظ الدواوين ولما كلفنا بحفظها حفظت ديوان ابن الفارض، وابن معتوق، والبرعى، وابن سهل، وبانت سعاد، والهمزية، وغير ذلك من/خزانة الأدب وحلبة الكميت، مع المواظبة على المطالعة فى أغلب الأوقات بالكتب التى كان يتيسر لى الاستحواذ عليها فى العربية والفرنساوية. وأخذت تلك العادة عن المرحوم محمد أفندى البياع، فإنى لازمته وصاحبته حتى فرق الدهر بيننا، وكان عليه سحائب الرحمة من أحسن المعلمين، وأدق المترجمين خلاصة المدرسة وباكورتها، وروايتها وقارورتها؛ حتى لقد فاق الفرنساوية فى لغتهم.
فإنه ذات يوم تراهن مع فرنساوى على كلمتين موضوعتين لنعيق الغراب، ونقيق الضفادع، فكان الأمر كما ذكر، وكسب الرهان. ولنرجع إلى ما كنت فيه من الاشتغال بالمطالعة فى الكتب، فإنه هو السبب لازدياد معرفتى فى اللغتين، واكتساب درجات التقدم بين أقرانى، إذ ندبت سنة إحدى وستين ومائتين، وألف لتعليم اللغة الفرنساوية لرجل فى الديوان الخديوى يسمى زائد أفندى، كان العزيز محمد على قد استخدمه لترجمة مجموع الشيخ الجزائرلى فى مذهب أبى حنيفة بالتركية، وكان بطيئا فى الحفظ، وفى فهم المعنى فما اعتنيت بأن أقول فيه الشعر، ولو هجوا فقلت فيه مزجلا:
لما غديت خوجه وعقلى استنار
…
وصار لى تلميذ زى الحمار
قالوا بلغت العلا والسعد دار
…
قلت اسمعوا دى ركبتى طلعت فشار
دور
دا صاحبى لو قلب زى الحديد
…
وبدلتو فى الشمس كادت تقيد
صفته بجم يرمح بلعب الجريد
…
أو وسط كفاره وطار الغبار
إلخ، وكنت قبل هذه السنة ترقيت إلى قلم الترجمة، وترجمت فيها كتابا يسمى بعطار الملوك، وهو فى العطريات من مياه وزيوت وأدهان وخلاصات. فلما كانت سنة اثنتين وستين ومائتين وألف ندبت لقلم الكورنتينا بوظيفة المترجم بماهية مائة قرش، وكان هذا القلم فى الديوان الخديوى، تحت نظارة المرحوم باقى بيك، وكان للقلم رئيس فرنساوى أنا ترجمانه، وكان إذا تم أمر المجلس الذى كان يتشكل كل ثلاثاء بخصوص مصالح كورنتينات القطر المصرى بحضور كلوت بيك، والمسيو شيدفوه، وأحد العلماء، وأحد عمد التجار، يعرض الرئيس أعماله على باقى بيك شفاها، وكنت أترجم بينهما، فاتفق ذات يوم أنى كنت عملت قصيدة مدح فى باقى بيك وأخويه سامى وخير الله، وابن أخيه صبحى بيك، وكنت دخلت عليه مع ناظر القلم، وهو فى قاعة الاستراحة فى الديوان، وكان بمجلسه إذ ذاك كثير من الذوات ووجوه الدولة وقتئذ، مثل حسن باشا المناسطرلى، وباسليوس بيك وغيره، فبعد أن قضينا لزوم المصلحة، سألنى عما تعلمته فى المدرسة فقلت:
إنى تعلمت علوم العربية والفرنساوية وعددتها، فلما وصلت إلى علم العروض قال: أو تعرف العروض؟ قلت: نعم: قال: هذا هو علم الشعر فقلت: نعم قال:
أو قلت شعر؟ قلت: نعم ووجدت فرصة لتقديم القصيدة المذكورة، فأخرجتها وقرأتها فوقعت منه موقع الاستحسان، وكانت سببا لأن ترقيت يومئذ لرتبة الملازم الثانى بماهية مائتين وخمسين قرشا، وبدل التعيين اثنان وأربعون قرشا، وزادنى على ذلك علوفة لحمارى وها هو مطلعها:
أما الذى سلب الفؤاد فساقى
…
وروى الظما بين الرياض فساقى
ومنها فى الغزل
أسر الفؤاد بناظريه مهفهف
…
تجرى الجفون عليه بالإطلاق
ما ماس يعبث بالغصون قوامه
…
إلا غدت تشكوه الأوراق
ولقد أراها أحضرت بيمينها
…
عرضا تقدمه لدولة باقى
ثم بقيت محترما فى هذا الديوان، منظورا بعين عنايته، موعودا بالترقى لأكثر من ذلك، وكان رحمة الله عليه مصرا لى على الخير، فإنه أمرنى بأن أحضر الفقه على مذهب أبى حنيفة حين كان يدرس فى مدرسة الألسن على يد الشيخين المنصورى والرشيدى، فكنت أتوجه كل يوم إلى المدرسة للحضور، حتى أتممنا العبادات وشرعنا فى المعاملات بملتقى الأبحر، وفى أثناء ذلك تجرد المرحوم محمد على باشا عن الحكم، وتولاه بعده المرحوم إبراهيم باشا، فنظم قلم الترجمة نظما فائقا، وأقامه بديوان الغورى بالقلقة العامرة، وكان رئيسه كافى بيك
ولم يدم ولم تدم أمنيه
…
إذا نشبت أظافر المنيه/
فإن إبراهيم باشا رحمه الله ما سلم حتى ودع، وما اشتد حتى تصدع، ونقل الملك للمرحوم عباس باشا، فرتب المدارس بوجه آخر، وجعل تلامذة الفقه يحضرون المحاسبة تحت نظارة عبد الرحمن بيك، قصدا لإزالة تسلط القبط على هذا الفن، وجعله تحت يد المسلمين، وكنت أود أن أكون من ضمن المحاسبين، لكن الله تعالى رزقنى بغير حساب، ومنّ عليّ بالصحة فى ديوانها، فأخذت أترجم فى الأوقات الخالية كتاب لافنتين وهو من أعظم الآداب الفرنساوية المنظومة على لسان الحيوان، من باب الصادع والباغم، وفاكهة الخلفاء، ومدحت المرحوم عباس باشا بقصيدة أولها:
يا مصر قد ألبست خير لباس
…
وعليك أصبح كل غصن كاسى
والنيل فاض على رباك كأنه
…
فيض المكارم من يدى عباس
ملك إذا جاد الملوك بدرهم
…
فتح الكنوز وجاد بالأكياس
وقدر الله تعالى بعد ذلك أن توفى إلى رحمة مولاه، فلا حول ولا قوة إلا بالله، وحكم بعده سعيد باشا، فحضر كلوت بيك بعد هجرته، وتحصل منه على فتح مدرسته، وأخذنى مترجما بمجلس الطب، فترجمت مقالته، وتلوتها يوم الافتتاح على رءوس الأشهاد من العلماء والأمراء الذوات والتلامذة والخوجات، وكان يوما بقصر العينى مشهودا، ومحفلا من المحافل العظام معدودا، خلدت ذكره الأوراق، وأفلحت المدرسة بعدها، وبلغت فى العلوم رشدها، واشتغلت بإتمام العيون اليواقظ، وعرضتها على الوالى بواسطة المرحوم مصطفى فاصل باشا، وكان أوصلنى إليه المرحوم محمد على بيك الحكيم، فما أثمر غرسها، وما نفع ورسها، فاتفقت مع رجل فرنساوى له مطبعة من الحجر، يسمى يوسف بير، وعهدته بطبعها فتعهد، ثم أخلف ما وعد فكلفت مطبعة أكبر من مطبعته، وصرفت عليها ما جمعت ونشرتها، ثم بعت الحمار وبعتها وقلت فى ذلك:
راجى المحال عبيط
…
وآخر الزمر طيط
والناس فاثنان بخت
…
مروج وقليط
والعلم من غير حظ
…
لا شك جهل بسيط
وقلت فى الغزل فى تلك الأيام:
وخد لورد الربا جامع
…
غدا أحمر اللون كالعنبر
تعبدت فيه ولا غرو أن
…
تعبدت فى الجامع الأحمر
وقلت فى ذم الحوالات ومدح النقود:
ليس فى البيع والحوالات خير
…
إنما الخير حاصل فى النقود
قد أضرت بنا الحوالات حتى
…
أحوجتنا إلى وجوه اليهود
وقلت يوم الامتحان:
ويوم الامتحان أعز يوم
…
ينافس فيه من فصل الخطابا
فبحر من يمد به سؤالا
…
وحبر من يرد له جوابا
ثم ما زلت أتنقل بعدها من ديوان إلى آخر، كمجلس التجار، وقلم الوقائع وضبطية مصر؛ حتى أشرقت شمس إسماعيل فى المشرقين، وخفقت بنور سعده فى الخافقين، وانتظمت بحكمه قلائد العمران، وانتثر من يمناه الدر والجمان، وخرج من بحره اللؤلؤ والمرجان، فانتخبت لديوان الواردات، وترقيت برتبة البيكباشى أعلى الدرجات، فأول ما قلت فى هذا الديوان، وكان تاريخا لافتتاحه:
دام إسماعيل باشا
…
علما بين الولاة
فتح الخير بمصر
…
وسعى بالحسنات
فله بالشكر أرخ
…
فتح حصن الواردات
سنة 1279/
وكانت بخدمة البحرية زيادة على هذه الوظيفة، وكنت مع كثرة أشغالى أجد خلوا وفراغا منها، فاملؤه بترجمة البعض من كتب الأدب، ككتاب بول وفرجينى، فأنى أخرجته من القالب الفرنساوى إلى القالب العربى، وبلغت فى ترجمته مآربى، وأهديته إلى صاحب السدة العالية، والمآثر المرضية، سيدى محمد باشا توفيق نجل الحضرة الخديوية، وولىّ عهد الحكومة المصرية إذ ذاك، ثم لما حضرت مصر طبعته وبعته، فتخلد لى كتابان، العيون اليواقظ،
وقبول وورد جنة، وعملت التحفة السنية فى لغتى العرب والفرنساوية، منظومة مرتبة القطع على الحروف الأبجدية، فحسن طبعها وسهل بيعها، ثم أخذت فى ترجمة التياترات، وبدأت بكتاب يسمى الشيخ متلوف نظير ترتوف، الذى عمله مولير الشهير بفرانسا مع التزام نظمه كأصله، ومراعاة عوائد الشرق عملا بما دعانى إليه الباشا المحترم، والفاضل المعظم سيدى الأمير على باشا مبارك ناظر المدارس إذ ذاك.
ومن الكتب التى ترجمتها للبحرية قانون الداخلية على كثرة بنوده. وقلة وجوده، وكنت استعرته من أحد القبودانات الفرنساوية إلى الآن ترجمة وأصلا، ولما نقلت من البحرية إلى الجهادية، ترجمت فيها تعليم النفر، وتعليم، البلوك، وتعليم الأورطة، وتعليم الالاى، وتعليم اللوا، وتعليم النشان، والنصائح العسكرية، وتعليم البيادة، البروسيانى، وتطبيق العمل على العلم، وختمتها بالضوء السارى فى تذكار السوارى، ثم ألفت مختصرا فى الجغرافيا، وها أنا للآن فى ذلك الديوان. انتهى.
حرف الياء
(اليهودية)
قرية قديمة من مديرية البحيرة بمركز الحاجر، بجوار حاجر الجبل الغربى فى شمال ترعة الخشبى، الخارجة من ترعة أمين أغا بقرب ناحية خربتا، أبنيتها بالآجر واللبن، وبها أشجار جميز وسنط، ويزرع فيها قصب السكر، وفيها سواق معينة عذبة الماء، بعد ماؤها فى وقت التحاريق نحو ثلاثة أمتار، والعادة عندهم فى بناء السواقى أن يوضع فى نهاية الحفر خنزيرة من خشب الجميز، ثم يوضع فوقها حزم من حطب القطن وحطب اللال، وهو شجر ينبت فى الجبل، يبلغ طوله فى بعض الأحيان أكثر من متر، يعمل حزما تربط من الوسط والطرفين بالحلفاء، وترص بالخلاف كالبنيان على سطح الخنزيرة إلى سطح الأرض، ثم يردم حولها، ويزرع شجر الصفصاف؛ لأجل أن يمسك الأرض بجدرانه، فتمكث الساقية نحو خمس عشرة سنة، وتكسب أهلها من الزراعة وغيرها، وفيها تنسج أحرمة الصوف، ويقال فى أصل وضعها إنه بعد تخريب مدينة القدس، بأمر ملك الشام أنطيكوس إبيبغان رخص بطليموس حاكم مصر لاويناس الأكبر، رئيس أحبار اليهود فى بناء معبد فى أرض مصر على هيئة معبد الفرس، فبناه هناك، ونقل إليه ما يلزم من الحلى والزينة، والخدم وغير ذلك، وكثر حوله وفود اليهود، وبنو المنازل والمساكن، فكانت مدينة عظيمة وسميت اليهودية.
وقد بقى هذا المعبد محترما مبجلا زمن البطالسة، ثم صدرت الأوامر بقفله وتركه فى زمن قيصر الروم وبسبيسيان، ويظهر أن اضمحلال هذه المدينة قد بدأ من وقتئذ، وعلى هذا فمدة بقائها عامرة، تنيف على مائتين وأربعين سنة؛ لأن ابتداء عمارتها كان قبل المسيح بمائة وثلاث وسبعين سنة، وقفل المعبد كان بعد المسيح باثنتين وسبعين سنة، واتساع التل الموجود بها الآن، ربما يدل على أنها بقيت عامرة مدة أكثر من ذلك؛ لأنه لا يبلغ فى مثل هذه
المدة القليلة تلك السعة العظيمة، فلعل أويناس اختار لبناء المعبد مدينة قديمة كانت عامرة من قبل، والآثار التى ظهرت فى الحفر تشهد لذلك، فإنه وجد فى الأساسات ثلاث طبقات، بعضها فوق بعض، غطت السفلى طبقة من الرمال، وبنى فوقها، وهكذا.
فلعلها كانت قبل ذلك من مدن اليهود، وكانت هذه المدينة قديما محوطة بسور من اللبن، وكان فى زواياها، وفى نقط كثيرة منها أبراج آثارها باقية إلى الآن فى الجهة الشرقية الجنوبية، منها برج مبنى فوق بناء آخر من لبن أكبر من لبنه، ويرى فى بعض طوبه حمرة كالطوب المحرق، وقد اضمحل هذا التل الآن بسبب أخذ السباخ منه، ولم يبق به من الآثار إلا شئ قليل، ومن مدة خمس وأربعين سنة على ما ذكر لينان بيك؛ كان يوجد فى أعلى التل قطع كرانيش، تدل صنعتها على أنها من عمل المصريين، وفى جهة جنوب السور مع أرض المزارع، كان يوجد حائط ممتد من الشرق إلى الغرب، يشبه الرصيف، طوله نحو سبعمائة متر وعرضه أربعة أمتار، وعمقه فى الأرض نحو ستة أمتار، وهو من أحجار كبيرة، يظهر أنها نقلت إلى هذا الحائط من عمارة كانت قريبة منه، ويوجد الآن فى وسط التل فى ثلثى ارتفاعه تمثال من الحجر، وقطع أعمدة من طوب وشفاف وحجارة عليها نقوش هيروجليفية، وفى جهته الغربية على وجه الأرض آثار حمام من المرمر المصرى الأبيض، عبارة عن باب وعمودين وحوض حجر/واحد، طوله ثلاثة أمتار، وعرضه متران ونصف، فى عمق متر وأربعة أخماس متر، بداخله سلم على هيئة مغاطس الحمامات، وفى مقابلة مدينة السويس، فى الشمال الشرقى جزيرة تعرف عند الأهالى: باليهودية، بقربها محجر على ساحل البحر، تؤخذ منه الأحجار للعمارات، وإلى الآن يوجد هناك آثار وحوض، كانت تخزن فيه المياه الواصلة إليه من حفائر باقية آثارها.
وفى بعض التواريخ أنه كان فى هذا الموضع مدينة تسكنها اليهود، وكانت كثيرة المتاجر، وتصنع فيها المراكب بكثرة.
ترجمة الشيخ أحمد برغوث المالكى
وقد نشأ من قرية اليهودية العالم الصالح، والإمام الناجح الشيخ أحمد الشهير ببرغوث المالكى، كما فى حوادث سنة ثلاث وعشرين بعد المائتين والألف من الجبرتى. وقال: قدم الأزهر وتفقه على مشايخ العصر، ومهر فى المعقول والمنقول، وتصدى للتدريس، وانتفعت به الطلبة، واشتهر ذكره، وشهدوا بفضله، وكان على حالة حسنة، ولم يتزىّ بزى الفقهاء، يقضى حوائجه بنفسه، تمرّض بالزمانة مدة سنين، فكان يتوكأ على عصا، ولم يقطع دروسه بالأزهر، ولم يزل كذلك إلى أن توفى فى شهر صفر من السنة المذكورة، ودفن بقرافة المجاورين. عليه رحمة ربّ العالمين.
وإلى هنا انتهى الكلام على خطط مدن مصر وقراها الشهيرة قديمة وحديثة، وما وصل إلينا من حوادثها القديمة والحديثة، وأخبار أهلها من العلماء والأعيان والمشاهير. واعلم أن الكلام على خطط القاهرة من المهمات التى اعتنى بها أفاضل العلماء والمؤرخين ورؤساؤهم قديما، قال فى كشف الظنون:(خطط مصر) وهى جمع خطة بمعنى محلة أو بلد؛ لأنه يخط عند التحديد، وأول من صنف فيه أبو عمر محمد بن يوسف الكندى، ثم القاضى أبو عبد الله محمد بن سلامة القضاعى المتوفى سنة 454 سماه (المختار فى ذكر الخطط والآثار)، فدثر أكثره فى سنى الشدة المستنصرية من سنة 457 إلى سنة 464 من الغلاء والوباء، ثم كتب تلميذه أبو عبد الله محمد بن زكات النحوى المتوفى سنة 520 عن مائة سنة وثلاثة أشهر، ثم كتب الشريف محمد بن إسماعيل الجوانى وسماه:(النقط لمعجم ما أشكل من الخطط)، ثم كتب القاضى تاج الدين محمد بن عبد الوهاب بن المتوج سنة 730 وسماه:(اتعاظ المتأمل وإيقاظ المتغفل)، فبين أحوال مصر إلى حدود سنة
725 وقد دثر بعده معظم ما ذكره، ثم كتب القاضى محيى الدين عبد الله بن عبد الظاهر بن نشوان المتوفى سنة 792 وسماه:(الروضة البهية الزاهرة وخطط المعزية القاهرة)، ثم صنف الشيخ تقى الدين أحمد بن عبد القادر المقريزى المتوفى سنة 845 كتابا مفيدا وسماه:(المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار)، أحسن فيه وأجاد، وهو المشهور المتداول الآن، ولهذا الكتاب ترجمة بالتركية، عملها بعض العلماء للأمير إبراهيم الدفترى سنة 969
انتهى.
تم الجزء السابع عشر ويليه الجزء الثامن عشر أوله (مقياس النيل)
اهـ