المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

إعداد ومراجعة: د/ سيدة حامد عبد العال   المراجعة التاريخية: د/لبيبة إبراهيم مصطفى - الخطط التوفيقية الجديدة - جـ ١٨

[علي مبارك]

فهرس الكتاب

إعداد ومراجعة:

د/ سيدة حامد عبد العال

المراجعة التاريخية:

د/لبيبة إبراهيم مصطفى

ص: 3

بسم الله الرحمن الرحيم

(مقياس النيل)

من المعلوم أن أرض الديار المصرية لا يحصل منها فلاحوها على محصول إلا إذا غمرها ماء النيل، فحينئذ لا تكون الأموال المضروبة عليهم إلا على ما غمر منها بالماء؛ لأنه لا يتحصل من غيره على شئ ما. ومن هنا يعلم السبب الذى جعل حكامها ومتولى أمورها فى جميع الأزمان يبذلون مجهودهم فى قياس درجة فيضانه فى كل سنة، بغاية الضبط والدقة فى مواضع كثيرة من وادى النيل من أعلاه إلى أسفله؛ لأن القياس المذكور هو القاعدة فى ربط المال وتوزيعه على البلاد. ويظهر من أقوال مؤرخى الروم وغيرهم أن المصريين فى الأزمان الغابرة كانوا يقيسون ارتفاع الفيضان بمقياس «نقالى» وهو عبارة عن خشبة أو قصبة مقسومة إلى أقسام معلومة فى طرفها حلقة أطلقت عليها المؤرخون المذكورون اسم «نيلومتر» أو «نيلو أسكوب» والأول: مركب من كلمتى «نيل» اسم النهر. ومن «متر» يعنى:

قياس. والثانى: من «نيل» اسم النهر ومن: «أسكوب» يعنى: «رصد» ولا عتنائهم بالنيل كانت آلة المقياس تودع فى معبد له يطلق عليه اسم «سيرابيس» وكانت كهنته لا غيرهم هم المخصصون لاستعمالها فى أوقاتها.

وقال بعض العارفين بلغة المصريين القديمة إن كلمة سيرابيس مركبة من كلمتى «سيرا» و «أبيس» والأولى: قياس. والثانية: النيل.

وبناء على ذلك يكون المعبد المذكور «معبد النيل» ، ولا يخفى أن المصريين كانوا يقدسون النيل، ويجعلون له قسسا وأعيادا ومواسم. وفى الكتابة القديمة المنقوشة على جدران المبانى الباقية إلى الآن تشاهد رسوما كثيرة مختلفة يظن أنها صور آلة المقياس النقالية فى المدد القديمة قبل أن يجعلوها ثابتة كما هى الآن فى أيامنا فمن الرسوم المذكورة ما هو بهذا الشكل عبارة عن خشبة فى آخرها أخرى صغيرة. أو بهذا الشكل

ص: 7

وهو لا يختلف عن السابق إلا بكون الخشبة الصغيرة عوضا عن أن تكون قائمة على نهاية الأخرى جعلت قائمة عليها فى جزء منها. وفى بعض المبانى وجدت الصورة بهذه الكيفية تارة وجدت آلة المقياس فى وسط إناء هكذا شكله مأخوذ من شكل زهرة اللينوفر التى كان المصريون يجعلونها علما على النيل بسبب كثرة نبتها فى شواطئه فى تلك الأزمان، ولا بد أن تسمية هذه النباتة عند المصريين فى زماننا بعرائس النيل مأخوذة من هذه النسبة. وغير الأشكال الماضية توجد هذه الأشكال الثلاثة وهى غير الأشكال السابقة بإضافة حلقة. وجميع العارفين بالأمور القديمة يطلقون عليها اسم «مفتاح النيل» ويقولون: إن المصريين كانوا يتيمنون به ويجعلون منه صورا تأخذها المرضى وتجعلها فى أعناقهم بقصد الشفاء من الأمراض.

وفى بعض المبانى تكون صورة الحلقة غير مستديرة ويكون المفتاح/بهذه الصورة فى أعلاها توجد هذه العلامة

(1)

التى هى فى كتابة المصريين دليل على الماء، وفى قاع الإناء توجد صورة، وقد وجد مفتاح النيل على شئ يشبه القارب وبحذائه صورة هكذا وجد أيضا بحذاء شئ يشبه السفينة هكذا والأول يدل على الفيضان فى مبدئه، والثانى يدل على الفيضان فى آخره، وزعم بعضهم أن الزيادة الموجودة فوق القائم على السفينة فى الشكل الثانى تدل على رأس الهدهد، ويقولون: إن هذا الطير كان عند المصريين علامة على هبوب الرياح الجنوبية التى تساعد نزول زيادة مياه النيل على الأراضى فتنكشف، وتمسح، وتزرع، والأسباب التى أسس عليها العارفون باللغة القديمة المصرية ذلك هى قولهم: إن الهدهد ينزل وقت نزول مياه النيل من بلاد الحبشة إلى الأقاليم القبلية من الديار المصرية، ويسير إلى الأقاليم البحرية مع مياه النهر لأجل أن يلتقط الدود الذي يظهر فى الطين من فعل الحرارة عليه، بعد تجرده عن ماء النيل.

(1)

بياض فى الأصل.

ص: 8

وغير المقاييس النقالية المذكورة كان يوجد مقاييس ثابتة مصنوعة من البناء فى مواضع متعددة، بنيت بأوامر الملوك والفراعنة الذين تصرفوا فى أمر الديار المصرية، وكان عليها يقاس ارتفاع الفيضان والمبانى المذكورة كانت تارة فى صورة أعمدة مقسمة قائمة فى وسط حياض يصل إليها ماء النيل، وتارة كانت الأقسام المذكورة موجودة على نصف جدران الحياض، وفى بعض المواضع كانت الأرصفة مدرجة على هيئة السلم تبتدئ من القاع إلى آخر الحرف، وعليها كان يقاس ويعلّم ارتفاع الفيضان، وبعض الأعمدة كان مدرّجا كما فى هذا الشكل من الأسفل إلى الأعلى، والبعض كان فى عمود لم تكن تقاسيمه إلا فى جزئه الأعلى هكذا وكانت مقاييس أخرى غير الماضية فكان منها ما صورته كصورة السلم الخشب هكذ أو فى هذه الصورة وبعضها كان على هذه الصورة وهناك من المقاييس ما هو كهيئة سلّمين متقاربين هكذا وتوجد أشكال كثيرة غير التى ذكرنا مرسومة على جدران المبانى، وهى تدل بلا شك على الأنواع المختلفة من المقاييس التى كانت تستعملها المصريون، والتى استفدناه مما ذكره «هيرودوط» وهو أقدم مؤرخى اليونان الذى ساح الديار المصرية فى الأزمان القديمة، وأقام مدة فى المدن الثلاث المشهورة - فى تلك الأزمان - وهى: طيبة، ومنف

(1)

، وعين شمس، هو أنه كان يوجد مقاييس متعددة واحد منها كان بمدينة «منف» التى عقبت مدينة «طيبة» وصارت تخت الديار المصرية، وأخبرته قسس منف: أنه فى زمن فرعون مصر ميربيس كان إذا زاد النيل ثمانية أذرع أروى جميع الأرض الكائنة فوق مدينة منف، وكان فى وقت السياح المذكور لا تروى إلا إذا وصلت الزيادة إلى ستة عشر ذراعا أو إلى خمسة عشر.

(1)

انظر تاريخ منف فى: الفضائل الباهرة فى محاسن مصر والقاهرة لابن ظهيرة، ص 7. ط. دار الكتب.

ص: 9

ومما ذكره السياح المذكور أن عمودا كان قد أقيم فى جهة من جزيرة الدلتا وهى جزيرة روضة البحرين لقياس مياه الفيضان، وزعم بعض الناس أنه هو عمود مقياس الروضة الآن.

‌مطلب مقياس النيل الذى عمله يوسف عليه السلام

وقال القزوينى فى كتاب «عجائب المخلوقات» :

ولما كان زمان يوسف عليه السلام عمل مقياسا يعرف به قدر الزيادة والنقصان، يزرعون عليه، وإذا زاد على قدر كفايتهم يستبشرون بخصب السنة وسعة الرزق، وذلك المقياس عمود قائم فى وسط بركة على شاطئ النيل، لها طريق للنيل يدخلها إذا زاد، وعلى ذلك العمود خطوط معروفة عندهم، يعرفون بوصول الماء إليها مقدار زيادته، وأقل ما يكفى أهل مصر سنتهم أن يزيد أربعة عشر ذراعا، فإن زاد ستة عشر ذراعا، زرعوا ما يفضل عن عامهم وأكثر ما يزيد ثمانية عشر ذراعا، والذراع أربعة وعشرون إصبعا، فإذا استوفى الماء ما ذكر، كسرت الخلجان حتى تملأ جميع أرض مصر وتبقى التلال والرمال والقرى عليها وسائر الأراضى تغمر بالبحر، فإذا استوفت الأرض من الماء ورويت زرعت بأصناف الزرع وحينئذ يبرد/الجو ولا تنشف الأرض؛ فإذا آن أن يدرك الزرع، عاد الوقت يأخذ فى الحر حتى ينضج الزرع ويؤخذ فى حصاده وفى ذلك عبرة». انتهى.

ويستفاد من المباحث التى أجراها العارفون باللغة المصرية القديمة أن وفود سيدنا يوسف عليه السلام على أرض مصر كان فى القرن الثامن عشر قبل الميلاد، وكان ذلك فى مدة فرعون مصر أبو فيس الثانى المعروف فى تواريخ العرب باسم الريان بن الوليد العملاقى

(1)

، وحينئذ يعلم أن فى زمن يوسف عليه السلام كان قانون الرى فى الديار المصرية، كما كان فى زمن هيرودوط، والقانون

(1)

الفضائل الباهرة لا بن ظهيرة، ص 15.

ص: 10

المذكور هو الذى كان جاريا فى مدة الإسلام وذكره غير واحد من مؤرخى العرب، وبناء على ذلك لم تفهم كفاية الثمانية أذرع للرى الذى أخبرت قسس منف هيرودوط أنها كانت كافية لرى جميع الأرض الكائنة فوق مدينة منف فى زمن فرعون مصر ميربيس؛ لأن هذا الفرعون جلس على سرير ملك مصر بعد أبو فيس بعدة قرون، وضرورة كانت أرض الزراعة وأرض قاع النيل قد ارتفعتا عما كانتا عليه فى زمن سيدنا يوسف عليه السلام، فإن لم يكن هناك تحريف وغلط فى هذا المقدار، فأقول: ربما يقال إن الذراع الذى كان مستعملا، كان غير الذراع المعتبر فى المقياس الآن، وعلى كل حال فالقانون المذكور هو المعول عليه فى جميع الأزمان، وإن النهاية الصغرى المطلوبة لرى أرض الزراعة بمصر هى أربعة عشر ذراعا، والحد الوسط ستة عشر ذراعا زيادة صرفة وهو حد الوفاء، والثمانية عشر هى النهاية الكبرى التى يخاف منها.

(المقياس فى مدة الفرس)

لم يصل إلينا من أقوال المؤرخين ما يفيد أن الفرس فى مدة حكمهم بالديار المصرية بنوا مقاييس جديدة، أو عمروا شيئا من القديم، وحيث أن جميع المؤرخين اتفقوا على أن كسرى ملك الفرس المسمى «بجمشيد» ومن تبعه فى الحكومة فى هذه الديار، كانوا يولون من طرفهم عمالا تجمع الخراج الذى يضربونه على أهل الديار المصرية على غير طريق مربوط، وكان طريق سلوكهم فى ذلك الظلم والإجحاف، وكان لا يشغلهم أمر المبانى النافعة ولا الآثار الباقية، ومن احتقارهم للمصريين وعوائدهم وأديانهم انهدم أكثر المبانى، والذى بقى اعتراه التلف وتلاشى أمره إلى أن أزيل ملكهم وانقطع حكمهم بدخول اليونان هذه الأرض مع إسكندر الأكبر فليبيس واستيلائهم عليها.

ص: 11

(المقياس فى مدة اليونان)

بعد أن طرد إسكندر الأكبر الفرس من أرض مصر، وأمر بإنشاء مدينة الإسكندرية لم يقم بالديار المصرية إلا قليلا فلم يشتغل بتراتيبها الداخلية والمالية، وبعد موته وكان فى سنة أربع وعشرين وثلاثمائة قبل الميلاد تقاسمت رؤساء جيوشه مملكته الواسعة، فوقعت مصر فى نصيب [بطلميوس بن لاجوس الملقب «سوتير»]

(1)

سنة ثلاث وعشرين وثلثمائة وصارت حكومة مستقلة به؛ فأحسن حالها وأجرى تراتيبها ونظامها، وفى سنة خمس وثمانين ومائتين قبل الميلاد ألحق بنفسه ولده الملقب «فيلادلفوس» وأشركه معه فى الحكومة، وقد تحقق أنه ومن تبعه من البطالسة اعتنوا بأمر مقياس النيل واجتهدوا فى إبقاء الموجود من المقاييس، وأنشأوا مقاييس جديدة، منها مقياس مدينة أرمنت المعروفة قديما باسم «هيرمونيس» ، ومقياس جزيرة أسوان الذى قد بنى بقرب معبد كنوفيس على ما ذكره استرابون الذى ساح الديار المصرية فى زمن أغسطس قيصر الروم فى قريب من السنة الرابعة عشرة من الميلاد، وبناء على قوله كان على المقياس المذكور علامات الفيضان الأعظم، والمتوسط، والأصغر، وكان خدم المقياس تعلن وقت الزيادة بالنداء، لأجل أن يكون فى علم الجميع ويتحصل للحكام إمكان توزيع المياه، وحفظ الجسور وتطهير الخلجان، ومقدار الأموال فى كل جهة؛ لأن الأموال كانت تزيد فى السنين التى يتم فيها الفيضان وتنقص مع نقصه، وكان غير ذلك فى المدينة المعروفة قديما باسم «المقدّسة لوسين» المعتقدة فى تخليص النساء من الحمل، والآن تعرف من الأقاليم القبلية باسم «الكعب» ، مقياس مستعمل فى زمن البطالسة، وإلى الآن يوجد فى خراب هذه المدينة أثر حوض مستطيل الشكل فالظاهر أن المقياس كان فيه.

(1)

بطليموس لا جوس الملقب «سوتير» . كذا فى الأصل. والمثبت بين الحاصرتين هو الصحيح. انظر:

إبراهيم نصحى: تاريخ مصر فى عهد البطالمة، ج 1، ص 50 - 51، ط. الثانية، القاهرة 1966.

ص: 12

(المقياس فى زمن الرومانيين)

لم يستدل على أن الرومانيين أنشأوا مقاييس جديدة بل اكتفوا بالموجود قبلهم، ولما كانت إدارة المالية مؤسسة على/حركة مياه النيل فى وقت الفيضان كما سبقت الإشارة إلى ذلك اعتنوا بحفظ الموجود منها، وفى زمن القيصر «ماركوريل» قد ساح لعالم الفاضل «إليوس أرستيد» بلاد آسيا والشام وبلاد يهوذا ومصر إلى حد الشلالات، وقد ذكر فى كتابه:«أن فى وقته كان يقاس فيضان النيل بمقياس مدينة منف ومقياس مدينة قفط التى هى من مدن الأقاليم القبلية» ، وبناء على قوله ينبغى أن يصل الماء فى مقياس مدينة قفط إلى إحدى وعشرين ذراعا ليعم الأرض فى الأقاليم المصرية.

(المقياس فى مدة قياصرة الشرق، أى: قياصرة القسطنطينية)

وفى زمن القيصر [قنسطنطين]

(1)

كان المقياس النقالى يحفظ فى معبد سيرابيس وذلك على العادة السابقة من مدة الفراعنة، ولكن لما تدين هذا القيصر بالديانة النصرانية نقل المقياس الذى كان يطلق عليه اسم «ذراع النيل» وجعله فى كنيسة الإسكندرية تعظيما للديانة النصرانية، فغضبت لذلك كهنة الديار المصرية العتفة، وأشيع فى جميع أعمال القطر المصرى، أنه لا يحصل فيضان فى تلك السنة بسبب غضب المقدس سيرابيس، وخاف الأهالى من ذلك ولكن لم يحصل شئ مما توهموا حصوله، وحصل الفيضان فى تلك السنة واسنين التى بعدها، وبقى المقياس فى الكنيسة إلى زمن القيصر [جوليان

(2)

الملقب «بالمرتد» ، فأمر برد جميع ما كان للديار المصرية من الم؟؟؟ با، وكانت قد تجردت عنها بتعدى من سبق من

(1)

فى الأصل: قسطنطين. ولصحيح ما أثبتناه فهو. Constantine انظر: إدوارد جيبون:

اضمحلال الإمبراطورية الرومنية وسقوطها، ج 1، ص 313؛ سعيد عاشور: أوربا العصور الوسطى، ج 1، ص 17 وما بعدها، ط الثالثة، القاهرة 1964.

(2)

فى الأصل: بوليان. والصحيح ما أثبتناه.

ص: 13

القياصرة، وبالجملة جعل مقياس النيل فى معبد سيرابيس، كما كان فى الأزمان السابقة، فبقى به إلى زمن القيصر تيودور فنقل ثانيا إلى الكنيسة، وهدم المعبد ومن ذلك الحين استمر بالكنيسة بين يدى قسس النصارى، إلى أن فتح الله أرض مصر على يد عمرو بن العاص فى خلافة أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب سنة أربع وستمائة من الميلاد الموافقة لسنة تسع عشرة من الهجرة.

(المقياس فى مدة الإسلام وفى خلافة الأموية)

والذى يستفاد من أقوال مؤرخى العرب هو أنه لما دخلت مصر فى قبضة المسلمين صرفوا همتهم فى ترتيب أمر الخراج، وبنوا فى محلات مختلفة مقاييس للنيل، فمن ذلك ما بنى بجهات الصعيد فى السنة التاسعة عشرة من الهجرة بأمر عمرو بن العاص وهما مقياسان: أحدهما فى جزيرة أسوان فى حدود القطر المصرى والآخر بمدينة دندرة، ومما قاله المسعودى: إن عمرو ابن العاص بنى مقياسا بحلوان، وسبب بنائه لهذا المقياس أنه لما فتح مصر اتصل إلى علم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ما يلقى أهلها من الغلاء عند وقوف النيل عن الحد الذى فى مقياس لهم، وأن الاستشعار يدعوهم إلى الاحتكار، ويدعو الاحتكار إلى تصاعد الأسعار بغير قحط.

فكتب عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص يسأله عن شرح الحال، فأجابه عمرو: إنى وجدت ما تروى به مصر حتى لا يقحط أهلها أربعة عشر ذراعا، والحد الذى يروى منه سائرها حتى يفضل عن حاجتهم ويبقى عندهم قوت سنة أخرى ستة عشر ذراعا، والنهايتان المخوفتان فى الزيادة والنقصان وهما:

الظمأ والاستبحار إثنا عشر ذراعا فى النقصان، وثمانية عشر ذراعا فى الزيادة، هذا والبلد فى ذلك الوقت محفور الأنهار معقود الجسور عندما تسلموه من القبط، وخميرة العمارة فيه. فاستشار عمر بن الخطاب على بن أبي طالب فى ذلك، فأمره أن يكتب إليه بأن يبنى مقياسا، وأن ينقص ذراعين من اثنى عشر ذراعا، وأن يقرّ ما بعدها على الأصل، وأن ينقص من كل ذراع بعد الستة عشر إصبعين، ففعل ذلك وبناه بحلوان. ودامت العمال إلى

ص: 14

زمن معاوية بن أبى سفيان معتنية بأمر قياس النيل ومحافظة على المقاييس الموجودة، إلى أن تولى معاوية الخلافة فبنى فى مدينة أنصنا

(1)

مقياسا. سنة ست وأربعين من الهجرة، ومن بعده فى زمن عبد الملك بن مروان فى سنة ثمانين من الهجرة، بنى أخوه عبد العزيز العامل على مصر مقياسا بمدينة حلوان؛ وهى بلدة صغيرة موضوعة على الشاطئ الأيمن من النيل على بعد فراسخ من مدينة القاهرة، ولم يبق المقياس المذكور إلا قليلا من الزمن ثم هدم سنة ست وتسعين من الهجرة بناء على قول المؤرخ جرجس بن العميد.

وكان هذا المقياس صغير الذراع بالاتفاق، بخلاف مقياس الروضة الآتى ذكره، فإنه أطلق عليه اسم «المقياس الكبير والجديد» بعد أن بناه يزيد بن عبد الله التركى العامل على مصر سنة سبع وأربعين ومائتين هجرية فى خلافة المتوكل

(2)

.

[مطلب عزل النصارى عن المقياس وأول من تولاه من المسلمين]

ومن هذا الوقت عزلت النصارى عن القياس وتولاه المسلمون، وأول من تعين لذلك أبو الرداد المعلم واسمه عبد السلام بن عبد الله بن الرداد المؤذن، وذكر ابن خلكان أنه كان رجلا صالحا وكان يؤذن فى الجامع/العتيق ويعلم الصبيان القرآن.

(3)

(المقياس فى مدة الخلفاء العباسية)

قد أنشأ الخليفة المأمون ابن الخليفة هارون الرشيد مقياسين غير مقياس جزيرة الروضة الذى سيجئ الكلام عليه. أحدهما بقرب بلد فى محل يعرف

(1)

أنصنا: من مدائن صعيد مصر القديمة، بها الملعب وهو من عجائبها وقيل إنه مقياس النيل.

خطط المقريزى، ج 1/ 359.، بها قرية حفن التى منها مارية القبطية أم إبراهيم عليه السلام.

وانظر الفضائل الباهرة لا بن ظهيرة، ص 56.

(2)

الفضائل الباهرة، ص 178.

(3)

انظر خطط المقريزى، ج 1/ 170.

ص: 15

باسم «صورات» . وعمل الثانى فى مدينة «أخميم» . وما ذكر هو ملخص تاريخ المقاييس التى كانت بالديار المصرية فى الأزمان القديمة، وبقى أغلبها يستعمل إلى أن عمل مقياس الروضة فى مواجهة مصر القديمة، فصار هو المعوّل عليه كما سيأتى.

[الكلام على أول من وضع مقياس الروضة الموجود الآن، ووصف ذلك المقياس]

والذى وضعه هو: أحمد بن محمد الحاسب القرصانى، بأمر المتوكل على الله، على ما ذكره ابن خلكان ونصه: «وحكى أنه قال: لما أردت أن أكتب على مواضع من المقياس ناظرت يزيد بن عبد الله، وسليمان بن وهب، والحسن الخادم فيما ينبغى أن يكتب عليه، وأعلمتهم أن أحسن ما يكتب عليه آيات من القرآن، واسم أمير المؤمنين المتوكل على الله، واسم الأمير المنتصر إذا كان العمل له، فاختلفوا فى ذلك، وبادر سليمان بن وهب فكتب من غير أن يعلم ويستطلع الرأى فى ذلك، فورد كتاب أمير المؤمنين أن يكتب عليه آيات من القرآن وما يشبه أمر المقياس، واسم أمير المؤمنين، فاستخرجت من القرآن آيات لا يمكن أن يكتب على المقياس أحسن ولا أشبه بأمر المقياس منها، وجعلت جميع ما كتبت فى الرخام الذى تقدم فى البناية فى المواضع التى قدرت الكتابة فيها بخط مقوّم غليظ على قدر الإصبع، ثابت فى بدن الرخام، مصبغ الحفر باللازورد المشمع يقرأ من بعد، فجعلت أول ما كتبت أربع آيات متساوية المقادير فى سطور أربعة فى تربيع بناء المقياس، على وزن سبع عشرة ذراعا من العمود، فكتبت فى الجانب الشرقى وهو المقابل لمدخل المقياس: بسم الله الرحمن الرحيم {وَ نَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنّاتٍ وَ حَبَّ الْحَصِيدِ}

(1)

.

(1)

سورة ق، الآية 9.

ص: 16

وفى الجانب الشمالى: {وَ تَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَ رَبَتْ وَ أَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ}

(1)

.

وعلى الجانب الغربى: {أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ}

(2)

.

وعلى الجانب الجنوبى: {وَ هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَ يَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَ هُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ}

(3)

.

فصارت هذه الآيات سطورا على وجه الماء إذا بلغ سبعة عشر ذراعا؛ لأن هذا وسط الزيادة، ثم جعلت فى الذراع الثامن عشر فى جميع التربيع نطاقا، مثل النطاق الذى جعلته علامة للذراع السادس عشر، وكتبت بإزاء الذراع الثامن عشر سطرا واحدا يحيط بجميع التربيع: بسم الله الرحمن الرحيم: {اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَ سَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَ سَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (32) وَ سَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَ سَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (33) وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفّارٌ}

(4)

.

بسم الله الرحمن الرحيم: مقياس يمن وسعادة، ونعمة وسلامة، أمر ببنائه عبد الله جعفر الإمام المتوكل على الله أمير المؤمنين أطال الله بقاءه، وأدام عزه وتأييده، على يد أحمد بن محمد الحاسب سنة سبع وأربعين ومائتين. وجعلت ما فوق ذلك من الحيطان التى بأعلى البناء منقوشا كله

(1)

سورة الحج، الآية 5.

(2)

سورة الحج، الآية 63.

(3)

سورة الشورى، الآية 28.

(4)

سورة إبراهيم، من الآية 32 - 34.

ص: 17

محفورا مصبوغا باللازورد المشمع، وعمدت إلى ما جاوز من العمود تسع عشرة ذراعا، والرأس المنصوب عليه، والعارضة اللبخ الممسكة له فنقشت ذلك كله بالذهب واللازورد، وكتبت على العارضة آية الكرسى

(1)

إلى آخرها، وكتبت على حائط الزقاق المقابل للنيل فوق باب مدخل المقياس حيث يقرأه السابلة سطرا فى الرخام من أوله إلى آخره وهو:

بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد سيد المرسلين، أمر عبد الله جعفر الإمام المتوكل على الله أمير المؤمنين، ببناء هذا المقياس الهاشمى لتعرف به زيادة النيل ونقصانه، وأطال الله بقاء أمير المؤمنين، وأدام له العز والتمكين والظفر على الأعداء، وتتابع الإحسان والنعماء، وزاده فى الخير رغبة، وبالرعية رأفة. وكتبه أحمد ابن محمد الحاسب فى رجب سنة سبع وأربعين ومائتين. وكتبت سطرين فى رخام على جانبى الباب، أحدهما: بسم الله ما شاء الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، {وَ قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَ زَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً}

(2)

. والآخر بسم الله، بلغ الماء فى السنة التى بنى فيها المقياس المتوكلى المبارك سبعة عشر ذراعا وثمانية عشر إصبعا، واتخذت مثال سبع من رخام ركبته فى وجه حائط قويعة القناة، والمطل على النيل على المقدار الذى إذا بلغ الماء ستة عشر ذراعا، دخل الماء فى فيه، وكتبت فوق ذلك فى أعلى الحائط:

{أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَ أَنْفُسُهُمْ أَ فَلا يُبْصِرُونَ}

(3)

.

/كتبه أحمد بن محمد الحاسب فى جمادى الآخرة سنة سبع وأربعين ومائتين، وصلى الله على محمد النبى وآله وسلم تسليما.

(1)

الآية رقم 255 من سورة البقرة.

(2)

سورة الإسراء، الآية 81.

(3)

سورة السجدة، الآية 27.

ص: 18

(والذراع فى المقياس ثمانية وعشرون إصبعا إلى أن ينتهى إلى اثنى عشر ذراعا، وبعد ذلك يصير اعتباره أربعة وعشرين إصبعا).

(وصف جزيرة الروضة)

اعلم أنه قد ألف العالم الفاضل الشيخ جلال الدين السيوطى كتابا سماه «كوكب الروضة» أطال فيه القول على هذه الجزيرة وتقلبات أحوالها من حين الفتح الإسلامى إلى زمنه، فمن يرد استيفاء القول فى هذه الجزيرة فعليه بمراجعة هذا الكتاب الجليل و «خطط المقريزى» ؛ لأننا فى هذا الكتاب لا نقصد إلا مقياس النيل نفسه، ولا نتكلم على جزيرة الروضة إلا بغاية الإيجاز فنقول: لم نقف على الوقت الذى بدأت فيه هذه الجزيرة بالظهور، فهل هى جزيرة تكونت من رسوب الطمى حول بعض المواضع كما حصل فى تكوين غيرها من الجزائر؟ أو هى قطعة من أرض مصر القديمة انفصلت بحادثة من الحوادث؟.

ويؤخذ من قول المقريزى إن هذه الجزيرة كانت تجاه القصر، وإليها التجأ المقوقس لما فتح الله على المسلمين قصر الشمع

(1)

وصار بها هو ومن معه من جموع الروم والقبط، وهى من أحسن المواضع هواء ومنظرا، وماء النيل يضرب فيها من جميع الجوانب، وبسبب استحكامها وقربها من التخت تقلبت بين أمرين: فتارة كانت تجعل حصنا للمدافعة، وتارة تجعل منتزها.

وكان يسكنها الأمراء والأعيان، ولم تزل إلى الآن عامرة بالدور الفاخرة، والمبانى النضرة، وبها البساتين والحدائق، وبها من الآثار القديمة:«مقياس النيل» فى بناء عتيق محله فى نهايتها القبلية، يحيط به قصر حسن باشا المانسترلى كتخدا مصر فى زمن المرحوم عباس باشا. وسنورد عليك

(1)

أنشئ بعد أن خرب بختنصر مصر. وكان يوقد فيه الشمع فى أول كل شهر عربى ليعلم الناس أن الشمس انتقلت من برج إلى آخر. وانظر الفضائل الباهرة، ص 93.

ص: 19

ملخص تاريخها للوقوف على بعض أحوالها وحوادثها، من وقت حدوث الملة الإسلامية إلى الآن. ويستفاد من المقريزى فى الخطط عن ابن المتوج وغيره أن الروم تحصنت بها لما فتح عمرو بن العاص مصر، وأقاموا بها مدة طويلة، وبعد ذلك تركوها، فخرب عمرو بن العاص بعض أبراجها وأسوارها وكانت مستديرة عليها، ومن ذلك يعلم أنها كانت من النقط الحصينة، وكانت فى مقابلة الحصن الشرقى الكائن فى بر مصر، وكان على فرع النيل الفاصل بينهما جسر أى قنطرة مجعولة من المراكب، أمر بقطع الجسر المذكور المقوقس حين ترك الحصن وانتقل إلى الجزيرة مع جماعة من رجاله كما نقل ذلك المقريزى عن ابن عبد الحكم، وبناء على ذلك يعلم أن هذه الجزيرة كانت مهتما بها فى الأزمان المتقدمة على زمن فتوح المسلمين، وكانت عامرة بالناس والمزارع، ويظن أن النيل كان يقاس بها فى مقياس فى جهتها القبلية، فاختار المسلمون موضعه، وبنوا المقياس الجديد الذى وضع فى زمن الخليفة [سليمان]

(1)

بن عبد الملك، والذى يؤدى إلى هذا الظن ما ذكره هيرودوط السياح، وقدمناه فيما سبق، وما هو متواتر بين الناس إلى الآن فى تسمية المصطبة الموجودة خلف الرصيف المقابل لمصر العتيقة تحت العيون الموصلة الماء للمقياس «بمصطبة فرعون» ، وأظن أن هذا الرصيف كان قديما موروثا عن الأزمان القديمة، وعلى كل فقد يعلم مما ذكره المقريزى فى خططه، أن هذه الجزيرة تقلبت عند كل انقلاب حصل فى الديار المصرية، إلى صور غير صورتها الأولى، فكانت بعد الفتح فى زمن عبد العزيز بن مروان أمير مصر عامرة بالدور المشرفة على النيل من كل جهة، وكان بها خمسمائة فاعل مخصوصة بحصول حريق أو هدم يقع فى البلد، وكانت الصناعة أى الترسانة بها من سنة أربع وخمسين واستمرت إلى أيام الإخشيد؛

(1)

فى الأصل شليماز. تحريف.

ص: 20

فأنشأ صناعة بساحل فسطاط مصر، وجعل موضع الصناعة التى بالروضة بستانا سماه:«المختار» . وأحمد بن طولون أكثر من عمل السفن الحربية وجعلها تطوف بها من كل ناحية، وبنى بها حصنا منيعا فى سنة ثلاثة وستين ومائتين، وجعله معقلا لماله وحرمه، عندما تحرك عليه موسى بن بغا يريد إبعاده عن عمل مصر. وقال القضاعى: إنه لما بلغ أحمد بن طولون مسير موسى بن بغا من العراق واليا على مصر وجميع أعمال ابن طولون - وذلك فى خلافة المعتمد على الله - تأمل مدينة فسطاط مصر فوجدها لا تؤخذ إلا من جهة النيل، فبنى الحصن بالجزيرة الذى بين الفسطاط والجزيرة، ليكون معقلا لحريمه وذخائره، واتخذ مائة مركب حربية سوى ما يضاف إليها من العشاريات

(1)

وغيرها، فلما وصل ابن بغا إلى الرقة تثاقل عن المسير لعظم شأن ابن طولون وقوته، ثم لم يلبث موسى أن مات وكفى ابن طولون أمره. وقال محمد بن داود لأحمد بن طولون:

بحر البسيط

لما توفى بغا بالرّقّتين ملا

ساقيه درقا

(2)

إلى الكعبين والعقب

بنى الجزيرة حصنا يستجنّ به

بالعسف والضّرب، والصّناع فى تعب

وواثب الجيزة القصوى فخندقها

وكاد يصعق من خوف ومن رعب

له مراكب فوق النيل راكدة

لما سوى القار للنظار والخشب

ترى عليها لباس الذل مذ بنيت

بالشّطّ ممنوعة من عزة الطلب

فما بناها لغزو الروم مكتتبا

لكن بناها غداة الروع للهرب

(1)

العشاريات: جمع عشارى وهى نوع من المراكب، كان يسمى فى عصر المماليك الحراقة، كان صغير الحجم، للملاحة النيلية. المغرب فى حلى المغرب. الجزء الخاص بمصر 158.

(2)

الدرق: ترس من جلود ليس فيه خشب. (اللسان: درق)

ص: 21

واهتم أحمد بن طولون فى بنائه بنفسه، وصرف عليه ثمانين ألف دينار، فكان من أحكم الحصون، وبقى على ذلك أيام ابن طولون كلها، ثم بعد ذلك أهمل، فأخذه النيل شيئا فشيئا.

ولما تقلد الأمير محمد بن [طغج]

(1)

أميرا على مصر، نقل الصناعة إلى البر الشرقى فى شعبان سنة خمس وعشرين وثلثمائة، واتخذ الإخشيد في محل عمارة المراكب من الجزيرة بستانا سماه «المختار»

(2)

، وصرف فى بنائه خمسة آلاف دينار، وجعل فيه دارا للغلمان، ودارا للنوبة وخزائن الكسوة، وخزائن الطعام. وكان الإخشيد يتنزه فيه ويفاخر به أهل العراق، واستمر هذا البستان محلا للنزهة إلى أن زالت الدولة الإخشيدية والكافورية. وقدمت الدولة الفاطمية من بلاد المغرب إلى مصر، فكان يتنزه فيه المعز لدين الله معد، وابنه العزيز بالله نزار، وصارت الجزيرة مدينة عامرة بالناس، ولها وال وقاض، وكان يقال: القاهرة، ومصر، والجزيرة.

فلما كانت أيام استيلاء الأفضل شاهنشاه بن أمير الجيوش بدر الجمالى وحجره على الخلفاء، أنشأ فى بحرى الجزيرة مكانا للنزهة سماه «الروضة» وتردد إليها ترددا كثيرا، فمن حينئذ صارت الجزيرة كلها تعرف «بالروضة» .

فلما قتل الأفضل بن أمير الجيوش فى سنة خمس عشر وخمسمائة نقل المأمون

(3)

البطائحى الوزير عمارة المراكب الحربية من الصناعة التى بجزيرة مصر إلى الصناعة القديمة بساحل مصر، وبنى عليها منظرة، كانت باقية إلى آخر أيام الدولة العلوية، فلما استبد الخليفة الآمر بأحكام الله أبو على

(1)

فى الأصل طفج. وهو: محمد بن طغج الإخشيد تولى 328 هـ، ولاه الخليفة العباسى المتقى بالله مصر والشام والحرمين، وعقد لولديه من بعده، نهاية الأرب 28/ 47.

(2)

انظر المغرب فى حلى المغرب، القسم الخاص بمصر، ص 160 - 161؛ خطط المقريزى 1/ 265.

(3)

هو أبو عبد الله محمد ابن الأمير نور الدولة أبى شجاع فاتك بن الأمير منجد الدولة أبى الحسن مختار المستنصرى. ولد 478 هـ واعتقل وقتل 522 هـ. خطط المقريزى 1/ 462 - 463.

ص: 22

منصور بن المستعلى بالله، أنشأ بجوار البستان «المختار» من جزيرة الروضة مكانا على النيل لمحبوبته الغالية البدوية وسماه «الهودج» ، وصار يتردد إليه بالروضة للنزهة فيه، إلى أن ركب من القصر بالقاهرة يريد الهودج فى يوم الثلاثاء رابع ذى القعدة سنة أربع وعشرين وخمسمائة، فلما وصل إلى رأس الجسر وثب عليه قوم من النزارية قد كمنوا له فى فرن تجاه الجسر بالروضة، وضربوه بالسكاكين حتى أثخنوه، وجرحوا جماعة من خدمه، فحمل إلى منظرة اللؤلؤة

(1)

بشاطئ الخليج ومات بها. وفى يوم قتله نهب سوق الجيزة.

قال ابن المتوج: اشترى الملك المظفر تقى الدين أبو سعيد عمر بن نور الدولة شاهنشاه بن نجم الدين بن [شاذى]

(2)

بن مروان، وهو ابن أخى السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، جزيرة مصر المشهورة «بالروضة» من بيت المال، وبقيت على ملكه إلى أن سير السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب ولده الملك العزيز عثمان إلى مصر ومعه عمه الملك العادل، وكتب إلى الملك المظفر أن يسلم لهما البلاد ويقدم عليه إلى الشام. فلما ورد عليه الكتاب، ووصل ابن عمه الملك العزيز، وعمه الملك العادل، شق عليه خروجه من الديار المصرية، وتحقق أنه لا عود له إليها أبدا؛ فوقف مدرسته التى تعرف فى مصر بالمدرسة «التقوية» ، وكانت قديما تعرف «بمنازل العز» ، على الفقهاء الشافعية، ووقف عليها جزيرة الروضة بكمالها، ووقف أيضا مدرسة بالفيوم، وسافر إلى عمه صلاح الدين بدمشق فملكه حماة.

ولم تزل جزيرة الروضة منتزها للملوك ومسكنا للناس إلى أن ولى الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الملك الكامل محمد بن الملك العادل أبى بكر

(1)

بناها العزيز بالله، تقع على الخليج بالقرب من باب القنطرة، يرى الجالس فيها جميع أرض الطبالة، وسائر أرض اللوق. أمر الحاكم بأمر الله بهدمها سنة 402 هـ. خطط المقريزى، ج 1/ 467.

(2)

فى الأصل: شادى. والصحيح ما أثبتناه. وقد ذكر ابن خلكان أن شاذى بالشين المعجمة وبعد الألف ذال معجمة مكسورة وبعدها ياء مثناة من تحتها - وهذا الاسم عجمى، ومعناه بالعربى «فرحان» . وفيات الأعيان، ج 1، ص 259.

ص: 23

بن أيوب سلطنة مصر، فاستأجر الجزيرة من القاضى فخر الدين أبى محمد عبد العزيز ابن قاضى القضاة عماد الدين أبى القاسم عبد الرحمن بن محمد، المعروف بابن السكرى، مدرس المدرسة المذكورة، لمدة ستين سنة فى دفعتين، كل دفعة قطعة، فالقطعة الأولى من جامع غين إلى المناظر طولا، وعرضا من البحر إلى البحر. واستأجر القطعة الثانية وهى باقى أرض الجزيرة الدائر عليها بحر النيل حينذاك، واستولى على ما كان بالجزيرة من النخل والجميز والغروس بيد الجور.

ولما عمر الملك الصالح مناظر قلعة الجزيرة قطع النخل وأدخله فى العمائر، وأما الجميز فإنه كان بشاطئ بحر النيل صف جميز يزيد على أربعين شجرة، وكان منتزه أهل مصر تحتها فى زمن النيل والربيع، قطعت جميعها فى الدولة الظاهرية، وعمر بها شوانى، [عوض]

(1)

الشوانى التى كان سيرها إلى جزائر قبرس وتكسرت هناك. واستمر تدريس المدرسة بيد القاضى فخر الدين إلى حين وفاته. ثم وليها بعده ولده القاضى عماد الدين أبو الحسن علىّ، وفى أيامه سلم له القطعة المستأجرة من الجزيرة أولا، وبقى بيد السلطنة القطعة الثانية إلى الآن، وكان الإفراج عنها فى شهور سنة ثمانية وتسعين/وستمائة فى الدولة الناصرية، ولم يزل القاضى عماد الدين مدرسها إلى حين وفاته، فوليها ولده وهو مدرسها الآن فى شعبان سنة أربع عشرة وسبعمائة. وقال السيوطى فى كتابه «كوكب الروضة»: أدى بعد ابن فتوح وتطاول عصره إلى ضرر عظيم بحيث خرجت عن وقف المدرسة بالكلية للجهل بالحال، وتطاول الزمان، واندراس شرط الواقف، وضياع كتاب الوقف، وفقد من له اطلاع واسع.

(1)

فى الأصل: عرض. والصحيح ما أثبتناه وفقا للسياق.

ص: 24

وكانت القطعة المذكورة أولا بيد السلطنة بإجارة صحيحة، ثم صارت بيدهم على جهة وضع اليد المنسحبة على إجارة كما تؤخذ الأوقاف الآن لجهة الذخيرة، ويدفع من مال الذخيرة للمستحقين عوضا عن أجرتها، ثم لما تطاول الزمان فكأنه نسى ذلك فظنت من أراضى بيت المال؛ فوقفت على الجامع الصالحى

(1)

المعروف بجامع ابن المغربى على شاطئ الخليج الناصرى بقرب باب اللوق. واستمرت جارية فى وقفه إلى الآن، تؤخذ أجرتها وحكرها له وهو مبنى على غير أصل. ثم حدث فى هذه الأيام ما هو أسوأ من ذلك؛ وهو أن القاضى علاء الدين بن آقبرس، أنهى فى قطعة تسمى «الميدان» من القطعة الأولى التى من جامع غين إلى المناظر، وهى مستمرة بيد نظار التقوية من أول الأمر إلى الآن، أنها جارية فى أراضى بيت المال، ووقفها على ابن آقبرس وذريته، وثبت هذا الوقف على يد قاضى الحنفية سعد الدين بن الديرى، ونفذه قضاة القضاة فى عصره، فتحرك والده فى هذه السنة وهى سنة خمس وتسعين وثمانمائة إلى طلب ذلك، ونزع هذه القطعة من أيدى نظار التقوية، واستفتى أهل العصر فأفتوه، وأراد منى الكتابة فاعتذرت له بترك الإفتاء من مدة، وقلت لمن كان حاضرا عندى:"لو أفتيته ضررته".

وأوضحت لهم القصة مفصلة، ثم إنه وقع الأمر إلى سلطان العصر بعقد مجلس لذلك فى الروضة، فحضر قضاة القضاة ومن معهم، ثم قدر الله أنه لم يتم له شئ مما أراد، واستمرت فى وقف التقوية، ثم رأيت بعد ذلك فى تاريخ المقريزى المسمى ب «السلوك بمعرفة دول الملوك» أن أراضى الروضة تجاه مدينة مصر كانت رزقا أحباسية بيد أولاد الملوك، ويستأجرها منهم الدواوين، وينشئوا بها سواقى ونحوها

(2)

، ومنها ما باعه أولاد الملوك بأبخس

(1)

أنشأه صلاح الدين يوسف بن المغربى، رئيس الأطباء بمصر. خطط المقريزى 4/ 136 (ط. النيل).

(2)

المقريزى، السلوك لمعرفة دول الملوك، ج 2 ق 2، ص 474: وينشئون بها سواقى الأقصاب ونحوها.

ص: 25

الأثمان، فقرر النّشو

(1)

ناظر الخاص مع السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون أخذ أراضى الروضة [للخاص]

(2)

، وأن يقاس ما بيع منها، ويؤخذ ممن هى فى يده بتفاوت قيمتها، فوافقه السلطان على ذلك، وندب جماعة لقياس الروضة جميعها من زرعها، وأراضى دورها، وألزم من هنّ فى يده بتفاوت قيمتها، فقومت [من]

(3)

يوم شرائها، واستخرج منهم القدر الزائد على ما كانوا أعطوه حالة الشراء، وفرغ من ذلك فى سنة أربعين وسبعمائة.

ثم أخذ يعمل بمثل ذلك فى سائر الرزق الأحباسية، فضجت الناس وكتبوا للسلطان أوراقا ورموها من غير أن يعرف رافعها، منها رقعة فيها:

(بحر السريع)

أمعنت فى الظّلم وأكثرته

وزدت يا نشو على العالم

ترى من الظالم فينا لنا

فلعنة الله على الظالم

فتغير خاطر السلطان على النشو وقبض عليه وعلى أخيه من فوره، وقام صلاح الدين يوسف بن المغربى الحكيم، فادعى على أولاد الملوك بمبلغ عشرة آلاف درهم تعجلوها منه على أراضى الروضة، وكان النشو قد أخذها منهم وأدخلها فى ديوان الخاص، فألزموا بالقدر حتى أدّوه لا بن المغربى.

وقد أنشأ الملك الصالح القلعة بالروضة، فعرفت «بقلعة المقياس» ، و «بقلعة الروضة» ، و «بقلعة الجزيرة» ، و «بالقلعة الصالحية» . وشرع فى حفر أساسها يوم الأربعاء خامس شعبان، وابتدأ فى بنائها فى آخر الساعة الثالثة من يوم الجمعة سادس عشر شعبان سنة ثمان وثلاثين وستمائة، وفى عاشر

(1)

هو شرف الدين عبد الوهاب بن التاج فضل الله ناظر الخاص الشريف، كان نصرانيا وأسلم، توفى سنة 740 هـ؛ السلوك للمقريزى 2/ 505، 506؛ بدائع الزهور 1/ 476 وفيه وفاته سنة 739 هـ.

(2)

فى الأصل: الخاص. وهو خطأ. والصحيح ما أثبتناه من السلوك، ج 2 ق 2، ص 474. ومعناه للديون الخاص.

(3)

فى الأصل: فقومت يوم شرائها. والمثبت هو الصحيح من السلوك ج 2 ق 2، ص 475.

ص: 26

ذى القعدة وقع الهدم فى الدور والقصور والمساجد التى كانت بجزيرة الروضة، ونقلت الناس من مساكنهم التى كانوا بها، وهدم كنيسة كانت لليعاقبة بجانب المقياس وأدخلها فى القلعة، وأنفق فى عمارتها أموالا جمة من غنيمة غنمها من الإفرنج، وبنى فيها الدور والقصور، وعمل لها ستين برجا وبنى بها جامعا وغرس بها جميع الأشجار، ونقل إليها عمد الصوان من البرابى وعمد الرخام، وشحنها بالأسلحة وآلات الحرب وما يحتاج إليه من الغلال والأقوات، خشية من محاصرة الإفرنج، فإنهم كانوا حينئذ قاصدين بلاد مصر وبالغ فى إتقانها مبالغة عظيمة. وكان الملك الصالح يقف بنفسه ويرتب ما يعمل فصارت تدهش من كثرة زخرفتها، ويتحير الناظر إليها من حسن نقوشها المزينة وبديع رخامها، وخرب الهودج

(1)

والبستان المختار، وهدم ثلاثة وثلاثين مسجدا كانت بالروضة، وقيل إنه قطع من الموضع الذى أنشأ به هذه القلعة ألف نخلة مثمرة، كان ثمرها يهدى إلى ملوك مصر لحسن منظره وطيب طعمه. وكان النيل عندما عزم الملك الصالح على عمارة قلعة الروضة من الجانب الغربى فيما بين الروضة وبر الجيزة، وقد بعد عن بر مصر ولا يحيط بالروضة إلا فى أيام الزيادة، وكان/قبل ذلك فى أيام الفتح محيطا بالروضة طول السنة، فلما كانت سنة ثلاثين وثلثمائة، بناء على ما ذكره المقريزى فى الخطط، جف النيل عن بحر مصر حتى احتاج الناس أن يستسقوا من بحر الجيزة، فحفره كافور الإخشيد، ودخل الماء إلى ساحل مصر، ثم لما كان قبل سنة ستمائة تقلص الماء عن ساحل مصر، وصار الطريق إلى المقياس يبسا، واستمر ذلك فى كل سنة فى أيام الاحتراق.

فلما كان فى سنة ثمان وعشرين وستمائة، خاف الملك الكامل محمد بن الملك العادل أبى بكر بن أيوب من تباعد البحر عن العمران بمصر، فاهتم بحفر البحر من دار الوكالة بمصر إلى صناعة التمر الفاضلية، وعمل فيه

(1)

قصر الهودج: بناه الآمر بأحكام الله، وأسكن فيه زوجته البدوية. خطط المقريزى 2/ 197.

ص: 27

بنفسه، فوافقه على العمل فى ذلك الجم الغفير، واستوى فى المساعدة السوقة والأمراء، وقسط مكان الحفر على الدور التى بالقاهرة ومصر والروضة بالمقياس، فاستمر العمل فيه من مستهل شعبان إلى سلخ شوال حتى صار الماء يحيط بالمقياس وجزيرة الروضة دائما بعد ما كان قبل الزيادة يصير جدولا رقيقا فى ذيل الروضة، فإذا اتصل ببحر بولاق فى شهر أبيب

(1)

كان ذلك من الأيام المشهورة. فلما كانت أيام الملك الصالح وعمر قلعة الروضة، أراد أن يكون الماء طول السنة كثيرا فيما دار بالروضة، فأخذ فى الاهتمام بذلك، وغرّق عدة من المراكب مملوءة بالحجارة فى بر الجيزة، ومن قبلى جزيرة الروضة، وحفر ما كان بين الروضة ومصر من الرمال فعاد ماء النيل إلى بر مصر، واستمر هناك. وقال ابن المتوّج: لما عمر السلطان الملك الصالح قلعة الجزيرة صار فى كل سنة يحفر هذا البحر بنفسه وجنده، ويطرح بعض رمله فى البقعة التى عمر فيها الناصر الجامع الجديد، وشرع خواص السلطان فى العمارة على شاطئ هذا البحر من موضع الجامع الجديد الآن إلى المدرسة المعزية، ثم إن الملك الصالح أنشأ جسرا عظيما ممتدا من بر مصر إلى الروضة، وجعل عرضه ثلاث قصبات، وكان كرسيه حيث المدرسة الخروبية

(2)

قبلى دير النحاس، وكانت الأمراء إذا ركبوا من منازلهم يريدون الخدمة السلطانية بقلعة الروضة يترجلون عن خيولهم عند البر ويمشون فى طول هذا الجسر إلى القلعة، ولا يتمكن أحد من العبور عليه راكبا سوى السلطان فقط، ولما كملت القلعة تحول إليها بأهله وحرمه، واتخذها دار الملك وأسكن معه فيها مماليكه البحرية، وكانت عدتهم نحو ألف مملوك.

وكان قديما فيما بين ساحل مصر والروضة جسر من خشب، وكذلك فيما بين الروضة والجيزة جسر من خشب، يمر عليه الناس والدواب من مصر إلى الروضة، ومن الروضة إلى الجيزة، وكان هذان الجسران من مراكب مصطفة

(1)

أبيب شهر من الشهور القبطية.

(2)

انظر الخطط التوفيقية - الجزء السادس ص 15.

ص: 28

بعضها بحذاء بعض، وهى موثقة، ومن فوق المراكب أخشاب ممتدة فوقها تراب وكان عرض الجسر ثلاث قصبات، ولم يزل هذا الجسر المتصل بالروضة قائما إلى أن قدم المأمون مصر، فأحدث جسرا جديدا

(1)

، واستمر الناس يمرون عليه، وكان عبور العساكر التى قدمت من المغرب مع جوهر القائد على هذين الجسرين، وكان كرسى الجسر المتصل بالروضة حيث المدرسة الخروبية قبلى دير النحاس.

وقال القضاعى: لم يزل هذا الجسر قائما إلى أن قدم المأمون فأحدث الجسر الباقى اليوم، تمر عليه المارة، وترجع من الجسر القديم، وبعد أن خرج المأمون أتت ريح عاصف ليلا، فقطعت الجسر الغربى، وهدمت شقة الجسر المحدث وذهبا جميعا؛ فتعطل الجسر القديم وثبت الجديد. قال الكمال جعفر الأدفوى فى سنة سبع وأربعين وسبعمائة: قلّ ماء النيل حتى صار ما بين المقياس ومصر يخاض، وصار من بولاق إلى منشأة [المهرانى]

(2)

، ومن جزيرة الفيل

(3)

إلى بولاق، ومنها إلى المينة طريقا واحدا، وبعد على السقائين موضع الماء، وبلغت راوية الماء در همين فضة، بعد أن كانت بربع درهم، فبلغ السلطان الملك الكامل شعبان غلاء الماء بالمدينة، وانكشاف ما تحت بيوت البحر من الماء، فركب ومعه الأمراء وكثير من أرباب الهندسة حتى كشف ذلك، فوجد الوقت قد فات بزيادة ماء النيل، واقتضى الرأى أن ينقل التراب والشقف من مطابخ السكر بمدينة مصر، وترمى من بر الجيزة إلى المقياس حتى يصير جسرا يعمل عليه، ويدفع الماء إلى الجهة التى انحصر عنها، فنقلت الأتربة وألقيت هناك إلى أن صار جسرا ظاهرا، وتراجع الماء قليلا إلى بر مصر، فلما قويت الزيادة علا الماء على هذا الجسر.

(1)

المرجع نفسه/ 15.

(2)

فى الأصل: البهرانى، وهو خطأ. والمثبت من خطط المقريزى، ج 1، ص 346. والاسم الصحيح لصاحب المنشأة هو: الأمير سيف الدين بلبان المهرانىّ.

(3)

انظر خطط المقريزى ج 2/ 185.

ص: 29

وقال المقريزى فى حوادث سنة تسع وأربعين: كان ماء النيل قد نشف فيما بين بر مدينة مصر والروضة، وصار فى أيام احتراق الماء رملا، فوقع الاتفاق على عمل جسر، وقام منجق على عمله، فضرب إلى الجزيرة الوسطى، فأقاموا فى عمله أربعة أشهر، وكان طول جسر الروضة مائتى قصبة فى عرض ثمان قصبات وارتفاعه أربع قصبات، وطول جسر المقياس مائتين وثلاثين قصبة، وعدة ما رمى فيه من المراكب اثنا عشر ألف مركب سوى التراب والطين وغرم عليه ما لم يمكن حصره، وجبى ذلك من كل من فى البلدين القاهرة ومصر.

ومما قاله العلامة على بن سعيد فى كتاب: «المغرب» إنه أبصر فى هذه/الجزيرة إيوانا لجلوس السلطان، ليس له مثال، وفيه من صفائح الذهب والرخام والأبنوس والكافور والمجزع

(1)

ما يذهل الأفكار، ويستوقف الأبصار، وكان خارج السور أرض طويلة وفى بعضها بناء فيه أصناف الوحوش التى يتفرج عليها السلطان، وبعدها مروج تتقطع فيها مياه النيل، فينظر بها أحسن منظر، ولم تزل هذه القلعة عامرة، حتى زالت دولة بنى أيوب، فلما ملك السلطان الملك المعز عز الدين أيبك التركمانى أول ملوك الترك بمصر فى سنة تسع وأربعين وستمائة، أمر بهدمها، وأنشأ منها مدرسته المعروفة «بالمعزية» فى رحبة الحناء بمدينة مصر؛ فطمع فى القلعة من له جاه، وأخذ جماعة منها عدة سقوف وشبابيك كثيرة وغير ذلك، وبيع من أخشابها ورخامها أشياء جليلة، وأهمل أمر الجسر. فلما صارت مملكة مصر إلى السلطان الظاهر ركن الدين بيبرس البندقدارى اهتم بعمارة الجسر وقلعة الروضة فأعيدا كالأول، ورسم للأمير موسى بن يغمور

(2)

أن يتولى إعادة القلعة كما كانت، فأصلح بعض ما تهدم منها، ورتب بها الجاندارية وأعادها إلى ما

(1)

المجزّع: كل ما فيه بياض وسواد.

(2)

فى الأصل: معمور. وهو جمال الدين موسى بن يغمور. انظر: خطط المقريزى، ج 2، ص 184.

ص: 30

كانت عليه من [الحرمة]

(1)

، وأمر بأبراجها ففرقت على الأمراء، وأعطى برج الزاوية للأمير سيف الدين قلاوون الألفى، والبرج الذى يليه للأمير عز الدين [الحلى، والبرج الثالث من بروج الزاوية للأمير عز الدين أرغان

(2)

،]

(3)

، وأعطى برج الزاوية الغربى للأمير بدر الدين الشمسى، وفرقت بقية الأبراج على سائر الأمراء، وأمر بأن تكون بيوت جميع الأمراء واصطبلاتهم فيها، وسلم المفاتيح لهم. فلما تسلطن الملك المنصور قلاوون الألفى وشرع فى بناء المارستان والقبة والمدرسة المنصورية

(4)

، نقل

(5)

من قلعة الروضة المذكورة ما يحتاج إليه من عمد الصوان وعمد الرخام التى كانت قبل عمارة القلعة فى البرابى، وأخذ منها رخاما كثيرا، وأعتابا جليلة مما كان فى البرابى وغير ذلك، ثم أخذ منها السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون ما احتاج إليه من عمد الصوان فى بناء الإيوان المعروف «بدار العدل» من قلعة الجبل، والجامع الجديد الناصرى ظاهر مدينة مصر بموردة الخلفاء، وأخذ غير ذلك حتى ذهبت كأن لم تكن.

قال المقريزى: وإلى سنة عشرين وثمانمائة كانت توجد بعض الأبراج وبعض الآثار، ثم أزيلت، وبنت الناس موضعها دورهم ومساكنهم. والآن هى أعمر جهات مصر، وبها قصور للأمراء، وبساتين عامرة بالأشجار والأزهار، ومن يتأمل صورة الجزيرة وهى مرسومة على الورقة، يراها فى هيئة مركب طويلة مقدمها نحو الجهة البحرية ومؤخرها نحو الجهة القبلية، وطولها من الجنوب إلى الشمال من ابتداء مقياس النيل ثلاثة آلاف متر وعشرون مترا،

(1)

فى الأصل: الخدمة. والمثبت هو الصحيح من خطط المقريزى، ج 2، ص 184.

(2)

فى الأصل إدعان. والمثبت من خطط المقريزى، ج 2، ص 184. راجع أيضا المنهل الصافى، ج 3، ص 187 - 188.

(3)

ما بين القوسين ساقط من الأصل. والمثبت من الخطط للمقريزى، ج 2، ص 184.

(4)

انظر الجزء السادس من الخطط/ 39.

(5)

فى الأصل: ونقل. والمثبت كما فى النص فى خطط المقريزى، ج 2، ص 184.

ص: 31

وعرضها فى مقابلة فم الخليج من الشرق إلى الغرب خمسمائة متر وثمانون مترا، وفى جهتها القبلية سراى حسن باشا المنسترلى، وفى الجهة البحرية البستان الكبير الذى أعده المرحوم سر عسكر إبراهيم باشا للنزهة، والناس يترددون على اختلاف طبقاتهم إلى البستان المذكور فى أيام شم النسيم، وهو من أعظم البساتين، لاحتوائه على الأشجار المتنوّعة الغريبة المجلوبة إليه من البلاد البعيدة، واحتوائه أيضا على أصناف الحيوانات والطيور، وبه خلجان من البناء تجرى فيها المياه، ومغارة معمولة من الودع، وجبلاية مصنوعة مغروسة بالأشجار والحشائش والأزهار، ويحيط بالبستان المذكور رصيف من الثلاث جهات. وعلى الحد الشرقى للجزيرة توجد سرايات وبساتين للأمراء مثل سراية سليم باشا الجزائرى، وبستان المندورة الذى هو للسادات الوفائية، واسمه منقول من شجرة نبق تسمى «المندورة» تعتقدها النساء، وكثير من الرجال، وينسبون لها كرامات فى شفاء أمراض كثيرة، وتزار، وأرض الست البارودية، وبها جامع وضريح سيدى أبى يزيد البسطامى، ثم أرض حسن باشا يجن، وبستان شاكر بيك، وبستان وقصر على باشا شريف، وبستان وقصر ذى الفقار باشا، ثم سراى وبستان الخديوى إسماعيل. والطريق الموصل إلى جامع قايتباى الكائن بوسط الجزيرة يفصل هذه السراى من سراى والدة المرحوم عباس باشا، وأرض الدك

(1)

أدمون، وفى غالب هذا الحد من حدود الجزيرة رصيف محكم البناء، والحد الغربى للجزيرة الذى فى مقابلة بندر الجيزة يليه من الجهة القبلية سراى أمين باشا، ثم يليها أرض حسين باشا يجن، ثم أرض على باشا شريف، ثم أرض تعلق الخديوى إسماعيل، وبعدها أرض أحمد باشا المنكلى، ومنزل وبستان تعلق ورثة خليل بك، ويلى هذه الأرض أرض وقف، وقفها القاضى عثمان. والبلد المعروفة بالمنيل أغلب بيوتها مملوكة للذوات والأمراء، ويخرج منها طريق يمر بوسط الجزيرة، ويلى البلد المذكورة أرض تعلق ورثة المرحوم أحمد باشا

(1)

لعله يريد: الدوق.

ص: 32

المنكلى، والطريق المذكور ينتهى إلى الفرع الغربى إلى مساكن الأهالى فى أرض على باشا شريف، وبحرى البلد المعروفة بالمنيل قصر وبستان قاسم باشا، ويتوصل منه إلى الفرع الشرقى بطريق مظلل بالأشجار.

(جوامع الروضة) / (جامع غين)

قال السيوطى فى كوكب الروضة: «قال ابن المتوّج: المسجد الجامع بروضة مصر يعرف «بجامع غين» وهو القديم، ولم تزل الخطبة قائمة فيه إلى أن عمر جامع المقياس

(1)

فبطلت الخطبة منه.

وقال السيوطى: أول ما أقيمت الجمعة بهذه الجزيرة فى زمن الحاكم بأمر الله تعالى بعد أن صارت مدينة عامرة ولم تكن فيما تقدم كذلك، فلذا لم تقم بها فى الصدر الأول مع رغبة الناس إذ ذاك فى الصلاة خلف الأمير أو الخليفة، فإنه الذى كان يقيم الجمعة بنفسه، وكان عبورهم من الروضة إلى الفسطاط على الجسر سهلا عليهم، فكانوا يصلّون خلف الأمير أو الخليفة بجامع عمرو ولم تزل الخطبة مقطوعة منه إلى الدولة الظاهرية، فكثرت عمائر الناس حوله فى الروضة، وقلّ الناس فى القلعة، وصاروا يجدون مشقة فى مشيهم من أوائل الروضة. وعمّر الصاحب محيى الدين أحمد ولد الصاحب بهاء الدين على بن حنا داره على خوخة الفقيه نصر قبالة هذا الجامع، فحسن له إقامة الجمعة فى هذا الجامع لقربه منه فتحدث مع والده، فشاور السلطان الملك الظاهر بيبرس، فوقع منه بموقع، لكثرة ركوبه بحر النيل، واعتنائه بعمارة الشوانى، ولعبها فى البحر، ونظر إلى كثرة الخلائق بالروضة ورسم بإقامة الخطبة فيه مع بقاء الخطبة بجامع القلعة، فأقيمت الخطبة به فى سنة ستين وستمائة.

(1)

أنشأه بدر الجمالى. وانظر خطط المقريزى 2/ 197.

ص: 33

وقال السيوطى: وقد صار هذا الجامع يسمى الآن «جامع الأباريقى» ، وفى زمننا هذا يعنى سنة إحدى وتسعين ومائتين وألف صار موضعه زاوية صغيرة بها ضريح الشيخ الأباريقى ظاهر يزار، وقد بنى هذه الزاوية الأمير على باشا شريف ابن المرحوم شريف باشا، أحد أمراء الدولة المحمدية العلوية. وبلغنا أن الأمير على باشا المذكور لما نبش الأرض التى بقرب الزاوية لأخذ التراب منها ليرفع به أرض بستانه وجد كثيرا من قطع الرخام، ووجد حيضانا مبنية ومجارى وغير ذلك. وهذا يعين أن جامع غين الذى اشتهر بالأباريقى فيما بعد كان فى هذا الموضع بعينه، والذى عمر منه هو الجزء الذى فيه ضريح الأباريقى المذكور.

[ترجمة الأمير غين أحد خدام الخليفة الحاكم بأمر الله]

وقال المقريزى

(1)

: إن غين أحد خدام الخليفة الحاكم بأمر الله، خلع عليه الخليفة المذكور فى تاسع ربيع الآخر سنة اثنتين وأربعمائة، وقلده سيفا، وأعطاه سجلا، قرئ فإذا فيه أنه لقّب بقائد القواد، وأمر أن يكتب بذلك، ويكاتب به، وركب وبين يديه عشرة أفراس بسروجها ولجمها، وفى ذى القعدة من السنة المذكورة أنفذ إليه الحاكم خمسة آلاف دينار وخمسة وعشرين فرسا بسروجها ولجمها وقلده الشرطتين والحسبة بمصر والقاهرة والجيزة، والنظر فى أمور الجميع وأموالهم وأحوالهم، وكتب له سجلا بذلك قرئ بالجامع العتيق، فنزل إلى الجامع ومعه سائر العسكر والخلع عليه، وحمل على فرسين، وكان فى سجله مراعاة [أمر]

(2)

النبيذ وغيره من المسكرات، وتتبع ذلك والتشديد فيه، وفى المنع من عمل الفقاع

(3)

وبيعه،

(1)

الخطط المقريزية ج 2، ص 297.

(2)

ما بين الحاصرتين مثبت من خطط المقريزى، ج 2، ص 297.

(3)

الفقّاع: شراب يتخذ من الشعير، وهو من المسكرات.

ص: 34

ومن أكل الملوخيا والسمك الذى لا قشر له، والمنع من الملاهى كلها، وتأكيد منع النساء من حضور الجنائز، والمنع من بيع العسل، وأن لا يتجاوز فى بيعه أكثر من ثلاثة أرطال لمن لا يظن أن يتخذ منه مسكرا، فاستمر ذلك إلى غرة صفر سنة أربع وأربعمائة، فصرف عن الشرطتين والحسبة بمظفر الصقلى. فلما كان يوم الإثنين ثامن عشر ربيع الآخر منها، أمر بقطع يدى كاتبه أبى القاسم على بن أحمد الجرجانى فقطعتا جميعا؛ وذلك أنه كان يكتب عند السيدة الشريفة أخت الحاكم، فانتقل من خدمتها إلى خدمة غين خوفا على نفسه من خدمتها؛ فسخطت لذلك فبعث إليها يستعطفها، ويذكر فى رقعته شيئا وقفت عليه فارتابت منه، فظنت أن ذلك حيلة عليها، وأنفذت الرقعة فى طى رقعتها إلى الحاكم، فلما وقف عليها اشتد غضبه وأمر بقطع يديه جميعا. وقيل: بل كان غين هو الذى يوصل رقاع عقيل صاحب الخبر إلى الحاكم فى كل يوم، فيأخذها من عقيل وهى مختومة بخاتمه ويدفعها لكاتبه أبى القاسم الجرجانى حتى يخلو له وجه الحاكم، فيأخذها حينئذ من كاتبه ويوقفه عليها، وكان الجرجانى يفك الختم ويقرأ الرقاع، فلما كان فى يوم من الأيام، فك رقعة ووجد فيها طعنا على غين أستاذه، وقد ذكر فيها بسوء، فقطع ذلك الموضع وأصلحه وأعاد ختم الرقعة، فبلغ ذلك عقيلا صاحب الخبر فبعث إلى الحاكم يستأذنه فى الاجتماع به خلوة فى أمر مهم، فأذن له وحدثه بالخبر، فأمر حينئذ بقطع يدى الجرجانى فقطعتا، ثم بعد قطع يديه بخمسة عشر يوما قطعت يد غين الأخرى، وكان قد أمر بقطع يده قبل ذلك بثلاث سنين وشهر، فصار مقطوع اليدين معا.

ولما قطعت يده، حملت فى طبق إلى الحاكم فبعث إليه بالأطباء، ووصله بألوف من الذهب وعدة من أسفاط ثياب/وعاده جميع أهل الدولة، فلما كان ثالث عشر جمادى الأولى، أمر بقطع لسانه فقطع، وحمل إلى الحاكم فسير إليه الأطباء ومات بعد ذلك.

ص: 35

(جامع المقياس)

قال السيوطى «فى كوكب الروضة» : قال ابن المتوج: هذا الجامع عمره الملك الصالح نجم الدين أيوب بقلعة الروضة، وكانت قبالة بابه كنيسة، وكان بها بئر مالحة، وقال المقريزى

(1)

: إن هذه الكنيسة تعرف «بابن لقلق» بطرك اليعاقبة. وقال إنه رأى البئر التى كانت قبالة باب المسجد الجامع، وأنها ردمت بعد ذلك، ولم يزل هذا الجامع بيد بنى الرداد، ولهم نوّاب عنهم فيه، ثم لما كانت أيام السلطان الملك المؤيد شيخ المحمودى هدم هذا الجامع فى رجب سنة ثلاث وعشرين وثمانمائة، ووسعه بدور إلى جنبه، وشرع فى عمارته فمات قبل فراغه منه، وقد جدده بعده الملك الظاهر جقمق

(2)

، ووقف عليه وقفا، وأظن أن هذا الجامع كان موجودا من زمن الفاطميين من سنة خمس وثمانين وأربعمائة، ثم لما جاء الملك الصالح جدده، وأوسع فيه، ومما يدل على ذلك الكتابة التى كانت إلى وقت الفرنساوية على بابه بالقلم القرماطى على لوح من الرخام مثبت فوق الباب وسنذكرها بنصها عند الكلام على هذا الجامع فى مدة دخول الفرنساوية، ولما بنى حسن باشا المنسترلى كتخدا مصر فى زمن المرحوم عباس باشا سرايته بالروضة بجوار المقياس، هدمه وبنى عوضه مسجدا صغيرا دفن فيه.

[مطلب فى الكلام على وصف جامع قايتباى](جامع السلطان الملك الأشرف أبى النصر قايتباى)

قال السيوطى: هذا الجامع ثالث جامع أنشئ بالروضة وكان يقال له فى القرن الماضى «جامع الفخر» . قال المقريزى: جامع الفخر بالروضة تقام

(1)

انظر: الخطط، ج 2، ص 297.

(2)

الملك الظاهر أبو سعيد جقمق العلائى الظاهرى تولى ملك مصر سنة 842 هـ وحكمها أربع عشرة سنة وعشرة شهور ويومان. وتوفى فى محرم سنة 857 هـ. انظر: المنهل الصافى، ج 4، ص 275 - 295

ص: 36

فيه الجمعة، بناه القاضى فخر الدين ناظر الجيش فى أيام الناصر محمد بن قلاوون، وهو الذى تنسب إليه «قنطرة الفخر» . وذلك فى حدود سنة ثلاثين وسبعمائة، ثم جدده الصاحب شمس الدين المقسى، فصار يقال له «جامع المقسى» ، ونسى اسم الفخر، ثم عمره سلطان عصرنا وزماننا الملك الأشرف أبو النصر قايتباى - أدام الله أيامه - وأقام على عمارته الجناب العالى البدرى سيدى حسن الطولونى - أعزه الله تعالى - فزاد فيه ووسعه، وبالغ فى إتقانه وزخرفته بحيث قل أن يرى فى الجوامع مثله، فى حسن بهجة، وكان ابتداء ذلك فى ربيع الأول سنة ست وثمانين وثمانمائة، وعمل فيه ناعورة على وضع غريب، بحيث تدور بحمار ينقل قدميه وهو واقف من غير أن يمشى ولا يدور، وركب عليها طاحونا يدور بدورانها، وصار يسمى «جامع السلطان» ونسى به اسم المقسى، كما نسى باسم «المقسى» اسم «الفخر» .

ثم أمر السلطان نصره الله أن يزاد فى هذا الجامع زيادة أخرى فزيدت، وذلك فى سنة إحدى وتسعين، وأنشأ حول الجامع الغراس والعمائر الحسنة، فعمرت تلك البقعة، وأحييت الروضة بعدما كادت تدرس محاسنها، وفى زماننا هذا - يعنى إحدى وتسعين ومائتين وألف - تقام بهذا الجامع شعائره، وهو مشهور «بجامع قايتباى»

(1)

ويجاوره من الأبنية منزل ورثة المرحوم رأفت بيك من قبلية، ومن شرقية منزل ورثة المرحوم شافعى بيك الطبيب، ومن بحرية طريق فاصل بينه وبين بستان ورثة المرحوم أحمد باشا المنكلى.

(جامع الريس)

قال السيوطى فى كتابه «كوكب الروضة» : هذا الجامع رابع جامع أحدث بالروضة، وكان أول إنشائه زاوية أنشأها الشيخ محمد بن أصيل بن

(1)

انظر: حسن عبد الوهاب: تاريخ المساجد الأثرية، ج 1، ص 273.

ص: 37

مهدى الهمذانى من ذرية الشيخ أبى اليزيد البسطامى، بعد أن أخذ بمكانها توقيعا بالأرض والبرج من السلطنة فى سنة ست وتسعين وستمائة، ثم جدد لذلك توقيعا من الملك المظفر بيبرس فى ذى الحجة سنة ثمان وسبعمائة، وفى هذه السنة وقفها، ونص التوقيع الثانى فيما وقفت عليه «ورسم بالأمر الشريف العالى المولوى السلطانى الملكى المظفر الركنى، لا زالت مواهبه الشريفة تهيئ للأولياء مشربا، وتبلغ الصالحين من عباد الله تعالى مقصدا ومأربا، وتنجح لهم فى أيامه الزاهرة مسعى ومطلبا أن يستمر الشيخ الصالح العابد الورع الزاهد الناسك السالك محمد البسطامى - نفع الله ببركاته - على ما بيده من الزاوية التى له ببرج الطراز بقلعة الروضة، ويحمل فى ذلك على حكم التوقيع الشريف الذى بيده المستمر الحكم إلى آخر وقت الشاهد بالزاوية المستجدة المذكورة ببرج الطراز، وكذلك الأرض اللطيفة التى أنشأها لما زرعه فيها من البقولات وغيرها من الأشجار برسم الفقراء، وهى القطعة المجاورة لسور القلعة، وأن يكون ذلك من بعده لأولاده صدقة مستمرة وموهبة مستقرة لا يعارض فيها ولا ينازع، ولا ينقض حكمها، ولا يمحى رسمها، رغبة فيما عند الله تعالى من الأجر والثواب، وذخيرة لنا نجدها يوم العرض والحساب، واستجلابا للأدعية الصالحة لدولتنا القاهرة، وعملا على تحصيل الأجور والقربات فى أيامنا الزاهرة، فلتستقر الزاوية المذكورة، والطين المذكور المجاور لسور قلعة الروضة/بيد الشيخ محمد المذكور - نفع الله بهما - استقرارا لا يعارض فيه ولا ينازع ولا يتأول عليه فيه فى اليوم ولا فيما بعده، والخط الشريف أعلاه حجة فيه - إن شاء الله تعالى - فى السابع والعشرين من ذى الحجة سنة ثمان وسبعمائة بالإشارة العالية الأميرية السيفية نائب السلطنة الشريفة أعلاها الله تعالى» .

ص: 38

(قلت): هذا الإنهاء وقع وأرض الروضة فى أيدى الملوك بعد استئجارها من شيخ المدرسة التقوية، وقبل الإفراج عنها للمدرسة المذكورة، فظن أنها من أراضى بيت المال لتطاول المدة والجهل بالحال، فأنهى ذلك فى سنة ست وتسعين وستمائة وسمح له بها، ثم لما قام شيخ المدرسة فى تحصيلها، وأفرج له عنها فى سنة ثمان وتسعين وستمائة كما تقدم. كان صاحب الزاوية نوزع فى هذه القطعة من الأرض، فتوسل إلى أخذ توقيع ثان بها من الملك المظفر بيبرس الجاشنكير، فأنعم له بذلك على خلاف ما هو الشرع، ولم يقدر شيخ التقوية على دفعه، إما لقوة جاهه، وإما لكونه رأى أن فى ذلك مشقة مع كونها قطعة لطيفة لا تحمل المنازعة، ومع كونه ما حصل له الإفراج عن بقية الأرض إلا بسعى كبير، خصوصا وقد أخذ منه نصف الروضة بكماله، ولم يفرج عنه كما تقدم؛ فرأى السكوت أروح له، ثم لما كان فى حدود سنة سبعين وسبعمائة جعلت هذه الزاوية جامعا، وكان الجاعل لذلك فتح الدين صدقة بن ناصر الدين بن زين الدين أبى بكر رئيس الخلافة، وكان البسطامى أولا لما بنى الزاوية ووقفها جعل النظر فيها لنفسه أيام حياته، ثم من بعده للأمير سيف الدين قطز، ثم للحاكم الحنفى بنفسه، وبتولية من شاء من الأجناد الأخيار. قال: ولا ينظر فيه الحاكم المذكور بنفسه أكثر من مدة شهر واحد، فما دونه. انتهى.

لخصت ذلك من كتاب وقفه وتاريخه مستهل ربيع الأول سنة ثمان وسبعمائة، وهو الآن - أعنى سنة إحدى وتسعين ومائتين وألف زاوية بالمقياس مشهورة «بزاوية أبى يزيد البسطامى» وهى بحرى المندورة، وقبلى منزل المرحوم أمين باشا، بينهما مسافة تبلغ مائتين وخمسين مترا وله مولدان فى السنة الواحدة؛ أحدهما: يقوم به الشيخ إبراهيم الحدى وهو فى جمادى الآخرة، والثانى يقوم به الشيخ حسن المزين وهو بعد الأول بزمن يسير.

ص: 39

[مطلب فى الكلام على وصف زاوية المشتهى](زاوية المشتهى)

قال السيوطى: وفى تاريخ المقريزى

(1)

فى سنة أربع وسبعين وسبعمائة توفى الشيخ [المسلّك]

(2)

بهاء الدين محمد الكازرونى ليلة الأحد خامس ذى الحجة بزاويته التى يقال لها «المشتهى» بالروضة، أخذ عن أحمد الحريرى خادم ياقوت [الحبشى]

(3)

خادم أبى العباس المرسى، عن الشيخ أبى الحسن الشاذلى وصحبه زمانا، وفى «إنباء الغمر بأنباء العمر» لشيخ الإسلام والحفاظ أبى الفضل بن حجر: محمد بن عبد الله الكازرونى، الشيخ بهاء الدين، قدم مصر وصحب الشيخ أحمد الحريرى صاحب الشيخ ياقوت الحبشى تلميذ الشيخ أبى العباس المرسى، وانقطع بعده فى «المشتهى» من الروضة، وكان الناس يترددون إليه ويعتقدونه، وكان الشيخ أكمل الدين شيخ الشيخونية كثير التعظيم له، وانقطع إليه البدر البشتكى، وكتب له أشياء كثيرة من تصانيف الشيخ محيى الدين بن عربى، وكان يكثر الثناء عليه. وكانت وفاته فى ذى الحجة، وأرخه ابن دقماق ليلة الأحد خامس ذى القعدة. وفى زماننا هذا يعنى سنة إحدى وتسعين ومائتين وألف، الزاوية المذكورة مشهورة بزاوية الشيخ الكازرونى، وموضعها غربى سراية الخديوى إسماعيل، وبنتها سعادة والدة باشا، والدة الخديوى المذكور، وأقام بها الشيخ على القشلان، أحد المشاهير من رجال الطريقة القدرية ومعه سبعة دراويش، ورتبت بها مولدا سنويا وفى كل شهر ثلثمائة قرش ديوانية، ورتبت لها من الشمع والبن والفحم والزيت ما يلزم لها يوميا.

(1)

انظر: السلوك لمعرفة دول الملوك، ج 3 ق 1، ص 209؛ تاريخ المساجد الأثرية، ج 1، ص 273.

(2)

فى الأصل: الملك والمثبت من السلوك للمقريزى، ج 3 ق 1، ص 209.

(3)

فى الأصل: العرشى. والتصويب عن: السلوك للمقريزى ج 3/ 209.

ص: 40

[مطلب فى الكلام على وصف جامع الديرينى](جامع الديرينى)

هذا الجامع بالروضة بجوار منزل أحمد باشا المنكلى، يقال إنه جامع قديم، عمرته الآن سعادة والدة الهوانم كرائم المرحوم إبراهيم باشا إلهامى ابن المرحوم الحاج عباس باشا والى مصر سابقا، وبالجامع المذكور ضريح الأستاذ الشيخ عبد العزيز، وله مولد سنوى يعمل فى شهر ربيع الأول، وبالروضة أيضا الجامع القديم الذى تجدد بناؤه فى هذه الأزمان على طرف المرحومة والدة المرحوم الحاج عباس باشا المذكور، وكان قبل ذلك تحت نظر الحاج عثمان أغا الفراش، ووقف عليه أيام نظارته بيتا وربعا وثلاثة دكاكين، وهو الآن تحت نظارة الشيخ محمد المنيلى الخوجة العربى بالمدرسة الحربية الخديوية.

[مطلب فى الكلام على ما كان يعمل ليلة الغطاس بمصر من الزينة وغيرها](الغطاس بجزيرة الروضة)

من مواسم النصارى بمصر عمل الغطاس فى اليوم الحادى عشر من طوبة. قال المسعودى فى «مروج الذهب» : ولليلة/الغطاس بمصر شأن عظيم عند أهلها، لا ينام الناس فيها، وهى ليلة أحد عشر من طوبة، ولقد حضرت سنة ثلاثين وثلثمائة ليلة الغطاس بمصر، والإخشيد محمد بن طغج فى داره المعروفة «بالمختار» فى الجزيرة الراكبة على النيل، والنيل مطيف بها، وقد أمر فأسرج من جانب الجزيرة وجانب الفسطاط ألف مشعل غير ما أسرج أهل مصر من المشاعل والشمع، وقد حضر [بشاطئ]

(1)

النيل فى تلك الليلة ألوف من الناس من المسلمين والنصارى، منهم فى الزوارق، ومنهم فى الدور

(1)

فى الأصل: وقد حضر النيل. والمثبت من خطط المقريزى، ج 1، ص 265.

ص: 41

الدانية من النيل، ومنهم على الشطوط لا يتناكرون كل ما يمكنهم إظهاره من المآكل والمشارب وآلات الذهب والفضة والجواهر والملاهى والعزف والقصف، وهى أحسن ليلة تكون بمصر وأشملها سرورا، ولا تغلق فيها الدروب، ويغطس أكثرهم فى النيل، ويزعمون أن ذلك أمان من المرض ونشرة للداء.

قال المسبحى: فى سنة ثمان وثمانين وثلثمائة كان غطاس النصارى فضربت الخيام والمضارب [والأسرّة]

(1)

فى عدة مواضع على شاطئ النيل، ونصبت أسرة للرئيس فهد بن إبراهيم النصرانى كاتب الأستاذ برجوان، وأوقدت له الشموع والمشاعل، وحضرت المغنون والملهون، وجلس مع أهله يشرب إلى أن كان وقت الغطاس، فغطس، وانصرف. وقال فى سنة خمس عشرة وأربعمائة: وفى ليلة الأربعاء رابع ذى القعدة كان غطاس النصارى، فجرى الرسم من الناس فى شراء الفواكه والضأن وغيره، ونزل أمير المؤمنين الظاهر لإعزاز دين الله ابن الحاكم لقصر جده العزيز بالله بمصر لنظر الغطاس، ومعه الحرم، ونودى أن لا يختلط المسلمون مع النصارى عند نزولهم إلى البحر فى الليل، وضرب بدر الدولة الخادم الأسود متولى الشرطتين خيمة عند الجسر، وجلس فيها، وأمر الخليفة الظاهر لإعزاز دين الله بأن توقد المشاعل والنار فى الليل، فكان وقودا كثيرا، وحضر الرهبان والقسوس

(2)

بالصلبان والنيران، فقسسوا هناك طويلا، إلى أن أغطسوا. وقال ابن المأمون:

إنه كان من رسوم الدولة أن يفرق على سائر أهل الدولة الأترج والنارنج والليمون المراكبى وأطنان القصب والسمك البورى، برسوم مقررة لكل واحد من أرباب السيوف والأقلام

(3)

.

(1)

فى الأصل: والأشرعة. والتصحيح من خطط المقريزى، ج 1، ص 265.

(2)

القسوس: جمع القس والقسيس.

(3)

انظر خطط المقريزى، ج 1/ 265 - 266.

ص: 42

(مقياس الروضة فى زمن الإسلام)

والذى ينسب إليه مقياس الروضة هو سليمان بن عبد الملك وهو الثامن من بنى أمية، وكان قد تولى الخلافة سنة ست وتسعين من الهجرة، وفى السنة الأولى من خلافته وقع المقياس الذى كان بحلوان، وكان العامل على خراج مصر حينئذ أسامة بن [زيد]

(1)

الملقب بالتنوخى، فكتب إلى الخليفة يعلمه بالحادثة، فصدر له أمره بأنه لا يعيده ويبنى مقياسا فى الجزيرة الموجودة في وسط النيل بين الفسطاط والجزيرة، فامتثل لأمره وأخذ فى وضع الأساس فى السنة التى وقع فيها مقياس حلوان، وحصل الجهد فى بنائه، فتم فى سنة سبعة وتسعين هجرية، واتفق مؤرخو العرب على أن عمود المقياس الموجود الآن، هو نفس العمود الذى وضعه أسامة؛ والذى يؤيد ذلك الكتابة الكوفية الموجودة عليه إلى وقتنا هذا، ومع ذلك قد حصل وقوع العمود المذكور مرارا وصار رجوعه فى أوقات مختلفة. وفى زمن الخليفة المأمون، حصل للمقياس خلل وذلك من تهاون العمال، وتلاشى الأحوال بالديار المصرية؛ فأمر الخليفة المأمون بردّه إلى أصله سنة تسع وتسعين ومائة من الهجرة، وبعض مؤرخى العرب ينسبون إليه مقياس الروضة، والأصح هو ما قدمناه من نسبته إلى الخليفة سليمان بن عبد الملك. ثم بعد ذلك فى سنة ثلاث وثلاثين ومائتين من الهجرة فى خلافة المتوكل على الله جعفر العباسى، حصلت عمارة المقياس أيضا، وعرف بين الناس «بالمقياس الجديد» ، وفى سنة سبع وأربعين ومائتين حصلت عمارته أيضا فى خلافة المتوكل، فكان ما مضى من وقت إنشائه أول مرة إلى هذا الوقت مائة وخمسين سنة، ففى هذه المدة حصلت عمارته جملة مرات كما تقدم.

ويدل ذلك على أنه كان لا يبذل فيها ما يلزم من الهمة والدقة، وأظن أن

(1)

فى الأصل: يزيد. والمثبت هو الصحيح من خطط المقريزى، ج 1، ص 58.

ص: 43

ذلك كان هو الداعى لضبطه فى مكانه حتى لا يقع بوضع العتب الخشب المثبت من طرفيه فى الحائط الشرقى والغربى من بئر المقياس، والعمارة المذكورة محققة من الكتابة التى كانت موجودة فى وقت الفرنساوية على العتب المذكور فبقى المقياس على هذا الحال زمنا مديدا إلى سنة خمس وثمانين وأربعمائة من الهجرة، وفى خلافة المستنصر صارت عمارته وبناء مسجد بجواره، والكتابة التى كانت موجودة إلى وقت دخول الفرنساوية، وبقيت بعد ذلك مدة كانت توجد فى ثلاثة مواضع:

أحدها: داخل المقياس.

وثانيها: فوق باب المسجد.

وثالثها: على الحائط الغربى/من المسجد المذكور.

ومن نظر للكتابة المذكورة، علم أنه فى ذاك التاريخ كانت الكتابة الكوفية مستعملة فيما يكتب على المبانى، مثل المساجد والأسبلة وما أشبهها. ولكن كانت انتقلت عن حسنها الأول، ثم من ابتداء زمن الخليفة المستنصر ظهرت الكتابة القرماطية، وكانت فى غاية من الظرف والإتقان، ويدل ذلك على أنه اعتنى فى زمنه بأمر التربية وأهل العلم بخلاف السابقين عليه؛ لأنهم بسبب إهمالهم وعدم اعتنائهم، كانت الأمور متلاشية خصوصا فى زمن الخليفة المتوكل لكثرة قسوته وتجبره، والذى ساعد على التقدم فى زمن المستنصر هو كثرة الاطمئنان والسلم اللذين كانت غارقة فيهما الديار المصرية مدة خلافته الطويلة، فإنه جلس على التخت وعمره سبع سنين وبقى متولى الخلافة ستين سنة، ومن هذا التاريخ إلى سنة أربع وعشرين وتسعمائة من الهجرة يظهر أنه لم يجر فى المقياس عمارات إلى زمن الأيوبية.

ص: 44

(مقياس النيل فى زمن الأيوبية)

هذه المدة تشتمل على تاريخ المقياس من ابتداء تولية الأيوبية إلى زمن تولية معز الدين أيبك أول [المماليك]

(1)

البحرية، وهى عبارة عن إحدى وثمانين سنة، لم يظهر فيها عمارة فى المقياس، بل فى زمن الملك الناصر محمد سنة أربع وتسعين وستمائة من الهجرة، بناء على ما ذكره ابن إياس، حصل وفاء النيل فى اليوم السادس من أيام النسئ، وبلغ النيل ستة عشر ذراعا وسبعة عشر إصبعا، وغلا سعر الغلة حتى وصل سعر الأردب ثمانية مثاقيل ونصفا ذهبا، ثم بعد عزل الملك الناصر، تولى بعده سنة أربع وتسعين وستمائة الملك العادل زين الدين كتبغا المنصورى؛ فأقام فى الحكم سنتين وتنازل عنه ثم فى سنة ست وتسعين وستمائة من الهجرة، وصل ارتفاع النيل فى شهر توت خمسة عشر ذراعا وثمانية عشر إصبعا، ونزل بعد ذلك فحصل قحط فى جميع بلاد الديار المصرية، ووصل ثمن الأردب من القمح سبعين درهما ومائة درهم، وثمن الأردب من الشعير عشرين درهما ومائة درهم، وأكلت الناس الجمال والخيل والبغال والحمير والقطط والكلاب، وامتد أمر القحط إلى بلاد الشام، وفى سنة ست عشرة وسبعمائة حصل الوفاء فى اليوم السادس من مسرى، ووصل النيل إلى أربعة وعشرين ذراعا على قول المقريزى فى الخطط، وقول السيوطى في كتابه «كوكب الروضة» .

وأمر الملك الناصر حسن بن محمد بن قلاوون بعدم المناداة؛ لأنه كان يخاف الغرق، واتفق أن النيل بقى على هذا الارتفاع إلى خمس وعشرين من شهر توت، فحصل رعب، وعلت المياه على جسر الفيوم، وعسر المرور، وغرقت جزيرة الفيل

(2)

الكائنة فى مقابلة القاهرة، وكانت قد تكوّنت فى

(1)

فى الأصل: الجراكسة. وهو خطأ.

(2)

كانت بلدا كبيرا خارج باب البحر من القاهرة، تتصل بمنية السيرج من شمالها، ويمر النيل من غربها. الفضائل الباهرة/ 202.

ص: 45

زمن الفاطميين من الرمال التى تراكمت حول مركب غرقت كانت تسمى «بالفيل» ، ثم عم الماء طريق شبرى والمنية وامتد إلى حدود الحسينية، وحصل من ذلك ردم الآبار، ودخل الماء داخل جامع الحاكم من ميضأته، وتلف من هذا الغرق بيوت كثيرة من جزيرة الروضة التى غرقت عن آخرها، وانقطع المرور إلى بولاق بسبب أن الماء قطع الطريق فى مواضع متعددة، وهدمت منازل كثيرة، وقد بقى هذا الأمر إلى آخر شهر بابه، وكان هذا لم ير مثله فى الإسلام، وخرجت الناس إلى الصحراء، وتضرعت إلى الله بالدعاء، فأغيثت، ونقص الماء، ولكن أعقب هذا الغرق الطاعون، فخرّب بلاد مصر.

وفى سنة اثنتين وسبعين وسبعمائة بلغ النيل اثنين وعشرين ذراعا وبعض أصابع، وبقى على هذا الارتفاع إلى آخر شهر هاتور، وخافت الناس، ولكن حصل تنازل مائه وحصل الزرع. ثم فى سنة خمس وسبعين وسبعمائة تأخر النيل إلى النيروز، ووقف على إصبعين قبل حد الوفاء، ثم نزل مع السرعة، فأمر السلطان بالصلاة فى جامع عمرو، فاجتمع عالم كثير من العلماء والصالحين، ومع ذلك حصل نزول الماء فى هذا اليوم خمسة أصابع، وضجرت الأهالى فأغيثوا من قبل الله بمطر شديد عم الأرض، وأمكن الناس زرع بعض الحب، وبعد السابع من شهر توت علا النيل اثنى عشر إصبعا فى يوم واحد، وبعد ذلك بيومين علا ثمانية أصابع، ففرح الناس بذلك، ولكن لم يستمر ونقص، وحصل من ذلك قحط وأعقبه وباء، وقطع الخليج فى تسع من شهر توت، ومع ذلك كان الباقى على حد الوفاء خمسة أصابع، وفى اليوم المذكور انحط النيل، واغتم لذلك الخلق.

(مقياس النيل فى زمن الملوك الجراكسة)

هذه المدة تشتمل على تاريخ المقياس مدة مائة وأربعين سنة، من ابتداء استيلاء الجراكسة على الديار المصرية سنة/أربع وثمانين وسبعمائة هجرية إلى وقت دخول السلطان سليم الأول سنة أربع وعشرين وتسعمائة

ص: 46

هجرية، وفى هذه المدة لم تحصل عمارة فى المقياس كما فى المدة السابقة. وفى زمن الملك الناصر فرج سنة إحدى عشرة وثمانمائة من الهجرة حصل الوفاء، وتوجه الملك بنفسه، وقطع الخليج، وفى سنة اثنتى عشرة وثمانمائة بلغ النيل اثنين وعشرين ذراعا، وصلب إلى نصف شهر هاتور، وغرقت أراض وبساتين فى جزيرة الفيل، وقطعت الطرق والجسور، ووصل الماء إلى دور الحسينية. وفى سنة ثلاث وعشرين وثمانمائة تأخر النيل عن الوفاء، وغلت الأسعار، وأمر السلطان بصيام ثلاثة أيام، ولم يرتفع النيل؛ فتوجه السلطان والخليفة والقضاة والعلماء والصالحون والأهالى إلى الصحراء، لأجل أن يستسقوا، وكان السلطان لابسا جبّة من صوف وعليه مئزر من الصوف ملفوف على عمامة مدورة، وطرف من أطراف المئزر ملقى على ظهره، فلما دخلوا الصحراء خطب قاضى القضاة جلال الدين البلقينى خطبة الاستسقاء، وكان السلطان ساجدا على الرمل ويلقى العبرات من عينيه ويدعو الله أن يغيثهم ويسقيهم الماء. وبعد رجوعهم إلى مصر فى ثانى يوم، زاد النيل اثنى عشر قيراطا، ثم استمر يزيد إلى أن حصل الوفاء، وقطع الخليج، ومع هذا فلم يرتفع النيل ارتفاعا كافيا فتعطل نصف الأراضى عن الزراعة، وحصل قحط وغلاء. وفى سنة أربع وعشرين وثمانمائة زاد النيل فى أول يوم المناداة اثنين وثلاثين إصبعا، فحصل من ذلك فرح عام، وفى ليلته توجه السلطان وركب مركبه، وصلى صلاة التسابيح على ظهر [النيل]

(1)

، وفى صبيحتها حصلت الزيادة المذكورة، فحصل للسلطان من ذلك غاية الفرح، وكان ارتفاع الماء القديم عشرة أذرع، وحصل الوفاء فى أول مسرى، وبلغ ارتفاع النيل ثمانية عشر ذراعا فى هذه السنة. وفى سنة أربع وخمسين وثمانمائة انحط ماء النيل حتى صار مبلغ التحاريق ستة أذرع وبعض أصابع، ثم أخذ فى الصعود، ووقف قبل أن يصل إلى حد الوفاء على أربعة

(1)

فى الأصل: الفيل. ولعل الصحيح ما أثبتناه وفقا للسياق.

ص: 47

أصابع، فهاجت الناس وخافت، ومضى شهر مسرى ودخل شهر توت، ولم يصل إلى زيادة، فأخذت الغلال التى كانت بالساحل وجعلت فى المخازن، وشكت الناس الغلاء ونقص النيل ثلاثة أصابع؛ فزاد كرب الناس وشكواهم، فصدرت الأوامر بصلاة الاستسقاء، وذهب الخليفة والقاضى والعلماء والصالحون، ولم يتوجه السلطان الظاهر جقمق كما فعل السلطان المؤيد شيخ من قبله، ونصب المنبر فى الصحراء، وصعده شيخ قضاة الشافعية، وفى أثناء خطبته رغب نزع جبته فسقطت على الأرض، فلم يتفاءل الناس من ذلك، وحصل بعد رجوعهم القاهرة أن ابن الرداد حضر وأخبر أن النيل قد زاد إصبعا واحدة، فاطمأنت الناس، ولكن حصل أنه أخذ فى النقص كل يوم حتى أنه فى آخر شهر توت كان ناقصا عن الوفاء سبعة أصابع، ولما قطع الخليج لم يدخله الماء إلا قليلا، ثم انحسر عنه فلحق الناس من ذلك مالا مزيد عليه من الكرب والحزن، وشرقت الأراضى، وابتدأ ظهور الغلاء والقحط، وأعقب ذلك موت الرجال، وبلغ ثمن الأردب القمح سبعة دنانير. وفى سنة ست وستين وثمانمائة هجرية تأخرت زيادة النيل إلى أوائل شهر أبيب، واستمر ذلك أربعة عشر يوما، وتغير طعم الماء ولونه، حتى لم يقدر أحد على الشرب منه، وخاف جميع الناس، وغلا سعر الحبة، وندر وجود الخبز فى الأسواق، وظهرت علامات القحط.

ولما لم يعل النيل رغب السلطان الظاهر خوشقدم هدم المقياس حتى لا يكون للأهالى معرفة بأحوال النيل فى الزيادة والنقص، فحوله الشيخ أمين الدين [الأقصرائى]

(1)

عن ذلك، فأمر السلطان الفقهاء والمشايخ والقضاة بأن يتوجهوا إلى المقياس، ويصلوا صلاة الاستسقاء، فتوجهوا وأقاموا الصلاة هناك جملة أيام فزاد النيل فى الرابع عشر إصبعين، ووصل خبر ذلك إلى السلطان مع ابن أبى الرداد، فكساه سمورا، ثم إن النيل أخذ فى الزيادة إلى

(1)

فى الأصل: الأقصارائى. والصحيح ما أثبتناه.

ص: 48

أن حصل الوفاء فى أواخر شهر مسرى. وفى سنة سبعين وثمانمائة هجرية، تأخرت الزيادة ستة أيام إلى الحادى عشر من شهر مسرى، فتوجه الأمير تيمران

(1)

رئيس الخفراء والخدم إلى جزيرة المقياس فى الجمعة القابلة، وحرق الخيام، وطرد الناس المجتمعة هناك، فحصل للناس فى ذلك اليوم كرب وفزع، وفى سبع وعشرين من الحجة، زاد النيل، وحصل الوفاء، وقطع الخليج فى يوم عشرين من مسرى. وفى سنة إحدى وسبعين وثمانمائة تأخر النيل فى مبدأ أمره، فخاف الناس، وعلت الأسعار، وهجم كثير من الناس على بياعى الغلال وأساؤهم، فصدرت أوامر السلطان الظاهر خوشقدم إلى القضاة والمشايخ بأن يتوجهوا للصلاة عند المقياس، فسارعوا إلى ذلك، فأفاض الله النيل، ووفى، فى السادس عشر من مسرى الموافق لأول المحرم من سنة اثنتين وسبعين وثمانمائة، فتوجه السلطان/ودهن عمود المقياس بالطيب ورجع، وحضر قطع الخليج، وكان ذلك آخر مدة حضر فيها قطع الخليج؛ لأنه توفى بعد ذلك بقليل.

وفى سنة اثنتين وثمانين وثمانمائة هجرية كان الوفاء فى آخر يوم من شهر أبيب، وقطع الخليج فى أول يوم من مسرى، ووصل النيل إلى عشرين ذراعا وأحدا وعشرين إصبعا فى آخر بابة، وقطعت الطرق من جريان المياه، وغرقت أراض كثيرة فى جهة المنية وشبرى وجزيرة الروضة، وغرق طريق بولاق إلى القاهرة، وكذا أرض جزيرة الفيل وكوم الريش، وردم أغلب الآبار من الطين المجلوب مع الماء. وفى سنة ثلاث وثمانين وثمانمائة هجرية، وفّى النيل فى اليوم الرابع من مسرى وقطع الخليج على يد أزبك، ومن حوادث هذه السنة أن جسر أبى المنجى كسر فى ليلة الوفاء من أوله إلى آخره، فحصل ضرر عظيم لجميع البلاد الواقعة تحت الجسر المذكور، وغرقت مخازن غلال

(1)

كذا فى الأصل. وفى بدائع الزهور لابن إياس، ج 2، ص 440 - 441 أن الذى خرج إلى جزيرة المقياس هو والى القاهرة، تمر من محمود شاه الظاهرى.

ص: 49

تلك النواحى، وقال فى كتاب «بدائع الزهور»: إن السلطان عدّى إلى جهة الروضة، وأمر بتجديد الجامع الذى هناك تجاه المنشية، وتجديد بعض أماكن المقياس وانتهى ذلك فى سنة ست وثمانين وثمانمائة، وصار يعرف بجامع السلطان، وكان أصل من أنشأه الفخر ناظر الجيش ثم جدده الصاحب شمس الدين محمد بن المقسى. وفى سنة اثنتين وتسعمائة، كانت الحرب واقعة بين السلطان

(1)

وبين الأمير آقبردى، وكانت الناس فى قلق، وزاد قلقهم بسبب أن النيل بعد أن كان قريبا من الوفاء استمر لا يزيد إلا قليلا إلى يوم سبع وعشرين من شهر مسرى، فوصل إلى حد الوفاء، فقطع الخليج فى اليوم الثامن والعشرين منه، المقابل لليوم الثانى عشر من شهر الحجة، وكان الأمير آقبردى هو الحاكم فى القاهرة، فأمر الوالى بأن يجرى قطع الخليج بحضوره، فلما وصل إلى الموضع المعد لذلك، وجد أن الشيخ عبد القادر الدشطوطى المشهور عند العامة الآن «بالطشطوشى» قد أمر بقطعه، ودخل الماء فى جزء عظيم منه، فاكتفى بذلك، ولم يعمل فى تلك السنة مهرجان كالعادة بسبب ما كان واقعا من الحروب والفتن بين الفريقين؛ لأنه منع الالتفات إلى النيل الذى لم يبق إلا مدة يسيرة، ثم هبط ولم يزرع من الأراضى إلا القليل، وغلا سعر الحب فى تلك السنة.

وفى سنة ثلاث وتسعمائة هجرية، كان النيروز فى أول يوم من شهر المحرم. ووفّى النيل فى اليوم الرابع من شهر المحرم من سنة أربع وتسعمائة هجرية، وصار إعلانه فى تسعة عشر من مسرى، ورغب السلطان الملك الناصر أبو السعادات محمد بن قايتباى المحمودى أن يتوجه بنفسه لقطع الخليج، فمنعه مماليكه خوفا عليه من أن يقتل، فاغتم السلطان لذلك، ونزل من القلعة بعد صلاة العشاء مع جملة من أصحابه ورجاله وأمامهم

(1)

فى الأصل: ابن السلطان. والصحيح ما أثبتناه، فالحرب كانت بين السلطان الملك الناصر محمد بن الأشرف قايتباى وبين الأمير آقبردى الدوادار. انظر: بدائع الزهور، ج 3، ص 368 - 369.

ص: 50

[المشاعل]

(1)

، وتوجه وقطع الخليج ليلا، وبعد ذلك رجع إلى القلعة، وفى الصباح وجدت أهل القاهرة الماء قد ملأ الخلجان، ولم يعلم قبل ذلك قطع الخليج ليلا إلا فى هذه المدة، فاغتمت الأهالى؛ لأن قطع الخليج من المواسم والأعياد الكبيرة عندهم، وأوجب ذلك تشاؤم الخلق، وبعد ذلك بقليل قتل الملك الناصر.

(مقياس النيل فى مدة آل عثمان)

اعلم أن حوادث هذه المدة تشتمل على ما يقرب من ثلثمائة سنة، كان ابتداؤها استيلاء السلطان سليم على أرض مصر، وانتهاؤها دخول الفرنساوية هذه الديار، ونحن لم نذكر هنا إلا ما حصل من العمارات فى المقياس وحوادث النيل فى مدة بعض من تولوا مصر من العمال بالنيابة عن سلاطين آل عثمان، وفى مدة البيكوات من دون أن نتعرض لغير ذلك، إذ الحوادث التاريخية المتعلقة بكل من هؤلاء العمال، توجد فى تواريخهم فليراجعها من يريد الوقوف عليها.

وفى زمن السلطان سليم بعد تخلية البلاد من المماليك، صار الاهتمام بالإدارة الداخلية بالديار المصرية وسائر البلاد الأخر التى دخلت تحت حكمهم. ونسب بعضهم إلى السلطان سليم بعض عمارات لمقياس الروضة، ولكن لم يعين وقت حصولها. ومذكور أنه حصل مثل ذلك فى زمن ابنه السلطان سليمان الأول الذى أعقبه على التخت سنة ست وعشرين وتسعمائة، وبعد موته فى سنة أربعة وسبعين وتسعمائة هجرية، جلس على التخت ابنه السلطان سليم الثانى، وصار الاعتناء بأمر المقياس أيضا، ثم أهمل بعد ذلك.

(1)

فى الأصل: المشاعيل. والتصحيح من بدائع الزهور، ج 3، ص 396.

ص: 51

ويعلم مما ذكره ابن أبى السرور أن النيل فى زمن السلطان عثمان بن أحمد سنة تسعة وعشرين ومائة وألف هجرية، زاد زيادة خارقة للعادة، فخاف المصريون الغرق، وحصل غلاء فى أسعار الحب والقوت، وأعقب ذلك طاعون. وفى سلطنة السلطان مراد خان بن أحمد الذى خلف السلطان مصطفى على التخت فى سنة أربعة وثلاثين ومائة وألف هجرية، وصل ارتفاع النيل إلى أربعة وعشرين ذراعا، فخاف الناس، ولكن لم/يصلب، ونزل بسرعة، وزرعت الأراضى ونجح المحصول. وفى سلطنة السلطان إبراهيم بن أحمد، أخى السلطان مراد خان وخليفته، وهو الثامن عشر من سلاطين آل عثمان، زاد النيل فى سنة خمسين ومائة وألف هجرية. زيادة ضعيفة، وفى أول شهر توت كان لم يصل ارتفاع النيل إلى ستة عشر ذراعا، ومع ذلك صار قطع الخليج، ونزل النيل من وقته، فحصل فى جميع الديار المصرية غلاء شديد.

وفى سلطنة السلطان مصطفى الثالث ابن السلطان أحمد خليفة السلطان عثمان الثالث ابن السلطان مصطفى فى سنة سبعين ومائة وألف هجرية، كان الحاكم بوظيفة القائم مقام على الديار المصرية من قبل الدولة العلية حمزة باشا، وكان قد اعترى العتب الخشب الموضوع فوق عمود المقياس خلل من تقادم مرور الزمن عليه، فأمر بوضع عتب بدله وكتب عليه بالثلث ما كان مكتوبا عليه من الآثار فى الزمن القديم بالكتابة الكوفية من وقت المتوكل. ويظهر من أقوال المؤرخين أن فى مدة البيكوات خصوصا فى مدة على بيك الكبير سنة ثلاث وثلاثين ومائة وألف، لم يحصل تهاون فى أمر المقياس، بل اعتنوا بأمره، وأجروا فيه جملة عمارات، ولكن لم نقف عليها.

(مقياس النيل فى زمن الفرنساوية)

كان قطع الخليج فى اليوم السادس عشر من ربيع الأول سنة ثلاث عشرة ومائتين وألف هجرية، وعمل له مهرجان حافل، حضره الأمير بنو برد ورؤساء

ص: 52

جيوشه والكيخيا والباشا، وأعضاء الديوان الكبير بالقاهرة، ومنلا أفندى وأغاة اليكشارية، وجرت الرسوم المربوطة من كساوى وبدرة وغيرهما، وفرح الناس لأن هذه السنة كانت سنة مخصبة مباركة، ووفّى النيل وفاء حسنا، وزرعت الأراضى جميعها. وفى سنة أربع عشرة ومائتين وألف هجرية توجه المهندسون إلى المقياس، وحفروا قاعه، وأزالوا ما به من الطين حتى ظهر أول قسم من أقسام العمود، وكان ذلك بحضرة الشيخ مصطفى قاضى المقياس، وسقا باشا، ثم أضافوا فوق تاج العمود قطعة من الرخام الأبيض، ارتفاعها ذراع واحد وإصبعان، وكتبوا فوقها كتابة بالفرنساوية والعربية، فتم بذلك عدد الأذرع ثمانية عشر ذراعا، وفوق الذراع الأخير ستة أصابع، والكتابة الفرنساوية على الوجه الغربى للقطعة الرخام، ومعناها السنة التاسعة للمشيخة الفرنساوية، والكتابة العربية على الوجه الشرقى من القطعة المذكورة سنة خمس عشرة ومائتين وألف من الهجرة، وجعلوا كتابة غير تلك على لوح من الرخام فوق الباب بالفرنساوية ومعها ترجمتها وهى:

«بسم الله الرحمن الرحيم» وبحذاء البسملة: «محمد أفندى العريشى قاضى مصر حالا وبعدها: «والصلاة والسلام على رسول الله الكريم إنه بتاريخ سنة تسعة للمشيخة الفرنساوية وسنة خمسة عشر ومائتين وألف للهجرة وثلاثين شهرا من بعد افتتاح مصر من بنو برد أمير الجيوش رسم منو سر عسكر العام المقياس، فكان قياس النيل فى وقت الشحائح على ثلاثة أذرع وعشرة أصابع فى اليوم العاشر من بعد المنقلب الصيفى من السنة الثامنة للجمهورية، وابتدأ بالزيادة بمصر فى اليوم السادس عشر من بعد هذا المنقلب بعينه، وعلى ذراعين وثلاثة أصابع زيادة على بدن العمود بعد سبعة أيام ومائة يوم من هذا الانقلاب، وبدأ بالنقصان فى اليوم الرابع عشر بعد المائة منه أيضا، فالرى عم الأراضى، فهذا الفيض الخارج عن المعتاد بأربعة عشر ذراعا، وسبعة عشر إصبعا الأمل به لسنته خير وافر جدا.

ص: 53

هذه الجملة الأخيرة مضمونها أن مجموع الزيادة التى زادها النيل فى هذه السنة كانت أربعة عشر ذراعا وسبعة عشر إصبعا، كما فى الأصل الفرنساوى.

واعلم أن بدن العمود طوله ستة عشر ذراعا، والذراع أربعة وخمسون سنتيمترا، وهو مقسم بعلامات مرسومة عليه وهى أربعة وعشرون إصبعا، وحيث أن العتب الخشب الذى كان قد وضعه حمزة باشا اعتراه التلف صار استعواضه بعتب من قطعة واحدة قوية، وكانت عمارة البئر والدهليز مجاورين للحوض، ووضعت تخاشيب بين أعمدة الدهليز، وعمل أوتاد لزوم إقامة الشيخ خادم المقياس، ووضع فوق البوابة لوح من الرخام كتب عليه باللغة الفرنساوية والعربية الكتابة المارة، وصار الاجتهاد فى رعاية الكتابات الكوفية وغيرها، والاعتناء بحفظها. وفى سنة أربع عشرة ومائتين وألف صار قطع الخليج على ستة عشر ذراعا وسبعة أصابع، وعمل المهرجان على العادة. وفى السنة الثانية يعنى سنة خمس عشرة ومائتين وألف تمت العمارات التى كانت جارية بالمقياس، وتقدم الباشمهندس لوبير (يعنى الأب) إلى الديوان الكبير، نسخة الأعمال المذكورة/لأجل أن تحفظ بالدفترخانة، فتحرر له ولسر عسكر من الديوان خطابات بالشكر.

(صورة الخطاب الأول)

«من محفل الديوان العالى بمصر المحروسة خطابا إلى حضرة سر عسكر الكبير عبد الله منو أمير الجيوش الفرنساوية حفظها الله تعالى. أما بعد الدعاء لكم بخير، نخبركم بأنه وقع من سعادتكم مزية كبيرة، هى شأن الملوك السابقين والسلاطين المتقدمين من العباسيين، وهى مقياس النيل السعيد الذى هو سبب لعمارة الإقليم المصرى، وفيه حياة الآدميين والمواشى والطيور والوحوش، من مبدأ بحر النيل الشلال الأعلى إلى منتهى ما بين البحرين فى الثغرين رشيد ودمياط، وحصل السرور الكامل للناس، وصاروا يدعون لكم بالتأييد والنصر، ويطلبون بقاءكم، وهذه منقبة أحييتموها بعد اندراسها من مدة المأمون من العباسيين، فصار ذلك من مآثركم، تذكرون به

ص: 54

إلى آخر الدهور، دامت فضائلكم على رعاياكم وحفظ عليكم هذا التدبير العظيم، وزادكم شفقة ورحمة عليهم، وشكركم على ذلك الخاص والعام، والسلام ختام». حرر فى سبع من شعبان الموافق لرابع نيفوس سنة تسع.

المصادق على كونه منقولا عن النسخة الأصلية وكونه صحيحا.

الفقير عبد الله الشرقاوى رئيس الديوان بمصر حالا\الشيخ محمد المهدى كاتم سر الديوان حالا\رفائيل باش ترجمان الديوان بمصر

(الخطاب الثانى)

«من محفل الديوان العالى بمصر المحروسة خطابا إلى حضرة الستوبان (يعنى ابن البلد الخواجة لوبير) رئيس المهندسين، وفقه الله تعالى إلى الخير آمين.

أما بعد الدعاء لكم بخير، أنه بلغ الناس حسن صنيعكم وصواب تدبيركم، وإتقان هندستكم فى تشييد وتعمير مقياس النيل السعيد الذى يعم نفعه، ويشمل خيره القريب والبعيد، فإن إقليم مصر أجلّ الأقاليم وأبهج الأراضى أجمعين، وخيره وزرعه يعم سائر الأقطار، وينتفع به الآدميون والمواشى والطيور والوحوش فى القفار، ومبنى خيره وأسباب نعمته، هذا النيل المبارك الذى هو أفضل البحار والأنهار، هندستم وأتقنتم محل رجاله، وأساس قياسه وبنائه، فكانت هذه مزية منكم، وثمرة ونتيجة من نتائج أفكاركم الفريدة، فرحت بها الناس أجمعون، وشكروا إحسان حضرة سر العسكر الكبير، وعلموا كمال عقلكم بسبب ما أتقنتموه وأحكمتموه فى هذا المحل الشامل نفعه، والمشهور فى سائر الأقطار، شكر الله معروفكم. والسلام ختام.

مسجل بالديوان فى سبع من شعبان سنة خمس عشرة ومائتين وألف».

الفقير محمد المهدى كاتم سر الديوان الفقير عبد الله الشرقاوى رئيس الديوان

ص: 55

(المقياس فى زمن العائلة المحمدية العلوية)

بعد أن تمهدت قواعد الحكومة بزوال ما كان من الفتن الثائرة فى مبدأ جلوس العزيز محمد على باشا، حصلت العناية منه بتدبير أمر الثروة فى هذه الأقطار، والنظر فيما يوجب ازدياد خصوبة أرضها، وحيث كان النيل هو أس الثروة والبركة، صار الاحتفال بشأنه، وشأن توزيع مياهه على القرى والنواحى على وجه به يمتنع ما كان يحصل من غرق وشرق، بسبب ما كان يحصل من الإهمال بحفظ الجسور، وتطهير الترع، وانشقت ترع كبيرة فى جميع جهات القطر، وبنى عليها كثير من القناطر والهويسات، ومن ذلك أمكن ضبط مياه النيل وتوزيعها على الوجه الأتم، وانقطعت بذلك أسباب المضرات التى كانت تتعاقب على أرض القطر وأهله، فكان ينشأ عنها تعاقب القحط والوباء، وحيث أن انتظام هذا التوزيع لا يكون إلا بضبط أحوال النيل فى الزيادة والنقص، وكان المقياس هو الآلة المعدة لذلك، أخذت الحكومة فى الاحتفال بشأنه والاعتناء بأمره، وتعين الشيخ مصطفى المنادى شيخا على المقياس، وترتب له مرتب من فيض الإحسانات الداورية، ولما مات تعين بدله ولده الشيخ على المنادى، الذى كان مفتيا بديوان الأوقاف، وأعقبه ابن عمه الشيخ حسن المنادى، وبعده الشيخ إبراهيم المنادى من أقاربه، وتوفى الشيخ إبراهيم المنادى المذكور سنة إحدى وتسعين. ورجع المقياس إلى الشيخ الصواف؛ لأنه من ذرية ابن أبى الرداد وشهرة بيتهم «ببيت المقياس» .

وفى كل سنة تتعين المهندسون للكشف على المقياس وإجراء ما يلزم له من التطهير والتعمير، وأحوال النيل من حيث الزيادة والنقص، تضبط فى دفاتر مختصة بها محفوظة بديوان المحافظة بمصر، وحيث أن أصل زيادة النيل المبارك منشؤها ما يأتى من جهة أرض الحبش داخل الإفريقية من المياه، وقبل أن تصل الأقطار المصرية من شلال أسوان تبقى زمنا تقطع/فيه

ص: 56

المسافة الكائنة بين منبعه وأرض مصر، تيقظت الحكومة الخديوية لذلك؛ لأجل أن تكون على بصيرة مما يلزم عمله بالنسبة للأقطار المصرية فى حال الزيادة البالغة وعكسها، لحفظ المزروعات ووقاية البلاد والأهالى، وامتد بعناية الخديوى إسماعيل باشا عزيز مصر خطوط تلغرافية فى جميع مديريات الأقطار السودانية متصلة بخطوط مصر، وعمل مقياسا بالخرطوم وتجدد مقياس أسوان القديم. وبهذه الوسائل الخيرية سهل على الحكومة بل وعلى كل رجال القطر معرفة حال النيل قبل أن يدخل الديار المصرية، بما يصل من الأخبار التلغرافية فى كل يوم، وتمكنت الحكومة بهذه الأعمال وبما تجدد من الترع والخلجان والمبانى من انتظام أحوال الرى، ومن ثم انصلح حال الزراعة، ونمت البركة فى جميع أرجاء القطر، وحفظت أهله من غائلات القحط والغلاء اللذين كانا ملازمين لسكان هذا القطر فى المدد الماضية، وتسبب عنهما خلوه من أهله مرارا، وتعطل أغلب أراضيه الزراعية، وكسيت بالرمل أو سطا عليها ماء البحر المالح وصارت قحلة بعد أن كان يضرب بخصبها الأمثال.

وسنذكر إن شاء الله تعالى بعد مقياس الروضة كلا من المقاييس الثلاثة المستعملة الآن وهى: مقياس مدينة الخرطوم، ثم مقياس مدينة أسوان، ثم مقياس القناطر الخيرية.

ولتمام الفائدة نتكلم على مقياس «اتفو» وإن كان غير مستعمل.

(حالة المقياس والمبانى الملحقة به)

وفى سنة ثلاث وعشرين ومائتين وألف كان من يريد التفرج على المقياس يخرج من القاهرة، ومتى وصل إلى بيت إبراهيم بيك الذى هو الآن «قصر العينى» ، يجد قنطرة من المراكب موضوعة على فرع النيل الواقع بين الجزيرة ومصر العتيقة، فيمر عليها إلى بر الجزيرة، ويمشى فى الجزيرة فى وسط حدائق بعضها محاط بسور، وبعضها مجرد عنه فى طريق عليه أشجار

ص: 57

جميز، إلى أن يصل إلى قرية فى الجانب القبلى من الجزيرة، وهناك على يمين السالك بين الطريق والشاطئ الغربى للجزيرة يكون البستان الموجود فيه المقياس، ويعرف «بغيط البستان» . وفيه كثير من أشجار الجميز والبرتقان وشجر التمر حناء والنخيل، ثم يدخل الإنسان حوشا كبيرا فيه المقياس والمبانى الأخر، وطول الحوش المذكور ستة وخمسون مترا ونصف متر، وعرضه أربعة وثلاثون مترا، وفى آخره على اليسار حوش صغير مستطيل مختص بالمقياس وبما بقى من سراى نجم الدين الآتى ذكرها بعد، وعرض الحوش الصغير المذكور ثلاثة عشر مترا ونصف متر، وطوله تسعة عشر مترا، وفيه بعض أشجار، وهو منفصل عن الحوش الأول بحائط قليل الارتفاع، بناؤه حادث، وارتفاعه قريب من مترين، وسمكه أربعة وستون سنتيمترا.

وباب الدخول لهذا الحوش عريض بقدر متر وثمانين سنتيمترا، وهو متباعد عن حائط الحوش الكبير الداخلة - التى هى حائط الجامع القديم، الذى بناه الخليفة الفاطمى المستنصر بالله - بقدر أحد عشر مترا، وأرض هذا الحوش منحطة عن أرض الحوش الكبير بقدر اثنين وثمانين سنتيمترا، وينزل إليه بخمس درج من الحجر، ارتفاع الواحدة سبعة عشر سنتيمترا.

(وصف المقياس)

متى كان الإنسان فى الحوش الصغير المار ذكره يتوجه إلى جهة اليمين، ويصعد من سلم درجاته أربع كل درجة ثمانية عشر سنتيمترا، فيكون أمام الباب الخارج للمقياس وفوقه مكتوب فى سطرين هكذا:

«دخول هذا المكان شهادة أن»

«لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله»

وشكل المكان الموجود به حوض المقياس مستطيل، عرضه ستة عشر مترا وتسعون سنتيمترا من الشرق إلى الغرب، وطوله من الشمال إلى الجنوب واحد وعشرون مترا وثمانون سنتيمترا، وارتفاعه قريب من أربعة أمتار من

ص: 58

ابتداء مستوى الأرض إلى السطح، والارتفاع من ابتداء قاع الحوض إلى رأس القبة المغطى بها الحوض، قريب من أربعة وعشرين مترا وستين سنتيمترا، وباب الدخول للمقياس عرضه متر وثلاثون سنتيمترا، ويتوصل منه لدهليز المقياس، الذى عرضه ستة أمتار وستون سنتيمترا، وعمقه أربعة أمتار، وفى مقابلة هذا الباب باب آخر، عرضه متر وعشرون سنتيمترا، يتوصل منه إلى دهليز آخر يحيط بحوض المقياس الذى فيه العمود المقسم، وحول الحوض فى جزئه الأعلى أربعة أكتاف فى الزوايا، منفصل كل منها بعمودين من الرخام من/قطعة واحدة، قطر كل منها أربعون سنتيمترا وهو متوج بتاج كورنتى من الرخام أيضا، ومتكئ على كرسى من الرخام، وفى المسافة الكائنة بين الأكتاف والأعمدة درابزين من خشب ارتفاعه متر وعشرون سنتيمترا.

والآن جميع الأعمدة والأكتاف أزيلت واستبدلت بأعمدة من خشب، متسلطة عليها حوادث الشتاء والصيف.

وكان يوجد على يمين الداخل فى الدهليز الثانى لوح من الرخام الأبيض داخل فى الحائط ارتفاعه ثمانية وستون سنتيمترا، وعرضه اثنان وثلاثون سنتيمترا، ومنقور عليه كتابة قرماطية وهى:

«بسم الله الرحمن الرحيم، وما توفيقى إلا بالله، إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله، فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين، نصر من الله وفتح قريب، لعبد الله ووليه معدّ أبى تميم، الإمام المستنصر بالله وأبنائه الأكرمين.

أمر بإنشاء هذا الجامع قبلة السيد الأجل أمير الجيوش، سيف الإسلام، ناصر الأنام، كافل قضاة المسلمين وهادى دعاة المؤمنين: أبو النجم بدر المستنصرين؛ عضد الله به الدين، وأمتع بطول بقائه أمير المؤمنين، وأدام قدرته، وأعلى كلمته. فى رجب سنة خمس وثمانين وأربعمائة، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين».

ص: 59

وفى الدهليز المذكور باب آخر فى الجانب الشرقى، كان يتوصل منه إلى سراى نجم الدين القديمة، والسلالم الموصلة لحوض المقياس، موجودة فى زاوية الدهليز القبلية الشرقية، ودرجات السلم غير متساوية، وكذا بسطه، ومتى وصل الإنسان إلى قاع الحوض، يكون قد انحط عن أرض الدهليز الداخل بقدر عشرة أمتار وعشرين سنتيمترا، ويرى حينئذ العمود - الذى عليه التقاسيم - القائم فى وسط الحوض على كرسى ارتفاعه متر وعشرون سنتيمترا، والعمود المذكور مرتفع إلى آخر الحوض، وله أوجه ثمانية، وقطره ثمانية وأربعون سنتيمترا، وعرض كل من الأوجه ثمانية عشر سنتيمترا، وهو مقسوم إلى ستة عشر ذراعا بعلامات موجودة على البدن من ابتداء أسفله إلى آخره. وأقسام الأصابع الأربعة والعشرين مرسومة فوقه بخطوط أى حزوز، طولها نصف حزوز الأذرع، وكل أربعة منها موجودة فى ناحية من خط رأسى قاسم للوجه إلى قسمين. وفى الزمن السابق انكسر العمود من وسطه عند الذراع التاسع، وحصل لحام النصفين ووصلهما بطوق من النحاس. والآن - يعنى العاشر من ربيع الآخر سنة تسعين ومائتين وألف هلالية - السلالم المذكورة موجودة بالشكل الذى وضعتها الفرنساوية عليه، والعمود كذلك، لكن به ميل خفيف من جهة الكسر الموجود به قديما، والتاج الرخام الكورنتى استبدل بأربع بسطات من حجر أحمر، والعتب فوق البسطات المذكورة، لكن ليس هو العتب القديم بل عتب جديد يظهر أنه وضع فى زمن بناء سراى حسن باشا أو قبله.

وبنى الشيخ خادم المقياس فوق العتب بناء بالطوب، وطلاه بالخافقى، ورفعه إلى حدود الأربعة والعشرين ذراعا، ويظهر أنه كان فى الأصل كتابة عند كل ذراع، لكن بسبب اصطكاك المياه أزيلت كتابة الأذرع السفلية، والذى أمكن قراءته هو الكتابة الموجودة على الثلاثة الأذرع الأخيرة، وهذه

ص: 60

الكتابة كوفية، وهى سبعة عشر ذراعا، ستة عشر ذراعا، خمسة عشر ذراعا.

والذراع الأخير الموجود تحت التاج منته بزينة على هيئة عقود، فى وسطها نقوش وأزهار مرتفعة إلى استواء سطح البدن، يعنى مساوية له لا تزيد عليه، والكتابة المذكورة توجد فى منتصف العقود، وهى مرتفعة ومكررة فى أربعة أوجه من البدن، وفيها توجد حزوز الذراع والأصابع، وفى الأربعة الأخر توجد الأصابع فقط، وفوق البدن تاج كورنتى من الرخام الأبيض، يظهر أنه كان مذهبا فى الزمن القديم، وزال طلاؤه من مرور الزمن عليه، وفوق التاج المذكور كان العتب الخشب القديم لضبط العمود فى مكانه، حتى لا يتحول. وطرفا العتب المذكور أحدهما مثبت فى الحائط الشرقى والآخر فى الحائط الغربى للحوض، وسطحه الأعلى مع سطح الدهليز. وكان على العتب القديم وقت دخول الفرنساوية من الجهتين كتابة عربية اثنى عشر سطرا، وهى على الوجه القبلى {اللهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَ هُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ}

(1)

. «وصلى الله على محمد النبى وعلى آله وسلم. (فى جمادى الآخرة سنة سبع وأربعين ومائتين» .

وهذه الكتابة بخط الثلث، وكانت بعينها مكتوبة بالكوفى وقت بناء المقياس، ويشهد لذلك ما نقلناه عن ابن خلكان، ويعلم منه أن الكتابة الثلث حادثة ومتأخرة، ويعلم منه أيضا أنه حصل فى الأزمان/السالفة تلف للعتب، وصار تغييره، وتغيرت بهذا السبب الكتابة الكوفية، والذى يستحق النظر بعد العمود هو المجارى الثلاثة الموصلة ماء النيل إلى الحوض، المجراة

(1)

سورة البقرة، الآية 255.

ص: 61

الأولى مفتوحة فى الوجه القبلى، وقاعها باستواء بلاط الحوض، وعرضها متر وعشرة سنتيمترات، وارتفاعها متر وأربعة وثلاثون سنتيمترا، والمجراتان الأخريان فتحتهما فى الوجه الشرقى، وبعد مرورهما من تحت سراى نجم الدين القديمة، تكون فتحتهما فى الفرع الأيمن من النيل، فى مقابلة مصر العتيقة، والأولى منهما يعنى المنحطة من الاثنتين تحت آخر درجة من السلم، وعرضها متر وعشرون سنتيمترا، والثانية فوقها وعرضها متر واحد، وفتحتها تكون فى قبو، وهذا القبو مكرر فى الأوجه الأربعة للحوض، وعلى باب القبو مكتوب بالكوفى:«ماشاء الله لا قوة إلا بالله» .

ويعلو القبو المذكور أربعة ألواح رخام أبيض مثبتة فى الجدران، عرضها واحد، وقدره ثلاثون سنتيمترا، وطولها مختلف، فالشرقى طوله متران وخمسة عشر سنتيمترا، ومكتوب عليه بالكوفى:

بسم الله الرحمن الرحيم: {وَ نَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنّاتٍ وَ حَبَّ الْحَصِيدِ}

(1)

:

والبحرى طوله متران ونصف، ومكتوب عليه:

{وَ تَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَ رَبَتْ وَ أَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ}

(2)

.

والغربى طوله متران وتسعة وأربعون سنتيمترا، ومكتوب عليه:

{أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ}

(3)

.

(1)

سورة ق، الآية 9.

(2)

سورة الحج، الآية 5.

(3)

سورة الحج، الآية 63.

ص: 62

والقبلى طوله متر وثمانية وتسعون سنتيمترا، ومكتوب عليه:

{وَ هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَ يَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَ هُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ}

(1)

.

وإلى الآن هذه الآيات موجودة ولم تتغير عن رسمها الذى وضعه أحمد ابن الحاسب فى سنة سبع وأربعين ومائتين على وزن سبعة عشر ذراعا كما تقدم ذكره فيما نقلناه عن ابن خلكان، ويمكن الآن بواسطة المقارنة بين زيادات النيل فى تلك الأيام، وفى أيامنا هذه، معرفة حال العمود، هل هو على أصله أو لا؟ وقدر الذراع الذى كان مستعملا: هل هو الذراع نفسه المرسوم على العمود أو غيره؟

والوصول إلى معرفة قدر ما ارتفع به قاع النيل من سنة سبع وأربعين ومائتين، إلى وقتنا هذا واستخراج مقدار القدر الوسط الذى ترتفع به أراضى الزراعة فى كل قرن، وفوق الآيات السابقة على ارتفاع متر واثنين وثلاثين سنتيمترا منها، وعلى بعد متر وعشرة سنتيمترات من استواء أرض الدهليز، يوجد فى دائر الحوض من الجهات الأربع زيه مركب من ثمانى عشرة قطعة من الرخام الأبيض فى الطول، وعليها أربع كتابات كوفية، كل كتابة فى وجه من الأوجه، والزيه المذكور طوله خمسة أمتار ونصف من الوجه الشرقى على يمين السلم وخمسة أمتار ونصف فى كل من الوجهين البحرى والغربى، وخمسة أمتار وعشرون سنتيمترا من الوجه القبلى الذى ينتهى عند الدرجة الرابعة والخامسة من درج السلم الهابط إلى أسفل الحوض، والكتابة الموجودة على الزيه المذكور فى الوجه الشرقى هى:{وَ هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَ يَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَ هُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ}

(2)

.

(1)

سورة الشورى، الآية 28.

(2)

سورة إبراهيم، الآية 32.

ص: 63

والمكتوبة على الزيه فى الوجه البحرى هى: {فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَ سَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (32) وَ سَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَ سَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (33) وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ}

(1)

.

والكتابة الموجودة على الوجهين الآخرين، ليست فى الحسن والملاحة تضاهى السابقة؛ ويدل ذلك على أنها متأخرة عنها.

والكتابة التى على الزيه فى الوجه الغربى هى {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَ مِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً}

(2)

.

والكتابة التى على الزيه فى الوجه القبلى هى: {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}

(2)

{وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَ نُسْقِيَهُ مِمّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَ أَناسِيَّ كَثِيراً}

(3)

. وصلى الله على محمد النبى وآله وسلم.

ولننبه ههنا على أن الذى وضعه أحمد بن الحاسب من الكتابة بحذاء الذراع الثامن عشر، وقد تقدم ذكره، كتب فيه بعد كلمة «كفار»: بسم الله الرحمن الرحيم مقياس يمن وسعادة ونعمة وسلامة، أمر ببنائه عبد الله جعفر الإمام المتوكل على الله أمير المؤمنين، طال بقاؤه، ودام عزه وتأييده على يد أحمد بن محمد الحاسب سنة سبع وأربعين ومائتين.

والذى وجدته الفرنساوية وهو موجود إلى الآن، يشتمل بعد كلمة «كفار» على باقى الآية إلى قوله:«وأناسى كثيرا» وبعده مكتوب: «وصلى الله على سيدنا محمد النبى وآله وسلم» . ويعلم من ذلك أنه حصل فى الأزمان

(1)

سورة إبراهيم، الآية 32 - 34.

(2)

سورة النحل، الآيتان 10، 11.

(3)

سورة الفرقان، الآيتان 48، 49.

ص: 64

السابقة تغيير للكتابة القديمة ولا يمكن الحكم بأن التغيير لجميع الكتابة أو لبعضها، وربما كان التغيير لم يقع إلا فيما اشتمل على اسم الخليفة العباسى، ويدعو ذلك إلى ظن أن هذا التغيير حصل فى مدة الفاطميين، والذى يقوّى هذا/الظن، هو الكتابة الموجودة على اللوح الرخام الأبيض، وكان فى وقت الفرنساوية على يمين الداخل فى دهليز بئر المقياس.

والكتابة المذكورة هى كتابة قرماطية مثل الكتابة الموجودة فى الضلع الغربى والقبلى من بعد كلمة «كفار» ونصها:

بسم الله الرحمن الرحيم، وما توفيقى إلا بالله، {إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ أَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَ لَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ}

(1)

. نصر من الله وفتح قريب، لعبد الله ووليه معدّ أبى تميم الإمام المستنصر بالله وأبنائه الأكرمين، مما أمر بإنشائه هذا الجامع المبارك، قبلة السيد الأجل أمير الجيوش

إلى آخر ما تقدم ذكره، وما نقلناه عن الفرنساوية من خططهم، وتاريخ اللوح المذكور فى رجب سنة خمس وثمانين وأربعمائة، وفيما تقدم عن ابن خلكان مذكور أنه كان فوق باب مدخل المقياس فى الزقاق المقابل للنيل سطر وهو: بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد سيد المرسلين، أمر عبد الله جعفر الإمام المتوكل على الله أمير المؤمنين ببناء هذا المقياس الهاشمى لتعرف به زيادة النيل ونقصانه

إلى آخر ما تقدم، وتاريخه فى سنة سبع وأربعين ومائتين. وجميع ذلك يدل على أنه فى زمن بدر الجمالى أجريت عمارة بالمقياس، وأزيل اسم الخليفة العباسى، وعوض باسم الخليفة الفاطمى، وعلى كل حال فالكتابة الواقعة فى حذاء الذراع السابع عشر لم يحصل فيها تغيير، وقد حققت ذلك بنفسى فى اليوم السابع

(1)

سورة التوبة، الآية 18.

ص: 65

والعشرين من ذى الحجة سنة إحدى وتسعين ومائتين وألف، فوجدت أن النطاق المبنى فى الحائط على ارتفاع ستة عشر ذراعا يطابق على العمود أربعة عشر ذراعا وثلثى ذراع، وكان ينبغى مطابقته للذراع الرابع عشر من العمود، بسبب أن الاثنى عشر ذراعا هى أربعة عشر ذراعا فقط بناء على ما تقدم، ويظهر أن السبعة عشر قيراطا الزائدة، حصلت من العمارات التى أجريت بالمقياس فى الأزمان المختلفة، وحصل منها هبوط العمود عن أصله بهذا المقدار، ووجدت الكتابة الكوفية التى هى فى أربعة جوانب البئر، فوق الذراع السابع عشر لم تتغير، وأما الكتابة القرماطية فهى موجودة إلى الآن بقرب نهاية البئر العليا سطرا واحدا يدور فى جوانب البئر بين نطاقين.

أحدهما وهو الأعلى:

نهايته العليا بعيدة عن منتصف نطاق الستة عشر ذراعا بمترين وخمسة عشر سنتيمترا.

والثانى: نهايته السفلى بعيدة عن منتصف نطاق الستة عشر ذراعا بمتر وثمانين سنتيمترا.

وبناء على ما هو مذكور فى ابن خلكان تكون هذه الكتابة انتقلت من محلها الأصلى، وكان يوجد فوق حوض المقياس قبة من خشب مغطية للحوض المذكور، محمولة على الأعمدة والأكتاف الموجودة فى دائر الدهليز الذى ذكرناه، وارتفاع هذه القبة 24، 8 م وفيها لدخول النور اثنا عشر شباكا عرض كل واحد منها 51، 1 م وارتفاعه 70، 1 م، لا يفصلها عن بعضها إلا قائم من الخشب، والقبة المذكورة مزينة بنقوش عادية وعليها بعض كتابات.

(جامع المقياس)

كان الإنسان متى خرج من حوض المقياس الخاص به يكون فى الحوش الكبير، ويجد فى غربى محل المقياس الجامع وهو فى الزاوية الغربية المقابلة للجيزة.

ص: 66

وهذا الجامع بنى بأمر الخليفة المستنصر بالله، وبناه أبو النجم بدر الجمالى وزيره. وصارت عمارته فى زمن السلطان نجم الدين أيوب، والسلطان الملك المؤيد شيخ المحمودى هدمه وجدّده، وأوسع فيه سنة ثلاث وعشرين وثمانمائة. راجع المقريزى

(1)

.

وكان باب الدخول للجامع المذكور يوجد فى النهاية القبلية للحوش الكبير، يصل إليها من يمر من الجهة القبلية بعد أن يصعد على سلم عدد درجه خمس عشرة درجة، عرض الدرجة الواحدة خمسة وعشرون سنتيمترا، وطولها متران، وفوق الباب المذكور لوح من الرخام عرضه سبعة وستون سنتيمترا، وارتفاعه تسعون سنتيمترا، وعليه كتابة قرماطية هى نفس الكتابة التى ذكرنا أنها على حائط الدهليز على يمين الداخل التى أولها:

«بسم الله الرحمن الرحيم، وما توفيقى إلا بالله»

إلى آخر ما هو مكتوب على الحائط المذكور. ومتى كان الإنسان داخل الجامع، يجد أعمدة محيطة به، صفّ منها فى الجهة الشمالية والقبلية وصفّان فى الجهة الغربية، وثلاثة فى الجهة الشرقية، والأعمدة الحاملة لسقف الجامع عددها ثمانية وثلاثون عمودا، منها أربعة فى الزوايا وفى الجدران أكتاف مقابلة للأعمدة، والمسافة التى بين الأعمدة 30 ر 2 م 60 ر 3 م، على حسب الجهات، وأما حائط الجامع البحرية فهى ممتدة بطول الحوش الكبير، والقبلية وجزء من الحائط الغربية على النيل، وفى الضلع الشرقى القبلة والمنبر/وفيه أيضا سبعة شبابيك، اثنان منها على جهة اليمين، وخمسة على جهة الشمال، ينظر منهما النيل، وفى الحائط الغربى ستة شبابيك أخر، بعضها ينظر منه النيل، وعلى الحائط المذكور الكتابة القرماطية السابقة. وارتفاع الجامع المذكور ستة أمتار من الأرض إلى السطح، وله منارة فى وجه القبلة ارتفاعها أربعة وعشرون مترا، والمبانى المجعولة للخدم فى أرض مثلثية منحصرة بين

(1)

السلوك، ج 4، ق 2، ص 534.

ص: 67

الحائط الغربى للجامع وبين النهر، ويوجد خلاف ما ذكر سلم موصل لماء الفرع المقابل للجيزة، عدد درجه ثمانى عشرة درجة، وكانت الأهالى تقيس عليه النيل فى الأزمان السابقة، والعامة تقول: إن موسى عليه السلام وضع عليه، وهذا السلم هو الذى رمى من فوقه الشاعر أبو جعفر النحاس فى البحر فغرق، وذلك أنه كان من مشاهير الشعراء، وكان مصرى الأصل، فاتفق أنه جلس ذات يوم على السلم المذكور، وكان يتفكر فى نظم قصيدة، فمر بجانبه رجل من الناس، فسمعه يقول ألفاظا، فظنها سحرية يروم بها توقيف النيل فرماه فى البحر، ليتخلص النيل من شره.

(سراية نجم الدين)

كانت هذه السراية مطلة على مصر العتيقة، وعلى فرع النيل الفاصل لها من الجزيرة، والذى وجد منها فى وقت الفرنساوية على حالة مناسبة هو قاعة مربعة، عرضها تقريبا من الشرق إلى الغرب 70 ر 12 م، ومن الشمال إلى الجنوب 60 ر 14 م، وفى وسطها قبة متكئة على مربع مستطيل عرضه من الشرق إلى الغرب 60 ر 5 م، ومن الشمال إلى الجنوب 80 ر 6 م، وزواياه الأربع محمولة على أكتاف، ويتوصل من القاعة المذكورة إلى مواضع كثيرة بعضها صغير، وبعضها كبير، وأغلبها متخرب. وكان فى شرقى السراية فرجة فيها سلم ينزل منه لتطهير المجارى الموجودة تحت السراية الموصلة ماء النيل إلى حوض المقياس، وكانت الفرنساوية جعلت فى هذه الفرجة بطارية من المدافع لاجل ضرب مصر العتيقة عند وقوع فتنة أو شبهها، والآن محل سراية نجم الدين المذكورة بعضها عمل بستانا، والبعض وهو الجزء المطل على النيل عمل فيه «كشك» ، وهو كناية عن أودة واحدة فيها شبابيك من جميع الجهات، والكشك المذكور مرتفع عن أرض البستان بخمس درجات، وحوله من الجهات الثلاث سقيفة أرضها مفروشة بالرخام. ومحل الجامع ومحل خدم المقياس عمل سلاملك. وعمل جامع صغير فى الزاوية البحرية

ص: 68

والشرقية، دفن فيه حسن باشا المانسترلى مع الشيخ عبد الرحمن، وتاريخ بناء المحل المذكور سنة سبع وستين ومائتين وألف، والآن حيطانه تعلقت، وبياضه سقط، وصار فى حالة تدل على خرابه عن قريب. ثم إن السلطان سليم بعد قتله للسلطان طومان باى، وشنقه عند باب زويلة، ارتاح خاطره، وصفا وقته، حيث لم يبق من الجراكسة ما ينغص عليه ويعارضه فى أرض مصر، فقام وعدى جزيرة الروضة وأقام بسراية المقياس، وكان يركب فى ذهبية الغورى ويتفرج فى النيل كل يوم، ويرجع إلى السراية، إلى أن وقعت له النادرة التى حكاها شارح سيرة الجراكسة وهى: أن الأمير قانصوه العادلى لما سمع بشنق السلطان طومان باى وقتل الأمير ساربك حزن حزنا ما عليه من مزيد، وهجر الطعام والمنام، ثم حدث نفسه بأن يتحيل على قتل السلطان سليم، فدبر فى نفسه أن يلبس مثل العرب، ويأخذ معه جماعة من أهل القوة، وينزل فى مركب ليلا، ويسير بها إلى تحت المقياس، ويجعل له سلم تسليق ويصعد عليه، وينزل فى داخل المقياس، ويقتل السلطان سليم، ويأخذ بثأر قومه، وفعل ذلك حتى وصل إلى الطيارة التى فوق المقياس من محل السلطان، فوجد الحرس مستيقظين، وسمع حديثهم، فكمن فى محل، وقال فى نفسه: اصبر لهم حتى يناموا فلما انقطع حديثهم ظن أنهم ناموا، وكانوا يتناوبون الحرس بالساعات، فقام ومشى إلى أن قرب منهم، ففطنوا به ورأوه بالعين، فقاموا يتصايحون بالسيوف مسرعين فى طلبه، ففر هاربا إلى الموضع الذى طلع منه فأدركوه قبل أن يصل إلى السلم، فما وسعه إلا أن رمى نفسه من فوق الشرافات فى البحر، وسار مع التيار وتبعه جماعته بالمركب إلى أن أدركوه وهو عائم، فأخرجوه وانحدروا به ولم يبلغ مقصوده.

وأما السلطان سليم فإنه قام مرعوبا منزعجا حين سمع الضجة، ونظر من أعلى القصر فى البحر فرآه عائما، فأمرهم بالرمى عليه بالبندق فلم يصبه شئ منه إلى أن وصل ساحل بولاق، ثم بعد ذلك توجه السلطان فى البحر

ص: 69

وتفرج على فوة رشيد، وأقام بالإسكندرية ثلاثة أيام، ثم رجع وأقام بجزيرة المقياس، وكان يتفرج فى الذهبية كل يوم كما قدمنا، فاتفق أنه عاد من فرجته ذات ليلة، فلما قربت الذهبية من السلم همّ بالصعود عليها، فخلت رجله فسقط فى البحر فلحقه الريس وأخرجه، /وبقى مدة مغشيا عليه، ثم أفاق وأنعم على الريس، وكان يدعى بالحاج عبد القادر الأعرج، وجعله معرّف البحرين، وأعطاه فرمانا بذلك، وجعلها فيه إلى أن يموت من غير أن يحمل منها شئ إلى السلطان. وفى صبيحة تلك الليلة لم يرغب السلطان فى الإقامة بعد ذلك فى الجزيرة، ثم توجه إلى منزل كورت بيك الذى كان على بركة الفيل، فأقام به أياما ثم رحل إلى القسطنطينية، وأخذ معه السيد محمد الغورى وقانصوه العادلى، فإنه بعد ما أخطأ فى مقصوده اختفى فى منزل فى بولاق، وكان السلطان شدد فى طلبه من خير بيك، فطلب من السلطان أن ينادى بالأمان، فحصل ذلك فحضر عند السلطان وتكلم معه فحياه السلطان وأكرمه، بعد أن علم صدقه وصداقته، وخيّره بين الإقامة بمصر أو الذهاب معه ليكون من أمراء رجاله، فرغب فى التوجه معه، وتوجه معه كرامة للسيد محمد ابن السلطان الغورى.

(إدارة أمر المقياس)

كان الموكل بالمقياس والقياس فى الأزمان السابقة شيخا من الأفاضل، وكان يطلق عليه اسم «قاضى المقياس» وهو الذى يعين ارتفاع تحاريق النيل، ويقيس فى كل يوم زيادته من وقت أخذه فى الفيضان، ويخبر بذلك الحكومة، وينادى بذلك فى المدينة.

وكان متى حصل الوفاء: يعنى متى بلغ النيل فى العمود ستة عشر ذراعا، وابتدأ فى السابع عشر يعلن بذلك الحكومة، لتجرى قطع السّد الموضوع فى فم الخليج، وتجرى موسم جبر البحر الذى هو من الأعياد المهتم بها إلى الآن.

ص: 70

وكان فى الأيام القديمة من أعظم الأعياد وأهم المواسم، وكان شيخ المقياس يقيد فى دفتر مخصوص ما حصل من الزيادة فى كل سنة مدة فيضانه يوما فيوما. فبهذه الكيفية كانت حوادث الفيضان معلومة من ابتدائه إلى انتهائه من دفاتر القضاة الذين توارثوا هذه الوظيفة، وكان يسهل بذلك معرفة حوادث النيل.

قال فى الخطط: قال ابن الطوير: إذا أذن الله سبحانه وتعالى بزيادة النيل المبارك، طالع ابن أبى الرداد بما استقر عليه أذرع القاع فى اليوم الخامس والعشرين من بؤنة وأرّخه بما يوافقه من أيام الشهور العربية فعلم ذلك من مطالعته، وأخرجت إلى ديوان المكاتبات، فنزلت فى السير المرتب بأصل القاع، والزيادة بعد ذلك فى كل يوم تؤرخ بيومه من الشهر العربى وما وافقه من أيام الشهر القبطى، لا يزال كذلك، وهو محافظ على كتمان ذلك لا يعلم به أحد قبل الخليفة وبعده الوزير، فإذا انتهى فى ذراع الوفاء وهو السادس عشر إلى أن يبقى منه أصبع أو اصبعان، وعلم ذلك من مطالعته، أمر أن يحمل إلى المقياس فى تلك الليلة من المطابخ عشرة قناطير من الخبز السميذ، وعشرة من الخرفان المشوية، وعشرة من الجامات الحلواء، وعشر شمعات، ويؤمر بالمبيت فى تلك الليلة بالمقياس، فيحضر إليه قراء الحضرة والمتصدرون بالجوامع بالقاهرة ومصر ومن يجرى مجراهم فيستعملون ذلك، ويوقدون الشمع عليهم من العشاء الآخرة وهم يتلون القرآن برفق ويطربون بمكان التطريب، فيختمون الختمة الشريفة، ويكون هذا الاجتماع فى جامع المقياس، فيوفى الماء ستة عشر ذراعا فى تلك الليلة، فإذا أصبح الصباح من هذا اليوم وحضرت مطالعة ابن أبى الرداد إلى الخليفة بالوفاء، ركب إلى المقياس لتخليقه على الهيئة التى تقدم ذكرها فى الركوب، ومتى وصل الخليفة إلى فسقية المقياس، يصلى هو والوزير ركعات، كل واحد بمفرده، فإذا فرغ من صلاته، أحضرت الأوانى التى فيها الزعفران والمسك فيديفها بيده بآلة، ويتناولها صاحب بيت المال ثم يناولها لابن أبى الرداد، فيلقى

ص: 71

نفسه فى الفسقية وعليه غلالته وعمامته، والعمود قريب من درج الفسقية فيتعلق فيه برجليه ويده اليسرى ويخلقه بيده اليمنى، وقراء الحضرة من الجانب الآخر يقرأون القرآن نوبة بنوبة، ثم يخرج الخليفة على فوره راكبا فى العشارى، وهو بالخيار: إما أن يعود إلى دار الملك ويركب منها عائدا إلى القاهرة، أو ينحدر فى العشارى عائدا إلى المقس، فاذا استقر بالقصر، اهتم بركوب فتح الخليج همة عظيمة ظاهرة للإبتهاج بذلك، ثم يصير ابن أبى الرداد بكرة ثانى ذلك اليوم إلى القصر بالإيوان الكبير الذى فى الشباك إلى باب الملك بجواره، فيجد خلعة مذهبة مهيأة هناك فيؤمر بلبسها، ويخرج من باب العيد شاقا بها بين القصرين قصدا لإشاعة ذلك، فإن ذلك من علامة وفاء النيل. ولأهل البلاد تطلع إلى ذلك فيشرف فى الخلعة بالطيلسان المقور، ويندب له من التغييرات ولمن يريده خمس تغييرات مركبات بالحلى، ويحمل أمامه على أربعة بغال، مع أربعة من مستخدمى بيت المال: أربعة أكياس فى كل كيس خمسمائة درهم ظاهرة فى أكفهم، وبصحبته أقاربه وبنو عمه وأصدقاؤه، ويندب له الطبل والبوق، ويكتنف به عدة كثيرة من/ المتصرفين الرجالة فيخرج من باب العيد، ويركب إحدى التغييرات، وهى أميزها، وشرف أمامه بجملين من النقارات، فيسير شاقا القاهرة والأبواق تضرب أمامه كبارا وصغارا، والطبل وراءه مثل الأمراء، وينزل على كل باب يدخل منه الخليفة، ويخرج من باب القصر فيقبّله ويركب، وهكذا يعمل كل من يخلع عليه من كبير وصغير من الأمراء المطوّقين، ويخرج من باب زويلة طالبا مصر من الشارع الأعظم إلى مسجد عبد الله إلى دار الأنماط، جائزا على الجامع إلى شاطئ البحر فيعدّى إلى المقياس بخلعه وأكياسه، وهذه الأكياس معدة لأرباب الرسوم عليه فى خلعه ولنفسه ولبنى عمه بتقرير من أول الزمان، فإذا انقضى هذا الشأن شرع فى الركوب إلى فتح الخليج ثانى يوم، وكان قد وقع الاهتمام به منذ دخلت زيادة النيل ذراع الوفاء اهتماما عظيما.

ص: 72

ووصف المقريزى فى الخطط ما كان يعمل فى بيت المال لذلك وكيفية الموكب الذى يركب به الخليفة إلى خيمته بالسد، فينزل ويجلس على المرتبة المنصوبة على سرير الملك، ويحيط به الأستاذون المحنكون، والأمراء المطوّقون بعدهم ويوضع للوزير الكرسى الجارى به عادته، فيجلس عليه ورجلاه تحك الأرض، ويقف أرباب الرتب صافين من ناحية سرير الملك إلى ناحية الخيمة، والقراء يقرؤن القرآن ساعة زمانية، فإذا ختموا قراءتهم، استأذن صاحب الباب على حضور الشعراء فيؤمر بتقديمهم واحدا بعد واحد، ولهم منازل على مقدار أقدارهم، فالواحد يتقدم الواحد بخطوة فى الإنشاد، وهو أمر معروف عند مستخدم يقال له:"النائب".

ومما أنشد من القصائد فى مثل هذا اليوم أمام الخليفة؛ ما أنشأه كافى الدولة أبو العباس أحمد ارتجالا، وشهد له به جماعة منهم القاضى الأثير بن سنان وهو:

بحر الكامل

لمن اجتماع الخلق فى ذا المشهد

للنيل أم لك يا ابن بنت محمد؟

أم لاجتماعكما معا فى موطن

وافيتما فيه لأصدق موعد

ليس اجتماع الخلق إلا للذى

حاز الفضيلة منكما فى المولد

شكروا لكلّ منكما لوفائه

بالسّعى، لكن ميلهم للأجود

ولمن إذا اعتمد الوفاء ففعله

بالقصد ليس له كمن لم يقصد

هذا يفى ويعود ينقص تارة

وتسدّ أنت النقص إن لم يزدد

وقواه إن بلغ النهاية قصرت

وإذا بلغت إلى النهاية تبتدى

فالآن قد ضاقت مسالك سعيه

بالسّد فهو به بحال مقيد

فإذا أردت صلاحه فافتح له

ليرى جنابا مخصبا وثرّى ندى

وأمر بفصد العرق منه فما شكا

جسم، فصحّ الجسم إن لم يفصد

واسلم إلى أمثال يومك هكذا

فى عيش مغبوط وعزّ مخلد

ص: 73

فأمر له على الفور بخمسين دينارا، وخلع عليه وزيد فى جاريه، ثم يقوم الخليفة عن السرير راكبا، والوزير بين يديه حتى يطلع على المنظرة المعروفة بالسكرة وقد فرشت بالفرش المعدة لها، فيجلس فيها، ويتهيأ أيضا للوزير مكان يجلس فيه، ويحيط بالسد حامى البساتين ومشارفها؛ لأنه من حقوق خدمتهما، فتفتح إحدى طاقات المنظرة ويطل الخليفة على الخليج، وطاقة تقاربها يتطلع منها أستاذ من الخواص، ويشير بالفتح فيفتح بأيدى عمال البساتين بالمعاول ويخدم بالطبل والبوق من البرين، فإذا اعتدل الماء فى الخليج دخلت العشاريات اللطاف ويقال لها «السماويات» ثم العشاريات الخاصة الكبار التى وصفها المقريزى، فتسند إلى البر الذى فيه المنظرة الجالس فيها الخليفة، فإذا استقر جلوس الخليفة والوزير بالمنظرة، ودخل قاضى القضاة وشهود الخيمة الديبقية البيضاء، وصلت المائدة من القصر فى الجانب الغربى من الخليج على رؤوس الفراشين صحبة صاحب المائدة، وعدّتها مائة شدة فى الطيافير الواسعة، وعليها القوّارات الحرير، وفوقها الطراحات، ولها رواء عظيم، ومسك فائح، فتوضع فى خيمة واسعة منصوبة لذلك، ويحمل للوزير ما هو مستقر له بعادة جارية، ومن صوانى التماثيل المذكورة ثلاث صوان، ويخصص منها أيضا لأولاده وإخوته خارجا عن ذلك إكراما وافتقادا، ويحمل إلى قاضى القضاة والشهود شدّة من الطعام من غير تماثيل توقير للشرع. ويحمل إلى كل أمير فى/خيمته شدة طعام وصينية تماثيل، ويصل من ذلك إلى الناس شئ كثير. ولا يزالون كذلك إلى أن يؤذن بالظهر، فيصلون ويقيمون إلى العصر، فإذا أذن به صلّى وركب الموكب كله لانتظار ركوب الخليفة، فيركب ويسير فى البر الغربى من الخليج شاقا البساتين هناك حتى يدخل من باب القنطرة إلى القصر، والوزير تابعه على الرسم المعتاد، وكانت العادة عندهم إذا حصل وفاء النيل أن يكتب إلى العمال.

ص: 74

[كتابة تاج الرياسة أبى القاسم الصيرفى فى وفاء النيل والتهنئة به]

فمما كتب من إنشاء تاج الرياسة أبى القاسم على بن منجب بن سليمان الصيرفى:

أما بعد، فإن أحق ما وجبت به التهنئة والبشرى، وغدت المسارّ منتشرة تتوالى وتترى، وكان من اللطائف التى غمرت بالمنة العظمى والنعمة الجسيمة الكبرى، ما استدعى الشكر لموجد العالم وخالقه، وظلت النعمة به عامة، لصامت الحيوان وناطقه، وتلك الموهبة بوفاء النيل المبارك الذى يسره الله تعالى وله الحمد يوم كذا، فإن هذه العطية تؤدى إلى خصب البلاد وعمارتها، وشمول المصالح وغزارتها، وتفضى بتضاعف المنافع والخيرات، وتكاثر الأرزاق والأقوات، ويتساهم الفائدة فيها جميع العباد، وتنتهى البركة بها إلى كل دان وناء، وكل حاضر وباد، فأذع هذه النهمة قبلك، وانشرها فى كل من يتدبر عملك، وحثهم على مواصلة الشكر لهذه الألطاف الشاملة لهم ولك، فاعلم هذا واعمل به إن شاء الله تعالى.

وكتب أيضا:

«إن أولى ما تضاعف به الابتهاج والجذل، وانفتح به الرجاء واتسع الأمل، ما عم نفعه صامت الحيوان وناطقه، وأحدث لكل أحد اغتباطا لزمه والى أن لا يفارقه، وذلك ما منّ الله به من وفاء النيل المبارك الذى تحيا به كل أرض موات، وتكتسى بعد اقشعرارها حلة النبات، ويكون سببا لتوافر الأقوات، فإنه وفّى المقدار الذى يحتاج إليه، فلتذع هذه المنة فى القاصى والدانى، لتستعمل الكافة بينهم ضروب البشائر والتهانى إن شاء الله تعالى» .

وكتب أيضا:

ص: 75

«من لطف الله الواجب حمده، اللازم شكره وفضله الذى لا يمل بشره، ولا يسأم ذكره، ومنه الذى استبشر به الأنام، وتضاعف فيه الإنعام، ومثل الله به الحياة فى قوله:{إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمّا يَأْكُلُ النّاسُ وَالْأَنْعامُ}

(1)

أمر النيل المبارك الذى يعم النجود والتهائم وتنتفع به الخلائق، وترتع فيما يظهره البهائم، وقد توجه إليك هذا الكتاب بهذه البشرى فلان، فأجره على رسمه فى إظهاره مجملا، وإيصاله إلى رسمه مكملا، وإذاعة هذه النعمة على الكافة، ليتساهموا الاغتباط بها، ويبالغوا فى شكر الله سبحانه وتعالى بمقتضاها وعلى حسبها، فاعلم ذلك واعمل به إن شاء الله تعالى».

(2)

ثم بعد ذلك حصل إهمال هذه العادة فى وقت الفتن الحاصلة فى مدة المماليك وغيرهم، ثم من ابتداء سنة سبع وستين ومائتين وألف رجعت الأمور لأصلها، وجرى لكل سنة قيد الزيادة أو النقص، الحاصلين فى كل يوم من أيام الفيضان والتحاريق، فى دفاتر مخصوصة، ويخرج بذلك إعلام إلى المحافظة بمصر، ومنها يتحرر للمعية والجهات.

[إدارة المقياس فى زمن الخديو إسماعيل باشا]

ثم فى زمن الخديو إسماعيل باشا نظم مقياس جزيرة أسوان وأعيد لأصله، ورتب له خادم يخبر بالزيادة وقت حصولها فى هذه الجهة. وكذا عمل مقياس بمدينة الخرطوم، وأخباره تصل إلى الحكومة وديوان الأشغال ودواوين أخر بواسطة التلغرافات العمومية، ولا يخفى ما فى ذلك من الفائدة؛ لأنه يمكن حينئذ للحكومة أن تجرى التحفظات اللازمة فى الجهات البحرية من القطر عند حصول زيادة يخشى منها، وتأمر المهندسين بإجراء الوسايط

(1)

سورة يونس، الآية 24.

(2)

وانظر أيضا: حسن المحاضرة فى أخبار مصر والقاهرة للسيوطى، ص 256 وما بعدها.

ص: 76

التى يترتب عليها رىّ الأراضى فى النيل القليل، ويمتنع تشريق الأراضى، وسنتكلم على المقياسين المذكورين ومقياس فم البحر فيما سيأتى.

[كيفية الصرف على المقياس والذين تولوا أمره]

وكان للمقياس مبلغ مرتب للصرف منه على ما يلزم، ففى زمن الفاطميين كان المربوط للمقياس فى كل سنة ستين دينارا، وكانت مخصوصة بتطهير العيون التى يدخل منها الماء لحوض المقياس، وكان يدفع هذا المبلغ سنويا الى شيخ المقياس. وفى سنة خمس وأربعين ومائتين هجرية ترتب فى كل شهر ديناران يصرفان من خزينة بيت المال لعبد الله بن عبد السلام بن عبد الله بن أبى الرداد، الذى أحضره يزيد بن عبد الله الملقب بالترك من بغداد، وولاه القياس فى مقياس الروضة، بدل النصارى الذين كانوا يتولون القياس فى ذلك الوقت. ولما مات عبد الله المذكور فى سنة ست وستين ومائتين هجرية بقيت الوظيفة فى ذريته، واستمرت كذلك إلى سنة أربعين وخمسمائة وألف ميلاديه، والذى كان يتولى القياس وقت الفرنساوية كان يدّعى القرابة لهذه العائلة، والموجود الآن من ذريتهم على ما يقال.

[مطلب الكلام على جبر البحر](جبر البحر)

حيث كانت سعادة أهل الديار المصرية من فيضان النيل، كان المصريون فى الأزمان السابقة يطلبون وفاءه من المقدس «سيرابيس» ، وكانت أوقات زيادته عندهم أوقات سرور وأفراح، وما يشاهد فى أزماننا من ذلك هو بعض ما كان يعمل فى الأزمان السابقة؛ لأن المصريين فى الأزمان القديمة كان لا يشغلهم شاغل غيره، وكانت مبانيهم الفخيمة ومحل أعيادهم موزعة على شاطئه من ابتداء شلال أسوان إلى البحر المالح، وكانت تنصب

ص: 77

أسواق وموالد تهرع إليها أهالى القطر من كل ناحية فى أيام معلومة من السنة، وفضلا عن المبادلات كانت هذه الموالد بالنسبة لجميع أهالى القطر أعيادا تتحد فيها حظوظهم وملاذهم، وكان جميع طبقات الخلق يركب النيل فى مراكب مختلفة فى الشكل والزينة على اختلاف درجة ثروتهم، وتتنقل فى الجهات البحرية والقبلية لقضاء أغراض متنوعة، وكانوا لا يرون صعوبات فى ذلك لقلة ما يدفعون من الأجرة، مع سرعة النيل، واعتدال الأهوية فى وقت زيادته.

[فيضان النيل وأداء الأغراض الدينية والدنيوية]

وكانت الديانة تحث على ذلك لزيارة المقدسين، وتقريب القرابين ووفاء النذور، ويعلم من هذا كله أن وقت زيادة النيل كان هو الوقت الذى أعدّه المصريون لأداء جميع أغراضهم الدينية والدنيوية، ولم يكن ذلك قاصرا على طوائف الأهالى، بل كانت الملوك والأمراء وأعيان الناس مشتركين فى ذلك، فكان السرور يفيض على أهالى القطر مع فيضان النيل، وينقص مع نقصه، فكانوا يتشوقون لقدومه عقب كل احتراق، كما يتشوق المحب لقدوم حبيبه.

[ملخص ما ذكره ملى الفرنساوى عن الاحتفال بفيضان النيل]

وقد رأيت أن آتى بملخص ما ذكره ملى الفرنساوى، ونقله عن الأقدمين، مما كان يعمل عند المصريين فى الأزمان القديمة من الأفراح وقت زيادة النيل، ليرى القارئ درجة الاحتفال عند المصريين بالنيل فى كل وقت.

قال المؤلف المذكور:

ذكر المؤرخون أنه كان على شاطئ النيل من مبدئه إلى منتهى الصعيد الأعلى، يعنى: فى طول مائتى فرسخ من المعابد والسرايات والقصور والقبور

ص: 78

المشيدة ما لا حصر لعدده، وكان يتخلل ذلك فى المسافات الفاصلة بينها كثير من المدن والبلدان الكبيرة والصغيرة، ويحيط بجميعها فى امتداد الشاطئين كثير من الأشجار والبساتين، بحيث كان لا يرى فى جميع هذه المسافة الطويلة غير فرج صغيرة يرى منها الجبل على بعد فى الجهتين، ويرى ما أنشئ بأعلاهما من المبانى العالية، فكان المسافر فوق النيل، والمسافر على شواطئه ينزه طرفه، تارة بنظره إلى المبانى المشيدة الفخيمة، وتارة إلى ما يخرج من الأرض من النباتات النضرة المتنوعة، فكانت جميع حواسه تتقلب فى تلذذات متغيرة تبعث على الشخص أفراحا متعاقبة، تورثها نشاطا وقوة، وتبعد عنه متاعب الطريق، وتحثه على زيادة الجولان، ليرى المآثر الموروثة عمن قبله من الأجيال، فيعجب بوطنه وأهله وينطق لسانه بالشكر والثناء لمدبر أموره. وكان للملوك فى كل مديرية من مديريات القطر سرايات ينتقلون إليها فى أوقات معلومة أيام الزيادة، وكان جميعها على شاطئ النيل، وكان لأعيان الدولة ورجالها مثل ذلك، وكان جميعها قريبا من سرايات الملوك، وتحيط بكل منها بساتين عظيمة الاتساع، يشتمل داخلها على ما يلذ طعمه وتستطاب رائحته، وكانوا يتفاخرون بما يجلبونه من الأشجار النادرة الغريبة، وكان لهم بذلك مزيد الاعتناء، بسبب أن الملوك وأولادهم كانوا فى أوقات أسفارهم يشرّفونهم بنزولهم فى منازلهم، وبقبول الضيافة منهم، فكانت هذه العوائد الحسنة تجلب ما لا حصر له من الفوائد لجميع سكان القطر من أمير ومأمور، لأن فى هذه الأسفار كانت الملوك فضلا عن تفقدهم أحوال البلاد، تسمع دعاوى الأهالى وشكواهم، وتحكم فيها بما يوافق الحال، طبقا للقوانين المربوطة المؤسسة على دوام الثروة والقوة، فكان كل من الناس - كبيرا كان أو صغيرا - يأخذ له نصيبا مما يصرف فى تلك الأسفار، وكانت على العادة تدوم مدة الزيادة. وكان

ص: 79

النيل مدة فيضانه يفيض على الأرض بما يزيد به خصبها، وعلى الأهالى بما تزيد به أفراحهم ومسراتهم، وكان للملوك والأمراء والأعيان ووجوه الناس بيوت غير المبانى المذكورة، يجعلونها فى السفن، وفيها جميع اللوازم، يسافرون فيها فوق النيل فى أوقات الزيادة، وينتقلون منها إلى قصورهم ومنازلهم بالجهات، أو يسكنون فيها ولا يفارقونها مدة السياحة، وكان بين هذه السفن على حسب الدرجات سفن أخرى وهى أقل كلفة من السفن الأولى، بعضها للأتباع والحرم، والبعض مخازن ومطابخ للأطعمة والأشربة وما فى معنى ذلك. وكان لهم قوارب وفلائك صغيرة للبريد وجلب الأشياء اللازمة من جميع الأمكنة.

وكانت العادة إنه فى دخول أوقات السفر؛ تصدر أوامر الملوك/والأمراء لأتباعهم، بتجهيز ما عساه يلزم من كل نوع، فكانت هذه الأوقات أوقات فرح عام لجميع الناس، تزيد فيها درجات الأخذ والعطاء والبيع والشراء، ولذلك كانت الأهالى تعد هذه الأوقات من أحسن أوقاتهم؛ لأنهم كانوا يتوصلون فيها إلى التصرف فى جميع ما أعدّ للبيع من أشيائهم، وشراء ما يرون فيه نفعهم، وكان ذلك باعثا لهم على اقتناء كثير من أنواع الطيور والحيوانات بقصد التجارة فيها والربح منها، وكانت الأهالى تعرف من بعد لمن هذه السفن بمجرد رؤيتهم لها، بسبب أن سفن الملك وعائلته كانت مميزة عن باقى السفن، بل ما هو خاص بالملك مميز عما هو خاص بعائلته، وكانت سفن الأمراء مميزة على حسب درجاتهم، بحيث لا تشتبه بسفن العائلة الملوكية أو غيرها، وكذلك سفن الأعيان وغيرهم.

[مطلب بيان صفة سفن الملك والأمراء]

وذلك لأن سفن الملك كانت مركبة من أربع طبقات؛ بعضها فوق بعض، ارتفاع كل طبقة عشرة أقدام، وكانت مذهبة من داخلها وخارجها،

ص: 80

ومزينة بجميع الصور والنقوش التى كانت فى المعابد، وكان يشاهد بها التماثيل والهياكل وصور الكواكب والبروج. وكانت سفن الأمراء ورؤس الجيوش وحكام المديريات مركبة من ثلاث طبقات، ارتفاع كل طبقة تسعة أقدام، وكانت غير مذهبة جميعها، بل كانت الألوان تتناوب مع الذهب فى الزينة؛ لأجل أن تتميز عن سفن الملوك، وكانت صورة المقدس ارييس ممنوعة منها؛ لأنها منقبة مختصة بالملك. وسفن القسس وضباط العسكر والأعيان مركبة من طبقتين ارتفاع كل طبقة منها ثمانية أقدام وهى مزينة بأنواع الألوان، وكان ممنوعا منها إدخال صورة المقدس «أرييس» والمقدس «أورودس» . والسفن المستعملة فى نقل الأشياء التجارية وركوب عامة الناس مركبة من طبقة واحدة لجلوس المسافرين، وليس فيها نقوش بل هى مصبوغة بلون بسيط لا غير، والطبقة المذكورة هى عدة أود بعضها داخل بعض، كأود السفن المسماة فى زماننا بالذهبيات، وكان الموجود من أنواع السفن المذكورة كثيرا جدا، حتى قال بعضهم إنه يبلغ ثمانين ألف سفينة، وكان جميعها يرى فوق النيل فى مدة زيادته، وهذا فضلا عما كان يوجد من غيرها، وكان أيضا كثيرا جدا وهو مخصوص بباقى طوائف الأهالى، وكانت الرجال والنساء تتنقل فيها من جهة إلى أخرى فيختلط بعضهم ببعض، وكان يحصل من العزف بالآلات والقصف واللهو ما يجل عن الحصر، وكانت تسمع الألحان والمغانى وآلات الطرب فوق النيل وفوق الخلجان المتفرعة منه، وكان جميع الناس مشغولا بالحظوظ، متفرغا للملاهى، فكانوا يضيعون الزمن الذى يبقى النيل فيه فوق الأرض فى مسرات ومبرّات حتى تنكشف، فيتحوّلون لخدمتها وزرعها، وكانت ترى فى كل جهة من جهات القطر وقدات تعمل وتستمر طول زمن الموسم، وكان كل إنسان يجرى فيها ما يكون فى وسعه، فالعظيم على قدر عظمه، وغيره على حسب ميسرته. وفى الجهة

ص: 81

التى يكون فيها الملك، تتغالى الأمراء من المصريين فى مثل هذه الأمور وتهيئها بهيئات متنوعة، ويكتبون اسم الملك ومناقبه فيما عملوه بضروب من الحيل، فينتج من ذلك منظر بهيج يمتد فى الطول والعرض لمسافة بعيدة، وكانت تنصب أسواق ليجد كل إنسان ما يلزم له، فكان يوجد جميع أنواع الأشياء التى تؤكل وغيرها، وهذه الأسواق تصنع فى الحال للغرض المقصود، بعضها فوق الأرض، وبعضها فى المراكب، وكان يجتمع فيها أنواع القصف والملاهى، وذكر المؤرخون أنه كان يجتمع فيها من الناس ما يقرب عدده من ستمائة ألف نفس، وكانت توجد بيوت كثيرة للضيافة موزعة فى الجهات، بعضها مقرر فى المدن والبلاد الكبيرة، وبعضها يعمل فى زمن هذه التنقلات، لأجل أن يتيسر السفر لكل إنسان من غير مشقة ولا صعوبة.

[مطلب عوائد المصريين عند وفاء النيل]

ثم إن المؤرخين قد ذكروا أنه كان للمصريين عوائد كثيرة يجرونها عند وفاء النيل، فمن ضمنها تغريق بنت بكر من أجمل البنات، بعد أن يجملوها بأحسن الملابس وأفخر الحلى، ويعملوا لذلك فرحا، وبقيت هذه العادة جارية إلى زمن [قنسطنطين]

(1)

على ما يقال، فأمر هذا القيصر بإبطالها، وأصدر أوامره بذلك لأجل أن لا تعاد.

ومع ذلك يظهر أن هذه العادة غلبت على أوامر هذا القيصر؛ لأن المنقول عن مؤرخى العرب أن هذه العادة كانت جارية عند دخول المسلمين الديار المصرية؛ لأن الأقباط المصريين طلبوا من عمرو بن العاص التصريح بإجرائها لأجل أن يجرى النيل، وكان قد توقف إلى آخر شهر مسرى، فلم يرخص لهم بذلك.

(1)

فى الأصل: قسطنطين. والصحيح ما أثبتناه.

ص: 82

قال المقريزى: قال ابن عبد الحكم:

لما فتح عمرو بن العاص مصر، أتى أهلها إلى عمرو، حين دخل بؤونة - من أشهر العجم - فقالوا له: أيها الأمير إن لنيلنا هذا سنة لا يجرى إلا بها.

فقال لهم: وما ذلك؟ قالوا: إنه إذا كان لاثنتى عشرة ليلة تخلو من هذا الشهر، / عمدنا إلى جارية بكر فأرضينا أبويها، وجعلنا عليها من الحلى والثياب أفضل ما يكون، ثم ألقيناها فى النيل. فقال لهم عمرو: إن هذا لا يكون فى الإسلام، وان الإسلام يهدم ما كان قبله.

[رسالة عمر بن الخطاب لنيل مصر]

فأقاموا بؤونة وأبيب ومسرى وتوت وهو لا يجرى قليلا ولا كثيرا، حتى هموا بالجلاء. فلما رأى عمرو ذلك كتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه بذلك، فكتب إليه عمر:

«أن قد أصبت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وقد بعثت إليك ببطاقة، فالقها فى النيل إذا أتاك كتابى»

فلما قدم الكتاب إلى عمرو، فتح البطاقة فإذا فيها:

«من عبد الله أمير المؤمنين، إلى نيل مصر، أما بعد

فإن كنت تجرى من قبلك فلا تجر، وإن كان الله الواحد القهار هو الذى يجريك، فنسأل الله الواحد القهار أن يجريك»

فألقى عمرو البطاقة فى النيل قبل الصليب بيوم، وقد تهيأ أهل مصر للجلاء والخروج منها؛ لأنه لا يقوم بمصلحتهم فيها إلا النيل، فأصبحوا يوم الصليب وقد أجراه الله تعالى ستة عشر ذراعا فى ليلة. وقطع السّنّة السيئة عن أهل مصر.

(1)

(1)

انظر الفضائل الباهرة/ 175.

ص: 83

وأظن أن عيد الشهيد الذى كان للنصارى فى ثامن بشنس من كل عام، إلى أن أبطله الأمير بيبرس الجاشنكير فى سنة اثنتين وسبعمائة، هو العادة التى أبطلها عمرو بن العاص أيام فتح مصر بأمر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب.

[مطلب عيد الشهيد للنصارى]

وبيان ذلك: «أن النصارى كانت تزعم أن النيل لا يزيد فى كل سنة إلا إذا عمل هذا العيد، وذلك أنهم كانوا يلقون فى النيل تابوتا من خشب فيه أصبع من أصابع أسلافهم الموتى فى اليوم الثامن من شهر بشنس أحد الشهور القبطية، فتجتمع الناس اجتماعا عاما على شطوط النيل، وترحل النصارى من جميع القرى إلى ذلك المجمع ويكون من أعظم الأعياد، فإنهم يخرجون فيه عن العادة، ويركبون الخيول ويلعبون عليها، وتنصب الخيام على شطوط النيل وفى الجزائر. ويخرج فى هذا اليوم جميع أرباب الخلاعة وأهل الفساد وتغص بهم الجزائر والشطوط، ويباع فى هذا اليوم من الخمور ما لا يباع فى غيره، بما ينيف على مائة ألف درهم فضة، عنها خمسة آلاف دينار ذهبا. وكان اجتماع الناس لعيد الشهيد دائما بناحية شبرى من ضواحى القاهرة، وكان أهالى شبرى يعدّون لسداد الخراج ما يأخذونه من ثمن الخمور فى هذا اليوم، وكان يقع فيه من الفتن والقتل والجهر بالمعاصى مالا يقع فى غيره.

(1)

واستمرت هذه العادة إلى زمن الملك الناصر محمد بن قلاوون، والقائم بتدبير دولته الأمير ركن الدين بيبرس، فأمر بإبطاله وأعلن أهل الأقاليم بذلك، فشق ذلك على القبط، وذلك فى سنة اثنتين وسبعمائة.

(1)

انظر: خطط المقريزى، ج 1، ص 68 - 69.

ص: 84

واستمر بطلانه ستا وثلاثين سنة، ثم عاد فى سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة. ثم بطل هذا العيد ثانيا بسبب فتنة عظيمة وقعت بين المسلمين والنصارى، منشؤها إيقاف مبلغ من الفدن على الكنائس والديور، فهدم المسلمون كثيرا من الكنائس، وأخذوا التابوت الذى فيه الإصبع، وأحضر إلى الملك الصالح صالح بن محمد بن قلاوون، وأحرق بين يديه، وذرى رماده فى البحر حتى لا تأخذه النصارى، وذلك فى العاشر من شهر رجب فى السنة المذكورة، فبطل عيد الشهيد من يومئذ ومن هذا العهد». اهـ. ملخصا من الخطط.

وقد تفاوتت أنظار الأمم التى تعاقبت على ملك هذه الديار فى إظهار الفرح والسرور وتعيين الطريقة التى يدخلون بها المسرة فى قلوب رعيتهم شاكرين نعم الله داعين لذلك.

[الاحتفال بعيد وفاء النيل]

فلقد كان يوم وفاء النيل وبلوغه الحد الذى عنده تفتح أفواه الجداول المتشعبة منه لرى الأراضى فى الأزمان القديمة يوما مشهودا، وتجتمع الناس لأجله، ويهنئ بعضهم بعضا، مجتهدين فى إظهار ما يعم به الفرح قلوب الكافة، من الزينة وتهيئة الطعام الفاخر، والمسامحة فى تعطيل الأشغال وذلك اليوم هو المراد بقوله تعالى حكاية عن فرعون موسى. {قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ}

(1)

.

ولم يزل هذا دأبهم حتى ملكهم غير جنسهم من الفرس واليونان والروم، فتنقاصت هممهم فى ذلك، وأخذت تتغير عاداتهم لا سيما حين جاء الإسلام؛ فإنه منع كثيرا مما يعمله الناس فى المواسم والأعياد، ولم يكن من المسلمين فى أول أمرهم التفات لغير الجهاد، وإقامة الدين، وتوظيف الوظائف.

(1)

سورة طه، الآية 59.

ص: 85

فلما استقر أمر الإسلام وتعينت جهات الجبايات، واعتاد المريض الداء، لم يسلم الناس من بلايا متواترة وهموم متتابعة، بسبب تبدل العمال عليهم، واختلاف آرائهم فيهم، وتفاوت أنظارهم إليهم، إلى أن كانت الدولة العلوية العبيدية الداخلة من المغرب إلى مصر، فصارت مصر مملكة مستقلة غير ولاية تابعة، واطمأنت الناس قليلا وتراجعت إليهم نفوسهم.

[الملوك العبيديون وعودة الاحتفال بوفاء النيل]

وتذكروا عادات أسلافهم، فلم تزل القبط تتداخل مع الملوك العبيديين ويحملونهم على تجديد عاداتهم وإجراء رسومهم حتى أعادوا عيد وفاء النيل، وصار ما يعمل فيه يتزايد على سبيل التدريج، إلى أن وصل غاية بعيدة، وحالة عالية، كما أشار إلى تفصيل ذلك المقريزى فى خططه، حيث قال/ ما ملخّصه:

[مطلب ركوب الخليفة إلى ناحية مقياس النيل]

إن ركوب الخليفة بنفسه فى موكب حافل إلى ناحية مقياس النيل؛ لكون فتح الخليج، وإقامة موسم الوفاء بحضرته، أمرا اتخذته الملوك العبيدية سنة مستمرة، غير أنه لم يكن ذلك على صورة واحدة كما هو الشأن فى العادات التى تتخذها الدول، فإنها لم تزل تزداد بازدياد الدول، فغاية ما كان من المعز لدين الله، وهو أوّل الملوك العبيديين بمصر، أنه ركب يوم الوفاء من قصره فى موكب من الأمراء والعساكر، حتى أتى موضع المقياس، ونزل هناك، وفتح الخليج بحضرته، ثم عاد فى موكبه من طريق آخر حتى دخل القصر.

وأما ما كان بعد ذلك بمدة، فهو ما أذكره لك وهو: أنه إذا كانت ليلة خمس وعشرين من شهر بؤونة، مضى صاحب المقياس إليه، وعرف زيادة النيل، وفى صبيحتها يكتب بها إلى الخليفة فيعلمه. وكانوا لا يطلعون أحدا عليها غير الخليفة والوزير، فعند ذلك يصدر أمر الخليفة بتجهيز ما يلزم لموسم يوم الوفاء.

ص: 86

[صورة الاحتفال بوفاء النيل]

وصورة ذلك كما قال بعضهم: إنه كان يصنع حلتان برسم الخليفة لأجل موكب ذلك اليوم: إحداهما للذهاب قيمتها ألف دينار. والأخرى:

للعود قيمتها ثلثمائة دينار وستة دنانير. ويصنع لأخى الخليفة ولأربعة من أقاربه، وللوزير وأولاده، حلل مكلفة خاصة برسم ذلك اليوم.

ويصنع أيضا خمسمائة قباء فاخرة لخمسمائة غلام، يكونون حوله فى الموكب. ويحضر لذلك اليوم أيضا جملة من الصوانى الذهب، عليها تماثيل على شكل الناس، والفيلة عليها ركابها، والأسود وأنواع الثمار، كل ذلك من العنبر والذهب والفضة والجواهر، وغير ذلك مما يشاكلها.

فإذا كان قبل الوفاء بيومين، خرج الخليفة من قصره فى موكبه المعتاد، مارا من داخل مصر العتيقة حتى ينتهى إلى ساحل مصر، فينزل من هناك فى سفينة معدة له والوزير معه حتى تنتهى إلى باب المقياس، فيدخل هو والوزير ويصلى كل منهما ركعتين، ثم يحضر له إناء فيه مسك وزعفران، فيتناوله بيده ويحرك ما فيه من المسك والزعفران حتى يذوب ويمتزج كل منهما بالآخر، وذلك هو المسمى «بالخلوق» ، ثم يجئ صاحب المقياس ويأخذ هذا الإناء، وينزل به البركة التى فى وسطها عمود المقياس، فإذا انتهى إليه تعلق فيه برجليه ويده اليسرى، وأخذ الخلوق بيمينه، فطلى العمود به، وذلك هو «التخليق» .

كل ذلك والخليفة قائم والقرآن يتلى أمامه، فإذا فرغ من ذلك، فتارة يعود الخليفة من حيث أتى، وتارة يعود فى البحر، والموكب يحاذيه فى البر حتى ينتهى إلى المقس، وفى ذلك اليوم يكون فى البحر ما ينيف على ألف سفينة مشحونة بالناس للفرجة والفرح لوفاء النيل. فإذا كان اليوم الثانى حضر صاحب المقياس إلى دار الخلافة لإعلان البشرى، فيكسى هو وأقاربه

ص: 87

حللا مكلفة مغشاة بالقصب قد أعدّت لهم، ثم يخرج راكبا فى موكب عظيم بالطبول والبوقات، وبين يديه أربعة أشخاص على أربعة بغال، بيد كل واحد منهم كيس فيه خمسمائة دينار، يأخذها صاحب المقياس ليفرقها على أهل بيته، وكلما وصل إلى باب يدخل منه الخليفة نزل حتى ينتهى إلى آخر الأبواب، فينزل ويقبل الأرض ثم يركب. وكذلك يفعل كل من خلع عليه كائنا من كان.

[مظاهر الاحتفال فى ليلة المبيت]

ثم تكون ليلة المبيت؛ فترسل الفقهاء لقراءة القرآن هناك، وتجتمع الناس، ويخرج لتلك الليلة عشرة قناطير من الخبز، وعشر شياه مشوية، وعشر جامات حلوا، وعشر شمعات موكبية، فإذا كان صبيحة تلك الليلة، خرج الخليفة لابسا حلّة الموسم فى هيئة غريبة، وكانت تسمى «شدة الوقار» ، وقد فرشت له الأراضى بالحرير واصطفوا صامتين، وامتنع الكلام، وكانت التحية إذ ذاك من كل من حضر بمواصلة تقبيل الأرض من بعيد حتى ينتهى إلى مجلسه، فتعرض عليه الخيل، فيشير إلى ما اختاره منها لركوبه، فيقدم إليه وتقاد البقية بين يديه وقد انتظم الموكب على الترتيب المألوف، كل قوم فى موضعهم اللائق بهم، وضربت الطبول المصنوعة من الفضة بدل الخشب، وضربت بوقات الذهب والفضة وأصحابها ركاب، وبوقات النحاس وأصحابها مشاة، وبين يدى الخليفة رجل معه مال يفرقه على أصحاب المساجد والأسبلة التى فى الطريق يمينا وشمالا حتى ينتهى إلى الساحل، فينزلون فى السفن، ويطلعون إلى الخيام المضروبة هناك التى فيها خيمة الخليفة وهى مضروبة فى بقعة تزيد عن فدانين، طول عمودها خمسة وخمسون ذراعا، وهى عبارة عن قاعة كبيرة وأربع قيعان صغار وأربعة دهاليز، ولضيق المكان لم يكن ينصب منها غير القاعة الكبيرة والدهاليز، وكانت الخدم الموكلون بنصبها يتأذون من نصبها لما يعانون من المشاق، حتى أنه

ص: 88

عند أول نصبهم لها وقع اثنان من الفرّاشين فماتا. ولذلك كانت تسمى تلك الخيمة «بالقاتول» ، وإلى جانبها من جهة الشمال خيام الأمراء، وهذه الخيام مرتبة على حسب منازلهم، فإذا استقر الخليفة على سريره فى تلك الخيمة، أحضرت القراء وقرأت ساعة، ثم احضرت الشعراء/واحدا بعد واحد بمعرفة صاحب هذه الوظيفة الملقب «بالنائب» ، ثم يقوم الخليفة، ويخرج من باب غير الذى دخل منه، مارا إلى منظرة تسمى «منظرة السكرة» أعدّت له عند الموضع الذى يفتح منه الخليج، فإذا استقرّ بها وفتحت الطاقات المشرفة عليه، أخذ العمال فى فتح السد بحضرة والى مصر ومتولى البساتين ومشارفها والعملة فى فتح السّد هم عمال البساتين، كل ذلك والقرآن يقرأ بالجانب الغربى الذى فيه الخليفة، وأنواع الملاعب فى الجانب الشرقى، ورؤساء السفن وخدامها واقفون وعليهم خلع سلطانية شرفوا بها فى ذلك اليوم، والسفن مزينة بزينة لائقة بها، فإذا فرغ من فتح السد، واندفعت السفن الصغار ثم السفن الكبار، قبّل الأرض والى مصر ورجع إلى مكانه من الجانب الشرقى، وأخذ متولى الموائد فى تفريقها حسب ما رسم عنده فى دفتره، فمتى فرغ من ذلك، ركب الخليفة والموكب على الهيئة الأولى لم ينقص منه شئ حتى يعود إلى القصر. وهكذا يفعل فى كل عام.

وكانت العادة عندهم إذا حصل وفاء النيل؛ أن يكتب إلى العمال ببشارة وفاء النيل، وصورة ما يكتب مسطورة فى خطط المقريزى. وقد أسلفنا طرفا من ذلك، ولم نورد إلا اليسير مما ذكره المقريزى طلبا للاختصار، وقصد البيان ما كان يعمل فى الأيام السابقة ومقارنته لما صار يعمل بعد، حيث تغيرت الأمور، وتبدلت الأحوال، فإنه وإن كان عيد وفاء النيل من الأعياد المشهورة عند الأمة المصرية، وهى إلى الآن محافظة عليه، غير أن كيفيته لم تدم على حالة واحدة؛ لأنه كان يكثر الاعتناء به ويقل بحسب الأوقات، وكان يومه يوم توسعة على العام والخاص، ويوما يعم سروره أهل القرى والبلدان.

ص: 89

ففى زمن الأيوبية ومن بعدهم، على ما وجدته فى كتاب «قطف الأزهار من الخطط والآثار» تأليف الإمام العالم العلامة الأستاذ الكبير والعلم الشهير الشيخ أبى السرور البكرى الصديقى، المؤلف سنة أربع وثلاثين وألف:

أنه كان يركب السلطان أو نائبه ومعه الأمراء وأركان الدولة من قلعة الجبل، فيخرج من باب السلسلة إلى الرميلة ثم الصليبة ثم قناطر الكبش إلى أن يدخل إلى مصر القديمة تجاه دار النحاس على شاطئ النيل، فينزل هناك، وقد أعدت له «الحرّاقة والذهبية» .

والحرّاقة: هى التى يقال لها العقبة، وهى باسم السلطان، مزينة مزخرفة بالذهب وغيره، فينزل السلطان ومن معه من الخواص فى الحراقة، وينزل من بقى فى الذهبية، وهناك سفن شتى وحراقات كثيرة مزينة يركب فيها أربابها من الأمراء والمباشرين وغير ذلك، ثم تسير الحراقة بالسلطان والسفن المذكورة كلها تابعة لها فى السير، ويشق السلطان البحر حتى ينتهى إلى الروضة، فيركب بعض خيوله إلى أن ينتهى إلى المقياس السعيد، فيدخل هناك هو ومن معه، ويخلق المقياس بالزعفران المشرّب بالورد والمسك، ثم يصلى ركعتين هناك، ثم تمد له أسمطة جليلة، ثم بعد ذلك تقدم له سفينة من شباك المقياس، وقد علق عليه سترة الذهب فوق البسطة، فيركب هو ومن معه، ثم يسير راجعا فى بحر مصر والناس حولهم فى سفائنهم، والطبول والزمور تضرب إلى أن ينتهى إلى بحر مصر، ثم ينعطف على الخليج الحاكمى إلى القاهرة، وهو مع ما ذكرنا يبذر الذهب والفضة على من حوله وعلى من قرب منه من الناس من الفقراء برا وبحرا، ذهابا وإيابا، والفواكه والحلواء ونحو ذلك تفرق إلى أن ينتهى إلى سدّ مصر، وهو المراد بالكسوة، وهو عبارة عن جسر مكتوم من التراب تجاه القنطرة، ثم يشير السلطان إلى جماعة موكلين به بأيديهم المساحى إشارة بمنديل أو غيره، فيقطعون ذلك فى أقل من دقيقة، ثم تقدم له الخيول فيركب ويكر راجعا إلى القلعة.

ص: 90

[مهرجان قطع الخليج فى مدة الدولة العثمانية]

وأما فى الدولة العثمانية، فيركب بيكلر بيكى مصر فى وقت الصباح من القلعة، وينزل إلى بولاق للسفن المزينة التى أعدت له وللصناجق والأمراء تجاه الترسخاناه، فينزل هناك بها ويقلع من السفائن التى هو بها، ويقلع خلفه جميع الصناجق بسفائنها وكذا الأمراء، ثم تضرب المدافع العديدة، ولا يزال سائرا من بحر مصر العتيقة إلى المقياس بالروضة، وذلك حين يبقى لوفاء البحر أقل من عشرين إصبعا، ويجلس فى المقياس المذكور إلى أن يصير البحر ستة عشر ذراعا، وتارة يجلس بعد الوفاء يوما أو يومين ويعمل العرائس النفيسة، ويقع من القصف واللهو مالا يحصى، وفى يوم إرادة البيكلر بيكى فتح السد، يمدّ سماط قبل طلوع الشمس للصناجق والجاويشية المتفرقة وغيرهم من العساكر، ويحضر عنده قاضى مصر إذ ذاك، وبعد الفراغ من السماط يخلع على كاشف الجيزة وابن الخبيرى شيخ عرب الجيزة، وكذلك كاشفها، وعلى صو باشا مصر ووالى بولاق ومصر القديمة وأمين الشون، وحاجى باشا وأمين البحرين وأمين الحضرا وناظر الحسبة وأمين الخردة، ثم ينزل هو وقاضى عسكر مصر وجميع الصناجق فى السفن، ولا يزال/سائرا وطبول الصناجق تضرب إلى أن يأتى السد، فينثنى ثم يصعد من السد إلى القلعة، ويكون يوما مشهودا.

[جبر الخليج فى مدة الفرنساوية][عن كتاب وصف مصر]

ولما دخلت الفرنساوية مصر وحكموا فيها، اعتنوا بأمر المقياس، وأجروا عادة جبر الخليج على النسق القديم، وهذه ترجمة ما وجدته مسطورا فى الجزء الخامس عشر من كتابهم الذى وضعوه لمصر، فى اليوم السادس من شهر ربيع الأول سنة ثلاث عشرة ومائتين وألف هلالية، الموافقة لسبعة عشر من شهر أغسطس سنة ثمان وتسعين وسبعمائة وألف ميلادية:

ص: 91

«قام أمير الجيوش الفرنساوية بونابرت ومعه رؤساء الجيوش والكيخيا والباشا وجميع أعضاء ديوان مصر والقاضى وأغوات اليانشارية فى الساعة السادسة من الصباح، وتوجه إلى المقياس، وكان مجموعا هناك ناس كثيرون فوق التلال الموجودة على شاطئ النيل والخليج، والسفن مزينة مصطفة فوق النيل، والعساكر مصطفة أيضا بالانتظام تحت السلاح، وحين وصل الموكب إلى المقياس ضربت المدافع، وابتدأت المزيكات الإفرنجية والآلات العربية، بالألحان اللطيفة.

وابتدأ الشغالون فى قطع الجسر حتى قطعوه، فاندفع ماء النيل مع قوة وشدة، وحينئذ بذر أمير الجيوش بونابرت على الناس مبالغ من الميايدة، كل ثمانية وعشرين منها بقيمة فرنك من النقود الإفرنجية، ونثر أيضا قطعا من الذهب على أول سفينة دخلت من الخليج. ثم إنه كسا [المنادى]

(1)

بنشا أسود، وكسا نقيب الأشراف - وهو السيد خليل البكرى، الذى نصبه أمير الجيوش بعد فرار السيد عمر مكرم - بنشا أبيض، ثم أنعم بثمانية وثلاثين قفطانا على أمراء البلد، ثم عاد بعد ذلك بالموكب إلى بركة الأزبكية.

وبقى الأمر على ذلك مدة السنين الثلاث التى أقاموها بالديار المصرية.

[جبر الخليج فى عهد العائلة المحمدية العلوية]

ولما منّ الله على الديار المصرية بحكومة العائلة المحمدية العلوية وأشرق نجم سرورها، وردت إليها رسومها الجميلة، وعوائدها الجليلة. وكانت قد اندرست بماطرأ عليها من الحوادث، ظهرت من غياهب الخفاء، وصارت تكسى حلل الرونق والكمال من فيض بحر العلوم والمعارف التى انتشرت بها، وصار يوم الوفاء يوما يبدو فيه للناظرين ما اكتسبه القطر وأهله من المزايا العلمية والعملية، فيكون فوق البحر وعلى الجانبين منه ما يعلن بفضل العزيز غارس هذه النعمة، وفضل أحفاده الذين تبعوه فى بث المعارف، ونشر ألوية

(1)

فى الأصل: المنلا.

ص: 92

النعمة فى هذه الديار، ويكون لسان حال مهرجان النيل ناطقا بالشكر والثناء الجميل للعائلة المحمدية العلوية.

وهاك شرح الجارى الآن، يعنى سنة إحدى وتسعين ومائتين وألف هلالية، وهو أنه متى بلغ النيل فى مقياس الروضة فوق خمسة عشر ذراعا وبعض أصابع، تحرر من طرف المحافظة ثلاثة خطابات:

الأول: إلى ديوان الأشغال العمومية.

والثانى: إلى ديوان الانجرارية.

والثالث: لشيخ المنادين.

ويعين فى خطاب الأشغال: يوم مرور الرايات بشوارع القاهرة وحاراتها، ويوم وفاء النيل، وهو يحرّر من طرفه إعلانات إلى مشايخ الطوائف جميعها الملحقين به من بنائين وحجارين ونحاتين وجيارين وجباسين ونجارين ومقدّمين وخراطين وحدادين وقمراتية وسباكين وسمكرية وغيرهم، يعين فيه لهم يوم مرور الرايات الموافق كذا من الشهر، ويأمرهم بالتوجه إلى منزل المعمار بالملابس الحسنة والركائب المزينة.

وفى خطاب الانجرارية: يخبر فيه مأمور الانجرارية بإحضار العقبة وتزيين حبالها وصواريها بالرايات، وتعليق القناديل والفوانيس الورق الملوّنة وغيرها، وبوضع المزيكة والآلات. ثم يكون خلف مسير الموكب فى العقبة المذكورة سفينة أقل منها درجة، وبها الموسيقات والطبول والزمور، وخلف هذه سفينة فيها المدافع والعسكر، وخلفها سفينة فيها المطبخ بأدواته ورجاله.

والعقبة عبارة عن: سفينة كبيرة من سفن الغلال، يصنعون بها مقعدا مؤقتا من أخشاب مركبا من طبقتين أو ثلاثة، ويكسونه بطاقات مقصب وجنفس وأطلس، كل ذلك يرسل من طرف المحافظة على يد معاون من المعاونين الذين بها، يحافظ عليها ويردّها بعد الفراغ من الزينة، وتفرش الطبقات المذكورة بالسجاجيد والبسط، وبها يجلس كل من أراد الفرجة.

ص: 93

والخطاب الثالث: يأمر فيه المحافظ شيخ المنادين بأنه يدور بالمنادين وأولادهم فى شوارع القاهرة وحاراتها، ويخبر عن يوم الوفاء، فيخرج فى اليوم المذكور، ويجمع الصغار فرقا فرقا، وبأيديهم الجريد والبوص وعليها الرايات من البفتة الملونة بالأخضر والأصفر والأحمر والأبيض، ويطوفون بالأزقة وينادون. فبعضهم يقول:«البحر زاد وغرّق البلاد» والبعض يرد عليه بقوله:

«أوفى الله» .

وفى ذلك اليوم تجتمع طوائف المعمار فى منزله، ومع كل فرقة طبول أومزيكات، ويخرج الجميع والمعمار أمامهم قبيل العصر، ويدورون بأزقة البلد وحاراتها متعاقبين فرقة بعد فرقة، وكل فرقة تفصل بينها وبين التى بعدها آلات الطرب، ويكون يوما مشهودا، يجتمع فيه جميع أهل القاهرة للفرجة فى الحوانيت والبيوت الكائنة/على الشوارع المعتاد المرور فيها. وفى آخر اليوم يتوجه المعمار بمن معه إلى فم الخليج، فتنزل الطوائف جميعها، ويتقدم الموظف بتطهير الخليج وتنظيفه وعمل السّد، ويسلمه إلى المعمار، فعند هذا ينادى المنادى هكذا:

«الفاتحة لساعى البحر، وشيخ العرب السيد البدوى، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، برز أمر كريم من الخديوى الأعظم عن الجسر الشريف المعتاد جبره سنويا، تسليم سر معمار إلى شيخ معلمى البنائين إلى شيخ مقدمى الفعلة إلى شيخ الترابة سالم مسلم، والفاتحة لشيخ العرب السيد البدوى» .

فيستلمه الفعلة والمقدمون، ويبيتون هناك يشتغلون فيه قليلا قليلا حتى إذا كان الصبح، وصدر الأمر قطع عند رؤية الإشارة التى تصدر من المأمور.

وفى اليوم المذكور تتوجه العقبة والسفن الأخر وخلفهم ذهبيات الخلق إلى فم الخليج، فيكون منظرا بهجا خصوصا والنيل قد ارتفع، وتبدلت بسبب ارتفاعه حرارة الجوّ بالرطوبة، وتكون آلات السماع فى جانبى النيل طول الليل، وتعمل حرائق بالبر، ووقدات وزينة عند السّد، ويكون هناك خيم

ص: 94

لجميع الدواوين، وخيم للأمراء والقناصل ووجوه الناس يدخلها من شاء، وتوضع المآكل من طرف المحافظة لمن حضر.

وتكون هذه الليلة من ليالى الفرح والسرور لا ينام فيها أغلب أهل القاهرة ومصر العتيقة وبولاق وما جاورها من البلاد، ويكون الطريق جميعه مطروقا، فالرجال يتوجهون إلى الخليج ويعودون إلى منازلهم لأجل الفرجة، وكذلك النساء، وتسمع المغانى والألحان من أغلب البيوت المطلة على الخليج، وكثير من الأمراء والأعيان وغيرهم من سكان جزيرة الروضة ومصر، تجعل تلك الليلة موسما للأذكار والقراءة.

ومتى كان الصباح صدر الأمر بقطع السد فيقطع، وتدخله السفن، وتسقط به العوّامون، وتبذر عليهم البدرات من الخديوى أو ممن ينوب عنه، فتنكب عليها الناس من كبير وصغير، ويحصل فى بعض الأحيان ازدحام عليها، فيحصل منه ضرر بل موت لبعض الأطفال وبعض الرجال.

ومتى انطلق الماء فى الخليج تسير الأطفال أمامه وتغنى بمغانى لطيفة، وتكون أهل القاهرة فى ذلك اليوم مجتمعة فى البيوت المطلة على الخليج لأجل الفرجة، ويكون عند أغلب أصحاب البيوت عزومات. هذا ملخص الجارى الآن.

[مطلب الجارى صرفه لشيخ المقياس من المراحم الخديوية]

هو سنوى وشهرى، فمرتبه السنوى ثلاثة وأربعون قرشا ديوانيا وثلثمائة قرش ديوانى وخمسة عشر نصفا فضة، وبيان ذلك:

أن خمسة عشر قرشا بدل الباسيات تصرف يوم الصليب للشيخ وتوابعه.

وخمسة عشر قرشا تصرف له يوم الوفاء. وثلاثة وثلاثين قرشا ومائة قرش وخمسة وعشرين نصفا فضة تصرف له يوم الجبر، وهى المعبر عنها

ص: 95

«بالصرة» . وستة وعشرين قرشا وثلاثين نصفا فضة ثمن فرجية كانت مرتبة له فى كل عام، تصرف له يوم البشارة بوفاء النيل فى كل سنة.

وخمسة وعشرين قرشا كانت تصرف له يوم الوفاء فى كل سنة. وثمانية وعشرين قرشا كانت تصرف له يوم جبر الخليج فى كل سنة. ومائة قرش ثمن فرو قرضة كانت تخلع عليه يوم الجبر. وجميع هذه المبالغ تصرف له من الروزنامجه

(1)

.

وأما مرتبة الشهرى فهو ستة قروش وثلثمائة قرش وعشرون نصفا فضة، منها أجرة حمار يركبه للقياس فى كل يوم، وهى مائة وخمسون قرشا.

وخلاف ذلك مرتب سنوى، وهو مائة واثنا عشر قرشا وعشرون نصفا فضة باسم كريمة المرحوم الشيخ مصطفى منادى المقياس سابقا، المتوفى سنة إحدى وستين ومائتين وألف، وهو مدفون بجامع نقيب الجيش تجاه حارة الروزنامجه، وبجوار عطفة حبيب أفندى، وقد ذكرنا ترجمته عند ذكر جامعه من هذا الكتاب، فانظرها فى الجزء الخامس

(2)

منه إن شئت.

وقد وضعنا لك جداول تشتمل على بيان غاية زيادة النيل وغاية تحريقه، مقدّرا ذلك بالذراع والإصبع، ومرتبا على سنى الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، من حين افتتح المسلمون مصر، وهو سنة 20 من الهجرة - على أحد الأقوال وهو أشهرها - إلى سنة 1296، مع ذكر بعض الملحوظات والأخبار والحوادث التى وقعت فى أىّ سنة من هذه السنين بإزائها، فانظرها فى الصحيفة التى بعد هذه ومايليها.

واعلم أن الأعداد الهندية التى فى الجداول تحت الإصبع والذراع نقلناها من جداول فى كتب إفرنجية، وأبقيناها على حالها، والملحوظات التى بإزاء

(1)

الروزنامجه: الصحيفة الصغيرة.

(2)

الخطط الجزء الخامس ص 312.

ص: 96

السنين نقلناها من كتب أخرى تاريخية، وأبقينا تواريخها على حالها، وإن كانت مخالفة لعدد الأذرع والأصابع الذى فى الجدول. مثلا سنة 795 الزيادة فى الجدول إصبع 20 وذراع 17، وفى الملحوظات ثمانية أصابع من الذراع العشرين. فأبقينا أعداد الجداول على حالها، وأعداد الملحوظات على حالها، لأننا لم نعلم الأصح منهما والعهدة فى كل على صاحبه.

ص: 97

/ ‌

(ذكر ما جرى فى مقياس النيل بالروضة فى سنة 1887)

قد كتب إلينا من حصل ذلك على يده ما نصه:

لما شرع فى تطهير بئر هذا المقياس فى تحاريق هذه السنة، حسب المعتاد فى كل عام، صدر أمر الكولوتيل «منكريف» بناء على إشارة الكولوتيل «أردا» ، رئيس أركان حرب جيش الاحتلال، بأن تنظف البئر جميعها ليحصل العثور على تاج عمود المقياس إذا كان ساقطا فى قاعه.

ثم فى ذلك الوقت، أمر الكولوتيل «منكريف» بإنشاء مقياس مترى جديد مجاور لهذا المقياس، ومحولة أمتاره إلى سطح البحر المالح لمعرفة مناسيب القياسات الذراعية الأصلية.

وقد كلفنا بإجراء هذه الأعمال وكانت النتيجة كما هو آت:

(1)

حصل الشروع فى تنظيف البئر، أى رفع ما به من الماء والطين، حتى انكشف الذراع الخامس من المقياس، وكان رفع الماء بالنطالات، وصبها فى المجرى الوسطى (إحدى المجارى الثلاث الموصلة من النيل إلى البئر)، وبعد ذلك صارت النطالات غير كافية لنزح المياه، نظرا لتوارد المياه من الخارج من جملة ينابيع، أى خروق فى حوائط البئر. فاستحضرنا طلونبة يد كبيرة، فأمكن نزح البئر بها إلى الذراع الثالث، ثم صارت غير كافية لرفع المياه المتواردة من الجوانب، ولقرب الوقت، وأخذ النيل فى الزيادة، وعدم وجود وسعة فى الزمن لإحضار الآلة ذات القوة الكافية لنزح مياه البئر وتنظيفه جميعه، أوقفنا العمل.

ولكن أخرجنا جملة أحجار بناء من البئر المذكور، وجملة أعمدة رخام صغيرة وتيجان، كانت كلها ساقطة فيه، ويرى أن الأعمدة (حيث أنها أربعة وكذا التيجان) مع الأحجار، كانت فى الأصل قبة للبئر، مثل القبة

ص: 174

الموجودة. ثم عثرنا على الحجر الموضوع مدّة الفرنساوية، المنقوش عليه الذراع الثامن عشر، وهو حجر من رخام، قطاعه مستطيل أحد ضلعيه 0،425 متر، والضلع الثانى 0،37 متر، وارتفاعه 0،58 متر، وهو مقسم على وجهين متقابلين من أوجهه إلى ذراع وقيراطين.

وهيئة التقسيم وما عليه من الكتابة هكذا:

/والوجهان الآخران منه مرقوم على أحدهما التاريخ من حين حصول الجمهورية الفرنساوية هكذا:

ص: 175

وعلى الوجه الآخر التاريخ الهجرى هكذا:

ثم عثرنا أيضا على قطعة من تاج، يرى من مقارنة نوع حجرها بحجر عمود المقياس، ومن مقارنة حجمها بحجمه، أنها يمكن أن تكون من التاج الأصلى، وسيحقق ذلك فى تحاريق هذا العام، حين ينزح البئر جميعه - كما هو مظنون - فإن ظهر التاج فيها، وإلا فلنفحص عن القطعة المذكورة جيدا، حتى إذا ظهر أنها من التاج حقيقة، عملنا تاجا مثلها من السيمنت (كما أظن). ومن المظنون أن يجرى تركيب الحجر الذى عملته الفرنساوية حال إجراء العمل فى هذا العام أيضا.

(2)

ثم عمل المقياس المترى (محولا إلى سطح البحر) على حائط الرصيف الشرقى لسراى حسن باشا المانسترلى، فى زاوية السلم القريب جدا من المقياس الأصلى، أى المجاور لأفواه المجارى الموصلة له، وهو يبتدئ من منسوب 13،50 متر، وينتهى إلى منسوب 21،00 متر، ومنسوب 13،50 متر يطابق ذراع 8 قيراط 15،5.

وكان الغرض أن يبتدئ المقياس من منسوب 13،40 الذى هو منسوب غاية التحريق هناك، المطابق لنحو ذراع 8 قيراط 11. ولكن بعد استعداده والشروع فى تقسيمه، كان النيل قد أخذ فى الزيادة ولم يتيسر تقسيمه ورقمه إلا من منسوب 13،50 متر، وسيصير تقسيمه ورقمه إلى ما دون منسوب 13،50 فى تحاريق هذا العام بقدر ما يمكن.

ص: 176

إلا من منسوب 13،50 متر، وسيصير تقسيمه ورقمه إلى ما دون منسوب 13،50 فى تحاريق هذا العام بقدر ما يمكن.

هذا، وبعد الفراغ من هذه الأعمال بأيام، حضر القياس، وأخبر بأن عمود المقياس قد انحط بقدر ستة قراريط. ولما كانت هناك عارضة من الخشب، مركبة من قطعتين، ومحملة على رأس العمود، وراكزة بطرفيها على حائطين متقابلين من حوائط البئر، بحيث أن القطعتين متقابلتان فى منتصف العمود، أى فى قطره، وكان هناك من الأصل انحطاط بوسط العارضة عن طرفيها بنحو 0،05 متر، قدّرنا الانحطاط بوسطها عن طرفيها، بعد إخبار القياس بواسطة الميزان، ووجد مقداره نحو 0،19 متر، أى أن الانحطاط الذى حدث أخيرا قدره نحو 0،14 مترا، أو نحو ستة قراريط.

/ ‌

(الكلام على ساحل النيل)

اعلم أن ساحل النيل فى مقابلة القاهرة والفسطاط كان سابقا على خلاف ما هو عليه الآن؛ لأن من عادة النيل التنقل يمينا وشمالا بحسب ما يعرض لمجراه من العوارض، فمن يمتحن أرض ساحله الشرقى مبتدئا من حلوان، يتحقق أنه كان سابقا فى الأرض الحجرية التي عند المعصرة وطرا والجبل المعروف سابقا «بالرصد» ، الذى فوقه البناء المعروف الآن باسطبل عنتر بحرى قرية البساتين، وشرقى الدير المعروف «بدير مارى جرجس» ، المسمى فى الخطط:«بقصر الشمع» .

ثم بعد الرصد ينعطف النيل فيكون ساحله جبل

(1)

يشكر المعروف الآن «بجبل الغزلانى» الممتد إلى الكبش، فكان الكبش أيضا على ساحل النيل،

(1)

هو الذى عليه جامع أحمد بن طولون، نسبة إلى يشكر الرجل الصالح، حيث أشار ابن الصلاح على ابن طولون أن يبنى جامعه عليه. حسن المحاضرة/ 85.

ص: 177

ثم يكون تحت الشرف الذى عليه قلعة الجبل الآن. وكانت بركة البغالة، وبركة الفيل، وأرض القاهرة والوايلية وقرية الدمرداش مغمورة بالنيل، وكانت قرية المطرية - المعروفة فى الخطط بمدينة عين شمس - على ساحله، وكانت هى المدينة الثانية بعد مدينة منف التى كانت تخت القطر المصرى زمن الفراعنة، التى محلها الآن قرية منية رهينة من أعمال الجيزة.

ففى تلك الأزمان كانت عين شمس من أعظم مدن القطر، بها المعابد والمدارس، يقصدها الكثير من الفراعنة والأمراء وغيرهم فى أوقات معلومة من السنة لإجراء الرسوم الدينية والأعياد والمواسم، فكان من يريد التوجه من مدينة منف إليها إما أن يتخطى النيل من تجاه طرا فيمر من طرا على صحراء قرافة المجاورين وقايتباى حتى يصل إلى عين شمس، وإما أن يسير على الساحل الغربى للنيل إلى تجاه المطرية ثم يتخطاه، فلما تغير مجرى النيل تخلفت عنه أرض المعصرة وطرا وأرض البساتين وأرض دير مارى جرجس وأرض جامع عمرو، وحدثت بها بساتين وقرى.

[التغيرات التي طرأت على ساحل النيل بعد الفتح العربى لمصر]

ولما استولى العرب على الديار المصرية، وحدثت مدينة الفسطاط، أخذ النيل فى الانتقال إلى الغرب، وحصلت تغيرات شتى، وكذلك بعد حدوث القاهرة، حتى أن القاهرة بعد أن كانت مشرفة على النيل، صارت بعيدة عنه جدا، حتى أن من لا علم له بتلك التنقلات، يظن أن القاهرة وضعت بعيدة عن النيل، لما يشاهده من الآثار الباقية من زمن المنشئين.

وحيث أن تلك التنقلات حصلت بالتدريج في أزمان متعاقبة، فلنعين على وجه التقريب ساحل النيل فى كل انتقال، من حين الفتح الإسلامى على يد سيدنا عمرو بن العاص رضي الله عنه سنة عشرين من الهجرة إلى وقتنا هذا، يعنى

ص: 178

سنة ألف وثلثمائة واثنتين، ولنبين بالإيجاز المبانى التى كانت عليه، وما بقى من آثارها بعد أن أبادتها الحوادث، ليعلم القارئ بعد وقوفه على هذه التنقلات؛ صحة القول بأن البقاع تشقى وتسعد تبعا لأهلها.

فنقول: يعلم مما ذكره المقريزى فى مواضع متفرقة من الخطط؛ أن العرب لما افتتحوا مصر، لم يكن بين مدينة عين شمس وبين قصر الشمع إلا قرية تعرف «بأم دنين» ، ومحلها الآن «حارة النصارى» بقرب أولاد عنان، وكانت على النيل، أقام عليها عمرو بن العاص زيادة عن شهر يحارب الأقباط، وعندها اقتسم الصحابة الغنيمة، فلذلك سميت «المقس» ، وأصله المقسم، أى محل القسمة. وفيما بين هذه القرية وقصر الشمع برك وبساتين وديور وكنائس للنصارى. وكان قصر الشمع أيضا مطلا على النيل، وكانت السفن تصل إلى بابه الغربى الذى كان يعرف «بباب الحديد» ، ومنه ركب المقوقس فى السفن حين غلبه المسلمون، وسار منه إلى الجزيرة التى تجاه القصر، وهى التى عرفت «بحزيرة الروضة» وإلى الآن تعرف بهذا الاسم، وبجزيرة المقياس، وبالمنيل. وإلى اليوم الباب الذى خرج منه المقوقس باق مسدود بالحجارة، تحول عنه النيل إلى الغرب بقدر أربعمائة متر، وكان فى قبلى هذا القصر بركة ماء فيما بينه وبين قرية طرا، سميت فيما بعد «ببركة الحبش» كما فى الخطط، وسبب هذه التسمية: أنه كان فى قبليها بساتين منسوبة إلى قتادة بن حبش الصدفى، شهد فتح مصر، فسميت «بركة الحبش» من أجل ذلك.

ويظهر من هذه العبارة أن أرض البساتين قد خلفها النيل قبل الفتح، وكانت بيد القبط يزرعونها، فلما حصل الفتح استولى عليها المسلمون، وجعلت بساتين، أو أنها كانت بساتين من قبل الفتح، وكانت البركة باقية من الموات يغمرها النيل عند الفيضان. وفى التحريق يتحول عنها فيبقى الماء فيما انحط منها ينبت به الحشيش والبوص ويزرع دائرها.

ص: 179

ثم لما كانت سنة ثلاث وتسعين من الهجرة، استحوذ عليها قرة بن شريك فى زمن إمرته على مصر، وأحياها وغرسها قصبا، فعرفت «باصطبل قرة» و «باصطبل قامش» أى البوص، ولا بد أن يكون هذا الإحياء احتاج إلى أعمال طردت النيل عن جبل الرصد، وصار الساحل بعيدا عنه إلى حيث هو الآن تقريبا، وتخلفت أرض صارت/تزرع، وهى التى صارت فيما بعد بساتين ومزارع، تنقلت بالملكية من يد إلى يد، وبنى فيها على التدريج قرية «دير الطين» وقرية «الأثر» وقرية «البساتين» و «دير العدوية» وهو أقدمها.

وأما الأرض التي بحرى القصر، فكانت كما ذكر المقريزى ديورا ومزارع، وبنى المسلمون بها جامع عمرو، وكان لا يفصل بينها وبين النيل بناء، وقد ذرعت ما بين الجامع، والنيل الآن فوجدته خمسمائة متر، فكان ساحل النيل وقتئذ بقرب الجامع، ومن هناك كان يسير النيل حتى يكون تحت جبل يشكر.

قال المقريزى

(1)

: إن هذا الجبل كان يشرف على النيل، وإن الكبش كان يشرف عليه أيضا، وقد مشيت فوق جبل الغزلانى الذى هو جبل يشكر فوجدته كبيرا، يمتد إلى جامع ابن طولون والكبش من بحرى، وإلى الرصد من قبلى. ومن يسير بحذاء العيون المجعولة لتوصيل المياه إلى القلعة إلى أن يجاوز السلخانة الجديدة، يرى الطبقات الحجرية لهذا الجبل ظاهرة شرقى السلخانة بقليل وفوقها عدة عيون من عيون المجراة، وقد ذرعت ما بين أقرب نقطة من هذا الجبل إلى النيل فوجدته ألفا ومائة وستين مترا بالقياس على حائط المجراة، وألف متر فقط بالقياس على خط مستقيم، وهى المسافة التى بعد بها النيل من حين الفتح إلى وقتنا هذا. ومن يتأمل فى خرطتى القاهرة والفسطاط معا، يجزم بأن النيل كان بعد أن يفارق الكبش يسير قريبا من شارع السيوفية، ثم يسير إلى قرية أم دنين عند أولاد عنان، ثم ينعطف إلى الشرق حتى يكون بقرب عين شمس، فكان ساحله محل الشارع

(1)

الخطط المقريزية، ج 1/ 125.

ص: 180

المذكور، وكان المار إلى عين شمس يسير عليه، ثم يسير فى الأرض الرملية التى بنيت عليها القاهرة، وهذه الأرض خلفها النيل أيضا، وكانت قبل ذلك مغمورة به، كما يستدل على ذلك من الموازين التى عملت بمعرفة ديوان الأشغال ومن الرسوبات التى تظهر عند حفر الآبار مثلا، فإنها عبارة عن طبقات رمل وطين من جنس ما يتخلف من البحر الآن. وبعد أن يفارق هذه الأرض الرملية يكون بين الجنائن الموجودة الآن خارج الحسينية، إلى أن يصل مدينة عين شمس، فكان من يقف بقرب باب القنطرة، يرى عن يمينه النيل ومدينة عين شمس فى وسط الأشجار، ويرى أمامه أم دنين على النيل، ويرى عن يساره بستان بطن البقرة فى أرض الأزبكية وما جاورها، وبساتين أخرى، ثم مدينة الفسطاط و [العسكر]

(1)

.

ويظهر مما تقدم أن النيل كان وقت الفتح الإسلامى عند قرية طرا كما هو الآن، ثم كان تحت جبل الرصد مدة من الزمان، ولما تخلفت عنه أرض المزارع بعد عنه وصار قريبا من آخر أرض البساتين كما هو الآن، وبعد ذلك كان تحت قصر الشمع وجامع عمرو وبقرب شارع السيوفية، ثم تحت قرية أم دنين، ومن هناك ينعطف إلى عين شمس.

ويؤخذ من قول المقريزى «إن من كان يقف عند قرية أم دنين يرى منية عقبة على شاطئ النيل الغربى» ، أن النيل كان عظيم الاتساع خصوصا فى وقت الفيضان، وكانت سرعة جريه قليلة ضرورة بسبب هذا الاتساع فيما بين عين شمس وقصر الشمع، وتسبب عن هذا جزائر ورسوبات حدثت فى هذا الموضع، نشأت عنها البرك التى شاهدنا بعضها مثل: بركة البغالة، وبركة الفيل، وبركة أبى الشوارب، وغيرها. وفى زمن احتراق النيل كان يزرع ما حولها من الأراضى المرتفعة والبساتين التى ذكرها المقريزى فى خططه.

[مطلب الكلام على الخليج الكبير]

(1)

فى الأصل: العساكر. والمثبت بين الحاصرتين هو الصحيح.

ص: 181

وهنا مسألة يلزم التكلم عليها وهى مسألة الخليج الكبير المصرى، هل كان جزؤه الواقع داخل القاهرة موجودا عند الفتح كما هو الآن؟، وإذا كان كذلك فأين كان فمه؟، أو لم يكن موجودا وإنما حدث بعد الفتح، وأين كان فمه أيضا؟، قلت: إن صاحب الخطط لم يأت بما يشفى الغليل فى هذه المسألة، وإنما ذكر أن الذى حفره هو طوطيس بن ماليا أحد ملوك مصر الذين سكنوا مدينة منف، وهو الذى قدم إبراهيم الخليل صلوات الله عليه إلى مصر فى أيامه، وبعده جدده - أندرومانوس الذى يعرف بإيليا - أحد ملوك الروم بعد الإسكندر بن فلبس [المقدونى]

(1)

، وسارت فيه السفن، وذلك قبل الهجرة النبوية بنيف وأربعمائة سنة، وبعده جدده عمرو بن العاص لما فتح مصر فى عام الرمادة، وأقام فى حفره ستة أشهر، وجرت فيه السفن تحمل الميرة إلى الحجاز، فسمى «خليج أمير المؤمنين» يعنى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولم يبين مبدأه ولا اتجاهه ولا البلاد التى مر عليها. ثم ذكر فى ظواهر القاهرة أنه فى سنة مائة وخمسين هجرية أمر الخليفة أبو جعفر المنصور بردمه فردم وانقطع السير فيه.

وقال فى موضع آخر: وفم هذا الخليج لم يكن هو الموجود الآن، ولم أدر أين كان في الجاهلية، وأظن أن أوله/كان عند مدينة عين شمس أو بحريها، لأن ما بين الخليج من غربيه وشرقيه فيما بين عين شمس وموردة الحلفاء خارج مدينة الفسطاط جميعه طين إبليز، وهو لا يكون إلا حيث يمر ماء النيل، فتعين أن ماء النيل مر قديما على هذه الأرض، وهو ينتج أن أول الخليج كان عند آخر الطين من الجهة البحرية، والطين ينتهى إلى نحو مدينة عين شمس ويصير ما بعد الخندق يعنى قرية الدمرداش رملا لا طين فيه أه.

وقد رأيت فى كتاب استرابون الجغرافى الذى ساح فى مصر وقت استيلاء قياصرة الروم على هذه الديار قبل المسيح بنحو خمسمائة سنة ما نصه: إن

(1)

فى الأصل: المجدونى.

ص: 182

الذى حفر الخليج الفراعنة. ونقل ما قاله عن بطليموس الجغرافى وقال: إن فمه كان أولا عند بوبست، ومده القيصر أدريان إلى نحو مدينة بابليون (قصر الشمع)، ولما تكلم على مدينة عين شمس قال: إن فى بحريها بركة، وقال: إنها تأخذ ماءها من الخليج المجاور لها. انتهى.

(قلت): أظن أن المراد بالبركة فى هذه العبارة بركة الحج وقد ارتدمت وصارت أرض مزارع، والخليج المصرى يمر بحافتها، فعلى هذا يكون الخليج المصرى هو الخليج القديم. وقد أتى هيرودوط المؤرخ فيما كتبه على مصر بما يوضح ما ذكره استرابون فقال ما ملخصه: إن الخليج بحرى عين شمس، وأول من شرع فى عمله [سيزوستريس]

(1)

فرعون مصر ولم يكمله، ولما ملكت الفرس بلاد مصر أراد دارا الأول تكملته فلم يتم له ذلك، ولما ملكت البطالسة أتموه فكان فرع منه يصل إلى السويس، وآخر يصب فى البرك المرة. فتلخص من هذا أن أول الخليج فى الزمن القديم كان عند عين شمس، وهناك كان يعمل موسم الخليج السنوى، وأن الخليج كان يتبع فى سيره أكثر المواضع التي شغلتها الترعة الحلوة الموصلة إلى بندر السويس، كما يدل على ذلك ما وجد من الآثار القديمة عند حفرها وحفر الترعة الإسماعيلية. وكان يمر بقرب بلبيس وقرية العباسة والتل الكبير والنفيشة وسيرابيوم والشلوفة، وفرعه الآخر الذى تقدم ذكره فى عبارة هيرودوط، كان يصب فى بركة التمساح بقرب محطة النفيشة أو بقرب السيرابيوم، ويملأ البرك المرة بسبب أن بركة التمساح والبرك المرة كانت متصلة بعضها ببعض وبالبحر الأحمر كما قال بذلك كثير من المؤرخين، وقد بعد النيل عن مدينة عين شمس، فبالضرورة انتقل فم الخليج إلى حيث كان النيل ولا مانع من

(1)

فى الأصل: سيزواستريس.

ص: 183

أنه بعد أن ظهرت الأرض التى بنيت فوقها القاهرة وقرية أم دنين امتد الخليج إلى نحو هذه الجهات حسبما اقتضاه الحال، ثم لما أخذت العرب بلاد مصر اشتغل عمرو بن العاص بتعديل الخليج وجعله صالحا للملاحة ولا يبعد أنه جعل فمه قريبا من الفسطاط من بحريها.

[الكلام على قنطرة عبد العزيز بن مروان]

ولم يتكلم صاحب الخطط على ذلك وإنما ذكر أن عبد العزيز بن مروان فى إمرته على مصر بنى عليه قنطره خلف السقايات السبع، وكتب اسمه عليها وذلك سنة تسع وستين من الهجرة، ولم يبين موضع هذه القنطرة. وقال فى موضع من الخطط: إنه فى سنة ثلاثمائة وثمان عشرة من الهجرة زاد فيها تكين أمير مصر، ورفع سمكها، ثم فى سنة ثلثمائة وإحدى وثلاثين زاد عليها الإخشيد، وعمرت فى أيام العزيز بالله أحد الخلفاء الفاطميين.

وقال أيضا: قال ابن عبد الظاهر: وهذه القنطرة ليس لها أثر فى هذا الزمان، ولما انحسر النيل عن ساحل مصر، أهملت هذه القنطرة وعملت قنطرة السد عند فم النيل، فإن النيل كان قد ربى الجرف حيث غيط الجرف الذى على يمنة من سلك من المراغة إلى باب مصر بجوار الكبارة. وقنطرة السد المستجدة بناها الصالح نجم الدين أيوب ابن الملك الكامل محمد بن العادل أبى بكر بن أيوب فى أعوام بضع وأربعين وستمائة، وقد علم أن موضع هذه القنطرة مما كان مغمورا بالنيل قديما، وهى الآن يتوصل من فوقها إلى منشأة المهرانى وغيرها من بر الخليج الغربى، وكان النيل عند إنشائها يصل إلى الكوم الأحمر الذى هو جانب الخليج الغربى الآن تجاه خط بين الزقاقين، فإن النيل كان قد ربى جرفا قدّام الساحل القديم، فأهملت القنطرة الأولى لبعد النيل، وقربت هذه القنطرة إلى حيث كان ينتهى النيل، فصار يتوصل منها إلى بستان الخشاب الذى موضعه اليوم يعرف بالمريس وما حوله. قال:

ص: 184

وعرفت بقنطرة السد، من أجل أن النيل لما انحسر عن الجانب الشرقى وانكشفت الأراضى التى عليها الآن خط بين الزقاقين إلى موردة الحلفاء وموضع الجامع الجديد إلى دير النحاس وما وراء هذه الأماكن إلى المراغة وإلى باب مصر بجوار الكبارة، وانكشف من أراضى النيل أيضا الموضع الذى يعرف اليوم بمنشأة المهرانى، صاروا إذا بدت زيادته؛ يجعلون على باب هذه القنطرة سدا من تراب إلى انتهاء الزيادة إلى ستة عشر/ذراعا، فيفتح السد حينئذ ويمر الماء فى الخليج الكبير، والأمر على هذا إلى اليوم. هذا كلام المقريزى.

ومنه يظهر أن القنطرة التى بناها الصالح هى التى كانت مستعملة إلى زمانه، ولم يكن على الخليج قناطر قديمة غير القنطرة الجارى عليها المرور من شارع مصر العتيقة إلى القصر العينى، وتسمى إلى الآن بقنطرة السد، وباسمها سمى الخط أيضا بخط قنطرة السد. والقنطرتان اللتان بعدها إلى النيل حادثتان فى زمن العائلة المحمدية، وهذه القنطرة قوسان - كما قال المقريزى - ويمر من فوقها إلى بستان الخشاب، وهو الأرض الواقعة أمام القصر العينى والقصر العالى الممتدة إلى الخليج، والتلال التي بعد عبور القنطرة جهة القصر العينى على يسار السالك، واقعة فى أرض منشأة المهرانى، وهى آثار المبانى التي ذكرها المقريزى فى منشأة المهرانى كما بينا ذلك فى موضعه.

فمما سبق لم يبق شبهة فى كون هذه القنطرة هى قنطرة السد التى بنيت بعد تحول النيل وبعده عن قنطرة عبد العزيز بن مروان، وبالتأمل يعلم أن قنطرة عبد العزيز بن مروان كانت علي جزء الخليج الواقع بين قنطرة السباع، وقنطرة السد، وإذا تعين موقعها، يتعين ساحل النيل القديم إلى ما بعد زمن الفاطميين بمدة، لأنها تكون نقطة منه، وهذا التعين سهل وطريقه أن المقريزى قال: إن عبد العزيز بن مروان بنى قنطرته عند ساحل الحمراء ليتوصل من فوقها إلى أرض الزهرى، وقال أيضا: إن موضع هذه القنطرة بحكر آقبغا

ص: 185

المجاور لخط السبع سقايات. وقال فى موضع آخر: إنها كانت بالمريس.

ولما تكلم على منظرة السكرة قال: إنها كانت بالمريس. فالقنطرة والمنظرة كانتا فى المريس حينئذ، وقد برهنا على أن منزل المرحوم حسن باشا راسم المملوك الآن لأحمد باشا كمال ابن عم الحضرة الخديوية التوفيقية وهو محل منظرة السكرة، فالأرض التى عليها هذا المنزل هى أرض المريس، فالقنطرة حينئذ تكون فى هذه الأرض. وقد وجدت بقرب منزل الست الشماشرجية رصيفا قديما مبنيا بحجارة كبيرة، لا يبعد أن يكون أحد أرصفة القنطرة، لأن المنازل والحارات الموجودة شرقى الخليج إلى شارع السيدة زينب هى فى حكر آقبغا، والأرض الموجودة أمام القصر العالى التى سميت فيما بعد ببستان الخشاب هى أرض بستان منظرة السكرة، وكان من أبدع البساتين، وقد أطال المقريزى فى وصفه، وفى غالب الظن أن حارة السيدة، كانت هى الطريق المسلوك منه إلى القنطرة ومن فوقها كان يتوصل إلى ساحل النيل وغربى الخليج وبساتين الزهرى وبالعكس.

وقد تلخص مما تقدم أن ساحل النيل فى سنة تسع وستين من الهجرة كان يمتد فى الجهة البحرية من بيت الشماشرجية إلى تحت جامع أولاد عنان، وكان يمر قريبا من بستان الزهرى موازيا لانعطافاته، وقد بينا أكثر أرض هذا البستان فى خطى الحنفى وعابدين، ولا يبعد أن امتداد شارع الحنفى إلى مقابلة شارع باب اللوق كان ساحل النيل، والأحكار التى خرجت من أرض بستان الزهرى تكون على يمين السالك فى هذا الشارع، وتكون على يساره أرض اللوق التى ظهرت فيما بعد، بعد انحسار النيل، وقد بسطنا الكلام علي ذلك فى محله.

ثم إن النيل بعد مفارقة أولاد عنان يكون غربى مدينة عين شمس على بعد من ساحله القديم، وفى الجهة القبلية يكون غربى جامع عمرو وقصر الشمع فى آخر الأرض التي انحسر عنها وابتنى فيها عبد العزيز بن مروان،

ص: 186

جديلة الذى سمى الجبل باسمه، وكانت هذه الخطة تعرف «بالحمراء القصوى» ، وكانت فى قبليها «الحمراء الوسطى» ، وبعدها «الحمراء الأولى» ، فكان أول الحمراوات على الكبش وبركة البغالة، وآخرها أمام الدير وتشرف على النيل، وكانت من أعمر أخطاط الفسطاط، وأهلها من أكثر الناس ثروة، واستمروا علي ذلك زمنا. ثم طرأت حوادث وفتن فخرب أغلب منازلها، وبقيت صحراء زمنا، ثم لما قدم مروان بن محمد آخر خلفاء بنى أمية إلى مصر، منهزما من بنى العباس، نزلت عساكر صالح بن على وأبى عون عبد الملك بن يزيد فى هذه الصحراء حيث جبل يشكر حتى ملؤا الفضاء، فأمر أبو عون عساكره بالبناء فيه، وذلك فى سنة مائة وثلاث وثلاثين، فعرف بالعسكر من هذا التاريخ، وصار يقال الفسطاط والعسكر، فلما خرج صالح بن على من مصر خرب أكثر ما بنى من ذلك، إلى أن حضر موسى بن عيسى الهاشمى فابتنى فيه دارا أنزل فيها حشمه وعبيده، ثم أخذت العمارة من حينئذ/تزيد من سنة إلى أخرى. وقد أطال المقريزى فى شرح ما وصل إليه الفسطاط والعسكر من العمارية فراجعه.

(1)

وفى آخر زمن الفاطميين، كان ساحل النيل قد مال كثيرا إلى الغرب، وحدثت أرض فيما بين قنطرة عبد العزيز والدير وقصر الشمع وابتنى الناس عليها، واتسع الفسطاط والعسكر اتساعا عظيما، حتى اتصلت عمائر العسكر بقناطر السباع وحدرة بنى قميحة التى منها خط السيدة والكبش، وكان به البركة العظيمة المعروفة ببركة قارون، وكانت تمتد من قبلى زين العابدين حيث العيون إلى باب زويلة الآن، وحولها الدور والبساتين ومن جملتها دار كافور الإخشيد التى محل بعضها الآن عمارة المرحوم حسين باشا حسنى، ومنزل أيوب بيك وبستانه العظيم، الذى بعضه الآن الأرض المنزرعة المملوكة

(1)

خطط المقريزى 1/ 330 وما بعدها.

ص: 187

لأولاد العدوى، وهذا البستان قديم عرف أولا بجنان بنى مسكين ثم استحوذ عليه بنو طولون ثم الإخشيديون.

ومن كلام المقريزى يعلم أن الساحل القديم بقى أمام الفسطاط والعسكر إلى سنة ست وثلاثين وثلثمائة، وفى هذا التاريخ انحسر النيل عنه وبعد عن الفسطاط حتى احتاج الناس إلى أن يستقوا من بحر الجيزة - الذى هو فيما بين جزيرة مصر، وهى المنيل، وبين الجيزة - وصاروا يمشون بالدواب إلى الجزيرة، فحفر الأستاذ كافور الإخشيد خليجا فدخل الماء ساحل مصر.

قال المقريزى: وكان هذا أول حفر لساحل مصر، فمن هنا يعلم أن ساحل النيل القديم بقى على حاله أو تغير قليلا إلى ذاك الوقت، وقال المقريزى: إن الساحل القديم كان فيما بين سوق المعاريج ودار التفاح بجوار الكبارة المجاورة لباب مصر من شرقيه، وجميع هذه الآثار دثرت وصارت ضمن التلال، لكن من يتفطن لما ذكره فى الجامع الجديد الناصرى، وفى كلامه على ساحل النيل الذى نقله عن ابن المتوج، يمكنه أن يعين هذا الساحل فإنه قال: إن بستان العالمة يشرف على النيل من بحريه، وإن باب مصر كان بين هذا البستان وبين كوم المشانيق - الذى هو كوم الكبارة - وكانا على النيل، وإن سور البلد كان يصل إلى دار النحاس وجميع ما بظاهره شون، ولم يزل هذا السور القديم - الذى هو قبلى بستان العالمة - موجودا إلى أن اشتراه الأمير حسام الدين طرانطاى المنصورى فأجر مكانه للعامة، فهدموه وبنوا محله، فلو استدل على بستان العالمة والجامع الجديد لعلم موضع الساحل القديم، وقد قرأت فى حجة جنينة السادات الوفائية الموجودة الآن بمصر العتيقة، ما يستدل على أن الجامع الجديد الناصرى محله الآن الحوش المعروف «بحوش التكية» الواقع فى بحرى الجنينة، ويوجد إلى اليوم بهذه الجنينة ساقية تعرف بساقية العالمة، فينتج من هذا أن بعض جنينة السادات أو كلها هى بستان العالمة، لمطابقة الوصف المذكور فى الخطط لوصفها تقريبا.

ص: 188

وأما الجامع الناصرى: فإنه بنى فى الأرض التي حدثت أمام الساحل القديم وكانت شونا للتبن السلطانى، وبنى الحد الشرقى للجامع فى محل السور فيه باب البلد المعروف بباب الساحل، فهذا الحد من الساحل القديم.

وكان الباب المذكور بجوار الكبارة، والتل المرتفع الواقع شرقى المذبح المستجد الآن هو كوم الكبارة أو كوم المشانيق، فكان ساحل النيل القديم يمر بقنطرة عبد العزيز، ثم بهذا الكوم، ثم يمتد إلى دار النحاس التى فى بعضها دير النحاس الموجود الآن، ثم بعد ذلك يمتد إلى منازل العز التى تكلمنا عليها فى المدارس، وهى الدار التى بنتها الست تغريد أم العزيز بالله بن المعز لدين الله، وكانت من محاسن الدنيا، تشرف على النيل لا يحجبها عنه شئ، وكان النيل ينعطف من منازل العز إلى قرية طرا وغيرها.

أقول: وحيث علم محل الكبارة وباب البلد، فدار التفاح صارت معلومة، وكذلك سوق المعاريج الذى هو من ضمن الحمراء الأولى، وكان تجاه دار النحاس والمعاريج كانت سبع درج ينزل منها لأخذ الماء، وكان محلها بقرب الكبارة من الجهة القبلية، لما انحسر ماء النيل إلى جهة الغرب، حدث الساحل الجديد، وحدثت معاريج أخرى قدام المعاريج القديمة، وكان هناك «سوق البورى» أى السمك المملح، وكان سوق المعاريج يعرف أيضا بسوق «وردان» من اسم وردان مولى عمرو بن العاص، الذى حضر فتح مصر، واختط دار النحاس وبقيت بيده وأيدى ذريته زمنا إلي أن صارت ديوانا فى زمن معاوية، وفى سنة ثمان وثلثمائة صارت إلى شمول الإخشيدى فبناها قيسارية وحماما، عرفت بقيسارية شمول، وكان لها بابان:

أحدهما من رحبة أمام القيسارية.

والثاني: بشارع الساحل القديم.

وحدث فيما بعد بآخر هذه الشقة التى تشرف على النيل جسر الأفرم الذي كان أوله من منازل العز ودار الملك، وينتهى إلى الأثر، وهو منسوب إلى

ص: 189

الأفرم أحد أمراء الملك الناصر محمد بن قلاوون/وقد أطال المقريزى فى وصفه، ومنه الجسر المسلوك الآن إلى الأثر وغيره.

ومن يتأمل فيما ذكرناه يتحقق أن الطريق المسلوك أمام دير النحاس شرقى جنينة سليمان باشا والسادات، هو الساحل القديم، وكان المرور عليه بين مدينتى الفسطاط وعين شمس، وعليه سارت عساكر المعز لدين الله حين استيلائهم على مصر، فبعد أن عبروا النيل ساروا فى الشارع الذى به جامع سيدى محمد الصغير المعروف «بجامع محمد بن أبى بكر» ، حتى انتهوا إلى الكبارة المعروفة «بجبل بابليون» ، ومنها إلى الأرض التى سماها المقريزى «الأرض الصفراء» ، وهى التى بها مقبرة زين العابدين، ثم اتبعوا الطريق الموجودة بين التلال غربى المساكن، وبعد ذلك ساروا فى شارع السيدة على حافة الخليج الشرقية حتى نزلوا بقطعة الأرض التى اتخذوها مناخا، وبنوا فيها مدينة القاهرة، وقد بقى هذا الساحل زمنا، والمبانى التى فوقه تشرف على النيل إلى سنة ست وثلاثين وثلثمائة، ثم انحسر النيل عن بر مصر - كما تقدم - وحدث الساحل الجديد الآتى بيان موقعه، ومن ذاك الحين أخذ النيل ينتقل إلى الغرب ويعلو مجراه من الرسوبات إلى سنة خمسمائة من الهجرة، فانحسر عن أرض الزهرى إلى الغرب، وظهرت أمامه أرض اتصلت ببستان منظرة السكرة، فأخذها القاضى الفاضل عبد الرحيم بن على البيسانى، وعملها بستانا عظيما، كان يمير أهل القاهرة من ثماره وأعنابه، وتكلم عليه المقريزى وقال: إنه عمر فى جانبه جامعا بنت الناس حوله فصارت خطة، عرفت بمنشأة «الفاضل» وكثرت بها العمارة وبقيت على ذلك إلي أوائل القرن السابع، ثم تحول عليها النيل فهدم مبانيها وخرب تلك الخطة. وموقع بستان الفاضل هو بعض الأرض الواقعة الآن أمام القصر العالى والقصر العينى.

وفى أواخر مدة الفاطميين كثرت المبانى على ساحل النيل بين مدينة عين شمس وأولاد عنان، وبعد النيل عن الساحل، وحدثت هناك أرض.

ص: 190

وفى تلك المدة غرق مركب عظيم فى هذه الجهة، فربا عليه الرمل حتى حدثت فى مدة قليلة جزيرة فيما بين منية الشيرج وقرية أم دنين، فسماها الناس «جزيرة الفيل» ، وصار الماء يمر من حولها، وفى كل سنة وقت الفيضان يعلوها النيل وترتفع بالطمى وتتسع، حتى صارت تزرع في أيام الدولة الأيوبية.

فلما كانت سنة سبعين وخمسمائة استحوذ عليها الملك الناصر صلاح الدين بن أيوب، وجعلها وقفا على مدرسته التى أنشأها بالقرافة بجوار قبر الإمام الشافعى رضي الله عنه، ثم لما صار الأمر إلى الملك الصالح نجم الدين

(1)

أيوب أخذت فى الاتساع، وبعد النيل عن أكثرها وكذلك بعد عن فوهة الخليج التى كان بها قنطرة عبد العزيز بن مروان، وقد بينّا أنها كانت فى محل منزل الست الشماشرجية كما تقدم، فأمر بالزيادة فى طول الخليج، وأمر ببناء القنطرة الجديدة المعروفة «بقنطرة السد» ، وظهرت من هذا الانتقال أراض فى غربى الخليج وشرقيه، فالتى فى غربى الخليج صارت بستانا، عرف «ببستان المحلى» ، والتى فى شرقيه صارت بستانا أيضا، عرف ببستان «الحارة» ، والأول هو بعض الأرض الواقعة تجاه القصر العينى فى غربى الخليج، والآخر محل المبانى المقابلة لهذه الأرض بين الخليج والشارع. وحدثت أيضا رمال وجزيرة قدام الساحل القديم بين يدى الفسطاط والعسكر، فى محل المذبح الجديد وترب النصارى، وامتدت بطول الساحل من الجهة القبلية.

وانحسر النيل عن مصر، وتربى جرف قبلى قنطرة عبد العزيز، بنى الناس فوقه مساكن أطلق على خطتها اسم «بين الزقاقين» ، وكانت تلك المساكن تشرف من غربيها على الخليج، ومن شرقيها على بستان عرف «ببستان الجرف» ، وكانت قبل بناء تلك المساكن مراغة للدواب، فلما عمر السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب قلعة الروضة، صار فى كل سنة يحفر البحر بين الجزيرة

(1)

فى الأصل: نجم الدين بن أيوب، وهو خطأ. فهو: الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل محمد بن العادل أبى بكر بن أيوب. انظر: وفيات الأعيان، ج 5، ص 84 - 85.

ص: 191

والفسطاط، ويطرح المستخرج من الرمل فى هذه البقعة، فاتسعت، وبنى فيها خواص السلطان، ثم صارت الدور والبساتين التى كانت على النيل خلف ما استجد من العمارات، وحدث بستان العالمة فى قطعة أرض أباحها لها السلطان الصالح، فعمرت بجانبه منظرة مطلة على النيل، واتخذ الملك الصالح الأرض المتسعة الواقعة بحرى هذا البستان وجعلها شونا للتّبن، وكانت خلف سور الفسطاط. ولما آل الأمر إلى السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون بنى فيها الجامع الجديد الناصرى الذى تكلم عليه المقريزى فى الجوامع.

وكما كان النيل قد بعد عن ساحله عند الفسطاط، كذلك بعد فى الجهة البحرية فيما بين قنطرة السد ومدينة عين شمس، وبعد عن المقس، فكانت أرضه تجف زمن احتراق النيل، وينبت بها البوص والحلفاء، وتنزل المماليك السلطانية هناك لرمى النشاب، ثم صارت تتسع كل سنة حتى اتصلت بجزيرة الفيل، وبعد النيل عن جهة القاهرة البحرية/وعن عين شمس وحدثت فى مجراه أرض الزاوية الحمراء وأرض المهمشة وبعض أرض منية الشيرج، وغرست فيها البساتين النضرة التى تكلم عليها المقريزى.

وقبلى أولاد عنان حدثت أرض اللوق غربى الزهرى، وأولا كانت تزرع أرض اللوق كما تزرع أراضى الأقاليم القبلية، ثم بدأ فيها البناء فى زمن الملك الظاهر بيبرس البندقدارى، وأول من سكن بها التتر كما بينا ذلك فى محله.

وأرض اللوق كان أولها عند قنطرة الصالح وآخرها عند كوم الدكة، وكانت عبارة عن منطقة من الأرض عرضها من جامع الطباخ إلى شارع مصر العتيقة، وكان بعضها بركا وبعضها صار أحكارا تكلم عليها المقريزى. وبعد سنة سبعمائة من الهجرة اتصلت أرض اللوق بالمقس فيما استجد من الأرض وبنى فيه مبان وبساتين، وعرفت هذه الخطة «بظاهر اللوق» ، ومنها بستان ابن ثعلب ومنشأته وعدة أحكار بيناها فى كتابنا هذا، فظاهر اللوق من بيت حافظ السفرجى إلى المقس طولا، ومن قنطرة أبى العلاء إلى آخر بستان الدكة، وهى الأرض

ص: 192

المملوكة لزينب هانم بنت محمد على عرضا. وفى خلال سنة سبعمائة حدثت جزيرة فيما بين جزيرة الروضة وأرض اللوق، عرفت فى الخطط بجزيرة أروى وبالجزيرة الوسطى، وهى المعروفة الآن «بجزيرة العبيط» ، وفى بعضها سراى الإسماعيلية، وكانت شبه قرية صغيرة فهدمت مبانيها فى زمن الخديوى إسماعيل واستعيضت بأرض فى خط عابدين، تعرف الآن «بالجزيرة» ، وفى مبدأ الأمر كان الماء يفصلها عن اللوق والمراكب تمر من حولها، ثم ارتدمت واختلطت بأرض اللوق، ولما بعد النيل عن القاهرة واتسعت هذه الأرض، بنت الناس فى محل بولاق، وكثرت مبانيها حيث جامع الخطيرى، وامتدت العمارة على أرض اللوق وجزيرة الفيل إلى منية الشيرج. وفى سنة سبع عشرة وسبعمائة عمر السلطان الملك الناصر الجامع الجديد الناصرى، فى محل شون التبن السلطانى خلف السور، ومحله الآن حوش التكية كما قدمناه، وكان ذرعه أحد عشر ألف ذراع وخمسمائة ذراع بذراع العمل، وكان طوله من الجنوب إلى الشمال مائة وعشرين ذراعا وعرضه مائة ذراع، وكان يشرف من قبليه على بستان العالمة.

وفى هذه السنة وصل النيل فى المقياس إلى ثمانية عشر ذراعا وستة أصابع، ففاض وانقطع الطريق بين القاهرة ومصر، وفيما بين كوم الريش - وهى الزاوية الحمراء - ومنية الشيرج، وخرج من جانب المنية وأغرقها وأتلف كثيرا من الدور والبساتين بأرض اللوق ومنشأة المهرانى ومنشأة الكتبة وبستان الخشاب. وفى سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة قويت زيادته عن العادة فانقطع من ناحية بستان الخشاب - يعنى من أمام قصر العينى - ودخل الماء فى بولاق وغرق باب اللوق عند جامع الطباخ، واتصل الماء إلى باب البحر فهدمت عدة دور وتلفت جملة بساتين من جزيرة أروى وجزيرة الفيل وغيرهما، فأمر الملك الناصر محمد بعمل جسر من بولاق إلى منية الشيرج، وصار الجميع بحرا واحدا. وفى سنة خمس وعشرين وسبعمائة أمر الملك الناصر بعمل

ص: 193

الخليج الناصرى، فصدر أمره للعمال بجمع الناس من البلاد وأتموه فى شهرين، وقد بينا أن الخليج الناصرى، كان حيث الجانب الشرقى لشارع مصر العتيقة المار أمام القصر العالى وقصر العينى وسراى الإسماعيلية.

وفى أواخر زمن السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون كان ساحل النيل عند مصر العتيقة، ومحله الآن الشارع الكبير المسلوك الذى به جنينة السادات، وجنينة سليمان باشا الفرنساوى، وبيت البارودية وغيره، وكان بعد أن يفارق مصر العتيقة يمر بقنطرة السد، ثم بجامع الخطيرى المعروف بجامع التوبة، وبعد ذلك يسير إلى شبرى.

فما تكوّن عن النيل من حين الفتح إلى سنة إحدى وأربعين وسبعمائة - آخر سلطنة الناصر محمد بن قلاوون - هو جميع الأرض الواقعة بين هذا الساحل والشارع الطوالى الممتد من السيدة نفيسة إلى السيوفية إلى الغورية إلى الحسينية إلى الوايلية. وفى سنة سبع وأربعين وسبعمائة حدثت جزيرة فيما بين بولاق والجزيرة الوسطى سميت «بجزيرة حليمة» ، وذلك فى سلطنة الملك الكامل شعبان بن محمد بن قلاوون، ثم بعد زمن اختلطت بما حولها من الأراضى. ثم بعد هذا التاريخ قل تنقل النيل، إذ فى زمن الغورى عملت سواقى العيون على النيل.

وفى سنة خمس وعشرين وتسعمائة، فى إمرة خير بك على مصر بعد استيلاء العثمانيين على هذه الديار، كانت جنينة شجر خيار شنبر الموجودة بجوار تكية القصر العينى كما هى الآن على النيل، وجامع الخطيرى لم يبعد عن النيل إلا بقدر سبعة وأربعين مترا، ولما أنشأ سنان باشا جامعه المعروف «بجامع السنانية» جعله على ساحل النيل، ولما دخلت الفرنساوية الديار المصرية سنة ألف ومائتين وثلاث عشرة كان تجاه جامع السنانية/أرض متسعة تخلفت عن النيل، وكان عرضها من الساحل إلى الجامع مائة وتسعة وثمانين مترا، وكانت فضاء لا بناء فيها ألبتة، وكان السالك على ساحل النيل

ص: 194

فى هذا الفضاء بقرب سبيل الدشيشة الواقع قبلى سراى المرحوم إسماعيل باشا، التى جعلت مهندسخانة زمنا، يرى عن يمينه وكالة الحناء وجامع السنانية ووكالة على بك وجامعه، وكانت دكك الحطب تمتد إلى تجاه وكالة أيوب بيك، وفى آخرها من الوجه البحرى ديوان الجمرك وأمامه رحبة، وكان شرقى الدكك أرض فضاء ومقبرة، وكانت وكالة أيوب بيك فى بحرى المقربة، وهى الآن فى ملك الخديوى إسماعيل، وكان أمامها وكالة الأرز الشهيرة الآن بوكالة الجلد.

وفى زمن العزيز المرحوم محمد على بنى فى هذه الأرض المطبعة وما جاورها من ورش وترسانة ودقمخانات وعنابر وغير ذلك.

(الكلام على خليج القاهرة وخليج البرزخ)

يظهر من أقوال المقريزى وغيره أن هذا الخليج بعض من خليج قديم كان مستعملا فى الأزمان الغابرة فى الملاحة، وموصلا بين النيل والبحر الأحمر، وكانت بواسطته تجارة بلاد العرب والهند والسودان، تدخل القطر المصرى وتتوزع فى بلاده، كما أن التجارة المصرية كانت تحملها السفن فيه إلى البحر الأحمر فتدخل فى جميع البلاد المذكورة، فهو بهذا الاعتبار أثر من الآثار العتيقة يستحق الذكر. ولذلك أفردناه بباب مخصوص جمعنا فيه ما تشتت فى الكتب والسير مما يتعلق به، وقد أفرده المقريزى بباب مخصوص، وأطال القول فيه.

[ملخص ما ذكره المقريزى]

وملخص ما ذكره: أن خليج مصر بظاهر مدينة فسطاط مصر، ويمر من غربى القاهرة، وهو خليج قديم احتفره طوطيس بن مالية أول الفراعنة بمصر، وهو فرعون إبراهيم عليه السلام بسبب هاجر أم إسماعيل بن إبراهيم خليل الرحمن صلوات الله وسلامه عليهما، حين أسكنها وابنها إسماعيل بمكة، وقد حقق العارفون باللغة القديمة المصرية أن ملك مصر الذى وفد فى أيامه خليل الله

ص: 195

إبراهيم عليه السلام مع زوجته سارة، وسماه المقريزى «طوطيس» ، هو «سلاطيس» أول من تسلطن من العمالقة على أرض مصر، وكان ذلك قبل المسيح بألفين ومائة وثلاث وسبعين سنة، ثم قال المقريزى:

وقد تمادت الدهور والأعوام، فجدد حفره ثانيا أدريان قيصر، أحد ملوك الروم، الذى جلس على تخت ملك رومة سنة تسع وثلاثين وأربعمائة من سنى الإسكندر، وأقام فى الملك إحدى وعشرين سنة، وهو الذى خرب القدس وأهلك اليهود، ثم جدد المدينة وغيّر اسمها وسمّاها «إيلياء» وأسكنها اليونان.

ولما وفد هيرودوط أقدم المؤرخين على مصر، وساح في أرضها، وذلك قبل المسيح بخمسمائة سنة، قال فيما كتبه عليها:

«إن نيخوس بن إبسامتكوس هو أول من شرع فى اتصال النيل بالبحر الأحمر ولم يتمه.

ثم لما دخلت مصر فى حكم الفرس فى زمن دارا ملك العجم، شرع فيه مرة ثانية فأتمه، وجعل طوله أربعة أيام ملاحية، وعرّضه بحيث تمر فيه مركبان بالمجاديف، وكان يملأ بماء النيل، ومبدؤه فوق مدينة «بوبسط» بقليل، بقرب مدينة «باطموس» فى أرض مصر المستوية اللاحقة بأرض العرب فى مقابلة مدينة «منفيس» ، مجاورا للجبل الذى به المحاجر. واتجاه الخليج من مبدئه عند الجبل من الغرب إلى الشرق، ثم يتبع سير الأودية، وبعد أن يبعد عن الجبل فى جهة الجنوب، يصب فى البحر.

وقد مات فى عمل هذا الخليج نحو من مائة وعشرين ألف عامل، وبعد أن وصلوا لإتمام قريب من نصفه أمر الملك بإبطال العمل فيه بناء على ما أخبره المقدسون من أنه يعمل هذا العمل لمتوحش». انتهى.

وبامتحان ما قاله هيرودوط المذكور من أن طول الخليج مسيرة أربعة أيام ملاحية، يظهر بفرض أن يوم الملاحة بالمجاديف عشرون ألف متر، وأن طول هذا الخليج يقرب من ثمانين ألف متر، وهى المسافة من تل بسطة أثر مدينة بوبسط

ص: 196

القديمة إلى السيرابيوم، وأن ماءه كان يصل إليه من فرع الطينة الذى منه الآن مصرف أبى الأخضر ومدينة باطوموس التى كان مبدأ الخليج بقربها، وهى من المدن التى بناها الإسرائيليون وسكنوها، وهى التى خلفتها قرية التل الكبير الآن.

وفى تاريخ القرون الوسطى لمؤلفه لبوه:

إن الخليفة عمر بن الخطاب لم يأذن بفتح خليج البرزخ بين الفرمة والبحر الأحمر، واكتفى عمرو بن العاص بإصلاح خليج تاراجانيوس

(1)

الذى كان أدريان مدّه إلى النيل بقرب باب اللون، ويمر ببلبيس، وأوصله بخليج نيخوس القديم الذى كمله دارا ملك الفرس، واجتمع من الخليجين خليج واحد، كان ينتهى إلى/مستنقع المالح.

وفى زمن [بطليموس بن لاجوس]

(2)

عملت ترعة من نهايته، لتوصيل المياه الحلوة إلى مدينة «أرسنويه» لنهاية البحر الأحمر، فى المحل الذى فيه الآن مدينة السويس.

ومما تقدم فى هذه العبارة الأخيرة يعلم أن خليج [تراجان]

(3)

وأدريان بجملتهما خليج واحد، وهو «خليج القاهرة» الممتد فى الصحراء فى آخر أرض الزراعة، وكان أوله بقرب باب اللون المعروف «بقصر الشمع» ، وينتهى إلى البرك المرة فى الصحراء، و [بطلميوس]

(4)

مده إلى السويس، وهذا الخليج لا يصلح للملاحة إلا إذا قسم إلى حيضان بسبب عظم فرق التوازن الموجود:

أولا: بين أرض الوادى وأرض القاهرة.

(1)

يقصد الرمبراطور تراجان.

(2)

فى الأصل: بطليموس لاغوس. والصحيح ما أثبتناه. انظر ما سبق ص 12 حاشية (1).

(3)

فى الأصل: تارجان. والمثبت هو الصحيح.

(4)

فى الأصل: بطليموس.

ص: 197

وثانيا: بين سطح مياه النيل فى القاهرة وفى الوادى.

فلو فرض أن هذا الخليج كان مستعمقا حتى تدخله المياه النيلية فى فصل الصيف كما هو الحال فى الترع الصيفية، فلا بد من قسمته إلى ثلاثة حيضان لأجل توزيع الانحدار وسهولة سير السفن فيه.

قال المقريزى: «فلما جاء الإسلام وفتحت مصر على يد عمرو بن العاص فى خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان الناس بالمدينة قد أصابهم جهد شديد، كتب الخليفة رضي الله عنه إلى عمرو بن العاص يطلب منه إرسال الميرة لإغاثة أهل المدينة، فاهتم بذلك عمرو بن العاص وأرسل إلى المدينة بعير عظيمة، كان أولها بالمدينة وآخرها بمصر، يتبع بعضها بعضا.

فلما قدمت على عمر رضي الله عنه وسع بها على الناس، ودفع لأهل كل بيت وما حوله بعيرا بما عليه من الطعام، ليأكلوا الطعام ويأتدموا بلحمه، ويحتذوا بجلده، وينتفعوا بالوعاء الذى كان فيه الطعام، فيما أرادوا من لحاف أو غيره، فوسع الله بذلك على الناس، فلما رأى ذلك عمر رضي الله عنه، كتب إلى عمرو بن العاص أن يقدم عليه هو وجماعة من أهل مصر، فقدموا عليه، فقال عمر: يا عمرو: إن الله قد فتح على المسلمين مصر، وهى كثيرة الخير والطعام، وقد ألقى فى روعى لما أحببت من الرفق بأهل الحرمين والتوسعة عليهم أن أحفر خليجا من نيلها حتى يسيل فى البحر، فهو أسهل لما نريد. ثم قال رضي الله عنه: قد عرفت أنه كانت تأتينا سفن فيها تجار من أهل مصر قبل الإسلام، فلما فتحنا مصر انقطع ذلك الخليج واستد وترك، وتركه التجار، فإن شئت أن تحفره، فتنشئ فيه سفنا يحمل فيها الطعام إلى الحجاز فعلته. فامتثل أمره عمرو، وعاد إلى مصر وجمع له من الفعلة ما بلغ منه ما أراد، وحفر الخليج بحاشية

ص: 198

الفسطاط، فساقه من النيل إلى القلزم. اهـ.

وقد ذكرنا فيما تقدم أن [تراجان]

(1)

وأدريان هما اللذان مدا الخليج النيلى إلى قرب عين شمس، وأن [بطلميوس بن لاجوس]

(2)

هو الذى مده إلى السويس.

وفيما ذكره صاحب الخطط أن عمرو بن العاص حفر هذا الخليج وأوصله ببحر القلزم، وسيّر فيه المراكب إلى الحجاز، فلا يبعد أنه زاد فيه على من تقدمه، وأنه جدد أغلبه، لأن من وقت البطالسة إلى الوقت الذى فتحت فيه مصر على يد عمرو بن العاص نحو من تسعمائة سنة، منها أربعمائة سنة مضت من وقت البطالسة إلى أن جدّده القيصر أدريان، وهى مدة - إذا تخللها الإهمال - كافية لطم الخليج وردمه بالأتربة، واستوجب ذلك حفر القيصر أدريان إياه، ومن وقت أدريان إلى فتوح مصر خمسمائة وسبع عشرة سنة وهى مدة طويلة، وقعت فيها حوادث شتى نشأ عنها بالضرورة إهمال الخليج حتى ارتدم فى أغلب مواضعه، وانفصلت البرك المرة عن البحر الأحمر بما تكون بينهما من العتب الذى حفر فى أيامنا هذه عند حفر خليج برزخ السويس المستجد.

ولما صدر أمر الخليفة إلى عمرو بن العاص، أصلح ما بقى من الخليج القديم، وكان ظاهرا، وجدد ما ناسب حفره حتى أوصله بالسويس واستعمل لنقل الميرة فى المراكب إلى الحجاز.

وذكر الكندى فى كتاب «الجند العربى» : أن عمرا حفره فى سنة ثلاث وعشرين، وفرغ منه فى ستة أشهر، وجرت فيه السفن ووصلت إلى الحجاز فى الشهر السابع، ثم بنى عليه عبد العزيز بن مروان قنطرة فى ولايته على مصر، ولم يزل يحمل فيه الطعام حتى حمل فيه عمر بن عبد العزيز، ثم أضاعته الولاة بعد ذلك، فترك وغلب عليه الرمل، فانقطع وصار منتهاه إلى ذنب التمساح من

(1)

فى الأصل: تارجان. والمثبت هو الصحيح.

(2)

فى الأصل: بطليموس لاغوس.

ص: 199

ناحية بطحاء القلزم. انتهى.

وقال ابن الطوير: «إن مسافته خمسة أيام، وكانت المراكب النيلية تفرّغ ما تحمل من ديار مصر بالقلزم، فإذا فرغت حملت من القلزم ما وصل من الحجاز وغيره إلى مصر، وكان مسلكا للتجار وغيرهم» . انتهى.

وما دوّنه الفرنج فى كتبهم عمن ساحوا فى الديار المصرية فى الأزمان السالفة، ورووه عن أهل الخبرة باللسان المصرى القديم يدل على أن اتصال النيل بالبحر الأحمر حدث عن اتساع ملك مصر فى الأزمان الغابرة، وكثرة/ التجارة التى كانت مصر مركزها العام. ولم يقتصروا على وصل النيل بالبحر الأحمر، بل شقوا البرزخ بخليج كان بين البحرين الأبيض والأحمر.

وقد تكلم ديودور الصقلى، الذى ساح أرض مصر بعد هيرودوط بنحو أربعمائة سنة، على هذا الخليج فقال:«إنه عمل خليج يوصل بين مينا مدينة الطينة والبحر الأحمر، ونيخوس هو الذى بدأ فى عمله، ومات قبل أن يتمه، وداريوس ملك الفرس استمر فيه، ولكنه أمر بقطع العمل فيه عند ما بلغه أن مياه البحر الأحمر أعلى من أرض مصر فتغرق عند فتحه» . اهـ.

ويظهر من قول ديودور هذا أنه كان قد ابتدأ فى عمل خليج يصل أحد البحرين بالآخر، فعبارته فى خليج التوصلة لا فى الخليج الآخذ مياهه من النيل الذى تكلم عليه هيرودوط فيما تقدم.

ومن هنا يعلم أنه كان يوجد فى الأزمان السابقة بصحراء برزخ السويس خليجان:

أحدهما: يمتلئ من المياه النيلية كما عليه الإسماعيلية الآن وكان يصب فى البرك المرّة عند السيرابيوم.

والآخر: كان مبدؤه من البحر الأبيض عند مدينة الطينة ويتصل بالبحر

ص: 200

الأحمر فى البرك المرة.

وقد شاهد لينان باشا آثار هذا الخليج المالح، وذكره فى كتابه الذى كتبه «فى أعمال مصر» فقال:«إن أوله عند محطة القنطرة الواقعة على طريق الشام، ويمتد إلى أن يكون آخره عند بركة التمساح الواقعة عليها مدينة الإسماعيلية الآن» .

وما ذكره ديودور من أن ارتفاع مياه البحر الأحمر فوق أرض مصر، هو الذى أورث الخوف حين ذاك واستوجب عدم إتمام خليج البحرين، صحيح. وبيانه أنه ثبت الآن ثبوتا يقينيا بما عمل من الموازين الصحيحة الهندسية: أن البحرين الأحمر والأبيض يكونان فى بعض الأوقات فى مستوى واحد تقريبا، ثم فى حالة المدّ لا يرتفع سطح مياه البحر الأبيض غير ثمانية وثلاثين سنتيمترا، وأما البحر الأحمر فيرتفع سطح مائه فى المد المتوسط مترا وسبعة أعشار متر، وفى النهاية العظمى يبلغ مترين وأربعة أعشار متر. فمياه البحر الأحمر فى حالة المد تكون عالية على سطح مياه البحر الأبيض، ولذلك نرى تيار الماء وجريانه فى خليج البرزخ المحفور الآن من جهة البحر الأحمر إلى البحر الأبيض. وفى الزمن القديم حينما كان البحر الأحمر آخره بحيرة التمساح، كانت سرعة جريان الماء فى خليج توصلة البحرين أكثر مما هى الآن، فإن الإنحدار فى تلك الأزمان كان أعظم بسبب قصر المسافة التى كانت بين البحرين، ولكون الأرض التى كانت تزرع بقرب مدينة الطينة - وهي ممتدة إلى مدينة صان الحجر وغيرها مما غطته مياه بحيرة المنزلة - كانت منحطة كما هى الآن عن مياه البحر الأحمر، لو أطلقت هذه المياه لغرقت جميع الأراضى. وحيث أن فرع الطينة الذى هو أحد فروع النيل السبعة، وبعضه الآن هو مصرف أبى الأخضر بالقليوبية كان موجودا، وكان يمتد فى داخل مديريتى الشرقية والقليوبية، ويصل إلى النيل من جهة، وإلى مدينة الطينة على البحر الأبيض من جهة أخرى.

فالخليج المالح إن كان متصلا به فضرورة يطرد ماؤه ماء النيل، ويرتفع فى

ص: 201

فرع الطينة إلى مسافة بعيدة، ويضر بأرض الزراعة والبلاد، كما هو الحاصل الآن فى زمن التحاريق من صعود المياه المالحة فى فرعى دمياط ورشيد إلي مسافة بعيدة، ومن هنا يظهر أن خوف المصريين على بلادهم من الغرق بالمياه المالحة كان مؤسسا على معلومات يقينية صحيحة.

ويظهر من قول أبى الفداء أن أثر خليج البحرين كان موجودا فى زمن عمرو ابن العاص، فإنه قال: إن عمرو بن العاص رغب فى عمل خليج يبتدئ من البحر الأحمر ويمتد إلى الفرمة، وعبد الرشيد البغوى بعد أن قال ما قاله أبو الفداء، زاد عليه قوله: إن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه هو الذى عارض فى ذلك، وقال ما معناه: إن هذا الاتصال ربما أوجب نهب الأروام حجاج بيت الله الحرام. ويستفاد من قول استرابون الجغرافى: أن خليج البحرين كان يصب فى البحر الأحمر بقرب مدينة أرسنويه، ويستفاد من قول استرابون أيضا وبلين وغيرهما أن هذه المدينة كانت بقرب السيرابيوم، أنشأها أحد البطالسة وسماها باسم أخته، وجعلها فى آخر البحر الأحمر، ومن هنا يظهر أن البحر الأحمر كان قد تأخر عن بركة التمساح إلى السيرابيوم: يعنى عند البرك المرة. وقال استرابون أيضا: إن خليج البحرين كان يمر بالبرك المرة، وكانت مياهها مالحة قبل أن تختلط بها المياه النيلية، بعد أن عمل الخليج الموصل إليها ماء النيل، ولهذا السبب كثر بها السمك والطيور، ثم قال إن أول من شرع فى عمل خليج البرزخ هو ملك مصر سيزوستريس قبل حرب تروادة، وقد استدل من الآثار على أن جلوس هذا الملك على تخت مصر كان قبل المسيح بألف وأربعمائة سنة، فلا يبعد كون هذا الملك أصلح/خليج سلاطيس الذى ذكره المقريزى وغيره لانتفاع التجار به، وحذا حذوه من اشتغل بسعادة مصر ممن أتى بعده من الملوك مثل نيخوس، الذى عاجله الموت قبل إتمامه، واستمر فى العمل فيه بعده دارا ملك الفرس، وكان قد قرب من إتمامه لولا أنه خاف من غرق مصر

ص: 202

فأبطل العمل كما قدمنا ذلك.

ولما استولى البطالسة على مصر بعد موت الإسكندر شقوا البرزخ بخليج جعلوه بين البحرين، وأتموه وأقفلوه من عند مبدئه، بحيث صارت المراكب تدخل من البحر فى الخليج على حسب الإرادة.

واتفق ديودور واسترابون وغيرهما على أنه عمل فى المحل الموافق من الخليج سدود، سهّل بسببها دخول المراكب وخروجها، وصب مياه خليج النيل فى البحر، ولم يعلم من أقوالهم أين كان محل هذه السدود ولا كيفية عملها، ويمكننا أن نقول إن بعضها كان فى الخليج المالح عند البرك المرة؛ لأن البحر الأحمر كان يمتد وينتهى إليها، والسدود التى عملت فى خليج النيل يلزم أن تكون في مقابلته، فأنّا لو فرضنا أن مياه النيل كانت تأخذ من فرع الطينة بواسطة الخليج المار من الوادى، ففى زمن التحاريق يكون مستوى المياه النيلية فى مبدأ الخليج فوق مستوى مياه البحر الأحمر بقدر أربعة أمتار وتسعة أعشار متر، وفى زمن الفيضان يبلغ هذا الفرق عشرة أمتار وعشر متر، ويلزم ضرورة عند تلاقى الخليج بالبحر الأحمر عمل سد أو هويس؛ لأجل أن تستند عليه المياه إلى هذا الارتفاع، أو أنه كان يلزم عمل عدة سدود أو هويسات فى طول الخليج لتوزيع الانحدار، وهذا لم يذكره أحد.

وقد ثبت من الموازين الهندسية التى عملت فى سنة سبع وأربعين وثمانمائة وألف، وتحققت فى سنة ثلاث وخمسين وثمانمائة وألف، وأعيدت مرات فى سنة ستة وخمسين وثمانمائة وألف، وفى سنة سبع وخمسين لما أريد الشروع فى عمل خليج البرزخ المالح الموجود الآن، وجد أن مستوى مياه البحر الأحمر فى المد المتوسط مرتفع فوق مياه البحر الأبيض بقدر متر وستة أعشار متر، فلو فرض حفر هذا الخليج وامتداده إلى أن يتقابل مع فرع الطينة، فضرورة تختلط المياه المالحة بمياه هذا الفرع، وتفسد جميع أراضى الزراعة المجاورة؛ فلأجل منع هذا الضرر يلزم عمل سدود فى الخليج المالح، ويقتضى

ص: 203

أن تكون فى نهاية البحر الأحمر كما قدمنا؛ لأجل أن تستند عليها مياه البحر الأحمر ولا تدخل فى الخليج إلا عند فتح السد أو السدود؛ لأجل دخول المراكب وخروجها، وكانت مياه البحر الأبيض هى التى تملأ خليج البرزخ، وبسبب انحطاط مستويها عن أرض الزراعة المجاورة لمدينة الطينة وغيرها كانت لا تفسدها، أو الفاسد بسببها يكون قليلا لا يذكر، وزعم بعضهم غلطا:

أن أثر المبانى الموجودة بقرب مدينة السويس عند التل الباقى من آثار القلزم، هو من بقية السد القديم، وليس كذلك، بل هو آثار قنطرة قديمة كانت على الخليج النيلى فى الزمن السابق، وتكلم عليها المقريزى وغيره وقالوا: إنها عملت لمرور الحجاج من عليها إلى عيون موسى فى البر الثانى من البحر الأحمر، ولا يبعد كونها عملت عند الفتح بعد إتمام الخليج، لتمنع ضياع المياه النيلية فى المالح، كما هو الحال الآن بعد إتمام فرع الترعة الحلوة، فإن القنطرة التى بنيت فى نهايته عند مدينة السويس تسد ولا ينصرف منها إلا ما يلزم صرفه.

ويعلم مما قاله بلين المؤرخ: أن خليج البحرين كان عرضه أربعين قدما، وكانت المراكب الكبيرة لا تعبره.

وقال بلوتارك: إن أنطوان دخل الإسكندرية قبل الواقعة التي عقبها استيلاء الرومانيين على مصر بعد موت كلوبترة، فوجد أنطوان المذكور كليوبترة مشغولة بالبحث عن حيلة تنقل بها ذخائرها وأموالها بالمرور بمراكبها من خليج البرزخ، ووقع ذلك بعد ثلثمائة سنة من تطهير الخليج وإصلاحه فى زمن [بطلميوس]

(1)

الثانى، فلولا أن خليج البرزخ كان قد اعتراه التلف وردم، ونشأ عن ذلك قلة عمقه وسعته؛ ما وقعت كليوبترة فى الحيرة، والأرجح أن خليج البرزخ كان قد أهمل، وكانت التجارة فى ذاك الوقت تتبع طريق صحراء عيذاب، أى القصير القديمة، ثم تتبع النيل بعد ذلك وتسير فيه إلى أن تكون فى البحر الأبيض.

ثم لما استولى الرومانيون على مصر - بناء على قول بلوتارك - أصلح خليج

(1)

فى الأصل: بطليموس.

ص: 204

ويعلم مما تقدم أنه كان ببرزخ السويس خليجان: أحدهما: كان يوصل البحر الأبيض بالأحمر. وأوله كان عند مدينة الطينة التى كانت على ساحل/ البحر الأبيض، وآخره عند البرك المرة التى كان ينتهى إليها البحر الأحمر، وكان بقرب مصبه بالبرك المرة مدينة أرسنويه التي زالت.

والثانى: هو الخليج النيلى المعروف «بخليج القاهرة» . وخليج القاهرة هذا، كان فى الزمن السالف قبل المسيح بألفين ومائة وثلاث وسبعين سنة، وكان أوله عند تل بسطة، وينتهى إلى بركة التمساح. وفى زمن دارا ملك الفرس قبل المسيح بخمسمائة سنة ظهر هذا الخليج، وكان يمتد إلى بركة التمساح. وفى زمن البطالسة قبل المسيح بمائتين وأربع وثمانين سنة امتد إلى البرك المرة التى كانت فى ذاك الوقت نهاية البحر الأحمر. وفى زمن قيصر الروم أدريان قبل المسيح بمائة وسبع عشرة سنة أصلح ومد إلى قريب من قصر الشمع. ثم فى سنة ثلاث وعشرين من الهجرة، وثلاث وستين وستمائة من الميلاد، جدده عمرو بن العاص وزاد فيه ما رأى ضرورة زيادته.

وفى سنة سبع وستين وسبعمائة من الميلاد، أمر أبو جعفر المنصور بسده حين خرج عليه محمد بن عبد الله بن حسن بالمدينة؛ ليقطع عنه الطعام؛ فسد وبقى على ذلك نحو ألف سنة، حتى عملت ترعة الإسماعيلية فى هذه الأيام الأخيرة، فتبعت بعضه فى جهة بلبيس والغوارنة، وتبع فرعها المعروف بالترعة الحلوة الموصل المياه النيلية إلى السويس فى بعض مواضعه أثر الخليج القديم، حتى أن عرب البادية كانوا يسمون ما كان باقيا من أثر الخليج القديم «ترعة الخلفاء» .

وفيما كتبناه على القاهرة فى مبدأ أمرها بيّنّا ما كان عليه الخليج حين ذاك، وتكلمنا على البساتين التى كانت تحفّه من الجانبين من مبدئه إلى منتهاه، وبينا ما كان عليه من القصور للخلفاء الفاطميين، وشرحنا فى جزء مخصوص مقياس النيل، وما كان يحصل من العناية بأمره فى كل زمن، من

ص: 205

زمن الفراعنة إلى وقتنا هذا، وبينّا التقلبات التى تقلب فيها من اعتناء وإهمال تبعا لتقلبات الحوادث، وكذا شرحنا ما كان عليه من القرى عند بناء القاهرة وبعده، مثل بهتيم والأميرية ومنية الشيرج، وقد أطلنا الكلام على هذه القرى وما كان بها من القصور والميادين، وبالجملة فمن يتأمل فى كل ذلك يرى أن خليج مصر كان من أحسن منتزهات القاهرة، وكانت تسير فيه السفن المشحونة بالبضائع أو بأهل الخلاعة.

قال ابن سعيد: دخلت فى الخليج الذى بين القاهرة ومصر، ومعظم عمارته فيما يلى القاهرة، فرأيت فيه من المنكر ما يتعجب منه، وربما وقع فيه بسبب السّكر قتل، فمنع فيه الشرب، وهو ضيق، وعليه من الجهتين مناظر كثيرة العمارة بعالم الطرب والتهكم والمجانة، حتى أن المحتشمين والرؤساء لا يجيزون العبور به فى مركب، وللسرج فى جانبيه بالليل منظر فتان، انتهى.

وبقى كذلك إلى سنة أربعمائة وواحد، فمنع الحاكم بأمر الله الركوب بالقوارب فى خليج القاهرة، وشدد فى المنع، وسدت أبواب القاهرة التى يتطرق منها إلى الخليج، وأبواب الطاقات من الدور التى تشرف عليه، وكذلك أبواب الدور والخوخات.

وفى سنة إحدى وتسعين وخمسمائة نهي عن ركوب المتفرجين فيه بالمراكب، وعن إظهار المنكر، وعن ركوب النساء مع الرجال، وعلقت جماعة من رؤساء المراكب من أيديهم.

وفى سنة ست وسبعمائة زمن الناصر محمد بن قلاوون، رسم الأميران بيبرس

(1)

وسلار

(2)

بمنع الشخاتير والمراكب من دخول الخليج الحاكمى والتفرج فيه؛ بسبب ما يحصل من الفساد والتظاهر بالمنكرات اللاتى تجمع

(1)

بيبرس بن عبد الله، الملك المظفر ركن الدين الجاشنكير المنصورى. ولى حكم مصر والشام سنة 708 هـ، وتوفى سنة 709 هـ. انظر: الدرر الكامنة، ج 2، ص 36.

(2)

سلار بن عبد الله المنصورى الأمير سيف الدين، نائب السلطنة بالديار المصرية مع بيبرس الجاشنكير سنة 708 هـ وعزل سنة 710 هـ، واعتقل بالقلعة إلى أن مات جوعا. المقريزى، السلوك، ج 1/ 873.

ص: 206

الخمر وآلات الملاهى، والنساء المكشوفات الوجوه المتزينات بأفخر الزينة، من كوافى الزركش، والقنابيز والحلى العظيم، ويصرف على ذلك الأموال الكثيرة، ويقتل فيه جماعة عديدة، ولا يدخل فيه إلا المراكب الحاملة غلة أو متجرا أو ما ناسب ذلك.

ثم لما فتح الخليج الناصرى أتبعه الناس والمراكب، وتزينت حوافيه بالمبانى الفاخرة، والبساتين النضرة، وقد تكلمنا على الخليج الناصرى وما كان عليه عند حفره من المبانى والقناطر، وبينّا أثره ومبدأه وما يتعلق به إلى وقتنا هذا قبل بناء مدينة الإسماعيلية.

والخليج المصرى الآن لم يكن كما كان فى الأزمان القديمة، وزالت تلك البساتين واحتكرت أرضها، وبنيت مبان في جانبيه فى طول القاهرة، وقد تكلمنا على الأحكار في مواضع شتى من هذا الكتاب، والآن فمه من البحر الأعظم قبلى قصر العينى بجوار السبع سواقى من بحرى، وانتهاؤه كان مصرف الشيبينى سابقا، قبل عمل الإسماعيلية، فلما عملت قطعته صار يصب الآن قبلى قرية أبى زعبل بالجبل، وعليه عشرون قنطرة بالمحروسة ذكرناها فى أجزاء شوارع القاهرة، وطول الباقى منه ستة وأربعون ألف متر ومائتا متر من مبدئة إلى مصبه بالجبل، وعرضه المتوسط بالمحروسة نحو عشرة/أمتار وأقل من ذلك من بعدها، وعليه بمديرية القليوبية ست قناطر:

قنطرة الأوز بقرب جامع الظاهر.

وقنطرة السكة الحديد.

وقنطرة الوايلية القديمة قبلى سرياقوس.

وقنطرة الوايلية الجديدة شرقى سرياقوس.

وقنطرة أبى زعبل.

وقنطرة الذوق.

ص: 207

وعليه من نواحى الوايلى الكبرى والخصوص وسرياقوس والخانكة وأبى زعبل، ورى أرض تلك النواحى فى زمن النيل منه، وفى كل سنة عند بلوغ النيل ستة عشر ذراعا، يعمل مهرجان جبر الخليج، ولكن شتان بين ما هو الآن وما كان فى الأزمان القديمة، وأهل القاهرة تعده من أيام أفراحها المشهورة، ولذلك تراهم اضطربت أفكارهم، وتكدرت قلوبهم، لمّا تواتر القول بردم الخليج؛ بسبب ما يلقى فيه من القاذورات، لكن لو ملئ دائما بالماء، وشدد فى منع إلقاء القاذورات به لبقى لأهل البلد فرحها الذى ألفته من قديم الزمان، وتضاعفت منافع أهلها وأهالى الضواحى، وكثرت البساتين داخل البلد وخارجها، وتحسنت محاصيل أربعة عشر ألف فدان، لا يتحصل منها الآن إلا بعض ما يمكن تحصيله منها، لو جرى الماء فى الخليج صيفا وشتاء.

وفى الغالب أنه متى تمت القناطر الخيرية، وارتفع بعد قفلها سطح ماء النيل لا يعسر دخول الماء إلى الخليج بمقدار تعينه الهندسة، ونحن على يقين من أن جل أفكار الحضرة الفخيمة الخديوية هو اتساع دائرة المنفعة العمومية، وترجيح ملئه بالماء وبقائه؛ ليبقى هذا الأثر ناطقا بفضله وكرمه لمن يأتى بعدنا، كما أنه هو أثر نطق لنا بما مر على مصر من نحو أربعة آلاف سنة.

(ترعة البرزخ وحوادثها)

لا يخفى أن ترعة البرزخ الواقعة بين السويس ومدينة بورت سعيد هى أهم مسائل الوقت؛ لكونها صارت الطريق العام لجميع تجارة العالم، ومعلوم أن التجارة هى أساس السعادة عند الأمم، فدرجة أهميتها عند كل أمة تكون بالنسبة لدرجة تجارة تلك الأمة.

فالدولة التى هى أكثر تجارة أو التى قوام حياتها التجارة، تنظر إلى ترعة البرزخ بنوع خصوصى لا يشبه نظر غيرها لها، وتصونها بجميع قوّتها من عوارض الخلل، وطوارئ الحوادث، وتجعل للبلاد الواقعة فيها الأهمية التى جعلتها لها، وتلحظها بعين الملاحظة والمراقبة، التى تلحظ بها ترعة البرزخ؛ لأجل

ص: 208

أن تكون على ثقة من أمن طريق تجارتها، ولا ريب في أنه يتولد عن هذه المراقبة والملاحظة لهذه الدولة مشاكل وعداوة من الدولة أو الدول التى تقاربها فى المنفعة، وربما أدى ذلك إلى ما ليس فى الحساب، ولكن هذا لا يمنعها من دوام الملاحظة والمراقبة، مادامت لا ترى من يصدّها أو يقهرها على أن تتساوى مع غيرها فى ذلك.

ففتح ترعة البرزخ فتح على مصر أبوابا لم يكن فى قدرتها إقفالها، ما لم تحفها العناية الربانية بإقفالها، وتحفظها من غوائلها.

[أهمية ترعة البرزخ]

ولما كانت الأهمية لترعة البرزخ ليست حادثة بل هى قديمة، عرف قدرها أهل كل زمان، لزمنا أن نقدم على حوادثها الجديدة، ملخص حوادثها القديمة وتاريخها القديم أيضا، ليقف القارئ على تلك الأهمية وأسبابها فنقول:

اعلم أن الذى يسمونه «برزخ السويس» هو منطقة من أرض الصحراء، بين مدينة السويس الواقعة على البحر الأحمر المعروف ببحر القلزم، وبين مدينة الطينة القديمة التى كانت موجودة بقرب الموضع الذى بنيت به فى عصرنا هذا مدينة بورت سعيد على البحر الرومى المعروف فى الكتب الجغرافية بالبحر الأبيض المتوسط، الواقعة على ساحله مدينة الإسكندرية، وطول هذه المنطقة بين البحرين مائة وأربعون ألف متر، كلها رمال، تارة تكون مرتفعة، وتارة منخفضة على غير انتظام، فتشاهد تلالا مرة مجتمعة، وأخرى متفرقة على أبعاد مختلفة، وبينها أودية كبيرة وصغيرة، وفى أرض تلك المنطقة محلان منخفضان انخفاضا بيّنا، أحدهما: عليه الآن مدينة الإسماعيلية الجديدة ويعرف «ببركة التمساح» ، والآخر: بعد ذلك وأنت داخل إلى السويس، أكبر من الأوّل ويعرف بالبرك المرّة، وثلاثة أرباع هذه المنطقة منحط عن مستوى سطح مياه البحر المالح، وأعلى نقطة فيها المحل الذى يعرف بالقرش، بقرب الإسماعيلية فى شرقيها، ارتفاعه فوق مستوى سطح مياه المالح عشرون مترا.

ص: 209

ومن يتأمل فى تركيب أرض هذه المنطقة، يراها مالحة التربة وفيها كثير من المحار، وذلك يدل على أن هذه المنطقة غمرت بمياه البحر المالح أزمانا كثيرة. وأتت بعد ذلك حوادث طبيعية كالزلازل الشديدة مثلا فاضطربت منها الأرض، وحدث عن هذه الحوادث تحوّل البحر عن أرض/البرزخ، إمّا بخسف انحط به ماء البحر عن تلك الأرض، أو بنتوء أوجب ارتفاع أرض البرزخ وانحسار ماء البحر عنها، ويمكن أن جزء البرزخ الذى ارتفع، هو الجزء المجاور للمحل المعروف «بالشلوفة» ، واتفق أن البحر بعد أن كان يدخل فى أرض البرزخ قريبا من خمسين ألف متر - يعنى إلى البرك المرة - انقطع اتصاله بها، ثم حصل من دوام تأثير الشمس على سطح هذه البرك تبخر ماؤها

(1)

، ومن نسف الأتربة بالأهوية فيها ردمت على ممر العصور والأزمان، وانقطع اتصالها ببركة التمساح، ثم جفت بركة التمساح كذلك، بالأسباب التى أوجبت جفاف البرك المرة.

ومما يدل على صحة ما قدمناه: ارتفاع طبقة الملح فى هذه البرك، وكثرة المحار البحرى المتراكم فى سواحلها، فإن لم يكن البحر مر بهذه البرك، وبقى عليها قرونا عديدة ومدة مديدة، فمن أين أتى هذا المحار الكثير؟ وبأى كيفية تكونت هذه الطبقة الملحية؟، وكما أن البحر الأحمر كان داخلا فى أرض البرزخ - كما قدمنا - كذلك البحر الرومى كان داخلا أيضا فيها قريبا من أربعين ألف متر، ويدل على ذلك آثار البرك الباقية إلى الآن، ويظهر أنه كان سابقا لا يفصل أحد البحرين عن الآخر إلا مسافة قدرها خمسون ألف متر، وهى أرض القرش المذكورة وما جاورها من جهة الشمال، مما يماثلها فى الارتفاع، وإلى وقتنا هذا لم يعلم السبب الذى أوجب تحوّل البحر الرومى عن أرض البرزخ، غير أنه علم أن النيل كان يتصل بالبحر الملح من فروع سبعة كما ذكرنا ذلك فى موضعه من هذا الكتاب.

(1)

فى الأصل: مائها. خطأ نحوى. وقد كثر فى الخطط.

ص: 210

وكانت الفراعنة تهتم بسد أفواه هذه الفروع عن البحر الملح وتحصينها؛ لمنع العدوّ من دخول البلاد، ومنع البحر الملح من أن يهجم على الأرض الزراعية فيفسدها، وبذلك كانوا آمنين من تلك الغوائل، وكانت أرض بحيرة المنزلة وبحيرة رأس الهيش والبرلس وإتكو

(1)

من ضمن زمام المزروع من أرض وادى النيل، وكانت مدينة الطينة مركز إقليم عامر بالناس، غاص بالمحصولات الزراعية كغيره من جهات القطر، ولما تغير هذا النظام بتغير الدول وتكاثرت الفتن وأسباب الدمار، أهملت تلك الأعمال والاحتراسات، فهجم البحر الرومى على أرض السواحل وغرّقها، فصارت بحائر، وخلت من السكان والزرع كما هى حالتها الآن، وتدمرت المدن والقرى التى كانت فى أرض البرزخ، وكان يسكنها بنوا إسرائيل فى الأزمان السابقة.

وقد حصل العثور على آثار بعضها عند فتح الخليج المالح والترعة الحلوة والتلال الموجودة قرب مدينة الطينة فى جهتها الغربية فى داخل أرض مصر، هى آثار مدن قديمة هلكت كمدينة دفنا المذكورة فى تواريخ العرب وغيرهم.

ومن يتصفح التواريخ يعلم أن مدينة الطينة، المعروفة قديما بمدينة أواريس، كانت واقعة على ساحل البحر الرومى فى طريق الشأم.

وفى زمن الفراعنة كانت حصن القطر من هذه الجهة، وكان يقيم بها الحرس لحفظ هذه النواحى، كما كانت مدينة أسوان حصنا له من الجهة القبلية، وقرية الراقودة التى صار مكانها الآن مدينة الإسكندرية حصنا له من الجهة الغربية.

وقد هجم العدو على مدينة الطينة ثلاث عشرة مرة كما هو ثابت فى كتب المؤرخين، فقد هجم عليها الهكسوس المعروفون بالرعاة والمشهورون عند العرب بالعمالقة، وكان ذلك قبل المسيح عليه السلام بألفى سنة وثمانمائة وخمسين

(1)

المعروفة الآن بإدكو.

ص: 211

سنة، وتملكوا الديار المصرية مدة طويلة من الزمن، إلى أن أجلاهم عنها الفراعنة بعد أهوال وحروب، ثم هجم عليها الفرس أربع مرات متعاقبة:

الأولى: كانت قبل المسيح بنحو خمسمائة وخمس وعشرين سنة.

والثانية: فى زمن كسرى أرتجزرسيس الأول سنة أربعمائة قبل المسيح.

الثالثة: فى زمن كسرى أرتجزرسيس الثانى من أكاسرة الفرس سنة ثلثمائة وسبع وسبعين.

الرابعة: فى زمن كمبيز ملك الفرس سنة ثلثمائة وأربع وأربعين قبل المسيح.

فملك كمبيز وادى مصر وخرب بلاده ومعابده وأذل رجاله. ثم هجم عليها الإسكندر المقدونى، وهو الذى أجلى الفرس عنها سنة ثلاثمائة وإحدى وثلاثين قبل الميلاد، وملك وادى النيل بأسره. وجاء بعده البطالسة، وفى مدة استيلائهم على ملك مصر هجم عليها بيرديكاس حاكم الشأم، فلم ينجح وارتد خائبا، وكان ذلك فى سنة ثلثمائة وإحدى وعشرين قبل الميلاد، وانتجون فى سنة ثلاثمائة قبل المسيح، وانتيكوس ملك الشأم فى سنة مائة وسبعين قبل الميلاد، وانتيونوس لكن لم يتمكن من الدخول داخل القطر. وفى زمن قيصر الروم ماركوريل سنة خمس وخمسين قبل الميلاد، هجم عليها جانيوس رئيس الجيوش الرومانية وارتد خائبا.

وفى سنة ثلاثين قبل الميلاد، هجم عليها أكتاف رئيس الجيوش الرومانية أيضا ودخلها/عنوة، ودخل القطر واستولى على بلاد مصر، وصارت جميعها من ذاك الحين ولاية تابعة للحكومة الرومانية، وبقيت كذلك إلى أن افتتحها عمرو بن العاص فى زمن خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنهما.

وكل هذه الحروب وإن كانت فى أزمان متفاوتة، قد جعلت سكان هذه الجهة معرضة للأخطار التى تنشأ عنها، فكانت سببا فى خراب المدن والبلاد التى كانت فى الحدود، وأزالت كورة بتمامها كانت تعرف «بالعربا» ، فلما

ص: 212

خلت من السكان بتفرق أهلها فى الجهات، صارت أرضها عرضة لما تلقيه الرياح من الرمال، وما يغلب عليها من ماء البحر، فبعضها غطته الرمال، فصار لا ينتفع به، وبعضها غلب عليه ماء البحر الملح، فأفسده وصيره البرك المالحة التى نشاهدها الآن فى حدود القطر بقرب ساحل البحر الرومى.

وفى الزمن الذى كانت فيه مملكة مصر لها السيادة على جميع أقطار الدنيا، كان هذا القطر مركز تجارة العالم، فكانت تأتيه التجارة الهندية والصينية واليابونية، وتجارة بلاد العرب، والسودان من البحر الأحمر، بسبب اتصاله ببحر الهند وغيره من البحور، كما كانت تأتيه من البحر الرومى تجارة آسيا وأوربا من الأقطار الواقعة على سواحل بحر أزوف والبحر الأسود والبحر الرومى، بواسطة اتصال بعض هذه البحار ببعض.

ولاهتمام ملوك مصر فى ذاك الوقت بتوسيع نطاق سعادة بلادهم، وكانوا أصحاب الصولة والسطوة، وحينئذ أجروا من الأعمال المهمة ما أوجب أن تتحرك التجارة إلى وادى النيل، فحفروا فى أرض البرزخ الخليجين اللذين سبق الكلام عليهما، فسارت فيهما مراكب التجارة، وبقى الأمر على ذلك زمنا إلى أن استولت الفرس على وادى النيل، وكان قد حصل تهاون فى أمر الخليجين المذكورين، وامتنع سير المراكب فيهما، فأمر داريوس ملك الفرس بتطهيرهما وجعلهما صالحين للملاحة.

ثم لما استولى الإسكندر المقدونى على القطر المصرى بعد انجلاء الفرس عنه، أنشأ مدينة الإسكندرية ونظمها على أحسن أسلوب وجعلها عاصمة البلاد، ورتب فيها ملاعب كان يحضرها العالم من كافة الأقطار الواقعة تحت حكمه، مثل السواحل الشامية، وبلاد العراق، وأقاليم كثيرة من الهند وبلاد أناطولى وغير ذلك، فراجت التجارة فى وقته رواجا لم يسمع بمثله. ولما استولى بطليموس على قطر مصر بعد موت الإسكندر، وانقسام ممالكه بين أمرائه، سنة مائتين وسبعين قبل الميلاد، أصلح بطليموس خليج النيل،

ص: 213

وخليج البرزخ، وجعل بهما سدودا من الخشب عند تلاقيهما بالبرك المرة، فكانت مراكب الأحمر متى بلغت البرك المرة المذكورة، وأرادت الدخول فى أرض مصر دخلت فى خليج النيل، وإن رغبت فى الذهاب إلى البحر الرومى دخلت فى خليج البرزخ، وسارت إلى البحر المذكور، وتوفر على التجار بعمل السدين المذكورين مصاريف النقل من المراكب بعضها لبعض، وفرحوا بما زاد فى أرباحهم، واتسع به نطاق تجارتهم. وأمر بطليموس بعمل طريق فى صحراء عيذاب، أولها من مدينة قفط بالصعيد الأعلى، وبنى بها محطات وصها ريج لخزن الماء، ورتب فيها العساكر لخفارة المحطات وأمن التجارة، فتبعها الناس وسار فيها أغلب تجار البحر الأحمر، فكانت المراكب تأتى إلى عيذاب لتفريغ بضاعتها، ثم تحملها الجمال من عيذاب إلي بحر النيل عند مدينة قفط فى المراكب، فتسير بها إما إلى مصر، وإما إلى بحر الروم، فتدخل البلاد الإفرنجية وغيرها.

ثم لما استولت دولة رومة على وادى النيل، بطل استعمال خليج البرزخ، وتعسرت الملاحة فيه، وكذلك التجارة، فكان أرباب التجارة الواردون من البحر الأحمر، يتبعون طريق عيذاب، وكذلك التجار الواردون من بحر الروم قاصدين البلاد الواقعة على سواحل البحر الأحمر والهندى، وفى داخل الأوقيانوس.

وفى تلك الحقبة كانت تجارة بلاد الهند وبلاد آسيا تتبع طريق نهر الدجلة والفرات، ثم بعد ذلك تكون فى بحر الخزر، ومنه تنتقل إلى البحر الأسود، وتدخل البلاد الأوروباوية والإفريقية.

ويقال إنه فى سنة مائة وثمان وثلاثين بعد الميلاد أمر القيصر تراجان بإرسال الغلال من رومة وغيرها إلى بلاد مصر؛ بسبب قحط شديد أضرّ بها إضرارا شديدا؛ ومن أجل ذلك شدد فى تطهير الترع والجسور لإصلاح حال الزراعة، حتى لا تقع البلاد فى مثل هذه الأهوال، وأمر أيضا بتطهير خليج مصر وإصلاحه، واستعمل زمنا فى الملاحة وأطلق عليه اسم «خليج تراجان» فى بعض الكتب القديمة، ثم أهمل بعد ذلك وبطل استعماله، إلى أن استولى

ص: 214

عمرو بن العاص على مصر من قبل الخليفة عمر بن الخطاب، فطهره وأحيا معالمه وأوصله إلى البحر الأحمر، ولم يرض عمر بن الخطاب باتصاله بالبحر الرومى. وقال: إن فى ذلك بابا لإغارات الأروام وهجومهم.

وفى تلك المدة كانت تجارة البحر الأحمر تتبع طريق/القصير كما فى الأيام السابقة، وأما تجارة آسيا الوسطى فكانت تصل إلى البصرة، ومنها تنقل على الجمال فى صحراء بلاد العرب وتصل إلى الحجاز وإلى جدة، فتنقل فى البحر الأحمر إلى جهات، فما كان منها إلى الديار المصرية كان يدخل بعضه من خليج البرزخ، وبعضه من طريق عيذاب أو القصير. وبقى الأمر على ذلك إلى زمن أبى جعفر المنصور، وكان عمه محمد بن عبد الله رفع لواء العصيان فى البلاد الحجازية، فأمر عامله على مصر بردم خليج مصر لقطع الميرة عن البلاد الحجازية، فردمه وصار نسيا منسيا من ذاك الحين، وخربت البلاد التى كانت فى الصحراء على الخليج، وفسدت أرضها الزراعية، واستمر الحال على هذا المنوال.

ثم لما حدثت الحرب المعروفة «بحرب الصليب» ، اضطرب حال القطر من كثرة الحروب التى كانت قائمة بين المسلمين والنصارى فى البلاد الشامية، فكان بعض التجار يصل إلى مصر من البحر الأحمر، والأكثر كان يتبع طريق آسيا، وكان زمام التجارة العامة بيد البندقانيين، فتمكنت البنادقة فى القرن العاشر من الميلاد - بمواثيق قوية مع أصحاب الحل والعقد فى البلاد الشامية - من جعل التجارة فى هذه البلاد بأيديهم، وصارت تابعة طريق آسيا. فلما ذهب تسلط النصارى من تلك البلاد، بعد انتصار سلاطين مصر على ملوكهم فى تلك الجهات، تحوّلت طريق التجارة إلى مصر، كما كانت فى الأزمان السابقة، ومن ذاك الحين أخذ البندقانيون فى استمالة ملوك مصر، فمالوا إليهم، وعقدت بينهم المواثيق القوية، وأمنت التجارة برا وبحرا، وكانت تجارة الهند وآسيا وإفريقية تأتى إلى البحر الأحمر، ومنه تنقل إلى النيل من طريق الصحراء، ثم تكون فى البحر الرومى وتدخل البلاد الأوروباوية.

ص: 215

واستمر الأمر على ذلك إلى أن استكشف «رأس عشم الخير»

(1)

سنة ألف وأربعمائة وأربع وثمانين، ثم بعد ذلك أخذت الممالك التى لها مرافئ على البحر الرومى فى ترك طريق مصر واتباع الطريق المستجد إلى الهند وغيره.

وأول من وصل الهند واتجر فيها من ممالك أوروبا مملكة البرتغال سنة 1494 من الميلاد، ثم تبعهم الإسبانيون والهولانديون والفرنساوية والإنجليز.

واستولى البرتغاليون على جزائر وشطوط، وأخذوا فى معاكسة التجارة وتحويلها عن طريق مصر، فحرض البندقانيون ملوك مصر على معاكستهم وشن الغارة عليهم ومحاربتهم، فأعدّوا لذلك المراكب الحربية والعدد والعدد، وحصل بين الفريقين عدة وقعات فى جهات البحر الأحمر، خسرت فيها مصر عددا وافرا من الأموال والرجال، ومع ذلك لم ينتج من هذه الحروب أدنى فائدة، وبقيت التجارة تابعة لطريق «عشم الخير» ، وخرجت من يد البندقانيين، وامتنع ما كانت تستفيده مصر من الفوائد بمرور جميع التجارة بأرضها، وصار لا يدخلها من طريق البحر الأحمر إلا ما كان خاصا بإقليمها.

ولم يتغير ذلك فى زمن الدولة العثمانية بعد دخول ديار مصر فى حوزتها، ويقال إنه فى سنة 1768 رغبت دولة آل عثمان فى إعادة خليج برزخ السويس، ولكنها لما رأت كثرة ما تكابده من الصعوبات والمصاريف تركته.

ثم لما استولت دولة فرنسا على القطر المصرى أخذت فى امتحان ترعة البرزخ كما قدمناه، ولم تحصل ثمرة ولا نتيجة لذلك إلى سنة 1828 من الميلاد، فألح حاكم بونباى على الدولة الإنجليزية فى كونها تحول طريق التجارة من رأس عشم الخير إلى مصر، كما كان فى الأزمان السابقة، فلم تلتفت إلى إلحاحه، وبقى الأمر على ما هو عليه إلى سنة 1839 للميلاد، فأعاد حاكم بونباى المذكور على الدولة الإنجليزية ما كان قد عرضه عليها فى سنة 1828.

(1)

المعروف الآن برأس الرجاء الصالح.

ص: 216

وفى ذاك الوقت كان قد تأكد لها إمكان اتباع تجربة أجراها الملازم واغورت، ونجح فى إجرائها، حيث حول البوستة الهندية عن طريقها الأصلى، وسلك بها طريق مصر، فخفت مصاريفها وتكاليفها عن الحالة الأولى، وزالت مشقتها وقلت مسافاتها. فلما رأى الإنجليز ذلك شرعوا فى المكالمة مع الحكومة المصرية والدولة العلية، فتحصلوا على الرخصة بمرور البوستة من طريق مصر وترتيبها على الوجه الذى قدمنا ذكره، ثم فى سنة 1840 لهج أصحاب الصحف الخبرية وغيرهم من الناس فى البلاد الإفرنجية بمسألة فتح خليج فى برزخ السويس، بعد ما اتضح من الرسوم والموازين التى عملت فى سنة 1842، وفى سنة 1843 بمعرفة لينان باشا وعدة من المهندسين الإنجليز، وأكدت تلك الرسوم والموازين أن فتحه فى الإمكان مع الزمن القليل، والمصرف اليسير، وأن البحرين فى استواء واحد حتى أن ناظر خارجية دولة النمسا ميترنيك خابر قنصل دولته بمصر أن يتروّى مع المرحوم محمد على باشا فى هذا الشأن. فلما كانت/سنة 1853 للميلاد، وكان قد استولى على مصر سعيد باشا، خاطبه مسيو دولسبس الفرنساوى فى هذا الأمر، وكان له به ألفة، كما كان كذلك والده مع المرحوم محمد على باشا، فلازمه فى سفره، وحضره وشافهه فى مسألة فتح البرزخ للتجارة العامة، وأسهب فيما ينال بلاد مصر من الخير وحكومتها من العز والسعادة، إذا تم هذا الأمر المهم، وذكر له أن هذا العمل قليل الصعوبة، إذ لا يحتاج فى عمله إلا إلى مقدار من العملة المصريين تعمل فيه كما تعمل فى الترع المعتادة، ومتى تم سارت فيه السفن الصادرة والواردة من كافة أقطار العالم مشحونة وجميع محصولات البلاد الزراعية والصناعية، فتكون مصر نقطة اجتماع الخلق، ومصنوعاتهم، وكعبة تحج إليها سكان البلاد القاصية والدانية، فتحصل على شهرتها القديمة، ويعود إليها مجدها واعتبارها السابق، ويكتب حاكمها ما يبقى ذكره فى تواريخ الأمم إلى أن تفنى الأزمان؛ لأن فى فتحه فوائد لا تحصى، ومنافع لا تستقصى، وتستفيد منه الأفراد والحكومات، فيعترف العالم بأسره من حاكم ومحكوم

ص: 217

لوالى مصر بما أولاهم من النعم، وتلهج الألسن بمدحه والثناء عليه، وحينئذ تلتزم جميع الدول أن تحف وادى النيل بعنايتها وتشمله برعايتها، فيكون محفوظا من حوادث الأيام وطوارئ الزمان. لما لكل من مزيد الرغبة فى أمنه وسعادة أهله.

وأما ما تحتاجه هذه العملية من الأموال لضرورة الصرف عليها، فأصحاب النقود مستعدون وقت تصريح الخديوى بفتح خليج البرزخ لتشكيل شركة مساهمين، يتقاسمون بينهم المبلغ اللازم لتلك العملية.

ومن شدة إلحاح المسيو دولسبس وكثرة ترغيبه وقوة عارضته، وسحر فصاحته، ورغبة نابليون بونابارت - قرال فرنسا إذ ذاك - فى إتمام هذا الأمر، وحثه سعيد باشا على موافقة دولسبس، مال سعيد باشا إلى هذا الأمر وتساهل فيه، ونشأ عن هذا التساهل ما نحن فيه، وما تصير إليه بلادنا وتراه أولادنا فى مستقبل الأيام.

وانعقدت الشروط بفتح الخليج بين المسيو دولسبس وبين الحكومة المصرية فى تاريخ 30 نوفمبر سنة 1854 من الميلاد، فلما تمت هذه المشارطة، اتفق مع الحكومة على تعيين لينان باشا وموجيل بيك لرسم أرض البرزخ وعمل الموازين اللازمة، وتحديد محل الترعة، وتعيينه فى تلك الأرض، وتقدير التكاليف، وعدد العملة، ومقدار المكعبات اللازم حفرها فى الماء بالكراكات وفى الأرض بالعمال، فأخذوا فى إجراء هذه الأعمال، وكلفوا بكل عمل منها طائفة من المهندسين المصريين وهم: سيد أحمد بيك خليل، وأحمد بيك عبد الله، وأحمد بيك السبكى، وإبراهيم بيك سالم، وشافعى بيك يعقوب، وخليفة أفندى حسن، وأحمد بيك ناصر، وعبد الرحمن أفندى عبد المتعال، تحت رياسة المرحوم سلامة باشا، وبعده شحاتة أفندى عيسى.

فلما تمموا عمل الرسوم والموازين، استحسنوا أن تكون الترعة بين مدينة السويس الواقعة على البحر الأحمر، ومدينة الطينة الواقعة على البحر الرومى

ص: 218

على خط مستقيم، طولها مائة وخمسون ألف متر، وعرضها مائة متر، وعمقها ستة أمتار ونصف تحت الجزر للبحر الرومى، وأن يكون فى نهايتها عند السويس هويس (حوض)، طوله مائة متر، وعرضه واحد وعشرون مترا، وعمق المياه فيه ستة أمتار ونصف، وأن يكون فى نهايتها الأخرى عند الطينة هويس بهذه الصفة، وأن يعمل كل من الهويسين المذكورين فى سد من خشب عرضه [مئة]

(1)

متر؛ لأجل التمكن من إدخال ماء البحر وقت مده إلى ترعة البرزخ؛ ليرتفع عمق الماء إلى ثمانية أمتار؛ فتتمكن السفن الكبيرة حينئذ من السير فى الترعة، وأنه يلزم امتداد الترعة فى البحر الرومى بقدر ستة آلاف متر، يكتنفها فى هذه المسافة جسران من الحجر، بحيث تكون نهاية الجسرين عند عمق ثمانية أمتار فى البحر.

ونتج من حسابهم أن مقدار الأتربة اللازم حفرها أربعة وسبعون مليون متر مكعب، منها سبعة عشر مليونا فى الأرض، وسبعة وخمسون مليونا فى الماء بالكراكات.

وكذلك قرروا أن فم الترعة الحلوة يكون فى بولاق، وتمر بقرية بلبيس ثم بالوادى وتنتهى فى بحيرة التمساح، ويكون طولها مائة وثلاثين ألف متر، وعرضها خمسة وعشرين مترا، ويجعل العمق الكافى لجعل تصرفها أربعة ملايين من الأمتار فى زمن الفيضان، ويتركب فى فمها وابورات لإعطائها الماء اللازم لها فى زمن التحاريق، ويعمل مجرى من برابخ فخار توصل/الماء من نهاية الترعة الحلوة عند بركة التمساح إلى مدينة الطينة طولها ثمانون ألف متر، ويعمل فرع من نهاية الترعة الحلوة عند بركة التمساح يمتد إلى السويس طوله سبعة وثمانون ألف متر، وعرضه من أوله عشرون مترا، ثم خمسة عشر ثم عشرة أمتار فى نهايته عند السويس.

(1)

فى الأصل: مائة.

ص: 219

وقدّروا مصاريف ذلك جميعه مائة وستين مليون فرنك، ومدة العمل ست سنين، ولما تمت هذه الأعمال الحسابية والهندسية، سعى المسيو دولسبس فى تعيين قومسيون يتشكل من مهندسى الدول العظام، لامتحان ما قرره مهندسو الديار المصرية، وحصل على ذلك، فحضر سبعة من مهندسيهم من كل دولة واحد، والدول التى اشترك مهندسوها فى ذلك هى: دولة فرنسا والإنجليز والنمسا وإسبانيا وإيتاليا وهولاندا وبروسيا، واتحد مع القومسيون اثنان من رؤساء البحرية؛ أحدهما من طرف الدولة الفرنساوية، والآخر من طرف الدولة الإنجليزية.

وفى 30 أكتوبر سنة 1855 نظر أرباب القومسيون المذكور فى هذه المسألة، فقرروا أن فم الترعة من جهة البحر الرومى يكون بعيدا عن مدينة الطينة نحو الغرب بثمانية وعشرين ألف متر، لا عند الطينة كما تقرر أولا. وأبطلوا عمل الهويسين المذكورين، وقرروا لعمق الترعة ثمانية أمتار عوضا عن ستة أمتار ونصف، واكتفى فى عرضها بثمانين مترا، وقرروا أن يعمل فى مواضع منها موارد تقف فيها المراكب عند الحاجة حتى لا يتعطل المرور، وأن يمد جسران من الحجر فى داخل البحر الرومى إلى عمق عشرة أمتار، أحدهما فى جهة الغرب طوله ثلاثة آلاف متر، والآخر فى جهة الشرق طوله ألفان وخمسمائة متر، وتكون الفتحة التى تدخل منها المراكب بين الجسرين أربعمائة متر، ويعمل فى كل من طرفى الترعة حوض لعمارة المراكب.

وبالحساب: اتضح أن مكعب ما يلزم عمله ستة وستون مليون متر مكعب، منها الترعة الحلوة، وأن التكاليف تبلغ مائتى مليون فرنك عبارة عن ثمانية ملايين جنيه.

ولما تمت أعمال هذا القومسيون، عقدت الشروط النهائية فى 5 يناير سنة 1856، وهى تشتمل على جملة بنود لا حاجة لذكر جميعها، وإنما نكتفى بذكر ملخص المهم منها:

ص: 220

[بنود شروط حفر ترعة البرزخ (قناة السويس)]

وذلك أن الخديو اشترط أن العمل فى ترعة البرزخ لا يكون إلا بعد ترخيص الباب العالى، وأن الشركة تتعهد بعمل ترعتين:

إحداهما: تكون صالحة لمرور مراكب البحر المالح فى برزخ السويس.

وثانيتهما: تكون صالحة لمرور مراكب النيل للترعة المالحة. وأن ما يلزم للترعتين المذكورتين من الأرض، يؤخذ مجانا، فإن كان من أملاك الميرى فالأمر ظاهر، وإن لم يكن من الأملاك الميرية، فعلى الحكومة حصول الشركة عليه، وعلى الشركة دفع الثمن من طرفها، وأن جميع الأرض الصالحة للزراعة على جانبى الترعتين المملوكة للحكومة، تعطى للشركة لتزرعها ولا تدفع عنها أموالا إلا بعد مضى عشر سنين، ثم بعدها يربط عليها نظير ما هو مربوط على مثلها، وأن من يرغب من أصحاب الأطيان الكائنة على الترعة الحلوة أن يسقى زرعه من مائها، يلزمه أن يتفق مع الشركة على قيمة سقى كل فدان، وأن جميع المراكب التى تمر فى ترعة البرزخ تكون منقادة لما يربط عليها من العوائد من طرف الشركة، وأن جميع الآلات والأدوات والمهمات - من أى نوع كانت - تلزم لعمل الشركة، وفتح ترعة البرزخ، تكون معافاة من الكمرك، وأن للشركة الحق فى استخراج الأحجار وسائر مواد البناء من المحاجر الميرية بدون مانع، ومن دون أن يربط عليها عوائد، وأن مدة الامتياز تسع وتسعون سنة، من ابتداء استعمال الخليج المالح فى الملاحة، وبعد انتهاء هذه المدة، ترجع إلى الحكومة. وحينئذ تدفع الحكومة إلى الشركة قيمة ما يكون موجودا من الآلات والمهمات.

ومع ذلك يمكن أن تمد مدة الالتزام إلى دور آخر، بشرط أن يقع الاتفاق بين الحكومة والشركة على هذا الامتداد.

ص: 221

ومن ضمن الشروط: أنه جعل للحكومة خمسة عشر فى المائة من صافى الربح فى نظير ما رخصت فيه للشركة من الأرضين وغيرها.

وفى مشارطة أخرى عملت فى 20 يوليه سنة 1856 من الميلاد:

[العمال الذين اشتركوا فى الحفر: أجورهم، طعامهم وشرابهم وعلاجهم]

تعهدت الحكومة للشركة بإحضار من يلزم من العملة، وتدفع الشركة لهم الأجر من طرفها، لمن عمره أقل من اثنتى عشرة سنة: قرش صاغ. ومن زاد سنه عن ذلك تكون أجرته من قرشين ونصف إلى ثلاثة قروش، وذلك خلاف الجراية التى تعطى لكل واحد من العمال، وقيمتها قرش صاغ للشخص الواحد.

واشترط على الشركة إنشاء إسبتاليات، وترتيب أطباء لمعالجة المرضى على طرفها، وإعطاؤهم كفايتهم من الماء اللازم لشربهم.

وسبق فى حساب المهندسين أن هذه العملية تتكلف مائتى مليون فرنك، عبارة عن ثمانية ملايين من/الجنيهات الإنجليزية جعلتها الشركة أربعمائة ألف سهم، يخص كل سهم خمسمائة فرنك، ونشرت إعلاناتها بذلك فى جميع الممالك لكل من يرغب الاشتراك فى هذا المشروع، فلم يجبها إلا القليل منهم، لجهل حقيقة هذا الأمر، وما ينجم عنه من الفوائد، لا سيما مع توقف الإنجليز وامتناع أرباب الأموال منهم عن الدخول فى ذلك، ومناداة جرانيلهم

(1)

ورجالهم بعدم نجاحه. فكل ذلك ثبط همم الناس، وكان ما بقى من الأسهم بعد الذى توزع فى بلاد فرنسا مائة وسبعة وسبعين ألف سهم وستمائة واثنتين وأربعين سهما، عبارة عن ثلاثة ملايين وخمسمائة واثنين وخمسين ألفا وثمانمائة وأربعين جنيها.

(1)

المراد: صحفهم.

ص: 222

ورأى دولسبس أن هذا المبلغ إن لم يتعهد به أحد يدخل فى الشركة بمقدار هذه السهام الباقية، تعذر إتمام الأمر، وحبط السعى، وذهب عمل من اشتغل به هباء منثورا، فدخل على سعيد باشا المرحوم بالترغيب فى أخذ هذا المبلغ على ذمة الحكومة المصرية، ومازال يحسن له ذلك ويرغبه فيه حتى استماله إلى مطلوبه وأرضاه به. فأخذ مسيو دولسبس فى إدارة الأعمال وتدبير الأشغال، وطلب النقود من المشتركين بحق عشرى السهام على طبق الوارد فى شروط الشركة. وعليه كان ما يلزم أداؤه من طرف الحكومة مبلغا وقدره سبعمائة ألف جنيه وعشرة آلاف وخمسمائة وستون جنيها، وكانت الخزينة خالية من النقود، فاضطرت الحكومة إلى أن تقترض، فحوّلت الشركة على أحد البنوك بمبلغ يوازى ثمن المبلغ المذكور، وأعطت سندات للشركة فى نظير السبعة الأثمان الباقية، ثم إنه لما نجح سعى مسيو دولسيس فى توزيع السهام جميعها، وأخذ فى إدارة الأعمال وتدبير إجراءاتها كما مر، اشتهر هذا الأمر، وعلمت الدولة الإنجليزية أنه أمر تقرر، وعرفت ما لحاكم مصر إذ ذاك من الميل لاتمام هذا المرام، والاهتمام به كل الاهتمام، ولم يكن ذلك على رغبتها فأخذت فى معاكسته؛ ونشرت صحائفها الرسمية وغيرها مقالات تعارض فى إنجازه، وتثبت عدم نجاحه، وعدم إمكان عمله لكثرة صعوباته، وطفقت تخابر الباب العالى بواسطة سفيرها فى إيقاف العمل، واشتد نكيرها على حاكم مصر حتى أنها أعدت سفنها البحرية للتوجه إلى ثغر الإسكندرية لمنع ذلك. وجرت المخابرة بين الباب العالى ومصر فى هذا الشأن، وكثر الخوف فى ديار مصر، حتى أن قنصل فرنسا الموسيو سباتبيه حرر خطابا فى 20 يولية سنة 1859 إلى الفرنساويين المقيمين فى البرزخ، يأمرهم فيه بالقيام منه، ومن يتأخر منهم فلا يلومن إلا نفسه. وكثر القيل والقال فى شأن قدوم السفن الإنجليزية، وعدم رضا الباب العالى بذلك، وازداد الخوف، وكاد يحصل ما لا خير فيه للبلاد، لولا توسط نابليون بونابرت الثالث ق؟؟؟ ال فرنسا إذ

ص: 223

ذاك فى هذا الأمر بالطرق السياسية مع الدول، فهدأت الأمور، وتذللت المصاعب وحصل للشركة فيما بعد رضا الباب العالى، فأصدر فرمان الترخيص فى 19 شهر مارث

(1)

سنة 1866 الموافق 2 من ذى الحجة سنة 1282.

ومع ما كان يتجاذب الموسيو دولسبس من تلك الصعوبات كان لا يفتر عن مداومة الفكر فى إنجاز مشروعه، فكان يستخدم مهندسين وحكماء وغيرهم من عملة ورؤساء، ويرسلهم إلى مصر فيقيمون فى أرض البرزخ، ويجرون بعض الأعمال الأولية بمساعدة الحكومة لهم باطنا، وكان دولسبس يجول فى عواصم الممالك وفى المحافل العظيمة، ويلقى الخطب ويعين منافع هذا العمل فى التجارة لكل دولة بالبراهين والحجج، مستعينا بأصحاب الأقلام فى إدحاض ما يحتج به المضادّون له.

ورتب مراكز لوكلاء العمل فى مصر، فجعل مركز التوكيل العمومى فى القاهرة، وعينت له الحكومة محل مدرسة المهندسخانة ببولاق مخزنا لقبول ما يرد من المهمات والأدوات والآلات اللازمة للعملة والشغالة، وكذلك عينت له المحلات اللازمة فى الإسكندرية ودمياط وسمنود والصالحية.

ومن ابتداء أبريل سنة 1859 أخذت تتوارد وفود العملة والشغالة من فرنسا وغيرها، وأقاموا على ساحل البحر عند مبدأ الترعة فى أخصاص اتخذوها ليأووا إليها، إلى أن بنيت دور ومساكن فى محل إقامتهم، ثم أخذت تزداد وتكثر حتى صارت بعد ذلك مدينة سميت «بورت سعيد» ، باسم المرحوم سعيد باشا؛ إبقاء لذكره. ولسهولة تفريغ مهمات العمل الواردة فى السفن؛ عمل جسر من الخشب يمتد فى البحر إلى قدر كاف لمرسى المراكب وتفريغها، وعمل عند نهاية ذلك الجسر فى داخل البحر برج من خشب ارتفاعه عشرون مترا، وجعل بأعلاه منار/تهتدى بنوره المراكب التى تقصد هذه الجهة. وكان

(1)

هكذا فى الأصل، وأراد شهر مارس.

ص: 224

من يحضر من العملة فى مبدأ الأمر قليلا، فلما اشتهر دخول المسألة فى ميدان السياسة بتوسط نابليون، وظهرت علامات الوفاق، أخذ عدد الشغالة الوافدين على البرزخ من جميع الملل يزاد ويكثر، وكان أكثرهم من الروم اليونانيين، وكانوا يقيمون فى المحطات الموزعة فى طول خط الترعة المالحة؛ كمحطة القنطرة على طريق الشام، ومحطة الفردان بعدها، ومحطة الجسر المعروف بالقرش، ومحطة التمساح محل الإسماعيلية الآن، ومحطة السيرابيوم، والشيخ خبيدق، والشلوفة، والسويس.

وجعلت الشركة فى المحطات الكبيرة من هذه المحطات مخازن كبيرة أودعتها جميع ما يحتاج إليه العمال من المآكل والملابس وغير ذلك، وسهلت طريق الوصول إليها، والحصول عليها.

وكان من أهم لوازم العمال وضروريات معيشتهم ما يلزمهم للشرب من الماء العذب فى تلك الصحارى المنقطعة عن العمران والمياه والغدران، فكانت الشركة تأتيهم بالماء إلى المواضع القريبة من المطرية والمنزلة، فى صهاريج من حديد، تنقلها السفن فتوصلها إلى تلك المواضع، زيادة على ما يستقطر لهم من ماء البحر الملح بواسطة الوابورات، أما المواضع الموجودة فى داخل البرزخ بعيدة عن المنزلة والمطرية، فكان ما يحتاج إليه العمال بها من الماء ينقل إليهم على ظهور الجمال، وكان الجمل الواحد يحمل ما يكفى لشرب عشرين شخصا من الشغالة فى اليوم، وهو مائة وخمسة وعشرون ليترا من الماء.

ومصاريف الجمل وجمّاله فى اليوم ثمانية فرنكات، فيخص الشخص الواحد فى اليوم ثمانية وستون نصفا فضة، وكان عدد الشغالة جسيما، واتسع نطاق العمل فى امتداد الترعة، والتزمت الشركة لجلب الماء الكافى لهم أن تستأجر عددا وافرا من الجمال لنقل الماء، وألجأها ذلك إلى أن رتبت لهذه المصلحة ملاحظين ومأمورين ورئيسا لنظام سيرها.

ص: 225

وابتداء الحفر فى خليج البرزخ كان أوله من جهة البحر الرومى، فكانوا يحفرون إلى أن ينبع الماء، وكانوا فى أول الأمر يستعملون لنقل التراب زنابيل من الخوص، ثم وجدوها يستهلك منها الكثير فى الزمن اليسير فاستبدلوها بقوارب من الخشب، ولما كثر عدد العمال من المصريين وغيرهم رأوا أن نقل الماء اللازم لشربهم على ظهور الجمال عسر جدا، كثير المشقات والنفقات، فاستحسنوا أن تحفر الترعة الحلوة أولا، فابتدأوا حفرها من التل الكبير إلى قريب من بركة التمساح باثنى عشر ألف متر، وأدخلوا فيها ماء النيل من ترعة الوادى، فسهل أخذ الماء اللازم للشغالة منها بواسطة الجمال فى 17 أبريل سنة 1860 بلغ عدد الشغالة عشرين ألف نفس من القطر المصرى خاصة، وكانوا موزعين فى طول الترعة من القرش إلى البحر الرومى، وكان الماء اللازم لهم تأتى به الجمال ويوضع فى حيضان من الصاج.

وكان العمل مستمرا ليلا ونهارا تحت ملاحظة مأمورين من الإفرنج من طرف الشركة، وإسماعيل بيك حمدى من طرف الحكومة، وهو الذى ترقى إلى رتبة باشا، وصار بعد ذلك محافظا للبرزخ. ولم تزل الهمة فى العمل مبذولة والعناية إليه مصروفة حتى وصلوا إلى بحيرة التمساح، وكانت العمال تحفر فى الأرض الجافة، والكراكات وراءهم تعمق الحفر فى الطين، والماء يجرى خلفها، حتى وصلت الترعة فى 15 نوفمبر سنة 1860 إلى عمق عظيم، فجرت فيها المراكب، واتصلت ببحيرة التمساح، فدخلت فيها مياه البحر الرومى، وعمل لذلك مهرجان حضره المسيو دولسبس وجم غفير من القناصل وأمراء المصريين وغيرهم من سائر الملل، وفى وقت قطع الجسر الحاجز بين البحيرة والترعة، ودخول ماء الترعة فى البحيرة، قام المسيو دولسبس فى هذا المحل، وخطب خطبة وجيزة قال فيها:«بالنيابة عن المرحوم محمد سعيد باشا: آمر بدخول مياه البحر الرومى فى بحيرة التمساح» .

ص: 226

وقد علم من حساب المهندسين وأعمالهم أن محيط هذه البحيرة خمسة وعشرون ألف متر، وأن كمية الماء الداخل فيها فى مدة أربع وعشرين ساعة هو ستمائة ألف متر مكعب، فيكون مقدار ما يوجد فيها بعد امتلائها وتوازن سطح مائها مع سطح مياه البحر الرومى نحو ثمانين مليون متر مكعب، سوى عشرين مليون متر مكعب قيمة ما تتشربه الرمال، وما يتبخر بحرارة الشمس، وتكون مدة امتلائها ستة أشهر، فيكون مقدار ما دخلها إلى غاية هذه المدة مائة مليون متر مكعب. ومع ذلك صارت المراكب تمر فى الخليج والبحيرة قبل تمام تلك المدة، وصار ينقل عليها من بعض المحطات إلى/بعض، ومن بورت سعيد إليها ما يلزم للعمال من مأكل ومشرب، وما يلزم للأعمال من مهمات وأدوات إلى غير ذلك، ومن حينئذ زالت الصعوبات التى كانت ملمة بالشركة فى مبدأ الأمر.

[الإسماعيلية والسويس وبورت سعيد]

وأخذت الشركة فى إحداث مدينة عند بحيرة التمساح، عرفت أولا بمدينة التمساح، ثم سميت «الإسماعيلية» ، باسم جناب إسماعيل باشا الخديو السابق، إيثارا لبقاء اسمه. وكثر وفود الناس من تجار وغيرهم على برزخ السويس، وسكن كثير منهم ببورت سعيد فى مساكن اتخذوها من الخشب وكسوها بالحصر، وبلغ عدد هذه المساكن مائة وخمسين دارا لسكنى الإفرنج خاصة، سوى المساكن التى اتخذها غيرهم من العمال واستوطنوها، حتى صارت قرية عرفت بعد ذلك «بقرية العرب» .

وكان ببورت سعيد مخازن كبيرة ومصانع لعمارة الآلات والكراكات، ومستشفى لمعالجة المرضى، وكنيستان: إحداهما للروم، والأخرى للكاثوليك، وجامع للمسلمين. وكذلك حصلت عمارات ومنازل فى باقى المحطات، كمحطة القنطرة، فقد بنى بها منازل من الطوب، ومستشفى، ومخازن. وكذلك الفردان والقرش والإسماعيلية. وحدث بالإسماعيلية أيضا قرية تعرف الآن «بقرية العرب» سكنها كثير من الأهالى.

ص: 227

وفى سنة 1863 أخذت الشركة فى مد فرع من الترعة الحلوة إلى السويس، وجمعت لذلك العمل خمسة عشر ألف نفس، وتممته فى زمن قليل، ووصل الماء إلى ثغر السويس، وركبت آلتان بخاريتان بقرب الإسماعيلية على فرع من الترعة الحلوة لإيصال الماء الحلو إلى مدينة بورت سعيد، وإلى باقى المحطات بواسطة أنابيب من الحديد، طول الواحدة منها متران وثلاثة أرباع متر، يتصل بعضها ببعض بغاية الإحكام، وبلغ عدد الأنابيب التى ركبت فى المسافة الواقعة بين الوابورات وبورت سعيد وهى ثمانون ألف متر، عشرين ألف أنبوبة.

وبهذا العمل تم للشركة توصيل الماء العذب إلى جميع محطات خليج البرزخ الواقعة بين البحرين: الرومى والأحمر.

وجعلت الشركة أيضا فى كل محطة حوضا من الصاج، يملأ بالماء العذب ليأخذ منه العمال والسكان.

وبواسطة تلك الأعمال زالت قحولة الصحراء، وأخذ سكان المحطات يزرعون الخضراوات، وبساتين قليلة.

وأنشئت فى مدينة الإسماعيلية بعض مبان فخيمة لإقامة المهندسين والعملة فى شوارع مستقيمة متقاطعة على زوايا قائمة، وجعل كل منزل قائما بنفسه، وبه بستان.

[السياحة فى مدن القناة]

وأنشأت الشركة فى تلك المدينة بستانا فسيح الأرجاء عاما، وميدانا للفسحة، وصار السياحون يترددون إليها وإلى بورت سعيد وإلى السويس فيجدون فى كل منها ما يحتاجون إليه، فيقيمون فى بيوت المسافرين المعروفة - «باللوكاندات» - المدة التى يريدونها مع كمال اللذة وراحة الفؤاد، كما يكون فى المدن الغنّاء المؤسسة من أزمان مديدة، ويجدون جميع لوازم المعيشة؛ فكانوا يتعجبون مما حدث وتم فى هذه المدة القليلة، وينشرون هذه الأخبار فى بلادهم وفى البقاع التى يمرون عليها، وشاع ذكر عملية البرزخ ونجاحها، فكثر

ص: 228

توارد الناس عليه من كل فج، فكانت المراكب تحمل إليه التجار والتجارة من البحر الرومى والبحر الأحمر وسكة الحديد والترعة الحلوة من داخل القطر وخارجه.

ثم لمّا آل الأمر بعد انتقال المرحوم سعيد باشا إلى الخديو إسماعيل باشا سنة 1862، كان قد تم كثير من الأعمال، وكانت أعمال شركة البرزخ جارية بالانتظام، إلى أن أظهر الخديو المشار إليه للشركة عدم رضاه بإحضار العملة لأشغال الشركة، حسب شروط الشركة، فاضطرب سير العمل، وبدأ النزاع بين الحكومة والشركة، وهال الشركة وأزعجها توقف الحكومة فى تنفيذ بند الشروط المختص بالعملة والشغالة، وهو أساس العملية، فأخذ المسيو دولسبس يخابر الحكومة ويخوفها ويتهددها، ويبدى لها أنها إن استمرت على هذا التوقف تكون مسئولة عن نتائجه، وتلزم بما يترتب على ذلك من الخسائر، مرتكنا على ما هو مدون فى البند المذكور من أن الحكومة التزمت للشركة بتوريد العملة والشغالة، وكانت الحكومة محقة فى تقديم العملة من أهل البلاد لا سيما ولم يكن صدر الفرمان السلطانى الذى كان العمل متوقفا على صدوره، ويا حبذا لو تم للحكومة المصرية مرامها، لأنه كان يوفر على مصر مشاكل سياسية عديدة، إلا أنه لما اشتد النزاع بين الحكومة وبين رئيس الشركة، اتخذ الإمبراطور نابليون حكما لفصل النزاع القائم بينهما، فأوقعها هذا التحكيم فى بحور الدين وأهوال السياسة الدولية، وألجأها إلى أن تسير فى سياستها الداخلية والخارجية، وفى إدارة مصالحها الكلية والجزئية، على سنن يخالف سننها القديم، فلما اختارت الحكومة توسط نابليون/بونابارت وفوضت له الأمر فى حسم النزاع بينها وبين الشركة، بما تقتضيه الإنسانية والعدالة، وجعلت بيده الحكم، ورضى لنفسه أن يكون الحكم الفيصل.

عينت من طرفها ناظر خارجيتها فى ذلك الوقت نوبار باشا نائبا عنها، فقام وتوجه إلى باريس، وقدم أوراق توكيله إلى حضرة الإمبراطور، وتولى النيابة عن الشركة دولسبس رئيسها ومؤسسها، فأمر نابليون بتشكيل لجنة من أهل الدراية

ص: 229

بالأحكام القانونية وغيرهم فى 3 مارث سنة 1864، وعرض كل من نوبار باشا نائب الحكومة، ودولسبس رئيس الشركة ونائبها على هذه اللجنة ما عندهما فى هذا الأمر؛ فنظرت اللجنة فى هذه المسألة وتدبرت فيها وبحثت فى جميع فروعها ومشتملاتها، وبعد ذلك قدمت لحضرة الإمبراطور نتيجة مارأته موافقا فيها، فأصدر حكمه فى هذه المسألة فى تاريخ 6 يولية سنة 1864 من الميلاد، ولا حاجة لذكر مفصلات كل مسألة من المسائل التى حكم فيها على حدتها، وبيان مستندات حكمه لما فى ذلك من التطويل بل نكتفى بزبدة ما حكم به فنقول:

كان من حكم نابليون فى هذه المسألة أن تدفع الحكومة المصرية إلى الشركة على سبيل التعويض فى مقابلة المواد الآتية مبلغا قدره: أربعة وثمانون مليون فرنك، عبارة عن ثلاثة ملايين جنيه وأربعمائة وثلاثة وستين ألف جنيه:

منه فى مقابلة عدم إحضار العمال ثمانية وثلاثون مليون فرنك.

ومنه فى مقابلة ترك الأراضى التى كان قد رخص فى الشروط للشركة بإحيائها وزراعتها ثلاثون مليون فرنك، ومساحة الأرض المذكورة ثلاثة وستون ألف هكتار، عبارة عن نحو مائة وخمسين ألف فدان كلها فى الصحراء، عبارة عن تلال وأودية وبرك. فكأنه جعل قيمة الفدان عشرين جنيها سوى ما يصرف على إصلاحه، وجعله قابلا للزراعة لو أمكن.

ومنه فى مقابلة تخلى الشركة عن الترعة الحلوة وفوائدها ستة عشر مليون فرنك تدفع للشركة، وتلتزم الحكومة بحفر الترعة المذكورة من القاهرة إلى الوادى على نفقتها، وتجعلها صالحة للملاحة فى جميع أوقات السنة، ويجرى تطهيرها كل سنة بمعرفة الشركة بمصاريف من طرفها، فى مقابلة ثلثمائة ألف فرنك تأخذها من الحكومة. وللشركة الحق فى أن تستولى فى كل أربع وعشرين ساعة على سبعين ألف متر مكعب من مياه الترعة الحلوة، للازم المدن والمحطات الواقعة على الخليج المالح والمراكب التى تمر فيه.

ص: 230

وحكم بأن ما يلزم من الأراضى لعمل ترعة البرزخ وما يتبعها من مدن ومحطات عشرة آلاف ومائتان وأربعة وستون هكتارا.

وحكم أيضا بأن الشركة يلزمها إتمام فرع السويس الذى كانت ابتدأت فى عمله، وحسبت جميع مصاريفه من ضمن الستة عشر مليونا التى حكم بها على الحكومة، وحكم لها بالانتفاع بهذا الفرع، وبالترعة الحلوة فى أشغالها ولوازمها إلى أن ينتهى عمل خليج البرزخ، وبعد ذلك يرجع كل من الفرع المذكور والترعة الحلوة إلى الحكومة المصرية، وتكون الشركة كغيرها فى ذلك.

وحكم بأن مبلغ الثمانية والثلاثين مليونا يدفع على ست دفعات فى ست سنين، ومبلغ كل سنة يدفع على مرتين فى كل ستة شهور مرة، ومقدار كل دفعة من الدفعات الثمانية التى تدفع فى السنين الأربع الأول من ابتداء سنة 1864 يكون ثلاثة ملايين ومائتين وخمسين ألف فرنك، يعنى أن ما يدفع فى السنين الأربع الأول يكون ستة وعشرين مليون فرنك، والاثنا عشر مليونا الباقية من الثمانية والثلاثين مليونا، تدفع فى سنتين على أربع دفعات، كل منها ثلاثة ملايين فرنك، وقرر أن الحكومة بعد أن تؤدى هذا المبلغ تؤدى الثلاثين مليونا فى عشر سنين، فى كل سنة ثلاثة ملايين فرنك، وفى ظرف السنين العشر المذكورة تسدد ستة ملايين فرنك من الستة عشر مليون فرنك، فى كل سنة ستمائة ألف فرنك، يعنى أنها تدفع فى كل سنة من العشر سنين المذكورة ثلاثة ملايين وستمائة ألف فرنك، والعشرة ملايين الباقية من الستة عشر مليونا التى هى قيمة تكاليف الترعة الحلوة لغاية تمامها، تدفع للشركة من طرف الحكومة فى السنة التى تتم فيها الترعة وتستلمها الحكومة. فعلم مما تقدم أن الذى تقرر دفعه سنويا من طرف الحكومة من ابتداء سنة 1864 لغاية سنة 1867 هو ستة ملايين وخمسمائة فرنك، وما يدفع فى سنة 1868 وسنة 1869 أربعمائة وثمانون ألف جنيه، عن كل سنة مائتان وأربعون ألف جنيه،

ص: 231

وما يدفع من ابتداء سنة 1870 لغاية سنة 1879 هو ثلاثة ملايين وستمائة ألف فرنك، عبارة عن مائة [وأربعين]

(1)

ألف جنيه.

/ولما تم التحكيم والحكم على الوجه المسطور، حررت الشروط النهائية بين الحضرة الخديوية الإسماعيلية وبين دولسبس رئيس الشركة ونائبها، فى 22 من شهر فبراير سنة 1866، وتقدمت للباب العالى، فصدر عليها الفرمان السلطانى المؤرخ فى 19 مارث سنة 1866، الموافق 2 ذى القعدة سنة 1282 هجرية.

وفى 30 يناير سنة ألف وثمانمائة وست وستين، عدلت الحكومة المصرية عما قدّره إمبراطور فرنسا فى تحكيمه، وعقدت شروطا ممضاة من ناظر خارجيتها - فى ذلك الوقت - نوبار باشا بالنيابة عنها، ومن دولسبس النائب عن الشركة، والتزمت فيها الحكومة بأن:

تدفع شهريا من ابتداء يناير سنة 1867 لغاية أول ديسمبر سنة 1869 مبلغا وقدره: مليون وستمائة ألف وأربعة آلاف ومائة وستة وستون فرنكا، عبارة عن أربعة وتسعين ألفا ومائة وسبعة وستين جنيها من ابتداء شهر يناير سنة 1867 لغاية أول ديسمبر سنة 1869، أى أن الحكومة تدفع للشركة فى ظرف ثلاث سنين مبلغا وقدره: سبعة وخمسون مليونا وسبعمائة وخمسون ألف فرنك. وهو عبارة عن مليونين وثلثمائة ألف وعشرة آلاف واثنى عشر جنيها.

فيكون قدر ما التزمت بدفعه فى كل سنة من مبلغ التعويضات، بمقتضى هذه الشروط الجديدة، سبعمائة وسبعين ألف جنيه وأربعة جنيهات.

ولا شك أن هذا المبلغ زيادة عن طاقة الخزينة المصرية، وماورد فى الشروط الجديدة من ترخيص الشركة للحكومة فى عمل استحكامات وعمارات لمستخدمى الإدارة، كالبوستة والجمرك، وقشلاقات للعسكر فى الأرض

(1)

فى الأصل: وأربعون.

ص: 232

المخصصة للشركة، وكذلك سكنى من يرغب السكنى فى أرض البرزخ من كافة الخلق، بشرط الانقياد لأوامر الحكومة وقوانينها وغير ذلك، فليس فيه فائدة جديدة استفادتها الحكومة، لأن جميع ذلك وارد فى الشروط النهائية، فلا حق للشركة أن تنازعها فيه إذ هو من حقوقها الصريحة، وكذلك ما ذكر فى تلك الشروط من تنازل الشركة للحكومة عن أرض الوادى، التى قدر مساحتها ثلاثة وعشرون ألفا وسبعمائة وثمانون فدانا فى مقابلة عشرة ملايين فرنك، دفعت لها من طرف الحكومة مراعى فيه أيضا صالح الشركة، لأن الشركة كانت قد اشترت هذه الأرض من الحكومة بمبلغ مليون وتسعمائة وسبعة وسبعين ألفا وخمسمائة وسبعة وثلاثين فرنكا، فربحت بسبب هذا التنازل ثمانية ملايين واثنين وعشرين ألفا وأربعمائة وثلاثة وستين فرنكا.

وبالجملة فإن من يمعن النظر فى هذه الشروط وغيرها من الشروط - التى عقدت بين الحكومة وبين شركة برزخ السويس إلى غاية انتهاء خليج البرزخ وفتحه لتجارة الأمم، واستعماله لسير السفن التجارية وغيرها - يعلم أن الحكومة المصرية بعد أن تم تحكيم نابليون الثالث وحكم بما حكم به عليها، وحصلت الشركة على الفرمان السلطانى المؤذن بفتح خليج برزخ السويس، غيرت سيرها مع الشركة، وأخذت تتساهل معها، ونتج عن هذا التساهل أنه لما تم خليج البرزخ، رغبت الحكومة أن تستولى على كمرك البضاعة الواردة على مينا بورت سعيد، والصادرة عنه، مثل الجارى فى باقى ثغور القطر طبق نص الشروط، عارضتها الشركة بدون وجه حق، وتداخل فى ذلك قنصل دولة فرنسا، ثم بعد مداولات اصطلحت معها، على أن تعطى الحكومة للشركة ثلاثين مليون فرنك فى مقابلة إبطال المعارضة الواقعة من الشركة فى كمرك بورت سعيد، ورهنت الحكومة فى نظير ذلك جميع أسهمها فى شركة البرزخ مدة ثلاثين سنة، فلما ألجئت فيما بعد إلى بيعها للدولة الإنجليزية لتسديد دين حل وقته وباعتها، ولم تتمكن من تسليمها لكونها مرهونة، التزمت بدفع مائتى ألف جنيه سنويا فى نظير الربح. وبعد ذلك تمكن دولسبس من إتمام مشروعه، وانتفع منه

ص: 233

جميع الملل، وانفردت مصر وحدها منه بالنكال ووقوعها فى الإفلاس ودخولها فى ربقة عراقيل السياسة العامة، مع أن العملة المصريين هم الذين حفروا ترعة البرزخ فى أرض مصر والترعة الحلوة، وأوصلوها إلى بركة التمساح والسويس، ومنها أخذ الماء العذب إلى بورت سعيد، وباقى محطات البرزخ.

وظاهر أن الذى سهل عمل البرزخ وجعل مشروعه ممكنا: وجود ماء الشرب للشغالة وغيرهم، ونقود مصر هى التى بنى بها مبانى البرزخ ومدنه، وبها أسست الورش الواسعة، والمخازن الجسيمة، ومبانى الشركة الفخيمة.

وأنشئت المدن، وانتظمت، وعمرت بالناس، وزالت وحشة البرزخ، وأمنت نواحيه، وأحيا النيل موات قفاره وأراضيه، وعملت الكراكات التى لم يسبق لها مثيل، وبواسطتها حفر خليج البرزخ إلى عمق ثمانية أمتار، وصار هو الطريق العام لتجارة العالم، وبواسطته نما ربحها، وفاض خيرها، حتى عمّ كافة/البقاع ما عدا مصر.

[الأضرار والخسائر التى لحقت بمصر]

فإن حدوث خليج البرزخ غيّر جغرافية القطر، وفتح على الحكومة باب مصرف جديد لمستخدمى المحافظات والضبطيات ومصلحتى الصحة والتنظيم وغير ذلك، مما تقتضيه لوازم المدن المنشأة فيه، وضاع بسببه على الحكومة ثلثمائة ألف جنيه كانت تدخل خزينتها، أجر منقولات سكة الحديد سنويا، وضاع عليها ما أمّلته من الفوائد المقصود لها من الأعمال الجسيمة التى أجرتها فى ميناء السويس، من حيضان لعمارة المراكب وموالص لوقايتها، وأرصفة لشحن البضائع وتفريغها، وغير ذلك من الأعمال الجسيمة التى كلفتها نحو ثلاثة ملايين جنيه؛ لأن السفن التجارية صارت لا تأتى مينا السويس كالسابق، بل تستمر سائرة فى الخليج حتى تدخل البحر الرومى، وتذهب إلى ما تشاء من البلاد.

ص: 234

وبالاختصار نقول: إن الشركة لما ربحت دعواها، وحكم لها بالمبلغ الذى حكم به نابليون على الحكومة المصرية، أخذت فى تدبير إتمام أعمال البرزخ، وقويت همتها، واتسعت دائرة أعمالها؛ لأنها عند وقوع النزاع كانت لم توقف العمل بالمرة، غير أنه كان بطئ الحركة، وكان أغلب العملة الموجودة فى البرزخ من الروم والصقالبة والأفلاقيين، فلما زال النزاع الواقع بينها وبين الحكومة، وعلم الناس بصدور الفرمان السلطانى، وتحقق وجود النقود اللازمة لإتمام العمل، هرعت العملة والشغالة إلى البرزخ أفواجا أفواجا من كافة الملل، وخصوصا المصريين، فبلغ عدد الموجود به من الشغالة فى زمن يسير خمسة عشر ألف نفس، وزعتهم الشركة فى محلات العمل، وأكثرهم كان فى جزء الخليج الواقع بين بحيرة التمساح والسويس. ولأجل أن يتحقق للشركة إتمام العمل فى الزمن المعين لإتمامه وأن تكون على ثقة من ذلك، أعطت ما بقى من أعمال ترعة البرزخ من حفر وتعميق وأعمال صناعية وغير ذلك إلى مقاولين، تأكد عندها ثقتها بهم، على شروط عقدت بينها وبينهم، فأعطت إلى «موسيو كوفورو

(1)

» قسما يحفره فى المحل المعروف «بالقرش» فى جهته البحرية، طوله خمسة عشر ألف متر، ومقدار ما يلزم حفره فى هذا القسم تسعة ملايين مترا مكعبا.

وأعطت باقى ما يحفر بالكراكات وغيرها إلى اثنين من المقاولين:

أحدهما «بوريل لا واليه» الفرنساوى. والثانى: «ويليام» الإنكليزى.

[المقاول الإنجليزى لا يقوم بالأعمال التى تعهد بها]

وفى سنة 1865 لم يقم وليام المذكور بما تعهد به، فأقيل! وأحيل ما كان تعهد به من الحفر على «بوريل لا واليه» ، وأحيلت الأعمال الصناعية - وهى مولصا ليمان بورت سعيد - على عهدة «دسوبيك» وإخوته. ومن ذاك الوقت صار

(1)

فى الأصل: كوفرو. والصحيح ما أثبتناه. وقد صححت فى الأصل بعد ذلك، انظر ما يلى ص 234.

ص: 235

العمل جاريا من طرف المقاولين، واستلموا من الشركة جميع لوازم العمل من كراكات ومواعيف وصنادل وغير ذلك من الآلات والأدوات اللازمة للتشغيل.

وجدّ كلّ فى إنجاز ما تعهد به، وأحضر ما يلزم له من الآلات.

من ذلك ما أحضره «بوريل لا واليه» من الكراكات الكبيرة التى ابتدعها، وأدخل فى صنعتها من التحسينات ما يساعده فى العمل، وكان سببا فى حصوله على الأرباح الوافرة، وطول الواحدة من هذه الكراكات ثلاثة وثلاثون مترا، وعرضها ثمانية أمتار، وارتفاعها ثلاثة أمتار، وقدر القوة البخارية التى تدير آلاتها مائة وخمسة من الخيل البخارية، ووزن حديدها أربعمائة ألف كيلو جرام، عبارة عن ثلثمائة وعشرين ألف أقة، ومقدار ما تشتغله فى عشر ساعات دائر بين ألف وخمسمائة متر مكعب وألفين، فكانت الكراكة الواحدة تقوم بأعمال نحو أربعة آلاف نفس، وهى تنتقل بقوتها البخارية إلى اليمين واليسار، والأمام والخلف، على حسب رغبة المهندس المنوط باستعمالها، وما تقتضيه صناعة العمل.

وقد اشترى كثر من تلك الكراكات لتعميق الحفر فى الماء، واختص بعضها بتعميق خليج البرزخ فى البحائر ومينا بورت سعيد، وبعضها بما بين محطة الفردان وبركة التمساح، فالكراكات التى فى البحائر كانت قواديسها ترفع الطين وتقذفه فى مجرى من الصاج، أحد طرفيه فى الكراكة، والآخر على جسر الخليج، وفى وقت القذف يصب على الطين مقدار من الماء كاف لتحليله وتسهيل سيلانه، وذلك بواسطة «طلونبة» يحركها الوابور، فيسيل الطين فى المجرى وينصب فوق الأرض خلف جسر البرزخ. وكانت الكراكات الواقعة بين الفردان وبحيرة التمساح يخالف عملها عمل السابقة، فكانت قواديسها ترفع الطين إلى مجرى قصير من الصاج، وبعد أن يخلط بالماء كما تقدم فى الكراكات السابقة، يسيل وينصب فى صناديق من الحديد، حجم كل منها متر مكعب، منظمة فى داخل مراكب من حديد أيضا، وكان كلما

ص: 236

ملئت صناديق صندل/تذهب به عماله إلى البر، فيقف تحت عيار بخارى يتناول بخطاف سلسلة تلك الصناديق واحدا بعد واحد، ويرفعها إلى أن يتجاوز ارتفاعها جسر الخليج، فيدور العيار بالصندوق دورة تجعله خلف الجسر، وهناك ينفتح أسفل الصندوق بواسطة آلة معدة لذلك يحركها مهندس العيار.

[وصف لآلة العيار]

والعيار المذكور آلة بخارية صغيرة، مركبة على فرش مستطيل الشكل له عجلات يتحرك بها العيار فوق سكة حديد بحذاء الكراكة، فعند انتقالها إلى جهة الأمام مثلا، ينتقل العيار موازيا لها، ويرفع ما يتركه خلفه من القضبان، ويؤتى بها أمامه ليمر عليها.

وكان العمل جاريا بهذه الكراكات فى تعميق حفر الخليج وتوسيعه فى غير جهة «القرش» على حسب ما تقرر فى الرسم المجعول لذلك.

وأما فى جهة القرش فاستعملوا طريقة أخرى بسبب ارتفاع أرض شاطئ الخليج، وهى أن الطين الذى تخرجه قواديس الكراكات، كان يلقى فى صنادل من حديد، تتحرك تلك الصنادل بآلة بخارية، فمتى ملئ الصندل؛ يذهب به المهندس إلى المحلات المنخفضة فى بركة التمساح البعيدة عن مجرى الخليج، فيحرك آلة ينفتح بها باب فى أسفل الصندل، فينصب الطين فى البحر ويقفل الباب بعد ذلك، ويرجع الصندل عقب تفريغه ليملأ ثانيا ويخلفه غيره وهكذا.

وفى الزمن الذى كانت تلك الكراكات تشتغل فيه بتعميق الخليج على القدر المطلوب، كان العمل جاريا فى بناء الهويسات (الأحواض) الواقعة أمام الإسماعيلية على فرع الاتصال بين الترعة الحلوة والخليج المالح. وكان كل من المقاولين الأخر مهتما بإتمام عمله، فكان «دسوبيك» يصنع صخورا من الرمل والجير المائى مقدار كل صخرة منها عشرة أمتار مكعبة، ووزنها عشرون

ص: 237

طونولاطة، والطونولاطة: اثنان وعشرون قنطارا مصريا ونصف قنطار تقريبا، فبلغ وزن الصخرة الواحدة نحو أربعمائة وخمسين قنطارا، وكل ما يجف من الصخور ينزله فى البحر حيث أراد.

وكان يبنى الموالص على حسب الرسم والشروط التى عقدت لذلك، وقد شرحنا عمل الصخور المذكورة فى الكلام على مدينة بورت سعيد، مع التفصيلات الواضحة. فليراجع ذلك من يريد الوقوف على كيفية عملها.

وكان المقاول الثالث «كوفورو» يجرى توسيع الخليج فى أرض القرش، وجلب إلى ذلك آلات بخارية تشبه الكراكات، فكانت تحفر الأرض الجافة، وتلقى الأتربة فى عربات سكة الحديد فتصعد بها إلى أعلى ارتفاع ثم تلقيها، وكانت الهمة حاصلة من الجميع فى أشغالهم إلى أن ظهر الوباء فى أواخر سنة 65 بنواحى البرزخ، فحصل بطء فى سير الأعمال نوعا، ولكنه لم يقف بالمرة، ولما زال الوباء رجع العمل إلى مجراه الأول مع الاجتهاد ليلا ونهارا فى بناء الهويسات، فأكملت فى سنة 66، واتصلت مراكب النيل بالخليج المالح، وسهل عبور المراكب من البحر الرومى إلى البحر الأحمر، وأشاعت ذلك الشركة فى كافة بلاد الدنيا، فهرع إلى البرزخ عالم كثير من مندوبى الشركة التجارية وغيرهم، وأكثر تجار الروم المرور بين البحرين فى الخليج المالح والترعة الحلوة، فى مراكب صغيرة مشحونة بمواد الشغالة والسلع التجارية، وصاروا يبيعون عليهم وعلى سكان المحطات، وتسبب عن ذلك كثرة توارد العملة على محطات البرزخ، فاستعملهم المقاولون فى حفر خليج البرزخ بين بحيرة التمساح والسويس، فحفروا هذا الجزء بلا صعوبة إلى مقدار عظيم من عمقه، ولما وصل العمل إلى جهة «الشلوفة» الكائنة بتلك المسافة، وجدت فى أثناء الحفر طبقة من الحجر، فرتبوا فيها ستمائة نفس من عمال اللغم، فقطعوها إلى العمق المطلوب، وكان ما يقطع ينقل إلى خارج الخليج، ويلقى على الأرض منقولا فى عربات سكة الحديد.

ص: 238

ولما أتموا هذه الأعمال ملأوا هذا الجزء بمياه النيل من فرع من الترعة الحلوة، جعلوه عند الموضع المعروف باسم «سيرابيوم» بين هذه الترعة وخليج البرزخ متصلا بهما، وبعد ذلك أحضروا الكراكات من بورت سعيد، ومروا بها من الهويسات فى الترعة الحلوة وأدخلوها فى هذا الجزء، فعملت فى تعميقه مثل ما عملت فى الجزء الأول الواقع بين بورت سعيد والإسماعيلية.

فلما كان شهر مارث سنة 69، توجه الخديوى إسماعيل باشا إلى البرزخ ليشاهد أعماله، فركب فى وابور زيّنوه له بجميع بيارق

(1)

الدول، ومر من بحر إلى آخر، وتعجب مما رآه من تلك الأعمال، وحرر تلغرافا فى 18 شهر مارث سنة 69 إلى نوبار باشا ناظر خارجيته بباريس، يخبره فيه بتوجهه إلى البرزخ ومروره فى خليجه، وحرر «دولسبس» أيضا تلغرافا إلى إمبراطور فرنسا يبشره بتمام العمل، ونجاح الأمل، فأجابه الإمبراطور يهنئه ويبلغه سلام الملكة قرينته، وفى تلك/السنة سافر الخديوى المشار إليه إلى أوربا، وزار عاصمات ممالكها، ودعا ملوكها وأعاظم رجالها إلى وليمة افتتاح خليج البرزخ للتجارة العامة، وشاع ذكر ذلك جميعه فى كافة الممالك.

[مظاهر الاستعداد لافتتاح خليج البرزخ][قناة السويس]

فكثر توارد السفن التجارية بالمتاجر المختلفة على بورت سعيد، حتى بلغ مشحون الوارد سنة 69 مائة واثنى عشر ألف طن وستمائة وستة عشر طنا، بعد ما كانت حمولة الوارد منها على هذه المدينة سنة 69 ستة آلاف طن، وكثر كذلك توارد الناس على البرزخ، وسكنوا فى نواحيه. وبلغ عدد المتوطنين فى جهاته إلى غاية سنة 69 نحو أربعين ألف نفس، منهم عشرة آلاف فى بورت سعيد وخمسة آلاف فى الإسماعيلية، وثلاثة آلاف فى القنطرة، واثنان وعشرون

(1)

البيارق: الأعلام.

ص: 239

ألفا فى باقى المحطات، أربعة آلاف منهم عمال وشغالة فى الكراكات والورش والمخازن وغيرها.

وتبدلت المبانى الدنيئة التى كانت أولا فى بورت سعيد مثل: الأخصاص والأكواخ، بأبنية فخيمة من الآجر والحجر ما بين قصور وسرايات، وجعلت بها الشوارع والحارات المستقيمة المتسعة، وتعددت بها الدكاكين ومواضع القهوة والمشروبات وبيوت المسافرين، وكثرت بها البضائع المتنوعة، والتجارات المختلفة من وارد البلاد الأوروباوية والصين والهند واليمن وغيرها. وزادت قيمة الأرض فيها حتى بلغ ثمن المتر الواحد أربعة جنيهات، وكثر طلب الراغبين البناء فيها، فكانت كل يوم فى ازدياد، وحدث فى مدينة الإسماعيلية مثل ذلك، فانتقلت أيضا من الحالة الوحشية القفرية إلى الحالة التمدنية الإنسية، كما هو مشاهد بالعيان لكل إنسان.

ولما أمر الخديوى إسماعيل باشا بإبطال سكة الحديد المارة بين القاهرة والسويس فى الجبل، ونقلها إلى جسر الترعة الحلوة، [مبتدئة]

(1)

من الزقازيق ومنتهية إلى السويس، أمر بعمل فرع من هذه السكة يمر بالإسماعيلية، فيسهل الوصول منها إلى داخل القطر بسكة الحديد المذكورة وبالترعة الحلوة.

[استعداد الخديو لاستقبال الزائرين بمدينة القاهرة]

وحين حضر الخديوى إسماعيل باشا إلى الديار المصرية من بلاد أوروبا، بعد أن دعا ملوكها وعظماءها ومشاهير رجالها إلى وليمة الاحتفال بافتتاح خليج البرزخ، واتصال البحر الرومى بالبحر الأحمر كما مر، أخذ فى الاستعداد لاستقبال الزائرين.

(1)

فى الأصل: مبتدأة.

ص: 240

[إنشاء الأوبرا]

وكان إلى ذلك الوقت لم يكن بمدينة القاهرة «تياترو» ، وكان وجود ذلك مما لا بد منه لتمام الاحتفال، فصدر الأمر إلى «باولينو باشا» بأن يتوجه إلى أوربا؛ لأجل إحضار ومقاولة جماعة تياترو فرنساوية من المهرة المشهورين بجودة الألعاب، وإلى المهندس «فرنس» النمساوى الذى ترقى إلى رتبة الباشوية فيما بعد، ببناء التياترين الموجودين الآن بالأزبكية، فعمل رسوماتهما، وباشر بناءهما، وصار العمل فيهما بالليل والنهار، ولضيق الوقت الباقى لعمل الوليمة، جعل أغلب التياترو الكبير المعروف «بالأوبيرا» من الخشب، وبعد تمامهما ركب فيهما النجف والشمعدانات، وأدخل فيهما الغاز وفرشهما بأحسن المفروشات، ورتب لهما ما يلزم من الخدم.

وصار الخديوى فضلا عن ملاحظته جميع هذه الأعمال بنفسه، يعين للملوك والأمراء ما يلزم لإقامتهم من القصور والسرايات فى مدينة القاهرة، وأعد لهم من الوابورات البحرية ما يلزم لسياحتهم فى خليج البرزخ وفى النيل. وأعدّ فى كل وابور ما يلزم لمن فيه من المأكل والمشرب وغير ذلك.

وفى هذا الوقت كانت سكة الحديد تحت نظارتى

(1)

، وصدر لى أمر الخديوى بأن ركوب الوابور فى مدة الوليمة يكون مجانا على طرف الحكومة لجميع الوافدين على البرزخ ذهابا وإيابا، وباستعداد القطارات على حسب درجات المسافرين ومقاماتهم، وتحول على الشركة بالأمر الخديوى أن تهيئ محلات لإقامة المسافرين فى بورت سعيد والإسماعيلية، فبنيت على نفقة الحكومة سراية الإسماعيلية وكلفتها نحو مليونى فرنك، لأجل إقامتهم واستراحتهم زمن الوليمة، وزينت وابورات الخليج المعدّة للركوب والمرور فيه.

(1)

يريد صاحب الكتاب: على باشا مبارك.

ص: 241

[الاحتفال بافتتاح قناة السويس]

وفى 17 من شهر سبتمبر 69 قدم الوافدون على البرزخ من المدعوّين من طرف الخديوى والشركة وغيرهم، وحضرت قراليجة فرنسا وإمبراطور النمسا وولى عهد ألمانيا وولى عهد إيتاليا، وخلافهم من باقى الدول من أمرائهم وعلمائهم وتجارهم، وغير ذلك حتى غصت بهم مدينة بورت سعيد، وتغطى وجه البحر بالسفن البخارية، وتليت فى هذا المحفل الخطب المثنية على محاسن تلك الأعمال، وعلى نجاحها بأكمل حال، وأحسن منوال.

وكان الخديو يقابل كل من حضر من الملوك والأمراء ويحييه بما يليق بمقامه، وزينت المدينة والمينا وكافة المراكب الموجودة داخل القنال وخارجه، وعملت وليمة فاخرة لسائر المدعوّين، وانقضت تلك الليلة فى سرور وأفراح وأنس وانشراح، وفى الصباح/ركب كل من الزائرين ما أعدّ له من الوابورات، وساروا فى الخليج مسرورين بما شاهدوه وابتهجوا بما عاينوه.

ولما وصلوا إلى الإسماعيلية نزلوا فيها وأقاموا بها ليلة قضوها فى زينة وملاعب نارية، ومأكولات لذيذة شهية، ورقص وطرب وغير ذلك مما يفضى إلى العجب، فكانت ليلة لم يسبق لها مثيل، حضرها ما يفوق عن مائة ألف نفس من داخل القطر والبرزخ، خلاف من حضر من البلاد الأجنبية، وكان عددهم قدر ذلك إن لم يكن أكثر، شحنت بهم الخيم والصواوين والمنازل والوابورات.

وفى صباح تلك الليلة قامت الوابورات بالمسافرين، ولما وصلوا إلى وسط بحيرة التمساح، رأوا بحرا واسعا لا يرى الناظر ساحله إلا بعسر، وأعظم من ذلك البرك المرة. وأثنى الجميع على علوّ همة الإنسان، بعد أن شاهدوا هذا العمل الجسيم، الذى قلب موضوع الصحراء وقفارها إلى بحر غزير، يسير فيه أعظم المراكب التجارية والحربية، فبعد أن كانت البقاع خالية من الإنسان

ص: 242

والإنس، تغدو وتروح فيها الوحوش الضارية المضرة بالإنسان، أصبحت طريقا لانتفاعه وزيادة رزقه وخيراته.

ولما وصلوا إلى السويس لم يقيموا به غير ليلة أيضا، وفى صبحها أنعم من طرف الملوك على رجال مصر، ومأمورى الحكومة بالنيشانات، ثم ركبوا قطارات السكة الحديدية إلى مصر، ونزل كل منهم فيما أعدّ له من المحلات، وقوبل من طرف الحضرة الخديوية بما يليق به من التحية والإكرام فى المدة التى أحب إقامتها فى مصر، ومن رغب منهم السياحة فى النيل والتفرج على بلاد القطر ونواحيه، سافر محفوفا بالإكرام الزائد، وما يلزم لمقامه من الخدمة والخدم، ولازمته تلك العناية إلى أن رجع وسافر إلى بلاده. وقد وجه الخديوى كل همته إلى إكرام قراليجة فرنسا أثناء سياحتها فى النيل إلى الشلال، فأصحبها بنجله صاحب الدولة البرنس «حسين كامل باشا» ، وبأعظم رجاله سعادة رياض باشا، وعين لسفرها ستة عشر وابورا من وابورات البحر، اختص بعضها بركوب جلالتها ومعيتها، وبعضها بإحضار ما يلزم جلبه يوميا من القاهرة من المأكول والمشروب والفواكه وغير ذلك، مما تدعو إليه الحاجة، وكانت عناية الخديوى متوجهة لها فى كل لحظة بعد لحظة مدة الإثنين والعشرين يوما التى قضتها فى هذا السفر، إلى أن عادت مسرورة مشروحة الخاطر ممنونة مما لاقته من العناية والإكرام، ولم تزل تحفها هذه العناية حتى ركبت البحر، وسارت إلى بلادها. وقد طار ذكر هذا المهرجان حتى ملأ البقاع، وتحدث الناس فى ترتيبه ونظامه ومصرفه، لأنه فريد فى ذاته، لم يجر على مثال سابق عليه. والذى تعجب الناس منه غاية العجب هو استعداد «موسيو يوسف بنطلينى التليانى» المتعهد بمأكول جميع من حضر هذا المحفل، كل إنسان على حسب مقامه، فكان هو ورجاله يؤدون الخدمة بغاية النشاط والانتظام، مع مراعاة الواجب والأدب، وكان الناس يتعاقبون على السّفر الإفرنجية والعربية فوجا بعد فوج، وفى كل مرة تتغير أدوات السّفرة بغيرها، وتقدم ألوان الأطعمة

ص: 243

على التعاقب فى أسرع زمن، مع مراعاة مقتضيات خدمة كل سفرة عربية كانت أو إفرنجية، واستمرت هذه الحالة فى الخيم والصواوين والوابورات، وجميع المحلات المعدة لذلك مدة أربع عشرة ساعة، والذى صرفته الحكومة للمتعهد المذكور فى مقابلة المأكول والمشروب ولوازمهما من أدوات ومهمات وخدمة، وخدم، هو مبلغ مائتين وخمسين ألف جنيه بنتو. وهذا خلاف أجر نقل مهماته ورجاله ذهابا وإيابا، فإنها كانت على الحكومة أيضا.

وقد بلغ ما صرف على هذا المهرجان من أجر سفر أشخاص ومنقولات ومأكولات وغير ذلك: مليونا وأحد عشر ألفا ومائة وثلاثة وتسعين جنيها إنجليزيا، فلو أضيف إلى ذلك أجر سكة الحديد، وما صرف على وابورات البحر فى النيل والخليج المالح، وما صرفته الحكومة على المبانى فى مدن القنال والقاهرة وثغر الإسكندرية وغيرها، وما صرف فى الزينة ومهماتها، وشراء عربات ومهمات للسكة الحديدية لأجل المهرجان المذكور، لبلغ مصرف هذا المهرجان ما يزيد على مليون ونصف من الجنيهات، وذلك قدر السدس من إيراد مصر سنة كاملة.

تم الجزء الثامن عشر، ويليه الجزء التاسع عشر.

أوله: رياحات وأباحر وخلجان وترع المديريات التى بالوجه البحرى والقبلى لوادى النيل بمصر.

ص: 244