الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مدينة إسكندرية
لم يوجد فى الأقطار المصرية من المدن الشهيرة التى حفظ المؤرخون حوادثها وقيدوها فى كتبهم مثل مدينة اسكندرية، وإن لم يبق من آثارها القديمة إلا القليل، ولعل سبب حفظهم لحوادثها وإطنابهم فى آثارها، أهمية موقعها عند من حكموا الديار المصرية وغيرهم بالنسبة للتجارة، التى بلغت فيها درجة علائقها الغاية عند جميع الأمم المتفرقة بسواحل البحر الأبيض، فبتلك الواسطة صارت تخت المملكة متسعة الأطراف، قد مدّت شجرة العلوم فيها أغصانها، واتسعت دائرة المعلومات البشرية فى مدارسها، وانجلت غياهب الشك عن حوادثها من ذلك الحين، وصار كل ما سطّر فى صحائف أوراق كتب التاريخ يكشف عن حقائق صحيحة بالنسبة لأحوال هذه المدينة وغيرها، ويبين لنا أسباب خرابها وخراب ما حولها، بذكر التقلبات والحوادث التى كانت تمتد من أطراف هذه الجهة إليها فتعطل أسباب الرزق من المزارع والمتاجر وغيرها.
ولذا نجد فى الكتب وصف أبنية عجيبة وآثار غريبة كانت بهذه المدينة وغيرها من مدن الوجه البحرى، وإن لم يبق الآن منها ما يدل على ما كانت عليه هذه المدينة من العزّ فى الأزمان الماضية.
ولنذكر لك نقلا عن السلف ما شاهدوه وما علموه من أمرها، وكيف انقلب الدهر عليها على حسب الترتيب الزمانى، ليعلم القارئ سلسلة تلك التقليات وما حدث فيها من خير وشر، ويعرف قدر ما كانت عليه من العز والأسباب التى أزالته عنها فنقول:
المدة الأولى
بقيت الديار المصرية رافلة فى حلل سعدها وعزها قرونا عديدة، والعلوم فيها زاهية زاهرة حين كانت الأمم الأخر سابحة فى بحار الجهل، وذلك كان قبل بناء إسكندرية، التى لم يظهر ذكرها إلا بعد انحطاط درجة مدينة منف وخرابها.
وأقوال المؤرخين مضطربة فى تقدير مدة التقدّم فى هذا القطر، والوقت الذى ابتدأ فيه ظهوره، ولكنهم متفقون على أن منشأه شواطئ النيل، ثم انتقل منها إلى ما جاورها من البلاد التى على سواحل البحر الأبيض.
وكانت مصر زمن الفراعنة كعبة
(1)
يحج إليها طلاب العلم من كل جهة، ويقيمون بمدارسها ويتلقون عن علمائها وأحبارها، إلى أن دخل قمبساس
(2)
هذه الديار وجعلها ضمن مملكة الفرس سنة 525 قبل الميلاد فأخذت فى الخراب من ذلك العهد، وتهدمت أبنيتها، ودمرت مدنها، وامتدت يد الظلم والجور على العلماء والمدرسين، فتلاشى أمر التقدم والعلم، وانحط قدر الأمة المصرية، وصارت المعلومات والتقدمات ممنوعة عن السير-جميع مدة الفرس-كما أطبق عليه جميع المؤرخين.
والرومانيون تلك المدة كانوا فى أوائل ظهورهم، فكانت دولتهم فى مهد الطفولية لا ذكر لها أصلا، بخلاف الأروام فإن التقدم الذى غرسه المصريون فى جزيرتهم-زمن الفراعنة-أخذ فى أهبة الظهور عندهم، وكان لا يوجد فى موضع إسكندرية غير قرية صغيرة تسمى (رقودة) كان يسكنها قبل الفراعنة نفر
(3)
من العرب.
(1)
فى الأصل: كقبة.
(2)
يعنى: قمبيز.
(3)
فى الأصل: خفر.
المدة الثانية
وهى سنة 193؛ ومن حين استيلاء الفرس على هذه الديار إلى دخول إسكندرية وتغلبهم على مصر، لم ير فيها غير فتن داخلية أضرت بالقطر، وترتب عليها فقر الأهالى وإهانة العلم وأهله، ولم يلتفت إلى أهمية موضع إسكندرية أصلا، وبقيت قرية (رقودة) خامدة الذكر. ومن النصر المتتابع للجيوش الرومية فى محاربتها جيوش الفرس قويت شوكتهم، وعظمت صولتهم، وزادت شهرتهم، وأخذت شجرة العلم التى غرسها المصريون فيهم تتسع وتعظم تبعا لعظم قدرهم.
وعلى قدر عز الروم ذلك الفرس وتفرقت بها الفتن، واضمحل حالها، وساقها إلى الزوال سوء/تدبيرها. ولما حلّت الأروام محل الفرس أقاموا زمنا طويلا منفردين بالحكم على باقى الأمم.
ثم انحطت دولة الروم بمثل الأسباب التى كانت للفرس، ولمجاورة روما لهذه الأمة كانت تقتبس من معارفها، وتتحلى بفضائلها، حتى صارت تأخذ الروم فى التقهقر إلى أن ظهرت ظهورها، وأخذت جميع ذكرها وملكها.
المدة الثالثة
وهى سنة 302؛ فى تلك المدة زال ملك الأكاسرة من آسيا بالكلية، ودخلت مصر فى ضمن فتوحات الإسكندر سنة 322 قبل الميلاد، بعد قمبساس بقرنين تقريبا، ونشأ عن هذا الانقلاب تغير كلىّ فى أحوال جميع الأمم المتمدينة
(1)
التى تغلب عليها الإسكندر؛ لأنه
(1)
فى الأصل: بالمتدينة.
نظر فيما يوجب ربط علائق هؤلاء الأمم، فلذا أسس مدينة الإسكندرية وسماها باسمه، وجعلها مركزا للتجارات بدل مدينة صور التى هدمها وخربها، فوردت إليها التجارة، وعمرت فى مدة يسيرة، وملأها الأغراب، سيما الأروام، وبلغت فى مدة قريبة درجة عظيمة فى الثروة والعمار؛ بسبب كونها مقرّ حكومة البطالسة، وانحط بها قدر منف.
وبسبب تحلية ملوك البطالسة لها بالمبانى والمعابد والمدارس، صارت مدينة إسكندرية مركزا لجميع أمور العالم، وشاع ذكرها حتى ملأ الآفاق، وقصدها جميع الناس، فاتسعت حدودها، وعظم أمرها، وفاقت جميع مدن الدنيا فى تلك الأزمان، وانتقل إليها العلم والعلماء، وصارت مركزا للعلم والأدب كما كانت مركزا للتجارة والسياسة، وبقيت كذلك تلك المدة الطويلة رافلة فى حلل العزّ؛ لما اشتملت عليه من علوم المصريين والروم وتمدنهم، فكانت كالشمس يستضئ بها كل إنسان من أى بقعة، ونسى بها غيرها من المدن.
وفى أغلب تلك المدة كانت مدينة روما فى حال التبربر، فأطلقت عنان طمعها، وخربت مدينة قرطاجة وكرت بجيوشها على ما جاورها، فاتسع سلطانها باستيلائها على القلواء وجزائر الروم. ولم تكتف بذلك بل قصدت الممالك المشرقية، ومن ذلك الوقت بدا فى الكون ذكرها، واستمر ذلك إلى وقت قيصر الروم (أغسطس).
ولنذكر لك ملخص تاريخ تقلبات هذه المدة وحوادثها، من ابتداء إسكندر الأكبر إلى زمن دخول قياصرة الروم فنقول:
مطلب تقلبات الأحوال من ابتداء إسكندر الأكبر إلى زمن قياصرة الروم
بعد موت الإسكندر صارت قسمة مملكته المتسعة بين رؤساء جيوشه، فكانت مصر فى نصيب (بطليموس
(1)
بن لاغوس)، وكان أعظم الجميع عقلا وأكملهم فضلا، فأسس دولة البطالسة سنة 323 قبل الميلاد.
وذكر المؤرخون أن بطليموس المذكور أخو إسكندر من السّفاح؛ لأن (أرسينوى)
(1)
الصحيح «بطلميوس» مع مراعاة ذلك عند تكرار الاسم فيما بعد. انظر: إبراهيم نصحى، تاريخ مصر فى عصر البطالمة، ج 1، ص 50 - 95 ط. الثالثة، القاهرة 1966.
والدة بطليموس هذا ولدته من (فليبش) الذى هو والد الإسكندر وملك مقدونيا، وهو الذى زوّجها إلى (لاغوس) والده، وكان من نسل أحد العامة، وكان بطليموس هذا من أعز أحباب إسكندر، وصاحبه فى جميع حروبه واشتهر بلقب (سوتير) أى المنجى؛ وسبب ذلك-كما قال بعضهم: أنه نجّى أهل جزيرة رودس من ظلم (ديمتريوس) ملكهم، فلقبوه بهذا اللقب. وقال آخرون: سبب ذلك أن نجاة الإسكندر كانت على يديه فى وقعة من وقعات الهند، فمن ذلك لقب بهذا اللقب.
وبطليموس هذا كان صاحب تدبير، وعقل وافر غزير، فلذا كان ابتداء جلوسه على تخت الديار المصرية آخذا فيما يوجب لملكه الدوام والبقاء، وصارفا جل همته فى استمالة قلوب المصريين، فنشر فيهم ألوية العدل والإنصاف، وأوسع لهم فى العطاء فأحبوه، ولاذ بساحته أغلب الرجال من ذوى العقل من رجال الإسكندر وغيرهم، وتوصل لعقد معاهدات مع حكام الجهات المجاورة لملكه، فاستقام حال مصر، واستبشر أهلها بالأمن والراحة، ونمّت فيهم الثروة التى كانت رحلت من بلادهم منذ زمن مديد. ولم يمض عليه زمن يسير إلا وقد ظهرت ثمرة حسن رأيه وإصابته؛ فإن (بيردنكاس
(1)
أحد أقرانه فى مدة الإسكندر، رغب فى أخذ مصر منه وحزب عليه جيوشا، لكن اخترمته المنية أثناء ذلك، وبقى بطليموس مستريحا بعد هذه الفتنة التى كانت نتيجتها دخول بلاد القدس ضمن سلطنته لحفظ القطر المصرى من عدوّ يقصده من الشام، وربط به معاهدات صار بها مستقلا فى مصر وما والاها من بلاد العرب وبلاد ليبيا التى فى حدود مصر، ومن ذاك الحين صار مالكا متصرفا لا يعارض، وبذل الجهد فى إتمام مقاصد إسكندر من تمكين تجارة المشرق والمغرب من أرض مصر.
وفى زمنة وزمن من أعقبه فى الملك، كثر ورود التجارة الهندية إليها، بسبب ما حدث فى سواحل البحر الأحمر من المين
(2)
العظيمة، والمسالك الموصلة لتلك التجارة إلى نيل مصر، لتمر فى مدنها حتى تصل إلى إسكندرية وتنقل إلى أوروبا. ومن تلك المسالك:
(1)
الصحيح «برديكاس» . انظر: المرجع السابق، ج 1، ص 58.
(2)
جمع ميناء.
الخليج الذى كان يوصل إلى السويس بالنيل فى الأزمان القديمة، والطريق المنتظمة فى الصحراء الشرقية فى الوجه القبلى، بين النيل والقصير، وجعل فيها الصهاريج والخفراء لأمن المارين والمترددين فى تلك الفيافى، فكانت المصريون ترسل تجارتها ومحصولاتها المعتادة:
كالصوف والحديد والرصاص والنحاس، وبعض أوان من الزجاج وغير ذلك إلى بلاد الهند وتستبدل تلك الأنواع/بالعاج والأبنوس والصدف، والثياب الملوّنة وغير الملوّنة، وأنواع الحرير واللؤلؤ والأحجار الثمينة، والبهارات وأنواع البخور.
مطلب بطليموس الثانى
كانت أيام بطلميوس بن لاجوس كلها، بالنسبة لمصر، أيام رفاهية وتقدم، وظللت أرض مصر أجنحة السعد، وأخذت الأهالى فى ازدياد الثروة.
ثم لما تقدم فى السنّ خاف على ملكه من بعده، فأشرك معه فى حكمه ولده من زوجته الثانية، وقدمه على أولاده الذين قد رزقهم من الأولى ليدرّبه على سياسة الملك، فكان الأمر بينهما بالسوية إلى أن توفى بعد ذلك بسنتين وذلك سنة 283 قبل الميلاد، فاستقل بالحكم بعده ولقب (بغيلادلقوس
(1)
أى محب الإخوة؛ لأن بعض المؤرخين ذكر أنه اجتهد فى استمالة قلوب إخوته فلقب بذلك. وذكر بعضهم أنه قتلهم واحدا بعد واحد بحيل مختلفة، فلقبه أهل إسكندرية بهذا اللقب، تهكما واستهزاء. ومع ما فيه فقد اقتفى أثر والده فيما يجلب لأهل مصر السعادة، فنمت التجارة والمعارف فى أيامه نموا شهدت به التواريخ.
والمدة التى كانت ورثة إسكندر تشعل فيها نار الحروب وتسوق بها الجيوش، إلى أن خربوا جميع جهات آسيا، كان فيها بطليموس المذكور مشغولا بما يوجب رفاهية أهل مملكته، فأوسع دائرة التجارة والفلاحة، ووزع مياه النيل على الأراضى بإنشاء حلجان وجسور، حتى اكتسب بذلك شهرة لم تمحها حوادث الزمن.
(1)
الصحيح «بفيلادلفوس» . انظر: تاريخ مصر فى عصر البطالمة، ج 1، ص 95 - 120.
مطلب الكتبخانة
واعتنى بالعلم وأسس الكتبخانة، التى أطنب فى مدحها المؤرخون، وصارت فريدة يقصدها الناس من الآفاق، ولم تزل فى ازدياد إلى زمن كليوباترا، فحرق أغلبها فى محاصرة قيصر بمدينة إسكندرية.
وفى زمنه أحضر كتبا كثيرة من كتب العبرانيين، بناء على إشارة رئيس الكتبخانة، وكتب إلى رئيس أحبار بيت المقدس، فطلب ستة أحبار من كل قبيلة من قبائل العبرانيين الإثنى عشرة، ولما حضروا عنده أكرمهم وغمرهم بإحسانه، فترجموا له توراة موسى عليه السلام سنة 271 قبل الميلاد بمدينة إسكندرية، فى المكان المعروف بجامع الألف عمود، وهى النسخة الأصلية التى أخذ منها جميع نسخ التوراة التى فى أيدى الناس.
وفى تلك الأيام كانت الأغراب كثيرة بديار مصر؛ لأنه من وقت وفود إسكندر وبنائه إسكندرية كانت الأغراب تتوارد، وكثرت الأروام وأهالى السواحل الشامية بالإسكندرية، وكانت التجارة بأيديهم فتأكدت العلائق بين المصريين وغيرهم من أهل المغرب.
وملك الرومانيين حينئذ، وإن كان قد أخذ فى الظهور، لكن شهرته كانت محصورة بإيطاليا، ولما اشتهرت حروبهم وشاعت ووصلت أخبارها مصر، رغب بطليموس فى تجديد علائق المحبة بينه وبينهم، فعمل معهم شرائط الاتحاد فمن ذلك الوقت دخلت الرومانيون ضمن من دخل مصر، واتجروا واستوطن أكثر الواردين منهم إسكندرية كغيرهم.
وفى تلك المدة كانت الغلواء
(1)
، وهم المسمون الآن بالفرنساوية، تشن الغارات على الأمم البعيدة، وبالجملة أغاروا على الرومانيين، ودخلوا أرض اليونان وآسيا وأرض مصر.
وبسبب تجلدهم على القتال كان منهم قوم فى جيش بطليموس، وقوم فى جيوش إسكندر.
وفى مدة غياب بطليموس رفع أربعة آلاف منهم لواء العصيان عليه، وهمّوا بنزع الحكومة منه، فلم ينجحوا وقهرهم بطليموس، فحصروا أنفسهم فى إحدى جزائر النيل، ولما تحققوا
(1)
الغلواء: يقصد الغال.
عدم الخلاص قتل بعضهم بعضا، حتى لم يبق منهم أحد وفى عقب ذلك جمع (أنتكورس
(1)
طيوس) ملك الشام عساكر كثيرة، وهجم على ديار مصر لدولة البطالسة حسدا منه، ثم انتهى الأمر على الصلح بينهما.
وسبب ذلك أن فئة من المصريين كانوا قد خرجوا عن الطاعة، فعظم ذلك الأمر على بطليموس ولكنه تداركه بتزويجه بنته لملك الشام، فانحسم أمر النزاع وزال ما كان فى النفوس.
لكن لم يتمتع بطليموس بثمرة هذا الصلح زمنا طويلا، فإن موت زوجته (أرسينوى) أخته أوجب تعجيل منيته، لفرط حزنه عليها. وكان موته سنة 246 قبل الميلاد.
مطلب بطليموس الثالث
وجلس بعده على تخت الملك ابنه بطليموس الثالث ولقبه (أويرجيت) أى المحسن، وسبب تلقيبه بذلك؛ وأنه أحضر معه بعد رجوعه من حرب الفرس أصناما كثيرة من أصنام آلهة قدماء المصريين، وكانت أخذت من المعابد زمن (جمشيد).
ومن ذلك يعلم أن المصريين-كانت فى تلك الأزمان-تغيرت عن حالها القديم وداخلها الطيش والخفة، فإن بطليموس هذا كان غير مستحق لهذا اللقب؛ فإنه كان مشتغلا بالحروب فى بلاد بعيدة، ولم يسر سير أبيه، بل أهلك مال الدولة فى تلك الحروب، وأتلف رجالها، ونقصت درجة ثروة الإقليم عما كانت أيام أبيه وجدّه.
وجميع هذه الحروب التى فى سواحل الشام، والفرات، والعجم، وحدود آسيا منشؤها أمر واه، كانت تسويته ممكنة بدون سفك دم، وذلك هو الانتقام لأخته من زوجها ملك بلاد الشام؛ لأنه كان هجرها. وهذه الحروب لولا أنهم تعصبوا عليه بمصر لدامت، لكنه لما رأى ذلك رجع وأطفأ نار الفتنة، وبعدها بقليل مات مسموما بواسطة أحد أولاده،/ وذلك سنة 220 قبل الميلاد.
(1)
يقصد «أنطيوخوس «Antiochos - انظر: تاريخ مصر فى عصر البطالمة، ج 1، ص 117 وما بعدها.
مطلب بطليموس الرابع
وتولى بطليموس الرابع الذى قتل أباه وتلقب ب (فيلوباتور) أى محب الأب، لقبه بذلك أهل الإسكندرية تهكما، وكانوا من أشد الناس عنادا وأقربهم للفتنة انقيادا، ومع ذلك فتلقييهم له بهذا اللقب مما يدل على جراءتهم، فإنه وإن لم ير فى تواريخ تلك المدة ما يثبت بطريق قطعى أن هذه الفعلة حصلت منه، لكن ما وقع منه بعد جلوسه على التخت فى عائلته الملوكية يحقق ذلك؛ لأنه لم يكتف بقتل أخيه وأخته-التى كان متزوجا بها-بل قتل والدته أيضا، واحتظى بامرأة فاجرة لجمالها، فلقبوه أيضا ب (تريفون) أى الجبار الشديد القسوة لقسوته وفجوره، فلم يرتدع بل ازداد طغيانا، وفسادا، وفجورا، وفسوقا وقسوة، وانهمك فى اللذات والمعاصى، وترك أمور الملك، وأكثر من ظلم الرعية، وأجحف فى طلب الأموال، فتلاشى حال مصر.
وكانت أخبارها تصل إلى ملك الشام (انتيكوس الثالث) أولا فأوّلا، فظن أن الوقت وقت الانتقام من البطالسة، فجرد على مصر، لكن لم تساعده المقادير فانهزم أشنع هزيمة.
وبقى بطليموس بعد ذلك سبع عشرة سنة وهو فى لهوه ولعبه، وما عمل شيئا يستحسن ذكره، غير تجديد المعاهدة التى عقدها أجداده مع الرومانيين، إلى أن مات سنة 204 قبل الميلاد.
مطلب بطليموس الخامس
وترك الملك لولده بطليموس الملقب ب (أبيغان) أى المحترم، وكان عمره حين موت أبيه خمس سنين، فحدثت فتن واضطرابات داخل البلاد؛ لأن والدته من فجورها أخفت وفاة أبيه مدة طامعة أن تكون السلطنة لها، واتحدت مع أخيها وبعض أخدانها، وهمت بقتل ولدها، فعلم بذلك أهل الإسكندرية، فأخذوه منها قهرا وجعلوه تحت رعاية الرومانيين، وقتلوها مع من اتفق معها أشنع قتلة.
ومن ذلك يعلم أن كلمة الرومانيين كانت بلغت عند المصريين حد الاعتبار. وكانوا تداخلوا فى أمور بيت ملك المصريين، حتى كان يحتمى بهم، ويمتثل رأيهم.
ولصغر سن بطليموس أقاموا له وليا، وكانت الأمور فى اضطراب، فنتج من ذلك أن صاحب الشام اهتم فى أن يسترد البلاد التى كانت بطالسة مصر اغتصبتها منه، فرأى أنه إن زوّج ابنته لبطليموس الخامس، جمع بين العائلتين ووصل لمرغوبه، ففعل ولكن خاب ظنه؛ فإن كليوباترا-بنته-فضلت زوجها عليه، ولم تساعده على قصده، ومع ذلك لم تتحصل على شكر صنيعها من زوجها، بل تمادى على الفجور، والفسق، واللهو واللعب، إلى أن قتل مربيه ووزيره (أرسومين) بالسم، وكان مربيه-هذا-شريفا فى قومه فاضلا.
ومن شدة قسوته وتجبره قامت الأهالى فى حياته مرارا، وطفئت نار الفتن جميعها بواسطة رئيس جيوشه. وأخيرا اتفقت جماعة من رجال الدولة فقتلوه وخلصوا الملك من شره سنة 180 قبل الميلاد.
وأعقب من زوجته ولدين وهما (فلومطور)(وفسكون) وكان عمر الأول-حين مات أبوه-سبع سنين فاختارته الأهالى، وجعلت أمر السلطنة موكولا إليه.
مطلب بطليموس السادس
وكان بطليموس السادس لا يحب أمه، لميلها لأخيه مدة ملكه، ولذا لقب بلقبه الذى معناه: محب الأم. وفى صغره استحوذ ملك الشام على بلاد فلسطين وغيرها من بلاده.
ولما تملك مقاليد الملك جرّد عليه وحاربه، فلم ينصر عليه وأخذ أسيرا، وتغلب ملك الشام على قلعة الطينة، ودخل مصر فقام أهل الإسكندرية وجعلوا عليهم (فسكون) ملكا، فلم يحاربه ملك الشام، وخلى سبيل بطليموس (فليوباتور) من الأسر، وسلمه جميع البلاد-التى كان أخذها منه-سوى قلعة الطينة، فإنه حفظها ليكون بسببها واقفا على حقيقة ما يصير بأرض مصر، وما يقع بين الأخوين، وينتهز فرصة عداوتهما لبعض.
هذا ما كان منه، وأما هما، فاتفقا وأقاما فى الملك سوية، فخاب ظنه، وقهره الرومانيون على ترك مصر والرجوع إلى بلاده.
ثم بعدة ذلك وقعت الفتن بينهما، وحزّبا الأحزاب واقتتلا، فغلب (فيلامتور) وطرد (فسكون) ففر إلى روما، والتجأ بها، فاغتنمت الرومانيون فرصة الشقاق؛ لأنها كانت تطمع فى الاستيلاء على مصر، فتوسطت بينهما، وحكمت (لبطليموس فيلوباتور) بالأقطار المصرية وجزيرة رودس، ولأخيه (فسكون) ببلاد ليبيا وبلاد السيرانك، أى القيروان، فلم يقنع بذلك بل ذهب إلى روما وطلب جزيرة قبرص، فحكموا له بها.
كانت تلك الحالة باعثة حكومة الرومانية، على أن تدخل فى أمر الديار المصرية دخولا تاما.
وبسبب فصلها قضايا البطالسة، اتسعت دائرة سطوتها، وقويت شوكتها فى هذه الديار. ومن ذلك الوقت نفذت كلمتها فى حكومة المصريين، فمهدت طرق الطمع فى الاستيلاء عليها. وقد حصل-ولا شك-أن عدم الاستقامة وكثرة الظلم ينشأ عنهما كثرة الفتن.
وهذا كان حال مصر والشام؛ فإن (إسكندر بلاص) أحد الأمراء، طرد ملك الشام عن ملكه، واتحد بملك مصر، ورغبا فى تمكين علائق الاتحاد بين أولادهما بتزويج إسكندر المذكور بنت بطليموس، فرضى بذلك، ثم عدل عنه فيما بعد وزوجها من (سورتير) ملك الشام المطرود، وجمع عسكره مع عسكره، وطردوا (بلاص) المذكور، واستقر صهره على ملك أبيه بالديار المصرية والديار الشامية، ونشأ عنها استيلاء إسكندر بلاص.
ثم/بعد تمهيد الأمر، تزوج ملك الشام بإبنة ملك الملوك المجاورة له، فحنقت عليه زوجته، ودخل فى نفسها من جهته ما دخل. وبعد موته أرادت قتل ولدها-الوارث للملك عن أبيه بالسم، رغبة منها فى التصرف فى بلاد الشام، وجعل ابنها الثانى الصغير بدله، فلم ينجح مكرها؛ فإن ولدها-ولىّ العهد-اطّلع على ذلك، فأسقاها السم الذى كانت أعدته له.
ومن ذلك يعلم أن (بطليموس فيلاماتور) أراد أن يفعل بحكومة ملك الشام ما أراد فعله ملك الشام قبله بحكومته، فخاب قصد كل منهما. وبعد ذا بقليل مات بطليموس سنة 145 قبل الميلاد، وبعد ما بلغه موت إسكندر بثلاثة أيام جلس على التخت، ولقب نفسه بالمحسن، ولقبه أهل الإسكندرية بالمسئ؛ لأنهم يعرفونه قبل بالفسق والقسوة.
والذى مكنه من الجلوس على التخت: أن بطليموس لم يترك غير ولد صغير، وهو الحقيق بالجلوس، لكنه أبعده وجلس هو. لكن شرط عليه أهل الإسكندرية شروطا منها:
بأنه يتزوج بأخته زوجة أخيه، وأن يكون ابن أخيه ولىّ عهده، فأظهر القبول وفى يوم زفاف زوجة أخيه له، ذبح ولدها فى حجرها، فلما رأى أهل البلد ذلك قاموا عليه، فهرب إلى جزيرة رودس، فتنصبت بعده زوجته.
ثم بعد ذلك بمدة رجع وطلقها، وقدم لها على المائدة قطع ولدها التى كانت أتت به منه، وتزوج بإبنة أخيه (فيلاماتور) وبقى بعد ذلك يتنوع فى الفجور إلى أن مات قبل الميلاد سنة 117.
ومدة تملكه، كانت تسعا وعشرين سنة، ولم تنقطع الفتن فيها.
وذكر بعض المؤلفين، أنه ألف تاريخا لمصر، لم تعثر الناس منه إلا على القليل.
وأعقب من ابنة أخيه ولدين-غير ولد له من السفاح-كان أعطاه بلاد القيروان، ومات هذا الولد ولم يعقب، وكان قد أوصى ببلاد القيروان للرومانيين، فوضعوا عليها أيديهم، وبهذه الطريقة كان أخذها من البطالسة، وصارت من هذا العهد من ضمن ملك الرومانيين، وبسبب قوبها من الديار المصرية، ازداد تداخلهم فى أمور مصر وقوى طمعهم فيها.
مطلب بطليموس الأصغر
وكانت الملكة كليوباترا ممتثلة لجعل الملك لأصغر ولديها بطليموس إسكندر، وكان أهل الإسكندرية لا يوافقونها على ذلك، بل يميلون إلى الأكبر، فوافقتهم على ذلك ظاهرا
لا باطنا، وأسرت إلى (إسكندرجانى) ملك اليهود أن يعينها، فأجابها وأرسل لها عساكر، وحصلت وقعة عظيمة بينه وبين بطليموس، ثم انهزم ملك اليهود وخابت مساعى كليوباترا، ومع ذلك فلم ترتدع، بل أخذت فى ازدياد المكر والحيل، حتى قهرت ولدها الأكبر على الفرار إلى جزيرة رودس، وأقام بها، وتخلى عن السلطنة لأخيه الأصغر. فلم يمض غير يسير حتى طلبته للحضور، فلما حضر خاف على نفسه، وخشى أن تكون والدته مضمرة له سوءا، فعجّل عليها وقتلها، ففزعت الأهالى من ذلك، وقاموا عليه وطردوه سنة 91 قبل الميلاد، وبعد مدة قليلة قتله أحد الملاحين، وانقطع ذكره من ذاك الحين.
وبقى أخوه-بطليموس الأصغر-منفردا فى الملك ثمانية وستين سنة، وحصل فيها سنة 81 قبل الميلاد فتنة عظيمة فى الجهات القبلية من مصر، فجرد عليها جيوشا وحاربها، وانتصر عليها. لكن من بقى من رجال الفتنة انحاز لقوم آخرين، ودخلوا مدينة طيبة، وتحصنوا بها، فحاصرهم بطليموس ثلاث سنين، على ما قيل. ثم انتصر عليهم، وبدد شملهم، وهدم المدينة وشتت أهلها.
مطلب كليوباترا
وبعد موت بطليموس لم يكن له غير بنت تسمى (برينيس).
وسميت كليوباترا، جريا على عادة بيت البطالسة، فورثت والدها فى الملك، وجلست على التخت وأقامت ستة أشهر بدون منازع. وبعدها حضر فى مدينة الإسكندرية من طرف (سلا) رئيس جمهورية الرومية، أحد أولاد بطليموس، وكان اسمه إسكندر الأول، وكان قد ترقى عند ملك البون. ولما بلغه موت بطليموس توجه إلى روما، والتجأ إليها وحضر بمساعدة إلى مصر، ومعه مكاتبة بجعله ملكا على أرض مصر، باسم بطليموس العاشر؛ حيث أنه الأحق لأنه الأقرب لبطليموس من الرجال، فلم ترض المصريون بذلك، ولكن خافوا حصول فشل، فاتفقوا على أن يزوّجوه بكليوباترا، ويكونا معا فى الملك فتزوجها
وبعد قليل قتلها، فغضب أهل المدينة وحقدوا عليه ما فعل. ومن خوفهم من (سلا) لم ينتقموا منه عاجلا وما زالوا منتظرين الفرصة حتى مات سلا، بعد أيام قليلة، فقاموا عليه، ففر منهم إلى مدينة (صور) سنة 65، ومات فيها بعد زمن يسير، وجعل فى وصيته الديار المصرية للرومانيين، ومع هذا لم يتعجل الرومانيون وضع أيديهم عليها. وأسباب ذلك غير معلومة، لكن يقال إن الأمة المصرية تلك المدة، كانت آخذة فى الضعف، والرومانيون كانوا منتظرين تمام ضعفها، سيما، وهى المتصرفة فى أمر الدولة المصرية وبيدها الحل والعقد، فكانت آمنة من نقلها من يدها، جازمة بأن مصر تؤول إليها، حتى أنه لم يكن للبطالسة إلا الإسم، والدليل على ذلك أن تولية البطالسة كانت برأى الرومانيين، وأغلب أموال مصر تذهب إليهم على سبيل الرشوة، وكانت أفراد العائلة الملوكية المصرية تتسابق فى العطايا فكان/الرومانيون ينتصرون للأكثر عطاء.
وترك (بطليموس) غير ابنته (بيرنيس) ولدين من السفاح، فأحضروا أحدهما وقلدوه الملك، ولقب بأوليت (الناياتى) وجعلت جزيرة رودس للثانى، وكانت-إلى ذاك الحين- لم تفصل عن حكومة مصر، ولكن حكم الرومانيون بانفصالها، وأسسوا ذلك الحكم على وصية إسكندر، وأرسلوا من طرفهم (كاتون) لإتمام هذا الأمر، فلم يقبل المصريون هذا الانفصال، بل جعلوا رودس تابعة لمصر كما كانت، وسعى (بطليموس) بالمال عند الرومانيين حتى تم له ذلك، وتعاهد معهم، وعد من أحبابهم بواسطة حبيبيه (قيصر وبومبيوس) فإنه دفع لهما ستة آلاف طالان هدية، وهى عبارة عن مليون وخمسمائة ألف بينتو، وضربها على البلاد المصرية، فضجروا ضجرا شديدا، ونتج من ذلك خروج الأهالى عن طاعته وطردهم له، وتولية بنته (بيرنيس) بدله، فذهب إلى روما وأقام بها زمنا، حتى استمال قلوب أكثر أمرائها بالمال.
وطال عليه الحال هناك وابنته غير غافلة فإنها تزوجت بأكبر القسس بمملكة البون، وتمكنت فى مكانها. ولما رأى والدها أن إقامته بروما غير مفيدة ذهب إلى الشام، ودفع أموالا
إلى رئيس الجيش الرومانى، ووعده بعشرة آلاف طالان إن هو ساعده، فساق الجيوش على مصر، فقابلتهم جيوش مصر واقتتلوا، فمات فى تلك الواقعة زوج (بيرنيس).
مطلب رجوع بطليموس إلى ملكه
ورجع بطليموس إلى ملكه، وجلس على التخت، وأخذ يظلم ويتعدى ويجمع ما وعد به من المال وقتل ابنته بيرنيس، وبقيت الديار المصرية فى الهوان، إلى أن مات سنة 51 قبل الميلاد، وترك ولدين وبنتين. وكان قد أوصى قبل موته، بأن الملك من بعده يكون للبكرىّ من أولاده وأكبر بنتيه.
وحيث أنه كان متعاهدا مع الرومانيين، وتحت كنف (ديوبوس) ترجاه فى تنفيذ ذلك، وجعل أولاده تحت رعاية الأمة الرومانية. فلما مات اتحد ابنه البكرىّ مع أحبابه وأقاربه، واتفقوا على طرد أخته كليوباترا من حكومة مصر، فانحاز لها طائفة من الأمراء والأعيان، وتحزبوا، وقاموا على أخيها، فاشتعلت نيران الفتن فى جهات مصر.
وفى تلك المدة كانت نيران الحروب مشتعلة بين (بومبيوس) و (قيصر) رئيس الجمهورية، وفى الواقعة الأخيرة كان المهزوم (بومبيوس) ففر إلى مصر. وبالنظر للألفة التى كانت بينه وبين بطليموس المتوفى، ظن أنه يأمن على نفسه فى الإسكندرية، وبناء على هذا وصل بمراكبه إلى الطينة، وكان هناك (بطليموس) فحيا رسله، وأكرمهم، فاطمأن خاطر بومبيوس، لكن فى الحال أحضر (بطليموس)(أشيلاس) أحد رجاله، وأمره بأن يتوجه إليه ويكون معه، وأمره بقتله عند انتهاز فرصة، فتوجه إليه وقابله، فكان الرومانى آمناليس محترسا، وخرج من سفينته، وركب زورقا بمفرده، ورغب الخروج إلى البر، فقبل أن يصل انفرد به (أشيلاس) وقتله.
ولما بلغ قيصر أن (بومبيوس) قصد جزيرة رودس، ظن أنه يتوجه بعد ذلك إلى مصر، فسبقه إليها لينتظره هناك، وأخذ معه ثمانمائة من الخيالة سوى البيادة، ولما وصل (1) يقصد أخيلاس. انظر: إبراهيم نصحى: تاريخ مصر فى عصر البطالمة، ج 1، ص 273.
صعد بعسكره إلى مدينة الإسكندرية، فلما رآه أهلها لا يوقر ملكهم، غضبوا وهجموا على عساكره، فقتلوا منهم جملة فى طرق المدينة، فعظم ذلك على (قيصر) وتحفظ على نفسه إلى أن تحضر العساكر-التى أمر بحضورها من جهة آسيا-للقصاص من أهل الإسكندرية، ولأخذ حقوق الرومانيين منهم بناء على وصية (بطليموس) المتوفى، وفصل النزاع بين الأخ وأخته فى الحكومة، وأمر بترك القتال، وطرد العساكر، وإحضار الأخ وأخته ليفصل بينهما، فلم يرض بذلك (قوتان) وكيل (بطليموس) حتى يصير رشيدا، وظن أنه يقدر على طرد قيصر وعساكره، وأرسل سرا إلى العساكر التى بالطينة لينجدوه. ولما حضروا، وبلغه قدرها، علم أنه لا يقدر على مقاومتها، فتحصن بالمكان الذى كان به مع عساكره، وحبس نفسه منتظرا حضور العساكر الشامية لنجدته.
وأما (أشيلاس) فوقع بينه وبينهم واقعات كثيرة، حرق فيها جزء عظيم من الكتبخانة الكبرى التى جمعتها البطالسة فى المدد الماضية. وأما كليوباترا فلم تتأخر عن شئ يوصلها إلى قيصر، وبذلت له المال وعرضت نفسها عليه، وكانت ذات جمال، فتعلق بها وواقعها فحملت منه، وأتت بغلام وسمته (قيصروم
(1)
فمال إليها قيصر، ودافع عنها، وكان لكليوباترا هذه أخت تسمى (أرستوى
(2)
وكانت متحدة بأحد الأمراء، فحصل منه-تحت ظل اسمها- أمور غيرت قلوب الأهالى، فعرفوا أن مقصودهما زيادة اشتعال النار؛ لتخلو لهما الدار.
ومن طول مدة الحروب تعطلت تجارتهم، وكثرت المصائب، وزاد اشتعال نار البغضاء بين بطليموس وأخته، وصار قيصر يقلّب عليهم جميع أنواع الحيل، التى لم تفده شيئا، وأخيرا صار الاتفاق معه على أن يطلق ملكهم (بطليموس) فرضى بذلك وأطلقه، فلم يسع بعد الاطلاق فى إخماد نار الفتن بل ازدادت. وكانت العساكر التى طلبها (قيصر) حضرت، فقصدها قيصر بعساكره لينضم لها، فتوسط بينهما (بطليموس) ليمنعهما عن الانضمام، فوقعوا وقعة قتل فيها كثير من الطرفين، وهزمت العساكر المصرية، وقتل/ (بطليموس) غريقا سنة 47 قبل الميلاد، وبقى (قيصر) متصرفا فى مصر جميعها بما فيها الإسكندرية، وأقام كليوباترا ملكة مع أخيها، فما رضيت، وطلبت منه أن يرسله إلى جزيرة رودس،
(1)
الصحيح «قيصرون» . انظر: ابراهيم نصحى: تاريخ مصر فى عصر البطالمة، ج 1، ص 287، ط 3، القاهرة 1966.
(2)
الصحيح «أرسنوى» . المرجع السابق، ج 1، ص 286.
ويتزوج بأخته (أرستوى) فأرسله بعد زواجه. ثم بعد مدة قتل، فقامت زوجته وأعلنت بالحرب مع قيصر، فحاربها وغلبها، وأخذها أسيرة إلى مدينة روما، وطيف بها فى طرق المدينة فماتت غيظا، وبقيت كليوباترا وحدها على سرير ملك مصر، من ابتداء سنة 37 قبل الميلاد بدون منازع.
وأعقب ذلك موت قيصر، فاتهموها بأنها ساعدت من قتله، فطلبها (انتوان) رئيس الجمهورية، للمرافعة والمدافعة عن نفسها، فقامت وتحلت بأحسن ما عندها من الحلى والملابس، وركبت فى مركب مزينة بالذهب، ومجاديفها من الفضة، وقلوعها من الحرير، وسارت فى نهر سيدنوس، وكانت الفرش التى معها من أقمشة الذهب. وليلة دخولها صنعت وليمة فاخرة، وتجملت بجميع ما يزيد فى جمالها، ثم دعت (انتوان) فلما حضر ورآها، أخذت بقلبه من أول وقوع بصره عليها، ورغب فى تزوجها، وإن كان متزوجا ب (اوكتافى) أخت (أوغسطس) فكان ذلك داعيا لقيام الحرب بينهما؛ محتجا (أوغسطس) بأنه ينتقم لأخته، وكان قد أشركه (انتوان) معه فى الرئاسة، فحصلت معركة انهزم فيها (انتوان) ففر إلى مصر ليكون مع صاحبته كليوباترا، ويكتفى بها، فلم يمكنه (أوغسطس) ولحقه فلم يتخلص (انتوان) منه إلا بقتل نفسه، ولحقته كليوباترا أيضا؛ لأنها لم تتحصل على صيد (أوغسطس) بشرك مكايدها، واستعملت الطرق التى استعملتها مع (قيصر وأنتوان) فلم تنجح، وخافت على نفسها أن يأخذها مع الأسرى إلى روما، فقدّمت الهلاك على العار، واستحضرت حية، ووضعتها فى سبت فيه تين، على ما قيل، وعمدت إليها بيدها فلدغتها، وماتت فى وقتها.
وبموتها انتهى ملك البطالسة، ودخلت مصر تحت حكومة الرومانيين، وصارت مديرية كباقى المديريات، يحكم فيها وال من طرف الجمهورية الرومانية.
هذا، وإن كانت الفتن فى المدد الأخيرة. لم تنقطع؛ وسببها ذرية البطالسة، وعداوتهم لبعضهم التى هى نتيجة الوراثة. وكانت الرومانيون دائما، تتداخل فى أرض (1) يقصد أوكتافيا. انظر: إبراهيم نصحى: تاريخ مصر فى عصر البطالمة، ج 1، ص 297.
مصر، ووصلت لأن تجعل أمر تولى الوارث للملك بمعرفتها، لكنها غير مانعة من تقدم العلوم والمعارف، بل ما زالت مدينة الإسكندرية متقدمة فى العلوم فى مدة كل منهم. وكان التقدم سائرا نحو الأوج، ولما انضمت إلى الرومانيين، وصارت تابعة لدولتهم وقفت العلوم، واضمحل حال مصر، ورجعت إلى أسوأ ما كانت عليه فى زمن الفرس.
وكانت أعياد المصريين ومواسمهم، فى زمن البطالسة، على قديم عادتهم، وكان المستعمل فى نقش الآثار والهياكل، هو الكتابة المقدسة. ولما كثرت الأروام بتخت البطالسة، كانت عقائد الروم داخلة معهم فى الديار المصرية، سيما فى الإسكندرية، وباختلاطهم بالمصريين، تولدت عقائد جديدة، تخالف عقيدة الأصليين، فبذلك تبدلت الحكم المصرية بغيرها، وصارت أوهاما وشعوذة، لا يمكن الوقوف على صحيح القواعد التى هى أساس الديانة المصرية فى الأزمان القديمة.
وفى مدة قياصر الرومانيين، بلغ الظلم غايته، واحتقروا الديانة المصرية، حتى ضاعت من أصلها وابتدئ فى تخريب العمارات، ونقلها إلى أوروبا، من ابتداء استيلائهم، فنقلوا الهياكل والأحجار المكتوبة، والمسلات التى كانت مدن القطر الشهيرة متحلية بها؛ كطيبة، ومنف، والإسكندرية، وظهرت فى روما وفى القسطنطينية الآثار التى اعتنت بتشييدها الفراعنة أمام معابدهم.
المدة الرابعة
وهى سنة 393، فى هذه المدة دخلت الديار المصرية فى حيازة القياصرة، بدون أدنى مشقة، ومع ذلك كانت الفتن الداخلية باقية، فتسبب عنها تخريب بعض مبانى الإسكندرية، سيما دار الكتب؛ فإنها تلف منها مقدار عظيم، بعضه بالحرق، وبعضه بالنهب، وذلك من أنفع الكتب ونادرها، التى كانت البطالسة جمعتها مدة سلطنتهم بالديار المصرية. ولحق العلم وأمكنة تدريسه، من الإهانة ما لحق غيره، وانحطت درجة مدرسة
الإسكندرية، التى كانت هى المشار إليها بأطراف البنان، مدة اعتناء البطالسة بها ورعايتهم لها.
وبقى الاضمحلال يزداد-طول المدة الرابعة-إلى سنة 364، فانقسمت المملكة الرومانية، ولكن بقيت الإسكندرية حافظة لبعض مزاياها، فكانت هى الثانية بعد روما؛ لأن روما تقدمت عليها واستولت على سكانها.
وبظهور الديانة المسيحية، وإقرار القياصرة لأهلها عليها، وإحاطة قياصرة القسطنطينية برعايتها، أخذت مدينة الإسكندرية تنتقل عن حالها القديم، وكثر التغير فى جميع أمور أهلها، بظهور المدرسة المسيحية، المؤسسة فيها على المدرسة القديمة، وباستمرارها على سيرها فى نشر العلوم والفوائد، انفردت بالشهرة، واشتهرت بذلك الإسكندرية بعض شهرة.
ولكن الفتن كانت دائمة فى خلال تلك المدة، وكانت أمور العلم مضطربة، وازداد الاضطراب بغارات (زنوبيا) ملكة تدمر، على ديار مصر سنة 265 بعد الميلاد، وسبب ذلك أن (أودنيات) صاحب/تدمر كان ساعد جيوش الرومانيين مساعدة عظيمة، حين حربهم (لسابور) ملك الفرس، فمكافأة له على ما بذله، عدّ من الرومانيين، وجعل ملكا على تدمر، سنة 264 ميلادية، ثم توفى بعد مدة وترك ولدين ذكرين، فلم تكتف والدتهما (زنوبيا) بملك تدمر، بل طمعت فى مملكة الرومانيين المشرقيين جميعها، ولقبت ولديها بالقيصرية، وتلقبت بلقب القراليجة. وطمعت فى جميع الولايات المشرقية، مع أنها كانت تحت يد الرومانيين، وجهزت جيوشا وأغارت بها على مصر، ووضعت يدها عليها، ووقع بينها وبين القيصر (أورليان) وقعات، انتهت على أخذ مصر من يدها وطردها، فتبعها القيصر المذكور فى بلادها، واستولى على تدمر نفسها وهدمها سنة 270.
فباشتغال دار الحروب الداخلية والخارجية، توقفت أسباب الثروة والرفاهية بالديار المصرية. وحيث كانت إسكندرية ميدان حروب الأحزاب، تخرب أغلب مبانيها، وأزيل أغلب آثارها.
وفى تلك المدة كان تمام ظهور الديانة العيسوية، فإنها ظهرت مدة قيصر الروم (أوغسطس) ثم اشتهرت وانتشرت بمملكة الرومانيين، التى من ضمنها مصر.
وأول من حضر للديار المصرية، ونشر بها الديانة المسيحية، المقدس (مارك) تلميذ المقدس (القديير) وكان حضوره سنة 43 ميلادية، ونشر بها إنجيله، الذى كان ألفه بروما، تحت نظر المقدسين، وتبعه خلق كثير من المصريين والإسكندرانيين، فأسس لهم كنيسة عرفت بكنيسة إسكندرية.
وبسبب أن أعين المخالفين لهذه الديانة هم الأمة بتمامها، ومنهم القياصرة، كانوا ينظرون إليها نظر احتقار وإهانة، فصارت من عهدها عرضة لجميع أنواع الإهانة والذل فى كل جهة، وصدرت أوامر من الدولة بضبطهم وقتلهم، فتركوا المعمور، وفروا إلى الصحارى، وسكنوا المغارات المنحوتة فى الجبل المقطم، وجبال الأقاليم القبلية. واختاروا تلك الحالة على ترك اعتقادهم، وبعضهم بنى ديورا وأقام بها، وتعرف جميعها إلى الآن ب (ديورانطون).
والذى سل سيف الهوان على النصارى، وبالغ فى أنواع تعذيبهم، أكثر من غيره، من القياصرة، القيصر (ديوكليتيان
(1)
خصوصا فى أرض مصر، وسيأتى شرح ذلك إن شاء الله تعالى.
المدة الخامسة
وهى سنة 277، كان فيها تقسيم الدولة الرومانية، ونتج من ذلك فوائد كثيرة للقطر المصرى، سيما إسكندرية، منها: اضمحلال الدولة الرومانية المغربية بقيام الأمم المتبربرة عليها. ومنها: اشتغال الأروام بالعلوم والتقدم، فلم يمنعهم عنها تهاون القياصرة وإهمالهم لها، وتصديهم للمجادلات الدينية. ومنها: تسلطن المعارف البشرية فى مملكة المشرق، ومنها: حفظ مدينة إسكندرية لدرجة عظيمة فى التقدم مشتهرة بها بين المدن.
(1)
هو الإمبراطور دقلديانوس. انظر: سعيد عاشور: أوروبا العصور الوسطى، ج 1، ص 30 - 31؛ إدوارد جيبون: اضمحلال الإمبراطورية الرومانية، ج 1، ص 460 - 470.
وأما الديانة العيسوية، فكانت آخذة فى الانتشار فى مملكتى المشرق والمغرب، وعظم شأنها بمدينة إسكندرية. ومن كثرة الجدال الذى كان يحصل بين علمائها وبينهم، وبين أضدادهم، تمكنت قواعدها وعظم حزبها بإسكندرية ومصر. ومن تسلط يد العدوان والقسوة على المتدينين بها فى جهات المغرب، هاجر كثير منهم لمصر، وسكنوا صحاريها وبنو بها الديور، فنشأ عن ذلك وعن عداوتهم لديانة المصريين، تهديم المعابد، وتخريب الهياكل، وتعذيب رجالها بأنواع العذاب، فتضعضعت أركانها، وزال بذلك أكثر مبانيها الفاخرة، التى كانت تباهى بها مدن الأقطار، خصوصا إسكندرية، فإنه حصل بتخريبها إزالة الآثار القديمة منها.
فمن ذلك يعلم أن أكثر التخريب سببه لهذه الديانة الناسخة للديانة المصرية العتيقة والوثنية المتولدة عنها فى زمن البطالسة وقياصرة الروم الأول. فأغلب ما حصل فى القطر من الأمور، التى تغيرت بها أحواله وأحوال أهله ينسب إليها، فإن التغير الذى به دمرت المبانى، وخرّجت الأهالى عن طباعها وعوائدها وأخلاقها، لا ينسب إلا لها.
وبقيت الديار المصرية تتقلب على لظى المظالم المتنوعة، إلى أن ظهرت فرقة دينية، انفصلت عن كنيسة روما والقسطنطينية، وأخذت تتقوى، واستقلت بالإسكندرية، وبعدها بقليل، سرت إلى باقى الديار المصرية، ونشأ عنها جميع المصائب لمدينة إسكندرية.
ومع ذلك لم تنحط فى جميع هذه المدة عن درجتها التجارية.
وما سنذكره من الآثار، هو ما بقى منها بعد المدد الثلاث، التى تعاقبت على الإسكندرية، أى مدة البطالسة، والقياصرة الأول، وقياصرة القسطنطينية.
وقبل ذلك نورد ما وقع من الديانة العيسوية بالديار المصرية، فنقول: إن الديار المصرية-حين القسمة-صارت من نصيب (ديوكليتيان) فكان له مملكة الشرق، وكان حاكم هذه الولاية قبل القسمة أميرا رومانيا، اسمه (أشيى) وكان يطمع فى القيصرية، ولما لم ينلها، رفع لواء العصيان فى مدينة إسكندرية، وتلقّب بقيصر بين الأهالى والعسكر، وبقى
متمتعا بهذا اللقب خمس سنين، إلى أن صارت الدولة المشرقية من نصيب (ديوكليتيان) فحضر بالجيوش/إلى إسكندرية، يريد الانتقام من حاكمها، فدخلها، وقبض على الحاكم وقتله، ونهب بيوت الأهالى، وجميع البلاد التى دخلت تحت لواء العصيان، وعمّ النصارى بجبروته زيادة عن غيرهم؛ فإن مأمورى الحكومة جمعوا منهم أناسا كثيرين، نحو ثمانين ألف نفس، وساروا بهم إلى مدينة إسنا، وقتلوهم هناك عن آخرهم بأمر القيصر.
والكنيسة الموجودة هناك، بنيت محل المعركة لتخليد ذكرها، وهذه الوقعة كانت سنة 284 من الميلاد، وجعلتها نصارى مصر مبدأ تاريخ لهم.
ثم بعد موت (ديوكليتيان) المذكور و (عالير
(1)
الذى أخذ القيصرية بعده، زالت السحب عن سماء الديانة العيسوية، وسوعدت كل المساعدة بشمول نظر القيصر (قسطنطين) من وقت جلوسه على تخت قيصرية المشرق.
ومع هذا، فقد تشعبت الديانة فى هذه المدة إلى مذاهب وفرق، بسبب الاختلاف الذى حصل بين رجالها فى بعض قواعدها، ونشأ من ذلك تعدى الفرق على بعضها، وهلاك خلق كثيرين، ونتج منه فشل عظيم بالديار المصرية وغيرها.
وكان عدد الفرق فى مبدأ القرن الرابع من الميلاد خمسا وخمسين، ولكن-لهذا التاريخ-كانت جميعها متحدة فى الأصل، ولو اختلفت فى الفروع. ومعظم الأسباب التى نشأ عنها تفرق تلك الديانة إلى فرق وشعوب: دخول قيصر الروم (قسطنطين) فى دين النصرانية، وجعل هذا الدين وحده هو دين الحكومة القيصرية دون غيره من الأديان.
فمن ذلك العهد كثرت المجادلات الدينية، وتضعضت أركان الدولة، واضمحلت قوتها، وكان عاقبة ذلك طمع الأقوام المتبربرة فيها، التى وفدت من الجهات الشرقية والشمالية وأول من قاسى مشاق هذه الشعوذات الديار المصرية.
(1)
الصحيح «جاليريوس» أشركه دقلديانوس فى الحكم، وهو الذى أغرى دقلديانوس باضطهاد المسيحيين. انظر: إدوارد جيبون: اضمحلال الإمبراطورية الرومانية وسقوطها، ج 1، ص 465، دار الكاتب العربى للطباعة والنشر، القاهرة 1969.
مطلب فى ذكر أريوس، ومناقضته مع غيره
ظهر فى إسكندرية رجل يقال له (أريوس)، وفى كون أصله من القيروان أو من إسكندرية خلاف، وكان قد بلغ درجة عالية فى العلوم وعرف بالفصاحة فى زمن (أسبين) وكان لين العريكة، طلق اللسان، عذب الألفاظ، فبسبب هذه الأمور، تحصل فى زمن هذا الحاكم على أن يكون قسيسا فى كنيسة من كنائس إسكندرية، وبقى فيها إلى موت (أشيىّ) ثم قام وطلب أن يكون بطريقا بإسكندرية لموت البطريق الذى كان فيها، فاختلف الناس فى ذلك، ثم اختاروا (إسكندر) وقلدوه البطريقية، فبغضه وعاداه من ذلك الحين، وصار ينسب إليه ما يشينه فى كل مجلس، مع كونه متصفا بحميد الصفات، وحسن العقيدة. فلما لم يجد (أريوس) بدا من نيل أغراضه، غير أسلحة عدوانه، وأخذ يذم عقيدته، وينسبه للجهل.
وكان فيما يدرسه (إسكندر) للقسس: أن الإبن يساوى الأب، وأن مادة الاثنين واحدة، فعلى هذا يكون التثليث وحدة بلا خلاف، فنقض (أريوس) هذا عليه، وقال:
إن كان للولد علوق، فبالضرورة يكون له أول، وقد مر زمن لم يكن فيه موجودا، فيكون وجوده بعد عدم، فلم تكن مادته مادة الأب.
وفى مبدأ الأمر نصح (إسكندر)(أريوس) لعله ينتهى، فلم يزدد إلا طغيانا. ودخل معه فى رأيه ومذهبه كثير من الأهالى، فلما رأى (إسكندر) منه ذلك طرده من وظائفه، فنشأ من ذلك: أن قام كل حزب على الآخر، فكان ذلك فى كل مدينة وقرية، من القطر المصرى، وصار لا يسمع غير محاورات ومناقشات فى هذا الشأن، وصار كل بيت أو مجمع كأنه مدرسة، لا يسمع فيه إلا المباحثة، فأنتج ذلك كون عامة الخلق الذين عادتهم أن يميلوا مع الغالب، صاروا تارة مع هذه الفرقة، وتارة مع الأخرى.
وحيث أن الحزب لا يقوى إلا بميل الحكومة لمذهبه، فكانت الأهالى عرضة للإساءة، ودخل الفشل جميع البيوت، وقامت أفراد العائلات على بعضها، وعادى الأخ أخاه، والأب ابنه.
وعمت هذه البلوى جميع الديار المصرية، من أقصى الصعيد إلى إسكندرية، فلما بلغ قسطنطين أمر بانعقاد جمعية من رؤساء الديانة، لفصل الكلام فى المسائل الخلافية، وكان ذلك فى سنة 325 من الميلاد، فاجتمع من الأحبار جمع عظيم بمدينة أزنيق، التابعة لولاية بروسه، وسألوا فى المسئلتين الموجبتين للاختلاف:
الأولى: فى أى يوم يكون عيد الباك (عيد الفصح)؟
والثانية: هل مادة الإبن غير مادة الأب كما يزعم (أريوس) وحزبه، أو هما من مادة واحدة، كما تعتقد الطائفة الأخرى؟
وكانت جميع الأساقفة، وأحبار الأمة النصرانية، مجتمعة ما بين مشرقيين ومغربيين، وحضر (أريوس) وشرح مذهبه، وأقام البراهين عليه، فكان تارة يستدل بعبارات الإنجيل، وتارة يسبح فى بحور الفصاحة ويغوصها، ويستخرج منها درر المعانى، ويكلل بها تاج مذهبه، حتى بهر عقول الحاضرين.
وكان بالمجلس شاب من تلامذة بطريق إسكندرية، والمقربين عنده، يقال له (عطاناز
(1)
فقام، وأخذ يقيم الأدلة على بطلان ما ادعاه (أريوس) ويتكلم على كل دعوى بما ينقضها من أسها-سواء كانت معقولة أو منقولة-حتى تحول جميع من/بالمجلس عن مذهب (أريوس) فيه، وحكموا بفساد عقيدته، وجعلوا لعنه ولعن من اتبعه، ضمن الصلوات فى جميع الكنائس.
وأما عيد باك (عيد الفصح) فقرروا وقته يوم الأحد الذى يعقب الهلال الجديد، الذى يهل بعد الاعتدال الخريفى، ونشر ذلك فى جميع أرجاء المملكة الرومانية.
(1)
الصحيح «إثناسيوس» . انظر: إدوارد جيبون: اضمحلال الإمبراطورية الرومانية وسقوطها، ج 1، ص 618 - 644. مع مراعاة ذلك عند تكرار الاسم.
وكان المظنون أن تطفأ بذلك نار الفتن، فلم يحصل، لأن طائفة (أريوس) لم تترك معتقدها، بل بقيت عليه وتمكنت فيه، واشتغلت بنشره، وترغيب الناس فيه وترجيحه، فثارت الفتن فى الديار المصرية. وصار أهل إسكندرية فريقين: فريق على مذهب (عطاناز)، وكان قد بلغ رتبة البطريقية، وفريق على مذهب (أريوس).
وأهل هذا المذهب، كانوا دائما ينظرون فى الأسباب التى تقوى مذهبهم، ويحتالون على استمالة قلوب الأمراء، والأعيان، وأرباب الكلمة، فبلغوا بذلك إلى قبول كلامهم لدى القيصر، وتكلموا فى حق البطريق بأمور مخلة، فغضب عليه، ونفاه إلى ناحية طريف من بلاد الأندلس، فأقام بها ستا وأربعين سنة، يتقلب بين أنواع الإساءة.
ومع هذا لم يزل متمسكا بمذهبه، مدافعا عنه، إلى أن رضى عنه القيصر (قسطنطين) سنة 336، ورده إلى وطنه، فلم يقنع بذلك، بل دبر فى إزالة البطريق عن وظيفته، فجاءه هادم اللذات، فمنعه عن إتمام ما أضمر عليه فى تلك السنة.
وبقيت فرقته-بعد-تثير الفتن والشقاق، وكان فيهم كثير من أصحاب الكلمة، فبذلك لم تزل هذه الفرقة تزداد مدة ثلاثة قرون متوالية.
وكانت الديار المصرية، تتقلب فى ثياب الشعوذات الدينية، وخصوصا بدخول القياصرة ضمن هذه الفرق، واشتراكها معها.
ومن حين انقسام المملكة الرومانية بين (ولانتينيان
(1)
وأخيه (والنص
(2)
سنة 363، وانفصال مملكة قسطنطين من مملكة روما، واشتهارها بالمملكة الشرقية، اتسعت الفتن باستتباع كل من الأخوين فريقا، وعادى كل منهما أرباب المذهب الآخر، فكان بمصر (والنص) وهو تابع مذهب (أريوس)، فانحط قدر مذهب (عطاناز) وعدّ أتباعه خوارج، كفارا، وقست عليهم الحكام وأمراء الدين.
ومن تفرقهم واختفائهم فى بلاد الريف، لحق الأهالى ضرر لا مزيد عليه؛ فإنه كان
(1)
الصحيح «فالنتينيان» . انظر: اضمحلال الإمبراطورية الرومانية، ج 2، ص 124،123،121؛ ج 3، ص 297.
(2)
الصحيح «فالنز» . انظر المرجع السابق، ج 1، ص 630،624.
لا يمر أحد ببلد إلا اتهمه أهلها بأنه من أتباعه، وعاقبوه بالضرب، والقتل، ونهب المال، فصار هذا لم يسمع بمثله فى مدة عبادة الأوثان ولا فى غيرها.
وفى عقب فتنة من الفتن، صدرت أوامر من القيصر (طيوروز)
(1)
سنة 388 من الميلاد، بهدم جميع المعابد القديمة بمدينة إسكندرية، وأخذ ما فيها من حلىّ الذهب والفضة، وإعطائه للكنائس.
والفرق التى ظهرت بعد فرقة (أريوس)، وهى فرقة (نستيربوس
(2)
، ومن اعتقادها: أن جوهر عيسى عليه السلام، مركب من جوهرين: إلهى، وبشرى، وأن العذراء ليست والدة له.
وفرقة (أنتيشيس)؛ وهذه تجعل الجوهر الإلهى والبشرى واحدا فى المسيح عليه السلام.
وفرقة (المونوفيزتية)، وهذه لا تجعل للمسيح غير إرادة واحدة، وقد انضم لها القيصر (هيراكليوس) وانتصر لها، وجعلها المعتمدة فى جميع جهات مملكته، وألف كتبا فى ذلك، ونشرها بين الناس، وشغل جميع أوقاته فى ذلك، وترك أحوال المملكة وسياستها.
وهو-وإن كان أصله من طائفة العسكر، وخلّص الملك من يد الظالم (قوكاس
(3)
وتولى مكانه-إلا أنه كان يكره الحرب بطبعه، فأهمل أمر الجيوش حتى تلاشت قوة المملكة، وطمع فى ملكه خسرويه-ملك الفرس-وزحف بعساكره، وأخذ من ملكه عدة ولايات منها: مصر، والشام، وبلاد فلسطين، وذلك سنة 616، فخاطبه (هيراكليوس) فى الصلح، ورضى أن يفرض له على نفسه جزية، فلم يقبل خسرويه منه ذلك، وزحف على بيت المقدس وأخذه، ونقل خشبة الصليب منه إلى بلاده، وطلب من (هيراكليوس) ورعاياه أن يتركوا الديانة العيسوية، ويتدينوا بديانة الفرس. فغضب (هيراكليوس) وجرد جيوشه، وتلاطم مع خسرويه فكسره وأخذ منه الخشبة، ورجع إلى بلاده، واشتغل
(1)
الصحيح «ثيودوسيوس» . انظر: اضمحلال الإمبراطورية الرومانية، ج 1، ص 499، ج 2، ص 510،247، 513.
(2)
الصحيح «نسطوريوس» . انظر: المرجع السابق، ج 2، ص 513،508،503،502.
(3)
الصحيح «فوقاس» . انظر: سعيد عاشور، أوروبا العصور الوسطى، ج 1، ص 107 - 109، ط 30 القاهرة 1964.
بالشعوذة أكثر من الأول، وأهمل الحكومة، فصارت المملكة الرومانية مضطربة، فى جميع جهاتها، بسبب الفتن الداخلية، والحروب الواقعة بينها وبين الفرس، إلى أن ظهر دين الإسلام بجزيرة العرب، وابتدأ نوره يكشف غياهب الجهل عن عقول سكانها، فاجتمعت كلمة المسلمين، وصاروا يدا واحدة على نصر الحق، وإعلاء كلمة الدين، فعلا الحق على الباطل، واستولى الإسلام على فارس والروم، فمن عهدها، تضعضعت أركان دولة الفرس والرومانيين، وفى زمن قريب أزيلت الفارسية بالكلية، وبقيت الرومانية على ولايات قليلة، واستولى الإسلام على أرض النصرانية، والديانة الوثنية، واستولت المملكة الإسلامية على المملكتين المذكورتين. ثم بعد زمن يسير، سطع نور الإسلام فى المشرق والمغرب، كما سنورده فى محله، إن شاء الله تعالى.
المدة السادسة
وهى سنة 329، وفى جميع المدد الماضية كانت/إسكندرية تخت ملك الديار المصرية، وإن كانت التقلبات الزمنية جلبت لها تغيرات كثيرة، وصيرتها ميدانا لفتن متنوّعة، لكنها مع ذلك، كانت أول مدينة فى القطر، إلى أن ظهرت الديانة المحمدية بأرض الحجاز، وأخذت تمتد حتى علا قدرها، وسار مسير الشمس فخرها، وطمست معالم الديانة العيسوية-بل زالت بالكلية، من جميع جهات المشرق-ودخلت الديار المصرية تحت تصرف العرب، فانتقل الفخر الذى كان للإسكندرية، إلى مدينة الفسطاط، التى أسست على شاطئ النيل.
ومن ذاك الحين، أخذت الإسكندرية فى النقص والخراب، وصارت لا تذكر، إلا كما يذكر غيرها من المدن.
ولما دخلها عمرو بن العاص، سنة 642 ميلادية، كان الخراب عم سراياتها الملوكية، وأعظم شوارعها-المسمى بروشيوم
(1)
-كان بلقعا، لا يرى فى جانبيه غير تلال من أنقاض البيوت.
(1)
الصحيح «بروشيون. «Brouchein انظر: تاريخ مصر فى عصر البطالمة، ج 2، ص 285، وهو حى القصور الملكية وكان يشغل ثلث مساحة الإسكندرية تقريبا.
ومع ذلك فكانت معدودة من ضمن المدن العظيمة، وكانت أسوارها قائمة، محيطة بها من كل جهة، على غاية من المتانة.
ومما يدل على ذلك أنها صدت الجيوش الإسلامية، ومنعتهم عن دخول المدينة مدة.
ولكن بظهور الفسطاط، وعدم إقامة الحاكم بها، تلاشت مبانيها وهدم سورها الذى بنته العرب، عوضا عن السور القديم، ولم يعمّر إلا فى القرن العاشر، زمن أحمد بن طولون، بناء على ما ذكره المكين
(1)
.
ثم إن ما بقى بها من المبانى والآثار الموروثة عن الديانة العيسوية، تسلطنت عليه رجال الديانة المحمدية، فخربوه كما أن الديانة العيسوية خربت ما كان للديانة المصرية من المعابد وغيرها، وترتب على ذلك محو أكثر آثارها، حتى صار لا يسمع به إلا فى الكتب.
وبعد انفصال الديار المصرية، صارت مملكة المشرق عرضة لتسلط الديانة المحمدية، ومن غارات جيوش الإسلام المتوالية، انفصل أكثر من نصف المملكة الرومانية المشرقية عنها، وانضمت حدودها، ومع ذلك لم تزل مملكة متسعة الأطراف إلى القرن الثامن من الميلاد.
وأما المملكة القيصرية المغربية، فقد آل أمرها إلى تقسيمها ممالك صغيرة، بعد إغارات كثيرة من المتبربرين الوافدين عليها من جهة الشمال، فكانوا دائما فى محاربات ومناوشات لا تنقطع، واستمر ذلك قرنين كاملين، فحصل فيهما لتلك المملكة مصائب لا تحصى، واضمحل حالها، وتضعضعت أركانها، حتى أتى زمن (شارلكان
(2)
وصار لها بعض اعتبار، ومع ذلك فهى فى طفولية وتوحش، لأن أهلها كانوا بمعزل عن التجارة، مع أنهم أحق بها من غيرهم، لإقامتهم بالسواحل.
وكان مركز التجارة وقتئذ لأهل المشرق والمغرب الإسكندرية، وباختصاصها بهذه
(1)
يعنى: جرجس بن العميد بن إلياس المعروف عند الإفرنج بالمين المتوفى سنة 672 هـ.
(2)
الصحيح «شارلمان «Charlemagne - وفترة حكمه من (800 - 814 م).
انظر: سعيد عاشور: أوربا العصور الوسطى، ج 1، ص 692.
المزية كانت متميزة، ودائما تتجدد فيها المبانى الفاخرة، وتزداد بها المدارس والعلوم. ولحقها من عناية الخلفاء العباسيين بعض شرف، سيما المأمون، وبقيت أعظم مدينة بالقطر إلى سنة 868، ثم انفصلت عن الديار المصرية، وخرجت عن تخت المملكة بخروج عاملها أحمد بن طولون عن طاعة مولاه.
واستمرت الديار المصرية فى هذا الانفصال والاستقلال مدة تقرب من مائة سنة، وتفصيل حوادث هذه المدة موجود فى كتب شتى مطوّلة، فليراجعها من يريد ذلك.
وأما نحن-ههنا-فلسنا نذكر إلا ملخصا لطيفا، يفهم منه سلسلتها، وما نشأ عنها.
وحيث أن أعظم شئ وأهمه منها، هو ظهور الديانة المحمدية، بظهور نبينا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكونها نتج منها جميع حوادث هذه المدة، فيجب علينا أن نذكر سيرته بأخصر كلام فنقول:
مطلب ذكر السيرة النبوية
ولد عليه الصلاة والسلام سنة 570 من الميلاد، وتربى فى حجر جده عبد المطلب، ثم بعد سنتين من عمره مات جده فكفله أبو طالب عمه، وبقى عنده إلى أن اشتد وقوى، فصار يسافر معه فى تجارته، ثم تاجر لخديجة بنت خويلد، وكانت من أغنى الناس، وسافر بمتجرها إلى الشام، فأعجبها استقامته وحسن معاملته، فتزوجت به وعمره-إذ ذاك-خمس وعشرون عاما، وعمرها أربعون، وأتت منه بثلاثة ذكور، ماتوا فى حداثة السن، وأربع بنات تزوّجن برؤساء المسلمين.
ولما بلغ عمره، عليه الصلاة والسلام، أربعين سنة، بعثه الحق، جل جلاله، لهداية الخلق إلى طريق الحق، فتبعه أبو بكر وابن عمه علىّ، وزيد بن حارثة وزوجته خديجة، ولحقهم غيرهم، فأنكرت قريش على النبى صلى الله عليه وسلم ومن تبعه معتقدهم، وهموا بقتلهم، فهاجر إلى مدينة يثرب، التى بينها وبين مكة 75 فرسخا، فى الجهة البحرية من
مكة، وهاجر بعض أتباعه إلى بلاد الحبشة، فقام أهل المدينة مع النبى ونصروه، وغيّر اسم المدينة فقال:(لا تقولوا يثرب إنما هى طيبة)، ثم صار الناس يقولون: المدينة المنورة.
واتخذ المسلمون الهجرة مبدأ تاريخ الإسلام، وسمى بالتاريخ الهجرى.
وحيث كانت هجرته-عليه الصلاة والسلام-ليلة الجمعة ستة عشر شهر يوليه الإفرنجى، سنة 622 من الميلاد، جعل هذا اليوم مبدأ تاريخهم. والسنة الهجرية: اثنا عشر شهرا قمرية، فمن هنا تكون السنة الهجرية أقل من/الشمسية بأحد عشر يوما، ويكون الاثنان وثلاثون سنة شمسية، قدر ثلاث وثلاثين سنة قمرية. فإذن ينبغى لمن أراد أن يستخرج السنة الهجرية من التاريخ الميلادى، أن يطرح من التاريخ الميلادى ما مضى منه قبل الهجرة وهو 622، ثم يضيف إلى كل 32 سنة مما بقى منه سنة فما بلغ فهو التاريخ الهجرى، مثلا لو أردنا أن نعرف السنة الهجرية الموافقة لسنة 1873 ميلادية، نطرح منها 622 سنة، التى مضت قبل الهجرة، فيبقى معنا 1251، نضيف إليه 39 سنة، وهى عدد احتواء 1251 على 32، فما بلغ فهو التاريخ الهجرى.
وقد اتخذ عليه الصلاة والسلام المدينة مركزا، وصار يعّلم الناس ويهديهم، ودخلت الناس فى دين الله أفواجا، وقدر سبحانه وتعالى أن يكون مبدأ نصرة دينه، وإعلاء كلمته، يوم هجرته من مكة، فكان ذلك هو الأساس؛ لعدول خلق كثيرين عن معتقدهم القديم، واتخاذهم دين الإسلام دينا.
وكان-عليه الصلاة والسلام-فى ذلك الحين يخطب الناس. ويبلغهم كلام الله، ولكن كان أكثرهم ينكر عليه ولا يصغى إليه، فجرّد المسلمون السيف لإعلاء كلمة الله وانتصار الدين القويم، فرفعت كلمة الله على أقوى أساس، وتمكن المسلمون بما حصل لهم من النصر المتتالى، وكثرة الداخلين فى الإسلام، ممن كانوا يعبدون الأوثان وغيرهم، فلم يلبثوا غير يسير، إلا وقد ظهر من صحارى جزيرة العرب، رجال ذوو علم وبأس، واجتمع منهم جيوش إسلامية، سطت بقوّتها وحسن تدبيرها على الممالك المجاورة من ممالك الشرك،
فعظمت سطوتها واتسعت دائرتها، وظهرت المملكة الإسلامية، وتسمى بالمملكة العربية، لا يسمع فيها مشرقا ومغربا غير التوحيد، وما يختص بدين الإسلام، وتألفت قلوبهم، وزال الشقاق والخلف من بينهم.
وفى السنة الثانية من الهجرة، حصل بينه-عليه الصلاة والسلام-وبين قريش وقعة، كان لحزبه-عليه الصلاة والسلام-فيها النصر من الله، ومع هذا، فكان عدد جنوده ثلثمائة وثلاثة عشر رجلا، وعدد جنود الأعداء ألف رجل، ومعهم مائة فرس، وسبعمائة بعير، وبعدها دخل رسول الله-صلى الله عليه وسلم-مكة المشرفة، وتمكنت قواعد الإسلام، وخضع المخالفون وانقادوا.
ومن عهدها أقبلت جميع القبائل المنتشرة فى أرض الحجاز، ودخلوا فى الإسلام، وكسرت عصىّ المخالفة، وصار الجميع تحت اللواء المحمدى، وكبرت عصابة الإسلام، وقويت شوكته، وسمع به فى أطراف البلاد المجاورة لأرض الحجاز.
مطلب معاهدة قيصر
وارتج تخت الرومانيين، وخاف القيصر (هير اقليوس) على بلاده من المسلمين، فتدارك الأمر، واجتهد فى استمالة الإسلام إلى معاهدته، وترك لهم جهة من الجهات، التابعة لحكومته من بلاد العرب-وكانت هذه الجهة تجنح للفرس-حتى أنها ساعدتهم عليه فى المحاربات، فأرسل النبى-عليه الصلاة والسلام-لأمراء تلك الجهة رسوله يدعوهم إلى الإسلام، فقام من بينهم حاكم بوسترا، واتحد مع حاكم مدينة مؤتة، من مدن الشام خلف نهر الأردن، وقتلوا الرسول؛ فغضب النبى-صلى الله عليه وسلم-لفعلهم،
مطلب فى الوقائع التى جرت بين المسلمين والقياصرة
وأرسل لهم ثلاثة آلاف مقاتل تحت إمرة مولاه زيد، وتقابلوا مع عساكر الرومانيين عند مدينة مؤتة المذكورة، وكانوا أكثر منهم عددا، والتطم الفريقان، وحصل بينهما مقاتلة
عظيمة، فمات كثير منهما، ومات أيضا جملة من رؤساء المسلمين منهم: زيد-رضي الله عنه-فقام مقامه خالد بن الوليد، فحصل منه ما يبهر العقول، فإنه بعد أن كان يظن أن المسلمين مهزومون، جمع المسلمين، وقوّى قلوبهم، وهجم بهم على عساكر الرومانيين هجمة بدد فيها شملهم، وولوا الأدبار، وتم النصر للمسلمين، وغنموا، ثم رجعوا إلى المدينة، ومعهم السبى والغنيمة.
وهذه كانت افتتاح الوقعات، التى جرت بينهم وبين القياصرة، فى جهات آسيا وإفريقيا وجزء من أوربا، وتمامها بزوال ملك القياصرة من بلاد المشرق، ووضع الإسلام يده على الدولة الرومانية.
لكن بعد ثمانية قرون، كلها مضت فى حروب، هلك فيها من الفريقين ما لا يحصى.
ومن جملة الولايات التى توجه لها نظر المسلمين: ولاية مصر، وكان حاكمها (المقوقس) المصرى الأصل، من طرف قيصر، وكان له شهرة عظيمة فى الرفعة والاعتبار، وكان من فريق (أوتيشيس)، وكان يكره الروم لإنكارهم على أهل فريقه، وإبطالهم اعتقادهم فى جميع ديار مصر والرومان وغيرها، وكان الطمع وحب الاستبداد عنده يغلبان على الأمر الدينى، لكنه اغتنم فرصة قيام الفتن على المملكة الرومانية فى بلاد العرب، ولقب نفسه بلقب إمارة مصر، وصار يأمر وينهى فى ديار مصر.
ومن مخافة تقلب الأيام، أراد أن يعاهد المسلمين، فلم يقبل النبى منه غير الدخول فى الإسلام، وكتب كتابا إلى النبى-صلى الله عليه وسلم-يعترف له فيه بالرسالة، ويطلب منه الإمهال زمنا، ليتمكن مما يريده، وكانت الحروب من المسلمين قائمة فى جهات كثيرة، ما عدا/مصر، فإنهم تركوها فى ذلك الوقت، وبعد ذلك توجهت همتهم إلى محاربتها، وشن؟؟؟ الإغارات عليها، فنظر عليه الصلاة والسلام أن هذا لا يتم إلا بالاستيلاء أولا على ديار الشام، لأنه ليس لمصر غير طريقين: الأولى: طريق البحر الأحمر، وليس للمسلمين فى
ذلك الوقت مراكب. والثانية: طريق البر، التى فى الصحارى التى بين مصر والشام. فأخذ فى أهبة الدخول بالعساكر إلى أرض الشام.
ولكن لم يتم هذا الأمر، لوفاته عليه الصلاة والسلام، بالمدينة المنورة، فى السابع عشر من شهر يونية الإفرنجى سنة 632، الموافق لليلة الاثنين، من آخر صفر سنة عشر من الهجرة، وعمره ثلاثة وستون سنة.
مطلب خلافة أبى بكر الصديق
اتفقت الأمة الإسلامية على تولية أبى بكر رضي الله عنه، فقام بأحوال المسلمين، وسار على أثر صاحب المعجزات، ففتح الله فى أيامه على المسلمين عراق العرب وبلاد الشام، وأخذت مدينة دمشق سنة 634، واتسع الإسلام، واشتهر ذكره فى الآفاق، ومات رضي الله عنه يوم فتحت دمشق.
مطلب خلافة عمر بن الخطاب
تولى الخلافة بعده، عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، ولقب بأمير المؤمنين، واستمر حرب الشام سنة 635، وأخذت مدينة بعلبك، ومدينة قنسرين، من المدن الشهيرة، وبينها وبين حلب خمسة فراسخ.
وفى السنة التى بعدها، فتحت مدينة درستيون
(1)
، وحماة، وشيزر، وايميز
(2)
.
ومن توالى النصر للمسلمين جبر (هيراقليوس) على أن يتنبه من غفلته، ويتوجه بنفسه مع جيوشه لمحاربتهم، فذهب إلى سواحل الشام، وأقام بمدينة ايمز مدة، ثم انتقل إلى أنطاكية، ولما بلغه أخذ دمشق، يئس من السواحل الشامية، فتوجه إلى القسطنطينية،
(1)
لعله يقصد مدينة الرستن.
(2)
لعله يقصد مدينة حمص.
وجمع فيها ما تفرق من عساكره فى المشرق والمغرب، فكان جيشا جرارا، وأمّر عليه رئيسا من رجاله اسمه (منويل) فسار بهم حتى تقابل مع المسلمين عند مدينة اليرموك سنة 656، فحصلت بينه وبين المسلمين وقعة قتل فيها من الفريقين عدد عظيم، وآل الأمر بنصر المسلمين النصر التام، الذى خلت الديار الشامية بعده من جيش النصارى، ودخلت جميعا فى قبضة المسلمين.
ثم سار المسلمون إلى مدينة القدس، ومعهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، فدخلوها بلا حرب فى شهر مايو الإفرنجى سنة 637.
وبعد دخول هذه المدينة فى حوزة الإسلام، دخل باقى البلاد الشامية فى الإسلام، كما دخل جميع بلاد العرب فيه بعد دخول مكة؛ لأن كلا من هاتين المدينتين له شرف على البلاد المجاورة له، ومن قديم الزمان يتبركون بهما، ويحجونهما فى مواسم معلومة، فكان هذا هو الداعى لقصدهما فى الفتح أولا؛ فإن الحكم لا يتمكن فى هاتين الجهتين إلا بالاستيلاء على هاتين المدينتين.
مطلب فى فتح مصر
ولما تم فتح الديار الشامية-كلها-للمسلمين سنة 638، أزيلت جميع الموانع عن قصد مصر، فخاف (المقوقس) من إغاوة المسلمين على مصر، فاتفق مع بطريق إسكندرية (قيروس)، وكتب إلى أمير المؤمنين كتابة، طلب فيها أن لا يحارب مصر، وجعل له فى مقابلة ذلك مائنى ألف دينار يدفعها سنويا، وأرسل بعض هذا المبلغ مع الكتاب، فبلغ ذلك (هيراقليوس) فغضب على (المقوقس) وأرسل العساكر لتدافع عن مصر، وتمنع عساكر المسلمين من الدخول فيها، فشاع ذلك حتى بلغ أمير المؤمنين، فأمر رضي الله عنه عمرو بن العاص، وكان وقتئذ عاملا على الجهات الشامية الملاصقة لوادى النيل، أن يتوجه إلى مصر، وأرسل معه أربعة آلاف من المسلمين، فقام وسار من وقته إلى أن وصل حدود مصر، وتقابل مع العساكر الرومانية هناك. فاصطدم الفريقان وفاز المسلمون بالنصر
ودخل عمرو بالمسلمين الديار المصرية. فلما وصلوا شاطئ النيل، حصل هناك وقعة أخرى، ونصر على النصارى نصرة خلت له بها البلاد، وسهلت الطرق، فسار حتى وصل مدينة باب الأون، وكانت مكان مصر العتيقة الآن، وكان بها قلعة منيعة تعرف فى كتب العرب بقصر الشمع، فحاصرها المسلمون، وحصروا من فيها حصرا شديدا
والمقوقس، وإن كان وقتها يدافع، لكنه كان مائلا إلى الصلح مع المسلمين. حتى أنه فاتح عمرا فى ذلك، فرضى عمرو بما قرره المقوقس: من أن يدفع عن كل قبطىّ دينارين.
غير الهرم والنساء والأطفال.
مطلب فى فتح إسكندرية
وبعد ما تم الكلام بينهما، وعقدت الشروط، ذهبت العساكر الرومانية إلى إسكندرية، وتحصنت فيها لأنها هى التى بقيت فى حكمهم وحدها، وجميع الجهات المصرية-بحرية وقبلية-صارت فى يد المسلمين. وكان أخذ إسكندرية أهم شئ عند المسلمين؛ لأنها لو بقيت تحت يد الرومانيين لكانت معسكر رجالهم التى ترسل من القسطنطينية، وتكون منبع الغارات على مصر.
فلما رأى المسلمون ذلك، قام عمرو برجاله، وحاصرها محاصرة عنيفة، مدة أربعة عشر شهرا، حتى فتحها فى اليوم الحادى عشر من شهر ديسمبر الإفرنكى سنة 641، وكان المدد قطع عنها من مدة موت (هيراقليوس)، فأحاط الكرب بأهلها من الحصار، وجنحوا/للصلح. ولما دخلها المسلمون منعهم عمرو عن نهب الأهالى، والتعرض لهم بسوء.
وكان بالمدينة كتبخانة، لم يوجد مثلها فى الأقطار، لما اشتملت عليه من نفائس الكتب العلمية والكنوز العقلية، جمعها ملوك مصر السالفون. وادعى مؤرّخو الفرنج، أنه كان بالمدينة قسيس يعرف باسم (جان)، تعرّف به عمرو وأحبّه لعلمه، فرغب هذا القسيس أن يغتنم فرصة هذا الحب، وطلب منه أن يعطيه كتب الفلاسفة، فجنح عمرو لتنفيذ غرضه، لكنه خاف أن لا يأذن له أمير المؤمنين، عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، فحرر
له خطابا، يخبره فيه بما طلبه القسيس من الكتب بالكتبخانة الموجودة هناك، فكتب له أمير المؤمنين «إن كانت تحتوى على ما فى القرآن فلنا حاجة بها، وإلا فلا فائدة لنا فيها، وعلى كلا الحالين ينبغى حرقها» فلم يسعه غير الإطاعة والامتثال، وأمر بحرقها فحرقت.
وهذه الرواية الإفرنجية عارية عن الصحة؛ لأن عمر رضي الله عنه برئ من ذلك، فإن احتراق الكتبخانة المذكورة كان قبل إشراق نور الإسلام، ولم يكن عمر مولودا إذ ذاك، وأن الذى أعدم هذه الكنوز العقلية النفيسة هو (جول القيصر)؛ وسبب ذلك أنه كان محصورا فى المحلة، التى كانت بها الكتبخانة، ولما أحاطت به الأعداء من كل الجهات، لم يجد له منجى سوى أنه أضرم النار فى جميع المنازل القريبة للكتبخانة، فحرقها واحترقت الكتبخانة معها.
نعم، إنه بعد مضىّ مدة من الزمن قد أهدى الملك (أنطوان) إلى (كليوباترا) نحو أربعمائة ألف مجلد من كتبخانة (برجام)، وأنشأ فى السيرابيوم كتبخانة جديدة سميت: بنت الأولى، وهذه الكتبخانة الجديدة قد احترق أيضا معظم كتبها فى أثناء الفتن التى ظهرت بمدينة إسكندرية، ثم انعدمت بالكلية فى عهد الملك (ديتوز)، حيث سطت عليها أيدى الرعاع المتعصبين، ومزقوا جميع ما كان فيها من الكتب المشتملة على المؤلفات الوثنية، وفعلوا بها مثل ما فعلوا بالمعابد العتيقة، والهياكل القديمة المصرية.
فبناء على ذلك، لم يكن لهذه الكتبخانة وجود بالكلية حين افتتحها عمرو بن العاص، رضي الله عنه.
ويعلم مما سبق، كيفية انفصال مصر من حكومة القسطنطينية، وصيرورتها ولاية تابعة لمملكة العرب. ومن ذاك الحين، صار تاريخها ملحقا بتاريخ المسلمين، كما كان فى السابق ملحقا بتاريخ الرومانيين. وهذا الانفصال، قد خلص قلوب أهلها من أوحال الشرك والوساوس الشيطانية، وملأها بأنوار الحق المبين بدخولها فى الإسلام، كما تخلصت من أهوال تقلب الأحوال الزمانية عليهم، فصارت أمورها مبنية على منهج العدل والإنصاف، اللذين
هما أساس الدين المحمدى، وقطعت يد الظلم، وكسر عصا الجور والعدوان، وذلك كله فى الصدر الأول، وإن كان قد حصل بعد ذلك شغب كثير، وفشل بين المسلمين نشأ منه اضمحلال حال ديار مصر، سيما فى الحروب التى تولدت عن ذلك، كما يعلم ذلك من تاريخ سلسلة حوادثها المتتالية.
مطلب عدد من تولى مصر من العمال
فإنه من حين فتح المسلمين مصر فى سنة 20 من الهجرة، التى هى سنة تولية عمرو بن العاص عليها، إلى سنة 132، التى هى سنة انتقال الخلافة من بنى أمية إلى العباسيين، تولى عليها ثمانية وعشرون عاملا تناوبها اثنتين وثلاثين مرة، لأن بعضهم كان يعزل ثم يعود كعمرو ابن العاص فإنه حكم مرتين، ومدته فيهما إحدى عشرة سنة، وكعبد الملك بن رفاعة الفهمى، فإنه حكم مرتين أيضا ومدته فيهما ثمان سنين، وكحفص بن الوليد، فإنه حكم ثلاث مرات ومدته فيها أربع سنين.
ويظهر من طول مدة بعض العمال الأول، أن الأحوال ابتداء كانت غير مضطربة، وإنما اعتراها ذلك فيما بعد، ويظهر أنه بتقادم الزمن كان الاضطراب متزايدا؛ فإنا نجد أنه تبدل على هذه الديار من سنة 132، التى هى ابتداء خلافة العباسيين، إلى زمن فصل مصر عن بيت الخلافة، فى زمن أحمد بن طولون سنة 254، ستون عاملا، فى ظرف مائة واثنتين وعشرين سنة. فتكون مدة العامل نحو عامين، فكان العزل متقاربا، بل ربما حصل فى العام الواحد تبادل عاملين أو ثلاثة.
ومن هذا يعلم أن قلة الأمن هى الباعثة على كثرة اضطراب أحوال البلاد، من عدم استقامة الإدارة العامة. وعدم طول إقامة الحكام ذوى العدل بين أهلها؛ لتطاول أيدى أهل البغى عليهم بكثرة الحروب والقتل، إلى أن دخلت الفرنساوية أرض مصر، وانجلوا عنها وحصلت العناية الربانية. واستولى مولانا العزيز محمد على باشا، عليه الرحمة والرضوان،
على الديار المصرية، فزالت تلك الأكدار، وتغيرت هذه الأحوال كما سنقصه عليك فى محله.
مطلب عدد من تولى مصر من الأتراك والجراكسة
وفى رحلة (ولين) الفرنساوى نقلا عن (ابن مرعى) أن الذى تولى الملك من الأتراك 24، ومن الجركس مثلهم فالكل 48، وأن مدة حكمهم جميعا 263 سنة
(1)
، فتكون مدة الواحد بالتوسط 5 سنين ونصفا تقريبا. ومن غريب الاتفاق أن الذين ماتوا بالقتل من التركمان
(2)
11، والذين عزلوا/ستة، وبالعكس فى الجركس، فإن الذين ماتوا بالقتل منهم 6، والذين عزلوا 11.
وتولى من حين استيلاء السلطان سليم، إلى دخول الفرنساوية 72 باشا، فى مدة 287 سنة، فلو جمعت حكام مصر من إنتهاء حكم البطالسة لوجدتهم 200 حاكم، كل منهم له سير مخصوص. وفى تلك المدد كان الغالب عدم النظر، لرفاهية الأهالى وعمار بلادهم، وإن حصل ذلك واستقامت الأحوال فلا يكون إلا بعض سنين ثم يتغير.
ومن كثرة الفتن الداخلية وإهمال المصالح العامة، تعطلت أسباب الثروة والصحة، وقلت الفلاحة، وتطاولت الأيدى على جميع جهات القطر بالقتل والسلب، فقل بهذه الأسباب الأمان على النفس والمال. ومن ترك تطهير الترع والخلجان، حرمت أغلب الجهات من ماء النيل، ونشأ عن ذلك غلوّ أسعار الأقوات، بل وانعدامها فى بعض السنين، وتسلطت الأمراض، وسكن الوباء بأرض مصر، حتى صار عوده دوريا منتظما فى تلك الديار. ونزل بالناس من المصائب ما يبث الجبال، فهاجر الخلق من بلادهم، وملئت الطرق بجيف الأموات من مهاجرى المصريين.
وصار هذا الأمر شائعا فى جميع بقاع الأرض، ووصفه مؤرخو العرب والفرنج بأوصاف تفتت الأكباد، وتشيب منها الولدان.
(1)
استمرت سلطنة المماليك الأتراك والجراكسة 267 سنة. من سنة 1250 - 1517 م.
(2)
الصحيح «الأتراك» .
وللمقريزى رسالة
(1)
، جمع فيها مرات الغلاء والقحط، من دخول العرب مصر إلى سنة 600 هجرية تقريبا، فبلغت ثلاث عشرة مرة.
وفى رحلة (ولين) الفرنساوى، نقلا عن كتاب (مرعى بن يوسف الحنبلى)، الموجودة نسخته بكتبخانة باريس: أن عدد مرات القحط والوباء، من ابتداء فتح مصر إلى سنة 843 هجرية، الموافقة سنة 1440 ميلادية، إحدى وعشرون أو ست وعشرون، على قول العلامة (خليل بن جاهين الظاهرى) وزير السلطان الأشرف.
وأسباب هذا الغلاء غالبا: إهمال الحكام تدبير ماء النيل، وتوزيع المياه على الأراضى، وكذا إتجار الحكام والسلاطين فى الأقوات، فينشأ من إهمال النيل، عدم زرع جميع الأراضى، فلا يكفى ما يخرج من المحصول جميع أهلها، وينشأ من الإتجار فى القوت غلوّ الأسعار غلوا فاحشا؛ فكانت أسباب البلايا كثيرة متنوعة، تتفنن فيها ولاة الأمور بما كانوا يبتدعونه من المظالم وسوء التدبير.
ولولا الخوف من التطويل، لذكرنا ما حصل للديار المصرية فى كل زمن، ولكن، هذا للقارئ أنموذج يعلم منه أحوال تلك الأزمان، وما كانت تقاسيه الناس من حكامهم، والمقصود أنا نقارن ذلك بزماننا، فنجدنا الآن فى أرغد عيش بالنسبة لمن كان فى تلك الأزمان، وليس ذلك إلا بهمّة الخديوى المعظم، فإنه لا يشغله شاغل عن التفكر فى الأحوال الموجبة لرفاهية الرعية، فبحول الله وقوّته، وعناية الحضرة الخديوية، لا نخاف من حصول مثل ما كان فى تلك الأزمان، لأن الإكثار من الترع والخلجان والجسور، وإحكام تقسيم المياه بالقناطر فى الجهات البحرية والقبلية، صير رىّ جميع الأراضى ممكنا. إذا وصل النيل ستة عشر ذراعا، بل يمكن بأقل من ذلك، إذ تمت عمارة القناطر الخيرية. وبوجود سكك الحديد فى البر، والسفن البخارية فى البحر الملح والحلو، صار نقل ما يحتاج إليه من محصولات البلاد البعيدة فى أى وقت سهلا.
(1)
يقصد: «إغاثة الأمة بكشف الغمة» .
مطلب أول غلاء حصل فى مصر
وأوّل غلاء حصل بمصر فى الإسلام سنة 87 هجرية، وكان أمير مصر وقتئذ: عبد الله ابن عبد الملك بن مروان.
وبعد ذلك فى زمن الإخشيد، ثم فى زمن أبى القاسم
(1)
أبى الفوارس بن الإخشيد سنة 338. وبعدها بثلاث سنين كثرت الفيران فى أعمال مصر، وأتلفت جميع الغلال والكروم، ولم يرو النيل البلاد، وغلا السعر واشتد الأمر إلى سنة 343، وطلب القمح كل ويبتين ونصف بدينار، فلم يوجد، واستمر هذا العذاب تسع سنين متتابعة، وأمير مصر علىّ بن الإخشيد.
وفى سنة 356 عظمت البلوى بعد موت كافور، لأنه كان مجتهدا فى تدبير الأحوال، ثم قامت الجند على الأمراء، فهلك خلق كثيرون، ونهبت الأسواق، وأحرقت مواضع كثيرة من المدينة، واختلفت العسكر، فتبع أكثرهم الحسن بن عبد الله بن طغج، وهو يومئذ بالرملة، وكاتب أغلبهم المعز لدين الله الفاطمى، وصار الهول عظيما واستمر إلى أن دخل جوهر القائد سنة 358، وبنى مدينة القاهرة.
ولم ينقطع الغلاء إلى سنة 390، فاشتد الوباء، وكثرت الموتى، وعجز الناس عن دفن موتاهم، فكان من مات بطرح فى النيل والطرق، واستمر هكذا إلى سنة 361. ثم نزل السعر بعض النزول، ثم غلا بعد ذلك فى أيام الحاكم بأمر الله سنة 387، وبلغ النيل ستة عشر ذراعا.
وفى سنة 395 لم يتم النيل ستة عشر ذراعا إلا فى آخر شهر مسرى، وعم الكرب، وتغيرت أصناف المعاملة، وكثر فيها الغش حتى وصل الدينار أربعا وثلاثين درهما، فى سنة 397. واشتد الكرب على الناس، فصدرت الأوامر بضرب دنانير جديدة، وفى يوم واحد وزعوا عشرين صندوقا منها على الصيارف، بقصد جمع الدنانير القديمة، وأمهلوا الناس
(1)
هو أبو القاسم أنوجور بن الإخشيد، المتوفى سنة 349 هـ. أما أبو الفوارس فهو أحمد بن على بن الإخشيد، أقامه الجند فى الولاية على مصر بعد وفاة كافور الإخشيدى سنة 356 هـ، وكان عمره حينذاك إحدى عشرة سنة.
انظر: ابن خلكان: وفيات الأعيان، ج 4، ص 105،99، ج 5، ص 59.
ثلاثة أيام، وتلف للناس أموال كثيرة، لأن الدرهم الجديد صار يبدل بأربع دراهم قديمة، ونودى بأن/سعر الدينار الجديد ثمانية عشر درهما جديدة، فخسر الناس خسارات كثيرة، وعلا سعر الغلال وجميع أصناف المأكول، حتى عز وجودها، فضرب الحاكم الطحانين والخبازين، وقبض على مخازن التجار، وسعّر أصناف الحبوب.
واستمر الغلاء إلى سنة 399، فاجتمع الأهالى بين القصرين، وشكوا إلى الحاكم، فركب حماره وخرج من باب البحر، ووقف هناك ثم قال:«أنا متوجه لجامع راشدة، وإنى أقسم بالله، إن عدت ووجدت موضعا غير مستور بالغلة يطؤه حمارى، لأضربن عنق من يقال لى إن عنده شئ منها، وأحرقن داره، وأنهبن أمواله» .
ثم توجه وتأخر هناك لقريب المغرب، فلم يبق أحد من أهل مصر والقاهرة عنده غلة إلا وحملها من بيته أو مخزنه، وجعلها كيمانا فى الطرق، وأمر بحصر ما يحتاج إليه الناس فى كل يوم، فحصر وعمل به كشف عرض عليه، فأمر بعرضه على أصحاب الغلال، وخيّرهم بين أن يبيع كل بقدر ما يناسب تجارته بسعر معلوم قدّره لهم، وبين أن يختم على غلالهم إلى حين دخول الغلة الجديدة. فنزل السعر، وباعوا بما قدرّه لهم.
وفى خلافة المستنصر غلت الأسعار، سنة 444، غلاء شديدا، وقصّر النيل، وخلت المخازن السلطانية من الغلال، فحصل كرب شديد زاد على ما كان فى الأزمان السالفة. وكان من العادة الجارية، فى ذلك الوقت، أن السلطان يتجر فى الغلال، فكان يشترى له منها كل سنة بمائة ألف دينار ليتجر فيها، فدخل عليه وزيره، أبو محمد الحسن بن على بن عبد الرحمن البارزى-رحمه الله-وكان قد أمر بترخيص الأسعار، وعرّفه بما منّ الله عليه به من رخص السعر، وتوالى الدعاء من الناس للسلطان، وذكر أن فى التجارة فى الغلال مضرّة على المسلمين وربما نزل السعر بعد شرائها، فتباع بأقل مما اشتريت به، أو تتلف بالمخازن. والأولى التجارة فيما لا كلفة على السلطان فيه، ولا مضرّة بالناس، وفائدة التجارة فيه أضعاف فائدة
التجارة فى الغلة، ولا يخشى عليه من انحطاط السعر ولا من غيره. وهو: الخشب، والصابون والحديد، والرصاص، والعسل، وما أشبه ذلك، فأمضى السلطان له رأيه.
والغلاء الذى حصل فى أيامه أيضا، سنة 447، زاد على ما سبقه، ولم يكن وقته بالمخازن السلطانية إلا جرايات من فى القصور، ومطبخ السلطان وحواشيه، فقام الوزير أبو محمد، وكتب إلى عمال النواحى بحجز الغلال وأخذها للديوان، وتربيح التجار فى كل دينارين دينارا. وبعد ذلك أرسل المراكب فأحضرت جميع الغلال من البلاد، وأرسل إلى مصر سبعمائة أردب، وإلى القاهرة ثلثمائة. فحصل الرخاء، إلى أن قتل الوزير، فصار بعده لا يرى للدولة صلاح ولا استقامة حال.
واختلت الأمور، ولم يستقر لها وزير تحمد سيرته، أو يرضى تدبيره، وخالط الناس السلطان، وكاتبوه مكاتبات كثيرة، وكان لا ينكر على أحد مكاتبته، فتقدم كل شقشاق، وحظى لديه الأوغاد، وكثروا حتى كانت رقاعهم أكثر من رقاع الرؤساء الأجلة. وتنقلوا فى المكاتبة إلى كل نوع، حتى كان يصل إلى السلطان كل يوم ثمانمائة رقعة، فاشتبهت عليه الأمور، وتناقضت الأحوال، ووقع الخلاف بين عبيد الدولة، وضعفت قوى الوزراء عن التدبير لقصر مدتهم، فكان الوزير منهم-من توليته إلى خلعه-لا يفيق من التحرز ممن يسعى به.
وكانت الفترات بعد عزل من ينعزل منهم، أطول من مدة وزارته، فتعدوا الواجبات، وتفننوا فى المصادرات، فاستنفدوا أموال الخليفة، وأخلوا منها خزائنه، وأحوجوه إلى بيع عروضه، فاشتراها الناس نسيئة، وكانوا يعترضون ما يباع، فيأخذ من له درهم واحد ما يساوى عشرة درهم، ثم زادوا فى الجراءة حتى تصدروا إلى تقويم ما يخرج من العروض، فإذا حضر المقوّمون أخافوهم، فيقوّمون ما يساوى ألفا بمائة فما دونها، ويعلم المستنصر وصاحب بيت المال بذلك، ولا يتمكنان من إجراء ما يجب عليهم، فتلاشت الأمور، واضمحل الملك، وعلموا أنه لم يبق ما يلتمس إخراجه لهم، فتقاسموا الأعمال،
وأوقعوا التساهم على ما زادت فيه الرغبات، وكانوا ينتقلون فيها ويتداولونها على حسب غلبة بعضهم لبعض.
ودام ذلك بينهم خمس أو ست سنوات، ثم قصّر النيل، فغلت الأسعار غلوا بدد شملهم، وفرق ائتلافهم، وأوقع الله تعالى بينهم العداوة والبغضاء، فقتل بعضهم بعضا حتى بادوا وعفت آثارهم، فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا.
ثم وقع فى أيام المستنصر-أيضا-الغلاء الذى فحش أمره، وشنع ذكره، ومكث بمصر مدة سبع سنين، وسببه: ضعف السلطنة واختلال أحوالها، واستيلاء الأمراء عليها، وتوالى الفتن بين الأوغاد، وعدم علو النيل، وعدم من يزرع ما شمله الرى، وكان ابتداء ذلك سنة 457، فعلا السعر، وتزايد الغلاء وأتى عقبه الوباء، حتى تعطلت الأراضى من الزراعة، وعمّ الخوف وخيفت السبل برا وبحرا، وجاعت الناس، وعدم القوت، حتى بيع رغيف خبز-فى سوق القناديل من الفسطاط -بخمسة عشر دينارا، وأكلت الكلاب والقطط حتى قلّت، وبيع الكلب بخمسة دنانير، وتزايد الحال حتى أكل الناس بعضهم بعضا.
/وكانت طوائف تجلس بأعلى بيوتها، ومعهم حبال فيها كلاليب، فإذا مر بهم أحد، ألقوها عليه، وأخذوه فى أسرع زمن، وشرّحوا لحمه وأكلوه.
ثم آل أمر المستنصر إلى أن باع كل ما فى قصوره من ذخائر، وثياب، وسلاح وغيره، وصار يجلس على حصير، وتعطلت دواوينه، وذهب وقاره، وكانت نساء القصور يخرجن ناشرات شعورهن ويصحن: الجوع الجوع، يردن المسير إلى العراق، فيسقطن عند المصلى، ويمتن جوعا. واحتاج حتى باع حلية قبور آبائه.
وجاء الوزير يوما-على بغلته-فأكلتها العامة، فشنق طائفة منهم، فاجتمع الناس عليهم فأكلوهم. وأفضى الأمر إلى أن عدم-المستنصر نفسه-القوت.
وكانت الشريفة، بنت صاحب السبيل، تبعث إليه كل يوم قعبا من فتيت، من جملة ما كان لها من البر والصدقات فى ذلك الغلاء، حتى أنفقت مالها كله فى سبيل البر- وكان يجلّ عن الإحصاء-. ولم يكن للمستنصر قوت سوى ما كانت تبعثه إليه، وذلك فى اليوم والليلة مرة واحدة.
ومن غريب ما وقع، أن امرأة من أرباب البيوت أخذت عقدا لها قيمته ألف دينار، وعرضته على جماعة، فى أن يعطوها به دقيقا، فكان كلّ يدفعها عن نفسه، إلى أن رحمها بعض، وباعها به زنبيل دقيق بمصر، فلما أخذته أعطت بعضه لمن يحميه من النهب فى الطريق، فلما وصلت باب زويلة، تسلمته من الجمالة ومشت قليلا، فتكاثر الناس عليها ونهبوه، فأخذت هى أيضا-مع الناس-من الدقيق مل يديها، ولم يتيسر لها غيره، ثم عجنته وسوته، فلما صار قرصة أخذتها معها، ووصلت إلى أحد أبواب القصر، ووقفت على مكان مرتفع، ورفعت القرصة على يديها بحيث يراها الناس، ونادت بأعلى صوت: يا أهل القاهرة، ادعوا لمولانا المستنصر، الذى سعدت الناس بأيامه، وأعاد عليهم بركات حسن نظره، حتى صار ثمن هذه القرصة ألف دينار. فلما بلغه ذلك أحضر الوالى، وتوعده وهدده، وأقسم له إن لم يظهر الخبز فى الأسواق، ويرخص السعر وإلا ضرب عنقه، ونهب أمواله. فخرج من بين يديه وذهب إلى الحبس، وأخرج قوما استحقوا القتل، وأفاض عليهم ثيابا واسعة، وعمائم مدورة، وطيالس سابلة، وجمع تجار الغلال والخبازين والطحانين، وعقد مجلسا عظيما، وأمر بإحضار واحد من القوم الذين استحقوا القتل، فلما مثل بين يديه قال له: ويلك، ما كفاك أنك خنت السلطان، واستوليت على مال الديوان، حتى أخربت الأعمال، ومحقت الغلال، فأدى ذلك إلى اختلال الدولة، وتلاشى الأحوال وهلاك الرعية، ثم قال للجلاد: اضرب عنقه، فضربت فى الحال، ووقع على الأرض بين يديه، ثم أمر بإحضار آخر منهم فقال: كيف قدرت على مخالفة الأمر، واحتكرت الغلال، وتماديت على ارتكاب ما نهيت عنه، إلى أن تشبّه بك سواك، فهلك الناس، اضرب عنقه فضرب فى الحال، واستدعى آخر، فقام إليه الحاضرون من التجار، والطحانين،
والخبازين وقالوا: أيها الأمير، فى بعض ما جرى كفاية ونحن نخرج الغلة، وندير الطواحين، ونعمّر الأسواق بالخبز، ونرخص الأسعار على الناس، ونبيع الخبز كل رطل بدرهم، فقال: ما يقنع الناس بذلك، فقالوا: الرطلان بدرهم، فأجابهم: بعد اللتيا والتى، ووفّوا بالشروط، وتدارك الله الخلق باللطف، وأجرى النيل، وسكنت الفتن، وزرع الناس، وانكشفت الكروب.
ثم حصل الغلاء، بعد ذلك، أيام الخليفة الآمر بأحكام الله، ولم تطل مدته، فلم تعم بليته، كما حصل بعده فى أيام الخليفة الحافظ لدين الله، بوزيره الأفضل بن وحش، ولكن الحافظ تدارك الأمر بنفسه، إلى أن منّ الله بالرخاء. وجاء بعده الغلاء، فى مدة الفائز، ووزارة الصالح طلائع بن رزيك.
وهكذا كان الغلاء والوباء، شعار أكثر هؤلاء الخلفاء.
فلم يجلس أكثرهم على تخت هذه الديار، إلا وجلس بجانبه بلوى من البلايا، وحصل فى زمنهم خراب أكثر البلاد، وتعطل أكثر الأراضى عن الزرع.
ولم يختلف الحال بزوال ملكهم، بل تبدل فى صورة غير الصورة، ولبس ثوبا غير الثوب.
وحصل فى زمن الأيوبيين مثل ما حصل فى زمن الفاطميين، ولم يلتفت الكثير منهم إلى أحوال الصحة والرفاهية، والسير على نهج السلف فى الحكم والإدارة، وبقيت البلاد عرضة للضرر، الذى كان مستوليا قبل، فكان الظلم والجور وتعدّى الحكام، وغاراتهم، وعدم الزرع، والقحط، والوباء، والأمراض، ومصائب أخر، مما غرسه الطوائف الواردة على الديار المصرية، إلى أيام استيلاء مولانا العزيز، محمد على باشا، على الديار المصرية.
ولم يعمل أحد ممن تقدّم فى هذه الديار أعمالا تستحق الذكر.
وفى رسالة العلامة المقريزى-التى ألفها فى حوادث سنة 590
(1)
هلالية-أنه حصل فى
(1)
الصحيح أنه فى سنة 596 هـ. انظر: إغاثة الأمة، ص 29؛ السلوك للمقريزى، ج 1 ق 1، ص 156 وما بعدها؛ عبد اللطيف البغدادى: كتاب الإفادة والاعتبار، ص 62 وما بعدها.
هذه السنة جوع عم الخلق فى القرى والأرياف، فتركوا بلادهم وانتقلوا إلى القاهرة، ودخل فصل الربيع، فهبّ هواء تبعه وباء، وفناء، وعدم القوت، حتى أكل الناس أطفالهم شواء وطبخا، ثم نهوا عن ذلك، فلم يفد، فكان يوجد بين ثياب المرأة، وكذا الرجل، كتف طفل أو فخذه أو شئ من لحمه، ويدخل بعضهم بعض حارات، فيجد القدر على النار فينظرها فإذا فيها/لحم طفل، وأكثر ما وجد ذلك فى بيوت الأكابر. وأغرق فى أقل من شهرين ثلاثون امرأة بسبب ذلك.
ثم اشتد الأمر حتى صار أكثر غذاء الناس من لحم بعضهم، ولم يمكن منعهم لعدم القوت، من جميع الحبوب والخضراوات. فلما كان آخر الربيع، انحسر الماء عن المقياس إلى بر الجيزة، وتحوّل وتغير طعمه وريحه، ثم أخذ فى الزيادة-قليلا قليلا-إلى الثانى عشر من مسرى، فزاد إصبعا واحدا. ثم وقف أياما وأخذ بعد ذلك فى الزيادة القوية، وأكثرها ذراع، إلى أن بلغ خمسة عشر ذراعا وستة عشر أصبعا، ثم انحط من يومه، فلم تنتفع به البلاد لسرعة نزوله. وكان أهل القرى قد فنوا، حتى أن القرية، التى كان أهلها خمسمائة نفر، لم يبق بها غير اثنين أو ثلاثة.
ولم تعمل الجسور ولا مصالح البلاد لعدم البقر، فإنها فقدت حتى بيعت البقرة بسبعين دينارا، وملأت الجيف جميع الطرق بمصر والقاهرة، وغيرهما من بلاد الإقليم، والذى زرع-على قلته-أكله الدود ولم يمكن زرع غيره. وكانت التنانير لا يوقد فيها بغير خشب البيوت، وكانت جماعة من أهل الستر يخرجون ليلا، ويحتطبون من المساكن الخربة، فإذا أصبحوا باعوها. وكانت الأزقة كلها بمصر والقاهرة لا يرى فيها من الدور المسكونة غير القليل. وكان الرجل بالريف-فى أسفل مصر وأعلاها-يموت وبيده المحراث، فيخرج آخر فيصيبه ما أصاب الأول.
واستمر النيل-ثلاث سنين-بدون أن يطلع منه غير قليل، حتى بلغ الأردب أو المدّمن القمح ثمانية دنانير، فأطلق العادل للفقراء شيئا من الغلال، وقسّم الفقراء على أرباب
الثروة، وأخذ منهم اثنى عشر ألفا، وجعلهم فى مناخ القصر، وأفاض عليهم القوت، وكذلك فعل جميع الأمراء وأرباب السعة. وكان الواحد من أهل الفاقة إذا امتلأت بطنه الطعام، سقط ميتا، فكان يدفن منهم كل يوم العدّة الوافرة، حتى أن العادل-فى مدة يسيرة-دفن نحو مائتى ألف وعشرين، فإن الناس كانوا يتساقطون فى الطرق من الجوع، ولا يمضى يوم واحد إلا ويؤكل عدة من بنى آدم.
وتعطلت الصنائع فلما أغاث الله الخلق بالنيل، لم يوجد أحد يحرث ولا يزرع، فخرج الأجناد بغلمانهم، وتولوا ذلك بأنفسهم. ومع ذلك لم يزرع أكثر البلاد، لعدم الفلاحين والحيوانات، وبيعت الدجاجة بدينارين ونصف، ومع ذلك كانت المخازن مملوءة من الغلال، وكان الخبز متيسر الوجود، يباع كل رطل منه بدرهم ونصف.
وزعم كثير من أرباب الأموال، أن هذا الغلاء كسنى يوسف-عليه السلام-وطمع أن يشترى بما عنده من الأقوات، أموال أهل مصر ونفوسهم، فأمسك الغلال، وامتنع من بيعها، فلما جاء الرخاء لم ينتفع بشئ منها، بل رماها لأنها تلفت. وأكثر أرباب المال أصيبوا، فبعضهم مات عقب ذلك شرّ ميتة، وبعضهم أصيب فى ماله، إن ربك لبالمرصاد، وهو الفعال لما يريد.
ثم بعد ذلك جاءت دولة الأتراك، فكانت المصائب أشنع وأفظع، وتسلحت بأسلحة أحدّ وأقطع، فكان الغلاء والقحط فى سلطنة كتبغا سنة 694 فى بلاد مصر، وهجم عليها من سكان برقة 30،000 نفس من الجوع، لقلة المطر ببلادهم، وجفاف العيون، فهلك جلهم جوعا وعطشا، ووصل القليل منهم فى جهد وقل. وتأخر الوسمىّ ببلاد الشام، حتى فات أوان الزرع، واستسقوا ثلاثا فلم يسقوا، ثم اجتمع الجميع وخرجوا للاستسقاء، وضجوا وابتهلوا إلى الله سبحانه وتعالى فأغاثهم وسقاهم.
والنيل بمصر وقف عن الزيادة، فتحولت الأسعار، وتأخر المطر عن بلاد القدس والساحل حتى فات أوان الزرع، وجفت الآبار، ونضب ماء عين سلوان، وكان مبلغ النيل
فى تلك السنة-أعنى سنة 694 - ستة عشر ذراعا وسبعة عشر إصبعا، ونزل سريعا، وكسر بحر أبى المنجى-قبل أوانه بثلاثة أيام-خوفا من النقص، فبلغ أردب القمح مائة درهم، والشعير ستين درهما، والفول خمسين، ورطل اللحم ثلاثة دراهم، فأخرجت الغلال من المخازن، وفرقت فى المخابز، ورتب لكل صاحب جراية ست جرايات فى شهرين. وكان راتب البيوت وأرباب الجرايات-كل يوم-ستمائة وخمسين أردبا ما بين قمح وشعير، ومن اللحم عشرين ألف رطل.
وكان قد ظهر خلل فى الدولة؛ لقلة المال وكثرة النفقات، فتعددت المصادرات للولاة والمباشرين، ووزعت البضائع بأغلى الأثمان على التجار.
ودخلت سنة 695، والناس فى شدة من الغلاء وقلة الوارد، لكنهم كانوا يمنون أنفسهم بمجئ الغلال الجديدة-وكان قد قرب أوانها-فعند إدراك الغلال؛ هبت ريح مظلمة، من نحو بلاد برقة هبوبا عاصفا، وحملت ترابا أصفر كسا زرع تلك البلاد، فأتلف أكثرها، وعم ذلك التراب إقليم الجيزة، والغربية، والشرقية، وزرع الصعيد الأعلى، وفسد زرع الصيف كالأرز، والسمسم والقلقاس، وقصب السكر، وكل ما يزرع على السواقى، فتزايدت الأسعار. وبعد تلك الريح جاءت حمى عمت الناس، فغلا سعر السكر والعسل وما يحتاج إليه المرضى، وعدمت الفواكه، وبيع فرخ الدجاج بثلاثين درهما، ووصل سعر أردب البر مائة وتسعين، والشعير مائة وعشرين، والفول والعدس مائة وعشرة، ورطل البطيخ درهمين، وحبة السفرجل ثلاثة دراهم.
وتزايد القحط فى بلاد/القدس والساحل، ومدن الشام إلى حلب، فوصلت غرارة القمح سعر مائتين وعشرين درهما، والشعير نصف ذلك، ورطل اللحم عشرة دراهم، والفاكهة أربعة أمثالها.
وكان ببلاد الكرك، والشوبك، وبلاد الساحل لما يرصد للمهمات والبواكير ما ينوف عن عشرين ألف غرارة، فحملت إلى الأمصار.
وأجدبت مكة، فبلغ أردب القمح بها تسعمائة درهم، والشعير سبعمائة، فرحل أهلها حتى لم يبق بها من الناس إلا اليسير.
وعدم القوت ببلاد اليمن، وكثر بها الوباء، فباعوا أولادهم، واشتروا بهم قوتا، وفروا إلى حلل بنى يعقوب، فتلاقوا مع أهل مكة، وضاقت بهم الأرض بما رحبت، فأفناهم الجوع جميعا، ما عدا طائفة قليلة.
وحصل القحط ببلاد المشرق، وفنيت دوابهم، وهلكت مراعيهم، وأمسك المطر عنهم. واشتد الأمر بمصر، وكثر بها الناس من الآفاق، فعظم الجوع حتى كان الخبز ينهب من المخبز والحوانيت، وكان العجين-إذا خرج به صاحبه ليخبزه-نهب قبل أن يصل، فكان لا يصل إلا إذا كان معه عدة يحمونه من النهابين
…
ومع ذلك، فكان من الناس من يلقى نفسه عليه ليأخذ منه بلا مبالاة، بما أصابه من ضرر الضرب.
فلما تجاوز الأمر حده، أمر السلطان بجمع الفقراء وذوى الحاجات، وفرقهم على الأمراء، فأرسل إلى أمير المائة مائة، وإلى أمير الخمسين خمسين، حتى وزع على أمير العشرة عشرة، فكان منهم من يطعم من خصه من الفقراء ثريد لحم البقر، ومنهم من يعطى كل واحد رغيفين، ومنهم من يعطى كعكا، ومنهم من يعطى رقاقا، فخف ما بالناس.
ولكن عظم الوباء فى الأرياف، وفشت الأمراض بالقاهرة ومصر، وعظم الموتان، وكثرت طلبة الأدوية، حتى أن عطارا بباب حارة الديلم، باع فى شهر واحد باثنين وثلاثين ألف درهم، وبيع من حانوت شخص، يعرف بالشريف عطوف، من سوق السيوفيين، بمثل ذلك، وكذلك حانوت بالوزيرية، وآخر خارج باب زويلة، باع أيضا بمثل ذلك.
وطلبت الأطباء، وبذلت لهم الأموال، وكثر ما تحصلوا عليه، فكان الواحد منهم يكتسب فى اليوم الواحد مائة درهم. ثم أعيا الناس كثرة الموتى، حتى بلغت عدة من يصل اسمه الديوان السلطانى-فى اليوم الواحد-ما يزيد عن ثلاثة آلاف.
وأما الطرحى، فلم يحص عددهم بحيث ضاقت بهم الأرض، وحفرت لهم حفر وآبار. وألقوا فيها، وجافت الطرق والنواحى والأسواق، وكثر أكل لحم بنى آدم-خصوصا الأطفال-فكان يوجد عند رأس الميت لحم ابن آدم الميت، ويمسك بعضهم فيوجد معه كتف طفل، أو فخذه، أو شئ من لحمه.
وخلت الضياع من أهلها، حتى أن القرية التى كان بها مائة نفس، لم يوجد بها غير نحو عشرين، وأغلبهم يوجد ميتا فى مزارع الفول، لا يزال يأكل منه حتى يموت، ولا يستطيع الحرّاس ردّهم لكثرتهم. ومع ذلك وجد المحصول-بعد الحصاد-أضعاف المعتاد.
ولقد كان للأمير فخر الدين ألطنبغا المساحى، من جملة زرعه مائة فدان من الفول، لم يمنع أحدا من الأكل منها فى موضع الزرع، ولم يمكّن أحدا أن يحمل منها شيئا زيادة عن أكله، فلما كان أوان الدرس خرج بنفسه، وقف على أجران المائة فدان المذكورة، فإذا تل عظيم من القشر الذى أكلت حبه الفقراء، فطاف به وفتشه، فلم يجد فيه من الحب شيئا، فأمر به أن يدرس لينتفع بتبنه، فلما درس جاء منه سبعمائة وستون أردبا، فعدّ ذلك من بركة الصدقة، وفائدة أعمال البر، والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم.
وكثرت أرباح التجار والباعة، وازدادت فوائدهم، فكان الواحد من الباعة يستفيد فى اليوم ثلاثين درهما، وكذلك كانت مكاسب أرباب الصنائع، واكتفوا بذلك مدة الغلاء، وأصيب جماعة كثيرون ممن ربح فى الغلال، من الأمراء، والجند، وغيرهم، مدة الغلاء، إما فى نفسه وإما فى ماله؛ فلقد كان لبعضهم ستمائة أردب باعها، سعر كل أردب مائة وخمسون درهما، بل بعضها باعه بأزيد، فلما ارتفع السعر عما باع به، ندم على بيعه الأول حيث لم ينفعه الندم، فلما صار إليه ثمن الغلال أنفق معظمه فى عمارة زخرفها، وبالغ فى تحسينها، حتى إذا فرغ منها، وظن أنه قادر عليها، أتاها أمر ربها فاحترقت، وأصبحت لا ينتفع بها أصلا.
مطلب أول وزن الفلوس
ولما ضربت الفلوس، لعبت الناس فيها، فنودى أن يستقر الرطل منها بدرهمين، وزنة الفلس درهم، وهذا أول وزن الفلوس.
واشتد ظلم الوزير الصاحب فخر الدين الخليلى
(1)
، لتوقف أحوال الدولة من كثرة الكلف، فأرصد متحصل المواريث للغداء والعشاء، وأخذ الأموال الموروثة-ولو كان الوارث أبا أو ابنا-فإذا طالبه الوارث بما يستحقه، كلفه إثبات نسبه واستحقاقه، فلا يكاد يثبت ذلك إلا بعد عناء طويل ومشقة، فإذا تم الإثبات أحاله على المواريث.
وهكذا كان يفعل بتركة كل من مات، فتضجر الورثة من الطلب، فتترك المطالبة واشتد الأمر على التجار، لرمى البضائع بالأثمان الزائدة، والقيم الكثيرة، وكثرت المصادرات، وعظم الأمر، واشتد الجور على أهل النواحى، وحملت التقاوى السلطانية من الضياع، واشتد الأمر على أهل دمشق ونابلس وبعلبك وغيرها، فكانت تلك الأيام فى/ غاية الشدة.
وهذا كله، وجدته مسطورا برسالة المقريزى، ونقلت بعضه حرفيا، ليعلم القارئ فظاعة تلك الأيام، وسوء تدبير حكامها.
ولم تنته الشدة على أهل مصر، بانتقال الملك من الدولة الأيوبية إلى التركية، بل زادت زيادة فاحشة أضرت بالبلاد والعباد، واستمر ذلك إلى عهد قريب منا.
وفى جميع هذه المدد، كان القحط والوباء متعاقبين، وحصل منهما خراب البلاد فى الأقاليم البحرية.
وهاك بيان مما حدث منهما، فى الأقطار المصرية إلى سنة 1213، التى كان فيها دخول الإفرنج ديار مصر.
(1)
هو: فخر الدين عمر بن مجد الدين عبد العزيز الخليلى الدارى. انظر: السلوك، ج 1 ق 3، ص 836،808؛ إغاثة الأمة، ص 37.
سنة 694: حصل طاعون وقحط، وفتن وحرب، فى زمن محمد بن قلاوون، الملقب بالملك الناصر.
سنة 748: حدث وباء شديد فى زمن السلطان حسن، وهلك فيه كثير من الناس.
سنة 842: حدث وباء عظيم فى زمن جكمك، الملقب بالملك الظاهر.
سنة 1007: حدث طاعون عظيم، وقحط أليم، فى زمن على باشا السلحدار.
سنة 1027: حدث طاعون شديد، فى زمن الوزير جعفر باشا، فخربت البلاد، وأقام أربعة أشهر، وكان أغلب من يموت عمره من 15 إلى 25 عاما، وعدد من مات فيه 600000 نفس.
سنة 1028: حصل غرق عظيم، تلاه وباء أليم، وقحط مهين.
سنة 1029: حصل غلاء ووباء شديدان، فى زمن إبراهيم باشا.
سنة 1034: طغى النيل، وخافت الناس الغرق والقحط، ولكن الله سلم، وزرعت الناس، وأخصب الزرع، لكن حدث وباء.
سنة 1035: مات أكثر من 300000 نفس من القاهرة. ولتسكين روع الخلق، حرّج الباشا على الصياح، فكان الميت يمر بالحارة ولا يسمع به، وكان الباشا يستحوذ على التركات.
سنة 1039: جاء سيل عظيم إلى مكة المشرفة، فخرب أغلبها، وهدم حوائط الكعبة، فكتب السيد مسعود-شريف مكة المشرفة-إلى الباشا والى مصر، ومن طرفه كاتب الآستانة، فأمر ببناء الكعبة، وأرسل من مصر جميع ما يلزم من عملة ومهمات، وصرف على ذلك مائة ألف قرش، وقرش ذاك الوقت، يعدل أربع فرنكات.
سنة 1049: قصّر النيل فزادت الأسعار، وتلاه وباء، وكثر السارقون وقطاع
الطريق، فكان لا تمضى ليلة إلا وتنهب فيها حارة من الحارات، وذلك زمن الوزير مصطفى باشا البوستانجى.
سنة 1050: فى زمن منصور باشا، حصل طاعون لم يسمع بمثله، وكان ابتداؤه ببولاق، ولم يظهر بالقاهرة إلا بعد شهرين، والذين ماتوا وصلى عليهم 900000 نفس، كما قال ابن أبى السرور، وكثر الموت، حتى صارت الموتى تدفن بدون صلاة، وخرب بهذا الطاعون 230 بلدة من الجهات البحرية.
وفى سنة 1060: قصّر النيل ولم يبلغ غير ستة عشر ذراعا، فشرق ثلث الأراضى القبلية، ولم يرو غالب أرض الوجه البحرى، وعلا السعر علوا فاحشا، وتعطلت الأموال الميرية، وكثرت المظالم، وفشا النهب.
ثم من سنة 1063 إلى سنة 1112: تبادل على حكومة مصر 22 من الباشاوات، فكان الأمر بين قتل ونهب، ولم أعثر على أمر يخص الأهالى.
سنة 1142: حصل طاعون شديد، يعرف فى كتب الإفرنج: بطاعون كاوى، وذلك زمن شياخة ذى الفقار على القاهرة، ولم أر أعظم منه.
وسبب تسميته بهذا الاسم-على ما ذكر المؤرخون-أن فقيرا زنجى الأصل، كان يجرى فى الحارات، وينادى. كاوى كاوى، وبعد ذلك رمى نفسه فى النار فمات.
ثم حدث طاعون زمن شياخة عثمان بيك، واستمر مدة مع قحط شديد، ولكن تدارك عثمان بيك أمر الناس، فلم يحصل لهم كبير عناء.
ومن بعد هذا التاريخ حصلت حروب متوالية، وفتن على سوقها قائمة متتابعة لا تنقطع، لا داخلا ولا خارجا.
سنة 1205: حدث طاعون فظيع سماه أهل مصر: طاعون إسماعيل بيك، وذكر المؤرخون أنه لم يحصل مثله فى الأيام السابقة، فإنه كان يموت بالقاهرة-كل يوم-زيادة عن
ألف نفس، وتغيرت الحكام فى اليوم الواحد أربع مرات من هوله وشدته؛ فإنه كان يتعين الحاكم منهم فيموت من يومه، فيتعين بدله، وهكذا. ومات فيه إسماعيل بيك وأهل بيته، وذريته وأتباعه، وخلا بيته مرة واحدة.
وتلا ذلك قحط شديد، وغلاء عظيم لم ير مثله؛ بسبب أن إبراهيم بيك، ومراد بيك احتكرا غلال الصعيد، وصارا يتجران فيها فى الخارج.
هذا، ولم أذكر من حوادث تلك الأيام غير المهم منها، وإلا فما تركته أكثر مما ذكرته.
والآن قد أزال الله سبحانه وتعالى جميع ذلك، وخلصنا من مهاوى هاتيك المهالك، حتى صرنا لا نسمع به، فلأى سبب كان يوجد فى الماضى، ولأى سبب لم يوجد الآن؟ ولأى شئ لم يكثر فى أرض مصر زمن الفراعنة، ومن أتى بعدهم، وفشا فى مدة العرب ومن عقبهم؟ وكيف بعد أن كان تعداد أهالى مصر ثمانية ملايين-كما قال استرابون-وقبلهم، صار يتناقص حتى وصل لثلاثة ملايين، حين دخول الفرنسيس؟ وكيف انتقل حتى صار الآن خمسة ملايين، ولم يزل يزداد سنة فسنة، فهل يعرف لذلك سبب غير سوء التدبير، والجهل بسياسة أمور الأمة فى تلك الأزمان؟
وزال ذلك كله والحمد لله فى الأزمان الحالية، فإنا نعلم أن الطاعون كان يظهر فى القطر كل خمس أو أربع سنين/مرة، والآن ذهب من أصله، بسبب ترتيب مجالس الصحة، وإزالة الأمور الضارة: كالبرك والمعاطن، وإحكام المدافن، واختيار المقابر فى المواضع اللائقة؛ خصوصا حين ابتدئ فى تلقيح الجدرى للأطفال، فخلص منه كثير، وأخذ تعداد الأمة يزداد كل سنة، مع أنه كان فى السابق يموت الأغلب ويبقى القليل.
وكذلك لو سردنا الأمراض التى كانت قاطنة ببيوت الأهالى، تحصد فيهم حصد الزرع، لوجدنا أن أغلبها ذهب، ونجى الله الخلق منه، وليس هناك سبب، غير عناية الحكومة المحمدية العلوية، وتوفيق الله إياها لإجراء ما يصلح العباد، فكم من مرة مررت-
وأنا صغير-بطرق القاهرة، وكنت أفزع من النظر للمبتلين والمجذومين المنتشرين فى أزقة البلد والطرقات، فانظر ما الذى صار، حتى أنا لا نرى منهم الآن أحدا؟، هل لذلك سبب غير ضبطهم ومعالجتهم بالمستشفى المنتظم فى كل بندر ومدينة، فمن يمر الآن فى أزقة القاهرة لا يرى شيئا مما ذكره أحد السياحين: من أنه رأى فى العشرة من أهل مصر ثمانية، ما بين أعمى وأعور، أو على عينه نقطة، أو به رمد، فهل ينبغى لنا تكذيب السياح المذكور؟
بل الذى نقوله: إن الناس تشبثت بمعالجة أمراض العيون، وكثر الكحّالون، واتبعت طرق تلطفت بها أمراض العيون.
ولا ينكر أحد ما كانت الناس تعانيه فى الأرياف من أمر معالجة المرضى، فإنه كان يندر وجود طبيب بالجهات البحرية، وكان أمر المعالجة موكولا للحلاقين وعجائز النساء، أما الآن فقد صار بكل مديرية إسبتالية، وأجزاخانة، وأطباء، وتمرجية، وبكل قسم طبيب.
فمن ذلك الترتيب الحسن صفا الهواء من العفونات، التى كان يحملها من مناقع الماء والبرك والمعاطن، وتخلص أهل القرى من القاذورات، ونظفت أماكنهم، وأجروا بين مزارعهم ترعا وأنهارا، وغرسوا أشجارا، فما يزرع الآن بأرض مصر أكثر مما كان يزرع بها زمن البطالسة والرومانيين؛ فإن الأصناف المعتادة أخذت فى الزيادة، باتساع أسباب دائرة النموّ والفائدة: كالإكثار من الجداول والأنهار والجسور والمساقى، التى أوصلت مياه النيل إلى أطراف أراضى البلاد جميع فصول السنة، وكانت-قبل-لا تصلها إلا نادرا، وذلك كله ليس إلا من وجود المهندسين، وتفننهم فى رىّ ما كان يتعسر أو يتعذر ريه، فكان النيل وقت فيضانه لا يعم البلاد، مع أنه يغرق بعضها، ووقت النقصان تحرم منه.
فمن ينظر إلى حسن سير ولاتنا فى هذه الأزمان وسير الولاة السابقين، يجد أنا وصلنا الآن إلى درجة عظيمة فى الثروة، صرنا بها من ضمن الأمم المتمدنة؛ خصوصا بالتفات الخديو إسماعيل، فإنه بذل مجهوده فى توسيع دائرة المنافع العامة، وهذا بخلاف ما كانت عليه الحكام فى الأزمان الماضية، التى ذكرتها لك آنفا.
ولنورد لك أنموذجا لتكون على بصيرة فى أمور الولاة، بحيث إذا حكمت لهم وعليهم بشئ يكون حكمك عن تصوّر، فإن الحكم على الشئ فرع عن تصوّره فنقول:
إنه فى سنة 971 من الهجرة، كان الوالى على مصر على باشا الصوفى، فبدلا عن أن يحضر إليها، ويولى أمورها من شاء من أمرائها وأهلها، أحضر معه جملة من حلب، ووظفهم فى قبض الأموال وضرب النقود، فنزل سعر العملة من كثرة الغش الداخل فى العيار، وضرر ذلك لا يخفى.
وفى زمنه كثر السارقون وقطاع الطريق، لا سيما حول القاهرة، فاضطر إلى بناء حائط من قنطرة الحاجب إلى الجامع الأبيض، خوفا من السارقين والأشرار أن يدخلوا البلد، فإنهم كانوا لا يكترثون بشئ، لا ليلا ولا نهارا.
وتولى بعده على مصر محمد باشا، وكان مشهورا بالظلم وسفك الدماء، فكان لا يمشى فى البلد إلا ومعه الطوباش؛ أى الوالى، فيقتل بذنب وغير ذنب، فمتى أشار إلى أحد وقعت رأسه، وكان له جواسيس تخبره عن أصحاب الثروة وأرباب الأموال، فيحبسهم ويطلب منهم مبالغ يقرّرها عليهم، وينوع لهم العذاب حتى يسليهم أموالهم، واستعمل المصادرة وضرب الجرائم.
وفى سنة 1007، كان الوالى على مصر الوزير على باشا السلحدار، وكان أيضا غشوما ظلوما سفاكا للدماء، لم يعهد أنه خرج فى البلد مرة ورجع إلى بيته بدون سفك دم؛ فإنه كان يقتل العشرة أو الأكثر ثم يدوس رممهم بفرسه ليعتاده. وكان يأمر بترك القتلى فى الطرق الأيام العديدة.
وفى زمن الوزير حسين باشا، المتولى على مصر سنة 1044، كثر الظلم، وفشا الغدر حتى صار يضرب به المثل، ولما حضر أحضر معه جملة من الدروز، ثم سلطهم على نهب الأموال، فكانوا يدورون فى البلد، وينهبون الأموال جهارا، حتى أغلق الناس حوانيتهم، وتعطلت الأسواق، وقل الأمن فى جميع الرعية على المال والنفس.
وتفنن ذلك الباشا فى جوره، واستحوذ على نقود التركات، فكان أكثر من يقتله يستولى على ماله، ووضع يده على إيراد الأوقاف، ومرتبات الأرامل والفقراء.
ولنقتصر على ذلك لئلا يطول الكلام، ونخرج عما نحن بصدده، فمن أراد استيفاء أحوال تلك الأزمان، فعليه بملخص تاريخها فى آخر هذا الكتاب؛ ليعلم أن جميع الباشوات الذين تولوا/مصر كان مطمح نظرهم، ومسرح فكرهم الحصول على المال، بدون التفات إلى أحوال الخلق، وقلّ من وجه منهم نظره لهذا الأمر.
وأيضا لو فرض أن لبعضهم رغبة وميلا لفعل الخير، لا يتيسر له ذلك لأمور منها:
أن القوانين فى تلك الأيام كانت موكولة إلى الديوان العالى، لا استقلال للولاة بشئ منها، فلم يكن لهم من الحكم إلا الاسم.
ومنها: أن البلد كانت بيد أمرائها ومشايخها، فمن وافقهم أحبوه وأبقوه، ومن خالفهم عزلوه ونفوه.
ومنها: أنه كان كل من يأتى إلى مصر من الولاة لا يستغنى عن بطانة من الآستانة، وتكون له مستندا يستند إليها فى أوقات شدته، فكان مضطرا إلى مواساة بطانته، فمن أين يتحصل على ذلك-بل على مؤنته-لو لم يتملق إلى كل من كان له فى البلد كلمة؛ ولو اشتهر بالفجور أو كان أحد الظلمة.
ومنها: ما استقر فى أذهان ولاة ذلك الزمان، وربما شاهدوه بالعيان. أن الوالى قد يولى فلا يصل إلى ديوانه، إلا وقد لحقه الأمر بعزله ورجوعه إلى مكانه، فلذلك كان من يلى مصر لا يستقر، ولا يهدأ له سر، حتى يدور مع الأيام حيث دارت، ويوافق أعيان البلد فى كل ما به عليه أشارت، ويداهن العدوّ والحبيب، ويجامل البعيد والقريب، ليطمئن على وظيفته، ويحصل على ما يلزم لمؤنته.
وهناك ما هو أدهى من ذلك كله؛ وهو علمه بأن روحه بيد البيكوات الذين كانوا
بمصر وقتئذ إذ كان من عوائدهم أنهم إذا غضبوا على وال أرسلوا له من يهدده، فإن رجع إلى رأيهم ووافقهم على أغراضهم، وإلا أرسلوا له الطوباش فيذهب إليه فى هيئة غير معتادة راكبا حمارا، فإذا رآه العامة بهذه الحالة عرفوا ما هو بصدده، واجتمعوا حوله وتبعوه إلى القلعة، فيكون لهم هناك ضجيج وغوغاء، فإذا أدخل على الوالى قبّل الأرض بين يديه، ثم سلمه الأمر، وطوى طرفى البساط الذى هو جالس عليه، فيقوم من فوره وينزل إما إلى منزله، أو السجن أو القتل.
فكان كل من ولى مصر من هذا القبيل. ولا ينجو منهم من يد البيكوات ومشايخ البلد إلا القليل، لأنه إن أرضى البيكوات أغضب الدولة، وإن أرضى الدولة أغضب البيكوات، وإن أرضاهما أغضب الأهالى.
ولا تسل عما يكون خلال ذلك مما يغضب المولى-جل جلاله-فأين ما كان فى ذاك الزمان مما نراه الآن، فقد أمن الخلق، واتسعت أسباب الرزق-خصوصا أيام أفندينا إسماعيل-وفقه الله لكل أمر جليل جميل.
المدة السابعة
202 سنة من ذاك الزمن نزلت مدينة الفسطاط عن درجتها، وانحط قدر مدينة الإسكندرية انحطاطا كليا، وانفردت مدينة القاهرة بما كان لهاتين المدينتين من المزايا العلمية والسياسية، وصارت تتزين بالمبانى الفاخرة، إلى أن حصل حرب الصليب فى منتصف القرن الحادى عشر، الذى بعده اختلطت الأورباويون بالمشرقيين، وظهر صلاح الدين سنة 1171.
فإنه فى القرن الحادى عشر من الميلاد، كانت أوروبا فى أرض الخمول، ولا دخل للمعقول فى أحوالها، وكانوا جميعا فى انقياد تام للديانة، تقتبس طباعها وأخلاقها وإدارة
أحوالها من رجالها، وكانت كلمة القسوس هى الكلمة النافذة، لا يخالفها الملك ولا أحد من الرعية.
ولما اتسعت دائرة الإسلام وتتابع نصره وتمكن ببلاد المشرق، انحصر النصارى ببلاد المغرب، وكانت أهالى القسطنطينية-حينئذ-على وجل من قيام الساعة، لا يتكلم فى مجالسهم إلا بقربها فمنهم من ينسبه إلى طوفان عام، ومنهم من ينسبه إلى حريق عام.
وكانوا جميعا قائلين بزوال هذا العالم، موجهين أفكارهم نحو الديانة، طالبين من الله الرحمة.
ثم قصدوا بيت المقدس-من كل ناحية-وفيهم رجل فرنساوى اسمه عندهم (بيراى الحجر) فتردد على بطرق بيت المقدس مرارا واتفق معه على أن يوصل مكاتيب يكتبها للبابا وملوك أوربا: أن يتعاهدوا على طرد المسلمين من القدس، فتوجه إلى البابا وعرض عليه الكيفية فاستحسنها.
وفى سنة 1055 حصل الاتفاق من كبار الديانة على محاربة المسلمين، ولما أعلنوا بالحرب صارت الناس تطلب الدخول فى المجاهدين تطوّعا منهم، وباع أغلب الناس ما يملكه ليصرفه فى سبيل الله.
مطلب حرب الصليب
ثم لما جاءوا وتصادموا مع المسلمين، نجحوا أول مرة ونصروا على المسلمين، واستولوا على بيت المقدس، وانتصب (جودفروى) -أحد الرؤساء-على أرض القدس وذلك سنة 1099.
ثم طمع النصارى فى المسلمين، ورغبوا فى الاستيلاء على باقى بلاد الإسلام؛ لضعف الخلفاء وتساهلهم فى حفظ البلاد وذلك مدة العباسيين والفاطميين فقام (أمورى الأول) -
ملك القدس-وقصد الديار المصرية سنة 1168 بجيش عظيم، واستولى على بلبيس، وتوجه نحو القاهرة، فصالحه الخليفة العاضد رغم أنفه؛ لعجزه عن المدافعة، وقرر على نفسه مليونا من الدنانير، ورغب الدخول فى المدينة للحصول على الدراهم، فخاف أهل القاهرة خوفا شديدا، فاتفق أمراء الدولة مع الخليفة على أن يحرروا مكاتيب إلى الملك نجم الدين
(1)
، يطلبون منه النجدة، فأرسل لهم صلاح الدين على جيش عظيم، وكان صلاح الدين حاز شهرة عظيمة فى محاربة نور الدين مع النصارى، لكن/بعد قدومه بالعسكر، رأى العاضد أن إبعادهم عن مصر خير له، فتمّم أمر المصالحة مع النصارى، وصرف الجميع عن بلاده، ثم اضطر ثانيا إلى طلب المعونة من نور الدين؛ لأن (أمورى) وملك القسطنطينية كانا اتحدا معا، وأرسلا جيشا عظيما فى البحر إلى ثغر دمياط، فأرسل له نور الدين، صلاح الدين يوسف، فلما حضر ثانيا جلاهم عن الديار المصرية بعد محاصرة دمياط شهرين، فكافأه العاضد على ذلك؛ بجعله أكبر وزرائه ورئيس جيوشه، ولقبه بالملك الناصر.
فلم يكتف بذلك صلاح الدين، بل أخذ يبدى ما هو كامن فى ضميره، وما أسرّ إليه سيده.
وأول شئ أظهره إبطال اسم الخليفة الفاطمى من الخطبة، وتعويضه باسم الخليفة العباسى الثالث والثلاثين من بنى العباس، وإكرام من بقى من نسل العباسيين الذين بمصر، فخصهم بجميع مزايا الأبهة والشرف-فى الأمور الدينية فقط -وبقيت لهم هذه المزايا فيما بعد، ومن ذاك الحين صار لا يسمع بذكر شيعة علىّ وجعلت الإمامة للشافعية.
وفى أثناء جميع تلك التغيرات، كان العاضد مريضا ثم مات، فاغتنم صلاح الدين فرصة موته، وجعل الملك باسم سيده، ومحا ذكر الفاطميين من الديار المصرية، واستولى على أموالهم وذخائرهم.
(1)
الصحيح «الملك نور الدين محمود بن زنكى» . انظر: حسين مؤنس: نور الدين محمود، ص 309 - 311، القاهرة 1959.
مطلب استقلال صلاح الدين بالحكومة المصرية
وبعد ذلك رأى فى نفسه القدرة على الاستقلال فاستقل بحكومة مصر، وأسس بها العائلة الأيوبية. ومات نور الدين سنة 1183، فطمع فى مملكته، وأغار عليها، واستحوذ عليها جميعها، وجرد أولاد سيده نور الدين من ملك أبيهم.
ثم فى سنة 1188 توجه إلى بلاد القدس وحاصرها، وتغلب عليها، وطرد ملكها منها، وسطا على ملك النصارى بالبلاد الشامية وبلاد فلسطين، وجلاهم عنها، وشاع ذكره، واشتهر أمره ببلاد أوروبا والمشرق، وخافه الخلق أجمعون؛ لشهامته وحسن تدبيره ونظره فى الأمور.
وهو الذى لهج المؤرخون بمدحه، من بين من جلس على تخت هذه الديار قبله وبعده، ومع ذلك لما مات لم يوجد فى خزائنه إلا سبعة وأربعون درهما ودينار واحد، ولم يخلف ملكا ولا عقارا، ولكن لا تخفى فعلته التى فعلها بسيديه الأول: نور الدين وأولاده، والثانى: العاضد وأولاده، لأنه لما توفى العاضد، استحوذ على القصر بما فيه من نفائس الأموال، واعتقل أقاربه من نساء ورجال، ومنعهم عن نسائهم لئلا يتناسلوا، ولكن أين صاحب فضل لم يغلب عليه الطمع؟ ومن ذا الذى ترضى سجاياه كلها؟.
ثم مات سنة 1193، فقسمت دولته بين ولديه العزيز والأفضل، وعلت كلمة الأيوبية فى الديار المصرية.
ولكنها لم تبق على ذلك إلا زمنا يسيرا، فالذى كان على تخت مصر من أولاده هو الملك العزيز، وأما الملك الأفضل فكان على الديار الشامية، والأول مات ولم يترك ذرية، فصار الأفضل على الولايتين، وجعل تخت ملكه القاهرة، ولم تطل مدته بل طرده عمه الملك العادل وقام مقامه.
وهو الذى لجماله عشقته أخت (رتيشارد) وكان حصل الاتفاق بين صلاح الدين وأخيها على زواجها به، لكن توقف المسلمون. ومن ذاك العهد صارت أولاده تتوارث ملكه إلى زمن الملك الصالح الملقب بنجم الدين. ثم حصلت وقعة سنلويز المشهورة، وهاك بعض تفاصيلها.
مطلب وقعة سانت لويز
(1)
المشهورة
فى سنة 1244، حصل لجيش النصارى-فى ضواحى غزة-هزيمة عظيمة، وصل خبرها بلاد النصرانية، فأمر البابا بانعقاد مجلس من أمراء الروحانيين، وذلك سنة 1245، فانحط الرأى على تجريدة سابقة
(2)
على المسلمين.
وفى تلك المدة كان ملك قسطنطينية، وملك ألمانيا، وملك إيطاليا فى ارتباك تام، فلم يمكنهم أن يرسلوا جيشا، فانفرد بهذا الأمر ملك فرنسا، فجمع العساكر ووكل على المملكة والدته سنة 1248، وسار بهم فى البحر، وكان معه إخوته الثلاثة وجميع رؤساء دولته.
وفى شهر سبتمبر وصل جزيرة رودس، فأقام هناك إلى فصل الصيف من السنة القابلة، وهى سنة 1249، ثم قام فوصل دمياط بعد خمسة عشر يوما، فاغتنم الصالح نجم الدين الفرصة، وحصّن مدينة دمياط، وجمع ما يلزم من السلاح، والذخيرة، والرجال، وجعل على الساحل جيشا من الخيالة رئيسهم فخر الدين؛ لمنع النصارى من الخروج إلى البر، وأغلق بوغاز النيل.
ومع هذا، فقد هجمت النصارى وخرجت، وانهزم فخر الدين بمن معه، ودخل دمياط مرعوبا فاغتّم الأهالى والعسكر ففروا هاربين منها، فدخلها الفرنسيس بدون ممانع، واستحوذوا على ما فيها.
(1)
فى الأصل: ستلويز.
(2)
الصحيح: تجريدة لاحقة.
ولولا غفلة الفرنسيس عن اتباع أثر المنهزمين لدخلت مصرفى قبضتهم؛ لأنه لم يكن بها حينئذ جيش غير هذا الجيش، ولكن قضى الله بذلك لأمر يعلمه. وأقام الملك ينتظر حضور أخيه بمن معه من العساكر.
وأما نجم الدين أيوب، فبعد أن أفاق من دهشته وتفكر فى الأمور، أقام فى مدينة المنصورة، وجعل الاستحكامات فيها بين المدينة والبحر الصغير، وجمع من جميع جهات القطر ما تعظم به القوة، وتتم به المدافعة.
وفى أثناء ذلك اشتدّ مرض السلطان ومات، فأخفت زوجته شجرة الدرموته؛ خوفا من فتور همة الجيش عن الحرب، وذلك باتفاقها مع رئيس الجيش عز الدين أيبك، وعقد الكلام بينهما، على أن ذلك الإخفاء يستمر إلى/حضور ولدها الملك-الملقب بطوران شاه- من ديار بكر.
ثم حضر جيش النصارى من البر الشرقى إلى البحر الصغير، ورغبوا مجاوزته والعبور عليه، فمنعهم المسلمون من ذلك، ثم دلهم بعض الناس على جهة يخوضونه منها نظير مبلغ ألف فرنك جعلوها له، فساروا إلى ذلك الموضع، فعلم المسلمون بذلك فمانعوهم، واقتتل الفريقان ولم يجد ذلك شيئا، بل جاز جيش النصارى البحر، وساروا حتى دخلوا المنصورة، فدخل أخو الملك داخلها مع جماعة من العسكر، وانفرد عن الجيش فتفرق جمعه، ولكن قيض لهم من جمع شملهم، ولولا ذلك لأخذت مصر وقتها.
وفى هذه الواقعة، نزل أهل المنصورة المقبرة الإسلامية، وقاتلوا من دخل المدينة وأفنوهم عن آخرهم، وفيهم أخو الملك، وكان جيش النصارى متفرقا بعضه فى البر البحرى، وبعضه فى البر القبلى، فكان المسلمون ينتهزون الفرصة، ويحاربون هذا الفريق تارة والآخر تارة، ومع ذلك لم يتم النصر لأحد الفريقين فى هذا اليوم. وكانت النصارى زحزحت المسلمين عن معسكرهم، وفى اليوم الثانى حضر طوران شاه وتقلد بأعباء الملك، فاصطدم الفريقان صدمة هلك فيها كثير من الفريقين، ولم يتم الفوز لأحد من الفريقين على الآخر فى هذا اليوم أيضا.
ثم إن طوران دبر تدبيرا؛ وهو أن يمنع ما يرد إلى جيش النصارى فأرسل خلقا إلى المراكب التى بها مأكلهم، فلحق جيش النصارى من الكرب ما لا مزيد عليه، وهجم عليهم الطاعون والأمراض، فانهزموا فلحقهم المسلمون، فجازوا البحر على قنطرة من خشب كانوا صنعوها على البحر الصغير، فالتقى الفريقان بفارسكور، فاقتتلوا قتالا عظيما، انتصر المسلمون فيه على النصارى، وأسروا ملكهم ومن معه من الرجال والعساكر، وكر المسلمون راجعين إلى المنصورة، فرحين بما أوتوا.
وهناك اشترطوا على ملك النصارى شروطا، منها: أنه يخرج من مصر، وأن يسلم نظير فك أسره مائة ألف وزنة من الذهب-والوزنة خمسة ليورا باريزى-. وعلى هذا ذهب جيش النصارى من مصر، وسلم دمياط.
ولما وصل ملك النصارى عكا، أرسل ما فرض عليه.
وإنما خرجنا عن الموضوع، وأطلنا فى تفصيل حوادث هذه الأوقات؛ ليعرف القارئ ما ورد على الديار المصرية. ومع ذلك فالغارة الأولى التى كانت فى سنة 1096، والثانية التى كانت فى سنة 1148، لم يحصل منهما انتقال لمدينة إسكندرية عما كانت عليه.
ثم أنه يقال: إن الفرنساوية كانوا تحت إمرة (أمورى الأول) ملك بيت المقدس، الذى أغار على الديار المصرية وحاصرها، ولم يتمكن منها؛ لمدافعة أهلها عنها وارتد خائبا، كما صار له فى هجومه على القاهرة ودمياط. ثم أنه عقب تلك الغارات هجم صلاح الدين على بلاده فخربها.
المدة الثامنة
79 سنة، وهى دولة الأيوبيين والأكراد، التى أعقبت الفاطميين، وكان فى إمكان الفاطميين أن يبقوا الأسباب الموجبة لاضمحلال ملك العباسيين، ويجعلوا العدل أساس
ملكهم، ويسيروا على منهج الشرع لتتمكن حكومتهم فى الأرض وتبقى، وذلك إنما يكون بتأليف قلوب الأهالى.
ولكن لم يلتفتوا لذلك أصلا، بل تبعوا فى سيرهم الخلفاء ببغداد، وأكثروا من الظلم والزهو، واشتغلوا بالمحاورات الدينية، واشتركوا مع العلماء فى المجادلات المذهبية، وأكثروا من العدوان بقصد الحصول على رجال يدخلون فى مذهبهم.
وأضلهم الحاكم بأمر الله، الذى ادعى الألوهية، فأشعل النار بالقاهرة للتسلى، فضاق الحال بالخلق، وآل أمر الخلافة الفاطمية إلى ما آلت إليه من الاضمحلال، وضعفت شوكتهم وطمع فى الخلافة المقربون منهم.
وفى زمن الخليفة العاضد-آخر سلسلتهم-توعده أحد رؤوس الجيش-وكان قد عزله-بأنه يخليه من الخلافة. فمن خوفه وعدم أمنه على حاشيته وأهله-لكثرة ظلمة استعان بالأجانب، وطلب النجدة من نور الدين ملك حلب، ولم يتفكر فى العاقبة، فأرسل له جيشا فخلصه مما رضى أن يدفعه للإفرنج بعد وقعته معهم فى الشام، ونصره على القائمين عليه من رجاله، وما علم أنه تخلص من عدوّ ضعيف، ووقع فى مخالب من لا طاقة له به.
فبهذه الكيفية أنشب صلاح الدين-رئيس الجيش من طرف نور الدين-مخالبه بملك العرب، فأزاله عنهم، وانتقلت حكومتهم إلى طائفة من الأكراد والأتراك-عرفت بالطائفة الأيوبية-وأوّلهم صلاح الدين، فإنه هو الذى أتى بجيوشه المركبة من الأكراد والأتراك، وأزال الفاطميين من الديار المصرية، وجلا الإفرنج عن الديار الشامية، بعد أن كانوا مستولين عليها من زمن مديد.
وفى زمنه حصلت غارات منهم متعددة:
ففى الأولى، وهى الرابعة بالنسبة لحرب الصليب-وكانت تكونت ببلاد الونديك سنة 1122 - أخذت مدينة قسطنطينية.
وتلاها غارة سانت لويز سنة 1248 على الديار المصرية، ولم تضر بالقطر إنما أضرت بإسكندرية؛ لأن الفرنساوية والبندقيين أضرموا فيها النار، وتركوها حين علموا أنهم لا يمكنهم الإقامة بها، وذلك سنة 1250.
وعلى نسق الفاطميين اتخذ الأيوبيون القاهرة تخت مملكة، وزادوا فى زخارفها بما أحدثوه فيها من المبانى/العظيمة، واتسعت دائرة العلم فيها بعناية صلاح الدين وخلفائه من حين إلى حين.
وأما إسكندرية فإنها كانت آخذة فى الانحطاط.
مطلب واقعة التتار
وحيثما كانت مصر تتقلب فى شباك هذه التقلبات، كانت جهة شمال آسيا عرضة لأمر فظيع، لم يسمع بمثله، وهو أن (جانجيسخان) بعد أن آلت له الرياسة على جميع قبائل التتار، كان يترقب فرصة الإغارة على البلاد المجاورة وينهبها. فلم يمض عليه زمن إلا وحصل ما يرومه، وأغار على بلاد بلخ بدعواه أن ملكها تعدى على تجار تحت حمايته، وسبى أهلها ودمر بلادها.
وكذلك أغار على الفرس، وحصل من ذلك هول عظيم لجميع سكان هذه البلاد.
وفى هذه الغارة الفظيعة، حصل ما لم يسمع بمثله، وعم النهب والسبى والحرق والقتل جميع مدن هذه الممالك وقراها.
ولم يكتف بهاتين المملكتين بل تعدى إلى بلاد الروسيا وغيرها، وأوجب الخراب لكافة بلاد هذه الجهات، ونتج من ذلك دخول المماليك أرض مصر، وزوال سلطنة الأيوبيين منها؛ لأن التتار بعد أن فعلوا ما فعلوا، ساقوا الأهالى على الأسواق المعلومة فى آسيا، فملئت، وصاروا يبيعونهم بأنجس الأثمان، فاستحوذ سلطان مصر الملك العادل
(1)
-بسبب
(1)
الصحيح «الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل محمد بن العادل الأيوبى» . انظر: سعيد عاشور: العصر المماليكى فى مصر والشام، ط. أولى، ص 4 - 5، القاهرة 1965.
إغواء رجاله الأكراد-على مقدار عظيم منهم ليجعلهم جيوشا له-سيما-وقد كان بين الأيوبيين وبين هذه الجهات علائق محبة.
وفى سنة 1230 اشترى اثنى عشر ألفا من الشبان، فكانوا من الجركس والأباظة والجرج وغيرهم، ورباهم وأحسن تعليمهم، فصار جيشه بهم أحسن جيوش الإسلام، وإنما سموا البحرية لأنهم أتوا مصر من طريق البحر.
ومن اعتنائه بهم وقربهم منه، قويت شوكتهم، وعلت كلمتهم، حتى صار لهم الأمر والنهى فى المملكة، وتصرفوا فى جميع أمور السلطنة، وفى أحوال سيدهم، ثم استولوا على الملك بقتلهم آخر سلاطين الأيوبية، وأسسوا دولة عرفت بدولة المماليك وهى:
المدة التاسعة
وكان لرئيسهم
(1)
، عز الدين أيبك، شهرة عظيمة فى حربه مع الفرنج فى واقعة المنصورة، وعلت كلمته عند شجرة الدر ورجال الحكومة.
وكان ذلك على غير مراد (طوران شاه)، الذى تولى بعد موت أبيه، فاجتهد فى إزالة هذه الشهرة عنه مع أصحابه الذين حضروا معه من ديار بكر. ولم ينجح فى ذلك لأنه كان مكبا على اللهو، محبا للزهو. ولما طلب عمال أبيه من والدته
(2)
-شجرة الدر-التجأت إلى (أيبك) المذكور، فقام عليه وقتله، وبعد ذلك بقليل استولى على الملك، وأسس دولة بقيت زمنا مديدا، تتصرف فى أحوال الديار المصرية، على غير قانون معروف، فكان كل فعلهم تبعا لهوى النفس والشهوات.
ومن وقت ظهور هذه الطائفة بأرض مصر إلى زمن الغورى-أى سنة 1267
(3)
-استولى 47 ظالما، نتج من توالى أفعالهم: تضعضع حال ديار مصر، وامتهن العلم وهجرت
(1)
رئيس المماليك البحرية.
(2)
الصحيح: زوجة أبيه. انظر العصر المماليكى فى مصر والشام، ص 10.
(3)
الصحيح: أى 267 سنة.
مدارسه، وهاجر منها السعد والعز الذى كان لا يفارقها، وافتقر أهلها واضمحل حالهم، وخربت البلاد؛ من كثرة الفتن وتوالى الظلم والجور.
واستمر ذلك إلى دخول السلطان سليم هذه الديار سنة 1517، فتغيرت الحكومة ولم تتغير حالتها، حتى دخل الفرنسيس.
وفى كل هذه المدة كانت البلاد الأورباوية آخذة فى التقدم، واتسعت دائرة التجارة فيها ودائرة العلم، بما ظهر من الاختراعات النافعة-لا سيما-بيت الإبرة، فإنه كان سببا قويا أعانهم على السير فى البحار والتوصل للأقطار البعيدة، بخلاف جهة المشرق فإنها دفنت نفسها فى أرض الخمول، ونامت فى مهاد الجهل، فكّر عليها الفقر بجيوشه.
وفى سنة 1504 تفكّر الغورى؛ الذى ولاه المماليك على حكومة مصر، فيما يقطع به حبال عنادهم ويكسر به شوكتهم، التى تسبب عنها استمرار الفتن من ابتداء سنة 1250، فأرسل منهم جيشا إلى الهند قصد به طرد البرتغاليين عنها، ورجوع التجارة إلى طريق مصر، لأنها كانت أخذت تسلك طريق عشم الخير.
ولكن لم ينجح هذا القصد، بل انكسرت عساكره البحرية،
ومع هذا فكانت شهرته سارية فى جميع جهات المشرق، وكان فى القدر مثل إسماعيل-شاه العجم-، والسلطان سليم-سلطان آل عثمان-، وهذا السلطان كان يحب أن تمتد غصون شجرته، فاغتنم فرصة فرار ولد أخيه واحتمائه بشاه العجم، فأعلن له بالحرب، وسار له بجيش جرّار، ولما وصل إلى حلب أغراه حاكمها (خيرى بيك) على محاربة المصريين، فقبل منه ذلك.
وفى سنة 1516 كانت واقعة حلب التى مات فيها الغورى، وانهزمت العساكر المصرية، فكر بعدها السلطان سليم بجيوشه على مصر القاهرة سنة 1517 ودخلها، وأخذ
(طومان باى) -الذى ولته العسكر بعد الغورى على مصر-وصلبه على أحد أبواب القاهرة.
وبه انتهت دولة المماليك.
المدة العاشرة
299 سنة، جاء بعد المماليك على مصر دولة العثمانيين، ولم تخالف دولة المماليك، ومن مبدأ ظهورها-فى صحارى الجهة العليا من آسيا-وهى تشن الغارات، وتشعل نار الحرب.
وأول شئ أغارت على ما بقى لدولة الرومانيين الشرقية فى سواحل البحر/الأبيض، واستولت عليه فى أواخر القرن الثانى عشر، ثم دخلت أرض أوربا فى القرن الرابع عشر، وأشعلت نيران الحروب فى نواحيها.
وفى القرن الخامس عشر استولى السلطان محمد على القسطنطينية، وأزال ملك الرومانيين بالكلية من جهات المشرق. ثم بعد ذلك بقليل صارت مصر داخلة فى حكومة آل عثمان. وأما أهل البلاد الأوروباوية، فأخذوا فى طريق المدافعة عن أنفسهم وبلادهم، ووقفوا عند حدود لا يتجاوزونها، فنجحوا بسبب ذلك.
ومن اجتهادهم وغيرتهم على أوطانهم، نمت قوتهم العسكرية والسياسية، حتى فاقوا على عدوهم وأدخلوا فى ملكهم ما كان للأوروباويين من بلاد أوروبا.
وفى خلال تلك الفتن والحروب، عمّ الخراب مدينة الإسكندرية، ولم يبق شيئا منها، وصارت فى مدة البيكوات لا اعتبار بها بين المدن إلى زمن الفرنسيس. والذى أتم خرابها، وأزال سعدها اتخاذ الأوروباويين طريق العشم للتجارة، وتركهم طريقها، فوقعت بذلك فى أسوأ حال، وتجردت عن كل مزية.
مطلب تاريخ الحوادث من استيلاء الدولة العثمانية
وحيث انجرّ بنا الكلام إلى ذكر تلك الحوادث، فلا بأس أن نذكر ملخص تاريخ
الحوادث التى تقلبت فيها الديار المصرية، من استيلاء الدولة العثمانية عليها؛ ليقف القارئ على أسباب اضمحلال الديار المصرية، وسقوط هذه المدينة عن الدرجة التى كانت اكتسبتها فى الأزمان السالفة.
ونبدأ بالأهم منه فنقول: إن السلطان سليم لما أخذ مصر، ورأى غالب حكامها من المماليك الذين ورثوها عن ساداتهم، رأى أن بعد الولاية عن مركز الدولة ربما أوجب خروج حاكمها عن الطاعة وتطلبه الاستقلال، فجعل حكومة مصر منقسمة إلى ثلاثة أقسام، وجعل على كل قسم رئيسا، وجعلهم جميعا منقادين لكلمة واحدة هى كلمته.
ورتب الديوان الكبير، وجعله مركبا من الباشا-الوالى من قبله-ومن بيكين: السبع وجاقات، وجعل للباشا مزية توصيل أوامر السلطان إلى المجلس، وحفظ البلاد، وتوصيل الخراج إلى القسطنطينية، ومنع كل من الأعضاء عن العلو على صاحبه، وجعل لأعضاء المجلس مزية نقض أوامر الباشا بأسباب تبدو لهم، وعزله إن رأوا ذلك، والتصديق على جميع الأوامر التى تصدر منه فى الأمور الداخلية.
وجعل حكام المديريات الأربع والعشرين من المماليك، وخصهم بمزية جمع الخراج من البلاد، وقمع العربان وصدهم عنها، والمحافظة على ما فى داخلها، وكل ذلك بأوامر تصدر لهم من المجلس، وجردهم عن التصرف من أنفسهم، ولقب أحدهم المقيم بمصر:
شيخ البلد.
ثم رتب الخراج، وقسمه أقساما ثلاثة:
وجعل من القسم الأول: ماهية عشرين ألف عسكرى بالقطر من المشاة، واثنى عشر ألفا من الخيالة.
والقسم الثانى: يرسل إلى المدينة المنوّرة ومكة المشرفة.
والقسم الثالث: يرسل إلى خزانة الباب العالى. ولم يلتفت إلى راحة الأهالى، بل تركها عرضة للمضار كما كانت.
ومن هذا الترتيب تمكنت الدولة العلية، من إبقاء الديار المصرية تحت تصرفها نحو مائتى سنة، ثم أهملت بعد ذلك القوانين التى وضعها السلطان سليم-من حين استيلائه عليها-وكانت هى الأساس.
ولم تلتفت الدولة لما كان يحصل من المماليك من الأمور المخلة بالنظام، فضعفت شوكة الدولة وهيبتها، التى كانت لها على مصر، وأخذت البيكوات تكثر من المماليك وتتقوى بها، حتى فاقت بقوتها الدولة العثمانية فى الديار المصرية، وآل الأمر والنهى لهم فى الحكومة، وصارت حكومة الدولة صورية غير حقيقية؛ وسبب ذلك إكثارهم من شراء المماليك.
ولو كانت الدولة العلية تنبهت لهذا الأمر ومنعت بيع الرقيق، لكانت الأمور باقية على ما وضعها السلطان سليم، ولكن غفلت عن هذا الأمر كما غفلت عن أمور كثيرة، ومن ذلك لحق الأهالى الذل والإهانة، وهاجر كثير منهم إلى الديار الشامية والحجازية وغيرهما
وخربت البلاد وتعطلت الزراعة من قلة الزرّاعين، وعدم الاعتناء بتطهير الجداول والخلجان الذى عليه مدار الخصب، ونتج من ذلك، ومن خوف الدولة العلية من تمكن الباشا فى الحكومة، أن تغلبت البيكوات، وصارت كلمتهم هى النافذة، وانفردوا بالتصرف، ومن قرب الطائفة العسكرية منهم بالزواج، دخلوا ضمن عيالهم وأهلهم، وصاروا من حزبهم، فكان مقرّر الوجاقات-من العلوفات والمرتبات-منحصرا فى صندوق واحد، لا يصرف لأحد من البيكوات بإرادته، بل كان التصرف للديوان.
وظاهر أن ذلك كان على غير رغبة الرؤساء، فاجتهدوا فى تغيير هذا النظام ونالوا مرغوبهم، وصارت لهم الأرض، وتملكوا بلادا من بلاد الأرياف.
ومن مساعدة حكام المديريات لهم داخلهم حب المال، فتحولوا عن واجب وظيفتهم الأولى، وأمكن البيكوات أن يضموهم إلى أحزابهم، ويستعينوا بهم على نفوذ أغراضهم، بعد ما كانوا معدين لردعهم وقهرهم على طاعة السلطان.
ومن ذاك الحين قويت شوكة البيكوات، وضعفت شوكة الباشا، واستقلوا بالكلمة، وأكثروا من/جمع المال ونوّعوا المظالم، وصار كل منهم يجعل لنفسه جيشا من المماليك، ويوسع فى دائرة سطوته بالاستحواذ على الوظائف لمعاتيقه فصارت الحكومة المصرية عبارة عن حكومات متعدّدة بعدد البيكوات، وقوة كل بالنسبة لقوة حزبه والرؤوس المتفرعة عن رأيه، وصارت كلمة الباشا منبوذة لا يعوّل عليها، واستقل الديوان بحكومة الديار المصرية، وتصرف فيها بالطريق التى يستحسنها.
وفى سنة 1746، وصل إبراهيم كيخيا، أحد أعضاء المجلس للاستحواذ عليها بكثرة رجاله وجيشه، لأنه كان من مماليكه ثمانية حكام بالمديريات من ضمن الأربعة والعشرين بيكا
وحيث أن الباشا كان يتحصل من بيع الوظائف على مبالغ جسيمة، كان ذلك داعيا لإبراهيم باشا إلى الاستيلاء على كل وظيفة خلت، بأى سبب من الأسباب، فعلت كلمته على أقرانه، سيما بانضمامه إلى رضوان كيخيا صاحب الكلمة.
ومن ذاك الحين سقط اعتبار الباشا المعين من قبل الدولة، وصارت أوامر الدولة غير مسموعة، وبقى له التصرف حتى مات سنة 1757. ثم انتقلت الكلمة لعتقائه، ثم بعد طرد رضوان كيخيا وقتله بعصبة المماليك، صارت الرياسة لمن غلب وحصلت فتن أدّت إلى حروب داخل القاهرة وخارجها، فلحق الخلق من ذلك ما لا مزيد عليه من الضرر والكرب، وبلغت الشدّة منتهاها، وعم الخراب المدن والقرى.
مطلب تمكين على بك أباظة
واستمر ذلك إلى زمن على بيك الذى أصله من الأباظية، وكان قد أهداه الجركسى إلى إبراهيم كيخيا، فحظى عنده لما كان يرى فيه من البسالة، فأعتقه وزوجه ورقاه إلى رتبة الكشوفية، ثم جعله من ضمن البيكوات حكام المديريات، فكان جميع ذلك باعثا له على الطمع وتمنى الرياسة، فأخذ فى الأسباب، وصار يكثر من البر للأصحاب وغيرهم، فالفوه حتى صار له حزب عظيم-بعد موت سيده-مركب من مماليكه ومماليك غيره، فاستعمله فى إيقاد نار الفتن مدة رضوان كيخيا-الذى أعقب سيده-ومدة عبد الرحمن كيخيا، المتولى بعد رضوان كيخيا.
وبمكره واستمالته القلوب توصل إلى نفى عبد الرحمن كيخيا، ومنعه من دخول مصر، وكان توجه أميرا على الحاج، ولكن لم يتمتع بثمرة هذا المكر زمنا طويلا، بل رجع عبد الرحمن كيخيا ونفاه إلى غزة.
وفى أثناء الطريق تحيّل ورجع إلى الصعيد، وهناك اجتمع بأصحابه الذين وصلوا له من القاهرة، وصار يدبر أمرا يمكنه من الملك، ولم يكن غافلا عن ذلك فى مدة السنتين اللتين أقامهما بجدة، وكان يبذل الأموال فى القاهرة لاستمالة القلوب، فكثر حزبه وقوى، ودخل القاهرة على حين غفلة، وقتل فى ليلة واحدة أربعة من البيكوات، ونفى أربعة وتمكن من أمر الرياسة.
ولم يكتف بذلك، بل رغب فى الاستبداد ورفض حكومة الدولة العلية سنة 1768، وضرب المعاملة باسمه، وشاع أمر خروجه عن الطاعة. ولم تقدر الدولة العلية-حينئذ-على رده إلى امتثاله لها، لاشتغالها بحرب الموسكو، التى كانت نيرانها مشتعلة وذلك سنة 1769.
والظاهر أن الداعى-لعلى بيك المذكور-على رفض الطاعة للدولة، ما بلغه من عصيان عرب الشام، وكان كبيرهم-إذ ذاك-رجل يقال له: ضاهر، فاتحد معه البيك
المذكور ووافقه على ذلك، وصار يجمع الرجال، ويغدق عليهم المال حتى اجتمع حوله نحو ستين ألف مقاتل.
وأرسل محمد بيك أبا الذهب، فاستولى على مكة والبلاد الشامية، وكان ما صرفه على تجريد مكة-خاصة-ستة وعشرين مليونا من الفرنكات، وهى تعدل خمسمائة وعشرين ألف كيس من الدراهم، فما بالك بما صرف على غيرها فاشتد الكرب وقحط الناس سنتين أولاهما: سنة 1770، ولم يعد عليه من ذلك أدنى فائدة، بل كان منبع المصائب التى غرق فى بحرها؛ فإن أبا الذهب لما التقى بجيش الدولة فى حلب وغلبهم، اجتمع برئيسهم عثمان باشا فوعده ومنّاه بإمرة مصر، وأراه أن الإلحاق بالسلطنة أقرب لمقصوده من الإلحاق بأحد أتباعها، وذكر له أمورا حوّلته عن صداقته لسيده وأصل غرس نعمته، فقام وعزم على الرجوع إلى مصر، فلحقه شيخ العرب ضاهر، ولامه على ما حصل منه، فلم يصغ لقوله وكر راجعا، وكان قد بلغ سيده ما حصل فصمم على الانتقام منه، فلم يتيسر له ذلك بما رآه من كثرة جيشه، فكتم الأمر إلى أن تلوح له فرصة، فلم ير طريقا غير الغدر-وإن كان وقع فيه فيما بعد-لأنه لما أصدر أمره بغلق أبواب القاهرة، وقتل كل من يخرج من المماليك، خرج محمد بيك فلم يتعرض له أحد؛ ظنا منهم أنه خارج لمأمورية من طرف على بيك، فتخلص وذهب إلى الصعيد، ونزل على أيوب بيك، فأكرم نزله.
ولم يدر أن هذا الإكرام ربما يكون خداعا، فإن أيوب بيك من رجال على بيك، وبقى عنده، وكان أيوب يخاطب على بيك، فوقعت مكاتبته فى يد محمد بيك، فأخذه وقطع لسانه ويده وأرسله إلى القاهرة.
ثم جمع المتشتت من المماليك والهّوارة-رجال همّام الذى قتل بسبب قيامه مدة على بيك-وقصد بهم مصر، فقابله على بيك بجيش من المماليك.
ولخوفه وعدم اعتماده على/صداقة إسماعيل بيك-أمير جيشه-خرج بعياله من
القاهرة، ولما بلغه اتحاد إسماعيل بيك بمحمد بيك، فرّ بماله وعياله ومن بقى معه من المماليك إلى الشام، واجتمع بالشيخ ضاهر، وكتب إلى الدولة الموسكية أن تمده، فوعدته بذلك.
ولكن لم يصبر إلى أن يأتيه المدد، بل رجع إلى مصر معتمدا على ما كتب له به رزق كيخيا- أمينه-من أن المنجمين حكموا بأنك لو عدت لمصر تمكنت من حكومتها، وكان ذلك بإغواء محمد بيك وتدبيره، فرجع، وحين وصل الصالحية قام عليه ألف خيّال-كانوا كامنين له بمركب من طرف محمد بيك-فشتتوا شمل رجاله، وقتل مراد بيك على بيك؛ رغبة فى أن يأخذ امرأته-فإنها كانت من أجمل النساء-وكان طلبها من محمد بيك فوعده بها إن قتل زوجها.
ولما قتل انقطع ذكره، ولم تنقطع سلسلة الفتن، بل أخذت فى الزيادة؛ بتوالى الفجار من المماليك الذين أتوا بعده.
وأول من فتح أبوابها أبو الذهب؛ لأنه من ابتداء قيامه بأحوال مصر سنة 1773، أخذ فى أسباب اتساع دائرة الخراب، حيث التزم بدفع الخراج المعطل مدة ست سنوات ليبين للدولة صداقته.
ثم إنه استأذن الدولة فى محاربة الشيخ ضاهر لينتقم لها منه على قيامه عليها، فأذنت له، فاستمرت سلسلة المصائب التى زرعها على بيك بديار مصر، ولحق ذلك بلاد الشام أيضا؛ فإنه لما دخل يافا بعد حصارها، أمر بنهبها وقتل أهلها عقابا لهم على المدافعة عن وطنهم. وقتل فى هذه الوقعة أغلب أهل المدينة، والذى نجا من القتل فرّ هاربا، وتفرقت الناس بالطرق، ومات أكثرهم جوعا وعطشا.
وفى هذه الوقعة تبينت شدة قسوته، كما تبينت منه الخيانة-قبل-فإنه على ما يقال، لم يكتف بما فعل بأهل المدينة من شنيع الأمور، بل جمع رؤوس القتلى، وجعل منها هرما، ثم سار خلف الضاهر، وحاصر عكا وأخذها، ونهب وسلب.
ولولا أخذ الموت له بغتة، لألحق أهل هذه المدينة بأهل يافا. وبموته كفوا عن القتال، ورجع فى الحال مراد بيك بالعساكر إلى مصر، وكان يروم الاستقلال بحكومتها مكان سيده.
وإبراهيم بيك يرغب فى ذلك أيضا-وفى مدة الحرب كان وكيلا عن سيده-فاستعمل ما تزيد به قوته، فكانت الناس تخاف اتساع دائرة الفتن بينهما، وحصول الحرب الموجب اتساع دائرة الهموم بالقطر المصرى، فحصل اضطراب عام فى القاهرة وسائر البلاد، وكانت الناس لا تتكلم-سرا ولا جهرا-إلا فى هذا الأمر، وأخذوا فى طرق التحفظ على أموالهم وعيالهم. ولكن لم يحصل شئ ممّا تظنه الناس؛ لتساوى قوتى إبراهيم بيك ومراد بيك.
مطلب اتفاق إبراهيم بيك ومراد بيك
فاتفقا على المشاركة فى الأمر بالتساوى، مع إبقاء وظيفة مشيخة البلد لإبراهيم بيك، واشترطا شروطا، فكانت مصر كسفينة فيها رئيسان مختلفان فى الرأى: إن طلب أحدهما الشرق يطلب الآخر الغرب، فهى تسير تبعا لريح الشهوات، وما تقطعه بالأمس ترجعه بالغد، لأن كلا منهما كان يرغب فى الانفراد، ويرى أن ذلك لا يتم إلا بموت الخصم- طبيعة أو رغما، أو تخليته، رغبة أو كرها، الأول يستلزم الصبر أو القوة، والتخلى رغبة لا يتصوّر؛ لعدم رضا النفس بذلك إلا بأحد أمور منها: أن الخصم يتخلى من نفسه، ويرضى بالتجرد من علائق الإمرة والعظمة والسلطنة، ويكون تحتّ الطاعة بعد أن كان آمرا ناهيا، متمتعا بنفوذ الكلمة والجاه.
وحيث أن قوة الحرب تستدعى الإكثار من الرجال، وهذا يستدعى كثرة المال، وبالطرق المعتادة كميته منحصرة فى حدود، فلا يبقى إلا الطريق المعتاد التى أسسها الظلم والغدر والعدوان.
فكانت هذه الفكرة-الأخيرة-فكرة كليهما، وصار كل منهما يجمع المال بأى طريق سوّلتها له نفسه، من الأهالى. برجاله ونفسه، ويؤلف قلوب من يحب الفتن، من باقى العائلات القاطنة بمصر ومدن القطر، وبذلك وقعت الأهالى فى عميق بحور شهواتها.
ومن كثرة الفتن، صارت أرض القطر جميعها ميدانا لحروب متتالية، نشأ عنها ترك الأهالى أسباب الحصول على القوت، وغرس أسباب الأمراض والعاهات بين الأهالى، وكثر الموت من شدة القحط والوباء، وهرع إلى القطر المصرى جميع أهوال الأقطار الأخر.
وفى أثناء هذه الفتن، قامت فئة من مماليك على بيك، ورأست عليها إسماعيل بيك- الذى مر ذكره-ورغبت فى رجوع الرياسة إلى بيت سيدها، وبذلت جهدها فى ذلك، وصرفت المال وحرضت الرجال، فاجتمعت قوتها ولم يقدر إبراهيم ومراد على مقاومتها.
وبعد مناوشات-فى حارات القاهرة-بين الفريقين التجئوا إلى القلعة، وبعد ذلك توجها نحو الصعيد، وبعد أن جمعا ما تفرق من رجالهما ومماليكهما وصار جيشا جرارا، حضرا مصر وتحاربا مع إسماعيل بيك، فغلبوه وفر إلى الشام، ثم جاء مصر من جهة وزنة، الواقعة فى الجهة الغربية من إسكندرية، ومن هناك توجه إلى الوجه القبلى، واجتمع بحسن بيك، الذى كان نفى إلى جدة قبله وجاء إلى الصعيد، وأقام هناك مدة ثوران الفتن، وانضم لهما كثير من المماليك المطرودة، وغيرهم من الهوارة والأشرار من كل طائفة، فحدث من ذلك جيش سوء، انتشرت رجاله بالقطر القبلى، والفيوم، والأقاليم الوسطى،/وضربوا الجرائم على الأهالى، ووضعوا أيديهم فى أرزاقهم، وعم النهب للمقيم والمسافر، فانقطع الأمان وصار لا يدخل القاهرة شئ من الغلال، فشق ذلك على البيكوات أصحاب الالتزام لحرمانهم من محصول التزامهم، فألحوا على إبراهيم بيك ومراد بيك فى رفع أسباب هذه الأحوال، فأمرا بتشكيل جيش من ثلاثة آلاف خيّال، وضربا على التجار خمسمائة ألف ريال نظير مصرف العساكر، فضج أهل القاهرة من ذلك، ومن تسخير المراكب وأهلها لحمل الحملة
انقطع ورود الميرة عن البلد بالكلية، فصار لا يرد إليها شئ، وغلت أسعار الحبوب، وقهرت التجار على البيع، وباعت المأكولات بثمن بخس.
فمن كل ذلك جرت أمور شنيعة، ولم تنقطع إلا بفرار حسن بيك إلى أسوان سنة 1783، بعد تشتيت شمل حزبه، ورجوع مراد بيك بالعسكر إلى القاهرة.
لكنها لم تدم، لأن بعض البيكوات المتروكين القاطنين بمصر، اغتنم الفرصة فى أثناء هذه الحادثة، وحزب حزبا رغب به الاستحواذ على الرياسة، واشتعلت نيران الفتن فى القاهرة، فكان سفك الدماء فى كل ناحية، وآل أمرهم-كغيرهم-إلى الالتجاء لجهة قبلى، بعد رجوع مراد بيك لأن هذه الجهة كانت مطمح نظر العصاة، وميدان المقاتلات.
وبانضمامهم إلى هذين البيكين حسن وإسماعيل صارت عصبة قوية.
وكان مركز الأفعال السيئة المنية فأخذت هذه العصبة فى قطع الميرة عن القاهرة، ومنعوا المراكب ونهبوا وسلبوا، فصالحهم إبراهيم بيك، وأعطاهم أراضى وآمنهم، فدخلوا القاهرة. فلم يوافق هذا التدبير رأى مراد بيك، صاحبه، بل ظن أن ذلك تقوية لحزبه، وخاف منه الخيانة، فقام برجال وتوجه نحو الوجه القبلى، وجرد جيشا لحرب صاحبه، وحضر به فى الجيزة أمام جيش إبراهيم بيك، الذى كان بالبر الآخر، وأقاما بدون حرب أربعة أشهر، وهما فى مكالمات.
فهذه المدة حصل فيها للناس ضرر عظيم، فإن العسكر المقيمين بالبر الغربى أضروا البلاد التى على النيل والقريبة منه، والذين بالشرقى أضروا بمن فى الشاطئ الشرقى-ومن ضمن ذلك القاهرة-، وانقطع السير فى البر والبحر من التسخير والسلب، وبطلت التجارة، وكثر الموت فى الناس. ولم تطفأ هذه الفتن إلا وتزداد. ولم يتم الصلح وقام مراد بيك بجيشه إلى المنية ليجمع من الأهالى الرجال والمال.
فكانت ولاية مصر بين هذين الظالمين الغشومين، أحدهما يظلم فى الوجه البحرى والآخر فى الوجه القبلى. فبهذه الحالة كان الإنسان أينما توجه وجد المظالم والأهوال، إلى أن حصل بينهم الصلح، وأخذت البيكوات الخمس-بعد فرارهم-وحرّج عليهم بالقاهرة بعد مصادرتهم فى مالهم.
ومن النظر فيما تقدم من أخبار المدد السابقة، والتقلبات التى مرت على تلك الديار، علم أن مدينة إسكندرية-وغيرها من بلاد القطر-بعد أن كانت متوّجة بتاج المهابة والإجلال، رافلة فى حلل السعادة والإقبال، وكان وادى النيل مزينا من كل جانب بالمدن الفخيمة، ذات المعابد والهياكل المشيدة العظيمة، تلوح على صغير أهلها وكبيرهم لوائح الثروة والابتهاج، نالها من شدائد الأزمان ما أخرها عن هذه التقدّمات، كل على حسب حاله، وتبدلت سرّاؤهم بالضراء، واختلفت عليهم الأهوال والأهواء، إلى أن منّ الله عليها بالعائلة المحمدية العلوية، التى نزعت عنها ثياب الأحداد، وألبستها حلل الثروة والإسعاد.
مطلب الكلام على مدينة إسكندرية
ولنصف لك-الآن-المدينة وبعض ما بقى من آثارها، تابعين فى ذلك طريق (أمبير) الفرنساوى الذى ساح فى الديار المصرية، زمن العزيز المرحوم محمد على باشا سنة 1830، فنقول:
مدينة إسكندرية بناها إسكندر الأكبر، ولم تطل مدته حتى يتمم بناءها الذى تصوره فى اليقظة أو فى الرؤيا، كما قال بعضهم. إن (أميروس) الشاعر ألهمه صورتها فى نومه، وهو حضر تخطيطها لا غير. والمتمم لبنائها وتحليتها بفاخر البناء، (بطليموس سوتير) فالإسكندر له الفكرة الأصلية، وإلى بطليموس ينسب تجسيمها.
وزعم أكثر الناس أن بطليموس أخوه، وقد بنى بها معابد، ونقل إليها ما تمّم به
رونقها، وأحاطها بالأسوار، وحصنها بأمنع الحصون وحدودها من الشمال إلى الجنوب، منحصرة بين البحر وبحيرة مريوط.
ويستفاد من كلام (استرابون) أن هذا الجزء من الأرض كان أقل مما هو عليه الآن، فإن الانتقالات التى حصلت لهذه المدينة-من الثروة والعز-تسبب عنها ردم بعض مواضع، كانت مغطاة بالماء والبناء فوقها.
وكان طول المدينة من الشرق إلى الغرب، قريبا من خمسة آلاف وستمائة متر، وعرضها من الشمال إلى الجنوب ثلث الطول تقريبا.
ومن حيث أن موقعها بين البحر وبحيرة مريوط، كان شكلها ذا أربعة أضلاع غير منتظم، ولذلك شبهه الأقدمون بشكل البرنس المقدونى، جريا على العادة القديمة من تشبيه صورة الإقليم أو المدينة بشئ يناسبها.
وكان على يمينها وشمالها حفرتان فى البحر: إحداهما بجانبها الغربى، وثانيتهما بجانبها الشرقى، وبينهما لسان من الأرض طوله سبع غلوات، يوصل إليها بجزيرة صغيرة، كان الأقدمون يسمونها جزيرة خاروس
(1)
/والآن هى رأس التين، وهذا اللسان كان قنطرة للعبور، وفيه عيون لتوصيل الماء من الأرض إلى الجزيرة، وكان فيه فتحتان: إحداهما بجانب الجزيرة، والأخرى بجانب الأرض، وكانتا مستعملتين لمرور المراكب من مينا إلى أخرى.
والمينا الغربية كانت متصلة بالبحيرة، وهذه متصلة بالنيل بخليج.
وبهذه الكيفية الحسنة، سهلت الملاحة فى تلك المدينة وسائر بلاد القطر، فكانت مينتها مملوءة بالمراكب جميع أوقات السنة، حتى قال (استرابون) إنه لم يكن مثلها فى جميع مين الدنيا.
وداخل المدينة كان فى غاية الانتظام، من حيث التخطيط، كما هو عادة المدن التى تتأسس على رغبة ملك أو أمة من الأمم، بخلاف المدن التى أوجب اتساعها حوادث الأيام.
(1)
هى جزيرة فاروس، وكانت تقع شمالى الإسكندرية بنحو ميل ويبلغ طولها حوالى ثلاثة أميال. اظر: تاريخ مصر فى عصر البطالمة، ج 2، ص 279،275 - 280.
ففى الوسط كان يشقها شارع مستقيم، يمتد من باب من أبوابها إلى باب آخر، وفى وسط ذلك الشارع شارع آخر عمودى عليه، وأطول الاثنين كان فرسخا ونصفا، وعرضه مائة قدم. وباقى الحارات كان بعضه موازيا لأحد الاثنين، والبعض موازيا للآخر، فكان رسم المدينة أشبه شئ بالضامة أو الشطرنج، فأين هذا الشكل من شكلها التى اكتسبته فيما بعد؟ فتأمل كيف تغيرت هذه الاستقامة التى كانت فى الشوارع والحارات، وبدلت بغيرها معوجة فى كل ناحية، على حسب سير الزمان وتقلباته، من طور إلى طور، ومن حال إلى حال.
ويقال إن حاراتها استقامت حين كان الزمان مقبلا عليها، واعوّجت حين أدبر عنها، فنحمد الله تعالى ونشكره؛ حيث ردّ لها استقامة حالها، لأنها الآن متحلية بشوارع مستقيمة، وعمارات بهجة، وكل عام تزيد عمارتها وبهجتها من جلوس العزيز محمد على باشا-عليه سحائب الرحمة والرضوان-.
وما تم حسن منظرها وعلوّ شأنها، من أوّلها إلى آخرها، إلا زمن الخديوى إسماعيل باشا، فإنه لم يكتف بجعل استقامة الطرق دليلا على استقامة أحكامه، بل أدخل ذلك فى خليجها ومينتها.
وموقع هذه المدينة فيه فائدة عظيمة: هى مرور ريح الشمال فيها، زيادة على تلطيف حرارة الجوّ فى فصل الصيف.
وفى القرن الرابع من الميلاد، كانت من أحسن المدن وأبهجها، وقد وصفها (أشيل تايتوس) فى رحلته بقوله: قد دخلنا مدينة الإسكندرية بعد سيرنا فى البحر ثلاثة أيام، فمن حين دخولى من باب الشمس، تعجبت كل العجب من حسن منظرها، وكنت أرى وأنا سائر فى شوارعها-عن يمينى وشمالى-عمدا قائمة، فوقها قناطر على حافتى الشارع الموصل باب الشمس لباب القمر، لأن هذين النيرين هما مقدسا هذه المدينة. وفى وسط الشارع متسع، يوصل لجهات متفرّقة ما بين شوارع وحارات كثيرة، وكانت الناس تغدو وتروح فى الشارع الكبير والحارات، أشبه بقوم مهاجرين. وبعد قليل وصلت إلى الباب المسمى: باب
إسكندر، فنظرت مدينة أعظم من الأولى-شكلا وصورة ونظاما-، فكنت أرى صفوف الأعمدة والبواكى بالميل، فطربت من هذا المنظر مثل الطرب الأوّل. وكنت كلما وجهت نظرى نحو جهة من الجهات، أرى عجبا يزيدنى طربا، وكلما نقلت قدما زدت فرحا.
وليست همة الحكام والملوك-فى تلك الأزمان قاصرة-على الحسن فقط، بل كانت تنظر إلى النافع والمفيد مع الحسن، ولذا كان ماء النيل يصل المدينة من خليج، ويوزع داخلها فى مجار متفرّقة فى جميع جهاتها.
وأحسن أخطاط المدينة، الذى كان على ساحل المينا الشرقية، وفيه كانت منازل البطالسة وسراياهم، وبقيت كذلك لزمن القياصرة الرومانيين، ودار التحف، والسراية، والكتبخانة العظيمة كانت تشغل بهذه المدينة سعة عظيمة من أرضها.
وقال (بلين): كانت هذه السعة خمس سعة المدينة. وقال (استرابون): ربعها أو ثلثها. ولا غرابة فى ذلك، فإن هذه السعة كانت مملوءة بساتين وعمارات، كعادة السرايات بالبلاد المشرقية.
وقريبا من وسط المدينة، كان قبر إسكندر فإن (بطليموس سوتير) استحوذ على جثته، وأخذها من (بيرديكاس)، وقت أن كان مارّا بها فى طريق مصر على عربة عظيمة، يسحبها أربعة وستون بغلا، فى تابوت من الذهب الإبريز، ثم إن هذا التّابوت أخذ فيما بعد، وعوّض بتابوت من الزجاج، وبعد حين ذهبت جثة إسكندر.
وفى القرن الخامس عشر من الميلاد، كانت أهالى الإسكندرية تفرّج السياحين على قبر إسكندر، لكن من أين لنا إنه القبر الحقيقى؟
ويقال: إن الإدريسى جعل قبر إسكندر فى جزيرة بعيدة فى حدود الغرب، وسط بحر الظلمات. وهذا أيضا أمر مستغرب جدا، لأنه يبعد وصوله إلى هذا المكان، ولا يدرى ما هذه الجزيرة ولا الأسباب التى أوجبت ذلك.
وهذا يدل على جهل تاريخ الإسكندر، مع أن أمره معلوم من وقت ولادته إلى حين موته، يوما بيوم، وشهرا بشهر، وسنة بسنة وكذلك موته وموضع دفنه وكيفيته.
ومع ذلك، نرى من يتكلم على أخباره يترك المهمّ منها ويذكر خرافات لا أصل لها، ولا بد أن منشأ ذلك شهرة إسكندر وأفعاله الخارقة للعادة، فإنها-إلى الآن-تتكلم بها الأعجام والأعراب والأتراك، ويسمونه بأسماء ما سمى بها، وينسبون إليه أفعالا ما فعلها، وصفات ما اتصف بها، ولو كان/حيا وسمعها لكذبها.
والقادم من الشرق إلى الغرب يمرّ أوّلا بمدينة البطالسة أو الأروام، ثم يكون بمدينة العرب، فعمود السوارى قائم على التل، الذى هو مكان الإسكندرية القديمة، وعليه كان معبد سيرابيس.
وفى الغرب كانت مدينة الأموات، أو المقبرة المسماة سيرابيوم، جريا على عادة المصريين فى الزمن القديم، من جعلهم مقابر الأموات غربى مدينة الأحياء، لاعتقادهم أن محل اجتماع الأرواح المغرب. وفى تكلمهم وكتابتهم كانوا يطلقون على هذا الموضع اسم:
أمانتى.
وفى هذه الجهة الغربية من المدينة شاهد (استرابون) محلات تصبير أجسام الموتى قريب المقابر، فكان ما يصنع بمدينة طيبة نقل إلى إسكندرية؛ فإن المقابر وبيوت التصبير بها كانت بالجهة الغربية منها، كما هى كذلك بالإسكندرية.
وبقى هذا المكان معدا لدفن الموتى من النصارى، بعد زوال الديانة المصرية، وقد بنى فيه (بطرس) بطريق إسكندرية مقبرة ودفن فيها، وإلى الآن تشاهد السياحون غربى البلد آثارها.
ثم إن المدينة زمن الازدياد تزحزحت عن مكانها، حتى صارت على المكان المعروف باللسان، وملئت الأرض-التى كانت خارج البلد القديمة والحادثة-من تراكم الرمال، وتركت مكانها الأصلى. وهذا الانتقال لم يغير صورتها، بل بقيت مستطيلة كما كانت قديما.
وفى زمن حكومة العرب نقصت عن سعتها الأصلية نحو الثلثين، فكانت الحوادث كلما زحزحتها عن موضعها زحزحتها عن سعدها، حتى فارق الناس أرضها؛ لأنها بعد أن كانت زمن (ديودور الصقلى) عامرة بثلثمائة ألف نفس من الأحرار أو ستمائة ألف، على فرض أن عدد غير الأحرار كالأحرار، كما فى مدينة أثينا بناء على ما ذكره (لاثرون الفرنساوى) صار لا يوجد بها غير ستة آلاف نفس، فكانت عصىّ الأدبار تسوقها ولا تفارقها، حتى صار عدد سكانها جزءا من مائة جزء، من أصلها إلى زمن استيلاء العزيز محمد على باشا على الديار المصرية، فعمرت وازدادت، وطلع نجم سعدها حتى بلغ عدد أهلها فى سنة 1830: ستين ألفا.
والآن فى زمن الخديو إسماعيل باشا بلغ عدد سكانها مائتين وسبعين ألفا، قدر ما كانت تحتوى عليه زمن جده محمد على باشا خمسين مرة تقريبا.
وبسبب ما جبل عليه من تتبع أسباب العمار، لم تزل سائرة فى طريق السعد والثروة، وكل يوم تراها تتحلى بما يزيد فى فخرها، ويتمكن به أساس ثروتها، وتمتاز به فى زمن الخديوى عن سائر الأزمان السابقة حتى زمن إسكندر؛ لأن أساس سعدها مرتبط بالتجارة، وهى مرتبطة بالمينا، فكلما تحسن أمرها تحسن أمر التجارة وتقدمت المدينة.
وليس فيمن سبق من السلاطين، من ذكر المؤرّخون عنه أنه تصدى لما تصدى له هذا الخديوى، من تنظيم الليمان بالأرصفة حوله وداخله، وجعله مستوفيا لشروط الأمان على السفن، وسهولة شحن البضائع وتفريغها.
ولا شك أن عين التجارة لا تغفل عن الفوائد الناتجة من هذا المشروع العظيم، وترتقى- طبعا-بالتدريج إلى أن تفوق الدرجة التى كانت قد بلغتها فى الأزمان العتيقة.
وخليج السويس لا يمنع من ذلك، بل ربما كان أيضا سببا فى اتساع مدينة الإسكندرية، وزيادتها عن حدودها الأصلية، وامتلائها بالسكان-كما كانت قبل-بانتشار أسباب العمارة داخل الأقطار المصرية.
وفى الزمن القديم كان أهل إسكندرية-جميعا-أهل تجارة كالآن، وبهذا السبب كانت من أسعد مدن القطر. ومما كانت تفتخر به على غيرها: معامل الزجاج، وأبسطتها المزخرفة بأنواع النقش، فكانت تفوق أبسطة بابل الشهيرة.
وكان يوجد من ضمن حاراتها حارة تسمى: بزار-يعنى سوقه-كانت محلا لبيع أمور الزهو والزخرفة. وكان أغلب سكان المدينة أرواما وليس بها من المصريين إلا القليل، ولكن كان يغلب على طبعهم الخفة والهزل، فنشأ عن ذلك نقمتهم وإهانتهم عدة مرات بالحكام الذين تعاقبوا عليها؛ بسبب الأشعار والقصائد التى كانوا يصرّحون فيها بألقاب وأسماء فظيعة لبعض البطالسة وغيرهم. وبعدما كانوا متصفين بالجراءة والقوّة العسكرية، وكانت لهم درجة الفوقان على غيرهم فى فن مصارعة الديوك، وفن الشعر، وإنشاء القصائد والخطب، مالت طباعهم عن هذه الأمور النفيسة إلى الأمور الخسيسة، وذلك من خفتهم وطيشهم وعدم ثباتهم، فكانت سجاياهم تقريبا آخذة من طباع الإفريقيين، والبزانيون يتلوّنون بكآبة المصريين.
ولسان الروم كان هو اللسان المستعمل فى المحاكم والدواوين وغيره، كان لا ينقش على المبانى والآثار والمعاملة، وبقى ذلك إلى زمن (ديوكليتان)، وكذلك جميع الأعياد والرسوم الجارية فى الدواوين وبيوت الملوك والأمراء، كانت منقولة عن الروم.
فبكل هذه الأمور كانت مدينة إسكندرية، كأنها بلد من الروم نقلت إلى مصر، لأن جميع أمورها مأخوذة عن الروم، ولو أن اليهود كانوا كثيرين بها، لأن عددهم كان يبلغ نحو مائة ألف نفس، لكن كان الجزء الغالب الأروام. ولذا كانت طباع اليهود لا تخالط أهلها إلا مع الندوة، وأما الطبع المصرى فكان منحصرا فى مدن وادى النيل وأرضه، ولم يؤثر فى أهل إسكندرية.
مطلب المسلتين
وفى تلك المدينة/مسلتان لكيلوباترة إحداهما قائمة والأخرى مطروحة بجوارها، وكانت قائمة، قبل، كأختها ثم أهديت لدولة الإنكليز، كما قد أهدى محمد علىّ باشا إلى الفرنساوية مسلة من مسلات الكرنك، وهى الآن قائمة بأحد ميادين باريس تجاه سراى الملك، ولكن الإنكليز تنحوا عنها، وتركوها ملقاة بسبب أنه كان اعترى كتابتها بعض تلف.
والمسلة القائمة ارتفاعها 20،46 مترا أى 63 قدما، من نهاية القاعدة إلى آخر الهرم الصغير، ومن هذه النهاية إلى قاعدة الهرم 18،46، وطول ضلع القاعدة سبعة أقدام وثلاثة أصابع، فجسمها عبارة عن 70،20
(1)
مترا مكعبة، وترن 186246
(2)
كيلوجرام.
والأخرى مثلها تقريبا.
وقال (بلين) المؤرخ: إن ارتفاع كل من المسلتين 42 ذراعا، وبمقارنة أجزاء المسلة إلى بعضها، يرى ارتفاع الهرم الصغير قريبا من عرض القاعدة، وهذا العرض منحصر بين التسع والعشر للارتفاع الكلى. وقد امتحنت جميع المبانى التى من هذا القبيل، فوجدت جميعها على هذه النسبة، ومن هنا يظن أنه كان للمصريين قواعد لا يخرجون عنها فى تفصيل أجزاء مثل هذه المبانى.
وباعتبار طول الذراع المصرى كما قدمنا:462، مترا يكون ارتفاع المسلة إلى أصل الهرم 40 ذراعا، وإلى آخره 44.
وفى زمن البطالسة كانت المسلتان قائمتين أمام المعبد، الذى كان بنى بإسكندرية، زمن الملكة كيلوباترة باسم القيصر والد ابنها، وقد عاينه (استرابون) حين ساح فى بلاد مصر، وذلك قبل الميلاد بأربع وثمانين سنة، فنسبتهما حينئذ-إلى هذه الملكة-لا شك فيها بخلاف خليج إسكندرية، وما يسميه الناس بحمامات كيلوباترة فإنهما لا ينسبان لها أصلا، فإن الخليج موجود قبلها، والحمامات كانت مقابر لا غير.
(1)
فى الأصل 720 انظر ص 108 من هذا الجزء.
(2)
فى الأصل 86246 انظر ص 108 من هذا الجزء.
وقد اختلفت فى قصد المصريين من المسلات، فقال (بلين): كانوا يجعلون المسلة علما على شعاع الشمس. وزعم (بيكانوس) أن المسلة كانت علما على الحياة السرمدية الكاملة الطيبة، وفيها تكون الروح بعد مفارقتها الجسم، وهكذا من هذا القبيل.
وفى اللسان العتيق المسلة إشارة إلى الثبات لا غير، فإن كل مسلة تنتهى إلى هرم صغير، دقيق من أعلاه. وفى هذه الصورة تكون المسلة أقرب شبها لهرم قاعدته طويلة، وكان الهرم عند المصريين إشارة للبقاء والدوام، ولا بد أن هذا هو السبب فى جعل مقابر الفراعنة فى الصورة الهرمية، والمسلات تقرب منها فى الشكل فلا تدل إلا على الثبات، ولذا كانت توضع فى المعابد دائما قبل الأبواب الجسيمة، التى كان يكتب على جوانبها عبارة معناها: الباقى على الدوام.
وحينئذ فالمسلتان أمام كل معبد كحرفين من حروف الهجاء، أو كلمتين معناهما ما ذكر.
ومن العادة القديمة فى مصر: بناء المعابد باسم الآدميين، وكان لهم فيها عبادة فى أوقات مخصوصة أشبه بالأعياد، ويبجّلونهم فيها ويعظمونهم كما يبجل الخالق سبحانه وتعالى، فمن ذلك: معبد (منيس) مؤسس الدولة المصرية، وكان له قسوس مخصوصة، وكذا كان للفراعنة الذين بنوا الأهرام.
وبقيت هذه العادة إلى زمن البطالسة، وأتبعها عقبهم، وسار على آثارهم الرومانيون، فكانت قسوس مختصة ب (برنيس) وأخرى مختصة ب (أرسنوى) من بنات البطالسة.
والرومانيون أخذوا عن المصريين عادة المسلات، ولكن لجهلهم بما كانوا يقصدونه جعلوها بعيدة عن المعابد. وحيث كانت أفكارهم متجهة نحو المفيد النافع، كانوا يجعلونها فى مقاصد نافعة، مثلا: المسلتان المنقولتان فى زمن (أغسطس) قيصر الروم من إسكندرية، وضعت إحداهما فى الميدان المعروف ب (شان دومارس) واستعملت كمزولة لبيان الوقت، والأخرى جعلت حدا، وصارت هذه العادة مستعملة فيما بعد، وصارت المسلات توضع فى ميادين الألعاب، فحصل فى ميدان قيصر الروم (تبرون)
(1)
فى الفاتيكان، وفى ميدان إسكندرية، وفى ميدان قسطنطينية.
(1)
الصحيح «نيرون» . انظر: اضمحلال الإمبراطورية الرومانية، ج 1، ص 59.
ومع هذا فقد شوهد استعمالهم المسلات أمام العمارات الشهيرة؛ كما حصل أمام مقبرة قيصر الروم (سيزار) وأمام معبد (إزيس سيرابيس).
والمسلتان الموجودتان أمام هذا المعبد، اللتان ليستا متساويتين فى الارتفاع، إحداهما:
عملت زمن (سيزوستريس). والأخرى: زمن (ابريس) ونقوشهما تدل على ذلك.
ومن هنا ظهر أن الذين وضعوا المسلات المذكورة، حفظوا لها الكيفية التى كانت عند المصريين من دون أن يعلم الرومانيون الغرض من ذلك، ولذا تراهم استعملوا المسلات للزينة. وبابات روما تبعت القياصرة، وصارت تزين المدينة بالمسلات أيضا، من غير وقوف على الغرض منها.
ومسلات إسكندرية غريبة من أرضها، أتت إليها من الجهات القبلية، فكما نقلت لباريس وروما فى الأزمان الأخيرة، كذلك نقلت إلى إسكندرية فى الأزمان السابقة، أى زمن زهوها وزينتها؛ لتزيين معابدها وميادينها.
مطلب الكتابة التى بالمسلات
وقد اختلف كثير فى الكتابة التى على المسلات، فقال بعضهم: أنها القوانين الطبية، وقال آخرون: قواعد فلسفة المصريين، والقوانين المدبر بها هذا العالم.
وهذا الاختلاف إنما هو بالنسبة للأزمان السابقة، وأما/الآن فلا يعوّل إلا على ما يقرأ ويفهم منها، بناء على المعلومات التى اكتسبها أهل عصرنا من معرفة اللسان القديم، وبواسطتها لم يوجد مسطرا على صفحاتها إلا ما فيه مدح فرعون وقتها، وحروبه، ونصره ولقبه، وما أشبه ذلك.
ووجد مكتوبا على المسلتين اسمان من أسماء الفراعنة وهما: (طوطموزيس)
(1)
و (سيزوستريس) أو رمسيس الأكبر، والأول: فى الصف الأوسط، والآخر: فى الصفين المتطرفين، ولا بعد فى وجودهما معا، أو أن أحدهما هو المنشئ لهما، والآخر أتى بعده ووضع اسمه عليهما.
(1)
هو: تحتمس.
وقد شوهد كثير من هذا القبيل، والعادة أن اسم المنشئ يكون فى الوسط، وحينئذ فهاتان المسلتان ينسبان إلى (طوطموزيس) فى المدة التى كان التقدم فيها لا مزيد عليه فى أمر العمارة، وفيها بلغ النقش والتصوير عند المصريين، درجة لم تكن عند السابقين، ولم يصل إليها اللاحقون.
والذى ينبغى التنبه له، أن من ضمن الكتابة المسطرة على أوجه مسلات الإسكندرية، عبارة جديرة بالذكر، لدلالتها على حادثة عظيمة، حصلت فى الأزمان الماضية بالديار المصرية، وهى: هجوم العربان عليها سنة 2500 قبل الميلاد، وأقاموا حاكمين فيها 500 سنة، قاست فيها البلاد بلاء لا مزيد عليه.
وعلى المسلات يقرأ بعد ألقاب الفراعنة عند ذكر (طوطموزيس الثالث) كلمة معناها: المشهور بطرده للهيك، ومعلوم أن اسم الرعاة الواردين مصر من العرب-فى لغة المصريين-هو: هيكوسوس، ولا بد أن لفظة (هيك) مختصرة منها.
والذى يغلب على الظن، هو ما ورد عن المؤرخ (مانيتون المصرى) من أن هذه الكلمة مركبة من كلمتين: هيك وسوس، الأولى: من اللسان المصرى العتيق ومعناها:
الملك، والثانية: من لسان العامة ومعناها: رعاة، فمجموعهما: ملك الرعاة، فاكتفى بكتابة الكلمة الأولى لدلالتها على هذا المعنى.
وحيث أن المعروف أن الرعاة كان طردهم من مصر قبله بأحد ملوك عائلته، يلزم أنهم هجموا عليها مرة أخرى فجلاهم عنها (طوطموزيس الثالث) ولذا اكتسب الذكر الجميل، ونقشت هذه الفعلة ضمن افتخاره.
وبالتأمل لتاريخ هذه المدة المشحونة بالأهوال، يرى ويستدل من الكتابة المنقوشة على مسلات إسكندرية، أن امتيازها كان فى زمن (طوطموزيس الثالث)، وذلك قبل الميلاد بسبعة عشر قرنا، وأنّ المسلة التى بباريس. وأختها الموجودة بالكرنك-للآن-بعدها بقرنين، وهاتان المسلتان ينسبان إلى (سوزستريس).
عمود السوارى
الإفرنج تسمى هذا الأثر (عمود بومبى) والمصريون يسمونه (عمود السوارى)، ويؤخذ من التسمية الأولى أن هذا العمود ينسب عمله إلى (بومبى) المذكور، والحال أن هذا الأمير رومانى لم يطأ إسكندرية، بل ثبت أنه قتل بمدينة الطينة-التى على ساحل مصر- بدسيسة زوج كيلوباترا الأول وأخيها.
والكتابة الرومية الموجودة على جلسة العمود، تدل على إهدائه إلى قيصر الروم (ديوكليتان) فهل يقال إنه لم يرفع إلا فى زمنه؟ وجعل علما على فتحه مدينة إسكندرية، ونصرته على الإسكندرانيين الذين كانوا رفعوا لواء العصيان، وعاقبهم بعد نصره عليهم عقابا شديدا، سفك فيه كثيرا من الدماء.
لكن جميع الناس العالمين بتاريخ مصر وآثارها، اتفقوا على أن البدن من أعمال المصريين السالفين، وأن الجلسة من أعمال الرومانيين، ومن هنا يعلم أن العمود نفسه قديم قبل هذا القيصر.
وغاية ما يقال إنه كان قد وقع أو تخلخل، فأقامه على القاعدة الجديدة، ونقش عليه الكتابة المذكورة لتخليد ذكره، فإنه بعد قسوته عقب دخول المدينة فى الطاعة، أحسن للأروام الذين كانوا بها، وفرق عليهم الغلال، وأدخل ضمن قوانين الحكومة بعض قوانين نافعة.
ويؤخذ من التسمية الثانية: أنه منسوب إلى قيصر الروم (سيزوستريس) ولكن التاريخ لم يذكر ذلك، فهى غير صحيحة، كنسبته عند الأروام إلى إسكندر مؤسس مدينة الإسكندرية.
والصحيح أن العمود المذكور من آثار الأروام، حسب اتفاق كثير من أهل التاريخ، وأنه أقيم فى مكانه زمن أحد البطالسة الذى فيه أنشئ المكان المعروف بالسيرابيوم، وهو أعظم عمارات الإسكندرية فى زمن عزها، وقد وصفه العالم الرومانى (أفتونيوس) السائح فى
بلاد مصر وإسكندرية، فى القرن الرابع من الميلاد بقوله:«متى دخل المرء قلعة إسكندرية، وجد مكانا محدودا بحدود أربعة متساوية، وفى وسطه فضاء متسع، محاط بأعمدة، وبعده دهاليز فيها قيعان، بعضها لحفظ الكتب المجعولة لمن يريد المطالعة فى العلوم والحكم، وبعضها معد لعبادة المقدسين، وفى وسط هذا الفضاء عمود عظيم الارتفاع، وهو علم يستدل به على هذا المكان، لأنه تغير عن حالته الأصلية، فيتحير الإنسان ولا يدرى أين يتوجه إذا أراد هذا المحل إلا بهذا العمود، فهو دليل لمن أراد هذا المكان من أهل البر والبحر» .
وهذه العبارة تدل على أن هذا العمود فى وسط حوش السيرابيوم، لأنه لم يوجد بالإسكندرية عمود بهذه الصفة إلا هو، وتدل أيضا على أن موضع السيرابيوم هو الموضع الذى فى وسطه العمود الآن، ولا يقال إنه كان فى موضع غير هذا الموضع ثم نقل منه إليه، لأن ذلك/من العمليات الجسيمة، التى لا يغفل المؤرخون عن ذكرها والتنويه بمن حدثت فى مدته من القياصرة أو غيرهم
والأرجح أن العمود المذكور قائم فى موضعه الأصلى ضمن عمارات السيرابيوم-كما ذكرنا-، وكون الجلسة حدثت بعد العمود، لا يؤخذ منه سوى حدوث حادثة كزلزلة- مثلا-أثرت فى الجلسة، فأصلحها (ديوكليتان) فى زمنه، وردّ العمود إلى الحالة التى كان عليها أولا، وكتب فوق الجلسة ما نوه فيه بذكره.
مطلب فى الكلام على التمثال الذى فوق عمود السوارى
ذكر كثير ممن تكلم على هذا العمود فى الأعصر الأخيرة، أنه كان فوقه تمثال، ولكن لم يذكره (أفتونيوس) فى تاريخه، مع أن وقت سياحته كان قريبا من زمن (ديوكليتان)؛ لأن هذا الوقت زمن القيصر (قسطنطين) والقيصر (جوليان)، وكذا لم يذكر القبة، التى ذكر عبد اللطيف البغدادى فى رحلته أنها كانت فوقه أيضا.
ولا يقال إن التمثال المذكور حدث بعد (أفتونيوس)، أو لم يكن موجودا من أصله حتى أنه لم يتعرض له فى كلامه، لأنه ذكر فى عبارة أغلب المؤلفين، فلا بد أنه كان موجودا قبل سياحته، إلا أن يقال إن هذا التمثال أزيل عن العمود مدة سياحته، ولذا لم يذكره فى كلامه.
وهذا التمثال كان للمقدس (أبيس)، وليس تمثال (ديوكليتان) أو تمثال حصانه، بناء على ما ذكره بعض المؤرخين من الإسكندرانيين؛ لما اعترفوا بشفقة القيصر عليهم، جعلوا لحصانه هذا التمثال، بعد أن عثر به حين دخوله من أحد أبواب المدينة، وكان ذلك سببا فى رفع القيصر عنهم النهب والسلب والقتل، بعد أن كان أصدر أمره بذلك عقابا لأهل هذه المدينة، على ارتكابهم العصيان والفساد، فرأى أن ما حصل من الحصان المذكور كأنه أمر إلهى ينهاه عن استمرار القسوة عليهم، ويأمره بالشفقة عليهم.
ويؤكد هذا الاعتقاد ما حققه بعض السلف، من أن (بطليموس فلادلفوس) رفع تمثالا عظيما فوق الكثيب الذى كانت فيه القلعة والبلد القديمة-التى هى رقودة-وكان بها السيرابيوم، وهو من أحسن العمارات وأجملها، وكان يظهر من بعد عظيم، لا يصل إليه الإنسان إلا بعد صعود مائة درجة. وقيصر الروم (كركلا) كان فى أعلى محل منه وقت أن أصدر أمره بالقتل وغيره لأهل الإسكندرية.
وجميع الفتن التى توّلدت من عداوة الديانة العيسوية والديانة العتيقة، كان مركزها هذا المكان، ولهذا يرى أن هذه البقعة استمرت تسقى بدم الخلق أزمانا عديدة، فتارة كانت القوة لحزب أبيس، فيقتل جميع النصارى بغاراته، وتارة كانت لحزب المسيح، فيقتل جميع رجال الآخر، إلى أن كانت الكلمة للعيسوية فى زمن القيصر (طيودوز)
(1)
، فهجمت النصارى على هذا المكان وهدمته وأزالته بالكلية.
ومع ذلك ففى القرن الخامس من الميلاد، زمن الفتن، كانت أهالى الإسكندرية تحتمى فى بواقيه، وفى زمن صلاح الدين كانت عدة من أعمدة دهاليزه باقية، وكانت من ضمن الآثار العجيبة التى وقرّها الدهر ولم يعتد عليها.
(1)
الصحيح «ثيودوسيوس» . انظر: اضمحلال الإمبراطورية الرومانية، ج 1، ص 499، ج 2، ص 513،510،247.
وكان هذا المحل قديما مركز الديانة الوثنية والرومية، وكذلك الديانة العيسوية فيما بعد؛ فإنه بعد زوال عبادة أبيس، حدثت الديانة المسيحية فى كنيسة بنيت فى هذا الموضع، وكانت تسمى كنيسة (جان بابست).
ويستفاد مما قدمنا، أن الموضع القائم فيه عمود السوارى الآن، هو المحل الذى كان به السيرابيوم، والمحل الذى هو فيه هو محل القلعة وقرية رقودة، التى كانت فى زمن الفراعنة لإقامة الخفراء والعساكر.
ويستفاد منه-أيضا-أن العمود المذكور من أعمال الروم، وأن الجلسة التى تحته من أعمال المصريين. ولا بد أنه كان قبل وضع هذا العمود بهذا المحل مسلة أزيلت ووضع هو محلها، ويدل على ذلك وجود كتابة عليها مضمونها:(شامبليون اسم سباماتيك الثانى من فراعنة صا الحجر الغربية من النيل) فلا بد أن هذا الأثر نقل من عمارات هذه المدينة.
ويستفاد من كلام بعض المحققين، أن السيرابيوم كان فيه راهبات ورهبان لخدمة المقدسين، ووجد شرح بعض قضايا هؤلاء الرهبان على بعض البابيروس
(1)
المحفوظ الآن بخزانة الآثار، وعلم أنهم كانوا تحت رياسة أحد كهنة المصريين، ومن هنا علم أن الرهبانية التى ابتدعها العيسوية، كانت موجودة عند قدماء المصريين، وكانت إحدى هذه الدعاوى لبعض المقدونيين.
وكان من ضمن خدم السيرابيوم (منفيس) وفيها يشتكى من الرئيس ومعاملته السيئة له، بسبب أنه من الروم، وفى هذا دليل على احتقار الروم عند المصريين فى الأزمان القديمة، وكانت الكتبخانة التى حرقت فى زمن القيصر (سيزار) فى السيرابيوم أيضا، وكان بها نسخة بالعبرانى من التوراة، وفى هذا دليل على أن اليهود كانوا غير ممنوعين من دخولها.
(1)
يعنى: أوراق البردى.
أسوار مدينة الإسكندرية
قد استدل من البحث، الذى أجراه العالم الفاضل محمود بيك الفلكى
(1)
، على جدران السور القديم الذى كان لهذه المدينة، أن عرضه كان خمسة أمتار، وأنه كان مبنيا من قطع الحجارة والمونة المركبة من الجير والحمرة، وقد تتبع أثره من ابتداء برج السلسلة، الذى كان يسمى قديما (رأس لوشباس
(2)
) إلى الحدرة، وطول هذه المسافة 3000 متر، وقد عثر بين ترعة المحمودية والتلول التى بجوارها على جملة نقط من السور/منحطة عن الأرض، بعضها ثلاثة أمتار وبعضها أربعة وبعضها خمسة.
وقد ظهر أن السور-من برج السلسلة إلى المينا الغربية-كان يتبع مسير الساحل، وشاهد هناك آثارا مغطاة بمترين وأكثر من الماء، وقد تتبع هذه الآثار، ورسم السور المذكور فى كل هذا الامتداد.
ويظهر من الخرطة التى حررها، أن السور القديم-من جهة رشيد-كان بعيدا عن السور الموجود الآن بنحو 1600 متر، ومن جهة المحمودية بعضه بمائتى متر، وبعضه بأربعمائة، وكان من جهة البحر، بعضه يتبع اعوجاج الساحل، وكان أغلب الضلع الرابع منه مستقيما وبعيدا عن جامع الألف عمود، بنحو مائة متر.
وبناء على ذلك، وجد أن محيط السور مع الاعوجاج 15800 متر، عدد الرؤوس الداخلة فى البحر التى إن أضيفت هذا المحيط 600 متر، وبلغ فى هذا الرسم أعظم طول للمدينة 5090 مترا. وأما العرض فأصغره الذى من جهة النكروبولس (مدينة الأموات) قدره 1150 مترا، وأكبره 2250 مترا، وبين هذين البعدين كان تارة 1400 متر، وتارة 1560، وتارة 1700.
(1)
انظر الأعلام للزركلى، ج 8، ص 40 الطبعة الثانية.
وله رسالة عن الإسكندرية القديمة وضواحيها، ترجمة محمود صالح، الإسكندرية، دار نشر الثقافة 1966.
(2)
الصحيح: رأس لوشياس-رأس لوخياس. Lochias - انظر: تاريخ مصر فى عصر البطالمة، ج 2، ص 284 - 285.
مطلب فى الكلام على أبعاد مدينة الإسكندرية
وتكلم كثير، من المؤلفين على أبعاد هذه المدينة، فجعل (استرابون) عرضها ما بين سبع أستادات وثمانية، وجعله (فلوبوس) و (يوسف) و (فيلون) عشر أستادات، واتفق الجميع على أن طولها 30 أستادة، وقال (كانتكورس): إن المعمار (دينكرات) جعل محيطها 180 أستادة، وجعله (أثنين البيزانتى) 110 أستادة، العرض 8 أستادات، والطول 34 أستادة.
وقد استنبط العالم المذكور من ذلك أن الأستادة الرومية 147،95 مترا، والميل الرومانى 147،95، وأن الأستادة المستعملة فى أبعاد المدينة هى الأستادة الرومانية، وقدرها بالمتر 165 مترا بأدلة واستنباطات أوردها.
وفيما قاله نظر يحتاج بيانه، لا يراد ما يخرجنا عن الغرض، وسنذكر لك إن شاء الله- فيما بعد-تحقيق هذا المقام.
ولعل سبب هذا الاختلاف الواقع بين المؤلفين، نشأ من تكلمهم عليها فى أوقات مختلفة، أورد كل منهم قياسها فى زمنه، أو أن ما اعتبره أحدهم لأطول بعد لم يعتبره غيره، وهكذا العرض.
وعلى كل حال، فأقوالهم جميعا تفيد: أن المدينة كانت أكبر جدا من مدينة العرب، وكانت التلول الموجودة قريبا من السور-بعد الاستحكامات-من ضمن هذه المدينة.
وفى خطط الفرنساوية، أنه عملت مقارنة بين مساحة إسكندرية فى الزمن القديم- حال سعدها، وبين مساحة مدن أوروبا-فى ذلك الوقت-فوجد أن: مساحة باريس 5980570 تواز مربع، لوندره 4264000، برلين 3479860، ونينة 3171850، روما 1926230، ومساحة مدينة الإسكندرية-بناء على قول (كانتكورس) من أن محيطها
ثمانون أستادة-يكون 2707500 تواز مربع، وبناء على قول (بولين) من أن محيطها 15000 خطوة، التى هى عبارة عن 11340 توازا مربعا، تكون المساحة 6027918 توازا مربعا.
فعلى كل حال يظهر من هذا الفرق الجسيم، أن مساحة المدينة-كانت بالأقل- تساوى برلين وونينة، وإن أضيفت لها الضواحى زادت عن ذلك بكثير.
وقد عثر بها أيضا على أحد عشر شارعا مبلطا تقطعها عرضا، وسبعة شوارع تقطعها طولا، وأحد الشوارع الطويلة هو المعروف بعضه الآن بشارع باب شرقى، وكان جامع العطارين من ضمن هذا الشارع، وكذلك محل كنيسة (سنعطناس). وقد صار الآن محل الجامع من ضمن الأملاك الأهلية، وبجواره كنيسة الروم، ويظهر أنه دخل فيها جزء من أرض الجامع.
والمسافة التى بين هذا المحل وعمود السوارى 1285 مترا، والذى بينه وبين المسلة 800 متر، وبينه وبين باب رشيد 1835 مترا، وقد يوجد بلاط أرضية الشارع القديم فوق استواء ماء المالح بقدر 47، وتحت الأرض-الآن-بقدر 30.
مطلب فى الكلام على وصف الشارع المعروف قديما بشارع كانوب
وقد استدل بالبحث على نقط أخر غير هذه النقط، علم منها أن الشارع المسمى- قديما-بشارع كانوب، كان مستقيما، وواصلا بين الضلعين المتطرفين من المدينة، أحدهما من جهة رشيد، وعرضه من الجزء المبلط 114 مترا، وطوله 5090 مترا، واتجاهه من الشرق والشمال الشرقى إلى الغرب والجنوب الغربى، وبينه وبين خط الشرق والغرب 24 و 15، وبين محور هذا الطريق وعمود السوارى 1165 مترا، وبينه وبين المسلة 517 مترا.
وعرض الحارات الطويلة الأخر، نصف عرض شارع كانوب المذكور، وجميعها موازية له، وأبعادها الواقعة بينها متساوية وقدرها 278 مترا.
وجميع الحارات العرضية متوازية وعمودية على الشارع الأصلى، المسمى بشارع كانوب، وبين كل منها وخط الشمال والغرب زاوية قدرها:15 24، وجميعها ممتد من البحر إلى المحمودية، والأبعاد الأصلية التى كانت بينها وبين بعضها 330 مترا، وكان فيها أيضا حارات أخر متوازية-غير هذه-لكنها متقاربة، فمنها المتباعد بقدر 110 أمتار، ومنها المتباعد بقدر 96 مترا.
وكان من ضمن الحارات العرضية، شارع يخرج من برج/السلسلة، بسبب أنه كان به سراية ملوكية، تمر بالميدان الكبير، عمودية على شارع كانوب، وتمتد إلى مينا خارج السور على الخليج، وكان عرضها 14 مترا-مثل عرض الشارع الأصلى-، وكان على جانبها الشرقى بجمون لتوصيل المياه العذبة إلى السراية والصهاريج، وكان فى الجهة الأخرى مجرى القاذورات.
ويظن من كثرة الأعمدة التى وجدت فى امتداد هذا الشارع، أنه هو الشارع الذى تكلم عليه (أشيلبس تاتيوس) وكان بحافتيه من الجهتين بواك.
ويظهر من الميزانية التى أجراها محمود بيك، أن أراضى المدينة لم تكن مستوية، وكانت منقسمة-بطبقة الأرض إلى قسمين-بواد يختلف عرضه ما بين 600 و 700 متر، وابتداء الوادى المذكور من برج السلسلة، ويمتد إلى بحيرة مريوط، فيكون الساحل فى هذا الوادى منقسما قسمين: قسم من جهة أرض مصر، وقسم من جهة أرض ليبيا، ولا بد أن هذا سبب كون الإسكندرانيين يقولون: إن جزأ من المدينة من مصر، وجزأ من ليبيا.
بجمونات إسكندرية وصهاريجها
يظهر من رؤية الباقى منها الآن، أنها كانت كثيرة الصهاريج، وكانت الخلجان المتفرعة من الخلجان الأصلية لتوصيل المياه إلى المنازل والحارات لا تنحصر، ولا سيما ما كان منها
للبساتين والحدائق، وما كان مختصا بامتلاء الصهاريج الموزعة فى جميع أرجاء المدينة، لكفاية الأهالى، والواردين، والمترددين فى جهات القطر، وسواحل البحر المالح.
وحيث أن أهالى إسكندرية كانوا-بالأقل-600 ألف نفس، ولو أضيف قدر هذا العدد عليه نظرا للواردين عليها، لكان اللازم لهم من الماء مليونا ونصفا فى مدة السنة، وهذا غير ما يلزم للحيوانات والبساتين، ولا يكفى لذلك أقل من 40000 متر مكعب كل يوم- أعنى قريبا من 600000 قربة.
ويوجد إلى الآن فى هذه المدينة خمسة خلجان، من الخلجان الأصلية التى كانت مستعملة فى دخول مياه النيل لامتلاء الصهاريج التى كانت فى هذه المدينة، وكانوا يسدون أفواه البجمونات لامتلاء الصهاريج، فإذا امتلأت فتحوها، ويعملون لذلك موسما مشهورا.
والبجمون الأول منها: فى استقامة الخليج القديم إلى المينا الغربية.
والثانى: يبتدئ من الخليج، ويكون فى استقامة الشارع المار بعمود السوارى.
والثالث: يبتدئ من الخليج ويستمر مع الشارع الداخل فى البلد، بعيدا عن شارع العمود بقدر 900 متر تقريبا.
والرابع: يسير مع الشارع المار ببرج السلسلة.
والخامس: خارج من سور البلد من جهة كانوب، على بعد 1300 متر منه، وعلى بعد 2350 مترا من سيدى جابر.
والخلجان المذكورة كانت تتبع فى سيرها الحارات، فتخرج منها فروع لتوصيل المياه إلى صهاريج المدينة، وبعض هذه الخلجان كان يجتمع ماؤها، ويسير تحت أرض الميدان الكبير، ويدخل من هناك فى جزيرة فاروس من خليج واحد كان يمر فوق القنطرة التى كانت توصله بأرض المدينة.
وقال محمود بيك فى رسالته: إن ما عثر عليه من الصهاريج فى مدينة إسكندرية، يبلغ 700 بعضها مركب من طبقتين، والطبقة العليا محمولة على أعمدة من الرخام أو الزلط، وفى المواضع المرتفعة من المدينة كانت تبلغ طبقات الصهاريج أربعة، ولم تكن جميعها تملأ من الخلجان، بل كان يملأ أكثرها بالقرب.
وفى كتاب (جركى) الفرنساوى: أن جليس بيك عند إجرائه عمليات الاستحكامات، كشف عن 896 صهريجا مبنية جميعها بالحجر، وواصلة لبعضها، وتأخذ ماءها من خليج كبير يشق البلد، ويمتد إلى بحيرة مريوط.
ولا بد أنه لم يعثر على جميعها، وكانت تنظف كل سنة حتى لا يضر ماؤها بالصحة، وقد استدل على 300 صهريج داخل المدينة الجديدة، ردم أغلبها ولم يبق منها الآن إلا القليل، بعضه فى حيازة أهل الملك، وبعضه فى حيازة الحكومة، وكان الموجود منها فى زمن الفرنساوية 308، ووجد فى واحد منها 30 عامودا فوقها عقود من البناء.
جزيرة فاروس
كانت هذه الجزيرة فى الأيام الخالية محصنة بأسوار وأبراج فى دوائرها. وآثار المبانى القديمة التى كانت بها وقت دخول الفرنساوية، تدل على أنها كانت عامرة بالسكان، منفصلة عن المدينة بالكلية، وكان طولها موازيا للساحل من ابتداء المينا الشرقية إلى نهايتها من جهة الغرب-الموجود بها الآن المنارة الجديدة-3600 متر، وعرضها المتوسط 500 متر، وكان فى نهاية الجزيرة من جهة الشرق، صخرة طولها قريب من 2500 متر، وكانت المنارة القديمة مبنية فوقها، والبعد من وسط هذه الصخرة إلى المنارة الجديدة الآن 3030، وكان الماء يحيط بهذه الصخرة من جميع الجهات-كما ذكر ذلك استرابون-والجزيرة الصغيرة الموجودة نحو الشمال، لم تكن فى القديم إلا رأسا من الجزيرة الأصلية.
وشكل الجزيرة يشبه الساق، والثلاثة ارتفاعات-المرتفع كل منها بقدر عشرة أو أحد عشر مترا-شبه الكعب، والسمانة، والركبة، وأحدها يقع فى الشيخ الموازينى، والثانية فى المدرسة، والثالثة فى رأس التين والشعب/الممتد فى البحر بين برج السلسلة والجزيرة من جهة، وبين العجمى والجزيرة من الجهة الأخرى، فدل ذلك على أن هذه الجزيرة- والشعوب المذكورة-أصلها من الساحل، وانفصلت منه بحادثة حدثت فى الأزمان العتيقة.
وتكلم أميروس الشاعر على ما يتعلق بها قبل المسيح بعشرة قرون، وترجمة عبارة أميروس هى هذه:(هناك توجد مينا، منها تخرج السفن بعد أخذ الماء، وبينها وبين النيل يوم ملاحة، يعنى 540 أستادة، لأن يوم الملاحة قدره هذا المقدار، وتطابق هذه المسافة الجزيرة وفم الفرع القانونى. وكانت فى الأيام العتيقة من أحسن المواضع وأجملها، وكان بها مواضع كثيرة للنزهة، وجهاتها نحو الشمال فيكون هواؤها أيام القيظ رطبا لطيفا، وبعضها متوجه جهة الجنوب، لسكن الشتاء، وكان بها بساتين كثيرة، فيها من جميع الفواكه، لكنها مشتهرة بالتين، ولذا كانت تسمى: روض التين، ويقى ذلك إلى أكثر من نصف القرن الثانى عشر، وكان يهاجر إليها فى كل سنة-زمن الخريف-الطير المعروف بالسمان، فتأخذ الناس منه كثيرا حتى اكتفى عن اللحم) اهـ ملخصا من كتاب (مالى).
ولا يعلم كيف كانت هذه البساتين، لأن أرض جميع جهاتها حجر، ولا بد أن بعض مبانيها كانت تردم بالطين المنقول كما يشاهد الآن.
المنار القديم
قال المقريزى فى خططه-نقلا عن المسعودى-: أما منارة الإسكندرية، فذهب الأكثرون من المصريين والإسكندرانيين-ممن عنى بأخبار بلدهم-إلى أن الإسكندر هو الذى بناها، ومنهم من رأى أن (دلوكة) الملكة بننها، ومنهم من رأى أن العاشر من فراعنة مصر هو الذى بناها. وقال: إن الذى بناها جعلها على كرسى من الزجاج، على هيئة السرطان فى جوف البحر، وعلى طرف اللسان الذى هو داخل فى البحر من البر.
وفى خلافة الوليد بن عبد الملك بن مروان، صار هدم أعلى المنارة بحيلة عملها عليه ملك الروم، ثم بقيت على ما كانت عليه إلى سنة 332 هلالية. وفى سنة 777 سقطت رأسها من زلزلة.
وقال ابن وصيف شاه-عند ذكر أخبار مصرايم بن بيصر بن حام بن نوح-وبنوا على البحر مدنا منها: رقودة، التى كانت قبل الإسكندرية فى مكانها، وجعلوا فى وسطها قبة على أساطين من نحاس مذهب، ونصبوا فوقها منارة عليها مرآة من أخلاط شتى، قطرها خمسة أشبار، وكان ارتفاع القبة مائة ذراع.
ونقل السيوطى عن ابن فضل الله: أن هذه المنارة قد خربت وبقيت أثرا للأعين، فزال الباقى فى أيام قلاوون وولده.
وبناء على قول مؤرخ النوبة: إن المنارة المذكورة كانت موجودة إلى القرن الثالث عشر، كما ذكر أبو الفداء-فإنه كان موجودا فى سنة 1320 ميلادية-تكون المنارة المذكورة تخربت فى القرن الحادى عشر. ومحل هذه المنارة الآن البرج الزفر، الذى هو محل طابية قائد بيك، الذى فى النهاية البحرية الشرقية من جزيرة فاروس.
وما ذكره (استرابون) وغيره يؤيد ذلك، فقد ذكر ما معناه: أن النهاية الشرقية من الجزيرة عبارة عن صخرة محاطة بالماء من جميع جهاتها، والمنارة فوقها عبارة عن برج من جملة طبقات، مبنية بغاية الإحكام من الرخام الأبيض، واسم الجزيرة، واسمه واحد، والذى بناه (سوستران)
(1)
محبوب الملوك لأجل أمن الملاحين، لأن الساحل من جهة إسكندرية منحط ومجرد عن المينا وكثير الشعوب والصخور، فكان من المهم جعل دليل مرتفع لأجل دخول الملاحين الواردين وعدم وقوعهم على الصخور.
والمدخل الغربى-ولو كان عسرا-لكنه لم يكن فى الأهمية كالشرقى، ومنه كان يتوصل إلى مينا تسمى:(أونست)
(2)
، من داخلها مينا محفورة بالآدميين مقفولة.
(1)
الصحيح «سوستراتوس» . انظر: تاريخ مصر فى عصر البطالمة، ج 2، ص 287.
(2)
الصحيح «يونوستوس» . انظر: المرجع السابق، ج 2، ص 292.
فالموجودة فى مدخلها المنارة هى المينا الكبرى، والأخريان مجاورتان لها، ولم يفصلهما عنها إلا القنطرة المعروفة باسم (هبتا استاد
(1)
.
ومن هنا يعلم أن محل المنار القديم محل طابية قائد بيك، فى النهاية البحرية الشرقية من جزيرة فاروس.
وقال المقريزى فى خططه: إن منارة إسكندرية أحد بنيان العالم العجيب، بناها بعض البطالسة من ملوك اليونانيين، بعد وفاة الإسكندر بن فليبش، لما كان بينهم وبين ملوك روما من الحروب فى البر والبحر، فجعلوا هذه المنارة مرقبا، فى أعاليها مرآة عظيمة من نوع الأحجار الشفافة، ليشاهد منها مراكب البحر إذا أقبلت من روما، على مسافة تعجز الأبصار عن إدراكها، فيستعدون لها قبل ورودها.
وطول المنارة فى هذا الوقت-تقريبا-مائتان وثلاثون ذراعا، بعد أن كان طولها أربعمائة ذراع، فتهدمت من ترادف الأمطار والزلازل.
وبناؤها على ثلاثة أشكال، فقريب من النصف وأكثر من الثلث، بناؤه مربع الشكل بأحجار بيض، وذلك نحو مائة ذراع وعشرة أذرع تقريبا، ثم بعد ذلك يكون مثمن الشكل مبنيا بالحجر والجص، وذلك نحو نيف وستين ذراعا، وحولها فضاء يدور فيه الإنسان، وأعلاها مدوّر.
ورّم أحمد بن طولون شيئا منها، وجعل فى أعلاها قبة من الخشب، ليصعد إليها من داخلها، وهى مبسوطة منحرفة/بغير درج.
وفى الجهة الشمالية من المنارة كتابة برصاص مدفون بقلم يونانى، طول كل حرف ذراع فى عرض شبر، ومقدارها على جهة الأرض نحو مائة ذراع، وبلغ ماء البحر أصلها، وقد كان تهدم أحد أركانها الغربية مما يلى البحر، فبناها أبو الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون.
وفى الخطط: أنه فى أيام الظاهر بيبرس، تداعى بعض أركان المنارة وسقط، فأمر
(1)
الصحيح «هبتاستاديون. Heptastadion «انظر: تاريخ مصر فى عصر البطالمة، ج 2 ص 284.
ببناء ما تهدم منها فى سنة 673، وبنى مكان القبة مسجدا، وهدم فى ذى الحجة سنة 702 من زلزلة، ثم بنى فى سنة 703، وهو باق إلى يومنا هذا.
وبينها وبين مدينة إسكندرية فى هذا الوقت نحو ميل، وهى على طرف لسان من الأرض قد ركبه البحر، وهى مبنية على فم مينا إسكندرية، وليست المينا القديمة لأنها فى المدينة العتيقة، ولا ترسو فيها المراكب لبعدها عن العمران، والمينا هى الموضع الذى ترسو فيه مراكب البحر إلى آخر ما قال.
وفى سنة 344 تهدم من المنارة نحو 30 ذراعا من أعلاها، بالزلزلة التى كانت ببلاد مصر وكثير من بلاد الشام والمغرب فى ساعة واحدة؛ على ما وردت به الأخبار المتواترة ونحن بفسطاط مصر.
مطلب المجمع الذى كان للمنارة
وكان لهذه المنارة مجمع فى يوم خميس العدس، يخرج فيه أهل إسكندرية إلى المنارة من مساكنهم، ولا بد أن يكون فيها عدس، فيفتح باب المنارة وتدخله الناس، فمنهم من يذكر الله، ومنهم من يصلى، ومنهم من يلهو ولا يزالون كذلك إلى نصف النهار ثم ينصرفون. ومن ذلك اليوم يحترس على البحر من هجوم العدوّ.
وقال بعضهم: إنه قاسها فوجد طولها 233 ذراعا، وهى ثلاث طبقات، الطبقة الأولى مربعة وهى 121 ذراعا ونصفا، والثانية مثمنة وهى 81 ذراعا ونصفا، والطبقة الثالثة مدوّرة وهى 31 ذراعا ونصف ذراع.
وذكر ابن جبير فى رحلته أن منار إسكندرية يظهر على بعد 70 ميلا فى البحر، وأنه قاس أحد أضلاع المنارة فى سنة 578 هجرية فوجده يزيد على 50 ذراعا، وأن الارتفاع يزيد على 50 باعا، وفى أعلاها مسجد يتبرك الناس بالصلاة فيه.
وذكر قلاوبوس يوسف فى وصف فزائل
(1)
بمدينة القدس، الذى ارتفاعه 50 ذراعا، وضلع مربع قاعدته 40 ذراعا، أن شكل هذه المنارة يشابه شكل منار إسكندرية.
وذكر فى مواضع أخر: أن نور منار إسكندرية يرى فى البحر على بعد 300 أستادة.
فيعلم من جميع ما تقدم: أن محل المنارة هو برج قائد بيك، وأنه المنارة المذكورة قديما، وربما كان سابقا على البطالسة، وأنه من بناء الفراعنة، وأجرى به الروم عمارات وزيادات، وكان فى غاية الارتفاع لأجل مشاهدة المراكب من بعد بعيد جدا عن المدينة، حتى يتمكن أهلها من الاستعداد لمقابلة العدوّ.
وفى خطط الفرنساوية فى صحيفة 225: أن أحد شراح لوسيان، ذكر أنها مشابهة لأهرام مصر، وأن طول ضلعها أستادة.
فإن صح ذلك، لزم أن تكون الجزيرة فى الأيام السابقة أكبر مما هى عليه الآن بكثير.
وذكر مؤرخ النوبة: أن ارتفاعه 300 ذراع، وعلى كل حال، فليست أقل من مائة أو مائة وعشرين مترا، وإلا لما ظهرت من بعد 300 أستادة، يعنى قريبا من 4000 متر.
والمنار الجديد الذى بنى زمن العزيز محمد على باشا، فى غربى رأس التين من جهة البحر، يرى فى البحر من بعد 134000 متر، مع أن ارتفاعه عن سطح البحر الملح لا يزيد عن 65 مترا، وفى خطط الفرنساوية ما يدل على أن المنارة المذكورة كانت من أعظم المبانى، لأن (بلين) قال: إن تكاليفها بلغت 800 تالان، يعنى 120000 بنتو، وهذا التالان هو تالان أتينه؛ وقيمته 1000 ايكو فرنساوى، لأن الرومانيين كانت تستعمله، ولو أراد التالان الإسكندرانى لبلغت التكاليف الضعف تقريبا.
(1)
يعنى: برج فازائيل / Phazal وهو من الآثار اليهودية بالقدس.
انظر رسالة محمود الفلكى عن الإسكندرية وضواحيها، ص 96،95.
وعبارة (أميروس) تفيد أن مينا إسكندرية، كانت مطروقة قبل وفود إسكندر على أرض مصر، وكان فيها كثير من الصهاريج ومجارى المياه، وكانت السفن تأخذ مياهها منها.
ولا بعد فى ذلك؛ لأنه لا يعقل وجود مدينة بدون وجود ماء، وتردد السفن على المينا يقضى بوجود المنار لهدايتها، فحينئذ لا يبعد كونها من مبانى الفراعنة.
وفى كتاب (جسكى) أن جزيرة فاروس كانت معلومة قبل بناء إسكندرية بستة قرون، وذكرها (أميروس) بهذا الاسم، ولا بد أنه مأخوذ من اسم المنار، لأن فاروس بالرومية معناها: محل النور.
واتفق جميع المؤرخين على أن رقودة سابقة على إسكندرية، وأنها من مدة الفراعنة، وكانت بلدا تجارية وحوصرت مرارا بسكان سواحل البحر، وكان-قبل الآن بثلاثين قرنا.
يمر بها الصوريون، والكنعانيون، وكثير من سكان جزائر البحر، فلا بد أنه كان فى المينا شئ يهتدى به، وليس ثم غير المنار ونوره، ولا بد أنه كان فى مينا رقودة كما كان فى غيرها، وأن الجزيرة استعارت اسمها منه لا أنه استعار اسمه منها.
وفى كتاب (مانى) الفرنساوى: أنه فى زمنه-يعنى سنة 1730 ميلادية-كان لا يوجد لمنار إسكندرية أثر بالكلية، وكان محله قلعة صغيرة فيها برج صغير من مبانى المسلمين، وكان هو المستعمل فى هداية المراكب القادمة على إسكندرية.
ولما دخل الفرنساوية مصر، كان محل المنار سورا، والقلعة فى جزء صغير منه، وكان السور فى محل أصغر من المحل/الذى كانت به المنارة القديمة، كما كان يظهر ذلك من الآثار، ويظهر أنه كان هناك جامع، وكانت تسمى هذه القلعة عند الإفرنج القاريون.
ومن ضمن ما وجد محل المنارة، حيضان قديمة من الرخام، وعواميد، وبعض أسلحة، وجلل من الحجر، وغير ذلك.
الجسر المسمى هيبتاستاد
هذا الجسر كان الطريق الموصل بين جزيرة رأس التين والمدينة، وكلمة هيبتاستاد مركبة من كلمتين: هيبتا التى معناها 7، وأستاد
(1)
التى معناها غلوة، فعلم من ذلك أن هذا الجسر كان طوله سبع غلوات.
وذكر (استرابون) أن هذا الجسر كان متجها نحو النهاية الغربية من جزيرة رأس التين.
وكان به فتحتان لدخول المراكب من المينا الشرقية إلى المينا الغربية، وكان طريقا لمجرى ماء النيل إلى الجزيرة (وجول سيزار قيصر) قدرها 900 خطوة، وجعل (هيروتوس) هذا الطول 800 خطوة فقط، وذكر أنه كان عند كل فتحة طابيتان: طابية من جهة البلد، والأخرى من جهة الجزيرة.
وقد عين محمود بيك فى البحث الذى أجراه على آثار المدينة القديمة، أن محل الطابية التى كانت فى جهة البلد: كوم النادورة، وأما الطابية الأخرى فمحلها الآن حمام صفر باشا، وقد هجر هذا الجسر من زمن مديد، وردم بعضه وبنيت فوقه منازل كثيرة، وهى ما بين كوم النادورة وحمام صفر باشا، وكذلك ردم جزء من المينا القديمة وبنى فوقه منازل أيضا، وبالاطلاع على خرطة إسكندرية يعلم قدر المردوم منها.
المينا الشرقية
هذه المينا هى التى كانت مشهورة فى الأيام العتيقة، ويسميها الإسكندرانيون-الآن- بالمينا الجديدة، وكان يسميها من قبلهم (مانيوس بورتوس) المينا الكبيرة، وكان مدخلها ضيقا وبه شعوب وصخور كثيرة، منها ما يظهر على سطح الماء، ومنها ما هو مغطى به، وكان فى داخلها سرايات كثيرة للملوك، بعضها مبنى على الصخور الطبيعية، وبعضها بنى فوق صخور حادثة، وكان ساحلها من ابتداء برج السلسلة، إلى آخر السبع غلوات، مزينا بالسرايات الفاخرة، والمبانى البهجة والعمارات الميرية.
(1)
ستاديا، Stadia مفردها 610 - Stadion قدم أو 185،9 متر. و 7 ستاديا حوالى 1300 متر. انظر: تاريخ مصر فى عصر البطالمة، ج 2، ص 284،281.
ويعلم مما ذكره فلاوبوس ويوسف، أنه على شمال الداخل فيها، جسر فى غاية المتانة والصلابة، وعلى يمينه جزيرة فاروس (رأس التين) ولذا كانت السفن التى تدخلها فى غاية الأمن، وسعتها 30 أستادة، وهذا يطابق محيطها-الآن-وقدره قريب من 5000 متر.
وقد عثر محمود بيك، أثناء بحثه عن آثار إسكندرية القديمة، على بواق من الجسر المذكور تحت سطح الماء بقدر 3 بل 4 أمتار، وتلك البواقى متجهة من برج السلسلة إلى جهة مدخل المينا، ويمتد إلى مائتى متر تقريبا.
ويظهر أن الحفر الموجودة الآن فى مدخل المينا كانت من ضمن الجسر المذكور، فإن كان كذلك، كان طول الجسر-من ابتداء برج السلسلة-نحو 900 متر فى الطول، و 600 فى العرض.
ومن هنا يعلم أن المينا كانت مقفولة من جميع الجهات، ما عدا الفم الذى كانت السفن تدخل منه، الذى هو من جهة المنار، وعرضه 600.
والظاهر أنه كان منقسما إلى قسمين: أحدهما صغير وهو الذى كان من جهة المنار وقدره 100 متر تقريبا، والآخر عرضه 200، وكانا منفصلين بصخرة وهى الآن تحت الماء بقدر 7 أمتار.
وفى كتاب (مانى) الفرنساوى: أن الفتحة الكبرى كانت بقرب المنار، وتنتهى بصخور بنى فوقها قلعة ومنارتان، والفتحة الثانية: كانت بعد هذه، وكان على نهايتها من جهة برج السلسلة منار ثالث انهدم، ولم يبق له أثر فى وقته، وكانت المراكب تمر بين الثانى والثالث من المنارات، ولكنه لصغره وكثرة صخوره، كان لا يستعمل إلا للمراكب الصغيرة، والآخر هو الذى كان يكثر استعماله. وكانت الفتحات المذكورة تقفل بسلاسل من الحديد.
وقد عثر محمود بيك-أيضا-على آثار المينا الصغيرة، التى غربىّ برج السلسلة ومتصلة به، وكانت معدة لمراكب الملوك، وعلى جزيرة داخل المينا بعيدة عن نصف الساحل بقدر
300 متر، وموضعها غربى مينا الملوك على بعد 400 متر منها، وشكلها شكل حدوة الحصان، والآن صارت كغيرها تحت سطح الأرض بقدر 3 أو 4 أمتار، وظن أنها الجزيرة التى كانت فوقها سراية (التيمنوم
(1)
، وكان يتوصل منها إلى البر بجسر فى منتصف المسافة التى بين برج السلسلة وجسر السبع غلوات، وكذا على آثار غير هذه من آثار المبانى والسرايات، التى كانت داخل المينا.
والمسافة الكائنة بين برج السلسلة وجسر السبع غلوات طولها 2200 مترا، وكان به السرايات الملوكية ومبانى البحرية، وكانت إحدى السرايات المسماة بالسراية البرانية محل برج السلسلة، ولعل سبب تسميتها بذلك خروجها عن المينا.
وعلى مقتضى ما ذكره (بلين) أنه كان مسلتان عند سراية السيرابيوم، التى بنتها كليوباترا الملكة، ومحلها الآن محدّد بالمسلة القائمة، وهذه السراية كانت باقية زمن (استرابون) وكان إحدى المسلتين-عند دخول الفرنساوية-قائمة، والأخرى ملقاة على الأرض، وقيس ارتفاع القائمة من القاعدة إلى آخر الهرم الأعلى فوجد 62 قدما؛ أعنى 20،46 متر، وعرض ضلع القاعدة 7/أقدام وثلاثة أصابع، وحسب مكعبها فوجد 70 مترا مكعبا وعشرين من مائة، ووزنها 186246 كيلو جرام و 63 سنتجرام، وهاتان المسلتان من آثار الفراعنة، ونقلا إلى إسكندرية زمن البطالسة، وكانا زينة أمام السراية الملوكية فى مواجهة المعبد.
وكان بقرب السراية من جهة الشرق، ما بين برج السلسلة والمسلة، برج عظيم السعة، مستدير مركب من ثلاث طبقات، ويسمى عند الإفرنج بالبرج الرومانى، ولا بد أنه البرج المعروف ببرج المسلة.
والسرايات الأخر كانت بين هذه السراية وبرج السلسلة والتياترو.
والسراية التى أقام بها قيصر حين دخوله مصر ومحاربته مع (مارك أنتوان) كانت فى مقابلة جسر التيمنيوم
(2)
، من جهة المدينة منحرفا قليلا إلى الشرق.
(2،1)) الصحيح «التيمونيوم. Timonium «انظر: تاريخ مصر فى عصر البطالمة، ج 2، ص 285.
مطلب فى بيان محل السوق المعروف فى كتب الروم باسم النبريوم
ومن السيرابيوم إلى جسر السبع غلوات، كانت السوق المعروفة فى كتب الروم باسم (النبريوم) وكان به معبد (نيتون) ويظهر أنه كان معدا لبيع أصناف التجارة الواردة والصادرة، وأنه كان بالمدينة أسواق غيره، وهذا السوق كان أشبه شئ بالبروسة الآن.
وفى خطط الفرنساوية لمصر: أن (أمزيس) أحد فراعنة مصر، كان جعل عدة أسواق من هذا القبيل فى المدن المعتاد تجارة الأروام فيها، وكان ذلك قبل دخول الفرس أرض مصر، وكان يجلس فى هذه الأسواق عرفاء وقضاة لفصل القضايا، وكان بقرب السوق المذكور، مخازن البضاعة المعدة للبيع فى السوق المذكور، ثم بعد ذلك الترسانة
وكان أمام جسر السبع غلوات ميدان متسع من جهة المدينة؛ على ما ذكره (هيرينوس).
وقال (استرابون)، بعد أن ذكر المينا الكبيرة وما اشتملت عليه، أن مينا (أونست)
(1)
فى الجهة الثانية من جسر السبع غلوات، وكان بها مينا حفرها الآدميون تسمى (سيبتوس) وحولها ترسانات، وفى آخر هذه المينا فم خليج كان موصلا إلى الملاحة ثم إلى بحيرة مريوط، وكان خلف الخليج المذكور جزء صغير من المدينة ثم خطط لنكروبوليس (مدينة الأموات).
ثم قال: وفيها كثير من البساتين والقبور، ومنازل لتصبير الأموات.
والخليج الذى تكلم عليه (استرابون) أثره يوجد الآن جهة المكس، بعيدا عن البلد بخمسة آلاف متر وخمسمائة تقريبا، ووجد من جهته البحرية أثر أرصفة تعين المينا التى كانت فى البحيرة، وهو الذى جعله (جليس بيك) خندقا من الجهة الجنوبية الغربية لاستحكامات الإسكندرية.
وقال محمود بيك: إن مينا (سيبتوس) التى معناها الصندوق، بقرب جسر السبع غلوات، وأن مينا (أونوس)
(2)
بعدها. ولكن يخالفه ما ذكره (مسيومانى) الفرنساوى فى كتابه
(2،1)) الصحيح «يونوستوس. Eunostos «انظر: تاريخ مصر فى عصر البطالمة، ج 2، ص 292.
على مصر المؤلف سنة 1735 ميلادية، حيث قال: إن أول مينا تقابل القادم على مصر من الجهة البحرية هى مينا (سيبتوس)، التى هى شرقى برج العرب، البعيدة عنه بقدر 4 أو 5 فراسخ، وليست منفصلة عن مينا (أونوست
(1)
إلا بقدر ميلين أو ثلاثة، وكان الخليج معدا للملاحة بينهما.
ولم تكن هذه المينا مستعملة إلا فى النادر، بسبب أنها عرضة لتسلط الرياح الشمالية، ولذا لا تدخلها المراكب إلا عند عدم إمكان الوصول إلى مينا (أونوست)، فإن جزيرة رأس التين تحفظها من تسلط الرياح.
وعبارة (استرابون) تفيد أن الخليج يخرج من مينا (سيبتوس)، وأن مينا (أونوست) بعد المينا الشرقية، ومينا سيبتوس من ضمنها وهى بعدها أيضا.
وأظن أن هذه المينا، أكانت جهة المينا التى كان يقف بها وابور المرحوم سعيد باشا عند باب العرب، والمينا المستعملة الآن هى مينا أونوست المذكورة، ويوجد مدخلها بين الأرض والنهاية الغربية لجزيرة رأس التين، وهو عسر العبور لضيقه وكثرة شعوبه، لكن متى جاوزته السفن كانت فى مينا متسعة عظيمة آمنة، وكانت فى الزمن القديم متحدة مع المينا الشرقية، ثم انفصلتا بجسر السبع غلوات فى زمن الروم، فصار ما فى جهة الغرب المينا القديمة، وما فى جهة الشرق المينا الجديدة، وهى المستعملة الآن.
وبعد أن كانت هذه المينا مختصة بالسفن الواردة من الجهات الأروباوية، والمينا القديمة مختصة بسفن المسلمين، صارت المينا القديمة مشتركة بين سفن المسلمين وغيرهم.
وجميع العمارات البحرية المختصة بعمارة المراكب، والجمرك، وديوان البحرية، والحوض الذى عمل فى زمن المرحوم محمد علىّ باشا فى الجهة الشرقية البحرية منها، وصار الشروع زمن الخديوى فى عمل مولص يمتد فى وسطها بأرصفة فيه وفى دائر المينا، من ابتداء فم المحمودية إلى الحوض، قفل فمها من جهة البحر بجسر من الأحجار، لسهولة تفريغ البضائع الواردة والصادرة، وزيادة الأمن، ومنع الموج وتسلط الرياح فى داخلها، ليكون جميع السفن على غاية من الأمن.
(1)
راجع الحاشية السابقة، ص 109.
وبهذه الوسائط مع الحوض الجديد، الذى صنع فى زمن الخديوى، لإصلاح المراكب عوضا عن الحوض القديم، صارت هذه المينا من أعظم المين، ويرى فيها كل يوم عدد كثير من السفن التجارية وغيرها، الواردة من جميع الأقطار.
ولا يوجد شئ من الآثار القديمة/حول المينا بل كل ما هو هناك حادث.
والرياح الكثيرة الهبوب فى السنة هى الرياح الشمالية البحرية، وتيار المياه فى المينا من الغرب إلى الشرق، وهما اللذان مع تمادى الأيام كانا سببا فى ردم جزء عظيم بنى فوقه الناس، ودخل ضمن أرض المدينة الجديدة، وكان عند دخول الفرنساوية لا يوجد بها محلات لعمارة السفن، فأحدثوا لذلك محلات وقتية فى محل الترسانة الحالية.
العمارات الملحقة بالسرايات
من ذلك مدفن البطالسة، وقبر إسكندر، وكانت الأروام تسمى ذلك سوما: يعنى (الجسد) وكان فى وسط المدينة، بناء على ما ذكره (تيتوس).
وقد استدل محمود بيك-فى مباحثه-على أن كوم الدكة يوافق ذلك، لأن كوم الإسكندرانيين يسمونه كوم الديماس، ومن جملة مبانيه: السرداب والحمام، ويظهر أن ذلك أحد السراديب التى كانوا يدفنون بها موتاهم، ويؤيد قوله أنه عثر هناك على قبور شتى فيها كثير من العظام، وأن أصحاب المنازل المبنية هناك عثروا على كثير من ذلك.
مطلب فى تحقيق أن نبى الله دانيال لم يدفن بمدينة إسكندرية
واعتقد أهل الإسكندرية أن نبى الله (دانيال) دفن بالإسكندرية فى أسفل كوم الدكة، واتخذوا قبره مزارا. ولكن لم يقل أحد من المؤرخين، لا من العرب ولا من غيرهم، بأن هذا النبى دفن بها، ومن المعلوم أنه مات فى مبدأ زمن (كيروس) قبل بناء الإسكندرية بثلاثة قرون، وتقضى زمنه فى مدينة بابل، ولذلك قال محمود بيك: إنه لم يدفن
بالإسكندرية، والقبر الذى يعزى إليه يمكن أنه قبر الإسكندر، وليس ذلك ببعيد.
وذكر (ليون) الإفريقى، وكان فى القرن الخامس عشر، أنه رأى أهالى الإسكندرية تعظم قبر الإسكندر كتعظيمهم للنبى.
وفى سنة 1546 ذكر (مرمول) أنه شاهده فى وسط المدينة، قريبا من كنيسة سان مارك.
ومدفن البطالسة السابق الذكر كان ملحقا بالسراية، وكذا المزيوم؛ وهو عبارة عن محل يجتمع فيه عدة من العلماء، وكان به دار كتب حرّقت عند وضع سيزار، أو قيصر النار، فى سفن الإسكندرانيين.
وبناء على ما ذكره (استرابون)، كان به محل تنزه وذلك للجلوس، يجتمع فيه العلماء لتعاطى الطعام، وكان لهؤلاء العلماء إيراد مشترك، ورئيسهم فى الأصل كان من الكهنة، وكان توليته بأمر الملك ثم صار بأمر القيصر.
وبيت قنصل بروسيا الآن بالإسكندرية، هو محل المزيوم المذكور، وأما السيرابيوم فمحله على التحقيق عمود السوارى، وهو من بناء (بطليموس سوتر) فى قرية رقودة، على ما ذكره (تاسيت)، فى محل المعبد الذى كان للمقدس (إزيس) وللمقدسة (سيرابيس)
(1)
معبودة أهالى هذه القرية قديما.
وذكر المؤرخ المذكور: أنه فى زمن بطليموس، أول مؤسس دولة البطالسة، حين كان مشغولا بزينة المدينة، رأى فى نومه شابا جميل الصورة عظيم الخلقة، فأمره بأن يرسل إلى بلاد البون من يأتى بتمثاله، ووعده ببقاء ملكه وسعادته، ثم بعد ذلك صعد إلى السماء فى وسط سحاب من نار، فتعجب بطليموس من ذلك، وأرسل إلى المعبرين من المصريين، وقصّ عليهم ما رآه، فلم يدروا بلاد البون، فأرسلوا أحضروا من ناحية إيلوزى (بتمونى الاثنين) وسألوه فى ذلك، فبعد أن استفهم ممن لهم معرفة بهذه البلاد، قال: إنه فى ضمن
(1)
الصحيح «للمقدس (سيرابيس) وللمقدسة (إيزيس)» .
الولاية مدينة تسمى (هيتوب)، وبقربها معبد يقال له: معبد المشترى بلاتون، فلم يلتفت بطليموس لذلك واشتغل بحظوظه، فأتى له الشاب وضايقه وقال له: إن لم تنجز ما أمرتك به أضعتك وملكك، فأرسل رسلا من طرفه بهدايا إلى ملك البون ليطلب التمثال، فحصل منه توقف ولكن بكثرة الهدايا والتهديد سلمه. فلما حضر التمثال بنى له معبد السيرابيوم.
وذكر أغلب المؤرخين: أنه مصرى، وذكر (جابيلونسكى) أنه (صنوب) بقرب منفيس اسمه (صنوبيوس) كان بقربه معبد سيرابيس، وهو المراد فى عبارة (تاسيت).
وكان المصريون يزعمون أن سيرابيس يشفى من الأمراض، وكان له كتاب من القسوس، يقيد ذلك فى دفاتر مخصوصة، وكان لهذا المقدس معابد كثيرة بمصر أشهرها ما كان بمنفيس والإسكندرية، وكان منها واحد بمدينة كانوب له شهرة عظيمة.
وكان بقرب السيرابيوم الملعب المعروف عند الروم بكلمة: استاد، وكان يلعب فيه على رأس كل خمس سنين ومحله الجمناس، على ما حققه محمود بيك، وكان على الشارع الكبير المار فى وسط المدينة طولا، ومن ضمنه الآن شارع باب شرقى، وعلى الشارع الكبير القاطع للمدينة عرضا وزاويته الشرقية البحرية تقاطع الشارعين. وباب شرقى الآن-أو باب رشيد- يقع فى جهتها البحرية بقليل.
وكان الجمناس المذكور أو الملعب، عبارة عن محل متسع محاط ببواك محمولة على أعمدة فى طول استاد، وكان بوسطه-على ما ذكره استرابون-المحكمة والبساتين.
وقد شاهد (مانى) الفرنساوى فى هذا المحل سنة 1735 ميلادية عدة أعمدة، بعضها قائم وبعضها ملقى على الأرض فى مسافة خمسمائة خطوة، وجميعها على خط مستقيم تدل على أحد أضلاع الميدان، وفى مقابلتها بعض أعمدة أخرى تؤيد ذلك، وكان أثر بناء من الطوب فى الوسط يدل على بقايا نافورة، فإن لم يكن ذلك/الجمناس فهو الميدان الملاصق له.
مطلب فى الكلام على دار الكتب الصغيرة التى كانت بالإسكندرية
قد ذكر أعيان مارسلان عند التكلم على السيرابيوم، أنه كان به دار الكتب، لكنها غير دار الكتب الكبيرة التى كانت ملحقة بالسرايات، ويؤيد ذلك ما ذكره (وتروف) حيث قال: إنه كان بمدينة الإسكندرية دار كتب غير الكبيرة، ولم يكن ثم غير الموجودة فى معبد السيرابيوم، ولبعدها عن المينا لم تصلها الحريقة، التى احترقت فيها السراية وملحقاتها عند محاصرة الإسكندرانيين قيصر.
وقد قيل إن عدد ما كان بها من الكتب يبلغ 300000 مجلد، وفى زمن كليوباترا أضيف إليها مائتا ألف مجلد، كانت بدار كتب مدينة بيرجام، فأخذها (أنتوان) معشوقها وأهداها إليها.
وبعد احتراق دار الكتب الكبرى، صار لا يوجد بمدينة الإسكندرية غيرها، وبعد أن كانت المدرسة ودار التحف من ضمن ملحقات السرايات، ألحقا بمعبد السيرابيوم، ومن ذلك الحين اتسعت شهرته إلى القرن الرابع من الميلاد.
ونقل (أمبير) الفرنساوى أن هذا المعبد احترق مرتين: مرة فى زمن القيصر (ماركوربل
(1)
ومرة فى زمن القيصر (كومور)
(2)
.
وفى خطط الفرنساوية: أن إحراق السيرابيوم كان بأمر البطريق (ثيوفيل) بعد توقف كثير من العلماء والأهالى، ثم بنى محل السيرابيوم كنيسة سميت أركاديوم؛ من اسم القيصر (أركاديوس) المتولى تخت القيصرية بعد القيصر (تيودوز
(3)
الأكبر) وجعل فيها دار كتب، جمع فيها ما أبقته النار، وشيئا كثيرا من كتب النصرانية وهى التى ينسب إحراقها إلى عمرو ابن العاص لكن لم يعلم وجه انتساب ذلك إليه، فإن هذه الحادثة لم يتكلم عليها أحد من المؤرخين فى عصره، من النصارى وغيرهم، ولم يظهر ذلك إلا فى القرن الثالث عشر من الميلاد، من كتابة تنسب إلى أبى الفرج بطريق مدينة حلب، مع أنه لم يذكرها فى تاريخه العام.
(1)
الصحيح «ماركوس أوريليوس» انظر: سعيد عاشور، أوربا العصور الوسطى، ج 1، ص 30،3، ص 61.
(2)
الصحيح «كمودس» . انظر: تاريخ مصر فى عصر البطالمة،4، ص 212.
(3)
الصحيح «ثيودوسيوس» . انظر ما سبق ص 92، حاشية (1).
وفى النبذة السنوية لمجلس مصر اللانبستيتو. أى المجلس العلمى، من ضمن ما قيل فى جلسة أغسطس سنة 1874 ميلادية، أن (بولص أوروز) من تلامذة (ماراى أجستان)(ومارى جيزوم) لم يجد شيئا من الكتبخانة حين مروره بإسكندرية سنة 414 من الميلاد، يعنى قبل دخول سيدنا عمرو بلاد مصر بمائة وثلاثين سنة، فالظاهر أن القول بأن إحراق كتبخانة إسكندرية كان بأمر سيدنا عمر، محض افتراء اختلقته قسوس النصارى، فإنه قد حصل إحراقها مرارا قبل دخول الإسلام، والكتب القديمة الموروثة عن الأعصر الخالية، قد محتها أيدى النصارى.
مطلب فى الكلام على الجامع المعروف بجامع الألف عمود
ويقال له الجامع الأخضر، وجامع السبعين، كان الداخل من باب المدينة الغربى يشاهد الجامع المذكور عن يمينه، وكان موجودا بتمامه زمن دخول الفرنساوية، وكان يتعجب من كثرة أعمدته ونظامه، وكان شكله مربعا.
وإنما يسمى بجامع الألف عمود وجامع السبعين لأن الاثنين والسبعين حبرا الذين ترجموا التوراة من العبرية إلى الرومية، فى زمن بطليموس فليدانوس
(1)
، كانوا مقيمين به مدة الترجمة.
ولكن يظهر مما ذكره بعضهم: أن الترجمة كانت فى جزيرة رأس التين بإسكندرية، وظن بعضهم أنه من المبانى القديمة، وأنه كان قبل أن تجعله المسلمون جامعا، كنيسة من كنائس إسكندرية فى زمن قياصرة القسطنطينية، باسم الشهيد سان مارك، وكان بطريق إسكندرية يقيم بها. وقبل ذلك، فى زمن قياصرة روما، كان محكمة أو ديوانا.
(1)
الصحيح «بطلميوس فيلادلفوس» . انظر: تاريخ مصر فى عصر البطالمة، ج 2. ص 161.
مطلب فى الكلام على وصف مدينة إسكندرية
بعد فتح المسلمين لها وما فعلوه بها
لما فتح الله على المسلمين مدينة إسكندرية سنة 640 من الميلاد، أبقوا أسوارها على ما كانت عليه فى زمن الرومانيين، وعمروا ما تهدم منها بالمحاصرة التى أقامت أربعة عشر شهرا، واستشهد فيها من العرب ما يقرب من 23000 نفس.
لكن بسبب تركهم المدينة وإقامتهم بمدينة الفسطاط، نقص أهل مدينة إسكندرية مع مرور الزمن.
وفى القرن التاسع من الميلاد، أعنى بعد فتح مصر بقرنين، أيام خلافة المتوكل وهو العاشر من بنى العباس، والثانى والثلاثون من الخلفاء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، هدم أحمد بن طولون الأسوار القديمة وبنى غيرها، فما كان جهة الغرب بقى على ما كان عليه مع بعض تغيير، وأما ما كان من الجهة الشرقية والجهة القبلية فقد دخل كثير الخراب هاتين الجهتين. وذكر بعضهم أن ابن طولون إنما عمر الأسوار القديمة فقط.
ثم فى سنة 1212 اعترى المدينة والأسوار تخرب فاحش، فبنى أحد من تولى على تخت الديار المصرية، بعد صلاح الدين، أسوارا أخر وهى التى بقيت إلى دخول الفرنساوية، فعلى ذلك يكون قد بقيت أسوار مدينة الروم قريبا من 600 سنة بعد الفتح، وجميع المؤن التى بنى بها سور ابن طولون أخذت من الأطلال والأسوار القديمة، وكذلك جميع العمارات التى حدثت بعده فى أزمان السلاطين من المماليك، إلى دخول السلطان سليم، كلها كذلك من المبانى القديمة.
وبهذا الانتقال، كانت مساحة المدينة فى زمن ابن طولون أقل من نصف مساحتها فى زمن الرومانيين، وبقيت على ما وضعها عليه ابن طولون إلى زمن دخول الفرنساوية، لكنها على حسب/الأزمان والأحوال كانت أخذت فى التخرب.
وفى سنة 1718 ميلادية، بناء على ما ذكره (ماتى) -قنصل فرنسا فى ذاك الوقت- فى وصف إسكندرية، أن التخرب كان قد اعتراها وغيّر معالمها، حتى صار لا يوجد فى مدينة العرب أكثر من مائة بيت، وتحول غالب الناس إلى ساحل المينا، وبنوا منازلهم فوق الأرض، التى حدثت من انحسار البحر، فى محل السبع غلوات، وهجرت مدينة العرب بالكلية، فكانت خرابا بلقعا لا يأوى إليها إلا أشقياء الناس، وتلك البلد التى حدثت بنيت بأنقاض مدينة الأروام.
وعلى هذا، كان الخراب ممتدا من مكان مدينة كانوب إلى باب العرب على ساحل البحر، ومن جهة الأرض إلى ساحل البحيرة وخليج إسكندرية، وكان لا يزيد عدد أهل البلد الجديد عن أربعة آلاف نفس بمن وفد إليهم من سائر الولايات.
مطلب فى بيان مساحة مدينة إسكندرية
فى أيام الفرنساوية
يظهر من رسم الفرنساوية لهذه المدينة، أن محيط أسوار مدينة العرب أربعة آلاف وثلثمائة تواز، أعنى قريبا من فرسخين، وكان فى زمن الأروام 1340 توازا، وكان يمكن مقارنتها بمدينة القاهرة لمعرفة عدد السكان؛ لأن عوائد السكن واحدة فى المدتين، فنقول:
إنه قيس مساحة إسكندرية فوجدت 800000 تواز مربع، وهو أقل من نصف المساحة القديمة، وكان محيط القاهرة عند دخول الفرنساوية 2400 ألف مترا و 1200 تواز، ومساحتها 2088540 توازا مربعا، وأهلها 250000 نفس.
فبناء على ذلك، يكون أهل إسكندرية فى زمن ابن طولون قريبا من 80000 نفس، أعنى أنه حصل-فى ظرف مائتى سنة-نقص سبعة أثمان أهلها، مع ضياع شهرتها القديمة.
ومع ذلك فكانت من المدن الكبيرة، ولم تتحول عنها التجارة حتى يزول كل سعدها.
ويستفاد مما ذكره أبو الفداء، أن كثيرا من حارات البلد-لغاية القرن الثالث عشر من الميلاد-كان باقيا على وضعه القديم، وكذلك المنار ومبانيها العظيمة.
ونقل عن السلف من المؤرخين: أن أسوار المدينة-فى غير جهة البحر-كانت عبارة عن حائطين أو ثلاثة بينهما أبراج يبلغ عددها-على ما قيل-مائة، بعضها من طبقتين، وبعضها من ثلاث طبقات، وكانت تبرز عن سمت الأسوار داخلا وخارجا، لأجل كشفها بالمحافظين، وكان بعض الأبراج المذكورة فى غاية من العظم والمتانة، حتى كان يرى-على حدته-كقلعة حصينة.
ولولا التراخى والإهمال، وعدم النظر فى الأحوال، ومعرفة (ماتى)؛ لكان فى الإمكان صد الفرنساوية، ومنعهم عن الدخول إلى أن تستعد الحكومة وترسل لهم من يطردهم، لكن يظهر أنه فى تلك الأوقات كانت أهمية إسكندرية منحصرة فى إيراد الجمرك لا غير، ولذا لم يجد جيش الفرنساوية من يصده ويردعه، وأخذت المدينة بقليل من العساكر بدون مكافحة ولا حرب ولا إطلاق مدفع.
ولما دخل الفرنساوية، كان داخل المدينة أشبه شئ بمبانى الأرياف، وكانت حاراتها ضيقة غير مستقيمة، والمنازل متلاصقة قليلة الارتفاع، وأكثرها أرضى، وكان لا يوجد بها غير جامعين للمسلمين وديرين للنصارى، وكان ما حول البلد جميعه خرابا، وكان إذا وجّه الإنسان وجهه إلى أى جهة، يجد بعض قطع الأعمدة والصخور ملقاة على وجه الأرض أو مدفونة بها، وكان يوجد فى وسط ذلك كثير من كوش الجير، تدل على أن الأهالى كانت تحرق ما بقى من المنازل القديمة، وكانت الأرض تحفر لإخراجها منها، وترتب على ذلك وجود حفر كثيرة فى أرض المدينة، فكم هلك من آثار المدينة العتيقة بهذه الأسباب.
مطلب فى بيان عدد أبواب إسكندرية التى كانت بسورها القديم
والأبواب التى كانت فى السور خمسة:
الأول: باب غرب، ومنه كان الوصول بين القبارى والمدينة.
والثانى: باب القرافة، فى مقابلة جسر السبع غلوات.
والثالث: باب الميدان، وكان على المينا الكبرى محل باب القمر فى القديم.
والرابع: باب العمود أو باب سدرة، وهو باب الشمس فى القديم.
والخامس: باب رشيد، الذى يعرف الآن بباب شرق
وجميع هذه الأبواب كانت مبنية من أحجار وعمد قديمة، وكان فى أعتابها أعمدة كاملة، فكان فى عتبة كل باب عمود وفى أعلاه عمود يمتد بعرض العتبة.
مطلب فى الكلام على ضواحى مدينة إسكندرية
نيكروبوليس: يعنى مدينة الأموات، وكانت خلف السور من الجهة الجنوبية الغربية، ومحلها الآن القبارى مع المكس. وكلمة قبارى تحقق ذلك؛ لأن معناها الدفن، وكانت حدودها من الشمال الغربى الخليج الموصل بين المينا وبحيرة مريوط. وكان بين محل الدفن وسور المدينة بساتين ومنازل تنتهى إلى خليج يوصل ماء النيل إلى المينا-بناء على ما ذكره استرابون-
ومحل اتصال هذا الخليج بالبحر يعرف بباب البحر، وبعده باب العرب؛ وسمى بهذا الاسم لدخول المسلمين منه وقت فتح إسكندرية.
وبإضافة طول الأرض المشغولة بالمقابر إلى طول المدينة، يحصل 10000 متر، وهو الطول الكلى، وبإضافة هذا الطول إلى نفسه، وإضافة ضعف العرض إليه-وهو 1500 متر-يتحصل على محيط المدينة القديمة وهو 123000 متر تقريبا، وهو موافق لما ذكره (بلين) من أنه 15 ميلا رومانيا.
ولم يكن هذا المحل خاصا بالقبور، بل كان به أيضا منازل/القسوس المعدة لدفن الأموات، وبسبب كونها تشرف من جهة على البحر ومن جهة على البحيرة، بنى بها كثير من الأهالى منازل وبساتين، وكان هذا المحل-كغيره-مملوءا بالناس، وفيه محلات للبيع والشراء، وكان يعمل به كثير من الموالد يجتمع فيها كثير من الناس.
وبعد الخليج-بقدر 6200 متر-يوجد العجمى، وكان محله الرأس المعروف عند الأقدمين (شيروزنوس) وبينه وبين النهاية القبلية الغربية من جزيرة رأس التين، كانت جميع الصخور الموجودة فى فم المينا، ومنها كانت الثلاثة الأفواه المعدّة للدخول فيها. والبعد بين هذا الرأس وبين سور المدينة 70 أستادة، على ما ذكره (استرابون)، وذلك بالمتر 11500.
وفى الجهة الشرقية البحرية من المدينة، على بعد 30 أستادة، كانت (نيكوبوليس مدينة صغيرة. وكانت الواقعة التى بين (قيصر وأنتوان) هناك، وكان بها سرايات الأمراء، ومنازل الأعيان، والبساتين النضرة الفاخرة.
ومعنى كلمة نيكوبوليس: مدينة النصر، واستكشف بها فى هذه الأزمان معبد قريب من المحل المعروف عند الأهالى: بقصر قيصر، والغالب أنه من ضمن النيكوبوليس، وكان بعد هذه الناحية ناحية أخرى تسمى (بوكليس)، وكانت منازلها منها ما هو على البحر، ومنها ما هو على الخليج الحلو، وكانت محل تنزه وتفسح، وكان الخليج المذكور على يمين الخارج من باب كانوب، بناء على قول استرابون، وبساحل البحيرة الخليج الموصل إلى ناحية (شيديا)، وكانت على خليج إسكندرية المتصل بالنهر الأكبر وقبل أن يصل إلى مدينة كانوب يصل إلى ناحية بيلوزه، وهو محل قريب من إسكندرية ومن نيكوبوليس على شاطئ الخليج، وكان بها أيضا بساتين وحدائق ومحلات للنزهة، يذهب إليها أهل اللهو والفجور من رجال ونساء، ومحلها الآن على-ما حققه محمود بيك-جنينة بستزيه، والحضرة، وكان به كثير من الدكاكين والمضايف، وكان يوجد فيه دائما خلق كثيرون من أهالى إسكندرية بالليل والنهار، وكان فيه عدة أسواق وموالد سنوية يهرع إليها خلق كثيرون من جميع الجهات.
فلو أضفنا ضواحى إسكندرية إليها لوجدنا مساحة ذلك تبلغ 25 كيلومترا مربعا، وهو ربع مساحة مدينة باريز الآن.
مطلب فى بيان عدد أهالى إسكندرية
لو فرض أن الأهالى كانت موزعة على أرض إسكندرية، كما هى موزعة فى أرض باريس، لوجدنا أن عدة الأهالى تنقص عن 400500 نفس، وهذا يحقق ما ذكره (ديودور) وغيره من أن أهلها فى زمن أغسطس كانوا 300000 من الأحرار، فبإضافة الأرقاء إليهم يكون 500000، إن لم يكن أكثر من ذلك.
والآن-أعنى سنة 1872 ميلادية-بإضافة أهالى القبارى والمكس والمحمودية إليهم يبلغ عددهم 20050، وفى وقت جلوس العزيز محمد على باشا، كان عدد الأهالى من سبعمائة ألف نفس إلى ثمانمائة ألف نفس، وعند انتقاله إلى رحمة الله بلغ ذلك 100000 نفس.
مطلب فى الكلام على وصف مدينة إسكندرية
خليج إسكندرية
هذا الخليج كان محاذيا لسور المدينة القبلى، على بعد 300 متر منه، وفمه الآن بحرى شرقى فم المحمودية بقدر ألف متر، وكان من داخل المدينة معقودا غير مكشوف.
وترعة المحمودية التى حفرها العزيز محمد على باشا سنة 1820 ميلادية كلها محل الخليج ما عدا الفم فإنه فى المينا هو وبعض تعديلات جليلة، وكان على الخليج القديم ثلاث قناطر، بين الحضرة والبلد، وعند حفر المحمودية تهدمت. وكانت القناطر المذكورة على أبعاد متساوية:
الأولى: من جهة البلد فى مواجهة الشارع الموصل لجسر السبع غلوات.
والثانية: فى مقابلة الشارع الموصل لرأس السلسلة.
والثالثة: قبل ناحية بلوزه على بعد 14 أستادة، ولا بد أنه كان فى مقابلتها شارع كبير يوصل إلى الميدان الكبير الذى كان خارج البلد فى الجهة الشرقية البحرية، وهو الذى كانت الخلق تجتمع فيه للتفرج على الملاعب المعتادة فى كل خمس سنين، بناء على قول مؤرخى الروم، أو فى كل سنة بناء على أقوال مؤرخى العرب، وهذا الشارع كان يوصل إلى المعبد الذى على البحر ومدينة النصر.
ووجود تلك القناطر وسعة المدينة وكثرة أهلها، يدل على أنه كان فى دائر محيط البحيرة، وبينها وبين الخليج أراض وبساتين كثيرة للنزهة فى جميع أوقات السنة.
والمسافر من إسكندرية فى خليج شيديا، بعد أن يجاوز إيلزى بثلاثة آلاف وخمسمائة متر، يرى عن شماله فم ترعة كانت تخرج من خليج شيديا، محاذيا لكثبان الرمل التى بنيت عليها نيكوبوليس، ثم بعد ذلك تنتهى عند مدينة قانوب.
وكانت قرية شيديا على بعد أربعة وعشرين فرسخا من إسكندرية، بناء على ما ذكره (استرابون) وغيره، وكانت كثيرة العمران تقرب من أن تعدّ من المدن لكثرة أهلها، وكانت مركزا لأخذ الجمرك من المراكب الحادرة والمقلعة، ولذا قال (استرابون) إنه كان هناك قنطرة من المراكب على النهر واسم القرية مستعار من اسم القنطرة.
ويظهر من قول (استرابون) هذا أن شيديا كانت على فرع قانوب، وعلى بعد 160 أستادة من إسكندرية، لأن الشى
(1)
عبارة عن 40 أستادة على قول المؤلف المذكور.
وقد قاس محمود بيك البعد من القرية المعروفة بالنشوة الجديدة، إلى إسكندرية/فظهر له أن هذه القرية يوافق محلها محل قرية شيديا، وأن بينها وبين إسكندرية 27 كيلومترا، فعلى ذلك تكون التلول الممتدة بقرب القرية فى طول 1800 وعرض 500 متر، وقرية نشوة التى فى وسطها هى آثار هذه المدينة، وأن فرع النهر كان فى أسفل هذه التلول جهة الجنوب، ممتد إلى قريب من 2000 متر، يعنى قريبا من الكيريون وأن خليج الإتكاوية فى محله.
ويحقق ذلك ما نقله (استرابون) عن (بركوب) من أن النيل كان يأتى إلى ناحية (كيرو)، وهى قريب من ناحية شيديا على بعد 20 ميلا من إسكندرية، وكان يخرج من هذا الموضع خليج إسكندرية، والنيل ينعطف إلى الشمال ويفارق أرض الإسكندرانيين، ويكون المحل المسمى (كيرو)، فى العبارة السابقة، هو الكاريون لأن البعد من هذا المحل إلى إسكندرية على الخرطة باتباع اعوجاج الخليج قريب من 29 كيلو ونصفا، وهو قريب من العشرين ميلا، التى عينها (بركوب).
(1)
هكذا فى الأصل، وفى ص 148 من رسالة محمود الفلكى عن الإسكندرية القديمة (الشوين. (Schoene
فعلى ذلك يظهر من هذه العبارة، ومما ذكره (استرابون)، صحة كون شيديا على النيل، وأن محلها النشوة الجديدة، وأن ترعة الإتكاوية الآن بعض الفرع المذكور، وأن مبدأ خليج إسكندرية كان بين هاتين.
وذكر المقريزى أنه فى سنة 710 من الهجرة فى زمن السلطان الناصر محمد بن قلاوون، اشتغل 40000 من الناس فى تطهير خليج إسكندرية، وبعد تطهيره قيس فوجد ثمانية آلاف قصبة حاكمية، من ابتداء فم النيل إلى مشتيار
(1)
، ومن مشتيار إلى إسكندرية كذلك، وكانت فى القديم قرية مشتيار مبدأ خروج الخليج من النيل.
وحيث أن القصبة الحاكمية 3،85، فالثمانية آلاف قصبة بها هى البعد ما بين إسكندرية والمنشية تقريبا، فتكون هذه القرية فى محل شيديا، التى فى عبارات استرابون، وشيتار، التى فى عبارة المقريزى، وتكون نقطها من نقط فرع كانوب ونقطة الكاريون ثانية، ونقطة كانوب ثالثة.
وقد اختلف المؤرخون فى موضعها، ولكن حقق محمود بيك رسالته، أنه يقع فى منتصف جسر أبو قير على بعد 6 كيلو مترات من رأس أبو قير، وبقدرها من الكوم الأحمر الذى على الساحل، وعلى بعد 2 كيلومتر غربى فم بحيرة إتكو المسمى بفم المعدية. فبناء على ذلك يظهر أن البحر زحف على أرض المدينة، وأن جميع محلها الآن أو أكثره مغطى بالمياه المالحة.
وفم فرع قانوب، بناء على أقوال المؤرخين وقول الفاضل المذكور، كان فى أسفل الكوم الأحمر على بعد 2 كيلومتر من فم المعدية، وفى هذا الموضع أعنى محل الكوم الأحمر، كان معبد هيركول، وكان بينه وبين جزيرة فاروس، بناء على قول (استرابون)،150 أستادة وهو بالمتر 25 كيلومترا.
(1)
هكذا فى الأصل، وفى ص 301 من خطط المقريزى طبعة لبنان (شنبار).
وذكر المؤرخون أن هذا المعبد كان فى غاية الاحترام، حتى كان من يدخله من الأرقاء لا يؤخذ منه ولا يتعرض له، وبسبب هذه المزية كثرت عنده المساكن حتى صار حوله كمدينة أو قرية كبيرة.
ومن ابتداء الفم إلى قرية شيديا كثبان كثيرة على أبعاد مختلفة، وبجميعها آثار قديمة تدل على أنه كان عليها بلاد كثيرة عامرة بالخلق، ومن هذه الكثبان كوم الذهب، وهو على الشاطئ الأيسر من النهر على بعد 4000 متر من الفم فى الجنوب. وبعده كيمان مازين؛ وهى كيمان متصلة ببعضها فى طول 1500 متر، وهى أيضا على الشاطئ المذكور على بعد 8000 متر من الفم. وتل الكناس على بعد 15 كيلومترا من الفم و 30 من دمنهور، ولا مانع من أنه محل مدينة أنتيل المذكورة فى مؤلفات (هيردوت) وكانت من المدن العظيمة.
مديرية مريوط
هذه المديرية منفصلة عن مديرية البحيرة ببحيرة مريوط التى فى جهتها الشرقية، ممتدة إلى الشمال والشمال الغربى إلى حد البحر المالح، وفى الجنوب والجنوب الغربى إلى وادى النطرون، وبحر بلا ما بعد أبى قير بقدر 5 ميريامترات، وكان ماء النيل فى الأزمان القديمة يروى أغلب جهاتها، وكان بها كثير من المدن والضياع، وكانت كثيرة الأهالى وبها كثير من أنواع المحصولات، وكانت مشهورة بجودة النبيذ وكروم العنب، وكانت ترسل فى كل سنة من نبيذها مقدارا عظيما إلى مدينة روما وغيرها من المدن، ويؤيد ذلك ما ورد عن السلف فى مؤلفاتهم.
ولنذكر هنا ملخص ما حققه محمود بيك فى رسالته، من غير أن ندخل فى تفاصيل
ما ذكره فنقول: قد قسم العالم المذكور أرض هذه المديرية إلى 4
(1)
مناطق مختلفة فى الارتفاع، وجميعها محاذ لساحل البحر.
الأولى: وهى ساحل البحر عرضها 4 كيلومترات بقرب الشيخ العجمى، وواحد ونصف فقط بقرب أبى صير، وفوق هذه المنطقة مدينة إسكندرية وأبو قير، وهى كثيرة الخصوبة تنبت كثيرا من الخضراوات والبطيخ والتمر، ويوجد بها إلى الآن كثير من الآثار القديمة التى تدل على أنها كانت معمورة بكثير من القرى والضياع، وكان بها كثير من المبانى الشهيرة، وبقيت كذلك أزمانا مديدة.
والمنطقة الثانية: هى المسماة بذراع البحر، وهى ما ستمر من وادى البحيرة نحو أبى صير وبعده. ومبدؤها فى مواجهة المكس وفيما بين السواحل والجبل الذى فوقه/الشيخ المعروف بالشيخ على مرغب. وعرضها قريب من 4 كيلومترات فى طول 20 كيلومترا، ونصفها الأسفل مغمور بماء البحيرة، فهو فيها الآن كما كان فى الأزمان السابقة، والنصف الثانى يشاهد فيه كثير من الجزائر فى أرض مستملحة، وكان بجميع هذه الجزائر قرى مسكونة فى الأزمان المختلفة، متصلة بخراب كثير يمتد إلى الشيخ أبى الخير الكائن على بعد 30 كيلومترا من عمود السوارى فى الجهة الجنوبية الغربية. وعلى بعد 19 كيلومترا من العجمى، ويقرب أبى الخير يضيق الوادى حتى يكون عرضه كيلومترا بين الشيخ المذكور وخراب مدينة مريا أو ماريوط، وفى الجنوب الغربى من هذا الشيخ يتسع الوادى ويكون عرضه كيلومترين ونصفا فى طول 13 كيلومترا تقريبا من أبى صير، ومن بعده إلى 4 كيلومترات تقريبا.
وجميع أرض هذه المنطقة مستملحة لكنها جامدة منحطة عن استواء ماء البحر، من إبتداء أبى صير إلى ما بعد البحيرة وفيها كثير من الآثار التى منها خراب متسع فى الشمال الشرقى من أبى صير يمتد فى طول 9 كيلومترات، والخراب الذى فى قرب أبى صير وبرج العرب هو
(1)
فى الأصل 5 وما أثبتناه هو الصواب بناء على ما ذكره محمود الفلكى فى رسالته ص 174، وما ذكره صاحب الخطط فى تقسيمه لمديرية مريوط.
خراب مدينة طابوزريس، ومن هذا الموضع على بعد بعض ميريامتر فى الجنوب الغربى فى مواجهة منفذ بحر بلاما، وعلى بعد 100 كيلومتر من مدينة إسكندرية. وفى هذه المنطقة أرض تعرف بالبردان، وهى عبارة عن حوض تجتمع فيه مياه الأمطار الساقطة فى الأراضى المجاورة، وفى جميع أوقات السنة على بعد قليل من سطح الأرض ينبع منه الماء، ويكفى أن يحفر فى الصيف نصف متر فقط.
والمنطقة الثالثة: هى الجبل الذى فى نهايته البحرية الشرقية الشيخ على مرغب، ويدخل فى البحيرة على هيئة لسانه، وتنحصر هذه المنطقة بين هذا الجبل والمنطقة الأولى، وعرض المنطقة الثالثة 7 كيلومترات وطولها نحو 100 كيلومتر، وأرضها غير مستوية لكنها خصبة، وانحدارها من الجنوب الغربى إلى الشمال الشرقى، وهى الأرض الأصلية للمديرية، والغيطان الموجودة بها الآن تعرف بالكروم، وكان بها بلاد كثيرة، وقد عدّ منها محمود بيك 40 قرية، يشاهد فيها إلى الآن آثار معامل النبيذ وكثير من السواقى والمعاصر.
وجميع ذلك يدل على أن هذه المنطقة كانت حسنة كثيرة العمار.
وبين الشيخ على مرغب وأبى صير فى طول قريب من 37 كيلومترا تشاهد آثار خمس مدن، من ضمنها خراب مدينة ماريوط ومدينة طابوزريس، وتسمى العرب الأولى من هاتين بالمدينة، ومحلها فى الشمال الشرقى من الجبل على بعد كيلومتر غربى الشيخ على مرغب، وطول خرابها قريب من 100 متر وعرضه قريب من 400 متر على سفح الجبل، والمدينة الثانية، قريبة من قصر المرحوم سعيد باشا، وطول خرابها قريب من 600 متر وعرضه 500 متر، وبينها وبين عمود السوارى 20000 متر، ومنها إلى العجمى 13600 متر، ومن المدينة إليها 8800 متر، وفى وسط هذا الخراب كثير من الآبار والصهاريج ومعامل النبيذ.
ويرى فى الشمال الغربى على بعد 2 كيلومتر خراب تسميه العربان: القصر، وفيه آثار كثيرة من معامل النبيذ. ويوجد قريبا من هذا المحل واد متسع يقرب طوله من 3 كيلومترات، وعرضه 2، ومساحته تقرب من 1500 فدان مصرى، تسميه العربان بالغيط، وأطلقت
عليها العساكر فى زمن المرحوم سعيد باشا برنجى مريوط، واستكشف فيها زيادة عن 100 ساقية من مبانى الرومانيين والعرب، وجميعها فى غاية من المتانة، وبعضها عبارة عن ثمانية آبار تحيط بالبئر الأصلى متصلة به بمجار تحت الأرض.
والخراب المعروف بالقرية، بينه وبين الخراب الثانى 4 كيلومترات، ومنه إلى العجمى 15 كيلومترا، وإلى الشيخ على مرغب 13 كيلومترا، وطوله مثل عرضه، وقدر الواحد 500 متر، ومساحته تقرب من 75 فدانا، وفيه آثار معامل النبيذ ومعاصر الزيت، وتقرب مساحة أرض القرية من 2500 فدان، وقد وجد بها ما يزيد عن 100 ساقية أيام المرحوم سعيد باشا، وأطلقت عليها العسكر فى وقته اسم (ايكنجى مريوط) وأرضها منقسمة إلى الآن إلى عدة كروم، يعرف بعضها بأسماء مخصوصة، وذلك يدل على أن هذه الأرض كانت كثيرة الكروم.
ثم يوجد خراب آخر يعرف بالسر وهو على ساحل البحيرة على بعد 1000 متر تقريبا، وبينه وبين الخراب السابق 2800 متر فى جهة الغرب، وعلى بعد 8 كيلومترات من شرق مدينة مريوط، ويطلق على أغلب كرومه: كروم السر.
ويوجد غير ما ذكر خراب بينه وبين أبو صير قريب من 7 كيلومترات، ومنه إلى مدينة مريوط 13 كيلومترا. ومن ضمن هذه المنطقة أيضا مدينة قوموتيس القديمة.
والمنطقة الرابعة: تشتمل على جميع الأراضى الواقعة بين المنطقة الثالثة وصحارى ليبيا، وتمتد إلى فم وادى النطرون وبحر بلاما، وفيها كثير من آثار القرى والبلاد، وتعرف أرضها أيضا بالكروم.
فمن جميع ذلك يعلم ما كانت عليه هذه المديرية فى الأيام السالفة من كثرة العمرات، وكانت فى/القرون الأولى من النصرانية وزمن قياصرة القسطنطينية، بناء على ما ذكره (جراثيان لوبير)، مسكونة بالنصارى الفارّين من الفتن والمنازعات المذهبية، وبنى بها كثير من الديور، وورد إليها كثير من الخلق حتى أن القيصر (ولانس
(1)
أمر حاكم إسكندرية فى
(1)
الصحيح «فالنز» . انظر: سعيد عاشور: أوربا العصور الوسطى، ج 1، ص 66،22.
القرن الرابع من الميلاد بأن يجمع كل من كان يصلح للعسكرية من هذه المديرية ومن صحارى الوجه القبلى، فجمع من مديرية مريوط ومن خط وادى النطرون، الملاصق له فى جهة الجنوب، خمسة آلاف، وأرسلهم إلى القسطنطينية فأدخلهم العسكرية.
مدينة مريوط
هذه المدينة كانت من المدن القديمة، ذكرها (هيردوت) وغيره، وذكرها مؤلفو العرب. وهى بقرب إسكندرية وموضعها الآن فى مقابلة الشيخ أبى الخير، وسعة أرضها 1500 متر طولا و 800 متر عرضا.
ومن أمعن النظر فى خرابها وما به من آثار المبانى العظيمة، عرف أنها كانت من المدن الكبيرة من ضمنها آثار أرضة ومولص، وهذا يدل على أنها كانت تمتد إلى البحيرة، وأنها كانت من مراكز التجارة المشهورة.
وكانت فى جميع التقلبات الزمانية عرضة لحوادث شتى أعقبت خرابها وخراب ما حولها من البلاد، ويعلم من موقعها الجغرافى أنها من أهم النقط العسكرية، وأن أهميتها بالنسبة لديار مصرفى الأزمان القديمة، كانت كأهمية مدينة الطينة أو الفرما بالنسبة لبلاد الشام، وقد مر بها عمرو بن العاص عند توجهه إلى فتح إسكندرية، ومر بها قبله قيصر الروم فى محاربته لمتريدات، وكانت فى هذه الأزمان الأخيرة طريق جيش الفرنساوية مع بونابارته بعد أخذه إسكندرية. وكانت فى الأزمان السابقة حصينة ويرى إلى الآن بعض آثار أسوارها.
ونقل المقريزى عن الذين ينظرون فى الأهوية والبلدان، وترتيب الأقاليم والأمصار، أنه لم تطل أعمار الناس فى بلد من بلدان كورة إسكندرية كطول أعمار أهل مريوط.
طابوزيريس
كانت هذه المدينة قريبا من برج العرب فى الجنوب الشرقى منه، وتسمى بين الناس
أبو صير، وبينها وبين مدينة الأموات 25 ميلا رومانيا، أعنى 21 كيلومترا وذكر بعضهم أن هذه المدينة كانت مشهورة بالأقمشة النفيسة.
مدينة فوموتنيس
هذه المدينة توجد آثارها فى الجنوب الغربى من أبى صير على بعد 16 كيلومترا، وبينها وبين آثار مدينة مريوط 30 كيلومترا ومنها إلى الخراب الموجود بقرب قصر المرحوم سعيد باشا 43 كيلومترا، وتسمى الناس موضع هذه المدينة الآن (بومنه)، ويرى فيها إلى الآن عدد وافر من السواقى والصهاريج المبنية بالحجر، وعقود كثيرة فى آثار بيوتها تدل على أن أكثر بيوتها كانت معقودة.
بحيرة مريوط
يستفاد مما ذكره (مانى) فى كتابة على مصر: أن هذه البحيرة حفرت فى زمن الفراعنة، وكان ماء النيل يصل إليها من الجهات القبلية والبحرية فتسير فيها السفن بأنواع البضائع والتجارة، وتمر بإسكندرية والبلاد والمدن التى على ساحلها، كان يخرج منها عدّة فروع: منها ما هو للرى، ومنها ما هو للرى والملاحة، وكان كثير من الخلجان مقبوّا فى داخل المدن ولامتلاء الصهاريج.
ومكان هذه البحيرة بقرب مينا إسكندرية كمينا بلتة، تتردد المراكب الصغيرة إليها وإلى مينا سيبوتوس
(1)
.
والخليج الذى تقدم ذكره، لا بد أنه الخليج الذى كان قديما يوصل لها الماء، المسمى فى المقريزى بخليج الحافر، وهو المنهى.
ولم تختلف سعة البحيرة-الآن-عما كانت عليه فى الأزمان العتيقة، إلا أن السفن لا تجرى كما كانت قديما، وقد تجف فى بعض السنين، كما وقع ذلك سنة 1801 ميلادية، فإنها جفت بالكلية ثم امتلأت بالمياه المالحة الواردة إليها من قطع أبو قير بالإنكليز وسببه:
(1)
يقصد مينا سيبتوس.
مطلب دخول الفرنساويين أرض مصر
أنه لما دخل الفرنساويون أرض مصر، حاصرهم الإنكليز، وكانت مراكبهم تتردد فى سواحل البحر، فحصل بين الإنكليز ومحافظى إسكندرية فى بعض الواقعات واقعة انتصر فيها الإنكليز، وانهزم الفرنساوية ودخلوا المدينة، فعمدوا إلى جسر بحيرة المعدية وقطعوه؛ لأجل قطع الزخرة والذخيرة والإمداد التى ترد إليهم من مدينة القاهرة، فملأ المالح جميع بحيرة مريوط، ودخلها مراكب الإنكليز، وساروا بها إلى جهات كثيرة، وانقطع الاتصال بين خارج المديرية وداخلها.
ولما ارتحل جيش الفرنساوية بعد المصالحة التى صارت مع الدولة العلية، سد الترك القطع، فجفت البحيرة قليلا، وقطعه الإنكليز ثانيا بعد وقعة رشيد التى حصلت سنة 1807 من الميلاد، فإنهم لما حبسوا أنفسهم داخل المدينة، أدخلوا ماء البحر فى البحيرة فامتلأت بالماء، وبقيت كذلك إلى خروجهم، وسد القطع المذكور، وبقى على ذلك إلى الآن، وفى كل سنة تصرف الحكومة عليه مبلغا جسيما.
مطلب واقعة رشيد
وملخص واقعة رشيد المذكورة هو أنه بعد خروج الفرنساوية، كانت الفتن كثيرة وكان ثورانها من الإنكليز؛ لأنهم كانوا يرغبون فى رجوع مصر إلى حكم المماليك، بسبب ما كان حاصلا بينهم من الاتفاق، وإلى ذلك الوقت كان العزيز آخذا بزمام الأحكام بمقتضى الفرمان العالى.
وفى سنة 1807 أحضروا 25 سفينة إنكليزية، وبخيانة أمين أغا المحافظ وتواطئه معهم، فتح لهم أبواب المدينة، وكان العزيز فى ذلك الوقت بالأقاليم القبلية خلف المماليك، ولم يكن بمدينة رشيد إلا قليل من المحافظين، فأرسل الإنكليز إليها عسكرا، فلما بلغ المحافظين قدومهم خرجوا منها وتركوها لهم.
ولكن لما توطنت العساكر الإنكليزية بها، هجموا عليهم دفعة واحدة بمعونة الأهالى، فقتلوا منهم عددا وافرا وأسروا منهم 120 نفسا، وأرسلوهم مع رءوس المقتولين إلى القاهرة، فطيف بهم حول البلد، ثم وضعت الرءوس حول ميدان الأزبكية فوق المزاريق، فبلغ خبر هذه الواقعة العزيز فحضر سريعا من الوجه القبلى، وجهز 4000 مقاتل من المشاة، و 1500 من الخيالة، وتوجه بهم إلى ناحية فوّة بعد أن حصّن القاهرة، وكانت الإنكليز أرسلت فرقة أخرى من العسكر إلى رشيد، حاصرتها 16 يوما إلى أن حضر العزيز بعساكره، فوقع بينه وبينهم محاربة عظيمة انهزم فيها الإنكليز بعد موت كثير وأسر كثير منهم أيضا، والذى سلم رجع إلى الإسكندرية.
ولخوفهم قطعوا جسر بحيرة مريوط من جهة البحر، وبعد ذلك بقليل صولحوا وردّت إليهم الأسرى، وخرجوا من مصر وبقى العزيز بعد ذلك متمكنا فى الديار المصرية.
مطلب حدّ جزء البحيرة الأول والثانى
وجزء البحيرة الأول، الواقع بين المنطقة الأولى والمنطقة الثانية من أرض مديرية مريوط، محدود من جهة الجنوب الغربى بخراب مديرية مريوط.
والجزء الثانى من البحيرة، وهو أكبر من الأوّل، محدود من الجنوب بجزيرة الطفلة، وتل بلال، وتل أحفين، وتل الحنش، ومن جهة الشرق بكيمان الريش، وكوم البركة، وكفر الدوّار.
وبين هذا الكفر وكثبان الإسكندرية تتحد البحيرة-فى وقتنا هذا-من جهة الشمال الشرقى ومن جهة الشمال الغربى بخليج المحمودية، وتمتد البحيرة الآن نحو الشمال الشرقى، وكان من ضمنها جزء عظيم من بحيرة أبى قير.
ونقل المقريزى عن ابن عبد الحكم، وكان فى القرن الثانى من الهجرة، أن الماء كان يدخلها من (أشتوم) فى بحر الروم، ويخرج جزء منه فى بركة بقربها بواسطة خليج عليه مدينتان: إحداهما: الهدبة، والأخرى: الكر.
ويظهر من هنا أن بحيرة أبى قير لم تكن موجودة فى القرن الثانى، وأن الذى كان موجودا وقتئذ بحيرة إتكو، ولا بد أن الخليج الموصل لهما هو الذى تسبب عنه-فيما بعد-بحيرة أبى قير الواقعة بين بحيرة إتكو وبحيرة مريوط، ولا بد أن الخليج المذكور بعيد عن شيديا، وكان فى ذلك الوقت فرع رشيد قد جف وانقطع جريانه.
ومما يحقق أن هذه البحيرة كانت تمتد فى الطرف الباقى من المحمودية، ما قاله (بولين واسترابون) حيث ذكر الأوّل: أن طول البحيرة 30 ميلا رومانيا، أعنى 44 كيلومتر ونصفا تقريبا، وذكر الثانى: أن هذا الطول أقل من 300 أستادة، عبارة عن 49 كيلومترا، وكل من هذين البعدين لو قيس من مدينة مريوط لجاوز المحمودية بأربع كيلومترات فأكثر.
وأما عرض البحيرة فقدره (استرابون) بنحو 1150 أستادة، وهو عبارة عن 24 كيلومتر ونصف تقريبا، وهو إلى الآن كذلك، ومحيطها 120 كيلومتر، ينتهى بالسكة الحديد وكان فى القديم 120 كيلومتر و 25 ميلا رومانيا تقريبا.
مطلب الجزائر السبع
وذكر (استرابون) أنه كان بها ثمان جزائر، والمعروف منها الآن سبعة:
الأولى: جزيرة الطفلة، وهى على بعد 4 كيلومترات من جنوب الشيخ علىّ مرغب.
والثانية: يقال لها كوم المحار، وكوم الخرز، وهى الأرض التى فيها الشيخ غازى.
والثالثة: تسمى جزيرة السعران، وهى تجاه كفر الدوّار، ومن ضمنها كوم الويلى، وكوم العبسة، وربما دلت آثارها على أنها كانت أكبر الجميع.
والرابعة: تجاه بركة أبى الخير، على يمين المتوجه من الإسكندرية إلى السكة الحديد.
وأما الثلاثة الباقية: فهى فى المكان المسمى بذراع البحر.
وأرض بحيرة مريوط، منحطة عن ماء البحر بمترين ونصف، ولا بد أن ارتفاع الماء فى القديم كان يصل فيها إلى قريب من 3 أمتار، لإمكان الوصول منها إلى البحر، ومنه إليها،
الكلام على الإسكندرية فى عهد العائلة المحمدية
كانت الإسكندرية، بل وسائر الديار المصرية، قبل استيلاء المرحوم محمد على باشا عليها وتوجيه نظره إليها فى غاية من الاضمحلال وسوء الأحوال، مع قلة العدد والعدد، قليلة المتاجر والأسفار، كثيرة الفتن والأشرار، قعدت أعرابها على أذناب الطرقات، واستعملت القتل والسلب فى كل الأوقات، ليس لأهلها فكرة فى اكتساب أنواع المعارف والصنائع، ولا لهم خبرة بما يستوجب كثرة محصولات المزارع، فلما جلس على التخت، وذلك لإثنى عشر يوما خلت من ربيع الأول سنة 1220 من الهجرة، الموافقة لسنة 1805 من الميلاد، التفت إليها، بل إلى القطر جميعه، ووجه إليه جميل أفكاره، وشمله بجليل أنظاره، وأخذ فى إصلاح ما أفسدته التقلبات الدهرية.
وحيث كان غير خفى على ذكائه أهمية موقع الإسكندرية من الديار المصرية، وأنها بالنسبة للقطر جميعه كالرأس/بالنسبة للإنسان، سيما وهى من أعظم ثغور الإسلام عليها المدار فى تحصين القطر وسدّ عوراته، صرف إليها همته العلية، واحتفل بها احتفالات سنية، وأجرى فيها من محاسن الترتيبات والتنظيمات ما أوجب لها العمارة وتزايد الخيرات، وكثر فيها الصادر والوارد فعاد إليها وسيم نضرتها وقديم شهرتها.
مطلب فى بيان عدد أهالى إسكندرية
فى عهد محمد على وفى عهد خلفائه من بعده
فبعد أن كان ما بها من الأنفس، قبل أيام المرحوم محمد على، لا يزيد عن 8000 نفس، وذلك وقت دخول الفرنساوية الديار المصرية، سرت فيها العمارة سريان الماء فى العود الأخضر، وأورق غرس سعدها وأثمر، حتى بلغت عدة أهلها 60000 نفس.
ثم فى سنة 1830، بلغت 130000 نفس.
وهكذا لم تزل فى الزيادة فى عهده وعهد خلفائه من بعده، إلى أن صارت من أمهات الأمصار، وهرع الناس إليها من سائر الأقطار، حتى بلغت عدة أهلها فى عصرنا هذا، أعنى سنة 1291 هجرية-270000 نفس.
وبعد أن كان لا يرى فى ميناها القديمة غير مراكب شراع قليلة، ترد إليها فى بعض الأوقات ببضائع قليلة من نحو البلاد التى على سواحل البحر الرومى وجهات إيطاليا، صارت كل يوم يرد إليها عدد وافر من المراكب، شراعية وبخارية، تجارية وحربية، من جميع الجهات، تجلب إليها مبالغ جسيمة من أنواع محصولات الأقطار، وذلك بسبب ما جدده بالإسكندرية من الآثار السنية والمنافع الوطنية، فإنه قد نزع عنها جلابيب الأحداد، وكساها حلل الإقبال والإسعاد، وأحدث فيها مبانى جميلة وعمائر جليلة، وأمر بإصلاح ما تهدم من أسوارها، وتجديد ما اندرس من آثارها، واحتفل بذلك إحتفالا زائدا تحسينا لهيئتها وحرصا على عمارتها.
مطلب دخول الفرنج بالمينا
ولأجل حرصه على جلب العمارة لها، صرح لمراكب الفرنج بالدخول فى المينا الغربية، التى كانوا قبل ذلك ممنوعين منها، وكانت المينا الشرقية هى المعدة لرسيان مراكب الفرنج، مع أنها كانت مخوفة وعلى غاية من الخطر، وكثيرا ما كان يحصل منها التلف للسفن التى ترسو بها، من كثرة تسلط الرياح الشرقية والشمالية عليها سيما لقلة عمق المياه التى بجوار المرسى، بخلاف المينا الغربية التى كانت مختصة بسفن المسلمين، فإنها فى غاية الأمن من ذلك كله، وكان الأغراب كثيرا ما يطلبون الدخول منها فلا يجابون، فلما صدر الإذن لهم بذلك فرحوا فرحا شديدا، وكان سببا فى كثرة جلب الخيرات إليها، وإقبال التجار وأهل الأسفار عليها، فإنه من وقت بلوغ هذا الخبر إلى الأقطار، أخذت السفن تتوارد بالتجارات من كل مدينة ومن كل قطر، حيث لم تختص ملة دون أخرى بمزية، حتى تكاثرت التجارات والأغراب فيها، وتيسرت بها أسباب المكاسب، وغرّدت فيها بلابل الثروة من كل جانب.
ولما كان المقصود من تمدين تلك المدينة وتكثير خيراتها لا يتم إلا بكثرة المياه العذبة فيها، وسهولة وصول أهل القطر إليها بمتاجرهم، وكان خليجها القديم، بسبب إهماله وعدم الاعتناء بشأنه، قد ردم وارتفع قاعه، زيادة على ضعف عمقه الأصلى، حتى كان فى كثير من السنين لا يدخله الماء إلا فى وقت انتهاء زيادة النيل، ثم يجف فى باقى السنة، وذلك سبّب فى حصول مشقات زائدة لأهل المدينة والطارئين عليها من أهل القطر والأغراب، سيما ومجاورته للبحائر التى تكتنفه من الجانبين: مثل بحيرة أبى قير، وبحيرة المعدية، وبحيرة مريوط، كانت تستوجب سرعة ملوحة مائة، وتعطل منفعته، وربما لا تكفى الصهاريج بقية السنة، خصوصا مع كثرة الناس فيها جدا-كما علمت-.
مطلب تاريخ حفر ترعة المحمودية
صدرت أوامره السنية سنة 1233 هجرية، الموافقة سنة 1819 ميلادية، بحفر ترعة المحمودية، وأن تعمق حتى تجرى صيفا وشتاء، وتوسع بحيث يسهل لجميع مراكب النيل الوصول منها إلى المدينة بأنواع المحصولات فى زمن قريب، بلا كبير مصرف ولا مشقة، مع حصول تمام النفع للآدميين وسائر الحيوانات والمزروعات.
وكانت قبل ذلك تجارات القطر لا تصل إلى تلك المدينة إلا من ثغر رشيد أو دمياط، وذلك مستوجب لكثرة المصرف وزيادة المشقة جدا، فإن سفر البحر الملح لا يخلو عن الخطر، فكانت لا تخلو سنة عن حصول غرق لبعض المراكب والبضائع والآدميين.
ولأهميتها جمع لها عددا كثيرا من الأهالى من جميع مديريات القطر، حتى تمت فى أقرب وقت مع الأبنية اللازمة لها، وقد بلغ ما صرف عليها إلى أن تمت، ثلثمائة ألف جنية، على ما نقله كلوت بك، وهذا بالنسبة لما ترتب عليها من المنافع شئ يسير، كما هو مشاهد، ولم يجعل فمها فى مكان فم الخليج القديم عند ناحية الرحمانية، بسبب ما حدث أمامه من الارتدام والرمال، فنقل بالقرب منه فارتدم أيضا، وفعل ذلك مرارا فلم ينفع، فجعل عند
ناحية العطف فصلح وأنتج المطلوب فاستمر على ما هو عليه الآن، وكان ذلك سببا فى عمارة ناحية العطف واتساعها وكثرة خيراتها حتى ألحقت بالبنادر، حيث كانت مرسى للسفن التجارية الداخلية والخارجية، وجعل انتهاؤها البحر الأبيض بحيث تصب قريبا من مصب الخليج القديم. الذى كان فى زمن البطالسة.
وبتمامها على هذا الوجه/حصل منها المقصود من المنافع العميمة والفوائد الجسيمة، مما ذكرنا وخلافه، كإحياء غالب الأراضى التى بجوانبها من ناحية العطف إلى الثغر، بعد أن كانت ميتة غير صالحة للزراعة، بسبب هجرها من قلة وصول الماء إليها، مع أنها كانت فى قديم الزمان معمورة بالناس وأصناف المزروعات، بل حصل بحفرها إحياء كثير من الأراضى البعيدة عن شواطئها بواسطة المساقى والترع التى تفرعت عنها من الجانبين على توالى الأزمان، حتى بلغ ما أحيى بها 11545 فدانا وكان الصالح قبل ذلك لا يزيد على 4000 فدان.
مطلب ذكر تاريخ عمل هويسات المحمودية
وهكذا لم تزل المزارع والأحياء تتزايد بسبب تلك الترعة، إلى وقتنا هذا فقد بلغ الصالح للزراعة زيادة عن مائة ألف فدان، حتى استوجب عدم كفاية ماء المحمودية بجميعه، واحتيج إلى تركيب وابورات العطف. ثم أنه عند تمام حفرها جعل فى فمها وفى مصبها قناطر فكانت مانعة لمراكب النيل من الدخول فيها وكانت التجارات الآتية من القطر إلى إسكندرية تنقل عند فمها إلى مراكب أخر من مراكب المحمودية وعند وصولها إلى الثغر ينقل ما كان منها على ذمة الأجنبيين إلى مراكب البحر الملح، وما كان على ذمة الأهالى يخرج إلى البر، وكذلك التجارات الآتية من الأقطار الأجنبية فكانت تنقل مرتين ولا يخفى ما فى ذلك من الضرر والخطر فصدرت أوامره السنية بإزالة تلك القناطر.
وعمل هويسات فى فمها وفى مصبها وذلك سنة 1842 ميلادية موافقة سنة 1258 هجرية فعملت على هذا الوجه الذى هى عليه الآن بأن جعل فى فمها هويسان أحدهما صغير عرضه أربعة أمتار للمراكب الصغيرة والآخر كبير سعته ثمانية أمتار للمراكب الكبيرة وفى مصبها كذلك فارتفعت بذلك الصعوبات وخفت المصاريف.
مطلب فى ذكر أبنية عديدة جوامع وغيرها
وقد ألحق بذلك أبنية عديدة منها أنه بنى جامعين: أحدهما عند فمها والآخر عند مصبها قرب المينا، وجعل محراب كل واحد منهما قطعة واحدة من الرخام الأبيض، وكتب عليه تاريخ البناء، ورقم عليه اسم السلطان محمود.
والجامع الذى عند مصبها يعرف الآن بجامع التاريخ، وكذلك الشارع الذى عنده يسمى بشارع التاريخ.
ومنها: أنه جدد عدة أشوان لخزن الغلال الميرية.
ومنها: حفر مجرى تحت الأرض لتوصيل الماء الحلو إلى جهة الترسانة والجمرك، قد فتح فى مواضع منه موارد لأخذ السقائين والأهالى فى أى وقت شاءوا، ولحرصه على دوام نفع تلك الترعة، جعل لها ما تتغذى منه عند الحاجة، فجعل (ملقة ديسة) مخزنا للماء يملأ وقت فيضان النيل ويبقى مملوءا حتى يصرف فيها على حسب الحاجة، وجعل فيه قناطر للصرف. والمخزن المذكور هو ما يعرف الآن بخزان الزرقون، وكان قريبا من عشرين ألف فدان، ولما استغنى عنه بوابورات العطف جعله المرحوم سعيد باشا جفلكا، وهو الآن فى ملك نجله المرحوم طوسون باشا.
وقد حدث على جوانب تلك الترعة وبعيدا عنها فى ضواحى المدينة، عدة بلدان عامرة، وقصور مشيدة، وبساتين مملوءة بأشجار الفواكه والرياحين، وغير ذلك من المحاسن المشاهدة هناك. ثم إن من أسباب جعل قاع الخليج القديم مرتفعا حتى كان لا يجرى فيه النيل إلا وقت الفيضان، مجاورته للبحائر المالحة كما علمت، فلذا لما عمل العزيز ترعة المحمودية، أمر بسد أفواه تلك البحيرات من جهة البحر المالح، فصارت المحمودية آمنة مما يغيرها ويعطل منافعها.
فهذه الأعمال الجليلة من أعظم أسباب العمارة بتلك المدينة، وكثرة الأهالى والأغراب فيها.
وبسط الكلام على الخليج القديم وترعة المحمودية، مذكور فى تاريخنا لمصر فليرجع إليه من أراد الوقوف عليه.
ولأهمية ميناء الإسكندرية بواسطة أنها أعظم الثغور، وعليها تردد السفن بالبضائع وغيرها من جميع الأقطار، التفت إليها العزيز فوجدها غير كافية للمصالح، إذ لم يكن بها مواضع تكفى الصادر والوارد من التجارات، ولا أماكن لتحصيل الجمرك، ولا ترسانة لإنشاء المراكب وترميمها، ووجد مراكب التجارات لا تصل إلى البر لعدم عمق مياه المينا، وذلك موجب لمشقات ومصاريف جسيمة فى الشحن والتفريغ، فأمر بجلب كراكات من البلاد الأورباوية لأجل تعميقها، واشترى من جانبيها بعض أماكن من خط الصيادين، وهدمها لأجل توسيعها وذلك سنة 1242 هجرية، أعنى سنة 1829 ميلادية، فكان من ضمنها بيت يقال له: بيت البطاس، وهو جد الشيخ محمد المهدى لأمه، وكان التصميم على البناء فى 9 شهر يونيه الإفرنجى من السنة المذكورة، وفى ذلك اليوم صار شروع العساكر فى حفر الأساسات، ثم صار الشروع فى البناء حتى تمت على الوجه المطلوب سنة 1831 ميلادية، وأول سفينة نزلت بها كان فى 3 يونيه من السنة المذكورة، وكانت تحمل مائة مدفع، وقد رخص لأرباب الأملاك فى أخذ أنقاض أملاكهم ليستعينوا بها فى بناء منازل غيرها، فى الأماكن التى أنعم بها عليهم من الأراضى التى كانت إذ ذاك من زاوية خطاب من/الجهة البحرية إلى البحر المالح، وكانت قبل ذلك كلها مزروعة تينا برشوميا، ومقسمة إلى زربيات متنوعة، فاتسع بذلك دائر المينا وحدث بها ترسانة تشتمل على جميع ما يلزم لإنشاء وترميم المراكب الحربية وغيرها.
ولما لم تستوف تلك المينا جميع ما يلزم لضبط الجمرك وخزن البضائع وغير ذلك من المصالح، صدرت أوامره السنية سنة 1251 هجرية، بعمل رصيف داخل البحر، فعمل وملئ ما خلفه بالأتربة والأحجار وغيرها، فحصل من ذلك أرض عظيمة الاتساع، فأنشأ فيها جميع ما تحتاج إليه المينا من مخازن ومحلات للجمرك، ومساكن لخدمة المصالح، فأمنت التجار على بضائعهم، وتمكنت الحكومة من ضبط الجمرك فزاد إيراده، وكان المباشر، إذ
ذاك، شاكر أفندى الإسلامبولى، إلى أن توفى فقام مقامه المرحوم مظهر باشا إلى أن تم، وكان العزيز، إذ ذاك، مشتغلا بأمور الحرب التى كانت قائمة بينه وبين الدولة، موجها همته نحو العمارات البحرية كإعداد الحصون والقلاع وتقويتها، فأحضر لها سنة 1829 ميلادية، من مدينة طولون من مملكة فرنسا، المهندس الحاذق الماهر موسيو (سيريزى) وجعله باشمهندس الترسانة، ورقّاه إلى رتبة البيكوية، وصار يعرف (بسيريزى بيك) ثم وصل إلى درجة لواء، وبامتحانه للمينا وجد عمق الماء بها قدر مترين فقط، ممتدا ذلك فى داخل البحر نحو مائتى متر، وذلك مستوجب لصعوبة الشحن والتفريغ، فظهر له أن الأولى أن يكون محل الترسانة عند العجمى، لعمق الماء هناك، لكن لبعده عن المينا، وتسلط الرياح على تلك الجهة عدل عنها إلى المحل الذى عنده الترسانة الآن، فعمقه حتى تمكنت السفن من الرسوّ هناك بقرب البر.
وقبل حضور المهندس (سيريزى) المذكور، كان الرئيس على إنشاء وعمارة السفن بتلك المينا رجلا من الأهليين، يسمى الحاج عمر، وكان صاحب إدارة ومعرفة طبيعية وإقدام على مثل هذه الأعمال، مع الإصابة، فلما حضر موسيو (سيريزى) اتحد معه وساعده فى جميع أعماله.
وفى ظرف خمس سنين من ابتداء سنة 1829 ميلادية، ثم جميع مواضع الترسانة مثل: ورشة الحبالة المعروفة بالتبالة، وورشة الحدادين والقلوع والسوارى، والبصل، والنظارات والمخازن، وفى أثناء هذه الأعمال قد صار جلب كثير من شبان الأهالى من جميع المديريات، لأجل تحصيل الكمية الكافية للقيام بلوازم المراكب، وتعليمهم جميع ما تحتاج إليه السفن على أيدى معلمين من البلاد الخارجية، فاختص كل جماعة بفرع من فروع مصالح المراكب حتى أتقنوها، ونتج من تحت أيديهم فى زمن قليل سفن كثيرة حربية وغيرها مع غاية الإتقان، بحيث تضاهى سفن الجهات الخارجية، فكان الحبالة مثلا يفتلون كفاية المراكب من الحبال المتقنة فى أقرب وقت، وهكذا كل أهل فرع يحتفلون به حتى يتم على أكمل وجه، فاستغنت الحكومة المصرية بذلك بعض استغناء عن جلب السفن من البلاد الأجنبية
إلا أن جميع ما يلزم لإنشاء المراكب وعمارتها مثل: الحديد والنحاس والخشب، كان يجلب من البلاد الأجنبية، وبسبب أهميتها واحتياج الأمر إليها، كان أربابها يتغالون فى أثمانها جدا، وليتها كانت من الأنواع الجيدة، بل كانت رديئة، فإن الخشب كان يأتى من الكرمانى، وبلاد إيطاليا غير مستوف لشروط الانتفاع به فى مثل هذه الأعمال، ولهذا كانت المراكب التى تصنع منه يسرع إليها التخريب وتحتاج للرمّ فى زمن قريب.
ومع كل ذلك لم تقف همة العزيز عن إنشاء المراكب، وكثيرا ما كان تجار المراكب يثبطونه عن إنشائها ويبدون له ما لا مزيد عليه من الصعوبات وكثرة المصاريف، ويدخلون عليه بكل حيلة ليصرفوه عن هذا العزم، وذلك أنهم كانوا يربحون أرباحا كثيرة من بيعهم المراكب للحكومة المصرية، مع أن المراكب التى كانت تشترى منهم، مع ارتفاع أثمانها جدا، كانت إما قديمة، أو غير جيدة الصنعة، فلم يلتفت إلى تثبيطهم، ولم تقعد همته بل ازدادت رغبته فى تلك الأشغال، ورتب لها مجلسا أناط به جميع لوازم المراكب، وجعل رئيسه موسيو (سيريزى) المذكور وأنشأ مدرسة لتعليم صنعة السفن وما يتعلق بها.
وكان المشتغلون بإنشاء المراكب وتعميرها إذ ذاك، نحو 8000 نفس، من الأهليين الذين تربوا على أيدى المعلمين من الإفرنج وغيرهم، وقد أتقن الصنعة منهم نحو 1600 نفس، فاستغنت بذلك الحكومة المصرية عن شراء المراكب من الخارج، وكان المعين لها على هذا العزم موسيو (سيريزى) فكان دائما يبدى له من محاسن تلك الأعمال ونتائجها، ما يحمله على تنجيزها، وإعراضه عن تثبيط المثبطين له عنها، فلذا تعصب الإفرنج على موسيو (سيريزى) وضيقوا عليه ورمقوه بعين العداوة، حتى ألجؤوه إلى الاستعفاء من تلك الوظيفة، فعوفى منها وألحق ببلاده.
وقد بلغ ما أنشئ وعمّر فى مدته وعلى يديه، من السفن الحربية وخلافها، وما تحمله كل سفينة، على ما ذكره كلوت بك فى تاريخه لمصر، ما نبينه لك فنقول:
بيان السفن التى كانت موجودة تحت الحكومة المصرية
وقت استعفاء سيريزى بيك إنشاء وتعميرا
وبيان ما تحمله/من المدافع
السفينة المسماة مصر تحمل 98 مدفعا، عكا حمولة 98، المحلة الكبيرة حمولة 100، المنصورة 100، إسكندرية 100، أبو قير 78، طنتدا 24، العزيزية 10، سفينة صغيرة للنزهة 4، سفينة لرمى البنب 000
(1)
، سفينة لنقل الأخشاب 000
(1)
، ببلان 86، حلب-كانت بالورشة-حمولة 100، دمشق-كانت بالورشة أيضا-100، وغير ذلك فرقطون.
والسفن التى كانت محتاجة لكثرة العمارة، وتأخذ زمنا طويلا هى: البحيرة، وأصلها من مرسيليا 60، الجعفرية وأصلها من ليفورنه 60، رشيد وهى من بنديك 30، كابشيك وتم عملها فى لونبرة 30، شيرجهاد وأصلها من ليفورنه 60، الدمياطية 24، واسطة جهاد من الجزائر أعطتها فرنسا 28، جن بحرى أصلها من جنوا 24، جهاد بيكر أصلها من جنوا أيضا
…
(1)
، فوّة
…
(1)
، ومراكب أخرى حمولتها 400، سمندجهاد من مرسيليا
…
(1)
، شبرجهاد من أمريكا
…
(1)
، بادى جهاد من أمريكا أيضا
…
(1)
، أربع مراكب أخر
…
(1)
، وجملة مراكب صغيرة وسفينة بخارية تسمى النيل.
وأنشأ أيضا مدرسة البحارة، وجلب لها من شبان الأهالى 10000 نفس وجعل رئيسها موسيو (بيسون بيك) وبعد موته تولى ذلك موسيو (حصار) حتى حصلت بهم الكفاية فى تركيب الدونانمه اللازمة.
(1)
هكذا فى الأصل بدون بيان ما تحمله من مدافع.
ولأجل تتميم جميع منافع الترسانة، وتحصيل زيادة الأمن على السفن الصادرة والواردة، أنشأ الفنار الموجود الآن برأس التين، وعين له مظهر باشا فبناه على أحسن هندام، وجعل ارتفاعه ستين مترا، ونوره يشاهد من ثمانية فراسخ فى البحر، فعمت منافعه وكثرت فوائده.
مطلب عمل الحوض
ولما كانت سفن الدوننمه وغيرها من المراكب لا تستغنى عن حوض فى المينا لأجل عمارة ما يحتاج منها إلى العمارة، لا سيما مينا الإسكندرية، لكثرة توارد المراكب عليها، صدر أمره بعمل حوض فى ليمان تلك المدينة.
ولقلة المهندسين إذ ذاك بالديار المصرية، عين لعمله شاكر أفندى، المتقدم ذكره، فصار يعمل فيه أعمالا غير منتجة، لأنه فضلا عن عدم مهارته فى الأعمال الهندسية كانت أرض ذلك المحل رخوة يبلغ عمق رخاوتها نحو ستين قدما تحت استواء الماء، فكان يعمل صناديق كبيرة من خشب ويملؤها بالبنيان، ثم ينزلها فى الماء فى المحل الذى يلزم رميها به، وهكذا، واستمر على ذلك زمنا والعمل لا يتقدم، وربما انقلبت الصناديق بما فيها وتحوّلت عن أماكنها، حتى استوجب ذلك صرف كثير من الأموال بلا كبير فائدة، فعين لذلك كلا من المرحوم مظهر باشا، والمرحوم بهجت باشا، وكانا قد قدما من بلاد أوربا، وجعل ثالثهما لبنان بيك، وأمرهم بعقد مجلس للنظر فى ذلك، وبعد عقد المجلس والنظر فيه عملوا قرارا مضمونه، أن هذا العمل لا ينتج، وعرضوه عليه وبعد مضى زمن أحضر (موجيل بيك) من بلاد فرنسا وناط به عمل ذلك الحوض، فعمل أولا رسما وعرضه على العزيز فاستحسنه، ثم شرع فى البناء فجعل يدق خوازيق فى محله بعد حفر الطين منه بالكرّاكات، وكلما نزح موضعا ملأه بالخرصان، وهكذا إلى أن تم على وفق المرام، وانتفع به الخاص والعام.
وهذا الحوض عبارة عن ناحية من البحر متسعة، عميقة أو تعمق بالكراكات، تختار بقرب البر وتحاط بالبناء المتين المصنوع من المواد الجيدة والمؤن الطيبة، ويجعل طوله بحيث يسع أكبر سفينة فى البحر، وعرضه بنسبة ذلك، وله فم من جهة الماء يسد بباب بهيئة مخصوصة، وتجعل فيه منافذ صغيرة تفتح وتقفل بحسب الحاجة، فإذا أريد إدخال سفينة فيه للعمارة يفتح الباب فتدخل السفينة بسهولة، ثم يسد فينزح الماء منه بواسطة وابور حتى يجف، وبعد تمام العمارة يملأ الحوض ثانيا ويفتح الباب فتخرج السفينة.
وسيأتى لذلك مزيد بيان عند الكلام على الحوض الذى أنشأه حضرة الخديو إسماعيل باشا هناك. فجميع تلك الأعمال كان سببا لقوة السفن الحربية وكثرتها، ولم تزل تكثر ويجلب لها من البلاد الخارجية ما يلزم لها من الأسلحة وخلافها حتى قويت الدونانمة المصرية، وأحرزت ما كانت فاتتها به دوننمة الدولة العلية من العدد والعدد والمدد والتعليمات النافعة الغريبة التى لم تسمح الديار المصرية بمثلها فى الأعصر الخالية.
وجعل موسيو (بيون ويس) أميرا عليها جميعها، وأعطاة رتبة ميرألاى، وكان قبل ذلك أحد ضباط الدوننمة الفرنساوية، وحاصل أمره أنه كان سنة 1815 ميلادية فى مينا رشفور بسفينته حين كان نابليون نوريت يريد الهروب من بلاد فرنسا، فتعهد له أن يوصله إلى بلاد الأمريكا، وقبل منه نابليون ذلك فاستعد (بيون) لهذا الأمر، ووضع فى سفينته جملة براميل فارغة مصفوفة بعضها بجوار بعض ليخفيه فيها، فهيأ نابليون جميع ما يلزم لسفره، وتواعد مع (بيون) على أن ينتظره بجزيرة إكس، فلما اجتمع معه فى الميعاد وجده قد رجع عن العزم على السفر معه، وأخبره أنه كتب إلى أمير الدولة الإنكليزية أن يأخذه عنده.
ثم شاع خبر توافقه معه على إخفائه فخاف (بيون) عاقبه ذلك، وقد حصل/بالفعل رفته لهذا السبب، فصار يشتغل بالتجارات والأسفار فى سفينة لزوجته، إلى أن حضر سنة 1820 ميلادية بمدينة الإسكندرية، وكان العزيز إذ ذاك مهتما بإنشاء السفن، فعرض له بطلب الخدامة والمعيشة تحت ظله، فجعله ملاحظا للسفن الجارى إنشاؤها فى بلاد أوربا ثم
جعله قبطانا للفرقطون المسمى بالبحيرة الذى أنشئ بمرسيليا، وكان به 64 مدفعا، ولم يزل يترقى إلى أن أخذ رتبة البيكوية، ثم صار ميرألاى على الدوننمة المصرية بتمامها، ولما عدمت الدوننمة الأصلية فى وقعة مورة ولم ينجح منها إلا القليل، ركب العزيز دوننمة أخرى من المراكب التى أنشئت بمينا الإسكندرية على أيدى أولاد الوطن، مع ما بقى من الدوننمة الأولى، فكانت أعظم من الأولى قوة وترتيبا ومهابة.
الدوننمة المصرية
وبيان السفن الحربية والمدافع والرجال التى تركبت منها الدوننمة المصرية، على ما ذكره كلوت بك، فى هذا الجدول.
مراكب كبيرة، وعدد رجالها:
المحلة الكبيرة 1034 رجلا، المنصورة 1034، إسكندرية 1034، أبو قير 736، مصر 1097، عكا 1148، حمص 1034، ببلان 900، حلب 1034، فيوم 1034، بنى سويف 1034، منوفية 558، بحيرة 510، دمياط 470، سرجهاد 510، رشيد 510، وابور النيل 152، خمس كورومت 922، وخمس جوبليت عدد رجالها 442، مركبان صغيرتان 60، وخمس مراكب عدد رجالها 390.
مجموع العساكر البحرية المصرية 15643، شغالة الترسانة بإسكندرية 4076، المجموع 19719، والمدافع التى كانت بها وقتئذ 364 مدفعا، ومنصرف العساكر والرجال البحرية 7500000 فرنك، والمنصرف على المبانى العسكرية 1875000، والمنصرف على ترسانة بولاق 412500، يكون المنصرف على الجميع 9787500.
ولأجل عدم إهمال جميع الأعمال وخلافها من العمائر النفيسة التى أبدتها فكرة العزيز بمدينة الإسكندرية، مع محبته للإطلاع على الأخبار التى ترد من البلاد الخارجية ليحيط علما بأحوالها وأخبارها فيتمكن بذلك من القيام بمصالح الرعية وسياستها، وتحصين جهات حكومته، اتخذ تلك المدينة مركز إقامته فى غالب أوقاته، فبنى برأس التين بجوار الترسانة ثلاث سرايات: ثنتين على المينا الغربية إحداهما للمسافرين، والأخرى لدواوينه، والثالثة لخاصته بجوار المينا الشرقية، ولم يشغله ذلك عن مصالح الرعية، بل لم يزل ساعيا فى جميع ما يصلح القطر وأهله، حتى خلصّ الديار المصرية من الأشرار، وعم الأمن جميع جهاتها.
واستلزم ذلك كثرة وفود الأغراب على الديار المصرية بالبضائع، وانتشروا فى جميع جهات القطر ونشروا بها معارفهم من الحرف والصنائع، وعاد نفعهم على جميع أبناء الوطن، ولم يزالوا آخذين فى الازدياد حتى كان الموجود منهم فى الديار المصرية سنة 1840 من الميلاد ما تراه:
شوام 5000 نفس، أروام رعية 3000 نفس، أرمن 2000، أروام إفرنج 2000، تليانيون 2000، مالطية 1000، فرنساوية 800، إنكليز 100، نمساوية 100، مسكوف 30، إسبانيوليون 20، سوسية وبلجيكية وهولندية وإسبانية 100، وغيرهم. الجميع 16150.
وفى سنة 1846 بلغ عددهم 50000، وفى سنة 1870 بلغ 150000، سيما وقد خصتهم العناية الداورية بالإكرام الزائد، فاستوطنوا هذه الديار خصوصا مدينة الإسكندرية، وبنوا بها المنازل الفاخرة والقصور المشيدة على هيآت قصور أوربا، قد أكثروا فيها من الشبابيك، وركبوا عليها ألواح القزاز وغيرها، وصنعوها بالألوان المفرحة.
مطلب فى بيان
هيئة الأبنية التى كانت بالقطر المصرى قبل
جلوس العزيز محمد علىّ باشا على التخت
ولما رأى أهل الإسكندرية ذلك ونفاسته تركوا ما كانوا عليه من الأوضاع القديمة؛ وذلك أن جميع أبنية القطر كانت بأوضاع وهيآت غير ما هى عليه الآن، فكانت المنازل العظيمة مشتملة على دور أرضى، وفوقه دور أو دوران ببناء بارز عن سمت الدور الأرضى بمقادير مختلفة من ذراع إلى ثلاثة أذرع، ولها متكآت ودعائم من الأحجار والأخشاب، ولا يجعلون فيها شبابيك ولا يستعملون القزاز؛ لقلة وجوده فى الديار المصرية حينئذ بسبب قلة توارد البضائع الخارجية فى تلك الأزمان، وإنما يجعلون فيها مشربيات من الخرط، ثابتة فى البنيان، ذات خروق ما بين صغيرة وكبيرة، وبتلك المشربيات طاقات صغيرة مطلة على الحارات، لها أبواب من الخشب تقفل وتفتح على حسب الحاجة، وكانوا يتنافسون فى ذلك ويصرفون فيه مصاريف جسيمة، ومنهم من ينقشها نقشا نفيسا مع أنها كانت لا تقى من الحر ولا من البرد ولا من الأتربة، بل كانت فى الصيف عرضة للرياح الحارة والأتربة الثائرة، وفى الشتاء عرضة للبرد والمطر، وربما ألصقوا بتلك المشربيات فى زمن الشتاء أوراقا فيتسبب عن ذلك امتناع الهواء عن المرور فى المساكن، فتتولد من احتباسه عفونات ربما أضرت بأبدانهم وأبصارهم، خصوصا/الفقراء الذين لا اعتناء لهم بشأن النظافة.
ومع أن هذه الأوضاع الجديدة، ربما كانت مع نفاستها وجلبها لأسباب الصحة أقل كلفة ومصرفا من تلك الأوضاع القديمة، فلذلك تجد أبنية إسكندرية الآن، وغيرها من جميع مدن القطر، غالبها من الأوضاع الجديدة تضاهى الأوضاع الأورباوية، بصور حسنة، وشوارع معتدلة متسعة، محفوفة من الجانبين بشبابيك القزاز وغيرها.
وكانت منازل تلك المدينة جميعها، قبل جلوس المرحوم محمد على باشا على تخت ديار مصر، ما بين المينا الشرقية والغربية فى أرض تعرف بالجزيرة، فى مقابلة رأس التين خارج السور البحرى، وجميع الأرض المحددة بشارع أبى وردة، قبلى عمارة صفر باشا وعمارة شرين باشا، إلى أبى العباس وإلى رأس التين، كان بعضها مدافن للموتى وبعضها نقعا، ولم يكن بها مساكن سوى بعض بيوت للصيادين ذات أبنية خفيفة كانت بالجهة المعروفة بالسيالة، وكان يتوصل من هناك إلى برج قائد بيك وطابية الأضا، فكان حد تلك المدينة، قبل ذلك من الجهة القبلية، الحارة المعروفة بحارة المغاربة قريبا من المكان المسمى الآن بميدان محمد على.
وكان فى خلال البلد فضاء وتلول، واستمر ذلك إلى سنة 1252 هجرية، ثم أذن للأهالى فى الفضاء، الذى بين رأس التين وشارع أبى وردة وأبى العباس، فبنوا فيه قصورا ومنازل، وفى ذاك الوقت كان مجلس التنظيم تحت رياسة الخواجة (توسيس) وكان متشكلا من بعض التجار والمهندس (منشنى) وهو الذى رسم خرطة إسكندرية التى عليها العمل الآن.
وكان ما بين الأسوار خاليا من الأبنية، ليس فيه إلا الصهاريج، وأربعة كفور مسكونة بخدمة البساتين التى بداخل تلك الأسوار، وبرجال القلاع والأبراج:
أحد تلك الكفور، عن شمال الداخل من باب شرقى.
والثانى: فوق كوم الديماس.
والثالث: قرب باب سدرة، وهو باب عمود السوارى.
والرابع هو المعروف الآن بالنجع، وهو قريب من باب المحمودية.
ولما كثرت الرغبة فى العمارات، وتزاحم الناس على البناء فى أرض الجزيرة، صدر أمر الداورى المفخم، بتقسيم ما بين الأسوار على الراغبين.
مطلب فى تاريخ فتح الشارع الأخضر
المار من شرقى الإسبتالية إلى المحمودية
وفى سنة 1260 هجرية، فتح شارع الباب الأخضر المار من شرقى الإسبتالية إلى المحمودية، وهدمت لأجله جملة من المساكن. ومن المحاسن التى أخذ التنظيم فيها حقه الشارع العمومى، والمنشية المشاهدة الآن بين باب رشيد ورأس التين.
فأما المنشية وبعض الشارع فكان فضاء، وأما بعضه الآخر فكان منازل اشتريت من أربابها، وكان فى محل المنشية سوق تنزل فيه العرب لبيع الأغنام والتمر السيوى، والحطب، والصوف والسمن وغير ذلك، وكان يعرف بكوم الحلة، وحدّه الشرقى الوكالة المحروقة، والبحرى وكالة المراكشى، ووكالة الجمال المبرية، ووكالة الصوف، ومنزل الشيخ إبراهيم باشا والمنقعى.
ومن هذه الأماكن إلى جهة الجنوب كان فضاء وبعض بساتين. وأوّل ما أنشئ بالمنشية جامع الشيخ إبراهيم باشا، ووكالة محرم بيك التى تحتها الآن خان شاكولانى، ثم بنى منزل ضانستاظى، ومنزل جبارة، وهو الآن فى ملك الخديوى، وأما سوق الخضار والجزارين-الآن-فهو محل حارة الجمال سابقا، فرّقه العزيز على بعض الأمراء، فبنوا فيه تلك الأبنية والحوانيت الموجودة الآن.
وأما مقابر الموتى، فكانت داخل البلد خلال المساكن، فكان يتصاعد منها روائح كريهة، فنهى العزيز عن الدفن، فيها وأمر بجعل القبور خارج المدينة بعيدا عنها.
وهكذا كانت عادته فى جلب كل ما فيه نفع، ودفع كل ما فيه ضرر، فكان-عليه سحائب الرحمة-لا يشغله بعض المصالح عن بعض، ولا تتعطل فكرته فى أمر مّا، ولم يسمع بمثله فى عصره فى اتساع دائرة أفكاره وإصابة أنظاره، ولذلك لما تراكمت عليه
الحوادث فى مبدأ الأمر، إذ كانت المماليك مستولية على القطر بصورة غير مرضية، وكان الفساد قائما فى جميع بلاد القطر، بالقتل والنهب وقطع الطريق، وغير ذلك، مما أوجب اضمحلال الديار المصرية، وجه همته العلية إلى ذلك كله، وأعمل فكرته وبذل جده واجتهاده فيما يزيل به تلك الحوادث: فمنها ما استعمل فيه الرفق واللين، ومنها ما استعمل فيه بذل الأموال، ومنها ما استعمل فيه القهر والغلبة والسيف، حتى تمكن من جميع أغراضه، وأمن البلاد وخلص العباد من ربقة الإسترقاق، وأجلى المماليك بالكلية من الديار المصرية:
فمنهم من قتل، ومنهم من أخرج منها حيا، ومنهم من أبقاه بها ضعيفا ذليلا.
مطلب القوة العسكرية
واحتفل من يومئذ بجلب شبان الأهالى من جميع بلاد القطر، ورتبهم عساكر حربية بحرية وبرية، وجعلهم أصنافا مختلفة، بتنظيمات وتعليمات مفيدة.
وهكذا لم يزل الأمر آخذا فى الازدياد حتى بلغت العساكر البرية المصرية سنة 1839 ميلادية هكذا:
ألاى غارديا فى حمص 1372
ألاى طوبجية فى الإسكندرية 2349
أربع بلوكات طوبجية متفرقة فى عكا 337
أورطة طوبجية فى الحجاز 379
ألايات بيادة غارديا 8128
ألاى ثانى طوبجية بيادة 1949
ألاى طوبجية سوارى فى حمص 982
ألاى سوارى غارديا 796
ألاى زرخ 844
ومجموع عساكر تلك الألايات 17136
عساكر البيادة
35\ ألاى بيادة ومجموع عساكرهم\90495
15\ألاى سوارى ومجموع عساكرهم\10114
4\أورط إمدادية فى القاهرة\3980
2\ألاى بلطجية فى عكا\812
1\أورطة مهندسين فى عدليب\758
1\بلوك لفمجية فى القاهرة\94
1\أورطة بلطجية فى الإسكندرية\308
16\بلوك موزعة فى الأقاليم\1671
عساكر خفر بالقاهرة 285
عساكر جبهجية بمصر القديمة 185
1\ألاى سر عسكر 1152
1\أورطة إمدادية بطرابلس\1641
1\أورطة بدنجلة\855
وفى بلاد الحجاز:2 بلوكات من الإمدادية 200،
1\بلوك بالقربان\106.
ومجموع العساكر المنتظمة الموجودة تحت السلاح خلاف الرديف
على ما ذكره كلوت بك فى تاريخه لمصر 130302
ومجموع العساكر الباش بوزوك 41678
العرب وعساكر الرديف فى مصر وإسكندرية ودمياط ورشيد ومصر القديمة وبولاق 47800
ومدرسة الطوبجية والسوارى والبيادة والبحرية 1200
وهذا بخلاف الورشجية وقدرهم 15000
ومجموع ذلك 235980
وبناء على ذلك تكون القوة العسكرية المصرية، منتظمة وغير منتظمة كما ترى:
عساكر منتظمة 130302
عساكر غير منتظمة 41678
الرديف 47800
رجال الورش 15000
تلامذة المدارس الحربية 1200
مجموع العساكر المصرية البرية 235980
الدوننمة المصرية 19529
دوننمة الدولة العلية التى استولى عليها العزيز-كما سيأتى 21107
ومجموعهما 40636
فإذا ضمتا إلى العساكر البرية وهى 235980
كان الجميع 276616
وبيان منصرف العساكر البرية سنة 1833، على ما ذكره كلوت بك:
منصرف المدارس العسكرية فرنك 200،000
منصرف العساكر البرية المنتظمة 15،000،000
ماهيات الذوات ورؤساء المصالح 5،000،000
ماهيات الخيالة الباش بزوك 812،000
ماهيات العرب 650،000
مصروف المهمات البحرية 1،750،000
مرتبات الخيول والبغال والجمال 312،000
يكون مصروف العساكر البرية 23،724،000
وتقدم أن مصروف العساكر البحرية والمينيين 9،787،500
يكون مصروف جميع القوة العسكرية 33،511،500
ومع ذلك كانت له التفاتة تامة لعمل الاستحكامات اللازمة، حتى أحضر لها من الممالك الفرنساوية، موسيو (حليس) أحد المهندسين الحربيين المهرة، ورقاه إلى رتبة البيكوية، فلما حضر أخذ فى اختبار الأرض من جميع نواحى المدينة وضواحيها وجميع السواحل المصرية، ثم عين مواضع الاستحكامات والحصون اللازمة، فأسست على ما هى عليه الآن، وأحضر لها المدافع والآلات اللازمة، ورتبت لها العساكر الكافية والمعلمون بالقوانين المقررة المدوّنة، فتحصنت بذلك الديار المصرية وازدادت قوّتها أضعافا، حتى قاومت الدولة العلية، بل انتصرت العساكر المصرية على العساكر/التركية مرارا فى وقعات سارت بها أوراق الحوادث، وتخلدت فى الدفاتر والتواريخ عند جميع الملل، بل فى بعض
الرقعات قد استولى العزيز على دوننمة الدولة العلية، ودخلت تحت طاعته، وكانت إذ ذاك تحت قيادة أحمد باشا فوزى، وكانت عدد سفنها ورجالها ما هو مذكور فى هذا الجدول:
عدد رجالها
9\ مراكب كبيرة\9443
11\فرقطين\6040
5\لريتيات\624
وهذا خلاف ألايين عساكر قدرهم 5000
ليكون 21107
فإذا ضممتها إلى الدوننمة المصرية يكون الجميع 40636، فإذا ضم الجميع إلى العساكر البرية المتقدم بيانها 235980 كان الجميع 276616.
وكل ذلك قد تجدد فى الديار المصرية فى مدة يسيرة بعد جلوس العزيز على تختها، فاكتسبت بذلك قوة يمكنها أن تقاوم بها من عداها من الدول، ولذلك اضطروا إلى معاهدة الدولة العلية ليأمنوا بذلك من صولة الديار المصرية.
مطلب أول دخول الفرنساوية فى الإسكندرية
وإنما ذكرنا هنا ما يتعلق بالقوة العسكرية لتعرف أنها كغيرها من غرس فكرة العزيز وسعة دائرة عقله وعلوّ همته، ويظهر لك الفرق بين الحالة التى انتقلت إليها الديار المصرية فى أيامه، من العمران والثروة والقوّة حتى رجعت إلى حالتها الأولى، التى كانت عليها زمن البطالسة ومؤسسها الذى تسمت باسمه وبين الحالة التى كانت عليها قبيل جلوس هذا العزيز
على تختها، فإنها كانت فى غاية من الضعف وقلة من العدد والعدد، حتى أن فئة قليلة من الإفرنج استولت عليها فى ثمانية وعشرين يوما، لرخاوة حكامها وقتئذ وذلك أنه حين استيلاء الفرنسيس على جزيرة مالطة، كما نقل عن كلوت بك، كان موسيو (روسيتى) قنصلا للدولة النمساوية وغيرها بالديار المصرية فتوجه إلى مراد بيك، حاكم مصر إذ ذاك، وأخبره أن الفرنساوية استولوا على جزيرة مالطة ولا يبعد أن يقصدوا الديار المصرية، فلم يعبأ بخبره بل استهزأ وقال: كيف نخاف من هؤلاء الرعاع الذين لا فرق بينهم وبين الواقفين على أبوابنا؟ وإن فرض وصولهم لأرضنا فمماليك الخزنة وحدهم يكفوننا المؤنة ويقطعون دابرهم، فحاول القنصل (روسيتى) صرفه عن هذا الرأى فلم يزدد إلا استهزاء وسخرية، ثم أمر بإرسال قنطارين من البارود إلى الإسكندرية احتياطا.
فلم يمض إلا القليل حتى جاء الفرنسيس فدخلوها، فلما بلغه ذلك أمر بإحضار مسيو (روسيتى) وطلب منه أن يكتب من عنده للفرنسيس بالخروج من هذه الديار، فقال له (روسيتى): هم لم يحضروا إليها بإذنى حتى يخرجوا منها بإذنى، فإن كان ولا بد فارسل إليهم مع المكتوب خمسين ألف فرنك حتى يرتحلوا.
فانظر كيف كان حال أمراء تلك الأيام، وعدم استعمالهم للحزم والتدبير بالنسبة إلى ذلك العزيز، الذى قمع الأشرار وحمى هذه الديار، وجيّش الجيوش ووجههم إلى الأقطار الخارجية مثل جزيرة موره وجزيرة العرب، وأرض السودان، أليس ذلك باعثا لجميع أهل الديار المصرية على إدامة الدعاء له: بتخليد دولته ودولة أنجاله؟.
وكان مما مّن الله به عليه، أنه لا يقتصر على الأعمال الكبيرة، بل كانت جميع موجبات الثروة والتقدم تشغل فكره، فإنه أحدث فى البلاد طرقا متسعة وشوارع معتدلة، وجعل قوانين لتنظيم المبانى-سيما الإسكندرية-فإنه فتح بها عدة شوارع متسعة، وبنى باب رشيد للمرور بحارة النصارى ومحلات التجار لأغراض حسنة، وفى خارجها عدل طرقا كثيرة، وغرس بجوانبها أشجارا على أوضاع فائقة.
مطلب عدد بيوت التجارة التى أنشئت
بالإسكندرية فى عهد العزيز محمد على
وكان له التفاتات تامة إلى ما يوجب رواج الفلاحة وأنواع الصنائع والمتاجر، حتى تجدد فى عهده بيوت كثيرة تجارية لأهل الوطن وغيرهم، فإن العلائق التجارية صارت مرتبطة بهمته مع سائر الدول، فنشأ بالإسكندرية تسعة بيوت للفرنساوية، وسبعة للإنكليز، وتسعة للنمساوية، وثمانية لأهل بلاد التسكار، وبيتان للسردينيا، وواحد لبلاد سويد، وواحد للهند، وواحد لبروسيا، وستة لعمد تجارة الأهالى.
وكذلك حدثت مراكز كثيرة بالقاهرة وغيرها من المدن والبنادر، ومن ذلك احتفاله بأمر الزراعة الصيفية وغيرها، سيما زراعة القطن، فإنها سبب كبير فى زيادة ثروة الأهالى.
ومن أكبر دواعى الاكتساب، الباعثة على بذل الهمة فى تحصيل الحرف والصنائع، فتح باب تغيير الهيآت فى الأبنية والملابس والرفاهية، فإنها فتحت/بابا للمصرف كان مقفلا من قبل.
وبالجملة، فمحاسن العائلة المحمدية لا تحصى، وعوائد فوائدها لا تستقصى.
فمنها تربية أولاد الوطن بالمكاتب والمدارس، والسعى فى كل ما فيه للرعية فائدة، كعمل الترع والخلجان والجسور، حتى اتسعت أرض الزراعة وصلح زرعها، وكثرت العلوم والمعارف فى أولاد الوطن الذين تربوا تحت ظله، وحفهم بعنايته حتى قاموا بمصالح القطر، واستغنى بهم عن غيرهم، كما هو جل قصده بتلك الغراسة، فهم غرس فكرته وأولاد نعمته، وكل ذلك مما يحمل أبناء الوطن على إدامة الدعاء له ولأنجاله حيث اقتفوا أثره فى آرائه وأفعاله.
مطلب ما كان يتحصل من الجمارك
ولنورد لك بيان قدر ما كان يتحصل من جمرك الإسكندرية وغيرها، من الثغور المصرية، فى مبدأ أخذ العزيز بزمام أحكام تلك الديار، ثم ما كان يتحصل فى آخر أيامه السعيدة، لتعلم ما حصل بهمته لهذا الفرع، وتقيس عليه غيره من باقى فروع الثروة فى الديار المصرية فنقول:
كانت محلات الجمرك فى تلك الديار فى زمن المماليك والفرنساوية هى: القصير، ومصر القديمة، والقاهرة، وبولاق، والسويس، ودمياط، ورشيد، والإسكندرية.
فأما جمرك القصير فكان متروكا لحكام الجهات القبلية، وأما جمرك باقى الجهات فكان بين إبراهيم بيك ومراد بيك، وبقى الأمر على ذلك مدة، ثم بعد ذلك اقتسما تلك الجهات خوفا من حصول النزاع بينهما، فاختص مراد بيك بجمرك القاهرة، وبولاق، ومصر القديمة، ورشيد، ودمياط، والإسكندرية، وأما إبراهيم بيك فاختص بجمرك السويس فقط، وكان يجعل من طرفه عمالا يحصلون الجمرك، بخلاف مراد بيك فإنه أعطى جمارك الثغور الأربعة التى خصته لأربعة من الملتزمين، وجعل على كل منهم شيئا معينا يؤدّيه إليه فى أوقاته. والملتزمون جعلوا من تحتهم عمالا وكتبة فى كل ثغر، على حسب الوارد قلة وكثرة، فكان فى ثغر دمياط ثمانية من الكتبة وخمسون من العمال، وفى رشيد ثلاثة من الكتبة وعشرون عاملا، وفى الإسكندرية اثنا عشر كاتبا وستون عاملا، وفى بولاق ومصر القديمة ستة من الكتبة وأربعون عاملا، فالجملة تسعة وعشرون كاتبا ومائة وسبعة وستون عاملا، وكانت مرتباتهم تدفع لهم من طرف الملتزمين فى كل سنة على هذا الوجه:
بولاق 2400 ريالا بطاقة، دمياط 4000، رشيد 1000، إسكندرية 4000، منها مربوط الكاتب كل يوم من 60 إلى 300 نصف فضة، ومربوطه كل سنة 370 بطاقة، يكون مرتب هذه الوظيفة كل سنة 21،170، ومربوط العامل كل يوم 45 نصف فضة، مربوطه كل سنة 182،5 بطاقة، ومرتب الجميع فى السنة 31025، فيكون مرتب المصلحة فى السنة 65595 بطاقة.
وكان مرتب الالتزام الذى يدفع إلى مراد بيك فى كل شهر 21000، وفى كل سنة 25200، فيكون الجميع 315595.
ولا يخلو الحال، على حسب العادة، من تداخل الخدمة والكتبة فى الجمرك بالاختلاس وإخفاء بعض المتحصل، فيصل المبلغ تقريبا إلى 480000 بطاقة، يكون ما يخص الشهر 40000 بطاقة، وهذا ما كان يدفع من طرف الملتزمين-وقت دخول الفرنساوية-إلى مراد بيك فى التزام الثغور الأربعة.
وحيث أن المنصرف للخدمة من طرف الملتزم يقرب من الثمن، فإن فرض أن ما كان يصرفه فى الهدايا والرشا مثل ذلك أيضا، يكون المنصرف من طرفه كل سنة 120000، يضاف إليه مرتب الالتزام 252000، فيكون الجميع 372000، ويكون الباقى من 480000 هو 108000، وهو أرباح الملتزم بعد المصاريف، وهذا المبلغ يعادل 334000 فرنك تقريبا.
وأما المتحصل من جمرك السويس فهو 409365 بطاقة، وهو قريب من المتحصل من الثغور الأربعة المذكورة، وبالضرورة هو لا يحتاج لمصرف قدر ما تحتاجه الثغور الأربعة من ماهيات الكتبة والعمال، ولذلك كانت أرباح إبراهيم بيك تزيد كثيرا عن أرباح مراد بيك.
وبناء على هذا الذى تبين لك، يمكن تقدير جمرك الديار المصرية على هذا الوجه المشروح كما ترى: الثغور الأربعة 480000، السويس 409365، القصير 110655، الجملة 1000020 وهو عبارة عن ثلاثة ملايين فرنك، من ضمنها جميع المصاريف وأرباح الملتزمين.
وقد علم من الكشف المبين للمتحصل من هذا الفرع، زمن الحكومة الفرنساوية، أن متحصل جمرك الإسكندرية من ابتداء سنة 1201 هجرية إلى سنة 1210، يعنى فى مدة عشر سنين، هو 1376098 بطاقة، ومجموع المصاريف فى هذه المدة هو 34404، فالباقى لجهة الخزينة بعد المصاريف هو 1035694 بطاقة، فينتج أن المتحصل السنوى هو 322872 فرنك، وهو عبارة عن ستة عشر ألف بينتو وكسور، هى متحصل جمرك الإسكندرية فى سنة 1210 هجرية، وبالضرورة هو الذى كان يتحصل حين جلوس/العزيز على تخت الديار المصرية، وكان الريال البطاقة-إذ ذاك-عبارة عن تسعين نصف فضة، وكان القرش ثلاثين نصف فضة.
وبعد أن تمهدت الأمور، وانتظمت الأحوال، زاد المتحصل أضعافا حتى بلغ بعد انعقاد الصلح سنة 1841 ميلادية قريبا من ثلثمائة ألف جنية، أعنى نحوا من تسعة عشر ضعفا مما كان أوّلا، وما ذاك إلا من تدبير العزيز واتساع دائرة الأمنية، التى أوجبت اتساع دائرة التجارة، وكثرة توارد الأغراب بمحصولات الأقطار الخارجية.
ومن أعظم أسباب ذلك، ما حصل من مساعدة الفلاحين على فلاحة الأراضى، مع إجراء الطرق المصلحة للأرض كالترع والجسور، فازدادت محصولات الزراعة، واتسعت الأرض الصالحة لها حتى زادت المحصولات عن كفاية القطر، وانتفعت الأهالى ببيع الزائد لأهل الأقطار الخارجية، فأورثهم ذلك رفاهية وتحسينا للهيئات والمساكن والركائب، وراجت التجارات الداخلية والخارجية، كما يعلم ذلك من الجدول الآتى، الدال على قيم المحصولات الواردة على الديار المصرية، من ثغر الإسكندرية، والمحصولات الخارجة عنها إلى الديار الأوروباوية وغيرها من ابتداء سنة 1823 إلى 1842 ميلادية
وهذا هو الجدول
سنة ميلادية
قيمة الوارد بالقرش
قيمة الصادر بالقرش
1823
80451975
158476460
1824
119520975
243167750
1825
000000000
115566430
1826
000000000
80855910
1827
000000000
85383400
1828
000000000
30159150
0000
0000
000000000
1834
82454025
85806185
1835
102411945
136702260
1836
130138430
176207080
1837
000000000
000000000
1838
380000000
000000000
1839
303000000
000000000
1840
000000000
000000000
1841
170612000
154080000
1842
247092000
180688000
فمن هذا الجدول يعلم أن حركة التجارة، من ابتداء استيلاء العزيز على تلك الديار، كانت كل سنة فى ازدياد، وفى مدة تسع عشرة سنة تضاعف الصادر والوارد جدا، وبعد أن بلغت قيمة الصادر والوارد فى سنة 1823 ميلادية 238928435 قرشا صاغا، وهو قريب من أربعمائة وثمانين ألف كيسة، صارت تبلغ فى سنة 1842 ميلادية 427780000، وهو قريب من ثمانمائة وستين ألف كيسة، وهذا أدل دليل على علوّ همته وسعيه فى مصالح الرعية، فكان-عليه الرحمة-رحمة عامة لهذا القطر.
الكلام على الإسكندرية فى زمن العزيز إبراهيم باشا
لم تزل هذه المدينة حين جلوس العزيز إبراهيم باشا على تخت الديار المصرية، آخذة فى السير فى طرق التقدمات والشهرة والقوة، بسبب ما جدّده ورسمه فيها والده العزيز محمد على باشا من المحاسن التى تقدم ذكر بعضها، فلما جلس هذا العزيز على كرسيها زاد فرحها وابتهاجها، لما كانت تؤمله فيه من بلوغها على يديه أوج السعادة وتمام الشهرة اللذين مهدهما لها بحروبه ونصراته، ومعاناته للشدائد من شبيبته إلى مشيبه، حتى حصلت على يديه فتوحات كثيرة، واكتسب هذا القطر بسببه هيبة عند جميع الممالك، فهو فى الحقيقة مشارك للمؤسس الأصلى فى تقدم هذه الديار، وإن كانت مدّة حكمه قصيرة لا تزيد على سبعة أشهر، فإنه- عليه سحائب الرحمة-تولى هذه الديار بطريق الوكالة عن والده فى ربيع الآخر سنة 1264، وفى رمضان من تلك السنة توجه إلى الآستانة، فخلع عليه الملك فرمان الأصالة ورجع مستوليا/على التخت، وقد اشتغل بمجرد استيلائه بأمور مهمة فى إسكندرية وغيرها، ذات منافع عمومية من ضمنها: تكميل طوابى إسكندرية واستحكاماتها على الوجه الذى أسست عليه فى عهد العزيز والده، وشحنها بالعسكر والأسلحة والآلات.
ومرّ بالساحل من إسكندرية إلى رشيد، ثم إلى دمياط واستكشفه بنفسه، ورتب لبغازى رشيد ودمياط، بمعرفة جليس بيك، جميع ما يلزم لحفظ الثغور من الطوابى والآلات والعساكر، وهكذا استحكامات القناطر الخيرية، وترعتى العطف وأبى حماد، وبرنبال، والعريش، والسويس، والقصير وما يلزم لحفظ الآبار والعيون التى بطرق تلك الجهات، وأمر فى ثغر إسكندرية بإنشاء مائتين وخمسين شولو باطوبجية، كل واحدة تحمل مدفعين لحفظ البغازات والملاحات، وكان عازما على تخطيط سكة تبتدئ من إسكندرية وتمر بناحية أبى قير وتستمر إلى رشيد، ليسهل السير على العساكر والمهمات عند الحاجة، وعلى ترتيب ضابطان أركان حرب.
وكان له التفاتة تامة لتنظيم القوّة العسكرية، فجدد أورط المهندسين الحربية والكبورجية، وأحضر لذلك رجالا من الدولة الفرنساوية، فكان هو أول مؤسس لهذا الأمر المهم؛ فإن الجيوش لا تستغنى عن ذلك عند سيرها داخل القطر وخارجه، لتعدية البحور والأنهار والخلجان، سيّما عند مزاحمة العدوّ.
وكان موجها همته لتحصيل ما به التربية العامة والأسباب الصحية، وسلك ذلك بالفعل فى سلك التنظيم، من جملة أعمال خيرية لجميع الوطن، لكن لم تمهله الأيام حتى يتم ما شرع فيه وما عزم عليه، وتوفى إلى رحمة الله تعالى فى شهر ذى الحجة سنة 1264 هلالية، عوّض الله أبناء الوطن فيه خيرا، فمدة جلوسه على التخت وإن كانت قليلة فى الحس. لكنها كثيرة فى المعنى، بما نالته إسكندرية وغيرها من آثار همته، ولو طالت به الأيام لنالت على يديه ما كانت تؤمله وزيادة، ولكن قد عوضنا الله تعالى أضعاف ما فاتنا منه، بأن أوجد لنا من ولده لصلبه، حضرة الجناب الخديوى إسماعيل باشا، فقد حصل لنا على يديه ما أزال أسفنا وحزننا، فإنا بحول الله وقوّته وعناية هذا الجناب، فضلا عن حوزنا لجميع ما قصده المؤسس الأصلى، قد وصلنا الآن إلى درجة من التقدم لم تكن لدولة من الدول المشرقية، ولا يبعد أنّا نناظر بها الدولة الأوروباوية، فإنه بأرض مصر الآن جميع نتائج الاختراعات النافعة العلمية والعملية المستعملة على الوجه الأرجح فى تنمية الأرزاق، وما من أحد من أهل القطر والطارئين إلا وقد أخذ بحظ من ذلك، وكلهم شاهدون له مثنون عليه وعلى آبائه وأبنائه.
*********
الكلام على الإسكندرية فى زمن المرحوم عباس باشا
كان جلوسه-رحمه الله-على تخت الديار المصرية فى سنة 1264 هجرية، ومن ذاك الحين إلى أن توفى إلى رحمة الله تعالى، لم يغير السير السياسى-الذى كان رسمه جده وعمه من قبله-لسياسة هذه الديار، بل سار فى هذا الطريق بقلبه وقالبه، لأنه كان لا يرى وجها للعدول عنه إلى غيره؛ لما اشتمل عليه المنافع والفوائد الجمة للقطر وأهله.
وقد نشأ عن هذا السير، التقدم فى التجارة والثروة فى الإسكندرية وغيرها من بلاد القطر، ومن محافظته على القوانين الموضوعة لرواج الفلاحة نما محصولها، ومن جودته كثرت الرغبة فى الفلاحة حتى من الأمراء والأعيان، فزرعت أراضى كثيرة من الأراضى المتروكة، واتسع زمام القطر ودائرة الرزق، وسرى بشير الثروة فى نواحى القطر، فعم القاصى والدانى، وكان-رحمه الله-لا يكثر من الإقامة بالإسكندرية، إلا أنه كان مهتما بشأنها، لما كان يعلمه من أهميتها وعظم موقعها من هذا القطر، فشملها بعنايته واجتهد فى تتميم ما شرع فيه زمن جده وعمه، رحمهما الله تعالى، وبنى برأس التين سراية أعدّها لإقامة مجلس التجار، وصمم على عمل خمسة ميادين فيها لتكون فى زمن الهدنة محلا للتفسح والألعاب، وفى زمن الحرب مجتمعا للعساكر لتوجيهها إلى محل اقتضائها، وصدرت أوامره بفتح شارع مستقيم يقسم مدينة الإسكندرية نصفين، من باب شرق إلى باب المحمودية، على أن يكون هو الشارع العمومى، واشترى جميع ما بجانبه من الأملاك، وفتح منه بالفعل جزءا عظيما من باب شرق إلى جنينة (جرجس حزام) وبعد وفاته صرف عنه النظر، فأنعم به المرحوم سعيد باشا على الأهالى، فبنوا به المنازل والخانات المشهورة الآن، وجدد فى المنشية عمارة جسيمة، فى محل سبيل قديم من زمن العرب، وكانت هذه العمارة تعرف بالإلهامية نسبة إلى ابنه إلهامى
باشا، فلما توفى إلهامى بيعت من ضمن متروكاته بخمسين ألف جنيه سوى التى اشتراها التاجر (أنطونيادس) الرومى وهى على ملكه إلى الآن، واعتنى اعتناء زائدا بتنظيم القوّة العسكرية، فأدخل فى ترتيب الألايات نوع تغيرات، منها: أنه جعل الألاى الواحد خمسة آلاف عسكرى/أعنى قدر ألايين مما كان قبل، ونظم العساكر الهجانة، وأورطتين مهندسين، وكان تعليمهم بواسطة الصف ضابطان، الذين كان طلبهم المرحوم إبراهيم باشا من بلاد فرانسا لهذا الغرض. فحضروا ومعهم جميع الآلات والأدوات، وأنشئت بمعرفتهم ستون مركبا لتعليمهم كيفية تعدية الأنهار والخلجان، وكيفية عمل الألغام والحيل العسكرية فنشأ من ذلك ما انتفع به القطر.
ومن ضمن الضابطان (موتى بيك) رئيس الاستحكامات زمن المرحوم سعيد باشا و (ديبرنرزى بيك) و (مجاكية باش) مأمور ورشة الحوض المرصود، وكانت رتبته باشجاويش.
وكان مما وجه همته إليه-زيادة على غيره-تتميم الاستحكامات والطوابى والقلاع، طبق ما رسمه رئيس هندسة الاستحكامات (جليس بيك)، ووافقه عليه ذو الدراية والخبرة وأقره الخديوى، فأقام معظم حصونها وأضاف إليها بعض حصون رأى أهميتها فأدخلها فى النقط المهمة، ومن ذلك: قلعة مقابر اليهود، وقلعة أبى قير، وقلعة العجمى، مع إنشاء مبان ملحقة بتلك القلاع للوازمها، فأنشأ فى قلعة مقابر اليهود جبخانة جسيمة تسع تسعة آلاف قنطار من البارود، وهى إلى الآن مستعملة فى حفظ البارود.
وعمل فى قلعة أبى قير مخبزا وطواحين تدور بالهواء، وإسبتاليا لمرضى العساكر المقيمين بهذه القلعة وما جاورها من القلاع، فكانت العساكر المقيمة فى تلك الجهات لا تحتاج لشئ يأتى من الخارج.
ولم يزل ملتفتا إلى الاستحكامات والقلاع والحصون، عازما على إتمامها، فيلحق بها ما يلزم من الورش والبطاريات الطوبجية وقشلاقات العساكر المحافظين، والإسبتاليات وغير ذلك، حتى انتظم أكثر القلاع التى كان جده وعمه مهتمين بها، وبنيت ورشة للطوبجية فى وسط المدينة فى شرقى المحل المعروف بكوم الناضورة، طولها مائتا مترفى مثلها عرضا، مشتملة على جميع محلات التشغيل: كمحلات النجارة، والحدادة، والبرادة، والسبك، وغير ذلك كالمخازن، وجلب لها جميع آلات التشغيل والعمال والمعلمين، فصارت من أحسن ما يعمل من هذا القبيل، وعمل بها عدة بطاريات، يعمر بها كثير من آلات السواحل وغيرها، ثم أبطلها المرحوم سعيد باشا، وأمر ببيع أرضها للأهالى، فبنيت منازل وغير ذلك، ومن ضمنها الآن: حمام هلندى.
وأنشئت القشلاقات داخل الطوابى فمن ذلك: قشلاق فى طابية الأداء لإقامة خمسمائة عسكرى، وقشلاق فى قلعة أم كبيبة كذلك، وقشلاق فوق باب الصورى المعروف بباب محرم بيك لإقامة أورطة من العساكر.
ولما أنشئت سكة الحديد الواصلة إلى الرمل مرت فى وسط القشلاق فقسمته نصفين والآن به عساكر محافظة الضبطية، وبنى الاسبتاليا الملكية فى حوش مقابر اليهود بجوار المسلة المعروفة بمسلة كيلوبترا، ووفّاها جميع لوازمها من مفروشات وملبوسات وأدوية وآلات، وجعل بها أجزاخانة وبيتا لتركيب الأدوية، ونوّع محلاتها بحسب أنواع الأمراض والعلل، ورتّب لها حكماء وجراحجية فجاءت من أحسن الإسبتاليات، وحصل بها النفع العام، وصار يدخلها الأهالى والغرباء للتداوى بدون مقابل، واستمرت على ذلك حتى هدمتها سكة حديد الرمل أيضا، والآن عمل من فيض المكارم الخديوية إسبتاليا عوضا عنها فى محل قريب منها.
مطلب استكشاف عن السواحل
ولأجل الوقوف على ما اشتملت عليه الأراضى المجاورة لثغر الإسكندرية، أمر باستكشاف ما حوله حيث كان لذلك دخل فى المحافظة، فكشف سواحل البحر من الإسكندرية إلى العريش ومنها إلى مطروح، وكشف بحيرة مريوط إلى حدود المزارع من مديرية البحيرة، وإلى حدود الأرض المرتفعة من جهة وادى النطرون وسيوة، وجميع الجزائر التى بالبحيرة، وعمل لكل ذلك رسوم، وظهرت الآبار والسواقى القديمة-المكشوفة وغيرها-والآثار والرؤوس، والمين، والمرتفع والمنخفض من الأرض، والطرق التى كانت تصل إلى الإسكندرية من كل جهة.
واهتم أيضا بكشف الصهاريج التى بداخل الإسكندرية وخارجها، وما تشتمل عليه، وقدر ما تسعه من الماء والمجارى التى توصل الماء إليها، وصار التنبيه على أصحاب الأملاك أن لا يتلفوا شيئا من ذلك ولا يتصرفوا فيه، وجعل لذلك قوانين معمولا بها إلى الآن، وكانت قد بطلت مدة فنشأ عن بطلانها تصرف أصحاب الأملاك فى كثير منها بالنقض والهدم.
وحيث كان الماء من أهم لوازم المينا، ولا يستغنى عنه زمنا ما، لا سيما لو فرض حصول محاصرة تقطع ماء المحمودية عن الثغر، صدرت أوامره السنية بعدم التعرض للصهاريج بوجه ما، والرجوع إلى تلك القوانين، فامتنع الناس من هدمها، ولا يخفى أهمية ذلك فإن تلك الصهاريج مبنية من قرون عديدة ولا شك أنها صرفت فيها أموال جسيمة، وهى من الآثار القديمة التى نوه التاريخ بقدرها وأهميتها/بالنسبة لهذه المدينة لبعدها عن النيل، والماء الواصل إليها من الخليج يمر فى وسط بحائر ملحة ومنحطة، وفى أى وقت يمكن صرفه إلى البرارى أو البحر وحرمان المدينة منه، فيقع أهلها فى الضرر، وتفارقها العمارية مع أنها مفتاح القطر، فلم يكن أهم مما يوصل إلى عماريتها وراحة أهلها.
ومن ذلك كشف المسالك الموصلة إليها، ومعرفة ما اشتملت عليه تلك الطرق مما هو من لوازم الحياة: كالمياه العذبة، والمراعى، وحطب الوقود، وجلب الميرة، ومنع الأعداء، فكل ذلك معرفته مهمة فى وقت السلم لينتفع به عند حصول ضده.
فهذا هو ملحظه-رحمه الله-وملحظ المؤسس الأصلى، وملحظ سر عسكر، جزاهم الله عن الوطن خيرا، ومن هذا الاستكشاف ظهرت ثمرات جمة منها:
عمل سكة عسكرية من طابية القبارى إلى باب العرب لتسهيل مرور العساكر والواردين على المدينة من جهة الغرب ووادى سيوة، وكانوا قبل ذلك يقاسون مشقات زائدة، لعدم انتظام المسالك فكانوا تارة يتبعون فى سيرهم الجبل، وتارة الأرض الغربية مع كثرة الصعود والهبوط المستلزم لطول المسافة وكثرة المشاق.
ومنها: معرفة الحدّ بين قطر مصر وإيالة تونس، وكان قبل ذلك مبهما فزال إبهامه، وعين ما بينه وبين الإسكندرية من المحطات المعروفة عند العرب، يحطون فيها فى أسفارهم، وقد رسم ذلك كله فى خرط الإستحكامات حتى لا تتطرق إليه شبهة فيما بعد.
وقد نشأ من هذا التعيين الجزم بأن المحطة المعروفة بالمطروح، هى حد ما بين الأقطار المصرية وإيالة طرابلس، والمحطة المذكورة مرسى للمراكب على البحر الملح، بينها وبين إسكندرية مسافة مائة وعشرين ميلا إلى جهة بحرى.
وبقى الأمر على ذلك إلى زمن الخديوى، ثم اتضح أن الحد الحقيقى هو ناحية السلوم بحرى إسكندرية بمائتين وخمسة وعشرين ميلا، فبينها وبين المطروح مائة وخمسة أميال.
مطلب بيان المحطات التى بين إسكندرية وإيالة طرابلس
وهذا بيان المحطات المذكورة وبيان أبعادها إلى جهة بحرى بالميل:
فمن أبى صير، وهى قلعة قديمة بها إشارة جديدة إلى المحل المعروف بالعميد، وفيه الآن فنار وضع فى زمن الخديوى 20 ميلا
ومن العميد إلى المحل المعروف باسم سيدى عبد الرحمن، وهو محل قديم خرب 20.
ومن سيدى عبد الرحمن إلى تنوب، وهى قرية قديمة خربة 10.
ومن تنوب إلى المحل المعروف باسم جميمة، وهو مرسى المراكب المعتاد 8
ومن جميمة إلى المحل المعروف باسم أبى جراب، وهو محطة عرب 9.
ومن أبى جراب إلى المحل المعروف برأس العقيلى، وهو محل منقطع 6.
ومن رأس العقيلى إلى المحل المعروف برأس الكناس، وهو مينا لرسوّ المراكب الكبيرة 12
ومن رأس الكناس إلى مطروح، وهو محل اجتماع التجار الواردين من الغرب وبه قبيلة من العرب 35
ومن مطروح إلى محل يعرف بجرجوب، وهو محل خرب 30.
ومن جرجوب إلى السلوم-التى هى الحد بين مصر وإيالة طرابلس 75.
وفى هذه الأيام صار الشروع فى استخراج صنف السفنج من البحر، من ابتداء أبى صير لغاية السلوم، وذلك بمعرفة ملتزم التزمه من الحكومة على شروط مقررة بمدة عشر سنين، أوّلها سنة 1291 هجرية.
ولما كثرت الإفرنج والأغراب فى مدينة الإسكندرية واستوطنوها، واستحوذوا على كثير من الفضاء الذى كان بداخل المدينة وضواحيها، رغبوا فى سكنى الرمل وهى قرية شرقى المدينة، بينها وبين أبى قير، وأكثروا من شراء الأملاك فى هذا المحل لقلة ثمن الأرض هناك إذ ذاك، فتيقظت الحكومة لذلك لما لتلك الجهات من الأهمية، لوقوعها فى المناطق العسكرية الممنوع البناء فيها، فأمرت بضبط ما بيع من هذه الأراضى، وبيان ما بنى وما لم يبن منها، ومنعت التصرف فى أراضى الرمل وغيرها إلا بإذن من الحكومة، وجعلت لذلك قوانين تتبع فى هذه الأمور.
وبسبب قرب الرمل من المدينة واتساعه وطيب هوائه، رغب المرحوم فى إتخاذه معسكرا تجتمع فيه العساكر فى المناورات وغيرها، وأمر بردم الملاحة المجاورة لقرية الرمل لمنع العفونة، وعمل لذلك رسوم وميزانيات، ولكن بموته لم يتم ذلك.
وقد اشترى الإفرنج بالحيلة والخداع كثيرا من تلك الأرض، وشيدت به قصور ومنازل، وغرست فيه بساتين حتى أشبه الآن المدينة كما سنذكره.
مطلب قسمة الفضاء
ولم تكن همته-عليه سحائب الرحمة-قاصرة على الأمور العسكرية، بل كانت أيضا متوجهة إلى ما يوجب رفاهية لأهل ولايته، فقسم الفضاء الذى فى مينا البصل ومينا الشراقوة بين أهل المدينة، فبنوها مخازن لتلقى البضائع المصرية والمشرقية، فراج كثير منهم من هذه العطايا الوافرة.
وبعد أن كانت هذه الجهة من الضواحى القليلة القيمة لا يرغب فيها إلا القليل من الخلق، صارت بما لحقها من عناية العائلة المحمدية رفيعة القيمة ذات أبنية/مشيدة ومركزا لعموم تجارات القطر.
ولم تزل إلى الآن على هذا الحال لقربها من المينا الغربية وساحل المحمودية، فتقف عندها المراكب الواردة من جهات القطر والخارجة من هويس المحمودية، فيتأتى هناك تفريغ بضائع القطر وشحن البضائع المسافرة إلى البلاد الخارجية.
وقبل وجود السكة الحديد كانت قد بلغت من الأهمية ما لا يمكن وصفه، فكانت المراكب بها لكثرتها كأنها كوبرى يمكن المرور من فوقها من شاطئ المحمودية إلى الشاطئ الآخر، وكانت تمتد فى الجانبين بعيدا عن أماكن الشحن والتفريغ نحو ألف متر.
وهى الآن بعد وجود السكة الحديد، وإن لم تكن بهذا الوصف، لكنها دائما مشحونة بمراكب الشحن والتفريغ ضرورة ازدياد ثروة الديار المصرية فى زمن الخديوى عما كانت عليه فى الأزمان السابقة، بسبب التفاته إلى موجبات سعادة الوطن.
ولما كان قد ترتب على انصباب ترعة المحمودية فى المينا، مع خلل الهويس الذى بها، رسوب الطمى فى كثير من مواضعها، وقلة عمق الماء فى تلك المواضع، وعدم إمكان تقريب السفن من البر، صدرت الأوامر بإصلاح الهويس وتوسعته، وتطهير فم الترعة والمينا لتتمكن جميع المراكب النيلية من أغراضها بسهولة، ولذلك صار جلب الماء العذب من المجارى إلى سيف
(1)
البحر فى المينا لتأخذ المراكب المياه بسهولة، وهى المستعملة إلى الآن مع غاية النفع، وتطهير الترعة جميعها أيضا لأن الطمى الذى كان بها مع كثرة المزروعات التى تسقى منها، كان موجبا لتعسر مرور المراكب بها فى كثير من الأوقات، وكانت المراكب كثيرا ما تقسم حمولتها على مراكب صغيرة فى طريقها.
فبهذه العناية زال هذا العناء عن التجار، وجعل أمام الجمرك القديم الذى أنشئ فى زمن العزيز عمارة متسعة لإقامة الخدمة وتخزين البضائع.
(1)
سيف البحر-بكسر السين-ساحله.
ولزيادة اعتنائه بأمر التجارة بنى قصرا فى ناحية العطف، وكان يقيم فيه أحيانا، فحصل اهتمام المستخدمين فى إصلاح الترعة حتى استقامت أحوالها، وسهّل مرور التجارة.
ومع إقامته فى هذه الجهة أو غيرها، كجهة رشيد، كان لا يغفل عن مصالح مدينة إسكندرية.
مطلب عمارة البلاد الخمسة
ومن اعتنائه بها أمره بعمارة البلاد الخمسة الواقعة شرقيها، وترغيبه فى زراعة أرضها، لينتفع أهل المدينة بما تنتجه تلك الأرض من المحصولات.
وكان بقرب هذه البلاد بحائر فأصلح كثيرا من أرضها، وكذلك أصلح أراضى بحيرة مريوط قبلى المحمودية، وذلك أنه أنعم به على الراغبين بشرط إصلاحه وزرعه، فتناول الناس من الإفرنج والأمراء، وأهل المدينة والقرى، واجتهد كلّ فى زرع أرضه أصناف المزروعات، ما عدا الأشجار الكبيرة، على حسب ما تجدد فى قوانين الاستحكامات، فانصلح بذلك أغلب الأراضى المشاهدة فى جانبى السكة الحديد والمحمودية.
ولما ذاق أربابها حلاوة أرباح محصولاتها، من الخضراوات والفواكه، اجتهدوا فى خدمتها حتى صارت من أجود الأراضى بحيث لا يرضى أحد من أربابها ببيع الفدان الواحد بعشرين ألف قرش ميرية، مع أنها فى الأصل لا قيمة لها.
وكذلك القرى الخمسة وهى:
قرية الحضرة: وهى عبارة عن أربعة كفور صغيرة متقاربة، بجوار التلول التى بين رشيد وقرية الرمل.
ومنها قرية الرمل: وهى معروفة، وبها الآن سرايات الجناب الخديوى.
ومنها قرية السيوف: شرقى قرية الرمل، وسكة الحديد الجارى عملها الآن الذاهبة إلى رشيد وأبى قير، المارة فى أراضى القرية المذكورة.
ومنها قرية المندرة: شرقى قرية السيوف، وبحرى سكة الحديد.
وهذه القرى الآن على غاية من العمارة لا تخلو أرضها من الزرع، فيزرع بها من أنواع الخضراوات والفواكه أصناف كثيرة من الحبوب والبرسيم، وبها بساتين كثيرة.
وكان أهل هذه القرى-فى الزمن السابق-قد ارتحلوا عنها لضيق الحال بهم، ككثير من أهل البلاد المصرية، ولما جاد الله على هذا القطر بإيجاد العزيز، وبدت منه أعلام الشفقة والرحمة، أخذ الناس فى العود إلى أوطانهم فتوطنوها واشتغلوا بإصلاح أراضيهم وزرعها، حتى صارت إلى ما علمت، وسكنها كثير من أصحاب الحرف والصنائع؛ لما رأوا بها من كثرة الأرباح بسبب مجاورتهم لمدينة إسكندرية، التى انتقلت عما كانت عليه فى سالف الأزمان، وكثرت بها الأعمال والعمال فى المصالح الميرية، والدوائر السنية ودوائر العائلة، والأمراء والأعيان والتجار، حتى بلغ عدد المحترفين بتلك المدينة خمس تعداد أهلها، كما يعلم مما سيأتى.
وهذا يدل على علوّ شأنها فى الثروة، وزيادتها على مدن الأقطار المشرقية، ومعادلتها لمدن الديار الأوروباوية مع الازدياد كل سنة، حتى أن من رآها فى سنة ثم رآها فى السنة التى تليها، يرى اتساع مساحتها من كل جهة، وانتقالها فى التقدم انتقالا كبيرا فى الأبنية والمتاجر، والأوضاع الجديدة الجميلة الرونق.
/وهكذا فى كل سنة، وكان قد صمم على عمل ترعة يكون فمها من المحمودية تجاه الرمل، بجوار ترعة بغوص، ومصرفها فى وسط أبى قير، فيما بين قلعة كوم الشوشة القديمة والقلعة التوفيقية الجديدة، ولكنها لم تعمل فى زمنه.
وحيث أن لها تأثيرا فى خصوبة تلك الأراضى، وإحياء كثير من أراضى البحيرة، توجهت الهمم الخديوية لإنشائها، وعما قليل يصير الشروع فيها بمشيئة الله تعالى، وتكون من المآثر الخديوية التى يتحلى بها جيد الديار المصرية.
وما تجدد بهمة المرحوم عباس باشا، وإن كان كله نافعا، إلا أن أنفعه وأهمه السكة الحديد، فإن ذلك مما يستوجب تخليد ذكر العائلة المحمدية، لما لها من الفوائد التى لا تحصرها الأقلام، ولا تحيط بها الأوهام.
وغاية ما يدرك الوهم أنها قوة عظيمة بخارية أوجدها الإنسان بفكره ومعارفه، لتبلغه أوج السعادة، وتمكنه من حظوظ وغايات فى عمره القصير كان لا يمكنه إدراكها ولو بلغ من العمر ألوفا من السنين، كيف وهى تقطع مسافة عشرة أيام فى أقل من يوم، مع جرها نحو مائة عربة محملة بالأحمال الثقيلة، والألوف المؤلفة من الآدميين وغيرهم، مع السهولة وعدم حصول أدنى مشقة أو ضرر، ومع قلة الأجرة والمصرف جدا، بخلاف ما كان عليه الإنسان قبلها من عدم تحصيل الأغراض، مع اقتحام ما لا مزيد عليه من المشاق وكثرة المصرف فى عشر معشار أغراضه، فجزاه الله خيرا عن هذه الأقطار، بل وجميع الأقطار المشرقية، لأن منافع هذا الأثر سارية فى جميع الجهات المجاورة لمصر، حتى الصحارى والبرارى الشاسعة، وبه أمن المسافرون من كثير من الآفات التى كانت تعرض لهم برا وبحرا فتذيقهم الآلام، وتطول عليهم الأيام، وربما دمرت أعمالهم، وأتلفتهم وأتلفت أموالهم.
ثم إن هذا الأثر، وإن كان أول ظهوره أيام المرحوم عباس باشا، لأنه هو الذى أنشأه ومدّ الفرع الطوالى من مصر إلى إسكندرية، لكن لا يخفى أنه كان قد حصل من الإنكليز مفاتحة العزيز محمد على باشا فى عمل سكة حديد بهذا الوضع سنة 1837 ميلادية، بعد إتمام سكة حديد ليوربول
(1)
من بلادهم، لكن كان مطلوبهم مدّها من القاهرة إلى السويس فقط، لتسهيل نقل البضائع الهندية المارة بمصر إلى بلاد أوروبا، فأجابهم العزيز لذلك لعلمه
(1)
يعنى: ليفربول.
ما يصل إلى القطر من منافعها، وربط الكلام مع أحد بيوت تجار الإنكليز بجلب ما يلزم لذلك من القضب والآلات، وأحضر بالفعل نحو النصف منها، إلا أنه فى أثناء ذلك طرأت موانع عطلت إتمام هذا المشروع، فاستعملت القضبان التى جلبت فى سكة حديد أنشئت فى ناحية طرابين الجبل والبحر، لنقل الحجارة والدبش للقناطر الخيرية.
واستمرت التجارة الإنكليزية-على عادتها-من حملها من السويس إلى مصر على الجمال، ثم تحمل فى المراكب إلى إسكندرية، ثم تنقل إلى مراكب البحر الرومى إلى بلاد أوروبا.
وكانت إدارة ذلك منوطة بالإنكليز، فكان يحصل فى كثير من الأوقات دعاوى تضطر الحكومة إلى فصلها، فرأى العزيز أن إحالة إدارتها على طرف الحكومة المصرية أرجح لها، فعملت مع الكبانية الشرقية شروطا، جرى العمل على مقتضاها فى نقل البضائع والسرر بالحكومة.
مطلب مصلحة البزابرت
ورتبت لها مصلحة عرفت بمصلحة البزابرت، وجعل لها دار إدارة فى السويس، ومثلها فى مصر وفى إسكندرية، ورتب لها ما يلزم على أتم وجه من الأشخاص والحيوانات والعربات.
وبقى الأمر على ذلك إلى زمن المرحوم عباس باشا، فتكرر من الحكومة الإنكليزية طلب عمل سكة الحديد، وكان الوقت مساعدا، ولم تكن الموانع التى كانت زمن العزيز موجودة-لأن دولة فرنسا هى التى كانت تعارض الإنكليز-فانتهز الإنكليز الفرصة وتحصلوا من الباب العالى على فرمان التصريح بالعمل، ولكن كان غرضهم قاصرا على عملها من مصر إلى السويس، وهذا خلاف غرض المرحوم عباس باشا، لأن السكة-على رأيهم-تكون قاصرة على المرور فى الصحراء الشرقية ولا تتبع البلاد.
وهذا ليس فيه كبير فائدة، وأما هو فكان مرغوبه أن تمد أوّلا من إسكندرية إلى القاهرة فى وسط البلاد، ثم من القاهرة إلى السويس، فحصل التراضى على ذلك وعقدت الشروط مع المهندس الماهر (استيفنسون) على تعيين مهندسين إنكليزيين من طرفه لعمل الجسر وتركيب القضبان، فى نظير خمسين ألف جنيه يأخذونها من الحكومة دفعة واحدة، فحضروا وانضم إليهم جملة من مهندسى الحكومة.
مطلب الشروع فى عمل السكة الحديد
وشرع فى العمل، والذى تم من ذلك قبل وفاة المرحوم عباس باشا هو نحو من 70 ميلا، ولم يهمل خلفاؤه هذا الأمر الجليل بل اعتنوا به وحفوه بعنايتهم، حتى صار من الأمور التى أوسعت إدارة انتفاع الأهالى والحكومة، وتممت ارتباط القطر المصرى بجميع أقطار الدنيا، وجلبت/إليه خيراتها، كما كانت السبب فى نقل خيرات مصر إلى جميع أنحاء الأرض، وجعلت مصر كعبة تحجها الناس من البلاد البعيدة والقريبة.
وقد تكلمنا فى الفصل الثالث من هذا الجزء على جميع ما تم من السكك الحديدية فلينظر هناك.
(1)
(1)
انظر ص 243 وما بعدها من هذا الجزء.
الكلام على الإسكندرية فى زمن الخديوى إسماعيل باشا
اعلم أن مدينة إسكندرية، وإن كانت بلغت من العز والثروة وحسن الرونق ما بلغت، لكن لا يخفى على ذى بصيرة ما حصل فى عصرنا هذا من التقدم فى العلوم والمعارف، إذ ما من يوم إلا ويحصل فيه اختراعات جديدة وأشياء مفيدة، لم تكن من قبل، ولما لم يكن ذلك خافيا على فطنة الخديوى وذكائه احتفل بتوسعة دائرة ثروة القطر وتمدينه.
فمن مبدأ جلوسه على تخت الديار المصرية وذلك فى 28 رجب سنة 1279 هجرية، موافقة لسنة 1863 ميلادية، أخذ يفكر فيما يعود نفعه على الأهالى ويزيد فى رفاهيتهم، فرأى أن أس ثروة هذا القطر إنما هو نشر ألوية الأمن، فأعمل فى ذلك جدّه واجتهاده حتى وصل إلى الغرض المطلوب، وانتقل القطر بما اكتسبه من الأفكار العلية عن جميع أحواله الأولية إلى ما هو أحسن منها، كما هو مشاهد.
فمن ذلك: تمكين العلائق بين أهل هذه الديار وما جاورها من البلاد المتمدنة، حتى هرع إليها كثير من الأغراب، ورغبوا فى الإقامة بها ونشر معارفهم وعلومهم فيها، ولم يقصروا سكناهم على إسكندرية بل سكنوا سائر مدن القطر وانتشروا فى جميع قراه، كما يظهر ذلك من الجدول المستخرج من كتاب الإحصاءات المصرية لسنة 1872 ميلادية وهو هذا:
أغراب متوطنون بالإسكندرية 47316
أغراب متوطنون بالقاهرة 19120
أغراب متوطنون بالوجه البحرى 13260
الجميع 79696
ويظهر من هذا الجدول أن مزية الانتفاع بالأغراب لم تكن قاصرة على بعض القطر، بل كانت عامة فى جميع نواحيه عائدة على طوائف أهاليه.
ولا شك أن هذه المنقبة ليست إلا للحضرة الخديوية فإنها هى التى مهدت طرق هذا الغرس، وهيأت ما به نجاحه فكان ذلك منى جملة دواعى زيادة رغبة الدول المتحابة فى تمكين العلائق بينها وبين مصر، ونشأ عن ذلك شهرة الديار المصرية حتى طار صيتها فى جميع الآفاق وانعقد على فضلها الاتفاق.
وحيث كان من أسباب هذه السعادة ما أحدثته الهمم الخديوية والأفكار الإسماعيلية مما يضيق الوقت عن ضبطه وإحصائه، ويعجز القلم عن تقييد بعضه فضلا عن استقصائه، فمن الواجب أن نتكلم على المهم منها فنقول:
الفصل الأول فى إسكندرية
قد علم مما سبق أن مدينة إسكندرية كانت لم تزل كل سنة تزيد فى العمارة، ولما جلس الخديوى على التخت كان قد بلغ تعداد أهلها قريبا من مائة وسبعين ألف نفس، وبسبب ضيق أرضها على سكانها كان قد ابتدأ كثير من الناس، فى آخر زمن المرحوم سعيد باشا، فى السكنى جهة الرمل، الواقع فيما بين إسكندرية وأبى قير، فرخص لبعض الناس فى بناء منازل خارج الأسوار فى المناطق العسكرية التى كان الناس لذلك الوقت ممنوعين من البناء بها، على حسب القوانين العسكرية المقررة من زمن المرحوم محمد على باشا، فاتسعت المدينة وكثر سكانها حتى بلغ عددهم سنة 1872 ميلادية 212043 نفسا، من ضمنها 47316 أغراب من ملل مختلفة.
ومن كثرة الراغبين فى سكناها مع زيادة الثروة، ارتفعت قيمة الأرض داخل المدينة وخارجها حتى بلغت قيمة الذراع الواحد فى داخل البلد جنيها ونصفا، وقد كانت حين جلوس العزيز محمد على باشا على التخت لا تزيد فى تلك الجهات عن عشرة فضة، فأين هذا من ذاك، وفى دائر المنشية بلغت قيمة الذراع الآن أربعة جنيهات، بعد أن كانت لا تزيد عن ثلاثين نصف فضة، وهكذا الفرق فى خارجها فقد بيعت فى الزمان السابق ضيعة فوق المحمودية تسمى: غيط غربال، بثمانين كيسة، ثم فى سنة 1384 هجرية أرادت الدائرة السنية شراءها بعشرة آلاف جنيه فأبى مالكها فانظر الفرق، وكذلك التلول، التى كانت لا قيمة لها، صار الآن بعضها يباع ذراعه بثلاثة فرنكات وبعضها بأكثر، ولم تزل القيمة تتزايد والرغبات تقوى والخلق تكثر، وعما قليل تتصل مبانيها بمبانى المحمودية مع امتدادها إلى ناحية الرمل وأبى قير.
فهذه المدينة فوق ساحل البحر، أول شاهد للعائلة المحمدية، سيما الحضرة الخديوية، باستحقاق الثناء وتخليد الذكر، فإن كل من شاهد محاسنها التى هى عليها الآن وتذكر الحالة التى كانت عليها قبل، نطقت جميع جوارحه بشكر تلك الشجرة المباركة التى استضاء بها جميع الوطن، سيما تلك المدينة، وكيف لا وقد كانت تجردت قبل هذه العائلة عن محاسنها، وعرت عن العلم وأهله، فكان لا يرى بها إلا بعض وعاظ فى شهر رمضان والشهرين قبله إلى أن بنى الشيخ إبراهيم باشا جامعه/سنة 1240، فأخذ العلم فى الظهور والانتشار بسبب شمول مرحمة العزيز جميع أهله، وجعل يتسع باتساع الرزق حتى صار يدرس فى أكثر مساجدها مثل مسجد سيدى أبى العباس المرسى، ومسجد البوصيرى فى جميع فصول السنة.
وكذلك لم يكن بها من المتاجر إلا شئ قليل، فكانت أماكن البيع منحصرة فيما حول جامع الشيخ إبراهيم باشا فى دكاكين لا تزيد عن خمسة عشر دكانا، وكذلك اليهود الصيارفة كانوا قليلين محصورين فى حارتهم المعروفة بهم فى مساكن من ضمن رباع الأهالى، وكان
الغريب لا يجد من يأويه ولا مكانا يطمئن فيه، بخلاف ما هى عليه الآن، فقد رفلت هى وسائر جهات الوطن فى حلل السعادة، وكثرت بها المتاجر والحوانيت والخانات، ووصلت إلى ما يتعسر حصرة، وكثرت بها بنوك الإفرنج التجارية، وهذا بخلاف عدد وافر منهم صيارفة يتجرون فى النقود، وبخلاف عدد آخر منتصبين لشراء محصولات القطر وجلب البضائع الخارجية. وفى كل يوم تتجدد بها البنوك ويرد إليها الأغراب من كل جهة.
مطلب بيان عدد ما يذبح كل سنة بمذبح إسكندرية
وقد أحصى ما يذبح بسلخانة تلك المدينة كل سنة من بهيمة الأنعام فى لوازم الأكل فوجد 100996 بهيمة، منها الأغنام 27157 شاة ومنها من صنف البقر 11612، مع أنها كانت قبل العائلة المحمدية ليس بها من الجزارين غير اثنين فى حارة المغاربة، وكان أكثر أهل الميسرة يشتركون فى شاة يقتسمونها بينهم، فهذا الفرع وحده من أكبر أدلة الثروة.
وقد كثرت بها أيضا اللوكندات، حتى صار الغريب يتخير لنفسه ما شاء، مع الأمن على النفس والمال.
ومن آثار الثروة أنك ترى الناس فى كل موضع من المدينة فى حركة: مشاة وركبانا، لا فرق بين ليل ونهار بسبب الغازات الحافة بجوانب الطرق والشوارع، ذات السعة والاعتدال، مع كثرة العربات المعدة للركوب على رؤوس الشوارع والميادين، ومنها الذاهبة والآيبة على خيول كأنها الرياح المرسلة على هيآت مختلفة فى المحاسن والدرجات.
مطلب عدد العربات المعدة للأجرة وغيرها
وقد أحصى ما وجد منها فى هذه المدينة فوجد كما ترى: عربات الركوب المختصة
بأربابها 138، مزدوجة 86، مفردة 8، هنتور 346، عربات ركوب بالأجرة وعربات كارلو لنقل البضائع 347، مزدوجة 187، مفردة 5، عربات أوس 3، عربات لرش المياه 17، عربات حمير 294، عربات صندوق، فجميع ذلك من عربات الركوب وخلافه 1431.
هذا كله خلاف عربات العائلة المحمدية وتوابعها، وخلاف عربات الإفرنج.
ومعلوم أن أس هذه الثروة إنما هو المرحوم محمد على باشا المؤسس الأصلى، وبلوغ أوجها إنما هو بالعناية الخديوية، فإنه بما بثه فيها من أسباب التنعمات أنساها البؤس والخشونة التى كانت عليها الأعصر الخالية، فلم يبق سببا يستوجب تمدن أهل وطنه ورفاهيتهم إلا وجّه إليه همته وحصله.
مطلب شوارع إسكندرية وما بلط منها ومساحة ذلك
ومن ذلك التفاته إلى الطرق والشوارع، فقد كانت لا تفى بالمقصود منها من تسهيل المرور بالمتاجر وخلافها، وكانت غير مبلطة ففى الشتاء تراها كثيرة الوحل بسبب المطر، وفى الصيف كانت كثيرة الأتربة وكان ذلك يضر بالمارّين والسكان، فصدرت أوامره السنية بفتح عدة شوارع وحارات أهمها:
شارع إبراهيم الممتد من مدرسة البنات إلى ترعة المحمودية، وطوله 1000 متر فى عرض 24 مترا، فتح جميعه فى التلول، وعمل أولا بالدبش والدقشوم، وجعل فى جانبيه طويقان للمشاة وترك وسطه للعربات والحيوانات، وبعد ما استعمل كذلك زمنا تبينت ضرورة تبليطه، فحصل ذلك سنة 1291
ثم شارع الجمرك، الممتد من حارة الشمرلى إلى شارع الشمرلى العمومى، وطوله 200 متر فى عرض 10 أمتار، ثم شارع تصدير الغلال، وشارع تصدير الأقطان، وقد صار تبليط هذه الثلاثة شوارع وفتح ستة شوارع جديدة، ممتدة بين سكة باب شرق وسكة العسكرية المارة، حول سور المدينة، طول كل واحد منها 600 متر، وصار تبليط بعضها.
وقد جدد أهل المدينة حولها أبنية فاخرة، ولم تزل هممهم قوية فى التجديد حولها، ثم صار تبليط الجهات المهمة العامة مثل الترسانة والجمرك، والطريق الموصل بينهما وبين محطة السكة الحديد وعدة حارات وشوارع، ومينة البصل، ومينا الشراقوه، والمنشية، وميدان محطة السكة الحديد، وقد بلغ مساحة ما تم من ذلك لغاية سنة 1287 هلالية، الموافقة سنة 1870 ميلادية 116688 مترا مربعا.
وهذا خلاف ما صار تبليطه على ذمة الدائرة السنية، وما صار تبليطه أيضا فى جهة الجمرك والترسانة، وشارع العطارين، وشارع المسلة، والآن جار التبليط فى شوارع أخر.
وعملية التبليط -هذه-قد جعلت بالمقاولة، والبلاط المستعمل فيها مجلوب من جهة تريسته، وهو من الحجر الصلد الذى بلونه زرقة، وطول البلاطة الواحدة قريب من ذراع معمارى، وعرضها على النصف من طولها، وسمكها يقرب من نصف العرض، وقيمة المتر المسطح بعد وضعه فى الأرض من 18 إفرنكا إلى 20.
ولما كان/صرف مياه الأمطار ونحوها من أهم الأمور، أمر بعمل المجارى تحت الشوارع والطرقات، وقد عين لجميع ذلك مهندسين وحكماء، وبمعرفتهم جاءت الشوارع والمجارى على أحسن وضع، وقد بلغ طول المجارى التى بنيت بالمدينة-تحت الحارات والشوارع لغاية سنة 1287 هلالية-11901 مترا.
مطلب تمثال محمد على باشا وما صرف عليه من الفرنكات
وقد وضع فى المنشية تمثال المرحوم محمد على باشا، المصنوع من التوج فى البلاد الأوروباوية على قاعدة من الرخام، وصرف عليه قريب من 2000000 من الفرنكات، ودواما ينظره المارون ويترحمون على غارس التمدن فى الديار المصرية، ويدعون للحضرة الخديوية التى لم تأل جهدا فى تنمية هذا الغرس.
مطلب ما أنعم به الخديو إسماعيل من الفضاء
خارج إسكندرية وما أنشئ فيه من المبانى وغيرها
ولأجل توسعة دائرة العمارية، أعطيت للمتطلبين من لدن المكارم الخديوية قطع من الفضاء والتلول خارج المدينة، وصرح لهم بالبناء فيها فكثرت المبانى حولها، وجعل فيها من أول الشروع فى عمارتها عشرة شوارع فى أحسن وضع يقرب طول الواحد منها من 1500 متر فى 12 مترا، وتحلى دائر المدينة بالبساتين النضرة، وصار من يغدو للنزهة فى تلك الجهات يرى ما يسره ويشرح صدره.
ثم مما زاد فى تحسين دائرها، وتنمية فوائدها، وتكثير محلات النزهة، الرخصة التى أعطيت لشركة من الإفرنج رأس مالها 800000 فرنك، بإنشاء وابور على المحمودية لتوصيل المياه الحلوة إلى جهة الرمل وما جاورها، فإن هذا الأمر كان سببا فى بناء المنازل والحوانيت بعيدا عن تلك المدينة، فاتسعت بذلك مساحة العمران، وفى أقرب وقت صار ما حدث من الأبنية جهة الرمل يشبه مدينة قاسمة ما بين ناحية أبى قير وثغر الإسكندرية، بما حوته من
الانتظام والرونق والبهجة فى منازلها، وقصورها الجمة، وشوارعها وحوانيتها المشتملة على نفائس التجارات، بعد أن كانت هذه البقعة عبارة عن كثبان من الرمل وأرض غير منتفع بها، وما كان يزرع منها إلا القليل، وبعد أن كان الغيط الذى سعته ثمانية أفدنة أو تسعة أو عشرة لا يزيد حكره عن ثلاثة قروش، صار الآن أرضا لا يباع منها إلا بالذراع والمتر من ريال إلى نصف بينتو، وما ذاك إلا لكونها صارت من أعمر الأماكن لسكنى المعتبرين من التجار والأمراء بها.
وبها البساتين المشتملة على جميع أنواع الأشجار والأزهار والرياحين، وقد بلغ عدد سكانها الذين يقيمون بها-فى وقت الصيف-قريبا من 7000 نفس، وفى وقت الشتاء على نحو النصف من ذلك.
وأول من اشترى فى الرمل الخواجا (سيزينيا) فإنه اشترى من ملك عائلة أبى شال، وكان لهم أرض متسعة. جانبا عظيما بمبلغ 60 كيسة، والآن قد اشترت منه الحكومة شريطا من الأرض لوضع السكة الحديد عليه، ودفعت فى قيمة المتر 5 فرنكات ونصفا، فعلى ذلك تكون قيمة الفدان الواحد 23100 فرنك.
ومما زاد فى الرغبة فيها وأكد أمر السكنى بها، إحداث السكة الحديد بينها وبين المدينة الأصلية، فإنها سهلت على الناس الانتقال منها وإليها وبالعكس، ففى كل أوقات السنة لا ينقطع التردد إليها، ومن يقيم بها من الأغراب يجد جميع ما تطلبه نفسه، خصوصا اللوكاندة التى أحدثت هناك فإن بها كل ما يلزم مع الراحة والأمن، وفى الرمل ناد تجتمع فيه الناس يومى السبت والأحد من كل أسبوع، ويشنفون مسامعهم بسماع الألحان والأصوات الحسنة، وبها أيضا ثلاث كنائس: واحدة للكاثوليكيين، وواحدة للأروام، وواحدة للأمريكيين.
ومن المدارس ثلاثة لتربية الصبيان: واحدة على ذمة الأروام، وأخرى للفرنساوية، وأخرى للتليانيين.
وفى كل ساعة يقوم من إسكندرية قطر إلى الرمل، وفى كل نصف ساعة يقوم قطر من الرمل إلى إسكندرية، وفى كل قطر عمال من طرف البوستة، لنقل المكاتيب وأوراق الحوادث وغيرها، وأجرة الركاب بحسب الدرجات، فعلى من يركب فى عربات الدرجة الأولى خمسة قروش، ومن يركب الدرجة الثانية أربعة قروش، ومن يركب الدرجة الثالثة ثلاثة قروش.
مطلب الشارع الذى أوّله باب رشيد وآخره حدود الملاحة
ومما أكد الرغبة فى سكنى جهة الرمل، ما أحدثه الخديو من المبانى هناك، بقصد إقامته وإقامة الفاميلية فى فصل الصيف، فإنه نشأ عن ذلك فتح شارع عظيم فى وسط التلول المقابلة لباب رشيد، وأوله باب رشيد. وينتهى إلى حدود الملاحة بأول أطيان قرية المندرة، ويمر بسراى الرمل الخديوية، وطوله من باب شرق إلى السرايا 4000 متر فى عرض 12 مترا، ومن السرايا إلى الملاحة 4000 متر فى عرض 8 أمتار، وقد غرس فى جانبيه الأشجار المظلة، وعمل طريق من الملاحة إلى ترعة المحمودية إلى أوله من الرمل وطوله 2000 متر وعرضه 10 أمتار، فقربت بذلك المسافات فى المدينة ولواحقها، وسهلت على الراكب والماشى، وزاد الأمن وزالت الوحشة بما رتب فى الطريق من البسط العسكرية وزيادة الخفر، وتنظيف الطرق والمسالك القاطعة لهذا الشارع والمتفرعة منه إلى ما حول المدينة وشاطئ المحمودية.
ومن الأعمال الجليلة، تجفيف جزء عظيم من البحيرة قريب/من تلك الجهة لتزول العفونة، وتقل الرطوبة وتتسع أرض المزارع التى حول الإسكندرية، وتتجدد بساتين وحدائق تزيد فى رونق المدينة وبهجتها، وتكثر بها ميادين النزهة.
وبعد تمام هذه الأعمال لو جعل جزء البحيرة العميقة القريبة من الطريق الموصل إلى المحمودية بحيرة، وغرس حولها شجر، لصار هذا الموضع من أحسن المتنزهات، وأظن أن ما يصرف على ذلك يستعوض بأضعافه مما يتحصل من قيمة الأرض التى تستجد بسببه، لأن الرغبة فيها حينئذ ربما تزيد عن الرغبة فى سكنى الرمل، لاشتمالها على الماء والخضرة والسمك على اختلاف أنواعه، مع القرب من المدينة.
ولتوسيع دائرة الفسحة، حصل التصريح من لدن المكارم الخديوية بجعل جنينة بسرايته، التى بقرب سراية نمرة 3، سكن الجناب المفخم ولى العهد، وقتئذ، وهو الآن مولانا الخديو المعظم، سعادة محمد توفيق باشا، منتزها عاما زيادة على المنتزهات الأخر مثل جنينة: لانبروز والمنشية والمحمودية وغيرها، بحيث يتنزه فيها فى جميع أيام الأسبوع. ورتب لها موسيقى تحضر إليها فى جميع الأيام، وجعل لها من يقوم بلوازمها من الخدم والنظار، وربط لها من النقود ما يفى بلوازمها، فقابل الناس ذلك الصنع الجليل بالثناء الجميل، فتراهم فى أوقات الاجتماع يهرعون إليه أفواجا من سائر الطوائف، ويرتعون فى فضائه وأنحائه، ويستنشقون بطيب هوائه حيث كان أحسن بساتين المحمودية وأوسعها، والذى أنشأه فى الأصل الخواجا (بستريه) ثم اشتراه منه الجناب الخديوى.
فمن هذه الأعمال الجليلة وأمثالها، صارت مدينة الإسكندرية مزينة الظاهر والباطن، فأينما يسرح الإنسان طرفه، لا يرى إلا ما يسر ناظره ويشرح خاطره، ففى داخلها تشاهد المبانى الفاخرة، والمساجد العامرة، والدواوين المعدة للنظر فى مصالح الرعية العمومية:
كديوان الحقانية، الذى تم تنظيمه بالهمم الخديوية فى سنة 1292 هجرية، والضبطية، وديوان المحافظة، ومجلس التجار، ومجلس الابلو، ومجلس الصحة وغيرها.
وفى جانبى كل شارع وفى الميادين، يتعجب من كثرة البضائع، واختلاف أجناسها وأصنافها، مما يحث الناظر على إدامة الثناء على العائلة المحمدية، حيث بذلت همتها فى إحياء ما كانت فقدته مدينة إسكندر الأكبر من الشهرة.
ومما يحمل على زيادة الثناء، ما يشاهد خارج البلد على شاطئ المحمودية من العمارات والبساتين الفائقة، فى محل الأرض القحلة السبخة: التى كانت فى عهد قريب بعضها مغمور بمياه البحائر المالحة، وبعضها تلول، مع ما فى ذلك من الإضرار بالصحة، فسطت على ذلك كله الهمم الخديوية فحولته إلى النفع المحض.
وكما حصل احتفال الهمم الخديوية بتلك المدينة، بما ذكرنا بعضه من الأعمال الجميلة، والعمائر الجليلة، كذلك احتفلت بجميع السواحل المصرية، لا سيما سواحل الإسكندرية، فأصبحت تبدى للناظرين ما يبهر العقول من مبانى المدافعة والأسلحة المانعة، فترى فى كل موضع من تلك السواحل ما يناسبه من ذلك، على حسب التقدمات الوقتية، والتجديدات العصرية، فدائما ترى الحضرة شاملة بأنظارها جميع أهل القطر، بجلب ما يسر ودفع ما يضر، لا يعوقه أمر عن أمر، حتى صار المستظل بساحته يجد ما يستعين به على السعى فى طلب رزقه، آمنا على نفسه، مطمئنا على أهله، قد رفع أكف الضراعة والدعاء للحضرة الخديوية وأسلافه ولنسله بتخليد دولتهم وتأييد صولتهم.
وبالجملة فمآثره أشهر من أن تذكر، ومبتكرات أفكاره لا تحصى ولا تحصر:
له همم لا منتهى لكبارها
…
وهمته الصغرى أجلّ من الدهر
مطلب تقسيم مدينة إسكندرية
ثم إن هذه المدينة من حيث الضبط والربط، تنقسم إلى ثمانية أثمان، فى كل ثمنين معاون من طرف الضبطية للنظر فى الدعاوى وغيرها، وآخر للنظافة وحفظ دواعى الصحة العامة، ولكل ثمن قلق به العساكر الكافية، وشيخ ثمن من الأهالى لإجراء الرسوم السياسية، وتنفيذ مقتضيات الأحوال.
ومن حيث المساكن وأهلها إلى قسمين: القسم الأول: منهما يشتمل على جميع مساكن الأهلين، وهو ما بين الغرب والشمال الغربى، وينقسم هذا القسم إلى قسمين:
أحدهما: وهو ما بين المينتين، غالب حاراته ومنازله على الهيئة القديمة، لم يتغير منها إلا القليل، وطرقه ضيقة غير مستقيمة.
وثانيهما: وهو المعروف بين أهل المدينة بجزيرة الفنار، حاراته أوسع وأعدل وأجمل من الأول.
والقسم الثانى من المدينة، وهو ما تسكنه الإفرنج، جميع منازله جديدة حسنة الهيئة مزخرفة، ذات وجهات جميلة، ومساكن جليلة، أدوارها السفلى محلاة بالدكاكين المتسعة، المشتملة على جميع أنواع البضائع الثمينة، وتلك المنازل مبنية بالأحجار والطوب المحرق والمونة القوية والأخشاب المتينة، وفى داخلها أنواع المفروشات الإفرنجية، وأودها مزينة بأنواع الزينة. وفى هذا القسم منازل وكلاء الدول المتحابة:
مطلب بيان وكلاء الدول المتحابة بإسكندرية
قنصلاتو دولة الإنكليز فى حارة المسلة، قنصلاتو الدولة النمساوية بجوار/جامع العطارين، قنصلاتو دولة البلجيكا فى حارة العطارين، فى بيت باغوص، قنصلاتو دولة البريزيليا فى حارة شريف باشا نمرة 27، قنصلاتو دولة ألمانيا، قنصلاتو دولة الديماركة فى وكالة دومر شمير، قنصلاتو إسبانيا فى حارة حنفى أفندى نمرة 41، قنصلاتو الاثيازونى من الأمريقا، قنصلاتو فرانسا فى ميدان محمد على، قنصلاتو الروم فى حارة النبى دانيال، قنصلاتو أنتاليا فى شارع إسماعيل، قنصلاتو هولانده فى حارة صهريج الفرن نمرة 31، قنصلاتو البرتغال فى شارع إسماعيل فى بيت رغيب، قنصلاتو الروسيا فى حارة المسلة نمرة 97، قنصلاتو سويد ونوريج فى حارة محمد توفيق، قنصلاتو العجم.
ومن العادة أن وكلاء الدول تسكن مدينة إسكندرية فى زمن الصيف؛ لطيب هوائها ونقص درجة الحرارة بها عن مدينة القاهرة، بسبب تلطيف البحر نسيم الجو الذى يهب فى هذا الفصل صباحا ومساء، وفى فصل الشتاء ينتقل أغلبهم بعيالهم إلى القاهرة، لقلة الرطوبة والبرودة فيها بالنسبة إلى إسكندرية، وأجرة الانتقال فى السكة الحديد على طرف الميرى، من فيض المكارم الخديوية.
وللآن الحكومة الخديوية، وكذا من سبقها من العائلة المحمدية، جارية على هذا السنن الذى سنه محمد على باشا، من الانتقال إلى مدينة إسكندرية فى زمن الحر، ويتبع ذلك انتقال الدواوين، فيقيمون مدة ثلاثة أشهر فى رأس التين ثم يعودون إلى القاهرة.
ولا يخفى ما فى هذا الانتقال من المزايا والمنافع الخاصة والعامة، لانتفاع أهل المدينة بذلك انتفاعا كبيرا.
وبالجملة فما اشتملت عليه هذه المدينة من الأمور النفيسة، على يد الجناب الخديوى وبأنفاسه، وكذا على يدى أسلافه من العائلة المحمدية، شئ كثير يحتاج ذكر جميعه إلى مجلدات، فإنها بما ورثته من الهمم المحمدية والإغداقات الخديوية، صارت مشتملة على جميع ما تتحلى به المدن العظيمة من مدن الدول الفخيمة.
وهكذا لا تزال تترقى فى أوج السعادة على يد الخديوى الأعظم ويد خلفائه، خلّد الله أيامهم، فلذا لم نذكر مما اشتملت عليه من المحاسن إلا الأهم منها، لأجل إثبات ما اكتسبته هذه المدينة، وعاد نفعه على غيرها من مدن القطر، من مبدأ أخذ العائلة المحمدية بزمام الحكم، إلى الآن، أعنى فى ظرف سبعين سنة، حتى صارت إلى هذه الدرجة العالية بعد أن كانت قد آل أمرها إلى الاضمحلال حتى صارت شبيهة بقرية من قرى الأرياف، وعم الخراب داخلها وأحاط بخارجها، وفارقها عزها وشهرتها بسبب التقلبات الدهرية التى دمرت مبانيها، وفرقت أهلها فى المدد السابقة التى سبق الكلام عليها.
مساجد إسكندرية
وبها من المساجد الجامعة 49 جامعا، ومن الزوايا 97 زاوية، منها ما فيه ضريح ولىّ، ومنها ما هو خال عن ذلك، فمن أشهر جوامعها:
جامع سيدى أبى العباس المرسى (رضى الله تعالى عنه)
بجوار القرافة، كان فى الأصل مسجدا صغيرا، وفى سنة 1189 جدد فيه بعض المغاربة القاصدين الحج جزأه الذى يلى القبلة والمقصورة والقبة، ثم أخذ نظاره فى تجديده وتوسعته شيئا فشيئا، بأخذ قطعة من المقابر وبعض من المنازل التابعة لوقفه، وجعلت ميضأته فيما هدم من تلك المنازل، حتى صار إلى ما هو عليه الآن من السعة والمتانة والمنظر الحسن.
وشعائره مقامة على الوجه الأتم، ويصرف عليه من طرف ديوان الأوقاف بالإسكندرية، كما أن ريعه ومرتباته مضبوطة به.
ترجمة سيدى أبى العباس المرسى رضي الله عنه
وكان سيدى أبو العباس-رضي الله عنه-من أكابر العارفين بالله تعالى، أخذ الطريق عن الشيخ أبى الحسن الشاذلى، وهو أجل تلامذته وأول خلفائه، ومع وفور علمه وجمعه بين علمى الحقيقة والشريعة لم يؤلف كتابا، وكذلك شيخه أبو الحسن رضي الله عنه، وكان يقول:«كتبى قلوب أصحابى» .
وكلامه كله حكم، ومناقبه جليلة، ذكر الشعرانى فى طبقاته من ذلك جملة عظيمة فعليك بها، مات رحمه الله تعالى سنة 686، ودفن فى جامعه، وقبره به فى غاية الشهرة يزوره أهل الإسكندرية وغيرهم من المترددين عليها، ولهم فيه اعتقاد زائد، لا سيما المغاربة، وله خدمة يقتسمون وظائف الخدمة كما يقتسمون النذور على شروط مسجلة فى ديوان الأوقاف، وكل سنة يعمل له مولد ثمانية أيام، بعد مولد النبى صلى الله عليه وسلم، وليلة فى نصف رمضان.
مسجد سيدى ياقوت العرشى رضي الله عنه
كان قد تهدم وهجر، فجدده أحمد بيك الدخاخنى، شيخ طائفة البنائين بالإسكندرية، سنة 1280 هجرية، وأقام شعائره ووقف عليه أوقافا.
ترجمة سيدى ياقوت العرشى رضي الله عنه
وكان سيدى ياقوت إماما فى المعارف، عابدا زاهدا، وهو من أجل من أخذ عن سيدى أبى العباس المرسى، وهو حبشى ولد ببلاد الحبشة، وكانت له بنت فزوجها للإمام شمس الدين بن اللبان، ماتت فى حياة زوجها، فعند وفاته أوصى أن يدفن تحت رجليها احتراما لوالدها.
ومناقب سيدى ياقوت شهيرة بين الطائفة الشاذلية، توفى رضي الله عنه سنة 707، ودفن فى مسجده، وقبره مشهور يزار، وله مولد كل سنة ليلة واحدة فى رمضان.
مسجد سيدى تاج الدين بن عطاء الله الإسكندرى/رضي الله عنه
مشهور بها لكنه لم يدفن بها، وإنما دفن بمصر بقرافة الإمام الشافعى، رضي الله عنه، وقبره هناك مشهور يزار.
ترجمة ابن عطاء الله الإسكندرى
وكان تلميذا للشيخ ياقوت العرشى، ومن قبله للشيخ أبى العباس المرسى، وكان زاهدا كبير القدر، ولكلامه حلاوة وتأثير فى القلوب، وله مؤلفات كثيرة منها (كتاب التنوير فى إسقاط التدبير) و (كتاب الحكم) و (كتاب لطائف المتن) وغير ذلك، مات رضي الله عنه سنة 707.
مسجد نصر الدين
كان أولا زاوية صغيرة فيها ضريحه، وقد جدده ووسعه المرحوم على بيك جنينة، أحد مشاهير إسكندرية، فى سنة 1270 هجرية، وجعل له أوقافا، وله مولد فى كل سنة ليلة فى رمضان.
مسجد سيدى على الموازينى
كان أيضا صغيرا، وقد جدّده بعد هجره وتهدمه المرحوم مصطفى هنيدى، أحد مشاهير المدينة سنة 1272، وأحيا شعائره، وهو مدفون فى داخله هو وولده.
مسجد البوصيرى
كان قديما جدّده المرحوم سعيد باشا ببناء حسن، ورتب له ما تقام به شعائره، ورتب به دروسا دائمة.
ترجمة البوصيرى
والبوصيرى، هو شرف الدين محمد بن سعيد البوصيرى، صاحب البردة والهمزية، وله تآليف غيرهما، وكان أبوه من دلاص وأمه من بوصير، قرية بقرب دلاص بمديرية بنى سويف.
مسجد الشيخ تمرار
كانت أرضه منخفضة، ففى سنة 1262 جدده المرحوم حسن باشا الإسكندرانى، ناظر ديوان البحرية فى ذلك الوقت، وردم أرضه وصار يصعد إليه بسلم، وبه ضريح الشيخ على التمرازى المذكور، وله مولد كل سنة ثمانية أيام وقت زيادة النيل.
مسجد أبى سن
أصل أرضه مقبرة، بها ضريح الشيخ عبد الرحمن بن هرمس، وكان عليه مقصورة من خشب، فلما بنى ما حوله ودخل فى تنظيم المدينة، بنى ذلك المسجد، وجعل فى داخله ضريح الشيخ المذكور، والذى بناه المرحوم درويش أبوسن، وهو مسجد تام المرافق، حسن المنظر، مقام الشعائر ويصرف عليه من الوقف.
مسجد الحجارى
كان فى الأصل ضريحا للحجارى، وبه بئر معينة قليلة الملوحة، يعتقد أهل إسكندرية أن لها منافع وهى: أن من كان مريضا بداء الحمى. ودوام على الاستحمام بمائها أياما، زالت عنه الحمى.
وفى سنة 1287، جدّدته المرحومة والدة الجناب الخديوى إسماعيل باشا ببناء حسن ومنظر لطيف، وهو عامر مقام الشعائر، وكان قد جدده قبلها سنة 1240 المرحوم بلال أغا، باش أغوات المرحوم محمد على باشا، وجعل به صهريجا، مصرفه الآن من الوقف.
مسجد سيدى عبد الله المغاورى
به ضريحه، وهو مسجد قديم، وقد جدده المرحوم الحاج طاهر القردلى ووسعه، وجعل له مئذنة، وبعد وفاته دفن به بجوار ضريح المغاورى، وكذلك دفن به العالم الشهير الشيخ محمد البناء الرشيدى، وكل سنة يعمل فيه ليلة فى شهر رمضان لسيدى عبد الله المغاورى، وهو مقام الشعائر من طرف الوقف.
مسجد سيدى على البدوى
بجهة كوم الدكة، كان صغيرا فجدده ووسعه الحاج طاهر الذى بنى مسجد المغاورى فى سنة 1270، ثم فى سنة 1289 بناه أولاد الشيخ إبراهيم باشا.
مسجد سيدى عبد الرزاق الوفائى
جدد بناءه ناظره أحمد النقيب سنة 1280، وهو أمام مسجد النبى دانيال.
مسجد الحلوجى
كان صغيرا، وفى سنة 1260 جدد بناءه ووسعه المرحوم السيد محمد بدر الدين الكبير، ومصرفه من الوقف.
مسجد الصورى
كان أولا ضريحا عليه مقصورة من خشب، فبناه الميرى مسجدا مع بناء سور الاستحكامات، والضريح داخله، وله حضرة كل ليلة سبت، ويصرف عليه من الوقف.
مسجد البرقى
جدده المرحوم محمد على باشا، وهو فى داخل سراى رأس التين.
مسجد سيدى وقاص
كان أولا ضريحا وجدد بناءه مسجدا على المصرى، أحد مشاهير إسكندرية سنة 1280، ويقال إنه جددت بناءه المرحومة والدة الجناب الخديوى إسماعيل باشا.
مسجد القبارى
كان فى الأصل صغيرا، فجدده وأوسع فيه المرحوم سعيد باشا زمن ولايته، حتى صار حسن الهيئة.
مسجد يقال له مسجد سيدى جابر الأنصارى
هو مسجد قديم بجوار سراى الرمل، ولم يجدد فيه سوى القبة، وله مولد كل سنة ثمانية أيام.
مسجد مشهور بمسجد النبى دانيال
كان صغيرا فجدده ووسعه العزيز محمد على باشا سنة 1238، وله ليلة كل سنة فى شهر رمضان، وهو تابع الوقف، وبهذا المسجد مدفن مخصوص بالعائلة الخديوية، مدفون فيه المرحوم محمد سعيد باشا ونجله طوسون باشا وغيرهما.
مسجد الطرطوشى
صاحب سراج الملوك، كان متخربا، فأصلحه المرحوم السيد إبراهيم مورو سنة 1270، وقد تممت إصلاحه وتنظيمه المرحومة والدة الجناب الخديوى، وهو الآن مقام الشعائر من الأوقاف.
مسجد سيدى مجاهد
فى داخل الترسانة، كان إنشاؤه سنة 1255، منذ كان لطيف باشا ناظر الترسانة/ بالإسكندرية، وقد أصلحه الأمير المذكور سنة 1283، وقت أن كان ناظر البحرية.
فهذه المساجد كلها بها أضرحة من تنسب إليه.
وأما المساجد التى لا أضرحة بها فكثيرة، مثل:
مسجد طاهر بيك، ومسجد المدرسة، ومسجد سلطان، ومسجد كرموس، ومسجد محرم بيك، ومسجد القاضى، ومسجد الشيخ إبراهيم باشا، بناه المذكور سنة 1240، وبه دروس العلم لا تنقطع، فهو فى الإسكندرية كالأزهر فى مصر، ومسجد عبد اللطيف، بناه الشيخ عبد اللطيف المغربى سنة 1170، وهو الآن معد لصلاة الجنازة.
ومن أشهر مساجدها: المسجد الذى بناه الخديوى إسماعيل باشا بجهة كوم الشقافة البرانى، وأتم بناءه فى سنة 1288، وجعله تابعا للأوقاف.
ومن إحساناته الدائمة بهذه المدينة، أنه أمر بإيصال مجارى ماء النيل إلى مساجدها، فما له ريع يصرف عليه من ريعه، وما لا ريع له فعلى طرف الميرى، كما أنه أمر بإيصالها إلى القلاع والاستحكامات، وقد حصل ذلك على أتم وجه.
ومن إحساناته أيضا، أنه أمر بعمل سور على طرف الحكومة، يحيط بجميع مقبرة إسكندرية، واشترى أيضا قطعة أرض وأمر بجعلها أربعة مدافن لعموم أموات المسلمين، وجميع ما يصرف عليها من بناء ونقل أتربة، وردم حفائر، وتنظيم سلك وغرس أشجار، على طرف الحكومة.
*********
كنائسها
وبالإسكندرية كنائس كثيرة، المشهور منها ثلاث عشرة كنيسة: عشرة منها للنصارى، وثلاثة لليهود.
فالتى للنصارى منها: كنيستان للكاتوليكيين، أحداها: كنيسة سانت كاترين.
والثانية: كنيسة اللازرنبة، كلتاهما فى حارة إبراهيم نمرة 16.
والثالثة: الكنيسة الرومية الإيوانجيلسة، فى حارة الكنيسة الرومية.
والرابعة: الكنيسة الرومية الكاتوليكية، فى حارة حمام أبى شهبة نمرة 14.
والخامسة: الكنيسة الأرمنية، فى جنينة الأرمن، فى حارة عمود السوارى، فى مقابلة شارع إسماعيل.
والسادسة: الكنيسة المارونية، فى حارة الحبالة.
والسابعة: الكنيسة القبطية، فى حارة كنيسة القبط.
والثامنة: كنيسة الإنكليز فى ميدان محمد على.
والتاسعة: كنيسة البروتستان فى حارة الكنيسة الإنكليزية.
والعاشرة: كنيسة لا يكوسة فى حارة كنيسة الإيكوسية نمرة 12.
وأما الثلاثة التى لليهود فهى: كنيسة رأس التين، وكنيسة فى حارة النبى دانيال، وكنيسة فى حارة الوكالة الجديدة نمرة 46، أحدثها الخواجا (منشى) وبذل وسعه فى إتقانها حتى صارت أحسن الثلاثة.
بيوت الضيافات المسماة باللوكاندات
وبيوت الضيافات بها كثيرة، والمشهور منها اثنتان:
إحداهما: لوكاندة أوربا فى ميدان محمد على.
والثانية: لوكاندة ابان فى وسط المدينة تقريبا، وتطل على ميدان إبراهيم، وهى أقدم الجميع، ينزلها الفرانساويون والإنكليز، وبها تراجمة من جميع الألسن، وبها عربات معدة لركوب من يرد إليها من ركاب السكة الحديد.
وهناك لوكاندات أخر، تقرب منهما فى الشهرة والانتظام وهى: لوكاندة المسافرين فى حارة الشيخ محمود نمرة 77، مائدتها عامة، وبها أود مفروشة وغير مفروشة، على حسب رغبة المسافرين، ومقدار ما يدفع الشخص فيها كل يوم-فى نظير إقامته ومؤنته-سبعة فرنكات.
واللوكاندة الكبيرة الفرنساوية فى حارة الشيخ محمود نمرة 58، وهذه يجد المسافر فيها راحته من حيث السكنى والمأكل، تحتوى على 43 أوده، والنازل فيها مخير بين أن يكترى الأوده باليوم أو بالشهر، وعليه فى اليوم نظير أكله وإقامته ستة فرنكات، وفى الشهر 150 فرنكا.
الإسبتاليات
ويقال لها المارستانات، وهى المحال المعدة لمعالجة الأمراض، ستة:
واحدة للحكومة المصرية، وهذه عامة يدخلها الأهالى وغيرهم، وجميع ما يصرف عليها من فيض المكارم الخديوية، وبها كل ما يلزم لها من الحكماء والأجزأجية، وأجزاخانة مشتملة على أنواع الأدوية، وهى فسيحة/تسع عددا وافرا من الأسرّة، وأغلب الفقراء لا يجدون معالجتهم فى غيرها، ومحلها عند محطة السكة الحديد، وبها محل لتربية اللقطى الذين لا يعرف لهم أهل، وقد رتب لهم فيه من طرف الحكومة المصرية من يقوم بتربيتهم حتى يكبروا، وقد بلغ عددهم سنة 1831 ميلادية 34 لقيطا، منهم اثنا عشر من الإناث والباقى ذكور.
وأما الإسبتاليات الأخر فهى للدول المتحابة، وبيانها:
الإسبتالية العمومية الأوروباوية: فى شارع إبراهيم، بها مجلس إدارة وثمان أود، للرجال سبعة، وللنساء واحدة، وفى كل أوده سريران، هذا لأهل الدرجة الأولى والثانية.
أما أهل الدرجة الثالثة والرابعة فللرجال تسع أود وللنساء أربعة، وفى كل أوده عشرة سرر، وخدم النساء المرضى من الراهبات وعدّتهن ثلاث عشرة.
ومن الإحصاءات السنوية تحقق أن الذى دخل هذه الإسبتاليا فى سنة 1871 ميلادية بلغ 1089 مريضا، شفى منهم 982، وتوفى بها منهم 107.
إسبتالية ديماكونيس: فى حارة محرم بيك، ومعالجة المرضى بها بمقابل، فإن كان من ذوى الاعتبار وأراد الإقامة بها فى أودة مخصوصة، فعليه كل يوم خمس شلنات، قريب من
خمسة وعشرين قرشا صاغا، وإن كان من البحارة أو الخدم فعليه كل يوم ثلاث شلنات، وأما الفقراء فيعالجون بها من غير مقابل.
وفى سنة 1870 ميلادية، بلغ عدد من صار علاجه بالأربع إسبتاليات 5800، من ذلك فى الإسبتالية الأوروباوية 1366، وفى إسبتالية الحكومة 3300، وفى الإسبتالية الرومية 773، وفى إسبتالية ديماكونيس 304.
وعدد من مات فى الجميع 490، وفى إسبتالية الحكومة 250، وفى الإسبتالية الأورباوية 115، وفى الإسبتالية الرومية 94، وفى إسبتالية ديماكونيس 29.
مطلب الحمامات
وفى مدينة الإسكندرية حمامات كثيرة، المشهور منها: حمام صفر باشا، وهو بجوار الترسانة، مستعمل للرجال والنساء.
وحمام المحافظ: أمام الضبطية بشارع رأس التين، وهو مستعمل للرجال والنساء فى جميع أيام الأسبوع على عادة الحمامات.
وحمام أبى شهبة: بالشارع الإبراهيمى الخارج من المنشية إلى السكة الحديد.
وحمام المرحوم الشيخ إبراهيم باشا: بشارع عمود السوارى، الخارج من المنشية إلى الجبانة.
وحمام الصافى: بالشارع الإبراهيمى بجوار ورشة مورو.
وكذلك الحمامات الإفرنجية هناك كثيرة، المشهور منها:
حمام لوكاندة أوروبا: فى ميدان محمد على، والأجرة فيه 2 فرنك.
وحمام توران: فى حارة العمود، والأجرة فرنك ونصف.
وحمام البحر، والأجرة فرنك ونصف.
وحمام السيد على المصرى، أحد تجار إسكندرية، وهو على الشارع الموصل من السكة الحديد إلى الجمرك، وهو للرجال والنساء.
وحمام جمعى.
مطلب قهاوى إسكندرية
القهاوى البلدية بمدينة إسكندرية كثيرة بالشوارع وأكثر الحارات، إلا أنها على وضعها القديم تقريبا.
أما القهاوى الإفرنجية فهى كثيرة، وتشتمل القهوة منها على عدة محلات، من ضمنها محل أو محلان للعب البليارد ووطرانيران، وبها خلاف القهوة أنواع المشروبات والدندرمة، وفى بعضها الأكل والفرش الثمينة، والدكك المحشوة والكراسى، وجرنالات الحوادث فى البلاد الأوروباوية والمحلية العربية والتركية والإفرنجية والرومية.
والمشهور منها: القهوة الفرنساوية: بميدان محمد على، وقهوة لدومند (الدنيتين) فى الميدان المذكور، وقهوة أوربا: فى حارة رأس التين نمرة 11 أو نمرة 12، وقهوة البرادى
(الجنة): فى حارة البوسطة الفرنساوية فى ساحل البحر، وقهوة البحر: فى شاطئ البحر بقرب الكنيسة المارونية، وقهوة المدرسة المشرقية: فى حارة الشيخ إبراهيم، وقهوة الحظ:
فى حارة الشيخ إبراهيم، وقهوة ويجو: فى حارة جامع العطارين نمرة 27، وقهوة المشرف:
فى حارة أنستطازى نمرة 21، والقهوة الفرنساوية: فى حارة إبراهيم نمرة 15، وقهوة البورصة: فى حارة الكنيسة الإنكليزية نمرة 1، والقهوة الأمريكانية: فى حارة جبارة، وقهوة بيكانو: فى حارة السوق الجديد، وقهوة هركول: فى حارة أرسلان سكر، على شاطئ البحر، وقهوة مغنى: يلعب فيها التياترو.
تياترات
فى الإسكندرية تياترو واحد وهو تياترو (زيزينيا) ملك ورناه، وله وقت معلوم من السنة، ويحضر له فى كل سنة من يلعب فيه بأنواع الألعاب المضحكة والمطربة.
مطلب أسواق إسكندرية
المشهور من الأسواق بمدينة إسكندرية:
سوق شارع رأس التين، وبه عدة وكائل يباع بها الأرز والبندق والجوز والفستق، وما أشبه ذلك من البضائع التركية.
وسوق الشوام: يباع فيه أصناف البضائع الشامية.
وسوق العجم: يباع فيه الكشمير.
وسوق الصيارف: يباع فيه النقود، وهو مركز للصيارف.
وسوق الجزمجية، وسوق المنشية: فى آخر المنشية فى شارع رأس التين، يباع فيه البضاعة الإفرنجية، والملبوسات والمفروشات، وحلى الذهب والفضة والجواهر والثياب الثمينة، مثل: المقصب والحرير والمرايات ونحو ذلك.
وسوق الأقمشة: بشارع السكة الحديد، يباع فيه الشيت وأنواع القماش: كالدبولان/ والشاش والصوف.
وسوق اللحم الكبير: بجوار مسجد الشيخ إبراهيم باشا.
وسوق الفواكه مثله، وسوق الكانتو، تباع فيه الأشياء القديمة من كل جنس.
وسوق الفخار: بشارع الميدان، يباع فيه الصينى وغيره.
وسوق البراذعية والسروجية: بنهاية شارع الميدان بقرب مسجد الشيخ إبراهيم باشا.
وسوق بشارع العطارين، يباع فيه الحرير والمقصب والأشياء التى تناسب النساء، يتوصل إليه من المنشية.
وسوق الترك، وهو يشبه خان الخليلى بمصر يباع فيه بضاعة تركية، وهو بجوار سوق الطباخين.
وسوق الترسانة: يباع فيه فواكه وخضراوات وبقول وما أشبه ذلك.
وسوق زاوية الأعرج، وسوق حارة الشمرلى: بطريق الترسانة، فيهما جزمجية وكتبية وسمكرية وحدادون ودخاخنية، وأمثال ذلك.
وبها أسواق غير ما ذكرنا، إلا أنها ليست مثلها فى الشهرة.
بيوت الصدقة
وتسمى التكايا، وفى الإسكندرية تكية يدخلها فقراء المسلمين بأولادهم، ويجرى عليهم من طرف الحكومة جميع ما يلزم لهم من مؤنة وكسوة وغير ذلك حتى الماء والزيت، فإذا بلغ الذكور من أولادهم سن التمييز ألحقوا بالمدارس الميرية، فيربون بها أحسن تربية، ومنهم من تشمله أنظار المكارم الخديوية فيكون من أرباب الخدامات الشريفة الميرية.
شركات الإعانة
شركة الإعانة الفرنساوية
وهى عبارة عن طائفة من أغنيائهم، اتفقوا على أن يدفع كل واحد منهم مبلغا من النقود، ليتصدق منه على فقرائهم-وهكذا مشتروات الطوائف الآتية:
وكان ابتداء عقد هذه الشركة سنة 1866 من الميلاد، ومحلها القنصلاتو الفرنساوى، وقد انتفع بها فى سنة 1869 من فقرائهم المقيمين ثلثمائة وخمسة وثلاثون نفسا، وممن أعين على الرجوع إلى بلاده مائتان وتسعة وتسعون نفسا.
وفى سنة 1870: من المقيمين خمسمائة نفس وعشرة، وممن أعين على الرجوع إلى بلاده ثلثمائة وثمانية وخمسون نفسا.
وفى سنة 1871: من المقيمين ستمائة وسبعة وعشرون نفسا، وممن أعين على العود إلى بلاده خمسة وسبعون نفسا.
وبلغ ما صرف من هذه الشركة على المحتاجين فى سنة 1869: ثلاثين ألف فرنك وأربعمائة وثلاثة.
وفى سنة 1870 واحدا وثلاثين ألف فرنك، وتسعمائة وأربعة وأربعين فرنكا.
وفى سنة 1871 ثلاثة وأربعين ألف فرنك، وتسعمائة وثمانية وتسعين إفرنكا.
شركة الإعانة التليانية
لإعانة المحتاجين خاصة.
شركة الإعانة العبرانية
لإعانة المرضى، والزمنى، وذوى العاهات منهم خاصة، وكان انعقادها سنة 1859 ميلادية.
شركة الراهبات المحسنات
وهى أنفع شركات الإعانة، لأنها قائمة بتربية 780 طفلا، وبها تكية للفقراء والأيتام، ومحل لتربية اللقطى، ومراضع يرضعنهم فى بيوتهن، وقد بلغ المتحصل بها من الصدقات فى سنة 1871 نحو 24924 فرنكا، جميعه صرف على اللقطى، وعلى 151 عائلة من الفقراء، تشتمل على 843 نسمة.
شركة لوبير التليانية
فى حارة رأس التين فوق قهوة أوروبا، وهى تتركب من أرباب الصنائع والحرف من التليانيين خاصة، وكان انعقادها سنة 1862 ميلادية، والغرض منها تشغيل من لا شئ عنده من البضائع التجارية.
ومثل هذه الشركة شركة أخرى فى حارة أنستطازى نمرة 36، إلا أنها ليست خاصة بقوم، بل عامة لكل محتاج من أهل أى ملة.
الشركة السويجرية
الغرض منها إعانة المحتاج من ملتهم فقط، وقد أعين منها فى سنة 1870 ميلادية:33 شخصا، بمبلغ 988 فرنكا.
وفى سنة 23:1871 نفسا بمبلغ 1405 فرنكات، وفى سنة 16:1872 نفسا بمبلغ 1000 فرنك.
السكرتات
تشتمل الإسكندرية على أربعة بيوت للسكرتات، والمشهور منها:
شركة السكرتات البحرية، رأس مالها عشرون مليونا من الفرنكات، وشروطها أنها تضمن السفن والبضائع من غوائل البحر فى مقابلة مبلغ معين يدفع إليهم من طرف من يرغب ذلك.
وكذا تضمن لأصحاب الأملاك فى المدن أملاكهم، وللتجار بضائعهم وتجاراتهم من الغرق والحرق برا وبحرا، وكذا تضمن للشخص الراغب فى تضمينها إيراده السنوى، وغير ذلك من الأمور والاصطلاحات المقررة فى شروطها، ومحلها فى حارة العطارين فى بيت أرتين بيك.
بورصة
يوجد بالإسكندرية بورصة للمعاملات التجارية، وهى ملك لجماعة من البنكير، مشتركين فيها ومتساهمين فى القيمة الأصلية، وهى المبلغ الذى صرف فى البناء والغرس والزينة والزخرفة، وعدد سهومها 240 سهما، قدر السهم منها مائة جنيه، فتكون القيمة الأصلية 24000 جنيه.
والأسهم نوعان:
نوع بدون اسم مخصوص، بل هو لكل من يوجد بيده هذا المبلغ.
والنوع الآخر: بأسماء الشركاء خاصة، وكل شريك معه من النوعين.
وفى آخر كل سنة تبعا-لشروط معقودة بين الشركاء-يدفع مبلغ من متكوّن النوع الأول بالقرعة، وعدد الشركاء أربعة وستون، ولهم مجلس متركب من بعضهم لإدارة تلك المصلحة، والقانون الجارى بينهم أنه يرخص بالدخول فيها من أربع جنيهات/فأكثر لكل شخص، وعشرين جنيها عن كل بنك، وخمسة وعشرين جنيها عن كل بيت تجارى.
وللبورصة كومسيون مركب من المأذون لهم بالدخول ينظرون فى الإدارة.
بورصة مينا البصل: ملك الدائرة السنية، وهى معدة لأشغال التجارة من قطن وقمح وما أشبه ذلك.
بيت الرهن
هذا المحل فتح بأمر الحكومة الخديوية، والغرض منه إقراض المحتاجين مبالغ من النقود إلى أجل قصير، ويؤخذ منهم رهان توضع فى هذا المحل، وبه جميع ما يلزم لحفظ الرهان وصيانتها مثل صناديق ودواليب وغير ذلك.
وفى أول سنة من افتتاحه، بلغ عدد الرهان التى وضعت فيه 3560 رهنا، منها جانب لم يستخلص بل جددت رهنيته فى آخر السنة وقدره 385، والذى استخلص واستلمته أربابه 1634 رهنا.
وفى السنة الثانية بلغ عدد الرهان 5029، والذى تجدد منها آخر السنة 1514، والذى خرج واستلمته أربابه 3742، وبيع منه فى الدين مبلغ 437 رهنا.
وفى السنة الثالثة بلغ عددها 6026، تجدد منها آخر السنة 1986 رهنا وخرج منها 4844، وبيع منها 455.
وفى السنة الرابعة بلغ عددها 6625، تجدد منها 2774، وخرج لأربابه 5817، وبيع منها 562.
الشركات التجارية بالإسكندرية
تشتمل مدينة الإسكندرية على عدة شركات، كل شركة مركبة من جملة من التجار وأصحاب الأموال بشروط يرتضونها بينهم: إما على عمل يعملونه بأموالهم لأنفسهم، وإما على عمل يعملونه لغيرهم.
فمن النوع الأول: شركة الطحين، والغاز، ومجارى الماء.
ومن النوع الثانى: أنواع المقاولات، والمشهور منها الآن: شركة تقسيم المياه للمدينة ولجهة الرمل، وإن اختصت الآن بتلك المصلحة، وقد تقدم الكلام على هذه الشركة عند الكلام على مدة المرحوم سعيد باشا.
وشركة الغاز: هى المتكفلة بتنوير حارات الإسكندرية وشوارعها، وهى باسم (أوجين ليون وشركائه)، ومحل العمل فى الكارموس على شاطى المحمودية، ومحل إدارتها فى حارة صهريج الفرن، وافتتاحها للإيقاد كان فى سنة 1865 ميلادية، ومعملها كاف لصرف مليونى متر مكعب، ولها شروط مسجلة بديوان الأشغال العمومية، وقد تقرر فيها قيمة غاز المتر المكعب، ولكل من يرغب تنوير منزله أو دكانه، أن يأخذ منها بشروط على السنة أو الشهر.
وشركة الطحين التجارية: لها وابور على شاطئ المحمودية، ووابور آخر فى بولاق، ووابور فى بندر إخميم من الأقاليم القبلية، وهى من أعظم الشركات، ولها وابورات أيضا فى مدن كثيرة من بلاد أوروبا وتتجر فى الدقيق.
الورش التى اشتملت عليها إسكندرية
ورشة كبريت للخواجة (تلازاك)، ورش ثلج: إحداها تعلق الخواجه جرجس، ورشة سيجارة تعلق قومبانية، وابورات دقيق وهى كثيرة، ورش حديدة، وابور زيت تعلق الخواجه (بوسيل)، معصرة الزيت التجارية ملك (أنطونياس) على شاطئ المحمودية فى الكارموس، وهى من المعامل المكلفة، ويستخرج فيها زيت الكتان وزيت القطن، ويباع منها بالجملة ويستعمل للاستصباح والأكل.
طوائف الصنائع والحرف
عدد الطوائف الآن بمدينة إسكندرية 142 طائفة، تشتمل على 26900 نفس، أعنى زيادة على مقدار أهل إسكندرية، حين استولى عليها العزيز المرحوم محمد على باشا، ثلاث مرات، وعدد أنفار كل طائفة ما هو مبين:
برابرة خدامين 1761، حمارة 1086، عتالين فى المينا 1066، بياعين خضار 999، عربجية جر 821، سوّس 312، قهوجية 764، جزارين بالأسواق 308، بنائين ومناولين 692، بنائين مقابر 292، زياتين وعصارين 627، دخاخنية 271، نجارين 596، قماشة 271، طحانين 503، صيادين سمك 173، كيالين 497، قبانية 227، مراكبية 490، حدادين وبرادين 222، حلاقين 484، شغالة فى القطن 222، نحاتين حجر 473، آلاتية ومركجية 213، سقائين 424، براسمية وعلافين 212، عربجية ركوب 409، طباخين 203، خفراء مخازن 372، خدمة بالسلخانات 261، خياطين 369، زراعين 200، خدمة صعايدة 341، أصحاب حمير أجرة 194، صباغين 327، فرانين 191، خبازين 327، جزمجية 187، تجار غلال 182، فحامين 124، سراحة خضار 181، سمكرية 119، نجارين مراكب 178، مرخمين 114، دهانين جزم 162، تبانة 113، نجار بلطه 164، تجار بهائم 111، نقاشين بيوت 164، تجار سوق الدقيق 111، بياعين ليموناتو 162، لبانة 109، عطارين 164، عقادين 108، حطابة 150، بياعين سكر 107، صواغين أولاد عرب ويهود 144، بياعين فراخ وطيور 104، بياعين ثياب قديمة 144، صيادين أبى قير 100، مبيضين نحاس 140، خبابتة الرمل 94، سرباتية 178، مغربلين 90، حصرية 137، بياعين خشب 88/، تجار نحاس 136، تجار حرير 87، منجدين 126، بحارة المينا 87، فطاطرية 124، نجارين 86، حمالة النقل 84،
سقائين فى البيوت 55، حمامية 82، مركوبجية 50، بياعين فواكه يابسة 76، بياعين حمص 47، صنايعية فى الكتان 69، بياعين سمك مالح 44، طربوشجية 67، بياعين عسل 44، بياعين سلطه 66، بياعين فخار بلدى 39، أصحاب حميراكاف 66، شبكشية ومسلكاتية 38، فراشين 63، مبلطين 33، بياعين سمك 61، بياعين كنافة 32، عرضحالجية 60، دلالين فى الحمير 32، بياعين جلود 59، خردجية 30، بياعين أقمشة مقاعدية 58، زراعين خضار 30، بياعين فى الحارات 57، بياعين حلويات تركى 30، دلالين سوق الترك 57، تراجمة 29، سباكين 56، بياطرة 29، بوابين 56، محدثين فى القهاوى 28، دلالين فى الخيول 28، ساعاتية 20، بياعين براميل 28، خفر المغالق 20، دلالين فى العقارات 27، حبالة 19، خراطين 27، مرخمين 18، قفاصه 25، قبانية الحطب 14، بياعين محار إفرنكى 24، نقاشين على المعادن 11، سماسرة 23، صيارف 7، برامين حرير 21، قرجوز وحواة
(1)
6، كتبية 29.
وهناك أشخاص محترفون لم تندرج أسماؤهم فى دفاتر الطوائف، لو أضيفوا إلى ما ذكرنا لكان عدد الجميع 51058 تقريبا.
المدارس والمكاتب بالإسكندرية
لما كان مبنى الأمور الدنيوية، بل والأخروية، ليس إلا على حسب التربية الأولية، إذ على حسب البداية تكون النهاية، ومن لم يكن له فى بدايته قومة، لم يكن له فى نهايته نومة.
(1)
فى الأصل: فرجوز وحداد.
وكان ممن أحاط علما بذلك، ورغب فى تربية أبناء وطنه والاقتفاء بهم أقوم المسالك، حضرة الخديوى إسماعيل باشا، أحسن الله أعماله وأنجح فى سبيل الخير آماله، وضع لذلك قوانين سلكت بأبناء الوطن طريق التقدم، حتى وصلوا بها فى أقرب زمن إلى ما لم يصل إليه من مضى وتقدم.
وقد وضعنا فى ذلك كتابا، بسطنا فيه الكلام على كيفية التربية فى الديار المصرية والأقطار الأوروباوية، فليرجع إليه من أراد الاطلاع عليه، إذ ليس غرضنا الآن إلا ذكر المكاتب والمدارس الموجودة فى مدينة الإسكندرية، وبيان الشهير منها من غيره، سواء كانت إدارته منسوبة للحكومة المصرية أو غيرها على وجه الاختصار فنقول:
مدرسة رأس التين الميرية
وهى صنفان: صنف تجهيزية، وصنف مبتديان.
فالمبتديان: تتعلم فيها الأطفال التهجى، والكتابة والقراءة، والقواعد الأولية فى الحساب، والنحو ولغة أجنبية، وقبول الأطفال بها من سبع سنين.
والتجهيزية: تتعلم فيها الأطفال، المنتخبون لها من المبتديان، الحساب، والهندسة العادية، والجبر إلى الدرجة الثانية، والرسم النظرى، وعلم العربية، ولغة من اللغات الأوروباوية، والخط الثلث والنسخ، والرقعة، ومبادئ اللغة التركية.
وعدد تلامذة الصنفين 279 تلميذا، وتقيم الأطفال بتلك المدرسة ليلا ونهارا، وجميع ما يلزم للصنفين من أدوات التعليم، وماهيات المستخدمين، وأكل وكسوة وغير ذلك على طرف الديوان العامر بالأنفاس الخديوية، أدامها الله تعالى.
ومن المكاتب الأهلية، مكتبان منتظمان، تتعلم بهما الأطفال بالنهار ويبيتون عند أهلهم، وجميع ما يصرف على هذين المكتبين من طرف الأوقاف الميرية، ومن الإحسانات الخديوية، مع ما هو مفروض على أهل الأغنياء منهم، طبق قانون المكاتب الأهلية، وعدد أطفالهما ثلثمائة طفل فأكثر، ويتعلمون فيهما من الفنون مثل ما يتعلمونه فى مدرسة المبتديان، وكسوتهم على أهليهم، وكذلك أكل الأغنياء منهم.
مكاتب أهلية كبيرة وصغيرة، يتعلم بها الأطفال مدة النهار، ويبيتون عند أهليهم، ويتعلمون القراءة والخط وبعض الحساب، والصرف عليهم من طرف أهليهم، وليس للديوان عليهم إلا التفتيش فقط لأجل النظافة والانتظام
(1)
، وعدد أطفالها 3136 طفلا.
ومجموع المدارس والمكاتب الإسلامية بمدينة الإسكندرية 91، وعدد الأطفال 3705
وأما المدارس والمكاتب الأوروباوية فكثيرة، منها ما يقبل فيه كل من أتى إليه من دون نظر إلى ملة أو ديانة، ومنها ما لا يقبل فيه إلا أطفال أهل ملة مخصوصة.
وفى كثير من هذه المكاتب تكون الأطفال الذكور مع الإناث، ومنها ما هو مختص بالذكور، ومنها ما هو مختص بالإناث فمنهن من يتعلم الصنعة اليدوية، ومنهن من يتعلم الفنون العقلية، ومنهن من يتعلمهما جميعا.
والمشهور من هذه المدارس:
(1)
فى الأصل: الانتقام.
مدرسة اللازارين
وهى مشتملة على تعليم الفرنساوى، واللاتينى، والرومى القديم والجديد، والعربى، والتليانى، والإنكليزى، والرسم.
ومن الأطفال من يقبل فيها مجانا كالفقراء، ومنهم من يقبل بنصف مصروف، ومنهم من يقبل بمصروف كامل وقدره ألف وستمائة فرنك، ولا يقبل فيها إلا من سبع سنين إلى خمس عشرة سنة، ويشترط عند دخوله أن يكون عنده بعض إلمام بالقراءة أو الكتابة فى لغة ما، وعدد أطفالها 60 وخوجاتها 12.
الثانية المدرسة التليانية
فى حارة العمود وعدد الأطفال بها 555 طفلا.
الثالثة مدرسة الإخوان الكاتوليكيين
كان افتتاحها فى سنة 1847 ميلادية، والأطفال الذين يتعلمون فيها منهم من هو بمصروف كامل، ومنهم من هو بنصف مصروف، ومنهم من يعلم مجانا، كما مر، وعدد أطفالها 600، المجانى منهم 350، والباقى بمصاريف.
الرابعة المدرسة المجانية
وهى تحت رعاية سعادة الخديوى الأعظم محمد توفيق باشا، وكان افتتاحها سنة 1828 ميلادية، وبها من اللغات: الفرنساوى، والإنكليزى، والتليانى، والعربى.
ومن التلامذة نحو سبعمائة وثلاثة، منهم من يحضر ليلا فقط، وهم الكبار، ومنهم من يحضر نهارا فقط وهم من عداهم.
الخامسة مدرسة الكنيسة الأيكوسية
وهى ملحقة بالكنيسة وعدد أطفالها 52.
السادسة المدرسة الأمريكانية
يقبل فيها الأطفال الذكور فقط مجانا، ومحلها حارة المحكمة، وعدد أطفالها مائة وستون.
السابعة المدرسة الرومية
وهى ملحقة بالكنيسة أيضا، وعدد أطفالها 191
الثامنة مدرسة بانصو المختلطة
يقبل فيها الأطفال، الذكور والأناث، ومحلها بحارة جامع العطارين نمرة 81، وعدد أطفالها الذكور 56، وأطفالها الإناث 55، ومنهم من يدخل بمصاريف كاملة، ومنهم من يدخل بنصف مصاريف.
التاسعة مدرسة بودير
يقبل فيها الأطفال الذكور والإناث، ومحلها حارة العطارين نمرة 58، وعدد الأطفال بها مائة.
العاشرة مدرسة ترنينا مانيا
فى سوق البصل، وتقبل أيضا الذكور والإناث من الأطفال، وعدد الجميع 45
الحادية عشرة المدرسة العبرانية
تحت رعاية الدولة النمساوية، وإدارتها موكولة لاثنى عشر نفسا من العبرانيين، وتتركب من مكتبين أحدهما للذكور والآخر للإناث، وتقبل بها الأطفال مجانا، وعدد من بها من الذكور 130، ومن الإناث 100، ومن مزايا هذه المدرسة أنها تمهر من طرفها من تتروج من البنات الفقراء.
الثانية عشرة مدرسة البنات
بشارع إبراهيم نمرة 5 تحت إدارة الراهبات، وتقبل بها البنات بمصروف كامل، وتارة بنصف مصروف، والفقراء يقبلن مجانا، والحضور فيها للتعلم مدة النهار فقط، وعدد من يدفع مصروفا كاملا 180، ومن يدفع نصف مصروف 600، والأيتام 120، واللقطى 75، وعدد الراهبات المعلمات 26، والراهبات الخادمات 14.
الثالثة عشرة بيت الصنعة
فى حارة حنفى أفندى نمرة 53، وجميع من يدخل فيها بمصروف وعدد أطفالها 70.
الرابعة عشرة
فى محل الست سريونى، عند الكنيسة الإنكليزية نمرة 35، وعدد أطفالها البنات 65، يدفعن جميعا مصروفا كاملا.
الخامسة عشرة
فى محل يعقوب، فى وكالة إبراهيم بيك عند السوق القديم، وعدد من بها من الأطفال 30، وجميعهم بمصروف.
السادسة عشرة
المدرسة الأيكوسية تحت نظر (الست أشلى) ويقبل فيها بمصاريف ومجانا، وعدد الجميع 70، ومحلها الكنيسة نفسها.
*********
الفصل الثانى فى مينا الإسكندرية
من بعد الأعمال التى تقدم الكلام عليها، زمن المرحوم محمد على باشا، لم تعمل أعمال مهمة فى المينا إلى زمن الخديو إسماعيل، مع أنه قد حصل قبل جلوس حضرته على التخت أمور جسيمة، كان يخشى منها تحويل التجارة عن ثغر إسكندرية، لولا أن تداركها بهمته العلية منها:
الترعة المالحة المتصلة بالبحرين الأحمر والرومى، فإنه لولا ما عمل بمينا الإسكندرية، لانتقلت المتاجر المشرقية والمغربية إليها، لما يرى التجار بها من السهولة. بالنسبة لمينا إسكندرية، فإنهم كانوا بعد وصولهم إليها ينقلون بضائعهم بالسكة الحديد، ثم منها إلى البحر الأحمر، وفى ذلك من المشقة وكثرة المصاريف ما لا يخفى بخلاف طريق القنال، ولذلك لما تم أمرها، وجرت السفن بها، تحول كثير من التجار إلى بورت سعيد، الذى أنشئ على شاطئ البحر الرومى، عند فم القنال شرقى مدينة دمياط، وجعلوه مركزا لتجارتهم، وبنوا به منازل لإقامتهم لما رأوه من السهولة وقرب المسافة، فلما كان ذلك كله معلوما لدى الحضرة الخديوية، وجه إليه أنظاره الصائبة، وأعمل فيه أفكاره الثاقبة، وعوّض إسكندرية عن ذلك مزايا حسنة، حوّلت الرغبة فى طريق القنال إلى ذلك الثغر بما أبدع فيه من الأعمال.
مطلب حوض المينا
وأوّل مزية جادت بها هممه العلية على المينا، عمل حوض بها من الحديد لعمارة السفن يعرف بالدوك، اصطنعه فى بلاد فرنسا سنة 1285 هجرية، طوله 140 مترا، وعرضه 33 مترا، وعمقه 11 مترا، وزنته ثلاثة ملايين وثمانمائة ألف كيلوجرام، وبه آلتان بخاريتان
لنزحه قوّتهما 25 حصانا بخاريا، وقيمة ما صرف فى اصطناعه مائة وستة وعشرون ألفا وثلثمائة وستة وثلاثون جنيها مصريا، وله باب يفتح ويقفل بحسب الطلب، وخوخ لإدخال الماء فيه بعد إتمام العمارة ليتأتى خروج السفينة منه، فحصل من ذلك السهولة التامة والمنافع العامة، لأن الحوض الأول الذى كان معمولا من البناء لم يكن قابلا لكافة السفن، بسبب عظم أبعاد بعضها، فضلا عما تجدد فى هذا العصر مما هو أعظم منها، ومع ذلك/كان يستغرق زمنا طويلا فى استعداده عند الحاجة إليه، بخلاف الحوض الحديد فإنه واف بجميع ذلك، وفى الزمن اليسير يصير استعداده، ودخول السفينة فيه وتعميرها بمصرف أقل من الأول.
ولا يخفى أن وجود الحوض فى المين من ضرورياتها اللازمة، سيما المين الكبيرة المطروقة كمينا إسكندرية، لأن السفن دائما عرضة لغوائل كثيرة مثل ملاطمتها للصخور، واصطدامها بالشعاب أو ببعضها، وقد يزول طلاؤها بالماء وبالعوارض الجوية، فيضر ذلك بها. ومن إقامتها الأزمان الطويلة فى البحر، عادة، يلتصق بظاهرها المحار، ويتراكم على بعضه فيورثها ثقلا، ويعطلها عن سيرها.
فبواسطة تلك العوارض لا تستغنى عن العمارة، أو الدهن أو المسح، ولا يتيسر ذلك إلا بانكشاف الماء عنها، لأن خللها غالبا يكون فيما غمره منها، فلا يتمكن من إصلاحه-كما يجب-إلا بانكشافه، وأما عمل الغطاسين فلا ينفع إلا فى الخروق الصغيرة وما أشبهها.
ولا شك أن المبادرة بسدّ خلل السفن وعمارتها من أهم الأمور، إذ لو تركت بلا إصلاح، لأسرع إليها التلف، وربما انخرقت فى حال سيرها. فيحصل فضلا عن غرقها وضياعها على أربابها تلف أنفس وأموال جسيمة. ومن غير الحوض يتعذر أو يتعسر إخراج السفن إلى البر، سيما الكبيرة جدا مع إحتياج ذلك إلى مصرف زائد وأعمال شاقة ليست فى طاقة كل إنسان.
وبالجملة فلم يجد أصحاب الأفكار السليمة، من قديم الزمان، لهذه المعاناة الشديدة أنفع من الحوض.
وتقدم فى الكلام على الإسكندرية فى مدة أصل هذه الشجرة المباركة، المرحوم العزيز محمد على باشا. أن الحوض عبارة عن محل فى البحر قريب من البر، يختار لذلك بحيث يكون عميقا أو يعمق بالكرّاكات بحيث يصلح لدخول المراكب الكبيرة فيه، يحاط ببناء متين بأحجار ومؤن جيدة، أو يجعل من حديد، وعادة يجعل طوله يسع أكبر سفينة فى البحر وعرضه بنسبة ذلك، ويجعل له فم من جهة الماء يسد بباب بهيئة مخصوصة، وفيه خوخات تفتح وتقفل على حسب الإرادة، فإذا أريد إدخال سفينة به للعمارة، مثلا، يفتح الباب فيدخل الماء ويمتلئ الحوض إلى حد استواء الماء فتدخل السفينة من غير مشقة، ثم يسدّ الباب وينزح الماء منه بواسطة وابور يحرك طلونبات تأخذ الماء من الحوض من مجار مجعولة لذلك فى جدرانه، وعادة تتم هذه العملية بعد ساعات، بحسب كبر الحوض وصغره، حتى تقف السفينة على مراكز من أخشاب مجعولة فيه تسمى: اسقرين قائمة فوق الأرض وتكون فى هذه الحالة مستندة على أخشاب أخر تسمى: المناطيل، تحفظها من الميل، وتستمر واقفة كذلك مدة عمارتها، طالت أو قصرت، وبعد فراغ العمارة تفتح خوخات الباب فيدخل الماء حتى يملأ الحوض فترتفع السفينة مع الماء، ولا يكون لها مانع من الخروج من الحوض سوى فتح الباب.
ومزية الحوض الحديد على حوض البناء، أنه ينتقل من موضعه إلى أى موضع أريد من المينات، وأعماله أسهل من أعمال حوض البناء بكثير، فلذلك حصل بوجوده فى تلك المينا دخول سفن كثيرة من سفن البلاد الأجنبية لعمارتها فيه، فترتب على ذلك، فضلا عن الإيراد المتحصل بسببه لجهة الحكومة استمرار دخول السفن الأجنبية بالمتاجر إلى ذلك الثغر، وتمكنت الحكومة بهذا الأمر الجليل من المداومة على صيانة سفنها الحربية والتجارية من الخلل، وصار بالمينا حوضان، فحصلت السهولة أكثر مما كان، وعم النفع المراكب الأهلية أيضا، وقبل ذلك كانت المراكب الميرية ربما شغلت الحوض مدة طويلة فتتعطل مراكب الأهالى.
مطلب الجسر الذى عمل لسد المينا من الجهة الغربية
ومما أكد الرغبة فى مينا إسكندرية تنظيمها وأمن السفن بها من فعل الرياح المختلفة، وذلك بسد المينا من جهة الغاطس بجسر عريض من الدبش والصخور الصناعية، ممتد بين جزيرة رأس التين والعجمى، وجعل طريق فيه لسلوك السفن الواردة إلى المينا والصادرة منها، ولتسهيل الشحن والتفريغ جعل فى دائرها من ابتداء مرسى الإنكليز، الواقع على شريط السكة الحديد من جهة القبارى، إلى الحوض المبنى فى الترسانة، وطول محيط ذلك 2664 مترا، ولأجل ذلك أيضا عمل مولص من الدبش والصخور، وممتدّ فى المينا من ابتداء مرسى الإنكليز المذكور إلى جهة رأس التين، فى طول 990 مترا، وعرض 27 مترا، ولأجل وقاية السفن التى ترسو خلف الأرصفة من الأهوية مع تسهيل نقل البضائع إلى محل الجمرك على أشرطة السكة الحديد التى وضعت عليه.
فهذه الأعمال كلها محاسن الأفكار الخديوية، لأنها فضلا عن تنظيم المينا وجعلها فى صورة حسنة ينشأ عنها الحصول على أرض متسعة فى دائر المينا، تتمكن الحكومة من أن تبنى فوقها ما هو لازم لمصالحها: كديوان الجمرك والسانتا وما أشبه ذلك، مع زيادة السهولة وقلة المصرف على التجار فى نقل بضائعهم، فلذلك ازدادت رغبتهم فى مينا الإسكندرية، وصرفوا النظر عن التحول إلى غيرها. لأن العاقل لا يؤثر على/جهة نفعه غيرها، سيما وقد ملكوا فى الثغر أملاكا عظيمة تحملهم على ملازمتها، مع كثرة منتزهات تلك المدينة والمزايا الخاصة بها كطيب الهواء، ووجود الماء العذب، وكثرة المزارع على تعدد أنواعها من رياحين وخلافها مما يحمل كل إنسان على حب التردد إليها، وتسريح طرفه فى محاسنها.
وأيضا قد ترتب على هذه الأعمال، وعلى وجود الفنارات التى جعلت فى ساحل المينا وفى أماكن كثيرة من سواحل القطر، من أبى صير غربى العجمى إلى بورت سعيد، وعلى
شاطئ البحر الأحمر زيادة الأمن على السفن السابحة فى البحرين-الغربى والرومى-وكثرة وفودها على الثغر، وهذا بخلاف ما كان يظن أوّلا عند حدوث القنال من نقص عددها أو نقص مقدار منقولاتها، فلم يعترها شئ، ولم تزل كل حين تتحلى بما يتجدد فيها من المبانى الفاخرة، وتتزين المينا بالسفن العظيمة المختلفة الهيئة، الواردة من بلاد أوربا وأمريكا وسائر الجهات، وما ذاك إلا لكون التجار عرفوا مزيتها على غيرها فى كثير من الأمور، وشاهدوا بها أشياء لم تكن بها من قبل حتى اشتهرت بالمحاسن شهرة أوجبت تخليد ذكر الحضرة الخديوية.
ولأهمية هذه الأعمال والتصميم على إتمامها فى أقرب مدة، أعطيت إلى شركة إنكليزية تعرف بشركة (جرلعلد) وجعل لذلك شروط ورسوم للعمل على مقتضاها مؤرخة فى سنة 1870 ميلادية، مشتملة على بيان الأعمال اللازمة والكميات من كل نوع ومقدار المصاريف، وهو قريب من خمسين مليونا من الفرنكات.
مطلب انقسام المينا
ومتى تمت هذه الأعمال، على حسب الشروط المعقودة، تكون مينا الإسكندرية منقسمة إلى مينتين: إحداهما كبرى جهة الخارج، والأخرى صغرى وهى فى الداخل.
والأوّلى معدّة لوقوف السفن الحربية والتجارية، ومساحتها 834 فدانا مصرية، مقدار كل فدان 4200 متر وكسور، وعمق الماء بها عشرة أمتار، ومنها تخرج السفن إلى الغاطس.
والجسر الذى سبق الكلام عليه يقيها من الأمواج والأرياح وطوله 2888 مترا، وعرضه من أعلاه ستة أمتار، وارتفاعه فوق الماء قريب من ثلاثة أمتار، ومن القاع إلى سطحه الأعلى ثمانية أمتار، وعدد الصخور المغطى بها سطحه المعرّض لصدم الأمواج عشرون
ألف صخرة صناعية، مركبة من مونة من الرمل والجير الماى-المعروف بجير توى-ومن الدبش، ومكعب الصخرة عشرة أمتار مكعبة، ووزنها عشرون طونولاتو، عبارة عن أربعمائة وأحد وأربعين قنطارا.
وأما الدبش، فمنه الكبير ووزنه يختلف من ألف وخمسمائة كيلوجرام إلى ألفى كيلوجرام، وهو مجعول للكسوة، وأما الصغير فهو فى الباطن.
والمحجر المستخرج منه ذلك هو محجر المكس، وكان أولا فى يد كومبانية قنال السويس، واشترته الحكومة الخديوية، وأنعمت به على شركة (جرنقلد) مع بعض الآلات والمواعين والعدد.
مطلب مساحة المينا الصغيرة
والمينا الصغيرة مساحتها مائة وأحد وسبعون فدانا مصريا، وعمق مائها ثمانية أمتار ونصف متر، فى أعظم حالة للجزر، والمولص المتقدم ذكره يقفلها من جهة المينا الكبيرة، والسفن تدخلها من فتحة جهة الترسانة، عرضها ما بين الحوض ونهاية المولص ألف متر لأجل الشحن والتفريغ على الأرصفة المحيطة بها من جهة الجمرك والمحمودية والسكة الحديد.
والموادّ التى تركيب منها المولص هى: صخور صناعية مثل التى تقدم ذكرها، ودبش مستخرج من محجر المكس.
وفى الشروط جعلت مدّة العمل خمس سنين، وأن ما يصرف كل شهر للمقاولين يكون بنسبة المشغول الشهرى وهو يقرب من خمسة وعشرين ألف جنية، وترتب لهذه العملية مهندس إنكليزى مخصوص، وجعل معه بعض من مهندسى الأشغال لملاحظة الأشغال وإجرائها على الوجه المنصوص فى الشروط، وتقدير كمياتها الشهرية.
وفى الأصل كانت الشروط على عمل رصيف من الصخور الصناعية، فى دائر المينا الداخل من جهة المولص من جهة البر، لكن صار الرجوع عنه بعد الشروع لما ظهر فيه من الصعوبات وزيادة المصاريف، لأنه ظهر أن أرض قاع المينا مغطاة بطبقة كثيفة من الطمى والطين، فكان كلما زاد ارتفاع المولص هبط، فخيف من وقوع الرصيف بعد إتمامه إن بنى على الدبش، كما هو التصميم الأول، وإن صار نزح الطين والطمى ووضع أساسه على الأرض الصلبة زاد الصرف، وبلغ قدر المقرّر فى الشروط مرتين، فمن بعد المداولة فيما يلزم حصل الاتفاق بين الحكومة والشركة على استعواض الرصيف بأسكلة من الحديد، تتكئ على أعمدة تصل إلى الأرض الصلبة، ويملأ فارغها بالخرسانة، لتحمل الأسكلة المعدّة للشحن والتفريغ.
مطلب السكة الحديد على أرصفة المينا
ومما تقرر عمله أيضا بالشركة سكة حديد على الأرصفة والمولص، وعيارات لتسهيل شحن وتفريغ المثقلات، ومخازن للبضائع التجارية.
وكان البدء/فى هذا العمل فى شهر مايه
(1)
الإفرنجى سنة 1870 ميلادية، وأوّل حجر رمى فى الأساس كان فى 15 من الشهر المذكور، واجتمع له محفل شامل حضره ولى النعم وأنجاله، والذوات الفخام والعلماء الأعلام، والأحبار العيسويون، والروم، واليهود، ووجوه التجار، ووكلاء الدول المتحابة، وعمل فى ذلك اليوم ألعاب وشنك، وهو وإن تحدد لإنتهائه تاريخ سنة 1876 ميلادية.
(1)
يعنى مايو.
وقد بقى على ذلك مدة بدت بشائر ثمرات هذا الغرس النافع، وتحقق من نجاح هذا المقصد الناظر والسامع، فمن منذ سنتين حصل نموّ محسوس فى عدد السفن الواردة على الثغر، وفى كمية البضائع الواردة والصادرة، وهذا ينبئ بكثرة فوائده الجليلة، ومتى تم واستعملت الأرصفة تحصلت الحكومة من عوائدها على إيراد يزيد عن ربح ما صرفته عليه، ومع طول الزمن يستحصل منه على الفائض ورأس المال، وبعد ذلك تكون العملية جميعها ربحا.
ومن ثمراته أيضا حفظ عوائد الجمرك وضبطها، زيادة عما هى عليه الآن، إذ لا شك أن ما يتحصل بسببه من عوائد ما هو معتاد إخفاؤه الآن، من دفع العوائد بسبب عدم تمكن الحكومة من إجراء جميع ما يلزم لضبطه يكون ربحا يضاف إلى ما تربحه السكة الحديد مما يتجدّد من الشركة التجارية التى تروم حينئذ استعمالها فى نقل بضائعها، وكل ذلك يزيد فى اعتبار الحكومة المصرية وشهرتها، ويمنع عن مدينة الإسكندرية ما كانت تخافه من الغوائل، وتستمر حائرة لجميع المزايا القديمة مع ما يضاف إليها من المزايا التى تحصل من تداخل الحوادث الزمانية بعضها فى بعض.
ولأجل إمكان مقارنة درجات تقدم الثغر، فى زمن الحضرة الخديوية بما سبقه، ومعرفة سير هذا التقدم مع الزمن، نورد هنا جدولا يتضمن عدد السفن التى دخلت مدينة إسكندرية، من ابتداء سنة 1837 ميلادية، ليتمكن الواقف عليه من المقارنة ومعرفة الفرق، ويعلم أن القنال لم يؤثر فى ثغر إسكندرية تأثيرا محسوسا، بل من الأعمال الخيرية المدبرة بالأفكار الخديوية حصل نموّ الإيراد بنموّ الزمن، وها هو الجدول:
سنة ميلادية سفينة
1837 1161
1838 1143
1839 1068
1840 1145
1841 1699
1842 1408
1843 1571
1844 1574
1845 1400
1846 1546
1847 1064
1848 1745
1849 1650
1850 1843
1851 1837
1852 1766
1853 1587
1854 1023
1855 2368
1856 2399
1857 2209
1858 2043
1859 2060
1860 2042
1861 2372
1862 2631
1863 1802
1864 4309
1865 2283
1866 3698
1867 3181
1868 2616
1869 2881
1870 2886
1871 2921
1872 2953
وبالإطلاع على هذا الجدول، يعلم أن المراكب الواردة على تلك المينا آخذة دائما فى الزيادة، من ابتداء سنة 1837 ميلادية إلى وقتنا هذا، حتى أنه فى سنة 1862 ميلادية بلغ زيادة عن ذلك التاريخ مرتين وزيادة.
وفى سنة 1872 بلغ قدر ما كان فى سنة 1862 مرة وثمنا، فهذا شاهد واضح على أنه لم يحصل من فتح القنال ما يشوّش عليها فى سيرها المعتاد، إذ فى السنة التى فتح فيها القنال، وهى سنة 1869 ميلادية، بلغ عدد السفن الواردة على مينا إسكندرية 2881، ثم أخذ فى الزيادة حتى بلغ سنة 1872 ميلادية 2953، يعنى أن الزيادة فى ظرف ثلاث سنين اثنان
وسبعون سفينة، والمأمول أنه متى تمت الأعمال الجارية فى المينا المذكورة، يزيد الوارد عليها كثيرا، وتلك النتيجة حاصلة أيضا فى السفن/الخارجة من تلك المينا إلى مين الدول الأخرى.
والزيادة حاصلة من سنة إلى سنة ففى سنة 1870 ميلادية بلغ عدد الخارج منها 2845، وفى سنة 1871 ميلادية بلغ 2872، وإن نظرت إلى حركة الواردين على هذا الثغر من جميع الأقطار، كما هو مبين فى الجدول الآتى، يتحقق عندك ذلك بدون شبهة.
مطلب جدول الواردين من الأغراب
جدول الواردين على ثغر الإسكندرية من الأغراب وغيرهم من سنة 1837 إلى سنة 1872.
وبالتأمّل فى هذا الجدول، يعلم أن عدد الواردين بالثغر على اختلاف مقاصدهم بلغ فى سنة 1872 ميلادية قدر الواردين عليه فى سنة 1837 ست مرات، وإذا أخذت متوسط الواردين على الثغر من ابتداء استقرار الخديوى إسماعيل على التخت وهو 59196، وقابلته بعدد الواردين فى السنة السابقة على توليته وهو 32722، تجد الزيادة السنوية المتوسطة 26474، وهى لا تنقص عن الأصل إلا بقدر خمسة تقريبا.
ويظهر من ذلك أن عدد الواردين بلغ عدد الأصل مرتين إلا خمسا، وربما فاقها فى السنين التى لم يعمل فيها الإحصاء، وهما سنتان 1873 وسنة 1874.
وفى تلك النتائج دلالة على متانة الارتباطات والعلائق الحاصلة بين الديار المصرية والأقطار الأجنبية، ومما يؤكد ذلك حركة التجارة نفسها، فقد بلغ مشحون السفن الواردة على الثغر فى سنة 1871 (1275619) طونولاتو، وبلغ مقدار الوارد من البضائع فى جميع المين 42556 طونولاتو وبيانه:
سفينة طونولاتو
مينا أبى قير ....... \538\ 412
فى السويس ........ \554\ 321
فى رشيد ......... \909\ 905
فى دمياط ........ \777\ 40918
2778 42556
والخارج من القطر من هذه المين إلى بلاد السواحل الشامية والرومية وغيرها، يقرب من ذلك، وهذا خلاف الوارد على مينا السويس من جهة السواحل السودانية، والحبشية، والحجازية، وغيرها.
مطلب
وقيمة ما خرج من البضائع المصرية المتنوّعة من مينا إسكندرية فى سنة 1870 ميلادية بالقروش الرومية 699،531،799، وهو عبارة عن/عشرة ملايين من الجنيهات المصرية، وقيمة الوارد عليها بالقروش المصرية فى السنة المذكورة 366057650، وقيمة الوارد من البلاد الأجنبية على جميع مين القطر المصرى بالقروش 40015693، وبيان ذلك:
قيمة الوارد من مين البلاد الأجنبية للقطر المصرى
الوارد على مينا إسكندرية 366075650
الوارد على مينا دمياط 345662
الوارد على مينا بورت سعيد 10957762
الوارد على مينا السويس 20141941
الوارد على مينا العريش 2355212
الوارد على مينا القصير 89466
الوارد على مينا سواكن 100000
الوارد على مينا مصوع 100000
400165693
قيمة الخارج من المين المذكورة هو كالمبين فى هذا
قيمة ما خرج من إسكندرية 861932600
قيمة ما خرج من دمياط 59134800
قيمة ما خرج من من بورت سعيد 11122200
قيمة ما خرج من السويس 80567766
قيمة ما خرج من العريش 53644700
قيمة ما خرج من القصير 34341700
قيمة ما خرج من سواكن 45788933
قيمة ما خرج من مصوع 22894533
ومجموع قيم المبادلات الداخلة والخارجة فى نفس هذه السنة، التى انتفعت منها الجمارك المصرية، وتداولتها أيدى التجار من أهليين وغيرهم قدره:1519552925، وهو تقريبا عبارة عن خمسة عشر مليونا من الجنيهات المصرية.
مطلب
ولم تقف التجارة عند هذا الحد، بل هى دائما فى الزيادة، حتى بلغ مقدار قيمة الوارد من البضائع على مينا الإسكندرية فى سنة 1872 ميلادية 590291489، وبلغ قيمة الخارج من الثغر المذكور إلى الجهات فى تلك السنة 1330483809، ومجموع الحاصلين 1920775298 قروش مصرية، وهو عبارة عن تسعة عشر مليونا من الجنية المصرى وربع مليون، بمعنى أنه فى ظرف سنتين زادت قيمة ما ورد وما خرج من الثغر المذكور أربعة ملايين وربع مليون جنيهات.
ومما زاد أنواع المتاجر فى هذا الوقت نجاحا، اشتراك جميع الملل فى هذا الأمر، كل أمة بحسب حالها وسعة اقتدارها، فإنا نرى المبلغ السابق بيانه موزعا بهذه الكيفية:
\قيمة الوارد منها\قيمة الصادر إليها
البلاد الإنكليزية\268773319\ 999443651
البلاد الفرنساوية\62915199\ 125422123
الدولة اليونانية\12743221\ 1145520
بلاد الاتيازونى من الأمريكا\7168000\ 2907575
بلاد السويد\2013600\ 000000000
بلاد الترك بأوروبا وآسيا الصغرى\66608299\ 16748759
بلاد المغرب\27687657\ 1574223
البلاد النمساوية\60576421\ 59860462
البلاد التليانية\45550657\ 83230443
بلاد البلجيكا\750992\ 613368
بلاد الروسيا\1471860\ 26324310
بلاد الألمانيا\535600\ 00000000
بلاد الشام\33640648\ 13213375
وبالتأمل فى هذا الجدول يعلم أن قيمة الوارد والصادر من البلاد الإنكليزية إلى الديار المصرية، يبلغ ضعف قيمة جميع البضائع الصادرة والواردة من كل دولة على حدتها، وأن كل دولة على نحو النصف منها.
وبمقارنة أحوال التجارة فى هذا الزمن بأحوالها فى المدد السابقة، تجد بينهما بونا بعيدا، فإن قيمة البضائع الواردة على الثغر والصادرة منه فى سنة 1823 ميلادية، أعنى قبل الآن بخمسين سنة، كان قريبا من مليونين وثلث مليون جنيه مصرى، وهو قريب من تسع قيمة بضائع سنة 1872، وأن نسبته إلى قيم الوارد والصادر فى سنة 1862 ميلادية، تجده فى هذه السنة قريبا من اثنى عشر مليونا وثلث مليون جنيه مصرى، وهو أقل من قيمة التجارة فى سنة 1872 بأكثر من نصفه/فقد ظهر لك أن التجارة والأرباح لم تزل آخذة فى الزيادة من سنة إلى سنة، من ابتداء جلوس المرحوم محمد على باشا على التخت، واستمرت على ذلك فى زمن من خلفوه على هذه الديار، وأن بلوغها الدرجة العظمى كان بالهمم الخديوية.
********
مطلب فى بيان عدد السفن الواردة على
مينا السويس من سنة 1849 إلى سنة 1872
وكما أن كمية الوارد والصادر آخذة فى الزيادة فى ذلك الثغر، كذلك فى المين الأخر ففى مينا السويس مثلا حركة السفن الواردة عليه كهذا المبين فى الجدول:
سنة ميلادية عدد السفن
1849 119
1850 146
1851 205
1852 204
1853 225
1854 269
1855 298
1856 307
1857 374
1858 372
1859 371
1860 368
1861 401
1862 377
1863 347
1865 425
1866 353
1867 370
1868 335
1869 358
1870 326
1871 376
1872 858
وبعد مضى أربع وعشرين سنة، من ابتداء سنة 1849 ميلادية، بلغ عدد السفن الواردة على ذلك الثغر فى سنة 1872 ميلادية قدر ما كان يرد قبل ذلك ثمان مرات.
وكما أن القتال لم يعطل حركة التجارة فى هذا الثغر، لم يعطلها فى غيره من الثغور.
وبسبب المساعى المثمرة من الحكومة الخديوية فى الأقطار المصرية والسودانية كثر سير التجارة فى البحر الأحمر، وعما قليل تقارن تجارة البحر الأبيض، وتعود إلى هذا الطريق شهرته القديمة التى أضاعتها حوادث الزمان، لأن السواحل السودانية بلغت بهمته السنية ما لم تبلغه فى زمن قبله، فإنك ترى السفن الحربية والتجارية داخلة وخارجة من مين البحر الأحمر.
مطلب فى بيان عدد السفن الواردة على
مينا سواكن والقصير ومصوع
وقد بلغ عدد السفن المترددة على هذه المين فى سنة 1872 ميلادية 1640 سفينة، ما بين بخارية وشراعية، وبلغ ما كان بها من البضائع فى ظرف هذه السنة 85580 طونولاتو وبيان ذلك:
سفينة حمولة
مينا سواكن\352\ 8103
مينا القصير\872\ 41224
مينا مصوع\416\ 36253
وأما المراكب الصغيرة ذات الشراع، فقد دخل منها إلى مينا مصوع فى هذه السنة 1402، حاملة 142 طونولاتو، وبلغ عدد الركاب فى تلك السنة قريبا من ستة عشر ألف نفس غير العساكر، وينسب إلى المين الأخر ما يقرب من ذلك.
ولا يخفى ما فى ذلك من الدلالة على اتصال منافع جهات البحر الأحمر بمنافع جهات البحر الأبيض، وغرس حبة التمدن فى سواحل أرض السودان كغرسها فى أرض مصر، حتى ترعرع زرعها وأثمر، وذاق طعم ثمراتها كثير من الأهل والأغراب، فعرفوا مزية هذا الغرس وألفوه، وأوسعوا فى زرعه، وباستمداده من طرف الحضرة الخديوية لا بد أن يسرى/إلى البلاد السودانية، ويؤثر فى أرضها وطباع أهلها، وينقلهم من الخشونة والتوحش إلى التنعم والتأنس، حتى يصبحوا بما نالوا من الثروة مقرين لحضرته بالشكر الجميل، داعين له ولأنجاله بتخليد دولتهم وتوفيقهم إلى أقوم سبيل.
مطلب الكلام على البوسطة الخديوية
وعلى ما نشأ عنها من المنافع
ومن الأعمال السديدة التى تقدمت بها التجارة على سالف سيرها: إحداث البوسطة الخديوية، فإنه حصل بوجودها فى البحرين استمرار ورود ما كان يرد على القطر من بلاد كثيرة، من جهات السواحل الرومية والغربية والسودانية، ولو بقى الأمر على ما كان عليه قبل لا نقطع ذلك أو قل.
وقد دلت جداول الإحصاءات على أن هذه المصلحة نقلت فى سنة 1872 ميلادية من نوع المكاتيب فقط 2075314، من ضمنها 77396 مكتوبا من البلاد الأجنبية وإليها من الديار المصرية، ومن صنف النقود والحوالات ما بلغ قدره بالقروش المصرية الميرية 1633584209.
ولولا البوسطة لاختل نظام بعض الثغور المصرية، خصوصا ثغر الإسكندرية، فهى فكرة جليلة من الحضرة الخديوية ترتب عليها زيادة عمارية سائر الثغور المصرية، لا سيما وقد
جعلت بورت سعيد معتبرا اعتبار الثغور الأصلية، لما حصل منه من الفوائد الجليلة العائدة على ما جاوره من البلدان، لأن هذا الثغر بالنسبة لما جاوره، كثغر الإسكندرية بالنسبة لسائر الجهات، إذ يرد عليه من مديريات الشرقية والغربية، والدقهلية من متجرات أهل تلك الجهات، كما يرد إلى الإسكندرية من مديريات البحيرة والغربية، وإن كان باعتبار حالته الراهنة لا يبلغ معشار ما عليه مدينة الإسكندرية من الرفاهية ولكن لكونه مرسى السفن الواردة من الجهات الشرقية والغربية، استدعى ذلك أن يكون به حركة تجارية، ومعلوم أن تغذية هذه الحركة إنما تكون فى الغالب من أهل الجهات المجاورة له، ولا يخفى ما فى هذا من الفوائد العائدة عليهم وعلى غيرهم.
وقد أحصى عدد السفن المارة بالقنال فى سنة 1860 ميلادية فكان 105، وعدد السياحين المارين به فكان 401، ثم أخذ يزيد حتى بلغ الوارد به من السفن فى سنة 1872 ميلادية 1443، ومن السياحين 62062، والمتوسط فى ظرف الثلاث عشرة سنة من السياحين 17646، ولا بد أن ذلك يزيد على طول الزمن، وكذلك الحال فى المسافرين الذين نزلوا بهذا الثغر ثم ارتحلوا منه إلى الديار المصرية، لأن عددهم فى سنة 1870 ميلادية كان 2829، وفى سنة 1872 كان 21376، ولا ينكر أحد أن نزولهم بهذا الثغر وقيامهم منه إلى أى جهة من القطر يستوجب من طرفهم مصاريف، بحسب أحوالهم وثروتهم واختلاف مقاصدهم، فتقع فى أيدى الأهالى، وتزيد بذلك حركة التجارة لأنها تابعة للأخذ والإعطاء قلة وكثرة.
***
مطلب فى بيان عدد السفن البخارية للبوسطة،
وفى بيان قوتها وما تحرقه فى
السنة الواحدة من الفحم الحجرى
وتشمل البوسطة الخديوية على ستة وعشرين سفينة بخارية، تحرق فى السنة الواحدة 65500 طونولاتو من فحم الحجر، منها فى البحر الرومى 51200 طنا، وفى البحر الأحمر 14300 طنا.
وبيان تلك السفن ومقدار قوتها هو ما فى هذا الجدول:
عدد\أسماء السفن\قوتها حصارى بخارى
1\الرحمانية\300
1\تاكا\300
1\الفيوم\300
1\البحيرة\350
1\الشرقية\350
1\الدقهلية\350
1\طنطا\350
1\شبين\140
1\دسوق\200
1\كوفين\300
1\سمنود\250
1\المنيا\170
1\الجعفرية\160
1\مشير\140
1\المنصورة\140
1\المحلة\120
1\السجلية\120
1\دمنهور\120
1\الزقازيق\120
1\الحجاز\150
1\حديدة\130
1\الينبع\97
1\سواكن\85
1\مصوع\85
1\القصير\97
مطلب
وهذا خلاف الدوننمة المصرية المشتملة على أربع عشرة سفينة بخارية، قوة آلاتها ثلاثة آلاف وتسعمائة وثمانون حصانا بخاريا، تستهلك من الفحم الحجرى كل سنة عشرة آلاف طونولاتو، منها فى البحر الرومى ستة آلاف طن، وفى البحر الأحمر أربعة آلاف، ومقدار حمولتها كلها 16476 طن.
وبيان السفن المذكورة هكذا:
عدد\أسماء السفن\قوتها حصان
1\المحروسة ركوبة الخديوى\800
1\مصر ركوبة المعية الخديوية\600
1\الغربية ركوبة الفامليا الخديوية\500
1\محمد على فرقطين\450
1\سرجهار\450
1\لطيف كرويط \300
1\دنقله شالوب\80
1\الطور شالوب\180
1\سناد شالوب\120
1\الخرطوم شالوب\200
1\سيوط وثلاث مراكب صغيرة\300
وبإضافة جميع السفن التجارية المترددة على المين بما فيها من ملك الأهالى، خلاف وابورات النيل، إلى ما سبق، يتحصل على 550 سفينة، كافية الشحن 53711 من الطونولاتو، وهو عبارة عن 1181642 قنطارا مصريا، فإن أضيف إلى ذلك مقدار ما تحمله مراكب الشراع الموجودة فى البحرين الرومى والغربى، يكون قدر ما يحمل على المياه المصرية هو:
سفن قنطار
55\ 1181642\بالسفن البخارية
555\ 679998\بمراكب الشراع فى الأحمر والأبيض
9063\ 351858\فى مراكب النيل
وعدد السفن البخارية الموجودة على بحر النيل 58 سفينة، منها 28 خاصة بمصالح الدائرة السنية، والباقى مستعمل فى المصالح العمومية.
ومقدار قوة تلك السفن ألف وأربعمائة حصان، ونحرق فى السنة الواحدة 262505 طونولاتو من الفحم الحجرى.
وجميع هذه القوى حادثة بالهمم الخديوية، وهى من أعظم أسباب الثروة، ومن أكبر أدلة التقدم لهذه الأقطار، إذ ما حصل بسببها من الفوائد داخلا وخارجا لا ينكر، وبها يتيسر نقل الأثقال الكبيرة فى أقرب وقت بأقل كلفة، مع اختراقها جميع البحار فى سائر الفصول، آمنة من عواصف الرياح وتلاطم الأمواج، فقد عم الأمن جميع الطرق برا وبحرا، وأخذت تلك القوى فى النمو شيئا فشيئا من غير فتور إلى أن وصلت إلى ما هى عليه الآن وهكذا لا تزال ترقى فى درج التقدم.
وبعد أن كانت الديار المصرية أسيرة السفن الأجنبية، لم تقتصر على التخلص من هذا الأسر، بل اجتهدت حتى زاحمت جميع الدول فى مزاياها، وجعلت لها خطوطا تجارية تسير فيها صادرة وواردة، وتمر فى البحار المجاورة لها على الجهات الواقعة عليها، وتشترك مع غيرها فى وجوه الانتفاع إلى أن صار لها خطوط تمر ببلاد اليونان، وبلاد آسيا فى البحر الرومى، وتمر فى البحر الأحمر لجهة مصوع، وسواكن، وجدة وبلاد العرب، وهذا غير ما لها فى بحر النيل، وخط اليونان يمر ذهابا وإيابا بجزيرة سيرا، وجزيرة شيو، ومدينة أزمير، وميلتين، وتندوى، والدردنيل، وحالبلولى
(1)
والقسطنطينية.
(1)
يقصد: جاليبولى-غاليبولى.
أما الشركات البحرية البخارية المعدة لركوب السياحين ونقل البضائع، غير البوسطة الخديوية، فهى كثيرة وطريقها الديار المصرية، وأشهرها الشركات الآتى بيانها:
الشركة المعروفة بالمساجرى انبريال
وهى فرنساوية، ومن قوانينها قيام وابور من الإسكندرية فى كل يوم سبت بعد كل أسبوعين، وحضور وابور آخر من مرسيليا فى يوم الأحد التالى لقيام الوابور الأول، وعادة وابوراتها المرور بمدينة بورت سعيد، ويافا، وبيروت، وطرابلس، وأنطاكية، وإسكندرية، ومرسيليا، ورودس، وأزمير، والدردنيل، وجيبلولى
(1)
، والقسطنطينية.
ولهذه الشركة وابورات تتوجه إلى الصين الغربى، المعروف بالكوشانشين، وفى كل يوم سبت تقوم سفينة من مدينة بورت سعيد إلى هذه الجهات، وتحضر سفينة أخرى من هذه النواحى.
الشركة الشرقية الإنكليزية
هذه الشركة من أعظم الشركات الإنكليزية؛ لكثرة وابوراتها وتعدد وكلائها فى جهات كثيرة مثل أوربا، وآسيا، وإفريقيا، ولها عدة خطوط تمر فى البحر الرومى إلى مصر، وديوان وكيلها فى الديار المصرية بالإسكندرية، فى ميدان محمد على.
وقبل حدوث القنال كانت جميع البضائع المنقولة بمراكبها، سواء كانت من البلاد الأوروباوية أو المشرقية أو الهندية، تنقل من البحر إلى السكة الحديد، فكان يتحصل من ذلك إيراد عظيم لتلك المصلحة.
(1)
يقصد: جاليبولى.
ومن بعد إتمام القنال، صار أغلب مراكبها يمر بأحماله فيه، ويرسو على مينا السويس والإسكندرية لنقل بضائعه على السكة الحديد.
والخط الأول من خطوطها المارة بمصر: أوله مدينة (سوتامتون)
(1)
وآخره إسكندرية، ويمر بجبل الطارق وجزيرة مالطة، ومسافة الطريق 2951 ميلا إنكليزيا، كل ميل ألف وستمائة متر وبعض أمتار، ومدة السفر تستغرق 295 ساعة، والقيام من (سوتامتون) كل يوم سبت، والحضور إلى إسكندرية كل يوم جمعة والقيام منها كل يوم أحد.
والخط الثانى من خطوطها إلى مصر: أوله مدينة (نرندنرى)
(2)
من إيطاليا وآخره الإسكندرية، والمسافة 825 ميلا إنكليزيا، ومدة السفر 82 ساعة، وقيام الوابور من (نرندنرى) كل يوم ثلاثاء وحضوره إلى إسكندرية كل يوم جمعة، والقيام منها كل يوم أحد أو ثلاثاء.
والخط الثالث أوله: بنبى
(3)
وآخره مدينة السويس، ويمر بناحية عدن من سواحل العرب، والمسافة 2972 ميلا إنكليزيا، ومدة السفر 313 ساعة.
والثلاثة خطوط المذكورة تشتغل مرة واحدة فى كل أسبوع.
شركة لويد النمساوية
هذه الشركة كانت تنقل بضائعها إلى السكة الحديد المصرية، قبل إتمام القنال، وبعد إتمامه انقطع استعمالها لها، ولم تكن كثيرة السفن، وإيرادها كان أقل بكثير من إيراد الشركة المشرفة، على السكة الحديد، ومع ذلك كانت هى الثانية فى الإيراد، ووكيل إدارتها محله فى ميدان محمد على، ومراكبها تسافر من (ترسينة) إلى الإسكندرية فى كل يوم جمعة بعد نصف الليل، وتحضر بجزيرة (كورفو) بعد يومين، وإلى الإسكندرية بعد خمسة أيام،
(1)
يقصد: سوثهامبتن.
(2)
يقصد: برنديزى.
(3)
يقصد: بومباى.
وتقوم وابوراتها من الإسكندرية فى كل يوم إثنين وقت الظهر، ولها سفن تمر بين الإسكندرية والقسطنطينية، وتبتدئ من مدينة أزمير، وتمر بميلتين، وتندوس، والدردنيل، وجيبلولى
(1)
، والقسطنطينية، وقيامها من الإسكندرية كل يوم ثلاثاء، ولها خط لجهة الشام يمر بمدينة بورت سعيد، ويافا، وبيروت، وجزيرة قبرص، وجزيرة رودوس، وجزيرة شيو، وأزمير، وميلتين، وتندوس، والدردنيل، وجيبلولى، والقسطنطينية، والقيام من إسكندرية يوم الجمعة بعد كل أسبوعين.
الشركة المسكوبية
هذه الشركة، طريقها ما بين مدينة أوديسا المسماة عندنا: خوخة بيكر، من سواحل البحر الأسود، ومدينة الإسكندرية، ومحل وكيلها فى ميدان محمد على من الإسكندرية، وتقوم من أوديسا مرتين فى كل شهر، ووابوراتها القائمة من الإسكندرية تمر بمدينة بورت سعيد، ويافا، وبيروت، وجزيرة رودس، وجزيرة شيو، وأزمير والقسطنطينية.
شركة روباتينو
أصحاب هذه الشركة من الجونيين، ووابوراتهم طريقها ما بين مصر وبنبى، والقيام فى خامس كل شهر وفى الخامس والعشرين منه، وتمر فى طريقها ذهابا وإيابا بمدينة (ليورفه) من إيطاليا، ومدينة نابل، ومدينة ميسين، ومدينة الإسكندرية، والقيام من إسكندرية عادة فى السابع والسابع عشر والسابع والعشرين من كل شهر، ومدة السفر ثمانية أيام، والقيام من مدينة جنوة إلى بنبى فى الرابع والعشرين من الشهر، والوصول إلى بورت سعيد فى أول كل شهر.
(1)
انظر ما سبق ص 237.
شركة فرسينى
سفن هذه الشركة سائرة ما بين مدينة مرسيليا ومدينة إسكندرية، ومحل وكيلها بالديار المصرية فى ميدان محمد على، وتقوم وابوراتها من مرسيليا فى الخامس عشر وفى الثلاثين أو الواحد والثلاثين من كل شهر، ومسافة الطريق 1410 أميال بحرية، ومدة السفر ثمانية أيام، ومن عاداتها المرور بمالطة والوقوف بها، وقدر الأجرة بها فى الدرجة الأولى 225 فرنكا، وفى الدرجة الثانية 160 فرنكا، وفى الدرجة الثالثة 60 فرنكا، وأجرة الدرجة الأولى ذهابا وإيابا معا 400 فرنك، والدرجة الثانية 280، والثالثة 100.
شركة جام موسى
سفن هذه الشركة جارية بين ليوربول-من جزائر الانكليز-وبين الإسكندرية، وتمر بجبل/الطارق، وجزيرة مالطة، وسواحل الشام، وقيامها فى كل أسبوع، ومحل وكيلها بمدينة إسكندرية، الوكالة الجديدة نمرة 15.
وهناك شركات أخرى لم نذكرها، منها ما تمر سفنه بالسواحل الرومية، ومنها ما تمر سفنه بها وبالسواحل الشامية، ومرسى الجميع هو الإسكندرية.
سفن البوسطة الإنكليزية
البوسطة الإنكليزية، تقوم وابوراتها من إسكندرية بعد وصول البوسطة الواردة من الهند بثمان عشرة ساعة، أو أربع وعشرين ساعة، على حسب الأحوال، والقيام من (نرندنرى) يوم الثلاثاء، فى الساعة الخامسة من النهار.
البوسطة الهندية
الواردة من الطين
(1)
، ومن يابونيا،
(2)
والأسترالى تسافر فى مراكب البوسطة المتوجهة إلى الأنبازونى، والممالك المجتمعه الأمريقانية.
البوسطة النمساوية
محلها فى حارة شريف باشا من مدينة إسكندرية، ولها قوانين ولوائح، وهى مختصة بتوصيل المكاتبات والكتب والجرانيل، والأشياء الثمينة.
البوسط اليونانية
محلها حارة المسلة.
البوسطة التليانية
محلها حارة محمد توفيق.
***
(1)
يقصد: الصين.
(2)
يقصد: اليابان.
الفصل الثالث
فيما عاد على الإسكندرية من فوائد السكة الحديد، والإشارات التلغرافية
من المعلوم أن هذه الأعمال، التى تقدم الكلام عليها، وإن كانت فوائدها كثيرة منها:
بلوغ مدينة الإسكندرية الدرجة التى وصلت إليها، لكن أعظم هذه الأعمال وأحق ما يصرف فيه نفائس الأموال، هو السكة الحديد والإشارات التلغرافية، لأن هذين الاختراعين من بين سائر الاختراعات البشرية، قد رفعا عن الإنسان أنواعا من المشاق وقرّبا له ما بعد من الآفاق، حتى أمكنه فى أقرب زمن أن يتحصل على ما كان يحاوله فى آلاف من الناس، وكثير من الوسائط فى زمن طويل، وهيهات إن وصل إلى مقصده، أو تحصل على مقصوده، وقد تيسر بهمة الدولة المحمدية العلوية اشتمال الديار المصرية، كغيرها من البقاع المتمدنة على هذين الاختراعين والانتفاع بهما، غير أن كمال أعمالهما، وبلوغ ما يحصل منهما من الفوائد لم يتم إلا فى عهد الخديوى، أفندينا إسماعيل باشا حفظه الله، فإنه من حين جلوسه على تخت الحكومة المصرية، وجه كل أفكاره إلى تنظيم السكك الحديد والتلغرافات المصرية، وتحصيل لوازمهما، وتوسيع دائرة عملهما، وتوزيع فروعهما فى جميع أرجاء قطره حتى عم نفعهما، وعما قليل بواستطهما تلتحق الأمم السودانية-التى لم تغيرها المؤون من السنين عن التبربر والتوحش-بالديار المصرية، وتذوق لذة ثمرة التمدن والعمارية، وتزول من بين سكانها دواعى النفرة وأسباب الفقر، وتعمر أرضها الواسعة ونواحيها الشاسعة بأنواع المزارع، وتكثر بها المدن والقرى، ويسكنها الأغراب مع الأمن، ويطوفون بقاعها، ويختبرون خواصها، ويستخرجون خباياها، وتتصل البلاد المصرية بالسودانية، فيكتسب كل منهما طبع الآخر، وتتسع دائرة المنافع فى كلا القطرين.
وبالاستمرار على ذلك تحسن أحوال البلاد السودانية، وتسرى رفاهيتهم وتمدنهم إلى من جاورهم من الأمم المتوحشة، المنتشرة فى داخل إفريقية وفى سواحلها.
ومع تردد المصريين والأغراب من سائر الملل على بلادهم بأنفاس ومساعى الحضرة الخديوية، تتخلص بقعة إفريقية من ربقة أسر الجهل والتوحش، كما تخلصت بلاد أمريكا من توحشهم بدخول الأندلسيين والإفرنج ببلادهم، وكما تخلصت جهات من الهند والسواحل الصينية والأوقيانوس بدخول الإنكليز بها.
وتكون هذه النتيجة وحدها كافية فى تخليد ذكر الحضرة الخديوية، كافلة له بسبقه على من تقدمه فى هذه المزية، فإنه أول من تفكر فى أحوال الأقطار السودانية، وسمح لها بنصيب من المنافع الجمة التى تعم سائر الأقطار، فعلى كل إنسان أن يدعو له بطول أيامه، وتوفيقه لطريق الصواب فى أحكامه، إذ من فوائد ذلك إمكان السياحة فى هذه القطعة من الدنيا، والاطلاع على ما تشتمل عليه بأقل كلفة فى أقرب زمن، بعد أن كان من يقصد ذلك، مع عدم بلوغه لتمام مقصوده، يستغرق زمانا طويلا، ويقاسى من الغوائل والعوارض ما يضر بصحته، وربما اعتراه من المرض ما يؤدى إلى هلكته-إن سلم من الحيوانات المفترسة وسكان تلك الجهات-فكان المتصدى للوصول إلى هذه البقعة مخاطرا بنفسه، غير خاف عليه ما هو أمامه من الأهوال، وإنما يحمله على اقتحام تلك المشاق طمعه فى تحصيل أغراضه، وقصده نفع النوع الإنسانى.
فالآن قد هانت بالهمم الخديوية مستصعبات أمور السياحة، بما تمهد من وسائط الأمن كالحراسة والخفارة من قبل إتمام السكك الحديد، وسهلت طرق السير فى جميع أرجاء الأقطار السودانية الممتدة إلى دائرة الاستواء طولا، ومن ساحل البحر الأحمر إلى بلاد دارفور عرضا، وبما صرف من طرف الحضرة الخديوية من الأموال، وما بذله رجاله من الأعمال، أخذت أحوال أهل تلك البقاع المتفرقة فى الاستقامة، وقد سمع المتبربرون من أهل تلك الجهات بالشهرة الخديوية فخافوها، كما سمع بها من سامتهم من متمدنى تلك البقاع فعظموها.
وصدر الأمر بذلك من المرحوم سعيد باشا، وشرع فى إرسالها بالفعل، فلم ينتج من ذلك إلا ثمرات جزئية.
ولما آل أمر الحكومة إلى جناب الخديوى إسماعيل باشا، وجه جل أفكاره السنية إلى تكميل السكة الحديد بما يلزم لها مما يجلب إليها رغبة الركاب والتجار، لعلمه أن إيرادها تابع لقدر الرغبة فيها، قلة وكثرة، ومن المعلوم أن الرغبة لا تتم إلا بإتمام موجبات الحفظ والوقاية فى كل محطة، مع مراعاة ما يلزم للركاب من الرفق بهم، وحسن المعاملة معهم، وتأمين أرباب البضائع على بضائعهم، فصدرت أوامره السامية بما يلزم لهذه المصلحة والاعتناء بشأنها.
وفى أواخر سنة 1868 ميلادية، الموافقة سنة 1285 هجرية، قد حفّنى العزيز بأنظاره السنية، وشملنى بإحساناته البهية، وقلّدنى نظارة هذه المصلحة، مع ما كان محالا علىّ من لدن سدّته من المصالح، فأعملت فى ذلك جل أفكارى، وصار الاهتمام ببناء جميع المحطات بسائر ملحقاتها وما يلزم لها، حتى ظهرت فى أقرب وقت.
وكان أول ما حصل الإهتمام به على الخطوط القديمة والجديدة التى حدثت فى الوجه البحرى والقبلى محطة إسكندرية، لأنها مجمع المتاجر الواردة والصادرة، فمتى استوفت لوازمها وسهل الشحن والتفريغ بها، وأمن التجار على بضائعهم من التلف، أقبل الناس على استعمال السكة الحديد، خصوصا إذا قلت الأجرة بها عن أجرة البحر.
وفى ذاك الوقت لم يكن بتلك المحطة مخازن للبضائع، بل كان جميع الصادر منها وإليها مطروحا على أرض المحطة، بين القطورات والوابورات، حتى كانت براميل الزيتون والمائعات والأدهان مرمية مع الأخشاب، وفى خلالها طرود الأقمشة، وأصناف المنسوجات، وأكياس القطن، وزنابيل الحبوب فكان يعسر على المستخدمين نقلها، وتكرر من أصحاب البضائع الشكوى، لما كان يلحقهم من المصرف الزائد فى أجر العتالين والعربات، لأن الأجرة-إذ
كالذهب والفضة والنحاس، ويستعملون ذلك فى حوائجهم وضرورياتهم ويتجرون فيما يزيد عن لوازمهم. ومتى وصلوا إلى هذه الدرجة بلغت التجارة بين أهل تلك البلاد وبلاد مصر درجة لم يسمع بها من قبل، ويعود إلى إسكندرية فخرها التليد، وتكون مركزا لجميع تجارات بقاع الأرض، كما مر.
وقد علمت أن كثيرا من تلك التجارات طريقه الديار المصرية، فتمر بها التجارة السودانية طولا، والتجارة الهندية والمشرقية والأوروباوية عرضا، وبمرورها تنال منها المدن والبنادر والقرى حظوظا وفوائد، تكسبهم زيادة الرفاهية وحسن الحال.
فإذا تأملت ما تلوناه عليك، تقف على حقيقة محاسن المغارس الخديوية، وما ينشأ عنها للقطر فى العاجل والآجل، فإن مقصده تعميم المنافع من غير نظر لزمن معين، فلذا نتج من أفكاره الجليلة السامية، من ابتداء جلوسه على التخت إلى سنة 1292 هجرية، أعنى فى ظرف 13 سنة، اشتمال القطر على سكك حديد توزعت فى نواحيه وامتدت فى جهاته بطول ألف وثلثمائة وخمسة وعشرين ميلا إنكليزيا، وهذا غير الخطوط المستعملة فى نقل محصولات الزراعة.
وقد كان الموجود من السكة الحديد، إلى آخر زمن المرحوم سعيد باشا 245 ميلا إنكليزيا، وكان جميعه فى الوجه البحرى، فيكون والذى زاده الخديوى فى ظرف هذه المدة اليسيرة هو 1085 ميلا، أعنى أنه زاد فى كل سنة فى السكك الحديد 83 ميلا إنكليزيا تقريبا.
مطلب فى بيان فروع السكة الحديد
وبيان فروع السكة الحديد كما ترى:
ميل
السكة الطوالى من إسكندرية إلى القاهرة خطان 131
من بئها إلى الزقازيق خطان 24
من قليوب إلى المنصورة 88،75
من الزقازيق إلى أبى حماد خطان وإلى السويس خط واحد 103،50
من طنطا إلى المنصورة بالمرور من سمنود 33
من طنطا إلى شبين الكوم 18،75
من ميتيره إلى بنها 8
فرع القناطر الخيرية من قليوب 7،50
فرع العباسية والقبة 3
من طلخا إلى شربين ودمياط 25
من القاهرة إلى المنية 151
من الحيزة إلى إيتاى البارود 85
من المنية إلى الروضة 25
من الروضة إلى أسيوط 53
فرع الفيوم من الواسطة 25
فرع أبى الوقف 8
فرع بنى مزار 9
فرع أبواكسه 16
والهمم كانت متوجهة إلى تركيب خط السودان، وقد حصل بالفعل تركيب بعضه، وتعين من يلزم من المهندسين والعمال بمعية سعادة شاهين باشا لمباشرة عمل الخط الواصل إلى شندى، ولكن صار الإعراض عن ذلك الآن، والرأى الذى كان صار التصميم عليه بمعرفة المهندس الإنكليزى (فلولر) أن التجارة تسير على النيل فى المسافات السهلة الخالية عن الموانع، وتسير على السكك الحديد فيما عدا ذلك، وحيث أن أصعب طريق السودان هو خط العطمور لطوله، وخلوه عن الماء، وشدة حره، جعل فى هذا الطريق شريط يبتدئ من وادى حلفه ويمشى على الشاطئ الأيسر من النيل فى ناحية مطامه، فى مواجهة ناحية شندى الواقعة على الشاطئ الأيمن، وطول هذا الخط 889 كيلومتر.
والخط المذكور يصير تكميله، فيما بعد، من جهة بحرى بخط يوصله إلى ناحية أسوان، ومن الجهة الشرقية القبلية بخط يوصله إلى ناحية مصوع، وفى طريقه يمر بناحية كسله، والمسافة التى بين وادى حلفه ومطامه جعلت أربعة أقسام.
صمم فى القسم الأول على عمل ست محطات:
الأولى\: وادى حلفة نفسها تكون رأس الخط
الثانية\: فى ناحية ساروس على بعد\52 كيلومتر من وادى حلفة
الثالثة\: انسيجول على بعد\102 كيلومتر
الرابعة\: عكاشة على بعد\147 كيلومتر
الخامسة\: غمارة على بعد\203 كيلومتر
السادسة\: كوهى على بعد\257 كيلومتر
والقسم الثانى: يشتمل على تعدية النيل عند ناحية كوهى.
والقسم الثالث: من كوهى إلى ناحية أبى عاقول، وطوله 349 كيلومتر، وفيه عشر محطات:
الأولى\: فى كوهى بالشاطئ الأيسر على بعد\258 كيلومتر
والثانية\: مقر بندر على بعد\310 كيلومتر
والثالثة\: حلك على بعد\352 كيلومتر
والرابعة\: عرضه أو دنقله الجديدة على بعد\396 كيلومتر
والخامسة\: لميتى على بعد\432 كيلومتر
والسادسة\: خاندك على بعد\462 كيلومتر
والسابعة\: دنقلة القديمة على بعد\508 كيلومتر
والثامنة\: ضبة على بعد\542 كيلومتر
والتاسعة\: أبو دهين على بعد\596 كيلومتر
والعاشرة\: أبو عاقول على بعد\606 كيلومتر
والقسم الرابع: من أبى عاقول إلى شندى، وطوله 283 كيلومتر، ويمر بصحراء بهندى، وينتهى إلى محطة مطامه على بعد 889 كيلومتر.
وتقف الوابورات فى الطريق خمس مرات لأخذ المياه:
الأولى: فى كوفوكا كار.
والثانية: فى الهويجات.
والثالثة: فى أبى حلفة.
والرابعة: فى جبل النوس وأبى كلا.
وفى التصميم المذكور جعل عرض الشريط 1.28 متر، وثقل القضبان 24.8 كيلوجرام فى كل متر، والميل 1/ 5 فى النهاية الصغرى، ونصف قطر الانحناء للأقواس فى هذه النهاية 500 قدم إنكليزى، عبارة عن 152،4 مترا، وقدر للعمل ثلاث سنين، والمصرف أربعة ملايين جنيهات إنكليزى، منها:2500000 لما يشترى من الخارج، والباقى وهو 1500000، لما يتحصل من القطر.
ومقدار الحفر والردم اللازم عمله لوضع الشريط -وذلك فى أراض متنوعة من أحجار وصوان ورمل وطين وغيره 3384690 متر مكعب، وتوزيع المصاريف على هذه العمليات هكذا:
فى عملية الأتربة والأحجار 280144
ثمن القضب باعتبار 97 طونولاتو 2674512
تكاليف قنطرة حديد على النيل عند ناحية كوهى 212750
ثمن مبانى مكعبها 54513 متر مكعب 123218
آلات ومهمات تلغراف 44537
تكاليف عدد 22 محطة 179400
ثمن الوابورات عدد 66 والعربات عدد 11 330165
ماهيات المهندسين والمفتشين 155272
تقريبا 4000000/
وبالجملة فإن مقدار ما تم الآن من خطوط السكك الحديد، بنسبته إلى أرض الزراعة وأهل القطر، شئ كثير جدا، إذا قارناه بالموجود من ذلك عند بعض الدول الأوروباوية نجده أكثر منه، وذلك أن 1320 ميلا الموجودة الآن بهذه الديار، وهى عبارة عن 2112 كيلومتر، هو أكثر من 458 كيلومتر الموجودة فى بلاد الفلمنك، وأكثر من 472 الموجودة فى بلاد سويجرة، وأكثر من 876 الموجودة فى بلاد الدينمارك، ومن 787 الموجودة فى بلاد البرتغال.
وبمقارنة الموجود فى الديار المصرية بعدد أهلها يخص المليون من الأهالى 422 كيلومتر، وهذه النسبة فائقة فوقانا كليا على مثلها من ممالك كثيرة، فإن المليون من الأنفس فى مملكة إيطاليا يخصه 239 كيلومتر، وفى بلاد النمسا يخصه 335، وفى إسبانيا 330، وفى البرتغال 197، ويقرب من ذلك بلاد البلجيكا فإن المليون فيها يخصه 598، وكذا بلاد الألمانيا فإن المليون من أهلها يخصه 514، وكذا مملكة فرانسا إذ النسبة فيها 483.
وبالنظر للمنقولات على السكة الحديد، يعلم أن فائدتها بمصر من أعظم الفوائد للقطر، وأن حركتها لا يضاهيها غيرها من البلاد الأخر، مثلا إذا قارنا الجارى عندنا بالجارى فى بلاد الروسيا، نجد أن منقولات الأشخاص فائقة فى مصر عن تلك المملكة، ومنقولات التجارة بالعكس، لأن ما نقل من الأشخاص بالخطوط المصرية فى سنة 1871 ميلادية، إذا وزع على عدد الكيلومترات يخص الكيلومتر الواحد 1007 أشخاص، وإذا طرحت من متحصل المنقول من الأشخاص جميع الواردين على مصر من الجهات الهندية إلى جهة أوروبا وبالعكس، يكون ما يخص كل كيلومتر واحد من عدد المنقولين فى هذه السنة من المقيمين بالديار المصرية وأهلها 993.
وبتوزيع المنقولين على سكك الحديد المسكوبية فى سنة 1871 ميلادية وهو 71871469، وعلى طول الخطوط الموجودة يكون ما يخص الكيلومتر الواحد 840 شخصا، وهو أقل مما خص هذه المسافة بمصر بقدر 153 شخصا.
وأما المنقولات من البضائع فما يخص الكيلومتر الواحد فى مملكة الروسيا 679 طونولاتو، وفى مصر ثلث ذلك.
محطات السكة الحديد
من المعلوم أن كل عمل لا بد له من صعوبات فى مبدأ الشروع فيه، ولا شك أن السكك الحديد من أجسم الأعمال لاحتياجها إلى كثير من العمليات والمبانى اللازمة لتوطينها،
وإدارة حركتها، وإجراء مقتضياتها وسكنى مستخدميها وغير ذلك من مصالحها، وكل ذلك يحتاج فى عمله لزمن ومصرف، وتكثير المستخدمين، واستدامة الفكر فيه حتى يتم وينتظم أمره.
وفى ابتداء الشروع فى هذا الأمر الجليل، لم يمكن أبناء الوطن القيام بكافة الأعمال التى تلزم لإدارة هذه المصلحة، لعدم معرفتهم فى ذلك الوقت بإتقان لوازمها، لقرب عهدها بينهم، فلزم استخدام الأجانب معهم لتتميم ضرورياتها، فإنه بعد إتمام الجزء الذى استعمل من السكة الحديد إلى وقت جلوس الخديوى إسماعيل باشا على التخت لم تستوف الشروط الضرورية لهذا العمل، ولم يبن إلا محطة مصر وإسكندرية، وأما باقى المحطات فكان فى بعضها أخصاص من خشب، وفى بعضها بناء من الطوب النئ والدبش على هيئة غير هندسية.
وفى جميع المحطات كان الاقتصار على رصيف للركاب، من غير أن ينظر لراحتهم ووقايتهم من حر الصيف وبرد الشتاء، ولا إلى ما يلزم للمحطات من الفرش وأدوات الجلوس والاستراحة، بل كانت مجردة عن ذلك، ولا إلى حركة الوابورات الواردة والصادرة، على وجه يجلب منافعها ويدفع مضارها.
والمحطتان المبنيتان، وهما محطة مصر وإسكندرية، وإن وجد فيهما بعض من المبانى اللازمة لتلقى أمتعة الركاب وبضائع التجار، لكن لم يكن ذلك كافيا ما يلزم لهذه المصلحة، فكان ما فيهما من الأبنية إما غير كاف للبضائع، وإما غير مستوف لشروط حفظها، وإن أضيف إلى ذلك أن جميع المستخدمين بالمحطات، كالوكلاء والمعاونين، وجميع خدمة الوابورات والقطورات والمخازن، كانوا بهيآت لا يتميزون بها عن بعضهم، وأن أكثرهم كان من الأجانب الذين لا معرفة لهم بلغة هذه الديار ولا بأحوال أهلها، يعلم أن الحالة التى كانت عليها السكة الحديد المصرية-فى تلك المدة-غير مستحسنة، فلذا كانت عديمة الأرباح، كثيرة الخسارة والمضرات، داعية إلى النفور، وليس ذلك هو الغرض المقصود من إنشائها.
وكان رؤساء المصلحة دائما حريصين على استقامة أمورها، لكن لما لم يزدد إيرادها ويحصل المقصود منها، لم يتم لهم ذلك بل كانت النتيجة السنوية دائما بالعكس، ولعل سببه: إما عدم وقوفهم على ما يناسب من الأعمال وإما أن الأعمال كانت لا تتم على الصورة المرغوبة لهم، بسبب جهل المأمورين بمباشرة العمل، فنتج من ذلك تلف أكثر المهمات والعربات والوابورات، ولم تتدارك المصلحة تعمير ذلك فى أوقاته لأن إيرادها كان دائما فى النقص بخلاف/مصرفها، وكانت ورشة العمليات المجعولة للعمارة غير كافية ولا مستوفية لشروط العمارة كما يجب، إما لنقص بعض العدد والآلات، وإما لقلة العمال.
ومن كثرة الوارد على الورشة المذكورة من جميع الخطوط، امتلأت حتى لم يبق فيها متسع لما يعمر بها، فاضطرت المصلحة لخزن بعض ذلك فى جهة القبارى وباب العزب، وعلى الأشرطة المجعولة مخازن لذلك فى بعض المحطات المتوسطة.
ولم يكن سبب التلف، ما ذكر فقط، بل من أسبابه أيضا: رداءة الفحم، وعدم السقائف فوق أشرطة المخازن، لأن شدة حرارة الشمس فى فصل الصيف كانت تؤثر فى خشب العربات فتفصل ألواحها عن بعضها، وكذلك إهمال دهنها، وتراخى المفتشين والملاحظين ووكلاء المحطات، حتى ترتب على ذلك ضياع أموال عظيمة باسم العمارة فى ورشتى بولاق وإسكندرية.
ومع ما كان يظهره المأمورون من الغيرة والاجتهاد، كان التلف دائما فى الازدياد، حتى احتيج فى آخر زمن المرحوم سعيد باشا إلى الاستعانة بورشة (كازستين)، الواقعة على شاطى المحمودية بالإسكندرية.
ولما عظم مقدار المحتاج من الوابورات إلى التعمير، وشوهد أن بقاء الأمر على ما هو عليه يضر بإدارة السكة الحديد، ويوجب تأخرها وربما ينشأ عنه تعطيلها عن الحركة بالكلية، صار القرار بإرسال جملة وابورات إلى بلاد الإنكليز لأجل تعميرها هناك.
وإنما خرجنا فى هذا/المقام عما نحن بصدده من الكلام على ما يتعلق بإسكندرية، لأن عظم فوائد هذا الأمر حمل جواد الفكر على الجولان فى ميدانه، على أنه لا يخلو من المناسبة والارتباط بذلك، فإن مدينة إسكندرية كانت من قديم الزمان معتبرة بالنسبة للتجارات الجارية فى جميع بقاع الأرض، كالروح بالنسبة للحيوان، وهى الآن حائزة لهذا الاعتبار، وثروتها وعزها ينتجان ثروة الأقطار المصرية وتقدمها، فلا يبلغ القطر غاية ثروته إلا ببلوغ التجارة شأوها.
وفى الأزمان القديمة كانت طرق التجارة الواصلة إلى إسكندرية كثيرة، فكانت طرق التجارة العربية بحر القلزم، وطريق عيذاب، وطريق القلزم أو السويس، وكان النيل طريق التجارة السودانية، والواحات طريق التجارة السودانية والمغربية، وكانت التجارات الشامية، مع الملحق بها من تجارات الأقاليم الأخر، طريقها البحر الرومى وطريق الفرما، وتجارة السواحل الإفرنجية وجزائر البحر طريقها البحر الرومى أيضا.
وكان مرسى هذه التجارات مدينة الإسكندرية، فتجتمع بها وتتفرق منها، وهذا هو الذى أوجب ثروتها وكثرة أهلها.
فمتى وصلت الأقطار السودانية إلى درجة التمدن والأمن، تعظم تجارتها وتتسع، ويعود على الأقطار المصرية منها ما لا حصر له من الفوائد، لأن أهل تلك الجهات متى تحلوا بالمزايا الإنسانية، وتخلوا عن جلاليب الحالة الخشنة الوحشية، وذاقوا لذة ثمرات المعارف والعلوم، وانتشرت فيما بينهم موجبات تقدم البضائع والحرف، يكسبهم ذلك كله معرفة ثمرة الانضمام والاتحاد مع الغير، للتعاون فى الأعمال، واكتساب الفوائد الظاهرة والباطنة، فيحرصون على اجتناء ثمرة الألفة والتقارب، وتدب فيهم الطباع الحسنة والعوائد المألوفة، ويسعون فيما به تنظيم أحوالهم وتحسين هيآتهم، فحينئذ يكبون على خدمة أرضهم، فيكثر محصولها ويتنوع، وبما يكتسبونه من المعارف ربما يستكشفون المستور بها من المعادن
ذاك-كانت كثيرة، وكانت العربة-إذ ذاك-لا تحمل إلا نصف حملها الآن بسبب عدم استواء أرض المحطة مع كثرة الأتربة، الموجب كل ذلك لتعب الحيوانات وتعطيل السير، لا سيما فى فصل الشتاء لزيادة بلل البضاعة بماء المطر، وتلويثها بالطين والوحل.
ومع وجوب الالتفات لهذه الأمور كلها، كان هناك ما هو أهم منها، كحفظ مهمات السكة كالعربات والوابورات من فعل الحرارة والرطوبة والأتربة، وعماراتها بأوقاتها.
ولكون هذه المحطة، كما قلنا، مجمع جميع العربات والوابورات، كان يجتمع بها الصحيح والمتخرب، فكان خدمة المحطة إذا وجدوا المجتمع هناك قد زاد زيادة فاحشة يخفونه فى جهة القبارى، وباب العزب، وفوق سكة مريوط، حتى إنى رأيت-وقت توجهى إلى تلك المصلحة-أربعمائة عربة متخربة فى تلك الجهة خاصة، وكان الذى يعمر منها-مع قلته-يعمر بمهمات عربات أخرى، فكانت عمارة العربة الواحدة تستوجب تخريب عربتين وأكثر، وعمارة الوابور الواحد تستلزم تخريب وابور مثله.
وهذه الأمور كانت جارية من سنة إلى سنة، وكثر التلف وعم حتى كان قطر الركاب يغير له الوابور مرارا، من إسكندرية إلى مصر، واشتهر هذا الأمر، وكثر لغط الناس به، واستوجب زيادة النفرة عن السكة الحديد، وعدلوا إلى ركوب البحر، فرأيت أن الواجب علينا، لتحقيق ما أملته الحضرة الخديوية، أن نبذل غاية الجهد فيما يقوم بشعائر تلك المصلحة، ويزيل النفرة عنها ويجلب الرغبة فيها، فشمرت عن ساعد الجد، وبذلت الجهد وشرعت فى عمل الطريق الجالبة للرغبة، وصيانة المهمات وعمارتها.
وأول أمر التفت اليه تنظيم الطرق الموصلة للمحطة، ودكها بالدقشوم وملئها بالرمل، ليسهل على عربات الكراء السير عليها مع تمام حملها، وتزول/المشقة التى كانت قبل، ثم تسوية المحطة جميعها ودكها أيضا بالدقشوم والرمل، مع تجديد أرصفة غير القديمة، بعضها فى الجهة المجاورة للمحمودية، وبعضها فى الجهة المجاورة للقبارى، وتخصيص كل بما يليق به من
البضائع، وأعطيت تلك الأرصفة من الأبعاد والامتداد ما يلزم لها ويكفى الصادر والوارد، حتى أمكن رسوّ ست قطورات أو ثمانية عليها فى آن واحد، وجعلت موصلة لطرق عربات الكرّ، وبحيث لا يكون عائق للعربات عن أن تصل إلى محل البضاعة، فيستغنى بذلك عن العتالين فى كثير من الأحوال، وصار نصب سقيفتين عظيمتين فوق تلك الأرصفة وجدت إحداهما فى المصلحة نفسها، كانت ملقاة من زمن مديد على ساحل البحر، حتى أكل الصدأ والتراب كثيرا من قطعها، فاشترى لها مهمات كملت بها، ونصبت هناك على يسار الوارد على المحطة.
والثانية جلبت من البلاد الأجنبية فى ضمن مهمات وآلات، وسقيفة أخرى لمحطة الحوض بالسويس صارت التوصية على الجميع من الحكومة الخديوية، وهى المشاهدة فى جهة المحمودية عن يمين الداخل على المحطة، وجعلت أرصفة منها لشحن أخشاب العمارات والأخشاب الداخلة فى جهات القطر، وأرصفة للأقطان والأبزار والحبوب وغير ذلك، فنتج من هذه الأعمال ثمرات عظيمة للمصلحة، وكثر إيرادها لأن التجار لما علموا سهولة الشحن والتفريغ وصيانة بضائعهم، أقبلوا على السكة الحديد وقلّ سفر البحر.
ولكن دفع جميع المضار كان متوقفا على نصب سقائف فى محطات مجمع الوابورات مثل محطة كفر الزيات وبنها، والزقازيق، والمحروسة، وعلى تعدد ورش العمارة، لكن عظم المصرف اللازم لذلك أوجب تأخير بعضه والاقتصار على الممكن منه.
وقد رخّص فى محطة إسكندرية بإحداث ورشة مؤقتة، وجلب ما يلزم لها من العمال والأسطوات، وأحيل عليهما العمارة الخفيفة، وحصل مثل ذلك فى محطتى بندر السويس وكفر الزيات، وفى ورشة العربات فى محطة مصر، وأجرى تكميل الآلات الناقصة بما جلب من الخارج بالشراء وما وجد فى المصلحة نفسها، وترتب وابور لوكومبيل لإدارة الجميع، وصار امتداد أشرطة حديد داخل الورشة متصلة بالسكة الأصلية.
ولأجل استقامة العمل وظهور نتيجته، عمل لذلك استمارات وزعت على كافة الورش، وصار ترتيب ملاحظين على جميع الخطوط من المهندسين الميكانيكيين، ليشاهدوا الوابورات والعربات فى حال الحركة والسكون، ويكتبوا جميع ما يشاهدونه مما يخص المصلحة ثم يعرضون ما كتبوه لديوانها، لتأمر بما يلزم من عمارة، أو إيقاظ السواقين لصيانة العدد، أو تنبيه الوكلاء وخدمة المحطات على زيادة الالتفات وإجراء ما يلزم فى حفظ المهمات وصيانتها، فكان ذلك يحمل المستخدمين على زيادة الملاحظة وإعمال الأفكار فيما هو مطلوب منهم، فحصل من ذلك نتائج حسنة.
لكن لم تعظم المنافع إلا بعد تنظيم ورش العمارة الوقتية، واستيفاء اشرطة لتخزين الوابورات فى محطة الإسكندرية وفى المحطات الوسطى، وبناء المساكن الكافية للمستخدمين.
وأهم من ذلك إتمام تنظيم ورشة العمليات، فإنها لذلك الحين كانت عبارة عن أرض متسعة، مشتملة على كثير من المبانى الخربة خلال العنابر والمخازن، وبها برك عفنة وليست مستوفية للأشرطة اللازمة، وكان الموجود من ذلك على هيئة غير مرضية بحيث كان يحتاج فى إخراج كل عربة أو وابور، مما هو مخزون به، إلى ضياع كثير من الزمن واستعمال جملة من الأنفار.
وكانت المهمات، على اختلاف أنواعها من صالح وغير صالح، مختلطة ببعضها بحيث يتعسر أخذ ما يلزم منها لكثرتها وتراكمها فوق بعضها حتى صارت تلولا، وكانت تحتاج إلى العتالين فى نقلها من المخازن أو إليها، وعنابر العدد، وإن كان بها كثير من العدد والآلات، إلا أنها كانت معطلة لنقص بعضها، وعلو الصدأ والأوساخ على الباقى لإهماله، وكان كل ما تجدد بها شئ رجع إليها ثانيا متخربا بعد أيام قلائل، بل ربما رجع إليها فى يومه.
ولم يكن هناك استمارات لبيان عمل كل عامل ولا قوانين لبيان ما يلزم السواقين فى الخطوط، والملاحظين فى الورش، وكان أغلب السواقين ليس فيه الاستعداد اللائق لوظيفته
وكثير منهم دخل بلا امتحان وشهادة تدل على أهليته لتلك الوظيفة، وأكثرهم كان من أولاد العرب العطشجية، لا يدرى ما يختص بالبخار وأحواله، بل يجهل جميع ما يتعلق بالسكك الحديد والوابورات، ويندر فيهم من يعرف الكتابة والقراءة، وكل ذلك مما لا يخفى ضرره.
وكانت المصلحة، مع عدم خفاء ذلك عليها، تغض الطرف عما يقع منهم بسبب قلة مرتباتهم، وترى أن فى ذلك وفرا وربحا عن استخدام المتقنين للصنعة من الإفرنج وغيرهم، بسبب زيادة مرتباتهم، مع أنها لو نسبت ما يوفره المتقنون للصنعة مع زيادة مرتباتهم إلى ما يصرف فى عمارة ما يفسده غير المتقنين لها، لعلمت أن كثرة مرتبات المتقنين قليلة بالنسبة لذلك، فكانت ترجع عن هذا الرأى، وتأخذ فى إبعاد كل جاهل بالمصلحة، وتنتخب من/ تلامذة المدارس جملة، تربيهم فى الورش حتى يتقنوا ذلك الفن، ويتأهلوا للقيام بتلك المصلحة على الوجه المرغوب، ولا تستعمل من الخدمة إلا من له قدرة على القيام بما فيه الأرجحية إلى حين تمام تربية التلامذة واستعدادهم.
ولو قدّر وشرع فى هذه الفكرة من وقت إنشاء السكة، لصار الاستحصال بعد ذلك بسنين قليلة على جميع اللازم من المستخدمين، فتزول المضار، وتجلب المنافع والفوائد العظيمة من تلك المصلحة، ولكن حصل السكوت عن ذلك إلى زمن الخديوى إسماعيل باشا، فصدرت أوامره السنية بإنشاء مدرسة العمليات؛ بقصد تربية تلامذة من أبناء الوطن، يقومون بوظائف هذه المصلحة وأمثالها من سواقين ومهندسين للوابورات البرية والبحرية.
وفى أثناء تلك المدة صار الاهتمام بتعمير المتخرب من الوابورات، البعض فى ورشة المصلحة والبعض أرسل إلى بلاد الإنكليز ليعمر هناك بالأجرة، ورتبت رجال العمارة بالنسبة لدرجاتهم فى الاستعداد، وكذا السوّاقون، وعملت جداول لجميع الوابورات مشتملة على تاريخ مشتراها، وبيان الورش التى جلبت منها، وعدد العمارات التى حصلت لكل وابور على حدته، ومقدار الأميال التى مشاها، وكمية ما نقله من البضائع، وكل ذلك ليتأتى مقارنة
بعضها ببعض، ومعرفة درجات استعداد السواقين، وتقرر عدد الوابورات التى يلزم إدامة حركتها على الخطوط بالنسبة لطول الأشرطة المصرية، وعدد الوابورات اللازم بقاؤها بالمخازن لوقت الحاجة، ولا تشغل إلا بأوامر مخصوصة تصدر من ناظر مصلحة العموم.
ثم صار النظر فى ترتيب المحطات، وعملت لوائح الإجراءات ووزعت عليها، وصار ترتيب المعاونين للأرصفة والمخزنجية ونقلهم بحسب الاستعداد وأهمية المحطات، وجعل أغلبهم من أبناء المدارس المتعلمين فى ظل الحضرة الخديوية، الذين صار لهم معرفة بفن التلغرافات، ونقل كثير من الإفرنج إلى وظائف تليق بهم، فحسن بذلك حال المصلحة، وسارت فى طريق الاستقامة حيث صار جميع خدمة تلك المصلحة عارفين بحدود وظائفهم، وما لهم وما عليهم، على حسب مقصود الحضرة الخديوية التى غمرتهم فى بحار إحسانها، وأخذ الإيراد ينمو والتلف يضمحل حتى كأنه لم يكن.
ومن الاعتناء بأمر راحة الركاب فى كافة المحطات وفوق الخطوط، ازدادت رغبتهم ومالوا بكليتهم إلى ركوب السكة الحديد، لا سيما بعد نقص الأجرة المقدرة من قديم لكل درجة، فقد كانت عالية خصوصا الدرجة الثالثة، فإنها كانت مع كثرة أجرتها لا راحة فيها للركاب، فإن أغلبها كان يشبه عربات البهائم، وكانت مكشوفة للرياح والأتربة وحر الصيف وبرد الشتاء، مع عدم تلطف خدمة القطورات بهم، فكانوا دائما ساخطين على المصلحة، لا يرغبون فى ركوبها إلا لضرورة شديدة. بخلاف ما هى عليه الآن، فقد جعل لأغلبها سقائف ودرابزينات، وتوزعت على الخطوط واستعملت فى الدرجة الثالثة بأقل من الأجرة الأولى، وصار إلزام خدمة القطورات بملاطفتهم وحسن معاملتهم.
ولما كان مدار إيراد المصلحة على التجارة كان الاعتناء بشأنها ألزم من غيره، لأن أجرة الركاب قد لا تفى بالمصاريف خصوصا قطارات الدرجة الأولى، فإن مصاريفها أكثر من
إيرادها، فصار النظر فيما يوجب رغبة التجار فى استعمال السكة فى متاجرهم، فوجد أن اللازم لذلك ثلاثة أشياء:
الأول: نقص أجرة البضاعة فى السكة الحديد عما يصرف عليها لو سافرت برا أو بحرا.
والثانى: الإسراع بها حتى تصل المحل المنقولة إليه فى زمن أقل مما كان يلزم لنقلها بغير السكة الحديد.
والثالث: حفظها من جميع الغوائل كالحرق والسرقة والبلل وغير ذلك.
فأما الثانى والثالث، فقد تما بما عمل من الاستمارات التى نشرت فى جميع المحطات، وبما بنى من السقائف، وما جعل لتغطية العربات.
وأما الأمر الأول، وهو أهمها، فقد عمل بخصوصه جميع وسائط الترغيب مثل:
عقد تعهدات مع التجار بنقص قدر معلوم من أجر بعض الأصناف لمشاهير التجار، وبنقص عشرة أو أكثر فى المائة من جملة أجرة المنقول فى كل ثلاثة أشهر أو ستة أو سنة، وربطت لها درجات، وحررت بذلك تعريفة مؤقتة طبعت ونشرت على المحطات والدواوين وأكابر التجار ووجوه الناس، وحدد لكل عربة قدر ما تحمله، ورتبت جملة ملاحظين لمباشرة ذلك بالضبط، حتى لا تسير العربات إلا بأحمالها الكاملة
ومع كون هذه المسألة من أهم المسائل كانت غير ملتفت إليها، وكثيرا ما كان القطر المركب من أربعين عربة وحمولته مائتا طن، لا يحمل إلا ربعه أو نصفه، مع أن المصلحة تصرف على الوابور مصرفه كاملا.
وهذا ضرر بيّن، موسع لدائرة الخلل، معطل للتشهيل.
فبتلك الأعمال الجليلة، عظمت رغبة التجار فى استعمال السكة الحديد، وانهلّت البضائع على اختلاف أنواعها على جميع المحطات تجارية وزراعية، حتى البطيخ، والخيار، والأسماك، والحجر، والدبش، والرمل، والحطب، والسباخ.
لكن لم يكمل مرغوب/المزارعين من نقل محصولاتهم إلى الأسواق أو إلى بلد أخرى من مراكز التجارات الريفية، لأن هناك موانع كثيرة تمنعهم من هذه الأغراض مثل: بعد الخطوط عن البلدان فى كثير من الجهات، وبعد كثير من البنادر والقرى الشهيرة والأسواق عن تلك الخطوط، وكذلك بعد بعض المحطات عن بعض، أو كونها فى مواضع غير موافقة وغير ذلك.
وهذه المسألة لأهميتها تستوجب على المأمورين إدامة البحث والنظر فيما يرفع هذه الموانع ويوفى برغبة الأهالى، حتى يتمكنوا من جميع أغراضهم، وهذا لا يكون إلا بقدح الفكر ومباشرة العوائد زمنا. وكثيرا ما قدح نظار هذه المصلحة أفكارهم فى ذلك، ولم يفوزوا بالمقصود إلى الآن، ولم تنتفع مصلحة السكة الحديد إلا بنقل شئ يسير من محصولات الزراعة، مع أنها لو توصلت إلى ذلك لنما إيرادها به نموا عظيما، وربما كان قدر الموجود الآن مرتين أو أكثر.
وما فضل المصلحة إلا باتساع دائرة أعمالها داخل بلاد القطر، إذ كان يحصل النفع لها بكثرة الإيراد ومنها لأهل الوطن بتوفير الأجرة عليهم، فيتحصلون على أرباح عظيمة من البيع بالأثمان الموافقة فى الأوقات اللائقة، فإن سير التجارة الآن لم يكن كسيرها السابق، بل فى اليوم الواحد أو الأسبوع بسبب التلغراف الكهربائى الواصل لجميع البقاع ربما تتغير قيمة الصنف والرغبة فيه مرارا، فيحصل الإسراع للمقصود والفوز به فى وقته بواسطة السكة الحديد، ومن يتأمل يرى حقية ذلك ولا ينكره.
ولم نذكر جميع ما صار فى باقى المحطات، لأنا سنذكر كلا فى محله، ونكتفى هنا بما ذكرنا، وإنما نورد الجدول الآتى لبيان محطات السكة بالاختصار:
مطلب بيان عدد خطوط
ومحطات الوجه البحرى
الخط الطولى من مصر إلى إسكندرية
الزمن الذى يستغرقه السفر على هذا الخط، بوابورات الأكسبرس، أربع ساعات ونصف، وبغيره 6 ساعات، وعدد محطاته اثنا عشر، وبيانها:
محطة الإسكندرية، محطة كفر الدوار، محطة أبى حمص، محطة دمنهور، محطة إيتاى البارود، ومنها يبتدئ خط قبلى، محطة كفر الزيات، وعادة يتعاطى فيه السياحون الطعام، محطة طندتا-وهى طنطا-محطة بركة السبع، محطة بنها العسل، محطة طوخ، محطة قليوب، محطة القاهرة.
خط السويس من بنها
الزمن الذى يستغرقه السفر على هذا الخط 9 ساعات أو 10، وعدد محطاته 12:
محطة بنها العسل، محطة منية القمح، محطة الزقازيق، وفيها يتعاطى المسافرون الطعام، محطة أبى حماد، محطة التل الكبير، محطة المحسمة، محطة النفيشة، محطة السيرابيوم، محطة فائد، محطة حنيفة، محطة الشلوفة، محطة السويس.
خط قليوب إلى الزقازيق
يشتمل هذا الخط على سبع محطات:
محطة قليوب، محطة نوى، محطة شبين القناطر، محطة أنشاص الرمل، محطة بلبيس، محطة بردين، محطة الزقازيق.
خط المنصورة من الزقازيق إلى المنصورة
زمن السفر فيه ثلاث ساعات ونصف، ويشتمل على ست محطات كذلك: محطة الزقازيق، محطة هيهيا، محطة أبى كبير، محطة أبى الشقوق، محطة السنبلاوين، محطة المنصورة.
خط دمياط من طندتا
زمن السفر فيه أربع ساعات، وعدد محطاته ثمانية وبيانها:
محطة طندتا، محطة محلة روح، محطة المحلة الكبيرة، محطة سمنود، محطة طلخا، محطة شربين، محطة كفر الترعة، محطة دمياط.
خط دسوق من محلة روح
مدة سفره ساعتان، وعدد محطاته خمسة، بعد محلة روح ودسوق.
محطة محلة روح، محطة قطور، محطة نشرت، محطة شيامى، محطة دسوق.
خط زفته من محلة روح
مدة سفره ساعة ونصف، وعدد محطاته أربعة:
محطة محلة روح، محطة القرشية، محطة الصنطة، محطة زفته.
خط ميت بره من بنها
مدة سفره نصف ساعة، بما فيه من تعدية البحر، وهو خط واصل من بنها إلى ميت بره، من دون محطات بينهما، سوى تعدية البحر.
خط القناطر الخيرية من قليوب
هذا الخط واصل من قليوب إلى القناطر، من دون توسط محطات بينهما.
مطلب بيان عدد خطوط
ومحطات الوجه القبلى
خط المنية من انبابه
مدة السفر فيه تقرب من عشر ساعات، وعدد محطاته إحدى عشرة محطة، وبيانها:
محطة انبابة، محطة الجيزة، محطة البدرشين، محطة الواسطة، محطة أشمنت، محطة بنى سويف، محطة مغاغة، محطة بنى مزار، محطة قلوصنا، محطة سملوط، محطة المنية.
خط الفيوم من الواسطة
مدة سفر هذا الخط ساعة وربع، وليس بين مدينة الفيوم والواسطة إلا محطة واحدة هى: محطة أبى قصا.
خط أسيوط من المنية
هى تسع محطات وبيانها:
محطة المنية، محطة قرقاص، محطة الروضة، محطة ملوى، محطة ديروط، محطة نزالى أبى جنوب، محطة أبى قرة، محطة منفلوط، محطة أسيوط.
التلغراف المصرى
جملة الخطوط التلغرافية فى الحكومة المصرية، الممتدة فى داخل الأقطار المصرية والسودانية، إلى غاية سنة 1291 هجرية، مبلغ 8359 ميلا إنكليزيا، وهى عبارة عن 10994/كيلومتر، والذى كان موجودا من ذلك لغاية مدة المرحوم سعيد باشا، كما تقدم، هو 2349 كيلومتر، فيكون ما صار تجديده فى عهد الخديوى إسماعيل هو 8645 كيلومتر، وهو قدر الموجود من قبل أربع مرات تقريبا.
وهذا خلاف ما هو مشروع فيه من مدة، من مصر إلى أسيوط وإلى إسكندرية بطريق الساحل، وخلاف الجارى من مدة أيضا فى الأقطار السودانية، مثل خط أسفار والمكسة وكردفان وغيره.
وبمقارنة طول ما هو موجود الآن فى الحكومة المصرية، بطول الموجود من ذلك فى كثير من ممالك أوروبا، يعلم أن الموجود من ذلك بالحكومة المصرية يفوق الموجود منها فى بلاد:
سويد، والبلجيك، والدينمارك، وبلاد الفلمنك، والبرتغال.
وعدد المحطات بالديار المصرية فقط 77، وإن صار مقارنة حركة التلغرافات المصرية بحركة غيرها فإنها توجد غير بالغة غايتها، كما هو حاصل فى أكثر بلاد أوروبا، وأسباب ذلك أن كثيرا من المصريين لم يتحولوا عن عادتهم القديمة، بل مستمرون على حرمان أنفسهم من استعمال هذه الواسطة المفيدة، ولو ذاقوا ثمراتها لازدحموا عليها.
ومع ذلك فقد بلغ عدد الأخبار التى تناولتها التلغرافات المصرية فى سنة 1871 ميلادية 570 ألف خبر، وهى أكثر من الأخبار التى تناولتها تلغرافات بلاد الدينمارك وهى 420 ألف خبر، وقريب من الأخبار التى تناولتها تلغرافات بلاد نورويج وهى 603 ألف خبر، وتقرب أيضا من 612 ألف خبر تناولتها بلاد البرتغال.
وبإسقاط عدد الأخبار الخارجية من المجموع السابق، والاقتصار على الأخبار المختصة بأهل الديار المصرية، يكون عددها 560 ألف خبر، وبنسبته إلى تعداد الأهالى يخص كل ألف نفس مائة وعشرون خبرا.
وإن عملت المقارنة فى بلاد آسيا، يوجد أن الألف من أهل تلك المملكة يخصها 62 خبرا، أعنى نصف ما خص أهالى مصر، وإن فعل مثل ذلك فى إيتاليا، يوجد أنه يخص الألف 118 فبواسطة ذلك يعلم أن مصر قد فاقت هاتين المملكتين.
وبيان جملة خطوط التلغرافات المصرية كما ترى:
ومجموع ذلك 8359 ميلا إنكليزيا، وهذا هو الجارى استعماله لغاية سنة 1291 هجرية.
وأما الخطوط المشروع فى تركيبها فى وقتئذ فهى:
ومجموع ذلك 1050 ميلا إنكليزيا إذا أضيف إلى ما تقدم بيانه يكون مجموع سكك التلغراف المصرى 9409 أميال إنكليزية، وهى عبارة عن 15054 كيلومتر، كل كيلومتر ألف متر.
وخلاف تلغراف الحكومة تلغراف تعلق قومبانية القنال، من بورت سعيد إلى السويس على طول القنال وقدره 205 أميال إنكليزية، وتلغراف آخر تعلق كبانية مالطة، وأخباره منها ما يصل من إسكندرية إلى السويس باتباع السكة القديمة الخارجة من مصر مارة فى الصحراء، وهى خطان طولهما 458 ميلا، ومنها ما يصل بأتباع السكة الجديدة، وطوله 450 ميلا إنكليزيا، فيكون مجموع أميال تلغراف الكبانيتين 1113، وبإضافته إلى تلغراف الحكومة المصرية، يكون جميع الخطوط التلغرافية بالديار المصرية والأقطار السودانية 10522، عبارة عن 16835 كيلومتر.
تم الجزء السابع ويليه الثامن أوله ذكر مدن مصر وقراها الشهيرة. التى لها ذكر فى التواريخ وغيرها. مرتبة على حروف المعجم