الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر مدن مصر وقراها الشهيرة التى لها ذكر فى التواريخ
وغيرها مرتبة على حروف المعجم
بسم الله الرحمن الرحيم
حرف (الهمزة)
آبة الوقف
بهمزة فى أوله بعدها ألف لينة فموحدة فهاء تأنيث، قال فى مشترك البلدان: هى ثلاثة مواضع ليس فى مصر منها إلا واحدة وهى آبة الوقف من كورة البهنسا انتهى
وهى من مديرية المنية بقسم بنى مزار فى غربى النيل بنحو ساعة، وفى الشمال الغربى لبوجرج كذلك، وفى الشمال الشرقى لبطوجة بأقل من ذلك، ويمر عليها جسر الجرنوس كجملة قرى مثل: قفادة، وطنبدى، والشيخ زياد.
وفيها أبنية جيدة وقصر مشيد وبستان عظيم وجفلك تبع الدائرة السنية وفيها دكاكين وقهاو عامرة ونخيل وأشجار ومساجد مقامة الشعائر وفيها بيت مشهور بالثروة قديما منه:
الحاج حسين أغا، كان أشهر أهل بلاده وكان ناظر قسم زمن العزيز المرحوم محمد على، ومن بعده أخوه الحاج مهدى أغا كان ناظر قسم أيضا زمن العزيز المذكور، وكان كثير من أهل البلد وغيرهم يتجرون فى أموالهما فلذا تجد أكثر أهل هذه القرية تجارا فى الأغنام ويسافرون إلى آخر الصعيد الأوسط لاشترائها ويعلفونها بالفول ونحوه والماء البارد حتى تسمن فيسافرون بها إلى المحروسة فيربحون فيها كما يفعل أهل ناحية سنبو.
وكان تجارهم إذا ذهبوا إلى بلاد الصعيد تروج البضائع هناك يقول الناس: جاء الآبية وراجت السلع، ويسمون كل من جاء من تلك الجهة آبيا. وقد ترك الحاج مهدى ولدا لم يحسن سيره ولا سيرته، فأذهب الأموال وتضعضع حالهم بسببه.
وفى البلد أضرحة أجلها وأشهرها ضريح الولى العارف بالله تعالى الآمى الخلوتى الشريف الحسينى. سيدى الحاج إبراهيم الشلقامى العمرانى من ذرية سيدى أبى عمران، وهو من أهل القرن الثانى عشر مولده بشلقام قرية صغيرة بجوار قرية آبة هذه. وقد جدد ضريحه عمدة الناحية أحمد بن الحاج حسين أغا، وجعل له قبة عالية ويلحق به جامع متسع متين، مستوف لجميع لوازمه من مطهرة متسعة ومنارة مرتفعة.
وأهل تلك الجهة يعتقدون فى هذا الولى اعتقادا زائدا، وينذرون له النذور ويترددون إليه للزيارة، ويعملون له كل سنة فى فصل الصيف مولدا جامعا ينتصب نحو نصف شهر، ويؤتى إليه من كل جهة حتى من المحروسة للزيارة والتجارة، فيباع فيه كل شئ مما فى القطر
من حيوانات ونحاس وبز وحرير وغير ذلك، وتنصب فيه الخيام بكثرة وتجتمع أرباب الأشائر وأهل الأذكار وأولاد الفقراء وأهل الأهواء وأصحاب الملاعب وآلات اللهو، فليلا ونهارا ترى الأذكار حلقا حلقا فى الخيام وفى الجامع وقراءة القرآن والصلوات والأوراد، وترى حلق الألعاب كالحاوى والطبول والكوسات والمزمار وميادين ملاعب الخيل وغير ذلك، وتذبح فيه الذبائح الكثيرة وتكثر المدّات والقهاوى، وربما كان فيه الخمارات والبوزة وكثير من المنكرات، وهكذا أكثر الجموع والموالد فى سائر القطر، تشتمل على الطاعات والمعاصى وأكثر ما يستعمل بين الناس فى المجامع هو القهوة للخاص والعام، حتى يكون شربها فى مولد سيدى إبراهيم ونحوه مثل شرب الماء أو أكثر، وكذا تستعمل فى المضايف للإكرام فيجعلونها تحية القادم، وقد لا يستغنى عنها معتادها إلا بضرر يلحقه وعم استعمالها فى أكثر بقاع الأرض.
وقد تكلمنا على القهوة بطرف مما يناسبها فى كتابنا علم الدين، كما تكلمنا هناك أيضا على الحشيشة المسماة حشيشة الفقراء، والآن قد عثرنا فى كتاب دساسى المسمى (بالأنيس المفيد للطالب المستفيد، وجامع الشذور من منظوم ومنثور) على نبذة تتعلق بالقهوة للشيخ عبد القادر بن محمد الأنصارى الجزيرى/الحنفى فأردنا إيرادها لتكثير الفائدة فنقول:
قال فى ذلك الكتاب: الباب الأول فى معنى القهوة وصفتها وطبعها وفى أى بلدة بدا انتشارها ولأى معنى طبخت وشربت وعلا منارها.
اعلم أن القهوة هى النوع المتخذ من قشر البن أو منه مع حبة المجحّم. بضم الميم وفتح الجيم وتشديد الحاء المهملة المفتوحة أيضا: أى المقل، وصفتها أن يوضع القشر إما وحده وهى القشرية، ومع البن المجحم المدقوق وهى: البنية فى ماء، ثم يغلى عليه حتى تخرج خاصيته، ومنهم من يجد غاية اعتدال استوائها بطعم مذاقها: أى المرارة وتسمى عندهم فى اصطلاح ذوى معرفتها المحكّمة الاستواء بتشديد الكاف وتركه ثم تشرب.
فمن قائل بحلها: يرى أنها الشراب الطهور المبارك الموجب للنشاط والإعانة على ذكر الله تعالى وفعل العبادة. ومن قائل بحرمتها مفرط فى ذمها والتشنيع على شرابها، وكثر فيها من الجانبين التصانيف والفتاوى، وبالغ القائل بحرمتها فادّعى أنها من الخمر وقاسها به، وبعضهم نسب إليها الإضرار بالعقل والبدن إلى غير ذلك من الدعاوى والتعصّبات المؤدية إلى الجدال والفتن وإتلاف النفوس والمحن بمكة ومصر القاهرة، وحكم بمنع بيعها وكسر أوانيها الطاهرة، بل وتعزير باعتها بالضرب وغيره من غير حجة ظاهرة، وتأديبهم بإضاعة مالهم وإحراق القشر المتخذة منه وإيذاء بعض شرابها رجاء مصلحة تعود عليه إما فى الدنيا وإما فى الآخرة.
وهاجت لأجلها جنود الشياطين وثارت حظوظ النفوس التى لا طائل تحتها من المؤمنين، وبالغ الذام لها فزعم أن شاربها يحشر يوم القيامة ووجهه أسود من قعور أوانيها، وكثر التقاطع والتدابر بين الفريقين، وسيرد عليك ما قيل فى حقها من الأسئلة والأجوبة مما يكشف عن وجه حلها النقاب ويمنع من خالف بحجج سالكة فى جادة الصواب.
وأما اشتقاق اسم القهوة فقال: العلامة الفخر أبو بكر بن أبى يزيد فى مؤلفه (إثارة النخوة بحل القهوة) إنها من الأقهاء وهو الاجتواء: أى الكراهة أو من الإقهاء بمعنى الإقعاد من: أقهى الرجل عن الشئ: أى قعد عنه، وكراهة كل شئ والقعود عنه بحسبه؛ ومنه سميت الخمرة قهوة؛ لأنها تقهى: أى تكره الطعام أو تقعد عنه حسبما نقل عمن يعرف أحوالها، فكذلك هذا المعنى المذكور فتكره أو تقعد عن النوم الموضوعة فى الأصل لإذهابه لما يترتب عليه من قيام الليل المطلوب شرعا، ثم قال: وبعضهم كان يكسر القاف ويقول القهوة فرقا بين القهوتين.
وأما طبعها فذكر كثير من الأطباء والحذاق الألباء: أنها حارة يابسة وقال آخرون:
باردة يابسة، وهو من مذهب أهل الذم لها، ومن أعظم منافعها إذهاب النوم وإن كان للسهر أسباب كثيرة غيرها. من تقليل الأكل وترك التعب فى النهار والقيلولة وغير ذلك مما تقرر فى كتب الصوفية ثم قال فائدة:
سمعت من قاضى القضاة علامة زمانه تاج الدين عبد الوهاب بن يعقوب المكى المالكى رئيس الأقطار الحجازية فى ليالى اجتماعى به زمن الموسم بداره بالسويقة بمكة المشرفة: أن شرب الماء البارد قبل القهوة مما يفيدها رطوبة المزاج ويقل يبسها ولا يكون السهر حينئذ شديدا، وكنت أراه يفعل ذلك دائما لهذا المعنى، وهو من ذوى المعرفة والتجارب وله الخبرة والسياسة الحسنة فى سائر الأمور، وأما مبدأ حدوث القهوة فقال الشيخ شهاب الدين بن عبد الغفار ما لفظه: إن الأخبار قد وردت علينا بمصر أوائل هذا القرن بأنه قد شاع فى اليمن شراب يقال له: القهوة تستعمله مشايخ الصوفية وغيرهم للاستعانة به على السهر فى الأذكار قال: ثم بلغنا بعد ذلك بمدة أن ظهورها باليمن كان على يد الشيخ جمال الدين أبى عبد الله محمد بن سعيد الذبحانى بفتح الذال المعجمة وسكون الموحدة وفتح المهملة وبعد ألفه نون مكسورة، نسبة إلى ذبحان بلدة باليمن وهو عالم مشهور بالولاية والفتوى، وكانت وفاته سنة خمس وسبعين وثمانمائة، ونحن الآن فى عام ست وتسعين وتسعمائة، وأما ظهورها فى بلاد الحبشة والجبرت وغيرها من بر العجم فلا يعلم متى أوله.
وقال فخر الدين بن بكر بن أبى يزيد المكى إن الذى اشتهر وبلغ حد التواتر: أن أول من أنشأها بأرض اليمن الشيخ العارف على بن عمر الشاذلى، وأنها كانت قبل من الكفتة أعنى الورق المسمى بالقات، لا من البن ولا من قشره، وأما أول ظهورها بمصر فقال العلامة
ابن عبد الغفار: إنها ظهرت فى حارة الجامع الأزهر المعمور بذكر الله تعالى فى العشر الأول من هذا القرن (العاشر) وكانت تشرب فى نفس الجامع برواق اليمن يشربها فيه اليمانيون، ومن يسكن معهم فى رواقهم من أهل الحرمين الشريفين، وكان المستعمل لها الفقراء المشتغلون بالرواتب من الأذكار والمديح على طريقتهم المذكورة، وكانوا يشربونها كل ليلة اثنين وجمعة يضعونها فى ماجور كبير من الفخار الأحمر ويغترف منها النقيب بسكرجة صغيرة ويسقيهم الأيمن فالأيمن مع ذكرهم المعتاد عليها وهو غالبا «لا إله إلا الله الملك الحق المبين» .
وكان يشربها معهم موافقة لهم من يحضر الرواتب من العوام،/وغيرهم قال: وكنا ممن يحضر معهم وشربناها معهم فوجدناها فى إذهاب النعاس والكسل كما قالوا. بحيث إنها تسهرنا ليالى لا نحصيها إلى أن نصلى الصبح مع الجماعة من غير تكلف، وكان يشربها معهم من أهل الجامع من أصحابنا وغيرهم خلق لا نحصيهم، ولم يزل الحال على ذلك، وشربت كثيرا فى حارة الجامع الأزهر وبيعت بها جهرا فى عدة مواضع، ولم يتعرض أحد مع طول المدة لشرابها، ولا أنكر شربها لا لذاتها ولا لوصف خارج عنها من إدارة وغيرها مع اشتهارها بمكة وشربها فى نفس المسجد الحرام وغيره، بحيث لا يعمل ذكر أو مولد إلا بحضورها، وفشت فى المدينة الشريفة دون فشوّها فى مكة، بحيث إن الناس يطبخونها فى بيوتهم كثيرا ثم حدث الإنكار عليها بمكة المشرفة فى عام سبعة عشر وتسعمائة، من أخوين أعجميين مشهورين بالحكيمين، لهما فضيلة فى المنطق والكلام ومشاركة فى الطب، ويدعيان مرتبة فى الفقه لم تسلم لهما، ثم رحلا إلى مصر فى أواخر دولة الغورى وأقاما بها حتى قدم إليها السلطان المظفر سليم شاه فقتلهما توسيطا لما كانا يرميان به، وأعانهما على القيام فى أمرها الشيخ شمس الدين محمد الحنفى الخطيب نقيب قاضى القضاة سرىّ الدين بن الشحنة وناس آخرون، فأغرى الشيخ شمس الدين المذكور الأمير خير بيك المعمار باش مكة ومحتسبها إذ ذاك على إبطالها من
الأسواق ومنع الناس من شربها، وعقد لذلك مجلسا عنده وكتبوا به محضرا، أنشأه لهم الشمس الخطيب وأرسلوه إلى مصر وأرسلوا معه سؤالا وطلبوا مرسوما سلطانيا بمنعها بمكة المشرفة.
ثم أشهر الأمير خير بيك النداء بمنع شربها أو بيعها، وشدّد فى ذلك وعزّر جماعة من باعتها، وكبس مواضعهم وأحرق ما فيها من قشر البن، فبطلت حينئذ من السوق. وكان الناس يشربونها فى بيوتهم اتقاء شره.
ثم ورد المرسوم السلطانى على خلاف غرضهم ففتر خير بيك عن التسلط على الناس فتجاسروا على شربها وقال فى هذا المعنى بعض أهل المجون:
قهوة البن حرمّت*
…
فاحتسوا قهوة الزّبيب
ثم طيبوا وعربدوا*
…
وانزلوا فى قفا الخطيب
وقال غيره:
قهوة البن حرمت*
…
فاحتسوا قهوة العنب
واشربوها وعربدوا*
…
والعنوا من هو السبب
وفى عام ثمانية عشر وتسعمائة قدم الأمير قطلباى إلى مكة المشرفة صحبة الرّكب الشريف عوضا عن خير بيك قأكثر من شربها فاشتهرت أضعاف اشتهارها الأول.
وفى ذى القعدة الحرام سنة اثنتين وثلاثين قدم إلى مكة العارف بالله سيدى محمد بن عراق، فبلغه أنه يفعل فى بيوت القهوة المنكرات فأشار على الحكام بإبطال بيوتها مع تصريحه
بحلها فى ذاتها، ولما توفى الشيخ سنة ثلاث وثلاثين رجع الحال إلى ما كان عليه، ولم تزل أولياء الشيخ من بعده على القول بحلها والمواظبة عليها، وكان أجل ما يحضرونه لمن يرد عليهم من الأكابر ومن دونهم القهوة خصوصا فى زمن الموسم، وقد منعها الشيخ شهاب الدين ابن عبد الحق السنباطى وأفتى بحرمتها وقام معه العامة.
وفى ذلك قال بعضهم:
إن أقواما تعدوا*
…
والبلا منهم تأتى
حرموا القهوة عمدا*
…
قد رووا إفكا وبهتا
إن سألت النص قالوا*
…
ابن عبد الحق أفتى
يا أولى الفضل اشربوها*
…
واتركوا ما كان بهتا
ودعوا العزال فيها*
…
يضربون الماء حتى
وفى عام خمس وأربعين بينما جماعة فى بيوت القهوة يستعملونها فى شهر رمضان بعد العشاء، إذ وافاهم صاحب العسس، إما من تلقاء نفسه أو لأمر أوحى إليه فباتوا فى منزل السوباشاة (الضابط) وأخرجهم منها على هيئة شنيعة، بعضهم فى الحديد وبعضهم مربوط فى الحبال، ثم أطلقوا صباحا بعد أن ضرب كل واحد منهم سبع عشرة ضربة، ثم لم يلبث أن ظهر الحق وعاد الحال إلى ما كان بعد نحو يومين.
وقد منعت بالقاهرة مرارا فلم تطل المدة وعلا منارها ولم يزل أمرها ظاهرا يشربها العلماء والصلحاء، وطلبة العلم وأماثل الفقهاء، ويقر عليها أهل الإفتاء والتدريس فى سائر الأيام والأوقات والاجتماعات للأذكار فى ليالى الخيرات، ويلتمس بها إذهاب الكسل وقوة النشاط.
قال والذى أقوله إن الحق الذى لا مرية فيه: إنها فى حدّ ذاتها حلال، وأما الأمور المستجدة من هيئة بيوت باعتها واجتماع أهل المحظور فيها وإضافة ما لا يباح إليها فإنها تحرمها، والخمر إنما حرمت بعد حلها لاشتمالها على قبح الأوصاف التى يحدث منها إيقاع العداوة والبغضاء والصد عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة.
ثم قال: من الباب الثانى فى سياق المحضر الذى كتب فى شأنها بمكة المشرفة، وشرح المرسوم السلطانى الوارد جوابا عما نعت من صفتها إلى غير ذلك من نحو فتاوى العلماء فيها أما المحضر/فنص المقصود منه: هذه صورة واقعة شرعية مضمونها: أن مولانا الشريف أبا النصر قانصوه الغورى. لما أقامه الله تعالى خادما للحرمين الشريفين جعل الجناب العالى خير بيك المعمار ناظر الحسبة الشريفة بمكة المشرفة، وباشا على المماليك السلطانية بها، فمما اتفق له أنه فى ليلة الجمعة الثالث والعشرين من ربيع الأول سنة سبع عشرة وتسعمائة طاف بالكعبة الشريفة، ثم شرب من ماء زمزم ثم توجه إلى بيته، فرأى فى طريقه ناسا مجتمعين فى ناحية من نواحى المسجد الحرام، قد جمعهم السيفى قرقماس النّاصرى، يزعم أنه قد عمل مولدا للنبىّ صلى الله عليه وسلم، فقبل وصوله إليهم أطفأوا الفوانيس التى كانت موقدة فاتهمهم فى ذلك وأرسل إليهم، فوجد بينهم شيئا يتعاطونه على هيئة تعاطى الشراب المسكر، ومعهم كأس يديرونه بينهم وقرقماس هو الساقى لهم، فأنكر خاطر الأمير ذلك، سيما وموضوع وظيفة الحسبة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وسأل عن هذا الشراب فقيل له: إنه شراب اتخذ فى هذا الزمان يسمى القهوة، يطبخ من قشر حب يأتى من بلاد اليمن يقال له: البن وأنه قد كثر وفشا بمكة وصار يباع فى أماكن على هيئة الخمارات، ويجتمع عليه الرجال والنساء بدف ورباب
وغير ذلك، ويجتمع فى تلك الأماكن من يلعب بالشطرنج والمنقلة ونحوها بالرّهن وغيره مما هو ممنوع فى الشريعة المطهرة حماها الله من الفساق إلى يوم التلاق، فأنكر على هؤلاء الجماعة المجتمعين وفرق جمعهم وشتت شملهم، فلما أصبح جمع القضاة والعلماء المقتدى بهم، وحضر مولانا قاضى القضاة النجمى المالكى، وتعذر حضور قاضى القضاة نسيم الدين المرشدى الحنفى، وحضر الشيخ شهاب الدين فاتح بيت الله الحرام والشيخ عفيف الدين عبد الله اليمانى الحضرمى الشافعى المعروف بأبى كثير وجماعة كثيرون، وأحضر القهوة فى مركن كبير والكأس معه وفاوضهم الأمير فى أمر القهوة واجتماع الناس عليها على هذه الهيئة، فأجابوا أجمعون؛ بأن ذلك حرام اتفاقا يجب إنكاره، وأما الحب المسمى بالبن فحكمه حكم النباتات، والأصل فيه الإباحة، فإن كان يحصل من مطبوخ قشره ضرر فى البدن أو العقل، أو يحصل به نشوة وطرب فإنه حرام، ولو استعمله الإنسان بمفرده فى داخل بيته، والمرجع فى ذلك إلى الأطباء، فأحضر الأمير خير بيك الشيخ نور الدين أحمد العجمى الكازرونى وأخاه علاء الدين عليا، وهما من أعيان السادة الأطباء بمكة وسألهما عن هذا البن، فذكروا أنه بارد يابس مفسد للبدن المعتدل، فاعترض عليهما شخص من الحاضرين ممن ليس لهم إلمام بالطب وقال: إن البن مذكور فى «منهاج البيان» وإنه محرق للبلغم، فقال الطبيبان: إن المذكور فى «المنهاج» ليس هو هذا فإن هذا جزء مفرد بسيط وذاك مركب من أبازير، وأبانا شهادتهما بصيغة (أشهد) المعتبرة لدى القضاة، ثم ذكر جماعة من الحاضرين أنهم استعملوا القهوة فتغيرت حواسهم وأنكروا هيئتهم وتغير عقلهم وحصل الضّرر فى أبدانهم وأقاموا شهادتهم بذلك عند القاضيين الصّلاحى الشافعى والنجمى المالكى، ثم روجع فى ذلك قاضى القضاة نسيم الدين الحنفى فى داره فقال: إنه أقيم عنده البينة بمثل ذلك، ولما تحقق الأمير خير بيك المحتسب عدم حلها أشهر النداء بمكة المشرفة بمسعاها ونواحيها بالمنع من تعاطى القهوة، وجعل ذلك فى الصحائف الشريفة، كل ذلك فى ضحوة يوم الجمعة إلى هنا انتهت عبارة المحضر ببعض حذف.
وأما صورة كتابة القضاة والعلماء فكتب قاضى القضاة صلاح الدين بن ظهير الشافعى: الحمد لله وتوكلت عليه الأمر كما شرح وبين ونقح.
وكتب القاضى عبد الغنى بن أبى بكر المرشدى الحنفى: أحمد الله وأفوض أمرى إلى الله الأمر كما شرح من مراجعتى فى دارى بسبب عذر شرعى، وقد قامت البينة عندى بما ثبت من حرمة القهوة المشروحة فيه: اللهم اهدنا الصواب.
وكتب القاضى نجم الدين بن عبد الوهاب بن يعقوب المالكى: الحمد لله العادل فى قضائه {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنّا مُؤْمِنُونَ}
(1)
والطف بنا فى كل حركة وسكون، ونعوذ بالله من قول الزور، والتعاطى بحرم الله أسباب الفجور، وقد شهد عندى جماعة من الأعيان ذوى المعرفة والإتقان بإفسادها للأبدان، وبين ذلك غاية البيان. والأمر كما شرح فيه من غير شئ ينافيه ولا حاجة إلى نقل صور كتابة الباقين، إذ ليس فيها غير الموافقة بناء على الصّفات المشروحة التى لا حقيقة لها على أن معظمهم كانوا عارفين بحقيقة الحال بل كانوا من شرّاب القهوة المواظبين عليها، وإنما كتبوا اتقاء فحش الأمير، لأنه كان متعصبا فى المسألة جدا، وقد تقرر عنده أن له فى منعها فخرا عظيما وثوابا جزيلا، وكان مع ذلك سفيه اللسان جريئا على القضاة وغيرهم، ولم يستطع أحد أن يثبت للبحث مع المتعصبين بالباطل لحرمتها إلا الشيخ نور الدين بن ناصر الشافعى مفتى مكة، ولكنه سمع ما لا يحب بل كفّره بعض أهل المجلس من أجل كلام صدر منه فى غاية الصحة لا محيص عنه؛ فضلا عن أن يترتب عليه أدنى محظور ثم/جهزوا سؤالا وأرسلوه إلى الديار المصرية عرضوا فيه للشيخ نور الدين صورته
(1)
سورة الدخان آية رقم 12.
ما قولكم رضى الله عنكم فى مشروب يقال له: القهوة، شاع شربه فى مكة المشرفة وغيرها بحيث يتعاطونه فى المسجد الحرام وغيره، ويدار بينهم بكأس، وقد أخبر خلق ممن تاب عنه؟ بأن كثيره يؤدى إلى السكر، وأخبر عدول من الأطباء بأنه مضر بالأبدان، وقد منع من شربه من يعتد بقوله من العلماء والزهاد بمكة، وهناك شاهد جاهل جعل نفسه واعظا وأفتى الفساق بحل شربه.
فقيل له: ما تقول فى هذه الإدارة على هذه الصفة؟ فقال الشارع أدار اللبن فقيل له: أخطأت لم يكن إدارة اللبن على هذه الصفة فهل يحل شربه على الوجه المذكور أم يحرم مطلقا لكونه مسكرا ومضرا بالأبدان، وماذا على الجاهل المبيح لشربه، وهل يجب على ولى الأمر إزالة هذا المنكر والمنع منه وردع هذا الجاهل ومن يقول بقوله أم لا؟ وما الحكم فى ذلك أفتونا مأجورين وابسطوا الجواب أيدكم الله.
فبرز أمر السلطان المرحوم قانصوه الغورى من بيوردى بكتابة مرسوم وتجهيزه إلى مكة المعظمة، فجهز ونص المقصود منه: وأما القهوة فقد بلغنا أن أناسا يشربونها على هيئة شرب الخمر، ويخلطون فيها المسكر ويغنون عليها بآلة ويرقصون ويسكرون، ومعلوم أن ماء زمزم إذا شرب على هذه الهيئة كان حراما، فليمنع شرّابها من التظاهر بشربها والدوران بها فى الأسواق انتهى.
وهذه عبارة صريحة فى النهى لكن إنما هو على حسب الإنهاء، ومع ذلك فليس فيها ما يدل على المنع من شربها بوجه بل من التظاهر بها، ومن فعله على الهيئة المخصوصة التى بلغتهم فقط، وذلك لا يدل على حرمة ذاتها بل تشبيهها بماء زمزم نصّ أو كالنصّ فى حلّها على غير تلك الهيئة، ولذا لم يمنعها السلطان من مصر التى هى محل الكرسى والولاية، ولعله إنما منع من التظاهر بها سدا للذريعة، مخافة أن تشرب على تلك الهيئة الممنوعة.
ومما روى من نظم بعض أعيان العلماء القائلين بحلها وكثرة فوائدها:
يا قهوة تذهب همّ الفتى*
…
أنت لحاوى العلم نعم المراد
شراب أهل الله فيها الشفا*
…
لطالب الحكمة بين العباد
نطبخها قشرا فتأتى لنا*
…
فى نكهة المسك ولون المداد
ما عرف الحق سوى عاقل*
…
يشرب من وسط الزبادى زباد
حرّمها الله على جاهل*
…
يقول فى حرمتها بالعناد
فيها لنا تبر وفى حانها*
…
صحبة أبناء الكرام الجياد
كاللبن الخالص فى حله*
…
ما خرجت عنه سوى بالسّواد
انتهى باختصار كثير وتصرف قليل.
وفيه أيضا بالخط الفرنساوى عن بعض مؤلفى الأتراك ما ترجمته:
شجرة القهوة تنبت باليمن فى كورتين، منها فوق الجبال التى تطو زبيدا فى مقابلة بيت الفقيه فى الخط المعروف بوصاب، والخط المعروف بنهارى، وهما قريبان من نينا جيزان، وشجرها مغروس على خطوط مستقيمة، ولها شبه بشجرة الكريز، وورقها ثخين واخضراره معتم، وتستمر آخذة فى الكبر إلى ثلاثين سنة، وغاية ما تبلغ فى الارتفاع إلى ثمانية أذرع، وزهرها أبيض ويخرج ورق الزّهر اثنين اثنين وثلاثة ثلاثة، وهو أكبر من ورق زهر الكريز وثمرها يشبه ثمر الكريز أيضا، وفى وقت خضرته يكون غضّا بمرارة فإذا احمرّ يكون فى طعم اللبن الحامض، وعند إدراكه وانتهاء استوائه يكون أحمر اللون يضرب إلى السواد كالوشنة،
بحيث لو خلط بها لم يعرف إلا بالطعم والرائحة، وشكل الجوزة المنقسمة فلقتين وطعمه أشهى من الكريز، ويجمع قبل استوائه وينشر فوق الأسطحة المستوية فينشف ويسودّ لونه ثم يدش على الأرحية، ثم يخلص من قشره بالتذرية، وهذا هو البن الذى يباع فى جهات الدنيا.
وأما الذى يبقى على أصوله حتى يتم استواؤه فلا يحتاج إلى الدش بل يفصل قشره باليد وينشف كالزبيب، وأهل اليمن يغلونه ويستعملون منقوعه مبردا فى الصيف وهو نافع للصحة، وهذا النوع يبقى فى اليمن ولا يخرج إلى بلاد غيرها ويكون غالى القيمة، وأحسن البن ما كان حبّه غليظا مع الخضرة.
والقشر الذى تكلمنا عليه حار رطب فى الأولى، والشراب المصنوع منه إن شرب صيفا يرخى البطن وينعش القلب ويزيل الثقل والفتور الحاصل فى الصباح، والأحسن فى قلى الحب عدم الجور عليه لئلا تضيع خاصيته، وشرب القهوة بعد الأكل بساعة نافع للصحة لهضمه الطعام، ولها نفع فى الزكام وآلام الرأس، وفى كل سنة يخرج من بلاد العرب ثمانون ألف فرد من البن، منها إلى جدة أربعون ألف، والباقى يخرج إلى البصرة وغيرها.
والفرد ثلاثة قناطير وكل أربعة قناطير منها مع زيادة عشرة أرطال قنطار بالدمشقى، وكان دخولها فى بلاد الروم خصوصا القسطنطينية سنة تسعمائة واثنتين وستين هجرية، وفى هذا الوقت ظهرت أماكنها المعهودة لها، افتتح ذلك رجل من دمشق بنى قهوة فاجتمع فيها الناس حتى العلماء، وأول استكشافها كان سنة ستمائة وست وخمسين هجرية انتهى.
مطلب الكلام على بلاد الجبرت
وإنما أطلنا الكلام فى القهوة لما فيه من الفائدة وحيث تقدم ذكر الحبشة والجبرت فلا بأس بذكر طرف مما فى الجبرتى مما يتعلق بها فنقول:
قال الجبرتى فى تاريخه: بلاد الجبرت هى بلاد الزيلع بأراضى الحبشة تحت حكم الخطى ملك الحبشة، وهى عدة بلاد معروفة تسكنها هذه الطائفة المسلمون بذلك الأقليم، ويتمذهبون بمذهب الحنفى والشافعى لا غير، وينسبون إلى سيدنا أسلم بن عقيل بن أبى طالب، وكان أميرهم فى عهد النبى صلى الله عليه وسلم النجاشى المشهور الذى آمن به ولم يره وصلى عليه النبى صلى الله عليه وسلم صلاة الغيبة كما هو مشهور فى كتب الأحاديث.
وهم قوم يغلب عليهم التقشف والصلاح ويأتون من بلادهم بقصد الحج والمجاورة فى طلب العلم، ويحجون مشاة ولهم رواق بالجامع الأزهر بمصر.
وللحافظ المقريزى مؤلف فى أخبار بلادهم وتفصيل أحوالهم ونسبهم. ومنهم القطب الكبير المعتقد الشيخ إسماعيل بن سودكين الجبرتى تلميذ ابن العربى ويسمى، قطب اليمن، والشيخ عبد الله المترجم فى حسن المحاضرة للسيوطى، وهو الذى كان يعتقده الملك الظاهر برقوق، وأوصى أن يدفن تحت قدمه بالصحراء.
ومنهم العارف الشيخ على الجبرتى الذى كان يعتقده السلطان الأشرف قايتباى وارتحل إلى بحيرة إدكو فيما بين رشيد والإسكندرية، وبنى هناك مسجدا عظيما ووقف عليه عدة أماكن
وقيعان وأنوال حياكة وبساتين ونخيلا كثيرة قال: وهو موجود إلى الآن عامر بذكر الله والصلاة إلا أن غالب أماكنه زحفت عليها الرّمال وطمّتها وغابت تحتها وفيه إلى الآن بقية صالحة.
وبنى أيضا مسجدا شرقى عمارة السلطان قايتباى ودفن فيه، وقد تخرب وانطمست معالمه، ولم يبق إلا مدفنه، وحوله حائط متهدم من غير باب ولا سقف، وبابه ظاهر مكشوف يزار.
ومنهم الإمام الحجة المجتهد فخر الدين بن عمرو عثمان الحنفى الزيلعى شارح الكنز المسمى «بتبيين الحقائق شرح كنز الدقائق» المدفون بحوطة عقبة بن عامر الجهنى
والنجاشى أول من آمن بالنبى صلى الله عليه وسلم من الملوك ولم يره، وأخباره مع النبى صلى الله عليه وسلم والمهاداة بينهما وبعض أخبار الحبشة وما ورد فيهم من الآيات والأحاديث والآثار مشهورة مبسوطة فى كثير من الكتب: مثل كتاب (الطراز المنقوش فى محاسن الحبوش) لعلاء الدين محمد بن عبد الله البخارى الخطيب، وكتاب (رفع شأن الحبشان) للعلامة جلال الدين السيوطى، (وتنوير الغبش فى فضائل السودان والحبش) إلى غير ذلك.
وفى الحبوش أخلاق لطيفة وشمائل ظريفة، وفيهم الحذق والفطانة ولطافة الطباع وصفاء القلوب؛ لكونهم من جنس لقمان الحكيم، وهم أجناس منهم السحرتى والأمحرى، وهم أحسن أجناس الحبوش الموصوفين بالصباحة والملاحة والفصاحة والنعومة فى الخدّ والرّشاقة فى القدّ، والأمحرية تفوق على السحرتية باللّطف والظرف، والسحرتية تفوق على
الأمحرية بالشدّة والعنف. وقيل: إن النجاشى منهم ويقرب من هذين النوعين نوعان آخران الداموت ويلين، ونوعان آخران وهما قمووفتر، ونوع آخر يسمى أزاره وللقاضى عبد البر بن الشحنة:
حبشيّة سألتها عن جنسها
…
فتبسمت عن درّ ثغر جوهرى
فطفقت أسأل عن نعومة ما خفى
…
قالت فما تبغيه جنسى أمحرى
وللشيخ شهاب الدين البراذعى:
وخذ ما حلا من بنات الحبو
…
ش من جلب زيلع أو من أزاره
إلى غير ذلك انتهى.
ترجمة والد الشيخ الجبرتى
وقد ترجم
(1)
الجبرتى قبل ذلك والده: بأنه الإمام العلامة، والنحرير الفهامة، حامل لواء العلوم على كاهل فضله، ومحرر دقائق المنطوق والمفهوم بتحريره ونقله، من تكحلت بمداده عيون الفنون وتشنفت المسامع بما عنه روى الراوون، وارتفع من حضيض التقليد إلى نور الفضائل وسابق فى حلبة العلوم، فحاز قصب الفواضل، الروض النضير الذى ليس له فى سائر العلوم نظير، وهو فى فقه النعمان.
الجامع الكبير عمدة الأنام وفيلسوف الإسلام سيدى ووالدى بدر الملة والدين أبى التدانى حسن بن برهان الدين إبراهيم ابن الشيخ العلامة حسن ابن الشيخ نور الدين على ابن الولى الصالح شمس الدين محمد ابن الشيخ زين الدين عبد الرحمن الزيلعى الجبرتى العقيلى الحنفى المتوفى سنة ثمان وثمانين ومائة وألف رحمه الله تعالى.
ثم قال: والشيخ عبد الرحمن وهو الجد السابع لجامعه وإليه ينتهى علمنا بالأجداد، هو الذى ارتحل من بلاده ووصل إلينا خبره سلفا عن خلف إلى جدة وانتقل إلى مكة فجاور بها وحج مرارا وجاور بالمدينة المنوّرة سنتين وحضر إلى مصر من طريق القلزم وجاور بالأزهر فى الرواق، واجتهد فى التحصيل وتولى شيخا على الرواق وكذلك/ابنه من بعده الشيخ شمس الدين محمد، وكان على غاية من الصلاح وملازمة الجماعة ولا يبيت عند عيالة إلا ليلة أو ليلتين فى الجمعة وباقى الليالى بالرواق للمطالعة على السهارة والتهجد آخر الليل، ومات
(1)
انظر ترجمة كاملة فى عجائب الآثار للجبرتى 1/ 389 ط الشرفية القاهرة.
وخلف ابنه الشيخ على فنشأ على قدم أسلافه فى العلم والعمل، وصار له شهرة وثروة وتزوّج بزينب بنت القاضى عبد الرحيم الجوينى، ومات وخلف ولديه الشيخ حسنا المتوفى سنة سبع وتسعين وألف، وأخاه الشيخ عبد الرحمن المتوفى سنة تسع وثمانين وألف.
ولما توفى الشيخ حسن أعقب الجد إبراهيم رضيعا فكفلته والدته الحاجة مريم بنت الشيخ محمد بن عمر المنزلى الأنصارى فنشأ نشوأ صالحا حتى بلغ الحلم، فزوجته بستيتة بنت عبد الوهاب أفندى الدلجى، فى سنة ثمان ومائة وألف، وبنى بها فى تلك السنة فولدت الوالد المترجم فى سنة عشر ومات والده وعمره شهر واحد، وسن والده إذ ذاك ست عشرة سنة، فربته والدته بكفالة جدته المذكورة. ووصاية الشيخ محمد النشرتى، وقرروه فى مشيخة الرواق كأسلافه، والمتكلم عنه وصيّة، وتربى فى حجورهم حتى ترعرع وحفظ القرآن وعمره عشر سنين، واشتغل بحفظ المتون فحفظ الألفية، والجوهرة، ومتن كنز الدقائق فى الفقه، ومنظومة ابن الشحنة فى الفرائض وغير ذلك.
واتفق له وهو ابن ثلاث عشرة سنة أنه مرّ مع خادمه بطريق الأزهر فنظر إلى شيخ مقبل منوّر الوجه والشيبة وعليه جلالة ووقار طاعن السن، والناس يزدحمون على تقبيل يده ويتبركون به، فسأل عنه فعرف أنه ابن الشيخ الشرنبلالى فتقدم إليه ليقبل يده كغيره فنظر إليه الشيخ وقبض على يده وقال: من يكون هذا الغلام؟ فعرّفوه عنه فتبسم وقال: عرفته بالشبه، ثم قال: إسمع يا ولدى أنا قرأت على جدّك وهو قرأ على والدى، وأحب أن تقرأ علىّ شيئا وأجيزك وتتصل بيننا سلسلة الإسناد وتلحق الأحفاد بالأجداد، فلازم الحضور عنده كل يوم، وقرأ عليه متن نور الإيضاح تأليف والده فى العبادات، وكتب له الإجازة والسند فقال فيها بعد أن حمد الله وصلى على نبيه صلى الله عليه وسلم ما نصه: وبعد.
فقد حضر إلىّ الولد النجيب الموفق اللبيب الفطن الماهر الزكى الباهر سليل العلماء الأعلام، ونتيجة الفضلاء العظام، نور الدين حسن بن برهان الدين إبراهيم ابن مفتى المسلمين حسن الجبرتى الحنفى رحم الله أسلافه، وقرأ علىّ متن نور الإيضاح من أوله إلى آخره تأليف والدى المندرج إلى رحمة الله الشيخ حسن بن عمار الشرنبلالى، وأجزته بجميع ما يجوز لى روايته إجازة عامة، كما أجازنى به الوالد وتلقى هو ذلك عن الشيخ على المقدسى شارح نظم الكنز عن العلامة الشلبى شارح الكنز، عن القاضى عبد البر بن الشحنة، عن الكمال ابن الهمام، عن سراج الدين قارئ الهداية عن علاء الدين بن عبد العزيز البخارى، عن حافظ الدين صاحب الكنز عن شمس الأئمة الكردرى، عن برهان الدين صاحب الهداية، عن فخر الإسلام البزدوى، عن شمس الأئمة السرخسى، عن شمس الأئمة الحلوانى، عن القاضى ابن على النسفى، عن الإمام محمد بن الفضل البخارى، عن عبد الله السندمونى عن الأمير عبد الله بن أبى حفص البخارى، عن أبيه عن الإمام محمد بن الحسن الشيبانى، عن الإمام أبى يوسف عن الإمام الأعظم أبى حنيفة النعمانى بن ثابت رضي الله عنه، عن الإمام حماد بن سليمان عن إبراهيم النخعى عن الإمام علقمة عن عبد الله بن مسعود، عن النبى صلى الله عليه وسلم، عن أمين الوحى جبريل عليه السلام عن الله عز وجل وأوصى الولد الأعز بالتقوى ومراقبة الله فى السر والنجوى، والله تعالى يوفقه وينفع به وبطومه ويهدينا وإياه لما كان عليه السلف الصالح فى أساس الدين ورسومه.
قال ذلك الفقير إلى الله تعالى حسن بن حسن الشرنبلالى الحنفى فى ثالث ربيع الأول من سنة ثلاث وعشرين ومائة وألف انتهت الإجازة.
واجتهد المترجم فى طلب العلوم وحضر أشياخ العصر وتفقه على السيد على السيواسى الضرير، وعلى الشيخ أحمد التونسى الدقدوسى، والشيخ على الصعيدى الحنفى، وتلقى عنه
النزهة فى علم الغبار والقلصادى ومنظومة ابن الهائم، وعلى الشيخ الشهاب أحمد بن مصطفى الإسكندرى الصباغ: شرح الكبرى وأم البراهين، وشرح العقائد والمواقف، وشرح المقاصد للسعد، والكشاف، والبيضاوى، والشمائل، والصحيحين، والأربعين النووية، والمشارق والقطب على الشمسية، والمواهب اللّدنية.
وعلى الشيخ عيد النمرسى، الورقات، وآداب البحث والعضدية، وعلم الجبر والمقابلة والعروض، وأعمال المناسخات، والكسورات والأعداد الصم والحساب والمساحة وغير ذلك، ولم يدع شيخا من أشياخ عصره، إلا أخذ عنه، ولا كتابا إلا تلقاه وجدّ فى التحصيل حتى فاق أهل عصره وباحث وناضل ودرس بالرواق وبالسنانية ببولاق.
وكان لجدته أم أبيه مكان مشرف على النيل بربع الحزنوب عند ما كان النيل ملاصقا لسدته فسكنها مدة، فكان يغدو إلى الجامع ثم يعود إلى بولاق وله حاصل بربع الحزنوب يجلس/فيه حصة ثم يعود إلى السنانية فيملى هناك درسا، ثم احترق ذلك المنزل بما فيه وتلفت أشياء كثيرة من المتاع والصينى القديم فانتقلت إلى مصر، وكانوا يذهبون إلى مكان لها بمصر العتيقة فى أيام النيل بقصد النزهة، وهى التى أعانته على تحصيل العلوم حتى أنه كان يقول: ما عرفت المصرف واحتياجات المنزل والعيال إلا بعد موتها، ومع اشتغاله بالعلم كان يعانى التجارة والمشاركة والمضاربة، وكانت جدته ذات غنى وثروة، ولها أملاك وعقارات ووقفت عليه أماكن منها: الوكالة بالصنادقية والحوانيت بجوارها وبالغورية ومرجوش، ومنزل بجوار المدرسة الآقبغاوية، ورتبت فى وقفها عدة خيرات ومكتبا لإقراء الأيتام بالحانوت المواجهة للوكالة المذكورة، وريعة تقرأ كل يوم وختمات فى ليالى المواسم وقصعتى ثريد كل ليلة من ليالى رمضان، وثلاثة جواميس تفرق على الفقهاء والأيتام والفقراء فى عيد
الأضحية، وبعد موت جده تزوجها الأمير على أغا باش اختيار متفرقة المعروف بالطورى وتزوج المترجم بابنته، وله حكم قلاع الطور والسويس والمويلح وكانت تلك المواضع إذ ذاك عامرة وبها المرابطون ويصرف عليهم العلوفات والاحتياجات.
ولما مات على أغا سنة سبع وثلاثين تقلد ذلك بعده المترجم مدة مع كونه فى عداد العلماء وربى معتوقيه عثمان وعليا ولم يزالا فى كتفه حتى ماتا، وأرسل خادما له يسمى سليمان الحصافى جوربجيا على قلعة المويلح فقتلوه هناك، فترك هذا الأمر وأقبل على الاشتغال بالعلم، وماتت زوجته بنت الأمير على فتزوج ببنت رمضان جلبى بن يوسف الخشاب، وهم بيت مجد وثروة ببولاق ولهم أملاك وأوقاف، من ذلك وكالة الكتان وربع وحوانيت تجاه جامع الزرد كاش، وبيت كبير بساحل النيل وكانت تلك الزوجة من الصالحات المصونات.
ومن برّها له وطاعتها أنها كانت تشترى له السرارى الحسان من مالها ويتزوج عليها كثيرا من الحرائر ولا تتأثر، واشترى مرة جارية بيضاء فأحبتها حبا شديدا ودفعت له ثمنها وأعتقتها وزوجتها إياه وجهزتها وفرشت لها مكانا على حدتها وبنى بها فى سنة خمس وستين، وكانت لا تقدر على فراقها ساعة مع كونها صارت ضرتها.
وفى سنة اثنتين وثمانين مرضت الجارية فمرضت لمرضها وثقل عليها المرض، فقامت الجارية فى ضحوة النهار فنظرت إلى مولاتها وكانت فى حالة غطوسها فبكت وقالت: إلهى إن كنت قدّرت موت سيدتى فاجعل يومى قبل يومها ثم رقدت، وزاد بها الحال وماتت تلك الليلة فسحبوها من جانبها فاستيقظت مولاتها آخر الليل وجستها بيدها وصارت تقول: زليخا زليخا فقالوا لها إنها نائمة فقالت: إن قلبى يحدثنى أنها ماتت، ورأيت فى منامى ما يدل على
ذلك، فقالوا لها: حياتك الباقية فقامت وجلست، وهى تقول لا حياة لى بعدها وصارت تنتحب حتى طلع النهار، وجهزوها بين يديها وحملوا جنازتها ورجعت إلى فراشها ودخلت فى سكرات الموت، وماتت آخر النهار وخرجوا بجنازتها فى اليوم الثانى.
قال: وهذا من أعجب ما شاهدت وسنى إذ ذاك أربع عشرة سنة واشتغل الوالد فى أيام اشتغاله بتجويد الخط، فكتب على عبد الله أفندى الأنيس، وحسن أفندى الضيائى، طريقة الثلث والنسخ حتى أحكم ذلك، وأجازه الكتبة وأذنوا له أن يكتب الإذن على اصطلاحهم، ثم جود فى التعليق على أحمد أفندى الهندى النقاش لفصوص الخواتم حتى أحكم ذلك وغلب على خطه طريقته ومشى عليها.
وكتب الديوانى والقرمة وحفظ الشاهدى واللسان الفارسى والتركى، حتى أن كثيرا من الأعاجم والأتراك يعتقدون أن أصله من بلادهم لفصاحته فى التكلم بلسانهم ولغتهم.
ثم فى سنة أربع وأربعين اشتغل بالرياضيات فقرأ على الشيخ محمد الجناجى رقائق الحقائق للسبط الماردينى والمجيب والمقنطر والدر لابن المجدى ومنحرفات السبط، وإلى هنا انتهت معرفة الشيخ الجناجى، وعند ذلك انفتح له الباب وانكشف عنه الحجاب وعرف السمت والارتفاع والتقاسيم والأرباع، والميل الثانى والأول والأصل الحقيقى وغيره، واستخرج نتائج الدر اليتيم والتعديل والتقويم، وحقق أشكال الوسائط فى المنحرفات والبسائط والمحلولات وحركات التداوير والنطاقات والتشهيل والتقريب والحل والتركيب والسهام والظلال ودقائق الأعمال، وانتهت إليه الرياسة فى الصناعة وأذعنت له أهل المعرفة بالطاعة، وسلم له عطارد وجمشيد الراصد وناظره المشترى، وشهد له الطوسى والأبهرى وتبوأ من تلك الفنون مكانا عليا وزاحم بمنكبه العيوق والثريا.
وقدم الشيخ حسام الدين الهندى وكان متضلعا من العلوم الرياضية والمعارف الحكمية والفلسفية فنزل بمسجد فى مصر القديمة واجتمع عليه بعض الطلبة مثل: الشيخ الوسيمى والشيخ الدمنهورى وتلقوا عنه أشياء فى الهيئة وذهب إليه الوالد فاغتبط به الشيخ وأقبل بكليته عليه، ونقله الوالد إلى داره وأفرد له مكانا وأكرم نزله وطالع عليه الجغمينى وقاضى زاده والتبصرة والتذكرة وهداية الحكمة لأثير الدين الأبهرى وما عليهما/من المواد والشروح مثل السيد والميبدى قراءة بحث وتحقيق وأشكال التأسيس فى الهندسة وتحرير إقليدس والمتوسطات والمبادئ والغايات وعلم الأرتماطيقى وعلم المساحة وغير ذلك، ثم أراد أن يلقنه علم الصنعة الإلهية وكان من الواصلين فيها، فأبت نفسه الاشتغال بسوى العلوم المهذبة للنفس، وكان يحكى عنه أمورا تشعر بأنه كان من الواصلين ولم يزل عنده حتى سافر إلى بلاده، وقدم أيضا الشيخ محمد الفلانى الكشناوى فاجتمع عليه المترجم وتلقى عنه علم الأوفاق وقرأ عليه شرح منظومة الجزئيات للقوصانى، والدر والترياق، والمرجانية فى خصوص المخمس الخالى الوسط، والأصول والضوابط، والوفق المئينى، وعلم التكسير للحرف وغير ذلك.
وسافر الشيخ للحج ورجع فأنزله عنده بزوجته وجواريه وعبيده وكمّل عنده غالب مؤلفاته ولم يزل حتى مات، ولقى المترجم فى حجاته الشيخ النخلى، وعبد الله بن سالم البصرى، وعمر بن أحمد بن عقيل المكى، والشيخ محمد حياة السندى، والسيد محمد السقاف وغيرهم، وتلقى عنهم وأجازوه وهم أيضا تلقوا عنه ولقنه أبو الحسن السندى طريق السادة النقشبندية والأسماء الأدريسية، ثم قال بعد أن ساق صورة إجازة الشيخ عمر بن أحمد بن عقيل للمترجم بما فيها من ذكر سنده المتصل بالنبى صلى الله عليه وسلم من عدة طرق.
وللوالد أشياخ غير هؤلاء كثيرون اجتمع بهم، وتلقى عنهم وشاركهم وشاركوه، مثل على أفندى الداغستانى، والشيخ عبد ربه بن سليمان بن أحمد القشتالى الفاسى، والشيخ عبد اللطيف الشامى، والجمال يوسف الكلارجى، والشيخ رمضان الخوانكى، والشيخ محمد النشيلى والشيخ عمر الحلبى، والشيخ حسين عبد الشكور المكى، والشيخ إبراهيم الزمزمى والأستاذ عبد الخالق بن وفا، وكان خصيصا به وأجازه بالأحزاب.
وهو الذى كناه بأبى التّدانى وألبسه التاج الوفائى والشيخ أحمد الدلجى ابن خال المترجم، والشيخ إبراهيم الحلبى صاحب حاشية الدر، والسيد سعودى محشى منلامسكين وغيرهم من الأكابر أهل الأسرار، حتى كمل فى المعارف ورمقته العيون بالإجلال، وعلا شأنه على الأقران، وأذعنت له الأذراق وشاع ذكره فى الآفاق، ووفدت عليه الطلاب من كل فج، ولزموا الطواف بكعبة فضله، فمنهم من ينفر بعد بلوغ أمنيته ومنهم من يواظب على الاعتكاف بساحته.
وكان رحمه الله عذب المورد للطالبين طلق المحيا للواردين، يكرم كل من أمّ حماه، ويبلغ الراجى مناه، والمقتفى جدواه، والراغب أقصى مرماه، مع البشاشة والطلاقة، وسعة الصدر والرياقة، وعدم رؤية المنة على المجتدى، ومسامحة الجاهل والمعتدى مع حسن الأخلاق والصفات:
له صحائف أخلاق مهذبة
…
منها العلا والحجا والفضل ينتسج
وكان وقورا محتشما مهيبا فى الأعين، معظما فى النفوس، محبوبا للقلوب، لا يعادى أحدا على الدنيا، فلذا لا تجد من يكرهه ولا من ينقم عليه فى شئ، ومكارم الأخلاق والحلم والصفح والتواضع والقناعة وشرف النفس وكظم الغيظ والانبساط مع الجليل والحقير، كل ذلك سجية له من غير تكلف ولا يعرف التصنع فى الأمور، ولا يرى لنفسه مقاما ولا علما ولا مشيخة على التلاميذ، ولا يرضى التعاظم ولا تقبيل اليد، وله منزلة فى قلوب الأكابر والأمراء والوزراء ويسعون إليه ويذهب إليهم لبعض المقتضيات، ويرسل إليهم فلا يردون شفاعته ولا يتوانون فى حاجته لمعرفته بلسانهم واصطلاحهم ورغبتهم فى مزاياه ومعارفه المختص بها دون غيره، سيما أكابر العثمانية مثل على باشا الحكيم، وراغب باشا وأحمد باشا الكور، كل ذلك مع العفة والعزة وعدم التطلع لشئ من أسباب الدنيا، كوظيفة أو مرتب أو فائظ، وكان له محبة مع عثمان بيك ذى الفقار، وحج فى إمارته على الحج ثلاث مرات من ماله، ولم يصله منه سوى ما كان على سبيل الهدية، وكان منزل سكنه الذى بالصنادقية ضيقا من أسفل وكثير الدّرج، فعالجه إبراهيم كتخدا على أن يشترى أو يبنى له دارا واسعة فلم يقبل، وكذا عبد الرحمن كتخدا، وكان له ثلاثة مساكن أحدها هذا بالقرب من الأزهر، وآخر بالأبزارية بشاطئ النيل، ومنزل زوجته القديمة تجاه جامع مرزه، وفى كل منزل زوجة وسرارى وخدم، فكان ينتقل فيها مع أصحابه وتلامذته، وكان يقتنى المماليك والعبيد والجوارى البيض والحبوش والسود.
وله من الأولاد نيف وأربعون ولدا ذكورا وإناثا كلهم دون البلوغ، ولم يعش له من الأولاد سوى الحقير، وكان يرى الاشتغال بغير العلم من العبثيات وإذا أتاه طالب فرح به وأقبل عليه وأكرمه خصوصا إذا كان غريبا، وربما دعاه للمجاورة عنده وصار من جملة عياله، ومنهم من أقام عشرين عاما لا يتكلف شيئا من أمر معاشه، حتى غسل ثيابه من غير ملل ولا ضجر.
وأنجب عليه كثير من علماء وقته طبقة بعد طبقة، مثل الشيخ أحمد الراشدى، والشيخ إبراهيم الحلبى، وأبى الإتقان الشيخ مصطفى الخياط، والشيخ أحمد العروسى، ومن الطبقة الأخيرة التى/أدركناها الشيخ أبو الحسن العكفى والشيخ عبد الرحمن البنانى، ومن الملازمين له الشيخ محمد النفراوى، والشيخ محمد الصبان والشيخ محمد عرفة الدسوقى، والشيخ محمد الأمير والشيخ محمد الجناجى والشيخ مصطفى الرئيس والشيخ محمد الشوبرى والشيخ عبد الرحمن القرشى والشيخ محمد الفرماوى، وكان يباسط أخصاءه منهم ويمازحهم بالأدبيات والنوادر والأشعار والمواليات والمجونيات والحكايات والنكات وينتقلون معه فى مواطن النزهة، فيقطعون الأوقات فى دراسة العلم ومطارحات المسائل والمفاكهة والمباسطة.
وممن تلقى عنه شيخ الشيوخ الشيخ على العدوى، تلقى شرح الزّيلعى على الكنز فى الفقه الحنفى، وكثيرا من المسائل الحكمية، ولما قرأ كتاب المواقف كان يناقشه فى بعض المسائل المحققون من الطلبة، فإذا توقف فى مسألة يقوم من حلقته ويقول لهم: اصبروا حتى أذهب إلى من هو أعرف منى بذلك، فيأتى المترجم فيصوّرها له بأسهل عبارة فيرجع فى الحال إلى درسه ويحققها لهم، وهذا من أعظم الديانة والإنصاف، وقد تكرر منه ذلك، وكان يقول عنه: لم نر ولم نسمع من توّغل فى علم الحكمة والفلسفة وزاد إيمانه إلا هو رحم الله الجميع.
وتلقى عنه من الآفاقيّين وأهل بلاد الروم والشام وداغستان والمغاربة والحجازيين خلق لا يحصون، وأجل الحجازيين الشيخ إبراهيم الزّمزمى، وأما ما اجتمع عنده وما اقتناه من الكتب فى سائر العلوم، فكثير جدا قلما اجتمع ما يقاربها فى الكثرة عند غيره من العلماء وغيرهم، وكان سموحا بإعارتها وتغييرها للطلبة وذلك كان السبب فى إتلاف أكثرها وتخريمها وضياعها، حتى إنه كان أعدّ محلا فى المنزل ووضع فيه نسخا من الكتب التى يتداول علماء
الأزهر قراءتها للطلبة، مثل الأشمونى، وابن عقيل، والشيخ خالد والأزهرية والشذور، وكذا كتب التوحيد مثل: شروح الجوهرة، وشروح السنوسية الكبرى والصغرى، وكتب المنطق، والاستعارات والمعانى، وكتب الحديث والتفسير والفقه وغير ذلك، فكانوا يغيرون منها من غير استئذان، وقد أرسل إليه السلطان مصطفى نسخا من خزانته، وكذلك أكابر الدولة بالروم ومصر وباشا تونس والجزائر واجتمع لديه من كتب الأعاجم، الكلستانى، وديوان حافظ شاه نامه، وتواريخ العجم، وكليلة ودمنة، ويوسف زليخا وغير ذلك، وبهذه الكتب تصاوير بديعة الصنعة غريبة الشكل، وكذلك الآلات الفلكية من الكرات النحاس التى كان اعتنى بوضعها حسن أفندى الروزنامجى، بيد رضوان أفندى الفلكى، اشترى جميعها من تركة حسن أفندى، وكذلك غيرها من الآلات الارتفاعية والميالات، وحلق الأرصاد، والاصطرلابات والأرباع والعدة الهندسية، وأدوات غالب الصنائع من النجارين والخراطين والحدادين والسمكرية والمجلدين والنقاشين والصاغة وآلات الرسم والتقاسيم، ويجتمع به كل متقن فى صناعته مثل: حسن أفندى الساعاتى، وعابدين أفندى الساعاتى، وعلى أفندى رضوان من أرباب المعارف فى كل فن، ومحمد أفندى الإسكندرانى وإبراهيم السكاكينى، والشيخ محمد الزبدانى.
وكان فريدا فى صناعة التراكيب والتقاطير واستخراج المياه والأدهان وغير هؤلاء ممن رأيت ومن لم أره، وحضر إليه طلاب من الإفرنج وقرؤوا عليه علم الهندسة سنة تسع وخمسين وأهدوا له من صنائعهم وآلاتهم أشياء نفيسة، وذهبوا إلى بلادهم ونشروا بها ذلك العلم من حينئذ، وأخرجوه من القوّة إلى الفعل، واستخرجوا به الصنائع البديعة مثل طواحين الهواء وجر الأثقال واستنباط المياه، وفى أيام اشتغاله بالرسم رسم ما لا يحصى من المنحرفات والمزاول على الرخام والبلاط ونصبها فى أماكن كثيرة مثل: الأزهر والأشرفية وقوصون ومشهد الإمام الشافعى والسادات.
وفى الآثار منها ثلاثة: واحدة بأعلى القصر، وأخرى على البوابة، وأخرى بسطح الجامع كسرها فراشوا الأمراء الذين كانوا ينزلون هناك للنزهة ليمسحوا بها صوانى الأطعمة الصفر وغير ذلك من منازله وغيرها، حتى أن الخدم تعلموا ذلك فصاروا يقطعون البلاط بالمناشير ويمسحونه بالمماسح الحديد والمبارد ويهندسونه.
وأما ما كان على الرخام فيباشر صناعته وحفره صناع الرخام بالأزمير بعد التعليم على مواضع الرسم ومقادير أبعاد المدارات والظلال وما عليها من الكتابة والتعاريف، ولما تمهر الآخذون عنه ترك الاشتغال بذلك وأحال الطلاب عليهم، فإذا كان الطالب من أبناء العرب تقيد بالشيخ محمد النفراوى، وإن كان من الأعاجم تقيد بمحمود أفندى الفيشى، واشتغل هو بمدارسة الفقه وانكب عليه الناس يستفتونه وتقرر فى أذهانهم تحريه الحق حتى أن القضاة لا يثقون إلا بفتواه، وكان لا يعتنى بالتأليف إلا فى بعض التحقيقات المهمة منها: نزهة العينين فى زكاة المعدنين، ورفع الإشكال بظهور العشر فى العشر فى غالب الأشكال، والأقوال المعربة عن أحوال الأشربة، وكشف اللثام عن وجوه الصنف الأول من ذوى الأرحام، والقول الصائب/فى الحكم على الغائب، وبلوغ الآمال فى كيفية الاستقبال، والجداول البهية برياض الخزرجية فى العروض، وإصلاح الأسفار عن وجوه بعض مخدرات الدر المختار، ومأخذ الضبط فى اعتراض الشرط على الشرط، والنسمات الفيحية على الرسالة الفتحية، وحقائق الدقائق على دقائق الحقائق، وأخصر المختصرات على ربع المقنطرات، والثمرات المجنية من أبواب الفتحية، والمفصحة فيما يتعلق بالأسطحة، والدر الثمين فى علم الموازين، وحاشية على شرح قاضى زاده على الجغمينى لم تكمل، وحاشية على الدر المختار لم تكمل ومناسك الحج وغير ذلك، حواش وتقييدات على العصام والحفيد والمطول والمواقف والهداية فى الحكمة والبرزنجى على قاضى زاده وأمثلة وبراهين هندسية شتى وماله من الرسومات والآلات النافعة المبدعة. ومنها الآلة المربعة لمعرفة الجهات والسمت والانحرافات بأسهل مأخذ وأقرب طريق، والدائرة التاريخية.
واتفق فى سنة اثنتين وسبعين أنه وقع الخلل فى الموازين والقبانيين وجهل أمر وضعها ورسمها وبعد تحديدها واستخراج رمامينها وظهر فيها الخطأ واختلفت مقادير الموزونات، وترتب على ذلك ضياع الحقوق وفسد على الصناع تقليدهم الذى درجوا عليه، فعند ذلك تحركت همة المترجم لتصحيح ذلك، وأحضر الصناع لذلك من الحدادين والسباكين وحرر المثاقيل والصنج الكبار والصغار والقرسطونات ورسمها بطريق الاستخراج على أصل العلم العملى والوضع الهندسى، وصرف على ذلك أموالا من عنده ابتغاء وجه الله تعالى، ثم أحضر كبار القبّانية والوزانين، وبيّن لهم ما هم عليه من الخطأ وعرفهم طريق الصواب فى ذلك، وأطلعهم على سرّ الوضع ومكنون الصنعة وأحضروا العدد وأصلحوها وأبطلوا ما تقادم وضعه وفسدت مراكزه وقيدوا بصناعة ذلك الأوسطاء مراد الحداد ومحمد بن عثمان، حتى تحررت الموازين وانصلح شأنها وسرت فى الناس العدالة الشرعية واستمر العمل فى ذلك أشهرا، وهذا هو ثمرة العلم ونتيجة المعرفة والحكمة المشار إليها بقوله تعالى {وَ مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً}
(1)
.
ثم قال: بعد أن ذكر جملة من نظمه فى موضوعات شتى وقصائد مما مدحه به الناس وبعض فوائد عنه.
وفى سنة تسع وسبعين توفى ولده أخى لأبى أبو الفلاح علىّ وقد بلغ من العمر اثنتى عشرة سنة فحزن عليه وانقبض خاطره وانحرف مزاجه وتوالت عليه النّوازل وأوجاع المفاصل ونقل العيال من بيت بولاق ولازم بيت الصنادقية وفتر عن الحركة إلا فى النادر، وصار يملى
(1)
سورة البقرة آية/269.
الدروس فى المنزل ويراجع المسائل الشرعية مع مراعاة الأصول والقواعد، وتلقى الوافدين ومراعاة الأقارب والأجانب مع لين الجانب، ويخدم بنفسه جلساءه ولا يبخل بالموجود ولا يتكلف المفقود.
ومن أخلاقه أنه كان يجلس بآخر المجلس على أى هيئة كانت بعمامة وبدونها ويلبس أى شئ كان، وينام كيفما اتفق، وكان دائم المراقبة والفكر يتهجد كثيرا حتى يصلى الصبح ويجلس فى مصلاّه إلى طلوع الشمس ويحاذر الرياء ما أمكن، وكان يصوم رجب وشعبان ولا يقول إنى صائم، وربما دعى إلى وليمة فلا يردّ القهوة والشربات ويوهم الشرب، وكان مع بشاشته عظيم الهيبة فى نفوس الناس ذا جلال وكمال وسمعت شيخنا محمود الكردى يقول:
أنا عندما كنت أراه يداخلنى هيبة عظيمة، وكان مربوع القامة ضخم الكراديس أبيض اللون عظيم اللحية منوّر الشيبة واسع العينين غزير شعر الحاجبين وجيه الطلعة، ولم يزل على طريقته الحميدة إلى أن آذنت شمسه بالزوال وغربت من بعد ما طلعت من مشرق الإقبال، وتعلل اثنى عشر يوما بالهيضة الصفراوية، فكان كلما تناول شيئا قذفته معدته عند ما يريد الاضطجاع إلى أن اقتصر على المشروبات، وهو مع ذلك لا يصلى إلا من قيام ولا يغيب عن حواسه، وكان ذكره فى هذه المدة أن يقرأ الصّمدية مرة ثم يصلى على النبى صلى الله عليه وسلم بالصيغة السنوسية كذلك، ثم الاسم العشرين من الأسماء الإدريسية وهو: يا رحيم كل صريخ ومكروب وغياثه ومعاذه، هكذا كان دأبه ليلا ونهارا، حتى توفى يوم الثلاثاء قبيل الزوال غرة شهر صفر وجهز فى صبيحة يوم الأربعاء وصلى عليه بالأزهر بمشهد حافل جدا، ودفن عند أسلافه بتربة الصحراء بجوار الشمس البابلى والخطيب الشربينى وله من العمر سبع وسبعون سنة، ورثاه تلميذه العلامة الشيخ محمد الصّبان بقصيدة أنشدت وقت حضور
جنازته مطلعها:
ويحك يا نفسى كيف القرار
…
ودولة الفضل بها البين سار
وكيف يصفو العيش من بعد ما
…
كأس الردى بين ذوى المجد دار
ورثاه الشيخ أحمد الخامى بقصيدة مطلعها:
/بكت العيون لفقد هذا الأمجد
…
العالم الحبر الهمام الأوحد
شيخ الشيوخ ومعدن الجود الذى
…
كانت به كل الأفاضل تقتدى
ولغيره أيضا قصيدة مطلعها:
لحا الله دهرا كل أيامه محن
…
وكل سرور فى أو يقاته حزن
وما الناس فى ذا الدهر إلا شواخص
…
وكل له من دهره ما به افتتن
إلى أن قال:
وأفجعنا فى مفرد العصر شيخنا
…
كريم السجايا صاحب المجد والسنن
وذاك الجبرتى الذى كان قدوة
…
على منهج التحقيق والشرع يؤتمن
لقد كان هذا الحبر قطب زماننا
…
فأحرمنا من شخصه ذلك الزمن
ورثاه أيضا الخامى بقصيدة منها:
ويح دهرى فكم أذاب قلوبا
…
وبرى أعظما وأضنى وأسقم
لا يبالى وليس يرعى ذماما
…
وعلى ما جناه لم يتندم
ورمانا فصادف الهمّ قلبا
…
كان أقوى القلوب دينا وأقوم
خاننا فيه ذا الزمان فلا كا
…
ن زمان على الخيانة يقدم
كان بدرا فأسرعت كسفه الأر
…
ض فزال الضياء والجوّ أظلم
لهف قلبى على امرئ كان فينا
…
عقله بالورى يقاس وأعظم
حسن الاسم والصفات كريم ال
…
خلق والخلق ذى العطاء المفخم
إلى آخره انتهى باختصار من كلام طويل من تاريخ ابنه العلامة الشيخ عبد الرحمن الجبرتى الحنفى الذى وضعه فى حوادث آخر القرن الثانى عشر وأوائل القرن الثالث عشر وذكر فيه تراجم الأعيان المشهورين، من الأمراء والعلماء المعتبرين، وبعض تواريخ مولدهم ووفاتهم وسماه «عجائب الآثار فى التراجم والأخبار» وانتهى فيه إلى حوادث سنة ست وثلاثين من القرن الثالث عشر من قرون السنين الهجرية، وكانت ولادة الشيخ عبد الرحمن المذكور كما يؤخذ من ترجمته لوالده سنة ثمان وستين ومائة وألف من الهجرة، وعاش نحو سبعين سنة، ومؤلفاته عديدة تشهد بفضله وأجلها تاريخه هذا وقد نقلنا عنه كثيرا فى مواضع شتى من كتابنا هذا.
الإبراهيمية
بلدة من قسم القنيات بمديرية الشرقية سميت بذلك لأن إنشاءها كان فى عهد سر عسكر المرحوم إبراهيم باشا عند عودته من مورة ويقال لها: العمارة والمرلية أيضا، لأن تأسيسها كان على أيدى المهاجرين المرلية حيث أنعم عليهم بأطيانها المرحوم إبراهيم باشا وقسمها بينهم، فجعل لكل عائلة منهم ثلاثين فدانا، فأقاموا بها وبنوا فيها منازل وصارت بلدة عامرة من وقتئذ، بعد أن كانت مستنقع مياه يكثر بها الحلاليف فتضر بما حولها من المزارع، فضلا عن ضرر الأبخرة المتصاعدة منها، فلما حضر هؤلاء المهاجرون وأعطيت لهم أصلحوها وعمروا أرضها، وكان عليهم أربعة من أعيانهم كالعمد فى بلاد الأرياف فلما ماتوا خلفهم أخلافهم ولم يزالوا على ذلك إلى الآن، وبقيت أطيانها فى أيديهم بلا مال إلى أن ترتبت العشور فى سنة 1272 هـ، وفى تلك السنة ربط عليها العشور وتفرعت منها كفور وبها منازل حسنة وقصر مشيد لناظر المالية سابقا المرحوم إسمعيل باشا صدّيق، أصله من بناء المرحوم المشار إليه، وبجواره وابور له أيضا لسقى الزرع ووابورات أخر للسقى والحلج، وبها حوانيت بوسطها عامرة بالتجار ومساجد ومكاتب أهلية وأرباب حرف وسوقها العمومى كل يوم خميس، وبها مجلسان للدعاوى والمشيخة وموقعها بالبر القبلى على ترعة أم الريش الخارجة من بحر مويس وهى بحرى الزقازيق بنحو عشرين ألف متر وأطيانها ألفان وخمسمائة وستة وخمسون فدانا وكسر، وأهلها جميعا ثلاثة آلاف وتسعمائة واثنان وعشرون نفسا، واستوطن باقى المهاجرين من المرليين إذ ذاك ناحية الكنيسة.
إبريم
بلدة من بلاد النوبة واقعة على شط النيل الشرقى على مسافة مائة وعشرين ميلا فى جنوب أسوان وهى إبريمس برو القديمة كما فى كتب الإفرنج، فتحها السلطان سليم الأول سنة ألف وخمسمائة وسبع عشرة ميلادية لما استولى على مصر وفرّ المماليك إليها حينما نكبهم العزيز محمد على المشهور بالشجاعة، وذلك سنة ألف وثمانمائة وأحد/عشر ميلادية فتركها أهلها ولذلك تكاد تكون بدون سكان، وتسمى فى دفاتر التعداد القبض ويباع فيها الحصر الحلفاء، ونخيلها كثير جدا ينيف عن ثمانية عشر ألف نخلة، والبلح الإبريمى الناشف الذى يوجد فى جميع بلاد القطر يجلب منها ومما جاورها من البلدان إلى قريب أسوان، وهو أنواع أكثره يسمى القندينة، وفيها نحو ستين ساقية وأطيانها العالية ثلاثمائة وخمسة وأربعون فدانا، وعلى جانب النيل نحو أربعة وخمسين فدانا، ويزرعون البصل كثيرا والقرع البلدى والقرع العوّام ويعملون من هذا أوعية تسمى عندهم بخسة، يضعون فيها الزيت والسمن ويضعون عليها غلافا من الليف أو من اللياف وهو شجر العوثر ويجعلون لها علاقة، ويقتنون الغنم والبقر والحمير وقليلا من الإبل، ويوجد عندهم الدجاج والحمام، وأبنيتها ومشتملاتها وملابس أهلها وعملتهم وعوائدهم مثل ناحية الشلال وقد بسطنا ذلك هناك.
أبسنبول
(1)
وتسمى أيضا أبو سنبول: بلدة فى بلاد النوبة على صفحة النيل الغربية فى اثنتين وعشرين درجة واثنتين وعشرين دقيقة من العرض الشمالى وإحدى وثلاثين درجة وأربعين دقيقة من الطول الشرقى، مشهورة بوجود هيكلين عظيمين قديمين بها منحوتين فى الصخر، ولكل منهما جدران أمامية مبنية بالحجارة الرملية وداخلها منحوت فى الصخر، ويقال: إنهما بنيا فى القرن الخامس عشر قبل الميلاد، ويقال: إنهما من زمن رمسيس الثانى، وأصغرهما منحوت فى مكان يرتفع عشرين قدما عن النيل، ولم يكن مطموسا بالرمال ولا يزال محفوظا وقد سبق بوركهاروت الجميع إلى اكتشافه فى أذار (مرت) سنة ألف وثمانمائة وثلاث عشرة، ووصفه وقال:
إنه للمعبود أوزريس، وفى مكان خلفه على مسافة مائتى قدم وجد رؤوس أربعة أصنام كبيرة وأجسادها مدفونة بالرمل، وقال إنها من أتقن مصنوعات المصريين، وفى الحائط الخلفى كتابة مصرية قديمة على شكل رأس أوزريس ذى الرأس الطيرى، فقال: إنه بإزالة الرمل يظهر هيكل لأوزريس.
وفى بعض كتب الإفرنج أن أبسنبول على بعد أربعة وخمسين كيلومتر من إبريم ومعبداها من أحسن معابد المصريين زينة، وهما من زمن رمسيس الثانى، أحدهما للمقدسة هاتور المصورة بصورة البقرة المقدسة، وواجهته مزينة بصور رمسيس وزوجته نوفرتارى وأولاده، وهى ست صور ارتفاع كل منها نحو أحد عشر مترا ويداخل المعبد إيوان على ستة أكتاف مربعة تيجانها على هيئة رأس إزيس، ودهليز فى نهايته أودتان صغيرتان وفى جدرانه
(1)
أبسنبول-أبسمبول-أبو سنبل الحالية. انظر: محمد رمزى: القاموس الجغرفى، ق 2 ج 4، ص 230.
نقوش كثيرة، وثانى المعبدين وهو الأكبر فى جنوب الأول ووجهه منحوت فى الصخر بارتفاع ثلاثين مترا فى عرض أربعين، وعليه أربعة تماثيل لرمسيس الثانى نقر فى الحجر، ارتفاع كل تمثال وهو جالس عشرون مترا، وفوق التماثيل سطر من الكتابة القديمة يعلوه كرنيش مزين باثنتين وعشرين صورة، وفوق تمثال المقدسة فريه وجلسة أحد التماثيل القبلية كتابة رومية قرأها الأمير الاى لياك فوجد تاريخها قبل المسيح بثلاثمائة وستين سنة، وأنها بخط دمياركون بن أميبيكوس ودلفوس بن أوداموس، كلاهما من عساكر يونانية كانوا فى خدمة الملك بسماتيك.
وفيها أن هذا الملك حضر فى جزيرة الفانتين وأن العساكر الذين كانوا مع بسماتيك بن ثيوكليس كتبوا ذلك وركبوا البحر فوصلوا إلى كركيس، وبالمعبد أربعة أواوين متعاقبة فى طول ستين مترا وبه عشر أود والإيوان الأول على أكتاف بلا تماثيل، وبداخل المعبد تماثيل رمسيس فى حضرة المقدسين أمون وراء وأفتاه
(1)
، وعلى الشاطئ الشرقى للنيل على بعد ألف متر من أبسنبول قرية فرايج بها معبد صغير منحوت فى الصخر من زمن أمينوفيس الثالث من العائلة الثامنة عشرة من الفراعنة، وهو أقدم من معبدى أبسنبول بقرن ونصف انتهى، من الكتاب المسمى، دليل المسافر فى المشرق، لبعض الإفرنج.
وفى سنة ألف وثمانمائة وسبع عشرة أزيل الرمل فظهر فى عمق إحدى وثلاثين قدما باب الهيكل الأكبر وهو أعلى من سطح النيل بمائة قدم، وواجهته طولها مائة وعشرون قدما وارتفاعها تسعون وتحيط بها نقوش فى الحجارة، وفى جهتها الأمامية أربعة تماثيل عظيمة جالسة على أربعة فرش ارتفاعها خمسة وستون قدما، وهى من أعظم تماثيل مصر والنوبة، وقد كسر التمثال الثالث من الجهة الشمالية بسقوط قطعة كبيرة عليه من ثلج الجبل وقطعة من
(1)
يقصد: آمون ورع وفتاح.) Ptah (انظر: إبراهيم نصحى: تاريخ مصر فى عصر البطالمة، ج 2، ص 33،19.
رأسه فى حضنه، ولأحدها وجه طوله سبع أقدام وعرضه عند الكتفين خمسة وعشرون قدما وأربعة قراريط، وقد قال والكنسون: إنها تماثيل الملك رمسيس الثانى المصرى وقال: إن المظنون أنه كان للمعبود أثور (هاتور).
وواجهته مزينة بستة تماثيل عظيمة جدا، وفيه قاعة داخلية فيها ستة أعمدة مربعة وممشى عرضى، فى كل من جانبيه مخدع صغير وملجأ، وفى داخله العمد وعليها تماثيل أوزريس فى/علو ثلاثين قدما، وفى الجدران صور مواقع وانتصارات، ثم القاعة الكبيرة داخله فى الصخر مائتى قدم، وفى داخلها صفوف عمد مربعة عظيمة مزينة بالأصنام، ووراءها مخدع داخلىّ ومكان للعبادة وعلى جوانبها مخادع كثيرة وفيما وراء ذلك تمثال عظيم جالس على مقعد وفى مخادع الجوانب تماثيل كذلك، وفى وسط مكان العبادة الذى كانوا يسمونه بالمقدس مصطبة. وقد قال هيرن: إن المظنون أن تابوتا كان موضوعا عليه وأن تلك البنية الغريبة مدفن وليس بهيكل. وقد استنتج من صور الحروب والانتصارات التى على الجدران ولا سيما من صور أربع إحداها حمراء، وأن البنية الصغيرة مدفن ملك أيضا، وقد قال بوركهاروت: إن أبسنبول كانت ملجأ لأهالى بليانى، التى كانت تبعد عنها بثمانية أميال، من حملات سنوية لقبيلة بدوية، وفى سنة ثمانمائة واثنتى عشرة أى قبل ذهابه إليها بسنة، التجأ الأهالى إلى هناك بمواشيهم وعجز أهل البدو عن فتح المكان مع أنه قتل كثيرون منهم.
أبسوج
قرية بالصعيد الأوسط بمديرية المنية من أعمال بنى مزار فى الشمال الغربى للفشن: بنحو ثلاثة آلاف وخمسمائة متر، وفى الشمال الشرقى لبنى مزار كذلك، وبها زاوية للصلاة ونخيل قليل وليس لها سوق، ولها ذكر فى بعض كتب التواريخ، ففى كتاب دائرة المعارف قال بعضهم: توجهت إلى الصعيد سنة ثلاثمائة وتسع وخمسين ومررت بقرية تدعى بسوج، شارعة على النيل بين القيس والبهنسا فرأيت على بابها صورة فأرة فى جحر، والناس يجيئون للطين من طين النيل فيطبعون فيه تلك الصورة ويحملونها إلى بيوتهم، فسألت عن ذلك فقيل: ظهر عن قريب من سنيّات هذا الطلسم، وذلك أن مركبا فيه شعير كان تحت هذه البيعة، فقصد صبى من المركب ليلعب، فأخذ من هذا الطين وطبع الفأرة ونزل بالطين المطبوع المركب فلما صار فيه جعلت فئران المركب تظهر وترمى بنفسها فى الماء، فعجب الناس من ذلك وجرّبوه فى البيوت، فكان أىّ طابع حصل فى دار لم تبق فيها فأرة إلا خرجت، فتقتل أو تنفلت إلى موضع لا صورة فيه. وأكثر الناس أخذ الصورة فى الطين وتركها فى منازلهم، حتى لم تبق فأرة فى الطريق والشوارع، وشاع ذلك فى البلاد ذكر ذلك ياقوت والقزوينى انتهى.
أبشادة
(1)
هذه البلدة كانت من المدن المشهورة فى زمن النصرانية، وكانت كرسى أسقفية ومن أساقفتها على ما نقله كترمير عن مؤرخى الأقباط: سريامون الذى مات فى زمن دقلديانوس، وأعقبه فى الأسقفية مقرب الذى مات إلى غير ذلك من الأساقفة، وكانت كرسى حكومة، ولم يتكلم عليها الرومانيون ولا اليونان مع أنها تذكر كثيرا فى كتب القبط، ولم يتكلم عليها المقريزى أيضا ولا ابن حوقل ولا غيرهما من مؤرخى العرب، فلعلها كانت تذكر باسم غير هذا الاسم، ويظن أنها هى المدينة التى كانت تسميها الروم أنطقبوس وذكر بطلميوس أنها كانت كرسى قسم بروزوبتيس الذى يلى قسم صا الحجر، وقد ذكر طوسديد أن بروزوبتيس سميت فيما بعد نكوس (نيقوس).
وذكر المؤرخ هيرودوط أن بروزوبتيس جزيرة من الدلتا محيطها تسع سينات (فراسخ)، وفيها عدة مدن من ضمنها اطريشى، وكان فيها معبد للزهرة وقال طوسديد:
إن الأثينيين المستخدمين بمصر التجئوا إلى هذه الجزيرة، وأن ميجاباظ رئيس العساكر العجمية حاصرهم بها ستة أشهر وحوّل فرع النيل حتى جف، ثم استولى على تلك الجزيرة.
وذكر المؤرخ وبلين أنه كان يضرب بها مداليات فى زمن قياصرة الروم
(2)
هادريان وانطونيتوس بيوس وماركوس أورليوس
(2)
، ومما يقوى أن مدينة أنطقيوس هى مدينة أبشادة، ما ذكره الأب سيكار من أنه
(1)
أبشادة: ذكرها رمزى «إبشادة» ، ويطلق عليها أيضا إبشادى وهى من البلاد القديمة بمركز تلامنوفية. انظر القاموس الجغرافى، ق 2 ج 2/ 171، ق 2 ج 4، ص 58
(2 - 2)) انظر الاستدراكات.
عاين فى خراب مدينة نبكوس كنيستين باسم سربامون أسقف هذه المدينة، وقال: بذلك أيضا غيره من مؤلفى الأقباط، وكذلك ينسب إليها الأسقف مقرب، فمن ذلك مع ما أورده كترمير يظهر أن اسمى إبشاتى وأنطقيوس موضوعان لمدينة واحدة ومما يؤيد ذلك أيضا أن اسم انكوس لم يذكر فى دفاتر تعداد مصر المحفوظة فى كتبخانة باريس، والذى فيها هو اسم إبشادة باللغة العربية وهى بلا شك محرفة عن إبشاتى القديمة، واعتنى كثير من جغرافى الإفرنج بتحقيق موضعها فجعلها دنويل فى خرطة مصر فى موضع الدلتا على فرع النيل المار بناحية منوف، وسماها بنسيا أو أنطقيوس، وقال: زنبيل إنه يسمى بهذا الاسم مدينتان أحداهما على فرع منوف والأخرى على فرع رشيد وسمى هذه نيسيو وأنكر ذلك كترمير، وقال: إن الاسمين لمدينة واحدة على بحر الغرب ووافقه على ذلك بطليموس، وحدد طولها وعرضها فجعلها فى طول إحدى وستين درجة وعشرين دقيقة، وعرض ثلاثين درجة وعشرين دقيقة وفى وقتنا هذا أى سنة 1292 هـ، يوجد تلال قديمة حدثت بجنبها زاوية رزين الجديدة التى هى عوض عن زاوية رزين التى أكلها البحر، والأهالى يقولون: إن هذه التلول محل مدينة دقيانوس فلعلها محرفة عن نيكوس وكون محلها على بحر الغرب وقريبا من ترعة/منوف وهى الترعة الفرعونية ربما كان مقصود هؤلاء الجغرافيين.
وذكر المقريزى فى خططه فى باب مذاهب أهل مصر بعد نحو ثلاث ورقات من ذلك الباب، أن محمد بن أبى بكر لما تولى عمل مصر من قبل علىّ بن أبى طالب رضي الله عنه وجمع له صلاتها وخراجها سنة 37 هـ، بعث إلى ابن خديج
(1)
والخارجين معه، وهم أهل خربتا وكانوا نحو عشرة آلاف يدعوهم إلى بيعته فلم يجيبوه، فبعث إلى دورهم ونهب أموالهم وسجن ذراريهم، فرفعوا له أولوية الحرب وهموا بالنهوض إليه، فلما علم أن لا قوة له بهم أمسك عنهم، ثم صالحهم على أن يسيّرهم إلى معاوية وأن ينصب لهم جسر أنطقيوس يجوزون عليه ولا يدخلون الفسطاط، ففعلوا ولحقوا بمعاوية.
(1)
وردت فى خطط المقريزى، ج 2، ص 377 (خديج). وهو تحريف فى النسخ.
وابن حديج هو معاوية بن حديج. انظر: الكندى: ولاة مصر، تحقيق حسين نصار، ص 50 - 51، ط. قصور الثقافة (الذخائر 66).
وحيث إن خربتا من مدن البحيرة فالقنطرة ضرورة كانت على فرع رشيد فتكون مدينة أنطقيوس أو بشاتى على الشاطئ الشرقى منه، والذى يشاهد الآن أن المقابل لخربتا من الجانب الشرقى إنما هى قرية تسمى أبشاى من غير تاء من قسم بلاد مديرية المنوفية، وكان من خط بشاتى قرية شطنوف، وكانت واقعة على مفرق البحرين وفيها قتل مارى ماثير.
ومما يدل على أن شطنوف فى مفرق البحرين ما هو مذكور فى كتب القبط أن مارى نوب أرسله صبريان حاكم أتريب إلى الإسكندرية، فركب النيل وصعد به الملاحون مقلعين إلى أن وصل شطنوف، ثم انحدروا به من هناك فى بحر الغرب وبعد أن قتله حاكم الإسكندرية وصبره وكفنه ووضعة فى مركب مع أربعة من عبيده، فسافروا به أربعة أيام مع ليلتين حتى وصلوا شطنوف فانحدروا إلى جهة بحرى، ويدل على ذلك أيضا أن القيصر قنسطنطين لما أرسل من طرفه الوج إلى مصر لإبطال عبادة الأوثان، ابتدأ بإبطال ما كان ذلك بالإسكندرية، ثم ركب النيل مصعدا إلى جهة قبلى، فجعل يهدم المعابد ويكسر الأوثان فى طريقه إلى أن وصل مفرق البحرين، فرأى قرية كبيرة فسأل عنها فقيل له: هى شطنوف قرية من خط بشاتى.
وذكر ابن حوقل فى مبدأ خططه لمصر أنه جعل رسمين للديار المصرية، الأول يشتمل على الصعيد إلى الفسطاط وشطنوف التى يفترق عندها البحر، والثانى من مفرق البحرين إلى آخر القطر من جهة بحرى، ويشتمل على الفرع الشرقى المبتدأ من شطنوف وجريه نحو تنيس ودمياط، والفرع الثانى الذى هو غربى شطنوف وجريه نحو رشيد، وقد وصف الطرق
الموصلة من شطنوف إلى رشيد، فجعل لها طريقا من البحر وطريقا من البر، فطريق البر تبتدئ من شطنوف فتمر بسيال العبيد ومنوف ومحلة سرد وسخا وشبرا مياه ومسير وسنهور ونجوم ونستروه والبرلس وعجنا ورشيد، غير أن طريق البر تتعطل فى مدة النيل ضرورة أن الماء يغطى الأرض.
وأما طريق البحر فتبتدئ من شطنوف وتمر بالجريسات وأبى يوحانس وهى غربى أبى حنس وطرنوت هى الطرانة وشابور ومحلة نقيدة ودنشال وقرطزى، وهى (قرطسا). كفر من كفور دمنبور وشبرى أبى مينا وقرنفيل وأبرشيل وكريون وقرية الصير وإسكندرية.
وذكر أبو الفداء فى وصف النيل أنه ينقسم إلى فرعين عند شطنوف. فالغربى جريانه إلى رشيد حتى يصب فى البحر، والشرقى ينقسم عند وصوله إلى ناحية جوجر إلى قسمين، أحدهما يمر غربى دمياط ويصب فى البحر، والآخر يجرى نحو أشمون طناح وذكر المقريزى مثل ذلك أيضا.
وقال الشريف الإدريسى إن من سرد إلى شلقان خمسة أميال وإن ناحية زفيتة بعد شلقان على خمسة عشر ميلا وعند شلقان ينقسم النيل، وفى مقابلتها شطنوف فى رأس فرع دمياط وتنيس، فبقرب شطنوف ينقسم النيل إلى فرعين وكل منهما يتفرع فرعين وجميع هذه الفروع تصب فى البحر، فالفرع الشرقى من الفرعين الأصليين يجرى إلى تنيس ويتولد عنه ثلاثة فروع.
الأول منها المنفصل إلى جهة الغرب عند الناحية المعروفة بانطوهى وبعد أن يرسم قوسا فى سيره يجتمع مع أصله عند ناحية رمسيس، وبعد ذلك إلى جهة بحرى مع غرب يتفرع خليج آخر يجرى نحو دمياط.
وأما الفرع الثانى من الفرعين الأصليين فيبتدئ من شطنوف ويجرى نحو الغرب إلى أن يصل إلى ناحية تنس (صان) فيتولد عنه خليج يجرى إلى الغرب، ومن فوق ناحية بجيج وهى قبلى شابور من مديرية البحيرة يتفرع الخليج الجارى إلى الإسكندرية ويعرف بخليج شابور ولا يجرى الماء فيه إلا فى زمن الفيضان ثم يجف.
والفرع الأصلى يجرى إلى نحو رشيد وينفصل عنه خليج مبدؤه تحت ناحية سنديون وسمديس وفوة، ويكون فوق رشيد ويصب فى بحيرة قريبة من البحر تمتد إلى الغرب، بحيث يكون ما بين نهايتها والإسكندرية ستة أميال، وفى وقتنا هذا قرية سنديون وفوة كلاهما من مديرية الغربية، وقرية سمديس من مديرية البحيرة.
وذكر أبو الفداء أيضا فى موضع آخر أن الذاهب من الفسطاط يصل إلى زفيتة فى مقابلة شطنوف الواقعة على الشاطئ الغربى من النيل وبين شطنوف وشنوان خمسة وعشرون ميلا/ وهى من مديرية المنوفية.
وذكر أيضا أن من دروة إلى شطنوف عشرين ميلا ومن شطنوف يتوصل إلى أم دينار على الشاطئ الغربى للنيل، ومن شطنوف أيضا إلى طرنوت- (طرانة) -خمسون ميلا.
وذكر المقريزى أن عبد الله بن طاهر كان مقيما بعسكره فى زفيتة فنصب على النيل قنطرة لتوصله إلى شطنوف، وفى دفاتر التعداد لبلاد مصر أنها تسمى زفيتة شطنوف، وهى من بلاد القليوبية، وفى تاريخ بطارقة الإسكندرية أن ميخائيل أسقف ناحية سهرجت بنى كنيسة فى ناحية زفيتة، وذكر المقريزى أن الوزير مأمونا البطائحى بناها جامعا.
فتحصل من جميع ما تقدم أن شطنوف كانت فى مفرق البحرين وأنها من خط أبشاتى وأن أبشاتى وأنطقيوس اسمان لمدينة واحدة.
وفى تاريخ بطارقة الإسكندرية أن شطنوف كانت محل أسقفية ومحل إقامة حاكم الجهة، وفى دفاتر تعداد مصر أنها من مديرية المنوفية، وبقربها قريتان هور، وكوارى.
وذكر المؤرخ حسن بن إبراهيم أن السلطان نجم الدين أيوب بنى فيها قصرا للنزهة، ومن قرى قسم أبشاتى أيضا قرية أشمون جريس وكانت بحرى مدينة أبشاتى ومنها مارى مقرب ونقل إليها بعد قتله، وكان بها معبد شاهده حاكم الإسكندرية لوج وقت توجهه إلى الأقطار القبلية وتعجب من زينته وسأل عنه، فأجابه بعض نصارى أشمون أنه من بناء ديوفانس، وفى كثير من مؤلفات الأقباط أن اسم هذه القرية أشمون جريسات وهى باقية إلى الآن على الشاطئ الشرقى من بحر الغرب بقرب مفرق البحرين.
وفى دفاتر التعداد أيضا أنها من ضمن بلاد المنوفية ومكتوبة باسم أشمون جريسات وهى قريبة من أم دينار بحرى أبشاتى أو أنطقيوس بدليل ما كتبه سينا كزار: أن المركب التى كانت بها جثة مقرب وقفت عند أشمون جريس ولم يمكن تصعيدها إلى أعلى، فإنه يعلم من ذلك أن أنطقيوس التى هى بلدة مقرب بين شطنوف وأشمون بقرب مفرق البحرين، ولم يذكر فى دفاتر التعداد العربية اسم أبشاتى كما تقدم وإنما المذكور أبشادة، وهذا الاسم منه ثلاث بلدان واحدة عند الأشمونيين من الأقاليم الوسطى، والثانية الغربية، والثالثة فى جزيرة بنى نصر، وتلك الجزيرة حدها البحرى خليج منوف والشرقى والغربى فرعا النيل والقبلى مفترق الفرعين.
وذكر خليل الظاهرى أن جزيرة بنى نصر من مديرية منوف ومن أعلاها افتراق البحرين وفى وقتنا هذا قرية أبشادة التى هى من قرى الغربية موضوعة شرقى مدينة صا الحجر وواقعة على بعد من البحر بينه وبين ترعة الباجورية، والتى فى قسم منوف فى مقابلة جزيرة الحجر، ويقابلها على الشاطئ الغربى من بحر الغرب قرية علقام، ويوجد بين أشمون جريس وشطنوف فى جهة طليا تل قديم مربع الشكل، طوله تقريبا نحو مائتى قصبة ويعرف بين الأهالى بتل وسيم الكفرى، وموقعه على الشاطئ الشرقى من بحر الغرب، وهو إلى أشمون أقرب منه إلى شطنوف وربما كان هو أثر مدينة أنطقيوس، ويستأنس لذلك بما تقدم من الأدلة مع عدم وجود أثر لها غيره.
والثالثة بحرى أشمونين بالأقاليم الوسطى على البعد منها بنحو ساعة، وهى بلدة كبيرة عتيقة فوق بحر يوسف من شاطئه الشرقى، وكان بها تلول من جهتها الشرقية أخذتها الأهالى لتسبيخ أرض الزراعة، ومساكنها الآن فى محل تلك التلول، وكانت فى الزمن الأول تابعة لمديرية المنية، وكانت إذ ذاك مركزا للقسم، والآن صارت تابعة لمديرية أسيوط، وقامت مقامها ناحية ساقية موسى من مديرية المنية، وفى مقابلة أبشادة، هذه على الشاطئ الغربى ناحية بنى خالد، وبحرى أبشادة بنحو ربع ساعة ناحية القصر وشرقى القصر بقليل ناحية هور، وتلك البلاد الأربع مشهورة عند أهالى تلك الجهة باسم المربع، ومشهورة أيضا من قديم الزمان بزرع قصب السكر وغيره، وفوق بنى خالد بالجبل الغربى على نحو ربع ساعة من المزارع محل به آثار قديمة تشبه قباب المشايخ، يعمل به كل سنة ليلة تشتمل على المسابقة والألعاب، وكان به محل يستريح فيه الصناجق والغز عند المرماح.
إبناس
بكسر الهمزة وسكون الموحدة ونون وألف وسين مهملة قال فى القاموس: إبناس بلدة بمصر انتهى.
وهى قرية من مديرية المنوفية بقسم سبك غربى السكة الحديد الطوالى من مصر إلى الإسكندرية على بعد خمسمائة متر، وفى شمال بنها العسل بنحو اثنى عشر ألف متر وفى جنوب بركة السبع بنحو ثمانية الآف متر، وبها مساجد أحدها بمنارة ومعمل دجاج وقليل أشجار، ولها سوق فى كل أسبوع ومنها شيخ العرب أيوب فودة كانت له وقائع عديدة فى أيام الغز.
ترجمة الشيخ إبراهيم الإبناسى
وإليها ينسب الشيخ إبراهيم الإبناسى وقد ترجمه صاحب كتاب درر الفرائد المنظمة فى أخبار الحاج وطريق مكة المعظمة» فقال: هو الشيخ برهان الدين إبراهيم بن موسى بن أيوب الإبناسى ذكره المقريزى فى «درر العقود الفريدة فى تراجم الأعيان المفيدة» فقال: ولد سنة خمس وعشرين وسبعمائة تخمينا وبرع فى الفقه/وتصدى للإفتاء والتدريس عدة سنين،
فانتفع به كثير من الناس، وحدث عن الوادياشى بالموطأ وعن جماعات كثيرة، وأخذ الفقه عن الشيخ عبد الرحيم الإسنائى، والشيخ ولى الدين الملوى، وله زاوية خارج القاهرة وانقطع إليه جماعات كثيرة من أهل الريف وطلاب العلم، فكان يعود عليهم بالبر وكان رفيقا لين الجانب بشوشا متواضعا ترجى بركته، وكان يكثر من الحج، ومن أمره أنه طلبه الأمير الكبير برقوق لقضاء الشافعية عوضا عن برهان الدين بن جماعة فوعده وقتا يأتيه فيه، ثم توجه إلى خلوته وفتح المصحف لأخذ الفأل منه، فأول ما ظهر له قوله تعالى {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ}
(1)
فتوجه من وقته إلى منية السيرج واختفى بها، حتى ولى البدر بن محمد أبو البقاء، وولى مشيخة لخانقاه الصلاحية سعيد السعداء، ومات بطريق الحجاز وهو عائد من الحج والمجاورة فى يوم الأربعاء ثامن المحرم سنة اثنتين وثمانمائة بمنزلة كفافة، فحمل إلى المويلح وغسل وكفن وصلى عليه يوم تاسوعاء وحمل إلى عيون القصب فدفن فى هذا الموضع على ميمن الحاج، فى يوم الجمعة وترجمه الحافظ السخاوى فى تاريخه فقال:
هو إبراهيم بن موسى بن أيوب البرهان أبو إسحق وأبو محمد الإبناسى ثم القاهرى المصرى المفتى الشافعى الفقيه، ولد فى أول سنة خمس وعشرين وسبعمائة بإبناس وهى قرية صغيرة بالوجه البحرى من مصر، قدم القاهرة وهو شاب فحفظ القرآن وكتب وتفقه بالإسنوى وولى الدين الملوى وغيرهما، وبرع فى الفقه والعربية والأصول، وتخرج بالعلائى وسمع الحديث على الوادياشى والمبدولى ومحمد بن إسمعيل الأيوبى وجماعة كثيرين يطول تعدادهم بالقاهرة ومكة والشام، وتصدى للإفتاء والتدريس دهرا، ولبس منه غير واحد الخرقة، بلبسه لها من البدر أبى عبد الله محمد بن الشرف أبى عمران موسى، والزين مؤمن بن الهمام، والسراج الدمرالى بسند نسبته إلى أبى العباس البصير الذى جمع الشيخ مناقبه، ودرس بمدرسة السلطان حسن، وبالآثار النبوية وبجامعة المنشا مع الخطابة به وغيرها.
(1)
سورة يوسف آية رقم/33.
وولى مشيخة سعيد السعداء مدة واتخذ بظاهر القاهرة فى المقس زاوية، فأقام بها يحسن إلى الطلبة ويحثهم على التفقه ويرتب لهم ما يأكلون ويسعى لهم فى الأرزاق، حتى كان أكثر فضلاء الطلبة بالقاهرة من تلامذته، ووقف بها كتبا جليلة، ورتب بها دروسا وطلبة، وحبس عليها رزقة ونحو ذلك.
وممن أخذ عنه الولى العراقى، والجمال بن ظهيرة، وابن الجزرى، والحافظ ابن حجر والعز محمد بن عبد السلام المنوفى، وآخر من تفقه به الشمس الشنشى والزين الشنوانى، كل ذلك مع حسن الأخلاق وجميل العشرة ومزيد التواضع والتقشف والتعبد وطرح التكلف وحسن السّمت ومحبة الفقراء بحيث قلّ أن ترى العيون مثله.
وذكره العثمانى فى الطبقات فقال: الورع المحقق مفتى المسلمين شيخ الشيوخ بالديار المصرية ومدرس الجامع الأزهر، له مصنفات يألفه الصالحون وتحبه الأكابر وفضله معروف، وللناس فيه اعتقاد وقد حجّ كثيرا وجاور وحدث هناك وأقرأ ثم رجع فمات فى الطريق فى يوم الأربعاء ثامن المحرم سنة اثنتين وثمانمائة بمنزلة كفافة فحمل إلى المويلح، ثم حمل إلى عيون القصب فدفن بها وقبره بها يتبرك به الحجيج وعملت له قبة.
قال الشمس السخاوى: قد زرته وأصل القبة لبهادر الجمالى الناصرى، أمير الحاج كما قرأته على لوح قبره، وأنه مات فى رجوعه من الحج فى ذى الحجة سنة ست وثلاثين وستمائة، وقبل الدخول إليها مكان آخر، وأظنه محل دفن الشيخ ولا قبة تعلوه اه.
أبنوب
قرية من مديرية أسيوط ويقال لها: أبنوب الحمام، واقعة على الشاطئ الشرقى للنيل، بينها وبين الجبل الشرقى أكثر من ساعة، وهى رأس قسم وأبنيتها من أحسن أبنية الأرياف لجودة أرضها، وفيها جوامع عديدة وكنيسة ومكاتب لتعليم أطفال المسلمين، ومكاتب لأطفال النصارى، فيها معمل دجاج وأقباط بكثرة، ومنهم النّحالة الذين يولدون النحل ويستخرجون عسله، ومنهم الحاكة الذين ينسجون الصّوف، ومنهم التجار وباقى أهلها يتكسبون من الزرع، ولها سوق كل يوم خميس، وفى بحريها قرية تسمى سوالم أبنوب.
ومن قرية أبنوب نشأ الفاضل أحمد بيك جمعة مأمور هندسة تقسيم مياه قسم أول من الوجه البحرى ووكيل مجلس عموم الزراعة، أخبر عن نفسه أنه دخل مكتب أسيوط الذى أنشئ على طرف الميرى سنة تسع وأربعين ومائتين وألف، فتعلم به فى حال صغره الخط العربى وشيئا من القرآن، ثم نقل منه فى سنة خمسين إلى مدرسة قصر العينى بالمحروسة، ثم فى سنة اثنتين وخمسين نقل منها إلى مدرسة التجهيزية فى أبى زعبل، وفى سنة ثلاث وخمسين نقل إلى مدرسة المهندسخانة الخديوية ببولاق مصر، فأقام بها نحو خمس سنين، فتعلم بها العلوم الرياضية والطبيعية وغيرها من فنون تلك المدرسة.
وكان فى كل مدرسة من نجباء فرقته وفى سنة ثمان وخمسين أعطى رتبة ملازم ثان بوظيفة معاون بقلم الهندسة، وفى سنة تسع وخمسين أعطى رتبة ملازم/أول وجعل معاونا فى
معية بهجت باشا رئيس هندسة بحر الغرب يومئذ، وفى سنة خمس وستين ترقى إلى رتبة اليوزباشى وجعل باش مهندس مديرية القليوبية، فأقام كذلك خمس سنين، وفى سنة سبعين أضيفت مديرية الشرقية إلى مديرية القليوبية تحت هندسته، فكان باش مهندس المديريتين، وفى سنة اثنتين وسبعين أحرز رتبة صاغقول أغاسى، وبقى كذلك إلى سنة ثمانين، فأنعم عليه برتبة بيكباشى وجعل باش مهندس مديرية الغربية، وفى سنة اثنتين وثمانين أضيفت إلى هندسته مديرية المنوفية، فكان باش مهندس عليهما، وفى سنة سبع وثمانين أحسن إليه برتبة قائم مقام وجعل وكيل مدرسة الزراعة التى أنشئت فى تلك السنة، وفى سنة ثمان وثمانين جعل مفتش عموم تنظيم المحروسة، وفى سنة تسع وثمانين جعل وكيل تفتيش الوجه القبلى وباش مهندس الترعة الإبراهيمية، وفى سنة تسعين زيد له فى جامكيته فجعلت أربعة آلاف قرش عملة ميرية، وجعل مأمور تقسيم مياه الوجه البحرى ووكيل مجلس الزراعة.
ثم توفى إلى رحمة الله تعالى: وهو رجل عالم فى فنونه فاضل ناصح فى وظائفه راجح العقل قليل الكلام إلا فيما يعنيه جزى الله العائلة المحمدية خيرا، حيث كفلت كثيرا من أبناء الوطن وربّتهم فى المعارف والآداب وغمرتهم بالإحسانات حتى نالوا المناصب والرتب.
أبو تيج
فى تقويم البلدان إنها بضم الموحدة بعد الألف فواو ساكنة فمثناة فوقية مكسورة فتحتية فجيم انتهى.
وفى المقريزى عند ذكر الأديرة أنها مبدوءة بالباء الموحدة وهى مدينة بالصعيد الأوسط، قال أبو الفداء: هى على الشاطئ الغربى من النيل قبلى أسيوط بينها وبين أسيوط مسيرة ساعات قليلة واسمها القبطى تابوتوكة، وكانت أرضها تنتج مقدارا عظيما من الخشخاش يصنع منه أهلها الأفيون الصعيدى انتهى.
ونقل عن المقريزى أنه كان فى خط هذه المدينة كنائس كثيرة تهدمت الآن إلا قليلا، وكان النصارى عند إرادة الصلاة يجتمعون فى بيت من بيوتهم إلى أن تطلع الشمس فيذهبون إلى الكنيسة، وكانت محوّطة بزريبة يخفون بذلك معالمها خوفا من المسلمين، وكان بقربها دير باسم الحواريّين أصحاب المسيح يعرف بدير الجمل فى مكان قفر اختط بجواره الشيخ أبو بكر الشاذلى بلدة سماها منشأة الشيخ، وقد عثر فيها أثناء الحفر على بئر وجد فيها دفين ذهب قال:
وقد قال لى بعض من شاهده أن شكل النقود مربع، وعلى أحد وجهى كل قطعة صورة الصليب، وكل واحدة تزن مثقالا ونصفا انتهى.
وقال كترمير: إن هذه النقود ضربت فى الديار المصرية فى زمن النصرانية واستشهد على ذلك بخطاب موجود إلى الآن فى الكتبخانة الكبرى بباريس.
كان فى زمن دخول الفرنساوية أرض مصر، كتبه بطريرك من ناحية قفط وقت دخول عمرو بن العاص أرض مصر وقال فيه بعد أن تكلم على جملة حوادث وقعت بمصر من المسلمين وقت دخولهم تلك الديار: إنهم يستولون على الذهب المصرى المرسوم عليه صورة الصليب وصورة سيدنا المسيح، ولا بد أنهم يزيلون تلك الصورة، ويرسمون مكانها اسم نبيهم ويسمونه الإمام واسمه «محمد» الذى إذا كتب بالحروف القبطية كان عدد جملة 666، ويضيفون إلى ذلك اسم الخليفة، وكذلك يكتبونها على الأوانى والمراكب والزوارق.
ثم إن هذه المدينة الآن بلدة عامرة تشتمل على ما تشتمل عليه من البنادر من القيساريات والخانات والدكاكين العامرة بالمتاجر والقهاوى والخمارات ويكثر بها تجارة القماش والعقاقير، وهى رأس قسم وعليها مرسى ترد عليه كثير من المراكب، ولها سوق سلطانى كل يوم أحد تباع فيه المواشى وغيرها، وفيها كنيستان إحداهما خارج البلد باسم أبى مقار فوق تل عال به مقابر النصارى، والأخرى فى داخلها تجددت فى زمن العائلة المحمدية، وبها عدة مساجد جامعة أشهرها وأعظمها جامع الفرغل، فإنه حرم من أعظم جوامع الصعيد له مئذنتان ومفروش بالبسط ويوقد فيه النجف والبلور، ويدرس فيه على الدوام فنون الفقه والحديث والتفسير، وقل أن يخلو من العبادة ليلا ونهارا.
ترجمة سيدى محمد بن أحمد الفرغل
وبه مقام سيدى محمد بن أحمد الفرغل صاحب الكرامات التى لا تحصى والفضائل التى لا تستقصى، كان من الرجال المتمكنين أصحاب التصريف، توفى رضي الله عنه سنة نيف وخمسين وثمانمائة ودفن بهذا الجامع، قال الشعرانى فى طبقاته، ومقامه مشهور فى بقاع الصعيد وغيرها، وتأتى إليه الزوّار من كل فج، وكان يعمل له مولد كل سنة مرتين كمولد سيدى أحمد البدوى، ثم صار الآن يعمل له مرة واحدة كل سنة يمكث ثمانية أيام.
وفيها قباب كثيرة قديمة ما بين متهدم وقائم سيما جنوبها الغربى، يظهر منها أنها كانت مسكنا لكثرة من الصالحين، وكذا مقبرتها التى فى نصفها البحرى داخل العمران، فيها قباب كثيرة. وهى مقبرة متسعة مسورة من كل جهة.
وبهذه البلدة أسقف للنصارى وبها قاضى ولاية/وعدد أهلها قريب من 8000 نفس، وبها شونة للميرى لتوريد الغلال من مزروعات الأهالى بنيت فى زمن العزيز محمد على باشا، وبها ديوان القسم والتلغراف ووابور بخارى لطحين الغلال ومخبر ومدابغ ومعمل دجاج وأنوال لنسج القطن، ملاءات ومحازم وغزليات.
وبها معاصر لاستخراج زيت السلجم وبذر الكتان، وفى غربى تلك المدينة قناطر بنى سميع، وهى تسعة عيون فى ترعة السوهاجية تروى حوض بنى سميع وتصب فى قناطر أسيوط، وكان بناؤها سنة 1256 هلالية، وغربيها أيضا من جهة قبلى تل كبير قديم تأخذ منه الأهالى السباخ للزراعة، ويقابلها من الجانب الشرقى للنيل قرية ساحل سيلين، وأرض ما يجاور هذه المدينة من البلدان مثل دوينة وبنى سميع، وباقى
البلاد تسمى بلاد الزنّار بتشديد النون، من أعظم أراضى القطر وأجودها محصولا وأرفعها قيمة وآمنها ريّا، وفى كثير منها يزرع الكتان والدخان المشروب والخشخاش والكمونان، وكثير من الأبزار، ولهم معرفة تامة بتعريق الدخان وتحسينه حتى يؤثره بعض من يتعاطاه على أنواع الدخان.
وربما زرعت هناك أيضا الحشيشة المخدرة التى تسمى حشيشة الفقراء التى أطال المقريزى فى خططه الكلام عليها وهى طاهرة، وحكم الشرع فى تعاطيها حرّمه القدر الذى يغيب العقل منها، وهو يختلف باختلاف الناس والاعتياد، وأما القليل جدا الذى لا يغيب العقل فليس بحرام، لكن اجتنابها مستحسن بالطبع، وقد أصدر بونابرت رئيس الجيوش الفرنساوية أمرا فى تسعة من شهر أكتوبر سنة 1800 مسيحية بمنع تعاطى الحشيش والبوزة وهذه ترجمته.
البند الأول: المشروب المسكر المستعمل لبعض المسلمين من النباتة المعروفة بالحشيشة واستعمال حب القنب كالدخان المشروب ممنوع فى جميع أرض مصر، لأن من يعتاد تعاطى ذلك يضيع عقله ويحمله ذلك على ارتكاب كل فاحشة.
البند الثانى: يمنع فى جميع أرض مصر تقطير الحشيش وجميع القهاوى والبيوت التى يعمل فيها ذلك تسدّ بالبناء وتضبط أصحابها وتسجن نحو ثلاثة شهور.
البند الثالث: جميع بالات الحشيش التى ترد جهات الجمارك تضبط وتحرق علنا اه.
فانظر كيف حصل التشديد على منعها من ملل غير الإسلام، أليست ملة الإسلام أولى بمنعها؟ وهذه الحشيشة تسمى بالشهدانج، وقد ذكر لها ابن جزلة خواص فى كتابة (منهاج البيان فيما يستعمله الإنسان من الأدوية المفردة والمركبة) وهو كتاب جمع فيه جميع الأدوية والأشربة والأغذية وكل مركب وبسيط ومفرد وخليط رتبه على حروف المعجم فقال: إنها تطرد الرياح ودهنها نافع لوجع الأذن من برد مزمن، ولبن الشهدانج البرى يسهل البلغم والصفراء برفق، وقدر ما يؤخذ منه إلى ثلاثة دراهم وإلى ثلاثة مثاقيل والشهدانج يدر البول، وهو عسر الانهضام ردئ الخلط ردئ للمعدة مصدع يقطع المنى ويحففه ويظلم البصر، وإذا قلى كان أقل ضررا وإذا أكل ينبغى أن يؤكل مع اللوز والخشخاش ويشرب بعده السكنجبين.
وكلمة شهدانج مركبة فى الأصل من كلمتين فارسيتين وهما شاه ودانه ومعنى الأولى ملك والثانية حب فمعناها حب الملوك.
وقال ابن جزلة أيضا فى لفظ قنب: هو نوعان بستانى وبرى بذر الشهدانج وقال حنين: البرى شجرة تخرج فى القفار على قدر ذراع يغلب على ورقها البياض وثمرها كالفلفل يشبه حب السمنة، وهو حب يخرج منه دهن، وطبخ أصول البرى منه ضماد للأورام الحارة والحمرة وعصارته لوجع الأذن اه.
وأما الخشخاش فقال فى تذكرة داود: إنه إذا أطلق يراد به النبات المعروف فى مصر بأبى النوم، وهو أبيض هو أجوده، وأحمر أعدله، وأسود أشدّه قطعا وأفعالا، وزهر كل كلونه وقد يزهر أصفر وله أوراق إلى خشونة ما ويطول إلى نحو ذراع، ويخلف هذا الزهر رؤوسا مستطيلة غليظة الوسط يجمع آخرها قمعا يشبه الجلنار لكن أدق تشريفا، وداخلها نقطة كأن تلك التشاريف خطوط خارجة منها، وداخل هذه بزر
مستدير صغير كما ذكرنا من الألوان، وقد تكون الحبة الواحدة ذات ألوان كثيرة، وكل مما ذكر إما برى مشرف الورق مزغب كثيرا أو بستانى، ويزرع الخشخاش بأواخر طوبة إلى تمام أمشير ويدرك ببرمودة، ومنه يستخرج الأفيون بالشرط كما مر.
والخشخاش بارد يابس لكن الأسود من البرى فى الرابعة، والأبيض البستانى فى الأولى وغيرهما فى الثالثة هذا من حيث جملته، فإن فصل كان بزرة حارا رطبا فى الثانية على الأرجح وقشره كما سبق، فإذا دق بجملته رطبا وقرص كان مرقدا جالبا للنوم، مجففا للرطوبات محللا للأورام قاطعا للسعال وأوجاع الصدر الحارة وحرقة البول والإسهال المزمن والعطش شربا وطلاء ونطولا، وكذا إن طبخ بجملته بعد الإنضاج لكن يكون أضعف ويفعل قشره كذلك.
أما بزره فنافع لخشونة الصدر والقصبة وضعف الكبد والكلى مسمن للبدن تسمينا جيدا، إذا لوزم على أكله صباحا/ومساء، أو خبز مع الدقيق، ومتى أضيف إلى مثله من اللّوز وعمل حسوا وشرب سمن المهازيل، قوّى الكلى وأذهب الحرقة وولد الدم الجيد، وقشره يقطع الزحير والثقل مع النيمبرشت شربا، ويحلل الأورام بدقيق الشعير طلاء، وإذا نقع فى ماء الكزبرة وعمل طلاء على الحمرة والقروح والنملة الساعية أذهبها، ويصب طبيخه على الرأس فيشفى صداعه وأنواع الجنون كالبرسام والماليخوليا، وزهره عظيم النفع فى المراقد، ويقع فى الأكحال لأجل الحرقة وقروح القرنية والإكثار سنه يسدر ويسبت، والأبيض يضر الرئة ويصلحه العسل أو المصطكى، والأسود يضر الرأس ويصلحه المرزنجوش، والشربة من زهره إلى نصف درهم ومن قشره إلى درهم ومن بزره إلى عشرة والأسود نصف ما ذكر، وبدله الخس والخشخاش الزبدى، نبت طويل الأوراق مزغب الساق أبيض جلاء حار مقطع، والخشخاش المقرن نبت له ورق
كالجرجير يشبه المنشار فى تشريفه، له زهر أصفر يخلف قرونا معوجة فيها بزر كالحلبة، حار يابس فى الثالثة يقطع الاخلاط الغليظة اللّزجة بالقئ والإسهال وينفع من الاستسقاء، وربما اشتبه بالجبلهنك والفرق بينهما عدم صفرة هذا، والمعروف بجلجلان الحبشة هو الخشخاش البرى لا المقرن والزبدى خلافا لمن زعمه اه.
ويزرع فى أرض تلك البلاد أيضا القرطم وهو حب العصفر ويخرج من حبه الزيت الحلو ويؤخذ نوره الذى هو العصفر ويستعمل فى الصبغ، ويتجر به إلى بلاد الفرنج ليدخلوه فى صباغة الجوخ وغيره، ولونه مفرح يجعل منه أطفال الصعيد فى طواقيهم نكتا صفراء فاقعة اللون.
ترجمة الشيخ عبد الرحمن البوتيجى
وينسب إلى هذه المدينة الشيخ عبد الرحمن البوتيجى الذى ترجمه السخاوى فى الضوء اللامع
(1)
فقال هو: عبد الرحمن بن عنبر بنون وموحدة كجعفر بن على بن أحمد بن يعقوب بن عبد الرحمن الزين العثمانى ثم القاهرى الشافعى الفرضى ويعرف بالبوتيجى، ولد فى سنة تسع وتسعين وسبعمائة بأبوتيج من الصعيد، فإنه كان يقول:
إنه دخل القاهرة مع أبيه فى السنة التى ملك فيها الظاهر برقوق وهى سنة أربع وثمانين وهو مميز، ونشأ بأبوتيج فقرأ القرآن عند جماعة منهم الفقيه بركة قال:
وكان من الأولياء وحفظ التبريزى وقدم القاهرة فحفظ أيضا العمدة والمنهاج الأصلى والملحة والرحبية، وعرض سنة ست وتسعين على الإنباسى والبلقينى وابن الملقن والدميرى وأجازوا له وقطن القاهرة، وأخذ الفقه عن الشمس الغرّاقى وأكثر عنه، وانتفع به فى الفرائض والحساب بأنواعه مثل: الجبر والمقابلة وما سواها، وكذا تفقه بالشهاب ابن العماد وقرأ عليه أشياء من تصانيفه وأخذ الأصول عن الشمس البرماوى وغيره.
ثم لازم الولى ابن العراقى فحمل عنه علوما جمة من حديث وفقه وأصول وغيرها، وسمع على المطرزى والهيثمى والشريفين القدسى وابن الكويك، وأذن له الولى ابن العراقى فى إقراء تصانيفه فى الفنون كلها وكذا فى الافتاء، وتكسب أولا بالشهادة
(1)
انظر الضوء اللامع 4/ 115 ط المقدسى 1354 هـ القاهرة.
فى بعض حوانيت الحنابلة، ثم ناب فى القضاء بأعمال القاهرة عن الجلال البلقينى فى سنة تسع عشرة، وكتب بخطه الكثير من الكتب المطوّلة وغيرها، ولزم الإقامة بالمدرسة الفاضلية متصديا للتدريس والإفتاء فكثرت تلامذته، وأخذ الناس عنه طبقة بعد أخرى وصار فى طلبته من الأعيان جملة، خصوصا فى الفرائض والحساب بأنواعه لتقدمه فيه، حتى كان شيخه الولى يستعين به فى كثير من المناسخات ونحوها ويقول: المسألة التى أعملها فى ساعة يعملها هو فى ثلث ساعة قال السّخاوى: وقرأت عليه جملة وحضرت دروسه فى الفقه والفرائض وغيرهما، وكف بصره بأخرة وانقطع بالمدرسة عن الناس متدرعا ثوب القناعة عنهم واليأس، وهم يترددون إليه للقراءة والزيارة حتى مات بعد يسير فى ليلة الاثنين الثالث والعشرين من شوّال سنة أربع وستين وثمانمائة ودفن من الغد بالقرافة بتربة الشيخ محمد الهلالى العريان جوار تربة أبى العباس رحمه الله تعالى انتهى.
ترجمة الشيخ محمد بن أحمد السميعى
ومحمد بن أحمد السميعى
(1)
-نسبة لقرية من قرى أبو تيج يقال لها: قرية بنى سميع-البوتيجى ويعرف بالفرغل رجل مجذوب له شهرة فى الصعيد وغيره، وله زاوية بأبوتيج وأخرى بدوينة كان ينتقل بينهما، وأكثر إقامته بالأولى وبها دفن، وتحكى له كرامات قدم القاهرة أيام الظاهر جقمق شافعا فى ابن قرمين العزال أحد مشايخ العرب فأجابه وأكرمه وأمر بإنزاله عند الزين الإستادار، ورجع فأقعد وأخر إلى أن مات رحمه الله تعالى اه ولم يذكر تاريخ موته.
(1)
انظر الضوء اللامع 7/ 130 ط المقدسى 1354 هـ القاهرة.
أبو خراش
قرية من مديرية البحيرة بقسم شبراخيت واقعة فى بحرى الكوكبة بنحو ستمائة متر، وفى قبلى محلة نابت بنحو ثمانمائة متر، وأبنيتها باللّبن وبها جامع وضريح ولىّ عليه قبة، وفى شرقيها ضريح سيدى عطية، وبها أبعادية لمنصور باشا ابن أحمد باشا يكن، وفيها لعمدتها محمد عمر دوّار ومضيفة وزراعة متسعة نحو ألف فدان، وبها/بستان نضر وأكثر أهلها مسلمون.
ترجمة سيدى محمد الخرشى
ومنها نشأ الإمام القطب القدوة الشيخ الخرشى المالكى، ترجمه الشيخ على الصعيدى العدوى فى حاشيته التى جعلها على شرحه الصغير لمتن الإمام خليل. فقال:
هو العلامة الإمام والقدوة الهمام شيخ المالكية شرقا وغربا، قدوة السالكين عجما وعربا، مربّى المريدين كهف السّالكين سيدى أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن على الخرشى، لأن بلده يقال لها: أبو خراش: قرية من البحيرة ببلاد مصر، اشتهر نسبه ونسب عصبته بأولاد صباح الخير، انتهت إليه الرياسة فى مصر، حتى إنه لم يبق بها فى آخر عمره إلا طلبته وطلبة طلبته، وكان متواضعا عفيفا واسع الخلق كثير الأدب والحياء، كريم النفس جميل المعاشرة حلو الكلام كثير الشفاعات عند الأمراء وغيرهم، مهيب المنظر دائم الطهارة كثير الصّمت كثير الصيام والقيام زاهدا ورعا متقشفا فى مأكله
وملبسه ومفرشه، ولا يصلى الصبح صيفا وشتاء إلا بالجامع الأزهر، ويقضى بعض مصالحه من السوق بيده ومصالح بيته فى منزله يقول من عاشره: ما ضبطنا عليه ساعة هو فيها غافل عن مصالح دينه أو دنياه، وكان إذا دخل منزله يتعمم بشملة صوف بيضاء وكانت ثيابه قصيرة على السنة المحمدية، واشتهر فى أقطار الأرض كبلاد الغرب والتكرور والشام والحجاز والروم واليمن، وكان يعير من كتبه من خزانة الوقف بيده لكل طالب مع السهولة إيثارا لوجه الله تعالى، ولا يمل فى درسه من سؤال سائل لازم القراءة سيما بعد شيخه البرهان اللقانى وأبى الضياء على الأجهورى.
وكان أكثر قراءته بمدرسة الآقبغاوية، وكان يقسم متن خليل نصفين، نصف يقرؤه بعد الظهر عند المنبر كتلاوة القرآن، ويقرأ النصف الثانى فى اليوم الثانى.
وكان له فى منزله خلوة يتعبد فيها، وكانت الهدايا والنذور تأتيه من أقصى الغرب وبلاد التكرور وغيرها فلا يمسك منها شيئا، بل أقاربه ومعارفه يتصرفون فيها.
أخذ العلوم عن عدة من العلماء الأعلام كالعلامة الشيخ على الأجهورى وخاتمة المحدثين الشيخ إبراهيم اللقانى والشيخ يوسف الفيشى، والشيخ عبد المعطى البصير، والشيخ يس الشامى ووالده الشيخ عبد الله الخرشى.
وتخرج عليه جماعة حتى وصل ملازموه نحو مائة، منهم العارف بالله الشيخ أحمد اللقانى، وسيدى محمد الزرقانى والشيخ على اللقانى، والشيخ شمس الدين اللقانى، والشيخ داود اللقانى، والشيخ محمد النفراوى، وأخوه الشيخ أحمد والشيخ أحمد الشبرخيتى، والشيخ أحمد الفيومى، والشيخ إبراهيم الفيومى، والشيخ أحمد الشرفى، والشيخ عبد الباقى القلينى والشيخ على المجدولى. مات رحمه الله صبيحة يوم الأحد
السابع والعشرين من ذى الحجة ختام سنة إحدى ومائة وألف، ودفن مع والده بقرب مدفن الشيخ العارف بالله سيدى محمد البنوفرى بوسط تربة المجاورين وقبره مشهور، وما رأيت فى عمرى أكثر خلقا من جنازته، إلا جنازة الشيخ سلطان المزاحى، والشيخ محمد البابلى.
هذا ما انتهى جمعه من مناقبه فى أواخر شهر صفر الخير سنة مائة واثنتين وألف من الهجرة النبوية، جمعه الشيخ محمد المغربى رحمه الله تعالى انتهى باختصار.
وله مؤلفات مقبولة فى سائر الأقطار، منها شرحه الكبير على متن الشيخ خليل ثمانية أجزاء، وشرحه الصغير على خليل أيضا أربعة أجزاء، وجزء فى الكلام على البسملة نحو أربعين كراسة وغير ذلك.
أبو رجوان
من هذا الاسم قريتان بالقسم القبلى من مديرية الجيزة واقعتان غربى النيل المبارك، إحداهما البحرية فى غربى الشوبك بنحو خمسمائة متر، وبها جامع بدون منارة، والثانية القبلية فى شمال مزغونة بنحو نصف ساعة ومبانيها بالآجر وبها جامع بمنارة، وكلاهما فى شمال دهشور بنحو ساعة، وبكل منهما نخيل كثير من نخل الأمهات، وعند القبلية محطة السكة الحديد وبعدها عن المحروسة نحو خمسة فراسخ، وكفاها شرفا أنه قد نشأ منها
ترجمة السيد صالح بيك مجدى
الأمير الجليل ذو المجد الأثيل حضرة السيد بيك صالح مجدى، وهو كما أخبر عن نفسه محمد بن صالح بن أحمد بن محمد بن على بن أحمد بن الشريف مجد الدين، مصرى المولد مكى الأصل.
ولد بقرية أبى رجوان القبلية فى منتصف شعبان سنة اثنتين أو ثلاث وأربعين من القرن الثالث عشر من الهجرة.
وكان أبوه من قرية مزغونة وهى قرية بقرب أبى رجوان، كان قد نزل بها جده الأعلى الشريف مجد الدين-المكى المولد والأصل-عند وفوده على الديار المصرية فى أوائل القرن التاسع واستوطنها وتأهل فيها بكريمة بعض أعيانها، واشتغل بالتجارة خصوصا فى المواشى، وعلى منواله نسج أولاده من بعده وكان بيتهم فيها مشهورا ببيت الأشراف.
قال المترجم ولعل هذه النسبة صحيحة إن شاء الله تعالى. قال: ثم انتقل الوالد من مزغونة إلى أبى رجوان سنة ثلاثين بعد المائتين والألف لنزاع وقع بينه وبين أخويه أحدهما العالم الفاضل الشيخ محمد صالح المتوفى سنة أربعين، وثانيهما على صالح أحد المزارعين المتوفى سنة سبع وأربعين ولم يعقبا قال: وقد تأهل الوالد فى أبى/رجوان بكريمة من أهلها، فرزق أولادا ووجاهة وقبولا، لأنه كان كاسمه صالحا كريما وكان
جسيما صاحب شهامة وبسالة وإقدام، حتى إنه خرج عليه ليلا فى بعض أسفاره جماعة من قطاع الطريق فلم يكترث بهم وحمل عليهم فى ثلاثة رجال كانوا معه فبدّد شملهم وفرق جمعهم، لكن أصيب منهم فى فخذه الأيمن برصاصة ارتهن بها فى فراشة نحو شهرين، ولا زال منعم البال مرفه الحال إلى أن ماتت زوجته فى سنة خمسين فتكدّر عيشه وأخذت أحواله فى الاضمحلال لا سيما بهلاك مواشيه التى كان يتجر فيها، وقد مات أولاده فى حياة أمهم، ولم يبق سوى المترجم وكان أصغرهم: قال: فكان الوالدان يترددان بى فى كل عام بعد موت أخوتى إلى زيارة سيدى أحمد البدوى، ويقولان لى:
أنت السيد فاشتهرت بهذا الاسم من وقتئذ، وقد دخل المترجم مكتب قرية أبى رجوان وهو ابن ست سنين فقرأ به إلى سورة يس، ثم أخذ بعد موت والدته بدون علم والده إلى المكاتب الميرية، التى أنشأها العزيز محمد على باشا فى جميع مديريات حكومته، فأدخل مكتب حلوان على طرف الميرى، فلم يمكث به إلا سنة واحدة.
ثم حول فى خامس عشر صفر سنة اثنتين وخمسين إلى مدرسة الألسن بالأزبكية فى القاهرة المفتتحة فى سنة إحدى وخمسين فاشتغل فيها بتحصيل اللغة الفرنساوية تحت نظارة الفاضل الشريف السيد رفاعة بيك الطهطاوى، فاشتغل فيها بتحصيل اللغة الفرنساوية على مهرة المعلمين، وتلقى اللغة العربية بأصولها وفروعها عن جماعة من أفاضل الأزهريين، منهم الأستاذ المحقق الشيخ محمد قطة العدوى المالكى المترجم فى الكلام على بنى عدى، ومنهم شيخ المشايخ السيد محمد الدمنهورى الشافعى صاحب التآليف العديدة المتوفى سنة أربع أو خمس وثمانين، ومنهم السيد حسنين الغمراوى الشافعى المتوفى سنة ثلاث بعد ثلاثمائة وألف والشيخ محمد أبو السعود الطهطاوى المتوفى سنة ثمانين، والعلامة الشيخ على الفرغلى الأنصارى الطهطاوى المتوفى على عمل القضاء بطهطا سنة إحدى وثمانين.
ولما تضلع المترجم من لغتى العربية والفرنساوية أخذ فن التراجم عن أستاذه رفاعة بيك المذكور، فلما أنشأ العزيز محمد على باشا قلم الترجمة سنة ثمان وخمسين تحت نظر رفاعة بيك المذكور.
كان المترجم من رجال هذا القلم المشكل من ثلاثة أقسام، أحدها قسم ترجمة الرياضيات بفروعها، وكان رئيسه محمد بيومى أفندى المهندس النظرى، المتوفى بالأقطار السودانية فى بندر الخرطوم سنة سبع أو ثمان وستين.
وثانيها قسم ترجمة الطبيات بفروعها وكان رئيسه مصطفى أفندى الواطى المتوفى سنة ثمانين أو إحدى وثمانين.
وثالثها قسم ترجمة التواريخ والأدبيات، وكان رئيسه خليفة محمود أفندى صاحب التراجم الكثيرة فى التواريخ والأدبيات، منها ترجمان مفيد باللغة العربية والتركية والفرنساوية، وقد توفى سنة إحدى وثمانين فكان صاحب الترجمة وكيل رياسة ترجمة القسم الأول وهو قسم الرياضيات وفروعها، وقد ترجم فيه من اللغة الفرنساوية إلى العربية كتابين: أحدهما جداول المهندسين، وثانيهما تطبيق الهندسة على الميكانيكا والفنون المستظرفة، وترقى بقلم الترجمة فى أواخر سنة ثمان وخمسين إلى رتبة ملازم ثان، وفى سنة ستين انتقل برتبة ملازم أول إلى مدرسة المهندسخانة الخديوية ببولاق تحت نظارة الأمير الفرنساوى المنعم عليه برتبة البيكاوية وهو فى المدرسة المذكورة.
ولما انفصل عنها فى سنة ست وستين وأراد التوجه إلى بلاده، ربط له على الحكومة المصرية معاش عاش به إلى أن مات بوطنه سنة إحدى وثمانين، وتعين المترجم
بالمدرسة المذكورة لتدريس اللغتين الفرنساوية والعربية وتعليم نجباء تلامذتها فن الترجمة وتعريب فروع الرياضيات التى تدرس بها على القواعد العربية ويقول واضع هذا الكتاب:
إنى قد كنت من رجال هذه المدرسة فعرفت المترجم فيها واتخذته لى صاحبا وصديقا، وكنت قد تعينت فى سنة ستين التى التحق هو فيها بتلك المدرسة للسفر مع عدة من أمثالى إلى مملكة الفرنسيس لتكميل العلوم الرياضية وتحصيل الفنون العسكرية المتعلقة بالطوبجية والاستحكامات، فلما رجعت إلى مصر بعد خمس سنين وجدته قد وصل إلى رتبة يوزباشى، وأخبرنى أنه أحرزها فى سنة اثنتين وستين، وأنه عرّب فى هذه المدة عدة كتب فى فروع الرياضيات.
منها كتاب: فى الطبوغرافية والجيودوزية وكتاب ميكانيكا نظرية وكتاب ميكانيكا عملية وكتاب أدروليكا وكتاب حساب آلات وكتاب طبيعة وكتاب هندسة وصفية وكتاب فى حفر الآبار ورسالة فى الأرصاد الفلكية تأليف الشهير أرجو، ولما أحيلت على عهدتى نظارة المهندسخانة وما معها سنة ست وستين بعد انتقالى من رتبة صاغقول أغاسى إلى رتبة أمير آلاى كان لى المترجم رفيقا مع قيامه بوظائفه، وطالما استعنت بقلمه على تأليف كتب متنوعة فى فنون شتى، وقد ترجم فى تلك المدة عدة كتب فى الرياضة/منها كتاب فى الحساب وكتاب فى الجبر، وكتاب فى تطبيق الجبر على الأعمال الهندسية، وكتاب فى الظل والمنظور وكتاب فى حساب المثلثات، وكتاب فى الهندسة الوصفية، وكتاب فى قطع الأحجار والأخشاب، وهى كتب جار عليها العمل إلى الآن فى المدارس، وله غير ذلك من الكتب التى تجل عن الحصر.
ثم انتقل من المهندسخانة بعد إقامته بها عشر سنوات وامتحانه فيها وإعطائه الشهادات التى تحت يده الدالة على كمال فضله إلى ألاى المهندسين والكبورجية عند وفاة عباس باشا سنة 70 فكان فيه بوظيفتى باش مترجم ومصحح تعريب الفنون العسكرية، فترجم فيه فى أقرب وقت عدة كتب منها: كتاب استكشافات الترع والأنهر، وكتاب ميادين الحصون والقلاع، وكتاب استكشافات عمومية، وكتاب استحكامات خفيفة، وكتاب تذكار ضباط المهندسين، وكتاب استحكامات قوية.
وتعلم بالآلآى المذكور ما لا بد منه من الأصول العسكرية وعرف اصطلاحاتها، ثم ترقى إلى رتبة صاغقول أغاسى فى أواخر شهر صفر سنة اثنتين وسبعين، ثم انتقل من هذا الآلآى إلى مأمورية أشغال الطوابى بالقلعة السعيدية، وتقلد بوظيفة توكيلها مع وظيفة ترجمة الكتب العسكرية، ثم فى رجب سنة ثلاث وسبعين، انتقل إلى مباشرة طبع الكتب العسكرية بمطبعة بولاق، وترقى فى آخر جمادى الثانية سنة أربع إلى رتبة بكباشى بأمر المرحوم سعيد باشا مباشرة بدون توسط أحد.
وقد كنت فى إقامتى فى الأوردى بتعليم الجنود العسكرية ألفت كتابا صغيرا جامعا لأصول الرياضيات والهندسة فصدر أمر الجناب الداورى بطبعه وأحيلت على المترجم مباشرة تصحيحه فطبع بتصحيحه فجاء فى غاية التحرير.
ثم تعين وهو مباشر فى طبع الكتب العسكرية لنظارة قلم الترجمة الذى كان بقلعة الجبل تابعا للمدرسة الحربية تحت نظر رفاعة بيك، وبعد إلغاء تلك المدرسة والقلم اقتصر على مباشرة الكتب العسكرية كما كان، وقد تم على يديه طبع عدة كتب من التى ترجمها وهو بآلاى المهندسين والكبورجية فى الفنون العسكرية.
منها: كتاب تذكير المرسل بتحرير المفصل والمجمل، وكتاب طوالع الزهر المنيرات فى استكشاف الترع والنهيرات، وكتاب ميادين الحصون والقلاع ورمى القنابر باليد والقلاع، وكتاب المطالع المضيفة فى الاستحكامات الخفيفة.
ثم انتقل فى أول جلوس الخديوى إسماعيل باشا على سرير هذه الديار إلى قلم الترجمة المستجد الذى أحيلت على رجاله ترجمة قوانين نابليون، وفى هذه الدفعة ترقى إلى الرتبة الثالثة الرفيعة بتاريخ الثالث والعشرين من ذى القعدة سنة تسع وسبعين.
وقد ترجم فى هذه القلم المستجد قانون تحقيق الجنايات وطبع فى ضمن القوانين الخمسة التى طبعت ونشرت، ثم انتقل إلى المعية السّنية فى سنة ثمانين فأقام بقلم ترجمتها نحو سنتين ترجم فيهما معظم نظامات القومبانية العزيزية، فضلا عن الأمور المتنوعة اليومية، ثم انتقل من المعية إلى ديوان المعاونة، وبعد إقامته به مدة يعرب الأمور اليومية تحول إلى ديوان الداخلية، وبعد إقامته به مدة لا تزيد على شهرين رجع إلى ديوان المدارس، وانتظم فى سمط رجال قلم الترجمة، فاشتغل فيه زيادة عن الأمور اليومية بتعريب قوانين عسكرية ورسائل بعضها فى استحكامات خفيفة وقوية، وبعضها فى مواد وأصول حربية، وبعضها فى تهيئة الجيوش وسيرها، وبعضها فى التحفظ والهجوم.
وكان قد عرض له فى سنة اثنتين وثمانين وهى السنة التى رجع فيها إلى ديوان عموم المدارس بطلب رتبة أمير آلاى وتقليده بنظارة قلم ترجمة الكتب العسكرية اللازمة لتعليم تلامذة المدارس الحربية فلم يتم له ذلك لموانع.
وفى سنة ثلاث وثمانين ومائتين بعد الألف أحيلت على عهدتى، وأنا إذ ذاك ناظر القناطر الخيرية مأمورية تأليف كتاب الهجاء والتمرين، فطلبت المترجم من ديوان المدارس بأمر عال فحضر عندى واشتغل معى بالكتاب المذكور حتى تم على أحسن حال.
وهو الآن مطبوع متداول بين الأيدى وتكرر طبعه حتى زادت نسخه على خمسة عشر ألفا، ورأيت معه عند حضوره لدى بالقناطر الخيرية رسالة جليلة القدر جمعها فى التقدمات العصرية فى الأيام الخديوية، وهى فى غاية الإيجاز والبلاغة، نثرها فائق وسجعها رائق، فسألته عن الحامل على جمعها، فأخبرنى أنه مأمور بتأليفها لتطبع.
وأظن أنها لم تطبع.
وباشر معى أيضا بعض التاريخ الذى عملته للديار المصرية فى عدة مجلدات، وبعض رسائل جمعتها وطبعت بمعرفته فى جرنال روضة المدارس، التى أنشأتها فى نظارتى على ديوان المدارس الملكية، وله من بدائع النظم والنثر فى هذا الجرنال عدة مقالات أدبية تدل على تفننه فى ضروب الأدب.
وقد ألف فى مناقب المرحوم رفاعة بيك بعد وفاته رسالة ختمها بمرثية بديعة، ثم تقلد فى سنة ست وثمانين بوظيفة توكيل إدارة المدارس المصرية وبلغ مرتبه فى هذه الوظيفة أربعة آلاف من القروش الديوانية المصرية، واشتغل بمزاولة تربية أبناء المدارس الميرية وأخذ فى تلك/المدة فى تعليم اللغة الإنكليزية حتى تيسر له قراءة كتبها وفهم معانيها إلا أنه لم يتكلم بها إلا نزرا، كما أنه يتكلم نادرا باللغة التركية عند اضطراره إليها، ثم فى سنة سبع وثمانين أحيلت عليه مأمورية الإدارة مع نظارة دروس المدارس فقام
بالوظيفتين، ولما أحيلت على عهدتى نظارة عدة دواوين ومصالح فى آن واحد استعنت بقلمه على تحرير عدة لوائح وترتيبات نافعة لإدارة هذه المصالح، وفى سنة ثمان وثمانين لقب بلقب البيكوية بأمر صدر من المكارم الخديوية فى جمادى الثانية من تلك السنة، واستمر فى أداء هاتين الوظيفتين فى ديوان عموم المدارس الملكية إلى أن ألغيت مأمورية الإدارة فى حادى عشر شوّال سنة 90، فانتقل إلى ديوان المالية ومنه تعين بوظيفة تحصيل المتأخرات بمديرية البحيرة، ثم رجع إلى ديوان عموم المالية بوظيفة معاون، وفى أثناء إقامته به جمع بأمر عال رسالة بديعة فى مولد الخديوى
(1)
ومحسناته وموالد أنجاله الصدور الكرام وتاريخ والده سمى نبى الله الخليل على نبينا وعليه الصلاة والسلام وسماها بحلية جيد العصر بدور محسنات خديوى مصر.
وبالجملة فله من التراجم والمؤلفات ما يزيد على خمسة وستين كتابا ورسالة، وقد كتب بيده من الكراريس ما لا يدخل تحت حصر، ثم صار من ضمن قضاة محكمة محروسة مصر المستجدة فى رجال الحقانية والمحاكم الجديدة العدلية، التى اهتم الخديوى إسماعيل باشا ابن إبراهيم بتشييد أركانها وتمهيد قواعدها وترصين بنيانها، ثم توفى بالقاهرة ودفن بها رحمه الله رحمة واسعة
(1)
الخديو: لقب حاكم مصر تحت سيادة العثمانيين فى بعض العهود الماضية. (د). انظر: المعجم الوسيط، مادة (خديو).
أبو الريش
قرية من قرى دمنهور البحيرة كانت تسمى طموس، وكان بينها وبين دمنهور نحو خمسمائة متر، ثم اتسعت دمنهور حتى اختلطت بها وصارت الآن من ضمن دمنهور، وفيها مقام سيدى عطية أبى الريش، مشهور يزار ويعمل له مولد كل سنة بعد مولد سيدى إبراهيم الدسوقى.
ترجمة السيد عبد الله الطبلاوى
وهذه القرية ولد بها السيد عبد الله الطبلاوى المترجم فى خلاصة الأثر، بأنه السيد عبد الله بن محمد بن عبد الله الحسينى المغربى الأصل ثم القاهرى الشافعى المعروف بالطبلاوى، لنزوله بمصر عند الشيخ العلامة ناصر الدين الطبلاوى الشافعى.
وكان أعظم شيوخه الشيخ المذكور أخذ عنه عدة علوم. منها: علم القراءات وساد فيها سيادة عظيمة بحيث إنه كتب فيها حواشى على شرح الشاطبية للجعبرى بخطه، جردها تلميذه الشيخ سليمان اليسارى المقرئ، وانفرد بعلم اللغة فى زمنه على جميع أقرانه، بحيث إنه كتب نسخا متعددة من القاموس واختصر لسان العرب وسماه (رشف الضرب من لسان العرب) لم يكمل.
وكان عارفا بارعا بعلم العروض وله شرح على تأنيس المروض فى علم العروض، وله شرح عقود الجمان فى المعانى والبيان، تأليف الجلال السيوطى، وله حاشية على حاشية العلامة البدر الدمامينى، على مغنى اللبيب لابن هشام، وسئل عن معنى بيت النهروانى وهو:
فيك خلاف لخلاف الذى
…
فيه خلاف لخلاف الجميل
فأجاب بقوله من أبيات:
إن كلام النهروانى الذى
…
ذكرتموه فيه مدح جليل
تراه من لفظ خلاف حوى
…
أربعة منها خلاف الجميل
يعنى قبيحا قبله ثالث
…
خلافه وهو جميل نبيل
خلافه الثانى قبيح ففى
…
خلافه الأول مدح جميل
ورأيت له ترجمة بخط صاحبنا الفاضل اللبيب مصطفى بن فتح الله قال فيها:
فرع نما من أفخر نسب
…
جامع بين فضيلتى العلم والحسب
إلا أن مخزوما لها الشرف الذى
…
غدا وهو ما بين البريّة واضح
لها من رسول الله أقرب نسبة
…
فيا لك عزا نحوه الطرف طامح
كان من المشتغلين بالعلم فقها وأصولا، ومن أعيان الأدباء نثرا ونظما، وكان خطه يضرب به المثل فى الحسن والصحة، وكتب بخطه من القاموس نسخا هى الآن مرجع المصريين لتحريه فى تحريرها، وكان كريم النفس حسن الخلق والخلق من بيت علم ودين وله شيوخ كثيرون.
منهم العلامة أبو النصر الطبلاوى والشمس الرملى والشهاب أحمد بن قاسم العبادى وغيرهم من أكابر المحققين، واستمر حسن السيرة جميل الطريق إلى أن نقل من مجاز دار الدنيا إلى الحقيقة، وشعره مشهور ونثره منثور ولواء حمده على كاهل الدهر منشور.
وله قصيدة مدح بها أستاذه الطبلاوى المذكور والتزم فى قوافيها تجنيس الخال وهى مشهورة ومطلعها:
*يا سلسلة الصدغ من لواك على الخال*
وذكره الخفاجى وأخاه سيدى محمدا، وأثنى عليهما كثيرا؛ وكانت وفاة السيد عبد الله فى صبح يوم الاثنين مستهل ذى الحجة سنة سبع وعشرين وألف، وصلى عليه بالأزهر ودفن بالقرب من العارف بالله تعالى سيدى عمر بن الفارض وقد ناهز السبعين انتهى.
أبو الصير
قرية من مديرية الدقهلية بمركز السنبلاوين فى الشمال الغربى لناحية المقاطعة بنحو ثلاثة آلاف ومائتى متر، وفى الجنوب الشرقى للسنبلاوين بنحو ثمانية آلاف متر بها جامع، وزمامها نحو مائتى فدان وتكسب/أهلها من زراعة القطن وباقى الحبوب.
أبو طوالة
هذه القرية من مديرية الشرقية بقسم العرين واقعة غربى بحر مويس وقبلى قرية نيدوق إلى غرب، بينهما نحو ستة آلاف متر، بجوارها فى الجنوب الشرقى تل قديم مرتفع نحو عشرين مترا، وبأعلاه مقام ولىّ يقال له: أبو طوالة وله مقابر أيضا، ويؤخذ إلى الآن منه السباخ.
وهو متسع نحو خمسين فدانا وبها مجلس دعاوى وآخر للمشيخة ومكاتب ومساجد وتكسب أهلها من الزرع وزمامها أربعمائة واثنان وثمانون فدانا وكسر، وجملة أهلها ألف وثمانون نفسا.
أبو الغيط
قرية من أعمال قليوب فى الجانب الشرقى لبحر دمياط وفى جنوب الخرقانية بنحو ألفى متر، وبها جامع بمنارة ومعامل دجاج ودار مشيدة لبعض كبرائها ولها سوق كل أسبوع.
ويزرع فى أرضها البطيخ والشمام كثيرا ويكون غاية فى صدق الحلاوة وطيب الرائحة، وأكثر ما يباع منه بالقاهرة والإسكندرية ونحوهما مجلوب من هذه القرية، ومن قرية بيسوس
(1)
وما جاورهما من القرى.
ترجمة الشيخ نجم الدين الغيطى
والظاهر أن الشيخ العلامة نجم الدين الغيطى ينسب إلى هذه القرية، وكان إماما ذا أخلاق حسنة وأوصاف جيدة.
قال الشعرانى فى ذيل الطبقات: صحبته نيفا وأربعين سنة، فما رأيت عليه شيئا يشينه فى دينه، بل نشأ فى عفة وعلم وأدب وحياء وكرم نفس وحسن أخلاق.
(1)
بيسوس: هى باسوس الحالية. انظر: محمد رمزى: القاموس الجغرافى، ق 2 ج 1، ص 55.
أخذ العلم عن جماعة من الفضلاء منهم: الشيخ زكريا الأنصارى، والشيخ عبد الحق السنباطى، وابن أبى شريف، والشهاب والرملى، وأفتى ودرس فى حياة أشياخه بعد الإجازة وانتهت إليه الرياسة فى الحديث والتفسير والتصوّف، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، لا تأخذه فى الله لومة لائم، ولما وقعت فتنة أخذ وظائف الناس بغير حق انتدب لها وكان خمود الفتنة على يديه وشكره أهل الروم والحجاز والشام على ذلك.
وتولى مشيخة الصلاحية والخانقاه السرياقوسية وكتب على بعض مؤلفاتى كتابة حسنة لم يسبق إليها أحد، لأنى جمعت فيه نحو ثلاثة آلاف علم، لا يكاد يصدق بتلك العلوم إلا من رآه.
وله تهجد عظيم فى الليل وبكاء وتضرع وخشية يصبح فى بعض الليالى وجهه يضئ كالكوكب لا ينكر ذلك إلا عدوّ أو حاسد.
وكانت وفاته رضي الله عنه نهار الأربعاء سابع عشر صفر سنة إحدى وثمانين وتسعمائة انتهى باختصار.
ومن مؤلفاته قصة المعراج المشهورة فى عدة كراريس، نفعنا الله بعلومه آمين.
أبو كبير
هذه الناحية عبارة عن عدة كفور من قسم الصوالح بمديرية الشرقية وجميعها ذات نخيل بكثرة، وهى واقعة فى جزيرة مرتفعة عن المزارع بنحو مترين، ويجاورها من الجهة الشرقية السكة الحديد الذاهبة إلى المنصورة، وبها محطة المرور وديوان التفتيش التابع للجفالك، وبها بساتين مشتملة على الليمون والأترج والنفاش، والكباد، ويزرع بها البطيخ فى البواطن، وبها دكاكين وتجار من الدول المتحابة يتجرون فى القطن والأبزار ونحوها. وبها أرباب حرف ومكاتب أهلية ومجلسا مشيخة ودعاوى.
وأبنية البلد باللّبن الرملى وسقوفها من خشب النخل والجريد، ولها سوق كل يوم أربعاء ومساجدها بدون منارات، وبحريها خط السكة الحديد الموصل إلى الصّالحية، وبعدها عن قرية فاقوس نحو عشرة آلاف متر إلى جهة الجنوب الغربى، وفى شرقيها جزيرة أبى كبير وهى: رمال غير صالحة للزرع ومرتفعة عن المزارع من ثمانية أمتار إلى ثلاثة، وتكسب أهلها من الزراعة سيما البطيخ وثمر النخل، وعدتهم ذكورا وإناثا ثلاثة آلاف ومائتان وثلاث وأربعون نفسا، وأطيانها ثلاثة آلاف وثلاثمائة واثنان وثلاثون فدانا وكسرا.
أبو كسا
قرية من مديرية الفيوم بقسم سنور فى الشمال الغربى لقرية سنور بقدر خمسة آلاف متر، وفى الشمال الشرقى لقرية بشيه الرمان
(1)
بقدر ثلاثة آلاف وستمائة متر.
وفيها جامع قديم مبنى باللبن وأبنيتها باللبن وقليل من الآجر، وفيها كثير من شجر الكرم والمشمش والتين، وفيها تفتيش للدائرة السنية يشتمل على فوريقتين لعصر قصب السكر واستخراج السكر الأبيض والأحمر منه.
أحداهما تسمى فوريقة أبى كسا، والأخرى تسمى فوريقة الدودة، وعند الفوريقتين فروع من السكة الحديد لنقل القصب من الغيطان إلى المعاصر بالعربات المخصصة لذلك كما هو جار فى جميع فوريقات الدائرة السنية.
وبجوارهما مساكن المستخدمين ومسجد لصلاتهم وسوق بحوانيت تبع الدائرة، وهناك محطة عمومية للسكة تسمى محطة أبى كسا، يخرج من عندها فرع إلى أراضى المسيد، وفرع إلى أراضى أبشواى
(2)
، ثم أراضى ترسة وطوله ثمانية أميال، وهناك ستة مفاتيح تنتقل عليها الوابورات من فرع إلى آخر.
وكان المخصص لعصر الفوريقتين ثلاثين ألف فدان من القصب، وفى سنة ألف ومائتين وتسعين قل المنزرع هناك فبطلت حركة فوريقة الدودة واكتفى بالأخرى.
(1)
بشيه الرمان-ذكرها محمد رمزى بشواى الرمان. راجع إبشواى بالقاموس الجغرافى، ق 2 ج 3، ص 71
(2)
وردت فى القاموس الجغرافى، ق 2، ج 3، ص 71 «إبشواى» .
أبو كلس
بلدة بمديرية المنوفية فى جنوب إبشادة بنحو ألفى متر وفى شرقى بحر رشيد بقليل، وأبنيتها باللبن وبها جامع/بمنارة تقول العامة إنه من بناء الست فاطمة بنت أحمد أغا وزير السلطان أحمد بن طولون وليس بصحيح، وبها ثلاث قباب على أضرحة تزار، وبها قليل نخيل وساقية وست طواحين تديرها الحيوانات وينسج بها ثياب الصوف وأكثر زرعها الكتان والذرة وأكثر أهلها مسلمون.
ترجمة الشيخ محمد أبى كلس
وقد نشأ منها الشيخ محمد عسكر الكلسى، كان يكنى باسم هذه البلدة وهو:
محمد بن محمد بن محمد بن محمد إلى سبعة أجداد كل منهم اسمه محمد، كما أخبر بذلك ابنه الشيخ محمد طالب العلم بالأزهر، وأحد خوجات المدرسة الخيرية التى كانت بالقلعة، قال: قرأ الوالد القرآن ببلده فى حجر والده ثم جاور بالأزهر سنة ست وثلاثين ومائتين وألف، بملاحظة عمه الشيخ سليمان الكلسى، واجتهد وحصل فى كل فن وتفقه على مذهب الإمام مالك رضي الله عنه، وتصدر للتدريس سنة تسع وخمسين،
وشهدت له الأشياخ بالفضل والتحصيل، وفى سنة تسع وسبعين فى أول عهد الخديو إسمعيل توظف بتدريس فن العربية بمدرسة التجهيزية مع تدريسه بالأزهر إلى أن توفى يوم الاثنين رابع عشر شهر الله الحرام سنة ثلاث وثمانين، ودفن بقرافة المجاورين بالقرب من قبر الشيخ النجارى.
ومن مشايخه الشيخ يوسف الصاوى المالكى، والشيخ مصطفى البولاقى، والشيخ محمد عليش شيخ السادة المالكية، والشيخ إبراهيم البيجورى شيخ الجامع الأزهر، والشيخ إبراهيم جابر المالكى رحمهم الله أجمعين.
مطلب عوائد ناحية أبى كلس
ومن عوائد هذه الناحية وما قاربها من البلدان فى أفراح الزواج، أن أم الزوج بعد الخطبة وتسمية المهر تصنع فطيرا وكعكا وترسله إلى بيت الزوجة، فإذا قبلوه فقد تمت الخطبة ومضت الشروط، وإلا كان لهم الرجوع.
ثم يجعلون فى قرنى ثور الطاحون منديلين وفى عنقه جرسا إلى تمام طحن غلال الفرح، ثم يطوفون البلد بالدّف والمزمار لجمع المسكة من البيوت، ويعملون الفرح على عادتهم، وقبل ليلة البناء يجلسون الزوجة ليلا على جدار ارتفاعه قدر قامة الإنسان،
وهى مكشوفة الصدر مستورة الوجه إلى شفتها السفلى، وحولها النساء والرجال وآلات اللهو وعلى رأسها مهرجان فتمكث كذلك قطعة من الليل، ثم يخرج أبوها الأكل للحاضرين فيأكلون، ثم تزف إلى بيت الزوج فتجتمع عندها النساء ويلصقن على صدرها ونهديها الدراهم المسماة بالنقطة.
وأما الزوج فيدعوه بعض أصحابه إلى داره وقد أعدّ له حماما، وهو عبارة عن قالبين من الآجر يوقد عليهما طول النهار، ثم يجعلان فى طشت أو نحوه ويجعل على الطشت لوح من خشب، ويجرد الزوج من ثيابه ويجلس فوق ذلك ويغطى بشئ كثيف، ثم يصب الماء على القالبين فيخرج بخارهما عليه حتى يعرق عرقا كثيرا يحلل أدرانه ويفعل أكثر مما يفعله الحمام العمومى المعروف، ثم يرفع عنه الغطاء ويغسل بالماء المسخن والصابون وهو عريان مكشوف العورة وحوله الرجال والنساء، ويعدّون استتاره حينئذ عيبا، ويكون غسل الزوجة أيضا بهذه المثابة غير أنها لا يحضرها الرجال.
ثم يتسابق الغلمان والشبان فى الاغتسال عقبه، لاعتقادهم أن من فعل ذلك أوّلا يتزوج أوّلا، وبعد ليلة البناء يشرع أهل البلد فى دعائه إلى منازلهم، فيأخذه أهل كل حارة يوما ومعه أحبته فيهيئ لهم أهل الحارة موائد واسعة، وقد يفعل ذلك واحد بانفراده، وفى آخر النهار يجتمع الناس وينصبون حانة فيها الدف والمزمار والرقص والزغاريد ويرمون على الطبال نقطة، ثم يمشى الزوج أمامهم وهم يصفقون خلفه ويغنون بقولهم: روّح يا زين العرسان، حجة وتروّح فرحان، روّح عقبال البكرى، روّح عقبال الغلمان، حتى يصل إلى داره وهكذا كل ليلة حتى يطوف حارات البلد.
وعادتهم فى المآتم أنه إذا عقر للميت فلا يهيأ لأهله طعام فى أول ليلة، وإن لم يعقر له هيأ أهل البلد لهم الطعام وأرسلوه إليهم، وإن كان الميت من الأغنياء فإنه يعقر له قبل دفنه، وبعد دفنه يرجع من شيعه إلى خيمة داره ويصطفون صفين جلوسا فيؤتى لهم برغفان كبيرة ويوضع أمام كل رجل رغيف عليه قطعة لحم من العقيرة ويقول ولىّ الميت: باسم الله فلا يأكل أحد ويعدّ الأكل حينئذ عيبا، ويعرض عليهم القهوة فلا يشربونها، ويكرر عرضها إلى آخر النهار من أول يوم، ثم لا يؤتى بالقهوة إلى آخر الأيام بخلاف الأكل فيأكلون فى غير أول يوم ولا يعد عيبا
ثم إن غالب أكل تلك الجهة الذرة الشامية وطبيخ البيسارة والخبيزة والكشك والعدس، ويلبس نساؤهم ثياب القطن السرساوية ويتحلين بأطواق الفضة والحلى المعتاد.
أبو المشط
قرية من مديرية المنوفية بقسم منوف واقعة بين ترعة النعناعية وبحرى الفرعونية فى الشمال الغربى لمدينة منوف، وبها ثلاثة مساجد ومنزل ضيافة لعمدتها أحمد أغا الجنزورى، وله بها أيضا بستان ذو فواكه ووابور على ترعة النعناعية، وبها أيضا معمل دجاج وأبراج حمام، وفى بحريها بالقرب من ترعة النعناعية قنطرة بثلاث عيون تعرف بقنطرة الجبن، ورى أطبانها من الترعة المذكورة وبها سواق/معينة لسقى المزروعات الصيفية، وتكسب أهلها من الزرع وغيره.
ترجمة الزين المنوفى
وإلى هذه القرية ينسب كما فى الضوء اللامع للسّخاوى: خالد بن أيوب بن خالد الزين المنوفى ثم القاهرى الأزهرى الشافعى، ولد بعد القرن بيسير فى أبى المشط من جزيرة بنى نصر الداخلة فى أعمال المنوفية، وانتقل منها إلى منوف فقرأ القرآن والعمدة.
ثم قدم القاهرة فقطن بالجامع الأزهر وحفظ فيه المنهاج الفرعى والأصلى وألفية النحو واشتغل بالفقه على الشمس بن النصار المقدسى، وكذا أخذ عن الشمس البرماوى وغيره ولازم القاياتى حتى كان جل انتفاعه به، وقرأ فى المنطق والمعانى على الشمّنى وغيره وتصدى لنفع الطلبة، فأخذ عنه جماعة وحج، وولى مشيخة سعيد السّعداء بعد ابن حسان، وكان خيّرا متواضعا كثير التلاوة والعبادة ملازما للصمت مع الفضل والمشاركة فى كل فن.
مات فى ثانى شوّال سنة سبعين وثمانمائة ودفن بتربة طشتمر حمص أخضر. رحمه الله تعالى وإيانا انتهى.
أبو مناع
قريتان من قسم قنا متقابلتان كلتاهما تسمى بهذا الاسم والقبلية منهما تسمى الحجاريد أيضا.
وهما واقعتان فى حوض فاو بفاء فى أوّله قريبا من الجبل الشرقى، وبين القريتين نحو ثلث ساعة والنيل بعيد عنهما بنحو ساعة ونصف.
وفى قبليهما قرية فاو، وفى غربيهما قرية القصر والصياد وأغلب أبنيتهما باللبن، وأهلهما من عرب أولاد يحيى.
ويقال: إنهم أولاد رجل واحد، وعمدهما من عائلة أحمد بيك أبى مناع من أشهر عرب الصعيد، وكانوا سابقا ملتزمين ببلاد قنا وكلهم ذوو كرم وشجاعة وفروسية.
ولهم آداب وعوائد حسنة.
منها: أن صغيرهم يوقر كبيرهم فلا يجلس معه ولا يشرب الدخان بحضرته ويقوم إجلالا له، ولو كان الصغير ذا ثروة والكبير فقيرا.
ويحرصون كل الحرص على صيانة النساء فلا يخرجن ولا يتبرجن ويتولى الرجل منهم قضاء المصالح الخارجية مثل الاستقاء والتسوق إما بنفسه أو خادمه، فإذا جاء السّقاء إلى المنزل أخذ منه الماء خادم صبى أو نحوه، وإذا أرادت المرأة زيارة أهلها خرجت ليلا ومعها زوجها وتعود ليلا.
وإذا بلغ الأطفال الحلم فلا يدخلون منازل آبائهم ولو على محارمهم. وقد ترقى منهم جماعة فى درجات الحكومة، فمنهم أحمد بيك محمد أخذ رتبة أمير الآى سنة 1271 هـ، وكان من أعضاء مجلس الأحكام وتوفى سنة 1279 هـ وخلف ثمانية أولاد ذكور، ثم ترقى أكبر أولاده عمر بيك فجعل مدير جرجا ثم أسيوط ثم توفى سنة 1290 هـ، ثم ابنه الآخر على أحمد إلى رتبة قائم مقام وجعل وكيل مديرية قنا وتوفى فى رتبته سنة 1289 هـ. ثم ابنه الثالث محمد أفندى فجعل وكيل مديرية قنا ثم وكيل مديرية إسنا.
وقد نسج على منوال أبيه وأخويه فى الإنصاف والكرم. وهذا غير من وظّف منهم ومن أقاربهم ناظرا أو حاكم خط.
وفيها نخيل كثير ولهم قصور ومناظر ومضايف مشيدة وحدائق وسواق، ولهم كرم زائد، ويقال: إن الرغيف عندهم يخرج من ربع ويبة قمحا.
وفى هاتين القريتين وما جاورهما يوجد جياد الخيل الكحائل ككثير من بلاد مصر، وذلك أمر قديم فى هذه الديار كما ذكر ذلك الكندى وغيره.
قال الكندى: وبمصر نتاج الخيل والبغال والحمير يفوق نتاج سائر البلاد، وليس فى الدنيا موضع فرس يشبه العتق إلا فرس مصر، ولا يوجد فى الدنيا فرس يردف إلا فرس مصر؛ بسبب ارتفاع صدره.
وكانت الخلفاء ومن تقدمهم يؤثرون ركوب خيل مصر على غيرها؛ فإنها تجمع فراهة العنق مع اللحم والشحم، وذكر أحمد بن حمدان أن الوليد بن عبد الملك بن مروان أمر أن تجرى الخيل، فكتب إلى كل بلد أن يتخير له خير الخيل بها، فلما اجتمعت عنده عرضت له فمرّت به خيول مصر فرآها رقيقة العصب، ثم تأملها فوجدها لينة
المفاصل والأعطاف فقال: إن هذه خيل ما عندها طائل، فقال له: عمر بن عبد العزيز ليس الخير كله إلا لهذه وعندها فقال: يا أبا حفص ما تترك تعصبك لمصر، فلما أجريت جاءت خيل مصر كلها سابقة ما يخالطها غيرها، ومن خيلها أشقر مروان، قلت: هو الذى يضرب به المثل ويشبه سدير فرس كسرى، ولا يدخل عليه سائسه ويقرب إليه إلا بإذنه، يقرب إليه المخلاه فإن حمحم دخل وإلا وثب عليه، اشتراه مروان بثلاثمائة ألف درهم، ثم صار إلى السفاح بعده وهرم وتحطم.
وكان لكرامته عليهم يحمل فى محفة عاج وينقل من مرج إلى مرج، ومنها الزعفرانى وهو فرس مراد معروف بالجودة وله جنس، وهو فرس لمحصب وله قصة مشهورة فى يوم الرهان، وكان بمصر دور الخيل عليها ضياع موقوفة يبلغ مالها فى كل سنة ثلاثمائة ألف دينار سوى خيل أهل الجهاد والرباط انتهى.
أبيار
بفتح الهمزة وسكون الموحدة فتحتية مفتوحة فألف فراء مهملة كما يؤخذ من القاموس، بلدة قديمة من مديرية الغربية بقسم محلة منوف، واقعة على بحر سيف شرقى كفر الزيات بنحو ساعة، أبنيتها من الآجر واللبن وفيها غرف كثيرة وقصور مشيدة منها أربعة للأمير أحمد بيك الشريف مفتش سخا ومسير وفيها/مساجد بمنارات ومنابر تقام فيها الجمعة والجماعة.
منها جامع الشيخ خليفة قديم، وقد جدده أحمد بيك المذكور سنة خمس وسبعين ومائتين وألف كما جدد زواية فى سنة خمس وثمانين، ومنها جامع الشيخ بنهاج، وجامع الشيخ قصود قديمان جددهما محمد أفندى الشريف سنة تسعين، وفيها معمل دجاج وأنوال ومصابغ نيلة وسوق دائم بحوانيت وسوق عمومى كل يوم خميس، وساقيتان وجنتان «ذواتا أفنان» ونخيل، وبقربها على نحو سبعمائة متر تل قديم مساحته نحو خمسة أفدنة، ويخرج منها طريقان أحدهما إلى طندتا على ثلاث ساعات يمر بشبرى النملة وكفر الجربجى، والآخر إلى كفر الزيات يمر بناحية دلجمون، وفيها عائلة مشهورة بالعلم والشرف من عدة أجيال.
قال فى الضوء اللامع للسخاوى: إن الشيخ محمد بن على بن أحمد بن عبد الواحد بن عبد المغيث الأبيارى ثم القاهرى الشافعى، ولد بهذه البلدة سنة سبع وسبعين وسبعمائة.
وكان يعرف بابن المغيربى بالتصغير نسبة لجده؛ فإنه كان مغربيا فنشأ بأبيار وحفظ القرآن وبعض المنهاج الفرعى، ثم قدم القاهرة فأكمله وألفية النحو والملحة والشذرة الذهبية والمقصورة الدريدية، وبحث بأبيار ألفية ابن معطى على التاج القروى، وبحث بالقاهرة المنهاج على الإبتاسى، ولازم البلقينى فى بحثه بل بحث العضد والتلخيص على قنبر، وناب عن الصدر المناوى بالقاهرة وفى أبيار وعملها عن البلقينى، ثم أعرض عن ذلك مع حلفه بالطلاق على عدم قبوله.
وكذا عرض عليه ضبط الشّون السلطانية فأبى تعففا مع كثرة تحصيل هذه الجهة، وتكسب قبل ذلك بالشهادة، وباشر الشهادة بالإسطبل.
ولما تملك الظاهر جقمق اختص به فصار من ذوى الوجاهات، وكذا اختص به ولده الناصرى مع مزيد رغبته فى التقلل من التردد إليهما، وحج مرارا وجاور، وكان خيرا دينا ساكتا منعزلا عن أكثر الناس حسن المحاضرة، مات وقد أسن ليلة الأربعاء عاشر المحرم سنة تسع وستين وثمانمائة ودفن بحوش جوشن انتهى.
ترجمة الأستاذ الشيخ عبد الهادى نجا الأبيارى
ومن علمائها الحبر الهمام وفخر العلماء الأعلام، الإمام الأريب، واللوزعى الأديب، الشاعر النائر الحافظ الماهر العلامة الشيخ عبد الهادى نجا ابن العلامة الشيخ رضوان الأبيارى الشافعى الأزهرى، محط رحال الأدب وقاموس لسان العرب.
ولد مدّ الله فى أجله سنة ست وثلاثين ومائتين وألف كما يؤخذ من عبارته الآتية، وحفظ القرآن وجاور بالأزهر وتخرج على مشايخ عصره منهم شيخ الإسلام الشيخ إبراهيم البيجورى، والشيخ محمد الدمنهورى، والشيخ أحمد المرصفى والشيخ الشيبينى، والشيخ مصطفى المبلط، والشيخ محمد التاودى، والشيخ فتح الله الخلوتى، والشيخ الدمياطى والجزائرلى والشيخ محمد عليش شيخ المالكية، والشيخ إبراهيم السقا.
ومن شبيبته إلى شيبه لم يشغله عن التدريس والتأليف شاغل مع كثرة إقامته ببلده، ولم يتول شيئا من الوظائف إلا تعليم أنجال الخديو إسماعيل باشا، وله من المؤلفات ما ينيف عن أربعين كتابا.
منها كتاب: نفحة الأكمام فى مثلث الكلام، وطرفة الربيع فى أنواع البديع، والحديقة فى البيان ولها شرحان، والقصر المبنى على حواشى المغنى، مجلدان، ونيل الأمانى شرح مقدمة القسطلانى، ورشف الرّضاب فى المصطلح، وشرحه كشف النقاب، وزهر الروابى شرح وضعية الإنبابى، والمورد الهنى وشرحه سرور الغنى، والفواكه الجنوية فى الفوائد النجوية، وصحيح المعانى شرح منظومة البيبانى فى
المصطلح، وسعود القران فى نظم مشترك القرآن، والثغر الباسم فى مختصر حاشية البيجورى على ابن قاسم، وزكاة الصيام فى إرشاد العوام، وفاكهة الإخوان فى مجالس رمضان، والكواكب الدرية فى الضوابط العلمية، والبهجة التوفيقية فى اللغة والأدب، وزهرة الحمد لة فى الكلام على البسملة، وحاشية حصن الحصين فى علم الحديث، وسعود المطالع شرح سعود المطالع جزآن فى واحد وأربعين فنّا فى اسم إسماعيل، وحجة المتكلم على متن مختصر النووى لصحيح مسلم، نحو خمسين كراسة، والنجم الثاقب فى المحاكمة بين برجيس والجوائب، ودورق الأنداد فى جمع أسماء الأضداد، وشرحه رونق الأسياد نحو أربعين كراسة.
قال فى ذلك الشرح عند قوله قال ابن رضوان الأبيارى: رضوان اسم أبى وأستاذى السيد رضوان بن محمد كان رحمه الله علم الكمال وروض الفضل والأفضال، ذا ذهن لا يذيل نواره، ولا تكسف أقماره واستحضار لا يفلت قنيصه، ولا يخلق قميصه، ولا تقصر معارفه، ولا تحصر مصارفه، مع تقى تتضوّع أردانه، وورع لا تضعضع أركانه، ونزاهة لا ترخص لها قيمة، ولا تلين لها عزيمة، وجدّ فى العبادة كلما قيل خلق ثوبه جدّ، وحد من الزهد لا يبلغ حدّه فيه من معاصريه أحد، لا تأخذه فى الله لومة لائم، وقلما رأيته بالنهار إلا وهو صائم، ولا بالليل إلا وهو قائم، وكان من دأبه أن لا يذوق لإنسان طعاما قط، ولا يغفل عن ذكر الله إلا وقت الدروس أو ضرورة الأكل/فقط، حتى إنه كان يسمع منه ذكر الجلالة حال النوم، وشوهد له من الكرامات حيّا وميتا ما لا يعرف لأحد اليوم، تخرج بالأزهر على العلامة الجوهرى صاحب النهج، والأستاذ الشيخ الشرقاوى، والقطب الدردير والهمام الأمير الكبير وغيرهم، وأخذ القراءات عن الشيخ العبيدى شيخ الشيخ أحمد سلمونه شيخ القرّاء فى عصره.
وأخبرنى العلامة المرحوم شيخنا الشيخ القويسنى أنه صادف ابتداء مجاورته بالأزهر ابتداء مجاورة الشيخ وأنهما اصطحبا معا من حينئذ مطالعة وحضورا من سنة إحدى وسبعين ومائة وألف إلى مائتين وتسعة، ولذا كان رحمه الله يلاحظنى كثيرا لذلك، ويقول: أنت ابن أخى، وحضرت أنا على الشيخ الوالد سحّت عليه سحائب الرحمة فى الحديث الجامع الصغير، والبخارى، والمواهب، وفى التفسير الجلالين، وفى الفقه إلى المنهج، وفى النحو إلى الأشمونى، وفى الفرائض والتوحيد وغيرهما جملة.
ثم انتقل إلى رحمة الله تعالى ليلة الجمعة فى رجب سنة إحدى وخمسين ومائتين وألف، فجئت إلى الأزهر وجاورت به إلى سنة خمس وخمسين، وكان سنى عند وفاته خمس عشرة سنة، ودفن رحمه الله تعالى بمسجد الشيخ النجم بقبة ولده التى تحت المنارة، والأبيارى نسبة إلى أبيار بلد أبى وأجدادى عدد أبنائها أربعة آلاف نفس وكسور.
وكانت قبل الآن من المدن العظيمة العامرة بالأعيان والأكابر والأفاضل، وإلى أن عمل جسر الحديد كانت محل تخت القضاء يتبعها نحو مائة وخمسين بلدا ومركز حكومة قسمها، وسوق عكاظ جميع ما حولها منوفية وغربية وبحيرة، وبها من المساجد التى تقام بها الجمعة سبعة، وبها مركز نقابة أشراف المنوفية، كما فى بعض حجج عقاراتنا القديمة إذ يعنون فيها عن أحد أجدادنا السيد عامر نجا بنقيب أشراف المنوفية.
نبغ فيها نبغة من الأخيار، وبزغ منها جملة من الشموس والأقمار، منهم كما فى تاج العروس: أبو الحسين على بن إسماعيل الأبيارى، روى عنه أبو طاهر السّلفى، ومنهم أبو الحسن على بن إسماعيل بن عطية شارح البرهان فى الأصول، كان ابن الحاجب من
تلامذته والشيخ محمد القبانى ترجمه الشهاب فى الريحانة وأنشد له:
وهيفاء تسقى الراح قالت لصبها .. الخ قال وله:
رونق البدر فى صفا الماء لما
…
جعلته أيدى الصّبا كالأسارى
شبه جام من لؤلؤ يتلألأ
…
فوق صرح ممرّد من قوارى
وله:
لقد حلّ فى مصر بلاء من البرش
…
به غدت الأرواح والمال فى أرش
وكان بها حرث ونسل فمزقوا
…
وأهلك ذاك الحرث والنسل بالبرش
وفيه تورية بما يسميه الفلاحون برشا وهو حرث الأرض أول مرة.
ومنهم العلامة الشيخ فائد بن مبارك شارح الجامع الصغير والكنز، وعم والدى المرحوم السيد على نجا، له شرح مقدمة التثبت للسيوطى رأيته بخطه وعليه تقريظ للشيخ الدردير، والشيخ الكفراوى وغيرهما، ومختصر متن البخارى مع شرحه للقسطلانى.
ولم يزل بها ولله الحمد الآن من العلماء والصلحاء والأعيان، وغالب أهلها حفظة للقرآن، إذ كل من درج من أطفالها فإلى المكتب، إلا أن ذلك تضعضع بسبب تسلط مشايخها المتلقبين بالأشراف على أولاد المكاتب أيتاما أو غير أيتام، بعد أن كانوا فى أمن
منهم إلى أن توطنا مصر ولذا قال من قال:
غدت أبيار شر مدينة من
…
أكابرها الذين طغوا شرورا
فما للزور فيها قط زور
…
وإن يك زورهم زورا كبيرا
الزور الأول العاقل الرئيس، والثانى لذة الطعام وطيبه، والثالث الباطل وقال:
أرى كل فضل بين أبناء أبيار
…
كمثل سنمار بدا بسنمار
وليس يجازى الفضل من شرفائها
…
لعمرك إلا من جزاء سنمار
السنمار بكسر السين المهملة والنون وتشديد الميم فى الأول اللص، وفى الثانى القمر، وفى الثالث رجل بنى للنعمان قصرا فى عشرين سنة لم يعمل مثله وجعل فيه حجرا إن أخرج منه انقض جميع القصر معه، فلما تم بناه وأراه إياه ألقاه من أعلاه فضرب به المثل لمن يجازى على أحسن الأعمال بأسوء الجزاء.
ولبعضهم فيهم قصائد يستعذب السمع مبانيها لكنه يستغيث من عذاب معانيها، ومقالات هى وإن كانت صحيحة لا شك فيها، إلا أنه لعدم جراءة أحد على أمثالها يكذب خبر ناقليها، ولله الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين انتهى.
ترجمة الشيخ على بن إسماعيل
وقد ترجم فى حسن المحاضرة على بن إسماعيل شيخ ابن الحاجب فقال: هو أبو الحسن على بن إسماعيل بن على أحد العلماء الأعلام وأئمة الإسلام، برع فى علوم شتى الفقه والأصول والكلام، وكان بعض الأئمة يفضله على الإمام فخر الدين فى الأصول، تفقه بأبى الطاهر بن عوف وألف ودرس/بالإسكندرية وانتفع به الناس وتخرج به ابن الحاجب، ولد سنة 557 هـ، ومات سنة 618 هـ، رحمه الله تعالى انتهى-وفى ذلك نوع مخالفة لما مر عن تاج العروس.
أتريب
قال فى القاموس أتريب كأزميل كورة بمصر، وقال فى موضوع آخر الإزميل بالكسر شفرة الحذاء وحديدة فى طرف رمح لصيد البقر والمطرقة، ومن الرجال الشديد والضعيف ضدا انتهى.
وفى كتب الفرنج أن أتريب مدينتان بمصر إحداهما مدينة كانت قديما من المدائن العظيمة على الشاطئ الشرقى للنيل بقرب مدينة بنها من مديرية القليوبية.
ويقال لها أيضا: أتريبس طولها اثنا عشر ميلا وعرضها كذلك، وكان لها اثنا عشر بابا، وكان بها خليج تجرى به مياه النيل تتفرع منه ترع صغيرة يحيط منها الماء بالمساكن، وكانت بساتينها مملوءة بالأشجار المثمرة كما نقل ذلك عن ابن إياس، وبيوتها فى غاية الحسن وكانت قاعدة إقليم يعزى إليها قراه وهى مائة قرية وثمانية، وكان يسمى فى زمن الرومانيين إقليم أو غسطمنيقه الثانى، وكان فيها كرسى أسقفية نصرانية ودار إقامة الحاكم وأطلالها الباقية إلى الآن تعرف بتل أتريب وهى مشهورة.
وقال ابن الكندى: إن كورة أتريب كانت أحد الأقاليم المصرية التى لا نظير لها على وجه الأرض ككورة سمنود، وكورة الفيوم، وكورة أتريب من جملة كور أسفل الأرض، وكان يقال: مدائن السحرة من ديار مصر سبع وهى: أرمنت، وببا، وبوصير، وأنصنا، وصان، وصا، وأتريب، وكان بها دير للعذراء البتول يعرف بدير مارى مريم على شط النيل بقرب بنها، وعيده فى حادى عشر بؤونه.
وذكر الشابسطى أن حمامة بصنا تأتى فى ذلك العيد فتدخل المذبح لا يدرون من أين جاءت ولا يرونها إلى مثل ذلك اليوم، وقد تلاشى أمر هذا الدير، حتى لم يبق به إلا ثلاثة من الرهبان، لكنهم يجتمعون فى عيده وكان يجتمع به عالم بكثرة من جميع الأقاليم، وقد عزم مروان الجعدى المنبوذ بالحمار آخر خلفاء بنى أمية على إحراق أتريب حين وصل إلى جهتها، فنجاها الله من تلك المصيبة بمهربه منها إلى وسط مصر.
وملخص ما نقله كترمير عن مؤرخى بطارقة الإسكندرية أن الخليفة مروان لما بلغه وصول الفرنسيس إلى ناحية الفرما وجه جملة من العساكر فى المراكب إلى الجهات البحرية وأمرهم بحرق كل ما يجدونه من السّفن، ووجه مثلهم من البر وأمرهم بحرق المدن والقرى والمزارع والكروم ففعلوا ما أمروا به، حتى أتوا إلى مدينة أتريب فهموا بإحراقها.
وكان بها خمسة مجار للماء غير الخلجان، وكان قد رأى أن تخريب البلاد وقلة المراكب التى يعبرون بها البحر يمنعهم عن دخول أرض مصر، لكنه أخطأ فيما دبره، فإنه بلغه أن أعداءه قد اجتازوا النيل خوضا من أماكن متعددة، ووصلوا إلى أماكن كثيرة فخاف وطلب العساكر، فقاموا من غير أن يحرقوا المدينة.
وذكر هذا المؤلف أيضا أن العرب دخلوا مدينة أتريب وهدموا كنيسة العذراء البتول، وذكر المقريزى فى رسالته على قبائل العرب: أن أتريب من ضمن المدن التى استوطنتها العرب، وطول الباقى من الآثار هذه المدينة ستمائة تؤازة، وعرضها أربعمائة تؤازة، والتؤازة متران.
وكان فيها شارع عظيم يخترقها طولا ومحل منتزه باهر، وكان سكان ما حولها كأهل بنها يحفرون فى تلالها فإذا وجدوا رخاما أو أحجارا أحرقوها وعملوها جيرا، فأتلفوا بذلك أشياء عتيقة كثيرة.
وفيها آثار حفر مقببة تشبه قبور المسلمين، ولعلها كانت قبور أمواتها، وكان شارعها الأكبر عموديا على خط النيل، وكان فيها شارع أصغر منه يخترقها جنوبا وشمالا، ثم إن فرع النيل المعروف قديما بفرع تانيتقه بقرب هذه المدينة، وهو بحر صان المعروفة قديما بتانيس، ويعرف ذلك البحر اليوم ببحر مويس.
وأتريب الثانية مدينة كانت ببلاد الصعيد، وكانت تسمى فى كتب الأقباط أتريبى أو أتريبة، وهى بإقليم أخميم
(1)
تجاه دير مارى شنودة المعروف بالدير الأعظم الأبيض الذى بجانب الدير الأحمر.
وفى كتاب لطرون الفرنساوى الذى ألفه فى النقوش الرومية واللاّتينية المرقومة على الجدران المصرية ما ترجمته: إنه كان فى الأقاليم القبلية مدينة بهذا الإسم، وكانت واقعة فى الجنوب الغربى من مدينة بانوبوليس (إخميم).
على الشاطئ الثانى من النيل وكانت فى جنوب دير مارى شنودة على قرب منه وتسميها الأروام فى كتبهم مدينة كروكوديلوبونيس-يعنى مدينة التمساح-وهى مدينة المنشأة.
وفى تحقيقات جامبليون
(2)
أن أتريب كانت مقدسة وسمى على اسمها مدينتان بمصر إحداهما سماها الروم كروكوديلويونيس بقرب إخميم وجبلها كان يعرف بجبل أتريبس؛ لأن أتريب كانت تعرف أولا بتريفبس، ثم عرفت بتريبس، ثم عرفت بأتريبس بأتريب والثانية هى التى فى الوجه البحرى انتهى.
(1)
أخميم: هكذا وردت فى القاموس الجغرافى بفتح الهمزة، انظر: ق 2 ج 4، ص 89.
بينما وردت فى معظم صفحات هذا الجزء من الخطط بكسر الهمزة، وتعد هذه من المرات النادرة التى يوردها على باشا مبارك بفتح الهمزة.
(2)
جامبليون: يقصد شامبليون.
وقد وجد والكنسون الإنكليزى فى سياحته فى خراب هذه المدينة ثم آثار معبد قديم طوله أحد وستون مترا وعرضه ثلاثة وخمسون، وكان على اسم المقدسة أتريفيس أوتريفيس، وقد/، عثر فيه السياح المذكور على كتابة رومية علم من ترجمتها:
إن هذا المعبد ابتدأت عمارته فى زمن آخر البطالسة ولم يتم إلا فى زمن القيصر تبير
(1)
، وقت أن كان الحاكم على مصر من طرف الرومانيين قايوس جالريوس فى السنة التاسعة من قيصرية تبير المذكور، قال: والذى ذكر اسم هذا الحاكم من ضمن من حكم مصر من الرومانيين هو بلين من بين كافة المؤلفين.
ومن تحقيقات لطرون فى كتابه ظهر أن الذين حكموا مصر فى زمن القيصر تبير ستة خلافا لمن زعم أنهم خمسة أولهم مرقوس أمليوس رقطوس، حكم بعض أشهر من السنة الرابعة عشرة من الميلاد.
والثانى سيجوس استرابون حكم كذلك بعض أشهر من السنة المذكورة.
والثالث واترازيوس بليون حكم سبع سنين.
والرابع قايوس جالريوس حكم سنة واحدة ثم عزل، وتولى بعده واترازيوس بليون ثانيا وأقام تسع سنين فمدته أولا وآخر ست عشرة سنة.
والخامس تبيريوس جليوس سويروس أقام سنة واحدة.
والسادس وهو آخرهم أوايليوس أفلاقوس أقام خمس سنين، فعلى هذا يكون مدة الجميع أربعا وعشرين سنة، وقد حقق كترمير أن مارى شنودة المذكور مات سنة 395 من الميلاد، وكان عمره إذ ذاك مائة وثمان عشرة سنة، وكان له شهرة عند
(1)
يقصد: تيبريوس) Tiberius (مع مراعاة ذلك عند تكرار الاسم. انظر: جيبون: اضمحلال الإمبراطورية الرومانية وسقوطها، ج 1، ص 59؛ عبد اللطيف أحمد على: مصر والإمبراطورية الرومانية فى ضوء الأوراق البردية، ص 70، القاهرة 1965.
الأقباط حتى أنهم اعتقدوا نبوّته وجعلوا له مولدا يشهر كل سنة فى السابع من أبيب، وكان تحت رياسته ثلاثة آلاف راهب من النصارى.
وذكر أبو البركات أنه ترك كتبا كثيرة من تآليفه كانت جميعها فى ديورة الصعيد- وقواه المقريزى-وبنيت على اسمه كنائس وديورة بكثرة فى الديار المصرية.
منها: الكنيسة التى كانت له فى الفسطاط المعروفة بكنيسة السّباع وكانت له أخرى فى الجيزة بقرب دير الشمع، وأخرى فى أنصنا، وواحدة فى الأشمونين ودير بقفط، وكنيسة بأرض فاو، وأخرى قريبا من دلجة وغير ذلك انتهى.
والآن لم يبق من أطلال أتريب البحرية إلا القليل ونقلت الأهالى ما يصلح لتسبيخ الأرض من تلولها ومساحة محلها قريبة من ثلاثمائة فدان، وفى نهايتها البحرية من جهة النيل بنى المرحوم عباس باشا فى هذا القرن الثالث عشر قصرا وزرع الأرض التى بينه وبين بحر مويس أشجارا، ثم آلت من بعده بالشراء الشّرعى إلى ورثة المرحوم سعيد باشا ومدرسة بنها فى جزء منها.
وفى الجهة القبلية من أطلالها محطة السكة الحديد المتفرع عنها خط الزقازيق والسويس والمنصورة والخط الطوالى بين مصر والإسكندرية، وهى من أعظم المحطات ويجتمع فيها كثير من الرّكاب والبضائع وكانت قبل جلوس الخديو إسماعيل على التخت عبارة عن مبان قليلة مجردة عن التنظيم.
أتليدم
قرية بالصعيد من مديرية أسيوط بقسم ملوى على الشط الغربى للترعة الإبراهيمية وفى جنوب ناحية سفاى بنحو ألفى متر، وفى غربى ناحية ساقية موسى بأقل من ذلك، بناؤها باللبن وفيها ثلاثة مساجد ومعملا دجاج وأربعة أضرحة ذات قباب لبعض الصالحين، وبها سواق وبساتين ذات فواكه ونخيل كثير، وسوقها كل يوم ثلاثاء يجتمع فيه من البرّين ويباع فيه المواشى وخلافها، وفيها أقباط بكثرة، ولهم فيها كنيسة وجبانة مسلميها فى شرقى النيل عند الشيخ تمى، ويزرع فيها صنف الملوخية بكثرة وفى رسالة البيان والإعراب للمقريزى إنها من منازل الأشراف التى كانوا قد نزلوا بها كغيرها من بلاد الأشمونين.
أثر النبى
هذه القرية من مديرية الجيزة على الشاطئ الشرقى للنيل ملاصقة لدير الطين من جهة الشمال بجوار مصر القديمة، بها حجر فيه هيئة أثر قدم يزعم الناس أنه أثر قدم النبى صلى الله عليه وسلم.
وهو فى داخل جامع بناه الملك الظاهر مدة ولايته وبنى به قبة على ذلك الأثر، وهو مشهور يزار إلى الآن وهذه القبة مزينة بالقيشانى، وبها شبابيك مصنوعة بالجبس والزجاج الملون، وأرضها مفروشة بالرخام وبها قبلة صغيرة يكتنفها عمودان من الرخام، ووجه محل القدم من الرخام المنقوش بعمودين صغيرين من الرخام، وبأعلاه لوح رخام فيه كتابة تركية وسقف الجامع على أربعة أعمدة وقبلته من الحجر، وله منارة قصيرة وميضأة وخلا، وتملأ من البحر ويتبعه سبيل متخرب به لوح رخام منقوش فيه بالقلم التركى تاريخ سنة سبع وسبعين وألف، وله مرتب بالروزنامجة ألفا قرش. كل سنة تقام منها شعائره بنظر الشيخ على محسن.
وفى نزهة الناظرين أن إبراهيم باشا الوزير المتولى على مصر سنة إحدى وسبعين وألف، جددّ هذا الجامع ووسعه، وبنى تحته رصيفا لدفع ماء النيل عن بنائه، ورتب له مائة عثمانى وأرصد له طينا، وعين به قراء ووظائف وحراسا قاطنين به، وشرط النظر لمن يلى أغاوية الينكجربة بمصر المحروسة انتهى.
وفى تاريخ الجبرتى من حوادث سنة أربع وعشرين ومائتين وألف هـ، أن فى شهر رجب تقيد الخواجة محمود حسن بزرجان باشا بعمارة المسجد الذى يعرف بالآثار النبوية، فعمره على وضعه القديم، وقد كان آل إلى الخراب انتهى.
وأطيانها قليلة/ويزرع فيها الذرة والقمح والشعير وقليل من القرطم، وفيها مضيفة وثلاث أرحية تديرها الدواب، وبجوارها من بحرى موردة عند جميز العبيد، ترسو فيها المراكب الواردة من جهة قبلى، وبها قصر ديوان أفندى بداخله جنينة وهو الآن فى ملك سعد أبى رابية.
وفى الجبرتى أن العزيز محمد على بنى بها قصرا فى سنة اثنتين وثلاثين ومائتين وألف هـ، وسببه أنه بات بها ليلتين فى قصر كان بها قديم فأعجبه هواؤها فأمر ببناء القصر وفرشه وزخرفه، وجعل يتردد إليه ويبيت به فى بعض الأحيان كما كان يفعل ذلك فى قصر الجيزة وشبرى والقلعة والأزبكية وغيرها، والظاهر أنه هو هذا القصر المنسوب إلى ديوان أفندى، وبجوارها من بحرى على شاطئ البحر مدابغ كان محلها ورشة رخام، وفى مقابلتها من الجهة الشرقية دير يعرف بدير الملاك، فيه مدرسة لتعليم أطفال النصارى، وبه نخيل وأشجار وبئر تعتقد النساء أن من وقفت عن الحمل واغتسلت فيها فإنها تحمل، واكتساب أهاليها من صناعة نحت الأحجار.
أجا
قرية من مديرية الدقهلية بمركز منية سمنود غربى ترعة المنصورية على بعد ثلاثمائة متر، وفى الجنوب الغربى لناحية نوسا الغيط بنحو خمسة آلاف متر، وفى الجنوب الشرقى لمنية سمنود بنحو ثلاثة آلاف وثلاثمائة متر، وبها أربعة جوامع أحدها بمنارة وأضرحة لجماعة يعرفون بأولاد عنان، وبها أنوال لنسج الصوف والقطن الخام وبدائرها أشجار، وزمامها نحو ألف وخمسمائة فدان، وتكسب أهلها من زراعة القطن وباقى الحبوب
أجهور
بضم الهمزة وسكون الجيم وضم الهاء وسكون الواو آخره راء قريتان بمصر إحداهما: أجهور الفرعة من مديرية القليوبية بقسم قليوب فى الشمال الغربى لناحية البرادعة بنحو أربعة آلاف وثلاثمائة متر، وفى جنوب أجهور الورد بنحو ثلاثة آلاف متر، وبها مسجد وتكسب أهلها من الفلاحة وغيرها.
والثانية أجهور الورد من مديرية القليوبية أيضا، كانت رأس قسم واقعة على ترعة قرانفيل التى فمها من ترعة الباسوسية بقرب قرية زفيئة، ومصبها فى مصرف أبى الأخضر غربى شبين القناطر، وأغلب بنائها بالطوب الأحمر والمونة، وبها حدائق كثيرة يزرع فيها الورد البلدى ويستخرج ماؤه.
وبها جامع كبير بمئذنة وسوقها سوق ناحية قرنفيل وأغلب زراعتها ككثير من بلاد القليوبية على السّواقى المعينة بسبب علوّ أرضها، وتزرع الساقية من الزرع الصيفى ستة أفدنة إذا كان فيها ثلاث من البقر، وهى من القرى الإسلامية ذات القدر والشرف بظهور الأفاضل منها قديما وحديثا وأجلهم سيدى على الأجهورى المالكى الذى ترجمه صاحب خلاصة الأثر فقال:
ترجمة سيدى على الأجهورى المالكى
هو علىّ بن زين العابدين بن محمد بن أبى محمد زين الدين عبد الرحمن بن على أبو الإرشاد نور الدين الأجهورى شيخ المالكية فى عصره بالقاهرة، وإمام الأئمة وعلم الإرشاد وعلامة العصر وبركة الزمان.
كان محدثا فقيها رحلة كبير الشأن وقد جمع الله تعالى له بين العلم والعمل، وطار صيته فى الخانقين، وعم نفعه وعظمت بركته، وقد جد فبرع فى الفنون فقها وعربية وأصلين وبلاغة ومنطقا ودرس وأفتى وصنف وألف، وعمر كثيرا ورحل الناس إليه من الآفاق للأخذ عنه فألحق الأحفاد بالأجداد، وأخذ عن مشايخ كثيرين، سرد منهم الشهاب العجمى فى مشيخته نحو ثلاثين رجلا، وأعلاهم قدرا الشمس محمد الرملى، والبدر حسن الكرخى، والسراج عمر بن ألجاى، والحافظ نور الدين على بن أبى بكر القرافى الشافعى، وإمام المالكية فى عصره الشيخ محمد بن سلامة البنوفرى، وقاضى المالكية البدر بن يحيى القرافى، وأملى الكثير من الحديث والتفسير والفقه وأخذ عنه الشمس البابلى، والنور الشبراملسى، والشهاب العجمى، وغيرهم ممن لا يحصى كثرة.
وألف التآليف الكثيرة، منها شروحه الثلاثة على مختصر خليل فى فقه المالكية، كبير اثنا عشر مجلدا لم يخرج عن المسودة، ووسط فى خمسة، وصغير فى مجلدين، وحاشية على شرح التتائى للرسالة، وشرح عقيدة الرسالة، وشرح ألفية السيرة للزين العراقى، ومجلد لطيف فى المعراج، ومجلد فى شرح الأحاديث التى اختصرها ابن أبى جمرة من البخارى، وشرح ألفية ابن مالك لم يخرج من المسّودة، وشرح التهذيب للتفتازانى فى المنطق، وحاشية على شرح النخبة للحافظ ابن حجر، ومنسك صغير وجزء فى مسألة الدخان، وكتابة على الشمائل لم تخرج من المسودة، وعقيدة منظومة وشرحها شرحا نفسيا، وشرح على رسالة ابن أبى زيد القيروانى فى الفقه فى مجلدين وغير ذلك.
ورزق فى كتبه الحظ والقبول وأصيب آخرا فى بصره بسبب غريب: وهو أن بعض الطلبة ممن أراد الله به شرا كان يحضر مجلسه، وكان فى ظاهر حاله صالحا فاتفق أن تزوج ووقع بينه وبين زوجته مشاجرة فطلقها ثلاثا، ثم أدركه تعب فاستفتى الأجهورى، فأفتاه بأنها لا تحل له إلا بعد زوج آخر، فتوعده بأنه يقتله إن لم يردّها له فلم يكترث بكلامه، فنزل يوما حتى جلس للتدريس على عادته/فجاء وتحت صوفه سيف فاستله وضرب الشيخ على رأسه، فقام عليه أهل الحلقة، ومن حضرهم من أهل الجامع فتناولوه يمينا وشمالا بالنعال والحصر، حتى حالوا بينه وبينه وقد شجه فى رأسه، وما زالوا به حتى قتلوه دوّسا بالأرجل وضربا بالأيدى والنعال والعصى، ورفع الأجهورى إلى داره فأثرت تلك الشّجة فى بصره.
وفوائده وآثاره كثيرة معجبة منها ما نقلته عن معراجه التتمة الرابعة، ورد أن الحور العين يتغنين بما يقوله شعراء الإسلام، كما ذكره بعضهم فقال: أخرج الديلمى عن ابن مسعود مرفوعا أن الشعراء الذين يموتون فى الإسلام بأمرهم الله تعالى أن يقولوا ما تتغنى به
الحور العين لأزواجهن فى الجنة، والذين ماتوا فى الشرك يدعون بالويل والثبور وقد نظم ذلك بعضهم فقال:
الدّيلمى عن ابن مسعود روى
…
فى آية الشعرا حديثا مسندا
من مات فى الإسلام منهم فى غد
…
بالشّعر يأمره الآله فينشدا
ونشيده من كل حوراء إلى
…
زوج لها يلقى على طول المدى
والمشركون دعاؤهم فى نارهم
…
ويل ثبور كل وقت سرمدا
ومن فوائده المأثورة عنه: أن من قرأ عند النوم قوله تعالى {وَ إِمّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ}
(1)
أمن من الاحتلام تلك الليلة.
ومن قرأ فى آخر جمعة من رجب والخطيب على المنبر (أحمد رسول الله محمد رسول الله خمسا وثلاثين مرة لا تنقطع الدراهم من يده تلك السنة)، وأفاد لقضاء الحوائج أن تقول وأنت متوجه إلى حاجتك عشر مرات: اللهم أنت لها، ولكل حاجة فاقضها، بفضل بسم الله الرحمن الرحيم {ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها}
(2)
.
(1)
سورة الأعراف الآيتان 201،200.
(2)
سورة فاطر آية 2.
ولبكاء الأطفال يكتب فى ورقة ويعلق على رأس الصغير «بسم الله الرحمن الرحيم «قل اللهم مالك الملك تؤتى الملك من تشاء-سليمان-وتنزع الملك ممن تشاء-بلقيس- وتعز من تشاء-إدريس-وتذل من تشاء-إبليس-، عيسى ولد ليلة السبت ولا ريح ينفح، ولا كلب ينبح، أرقد أيها الطفل حتى تصبح، أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون ولا تبكون، فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم» .
ومن فوائده (جيم جماجم طهطيل جبال راسيات سندية هندية قدسية)، من قرأها إذا أوى إلى فراشة ثلاث مرات لم تقربه وفراشه حية ولا عقرب.
ومن نظمه لفوائد جليلة الموقع هذه الأبيات فى تقديم بعض الفاكهة على الطعام وتأخيرها عنه ومعية بعضها:
قدّم على الطعام توتا خوخا
…
ومشمشا والتين والبطيخا
وبعده الآجاص كمثرى عنب
…
كذاك تفاح ومثله الرطب
ومعه الخيار والجميز
…
قثا ورمّان كذاك الموز
وبالجملة فإنه جم الفائدة، منشور العائدة، وكانت ولادته فى سنة سبع وستين وتسعمائة هـ بمصر، وتوفى بها ليلة الأحد مستهل جمادى الأولى سنة ست وستين وألف هـ، وصلى عليه صبيحتها بالجامع الأزهر ودفن بتربة سلفه بجوار المشهد المعروف بإخوة سيدنا يوسف عليه السلام.
وكان أخبره بعض الأولياء أنه يعيش مائة سنة فلما مرض وعرف أنه مرض الموت، وكان قد بلغ تسعا وتسعين سنة تعجب وقال: كلام الأولياء لا يتخلف.
قال الشيخ أحمد البشبيشى فلعله اشتبه عليه مولده انتهى. أو يقال: ما قارب الشئ يعطى حكمه انتهى.
ترجمة الشيخ عطية الأجهورى
ومن علمائها الشيخ عطية الأجهورى الذى ترجمه الجبرتى بقوله: هو الإمام الفقيه العالم العلامة الشيخ عطية الأجهورى الشّافعى البرهانى الضرير، قدم مصر وحضر دروس الشيخ العشماوى، والشيخ مصطفى العزيزى وغيرهما، وتفقه وأتقن علم الأصول، وسمع الحديث ومهر فى الآلات، وأنجب ودرس وألف.
فمن مؤلفاته حاشية على الجلالين، وكتاب فى أسباب النزول، وهو مؤلف حسن فى بابه جامع لما تشتت من أبوابه، وحاشية على شرح الزرقانى على البيقونية فى مصطلح الحديث وغير ذلك.
اعترف بفضله علماء عصره، ولما بنى المرحوم عبد الرحمن كتخدا الجامع المعروف الآن بالشيخ مطهر، الذى كان أصله مدرسة للحنفية، بنى للمترجم بيتا بدهليز الجامع سكن فيه بعياله، ولم يزل على ذلك حتى توفى آخر رمضان سنة تسعين ومائة وألف رحمه الله تعالى.
ترجمة الشيخ أحمد الأجهورى
ومنها أيضا علماء أفاضل بالأزهر من أجلهم العلامة الأوحد الشيخ أحمد بن أحمد الأجهورى الضرير، ولد ببلده سنة سبع وثلاثين من القرن الثالث عشر وحفظ، القرآن، ثم جاور بالأزهر حتى حصّل وتصدّر للتدريس، فدرس كبار/الكتب كالسّعد، وجمع الجوامع، والجلالين.
وله بعض تآليف منها كتابه على السمرقندية، وكتابه على السنوسية، وكتابه على الجوهرة، وكان له فى الرزنامجة كل شهر مائتان وخمسة وثلاثون قرشا، توفى رحمه الله تعالى فى شهر صفر سنة ثلاث وتسعين ومائتين وألف.
إخميم
بكسر الهمزة وسكون الخاء المعجمة وكسر الميم الأولى بعدها ياء تحتية وآخره ميم:
بلد كبير من الصعيد الأوسط من أعلاه، وهى من أسيوط على نحو مرحلتين.
وإخميم فى البرّ الشرقى وبها البربا المشهورة، وهى من أعظم آثار الأوائل لكبر صخورها المنحوتة وكثرة التصاوير التى عليها، وذو النون المصرى كان من أخميم انتهى من كتاب تقويم البلدان.
وفى كتب الفرنساوية أنها مدينة مشهورة بالأقاليم القبلية بناها مناقيوس أحد ملوك القبط انتهى وهو بانى مدينة سنترية- (سيوة) -كما قاله المقريزى فى خططه.
وقال أيضا هو والشريف المرتضى: إن إخميم بن مصر ايم خصه من والده قسم من أقسام الجهات القبلية، كان رأسه مدينة إخميم، فجعلها محل إقامته فسميت باسمه انتهى.
وهى من أقصى الأقليم الثانى حيث يكون طول النهار الأطول ثلاث عشرة ساعة ونصفا، ويرتفع القطب الشمالى فيه قدر أربعة وعشرين جزءا وعشر جزء، كانت تعرف قديما باسم شمين أو شومسين وكان يقال لها أيضا: كمين باللغة القبطية، وكان الرومان واليونان يسمونها بانوبوليس أوبانوس، يعنى مدينة المقدّس بان، وهو اسم من أسماء الشمس على ما ذهب إليه استرابون من أن أوزريس كان يسمى سيرابيس، أو ديوسبوس أوبان، ومن المعلوم أن سيرابيس هو أوزريس أو الشمس السفلى يعنى فى المنقلب الشتوى، وقال بولوترك: إن أوزريس وإزيس هما سيرابيس وباكوس عند اليونان يعنى: أن أوزريس هو: سيرابيس، وإزيس هو: باكوس، فكل اسمين منها مسماهما واحد.
وقد قرأ الشهير لطرون كتابة رومية وجدت على أحجار بخرب هذه المدينة فيها: أن المقدس بان هو شميس أو شميم المصرى، الذى تسمت باسمه مدينة إخميم بعد التحريف، وهى التى سماها الروم بانوبوليس من اسم المقدس بان، وفى تحقيقات جام بليون، أن بان صورة من صور آمون الذى يعتبره المصريون أنه المجدد للأشياء على
الدوام، وأن معبد هذه المدينة ابتدئ بناؤه فى زمن بطليموس فيلوميطور، وأن تبيركلود القيّم على معبد المقدس الأكبريان وعلى معبد المقدسة تريفيس، بنى باب معبد يان
(1)
من ماله رجاء لحفظ القيصر تراجان، وكان العامل على مصر يومئذ سوسيوس سلبيوس، فابتدأ أولا بناءه من مال الحكومة، ثم تممه من ماله فى السنة الثانية عشرة من قيصرية تراجان انتهى.
وقد مر فى الكلام على أتريب أن تريفيس هى أتريب سميت بها مدينتان مصريتان وكانت يعنى إخميم مدينة عظيمة على الشاطئ الشرقى من النيل، وفيها بربا: أى هيكل شهير ينبغى أن يعد من جملة المبانى الفاخرة الباقية بمصر من أيام الجاهلية لعظم الأحجار المبنى بها وكثرة التصاوير التى على حيطانه.
وذكر هيرودوط أن جميع أهالى الديار المصرية كانوا ينفرون من العوائد اليونانية ما عدا أهل هذه المدينة، وكان بقربها مدينة أخرى تسمى نيابوليس- (المدينة الجديدة) -التى كان بها معبد بيرسى بن دناى، وهو معبد مربع الشكل يحيط النخيل بجميع جهاته وله دهليز متسع مبنى بالحجر، وفى أعلاه تمثالان جسيمان، وفى داخله تمثال بيرسى.
وكان من اعتقادات أهلها أن بيرسى المذكور كثيرا ما يظهر فى البلد والمعبد، وفى بعض الأحيان يجدون إحدى نعليه وطولها قدمان، وقيل ذراعان، وكان ظهورها علامة على كمال الخصوبة والرخاء فى الديار المصرية جميعها، ويعملون له فى كل سنة مولدا يلعبون فيه الجنباز من ألعاب اليونان، ويتناظرون فى ذلك ويجعلون الرهان بينهم حيوانات وعباءات وجلود.
(1)
الصحيح: بان. انظر: نصحى: تاريخ مصر فى عصر البطالمة، ج 2، ص 209.
قال: وقد سألتهم عن سبب ظهور بيرسى لهم دون باقى أهالى مصر، وعن سبب تخصيصهم هذه الألعاب بعيده دون غيره، فأجابوا بأن بيرسى أصله من مدينتهم هذه، وأنه هو وديانوس ولنسيه الذين سافروا إلى بلاد اليونان. كان مولدهم بمدينة شوميس- (إخميم) -وأن ديانوس من ذريته.
وعلى ما حكاه اليونان أنه لما حضر بيرسى إلى ليبيا من مصر، لأجل أن يقتل الوحش الذى يسمى جرجون، ويستولى على بلاد ليبيا بموعد منهم، تعرف بجميع أهله وأقاربه، وكأنه كان يعلم اسم مدينتهم من والدته، وأنه هو الذى أمرهم بهذه الألعاب فى عيده.
ومن هنا يظهر أنه فى الأزمان الخالية كان بين اليونان والمصريين علائق، وأن أصل اليونان من المصريين وعوائدهم مأخوذة عنهم، وقد تكلم بعض مفسرى هيرودوط على هذا الوحش، فقال: نقلا عن إسكندر صاحب كتاب الحيوانات.
إن فى بلاد ليبيا حيوانا يسميه سكان البادية جرجون نتن النفس إلى الغاية، بل نفسه سمىّ يقتل من بعد.
وبعضهم يزعم أن نظره هو الذى يفعل ذلك قال: واتفق أنه فى حرب جقورطا، ظنّ بعض عساكر/مريوس رئيس جيش الرومانيين، أن هذا الحيوان نعجة وحشية، وهموا بقتله بالسيوف، فلما شعر بهم رفع شعره المغطى عينيه ونظر إليهم فماتوا جميعا، وحصل لغيرهم من العسكر مثل ذلك، فلما وقفوا على أمره بأخبار أهل البلاد، احتالوا على قتله برميه بالنبل من بعد.
ثم قال هذا المفسر: وهذا الكلام كله خرافات وليس هناك حيوان بهذه الصفة انتهى.
وذكر المؤرخون جماعة من مشاهير القرون الخالية الذين لهم الآثار والعلوم المنشورة فى بلاد اليونان وغيرها، منهم ديانوس ولنسيه ونحوهما. فقالوا: إن انّاكوس أسس مدينة أرجوس قبل الميلاد بألف وثمانمائة وخمسين سنة، وأن سكروب قاد إلى بلاد الأنتيك جماعة من المصريين قبل الميلاد بألف وخمسمائة وست وخمسين سنة، وأن كادموس بنى مدينة طيبة التى فى بلاد اليونان قبل الميلاد بألف وأربعمائة وثلاث وتسعين سنة، على نسق مدينة طيبة المصرية.
وقال بعضهم: إنه من الكنعانيين، وهو الذى أدخل فى أرض اليونان ديانة المصريين وعلومهم، وعلمهم الحروف الهجائية.
وفى قاموس الفرنج أن كادموس هو ابن ملك الفنيسى، فارق أباه واستقر ببلاد اليونان سنة ألف وخمسمائة وثمانين قبل المسيح، وهو الذى أسس قلعة كدمى، التى صارت فيما بعد قلعة لمدينة طيبة اليونانية، وإليه ينسب إدخال الكتابة بلاد اليونان انتهى.
وذكر المؤرخون أيضا أن ديانوس أول من أتى بسفينة على ساحل أرض اليونان قبل الميلاد بألف وأربعمائة وخمس وثمانين سنة، وكان معه بناته الخمسون، وأن لنسيه عصى أخاه سيزوستريس حال غيبته فى الحرب، وبعد عوده منه خاف وفر إلى بلاد البلوبونيز من جزائر اليونان، واستولى على مملكة أرجو ويؤخذ من كلام هيرودوط: أن
أول من أدخل علوم المصريين بلاد اليونان جماعة يونانيون، ساحوا فى الديار المصرية واقتبسوا من معارفها ونشروها بين أهل وطنهم، وهم أورفيه، وموزيه، وديدال، وهوميروس، وليقرغ من أهل إسبارته، وسولون الأثينى، وأفلاطون الفيلسوف، وفيثاغورس من جزيرة ساموس، وأودوكس، وديموكريت، وتيودور وفيريسيد، وطاليس، وإنجزاجور.
قال: وكانت مصر منبع العلوم والفنون واليونان على غاية من التبربر والتوحش، فتعلم أودوكس فى مدينة منفيس على الكاهن كنوفيس، وأخذ سيلون عن العالم سنكيس فى مدينة صا، وأخذ فيثاغورس عن إينوفيس بمدينة عين شمس، وكان أميروس
(1)
شاعرا مشهورا، جمع فى شعره من كان فى حرب تروادة من الأمراء والملوك، وكان مولده بعد أخذ تروادة بمائة وثمان وستين سنة، وهذا يفيد أنه كان قبل المسيح بثمانمائة وأربع وثمانين سنة، وبعضهم جعل ذلك قبل المسيح بتسعمائة وثمان وستين سنة، وجعلها برفير قبله بتسعمائة وسبع سنين.
وحقق بعض مفسرى هيرودوط: أن ولادته كانت قبل المسيح بتسعمائة وسبع وأربعين سنة، وعاش ثلاثا وستين سنة، وساح فى جهات كثيرة بعد أن أقام سنتين يدرس فى بلده بمدرسة الآداب، وكان القصد من سياحته أن يجمع ما جمعه فى كتابه من الأخبار، وقد جعلها قصائد مفرقة وبقيت كذلك مدة ثم جمعها العالم ليقرغ فى سياحته بعد موته بعشرين سنة، لما لها من الشهرة والانتشار بين الناس، مع اشتمالها على الحكم والأحكام والفوائد النفيسة.
وفى قاموس الجغرافية الفرنجى أن أم أميروس
(2)
من أزمير، وأنه عمى فى آخر عمره وافتقر حتى أدّاه ذلك إلى السؤال، وأشهر أشعاره قصيدتان: إحداهما تسمى عندهم
(2،1)) يقصد هوميروس.
بالإلياذة والأخرى بالأدسا، وشهرتهما لاشتمالهما على كثير من أمور الديانة القديمة وأسماء الأمم الماضية وأحوالهم، وقد اعتنى بشرحهما كثير من المتقدمين والمتأخرين انتهى.
وقال هيرودوط أيضا: إن اليونانيين لتبربرهم وولوعهم بالأوهام والاعتقادات الباطلة واستيلاء الجهل عليهم، لم يكتسبوا من مصر غير تحسين أوهامهم وإخراجها مخرج الاعتقادات الصحيحة انتهى.
ولنرجع إلى ما نحن فيه فنقول: يعلم من أقوال المؤرخين والسّياحين أن هذه المدينة كانت من أعظم المدن، وكان بها طائفة من العساكر المعروفين: باسم هيرموتيب على قول هيرودوط أن سيزوستريس جعلها بهاء وأهلها يفوقون غيرهم فى الصنائع، لا سيما فى نسج أقمشة الكتان وعمل التماثيل من أحجار متنوعة كما قاله استرابون.
وذكر هيرودوط: أن نساءها كنّ يقضين جميع ما يلزم للمنازل من الخارج، وأما رجالها فكانوا مشتغلين دائما بنسج الأقمشة داخل المنازل انتهى.
وقد بقيت مشهورة معمورة إلى دخول الإسلام، وقد عدّ الإدريسى برابى إخميم من مشهور برابى الديار المصرية، ويظهر أن أبا الفداء شاهد البرابى المذكورة حيث وصفها بأنها من أحسن ما يرى.
وفى خطط المقريزى أن بربا تلك المدينة كانت مبنية بحجر المرمر، وطول كل حجر منها خمسة أذرع فى سمك ذراعين، وهى سبعة دهاليز سقوفها حجارة، طول الحجر منها ثمانية عشر ذراعا فى عرض خمسة أذرع مدهونة/باللازورد وغيره من الأصباغ التى يحسبها الناظر كأنما فرغ الدهان منها الآن لجدّتها، وكان كل دهليز منها على اسم كوكب
من الكواكب السبعة السيارة، وجدران هذه الدهاليز منقوشة بصور مختلفة الهيئات والمقادير، وفيها رموز علوم القبط من الكيميا والسيميا والطلسمات والطب والنجوم والهندسة وغير ذلك.
وذكر ابن جبير فى رحلته: أن مدينة إخميم من مدن الصعيد الشهيرة قديمة الاختطاط، فيها مسجد ذى النون المصرى، ومسجد داود المشتهر بالخير والزهادة، ومسجدان موسومان بالبركة.
وبها آثار ومصانع من بنيان القبط، وكنائس معمورة بالمعاهدين من نصارى القبط، ومن أعجب الهياكل المتحدث بغرائبها فى الدنيا هيكل عظيم فى شرقى المدينة وتحت سورها، طوله مائتان وعشرون ذراعا، وسعته مائة وسبعون ذراعا، وهو قائم على أربعين سارية سوى الحيطان، دائرة كل سارية خمسون شبرا، وبين كل ساريتين ثلاثون شبرا ورؤوسها فى نهاية العظم كلها منقوشة من أسفلها إلى أعلاها، وبين رأس كل سارية والأخرى لوح عظيم من الحجر المنحوت، منها ما ذرعه ستة وخمسون شبرا طولا فى عرض عشرة أشبار، وارتفاع ثمانية أشبار وسطحها من ألواح الحجارة، كأنها فرش واحد فيه التصاوير البديعة والأصبغة الغريبة كهيئة الطيور والآدميين وغير ذلك فى داخلها وخارجها، وعرض حائط البربى ثمانية عشر شبرا من حجارة مرصوصة، كذا قاسها ابن جبير فى سنة 578 هـ.
وقال أيضا: إن سقف هذا الهيكل كله من أنواع الحجارة المنتظمة يخيل للناظر أنها سقف من الخشب المنقوش، والتصاوير على أنواع فى كل بلاطة من بلاطاته، فمنها ما قد جللته طيور بصور رائقة باسطة أجنحتها توهم الناظر إليها أنها تهم بالطيران، ومنها ما قد جللته تصاوير آدمية رائقة المنظر رائعة الشكل، قد أعدت لكل صورة منها هيئة هى عليها. كإمساك تمثال بيدها أو سلاح أو طائر أو كأس، أو إشارة شخص إلى آخر بيده، أو غير ذلك مما يطول الوصف له ولا تأتى العبارة لاستيفائه.
وداخل هذا الهيكل العظيم وخارجه وأعلاه وأسفله تصاوير، كلها مختلفات الأشكال والصفة، منها تصاوير هائلة المنظر خارجة عن صور الآدميين يستشعر الناظر إليها رعبا ويمتلئ منها عبرة وتعجبا وما فيها مغرزاشفى، ولا إبرة إلا وفيه صورة أو نقش أو خط بالمسند لا يفهم، قد عم هذا الهيكل العظيم الشأن كله هذا النقش البديع، ويتأتى فى صم الحجارة من ذلك ما لا يتأتى فى الرخو من الخشب، فيحسب الناظر استعظاما له أن عمر الزمان لو شغل بترقيشه وترصيعه وتزيينه لضاق عنه، فسبحان الموجد للعجائب لا إله سواه.
وعلى أعلى هذا الهيكل سطح مفروش بأنواع الحجارة العظيمة وهو فى نهاية الارتفاع يحار الوهم فيها، ويضل العقل فى الفكرة فى تطليعها ووضعها، وداخل هذا الهيكل من المجالس والزوايا والمداخل والمخارج والمصاعد والمعارج والمسارب والموالج، ما تضل فيه الجماعات من الناس، ولا يهتدى بعضهم لبعض إلا بالنداء العالى، وعرض حائطه ثمانية عشر شبرا من حجارة مرصوصة على الصفة التى ذكرنا.
وبالجملة فشأن هذا الهيكل عظيم ومرآه أحد عجائب الدنيا التى لا يبلغها الوصف ولا ينتهى إليها الحد، وإنما وقع الإجماع على ذكر نبذة من وصفه دلالة عليه، والله المحيط بالعلم فيه والخبير بالمعنى الذى وضع له انتهى.
ونقل المقريزى عن بعض الحكماء أنه قال: أخبرنى غير واحد من بلاد إخميم من صعيد مصر عن أبى الفيض ذى النون بن إبراهيم المصرى الإخميمى الزاهد، وكان حكيما وكانت له طريقة يأتيها ونحلة يعضدها، وكان ممن يقر على أخبار هذه البرابى، وامتحن كثيرا مما صوّر فيها ورسم عليها من الكتابة والصور.
قال: رأيت فى بعض البرابى كتابا تدبرته فإذا هو: احذر العبيد المعتقين، والأحداث والجند المتعبدين، والنبط المستعربين، ورأيت فى بعضها كتابا تدبرته فإذا فيه: يقدّر المقدّر والقضاء يضحك وفى آخره كتابة فيها.
تدبر بالنجوم ولست تدرى
…
وربّ النّجم يفعل ما يريد
وما زالت هذه البربى قائمة إلى سنة 880 هـ حتى خربها رجل من أهل إخميم يعرف بالخطيب كمال الدين بن بكر الخطيب علم الدين.
وذكر أبو عبد الله محمد بن عبد الرحيم القيسى فى كتاب تحفة الألباب: أن هذه البربى مربعة من حجارة منحوتة ولها أربعة أبواب يفضى كل باب إلى بيت له أربعة أبواب كلها مظلمة، ويصعد منها إلى بيوت كالغرف على قدرها، وكانت الأنطاع تجلب من إخميم وبها تعمل.
ويقال: إنه كان بها اثنا عشر ألف عريف على السحرة، وكان بها شجر البنج وقال ابن الكندى: إخميم بلد عظيم وفيه من العجائب والآثار والبرابى والطلسمات ما لا يعرف، وبه الأهليلج الكابلى والأصفر وشجر المسيح الذى ليس فى بلد، وكان بها فى الدهر الأول اثنا عشر ألف عريف على السحرة ويعمل بها/طراز الصوف الشفّاف، والمطارف، والمطرز والمعلم الأبيض، والملوك تحمل منه إلى أقصى البلاد وإلى سائر الآفاق يبلغ الثوب منه عشرين والمطرف مثله انتهى.
(قلت): وينسج بها اليوم الملاآت القطن، وربما وضعوا فى جانبها الحرير بعرض عشرة أصابع أو أقل أو أكثر وفيها صنائع كثيرة إلى الآن.
وقال المقريزى فى رسالته البيان والإعراب: أن بإخميم جماعة من بنى قرة فصيلة من بنى هلال بن عامر بن صعصعة ينتهى نسبهم إلى مضر بن نزار بن معد بن عدنان جد النبى صلى الله عليه وسلم.
وقال أبو الفداء أيضا: أن هذه المدينة كانت من المدن الكبيرة ومع ذلك فقد ضاع كثير من آثارها القديمة وبيوتها مبنية من الطوب النّئ ما عدا الزوايا فإنها من الآجر.
وفيها جوامع عديدة متسعة متقنة البناء لها منارات عالية وحاراتها متسعة بخلاف باقى المدن، ومعاملها القديمة التى كان يصنع فيها أقمشة الكتان استبدلت بمعامل يصنع فيها أقمشة من القطن انتهى.
وكان بها كثير ممن ينحت الحجارة قاله استرابون، وكان بها فى زمن دخول الفرنساوية جملة من النصارى الأقباط عددهم قريب من ألفى نفس، وكان أغلب أهلها مسلمين، وكانت عظيمة الحصون وبأرضها كثير من النخيل ويتحصل منها قدر كبير من الغلال.
وكان فيها كنيستان عظيمتان إحداهما كنيسة سوتير، أى المخلص من العذاب.
والثانية كنيسة مارى ميخائيل وكان من عوائد أهلها النصارى فى أحد الشعانين وقت إشهار الصلوات الموسمية أنهم يخرجون من الكنيستين مع القسّيسين والقمامصة فى هيئة محفل حاملين المباخر والعطر الذكى والصّلبان وكتب الأناجيل والشموع العظيمة موقدة، ويقفون أمام باب القاضى برهة من الزمن يتلون صحفا من الإنجيل، ويغنون ببعض شطرات منظومة
تتضمن مدحه، ثم يقفون على باب كل واحد من أمراء الإسلام وأعيانهم ويفعلون كما فعلوا أمام بيت القاضى، وكان بين نهر النيل والمدينة ترعة لرى الأراضى ولمنع سقوط رمل الجبل على أراضى المزارع.
وكانت عادتهم فى ذلك أن يجعلوا أفواه الترع مرتفعة لأجل أن تجلب الطمى إلى الأراضى المحرومة منه بسبب شدة سرعة جرى مائها فتزيد بذلك تلك الأرض خصوبة، وكان على البعد من إخميم بمسيرة نصف مرحلة دير حسن البناء يسمى دير السّبعة جبال وسط سبعة أودية تحدق به من جميع جهاته جبال شامخة، ولذا لم تكن الشمس تشرق عليه إلا بعد شروقها الحقيقى بساعتين، وتغرب عنه قبل غروبها الحقيقى بساعتين أيضا فعند ذلك يصير الجوغسقا لا يكاد يبصر فيه إلا بنور المصباح.
وكان خارج ذلك الدير عين ماء تظلها شجرة صفصاف وهو فى محل يسمى وادى الملوك لنباتة تنبت فيه اسمها ملوكة تشبه نبات السلجم عصيرتها حمراء تضرب إلى سواد تدخل فى الصبغ، وكان خلف دير الصفصافة على البعد منه بمسيرة ثلاث ساعات، دير آخر يعرف بدير قرقاس منحوت فى رأس الجبل يصعد إليه بواسطة نقور فى الجلمود تسع بعض الرجل، وكان فى سفح هذا الدير المعلق عين ماء عذب، وشئ من أشجار البان وهو شجر يذكر كثيرا فى أشعار العرب وتشبيباتهم.
وعن بعض أهل المعرفة الذين اطلعوا على هذا الشجر، أنه يظن به أنه نوع من شجر اللّبخ وقد يسمى شجر الصولى.
واختلف الناس فى شجر البان فمنهم من قال: هو الصفصاف، ومنهم من قال هو شجر الخلاف، ومنهم من قال هو الأهليلج المسمى عند الإفرنج ميروبلانيا الذى يستخرج من ثمره دهن البان، ومنهم من قال هو الزيزلخت انتهى.
وكان فى الجهة الشرقية من إخميم أيضا دير صبورة نسبة إلى قبيلة من العربان نزلت هناك ولم يكن إذ ذاك عامرا وفى الجبل مغارات كثيرة، بعضها مقابر أموات المدينة وأغلبها كان مسكونا برهبان النصارى زمن القيصر ديوكلتيان
(1)
فرارا من ظلمه وعدوانه، وقد نفى إلى هذه المدينة بطرك قسطنطين واسمه نسطورس، فأقام بها سبع سنين ومات فدفن بها.
وسبب ذلك على ما ذكره المقريزى فى خططه عند الكلام على ديانة القبط أنه امتنع أن يقول عيسى هو ابن مريم وقال: إنما ولدت مريم إنسانا اتحد بمشيئة الإله-يعنى عيسى- فصار الاتحاد بالمشيئة خاصة لا بالذات، وإن إطلاق الإله على عيسى ليس هو بالحقيقة بل بالموهبة والكرامة.
وقال: إن المسيح حل فيه الابن الأزلى وأنى أعبده؛ لأن الآله حل فيه وأنه جوهران وأقنومان ومشيئة واحدة.
وقال فى خطبته يوم الميلاد: إن مريم ولدت إنسانا وأنا لا أعتقد فى ابن شهرين وثلاثة الإلهية، ولا أسجد له سجودى للآله، وكان هذا هو اعتقاد تادروس وديوادارس الأسقفين.
(1)
يفصد: دقلديانوس.
وكان من قولهما: إن المولود من مريم هو المسيح والمولود من الأب هو الابن الأزلى وأنه حل فى المسيح فسمى ابن الله بالموهبة والكرامة، وأن الاتحاد بالمشيئة والإرادة وأثبتوا لله تعالى ولدين أحدهما بالجوهر والآخر بالنعمة.
فلما بلغ كرلس بطرك الإسكندرية مقالة نسطورس كتب إليه يرجعه عنها فلم يرجع، فكتب إلى أكليمس بطرك رومة وإلى يوحنا بطرك أنطاكية وإلى يوناليوس أسقف القدس يعرفهم/بذلك فكتبوا بأجمعهم إلى نسطورس ليرجع عن مقالته فلم يرجع فتواعد البطاركة على الاجتماع بمدينة أفسنس، فاجتمع بها مائتا أسقف فكان هذا الاجتماع الثالث ولم يحضر يوحنا بطرك أنطاكية وامتنع نسطورس من المجئ إليهم بعد ما كرروا الإرسال فى طلبه غير مرة فنظروا فى مقالته وحرموه ونفوه، ثم قال:
وكان بين المجمع الثانى وبين هذا المجمع خمسون، وقيل خمس وخمسون سنة، ولما مات نسطورس ظهرت مقالته فقبلها برسوما أسقف نصيبين، ودان بها نصارى أرض فارس والعراق والموصل والجزيرة إلى الفرات وعرفوا إلى اليوم بالنسطورية انتهى.
ومدينة إخميم الآن على غاية من العمارية والاتساع تقرب عدة أهلها من أهالى مدينة أسيوط، ومحيطها أوسع من محيط أسيوط، وبها صبطية ومحكمة شرعية ويسكنها الأقباط بكثرة وأكثرهم محترفون.
منهم: التاجر والصائغ والصباغ وغير ذلك، وبها جملة أنوال معدة لنسج أصناف الملاءات من القطن والحرير، وبها عدة قيساريات وخانات جامعة لأنواع المتاجر وحمام وحاراتها وشوارعها متسعة مع الاعتدال، وفيها معاصر بكثرة لزيت السلجم، وعسلها مشهور بصفاء اللون وصدق الحلاوة ولها سوق كل أسبوع يوم الأربعاء، وبها رقعة معدّة لبيع أصناف الغلال كل يوم.
ترجمة الشيخ كمال الدين بن عبد الظاهر
وبها نقيب أشراف يقال إنه: من ذرية سيدى كمال الدين بن عبد الظاهر صاحب المقام الشهير بهذه المدينة، وفى طبقات الشعرانى أنه صحب أبا الحجاج الأقصرى رضي الله عنه حين كان بقوص، وكان قد تجرد فى بدايته ثم رجع إلى الثياب والزراعات وغيرها، ثم صحب الشيخ إبراهيم بن معضاد الجعبرى المدفون بباب النصر من المحروسة، ثم أقام بإخميم وبها مات وهو على حالة شريفة متظاهرا بالنعم والغنى عن الناس رضي الله عنه أه.
وله مولد يعمل كل سنة فى أوائل زيادة النيل يجتمع فيه عالم بكثرة ويستمر ثمانية أيام، وله جامع عامر قد هدمه وبناه نقيب الأشراف السيد عبد الرحيم بإعانة الحكومة له، وذلك فى أول حكم الخديوى إسماعيل باشا فكان من أعظم جوامع مدن الصعيد.
وبها جوامع أخر كلها فى غاية المتانة والاتساع لها شبه تام بجوامع القاهرة مبلطة الأرضية كثيرة السوارى بمآذن مرتفعة وشعائرها مقامة، وبها أيضا مقام شهير بمسجد عظيم لسيدى أبى القاسم، وهو غير أبى القاسم الطنطاوى يهرع إليه الزوار سيما المرضى، وله زيارة كل خميس من شهر أبيب، وبها حدائق كثيرة جدا تشتمل على غالب الثمار والفواكه، سيما العنب والرمان الحامض حتى إن ذلك يعم تلك الجهات ويصل إلى أسيوط وجرجا وغيرهما.
وزمام أطيانها نحو أربعة آلاف فدان وأهلها ما بين محترف وتاجر وزارع، وفيها علماء وأشراف يقال إنهم من ذرية سيدى كمال الدين المذكور، فهى عامرة جاهلية وإسلاما.
ترجمة العارف بالله سيدى ذى النون المصرى
وفى تاريخ ابن خلكان فى حرف الثاء أن أبا الفيض ثوبان بن إبراهيم وقيل الفيض بن إبراهيم المصرى المعروف بذى النون الصالح المشهور، أحد رجال الطريقة كان من هذه المدينة.
قال: وكان أوحد وقته علما وورعا وحالا وأدبا، وهو معدود فى جملة من روى الموطأ عن الإمام مالك رضي الله عنه.
وذكر ابن يونس عنه فى تاريخه: أنه كان حكيما فصيحا وكان أبوه نوبيا وقيل: من أهل إخميم مولى لقريش، وسئل عن سبب توبته، فقال: خرجت من مصر إلى بعض القرى فمت فى الطريق فى بعض الصحارى ففتحت عينى، فإذا أنا بقنبرة عمياء سفطت من وكرها على الأرض، فانشقت الأرض فخرج منها سكرجتان، إحداهما ذهب والأخرى فضة، وفى إحداهما سمسم وفى الأخرى ماء فجعلت تأكل من هذا وتشرب من هذا فقلت:
حسبى قد تبت ولزمت الباب إلى أن قبلنى.
وكان قد سعوا به إلى المتوكل فاستحضره من مصر فلما دخل عليه وعظه فبكى المتوكل ورده مكرما، وكان المتوكل إذا ذكر أهل الورع بين يديه يبكى ويقول: إذا ذكر أهل الورع فحيهلا بذى النون، وكان رجلا نحيفا تعلوه حمرة ليس بأبيض اللحية وشيخه فى الطريقة شقران العابد.
ومن كلامه: إذا صحت المناجاة بالقلوب استراحت الجوارح، وقال إسحق بن إبراهيم السّرخسى بمكة سمعت ذا النون وفى يده الغل وفى رجليه القيد وهو يساق إلى المطبق والناس يبكون حوله وهو يقول: هذا من مواهب الله تعالى ومن عطاياه وكل فعاله عذب حسن طيب ثم أنشد:
لك من قلبى المكان المصون
…
كل لوم علىّ فيك يهون
لك عزم بأن أكون قتيلا
…
فيك والصّبر عنك ما لا يكون
وبالجملة فمحاسنه كثيرة، وكراماته شهيرة توفى فى ذى القعدة سنة خمس وأربعين، وقيل ست وأربعين، وقيل ثمان وأربعين ومائتين رضي الله عنه بمصر، ودفن بالقرافة الصغرى وعلى قبره مشهد مبنى، وفى المشهد أيضا قبور جماعة من/الصالحين رضي الله عنهم أجمعين.
وثوبان بفتح الثاء المثلثة وسكون الواو وفتح الباء الموحدة وبعد الألف نون انتهى.
وحكى السخاوى فى تحفة الأحباب: أن محمد بن إسماعيل المعروف بصاحب الدار بنى دارا حسنة وأتقن بناءها، فلما فرغ منها جلس على بابها فدخل عليه ذو النون، فقال له: أيها المغرور اللاّهى عن دار البقاء والسرور، كيف لا تعمر دارا فى دار الأمان، دار لا يضيق فيها المكان، ولا ينتزع منها السكان، ولا يزعجها حوادث الزمان، ولا تحتاج إلى بناء وطيّان.
ويجتمع لهذه الدار حدود أربع، الحد الأول ينتهى إلى منازل الرّاجين، والحد الثانى ينتهى إلى منازل الخائفين المحزونين، والحد الثالث ينتهى إلى منازل المحبين، والحد الرابع ينتهى إلى منازل الصابرين.
وشرع إلى هذه الدار الشّارع إلى خيام مضروبة، وقباب منصوبة، على شاطئ أنهار الجنة فى ميادين قد أشرفت، وغرف قد رفعت فيها سرر قد نصبت، عليها فرش قد تصدّرت، فيها أنهار وكثبان مسك وزعفران، قد عانقوا خيرات حسان. وترجمة كتابها:
هذا ما اشترى العبد المحزون من الرب الغفور، اشترى منه هذه الدار، بالتنقل من ذل المعصية إلى عز الطاعة فما على المشترى فيما اشترى من درك سوى نقض العهود، والغفلة عن المعبود، وشهد على ذلك التبيان، وما نطق به محكم القرآن، قال الملك الديان:{إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ}
(1)
فلما سمع هذا الكلام أثر ذلك فى قلبه وباع هذه الدار وتصدق بثمنها على الفقراء والمحتاجين طلبا للدار التى وصفها له ذو النون.
ومن كلام سيدى ذى النون رضي الله عنه: إنما دخل الفساد على الناس من ستة أمور:
الأول: من ضعف النية لعمل الآخرة.
والثانى: أن أبدانهم صارت رهينة لشهواتهم.
والثالث: غلبهم طول الأمل مع قرب الأجل.
والرابع: آثروا إرضاء المخلوقين على رضاء الخالق.
والخامس: اتباعهم هواهم، ونبذهم سنة نبيهم وراء ظهورهم.
والسادس: جعلوا زلات السّلف حجة لأنفسهم ودفنوا أكثر مناقبهم.
(1)
سورة التوبة/111
وسئل يوما لم أحبّ الناس الدنيا فقال: لأن الله تعالى جعل الدنيا خزانة أرزاقهم فمدّوا أعناقهم إليها، وكانت وفاته رحمه الله تعالى بالجيزة فى غربى النيل وحمل فى قارب مخافة أن ينقطع الجسر لكثرة ازدحام الناس انتهى.
وفى كتاب الروضة فى حوادث سنة خمس وأربعين ومائتين: أن أبا الفيض ذا النون بن إبراهيم المصرى، توفى فى هذه السنة ودفن بالقرافة الكبرى، وكان أسمر اللون شديد السمرة، وأصله من برية مدينة إخميم، وله كرامات خارقة والدعاء عند قبره مجاب.
مطلب السبعة الذين يجاب الدعاء عند قبورهم
وقبره من القبور السبعة التى بالقرافة تزورها الناس يوم السبت قبل طلوع الشمس لقضاء الحوائج وهى: قبر ذى النون المصرى، وقبر أبى الخير الأقطع، وقبر أبى الربيع المالقى، وقبر القاضى بكار بن قتيبة، وقبر القاضى كنانة، وقبر أبى بكر المزنى، وقبر أبى الحسن الدينورى رضي الله عنهم انتهى.
وفى الجهة البحرية لإخميم طريق يصعد منه إلى الجبل الشرقى، وبذلك الجبل طريق موصل إلى بحيرة من المالح لها مينا صغيرة ترسو فيها قوارب من البحر، وفى تلك الطريق مياه كافية للمسافر.
ويقابل إخميم فى الشاطئ الغربى للنيل مدينة سوهاج التى هى محل إقامة مديرية جرجا الآن، فهما مدينتان متقابلتان على النيل واقعتان بين جرجا وأسيوط على مرحلة من جرجا وعلى قريب من مرحلتين من أسيوط، وبقرب إخميم أيضا من الجهة القبلية على الشاطئ الغربى مدينة المنشأة، وبلدة كبيرة تشبه البندر تسمى بنى صبورة.
(فائدة): قد ترجم فى قاموس الجغرافية الفرنجى بعض من ذكرناهم هنا ولا بأس بإيراد ملخص من ذلك تبعا له فنقول: أما أورفيه فهو شاعر مشهور من بلاد يونان كان قبل حرب ترواده بنحو قرن وساح فى مصر واكتسب من علومها، ويقال: إن زوجته لدغت فى
مصر بثعبان فى كعبها فماتت فحزن عليها حزنا شديدا، ومن الخراف ما قيل إنه طلبها من بلوتون- (خازن النار) -فأذن له فى أخذها بشرط أن لا ينظر إليها إلا بعد مفارقة جهنم، فلم يستطع الصبر عنها ونظر إليها فغابت عنه ولم يرها، فرجع إلى بلده وعاش فى الغابات منعزلا يبث الأشعار المحزنة، ومن حسن صوته، اجتمعت عليه الوحوش، وحركت الأشجار أغصانها، ووقفت الأنهر عن جريها، واجتهدت النساء فى تسليته وتلطيف حزنه فلم يفارقه حزنه، فحنقن منه وقطعنه ورمينه فى النهر.
والمتأخرون من اليونان يقولون: إنه من كهنة الديانة وإنه كشف للمريدين أمورا كثيرة مما يتعلق بالخلق والخالق، وهو الذى أدخل فن الشعر فى بلادهم، وكذا علم الفلك، وزاد فى عود الموسيقى ثلاثة أوتار وله آثار غير ذلك.
وأما ديدال فهو رجل خرافى من أثينة اشتهر بعمل التماثيل، وإليه ينسب اختراع المنشار والبلطة وآلة توازن البناء وصوارى المراكب وقلوعها
وأما ليكرغ فهو مشرع مقدونى أبوه ملك إسبارتة وكان أخوه البكرى ملكا ومات فى شبيبته وترك زوجته/حاملا فعرضت عليه قتل ابنها-بقصد أن يكون هو الملك-وتتزوجه، فأبى واختار أن يكون وصيا على ابن أخيه، فقام بوصايته حتى بلغ الولد رشده، فسافر هو لاكتساب العلوم وشرائع الأمم فدخل أجريد ومصر وآسية، ثم رجع إلى بلاده وبالاتحاد مع الملك-وهو ابن أخيه-الذى كان كافلا له، نظم قوانين وشريعة جرى العمل بها وأبقت له الذكر والفخر مدة مديدة، وذلك قبل الميلاد بثمانمائة وأربع وثمانين سنة.
وقد اجتهد فى قوانينه فى التسوية بين أفراد الأمة فى أسباب الغنى والفقر، فقسّم الأرض على العائلات بالتساوى، ومنع الزيادة والنقص بأىّ وجه، وأبطل معاملة الذهب
والفضة وعوضها بالحديد، وألزم أهل كل بلد أن يجتمعوا على الأكل بحيث يأكلون جميعا فى سماط واحد، وفى حال اجتماعهم لا بد أن يلاحظوا تربية الأطفال وتأديبهم، وجعل تمرينات جسمية بالجرى والألعاب لتقوية الأطفال ونحوهم وتدريبهم ومنع الاشتغال بالحرف والصنائع إلا للعبيد ونحوهم، ورتب للحكومة ملكين وجعل لهما رئاسة السيناتو وعليهما أداء الرسوم الديانية ورئاسة الجيوش وتدوين القوانين ونشرها، وجعل المجلس يتركب من ثمانية وعشرين عضوا تنتخبهم الأهالى من ذوى الرأى والمعرفة، ومن خصائصهم التكلم فى كل ما يتعلق بالحرب والصلح والمعاهدات، وجعل مجلسا آخر من الأهالى لانتخاب الحكام وتوزيع الفرض والأموال وقبول القوانين الصادرة من مجلس السيناتو أو نبذها وقد اشتغل بشرح قوانينه كثير من علماء الإفرنج، ونتيجة القول فى تلك القوانين أنها وإن كانت أورثت أهل إسبارتة القوّة والشجاعة وحب الوطن واحترام الشيوخ، فقد عطلت أسباب التمدن والثروة ويقال إنه لحرصه على حب العمل بقوانينه عقد جمعية من الناس وحلفهم على أن لا يرجعوا عن قوانينه بعد موته أو غيابه وأن لا يبطلوا منها شيئا ثم إنه حبس نفسه فى مكان حتى مات جوعا.
ترجمة سولون
وأما سولون فهو مشرع أثينة المشهور وهو معدود من حكماء اليونان السبعة، ولد قبل المسيح بستمائة وأربعين سنة فى مدينة سلامين، وأبوه كردوس هو أحد ملوك أثينة، اشتغل سولون أولا بالتجارة وسكن أثينة وصار من أعضاء مجالسها، وكان الأثينيون بسبب وقعات كثيرة جرت بينهم وبين سكان جزيرة سلامين بلا فائدة، قد أصدروا قرارا حكموا فيه بقتل كل من يتسبب فى تجديد محاربة تلك الجزيرة، فخرج سولون بصفة مجنون لا عقل له ووقف فى الميدان وجعل ينشد أشعارا فيها التحريض على القتال، والحث على الشجاعة، فنشأ عن ذلك إبطال القرار وجعل رئيس الجيش وحارب الجزيرة واستولى عليها.
وفى سنة خمسمائة وثلاث وتسعين خصصته المجالس لعمل قوانين لوطنه، فنظم قوانين عدلية زال بها ما كان حاصلا من الشقاق والفتن، وجعل الناس بالنسبة للاقتدار وعدمه أربع فرق وشكل منهم مجلسا، وجعل رئيسة نفس السلطان ونظم السيناتو، ثم فارق أثينة بعد أن حلفهم على عدم ترك قوانينه فساح فى آسية الصغرى وجزيرة قبرص وبلاد مصر، ثم رجع إلى وطنه بعد عشر سنين، فوجد قوانينه تنوسيت والفتن قد ثارت، ولم يتمكن من رد الأمور إلى أصلها، ففارق وطنه وأقام بقبرص ومات بها سنة خمسمائة وتسع وخمسين، وكان شاعرا فصيحا وخطيبا بارعا وكانت عادته ولازمته فى كل شئ أن يقول:(اقرأ العواقب).
ترجمة أفلاطون
وأفلاطون فيلسوف يونانى مشهور ولد قبل المسيح بأربعمائة وسبع وعشرين أو ثلاثين سنة وينتسب من جهة أبيه إلى كردوس، ومن جهة أمه إلى سولون وكان اسمه أولا أرستوقليس ثم سمى أفلاطون بسبب عرض أكتافه، لأن هذه الكلمة مأخوذة من كلمة بلاتيس التى معناها العرض، وقد قرأ فى صغره علوما شتى، كالهندسة والشعر والأدبيات، ثم اشتغل بالفلسفة.
ولما بلغ من العمر عشرين سنة تتلمذ لسقراط عشر سنين، وقبل المسيح بأربعمائة سنة مات سقراط فساح فى إيطاليا واجتمع بالفيثاغورسيين- (تلامذة فيثاغورس) -ثم ارتحل إلى القيروان وإفريقية ومصر، وأخذ عن المصريين، ثم سافر إلى بلاد اليونان وساح فى جزيرة صقلية وهناك وقعت منه أمور أوجبت حنق حاكمها دنيس الظالم منه فباعه كالرقيق، فاشتراه فيلسوف قيروانى وأعتقه فحضر إلى أثينة واتخذها وطنا وفتح بها مدرسته المشهورة وذلك فى سنة ثلاثمائة وثمان وثمانين، فطار صيته وتتلمذ له كثير من الناس الأكابر والأصاغر رجالا ونساء من جميع بلاد اليونان، ولغزارة علمه طلبت منه جميع الولاة عمل قوانين يعملون بها فعملها لهم، ولم يتزوج قط وترك كتبا كثيرة اقتبس منها المؤلفون.
وأما فيثاغورس فقد تقدمت ترجمته فى الكلام على أنبو.
ترجمة ديموكريت
وأما ديموكريت فهو أيضا فيلسوف يونانى ولد قبل الميلاد بأربعمائة وتسعين سنة على قول، أو سبعين على آخر، وتلقى الفنون عن كهنة الفرس الذين بقوا بجزيرة اليونان بعد إغارة كسرى إكسرسيس/وساح فى بلاد مصر وبلاد آسيا، وصرف جميع أمواله فى السياحة والتجاريب فخطئوه فى ذلك.
وفى بعض الأيام قرأ فى مجلس رسالة من تآليفه يتكلم فيها على تكوين العالم، فحصل للحاضرين انشراح وسروا بذلك وأنعموا عليه بخمسين طالانا.
ويقال: إن عدم انتظام أحوال معيشته أدى إلى التكلم فيه بالجنون حتى طلبوا لعلاجه أبقراط الحكيم، فلما سمع أبقراط كلامه قال: إنه لم يكن أعظم منى جنونا وعاش مائة سنة وتسعة، وكان لا يزال ضاحكا من غفلة الخلق.
وضده فى ذلك هيرقليط فكان دائما باكيا من غفلة الخلق، وهو صاحب مذهب فى الفلسفة وله مؤلفات.
ترجمة تيودور وفيريسيد وطاليس وإنجزاجور وأبقراط وابن جبير
وكذا تيودور فيلسوف يونانى كان قبل المسيح بثلاثمائة وخمس وعشرين سنة، وأصله من القيروان وتكلم فى الألوهية بما لا يليق فطردوه فسكن أثينة وشاع منه إنكار الآلهة فحكموا بقتله.
وكذا فيريسيد فيلسوف يونانى ولد قبل المسيح بستمائة سنة وهو من شيوخ فيثاغورس وعمر كثيرا، ويقول: بأبدية الروح وكان له معرفة بعلم الطبيعة والفلك.
وأما طاليس فأصله من قيسيا من بلاد الشام، ولد قبل المسيح بستمائة وأربعين سنة، وساح فى جزيرة جريد وبلاد آسيا ومصر، واشتغل بالهندسة والفلك، وذهب إلى اليونان وأقام بمدينة ملية سنة خمسمائة وسبع وثمانين، وأسّس بها مدرسة عرفت بالمدرسة اليونانية.
ومات سنة خمسمائة وأربعين وعمره مائة سنة، وهو معدود من الحكماء السبعة، وكانت لازمته (اعرف نفسك بنفسك) وإليه ينسب توسعة فن الهندسة، وتعيين ارتفاع الهرم بظله، واستكشاف بعض خواص المثلث الكروى، وإثبات مساواة الزاويتين المتجاورتين على القاعدة فى المثلث المتساوى الساقين.
وهو أول من تكلم على الكسوفات وبرهن عليها، وحسب واحدا منها وقع فى سنة ستمائة وواحدة قبل الميلاد على قول، أو سنة خمسمائة وخمس وثمانين على قول آخر.
ويقول إن أصل الأشياء ومادتها هو الماء أو الميعان، والقوة المحركة للأشياء هو العقل، فهو حينئذ يقول بالآله، وكان يقول: إن الألوهية سارية فى جميع الأشياء ومن تلامذته فيروسيد وغيره.
وأما أنجزاجور (أنكساغورث) فهو فيلسوف أيضا من المدرسة اليونانية، ولد قبل الميلاد بخمسمائة سنة، وساح فى مصر وعاد منها، فأقام بأثينة سنة أربعمائة وخمس وسبعين، وأنشأ بها مدرسة مشهورة.
ويقال: إن سقراط من تلامذته، وقد تكلم فى بطلان اعتقاد أهل وقته، فحكموا عليه بالقتل، فخلصه تلميذه بركليس، وغير حكم القتل بالنفى، فنفى إلى أن مات سنة أربعمائة وثمان وعشرين وعمره اثنتان وسبعون سنة.
وكان يقول: إن العناصر وجدت فى أول الأمر مختلفة كثيرة بعدد أجناس العالم المختلفة وكانت مختلطة فى العماء الأصلى، فيلزم حينئذ وجود قوة روحانية تامة التصرف، هى التى فصلت العناصر المتفقة من العناصر المختلفة.
فهو أول من ذهب إلى وجود عقل أبدى، فقد اعترف بأفكاره الفيلسوفية بوجود إله مخالف لهذا العالم خارج عنه ومدبر له واشتغل بالفلك والطبيعة وعلم أسباب الخسوف انتهى.
وأما أبقراط فقد ترجمه صاحب كتاب أسماء الحكماء وتراجمهم «المنتخب من كتاب معالم الأمم» وملخصه أن أبقراط ويقال له بقراط: هو ابن إيرقلس، إمام مشهور وسيد الطبيعيين فى عصره، وكان قبل الإسكندر بنحو مائة سنة، ويقال إنه من أهل إسقلبيادس كان مسكنه بمدينة حمص، وكان يتوجه إلى دمشق ويقيم فى غياضها للرياضة، وكان فاضلا متألها ناسكا يعالج المرضى مجانا، وكان فى زمن أردشير من ملوك الفرس ودعاه إلى معالجته من مرض عرض له فأبى عليه.
وذكر يحيى النحوى الإسكندرى فى تاريخه أن أول الأطباء إسقلبيوس الأول، ثم دغورث، ثم منيس، ثم برمانيدس، ثم أفلاطون الطبيب، ثم إسقلبيوس الثانى، ثم بقراط، ثم جالينوس.
وبقراط رأس الأطباء فى زمانه وهو من تلاميذ إسقلبيوس الثانى، وهو أول من علم الغرباء الطب وعاش خمسا وتسعين سنة، منها صبيا ومتعلما ست عشرة سنة، وعالما ومعلما تسعا وسبعين سنة.
ومن تأليفه كتاب العهد، وكتاب الفصول، وكتاب الأمراض خمس مقالات وكتاب جراحات الرأس مقالة واحدة، وكتاب الأخلاط ثلاث مقالات، وكتاب الماء والهواء ثلاث مقالات، وكتاب طبيعة الإنسان اه.
ترجمة ابن جبير
وفى كتاب دائرة المعارف أن ابن جبير السابق الذكر هو أبو الحسين محمد بن أحمد بن جبير الكنانى، أحد الراحلين من الأندلس إلى المشرق. ولد ببلنسية عاشر ربيع الأول سنة أربعين وخمسمائة هجرية، واجتهد فى تحصيل العلوم فبرع، وكان أديبا مشهورا أو شاعرا مجيدا قيل لما دخل بغداد اقتطع غصنا نضيرا من بساتينها فذوى فى يده فأنشد:
لا تغترب عن وطن
…
واذكر تصاريف النّوى
أما ترى الغصن إذا
…
ما فارق الأصل ذوى
وكانت رحلته من غرناطة ووصل إلى الإسكندرية وحج ورحل إلى الشام والعراق والجزيرة وغيرها، وكان من أهل/المروءات، كثير الآداب مؤنسا للغرباء عاشقا لقضاء حوائج الناس، توفى بالإسكندرية فى سبع وعشرين من شعبان سنة أربع عشرة وستمائة ومن شعره:
من الله فاسأل كلّ أمر تريده
…
فما يملك الإنسان نفعا ولا ضرّ
ولا تتواضع للولاة فإنّهم
…
من الكبر فى حال تموج بهم سكر
وإيّاك أن ترضى بتقبيل راحة
…
فقد قيل عنها أنها السّجدة الصغرى
وقد وجدت ترجمته فى صدر كتاب رحلته منقولة من كتاب الإحاطة بما تيسر من تاريخ غرناطة، للوزير لسان الدين بن الخطيب وملخصها.
محمد بن أحمد بن جبير بن سعيد بن جبير بن سعيد بن جبير بن محمد بن عبد السلام الكنانى، وهو من ولد ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس، بلنسى الأصل غرناطى الاستيطان، شرّق وغرّب وعاد إلى غرناطة.
كان أديبا بارعا شاعرا مجيدا سنيا فاضلا نزه الهمة سرى النفس كريم الأخلاق أنيق الطريقة، كتب بسبتة عن أبى سعيد عثمان بن عبد المؤمن، وبغرناطة عن غيره من ذوى قرابته وله فيهم أمداح، ثم توجه إلى المشرق وجرت بينه وبين أدباء عصره مخاطبات، ظهرت فيها إجادته، ونظمه فائق ونثره بديع وكلامه المرسل سهل حسن، ومحاسنه ضخمة، ورحلته نسيجة وحدها طارت كل مطار، رحل ثلاثا من الأندلس إلى المشرق، وحج فى كل واحدة منها، فصل عن غرناطة، ثم عاد إليها ولقى بها أعلاما، وصنف الرحلة المشهورة وذكر مناقله وما شاهد من عجائب البلدان وغرائب المشاهد وبدائع المصانع، سكن غرناطة ثم مالقة ثم سبتة ثم فاس، منقطعا لإسماع الحديث والتصوّف.
وجاور بمكة طويلا ثم ببيت المقدس، ثم تحول إلى مصر فأقام يحدث إلى أن لحق بربه، روى بالأندلس عن أبيه وأبى الحسن بن أبى العيش، وأبى عبد الله بن عروس، وعن أبى الحجاج بن يسعون وغيرهم.
وبسبتة عن أبى عبد الله التميمى وكثيرين، وأخذ عنه جماعة كثيرون منهم:
أبو إسحاق بن مهيب، وابن نصر البجائى، وأبو العباس البنانى وممن روى عنه بالإسكندرية رشيد الدين عبد الكريم بن عطاء الله، وبمصر رشيد الدين العطار.
ومن تصانيفه نظم وقفت منه على مجلد قدر ديوان أبى تمام وجزء سماه نتيجة وجد الجوائح، فى تأبين القرين الصالح، فى مرائى زوج أم المجد، وجزء سماه: نظم الجمان فى التشكى من إخوان الزمان.
وله ترسل بديع وحكم مستجادة وكتاب رحلته ومن شعره القصيدة الشهيرة التى نظمها وقد شارف مدينة طيبة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام مطلعها:
أقول وآنست باللّيل نارا
…
لعل سّراج الهدى قد أنارا
وإلا فما بال أفق الدجى
…
فإنّ سنى البرق فيه استطارا
ومن كلامه:
هنيأ لمن حج بيت الهدى
…
وحطّ عن النفس أوزارها
وأن السعادة مضمونة
…
لمن حج طيبة أوزارها
ومن ذلك:
إذا بلغ المرء أرض الحجاز
…
فقد نال أفضل ما أمّ له
وإن زار قبر نبى الهدى
…
فقد أكمل الله ما أمله
مولده ببلنسية سنة تسع وثلاثين وخمسمائة، وقيل: بشاطبة سنة أربعين، وتوفى بالإسكندرية ليلة الأربعاء السابع والعشرين من شعبان سنة أربع عشرة وستمائة رحمه الله تعالى-انتهى-.
وترجمه غير واحد منهم المقريزى فى تاريخ مصر الكبير، والشيخ أحمد المقّرى فى الباب الخامس من كتاب نفح الطيب.
إخنا
قرية من بلاد الغربية بقسم محلة منوف شرقى طندتا على أقل من ساعة على شاطئ الجعفرية الجديدة، وفيها معمل دجاج وجامع بمنارة عند مقام الشيخ حسن الصائغ، وهو شيخ له شهرة وله مولد كل سنة قبل المولد الكبير لسيدى أحمد البدوى.
وعلى هذا فهذه القرية غير إخنا القريبة من البرلس على شاطئ البحر الأبيض التى ذكرها المقريزى عند الكلام على طرف مما يتعلق بالإسكندرية، فقال: إن إخنا حصن على شاطئ بحر الملح قال: وطريق الإسكندرية إذا نضب ماء النيل يأخذ بين المدائن والضيّاع، وذلك إذا أخذت من شطنوف إلى سبك العبيد، فهو منزل فيه مينة لطيفة وبينهما اثنا عشر سقسا، ومن سبك إلى مدينة منوف.
وهى كبيرة وفيها حمامات وأسواق وبها قوم فيهم يسار ووجوه من الناس وبينهما ستة عشر سقسا ومن منوف إلى محلة سرد، وفيها منبر وحمام وفنادق وسوق صالح ستة عشر سقسا، ومن محلة سرد إلى سخا: وهى مدينة كبيرة ذات حمامات وأسواق وعمل واسع وإقليم جليل له عامل بعسكر وجند، وبه الكتان الكثير وزيت الفجل وقموح عظيمة ستة عشر سقسا، ومن سخا إلى شبركمية وهى مدينة كبيرة بها جامع وأسواق ستة عشر سقسا، ومن شبركمية
إلى مسير، وهى مدينة بها جامع وأسواق ستة عشر سقسا، ومن مسير إلى سنهور، وهى مدينة ذات إقليم كبير وبها حمامات وأسواق وعمل كبير ستة عشر سقسا، ومن سنهور إلى النخوم وهى ذات إقليم وبها حمامات وفنادق وأسواق ستة عشر سقسا، ومن التخوم إلى تسترو، وكانت مدينة عظيمة حسنة على بحيرة اليشمون عشرون سقسا، ومن تسترو إلى البرلس وهى مدينة كثيرة الصيد فى البحيرة وبها حمامات عشرة سقسات، ومن البرلس إلى إخنا وهى حصن على شط البحر المالح عشرة سقسات، ومن إخنا إلى رشيد وهى مدينة على النيل ومنها يصب النيل فى البحر من فوهة تعرف بالأشتوم وهى المدخل ثلاثون سقسا.
وكان بها أسواق صالحة وحمام وبها نخيل وضريبة على ما يحمل من الإسكندرية، وهذا الطريق الآخذ من شطنوف إلى رشيد ربما امتنع سلوكه عند زيادة النيل.
وقال أيضا فى سبب نقض إسكندرية وخروجهم، أن صاحب إخنا وكان يسمى ظلما
(1)
قدم على عمرو فقال: أخبرنا ما على أحدنا من الجزية فنصير لها، فقال عمرو وهو يشير إلى ركن كنيسة لو أعطيتنى من الركن إلى السقف ما أخبرتك إنما أنتم خزانة لنا، إن كثّر علينا كثّرنا عليكم، وإن خفف عنا خففنا عنكم، فغضب صاحب إخنا وخرج إلى الروم فقدم بهم فهزمهم الله تعالى وأسر وأتى به إلى عمرو، فقال له الناس: اقتله، فقال لا: بل انطلق فجئنا بجيش آخر وسوّره وتوجه وكساه برنس أرجوان، فرضى بأداء الجزية فقيل له:
لو أتيت ملك الروم، فقال لو أتيته لقتلنى وقال قتلت أصحابى.
(1)
فى معجم البلدان «إخنا» روى-طلما بالطاء المهمله.
أدرنكة
قرية من قسم أسيوط فى جنوبها الغربى على نحو ساعة، بها جوامع وكنيسة أقباط ومكاتب لتعليم الأطفال، وهى من بلاد الزنار المشهورة بجودة المحصول، ولأهلها شهرة بزرع الكتان والشعر والكمون الأبيض والأسود والأنيسون والثوم والقرع العسلى وجودة نسج الصوف والكتان وبها نخيل.
وفى غربيها بسفح الجبل قبور نصارى أسيوط وغيرها من البلاد المجاورة، وقبلى تلك المقابر ثلاثة ديور أحدها يسمى دير العذراء التحتانى، والآخر دير العذراء الفوقانى، والثالث دير ساويرس.
وفى خطط المقريزى عند ذكر أديرة النصارى اعلم أن ناحية أدرنكة هى من قرى النصارى الصعايدة ونصاراها أهل علم فى دينهم وتفاسيرهم فى اللسان القبطى، ولهم أديرة كثيرة فى خارج البلد من قبليها مع الجبل، وقد خرب أكثرها وبقى منها دير بوجرج وهو عامر البناء وليس به أحد من الرهبان ويعمل فيه عيد فى أوانه إلى آخر ما قال فى سرد الأديرة فانظره.
إدفا
بهمزة مكسورة فدال مهملة ساكنة ففاء فألف، ويقال: فيها إتفا بالمثناة الفوقية بدل الدال، قرية من مديرية جرجا بقسم سوهاج فى شمالها الغربى وغربى ترعة السّوهاجية فى حوض العزيزات، وهى غير مدينة أدفو التى بأقصى الصعيد ولها شبه بالمدن، وفيها جامع بمنارة ومساجد أخر.
وبها أشراف وعلماء وبها تلول هى آثار بلد قديمة وقد وجد فى تلولها زمن تفتيش لطيف باشا على الأقاليم القبلية مطمورة مملوءة قمحا، يقال إنه ضل عنها صاحبها وادعى على آخر أنه سرقها، وقد حسبت مدتها فوجدت نحو ستين سنة ولم يتغير قمحها، وقد عرض من قمحها على المرحوم سعيد باشا، وهكذا عادة البلاد ذات التلول، أن يحفروا فيها مطامير لخزن الغلال ويغطونها بنحو متر من التراب وعند فتحها توجد كما وضعت لا يعتريها سوس ولا غيره، ومن نصاراها من صنعته إفراخ بيض الدجاج فى معامل متفرقة فى البلاد القاصية والدانية، وهى قريبة من الجبل الغربى بنحو نصف ساعة وفى قبليها ورشة قطع الأحجار، وبها نخيل وأشجار وأكثر تكسب أهلها من الزراعة وأرضها جيدة خصبة.
وفيها كنيسة قديمة ونصارى بكثرة وفى بعض الكتب القديمة أن كنيستها باسم مارى بخوم الذى كان راهبا فى زمن الأب شنودة وكان يطعم رهبانه الحمص المصلوق، ويقال له:
حمص القله، وهذه القرية هى التى عناها كترمير بقوله:
إن إتفا هى إدفا الواقعة فى بحرى إخميم لأنها فى الغرب المائل إلى الشمال، وفى خطط المقريزى أنه كان يقال لهذا الراهب أبو الشركة يعنى أنه كان يربى الرهبان فيجعل لكل راهبين معلما، وكان لا يمكن أحدا من إدخال الخمر ولا اللحم إلى ديره ويأمر بالصوم إلى آخر التاسعة اه.
أدفو
بضم الهمزة وسكون الدال وضم الفاء فى آخره واو قال فى القاموس أدفو بالضم قرية قرب مدينة الإسكندرية وبلد بين أسوان وإسنا منه محمد بن على الأدفوى النحوى له تفسير أربعون مجلدا انتهى.
وهى مدينة عظيمة واقعة على الشاطئ الغربى للنيل بين أسوان وإسنا فى جنوب إسنا بقدر خمسة ميريا متر، وبعدها من النيل ألف وخمسمائة متر، وفى جنوب طيبة باثنين ميريا متر ونصف.
وكانت من أعظم مدائن خط قوص وكانت تسمى قديما أبو لنيس سوسبتاس مانيا والرومانيون يسمونها أبلونوبوليس مانيا يعنى مدينة أبلون الكبيرة احترازا عن مدينة/ أبلونويوليس باروا-يعنى الصغيرة-.
وأغلب أهلها مسلمون وأقباطها يعقوبية ولها شهرة بصنعة الفخار لا سيما الجرار المتخذة من طينة طفلية يجلبونها من الجبال المجاورة لها، ويستعملون فى بعض أنواع الفخار، طينة جيدة يخلطونها بطين النيل والقصرمل فتصير بعد الحريق شديدة الحمرة، والدواليب المستعملة فى هذه الصنعة وأشكالها الآن هى مثل الدواليب والأشكال القديمة، وهذا يدل على وجود هذه الصنعة فيها من قديم الزمان، وأنهم توارثوها جيلا بعد جيل إلى الآن.
ويأتى إلى هذه المدينة كثير من عرب العبابيد القاطنين فى الصحراء لبيع أشيائهم وشراء ما لزم لهم من الحبوب ونحوها، لأنها أول بلد يوجد فيها لوازم الأقوات بعد مفارقة مدينة أسوان.
وفى زمن الفرنساوية كانت أدفو قرية صغيرة أهلها فى غاية الفقر، وذكر بلين وغيره أنها كانت من أعظم مدن الصعيد، وفى خطط أنطونان أن بعدها عن إسنا اثنان وثلاثون ميلا، وأنها واقعة بين مدينة أسوان وإسنا على ما ذكره استرابون.
فمن ذلك مع قياس البعد الذى بينها وبين إسنا على الخرطة فوجد 47400 متر وهو يوافق الاثنين والثلاثين ميلا المذكورة.
ويظهر أن هذه المدينة لم تنتقل عن محلها الأصلى، ثم إنها كانت فى زمن قيصر الروم أدريان
(1)
من المدن المعتبرة وفيها ضربت ميداليات باسمه، وفى القرن الرابع من الميلاد فى الوقت الذى كتب فيه إميان مارسيلوس تاريخه كانت هذه المدينة قد انحطت عن قدرها، وكانت المدن المعتبرة من مدن الصعيد هى قفط وهرموبوليس.
ولم يذكر هيرودوط معبد مدينة أدفو مع أنه من أشهر ما يوجد فى الجهات القبلية، والظاهر أن الأهالى لم تطلعه عليه، ولم يتكلم عليه أيضا كثير من المؤرخين والسياحين الذين أتوا بعده، ولم تعلم حقيقته ويظهر أمره إلا بعد دخول العرب أرض مصر وهو يشتمل على معبدين متقاربين واقعين فى شمالها الغربى فى أسفل تل مرتفع فى غاية الحفظ إلى الآن.
وكان لتلك المدينة رصيف على البحر، وسعة تلولها وكثرة آثارها يدلان على أنها كانت مدينة كبيرة متسعة ومعبدها الكبير مرتفع عن البلد إلى الآن، ولذا تسميه الأهالى قلعة وهو يشاهد من مسيرة فرسخين.
(1)
يقصد هادريان.
وفى زمن الفرنساوية كان جزء من بيوت البلد فوق سطحه وإذا قارن الإنسان البيوت الجديدة بالمعبد وبنائه ونظر إلى السكان وأحوالهم لا يرى مناسبة بينهم وبينه، ويستبعد أن يكون مثل هؤلاء الناس من ذرية من بنى مثل هذا البناء، ويقول: كيف أمكن المصريين أن يبنوا مثل هذا البناء الهائل فلا بد أن سكان هذه الأرض كانوا يخالفون من بعدهم فى الكيفية والأحوال.
وطول هذا المعبد قريب من مائة وثمانية وثلاثين مترا، وعرضه تسعة وستون مترا فالعرض نصف الطول، وأكبر ارتفاع فيه خمسة وثلاثون مترا وارتفاعه عند الباب سبعة عشر مترا، وقطر أغلظ الأعمدة متران من أسفله، ومحيطه قريب من عشرين قدما وارتفاعه ثلاثة عشر مترا، ومحيط التاج قريب من اثنى عشر مترا، أو سبعة وثلاثين قدما، وهو من الحجر الصّلب القابل للصّقل ولا يمكن الدخول فيه إلا بمشقة لإحاطة البيوت والأتربة به.
وفى داخله دهليز واثنان وثلاثون عمودا ومحل العبادة محوط بدهاليز، وأمامه إيوان وبابان عظيمان وجميع ذلك محوّط بسور له باب بجانبه برجان فى غاية من الارتفاع، وبين هذا الباب وباب المعبد فضاء على صورة حوش تحيط به أعمدة من أربع جهاته، والمسافة التى بين البابين وقدرها ثلاثة وأربعون مترا منقسمة إلى اثنى عشر قسما، كل قسم قدر ما بين الأعمدة، وقاعدة كل عمود بالذهاب إلى الباب مرتفعة عن سابقتها، وكانت الأهالى مع أمير الجهة يجتمعون فى هذا المحل فى عيد النيل.
قال هيرودوط ما ترجمته: متى ارتفع ماء النيل وتعدى الجروف لرى الأرض يكون هذا الوقت عيد النيل فيتوجه الأمير ومعه القسيسون والأمراء ووجوه الناس فى الملابس الرسمية إلى المعبد، ليشكروا الله تعالى على ما أنعم به من زيادة النيل.
فإذا كان الأمير عند باب المعبد كان جميع من خلفه موزعا على اثنتى عشرة فرقة على حسب درجاتهم فى الموكب ويسيرون قليلا قليلا على صوت الألحان والآلات ويدخلون المعبد لتمجيد اسم الله تعالى، فلا موكب يشابه هذا الموكب الذى لا يمكن وصف منظره العجيب، وأفواج الخلق فوق هذه الطبقات الواسعة المدرجة، ولم يكن فيما عمله الرومانيون ومن بعدهم إلى الآن بناء مثل هذا شامل لأنواع الظرف مع المتانة والصلابة التى غالبت القرون وغلبتها، مع أنا نجد بناء غير المصريين ممن استولوا على هذه الأرض قد زال بالكلية.
وهذا المعبد باق مع تسلط جميع ما يوجب الانهدام والخراب عليه، كتسلط الأهالى والولاة والقرون وحوادثها، وللآن يرى كأنه بنى بالأمس فإن لم يكن غيره باقيا من بناء المصريين فهو كاف فى الدلالة على علوّ مقدارهم ومعلوماتهم ومهارتهم فى الصنعة.
وفى خطط الفرنساوية/تفاصيل الزينة والنقوش المزين بها هذا البناء، مع بيان نسب الأجزاء وكيفية التفصيل وغير ذلك فلتراجع.
وزعم الأروام أن أهل هذه المدينة كانوا يقدسون أبلون ولذلك سميت أبلونويوليس، وكانوا يكرهون التمساح كراهة شديدة ويعلقونه على غصون الأشجار ويقطعونه قطعا ويأكلونه، وكان ذلك داعيا لعداوة أهل [كوم]
(1)
أمبو وخطها لهم ووقوع النزاع بينهم على ما ذكره بعض مؤرخى الروم، لأن التمساح كان من الحيوانات المقدسة عند أهل كوم امبو وخطها.
(1)
للسياق.
فإن قلت كيف يعقل أن هذه المعابد الجسيمة والمبانى المتقنة يجعلها المصريون لعبادة كلب أو قط أو قرد ونحوها، وكيف عملوا هذه الأعمال التى لم يسبقهم أحد بها ليسجدوا فيها لحيوان ويعلفونه كغيره من جنسه المسخر فى الأشغال.
قلت: الذى يظهر ويغلب على الظن أن مثل هذا الاعتقاد لم يكن عند هذه الأمة التى سبقت جميع الأمم فى المعارف والتمدن ومهدت طرق العلوم لجميع الناس، فالظاهر أن ذلك ألغاز منهم، وأنهم كانوا يلاحظون فى هذه الحيوانات صفات فيها إشارة لصفات الخالق سبحانه وتعالى، أو لسر من أسراره لا يطلع عليه إلا القليل من الناس، فيعظمونها لذلك.
والذى أشاع ذلك عن المصريين إنما هم اليونانيّون والرومانيون لعدم اطلاعهم على مراد المصريين العقلاء، ثم ازداد الأمر بعد دخول الديانة النصرانية فكسيت الحقائق حجب الخفاء، حتى ضاع ما كان يعنيه المصريون بما ألغزوه.
وقال بعض شارحى هيرودوط: إن أنطيفان الشّاعر الرومى من شعراء ما قبل الميلاد بأربعمائة سنة سخر فى كتابه من المصريين فى تقديسهم للحيوانات حتى سمك البحر، فإنهم كانوا يقدسون منه نوعا يسمى ليبيدوت، وهو الذى سماه الأب سيكار البنى، ونوعا يسمى اكسيرلكوس وسماه الأب سيكار العبيدى، وكذلك ثعبان الماء فقال أنطيفان:
إن المصريين قد فاقوا الناس فى كل شئ حتى سوّوا بين ثعبان الماء والآلهة، بل تجاوزوا حدّ التسوية إلى التفضيل فإنا نحصل خير الآله بمجرد الدعاء، وأما ثعبان الماء فلا نصل إلى الانتفاع به إلا بصرف كثير من الدراهم.
وقال آخر فى قطعة شعر هزلية قصد بها المصريين ما معناه: أنتم تعبدون العجل وتجعلونه إلها، ونحن نذبحه قربانا للآله، وأنتم تعتقدون ثعبان الماء إلها، ونحن نعده من طيبات الأطعمة.
وقال بعض شارحى هيرودوط أيضا: إن اعتبار المصريين للحيوانات واحترامهم إياها إنما هو لما فيها من الأسرار والخواص والأسباب التى تخفى على كثير من الناس، وليس ذلك عبادة لها، وإنما كلام اليونانيين ناشئ عن جهلهم بما كان يلحظه المصريون ويعلمونه فى الحيوانات، مثلا ثعبان الماء من خاصيته أن أكله يغلظ الدم ويمنع العرق، وذلك سبب لحصول الجذام فحرمه القسيسون لذلك، ولأجل سد باب أكله أخرجوا ذلك مخرج التقديس ليمتنع أكله بالكلية.
وفى كتاب هيرودوط، أن للتمساح أربعة أرجل وأنه يمتنع من الأكل أربعة أشهر الشتاء، وأنه يعيش فى الماء ويخرج إلى البر ويبيض فى الرمل، وفى النهار يألف الأماكن اليابسة، وفى الليل يألف الماء لسخونته عن الهواء.
وقال بلين: إنه قد يختفى فى الجحور وبيضه قدر بيض الأوز، وفقسه بنسبة ذلك، ويكبر حتى يبلغ سبعة عشر ذراعا وأكثر، وعيناه كعينى الخنزير، وأسنانه بارزة وكبرها بنسبة جسمه، وليس له لسان، ولا يحرك فكه الأسفل عند الأكل وإنما يحرك الأعلى.
وقد استكشف علماء وقتنا أن له لسانا ملتصقا بالفك الأسفل به ثقوب كثيرة مثل لسان السمك والثعبان والثلاثة تستعمله فى ذوق الغذاء فقط، بخلاف باقى الحيوانات فألسنتها للطعام والصوت، ومخالبه قوية وجلده مكسو بصفائح تمنع نفود السلاح فيه.
وهى ثلاثة أنواع، فما على الجنبين والذراعين والرجلين وجزء من الرقبة قطع مستديرة الشكل مختلفة كبرا وصغرا، وما على الظهر ووسط الرقبة وفوق الذيل قطع مستطيلة كالشريط، وما على البطن وتحت الذيل وتحت الرقبة وباطن الرجلين قطع رقيقة لينة، والنوعان الأخيران يشبه وضعهما وضع البلاط فى الأرض بشكل مربع، ولا يبصر فى الماء ونظره خارجه حديد وفى جوفه ديدان، والوحوش والطيور تهرب منه إلا طيرا يسمى تروشليس- (السكساك) -فإنه يألفه، فإذا خرج التمساح إلى البر التفت إلى النسيم وفتح فاه فيدخل فيه هذا الطير ويأكل الدود الذى فى جوفه فيستريح التمساح لذلك فلا يؤذيه.
والتمساح محترم عند بعض المصريين دون بعض، فممّن يحترمه أهل ضواحى طيبة وبحيرة موريس ويربونه عندهم حتى يألف الناس ويجعلون فى أذنيه أقراطا من ذهب أو حجر صناعى وفى رجليه خلاخل ويمونونه بلحم القرابين، وإذا مات صبروه ووضعوه فى صندوق ودفنوه، وأهل جزيرة أسوان وضواحيها لا يحترمونه بل يأكلونه، وطريق صيده أن تجعل قطعة من لحم الخنزير فى سنارة وترمى فى البحر ويقعد الرامى على البر وعنده خنزير صغير فيضربه فيصرخ، فإذا سمع التمساح صوت الخنزير أتى إليه/فتقابله الطعمة فيبتلعها فتمسكه الصناره
وذكر بعض السياحين إنه بعد أن يأتى إلى البر على صوت الحيوان يضرب بنشاب فيه حبل ويترك فى البحر حتى تبطل حركته ويبرد، وبعض الناس يركب على ظهره ويربط فمه واسم التمساح بالمصرية شانبيس وتسميه اليونان قروقوديل وترجمته القبط إمساح من غير أداة التعريف وبأداة التعريف بإمساح، والعرب تسميه تمساح وله شبه بالحيوان البرى المعروف بالورل أ. هـ.
ثم إنه يعلم من كلام المؤرخين أن الرومانيين بعد استيلائهم على هذه الأرض غيروا أسماء المدن وجعلوها على أسماء مقدسيهم، ولذا ضاع كثير من الأسماء القديمة.
ويستفاد من كلام أوزيبى أن مدينة أبلونوبوليس هى مدينة هوروس، لأن الروم سمت هوروس أبلون فى لغتهم وأقره على ذلك هيرودوط وبولوتارك وديودور.
وكانت الروم تسمى الشمس فى أعظم ارتفاعها أبولون ويقولون إنه القاتل للثعبان بيتون، والمصريون يقولون: إن هوروس هو القاهر ليتفون. ويعنون بذلك أن الشمس متى بلغت غاية ارتفاعها تبعث إلى الأرض أكثر الحرارة والنور ويكون معظم إشارتها إلى خروج نهر النيل، لأنه يكون سببا لزوال جميع دواعى الضرر ويعنون بذلك موت تيفون؛ لأنهم كانوا يجعلون هذا الاسم علما على القحولة والوباء وما يشبههما وحينئذ يعود للديار المصرية خيرها، ومتى عم الماء الأرض حصلت الخصوبة وتمت البركة ويكون قد تم عمل هوروس أو الشمس فى المنقلب الصيفى، ومن تأمل الرسوم والنقوش التى على جدران المعبد يفهم منها أمورا كثيرة من معتقدات القطر وأن جميع هذه الرموز إشارات لأمور فلكية، فيشاهد فى نقوش الباب الجسيمة فى الأفريز سلما له أربع عشرة درجة فى نهايته عود نيلوفر فوقه هلال متوّج بعين، وفى الخلف صورة صغيرة رأسها رأس الطير أبيس، وبإمعان النظر فى ذلك يعرف جميع أحوال المنقلب الصيفى وأول شهر من شهور السنة، فإن النيلوفر إشارة لزيادة النيل، والعين على ما ذكره بلوتارك إشارة إلى الشمس أو أوزريس فى أعلى ارتفاعها، والطير أبيس علم على الرى، والهلال المتوّج وطرفاه إلى أعلى دليل على الهلال المذكور على ما ذكره هورابلون، والصورة التى تأتى فى الأول رأسها رأس الطير أبيس تقدم إليه إناء ماء، وهو أيضا إشارة لعلو النيل، وتوجد أيضا فى السطر الخامس عشر بعد السلم وكذلك بعد السابع والعشرين وفى يدها الصورة التى على الهلال يعنى عين أوزريس، وأمامه إشارات تدل على النيل أيضا.
والشمس بثلاث جمل من الأشعة دلالة على أعظم قوة الحرارة، ثم سطر أمام الصورة الخامسة والعشرين مع الشمس المضيئة وكذا أمام الصورة الثانية والثلاثين والصورة السادسة والعشرين من ضمن نقوشها جملتان من النيلوفر وتحتهما أعضاء التناسل، وهما علامة على إدراك الزرع والخصوبة، فمن جميع ذلك يظهر أن نقوش الإفريز جميعها تدل على أحوال الشمس فى المنقلب الصيفى فى لحظة الهلال الجديد.
وقال هيرودوط: إن المصريين يعنون بأوزريس النيل وبإزيس الأرض وأوزريس فى الأصل هو الشمس وهم يجعلون فيضان النيل عطية من الشمس، ومعنى أوزريس باليونانية كثير الأعين، وذلك أن أشعة الشمس كثيرة تعم الأرض والبحر، ولذا تجد كهنة هذا المقدّس عليهم قلانس فيها جملة عيون.
وقال بلوتارك: إن أوزريس يسمى عند اليونان باكوس، وقال ديودور: إن منظر السماء وباقى الخلقة بهر المصريين الأقدمين فذهبوا إلى اعتقاد إلهين أبديين سابقين على بقية الآلهة وهما الشمس والقمر وسموا الأول أوزريس والثانى إزيس إنتهى.
وإنما الله إله واحد وقد وصف الطير أبيس بعض شارحى هيردوط فقال: هو طير يشبه اللقلق المعروف بأبى مغازل إلا أن اللقلق أكبر منه، ورقبته ورجلاه أكبر من رجلى اللقلق ورقبته، وطوله من منقاره إلى ذيله ثلاث أقدام ونصف، وريشه أبيض غير ناصع ما خلا الريش الكبير من الجناحين فهو أسود، وفى باطن الجناحين نقط حمر بعضها قانئ وبعضها بلون اللحم، وعلى فخذيه قليل من الريش فى هيئة سطور، وأعلى رأسه عار من الريش كالذى حول عينيه وتحت حلقومه وقرب منقاره، وجلد هذه المواضع الأربعة أحمر ذو
تكاميش، وأعلى منقاره بقدر أصبع ونصف غليظ أصفر فاقع وطرفه ليس مدققا بل يرى كالمقطوع، وفى صفرته شئ وجميعه أملس يشبه العاج ذو انحناء من أوله إلى آخره على خلاف هيئة مناقير الطير، وطرفه وجوانبه حداد قاطعة سريعة فى تقطيع الثعابين، وله انكباب زائد على أكلها، أحمر الرجلين بقدر أربعة أصابع، وفى جميع رجليه تقليس مسدس الشكل ما خلا الأصابع، وعلى أصابعه جلدة ممتدة إلى آخرها قال:
وكان هو التمثال الحى للقمر وكان يسمى أبا حنس، ونقل عن إليان أن هذا الطير كان إذا أخرج عن أرض مصر يميت نفسه جوعا، ثم ردّ ذلك بأن هذا الوصف السابق هو وصف الطير الذى نقل من مصر إلى بلاد فرنسا وعاش بورساى زمنا/طويلا انتهى.
وقال العالم سوينى إن منه طيرا أسود فى نواحى دمياط ورشيد والمنزلة ويسمى عندهم إلى الآن الحارث انتهى.
(ولنرجع) إلى ما نحن فيه فنقول: ثم إنه يرى فى أول الإفريز صور عديدة لإمرأة رأسها رأس سبع ينظر إلى قبليه وفى يدها عود نيلوفر، ويشاهد أيضا جملة صور رؤوسها رؤوس سباع أيضا.
وعندها أوان فيها ماء، ويظن أن ذلك إشارة إلى افتتاح السنة فى الوقت الذى فارق فيه المنقلب الصيفى الجوزاء ولحق بالنجوم الأولى من الأسد يعنى الدرجات الأخيرة منه، فإن صح ذلك يكون معبد مدينة أدفو بنى عند تجديد دورة من أدوار الشعرى، يعنى مدة فلكية كان لها اعتبار عظيم عند المصريين، وكانت تلك الدورة ألفا وأربعمائة وإحدى وستين سنة، يحصل عندها رجوع الفصول إلى ما كانت عليه، وتتوافق السنة الزراعية الثابتة مع السنة
الديانية، وكان المصريون يبنون لها أفخر المبانى، وكانت أعظم وقت تفرح فيه الأهالى، وكانت تضبط بها الحسابات الفلكية، وهى تدل على غزارة علم القسيسين لأنهم المخترعون لها وتسمى دورة الشعرى، وكان المصريون يرمزون لها بالطير الخرافى المسمى عند الإفرنج فنيكس وربما كان العنقاء أو السمندل، وكان الأقدمون يقولون: إن هذا الطير يعيش ألفا وأربعمائة وإحدى وستين سنة، ويوجد فى هذا المعبد صورة ذلك الطير بكثرة.
وذكر هيرودوط: أن صورته تشابه صورة النّسر وأنها كانت توجد فى ضمن نقوش المصريين وأنه نظرها، ويقال: إن هذا الطير متى قرب أجله يعمل عشّا من اللبان والمر، ويفارق الهند الذى هو وطنه ويأتى إلى معبد عين الشمس ويموت فيه، ثم بعد أيام قليلة يحبا من تراب النار التى أحرق فيها، ومن أمعن النظر فى الصورة الموجودة فى نقوش المعبد رأى الطير فى حداثة سنه خارجا من الحريق.
وذكر سولان أيضا: أن هذا الطير إشارة إلى السنة الكبرى-يعنى دورة الشعرى- وذكر بلين أن عمره يطابق السنة الكبرى التى يحصل بعدها رجوع الأمور إلى ما كانت عليه، وقال هيرابولون: إن هذا الحيوان إشارة إلى عود الزمان إلى أصله بعد مدة طويلة، وجزم ناسيت بأن عمر الفنيكس ألف وأربعمائة وإحدى وستون سنة، وصورته توجد فى أغلب المبانى العظيمة سيما فوق قواعد الأعمدة، وعلى جلسة الكرسى له يدان مبسوطتان مفتوحتان وأمامه نجمة يظهر أنها الشعرى سيريوس التى تدل بشروقها الاحتراقى على تجديد الدورة وزيادة النيل والمنقلب الصيفى، وتشاهد دائما فوق قدح وهو إشارة إلى الفيضان.
وتوجد هذه الصورة أيضا فى معبد جزيرة بيلاق ومعبد إسنا، وفى المعبد الكبير الذى فى جزيرة بيلاق صورتان بهما جميع الإشارات التى نبه كل من هيرودوط وبلين وسولان على
أنها إشارات الفنيكس، وله عرف على رأسه موجود إلى الآن، وفى قاموس الإفرنج أن سولان هذا عالم لاتينى كتب تأليفه سنة مائتين وثلاثين بعد الميلاد انتهى.
وقال هيرودوط: إن بعض أجنحة هذا الطائر ذهبى والبعض أحمر وهو باق إلى الآن، وكذلك ريش الذيل الوردى وريش الرقبة الذهبى وكل من هؤلاء المؤلفين يقول: إن صورته صورة النّسر ومنقاره كمنقار النّسر وله يدان كيدى الآدمى مرفوعتان فى الهواء ورجلان طويلتان.
وفى مدينة أبو صورة: طير له وجه إنسان جالس على قدح وهو مثل الفنيكس ويدان مرفوعتان وأمامه نجمة وله أجنحة منشورة وعرف، وهذه هى الإشارات الواردة فى كتب المؤرخين فهى صورة الفنيكس.
وفى رسوم مدينة طيبة ودندرة توجد هذه الصورة بكثرة، فقد بان لك ما كان عليه قدماء المصريين من أن ذهاب الفنيكس من الهند إلى مصر ليموت فيها ثم يحيا مرة أخرى، يدل على عودة السنة الثانية وهى التى كانت مستعملة عند المصريين والهنود، وكانت لا تعود إلا بعد ألف وأربعمائة وإحدى وستين سنة، وبرجوعها كان يتوافق سير الزمان مع سير الشمس، وأن عمر هذا الطير وسفره وموته وعودته للحياة ثم سفره إشارة إلى الشمس، ويؤيد ذلك ما ذكره هورابولون من قوله: متى فتح الطير الجديد جناحيه يطير مع أبيه إلى مدينة عين الشمس من مصر، وعند وصولهما يموت الأب عند شروق الشمس ويدفنه قسيسو مصر ويعود الفنيكس الجديد إلى محل ولادته، ثم إن العش المتخذ من المرّ واللبان إشارة إلى بلاد المشرق، وعودته إلى مدينة عين شمس إشارة إلى رصد مدينة عين شمس، وكان القسيسون يرصدون النجوم فيه طول السنة الشمسية.
ويؤخذ من جميع ما مر أن معبد مدينة أدفو كان بناؤه عند تجديد الدورة الفلكية للشعرى كما تقدم، والذى يستغرب منه هو نسبة بعض أجزاء هذه العمارة لبعض/ويدل ذلك على أن المصريين كان لهم قوانين متبعة لا يخرجون عنها فى إنشاء عماراتهم، وهاك بعض هذه النسبة فإن ذكر جميعها يوجب الطول.
وهكذا باقى الأجزاء وبالتأمل يرى طول المعبد ضعف عرضه والارتفاع نصف العرض وواجهة الباب التى يحيط بها البرجان اللذان كانت العادة وضعها أمام المعابد والسرايات عرضها ضعف عرض الباب، ويرى أن الارتفاع أربعة أمثال ذلك، وعرض المعبد ستة أمثاله وطول واجهة الباب ضعف الارتفاع وهكذا على هذا النسق، ولو فرض أن قدر الذراع 462 ر 0 متر يكون الطول الكلى للمعبد أربعمائة وخمسين ذراعا، وعرضه فى الخارج مائة وخمسين ذراعا، وهكذا يكون باقى الأجزاء عددا صحيحا من غير كسر، وذلك المعبد يشبه معبد دندرة شبها تاما.
وبعضهم يعزو بناءه إلى فرعون مصر مريس، وأن البطالسة أضافوا له بعض إضافات، وبعضهم ينسبه إلى بطليموس الرابع الملقب ببطليموس فيلا ماطور
(1)
، واشترك فى زخرفته جملة من البطالسة، وبابه يعزى إلى بطليموس الثالث عشر، وعلى جدرانه نقوش تدل على اسم المعمار الذى بناه-وهو أموفيس-وعلى مدة الاشتغال فى بنائه وهى مائة وخمسة وسبعون سنة، ولم يتم نقشه إلا بعد مائة وتسعين سنة من تأسيسه، وفى داخله حجر جسيم محفور تدل كتابته على أنه عمل فى زمن نكتنابو الأول من ملوك العائلة الثلاثين، وطول واجهته 76 مترا وعمقه 137 مترا وارتفاع الباب 35 مترا ولكل أودة من أوده اسم وفى نقوش كل أودة بيان مقدار أبعادها، وبواسطة هذا المعبد يمكن معرفة الأقيسة القديمة ومقارنتها بالأقيسة المترية والأقيسة المصرية الحالية، وفى سنة ألف وثمانمائة وسبع وستين ميلادية صار إزالة ما به من الأتربة والقاذورات وخلص من سكنى الأهالى وجرت عليه شروط المحافظة كى لا يتلف كما تلف غيره.
(1)
الصحيح: بطلميوس الرابع الملقب ببطلميوس فيلوباتور (أى المحب لأبيه. Philopator (انظر ما سبق فى الجزء
السابع، ص 9؛ انظر إبراهيم نصحى: تاريخ مصر فى عهد البطالمة، ج 1، ص 124.
(فائدة). تاسيت المتقدم ذكره هنا ولد فى سنة أربع وخمسين بعد الميلاد ومات سنة مائة وأربع وثلاثين وكان من أشهر مؤرخى الأزمان الماضية وله مؤلفات كثيرة، وتعتمد الفرنج على تاريخه لصحته وتراجعه كثيرا وهو من ولاية إيطاليا انتهى من قاموس الجغرافية الفرنجى
ثم إن أهالى مدينة أدفو كانت عدتهم زمن دخول الفرنساوية هذه الديار قريبا من ألفى نفس، وكان بعدها عن النيل قريبا من عشرين دقيقة، وكان فيها أنوال لنسج ثياب القطن والصوف وفاخورات لعمل الأوانى من الجرار والخوابى الكبيرة وغير ذلك، وقد زادت عماريتها وكثر أهلها من ابتداء مجئ العائلة المحمدية إلى الآن.
وبالجملة فهذه المدينة لها قدم فى العز والفخر جاهلية بما تلى عليك من الآثار الجليلة، وإسلاما فإنها منشأ لجملة من الأكابر/والأفاضل وكفاها شرفا أن منها الكمال جعفر الأدفوى صاحب كتاب الطالع السعيد فى نجباء الصعيد.
ترجمة كمال الدين جعفر الأدفوى
وهو كما فى الأنيس المفيد لدساسى: كمال الدين أبو الفضل جعفر الأدفوى بن تغلب
(1)
بن جعفر مات بالطاعون فى القاهرة سنة تسع وأربعين وسبعمائة هجرية، ولننبه هنا أن الكمال فى مثل هذا مختصر من كمال الدين، كما أن الفخر مختصر من فخر الدين فهو بعض العلم، وكثيرا ما تحذف هذه الكلمة من الأسماء المركبة، ثم تارة توضع أداة التعريف بعد الحذف كما فى الكمال وتارة لا، كما فى نصير فإن أصله نصير الدين، وتارة يستعمل الجزء الباقى استعمال النسب، فيقال: النجمى والكمالى.
(1)
فى النجوم الزاهرة 10/ 237 والطالع السعيد «ل» والدرر الكامنة 1/ 535 ط الهند سنة 1348 هـ «ثعلب» .
مطلب أول التلقيب بالإضافة إلى الدين
قال السيوطى فى كتاب الوسائل إلى معرفة الأوائل أن أول حدوث التلقيب بالإضافة إلى الدين كان فى أثناء القرن الرابع وسبب ذلك أن الترك لما تغلبوا على الخلافة كانوا يسمون بشمس الدولة وناصر الدولة ونجم الدولة، فاشتاقت نفوس بعض العوام إلى التسمية بتلك الأسماء لما فيها من التعظيم والفخر، فلم يجدوا إلى ذلك سبيلا لعدم دخولهم فى الدولة فرجعوا إلى الدين ثم فشا ذلك وزاد حتى أنس به بعض العلماء فتواطؤوا عليه.
وفى تاريخ الصفدى أن عبد الملك أول وزير لقب بألقاب كثيرة بالدولة وبالدين وكان يلقب بشرف الدين مات سنة تسع وثلاثين وأربعمائة، وقد أورد فى الطالع السعيد جماعة من أكابرها منهم ثعلب بن أحمد
(1)
بن جعفر بن يونس علم الملك الأدفوى، كان رئيسا بها وحاكما وكان الملك الكامل يكاتبه توفى فى حدود أربعين وستمائة ببلده.
ومنهم الإمام الفاضل محمد بن على بن عبد الوهاب بن يوسف الأدفوى المنعوت ببدر الدين، اشتغل بالعلوم كلها وبنى بأدفو رباطا، ووقف عليه أوقافا، وكان ناظما ناثرا له يد فى الحساب والخط، جامعا بين كثرة الحفظ وقوة الفهم، باذلا جهده فى منافع أصحابه والسعى فى مصالحهم، واشتغل بالتصوف وكان مولده سنة ثلاث وسبعين وستمائة فى شهر المحرم انتهى ولم يذكر وفاته.
ومنهم العلامة محمد
(2)
بن حسين بن ثعلب خطيب أدفو كان له معرفة بالطب وله
(1)
فى الأصل حمد والمنبت عن الطالع/176
(2)
انظر ترجمته والشعر كاملا فى الطالع السعيد/515 - 517 ط الدار المصرية للتأليف والترجمة سنة 1966 م.
تأليف فى الفلسفة والتصوف وكان أديبا شاعرا ومن كلامه:
بانت سعاد فأضحى القلب فى شغل
…
مستأسرا فى وثاق الأعين النّجل
حكّمتها فاستعدّت للنوى صلفا
…
فصرت دهرى لفرط البين فى وجل
توفى بأدفو سنة سبع وتسعين وستمائة، وكان مسنا ويمشى إلى الضعفاء والرؤساء يطبهم بغير أجرة، وكان من أهل المكارم والمروءة والفتوة واسع الصدر كثير الاحتمال يأتى إلى الجماعة أقاربة فيسمعهم يشتمونه فيرجع ويأتى من طريق أخرى حتى لا يفهموا أنه سمعهم انتهى.
وفى زمن العزيز محمد على بنى بأدفو قشلاق صغير لإقامة العساكر الباش بزوك وهو الآن محل إقامة ناظر القسم فهى رأس قسم، وبها قاض ولها سوق يقام كل أسبوع يباع فيه بضائع تلك الجهات والمواشى الكبيرة والصغيرة، وبها نخيل ومساجد وأشجار وأرحية وأنوال ومعمل دجاج، وأرضها مشهورة بجودة المحصول بسبب ترعة الرمادى المنشأة فى عهد العزيز المذكور، وكانت قبل ذلك قحلة مملوءة بالحلفاء ونحوها، وفى مقابلتها فى البر الشرقى قرية الرادسية وجبل السلسلة واقع بين هذه المدينة ومدينة أسوان، ويقال: إنه فى الأصل جبل واحد كان معترضا أمام النيل كالشلال فقطع وصار مرور النيل فى وسطه فكان كجبلين يكتنفان النيل، واسمه مأخوذ من سلسلة من الحديد كانت معترضة بين الجبلين لمنع مراكب النوبة من الدخول، وعندها كانت تؤخذ العوائد المقررة على المراكب، وظن بعضهم أن اسمه مأخوذ من صورة الجبال التى هناك؛ لأن الجبال الشرقية تتصل عنده بالجبال الغربية كالسلسلة يتصل بعضها ببعض، وبهذا الجبل المحاجر العظيمة التى قطع منها أغلب التماثيل العتيقة التى بالكرنك وآبو
(1)
وغيرهما، وقد جعل أغلب مغاراته معابد ومقابر وبعضها سابق على العائلة الثامنة عشرة من الفراعنة.
(1)
يقصد: هابو.
أدكو
(1)
قرية كبيرة من مديرية البحيرة بقسم دمنهور وتارة تكون تابعة لمحافظة الإسكندرية أو محافظة رشيد أو تضاف إلى مأمورية بلاد الأرز، وهى واقعة على الشاطئ الغربى لبحيرة أدكو قريبة من البحر المالح على نحو ألف وخمسمائة متر، ومنها إلى رشيد نحو ساعتين وإلى الإسكندرية نحو ست ساعات وأبنيتها من الآجر والمونة، وأكثر دورها على طبقتين وبها جامعان كبيران لكل منهما منارة وبها طاحون هواء ومعمل فسيخ ونخيل كثيرة نحو سبعين ألف نخلة وكروم عنب، ويزرع بأرضها البطيخ وأصناف القثاء.
وفيها أنوال كثيرة لنسج مقاطع الحرير الإسكندرانى والملاءات والبشاكير والمحارم وقد بنى بها الشيخ الجبرتى مسجدا عظيما ووقف عليه عدة أماكن كما تقدم ذلك مع ترجمته فى الكلام على آية الوقف، وكثير من أهلها يصطادون السمك من بحيرتها، ومنهم من يتجر فى أصناف الفواكه والبلح/فيذهبون به إلى الإسكندرية وغيرها ولا يزرع بها شئ من أصناف الحبوب بسبب استيلاء الرمال على أرضها، وإنما يشترون الحبوب من رشيد والإسكندرية وبلاد الأرز وشربهم من حفائر يحفرونها فى الرمل نحو مترين.
ومن عوائد أهلها أن لا تخرج نساؤهم من البيوت إلا ليلا متحفظات، وأن لا يخرج الرجل من بيته كائنا من كان إلا ومقطفه على عاتقه، فإذا عاد استصحب معه فى المقطف ولو حجرا.
ومنها أنهم لا يجعلون للقبور شواهد من البناء، بل يزرعون فوق كل قبر صبارات فى صورة مستديرة أو مربعة وقبورهم متجاورة، فإذا ترعرعت الصبّارات وتفتح نورها ترى القبور كأنها روضة أزهار، ولا يخرج إليها من النساء إلا المتجالات مع التحفظ التام بخلاف قبور غيرهم فلها فى الغالب شواهد من الحجر أو غيره، وهى منشأ لجماعة من العلماء.
(1)
وردت فى القاموس الجغرافى «إدكو» . انظر: ق 2 ج 2، ص 298.
ترجمة الشمس الأدكاوى
ففى الضوء
(1)
اللامع للسخاوى أن منها: الشيخ محمد بن سلامة بن محمد بن أحمد بن إبراهيم ابن أبى محمد بن على بن صدقة الشمس الأدكاوى الشافعى ويعرف بابن سلامة.
ولد سنة ثمان وثلاثين وثمانمائة تقريبا بأدكو، فقرأ بها القرآن وبعض رسالة ابن أبى زيد على مذهب والده، ثم تحول شافعيا وحفظ المنهاج وعرضه على البلقينى والمحلى وابن الملقن وغيرهم، وتفقه على بلديه رمضان وأخذ عنه فى الفرائض والأصلين والعربية وطريق السلوك، ثم ارتحل لفوّة فأخذ عن ابن الخلال كتبا كالمنهاج والتنبيه ولازمه أربع سنين فى شرح الدميرى والجمل للزجاج وغير ذلك فى الفقه وأصوله والنحو.
وقرأ فى المنهاج على الزين زكريا وأخذ عن الفقيه شمس الدين ابن الترس، الفرائض والحساب حتى استوفى النزهة لابن الهائم، والتصوف عن أبى الفتح الفوى وقرأ عليه رسالته مرتين، وعلى إمام الكاملية بعض بداية الهداية للغزالى ولبس منه الخرقة، وتردد على عبد الرحيم الإبناسى وابن قاسم وغيرهما، ومهر وتميز وأذن له ابن الخلال فى تدريس الفقه والعربية، وكذا أذن له غيره وكتب له إجازة هائلة، وانتفع به أهل بلده بل وبعض الواردين، وكتب على متن أبى شجاع شرحا قرظه له كل من ابن الخلال والعبادى، وعرض عليه المناوى قضاء بلده فأبى وحج غير مرة أولها فى سنة تسع وستين ولازم بأخرة أخذ قماش معه مع عدم حظ له فى التجارة لغلبة سلامة الفطرة عليه، وكونه فى أكثر أوقاته متوجها
(1)
انظر الضوء اللامع 7/ 254 ط المقدسى سنة 1354 هـ
وتمادى فى ذلك حتى سافر من مكة لهرمز بمتجر أكثر مما استدان فيه، فباعه أكرم بيع وأكرمه صاحبها وعاد على أحسن وجه فخرج عليهم السّراق فسلبوهم، فتوصل لعدن فأكرمه ابن طاهر وتبضع من هناك، وركب البحر راجعا راجيا الاستشراف على وفاء دينه، فمات على ظهر البحر فى أثناء سنة اثنتين وتسعين ودفن هناك، وكان فى الصلاح والخير بمكان رحمه الله تعالى انتهى.
ترجمة عبد الله الأدكاوى
وفى الجبرتى أن منها الإمام الفاضل والأديب الكامل الناثر عبد الله بن سلامة الأدكاوى المصرى الشافعى الشهير بالمؤذن، ولد سنة أربع ومائة وألف ونشأ بالقرية المذكورة وحفظ القرآن بها، ثم أتى إلى مصر فحضر دروس علماء عصره واشتهر بفن الأدب ولازم فخر الأدباء فى عصره السيد على أفندى برهان زاده نقيب السادة الأشراف، فأكرمه وكفاه المؤنة من كل وجه وصار يعاطيه كئوس الآداب ويصافيه بمطارحة أشهى من ارتشاف الرضاب، وحج بصحبته فى سنة سبع وأربعين ومائة وألف، وعاد إلى مصر وأقبل على تحصيل الفنون الأدبية، فنظم ونثر ومهر ورحل إلى رشيد وفوة والإسكندرية مرارا، واجتمع على أعيان كل منها وطارحهم ومدحهم ثم بعد وفاة السيد النقيب لازم الشيخ الشبراوى مدة وبعد وفاته لازم الأستاذ الحفنى سفرا وحضرا فحصلت له العناية.
وألف كتبا كثيرة منها الدّرة الفريدة والمنح الربانية فى تقسيم آيات الحكم الفرقانية، ومختصر شرح بانت سعاد، والنزهة فى الفرائض، وديوانه المشهور الذى جعله على حروف الهجاء وغير ذلك.
توفى يوم الخميس خامس جمادى الأولى سنة أربع وثمانين ومائة وألف، وصلى عليه بالأزهر ودفن بتربة المجاورين قريبا من الشيخ الحفنى، وقد رثاه الشيخ على الشرنفاسى
(1)
(1)
فى هامش الجبرتى 1/ 354: على الشرقاوى مع مغايرة فيه.
بقوله:
إن الأدكاوى آوى
…
بفنون الشّعر لحده
كان فى الفنّ إماما
…
منجزا فى الفضل وعده
ولقد مات فأرخ
…
مات أس الشعر بعده
انتهى.
ومن كلامه قوله متوسلا بالنبى صلى الله عليه وسلم
(1)
:
يا رب بالهادى الشفيع محمد
…
من قد بدا هذا الوجود لأجله
وبآله الأمجاد ثم بصحبه الأ
…
خيار يا مغنى الورى من فضله
كن لى معينا فى معادى واكفنى
…
هم المعاش وما أرى من ثقله
واغفر بفضلك زلتى وارحم بعد
…
لك شيبتى واشف الحشا من غله
/ومن كلامه فى آل البيت:
آل طه يا أولى كل هدى
…
نزل القرآن فى تطهيركم
نوركم يجلودجا كل عنا
…
انظرونا نقتبس من نوركم
(1)
انظر تاريخ الجبرتى 1/ 354 ط الشرفية سنة 1322 هـ. مع مغايرة فى بعض ألفاظه.
ومن كلامه وقد حضر فى مجلس جماعة من مشاهير الكتاب، ولم يحضر فيه كاتب الوقت الضيائى الكاتب المشهور:
وناد قد حوى أقمار تم
…
من الكتاب زادوا فى البهاء
بهم قد زاد نورا وابتهاجا
…
فلا يحتاج فيه إلى الضياء
ثم قال يعضده فى المجلس:
لئن غدا مجلس الكتاب ليس به ال
…
مولى الضيائى من فى خطه بهرا
فالشمس من بعدها منها الضياء لقد
…
عمّ الورى فهو شمس غاب أو حضرا
والضيائى هذا على ما فى تاريخ الجبرتى هو: الأجل المكرم الفاضل النبيه النجيب الفقيه حسن أفندى ابن حسن الضيائى المصرى المجود المكتب، ولد فى سنة اثنتين وتسعين وألف فى منتصف جمادى الثانية كما وجد بخطه، واشتغل بالعلم على أعيان عصره واشتغل بالخط وجوده على مشايخ هذا الفن فى طريقتى الحمدية وابن الصائغ، أما طريقة الحمدية فعلى سليمان الشاكرى والجزائرى وصالح الحمامى، وأما طريقة ابن الصائغ فعلى الشيخ محمد ابن عبد المعطى السملاوى والشاكرى والحمامى جوّدا على عمر أفندى، وهو على درويش على، وهو على خالد أفندى، وهو على درويش محمد شيخ المشايخ حمد الله بن بير على المعروف بابن الشيخ الأماسى.
وأما السملاوى فجود على محمد بن محمد بن محمد بن عمار وهو على والده، وهو على يحيى المرصفى، وهو على إسماعيل المكتب، وهو على محمد الوسيمى، وهو على أبى الفضل الأعرج وهو على ابن الصائغ بسنده.
وكان الضيائى شيخا مهيبا بهىّ الشكل منوّر الشّيبة شديد الانجماع عن الناس، وكان يعاشر الشيخ محمد الطائىّ كثيرا ويذاكره فى العلوم والمعارف ويكتب غالب تقاريره على ما يكتبه بيده من الرسائل، وقد أجاز فى الخط أناسا بكثرة وتوفى فى منتصف ذى الحجة سنة ثمانين ومائة وألف، ومن كلام الأدكوى أيضا فى عنز الشيخ عبد اللطيف كبير خدمة ضريح السيدة نفيسة:
ببنت رسول الله طيبة السنا
…
نفيسة لذ تظفر بما شئت من عز
ورم من جداها كل خير فإنها
…
لطلابها يا صاح أنفع من كنز
ومن أعجب الأشياء تيس أراد أن
…
يضلّ الورى فى حبها منه بالعنز
فعاجلها من نوّر الله قلبه
…
بذبح وأضحى التيس من أجلها مخزى
ولهذه العنز قصة مشهورة حاصلها كما فى الجبرتى
(1)
: أنه فى سنة ثلاث وسبعين ومائة وألف أظهر خدام المشهد النفيسى، وكان كبيرهم إذ ذاك الشيخ عبد اللطيف عنزا صغيرا مدربا زعموا أن جماعة من الأسرى ببلاد النصارى توسلوا بالسيدة نفيسة وأحضروا ذلك العنز وعزموا على ذبحه فى ليلة يجتمعون فيها يذكرون ويدعون ويتوسلون فى خلاصهم ونجاتهم من الأسر، فاطلع عليهم الكافر فزجرهم وسبهم ومنعهم من ذبح العنزوبات تلك الليلة فرأى رؤيا
(1)
راجع نادرة العترة فى الجزء الخامس من هذا الكتاب ط الهيئة العامة للكتاب/137
هالته، فلما أصبح أعتقهم وأطلقهم وأعطاهم دراهم وصرفهم مكرمين فنزلوا فى مركب وحضروا إلى مصر وصحبتهم تلك العنز وذهبوا بها إلى المشهد النفيسى، وذكروا فيها خرافات كبيرة.
فمنهم من يقول: إنهم أصبحوا فوجدوها عند المقام، ومنهم من يقول فوق المنارة، ومن يقول سمعناها تتكلم أو أن السيدة تكلمت وأوصت عليها، وأن الشيخ سمع كلامها من القبر، ثم أبرزها الشيخ للناس وأجلسها بجانبه ويقول للناس ما يقوله: من الكذب والخرافات التى يستجلب بها الدنيا، وتسامع الناس بذلك فأقبل الرجال والنساء من كل فج لزيارة تلك العنز وأتوا إليه بالنذور والهدايا وعرفهم أنها لا تأكل إلا قلب اللوز والفستق، ولا تشرب إلا ماء الورد والسكر المكرر، فأتوه من أصناف ذلك بالقناطير وعمل النساء للعنز قلائد الذهب وأطواق الذهب ونحو ذلك من الحلى، وافتتنوا بها وشاع خبره فى بيوت الأمراء وأكابر النساء فأرسلن على قدر مقامهن من النذور والهدايا وذهبن لزيارتها ومشاهدتها وازدحمن عليها فأرسل الأمير عبد الرحمن كتخدا إلى الشيخ عبد اللطيف يلتمس منه حضوره إليه بتلك العنز ليتبرك بها هو وحريمه.
فركب الشيخ بغلته والعنز فى حجره ومعه طبول وبيارق وحوله الجم الغفير من الناس ودخل بها بيت الأمير المذكور على تلك الحالة، وصعد بها إلى مجلسه وعنده حينئذ الكثير من الأمراء والأعيان فزارها وتملس بها ثم أمر بإدخالها الحريم ليتبركن بها، وقد كان أوصى/قبل حضور الشيخ بذبحها وطبخها فلما أخذوها ليذهبوا بها إلى الحريم أدخلوها فى المطبخ وذبحوها وعملوها قمه ثم لما حضر الغداء أخرجوها فى صحن ووضعوها بين أيديهم فأكلوا منها والشيخ عبد اللطيف صار يأكل والكتخدا يقول: كل يا شيخ من هذا الرّميس السمين،
فيأكل ويقول: والله إنه طيب ونفيس وهو لا يعلم أنه عنزه وهم يتغامزون ويضحكون، فلما فرغوا من الأكل وشربوا القهوة طلب الشيخ العنز، فعرفه الأمير أنها هى التى كانت بين يديه فى الصحن وأكل منها فبهت عند ذلك ثم بكته الأمير ووبخه وأمره بالانصراف، وأمر أن يوضع جلد العنز على عمامته ويذهب به كما جاء بجمعيته وبين يديه الطبول والأشائر ووكّل به من أوصله إلى محله على تلك الصورة أ. هـ جبرتى.
ترجمة عبد الرحمن كتخدا وبعض عمائره
وقد ذكر فى موضع آخر من كتابه ترجمة الأمير عبد الرحمن كتخدا المذكور، بأنه الأمير الكبير والرئيس الشهير عبد الرحمن كتخدا ابن حسن جاويش القازدغلى أستاذ سليمان جاويش أستاذ إبراهيم كتخدا مولى جميع الأمراء المصرية.
ومبدأ إقبال الدنيا عليه، أنه لما مات عثمان كتخدا القازدغلى واستولى سليمان جاويش الجوخدار على موجوده ولم يعط المترجم الذى هو ابن سيد أستاذه شيئا، ولم يجد من يساعده فى إيصال حقه إليه من طائفة باب الينكجرية، حنق منهم وخرج من بابهم وانتقل إلى وجاق العزب، وحلف أنه لا يرجع إلى وجاق الينكجرية ما دام سليمان جاويش الجوخدار حيّا وبرّ فى قسمه، فإنه لما مات سليمان جاويش ببركة الحاج سنة اثنتين وخمسين ومائة وألف، بادر
سليمان كتخدا الجاويشية زوج أم المترجم، واستأذن عثمان بيك فى تقليده جاويشا للسردارية عوضا عن سليمان جاويش لأنه وارثه ومولاه، فأحضروه ليلا وقلدوه ذلك وأحضروا الكتاب والدفاتر وسلموه مفاتيح الخشخانة والتركة بأجمعها، وكان شيئا كثيرا وكذلك تقاسيط البلاد، ولم تطمع نفس عثمان بيك فى شئ وأخذ المترجم غرضه من باب العزب ورجع إلى باب الينكجرية، فنما أمره من حينئذ وحج صحبة عثمان بيك سنة خمس وخمسين وأقام هناك إلى سنة إحدى وستين، ثم حضر مع الحجاج فتولى كتخدا الوقف سنتين، وشرع فى بناء المساجد وعمل الخيرات وإبطال المنكرات، فأبطل خمامير حارة اليهود، وأول عمارة له بعد رجوعه السّبيل والمكتب الذى يعلوه بين القصرين، ثم أنشأ جامع المغاربة وعمل عند بابه سبيلا ومكتبا وميضأة، وأنشأ تجاه باب الفتوح مسجدا بمنارة وصهريجا ومكتبا، وأنشأ مدفنا للست السّطوحية، وأنشأ بالقرب من تربة الأزبكية سقاية وحوضا لسقى الدوّاب ويعلوه مكتب، وفى الحطابة كذلك، وعند جامع الدشطوطى كذلك.
ومن إنشائه أيضا الزيادة التى بمقصورة الجامع الأزهر وهى الإيوان الكبير المشتمل على خمسين عمودا من الرخام، تحمل مثلها من البوائك المقوصرة المرتفعة المتخذة من الحجر المنحوت وسقف أعلاها بالخشب النقى وبنى به محرابا جديدا وعمل بجواره منبرا، وأنشأ بابا عظيما تجاه حارة كتامة، وبنى أعلاه مكتبا بقناطر معقودة على أعمدة من الرخام وجعل بداخل الباب رحبة متسعة وجعل بها صهريجا وسقاية لشرب المارين، وعمل بها أيضا لنفسه مدفنا وجعل عليه قبة معقودة وتركيبة من الرخام، وعمل بها أيضا رواقا مخصوصا لمجاورى الصعايدة المنقطعين لطلب العلم، وجعل بابه يسلك إليه من تلك الرحبة وعمل به مطبخا ومخادع وخزائن كتب وبنى بجانب ذلك الباب منارة.
وأنشأ بابا آخر جهة مطبخ الجامع وبنى فوقه منارة وبنى مدرسة الطيبرسية بناء جديدا، وجعلها مع مدرسة الآقبغاوية التى فى مقابلتها من داخل الباب الكبير الذى أنشأه تجاه القبو الموصل للمشهد الحسينى، وهو عبارة عن بابين عظيمين وعمل على يمينهما منارة وفوقهما مكتبا وبداخلهما عن يمين السالك بظاهر الطيبرسية ميضأة، وأنشأ لها ساقية لخصوص إيصال الماء، إليها، وعمل أيضا رواقا للبغداديين والهنود بداخل هذا الباب وأرخ بعضهم ذلك بقوله:
تبارك الله باب الأزهر انفتحا
…
وعاد أحسن مما كان وانصلحا
تقرّ عينا إذا شاهدت بهجته
…
بإخلاص بانيه للعلماء والصلحا
(1)
وادخل على أدب تلقى الهداة به
…
قد قرّروا حكما ميزانها رجحا
بالباب قد بدأ الأكوان أرّخه
…
بعبد رحمن باب الأزهر انفتحا
وأنشأ رواقا للمكاويين وللتكروريين، وبنى جامع المشهد الحسينى وعمل به صهريجا وزاد فى مرتباته وفى مرتبات الأزهر، ورتب لمطبخه فى خصوص شهر رمضان كل يوم خمسة أرادب أرز أبيض وقنطار سمن، وغير ذلك من اللحم والزيت والوقود.
وأنشأ عند باب البرقية المعروف بالغريب جامعا وصهريجا وحوضا وسقاية ومكتبا ورتب فيه تدريسا وكذلك/فى جهة الأزبكية بالقرب من كوم الشيخ سلامة وعمّر المسجد الذى بجوار ضريح الإمام الشافعى فى مكان المدرسة الصلاحية، وعمل عند باب قبة الإمام الصهريج والمقصورة الكبيرة التى بها ضريح شيخ الإسلام زكريا الأنصارى فيما بين المسجد
(1)
قوله باخلاص بوصل الهمزة، وقوله للعلماء بتسكين اللام بعد العين للوزن انظر الجبرتى 2/ 6 ط الشرفية القاهرة.
ودهليز القبة، وقد أزيلت الآن عند هدم المسجد وإرادة تجديده، وفرش طريق القبة بالرخام الملوّن وجعل من داخل الدهليز البرانى بوابة كبيرة وعمل على الدهليز البرانى من كلا الجهتين بوابتين.
وعمّر أيضا المشهد النفيسى والمسجد وبنى الضريح وبنى مشهد السيدة زينب بقناطر السباع ومشهد السيدة سكينة بخط الخليفة، والمشهد المعروف بالسيدة عائشة بالقرب من باب القرافة، والسيدة فاطمة والسيدة رقية والجامع والرباط تجاه عابدين، وكذا جامع أبى السعود الجارحى، ومسجد شرف الدين الكردى بالحسينية والمسجد الذى بخط الموسكى.
وبنى للشيخ الحفنى دارا بجواره وجعل لها بابا يوصل إليه.
وعمر المدرسة السيوفية المشهورة بالشيخ مطهر بخط باب الزهومة، وبنى لوالدته بها مدفنا، وأنشأ خارج باب القرافة حوضا وسقاية وصهريجا وجدد المارستان المنصورى، وهدم أعلى القبة الكبيرة المنصورية والقبة التى كانت بأعلى الفسحة من خارج ولم يعد عمارتها، بل سقف قبة المدفن فقط وترك الأخرى مكشوفة، ورتب له خيرات زيادة عن البقايا القديمة.
ومن عمائره أيضا دار سكنه التى بحارة عابدين وكانت من الدور العظيمة المحكمة الوضع، وإنشاءاته كثيرة جدا حتى اشتهر بذلك وسمى صاحب الخيرات والعمائر فى مصر والشام والروم، وعدة المساجد التى أنشأها وجددها وأقيمت بها الجمعة والجماعة ثمانية عشر مسجدا غير الزوايا والمدارس والأسبلة والسقايات والمكاتب والحيضان والقناطر والرباطات والجسور.
وكان له فى هندسة الأبنية وحسن وضع العمائر ملكة، يقتدر بها على ما يرومه من الوضع من غير مباشرة ولا مشاهدة، ولو لم يكن له من المآثر إلا ما أنشأ بالجامع الأزهر والمشهد الحسينى والزينبى والنفيسى لكفاه ذلك.
ولم يزل هذا شأنه إلى أن عظم أمر على بيك وأخرجه منفيا إلى الحجاز وذلك فى أوائل شهر القعدة سنة ثمان وسبعين ومائة وألف هـ، فأقام بالحجاز اثنتى عشرة سنة، ثم لما سافر يوسف بيك أميرا بالحج صمم على إحضاره معه إلى مصر، فأحضره وذلك فى سابع شهر صفر سنة تسعين ومائة وألف، وقد استولى عليه المرض فمكث فى بيته مريضا أحد عشر يوما ومات.
وكانت جنازته حافلة حضرها العلماء والأمراء والتجار ومؤذنوا المساجد وأولاد المكاتب وصلى عليه بالأزهر ودفن فى مدفنه الذى أعدّه لنفسه بالأزهر عند الباب القبلى، غير أنه عفا الله عنه كان يقبل الرشا، ويتحيل على مصادرة بعض الأغنياء فى أموالهم، واقتدى به فى ذلك غيره حتى صارت سنة مقررة وطريقة مسلوكة ليست مستنكرة وغير ذلك.
وكان رحمه الله مربوع القامة أبيض اللون مسترسل اللحية ويغلب عليها البياض معجبا بنفسه يشار إليه بالبنان انتهى.
أرمنت
مدينة قديمة بالصعيد الأقصى كانت تعرف بسرمنت وفى أعصر الفراعنة كانت تسمى هيرمنطيس، وهى واقعة فى أرض مستوية فى غربى النيل على بعد ستين مترا وفى الجنوب الغربى لمدينة طيبة على بعد ميريا متر، وهى قليلة النخيل وبها جامع بمنارة مرتفعة وأرضها صالحة للزرع.
وكانت مدينة هيرمنطيس فى الأزمان القديمة رأس مديرية غير مديرية طيبة كما اتفق على ذلك استرابون وبلين وبطليموس، وفى زمن القياصرة كانت تضرب فيها المداليات كما كانت تضرب فى غيرها، وكان فيها فرقة من العساكر الرومانية وأسقفية بقيت زمانا طويلا ذكر منهم فى تاريخ النصرانية جماعة وإلى الآن يسكنها جماعة كثيرة من الأقباط، وقبر مارى جرجس الذى هو من أكبر المحترمين عند النصارى باق بها إلى الآن.
وفى كتب الفرنساوية أن عندها فى جهة الشمال على بعد أربعمائة متر من المئذنة معبدا قديما مصريا منسوبا لجوبتير هيرمونيت بجوار عزبة ملحقة بالمدينة، وهو من آثار مدينة هيرمنطيس القديمة وكان حول هذا المعبد خراب طوله 1000 متر تقريبا، وهو يدل على أن المدينة كانت فى غاية العظم، وحوله أيضا أثر سور قديم وفى جهة الجنوب حوض من الحجر
وفى محوره على اليمين والشمال آثار متفرقة فى آخرها أثر باب، والغالب أن الطريق التى على استقامة المحور هى أحد شوارع المدينة القديمة، وهناك أثر بناء على بعد مائتى متر فى جنوب المعبد يظهر أنه محل كنيسة أو دير، وذلك المعبد باق على معالمه ظاهر على الأرض بخلاف غيره من المعابد، فمنها ما هو مردوم ومنها ما هو متخرب ضاعت معالمه أو بعضها، وطول هذا المعبد 46 مترا وعرضه 18 مترا وأعظم ارتفاع أعمدته 50 ر 13 مترا وقطره متر وستة أجزاء من مائة، وهو مبنى من الحجر الصوان كغيره من المعابد وسقفه من حجارة متلاصقة طول الواحد منها خمسة أمتار وعرضه متران، وعلى بعضها كتابة قديمة فى سطوح لحاماتها الداخلة محفوظة إلى الآن تدل على أنها/استعملت قبل بناء هذا المعبد فى معابد أخرى، ثم نقلت منها إليه ويشاهد أيضا مثل ذلك فى كثير من المعابد.
وأما النقوش التى على حيطانه فقد حصل لها بعض تلف، يظهر أنه بسبب هدم بعض حيطان كانت ملحقة به، وأعمدته ليست على صفة واحدة بل أصغرها فى دهليزه، وأكبرها فى الجزء الخارج، وأوسطها فى السور الوسط، بخلاف غيره من المعابد وعدد أعمدة الدهليز 18 وأعمدة السور الوسط 14 وأعمدة الجزء الخارج 6، وفى داخل المعبد ثلاث أود ارتفاع الواحدة منها 7 أمتار وكان حوله أسوار تحيط به.
وهاك نسب تلك الأعمدة بالنسبة للمدول أعنى نصف قطر قاعدة العمود:
فعمود الوسط يخالف عمود الخارج فى نسب البدن والصحفة مع بقاء الطريقة والمدول فى أحدهما وينقص عنه فى الثانى بقدر السدس تقريبا، ويرى فى النقوش التى فوق أودة العبادة أن المقدسة إزيس ترضع ولدها هربوكرات-أو هوروس-وهى تارة فى صورة إنسان وتارة رأسها رأس بقرة، وكذلك صور جملة من النساء ما بين متأهلة لإعطائه ثديها ومستعدة لخدمته وقابضة بيدها عليه، وتشاهد إزيس على سرير مزين بأرجل السبع ورأسه، وعلى يمين حامل وسط السرير وشماله بقرة يرضعها طفل.
وفى مقابلة هذه النقوش نقوش أخرى، ترى فيها إزيس فى حالة الوضع وحواليها نسوة متهيآت لخدمتها، ومن جملتهن مرضعة وعندها جعل ناشر جناحيه وأمامه كرة يظهر أنها تعلو على الطفل، وفى أعلى هذه الصورة 14 باشقا رؤوسها رؤوس نساء يسبقها نسر مسلحة
أرجله، وفى سقف محل العبادة نقوش عجيبة فى شمالها وجه ثور وعلى يمينها عقرب وهاتان الصورتان أعظم جميع الصور فى الكبر.
وبينهما فى وسط النقوش رجل فى مركب وجهه جهة الثور، وإحدى ذراعيه مرفوعة والأخرى منخفضة وفى أمامه وخلفه كبشان يسير أحدهما عكس مسير الأخر وباشق رأسه رأس كبش وجعلان أجنحتهما أجنحة باشق، ثم صورة صغيرة جالسة فى مركب، وجميع هذه الرسوم محوّطة من ثلاث جهاتها بصورة امرأة منحنية ملقية ذراعيها وجسدها عبارة عن شريط مرسوم عليه عدة كور وصور جاثية على ركبها.
وجميع هذه الرسوم تدل على منطقة البروج وعلى صورة الثور والعقرب المميزين عن غيرهما بالكبر، وهما البرجان المتقابلان فى خط نصف منطقة البروج، يعنى إذا فرض أن الثور يوافق أحد الاعتدالين فيكون العقرب موافقا للاعتدال الثانى، ولكون هذه الرسوم دالة على الاعتدالين كانت أزيس عند المصريين إشارة إلى خصوبة الأرض، وهوروس أو هربوكرات إشارة للمحصولات الأرضية الناشئة من اجتماع إزيس وأزريس، ومن هنا يظهر أن رسم إزيس على حجارة السقف إشارة إلى ظهور النباتات من الأرض بعد خصبها فى وقت المنقلب الشتوى، وتحريك الجعل الكرة إشارة إلى التناسل، وأما كون أجنحتها أجنحة باشق منشورة فهى إشارة إلى ابتداء الشمس فى السير نحو العلوّ بسرعة؛ لأنه فى وقت المنقلب الشتوى تكون الأيام قصيرة بالنسبة لأيام السنة.
وكان المصريون يجعلون إشارتها فى تلك الحالة صورة شاب صغير، وحيث إنها من ابتداء هذا الوقت تأخذ فى الصعود إلى النصف الأعلى من الكرة اختاروا أجنحة الباشق الذى هو إشارة إلى الشمس للدلالة على سيرها، وأما إرضاع هوروس المرسوم فى مواجهة وجه/ إزيس فهو إشارة لنمو النبات برضاعه من الأرض ولزيادة طول الأيام بعد المنقلب الشتوى، وفى هذه الحالة يرى فى صورة طفل يرضع البقر ثم يصير كبيرا ويشاهد على فخذى إزيس وهى تعطيه ثديها ويرضعه بعد ذلك امرأتان رأسهما رأس بقر، ثم يرى على أفخاذ أربع نسوة بعد كبره، وفى هذه الحالة يرى أنه واضع أصبعه على فمه، وعلى صدره قلادة وكل ذلك دلالة على تنقله من درجات الصغر.
وأما الرسوم التى على باب محل العبادة، فيظهر أنها تدل على المنقلب الصيفى، فإن الباشق الناشر جناحيه إشارة إلى الشمس والتاج المتوج به إشارة إلى القدرة، ويدل ذلك على أن الشمس فى غاية قدرتها، وعيدان النيلوفر تدل على فيضان النيل الذى مبدؤه المنقلب الصيفى، والسبع المسلح إشارة إلى ذلك أيضا، لأنه إن فرض أن الاعتدال الخريفى حصل فى برج الثور والاعتدال الربيعى فى برج العقرب كان المنقلب الصيفى فى برج الأسد وما ذكرناه سابقا يدل على مدة فلكية، وهى المدة التى كان فيها الثور فى محل أحد الاعتدالين والأسد فى المنقلب الصيفى.
وحينئذ فمعبد أرمنت بنى للدلالة على الأوقات الأربع المذكورة بين المنقلبين والاعتدالين، ثم أنه يلزم التنبيه على أن أبعاد هذا المعبد بينها وبين الذراع العتيق نسبة صحيحة تظهر من هذا الجدول.
وهكذا باقى الأجزاء ولم يستدل إلا على حوض المقياس فقط وأبعاده هى:
وهكذا باقى الأجزاء انتهى.
وأرمنت الآن من قسم إسنا وبينها وبين النيل نحو خمسمائة متر ومنازلها على التل القديم الذى به المعبد وفيها بنية جيدة وثلاث مساجد جامعة بمنارات ومعامل دجاج وكوهرجله وبدائرها حدائق ذات بهجة وأشجار ونخيل كثير، وفى جنوبها عمارة ابتنى بها المرحوم مصطفى باشا أخو الخديو إسماعيل باشا مسجدا فاخرا بمنارة، وفيها له فوريقتان لعصر القصب وعمل السكر وبها سويقة بدكاكين عامرة بالعقاقير والبز، وبها مساكن مستخدمى الجفلك.
ومن تلك العمارة إلى البلد طريق متسع محفوف بالأشجار من الجانبين وفى شمال البلدة بنحو ألف متر قرية المريس، وفى جنوبها بنحو ألف وأربعمائة متر ناحية الريانية وسوقها كل يوم اثنين وفيها تباع الكلاب المشهورة بالأرمنتية، وهى كلاب كثيرة الشعر جسيمة صالحة للتأدب والحراسة، وقد ازدادت عماريتها بوجود الجفالك السنية بها حتى عادت لها عادتها القديمة، فهى معتبرة قديما وحديثا، وأكثر أهلها مسلمون ونشأ منها أفاضل وعلماء ذكر منهم فى الطالع السعيد جماعة منهم.
ترجمة ابن قدس الملقب بالشمس
الشيخ أحمد بن محمد
(1)
هبة الله بن قدس الشافعى الملقب بالشمس كان شاعرا مجيدا وناثرا فائقا تولى الحكم بمدينة قوص ومن كلامه:
حاشاكمو أن تقطعوا صلة الذى
…
أو تصرفوا علم المعانى أحمدا
هو مبتدا نجباء أبنا جنسه
…
والله يأبى غير رفع المبتدا
أغريتموا الزّمن المشتت شمله
…
وحذفتموه كأنه حرف النّدا
ترجمة ابن الأسعد
ومنهم عبد البارى بن أبى على الحسن ينعت بالكمال ويعرف بابن الأسعد البكرى كان فقيها بمذهب مالك ومذهب/الشافعى حفظ كتاب ابن الحاجب فى مذهب مالك والتعجيز فى مذهب الشافعى، ويحكى أن قاضى القضاة القشيرى قال له: اكتب على باب بلدك أنه ما خرج منها أفقه منك، وكان متورعا زاهدا.
(1)
انظر الطالع السعيد للأدفوى/135 - 142 الترجمة والشعر-ط الدار المصرية للتأليف والترجمة.
ومنهم الحسن بن عبد الرحيم بن الأثير القرشى محيى الدين الأرمنتى الفقيه الشافعى، كان من الصالحين الفقهاء العلماء العاملين، وتولى التدريس بمدرسة أسيوط سنين، وسافر من أسيوط فتوفى فى الطريق وحمل إلى مصر ودفن بسفح الجبل المقطم، وكان ممن يتبرك به الناس ويقصدون الدعاء منه وكان وفاته فى سنة سبع وتسعين وستمائة انتهى.
وذكر صاحب حسن المحاضرة أن منها سراج الدين يونس بن عبد المجيد الأرمنتى الشافعى، ولد فى المحرم سنة أربع وأربعين وستمائة، واشتغل بقوص على المجد ابن دقيق العيد وأجازه بالفتوى، ثم ورد مصر فأخذ عن علمائها وصار فى الفقه من كبار الأئمة مع فضيلته فى النحو والأصول وتصدر للإقراء، وصنف كتاب الجمع والفرق، والمسائل المهمة فى اختلاف الأئمة، لسعه ثعبان بقوص فمات فى ربيع الآخر سنة خمس وعشرين وسبعمائة رحمه الله تعالى.
وقد أنشأ الخديو إسماعيل باشا بأرمنت ديوان تفتيش لزراعته وفوريقة فرنساوية بعصارتين لعصر القصب وعمل السكر بأنواعه، وهى مستوفية الآلات والوابورات مثل فوريقة أبى كساء وغيرها، إلا أنه ليس بها وابور الروم الذى يستخرج به السبيرتو، فلذا ينقل منها العسل نمرة ثلاثة إلى فوريقة المطاعنة لاستخراجه هناك، ومتحصل الفوريقة يوميا ثمانمائة وثلاثة وثلاثون قنطارا من السكر الأبيض الحب، وأربعمائة وثمانية وعشرون قنطارا من السكر الأحمر الأقماع، ومائتان وأربعة عشر قنطارا من العسل، ولها سكك حديد زراعية لنقل القصب من الغيطان، وفرع متصل بها وبالنيل عند مرسى المراكب لنقل الآلات الواردة بطريق البحر، وفرع يوصل إلى المطاعنة وهناك على البحر وابورات لسقى المزروعات قوة كل ستون حصانا.
أسفون
بالسين أو بالصاد بعد الهمزة. قرية من قرى المطاعنة بمديرية إسنا فى بحريها إلى الغرب بنحو عشرة آلاف متر، وفى الجنوب الغربى للكيمان بنحو ثلاثة آلاف متر، وفيها جامع بمنارة مبنى بالآجر وثلاثة معامل دجاج ونخيل كثير، وأكثر أهلها مسلمون وتكسبهم من الزرع ويمر عليها جسر أسفون السلطانى، وفيها بيت مشهور بمضيفة متسعة لعائلة يقال لهم: بيت القاضى، منهم ناظر قسم وحاكم خط.
وفى خطط المقريزى: أن أسفون كانت من أحسن بلاد مصر وأكثر نواحى الصعيد فواكه، وكان بها دير كبير رهبانه معروفون بالعلم والمهارة، فخربت أسفون وخرب ديرها، وهذا آخر أديرة الصعيد، وهى كلها متلاشية آيلة إلى الدثور، بعد كثرة عمارتها ووفور أعداد رهبانها وسعة أرزاقهم وكثرة ما كان يحمل إليهم انتهى.
مطلب ذكر علماء أسفون
وإليها ينسب جماعة من العلماء ذكر فى الطالع السعيد
(1)
منهم: الحسين بن محمد بن هبة الله الشّرف المعروف بقطينة الأسفونى، شاعر ناثر له حكايات مشهورة، وطرائف مأثورة، منها أنه طلع إلى مصلى يوم عيد النحر وإذا بجانبه شخص، فلما ذكر قصة الذبيح بكى ذلك الشخص زمانا طويلا فالتفت إليه وقال له: ما هذا البكاء الطويل أما سمعت فى العام الماضى أنه سلم وما أصابه شئ، ومات له صاحبان خصيصان فقال الشهاب أحمد بن أبى الحسن الأسفونى ما لقطينة تأخر عنهما؟ فبلغه ذلك فنظم هذين البيتين:
ما تأخرت عنكما
(2)
…
عن ملال
غير أنىّ أروم صيد الشّهاب
فأنا مثل فارس البحر لاب
…
دّ بظفرى أصيبه
(3)
أم بنابى
وكان قد وقع بينه وبين نجم الدين بن يحيى الأرمنتى فهجاه بقصيدة منها.
يا إلهى أرحتها منه فى الحك
…
م أرحها من ابنه فى الخطابه
(1)
انظر الطالع السعيد/226 ط الدار المصرية للتأليف والترجمة.
(3،2)) فى الطالع 228: عنهما، أصيده أو بنابى.
فقال له الخطباء يا قطينة جماعة جاءوا من أرمنت يريدون قتلك أرسلهم ابن يحيى ونحن ما تقدر على ردّهم انج بنفسك، فخرج من أسفون ولم يعلم له خبر.
ومنهم حمزة بن محمد بن هبة الله بن عبد المنعم الصاحب نجم الدين الأسفونى، سمع الحديث من الشيخ تقى الدين القشيرى وحضر مجلس إملائه فى سنة تسع وخمسين بقوص، وتقلب فى الخدم الديوانية بقوص فكان مشارفا ثم صاحب ديوان، ثم ناظرا وبنى مدرسة، ثم صار ناظرا بمصر ثم ولاّه السلطان الملك المنصور الوزارة فأقام مدة لطيفة.
ويقال: إن الشجاعى أعطى غلامه ألف دينار وأنه دس عليه سمّا فقتله، وكان يحب القرآن والحديث قال: ورأيت بخطه ربعة
(1)
بقوص، وكان محبا للعلم وأهله، ولما كان ناظرا حصل بينه وبين أبى طالب ابن النابلسى صورة
(2)
فتكلم الكمال محمد بن شائر القوصى الإخميمى ببيتين وهما:/
أبا طالب ما أنت قرن لحمزة
…
لأنكما فى الدّين مختلفان
دعاك النبىّ الهاشمى فلم تجب
…
وحمزة لبّاه بكل لسان
وذكره الشيخ عبد الكريم فى تاريخه وأنشد من شعره قوله:
ولقد أحنّ إلى العقيق ويثرب
…
وقبارهنّ منازل الورّاد
وأحبهنّ وليس هنّ منازلى
…
وأودّهنّ وليس هنّ بلادى
وقال توفى فى سنة اثنتين وثلاثين وستمائة.
(1)
الربعة فى الأصل صندوق أجزاء المصحف. والمقصود به هنا: قطعة من القرآن. القاموس المحيط 3/ 26.
(2)
أى قطيعة-من صار الحاكم الحكم: أى قطعة-انظر القاموس المحيط 2/ 72 والأساس 3/ 31 واللفظ فى الأصل بالسين والتصويب والترجمة أيضا فى الطالع السعيد:233،232.
ترجمة عبد القادر الأسفونى
ومنهم عبد القادر بن عبد الملك ينعت بالشّرف الأسفونى ويعرف بابن الغضنفر، كان شاعرا أديبا خفيف الروح كثير المجون والخلاعة، حكى عنه: أنه كان جالسا على باب مسجده بأسفون وقد أذن بالعصر وشخص من أهل أسفون توضأ وجاء ليدخل المسجد فوجد المترجم جالسا، فقال: العصر أذن به وأنت قاعد ما تقوم تتوضأ فقال له: قعودى خير من صلاتك بغير وضوء، فنفض ذلك المتوضئ لحيته وهى مبتلة ليريه أنه متوضئ فقال له المترجم: نجستنى، وحكاياته وأشعاره كثيرة، وله مشاركة فى النحو، قرأ عليه السراج عمر الأسنوى وتأدب به توفى بعد الثمانين وستمائة.
ترجمة على علاء الدين الأسفونى
ومنهم على بن أحمد بن الحسين المنعوت علاء الدين الأسفونى، كان من الأذكياء والأدباء الشعراء خفيف الروح حسن الأخلاق، كريما جوادا اشتغل بالفقه على الشيخ بهاء الدين القفطى، وتأدب على ابن الغضنفر الأسفونى والجلال بن شواق الإسنوى وغيرهما، وله يد فى الحساب وكرم جزيل وطبع جميل كأنه خلق من النسيم، يهوى الجمال المطلق يأخذ بمجامع قلبه كل وجه وسيم، لا يرى إلا ذا ارتياح، يميل طربا ويميد كما يفعل الغصن الرطيب عند هبوب الرياح.
وهو فى الآداب فارس ديوانها وفى القصائد أبو حسانها، الاجتماع به يذهب الأتراح ويجلب الأفراح، كانت فيه فتوّة ومروءة وإنسانية، وألجأته المكارم إلى الدخول فى الخدم السلطانية فما غيرته عن حاله ولا أحالته عن جميل خلاله، ومن كلامه:
يا هاجرين أما كفى هجران
…
ذل الهوى فى الحالتين هوان
نمتم قريرين الجفون من الكرى
…
والطرف ساه بعدكم سهران
وكان رحمه الله واسع الصدر كثير الاحتمال متواضع النفس، جلس شاهدا بالوراقين ثم بالقاهرة ووقف خدام الضريح النبوى على ساكنه أفضل الصلاة وأتم التسليم، إلى أن توفى فى شهر رمضان سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة إنتهى.
ترجمة الشيخ محمد الأصفونى
وينسب إلى قرية أصفون
(1)
هذا الشيخ محمد الأصفونى الذى ترجمه السخاوى فى الضوء اللامع حيث قال هو: محمد بن محمد بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله ابن فهد التقىّ أبو الفضل بن النجم أبى النصر بن الجمال أبى الخير ابن العلامة أقضى القضاة الجمال أبى عبد الله الهاشمى العلوى الأصفونى الشافعى ويعرف بابن فهد، ولد فى عشية الثلاثاء خامس ربيع الثانى سنة سبع وثمانين وسبعمائة بأصفون الجبلين من صعيد مصر الأعلى بالقرب من إسنا، وكان والد سافر إليها لاستخلاص جهات موقوفة على أمه خديجة ابنة النجم الأصفونى فتزوج هناك بابنة عم جده النجم المشار إليه واسمها: فاطمة ابنة أحمد بن محمد بن إسماعيل بن إبراهيم القرشية المخزومية فولد له منها هناك التقى، ثم انتقل به أبوه فى سنة خمس وتسعين إلى بلده مكة على طريق القصير، فحفظ بها القرآن والعمدة والتنبيه وألفية النحو، وسمع من الإبناسى والجمال ابن ظهيرة، وكتب على من دب ودرج.
فكان ممن سمع عليه ابن صديق والزين المراغى وأبو اليمن الطبرى والشمس الغرّاقى والشريف عبد الرحمن الفاسى وأبو هريرة بن النقاش وغيرهم، وكذا سمع بالمدينة المنورة من المراغى أيضا ورقية ابنة ابن مزروع، وعبد الرحمن بن على الزردندى ولقى باليمن المجد اللغوى، والموفق أبا بكر الأزرق وآخرين، فسمع منهم وأجاز له خلق كثيرون وتميز فى هذا الشأن وعرف العالى والنازل وشارك فى فنون الأثر.
(1)
بالسين أو الصاد كما ذكر المؤلف راجع «أسفون» من هذا الكتاب.
وكتب بخطه الكثير واجتمع له من الكتب ما لم يكن فى وقته عند غيره من أهل بلده وكثر انتفاع المقيمين بها فكانت أعظم قرية، وله فى السيرة النبوية عدة تصانيف منها: النور الباهر الساطع من سيرة ذى البرهان القاطع، قرأته عليه بمولد النبى صلى الله عليه وسلم بشعب بنى هاشم من مكة، وكذا فى الأذكار أوسعها الجنة بأذكار الكتاب والسنة، وله المطالب السنية العوالى بما لقريش من المفاخر والمعالى، وبهجة الدمائة بما ورد فى فضل المساجد الثلاثة، وطرق الإصابة بما جاء فى الصحابة، ونخبة العلماء الأتقياء بما جاء فى قصص الأنبياء، وتأميل نهاية التقريب، وتكميل التهذيب/بالتذهيب وهو كتاب حافل، وذيل على طبقات الحافظ، وأفرد زوائد الكمال الدميرى من النسخة الأخيرة بحياة الحيوان على النسخة الأولى إلى غيرها، وله عمدة المنتحل وبلغة المرتحل، كبشرى الورى مما ورد فى حرا، واقتطاف النور مما ورد فى ثور، والإبانة مما ورد فى الجعرانة، قرأتها عليه بمحالها من مكة ومن كلامه.
قالت حبيبة قلبى عندما نظرت
…
دموع عينى على الخدين تستبق
فيم البكاء وقد نلت المنى زمنا
…
فقلت خوف الفراق الدمع يندفق
مات بمكة صبيحة يوم السبت سابع ربيع الأول سنة إحدى وسبعين وثمانمائة، وصلى عليه بعد صلاة العصر عند باب الكعبة، ثم دفن بالمعلاة عند مصعب ابن الزبير رضي الله عنهما وكنت ممن شهد الصلاة عليه انتهى.
إسكندرية
ثغر عظيم أشهر ثغور القطر المصرى وأشهر مدنه وأكبرها وأكثرها سكانا ما عدا القاهرة، وموقعها فوق البحر الرومى فى الشمال الغربى للقطر.
وفى القاموس الإسكندرية ستة عشر موضعا منسوبة إلى الإسكندر بن الفيلسوف بكسر الهمزة وتفتح، ملك قتل دارا وملك البلاد، منها بلد ببلاد الهند وبلد بأرض بابل وبلد بشاطئ النهر الأعظم وبلد بصغد سمرقند وبلاد بمرو واسم مدينة بلخ والثغر الأعظم ببلاد مصر، وقرية بين حماة وحلب، وقرية على دجله قرب واسط. منها الأديب أحمد بن المختار بن مبشر، وقرية بين مكة والمدينة، وبلدة فى مجارى الأنهار بالهند وخمس مدن أخرى اه.
والذى يخصنا هنا منها واحد. وهو ثغر بلاد مصر، وقد أفردنا الكلام عليه فى مجلد مخصوص فانظره
(1)
.
(1)
انظر الجزء السابع من الخطط التوفيقية ط الهيئة.
مدينة الإسماعيلية
هذه المدينة واقعة على ترعة البرزخ فى منتصف المسافة بين مدينة السويس ومدينة بورت سعيد، على فرع الترعة الحلوة الذى وصل ترعة الإسماعيلية بترعة البرزخ وبركة التمساح، واقعة أمامها ومتصل بها فرع سكة حديد لسهولة الوصول بينها وبين بلاد القطر المصرى.
وفى أول الأمر كانت عبارة عن جملة أخصاص كان يقيم بها عمال ترعة البرزخ من مهندسين وغيرهم، ثم لما اتسع ميدان الأعمال وكثر العمال المصريون حدث بقربها قرية ريفية وتعرف الآن بقرية العرب وترعة مصلحة البرزخ وتنظيمها فى سنة 1864 م، فأحدثت فيها شوارع وحارات مستقيمة متعامدة وميدان وحديقة للنزهة وإسبتالية للمرضى، وسراية على ذمة الحكومة المصرية لإقامة المحافظ وخدمة المحافظة وقصر للخديو، وبقربها جعل وابور مياه فى بحريها على بعد منها لأجل أخذ المياه الحلوة من الترعة الحلوة وإرسالها إلى مدينة بورت سعيد بمواسير من الحديد.
وفى هذه السنة بنى الوابور ومدينة بورت سعيد وكانت سكانها تزداد مع تقدم أعمال ترعة البرزخ، ورغبت الناس فى سكناها، وبنيت بها المبانى الفخيمة وتعددت بها الدكاكين والخانات والقهاوى، وبقيت كذلك إلى أن تمت ترعة البرزخ، فتحول أكثر سكانها إلى بورت سعيد. وانتقلت إليها كذلك المحافظة وعمالها، وكذا عمال إدارة ترعة البرزخ حتى صارت فى الدرجة الثانية بعد مدينة بورت سعيد، ومع ذلك فهى من أحسن مدن البرزخ والناس يترددون من بورت سعيد ومن جميع القطر المصرى بواسطة السكة الحديد والترعة الإسماعيلية وقد تكلمنا عليها فى جزء المقدمة، وعلى الوليمة التى عملت فيها بعد إتمام الترعة فى سنة 1869 م.
أسنا
قال ابن خلكان هى بفتح الهمزة وسكون السين المهملة وفتح النون وبعدها ألف بليدة صغيرة من أعمال القوصية بالصعيد الأعلى من مصر اه.
وفى القاموس إسنا بالكسر ويفتح بلد بصعيد مصر، وفيه أيضا أن بصعيد مصر قرية تسمى أشنى بضم الهمزة وشين معجمة مقصورا كحسنى وهى غير إسنا بالمهملة انتهى.
وفى كتب الفرنساوية أن إسنا مدينة كانت تسميها الرومانيون لينوبوليس واسمها القديم المصرى سنا، وكانت كما هى الآن رأس مديرية. فهى مدينة عظيمة قديما وحديثا بها حوانيت كثيرة وخانات ويجلب إليها من جميع بضائع القطر من القاهرة وخلافها سيما، مصنوعات الأقاليم القبلية كالبرد والأردية المسماة عندهم بالشقق رجالية وحريمية.
وهى واقعة على الشاطئ الغربى للنيل بين طيبة وأسوان فى نهاية وادى النيل، ومديريتها محدودة فى الشرق والغرب بسلاسل الجبال، وفى الجهة القبلية بالشلالين وفى الجهة البحرية بالجبلين المتقاربين اللذين لقربهما من النهر لا يجد المسافر عندهما طريقا واسعة فيضطر إلى المرور من خلفها فى الصحراء.
وفى محاذاة تلك المدينة يضيق الوادى حتى لا يكون إلا ثمانية آلاف متر، وخلف أرض الزراعة أرض رملية تأخذ فى الارتفاع قليلا قليلا حتى تصل إلى الجبل، وهناك خلف الجبل الشرقى واد يوصل إلى البحر الأحمر وأرض تلك المدينة وكذلك جميع أراضى مديريتها مرتفعة بحيث بخشى عليها عدم/الرى عند قلة النيل.
وفى كتب الفرنساوية أنها كانت زمن دخولهم هذه الديار تشرق فى غالب السّنين بسبب هجر الترع القديمة التى كانت تروى منها، وكان لا يزرع منها إلا جزء يسير وهو ما انخفض من أرض الشاطئ الذى فى شمال المدينة بمسافة قليلة، فلما شملتها عناية العائلة المحمدية بإحداث الترع والخلجان والجسور اللازمة، كما شملت غيرها من أراضى القطر أمن ربّها وتم خصبها وانصلحت الأراضى التى كانت قد كستها أيدى الإهمال جلابيب الرمال، حتى اضمحلت تلك البلاد وفارقها أهلها، وذلك أنه عمل لها ترعة الشماخية وجعل فمها قريبا من ناحية البصيلية فى قبلى إسنا بخمس ساعات فحصل منها النفع العظيم.
وفى شمال فم تلك الترعة ترعة قديمة متسعة يقال لها: القنان يظهر تجاه فمها فى مجرى النيل زمن التحاريق أحجار وصخور، ربما كانت أثر شلال أو رأسا جعلت قديما لتحويل النيل إلى ذلك الفم.
ويقال: إن هذه الترعة كانت لرى جزء من الأرض يقال له: وادى الجن بجوار أطيان إسنا وأسفون تبلغ مساحته قريبا من أربعين ألف فدان، ولما هجرت تلك الترعة زحفت الرمال على هذه الأرض فأفسدتها، ثم فى زمن المرحوم العزيز محمد على عملت لهذا الحوض ترعة أسفون الغربية فأصلحت بعضه، وفى مدة المرحوم سعيد باشا أعطيت أراضى الجن وأسفون والمطاعنة لدولتلو عبد الحليم باشا، ثم دخلت فى ملك حضرة الخديو إسماعيل ورتب لها بناحية المطاعنة وابور لسقى المزروعات الصيفية، وتجددت بها مساكن للخدمة والمهندسين والتلغرافية، ومن هذه الإنشاءات الخيرية حسنت أحوال أهالى تلك الجهات وانصلحت جميع أراضى وادى الجن وخلافها.
ثم إنه كان يزرع فى ضواحى إسنا القطن الجيد والنساء يغزلنه وينسجنه ثيابا وتباع لعرب تلك البلاد، ولم يكن ذلك خاصا بنساء المدينة بل ذلك فيما جاورها من البلدان أيضا، وأما أقمشة الصوف فتصنع فى جميع بلاد مصر.
وقد ذكر تلك المدينة بطليموس واسترابون وغيرهما فى مؤلفاتهم قالوا: وكان للرومانيين بها فرقة من العساكر الرماة وقد تكلم عليها أيضا الإدريسى وأبو الفداء قليلا، ونقل المقريزى عن الأدفوى: أن أرض إسنا كان يتحصل منها فى كل سنة أربعون ألف إردب من الفاكهة، واثنا عشر ألف إردب من الزبيب، ويقال: كان فيها اثنا عشر ألف منزل وسبعون حارة كبيرة.
ترجمة ابن الصوفى
وفى خططه أيضا أن ابن الصوفى العلوى وهو: إبراهيم بن محمد بن يحيى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن على ابن أبى طالب رضي الله عنه، خرج بالصعيد ودخل إسنا فى ذى القعدة سنة خمس وخمسين ومائتين فنهبها وقتل أهلها، فبعث إليه ابن طولون بجيش فحاربوه عند ناحية هوّ فهزمهم، وذلك فى ربيع الأول سنة ست وخمسين، فبعث إليه بجيش آخر فالتقيا بإخميم فى ربيع الآخر فانهزم ابن الصوفى وفرّ إلى الواح وترك جميع ما معه وقتلت رجالته، فأقام بالواح سنتين ثم نزل على الأشمونين وسار إلى أسوان لمحاربة أبى عبد الرحمن العميرى فظفر به العميرى وقتل من جيشه مقتلة عظيمة، ولحق ابن الصوفى بأسوان فقطع لأهلها ثلاثمائة ألف نخلة، فبعث إليه ابن طولون فهرب إلى مكة فقبض عليه بها وحمل إلى ابن طولون فسجنه ثم أطلقه فسار إلى المدينة ومات بها.
وذكر فى موضع آخر أنه كان ياسنا آلة مائية لسقى ثلاثمائة وستين فدانا مغروسة نخيلا وكرما وقصبا انتهى.
وتلك المدينة على تل من التراب كما هى عادة المدن المصرية القديمة، وبيوتها مبنية من الآجر وهو الطوب المحرق، واللّبن وهو الطوب المضروب المجفف بالشمس والهواء، ولها موردة عظيمة مزدحمة بالمراكب غالبا، وقد زحف عليها النيل مرارا وأخذ من بيوتها.
وفى كتب الفرنساوية أنها كانت وقت دخولهم مصر محل إقامة حسن بيك وعثمان بيك وصالح بيك بعد الفتن التى أوجبت عداوتهم مع مراد بيك وخروجهم من القاهرة كما كان ذلك عادة جارية عقب كل فتنة، فإن هذه المدينة كانت مأوى المطرودين ويسبب بعدها عن التخت كانت الحكام تتركهم ولا تتعرض لهم فيما يفعلونه فيها وفى أهلها، فكانت مديرية إسنا كأنها طعمة تتركها لهم الحكومة طمعا فى الأمن من شرهم، مع أن الغالب أن العصاة كانوا متى تحصلوا من ظلم الأهالى على ما يهيئون به أنفسهم يقوموا فى الجهات القبلية ويثيروا الفتن ويخربوا فى البلاد، ومع ذلك فإقامتهم فى تلك المدينة كانت موجبة لها نوع العمارية من تحريك البضائع بالبيع والشراء لتحصيل أغراض هؤلاء الأمراء مما هو لازم لمعاشهم ومستلذاتهم، فكانوا يصرفون مصارف واسعة مما يسلبونه من البلاد، ولهذا كثرت فيها الحرف والصنائع كصنعة نسج الملاءات وأصناف الملبوسات من القطن والصوف ومعاصر زيت الخس.
ولها سوق كبير كل يوم أحد تجتمع فيه الأهالى والعرب وتباع فيه جميع السلع حتى المرجونات والمقاطف ونحوها مما يصنعه البربر من سعف النخل، وهذا غير السوق الدائم على عادة المدن/الكبيرة، وفى كل سنة ترد عليها قافلة من سنار معها أنواع تجارة تلك البلاد مثل الصمغ والريش وسن الفيل، وكان بها فى وقت الفرنساوية ثلاثمائة عائلة من الأقباط جميعهم أصحاب صنائع، وشكل المدينة بيضاوى وأعظم طولها تسعمائة متر من الشمال إلى الجنوب، وعرضها أربعمائة متر، وفى وسطها ميدان طوله ثمانون مترا فى عرض أربعين وفوق كثير من بيوتها أبراج للحمام مبيضة بالجير للوقاية من الهوام.
وكانت إقامة الفرنساوية فى جنينة حسن بيك التى فى الجهة البحرية من المدينة ولذلك سميت بجنينة الفرنساوية، والموردة قريبة منها يشاهد هناك رصيف قديم يظهر أنه من آثار من حكموا الديار المصرية فى الأعصر الخالية ثم أهمل فتلاشى أمره، ولذلك هجم النيل على المدينة فخرب كثيرا من بيوتها
ويريا هذه المدينة من أعظم ما يرى من مبانى المصريين وفيها إيوان محمول سقفه على أربعة وعشرين عمودا محيط كل عمود 40 ر 5 متر وارتفاعه 30 ر 11 مترا من ضمن ذلك التاج، والأعمدة المذكورة مصطفة أربعة صفوف فوقها صحفات وأعتاب تمسكها وتحمل السقف المجعول من الحجر الذى طول الحجر منه يقرب من ثمانية أمتار وعرضه متران، والفتحات التى بين الأعمدة قدر قطر العمود مرة ونصفا، وفتحة الوسط ضعف ذلك ويتوصل من الإيوان إلى باب المعبد، وفى اليمين والشمال بابان غلب عليهما وعلى الباب الوسط التراب ولذا يعسر الدخول منها، وعمق الإيوان 5 ر 16 مترا وعرضه ضعف هذا القدر، وهو محوط بحيطان عالية مرتفعة إلى السقف ويأتيه النور من فراغ أعمدة الواجهة.
وفى داخل المعبد باب آخر وبعض أود خلاف محل العبادة وأرض البلد الآن ارتفعت فوق ذلك المعبد والأترية والأنقاض وبعض البيوت فوق سقفه، وجميع حيطانه منقوشة من الداخل بالكتابة والرسومات الفلكية، التى هى عبارة عن البروج الاثنى عشر فى ترتيبها المعروف الآن، وقد قيس الإيوان المنقوش فوجد قريبا من خمسة آلاف متر مسطح، فلو فرض أن الصانع يعمل مترا كل عشرة أيام لكان اللازم خمسين ألف يوم لنقش الكل، ثم هو إلى الآن لم يصبه شئ من الخلل، وقد صار تخليصه من الأتريه فى زمن العزيز محمد على فوجد سالما من الخلل ووجدت نقوشه سالمة من المحو والزوال.
وقرأها بعض من يعرف الكتابة المصرية القديمة، فتبين أنها من زمن القياصرة وفيها أسماء جماعة منهم وهم كلود واسباسيان وتيتوس وأنطونان ومرقوريل وكومود وتراجان وأدريان ودوميتيان وسبتيم سوير وجيتا وقرقلا، وأن هذا الأخير أمر بمحو اسم أخيه جيتا بعد قتله من جميع المعابد المصرية، وقال بعضهم إن هذا المعبد يعزى إلى موريس فرعون مصر وبعضهم يعزوه إلى البطالسة اه.
وفى زمن الفرنساوية كان هناك معبد آخر فى شمال المدينة على بعد ثلاثة أرباع فرسخ منها وألفين وخمسمائة متر من البحر، اختل أغلب مبانيه لحفر ما تحته بأمر إسماعيل بيك فى زمن مراد بيك زعما منه أن هناك كنزا، واستعمل فى ذلك الأهالى زمنا طويلا ولم ينتج منه إلا الاستدلال على سخافة عقله
وكان هذا المعبد مبنيا فوق تل صناعى ويظهر أنه كان يحج اليه فى أوقات معلومة ونقوشه كنقوش المعبد الكبير إلا أنها أقل منه اتقانا، وقد وصفه الفرنساوية وجعلوا بعده عن المدينة ثلاثة كيلو مترات.
وفى سنة ألف وثمانمائة وأربعين ميلادية أخذت أنقاضه ورمّ بها الرصيف القديم المار الذكر قالوا:
وكان أمام هذا المعبد آثار يظهر أنها بواقى عيون كانت لتوصيل ماء النيل إليه، وعلى شاطئ النيل الأيمن فى جهة الشرقى على بعد ربع فرسخ أثر معبد فوق تل مرتفع قد تخرب وفى محله كثير من الشقاف، وذلك المعبد لم تكمل نقوشه كما أن المعبد المذكور قبله كذلك، وبناء كل منهما بالحجارة وعلى قوانين العمائر المصرية، ولم نذكر تفاصيلها خوف الإطالة.
وعند المدينة دير وكنيسة منعزلان عنها على بعد ثلاثة أرباع فرسخ من الجهة القبلية وكنيستها مشهورة بمقتلة النصارى، لمقتلة حصلت هناك زمن القيصر ديولكيتان
(1)
، وديرها من أشهر الديورة عند النصارى ويحجون إليه بكثرة كان حجهم إليه فى الأزمان القديمة أكثر.
وبها مساجد عظيمة جامعة أقدمها الجامع الكبير العمرى، ومن أشهرها جامع الضوى نسبة إلى شيخ يسمى بهذا الاسم مدفون فيه وله مقام يزار وقبة ومولد سنوى يستمر ثمانية أيام، وعدة أهلها الآن 700 نفس فهذه المدينة عامرة قبل الإسلام وبعده.
(1)
يقصد: دفلديانوس.
مطلب تراجم علماء إسنا
وظهر منها علماء كثيرون ومن علمائها ابن الإسناوى وهو كما فى دائرة المعارف جمال الدين عبد الرحمن بن على بن الحسين بن شيث القاضى الرئيس الأموى الإسنوى القوصى صاحب ديوان الإنشاء للملك المعظم عيسى، ولد بإسنا سنة خمسمائة وخمسين هجرية وتوفى سنة ستمائة وخمس وعشرين.
نشأ بقوص وتفنن بها وقرأ الأدب وكان ورعا دينا خيرا حسن النظم والنثر ولى الديوان بقوص ثم بالإسكندرية ثم بالقدس/ثم ولى كتابة الإنشاء للمعظم، وكان يوصف بالمروءة وقضاء الحاجة وكانت وفاته بدمشق ودفن بقاسيون بتربته.
وكانت بينه وبين المعظم مداعبات، كتب إليه مرة أنه لما فارقه ودخل منزله طالبه أهله بما حصل له من ابن السلطان فقال لهم: ما أعطانى شيئا فقاموا إليه بالخفاف وصفعوه وكتب إليه بعد النثر فى هذا المعنى هذين البيتين:
وتخالفت بيض الأكف كأنها
…
التصفيق عند مجامع الأعراس
وتطابقت سود الخفاف كأنها
…
وقع المقارع من يد النخاس
فرمى المعظم الرقعة إلى فخر القضاة ابن بصاقة وقال أجبه فكتب:
فاصبر على أخلاقهن ولا تكن
…
متخلقا إلا بخلق الناس
واعلم إذا اختلفت إليك بأنه
…
ما فى وقوفك ساعة من باس
وكفاها فخرا ولادة الإمام ابن الحاجب بها وقد ترجمه ابن خلكان فى تاريخه فقال:
ترجمة الإمام العلامة أبو عمرو عثمان بن الحاجب
هو أبو عمرو عثمان بن عمر بن أبى بكر بن يونس الفقيه المالكى المعروف بابن الحاجب الملقب جمال الدين، كان والده حاجبا للأمير عز الدين موسك الصلاحى، وكان كرديا واشتغل ولده أبو عمرو المذكور بالقاهرة فى صغره بالقرآن الكريم، ثم بالفقه على مذهب الإمام مالك ثم بالعربية والقراءات، وبرع فى علومه وأتقنها غاية الإتقان.
ثم انتقل إلى دمشق ودرس بجامعها
(1)
فى زاوية المالكية وأكب الخلق على الاشتغال عليه والتزم لهم الدروس وتبحر فى الفنون، وكان الأغلب عليه علم العربية، وصنف مختصرا فى مذهبه ومقدمة وجيزة فى النحو وسماها الكافية وأخرى مثلها فى التصريف وسماها الشافية وشرح المقدمتين وله:
[أى غد مع يدددذى حروف]
(2)
…
طاوعت فى الروى وهى عيون
ودواة والحوت والنون نونا
…
ت عصتهم وأمرها مستبين
وهو جواب عن البيتين المشهورين وهما:
ربما عالج القوافى رجال
…
فى القوافى فتلتوى وتلين
طاوعتهم عين وعين وعين
…
وعصتهم نون ونون ونون
(1)
الصحيح: بجامعها. انظر: ابن خلكان: وفيات الأعيان، ج 3، ص 249.
(2)
الصحيح: أى غدّ مع يد دد ذى حروف. انظر: ابن خلكان: وفيات الأعيان، ج 3، ص 249.
فيعنى بقوله عين وعين وعين نحو غد ويد ودد فإن وزن كل منها فج، إذ أصل غد غدو ويد يدى،
(1)
ودد، ددى
(1)
وبقوله: نون ونون ونون الدواة والحوت والنون هو الحرف، وله أيضا فى أسماء قداح الميسر ثلاثة أبيات وهى:
هى فذ وتوأم ورقيب
…
ثم حلس ونافس ثم مسبل
والمعلى والوغد ثم سفيح
…
ومنيح وذى الثلاثة تهمل
ولكل مما عداها نصيب
…
مثله إن تعد أول أول
وصنف فى أصول الفقه، وكل تصانيفه فى نهاية الحسن والإفادة، وخالف النحاة فى مواضع، وأورد عليهم إشكالات والتزامات تبعد الإجابة عنها.
وكان من أحسن خلق الله ذهنا ثم عاد إلى القاهرة وأقام بها والناس ملازمون للاشتغال عليه، وجاءنى مرارا بسبب أداء شهادات وسألته عن مواضع فى العربية مشكلة، فأجاب أبلغ إجابة بسكون كثير وتثبت تام، ومن جملة ما سألته عن مسألة اعتراض الشرط على الشرط فى قولهم: إن أكلت إن شربت فأنت طالق، لم تعين تقديم الشرب على الأكل بسبب وقوع الطلاق حتى لو أكلت ثم شربت لم تطلق، وسألته عن بيت أبى الطيب المتنبى وهو قوله:
لقد تصبرت حتى لات مصطبر
…
فالآن أقحم حتى لات مقتحم
(1 - 1)) الصحيح: ودد: ددن. انظر: ابن خلكان: وفيات الأعيان، ج 3، ص 249.
ما السبب الموجب لخفض مصطبر ومقتحم ولات ليست من أدوات الجر، فأطال الكلام فيهما وأحسن الجواب عنهما ولولا التطويل لذكرت ما قاله.
ثم انتقل إلى الإسكندرية للإقامة بها فلم تطل مدته هناك وتوفى بها ضاحى نهار الخميس السادس والعشرين من شوّال سنة ست وأربعين وستمائة، ودفن خارج باب البحر بتربة الشيخ الصالح ابن أبى شامة، وكان مولده فى آخر سنة سبعين وخمسمائة بإسنا رحمه الله تعالى انتهى.
وذكر منها صاحب الطالع السعيد جما غفيرا من الأفاضل والجهابذة الأماثل: منهم الإمام الحافظ المحدث
(1)
إبراهيم بن عبد الرحيم بن على بن إسحاق بن شيث الملقب بالكمال الأسنوى، كان يحفظ الموطأ وتقلد بالخدم الديوانية واتصل بخدمة الناصر يوسف وأعطاه خيرا وقربه واعتمد عليه، ثم ولى الرحبة فى أيام الظاهر ثم نقل منها إلى بعلبك وولى البلد والقلعة وسيره السلطان رسولا إلى عكا، توفى عشية الخميس رابع عشر صفر ودفن بتربة الشيخ اليونينى.
ومنهم القاضى
(2)
إبراهيم بن هبة الله بن على الحميرىّ القاضى نور الدين الأسنوى، صنف فى الفقه والأصول والنحو، واختصر الوسيط والوجيز ونثر الألفية وشرحها وصحح ما صححه/الرافعى، وشرح المنتخب فى أصول الفقه وولى القضاء بمدينة زفتة فى أوائل عمره وبمنية ابن خصيب، وتولى أقاليم منها أسيوط وإخميم وقوص، وكان حسن السير جميل الطريقة صحيح العقيدة قال لى: أردت أن أقرأ على الشيخ شمس الدين الأصفهانى فلسفة فقال: حتى تمتزج بالله امتزاجا جيدا، وكان إذا أخذ درسا ينقيه ويحققه ويستوفى
(1)
الطالع السعيد/54، والمنهل الصافى 1/ 101 ط هيئة الكتاب.
(2)
انظر الطالع السعيد للأدفوى ص 69 - 71 ط الدار المصرية للتأليف والترجمة.
الكلام عليه إلا أنه كان لا يثبت له كل ما يلقيه؛ وكان محبا للعلم لم تشغله عنه المناصب، ولما ولى قوص قرأ على شيخنا عز الدين عبد الرحمن بن يوسف الأسفونى الجبر والمقابلة، وقرأ الطب على الحكيم شهاب الدين المغربى توفى بالقاهرة سنة سبعمائة وإحدى وعشرين.
ومنهم كما فى الطالع السعيد أيضا أبو الفضل جعفر بن حسان بن على أبو الفضل الأسنوى
(1)
يلقب بالسراج كان كاملا كريما شاعرا وكان يهدى إلى الملك الكامل ويكاتبه، ويقال: إن الملك الكامل حضر هو وجماعة من ملوك الشام وتذاكروا الرؤساء فذكر الملك الكامل جعفر المذكور، وقيل: إن بعضهم جمع مدائحه فى مجلدات ضخمة سماها «بالأرج الشائق إلى أكرم الخلائق» مات سنة ستمائة واثنتى عشرة.
وفيه أيضا أن منها من فقهاء الشافعية الشيخ نور الدين على بن هبة الله بن إبراهيم بن حمزة المعروف بابن الشهاب الأسنوى، كان إماما فى الفقه دينا صالحا، أخذ الحديث عن الحافظ أبى الفتح محمد بن على بن وهب القشيرى، وعن الحافظ عبد الرحمن بن خلف الدمياطى، وعن قاضى القضاة أبى محمد عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن سعد الله بن جماعة الكنانى، وحفظ مختصر مسلم للحافظ عبد العظيم المنذرى، وأخذ الفقه عن الشيخ بهاء الدين هبة الله بن عبد الله بن سيد الكل القفطى، والشيخ جلال الدين أحمد بن عبد الرحمن الدشناوى، ولما حج كتب الروضة بخطه بمكة وهو أول من أدخلها إلى قوص، وأقام بقوص يدرس ويفتى إلى أن مات سنة سبع وسبعمائة عليه رحمة الله انتهى.
وفى حسن المحاضرة للسيوطى: إن من علمائها محيى الدين سليمان بن جعفر الأسنوى خال الشيخ جمال الدين، كان فاضلا فى علوم كثيرة ماهرا فى الجبر والمقابلة، صنف طبقات الشافعية ودرس بالمشهد النفيسى، ولد سنة سبعمائة ومات فى جمادى الأولى سنة ست وخمسين.
(1)
انظر الطالع السعيد للأدفوى ص 178 - 179 ط الدار المصرية للتأليف والترجمة.
ومنهم نجم الدين محمد بن ضياء الدين أحمد بن عبد القوى الأسنوى كان عالما فاضلا وانتفع به خلق وألف فى علوم متعددة، مات فى ذى الحجة سنة ثلاث وستين وسبعمائة، وكان والده أيضا عالما فاضلا من كبار الصالحين له كرامات تفقه بالبهاء القفطى، مات سنة اثنتى عشرة وسبعمائة فى شوّال.
ومنهم العماد الأسنوى محمد بن الحسن بن على الأسنوى، قال أخوه الشيخ جمال الدين فى طبقاته كان فقيها إماما فى الأصلين والخلاف والجدل والتصوّف نظّارا بحاثا طارحا للتكلف مؤثرا للتقشف ولد سنة خمس وتسعين وستمائة، وأخذ عن مشايخ القاهرة وانتصب للتدريس والإفتاء والتصنيف، مات فى رجب سنة أربع وستين وسبعمائة.
وأخوه الشيخ جمال الدين عبد الرحيم شيخ الشافعية وصاحب التصانيف السائرة، ولد سنة أربع وسبعمائة وأخذ عن التقى السبكى والزنكلونى والقونوى وأبى حيان وغيرهم، وبرع فى الأصول والعربية والعروض، وتقدم فى الفقه فصار إمام زمانه وانتهت إليه رياسة الشافعية.
ومن تصانيفه المهمات والجواهر، وشرح المنهاج والألغاز، والفروع، ومختصر الشرح الصغير، والهداية إلى أوهام الكفاية، وشرح منهاج البيضاوى، وشرح عروض ابن الحاجب، والتمهيد والكوكب، وتصحيح التنبيه والتنقيح وأحكام الخناثى، والزوائد على منهاج البيضاوى، وطبقات الفقهاء، والرياسة الناصرية فى الردّ على من يعظم أهل الذمة واستخدامهم على المسلمين، وكتاب الأشباه والنظائر مات عنه مسودة، وشرح التنبيه كتب منه مجلدا وشرح الألفية لابن مالك لم يكمل وشرح التسهيل كتب منه قطعة، مات فى جمادى الأولى سنة سبع وسبعين وسبعمائة ورثاه البرهان القيراطى بقصيدة طويلة مطلعها:
نعم قبضت روح العلا والفضائل
…
بموت جمال الدين صدر الأفاضل
تعطل من عبد الرحيم مكانه
…
وغيب عنه فاضل أىّ فاضل
إلى أن قال:
صرفت عليه كنز صبرى وأدمعى
…
فأفنيت من هذا وهذا حواصلى
سأنشد قبرا حل فيه رثاءه
…
وأسمع ما أمليه صمّ الجنادل
وما نحن إلا ركب موت إلى البلا
…
تسيرنا أيامنا كالرواحل
قطعنا إلى نحو القبور مراحلا
…
وما بقيت إلا أقل المراحل
وهذا سبيل العالمين جميعهم
…
فما الناس إلا راحل بعد راحل
/وله أخ يقال له نور الدين على، كان فقيها فاضلا شرح التعجيز، مات فى رجب سنة خمس وسبعين وسبعمائة.
ومنهم الإمام الفاضل أبو بكر بن محمد بن عبد الله القزوينى الأصل الأسنوى المولد جمال الدين، برع فى مذهب أبى حنيفة وأكب على العبادة واشتهر وقصده الناس للاشتغال عليه، ودرس بالصالحية والسيوفية. مات بالقاهرة فى حدود الثمانين وستمائة انتهى.
ثم إن المرحوم محمد على باشا بنى فى بحرى هذه المدينة بنحو مائة وخمسين قصبة، سراية فى سنة اثنتين وخمسين ومائتين وألف، وجعلها فى بستان متسع قريب من بستان على بيك الأقمر الذى هو بستان إسماعيل بيك ومن منشآت المرحوم أيضا بها فوريقة لنسج ثياب القطن قد تركت الآن ومحلات لإقامة العساكر والمديرين وجميع ذلك على شاطئ البحر، وبساتينها مشتملة على الرّمان والعنب والليمون والبلح، والمسافر منها إلى فرشوط وبالعكس-عوضا عن سفره على ساحل البحر 52 ساعة بسبب اعوجاج النيل، يسافر من طريق العقبة 14 ساعة حيث إنها الآن فى غاية الأمن، فمن إسنا إلى الزريقات خمس ساعات ومنها إلى الجبل تسع ساعات ثم تكون فرشوط أمامه بالقرب فينزل عليها من طريق بالجبل يقال له العقبة.
أسوان
قال فى القاموس أسوان بالضم وبفتح أو غلط السمعانى فى فتحه بلد بالصعيد بمصر منه فقير بن موسى المحدث انتهى.
وفى كتب التواريخ أنها مدينة فى نهاية الصعيد الأقصى ما بعدها إلا بلاد النوبة، وكانت تسمى قديما سيوان أو سنون ويقال فيها أيضا: سيينة، وفى كتاب تقويم البلدان لأبى الفداء أن طول الصعيد من أسوان إلى الفسطاط فوق عشرين مرحلة، وعرضه ما بين نصف يوم إلى يوم قال:
ويسمى ما علا عن الفسطاط على جانبى النيل الصعيد وما سفل عنه الريف، ثم قال وبالقرب من أسوان مشهد الردينى، وهو مشهد كبير على حافة النيل من شرقية فى جنوبىّ أسوان على شوط فرس، وضبط الصّعيد بفتح الصاد المهملة وقال: صقع طويل غير عريض لأنه بين جبلين على حافتى النيل وفيه مدن وكور كثيرة انتهى.
وكل من تكلم على مدينة أسوان يصف بئرها التى كانت تضئ جميع جدرانها وقت الزوال بأشعة الشمس فى يوم المنقلب الصيفى.
وذكر المقريزى أن بعدها عن خط الاستواء اثنتان وعشرون درجة ونصف فالشمس تسامت رؤوس أهلها مرتين فى السنة عند كونها فى آخر الجوزاء أو فى أول السرطان، وفى هذين الوقتين لا يكون للقائم بأسوان نصف النهار ظل أصلا فالحرارة واليبس والإحراق غالبة على مزاجها، لأن الشمس تنشف رطوباتها، ولذلك صارت ألوان أهلها سودا وشعورهم جعدة لاحتراق أرضهم، ولم يكن أشهر من هذه المدينة بين الجغرافيين فى الأزمان القديمة، بسبب أن أراتستين وهيبارك واسترابون وبطليموس جعلوها مبدأ عينوا بالنسبة له جميع نقط الكرة الأرضية، وكان اعتقاد الأقدمين أنه لا توجد مدينة غيرها واقعة على دائرة الانقلاب الفاصلة بين المنطقة الحارة والمنطقة المعتدلة، وقد وجد فى أيامنا هذه قريبا من هذا الخط فى آسيا بلدتان: شاندير ناجور، وكاتون، وبلدة هوان التى هى من جزائر اللاّنتى فى قطعة أمريقا، وقد اتضح الآن من الحسابات الصحيحة أن هذه المدينة ليست على دائرة الانقلاب بل بعيدة عنها إلى جهة الجنوب بقدر خمسة عشر فرسخا ونصف.
ومع هذا ففى يوم المنقلب الصيفى وقت الزوال يكون الظل غير محسوس فى هذه المدينة بحيث أنه لو فرض أن شاخصا ارتفاعه عشرون مترا لا يكون ظله إلا خمسة سنتميترات، ولكن إذا رصد الظل فى بئر المدينة القديمة لا يرى غير نصفه فى الظل، ونسب بعض العلماء إنشاء بئر أسوان وتقدير محيط كرة الأرض بمائتين وخمسين ألف استاده
(1)
إلى أراتستين، ولكنه لم يثبت أنه ذهب إلى هذه المدينة، ولو ذهب إليها لرأى أن مركز الشمس يوم المنقلب الصيفى يبعد عن المدينة بقدر ربع درجة، وأن البئر لا تكون فى موضعها بل على بعد ستة فراسخ منه.
(1)
ستاديا، Stadia مفردها 610 - Stadion قدم أو 185،9 متر. انظر: تاريخ مصر فى عصر البطالمة، ج 2، ص 284،281.
فمن كل ذلك ومن عدم وجود دليل تاريخى يثبت ذهابه إلى هذه المدينة أو قياس محيط الدائرة الأرضية مع شهرة هذه البئر بين الأقدمين، يعلم أن البئر المذكورة من صناعة المصريين عملت فى وقت كان فيه المنقلب الصيفى يمرّ بهذه المدينة الواقعة فى حدود وادى النيل من الجهة القبلية، وأراتستين هذا ولد قبل المسيح بمائتين وخمس وسبعين سنة، وكان رئيس كتبخانة الإسكندرية فى زمن بطليموس أو يرجيت
(1)
أه.
وذكر استرابون وغيره أن هذه البئر جعلت للدلالة على يوم المنقلب الصيفى، والجبل المشتمل على معدن الزمرّد فى جنوب هذه المدينة فى صحار خالية من الناس تعرف بصحارى عيذاب.
وأما معدن الذهب فعلى بعد خمسة عشر يوما من المدينة، وبين عيذاب وأسوان طريق إلى الحجاز واليمن والسند.
وفى تقويم البلدان نقلا عن كتاب ابن سعيد قال: وفى سمت أسوان من جهة الشرق طريق الحجاج إلى عيذاب وغيرها/من المينا التى يركبون منها إلى مكة، فمن أخذ من أسوان مشرقا فعلى الوضح، ثم تلتقى هذه الطرق مع طريق قوص، وسميت هذه الطريق بالوضح لخلوها عن الجبال المشتبكة التى فى طريق قوص انتهى.
وذكر المسعودى: أن سكان هذه المدينة من عرب قحطان ونزار وربيعة ومضر وقريش وأغلبهم أتى إليها من الحجاز وأرضها خصبة، وإذا غرست فيها النواة صارت نخلة وأثمرت فى زمن قريب، بخلاف البصرة والكوفة فلا يثمر فيهما النخل إذا غرس من النّوى.
وكان محل أسوان القديمة فى الجنوب الغربى من محلها الآن، وقد انحطت عن درجتها فى زمن دخول العرب أرض مصر واعترى الخراب أكثر مبانيها.
(1)
هو بطلميوس يورجتيس) Euergetes الخير)، وهو بطلميوس الثالث. انظر: إبراهيم نصحى: تاريخ مصر فى عصر البطالمة، ج 1، ص 121.
ولما بنى سورها تأخر عن حدود المدينة القديمة بقدر ثلاثمائة متر فجعل فى حدود الصخر تابعا لسير الجبل، وأحد أضلاعه على شاطئ البحر. وبنى من قطع صوّان أخذت من المحاجر ومن المبانى القديمة، وكان عبارة عن أبراج وبستيونات فى نقط منه مفصولة بجدران عالية، والآثار القديمة متفرقة فى أماكن كثيرة، تعلم من الكتابة والنقوش التى على الحجارة الملقاة، ثم إن طول المدينة تقريبا ما بين سبعمائة متر إلى ثمانمائة والطريق الموصل إلى جزيرة فيلة- (ييلاق) -.
فى الجهة القبلية من هذه المدينة والتل الذى فى جهتها القبلية بنى عليه الفرنساوية قلعة مدة دخولهم مصر وتحته معبد مصرى قديم قد علاه التراب، وحول التل أعمدة وقطع حجارة عتيقة، وفى جهة الشمال عمارة من مبانى الرومانيين متجهة نحو شاطئ النيل فى آخرها عمارة مربعة تشبه السبع السواقى التى فى آخر العيون بمصر العتيقة، وكانت المدينة محدودة من الجهة البحرية بالنيل، ومبنية فى أرض ذات ميل خفيف كانت مزروعة بالنخيل، وأرض الساحل رمل وطين من طمى النيل وفيه أنواع من الأشجار والنبات من ضمنها شجرة غريبة ارتفاعها نحو خمسة أقدام من الأرض، أزهارها بنفسجية اللّون وثمرتها صفراء، وبلغت فى خاصية الإحساس إلى أنها إذا مسّ أحد أحد غصونها انضمت أوراقها وهبطت وتبعها الغصن كله ولا ترجع لأصلها إلا بعد زمن، ويسميها الأهالى عرقة القرون ويعرفون هذه الخاصية فيها وينسبونها إلى السحر ويسميها بعض الناس شجرة الحسن، وذكر بعض السياحين أنه يوجد مثلها فى بلاد الحبشة.
ثم إن توالى حوادث الأيام خربت المدينة الإسلامية كما خربت قبلها مدينة الرومانيين التى حدثت بعد المدينة المصرية القديمة، ويقال: إن المدينة الموجودة الآن حدثت من زمن
السلطان سليم فى الجهة الشرقية من النيل فى أرض منخفضة محوطة من جهتها البحرية الشرقية بنخل وبساتين ممتدة إلى بعد عظيم، وفى جهة الجنوب منها جبل مرتفع فيه محاجر ومغارات كثيرة، وفى جهتها الشرقية فضاء متسع كان به منازل تهدمت وأخذت أنقاضها، وكانت مبنية من الطوب وأغلبها معقود، ولها مينا متسعة ومحوطة من إحدى جهاتها بالصخور وكانت تجارتها التمر والسنامكى المجلوب من الجهات القبلية فى السفن إلى الشلالات، ثم ينقل منها إلى المدينة على الحيوانات وتسير إلى الجهات البحرية فى السفن.
ولما كانت تجارة التمر أعظم تجارتها كان أكثر أهلها فقراء، وقد بقى من المبانى القديمة فى موضع البلد القديم معبد مبنى من الصخر، وبه جملة أعمدة، وفى زمن الفرنساوية كان لا يمكن دخوله إلا من سطحه لتراكم الأتربة عليه، والآن خلا منها وتبين أنه من زمن البطالسة.
وفى سنة ألف وثمانمائة وأربع وأربعين ميلادية، وجد بعض السياحين مسلة فى أحد المحاجر التى بالجبل منفصلة عن الجبل من ثلاثة أوجه والوجه الرابع متصل بالجبل، وطول المسلة ثلاثون مترا وعرض قاعدتها اثنتا عشرة قدما، ومن شهرة المدينة وعتاقتها يستفاد أنه كان بها مبان كثيرة ومعابد أخرى، وشهرة بئرها تفيد أنه كان بها رصد-أى معبد-لأن الرصد كان من خصائص القسيسين الذين كانوا يسكنون المعابد ولكن ذهب جميع ذلك بتقلب الحوادث والدول.
وفى كتاب لطرون أنه وجد فى هذه المدينة قطعة صوّان عليها كتابة لاتينية تفيد أن مقدس هذه المدينة هو هومون ومعه كنوبيس وجينون، وأن هذه المدينة وضعت فى زمن القيصر غيطا
(1)
وعامله أكيلا، وذلك فيما بين سنة 204 وسنة 209 ميلادية وذلك يفيد أن عبادة المصريين كانت لم تتغير إلى ذلك الوقت انتهى.
(1)
يقصد: جيتا (أنطونينوس بن سبتميوس سيفيروس)[209 - 217 م]. انظر: جيبون: اضمحلال الإمبراطورية الرومانية وسقوطها، ج 184،1/ 181.
ومن آثار هذه المدينة أيضا مقياس كان فيها للنيل ذكره هيرودوط نقلا عن ميدازى الذى ساح أرض مصر ورأى البئر المعدة لقياس النيل، وكان قبل مقياس مدينة منف مبنيا من حجر معقود عليه خطوط متباعدة بقدر ذراع يصل إليها الماء من مجرى تحت الأرض، واطلع أيضا على المزاول المعدة لبيان الأوقات، وكان شاخصها من غير ظل فى يوم المنقلب الصيفى، وكان هذا المقياس موجودا فى القرن الرابع من الهجرة.
وذكر المقريزى أن عمرو بن العاص هو الذى بناه والأصح أنه رممه فقط، وكان للرومانيين عسكر للمحافظة فى هذه المدينة وفى/جزيرة بيلاق وجزيرة أسوان، وفى طريق جزيرة بيلاق التى فى وسط الصخور يرى بقرب المدينة كثير من القبور غير ما هو منها فى الجنوب الشرقى للمدينة، ويعلم من الكتابة الكوفية التى على الشواهد أنها قبور من مات من المسلمين فى وقت الفتح الإسلامى.
ويرى جملة من الجوامع مرقوما على باب أحدها اسم سليم، يقال إنه هو الذى حارب الجلابة فى مبدأ الهجرة وطردهم من البلد القديمة مرتين، ثم إن العرب تغلبوا عليها وسكنوها إلى زمن صلاح الدين فطردهم منها.
وفى القرن السادس عشر من الميلاد دخلت كبقية البلاد المصرية فى يد الدولة العثمانية مع جهتى بربى وأبريم، وفى الجبل الذى عند هذه الجهة كثير من المحاجر والمغارات التى أخذ منها المصريون فى الأزمان السابقة المسلاّت والأعمدة والأحجار الهائلة المستعملة فى مبانيهم، وتبعهم البطالسة والرومانيون فى ذلك.
وهذه المحاجر تشغل سعة من الأرض طولها ستة آلاف متر تقريبا، ويرى الجبل فى جميع جهات المدينة مقطوعا رأسيا وعليه أثر الآلات، ويمكن أن يعلم بالتأمل طرق قطع الأحجار وفصلها من الجبل، وفى جهة الجنوب واد متسع مرتدم بالرمال؛ ولعلها الأرض التى كانت تزرعها أهل المدينة من القموح وغيرها ثم سطت عليها الرمال فأضاعتها.
وكان على شاطئ النيل الغربى فى مقابلة المدينة بلد تعرف فى كتب المؤرخين بغرب أسوان وكان الأقدمون يسمونها كونترا أسوان، وكان بها فى زمن الأقباط دير متخرب قائم على الجبل وهناك مغارة مصرية قديمة على بعد نصف فرسخ فى الجبل هى محل دير قديم تخرب، وفيه بعض نقوش من زمن النّصارى، وكان يحيط به سور فيه مزاغل كثيرة، وارتفاع المدينة عن استواء ماء البحر الملح مائة متر وعشرة أمتار، وعرضها الشمالى قدره أربع وعشرون درجة وثلاث وخمسون دقيقة وبعدها عن مدينة القاهرة 835 ألف متر.
وذكر القاضى الأفضل
(1)
أن إيرادها للحكومة كان فى سنة 585 هلالية خمسة وعشرين ألف دينار، وذكر الكامل جعفر أحد أكابر مدينة أدفو، أن متحصل نخيل أسوان فى السنة الواحدة 30000 إردب، وكان فيها من البسر أنواع منها ما ييبس، ومنها ما يؤكل أخضر، ومنه نوع يسمى السّكوتى وهو صغير، ونوع يسمى جنديلة، ونوع يسمى أصابع الست وهو أحمر طويل والأنواع الجيدة لاتباع إلا نادرا بأثمان مرتفعة، وإنما يهادى بها الأكابر والأصحاب، ومن خصوصياتها أن لا يكون التمر فيها رطبا وقد طلب الخليفة هارون الرشيد من تمر أسوان فجمع له ويبة
(2)
من كل نوع من أنواع تمرها تمرة واحدة فانظر إلى كثرة أصناف التمر بها.
(1)
الصحيح: القاضى الفاضل.
(2)
الويبة: كيل مصرى معروف، وهى تساوى سدس إردب، كما تساوى كيلتين.
انظر: على جمعة: المكاييل والموازين الشرعية، ص 29، دار الرسالة، القاهرة 2002.
ونقل الكندى عن ابن زولاق أن بعض العلماء كشف عن أرطاب أسوان فما وجد بالعراق شيئا من أنواع التمر إلا وفى صعيد قوص مثله وفيه ما ليس بالعراق.
قال وأخبرنى أبو رحبة الأسوانى الفقيه صاحب القصيدة البكرية أنه يعرف بأسوان رطبا أخضر كخضرة السّلق، عجيب المنظر حسن المخبر وبالعشاشية منه سبع نخلات يحمل رطبها إلى أمير المؤمنين العزيز بالله.
ونقل عن صاحب الطالع السعيد، أنه قد خرج من أسوان خلائق كثيرة لا يحصون من العلماء والرواة والأدباء ثم أورد منهم جمعا كثيرا وقال قيل لى: إنه حضر مرة قاضى قوص فخرج من أسوان للقائه أربعمائة راكب بغلة، وكان بها ثمانون رسولا من رسل الشرع.
وأخبرنا من وقف على مكتوب فيه أربعون شريفا خاصة، وآخر فيه سبعون، ووقفت أنا على مكتوب فيه قريب من أربعين فيه جمع كثير من بيت واحد مؤرخ بما بعد العشرين وستمائة، قال: ونخيلها يشق الراكب فيه مسيرة يومين، وبها سمك كثير والجنادل التى بها نزهة من نزه الدنيا بهجة المنظر كأنها منطقات نيل.
وهى معتدلة الهواء قليلة الوباء، وبها رياحين تهب رائحتها على البلد، وبها حجر يسمى البهلول إذا عمه الماء يكون علامة على وفاء النيل بمصر وهى كثيرة البزارات والنزه دائرة على البحر انتهى.
ترجمة ابن زولاق
وقال أيضا أن ابن زولاق وهو أبو محمد الحسن بن إبراهيم بن زولاق المضرى كان فاضلا فى التاريخ وله كتاب الخطط مقصور على مصر خاصة وله فى التاريخ مصنفات، ولد سنة ست وثلاثمائة وتوفى سنة تسع وثمانين وثلاثمائة.
وقد مر على هذه المدينة أنواع كثيرة من الحوادث غيّرت أحوالها وذهبت بخيرها وبركتها، واستمر ذلك إلى زمن العزيز محمد على ومن عقبه فأخذت تتخلص من الشدة شيئا فشيئا، ثم لحقتها العناية الخديوية فألحقتها بغيرها فى اتساع دائرة الثروة، وصار أهلها الآن فى سنة 1290 هـ نحو أربعين ألف نفس.
وفيها محل الجمرك للبضاعة الواردة من الجهات السودانية، وهى فى وقتنا هذا مشتملة على قيساريات وخانات ووكائل ومتاجر جسيمة سودانية مصرية، وحاراتها ضيقة وأبنيتها من الطوب المضروب ما بين لبن ومحرق؛ لأن الجبل كان محيطا بها لكن أحجارة زرق صعبة القطع، وبها مساجد جامعة وقد أسس محرابها الصحابة رضي الله عنهم من ضمن ما أسّسوا فى البلاد التى استوطنوها، والبلاد التى كثر ممرهم بها من إقليم مصر/كمحراب المسجد الجامع بمصر المعروف بجامع عمرو، ومحراب المسجد الجامع بالجيزة وبمدينة بلبيس وبالإسكندرية وقوص قاله المقريزى.
قال: وهذه المحاريب المذكورة على سمت واحد غير أن محاريب ثغر أسوان أشد تشريقا من غيرها، وذلك أن أسوان مع مكة شرفها الله تعالى فى الأقليم الثانى وهو الحد الغربى من مكة من غير ميل إلى الشمال ومحراب بلبيس مغرب قليلا انتهى.
وبها ديوان المحافظة بنى فى زمن العزيز محمد على على شاطئ البحر، وبها قاضى ولاية، وعلى نحو ثلثى ساعة من جهتها البحرية قصر وبستان من إنشاء محمد بيك لاظ أغولى سنة 1238 هجرية مدة إقامته بها مع العساكر الجهادية الذين جعل العزيز عليهم سليمان باشا الفرنساوى لتعليمهم القوانين الإفرنجية العسكرية، وكان يقرب ذلك البستان قشلاق لإقامة ضباط العساكر، ثم جعل مكتبا للتلامذة على طرف الميرى.
وبالجملة فهى مدينة كثيرة البركة وافرة المحصول، وبعض أرض زراعتها على شاطئ النيل، وأغلب ذلك جنات وبساتين والبعض الآخر بالجزيرة تبلغ مساحته نحو تسعمائة فدان تزرع ذرة وقمحا وشعيرا وحشائش لأكل المواشى، ولقلة أرض الزراعة بها تجد أكثر أهلها ما بين تاجر وملاح فى المراكب.
ومنهم من يسافر إلى مصر أو بلاد البربر أو السودان بأنواع الأقمشة ونحوها، فيستبدلونها ببضائع من محصولات تلك الجهات نحو التمر الإبريمى والسّن والريش والعبيد، ويصنع بها من قديم الزمان إلى الآن أنواع كثيرة من الفخار فى هيئة أوانى النحاس والصينى من حلل وطناجر وأصحن وحجارة دخان وأغطية القلل وغير ذلك.
وطبنة ذلك تجلب من بحريها بقرب ناحية تعرف بناحية الشيمنية بجوار قصر لاظ أغولى، والعرب القاطنون بقرب تلك المدينة يصنعون أوعية تسمى البرام يتخذونه من حجر يسمى حجر البرام، وبعض الناس يسميه حجر الهمر والطبخ فيه أجود من الطبخ فى النحاس.
وهى عبارة عن قطع من الحجر تنقر مجوفة نحو ثلاثة أو أربعة سنتيمتر.
وهؤلاء العرب من العبابيد ويسكنون الرادسية وفى بعض الأحيان يسحق ذلك ويضاف إليه قدره من طين مستخرج من تحت جبل تلك المدينة ويمزج ويعجن نحو أربع ساعات، ثم تعمل منه النساء أوعية البرام والمراجيس ويجفف فى الشمس والهواء مدة ثمان وأربعين ساعة، ثم يوضع على نار خفيفة فى حفرة تعمل لذلك ويوضع فيها نحو عشرة أبرمة أو اثنى عشر دفعة واحدة.
وأهل أسوان أخلاط من البدو والأتراك والبربر السنارية والعبيد، فلذا ترى فيها جميع الألوان والملابس وتسمع بها جميع اللغات، وعلى أرصفة موردتها محصولات من بقاع شتى، ومن بضائعها النشاب والحراب والمزاريق والدرقات وآلات الموسيقى والصمغ والجلود وسن الفيل والسنامكى وريش النعام والشمع والتمر الهندى كل ذلك من بلاد السودان والحبش، ومن بلاد النوبة الحبال الليفية، ومن صحراء العرب فحم الخشب، وضواحيها خالية من النبات ما عدا بعض نخيل وأشجار، ومتوسط الوارد فى كل سنة منها إلى مصر 60000 قنطارا من الصمغ، ومن الشمع الحسينى 300 قنطارا، ومن ريش النعام 25 قنطارا ومن سن الفيل 1000 قنطار، ومن البن 300 قنطار، ثم أنى قد رأيت مجموعا لكترمير الفرنساوى جمع فيه حوادث هذه المدينة من كتب المسلمين فأردت إيراد ملخص ما ذكره لزيادة الفائدة.
فمن ذلك ما نقله عن عبد الله بن أحمد بن سلايم بن سلامة من علماء هذه المدينة فى تاريخ النوبة والمقرة والبجاة والنيل، أن بلاد النوبة تبتدئ من القرية المعروفة بالقصر الذى هو على خمسة أميال من مدينة أسوان، وأن آخر بلاد المسلمين فى وقته كان جزيرة بيلات التى هى على بعد ميل واحد من قرية أقصر، ومن هذه القرية إلى مدينة أسوان يكون مجرى النيل مشحونا بالشلالات ولا تمر فيه السفن إلا مع العسر.
وذكر المسعودى أن أهالى أسوان كان لهم أراض فى بلاد النوبة اشتروها من النوبيين فى بدء الإسلام زمن الأمويين والعباسيين، وكانوا يدفعون خراجها إلى ملك النوبة، إلا أنه كان يحصل منهم فى بعض الأحيان توقف وتعدّ؛ فلما جاء الخليفة المأمون بلاد مصر شكا له ملك النوبة من أهل أسوان، وأرسل إليهم رسلا تمنعهم عن شراء الأراضى من النوبيين مدعيا أنها ملكه وأن النوبيين عبيده فلا يملكون فيها شيئا، فعين الخليفة قاضى مدينة أسوان للنظر فى ذلك بحضور نائب الملك فى مجلس من أمرائها، فأقيمت الدعوى وثبتت صحة البيع بحيلة على البائعين حتى حملوهم على إنكار الرق، فحقد عليهم ملك النوبة من ذلك الوقت ونوى الغدر بهم، وفى سنة 344 هلالية هجم على أرضهم بعسكر جرار ونهب أموالهم وأسر نساءهم وأطفالهم.
وكان ذلك فى زمن ابن الإخشيد، فأرسل إليه عسكر تحت إمرة محمد بن عبد الله عامل الخراج فطردهم وأسر منهم خلقا كثيرين ورجع إلى مصر مؤيدا منصورا، ثم إن نائب الملك هجم ثانيا على أرض أسوان فى سنة 351 هـ فخربها وسبى أهلها ودخل/وادى النيل حتى وصل إلى مدينة إخميم وكان لا يبقى ولا يذر فى طريقه، فحصل للناس ما لا مزيد عليه من الضّنك والشدة وخرّب أغلب البلاد التى مر عليها بعسكره واسترق أغلب أهلها، وكانت
هذه الحادثة عقب دخول جوهر القائد بلاد مصر، فلما بلغه الخبر أرسل إلى كركى ملك النوبة يدعوه إلى الإسلام ويدفع البقط
(1)
الذى تقرر على بلاده فى مبدأ الفتح الإسلامى وكانت تدفعه أسلافه، فلم يجب إلى الدخول فى الإسلام وأكرم الرسل وأرسل معهم هدايا إلى الخليفة لا يعلم ما صار بعدها إلى زمن خلافة المستنصر بالله، فقام على مدينة أسوان أمير يسمى كنز الدولة وقتل كثيرا من أهلها ورفع لواء العصيان، فحاربه بدر الجمالى وانتصر عليه، ففر إلى ملك النوبة فطلبه منه بدر الجمالى فأرسله إليه فى الأغلال، فأخذه وصلبه على أحد أبواب الفسطاط، ورتب من ذلك الحين عساكر للمحافظة على المدينة فأوجب ذلك أمان الأهالى واشتغالهم بتجارتهم ومصالحهم، واستمر الأمر على ذلك مدة ثم تلاشى وصارت لا يرسل إليها عسكر المحافظة، فلما انقضت مدة الفاطميين هجم عليها ملك النوبة فهدم بيوتها وأسر أهلها ولم يكتف بذلك بل كان يتوغل فى دخول القطر شيئا فشيئا ويقويه كثرة الفتن فى الديار المصرية وتلاشى أمر الحكومة، واستمر هذا الحال إلى سنة 568 هـ فهجم بجيش جرار على الأقاليم القبلية ونهب أكثر البلاد وخربها.
وكان الملك صلاح الدين حاكما على الديار المصرية، فأرسل فرقة من العساكر تحت إمرة أخيه شمس الدولة فتوجه قاصدا بلاد النوبة، ولما بلغ ملك النوبة حضور العساكر لحربه فارق أرض مصر فلحقه شمس الدولة وحاصر مدينة إبريم ونهبها وأسر أهلها، وكان ملك النوبة قد رحل إلى أرضه فلم يسر خلفه شمس الدولة، وأقطع مدينة إبريم بأرضها لأمير من الأكراد يسمى إبراهيم، وجعل معه عددا كافيا من العساكر ورجع إلى الديار المصرية ومعه من الأسرى سبعين ألفا على ما ذكره المؤرخ أبو صلاح، وهذا لا يخلو من المبالغة، إلا أنه
(1)
البقط: من الأرض البقل والعشب. والمراد أن نعطى الجنان على الثلث أو الربع-اللسان-بقط
يستدل منه على أن أهالى الجهات القبلية وبلاد النوبة كانوا فى تلك الحقبة على غاية من الضّرر، لأنهم كانوا فى طريق العساكر الأهلية ومطمح نظر الأشقياء من العريان وبلاد النوبة.
وكان الحاكم بمدينة أسوان سنة 670
(1)
هـ من طرف الحكومة المصرية الأمير كنز الدولة، وكان ذا عزة وجاه وله اتحاد بعرب البادية ويميل إلى الفاطميين فرفع لواء العصيان، وجمع كثيرا من العبيد والعرب وألبسهم الأسلحة وجعلهم جيشا دخل به فى البلاد واستولى على مدينة قوص، وقتل جميع أصحاب الإقطاعات وأخذ أموالهم وأرزاقهم وأغرى كثيرا من البلاد فكانوا معه، ولكن لم تطل مدته فإنه لما بلغ خبره الملك صلاح الدين أرسل له العساكر مع أخيه الملك العادل، فحاربه عند مدينة طود فانهزم وفر هاربا فلحقه وقتله.
وبعد ذلك بزمن قريب سنة 671 هـ عدى ملك النوبة على عيذاب وأراضى أسوان، ونهب البضاعة التجارية منهما، وخربهما وهدم بيوتهما وأسر أهلهما، وقصد دخول أرض الصعيد، فمنعه حاكم مدينة قوص وطرده من الديار المصرية، وسار خلفه فى بلاده ونهبها وأسر جملة من أمرائها وعرضهم على السلطان فأمر بتوسيطهم-أى قطع أوساطهم بالسيف- يقال كما فى كتب اللغة وسطه قطعه قطعتين من وسطه انتهى.
وربما كانت بلاد النوبة إلى ذلك الوقت تشن الغارة على أرض مصر وتضر بالأهالى والزراعة والعمارات، فلذلك كانت سلاطين مصر تترقب اغتنام فرصة للدخول فى تلك الأرض وإدخالها تحت حكمهم وتصرفهم، فلم يمض إلا زمن يسير حتى فرّ ابن ملك النوبة من عمه واستجار بالسلطان صلاح الدين
(2)
سنة 674 هـ فأصغى لشكواه وجهز جيشا عظيما من
(1)
الصحيح: سنة 570 هـ. انظر: ابن الأثير: الكامل فى التاريخ، ص 64 - 65، بيروت 1987.
(2)
الصحيح: واستجار بالسلطان الظاهر بيبرس البندقدارى. انظر: المقريزى: السلوك، ج 1 ق 2، ص 621.
المماليك والعرب والأتراك وجعله تحت إمرة الأمير شمس الدين آق سنقر الفارقانى الأستادار، والأمير عز الدين أيبك الأفرم الخازندار، فقاما وأخذا معهما ابن الملك وتوجها إلى بلاد النوبة وحاربا أهلها وتغلبا على قلعة داو وأخذا ما فيها وأسرا أهلها، ثم اقتفيا أثر ملك النوبة داخل بلاده، وحصل بينهم جملة وقعات كان النصر فيها للمصريين وقتل أغلب عساكر النوبة فما زالوا يقتلون ويأسرون وينهبون المدن التى يمرون عليها، حتى أسروا أم الملك وأخته وكثيرا من الأمراء، ودخلوا مدينة دنقلة وجعلوا الملك على بلاد النوبة ابن أخيه الذى التجأ إلى السلطان، وعقدوا له مجلسا حضره الخاص والعام، وأخذوا عليه الشروط والمواثيق بالامتثال والطاعة لسلطان مصر، وفرضوا عليه خراجا يقوم بدفعه فى كل سنة إلى الخزينة المصرية، وهو ثلاثة أفيال وثلاث زرافات وخمسة من إناث النمر ومائة هجين ومائة ثور منتخبة، وجعلوا نصف إيراد بلاد النوبة يرسل إلى الديار المصرية والنصف الآخر للوازم الحكومة، وجعلوا وادى الحجر الذى هو الأرض الملاصقة لأرض مصر ومساحتها تقريبا ربع مساحة بلاد النوبة تابعا لمصر، ومحصولاته من قطن ونخيل وخلافهما للحكومة المصرية وخيروا الأهالى بين/الإسلام والجزية والموت فاختاروا الجزية، فجعلوا على كل من بلغ الحلم فى كل سنة دينارا، وحلف الملك والرعايا على قبول ذلك والعمل به.
ثم بعد ذلك دخل الجيش مصر ومعه عدد وافر من الأسرى بعد أن مات منهم خلق كثير فى الطريق، والذى وصل إلى القاهرة عشرة آلاف رأس، بيع الرأس منها بثلاثة دراهم، ومن هذا العهد صارت بلاد الحجر تابعة للحكومة المصرية، وجعل فى مدينة دنقلة مأمورون من طرف السلطان صلاح الدين لجمع الخراج وتوصيله للخزينة المصرية، واستمر الأمر على ذلك فى زمن من عقبه على تخت الديار المصرية، إلا أنه كانت تحصل أمور توجب دخول العساكر المصرية أرض النوبة، كما حصل ذلك فى زمن السلطان محمد بن قلاوون
(1)
، فإن العساكر المصرية ذهبت إليها مرتين فى سنة 686 هـ والتى بعدها، بسبب التجاء ابن أخى
(1)
الصحيح: السلطان المنصور قلاوون [678 - 689 هـ]. انظر: السلوك، ج 1 ق 3، ص 736 - 737، القاهرة 1970.
الملك إلى السلطان قلاوون فى إيصاله الحقوق التى حرمه منها عمه، فأرسل معه عساكر إلى بلاد النوبة وتم الأمر بعد محاربات على جلوس ابن أخى الملك على التخت بعد موت عمه كما مر، ومع كثرة القتلى والأسرى من أهالى النوبة فى كل وقعة كانوا لا يرتدعون بل تحصل منهم الإغارة على الجهات المجاورة لهم من جهات مصر ويقطعون سبل التجارة وينهبون البضاعة كما حصل ذلك فى سنة 767 هـ كما هو مسطور فى كتاب السلوك للمقريزى.
وهو أنه فى تلك السنة قام أولاد الكنوز وعرب بنى جعد وأغاروا على أسوان وأرضها وكذا على سواكن ونواحيها وعيذاب والواحات، واستولوا على أكثر هذه البلاد ونهبوها وسبوا أهلها، واتفق أن ابن أخى الملك فى هذا الأوان رفع لواء العصيان واتحد معهم وقام على عمه وقتله واستولى على تخته، ثم أخذ فى عمل الحيل على التخلص من شر العرب فدعاهم إلى وليمة أعدها لهم بعد نصرته، وجعل حولها الوقود وأكمن لهم عساكر، فحرق أمراءهم ومن سلم من الحرق قتله العسكر الكامنون، وهجم فى ليلتها على باقى العرب فى حين غفله، فقتل منهم خلقا كثيرين وشتت فى الجبال من سلم من القتل، ونهب أموالهم ومواشيهم وسبى أولادهم ونساءهم، ولكن خاف منهم فاجتمع بملك داو وتعاهد معه وأرسل إلى السلطان يطلب منه النجدة على العرب، فأرسل إليه الجيوش المصرية تحت إمرة الأمير اكتومر
(1)
عبد الغنى وجملة من الأمراء فوصلوا إلى مدينة داو بعد نصرات عديدة وغنائم كثيرة وخلصوها من العرب، وكان أهل دنقلة بداخلها عندما بلغهم قدوم العساكر المصرية، فحصل الاتفاق على إقامة الملك فى قلعة داو وتركه الإقامة بدنقلة، وبعد أن مهدوا له الأمور رجعوا إلى الديار المصرية ومعهم أكثر أمراء العرب، وعدد كثير من الأسرى فى القيود، ولما وصلوا إلى مدينة أسوان شكا أهلها إليهم ما حصل لهم من العرب وعبيدهم فأمسك منهم عددا وافرا ووسطهم.
(1)
يقصد الأمير أقتمر عبد الغنى.
ثم بعد أيام قلائل دخل مصر فأنعم عليه السلطان وأمر بسجن أمراء العرب، إلى أن تعين الأمير حسام الدين الملقب بالدم الأسود حاكما على مدينة أسوان فذهب إليها وأخذ معه المحبوسين، ولما وصل بهم إلى مدينة قوص أمر بتسميرهم فى ألواح من خشب، وسار بهم وهم على هذه الحالة إلى أن وصل إلى أسوان، فقتلهم أشنع قتلة، فتحزب العرب والعبيد واجتمع منهم جملة وافرة وهجموا على أسوان فلم يقدر حسام الدين على مقاومتهم، ففر منهم بعد أن قتل أغلب المماليك والعسكر فنهبوا المدينة وخربوا بيوتها وسبوا أهلها، فكانت زيادة القسوة من هذا الحاكم الغشوم فى هذه الواقعة سببا فى خراب المدينة وقتل أهلها، ونهب هذه الجهة وما يليها وخروجها من يد الحكومة المصرية، لأن عداوة العرب بلغت منتهاها، فإنهم اجتمعوا وجعلوا يخربون فى البلاد المصرية، ويقطعون طرق التجارة ولا يوقرون كبيرا ولا يرحمون صغيرا، وحصل لهذه الجهات فى تلك المدة ما لا مزيد عليه من المضرات ووقعت فى أيديهم أسوان وغيرها من البلاد.
وفى سنة 798 هـ اتحد العرب الأحمدية الذين كانوا يسكنون جهات الصعيد مع أولاد الكنوز والهوارة، وقاموا على حاكم مدينة أسوان المسمى بابن غريب ونهبوا منه المدينة وسبوا أهلها، ولم يقدر عمر بن إلياس حاكم المديريات القبلية على طردهم منها، ورجع بجيشه بعد أن أتلف كثيرا من العساكر، وصارت الفتن من ذلك العهد كل يوم فى الزيادة إلى سنة 806 هـ فكانت مدينة أسوان إذ ذاك من غير حاكم ولا محافظين، فكانت عرضة لإغارات العرب عليها.
وفى سنة 815 هـ أغار عليها هوارة الصعيد وحصلت النصرة للهوارة بعد مقتلة عظيمة بينهم وبين أولاد الكنوز فنهبوها وخربوها وأسروا أغلب أهلها وتركوها خرابا بلقعا إلى أن استولى السلطان سليم على الديار المصرية فكثرت فيها الفتن كما كانت أولا؛ بسبب أن هذه
الجهات كانت ميدانا لفتن الأحزاب، فإنه كان كل من عصى من البيكوات والأمراء يفر إلى الجهات القبلية ويضم إليه مماليكه ورجاله وكثيرا من الأهالى ويحارب بهم عساكر الحكومة، فكانت الأقاليم/القبلية وبلاد النوبة ميدان الفتن فى جميع هذه المدة المديدة التى أولها دخول السلطان سليم إلى زمن استيلاء العزيز محمد علىّ على الديار المصرية، ولحق فيها الأهالى من المصائب الناشئة عن هذه الحوادث ما قهقر حالهم وخرب ديارهم.
ومن ابتداء استيلاء العائلة المحمدية انقطع عرق هذه الحوادث وسكنت الفتن ودخلت بلاد النوبة وجميع البلاد السودانية تحت حكم الديار المصرية، ووصلت حمايات تلك العائلة إلى جميع سكان هذه الأرض فى الطول والعرض {فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ}
(1)
.
وبما وصل كل ناحية من العناية الخديوية أخذت فى أسباب الثروة والنمو، وصارت هذه المدينة التى فى آخر القطر المصرى مركزا لجميع تجارات الصحراء وبلاد النوبة والأقطار السودانية، وصارت عامرة آهلة ذات حرف وصنائع كثيرة، ويتردد إليها أهل السودان وعرب الجبال، فيكتسب أهلها من طباعهم وعوائدهم خصوصا العوام والأوباش.
فمن عوائد عوامها فى الأفراح أنه بعد عقد النكاح يذهب الزوج إلى بيت الزوجة بالجهاز المشروط لها ومعه جماعة من أحبته وأخصائه، وبعد جلوسهم يؤتى لهم بقفف من الخوص مملوءة بالحمص المقل والتمر والقرطم المقلى والجرمة، فيفرق على الحاضرين فيأكلون وينصرفون، ثم بعد مدة يعمل الفرح كالمعتاد.
(1)
سورة الانعام:45.
وفى ليلة الحناء. وهى التى تليها ليلة البناء بعد مضى أكثر الليل، يؤتى بطشت مملوء من الحناء ونار مؤججة لتجفيف الحناء فى الأيدى. فيتقدم أبو الزوج فيضع يده فى الحناء ثم يضعها فى يد ابنه ويقول له: أعطيتك البركة وطول العمر. وأعطيتك كذا وكذا مما يملكه من عقار ومواش ونقود وأمتعة، وكذا تفعل والدته وبعض أقاربه فيشهد الحاضرون بذلك. ثم فى وقت العصر من يوم تلك الليلة يحضر الحلاق فيحلق له بعض رأسه ويترك قطعا متفرقة يسمونها الجزائر، ولا يحلقها إلا إذا أخذ من الحاضرين شيئا من النقود يسمى النقطة. ثم بعد صلاة العشاء فى المسجد يزف بالدف والكوس وأمامه الموالدية يقولون: الموشحات والأوراد إلى أن يدخل بيت الزوجة وبيده سيف، فعند وصوله أول باب يجرده ويضرب به وجه الباب، ثم يبنى بالزوجة فى بيتها ويبيت هناك، فإذا طلع الفجر خرجا معا إلى البحر ومعهما بعض أقاربهما، فيملأ منه كل منهما بيده قلة صغيرة فيرش بها الآخر ويتسابقان فى ذلك، ثم يذهبان إلى بيت الزوج فيقيم معها ولا يخرج من عندها إلا بعد ثلاثة أيام، ثم يخرج إلى السوق ويأتى ببعض كل ما وجد فيه.
وحلى نسائهم الخلاخل وأساور الفضة والشعيرى والخزام، وهو حلقة أوسع من دائرة الريال تتخذ من الذهب أو الفضة تجعل فى الأنف، فيثقب أنف البنت وهى صغيرة فإذا تزوجت لبسته، ويتلفع الرجال بملاءات قطن بيض ذوات حواش حمر تسمى بالشقق، ويلبس أشرافها وعلماؤها أقبية الخز والجوخ.
ترجمة فخر الدولة
وقد أورد فى الطالع السعيد من قدماء علمائها المشهورين بالمآثر جما غفيرا يقتضى زيادة شهرتها وعلو منزلتها، فمنهم الفاضل الأديب الكاتب الشاعر إبراهيم بن محمد بن ابراهيم الملقب بفخر الدولة
(1)
وهو أول من كتب الإنشاء للملك صلاح الدين يوسف بن أيوب ومن بعده لأخيه العادل ومن كلامه:
ما الشّيب إلا نعمة
…
مشكورة فاشكر عليه
ما الغبن إلا أن تمو
…
ت وأنت لم تبلغ إليه
توفى بحلب سنة إحدى وثمانين وخمسمائة.
ترجمة بحر بن مسلم
ومنهم بحر
(2)
بن مسلم اشتهر بين الفقراء المسافرين وأهل البلاد أنه صحابى قال: ولم أر من ذكره فى الصحابة، وهو منتهى زيارة الزائرين بالوجه القبلى يأتون إلى زيارته من كل مكان وقبره بقرب «تافا» من آخر عمل أسوان ولم يذكر تاريخ وفاته.
(1)
انظر ترجمته فى الطالع السعيد للأدفوى/64 ط الدار المصرية للتأليف والترجمة.
(2)
انظر الطالع السعيد/174 ط الدار المصرية للتأليف والترجمة.
ترجمة الحسن الأسوانى وغيره
ومنهم الحسن بن أبى الحسن على بن إبراهيم بن محمد بن الحسين بن الزبير المهذب الأسوانى ذكره العماد الأصبهانى وأثنى عليه وقال: إنه لم يكن بمصر فى زمنه أشعر منه، وأنه أعلم من ابن أخيه الرشيد وقال ابن عين الدولة: رأيت له تفسيرا فى خمسين مجلدا وقفت منها على نيف وثلاثين جزءا، توفى سنة إحدى وستين وخمسمائة انتهى.
وذكر صاحب حسن المحاضرة فيمن كان بمصر من فقهاء الشافعية أن منها جماعة من العلماء الأعيان، منهم قحزم بن عبد الله الأسوانى يكنى بأبى حنيفة كان أصله قبطيا، وكان من جملة أصحاب الشافعى الآخذين عنه كان مقيما بأسوان يفتى بها على مذهبه مدة سنين مات بها سنة إحدى وسبعين ومائتين.
ومنهم أبو رجاء محمد بن أحمد بن الربيع الأسوانى، كان فقيها أديبا شاعرا سمع وحدث وألف قصيدة نظم فيها قصص الأنبياء وكتاب المزنى والطب والفلسفة مائة ألف بيت وثلاثين، مات فى ذى الحجة سنة خمس وثلاثين وثلثمائة.
ترجمة إسماعيل بن محمد الأسوانى الأنصارى
ومنهم
(1)
إسماعيل بن محمد بن حسان القاضى أبو الطاهر الأسوانى الأنصارى، رحل إلى بغداد وتفقه على ابن فضلان ورجع فأقام بأسوان حاكما مدرسا مات/بالقاهرة فى رمضان سنة تسع وتسعين وخمسمائة عليه رحمة الله اه.
(1)
انظر الطالع السعيد/166،165 الدار المصرية للتأليف والترجمة.
ترجمة نجم الدين الأسوانى
(ومنهم) نجم الدين
(1)
حسين بن على بن سيد الكل الأسوانى، كان ماهرا فى الفقه فاضلا فى غيره، أفتى وتصدر للإقراء بالقاهرة ومات فى صفر سنة تسع وثلاثين وسبعمائة وقد قارب المائة.
وذكر فيمن كان بمصر من فقهاء المالكية جماعة منهم هارون
(2)
بن محمد بن هارون الأسوانى أبو موسى
قال ابن يونس كان فقيها على مذهب مالك، كتب الحديث ومات فى ربيع الأول سنة سبع وعشرين وثلثمائة.
ترجمة أحمد الصواف
ومنهم أحمد بن محمد بن جعفر الأسوانى المالكى الصواف، قال أبو القاسم ابن الطحان روى عن أبى بشر الدولابى وأبى جعفر الطحان وروى عنه عبد الغنى بن سعيد، مات سنة أربع وستين وقيل أربع وسبعين وثلثمائة.
ترجمة محمد بن يوسف
ومنهم
(3)
محمد بن يوسف بن بلال الأسوانى المالكى أبو بكر، روى عن أبى سفيان الوراق وسمع منه أبو القاسم ابن الطحان، وقال توفى سنة ست وسبعين وثلثمائة اه.
(1)
الطالع السعيد/224 - 226 ط الدار المصرية للتأليف والترجمة.
(2)
الطالع السعيد/686 ط الدار المصرية للتأليف والترجمة.
(3)
الطالع السعيد/643 ط الدار المصرية للتأليف والترجمة.
إشليم
قرية من مديرية المنوفية بقسم مليج شرقى ناحية العجايزة بنحو أربعة آلاف متر، وفى الشمال الشرقى لناحية أم خنان كذلك، وبها ثلاثة جوامع أشهرها الجامع المعروف بجامع أبى قدوس التى فى بحريها له منارة، وفى بحريها على بعد ثلاثمائة متر ضريح سيدى على أبى شبكة له مولد سنوى، وفى قبليها على بعد أربعين مترا ضريح سيدى المرزوقى له مولد سنوى أيضا، وفى غربيها جنينة برتقان وبها معمل دجاج ولها سوق كل يوم خميس، وتكسب أهلها من الزراعة.
ترجمة الشيخ عبد الغنى الإشليمى
وينسب إلى هذه القرية الشيخ عبد الغنى الإشليمى الذى ترجمه السّخاوى فى الضوء اللامع حيث قال: هو عبد الغنى
(1)
بن محمد بن عمر بن عبد الله الزين الإشليمى ثم القاهرى الأزهرى الشافعى، ولد تقريبا سنة عشرين وثمانمائة بإشليم، وقرأ بها بعض القرآن وانتقل مع أخيه إلى القاهرة فأكمله بها، ثم حفظ المنهاج الفرعى والأصلى، وألفية النحو، واشتغل فى الفقه على الشرف السّبكى والقاياتى والونائى وجماعة، وفى النحو على الشمنى وغيره، وفى الفرائض على ابن المجدى، وفى العروض على الشهاب الأبشيطى، وسمع على الزين الشركسى وغيره، ونزل فى صوفية سعيد السعداء وغيرها. وعمل أرجوزة فى الفرائض، وكان فاضلا خيرا فقيرا قانعا متعففا، كتبت عنه قديما مما خاطب به شيخنا أيام محنته ولصق بمحل جلوسه بالمنكوتمرية قوله:
لن يبلغ الأعداء فيك مرادهم
…
كلا ولن يصلوا إليك بمكرهم
فلك البشارة بالولاء عليهم
…
فالله يجعل كيدهم فى نحرهم
وفى معجمى وغيره من نظمه الكثير انتهى ولم يذكر تاريخ موته رحمه الله وإيانا.
(1)
الضوء اللامع 4/ 257 ط المقدسى القاهرة.
ترجمة محمد الإشليمى
وينسب إليها أيضا كما فى الضوء اللامع محمد
(1)
بن عثمان بن عبد الله ويقال: أيوب بدل عبد الله وهو أصح، أصيل الدين أبو عبد الله بن الفخر أبى عمرو بن النجم العمرى الإشليمى ثم القاهرى الشافعى، ولد بعد سنة أربعين بإشليم، ولما ترعرع عانى القرآن ثم اشتغل فى الفقه والعربية وتلا للسّبع.
ومن شيوخه فى الفقه ابن الملقن والبلقينى وغيرهما، وأذن له بالتدريس والإفتاء وتكسب بالشهادة ولازم الصدر بن رزين خليفة الحكم فرقاه لنيابة الحكم، وكان له استحضار يسير من السيرة النبوية ومن شرح مسلم، فكان يلقى درسه غالبا من ذلك لكونه لا يستحضر من الفقه إلا قليلا، مات فى أواخر ذى الحجة سنة أربع وثمانمائة رحمه الله تعالى انتهى.
(1)
الضوء اللامع 8/ 146 ط المقدسى القاهرة.
إشمنت
قرية من قسم بنى سويف فى غربى النيل بقليل، وفى شرقى الميمون بنحو ثلاثة آلاف متر، وفى شرقى السكة الحديد بنحو خمسمائة وخمسين مترا، وأبنيتها باللبن والآجر، وفيها مساجد ونخيل، وفى شمالها قصر مشيد ببستان عظيم تبع دائرة الخديو محمد باشا توفيق وبجواره ديوان تفتيش زراعته.
وفى الجنوب الغربى لقرية إشمنت بقدر ألف وخمسمائة متر تقريبا، أسست هناك فوريقة للزوم قصب هذا التفتيش، وصار بناء بعض محلات منها والباقى لم يتم بناؤه، ويوصل إليها فرع من السكة الحديد طوله 750 مترا من محطة السكة العمومية للصعيد، ثم إن أراضى هذا التفتيش يزرع فيها مثل بلاد الوجه القبلى، ويزرع بها القطن وأنواع من الحبوب وقليل من القصب، وينقل قصبها بواسطة السكة الحديد إلى التفاتيش الأخرى لعصره وعمل السكر منه، وسقيها بواسطة وابورات مركبة على النيل، ومقدار زمام هذا الجفلك نحو خمسة عشر ألف فدان بعضها غربى الترعة الإبراهيمية وبعضها فى شرقيها.
أشمون
قال فى تقويم البلدان إنها بضم الهمزة وسكون الشّين المعجمة وضم الميم وسكون الواو وفى آخرها نون كذا قال السمعانى: وصوابه أن فى آخرها ميما وإنما العامة تسميها أشمون بالنون كما حققت ذلك عن بعض فضلاء مصر.
وأنشدنى من بعض تآليفه هجوا فى قاضى تولى بها يعرف بابن مرحل، يا للروم ابن المرحل قاضى أشموم/انتهى
وهذه المدينة كانت قديما مدينة جليلة الشأن وكانت تسمى فى اللغة القبطية أشمونين أرمانى، وسماها الإسلام أشمون طناح، ويقال لها أيضا أشمون الرّمان، ويقال أيضا:
أشموم بالميم. وقال بعض الإفرنج، إنها بنيت محل منديس العتيقة.
ونقل استرابون عن بعضهم أن منديس كانت قد خلفت مدينة طمويس التى جعلها كثير من المؤرخين رأس مديرية من الوجه البحرى، وأنها من أعظم مدنه، ونقل عن بعض آخر أن منديس وطمويس إسمان لمدينة واحدة، واحتج لذلك بأن هيرودوط قال: إن منديس معناه الجدى وإن الأب جيروم قال فى معنى طمويس كذلك، فهما كلمتان قبطيتان معنى كل منهما الجدى.
ونقل عن بعض آخر أن أحد الإسمين كان يطلق على المدينة والآخر على خطها، وقال بعض شارحى استرابون إن آثار مدينة طمويس توجد بالقرب من ناحية تمىّ الأمديد فى أرض الدقهلية غربى خراب صان، على نحو خمسة وثلاثين ألف متر، عبارة عن ثلاثة وعشرين ميلا رومانيا، وفى تخطيط أنطونان أن البعد بين صان وتمىّ الأمديد اثنان وعشرون ميلا انتهى.
وفى قاموس الجغرافية الإفرنجى أن الأب جيروم كان من كبار أحبار الكنيسة اللاتينية، ولد سنة ثلاثمائة وإحدى وثلاثين على قول وثلاثمائة وستة وأربعين على آخر، وساح فى بلاد الغلوى، وبلاد آسيا وزار بلاد القدس، ورجع إلى رومة سنة اثنتين وثمانين وتعين كاتب البابا، ثم بعد موت البابا رجع إلى فلسطين ودخل ديرا فى بيت لحم فطرده المخالفون له فى العقيدة، ومات سنة أربعمائة وعشرين وترك عدة كتب وأشهر كتبه وأكثرها اعتمادا ترجمة التوراة.
وفيه أيضا أن استرابون جغرافى يونانى مشهور من مدينة أمازة من الكيادوس، ولد سنة خمسين قبل الميلاد وهو من عائلة مشهورة وساح فى آسيا الصغرى وبلاد الشام ومصر واليونان وإيطاليا، وعاش زمانا بمدينة رومة، ومات فى أواخر حكم القيصر تبير، وله مؤلفات فى التاريخ والجغرافية، ومؤلفه فى الجغرافية مع مؤلفات بطليموس أحسن ما ترك الأقدمون.
وقد مزج فى مؤلفاته المواد التاريخية، والمواد الدينية والآداب وغير ذلك بالتفاصيل الجغرافية، ومؤلفاته معتبرة عند الإفرنج وتكرر طبعها مع شروح مفيدة انتهى.
وقال مرييت فى تاريخه وبركش وغيرهما ممن لهم معرفة باللغة القديمة المصرية، أن هذه المدينة كانت تنسب إلى فراعنة العائلة التاسعة والعشرين، وكانت مدتهم إحدى وعشرين سنة، وجلوس أول فراعنتها كان قبل المسيح بثلاثمائة وتسع وتسعين سنة.
وذكر هيرودوط: أن أهل هذه المدينة كانوا يحرمون أكل المعز ذكورا وإناثا، وسببه أن النقاشين والمصورين كانوا يصورون رأس المقدس «بان» على صورة رأس أنثى المعز، ورجليه على صورة رجلى تيس المعز، قال: والذى يظهر أن هذا ليس هو السبب فى تحريم لحومها، لأنهم كانوا لا يعتقدون أن المقدس «بان» كان على هذه الصورة.
قال: واحترامى للديانة يمنعنى أن أجزم بالسبب الذى حرموا أكلها لأجله، غاية ما أقول أنهم كانوا يحترمون هذا النوع من الحيوان خصوصا التيوس حتى كانوا يحترمون رعاتها، وإذا مات التيس المعظم عندهم يحزنون عليه ويلبسون الحداد، وكان اسم التيس عندهم منديس انتهى.
وقال خليل الظاهرى وأبو الفداء وغيرهما أن هذه المدينة كانت من بلدان إقليم المرتاحية والدقهلية، وكان بها دار إقامة حاكم الإقليم كما فى خطط المقريزى، قال أبو الفداء:
وكانت على خليج من النيل يجرى حتى يصب فى بركة المنزلة، وهو المسمى الآن ببحر طناح.
وفى تاريخ بطاركة الإسكندرية أن الخليفة المتوكل رمّ أسوارها وأسوار مدن أخرى، كدمياط ورشيد وتنيس بعد نهب اليونان تلك المدن وتخريبها، وزعم بعضهم أن اسمها الأصلى أشمونين يونان نسبة إلى اليونان الذى هم الأروام وليس بصحيح؛ وإنما أضيفت إلى الرومان لأن إقليم الدقهلية الذى منه هذه المدينة خصب ينتج فيه الرمان كثيرا جدا فيباع منه مقدار عظيم كل عام فى البلدان الأخر.
وفى المقريزى أن الإفرنج نزلت قريبا من دمياط فى سنة ست عشرة وستمائة، وملكوا البر الغربى، ومن ذلك الوقت شاع موت الملك العادل سيف الدين أبى بكر محمد بن نجم
(1)
أيوب بن شادى بن مروان الكردى الأيوبى، وكان ابنه الملك الكامل نائبا عنه فى ديار مصر، وأقطعه الشرقية وجعله ولى عهده وحلف الأمراء على ذلك، فلما مات العادل ببلاد الشام استقل الملك الكامل بمملكة مصر فى جمادى الآخرة سنة خمس عشرة وستمائة وثبت لقتال الإفرنج، وكانت العرب ثائرة بنواحى أرض مصر وكثر خلافهم واشتد ضررهم، وكان الأمير عماد الدين المعروف بابن المشطوب أجل الأمراء بمصر، وله لفيف من الأتراك الهكارية يريد خلع الملك الكامل وتمليك أخيه الملك الفائز ووافقه الكثير من الأمراء على ذلك، فلم يجد الملك الكامل بدا من الرحيل فى الليل وسار من العادلية إلى أشمون طناح/ونزل بها وأصبح العسكر بغير سلطان، فركب كل واحد هواه ولم يعرج واحد منهم على آخر، وتركوا أثقالهم فاغتنمها الفرنج وهمّ الكامل بمفارقة أرض مصر، ثم إن الله تعالى ثبته وتلاحقت به العسكر، وبعد يومين قدم عليه أخوه الملك المعظم عيسى بأشمون فاشتد عضده بأخيه، وأخرج ابن المشطوب من العسكر إلى الشام ثم أخرج الفائز إبراهيم إلى الملوك الأيوبية بالشام والشرق يستنفرهم لجهاد الفرنج، وجد الكامل فى قتال الفرنج وأتته الملوك من الأطراف، فقدر الله أخذ الإفرنج دمياط بعد ما حاصروها ستة عشر شهرا واثنين وعشرين يوما ووضعوا السيف فى أهلها، فرحل الكامل من أشمون ونزل المنصورة، وبعد خطوب وقعت بين الفريقين تم الأمر على الصلح وتسلم المسلمون مدينة دمياط فى التاسع والعشرين من رجب سنة ثمان عشرة وستمائة، بعد أن أقامت بيد الإفرنج سنة وأحد عشر شهرا تنقص ستة أيام، وسار الإفرنج إلى بلادهم وعاد السلطان إلى قلعة الجبل.
(1)
الصحيح: الملك العادل سيف الدين أبى بكر محمد بن نجم الدين أيوب بن شاذى بن مروان الكردى الأيوبى.
وفى الثالث والعشرين من صفر سنة سبع وأربعين وستمائة نزل الإفرنج على دمياط فملكوها، وكان السلطان الملك الصالح نجم الدين أبو الفتوح أيوب بدمشق فقام عند ما بلغه حركة الإفرنج ونزل أشمون طناح وهو مريض انتهى.
ونقل كترمير عن كتاب السلوك أنه كان حصل وباء شديد فى الديار المصرية سنة سبعمائة. مات فيه كثير من البقر حتى تعطلت الدواليب والسواقى، ونفق بالموت لرجل من مدينة أشمون طناح ألف بقرة وثلاثة من ألف وعشرين بقرة كانت له، وعوّضت الأهالى البقر بالإبل والحمير وارتفع ثمن الثور إلى ألف درهم، وكذا قبل ذلك فى سنة ستمائة وأربع وثمانين حصل موت كبير للبقر.
وفى الجبرتى أنه فى سنة إحدى ومائتين وألف حصل موت ذريع للبقر حتى صارت تتساقط فى الطرقات، ومات لابن بسيونى غازى بناحية سنديون مائة وستون ثورا انتهى.
ومما مر يعلم أن مدينة أشمون طناح كانت عامرة آهلة بل كانت منبعا للعلماء والأكابر.
ترجمة جمال الدين الواسطى المعروف بالوجيزى
فقد ذكر صاحب حسن المحاضرة أن منها جمال الدين أحمد بن محمد بن سليمان الواسطى المعروف بالوجيزى، لكونه كان يحفظ الوجيز للغزالى، كان إماما حافظا للفقه شافعى المذهب، ولد بأشمون الرمان سنة ثلاث وأربعين وستمائة، وتفقه بالقاهرة إلى أن برع وناب فى الحكم بها، نقل عنه ابن الرفعة على حاشية المطلب وأخذ عنه الإسنوى، مات فى رجب سنة سبع وعشرين وسبعمائة رضي الله عنه.
أشمون جريس
قرية من أعمال المنوفية وهى رأس مركز واقعة على الشاطئ الشرقى لبحر رشيد بقرب أم دينار بحرى أبشاتى وكانت مكتوبة فى دفاتر التعداد باسم أشمون جريسات، ومنها مارى مقرب ونقل إليها بعد قتله، وكان بها معبد شاهده حاكم الإسكندرية ألوج وقت توجهه إلى الأقطار القبلية، وتعجب من زينته وسأل عنه، فأجابه بعض نصارى أشمون: أنه من بناء ديوفانس وهى عامرة إلى الآن انتهى.
وبينها وبين النيل نحو أربعمائة وخمسين قصبة وحولها سور من الآجر والمونة، وبها جامع متسع له منارة مرتفعة يقال: إنه من بناء محمد بيك جركس أحد مماليك الأيوبية، وست زوايا يصلى فيها غير الجمعة، وبها خانات وحوانيت وقهوتان وخمارة، وفيها محل لبيع القطن والغلال، وفيها أربعة من الأوروباويين وبها معمل دجاج لأولاد ذى النون، وثلاث حدائق واحدة لإسماعيل أفندى صالح معاون بمدارس المعارف بمصر، وواحدة لسليمان أفندى محمد، والثالثة لعباس أفندى، وبها أضرحة لبعض الصلحاء منهم الشيخ خطاب البربرى، والشيخ أبو طرطور، والشيخ على المغربى، والشيخ محمد خفير الدرب.
وفى غربيها بنحو خمسين قصبة كفر يعرف بكفر حسن زلابية، وفيه ضريحه وفى غربيها أيضا بأرض يقال لها: أرض أبى عوالى فى ضمن شجر هناك شجرة قديمة من شجر الأراك ينسبها الأهالى للشيخ ضرغام الحوّاش، ويستعملونها كثيرا فى السّواك تبركا بالشيخ المذكور، وبين هذه القرية وقرية طليا تل قديم يسمى «كوم وسيم» فى حدود أطيان أشمون من الجهة القبلية، وعدد أهلها أربعة آلاف وأربعمائة وأربع وأربعون نفسا، منهم من يتكسب من الزرع، ومنهم أرباب حرف من بنائين ونجارين وغير ذلك.
وزمام أطيانها خمسة آلاف فدان وأربعمائة فدان وواحد وثلاثون فدانا ما بين خراجى وعشورى، وذلك أن من ضمنها عدة أباعد لبعض الأمراء مثل مرعشلى باشا، وإسماعيل بيك محمد ومناو أفندى، وخرشد أفندى وشركائه عتقى المرحوم رستم بيك، وجميع أطيانها مأمونة الرىّ وفيها ثلاث عشر ساقية معينة عذبة الماء كثيرته بعد وقت انتهاء نقص النيل نحو ثمانية أمتار.
ترجمة الشيخ محمد الأشمونى حفظه الله
وفيها كثير من الفقهاء حملة القرآن الكريم، وممن نشأ منها من العلماء العلامة المحقق والفهامة المدقق، غرة عصره وأوحد دهره، الشيخ محمد الأشمونى الشافعى حفظه الله تعالى ومد فى أجله، المشتغل دواما بالإفادة والتدريس لكبار الكتب وصغارها من كل فن بالجامع الأزهر/فقد درس المطول، وجمع الجوامع فما دونهما مرارا وقرأ التفسير والحديث كذلك، ولم يشتغل بالتأليف وإنما كتب عنه بعض الطلبة تقييدات فى حال قراءته لمختصر السعد نحو ثلاثين كراسة، وكذلك فى حال قراءته للعقائد النسفية وقلّ من يماثله فى الفصاحة وعذوبة المنطق وحسن الإلقاء وجودة الحفظ والفهم، أخذ عن البرهان القويسنى، وعن الحجة البولاقى، وعن الشمس الفضالى، وعن الفاضل المرصفى وغيرهم، حتى حصل تحصيلا زائدا، وبرع فى كل فن، وقد أخبر هو عن نفسه أنه من نسل أبى مدين التلمسانى فعلى هذا فهو متصل النسب بالنبى صلى الله عليه وسلم.
ترجمة شيخ المالكية الشيخ محمد عليش
قال: ومن نسله أيضا شيخ المالكية الإمام الكبير والعلم الشهير محمد عليش المغربى الأزهرى صاحب التآليف العديدة والتصانيف المفيدة فى فنون شتى، له شرح على مختصر الشيخ خليل فى فقه مالك أربعة أجزاء ضخام، وشرح على مجموع الشيخ الأمير كذلك، وحاشية على شرح مجموع الأمير أكبر من ذلك، وألف فى البيان والمنطق والصرف والتوحيد وغير ذلك، وكان فى حال حياته مستغرقا زمنه فى التأليف والتدريس والعبادة، متجافيا عن الدنيا وأهلها، لا تأخذه فى الله لومة لائم.
ترجمة نور الدين الأشمونى شارح الألفية
وأما الشيخ الأشمونى شارح ألفية ابن مالك، فقد وجد فى تقرير عن الشيخ على الصعيدى العدوى أنه من الأشمونين التى بالصعيد، وقال الشيخ محمد الأشمونى المذكور:
إنه من أشمون جريس هذه وأن أقاربه موجودون بها إلى الآن، وهو الإمام نور الدين أبو الحسن على بن محمد الشافعى رضي الله عنه، وقد ترجمه الشعرانى فى الذيل فقال: ومنهم أى من العلماء العاملين شيخنا الإمام الصالح الورع الزاهد نور الدين الأشمونى الشافعى رضي الله عنه، وكان متقشفا فى مأكله وملبسه وفرشه، صحبته نحو ثلاث سنين كأنها سنة من حسن سمته وحلاوة لفظه وقلة كلامه، ولم يزل على ذلك حتى مات رضي الله عنه، نظم المنهاج فى الفقه وشرحه، وشرح ألفية ابن مالك شرحا عظيما رضي الله عنه أه.
الأشمونين
هكذا بصيغة التثنية مع ضم الهمزة كما فى أبى الفداء، وهى إسم لمدينة كبيرة قديمة كثيرة الذكر فى مؤلفات سير أحبار القبط السالفين واقعة بين البحر اليوسفى والنيل، ويقال: إنها من بناء الملكة كيلوبترة اليونانية ملكة مصر وكان يقال لها أيضا: أشمون بالإفراد وكانت تسمى أيضا هرموبوليس مانيا وكلمة هرموبوليس مركبة من كلمتين الأولى هرمو التى معناها طودا وأدريس، والثانية بوليس التى معناها مدينة فيكون معنى مجموع الكلمتين مدينة هرمس: أى إدريس عليه السلام، وكان له احترام كبير عند المصريين، ويعزون له الفنون النافعة وهو الذى نشر قواعد الموسيقى وقواعد الكتابة والحساب والمنطق واختراع الأقيسة وجميع العلوم البشرية، كما فى كتب الإفرنج فى كتاب لطرون أنه وجد فى خراب هذه المدينة عمود من حجر عليه كتابة رومية من معناها:
رفع هذا العلم لبقاء السعادة للقيصرين مرقوريل أنطونان
(1)
ومرقوريل كمود (2) الملقبين أغسطس أرمينياق مديك برتيك جرمانيك سرمنتيك العظيمين وبقاء أهلهم أجمعين، وكان العامل على مصر يومئذ مركوس مريوس منيوس والذى رفع هذا العلم أهل المدينة للمقدس هرمس الأكبر، مقدس المدينة ولباقى المقدسين فى معبده.
(1)
يقصد: ماركوس أوريليوس أنطونينوس [161 - 180 م]. انظر: إدوارد جيبون: اضمحلال الإمبراطورية الرومانية وسقوطها،-1/ 142.
والألقاب المذكورة كانت أسماء لولايات كتبت مع أسمائهم على النقود وغيرها للإشارة إلى أنها من ضمن سلطنتهم، وقد عبثت الشواكيش باسم القيصر كمود فتكسرت حروفه، كما حصل ذلك فى كثير من أسماء القياصرة الموجودة على الآثار كاسم نيرون وديموسيان
(1)
وغيطا وهليوجابال
(2)
وجليرمكسيميان
(3)
وجوليان المرتد ونحوهم، وبإمعان النظر ظهر أن وضع هذا العمود كان فى سنة ثلاثين وتسعمائة من تاريخ رومة، الموافق لسنة سبع وسبعين ومائة من الميلاد، وأن إزالة اسم كمود كانت بأمر من السيناتو، فإنه أمر بإزالة جميع تماثيله ومحو اسمه انتهى.
قالوا: وكان له معبد فى مدينة هرموبوليس مانيا فى الأقاليم القبلية، وآخر فى الأقاليم البحرية يعرف فى الأزمان السالفة باسم هرموبوليس باروا، ومعبد آخر فى مدينة هرموتيش التى آثارها قريبة من مدينة طيبة العتيقة؛ وكلمة مانيا التى معناها العظمى تدل على أنها من أعظم المدائن وآثارها الباقية إلى الآن تدل على ذلك أيضا.
وكانت هذه المدينة بعيدة عن نهر النيل فى وسط الأرض، والماء يصل إليها من جملة ترع، وكانت قاعدة الوجه القبلى مدة من الزمن، ولها إقليم يسمى باسمها إلى أن بنى قيصر الروم تجاهها على النيل مدينة عظيمة سميت انتنوية وهى أنصنا فكانت سببا فى انحطاطها، وقد يشاهد فى الآثار الباقية منها آثار الأجيال والأمم الذين تعاقبوا على هذه الديار من المصريين واليونانيين والرومانيين.
وجميع هذه المبانى هدمت وحصل من أنقاضها تلول شاهقة الارتفاع باقية إلى الآن ولم نقف على تاريخ بناء هذه المدينة من أقوال المؤرخين، ولكن فى اسمها كفاية/فى الدلالة على قدمها.
(1)
يقصد: دوميتيان (دوميشيان 96 - 81] Domitian (م]. انظر اضمحلال الإمبراطورية الرومانية وسقوطها، ج 68،1/ 57
(2)
يقصد: إيلاجابالوس (أنطونيتوس الأجابالوس)[218 - 222 م]. انظر: اضمحلال الإمبراطورية الرومانية وسقوطها، ج 193،1/ 179 وما بعدها.
(3)
يقصد: جالريوس المسمى (مكسيميان الأصغر)[305 - 311 م]، وذلك للتشابه بينه وبين مكسيميان الكبير شريك دقلديانوس فى الإمبراطورية. انظر: اضمحلال الإمبراطورية الرومانية وسقوطها، ج 480،1/ 290.
وذكر هيرودوط: أن الطير المقدس المعروف باسم أبيس كان يدفن بها؛ كما أن الباشق أو الباز كان يدفن بمدينة بولو فى حدود بحيرة البرلس، وكان النمس محترما فيها على قول استرابون، وكانت فى زمن قيصر الروم من المدن المشهورة الكثيرة العمران وضربت فيها ميداليات باسم المدينة عليها صورة الطير أبيس المجعول علما على أزريس كما كانت الشمس كذلك، وكانت شهرتها باقية فى زمن القيصر أنتونان
(1)
والقيصر ماركوريل
(2)
وفى زمن أميان مرسيلان
(3)
كانت من أعظم المدن، وكان بها رباط من الخيالة وكان بها فى القرون الوسطى دار أسقفية يتبعها جملة من الديور المتفرعة فى بلاد الجيزة.
ومن الأسباب التى أوجبت خراب هذه المدينة زيادة على مدينة أنصنا نقص مياه بحر يوسف الذى كان معدا لسقى المزروعات؛ فإنه أهمل أمره فى زمن حكومة الرومانيين فأوجب ذلك اضمحلال المدينة باضمحلال حال الزراعة، ونشأ عن ذلك مفارقة الأهالى لها وقربهم من النيل، وبنيت مدينة ملوى قبلى تلك المدينة على بعد فرسخين منها، وسميت ملوى العريش فقامت مقامها.
وفى سنة 1720 ميلادية كانت هى مركز المديرية ويجتمع فى موردتها عدد كثير من السفن المشحونة بالغلال لأجل إرسالها إلى مكة المشرفة وكان يرد عليها تجارة بلاد العرب، ثم تحول النيل عن حيطانها ففارقها سعدها مع مفارقة النيل، فقامت عوضا عنها مدينة المنية وصارت رأس مديرية إلى الآن، ومع ذلك فمديرية المنية كانت تسمى مديرية الأشمونين أو ولاية الأشمونين أو إقليم الأشمونين.
(1)
يقصد: أنطونينوس بيوس [138 - 161 م. Antoninus Pius [انظر اضمحلال الإمبراطورية الرومانية وسقوطها، ج 1/ 72 - 73.
(2)
يقصد: ماركوس أوريليوس أنطونينوس [161 - 180 م]. انظر: المرجع السابق، ج 1/ 142.
(3)
يقصد: أميانوس ماركللينوس، مؤرخ رومانى خدم فى جيوش الإمبراطور قسطنطيوس، وعاصر الإمبراطور جوليان. وألف تاريخا صادقا معتدلا عن العصر الذى عاش فيه. انظر: المرجع السابق، ج 1/ 631، ج 2/ 180.
ويستفاد من خطط أنطونان أن البعد بين مدينة الأشمونين وأسيوط تسعة وخمسون ميلا رومانيا وهو ألف وأربعمائة وثمانية وسبعون مترا، فيكون هذا البعد 87202، وقد قيس هذا البعد الآن على الخرطة فوجد 87500، والفرق بينهما يسير، وهو يدل على أن الآثار الباقية إلى الآن هى آثار مدينة الأشمونين بلا ريب، والآثار الباقية إلى زمن الفرنساوية كانت قطع أعمدة وحجارة ضخمة وباب عظيم كان لمعبد تهدم وقد وصفوه فى خططهم وقاسوا أبعاد أعمدته وأجزائه فى محور الخراب على بعد ستمائة وخمسين مترا من نهايته الغربية، وكان القائم منه على الأرض اثنى عشر عمودا فوقها جزء من البناء الأصلى، وقالوا يغلب على الظن أنه كان له ثمانية عشر أو أربعة عشر عمودا، وأن الآثار الباقية منه تدل على أن اتجاهه بالضبط اتجاه الشمال المغناطيسى، بمعنى أن الواجهة محررة على الجنوب المذكور كما علم ذلك بالرصد فى يوم 29 من أكتوبر الإفرنكى سنة 1800 ميلادية، وهو مخالف لما اعتاده المصريون من جعل واجهات المعابد فى اتجاه الشرق؛ ولكن لما كان محور العمارة موازيا لاتجاه مجرى النيل كان يتخرج على القاعدة المتبعة، واتجاه نفس المدينة هو الاتجاه الذى جعلوه للمعبد ومحور الاثنين يكاد ينطبق خطا واحدا، فلو لم تؤثر الأيام فى المبانى الباقية من هذه العمارة وتهدمها كما هدمت غيرها لكان محور المعبد نافعا فى معرفة التغيرات التى تحصل للمحور المغناطيسى فى جميع الأوقات، والارتفاع الكلى للباب فوق قاعدة الأعمدة ستة عشر مترا وثلثان، وارتفاع القاعدة سبعة أعشار متر، وجسم العمود مع التاج ثلاثة عشر مترا وستة عشر سنتيا، ومحيط العمود من مبدأ الخيرزان من المدماك الرابع ثمانية أمتار وثمانية أعشار متر، وقطره متران وثمانية أعشار متر، وفى قاعدة الجسم ثمانية أمتار وسبعة أعشار متر، والتاج مع الصحفة ثلاثة أمتار وأربعة وتسعون جزءا من مائة من المتر، والمسافة الوسطى بين الأعمدة خمسة أمتار وخمس متر، وكل من المسافات الأخر أربعة أمتار فقط.
ويتحقق من كيفية البناء والمواد المتركب منها والأبعاد الأخر، أنه من أعظم المبانى المصرية وأمتنها؛ واعلم أن المداميك المكون منها كل عمود جميعها متساوية وارتفاع كل واحد ستة وخمسون جزءا من مائة من المتر، فلو جعل هذا الارتفاع وحدة لوجد الجزء الأسفل من العمود ثلاث وحدات، والمتوسط أربع وحدات والأعلى أربعا أيضا، واللّحامات السّفلى واحدة ونصف، واللّحامات الأخر كل منها اثنان والتاج ستة والصحفة واحدة، فإن فرض أن القاعدة واحدة ونصف يكون الارتفاع الكلى 25 فإن نسبنا هذه المقادير للذراع المصرى الذى مقداره أربعمائة واثنان وستون جزءا من المتر، كان ارتفاع الأعمدة به ثلاثين ذراعا والقطر ستة أذرع، وكان ارتفاع الطريقة المتبعة ستة وثلاثين، والعتب المركب على الأعمدة مكون من خمسة أحجار ضخمة فى جميع الواجهة وأطول هذه الأحجار موضوع فى الوسط، وطوله ثمانية أمتار وكل من الأحجار الأخر ستة أمتار وثمانية أجزاء من مائة من متر، والحجر الباقى من أحجار التكنة أكبر الجميع، ومقدار طوله عشرة أمتار وثمانية أجزاء.
والغالب أن هذه الأحجار استخرجت من بيزا التى هى بلدة قديمة على الشاطئ الثانى للنيل وإلى/الآن تشاهد محاجرها العظيمة.
وفى الجهة البحرية من مدينة هرموبوليس على بعد ستة ميريا متر محل يعرف باسم أبيو أو أبيوم يعنى مدينة الأبيس، فهو من ملحقات المدينة العتيقة وله ارتباط بعمارتها، ويسمى الآن بين الأهالى طحا العمودين، وفى الجهة الغربية من مدينة الأشمونين خلف بحر يوسف آثار مدينة بانيس المذكورة فى مؤلفات استرابون وشهرتها الآن بين الأهالى بتومة أو تونا الجبل.
ويرى فى الجبل القريب من هذه المدينة محاجر كانت تستعمل فى الأزمان السابقة، ومغارات وواد يتوصل منه إلى البهنسا والفيوم والواحات الصغيرة، ويستفاد من كلام من ساحوا فى الديار المصرية فى الأزمان السابقة أن بحر يوسف كان يستعمل كثيرا فى الملاحة بين مدينة منف ومدن الأقاليم القبلية.
وكان بقرب الأشمونين موضع يقال له: حرموبوليت فلاس يؤخذ فيه الجمرك على المراكب المنحدرة، وموضع آخر يسمى بتيايكا فلاس يؤخذ فيه على المراكب المصعدة من منفيس إلى الجهات القبلية وأحدهما يوافق دروط سربام، والآخر يوافق دروط أشموم كما يؤخذ من استرابون وسيأتى ذلك فى الدروطين.
وحكى ابن حوقل أن مدينة الأشمونين جيدة البناء فى أرضها مزارع نخيل وأطيان تصلح للفلاحة، وكان يجلب منها للبلاد الأخر مقدار كثير من الثياب.
وقال خليل الظاهرى: إن إقليم الأشمونين يشتمل على مدينتين الأولى الأشمونين، والثانية منية ابن خصيب وكان فى إقليمها 133 قرية صغيرة وقد أطال المقريزى الكلام عليها وذكر أنه كان يعمل فيها فرش القرمز الذى يشبه الأرمنى، وكان ينزل بأرضها عدة بطون من بنى جعفر بن أبى طالب رضي الله عنه، وكانوا أهل بادية وأصحاب شوكة، وكان معهم بنو مسلمة بن عبد الملك بن مروان حلفاء لهم، ومعهم بطن آخر يقال لهم: بنو عسكر يقال إن أباهم كان مولى لعبد الملك بن مروان ويزعمون أنهم من بنى أمية، وكان معهم أيضا حلفاء لهم بنو خالد بن يزيد بن معاوية بن أبى سفيان ينزلون أرض دلجة عند أشمونين.
وذكر ابن إياس أن من جملة تجارتها الخيل والبغال والحمير، وقال أبو صلاح: إن فى جزيرة الأشمونين ثلاثمائة قرية، وبها بربا أى هيكل عتيق من أيام الجاهلية بقرب بابها الجنوبى وعدد كثير من الكنائس وقال: أبو الفداء إن الأشمونين مدينة عظيمة من المدائن القبلية يشاهد فيها دعائم من أحجار وآثار أخر ضخمة تدل على قدمها ومساحتها نحو ألف فدان، وهى على الشاطئ الغربى من النيل بينها وبينه مسيرة فرسخ ويقال: إن الذى أنشأها أولا هو إسكندر الأكبر المقدونى اه.
والقرية الموجودة الآن فى جانب منها وبها كوهرجلة وبعض أهلها يحفر فى تلول المدينة حتى يظهر الأبنية القديمة فيجعلها مسكنا بلا تجديد بناء، وفيها نخل قليل ومساجد صغيرة، ولها قاض وهى الآن تبع الدائرة السنية، وفى جهتها الغربية جبل أباح، وكان لها مينا على النيل وقت أن عرفت عند المسلمين بأشمونين.
وفى كتاب فتح الرحيم الرحمن شرح لامية ابن الوردى عند قوله:
لا تساوى لذة الحكم بما
…
ذاقه الشخص إذا الشخص انعزل
فالولايات وإن طابت لمن
…
ذاقها فالسم فى ذاك العسل
إنه لما تفرق الأمر عن مروان بن محمد آخر ملوك بنى أمية وقبض عليه وقتل ببوصير، هرب كاتبه عبد الحميد بن يحيى إلى قرية الأشمونين واختفى فيها فدلّ عليه وحمل إلى أبى العباس السفاح بأمان فلم يحظ عنده انتهى.
وقد ذكرنا ترجمة كل منهما فى الكلام على بوصير.
مطلب ذكر علماء الأشمونين
وفى بعض التقاييد أن من علماء هذه المدينة نور الدين أبا الحسن على بن محمد الشافعى شارح ألفية ابن مالك كما مر فى أشمون جريس. وفى حسن المحاضرة للسيوطى: أن عبد العزيز بن أحمد بن عثمان الكردى كان يعرف بابن خطيب الأشمونين درس وأفتى وألف على حديث الأعرابى الذى جامع فى رمضان كتابا نفيسا فيه ألف فائدة وفائدة، ولى قضاء الأعمال القوصية والمحلة، ودرس بالمعزية بمصر مات فى أواخر سنة سبع وعشرين وسبعمائة.
وفى ذيل الطبقات للشعرانى أن منها الشيخ العالم العامل الورع الزاهد الشيخ تقى الدين الأشمونى الأقطع الشافعى، أخذ عن ابن أبى شريف والجلال السيوطى ودرس وأفتى ببلاد الأشمونين، ثم قدم مصر ودرس فى الخشابية نيابة عن ناصر الدين الطبلاوى، وفى جامع ابن طولون وفى جامع يونس خارج قناطر السباع، صحبته نحو عشرين سنة وهو فى غاية الزهد والخشية من الله تعالى، قطعت يده ظلما فى أيام خاير بيك ملك الأمراء فى قصة طويلة انتهى باختصار.
اشنواى
(1)
قرية بمديرية الغربية من قسم الجعفرية على ترعة جعفرية القاصد من جهة الشرق على بعد مائة وخمسة وسبعين مترا، وفى جنوب عزبة طوخ بنحو ألفى متر وغربى شتراق بنحو ثلاثة آلاف متر، وبها جامع بمنارة أنشأه/المرحوم أحمد أغا المنشاوى، وبها معملان للفرار ومنازل مشيدة وقد ترقى منها أحمد أغا المذكور بوظيفة ناظر قسم طندتا سنة سبع وأربعين ومائتين وألف فبقى كذلك سبع سنين، ثم توفى إلى رحمة الله.
ومن بعده ترقى من أولاده محمد بيك المنشاوى سنة خمس وسبعين ومائتين وألف بوظيفة ناظر قسم الجعفرية، ثم إلى رتبة أمير آلاى وجعل وكيل مديرية الدقهلية، ثم مديرا لتلك المديرية، ثم بمديرية الشرقية، ثم صار من أعضاء مجلس الأحكام بمصر، وكذا ترقى أخوه بسيونى بيك برتبة قائم مقام مفتش زراعات الخديو إسماعيل باشا، وكذا أخوهما أحمد بيك إلى رتبة القائم مقام مفتش زراعات أيضا.
وبهذه الناحية مقام سيدى على البريدى فى داخل جامع يعمل له ليلة فى كل سنة، ومقام سيدى حسين الزعفرانى، وبها ثلاث حدائق وجملة من السواقى المعينة ارتفاعها عن سطح البحر زمن التحاريق نحو العشرة أمتار، وريها من الفرع الجديد الخارج من ترعة الجعفرية ومن جنابية القرشية، وعدد أهلها نحو ستمائة نفس، ولها طريق يوصل إلى طندتا فى نحو ساعة فيمر السالك فيه بناحية إخنا.
(1)
هى إشنواى-إشناواى-إشنويه. انظر: محمد رمزى: القاموس الجغرافى، ق 2، ج 2/ 3.
الأطارشة
قرية من مديرية المنوفيه بمركز سبك على بحر شيبين من الجهة الغربية وبها جامع قد صار ترميمه سنة ثمانين ومائتين وألف، وبها ستة بساتين مشتملة على كثير من الفواكه وبها مقام يزار يعرف بمقام سيدى محمد العجمى، وأهلها مسلمون وعددهم ذكورا وإناثا ستمائة نفس، وزمام أطيانها مائتان وأربعون فدانا تروى من النيل وبها سواق معينة وزراعتها القطن والحبوب ومنها إلى مدينة منوف نحو ثلاث ساعات.
إسطال
(1)
قرية من مديرية المنية بقسم قلوصنا غربى ناحية جوادة بنحو أربعة آلاف ومائتين وخمسين مترا، وفى شرقى ناحية داقوف بنحو ألفين وخمسمائة متر وبدائرها نخيل كثير، وهى من البلاد التى كانت بها الحراج وسنط القرظ وسيأتى بسط الكلام على ذلك فى البهنسا
(1)
وضعت فى غير ترتيبها ويحب أن تكون بعد أرمنت وقبل أسفون ص.184.
أطصا
(1)
قرية من قرى الفيوم بقسم مدينة الفيوم وكانت سابقا رأس خط وهى قرية كبيرة واقعة على الشاطئ القبلى لبحر عروس، وبها نخيل كثيرة وزيتون وأبنيتها باللّبن والآجر، وبها جامع عامر ووابور لحلج القطن وعصر الزيت، ومدينة الفيوم فى شمالها الشرقى على نحو ساعتين، وفى غربيها قرية دفنو وبعض أطيانها يروى بالراحة، وبعضها فى ملقة قلم شاه المحافظ عليها حائط المنية الآتى ذكرها فى قرية منية الحيط، وفم البحر الذى تروى منه أرضها وأرض ما جاورها من البلاد خارج من اليوسفى قبلى المدينة بنحو ثلثى ساعة، وهو فى قبلى نزلة الخواجة درونيو وعليه سواقى هدير لرىّ الأطيان المرتفعة من أراضى قرية درونة وغيرها، وبعد امتداده إلى الغرب بنحو ثلثى ساعة توجد به نصبة بها ثلاثة أفواه، القبلى لعزبة بوصير دفنو، والوسط لجملة بلاد والبحرى لناحية معصرة عرفة ويقال لها: المعيصرة أيضا، ثم الوسط بعد سيره إلى الجنوب الغربى نحو نصف ساعة ينقسم بنصبة إلى ثلاثة أفواه أيضا: الشرقى لناحية دفنو والوسط لجملة قرى والغربى لناحية الصوافنة، ثم بعد امتداد الوسط إلى الجنوب الغربى أيضا بنحو ثلث ساعة ينقسم بنصبة تحت أطصا من الجهة البحرية إلى ستة أقسام القبلى لناحية أطصا، وما يليه لناحية منية الحيط، وما يليه للغدامنة، والرابع للجعافرة، والخامس للغابة، والسادس إلى بحر أبى المنير ومنشأة حلفا، ثم هذا الأخير بعد سيره مغربا نحو نصف ساعة ينقسم بنصبة أيضا إلى قسمين: القبلى لناحية بحر أبى المنير، والثانى لناحية منشأة حلفا
(1)
وردت فى القاموس الجغرافى: إطصا، إطسا. انظر: القاموس، ق 2 ج 3، ص 81؛ التحفة السنية، ص 151.
والنصبة عبارة عن بنيان متين من الآجر الجيد والمونة القوية من الجير والطين أو الرمل الجبلى بجعل ذلك البناء فى عرض البحر ويكون فى الشاطئين على أرصفة متينة فى الأمام والخلف على قدر اللزوم، وبجعل ارتفاع البناء بنسبة أعلى الأراضى التى هو لها، وإذا كان البحر مختصا ببلد واحدة جعل فى فمه قنطرة لها فرش وعتب وأرصفة وتجعل فتحتها بنسبة الأطيان التى هى لها، وإذا كان لجملة بلاد احتاج لنصبة ينقسم بها فيعمل الفرش ويرفع البناء جميعه من جهة الأمام ينسبة الأراضى ومن جهة الخلف يأخذ فى الميل فى كل بحر من الأبحر التى ينقسم إليها حتى يجتمع فى أرض البحر المذكور، ويعطى كل بحر عرضا بنسبة الأطيان التى يرويها ويحفظ ذلك العرض بعتب وحجر من الصوان، والفرش اللازم لكل بحر يختلف امتداده بحسب الانحدار، فتارة يكون خمسة أذرع فى الأبحر القليلة الانحدار، وتارة يكون أكثر من ذلك إلى خمسة وعشرين ذراعا على حسب شدة جريان الماء وخفته.
إطفيح
(1)
هذه المدينة من المدائن القديمة بالديار المصرية ومذكورة فى مؤلفات استرابون وبطليموس وخطط أنطونان وخطط الرومانيين باسم أفرودتيوبوليس التى كانت رأس مدينة تعرف بمديرية أفرودتيوبوليس، وكون إطفيح فى محل مدينة أفرودتيوبوليس
(2)
هو مقتضى الأبعاد المقدرة لها فى تلك المؤلفات، وهو أيضا/ مقتضى ما ذكره أنطونان أن من هذه المدينة إلى أنصنا مائة وعشرين ميلا رومانيا، والبعد بين إطفيح وأنصنا لا يفرق إلا خمسة أميال عن هذا المقدار وهو فرق يسير لا يوجب تغايرهما.
وذكر استرابون أن أهالى هذه المدينة كانوا يربون بقرة بيضاء ويحترمونها وقد علم من الكتابة القديمة أن هذه البقرة كانت علما على المقدسة إزيس، وكانوا يرسمون المقدسة تارة فى صورة بقرة وهوروس ابنها يرضعها، وتارة فى صورة إنسان رأسه رأس بقرة، وكما أن مدينة أفرود تيوبوليس كانت رأس مديرية كذلك كانت بعدها مدينة إطفيح رأس مديرية مدة.
وهى بلدة كبيرة قديمة واقعة على يمين النيل ينسب اليها خطها فيقال شرق إطفيح.
(1)
وردت فى القاموس الجغرافى: أطفيح. انظر: ق 2 ج 3، ص 52.
(2)
يقصد: أفروديتوبوليس. Aphroditopolis انظر: إبراهيم نصحى: تاريخ مصر فى عصر البطالمة، ج 2/ 344.
ترجمة وحاطة بن سعد الإطفيحى
وفى المقريزى عند ذكر مساجد القرافة الكبرى بمصر أنه نشأ من إطفيح فى القرن الخامس من الهجرة رجل يقال له: وحاطة بن سعد الإطفيحى، شيخ له سمت، وقد كتب الحديث فى سنة ثمان وخمسين وأربعمائة وما قبلها، وسمع من الحباك وهو فى طبقته، وهو رفيق الفراء وابن مشرف وابن الحظية وأبى صادق، وسلك طريق أهل القناعة والزهد والعزلة كأبى العباس بن الحظية، وكان له مسجد فى البطحاء بحرى مجرى جامع الفيلة إلى الشرق يقال: له مسجد الإطفيحى.
وكان الأفضل الكبير شاهنشاه صاحب مصر قد لزمه واتخذ السعى إليه مفترضا والحديث معه شهوة وغرضا لا ينقطع عنه، وكان فكه الحديث قد وقف من أخبار الناس والدول على القديم والحديث وقصده الناس لأجل حلول السلطان عنده لقضاء حوائجهم فقضاها، وصار مسجده موئلا للحاضر والبادى وصدى لإجابة صوت النادى، وشكا الشيخ إلى الأفضل تعذر الماء ووصوله إليه فأمر ببناء القناطر التى كانت فى عرض القرافة من المجرى الكبيرة الطيلونية، فبنيت إلى المسجد الذى به الإطفيحى، وأنفق عليها خمسة آلاف دينار، وعمل الإطفيحى صهريج ماء شرقى المسجد عظيما محكم الصنعة وحماما وبستانا كان به نخلة سقطت بعد سنة خمسين وخمسمائة، وعمل الأفضل له مقعدا بحذاء المسجد إلى الشرق وقاعة صغيرة مرخمة إذا جاء عنده جلس فيها وخلا بنفسه واجتمع معه وحادثه،
وكان هذا المقعد على هيئة المنظرة بغير ساتر كل من قصد الإطفيحى من الكتفى يراه، وكان الأفضل لا يأخذه عنه القرار يخرج فى أكثر الأوقات من دار الملك بكرة أو ظهرا أو عصرا بغتة فيترجل ويدق الباب وقارا للشيخ، كما كان الصحابة رضي الله عنهم يقرعون أبواب النبى صلى الله عليه وسلم بظفر الإبهام والمسبحة كما يحصب بهما الحاصب، فإن كان الشيخ يصلى لا يزال واقفا حتى يخرج من الصلاة ويقول:
من؟ فيقول ولدك شاهنشاه فيقول: نعم ثم يفتح فيصافحه الأفضل ويمر بيده التى لمس بها يد الشيخ على وجهه ويدخل فيقول الشيخ: نصرك الله، أيدك الله سددك الله، هذه الدعوات الثلاث لا غير أبدا، فيقول الأفضل آمين.
وبنى له الأفضل المصلى ذا المحاريب الثلاثة شرقى المسجد إلى القبلى قليلا ويعرف بمصلى الإطفيحى كان يصلى فيه على جنائز موتى القرافة، وكان سبب اختصاص الأفضل بهذا الشيخ إنه لما كان محاصرا نزار بن المستنصر بالإسكندرية، وناصر الدولة أفتكين الأرمنى أحد مماليك أمير الجيوش بدر، وكانت أم الأفضل إذ ذاك وهى عجوز لها سمت ووقار تطوف كل يوم وفى الجمعة، الجوامع والمساجد والرباطات والأسواق وتستقص الأخبار وتعلم محب ولدها الأفضل من مبغضه، وكان الإطفيحى قد سمع بخبرها فجاءت يوم جمعة إلى مسجده وقالت يا سيدى: ولدى فى العسكر مع الأفضل الله يأخذ لى الحق منه فإنى خائفة على ولدى فادع الله لى أن يسلمه.
فقال لها الشيخ: يا أمة الله أما تستحين تدعين على سلطان الله فى أرضه المجاهد عن دينه، الله تعالى ينصره ويظفره ويسلمه ويسلم ولدك، ما هو إن شاء الله إلا منصور مؤيد مظفر، كأنك به وقد فتح الإسكندرية وأسر أعداءه وأتى على أحسن قضية وأجمل طوية فلا تشغلى لك سرا، فما يكون إلا خير إن شاء الله تعالى.
ثم إنها اجتازت بعد ذلك بالفار الصيرفى بالقاهرة بالسراجين، وهو والد الأمير عبد الكريم الآمرى صاحب السيف، وكان عبد الكريم قد ولى مصر بعد ذلك فى الأيام الحافظية، وكان عبد الكريم هذا له فى أيام الآمر وجاهة عظيمة وصولة، ثم افتقر فوقفت أم الأفضل على الصيرفى تصرف دينارا وتسمع ما يقول: لأنه كان إسماعيليا متغاليا فقالت له:
ولدى مع الأفضل وما أدرى ما خبره، فقال لها الفار: لعن الله المذكور الأرمنى الكلب العبد السوء ابن العبد السوء، مضى يقاتل مولاه ومولى الخلق، كأنك والله يا عجوز برأسه جائزا من ههنا على رمح قدام مولاه نزار ومولاى ناصر الدولة إن شاء الله تعالى والله يلطف بولدك، من قال لك تخليه يمضى مع هذا الكلب المنافق وهو لا يعرف من هى.
ثم وقفت على ابن بابان الحلبى وكان بزّازا بسوق القاهرة، فقالت له مثل ما قالت للفار الصيرفى. وقال لها مثل ما قال لها، فلما أخذ الأفضل نزارا وناصر الدولة وفتح الإسكندرية/حدثته والدته الحديث وقالت: إن كان لك أب بعد أمير الجيوش، فهذا الشيخ الإطفيحى، فلما خلع عليه المستعلى بالقصر وعاد إلى دار الملك بمصر اجتاز بالبزازين، فلما نظر إلى ابن بابان الحلبى. قال: انزلوا بهذا فنزلوا به فقال: رأسه فضربت عنقه تحت دكانه، ثم قال: لعبد على أحد مقدمى ركابه. قف ههنا لا يضيع له شئ إلى أن يأتى أهله فيستلموا قماشه.
ثم وصل إلى دكان الفار الصيرفى فقال: انزلوا بهذا فنزلوا به فقال: رأسه فضربت عنقه تحت دكانه، وقال ليوسف الأصغر أحد مقدمى الركاب اجلس على حانوته إلى أن يأتى أهله ويستلموا موجوده، وإياك وماله وصندوقه، وإن ضاع منه درهم ضربت عنقك مكانه، كان لنا خصم أخذناه وفعلنا به ما يردع غيره عن فعله وما لنا وما له وفقر أهله، ثم أتى الأفضل إلى الشيخ أبى طاهر الإطفيحى وقربه وخصصه إلى أن كان من أمره ما شرحناه انتهى.
وفيه أيضا قال المسبحى فى حوادث سنة خمس وأربعمائة هجرية وقرئ يوم الجمعة الثامن والعشرين من شهر صفر سجل بتحبيس عدة ضياع وهى: إطفيح وصول وطوخ وستة ضياع أخر وعدة قياسر وغيرها على القراء والفقهاء والمؤذنين بالجوامع، وعلى المصانع والقوّام بها ونفقة المارستان وأرزاق المستخدمين فيها وثمن الأكفان اه.
ترجمة الشيخ عبد الرحمن بن أحمد بن عمر الإطفيحى
وفى الضوء
(1)
اللامع للسخاوى أنه ولد بهذه البلدة الشيخ عبد الرحمن بن أحمد بن عمر بن عرفات بن عوض بن الشهاب بن السّراج الأنصارى الإطفيحى القمنى ثم القاهرى الشافعى، ولد فى سنة تسعين وسبعمائة تقريبا ونشأ بها فحفظ القرآن وانتقل مع أبيه إلى القاهرة فجوّد القرآن واشتغل بالفقه والنحو والأصول والمعانى والبيان والعروض على عمه الزين القمنى، وعلى الإبناسى والبساطى والقرمانى والتنوخى وآخرين، وأجازت له عائشة ابنة ابن عبد الهادى وطائفة، وذكر أن السراج البلقينى أجاز له وتكسب بالشهادة بل ناب فى القضاء عن العلم البلقينى، وولى مشيخة الصوفية بتربة يونس الدوادار المجاورة لتربة الظاهر برقوق.
(1)
انظر الضوء اللامع للسخاوى 4/ 54 ط المقدسى سنة 1354 القاهرة.
قال وسمعت عليه ختم البخارى وبعض المستخرج على مسلم لأبى نعيم، وكان حامدا مقبلا على شأنه حريصا على الملازمة لمجلسه بحيث يرجع من الحضور ماشيا فيجلس فيه إلى الغروب غالبا، مقترا على نفسه مع تموّله. مات فى سنة ستين أو قبلها بيسير بعد الثمانمائة ومن نظمه يمدح شيخنا:
يا سيدا حاز الحديث بصحة
…
بالحفظ والإسناد حقا يفضل
يا مالكا بالعلم كل مدرس
…
شيخ الشيوخ وأنت فيهم أمثل
يا حاويا كنز العلوم بفهمه
…
قاضى القضاة المنعم المتفضل
الفضل والعباس أنت أبوهما
…
يا باسما والوجه منه مهلل
انتهى.
ترجمة الشيخ عبد الرحمن بن أحمد بن يعقوب الإطفيحى
وينسب إليها كما فى الضوء
(1)
اللامع أيضا عبد الرحمن بن أحمد بن يعقوب بن أحمد بن عبد المنعم بن أحمد الزين أبو الفضل بن الشهاب بن الشرف الإطفيحى الأزهرى القاهرى الشافعى شقيق المحب محمد ويعرف كأبيه بابن يعقوب، ولد فى ذى الحجة سنة تسع وعشرين وثمانمائة بالقاهرة، ونشأ بها فى كنف أبويه فى غاية ما يكون من الرفاهية والنعمة فحفظ القرآن وتنقيح اللباب لخاله، وسمع على شيخنا وغيره وباشر النقابة وجهات الحرمين وغير ذلك، وحج غير مرة، وكان شكلا ظريفا ذكيا بساما حسن العشرة قريحته سليمة وذهنه مستقيم وطبعه وزان وقد كتبت عنه قوله:
همذانى الأصل واش
…
لا ترم فيه سعاده
إنه شخص ثقيل
…
وهو همّ وزياده
مات ثالث عشر شوال سنة ثلاث وسبعين وثمانمائة.
(1)
ورد بهذا المرجع 4/ 169 بلفظ «عبد الرحيم» .
وإطفيح الآن بندر القرى المجاورة لها، وهى رأس قسم من مديرية الجيزة، وبها وكالة يبيت بها بعض الطارئين ودكاكين قليلة يباع بها بعض العقاقير والأقمشة، وفى زمن العزيز المرحوم محمد على كانت محل إقامة المأمور، وأولا كان شرق إطفيح من الأقاليم الوسطى، ثم أضيف إلى مديرية الجيزة فى سنة 1250 هـ وسبب اضمحلال تلك المدينة وتطرق أيدى الخراب إليها قبل العائلة المحمدية وكذلك ما حواليها من أعمالها، هو قربها من الجبل، فكانت عرضة لإغارات العرب للسّلب والتخريب، وفى زمن المماليك والصناجق كانت مركزا للمطرودين والأشرار فأهلكوا منها الحرث والنسل، ولما أنعم الله تعالى على الديار المصرية بالعزيز وخلص هذه الديار من الأشرار وطرد منها المماليك وغيرهم من المفسدين، التفت إلى عمارية تلك البلاد فعمل فى جميع القطر أعمالا جليلة وآثارا جميلة أورثته ثروة ونال شرق إطفيح من ذلك حظا وافرا، فإنه فضلا عن تأمينه من الغارات وغيرها قد أنشأ له ترعة الكريمات الشهيرة بترعة شرق إطفيح وجعل فمها من الكريمات وطولها نحو ستة عشر ألف قصبة وجعل/فيها عدة فروع لكل حوض فرع لرى أرضها، وجعلت بها جملة قناطر وأحدثت هناك جملة جسور، فحصل بذلك صلاح أحوال الزراعة بتلك النواحى وعمار بلادها سنة بعد سنة حتى وصلت إلى الحالة التى هى عليها الآن، إلا أنه فى بعض السنين تنصّب على أرضها سيول جسيمة من أفواه الأودية التى بسفح الجبل، وربما حصل منها مضرأت فلو عملت ترع لصرف تلك السّيول كما كان يعمل سابقا لكان من محاسن الأوضاع، وقد حصل التصميم من الخديو إسماعيل باشا على جعل ترعة الكريمات تجرى صيفا وشتاء، وتمتد إلى أن تمر خلف القاهرة بين القلعة والجبل حتى تمر من تحت الترعة الإسماعيلية، لتروى منها بلاد مديرية القليوبية حتى فى زمن الصيف ولم تعمل إلى الآن-أعنى سنة 1305 هـ -، ولو تمت هذه الترعة لكان قد أهدى إلى القاهرة وإلى أهالى تلك الجهات هدية تدعوهم إلى إدامة الثناء عليه والدعاء له ولأنجاله بتخليد دولتهم، لأنها تكون نفعا صرفا لبلاد إطفيح إلى ما وراء بلاد القليوبية، وتتحلى مدينة القاهرة فى جهتها القبلية والشرقية بالبساتين والعمارات، وتتخلص من مضرات التلول السبخة المرتفعة على مساكنها من هاتين الجهتين، سيما فى وقت الحر ووقت هبوب الريح وليست هذه بأول مزاياه ومحاسن أفكاره بارك الله فيه وفى أنجاله.
الآطيا
هذه المدينة كانت تسمى قديما لوسين وكان اللاتينيون يسمونها جونون والآطيا اسم يونانى، وهى التى محلها الآن قرية صغيرة تعرف بالكاب على الشاطئ الأيمن للنيل بالصعيد الأعلى قبلى مدينة أدفو على بعد فرسخين منها، وبقربها تلال قديمة وآثار من المدينة العتيقة، وفى زمن دخول الفرنساوية ديار مصر كان جزء من أرضها التى كانت تزرع فى الأيام السابقة قد غطى بالرمال، بسبب ضياع الترع والأشجار التى كان المصريون يستعينون بها فى الأزمان الماضية على منع الرمال من التعدى على أرض الزراعة، وكان لا يزرع فى ذاك الوقت إلا الجزء المجاور لمجرى النيل، وكانت جميع هذه الأراضى مستوية ويحدها الجبل، وكان يشاهد هناك سور مربع الشكل يشبه قلعة وفى وسطه أعمدة وبعض حيطانه فى غاية من الغلظ، وبين أرض المزارع والصحراء طريق من قرية الكاب إلى قرية المحامد، وفى وسط المسافة بين السور المربع وقرية المحامد معبد صغير منعزل، وعلى بعد منه يرى كوم من الحجارة فى صورة باب جسيم.
وفى الجبل مغارات وحفر تدل على أن المدينة كانت بالقرب منها؛ لأن المصريون كانوا ينحتون من الجبال قبورا لأمواتهم ويأخذون حجارتها لبناء مساكن أحيائهم، وكانت مساكن الأحياء فى الغالب فى طول مجرى النهر وعلى شاطئه، كما أن مساكن الأموات كانت ممتدة فى طول سير الجبل وفى حدود الصحراء، والسور السابق الذكر مبنى من اللّبن الكبير، وطول ضلعه ستمائة وأربعون مترا وارتفاعه تسعة أمتار، وسمكه أحد عشر وخمسة أجزاء من مائة من
المتر، وقد قيست لبنة منه فوجد ارتفاعها ثمانية وثلاثين جزءا من مائة من متر، وعرضها ثلاثون جزءا والسمك كذلك، ويظهر أن هذا السور كان مجعولا لوقاية المبانى التى فى داخله من إغارات العرب ونحوهم، فإن العادة كانت جارية بإحاطة المعابد والسرايات ونحوها بالأسوار، ويجعلون فى أضلاع المحيط أبوابا هائلة من الحجارة مع أن السور من اللبن-وهو الطوب المضروب المجفف بالشمس والهواء-وبعض المبانى زال سورها وبقى الباب أو بعضه، وفى بعضها ذهب الباب وبقى السور كما هى الحالة الحاصلة فى هذا المحل فإن الباب قد ذهب، وبالتأمل يظهر أنه كان فى الضلع المقابل للجبل على خلاف العادة؛ فإنهم كانوا يجعلون الباب مواجها للنيل.
وهناك آثار وإشارات كتلال داخل السور، يفهم منها أن المدينة كانت فى داخله، وأن السور القريب منه كان محيطا بالمعابد، ومنه يفهم أن الإغارات من العرب وخلافهم فى تلك الحقبة كانت كثيرة، وكان القصد منها إنما هو البلاد لسلب ما فيها دون المعابد فحصل هدم أغلبها إما لهذا السبب، أو لأخذ أنقاضها فى بناء البلاد والقرى التى أعقبتها، ومن ذلك لا نرى الآن غير النادر منها وأكثر ما يرى أسوار المعابد، وكان الباقى بها إلى زمن الفرنساوية من المبانى القديمة بعض أعمدة وبعض معبد إنهدم أغلبه، وبالقرب منه حوض كبير للماء يظهر أنه قديم جدا، ولعله كان مستعملا فى أمور العبادة، والمعبد الصغير المنعزل واقع فى طريق الجبل، والظن أنه معبد المقدسة لوسين التى كانت يتوسل بها فى تسهيل وضع الحمل، ويؤخذ من بعض العبارات أنه كان لأوزريس قبر فى هذه المدينة، فقد نقل بولوترك عن مانيتون أن أهلها كانوا كل سنة فى ميعاد معلوم يحرقون رجالا شعلا على قبر أوزريس، وقال ذلك أيضا استرابون وبلين لكن سماعا بلا مشاهدة ولم يتكلم على ذلك هيرودوط.
وفى قاموس الفرنج أن بولوترك عالم فيلسوفى رومى مشهور، ولد سنة ثمان وأربعين أو خمسين بعد الميلاد. ومات سنة مائة وثمانية وثلاثين أو مائة وأربعين، وله مؤلفات كثيرة معتمدة فى فنون شتى/انتهى.
وفى كتب الفرنساوية أن كوم الحجارة الذى يظهر فى هيئة باب هو صخرة قطعت من الجبل وتحتّتت أطرافها واستعمل الناتج منها فى المبانى. ويوجد فى الجبل جملة مغارات أغلبها منقوش من جميع جهاته بنقوش تخالف النقوش التى فى المعابد والسرايات، فإن نقوش المعابد تتعلق بالديانة ونقوش السرايات تتعلق بالحروب والافتخار والنصرات، وإن وجد فى خلال ذلك بعض أمور أهلية فذلك نادر، وأما نقوش هذه المغارات فجميعه أهلى، وفيه تفصيل جميع أحوال الفلاحة مثل الحرث بالحيوان والتّلويق والبذر والدّق والدرس والتذرية والتجرين وتسجيل المحصول وصيد السمك بالشبكات وتمليحه، وإحضار المصيد وحفظه وجمع العنب وعمل النبيذ وتخزينه، وطرق تبريد الماء وتربية الحيوان وشحن المراكب والملاحة بالقلع والمجداف، ووزن الحيوانات الحية وإحضار اللحم وتصبير الأموات، وتشييع الميت إلى قبره، والرقص والموسيقى وإعطاء الحسنة.
ويشاهد فى ذلك النساء مع الرجال من غير برقع ومن ذلك يظهر أن عادة البرقع حادثة، ويرى أيضا اشتراك الأطفال مع الكبار فى جميع تلك الأعمال وملابس الخلق على اختلاف طبقاتهم. جميع ذلك منقوش على جدران المغارة بغاية الضبط والدقة، وملون بالألوان السّارة الباقية على بهجتها، وقد قرأ بعض من له معرفة باللغة المصرية القديمة كتابة فى مقبرة بعض الأمراء هناك، أنه كان رئيس الملاحين فى المراكب فى زمن أحد فراعنة العائلة السابعة عشرة وأنه من بيوت أمراء العائلة السادسة عشرة.
وفى شرحه لأحوال نفسه قال: إنه سافر إلى مدينة تانيس- (صان) -فلحق بفرعون مصر أهموزيس، وطول إحدى المغارات 8 ر 7 أمتار، وعرضها 7 ر 3 وهى معقودة من أعلاها ومنقسمة إلى قسمين، فى القسم الأول النقش وفى آخره باب يصل إلى أودة فيها بئر يظهر أنها كانت معدة لنزول الأموات فى مخادعها، وصغر هذه المغارة يدل على أنها مقبرة أحد أغنياء الأهالى.
ويظهر أيضا أن هذه الصور الثلاثة هى صورة أفراد العائلة، وهى عبارة عن صورة رجل وامرأتين، وبقرب هذه المغارة مغارة أخرى أقل منها فى الحسن، ولهذا تسميها الأهالى مغارة الوزير وتسمى الأخرى مغارة السلطان، وهناك مغارات أخرى مردومة بالرمل، وفى بحرى قرية الكاب هرم صغير فى البر الشرقى للنيل قاعدته نحو عشرين مترا.
أكراش
(1)
قرية من مديرية الدقهلية بمركز السنبلاوين واقعة شرقى ديرب نجم بنحو أربعة آلاف وتسعمائة متر وفى جنوب ناحية العصائد بنحو ألف وتسعمائة متر، وأبنيتها بالآجر واللبن وبها جامع وزوايا، وتكسب أهلها من الزراعة وغيرها وأكثرهم مسلمون، وقد نشأ منهم من أفاضل العلماء من أحيا ذكرها بين البلدان على مدى الأزمان.
(1)
وردت فى القاموس الجغرافى: إكراش. أنظر: ق 2 ج 1، ص 182.
ترجمة السيد سليمان الحريشى
فإنه ينسب إليها العلامة السيد سليمان بن طه بن أبى العباس الحريثى الشافعى المقرئ الشهير بالأكراشى، جوّد القرآن على الشيخ مصطفى العزيزى خادم النعال بمشهد السيدة سكينة، وأعاده بالعشر على الشيخ عبد الرحمن الأجهورى المقرئ، وأجازه فى محفل عظيم فى جامع ألماس، وسمع وحضر دروس فضلاء الوقت ومهر فى فقه المذهب ودرس فى جامع ألماس وغيره، وسمع من السيد مرتضى المسلسل بالأولية بشرطه والمسلسل بالقيد وبالمحبة وبالقسم، وبقراءة الفاتحة فى نفس واحد وبالألباس والتحكيم، وسمع الصحيحين بطرفيهما فى جماعة بجامع شيخون بالصليبة، وسمع أجزاء البلدانيات للحافظ أبى طاهر السلفى وجزء النيل وجزء يوم عرفة ويوم عاشوراء وغير ذلك.
وله تآليف وجمعيات ورسائل فى علوم شتى، ولما مات الشيخ العزيزى تولى المترجم مشيخة القراء بمقام السيدة نفيسة رضي الله عنها، وتوفى سنة ألف ومائة وتسع وتسعين انتهى جبرتى
أمباركاب
بألف فميم فموحدة فألف فراء مهملة فكاف فألف فموحدة هكذا فى كتابة من ساحوا تلك الجهة، وهى قرية من مديرية إسنا من خط الكنوز بقسم حلفا ممتدّة على الشاطئ الشرقى للنيل، وأبنيتها ومساكنها وملابس أهلها ومشروباتهم مثل ما يذكر فى ناحية الشلال فانظره فى حرف الشين.
وهى مشهورة بعمل الزبادى الفخار والطواجن والكبيجات، وهى عبارة عن كرة من الفخار ذات رقبة يطبخ فيها مثل الحلة وفيها شجر الحناء كأكثر بلاد الكنوز، ويوجد فيها البقر والغنم والحمير والخيل والحمام والدجاج، وفيها السمن كثيرا يشترى من البيوت بالسؤال عنه، وأهلها من كرماء البربر لكن لهم عادة وهى أنه إذا عثر أحدهم على شخص أخذ بلحة من نخلة على وجه السرقة كلفه أن يرجعها فى عذقها كما كانت وإلا قطع رأسه.
ويقال: إن ذلك حصل مرارا وكذا عندهم من غلظ الطبع ما يحملهم على عدم لانقياد للحكومة، وذلك فى عموم خط الكنوز حتى قيل إنه لم يمكن أن يتحصل منهم على نفار لإشغال السكة الحديد/المارة هناك فكانوا إذا أغلظ عليهم الحكام يفرون إلى الجبال يتركون بيوتهم خالية.
ولا يتعاملون إلا بنقود الفضة وفلوس النحاس المصرية القديمة الموجودة من سنة خمس وخمسين بعد المائتين والألف ويسمونها بالدمج، وأما الفلوس النحاس الجديدة فلا تستعمل عندهم، ومنها إلى ناحية سكوت لا يتعامل إلا بالعملة الصاغ الميرى، وعرض النيل تجاه هذه الناحية يبلغ سبعمائة متر وسواقيهم على شاطئه، وهى نحو ثمانية وارتفاعها عن الماء زمن الفيضان نحو ثلاثة أمتار، وفى زمن انتهاء نقصه نحو عشرة، وزمام أطيانها العالية مائتان وأربعون فدانا والأطيان الممتدة على النيل نحو مائة وستين فدانا، وفيها من النخيل سبعة آلاف وسبعمائة وسبع وستون نخلة.
الأميرية
قرية من مديرية القليوبية بضواحى المحروسة على الشط الغربى للترعة الإسماعيلية، وفى جنوب ناحية بهتيم بنحو ثلاثة آلاف ومائتى متر، وفى شمال ناحية الوايلى بنحو ألف وثلاثمائة متر، وبها جامع وجنينة كبيرة بها جميع الفواكه وكانت تابعة لحبيب أفندى كتخدا مصر زمن العزيز محمد على.
أم دومه
قرية من مديرية جرجا بقسم طهطا على الشط الغربى للسوهاجية قريبة من الجبل فى تجاه طما إلى جهة الغرب بجوار حدود مديرية أسيوط، فيها أبنية عظيمة وقصور مشيدة ومساجد عامرة ونخيل قليل، وأكثر أهلها مسلمون أصحاب يسار لخصوبة أرضها وجودة محصولاتها، ويحيط بها رصيف متين مبنى بالآجر والمونة يقيها من الغرق فى زمن فيضان النيل لانخفاض موقعها، ولا يتوصل إليها زمن الفيضان إلا بالمراكب.
وفيها بيوت مشهورة وأشهرها بيت السيد بن عبد الرحمن أبو دومة المتوفى قبيل سنة ثمانين ومائتين وألف، وقد جعل ناظر قسم مدّة قليلة فى زمن العزيز محمد على باشا، وكان ذا ثروة زائدة ويقتنى كثيرا من أصناف الأنعام والخيل والعبيد، حتى قيل إنه كان إذا ركب يركب خلفه نحو ثلاثين عبدا أكثرهم متعمم بالشال الكشمير، وعليهم ثياب الجوخ الثمين واسعة الأكمام متقلدين بالسيوف المحلاة على خيول جياد بسروج محلاة وركابات مطلية بالذهب.
وكان هو متقشفا يتعمم ببلين غليظ من الصوف الأبيض، ويلبس جبة من الصوف الأسود والأحمر غير المصبوغ فوق ثياب القطن، ويتلفع بملآءة من القطن الخالص من نسيج إخميم، ويلبس فوق ذلك عباءة من صوف لحمتها بيضاء وسداها أسود ويسمى هذا اللون عندهم زرديا، ويلبس نعلا إخميميا ولا يلبس غلالة ولا جوربا ويشرب الدخان البلدى كثيرا.
ويقال إنه دخل عليه مرة رجل من الطوائف قواد النساء الذين يقال لهم فى الجهات القبلية: الغوازى، وكان ذلك الرجل متعمما بالكشمير متهيئا بالملابس الفاخرة فقام له وعظمه وحياه وبعد شرب القهوة تبين له أنه من هذه الطوائف، فتأذى من ذلك ولازم التقشف إلى أن مات، وقد أعقب ابنين عطية وعبد الرحمن، مات عطية فى حياته وترك أولادا أحدهم الحاج محمد هو عمدة الناحية ومن أعضاء شورى النواب، وكان عبد الرحمن ناظر قسم بعد أبيه فى زمن الخديو إسماعيل باشا ولم يلبث إلا قليلا ولزم بيته إلى الآن وهو فى ثروة أبيه بل ربما زادت ثروته، وكان من أعضاء شورى النواب أيضا وله ميل إلى لبس الصوف أيضا لكنه مترفه جدا ولهم اعتبار كبير عند الحكام والأهالى، وكان لهم فى ساحل بولاق شونة غلال للمبيع لا تفرغ.
وبقرب هذه القرية قرية يقال لها كوم غريب يسكنها كثير من الأقباط أصحاب الثروة، كان أبو دومة يزعم أنهم ملكه وأن له بيعهم والتصرف فيهم كيف شاء، وكانت هذه عادة قديمة عند الهوارة والعرب ثم بطل ذلك بعد مجئ العائلة المحمدية واشتهار الحرية، وكان النصارى يسمون الواحد من الهوارة والعرب بدويهم، وكان البدوى منهم يدافع عن نصرانيه ويحامى عنه كما يحامى عن ولده، وإذا افتقر الواحد منهم يساعده الآخر، وإذا تزوجت بنت النصرانى يأخذ عليها البدوى شيئا معلوما عندهم، كما يأخذ النصرانى على بنت بدوية، وهذه عادة كثير من بلاد الصعيد كنواحى الهلّة والحريقة وطما ودوير عائد إلى ما فوق جرجا فيتعرض النصرانى لبنت بدوية ليلة البناء، فقبل خروجها من بيت أبيها يقيدها بقيد من الحديد أو نحوه أو يغلق عليها بابا حتى يأخذ من أهل الزوج مبلغا من النقود من ريال إلى عشرين أو أكثر على حسب حال الزوج والزوجة.
وكذا البدوى يفعل مع بنت نصرانية، لكنه يأخذ أكثر مما يأخذ النصرانى، ويكون فعله قهريا بخلاف فعل النصرانى فهو رجاء فى بدويه ومكرمة من أهل الزوج، وكذلك يفعل عبيد أبيها بل يأخذون أكثر مما يأخذ النصرانى، وفى بعض البلاد كدوير عائد لا يتبع الزوجة أحد من رجال أقاربها فى خروجها إلى بيت زوجها ويعدّون ذلك عيبا اتحدت البلدة أو اختلفت فإذا تبعها أحد منهم/طرده أهل الزوج، فإذا وصلت فى زفتها الحافلة إلى بيت البناء أوقفوها خارج الباب حتى يغمسوا رجلها اليمنى ويدها اليمنى فى اللّبن تفاؤلا باليمن والبركة، ثم تدخل فيبنى بها الزوج ويفتضها بأصبعه غالبا بحضرة امرأة تسمى الماشطة، وبعد الصبح يأتى قيم يقال له: كبير العراسة يأخذ الزوج فيجلسه خارج الدار وتجتمع حوله الشبان، ومن يتصابى من الكهول والشيوخ، ويسمون الزوج السلطان والقيم الوزير وهو الذى يتولى الحكم بينهم إلى الغروب فيزفون الزوج إلى بيته ويستمر ذلك سبعة أيام لا يذهب الزوج فيها نهارا إلى بيته فإن ذهب إليه ألزموه ذبح شاة فأعلى.
وإذا أرادوا جلب مأكول أو مشروب من أهل المحل الذى فيه العزومة يرفع أحدهم إلى الوزير ظلامة فيقول إن فلانا نهب منى كذا. ويكنون بالبارود عن الدخان المشروب، وبالزعفران عن الفطير، وبالخرفان عن التمر، وبالعسل عن البوزة، فإن امتنع من إحضار ذلك ضرب ضربا وجيعا بجريد أخضر بهيئة مخصوصة عندهم، وربما كتف بحبل من ليف يسمونه الحرير، وفى كل ليلة يدخل مع الزوج جماعة أو واحد فيتعشى معه وتصب لهم الزوجة الماء فى غسل أيديهم.
وبعض الأزواج يكشف لهم وجهها ليروها، ثم يدفعون لها نقودا تسمى النقطة ويخرجون.
ومن مأكولهم فى هذه الأيام المخروطة وتسمى عندهم السكسكية أو القادوسية، وهى أن يجعل عجين القمح رقاقا ويطوى ويخرط بالسكين مثل فرم الدخان، ويوضع فى قادوس من فخار مخرق خروقا دقيقة، بعد أن يركب على قدر من نحاس مثلا فيه ماء ويؤخذ وصله بأن يسد ما بينهما بنحو عجين سدا محكما يوقد عليه حتى يغلى الماء ويكون له بخار كثير، فإذا وضعت المخروطة فى القادوس وغطيت فإنها تستوى على البخار، ثم إنها تؤكل بالسمن أو العسل أو اللبن أو الجبن وأكثر ما يصنعونها فى أيام الصيف بدلا عن الكنافة.
واعلم أن أراضى تلك الجهات وأغلب بلاد الصعيد إنما تزرع مرة واحدة فى السّنة، فمنها ما يحرث أى يثار بالمحراث ومنها ما يلوّق: أى يغطى بذرها بالملاوق، ويكثر الحرث فى زرع القمح والشعير والعدس والحمص، ويكثر التلويق فى زرع الفول والترمس ونحوهما، ويتعين فى البرسيم ونحوه، فيبذر الحب فى الأرض قبل جفافها ويستر بالملوقة، وهى لوح من الخشب نحو ذراع يثقب فى وسطه ويجعل فيه عصى من الخشب نحو ذراعين ويلوق الرجل فى اليوم نحو فدان، وأجرته نصف قيراط من القمح أو غيره، وهو جزء من أربعة وعشرين جزءا من الإردب ويعبرون عنه الرّفطاو بضم الراء وسكون الفاء فطاء مهملة فألف فواو وأكثر الأجر فى خدمة الزرع تصرف به فلذا يسمونه الرفطاو، والصرفى وهو نصف الرفطاو، والسوقى الذى هو ربع الويبة، ويسمى ذلك بالقدح، والويبة كيلتان، وتسمى الكيلة عندهم مدا صرفيا، والويبة مدا سوقيا، والإردب ست ويبات وهى اثنتا عشرة كيلة.
وأما النقيصة فتختلف بحسب الجهات، ففى بعضها كبلاد طحطا
(1)
هى عشر كيلات أى إردب إلا سدسا، وفى بعضها كبلاد ملوى تطلق على ثمان كيلات، وفى بعضها على سبع كيلات، وأما أجرة المحراث والحراث والبقر فنحو اثنى عشر قرشا ديوانية كل يوم، وأكثر ما يثير المحراث فى اليوم ست دهائب عبارة عن نصف فدان تقريبا وذلك فى الحرث الردّ وأما فى البرش فيثير نحو فدان.
(1)
هى طهطا. انظر: القاموس الجغرافى، ق 2 ج 4/ 143.
وقد تكلمنا على الدهيبة والمرجع والبرش والرد ونحو ذلك فى الكلام على ناحية بنجا، وعند الفراغ من الحرث يصنعون طعاما يسمى الكفارة، والغالب أن يكون من الفطير الرقاق وبعض البلاد يجعلون الرقاق فى قرون البقر، ولبعض بلاد الصعيد اعتناء بتسبيخ القمح والشعير فقط إذا زرع لوقا، وذلك من بعد جفاف الأرض وتحملها أرجل الدواب، بأن يمضى نحو عشرين يوما من البذر إلى قرب إدراك الزرع ولا يربطون البهائم على البرسيم إلا بعد مضى شهر ونصف أو شهرين من زرعه.
وكانوا سابقا يسرحون فيه الخيل خاصة بلا ربط بعد مضى نحو عشرين يوما من بذره. فكل من له فرس يرسلها ترتع حيث شاءت ويرون أن للخيل حقّا فى الزرع، فإذا رآها صاحب الزرع فلا يزيد على طردها عن زرعه ولا ينكر على أربابها، ثم بطل ذلك اليوم، ثم إذا ربطت البهائم على البرسيم فأكثر الناس ينصب عندها بالغيط زرابى من بوص الذرة الطويلة يسمونها بالعزب يبيتون فيها لحراسة البهائم، ويديمون ربط الخيل على البرسيم ليلا ونهارا ولا يروحون ولا يسرحون ولا يركبونها مدة الربيع ويسرحون باقى المواشى والدواب ويروحون بها إلى الزرابى لا إلى البلد.
وأكثر ما تستعمل الزرابى فى بلاد قنا وجرجا وتارة تقيم فيها الخدمة فقط، وتارة يقيم فيها أهل البيت جميعا، ويغلقون بيوتهم فى تلك المدة ويستمر ذلك إلى يبس العود/ واستحقاق الزرع الحصاد، ويرون فى ذلك إصلاحا للبهائم ونموّا للريع من اللبن والسمن، ويقولون إن اللبن يروب فى الغيط أكثر من البيت ويقتنون هناك الدجاج والأوز فيرعى من الحشائش ويقذف باللحم والشحم ويتخذون كلابا ضارية للحراسة لكن أكثرهم لا ينام عليها بل يتناوبون السهر خوف اللصوص مع تقارب العزب وكثرتها حتى كأنها بلدان.
ثم إن عوائد البلاد تختلف عند إدارة الحصاد ففى بعضها يخرجون جميعا لحصاد قبالة، فإذا فرغوا منها سرحوا لغيرها ويرون ذلك أصون للزرع، وبعض البلاد لا يعتبر ذلك بل كل أحد يسرع لغيطه فى أى قبالة بلا حرج عليه، والقبالة طائفة من أطيان البلد لها اسم يخصها وتشتمل على جملة غيطان لجملة أشخاص ويخرج ربّ الزرع أو وكيله، بجماعة من الحصادين على حسب زرعه، فيحصدون من طلوع الشمس إلى وقت العصر، وأجرة الحصاد الواحد قيراط من الإردب وهو ربع ويبة مما يحصد فيه من قمح أو شعير، وقد يعطى من الشعير حزمة من القت يخرج منها نحو القيراط والكثير فى حصد الفول أن يعطى حزمة كذلك، ويسرح وراء الحصادين نساء وأطفال يلتقطون ساقط السنبل وبعض أهل البلاد يتركون لهم ما يلتقطونه، وبعضهم يأخذ منهم ويعطيهم الأجرة، ويجعلون وراء الحصادين رباطا يجعل الحصيد قتّا بربطه بحبال من الحلفاء بعد أن يجعله الحصادون أغمارا وذلك فى القمح والشعير، وأما الفول فيربط بعضه ببعض وتسمى الحزمة منه غمرا، ويسمى حمل البعير منه حملا، ويسمى حمل القمح أو الشعير حلة بكسر الحاء وهى اثنان وثلاثون قتة، وأجرة الجمل وجماله على نقل الحلة إلى المجرنة قتة واحدة يختارها الجمال مما حمله، ويجمع الجمال جميع القت الذى أخذه أجرة ويجعله جرنا صغير يسمى بالدريخة ويدرسه ويذريه، ويقسم بينه وبين ربّ الجمل تارة نصفين وتارة للجمل أكثر مما للجمال على حسب تجهيز الرحل المسمى عندهم بالشاغر، وهو العدة التى توضع على البعير ليتأتى الحمل عليه، وتشتمل على حبل من ليف يسمى الفراط، وحبل آخر يسمى الدائر وعلى خطاطيف من خشب، فإن جهزها الجمال فله نصف المتحصل من أجرة مشاله، وإن جهزها رب الجمل فللجمال الثلث فقط.
والمجرنة محل يتخيره أهل البلد لوضع الجرون فيه للدرس والتذرية، فيضعونها متقاربة مثل دور البلد بحارات وشوارع ويبيت الرجال عندها مدة إقامتها، وهى نحو شهرين، ويدرسونها بآلة من الحديد والخشب تسمى النّورج، يديرها بقرتان أو فرسان، ولكل نورج أربع بقرات وأربعة رجال ينوب اثنان عن اثنين.
وذلك بأن يهدم من حائط الجرن جانب من القش فيلقى حوله على الأرض بعد سدّ شقوقها بنحو تبن، ويسمى ذلك القش الملقى على الأرض هاية، ويركب عليه النورج ويديرها البقر حتى تتكسر العيدان ويسقط الحب من السنبل، ثم تشال الهاية وينزل غيرها، وتغير البقرتان ببقرتين وهكذا حتى يفرغ الجرن ويصير حلقة فارغة الوسط، ويسمى جميع ذلك تكسيرا، ثم تفرش من المكسر هاية على الأرض من الداخل ويدار عليها النورج ويبالغ فى تكسيره حتى ينعم ولا يبقى سنبل ولا أبراج تغطى الحب فتشال الهاية، بأن تجمع فى وسط الجرن وينزل غيرها ويغير البقر وهكذا حتى يفرغ الجرن ويسمى ذلك ردا، وتارة يديمون الدّرس ليلا ونهارا، وتارة نهارا فقط من طلوع الفجر إلى قرب العشاء، وأجرة النورج فى اليوم والليلة مدّ صرفى، وهو قيراطان من الإردب كما مر، وكذا أجرة كل بقرة وكل رجل، فللجميع تسعة أمداد فى اليوم والليلة، ولكن تؤخذ من القرقرة وهى الحب الغلث الذى يتحصل من كناسة ما حول الجرن، وغالب الناس لا يذرى جرنه إلا بعد نزول النقطة ليلة اثنتى عشرة من بؤونة لاعتقادهم أن البركة تنزل حينئذ.
وفى بعض البلاد يصنع ليلة نقل الغلة من المجرنة إلى البيوت طعام يسمى عشاء الجرن يأكل منه من حضر ويوسعون فى مدة التذرية وإدخال الغلال على أنفسهم وعيالهم فى المآكل والملابس ويوفون ديونهم والأموال الميرية، وكذلك عند إدخال الذرة الصيفية أو النيلية، وذلك أنهم بعد رعى البرسيم رأسا وخلفه يزرعون مكانه الذرة الصيفية ويسقونها بالشادوف نحو اثنتى عشرة مرة حتى تستوى وتدرك بعد مكثها مزروعة نحو مائة يوم، ويدخلون غلالها البيوت فى أوائل مسرى، وأرباب الجزائر المنخفضة يزرعونها بعليا أى: لا تحتاج إلى سقى، وبعد إدخالها يخرجون لزرع الذرة النيلية الطويلة والشامية فتمكث نحو مائة يوم أيضا، وقد يزرعون مكانها برسيما أو شعيرا أو فولا أو عدسا أو حلبة ولا يزرع مكانها القمح إلا نادرا، وتزرع البامية والملوخية، وأما القطن فزرعه قليل فى بلاد الصعيد ولا يزرع بها الأرز أصلا ولا عادة لهم بزرع القلقاس ونحوه، وبالجملة فلكل جهة/زرع يعتاد فيها.
أم دياب
اسم لتل شرقى مدينة الطينة على بعد أربعة عشر كيلومتر وهو على ساحل البحر، فلذا يغطيه البحر عند هيجانه وينكشف عنه عند هدئه فيرى فيه آثار من أحجار وأعمدة عتيقة، وفى داخل البحر على بعد ستين مترا ترى آثار مبان يظهر أنها آثار المدينة القديمة التى سماها بلين فى مؤلفاته جره.
أم دينار
قرية قديمة صغيرة من قسم الجيزة فى جنوب قرية نكل بنحو ثلاثة آلاف متر وفى شرقى الأخصاص بنحو ألف متر، وهى واقعة فوق الجسر المعروف بالجسر الأسود، وأغلب أبنيتها بالآجر، وفيها قليل غرف وجامع بمناره، وأكثر أهلها مسلمون، ومنهم نسّاجون وليس لها سوق وفيها نخيل كثير، ويقال: إن هاجر أم سيدنا إسماعيل عليه السلام من هذه القرية، ولكن الظاهر أن هذا غلط وتحريف عن أم دنين.
ففى خطط المقريزى عند الكلام على فضائل مصر قال يزيد بن حبيب: إن قرية هاجر هى باق التى عندها أم دنين (قلت) وأم دنين هى التى محلها الآن أولاد عنان بالطرف الشمالى الغربى لقاهرة مصر عند قنطرة الليمون انتهى.
وعند أم دينار فى الجسر الأسود قناطر صرف مياه الصعيد ويصاد عندها السمك بكثرة زمن فتح القناطر، وممن تربى من هذه القرية فى ظل العائلة المحمدية حضرة خلف الله أفندى قبودان، انتظم فى سلك العساكر البحرية وهو فى سن المراهقة سنة إحدى وأربعين ومائتين وألف فتعلم فن البحرية، ثم جعل قبيارجيا فى صنعة تركيب الحبال وخرزها وتركيب الصوارى ونسج البليطوه من الليف ونحو ذلك، ثم تعين فى طاقم قرويت حربى يسمى شاهيد جهاد كانت اشترته حكومة مصر من حكومة الإنكليز، فسافر فيه إلى حرب موره مع سر عسكر العزيز إبراهيم باشا، ثم عاد وسافر فيه ثانيا مشحونا بتعيينات ومهمات حربية، ولما صار إنشاء قبوع نمرة واحد كان من ضمن عسكره وكانوا خمسة وأربعين ممن لهم معرفة بصنعة القبيارجية، ثم ترقى إلى درجة بلكنجى فوق القبيارجى بدرجتين، فسافر فيه فى حرب عكا وترقى فيه إلى رتبة باش ريس ثالث ثم إلى باش ريس ثانى، ثم فى سنة إحدى وخمسين جعل باش ريس أول نمرة واحد لأشغال الترسانة بورشة الأورمة، وهى صنعة جر الأثقال وإخراج المراكب إلى البر وإنزالها فى البحر ونحو ذلك، ولما صار نزول القبوع نمرة أحد عشر إلى البحر كان فى تركيب أورمته، وهى طقم المركب من حبال وصوارى وقلوع ونحوها.
وفى سنة ست وستين أخذ رتبة يوزباشى، وفى سنة إحدى وسبعين أخذ رتبة صولقول، ثم بعد نحو سنتين أخذ رتبة صاغقول أغاسى وجعل ملاحظ أشغال ورشة الأورمة، ولما أنشأ الخديو إسماعيل باشا فرويت وابور لطيف ووابور الصاعقة باشر تركيب أورمتها فجاءت فى غاية الإتقان وأنعم عليه برتبة البيكباشى، وذلك فى سنة خمس وثمانين كما أخبر بجميع ذلك عن نفسه وهو على ذلك إلى الآن.
أمون
بلدة كانت قديما فى صحراء سيتة المعروفة بصحراء الشيهات ووادى هبيب وهو وادى النطرون كما سيأتى، ويغلب على الظن أن أمون هى مدينة سيوة من بلاد الواحات وستأتى فى حرف السين وفى هذا المحل قتل المتبربرون أربعين من الرهبان على ما ذكره جيلنسكى ودفنوا فى مغارة هناك بقرب الدير.
وأما جبل أمون فقد اتفق الشريف الإدريسى وأبو الفدا على أنه على شاطئ النيل وسماه كل منهما جبل طليمون، لكن جعله الأول على الشاطئ الغربى ووافقه على ذلك ابن الوردى، وجعله الثانى وادى الطير الذى على الشاطئ الشرقى القريب من أنصنا، وحقق بعض الجغرافيين أن ما قاله الإدريسى هو الصواب، ووافق خليل الظاهرى أبا الفداء وقال:
إن جبل طليمون وجبل الطير واحد، وقال أبو صلاح إنهما جبلان لا جبل واحد وإن جبل طليمون طوله ثلاثة برد أو ستة وثلاثون ميلا على الشاطئ الشرقى من النيل، بقرب دير صادر الكائن فى أرض شطب قبلى أسيوط، وفى رأس هذا الجبل كنيسة مبنية من الحجر باسم العذراء البتول، ولها عيد فى الحادى والعشرين من شهر طوبة يجتمع فيه خلق كثيرون، وجبل الطير فى مقابلة بيهو، وفيه صليبان من حجر أحمر أحدهما أكبر من الآخر.
ونقل المقريزى عن القضاعى أن جبال الصعيد الواقعة على النيل ثلاثة، وهى جبل الكهف أو جبل الكف، وجبل طليمون، وجبل زناخير الساحرة، ووادى بوقير فى جبل من مديرية الأشمونين وفيه فى يوم معلوم من كل سنة تجتمع الطيور المسماة بوقير إلى آخر ما قال، وحقق كترمير أن جبل طليمون هو جبل زناخير الساحرة، وأنه على ما ذكر القضاعى على الشاطئ الشرقى من النيل بمديرية أسيوط وأن الدير الموضوع فى مقابلته من البر الثانى يسمى دير أبى صادر، وذكر أبو صلاح أن جثة هذا الراهب نقلت إلى ناحية شطب فى اليوم الخامس من شهر هاتور وحقق كترمير/أن أبا صادر لم يكن اسما له بل اسمه تيودور.
وذكر المقريزى أن ديرا بقرب أسيوط يسمى بهذا الاسم، وذكر أبو صلاح أن بقرب أسيوط على الشاطئ الغربى من النيل فى رأس الجبل ديرا باسم الجبل سوير منحوتا فى الصخر، وفيه صهريج يسع ألف قربة يملأ كل سنة من النيل، وفيه ثلاثون من الرهبان وطاحون وعدة أفران للخبز ومعصرة للزيت وبأسفله بستان فيه أنواع من الخضراوات وأشجار شتى كالزيتون والرمان والنخل، ويتحصل منه فى السنة شئ كثير يكفى مع ما يتحصل من الإحسانات لوازم الرهبان الذين كانوا لا يطلب منهم خراج ولا أموال، ثم فى زمن الأكراد رتب عليهم ذلك كما رتب على باقى بساتين الديورة.
وأما جبل الطير فهو فى مواجهة البيهو وسملوط ولم يزل مسمى بهذا الاسم إلى الآن، وهو على ما ذكره السياحون يمتد على شاطئ النيل نحو فرسخ فى اعتدال كالحائط وفى أعلاه دير البكرة، وأما دير الكف أو الكهف فهو فى الجبل الممتد فى الشرق أيضا بقرب أنصنا.
ترجمة خليل الظاهرى
ولنذكر لك ترجمة بعض من تقدم ذكرهم هنا فنقول. أما خليل الظاهرى فعلى ما وجدته فى كتاب الأنيس المفيد لدساسى، هو ابن شاهين صاحب كتاب كشف الممالك فى بيان الطرق والمسالك، كان والده شاهين من مماليك الملك الظاهر سيف الدين أبى الفتح من سلاطين الدولة الجركسية المتوفى سنة أربع وعشرين وثمانمائة هجرية بعد أن ملك ثلاثة أشهر.
وقد تكلم المقريزى فى كتابة السلوك لمعرفة دول الملوك فى سنة إحدى عشرة وثمانمائة وسنة اثنتى عشرة وثمانمائة على شاهين هذا وقال: إنه كان دويدار الأمير شيخ، وفى السابع من رجب سنة تسع وثلاثين وثمانمائة خلع السلطان برسباى على الأمير غرس الدين خليل بن شاهين خلعة، وكان إذ ذاك حاكم الإسكندرية وتعين على دار الضرب بالقاهرة، وفى رجب من سنة أربعين وثمانمائة تقلد الوزارة وصار أمير الحج، وفى تاسع عشر شوّال خرج إلى بركة الحج بالموكب المعتاد وسافر منها فى الثالث والعشرين منه ولم يزل فى وظيفة دار الضرب
وأقام أخاه فيها مدة غيابه، وفى الخامس من ربيع سنة إحدى وأربعين خلع عليه خلعة وجعل حاكما على الكرك فمضى إليها من وقته، وفى سنة اثنتين وأربعين فى جمادى الثانية نقله السلطان جقمق إلى ولاية صفد وصار أميرا كبيرا، وفى شهر القعدة من تلك السنة جعل واليا على ملاطيا
(1)
، وفى شهر ربيع الأول من سنة ثلاث وأربعين صار أمير ألف وانتقل إلى دمشق بدل الأمير طنبغا
(2)
.
وفى مقدمة كتاب كشف الممالك للمترجم ما نصه: يقول العبد الفقير إلى الله تعالى خليل بن شاهين الظاهرى لطف الله به، إنى صنفت كتابا وسميته كشف الممالك وبيان الطرق والمسالك يشتمل على مجلدين ضخمين يشتملان على أربعين بابا، جملة ذلك ستون كراسة فى قطع الكامل معتمدا فى ذلك على ما شاهده العيان، أو تحققته من نقل الثقات الأعيان الذين يرتكن إليهم غاية الارتكان، وعلى ما اطلعت عليه من كتب المتقدمين وما وجدته منقولا عن المشايخ المعتبرين، ثم رأيت ذلك المصنف مطولا فانتخبت من ملخصه هذا المجلد وسميته (زبدة كشف الممالك وبيان الطرق والمسالك) وجعلته اثنى عشر بابا واختصرت الكلام فيه لاشتغالى بغيره من المصنفات انتهى.
وفى قاموس الجغرافية أن جلينسكى عالم بروتستانى ولد فى مدينة دتريك من بلاد البروسيا سنة ألف وستمائة وستين من الميلاد، ومات فى مدينة برلين سنة ألف وسبعمائة وإحدى وأربعين، وله مؤلفات وخلف ابنا اشتغل باللغة القبطية، وله بحث وتفتيش على الأشياء العتيقة المصرية انتهى.
(1)
يقصد: ملطية. انظر: ياقوت الحموى: معجم البلدان، ج 5/ 192 - 193، ط. دار صادر، بيروت.
(2)
الصحيح: الأمير ألطنبغا الشريفى. السلوك، ج 4 ق 3/ 1172.
إنبابة
بكسر الهمزة وسكون النون وموحدتين بينهما ألف وفى آخره هاء التأنيث، وربما قيل لها أنبوبة على وزن أفعولة وكأنه لما يزرع فيها من القصب فإن الأنبوبة ما بين كل عقدتين من القصب، قاله فى خلاصة الأثر.
وهى قرية فى شمال الجيزة على الشاطئ الغربى للنيل تجاه رملة بولاق مصر مركبة من أربعة كفور، كفر كردك، وكفر الشوام، وكفر تاج الدول، وكفر سيدى إسماعيل الإنبابى، وأبنيتها أعلى من أبنية الأرياف، وبها سوق يشتمل على دكاكين، وبها وكالة وقهاوى ومصابغ وأرحية تديرها الحيوانات وطاحونة بخارية بجهتها الغربية للخواجة كونش، وأكثر أهلها أرباب حرف لا سيما فى المطابع فإن أكثر من بمطابع مصر منها، ومنها نوتية فى المراكب وصيادون للسمك وعاملون فى البساتين وصباغون وحدادون وجزارون ونجارون وخضرية وإسكافية وتجار غلال وغير ذلك، وبها أنوال لنسج البشاكير والفوط والمقاطع الشامية، وبها جامع لسيدى إسماعيل بن يوسف بن إسماعيل الإنبابى له مئذنة وبه مقامه مشهور يزار ويعمل له مولد كل سنة ليلة النقطة يجتمع فيه خلق كثيرون، وفيها قصور لبعض الأمراء وبساتين/ تشتمل على أنواع الأشجار.
وفيها كما فى الجبرتى بستان أنشأه الأمير سليمان أغا السلحدار، وجعل له سورا وبنى به قصرا وسواقى، وأخذ الأحجار من الوكائل والدور التى هدمها من بولاق سنة ثلاث عشرة ومائتين وألف، وبها محل إقامة ناظر القسم وفى جهتها البحرية عصارة قصب بآلة بخارية للدائرة السنية، وبجوار العصارة من الشمال الشرقى محطة للسكة الحديد وبجوار المحطة وابور لسقى مزروعات القصب والقطن، وبالقرب من جهتها القبلية المحطة القديمة وورشة لعمل عربات السكة الحديد، ولها غير سوقها الدائم سوق مشهور كل يوم سبت يباع فيه المواشى وخلافها.
وهى من منابع الأفاضل والعلماء وإليها ينسب كما فى خلاصة الأثر محمد بن حجازى بن أحمد بن محمد الرّقباوى بفتح الراء والقاف الإنبابى، أحد شعراء العصر وأدباء الدهر، ولد بإنبابة ونشأ بمصر واشتغل برهة من الزمان بعلوم الأدب حتى فاق أقرانه فنظم ونثر ورحل إلى الحرمين وتوطنهما مدة ومدح الشريف زيد بن محسن بمدائح كثيرة بليغة، وكان يعطيه العطايا الجمة وجعل له فى كل سنة مرتبا ومعلوما. ثم توجه إلى اليمن فمدح أئمة بنى القاسم وانثالت عليه جوائزهم، وكان له اختصاص بمحمد بن الحسن وله فيه مدائح كثيرة وله باليمن شهرة عظيمة.
ومن شعره الشائع قصيدته التى عارض بها حائية ابن النحاس التى مطلعها:
بات ساجى الطرف والشوق يلح
…
والدجى إن يمض جنح يأت جنح
مدح بها الشريف زيد بن محسن ومستهلها:
كل صبّ ماله فى الخدّ سفح
…
لم يرق فى عينه نجد وسفح
إنما الدّمع دليل ظاهر
…
إن يكن للحب متن فهو شرح
ولقد بلغتنى كل المنى
…
بأحاديث لها فى النفس رشح
إلى أن قال:
نعمة منك علينا لم تزل
…
يقتفى آثارها فوز وربح
دمت يا شمس الهدى ما ابتسمت
…
بك أفواه الدجى وافتر صبح
ما همت عين الغوادى وبدى
…
بك فى وجه الزمان الغض رشح
وكانت وفاته فى سنة ثمان وسبعين وألف بمدينة أبى عريش من اليمن، وقد انتسب إلى إنبابة جماعة من المتأخرين، ومن أشهر المنسوبين إليها الأستاذ الشيخ إسماعيل بن يوسف بن إسماعيل الإنبابى انتهى.
ترجمة شيخ الإسلام الشيخ الإنبابى
وإليها ينسب أيضا العلامة الفاضل الشيخ محمد بن محمد الإنبابى الشافعى شيخ الجامع الأزهر الآن، ولد بمصر القاهرة سنة أربعين من القرن الثالث عشر من الهجرة وحفظ القرآن والمتون بالجامع الأزهر، وفى سنة ثلاث وخمسين شرع فى تلقى العلم واجتهد فى الطلب فأخذ عن الشيخ إبراهيم البيجورى شيخ الجامع الأزهر، والشيخ إبراهيم السقاء، والشيخ مصطفى البولاقى وأضرابهم، وشغل ليله ونهاره بالمطالعة حتى فاق أقرانه، وتمكن تمكنا زائدا وتصدر للتدريس فى سنة سبع وستين، فابتدأ بتدريس قطر الندى فى علم النحو، ثم قرأ الشيخ خالد على الآجرومية بحاشية أبى النجا وعمل عليها تقريرا نفيسا، ثم ترقى فى كبار الكتب فقرأ جميعها أو أكثرها وكلما قرأ كتابا عمل عليه تقريرا، فله تقرير على حاشية العطار على الأزهرية، وتقرير على حاشية السجاعى على شرح القطر، وتقرير على حاشية الأمير على شرح الشذور، وتقرير على حاشية السجاعى على شرح ابن عقيل، وتقرير على حاشية الصبان على
شرح الأشمونى، جميعها فى علم النحو، كل تقرير يقرب من أصله، وله تقرير على التجريد محشى مختصر السعد، وتقرير على جمع الجوامع، وتقرير على حاشية البيجورى على متن السلم، وتقرير على آداب البحث وتقرير على حواشى السمرقندية، وتقرير على مختصر السنوسى، وحاشية على رسالة الصبان فى علم البيان، وحاشية على مقدمة القسطلانى شرح صحيح البخارى، وحاشية على رسالة الدردير فى البيان، وتقرير على حاشية البرماوى على شرح ابن قاسم فى فقه الشافعى، وفتاوى فقهية وجملة رسائل ورسالتان فى البسملة صغرى وكبرى، ورسالتان فى زيد أسد صغرى وكبرى، ورسالة فى تأديب الأطفال، ورسالة فى علم الوضع، ورسالة فيمن حفظ حجة على من لم يحفظ، ورسالة فى شرح الأبيات العشرة التى هى والباء بعد الاختصاص يكثر الخ، ورسالة فى إفادة التعريف بالقصر فى نحو الحمد لله، ورسالة فى مداواة الطاعون، ورسالة فى بيان الربا وأقسامه.
وبالجملة فقد جمع بين العلم والعمل والدين والدنيا والصلاح والتقوى ومراقبة عالم/ السر والنجوى، وقد تربى على يديه جم غفير متصدرون للتدريس بالأزهر، من أجلهم المرحوم الشيخ حسن الخفاجى الدمياطى قرأ الأشمونى وغيره، وتوفى فى حال قراءته لمختصر السعد فى أواخر سنة اثنتين وتسعين، وكان على قدم شيخه فى العلم والتقوى، وإنما نسب المترجم لإنبابة لأن والده منها وسكن القاهرة فكان من أكبر تجارها، وفى الغورية وكالة تنسب إليه لشحنه إياها بتجارة قماش القطن وقد توفى والده المذكور من نحو عشر سنين، وكان على قدم من الصلاح وأداء الفرائض فكان يحصر أمواله كل سنة ويخرج زكاتها.
مطلب كيفية صناعة الترمس وغير ذلك
ولهذه البلدة أيضا شهرة بعمل الزلابية وتحلية الترمس وهو يزرع كثيرا ببلاد مصر ويؤكل بعد تحليته، فأوّلا يوضع فى مكاتل من خوص النخل ونحوه ويلقى فى البحر مربوطا بحبل ثابت فى البحر فيمكث كذلك نحو ثلاثة أيام حتى تذهب أكثر مرارته، ثم يصلق لتزول منه المرارة بالمرة ويملح ويؤكل، وأكثر باعته فى مصر وأتباعها من أهالى هذه القرية، وقد ذكره هيرودوط وديودور وغيرهما فى كتبهم، وكان قد منع أكله الحاكم بأمر الله مع جملة أشياء منع منها.
قال المقريزى فى خططه: وفى المحرم سنة خمس وتسعين وثلاثمائة قرئ سجل فى الجامع بمصر والقاهرة والجزيرة بأن يلبس اليهود والنصارى الغيار، وغيارهم السواد غيار العاصين العباسيين، وأن يشدو الزنار وفيه فحش فى حق أبى بكر وعمر رضي الله عنهما.
وقرئ سجل آخر فيه منع الناس من أكل الملوخية التى كانت محببة لمعاوية بن أبى سفيان، ومن أكل البقلة المسماة بالجرجير المحببة إلى عائشة رضي الله عنها، ومن أكل المتوكلية المنسوبة إلى المتوكل.
وقرئ أيضا سجل بالمنع من عمل الفقاع وبيعه فى الأسواق لما يؤثر عن علىّ رضي الله عنه من كراهته شرب الفقاع.
ثم فى سنة تسع وتسعين وثلاثمائة فى ربيع الآخر قرئ سجل بأن لا يحمل شئ من النبيذ والمزر ولا يتظاهر به، ولا بشئ من الفقاع والدلينس والسمك الذى لا قشر له والترمس العفن.
وقال ابن خلكان فى ترجمة الحاكم: إنه نهى عن بيع الفقاع والملوخية وعما يتخذ من الترمس من الكبب التى تخلط بالفقاع، وفى كتاب مورد اللطافة لجمال الدين أبى المحاسن بن تغرى بردى المؤلف فى خصوص ملوك مصر، أن الحاكم منع طبخ الملوخية وزرعها فى جميع مملكته، وكل من خالف فجزاؤه الصلب، ومنع أيضا أكل الجرجير والترمس والسمك الذى لا قشر له وكبب اللحم والفقاع.
وفى القاموس: فقاع كرمان هو الذى يشرب سمى به لما يرتفع فى رأسه من الزبد وفى صحاح الجوهرى الفقاع الذى يشرب والفقاقيع النفخات التى ترتفع فوق الماء كالقوار.
وذكر المقريزى فى خططه نوعين من الشراب منعهما الحاكم أحدهما المزر والثانى الفقاع، وقال فى موضع آخر: المزر يعمل من الحنطة، وفى القاموس المزر نبيذ الذرة والشعير ويظهر من كلام ابن البيطار وديسقوريدس: أن الفقاع معرب مزر اليونانية، وقال ديسقوريدس أيضا فى ترجمة زيتس هو الفقاع يعمل من الشعير يدر البول ويضر بالكلى والأعصاب وحجب الدماغ ويولد نفخا وكيموسات رديئة، وإذا نقع فيه العاج سهل عمله وعلاجه، وأما الشراب الذى يقال له قرما المعمول من الشعير المستعمل بدل الخمر فهو مصدع ردئ، الكيموس ردئ للأعصاب ويعمل من الحنطة مثل ما يعمل فى غربى البلاد التى يقال لها ابيريا، والبلاد التى يقال لها بريطانيا، قال دساسى لم يذكر فى هذه الترجمة كلمة مزر ولا بيان ترجمتها وقد تعرض لها ابن البيطار فقال عن ابن مأسوية: إن الفقاع أربعة أنواع الأول يعمل من دقيق الشعير يضاف إليه الفلفل والسنبل والقرنفل والسذاب والكرفس.
والثانى يعمل من الخبز والكرفس والنعناع.
والثالث من الدقيق والعسل.
والرابع من الدقيق والسكر.
ونقل ابن البيطار أيضا من كتاب المرشد إلى جواهر الأغذية ما نصه: قال التميمى فى المرشد أما الفقاع فهو على ضروب. منه: ما يتخذ من دقيق الشعير المنبت المجفف المطحون المخمر بالنعناع والسذاب والطرخون وورق الأترج والفلفل، وهو حار يابس كثير التعفن مفسد للمعدة يولد النفخ والقراقر مضر بعصب الدماغ لأنه يملأ الدماغ أبخرة غليظة حارة بعيدة الانحلال، وربما أحدث بحدته وعفونته إسهالا، وللمدمن عليه عللا فى المثانة وحرقة للبول، ومنه المتخذ من الخبز السميذ المحكم الصنعة والكرفس ودقيق الحنطة والشعير المنبت وهو أقل ضررا من الأول وأوفق للمحرورين، فمن أحب من معتدلى المزاج أن يتعاطاه لإزالة نفخه ورياحه وقراقره، ويفيده حرارة معتدلة وتقوية للمعدة فليجعل فيه بعض الأفاوية العطرية المطيبة للمعدة المقوية لها المنشفة لرطوبتها، مثل السنبل والمصطكى وقرفة الطيب والدار فلفل والمسك وشئ من القاقلا والبسباسة والقرنفل، وليكن جملة ما يسحق من هذه الأفاوية لكل عشرين كوزا من/كيزان الفقاع الضارية مثقال واحد زنة درهمين، فإن أراد مريد أن يفيد لذاذة فليجعل فى كل كوز قلبا من قلوب الطرخون وأوقيتين من شجرة الأترج مع يسير من سدّاب ويسير من نعناع، وقد يتخذ منه ساذجا بماء خبز السميذ المحكم الصنعة مروّقا ونقيعة المسك والمصطكى فقط مع قلب نعناع فى كل كوز وقلب طرخون فقط
وفى المرشد أيضا فى المزر ما نصه: فأما ما يتخذ من الحنطة والشعير والجاورس المنبتة من الشراب المسكر المسمى فى مصر بالمزر، فإنها أنبذة تسكر إسكارا شديدا غير أنها تبعد الإنسان عن قوته ومنافعه بعدا شديدا، وقد تحدث شيئا من الفرح والنشاط والطرب وتطيب النفس، فإذا أكثر منها أثارت الغثيان والقئ وكثرة الرياح أه.
ويعرف الفقاع الآن بالبوزة: وهى كلمة فارسية وكيفية عملها فى مصر أن يؤخذ خبز القمح والشعير المخلوط بكثير من الخميرة ويفتت فى إناء فيه ماء ويضاف إليه دقيق الشعير أو الحنطة المنبت ويترك حتى يتخمر، وأما السوبيا فتعمل من الأرز بأن يوقد عليه فى القدر حتى يخرج نشاؤه فى الماء وينعقد ثم يخلط به الماء والعسل أو السكر ويستعمل شربا، وقد تكلم الشيخ عبد اللطيف البغدادى على الدلينس وقال: إنه صدف صغير أكبر من ظفر الإنسان بداخله مادة لزجة رطبة بيضاء بها نقط سود شنيعة المنظر يقال: إن فيها ملوحة لطيفة ولأكلها لذة.
ودلينس كلمة مصرية حرفها اللاّتينيون والإفرنج إلى طلين أو طلينة وفى ترجمة ديسقوريدس لكلمة طلينة قال: وأهل الشام يسمونه الطلينس، وهو صنف من الصدف صغير العظم إذا أكل طريا لين البطن ولا سيما مرقه، وما كان منه عتيقا إذا أحرق وخلط بقطران وسحق وقطر على جفن لم يدع الشعر ينبت بالعين، ومرق الصنف من ذوات الصدف الذى يقال له خثما، وسائر أصناف ذوات الصدف الصغار يسهل البطن إذا طبخ مع يسير من الماء، وكذا مرقها إذا استعمل متحسى مع شراب.
وقال ابن البيطار فى مفرداته: إن الطلينة صنف من الصدف صغار تسميه أهل الشام طلينس وأهل مصر دلينس يؤتدم به مملوحا بالخبز، وقد ذكرته مع الصدف فى حرف الصاد انتهى.
وفى الجبرتى
(1)
من حوادث سنة ألف ومائتين وثلاث عشرة: أنه كان بهذه الناحية الوقعة الشهيرة بين الفرنسيس والمصريين وحاصلها أنه لما انهزم مراد بيك بعد وقعة فوّة
(1)
انظر الجبرتى 3/ 2 وما بعدها ط الشرفية القاهرة سنة 1322 هـ.
والرحمانية المبسوطة هناك، ووصل خبر ذلك إلى مصر اشتد انزعاج الناس وركب إبراهيم بيك إلى ساحل بولاق وحضر الباشا والعلماء ورؤوس الناس وأعملوا رأيهم فى عمل متاريس من بولاق إلى شبرى، ويتولى الإقامة ببولاق إبراهيم بيك وكشافه ومماليكه، وكان العلماء عند توجه مراد بيك يجتمعون بالأزهر كل يوم ويقرءون البخارى وغيره من الدعوات، وكذا مشايخ فقراء الأحمدية والرفاعية والبراهمة والقادرية والسعدية وغيرهم من الطوائف وأرباب الأشائر ويعملون مجالس للاستغاثات وأطفال المكاتب يذكرون الاسم اللطيف وغيره من الأسماء، وحضر مراد بيك إلى بر إنبابة وشرع فى عمل متاريس هناك ممتدة إلى بشتيل، وتولى ذلك هو وصناجقه وأمراؤه وجماعة من خشداشيته، واحتفل بترتيب ذلك وتنظيمه بنفسه هو وعلى باشا ونصوح باشا، وأحضروا المراكب الكبار التى أنشأها بالجيزة وأوقفها على ساحل إنبابة وشحنها بالعساكر والمدافع وصار البر الغربى والشرقى مملوءين بالمدافع والعساكر والمتاريس والخيالة والمشاة، ومع ذلك فقلوب الأمراء لم تطمئن بذلك فإنهم من حين وصول الخبر من إسكندرية شرعوا فى نقل أمتعتهم من البيوت الكبار المشهورة إلى البيوت الصغار التى لا يعرفها أحد، واستمروا طول الليالى ينقلون الأمتعة ويوزعونها عند معارفهم وثقاتهم وأرسلوا البعض منها لبلاد الأرياف، وأخذوا أيضا فى تشهيل الأحمال واستحضار الدواب للارتحال، فلما رأى أهل البلدة منهم ذلك داخلهم الخوف الكثير والفزع واستعد الأغنياء وأولوا المقدرة للهروب، ولولا أن الأمراء منعوهم من ذلك لما بقى بمصر منهم أحد، وفى يوم الثلاثاء ثانى يوم نادوا بالنفير العام وخروج الناس للمتاريس وكرروا المناداة بذلك كل يوم، فأغلق الناس الدكاكين والأسواق وحضر الجميع لبربولاق، فكانت كل طائفة من طوائف أهل الصناعة يجمعون الدراهم من بعضهم وينصبون خياما أو يجلسون فى مكان خرب أو مسجد ويرتبون فيما يصرف عليهم ما يحتاجون له من الدراهم التى جمعوها، وبعض الناس يتطوع بالإنفاق على البعض الآخر، ومنهم من يجهز جماعة من المغاربة أو الشوام بالسلاح
والأكل وغير ذلك، بحيث إن جميعهم بذلوا وسعهم وفعلوا ما فى قوتهم وطاقتهم، وسمحت نفوسهم بإنفاق أموالهم فلم يشح فى ذلك الوقت أحد بشئ يملكه ولكن لم يسعفهم الدهر، وخرجت الفقراء وأرباب الأشائر بالطبول والزمور والأعلام والكؤوسات وهم يضجون ويصيحون ويذكرون بأذكار مختلفة/وصعد السيد عمر أفندى النقيب إلى القلعة، فأنزل منها بيرقا كبيرا تسميه العامة البيرق النبوى، فنشره بين يديه من القلعة إلى بولاق وأمامه وحوله ألوف من العامة بالنبابيت والعصى، يهللون ويكبرون ويكثرون من الصياح، وأما مصر فإنها بقيت خالية الطرق، ما تجد بها أحدا سوى النساء فى البيوت والصغار وضعفاء الرجال الذين لا يقدرون على الحركة، والأسواق مصفرة والطرق مجفرة عن عدم الكنس والرش، وغلا سعر البارود والرصاص بحيث بيع رطل البارود بستين نصفا، وغلا السلاح وقل وجوده وجلس المشايخ والعلماء بزاوية على بيك ببولاق يدعون ويبتهلون إلى الله تعالى بالنصر، وأقام غيرهم من الرعايا بعضهم بالبيوت وبعضهم بالزوايا والبعض بالخيام.
ومحصل الأمر أن جميع من بمصر من الرجال تحول إلى بولاق، وأقام بها من حين نصب إبراهيم بيك العرضى هناك، إلا القليل من الناس الذين لا يجدون لهم مأوى ولا مكانا فيرجعون إلى بيوتهم يبيتون بها ثم يصبحون إلى بولاق، وأرسل إبراهيم بيك الى العرب المجاورة لمصر ورسم لهم أن يكونوا فى المقدمة بنواحى شبرى وما والاها، وكذلك اجتمع عند مراد بيك الكثير من عرب البحيرة والجيزة والصعيد، وفى كل يوم يتزايد الجمع ويعظم الهول ويضيق الحال بالفقراء الذين يحصلون أقواتهم يوما فيوما، لتعطل الأسباب واجتماع الناس كلهم فى صعيد واحد وانقطاع الطريق وتعدى الناس بعضهم على بعض لعدم التفات الحكام واشتغالهم بمادهمهم.
أما بلاد الأرياف فإنها قامت على ساق يقتل بعضهم بعضا وكذلك العرب أغارت على الأطراف والنواحى، وصار قطر مصر من أوّله إلى آخره فى قتل ونهب وإخافة طريق وقيام شر وإغارة على الأموال وإفساد مزارع وغير ذلك مما لا يحصى، وطلب أمراء مصر التجار من الإفرنج فحبسوا بعضهم بالقلعة وبعضهم بأماكن الأمراء وصاروا يفتشون فى محلات الإفرنج على الأسلحة وغيرها، وكذا يفتشون بيوت النصارى والشوام والأروام والكنائس والأديرة والعوام لا ترضى إلا أن يقتلوا النصارى واليهود وتمنعهم الحكام عنهم، ولولا ذلك المنع لقتلتهم العامة فى وقت الفتنة، ثم فى كل يوم تكثر الإشاعة بقرب الفرنسيس إلى مصر وتختلف الناس فى الجهة التى يقصدون المجئ منها فمنهم يقول: إنهم واصلون من البر الغربى، ومنهم من يقول: بل يأتون من الشرقى، ومنهم من يقول: يأتون من الجهتين، هذا وليس لأحد من أمراء العسكر همة أن يبعث جاسوسا أو طليعة تناوشهم القتال قبل دخولهم وقربهم من مصر، بل كل من إبراهيم بيك ومراد بيك جمع عسكره ومكث بمكانه لا ينتقل عنه ينتظر ما يفعل بهم، وليس ثمّ قلعة ولا حصن ولا معقل وهذا من سوء التدبير وإهمال أمر العدو.
ولما كان يوم الجمعة سادس شهر صفر وصل الفرنسيس إلى الجسر الأسود وأصبح يوم السبت فوصلوا إلى أم دينار، وعندها اجتمع العالم العظيم من الجند والرعايا والفلاحين المجاورة بلادهم لمصر، لكن الأجناد متنافرة قلوبهم منحلة عزائمهم مختلفة آراؤهم حريصون على حياتهم وتنعمهم ورفاهيتهم، مغترون بجمعهم محتقرون شأن عدوّهم مرتبكون فى رؤيتهم مغمورون فى غفلاتهم، وقد كان الظن بالفرنسيس أن يأتوا من البرين بل أشيع فى عرضى إبراهيم بيك أنهم قادمون من الجهتين فلم يأتوا إلا من البر الغربى.
ولما كان وقت القائلة ركب جماعة من العسكر الذين فى البر الغربى وتقدموا إلى ناحية بشتيل، وهى بلدة مجاورة لإنبابة فتقاتلوا مع مقدمة الفرنسيس فكروا عليهم بالخيول فضربهم الفرنسيس ببنادقهم المتتابعة الرمى، وقتل أيوب بيك الدفتردار وعبد الله كاشف الجرفى وعدد كبير من كشاف محمد بيك الألفى ومماليكه، وكانت مقدمة الفرنسيس نحو ستة آلاف وكبيرهم الوزير الذى ولى على الصعيد بعد تملكهم.
وأما بونابارت الكبير فإنه لم يشاهد الوقعة بل حضر بعد الهزيمة وكان بعيدا عن هؤلاء بكثير، ولما قرب طابور الفرنسيس من متاريس مراد بيك ترامى الفريقان بالمدافع، وكذلك العساكر المحاربون المصريون، وحضر عدة وافرة من عساكر الأرنؤود من دمياط، وطلعوا إلى إنبابة وانضموا إلى المشاة وقاتلوا معهم فى المتاريس، فلما عاين وسمع عسكر البر الشرقى القتال، ضج العامة والغوغاء من الرعية وأخلاط الناس بالصياح ورفع الأصوات بقولهم:
يا رب ويا لطيف ويا رجال الله ونحو ذلك، وكأنهم يقاتلون ويحاربون بصياحهم فكان العقلاء من الناس يصرخون عليهم ويأمرونهم بترك ذلك ويقولون لهم: إن الرسول والصحابة والمجاهدين إنما كانوا يقاتلون بالسيف والحراب وضرب الرقاب، لا برفع الأصوات والصراخ والنباح فلا يسمعون ولا يرجعون عما هم فيه، وركب طائفة كبيرة من الأمراء والأجناد من العرضى الشرقى، ومنهم إبراهيم بيك الوالى وشرعوا فى التعدية إلى البر الغربى فتزاحموا على المعادى لكون التعدية من محل واحد والمراكب/قليلة جدا فلم يصلوا إلى البر الآخر حتى وقعت الهزيمة على المحاربين المصريين واشتد هبوب الريح واضطربت أمواج البحر وثار غبار الرمال فى وجوه المصريين فلا يقدر أحد أن يفتح عينيه، وكانت الريح آتية من ناحية العدوّ فكان ذلك من أسباب الهزيمة.
ثم إن الطابور الذى تقدم لقتال مراد بيك انقسم على كيفية معلومة عندهم فى الحرب وتقارب من المتاريس، بحيث صار محيطا بالعسكر من خلفه وأمامه ودق طبوله وأرسل بنادقه المتتالية فصمت الأسماع من توالى الضرب وخيل للناس أن الأرض تزلزلت والسماء عليها سقطت، واستمرت الحرب نحو ثلاثة أرباع ساعة، ثم كانت الهزيمة على العسكر الغربى، فغرق الكثير من الخيالة فى البحر لإحاطة العدوّ بهم وظلام الدنيا، والبعض وقع أسيرا فى أيدى الفرنسيس وملكوا المتاريس وفرّ مراد بيك ومن معه إلى الجيزة، فصعد إلى قصره وقضى بعض أشغاله فى نحو ربع ساعة، ثم ركب وذهب إلى الجهة القبلية وبقيت القتلى والثياب والأمتعة والأسلحة والفرش ملقاة على الأرض ببر إنبابة تحت الأرجل.
وكان من جملة من ألقى نفسه فى البحر سليمان بيك المعروف بالأغا وأخوه إبراهيم بيك الوالى، فأما سليمان بيك فنجا وغرق إبراهيم بيك الصغير وهو صهر إبراهيم بيك الكبير، ولما انهزم العسكر الغربى حوّل الفرنسيس المدافع والبنادق على البر الشرقى وضربوها وتحقق أهل البر الآخر الهزيمة، فقامت فيهم ضجة عظيمة وركب فى الحال إبراهيم بيك والباشا والأمراء والعساكر والرعايا وتركوا جميع الأثقال والخيام كما هى ولم يأخذوا منها شيئا، فأما إبراهيم بيك والباشا والأمراء فساروا إلى جهة العادلية، وأما الرعايا فهاجوا وماجوا ذاهبين إلى جهة المدينة ودخلوها أفواجا أفواجا وهم فى غاية الخوف والفزع وترقب الهلاك، يضجون بالعويل والنحيب ويبتهلون إلى الله من شر هذا اليوم الصعب، والنساء يصرخن بأعلى أصواتهن من البيوت وقد كان ذلك قبل الغروب، فلما استقر إبراهيم بيك بالعادلية أرسل فأخذ حريمه وكذلك من كان معه من الأمراء، فأركبوا النساء بعضهن على الخيول وبعضهن على البغال والبعض على الحمير والجمال والبعض ماش كالجوارى والخدم، واستمر معظم الناس طول
الليل خارجين من مصر البعض بحريمه والبعض ينجو بنفسه ولا يسأل أحد عن أحد؛ بل كل واحد مشغول بنفسه عن بنيه وأمه وأبيه، وخرج تلك الليلة معظم أهل مصر، البعض لبلاد الصعيد والأكثر لجهة الشرق، وأقام بمصر كل مخاطر بنفسه لا يقدر على الحركة، ممتثلا للقضاء متوقعا للمكروه لعدم قدرته وقلة ما بيده وما ينفقه على حمل عياله وأطفاله.
وما يصرفه عليهم فى الغربة، والذى أزعج قلوب الناس زيادة أن فى عشاء تلك الليلة شاع أن الإفرنج عدوّا إلى بولاق وأحرقوها، وكذلك الجيزة وأولهم وصل إلى باب الحديد يحرقون ويقتلون ويفجرون بالنساء، وسبب تلك الإشاعة أن الغليونجية من عساكر مراد بيك الذين كانوا فى الغليون بمرساة إنبابة لما تحققوا الكسرة أضرموا النار فى الغليون، وكذلك مراد بيك لما رحل من الجيزة أمر بانجرار الغليون الكبير من قبالة قصره ليصحبه معه إلى جهة قبلى، فمشوا به قليلا ووقف لقلة الماء فى الطين، وكان به عدة وافرة من آلات الحرب والجبخانه فأمر بحرقه أيضا، فصعد لهيب النار من جهة الجيزة فظنوا أنهم أحرقوا البلدين، فزاد ما هم فيه من الفزع والروع والجزع، وخرج أعيان الناس وأفندية الوجاقات وأكابرهم ونقيب الأشراف وبعض المشايخ، وتحركت عزائم الناس للهرب واللحاق بهم، والحال أن الجميع لا يدرون أى جهة يسلكون، وفى أى طريق يذهبون، وبأى محل يستقرون فتلاحقوا وتسابقوا «وهم من كل حدب ينسلون» وبيع الحمار الأعرج والبغل الضعيف بأضعاف ثمنه، وخرج أكثرهم ماشيا أو حاملا على رأسه وزوجته حاملة طفلها، ومن قدر على مركوب أركب زوجته وبنته ومشى هو، وخرج غالب النساء ماشيات وأطفالهن على أكتافهن يبكين فى ظلمة الليل، واستمروا على ذلك طول ليلة الأحد وصبحها، وأخذ كل إنسان ما قدر على حمله من مال ومتاع، فلما توسطوا الفلاة تلقتهم العرب والفلاحون فأخذوا متاعهم ولباسهم ولم يتركوا لمن صادفوه ما يستر به عورته أو يسد جوعته، فكان ما أخذته العرب شيئا يفوق الحصر، فإن
ما خرج من مصر من الأموال والذخائر فى تلك الليلة أضعاف ما بقى فيها ضرورة، لأن معظم الأموال عند الأمراء والأعيان ومساتير الناس، والذى أقعده العجز وكان عنده ما يعز عليه من مال أو مصاغ أعطاه لجاره أو صديقه الراحل، ومثل ذلك أمانات وودائع الحجاج من المغاربة والمسافرين فذهب ذلك جميعه.
ومن دافع عن نفسه أو حريمه ربما قتلوه وعروا النساء وفضحوهن، وفيهن الخوندات والأعيان فمنهم من رجع من قريب وهم الذين تأخروا فى الخروج، وبلغهم ما حصل للسابقين ومنهم من جازف متكلا على عزته فسلم أو عطب، وبالجملة/فكانت تلك الليلة وصبيحتها فى غاية الشناعة، جرى فيها ما لم يتفق مثله فى مصر ولا سمعنا بما يشابه بعضه فى تواريخ المتقدمين.
ولما أصبح يوم الأحد المذكور والمقيمون لا يدرون ما يفعل بهم من حلول الفرنسيس ورجع الكثير من الفارين فى أسوا حال من العرى والفزع، تبين أن الإفرنج لم يعدوا إلى البر الشرقى، وأن الحريق كان فى المراكب المتقدم ذكرها، واجتمع فى الأزهر بعض العلماء والمشايخ وتشاوروا، فاتفق رأيهم على أن يرسلوا مراسلة إلى الإفرنج وينظروا ما يكون من جوابهم، ففعلوا وأرسلوا الرسالة صحبة شخص مغربى يعرف لغتهم ومعه شخص آخر فغابا ثم عادا فأخبرا أنهما قابلا كبير القوم وأعطياء الرسالة فقرأها عليه ترجمانه، ومضمونها الاستفهام عن قصدهم فقال على لسان ترجمانه: وأين عظماؤكم ومشايخكم لم تأخروا عن الحضور إلينا لنرتب عليهم ما يكون فيه الراحة وطمنهم وبش فى وجوههم فقالا: نريد أمانا منكم فقال:
أرسلنا لكم سابقا فقالا وأيضا لأجل اطمئنان الناس، فكتب ورقة أخرى مضمونها خطابا
لأهل مصر: إننا أرسلنا لكم فى السابق كتابا فيه الكفاية وذكرنا لكم أننا ما حضرنا إلا لأجل إزالة المماليك الذين يستعملون الفرنساوية بالذل والاحتقار وأخذ مال التجار ومال السلطان، ولما حضرنا إلى البر الغربى وخرجوا إلينا قابلناهم بما يستحقون وقتلنا بعضهم وأسرنا بعضهم، ونحن فى طلبهم حتى لا يبقى أحد منهم فى القطر المصرى.
وأما المشايخ والعلماء وأصحاب المرتبات والرعية فيكونون مطمئنين وفى مساكنهم مرتاحين إلى آخر ما ذكرت لكم ثم قال لهما: لا بد أن المشايخ والشريجية يأتون إلينا لنرتب لهما ديوانا ننتخبه من سبعة أشخاص عقلاء يدبرون الأمور، ولما رجع الجواب بذلك اطمأن الناس وركب الشيخ مصطفى الصاوى، والشيخ سليمان الفيومى وآخرون إلى الجيزة فتلقاهم وضحك لهم، وقال: أنتم المشايخ الكبار فقالوا إن المشايخ الكبار خافوا وهربوا، فقال لأى شئ يخافون؟ اكتبوا لهم بالحضور ونعمل لكم ديوانا لأجل راحتكم وراحة الرعية وإجراء الشريعة، ثم انفصلوا عن عسكرهم بعد العشاء وحضروا إلى مصر واطمأن برجوعهم الناس وكانوا فى وجل وخوف على غيابهم، فلما أصبحوا أرسلوا مكتوبات الأمان إلى المشايخ، فحضر الشيخ السادات، والشيخ الشرقاوى، والمشايخ ومن انضم إليهم من الناس الفارين.
وأما عمر أفندى نقيب الأشراف فإنه لم يطمئن ولم يحضر وكذلك الروزنامجى والأفندية، وفى ذلك اليوم اجتمعت الجعيدية وأوباش الناس ونهبوا بيت إبراهيم بيك ومراد بيك اللذين بخطة قوصون وأحرقوهما، ونهبوا عدة من بيوت الأمراء وأخذوا ما فيها من فرش ونحاس وغير ذلك وباعوه بأنجس الأثمان.
وفى يوم الثلاثاء عدت الفرنساوية إلى بر مصر وسكن بونابارت بيت محمد بيك الألفى بالأزبكية بخط الساكت، الذى أنشأه ذلك الأمير فى السنة الماضية وزخرفه وصرف عليه أموالا عظيمة وفرشه بالفرش الفاخرة، وعند تمامه وسكناه به حصلت هذه الحادثة فتركه بما فيه فكأنه إنما بنى لأمير الفرنسيس، وكذلك حصل فى بيت حسن كاشف جركس بالناصرية واستمر غالب الفرنسيس بالبر الغربى، ولم يدخل المدينة إلا القليل منهم ومشوا فى الأسواق من غير سلاح وصاروا يضاحكون الناس ويشترون ما يحتاجون إليه بأغلى ثمن، فيأخذ أحدهم الدجاجة ويعطى صاحبها ريال فرانسيا ويأخذ البيضة بنصف فضة قياسا على أسعار بلادهم، فأنس بهم العامة واطمأنوا لهم وخرجوا إليهم بالكعك وأنواع الفطير والخبز والبيض والدجاج والسكر والصابون والدخان والبن وغير ذلك، وفتح غالب السوق الحوانيت والقهاوى وصاروا يبيعون بما أحبوا من الأسعار.
وفى يوم الخميس ثالث عشر صفر أرسلوا بطلب المشايخ والوجاقلية عند قائم مقام سر عسكر، فلما استقر بهم الجلوس تشاوروا معهم فى تعيين عشرة من المشايخ للديوان لفصل الخصومات، فوقع الاتفاق على الشيخ عبد الله الشرقاوى، والشيخ خليل البكرى، والشيخ مصطفى الصاوى، والشيخ سليمان الفيومى، والشيخ محمد المهدى، والشيخ موسى السرسى، والشيخ مصطفى الدمنهورى، والشيخ أحمد العريشى، والشيخ يوسف الشبرخيتى، والشيخ محمد الدواخلى، وحضر ذلك المجلس أيضا مصطفى كتخدا بكر باشا والقاضى، وقلدوا محمد أغا المسلمانى أغات مستحفظان، وعلى أغا الشعراوى والى الشرطة، وحسن أغا محرم أمين احتساب، وذلك بإشارة أرباب الديوان، فإنهم كانوا ممتنعين من تقليد المناصب لجنس المماليك فعرفوهم أن سوقة مصر لا يخافون إلا من الأتراك، ولا يحكمهم سواهم، وهؤلاء المذكورون من بقايا البيوت القديمة الذين لا يتجاسرون على الظلم كغيرهم، وقلدوا ذا الفقار كتخدا محمد بيك كتخدا بونابارت.
ومن أرباب المشورة الخواجة موسى وكيل الفرنساوية ووكيل الديوان حنابينو، واجتمع/أرباب الديوان عند رئيسه فذكر لهم ما وقع من نهب البيوت، فقالوا له: هذا فعل الجعيدية وأوباش الناس، فقال لأى شئ يفعلون ذلك، وقد أوصيناكم بحفظ البيوت والختم عليها، فقالوا: هذا أمر لا قدرة لنا عليه وإنما ذلك من وظائف الحكام، فأمروا الوالى والأغا ينادون بالأمان وفتح الدكاكين والأسواق والمنع من النهب، وفتح الفرنسيس بعض البيوت المغلقة وأخذوا ما فيها وختموا على بعضها وسكنوا بعضها، وكان الذى يخاف على داره يعلق له بنديرة على باب داره أو يأخذ له ورقة من الفرنسيس يلصقها على داره، وركب برطلمين النصرانى الرومى وهو الذى تسميه العامة فرط الرمان كتخدا مستحفظان، وركب بموكب من بيت سر عسكر وأمامه عدة من طوائف الأجناد والبطالين مشاة بين يديه، وعلى رأسه حشيشة من الحرير الملون، وبين يديه الخدم بالحراب المفضضة، ورتب له بيوك باش وقلفات عينوا لهم مراكز بأخطاط البلد يجلسون بها، وسكن المذكور ببيت يحيى كاشف بحارة عابدين أخذه بما فيه من فرش ومتاع وجوار.
والمذكور من أسافل نصارى الأروام والعسكرية القاطنين بمصر، وكان من الطوبجية عند محمد بيك الألفى وله حانوت بخط الموسكى يبيع فيه القوارير الزجاج أيام البطالة.
وقلدوا أيضا شخصا إفرنجيا جعلوه أمين البحيرة وآخر جعلوه أغاة الرسالة، وجعلوا الديوان ببيت قائد أغا بالأزبكية بقرب الرويعى، وسكن به رئيس الديوان وسكن دبوى قائم مقام مصر ببيت إبراهيم بيك الوالى المطل على بركة الفيل، وسكن شيخ البلد ببيت إبراهيم بيك الكبير، وسكن مجلون ببيت مراد بيك على رصيف الخشاب، وسكن بوسليك مدير الحدود ببيت الشيخ البكرى القديم، فكان يجتمع عنده النصارى القبط كل يوم وطلبوا الدفاتر من الكتبة.
ثم إن عسكرهم دخلت المدينة وملأت الطرقات وسكنوا البيوت ولم يشوشوا على أحد، ودخل الاطمئنان على الناس وفتحت البيوت والدكاكين وصار البيع والشراء.
وفى يوم السبت اجتمعوا بالديوان وطلبوا دراهم سلفة مقدار خمسمائة ألف ريال من التجار المسلمين والنصارى وأخذوا فى تحصيلها، ثم نادوا برد المنهوبات وتوريدها ببيت قائم مقام ونادوا على نساء الأمراء بالأمان وأنهن يسكن بيوتهن، وإن كان عندهن شئ من متاع أزواجهن يظهرنه ومن لم يكن عندها شئ تصالح على نفسها، وظهرت الست نفيسة زوجة مراد بيك وصالحت على نفسها وأتباعها من سائر الأمراء والكشاف بمبلغ مائة وعشرين ألف ريال فرانسى، ووجهوا الطلب على بقية النساء ليعملوا مصالحات معهن ومع الغزو الأجناد المختفين والغائبين وتعطى لهم أوراق بختم المقيدين بالديوان.
وفى يوم الأحد طلبوا الخيول والجمال والسلاح والأبقار والأثوار، وفتشوا على السلاح وكسروا دكاكين سوق السلاح وغيره وأخذوا ما وجدوه واستخرجوا الخبايا والودائع بمعرفة البنائين والمهندسين والخدام.
وفى يوم الثلاثاء طلبوا أهل الحرف من التجار بالأسواق وقرروا عليهم دراهم على سبيل القرض والسلفة، ثم شرعوا فى تكسير بوابات الدروب والعطف واستمروا على ذلك عدة أيام وهكذا من هذه الأحوال التى تعقب الحروب والتغلبات والاستيلاء القهرى إلى آخر ما هو مبسوط فى الجبرتى وغيره وبعضه فى مواضع من كتابنا هذا فليراجع.
أنبو
مدينة قديمة كانت فى الصعيد الأعلى فى شمال أسوان وقد خربت من زمن مديد، ومحلها الآن كيمان من الرمال على الشاطئ الشرقى من النيل فى فم واد على بعد أربعة ميريا متر ونصف من مدينة أسوان، وبعدها عن مدينة أدفو على ما عينه أنطونان أربعون ميلا، وتعرف الآن باسم كوم أمبو والنيل عندها متقوس، وعند تقوسه موردة عظيمة يعلو ساحلها تل مرتفع.
وقال بعض المؤرخين: قد غطت الرمال التى تنسفها الرياح من الصحراء الشرقية جميع آثار المدينة والأرض التى كانت ممتدة حولها إلى الجبل بقدر فرسخين، والقرية التى عوضت عن مدينة أنبو فى الأزمان الأخيرة خربت أيضا، وفى زمن الفرنساوية كانت خالية من السكان والشجر والنبات بحيث لا يرى الإنسان غير القحولة، والخراب فى محل هذه المدينة التى كانت عامرة ذات شهرة فى الأعصر الماضية، ولم يمكن الفرنساوية بيان حدود المدينة لزحف الرمال عليها وتغطيتها مع أكل البحر جزءا عظيما منها، وذلك أنه كان أمامها جزيرة يقال: لها المنصورية، منفصلة عنها بسيالة صغيرة فأخذت السيالة فى الاتساع وتحول لها النيل وأكل جانبا كبيرا من الأرض ومن المدينة، وقد وجد الفرنساوية بها معبدين من المبانى القديمة ذكر بعض المؤرخين أنهما من مدة البطالسة.
وقال مرييت أنهما معبدان متلاصقان أحدهما الهوروس
(1)
وهو فى زعمهم إله النور والآخر لبيبيك
(2)
وهو إله الظلمة، وقال غيره إن المعبد الكبير سابق على موريس فرعون مصر، وقد قرئ اسم والدته على أحد أبوابه وإنما ينسب إلى البطالسة بعض النقوش/التى عليه كما يدل لذلك ما وجد على جدرانه من الكتابة الرومية، وفى كتاب لطرون أن معبد هذه المدينة عبارة عن جهتين لمقدسين، فالجهة اليمنى للمقدس سويق الذى صورته صورة إنسان برأس تمساح ومعه المقدسان أثير وحنس، والجهة اليسرى للمقدس أرواريس ومعه المقدسة زينوفرة وابنها بنيونو، وأطلقت الأروام اسم أبلون على أرواريس، كما أطلقوا اسم ساترن على سويق الذى هو إشارة إلى الصفات القهرية للمقدس أمون.
كما وجد ذلك فى كتابة رومية على المعبد، وفى الكتابة أيضا أن العساكر الخيالة والمشاة وسائر المستخدمين زخرفوا هذا المعبد لحفظ حياة بطلميوس وزوجته كليوبترة أخته وأولادهما لما نالهم منهم من الخير العظيم، وذلك قبل الميلاد بمائة وستين سنة، وأن المحافظين فى هذه الكورة عليهم الحراسة إلى آخر الشلال الثانى، الذى هو آخر حدود هذا الخط انتهى.
وفى سنة ألف وثمانمائة وأربعة وأربعين ميلادية كان النيل مسلطا عليه بحيث يخشى أن يهدمه بخلاف المعبد الصغير فإنه بعيد عن النيل داخل فى الأرض الصحيحة، وقد وجد الفرنساوية أيضا سورا مبنيا من الطوب محيطه (750) مترا وسمكه ثمانية أمتار ويظهر أنه أقدم من المعبدين المذكورين، ومن تراكم الرمال عليه لم يمكنهم تعيين ارتفاعه، والظاهر أنه كان يدور على المعبدين، ثم إن جميع أوجه الحيطان والأعمدة والسقف وجدت مشغولة بكتابة ونقوش وصور لا حاجة لنا بشرحها، غير أننا ننبه على أمر مهم وجد فى سقف المعبد الكبير، وهو أن بعضه لم يتم نقشه ووجد مقسما إلى مربعات والصور مخططة فيها باللون الأحمر.
(1)
يقصد: لحورس.
(2)
يقصد لسبك-سوبك. انظر: تاريخ مصر فى عصر البطالمة، ج 2/ 39.
ومن هنا يستدل على أن المصريين كانوا يستعملون المربعات فى نقش الرسومات وتحويلها من مقياس إلى آخر، وعلى أنهم كانوا يعملون الطرق الهندسية المؤدية إلى بقاء نسب الأشكال، ويؤيد ذلك ما نقله أبولونيوس من أهالى جزيرة رودس عن كليمان الإسكندرى من كتاب الأشياء المقدسة، أن طائفة الدرجة الثالثة من طوائف القسيسين المصريين، كانت متكفلة بمعرفة الفلك والجغرافية والرسم وشرح أحوال النيل، وأن الخرط التى أمر بها جوزويه- (يوشع صلى الله عليه وسلم -لتقسيم الأرض بين قبائل العبرانيين عملت على مقتضى القاعدة المصرية، وما ذكره يوسف الإسرائيلى يدل على أنها كانت عبارة عن مسح جميع أراضى العبرانيين، ومثل هذه المربعات وجد فى مبان غير هذه.
وينتج من ذلك تحقيق ما ذكره المؤرخون من أن اختراع فن الهندسة والمساقط الجغرافية يعزى إلى المصريين ويشهد لهم بالفخر على من عداهم، ويستفاد من أقوال المؤرخين أن فرعون مصر سيزوستريس أمر بعمل خرطة وادى النيل وكانت محفوظة فى المعابد.
وذكر ديودور الصقلى أن فيثاغورس اكتسب من المصريين أعظم النظريات الهندسية.
وذكر المؤرخ اليان وجونيان وغيرهما، أن أهالى مدينة أنبو كانوا يقدسون التمساح ويوجد مرسوما فى المعابد على كيفيات مختلفة وكانوا يحتفلون بدفنه وتصبيره، ويظهر أن هذا الحيوان كان رمزا على ماء النيل، وكان يقدس غالبا عند أهالى المدن البعيدة عن النيل، كما هى حالة مدينة أنبو فى الأزمان القديمة، فإن الماء كان لا يصلها إلا من ترعة تخرج منه إليها، وبين كوم مدينة أنبو ومدينة أدفورأس من الجبل داخل فى البحر يعرف عند أهل الصعيد بجبل أبى شجر، وهو السبب فى كثرة الزوابع وشدة الرياح هناك، وكثيرا ما يحصل منها تلف المراكب وغرقها، وعادة هذه الرياح عند هبوبها أن تكون حاملة للأتربة والرمال، وفى غالب الأوقات تلجأ المراكب إلى موردة فى الجبل فينبغى زيادة التحفظ حتى لا يحصل إتلافها، وفوق هذا الجبل يسكن بعض الفقراء وينزلون لطلب الحسنة ممن يلجأ إلى تلك الموردة، وبين كوم أنبو وجبل السلسلة مسافة أربعة وثمانين كيلومتر.
وقال مرييت: إن النيل هناك يكون منحبسا بين جهتى جبل السلسلة، وفى ذلك الجبل مغارة فيها نقوش وأدعية تدل على أن أهل تلك الجهة كانوا يقدسون النيل بعبادة مخصوصة، وذلك فى زمن هوروس أحد ملوك العائلة الثامنة عشرة، ويرى على الجدار القبلى أن هذا الملك يرضع من مقدسة ذات لبن وهو جالس على تخت محمول باثنى عشر أميرا، ويرى فى مرة أخرى أن أميرين يحملان له المظلة فى رجوعه من نصرة انتصرها على الكوشيين، وبين جبل السلسلة وأدفو أربعون كيلومتر انتهى.
ولنبين لك تراجم بعض من تقدم ذكرهم فى هذه البلدة على سبيل الإيجاز فنقول نقلا عن قاموس الفرنج
أما كليمان الإسكندرى فهو من علماء القرن الثانى من الميلاد، ولد بالإسكندرية فى العبادة الوثنية ثم تنصر وزاول العلوم ودرس بالمدرسة النصرانية بالإسكندرية، ثم رحل عنها فى سنة مائتين واثنتين كراهية لظلم القيصر سوير، وساح فى بلاد القدس وغيرها ثم رجع إلى الإسكندرية بعد خمس عشرة سنة ومات بها فى سنة رجوعه
وأما يوسف/الإسرائيلى فإنه ولد بالقدس سنة سبع وثلاثين من الميلاد، ثم جعل حاكما على ولاية جليلة وهى قسم من بلاد فلسطين، وذلك فى سنة سبع وستين وقت قيام الأهالى على الرومانيين زمن قيصرية واسبيسيان
(1)
وتيتوس، واصطحب مع تيتوس وأخبره بالكهانة أنه يتولى القيصرية، فأحبه وأخذه معه إلى رومة ومات بها سنة خمس وتسعين، وقد كتب تاريخ حروب اليهود مع الرومانيين.
وأما جوزويه يوشع العبرانى فهو رئيس العبرانيين ولد بمصر، وكان خليفة موسى عليه السلام فى حكم بنى إسرائيل سنة ألف وستمائة وخمسة قبل الميلاد، وهو الذى أدخل العبرانيين الأرض المقدسة التى كتب الله لهم وحارب أربعة ملوك من الكنعانيين وانتصر عليهم.
(1)
يقصد: فسبسيان. انظر: عبد اللطيف أحمد على: مصر والإمبراطورية الرومانية، ص 138.
ويروى أن الله أوقف له الشمس حتى انتصر وأقام يحارب حتى استولى على أرض كنعان وقسمها على الاثنى عشر سبطا، ومات قبل المسيح بألف وخمسمائة وثمانين سنة، وله من العمر مائة سنة وعشر سنين انتهى.
وأما فيثاغورس فهو عالم فيلسوف يونانى أحد أئمة الفلسفة كأفلاطون ونحوه، ولد فى شاموس قبل المسيح بستمائة وثمان سنين على قول، وقيل: قبله بخمسمائة واثنتين وسبعين سنة، وسافر كثيرا لاكتساب المعارف وأقام بمصر زمانا وأخذ عن علمائها فنون الرياضيات، ثم رجع إلى بلاده أرض اليونان وعلم أهلها علم الهندسة والطبيعة وعلم الدين، ولم يكونوا يعلمونها قبل ذلك.
وفى سنة خمسمائة وأربعين قبل الميلاد أسس مدرسة بإيطاليا واشتهرت به واجتمع عليه المريدون، وكان لا يقبل المريد إلا بعد امتحانه بأمور شاقة كإلزامه السكوت عدة سنين، وكانوا فى غاية الامتثال له وصدق مودته ويعتقدونه اعتقادا زائدا، وكان بسيطا فى عيشته مجتنبا لأكل اللحم وتبحر فى جميع العلوم خصوصا الرياضيات كالحساب والفلك واستخرج بذكائه علم الألحان وتأليف النغم والموسيقى ومات سنة خمسمائة وتسعة قبل الميلاد، وله استكشافات كثيرة، منها مربع الوتر.
وأوصله إتقان النسب الرياضية إلى طريقة عمومية منها أن الأعداد أصل لكل شئ، وأن أصل الأعداد الواحد أو الوحدة وأن العشرة آحاد الأوليّة لها خواص عجيبة لا سيما الواحد العاشر، وأن الله هو الوحدة المطلقة الأصلية، وأن العالم هو أمر كلى بديع الصنعة والإحكام، وأن الأرض كروية وأنها ساكنة والقمر والشمس والكواكب تدور حولها بنظام موسيقى، وأن فعل الخير هو: الوحدة، والشر هو التنافر وعدم الألفة والعدالة المساواة فى
الأمور، وأن الروح عدد يتحرك بنفسه، وأن المادة هى الملازم غير المتناهى وهو أصل الشر، وأن الأرواح تنتقل فى الأجسام فتارة تترقى بالتدريج إلى الدرجات العلا باكتساب الفضائل، وتارة تنحط فى الدّركات باكتساب القبائح والرذائل، وكان يزعم أن روحه كانت قبله فى جسد أفورب الذى كان فى حرب تروادة انتهى.
إنشاص
هذه القرية قبلى بلبيس بمقدار خمسة عشر ألف متر، وهى من قسم بلبيس من بلاد الشرقية وأغلب أبنيتها باللبن، وبها دكاكين ومساجد عامرة وفيها تجار من الدول المتحابة يتجرون فى القطن والأبزار، وبها مجلسان للدعاوى والمشيخة ومكاتب لتعليم القرآن والكتابة ونخيل، ولعمدتها حسنين عامر جنينة.
وعدد أهلها ألفان وثلاثمائة وستون نفسا وتكسبهم فى الغالب من الزراعة، ومنهم أرباب حرف، وكان لها سوق كل يوم أربعاء يباع فيه المواشى وغيرها، وبها محطة السكة الحديدية ومحلات إقامة خدمتها، وزمام أطيانها ألفان ومائتان وثلاثة وأربعون فدانا وكسر.
أنصار
قرية من قرى مصر ذكرها السّيوطى فى حسن المحاضرة وقال: إن منها رجاء بن عيسى بن محمد أبا العباس الأنصارى، كان فقيها مالكيا ثقة، قدم بغداد وحدث بها وسمع منه الحفاظ، ثم عاد إلى بلده فمات بها سنة تسعين وأربعمائة انتهى.
أنصنا
بفتح الهمزة وسكون النون وكسر الصاد المهملة ثم نون ثانية وألف، بلدة بالصعيد الأوسط بها آثار عظيمة أوّلية وهى على شاطئ النيل من البر الشرقى قبالة الأشمونين من البر الآخر، ولها مزدرع كثير، قال الإدريسى فى نزهة المشتاق، أنصنا مدينة قديمة البناء كثيرة الثمار غزيرة الخصب انتهى من تقويم البلدان لأبى الفداء.
وكانت تسمى قديما أنتنويه ويستفاد من كلام المؤرخين أن قيصر الروم أدريان هو الذى أمر ببنائها لتكون مركزا للأقاليم القبلية عوضا عن مدينة الأشمونين، وذلك على ما ذكره بعضهم أن القيصر لما أراد سياحة الديار المصرية ليشاهد آثارها وأخبار أهلها، قام من مملكة إيطاليا سنة مائة وثمانين من الميلاد-أعنى سنة 886 من تاريخ رومة-فبعد أن ساح بعض بلاد السواحل دخل أرض مصر سنة 132 ميلادية، وفى السنة الخامسة عشرة من جلوسه على تخت القيصرية، أقام بمدينة طيبة واطلع على خزانة التحف التى بها ورأى الآثار العتيقة وأمر ببناء قبر مشيد فيها للأمير بومبيوس الذى كان قتله بطليموس فى هذا المكان غدرا وخيانة، وتوجه منها إلى الإسكندرية وأمر لأهل المدينة برجوع بعض المزايا التى حرموا منها فى زمن القياصرة السابقين، ثم قصد إلى الأقاليم القبلية وكان/مستصحبا لنديمه الشاب أنتنويه، وكان يحبه حبا شديدا أوجب التكلم فيه من كثير من الشعراء وغيرهم، فقدّر الله سبحانه غرق هذا الشاب فى النيل قريبا من محل هذه المدينة، فحزن عليه القيصر حزنا شديدا غير معتاد،
وأمر بإنشاء هذه المدينة لتكون تذكرة لذلك الشاب على ممر الدهور، وتمم بناءها فى أربع سنين، وأمر بجمع الرومانيين المتفرقين فى جهات القطر وأسكنهم فيها، مع من جلبه إليها من بلاد الروم كعادة القياصرة من قبله، وزينها بالمعابد الفاخرة، والمبانى الرفيعة، وقسم طولها وعرضها إلى حارات وأزقة متسعة مستقيمة مزينة فى جوانبها بأعمدة وتماثيل وهياكل، فصارت من أحسن ما أنشئ فى تلك الأحقاب وجعل لأنتنويه معبدا رتب له الكهنة وما يلزم له وجعله من المعابد المقدسة.
وممن تكلم فيه من الشعراء جوانيال فإنه هجاه مع محبوبه بقصيدة بالغ فيها فى ذمّهما فنفاه إلى أسوان فمات بقنا فى طريقه، وذكر كثير من المؤلفين فى سبب بناء هذه المدينة، أن هذا القيصر كان مولعا بالمبانى حتى إنه بنى كثيرا من المدن فى آسيا وبلاد الغال والإنجليز وغيرها، ومن ضمن ذلك مدينة سميت باسمه وشحنها بالعمارات الفاخرة، ولما كان غالب مدن الأقاليم القبلية فى وقته متخربا ومدينة الإسكندرية بعيدة، رغب فى بناء مدينة تكون مركزا للتجارة والسّياسة والأمور المهمة فى وسط الأقاليم القبلية فبنى هذه المدينة لهذا الغرض، فلعل ذلك مع الرغبة فى الافتخار هو السبب الحقيقى فى بناء هذه المدينة التى استقلت بأمور الأقاليم القبلية زمنا مديدا، وكان كل قيصر يزيد فى زخرفتها حتى أن القيصر سوير أضاف إلى معابدها بعض معابد فى سنة 202 ميلادية، فبقيت متباهية بالعز الذى لا يشاركها فيه غيرها من مدن الجهات القبلية إلى أن دخلت الديانة العيسوية أرض مصر فالتحقت بمدينة طيبة.
وذكر أوزيب أنه فى آخر القرن الثالث كان لأهل هذه المدينة علائق مع كثير من القسيسين بمدينة القدس، وفى القرن الرابع كثرت بها الكنائس والديور النصرانية.
وذكر الإدريسى أن هذه الكنائس والديور من آثار المدينة القديمة، وكان بها مبان فاخرة وحدائق نضرة وأرض خصبة، وقال: إنها كانت تسمى بمدينة السحرة ومنها جلب فرعون مصر سحرة موسى عليه السلام، ويغلب على الظنّ أن السحرة إنما جلبوا من مدينة بيترا التى بالقرب منها، وكانت ذات شهرة فى الزمن الأول.
وقد ذكر أبو الفداء ما ذكر الإدريسى.
وفى رحلة ابن جبير فى آخر القرن السادس أن أنصنا قرية فسيحة جميلة بها آثار قديمة وكانت فى السالف مدينة عتيقة وكان لها سور هدمه صلاح الدين وجعل على كل مركب منحدر فى النيل وظيفة من حمل صخره إلى القاهرة فنقل بأسره إليها انتهى.
وذكر المقريزى أن بابا من أبوابها نقل إلى مدينة القاهرة وكان على باب زويلة، وأن صلاح الدين أيوب نقل أحجار سورها وبنى بها ما أحدثه من المبانى فى مدينة القاهرة.
وقال أبو عبيد البكرى: أنصنا كورة من كور مصر معروفة، كانت سرّية النبى صلى الله عليه وسلم مارية أم ابنه إبراهيم من قرية من قراها يقال لها حفن، ولوضع هذه المدينة على شاطئ النيل كان فيها بساتين زاهرة ومنتزهات باهرة، وكان لها محصول عظيم من التمر والفواكه والآثار التى كانت باقية إلى زمن الفرنساوية، ومن مبانى هذه المدينة تدل على ما كانت عليه فى الزمن القديم من الفخامة والعمارية.
وفى خطط الفرنساوية إن الإنسان إذا كان فوق تلالها من جهتها الغربية يرى الشارع الذى كان ممتدا فى طولها ويرى قطعا كثيرة من الأعمدة التى كانت فى جوانبه من أوّله إلى آخره وعلى كل عمود تمثال أنتنوبه ويرى أيضا فى آخر خرابها البودروم-أعنى محل ملعب الخيل والمصارعة-وكان مستدير الشكل يقال: إنه كان مجعولا مقياسا للنيل، وكان محوّطا بأعمدة من الصوان الأحمر بين كل عمودين خطوة وهى عدد أيام السنة الشمسية، ويرى على شماله الشارع العمودى من بابها الشرقى الذى كان مزينا بالأعمدة والتماثيل والمبانى الفاخرة إلى بابها الغربى.
ويرى فى الجهة البحرية أعمدة النصر الفائقة التى أقيمت لبقاء ذكر القيصر إسكندر سوير وغيره، فإذا التفت قليلا رأى أقواس النصر العظيمة وأعمدتها الصّوانية الهائلة، وآثار جميع ما ذكر منتشرة فى أرض المدينة من صور مكسرة وأحجار هائلة ملقاة ظاهرة كلها أو بعضها من الأتربة والرمال، ويشاهد سور المدينة فى الجهة القبلية، وبعده تل مرتفع فيه كثير من قطع الحجارة والشقاف كان فى موضعه بلد قديم حدث فى زمن النصارى، ودير أبى حنس بلصق هذا التل.
ويشاهد أيضا نزلة الشيخ عبد الله والجبل وما فيه من المغارات الكثيرة بعضها فوق بعض المستخرج منها الأحجار التى بنيت بها مدينة الأشمونين وأنصنا وغيرهما، وبعض المغارات طويل جدا ومتفرع إلى فروع، وفوق الجبل آثار ديور متعددة ومغارات كبيرة وصغيرة كانت مساكن الرهبان، وبين الجبل وأنصنا فى الجهة البحرية تلال من آثار مدينة بيز العتيقة السابقة على أنصنا فى القدم والشهرة التى كانت فى أسفل الجبل، ولعل أحجارها وأعمدة معابدها وعماراتها أخذت فى بناء مدينة/أنصنا، ولعل هذا هو السبب فى قلة آثارها الآن جدا.
وهذا الاسم أعنى بيز كان لأحد مقدّسى المصريين فى الأزمان السابقة الذى ظهرت له كرامات عظيمة فى مدينة أبيدوس، كما ذكر ذلك أميان مرسيلان وأوزيب.
وذكر فيتوسولس أن مدينة أنتنويه كانت تسمى فى السابق بيز أنتنويه بالتركيب من بيز وأنتنوية، وهذا يحقق سبق مدينة بيز المذكورة على المدينة الرومانية، ومن فوق تلال أنصنا الشامخة، يرى أيضا فى غربى النيل قرية الروضة، وقرية البياضية التى كان أهلها أقباطا مشهورين بصناعة السكر فى الزمن القديم، ويرى أيضا مدينة ملوى وآثار مدينة الأشمونين.
وشكل مدينة أنصنا شبه منحرف ضلعاه الجنوبى والشمالى متوازيان قد قيس محيطها فوجد 5298 مترا غير خراب مدينة بيزا، والبودروم وأحد آحادها الذى به الشارع الكبير من ابتداء الباب الشمالى الغربى إلى النقطة المقابلة له من السور فى جهة الجنوب 1014 مترا، والبعد الآخر التابع للشارع الثانى 1072 مترا، فتكون مساحة المدينة بالنسبة لذلك قريبة من 300 فدان، وكان أهلها قريبا من 20 إلى 25 ألف نفس وطول السور القبلى 699 مترا والبحرى 1108 أمتار، وكان لها سوران مبنيان بالحجر والطوب أحدهما خلف الآخر انتهى.
ونقل المقريزى
(1)
عن أبى حنيفة الدينورى أنه قال: ولا ينبت البنج إلا بأنصنا. وهو عود ينشر منه ألواح للسفن وربما أرعفت ناشرها، ويباع اللّوح منها بخمسين دينارا ونحوها، وإذا شدّ لوح منها بلوح وطرحا فى الماء ستة أيام صارا لوحا واحدا انتهى.
وقد حقق العالم دساسى الفرنساوى فى شرحه على رسالة عبد اللطيف البغدادى: أن الشجرة التى هذا وصفها ليست شجرة البنج؛ وإنما هى شجرة اللّبخ بفتح اللام والباء أو بضم اللام وفتح الباء، أو بفتح اللام وسكون الباء وفى آخرها خاء معجمة، ويقال فيها:
الباخ وأن اسمها اللاتينى برسيا كما فى كتاب تيوفرست وديوسكوريد وغليان واسترابون وديودور وغيرهم واتفقوا جميعا على أنها لا تنبت إلا بمصر.
وقد ترجم اسطوفان عبارة ديوسكوريد وصححها أبو زيد حنين بن إسحاق، وقد ترجمت برسيا بقرساء بقاف فى أوّله ممدودا أو قرسياء بياء بعد السين ممدودا، وقد وجدت فى تهميشات دساسى ما نصه:
(1)
انظر خطط المقريزى 1/ 360 ط لبنان.
قرسياء: شجرة تكون بمصر ولها ثمر يؤكل جيد للمعدة، وربما وجد فى هذه الشجرة صنف من الرتيلا يقال له: قرانيو قوما، وأعظم ما كان منه بناحية الصعيد، وقوّة ورق هذه الشجرة تقطع الدّم إذا جفف وسحق وذر على الموضع الذى يسيل منه.
وقد زعم قوم أن هذه الشجرة كانت تقتل فى بلاد الفرس، فبعد أن نقلت إلى مصر صارت تؤكل ولا تضر، وزعم حنين أن هذه الشجرة ويسميها أهل مصر البنج أو اللّبخ.
ونقل دساسى أيضا هامشا وجد على الترجمة السابقة ونصه: أخبرنى أبو محمد البغدادى الكابودى، وكان قد سكن الهند سنين كثيرة وقد سألته عن اللّبخ فقال: اسمه بالفارسية ازادرخت وتأويل هذا الاسم حرة آل وعرفه وزادنا اسمه (ج لى) ابن جلجل قال القاذورى: ابن جلجل يقول هذا وليس بشئ شجرة اللّبخ بمصر مشهورة وثمرها يؤكل وهو حلو طيب الطعم والرائحة إلى الحمرة ما. هو والأزادرخت عندنا ليس كذلك ولا بينهما شبه بوجه من الوجوه، لأن ورق اللّبخ يشبه ورق المشمش عندنا فى قدره وشكله إلا أنه أشد ملوسة وهو أيضا إلى البياض، وثمره يشبه الكبر فى لونه وقدره إذا قطع منه العرجون الذى فى الكبرة وداخله نواة قدر حبة الفستق إلى الطول ما. هى وهو حلو يؤكل، وصورة (ج لى) المتقدمة رمز لاسم صاحب الهامشة وهو أبو داود سليمان بن حسن المعروف بابن جلجل حكيم قرطيا المشهور فى زمن هشام المؤيد بالله سنة 366 هـ.
وقد ترجمه العالم دساسى فى كتابه فقال ما نصه بحروفه: هو أبو داود سليمان بن حسان يعرف بابن جلجل كان طبيبا فاضلا خبيرا بالمعالجات جيد التصرف فى صناعة الطب، وكان فى أيام هشام المؤيد بالله، وخدمه بالطب وله بصيره واعتناء بقوى الأدوية المفردة، وقد قسم أسماء الأدوية المفردة من كتاب ديوسقورديس العين زربى وأفصح عن مكنونها وأوضح مستغلق مضمونها، وهو يقول فى أوّل كتابه هذا: إن كتاب ديوسقوريدس ترجم بمدينة
السلام- (بغداد) -فى الدولة العباسية فى أيام جعفر المتوكل، فكان المترجم له أصطوفان من تلك الأسماء اليونانية فى وقته، فما عرف له اسما فى اللّسان العربى فسره بالعربية، وما لم يعلم له فى اللّسان العربى اسما تركه فى الكتاب على اسمه اليونانى، اتكالا منه على أن يبعث الله بعده من يعرف ذلك ويفسره باللّسان العربى؛ إذ التسمية لا تكون إلا بالتواطؤ من أهل كل بلد على أعيان الأدوية بما رءوا، ويسمون ذلك إما باشتقاق وإما من غير ذلك بتواطؤهم على التسمية، فاتكل أصطوفان على أشخاص يأتون بعده، فمن عرف أعيان الأدوية التى لم يعرف/هولها اسما فى وقته يسميها على قدر ما سمع فى ذلك الوقت فيخرج إلى المعرفة.
قال ابن جلجل وورد هذا الكتاب إلى الأندلس وهو على ترجمة أصطوفان، منه ما عرف له اسما بالعربية، ومنه ما لم يعرف له اسما فانتفع الناس بالمعروف منه بالمشرق والأندلس إلى أيام الناصر عبد الرحمن بن محمد وهو يومئذ صاحب الأندلس، فكاتبه أرمانيوس الملك ملك القسطنطينية-أحسب فى سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة-وهاداه بهدايا لها قدر عظيم، وكان فى جملة هديته كتاب ديسقوريدس مصور الحشائش بالتصوير الرومى العجيب، وكان الكتاب مكتوبا بالإغريقى الذى هو اليونانى، وبعث معه كتاب هروشيش صاحب القصص، وهو تاريخ للروم عجيب فيه أخبار الدهور وقصص الملوك الأول وفوائد عظيمة.
وكتب أرمانيوس فى كتابه إلى الناصر أن كتاب ديسقورديس لا تجنى فائدته إلا برجل يحسن العبارة باللسان اليونانى، ويعرف أشخاص تلك الأدوية، فإن كان فى بلدك من يحسن ذلك فزت أيها الملك بفائدة الكتاب، وأما كتاب هروشيش فعندك فى بلدك من اللّيتينيين من يقرؤه باللّسان اللّتينى وإن كاشفتهم عنه نقلوه لك من اللتينى إلى اللّسان العربى.
قال ابن جلجل، ولم يكن يومئذ بقرطبة من نصارى الأندلس من يقرأ الإغريقى الذى هو اليونانى القديم فبقى كتاب ديسقورديس. فى خزانة عبد الرحمن الناصر باللّسان الإغريقى ولم يترجم إلى اللّسان العربى وبقى الكتاب بالأندلس، والذى بين أيدى الناس ترجمة أصطوفان الواردة من مدينة السلام- (بغداد) -فلما جاوب الناصر أرمانيوس الملك سأله أن يبعث إليه برجل يتكلم بالإغريقى واللتينى ليعلم له عبيدا يكونون مترجمين، فبعث أرمانيوس الملك إلى الناصر براهب كان يسمى (نقولا) فوصل إلى قرطبة سنة أربعين وثلاثمائة، وكان يومئذ بقرطبة من الأطباء قوم لهم بحث وتفتيش وحرص على استخراج ما جهل من أسماء عقاقير ديسقورديس إلى العربية، وكان أبحثهم وأحرصهم على ذلك من جهة التقرب إلى الملك عبد الرحمن الناصر حسداى بن بشروط الإسرائيلى، وكان نقولا الراهب عنده أحظى الناس وأخصهم به وفسر من أسماء عقاقير كتاب ديسقورديس ما كان مجهولا، وهو أول من عمل بقرطبة ترياقا على تصحيح الشجارية التى فيه، وكان فى ذلك الوقت من الأطباء الباحثين عن أسماء عقاقير الكتاب وتعيين أشخاصه محمد المعروف بالشجار، ورجل كان يعرف بالبسباسى، وأبو عثمان الجزار الملقب باليابسى، ومحمد بن سعيد الطبيب، وعبد الرحمن بن إسحاق بن هيثم، وأبو عبد الله الصقلى وكان يتكلم باليونانية ويعرف أشخاص الأدوية.
قال ابن جلجل: وكان هؤلاء النفر كلهم فى زمان واحد مع نقولا الراهب أدركتهم وأدركت نقولا الراهب فى أيام المستنصر، وصحبتهم فى أيام المستنصر الحكم، وفى صدر دولته مات نقولا الراهب فحصل ببحث هؤلاء النفر الباحثين عن أسماء عقاقير كتاب ديسقورديس، تصحيح الوقوف على أشخاصها بمدينة قرطبة خاصة بناحية الأندلس، وأزال الشك فيها عن القلوب، وأوجب المعرفة بها والوقوف على أشخاصها وتصحيح النطق بأسمائها بلا تصحيف إلا القليل، منها الذى لا بال به ولا خطر له، وذلك يكون فى مثل عشرة أدوية.
قال وكان لى فى معرفة تصحيح هيولى الطب الذى هو أصل الأدوية المركبة حرص شديد وبحث عظيم وهبنى الله من ذلك بفضله بقدر ما اطلع عليه من نيتى فى أحياء ما خفت أن يدرس وتذهب منفعته لأبدان الناس، فالله خلق الشفاء وبثّه فيما أنبتته الأرض واستقر عليها من الحيوان الماشى والسابح فى الماء والمنساب، وما يكون تحت الأرض فى جوفها من المعدنية، كل ذلك فيه شفاء ورحمة ورفق.
ولابن جلجل من الكتب (كتاب تفسير أسماء الأدوية المفردة من كتاب ديسقورديس) ألفه فى شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وسبعين وثلاثمائة بمدينة قرطبة فى دولة هشام بن الحكم المؤيد بالله، ومقالة فى ذكر الأدوية التى لم يذكرها ديسقورديس فى كتابه مما يستعمل فى صناعة الطب وينتفع به وما لا يستعمل لكن لا يغفل ذكره.
وقال ابن جلجل: إن ديقورديس أغفل ذلك ولم يذكره، إما لأنه لم يره ولم يشاهده عيانا، وإما لأن ذلك كان غير مستعمل فى دهره وأبناء جنسه (ورسالة التبيين فيما غلط فيه بعض المتطببين) وكتاب يتضمن ذكر شئ من أخبار الأطباء والفلاسفة فى أيام المؤيد بالله انتهى.
وقوله هشام: هو هشام الثانى الملقب بالمؤيد عقب فى الحكم أباه الحكم فى سنة ثلاثمائة وست وستين ومات سنة ثلاثمائة واثنتين وتسعين، وأما عبد الرحمن فهو عبد الرحمن الثالث الملقب بالناصر لدين الله جلس على تخت بلاد الأندلس سنة ثلاثمائة ومات سنة خمسين وثلاثمائة، وأما أرمانيوس فهو أرمانيوس الثانى ابن/قسطنطين جلس مع أبيه على التخت حين مجئ الهدية إليه، وقوله إغريقى هى كلمة روسية أصلها إجريقى، والعرب تسمى هذه اللغة الإغريقية وتسمى بلادهم بلاد الأغارقة وهى بلاد اليونان فيقال إغريقى أو يونانى، وفى بعض الكتب العربية يقال لكتابتهم اللّيتى أو اللتينى.
وقال المقريزى عند الكلام على بطليموس قد ترجمت فى زمنه كتب التوراة والأنبياء من اللّسان العبرانى إلى الرومى اليونانى واللّيتى، وقال الحاج خليفة صاحب كتاب (كشف الظنون) عند الكلام على اليونان أن جميع العلوم العقلية مأخوذة عنهم ولغة قدمائهم تسمى الإغريقية وهى أوسع اللغات ولغة متأخريهم تسمى اللتينى؛ لأنهم فرقتان الإغريقيون واللتينينون، وأما هروشيش فهو أروس الأندلسى وليس هو هيرودوط المشهور، وله كتاب فى وصف الدول والحروب.
وذكره المقريزى عند ذكر ملوك منف وأما حسداى فهو الربى حسداى بن إسحاق، كان فى القرن الحادى عشر من الميلاد انتهى مترجما من دسّاسى.
ثم إن ترجمة كتاب ديسقورديس المذكورة قد ترجمت من الرومى إلى العربى فى سنة 372 هـ، وقال دسّاسى إن ابن أبى أصيبعة الذى نقل عنه ما تقدم نسب إلى ابن جلجل من ضمن ما نسب إليه من الكتب تاريخا من أخبار الأطباء والفلاسفة فى أيام المؤيد بالله ولنرجع إلى الكلام فى اللّبخ.
قال فى كتاب القانون لابن سينا اللّبخ صحح من كلام (ج لى) ومن كلام سليوس، ويقال إن هذه هى الشجرة التى نقلت من فارس إلى مصر وكانت سمّا قبل نقلها فلما نقلت صارت مأكولة.
وقال أيضا: وجدت فى كتاب النبات لأبى حنيفة الدينورى لبخ قال أخبرنى الأعرابى الأزدى: أنها شجرة عظيمة مثل الأثأبة أو أعظم، ورقها شبيه بورق الجوز، لها جنى كجنى الحماض مر، إذا أكل أعطش، وإذا شرب عليه الماء نفخ البطن وأنشد فيه شعرا:
من يشرب الماء ويأكل اللّبخ
…
ترم عروق بطنه وتنتفخ
وهو من شجر الجبال. وأخبرنى العالم بخبره أن بأنصنا من صعيد مصر وهى مدينة السحرة شجرا فى الدور الشجرة بعد الشجرة يسمى اللّبخ قاله بالفتح، قال: وهى شجر عظام مثل الدلب وله ثمر أخضر يشبه التمر حلو جدا إلا أنه كريه جيد لوجع الأضراس، وإذا نشر أرعف ناشره وقد أثبت قول أبى حنيفة استظهارا ليصحح، لكن قول ابن سينا إنه يمنع النزف يخالف قول أبى حنيفة إنه يرعف وهذا الدواء مذكور فى آخر المقالة الأولى فى كتاب (د) فى هيولى العلاج واسمه هناك برسا.
وقال ابن البيطار فى مفرداته: لبخ أبو حنيفة قال وأخبرنى العالم بخبرة أن فى أنصنا من صعيد مصر وهى مدينة السحرة شجرة فى الدور الشجرة بعد الشجرة تسمى اللّبخ وهى عظام مثل الدلب، وله ثمر أخضر يشبه التمر حلو جدا إلا أنه كريه جيد لوجع الأسنان، ديوسكوريدس فى آخر الأولى (فرسا) هى شجرة تكون بمصر لها ثمر يؤكل جيد للمعدة وربما وجد فى هذه الشجرة صنف من الرتيلا يقال لها: قرانيو قوما وخاصة ما كان منه ناحية الصعيد، وقوة ورق هذه الشجرة تقطع الدم إذا جفف وذر على المواضع التى يسيل منها الدم، وقد يزعم قوم أن هذه الشجرة كانت تقتل فى بلاد الفرس وبعد أن نقلت إلى مصر صارت تؤكل ولا تضر.
جالينوس فى الثانية ورق هذه الشجرة به قوة لها قبض معتدل حتى يمكن فيه إذا وضع على العضو الذى ينفجر منه الدم نفعه الإسرائيلى، وثمرته لها قبض بين صار مقويا مانعا من الإسهال، وأمّا ما فى داخل نوى ثمر اللّبخ، فزعم أنه مضر وأنه إذا أكل أحدث صمما.
وفى رسالة لإبراهيم بن أبى سعيد المغربى العلائى لبخ الماهية: شجر كبار كان يقتل بفارس، ولما نقل إلى مصر صار مأكولا، النوع واحد، الاختيار الطرى، المزاج بارد يابس، فى الثانية القوة مجفف، منفعته فى أعضاء الرأس، ينفع من ورم الحلق ويمنع النوازل، منفعته فى آلات النفس، ينفع من نفث الدم ضمادا على الصدر، منفعته فى أعضاء الغذاء، يقطع النزف شربا وضمادا.
وهو من الأدوية النافعة من الإسهال والذرب، منفعته فى جميع البدن، يحبس الدّم من أىّ عضو كان ضمادا وبذره قوى فى الأدمال، وقيل: إن أصله عظيم النفع من لدغ العقارب.
كيفية استعماله: يستعمل شربا وضمادا، كمية ما يستعمل منه مثقال، مضرته بالصدر إصلاحه الأدهان بدله قرط.
وفى القاموس عن أبى باقل الحضرمى: بلغنى أن نبيا عليه الصلاة والسلام شكا إلى الله تعالى الحفر فأوحى إليه أن كل اللّبخ انتهى.
وقال السيوطى اللّبخ ثمر بقدر اللوز الأخضر إلا أن المأكول منه الظاهر وقال فى موضع آخر وخشب اللّبخ أملح من الأبنوس اليونانى، ويظهر مما نقله دساسى عن ديوسقورديس أن شجر البرسيا كان كثيرا فى الأقاليم المصرية القبلية والبحرية، وفى زمن غليان كان يوجد منه كثير فى أرض الإسكندرية وبساتينها./
وقال بوزانياس فى تأليفه سنة 174 من الميلاد، أن البرسيا توجد فى شواطئ النيل وفى مبادئ القرن الثالث من الميلاد شاهد إيليان غابة منه فى الإسكندرية، وفى زمن الرومانيين صدرت أوامر بالمحافظة على هذا الشجر؛ ولعل سبب ذلك أخذه فى التناقص بسبب إهماله، ويظهر من جميع أقوال مؤرخى العرب أن اللّبخ شجر فى الصعيد.
وقال المقريزى فى التكلم على عجائب مصر، وبها أى بمصر الأفيون عصرة الخشخاش ولا يجهل منافعه إلا جاهل، وبها اللّبخ وهو ثمرة قدر اللوز الأخضر كان من محاسن مصر إلا أنه انقطع سنة سبعمائة من الهجرة.
وقال ابن إياس فى تاريخه: وكان بها أى بمصر نوع يسمى اللّبخ وهو مثل اللوز الأخضر ويظهر من جميع ما يقدم، أن هذه الشجرة كانت فى الأزمان السالفة كثيرة ثم أخذت فى النقص من زمن القيصر أرقاد
(1)
، وهنوريوس فى أوائل القرن الخامس من الميلاد، ولما استولى المسلمون على مصر قلت فى الأقاليم القبلية وانقطعت من الأقاليم البحرية.
وفى زمن عبد اللطيف البغدادى صارت نادرة جدا وبعد ذلك بقرن انعدمت بالكلية، وقال بعض من ساح فى مصر فى سنة 1791 ميلادية: أن شجرة البرسيا تزرع إلى الآن ببساتين مصر وتعرف باسم سبستان، وهى كلمة فارسية معناها المخيط، أورد ذلك دساسى وأورد كلام المتقدمين شاهدا على رده، وقال: إن جميع مؤلفى العرب ذكروا النوعين بخواص وصفات مختلفة فمن ذلك قول إبراهيم بن أبى سعيد المتقدم ذكره فى الكلام على السبستان حيث قال: سبستان الماهية مخاطية، النوع واحد، الاختيار الكثير اللحم المزاج معتدل القوة، ملين منضج منفعته من أعضاء الرأس، يقع فى أدوية الكلف، منفعته فى آلات النفس، يلين الحلق والصدر وينفع من السعال اليابس، منفعته فى أعضاء الغذاء، يلين البطن ويسكن العطش ويسهل السوداء، ويخرج الحيات من البطن ويحتقن بطبيخه فينفع من وجع الظهر، والقولنج مضرته يرخى المعدة بدله عناب.
وقال ابن البيطار: سبستان هو المخيطا، ومعنى سبستان بالفارسية أطباء الكلبة (ثديها)(قال) إسحاق بن عمران، المخيطا: هى الدبق بالعربية وهو شجرة تعلو على الأرض نحو قامة، وقال دساسى أن ابن البيطار قد أخطأ فى قوله إن معنى سبستان أطباء
(1)
يقصد: القيصر أركاديوس.
الكلبة، ولعل المراد أن هذا النوع يسمى أطباء الكلبة كما يسمى سبستان، وشجر الأثأب المذكور فى أوّل العبارة يذكر كثيرا فى كتب العرب المتعلقة بالنباتات، قال الجوهرى أثأب شجر: واحدته أثأبة قال الكميت:
وغادرنا المقاول فى مقر
…
كخشب الاثأب المتغطرسينا
والمقاول جمع مقول قال فى القاموس مقول كمنير، الملك أو من ملوك حمير اه.
وفيه أيضا ضرف ككتف: شجر التين الواحدة ضرفة أو من شجر الجبال يشبه الأثأب فى عظمه وورقه له تين أبيض مدوّر مفرطح، كتين الحماط الصغار مر، يضرس يأكله الناس والطير والقرود، وقال فى كلمة حماطة. الحماطة: شجر شبيه بالتين أحب شجر إلى الحيات أو التين الجبلى أو الأسود الصغير أو الجميز ج الحماط.
وفى هامش على ابن سينا قد كتب الحماض: بالضاد لا بالطاء والأصح كما قال دساسى أن الحماض بالضاد غير الحماط بالطاء، وأن الذى بالضاد نوع من الليمون المر ذكره السيوطى مع غيره فى ذكر فواكه مصر، فقال: الحماض والكباد والموز الكثير وقصب السكر والرطب والعنب والتين والرمان والتوت اه.
وأما شجر الدلب فقال فرسقال: هو شجر تسميه العرب تولق أو تالق ويسمى بالفارسية جنار، وفى الترجمة العربية لكتاب ديوسكوريدس قد ترجم أفلاطانوس وهو الاسم اللاتينى بالدلب، وفى كتاب الأنيس المفيد لدساسى نقلا عن القزوينى أن شجر الدّلب من أعظم الأشجار وأعلاها وأبقاها، فإذا طالت مدتها يتفتت جوفها ويبقى ساقطا مجوفا، وورقها يشبه الأصابع الخمس وتهرب منها الخنافس؛ ولذا تجعلها بعض الطيور فى أوكارها مخافة الخنافس، قال الشيخ الرئيس: دخانه أقوى من ذلك والخنافس تموت من أوراقها،
وقال دساسى. إن الحق أن الذى يموت منه هو الخفاش- (الوطواط) -لا الخنافس لأن ذلك هو الموجود فى كتب إليان وبلين، فلعل عبارة الخنافس محرفة عن الخفاش لتقارب الحروف، ولهذا الشجر ثمر سماه القزوينى جوز السر، وصوب دساسى أنه جوز السرو وبالواو بعد الراء وفى القزوينى أنه يعمل من ثمره ضماد ينفع من قرص الأفاعى انتهى.
ترجمة أبى حنيفة الدينورى الطبيب، وإسحاق وابن البيطار
ولنذكر لك ترجمة بعض من أوردنا أسماءهم فى هذه العبارة لزيادة الفائدة فنقول:
أما أبو حنيفة الدينورى على ما ذكره أبو الفداء فقد توفى سنة 282 من الهجرة، واسمه أحمد بن داود وله كتاب النبات وكتاب إصلاح المنطق وإسحاق المذكور فى عبارة ابن البيطار توفى سنة 320 من الهجرة، وابن/البيطار، هو أبو محمد ضياء الدين عبد الله بن أحمد بن البيطار الطبيب النباتى نزيل القاهرة الأندلسى المالقى مصنف كتاب الأدوية المفردة الذى لم يصنف مثله، كان ثقة فيما ينقله، وإليه انتهت معرفة النبات وصفاته وأسمائه وأماكنه، سافر إلى بلاد الأغارقة وأقصى بلاد الروم.
قال ابن أبى أصيبعة: شاهدت معه كثيرا من النبات فى أماكنه بظاهر دمشق، وقرأت عليه تفسيرا. فكنت آخذ من غزارة علمه وداريته شيئا كثيرا، وكان لا يذكر دواء إلا ويعين فى أىّ مكان هو من كتاب الأديسقوريدس وجالينوس، وفى أى عدد هو من الأدوية
المذكورة فى تلك المقالة، وكان فى خدمة الملك الكامل وجعله مقدما عنده وكان بمصر رئيسا على سائر العشّابين وأصحاب البسطات، وكذلك كان حظيا عند الملك الصالح ابن الملك الكامل، وله كتاب المغنى فى الطب وهو جليل مرتب على مداواة الأعضاء، وكتاب الأفعال الغريبة والخواص العجيبة والإبانة والإعلام عما فى المنهاج من الخلل والأوهام، وكتاب الأدوية المفردة المعروف بمفردات ابن البيطار، وتوفى بدمشق سنة ست وأربعين وستمائة هجرية انتهى من كتاب دائرة المعارف.
وأما غليان، فهو حكيم رومى مشهور، ولد فى بلدته برجام سنة مائة وإحدى وثلاثين من الميلاد، ومات سنة مائتين، وقد درس الفلسفة ثم الحكمة وساح كثيرا، وأقام بالإسكندرية عدة سنين ثم رجع إلى بلاده، وذهب إلى رومة وعمره أربع وثلاثون سنة، وكان حكيما لثلاثة من القياصرة وهو أول حكيم بعد بوقراط، وله مؤلفات كثيرة فى التاريخ والحكمة وبقيت كتبه متداولة بين العرب والفرنج انتهى.
ترجمة ديوسقوريدس
وأما ديوسقوريدس بالقاف أو بالكاف فهو حكيم يونانى كان فى القرن الأول من الميلاد وترك ستة كتب فى المواد الكلية، صارت منبعا تأخذ منه العلماء خواص النبات القديمة.
وأما تيوفرست فهو فيلسوف يونانى ولد قبل الميلاد بثلاثة وسبعين سنة فى أرسوس مدينة من جزائر ليسبوس ذهب إلى أثينة صغيرا، وتعلم على أفلاطون وأرسطو واختاره أرسطو ليقوم مقامه فى التدريس عند انقطاعه عن ذلك فى آخر عمره سنة ثلثمائة واثنتين وعشرين، ومات وعمره خمس وثمانون سنة أو مائة وسبعة، وكان محبوبا لجميع الناس وحزنوا عليه، وكان له يد فى جميع العلوم مثل أستاذه أرسطو، وألف نحو مائتى رسالة لم يبق منها إلا القليل، وترجم كثيرا من كتبه بألسنة مختلفة انتهى.
ترجمة ابن سينا
وفى كتاب دائرة المعارف أن ابن سينا: هو أبو على الحسين بن عبد الله بن سينا البخارى المشهور بالشيخ الرئيس، كان من أشهر الحكماء والأطباء العرب، فهو بقراط الطب وأرسطو الحكمة عند العرب والفرنج، وقد جمع فى فسيح صدره كتابات أرسطو، وأودع فى خزانة معارفه حكمه وقواعده، وقد نقل الفرنج عنه أكثر ما عندهم من كتابات جالينوس وبقراط ونشروا أشهر تأليفه فى اللغة العربية، وترجموا أكثرها فى لغاتهم وافتخر به الشرق ومدحه الغرب.
كان أبوه من أهل بلخ وانتقل إلى بخارى وبها ولد المترجم وأخوه، وتنقل المترجم بعد ذلك فى البلاد، ولما بلغ عشر سنين اتقن علم القرآن والأدب وحفظ أشياء من أصول الدين وحساب الهند والجبر والمقابلة، ثم توجه نحوهم الحكيم أبو عبد الله النائلى فأنزله أبوه عنده، فابتدأ الرئيس ابن سينا يقرأ عليه كتاب إيساغوجى وأحكم عليه علم المنطق، ولما انصرف النائلى من عنده اشتغل هو بتحصيل العلوم والطبيعيات والإلهيات وغير ذلك، ثم رغب فى علم الطب وتأمل الكتب المصنفة فيه، وعالج من احتاج لا على طريق الاكتساب بل تأدبا وممارسة، حتى فاق الأوائل والأواخر فى أقل مدة، فكان فضلاء هذا الفن يختلفون إليه ويقرؤون عليه وكان عمره إذ ذاك نحو ست عشرة سنة، وفى مدة اشتغاله لم يتم ليلة بكمالها، وإذا أشكلت عليه مسئلة توضأ وقصد المسجد وصلى ودعا الله أن يسهلها عليه.
وقد عالج الأمير نوح بن نصر صاحب خراسان فبرأ على يده بإذن الله، فأدخله مكتبة له فيها من كل فمن من الكتب النادرة الوجود، فاستفاد منها أشياء لم يدركها سواه، واتفق أن المكتبة احترقت بعد مدة فقيل: إنه هو السبب فى إحراقها لقصد أن ينفرد بالمعارف، ولم يكمل عمره ثمان عشرة سنة حتى أكمل العلوم بأسرها، وتقلد هو وأبوه الأعمال للسلطان، وكان على زى الفقهاء يلبس الطيلسان وانتقل إلى كركانج قصبة خوارزم، ثم إلى نيسابور وإلى دهستان، وإلى جرجان وصنف بها الكتاب الأوسط ولذا يقال له الأوسط الجرجانى، ثم انتقل إلى الرى، ثم إلى قزوين ثم إلى همذان، وتقلد الوزارة لشمس الدولة مدة، ثم انتقل الى أصبهان.
وله من التصانيف ما يقارب المائة ما بين مختصر ومطول منها: كتاب الشفاء فى الحكمة، وكتاب النجاة، والإشارات، والقانون وغير ذلك، وهو أحد فلاسفة المسلمين، وبالجملة ففضائله مشهورة وكانت ولادته فى شهر صفر سنة ثمانين وثلاثمائة وتوّفى بهمذان يوم/الجمعة من رمضان سنة ثمان وعشرين وأربعمائة ودفن بها.
قال ابن الوردى فى تاريخه المشهور: إن الغزالى كفّر ابن سينا فى كتابه «المنقد من الضلال» ، وكفر الفارابى أيضا قال. قال: فى المنقذ من الضلال إن مجموع ما غلطا فيه من الإلهيات يرجع إلى عشرين أصلا، يجب تكفيرهما فى ثلاثة منها وتبديعهما فى سبعة عشر.
أما المسائل الثلاث فقد قالا: إن الأجساد لا تحشر وإنما المثاب والمعاقب الأرواح، وقالا: إن الله يعلم الكليات دون الجزئيات، وقالا: بقدم العالم واعتقاد هذا كفر صريح نعوذ بالله منه انتهى.
وقد أطال المقريزى الكلام على مدينة أنصنا فراجعه وفى آخر حدودها من الجهة الغربية القرية المعروفة الآن بالشيخ عبادة من قسم ملوى بمديرية أسيوط، سميت باسم ولىّ مدفون بها وله فيها جامع بمنارة، وللأهالى فيه اعتقاد كبير، ويكثرون من زيارته وبعضهم يعتقد أنه
صحابى، وبها نخيل كثير، وأغلب أطيانها فى جزيرة فى البحر يزرع فيها أنواع الحبوب، وبعض أطيانها على شاطئ البحر، وهو شاطئ قليل السعة ممتد بطول خراب أنصنا يزرع فيه الذرة، وأكثر أطيانها يسقى بآلات لعلوها والجبل بعيد عنها بنحو نصف ساعة ويجتمع مع البحر قبلى الشيخ تمى، ومن محل الاجتماع إلى آخر مدينة أنصنا من بحرى وطوله نحو ثلث ساعة يسمى ذلك الجبل بجبل الشيخ تمىّ، وفى أعلاه ورشة يستخرج منها جبس جيد، وبجوار البحر فيه ورشة أحجار ودبش، وفى آخر خراب أنصنا من قبلى قرية تسمى دير أبى حنس أغلب أهلها نصارى ويقابلها فى الغرب قرية البياضية، وفى خراب أنصنا أيضا كوهرجلة لاستخراج ملح البارود مستعملة إلى الآن وموقعها بحرى الشيخ عبادة.
أنطيل
قال العالم لرشى: إنها مدينة من مدن مصر واقعة فى غربى الفرع الجنوبى على قرب منه وفى الشمال الغربى لمدينة نقراطس، وبقربها مدينة أركاندر وتسمى أركاندروبوليس بقرب الفرع الجنوبى أيضا لكن ميلها إلى الجنوب بالنسبة إلى هذا الفرع أكثر من ميل أنطيل إليه.
وكانت مدينة أنطيل من ضمن إقطاعات نساء ملوك مصر برسم أثمان نعالهن، ونقل أن أثينة كانت برسم أحزمتهن.
وقال هيرودوط: إن النيل عند فيضانه يعم الأرض فلا يرى غير المدن شبيهة بالجزائر فى وسط البحر وتسير السفن فى وسط الأراضى ولا تتقيد بالخلجان، فمن يريد السفر من مدينة كانوب الواقعة على البحر إلى مدينة نقراطس يمر بقرب مدينة أنطيل ومدينة أركاندر، ومن يقصد منفيس من مدينة نقراطس يمر على الأهرام على خلاف الملاحة المعتادة، والمعتاد هو طريق الدلتا- (ملتقى البحرين) -إلى مدينة سركزورا.
وفى كتاب هيرودوط أيضا أنه كان يستخرج بهذه البلدة نوع من النبيذ هو أجود أنواعه، وقيل: إن أجودها المستخرج من جهات مريوط والإسكندرية، وأما المستخرج من مدينة قفط فكان على غاية من الخفة حتى كان يستعمل لشفاء المرضى، قال: وكان القسيسون لا يدخلون النبيذ فى المعابد إذ لا يجوز أن يشرب أمام المقدسين، وكان بعض الكهنة يتعاطاه قليلا فى غير أوقات العبادة ومطالعة العلوم وكانت تلك الأوقات كثيرة، وكان الملوك من الكهنة لا يتعاطون منه إلا مقدارا لا يتجاوزونه، وفى زمن الملك بسماتيكوس فشا أمر النبيذ وازداد فشوه فى زمن البطالسة واستمر على ذلك.
أهريت
قرية من قسم العجميين ببلاد الفيوم غربى جردو وغربى مطول أيضا إلى جهة بحرى، ومجاورة لناحية العتامنة والمزرعة، وبها نخيل وسوقها كل يوم ثلاثاء ولأهلها شهرة فى زرع البطيخ والمقاثئ فى موضع يعرف بالعربن
(1)
شرقى وادى النزلة، ولهم شهرة أيضا فى تربية النحل واستخراج عسله، ومن بيوتها المشهورة بيت على الدهشان وأولاده إلى الآن هم عمدها.
أهناس
(2)
اسم لثلاث قرى متجاورة من مديرية بنى سويف فى جنوب اللاهون على نحو ستة أميال، كبراهن واقعة على جسر النويرة فى المحل المعروف بالباطن، وهو محل اجتماع المياه قبل عمل الجسور، وكان عرضه هناك نحو تسعين قصبة وقد سدّ بعمل الجسور سنة خمس وأربعين ومائتين وألف فى عهد أحمد باشا طاهر.
(1)
الصحيح: العرين. انظر: القاموس الجغرافى، ق 2 ج 4، ص 63.
(2)
وردت فى القاموس الجغرافى: إهناس-إهناسية. انظر: ق 2 ج 3، ص 153.
والقرى الثلاثة مع قرية منشأة أهناس يظهر أنها موضوعة فى محل المدينة القديمة التى كانت تسمى أهناس أو أهناسية، وكانت متسعة جدا مساحتها نحو ألف فدان، وكانت قاعدة إقليم يشتمل على خمس وتسعين قرية، وفى بعض العبارات أنها كانت كرسى المديرية، والظاهر أنها هى المدينة التى سماها اليونان هرقليوبوليس مانيا، وقال مرييت إن هذه المدينة ينسب إليها فراعنة العائلتين التاسعة والعاشرة ومدة الأولى مائة وتسع سنين، ومدة الثانية مائة وخمس وثمانون سنة.
وفى بعض الأعصر كانت من إقليم البهنسا وكانت قديما ذات أسقفية وكانت على الشط الغربى لبحر يوسف وفى خطط /الفرنساوية، إن اسم هيرقليوبوليس كان لمدينتين هذه إحداهما على ما قدّره بطليموس من طولها وعرضها، والآثار التى هناك تدل على أنها كانت مدينة مهمة كما وصفنا.
وذكر استرابون أن النّمس كان مقدسا عند أهل أهناس من بين الحيوانات، كما أن التمساح كان مقدسا عند أهالى الفيوم، ويقال: إن للنمس كراهة شديدة فى التمساح والثعبان، وأنه يأكل بيض التمساح، وإذا رآه فاتحا فاه اندفع فيه ونهش أحشاءه، ويقال: إن كراهته للتمساح هى السبب فى تقديسه عند أهل أهناس.
وذلك أنه كان بينهم وبين أهل الفيوم عداوة شديدة حدثت بعد حفر بحيرة مريس وتوصيل ماء بحر يوسف إليها لأجل تخزين ماء النيل لمصالح الفيوم، فنشأ عن ذلك نقص بحر يوسف عما كان عليه أولا فى مديرية بنى سويف، فحصل من ذلك اضمحلال حال مدينة هيرقليوبوليس، فحملهم ذلك على تقديس ما يكره مقدس أولئك انتهى.
وقد مر أن المصريين إنما كانوا يقدسون الحيوانات لخواص فهموها فيها، وأن الذى فى كتب المؤرخين عنهم إنما هو أمور إشارية ملغزة كانوا يقصدون منها غير ما يظهر لنا من ألفاظها، وبالبحث والتفتيش مع طول الزمن ربما يعلم حقيقة ما قصدوه، وقد وجد فى كثير من المعابد والهياكل صورة النمس، وربما وجدت مصنوعة من المعادن، وتقديس أهالى الفيوم للتمساح لكونهم كانوا يعتبرونه مبشرا بالنيل، فكانوا يجعلونه علما على دخول النيل أرضهم، بمعنى دخول البركة والرخاء، ولم يعلم سبب تسمية هذه المدينة باسم هيرقليوبوليس إلا أن يقال: إنه مأخوذ من اسم هيرقول الذى كان معدودا من الطبقة الثانية من مقدسى المصريين، وكان علما على القوة الدافعة لجميع المضار عن أرض مصر الجالبة لخصوبتها.
وحيث إن النيل الذى به الخصوبة كان يطلق عليه إسم أوزريس، وكان هيرقول من رؤساء جيشه، كان ذلك الاسم دليلا على الخلجان المفرعة عنه الموجبة دخول المياه فى جميع الأراضى، سيما الخلجان المتطرفة المجاورة للصحراء المانعة رمالها من أن تدخل أراضى الزراعة فتفسدها، ومن أعظمها بحر يوسف، فسميت هذه المدينة بهذا الاسم لهذا السبب-انتهى- من بعض كتب الفرنج وكان بإهناس شجر النبق المغربى كما فى بعض كتب التواريخ، ولعله هو الذى عبر عنه المقريزى فى خططه بشجر اللّبخ.
وكان بجوارها دير على شاطئ النيل يقال: له دير النور فيه بناء مشرف مركب من خمس طبقات عالية جميلة الصناعة وجميع الدير مستور بحائط. وفى داخله أربعمائة نخلة متناسقة الشكل، وقد أخرج من تلال أهناس طوب كثير استعمل فى أبنية كثير من الكوهرجلات التى هناك، وفى جهتها البحرية على نحو ساعة ونصف. قرية سدمنت الجبل فوق الشاطئ الغربى للبحر اليوسفى بقرب الجبل، وعندها فى الجهة البحرية بالجبل دير عامر بالنصارى، وتمر فى قبليه سكة حديد الفيوم الخارجة من سدمنت يسافر بها فى الجبل ساعة ونصف، ثم ينزل على بحر قنبشة وبحر الغرق، ومن هناك إلى مدينة الفيوم مسافة ساعتين ونصف فى طريق فى أرض المزارع، وطريق الجبل تمر بين الجبل وبحر الغرق، لأن البحر ملاصق للحجر.
أولاد إسماعيل
قرية من مديرية جرجا بقسم سوهاج فى جنوب بنويط بأقل من ساعة وفى الشمال الغربى لشندويل، كذلك وفى غربى المراغة بنحو ساعة، وفى شرقى جهينة بنصف ساعة.
واقعة فى وسط أرض جيدة خصبة، وأهلها أصحاب يسار وأبنيتها حسنة، وفيها مساجد عامرة ونخيل قليل، وفيها عائلتان مشهورتان عائلة أولاد مكى فى جهتها البحرية لهم أبنية مشيدة، وعائلة أولاد همام فى جهتها الجنوبية الشرقية لهم أبنية فاخرة ومناطر بالزجاج والبياض، ولهم كرم زائد ومهارة فى رماحة الخيل ويقتنون جيادها، وكان منهم ناظر قسم فى زمن العزيز محمد على باشا، ثم حاكم خط فى زمن الخديوى إسماعيل باشا، وأرضها تروى من ترعة يقال لها ترعة أم عليلة فمها عند سوهاج.
ترجمة الفاضل الشيخ أحمد الإسماعيلى المالكى
وإليها ينسب الفاضل الشيخ أحمد أبو السعود الإسماعيلى المالكى، جاور بالجامع الأزهر على كبر يقال: إنه كان ملحقا بنظام الجهادية فهرب والتحق بالأزهر، وكان يقرأ الخط فأخذ فى طلب العلم وجد واجتهد وحفظ المتون وسهر الليالى، وكل يوم تزداد همته واجتهاده مع الصلاح والتقوى حتى فتح الله عليه وتلقى جميع الكتب التى تقرأ بالأزهر واشتهر بالنجابة والصلاح.
ولازم الشيخ مصطفى البولاقى، ومن بعده لازم شيخ المالكية قطب زمانه الشيخ محمد عليش المغربى فكان من أخصائه، وتلقى عن الشيخ إبراهيم البيجورى، وشيخ المالكية الشيخ حبيش وغيرهما من مشايخ العصر.
وأذن له فى التدريس. فدرس الكتب الكبيرة والصغيرة من فقه وحديث وتفسير وعربية، وكان حسن التعليم مرغوبا للطلبة، مع أنه كان شديدا عليهم يلزمهم التأدب والالتفات وربما ضربهم على ذلك، وكان متقشفا يلبس/ثياب الصوف ويتلفع بملاآت القطن الإخميمية على هيئة ملابس أهل الصعيد ويتكلم أيضا بكلامهم، ولا يخالط أهل الدنيا ولا أهل البطالات، وإذا أراد قراءة كتاب للطلبة فلا بد أن يطالعه فى أشهر البطالة زيادة على المطالعة المعتادة للمشايخ، ولإكبابه على المطالعة كان لا يرى النيل إلا نادرا بل كان مسكنه الأزهر لا يهنأ له البيات بغيره، وله خزانة صغيرة من خزن الأزهر التى بالمقصورة. كان يضع فيها متاعة فكانت هى بيته وليس له متاع إلا ثيابه وبعض دراهم وقليل من القراقيش فى بعض الأحيان، وهو من عائلة أشراف من قرية كوم أشقاو بقسم طهطا من مديرية حرجا.
وكان كثير الأمراض تراه فى الليل بالأزهريئن أنينا شديدا، فإذا أحس بأحد عنده ترك الأنين، واستيقظ ليلة فوجد شخصا يبول عليه فلم يتحرك حتى أتم الرجل بوله خوفا من تلويث المسجد إذا بادر بالقيام، وبالجملة فكان أورع أهل وقته وكان موته قبيل سنة ثمانين ومائتين وألف رحمه الله
أولاد رائق
قرية من أعمال أسيوط بلصق جسر مسرع من الجهة البحرية وغربى ترعة الإبراهيمية بنحو أربعمائة متر، وفى الجنوب الشرقى لناحية مسرع بنحو ألفى متر، وغربى بنى حسين الجسر كذلك.
ترجمة الشيخ أحمد الرائقى المالكى
وينسب إليها العلامة الشيخ أحمد الرائقى المالكى كان مكفوف البصر، ويقال: إنه طلب العلم على كبر حضر إلى الأزهر وسنه نحو الأربعين، ولجودة ذهنه وقوة حافظته حصل فى زمن يسير ما استحق به التصدر فكان لا يسمع شيئا إلا حفظه، وكانت له دراية فى المذاهب الأربعة عليه رحمة الله.
أولاد عمر
قرية بالصعيد الأعلى من قسم قنا على الشاطئ الشرقى للنيل، ويقابلها فى البر الغربى ناحية دندرا، وفى بحريها قرية السمطة، وفى هاتين القريتين-أعنى أولاد عمر والسمطة- والبلاد المجاورة لهما شجر الدّوم بكثرة، وأول كثرته من ابتداء ناحية دشنا ومنبل مصعدا إلى ناحية طوخ من قسم قنا، وهناك شجر النخل أيضا.
وخشب الدّوم أقوى من خشب النخل، ومن خواصه أنه لا يغيره طول الإقامة فى الماء، فلذا يستعمل فى أحزمة القناطر ويوضع فى أساس السّواقى والآبار، ويعمل منه أيضا أبواب للمنازل وسقوف وشبابيك، ويعمل من سعفه القفف والزنابيل والمرجونات، وجريده قصير عن جريد النخل، وله أسنان سود من الجانبين فى طول الجريدة تشبه أسنان المنشار، وثمره فى الغلظ قريب من الجوز الهندى وله سباطات كسباطات النخل، ويستعمل أكلا وتارة ينقع ويشرب ماؤه لا سيما للمرضى، فإن له منافع فى نحو الدموية، والذى يؤكل أو ينقع منه هو ما على ظهر الثمرة، وباقيها عظم غليظ قد يعمل منه بعض الفقراء علبا للنشوق.
وشجره أوّلا يكون أصلا واحدا ثم بعد ارتفاعه نحو مترين يتفرع إلى فرعين، ثم بعد ارتفاعهما نحو مترين يتفرع كل منهما إلى فرعين، وهكذا حتى يكون فروعا كثيرة. ويوجد كثير منه فى الجبال من غير زرع زراع، كما فى ناحية جهينة بالجبل الغربى من قسم سوهاج بمديرية جرجا، وكما فى ناحية القوصة بجبل الطارق من شرق أولاد يحيى بمديرية جرجا، ويوجد أيضا فى جزيرة العرب بأرض مكة، وثمره يعرف بالمقل المكى وهو أجود من المقل المصرى وأحلى، ومنه ما يوجد فى بلاد الأندلس لكن ثمره لا يتم نضجه قاله دساسى.
ونقل أيضا عن ابن البيطار عن أبى حنيفة أن الدوّم هو المقل، وهى شجرة تعبل وتسمو ولها خوص كخوص النخل وتخرج أفنانا فيها المقل، ويقال لخوصها الطفى والأسلم وهو قوى متين، يصنع منه حصر وغرائر، وثمره هو المقل والوقل، ورطبه البهش، ويبيسه الحشف، وتعمل منه السويقة وتسمى بالحسك قيل: إن الكهربا رطوبة تقطر من ورق شجر الدوم شبيهة بالعسل ثم تجمد، قاله صاحب السراج المغنى قال: وقد يوجد فى داخله الذباب، وقال ابن سينا: الكهربا صمغ شجر الجوز الرومى بالجيم والزاى، وهو صمغ كالسندروق بين الصفرة والبياض، وربما كان إلى الحمرة يجذب التبن والهشيم إلى نفسه، وأصله كلمتان كاه وربا أى سالب التبن.
وقال أيضا: شجرة الجوز الرومى تنبت فى النهر الذى يسمى ليردانوس له صمغ يسيل منه ويجمد فى النهر، وهو الذى يسمى أيلقطرون وهو الكهربا.
وحقق بعض الفرنج أن اسم تلك الشجرة الحور الرومى بالحاء والراء المهملتين، وفى ترجمة ديوسكوريدس الحور الرومى: هو الحور الأسود، وعلى هذا فهو حور إيطاليا وبلاد اللونبارديا، وقال بذلك ابن العوام أيضا فى كتاب الزراعة، وإن لفظ السندروق صوابه السندروس بالسين فى آخره، ونقل عن ابن سينا أنه صمغ شجرة فى الهند وقد تحقق أنها شجرة الكبال.
ونقل دساسى عن بعض مؤلفى العرب، ما نصه: الكهربا يجذب القش والتبن وهو شجر الجوز الرومى، وقد يتولد فى وجه الأرض كالحصى وأجوده المسمى بالشمعى لكونه مجزعا ببياض أصم ويجذب القش أكثر ورائحته تشبه رائحة/الليمون يوجد بالأندلس وبسواحل البحر تحت الأرض وبأوجات- (بلاد الأوجات) -ويوجد قطعا قطعا يجمعه الحراثون وقيل هو رطوبة شجر الدوم انتهى.
أولاد يحيى
قرية من قسم جرجا فى شرقى النيل، وفى شرقى البلابيش بقرب الجبل، وفى شمال مزانة بنحو ثلثى ساعة، وهى قرية عامرة ذات مساجد ونخيل ومضايف وفيها جياد الخيل، ولأهلها كرم وشهامة يترفعون عن سفاسف الأمور لا تخرج نساؤهم ولا يدخل الرجال بيوتهم ولو من أولادهم ويكرمون ضيفهم ويحمون نزيلهم.
ومن أهلها على أغا البهنساوى عمدة شهير كان ناظر قسم الشرق من تلك المديرية زمن العزيز محمد على. وفى هذه القرية مات الأمير رضوان كتخدا الجلفى فى سنة 1169 ألف ومائة تسع وستين، وهو مملوك على كتخدا الجلفى، تقلد كتخدائية باب العزب بعد قتل أستاذه بعناية عثمان بيك ذى الفقار، ولم يزل يراعى لعثمان بيك حقه وجميله حتى أوقع بينهما إبراهيم كتخدا، ولما استقرت الأمور له ولقسيمه إبراهيم كتخدا اعتكف المترجم على لذّاته وفسوقه وخلاعاته ونزاهاته، وأنشأ عدة قصور وأماكن بالغ فى زخرفتها وتأنيقها وخصوصا داره التى أنشأها على بركة الأزبكية، وأصلها بيت الدادا الشرايبى، وهى التى على بابها
العمودان الملتفان المعروفة عند أولاد البلد بثلاثة ولية، وعقد على مجالسها العالية قبابا عجيبة الصنعة منقوشة بالذّهب المحلول واللاّزورد والزجاج الملون والألوان المفرحة، ووسّع قطعة الخليج بظاهر قنطرة الدّكة، بحيث جعلها بركة لطيفة وبنى عليها قصرا مطلا عليها وعلى الخليج الناصرى من الجهة الأخرى.
وكذا أنشأ فى صدر البركة مجلسا خارجا بعضه على عدة قناطر لطيفة، وبعضه داخل الغيط المعروف بغيط المعدية، وبوسطه بحيرة تمتلئ بالماء من أعلى، وينصب منها إلى حوض من أسفل ويجرى إلى البستان لسقى الأشجار، وبنى قصرا آخر بداخل البستان مطلا على الخليج وعلى الأملاق من ظاهره، فكان ينتقل فى تلك القصور خصوصا فى أيام النيل، ويتجاهر بالمعاصى والراح والوجوه الملاح وتبرج النساء ومخالع أولاد البلد، ومنع أصحاب الشرطة من التعرض للناس فى أفعالهم.
وهو الذى عمر باب القلعة الذى بالرميلة المعروف بباب العزب وعمل البدنتين والزلاقة على هذه الصورة الموجودة الآن، وقصدته الشعراء ومدحوه بالقصائد والمقامات والتواشيح، وأعطاهم الجوائز السنية وداعب بعضهم بعضا، فكان يغرى هذا بهذا ويضحك منهم ويباسطهم.
واتخذ له جلساء وندماء: منهم الشيخ مصطفى اللقيمى الدمياطى صاحب المدامة الأرجوانية فى المدائح الرضوانية، وامتدحه العلامة الشيخ يوسف الحفنى، والشيخ عمار القروى، والشيخ قاسم بن عطاء الله الأديب المصرى، وجمع فيه الشيخ عبد الله الإتكاوى كتابا سماء الفواتح الجنانية فى المدائح الرضوانية.
ولم يزل رضوان كتخدا وقسيمه إبراهيم كتخدا على إمارة مصر ورآستها حتى مات إبراهيم كتخدا، فتداعى بموته ركن المترجم وظهر شأن عبد الرحمن كتخدا القازدغلى وراج سوق نفاقه، وأخذ يعضد مماليك إبراهيم بيك كتخدا ويغريهم ويحرضهم على الجلفية لكونهم مواليه، ليخلص له بهم ملك مصر فيظن أنهم يراعون حق ولائه وسيادة جده، فكان الأمر عليه بخلاف ذلك، وكانوا يظهرون له الانقياد ويرجعون إلى رأيه ومشورته ليتم لهم المراد، وكل من أمراء إبراهيم كتخدا والأكابر وأصحاب الوجاهة متطلع للرياسة: مثل حسن كتخدا أبى شنب، وعلى كتخدا الخربتلى، وإسماعيل كتخدا مناو، وخليل جاويش حصان مصلى، وبيت الهياتم وبيت درب الشمس، وعمر جاويش الدّاودية، وبيت قصبة رضوان وبيت الفلاح وغيرهم، فأخذ اتباع إبراهيم كتخدا يدبرون فى اغتيال رضوان كتخدا وإزالته، فتنبه رضوان كتخدا لذلك واتفق مع حلفائه وملك القلعة والأبواب والمحمودية وجامع السلطان حسن وكاد يتم له الأمر، فسعى عبد الرحمن كتخدا والاختيارية فى إجراء الصلح، ولم يزالوا به حتى انخدع بكلامهم وصدقهم ففرق الجمع ونزل إلى بيته الذى بقوصون، فاغتنموا الفرصة وبيتوا أمرهم ليلا، وملكوا القلعة والأبواب والجهات والمترجم فى غفلته، فلم يشعر إلا وهم يضربون عليه بالمدافع وكان المزين يحلق له رأسه فسقطت على داره الجلل، فأمر بالاستعداد فلم يجد، فطلب من يركن إليهم فلم يجد أحدا، ووجدهم قد أخذوا حوله الطرق فحارب فيهم إلى قريب الظهر، وخامر عليه أتباعه فضربه مملوكه صالح الصغير برصاصة من خلف الباب الموصل لبيت الراحة فأصابته فى ساقه وهرب مملوكه إلى الأخصام، وكانوا أوعدوه بإمرة إن قتل سيده، فلما حضر وأخبرهم أمر على بيك بقتله، وعندما أصيب المترجم طلب الخيول وركب فى خاصته وخرج إلى جهة البساتين فلم يتبعه أحد ونهبوا/داره، ثم ذهب إلى جهة الصعيد فمات بشرق أولاد يحيى فى السنة المذكورة ودفن هناك، فكانت مدته بعد قسيمه ستة أشهر، وتفرقت صناجقه بعضهم إلى الحجاز وبعضهم إلى بغداد وغيرها، فكانت مدتهما جميعا نحو سبع سنوات انتهى ملخصا من الجبرتى.
أيلة
بفتح الهمزة وسكون المثناة التحتية ولام وهاء التأنيث، مدينة صغيرة كانت بطريق ركب الحاج المصرى بقرب ساحل بحر القلزم وكان بها زرع يسير، وهى مدينة اليهود الذين جعل منهم القردة والخنازير، وبقرب عقبتها دفن الشيخ إبراهيم اللّقانى فى مرجعه من الحج سنة إحدى وأربعين بعد الألف قاله فى خلاصة الأثر.
وقال المقريزى
(1)
فى خططه: ذكر ابن حبيب أن أثال بضم أوّله ثم ثاء مثلثة وهو وادى أيلة، وأيلة بفتح أوله على وزن فعلة، مدينة على شاطئ البحر فيما بين مصر ومكة سميت بأيلة بنت مدين بن إبراهيم عليه السلام، وأيلة أول حد الحجاز وقد كانت مدينة جليلة القدر على ساحل البحر المالح، بها التجارة الكثيرة وأهلها أخلاط من الناس، وكانت حد مملكة الروم فى الزمن الغابر، وعلى ميل منها باب معقود لقيصر قد كان فيه مسلحته يأخذون المكس، وبين أيلة والقدس ست مراحل.
والطور الذى كلّم الله عليه موسى عليه السلام على يوم وليلة من أيلة، وبينها وبين القلزم ست مراحل فى برية وصحراء، وكانت فى الإسلام منزلا لبنى أمية أكثرهم موالى عثمان بن عفان كانوا سقاة الحج، وكان بها علم كثير وآداب ومتاجر وأسواق عامرة، وكانت كثيرة النخل والزرع، وعقبة أيلة لا يصعد إليها من هو راكب، وقد أصلحها فائق مولى خمارويه بن أحمد بن طولون، وسوّى طريقها ورّم ما استرم منها.
وكان بأيلة مساجد عديدة وبها كثير من اليهود ويزعمون أن عندهم برد النبى صلى الله عليه وسلم وأنه بعثه إليهم أمانا، وكانوا يخرجونه رداء عدنيا ملفوفا فى الثياب قد أبرز منه قدر شبر فقط.
(1)
خطط المقريزى 1/ 325 ط لبنان.
ويقال إن أيلة هى القرية التى ذكرها الله تعالى فى كتابه حيث قال {وَ سْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَ يَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ}
(1)
.
وقد اختلف فى تعيين هذه القرية، فقال ابن عباس رضي الله عنهما وعكرمة والسّدى هى أيلة، وعن ابن عباس أيضا أنها مدينة بين أيلة والطور، وعن الزهرى أنها طبرية، وقال قتادة وزيد بن أسلم: هى ساحل من سواحل الشام بين مدين وعينونة، يقال لها معناة، وسئل الحسين بن الفضل: هل تجد فى كتاب الله الحلال لا يأتيك إلا قوتا، والحرام يأتيك جزافا فقال نعم: فى قصة أيلة {إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَ يَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ} .
(1)
قال وذكر المسعودى أن يوشع بن نون عليه السلام حارب السّميدع بن هرمز بن مالك العلقمى ملك الشام ببلد أيلة نحو مدين وقتله واحتوى على ملكه.
وذكر بعض ما ورد من أخبارها، ثم قال: قال ابن إسحاق، لما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك أتاه يحنة
(2)
بن رؤبة صاحب أيلة وصالحه وأعطاه الجزية، وأتاء أهل جرباء وأذرح فأعطوه الجزية، وكتب لهم كتابا فهو عندهم وكتب ليحنة
(1)
بن رؤبة:
بسم الله الرحمن الرحيم هذا أمنة من الله ومحمد النبى رسوله، ليحنة بن رؤبة وأهل أيلة أساقفتهم وسائرهم فى البر والبحر لهم ذمة الله وذمة النبى، ومن كان معهم من أهل الشام وأهل اليمن وأهل البحر، فمن أحدث منهم حدثا فإنه لا يحول ما له دون نفسه، وأنه طيب لمن أخذه من الناس، وأنه لا يحل أن يمنعوا ماء يريدونه ولا طريقا يريدونه من برّ أو بحر.
هذا كتاب جهيم بن الصلت وشرحبيل بن حسنة بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان ذلك فى سنة تسع من الهجرة.
(1)
سورة الأعراف آية:163.
(2)
فى الأصل تحية والمثبت عن البداية والنهاية لابن كثير 5/ 16 والسيرة الحلبية 3/ 160 ط صبيح القاهرة، وكذا معجم البلدان: أيلة.
ولم تزل مدينة أيلة عامرة آهلة، وفى سنة خمس عشرة وأربعمائة طرق عبد الله بن إدريس الجعفرى أيلة ومعه بعض بنى الجراح ونهبها وأخذ منها ثلاثة آلاف دينار وعدة غلال وسبى النساء والأطفال، ثم إنه صرف عن ولاية وادى القرى فسارت إليه سرية من القاهرة لمحاربته.
قال القاضى الفاضل: وفى سنة ست وستين وخمسمائة أنشأ الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب مراكب مفصلة وحملها على الجمال وسار بها من القاهرة فى عسكر كبير لمحاربة قلعة أيلة؛ وكانت قد ملكها الإفرنج وامتنعوا بها، فنازلها فى ربيع الأول وأقام المراكب وأصلحها وطرحها فى البحر، وشحنها بالمقاتلة والأسلحة وقاتل قلعة أيلة فى البر والبحر حتى فتحها فى العشرين
(1)
من شهر ربيع الآخر، وقتل من بها من الإفرنج وأسرهم وأسكن بها جماعة من ثقاته، وقواهم بما يحتاجون إليه من سلاح وغيره، وعاد إلى القاهرة فى آخر جمادى الأولى.
وفى سنة سبع وسبعين وصل كتاب النائب بقلعة أيلة: أن المراكب على تحفظ وخوف شديد من الفرنج ثم وصل الإيرنس لعنه الله إلى أيلة وربط العقبة، وسير عسكره إلى ناحية تبوك وربط جانب الشامى لخوفه/من عسكر يطلبه من الشام أو مصر، فلما كان فى شعبان من السنة المذكورة كثر المطر بالجبل المقابل للقلعة بأيلة حتى صارت به مياه استغنى بها أهل القلعة عن ورود العين مدة شهرين، وتأثرت بيوت القلعة لتتابع المطر، ووهت لضعف أساسها فتداركها أصحابها وأصلحوها انتهى.
وفى كتاب درر الفرائد المنظمة فى أخبار الحاج وطريق مكة المعظمة قال صاحب تقويم البلدان: وأيلة كانت مدينة صغيرة وكان بها زروع يسيرة، وهى على ساحل بحر القلزم وعليها طريق حاج مصر، وهى فى زماننا برج وبه وال من مصر، وليس بها زروع، وكان بها قلعة فى البحر فعطلت ونقل الوالى البرج إلى الساحل اه.
(1)
الصحيح: فى العشر الأول من ربيع الآخر. انظر: العينى: عقد الجمان، ج 1، ص 63 (العصر الأيوبى).
ثم قال قلت: وقد استجدّبها النخل الذى على ساحل البحر وبعض حدائق بالوادى والساحل وجميع ذلك لبنى عطية الحويطات، وإنما لقبوا بذلك لما بنوه من بعض الحيطان على النخل.
وفى كتاب عجائب البلدان: عقبة أيلة قرية صغيرة على جبل عال صعب المرتقى يكون ارتفاعه والانحدار منه يوما كاملا، وهى طرق لا يمكن أن يجوز فيها إلا رجل واحد، وعلى جانبها أودية بعيدة المهوى اه.
انتهى
(تم الجزء الثامن ويليه التاسع أوله «حرف الباء» الموحده)