المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌(حرف الباء الموحدة) بسم الله الرحمن الرحيم   ‌ ‌(بابل المصرية) مدينة كانت على البعد - الخطط التوفيقية الجديدة - جـ ٩

[علي مبارك]

فهرس الكتاب

(حرف الباء الموحدة)

بسم الله الرحمن الرحيم

(بابل المصرية)

مدينة كانت على البعد من مدينة عين شمس باثنى عشر ألف متر، بالشاطئ الشرقى من النيل تجاه منف القديمة، واسمها عند بعض أهل الإسلام قصر الشمع. وقد عبر (استرابون) باسم بابلون، وقال:«هى قلعة قديمة محلها الآن قصر الشمع خلف مصر العتيقة، واسمها مأخوذ من اسم البابليين الذى كانوا قد رفعوا لواء العصيان مدة من الزمان، ثم صالحهم حاكم الوقت وسلم لهم فى سكنى هذا المحل» اهـ.

وليست مدينة بابل المصرية مصر العتيقة كما توهمه بعض السلف، كما أن الفسطاط ليس هو القاهرة بل هو مصر العتيقة، وكان بعض الناس يطلق على القاهرة اسم بابل. وسيأتى الكلام عليها في التكلم على الفسطاط.

(الباجور)

قرية بمديرية المنوفية بمركز سبك، واقعة فى الجنوب الغربى لترعة الباجورية بنحو ستمائة متر، وبها خمسة جوامع: جامع الأربعين، وجامع صلاح الدين، وجامع شهاب الدين، وجامع سيدى مزروع، وجامع يونس، وفى كل واحد منها ضريح من ينسب إليه من هؤلاء المشايخ، وزاوية يقال لها زاوية عجور، وفيها معمل دجاج.

وبها إحدى عشرة جنينة ذات فواكه وثمار، واحدة تعلق ورثة المرحوم رستم بيك والعشرة لبعض أهالى الناحية.

مكتبة الأسرة-2008

ص: 1

وجميع أهلها مسلمون، وعدتهم ذكورا وإناثا ألف وتسعمائة وثمان وتسعون نفسا.

وقد ترقى منها حسن العفيفى بوظيفة حاكم خط بالمديرية فى سنة ست وثمانين. وزمامها ألف ومائتان وأحد وتسعون فدانا، ورىّ أرضها من النيل، وبها ست سواق معينة عذبة الماء، ولأهلها شهرة فى صناعة العرقسوس شرابا، وزرع القطن. وهى قرية عظيمة بسبب ظهور أفاضل العلماء منها.

‌ترجمة البرهان الباجورى

فإن منها-كما فى حسن المحاضرة

(1)

-البرهان الباجورى؛ إبراهيم بن أحمد، ولد فى حدود الخمسين وسبعمائة، وأخذ عن الإسنوى، ولازم البلقينى، ورحل إلى الأذرعى بحلب، وكان الأذرعى يعترف له بالاستحضار.

وشهد العماد الحسبانى عالم دمشق بأنه أعلم الشافعية بالفقه فى عصره، وكان يسرد الروضة حفظا، وانتفع به الطلبة ولم يكن فى عصره من يستحضر الفروع الفقهية مثله، ولم يخلف بعده ما يقاربه فى ذلك، مات سنة خمس وعشرين وثمانمائة، رحمه الله تعالى.

‌ترجمة شيخ الإسلام الشيخ إبراهيم الباجورى

ومن علمائها أيضا، الإمام العالم والجهبذ الكامل، الشيخ إبراهيم الباجورى الشافعى، شيخ الجامع الأزهر، ولد بها ونشأ فى حجر والده، وقرأ عليه القرآن المجيد بغاية الإتقان والتجويد، وقدم إلى الأزهر لطلب العلم به فى سنة اثنتى عشرة ومائتين وألف، وسنه إذ ذاك أربع عشرة سنة، ومكث فيه حتى دخل الفرنسيس فى سنة ثلاث عشرة، ثم خرج رحمه الله إلى الجيزة وأقام بها مدة وجيزة، ثم عاد إلى الجامع الأزهر فى

(1)

حسن المحاضرة فى تاريخ مصر والقاهرة، للسيوطى. تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم. القاهرة، عيسى البابى الحلبى،1967 .. ح 9 ص 439.

ص: 2

سنة ست عشرة عام خروج الفرنسيس من القطر المصرى، كما أفاد ذلك بنفسه، فيكون مولده فى عام ألف ومائة وثمانية وتسعين. وأخذ فى الاشتغال بالعلم، وقد أدرك الجهابذة الأفاضل، كالشيخ محمد الأمير الكبير، والشيخ عبد الله الشرقاوى، والسيد داود القلعاوى ومن كان فى عصرهم. وتلقى عنهم ما تيسر له من العلوم، ولكن كان أكثر تلمذته للشيخ محمد الفضالى، والشيخ حسن القويسنى.

وفى مدة قريبة ظهرت عليه آية النجابة فدرس وألف التآليف العديدة، الجامعة المفيدة، فى كل فن من الفنون منها:

حاشية الشمائل للترمذى، وحاشية على مولد المصطفى صلى الله عليه وسلم للإمام ابن حجر الهيثمى، وحاشية على مختصر السنوسى فى المنطق، وحاشية على متن السلم فى المنطق أيضا، وحاشية على متن السمرقندية فى علم البيان، وكتاب فتح الخبير اللطيف، شرح نظم الترصيف فى فن التصريف، وحاشية على متن الجوهرة فى التوحيد،/وحاشية على متن السنوسية فى التوحيد، وحاشية على رسالة كفاية العوام فى التوحيد،/وحاشية على البردة الشريفة، وحاشية على بانت سعاد، وكتاب منح الفتاح على ضوء المصباح، فى أحكام النكاح، وحاشية على شرح الشنشورى لأبى شجاع فى فقه مذهب الشافعى فى مجلدين.

وله مولفات أخر، ولكنها لم تكمل منها: حاشية على جمع الجواع، وحاشية على شرح السعد لعقائد النسفى، وحاشية على شرح المنهج فى الفقه، وتعليق على تفسير الفخر الرازى، وغير ذلك.

وكان ملازما للإفادة والتعليم، وكان لسانه رطبا بتلاوة القرآن العظيم، فكان ورده فى كل يوم وليلة ختمة قرآن أو ما يقرب منها مع اشتغاله بالتدريس والتأليف، وكان من حقه أن يتقدم فى المشيخة على الشيخ الصائم، ولكن لم تساعده المقادير.

ص: 3

فقال من هنأه بالمشيخة:

يا دهر أعط القوس باريها فقد

أفرطت فى التقديم والتأخير

إلى أن قال فى تاريخ توليته المشيخة:

وزهت بك العليا وقالت أرّخوا

أبهى إمام شيخ الباجورى

وقد انتهت إليه رياسة الجامع الأزهر، وتقلدها فى شهر شعبان سنة ثلاث وستين ومائتين وألف من الهجرة، واستمر على ذلك إلى أن توفى، رحمه الله تعالى، فى سنة ألف ومائتين وسبع وسبعين وعمره خمس وسبعون سنة.

(باقور)

قرية من بلاد الزنار بقسم أسيوط، واقعة بحرى بوتيج بأقل من ساعة، وشرقى قرية دوينة كذلك، وبينهاوبين أسيوط نحو ساعتين.

وبها جوامع وكنيسة قبطية ومعمل دجاج، وتكسب أهلها من الزرع وبها نخيل قليل.

وإليها ينسب الشيخ فراج الحنفى الباقورى، قاضى منية ابن خصيب، بعد أن كان مفتى مجلس مديرية قنا، وهو الآن مفتى مديرية بنى سويف.

(بانوب)

بموحدة فألف فنون فواو ساكنة فموحدة. ثلاثة مواضع بمصر:

الأول: فى كورة الغربية.

الثانى: فى كورة الشرقية.

الثالث: فى كورة الأشمونين. (انتهى من مشترك البلدان).

فأما بانوب الأشمونين فهى بانوب ظهر الجمل، وهى من مديرية أسيوط بقسم الأشمونين، فى غربى الترعة الإبراهيمية بنحو ألف متر، وفى الشمال الشرقى لناحية ببلاو بنحو ألف وخمسمائة متر، وفى جنوب ناحية دروط الشريف بنحو ثلاثة آلاف وسبعمائة متر، وفيها مساجد ونخيل وقليل أشجار، وأكثر أهلها مسلمون.

ص: 4

(ببا)

بموحدتين أولاهما مكسورة وفى آخره ألف. قرية من مديرية بنى سويف، هى رأس قسم واقعة على الشاطئ الغربى للنيل فى جنوب طحا البيشة، بقدر أربعة آلاف وثمانمائة وخمسة وخمسين مترا، وفى الجنوب الشرقى للفقاعى كذلك.

وهى بلدة قديمة يقال إنها كانت كرسى حكم فى الأزمان السالفة، وبها إلى الآن كنيسة قديمة للأقباط مشهورة بدير الشهيد، وبها جامع كبير متين البنيان، على بابه نقوش تدل على أن له نحو سبعمائة سنة من يوم بنائه، وأبنيتها بالآجر واللبن، وفيها نخيل، ولها سوق كل يوم خميس يجتمع فيه الناس من البرين، ويباع فيه أنواع الحبوب والمواشى، وثياب القطن، والصوف واللحم والعقاقير وحصر الحلفاء، والقفف والليف والحبال، والدخان البلدى، والبطيخ ونحو ذلك مما هو معتاد بيعه فى الأسواق الريفية.

وأكثر تكسب أهلها من الزرع وفيها أرباب حرف، وعندها محطة للسكة الحديد العمومية الموصلة إلى أسيوط.

وأمامها فى شرقى النيل قرية تسمى جزيرة ببا، فى وسط جزيرة طولها نحو ألفين ومائة وخمسة وعشرين مترا، وعرضها نحو سبعمائة متر، وعرض النيل هناك بما فيه من الجزيرة نحو ألف وخمسمائة متر.

وقد أنشأ الخديوى إسماعيل باشا فى الشمال الغربى لبلدة ببا، بقدر ألف وخمسمائة متر، فوريقة لعصر القصب وعمل السكر بأنواعه، وبالقرب منها وابور النور، وديوان التفتيش، ومساكن المستخدمين، ويخرج من الفوريقة فرع من السكة الحديد، يمر فى شمال البلد حتى يصل إلى النيل، وعند منتهاه وابور ماء ترك استعماله الآن للاستغناء عنه برىّ الأراضى من مياه الجنابيات، بعضها بواسطة الوابورات المركبة على الجنابيات، وبعضها بالفيضان.

ص: 5

وأراضى تفتيشها عشرون ألف فدان، يزرع منها نحو ستة آلاف قصبا كل سنة، غير الخلفة الناتجة من زرع السنة التى قبلها، وباقى الأطيان يزرع قطنا وحبوبا.

ومشتملات هذه الفوريقة ككثير من الفوريقات على طريق الإجمال هى: أربع عصارات لعصر القصب، لكل منها قوة ثمانين حصانا بخارية، وابور لإدارة غرابيل العظم، له قوة ثلاثة حصن، وابوران لتوزيع المياه لجهات لزومها بالفوريقة، لكل منهما قوة ثمانية حصن، وابورا حرارة لتكرير الشربات بالقزانات، لكل منهما قوة خمسة عشر حصانا، وابورا حرارة أيضا لقزانات الجلاب/لكل منهما قوة عشرة حصن، وابور لإدارة دواليب تكرير السكر الحب، قوته خمسة عشر حصانا، وابورا حرارة لتسوية العسل الرجيع بالقزانات، لكل منهما قوة عشرة حصن، ذنكان أحدهما لتوصيل الماء إلى القزانات العشرين، والآخر إلى قزانات العصارة، قوة كل ثمانية حصن، وابور لإدارة ورشة الحدادين، وورشة البرادين، وورشة النحاسين، والمسبك، قوته ثمانية حصن، وابور لتكرير السبيرتو، وهو فى ورشة الروم قوته خمسة عشرة حصانا.

وهذا غير أربعة وابورات للسكة الحديد، لكل واحد طقم عشرون عربة، تنقل القصب من الغيطان، قوة كل وابور عشرون حصانا.

وفيها من الورش والمخازن: ورشة الحدادين بآلاته ورجالها، وورشة البرادين والخراطين، وورشة النجارين، وورشة بها مخرطة ومثقاب، وورشة سبك، ومخزن عمومى لجميع أدوات الفوريقة والتفتيش، ومخازن لحفظ السكر.

وهذه الفوريقة تدور فى السنة نحو أربعة أشهر أو خمسة، ويتحصل منها كل يوم من السكر الأبيض الحب ستمائة وخمسون قنطارا، ومن السكر الأحمر مائتان وخمسون قنطارا، ومن السبيرتو قنطارا.

ومثل هذه الفوريقة فى قوة آلاتها وتركيبها ووضعها، فوريقة مطاى، وفوريقة بوقرقاص.

ص: 6

(ببلاو)

هى قرية فى شمال سنبو، غربى بحر يوسف، من قسم ملوى بمديرية أسيوط، وسماها المقريزى ببلا بدون واو. كان أكثر سكانها أقباط، وكان بها كنيسة باسم مارى جرجس، ويقال لها الآن كنيسة الشهيد.

واسمها مأخوذ من ببلو، يعنى خزانة الكتب، وكانت قبل دخول الفرنساوية أرض مصر كبيرة عامرة، يقرب عدد أهلها من ألف نفس أغلبهم نصارى، فتفرقوا فى البلاد لعداوة كانت بينهم وبين البلاد المجاورة لهم، ومات كثير منهم، ومن بقى اشتغل بصنعة الفراريج. ونقل (كترمير) عن بعض كتب القبط أن جماعة من نصارى قرية الزيتون، كانوا قد دخلوا فى الديانة الإسلامية، ثم رجعوا إلى النصرانية، ومن خوفهم من المسلمين هربوا إلى قرية ببلاو لأن حاكمها كان يدافع عن المرتدين ويمنع التعرض لهم. اهـ.

وهى فى وسط حوض الدلجاوى لا يتوصل إليها فى زمن الفيضان إلا فى السفن، وقناطر التقسيم فى شرقيها بنحو ميلين، وأكثر مبانيها بالطوب النئ، والغالب فى دورها طبقتان، وقد تجدد الآن فى منازل بعض أهل الثروة من أقباطها طبقة ثالثة، وتجددت فيها مناظر للضيوف بدلا من المصاطب القديمة.

وتكسب أغلب أهلها من الفلاحة، وبعض أقباطها مختص بمزاولة معامل الدجاج واستخراجه. فيسرحون لذلك فى البلاد التى فيها المعامل، من ناحية وردان الغربية القديمة من القناطر الخيرية، إلى أقصى بلاد الصعيد، فيتفرقون فى البلاد ويجمعون البيض، بعضه بالثمن وبعضه فى نظير فراخ يأخذها أرباب البيض بعد تمام العمل على حسب العرف الذى بينهم، ويقيمون بتلك المعامل إلى تمام العمل، ثم يرجعون إلى ببلاو، وهكذا كل سنة.

ص: 7

ولنذكر لك طرفا مما يتعلق باستخراج الدجاج لما فيه من الفائدة فنقول:

قال عبد اللطيف البغدادى فى رحلته فيما تختص به مصر من الحيوانات ما نصه

(1)

: «من ذلك حضانة الفراريخ بالزبل، فإنه قلما ترى فى مصر فراريج عن حضانة الدجاجة، وربما لم يعرفوه أيضا، وإنما ذلك عندهم صناعة ومعيشة يتجر فيها أو يتكسب منها، وتجد فى كل بلد من بلادهم مواضع عدة تعمل ذلك، ويسمى الموضع معمل الفرّوج وهذا المعمل ساحة كبيرة يتخذ فيها من البيوت التى يأتى ذكرها، ما بين عشرة أبيات إلى عشرين بيتا، فى كل بيت ألفا بيضة، ويسمى بيت الترقيد.

وصفته أن يتخذ بيت مربع، طوله ثمانية أشبار فى عرض ستة فى ارتفاع أربعة، ويجعل له باب فى عرضه، سعته شبران وعقده فى مثله، وتجعل فوق الباب طاقة مستديرة قطرها شبر، ثم تسقف بأربع خشبات وفوقها سدة قصب-يعنى نسيجا منه-وفوقه ساس، وهو مشاقة الكتان وحطبه، ومن فوق ذلك الطين، ثم يرصص بالطوب ويطين سائر البيت ظاهره وباطنه، وأعلاه وأسفله، حتى لا يخرج منه بخار، وينبغى أن تتخذ فى وسط السقف شباكا سعته شبر فى شبر، فهذا السقف يحكى صدر الدجاجة، ثم تتخذ حوضين من طين مخمر بساس، طول الحوض ستة أشبار وعرضه شبر ونصف، وسمكه عقدة أصبع، وحيطانه نحو أربع أصابع، ويكون هذا الحوض لوحا واحدا تبسطه على أرض معتدلة، وهذا الحوض يسمى الطاجن، فإذا جف الطاجنان ركبتهما على طرفى السقف، أحدهما على وجه الباب والآخر قبالته على الطرف الآخر تركيبا محكما وأخذت وصولهما بالطين أخذا متقنا. وينبغى أن يكون قعود طاجنين على خشب السقف بحيث يماسانه، وهذان الطاجنان يحاكى بهما جناحا الدجاحة، ثم يفرش البيت بقفه تبن ويمهد، ويفرش فوقه نخ خب أوديس-يعنى حصيرا برديا-على مقداره سواء، ثم يرصف فوقه البيض رصفا حسنا بحيث يتماس ولا يتراكب، لتتواصل الحرارة فيه. ومقدار/ ما يسع هذا البيت المفروض ألف بيضة، وهذا الفعل يسمى الترقيد.

(1)

انظر: الإفادة والاعتبار فى الأمور المشاهدة والحوادث المعاينة فى أرض مصر؛ تأليف عبد اللطيف البغدادى. القاهرة، مطبعة المجلة الجديدة،1931. (ص 30 - 32).

ص: 8

(صفة الحضان) تبتدئ وتسد الباب بأن ترسل عليه لبدا مهندما، ثم تسد الطاقة بساس، والشباك أيضا بساس وفوقه زبل، حتى لا يبقى فى البيت منفذ للبخار، وتلقى فى الطاجنين من زبل البقر اليابس قفتين، وذلك ثلاث ويبات. وتقدفيه نار سراج من جميع جهاته، وتمهله ريثما يرجع رمادا وأنت تتفقد البيض ساعة بعد أخرى، بأن تضعه على عينيك وتعتبر حرارته، وهذا الفعل يسمى الزواق. فإن وجدته يلذع العين قلبته ثلاث تقليبات فى ثلاث دفعات، تجعل أسفله أعلاه وأعلاه أسفله، وهذا يحاكى تقليب الدجاجة للبيض بمنقارها وتفقدها إياه بعينها. وهذا يسمى السماع الأول. فإذا صار الزبل رمادا أزلته وتركته بلا نار إلى نصف نهار إن كان ترقيده بكرة، وإن كان ترقيده من أول الليل حرسته إلى أن تحمى وتسمع النار كالسياقة المتقدمة، ثم تخلى طاجنين من النار إلى بكرة، ثم تجعل فى الطاجن الذى على باب البيت من الزبل ثلاثة أقداح، وفى الطاجن الذى على صدر البيت قدحين ونصفا، ومد الزبل بمرود غليظ، واطرح فى كل منهما النار فى موضعين منه، وكلّما خرجت من البيت بعد تفقده فارخ الستر. وإياك وأن تغفل عنه لئلا يخرج البخار ويدخل الهواء فيفسد العمل.

فإذا كان وقت العشاء وصار الزبل رمادا، ونزل الدفء إلى البيض أسفل البيت، فغير الرماد من الطواجن بزبل جديد مثل الأول، وأنت كل وقت تلمس البيض وتذوقه بعينك، فإن وجدت حرارته زائدة عن الاعتدال تلذع العين فاجعل مكان الثلاثة الأكيال لطاجن الباب كيلين وربعا، وفى طاجن الصدر كيلين فقط، ولا تزال تواصل تغيير الرماد وتجديد الزبل والإيقاد حتى لا ينقطع الدفء مدة عشرة أيام، بمقدار ما تكمل الشخوص بمشيئة الله وقدرته، وذلك نصف عمر الحيوان.

ثم تدخل البيت بالسراج، وترفع البيض واحدة واحدة وتقيمها بينك وبين السراج، فالتى تراها سوداء ففيها الفرخ، والتى تراها شبه شراب أصفر فى زجاج لا عكر فيه فهى لاح بلا بزر، وتسمى الأرملة فأخرجها فلا منفعة فيها، ثم عدل البيض فى البيت بعد تنقيته، وأخرج اللاح عنه، وهذا الفعل يسمى التلويح.

ص: 9

ثم تصبح بعد التلويح تنقص الزبل من العيار الأول ملء كفك من كل حوض بكرة ومثله عشية، حتى ينصرم اليوم الرابع عشر ولم يبق من الزبل شئ فحينئذ يكمل الحيوان ويشعر وينفخ فاقطع إذن النار عنه، فإن وجدته زائد الحرارة يحرق العين فافتح الطاقة التى على وجه الباب وخلها كذلك يومين، ثم ذقه على عينك فإن وجدته غالب الحرارة فافتح نصف الشباك، وأنت مع ذلك تقلبه وتخرج البيض الذى فى الصدر إلى جهة الباب، والبيض الذى فى جهة الباب ترده إلى الصدر حتى يحمى البارد الذى كان فى جهة الباب، ويستريح الحار الذى فى الصدر بشمّ الهواء فيصير فى طريقة الاعتدال ساعة يحمى وساعة يبرد، فيعتدل مزاجه، وهذا الفعل يسمى الحضانة، كما يفعل الطير سواء.

وتستمر على هذا التدبير دفعتين فى النهار ودفعة فى الليل إلى تمام تسعة عشر يوما، فإن الحيوان ينطق فى البيض بقدرة الله تعالى، وفى يوم العشرين يطرح بيضه ويكسر القشر ويخرج-وهذا يسمى التطريح-وعند تمام اثنين وعشرين يوما يخرج جميعه.

وأحمد الأوقات عاقبة لعمله أمشير وبرمهات وبرمودة، وذلك فى شباط وآذار ونيسان، لأن البيض فى هذه المدة يكون غزير الماء كثير البزرة، صحيح المزاج والزمان معتدل صالح للنشء والكون. وينبغى أن يكون البيض طريا، وفى هذه الأشهر يكثر البيض-انتهى.

وقد وصف بعض الإفرنج معامل الفرّوج وكيفية استخراجه بأبسط من عبارة البغدادى فقال ما ترجمته:

إن معمل الفراريج عبارة عن صفين من الخزائن الصغيرة، المبنية باللبن والطين، يفصلها دهليز وشبابيكها خروق فى عقود الدهليز، ولها باب ضيق مسبوق بجملة خزائن صغيرة، محكمة القفل تجعل لإقامة الشغالة لأنهم لا يفارقون المعمل مدة العمل، وبعضها فيه راكية يحرق فيها الوقود حتى تستوى ناره، فيؤخذ منها عند اللزوم فتكون مستحضرة دائما.

ص: 10

وطول كل خزانة عن خزائن البيض ثلاثة أمتار فى عرض مترين ونصف، وهى مقسومة بسقف فى نصف الارتفاع أو ثلثه، وفى كل خزانة فى منتصف السقف فتحة مستديرة يسلك منها المستعمل من واحدة إلى أخرى، ولكل خزانة باب على الدهليز قدر الفتحة التى فى السقف، وفى كل حاجز من حواجز الصفوف فتحة مثل ذلك، وفى عقد كل خزانة فتحة لخروج الدخان، ويوضع البيض فى الطبقة السفلى من الخزانة، والنار فى الطبقة العليا في مجار غير عميقة، لكل خزانة أربعة مجار بقرب الجدران ودائر فتحة الوسط مرتفع عن الأرضية لمنع النار من السقوط على البيض، ويؤخذ من النار التى فى الراكية المستحضرة فى خزانة النار، ويوضع فى تلك المجارى على حسب اللزوم.

وفى الصعيد تبتدأ تلك العملية فى شهر فبراير الإفرنجى، وفى/الوجه البحرى يتأخر ذلك زمنا لقلة حرارة الجوّ هناك.

ومدة ترقيد البيض أحد وعشرون يوما، فنخرج الكتاكيت فى أوائل شهر مارس وهو الوقت المناسب لإمكان حياة الكتاكيت على حسب التجربة، لأن حرارة الصيف تضرّ بها والعادة أن تكرّر العملية-أى ترقيد البيض-ثلاث مرات أو أربعا فى ذلك الفصل، بأن يرقد البيض حتى يخرج منه الكتكوت، ثم يرقد خلافه، وهكذا إلى رابع مرة، وفى كل مرة ينتج من المعمل من ثلاثة آلاف إلى أربعة.

وكيفية توزيع البيض تختلف فى المعامل، فبعضهم يترك بعض الخزائن فارغا، وتوزيعه يكون بعد فرزه بكيفية مقررة عندهم، فكل بيضة رأوا أنها لا بزرة فيها أخرجوها عن البيض، لأنها لا تنتج بل تضر بالبقية، ثم يعدونه ويكتبونه فى دفاتر، ويرص فى كل خزانة طبقات بعضها فوق بعض، وتوضع الطبقة العليا فوق ساس من الكتان ولا توضع النار إلاّ فى ثلث الخزائن، على أبعاد متساوية، وبعد خمسة أيام توقد النار، فى بعض الخزائن الفارغة مدة، ثم توقد فى البعض الآخر مع إطفائها من الأول، وكل يوم تغير النار ثلاث مرات أو أربعا وتزاد فى الليل، ويدخل العامل كل خزانة مرتين أو ثلاثا نهارا لتقليب البيض ونقله عن مواضعه وإبعاده عن المواضع الكثيرة الحرارة.

ص: 11

وفى اليوم الثامن يمتحن البيض واحدة واحدة على نور سراج فيفرز ماله بذر مما ليس له بذر، والعادة أن يبقى فى وسط طبقات البيض فرجة فارغة للتمكن من الحلول فى وسطه.

وقد استدل بالتجربة على أن الحرارة الكافية للبيض تختلف بحسب خزائن المعمل، من إحدى وثلاثين درجة فى ترمومتر ريمور، إلى ثلاث وثلاثين، فتكون كبيرة فى الدهليز وفى الخزائن العليا، ففى الدهليز تكون أقل من اثنتين وثلاثين درجة وفى العليا أكثر من ذلك، ويعرف استعمال ذلك بالتجربة وكثرة الاستعمال، وهذا هو السر فى اختصاص أهل ببلا بذلك وعدم صلاحية قيام غيرهم مقامهم.

ومن شرط صحة العمل إطفاء النار قبل انتهاء العملية وذلك إما لخوف إتلاف البيض من الأبخرة المضرة من حمض الكربون المنتشر فى الطبقات السفلى، وإما لتوزيع بعض البيض فى الطبقات العليا، وربما كان هذا هو السبب فى زيادة تسخينها فى مبدأ العملية ليكون ذلك كافيا فى بقية العمل.

وتوزيع البيض يختلف ميعاده من أربعة أيام إلى ثمانية لتبرد الأرضية وتصل للدرجة المناسبة، ويكون سدّ منافذ الدخان تدريجيا، ومتى علم العامل بلوغه الدرجة اللازمة سدّ الفتحات العليا سدا محكما.

وحكمة ترك بعض الخزائن فارغا فى مبدأ العمل، وإيقاد النار فيها على التناوب، هى إدامة حصول الحرارة المنتظمة بالدرجة المناسبة للعمل.

والعادة أن جمع البيض للمعامل يكون بالتدريج، فلذا ينقسم العمل إلى مرّات، ومتى فتح المعمل تأتى الأهالى بالبيض فيعوّضون فى المائة خمسين والتالف نحو الخمس، ولا يتعدى السدس.

ص: 12

وكثيرا ما يخرج بعض الفراريج فى نهاية العشرين يوما-يعنى قبل الفقس الطبيعى بيوم-وبعد أربع وعشرين ساعة يخرج أكثره، وبعد خروجه يطعم بعض دقيق بلباب الخبز.

وجعل الأب (سيكار) معامل مصر ستمائة وستة وثمانين معملا، وجعلها غيره مائتين، وأوصل (ريمور) ما يخرج من الكتاكيت كل سنة إلى اثنين وتسعين مليونا.

والصحيح أن يعتبر فى كل معمل عشرة أفران-أى خزائن-وباعتبار أربع ترقيدات، كل ترقيدة ثلاث آلاف بيضة، يكون خارج المعمل مائة وعشرين ألفا، فباعتبار مائة وعشرين معملا فى الديار المصرية يكون الخارج فى السنة أربعة وعشرين مليونا.

قال فى خطط الفرنساوية: إن استخراج الكتكوت من البيض أمر قديم فى بلاد مصر وفى بلاد الصين أيضا، وكان للرومانيين كيفية فى استخراجه. فقد قال (بلين): إن نساء الرومانيين يضعن البيضة تحت آباطهن، ويصبرن عليها حتى يخرج منها الفرخ، ويتفاءلن بكونه ذكرا أو أنثى على ما فى بطونهن من الحمل.

ووصف أيضا معمل الفروج وكيفيته إلا أنه لم يذكر البلد المستعمل فيها.

وقد تكلم (ديودور الصقلّى) على كيفية استخراج الفراريج بالصنعة، وقد كان ساح مصر فى آخر أيام البطالسة.

ويفهم من كلامه أن المصريين كانوا يخفون هذه الصنعة عن غيرهم لإدامة اختصاصهم بها.

وكان بيض الأوز مستعملا فى ذلك أكثر من بيض الدجاج، لأن الكهنة

ص: 13

والقسيسين كانوا يميلون لأكل لحوم الأوز فى الأزمان العارية عن الأمراض الوبائية، فلذا كان الأوز كثيرا فى تلك الأزمان، كما يدل لذلك ما هو على جدران المعابد من الرسوم والنقوش.

وزعم بعضهم أن كهنة مصر كانوا يستعملون سبلة الدواب، أى ما يكنس من تحتها، نحو التبن الملوّث بأبوالها وأرواثها فى فقس البيض لما شاهدوه من دفن النعام والتمساح بيضه فى الرمل حتى يفقس، فكان الكهنة يدفنون البيض فى السبلة فتكفى حرارتها فى استخراج الكتاكيت.

وقد رد العلماء ذلك ونقضوه بأن السبلة مضرة بأصل بذرة البيضة ومفسدة لها فلا تكون سببا فى الفقس./وقد اشتغل العالم (ريمور) الفرنساوي بتجربة ذلك وألف فيه كتابا، فاتضح أن العملية لا تنجح إلا بمنع بخار السبلة عن البيض منعا كليا. وظهر لهم أيضا أن قائل ذلك لم يمعن النظر فى كلام (بلين) فإنه ذكر أن البيض كان يوضع على التبن فى معمل حرارته واحدة لطيفة دائما إلى أن يخرج الكتكوت، وكان له عملة متكفلون بتقليبه ليلا ونهارا.

و (بلين) لم يذكر البلد التى. كان يعمل بها ذلك، إلا أنّه بالقرينة يعلم أنها تنسب لمصر، لأنه ساح فى هذه الديار، وأخذ عن كهنتها، أو لعل الذى أوجب زعم هذا الزاعم أن السبلة هى المستعملة قديما أو حديثا فى الوقود فى مصر، وفى وقود المعامل، وتجلب إليها بكثرة، فظنّ من رأى ذلك أن البيض يدفن فيها.

وبالجملة فيظهر من كلام الأقدمين ومؤرخى العرب، أن هذه العملية قديمة فى ديار مصر عموما، وإلى الآن أهالى قرية (برما) من الوجه البحرى، وقرية (ببلاو) من الوجه القبلى لهم شهرة بذلك.

وفى خطط المقريزى-عند الكلام على الروك الناصرى-أن السلطان الناصر محمد بن قلاوون، أبطل عدة مكوس، وبعد أن تكلم على جملة منها قال:

ص: 14

ومن ذلك مقرر طرح الفراريج، ولها ضمان عدة فى سائر نواحى أرض مصر، يطرحون على الناس الفراريج، فيمر بضعفاء الناس من ذلك بلاء عظيم، وتقاسى الأرامل من العسف والظلم شيئا كثيرا، وكان على هذه الجهة عدة مقطعين، ولا يمكن أحدا من الناس فى جميع الأقاليم أن يشترى فروجا فما فوقه إلا من الضامن، ومن عثر عليه أنه اشترى أو باع فروجا من سوى الضامن جاءه الموت من كل مكان وما هو بميت انتهى.

وقوله فيما تقدم (ترومتر ريمور): الترمومتر آلة مشروحة فى كتب الطبيعة يعرف بها درجة الحرارة.

‌ترجمة ريمور الفرنساوى

وريمور، اسم مؤلف، ترجمه صاحب قاموس الجغرافيا الإفرنجى فقال:

ريمور عالم فرنساوى، اشتغل بالعلوم الطبيعية والنباتية، ولد بمدينة روشيل من بلاد فرانسا سنة 1683 ميلادية ومات سنة 1757، اشتغل بالعلوم خمسين سنة، واستفاد الناس من مباحثه طرقا فى سقى الحديد وعمل الصفيح والصينى، واستكشف طرق صناعة الزجاج الأبيض المعتم، أى الذى يحجب ما وراءه.

وهو أول من اشتغل باستنتاج الفراريج بمملكة فرانسا، وفى سنة 1731 اخترع الترمومتر المسمى باسمه وله مؤلفات كثيرة منها: رسالة فى قلب الحديد إلى الفولاذ وأخرى فى الحشرات، وهو ممن أوسع بمباحثه دائرة العلوم فى القرن الثامن عشر من الميلاد. انتهى.

ويتبع (ببلاو) نزلة تسمى نزلة فرج محمود باسم عمدتها، وهو من أصحاب البيوت المعتبرة مشهور بالكرم وعلو الهمة، وتلك النزلة شرقى ببلاو بينها وبين الإبراهيمية.

ص: 15

وأهل (ببلاو) يتسوقون يوم الأربعاء من سوق ناحية (سنبو) التى بينها وبينها نحو ثلاثة أميال.

(بتبس)

قرية من مديرية المنوفية بمركز مليج، فى الشمال الغربى (للبتنون) بنحو ألفين وخمسمائة متر، وفى الجنوب الغربى لناحية (جنزور) بنحو خمسة آلاف متر، وبها جامع بمنارة.

(البتنون)

فى القاموس أنها بثاء مثلثة بعد الموحدة، بلدة بمصر، وفى شرحه أن المشهور أنها بالمثناة الفوقية بعد الموحدة. انتهى.

وهى بلدة من مركز مليج بمديرية المنوفية، واقعة على الشاطئ الغربى من فرع النيل الشرقى، بينها وبين ترعة البتنون نحو ثلثمائة قصبة من الجهة الشرقية، وكان بها كنيسة تحت رعاية (مارى أونوفر) ساكن الفلاة. والظاهر أنّه كان لها شهرة فى الأزمان القديمة.

وأبنيتها بالطوب الأحمر، وأبنية عمدتها (الحاج محمد الجندى) بالحجر الدستور، على دورين مع البياض والشبابيك كأبنية مصر. ومحمد الجندى هذا كان ناظر قسم ثم لزم بيته.

وبها عشرة مساجد عامرة منها: جامع أبى صالح بمنارة، وبها مقامات جماعة من الأولياء منهم: سيدى يوسف جمال الدين فى جهتها الغربية، يعمل له مولد كل سنة خمس ليال، والآن حصل الشروع فى تجديد ضريحه من طرف عائلة الجبائرة.

ومنهم: سيدى حسن العشماوى فى شرقيها، له مولد سنوى أيضا ثلاث ليال.

ومنهم: الشيخ أبو صالح، فى وسط البلد. وسيدى إبراهيم الخواص فى غربيها.

وبها كنيسة شهيرة تأتى إليها نصارى البلاد المجاورة فى المواسم والأعياد، وتعرف بكنيسة مارى جرجس.

ص: 16

ومساحة أبنيتها تسعون فدانا، وأطيانها أربعة آلاف فدان، وعدد أهلها الذكور سبعة آلاف وخمسمائة، وفيها نصارى نحو ربع أهلها. وهى مشهورة بنسج خرق الكتان، وبكثرة عسل النحل، وبها سواق تنيف على عشرين ساقية، بعد مائها زمن التحاريق نحو ثمانية أمتار، ولها سوق كل يوم ثلاثاء يباع فيه المواشى وغيرها، وبها نحو أربعة دكاكين، وتجار للأقمشة يبيعونها فى البيوت، وتجار غلال، وبها مصابغ ومعملان للدجاج.

‌ترجمة أحمد أفندى خليل البتنونى

وقد ترقى من أهلها العالم الماهر أحمد أفندى خليل، من عائلة الجبائرة، أصلهم من قبيلة من العرب يقال لها الجبائرة على شاطئ الفرات ببغداد، كما أخبر بذلك عن نفسه، ثم صار من رجال الهندسة بديوان عموم الأشغال برتبة بكباشى، وكان من المهندسين الذين تعينوا/فى زمن المرحوم سعيد باشا، صحبة سلامة باشا فى رسم ميزانيات الترعة المالحة والحلوة.

ثم فى زمن الخديوى إسماعيل باشا جعل ناظرا ومعلما بمدرسة المحاسبة، وتربى على يديه جملة من شبان المهندسين، وكان فى ابتداء أمره قد دخل قصر العينى سنة تسع وأربعين ومائتين وألف، ثم نقل إلى مدرسة أبى زعبل، ثم إلى مدرسة المهندسخانة، فمكث فيها خمس سنين فاستوفى جميع فنونها، ثم وظف من ضمن مهندسى ديوان المدارس.

‌ترجمة الشيخ محمد البتنونى

وينسب إلى بلدة بتنون هذه، الشيخ محمد البتنونى، الذى ترجمه السخاوى فى مكتبة الأسرة-2008

ص: 17

الضوء اللامع

(1)

، حيث قال: هو محمد بن على [بن] أحمد الشمس النور، البتنونى الأصل، القاهرى الشافعى، ويعرف بالبتنونى.

ولد بالقاهرة، وحفظ القرآن والعمدة والمنهاج. وكان والده قد استقر فى عدة مباشرات، فلما مات، قرر فى جهاته كالمباشرة بطبلان، وبالحلى والطاهر، وتهادر المعزى وغيرها كالحسينية. وكان إذ ذاك مراهقا، فلم يحسن السير، ولكنه انتمى لأبى البقاء البلقينى، ثم للصلاح المكينى، واجتهد فى التحصيل من أى وجه كان، مع تسلطه على ضعفاء المستحقين فى الأوقاف، وايذائه لأهل الذمة الذين فى كنيسة حارة زويلة، بواسطة تكلمه على مسجد بالقرب منها، فكان يأخذ منهم بالرغبة والرهبة، حتى أثرى وأنشأ ملكا أرتكب فيه السهل والوعر، وكان يتعرض للأكابر وينافرهم. واستمر على طريقته حتى مات سنة سبع وسبعين وثمانمائة، ودفن بحوش سعيد السعداء، وكان جده من جماعة الجمال يوسف العجمى وكان والده على خير وستر، وأقرأ المماليك فى الأطباق، واستقر فى عدة مباشرات. انتهى.

وينسب إليها أيضا الشيخ أحمد البتنونى، قاضى مديرية الغربية.

(بجام)

قرية من مديرية القليوبية بمركز قليوب، على الشاطئ الشرقى لترعة الشرقاوية، وفى الشمال الشرقى لناحية (باسوس) بنحو ألفى متر، وفى الجنوب الشرقى لناحية (قليوب) بنحو أربعة آلاف وثمانمائة متر، وبها جامع بمنارة ولها سوق فى كل أسبوع.

(البجاوة)

هى بضم الموحدة وبعدها جيم فألف فواو فهاء تأنيث. صحراء فى جنوب الديار المصرية تمتد إلى سواكن، وفى القاموس البجاوة كزغاوة، أرض النوبة منها النوق البجاويات. انتهى.

(1)

الضوء اللامع، لأهل القرن التاسع للسخاوى. طبعة المقدسى،1355 هـ. ح 8، ص 168.

ص: 18

ويسكن تلك الصحراء قوم متوحشون يقال لهم البجة، لا خلاق لهم ولا أخلاق.

وفى بعض التقاييد (بجاء) بفتح الموحدة والجيم: قبيلة من العرب أبلهم مشهورة بالجودة، يسكنون برسواكن. وقال بعض مؤلفى الأقباط، فى شرحه لحوادث الأب شنوده: أنهم يسمون (بلنمويه) وأنه حصل منهم إغارات كثيرة على أرض مصر، وأغاروا على الجهة البحرية، فخربوا عدة مدن وأسروا أهلها، وأخذوا أموالهم من مواش وخلافها. وفى كتب الروم واليونان تسمية هؤلاء العرب (بلنمى)، ووجد فى بعض المؤلفات تسميتهم (بلمية) بشدّ الميم وتخفيفها و (بلمبية) بزيادة موحدة بين الميم والمثناه التحتية.

وقال بعض المؤرخين: إن مقر هؤلاء الأقوام فى داخل أفريقية قريبا من الشلالات فى ضواحى أسوان. وكثيرا ما يعبر عنهم المقريزى فى خططه بالبجة، وفى بعض العبارات يعبر عنهم بالبجاة. وذكر (أولنييودور) الذى ساح عند هؤلاء العرب، أنهم يسكنون بين اكسيوم وجزيرة الفونيتينا، وأن النوبة طائفة منهم سكنت شاطئ النيل، وسكن هؤلاء فى الصحراء داخل الأرض.

وقال بطليموس: إن سكن البلمة خلف موليب، بين نهر استيورا-أى اتيرا- وخليج أدولير.

وقال المؤلف (أجاتمير): منهم من سكن بقرب هذا الخليج وعرفهم بأكالين النعام.

وقال المؤلف (اتيين) البيزنتى: إنهم قوم متبربرون يسكنون الليبيا.

وقال (استرابون): إن الأرض الممتدة أسفل مروة على شاطئ النيل من جهة البحر الأحمر مسكونة بالبلمية والميجابا الذين كانوا تحت حكم الحبشة، وكانوا بجوار مصر. وفى موضع آخر جعلهم هم والنوبة فى جنوب الديار المصرية قبلى مدينة أسوان.

ص: 19

وقال غيره: إن البلمية عدوا البحر الأحمر من أيلة فى سفينة كانت فى سواحل الحبش.

وأخبر بعض الرهبان أن البلمية كانوا يسكنون قريبا من مدينة (بانوبوليس).

وفى بعض العبارات أن هؤلاء الأقوام وهم البجة المذكورون فى كتب المشرقيين والمغربيين، يسكنون الصحراء المتسعة المحيطة بالديار المصرية، وبلاد النوبة والحبشة وسواحل البحر الأحمر.

وقال المقريزى

(1)

: إن أول بلد البجة من قرية تعرف بالخربة، معدن الزمرد فى صحراء قوص، وبين هذا الموضع وبين قوص نحو ثلاث مراحل.

قال: وذكر الجاحظ أنه ليس فى الدنيا معدن للزمرد غير هذا الموضع، وهو يوجد فى مغارات بعيدة مظلمة يدخل إليها بالمصابيح وبحبال يستدل بها على الرجوع خوف الضلال، ويحفر عليه بالمعاول فيوجد فى وسط الحجارة وحوله نوع غشيم دونه فى الصبغ والجوهر. (وسيأتى بسط الكلام عليه عند التكلم على صحراء عيذاب).

وآخر بلاد البجة أول بلاد الحبشية، وهم فى بطن هذه الجزيرة-أعنى جزيرة مصر-إلى سيف البحر الملح مما يلى جزائر سواكن وباضع (مصوع) ودهلك، وهم بادية يتبعون/الكلأ حينما كان الراعى بأخبية من جلود.

وأنسابهم من جهة النساء، ولكل بطن منهم رئيس، وليس عليهم متملك ولا لهم دين، ويورثون ابن البنت وابن الأخت دون ولد الصلب، ويقولون إن ولادة ابن الأخت وابن البنت أصح، فإنه ولدها على كل حال سواء كان من زوجها أو من غيره.

(1)

الخطط المقريزية، تأليف تقى الدين المقريزى، طبعة لبنان، مكتبة إحياء العلوم، د. ت. مج ا، ص 332 وما بعدها.

ص: 20

وكان لهم قديما رئيس يرجع جميع رؤسائهم إلى حكمه، يسكن قرية تعرف بهجرهى أقصى جزيرة البجاة، ويركبون النجب الصهب وتنتج عندهم، وكذلك الجمال العراب كثيرة عندهم أيضا والمواشى من البقر والغنم والضأن كثيرة جدا عندهم، وبقرهم حسان ملمعة بقرون عظام ومنها جمّ، وكباشهم كذلك منمرة ولها ألبان.

وغذاؤهم اللحم وشرب اللبن، وأكلهم للجبن قليل وفيهم من لا يأكله، وأبدانهم صحاح وبطونهم خماص، وألوانهم مشربة بالصفرة، ولهم سرعة فى الجرى يباينون بها الناس، وكذلك جمالهم شديدة العدو وصبورة عليه وعلى العطش، يسابقون عليها الخيل ويقاتلون عليها وتدور بهم كما يشتهون، ويقطعون عليها من البلاد ما يتفاوت ذكره، ويتطاردون عليها فى الحرب، وهم يبالغون فى الضيافة، فإذا طرق أحدهم الضيف ذبح له، فإذا تجاوز ثلاثة نفر نحرلهم من أقرب الأنعام إليه سواء كانت له أو لغيره، وإن لم يكن شئ نحر راحلة الضيف وعوضه من هو خير منها.

وسلاحهم الحراب السباعية مقدار طول الحديدة ثلاثة أذرع، والعود أربعة أذرع، وبذلك سميت سباعية، والحديدة فى عرض السيف لا يخرجونها من أيديهم إلا فى بعض الأوقات، لأن فى آخر العود شيئا شبيه بالفلكة، يمنع خروجها عن أيديهم. وصناع هذه الحراب نساء فى موضع لا يختلط بهن رجل إلا المشترى منهن، فإذا ولدت إحداهن من الطارقين لهن جارية استحيتها، وإن ولدت غلاما قتلته، ويظن إن الرجال بلاء وحرب. ودرقهم من جلود البقر مشعرة ودرق مقلوبة تعرف بالأكسومة من جلود الجواميس ومن دابة فى البحر، وقسيهم عربية كبار غلاظ من السدر والشوحط، يرمون عليها بنبل مسموم، وهذا السم يعمل من عروق شجر الغلف، يطبخ على النار حتى يصير مثل الغراء، فإذا أرادوا تجربته شرط أحدهم جسده وسيل الدم، ثم شممه هذا السم، فإذا تراجع الدم علم أنه جيد ومسح الدم لئلا يرجع إلى جسده فيقتله، فإذا أصاب الإنسان قتل لوقته-ولو مثل شرطة الحجام، وليس له عمل فى غير الجرح والدم، وإن شرب منه لم يضرّ.

ص: 21

وبلدانهم كلها معادن، وكلما تصاعدت كان أجود ذهبا وأكثر، وفيها معادن الفضة والنحاس والحديد والرصاص وحجر المغناطيس والمرقشينا والجمشت والزمرد وحجارة شطبا، فإذا بلت الشطبة منها بزيت وقدت مثل الفتيلة.

وفى أوديتهم شجر المقل والإهليلج، والأذخر، والشيح، والسنار والحنظل وشجر البان. وبأقصى بلدهم النخل وشجر الكرم والرياحين.

وبها سائر الوحوش من السباع والفيلة، والنمور والفهود، والقردة وعناق الأرض والزياد، ودابة تشبه الغزال حسنة المنظر، بها قرنان على لون الذهب، قليلة البقاء إذا صيدت.

ومن الطيور الببغاء، والنقيط، والنوبى والقمارى، ودجاج الحبش، وحمام بازين انتهى.

ويؤخذ مما تقدم أن البلمية عرب يكثرون الترحال، لا يستقرون فى موضع واحد، وينتقلون فى الصحراء الكائنة بين النيل والبحر الأحمر. وكانوا فى مبدأ أمرهم بقرب أرض الحبشة ثم تنقلوا إلى قرب أرض مصر رغبة فى النهب وكثرة المراعى، وحصل منهم كثير من الإغارات على هذه الديار نشأ منها مضرات جسيمة.

وفى زمن (يوروبوس) حاكم مصر من طرف الرومانيين، أغاروا على ناحية قفط وأخذوها وأخذوا مدينة بطليموسة، وأرسل خلفهم الحاكم المذكور عساكر وحاربهم وأجلاهم عن البلاد، وأسر منهم عددا وافرا أرسله إلى روما فتعجب أهلها من شناعة زيهم وهيآتهم.

ولشدة أذى البلمية وكثرة شرهم، ترك القيصر (ديوكليتيان) للنوبة أرضا عظيمة السعة على شواطئ النيل، واشترط عليهم منع هؤلاء العصاة من الإغارات على الديار

ص: 22

المصرية، وقرر لهم فى كل سنة مبلغا كان يدفع لهم فى نظير منعهم من تعديهم على ملك الرومانيين، وكان منهم سفير فى القسطنطينية.

وفى سنة 291 كان الحرب قائما بينهم وبين الحبشة.

وفى سنة 278 عدى ثلثمائة منهم البحر الأحمر ووصلوا إلى ناحية (رايت) فهدموها وقتلوا أهلها، وخربوا الدير المجاور لها وقتلوا رهبانه. فجرد إليهم من ناحية (فاران) ستمائة من عساكر العرب فقتلوهم عن آخرهم.

وكان قد حصل منهم الهجوم أيضا على الواحات فخربوها ودمروا بلادها وقتلوا أهلها، وذلك فى زمن الأمير (تستوريوس).

وأحوال هؤلاء العرب من حيث الديانة والعوائد غير معلومة على الحقيقة، وذكر (بروكوب) أنهم كانوا يقدسون إزيس وأزريس وبرياب، وأنهم كانوا يقربون إلى الشمس قرابين من الآدميين. وفى مؤلفات (هليودور) أن سفراء البلمية كان سلاحهم القوس، وكان فى طرف نشابهم عظم مصور فى صورة تاج.

وشرح بعض حالهم فى الحرب/فقال: إن هؤلاء العرب وقت محاربتهم للفرس كانوا يضعون ركبهم على الأرض دفعة واحدة بسرعة، ويدخل الواحد منهم تحت بطن حصان الفارس ويشق بطنه فيهيج الحصان ويرمى راكبه فيقتله العرب.

ولما انتشرت الديانة العيسوية دخل فيها كثير منهم، وكان عندهم أسقف يعلمهم قواعدها. وذكر ابن الكندى أن أمراء مصر فى صلاة العيد، كان من عادتهم وضع حراس فى أسفل الجبل المقطم من جهة بركة الحبش، لوقاية أهل الفسطاط من إغارات البجاة فى أيام الأعياد وقت الصلاة. فإنه كثيرا ما جاء البجاة على الهجن والجمال فى مثل هذه الأيام، وسطوا على المدن ونهبوها وقتلوا أهلها وقت الصلاة. ففى زمن أحمد بن طولون سنة ست وخمسين ومائتين أغاروا على الفسطاط فى يوم العيد وقت الصلاة، وقتلوا ونهبوا وعادوا من غير أن يلحقهم أذى.

ص: 23

وقد تنبه لذلك عبد الحميد بن عبد الله، من ذرية سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأكمن لهم فى الصعيد، فبعد أن أغاروا ورجعوا قام عليهم الكمن فقتلهم وقتل رئيسهم الأعور.

وفى المقريزى أيضا: أن فى البجة فى الإسلام وقبله أذية على شرق صعيد مصر، خربوا هناك قرى عديدة، وكانت فراعنة مصر تغزوهم وتوادعهم أحيانا لحاجتهم إلى المعادن، وكذلك الروم حين ملكوا مصر، ولهم فى المعادن آثار مشهورة، وكان أصحابهم بها وقد فتحت مصر.

قال عبد الرحمن بن عبد الحكم: إن عبد الله بن سعد عند رجوعه من حرب النوبة وجد البجة مجتمعين على شاطئ النيل فسأل عنهم فقيل له: إنهم قوم لا رئيس لهم فتركهم بدون اعتناء بهم، ولم يعمل معهم شروط مصالحات. وأول من صالحهم عبد الله ابن الحجاب السلولى. ويقال إنه مذكور فى خطابه أنه يدفع إلى البجاة ثلثمائة بعير على أن يحضروا فى مصر، بشرط أن لا يقيموا بها، وتعهد البجاة أنهم لا يقتلون مسلما ولا ذميا، وإن حصل ذلك منهم بطلت الشروط المعقودة، وشرط عليهم أن لا يؤوا آبقا من عبيد المسلمين، ولا فارّا من الأهالى، وأن من يسرق منهم شاة يدفع أربعة دنانير، وبقرة يدفع عشرة، ووكيلهم يسكن الصعيد رهينة عند المسلمين.

وفى بعض الأزمان توجه كثير من المسلمين إلى المعدن، واختلطوا بالبجاة ونكحوا من نسائهم، فدخل فى الإسلام كثير منهم من القبيلة المعروفة بالحدارب، ولكن كان إسلامهم ضعيفا وكان الحدارب مع كثرتهم أقل عددا من الزنافج، وهم قبيلة أخرى من البجاة أكثر عددا، وكانوا متغلبين فى القديم على الحدارب، لكن بتوالى الدهور صار الحدارب حاكمين عليهم حتى جعلوهم بمثابة الرعاة لإبلهم، والخدم فى مصالحهم، وكل واحد من الحدارب كان رئيسا على عدة من الزنافج يرثهم عنه أولاده، وكان أكثرهم شهرة وشجاعة يسكن بجوار عيذاب والعلاقى، وهو محل معدن الذهب.

ص: 24

قال أبو الفداء فى تقويم البلدان: «العلاقى بفتح العين المهملة واللام المشددة ثم ألف وقاف مكسورة ثم تحتية» .

قال ابن سعيد: «العلاقى من بلاد البجاة، وهم سودان مسلمون ونصارى وأصحاب أوثان، وهى بالقرب من بحر القلزم ولها مغاص ليس بالجيد، وبجبلها معدن الذهب يتحصل منه بقدر ما ينفق فى استخراجه، وجبل العلاقى مشهور، وفى شرقى العلاقى الوضح منزل الحجاج.

ثم قال: قال العزيزى: إذا أخذت من أسوان إلى سمت الشرق، تصل إلى العلاقى بين اثنتى عشرة مرحلة، وبين العلاقى وعيذاب ثمان مراحل، ومن العلاقى يدخل الإنسان فى بلاد البجاة. انتهى.

ووقت أن كان حاكم أسوان يأتى إليها من العراق، أكثر البجه من الإغارات على الديار المصرية، فوصل الخبر إلى الخليفة المنصور فأرسل خلفهم عبد الله بن الجهم، فوقع بينه وبينهم جملة وقعات، وانتهى الأمر بينهم على المصالحة وذلك فى شهر ربيع الأول سنة 216.

كما نص عليه المقريزى فى خططه حيث قال: كتاب كتبه عبد الله بن الجهم مولى أمير المؤمنين صاحب جيش الغزاة، عامل الأمير أبى إسحق ابن أمير المؤمنين الرشيد، فى شهر ربيع الأوّل سنة 216، لكنون بن عبد العزيز عظيم البجة بأسوان: «أنك سألتنى وطلبت إلى أن أؤمنك وأهل بلدك من البجه، وأعقد لك ولهم أمانا علىّ وعلى جميع المسلمين، فأجبتك إلى أن عقدت لك علىّ وعلى جميع المسلمين، أمانا ما استقمت واستقاموا على ما أعطيتنى، وشرطت لى فى كتابى هذا وذلك أن يكون سهل بلدك وجبلها من منتهى حد أسوان من أرض مصر، إلى حد ما بين دهلك وباضع ملكا للمأمون عبد الله بن هرون أمير المؤمنين رضي الله عنه، وأنت وجميع أهل بلدك كعبيد لأمير المؤمنين، إلا أنك تكون فى بلدك ملكا على ما أنت عليه فى البجه، وعلى أن تؤدى إليه

ص: 25

الخراج فى كل عام على ما كان عليه من سلف البجة، وذلك مائة من الإبل أو ثلثمائة دينار وازنة داخلة فى بيت المال، والخيار فى ذلك لأمير المؤمنين ولولاته، وليس لك أن تؤخر شيئا عليك من الخراج، وعلى أن كل واحد منكم إن ذكر محمدا، رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو كتاب الله، أو دينه بما لا ينبغى أن يذكر به، أو قتل أحدا من المسلمين/ حرا أو عبدا فقد برئت منه الذمة، ذمة الله، وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم، وذمة أمير المؤمنين، أعزه الله وذمة جماعة المسلمين، وحل دمه كما يحل دم أهل الحرب وذراريهم، وعلى أن أحدا منكم إن أعان المحاربين على أهل الإسلام بمال، أو دله على عورة من عورات المسلمين، أو أثر لغرّتهم فقد نقض ذمة عهده وحل دمه، وعلى أن أحدا منكم إن قتل أحدا من المسلمين عمدا أو سهوا أو خطأ، حرا أو عبدا، أو أحدا من أهل ذمة المسلمين، أو أصاب لأحد من المسلمين أو أهل ذمتهم ما لا ببلد البجة أو ببلاد الإسلام أو ببلاد النوبة، أو فى شئ من البلدان برا أو بحرا فعليه فى قتل المسلم عشر ديات، وفى قتل العبد المسلم عشر قيم، وفى قتل الذمى عشر ديات من دياتهم، وفى كل مال أصبتموه للمسلمين وأهل الذمة عشرة أضعافه، وإن دخل أحد من المسلمين بلاد البجة تاجرا أو مقيما أو مجتازا أو حاجا فهو آمن فيكم كأحدكم حتى يخرج من بلادكم، ولا تؤوا أحدا من آبقى المسلمين، فإن أتاكم آت فعليكم أن تردوه إلى المسلمين، وعلى أن تردوا أموال المسلمين إذا صارت فى بلادكم بلا مؤنة تلزمهم فى ذلك. وعلى أنكم إن نزلتم ريف صعيد مصر لتجارة أو مجتازين لا تظهرون سلاحا ولا تدخلون المدائن والقرى بحال، ولا تمنعوا أحدا من المسلمين الدخول فى بلادكم والتجارة فيها برا وبحرا، ولا تخيفوا السبيل ولا تقطعوا الطريق على أحد من المسلمين ولا أهل الذمة، ولا تسرقوا المسلم ولا ذمى مالا، وعلى أن لا تهدموا شيئا من المساجد التى ابتناها المسلمون بصيحة وهجر وسائر بلادكم، طولا وعرضا، فإن فعلتم ذلك فلا عهد لكم ولا ذمة، وعلى أن كنون بن عبد العزيز يقيم بريف صعيد مصر، وكيلا يفى للمسلمين بما شرط لهم من دفع الخراج ورد ما أصابه البجة للمسلمين من دم ومال، وعلى أن أحدا من البجة لا يعترض حد القصر إلى قرية يقال لها قبان من بلاد النوبة، حد الأعمدة.

ص: 26

عقد عبد الله بن الجهم مولى أمير المؤمنين، لكنون بن عبد العزيز، كبير البجة، الأمان على ما سمينا وشرطنا فى كتابنا هذا، وعلى أن يوافى به أمير المؤمنين. فإن زاغ كنون أو عاث فلا عهد ولا ذمة وعلى كنون أن يدخل عمال أمير المؤمنين بلاد البجة لقبض صدقات من أسلم من البجة، وعلى كنون الوفاء بما شرط لعبد الله بن الجهم.

وأخذ بذلك عهد الله عليه بأعظم ما أخذ على خلقه من الوفاء والميثاق، ولكنون بن عبد العزيز ولجميع البحة عهد الله وميثاقه، وذمة أمير المؤمنين، وذمة الأمير أبى اسحق ابن أمير المؤمنين الرشيد، وذمة عبد الله بن الجهم، وذمة المسلمين، بالوفاء بما أعطاه عبد الله بن الجهم ما وفى كنون بن عبد العزيز بجميع ما شرط عليه، فإن غيّر كنون أو بدل أحد البجة فذمة الله جل اسمه، وذمة أمير المؤمنين، وذمة الأمير أبى اسحق ابن أمير المؤمنين الرشيد، وذمة عبد الله بن الجهم والمسلمين بريئة منهم. انتهى.

وقد بقى البجة على ذلك زمنا ثم عادوا لما كانوا عليه من الإغارة على البلاد القبلية، ومن كثرة الشكوى أرسل الخليفة أمير المؤمنين جعفر المتوكل على الله، عسكرا تحت أمرة محمد بن عبد الله الكوفى أو القمى على ما ذكره المقريزى، فأخذ عدة من العساكر المشهود لهم بالثبات وسار بهم من البر، وكانت المراكب تسير من البحر إلى أن وصل إلى موضع وجد فيه كثيرا من البجة قد ركبوا الإبل فخافهم المسلمون، فاحتال وكتب لهم كتابا فى طومار طويل، ولفه بثوب وأرسله إليهم فاجتمعوا ليقرؤه فهجم عليهم حينئذ بعسكره، وكان فى رقاب الخيل أجراس، فحصل، منها صلصلة خافت منها الجمال فذهبت على وجهها بركابها، وأوقع عسكره السلاح فيمن بقى، فأفنى منها خلقا كثيرين، ومات أميرهم فى هذه الوقعة فقام بدله ابن أخيه وطلب المصالحة، فأجابه إلى ذلك بشرط أن يتوجه معه إلى دار الخلافة ببغداد، فرضى بذلك وتوجه إلى سر من رأى سنة 241 فحصل له غاية الإكرام وعقدت شروط المصالحة على أداء الإداوة والبقط فى كل سنة، وأن لا تتعرض البجة بوجه من الوجوه لمنع المسلمين عن استخراج المعدن.

ص: 27

والبقط كما فى المقريزى: «مقدار من الرقيق يجعل كل سنة الحاكم الجهة» . ثم إن محمدا قام من مدينة أسوان وترك بها جميع ما كان من الأسلحة والمهمات الحربية ومن بعده صار كل حاكم أقام بها يأخذ منها بعضا حتى لم يبق منها شئ.

وفى أثناء ذلك كان كثير من المسلمين يتوجه إلى المعدن ويقيم مع البجة، فأخذت أحوالهم وطباعهم تحسن من الاختلاط بالمسلمين.

وقد صار فى هذه المدة استكشاف عروق من الذهب وشاع خبرها، فسار إليها كثير من الخلائق، وتوجه إليها عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحميد العمرى فى عودته من وقعة بلاد النوبة سنة 255، وكان معه عدد وافر من عرب ربيعة وعرب جهينة وغيرهم، فكثرت بهم العمارة فى البجه، حتى صارت الرواحل التى تحمل إليهم الميرة من أسوان ستين ألف راحلة غير الجلاب، أى المراكب، التى كانت تنقل لهم من مدينة القلزم إلى ميناء عيذاب.

وذكر بعضهم أنه قبل أن يدخل أحد من البجة فى دين الإسلام/أمرتهم كهانهم عن لسان معبودهم، بالطاعة لربيعة ولكنون معا، فهم على ذلك. فلما قتل العمرى واستولت ربيعة على الجزائر، والاهم على ذلك البجة، فأخرجت من خالفها من العرب.

ومن ذلك الحين صار عرب ربيعة والبجة يتزوج بعضهم من بعض فحصل امتزاج الحيين وارتفع الشقاق من بينهم، وقويت شوكتهم.

وأما البجة القاطنون فى صحراء بلد علوة، من ابتداء البحر الأحمر إلى أول حدود الحبشة، فيشابهون الحدارب، ومنهم رحالة نزالة كثيرة المواشى وأحوالهم كأحوالهم فى المأكل والأسلحة وغير ذلك، ولا تتميز الحدارب منهم إلا بالشجاعة وقلة الشر، وهم إلى الآن وثنيون يعبدون الشيطان ويتبعون فى أمورهم أقوال كهنتهم، ولكل بطن منهم كاهن منعزل عنهم يعتقدونه.

قال (كترمير): «بلاد العلوة واقعة قبلى بلاد مصر، فى جزيرة بين النهر الأزرق

ص: 28

والأبيض ومحلها الآن مدينة حلفاية، عند مصب النهرين». انتهى.

وقد ذكر المقريزى فى خططه كيفية اعتقادهم وما يفعله الكهنة، ثم قال:

قال أبو الحسن المسعودى: «فأما البجة فإنها نزلت بين بحر القلزم ونيل مصر، وتشعبوا فرقا وملكوا عليهم ملكا، وفى أرضهم معادن الذهب، وهو التبر، ومعادن الزمرد، وتتصل سراياهم ومناسرهم على النجب إلى بلاد النوبة فيغزون ويسبون» .

وقد كانت النوبة قبل ذلك أشد من البجة إلى أن قوى الإسلام وظهر، وسكن جماعة من المسلمين معدن الذهب وبلاد العلاقى وعيذاب، وسكن فى تلك الديار خلق من العرب من ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان، فاشتدت شوكتهم وتزّوجوا من البجه، فقويت البجه ثم صاهرها قوم من ربيعة فقويت ربيعة بالبجاة على من ناواها وجاورها من قحطان وغيرهم ممن سكن تلك الديار.

وقال صاحب المعدن-فى وقتنا هذا وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة-بشر بن مروان بن إسحق بن ربيعة: والبجه المالكة لمعدن الزمرد وتتصل ديارها بالعلاقى، وهو معدن الذهب، وبين العلاقى والنيل خمس عشرة مرحلة، وأقرب العمارة إليه مدينة أسوان وجزيرة سواكن أقل من ميل فى ميل، وبينها وبين البحر الحبشى بحر قصير يخاض وأهلها طائفة من البجة تسمى الخاسة وهم مسلمون.

وذكر صاحب كتاب الفهرست: أنه كان للبجة كتابة مخصوصة ولكنه لم يرها.

وقد تكلم على البجة ابن حوقل، والشريف الإدريسى، وأبو الفدا، وابن الوردى وآخرون من جغرافى العرب.

ومن اطلع على ما ذكره المقريزى فى خططه

(1)

، يجده محتويا على ما قاله كل منهم.

(1)

الخطط للمقريزى، المرجع السابق. مج 1. ص،332 وما بعدها.

ص: 29

وممن ساح أرضهم (بروس) الإنكليزى وأطلق عليهم اسم بجا، وجعل حدود أرضهم من ابتداء مصوع إلى سواكن على الساحل، ثم يكونون فى الغرب إلى حدود صحراء مسليمى المحدودة من الجهة القبلية بالنيل، ومن الجهة البحرية بدائرة الانقلاب.

وتكلم فى مواضع كثيرة على لسانهم، وذكر أنهم الرعاة، وأن هذا اللسان لا يخالف اللسان الحبشى القديم، وتكلم على فرقة من الرعاة فى موضع آخر من سياحته، سماها (أجفرى) وهم أشجع الجميع، ومسكنهم جبل همان الممتد إلى قريب من مصوع وسواكن، وبالنسبة لموقعهم ظن أنهم من البجه أيضا.

ويغلب على الظن أن عرب العبابيد من نسل البجة، لتقارب صفاتهم وعوائدهم وأماكنهم، فإنهم منتشرون فى الصحراء الواقعة بين البحر الأحمر ومصر، وبلاد النوبة وبلاد الحبشة، وفوق الجبال والسهول التى فى شرقى النيل.

واستبعد كثير من السياحين كون العبابدة من العرب، فإن بينهم وبين عرب مصر مخالفة كلية فى الأخلاق والطباع، والملابس وغير ذلك. والغالب على لونهم السواد، ولكن تقاطيعهم لا تشبه تقاطيع العبيد بل تشبه تقاطيع الأوروباويين، وأكثرهم لا يلبس إلا مئزرا يربطه بوسطه، ولهم حراب طولها نحو خمسة أقدام وحديدها طويل مستدير، ودرقات مستديرة من جلد الفيل، وأكثر مواشيهم الأغنام، وهجنهم سريعة العدو تقطع المائة فرسخ فى أربعة أيام يركبونها فى الأسفار والحروب، ولا يستعملون الخيل، وفى العادة يجعل عليهم خفر القوافل، ولهم بلاد على الشاطئ الأيمن من النيل مثل ناحية دروة والشيخ عامر ورادسية. ويتكلمون العربية إلا أن لهم لغة أخرى يشتركون فيها مع عرب الجبال الواقعة فى جهة النيل الشرقية.

وذكر (بروس) أن لغتهم التى يتكلمون بها هى لغة أهل سواكن.

ص: 30

وقال فى مواضع من سياحته: إن لغة أهل هذه المدينة ولغة أهل مصوع، وحباب، وجزيرة دهلك، هى لغة البجة، الحبش القديم.

وربما كان عرب البشارية فرعا من البجة سكنوا الأرض القريبة من البحر الأحمر، من ابتداء سواكن إلى قرب اسنا.

ولنورد لك تراجم بعض من تقدم أسماؤهم فى هذا المحل فنقول:

أما (أولنبيودور) ففى قاموس الجغرافية الإفرنجى، أن من هذا الاسم اثنين، أحدهما فيلسوف كان يدرس فى مدينة الاسكندرية فى القرن السادس من الميلاد، والآخر كان فى القرن الخامس.

وأما (أجاتمير) فهو عالم يونانى كان فى القرن الثالث من الميلاد، واختصر جغرافية/بطليموس.

وقال أيضا: إن (إتيين البيزنتى) عالم يونانى ولد بالقسطنطينية، وكان فى أواخر القرن الخامس من الميلاد. له تآليف منها: قاموس الجغرافية والتاريخ، ويعتمد عليه الفرنساوية فى أخبار الأقدمين، وقد ضاع أغلبه.

وقال أيضا: إن (بروكوب) مؤرخ يونانى ولد فى مدينة سيزاريه (أى قيسارية) من بلاد فلسطين سنة خمسمائة من الميلاد، ودرس بالقسطنطينية وتبع (بليزير) رئيس الجيوش الرومانية بوظيفة كاتب، فى وقعاته بآسيا وأفريقية وإيطاليا، ثم تعين فى أعضاء مجلس السيناتو، ثم فى سنة خمسمائة واثنتين وستين تعين حاكما بالقسطنطينية، ومات سنة خمسمائة وخمس وستين، وله مؤلفات فى التاريخ تكرر طبعها.

ص: 31

وكان (بليزير) فى زمن القيصر (جوستنيال) ولد سنة أربعمائة وتسعين ميلادية، ومات سنة خمسمائة وخمس وستين.

وأما (هيليودور) فهو بطريك من تسالية من بلاد الروميلى ولد فى أميز (حمص) من (فنيكيا)، وكان فى القرن الرابع من الميلاد وتكلم على مصر فى قصة ألفها.

وأما (بروس) الإنجليزى فهو من بلاد (الإيكوس) من جزائر بلاد الإنجليز، ولد سنة ألف وسبعمائة وثلاثين ميلادية، ومات سنة ألف وسبعمائة وأربع وتسعين. وساح فى بلاد الأندلس وبلاد التركمان، وتعين قنصلا فى بلاد الجزائر سنة ثلاث وستين، ومذ كان بهذه الوظيفة ساح فى إفريقية الغربية ودخل أرض الحبشة، ومن سنة ثمان وستين إلى سنة اثنتين وسبعين-يعنى مدة أربع سنين-اجتهد فى البحث عن منابع النيل ثم رجع، ولم يتيسر له الوقوف على حقيقتها، ولم يطلع إلا على منبع البحر الأزرق، وألف كتابا فى ذلك حصلت فوائده وانتفع به فى زياده معلومية جغرافية بلاد الحبشة. انتهى.

(بجيرم)

قرية من مديرية الغربية من مركز زفتة، واقعة على ترعة الخضراوية التى فمها من بحر الشرق فى شمال فم القرينين، على بعد ثلثى ساعة، المنصبة فى بحر شيبين من جهة نهطاى، وفى شرقيها على بعد ساعة قرية منية برى الواقعة على بحر دمياط، وفى غربيها على بعد ساعتين قرية شبين الكوم، وبقريها على الترعة المذكورة قنطرة بثلاث عيون، وهى قرية صغيرة لكن لها اعتبار بمن نشأ منها من أفاضل العلماء.

ص: 32

‌ترجمة الشيخ سليمان البجيرمى

فقد ذكر الجبرتى

(1)

فى حوادث سنة إحدى وعشرين ومائتين وألف، أن منها الفقيه المحدث خاتمة المحققين، وعمدة المدققين .. الشيخ سليمان بن محمد بن عمر البجيرمى الشافعى الأزهرى، ينتهى نسبه إلى الشيخ جمعه الزبيدى، نسبة إلى زبيد قرية بالقرب من منية ابن خصيب، وينتهى نسب الشيخ جمعه المذكور إلى سيدى محمد بن الحنفية رضي الله عنه.

ولد المترجم ببيجيرم سنة إحدى وثلاثين ومائة وألف، وحضر إلى مصر صغيرا دون البلوغ، ورباه قريبه الشيخ محمد البيجيرمى ولازمه حتى تأهل للعلم، فحضر على الشيخ العشماى، وحضر دروس الشيخ الحفنى، وأجازه الملوى، والجوهرى، والمدابغى، وأخذ عن الديربى وغيره.

وحضر أيضا على الشيخ الصعيدى والسيد البليدى، وشارك كثيرا من الأشياخ كالشيخ عطية الأجهورى.

وكان إنسانا حسنا جميل الأخلاق، مجتنبا مخالطة الناس، مقبلا على شأنه. وقد انتفع به أناس كثيرون، وكف بصره فى آخر عمره، وعمّر وتجاوز المائة.

ومن تآليفه المشهورة بأيدى الطلبة: حاشية على المنهج، وحاشية على الخطيب، وغير ذلك. وقبل وفاته سافر إلى مصطيه قرية بالقرب من بجيرم فتوفى بها ليلة الإثنين وقت السحر، ثالث عشر رمضان من السنة المذكورة، ودفن هناك عليه رحمة الله تعالى.

(1)

عجائب الآثار فى التراجم والأخبار، المشهور بتاريخ الجبرتى، تأليف عبد الرحمن الجبرتى، طبعة القاهرة سنة 1322 هـ. ج 2، ص 25.

ص: 33

(بخانس)

قرية من قسم فرشوط بمديرية قنا، على الشاطئ الغربى للنيل، فى مقابل جبل الطارق، وكانت تسمى قديما (طوشونس) وفى كتب الأقباط تسميتها (موشنس)، وترجمها بعض مؤرخى العرب موخنس أو مخانس بالميم، ثم استعملت بعد بالباء فى أولها.

وكان بها دير مشهور، وفيها الآن نخيل كثير، وحدائق ذات بهجة، ويزرع فيها قصب السكر كثيرا وفيها له عصارات، وفيها أبراج حمام، وسواق معينة، وسواق على البحر، وفى غربيها على نحو مائة وخمسين قصية الباطن المعروف بأبى حمار يمتد مغربا إلى سمهود، فيجتمع مع باطن الرنان ويسيران معا فى الشمال حتى يصبا فى ترعة السوهاجية، ومن سوهاج إلى سيوط يسميه بعض الناس بأبى حمار، ومن سيوط إلى حيث يصب فى اليوسفى لا يعرف إلا بأبى حمار، وفى الأقاليم الوسطى إلى اللاهون يعرف باليوسفى، وبعضهم يسميه المنهى، وعند اللاهون ينفصل منه باطن يمر بحوضى قنبشة والرقة ويسمى هناك ترعة اللاهون، وبعضهم يسميه المجنونة، وبعضهم يسميه الهدار، وفى بلاد الجيزة يعرف باللبينى، ومن هناك إلى مريوط يعرف باليوسفى وترعة العصارى. ويتبع تلك القرية عدة نجوع.

(البدارى)

بلدة من مديرية سيوط بقسم الشروق شرقى النيل على ثلث ساعة، وقبلى ساحل سيلين بأكثر من ساعة، متفرقة على عدة كفور، وأبنيتها بالآجر واللبن وبها جوامع عامرة وأهلها مشهورون بالكرم.

وفيها بيت مشهور يقال له بيت أبى ناصر، كان منه الحاج عبد الله أبو/ناصر، ناظر قسم فى زمن العزيز محمد على، وكان ابنه عبد الحق حاكم خط فى زمن الخديوى اسماعيل. ويزرع فى أطيانها الدخان المشروب بكثرة والمزروعات المعتادة، وتكسب أهلها من ذلك. وسوقها كل يوم اثنين.

(بداوى)

قرية من مديرية الدقهلية بمركز فارسكور، على شاطئ البحر الشرقى على بعد مائتين وخمسين قصبة، وقبلى فارسكور على بعد عشرة آلاف قصبة.

ص: 34

أبنيتها كمعتاد الأرياف، وبها مسجد كبير بمنارة معمور بالعبادة، وجنان ذوات ثمار، ولعمدتها أحمد سعدة منزل ضيافة وقصر مشيد، بجانبه حديقة، وزراعته تنيف على ألف فدان. ولها سوق كل يوم سبت يباع فيه أصناف الحبوب والعطارة وغيرها، وتكسب أهلها من زراعة الأرز والقطن وبعض الحبوب.

(البدرشين)

هذه البلدة من البلاد المشهورة بمديرية الجيزة، بالجانب الغربى للنيل، تمر السكة الحديد بينها وبين النيل، وفى قبليها جسر سقارة، وأبنيتها بالآجر واللبن.

وبها مساجد عامرة، وبها تسع عشرة مصبغة وثمان طواحين، ومعصرة زيت وأنوال لنسج مقاطع الكتان وغيره، وثلاث دكاكين وسط البلد يباع فيها العطارة، وفندقان ينزل بهما المسافرون، وفى جهتها البحرية معمل بارود من زمن العزيز محمد على مستعمل إلى قبيل تولية الخديوى المعظم محمد باشا توفيق، كان تجلب له الأسباخ من تلول منية رهينة، وتلول مصر العتيقة.

وبها تجار غلال وتكسب أغلب أهلها من الفلاحة، ومن مزروعاتهم الخيار وقليل من قصب السكر، وقد أنشئ بها فابريقة لصناعة السكر.

وبالقرب منها محطة السكة الحديد، وعمدتها على أحمد الدالى منزله فى جهتها الغربية، وكان أبوه حاكم خط سابقا.

ويقال إنه فى زمن فتح مصر حصلت بها وقعة استشهد فيها جماعة، ولقبورهم آثار إلى الآن: منهم الشيخ الجنيد فى قبليها بأرض المزارع، والشيخ عمران فى شرقيها، وسعد وسعيد فى بحريها.

وفى بعض التواريخ أن محلها فى الأصل جزيرة. ويقال إنه كان بها قصر لزليخا امرأة العزيز فى عهد الملك الريان، فلما وضع سيدنا يوسف يده على خزائن الأرض،

ص: 35

وخرج يوما فى موكب للنزهة على البحر قابلته زليخا وقالت: «سبحان من أزل الملوك وأعز العبيد» فقال لها: من أنت؟ فقالت: زليخا. فقال لها: «أصبح البدر شينا» فسميت بهذا الاسم إلى الآن.

وبها كثير من نخل الأمهات، ولها سوق كبير كل يوم أربعاء.

ومنها رسلان أفندى نوير، ومحمد أفندى الصياد، وإبراهيم أفندى الدالى برتبة الملازمين بالجهادية.

(البراذعة)

قرية صغيرة من مركز قليوب بمديرية القليوبية، واقعة على الشط الغربى لترعة القرطامية، وفى الشمال الشرقى لعزبة بنهادة، بنحو ألفى متر، وفى جنوب منديس بنحو ساعة، وأبنيتها بالآجر واللبن، وأغلب منازلها بمقاعد، وبها جامع بمنارة وكنيسة للأقباط تتردد إليها أقباط بلاد الجيزة، وبها حديقة لعمدتها محمد علام، الذى كان ناظر قسم زمن المرحوم سعيد باشا، وجعل ابنه محمد علام مأمور مركز قليوب.

‌ترجمة إبراهيم أفندى سالم

ومن هذه القرية إبراهيم أفندى سالم، دخل مكتب قليوب سنة تسع وأربعين ومائتين وألف، وبعد أن دخل مدرسة قصر العينى ومدرسة أبى زعبل، وتعلم بهما مبادئ العلوم انتقل إلى مدرسة المهندسخانة سنة أربع وخمسين، ودرس علومها وفاق أقرانه، فكان هو الأول من فرقته.

وفى سنة ستين أخذ رتبة ملازم، وسافر مع تلاميذ فرقته إلى عمل رسم شفالك الغربية والدقهلية تحت رياسة (لانبير بيك) وبهجت باشا.

ص: 36

وفى سنة ثلاث وستين تعين للتدريس بمدرسة المهندسخانة.

وفى سنة ست وستين جعل باشمهندس مديرية القليوبية برتبة يوزباشى، فلم يلبث إلا قليلا وأقيمت عليه دعوى أنه أهمل فى رىّ الأرض، فحكم عليه بحطه إلى رتبة الملازم.

ولما جلس المرحوم سعيد باشا على تخت هذه الديار، تعين معاونا مع بهجت باشا فى مسح أراضى الفيوم، فأقام فى ذلك سنة، ثم بأمر كريم تعين فى ضمن من تعينوا لعمل رسومات وموازين لعمل ترعة القنال المالحة، فأقام فى ذلك أربع سنين.

وفى سنة ست وسبعين تعين مع أخينا محمود بيك الفلكى لرسم الخريطة الفلكية للأقاليم البحرية من ديار مصر، فأقام معه حتى تمت هذه الخرط جميعها، ثم اشتغل معه فى خرط الوجه القبلى، وترقى إلى رتبة صاغقول أغاسى، ثم إلى البيكباشى وهو فى تلك الأشغال.

ولما أراد الخديوى إسماعيل باشا عمل السكة الحديد فى البلاد السودانية، واقتضى الحال استكشاف الطرق من سواكن إلى بربر ليتخير أسهل طريق منها، عين المترجم وجملة من المهندسين بمعية إسماعيل بيك الفلكى لاستكشاف ذلك، وعمل ما يلزم من الرسومات والموازين، فتوجهوا وأجروا ذلك، وحضروا بعد ثمانية أشهر.

ثم صار من رجال ديوان الأشغال المعتمدين، تحال على عهدته المشكلات الهندسية والأمور الدقيقة، فيقوم بها لما فيه من الاستعداد والتثبت فى فنونه، وهو إنسان خيّر حسن السمت والسير والسيرة.

(براوة)

قرية من مديرية بنى سويف بمركز ببا، على الشاطئ الغربى لبحر

ص: 37

يوسف، فى غربى ناحية الدير بنحو مائتين وخمسين مترا، وفى شرقى البهسمون بنحو أربعة آلاف متر وبها زاوية للصلاة/وبدائرها نخيل، وينسب إليها العالم العلامة والحبر الفهامة، الشيخ عبد الله البراوى الشافعى.

(البربى)

هى قرية قديمة على تل عال، قبلى ناحية دوير عائد، بنحو نصف ساعة، وشرقى الغنائم بأكثر من نصف ساعة.

وهى من مديرية سيوط بمركز بوتيج، وبها جوامع بلا منارات، وتكسب أهلها من الزرع المعتاد، وفيها أنوال لنسج الصوف، ولها سوق كل يوم أحد يباع فيه، ما عدا البهائم الكبيرة.

(برج مغيزل)

قرية من أعمال رشيد فى بحريها شرقى النيل، منها إلى رشيد نحو ساعة ونصف، وتجاهها فى الشاطئ الغربى جبخانة قايتباى الكردى، والبحر الملح فى شمالها على نحو ساعة، وفى شرقيها البرارى.

وفيها مسجد جامع ونخيل بغاية الكثرة على أصناف متعددة، ويصاد فيها السمك والطير كثيرا، وعدة أهلها أربعمائة وأربعون نفسا، تكسبهم من ثمر النخل، وصيد السمك والطير وقليل من الزرع.

‌ترجمة الشيخ عبد الواحد البرجى

وإليها ينسب، كما فى خلاصة الأثر، عبد الواحد الرشيدى البرجى الشافعى، ترجمة الخفاجى وقال فى نعته:

(1)

خلاصة الأثر فى أعيان القرن الحادى عشر للمحبى. القاهرة، المطبعة الوهيبة،1284 هـ ج 2، ص 99.

ص: 38

حسنة بها ذنب الزمان غفر، وأصبح به عصره على سائر الأزمان يفتخر، فهو ريحانة الدهر النضر، والذائع ذكره حتى كأنما سعى به الخضر، له محاورات تطرز بها حلل الوشائع، وسقيط حديث كأنه جنى النحل ممزوجا بماء الوقائع.

ثم قال: فمن لؤلؤه الرطب، ورشح قلمه العذب، قوله فى نائب غير رشيد، تفلج به ثغر رشيد:

قلت للنائب الذى

قد رأينا معايبه

لست عندى بنائب

إنما أنت نائبه

ومثله قول الآخر:

وقاض لنا حكمه باطل

وأحكام زوجته ماضيه

فيا ليته لم يكن قاضيا

ويا ليتها كانت القاضية

وله:

لا تحسبن أن هجوى فيك مكرمة

شعرى بهجو لئيم قط ما سمحا

لكن أجرب طبعى فيك فهو كما

جربت فى الكلب سيفا عندما نبحا

وله وقد سمع بموت بعض قضاة مصر:

قالوا قضى القاضى فوا حسرتى

إن لم يكن قد مات من جمعه

مصيبة لا غفر الله لى

إن كنت أجريت لها دمعتى

وقال الشيخ مدين القوصونى، فى ترجمته: شيخنا الفاضل والإمام. الكامل الورع الزاهد، كان عارفا بعلوم شتى، وكان يستحضر أشياء كثيرة من النوادر.

ص: 39

قال: ورأيت له من المؤلفات كتاب نزهة المسامرة، فى أخبار مصر والقاهرة، ذكر فيه الوزراء الذين تولوا مصر إلى الوزير الأعظم محمد باشا.

وأنشد له من شعره قوله:

يقولون لى قهوة البن هل

تحل وتؤمن آفاتها

فقلت نعم هى مأمونة

وما الصعب إلا مضافاتها

قال: وسألته عن مضافاتها، فأجابنى: هو ما يستعمل معها من المكيفات.

ومن إملائه بثغر رشيد فى سنة تسع بعد الألف:

لعمرك ما أهديت للحب خاتما

ولا قلما مبرى ولا بست عينه

ولا آلة للقطع تقطع بيننا

فما سبب التفريق بينى وبينه

وقال غيره فى توصيفه:

عبد الواحد الرشيدى إمام برج مغيزل، الشيخ الإمام العلامة، كان من مشاهير الفضلاء، قرأ عليه كثير، منهم السيد محمد الجمازى، ثم أنشد له قوله:

لا تصحبن ناقصا فتضحى

قليل حظ كثير ذنب

وانظر إلى الرفع من أبومن

والخفض فى القبر بعد حرب

وكانت وفاته بمصر فى شوال سنة ثلاث وعشرين وألف، ودفن بتربة الجلال السيوطى، وبلغ من العمر مائة فأكثر، قاله الشيخ مدين.

والبرجى تبين أنها نسبة لبرج مغيزل، انتهى.

ص: 40

(بردين)

هى قرية بمركز بلبيس من مديرية الشرقية، بينها وبين شبرى النخلة نحو ألف وخمسمائة متر، وفى الجنوب الغربى للسكة الحديد على نحو ثلثمائة متر، وبها محطة السكة الحديد، ومحل إقامة مستخدميها.

وفى غربى المحطة بحرى السكة، كشك مشيد وجنينة عظيمة للخديوى إسماعيل باشا، وبها منازل مشيدة للدائرة السنية وديوان التفتيش ومساكن المستخدمين، ومجلسا دعاوى، ومشيخة ومساجد عامرة أحدها بمنارة، وبها مكاتب وأرباب حرف وتجار، وفيها جنان ذات أشجار متنوعة ونخيل، وبها وابورات لسقى المزروعات، ولها سوق كل يوم أحد، وأطيانها ألفان وتسعمائة وستة وعشرون فدانا وكسر، وأهلها ذكورا وإناثا/ألفان وخمسمائة وأربع وأربعين نفسا، وتكسبهم من الزراعة.

‌ترجمة الشيخ حسن البردينى

وإليها ينسب، كما فى الضوء اللامع للسخاوى

(1)

، الحسن بن أحمد بن محمد البدر البردينى، ثم القاهرى الشافعى، ولد بقرية بردين من الشرقية فى حدود الخمسين وسبعمائة، قدم القاهرة ونشأ فقيرا، وأنزله أبو غالب القبطى الكاتب بمدرسته التى أنشأها بجوار الخوخة فقرأ على الشمس الكلائى ولم يتميز فى شئ من العلوم.

ولما ترعرع تكسب بالشهادة، ثم ولى التوقيع واشتهر به مع معرفته بالأمور الدنيوية فراج بذلك على ابن خلدون فنوه به.

(1)

الضوء اللامع، المرجع السابق. ج 2، ص 95.

ص: 41

قلت: ورأيته شهد على الصدر الأبسيطى فى إذنه للجمّال الزيتونى بالتدريس والإفتاء فى سنة تسع وثمانمائة، ولم ينتقل فى غالب عمره عن ركوب الحمار حتى كان بآخر دولة الجمّال الأستادار، فنوّه به كاتب السر، فتح الله وركب حينئذ الفرس.

وناب فى الحكم وطال لسانه، واشتهر بالمروءة والعصبية، فهرع إليه الناس فى قضاء حوائجهم، وكان يتوجه على كل من فتح الله كاتب السر، وابن نصر الله ناظر الجيش بالآخر، وعلى سائر الأكابر بهما فكانت حوائجه مقضية عند الجميع.

قال: وحفظت عنه كلمات منكرة مثل إنكاره أن يكون فى الميراث خمس أو سبع لأن الله لم يذكره فى كتابه، وغير ذلك من الخرافات التى كان يسميها المفردات.

وكان مع شدة جهله عريض الدعوى، غير ميال بما يقول ويفعل. مات فى رجب سنة إحدى وثلاثين وثمانمائة. وقد زاد على الثمانين وتغير عقله، وله فى هدم الأماكن التى أخذها المؤيد حين بنى جامعه بباب زويلة مصائب، استوعبها المقريزى فى تاريخه انتهى.

(البرشة)

قرية من قسم المنية، شرقى البحر الأعظم وقبلى دير البرشة، الواقع فى جنوب مدينة أنصنا والشيخ عبادة، وعندها مقابر للمسلمين من أهل البلاد التى فى شرق البحر وغربيه، وممن يدفن موتاهم فيها أهل ملوى وما جاورها، وعادتهم غنيا وفقيرا أن يقيموا بتلك الجبانة فى كل سنة وقت النقطة، ثلاثة أيام بلياليها للزيارة وقراءة القرآن، ويهيئون المأكل ويكون هناك بيع وشراء ونزاهة، ويكون موسما عظيما.

(برشوم)

بباء موحدة مفتوحة، فراء مهملة ساكنة، فشين معجمة، فواو فميم. قريتان من مديرية القليوبية بمركز أجهور الورد، على الشاطئ الشرقى لبحر دمياط. إحداهما برشوم الكبرى فى غربى ناحية العمار الكبرى بنحو ألفى متر، وفى جنوب الصالحية بنحو ألف وتسعمائة متر، وفى شمالها برشوم الصغرى بنحو أربعمائة متر.

ص: 42

وفى برشوم الكبرى جامعان، أحدهما بمنارة، وبها سوق بحوانيت، وفيها قهاو على البحر وسويقة دائمة، وفيها شجر التين البرشومى بكثرة، وإليها ينسب، ومنها يجلب إلى المحروسة وخلافها.

وقد عمل عليها الأهالى جسرا محيطا بها وأمامها بتبيت يخشى عليها منه.

وفى غربيها ضريح ولى عليه قبة، وتكسب أهلها من الزراعة وغيرها.

(بركة الحاج)

قرية موضوعة فى الشمال الشرقى بالقاهرة بنحو خمس ساعات، وفى غربى الترعة الإسماعلية بنحو ستة آلاف متر، وفى جنوب الخانقاه كذلك، وفى شرقى قرية المرج بنحو ثلاثة آلاف متر.

ويقال لها بركة الجب، وبه ترجم المقريزى فى خططه،

(1)

فقال:

بركة الجب هى بظاهر القاهرة من بحريها، وتسميها العامة فى زماننا هذا-الذى نحن فيه-بركة الحاج، لنزول الحجاج بها عند مسيرهم من القاهرة إلى الحج فى كل سنة، ونزولهم عند العود بها، ومنها يدخلون إلى القاهرة.

ومن الناس من يقول جب يوسف، وهو خطأ وإنما هى أرض جب عميرة، وعميرة هذا هو ابن تميم بن جزء التجيبى من بنى القرناء، نسبت هذه الأرض إليه فقيل لها أرض جب عميرة، ذكره ابن يونس.

وكان من عادة الخليفة المستنصر بالله أبى تميم معد بن الظاهر بن الحاكم فى كل سنة، أن يركب على النجب مع النساء والحشم إلى جب عميرة هذا. وهو موضع نزهة، بهيئة أنه خارج إلى الحج، على سبيل اللعب والمجانة، وربما حمل معه الخمر فى الروايا عوضا عن الماء، ويسقيه من معه.

(2)

(1)

الخطط للمقريزى، المرجع السابق، مج 3، ص 64.63.

(2)

نهاية الأرب للنويرى ج 28، ص 214 تحقيق د. محمد محمد أمين، مركز تحقيق التراث 1992.

ص: 43

وأنشده مرة الشريف أبو الحسن على بن الحسين بن حيدرة العقيلى فى يوم عرفة:

قم فانحر الراح يوم النحر بالماء

ولا تضحى ضحى إلاّ بصهباء

وأدرك حجيج الندامى قبل نفرهم

إلى منى قصفهم مع كل هيفاء

وعج على مكة الروحاء مبتكرا

فطف بها حول ركن العود والنائى

قال ابن دحية: فخرج فى ساعته بروايا الخمر تزجى، بنغمات حداة الملاهى وتساق، حتى أناخ بعين شمس فى كبكبة من الفساق، فأقام بها سوق الفسوق على ساق. وفى ذلك العام أخذه الله تعالى وأهل مصر بالسنين، حتى بيع فى أيامه الرغيف بالثمن الثمين، وعاد ماء النيل بعد عذوبته كالغسلين، ولم يبق بشاطئيه أحد بعد أن كانا محفوفين بحور عين.

وقال ابن ميسر: فلما كان فى جمادى الآخرة من سنة أربع وخمسين وأربعمائة، خرج المستنصر على عادته إلى بركة/الجب، فاتفق أن بعض الأتراك جرد سيفا فى سكر منه على بعض عبيد الشر، فاجتمع عليه طائفة من العبيد وقتلوه. فاجتمع الأتراك بالمستنصر، وقالوا: إن كان هذا عن رضاك فالسمع والطاعة وإن كان عن غير رضاك فلا ترضى بذلك، فأنكر المستنصر ما وقع وتبرأ مما فعله العبيد، فتجمع الأتراك لحرب العبيد وبرز بعضهم إلى بعض، وكان بين الفريقين قتال شديد على كوم شريك، إنهزم فيه العبيد وقتل منهم عدد كثير، وكانت أم المستنصر تعين العبيد وتمدهم بالأموال والأسلحة، فاتفق فى بعض الأيام أن بعض الأتراك ظفر بشئ مما تبعث به أم المستنصر إلى العبيد، فأعلم بذلك أصحابه وقد قويت شوكتهم بانهزام العبيد، فاجتمعوا بأسرهم ودخلوا على المستنصر وخاطبوه فى ذلك، وأغلظوا فى القول وجهروا بما لا ينبغى، وصار السيف قائما والحروب متتابعة إلى أن كان من خراب مصر بالغلاء والفتن ما كان

وكان من قبل المستنصر يترددون إلى بركة الجب.

ص: 44

قال المسبحى: ولاثنتى عشرة خلت من ذى القعدة، سنة أربع وثمانين وثلثمائة عرض العزيز بالله عساكره بظاهر القاهرة، عند سطح الجب، فنصب مضرب ديباج رومى، فيه ألف ثوب بصفرية فضة ونصبت له فازة مثقل وقبة مثقل بالجوهر، وضرب لابنه الأمير أبى على منصور مضرب آخر، وعرضت العساكر وكانت عدتها مائة ألف عسكرى، وأقبلت أسارى الروم وعدتهم مائتان وخمسون، فطيف بهم، وكان يوما عظيما حسنا لم تزل العساكر تسير بين يديه من ضحوة النهار إلى صلاة المغرب.

وما زالت بركة الجب منتزها للخلفاء والملوك من بنى أيوب، وكان السلطان صلاح الدين يبرز إليها للصيد ويقيم فيها الأيام، وفعل ذلك الملوك من بعده.

وقال فى موضع آخر: قال: القاضى الفاضل، فى حوادث شهر المحرم سنة سبع وعشرين وخمسمائة. وفيه خرج السلطان، يعنى صلاح الدين يوسف، إلى بركة الجب للصيد ولعب الكرة، وعاد إلى القاهرة فى سادس يوم من خروجه. وذكر من ذلك كثيرا عن السلطان صلاح الدين، وابنه الملك العزيز عثمان. قال: وما برح الملوك يركبون إليها لصيد الكراكى ورميها.

وقال أيضا: وقد اعتنى بها الملك الناصر محمد بن قلاوون، وبنى أحواشا وميدانا.

وبركة الجب وما يليها فى درك بنى صبرة، وهم ينسبون إلى صبرة بن بطيح بن مغالة بن دعجان بن عتب بن الكليب بن أبي عمرو بن دمية بن جدس بن أريش بن أراش بن جزيلة بن لخم. فهم أحد بطون لخم. وفيهم بنو جذام بن صبرة بن بصرة بن غنم بن غطفان بن سعد بن مالك بن حرام بن جذام أخى لخم. انتهى.

وقال أيضا: وأدركنا هذه البركة مراحا عظيما للأغنام، التى تعلفها التركمان حب القطن وغيره من العلف، فتبلغ الغاية فى السمن حتى أنه يدخل بها إلى القاهرة محمولة على العجل لعظم جثتها وعجزها لثقلها عن المشى، وكان يقال كبش بركاوى. انتهى.

ص: 45

وبركة الحاج الآن قرية صغيرة، أكثر أبنيتها من اللبن، على طبقة واحدة، وبها جامع بمنارة مبنى بالآجر، وفى أرضها نخيل كثيرة أحمر الثمر، وسواق معينة بعد مائها عن سطح أرض الزراعة نحو ثلاثة أمتار.

وفى شرقيها بنحو مائتى متر جبانة، فيها ساقية عذبة الماء تسميها الأهالى ساقية شعيب، ويزعمون أن نبى الله شعيبا، عليه السلام، هو الذى احتفرها لسقى غنمه، وجميع أهل القرية يشربون منها وفى الشمال الشرقى للقرية عمارة طولها ثلاثون مترا فى عرض عشرة أمتار، وفى وسطها حوض مربع الشكل ضلعه ثمانية أمتار وعمقه أكثر من متر، وعليه قبة، وفى زاوية العمارة ساقية يملأ منها الحوض لسقى بهائم الحجاج.

وهذه العمارة بما اشتملت عليه تعرف بعمارة داود، نسبة إلى بانيها الأمير داود باشا، بانى جامع الداودية بالمحروسة.

وفى جنوب القرية بنحو ثلاثة آلاف وخمسمائة متر، بستان يعرف بجنينة الشيخ زياد، مساحته أربعون فدانا، فيه كثير من الفواكه، وهو الآن فى ملك الحضرة الفخيمة التوفيقية الخديوية.

وزمام أطيان القرية ألف وستمائة فدان، ويزرع فيها المزروعات المعتادة بالوجه البحرى.

‌ترجمة سيدى إبراهيم المتبولى

وفى جامعها ضريح عليه قبة يزعمون أنه ضريح سيدى إبراهيم المتبولى، وهو زعم مخالف لما فى طبقات الشعرانى، من أن سيدى إبراهيم مات بأسدود.

ص: 46

وقد ترجمه فى الطبقات

(1)

فقال: ومنهم سيدى إبراهيم المتبولى، رضى الله تعالى عنه، كان من أصحاب الدوائر الكبرى فى الولاية، ولم يكن له شيخ إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يبيع الحمص المصلوق بالقرب من جامع الأمير شرف الدين بالحسينية من القاهرة المحروسة.

وكان يرى النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا فى المنام، فيخبر بذلك أمه فتقول: يا ولدى إنما الرجل من يجتمع به فى اليقظة، فلما صار يجتمع به فى اليقظة ويشاوره على أموره قالت له: الآن قد شرعت فى مقام الرجولية.

وكان مما شاوره عليه عمارة الزاوية التى ببركة الحاج، فقال: يا إبراهيم عمر ههنا وإن شاء الله تكون مأوى للمنقطعين من الحاج وغيرهم، وهى دافعة البلاء الآتى من الشرق عن مصر، فما دامت عامرة فمصر عامرة.

ولما شرع/فى غرس النخل بالقرب من البركة، لم يصح له بئر فاستأذن النبى صلى الله عليه وسلم فى ذلك، فدله على بئر نبى الله شعيب التى كان يسقى منها غنمه، فأصبح فوجد العلامة مخطوطة فحفر فوجدها، وهى البئر العظيمة بغيطه إلى الآن.

قال: وأخبرنى الشيخ جمال الدين يوسف الكردى، رضي الله عنه، أن الغلاء وقع أيام السلطان قايتباى، حتى اجتمع عند الشيخ فى الزاوية نحو من خمسمائة نفس، فكان كل يوم يعجن لهم ثلاثة أرادب ويطعمها لهم، ولما سافر إلى القدس زار السيدة مريم، عليها السلام، بنت عمران، فقرأ عندها ختمات تلك الليلة، وكان يقرأ القرآن بالسبع.

واجتمع عنده بنو حرام فى زاويته خوفا من بنى وائل، فأرسل لبنى وائل قاصدا يأمرهم بالصلح، فقالوا: إيش للمتبولى فى هذا، يروح يقعد هو وصغاره فى الجبل والله لا نرجع

(1)

الطبقات الكبرى، للشعراني، مطبعة محمد على صبيح. القاهرة، د. ت. ج 2، ص 77.

ص: 47

حتى نسقى خيلنا من حيضان المدينة. فقال الشيخ: وعزة ربى ما عادت تقوم لبنى وائل رأس إلى يوم القيامة، فهم إلى الآن تحت حكم بنى حرام.

وكان رضي الله عنه مبتلى بالإنكار عليه من كونه لم يتزوج، وكان يقول ما بظهرى أولاد حتى أتزوج بقصدهم، ومكث نحو ثمانين سنة حتى مات لم يغتسل قط من جنابة لأنه لم يحتلم قط.

قال الشيخ يوسف، رحمة الله تعالى: ولقد كنا يوما فى حصن مسلة فرعون بالمطرية، فجاء جماعة من الجند بجرار خمر فجلسوا يشربون، فقال سيدى إبراهيم رضي الله عنه: من يزيل هذ المنكر، فقال فقير: أنا، فوضع رأسه فى طوقه فما كان أسرع من أن وقع الجند بعضهم في بعض بالدبابيس والنعال وكسروا الجرار، ثم جاؤا واستغفروا وتابوا على يد الشيخ.

وكان جماعة من رعاة الغنم يرعون برسيمه فى ناحية المطرية فأغلظ عليهم جماعة الشيخ، فبينما الشيخ، رضي الله عنه، راكب يوما من مصر إلى البركة ومعه جماعة من الفقراء إذ أرسلوا عليه عشرة كلاب شؤام، بأطواق الحديد يعقرون الشيخ وجماعته فلما وصلوا إلى الشيخ بصبصوا بأذنابهم ولا ذوابه.

وكان رضي الله عنه يقول: لا تكبر تعظم.

وكان يقول: طهر قلبك من محبة الدنيا يجر ماء الإيمان فى قلبك جداول.

وكان رضي الله عنه يقول: لا أحب الفقير إلا إن كان له حرفة تكفه عن سؤال الناس. وكان يحط على من يسلك رياضات البونى وغيره، ويقول: وعزة ربى إن عباد الأصنام أحسن حالا من هؤلاء، فإن الله عز وجل أخبر عنهم أنهم كانوا يقولون:

{ما نَعْبُدُهُمْ إِلاّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى}

(1)

، وهؤلاء اتخذوا أسماء الله المشرقة المعظمة

(1)

سورة الزمر آية 3.

ص: 48

لحصول أغراض خسيسة من مناصب الدنيا، لو عرضت على عاقل بلا سؤال كان من الأدب ردها، فكيف بمن يطلبها بمعصار التوجه والجوع ليلا ونهارا حتى يخف دماغه، وبعضهم يحصل له الماليخوليا والجنون.

وكان رضي الله عنه يلبس الصوف ويتعمم به، وكان له طليحية حمراء، ويقول:

أنا أحمدى، وكان يعمل فى الغيط ويدير الماء وينظف القناة من الحشيش، وكان رضي الله عنه إذا جاءه جبة أو جوخة مثمنة، يتحزم عليها بحبل ويعزق الغيط وهو لا بسها ويقول: ليس لملابس الدنيا عندنا قيمة.

وكان يعارض السلطان قايتباى فى الأمور، حتى قال له يوما السلطان: إما أنا فى مصر أو أنت. فخرج سيدى إبراهيم رضي الله عنه متوجها نحو القدس. فقيل له:

أين؟ فقال: إلى موضع تقف حمارتى، فوقفت تجاه قبر سيدى سليمان رضي الله عنه فمات هناك سنة نيف وثمانين وثمانمائة، رضي الله عنه-انتهى.

باختصار، ولم تزل هذه القرية محطة لمحمل الحج الشريف إذا سافر برا، وهى أول محطة للذاهبين وآخر محطة للقادمين.

وقد تكلم صاحب كتاب «درر الفرائض المنظمة، فى أخبار الحاج وطريق مكة المعظمة» على بعض مشتملات هذه القرية، وعلى محطات الحاج المصرى وادراكها وما يتعلق بذلك، نقلا عن المقريزى وغيره مع ما شاهده هو فى أسفاره. فقال: إن الذى كان عليه المتقدمون فى اليوم المعين لخروج المحمل، من القاهرة إلى الريدانية، ثم إلى بركة الحاج هو اليوم الثامن عشر من شهر شوال، وبعض أمراء الحاج إذا لم يوافق سفره يوما من الأيام التى يجب ابتداء السفر فيه لعلة الأيام، يجعل ذلك يوم التاسع عشر وهو نادر.

ومقدار المسير إلى البركة من صحراء القاهرة، ومبدؤها الباب والخان الذى أنشأه داود باشا، خمس ساعات.

ص: 49

وكان المحمل فى القديم يخرج من القاهرة بزينة، فينزل بالمحل المعروف بالريدانية، يقيم به يوما وليلة ثم يرحل إلى البركة، فبطل ذلك قديما. واستمر أمير الركب من حين خروجه من القاهرة لا ينزل إلا بالبركة، وطريقها فضاء وحصباء ورمل، وبالبركة نخل كثير وبعض سكان وبيوت بجوار زلوية الشيخ الصالح المعتقد إبراهيم المتبولى. وبها فسقية قديمة للماء عمّرها عظيم الدولة، فى زمن الملك المؤيد والملك الأشرف برسباى. وهو عبد الباسط بن خليل الدمشقى، وابتدأ فى عمارة ذلك فى شهر شوال سنة ثمان وعشرين وثمانمائة، وأنشأ بجانبها بئرا وبستانا، ثم استجد المقام العالى داود باشا تغمده الله برحمته، بالبركة فى نيف وخمسين وتسعمائة حوضا يشتمل على محراب للصلاة ومعرفة القبلة وأواوين يجلس عليها/المسافرون للاستراحة من التعب فى ضمن عمارة عالية يراها المسافر من بعد، وقد أحسن في عمارة ذلك ما شاء، حصل به نفع كبير أثابه الله تعالى.

وذكر لى صاحبنا زين الدين، الخولى بالسواقى السلطانية، أن أصل هذا الحوض بئر، كان اشتراها الخولى زين الدين المذكور، وأنشأ بجانبها بئرا أخرى وحوضا كبيرا طوله ستة وسبعون ذراعا، وجعل بجانب ذلك بستانا وسبيلا، فمرّ داود باشا على ذلك الحوض والبئرين فى بعض منتزهاته، فرأى قافلة وردت من السويس تستقى من الحوض، وكان الوقت حارا فطلب ماء من السبيل فشرب منه وأعجب به، فسأل عن مالكه فأخبر أنه للخولى زين الدين، فطلبه منه هبة، فذكر أنه امتنع من إعطائه، وقال إنه وقف وأنه أذن له أن يعمر فيه ما شاء، فأنشأ به إيوانا مستطيلا وفسقية ومحرابين وعقودا عالية واستمر منهلا للواردين والمسافرين أثابه الله تعالى.

قلت: وقد اتفق فى البستان الذى بجانب هذا الحوض المستجد الذي أنشأ فى زمن داود باشا، نزاع كبير، بين الخولى زين الدين وكتخدا داود باشا وهو الأمير أحمد مملوك المشار إليه، وعتيقه المشهور بحاجى كتخدا، فادعى الخولى أن البستان له وأنه زرعه وليس لداود باشا فيه ملك ولا وقف، وأحضر حاجى أحمد، كتخدا الواقف، مكتوب وقفه، وأحضر المسجل وكشف عن تاريخ ذلك منه، ووجد للسجل نسخة عند صاحبنا

ص: 50

الشيخ العلامة عز الدين المجولى الشافعى، مشمولة بخط ابن شعبان قاضى إقليم المحلة والغربية سابقا، فتنازع المدعى والمدعى عليه والشاهد المذكور لدى قاضى مصر، وهو برويز جلبى، مملوك إبراهيم باشا الوزير الكبير، فركب وكشف بنفسه على المحل، ورأى الحدود وفحص عن ذلك فثبت عنده ملك داود باشا لذلك قبل وقفه له، وإنما الخولى زين الدين كان عاملا له فى الزراعة وإنشاء الشجر، وجعله ناظرا عليه فقط، فحطت رتبة زين الدين الخولى بمقتضى ذلك عند بعض الأكابر، ونسب إلى دعوى الزور وما لا يملك، وذلك فى أواخر ربيع الآخر سنة خمس وستين وتسعمائة.

وقال فى موضع آخر: إن الخولى زين الدين هو ابن شهاب الدين بن على، يقال إن أصله من المغرب، وكان أبوه شهاب الدين وعمه جمال الدين رئيس الخولة بالسواقى السلطانية على نمط أشباههم من الخولة، ونشأ زين الدين على فقر وفاقه وتقتير كثير، وكان مبعدا من أقاربه، فلما مات عمه جمال الدين وطعن أبوه فى السن احتاج إلى مساعدته، فساعده بهمة وعزم وحسن سيرة، مع بذل الطعام لكل وارد من عرب بنى عطية وغيرهم، فقصدته العرب وتسامعوا بحسن سيرته واشتهر ذكره، وتقرب من السلطنة وخدم الأعيان، وأكثر من الزراعة واهتم بها، واستأجر طينا سلطانيا بإقليم الجيزة وغيرها، ونما ذكره وحمدت سيرته، سيما فى ملء الفساقى التى بمنهل عجرود ومنهل بطن نخل، وترقى بواسطة خدمته لمن يكون كافل الديار المصرية وناظر أموالها، وتردد إلى صناجقها وأكابرها وهاداهم، وقوى عزمه وتعدى طور أبيه وجده فى علو الهمة والمروءة ومحاباة الناس، فصار مجالس أكابر الدولة ومن الأعيان الذين سودهم الزمان بغير برهان، ومن الذين يتطاولون فى البنيان.

قال: ولقد حكى لى أن مرتبه فى منازله فى كل يوم من الدقيق الحوارى لعمل الخبز القرصة خمسة عشر من البطط.

وقس على ذلك غيره، مع ضيق أحوال أهل مصر والقاهرة فى معايشهم، ووقوف أحوالهم وتعطل مكانهم. انتهى.

ص: 51

قال: وينصب بالبركة سوق كبير، فيه من الجمال والحمير والبغال، وأنواع الملابس المعدة للسفر وما يحتاجه المسافرون من المركوب والملبوس والمأكلول، بحيث أن من أراد ابتداء السفر من البركة يتهيأ له سائر ما يحتاجه من أسباب. وينتظم بها سائر أحوال الركب والإقامة بها خمسة أيام والرحيل منها سحر يوم السادس، إلا فى النادر لضرورة أوجبت ذلك.

قال المقريزى: وبركة الحاج اليوم أرباب أدراكها قوم من العرب يعرفون بينى صبرة.

قال الشريف بن أسعد الجوالى فى كتابه «الجوهر المكنون، فى معرفة القبائل والبطون» : بنو بطيح بطن من لخم، وهم ولد بطيح بن مغالة بن دعجان بن عنب بن كليب بن أبى الحرث بن عمرو بن رميمة بن جدس بن أريش بن أراش بن جزيلة بن لخم وفخذها بنو صبرة بن بطيح، ولهم حارة مجاورة للخطة المعروفة بكوم دينار السايس، وصبرة فى خندف، وفى قيس ونزار.

وأقول: إن المتعارف الآن مما توارثه الخلف عن السلف، أن للبركة دركين فمناخ الركب ومبركه ومحل نزوله. والوطاق دركه على متولى الحرب السعيد المسمى فى الدولة التركية بالصوباشه، ولهذا يتقدم خروجه إلى البركة يوم رحيل الخيام والفراشين، ويسمى فى العرف بالمدورة من باب تسمية الشئ باسم صفته، لأن المدورة صفة لموصوف، وهى الخيمة الخاصة المسماة بالتنورة، فيستمر للحراسة واليقظة على مناخ الركب إلى أن يبدو رحيل الركب فيحضر إلى أمير الحاج لوداعه، وله عادة حينئذ عند نهاية خدمته، قفطان مذهب، فينعم عليه به ويلبسه ويودع أمير الركب بعد أن يؤكد عليه فى الوصية/ بالمودعين إن كان الوقت قابلا لذلك، ويتوجه الصوباشا إلى القاهرة، وهذا الدرك جزئى باعتبار مبرك الحاج فقط فى هذا المحل.

وأما الدرك الكلى المشهور، فهو على أمير عرب العائذ بالشرقية وعلى جماعته،

ص: 52

وابتداؤه من أول صحراء القاهرة وخان داود باشا إلى الحمام، وهو بجانب البحر الملح محل زينة أمير الحاج بعد نزوله من عقبة أيلة، وإلى هنا ينتهى حدّ درك الربع الأول.

ثم لما استولت بنو عطية على الدرك وغلبوا عليه، كثر فسادهم واشتهر عنادهم، بعد أن كانوا عرب حمل إمرة الحاج من القاهرة إلى عقبة أيلة، ولم يقدر أمير العائذ على دفعهم وكفهم عن الركب، وتوالت مفاسدهم بالسرقة والخطف فى هذا الربع الأول وأعظم محل فيه. وأخبث محل فى الدرب المصرى، نقب العقبة، لضيقه واختلاف طرقه وتمكن العرب من الفساد فيه بالأذى والنهب، فقرر معهم أمير العائذ أن يدفع إليهم مائتى دينار يأخذها من رجال العائذ جباية فى كل سنة، ويدفعها لهم فى نظير خفارتهم للنقب خاصة، وحدّد ذلك من السطح إلى الحمام فوافقوه على ذلك وتسلموا منه المبلغ المذكور، والتزموا بخفارة النقب لصعوبته وعسر سلوكه، وتمكن المجرمين منهم فيه من الأذى للوفد ما لم يمكنهم فى غيره إلا بعسر وتيقظ، فلما وقع الانفاق على ذلك ومضى على ذلك برهة، طمع العائذ فى أكثر من الحد المتفق عليه، وادعوا أنهم إنما دفعوا المبلغ على خفارة الركب من نخل إلى الحمام، وتنازعوا فيما بينهم واختلفوا، فبنو عطية ينكرون دعوى أهل العائذ ويعترفون بأن أول حدهم السطح، وأهل العائذ يقولون من نخل.

وتلاشى بهذا المقتضى أمر الضائع بين نخل والسطح، فإن أمير الحاج من نخل يلبس أمير العائذ تشريفا، ويعود بجماعته وخيله منها إلى القاهرة، ويصير ما بين نخل إلى السطح بغير خفير ولا صاحب درك، وسيأتى ذكر ذلك أيضا فى محله.

فلنرجع إلى مدة الإقامة بالبركة والرحيل منها فنقول: إن العادة المستمرة أن يقيم الركب ببركة الحاج خمسة أيام، إلا أن يطرأ أمر ضرورى مقتض لزيادة يوم فى بعض السنين لأجل الضرورة فيتأخر الركب ذلك اليوم ولا يعتمد على مثل ذلك.

ولا بد لأمير الحاج أن يراعى أحوال الجمالة ويسأل عن أحوالهم واعتدالها، وكفايتهم من العليق والجمال، فإن فى ذلك الراحة لأمير الحاج وللجمال والرعية، فإذا توجه يوم الثامن عشر من القاهرة يكون العادة فى رحيله من البركة أذان الفجر من

ص: 53

صبيحة اليوم الثالث والعشرين، هذا هو اليوم المعهود المتعارف فى صدر من الدولة الجركسية وإلى زمننا هذا.

وينبغى لأمير الحاج أن لا يرحل من البركة ليلا، ففى ذلك من الفساد والمضار ما لا يخفى، فإنه قد يتسحب من الجمالة والغلمان ممن لا يكون على اعتدال للسفر، فيكون الليل ساترا ومعينا لهم على ذلك، فقد وقع من ذلك أن تسحب الجمّال بجماله ليلا ولم يشعر به الركاب وأصبحوا بأحمالهم بلا جمال، فعادوا إلى القاهرة، وقد يخشى على المودعين أيضا من التعرض لهم إذا رحل الركب ليلا وتركهم، فإن ذلك الموضع فى أوان الحج مقصود من أهل الأذى والفساد.

وبالجملة فالرحيل من البركة ليلا غير المعتاد، والتأخير بها إلى أن تشرق الشمس غير المعتاد أيضا، لئلا تصير جميع الرحلات المستقبلة مسبوقة إلى مناخ عقبة أيلة، خصوصا ما ذكرنا من سمن الجمال وثقل الحمل، ففيه ما لا يخفى من المشقة.

وأحسن ما يفعله أمير الحاج أن يعلن بالرحيل طلوع الفجر، ويستمر هو بالبركة إلى طلوع الشمس ليتناهى توجه الركب ورحيله على اعتدال، فإن قصّر أحد من الجماعة عن حمله، أو حصل لأحد من وفده ضرورة ساعده على إزالتها، ورحل هو حينئذ.

وبركة الحج محل وداع الأحباب، ومفارقة الأتراب، وأخذ الدموع فى الانسكاب، والقلوب فى الإضطراب، وتأكيد الوصية من المحب بالتعريف عن أخبار أحبابه ضمن الكتاب.

وما ألطف قول البدر بن يوسف الذهبى:

وبمهجتى المتحملون عشية

والرّكب بين تلازم وعناق

وحداتهم غنت حجازا بعدما

غنت وراء الركب فى عشاق

وللشهاب أحمد بن أبى حجلة:

ولما اعتنقنا للوداع عشية

على بركة الحجاج والدمع يسكب

فرحنا وقد جزنا البويب لأنه

إلى وصل من نهواه باب مجرب

ص: 54

ولزين الدين بن عمر بن الحسام:

ولما اعتنقنا للوداع عشية

وفى القلب نيران لفرط غليله

بكيت وهل يغنى البكا عند هائم

وقد غاب عن عينيه وجه خليله/

ولبعضهم:

ودعتكم فرجعت بعد وداعكم

ندما أعض من الفراق أناملى

أما التصبر بعدكم فعدمته

إذ بالتشوق والغرام أناملى

غيره:

لو كنت ساعة بيننا ما بيننا

ورأيت كيف نكرر التوديعا

لعلمت أن من الدموع محدثا

وعلمت أن من الحديث دموعا

غيره:

ولما اعتنقنا للوداع ودمعها

على خدها يفشى الصبابة والوجدا

بكت لؤلؤا رطبا ففاضت مدامعى

عقبقا فصار الكل فى نحرها عقدا

غيره:

لا تحسبوا أنى بخلت بمدمع

يجرى دما يوم الفراق حقيقا

أنا ما بخلت وكان درا قبل ذا

أيجوز بخلى حين صار عقيقا

غيره:

ولما بدا التوديع ممن أحبه

ولم يبق إلا أن تزم الرواحل

بكيت وأبكيت العواذل رحمة

وحسبك من تبكى عليه العواذل

وللصلاح الصفدى:

لما اعتنقنا لوداع النوى

وكدت من حر النوى أحرقه

رأيت قلبى سار قدامه

وأدمعى تجرى ولا تلحقه

وله أيضا:

ولم أنس إذ ودّعونى ضحى

وقد مطرتنا غيوث البكاء

وبت بحال يسر العدا

أمامى قفاى وعينى وراء

ص: 55

وتلطف من قال مختارا ترك الوداع:

عاقنى عن حلاوة التشييع

ما أرى من مرارة التوديع

ما يفى أنس ذا بوحشة هذا

فرأيت الصواب ترك الجميع

وقال الشيخ زين الدين بن الوردى:

من كان مرتحلا بقلب محبه

يوما فإنك راحل بجميعى

وأنا الذى ترك الوداع تعمدا

من ذا يطيق مرارة التوديع

وعكس هذا المعنى من تمنى الوداع فقال:

أرأيت من يرضى بفرقة إلفه

أنا قد رضيت لنا بأن نتفرقا

حتى أفوز بقبلة فى خده

عند الوداع ومثلها عند اللقا

ولبعض كتاب الغرب فى وداع من ركب البحر وتلطف:

قد قلت إذ سار السفين بهم

والبين ينهب مهجتى نهبا

لو أن لى ملكا أصول به

لأخذت كل سفينة غصبا

وقال علاء الدين بن سالم موقع غزة:

سارت سفينتهم بأبحر مقلتى

وتتابعوا فتجمعوا ركبا

لو كنت أملك جيش فيض مدامعى

لأخذت كل سفينة غصبا

ولبعضهم:

فوا عجبا ممن يمد يمينه

إلى إلفه عند الوداع فيسرع

ضعفت عن التوديع حين أردته

فودعته بالقلب والعين تدمع

غيره:

ومودع يوم الفراق بطرفه

شرق من العبرات ما يتكلم

متلفت نحو الحبيب بغصة

لا يستطيع وداعه فيسلم

ص: 56

وكان رحيل الحاج من البركة سنة خمس وخمسين وتسعمائة، وقت طلوع الشمس من يوم السبت ثالث عشر شوال، فسار إلى القرب من البويب، فكان مسيره إلى ما قبل الظهر بسبع وعشرين درجة، خمسين درجة لدخول الصنجق من غير العادة، والعادة أكثر من ذلك، وتكامل الركب بالدار إلى الظهر.

والبويب مضيق بين جبلين صغيرين وشرفه وتل رمل مستطيل يمينا، وله بابان هذا وباب آخر عند مناخ عقبة أيلة، وهو بناء على قنة جبل فى أول دار حقل كأنه إشارة/ إلى أن هذا أول المفازة من حد مصر. وكان المسير أذان الظهر إلى دار المعشى بالدار الحمراء، وهى التى تسمى الآن الدار البيضاء، فكان مدة سيره إلى المغرب خمسا وسبعين درجة، وأقام بالدار إلى ما بعد العشاء بأربعين درجة وسار فمرّ على الطليحات، وقطع المصانع، وهى جمع مصنع، علم على ما صنع هناك، ليكون موردا للحاج، ولم يتم عمله.

ويشتمل على فسقية عميقة معطلة وبئر خراب، قيل إنه لما انتهى الحفر إلى هذا الحد، سمع من داخلها قائل يقول: أقصروا عن العمل فليس هنا ماء. وسار إلى القرب من مقرح عويبد، وكان مدة سيره إلى ما بعد الشمس بعشر درج مائة وستين درجة، وأقام بدار المغدى ثلاثين درجة، وسار قبل الظهر بخمس وثلاثين درجة، فقطع الوعر الذى تسميه العامة المقاث ومراكع موسى، وهو أول محجر يوجد بالدرب المصرى، ويقال إن هناك عمودا مكتوبا عليه الداخل لهذه البرية مفقود والخارج منها مولود. واستمر فى سيره إلى أن كان وصول الصنجق إلى عجرود قبل المغرب بثمان درج، وكان مدة سيره مائة وخمس درج. انتهى. وانظر بقية الكلام على محطات الحج فى عجرود.

‌مطلب الكلام على تجهيز المحمل الشريف

المصرى وخروجه إلى أن يعود

وكيفية تشغيل الكسوة الشريفة وما يتعلق بها

وقد رأينا أن نورد هنا طرفا مما يتعلق بمحمل الحج الشريف المصرى على ما هو

ص: 57

عليه الآن، من تهيئة لوازمه وخروجه من المحروسة إلى أن يعود إليها، حسبما وصفه كاتب الصرة الشيخ أحمد الفقيه العرقان، الملازم لذلك كل سنة، منذ أربع عشرة سنة إلى الآن.

قال: إن أعظم ما يشتمل عليه موكب الحج الشريف المصرى هو كسوة الكعبة شرفها الله تعالى، بما تشتمل عليه من كسوة مقام الخليل عليه السلام، وستارة باب التوبة، وبيارق الكعبة والمنبر.

وإرسال ذلك من مصر كل سنة عادة مستمرة بها، وأول من أحدثها شجرة الدر.

فتنسج الكسوة بالقاهرة المحروسة فى ورشة التشغيل بجهة الخرنفش، والذى هى عليه الآن أن يختار أولا نوع الحرير اللازم لها بمعرفة أهل الخبرة، ثم تقع المزايدة عليه بين تجاره فى ديوان المحافظة، فمن يرسو عليه المزاد يؤخذ منه القدر الكافى وهو سبعمائة أقة، فيسلم للفتالة فيفتلونه، ثم يسلم للصباغين فيصبغ بالنيلة بلون إسكندرانى كامل، ثم يسلم للمزاك فيمزك، أى يصلح مما حصل به من أثر الشيل والحط ونحوه، ثم يلف عند اللفاف لفائف، لفائف ثم يصير لقيه، أى تسديته بطرف الملقى، ثم يسلم فى ورشة التشغيل لأسطاوات النوالة، وهم عشرون، فينسجونه على أربعة أنوال لأجل أخذ الكشاوير اللازمة بالجبذ، على حسب رسم الكتابة التى يراد نقشها عليها، ثم يؤخذ ما يلزم تخييشه بالقصب الأبيض والأصفر على الرسم المصنوع بالنول، فيصير تخييشه على المناسج وذلك أربع قطع هى أحزمة الكعبة الشريفة، وأربع لمقام الخليل، وقطعة هى البرقع وبيارق المنبر، ومقدار ما يكفى ذلك من المخيش يختلف من خمسة وعشرين ألف مثقال إلى ثلاثين من التلى الجيد، ومقدار مصاريف الكسوة جميعها بما فيها من ثمن الحرير والتلى، وأجرة الشغالة من أول العمل إلى آخره خمسة آلاف جنيه مصرى وخمسمائة جنيه.

وابتداء تشغيلها كل سنة من أول ربيع الآخر إلى شهر رمضان، وبعد انتهائها

ص: 58

تؤخذ كسوة المقام إلى ديوان المحافظة بموكب، فتحمل على أعناق الرجال ويكون أمامها التهليل والتكبير ودلائل الخيرات ونحوها إلى الديوان، ويحرر من ديوان المحافظة إعلانات إلى العلماء والأكابر ومشايخ السجادات والأشائر للحضور ليلا، ويكون فى تلك الليلة وليمة حافلة مكلفة من طرف الميرى، وتستمر تلاوة القرآن والأذكار إلى قرب الفجر. وفى صبح تلك الليلة تحمل إلى ميدان محمد على بقره ميدان، ثم ينعقد موكب من العساكر الجهادية وأرباب الأشائر وجميع أرباب التشغيل لا بسين الأكراك، ويحمل مأمور التشغيل كيس مفتاح البيت الحرام، وبعد تمام تنظيم الموكب بمعرفة المحافظ ووكيله وصاحب الشرطة، يسيرون مع المحمل وجميع الكسوات التى صار تشغيلها، بعضها على أخشاب فوق أعناق الرجال، وبعضها على الحيوانات، والمحمل على الجمال المعدة لحمله، إلى أن يوصلوه إلى مشهد سيدنا الحسين رضي الله عنه، فيدخلون جميع ذلك الحرم الحسينى، ثم يوجه المحمل إلى وكالة ذى الفقار بالجمالية، وتبقى الكسوة فى الحرم الحسينى، وهناك تركب أشرطة القطن البيضاء على الكسوة والبراقع ويستغرق ذلك نحو عشرة أيام.

‌خروج موكب الحاج المصرى وما يشتمل عليه

ثم فى يوم واحد وعشرين من شهر شوّال يعقد موكب أعظم من الأول، ويؤخذ المحمل بعد العصر من وكالة ذى الفقار بكسوته البفتة إلى ميدان محمد على، والكسوة المعدة للموكب عليها تكون خلفه من صناديق، فيبيت هناك تلك الليلة مع كافة خدمة الصرة، ويقال لهم عيط الصرة، كالسقائين والفراشين والعكامة. ويبيت هناك أمير الحاج أيضا وخلق كثيرون، ويكون فى تلك الليلة حظ وافر من السرور.

وفى صبح اليوم الثانى والعشرين من شوال ينعقد الموكب الأكبر الحافل، المتشكل من العساكر الجهادية/المشاة والخيالة بأحسن هيآتهم، ومن الأمراء والأعيان وسائر أرباب

ص: 59

السجادات والأشائر، وحضرة القاضى أفندى، وحضرة نقيب الأشراف، بمكاتيب تحرر لهم فى هذا الشأن من طرف المحافظة، ويحضر فى الميدان حينئذ ناظر ديوان الداخلية فيكونون بالقرب من مسطبة الحج التى هناك، ثم يلف المحمل ثلاث لفات فى كل لفة يمر به أمام حضراتهم السعيدة، ثم إن ناظر الداخلية يسلم المحمل بيده الكريمة ليد حضرة القاضى، ثم يسلمه القاضى إلى أمير الحاج كل ذلك بحضرة الأمراء، ثم تطلق المدافع حينئذ إيذانا بابتداء سير المحمل، ثم يبتدأ فى السير على ترتيب عجيب فيمشى أولا العساكر المشاة بهيئة مشية التعليم، ثم العساكر الخيالة والكل متسلحون، ثم أرباب الأشائر، ثم جملة من الأمراء والعساكر، ثم المحمل إلى أن يصلوا إلى الحصوة، المسماة اليوم بالعباسية، خارج باب النصر، فتضرب هناك المدافع المعتادة ويحط المحمل هناك.

وفى اليوم الرابع والعشرين من شوّال، يتوجه أمير الحاج وأمين الصرة، وأحد المعاونين بديوان المالية، وحضرة نائب القاضى إلى المشهد الحسينى، فتحزم كسوة الكعبة الشريفة بحضورهم، وتكتب الوثيقة على كل من المحاملى، وأمير الحاج، وأمين الصرة باستلامها، ثم تحمل على الجمال بعد وضعها فى الصناديق اللازمة لها ويتوجهون بها إلى الحصوة، ومن حينئذ يستقل أمير الحاج ومن معه من المستخدمين بالأمر كل على حسب رتبته.

‌مطلب ما يلزم ترتيبه فى خروج

الحج المصرى من المحروسة

ولنبين لك ما يلزم ترتيبه فى خروج الحج المصرى من المحروسة إلى عوده ثانيا، من محافظين ومستخدمين وإبل وخيام، وأزواد وغير ذلك.

أمير الحاج يكون برتبة أمير الاى، يعين بأمر حاكم مصر من سر سوارى

ص: 60

الموجودين بمصر، ويرتب له كل شهر فى مدة سفره خمسون جنيها مصريا، غير مائتى جنيه مصرى يعطاها إنعاما من الحضرة الخديوية قبل سفره، ويرتب له ثلاثون جملا بعليقها غير عليق خيله التى من طرفه، ويجعل معه من العساكر الباشبزوك مائتان، وعليهم وكيل مرتبه كل شهر ألف قرش ومائتان، وعلى كل خمسة وعشرين منهم بلوك باشا واحد بمرتب أربعمائة قرش كل شهر، وعلى كل أربعة بلوكات بيكباشى واحد بمرتب ثمانمائة قرش كل شهر، ومرتب العسكرى مائة وخمسة وعشرون قرشا وتعيين عسكرى، ولكل عسكرى حصان من طرف نفسه وجمل من طرف الميرى، وقربة وعليق حصانه وجمله. وأجرة الجمل الواحدة ذهابا وإيابا ستة جنيهات مصرية، وذلك غير اثنين وعشرين عسكريا من العساكر الطوبجية، عليهم ضابط صف برتبة ملازم أول ومعهم مدفعان أحدهما جبلى والآخر برى، ولهم اثنان وثلاثون جملا مرتبة لحمل الجبخانة، والمدفع الجبلى، والأحمال اللازمة لهم، وعليق الستة بغال المستصحبة المعدة لجر المدافع عند الاقتضاء، وحمل الخمسة وعشرين قربة ماء اللازمة لهم.

وتعيين هذا الصنف من الطوبجية يكون بأمر ناظر الجهادية بعد مخابرة المالية للجهادية، وتعيينهم كتعيين الجهادية وحركتهم تحت إدارة أمير الحاج وأمين الصرة.

وأمين الصرة تارة يرتب من المستخدمين اللائقين لذلك برتبته الأصلية، وتارة يرتب ممن يقدمون للأعتاب العالية فى طلب هذه الوظيفة، ومرتبه كل شهر فى مدة سفره خمسة وعشرون جنيها، ويعطى خمسة وسبعين جنيها إنعاما من الحضرة الخديوية قبل سفره، وله أحد عشر جملا لحمل أثقاله وتعيين أحد عشر عسكريا.

والوظيفة المنوطة به فى حال السفر، التكلّم فى صرف مرتبات العرب المعترضين فى الطريق، والمجاورين بمكة المشرفة والمدينة المنورة، على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، وصرف أثمان ما يلزم شراؤه لمؤنة العساكر، والجمال والبغال، من الحشيش ونحوه.

فالصيرفى يتولى صرف ذلك بأمره المشتمل على ختمه، وذلك بعد ختم الأذن من أمير الحاج.

ص: 61

وأما العلائق فتؤخذ من كل قلعة بمر عليها المحمل كالسويس، ونخل، والعقبة، والمويلح، والوجه، وينبع، ورابغ، ومن مكة والمدينة، ففى جميع تلك المحطات غلال مخزونة ترسل سنويا من مصر لهذا العرض.

وتحت إدارة أمين الصرة جميع كتبة الصرة من كاتب أول وكاتب ثان، وهما مرتبان بمعرفة ديوان المالية، ومرتبهما معا سبعة جنيهات مصرية، ولهما تعيين أربعة عشر عسكريا ما عدا اللحم فيصرف لهما ثمنه، ستمائة وأربعة وتسعون قرشا، مدة السفر ذهابا وإيابا، ولهما من الجمال ما يكفى لحمل أثقالهما، ويخلع على كل منهما كبود جوخ، وشال كشمير وقفطان قطنى، وبنش جوخ، وعمامة شاش، وتحت يدهما كتبة معاونون على قدر اللزوم.

ومرتب الصراف ألف ومائتان وخمسون قرشا ذهابا وإيابا مرة واحدة، غير ثمن اللحم، والحطب وهو أربعمائة وستون قرشا، وله تعيين أربعة عساكر، وله أربعة جمال لحمل أثقاله، وخلعة مثل خلع الكتبة. وهو الذى يستلم نقود الصرة من خزينة الروزنامة من بعد إحضار الضمانة القوية اللازمة المصدق عليها/بالإعتماد من شيخ الصيارف بالمحروسة، ويكون استلامه الصرة بحضور أمير الحاج، وأمين الصرة، وروزنامجى بيك، ووكيل الروزنامة، وكاتب الصرة، ونائب القاضى.

ثم تكتب وثيقة الاستلام على أمير الحاج وأمين الصرة، وكاتبها وصرافها جميعا من بعد عدها ونقدها، وهى أربعون ألف كيسة أو أكثر.

وأمناء الكساوى اثنان، تحت أيديهما خلع العرب وخلع لبعض أهل مكة والمدينة، من كبابيد جوخ وبنشات جوخ وأكراك ونحو ذلك، وقيمة الجميع تسعون ألف قرش.

ومقدم العكامة بعهدته الحلوى المرتبة للعرب وأهل مكة والمدينة، من سكر خام وسكر أبيض، وسكر نبات، وشربات وحلاوة وملبس، وكذلك الشمع الإسكندرانى، وقيمة جميع ذلك نحو عشرون ألف قرش.

ص: 62

وفى عهدته أيضا الجمال اللازمة لحمل الخيام والنقود وأثقال المستخدمين ونحو ذلك، وهى مائة وخمسة وستون جملا، وتحت يده أربعة عشر رجلا، لتحميل كسوة الكعبة والخزينة والحلاويات والخلع ومهمات الكتبة والصراف، وأمين الصرة والطوبجية.

والخيام اللازمة للمستخدمين والصرة ثمانون، ما بين سحابة وقبة مماليكى وذات يطق، جميعها من طرف الحكومة وبعضها يختص بأمير الحاج، ويكون فى عهدة فراشين من طرفه، وباقيها فى عهدة فراشين من طرف الحكومة.

والضوّية المنوط بهم المشاعل، اللازمة للتنوير فى السير ليلا، تسعة عشر رجلا، مرتبهم جميعا ذهابا وإيابا ألف ومائتان قرش، غير التعيين وعليق الحمير.

والمرتب من السقائين لسقاية الحاج عشرة رجال، بمرتب ثمانمائة قرش لجميعهم ذهابا وإيابا غير التعيين.

والبيرقدارية اثنان، أحدهما يحمل البيرق الكبير، والآخر يحمل الصغير.

ويتعين بمعرفة مجلس الصحة حكيم برتبة يوزباشا، وأجزئى برتبة ملازم أول، وتمرجى برتبة بابا شجاويش، ومعهم الأدوية اللازمة للحجاج ذهابا وإيابا فى صناديق وأوعية، وبرفقتهم ثلاث محفات لركوب المرضى.

ويرتب رجلان لسوق المتأخر من الحجاج، بماهية ستة وستين قرشا كل شهر غير التعيين، ولهما جمل واحد بعليقة، وكذا نجار واحد بدون مرتب إلا عليق حماره.

ومبلغ عرفات له التعيين فقط.

ويرتب بيطار بدون مرتب، ولا تعيين، لتطبيق بغال المدافع بحديد ومسامير من طرف الصرة.

ومن العادة قديما أن يركب خلف المحمل رجل يسمى شيخ الجمل، يركب خلف

ص: 63

البيرقدار الكبير، وله بالروزنامة كل شهر تسعون قرشا، ويركب خلفه رجل يسمى أبا القطط له، بالروزنامة كل شهر ثمانون قرشا، ولكل منهما تعيين رجلين.

وأما المحاملى فهو رجل تحت إدارته أربعة رجال طبالين وزمارين.

فجميع خدمة الصرة الذين يصرف لهم التعيينات مائة رجل وسبعة، ومقدار ما يصرف من العلائق والمرتبات والتعيينات خمسة آلاف أردب فول وشعير، ومائة ألف أقة بقسماط، ثلاثون ألف أقة أرز، أربعون ألف أقة عدس، ثلاثون ألف أقة دقيق، خمسة عشر ألف أقة سمن، مائتا أقة لحم تشترى لعساكر الطوبجية، ألف ومائتا أقة حطب تشترى أيضا، خمسون أقة ملح.

ثم إن ترتيب السقائين والضوّية، والعكامة والفراشين، والسوّاقين يكون بمعرفة الروزنامة، وترتيب البيرقدار الصغير وأمين الكساوى، والبيطار والصراف، يكون بأمر المالية.

وأما البيرقدار الكبير وشيخ الجمل، وأبو القطط والمحاملى، فتارة تكون وظائفهم موروثة عن آبائهم، وتارة بمعرفة الروزنامة

‌مطلب محطات الحجاج

[بركة الحاج]

وبعد أن يحط المحمل بالحصوة بقدر ما يهيئ الحجاج لوازمهم، يرتحل إلى بركة الحاج، فهى المحطة الأولى فيقيم نحو يومين، وهناك يحصل ترتيب كل ذى وظيفة فى وظيفته، فينبه على العساكر بأن يكونوا خارج الحاج دائرين حوله، للمحافظة عليه ذهابا وإيابا بعمل القرافولات اللازمة، ويرتب بلوك أمام المدافع يقال له دويدار، وبلوك

ص: 64

لخفارة الخزينة، وبلوك عن يمين الحاج وآخر عن يساره، وبلوك مع البيرق، وبلوك خلف الحاج يقال له القشاش لحفظ من ينقطع عن الركب.

وهناك أيضا يصير كتب الحاج ببيان بلده، وما معه من الإبل والأتباع، وينبه عليهم بما يصير ترتيبه، وقبل القيام من البركة ينادى بأن التحميل يكون فى كل محطة فى الساعة السابعة من النهار، والمسير يكون فى الساعة الثامنة، وأن كل من تأخر عما جرى به التنبيه يستحق ما يجرى عليه، وعند التحميل يضرب مدفع وعند المسير كذلك فى كل محطة.

ومسير الحاج يكون على الترتيب، فيقدم بلوك العساكر ثم المدافع، وجمال الطوبجية والجبخانة، ثم طائفة الفراشين، ثم أمير الحاج، ثم أورطة من العسكر، ثم أمين الصرة ثم الكتبة، ثم المحمل ثم أعيان الحجاج، ثم الفلاحون والرعاع، ثم جمال الماء، ثم باقى العساكر.

[الدار البيضاء]

وفى ليلة الرحيل من البركة يعمل بها شنك عظيم، ثم يرتحل صباحا إلى الدار البيضاء وهى المحطة الثانية، واقعة شرقى جبل الجيوشى، وكانت تسمى الدار الحمراء، قأجرى فيها المرحوم عباس باشا إصلاحات وسماها الدار البيضاء والدار الخضرا، وليس بها أشجار ولا ماء، وينبت عندها قليل من الحشيش يسمى عند العرب/الدرهم ترعاه الجمال، وفى شمالها الغربى قصر المرحوم عباس باشا. ومدة المسير إليها أربع عشرة ساعة غير الإستراحة، قبل الغروب بنصف ساعة وبعده بساعة، والطريق إليها سهلة بلا خوف ولا وعر، فيقيم بها سبع ساعات، وهناك يفرق العليق على البهائم، وفى آخر الساعة السابعة يضرب مدفع التحميل، وفى الساعة الثامنة يضرب مدفع المسير فيسير مشرقا إلى بندر السويس، ويستريح عند الغروب، كما مر، فيصل إلى بئر خارج بندر

ص: 65

السويس فى مسافة أربع عشرة ساعة غير الاستراحة، وهى بئر قديمة كانت مستعملة ثم تركت الآن لوجود الترعة الحلوة هناك.

وعندها يصير تنظيم موكب مع إلباس المحمل كسوته المقصب، ويحضر محافظ البندر بالعساكر والأشائر، ويستمر الموكب إلى أن يحط خلف كوبرى الترعة الحلوة فى جنوبها الشرقى فيقيم هناك ليلتين، وفى صبح ثالث يوم يسير إلى محطة الناطور، ويمر فوق كوبرى الترعة الملحة، وتمر الجمال جملا جملا، ثم يسير فى رمال تارة وغير رمال تارة أخرى، حتى يصل إلى محل يقال له علوة المنصرف، وهى أرض ذات رمال دقيقة بيضاء نقية وليس بها أشجار ولا طير، فيبيت بها.

ومدة المسير إليها تسع ساعات، ثم منها إلى جنادل حسن فى إحدى عشر ساعة، فى طريق بعضها بين رمال نحو ثلاث ساعات، وبعضها عقبة ذات صعود وهبوط نحو ساعتين، ثم يسير فى أرض حجرية إلى جنادل حسن، وهى أرض سهلة ذات رمل فيبيت بها.

‌محطة نخل

ثم يسير صباحا إلى بندر نخل، فى طريق سهلة ذات أشجار من العبل، فيصل إليها بعد سير اثنتى عشرة ساعة.

ونخل بكسر النون والخاء، من المحطات القديمة للحاج، وهى قرية صغيرة أبنيتها طبقة واحدة من الطوب، ليس فيها مساجد وفيها ضريح عليه قبة للشيخ النخلاوى وبجواره جبانة.

وفى بحرى القرية قلعة حصينة مبنية بحجر الآلة، ولها أبواب من حديد وبها مدافع وعساكر طوبجية وبيادة، وناظر ووكيل، وبها مخازن لتعيينات الحاج فيها من كل

ص: 66

الأصناف، وبها مسكن للمستخدمين وبها سوق دائم يباع فيه الأقمشة والحبوب المجلوبة من بندر السويس، وفواكه تجلب من ناحية غزة، ويوجد بها البطيخ والجبن والسمن والغنم وغير ذلك.

والأثمان بها مرتفعة عن أثمان المحروسة بنحو الثلث، وملبوس أهل تلك الجهة الثياب البيض، وأحرمة الصوف والكوفيات، والعباآت الشامية، وقلانس الصوف.

وملبوس النساء قريب من ملبوس نساء مصر.

فيقيم بها ليلتين لأخذ العليق والمياه من بئر القلعة التى هى عبارة عن ساقية، تديرها أربعة أثوار معدة من طرف الميرى، فتملأ ثلاثة أحواض كل حوض يسع ألفى قربة.

[محطة القريص]

ثم يسير إلى أن يصل إلى محطة القريص، بضم القاف، وشد الراء المفتوحة، وسكون المثناة التحتية فصاد مهملة، وتعرف عند الحاج بمحطة بئر أم عباس، نسبة لوالدة المرحوم عباس باشا، لإجرائها بعض إصلاحات فى بئرها.

وهى بئر متسعة مبنية بالآجر والحجر، وبعد مائها عن سطح الأرض أكثر من سبعة أمتار، وعمق الماء فوق منبعه نحو ستة أمتار، وهو ماء عطن لا يصلح إلا لشرب الإبل ونحوها، وبجوارها حياض واسعة مخفقة لكنها فى الغالب فارغة من الماء لعدم من يملؤها، وليس هناك بيع ولا شراء ولا عرب.

ومن نخل إليها مسيرة اثنتى عشرة ساعة فى طريق بين جبلين، بها شجر العبل.

وكانت المحطة فى السابق فى محل بقرب القريص يقال له وادى الفيحا، كما فى الدرر المنظمة.

ص: 67

ثم يرتحل من القريص صباحا فيصل بعد سبع ساعات إلى مقطع يقال له قطع ابن واظ، صعب المسلك جدا تنزل منه الجمال جملا جملا لضيقه.

وبعد تجاوزه تضرب المدافع، وتلعب العرب على الخيول، ويكون موكب عظيم إلى أن يصلوا إلى محطة العقبة.

‌محطة العقبة

وهى قرية صغيرة خفيفة البناء تشبه منازلها عشش معروف التى بالمحروسة، وبها نخيل وبساتين، وفيها سوق يباع فيه البلح والرمان، والتين والزبيب، والسمن واللحم، والملح والبصل والنبق وحشائش الجبل، ونحو ذلك مما تأتى به العرب، ويأتى إليها من ناحية غزة الفواكه الناشفة.

وفيها قلعة بها عساكر طوبجية، وبيادة ومدافع، ومخازن لتعيينات الحاج ومساكن للمستخدمين، وعندها حفائر على شاطئ بحر القلزم ينبع منها ماء عذب، بعد حفر نحو ذراع، يزرع عليها بعض خضر ويسقى منها البساتين.

وفى القلعة بئر عذبة الماء فيبيت الحاج بها.

ويصرف هناك للعرب أصحاب الدرك مرتباتهم، من نقود وخلع وحلويات، على حسب العادة المقررة فى الدفاتر. وهؤلاء العرب من قبيلة تسمى العلويين، ودركهم يمتد من سطح العقبة إلى قصر العدوية، بعد العقبة بنحو ساعة، فيبيت الحاج بها ويمكث إلى الساعة العاشرة من النهار، ثم يرتحل فى أولها.

‌محطة ظهر الحمار

فيصل إلى محطة ظهر الحمار فى الساعة السادسة من الليل، ويكون مسيره فى

ص: 68

طريق على شاطئ البحر، وقبل وصولها بمقدار مسير ساعة يكون المسير فى مضيق بين جبلين على البحر أيضا، فتمر الجمال جملا جملا حتى يصل إلى محطة ظهر الحمار. وهى من المحطات القديمة/، كما فى كتاب الدرر المنظمة، وهى قرية صغيرة على شاطئ البحر فى أرض رملية بها نخيل، ويكون فيها سوق يباع فيه اللبن والحشيش، وتمر تأخذه الحجاج من العقبة للبيع.

وبالقرب من الشاطئ تنبع مياه بالحفر قليلا يشرب منها الناس والبهائم، وهناك أيضا يصرف المرتبات لعرب الدرك، ويقال لهم العصابين والعمران، ويمتد دركهم إلى مغاير شعيب.

[محطة الشرفاء]

وفى الساعة الخامسة من النهار يرتحل من ظهر الحمار إلى محطة يقال لها الشرفاء وأم العظام، من ظهر الحمار إليها مسير أربع عشرة ساعة، غير زمن الاستراحة، كما مر، والطريق إليها واضحة بآثار المارين لكنها غير مستوية، فإنه بعد المسير من ظهر الحمار بربع ساعة يصادفه عقبة تسمى العلوة، فيصعد عليها ويسير فى سطحها نحو ساعة ونصف، ثم يهبط فى منخفض حتى يصل إلى طريق بين جبلين تشبه الخليج، فيصل فى الساعة السابعة من الليل إلى محل يقال عش غراب، ثم يصعد فى مرتفع حتى يصل إلى محل يقال له الشهداء، باسم أصحاب قبور يقال أنهم من الشهداء، فيسير به نحو ربع ساعة فى أرض سهله، ثم يهبط حتى يصل إلى المحطة، وهى محل بين جبال يباع فيه الغنم واللبن، والتمر والحشيش، والعسل النحل، فى بعض السنين.

والأرض هناك صلبة لا تدق بها الأوتاد إلا بصعوبة، وليس بها ماء، والارتحال منها يكون فى الساعة التاسعة من النهار، فيسير فى طريق بين جبال معوجة إلى الساعة التاسعة من الليل، فيستريح هناك إلى طلوع ضوء النهار، ليتأتى الوصول إلى محطة مغاير شعيب، فيحط بها صباحا، فمدة المسير إليها اثنتا عشر ساعة.

ص: 69

‌محطة مغاير شعيب

وهى محل به نخيل جيد ومياه عذبة، وأرضه خصبة، يزرع فيها فى بعض السنين القمح والشعير والذرة والباذنجان والقرع، ويباع هناك الحشيش والأغنام واللبن، والفواكه المجلوبة فى بعض السنين من وادى مدين، وهو قريب منها بنحو ساعتين، وعلى القرب منها على شاطئ البحر شجر الفاكهة كالتين والعنب والليمون.

‌محطة عيون القصب

وفى الساعة السابعة من النهار يؤذن بالرحيل، فيسير فى الساعة الثامنة إلى عيون القصب، فيصل إليها بعد سير أربع عشرة ساعة، غير الاستراحة فى طريق سهلة بها قليل من شجر العبل والسنط، وشجر المقل القصير.

وهى على شاطئ البحر الأحمر، وبها نخيل كثير وسمار الحصر، ويزرع فى أرضها الشعير والدخن، وعندها نهر جار يصب فى البحر يأخذ منه الحاج الماء.

ثم يرتحل فى الساعة التاسعة من النهار، فتصادفه عقبة يصعد فيها نحو خمس دقائق، وبعد ساعة يكون المسير على شاطئ البحر بأرض ذات رمل إلى الساعة الثامنة من الليل، فينزل فى منخفض يتوصل منه إلى المويلح، وقبل الوصول إلى المويلح يعقد موكب مثل ما فعل فى دخول العقبة، حتى يصل إلى محطة المويلح.

‌محطة المويلح

وهى بلد بها قلعة حصينة ونخيل، وآبار عذبة، ويزرع فى أرضها الدخان المشروب، والبطيخ، والقثاء ويباع بها السمك والتمر، والدقيق، والبقسماط، والفول وغير ذلك.

ص: 70

وتعاملهم بالنقود مثل تعامل المحروسة، ومنازلهم زرابى من الجريد بداخلها حواصل مبنية من الطين والطوب، وبجوار القلعة منازل قليلة مبنية من الحجر والطين الرملى.

[محطة سلمى]

وفى الساعة الثامنة من النهار يرتحل من المويلح إلى محطة سلمى، منها إليها مسير اثنتى عشرة ساعة، ويقال لها محطة ضياء ومحطة آبار السلطان.

وقبل الوصول إليها بنحو ساعتين يقابله ممر ضيق يقال له شق العجوزة، تمر منه الجمال واحدا بعد واحد، حتى يصل إلى المحطة وهى على شاطئ البحر الأحمر، بها شجر الدوم، وعندها برج صغير به عساكر محافظة، وترسو عندها مراكب لشحن نحو الحطب والفحم إلى السويس، وبها آبار صالحة للشرب، ويبيع عندها العرب على الحاج نحو اللبن والتمر والسمن، ويمكث فيها إلى الساعة السابعة.

[محطة الأزلم]

وفى الساعة الثامنة من النهار يرتحل إلى الأزلم وبينهما مسيرة اثنتى عشرة ساعة أيضا، وبعض طريقها رمل وبعضها زلط وسباخ.

وبتلك المحطة قلعة خربة وآبار غير صالحة للشرب، ويباع عندها الحشيش والسمن، وغير ذلك مما تجلبه العرب.

[محطة اصطبل عنتر]

وفى الساعة الثامنة من النهار يقوم إلى محطة اصطبل عنتر، ومسافتها كالتى قبلها، وبها آبار لا تصلح إلا لشرب البهائم.

ص: 71

‌محطة الوجه

ثم يقوم فى الميعاد المتقدم إلى محطة الوجه، والمسافة كالتى قبلها وكذا الطريق، ولا يعمل هناك موكب لدخولها، وبها قلعة وآبار، ونخيل قليل وشجر النبق، ويباع فيها السمك والخضر والسمن واللحم وغير ذلك، وبها تصرف مرتبات عرب الدرك وهم من قبيلة بلىّ، ويؤخذ منها الماء الكافى لمسير ثلاث محطات.

[محطة أكرة]

وفى الساعة الخامسة يسير من الوجه إلى محطة أكرة، ويقال لها عكرة، والمسافة بينهما ست عشرة ساعة أو خمس عشرة، غير زمن الاستراحة، وبها شجر العبل وليس بها ماء، وتبيع فيها العرب على الحجاج مثل ما مر فى الاصطبل.

[محطة الحنك]

ثم يسير فى الساعة الثامنة إلى محطة الحنك، مسافتها اثنتا عشرة ساعة وليس بهذه المحطة ماء، وبها يبيع العرب بعض المأكولات.

[محطة الحورة]

ومنها إلى محطة الحورة، وفى بعض طريقها أشجار سنط وفى/بعضها مضيق يسمى العبة الزرقاء، ينزل منها الجمال واحدا واحدا، ويوقد فى المرور بها مهتابات زيادة على المشاعيل التى توقد كل ليلة ويزاد فى المحافظات على الحاج من كل جهة خوف العرب، وبعدها أرض رملية، ثم يصعد فى علية توصل إلى محطة الحورة والمسافة إليها ثلاث عشرة ساعة، وهى محل به نخيل وماء وبيع وشراء.

ص: 72

[محطة مبط]

ثم يقوم فى الساعة الرابعة نهارا فيصل إلى محطة مبط فى الساعة العاشرة من الليل، وفى أثناء طريقها محل يقال له صحن مرمر، والعقبة وركاكة الحمير. وفى مبط ماء عذب وبعض حشائش وتكتنفها الجبال. ويقوم منها الحاج فى الساعة العاشرة من النهار إلى محطة الخضيرة.

[محطة الخضيرة]

وتسمى ورى النار لإيقاد الحطب فيها لكثرة أشجار السنط بها، وهى بين جبلين، ويقال إن بهما معدن النحاس وليس بها ماء، والمسافة إليها مسيرة عشر ساعات.

[محطة الينبع]

ويقوم منها كذلك إلى الينبع والمسافة مثل ذلك، وقبل الوصول إلى الينبع يأخذ الحاج استراحة حتى ينبلج الفجر، فيشرع فى تنظيم الموكب، ويلبس المحمل كسوته ويخرج محافظ الينبع وأمراؤه والأشراف والعرب إليم ملاقاتهم، ويدخلون بالتهليل فى موكب حافل إلى أن يصلوا المحطة، وهناك يجلس أمير الحاج وأمين الصرة مع محافظ الينبع ووكيله وأشراف البلد، ويمدّ لهم أمير الحاج سماطا، ويسقيهم السكر والقهوة، ثم تصرف المرتبات للعرب وأشراف جهينة، ويخلع على المحافظ وأمين الشونة وكاتبها، ويصرف العليق اللازم للجمال وغيرها، ويبيت بها ليلة واحدة مع المحافظة على الحاج من طرف محافظ ينبع.

والينبع بندر شهير فى شرقى المالح، ليس بها تخيل ولا أشجار ولا آبار عذبة، وإنما فيها صهاريج تملأ من ماء المطر، يأخذ منها الحاج بالثمن من أربابها، وفيها قلعة عظيمة تتبع الدولة العلية بها مدافع.

ص: 73

وفى القلعة صهريج. وهى مرسى عظيم للمراكب البخارية وغيرها، وفيها سوق دائم يباع فيه ما يجلبه العرب من نحو العسل والسمن والبطيخ وغير ذلك، وتأتى إليها البضائع من جهة جدّة والسويس والقصير، فيوجد بها كثير من بضائع المدن.

[محطة السقيفة]

ثم يقوم فى الساعة الرابعة من النهار إلى محطة السقيفة، والمسافة بينهما مسيرة ثمان عشرة ساعة فى طريق سهل، فيدخلها صباحا ويقيم بها خمس ساعات، وتصرف فيها الكساوى والمرتبات لعرب الدرك، وهم عرب الحوازم وعرب ذوى ظاهرة، وعرب الجديدة، وعرب صبح، وأشراف بدر، وليس بهذه المحطة ماء.

[محطة الإفازة]

ثم يقوم إلى محطة الإفازة فيقيم بها خمس ساعات أيضا على غير ماء.

‌محطة رابغ

ثم يقوم إلى محطة رابغ، وبينهما مسيرة أربع عشرة ساعة فى طريق سهلة ذات أشجار سنط وفى جبالها حشيش ترعاه الإبل، وبقربها عرب أشقياء يخشى من أذاهم، فلذا يأخذ الحاج استراحة آخر الليل حتى يطلع الفجر، فيدخل رابغا صباحا بدون موكب، وهى قرية صغيرة عامرة بها سوق.

وفى هذه المحطة قلعة حصينة تبع الدولة العلية أيضا، وهى واقعة فى شرقى البحر الأحمر بنحو ست ساعات، وعلى ساحلها ترسو المراكب والوابورات، فتجلب لها من البضائع مثل ما تجلب لينبع، ويزرع فى أرضها بعض الحبوب والخضر.

وهذا الموضع هو ميقات الحاج المصرى، لا يتجاوزونه من غير إحرام، بل

ص: 74

يحرمون بأحد النسكين الحج والعمرة أو بهما معا، رجالا ونساء وشيوخا وأطفالا.

وصفة ذلك: أن يغتسل الإنسان، وينظف جسده وشعره، ثم يتجرد الرجال من المخيط والمحيط، فيقتصر الذكر على إزار يجعله فى وسطه بلا عقد ولا زر، ورداء على كتفيه ونعلين من نعال التكرور، كاشفا رأسه من كل ساتر، ويستمر كذلك إلى تمام النسك. وأما المرأة فلا تتجرد، وإنما التجرد لإحرامها فى وجهها وكفيها فقط.

ثم ينوى الحاج النسك بقلبه، ويشرع فى المسير والتلبية فيقول:«لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد لك والنعمة لك والملك لا شريك لك لبيك» ، ويستمر يلبى عند كل صعود وهبوط إلى دخول مكة المشرفة، والإحرام هو الركن الأول من أركان الحج.

[محطة بئر الهند]

فإذا قام من رابغ فلا يحط إلا فى محطة بئر الهند، والمسافة مسيرة اثنتى عشرة ساعة، وبها ماء عذبة وبيع وشراء فيقيم بها أربع ساعات.

[محطة عسفان]

ويقوم إلى محطة عسفان، وبينهما مسيرة أربع عشرة ساعة، وفى بعض الطريق شجر العبل.

وقبل الدخول فى عسفان بمسافة ثلاث ساعات، يستريح الحاج حتى يطلع الفجر لما بالطريق هناك من الوعر والضيق فيمر الركب جملا جملا، فيدخل عسفان صباحا.

وهى قرية بها مياه عذبة وسوق وبها أشجار سنط، وفى أرضها يزرع على السيل الخضر، والذرة، والدخن، فيقيم بها سبع ساعات.

ص: 75

‌محطة وادى فاطمة

ثم يقوم إلى وادى فاطمة فيدخله صباحا، والطريق سهلة وبها شجر السنط، وقبل دخولها بساعة يمر على بغاز، وهو عبارة عن جبلين متقابلين جدا.

وبوادى فاطمة نخيل وأشجار سنط وسوق جامع، ويزرع فى أرضها بعض أصناف الحبوب، وبعض الخضر، ويكون يوم الإقامة يوما عظيما، تحضر فيها طائفة من أهل مكة المشرفة بالهدايا للحج والتبرك بهم.

وفى الساعة العاشرة من النهار يقوم فى موكب جامع على غاية/من الانتظام والأبهة، ولا يزالون فى ازدياد وتتلقاهم أمراء شريف مكة وعساكره بالاعتناء الزائد، مع عمل الشنك وضرب المدافع والبنادق، وهكذا إلى دخول مكة.

[محطة العمرة]

ومن وادى فاطمة يحط فى محطة العمرة، عل ست ساعات من وادى فاطمة، كانت فى السابق ميقاتا للإحرام بالعمرة، بالنسبة للمحرم من الحرم.

وقبل الوصول إليها قبر السيدة ميمونة، إحدى أزواج النبى صلى الله عليه وسلم، عليه قبة، وبجواره مصلى وحوض ماء وآبار.

وبعد محطة العمرة بنحو ساعتين يصل إلى العمرة الجديدة، التى يحرم منها الآن مريد العمرة من سكان الحرم، فيقيم ركب الحاج هناك إلى الصباح، ثم يقوم فرحا مسرورا لدخوله مكة شرفها الله تعالى.

فإذا وصلوا إلى الشيخ محمود خارج مكة حطوا رحالهم هناك، واغتسل مريد الاغتسال من آبار هناك، ثم يسرعون إلى دخول مكة، فيدخلون من باب المعلى إلى الحرم الشريف مكبرين ملبين، ويدخلون المسجد الحرام من باب السلام.

ص: 76

وقبل كل شئ يبدءون باستلام الحجر الأسود وتقبيله، ويطوفون طواف القدوم، فيطوفون حول الكعبة المطهرة سبعة أشواط، بشروط الصلاة من طهارة وستر عورة إلى آخرها، ويرملون فى الأشواط الثلاثة الأول، وبعد الفراغ من الطواف يصلون ركعتى الطواف، ثم يخرجون للسعى فيسعون بين الصفا والمروة سبعة أشواط، يبدءون بالصفا ويختمون بالمروة، ويهرولون فى الثلاثة الأول، ويرقون على كل منهما ويدعون ويبتهلون.

والصفا، بالقصر، طرف جبل أبى قبيس، والمروة، بفتح الميم، طرف جبل قينقاع، ومقدار ما بين الصفا والمروة سبعمائة وسبعون ذراعا بذراع اليد، وفى المسافة بينهما ميلان أخضران أحدهما معلق فى ركن المسجد والآخر بدار العباس. وفى شرقى الممر حوانيت، وفى غربيه حائط المسجد الحرام.

والسعى هو الركن الثانى من أركان الحج.

وفى ثانى يوم القدوم يخرج حضرة شريف مكة وعزيزها لملاقاة أمير الحاج المصرى، فى موكب من أمرائه وعساكره وجم غفير من العرب، مشاة وركبانا على الخيل والهجن العشاريات وغيرها، على ترتيب عجيب وأبهة عظيمة، وعلى الشريف شمسية تظله يمسكها أحد أمرائه مكللة بالجواهر، وتضرب له المدافع عند مجيئه وعند انصرافه، ثم يتوجه لملاقاة أمير الحاج الشامى كذلك.

ويقيم الحاج المصرى بمكة البعض فى خانات، والبعض فى الدور بالأجرة، والبعض فى الخيام المضروبة خارجها عند الشيخ محمود وغيره، ويقيم أمين الصرة بالصرة ومستخدموها وجميع متعلقاتها بتكية مكة.

‌مطلب مكة المشرفة

ومكة شرفها الله تعالى هى بلد الله الحرام، الغنية عن التعريف كبيت الله الحرام،

ص: 77

والمسجد الحرام وزمزم والمقام، وغير ذلك من الآثار المعلومة، والشعائر الموسومة. وإنما نذكر بعض مشتملاتها.

ففيها أسواق بها جميع أصناف السلع، تجبى إليها من جميع أرجاء الدنيا، وبها منازل مشيدة كقصور مصر القاهرة، وبها بساتين صغيرة، وفيها سرايات بها سلسبيلات، وتكيتها مشيدة بداخلها بستان عظيم وصهريج لخزن الماء، ويأوى إليها كثير من الفقراء والمساكين للأكل والشرب.

وقد أجرى جميع ذلك بها المرحوم محمد على، عزيز مصر، فهى من الصدقات الجارية عليه.

وبمكة أيضا جملة مدارس غير المسجد الحرام، لجماعة من الهنود، يقرأ فيها العلم الشريف والقرآن الكريم وطريقها طريق التكايا ينفق فيها على الطلبة حسبة لله تعالى وترد عليها الهدايا من بلاد الهند، والصين، والجاوه، والداغستان، والآستانة العلية، ومصر القاهرة وغير ذلك.

وفيها قهاو بكثرة وتجار مياسير، وملبوس أهلها ثياب مفرجة من الجوخ والحرير وغيره، وطواق مخيشة يتعممون عليها، ويلبسون فى أرجلهم النعال غاليا.

ولشدة الحر فيها خصوصا فى زمن الصيف، لوقوعها فى وسط جبال تكتنفها من كل جهة، يخرج والى الحجاز وشريف مكة والأمراء والأعيان، فى زمن الصيف، إلى جهة الطائف وجبل كرى، فيقيمون هناك زمنا، منهم من يسكن بالأجر، ومنهم من له منازل فى ملكه معدة لذلك.

وجبل كرى على مسافة يوم وليلة من مكة. والطائف على مسافة يومين، وفى كل منهما بساتين عظيمة، نضرة ذات فواكه، وأنهار عذبة الماء، ومبانيها كمبانى المحروسة، والهواء معتدل جدا.

ص: 78

وبمكة قلعة حصينة تسمى قلعة جياد، وعلى رؤس جبالها طواب صغيرة بها مدافع وآلات وعساكر كافية.

فإذا كان اليوم الثامن من شهر ذى الحجة الحرام، يقوم الحاج من مكة صباحا إلى عرفات، ولا يحط إلا بها، وهى منها على مسافة ست ساعات، وفى طريقه يمر بمنى، بكسر الميم، ثم بمزدلفة على نحو ساعة من منى، ثم بمسجد نمرة، بفتح النون وكسر الميم وفتح الراء وهاء التأنيث، على ساعة من المزدلفة، ثم إلى موقف عرفة على نحو نصف ساعة

وعرفة بطحاء متسعة، لها حدود محصورة، فيبيت بها الحاج ليلة التاسع ويستمر إلى جزء من الليلة العاشرة، والوقوف بها جزءا من ليلة العاشر، أو جزءا من الليل وجزءا من النهار، هو الركن الأعظم للحج، والمراد/بالوقوف الحضور فى ذلك المكان، سواء كان واقفا أو راكبا أو جالسا، فبعد فراغ الخطبة ومضى جزء يسير من الليل تضرب المدافع، وينفرون من عرفات إلى المزدلفة فى كبكبة عظيمة مع أمير الحاج، فيصلّون بها المغرب والعشاء، ويبيت أكثرهم بها ويلتقطون الجمار منها، وهى بطحاء غير مسكونة.

فإذا طلع الفجر ارتحلوا إلى منى، فإذا وصلوا إليها رموا جمرة العقبة بسبع حصيات، وذبحوا أو نحروا هداياهم، وحلقوا وقصّروا رؤسهم، وحينئذ يحل لهم لبس المخيط وغيره من محرمات الإحرام إلا النساء والصيد، وهذا التحلل الأصغر.

ثم يتركون رحالهم بها ويرجعون إلى مكة فيطوفون طواف الإفاضة وهو الركن الرابع من أركان الحج، وحينئذ يحل لهم كل شئ حتى النساء والصيد، وهو التحلل الأكبر، ثم يرجعون إلى منى فيبيتون بها ليلتين لمن تعجل وثلاثة لمن لم يتعجل، ويرمون فى كل يوم من أيام الإقامة الجمرات الثلاث وهى العقبة، والوسطى، والكبرى، كل واحدة

ص: 79

بسبع حصيات، ثم يرتحلون إلى مكة وقد كانوا تركوا بها أمتعتهم وأثقالهم فيقيمون بها إلى اليوم الثامن والعشرين من ذى الحجة، ثم يخرجون إلى محطة الشيخ محمود بموكب عظيم، ويكون أمير الحاج المصرى استلم المحمل على يد والى الحجاز.

ثم يقومون من الشيخ محمود فى آخر الشهر إلى زيارة النبى صلى الله عليه وسلم بالمدينة المنورة حرسها الله تعالى. يحطون بوادى فاطمة، ثم بعسفان، ثم بخليص، وهى بلدة على ست ساعات من عسفان، بها نخيل وأرضها صالحة يزرع فيها الذرة والدخن، والبطيخ والقثاء، والفجل ونحو ذلك. ويبيت بها الحاج ليلة واحدة مع التحفظ من شرار الأعراب كاللتين قبلها، وفيها ماء عذب، ثم ببئر الهند على ست ساعات من خليص وهو بويتات بها عرب قاطنون، وينصب فيها سوق وليس بها زرع وبها بئر ملحة الماء، ثم برابغ ويؤخذ منها العليق الكافى إلى وصول المدينة المنورة.

ثم من رابغ إلى بئر رضوان على مسيرة اثنتى عشرة ساعة، وهى محل به حشائش ترعاها الإبل وبئره صالحة للشرب، وينصب فيه عند نزول الحاج به سوق يبيع فيه العرب سلعهم على الحاج، وليس هناك سكان.

ثم إلى أبى ضباع محل على تسع ساعات من رابغ، به منازل مبنية بالطوب والطين تسكنها جماعة من العرب الذين يخشى من خيانتهم، وفيها نخل كثير وشجر الليمون والموز، ويزرع فى أرضها الشعير والدخن والذرة والمقاثئ، وبه ماء عذب كاف للحيوانات والمزارع، والطريق قبلها وبعدها مخوفة من كثرة الجبال وطروق العرب.

ثم منها إلى الريان، تسع ساعات أيضا فى جبال شاهقة، وفى أثناء الطريق بينهما محل يقال له البليدية، به نخيل وموز وليمون، ويزرع فيه القمح والشعير والذرة.

ثم بعده محل يقال له المضيق فيه أيضا نخل وزرع كالبليدية، ويسكن الموضعين عرب طبعهم السرقة والنهب كعرب الجبال التى هناك، فلذا يضطر الحاج زيادة على

ص: 80

المرتبات المعينة لهم إلى مواساتهم بالأموال، وإطعام ليأمنوا من شرهم.

والريان قرية مسكونة بالعرب، فيها نخيل وأشجار الرمان والليمون، ونوع يشبه البرتقال يقال له لين، ويزرع في أرضها الحبوب والخضر، وفيها ماء عذب يسقى منه الزرع وغيره.

ومن الريان إلى بئر العضم وهو محل على مسيرة أربع عشرة ساعة به بئر مالحة وليس به سكان ولا بيع سلع.

ومن بئر العضم إلى بئر الماشى، وهو محل على اثنتى عشرة ساعة به بئر عذبة الماء جدا، وبه بيع وشراء قليل وليس به زرع.

ومن هناك إلى المدينة المنورة، على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، على مسيرة ثمانى ساعات.

وقال السيوطى فى حسن المحاضرة

(1)

: قال ابن فضل الله: المحامل السلطانية وجماهير الركبان لا تخرج إلا من أربع جهات: مصر، ودمشق، وبغداد، وتعز.

قال: فيخرج الركب من مصر بالمحمل السلطانى، والسبيل المسبل للفقراء والضعفاء والمنقطعين بالماء والزاد والأشربة، والأدوية والعقاقير والأطباء، والكحالين والمجبرين والأدلاء، والأئمة والمؤذنين والأمراء، والجند والقاضى والشهود، والدواوين والأمناء، ومغسل الموتى، فى أكمل زىّ وأتم أبهة، وإذا نزلزا منزلا أو رحلوا مرحلا تدق الكوسات وينفر النفير ليؤذن الناس بالرحيل والنزول.

(1)

حسن المحاضرة، المرجع السابق. ج 2، ص 310.

ص: 81

فإذا خرج الركب من القاهرة نزل البركة على مرحلة واحدة فيقيم بها ثلاثة أيام أو أربعة، ثم يرحل إلى السويس فى خمس مراحل، ثم إلى نخل فى خمس مراحل، وقد عمل فيها الأميرال ملك الجوكندار المنصورى، أحد أمراء المشورة فى الدولة الناصرية ابن قلاوون، بركا واتخذ لها مصانع. ثم يرحل إلى أبلة فى خمس مراحل وبها العقبة العظمى فينزل منها إلى حجز بحر القلزم، ويمشى على حجزه حتى يقطعه من الجانب الشمالى إلى الجانب الجنوبى، ويقيم به أربعة أو خمسة، وبه سوق عظيم فيه أنواع المتاجر، ثم يرحل إلى حقل مرحلة واحدة، ثم إلى برّ مدين فى أربع مراحل وبه مغارة شعيب عليه الصلاة والسلام، ويقال إن ماءها/هو الذى سقى موسى، عليه الصلاة والسلام، غنم بنات شعيب، ثم يرحل إلى عيون القصب فى مرحلتين، ثم إلى المويلحة فى ثلاث مراحل، ثم إلى الازلم فى أربع مراحل وماؤه من أقبح المياه، وهناك خان بناه الأمير آل ملك الجوكندار وعمل هناك بئر أيضا، ثم إلى الوجه فى خمس مراحل وماؤه من أعذب المياه، ثم أكرى فى مرحلتين وماؤه أصعب ماء فى هذه الطريق، ثم إلى الحوراء وهى على ساحل بحر القلزم فى أربع مراحل، وماؤها شبيه بماء البحر لا يكاد يشرب، ثم إلى نبط فى مرحلتين وماؤه عذب، ثم إلى ينبع فى خمس مراحل ويقيم عليه ثلاثة أيام، ثم إلى الدهناء فى مرحلة، ثم إلى بدر فى ثلاث مراحل، وهى مدينة حجازية وبها عيون وجداول وحدائق وبها الجار فرضة المدينة الشريفة، ثم يرحل إلى رابغ فى خمس وهى بإزاء الجحفة التى هى الميقات، ثم يرحل إلى خليص فى ثلاث مراحل وبها بركة عملها الأمير أرغون الناصرى، ثم إلى بطن مرّ فى ثلاث مراحل وفى طريقه بئر عسفان، ثم يرحل من بطن مرّ إلى مكة المشرفة مرحلة واحدة، ثم يرجع فى منازله إلى بدر فيعطف إلى المدينة الشريفة فيرحل إلى الصفراء فى مرحلة، ثم إلى ذى الحليفة فى ثلاث مراحل، ثم إلى المدينة الشريفة فى مرحلة، ثم يرجع إلى الصفراء ويأخذ بين جبلين فى فجوة تعرف بنقب علىّ حتى يأتى الينبع فى ثلاث مراحل ثم يستقيم على طريقه إلى مصر، انتهى.

ص: 82

(بركة غطاس)

قرية كبيرة من مديرية البحيرة بمركز دمنهور، واقعة على البر البحرى للمحمودية على بعد مائتى قصبة.

وأبنيتها بالآجر واللبن، وعندها على شاطئ المحمودية سويقة مشتملة على قهاو وخمارات وحوانيت تجارة.

وفى شرقيها جامع أنشأه الميرى، وفى بحريها بركة ماء، وفى جنوبها الشرقى جملة عزب منها عزبة الخواجة نصر الله، بها مسكنه وجنينة له، وفى بحرى الجنينة مسجد قديم بداخله مقام ولى يزار.

ولها سوق كل أربعاء، وتعداد أهلها أربعمائة وخمس وتسعون نفسا، وزمامها أربعة آلاف فدان ومائتا فدان وتسعة وتسعون فدانا.

(البرلس)

بضم الموحدة والراء واللام المشددة وبعدها سين مهملة، ثغر عظيم من ثغور مصر، وقد عد ابن الكندى ثغور مصر فجعلها أربعة عشر رباطا وهى: العريش، وتنيس، وشطا، ودمياط، والبرلس، ورشيد، والإسكندرية، وذات الحمام، وجميع هذه على البحر الرومى، ورباط أسوان على النوبة، ورباط الواحات على البربر والسودان، ورباط قوص على البجاة، وكانت سرّة وبرقة وطرابلس من رباطات مصر إلى أن خرجت فى سنة ثلاث وثلثمائة فأضيفت إلى رباطات الغرب. انتهى.

قلت: لعله نسى رباط السويس ورباط القصير، وهما من الرباطات القديمة.

ويشتمل خط البرلس على جملة قرى متقاربة، واقعة فى الرمال التى بين بحيرة البرلس

ص: 83

وشط البحر المالح وفى شرقيها أشتوم البرلس، وفى غربيها أشتوم برج المعدية.

وقال (بلين) فى بعض مؤلفاته: إن هذا الخط كان يسمى بتنيتو، وجعله بطليموس بين فرع النيل الغربى وفرع فرموطاق.

ويؤخذ من كلامه أن البرلس مدينة كانت قاعدة هذا الخط، وكانت تسمى بوطو وكان لها أسقف، وكان من مدائن هذا الخط مدينة يتمر والتى سميت فيما بعد دمرو، كما فى تاريخ البطارقة.

وفى دفاتر التعداد أن من هذا الاسم بلدتين فى مديرية الغربية. وبلاد البرلس الآن من مديرية الغربية، ومن أشهرها فلبشو الواقعة بآخر الرمال، منها إلى البحر المالح نحو ثلاث ساعات، وفى غربيها قربة أبى ماضى بنحو ساعة، وفى جنوبها كفر الستمونى بنحو ساعتين وفيها أبنية بالآجر والمونة.

وقرية أبى ماضى فى قبلى البرج الحصين المعروف، بنمرة خمسة، الذى على شط المالح بنحو ساعتين.

ومن أشهرها أيضا الشهابية، بوسط الرمال غربى البرج بنحو ساعتين، وشرقى العباسة بنحو ثلث ساعة، وناحية العباسة فى وسط الرمال غربى الشهابية بقليل، وشرقى بلطيم بنحو ساعتين، وهى غير العباسة التى ببلاد الشرقية، وبلطيم على شاطئ بحيرة البرلس، غربى قبة الشيخ مبارك بنحو ساعة، وفى بحريها ملاحة البرلس، طولها خمسة آلاف متر ومتوسط عرضها ثلثمائة متر، وفيها جامع بمنارة ومعمل فراريج، ولها سوق جمعى.

ص: 84

ومنها كفر يوسف، به ضريح الشيخ يوسف، ومنها كفر الحصير بقرب أشتوم البرلس، وفى قبليه بقليل قبة ولى يقال له الشيخ غانم.

وعلى شاطئ بحيرة البرلس جملة قباب لجماعة من الصالحين يقال لهم الشرفاء العامرية، وحول تلك القباب كفور صغيرة تسمى عزب الشرفاء، وفى كثير من هذه القرى أبنية بالآجر والمونة، وفيها مساجد عامرة، ولها نخيل كثير فى الرمال يتصل بعضه ببعض، على أصناف مختلفة منه، السمانى والحيانى وبنات عيش والكبيس، ويزرع فى رمالها البطيخ المشهور بالبرلسى، وفيها كروم العنب الأسود والأبيض، تبلغ الحبة منه قدر بيضة الحمامة مز الطعم، وكثير من أهلها يصطادون السمك من البحيرة والبحر، ويعملون منه الفسيخ الكثير ويجلب إلى مصر وخلافها، وتكسب/أهلها منه ومن البطيخ والعنب وتمر النخل.

وكانت هذه القرى سابقا فى التزام محمد بيك طبوز أغلى، ثم ولده حسين بيك ثم هى الآن تابعة لمديرية الغربية، ثم إن جميع بلاد البرلس لا يصل إليها ماء النيل إلا قليلا، وأكثر شربهم من الحفائر وكذا سقى نخيلهم ونحوه، ويزرعون على المطر، فصدرت الأوامر الخديوية بعمل طريقة لتوصيل المياه إليهم، وهناك بحيرة متسعة تسمى بحيرة البرلس، وكذلك البرية الكبيرة الواسعة تنسب إليها، مع أنها لجملة بلاد كما بيّنا ذلك فى الكلام على بلقاس.

ولها ملاحة تنسب إليها أيضا، وهى من أعظم ملاحات مصر لجودة ملحها، حتى أن أهل رشيد يفضلونه على الملح المستخرج من ملاحتهم، ويستعملونه فى ضرب الأرز.

وهى واقعة فى الشمال الشرقى لبلطيم، وهى عبارة عن بركة فى وسط الرمل أرض قاعها منحطة عن المالح نحو نصف متر، تجف فى شهرى مسرى وتوت، فيقطعون منها الملح

ص: 85

بالفؤس ويضعونه على أرض مرتفعة، ثم ينقلونه فى قوارب صغيرة وينشر فى الجهات، وقدر ما يتحصل منه فى السنة نحو خمسة آلاف أردب أو أكثر، والأردب عندهم ثلاثون كيلة بالكيلة المصرية التى هى نصف ويبة، وأجرة الأردب من قطع ووسق من قرشين إلى ثلاثة قروش.

ثم أنه يظهر أن أهالى بلاد البرلس أو بعضهم عرب قرشيون، كما يدل كلام المقريزى فى كتابه «البيان والإعراب عما بأرض مصر من الأعراب» فإنه قال: إن فرقة من بنى عدى بن كعب رهط أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، نزلوا بالبرلس ومقدمهم خلف بن نصر بن منصور بن عبيد الله بن عبد الله بن عبيد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، وكانوا هم والكنانيون من ذوى الإثارة المذكورة فى نوبة دمياط.

وخلف هذا هو جد بنى فضل الله بن المحلى بن دعجاب بن خلف بن نصر الله، ولوا كتابة السر لملوك الترك بالقاهرة ودمشق نحو مائة سنة. انتهى.

وفى كتاب المستطرف

(1)

: أن فى البرلس وقطية أقواما يعرفون قيافة الأثر. قال:

والقيافة على ضربين: قيافة البشر وقيافة الأثر، فأما قيافة البشر: فالاستدلال بصفات أعضاء الإنسان، وتختص بقوم من العرب يقال لهم بنو مدلج، يعرض على أحدهم مولود فى عشرين نفرا فيلحقه بأحدهم.

وحكى عن بعض أبناء التجار أنه كان فى بعض أسفاره راكبا على بعيره يقوده غلام أسود، فمر بهؤلاء القبيلة فنظر إليه واحد منهم وقال: ما أشبه الراكب بالقائد، قال

(1)

المستطرف فى كل فن مستطرف، تأليف شهاب الدين محمد بن أحمد أبى الفتح الابشيهى المحلى. طبعة عيسى البابى الحلبى، القاهرة،1952. ج 2، ص 93.

ص: 86

ولد التاجر: فوقع فى نفسى من ذلك شئ، فلما رجعت إلى أمى ذكرت لها القضية.

فقالت: يا ولدى إن أباك كان شيخا كبيرا ذا مال وليس له ولد فخشيت أن يفوتنا ماله، فمكنت هذا الغلام من نفسى فحملت بك، ولولا أن هذا شئ ستعلمه غدا فى الدار الآخرة لما أعلمتك به فى الدنيا.

وأما قيافة الأثر: فالاستدلال بالأقدام والحوافر والخفاف، وقد اختص به قوم من العرب أرضهم ذات رمل، إذا هرب منهم هارب أو دخل عليهم سارق تتبعوا آثار قدمه حتى يظفروا به.

ومن العجب أنهم يعرفون قدم الشاب من الشيخ، والمرأة من الرجل، والبكر من الثيب، والغريب من المستوطن.

ثم قال: ولولا أن هناك لطيفة لا يتساوى الناس فيها، يعنى فى علمها، لما استأثر بذلك طائفة دون أخرى.

وقيل إن القيافة لبنى مدلج فى أحياء مصر. واختلف رجلان من القافة فى أمر بعير. وهما بين مكة ومنى، فقال أحدهما: هو جمل، وقال الآخر هى ناقة، وقصدا يتبعان الأثر حتى دخلا شعب بنى عامر، فإذا بعير واقف فقال أحدهما لصاحبه: أهو ذا؟ قال: نعم، فوجداه خنثى فأصابا جميعا انتهى.

وفى خطط المقريزى: أن محتسب القاهرة فى القرن الثامن كان من البرلس، وهو صلاح الدين عبد الله بن عبيد الله البرلسى، وهو الذى أحدث السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجمعة، عقب الأذان بعد سنة ستين وسبعمائة.

قال: فاستمر ذلك إلى أن كان فى شعبان سنة إحدى وتسعين وسبعمائة، فأمر

ص: 87

متولى الأمر بديار مصر الأمير منطاش فى دولة الملك المنصور بن شعبان بن حسين بن محمد بن قلاوون أن يكون ذلك بعد كل أذان، لرؤيا ادّعاها بعض الفقراء الخلاطين.

وسيأتى فى الكلام على طنبدا شئ من ذلك وأنه من البدع المحدثة.

‌ترجمة القطب الشهير سيدى على الخوّاص

(1)

وظهر منها أيضا صلحاء وعلماء كثيرون، ففى طبقات الشعرانى إن منها شيخه القطب الشهير سيدى عليا الخوّاص رضي الله عنه قال:

وكان أميّا لا يكتب ولا يقرأ، وكان يتكلم على معانى القرآن العظيم والسنة المشرفة كلاما نفيسا تتحير فيه العلماء، وكان له طب غريب يداوى به أهل الاستسقاء والجذام والفالج والأمراض المزمنة.

وكان يعظم أرباب الحرف النافعة فى الدنيا كالسقاء والزبال، والطباخ، والفيخرانى، ومقدم الوالى، ومقدم أمير الحاج، والمعداوى والطوافين على رؤسهم بالبضائع، ويدعو لهم ويكرمهم.

وكان يعظم العلماء وأرباب الدولة ويقوم لهم ويقبل أيديهم ويقول: هذا أدبنا معهم فى هذه الدار/وسيعلمنا الله تعالى الأدب معهم إذا وصلنا إلى دار الآخرة، وكان إذا علم من أحد من أرباب الدولة أو غيرهم أنه قاصد السلام عليه، يذهب إليه قبل أن يأتى.

وكان أولا طوافا يبيع الصابون والجميز والعجوة وكل ما وجد، ثم فتح دكان زياتة سنين عديدة، ثم صار يضفر الخوص إلى أن مات.

(1)

الطبقات الكبرى للشعرانى. المرجع السابق. ج 2، ص 135 وما بعدها

ص: 88

وكان لا يأكل شيئا من طعام الظلمة وأعوانهم، ولا يتصرف فى شئ من دراهمهم فى مصالح نفسه أو عياله، إنما يضعه عنده للنساء الأرامل والشيوخ، والعميان العاجزين عن الكسب، ومن ارتكبتهم الديون فيعطيهم من ذلك.

وكان يكنس المساجد وينظف البيوت الأخلية، ويحمل الكناسة تارة ويخرجها إلى الكوم احتسابا لوجه الله تعالى كل يوم جمعة.

وكان يكنس المقياس فى كل سنة، ثانى يوم نزول النقطة وينفق على أصحابه ذلك اليوم نفقة عظيمة، ويزن عنهم كراء المعدية وهم نحو مائة نفس، ثم يفرق السكر والخشكنان على أهل المقياس وجيرانه، ثم ينزل فيكشف رأسه ويتوضأ من المقياس ويصير يبكى ويتضرع ويرتعد كالقصبة فى الريح، ثم يطلع فيصلى ركعتين ويأمر كل واحد من أصحابه أن ينزل ثم يكنس السلم بمشط من حديد، ويخرج الطين الذى فيه بنفسه لا يمكن أحد أن يساعده فيه.

وكان يقول لا يصير الرجل عندنا معدودا من أهل الطريق إلا إذا كان عالما بالشريعة المطهرة، مجملها ومبينها، ناسخها ومنسوخها، خاصها وعامها، ومن جهل حكما واحدا منها سقط عن درجة الرجال.

وكان يقول: ونحن فى سنة إحدى وأربعين وتسعمائة، جميع أبواب الأولياء قد تزحزحت للغلق، وما بقى الآن مفتوحا إلا باب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزلوا كل ضرورة حصلت لكم به صلى الله عليه وسلم.

وكان يقول فى قولهم: «بئس الفقير بباب الأمير» ، هذا فى حق من يأتى الأمير يسأله الدنيا فإن كان لشفاعة ونحوها فنعم الفقير بباب الأمير.

وكان يقول: سمعت سيدى إبراهيم المتبولى يقول: زيادة العلم للرجل السوء كزيادة الماء فى أصول شجر الحنظل، فكلما ازداد ريا ازداد مرارة.

ص: 89

وكان يقول: من آداب الزائر أن لا يزور أحدا إلا إن كان يعرف من نفسه القدرة على كتمان ما يرى فى المزور من العيوب، وإلا فترك الزيارة أولى.

وكان يقول فى حديث: «أن الله يكره الحبر السمين» المراد بالحبر العالم، وسمنه يدل على قلة ورعه وعمله بعلمه، فلو تورع لم يجد شيئا فى عصره يسمن به.

وكان يقول فى قوله صلى الله عليه وسلم: إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر، يدخل فيه العالم، أو المسلك إذا لم يعمل بعلمه فى نفسه، ولكن أفتى ودل الناس على طريق الله عز وجل، وكذا يدخل فيه العالم والعابد إذا زهدا فى الدنيا طول عمره، فلما قربت وفاتهما مالا إلى الدنيا وأحباها وجمعا المال من غير حل، فيموتان على ذلك فيحشران مع الفجار الخارجين عن هدى العلماء العاملين.

وكان يقول: ليس ما يصيب الأطفال والبهائم من الأمراض كفارة لها لعدم معصيتها، وإنما هو فى البهائم لكونها تطعم وتسقى فى غير وقته أو غير ما تشتهى، أو لا تقتصر فى الأكل على الحاجة بل تزيد، ثم تستخدم مع ذلك فتتعب أبدانها لا سيما فى شدة الحرّ والبرد.

وأما فى الأطفال فلأن الحوامل من النساء والمرضعات يأكلن ويشربن بشره وحرص أكثر مما ينبغى من ألوان الطعام والشراب، فيتولد فى أبدانها أخلاط غليظة مضادة للطباع، فيؤثر ذلك فى أبدان الأجنة التى فى بطونهن، وفى أبدان أطفالهن من اللبن الذى هو فاسد، ويكون ذلك سببا للأمراض والعلل والأوجاع من الفالج والزمانات واضطراب البنية، وتشويه الخلقة وسماجة الصورة.

ثم قال: من أراد السلامة من ذلك فلا يأكل ولا يشرب إلا وقت الحاجة بقدر ما ينبغى من لون واحد، بقدر ما يسكن ألم الجوع ثم يستريح وينام، ويمتنع من الإفراط فى الحركة والسكون.

ص: 90

وكان يقول: من طلب دليلا على الوحدانية كان الحمار أعرف منه بالله.

وكان يقول: العلوم الإلهية لا تنزل إلا فى الأوعية الفارغة، ثم أنشد لبعضهم:

أتانى هواها قبل أن أعرف الهوى

فصادف قلبا فارغا فتمكنا

وكان يقول: الأفلاك تدور بدوران القلوب، والقلوب تدور بالأرواح، والأرواح بالأشباح، والأشباح بالأعمال، والأعمال بالقلوب، فرجع الآخر للأول.

وكان يقول: إياكم والوقوع فى المعاصى، ثم تقولون هذا من إبليس، فإن إبليس يتبرأ منكم فى مكان يصدق فيه الكذوب، وذلك حين يخطب فى النار ويقول فى خطبته فلا تلومونى ولوموا أنفسكم، يعنى ما أغويتكم، حتى ملتم بنفوسكم إلى الوقوع فى المعاصى، وما كان لى عليكم من سلطان، يعنى قبل أن تميلوا.

وكان يقول: ما فى القلب يظهر على الوجه، وما فى النفس يظهر على الملبوس وما فى العقل يظهر فى العين، وما فى السر يظهر فى القول/، وما فى الروح يظهر فى الأدب، وما فى الصورة كلها يظهر فى الحركة.

وكان رضي الله عنه يقول: العلم والمعرفة، والإدراك والفهم، والتمييز من أوصاف العقل، والسمع والبصر، والحاسة والذوق، والشم والشهوة والغضب من أوصاف النفس، والتذكر والمحبة، والتسليم والانقياد والصبر من أوصاف الروح، والفطرة والإيمان، والسعادة والنور، والهدى واليقين من أوصاف السر، والعقل والنفس، والروح والسر المجموع أوصاف للمعنى المسمى بالإنسان، وهى حقيقة واحدة غير متميزة وهذه الحقيقة وأوصافها روح هذا القالب المتحرك المتميز، والجميع روح صورة هذا القالب، والمجموع من الجميع روح جميع العالم. انتهى.

باختصار كثير فقد أطال فى سوق جمل من كلامه الدال على مزيد فضله. ولما مات رضي الله عنه دفن بمسجده فى الحسينية من القاهرة وقبره مشهور يزار.

ص: 91

‌ترجمة الشيخ محسن البرلسى

ومن البرلس أيضا الشيخ محسن البرلسى رضي الله عنه، قال الشعرانى فى الطبقات

(1)

:

كان من أصحاب الكشف التام، ووقع منى مرة سوء أدب فأرسل أعلمنى به، وهو فى الرميلة، وذلك أن الأمير جانم كان مطلوبا فى إسلامبول، فكتبت له كتابا إلى أصحاب النوبة بنواحى العجم والروم بالوصية عليه، وطواه ووضعه فى رأسه وخرج، فأرسل لى الشيخ فى الحال يقول: الناس فى عينيك كالقش، ما بقى أحد فى البلدة له شوارب إلا أنت، تكاتب أصحاب النوبة من غير إذن من أصحاب البلد، فاستغفرت فى نفسى فأرسل يقول لى: إذا سألك أحد فى شئ يتعلق بالولاة بمصر فشاور بقلبك أصحاب النوبة بها، إعطاء لحقهم من الأدب معهم ثم افعل بعد ذلك ما تريد لا حرج، لأنهم لا يحبون من يقل أدبه معهم.

مات رضي الله عنه فى سنة نيف وأربعين وتسعمائة، ودفن بالقرب من الإمام الشافعى فى تربة البارزى رضي الله عنه.

‌ترجمة الشيخ عبد الجواد البرلسى

وفى خلاصة الأثر

(2)

أن منها عبد الجواد بن نور الدين البرلسى المصرى، خطيب الجامع الأزهر، الإمام الجليل الذى فضله أعظم من أن يذكر، أخذ عن والده، تخرج وبرع وتفنن فى علوم كثيرة، وانتفع به جمع، وكان له وجاهة ونباهة ونظم الشعر الفائق، واشتغل برهة بعلوم الرقائق، ومن لطيف شعره قوله فى رحالة:

(1)

الطبقات الكبرى للشعرانى، المرجع السابق، الجزء الثانى ص 129.

(2)

خلاصة الأثر، المرجع السابق. ج 2، ص 305

ص: 92

أؤدى إلى أعتاب عزتك العليا

سلاما سعى بالود نحوكم سعيا

وأنهى إلى ذاك الوجيه مدائحا

وأدعية فى أزهر العلم والمحيا

وأبدى له وجدى وفرط تشوّقى

رعى الله عهدا قد تقضى به رعيا

وأنشدكم بالله عطفا على فتى

لبعدكم لم يلف صبرا ولا وعيا

فأنت وجيه الدين غاية مقصدى

لبعدك باشرت المتاعب والأعيا

وكانت وفاته فى الخامس والعشرين من شهر رمضان سنة أربع وثلاثين وألف بمصر رحمه الله تعالى.

‌ترجمة الإمام الشهير الشيخ مصطفى البولاقى البرلسى

ومن البرلس أيضا الإمام الكبير والعالم الشهير، الشيخ مصطفى البولاقى الأزهرى، وقد ترجمه بعض الأفاضل، على لسان نجله المرحوم العلامة الشيخ يحيى البولاقى المالكى، الذى كان خطيبا بجامع المشهد الحسينى بالقاهرة، وأحد مدرسى الجامع الأزهر فقال:

هو الحسيب النسيب، العفيف الشريف، العلامة الشيخ مصطفى، المشهور بالبولاقى، ابن الشيخ رمضان البرلسى ابن الشيخ عبد الكريم البرلسى، ابن الشيخ سليمان البرلسى، ابن الشيخ رجب البرلسى، ابن الشيخ عبد العظيم البرلسى، ابن الشيخ عميرة البرلسى الشهير بالشهاب، وينتهى نسبه إلى السيد عيسى الشهير بغفير البرلس، من ذرية سيدى موسى أخى العارف بالله تعالى سيدى إبراهيم الدسوقى رضي الله عنه.

كان المترجم من فضلاء الآنام، وأئمة الإسلام، ولد رحمه الله تعالى ببولاق مصر القاهرة، فى أواخر القرن الثانى عشر، وحفظ القرآن على العارف بالله تعالى

ص: 93

الشيخ صالح السباعى، خليفة أبى البركات القطب الشهير الشيخ أحمد الدردير، وتلقى عنه طريق السادة الخلوتية، ومبادئ مذهب الإمام مالك.

ثم أخذ عن جماعة من أكابر العلماء منهم خاتمة المحققين الشيخ محمد الأمير الكبير، روى عنه السنن الست والموطأ، والمواهب اللدنية، والشفاء للقاضى عياض، وغيرها من الرسائل والمسلسلات، وأخذ عنه شيئا من فقه مالك.

ومنهم الشيخ محمد الأمير الصغير، أخذ عنه أيضا فقه مالك.

ومنهم العلامة الدسوقى، صاحب التصانيف المشهورة، أخذ عنه كثيرا من المعقول والمنقول.

ومنهم البرهان القويسنى الشافعى، أخذ عنه المطول وجمع الجوامع، وغيرهما من كتب الرواية والدراية.

ومنهم الشيخ شافعى الفيومى، وغيرهم من مشايخ العصر، حتى حصل التحصيل التام، وشهد بفضله الأنام، وتصدى للإفتاء والتدريس بالجامع الأزهر من ابتداء سنة ثلاث وعشرين بعد المائتين والألف، بعد الإجازة/من كافة مشايخه، فدرس الكتب العديدة من معقول ومنقول، وفروع وأصول، وتلقى عنه الجمّ الغفير من سائر أهل المذاهب.

وقد صار واحد الزمان، وأشارت إليه الأكف بالبنان، وظهرت النجابة على تلامذته فى حياته، فدرسوا وصنفوا وأفادوا وأجادوا.

فمنهم شيخ المالكية سابقا، وشيخ المشايخ المرحوم العلامة الشيخ محمد بن أحمد عليش المغربى الطرابلسى، صاحب التصانيف الشهيرة فى فنون كثيرة.

ومنهم الفاضل الشيخ حسن العدوى الحمزاوى، صاحب التصانيف الكثيرة أيضا، من قرية عدوة من بلاد البهنسا.

ص: 94

ومنهم العلامة المحقق الشيخ محمد الأشمونى، والسيد حسنين الغمراوى، والشيخ مخلوف المنياوى وغيرهم من المدرسين والمؤلفين.

فكان رحمه الله تعالى ديدنة التدريس والإفادة لكبار الكتب وصغارها، ولذا لم يشتهر عنه من التاليف غير شئ قليل: كحاشية على شرح شيخه القويسنى للسلم فى المنطق، وشرح على منظومة فى فقه مالك، تسمى المنهل السيال فى الحرام والحلال، وله تقريرات على مسلسل عاشوراء.

وجمع عنه تلامذته بعض تقريرات على السعد وجمع الجوامع، وله ديوان خطب مشهور، ورسالة فى حكم السماع؛ سماها السيف اليمانى فى حكم سماع الآلات والمغانى.

وكان له ميل كبير إلى فنون الرياضة، كالهندسة والحساب والهيئة والفلك، وكان يحب الاجتماع بأهل هذه الفنون كثيرا مثل: الأمير محمود بيك الفلكى صاحب المعارف الشهيرة فى فنون كثيرة، والأمير الجليل حضرة سلامة باشا مفتش وجه قبلى، وغيرهما من جهابذة مدرسة المهندسخانة التى كانت ببولاق، حتى تمكن من تلك الفنون ونظم رسالة فى فن الميقات فى الربع المجيب، وألف رسائل كثيرة فى الجبر والمقابلة وحساب المثلثات.

وكانت سكناه ببولاق، ويأتى الأزهر كل يوم، وكان يخطب بمسجد السلطان أبى العلا، وله به درس دائم بين المغرب والعشاء، وكان لسانه رطبا بذكر الله تعالى وتلاوة القرآن، صوّاما قوّاما، ولم يزل يزداد فى الاجتهاد فى الطاعة حتى أتاه اليقين، فى سنة ثلاث وستين ومائتين وألف، ودفن بداخل ضريح السلطان أبى العلا الحسينى ببولاق، رضي الله عنه.

(برما)

بكسر الباء وسكون الراء، كما فى مشترك البلدان،

ص: 95

قرية كبيرة قديمة، من مركز أبيار بمديرية الغربية، مبنية على تل مرتفع بحرى محلة المرحوم، على بحر الصهريج بمسافة ثلثى ساعة، ولها شهرة بمعامل الدجاج.

وكثير من المعامل التى بجهات مصر البحرية يديرها أناس من أهاليها، وقد ذكرنا كيفية استخراجه وما يتعلق به فى الكلام على ناحية ببلاو.

وبها جمله بساتين وسواق معينة، وبها جامع بمئذنة عامر، وعمدتها محمد حموده، كان مفتشا فى الشفالك ثم أنعم عليه الخديو إسماعيل برتبة أمير الاى، وله بهاييت يشبه بيوت مصر، وسوقها سوق من ناحية أبيار وطنتدا.

‌ترجمة شمس الدين البرماوى

ونشأ منها من أفاضل العلماء الشيخ شمس الدين محمد بن عبد الدائم، وقد ذكر ترجمته فى حسن المحاضرة

(1)

فقال:

البرماوى؛ هو شمس الدين محمد بن عبد الدائم بن موسى، ولد فى ذى القعدة سنة ثلاث وستين وسبعمائة، ولازم البدر الزركشى وتمهر به، وأخذ عن السراج البلقينى، وله تصانيف منها شرح العمدة ومنظومة فى الأصول. مات سنة إحدى وثلاثين وثمانمائة.

وفى الضوء اللامع للسخاوى

(2)

أنه أمعن فى الاشتغال بالعلم، مع ضيق الحال وكثرة الهم، وناب فى الحكم عن أبيه البدر، ثم عن ابن البلقينى، ثم عن الإخنائى، ثم أقبل على الاشتغال. وكان للطلبة به نفع، وكل سنة يقسم كتابا من

(1)

حسن المحاضرة، المرجع السابق. ج 1، ص 439.

(2)

الضوء اللامع للسخاوى، المرجع السابق. ج 7 ص 280.

ص: 96

المختصرات، فيأتى عن آخره ويعمل وليمة. ثم توّجه إلى دمشق وناب فى الحكم وفى الخطابة، وولى إفتاء دار العدل، ثم تدريس الرواحية ونظرها، وتدريس الأمينية فاشتهرت فضيلته.

ثم مات ولده محمد، فكره الإقامة بدمشق وجاء إلى القاهرة، وقد اتسع حاله وتصدى للإفتاء والتدريس والتصنيف، وباشر وظائف الولى العراقى نيابة عن حفيده، ولبس لذلك تشريفا، وعين لتدريس الفقه بالمؤيدية، وحج فى سنة ثمان وعشرين وجاور التى بعدها، ونشر العلم أيضا هناك.

ثم عاد فى سنة ثلاثين وقد عين له بعناية ابن حجى تدريس الصلاحية ونظرها بالقدس، بعد موت الهروى فى آخر المحرم، فتوجه إليها وأقام بها قليلا، وانتفع به أهل تلك الناحية أيضا ولم ينفصل عنها إلا بالموت.

وكان إماما علامة فى الفقه وأصوله، والعربية وغيرها مع حسن الخط والنظم والنثر، والتودد ولطف الأخلاق، وكثرة المحفوظ والتلاوة والوقار.

ومن تصانيفه: شرح البخارى فى أربع مجلدات، وشرح العمدة، وله أيضا منظومة فى أسماء الرجال، وألفية فى أصول الفقه وشرحها، ومنظومة فه ى الفرائض، وشرح لامية الأفعال لابن مالك، والبهجة الوردية، وزوائد الشذور.

وعمل مختصرات فى السيرة النبوية، وكتب عليها حاشية، ولخص المهمات للإسنوى، ولم يزل قائما بنشر العلم تصنيفا وإقراء حتى مات يوم الخميس الثانى والعشرين من جمادى الثانية سنة إحدى وثلاثين وثمانمائة، ببيت المقدس، رحمه الله تعالى، انتهى.

ص: 97

‌ترجمة المجد البرماوى

/ - ومنها أيضا المجد البرماوى، وهو كما فى حسن المحاضرة

(1)

أيضا: إسماعيل ابن أبى الحسن على بن عبد الله، ولد فى حدود الخمسين وسبعمائة، ومهر فى الفقه والفنون، وتصدى للتدريس أخذ عن البلقينى وغيره ومات فى ربيع الآخر سنة أربع وثلاثين وثمانمائة.

[على البرماوى]

ومن أهالى هذه القرية كما فى ابن اياس أيضا

(2)

: الحاج على البرماوى وكان بزدار السلطان الغورى والمتحدث على جهات الديوان المفرد، مات يوم الجمعة خامس عشر شعبان سنة اثنتين وعشرين وتسعمائة، وقد رأى من العز والعظمة ما لم يره غيره من البزدارية، وساعدته الأقدار حتى وصل إلى ما لم يصل إليه غيره فى هذه الوظيفة، وكان سبب موته أنه طلع له شقفه فى ظهره فانقطع اثنى عشر يوما ومات.

وكان أصله من فلاحى برما يبيع الخام والطرح فى الأسواق وهو راكب حمارا، إلى أن فتح الله عليه، وكان لا بأس به، وكان عنده لين جانب من تواضع زائد، وظهر له من الموجود بعد موته من الذهب العين خمسمائة ألف دينار وستمائة دينار ذهب عين برسبهيه. ووجد له من الحجورة (الخيل) والمهارة نحو خمسمائة وأربعين رأسا، ومن الجاموس مائة رأس، ومن الغنم الضأن ألف رأس، ووجد له بالدواليب أربعمائة ثور، وضاع له عند الفلاحين أكثر مما تقدم ذكره، فقوّم ذلك الموجود بمائة ألف دينار. انتهى من ابن اياس.

(1)

حسن المحاضرة، المرجع السابق. ج 1، ص 440.

(2)

بدائع الزهور فى وقائع الدهور، لابن إياس تحقيق د. محمد مصطفى، مركز تحقيق التراث،1983 ج 5، ص 67.

ص: 98

وسيأتى أن البازدار، هو خادم جوارح الصيد من البازات والصقور. والديوان المفرد، هو ديوان الأملاك الخاصة بالملك.

قال خليل الظاهرى: يقال جميع بلاد المفرد الشريف، وله ديوان يقال له ديوان المفرد، والأمراء الملحقون به مفاردة والواحد مفردى. ويقال: الحجاب والمفاردة والأجناد ومفاردة الحلقة، ويطلق المفرد على الجندى أو المملوك. يقال: وصل مفرد من الصعيد، ويطلق المفرد على الزمامى، ففى سياحة ابن بطوطة الزماميون هم المفردون، أو المتفردون. وقال: استحضر صاحب الحصن والمفردون، وهم الزماميون، والزمامى هو المستخدم فى ديوان الأزمة.

وذكر عماد الدين الأصفهانى فى تاريخ السلجوقية كلمة صاحب ديوان الزمام.

وذكره المسعودى بلفظ الجمع، فقال: ولى الأزمة والخاتم. وقال: أقر الربيع على دواوين الأزمة. وذكر أبو المحاسن ان زمام دار كلمة فارسية مركبة من زمام ودار، ومعنى دار ممسك وليس معناه بيت كما تعتقده العامة. ويقولون: زمام الآدر.

وفى كتاب خليل الظاهرى: زمام الآدر الشريفة هو الطواشى سمى زماما لأن أمور جميع الآدر الشريفة بيده، فقد جعل دار بمعنى بيت كما تعتقده العامة، وهو خلاف التحقيق.

وقال صاحب ديوان

(1)

الإنشاء. زمام دار أصله زنان دار مركبا من كلمتين فارسيتين، فزنان معناه النساء ودار معناه ممسك، فحرفته العامة إلى زمام، وفسروه بقائد النساء، وهو أكبر الخدام يخاطب الملك فى تعلقات الحريم ويستدعى ما يحتجن إليه وله أتباع بباب الستارة ينصرفون فيما يصرفهم فيه من الوظائف، ويستأذن على تزويج المعتقات والخوندات.

(1)

صبح الأعشى، للقلقشندى، طبعة دار الكتب،1915 ج 5، ص 459 - 460.

ص: 99

يؤخذ من (كترمير) أن خوندات جمع خوند أو خوندة وهى جارية الملك التى ولدت منه، فيقال تولى عقد تزويج جارية السلطان أم بنته.

ونساء مصر يطلقونها على زوجة الملك فيقال صارت خوند الكبرى بعد موت خوند سكرباى الأحمدية. والعادة القديمة أن الخوندات يكن أربعا خوند الخوندات وهى، خوند الكبرى، وخوند الثانية، وخوند الثالثة والرابعة، وكذلك يطلق على أخت زوجة الملك فى كتاب الإنشاء أن الخواتين (جمع خاتون) من نساء الملوك يعبر عنهن فى زماننا بالخوندات وتطلق أيضا على السيد الأمير وهى كلمة فارسية. انتهى.

ثم قال: إن ما ذكره صاحب كتاب الإنشاء من أن زمام أصله زنان بالنون ليس بصواب وليست هى بمعنى الطواشى فقط بل يطلق أيضا على مربى المماليك، وأصل زمام فى الأصل مقود الدابة فتصرف فيها، واستعملت بمعنى المتكلم على الشئ المتقدم فيه فيقال صار لأهله إماما وعلى جده وهزله زماما. انتهى.

‌ترجمة الشيخ أحمد البرماوى الضرير

وفى الجبرتى

(1)

أن من هذه القرية الشيخ الفاضل والعلامة العامل أحمد بن على ابن محمد بن عبد الرحمن علاء الدين البرماوى الذهبى الشافعى الضرير. حضر إلى مصر فجاور بالمدرسة الشيخونية، وحضر دروس مشايخ الأزهر كالشيخ محمد فارس، والشيخ على قايتباى، والشيخ الدفرى، والشيخ سليمان الزيات، والشيخ الملوى، والشيخ المدابغى، والشيخ الغنيمى، والشيخ الحفنى، وأخيه الشيخ يوسف، والشيخ الصعيدى، ثم تصدر للتدريس وإفادة الطلبة فانتفع به الكثير وكان إنسانا حسنا لا يتداخل فى أمور الدنيا.

(1)

تاريخ الجبرتى، المرجع السابق. ج 4، ص 80.

ص: 100

قال الجبرتى: وأخبرنى ولده الفاضل الشيخ مصطفى أن المترجم ولد بمصر سنة ثمان وثلاثين ومائة وألف، وأصابه الجدرى فطمس بصره فأخذه عم أبيه الشيخ صالح الذهبى ودعا له فقال:«اللهم كما أعميت بصره نوّر بصيرته» . فاستجاب الله دعاءه، فكان قوى الإدراك يمشى وحده من غير قائد، ويركب من غير خادم، ويأتى إلى الأزهر ولا يخطئ فى الطريق وينتحى مما عساه يصيبه أقوى من/صاحب البصر، ولم يزل على حاله إلى أن توفى فى شهر ربيع الأول سنة اثنتين وعشرين ومائتين وألف من السنة المذكورة، وصلى عليه بجامع طولون، ودفن بجوار المشهد المعروف بالسيدة سكينة رضي الله عنها وعنه.

(برمون)

اسم مدينة من الوجه البحرى كانت محل إقامة حاكم ونقل (كترمير) من كتب القبط أن القيصر (ديوكليتيان) جعل الأمير (أريان) حاكم الاقاليم القبلية حاكما على جميع الديار المصرية، وصرفه فيها التصرف المطلق، من ابتداء الاسكندرية إلى بيلاق والبرمون. واستنبط (كترمير) المذكور من هذا الكلام مما وجده فيما كتب فى السنكزار-كتاب أخبار القبط -أن المقصود هنا من لفظ برمون هو المدينة التى تسميها العرب الفرما، وقوى ذلك عنده ما هو مذكور فى بعض كتب البطارقة، من أن أخوين من الرهبان قصدا مدينة برمون للتجارة وعادا منها فى البحر إلى الإسكندرية فى مدة سبعة عشر يوما.

وشرح ما كانت عليه مدينة الفرما فى الأعصر الأول مبسوط فى كتاب أبى الفداء، والإدريسى، والمقريزى

(1)

وغوليوس، وغيرهم وسيأتى الكلام عليها فى محله.

ومن هذا الاسم-أى برمون-أيضا بلدة من مديرية الدقهلية بمركز شها على الشاطئ الشرقى لفرع دمياط، وفى جنوب ناحية بدواى بنحو خمسة آلاف وخمسمائة متر، وفى الشمال الغربى لناحية شها بنحو خمسة آلاف ومائتى متر.

(1)

الخطط للمقريزى، المرجع السابق. مج 1 ص 371.

ص: 101

وفى كتاب البيان والإعراب عمن بمصر من الأعراب للمقريزى: أن هذه البلدة كانت لعرب الحيادرة، وهم ولد حيدرة بن معروف بن حبيب بن الوليد بن سويد، وهم طائفة كثيرة، ولبنى عمارة بن الوليد بن سويد وفيهم عدد، وممن أمر معبد بن منازل وأقطع لمنى أبو جعشم من ولد مالك بن هلبا بن مالك بن سويد وأمر واقتنى عدة من المماليك والأتراك والروم، وبلغ من الملك الصالح نجم الدين أيوب منزلة وارتفع قدره فى سلطنة المعز أيبك وقدمه على عرب ديار مصر، ولم يزل على هذا حتى قتله غلمانه، فأقام الملك المعز ابنيه سلمى ودعش عوضه، ثم قدم دعش دمشق فأمره الملك الناصر يوسف ببوق وعلم، وأمر الملك المعز أيبك أخاه سلمى كذلك فأبى حتى يؤمر مفرج بن سالم بن راضى بن هلبا بعجه، ثم أمر مزروع بن نجم كذلك فى جماعة كثيرة من جذام وثعلبة وخلف ابن سالم على أمرته ولده حسان بن منوح، وكان مهيأ بن علوان بن على بن زبير ابن حبيب بن نائل من هلبا، جوادا كريما طرقته ضيوف فى شتاء وليس عنده حطب لطعامه الذى أراد أن يصنعه لهم فأوقد أحمالا من بز كانت عنده، وكان له كفر برسوط بنواحى مرصفة وكان لبنى ردينى بن زياد بن حسين بن مسعود بن مالك تل محمد. انتهى.

(برنبال)

من هذا الاسم ثلاث قرى كلها فى الوجه البحرى من مصر، إحداها بمديرية الغربية من مركز دسوق على الشاطئ الشرقى لبحر رشيد فى شمال قرية مطوس، بينها وبين رشيد نحو ساعتين، ومنها إلى فوّة نحو أربع ساعات، وهى قرية مبنية من الآجر واللبن وبها جوامع بمنارات، وأطيانها متصلة ببحيرة البرللس، ويزرع فيها الأرز كثيرا وسائر الأصناف المعتادة، وكان بها للعزيز المرحوم محمد على قصر ينزل فيه، وفيه مات ابنه الأمير أحمد باشا الشهير بطوسون، وذلك أنه بعد أن رجع من بلاد الحجاز وعمل له شنك ودخل القاهرة من باب النصر فى شعار الوزارة سافر إلى الإسكندرية لملاقاة والده وابنه عباس، وكان قد ولد له فى غببته، واستصحبه جده معه وسنه دون السنيين، ثم عاد إلى مصر ثم رجع إلى رشيد، وكان عرضيه جهة الحماد قريبا من رشيد، وجعل ينتقل من العرضى إلى رشيد ثم إلى برنبال وإلى أبى منصور وإلى العزب، ثم أقام برشيد ومعه بعض أحصائه ثم انتقل بهم إلى قصر برنبال. ففى ليلة حلوله بها أصيب

ص: 102

بالطاعون وتململ نحو عشر ساعات ثم انتقل إلى رحمة الله تعالى، وذلك فى ليلة الأحد السابع شهر ذى القعدة من سنة إحدى وثلاثين ومائتين وألف، وحضره خليل أفندى قولجى حاكم رشيد فغسلوه وكفنوه ووضعوه فى صندوق من الخشب ووصلوا به فى السفينة إلى مصر منتصف ليلة الأربعاء عاشر الشهر.

وكان العزيز وقتئذ بالجيزة فلم يتجاسر أحد على أخباره، فذهب إليه أحمد أغا أخو كتخدا بيك ليلا فاستنكر حضوره فى ذلك الوقت فأخبره أن ابنه ورد إلى شبرى متوعكا، فركب القنجة حالا وانحدر إلى شبرى ودخل القصر وجعل يمر فى مخادعه ويقول: أين هو؟ وكانوا قد ذهبوا به إلى بولاق ورسوا به عند الترسخانة وأقبل كتخدا بيك على العزيز باكيا فلما رآه كذلك انزعج انزعاجا شديدا ونزل السفينة وأتى إلى بولاق آخر الليل وعاينه وانطلقت الرسل لإخبار الأعيان، فركبوا بأجمعهم إلى بولاق وحضر القاضى والأشياخ والسيد محمد المحروقى ونصبوا مظلة ساترة للسفينة ثم أخرجوا الصندوق الذى هو به ووضعوه على السرير، ونصبوا عند رأسه عودا وضعوا عليه تاج الوزارة المسمى بالطبلخان، وساروا بالجنازة من غير ترتيب والجميع مشاة أمامه وليس معهم أحد من الجموع المعتاد/حضورهم فى الجنائز المعتادة، مثل الفقهاء وأولاد المكاتب، فمروا من ساحل بولاق على طريق المدابغ وباب الخرق على الدرب الأحمر على التبانة إلى الرميلة، فصلوا عليه بمصلى المؤمنين، وذهبوا به إلى المدفن الذى أعده العزيز لنفسه ولموتاه.

كل هذه المسافة والعزيز خلف نعشه ينظر إليه ويبكى، ومع الجنازة أربعة من الحمير تحمل القروش الفضية وربعيات الذهب وهم ينثرون منها على الأرض والكيمان، وعن يمين الكتخدا وشماله شخصان يناولانه قراطيس الفضة وهو يفرق على من يتعرض له من الفقراء والصبيان، فإذا تكاثروا عليه نثر ما بيده عليهم لينشغلوا عنه بالتقاطها، فكان جملة ما فرق ونثر من الأنصاف العددية خمسة وعشرين كيسا، عنها من الأنصاف الفضية خمسمائة ألف، خلاف القروش والربعيات الذهب وساقوا أمام الجنازة ستة رؤس

ص: 103

من الجواميس الكبار، فرق منها على خدمة التربة ومن حولهم، وخدمة ضريح الإمام الشافعى والباقى على الفقراء، وأخرجوا لا سقاط صلاة الميت خمسة وأربعين كيسا تناولها فقراء الأزهر وفرقت فى جامع الفاكهانى، ولما وصلوا به إلى التربة أنزلوه القبر بتابوته وكانوا يطلقون حوله البخور فى مجامر الذهب.

وأما والدته فلم تخبر بموته إلا بعد الدفن، فجزعت جزعا شديدا ولبست السواد وكذلك جميع نسائه وأتباعه، وصبغوا براقعهم، وامتنع الناس من عمل الأفراح ودق الطبول حتى ما يفعله الدراويش فى التكايا، وأقاموا عليه العزاء عند القبر وجعلوا عنده عدة من الفقهاء والمقرئين يتناوبون قراءة القرآن مدة أربعين يوما، ورتبوا لهم ذبائح ومآكل وكل ما يحتاجونه وترادفت عليهم العطايا من والدته وأقاربه والواردين عليهم.

ومات رحمه الله وهو مقتبل الشبيبة لم يبلغ العشرين، وكان أبيض جسيما، بطلا شجاعا جوادا له ميل لأولاد العرب منقادا لملة الإسلام، تخافه العسكر وتهابه، ومن اقترف ذنبا قتله مع إحسانه وعطاياه للمنقاد منهم ولأمرائه ولغالب الناس.

وبرنبال الثانية والثالثة كلاهما من مديرية الدقهلية بمركز محلة دمنة واقعتان على البحر الصغير، إحداهما يقال لها برنبال القديمة وهى البحرية، والأخرى برنبال الجديدة، وبينهما نحو نصف ساعة، وتجاه القديمة ناحية منية القمص، وتجاه الجديدة كفر علام وفى قبليها كفر قنيش.

وفى برنبال القديمة ثلاثة مساجد وفيها مضيفة لبعض أكابرها بالآجر والمونة وحولها قليل أشجار.

وفى برنبال الجديدة مسجد ومنزل مشيد للوالد، رحمه الله، وفيها أربع مضايف ومنظرة حسنة لبعض أكابرها، ومعملان للدجاج ومصبغتان، وأربعة أنوال لنسج الصوف وعشر طواحين، ودكان واحدة يباع فيها العقاقير، وضريح ولى يسمى أبا عيسى بلا قبة.

ص: 104

وفى شمالها فى أرض المزارع ضريح الشيخ منصور بلا قبة أيضا، وفيها وابوران أحدهما ثابت والآخر كومبل، ولنا فيها دوار أوسية، وفيها باعة يبيعون الخضر والفسيخ ونحو ذلك، ونواتيه ونجارون ومكتب لتعليم القرآن. وجبانتها فى جهتها الجنوبية، وحاراتها أربعة ممتدة من الشرق إلى الغرب على استقامة واحدة، وليس فيها من الأشجار إلا نخلتان، وكان يعمل بها كل سنة ليلة لسيدى أحمد البدوى ثم بطل ذلك من سنين.

‌ترجمة المؤلف سعادة الأمير على باشا مبارك

يقول جامع هذا الكتاب على باشا مبارك:

«حيث إنا قد التزمنا عند الكلام على كل بلد ذكر من نشأ منها أو تربى بها أو مات أو دفن فيها، ممن لهم ذكر أو شهرة بأمر مهم من خير أو غيره، أو نالوا رتبا أو وظائف شريفة من لدن الحضرة الخديوية أو غيرها من العائلة المحمدية، أو من قبلها على حسب الإمكان. فنذكر ههنا ترجمتنا وأطوارنا لتصبر معروفة ولعلها لا تخلو من فائدة» .

فنقول: إن قرية برنبال الجديدة هى مسقط رأسى وبها نشأت، وكانت ولادتى فى سنة ألف ومائتين وتسع وثلاثين هجرية، كما أخبرنى بذلك أبى وأخى الأكبر المرحوم الحاج محمد، المتوفى فى شهر رمضان سنة 1293. ووالدى هو مبارك بن مبارك بن سليمان ابن إبراهيم الروجى. ذكر لى أخى المذكور أن جدنا الأعلى من ناحية الكوم والخليج قرية على بحر طناح، وبسبب فشل كبير حصل فى البلد تشتتت عائلتنا فى البلاد، فمنهم من أقام بناحية دموه وهم عائلة البحالصة، ومنهم من أقام بناحية الموامنة، ولم يبق منهم بالبلد الأصلية إلا أولاد غيطاس، وأقام جدنا الأكبر إبراهيم الروجى بناحية برنبال الجديدة مكرما معظما، فكان هو إمامها وخطيبها وقاضيها، وبعد موته عقبه ولده سليمان على وظيفته، وعقب سليمان ابنه مبارك. ولما رزق مبارك الذى هو الجد الأدنى بأبى سماه على اسمه ونشأ على وظيفة آبائه وأجداده، وهكذا أكثر العائلة، فلذا كانت تعرف فى البلد إلى الآن بعائلة المشايخ. وهى عائلة كثيرة الفروع بحيث إن منها فى البلد حارة

ص: 105

كاملة تعد نحو مائتى نفس، ولهم بها وظيفة القضاء والخطبة والإمامة وعقود الأنكحة والكيل والميزان، وكانت لهم رزقة بلا مال ولم يكن عليهم شئ مما على الفلاحين ولا لهم 38 علائق عند حكام الجهات، وبقوا على ذلك إلى أن حصل ضعف/أكثر أهل الناحية عن فلاحة الأرض، وانكسرت عليهم أموال الديوان فرمى الحكام على هذه العائلة مقدارا من الأطيان وطلبوا منهم أموالها المنكسرة عليها، وضربوا عليهم بعض ضرائب، وشددوا فى خلاصها بالسجن والضرب كأسوة الفلاحين، فضاق خناقهم من ذلك لعدم اعتيادهم الإهانة وبعد بذلهم ما بأيديهم وبيعهم المواشى وأثاثات البيوت رأوا أن لا ملجأ لهم من ذلك إلا الفرار، ففارقوا البلد وتفرقوا فى البلاد فنزل والدى بقرية الحماديين من بلاد الشرقية وعمرى إذ ذاك نحو ست سنين.

وقبل رحلتنا كنت ابتدأت فى تعلم القراءة والكتابة على رجل من برنبال أعمى يسمى أبا عسر قد توفى بعد ذلك.

ولعدم إكرامنا بناحية الحماديين لم يطب لنا المقام بها، فلم نلبث فيها إلا قليلا وارتحلنا منها إلى عرب السماعنة بالشرقية أيضا وهم من عرب الخيش، ولم يكن عندهم فقهاء فأنزلوا والدى منزل الإكرام والإجلال، وانتفعوا منه وانتفع منهم انتفاعا كبيرا وصار مرجعهم إليه فى الأحكام الدينية، وكان رجلا صالحا ديّنا متفقها حسن الأخلاق فأحبوه حبا شديدا وبنوا جامعا جعلوه إمامه.

ولما ارتاح خاطره وارتاحت عنه الشدائد التفت إلى تربيتى، فعلمنى أولا بنفسه، ثم أسلمنى لمعلم اسمه الشيخ أحمد أبو خضر من ناحية الكردى-قرية بقرب برنبال، وكان مقيما فى قرية صغيرة قريبة من مساكن هؤلاء العرب، وجعل الوالد يرسل لى كفايتى عنده، وكنت لا أذهب إلى بيتنا إلا كل جمعة ومن خوفى منه كنت لا أعود إليه فارغ اليد، فأقمت عنده نحو سنتين فختمت القرآن بداية.

ص: 106

ثم لكثرة ضربه لى تركته وأبيت أن أذهب إليه بعد ذلك وجعلت أقرأ عند والدى إلا أنى لكثرة أشغاله واشتغاله عنى استعملت اللعب والتفريط فنسيت ما حفظته، فخشى والدى عاقبة ذلك فهم بجبرى على الذهاب إلى هذا المعلم فتعاصيت ونويت الهروب إن لم يرجع عنى.

وكان لى من الأخوات سبع بنات شقيقات ولم يكن لوالدتى من الذكور غيرى، ولى إخوة ذكور من غير أمى، فلما فهموا منى نية الهروب أشفقوا من ذلك وحنوا إلى وسألونى عن مرغوبى فى التربية إذ لا يصح بقاء الشخص بلا تربية، فاخترت أن لا أكون فقيها بهذه المثابة وإنما أكون كاتبا، لما كنت أرى للكتاب من حسن الهيئة والهيبة والقرب من الحكام.

وكان لوالدى صاحب من الكتاب، كان كاتب قسم، وإقامته بناحية الأخيوة فأسلمنى إليه، فرأيته رجلا حسن الهيئة نظيف الثياب جميل الخط فأقمت عنده مدة ولى من والدى مرتب يكفينى، فدخلت بيته وخالطت عياله فإذا هو مجمل الظاهر فقير فى بيته، وله ثلاث زوجات وعيال على قلة من الزاد فكنت فى غالب أيامى أبيت طاويا من الجوع وكان أغلب تعليمه إياى على قلته فى البيت أمام نسائه، وكان خروجه إلى السرحة قليلا وإذا خرج يستصحبنى معه فلا أستفيد إلا خدمتى له.

ومع ذلك فكان يؤذينى دائما إلى أن كنا يوما فى قرية المناجاة فسألنى أمام الناظر وجماعة حضور عن الواحد فى الواحد فقلت له باثنين فضربنى بمقلاة بن فشجنى فى رأسى، فلامه الحاضرون. وذهبت إلى والدى أشكو إليه فلم أنل منه إلا الأذية، وكان يومئذ مولد سيدى أحمد البدوى فهربت مع الناس قاصد المطرية جهة المنزلة لألحق بخالة لى هناك. فمرضت بالريح الأصفر فى طريقى بقرية صان الحجر فأخذنى رجل من أهلها لا أعرفه فتمرضت عنده أربعين يوما، وقد سألونى عن أهلى فقلت أنا يتيم مقطوع، وكان والدى فى تلك المدة وأحد إخوتى يفتشان علىّ فى البلاد فاستدل على فى صان، فلما

ص: 107

رأيته من بعد هربت ونزلت بمنية طريف فأخذنى رجل عربى ولم أقم عنده إلا قليلا، وهربت منه ولحقت بأخ لى فى بلدتنا برنبال وكان قد رجع إليها.

وبعد أيام قدم إلينا أخى الذى كان يفتش على فأخذنى بالحيلة إلى والدى وقد أشكل عليهم أمرى وذهبوا كل مذهب فى كيفية تربيتى وما يصنعون بى، وجعلوا يعرضون على القراء والكتاب فلم أقبل، وقلت إن المعلم لا أستفيد منه إلا الضرب، والكاتب لا يفيدنى إلا الضياع والأذية ويستفيد منى الخدمة.

ثم عرض على والدى أن يلحقنى بصاحب له من كتبة المساحين فرضيت بذلك، فلما عاشرته رغبت فى عشرته لما كنت أكتسب من صحبته من النقود التى تنالنى مما يأخذه من الأهالى، فأقمت عنده ثلاثة أشهر.

ولكنى لصغر سنى وعدم معرفتى بما ينفع وما يضر كنت أفشى سره وأخبر عن أخذه من الناس فطردنى، فبقيت فى بيتنا أقرأ على أبى، ويستصحبنى فى قبض الأموال الأميرية التى على العرب، وكان منوطا بذلك، فكنت أباشر الكتابة وبعض المحاسبات ثم بعد نحو سنة جعلنى مساعدا عند كاتب فى مأمورية أبى كبير بماهية خمسين قرشا، وأبيّض له الدفاتر، فأقمت عنده نحو ثلاثة أشهر وقد خلقت ثيابى وساء حالى ولم أقبض شيئا من الماهية إلا الأكل فى بيته.

ثم عيننى يوما لقبض حاصل أبى كبير فقبضته وأمسكت عندى منه قدر ماهيتى، وكتبت له علما بالواصل ووضعته فى كيس النقدية/فلما وقف على ذلك اغتاظ منى وأسرها فى نفسه.

وكان مأمور أبى كبير يومئذ عبد العال أبو سالم من منية النمروط فأخبره بذلك، واتفق أن المأمورية مطلوب منها شخص للعسكرية فأغراه علىّ وتوافقا على إلحاقى بالجهادية لسداد هذه الطلبة، فنادونى على حين غفلة، وأمرنى المأمور بالذهاب إلى السجن لكتب المسجونين، وأصحبنى رجلا من أغوات المأمورية فلما دخلت السجن

ص: 108

أحضروا باشا من: الحديد ووضعوه فى رقبتى وتركت مسجونا، فداخلنى ما لا مزيد عليه من الخوف، فلبث فى السجن بضعة وعشرين يوما فى أوساخ المسجونين وقاذوراتهم، وصرت أنتحب فرقّ لى السجان لصغر سنى فقربنى إلى الباب وواسيته بشئ من النقود التى كانت سبب سجنى.

وكنت أرسلت إلى والدى بخبرى فذهب إلى العزيز وكان بناحية منية القمح، وقدّم له قصتى فى عرضحال فكتب بإخلاء سبيلى وأخذ والدى الأمر بيده.

وقبل حضوره إلىّ أتى إلى السجان صاحب له من خدمة مأمور زراعة القطن بنواحى أبى كبير وأخبره أن المأمور محتاج إلى كاتب يكون معه بماهية، وكان السجان يميل إلىّ فدله علىّ ووصفنى له بالنجابة وحسن الخط، وعرّفه مسكنتى وما أنا فيه، فمال الخادم إلى وطلب منى أن أكتب خطى فى ورقة ليراها المأمور، فكتبت عريضة واعتنيت فيها وناولتها للخادم مع غازى ذهب قيمته عشرون قرشا ليسلك لى الطريق عند مخدومه ووعدته بأكثر من ذلك أيضا فأخذه.

وبعد قليل حضر بأمر الافراج عنى وأخذنى معه حتى قربت من المأمور وكان يسمى عنبر أفندى، فنظرت إليه فإذا هو أسود حبشى كأنه عبد مملوك لكنه سمح جليل مهيب، ورأيت مشايخ البلاد والحكام وقوفا بين يديه وهو يلقى عليهم التنبيهات، فتأخرت حتى انصرفوا فدخلت عليه وقبلت يده، فكلمنى بكلام رقيق عربى فصيح، وقال لى: تريد أن تكون معى كاتبا ولك عندى جراية كل يوم وخمسة وسبعون قرشا ماهية كل شهر، فقلت: نعم، ثم انصرفت من أمامه وجلست مع الخدامين.

وكنت أعرف من المشايخ الذين كانوا بين يديه جماعة من مشاهير البلاد أصحاب الثروة والخدم والحشم والعبيد، فاستغربت ما رأيته من وقوفهم بين يديه وامتثالهم أوامره، وكنت لم أر مثل ذلك قبل ولم أسمع به، بل اعتقد أن الحكام لا يكونون إلا من الأتراك على حسب ما جرت به العادة فى تلك الأزمان.

ص: 109

وبقيت متعجبا متحيرا فى السبب الذى جعل السادة يقفون أمام العبيد ويقبلون أيديهم وحرصت كل الحرص على الوقوف على هذا السبب فكان ذلك من دواعى ملازمتى له.

وفى ثانى يوم حضر والدى بأمر العزيز فسلمت عليه وأدخلته على المأمور وعرفته إياه فبش فى وجهه وأجلسه وأكرمه، وكان والدى جميل الهيئة أبيض اللون فصيحا متأدبا، آثار الصلاح والتقوى ظاهرة عليه، فكلمه فى شأنى. فقال له: إنى قد اخترته ليكون معى وجعلت له مرتبا فإن أحببت فذاك، فشكر له والدى ورضى أن أكون معه، وذكر له أصولنا وحيلتنا وانصرف من مجلسه مسرورا.

ولما سهرت مع والدى ليلا جعلت كلامى معه فى هذا المأمور، فقلت له: هذا المأمور ليس من الأتراك لأنه أسود، فأجابنى بأنه يمكن أن يكون عبدا عتيقا، فقلت:

هل يكون العبد حاكما مع أن أكابر البلاد لا يكونون حكاما فضلا عن العبيد، فجعل هو يجيبنى بأجوبة لا تقنعنى، فكان يقول لعل سبب ذلك مكارم أخلاقه ومعرفته. فأقول:

وما معرفته، فيقول لعله جاور بالأزهر وتعلم فيه. فأقول: وهل التعلم فى الأزهر يؤدى إلى أن يكون الإنسان حاكما، ومن خرج من الأزهر حاكما. فقال: يا ولدى كلنا عبيد الله والله تعالى يرفع من يشاء، فأقول: مسلم لكن الأسباب لا بد منها وجعل يعظنى ويذكر لى حكايات وأشعار لم أقنع بها، ثم أوصانى بملازمته وامتثال أوامره.

وبعد يومين سافر عنى وتركنى عنده، ثم حدثت لى فكرة أخرى مع الفكرة الأولى فكنت أقول فى نفسى إن الكتابة والماهية كانت هى السبب فى سجنى ووضع الحديد فى رقبتى، وقد وجدت هذا المأمور خلصنى من ذلك فلو فعل المأمور معى مثل ما فعل الكاتب فمن يخلصنى، واستمرت الفكرتان فى بالى وكانت همتى فى التخلص من كل ذلك ومن أمثاله وأود أن أكون بحالة لا ذل فيها ولا نخشى غوائلها.

وفى أثناء ذلك اصطحبت بفرّاش له فجعلت أتفحص منه عن أخبار سيده

ص: 110

وأسباب ترقيه، وكنت أسترق منه ذلك استراقا بحيث أخلل هذا الكلام بغيره، فأخبرنى أن سيده مشترى ست من الستات الكبار مرعيات الخواطر أدخلته سيدته مدرسة قصر العينى لما فتح العزيز المدارس وأدخل فيها الولدان، وأخبرنى أنهم يتعلمون فيها الخط والحساب واللغة التركية وغير ذلك، وأن الحكام إنما يؤخذون من المدارس فحينئذ حاك فى صدرى أن أدخل المدارس وسألته هل يدخلها أحد من الفلاحين فأفادنى أنه يدخلها صاحب الواسطة، فشغل ذلك بالى زيادة ومع ذلك فلم تفتر همتى، وسألته عن قصر العينى وعن طريقه وكيف الإقامة فيه، فأخبرنى عن ذلك كله وأثنى على حسن إقامتهم بها/ومأكولهم، وملبوسهم، وإكرامهم، فازددت شوقا، وكنت أكتب عندى كل ما يخبرنى به من بيان الطريق، وقدر المسافة، وأسماء البلاد التى فى الطريق، وقامت بنفسى فكرة التخلص والتوصل إلى المدارس فطلبت الإذن فى زيارة أهلى، فأذن لى بخمسة عشر يوما فسافرت إلى أن وصلت فى يوم السبت إلى بنى عياض، فى قرية فى طريقى، فتقابلت مع جملة أطفال تحت قيادة رجل خياط، مع كل واحد دواة وأقلام، فجلست معهم تحت شجرة وتحادثنا فظهر لى أنهم تلامذة من مكتب منية العز، وكان ذلك فألا حسنا ورأوا خطى فوجدوه أحسن من خطوطهم، فقال بعضهم لبعض: لو لحق هذا بالمكتب لكان جاويشا، فقال الخياط: ذلك قليل عليه فإن خط الباشجاويش الذى عندنا لا يساوى هذا الخط، فسألتهم: ما الجاويش؟ وما الباشجاويش؟ فأفادونى أنهم المقدمون فى المكتب، فجعلت أستفهم عن المكتب وصفته، وجعل الخياط يحسن لى أوصافه ويغرينى على دخوله، وأفهمنى أن نجباء المكاتب ينتقلون إلى المدارس بلا واسطة، فرأيت ذلك غاية مرغوبى فلم أتأخر عن الذهاب معهم، ودخلت المكتب، فإذا ناظره من معارف والدى، فأراد أن يمنعنى من الانتظام فى عقد التلامذة واجتهد فى ذلك لمرضاة والدى، فلم أسمع كلامه، وبقيت فى المكتب خمسة عشر يوما، وكان الناظر قد أرسل إلى والدى فلما جاءه قص عليه خبرى وأراه أنى راغب جدا. وأنى قلت له:

إن لم يكتبنى فى المكتب اشتكيته، ثم دبر معه حيلة على أخذى على حين غفلة منى ومن التلامذة فانتظر خروجنا للفسحة والأكل فى وقت الظهر فاختطفنى والدى إلى بلدتنا، وحبسنى فى البيت نحو عشرة أيام كل ذلك ووالدتى تبكى علىّ وتستعطفنى للرجوع عما

ص: 111

يوجب فراقهم، وتحلفنى أن أرجع عن تلك النية فوعدتها بالرجوع عن ذلك إرضاء لخاطرها فأطلقونى. وكانت لنا غنيمات صرت أرعاها وأبعدونى عن حرفة الكتابة التى ربما تكون سببا لفراقهم، فبقيت كذلك مدة حتى اطمأن خاطرهم، وظنوا أن فكرتى ذهبت عنى مع أنها لا تفارقنى وإنما كنت أخفيها، إلى أن انتهزت فرصة فى ليلة من الليالى فصبرت إلى أن ناموا جميعا وأخذت دواتى وأدواتى وخرجت من عندهم خائفا أترقب، وتوجهت تلقاء منية العز، وكان ذلك آخر عهدى بسكناى بين أبوىّ.

وكانت ليلة مقمرة فمشيت حتى أصبحت، فدخلت منية العز ضحى، ولم يرنى الناظر إلا وأنا مع الأطفال فى داخل المكتب، والتزمت أن لا أخرج منه ليلا ولا نهارا مخافة اختطافى، ثم حضر والدى وعمل طرق التحيل علىّ هو والناظر فلم ينجع ذلك فىّ ورجع بلا حاجته وجعل يتردد علىّ طمعا فى أخذى من المكتب، حتى جاءنا ناظر مكتب الخانقاه عصمت أفندى، لفرز نجباء التلاميذ إلى قصر العينى، فكنت ممن اختير لذلك، فحضر والدى واشتكى لعصمت أفندى فقال له: هذا ابنك أمامك وهو مخير، فخيرونى فاخترت المدارس، فعند ذلك بكى والدى كثيرا وأغرى علىّ جماعة من المعلمين وغيرهم ليستميلونى، فلم أصغ لهم، وكان ما قدر الله ولا راد لما قدره، فدخلت مدرسة قصر العينى فى سنة إحدى وخمسين ومائتين وألف، وأنا يومئذ فى سن المراهقة، وصرت فى فرقة برعى أفندى، فوجدت المدارس على خلاف ما كنت أظن بل بسبب تجدد أمرها كانت واجبات الوظائف مجهولة فيها والتربية والتعليمات غير معتنى بها، بل كان جل اعتنائهم بتعليم المشى العسكرى، فكان ذلك فى وقت الصبح والظهر، وبعد الأكل وفى أماكن النوم، وكان جميع المتكلمين على التلامذة يؤذونهم بالضرب وأنواع السب والإهانة من غير حساب ولا حرج، مع كثرة الأغراض والأعراض عن الاعتناء بشئونهم من مأكولات وخلافها وكانت مفروشاتهم حصر الحلفاء وأحرمة الصوف الغليظ من شغل بولاق، ومن كراهتى للطبيخ المرتب لنا جعلت إدامى الجبن والزيتون.

وكان برعى أفندى يراعينى بالنسبة لغيرى، وكان معى قليل من النقود جعلته أمانة تحت يده، فلما رأيت هذه الحالة ضقت ذرعا وظننت إنى جنيت على نفسى فى دخول

ص: 112

المدارس التى بهذه المثابة، ثم لتغير الهواء المعتاد وكثرة ما قام بى من الأفكار اعترتنى الأمراض، وطفح الجرب على جسمى، فأدخلونى الاسبتالية، فتراكمت علىّ الأمراض، حتى أيسوا من حياتى، ولكن الله سلم، وفى أثناء ذلك حضر والدى وطلب أن يرانى فلم يمكنوه من الدخول، فجعل لبعض التمارجية خمسين محبوبا من الذهب جعلا، على أن يخرجنى من الاسبتالية سرا ليخلصنى مما أنا فيه فلم أشعر إلا والتمارجى قد كسر شباك الحديد من المحل الذى أنا فيه وأخبرنى بمرغوب والدى وأنه واقف ينتظرنى خارج المدرسة، وأراد أن ينزلنى من الشباك، ويوصلنى إليه ليأخذ جعله فمالت نفسى لإجابته، والذهاب مع والدى وترك المدارس وأهلها لما رأيت من الشدائد وعدم التعلم، وما لحقنى من الجوع فى الاسبتالية حتى كنت أمص العظم الذى يلقيه الآكلون، لكنى فكرت فى عاقبة الهروب فإنهم كانوا يطلبون من يهرب من التلامذة/ويقبضون على أهله ويقيدونهم ويهينونهم، فامتنعت من الخروج معه فاجتهد فى التحيل علىّ وتسهيل الأمر لدىّ، فأبيت وقلت: أصبر على قضاء الله وأنا الجانى على نفسى، وقلت له: بلغ والدى السلام وسله أن يدعو لى، وأن يبلغ والدتى عنى السلام، ثم إن والدى توسط حتى دخل عندى ورآنى ورأيته، وقبلنى وقبلته، وبكى وبكيت، ثم ودعنى ومضى لسبيله وله زفرات ولى عبرات ولسان الحال يقول:

عسى الكرب الذى أمسيت فيه

يكون وراءه فرج قريب

ثم شفيت وخرجت إلى المدرسة واشتغلت بدروسى، ولم أمرض بعد ذلك.

وفى أواخر سنة اثنتين وخمسين نقلونا إلى مدرسة أبى زعبل، وجعلوا قصر العينى لمدرسة الطب خاصة-كما هو الآن-فكانت إدارة المدرسة فى أبى زعبل كما كانت فى قصر العينى، إلا أنه اعتنى بالتعليم شيئا، بسبب جعل نظرها للمرحوم إبراهيم بيك رأفت.

وكان أثقل الفنون علىّ وأصعبها فن الهندسة والحساب والنحو، فكنت أراها كالطلاسم، وأرى كلام المعلمين فيها ككلام السحرة، وبقيت كذلك مدة، إلى أن جمع

ص: 113

المرحوم إبراهيم بيك رأفت متأخرى التلامذة فى آخر السنة الثالثة، من انتقالنا إلى مدرسة أبى زعبل وجعلهم فرقة مستقلة فكنت أنا منهم بل آخرهم، وجعل نفسه هو المعلم لهذه الفرقة، ففى أول درس ألقاه علينا أفصح عن الغرض المقصود من الهندسة بمعنى واضح وألفاظ وجيزة، وبين أهمية الحدود والتعريفات الموضوعة فى أوائل الفنون، وأن هذه الحروف التى اصطلحوا عليها إنما تستعمل فى أسماء الأشكال وأجزائها كاستعمال الأسماء للأشخاص، فكما أن للإنسان أن يختار لابنه ما شاء من الأسماء كذلك المعبر عن الأشكال له أن يختار لها ما شاء من الحروف، فانفتح من حسن بيانه قفل قلبى ووعيت ما يقول، وكانت طريقته هى باب الفتوح علىّ، ولم أقم من أول درس إلا على فائدة، وهكذا جميع دروسه، بخلاف غيره من المعلمين، فلم تكن لهم هذه الطريقة، وكان التزامهم لحالة واحدة هو المانع لى من الفهم. فختمت عليه فى أول سنة جميع الهندسة والحساب وصرت أول فرقتى، وبقيت فى النحو على الحالة الأولى لعدم تغير المعلم ولا طريقة التعلم السيئة، وكان رأفت بيك يضرب بى المثل ويجعل نجابتى على يديه برهانا على سوء تعليم المعلمين، وأن سوء التعليم هو السبب فى تأخر التلامذة.

وفى تلك السنة وهى سنة خمس وخمسين فرزوا منا تلامذة لمدرسة المهندسخانة ببولاق، فاختارونى فيمن اختاروه، فأقمت بها خمس سنين، وأخذت جميع دروسها وكنت فيها دائما أوّل فرقتى وقلفتها، فتلقيت بها الجزء الأول من الجبر على المرحوم طائل أفندى. وكذلك تلقيت عنه علم الميكانيكا، وعلم الديناميكا، وتركيب الآلات، وتلقيت الجبر العالى عليه وعلى المرحوم محمد بيك أبى سن، وحساب التفاضل وعلم الفلك على المرحوم محمود باشا الفلكى، وعلم الأدروليك على المرحوم رفلة أفندى، وعلم الطبوغرافية والترورزية على المرحوم إبراهيم أفندى رمضان، وعلم الكيمياء والطبيعة والمعادن والجيلوجية وحساب الآلات على المرحوم أحمد بيك فائد، والهندسة الوصفية وقطع الأحجار، وقطع الأخشاب والظل والنظر بعضه على إبراهيم أفندى رمضان، وبعضه على المرحوم سلامة باشا، وتلقيت عليه أيضا خاصة القوسموغرافية.

ص: 114

ولعدم وجود كتب مطبوعة فى هذه الفنون وغيرها إذ ذاك كان التلامذة يكتبون الدروس عن المعلمين فى كراريس كل على قدر اجتهاده فى استيفاء ما يلقيه المعلمون، وكان المعلمون يومئذ يبذلون غاية مجهودهم فى التعليم، فكان يندر أن يستوفى تلميذ فى كراسه جميع ما يلقى إليه، خصوصا الأشكال والرسوم، ولذلك كان الأمر إذا تقادم أو خرجت التلامذة من المدارس يعسر عليهم استحضار ما تعلموه فكان يضيع منهم كثير مما تعلموه، وفى آخر مدة المهندسخانة كانوا يطبعون بمطبعة الحجر بعض كتب، فاستعانت بها التلامذة وحصل منها النفع، ثم تكاثر طبع الكتب شيئا فشيئا إلى الآن، فصارت تطبع الفنون بأشكالها ورسومها فسهل بذلك تناولها واستحضار ما فيها.

ثم فى سنة ستين عزم العزيز على إرسال أنجاله الكرام إلى مملكة فرانسا ليتعلموا بها، وصدر أمره بانتخاب جماعة من نجباء المدارس المتقدمين ليكونوا معهم، وحضر المرحوم سليمان باشا الفرنساوى إلى المهندسخانة فانتخب عدة من تلامذتها فكنت فيهم، وكان ناظرها يومئذ (لامبير بيك) فأراد أن يبقينى بالمهندسخانة لأكون معلما بها، فعرضت على سليمان باشا أنى أريد السفر مع المسافرين، وجعل الناظر يحتال على، وأحال علىّ الخوجات ليثبطونى عن السفر، وقالوا لى إن بقيت ههنا تأخذ الرتبة حالا، وتترتب لك الماهية، وإن سافرت تبقى تلميذا، وتفوتك المزية، ورأيت أن سفرى مع الأنجال مما يزيدنى شرفا ورفعة/واكتسابا للمعارف فصممت على السفر، مع أنى أعلم أن أهلى فقراء، ويعود عليهم النفع من الماهية وهم منتظرون لذلك، لكن رأيت الكثير الآجل خيرا من هذا القليل العاجل، فحصل ما أملته والحمد لله.

فسافرنا إلى تلك البلاد، وجعل مرتبى كل شهر مائتين وخمسين قرشا ماهية كفرقتى، فجعلت نصفها لأهلى تصرف لهم من مصر كل شهر، وكانت هذه سنتى معهم منذ دخلت المدارس، فأقمنا جميعا بباريس سنتين فى بيت واحد مختص بنا، ورتب لنا المعلمون لجميع الدروس، والضباط والناظر من جهادية الفرنساوية، لأن رسالتنا كانت عسكرية وكنا نتعلم التعليمات العسكرية كل يوم.

ص: 115

وهنا نكتة نذكرها:

وهى أن معلومات رسالتنا كانت مختلفة، فبعضنا له إلمام بالتعليمات العسكرية فقط، مثل الذين أخذوا من الطوبجية والسوارى والبيادة، والبعض له إلمام بالعلوم الرياضية ولا يعرفون اللغة الفرنساوية كالمأخوذين من المهندسخانة الذين أنا منهم، والبعض له معرفة باللغة الفرنساوية، وكان بعض هؤلاء معلمين فيها بمدارس مصر، فاقتضى رأى الناظر أن يجعل المتقدمين فى الرياضة واللغة الفرنساوية فرقة واحدة وكنت أنا منهم، وأمر المعلمين أن يلقوا الدروس للجميع باللغة الفرنساوية لا فرق بين من يفهم تلك اللغة ومن لا يفهمها ففعلوا، وأحالوا غير العارفين بها على العارفين ليتعلموا منهم بعد إعطاء الدروس، فكان العارفون باللغة يبخلون علينا بالتعليم لينفردوا بالتقدم، فمكثنا مدة لا نفهم شيئا من الدروس حتى خفنا التأخير، وتكررت منا الشكوى، لتغيير هذه الطريقة، وتعليمنا بكلام نفهمه، فلم يصغ لشكوانا، فتوقفنا عن حضور الدرس أياما فحبسونا، وكتبوا فى حقنا للعزيز محمد على، فصدر أمره بالتنبيه علينا بالامتثال ومن يخالف يرسل إلى مصر محددا، فخفنا عاقبة ذلك وبذلت جهدى وأعملت فكرى فى طريقة يحصل لى منها النتيجة ومعرفة اللغة الفرنساوية، فسالت عن كتب الأطفال فنبؤنى عن كتاب فاشتريته، واشتغلت بحفظه وشمرت عن ساعد جدى فى الحفظ والمطالعة، ولزمت السهاد وحرمت الرقاد فكنت لا أنام من الليل إلا قليلا حتى كان ذلك ديدنا لى إلى الآن، فحفظت الكتاب بمعناه عن ظهر قلب، ثم حفظت جزءا عظيما من كتاب التاريخ بمعناه أيضا، وحفظت أسماء الأشكال الهندسية والاصطلاحات، كل ذلك فى الثلاثة شهور الأول وكانت العادة أن الامتحان فى رأس كل ثلاثة شهور وكنت مع ذلك ألتفت للدروس التى تعطيها الخوجات، فأثمر الحفظ معى ثمرة كبيرة وصرت أول الرسالة كلها بالتبادل مع حماد بيك وعلى باشا إبراهيم.

ولما حضر إلى مدينة باريس المرحوم إبراهيم باشا عسكر الديار المصرية حضر امتحاننا هو وسر عسكر الديار الفرنساوية مع ابن ملكهم وأعيان فرنسا وجملة من مشاهير النساء الكبار، فأثنى الجميع علينا الثناء الجميل، وفرقت علينا المكافآت نحن الثلاثة،

ص: 116

فناولنى المرحوم إبراهيم باشا مكافأتى بيده وهى المكافأة الثانية، وكانت نسخة من كتاب جغرافية مالطبرون الفرنساوى، بأطلسها منه هبة، ودعينا للأكل مع سر عسكرنا إبراهيم باشا.

ولما رجع إلى مصر صار يثنى علينا عند العزيز وغيره.

وبعد تمام سنتين تعين الثلاثة الأول من فرقتنا وهم: أنا وحماد بك وعلى باشا إبراهيم إلى مدرسة الطوبجية والهندسة الحربية بناحية ميتس من مملكة فرنسا أيضا، وأعطينا رتبة الملازم الثانى فأقمنا بها سنتين أيضا وتعلمنا فيها فن الاستحكامات الخفيفة والاستحكامات الثقيلة، والعمارات المائية والهوائية عسكرية ومدنية، والألغام وفن الحرب وما يلحق به مع إعادة جميع ما سبق تعليمنا إياه. بتلخيص من المعلمين فى عبارات وجيزة جامعة.

ولم يحصل امتحاننا فى هذه المدرسة إلا فى آخر السنتين فكنا فى النمرة الخامسة عشرة من نحو خمسة وسبعين تلميذا، ثم تفرقنا إلى الآلايات فكنت فى الآلاى الثالث من المهندسين الحربيين، فأقمت فيه أقل من سنة.

وكان المرحوم إبراهيم باشا يوّد إقامتنا فى العسكرية حتى نستوفى فوائدها، ثم نسيح فى الديار الأوروباوية لنشاهد الأعمال ونطبق العلم على العمل مع كشف حقائق أحوال تلك البلاد وأوضاعها وعادتها، وكان ذلك نعم المقصد. ولكن أراد الله غير ما أراد هو، وتوفى إلى رحمة الله تعالى.

وفى سنة ست وستين من الهجرة تولى حكومة مصر المرحوم عباس باشا، فطلبنا للحضور إلى مصر نحن الثلاثة، وكان علىّ دين لبعض الإفرنج نحو ستمائة فرنك، وكانت الأوامر المقررة أن لا يسافر أحد إلا بعد وفاء دينه، وأن من يأتى منا إلى مصر مدينا يوضع فى الليمان، فوقعت فى أمر خطير وبقيت متحيرا وطلبت من رفقتى أن يسلفونى، فقالوا ما عندنا ما نسلفك إياه وأنا أعلم تيسر بعضهم واقتدارهم فقعدت فى محل إقامتى أفكر فيما أصنع، وإذا بصاحب لى من الإفرنج دخل علىّ يدعونى للأكل عنده حيث أنى مسافر فوجد حالى غير ما يعهد/فسألنى فأخبرته، فقال: لا تحزن، قل

ص: 117

يا سيد يا بدوى يا من تجيب الأسير خلصنى مما أنا فيه، فقلت له: ليس الوقت وقت هزل، فقال: هذا أمر هين لا يهمك. ثم ذهب فغاب قليلا ورجع إلىّ بكيس رماه أمامى فإذا فيه قدر الدين مرتين، وقال لى: بعد استقرارك بمصر وتيسر أمرك ترسل إلى وفاءه، ولم يأخذ منى سندا بوصول المبلغ، وقال: أنا أكتفى بالقول منك، وقد كان.

وحضرنا إلى مصر فى تلك السنة، وأرسلت إليه المال على يد قنصل فرنسا بعد مدة، ومن حينئذ بطل المكتب الذى خصصه العزيز للتلامذة فى بلاد أوروبا، وبطلت الرسالة المصرية ومن بقى هناك كان فى مدارس الفرنساوية تحت نظارتهم بمصروف على الميرى.

ولما جئنا إلى مصر مكثنا جملة أيام لا ندرى ما يفعل بنا، ثم طلبنا إلى طرف حسن باشا المناسترلى-وهو الكتخدا يومئذ-وأحسن إلينا نحن الثلاثة دون غيرنا برتبة يوزباشى أول، وتعينت خوجة بمدرسة طرا، وتعين على باشا إبراهيم وحماد بيك فى ألاى الطوبجية بطرا أيضا، وتعين الذين كانوا بمدرسة أركان حرب الفرنساوية فى معية رئيس رجال أركان حرب سليمان باشا الفرنساوى برتبتهم الأولى وهى رتبة الملازم، ورفت الباقون.

ثم فرزت تلامذة المدارس وتشكلت مدرسة المفروزة من متقدمى تلامذة جميع المدارس، ولم يبق بمدرسة طرا إلا جماعة قليلون متقدمون فى السن قد أزمنوا فى المدرسة.

وكان ناظرها يومئذ (برنستو بيك) من ضباط طوبجية فرنسا المعروفين، وكان رجلا رقيق الطبع، حسن الأخلاق، حسن التدبير، حسن القيام بوظائفه. فأحضرنى مع باقى المعلمين وقال لنا: إن التلامذة الباقين صاروا إلى ما ترون من قلة العدد وكبر السن وطول المدة، وأخاف أن ذلك يدعوكم إلى التكاسل لكنى أرجوكم كما هو الواجب عليكم أن تبذلوا الجهد معهم زيادة حتى تستميلوهم إلى الاستفادة على قدر الإمكان وأملى أن هذه الحالة لا تدوم، وعما قليل تستقيم الأحوال وعلىّ وعليكم أن نقوم بواجب الامتثال وأداء ما علينا.

ص: 118

ثم قال لى: خصوصا إنك قد اشتغلت بفن الهندسة الحربية، وقد بلغنى أن (جاليس بيك) يرغب أن تكون معه، وألح كثيرا فى طلبك ولم يجب إلى مرغوبه وأظن أن الأمر يؤول إلى إلحاقك به فلا تضجر واصبر فعاقبة الصبر خير، والآن لم يكن عندك إلا تلميذ واحد وعن قريب ألحق لك به غيره، فشكرناه على نصيحته وانصرفنا.

واشتغل كل منا بما نيط به، وفى تلك المدة تأهلت بكريمة معلمى فى الرسم بمدرسة أبى زعبل، وكان أبوها قد مات وصارت إلى حالة الفقر، فتزوجت بها لما كان لوالدها علىّ من حق التربية والمعروف، ثم حدثتنى نفسى أن أستأذن لزيارة أهلى بعد هذه الغيبة الطويلة فكلمت الناظر فى ذلك، فقال لي: إن من يسافر يقطع نصف ماهيته وأنت الآن محتاج إليها فالأحسن أن تصبر حتى أكلم سليمان باشا الفرنساوى ليأخذك معه فى مأمورية استكشاف البحيرة والسواحل، فإذا حصل ذلك يتم مرغوبك بسهولة، وقد حصل وأخذت المأمورية وسافرت معه.

ولما كنا بدمياط انفصلت عنه فى جهة من المأمورية وبعد أن سحت البحيرة وحررت جرنالها ورسمها ذهبت إلى بلدتنا برنبال، وكان أهلى قد رجعوا إليها قبل ذلك بمدة، فوجدت أن أبى قد سافر إلى مصر لزيارتى، ولم أجد فى المنزل إلا والدتى وبعض إخوتى، وكان دخولى عليهم ليلا فطرقت الباب فقيل من أنت؟ فقلت: ابنكم على مبارك، وكانت مدة مفارقتنى لأمى أربع عشرة سنة لم ترنى فيها ولا سمعت صوتى، فقامت مدهوشة إلى ما وراء الباب، وجعلت تنظر وتحد النظر، وكنت بقيافة العسكرية الفرنساوية، لا بسا سيفا وكسوة تشريف، وكرّرت السؤال حتى علمت صدقى ففتحت الباب وعانقتنى، ووقعت مغشيا عليها ثم أفاقت وجعلت تبكى وتضحك وتزغرت.

وجاء أهل البيت والأقارب والجيران وامتلأ المنزل ناسا، وبقينا كذلك إلى الصباح والناس بين ذاهب وآيب.

ثم رأيت والدتى فى حيرة فيما تصنعه لى من الإكرام، وتريد عمل وليمة وهى

ص: 119

فارغة اليد، ورأيتها تبكى ففهمت حقيقة الحال فناولتها عشرة بنتو كانت بجيبى ففرحت وأولمت، فأقمت عندهم يومين ثم استأذنتهم ووعدتهم بالعودة، ورجعت إلى دمياط وأوردت نتيجة الاستكشاف على رئيس الرجال، فوقعت عنده موقع الاستحسان، وأثنى علىّ وأخبرنى أنه استحصل على أمر من عباس باشا بإلحاقى بمعية (جاليس بيك) فقبلت يده وشكرت له.

ولما رجعنا إلى المحروسة استأذنته وسافرت إلى الإسكندرية بعيالى وأخ وأخت صغيرين كنت أربيهما. فلما وصلت هناك تركتهم فى المركب وذهبت إلى (جاليس بيك) فوجدت عنده سليمان باشا الفرنساوى قد سبقنى، وكذا غيره من الأمراء والضباط، فجلست بعد أداء الواجب، وبينما فنجان القهوة بيدى إذا بمكتوب وارد بالإشارة من المرحوم عباس باشا يطلبنى حالا فى الوابور المتهيئ للقيام، فاغتم لذلك (جاليس بيك) وداخلنى ما لا مزيد عليه من الخوف لما كنت أعلم مما كان يقع لمن يلوذ بالعائلة الخديوية من الإيذاء، وكان/لى اجتماعات بالخديوى اسماعيل وغيره منهم، فهوّن على سليمان باشا الفرنساوى وقال: لعله يريد أن يجعلك معلما لابنه لأنه تكلم فى ذلك مرارا فلا تخف، فقلت: إن أهلى فى المركب وكيف أصنع بهم، فقال: أنا أنوب عنك فيهم وأرسلهم وراءك إلى مصر، فخل عنك هذا الأمر وامض بسلامة الله.

فمن غير أن أرى عيالى ولا أن يعلموا بى، سافرت فى الوابور وأنا بين راغب وراهب. ولما تمثلت بين يدى المرحوم عباس باشا أنا وحماد بيك وعلى باشا إبراهيم قال لى: أنت على أفندى مبارك؟ قلت: نعم، فقال: إن أحمد باشا (يعنى أخا الخديوى السابق) قد أثنى عليك فقد جعلتكم فى معيتى، وقد أمرت بامتحان مهندسى الأرياف ومعلمى المدارس، لأن الكثير منهم ليسوا على شئ، وجعلتكم من أرباب الامتحان، وشرط علينا أن لا نتكلم إلا بالصدق ولو على أنفسنا، وإذا عثر على أن أحدا منا كذب فى شئ فجزاؤه سلب نعمته، وإلباسه لبس الفلاحين، وسلكه فى سلكهم، ثم حلفّنا على ذلك واحدا واحدا فحلفنا، وحينئذ أنعم علينا برتبة الصاغقول أغاسى، وأعطانا

ص: 120

نيشانات الرتبة وهى عبارة عن نصف هلال من الفضة، ونجمة من الذهب فيها ثلاثة أحجار من الماس، وخرجنا فرحين واشتغلنا بما نيط بنا على الوجه الأتم

وسافرنا معه إلى الجهات القبلية وصار امتحان المهندسين وتعويض كثير بآخرين من أرباب المعارف الذين تربوا فى المهندسخانة.

وفى هذه السفرة أحيل علينا الكشف على شلال أسوان لبيان الطريق الأوفق لسير المراكب، فاستكشفنا ذلك وقدمنا به جرنالا ورسما فأتى على الغرض المطلوب.

ومذ كنا بأسيوط أمرنا بالذهاب إلى منفلوط لبيان ما يلزم عمله فى تحويل البحر عنها، فتوجهنا مع الكاشف جمال الدين، كبير هذه المدينة، وقررنا ما يلزم إجراؤه لمنع هذا الداء العضال عنها، فأجرى وحصلت نتيجته.

ثم لما عدنا إلى المحروسة صدر الأمر بتوجهنا إلى القناطر الخيرية للمشورة مع (موزيل بيك) باشمهندسها فيما يلزم عمله لتسهيل سير المراكب بها ومنع العطب عنها، فإن الخطر كان متتابعا فيها لشدة التيار هناك، لأن القناطر كانت قد قاربت التمام ولم يبق إلا فتحات الوسط، فكان كثير من المراكب يتعطل إن لم يعطب وكان (موزيل بيك) قد أبدى رأيا بعمل ترع تمر فيها المراكب وقدمه للمرحوم عباس باشا، فلم يوافقه عليه لما فى ذلك من كثرة المصرف.

وهذا هو السبب فى تعييننا فبالتداول حصل اتفاقنا على استعمال وابورات تسحب المراكب بالأرغاطات، وعرض ذلك عليه فأعجبه وأجرى به العمل وأبطل التصميم الأول. وكان كثيرا ما يحيل علينا أشغالا ترد من الدواوين مما يتعلق بالهندسة فنقوم بها.

وفى أواخر سنة ست وستين كان قد عرض عليه من طرف (لامبير بيك) ترتيب للمدارس الملكية والرصدخانة، يبلغ منصرفه نحو عشرين ألف كيس، فاستعظمه وأحال علينا النظر فيه بشرط أن لا نفشيه، فتداولنا ذلك بيننا أياما ولم تتفق آراؤنا، فخفت

ص: 121

فوات الوقت قبل تمام العمل، فشرعت وحدى فى عمله من غير انتظار لرأى أحد فعملت لجميع المدارس ترتيبا بلغ منصرفه ألف كيس، وجعلت أساس ذلك احتياجات القطر لا غير، وأن جميع المدارس الملكية تكون فى محل واحد تحت إدارة ناظر واحد وأسقطت الرصدخانة بالمرة من الترتيب لعدم وجود من يقوم بها حق القيام، إذ ذاك من أبناء الوطن، مع احتياجها إلى كثرة المصرف. وأبديت فى الترتيب أنه يلزم توجيه جماعة إلى بلاد الإفرنج ليتعلموا فنون الرصدخانة، وبعد قدومهم يصير فتحها وإدارتها، وعينت لذلك محمود باشا الفلكى وكان إذ ذاك برتبة صاغقول أغاسى واسماعيل باشا الفلكى وحسين بك إبراهيم، وكانا من التلامذة الذين تمموا دروسهم. ثم قرأت ذلك الترتيب على رفيقى فلم يوافقانى عليه، فقلت: هو عندنا محفوظ فإن لم نعمل غيره نقدمه ليمتنع عنا اللوم.

وقد كان ذلك عين الصواب لأنه بعد قليل طلب منا تقديم الترتيب، ولم نكن عملنا غير هذا فقدمناه فاستغربه المرحوم عباس باشا، وعجب مما فيه من الأصول المخترعة مع قلة مصرفها. وقال: من عمل هذا؟ فقلت: أنا عملته، ووجد آراء صاحبى مختلفة ومخالفة لذلك، فأحال النظر فيه على مجلس ينعقد من جميع رؤساء الدواوين مع حضورى وحضور (لامبير بيك) فانعقد المجلس ثمانية أيام، وبعد المناقشة الطويلة استقر رأى الجميع على هذا، وصدرت خلاصة باستحسانه واستحقاقى رتبة أمير الاى، فطلبنى المرحوم عباس باشا وسألنى عما أراه من نجاح هذا الترتيب وعدمه لدى العمل به، فقلت هذا رأيى فإن أحسن مديره إدارته وأجراه عل فهم منه وبصيرة نجح وإلا فلا، فإن الساعة المضبوطة الدقيقة الصنعة يفسدها من لا يحسن إدارتها من جاهل أو مفرط، وتدوم على حالها إذا كانت بيد من يحسن إدارتها، فعجب من جراءتى واستحسن جوابى، وقال: فهل تضمن ذلك؟ فقلت: كيف وقد ضمنه الجميع بالقرار الذى عملوه، فأحال علىّ نظارتها وأعطانى الرتبة والنيشان، وجعل/على باشا إبراهيم معلم نجله إلهامى باشا، وحماد بيك ناظر قلم هندسة برتبة بكباشى، فأجريت إدارة المدارس المهندسخانة وما يلحق بها، وأحال على تعيين معلمى المفروزة وترتيب دروسها، واختيار ما يلزم لها من الكتب، فأجريت ذلك وكان لى عنده منزلة.

ص: 122

وفى مدة نظارتى كنت أباشر تأليف كتب المدارس بنفسى مع بعض المعلمين، وجعلت بها مطبعة حروف ومطبعة حجر، طبع فيها للمدارس الحربية والالايات الجهادية نحو ستين ألف نسخة من كتب متنوعة، غير ما طبع فى كل فنّ بمطبعة الحجر للمهندسخانة وملحاقتها، من الكتب ذات الأطاليس والرسومات وغيرها، مما لم يسبق له طبع واستعملت فى رسم أشكالها وأطالسها التلامذة لا غير، وقد حصل منها الفوائد الجمة العمومية، وكل ذلك كان لا يشغلنى عن التفاتى للتلامذة مدة فى مأكلهم، ومشربهم، وملبسهم وتعليمهم، وغير ذلك، وكنت أباشر ذلك بنفسى حتى أعلّم التلميذ كيف يلبس، وكيف يقرأ، وكيف يكتب، وألاحظ المعلم كيف يلقى الدرس، وكيف يؤدب التلامذة. ولا يمضى يوم إلا وأدخل عند كل فرقة، وأتفقد أحوالها مع التشديد على الضباط والخدمة حتى الفراشين فى القيام بما عليهم كما ينبغى، فامتنع بذلك عن التلامذة مضار عمومية ومفاسد كثيرة، ولم أكتف بذلك بل رتبت على نفسى دروسا كنت ألقيها على التلامذة، كالطبيعة، والعمارة، وألفت فى العمارة كتابا بقى متبعا فى التعليم بالمدارس وإن لم يطبع.

وبحمد الله نجح مسعانا ونجب كثير من التلامذة، وقاموا بمصالح كثيرة، وحصل بهم النفع العظيم، وترقى جمع منهم إلى الرتب العالية، وشاع الثناء عليهم فى المعارف والآداب، وشهدت لهم بالفضل أعمالهم المهمة التى أجروها، ولكثير منهم معرفة باللغة الفرنساوية بحيث يجيد التكلم بها كمن تعلموا فى أوروبا، وخرج منهم معلمون متقنون فيها وفى غيرها.

وكان أمر المدارس كل حين لا يزداد إلا صلاحا، ولا التلامذة إلا نجاحا، ولا المعلمون إلا اجتهادا.

وكانت الامتحانات السنوية تشهد بمزيد الاعتناء، وحسن الأسلوب ونجاح الطريقة المتبعة، وكان ما يحصل للتلامذة ومعلميهم من المكافآت، والثناء، والتشويق، والترغيب، داعيا حثيثا لهم لزيادة الجد والاجتهاد، وجرت بين المعلمين مواد المودة

ص: 123

والألفة، وتربت الأطفال على الأخوة وغرس فيهم حب التقدم، وشرف النفس، والعفة، حتى وصلت النظارة للاكتفاء فى تأديب من فرط منه أمر بالنصيحة واللوم وانقطع الشتم والسفه وكاد يمتنع الضرب والسجن.

وبالجملة فكانت أغراضى فيهم أبوية انظر للجميع من معلم ومتعلم نظر الأب لأولاده. وإلى الآن أعتقد أن ذلك واجب على كل راع فى رعيته حتى يحصل الغرض من التربية، وقد تحقق لى نتيجة ما صرفته من الهمة فى تربيتهم والشفقة عليهم.

فإنه لما تولى المرحوم سعيد باشا ولاية مصر ورمى عنده فى المدرسة بعض المفسدين بلسان الحسد والفتنة ووصفوها بما ليس له نصيب من الصحة واختلقوا لها معايب لم تكن فيها:

كضرائر الحسناء قلن لوجهها

حسدا وبغضا إنه لدميم

حتى أوجب ذلك انفصالى عنها، وتعينت للسفر مع العساكر لمحاربة المسكوب مع الدولة العلية، وذلك فى سنة سبعين ومائتين وألف، خرج جميع التلامذة كبيرهم وصغيرهم من المدرسة قهرا عن ضباطهم، ووقفوا بساحل البحر أمام السفينة التى نزلت فيها للسفر إلى الاسكندرية، وجعلوا يبكون وينتحبون انتحاب الولد على والده، حتى بكت عينى لبكائهم، ولكن انشرح صدرى لمشاهدة ثمرات غرسى وآثار تربيتى فحمدت الله.

ثم سافرت بمعية أحمد باشا المناكلى فأقمت فى هذه السفرة قريبا من سنتين ونصف، وقد لطف الله بى وأحسن إلىّ وردّ كيد الحاسدين فى نحورهم، فإنى وإن قاسيت فيها مشاق الأسفار وما يلحق المجاهدين من الأرجاف والاضطرابات والحرمان من المألوفات لكن رأيت بلادا وعوائد كنت أجهلها، وعرفت أناسا كنت لا أعرفهم، واكتسبت فيها معرفة اللغة التركية، فإنى أقمت أربعة أشهر بالقسطنطينية اشتغلت فيها بتعلم تلك اللغة، كما أنى أقمت عشرة شهور فى بلاد القريم كان يحال علىّ فيها أمر المحاورة بين المسكوب والدولة العثمانية بأمر مجلس العسكرية، وأقمت ثمانية شهور فى بلاد الأناطول أغلبها فى مدينة كوشخانة أى (بيت الفضة) لوجود معدن الفضة هناك

ص: 124

وهى مدينة عامرة، على رأس جبل، وكان منوطا بى وأنا بها تسهيل سوق العساكر. من مدينة طرابزان الواقعة على البحر الأسود إلى مدينة أرض روم وكان ذلك فى وقت الشتاء وشدة البرد والثلج الكثير هناك مع صعوبة ما فيها من العقبات، ما بين جبال شاهقة وأودية منخفضة، فقاسيت من ذلك شدائد مهمة وأهوالا مدلهمة، وكنت أباشر كل فرقة فى سلوكها بنفسى لا يصحبنى غير خادمى، وجمعت المصابين/بالبرد، وجعلت لهم اسبتالية بمدينة كوشخانة وهيأت مفروشاتها ولوازمها، بعضها بالشراء، والبعض من طرف أهالى المدينة.

ولاشتغال الحكماء بالآلات استعملت فى مباشرة المرضى رجلا مكيّا له إلمام بالحكمة، وسلكنا فى المعالجة عادات أهل تلك الجهة، فأثمر ذلك ثمرة عظيمة حتى إذ تهيأنا للسفر، شهد لى بحسن المسعى أعيان المدينة وأكابرها من القاضى، والعلماء، والأمراء، وكتبوا بذلك مضبطة وضعوا فيها شهادتهم، وهى عندى إلى الآن وعليها أيضا ختم خالد باشا مأمور سوق العساكر العثمانية، إلى غير ذلك من فوائد الأسفار على ما بها، من الآصار.

وكنت وأنا فى المدارس قد لحقنى الدين بسبب ما احتجت إليه فى تنظيم بيتى على حسب ما تقتضيه وظيفتى وكذا ما صرفته على ثلثمائة فدان أبعادية أحسن إلىّ بها المرحوم عباس باشا بلا واسطة. فلما سافرت تركت ماهيتى للدين فوفته، واقتصرت على ما كان يصرف لى من التعيين وقد كفانى، وقام بجميع لوازمى وزاد منه ثلثمائة جنيه حضرت بها إلى مصر.

وأيضا فإن رفقتى الذين نشأت معهم كحماد بيك، وعلى باشا إبراهيم، كانوا قد رفتوا من الخدامة فى مدة سفرى فلو بقيت للحقت بهم.

ومما اتفق لى أنى تزوجت قبل سفرى هذا-بعد موت زوجتى الأولى-بقريبة أحمد باشا طوبصقال، وكانت ذات مال وعقار، وكانت يتيمة غرة بمنزلة الطفل الصغير، لا تحسن التصرف، ولا تميز الدرهم من الدينار مع كثرة إيرادها وتعدد أملاكها، وكان

ص: 125

جميع أمرها بيد غيرها، والسبب فى ذلك أن أمها كانت تزوجت برجل يعرف براغب أفندى، فماتت عنده الأم وبقيت البنت عنده يتيمة صغيرة فتزوج بامرأة أخرى. فكانت زوجته الجديدة قيمة هذه اليتيمة، والقائمة بأمرها، والكافلة لها مع راغب أفندى، فاتخذتها البنت كأمها، وكانت المرأة لا تطلعها على شئ ولا تمكنها من شئ، فلا تفعل ولا تقول إلا حسبما تريد منها هذه المرأة، فلما دخلت بها خافت المرأة ومن معها، أن أطمع فى أموال هذه اليتيمة أو أعرفها بحقوقها فتطالب بها، وتنزعها من أيديهم، فأساؤا عشرتى، وبالغوا فى إساءتى، إلى حالة لا تتحمل وغاية لا تتصور، حتى مللت، وملت بعد أشهر قليلة إلى العزلة عنهم بزوجتى، فازداد بالمرأة الخوف من انتزاع ما استحوذت عليه من مال هذه اليتيمة، فتوسطت بجلبى أفندى الكاشف إلى والدة المرحوم عباس باشا، ورمى فىّ عند حسن باشا المناسترلى، وأغرى بى أغوات السراى حتى داخلنى الخوف واشتد بى الكرب، واتسعت القضية، ودخلت المرأة المذكورة إلى سراى الوالدة المشار إليها، بعرض حال زوّرته عن لسان زوجتى بالشكاية منى كذبا، فلما وقفت المشار إليها على الحقيقة صدر أمرها بإعطائى زوجتى، فعند ذلك اصطنعت الكافلة المذكورة بمعونة جلبى أفندى وأعوانه وثيقة جردوا فيها اليتيمة عن جميع أملاكها، وأشهدوا عليها بدين جسيم لكافلها، ووضعوا عليها شهادة جماعة من الترك، بخط الدرى كاتب المحكمة الكبرى، وأنا لا أعلم بشئ من ذلك، ثم أخرجوها لى مجردة ما عليها إلا ثيابها مع أثاث قليل فأقمنا أياما فى راحة، وكانوا قد دسوا لها من قبل أنى أغدر بها، وأقتلها استعانة بذلك على تجريدها من أملاكها، بايهامها أن هذا أمر ظاهرى، أرادوا به حفظ أموالها، وأملاكها، من تسلطى عليها وانتزاعى لها، فيبقى ذلك عندهم حتى تريده فيكون لها متى شاءت حين تأمن غائلتى، فلما ذهب خوفها وأمن روعها، ولم تجد منى تطلعا لشئ من ذلك ولا أثر مما خوفوها به، أخبرتنى بالحجة التى جردوها بها وأنها تركت حليها هناك، وطلبت منى الأذن فى التوجه إليهم، لتأتى به حيث لم تجد شيأ مما كانت تخافه. فقلت لها: إن ذلك لا يجدى وهذه حيلة نمت عليك فلم تسمع وذهبت ورجعت خالية اليدين، باكية العينين، حزينة آسفة ما تم عليها من الحيلة، فحملتنى الرأفة على أن أسعى لها فى استخلاص حقها فقدمت فى ذلك عرض حال بصورة الواقعة للمرحوم

ص: 126

عباس باشا، واتسعت القضية، ونظرت فى الدواوين والمجالس، ودخل فيها القاضى والمفتى ولما حصحص الحق دخل فيها جلبى أفندى بالوسائط حتى خوفنى الكتخدا بالنفى إلى السودان إن لم أكف عن هذه القضية.

وبعد طول النزاع تمتها بالصلح فرجع لها العقارات والأوقاف وضاع عليها المال وبطل عنها الدين، ولم أصل إلى هذه الغاية إلا بعد أن قاسيت فى ذلك من الشدائد والأهوال، وعجائب الأحوال، مالو وصفته لطال الشرح واتسع المجال. وقد بنيت بيتها من مالى وصرفت عليه نحو ستمائة كيس وكان موقوفا عليها فأرادت اشتراكى فيه معها فى نظير ما صرفته، وكان ذلك لها بمقتضى شرط الواقف فقبلت، ودخلت معها فى الوقفية وكتبت الوثيقة بمحضر من العلماء والأمراء والأعيان.

فلما كنت فى الأستانة دخلت عليها كافلتها، المقدم ذكرها وقالت لها: أن الرمل أخبر بأن زوجك يموت فى سفره وصدّق على ذلك جماعة من حواشيها وحسنوا لها إبطال الحجة المتضمنة حصتى فى وقفية البيت ثم لاذوا/بجماعة من أصحابنا الذين لنا عليهم 47 المعروف، ليشهدوا لهم بأن الحجة مزوة وأن التى نطقت يوم كتب الحجة إنما هى أختى تمثلت بها فظنوها إياها، وحملوها على أن كتبت فىّ عرضا يتضمن إنى أخذت أموالها ومتاعها ثم أرسلوه إلى ابن عمها فى الأستانة وكنت معه فى محل واحد، فأرانيه فقرأته وأخذت نسخته وسلمته إليه وقلت: لا ثمرة الآن فى المنازعة هنا فاحفظه عندك حتى نعود إلى مصر وهناك تظهر الحقيقة، فإن مت قبل ذلك فلها جميع ما يورث عنى.

فلما رجعنا إلى مصر عقدنا لذلك مجلسا حضره كاتب المحكمة والشهود وجمع من أعيان العلماء، وجرى الحساب وهى حاضرة فى المجلس فثبت لى عليها مائة وخمسة وعشرون ألف قرش، عملة ديوانية، غير ستمائة كيس التى صرفتها فى عمارة البيت، فبعد ثبوت حقى وظهوره تنازلت فى المجلس عن جميع ذلك ولم آخذ إلا وثيقة من أهل هذا المجلس بجميع ما حصل. وبإثبات تنازلى بعد هذا الثبوت، ثم بعد أيام قلائل تركتها وخرجت من البيت ولم آخذ شيئا، حتى تركت جوارى اللاتى كن فى ملكى، وطهرت نفسى مما نسبه إلىّ أهل البهتان، وأرحت نفسى من تلك الوساوس والهواجس.

ص: 127

ثم بعد عودنا من هذا السفر الطويل خلى سبيل العساكر، ولحقوا ببلادهم، ورفت كثير من الضباط فكنت ممن رفت. وسكنت فى بيت صغير بالأجرة مع أخ لى كنت تركته فى المدرسة عند السفر مع ابن أخ آخر ليتربيا فيها، فطردا منها بعد سفرى ولم يعطف عليهما أحد ممن كنت أساعدهم فى مدة نظارتى، ولم تحصل الشفقة عليهما إلا من سليمان باشا الفرنساوى، فإنه أدخلهما فى مكتب كان أنشأه بمصر العتيقة على نفقته وشملهما برأفته، ثم غرق ابن أخى فى البحر وبقى أخى إلى أن جئت فالتحق بى فكانت حالتى بعد سبع سنين مضت من عودى من بلاد أوروبا كحالتى عند عودى منها، وذهب ما رأيت من الأموال والمناصب والوظائف وجميع ما كسبت يدى.

ولم يبق بالخاطر غير ما فعل الناس معى من خير وشر، وما أكسبنى الزمان من صدماته وغرائب تقلباته، حتى حلا لى التخلى عن الحكومة وخدمتها، وغضضت طرفى عن التطلع للوظائف والمناصب، وعزمت على الرجوع إلى بلدى والإقامة بالريف، والاشتغال بالزرع والتعيش من جانبه، وترك الاشتغال بالقيل والقال، وقلت عوضنا الله خيرا فى نتائج الفكر وثمرات المعارف ولنفرض إنا ما فارقنا البلد ولا خرجنا منها.

وبينما أنا أتجهز للسفر إلى البلد على هذه النية، صدر أمر بأن جميع الضباط المرفوتين يحضرون بالقلعة للفرز فحضرنا، وكان المنوط بالفرز أدهم باشا وإسماعيل باشا الفريق وجملة من الأمراء، فكان أهم ما يعتنون به معرفة عمر الإنسان، وكانوا يعرفون السن بالنظر إلى السنّ، فهالنى هذا الأمر وثقل على ووددت أن لا أكون طلبت، فلما وصلنى الفرز عافانى من ذلك أدهم باشا السابق معرفته بى.

وكتبت فى المختارين للخدمة فتعطلت عن السفر، وبعد قليل تعينت معاونا بديوان الجهادية وأحيل علىّ النظر فى القضايا المتأخرة المتعلقة بالورش والجبخانات وغيرها من ملحقات الجهادية، وألحقوا بى كاتبا فاشتغلت بها زمنا وأتمنا جملة منها. وفى ذات يوم كان إسماعيل باشا الفريق ناظر الديوان إذ ذاك مشتغلا برسم بعض المناورات العسكرية فلم

ص: 128

يحسن ذلك وتحير فى إتمامها، فدعانى فرسمتها فى عدة أفرخ من الورق على الوجه اللائق، فوقع عنده ذلك موقعا حسنا وأثنى علىّ، ووعدنى بذكرى بخير عند المرحوم سعيد باشا، وطلب منى وضع اسمى على الرسم، فقلت عافنى من ذلك ولا تذكرنى عنده، فأرانى أن فى ذلك فوائد جمة وأنه عين الصواب.

ثم لما عرض الرسم عليه وتكلم معه بما تكلم أمر بإبطال التحقيق وحفظ القضايا بالدفترخانة وإلحاقى بمستودعى الداخلية.

فبقيت كذلك زمنا قليلا وكان يحال علىّ بعض القضايا، ثم دعيت إلى وكالة مجلس التجار فأقمت فيه شهرين، وكان سلفى فيه رجلا من الأرمن له سند قوى سهل له به الوصول إلى المرحوم سعيد باشا. فرمى فىّ بما رمى فرفعت من هذه الوظيفة، وتأسفت لرفعى التجار البلديون لما رأوه من البت فى القضايا على وجه الحق، فأقمت فى بيتى نحو ثلاثة أشهر ثم تعينت مفتش هندسة نصف الوجه القبلى فأقمت فيه نحو شهرين، ثم خلفنى فى ذلك على باشا إبراهيم. ثم دعانى المرحوم سعيد باشا لعمل رسم لاستحكامات أبى حماد، ودعا على باشا إبراهيم للكشف على الجانب الغربى من النيل إلى أسوان فاشتغلنا بذلك مدة بلا ماهية، ولما تمت الرسم ذهبت إليه لعرض الرسم عليه وكان فى طرا فلم أتمكن من ذلك، وصرت أتردد على طرا أياما لهذا القصد فلم يتيسر، ثم قام إلى قصر النيل فترددت على ذلك الموضع أيضا فلم يتم المقصود، ثم قام إلى الاسكندرية فتحيرت فى أمرى إذ كان لا يثبت فى مكان ولم يتيسر لى عرض نتيجة المأمورية عليه فالتزمت الإقامة بمصر حتى أتمكن من لقائه، وطالت المدة وفرغ المصروف، ثم قدم إلى مصر فذهبت إليه فلم أتمكن من الدخول إليه، فقال لى مأمور التشريفات: كن معنا على الدوام/لعلك تجد فرصة فى وقت من الأوقات تتمكن منه، وحضر على باشا إبراهيم أيضا فاصطحبنا ولازمنا معيته فى السفر ثلاثة أشهر بلا ماهية ولا شغل مع كثرة التنقلات من بلد إلى بلد، ومن موضع إلى آخر، ثم لما كان ذات يوم فى الجيرة وقع نظره على فنادانى وكلمنى وسألنى عما صنعت فى الرّسم فقدمته له فنظر فيه قليلا ثم قال: أبقه حتى نجد وقتا لإمعان النظر فيه، ثم لم يلتفت إليه بعد ذلك ولكن ربطت لى ماهية.

ص: 129

وبقيت فى معيته زمنا بلا شغل، إلى أن كنا مدة بمريوط وكان معنا المرحوم أدهم باشا فأخبرنى أنه صدر له الأمر بترتيب معلمين لتعليم الضباط وصف الضباط القراءة والكتابة والحساب، وسألنى عمن يليق للقيام بهذا الأمر، فعرضت نفسى لذلك فظن إنى أهزل لاعتقاده ترفعى عن هذه الخدمة وقال: أترضى أن تكون معلما لهؤلاء؟ فقلت:

كيف لا أرغب انتهاز فرصة تعليم أبناء الوطن وبث فوائد العلوم، فقد كنا مبتدئين نتعلم الهجاء، ثم وصلنا إلى ما وصلنا إليه، فلما عرض ذلك على المرحوم أحال علىّ تعليمهم فأصحبت معى اثنين من الأفندية ورتبت مواد التعليم والطريقة التى يلزم اتباعها، وشرعنا فى التعليم فكنت أكتب لهم حروف الهجاء بيدى.

ولعدم الثبات فى مكان واحد كنت أذهب إليهم فى خيامهم، وتارة يكون التعليم بتخطيط الحروف على الأرض، وتارة بالفحم على بلاط المحلات حتى صار لبعضهم إلمام بالخط وعرفوا قواعد الحساب الأساسية، فجعلت نجباءهم عرفاء استعنت بهم على تعليم الآخرين، فازداد التعليم واتسعت دائرته، واستعملت لهم فى تعليم مهمات القواعد الهندسية اللازمة للعساكر الحبل والعصا لا غير، فكنت إذا أردت توقيفهم على عملية كتقدير الأبعاد وتعيين النقط واستقامة الحذاء أجرى ذلك لهم عملا على الأرض، وأبين لهم فوائده وثمراته النظرية فكان يثبت فى أذهانهم حتى أن بعضهم كان يجريه أمامى فى الحال بلا صعوبة.

ووضعت فى ذلك كتابا مختصرا جمعت فيه اللازم من الحساب والهندسة وطرق الاستكشافات العسكرية وسميته «تقريب الهندسة» ، وطبع على مطبعة الحجر فانتفع به كثير من الناس خصوصا فى الألايات، وتكرر طبعه، وكنت جمعت أيضا جزءا فيما يلزم معرفته للضباط من فن الاستحكامات وسوق الجيوش وترتيبها وكيفية المحاربات ونحو ذلك، لكنه لم يتم ولم يطبع وقد ضاع منى.

وكنت فى أوقات الفراغ أشغل الزمن بالمطالعة، وأكتب تعليقات أستحسنها فى ورقات جمعتها بعد ذلك، فصارت كتابا مفيدا فى فنون شتى مما يحتاج إليه المهندسون،

ص: 130

وبقى عندى إلى أن اطلع عليه بعض معلمى الرياضة فى المدارس الملكية وغيرها، أيام نظارتى عليها فى مدة الحكومة الخديوية الاسماعيلية، فرغبوا فى طبعه فطبع بمطبعة المدارس وسمى «تذكرة المهندسين» ، وكان المباشر لمقابلته وطبعه أولا السيد أحمد أفندى خليل ناظر مدرسة المحاسبة يومئذ، وبعده على أفندى الدرندهلى أحد خوجات المهندسخانة إلى أن أن تم طبعه.

وهكذا كانت جميع أوقاتى مشغولة بأمثال ذلك وببعض مأموريات كانت تحال علىّ ثم لما رام المرحوم سعيد باشا التوجه إلى بلاد أوروبا أمر برفت غالب من كان فى معيته، فكنت فى جملة المرفوتين. وكنت قبل رفتى تزوّجت واشتريت بيتا بدرب الجماميز، وشرعت فى بنائه وتعميره، فكثر علىّ المصرف ولحقنى الدين حتى ضاق ذرعى وتشوش طبعى، وكان يومئذ قد صدر الأمر ببيع بعض أشياء من تعلقات الحكومة زائدة عن الحاجة من عقارات وغيرها، وكان المأمور بذلك المرحوم إسماعيل باشا الفريق وكان لى من المحبين وكنت جاره فى السكنى فاستصحبنى معه إلى بولاق وخلافها من محلات البيع، فلما حضرت المزادات رأيت الأشياء بأبخس الأثمان، ورأيت ما كان لمدرسة المهندسخانة من اللوازم والأشياء الثمينة العظيمة، وفى جملتها الكتب التى كنت طبعتها وغيرها تباع بتراب الفلوس، وكذا أشياء كثيرة من نحو آلات الحديد والنحاس والرصاص، والعقارات والفضيات والمرايات والساعات والمفروشات وغير ذلك، وليتها كانت تباع بالنقد الحال بل كانت الأثمان تؤجل بالآجال البعيدة، وبعضها بأوراق الماهيات ونحو ذلك من أنواع التسهيل على المشترى، فكان التجار يربحون أرباحا جمة.

فلبطالتى واستدانتى وكثرة مصرفى، مالت نفسى للشراء من هذه الأشياء والدخول فى التجارة، ففعلت وعاملت التجار وعرفتهم وعرفونى وكثر منى الشراء والبيع فربحت، واستعنت بذلك على المصروف وأداء بعض الحقوق، واستمر منى ذلك نحو الشهرين فازدادت عندى دواعى التجارة وصارت هى مطمح نظرى، وقصرت عليها فكرتى خصوصا لما تقرر عندى من اضطراب الأحوال وتقلبات الأمور التى كادت أن تذهب منى ثمرات المعارف والأسفار، بحيث كلما تقدمت فى العمر وكثرت العيال كنت أرى التقهقر

ص: 131

ونفاد ما استحوذت عليه، فآثرت حرفة التجارة على حرفتى الأصلية، وصرفت النظر عن الخدمة الأميرية وقام/بخاطرى أن أعقد شركة مع بعض المهندسين المتقاعدين مثلى على أن نبنى بيوتا للبيع والتجارة ونستعمل فيها أفكار الهندسة، فلم أر من يوافقنى فهممت بالقيام بذلك بنفسى وشرعت فى العمل.

وبينما أنا فى حوالك هذه الأحوال أروم التخلص من تلك الأوحال إذ طرق المرحوم سعيد باشا طارق المنون فتوفى فى سنة تسع وسبعين ومائتين وألف، وقام بأعباء الحكومة بعده حضرة الخديوى إسماعيل باشا فألحقنى بمعيته زمنا.

ثم تعينت لنظارة القناطر الخيرية وكانت إلى ذلك العهد لم تقفل عيونها بالأبواب، مع أن أبواب بحر الغرب كانت مرتبة من زمن المرحوم سعيد باشا، وصرف عليها مبالغ جسيمة من طرف الحكومة، وكان المانع من إقفالها ما قرره المهندسون من منع ذلك إلى أن يجرى ترميمها وتقويتها لعدم جزمهم بمتانتها مع اضطراب آرائهم.

وكان أكثر النيل يمر من بحر الغرب، وأخذ فى التحوّل عن بحر الشرق حتى كان فى زمن الصيف لا يدخل فى الترع الآخذة منه إلا القليل من الماء، وترتب على ذلك قلة زمام المنزرع الصيفى فى الجهات التى تسقى من هذا البحر، وتعطلت بسبب ذلك منافع كثيرة.

وكان الخديوى كثيرا ما يتردد إلى القناطر الخيرية ويقيم بها فى كل مرة عدة أيام ويعتنى بأمرها، وفى ذات مرة خاطبنى فى شأنها وفيما يلزم اجراؤه لتحويل النيل إلى بحر الشرق الذى عليه أفواه أكثر الترع وعليه مدار ثروة أهالى تلك الجهات، فقلت: إن من ألزم الأمور وأنفعها فى ذلك أن تقفل قناطر بحر الغرب إذ بذلك تتراجع المياه إلى بحر الشرق وتتكاثر فيه، ويتحول إليه بعض بحر النيل ولا يرتب على إقفالها كبير ضرر للقناطر لأن ارتفاع الماء وراء السد لا يكون كبيرا لانحدار النيل إلى بحر الشرق فلا يحصل من ضغطه للقناطر تأثير بين، مع أن المهندسين الذين رأوا منع إغلاقها لم يجزموا

ص: 132

بحصول الخلل وإنما ذلك على سبيل الظن، فبإغلاقها تظهر الحقيقة، ويزول الشك، فإذا حصل منه خلل وصار معلوما تتدبر الحكومة فى تداركه، وإن لم يحصل حصل المقصود من تكاثر المياه فى بحر الشرق الذى عليه مدار الزراعية الصيفية والمنافع العمومية ولا يترك نفع محقق لضر متوهم يمكن تداركه، فاستحسن منى ذلك ورآه صوابا ورخص فى إقفالها فصارت تقفل وحصل من ذلك مالا مزيد عليه من المنافع العمومية.

وأما الخلل الذى كان متوقعا حصوله فإنه ظهر فى بعض العيون الغربية القريبة من البر الغربى فجعل عليها جسرا من الخشب أحاط بها، فتربت حولها جزيرة من الرمل حفظتها فلم يكن خللها مانعا من إقفالها كل سنة.

ثم لما حفر رياح المنوفية أحيل علىّ فى مدة نظارتى عمل قناطره ومبانيه، فأجريتها على ما هى عليه الآن.

وفى سنة اثنتين وثمانين اختارنى للنيابة عن الحكومة المصرية فى المجلس الذى تشكل لتقدير الأراضى التى هى حق شركة خليج السويس، على مقتضى القرار المحكوم به من طرف امبراطور فرانسا، وكان المعين نائبا من طرف الدولة العلية حضرة سرور أفندى وكذا كان لكل من الحكومة الفرنساوية والشركة المذكورة نائب، فتوجهنا للمرور على الخليج فمررنا من السويس إلى بورت سعيد، وبعد المذاكرات والمداولات عملت الرسوم اللازمة وتحرر بذلك القرار وتمت المسئلة على أحسن حال، وأحسن إلىّ بعد إتمامها برتبة المتمايز وأعطيت النيشان المجيدى من الدرجة الثالثة، وبعث إلىّ من طرف الدولة الفرنساوية بنيشان (أوفسيه ليثريون دونور).

وفى شهر جمادى الآخرة من سنة أربع وثمانين أحيلت إلىّ وكالة ديوان المدارس تحت رياسة شريف باشا.، مع بقاء نظارة القناطر الخيرية، وبعد قليل انتدبنى الخديوى إسماعيل للسفر إلى باريس فى مسئلة تخص المالية، فكانت مدة غيابى ذهابا وإيابا وإقامتى بها خمسة وأربعين يوما.

ص: 133

وكانت سفرة مفيدة اغتنمت فيها فرصة الاطلاع على ما بهذه المدينة وقتئذ من المدارس والمكاتب الجمة، واستحوذت على فهارس تعليماتهم والاطلاع على كتبهم المطبوعة هناك، وتفرجت على مجاريها العمومية المعدة لقذف القاذورات والسائلات بها وهى عبارة عن مبان متسعة عظيمة الارتفاع تحت شوارع المدينة، معقودة من أعلاها يتوصل إليها بسلالم فى فتحات مخصوصة فى الشوارع يدخل منها النور والهواء، وفى جنبيها حوالى المجرى مصطبتان تمشى عليهما الشغالة والفعلة، وينصب فى المجرى قاذورات المراحيض والمطابخ وغيرها، وماء الأمطار ونحوها بكيفية مدبرة بحيث لا يشم لها رائحة-مع كثرة ما يسيل فيها-وقد ركبنا صندلا يسير فى ذلك المجرى معدا لتنظيف المجرى وقذف ما به من المواد التى تعطل جرى الماء، وذلك أنه مصنوع بقدر المجرى وبه جرافة من أمامه ودولاب، فإذا أرادوا تسييره يديرون الدولاب فينحط الصندل نحو القاع بقدر ما يريدون فيرتفع الماء خلفه زيادة عن الأمام مع الانحدار الأصلى للمجرى، فيندفع الصندل مسرعا فى السير فيطرد أمامه كل ما لاقاه، وجميع هذه المواد تتدفق فى نهر السين المار فى المدينة فى محل بعيد/جدا عن المساكن، فيالهذا العمل من عمل نافع تخلصت به المدينة من مياه الأمطار الغزيرة الواردة عليها فى زمن الشتاء مع التخلص من القاذورات والروائح الكريهة التى لا تخلو منها الأمصار لا سيما المدن الكبيرة.

ثم بعد قليل من عودتى أحسن إلىّ فى سنة خمس وثمانين برتبة مير ميران وأحيلت إلى عهدتى إدارة السكك الحديدية المصرية وإدارة ديوان المدارس وإدارة ديوان الأشغال العمومية.

وفى شهر شوّال من تلك السنة انضم إلى ذلك نظارة عموم الأوقاف، كل ذلك مع بقاء نظارة القناطر الخيرية والتحاقى برجال المعية، فبذلت جهدى وشمرت عن ساعد جدى فى مباشرة تلك المصالح فقمت بواجباتها.

وبسبب اتساع ديوان السكة الحديدية وكثرة أشغاله كنت أذهب إليه من بعد

ص: 134

الظهر إلى الغروب للنظر فيما يتعلق به وقد أجريت فى تنظيم السكة ومحطاتها ما ذكرت بعضه فى الكلام على الإسكندرية فانظره

(1)

.

وجعلت من الصبح إلى الظهر لباقى المصالح، وكنت قد تحصلت على الإذن بنقل المدارس من العباسية إلى القاهرة رفقا بالتلامذة وأهليهم، لما كان يلحقهم فى الذهاب إلى العباسية من المشاق والمصرف الزائد، فأحسن إلى المدارس بسراى درب الجماميز التى كانت قد اشتريت من المرحوم مصطفى باشا فاضل، فنقلت إليها التلامذة وأجريت فيها تصليحات لازمة للمصالح، وجعل السلاملك للديوان ووضعت كل مدرسة فى جهة من السراى، وجعل بها أيضا ديوان الأوقاف وديوان الأشغال، فسهل علىّ القيام بها

وكانت كثرة أشغالى لا تشغلنى عن الالتفاف إلى ما يتعلق بأحوال التلامذة والمعلمين، فكنت كل يوم أدخل عندهم بكرة وعشيا عند غدوى من البيت ورواحى، وأعملت فكرى فيما يحصل به نشر المعارف وحسن التربية.

وكانت المكاتب الأهلية فى المدن والأرياف جارية على العادة القديمة، ليس فيها على قلة أهلها إلا تعليم القرآن الشريف، وأقل من القليل من يتممه منهم، ويجيد حفظه ويجوده ويحسن قراءته، مع رداءة الخط فى عامة المكاتب المذكورة، فاستحسنت اجراءها على نسق المدارس المنتظمة فحررت لائحة بتنظيمها وترتيبها على الوجه الذى عليه، ودعوت إلى النظر فى هذا الترتيب جماعة من أعلام العلماء والأعيان النبهاء، فنظروا فيه واستحسنوه ووضعوا خطوطهم عليه، وصدر الأمر الخديوى بالإجراء على حسبه، ورتب مفتشون لرعاية العمل بموجبه. وأنشئت مدارس مركزية فى بعض مدن القطر كأسيوط والمنية وبنى سويف وبنها، وانتخب لكل منها المعلمون والضباط وعين لها سائر الخدمة ورتبت بها أدوات التعليم، ورغب الناس فى تعليم أولادهم بها وكثرت فيها الأطفال.

(1)

انظر الجزء السابع من الخطط التوفيقية، الطبعة الثانية. الهيئة المصرية العامة للكتاب،1978.

ص: 135

وأنشئ فى القاهرة والإسكندرية بعض مكاتب على هذا الأسلوب مثل مكتبى القربية أحدهما للبنات والآخر للأطفال الذكور، ومكتب الجمالية، ومكتب باب الشعرية، ومكتب البنات بالسيوفية.

ولأجل استفادة الأوقاف وتكثير إيرادها مع تخفيف المصرف على الحكومة، كان بناء هذه المكاتب فى عقارات الأوقاف وعلى طرفها، وربط لها على المكاتب إيجار يدخل خزينة الأوقاف، وأجريت الاصلاحات اللازمة فى المكاتب القديمة فغيرت بعض مبانيها وأوضاعها الأصلية إلى حالة تصلح لما صارت إليه المكاتب من النظام، وترتبت لها النظار والمعلمون وأدوات التعليم ونحو ذلك، وجعلت المصاريف اللازمة للمدارس والمكاتب جارية على وجه يستوجب انتظامها مع خفة المصرف على الديوان، فجعل على أهالى التلامذة المقتدرين شئ من النقود يؤخذ منهم برغبتهم كل شهر على حسب اقتدارهم من غير تثقيل عليهم استمالة لقلوبهم واستدعاء لرغبتهم، وجعل لذلك استمارة حفظت فى المدارس وفى كل مكتب، وباقى المصروف يصرف من حاصلات الأوقاف الخيرية الموقوفة على المكاتب وغيرها من وجوه الخيرات والمبرات، وأطيان الوادى بمديرية الشرقية، وكان قد أحسن على المكاتب الأهلية بهذه الأطيان وبعض أملاك آلت إلى بيت المال من بعض التركات، فكان من هذه الموارد يصرف كل ما يلزم لهذه المكاتب بعد الإيرادات الجزئية المتحصلة من ذوى الاقتدار من أهل التلامذة، وكان القصد تعويد الناس على الصرف على أولادهم بالتدريج شيئا فشيئا حتى لا يبقى مع توالى الأزمان على الحكومة إلا ما يختص بالمدارس الخصوصية كالمهندسخانة والطب والإدارة ونحوها، وأما باقى المدارس فيكون الصرف عليها من الأهالى والأوقاف والأملاك المذكورة إذ بذلك تدوم الرغبة وتتسع دائرة التعليم.

وقد تأسس هذا المشروع وثبت، وسرت فيه إلى أن انفصلت عن المدارس، وحصلت منه نتائج حسنة وخرّج من التلامذة الذين تربوا بالمدارس فى مدتنا جم غفير توظفوا بالوظائف الميرية الشريفة ملكية وحربية وانتفعوا وانتفع بهم.

ثم لأجل تسهيل التعليم على المعلمين والمتعلمين. وصون ما تعلموه من الذهاب،

ص: 136

جعل بالمدارس مطبعة حروف ومطبعة/حجر لطبع كل ما يلزم من الكتب وأمشق الخط والرسم وغير ذلك.

وحيث كان من أهم ما يلزم للمدارس الاستحصال على معلمين مستعدين للقيام بسائر وظائف التعليم، أمعنت النظر فى هذا الأمر المهم، واستحدثت مدرسة دار العلوم بعد استصدار الأمر بها وجعلتها خاصة لطلبة بقدر الكفاية، يؤخذون من الجامع الأزهر ممن تلقوا فيه بعض الكتب فى العربية والفقه بعد حفظ القرآن الشريف، ليتعلموا بهذه المدرسة بعض الفنون المفقودة من الأزهر مثل الحساب والهندسة والطبيعة والجغرافية والتاريخ والخط، مع فنون الأزهر من عربية وتفسير وحديث وفقه على مذهب أبى حنيفة النعمان، وجعل لهم مرتب شهرى يستعينون به على الكسوة وغيرها من النفقات، ورتب لهم طعام فى النهار للغداء، وجعل الصرف عليهم من طرف الأوقاف، ورتب لهم من لزم من المعلمين من المشايخ العلماء وغيرهم ليقوموا بأمر تعليمهم وتدريبهم حتى يتمكنوا من هذه الفنون فينتفعوا وينفعوا، ويجعل منهم معلمون فى المكاتب الأهلية بالقاهرة وغيرها لتعليم العربية والخط ونحو ذلك، فلما أشيع هذا الأمر وأعلن حضر كثير من نجباء طلبة العلم بالأزهر يطلبون الانتظام فى هذا السلك فاختير منهم بالامتحان جماعة على قدر المطلوب وساروا فى التحصيل فحصلوا وأثمر ذلك المسعى وخرج منهم معلمون فى القاهرة وغيرها، وحصل النفع بهم ولهم.

وأما المعلمون فى غير العربية كالهندسة والحساب واللغات ونحو ذلك فتقرر أن يكونوا من نجباء التلامذة المتقدمين، الذين أتموا دروس المدارس العالية كالمهندسخانة والمحاسبة والإدارة بأن يجعلوا أولا معيدين لدروس المعلمين زمنا، ثم يكونوا معلمين استقلالا بالمدارس والمكاتب كل حسب استعداده سوى من يؤخذ إلى غير المدارس من مصالح الحكومة، وقرر ذلك وعلم بينهم، فرغبت التلامذة فى التعلم واجتهدوا وحرصوا على التقدم، وتحصلوا على مهمات الفنون وتمكنت الحكومة من توسعة دائرة التعليم بلا كبير مصرف.

ص: 137

ولما لم يكن بمصر دار كتب جامعة عامة يرجع إليها المعلون للاستعانة على التعليم كما فى مدارس البلاد الأجنبية، ينشئ محل بجوار المدارس من داخل سراى درب الجماميز المذكورة لهذا الغرض، وصرف عليه من مربوط المدارس فجاء محلا متسعا يزيد عن لوازم المدارس من الكتب وأدوات التعليم.

وقد كان الخديوى إسماعيل يرغب فى إنشاء كتبخانة عمومية تجمع الكتب المتفرقة فى الجهات الميرية وجهات الأوقاف فى المساجد ونحوها، وأمرنى بالنظر فى ذلك فوصفت له المحل الذى أنشئ، فعين لمعاينته جماعة من الأمراء والعلماء فاستحسنوه ووجدوه فوق المرام، فصدر الأمر بأن تجمع فيه الكتب المتفرقة، فجمعت من كل جهة وجعل لها ناظر وخدمة، وترتب لها مغير من علماء الأزهر لمباشرة الكتب العربية، وآخر لمباشرة الكتب التركية، ونظمت لها لائحة صار نشرها، تؤذن بإباحة الانتفاع بها للطالبين، وسهولة التناول للراغبين، مع الصيانة لها وعدم التفريط فيها، فجاءت بحمد الله من أنفع الإنشاءات، وأثنى عليها الخاص والعام من الأهلين والأغراب، إذ تخلصت بها الكتب من أيدى الضياع وتطرق الأطماع، فإنها كانت تحت تصرف نظار أكثرهم يجهلون قيمتها ولا يحسنون التصرف فيها ولا يقومون بواجباتها، بل أهملوها وتركوها فسطت عليها عوارض متنوعة أتلفت كثيرا منها حتى صار السالم من الضياع مخرما بعضه بأكل الأرض، وبعضه بأكل الأرضه، وزاد أن تصرفوا فى أجودها بالبيع للأغراب بثمن بخس، وحرموا الأهلين من الانتفاع بها، وبعضها يحجرون عليه فلا يتمكن أحد من النظر إليه، فتخلصت من ذلك فضلا عن صونها من هذه العوارض ونظافتها ونظافة أماكنها وحسن ترتيبها كل فن على حدته، وجعل بها محل للاطلاع على الكتب والمطالعة والمراجعة فيها والنسخ والنقل فيها، ورتب فيه ما يلزم للكتابة من الأدوات بحيث يتيسر بهذا الموضع لكل من شاء غرضه من ذلك متى شاء، وأمكن الإطلاع على خطوط الملوك والمؤلفين، والعلماء والمتقدمين، ومشاهير الخطاطين كابن مقلة وغيره مما كان يسمع به الإنسان ولا يراه أو لا يسمع به.

ص: 138

وأخذت بعد انشائها وافتتاحها فى تكميل الناقص من الكتب، وتجديد شراء كل ما يستحسن وأمكن تحصيله مما ليس موجودا بها من الكتب، ومشى على هذه الطريقة كل من رضيها ورأى إتمام الفائدة بها ممن توالوا على نظارة المدارس والأوقاف بين مكثر ومقل.

ولأجل إتمام الفائدة فألحقت بهذا المحل محلا للآلات، الطبيعية وغيرها من آلات العلوم الرياضية اللازمة للمدارس، وصرف لمشترى تلك الآلات نحو أربعة آلاف جنيه.

وبجميع ذلك سهل على التلامذة والمعلمين السير فى طرق التقدم، وتقيدت لديهم شوارد الفنون، وتمكنوا منها بالمعاينة والتمرن على استعمال تلك الآلات واجتلاء المعقول فى صورة المحسوس، فتعاضد الفكر والنظر فى العلم/والعمل.

ثم إنه قد حصل من انضمام الأوقاف للمدارس مساعدة كل منهما للآخر مساعدة كلية، إذ صار أمر التعليم فى المكاتب ملحوظا بعين المدارس، فكان سيرهما فى التعليمات والتنبيهات والامتحانات السنوية وغيرهما سواء، وتيسر لمن أكملوا دروسهم الإبتدائية فى مكاتب الأوقاف والمكاتب الأهلية المنتظمة دخول المدرسة التجهيزية، والتدرج منها إلى المدارس العالية، وبذلك صار يؤخذ منهم بالرغبة والأهلية كل سنة عدد عديد، كما يؤخذ من تلامذة المدارس الابتدائية الأميرية.

وأحيت المدارس كثيرا من عقارات الأوقاف المندرسة وانتفعت بها، كما مرت الإشارة إلى ذلك، وكم من أهل خير فى الزمن السابق كانوا قد أنشؤا مدارس بالمحروسة والإسكندرية وكثير من مدن القطر للتعليم والتربية حسبة لله تعالى، ووقفوا عليها أوقافا خيرية جمة يصرف عليها ريعها رغبة فى نشر العلوم وعود الفوائد على عموم الناس، بل كثير منهم ألحق بذلك خزائن كتب شاملة لما يحتاج إليه فى التعليم.

ولكن لسوء تصرف نظارها انحرفت عن الصراط المستقيم، صراط الواقفين الراغبين فى الخيرات، وصار ما يسلم من الهدم والتخريب يستعمل أكثره فى أغراض

ص: 139

أخرى، والمستعمل فى الغرض الأصلى على قلته لا يستوفى فى سيره شروط الواقف وحد اللازم. وساء حال التعليم فى المكاتب الحاصلة، وقل المعلمون والمتعلمون، وصار اجتماع الأطفال والمتعلمين بهذه الأماكن قليل النفع بحيث كاد لا يفيدهم إلا الضياع والأمراض الناشئة عن الوساخة والتفريط، فحصل رجوع كثير من هذه العمائر إلى أصلها المقصود منها والفائدة الموضوعة لها، وانضمت إلى ديوان الأوقاف العمومى لتكون إدارتها تحت نظره مشمولة بمناظرة ديوان المعارف وترتيبه، فتخلص من أطماع النظار، وحصل رم ما احتاج إلى الإصلاح من المدارس، ومن أوقافها التى يأتى منها الريع، وانتزع ما استولت عليه الأيدى من غير استحقاق، فانضبط أمرها وإيرادها فحييت هذه المآثر بعد موتها وعادت ثمراتها بعد فوتها.

ثم إن هذا النظر لم يكن قاصرا على المدارس وأوقافها، بل حصل الالتفات لجميع الأوقاف من التكايا والمساجد وغيرهما بالإصلاح والتجديد، وكان ما بالأقاليم من الأوقاف من أطيان وعقارات على كثرته غير ملتفت إليه، فكان السالم من التلف من الأسبلة ونحوها مستعملا فى غير وجهه تحت أيدى غير مستحقيه، فانتخب لها من طرف الأوقاف مأمورون من المهندسين الذين تعلموا فى المدارس وأرسلوا إلى الأقاليم للنظر فى أمر الأوقاف وضبطها، ومعرفة ريعها وما يلزم من العمارات وتحصيل إيراداتها وملاحظة مصروفاتها، وجعل المندوبون للوجه البحرى تابعين فى إدارتهم لمأمورية طنتدا، والمعينون فى الوجه القبلى يخاطبون من الديوان، فضبطوهما وحرروا جداولها، وفعل بهاما هو الأصلح لها فانتظم سيرها ونما ريعها.

ثم إن الذى كان متبعا فى العمائر بالمدن الكبيرة كالقاهرة والإسكندرية اجراؤها على طرف الديوان، وكان لها معمارية وشغالة وعربات ونحو ذلك بمرتبات جسيمة شهرية، ومصاريف كثيرة تزيد عن قيمة ما يحصل فيها من الإنشاء والعمارة، وفضلا عن عدم الإتقان، وكان يحصل من القائمين بأمرها الإهمال والتفريط فيها، وكان ما يجرى تعميره فى السنة مع عدم إتقانه وكثرة ما يصرف عليه قليلا بالنسبة للمحتاج للعمارة.

ص: 140

وكان الديوان لا يتمكن من الحسابات السنوية فبقيت عمارات كثيرة لم ينته الأمر فيها ولا فى حساباتها عدة سنين طويلة، وكان الذى يعمر منها-مع خفة بنائه ورداءة مونته-يحول من أوضاعه الأصلية الحسنة إلى أوضاع سيئة، فكنت ترى الدور المتسعة والمنازل الكبيرة حولت إلى حيشان وربوع يسكنها الكثير من الناس، بحيث تحمل فوق طاقتها لزعم ولاتها أن فى ذلك تكثيرا لريع الوقف، مع أنهم كانوا ما يورثونها إلا التخريب وإضاعة ما بها من نحو الأخشاب، وولاتها غافلون لا يعرفون إلا قبض الأجرة، فكان ما يتلف سنويا من عقارات الأوقاف أكثر مما كان يعمر بأضعاف، وهذا ضرر بين، فحصل الالتفات إلى ذلك وعملت الطرق الموجبة لعمارة الأوقاف وكثرة ريعها وقلة مصرفها على الديوان، فجعل فى أثمان القاهرة مأمورون من المهندسين وكتبة ومعاونون، وصار الجباة تابعين للمأمورين، وشدد عليهم فى الالتفات إلى ما نيط بهم، بحيث أن من فرط فى أمر بجرى عليه ما يستحقه، ففنحوا أعينهم ونصحوا فى سيرهم، خوفا على أنفسهم، فانصلح كثير من الأوقاف وحسنت أحولها.

ثم من أنفع الأعمال فى الأوقاف ما أجرى فيها من إبطال جعل إدارة عمائرها على طرف الديوان، وصارت تعطى بالمقاولة للمقاولين بعد النظر فيها من مأمورى الأثمان وباشمهندس الديوان، وعمل رسوماتها اللازمة وتقدير نفقاتها الموافقة، وجعل لذلك لوائح/واستمارات نشرت بينهم جعلت قدوة لهم فى الأعمال، ثم قسمت أراضى الوقف الواسعة الخربة كالتى فى جهة السيدة زينب وخلافها على الراغبين يبنون فيها منازل وحوانيت وغير ذلك بحكر يقرر عليهم يدفعونه كل سنة للأوقاف، وقرر فى الاستمارة أن الآخذ بالحكر يدفع لخزينة الأوقاف حكر عشر سنين تبرعا منه بحيث لا يحسبها فى المستقبل، ثم يدفع الحكر سنويا، فأنشئ من ذلك مساكن كثيرة كانت مطرحا للزبل والعفونات والأقذار، فبعد أن كانت تجلب المضار للناس صارت نافعة تجلب ريعا كثيرا للوقف وتبدلت سيّآتها حسنات، واستعين بذلك على التنظيم الجارى فى المدن بالأوامر الخديوية لتوسعة الشوارع والحارات وتقويمها، وتجديد ما يلزم منها لتكون شوارع المدينة ومبانيها كافية صالحة لأحوالها الراهنة، من اتساع دائرة التجارة والثروة التى اكتسبها القطر، إذ بذلك كثرت عربات الركوب وعربات البضائع والعمائر، فصار غير لائق بها

ص: 141

بقاء الحالة القديمة على حالها من ضيق الحارات والشوارع واعوجاجها إذ كان الازدحام بها يترتب عليه النصب والعطب والخطر والضرر، فصدرت الأوامر الخديوية لديوان الأشغال ونحن به بالنظر فى ذلك، وأن يعمل له قانون يأتى على المرام.

وكان قبل ذلك رسم القاهرة محوّلا على فرقة من المهندسين، تحت رياسة المرحوم محمود باشا الفلكى فرسموها على ما كانت عليه، وبناء على هذا الرسم كتبت الإشارة فوقه بعمل هذه التنظيمات الموجودة بالمدينة المشاهدة الآن مثل شارع محمد على وميدانه، وشوارع الأزبكية وميدانها، وما بعابدين من الشوارع ونحوها، وباب اللوق وغير ذلك مما هو بداخل المدينة وخارجها، وجرى العمل على ذلك فظهرت كل هذه المبانى الحسنة والشوارع المستقيمة المتسعة المحفوفة بالأشجار الخضرة النضرة المستوجبة للقادمين على المدينة انشراح الصدور والفرح والسرور، وأزيل ما كان بجهتها البحرية من التلال التى كانت تمتد من جهة الفجالة إلى قرب باب الفتوح، تم تبرع الخديوى إسماعيل باشا على الراغبين بمواضع كثيرة. فأنشؤا بها المبانى المشيدة والبساتين العديدة. وناهيك بقصور الإسماعيلية ودورها وبساتينها وشوارعها التى يكل الوصف عن محاسن بهجتها وأحاسن نورقها ونضرتها، وقد كانت أراضيها بين خلوات متسعة، وتلال مرتفعة، وبرك منخفضة، وغابات معترضة، ولم يكن بها صالح للزرع ومأهول بالناس إلا القليل، فأنعم بها الخديوى بلا مقابل رغبة فى العمارة والنظافة وحسن الهيئة، فكم زال بذلك عفونات وقاذورات، ومشاق وصعوبات، وزاد فى بهجة المدينة واكتسابها نورا على نور ما أحدثته شركة من الافرنج باذن من الخديو من نشر غاز التنوير بها فى سائر شوارعها وضواحيها، حتى ذهبت غياهب ظلامها والتحقت لياليها بأيامها.

ثم لأجل زيادة الأمن والتسهيل على الخاص والعام. صدر أمره بعمل القناطر الحديد، المعروفة بالكبرى، بين قصر النيل والجزيرة على هذا الوجه البديع، وعملت السكك المنتظمة فى بر الجيزة، وحفت بالأشجار وفرشت بالأحجار الدقيقة المختلطة بالرمل لمنع الأتربة وتسهيل المرور إلى العمائر والسرايات والبساتين المنشأة هناك التى تجل عن الوصف، كما فعل ذلك فى جميع الشوارع المستجدة بالمدينة وضواحيها بشركة

ص: 142

من الافرنج أيضا بعمل وابور الماء الذى عم جميع جهات المدينة حتى تمتعت الأهالى بماء النيل بلا كبير ثمن ولا مشقة.

وكل ذلك غير الأعمال الجسيمة التى أجريت فى جهات القطر مثل ما تجدد بالإسكندرية، مما بيناه فى الكلام عليها، وما تجدد بالسويس من عمل المينا والحوض والمحافظة وشركة الماء، وما رسم فى المديريات من عمل الدواوين والجسور والقناطر والترع، التى من أعظمها ترعة الإبراهيمية وترعة الإسماعيلية، التى حفرت بالمقاولة.

فهذه الأعمال جميعها أو أكثرها كنت أباشر أوامرها من رسومات وشروط مع المقاولين ونحو ذلك ضرورة تعلقها بديوان الأشغال. فكنت فى مدة إحالة هذه الدواوين علىّ مشغولا بالمصالح الميرية وتنفيذ الأغراض الخديوية ليلا ونهارا، حتى لا أرى وقتا التفت فيه لأحوالى الخاصة بى، ولا أدخل بيتى إلا ليلا، بل كنت أفكر فى الليل فيما يفعل بالنهار ولا سيما وأعمال القنال المالح كانت قد تمت، وكان الخديوى قد صمم لتمامها على عمل مهرجان، ودعا لذلك كثيرا من ملوك أوروبا وسلاطينها وعظمائها، وهذه الحالة تستدعى استعداد السكك الحديد وعرباتها وتهيئة المدينة لدخولهم، فكنت مع النظر فى أحوال تلك الدواوين مشغول الفكر دائم السفر فى مصالح هؤلاء المدعوين إلى أن انقضى جميع ذلك على أحسن حال، وأحسن إلينا من طرف الخديوى بالنيشان المجيدى من الرتبة الأولى، وأهدى إلينا من طرف قرال النيمسا نيشان (غرانقوردون)، ومن طرف قرال فرنسا نيشان (كماندور)، ومن دولة البروسيا نيشان (غرانقوردون) وغير ذلك من النياشين.

وقد بقيت تلك المصالح تحت يدى إلى رمضان/سنة ثمان وثمانين، ثم انفصلت عن ديوان السكة، ثم عن المدارس والأشغال بعد أيام قلائل، ثم عن الأوقاف بعد مضى قليل من شوّال من تلك السنة، وكانت أسباب الانفصال أن ناظر المالية إذ ذاك وهو المرحوم إسماعيل باشا صديق كان قد رغب أن يضم إيراد السكة الحديدية إلى المالية، وحصل الكلام بيننا فى ذلك، فقلت له: لا مانع وإنما يكون الصرف على السكة الحديدية تابعا للمالية حينئذ، ولا أكون مسئولا إلا بمجرد إدارتها بشرط أن يصدر أمر الخديوى

ص: 143

بذلك حتى لا يعود علىّ سؤال فيما عساه أن يحصل من الضرر، فلم يوافق ذلك أغراضه ورمى فىّ بمارمى فترتب عليه ما ترتب، لكنى لم أقم فى بيتى إلا نحو شهرين ثم صدرت الأوامر الخديوية فى يوم عيد الأضحى بجعلى ناظرا على ديوان المكاتب الأهلية، وأمرت بتنظيم ديوانها وعمل رسومات لتجديد مكاتب فى مدن الأرياف وبلادها، كل على حسبه وما يناسبه لعلم الخديوى أن مكاتب الأرياف غير مستوفية لدواعى الصحة ولا لشروط النجاح فى التعليم، فرسمت ذلك وألحقت به تقريرا لبيان ما يلزم اتباعه فى جميع المكاتب بحسب الأهمية، وكان الغرض عمل أنموذج فى كل جهة ليجرى البناء على مثله، لكن عرضت عوارض أخرت ذلك.

وفى شهر ربيع الأول من سنة تسع وثمانين أحيل علىّ نظر الأوقاف ثانيا، وبعد قليل أحيل علىّ نظر ديوان الأشغال، فلم يمض إلا يسير، وتحوّلت نظارة هذه الدواوين على نجل الخديوى إسماعيل باشا دولتلو حسين كامل باشا، فبقيت بمعيته بوظيفة مستشار. وفى جمادى الآخرة سنة تسعين انفصل ديوان الأشغال بنفسه تحت رياسة المشار إليه وجعلت وكيله، وفى شهر شعبان من هذه السنة جعلت عضوا فى المجلس الخصوصى، وبعد قليل انفصلت عن الخصوصى بسبب ما ألقاه إليه الواشون كاسماعيل باشا صديق وأضرابه من أن كتابنا (نخبة الفكر) الذى أمرنى بتأليفه فيما يتعلق بأمر النيل مشتمل على ذم الحكومة الخديوية وتقبيح سياستها، فأقمت فى بيتى مع جريان الماهية علىّ من المالية.

ثم فى شهر صفر سنة إحدى وتسعين، جعلت رئيس أشغال الهندسة بديوان الأشغال مذ كان هذا الديوان ملحقا بديوان الجهادية تحت نظارة دولتلو حسين باشا المشار إليه، ولما انفصل ديوان الأشغال من ديوانه الجهادية ألحق بديوان الداخلية تحت نظارة نجله الأكرم الأكبر الجناب التوفيقى الخديوى الأفخر. وكان إذ ذاك ولىّ عهد الحكومة الخديوية المصرية.

ص: 144

وفى سنة اثنتين وتسعين، جعلت مستشارا بمعيته فى ديوان الأشغال، وفى شهر ذى القعدة من تلك السنة انفصل ديوان الأشغال بنفسه تحت نظارة دولتلو إبراهيم باشا نجل المرحوم أحمد باشا، فبقيت بمعيته مستشارا بهذا الديوان، وفى بكرة يوم الأضحى من سنة ثلاث وتسعين غدوت لملاقاة الخديوى إسماعيل باشا وتهنئته بالعيد الجديد على حسب العادة وكان بسراى عابدين، وقد اجتمعت هناك جميع الأمراء والأعيان والمشايخ وأرباب التشريفات لتهنئته وتهنئة أنجاله على حسب العادة، فقابلناه إثر صلاة العيد وهنأناه فأكرمنى إكراما زائدا، وأنعم علىّ بنيشان مجيدى (غرانقوردون).

وبقيت على هذا الحال إلى أن ظهر فى سنة 1876 ميلادية قصور الحكومة عن أداء ما عليها لكثرة ما أصدرته من البونات وما أثقل كاهلها من الديون ذات الأرباح الكثيرة، حتى أدّى ذلك إلى الحجز على أغلب أملاكها وإلى تداخل الدول الأجنبية فى أمورها، وآل الأمر إلى تعيين لجنة من معتمدى الأجانب ذوى خبرة للنظر فى المالية وفروعها، وجعل فى هذه اللجنة دولتلو رياض باشا من طرف الحكومة المصرية، فكان هو الذى عليه المعول فى معرفة الحقائق، وتم الأمر بتقرير هيئة للحكومة على أسلوب جديد، فترتبت فى سنة 1877 ميلادية هيئة نظارة يرأسها دولتلو نوبار باشا فكنت من رجالها على ديوانى الأوقاف والمعارف وصدر الدكريتو من لدن الحضرة الخديوية من منطوقه. «أنى أريد عوضا عن الانفراد المتخذ الآن طريقا فى الحكومة المصرية، أن تكون لهذه الهيئة إدارة عامة على المصالح، بمعنى أنى أروم القيام بالأمر من الآن فصاعدا بالاستعانة بمجلس النظار، والاشتراك معهم فى تسيير المصالح، وأن يكون أعضاء مجلس النظار كل منهم كفيلا بالآخر، يتفاوضون فى جميع المهمات ويتداولون الرأى فيها ويقررون ما تستقر عليه أغلبية الآراء، وتصدر قرارات المجلس على حسب الأغلبية وأقررها بالتصديق عليها، ثم ينفذها النظار» . فجرى العمل بذلك وأخذت هيئة النظارة فى إدارة المصالح على هذا النمط، وشرعت فى تسديد الديون من إيراد البلاد ومن قرضة استدانتها من بنك (روتشلد بلوندره) وهى ثمانية ملايين ونصف مليون من الجنيه الانجليزى، ورهنت فى ذلك أملاك العائلة الخديوية من أراض زراعية وغيرها بعد تنازلهم

ص: 145

عنها للحكومة، وكان مبلغ/ايرادها سنويا أربعمائة ألف وستة وعشرين ألف جنيه انجليزى، وجعلت لإدارة تلك الأملاك مصلحة مستقلة عرفت بمصلحة الدومين.

وفى تلك المدة صرفت ما فى وسعى فى توسيع دائرة المعارف فشرعت فى بناء بعض المدارس كمدرسة طنتدا ومدرسة المنصورة، وفى تكثير عدد المكاتب وترتيب المدرسين وما يلزم للتعليم من أدوات وكتب، واعتنيت بأمر الأوقاف ونشرت المعاونين للكشف عن الأماكن وبيان المتخرب منها والعامر، وما يناسب استبداله وتجديده على حسب ما يعود بالمصلحة على الأوقاف وبيان الأصقاع ونحو ذلك، وكان أكثر مكاتبها متعطلا ما بين دارس وفاقد ثمرة التعليم لعدم لياقة المعلمين للتعليم، فوجهت الهمة نحوها حتى ظهرت بالتدريج النتيجة للمتعلمين وأهليهم.

ولما تمت دفاتر الأماكن والمكاتب التى بالمدن والقرى أخذت فى انجاز مقتضياتها على حسب نصوص وقفياتها مراعيا فى ذلك ما فيه المصلحة وما يقره المفتى، وكانت هيئة النظارة مساعدة للمعارف والأشغال العمومية وكل ما فيه التقدم.

وقد اهتمت بتنظيم أمر الإيراد والمصرف، وأبطلت من المغارم ما يبلغ نحو مليونين من الجنيهات، ولكن ألجأتها ضرورة الأقتصاد إلى إلغاء بعض المصالح وقطع المرتبات الجارية على غير قانون كالانعامات ومرتبات الإشرافات، وتنزيل عدد الجيش العسكرى إلى القدر الكافى لاحتياجات البلاد، وبذلك أحيل كثير من ضباط العسكرية على المعاش فأساءت من هذه الإجراءات ونحوها كثير من الناس، سيما ضباط العسكر، وحصل اللغط بذم الهيئة والتنديد على أعمالها وكثر القال والقيل، حتى تجمع كثير من ضباط العسكر حول المالية يطلبون متأخراتهم، وجرت منهم أمور جاوزت حد الأدب فتسوشت الأفكار داخل القطر وخارجه، واضطربت الأحوال، ولم يزل الاضطراب يتزايد حتى جعل وسيلة للقول بعدم موافقة هيئة النظارة لحال البلد وانبنى على ذلك سقوطها.

وفى 18 من إبريل سنة 1879 ميلادية صدر الأمر العالى لشريف باشا بترتيب هيئة نظارة تحت رياسته تنتخب من الوطنيين، فرتبها وعملت لائحة لسداد الدين عرفت

ص: 146

باللائحة الوطنية جعلت أكثره فائدة لأصحاب الدين استمالة لهم، فلم تنجح المقاصد وكتب القناصل بذلك إلى دولهم فلم يرتضوه، وانتهى الحال بسقوط تلك النظارة.

وفى 27 يولية 1879 صدر الأمر السلطانى بانفصال الخديوى إسماعيل باشا عن سند الحكومة المصرية، وأن يتولاها أكبر أنجاله الفخام ولىّ عهد الحكومة المصرية يومئذ، الخديوى المعظم المبجل أفندينا محمد باشا توفيق الأول، أبقاه الله تعالى موفقا للخير والسداد، وسعادة البلاد والعباد، فأخذ أيده الله بزمام الأحكام، وقام بالأمر أتم القيام.

وفى سنة 1880 صدر أمره الكريم إلى سعادة دولتلو رياض باشا بتشكيل نظارة تحت رياسته مقلدا هو نظارة الداخلية، فكنت من رجال تلك الهيئة مقلدا بنظارة الأشغال العمومية، وكان إذ ذاك فى الحكومة اثنان من طرفى دولتى فرنسا والانجليز يراقبان أمور المالية وهما (موسيو دوبلنيير) الفرنساوى (والمسيو نارنج) الانجليزى فجعل لهما الحق فى حضور جلسات هيئة النظارة، وشرعت النظارة فى إدارة المصالح وسن القوانين العادلة وجعل الأموال الميرية على أقساط مقررة وأوسعت فى معاش المستخدمين وفى عددهم بما يلائم كل مصلحة. واهتمت بكل ما فيه التقدم كأمر التربية ومصالح الأشغال حتى بلغت ميزانية ديوان المعارف ضعف ما كانت عليه، وبعد أن كان ديوان الأشغال قلما يضاف تارة إلى ديوان الداخلية وتارة إلى غيره وكانت جميع الأعمال ما عدا المقايسات يجريها المفتشون والمديريون ونحوهم فيعملون برجال العونة مبانى وترعا ومساقى على أغراضهم الخاصة بلا فائدة عامة حتى كثرت الخلجان وضاعت بسببها مزارع كثيرة وضاعت المصارف التى عليها مدار إصلاح الأرض، فبعد ذلك صار ديوانا مستقلا ملحوظا بعين العناية وبلغت ميزانيته ستمائة ألف جنيه حيث أنه الأساس الأعظم للثروة، فحينئذ تمكنت من اجراء ما يلزم اجراؤه لتحصيل المنافع العمومية، وقسمت أعمال الديوان ثلاثة أقسام، قسم للتحريرات والمحاسبة، وقسم لعمل التصميمات لما يلزم تجديده من الأعمال ويتبعه فرقة مهندسين لعمل الرسومات والموازين، وقسم يختص بأعمال القاهرة ونحوها

ص: 147

من مدن القطر، وذلك غير الملحقات مثل قلم الزراعة وقلم المصلح ومصلحة الإنجرارية وقلم القضاء، وقسمت مصلحة الهندسة خمسة أقسام لكل قسم مفتش، وجعلت جميع أعمال الهندسة تحت إدارة وكيل الديوان. وانتشر المهندسون فى جميع أنحاء القطر لمعاينة ما به من مبان وترع وقناطر وغيرها، فحرروا الدفاتر بالموجود من ذك وما يلزم تجديده أو رمّه فى كل مديرية، وأخذ الديوان فى إجراء الأعمال مقدما الأهم فالأهم.

ولموافقة حال المالية والأهالى قسمت الأعمال على عدة سنين/فحصل رم كثير من القناطر والبرابخ وتقويتها بوضع الدبش أمامها فى الحفر التى يخلفها هدير الماء، وأحضرت الأخشاب اللازمة لتقفيل القناطر عند الاقتضاء، وجددت جملة من المبانى والقناطر النافعة، منها بمديرية الشرقية قنطرة الزوامل على ترعة الإسماعيلية، وقنطرة الشرقاوية على النيل، والبولاقية وقنطرة أشمون وقنطرة كفر الحمام، وهويسات الإسماعيلية ورصيف السويس، وبلغ مصرف ذلك نحو اثنين وثلاثين ألف جنيه، غير برابخ وقناطر أنشئ بعضها على ذمة الحكومة وبعضها على ذمة المنتفعين، وأجريت عمارات فى المحافظات والمديريات صرف عليها نحو خمسين ألف جنيه، وصار الابتداء فى بناء سلخانة القاهرة، واسبتالية قصر العينى، ومدرسة الطب، وصارت المعاقدة مع مصلحة توزيع المياه بالقاهرة على إنشاء وابور يوصل الماء إلى مدينة حلوان وكانت مفتقرة إلى ذلك، ونظمت الحمامات التى بها ورتبت لها المهمات اللازمة، وجعل لها حكيم ومأمور، وزيد فى القاهرة عدد فوانيس الغاز وصار تنظيم بعض شوارعها وفرشها بالزلط، وعملت عدة مجارير فى الشوارع المهمة لأخذ مياه الأمطار وأوصل الماء إلى طريق الجيزة والجزيرة للرش وسقى الأشجار، ونظم طريق شبرى وبنى بآخرها رصيف طوله نحو مائتين وخمسين مترا، وجدد بالقاهرة ميادين وفساق، وأنشئت جنينة الأنطكخانة ببولاق، وبنى بالإسكندرية سراى البوسطة.

وجعلت التصرف فى أمر الرى للمهندسين خاصة فجعلوا لفتح القناطر وسدها أوقاتا بحسب الحاجة العمومية، ومنع ما كان يحصل من الفتح والسد على حسب

ص: 148

الأغراض الخاصة، ولم تزل الرغبة فى تركيب الوابورات على البحار والترع آخذة فى الزيادة، وكثرت الوابورات جدا حتى بلغ عدد المركب منها فى الجهات البحرية ألفين وواحد وثمانين وابورا قوتها أربعة وعشرون ألفا وخمسمائة وواحد وثمانون حصانا بخاريا، منها الثابت على النيل مائة وخمسة وأربعون فى قوة أربعة آلاف وسبعمائة وواحد وثمانين حصانا، وعلى الخلجان مائتان وواحد فى قوة ثلاثة آلاف وثمانمائة وتسعة وستين حصانا، وغير الثابت على النيل مائتان وستة وعشرون وابورا فى قوة ألفين ومائتين وسبعة، وعلى الخلجان ألف وخمسمائة وابور وتسعة فى قوة ثلاثة عشر ألفا وسبعمائة وثمانية وتسعين حصانا. ولم تنته الرغبة إلى هذا الحد بل كثر طلب الرخص لتركيب وابورات مستجدة.

وإلى غاية سنة 80 لم يكن قانون لتركيب تلك الوابورات، وترتب على كثرتها حرمان كثير من الأهالى من الانتفاع بمياه تلك الترع سيما مع استحواذ أصحاب النفوذ على ترع لوابوراتهم إما لسقى زروعهم أو لبيع الماء لزرع غيرهم، وكثر التشكى من ذلك فصار البحث فى هذه المسئلة لرفع تلك المظالم وعملت لائحة بخصوص الآلات الرافعة للماء امتنع بها الضرر وهى المستعملة إلى الآن وبها انتظم أمر الرى، وبلغ مقدار الماء بمديرية القليوبية فى أعظم التحاريق نحو ثمانمائة ألف متر مكعب فى اليوم والليلة، منها من الترع خاصة بعد توسعة الباسوسية ستمائة ألف متر، وفى مديرية الشرقية ثلاثة ملايين ونصف، وفى الدقهلية نحو أربعة ملايين، وفى الغربية والمنوفية نحو ثمانية ملايين كل ذلك بعد تقفيل قناطر بحر الغرب وتحويل الماء إلى بحر الشرق.

وقد صار الاهتمام بتطهير الترع والخلجان بطريقة لا تمنع من سقى المزروعات بأن منع سد أفواه الترع عند التطهير وجعل ابتداؤه من آخر كل ترعة بعد تقسيمها، وحوّل كثير من ترع الوجه البحرى من نيلى إلى صيفى فتمكنت بلادها من الزراعة الصيفية، وعملت فى الأقاليم القبلية ترع وجسور لرى الجزائر وأعالى الحيضان، وصار الاهتمام الزائد بأمر بلاد الفيوم وكان أكثرها قد تعطلت زراعتها لأن أحداث الجفلك هناك غير نظام الرى القديم، وتبدل أكثر النصب القديمة المعدة لتقسيم الماء على البلاد، فأحييت

ص: 149

النصب القديمة، وعدلت الترع والمساقى ووجه إليها ما يلزم من ماء الإبراهيمية فزرع هناك نحو خمسة عشر ألف فدان صيفية وصارت أرضها رواتب، وقل بها استعمال السواقى.

ولما كانت الإبراهيمية قد قطعت ترع بلاد المنية وحرمت أراضيها من الطمى الذى عليه مدار الخصوبة صار الاعتناء بهذه المسألة واستعملت الإبراهيمية فى ملء الحيضان وتكملتها مع ما يرد إليها من اليوسفى، فحييت أرضها وأخصبت، وزرع الأهالى بها نحو ثلاثة آلاف فدان من القصب الحلو، بعد أن كان هذا الصنف والإبراهيمية مختصين بالدائرة السنية، وزادت زراعة الذرة أضعاف ما كانت عليه، وعملت فى المديريات قناطر وبرابخ كثيرة ما بين تجديد ورم، وبلغت أعمال الحفر فى تلك السنة ما بين تجديد وتطهير اثنين وثلاثين مليونا ونصف مليون متر مكعب فى مائة وثلاثة وخمسين يوما، وخص الشخص فى اليوم متر وتسعة أعشار متر وهو أكبر مما كان يعمل فى اليوم قبل ذلك بسبب أن الأعمال مشت/على قانون منتظم، مع أن الأنفار الذين خصصوا على البلاد كانوا أقل من المخصص عليها فى السابق بنحو عشرة آلاف نفس، وبلغ ما عمل فى السنة نصف ما قرر عمله فيها مع كثرة ما قرر بخلاف ما كان يعمل قبل، فإنه كان لا يتجاوز خمسى ما كان يقرر عمله فى السنة وكان المؤمل زيادة انتظام العمل فى المستقبل.

ومما أوجب تخفيف العمل لائحة العونة التى ندب لها جملة من أعيان البلاد والحكام، وهى المتبعة إلى الآن، من مقتضاها جعل العونة على كل من له قدرة على العمل مع الترخيص فى التخلص منها بدفع البدل، فتخلص من العمل ثمانية وخمسون ألف نفس، وتحصل منها فى السنة نحو ستة وثلاثين ألف جنيه وكان كل سنة يزيد.

وتحسنت حالة الرى وكل ما يتحصل يصرف فى أعمال لازمة، وكان تطهير رياح البحيرة سابقا يستعمل فيه نحو عشرين ألف نفس تجمع من سائر مديريات الوجه البحرى لقلة أنفار مديرية البحيرة، ومع ما فى ذلك من الظلم والإجحاف كان لا يتحصل منه إلا على ثمانمائة ألف متر مكعب من الماء فى اليوم والليلة، وكان المتحصل من وابورات العطف مثل ذلك بمصاريف باهظة والمتحصل من الجهتين كان غير كاف لزرع نصف ما يلزم زرعه

ص: 150

بهذه المديرية الواسعة مع أن المنصرف على ذلك سنويا نحو اثنين وعشرين ألف جنيه، فلما رأينا ما عليه زراعة المديرية من الانحطاط والتأخر قدمنا لمجلس النظار مشروعا عن تركب وابورات بفم الخطاطبة وتحسين وابورات المحمودية لتخليص المديرية من هذا الضرر، وأنه وجد لهذا المشروع من يجريه وهو (المسيو داستون) المهندس وشركاؤه، فبعد المذاكرة صار قبول هذا المشروع فصار التعاقد مع المهندس المذكور وشركائه على تجديد وابورات على فم ترعة الخطاطبة يتحصل منها يوميا مليون ونصف مليون متر مكعب من الماء، وأن يزاد على وابورات العطف ما يلزم زيادته وما يلزم استعداده من القديم ليتحصل على إيراد مليون ونصف آخر، وعملت الشروط اللازمة ومن ضمنها إتمام العمل فى سنة واحدة، وأن لا يزيد المنصرف فى السنة عن أربعة وعشرين ألفا وسبعمائة وسبعة وثمانين جنيها، وقدر فى العطف ثمن المليون أربعة وعشرون جنيها، وفى ترعة الخطاطبة خمسة وعشرون ونصفا. فقامت تلك الشركة بذلك وبطلت السخرة وقل الاحتياج إلى التطهير، وكانت الحكومة سابقا تكلف أرطة عسكرية بإحضار الدبش اللازم للمحافظة على جسور النيل، فرأى ديوان الأشغال كثرة ما يصرف على ذلك فأبطل تلك الطريق وجعل توريد الدبش الكافى فى عهدة جماعة بشروط عقدها معهم، وعمل للتسليم والتسلم استمارة وعين لهذه المصلحة مأمورين من المهندسين فسارت سيرا حسنا، وبلغ مقدار ما أحضر إلى الجهات فى سنة 80، مليونا وأربعمائة قنطار، بمبلغ ثلثمائة وخمسة عشر ألف قرش، باعتبار ثمن القنطار تسعة أنصاف فضة، مع أن الذى استخرجته الأرطة وغيرها فى سنة 79، كان مائة واثنين وخمسين ألفا وأربعمائة قنطار بمبلغ ثلثمائة وأربعة وخمسين ألفا وثمانمائة وخمسة عشر قرشا، فانظر إلى الوفر البين مع التسهيل على الناس فضلا عن الحصول على دبش عظيم جيد.

وهكذا كانت جميع الأعمال قائمة على قدم السداد، وكانت هيئة النظارة سائرة فى الطريق الجادة ناشرة ألوية العدل والتسوية بين القوىّ والضعيف، والرفيع والوضيع فاستوجب ذلك إثارة الحقد فى صدور أرباب الأعراض، فتقولوا على هذه الهيئة وطعنوا فيها، واختلط كثير منهم بضباط العسكرية فأوغروا صدورهم وألقوا فى آذانهم أنهم

ص: 151

الأحق بتعديل القوانين والتصرف فى الحكومة. حيث أنهم أهل الوطن وأصحاب القوة وحسنوا لهم ما صنع بعضهم من الثورة السابقة التى لم يعاقبوا عليها فتعصبوا وتمكن منهم الغرور، وكان رئيسهم أحمد عرابى أحد أمراء الآلايات، وقتئذ، فاستمال سائرهم وعاقدهم على مضادة الحكومة، وتقدم من رؤسائهم لمجلس النظار عرضحال يطلبون فيه تغيير ناظر الجهادية عثمان باشا رفقى وتشكيل مجلس نواب وغير ذلك مما يخرج عن حدود وظائفهم، فانعقد لذلك مجلس النظار تحت رياسة الجناب الخديوى الأفخم، وانحط الرأى على عقد مجلس من الأهليين وبعض أمراء العسكرية للنظر فى أمرهم، والحكم فيهم بما تقتضيه قوانين الجهادية، وتعهد ناظر الجهادية بأن لا ينجم عن ذلك خطر ولا ضرر، فانعقد ذلك المجلس بقصر النيل وجلبوا إليه لمحاكمتهم، فقام جمع من الضباط والعساكر وهجموا على قصر النيل، وأهانوا من بالمجلس وأخذوا العرابى ومن معه بالقوة على حسب عهد كان بينهم، فكان ذلك أول التظاهر بالعصيان والخروج عن طاعة الحكومة، وشاعت هذه النازلة حتى وصل خبرها إلى البلاد الأجنبية، فجمع الخديوى الأعظم النظار وأعيان الأمراء وتفاوضوا فى إطفاء هذه الفتنة، فتقرر تغيير ناظر الجهادية وإجابة العسكر إلى مطلوبهم، والإغضاء عما حصل منهم لما تبين من عدم/وجود قوة تحت يد الحكومة تردّ جماحهم، فلم ينقطع الشرّ بل تمادوا على العصيان، وجملهم الخوف على أنفسهم على شدة النفور وعدم قبول النصيحة، وطمعوا فى أن يكونوا أصحاب الحل والعقد فى الحكومة، وتأكد التحالف بينهم حتى بلغ بهم الأمر إلى أن هجموا على سراى عابدين، ووجهوا إليها المدافع، وطلبوا سقوط هيئة النظارة وترتيب مجلس النوّاب وزيادة عدد الجند إلى ثمانية عشر ألف عسكرى، فحضر القناصل وأوصلوا الأمر إلى دولهم بواسطة التلغراف، وبعد المخابرات أجيب العسكر إلى مطلوبهم وغيرت هيئة النظارة وصدر الأمر الخديوى إلى المرحوم شريف باشا بتشكيل هيئة تحت رياسته فشكلها، وعقد مجلس النوّاب فشرع رجال المجلس فى تقرير لائحته الأساسية، وبعد قليل طلبوا أن يكون لهم الحق فى نظر ميزانية الحكومة بشرط عدم الخروج عن المعاهدات الدولية وقانون التصفية، فلم يجبهم المرحوم شريف باشا إلى ذلك فأصروا على الطلب

ص: 152

وظاهرهم العسكر، فاستعفى المرحوم شريف باشا وتغيرت هيئة النظارة، وتشكلت هيئة جديدة تحت رياسة محمود باشا البارودى، وجعل من رجالها أحمد عرابى على الجهادية والبحرية فلم تخمد بذلك نيران الفتن بل اشتعلت، وانضم إلى الطائفة العرابية الخوارج، كثير من أهل البلاد وأعيانها ما بين راغب وراهب.

وفى أثناء ذلك أتى إلى ميناء الإسكندرية مراكب حربية إنجليزية وفرنساوية وغيرها لتقرير الأمن واطفاء الفتنة، وحضر إلى مصر درويش باشا مندوبا من طرف الدولة العلية لتسكين الفتنة فلم تحصل النتيجة، وقام الخديوى الأفخم إلى الإسكندرية ولحقه درويش باشا، وتداولت المخاطبات بين الدول وبينها وبين الباب العالى، وتقرر عقد لجنة بالإستانة العلية للنظر فى هذه الحادثة، وفى أثناء ذلك أطلقت على الإسكندرية المدافع من المراكب الانجليزية وقاومت العساكر المصرية سويعات ثم انهزموا، وخرجوا من الإسكندرية بعد اشعالهم النار فيها، وحثوا أهلها على الخروج فخرجوا هائمين على وجوههم كيوم المحشر وتفرقوا فى البلاد، وحصل لهم من السلب والنهب وهتك الحريم ما يكل القلم عن حصره، ودخل الإنجليز الثغر ونحصن العرابى ومن معه بطواب عملوها من تراب بكفر الدوار، وسدوا المحمودية ليمنعوا وصول الماء إلى الإسكندرية وكثر الممدون لهم بالأنفس والأموال ما بين راغب وراهب، وعم الخوف كل من لم يتشيع لهم وامتلأت الطوبخانة ممن تظاهر بمخالفتهم. وفى خلال تلك الأحوال كان قد تشكل بالقاهرة مجلس عرفى بأمر العرابى للنظر فى المصالح، وكثيرا ما عقدوا مجالس للنظر فى مسائل تعرض من طرف العرابى وحزبه، وفى آخر مرة عقد مجلس بديوان الداخلية بالقاهرة ندب إليه كثير من الأمراء والعلماء والروحانيين وأعيان البلد، وكنت قد حضرت من بلدى لقضاء بعض المصالح فكنت ممن ندب إليه فعينت سفيرا إلى الإسكندرية مع جماعة من الوطنيين، فلما وصلنا إلى الإسكندرية تكلمت فى عمل طريقة لما يوجب خمود نيران هذه الفتنة، فأجاب الجناب الخديوى وصارت المكالمة فى هذا الشأن مع رؤساء الإنجليز، لكن لم ينجح ذلك لمزيد نفرة العسكرية، ولما خاف العرابى أن يتحوّل الإنجليز إلى جهة برزخ السويس تحول بأكثر عسكره إلى التل الكبير بالشرقية فتحصنوا هناك ووقع بينهم

ص: 153

وبين الإنجليز مناوشات انتهت بانهزام عرابى وقومه، وسار الإنجليز إلى القاهرة وأسلم العرابى نفسه وقبض على من كان معه ومن اتهم بالتشيع له وسجن الجميع فى أضيق السجون.

وبعد أن حضر الخديوى الأفخم إلى القاهرة، وهدأت الأمور عينت لجنة للتحقيق وأخرى للحكم على كل بقدر جنايته، وتم الأمر بعقوبة البعض والعفو عن البعض، وتبرئة البعض ولله عاقبة الأمور.

وأثر انهزام العرابيين تشكلت نظارة تحت رياسة المرحوم شريف باشا فى سنة 1883 ميلادية فكنت من أعضائها على ديوان الأشغال العمومية، فوجهت النظر نحو إتمام ما تقرر فى المدة السابقة. وفى هذا العام، أعنى سنة 1883 ميلادية، نلت من لدن الحضرة الفخيمة الخديوية التوفيقية رتبة (روملى بيكلر بيك)، وفيها أيضا كانت وابورات الخطاطبة غير كافية لاحتياجات أراضى المديرية، فحصل تنقيح الشروط التى كانت قد عملت مع (مسيو داستون) على تجديد وابورات بفم ترعة الخطاطبة ولزيادة مقدار الماء إلى نحو خمسة ملايين متر مكعب بعد أن كان الوارد ثلاثة ملايين، واتخذ الديوان طريق المقاولة فى المبانى على الأطلاق، ورتب لمراقبة ذلك من يلزم من المهندسين لئلا تخرج الأعمال عما فى التعهدات، وجعل لذلك استمارة يجرى العمل عليها، ثم أخذ فى نقل جسور الترع الأصلية كى لا تنهال الأتربة فيها وليتمكن من تكرار العمل.

ولكثرة العمل صار تقسيمه على سنين وجعل بعضه يعمل بالمقاولات على وجه التجربة والبعض يعمل بأنفار العونة، ثم وجهت الهمة/نحو مرمة عمارات جميع المديريات وتجديد ما هو لازم، ورتبت كراكات المحمودية لاستدامة قطاعها وصار مد الترعة الإبراهيمية لسقى زرع مديرية بنى سويف، وترتيب كراكات الإبراهيمية، وبنيت الورشة لترميم الآلات وتجديد ما يلزم ورتب لها ما يلزم من الأدوات والصناع، وصرف على تطهيرها فى هذه السنة، نحو سبعة وعشرين آلف جنيه، وبلغ إيرادها فى أشد التحاريق نحوا من أربعة ملايين متر مكعب من الماء، ومثل ذلك صار فى ترعة الإسماعيلية وصرف

ص: 154

عليها نحو أربعة وعشرين ألف جنيه، وكان بحر مويس يقل به الماء فى زمن الصيف لكثرة الرمال بفمه وحدوث الجزائر به وأمامه ولا ينفعه التطهير الجارى به كل سنة. فرتبت به كراكة بأدواتها وعمالها، فزالت منه الرمال وكثر الماء فيه وفى فروعه.

واستقر الحال على استعمال الكراكات فى الأبحر الكبيرة كالشرقاوية والمنصورية ورياح الوسط ورياح المنوفية والغربية، وأن يكون ذلك على التدريج، وبذلك تخف التطهيرات الصيفية عن كاهل الأهالى وما يتحصل من البدلية ربما يوازى ما يصرف على الكراكات ولوازمها مع كثرة فوائد الكراكات جدا عن عمل الأنفار، وأجريت فى تلك السنة أعمال متنوعة فيما يخص التطهيرات والمحافظة على كبرى قصر النيل وسد بوقير، وأنشئ بالشرقية مدرسة الزقازيق وديوان المديرية وملحقاته.

وفى القاهرة جرى تبليط شوارع ومرمة أخرى، وإنشاء مجارير ومرمات مبان وترتيب فوانيس غاز على حسب الحاجة، وصار مشترى هراس بخارى وكناسات تجرها البهائم، وتنظيم جنات وميادين. وبلغ مصرف أعمال القاهرة فى تلك السنة نحو خمسة وسبعين ألف جنيه.

وكذا جرت عمائر وأعمال متنوعة بمدينة الإسكندرية، وفى الأقاليم البحرية والقبلية.

ففى مديرية الدقهلية قنطرة ترعة الساحل وكبرى معدنى على ترعة أم سلمة.

وصار الشروع فى جعل ترعة الإيراد فى البحر الصغير مصرفا لإحياء أراضى البحر الصغير، وترعة مستجدة بين أطيان الدراكسة وميت سويد وحوشة ببحيرة الطبلية.

وفى الغربية صار الشروع فى عمل كبرى مدينة المحلة وقنطرة بسيون، وحولت ترعة سليم الآخذة من الخضراوية من نيلية إلى صيفية.

ص: 155

وفى المنوفية كملت قناطر النعناعية، وحوّلت ترعة الحمراء من نيلية إلى صيفية، ونقلت جسور ترعة الساحل.

وفى البحيرة عملت حوشة جديدة على جزيرة الطيرية وتحويلة لجسر النيل بناحية النجيلة، وأخرى وقاية من بتبيت ناحية الأخماس.

وفى القليوبية نقلت جسور ترعة كوم بتين وعملت مساطيح لترعتى القرطامية وأبى المنجى.

وفى مديرية بنى سويف بنيت القناطر السبعة فى جسر قشيشة وسحارات تحت بعض الترع لنفوذ المياه الحمراء إلى الحيضان، وقناطر أخرى فى الجسور للصرف، وعملت قنطرة بالحوض السلطانى.

وفى الفيوم قناطر بحر الغرق، وسد فم بحر النزلة القديم وعملت به تحويلة لإيصاله بالبحر الأصلى.

وفى مديرية المنية عملت قناطر بالحيضان كحوض الطهنشاوى وحوض الجرنوس، وكذا عمل فى مديريتى جرجا وقنا.

وإلى ذاك الوقت لم يكن بالمديريات محلات كافية لدواوين الإدارة والقضاء والضبط ونحو ذلك، وكان الموجود منها مبنيا بالطوب النئ أو الدبش على غير نظام، وكانت الحبوس حواصل مظلمة لا يدخلها النور إلا قليلا، وكان أصحاب الجرائم على اختلاف جرائمهم يخزنون فيها كالأمتعة وداخلها يختنق بمجرد استنشاق هوائها، ففطنت الحكومة الخديوية لذلك، وصدر الأمر بإنشائها. فعمل ديوان الأشغال التصميمات اللازمة، وشرع فى بنائها على التدريج فبدأ بديوانى مديرية الشرقية والمنوفية، وكذا لم يكن بالمديريات اسبتاليات داعية إلى الصحة بل كان بعضها محل ورشة ونحوها، وأكثرها متهدم والسليم منها كمربط البهائم، فعملت تصميمات لتلك الأعمال على حسب أهمية

ص: 156

كل مديرية بالكبر أو الصغر، وتدرجت الأعمال على السنين فعملت اسبتاليتا المنصورة والغربية فى تلك السنة، وكذا الذبح كان فى الفضاء وجاريا على غير قانون، ومنافع الحكومة منه قليلة، فبنى مذبح المنصورة والغربية، وجعلت تلك المبانى أنموذجا لما يبنى فى سائر المديريات، وبنيت جملة شون للمصلح وقرقولات للعساكر وغير ذلك مما لا يسع المقام شرحه.

ولنذكر هنا بعض ملخص التقرير الذى عمل إذ ذاك بديوان الأشغال، وقدم لمجلس النظار بخصوص الرىّ واستيفاء أعمال سقى الزراعة الصيفية فى زمن التحاريق وإزالة صعوبة أعمال التطهير عن كاهل الأهالى، واتساع نطاق الزراعة والمحصولات، فمن أهم ذلك إتمام ما يلزم لعملية ترعتى الرمادى والإبراهيمية وترعة أخرى مهمة فى الأقاليم القبلية لإزالة غوائل الشراقى الذى بتوقع حصوله فى بعض السنين فإن ما يصرف فى أعمال تلك الترع أو فى ترتيب وابورات لتكميل رى الحيضان المرتفعة، ولو كان كثيرا فى نفسه لكنه قليل جدا فى جنب ما تخسره الأهالى والحكومة/عند حصول الشراقى. فقد كانت خسارة الحكومة وحدها سنة 1877 ميلادية عندما كان النيل أقل من 17 ذراعا وهبط بسرعة، أكثر من مليون جنيه، ولا بد أن الأهالى كانوا بمثل ذلك أو أكثر فضلا عما قاسوه من الضنك والموت. وكثيرا ما يكون النيل أقل من اللازم فتتكرر الخسائر، فمن الضرورى تدارك ذلك بإجراء تلك الأعمال للأمن على الأموال والأنفس.

ومن ذلك بناء القناطر اللازمة فى جسور الحيضان لتقل كمية الرديف السنوى وتقل أنفار العونة.

وفى الوجه البحرى بدلا عن المعالجة فى القناطر الخيرية وكثرة الصرف عليها مع طول المدة، بترتيب وابورات على شاطئ النيل كافية لسقى المزروعات. وقد صار البحث عما يلزم لكل مديرية من الوجه البحرى، فتبين أنه يكفى جميعها فى اليوم والليلة خمسة وعشرون مليون متر مكعب من الماء بما فى ذلك من مليون ونصف لمديرية الجيزة، وباعتبار أن الفدان يلزم له عشرون مترا مكعبا كل يوم، وأن إيراد النيل فى أشد

ص: 157

التحاريق هو ثمانية وثلاثون مليونا كل يوم، يكون الباقى فى مجراه نحو ثلاثة عشر مليونا، ومبلغ الخمسة والعشرين مليونا المذكور موزع على مديريات بحرى بحسب زمامها، هكذا: لمديريتى القليوبية والشرقية خمسة ملايين، منها ثلاثة ملايين وثلث من الوابورات التى توضع على الخليج المصرى والشرقاوية والباسوسية، والباقى من النيل بواسطة الإسماعيلية وبحر مويس.

ولمديرية الدقهلية أربعة ملايين منها ثلاثة من الوابورات التى توضع على ترعة الساحل والبحر الصغير، والباقى من النيل بواسطة ترعتى أم سلمة والمنصورية بعد تطهيرهما بالكراكات حسب المطلوب.

وللمنوفية والغربية عشرة ملايين منها سبعة بالآلات البخارية وهى أربعة طقومة:

واحد برأس روضة البحرين، وآخر خلف القرينين، وثالث على ترعتى الساحل والخضراوية، والرابع بقرب فم البحر الصعيدى، والثلاثة الباقية من النيل بواسطة رياح الوسط.

ولمديرية البحيرة أربعة ملايين ونصف من الوابورات الراكبة على المحمودية وترعة الخطاطبة خلاف ما يأخذ من الرياح.

ولمديرية الجيزة مليون ونصف بطقمى آلات أحدهما يوضع على الشاطئ الأيسر للنيل لرىّ شرق أطفيح، والآخر فى رأس المديرية القبلى قرب قنطرة جرزة.

وتقدم لديوان الأشغال من بعض الشركات المعتبرة طلب بتعهد إجراء تلك الأعمال، فبفرض معاملتها كنص شروط الخطاطبة، وجعل مدة الالتزام خمسا وثلاثين سنة، عملت حسبة فى الديوان فظهر أن ما يلزم دفعه كل سنة لتلك الشركة مائتان وسبعة وثمانون ألف جنيه مصرى موزعة على المديريات هكذا:

على مديرية الجيزة تسعة وثلاثون ألفا وثلثمائة جنيه. وعلى القليوبية والشرقية

ص: 158

تسعة وخمسون ألفا ومائة جنيه، وعلى الدقهلية ثمانية وثلاثون ألفا وستمائة وخمسون جنيها. وعلى المنوفية والغربية مائة ألف وثمانية جنيهات. وعلى البحيرة تسعة وأربعون ألفا.

وباعتبار أن المنزرع صيفيا مليون فدان فقط يخص الفدان، سبعة وعشرون قرشا صانما تقريبا، بصرفه تستوفى الزراعة حقها من المياه بسهولة، وإذا اعتبر التوزيع بالنسبة لعموم الزمام يخص الفدان نحو عشرة قروش، وذلك قليل جدا فى جنب ما تتحصل عليه البلاد من الفوائد التى منها:

أن رفع المياه بالآلات إلى مستو ثابت يضمن ثبات مقدار الكمية اللازمة للزراعة مهما بلغت درجة انحطاط النيل وذلك من أهمّ الأمور.

ومنها، تنقيص التطهير الصيفى بمقدار مهمّ جدا.

ومنها، أنه بواسطة الآلات تكون الأراضى المرتفعة والمنحطة تنال من الماء بقدر اللازم فقط.

ومنها، أنّه فضلا عن دوام استيفاء الكميات المقدرة من الماء فمن الممكن زيادة ارتفاع الماء فى الترع أو تنقيصه على حسب الحاجة، فيتوفر على الناس ما ينفقونه فى سبيل رفع الماء بالسواقى ونحوها.

ومنها، أنه بواسطة رفع سطح الماء بحسب الطلب يمكن تحويل جميع الترع النيلية الداخلية إلى صيفية بدون إجراء حفر فيها بحيث يتيسر استخدامها للزراعة الصيفية، فيتمتع الأهالى بالزراعة الصيفية بعد حرمانهم منها.

وبالجملة فبجلب المياه إلى الترع بواسطة الآلات يصير مقدار تصرفها كافيا كافلا لاحتياجات الأراضى إذ لا توجد أرض إلا وريها مرتب على ترع نيلية أو صيفية.

ص: 159

وقد تكلمنا فى كتابنا «نخبة الفكر» على ما يتعلق بالقناطر الخيرية بأبسط عبارة فليراجع.

(1)

ولم تزل هيئة هذه النظارة قائمة على قدم السداد، جادة فيما فيه عمارية البلاد وراحة العباد، إلى أن حدثت أمور أوجبت استعفاء النظارة، وتشكلت نظارة أخرى تحت رياسة دولتلو نوبار باشا، وذلك فى أواخر سنة 1883 ميلادية، واستمرت إلى منتصف شهر يولية سنة 1888 ميلادية-توافق سنة 1305 عربية-ثم استعفى وسقطت النظارة، وبتاريخه صدر الأمر العالى الخديوى إلى الجناب المعظم ذى الدولة مصطفى باشا رياض بتشكيل نظارة تحت رياسته مقلدا حرسه الله مع ذلك/نظارة الداخلية والمالية، فجعلت من رجال هذه النظارة مقلدا أيضا نظارة ديوان المعارف، وها أنا الآن قائم بهذا الأمر على حسب المصالح بقدر الإمكان والله المستعان.

وكنت فى بلدتى مشغولا بزراعة بعض أرض لى هناك، كان قد مضى علىّ نحو من ثلاثين سنة لم أتوّجه إليها بسبب كثرة أشغالى بمصالح الحكومة، ومن طول المدة كانت آلت إلى التلف، وصار أغلبها سباخا، فلما طلبت لهذه الخدمة تركتها وأخذت فى تأدية ما فرض علىّ قياما بحق وطنى، أسأله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لما فيه نفع العباد، وأن يختم لنا وللمسلمين بالخير إنه سميع قريب مجيب الدعوات، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

(البرنبل)

قرية من قسم أطفيح بمديرية الجيزة، شرقى الكريمات إلى جهة الشمال، وفى جنوب ناحية المسيد، واقعة بين ترعة الحبشى والجبل، وفى وسطها جامع بمنارة ومقام ولى اسمه على الطيورى، يزعم الناس أنه من ذرية سيدى جعفر الطيار، وأكثر أهلها مسلمون، وفيها مصانع بكثرة، ومعمل للنيلة ونخيل قليل ويزرع بها كثير من صنف النيلة، وجبانتها فى سفح الجبل.

(1)

راجع كتاب «نخبة الفكر فى تدبير نيل مصر» تأليف على باشا مبارك. مطبعة وادى النيل، القاهرة،1297 هـ. ص 197 وما يليها.

ص: 160

‌ترجمة سيدى أويس القرنى رضي الله عنه

وفى شرقيها على قارة فى سفح الجبل مقام لسيدى أويس القرنى صاحب الكرامات الكثيرة والمناقب الشهيرة، ومساكن خدمته بجواره من الجهة الجنوبية.

والصحيح أن قبره رضي الله عنه ليس فى هذه الجهة ولا فى غيرها من بلاد مصر، ففى رحلة ابن بطوطة

(1)

، أن قبره فى مقبرة دمشق، بين باب الجابية والصغير، وقيل، أنه ببرية لا عمار فيها بين المدينة والشام. وقيل، قتل بصفين مع علىّ رضي الله عنهما انتهى.

وفى كتاب أسد الغابة فى معرفة الصحابة لعز الدين بن الأثير:

أنه أويس بن عامر بن جزء بن مالك بن عمرو بن مسعدة بن عمرو بن سعد بن عصوان بن قرن بن ردمان بن ناجية بن مراد المرادى ثم القرنى الزاهد المشهور وهكذا نسبه ابن الكلبى، أدرك النبى صلى الله عليه وسلم ولم يره، وسكن الكوفة وهو من كبار تابعيها. روى أبو نضرة عن أسير بن جابر قال: كان محدث بتحدث بالكوفة فإذا فرغ من حديثه تفرقوا ويبقى رهط فيهم رجل يتكلم بكلام لا أسمع أحدا يتكلم بكلامه فأحببته، ثم فقدته، فقلت لأصحابى: هل تعرفنون رجلا كان يجالسنا كذا وكذا، فقال رجل من القوم: نعم أنا ذاك أويس القرنى، قلت: أو تعرف منزله؟ قال: نعم. فانطلقت معه حتى جئت حجرته فخرج إلىّ فقلت: يا أخى ما حبسك؟ قال: العرى.

قال: وكان أصحابه يسخرون منه ويؤذونه، قال: قلت: خذ هذا البرد فالبسه.

قال: لا تفعل فإنهم يؤذونى. قال: فلم أزل حتى لبسه فخرج عليهم فقالوا من ترى خدع عن برده هذا فجاء فوضعه. وقال: قد ترى. فأتيت المجلس فقلت ما تريدون من هذا الرجل قد آذيتموه. الرجل يعرى مرة ويكسى مرة وأخذتهم بلسانى، فقضى أن أهل الكوفة وفدوا إلى عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، فيهم رجل ممن كان يسخر بأويس،

(1)

رحلة ابن بطوطة، طبعة بيروت سنة 1960، ص 98.

ص: 161

فقال عمر: هل ههنا أحد من القرنيين، فجاء ذلك الرجل. فقال عمر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال: «إن رجلا يأتيكم من اليمن يقال له أويس لا يدع باليمن غير أم، وقد كان به بياض فدعا الله فأذهبه عنه إلا مثل الدينار أو الدرهم، فمن لقيه منكم فمروه فليستغفر لكم.» فأقبل ذلك الرجل حتى دخل عليه قبل أن يأتى أهله، فقال أويس: ما هذه بعادتك، فقال: سمعت عمر يقول كذا وكذا فاستغفر لى، قال: لا أفعل حتى تجعل لى عليك أنك لا تسخر بى ولا تذكر قول عمر لأحد فاستغفر له.

وروى أن عمر قال له لما وفد من اليمن: سمعت رسول صلى الله عليه وسلم يقول: «يأتى عليكم أويس بن عامر مع إمداد أهل اليمن من مراد ثم من قرن كان به برص فبرأ منه إلا موضع درهم، له والدة هو بها بر، لو أقسم على الله لأبره، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل فاستغفر لى فاستغفر له. انتهى باختصار، انظر أسد الغابة

(1)

.

وفى البرنبل هذه يعمل له مولد كل سنة فى مبادى زيادة النيل، تهرع إليه الزوار من البحيرة والصعيد ويكون فيه بيع وشراء لكنه ليس على هيئة غيره من الموالد وذلك أنه عند الميعاد السنوى يأتون إليه يوم الأربعاء فيمكثون هناك أربعة أيام مشتغلين بالأذكار وقراءة القرآن واللعب بالخيل وخلافها، ويذبحون الذبائح بكثرة ويطعمون الطعام، وفى اليوم الرابع ينصرفون ثم يرجعون يوم الأربعاء فيفعلون كذلك، وفى اليوم الرابع ينصرفون وهكذا حتى يمضى ثلاثون يوما.

وفى جهات الصعيد يعمل موالد بكثرة لمشاهير من أكابر الأولياء مثل مولد سيدى على الروبى فى مدينة الفيوم كل سنة فى نصف شعبان، ومولد الشلقامى فى ناحية آية الوقف، ومولد الشيخ عبد اللطيف فى ناحية القايات، ومولد البهنسا لغراء وكلها تعمل قبل زيادة النيل، ومولد سيدى محمد الفرغلى فى بندر بوتيج من إقليم أسيوط، ومولد

(1)

أسد الغابة، طبعة المعارف ج 1، ص 151 - 152.

ص: 162

سيدى أبى القاسم ببندر طحطا، ومولد سيدى كمال الدين عبد الظاهر فى مدينة إخميم، ومولد سيدى عبد الحيم القنائى بمدينة قنا من أول شعبان إلى نصفه، ومولد أبى عمرة فى مدينة جرجا وغيرهم/رضي الله عنهم أجمعين وأغلب هذه الموالد يستمر ثمانية أيام ومنها ما يستمر نصف شهر، وأكثرها يشتمل على متاجر تجلب من المدن الكبيرة حتى القاهرة، وتباع فيها أصناف الحيوانات مثل مولد سيدى أحمد البدوى، وفى شرقى مقام سيدى أويس على نحو مائة وثمانين مترا يوجد فى الجبل حجر صلب به أثر قدم يزعم الناس أنه أثر المصطفى صلى الله عليه وسلم وتزوره السياحون كثيرا.

(بيرنيس)

مدينة قديمة كانت على البحر الأحمر بينها وبين القصير القديم المسمى ميوهورمو س ألف وثمانمائة غلوة، كما فى البيريل، وفى بعض العبارات أن بينهما خمسين فرسخا. وهو غير القصير الجديد المسمى عند العرب الجديدة وهو فى جنوب القديم بقليل، وبين بيرنيس ومدينة قفط التى الجانب الشرقى للنيل مائتان وثمانية وخمسون ميلا رومانيا وهى تسعة وخمسون فرسخا.

وقال بلين: إن بين قفط وبيرنيس مسافة اثنى عشر يوما.

وقال ابيغان: إن بيرنيس فى محاذاة جزيرة أسوان والذى وضع هذه المدينة هو بطليموس فيلودولفوس وسماها باسم والدته، ورتب فيها محافظة بقيت إلى زمن الرومانيين، ولم تزل آخذة فى العظم وكثرت فيها المتاجر إلى زمن مديد. اهـ مرتجما من كتاب استرابون. وقال هو وبلين أيضا: إنها لم تكن مينا للسفن بل كانت فى آخر خليج أطلق عليه الرومانيون اسم طارنوس تدخل فيه السفن، وبعد تفريغها ترجع إلى ميناء بعيدة عنها تسمى عند الرومانيين مينا قيوسهر موس باسم مدينة كانت هناك وكانت عندها مدينة أخرى تعرف بالمدينة البحرية وكانت تلك الميناء أقرب إلى مدينة قفط من بيرنيس، وهذا هو السبب فى عدم جعل المينا عليها، وسمى ديودور الصقلى هذه المينا بمينا الزهرة.

وذكر هو واسترابون وغيرهما أن المينا كانت بقرب الجبل الأحمر الذى هو على مسافة ستة عشر فرسخا من القصير، فكانت المينا فى جنوبه على نحو فرسخ ونصف،

ص: 163

وكان فى المينا عمارة متسعة بعيدة عن البحر بنحو فرسخين، بينها وبين البحر ثلاث جزائر منها اثنتان أرضهما متسعة منبسطة قليلة الزرع، وكان فيهما زمن الرومانيين شجر الزيتون، والثالثة عظيمة الارتفاع قليلة السعة.

وظن بعضهم أن مدينة بيرنيس هى القصير القديم، وأن اسم القصير مأخوذ من اسم قوص لأنها فى أوّل طريقها، وترد إليها بضائعها ثم تنتشر فى الجهات، لكن قد علمت أن بين بيرنيس والقصير مسافة.

وفى خطط أنطونان أن مدينة بيرنيس فى موازاة مدينة أسوان، وقسم الطريق الموصلة إليها إلى اثنى عشر يوما، وجعل طولها مائتى ألف خطوة وثمانيا وخمسين ألف خطوة، وجعلها غيره مائتى ألف وإحدى وسبعين ألف خطوة. وفى مؤلفات بلين أن هذا البعد مائتان وثمانية وخمسون ميلا.

وذكر بعضهم أن أقرب بعد بين قوص والبحر الأحمر أربعون ساعة بسير الجمل، وقدر الساعة ألفان وأربعون توازة، عبارة عن ألفين وخمسمائة استادة مصرية أو مقدونية.

وعلى ما اعتبره بلين من أن الميل ثمان غلوات يكون ذلك عبارة عن مائتين وخمسين ميلا، واستنتج من ذلك أن مدينة بيرنيس هى مدينة القصير وحرره.

وفى صحراء بيرنيس يوجد معدن النحاس ومعدن الزمرد وغيرهما، وهى صحراء عيذاب، وسيأتى الكلام عليها فى حرف الصاد مبسوطا، وكذا فى حرف العين يأتى الكلام على عيذاب، وعلى الطريق الموصلة من النيل إلى تلك الجهات.

ومما ينبغى التنبه له أن تلك المعادن لم يكن الاهتداء إليها قاصرا على الأجيال القريبة منا، بل كانت مستعملة فى الأعصر الخالية القديمة، فكانت تستخرج زمن الفراعنة قبل المسيح بألفى سنة، ووجد (جانبوليون) فى إحدى المغارات التى هناك وفى

ص: 164

مدينة سابوت القديمة كتابة قرأها فإذا من مضمونها: أنه فى سنة اثنتين وثلاثين أو ثنتين وأربعين من مدة الملك الرابع من العائلة الرابعة والعشرين، كان النحاس يستخرج من معادن تلك الصحراء وهى صحراء عيذاب.

وقال جانبوليون أيضا: أنه قرأ على صخور صحرائها اسم ميرنيشيس ولقبه، وهو فرعون مصر قبل المسيح بألفين وخمسمائة سنة، وهو الملك السابع من العائلة الرابعة، وكذلك رأى اسم أمين امها واسم داريوس وجمشيد وأكزرسيس. انتهى.

‌ترجمة بلين

فائدة بلين المذكورة:

قال فى قاموس الجغرافية الفرنجى: هو عالم طبيعى ولد سنة ثلاث وعشرين بعد الميلاد، وخدم أوّلا فى العسكرية، ثم فى المجالس واشتغل كثيرا بالعلوم، وفى سنة ثمان وستين وعمره خمس وأربعون سنة، دخل فى الخدامات الميرية، وجعل حاكم أسبانية، وكان يألفه القيصر وسباسيان، والقيصر تيتوس، ولما هاج جبل النار المسمى ويزوف، فى سنة تسع وسبعين ذهب لملاحظة أحواله فاختنق من روائحه الكبريتية ومات.

وله مؤلفات منها: تاريخ رومة، وتاريخ الجرمانيين، وكتاب فى الطبيعة يشتمل على سبعة وثلاثين بابا، كل باب فى فن، مثل، الفلك والحوادث الجوية والأرض، والجغرافية، والحيوانات والنباتات، والزراعة والحكمة وغير ذلك.

‌ترجمة جانبوليون

وأما جانبوليون فهو عالم فرنساوى/مشهور بمعرفة الخط القديم المصرى، ولد سنة ألف وسبعمائة وتسعين ميلادية، واجتهد من نفسه فى حل رموز ذلك الخط، وفى سنة ألف وثمانمائة وتسع وعشرين ساح فى بلاد مصر ومات بعد رجوعه منها سنة إحدى وثلاثين، وله كتاب يتعلق بمصر تكلم فيه على الفراعنة وجغرافية مصر القديمة، والديانة المصرية،

ص: 165

ولسان المصريين القديم وكتابتهم، وألف آجرومية وقاموسا فى لسان المصريين، وقد جعل له أهل بلده تمثالا لبقاء ذكره، وبعد موته تمم أخوه تآليفه وطبعها.

‌ترجمة ابيغان

وأما أبيغان فهو راهب من رهبان الكنيسة الرومية، ولد سنة 310 من الميلاد فى بلاد فلسطين من أرض الشام، ومات سنة 403 وأصله يهودى، ولتقليده رهبان صحراء الصعيد انعزل عن بلده وأنشأ بصحرائها ديرا أقام به ثم أخذ منه وجعل أسقفا سنة 367.

وكان عالما بالإنجيل وباللغة العربية، والسريانية، والمصرية، واللاتينية، والغريقية، وسافر إلى القدس وحلب والقسطنطينية، وله عند النصارى مولد فى 12 من شهر مايه الأفرنجى، وله مؤلفات منها: رسالة فى أقيسة اليهود وموازينهم وكتب دينية.

(البساتين ويقال لها بساتين الوزير) قرية بمديرية الجيزة بسفح جبل المقطم، بينها وبين قبة الإمام الشافعى نحو فرسخ وأبنيتها بالدبش والحجر، ومنازلها ما بين دور ودورين، وبها مسجد عامر، وبجهتها البحرية مقام يقال له مقام سيدى مفتاح، وبها نخيل وأشجار سنط وأثل وغير ذلك، ويزرع بأطيانها أنواع الخضراوات مثل القرع والباذنجان والعجور، وأغلب اكتساب أهلها من صناعة قطع الأحجار، مثل أهالى حلوان، ومنهم من يكتسب من الزراعة.

قال المقريزى

(1)

: هذه البساتين فى الجهة الغبلية من بركة الحبش وهى قرية فيها عدة مساكن وبساتين بكثرة، وبها جامع تقام فيه الجمعة، وعرفت بالوزير أبى الفرج محمد بن جعفر بن محمد بن على بن الحسين بن على بن محمد المغربى، وبنو المغربى أصلهم من البصرة وصاروا إلى بغداد، وكان أبو الحسن على بن محمد تخلف على ديوان المغرب ببغداد، فنسب به إلى المغرب وولد ابنه الحسين بن على ببغداد، فتقلد أعمالا كثيرة منها

(1)

الخطط المقريزية، المرجع السابق، مج 3، ص 53.

ص: 166

تدبير محمد بن ياقوت عند استيلائه على أمر الدولة ببغداد، وكان خال ولده على وهو أبو على هرون بن عبد العزيز الأوارجى الذى مدحه أبو الطيب المتنبى من أصحاب أبى بكر محمد بن رائق، فلما لحق ابن رائق ما لحقه بالموصل صار الحسين بن على بن المغربى إلى الشام ولقى الأخشيد وأقام عنده، وصار ابنه أبو الحسن على بن الحسين ببغداد، فأنقذ الإخشيد غلامه فاتكا المجنون، فحمله ومن يليه إلى مصر، ثم خرج ابن المغربى من مصر إلى حلب، ولحق به سائر أهله ونزلوا عند سيف الدولة أبى الحسن على بن عبد الله ابن حمدان مدة حياته، وتخصص به الحسين بن على بن محمد المغربى ومدحه أبو نصر بن نباتة.

وتخصص أيضا على بن الحسين بسعد الدولة بن حمدان، ومدحه أبو العباس النامى، ثم شجر بينه وبين ابن حمدان ما شجر، ففارقه وصار إلى بكجور بالرقة، فحسن له مكاتبة العزيز بالله نزار والتحيز إليه، فلما وردت على العزيز مكاتبة بكجور قبله واستدعاه وخرج من الرقة يريد دمشق فوافاه عبد العزيز بولاية دمشق وخلفه، فتسلمها وخرج لمحاربة ابن حمدان بحلب بمشورة على بن المغربى فلم يتم له أمر، وتأخر عنه من كاتبه، فقال لابن المغربى: غررتنى فيما أشرت به علىّ وتنكر له، ففرّ منه إلى الرقة وكانت بين بكجور وبين ابن حمدان خطوب آلت إلى قتل ابن مكجور ومسير ابن حمدان إلى الرقة، ففرّ ابن المغربى منها إلى الكوفة، وكاتب العزيز بالله يستأذنه فى القدوم فأذن له، وقدم إلى مصر فى جمادى الأولى سنة إحدى وثمانين وثلثمائة.

وقد أطال المقريزى فى الكلام عليه وعلى تقلبه فى البلاد، مصر ودمشق وحلب وبغداد وغيرها. إلى أن قال: إنه مات مسموما بمدينة ميافارقين، لأيام خلت من شهر رمضان سنة ثمانى عشرة وأربعمائة، وكان مولده بمصر ليلة الثالث عشر من ذى الحجة سنة سبعين وثلثمائة. وكان أسمر شديد السمرة بساطا عالما بليغا مترسلا متقنا فى كثير من العلوم الدينية والأدبية والنحوية مشارا إليه فى قوة الذكاء والفطنة وسرعة الخاطر والبديهة عظيم القدر، صاحب سياسة وتدبير وحيل. كثيرة وأمور عظام، دوّخ الممالك وقلب الدول وسمع

ص: 167

الحديث وروى وصنف عدة تصانيف، وكان ملولا حقودا لا تلين كبده، ولا تنحل عقده، ولا يحنى عوده، ولا ترجى وعوده، وله رأى يزين له العقوق ويبغض إليه رعاية الحقوق، كأنه من كبره قد ركب الفلك واستولى على ذات الحبك. إلى آخر ما قال فانظره.

وقال السخاوى فى كتابه، (تحفة الأحباب وبغية الطلاب): إنه كان بين بنى المغربى وبين أبى نصر وزير الحاكم نفس، فسعى عليهم عند الحاكم فأمر بضرب أعناقهم فقتل ستة منهم، وهم والد الوزير المغربى وأخواه وثلاثة/من أهل بيته، واستتر أبو القاسم الوزير ابن المغربى وهرب إلى الرملة، وحسن لصاحبها الخروج على الحاكم ونزع يده من طاعته، وأحضروا أبا الفتوح بن الحسن بن الحسينى من مكة، وأقاموه خليفة وقبلوا الأرض بين يديه وبايعوه بالخلافة ولقبوه بالراشد بأمر الله، فعند ذلك صعد الوزير ابن المغربى المنبر وخطب خطبة بليغة، وحرضّ فيها على قتال الحاكم وافتتح بقوله عز وجل:

{طسم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَ فِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ} - (وجعل يشير بيده جهة مصر) - {وَ جَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ}

(1)

الآيات. فلما بلغ الحاكم ذلك أزعجه ازعاجا عظيما، وسير إلى بنى الخزرج وبذل لهم المال الجزيل وخوفهم العاقبة، فمالوا إليه بعد خطب طويل، وكتب إلى ابن المغربى الوزير واسترضاه وبنى على قتلاهم الذين قتلهم من أهله ست قباب فهى تعرف الآن بالسبع قباب، والظاهر أنه كان إلى جانبهم قبة أخرى، وقيل إن القبة السابعة هى قبة الأطفيحى صاحب القناطر والسبيل.

انتهى.

وفى شرقى البساتين بئر يقال لها بئر الدرج-لها درج ينزل بها إليها-عملها الحاكم بأمر الله، وفى شرقى البئر قبور النصارى وبعدها إلى جهة الجبل قبور اليهود.

(1)

سورة القصص، الآيات 1 - 3.

ص: 168

(بسطة)

ويقال لها بوبسطيس وبوباسط، وهى مدينة كانت ذات شهرة وفخامة فى الأحقاب الخالية، وقد عدمت ولم يبق منها إلا تلال تعرف بتلال بسطة شاهقة الارتفاع، وتذكر كثيرا فى كتب الأقباط والجغرافيين. وهى مقر العائلة الثانية والعشرين من الفراعنة، وعدد ملوكها تسعة أولهم سيزونكيس وهو المسمى فى التوراة سيزاك، وكان فى زمن سليمان عليه السلام.

وقال اتيين البيزنتى: إن كلمة بسطة من أسماء القط، الذى هو الحيوان المعروف، وتوقف فى ذلك كترمير لما رأى أن الصورة المرسومة على ميدالية هذه المدينة صورة طائر لا صورة قط.

وفى كتاب هيرودوط أن ملوك مصر كان لهم إعتناء زائد بهذه المدينة.

وقد رفع سيزوستريس أرض مساكنها كما رفع أرض غيرها بالأسرى الذين حفر بهم الخلجان وأقام بهم الجسور، وبقيت معتنى بها إلى استيلاء الحبشة على أرض مصر فرفع ملكهم سبقون أرضها زيادة.

قال: وكان بوسطها معبد شهير للمقدسة بوياسطيس المسماة عند اليونان ديان، ارتفاع دهليزه عشرة أرجى، (خمسة أقدام ونصف فرنساوى) مزين بتماثيل ارتفاعها ستة أذرع، ويحيط به سور متين تكتنفه أشجار عالية من الداخل والخارج، وهو مربع استادة من كل جهة، ويحيط به الماء إلا عند مدخله، وعلى جانبى المدخل ترعتان سعة كل مائة قدم، تتجه كل منهما إلى جهة وتحفهما أشجار، ولما ارتفعت أرض المدينة وبقى هو على أصله صار من يدور حوله يكشفه جميعه، والطريق الموصلة إليه تقطع الميدان إلى جهة الشرق فتوصل إلى معبد مرقورا، وطولها ثلاث غلوات فى سعة أربع بليترات، وهى مبلطة ويحفها الشجر من الجانبين وفى داخل المعبد تمثال المقدسة المذكورة.

قال بعض شراح هيرودوط: أن هذه المقدسة كانت بكرا وكانت النساء يفزعن

ص: 169

إليها عند الولادة وينادينها، ويزعمن أنها تحضر إذا نوديت، وكان المصريون يعتبرونها رمزا للقمر.

ومرقورا عند المصريين هوتوت، ويعتبرونه المخترع للعلوم، ويسميه اليونان هرميس أيضا، ويطلقون هذا الاسم أيضا على أنوبيس لما رأوه من تشابههما، وكانوا يحترمون الكلب لزعمهم أنه إشارة للمقدس أنوبيس لما له من التنبه والحرص والاستعداد لتمييز العدو من الحبيب فكان احترامه لصفاته لا لذاته.

‌مطلب أعياد المصريين سابقا

وقال هيرودوط أيضا: إنه كان للمصريين فى السنة أعياد كثيرة:

أولها: وهو أشهرها، عيد مدينة بوباسط برسم المقدسة ديان.

وثانيها: عيد مدينة يوزريس (بوصير) برسم المقدسة إزيس، وفى هذه المدينة- أى مدينة بوصير-معبد كبير يسمى باليونانية دميتير.

وثالثها: عيد مدينة صا الحجر باسم المقدسة منيروه.

ورابعها: عيد مدينة عين شمس برسم الشمس.

وخامسها: عيد مدينة بوطو برسم المقدسة لاطون.

وسادسها: عيد مدينة بابرميس برسم المقدس مرس.

وكانت العادة أن يذهبوا إلى بوباسط من طريق البحر، وتختلط النساء مع الرجال فى المراكب، وكل مركب تشتمل على الرقص والمغنى وضرب الناى والتصفيق ونحو ذلك، وعند كل مرسى يحصل ازدحام وشتم وسب حتى تكشف النساء عن عوارتهن،

ص: 170

وتجتمع الناس فى بوباسط ويقيمون بها الأيام المعتادة، ويقربون هناك القرابين، ويكثرون من شرب نبيذ العنب، حتى يستهلك من هذا الصنف فى تلك الأيام أكثر مما يستهلك فى جميع السنة، إذ يجتمع هناك من النساء والرجال نحو سبعمائة ألف نفس غير الأطفال.

ويجتمع فى بوصير أيضا خلق كثير، وعادتهم بعد تقريب القرابين أن يظهروا علامات الحزن ويلطموا خدودهم/ولا يبينوا سبب ذلك، ويمتاز اليونانيون القاطنون بمصر عن غيرهم بشدة الحزن، فإنهم يقطعون جباههم بسيوفهم.

وفى مدينة صا الحجر تذبح القرابين فى ليلة مخصوصة، وكل منهم يوقد عند بيته قنديلا، وهو وعاء فيه فتيلة تملأ زيتا وملحا، فيستمر مسرجا طول الليل، ويسمى هذا العيد عيد القناديل، ومن لم يحضر الموسم من المصريين يوقد القناديل على بيته تلك الليلة فيعم ذلك كثيرا من بلاد مصر.

ويكتفى فى مدينة عين شمس ومدينة بوطو بتقريب القرابين، وكذلك فى مدينة بابرميس. ولكن متى مالت الشمس إلى الغروب يجتمع بعض القسيسين حول تمثال المقدس، ويقف بعض آخر على باب المعبد أمامهم نحو ألف رجل بأيديهم نبابيت، والتمثال فى خزانة من خشب مذهب، والعادة أن ينقل ليلة المولد إلى خزانة أخرى فيضعه القسيسون الذين حوله على عربة بأربع عجلات، ويشرعون فى جره فيمتعهم القسيسون الواقفون على الباب، فيأتى أرباب النبابيت ويمنعون المانعين ويساعدون الأولين على جره، فتحصل من ذلك مضاربة وشجوج وجراحات، وأنكر المصريون حصول شئ من المضاربة والجراح.

قال المقريزى فى رسالته على قبائل العرب: «إن بسطة من جملة المدن التى أعطيت للعرب الذين كانوا موجودين عند فتح مصر» .

وفى دفاتر التعداد هى وكفورها معدودة من إقليم قليوب، وهى بعيدة عن النيل بسبعة

ص: 171

فراسخ وعلى بعد نصف فرسخ من الشاطئ الأيمن لخليج أبى المنجا وهو فرع الطينة المسمى الآن مصرف أبى الأخضر. وكانت هذه المدينة مرتفعة على تلول من قوالب الطين، وفى وقت دخول الفرنساوية وجد بها بعض آثار أبنية مصرية قديمة من أحجار صلبة عليها نقوش قديمة.

وامتداد تل بسطة من جميع الجهات متفاوت من 1200 إلى 1400 متر، وفى وسطها حوض جسيم كان فى وسط المعبد القديم.

وقال المقريزى فى الخطط عند الكلام على من ولى مصر: إن خط بسطة يحتوى على تسع وثلاثين بلدة. وقال إنها تعرف فى دفاتر التعداد بتل بسطة، واستمر لها هذا الاسم إلى الآن. وعادة الأهالى المجاورة من مدة قديمة إلى الآن أخذ سباخها واستخراج ما فيها من الطوب والأحجار لمبانيهم. وسكة الحديد المارة من قليوب إلى الزقازيق تمر قريبا منها على بعد قليل على الجهة اليمنى للذاهب من مصر.

(بسيون)

قرية كبيرة من بلاد الغربية بمركز كفر الزيات واقعة قبلى فرع القطى الخارج من ترعة الباجورية وشرقى ترعة السلمونية، وأبنيتها بالآجر واللبن، وبها جامع الشيخ البسيونى وضريحه به مشهور، ويعمل له مولد كل سنة بعد مولد سيدى أحمد البدوى، وجامع الشيخ الأنصارى وضريحه شهير أيضا.

وبها جملة زوايا وأضرحة، وثلاث جنات مشتملة على كثيرة من الثمار والفواكه، ومعمل فراريج.

ومنها يوسف المراسى ترقى إلى رتبة قائمقام، ومحمد أفندى خلف رئيس مجلس كفر الزيات. وأغلب أهلها مسلمون وعدتهم ذكورا وإناثا أربعة آلاف نفس، وزمامها ألفان وسبعمائة وأربعون فدانا، ورى أرضها من النيل، ولها سوق كل يوم اثنين وشهرتها فى زرع القطن وغيره، وكان لها شهرة فى نسج الملاآت البسيونية ثم بطل ذلك.

ص: 172

وبجوارها قرية صغيرة تعرف بمنشأة بسيون بها منزل مشيد لعمدتها عبد الملك أحد أقباطها، وجنينه لخليل أبى موسى من أهاليها.

ومن هذه البلدة نشأ أحمد أفندى دقلة، تربى فى المدارس وسافر إلى بلاد أوروبا، فتعلم بها العلوم الرياضية وحضر إلى مصر سنة إحدى وخمسين ومائتين وألف، وكان معيد الدروس المرحوم بيومى أفندى فى مدرسة المهندسخانة، وبقى على ذلك مدة ثم تعين معلما بها يدرس الجبر وعلم الأدروليك، (يعنى تحرك المائعات وعمل الترع والقناطر والجسور)، ثم جعل وكيل المدرسة مع توظيفه باعطاء الدروس، وأكثر المهندسين الموجودين الآن تلقوا عنه، وفى سنة ست وستين انتقل إلى قلم الهندسة، وفى سنة سبع وستين عند طلب المرحوم عباس باشا عمل ترعة المجيدية تعين لمباشرة عمل الخرطة المثلثية بمديرية البحيرة فبقى مدة وعزل عن الخدامة وبقى ببيته إلى أن مات سنة ثلاث وسبعين، وكان حسن الإلقاء يجتهد فى التعليم ويحث على الفهم، وكان من أعظم المهندسين، غير أنه كان يميل إلى الشرب، وقد بلغ إلى رتبة بيكباشى.

(بشبيش)

قرية من مديرية الغربية من أعمال المحلة، وهى بكسر الباء الموحدة فشين فموحدة فتحتية فشين معجمة.

‌ترجمة العالم الفاضل الشيخ عبد الله البشبيشى الشافعى

وإليها ينسب كما فى الضوء اللامع

(1)

: عبد الله بن أحمد بن عبد العزيز الجمال، العذرى البشبيشى الشافعى، ولد سنة اثنتين وستين وسبعمائة وأخذ الفقه عن ابن الملقن، والعربية عن الغمارى، واختص به ولازمه، وبرع فى الفقه والعربية واللغة وكذا الوراقة وتكسب بها، وكتب الخط الجيد ونسخ به كثيرا، وناب فى الحسبة عن التقى

(1)

الضوء اللامع، المرجع السابق. ج 5، ص 7.

ص: 173

المقريزى، وصنف كتابا فى المعرب وآخر فى قضاة مصر، وآخر فى شواهد العربية بسط فيه الكلام.

قال الحافظ بن حجر: سمعت من فوائده كثيرا، وكان ربما جازف/فى نقله، وذكره المقريزى فى عقوده وحكى عنه، ومات بالإسكندرية فى ذى القعدة سنة عشرين وثمانمائة رحمه الله تعالى. انتهى.

‌ترجمة الإمام الشيخ أحمد البشبيشى الشافعى

ونشأ منها كما فى خلاصة الأثر

(1)

: الشيخ أحمد بن عبد اللطيف بن أحمد بن شمس الدين بن على البشبيشى الشافعى الحجة النقال، كان متضلعا من الفنون، قوى الحافظة، له تصرف وتدقيق، ولد ببشبيش سنة إحدى وأربعين وألف، وحفظ بها القرآن وقرأ بالمحلة، ثم رحل إلى مصر وقرأ بالروايات على الشيخ سلطان المزاحى، ولازمه فى الفنون سنين، ولازم الشبراملسى وغيره وتصدر للتدريس بالأزهر، وحج وأقام بمكة يدرس ثم توجه إلى مصر، ثم إلى بلدة فأدركه بها الحمام سنة ست وتسعين وألف انتهى.

‌ترجمة إمام المحققين الشيخ عبد الرؤف البشبيشى الشافعى

وينسب إليها كما فى الجبرتى

(2)

: إمام المحققين، وشيخ الشيوخ عبد الرؤف بن محمد بن عبد اللطيف بن أحمد بن على البشبيشى الشافعى، خاتمة محققى العلماء، وواسطة عقد نظام الأولياء العظماء، ولد ببشبيش من أعمال المحلة الكبرى، واشتغل على علمائها بعد أن حفظ القرآن، ولازم العارف بالله الشيخ على المحلى، الشهير

(1)

خلاصة الأثر فى أعيان القرن الحادى عشر، للمحبى المطبعة الوهبية بمصر،1284 هـ. ج 1، ص 238.

(2)

تاريخ الجبرتى، المرجع السابق، ج 1 ص 162.

ص: 174

بالأقرع، فى فنون من العلوم، واجتهد وأتقن وتفنن وتفرد، وتردد على الشيخ العارف حسن البدوى وغيره من صوفية عصره، وتأدب بهم واكتسى من أنوارهم، ثم ارتحل إلى القاهرة سنة إحدى وثمانين وألف، وأخذ عن الشيخ محمد بن منصور الأطفيحى والشيخ خليل اللقانى، والزرقانى، وشمس الدين محمد بن قاسم البقرى وغيرهم.

واشتهر علمه وفضله ودرس وأفاد وانتفع به أهل عصره من الطبقة الثانية، وتلقوا عنه المعقول والمنقول، ولازم عمه الشهاب فى الكتب التى كان يقرؤها. مع كمال العزلة والإنقطاع إلى الله، وكان الغالب عليه الجلوس فى حارة الحنابلة وفوق سطح الجامع، حتى كان يظن من لا يعرف حاله أنه بليد لا يعرف شيئا إلى أن توجه عمه إلى الديار الحجازية حاجا سنة أربع وتسعين وألف، وجاور هناك فأرسل إليه بأن يقرأ موضعه، فتقدم وجلس وتصدر لتقرير العلوم الدقيقة، والنحو، والمعانى، والفقه، ففتح الله له باب الفيض فكان يأتى بالمعانى الغريبة فى العبارات العجيبة، وتقريره أشهى من الماء العذب عند الظمآن، وانتفع به غالب مدرسى الأزهر وغالب علماء القطر الشامى، ولم يزل على قدم الإفادة وملازمة الإفتاء والتدريس والإملاء حتى توفى فى منتصف رجب سنة ثلاث وأربعين ومائة وألف. انتهى.

(بشواى الرمان)

قرية كبيرة من بلاد الفيوم بقسم العجميين، غربى أبى كساة وبحرى أبى جنشو، وأبنيتها باللبن والآجر، وبها نخيل وبساتين قليلة، ولها سوق جمعى، ولها شهرة يعمل الجبن الضأن ونسج الصوف الرفيع مثل نزلة شكيتة، وقنبشة، وسرسنا، ولهم معرفة تامة بتربية النحل واستخراج عسله، وأشهر منها فى ذلك ناحية العتامنة والمزارعة الواقعة قبلى جردوا وغربى مطول البحرية.

(بصرى)

بضم أوّله، قرية من قسم أبنوب الحمام بمديرية سيوط، على شاطئ النيل الشرقى. وبقربها ناحية الوسطى فى مقابلة الحمراء التى هى موردة أسيوط لكنها مائلة إلى جهة قبلى، وبجوارها أيضا ناحية أولاد سراج شرقى الوسطى، وبقربها

ص: 175

ترعة بصرى، وعند فمها ورشة جبل المرمر، يعنى محل ورود العربات والتشغيل، وفى بحريها دير بصرى قريب منها وحوله نخيل وأشجار سنط.

وبين الدير ومحل قطع الرخام واد يقال له الأسيوطى، يسار فيه نحو ساعة ونصف فى الجبل ثم بعده واد آخر أعلى منه، مسافته أكثر من ساعة، وبعده جبل الرخام، وهو قطعة فى وسط الجبل منحصرة مرتفعة ليس لها طريق إلا هذه، وطولها ثلاثون ذراعا بالمعمارى فى مثلها، ورخامها مغطى بطبقة من الحجر سمكها نحو مترين وتحته قدر متر رخام ليس بجيد، ثم ما تحته رخام جيد، وهو عبارة عن طبقات. أكبر ما يمكن استخراجه منها طول مترين وسمك متر واحد ومنه ما هو أحمر وما هو أصفر وليس به سوس، وقد أنعم به العزيز المرحوم محمد على، على المرحوم سليم باشا السلحدار.

(البصراط)

قرية قديمة من مديرية الدقهلية بمركز دكرنس، على الجانب الغربى للبحر الصغير، بينها وبين الجمالية ألف قصبة، وبها جامع كبير على شط البحر الصغير له منارة وشعائر مقامة، وسوقها كل يوم خميس، وتكسب أهلها من صيد السمك وزرع الأرز والحبوب، وأطيانها متصلة ببحيرة المالح.

‌ترجمة حضرة حافظ باشا

ومن هذه القرية نشأ الأمير الجليل حضرة حافظ باشا، دخل أول أمره مدرسة المحاسبة، فتعلم بها وخرج منها بالإمتحان فى سنة إحدى وخمسين ومائتين وألف وتوّظف كاتبا فى بعض الدواوين، ثم انتقل إلى دائرة سر عسكر المرحوم العزيز إبراهيم باشا، ثم جعل كاتبا فى معيته بالأوردى المنصور بالشام سنة اثنتين وخمسين، وبعد رجوعه تقلد نظارة زراعة انبهس من الغربية، ثم جعل باشكاتب مصالح قصر العينى، ثم جعل باشكاتب الخزينة السر عسكرية، ثم مأمور المصالح السنية بالإسكندرية، ثم جعل وكيل الدائرة الإسماعيلية فى عهد المرحوم سعيد باشا سنة ثلاث وسبعين، وأنعم عليه برتبة ميرالاى وبقى بها إلى أن صار/ناظرها فى سنة تسع وسبعين، وأحسن إليه برتبة

ص: 176

ميرميران، وفى سنة اثنتين وثمانين جعل ناظر المالية، وأحسن إليه برتية روم ايلى، ثم انتقل إلى نظارة الدائرة السنية، ثم انتقل إلى رياسة مجلس الأحكام ثم إلى نظارة الدائرة السنية ثانيا.

(بقيرة)

قرية صغيرة من مديرية الغربية، بمركز مليج على الشاطئ الغربى للبحر الشرقى، وبلصقها من الجهة البحرية فم ترعة الساحل، وفى مقابلتها شرقى البحر المذكور منية العطار، وفى قبليها على نحو نصف ساعة قرية مسجد الخضر، وفم ترعة الخضراوية بجوار مسجد الخضر من الجهة البحرية. وبين البقيرة وفم الخضراوية بحرى منشأة مسجد الخضر، فم قديم متسع يقال له فم بحر الغمرى، نسبة إلى ذى ضريح على شاطئه أمام ناحية اصطنها الواقعة بحرى مسجد الخضر، على شاطئ الخضراوية الغربى.

والبحر المذكور يمر شرقى اصطنها، وقرية قبالة، وقرية استليم وطاشبرى ثم تضيع آثاره. والظاهر أنه كان داخلا فى مديرية الغربية، ويمر غربى منية غزال وقرية استناواى وعزبة طوخ، وشرقى شبشير الجميز وهى بلدة كبيرة بحرى إنتدا على شاطئ فرع سمنود الغربى، وبحرى قرية الراشيدية، ثم يمر بناحية سجين وتضيع آثاره هناك أيضا، لكن يظهر أنه كان يصل إلى ناحية نشيل، الواقعة بحرى سجين بثلثى ساعة، وإلى ناحية نمرة ثم يصب فى بحيرة البرلس شرقى قرية الوزرية، ومنشأة مسجد الخضر بها كنيسة وجميع أهلها نصارى.

(بلاق)

مدينة كانت تسمى قديما بكلمة فيلة القبطية، بكسر الفاء وسكون الياء واقعة فى جزيرة تعرف عند الاثينيين باسم فيلة أيضا، فهو فى الأصل اسم لكل من المدينة والجزيرة، وهو مأخوذ من اسمها القبطى وهو لفظ فيلاخ بفاء فى أوله وخاء معجمة فى آخره، وفيلاق بفاء وقاف، وهو مركب من كلمة فى، التى معناها الشم، ولاخ أولاق، التى معناها النهاية، ثم سماها الإسلام بيلاق بموحدة فى أوله فتحتية فلام فألف فقاف،

ص: 177

وغلط من قال بلاق بلا ياء تحتية أو يلاق بلا موحدة أو ويلاق بواو بدل الموحدة هكذا فيما يوثق به من الكتب الإفرنجية.

وقد عبر المقريزى فى خططه بكلمة بلاق بلا مثناة تحتية بين الموحدة واللام، وقال

(1)

: إنها أجل حصن للمسلمين، وهى جزيرة تقرب من الجنادل محيط بها النيل، فيها بلد كبير يسكنه خلق كثير من الناس، وبها نخل عظيم ومنبر فى جامع، وإليها تنتهى سفن النوبة وسفن المسلمين من أسوان، وبينها وبين القرية التى تعرف بالقصر، وهى أول بلد النوبة ميل واحد وبينها وبين أسوان أربعة أميال، ومن أسوان إلى هذا الموضع جنادل فى البحر لا تسلكها المراكب إلا بالحيلة ودلالة من يخبر ذلك من الصيادين الذين يصيدون هناك وبالقصر مسلجة وباب إلى بلد النوبة، انتهى.

وفى كتب الإفرنج أنها هى حد مصر من الجهة الجنوبية الفاصل بينها وبين أرض النوبة، وهى خلف الشلال على الشاطئ الأيمن للنيل وبعدها عنه ميريامتر، وعن مدينة القاهرة مائة ميريامتر، وبعد أسوان من الشلال 6000 متر، وطول هذه المدينة من الجنوب إلى الشمال لا يزيد عن 384 مترا، وعرضها الأكبر 130 مترا ومحيطها 900 متر تقريبا، ومن سار حولها قطعها فى أقل من ربع ساعة.

وقد عين الفرنساوية موضعها الجغرافى وكتبوه على حيطان معبدها الجنوبى ووجدوا طولها 16 24 30 من خط نصف نهار مدينة باريس، وعرضها 54 1 24.

واعتمد الأقدمون أنها فى المنطقة الحارة إلا أنه تحقق الآن أنها بعيدة عن دائرة الانقلاب بأربعة وعشرين فرسخا، وقد حصل وجودها فيها قبل الآن بخمسة آلاف سنة، ثم انتقلت عنها بسبب ميل منطقة البروج، وسترجع إليها فى الأزمان المستقبلة وهى محوطة بسور من جميع الجهات ليقيها من تأثير مياه النيل.

(1)

الخطط المقريزية، المرجع السابق، مج 1، ص 351.

ص: 178

وقال (استرابون) فى كتابه الذى ألفه بعد سياحته إلى جزيرة فيلة: «إن هذه المدينة موضوعة فوق الشلال الأخير بقليل وليست أقل من مدينة ايليفنتينة فى الاتساع، بل كانتا متماثلتين وكان سكانهما مصريين ونوبيين، وكان فيهما هياكل قديمة من أبنية الفراعنة كانوا يعبدون فيها طيرا يسمونه الباشق، ولكنه لم ير فيه مشابهة لشئ من طيور الباشق اليونانية ولا المصرية، بل كان أكير منهما جسما، وصفاته تخالف صفات الباشق بكثير، وقد أخبروا بأنه مولود فى ايتوبيا فإذا مات أحضروا منها باشقا غيره وأن الطير الذى رآه بها كان مشرفا على الهلاك من المرض» .

وذكر أنه لما رحل من أسوان إلى فيلة سافر فى عربات هو ومن كان معه فساروا مسافة مائة غلوة يونانية فى وسط سهل مستو، وكانوا يرون فى طول الطريق على اليمين واليسار كثيرا من صخور مستديرة مصنوعة من الحجر الأسود الصلد الذى كان أهل فيلة يصنعون منه الأجران، وكانت موضوعة على قواعد من الحجر أعظم منها سعة وضخامة مسندة إليها صخرة ثالثة، ويرى فى بعض الأماكن بعضها/متفرقا عن بعض وأن أكبرها لا ينقص عرضه عن 12 قدما وعرض أصغرها يزيد عن نصف ذلك، وكان القصد منها الرمز لصورة هرمس المثلث، ولم تتغير حالة هذه الطريق إلى زمن الفرنساوية إلا أن الرمال المنسوفة بالرباح حصل منها تغيير للصورة الأصلية بردم بعض الصخور وارتفاع بعض مواضع من الطريق.

ومن الغرائب أنه لم يتكلم على الحائط القاطع لهذه الطريق فى جملة نقط منها، وهو مبنى من اللبن المستعمل فى مبان كثيرة من هذا النوع فى الأزمان القديمة للمصريين، وسمك هذا الحائط على ما ذكر فى خطط مصر للفرنساوية متران، وكان الباقى من ارتفاعها 4 أمتار، وهى قديمة من أعمال الفراعنة، ولعلها كانت لحفظ هذ الموضع من سطوات أهل النوبة والعرب القاطنين بضواحيها فى صحراء البحر الأحمر، فكانت حصنا لحفظ الجزيرة والمارين فى الطريق إليها أو منها إلى داخل وادى النيل

ص: 179

وذكر أيضا أنه وصل إلى جزيرة عدى إلى الجانب الآخر فى مركب صغير يسمى باللغة القبطية بكتون، كان مصنوعا من عيدان الحسك شبيها بالحصير فعدى بسهولة، وإن كانت أقدام من عليها فى الماء، ولم يكن فيها غير دكة واحدة للجلوس، وكان الراكب العادى لتلك المعادى يخشى من الفرق إذا كان حملها خفيفا فإذا كان ثقيلا أمن من ذلك.

وقيل إن معبودى المصريين أورريس وإزيس كانا إذا ماتا يدفنان فى جزيرة وسط النيل، وهى الحد بين مصر وايثوبيا أمام مدينة فيلة، وكانوا يسمون تلك الجبانة بالغيط أو الخلاء المقدس، واستدل القائلون بذلك بتشييد المصريين هياكل فى تلك الجزيرة، وهى قبر أوزريس الذى كان يحترمه جميع القسيسين المصريين، وكان بدائر حيطانه 360 قارورة تملؤها القسيسون خدمة هذا المحل لبنا حليبا فى يوم افتتاح السنة، ويصرخون عند ذلك صرخات وينادون باسم هذين المعبودين، ومن ثم لم يكن لأحد من غير القسيسين حق دخول تلك الجزيرة، ولم يكن لأهل الصعيد يمين وثيق إلا الحلف باوزريس المدفون فى جزيرة فيلة.

وفى أراضى هذه المدينة كثير من آثار ميان عتيقة ما بين مصرية ورومنية وعربية، وهى تشهد بقدم هذه الجزيرة وما كان لها من الأهمية عند المصريين ومن عقبهم على تخت الديار المصرية. ومن أمعن نظره فى الصور المرسومة على جدران تلك الأبنية استدل على أن الديار المصرية توالت عليها عدة أديان، ورأى أثر الديانة العتيقة وأثر الديانة الوثنية التى أعقبتها، ثم أثر الديانة العيسوية والديانة المحمدية.

ويفهم من الكتابة المرقومة على جدران المبانى كيف تتعاقب الأعصار وتذهب الأجيال، فهذه الجزيرة إن كانت صغيرة السعة لم يكن بها محل إلا وبه أثر يخبر عن تقادم الزمان وتعاقب الحدثان.

وذكر بعضهم ما كانت عليه فى سنة 1213 فقال: إن من وقف فى النهاية الجنوبية

ص: 180

للجزيرة على أعلى صخرة رأى جميع الجزيرة وما فيها من المبانى الباقية، ويرى على يمينه معبدا منعزلا عن المبانى، وفى مقابلته مسلات قائمة وطريق مزينة بأعمدة كثيرة شاهقة قائمة أمام معبد أكبر من الأول، ويكون فى مواجهة أكبر عمارات الجزيرة، وحول ذلك أخصاص لا يزيد ارتفاع الواحد منها عن قامة الإنسان، وهى مساكن البربر الذين عقبوا سكانها الأول، وجميع تلك العمارات من الحجر الصلد فى غاية الإحكام والهندسة، من مداميك ضخمة كباقى العمارات المصرية ومن سافر ناظرا إلى العمارات الجنوبية رأى سلسلة من الأعمدة بعضها قائم وبعضها ملقى على الأرض، وفى أمامها مسلتان صغيرتان إحداهما قائمة والأخرى ملقاة، وعلى أحادهما أسماء كثير من السياحين والأحبار الذين وردوا هذه البقعة، وفيها أسماء ملوك البطالسة وكثير من الرومانيين وغيرهم.

وعدد الأعمدة محاذاة الرصيف اثنان وثلاثون من الجهة البحرية إلى المعبد، وفى الطريق قطع كثيرة من الحجارة والأعمدة وفى مقابلة هذا الصف صف آخر، والاثنان يحدّان الطريق الموصلة إلى باب المعبد الشاهق، وبجانبه برجان عظيمان على عادة الأبواب المصرية، وعرضهما فى الجهة العليا أقل منه فى السفلى وهما مرتفعان عن الباب، ولم يعثر على مثل ذلك إلا فى عمارات المصريين، ولعلهما فى الأصل للمدافعة، وبداخلهما سلم موصل إلى السطح يدل على أنهما كانا محل رصد يرصد منه القسيسون النجوم، وهذا ليس بعيد فى بلد جميع أسرار ديانته أمور فلكية، وعرض الباب 39 مترا وارتفاعه ثمانة عشر مترا وهو أكبر عمارات هذه الجزيرة، وإن كان فى غيرها ما هو أكبر منه، وعلى جدران الباب نقوش ورسوم وأمامه مسلات وصور سباع ملقاة على الأرض قطعا قطعا، وبعضها مدفون فى الأرض.

وفوق الحيطان أسماء بعض عساكر الرومانيين وأسماء بعض من سكن هذا المحل من النصارى، ثم إن تاريخ وقعة دخول الفرنساوية أرض/مصر مكتوب هناك وبجواره أيضا بيان العرض والطول الذى عينه الفرنساوية لهذه الجزيرة حين دخولهم إياها بعد طردهم المماليك. وهناك بيان أسماء كثير من ضباطهم وعساكرهم.

ص: 181

وبعد هذا الباب باب آخر أصغر منه، وكان الدهليز الفاصل بينهما مزينا بأعمدة أكثرها ملقى على الأرض قطعا. وعلى جميع جدرانه الكتابة والرسوم والنقوش، ثم إن أمام المعبد الكبير بايا مثل الأول تقريبا.

والمعبد المذكور مقفل من جميع جهاته، ولا يدخله النور إلا من الباب، والسطح وأعمدته وحيطانه مشحونة بالنقوش المختلفة وأغلبها لم تغيره الأزمان، وفيه محلات عديدة مظلمة لا بد للداخل فيها من استصحاب مصباح ليرى النقوش والكتابة، وفى داخله بعد مجاوزة ثلاث محلات الخلوة المقدسة، على جدرانها نقوش فى غاية الحسن، وفيها قبلة منحوتة من حجر واحد، عظيمة الأبعاد تدل هيئتها وما عليها من الرسوم على أنها كانت محل البلشق المعبود فى هذه الجزيرة.

ثم اعلم أنه طالما كانت فيلة ميدانا للحروب بين الفراعنة وملوك النوبة، وكانوا يتنازعونها لتكون حد مملكتهم. وأما فى عصر الرومان فكانت جزءا من الصعيد الأقصى على ما هو الحق، وكانت مستقر جنود رومانية المحافظين، وقيل كانوا الايا كاملا، وكان فيها كثير من النخيل، وكانت قبل ذلك عامرة آهلة ذات أوثان كثيرة وبرابى، أى هياكل قديمة، وكنيستين إحداهما لمارية العذراء والأخرى للبطرك مارى أناطاس، وكانت ذات بيوت محكمة البناء، وقد غلط من قال إنها إقليم مروة لا جزيرة وسط النيل، ولما دخلها الفرنساوية كان أغلب مبانيها متخربا مهدوما، وكانت منقسمة إلى قريتين أهلها فى غابة الفاقة، وكان بالجزيرة بعض نخيل كالموجود بها الآن، وكان يزرع فى بعض أرضها الخالية عن الصخور حبوب قليلة.

وبسبب ما حصل الآن من الهمة فى حفظ الآثار القديمة، وازدياد علائق الألفة بين الدولة الأوروباوية ومصر، ازداد عدد السياحين المترددين على الديار المصرية وأغلبهم يقصد الصعيد الأعلى ليشاهد الآثار القديمة، وآخر محطة يصلون إليها هذه الجزيرة، والمتوجه إليها من أسوان يسير فى البر إلى دير قيس، ثم يصل إلى الجزيرة بواسطة السفن، ووقت التحاريق يمكن المسافر أن يصلها من القرية المعروفة بالشلال.

ص: 182

واتضح الآن من الاستكشافات الجديدة أن المعبد الموجود فى الجهة الجنوبية من الجزيرة، الذى تكلمنا عليه، أقدم معبد، فإنه من زمن نيكتانيبو الثانى ولم يبق منه الآن إلا بعض أعمدة انتهى.

ومع شهرة هذه المدينة لم يطل المقريزى الكلام عليها فى خططه وقد سبق ذكر عبارته فيها.

‌ترجمة الشيخ المقريزى صاحب الخطط

(فائدة) فى كتاب أبى المحاسن المسمى «بالمنهل الصافى والمستوفى بعد الوافى»

(1)

الذى تكلم فيه على تراجم مشاهير الرجال من ابتداء سنة ست وخمسين وخمسمائة هجرية وجعله تكملة لكتاب صلاح الدين الصفدى ابن ايبك.

أن المقريزى هو: الشيخ أحمد بن على بن عبد القادر بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن تميم بن عبد الصمد، الشيخ الإمام العالم البارع، عمدة المؤرخين، وعين المحدثين، تقى الدين المقريزى، البعلبكى الأصل، المصرى المولد والدار والوفاة.

مولده بعد سنة ستين وسبعمائة بسنيات، ونشأ بالقاهرة، وتفقه على مذهب الحنفية وهو مذهب جده العلامة شمس الدين محمد بن الصانع، ثم تحوّل شافعيا بعد مدة طويلة لسبب من الأسباب ذكره لى، وسمع الكثير من الشيخ برهان الدين إبراهيم بن أحمد بن عبد الواحد النسائى

(2)

، ومن ناصر الدين محمد بن على الحريرى

(3)

، والشيخ برهان الدين الآمدى، وشيخ الإسلام سراج الدين عمر البلقينى، والحافظ زين الدين

(1)

المنهل الصافى، تحقيق د. محمد محمد أمين مركز تحقيق التراث،1985 ج 1 ص 415.

(2)

هكذا فى الأصل وفى المنهل الصافى (الشامى).

(3)

هكذا فى الأصل وفى المنهل (الحراوى).

ص: 183

العراقى، والهيثمى، وسمع بمكة من ابن سكر والنشاورى، وله إجازة من الشيخ شهاب الدين الأذرعى، والشيخ بهاء الدين أبى البقاء، والشيخ جمال الدين الإسنوى، وغيرهم.

وتفقه وبرع، وصنف التصانيف المفيدة النافعة الجامعة لكل علم. وكان ضابطا مؤرخا متقننا، محدثا معظما فى الدول.

ولى حسبة القاهرة غير مرّة، وأول ولايته من قبل الملك الظاهر برقوق فى الحادى والعشرين من شهر رجب سنة إحدى وثمانمائة عوضا عن شمس الدين محمد البخانسى، ثم عزل بالقاضى بدر الدين العنتابى فى سادس عشر ذى الحجة من السنة، ثم وليها عنه أيضا، وولى عدة وظائف دينية. وعرض عليه قضاء دمشق فى أوائل دولة الناصر، أعنى زمن دولة الناصر فرج، فأبى أن يقبل ذلك.

وكان إماما وكتب الكثير بخطه، وانتقى أشياء، وحصل الفوائد، واشتهر ذكره فى حياته وبعد موته فى التاريخ وغيره، حتى صار يضرب به المثل، وكان له محاسن شتى ومحاضرة جيدة إلى الغاية لا سيما فى ذكر السلف من العلماء والملوك، وكان منقطعا فى داره ملازما للعبادة والخلوة، قل أن يتردد إلى أحد إلا لضرورة، إلا أنه كان كثير التعصب على الحنفية وغيرهم لميله إلى مذهب الظاهر.

وقال أبو المحاسن: وقرأت عليه كثيرا من مصنفاته، وكان يرجع إلى قولى/فيما أذكره له من الصواب، ويغير ما كتبه أولا فى مصنفاته، وأجاز لى جميع ما يجوز له وعنه روايته من إجازة وتصنيف وغيره، وسمعت عليه كتاب فضل الخيل للحافظ شرف الدين الدمياطى بكماله فى عدة مجالس بقراءة الحافظ قطب الدين محمد الحضرى

(1)

، بسماعه من الحراوى، بسماعه من المصنف، وأخذت عنه، وانتفعت به واستفدت منه

(1)

هكذا فى الأصل وفى المنهل الصافى (الخضيرى).

ص: 184

وكان كثير الكتابة والتصنيف، وصنف كتبا كثيرة من ذلك: إمتاع الأسماع فيما للنبى صلى الله عليه وسلم من الحفدة والاتباع، فى ست مجلدات، رأيته وطالعته وهو كتاب نفيس، وحدث به فى مكة، قال لى مؤلفه رحمه الله: سألت الله تعالى أن يكتب من هذا الكتاب نسخة بمكة وأن أحدث به، فوقع ذلك بمجاورتى ولله الحمد.

وله كتاب الخبر عن البشر، ذكر فيه القبائل لأجل نسب النبى صلى الله عليه وسلم، فى أربع مجلدات، وعمل له مقدمة فى مجلد. وكتاب السلوك فى معرفة دول الملوك، فى عدة مجلدات، تشتمل على ذكر ما وقع من الحوادث إلى يوم وفاته، وذيلت عليه فى حياته من سنة أربعين وثمانمائة وسميته حوادث الدهور فى مبادى

(1)

الأيام والشهور، ولم ألتزم فيه ترتيبه. وله تاريخه الكبير المقفى فى تراجم أهل مصر والواردين إليها، ذكر لى رحمه الله قال: ولو كمل هذا التاريخ على ما أختاره لتجاوز الثمانين مجلدا. وكتاب درر العقود الفريدة فى تراجم الأعيان المفيدة، ذكر فيه من مات بعد مولده إلى يوم وفاته، ثلاثة مجلدات. وكتاب المواعظ والإعتبار فى ذكر الخطط والآثار، فى عدة مجلدات، وهو فى غاية الحسن. وكتاب نحل عبر النحل، وكتاب تجريد التوحيد، وكتاب مجمع الفوائد ومنبع العوائد، كمل منه نحو الثمانين مجلدا كالتذكرة. وكتاب شذور العقود، وكتاب ضوء السارى فى معرفة خبر تميم الدارى، وكتاب الأوزان والأكيال الشرعية، وكتاب

(2)

إزالة التعب والعناء فى معرفة الحال فى الفناء، وكتاب التنازع والتخاصم فيما بين بنى أمية وبنى هاشم. وكتاب حصول الأنعام والسير

(3)

فى سؤال خاتمة الخير، وكتاب المقاصد السنية فى معرفة الأجسام المعدنية، وكتاب البيان والإعراب عما فى أرض مصر من الأعراب،

(1)

هكذا فى الأصل وفى المنهل المرجع السابق ج 1 ص 418 مدى.

(2)

هكذا فى الأصل وفى المنهل المرجع السابق ج 1 ص 419. «كتاب إزالة التعب والعنى فى معرفة الحال فى الغنى».

(3)

هكذا فى الأصل وفى المنهل المرجع السابق ج 1 ص 419 المير.

ص: 185

وكتاب الإلمام فى أخبار

(1)

من بأرض الحبشة من ملوك الإسلام، وكتاب الطرق الغربية أخبار دار حضرموت النجيبة

(2)

، وكتاب فى معرفة ما يجب لأهل البيت من الحق على من عداهم، وكتاب فى ذكر من حج من الخلفاء والملوك، وكتاب عقد الجواهر فى الأسماط من أخبار مدينة الفسطاط، وكتاب إتعاظ الحنفاء بأخبار أئمة الخلفاء، وله تصانيف أخر.

ولم يزل ضابطا حافظا للوقائع والتاريخ إلى أن توفى يوم الخميس سادس عشر شهر رمضان سنة خمس وأربعين وثمانمائة، ودفن من الغد بمقبرة الصوفية خارج باب النصر من القاهرة، رحمه الله تعالى.

والمقريزى بفتح الميم نسبة إلى المقريز محلة ببعلبك انتهى.

(بلبيس)

هى بفتح الباء وكسرها كما فى كتاب مراصد الإطلاع، وفى خطط المقريزى عن أبى عبيد البكرى، أنها بفتح الموحدتين بينهما لام ساكنة وهو موضع قريب من مصر انتهى. ولكن الذى فى القاموس أنها مضمومة الأول وقد يفتح، فإنه قال بلبيس كغرنيق وقد يفتح أوله بلدة بمصر انتهى.

وقال النابلسى

(3)

: بعد أن حكى الضم ويقال: إن بيس بحذف الباء الأولى واللام، اسم امرأة من الملوك نزلت هناك فسميت بها، فيكون بل بفتح الباء حرف اضراب انتهى.

وكانت تسمى قديما فلبيس أو فلابيس، وهى مدينة أشهر بلاد الشرقية خصوصا فى الأعصر الماضية، وكانت قاعدة خط الحوف وكرسيه ومحل إقامة حاكمه، وفيها مقدار عظيم من النخيل والأشجار، ويمر بوسطها خليج مقتطع من النيل وقت فيضانه يسمى بحر أبى المنجى، يروى جميع أرض الخط.

(1)

هكذا فى الأصل وفى المنهل المرجع السابق ج 1 ص 419 تأخر.

(2)

هكذا فى الأصل وفى المنهل المرجع السابق ج 1 ص 419 العجيبة.

(3)

عبد الغنى النابلسى صاحب كتاب الحقيقة والمجاز فى الرحلة إلى بلاد الشام ومصر والحجاز تقديم وإعداد د. أحمد هريدى، مركز تحقيق التراث،1982. ص 178.

ص: 186

وقال المقريزى: إنها سميت فى التوراة أرض حاشان، وفيها نزل يعقوب لما قدم على ابنه يوسف عليهما السلام فأنزله بأرض حاشان، وهى بلبيس إلى العلاقمة، من أجل مواشيهم.

وقال ابن سعيد: إن واليها يصل حكمه إلى الواردة التى هى آخر حد مصر، وإليها تنتهى المعاملة بفضة السواد، والناس يتعاملون بالفلوس بعدها إلى العريش، وهى أول الشام وقيل هى آخر مصر.

وذكر ابن خرداذبة فى كتاب المسالك والممالك، أن بين بلبيس وفسطاط مصر أربعة وعشرين ميلا.

وذكر الواقدى، أن المقوقس زوّج ابنته أرمانوسة من قسطنطين بن هرقل، وجهزها بأموالها وجواريها وغلمانها وحشمها لتسير إليه حتى يبنى بها فى مدينة قيسارية وهم محاصرون بها. فخرجت إلى بلبيس وأقامت بها ويعثت حاجبها الكبير فى ألفى فارس إلى الفرما ليحفظ الطريق، ولا يدع أحدا من الروم ولا غيرهم يعبر إلى مصر، وبعث المقوقس رسله إلى أطراف بلاده مما يلى الشام أن لا يتركوا أحدا يدخل أرض مصر مخافة أن يتحدثوا بغلبة المسلمين على الشام فيدخل الرعب فى قلوب عساكره، فلما قدم عمر بن الخطاب الجابية وسار عمرو بن العاص إلى مصر نزل على بلبيس وبها أرمانوسة بنت المقوقس فقاتل من/بها وقتل منهم زهاء ألف فارس وأسر ثلاث آلاف، وانهزم من بقى إلى المقوقس، وأخذت أرمانوسة وجميع ما لها وسائر ما كان للقبط فى بلبيس فأحب عمرو ملاطفة المقوقس فسير إليه ابنته أرمانوسة مكرمة فى جميع مالها مع قيس بن أبى العاص السهمى فسر بقدومها، ثم سار عمرو إلى القصر، ولم تزل من مدائن مصر الكبار، حتى نزل مرى ملك الإفرنج فأخذها عنوة بعد حصار طويل، وقتل منها آلافا، ولها أخبار كثيرة، وقد خربت منذ عهد الحوادث بديار مصر بعد سنة 806 هجرية بعد ما أدركناها، وبها عمارة كثيرة وفيها عدة بساتين وأهلها أصحاب يسار ونعم سنية.

ص: 187

وقال المقريزى أيضا: إن ناصر الدين العباسى أنشأ بها مدرسة عظيمة. قال: وفى زمننا هذا قد تهدمت.

وقال ابن حوقل: بين الفسطاط والرملة إحدى عشرة مرحلة ونصف موزعة هكذا: من رملة إلى لبنا نصف مرحلة، وإلى أردود مرحلة، وإلى غزة مرحلة، وإلى الرفج مرحلة، وإلى العريش مرحلة، وإلى واردة مرحلة، وإلى البكارة مرحلة، وإلى الفرما مرحلة، وإلى جرجير مرحلة، وإلى فاقوس مرحلة، وإلى بلبيس مرحلة، وإلى الفسطاط مرحلة، وبعضهم جعل المرحلة ثلاثين ميلا، وبعضهم جعلها أربعة وعشرين ميلا، وبعض الجغرافيين جعل بين بلبيس والفسطاط عشرة فراسخ.

وفى كتاب كترمير، نقلا عن بعض من كتب على بلبيس، أن بين القاهرة وبلبيس أربع عشر ساعة، وأهلها نحو خمسين ألف نفس وبقربها يجرى نهر ذمكلاوة.

وذكر المقريزى وغيره، أن بقربها قرية تسمى حيفة، على نحو يومين من الفسطاط، كانت محطة للقوافل القاصدة مكة، وبئر تعرف ببئر بيدا.

وفى تاريخ بطارقة الإسكندرية أن بقرب بلبيس تلا مرتفعا وقريتين إحداهما تسمى سامة والأخرى تسمى جرابى يسكنهما العرب.

وقال حسن بن إبراهيم: إن أرض فاقوس تمتد من جرابى إلى الصالحية، وكانت بلبيس فى مبدأ الأمر أسقفية مستقلة كأسقفية المنصورة ثم ألحقت بأسقفية دمياط، وقد غلط من قال: إن بلبيس محل مدينة بيلوزة أو محل مدينة كانت تسمى فربيط، وإنما كانت فى بعض الأزمان من خط فربيط، بدليل أن المقريزى فى تعداده لبلاد مصر ذكر أن فى خط فربيط خمس عشرة قرية غير الكفور ومن ضمنها بلبيس، وقال: إن فربيط وفاقوس وبسطة وسدير وغيرها قد أعطيت إقطاعات للعرب الذين فتحت مصر على أيديهم، وفربيط هى هربيط. وفى زمن النصرانية كانت كرسى إقليم فربطوس.

ص: 188

وفى خطط المقريزى أيضا، أن قرية سدير بمديرية الشرقية وكانت من ضمن خط ترابية، الذى سماه بطليموس خط العرب، الذى عدد قراه 28 منها سدير والحماة وفاقوس، وكانت سدير فى رأس وادى طوميلات.

وفى كتاب السلوك للمقريزى، أن الملك الظاهر بيبرس العلائى البندقدارى بنى بها قرية سماها بالظاهرية. وطوميلات الذى اشتهر به هذا الوادى علم على قبيلة من قبائل العرب.

وقد تكلم حسن بن إبراهيم على قرية تسمى الكراع بقرب قرية العباسة وقرية سدير.

وقال أبو صلاح: إن خليج القاهرة ينتهى إلى سدير هذه بالقرب من العباسة، وهى قرية من مديرية الشرقية، وكانت عليه قنطرة، ومن هناك كان ينقل القمح فى البر وتشحن به المراكب ويوجه إلى مكة والحجاز.

وقال ابن الوردى: إن أهل القلزم كانوا بستقون الماء من بئر سدير الواقعة فى وسط الرمل.

وفى خطط المقريزى عن ابن المأمون، أن بلاد الشرقية كان لا يصل إليها الماء إلا من الردوسى ومن الصماصيم ومن المواضع البعيدة، فكان أكثرها يشرق فى أكثر السنين، فتضرر المزارعون إلى أبى المنجى اليهودى وكان مشارفا لأعمال تلك الجهات، وسألوه فى فتح ترعة يصل الماء منها فى ابتدائه إليهم، فابتدأ فى حفر خليج أبى المنجى فى يوم الثلاثاء ثالث شعبان سنة ست وخمسمائة، وقبل الشروع فى حفره ركب الأفضل بن أمير الجيوش ضحى، وصحبته القائد أبو عبد الله البطائحى وجميع أخوته والعساكر تحاذيه فى البر، وجمعت شيوخ البلدان وأولادهم وركبوا فى البحر ومعهم حزم البوص فسيروها فى البحر وتبعوها فى المراكب إلى أن رماها الموج إلى الموضع الذى حفروا فيه ذلك الخليج، وأقام

ص: 189

الحفر فيه سنتين وكل سنة تتبين الفائدة فيه، ويتضاعف من ارتفاع البلاد وخصوبتها ما يهون الغرامة عليه، ولما عرض على الأفضل جملة ما أنفق فيه استعظمه وقال: غرمنا هذا المال جميعه والاسم لأبى المنجى. فغير الاسم ودعى بالبحر الأفضلى فلم يتم ذلك ولم يعرف إلا بأبى المنجى.

‌مبحث أبو المنجا

ثم جرت بين أبى المنجى وأبى الليث صاحب الديوان بسبب ما أنفق، خطوب أدت إلى سجن أبى المنجى عدة سنين، ثم نفى إلى الإسكندرية بعد أن كادت نفسه تتلف، ولما طال اعتقاله بالإسكندرية فى مكان بمفرده مضيقا عليه، تحيل بكتب مصحف بخطه، ووضع عليه اسمه وبعث إلى السوق ليبيعه، فبلغ الأمر الخليفة فأحضره، وقال له: ما حملك على هذا؟ قال: طلب الخلاص بالقتل، فأدب وخلى سبيله.

وفى خلافة الآمر/بأحكام الله جعل لفتحه يوما كيوم فتح خليج القاهرة، وأمر ببناء قنطرة متسعة تكون من بحرى السد، وما زال يوم فتح هذا البحر يوما مشهودا إلى أن زالت الدولة الفاطمية، فلما استولى بنو أيوب من بعدهم أجروا الحال فيه على ما كان عليه، وكان يركب له السلطان، ولما لم يركب إليه الملك العزيز عثمان ابن السلطان صلاح الدين بنفسه، ركب إليه أخوه شرف الدين يعقوب الطواشى، وبدت فى هذا اليوم من مخايل القبط وخمورهم، ومنكراتهم ما لا مزيد عليه، واختلطت النساء بالرجال، ولما رفع الأمر إلى السلطان أرسل حاجبه ففرق منهم من وجده، ثم عادوا بعد عوده.

وفى سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة باشر العزيز كسره وزاد النيل فيه إصبعا، وهى الإصبع الثامنة عشر من ثمانية عشر ذراعا، وهذا الحد يسمى عند أهل مصر اللجة الكبرى. قال: وقد تلاشى فى زمننا الإجتماع فى يوم فتح سد أبى المنجى. وقل الاحتفال به لشغل الناس بهمّ المعيشة.

ص: 190

وفى المقريزى أيضا، أن فى سنة 731 أمر السلطان محمد بن قلاوون بعمل جسر شيبين، وسبب ذلك أن أن مديرية الشرقية كان لها جملة جسور فى طول بحر أبى المنجى، وكان خط شيبين ومرصفا ونحوهما فى غالب السنين لا يتم ريها بسبب علو أرضها، فاشتكى الأمير بشتك من تشريق أغلب أراضيه، فركب السلطان من القلعة ومعه جملة مهندسين وذهب يكشف الحال بنفسه، وكان له معرفة بالعمارات ورأى سديد، فلما عاين الأراضى أمر بعمل جسر أوله شيبين القصر وآخره بنها العسل، وجمع لذلك اثنى عشرة ألف رجل ومائتى عربة، فعمله وعمل به قناطره فعند فتح قنال أبى المنجى تمتلئ الحيضان ويمنعها الجسر فترتفع المياه حتى تروى الأراضى العالية.

وقال كترمير: إن خليج أبى المنجى هو بحر الطينة، بدليل أن بحر الطينة المذكور على رأى هيرودوط، وديودور الصقلى واسترابون، وبطليموس كان أحد الخلجان الثلاثة المجتمعة فى محل افتراق النيل، وكان الضلع الثالث من المثلث فى جهة الشرق، وبسبب أن النيل يجلب فى وقت الفيضان كثيرا من الطمى، وميله إلى الغرب أكثر من ميله إلى الشرق، حصل مع الزمن ردم فمه، والظاهر أن هذا كان هو السبب فى تشكى أهل الشرقية، ولعل أبا المنجى طهره أو عدله، ويدل لذلك أيضا قول خليل الظاهرى إن خليج أبى المنجى يصب فى البحر.

وما ذكرناه من أن النيل يميل عن جهة الشرق إلى جهة الغرب لا شبهة فيه بدليل ما ذكره المقريزى فى تخطيط موضع الفسطاط، أن قصر الشمع كان مطلا على النيل، والمراكب ترسو على بابه الغربى المعروف بباب الحديد، ولما استولى المسلمون على الحصن ركب المقوقس المراكب من بابه الغربى وعدى إلى جزيرة الروضة المواجهة له، وكان للنيل مقياس فى أحد زوايا القصر، وكان موجودا إلى سنة عشرين وثمانمائة انتهى.

والظاهر أن بحر أبى المنجى محل الفرع الذى كان يصل إلى مدينة بيلوزة (الطينة) ويصب فى البحر المالح حيث تزحزح النيل كثيرا من المشرق إلى المغرب.

ص: 191

وقال كترمير أيضا فى الكلام على السلطان قلاوون: إنه بعد انقضاء الحروب سنة ستمائة واثنتين وثمانين من الهجرة اشتغل السلطان بأمر البلاد، وكانت مديرية البحيرة قد خربت عن آخرها وأمحلت أرضها وأضحت سهولا ترعى فيها العرب بعد أن كانت فى غاية من العمارية، وكانت أرضها أخصب الأراضى. وقد ذكر له بعض جلسائه أن خراب تلك البلاد ومحل أرضها سببه قلة الماء بها، وأن هناك خليجا قديما فى محل يعرف بالطبرية ردمته الرمال، ولو حصلت الهمة فى حفره عادت إليها عماريتها وخصوبة أرضها، لكن يلزم له كثرة الرجال والشغالين ليتم حفره قبل مجئ النيل عليه، لأنه إذا حفر بعضه وبقى البعض ردم النيل ما حفر، وليس فى أهل تلك المديرية كفاية لذلك، فصغا السلطان لقوله ووقع منه موقع القبول، وكتب فى الحال لحكام كافة المديريات البحرية بجمع الأنفار والأبقار، ووعد بأنه يحضر فى العمل بنفسه وجيشه للمساعدة، وبعد قليل سار إليه مع أولاده والملك المنصور وأمير حماة وأمراء البلد والعساكر، وكان قيامه فى الخامس من المحرم ووصوله إلى محل العمل فى الثامن منه، وقسم الخليج على الأمراء وجعل لنفسه قسما معهم فاجتهد كل منهم فى حصته بخدمه ومماليكه، وجلبوا رجالا بالأجرة وتنافسوا للتقدم. وكان السلطان يطوف بنفسه ويقف عند كل قسم ويشجعهم بالهدايا والعطايا ويطعم رجال قسمه، ومن زيادة اهتمامه بتنجيز العمل اشتغل معهم بنفسه وأولاده ومماليكه حتى حمل قفة التراب على كتفه، وكانوا لأجل النشاط يستعملون فى كل قسم آلات الطرب، كالمزيكات والمغانى وغبرها، فتم العمل فى عشرة أيام، فكان خليجا طوله ستة آلاف قصبة وستمائة وعرضه من ثلاث قصبات إلى أربع أو أكثر على حسب ارتفاع الأرض وانخفاضها، وفى اليوم الحادى والعشرين من المحرم قام السلطان بعساكره.

وحصل لبلاد البحيرة من الفوائد بسبب هذا العمل الناجح مالا يحصى، وأخصبت أرضها بعد محلها الذى/سببه حرمانها من ماء النيل، وحدثت فى تلك الجهات بلاد كثيرة بسبب ذلك.

وفى خطط المقريزى أيضا فى باب نزول العرب بريف مصر ما نصه، قال الكندى:

ص: 192

وفى ولاية الوليد بن رفاعة الفهمى على مصر نقلت قيس إلى مصر فى سنة تسع ومائة، ولم يكن بها أحد منهم قبل ذلك إلا ما كان من فهم وعدوان، فوفد ابن الحبحاب على هشام بن عبد الملك فسأله أن ينقل إلى مصر منهم أبياتا فأذن له فى لحاق ثلاثة آلاف منهم، وتحويل ديوانهم إلى مصر على أن لا ينزلهم بالفسطاط، فعرض لهم ابن الحبحاب وقدم بهم فأنزلهم الحوف الشرقى وفرقهم فيه، ويقال إن عبيد الله بن الحبحاب لما ولاه هشام بن عبد الملك مصر قال: ما أرى لقيس فيها خطا إلا لناس من جديلة وهم فهم وعدوان، فكتب إلى هشام أن أمير المؤمنين أطال الله بقاءه قد شرف هذا الحى من قيس ونعشهم ورفع من ذكرهم، وأنى قدمت مصر ولم أر لهم خطا إلا أبياتا من فهم وفيها كورة ليس فيها أحد، وليس يضر بأهلها نزولهم معهم، ولا يكسر ذلك خراجا، وهى بلبيس، فإن رأى أمير المؤمنين أن ينزلها هذا الحىّ من قيس فليفعل، فكتب إليه هشام أنت وذاك، فبعث إلى البادية فقدم عليه مائة أهل بيت من بنى نضر، ومائة أهل بيت من بنى سليم فأنزلهم بلبيس وأمرهم بالزرع، ونظر إلى الصدقة من العشور فصرفها إليهم فاشتروا إبلا فكانوا يحملون الطعام إلى القلزم، وكان الرجل يصيب فى الشهر العشرة دنانير وأكثر، ثم أمرهم بشراء الخيول فجعل الرجل يشترى المهر فلا يمكث إلا شهرا حتى يركب، وليس عليهم مؤنة فى علف إبلهم ولا خيلهم لجودة مرعاهم، فلما بلغ ذلك عامة قومهم تحملوا إليهم فوصل إليهم خمسمائة أهل بيت من البادية، فكانوا عل مثل ذلك، فأقاموا سنة فأتاهم نحو من خمسمائة من أهل بيت فصار ببلبيس ألف وخمسمائة أهل بيت من قيس، حتى إذا كان زمن مروان بن محمد، وولى الحوثرة بن سهيل الباهلى مصر، مالت إليه قيس، فمات مروان وبها ثلاثة آلاف أهل بيت، ثم توالدوا وقدم عليهم من البادية من قدم.

وفى سنة ثمان وسبعين ومائة، كشف اسحق بن سليمان بن على بن عبد الله بن عباس أمير مصر أمر الخراج، وزاد على المزارعين زيادة أجحفت بهم فخرج عليه أهل.

الحوف وعسكروا، فبعث إليهم الجيوش وحاربهم، فقتل من الجيش جماعة، فكتب إلى أمير المؤمنين هرون الرشيد يخبره بذلك، فعقد لهرثمة بن أعين فى جيش عظيم. وبعث به

ص: 193

إلى مصر فنزل الحوف، وتلقاه أهله بالطاعة، وأذعنوا بأداء الخراج فقبل هرثمة منهم واستخرج خراجه كله. ثم إن أهل الحوف خرجوا على الليث بن الفضل البيودى أمير مصر، وذلك أنه بعث بمسّاحين يمسحون عليهم أراضى زرعهم فانتقصوا من القصبة أصابع، فتظلم الناس إلى الليث فلم يسمع منهم فعسكروا وساروا إلى الفسطاط، فخرج عليهم الليث فى أربعة آلاف من جند مصر، فى شعبان سنة ست وثمانين ومائة، فالتقى معهم فى رمضان فانهزم عنه الجند فى ثانى عشره، وبقى فى نحو المائتين فحمل بمن معه على أهل الحوف فهزمهم حتى بلغ بهم غيفة، وكان التقاؤهم على أرض جب عميرة، وبعث الليث إلى الفسطاط بثمانين رأسا من رؤس القيسية ورجع إلى الفسطاط، وعاد أهل الحوف إلى منازلهم ومنعوا الخراج، فخرج الليث إلى أمير المؤمنين هرون الرشيد فى المحرم سنة سبع وثمانين ومائة وسأله أن يبعث معه بالجيوش فإنه لا يقدر على استخراج الخراج من أهل الحوف إلا بجيش يبعث معه. وكان محفوظ بن سليم بباب الرشيد فرفع محفوظ إلى الرشيد يضمن له خراج مصر عن آخره بلا سوط ولا عصى، فولاه الخراج وصرف ليث بن الفضل عن صلات مصر وخراجها.

وفى ولاية الحسين بن جميل، امتنع أهل الحوف من أداء الخراج فبعث أمير المؤمنين هرون الرشيد يحيى بن معاذ فى أمرههم، فنزل بلبيس فى شوّال سنة إحدى وتسعين ومائة وصرف الحسين بن جميل عن إمارة مصر فى شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وتسعين ومائة، وولى مالك بن دلهم، وفرغ يحيى بن معاذ من أمر الحوف وقدم الفسطاط فى جمادى الآخرة، فورد عليه كتاب الرشيد يأمره بالخروج إليه فكتب إلى أهل الحوف أن أقدموا حتى أوصى بكم مالك بن دلهم، وأدخل بينكم وبينه فى أمر خراجكم، فدخل كل رئيس منهم من اليمانية والقيسية وقد أعدّ لهم القيود، فأمر بالأبواب فأخذت، ثم دعا بالحديد فقيدهم، وتوجه بهم فى النصف من رجب منها.

وفى إمارة عيسى بن يزيد الجلودى على مصر، ظلم صالح بن شيرزاد، عامل الخراج، الناس وزاد عليهم فى خراجهم فانتقض أهل أسفل الأرض وعسكروا،

ص: 194

فبعث عيسى بابنه محمد فى جيش لقتالهم، فنزل بلبيس وحاربهم فنجا من المعركة بنفسه، وذلك فى صفر سنة أربع عشرة ومائتين، فعزل عيسى عن مصر، وولى عمير بن الوليد التميمى فاستعد لحرب أهل الحوف، وسار فى جيوشه فى ربيع الآخرة فزحفوا عليه واقتتلوا فقتل من أهل الحوف جمع وانهزموا، فتبعهم عمير فى/طائفة من أصحابه فعطف عليه كمين لأهل الحوف فقتلوه لست عشرة ليلة خلت من ربيع الآخر. فولى عيسى الجلودى ثانيا وسار إليهم فلقيهم بمنية مطر، فكانت بينهم موقعة آلت إلى أن انهزم منهم إلى الفسطاط وأحرق ما ثقل عليه من رحله وخندق على الفسطاط وذلك فى رجب.

وقدم أبو اسحق بن الرشيد من العراق فنزل الحوف وأرسل إلى أهله فامتنعوا من طاعته، فقاتلهم فى شعبان ودخل وقد ظفر بعدة من وجوههم إلى الفسطاط فى شوّال، ثم عاد إلى العراق فى المحرم سنة خمس عشرة ومائتين بجمع من الأسارى، فلما كان فى جمادى الأولى سنة ست عشرة ومائتين انتقض أسفل الأرض بأسره عرب البلاد وقبطها، وأخرجوا العمال وخلعوا الطاعة لسوء سيرة عمال السلطان فيهم فكانت بينهم وبين عساكر الفسطاط حروب امتدت إلى أن قدم الخليفة عبد الله أمير المؤمنين المأمون إلى مصر لعشر خلون من المحرم سنة سبع عشرة ومائتين، فسخط على عيسى بن منصور الرافقى، وكان على إمارة مصر، وأمر بحل لوائه، وأخذه بلباس البياض عقوبة له.

وقال: لم بكن هذا الحدث إلا عن فعلك وفعل عمالك حملتم الناس ما لا يطيقون، وكتمتنى الخبر العظيم، حتى تفاقم الأمر واضطرب البلد.

‌موت الملك العزيز بالله والبيعة لابنه الحاكم

فى سنة ست وثمانين وثلثمائة، توفى بمدينة بلبيس الملك العزيز بالله أبو النصر نزار ابن المعز لدين الله أبى تميم معدّ، فى الثامن والعشرين من شهر رمضان، من مرض طويل بالقولنج، فحمل إلى القاهرة ودفن بتربة القصر مع آبائه، وعمره اثنتان وأربعون سنة وثمانية أشهر وأربعة وعشرين يوما، وكانت مدة خلافته بعد أبيه إحدى وعشرين سنة

ص: 195

وخمسة أشهر ونصف. وبعد موته بويع بالخلافة فى هذه المدينة أيضا ابنه الحاكم بأمر الله، وكان ذلك بعد الظهر من يوم الثلاثاء العشرين من رمضان، وسار إلى القاهرة فى يوم الأربعاء بسائر أهل الدولة، والعزيز فى قبة على ناقة بين يده، ودخل القصر قبل صلاة المغرب وأخذ فى جهاز أبيه.

وفى سنة أربع وخمسين وخمسمائة، بنى الملك الصالح طلائع بن رزيك على بلبيس حصنا من لبن.

وفى سنة أربع وستين وخمسمائة، تمكن الإفرنج من ديار مصر، وحكموا فى القاهرة، وركبوا المسلمين بالأذى العظيم، وتيقنوا أنه لا حامى للبلاد من أجل ضعف الدولة، وانكشفت لهم عورات الناس، فجمع مرى ملك الإفرنج بالساحل جموعا واستجد قوما قوى بهم عساكره، وسار إلى القاهرة من بلبيس بعد أن أخذها وقتل كثير من أهلها.

وفى سنة تسع وثمانين وخمسمائة، مات صلاح الدين، وتولى ابنه السلطان الملك العزيز عماد الدين أبو الفتح عثمان، وقد كان ينوب عن والده بمصر، وهو مقيم بدار الوزارة من القاهرة، فحصل بينه وبين أخيه الأفضل فشل أوجب سيره من مصر لمحاربته وحصره بدمشق، فدخل بينهما العادل أبو بكر حتى عاد العزيز إلى مصر على صلح فيه دخل، فلم يتم ذلك، وتوحش ما بينهما، وخرج العزيز ثانيا إلى دمشق، فدبر عليه عمه العادل حتى كاد أن يزول ملكه، وعاد خائفا، فسار إليه الأفضل والعادل حتى نزلا بلبيس فجرت أمور آلت إلى الصلح، وأقام العادل مع العزيز بمصر وعاد الأفضل إلى مملكته بدمشق. ولما تولى ابنه الملك المنصور ناصر الدين محمد، وعمره تسع سنين، قام بأمور الدولة بهاء الدين قرقوش الأزدى الأنابك، فاختلف عليه أمر الدولة، وكاتبوا الملك الأفضل، فقدم من صرخد فى خامس ربيع الأول، فاستولى على الأمور ولم يبق للمنصور معه سوى الاسم، ثم سار به من القاهرة فى ثالث رجب يريد أخذ دمشق من عمه العادل بعدما قبض على عدة من الأمراء، فجرت بينه وبين عمه حروب كثيرة آلت

ص: 196

إلى عود الأفضل إلى مصر بمكيدة دبرها عليه العادل، وخرج العادل فى أثره وواقعه على بلبيس فكسره فى سادس ربيع الآخر سنة ست وتسعين وخمسمائة، والتجأ إلى القاهرة وطلب الصلح، فعوضه العادل صرخد ودخل إلى القاهرة، وخلعه فى يوم الجمعة حادى عشر شوّال، وتسلطن هوباسم الملك العادل سيف الدين أبى بكر محمد بن أيوب.

وفى القرن السابع فما قبله وكانت هذه المدينة كما فى المقريزى، من مراكز الطير التى كانت تحمل البطائق إلى الملوك كناحية بيسوس وقطيا وغيرهما، على ما بيناه فى الكلام على أبراج الحمام عند ذكر منية عقبة.

‌ترجمة فخر الدين محمد بن فضل الله

وقال المقريزى أيضا: إن ناظر الجيش فخر الدين محمد بن فضل الله، بنى ببلبيس مارستانا، وفعل بها وبغيرها أنواعا كثيرة من الخير، كبناء المساجد وحياض الماء المسبلة فى الطرقات.

قال: وكان أوّلا نصرانيا وكان متألها فى نصرانيته، ثم أكره على الإسلام فامتنع، وهم بقتل نفسه وتغيب أياما ثم أسلم وحسن إسلامه، وأبعد النصارى ولم يقرب أحدا منهم، وحج غير مرة وتصدّق فى آخر عمره مدة فى كل شهر ثلاثة آلاف درهم نقرة، وزار القدس مرارا، وأحرم مرة من القدس بالحج وسار إلى مكة محرما، وكان إذا خدمه أحد مرة واحدة صار صاحبه طول عمره، وكان كثير الإحسان لا يزال فى قضاء حوائج الناس مع عصبية شديدة لأصحابه، وانتفع به خلق كثيرون/لوجاهته عند السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون. وكان أوّلا كاتب المماليك السلطانية ثم ولى نظر الجيش، ثم صارت المملكة كلها له من أمور الجيش والأموال وغيرها، إلى أن غضب عليه السلطان وصادره على أربعمائة ألف درهم، ثم رضى عنه وأمر بإعادة ما أخذه منه فامتنع، وقال:

أنا خرجت عنها للسلطان فليبن بها جامعا، فبنى بها الجامع الجديد الناصرى، وكان موته

ص: 197

سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة، وله من العمر ما ينيف على سبعين سنة، وترك موجودا عظيما إلى الغاية. وقال السلطان لما بلغه جوابه: لعنه الله خمس عشرة سنة ما يدعنى أعمل ما أريد، وأوصى للسلطان بأربعمائة ألف درهم نقرة، فأخذ من تركته أكثر من ألف درهم، ومن حين موته كثر تسلط الملك الناصر على أموال الناس، انتهى.

وفى حوادث سنة اثنتين وعشرين وتسعمائة من تاريخ ابن إياس

(1)

، أن السلطان طومان باى لما تحقق وصول ابن عثمان إلى بلبيس رسم بحرق الشون التى فى بلبيس وما حولها، حتى الشون التى فى الخانقاه، فحرقوا أشياء كثيرة من التبن والدريس والقمح والشعير والفول وغير ذلك، لئلا ينهبه عساكر ابن عثمان لخيوله فتقوى عساكره على القتال، وصار العرب يقطعون رؤس العثمانية الذين يظفرون بهم فى الطرقات فيرسلها السلطان إلى المدينة وهو يومئذ فى وطاقه جهة المطرية، انتهى.

وفى الجبرتى فى حوادث سنة تسع عشرة ومائتين وألف

(2)

، أن أمراء المماليك لما صار خروجهم من مصر واجلاؤهم منها واستيلاء عساكر الأرنؤد وعاثت المماليك فى البلاد بالفساد، ومعهم طوائف العرب-كما ذكرنا فى عدة مواضع من هذا الكتاب كالوايلى وغيره-ذهبت طائفة منهم إلى بلبيس فحاصرهم بها كاشف الشرقية يومين ثم تغلبوا عليه، ونقبوا عليه الحيطان، وقتلوا من معه، وأخذوه أسيرا ومعه اثنان من كبار العسكر، ثم نهبوا البلد وقتلوا من أهلها نحو المائتين وحضر أبو طويلة، شيخ العائذ، عند الأمراء وكلمهم على ترك النهب، وقال لهم: هذه الزروعات غالبها للعرب، والذى زرعه الفلاح فى بلاد الشرق شركة مع العرب، مع أن هبود العرب الواصلين معهم ليس لهم رأس مال فى ذلك، فكفوهم وامنعوهم ويأتيكم كفايتكم، وأما النهب فإنه يذهب

(1)

بدائع الزهور فى وقائع الدهور. لابن إياس تحقيق د. محمد مصطفى، مركز تحقيق التراث ج 5 ص 142.

(2)

تاريخ الجبرتى، المرجع السابق ج 3، ص 311.

ص: 198

هدرا. فلما سمع كبار العرب المصاحبين لهم من الهنادى وغيرهم قوله، هبود العرب، اغتاظوا منه وكادوا يقتلونه، ووقع بين العرب مناقشة واختلاف وفشل فوق الفشل الحاصل مع الحكام والمماليك، ولم يزدد الأمر على البلاد إلا شدة، وانتهى الفساد إلى خراب البلاد، انتهى.

ومن جميع ما تقدم يعلم أن بلبيس من المدن المعتبرة قديما، نزلتها الملوك ونشأت منها الأكابر والأفاضل.

‌ترجمة عماد الدين محمد بن اسحق البلبيسى

ففى حسن المحاضرة للسيوطى

(1)

، أن منها عماد الدين محمد بن اسحق بن محمد ابن المرتضى البلبيسى الشافعى، كان من حفاظ المذهب، أخذ عن ابن الرفعة وغيره، وولى قضاء الإسكندرية، مات بالطاعون، فى شعبان سنة تسع وأربعين وسبعمائة وقد قارب السبعين.

‌ترجمة القاضى مجد الدين الكنانى

ومنها القاضى مجد الدين إسماعيل بن إبراهيم بن محمد بن على بن موسى الكنانى البلبيسى، تخرج بمغلطاى والتركمانى، ومهر فى الفقه والفرائض وشارك فى الأدب، وله تأليف فى الفرائض، واختصر الأنساب للرشاطى، وولى قضاء الحنفية فى القاهرة، مات فى ربيع الأول سنة اثنتين وثمانمائة

(2)

.

(1)

حسن المحاضرة للسيوطى، المرجع السابق، ج 1، ص 428.

(2)

حسن المحاضرة للسيوطى، المرجع السابق، ج 1، ص 472 - ج 2، ص 185.

ص: 199

‌ترجمة الشيخ محمد بن على المعروف بابن النحاس

وفى الضوء اللامع للسخاوى

(1)

، أنه ولد بها الشيخ محمد بن على بن محمد البلبيسى المكى الشافعى المعروف بابن النحاس، قدم مع أبويه إلى مكة رضيعا فأرضعته السبدة زينب بنت القاضى أبى الفضل النويرى، قلما ترعرع لزم خدمتها وخدمة زوجها، ثم نال دنيا بالتجارة وغيرها، واستفاد عقارا ونقدا وعروضا، ومات سنة سبع وستين وثمانمائة بمكة ودفن بالمعلاة، وسمع من الزين المراغى والقاضى عبد الرحمن الزرندى، ورقية ابنة مزروع بالمدينة، ومن مخدومته زينب وزوجها الجمال بمكة، انتهى.

‌ترجمة الشيخ محمد المعروف بابن البيشى

وفيه أيضا

(2)

، أن منها الشيخ محمد بن محمد بن أحمد بن أبى العباس البلبيسى قاضيها الشافعى، يعرف بابن البيشى بموحدة مكسورة بعدها تحتانية ثم معجمة، ولد بلبيس ونشأ بها، وكان المجد إسماعيل البلبيسى قاضى الحنفية بمصر قريبه من جهة النساء، فانتقل عنده بالقاهرة فجوّد بعض القرآن وحفظ العمدة والمنهاج والألفية وغيرها على قريبه المجد وغيره، وأجازوه، وبحث جميع المنهاج على الأبناسى وغيره، وحج مع أبيه صغيرا وكان يستحضر أكثر الروضة والحاوى، وكتب بخطه الحسن أشياء، وناب فى القضاء ببلده عن جماعة، بل اقتصر القاياتى أيام قضائه عليه فى الشرقية جميعها إجلالا له. وكان إماما عالما فقيها غاية فى التواضع وطرح التكلف، مات سنة ثلاث وخمسين وثمانمائة، ولم يخلف فى الشرقية مثله، انتهى.

(1)

الضوء اللامع، المرجع السابق، ج 9، ص 8.

(2)

الضوء اللامع، المرجع السابق، ج 9، ص 28.

ص: 200

‌ترجمة الشمس البلبيسى

وفيه أيضا

(1)

، أن منها الشيخ محمد بن محمد الشمس البلبيسى القاهرى الشافعى، ولد ببلبيس ونشأ بالقاهرة فى كنف أبيه، جاور بالأزهر واشتغل بالفقه ونحوه عند ابن قاسم وابن شولة وتعب فى تربيته وسافر معه لمكة وبيت المقدس وغيرهما واسترزق من الكتابة والتعليم فى بيت ابن عليبة ونزل فى سعيد/السعداء والبيبرسية وغيرهما، وتغير خاطر أبيه منه قليلا ثم تراجع، وما مات إلا وهو يدعو له، وجاور بعد موت أبيه بمكة ثم عاد وأسكنه الاستادار فى المسجد الذى جدده بالخشابين. وجعل له إمامته والقيام به، انتهى.

ولم يذكر تاريخ وفاته وإنما ذكر أن ولادته كانت سنة ثلاث وخمسين وثمانمائة.

‌ترجمة الشيخ محمد الحملى

قال

(2)

: وولد بها أيضا الشيخ محمد بن محمد الحملى البلبيسى القاهرى الشافعى، وبعد أن حفظ القرآن حفظ العمدة والتبريزى والجرجانية وربع المنهاج على فقيه بلده البرهان الفاقوسى، وخطب أشهرا بجامع بلده ثم صحب الشيخ الغمرى وتلقن منه، ولقى ابن رسلان وتهذب بهديه، وأخذ عن الشهاب الزواوى وآخرين، وسافر لمكة والمدينة وبيت المقدس والخليل والمحلة، وتكسب بالنساخة وقيد على البخارى والشفاء من الحواشى النافعة ما يدل لفضله، واختصر تفسير البيضاوى مع زيادات وكتب على المنهاج إلى الزكاة، وامتدح النبى صلى الله عليه وسلم بقصيدة، وكان فاضلا دينا جيد الفهم، بديع التصوّر، صحيح العقيدة، خبيرا بالأمور متين التحرى والعفة، حسن العشرة نير

(1)

الضوء اللامع، المرجع السابق، ج 9 ص 253،252.

(2)

الضوء اللامع، المرجع السابق، ج 9، ص 60.

ص: 201

الهيئة، مات فى ربيع الأول سنة سبع وثمانين وثمانمائة، ودفن بجوار أبيه بتربة سعيد السعداء، رحمه الله تعالى انتهى.

‌مطلب مزار الشيخ سعدون ومن معه

وفى رحلة سيدى عبد الغنى النابلسى

(1)

، رحمه الله، من الشام إلى مصر.

قال: وصلنا بلدة بلبيس، فنزلنا هناك فى زاوية عمرت قبل نحو سنتين من تاريخ نزولنا بها على قبر الولى الصالح الشيخ داود الغجرى، بفتح الغين المعجمة وفتج الجيم وكسر الراء وياء النسبة، وعليه قبة لطيفة وعمارة شريفة، وهناك مسجد وماء جار بدولاب الدواب من بئر هناك. (قلت):-وقد خرب الآن وتعطل وصار المكان مملوءا بالرمال-وبالقرب منه قبر الشيخ سعدون السطوحى، ويقال إنه يجتمع مع سيدى أحمد البدوى فى النسب، وهذا المزار مشهور به، وله به مولدان كل سنة بعد عيد الفطر بخمسة أيام وفى عاشوراء، وكانا مشهورين جامعين يأتيهما الناس من كل مكان، وقد قل اجتماع الناس بهما الآن.

قال سيدى عبد الغنى: وبالقرب منه قبر الشيخ سعدون الجنزى، بفتح الجين وسكون النون ثم زاى وياء النسبة، وهو رجل من أولياء الله تعالى الصالحين، له قبة وعليه عمارة. وهناك أيضا قبر الشيخ عبد الله نمرقنه، بنون فى أوّله يقولها بعضهم مفتوحة وبعضهم مكسورة ثم ميم ساكنة وراء وقاف مكسورة أو مفتوحة ثم نون مفتوحة مشددة فى آخرها هاء ساكنة، وهو رجل من المغازين وهو الذى فتح البلاد ولم يزل يجاهد فى الكفار

(1)

الحقيقة والمجاز، المرجع السابق، ص 178.

ص: 202

حتى قتل وقطعت رجلاه، وبعد أن قطعت رجلاه أخذ عظم رجله فضرب به رجلا فقتله، وعظم رجله الآخر فضرب به رجلا فقتله. وعلى قبره عمارة.

قال وقد قلنا من النظام فى ذلك المقام:

سقى الله وادى النيل فيه فسبحوا

وحفرات ماء جوفهنّ فسيح

ويا حبذا بلبيس والنخل راكع

صفوفا بها ابان أقبل ريح

كقامات غيد رافعات كفوفها

لنحو السما والطل ثم يسيح

زمان الشتا حيث البخار كأنه

دخان به فاحت مهامه فيح

إذا سار فيه القوم غشى ركابهم

وتمحقه شمس الضحى فتريح

وتلك التلال الغرّ بين مياهه

وغدرانه عنها البلال تزيح

فتمشى بها الأقدام فوق صراطها

إلى حيث شاءت والغرام صحيح

بلاد بها مصر الشريفة قد زهت

على ما سواها والمقال صحيح

غلال زجنات من النخل زخرفت

بكل قوام ماس وهو رجيح

(قلت): وهذا المشهد مشهور يقصده الناس للزيارة والتبرك به.

وهذه المدينة إلى الآن عامرة وبها سوق فيه حوانيت كثيرة مشتملة على أصناف من البضائع والحرف، وبها جملة معاصر لزيت الشبرنج، وأغلب مبانيها بالطوب الأحمر، وفيها أربعة مساجد جامعة. أحدها جامع السلطان العزيز، ويقال له الجامع الكبير، وبه منارة مرتفعة.

وبه مقام العارف بالله تعالى ذى الكرمات الباهرة والنفحات الظاهرة، السيد مصطفى المنسى السعدونى، نسبة إلى سيدى سعدون السطوحى، المدفون بمشهده الشهير خارج بلبيس فى البر الشرقى للترعة الحلوة الإسماعيلية، مع سعدون الجنزى وغيره كما تقدم، وإلى سعدون السطوحى ينسب هذا المشهد.

ص: 203

‌ترجمة الشيخ مصطفى المنسى

ولد السيد المنسى المذكور ببلبيس/ونشأ بها هو ووالده وعائلتهم جميعا، وأخذ طريق الخلوتية عن الولى الكامل شيخ الإسلام، والجامع الأزهر، العارف بالله تعالى الشيخ عبد الله الشرقاوى بسنده فى هذا الطريق إلى السيد الحفنى رضي الله عنهم جميعا، فتربى فى حجر شيخه الشيخ الشرقاوى ورعايته، حتى بلغ من الكمال منتهاه، وأذنه بالتلقين وتربية المريدين، فأقام ببلده يرشد الخلق ويقضى حوائج العباد، ساعيا فى مرضاة الله تعالى وكان ذا همة عالية وهيبة تامة، تهابه الحكام وتقضى حوائجه جميعها، يدون أن يختلط بهم وأن يكون لهم عنده منزلة فكان لا يألف إلا الفقراء ولا يعتنى إلا المساكين، ويقضى حاجة المضطر كائنة ما كانت، وبالغة ما بلغت ولو عند أشدّ الحكام، وكانت كراماته شهيرة جدا لا ينكرها أحد من أهل عصره، خصوصا من كان كثير الاجتماع به والملازمة له من المطلعين على أحواله.

توفى، رحمه الله تعالى، فى ربيع الآخر سنة سبع وسبعين ومائتين وألف هجرية، ودفن بالجامع الكبير-فإنه كان بإزاء بيته-وكان رضي الله عنه ناظرا فى مصالحه قائما بشعائره وجميع ما يلزم لعمارته لله تعالى، فإنه كان قد انقطع إيراده ولم يكن له إيراد يصرف عليه منه حتى لاحظ الشيخ رحمه الله، ولم يزل عامرا إلى الآن بنظر أولاد الشيخ وأتباعه، وهو أعمر مساجد البلد، وعليه من النور والجلال ما يبهر العقل ولا ينكره أحد، سيما بعد أن دفن فيه الشيخ رحمه الله رحمة واسعة.

والثانى: جامع السادات، وهو جامع المأمون.

والثالث، جامع السويقة، وهو جامع الناصر، ولكل منهما منارة.

والرابع: جامع المقرقع، وله أوقاف يصرف عليه منها، من حوانيت ودور وغيره، وهو الآن معطل الشعائر خراب.

ص: 204

وقد عد المقريزى فى المحاريب التى وضعها الصحابة، رضي الله عنهم، فى قرى مصر محرابا بمدينة بلبيس، ولعله هو محراب الجامع الكبير.

وبها جملة زوايا للصلاة أيضا، وحمام غير منتظم، بل هو قذر، وأنوال لنسج الأقمشة البلدية. وأرباب حرف، وتجار قطن، من الدول المتحابة والأهالى. وجملة أضرحة مثل: مقام سيدى سعدون السطوحى، والجنزى-شرقى ترعة الإسماعيلية، له مولدان كل سنة كما تقدم، يجتمع فيه من أهالى المديرية-ومقام سيدى محمد الصادق، وأمير الجيش، وأبى المظلوم وغير ذلك، وبها جملة من النخيل والأشجار المتنوعة. وبها مكاتب أهلية لتعليم القرآن والكتابة.

والترعة الإسماعيلية تمر فى شرقيها بمسافة نحو ألف متر، وعليها هناك هويس، وفى غربيها على نحو ألف وخمسمائة متر فرع الشيبينى، وغربى ذلك الفرع محطة السكة الحديد، وكان فى السابق بجوارها من الجهة الغربية بحر يقال له بحر أبى قوام، وكان له أرصفة بالطوب الأحمر والمونة، وكان على شاطئه حمام بعض آثاره باقية إلى الآن، وقد صار ذلك البحر الآن أرض مزارع وصار بينه وبينها نحو مائتى متر.

‌مطلب الأشجار الكابلية

وبها ثلاثة أشجار كابلية، لا توجد إلا فى بلاد الهند، واحدة بجنينة الشيخ عمر حرش القاضى، واثنتان فى محل يقال له حمرة الحلبى، إحداهما بجوار الساقية من الجهة القبلية، وهى خلفة، والأخرى فى قبليها بمسافة خمسة عشر مترا، ومحيط هذه الشجرة متر، والتى بقرب الساقية محيطها أربعة أعشار متر، والتى بجنينة الشيخ عمر محيطها ستة أعشار متر، وجميعها له شبه بشجر النبق، وفروعها تشبه الصفصاف، ولها شوك يشبه شوك الليمون، ولون ورقها يشبه لون ورق النيلة، لكنه فى الاستدارة مثل ورق النبق، وبه نعومة وثمرها يشبه التفاح، ولكنه على هيئة البلح الطويل، ويرطب مثل البلح، وبه مادة سكرية، وأكثر وجوده فى شهر برمهات، وقد يستديم مثل الليمون

ص: 205

وأهل البلد يقولون إنه كان فى المحل-أى محل حمرة الحلبى-كنيسة حيث وجد به بعض آثار من المبانى تدل على ذلك، وبحرى الساقية التى بجوار الشجرة أثر مبان تشبه القبور، ولكنها متداخلة.

وزمام أطيانها ألفان وستمائة واثنان وعشرون فدانا وثلثا فدان، وتعداد أهاليها ذكورا وإناثا خمسة آلاف وستمائة وثمان وستون نفسا، ولها سوق كل يوم خميس، يباع فيه المواشى وكافة الأصناف.

وفى غربى مدينة بلبيس قرية منية حمل على نحو ثلاثة آلاف متر ويفصلها عنها البحر الشيبينى والسكة الحديدية، وفى منية حمل المذكورة من الجهة الغربية قطعة حجر عظيمة، مبنية صلبة جدا لا تكاد تؤثر فيها المعاول، ويقال إنها فى الأصل باب من أبواب مدينة بلبيس. فعلى هذا تكون منية حمل من جملة بلبيس، وبهذا البلد-أعنى منية حمل- جامع عظيم محكم الوضع، فى وسط البلد، ليس بها غيره، ومئذنة مرتفعة جدا، بناه الظاهر بيبرس البندقدارى، ولم يزل هذا البناء موجودا إلى الآن، وبها من الأضرحة ضريح الشيخ سالم المجاهد بالقرافة، وضريح الشيخ محمد السقيم، وضريح سيدى على المزين، وضريح سيدى على الغيطى، وضريح سيدى محمد أبى شريف.

‌ترجمة الشيخ أحمد الحملاوى

وإليها ينسب الشيخ أحمد الحملاوى بن محمد بن أحمد، ولد بها سنة 1273 وتربى فى حجر والده، وقرأ القرآن بها، وقدم إلى الأزهر/سنة 1288 فحفظ المتون، وجوّد القرآن الشريف، وتلقى كثيرا من العلوم الشرعية والأدبية عن أفاضل عصره، ثم دخل مدرسة دار العلوم، وتلقى الفنون المقررة قراءتها فيها. وسيأتى باقى الكلام عليها فى المنيات.

وفى قبلى بلبيس على بعد ثلاثة آلاف متر، ناحية الزريبة، على حافة الترعة

ص: 206

الإسماعيلية من البر الغربى، وهى واقعة بأرض رمال وبها مسجد عامر، ومكاتب لتعليم القرآن والكتابة، ومعاصر لاستخراج الزيت، وطواحين حناء، وبها منزل مشيد لعمدتها أحمد مصطفى، وبستان ذو فواكه بجوار السكة من جهة الشمال، وبها مجلسان للدعاوى والمشيخة. ويكثر فيها زراعة شجر الحناء، وبها نخيل وأنواع من الأشجار، وبها وابور لعمدتها المذكور. وزمام أطيانها ثمانمائة واثنان وثلاثون فدانا وكسر، وعدد أهلها ألف ومائة وأربع وستون نفسا، وأكثر تكسبهم من الزراعة.

‌مطلب ترجمة الشيخ أحمد عمار وولده حضرة محمد أفندى صالح

وكان بها من العلماء الفاضل المحقق الشيخ أحمد عمار، نائب محكمة الإسماعيلية سابقا، توفى سنة 1302، وهو من عائلة تعرف بالصوالحة من الأشراف.

وأكبر أنجاله حضرة محمد أفندى صالح، ولد فى 5 من ذى القعدة سنة 1272، وبعد أن حفظ القرآن الشريف حضر إلى الجامع الأزهر وتلقى كتب الفقه فى مذهب الشافعى، وكتب اللغة العربية، وغيرها من العلوم الجارى تدريسها بالجامع المذكور، ثم دخل مدرسة دار العلوم، واشتغل بتحصيل علومها بجد ونشاط، فتلقى بها الأدبيات، والطبيعيات، والرياضيات، والتاريخ، وغير ذلك مما هو مقرر تحصيله بتلك المدرسة، وبعد أن تم دروسه بها ترقى بوظيفة مدرس بالمدارس الأميرية، ولم يزل ينتقل من وظيفة إلى أرقى منها حتى صار الآن مفتشا بنظارة المعارف العمومية.

(بلتان)

بلدة من مديرية القليوبية بمركز طوخ الملق، فى شمال العبادلة بنحو ألف وخمسمائة متر، وفى شرقى دجوة بنحو ثلاثة آلاف وخمسمائة متر، وأبنيتها ريفية، وبها ثلاثة مساجد، وكثير من أبراج الحمام، ونخيل قليل، وبساتين ذوات فواكه، وبها ضريح ولى يسمى أبا جميل، يعمل لها مولد كل سنة، وبجوارها ضريح امرأة صالحة يقال لها ست الرجال البيضاء، ويمر بقربها سكة الحديد، ولها شهرة بزرع الأرز والقطن، ويزرع فيها القمح ونحوه، وأكثر أهلها مسلمون.

ص: 207

ونشأ منها جملة من العلماء الأفاضل مثل العلامة الشيخ حسن والعلامة الشيخ مصطفى، والعلامة الشيخ عبده، والعلامة الشيخ عيسى، وكلهم شافعيون انتفع بهم من أهل الأزهر وغيرهم من لا يحصيه إلا الله.

‌ترجمة أحمد أفندى طائل

ومن هذه البلدة نشأ أحمد أفندى طائل، تربى بالمدارس ثم سافر إلى أوروبا، فتعلم بها العلوم الرياضية، وحضر منها إلى مصر سنة إحدى وخمسين ومائتين وألف، فجعل معيدا لدروس المرحوم بيومى أفندى، بمدرسة المهندسخانة، ثم جعل معلما مستقلا فى العلوم الميكانيكية-أى جر الأثقال-وفى الجبر. وفى سنة ثمان وخمسين جعل مهندس الركاب العالى، وفى هذه الوظيفة أقيمت عليه قضية اتهم فيها بأخذ الرشوة لصرف الشغالة قبل استيفاء العمل، فعزل من الوظيفة، وحكم عليه بالليمان، فألحق بليمان الترسانة بالإسكندرية، وبعد سنة ونصف عفى عنه فى عفو عمومى، وتعين معاونا بديوان المدارس مدة نظر المرحوم أدهم باشا. وفى سنة ست وستين افتتح المرحوم عباس باشا مدرسة السودان، فأرسل إليها مع من أرسل مثل المرحوم رفاعة بيك، وبيومى أفندى، ومصطفى بيك السبكى الحكيم، وغيرهم.

وفى أول حكم المرحوم سعيد باشا رجع إلى الديار المصرية وكان مصابا بالحمى، ولم تفارقه مدة السفر إلى أن دخل بولاق فأقام ليلتين ومات. وكان قصير القامة، صغير الجسم، كثير الفهم، لا يبالى بأكثر الأمور له جرأة على الأمراء وإقدام، وكان محبا للتلامذة يرغب فى تعليمهم، وأخذ عنه أكثرهم أو جميعهم.

وترقى من أهلها أيضا محمد أفندى عصمت وكيل مديرية بنى سويف سابقا.

(بلقاس)

قرية كبيرة من مديرية الغربية بمركز شربين، على شاطئ الرياح

ص: 208

من جهتى غربها وشمالها، وبها أربعة مساجد بغير منارات، وأربعة منازل مشيدة، وخمسة بساتين، وأضرحة لبعض الصالحين، كسيدى مصباح، والشيخ تقى الدين الحسينى، والشيخ أبى عامر. ولها سوق كل يوم أحد، وتعداد أهلها سبعة آلاف وثمانمائة نفس، ومعمور زمامها خمسون ألف فدان، وغير المعمور ينيف على ستين ألف فدان، ومقدار سكنها ثمانية وأربعون فدانا، ورىّ أرضها من النيل، وبها بعض سواق لمزروعات الصيف، وتكسب أهلها من زراعة القطن وباقى الحبوب، وبها مقبرتان لأموات المسلمين. ومقبرة للنصارى، وعندها أربعة طرق، منها ما يوصل إلى ناحية المعصرة فى قدر ساعة، وما يوصل إلى دميرة فى ساعة ونصف، وما يوصل إلى بهوت فى ساعة، والرابع إلى كفر الجرائدة فى ساعتين. وأطيان هذه البلده متصلة ببرية البرلس.

‌مطلب برية البرلس

وهى برية واسعة يبلغ زمامها نحو خمسمائة ألف فدان، وبحيرة البرلس واقعة فى داخلها، وكانت تلك/البرية إلى سنة ستين بعد المائتين والألف معدة لرعى الجاموس والبقر الجفال، وهى محددة بحدود أربع، فحدها الغربى: ناحية أبى بكار وعزبة عمر، التى عوضت ناحية السعدة بعد إنعدامها وناحية شباس الملح. وحدها البحرى: ينتهى إلى كوم أبى فصادة وجزيرة المحروقة وكوم الخبير وكوم الخنزيرى وناحية المعصرة. والحد الشرقى: ينتهى إلى أطيان ناحية منية أبى غالب وكفورها وناحية بسنديلة. والحد القبلى: إلى معمور أطيان بلقاس وناحية المعصرة وكفر الجرائدة وبيلة والكفر الغربى، وكفور زاوية سيدى غازى، وكوم أم سن، وكوم شلمة، وكوم تيرة، وكوم العرب، وكوم إسماعيل، وكوم شباس الملح.

وفى هذا الفضاء العظيم كانت تجتمع تصافى مياه البلاد المجاورة له فى الأيام السابقة فيتكوّن منها بحيرة عظيمة الامتداد طولا وعرضا، تتخللها جزائر كثيرة العدد بعضها كبير وبعضها صغير، وكان بتلك الجزائر حشائش ومراع بكثرة، وبعد نزول المياه

ص: 209

ونقصها كانت تلك البرك تتناقص وينكشف جزء عظيم من جوانبها فتنبت به المراعى الحسنة الجمة، فكانت الجواميس والبقر الأهلى ترتع فيه من جميع البلاد المجاورة، وأما البقر والجاموس الجفال (المتوحش الذى ليس له ملاك) فكانت تأوى وسط البرية البعيدة عن طروق الناس لها، وكان الرعاة يقيمون فى البرية فى أخصاص من البوص والبردى ونحوه، والمواشى سائبة فى البرية ليلا ونهارا، وكل راع قد جعل لمواشيه اسما عوّدها عليه، يناديها به-لنحو الحلب-فتأتى إليه فى تايته (محل إقامته)، فإذا حضرت أرسل عليها أولادها، وقد كان أمسكها عنده، لتحن عليها فترضع منها ما يمكنها منه ثم يحلبها، وفى كل تاية توجد قصع كبيرة تسع القصعة لبن نحو عشر جاموسات، فيملؤها ويتركها مملوءة يومين بليلتين فيتربى على وجه اللبن ما يسمى بالقشطة، فيكشطه ويجمعه فى قصعة أو برميل، ويضرب باليد حتى يخرج زبده، ويمتاز من غيره. فيجعل الزبد قوالب ويحفر فى الأرض السبخة حفرة مربعة الشكل، مدلوكة الباطن دلكا شديدا، فيجعل فيها اللين المخرج زبده، ثم توضع الزبدة فتعوم فى وسطه، ويكتسب الجميع من الأرض ملوحة تصلحه وتمنعه من التغير. وأما الجبن فيعمل من الرائب الذى أخذت القشطة من على وجهه، وطريق عمله، أن يضعوه فى قدور كبيرة من النحاس، واسعة الأفواه ضيقة الأسافل، ويوقدوا عليه النار حتى يجمد ويمصر منه ماء أصفر، فينشل الجبن من هذا الماء الماصر ويوضع فى أوعية متخذة من نبات الأرض صغيرة تسمى البواقيط فيصفو من بقية مائه ويزداد جمودا، ويجمع الماء الماصر منه ويجعل فى حفائر كالأول ويوضع فيها الجبن فيكتسب من ملوحة الأرض. وفى أوان عمله تحضر له تجار كل جمعة فيشترونه منهم.

وكان الرعاة لا يعرفون الأقة ولا الرطل، بل يبيعون السمن بمعيار عندهم من أوانى الفخار، ويبيعون الجبن بالشيلة، وهى وزن حجر معروف عندهم يوجد فى كل تاية.

وأما البقر الجفال فكان كثيرا فى داخل البرية، ولم ينقطع إلا بعد سنة ستين،

ص: 210

وكان الرعاة يصطادونه بالرصاص، وكانت تلد فى الهيش وتخفى ولدها فيه إلى أن يكبر فيرعى مع أمه، وفى وقت احتراق المياه العذبة وغلبة المياه المالحة على البرك والخلجان كانت تنحاز تلك المواشى الجفالة، وتنضم إلى أماكن تعرفها، فى مائها عذوبة بحيث يمكن شربها، فكان الرعاة يكمنون لها عند تلك المياه ويصطادونها كثيرا، ثم إن هذه البرية كانت منقسمة إلى أنحاء متعددة كبرية بيلة، وبرية بلقاس، وبرية المعصرة، وبرية كفور الزاوية، ونحو ذلك، فكان كل قطعة منها تسمى باسم ما قاربها من القرى، وكانت المواشى التى تسرح فيها كثيرة جدا حتى قيل إنه كان لرجل يسمى النشاوى من أهالى بيلة جملة تايات ولد له فى تاية منها فى سنة واحدة مائة بكرية. وآخر يقال له أبو دومة من عرب البرلس، كان له بقر لا يحصى عدده ولا يعرف ما يؤخذ منه لكثرته.

والآن بسبب كثرة الزراعة الصيفية فى أرض الروضة وغيرها، امتنع دخول المياه فى هذه البرية فجفت أرضها وانقطعت منها الحشائش، وكثير منها دخل الزمامات وأعطى منه أباعد للأعيان.

وها نحن الآن بمقتضى أمر كريم من الخديوى إسماعيل باشا شارعون فى عمل تصميم لإجراء عمليات فيها لإصلاحها، وجلب الخصب لها بحيث يتأتى الانتفاع بها بالزرع والمرعى.

(بلقس)

قرية كبيرة من مديرية القليوبية بمركز شبرى الخيمة شرقى ترعة الشرقاوية بنحو ربع ساعة، وبحرى بهتيم بنحو ساعة، وشرقى ناحية كوم اشفين بنحو ربع ساعة، وبها جامع بمئذنة معمور تقام به الجمعة وزوايا للصلاة ومنزل مشيد البناء معد للضيوف لعمدتها السيد إسماعيل أبى الذهب.

وكان بها معمل لصناعة النيلة آثاره باقية إلى الآن، وبها معمل دجاج وجنائن ونخيل، ورى أطيانها من الشرقاوية والبولاقية والخليج المصرى، وفى زمن الفاطميين قد وقفها طلائع بن رزيك، على أن يكون ثلثاها على الأشراف من بنى سيدنا الإمام

ص: 211

الحسن، وبنى/سيدنا الإمام الحسين ابنى الإمام على بن أبى طالب، رضي الله عنهم، وسبعة قراريط منها على أشراف المدينة النبوية، وجعل فيها قيراطا على بنى معصوم.

‌ترجمة الصالح طلائع بن زريك

وطلائع بن رزيك، هو أبو الغارات الملك الصالح فارس المسلمين نصير الدين.

قدم فى أول أمره إلى زيارة مشهد الإمام على بن أبى طالب، رضي الله عنه، بأرض النجف من العراق فى جماعة من الفقراء، وكان من الشيعة الإمامية، وإمام مشهد على، رضي الله عنه، يومئذ السيد بن معصوم، فزار طلائع وأصحابه وباتوا هنالك، فرأى ابن معصوم فى منامه على بن أبى طالب، رضي الله عنه، وهو يقول:«قد ورد عليك أربعون فقيرا، من جملتهم رجل يقال له طلائع بن رزيك من أكبر محبينا، قل له اذهب فقد وليناك مصر» . فلما أصبح أمر أن ينادى من فيكم طلائع بن رزيك فليقم إلى السيد بن معصوم. فجاء طلائع وسلم عليه، فقص عليه ما رأى، فسار حينئذ إلى مصر، وترقى فى الخدم حتى ولى منية ابن خصيب. وبعد قتل الخليفة الظافر خلع عليه خلع الوزارة، ونعت بالملك الصالح نصير الدين، وكانت وفاته يوم الاثنين تاسع عشر رمضان سنة 556، وانظر تمام ترجمته فى خطط المقريزى فى ضمن ترجمة الصالح

(1)

.

وفى الجبرتى من حوادث سنة 1219، كانت عساكر الأرنؤد والعثمانية تحارب المماليك القائمين فى الجهات، وعدى سليمان بيك الخزندار من الغرب إلى جهة طرا بمن معه يريد المرور من خلف الجبل، ليلتحقوا بجماعتهم فى بلاد الشرقية، فوقف لهم العسكر وضربوا عليهم بالمدافع الكثيرة، واستمر الضرب من فجر يوم الجمعة إلى العصر، ونفذ بمن معه ولم يقتلوا منه إلا مملوكا واحدا حضروا برأسه إلى تحت القلعة، ورجع الكثير من الأرنؤد وغيرهم ودخلوا المدينة، واستمر من بقى منهم ببهتيم وبلقس ومصطرد، وأخرجوا أهل تلك القرى منها ونهبوها، واستولوا على ما فيها من غلال وأشياء، وكرنكوا فيها

(1)

خطط المقريزى، المرجع السابق، ج 2 ص 444.

ص: 212

ونقبوا الحيطان لرمى بنادق الرصاص من النقوب وهم مستترون فى داخلها، ونصبوا خيامهم فى أسطحة الدور، وجعلوا المتاريس فى خارج البلدة وعليها المدافع فلا يخرجون إلى خارج ولا يبرزون إلى ميدان الحرب، وكل من قرب منهم من الخيالة المقاتلين رموا عليه بالمدافع والرصاص ومنعوا عن أنفسهم، واستمروا على ذلك وحصل لهذه البلاد وما جاورها ما لا خير فيه، انتهى.

(بلقينة)

قرية من مديرية الغربية بمركز سمنود، موضوعة بشمال السكة الحديد الموصلة إلى دمياط، غربى المحلة الكبرى بنحو أربعة آلاف متر، وشرقى ناحية دار البقر القبلية بنحو ألفى متر، بناؤها باللبن وبوسطها جامع بمنارة مقام الشعائر وبعض أهلها أرباب صنائع.

وفى خطط المقريزى، أنه وقع فى هذه القرية فى صفر سنة تسع ومائتين محاربة بين على بن عبد العزيز الجروى، حاكم تنيس والحوف الشرقى من قبل الخليفة المأمون، وبين أهل الحوف، وقد كان أهل الحوف كتبوا إلى عبد الله بن السرى يستمدونه عليه فأمدهم بأخيه، فالتقيا هناك-إلى آخر ما هو مبسوط فى الكلام على تنيس.

وفى سنة إحدى وخمسين وسبعمائة وقف هذه القرية الأمير سيف الدين منجك اليوسفى مدة وزارته مع عدة أوقاف آخر على جامعه، الذى أنشأه خارج باب الوزير.

وكانت هذه القرية مرصدة برسم الحاشية، فقومت بخمسة وعشرين ألف دينار، فاشتراها من بيت المال وجعلها وقفا على هذه الجهة. وهى قرية ذات اعتبار ومنشأ للأفاضل.

ص: 213

‌ترجمة الشيخ صالح بن أحمد المعروف بالبلقينى

فقد ذكر المحبى فى خلاصة

(1)

الأثر، أنه نشأ منها الشيخ صالح بن أحمد، الإمام المعروف بالبلقينى المصرى، شيخ المحيا بالقاهرة، وابن شيخه الشهاب العارف بالله تعالى علامة المحققين. كان من كبار العلماء والزهاد وله القدم الراسخة فى التصوف وفقه الشافعى والمعقولات بأسرها، أخذ عن أبيه وغيره، وشاع أمره وقصده الناس للتلقى عنه، وكان يقرأ شرح القطب وحواشيه من المنطق، ولم يزل فى إفادة واجتهاد بالعبادة إلى أن توفى، وكانت وفاته بمصر فى إحدى الجماديين بين سنة خمس عشرة بعد الألف، عن نحو ثمانين سنة، والبلقينى بضم أوله نسبة لبلقينة من غربية مصر، انتهى.

‌ترجمة سراج الدين البلقينى رضي الله عنه

وليس المترجم بأول من نشأ منها بل سبقه من هو أشهر منه، فقد ذكر السيوطى فى حسن المحاضرة

(2)

أن منها شيخ الإسلام سراج الدين البلقينى، أبا حفص عمر بن رسلان بن نصر بن صالح الكنانى، مجتهد عصره وعالم المائة الثامنة، ولد فى ثانى عشر رمضان سنة أربع وعشرين وسبعمائة، وأخذ الفقه عن ابن عدلان والتقى السبكى، والنحو عن أبى حيان، وبرع فى الفقه والحديث والأصول وانتهت إليه رياسة المذهب والإفتاء، وبلغ رتبة الاجتهاد، وله ترجيحات فى المذهب خلاف ترجيحات النووى، وله اختيارات خارجة عن المذهب، وأفتى بجواز إخراج الفلوس فى الزكاة. وقال: إنه خارج عن مذهب الإمام الشافعى. وله تصانيف فى الفقه والحديث والتفسير منها:

حواشى الروضة، وشرح البخارى، وشرح الترمذى، وحواشى الكشاف./وولى تدريس

(1)

خلاصة الأثر، المرجع السابق، ج 2، ص 237.

(2)

حسن المحاضرة للسيوطى، المرجع السابق، ج 329،1.

ص: 214

الخشابية وغيرها، وتدريس التفسير بالجامع الطولونى، وكان البهاء بن عقيل يقول: هو أحق الناس بالفتوى فى زمانه، مات فى عاشر ذى القعدة سنة خمس وثمانمائة،

قال السيوطى: وقد سمعت ولده، شيخنا قاضى القضاة علم الدين يقول: ذكر الشيخ كمال الدين الدميرى، أن بعض الأولياء قال له: إنه رأى قائلا يقول إن الله يبعث على رأس كل مائة لهذه الأمة من يجدد لها دينها، بدئت بعمر وختمت بعمر. ثم قال:

ومن اللطائف أن المبعوثين على رؤس القرون مصريون عمر بن عبد العزيز فى الأولى، والشافعى فى الثانية، وابن دقيق العيد فى السابعة، والبلقينى فى الثامنة، وعسى أن يكون المبعوث على رأس المائة التاسعة من أهل مصر.

وقال الحافظ بن حجر يرثى البلقينى بقصيدة، وضمنها رثاء الحافظ أبى الفضل العراقى أولها:

يا عين جودى لفقد البحر بالمطر

واذرى الدموع ولا تبقى ولا تذرى

وهى قصيدة طويلة مذكورة بتمامها فى حسن المحاضرة فارجع إليها إن شئت.

‌ترجمة العلامة الشيخ صالح بن عمر بن رسلان

وقد ترجم السخاوى فى الضوء اللامع

(1)

ابنه صالحا فقال: هو صالح بن عمر بن رسلان بن نصير بن صالح القاضى علم الدين أبو التقا، ابن شيخ الإسلام السراج أبى حفص الكنانى العسقلانى، البلقينى الأصل القاهرى الشافعى، وأول من سكن بلقينة من أصوله صالح الأعلى. ولد فى ليلة الاثنين الثالث عشر من جمادى الأولى سنة إحدى تسعين وسبعمائة بالقاهرة، ونشأ بها فى كنف والده، فحفظ القرآن والعمدة وألفية النحو ومنهاج الأصول والتدريب لأبيه إلى النفقات. وصلى بالناس التراويح بمدرسة أبيه وعرض بعض محافيظه عليه وعلى الزين العراقى وغيرهما، وكان متقللا من الدنيا، غاية

(1)

الضوء اللامع، المرجع السابق، ج 3، ص 312.

ص: 215

فى الذكاء وسرعة الحفظ، لازم الاشتغال فى الفقه وأصوله والنحو والحديث، وانتفع فى ذلك كله بأخيه وأخذ عن المجد البرماوى، والشمس العراقى، والعز بن جماعة وعن الشمس الشطنوفى. وحج سنة أربع عشرة، ولقى الحافظ الجمال ابن ظهيرة، وغيره.

ودخل دمياط فما دونها، ولم يزل ملازما لأخيه حتى تقدم وأذن له فى الإفتاء والتدريس، وخطب بالمشهد الحسينى وبغيره، وقرأ البخارى عند الأمير إينال الصصلائى، وألبسه يوم الختم خلعه وعاونه حتى استقر فى توقيع الدست كما وقع لأخويه. وناب فى القضاء عن أخيه بدمنهور وأنشده بعض أهل الأدب عقب عمله ميعادا بالنحرارية:

وعظ الأنام إمامنا الحبر الذى

سكب العلوم كبحر فضل طافح

فشفى القلوب بعلمه وبوعظه

والوعظ لا يشفى سوى من صالح

ودرس الفقه وهو شاب بالمدرسة الملكية، ثم رغب له أخوه عن درسى التفسير والميعاد بالبرقوقية فى سنة إحدى وعشرين، وعمل فيها إذ ذاك اجلاسا حافلا ارتفع ذكره به، وكذا نوّ أخوه بذكره فى مناظرات الهروى، وقدمه أخوه أيضا لخطبة العيد بالسلطان الظاهر ططر حين سافر معه، وبرز صاحب الترجمة لتلقيه من قطيا فوجد أخاه متعنفا جدا وصادف إرسال السلطان يأمره أن يتجشم المشقة فى الخطبة لكونه أول عيد من سلطنته وإلا فليعين من يصلح فكان هو الصالح، فخطب حينئذ بالسلطان والعسكر، فأعجبهم جهورية صوته، واستقر فى أنفسهم أنه عالم، ولذلك لما مات أخوه استقر عوضه فى تدريس الخشابية والنظر عليها، وحضر عنده الكبار من شيوخه وغيرهم، واستمر فيها حتى مات. ورام الظاهر إخراجهما عنه مرة بعد أخرى، بل رام إخراجه من مصر جملة فما مكنه الله من ذلك كله. ثم استقر بعد صرف شيخه الولى العراقى فى قضاء الشافعية بالديار المصرية، فى سادس ذى الحجة سنة ست وعشرين، فأقام سنة وأكثر من شهر ثم صرف، وتكرر عوده لذلك وصرفه، حتى كانت مدة ولايته فى مجموع المرار، وهى سبعة، ثلاث عشرة سنة ونصف سنة، وعقد الميعاد بمدرسة والده، وتدريس الحديث بالقانبهية، والميعاد والإفتاء بالحسينية، والفقه بالشريفية بمصر مع نظرها ونظر الخانقاه البيبرسية وجامع الحاكم.

ص: 216

وكان إماما فقيها عالما، قوى الحافظة سريع الإدراك، طلق العبارة فصيحا، يتحاشى عدم الإعراب فى مخاطباته بحيث لا يضبط عليه فى ذلك شاذة ولا فاذة. وكان القاياتى يقول: إنه تخطى الناس بحفظ التدريب، وصنف تفسيرا وشرحا على البخارى لم يكمله، وأفرد فتاوى أبيه والمهم من فتاوى نفسه، والتقط حواشى أخيه على الروضة، بل جمع من حواشى أبيه وأخيه عليها، وأفرد كلا من ترجمته وترجمة والده، وله القول المفيد فى اشتراط الترتيب بين كلمتى التوحيد والخطب والتذكرة وغير ذلك واستمر على جلالته وعلو مكانته/حتى مات بعد أن توعك قليلا، فى يوم الأربعاء خامس رجب سنة ثمان وستين وثمانمائة، وصلى عليه بجامع الحاكم فى محضر جمّ تقدمهم ابن الشحنة القاضى الحنفى، ودفن بجوار والده بمدرسته الشهيرة وأقاموا على قبره أياما يقرؤن، انتهى.

(البلاص)

قرية صغيرة من قسم قنا فى غربى النيل فى مقابلة قفط، وفيها مساجد ونخيل وأشجار، وأكثر أهلها مسلمون، وإليها تنسب الجرار البلاصى المنتفع بها، فى جميع بلاد مصر، لعملها فيها بكثرة، فيأخذون طينتها من محل مخصوص محصور بين الملق والجبل الغربى، فينزل المطر على قطعة طفلية من الجبل، فينحل منها طينة طفلية تختلط بطين الملق فيكون صالحا لهذا العمل. وكل صاحب دولاب له قطعة من تلك الأرض لا يتعداها، بأصول جارية بينهم، فيعملون تلك الجرار ونحوها ويتجرون بها فى بلاد مصر، أعلاها وأسفلها.

وبقرب تلك القرية قرية تسمى دير البلاص، وقرية تسمى طوخ، يتبعها كفر يقال له نجع أبى بلال، وفى جميعها دواليب لعمل البلاص، ولكن أشهرها فى ذلك ناحية البلاص، وعلى كل دولاب شئ مقرر من المال يدفعه ربه لجانب الديوان كل سنة.

ونقل (كترمير) عن كتاب السلوك

(1)

أن مما كان يؤخذ من الأهالى لجانب

(1)

السلوك للمقريزى، تحقيق د. محمد مصطفى زيادة سنة 1957 ج 1، ص 664، حاشية 2.

ص: 217

الديوان أموالا تسمى زكاة الدولبة، كانت تؤخذ من أرباب الأموال، ومن مات أخذت من ورثته، ثم أبطلها السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون الألفى الصالحى النجمى العلائى

(1)

.

قال: والدولبة مأخوذة من الدولاب، وهو الطارة والحلقة من ساقية أو طاحونة أو معصرة أو حلاجة أو آلة غزل أو نسج، أو فيخورة أو منكاب.

قال فى كشف الظنون: بنكابات دورية معمولة بالدواليب اهـ -وهى الساعات الرملية لمعرفة الأوقات ونحوها-والدولبة إدارة حركة الدولاب، فيقال دولب المطبخ للسكر أداره. فزكاة الدولبة هى ما يخصص على الدواليب والآلات التى فيها الحركة الدولابية.

وفى الخريدة لعماد الدين الأصفهانى:

وطابقها الدولاب فى حسن رمزه

مطابقة الشكل الملائم للشكل

ويطلق الدولاب أيضا على حركة عسكرية مستوية، ففى بعض كتب الفنون الحربية يقرأ بند الدولاب، وضرب دولاب اليمين ودولاب الشمال. وفى القاموس الدولاب بالضم ويفتح، شكل كالناعورة يستقى به الماء معرب، والناعورة الساقية، وقد يطلق الدولاب على البستان الذى يسقى بذلك وعلى روضة فى البستان. قال فخر الدين الرازى فى تاريخه:«كنا نتمشى فى دولاب بستان البقلى» . وقال جلال الدين بن أبى السرور، فى تاريخ مصر:«جلس فى القصر الذى فى الدولاب» . وفى تاريخ الجبرتى، المخبأة بالدواليب والخزانات، انتهى.

(البلينة)

فى خلاصة الأثر أنها بضم الباء الموحدة وسكون اللام وبعدها مثناة تحتية فنون فهاء تأنيث، والنسبة إليها بلينى، ونسب إليها فى الطالع السعيد بقوله البلينائى، وعليه تكون بألف بدل الهاء. وهى قرية كبيرة من قسم برديس بمديرية جرجا

(1)

نهاية الأرب للنويرى، تحقيق د. الباز العرينى، مركز تحقيق التراث،1992، ج 31، ص 9.

ص: 218

على الشاطئ الغربى للنيل، ذات أبنية متوسطة وبها جوامع، أحدها بمنارة، وهى مشهورة بكثرة النخل وكذلك القرى التابعة لها، المسماة ساحل البلينا، فإن عدة نخليلها تقرب من خمس وسبعين ألف نخلة، ويزرع بأرضها قصب السكر بكثرة وبها عصارات، وكانت سابقا فى عهدة سليم باشا السلحدار، وبنى فيها دارا وعصارة، وله فى غربيها بستان صغير، وكانت أرضها تشرق كثيرا فعملت لها ترعة الحمران سنة خمس وسبعين ومائتين وألف هجرية، وجعل لها سحارة تحت ترعة الكسرة وترعة الزرزورية، فصارت مأمونة الرىّ وحصل لأهلها زيادة الفائدة، ويعمل بها قفف وزنابيل من الخوص وحصر من الحلفاء بكثرة، ويجلب إلى المحروسة وغيرها.

ويقابلها فى شرقى البحر ناحية مزاتة التابعة لشرقى أولاد يحيى-ويأتى الكلام على لفظ سلاح دار ونحوه، مثل دوادار فى عدة مواضع مثل سرياقوس والصالحية.

وفى خطط المقريزى، أن تحت البلينا ديرا كبيرا يعرف بدير أبى ميساس، ويقال أبو ميسيس واسمه موسى وكان راهبا من أهل البلينا، وله عندهم شهرة وهم ينذرون له ويزعمون فيه مزاعم. ولم يبق بعد هذا الدير-يعنى فى الصعيد-إلا أديرة بحاجر اسنا ونقادة قليلة العمارة، انتهى.

‌ترجمة العلامة الشيخ قاسم بن عبد الله

وفى الطالع السعيد

(1)

أن من علماء البلينا قاسم بن عبد الله بن مهدى بن يونس مولى الأنصار يكنى أبا الظاهر، روى عن أبى مصعب بن أحمد بن أبى بكر وعن محمد بن مهدى. قال ابن يونس: قدم علينا الفسطاط فسمعته ولم يحصل لى عنه غير حديث واحد. قال: وكان من أجله أهل بلده وأهل النعم، وكانت كتبه جيادا، وتوفى ببلده يوم

(1)

الطالع السعيد، الجامع أسماء نجباء الصعيد للأدفوى قاسم، الدار المصرية للتأليف والترجمة، 1966، ص 468.

ص: 219

الاثنين لثمان عشرة خلت من شوّال سنة أربع وثمانمائة. ذكره ابن عدى قال: وكان بعض الاثنين لثمان عشرة خلت من شوّال سنة أربع وثمانمائة. ذكره ابن عدى قال: وكان بعض الشيوخ يضعفه، قال: وهو عندى لا بأس به.

والبلينا فى أول البر الغربى من عمل قوص ليس قبلها من العمل/إلا برديس.

‌ترجمة العلامة محمد بن مهدى البلينائى

ثم قال

(1)

: ومن علمائها أيضا محمد بن مهدى بن يونس البلينائى. سمع وحدث وروى عنه ابن أخيه قاسم المذكور. ذكره ابن يونس بن محمد بن نصير المنعوت بالكمال، ويعرف بابن الحسام القوصى. كان فقيها مشاركا فى النحو، قرأ على أبى الطيب، وتولى الحكم بدشنا وفاو وعيذاب والمرج وأعمالها. وأقام بالقاهرة مدة، وأقام بالمدرسة الشمسية بقوص وتوفى بالمرج حاكما بها فى سنة تسع وأربعين وسبعمائة.

‌ترجمة العلامة الشيخ مسعود بن محمد الأنصارى

ومن علمائها أيضا

(2)

مسعود بن محمد بن يوسف بن صاعد الأنصارى الخزرجى البلينائى، اشتغل بالفقه والأدب، وله قصائد فى المدح النبوى، توفى فى حدود العشرين وسبعمائة، ومن كلامه:

اغضض الطرف واللسان اكففنه

وكذا السمع صنه حين تصوم

ليس من ضيع الثلاثة عندى

بحقوق الصيام حقا يقوم

انتهى.

(بنايوس)

قرية من مركز القنيات بمديرية الشرقية، غربى الزقازيق إلى جهة بحرى بنحو ألف وخمسمائة متر، واقعة على البر البحرى لبحر بهنباى، وبها مجلسان

(1)

الطالع السعيد، المرجع السابق. ص 634.

(2)

الطالع السعيد، المرجع السابق. ص 647.

ص: 220

للدعاوى والمشيخة، ومسجد بمنارة وزوايا عامرة بالصلاة، ومكاتب أهلية، وبها ضريح ولى الله الشيخ عطية البندارى، يزار ويعمل له مولد كل سنة ثمانية أيام، وتنصب فيه الخيام وتذبح الذبائح ويكون البيع والشراء، وتجعل هناك قيساريات بدكاكين بعضها ثابت وبعضها ينقل، وأهلها يتسوقون سوق الزقازيق، وأطيانها ألف وتسعة وخمسون فدانا وكسر، وأهلها ألف وتسعمائة وسبع وثمانون نفسا.

(بنب)

قرية من مديرية الغربية.

‌ترجمة العلامة الحسن بن اسماعيل البنبى

وإليها ينسب كما فى الضوء اللامع للسخاوى

(1)

، الحسن بن اسماعيل البدر البنبى، ثم القاهرى الشافعى، والد البدر محمد، قرأ على السراج البلقينى بعض تصانيفه، ووصفه بالفاضل العالم وأجاز له، وأرخ ذلك فى صفر سنة أربع وسبعين وسبعمائة، وكانت وفاته بعد سنة إحدى وثمانمائة، رحمه الله تعالى.

‌ترجمة العلامة محمد بن الحسن البنبى

وأما ولده البدر فهو، محمد

(2)

بن الحسن بن إسماعيل البدر بن البدر البنبى القاهرى الشافعى، ولد فى ذى الحجة سنة إحدى وثمانمائة، ونشأ فحفظ القرآن وغيره واشتغل كثيرا، وأخذ عن خاله البدر بن الأمانة، والشمس البرماوى، والولى العراقى ولازمه وكتب عنه، وكذا سمع على الشهاب الواسطى، وابن الجزرى، والكمال بن خير والفوّى، واستحضر الفقه وشارك فى غيره، وبرع فى الشروط بحيث أنه عمل فيها مصنفا حافلا ونزل فى صوفية الأشرفية وغيرها. ولكنه ضيع نفسه حتى أن خاله البدر امتنع من

(1)

الضوء اللامع، المرجع السابق، ج 96،3.

(2)

الضوء اللامع، المرجع السابق، ج 96،7.

ص: 221

قبوله بعد ملازمته له زمنا وجلوسه عنده للتكسب بالشهادة لشهرته بالتجوز فى شهادة الزور، وأدى ذلك إلى أن نجز شيخ الإسلام الحافظ بن حجر مرسوما لشهود المراكز والنواب ونحوهم بالمنع من مرافقته وقبوله إلا ثالث ثلاثة.

ثم بواسطة انتمائه للكمال بن البارزى، خصوصا بعد رجوعه من دمشق أول سلطنة الظاهر، واستئذانه إياه فى عوده لتحمل الشهادة، أعاده بل ولاطفه لأجل مخدومه بقوله:«كن من أمة أحمد ولا تكن من أمة صالح» . فأجابه بقوله: «شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد ناسخ» . ومع انتمائه للمشار إليه لم ترتفع رأسه واستمر مشهور الأمر بالوقائع الشنيعة حتى آل أمره إلى المشى فى تزويره فى تركة البهاء بن حجى والد سبط الكمال الذى رقاه وحج معه، وكان ردءا له، فطلبه الأمير أزبك الظاهرى صهر الكمال حتى ظفر به وضربه ضربا مؤلما، وقبل ذلك رام التزوير على وكيل بيت المال الشرفى الأنصارى فبادر لإعلام الأشرف اينال بذلك، فألزم نقيب الجيش بتحصيله فاختفى، إلى أن سكنت الفتنة. وأحواله غير خفية. وبالجملة كان فاضلا لكنه ضيع نفسه.

قال السخاوى

(1)

: وقد كثر اجتماعى به اتفاقا وسمعت من فوائده وحكاياته ونوادره، ومات فى سنة خمس وستين وثمانمائة، عفا الله عنه.

‌ترجمة العلامة الشيخ داود بن سليمان أبى الجود

وينسب إليها أيضا كما فى الضوء اللامع

(2)

، داود بن سليمان بن حسن بن عبيد الله أبى زيادة أبو الجود بن أبى ربيع البنبى، ثم القاهرى المالكى البرهانى ويعرف بأبى الجود، ولد فى سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة، أو قبلها بقليل، ببنب من الغربية، بالقرب من جزيرة بنى نصر ونشأ بها فحفظ القرآن والعمدة والرسالة والمختصر وألفية ابن مالك، ثم انتقل إلى القاهرة فلازم الاشتغال فى الفقه والفرائض والعربية وغيرها.

(1)

الضوء اللامع، المرجع السابق، ج 219،7.

(2)

الضوء اللامع، المرجع السابق، ج 211،3.

ص: 222

ومن شيوخه فى الفقه الشهاب الصنهاجى، والجمال الأقفهسى، وقاسم بن سعيد العقبانى المغربى، والزين عبادة وغيرهم، وأخذ العربية عن قارئ الهداية، والفرائض عن الشمس العراقى، وأصول الفقه عن القايانى، وحج فى سنة ثلاث وثلاثين، وصحب بعض الخلفاء بمقام البرهان إبراهيم الدسوقى فاختص به ونسب لذلك برهانيا. وبرع فى الفرائض وشارك فى ظواهر العربية وغيرها. وتصدى للتدريس والافتاء وانتفع به الطلبة خصوصا فى/الفرائض، بحيث أخذ عنه جمع من الأكابر، وأملى على مجموع الكلائى شرحا مطولا فيه فوائد، وكذا كتب على الرسالة شرحا، ودرس بالمنكوتمرية والبرقوقية للمالكية وبغيرها، وخطب ببعض الجوامع، وولى مشيخة الصوفية بمسجد علم دار بدرب ابن سنقر بالقرب من باب البرقية، واعتمدت فتياه فى الكف عن قتل سعد الدين بن بكير القبطى، مع قيام قاضى المالكية وغيره فى قتله، لكن بمعاونة العز قاضى الحنابلة حمية لقريبه أبى سهل بن عمار، وعانى تحصيل الكتب، وكان خيرا دينا مأمونا متواضعا متوددا كريما مشار إليه بالصلاح على طريقة السلف-يعقد القاف مشوبة بالكاف-مات فى ربيع الأول سنة ثلاث وستين وثمانمائة وذلك بمنزله بالقرب من رحبة العيد، ودفن بباب النصر رحمه الله تعالى، انتهى.

(بنبان)

قرية من مديرية إسنا، هى رأس قسم على الشاطئ الغربى للنيل بين إسنا وأسوان، وهى إلى أسوان أقرب وتجاهها فى البر الآخر ناحية دراو.

وفى بنبان مساجد عامرة ونخيل كثير، وأغلب أهلها أشراف مشهورون بالجعافرة، لهم كرم وشهامة وفيهم يسار ويقتنون جياد الخيل والإبل.

‌ترجمة الشيخ عبد الرحيم المخزومى البنبانى

وقد نشأ منها من العلماء كما فى الطالع السعيد

(1)

الشيخ عبد الرحيم بن محمد بن عبد

(1)

الطالع السعيد، المرجع السابق، ص 311 وفيه البمبانى بدلا من البنبانى.

ص: 223

الرحيم بن على المخزومى التقى البنبانى الخطيب، خطيب بنبان. كان فاضلا نحويا أديبا شاعرا، قرأ النحو والأدب على الشمس الرومى، وكان لطيفا خفيف الروح منطرحا.

توفى بأسوان سنة خمس أو ست وسبعمائة.

ومن كلامه فى قصيدة يمدح بها والى قوص طقصباى ويشكو فيها حال أسوان:

لعلا جنابك كل أمر يرفع

وإليك حقا كل خطب يرجع

ما كان يفعله الشنجاجى سالفا

فى مصر فى أسوان حقا يصنع

وبنبان قرية من قرى أسوان. وأصله من إسنا، وولد بأسوان ونشأ بها وأقام ببنبان، انتهى.

(بنجا)

قرية قديمة من قسم طهطا بمديرية جرجا، واقعة غربى النيل بنحو ساعة، وبحرى طهطا بأقل من ساعة، وأكثر منازلها على تلول عالية، قد أخذ كثير منها الآن فى تسبيخ الأراضى، وأبنيتها من الآجر واللبن، وأكثر منازلها على دورين، وفى وسط جهتها الغربية تل مرتفع عن أعلى بيت فيها، بحيث يكشف صاعده ما جاوره من بيوتها، وفيها مضايف لعموم الناس، وفى دار عمدتها محمود بن أحمد الشيمى منظرة مشيدة ينزل فيها الحكام. وفيها نحو ثمانية مساجد بعضها عامر وبعضها متخرب، وجملة أرحية يديرها البقر والجاموس والأبل والخيل، وفيها نخيل كثير.

وكان فيها داران للديوان، كانت تنزل بإحداهما الكشاف زمن العز، وفى زمن العزيز محمد على كانت تنزل بالأخرى حكام الجهات مثل، ناظر القسم وحاكم الخط.

وقد كانت رأس قسم مدة، ثم صار بيع الدارين للأهالى زمن المرحوم سعيد باشا، من ضمن ما بيع من أملاك الديوان فى جميع البلاد، وبنت الأهالى فيها أبنية ومصاطب، كما أنه كان فى بحريها على أكثر من مائة قصبة تل مرتفع أكثر من قصبة، وسعته نحو ثلاثة أفدنة، باعه الديوان لعمدتها أحمد الشيمى فى ذلك التاريخ، فجعله بستانا مشتملا على كثير من النخيل والأثل وبعض أشجار الفواكه، وقد كان ذلك التل مقبرة يظهر أنها من

ص: 224

قبل الإسلام، ذهبت أمواتها فى أخذ السباخ، لأن أهالى هذه البلدة والبلاد المجاورة لها كانوا يأخذون منه السباخ حتى ساوى أرض المزارع.

وكان لهذه البلدة سور محيط بها فيه مزاغل لضرب الرصاص فى جميع دائره، وكان بناؤه من اللبن وله أربعة أبواب كبار عليها أبواب من خشب النخل كانوا يتحصنون به من غارات الأعداء، لأنها كثيرا ما كانت تقصدها الأعداء، فكان يتحزب عليها الألوف المؤلفة من بلاد الصوامعة. لأن بلاد تلك الجهة كانت فرقتين على طرفى نقيض، صوامعة ووناتنة، كما كانت سعد وحرام فى الجهات البحرية. وكانت لا تنقطع شرورهم وحراباتهم وتخريبهم للبلاد بالسلب والقتل. وكانت تلك البلدة متوسطة بين بلاد الصوامعة-مع أنها من حزب الوناتنة-فكانت تتحصن بهذا السور من هجومهم عليها، وكان يقع ذلك كثيرا، وتحصل لهم الإعانة والنصرة. فقد وقع لها سنة نيف وخمسين بعد المائتين والألف أن هجموا عليها وقت العصر فى زمن النيل، وأرادوا إحراقها وأوقدوا النار بالفعل فى حد أطرافها، فقام أهل البلد قومة واحدة فانكسر العدو سريعا ووقع فيهم القتل.

فكان من وجد مقتولا نحو السبعة عشر غير من مات فى البحر، ووجد فيهم واحد حيا، وقد حضر حاكم الجهة فسأله عن كيفية مجيئهم فأخبر أنهم أهالى أربعة عشر بلدا جاؤا لإحراقها ونهبها وقتل أهلها ليستريحوا منها، حيث أنها معترضة بين بلادهم. ثم أنهم جعلوهم فى حفرة وأهالوا عليهم التراب كدفن البهائم بلا غسل ولا صلاة ولا توجيه إلى القبلة، لاعتقاد أنهم لعصيانهم لا يغسلون ولا يصلى عليهم، مع أن الحكم الشرعى ليس كذلك. نعم إن كانوا مستحلين لذلك كانوا كفارا فلا/يغسلون ولا يصلى عليهم ولا يستقبل بهم القبلة.

وقد هدم ذلك السور وزالت معالمه بالمرة للإستغناء عنه بمجئ العائلة المحمدية، حيث حصل بها الأمن وانحسمت مواد الفساد، واستوى القوى والضعيف والوضيع والشريف، واشتغلت الناس بأمور المعيشة، وكثرت الخيرات فخاف الناس على أموالهم ومناصبهم. وقد كانوا قبل ذلك لفقرهم وبطالتهم ملحقين بالبهائم، لا يخافون على

ص: 225

أعمارهم فضلا عن أموالهم. ولما صدرت الأوامر السنية بجمع البندق ونزعه من أيدى الأهالى سدا لأبواب الفتن، خصص على تلك البلدة من البندق بعدد ما بسورها من المزاغل، فشق ذلك عليهم حتى اشتروا جملة بنادق فوق ما عندهم وفوا بها ما طلب منهم.

وفيها عدة من أضرحة الصالحين، مثل السماطين وهم جماعة فى ساحة منخفضة فى غربيها يعتقدهم أهل البلد اعتقادا زائدا، وكانو يعملون لهم ليلة كل سنة يجتمع فيها كثير من أرباب الأشائر ومشايخ الطرق والخيالة، وقد تركت الآن. وفى وسطها فضاء متسع نحو خمسة أفدنة فيه آثار تدل على أنه كان به البلد القديمة. من ذلك أنه بالحفر فيه ظهرت آبار كثيرة متقاربة ذات أبنية متينة وماء كثير عذب، وظهرت أيضا أبنية من الطوب الكبير المضروب ما بين لبن ومحرق، وأوانى فخار كثيرة متقنة الصنعة على هيئة الأوانى الصينى. وينتصب فيه السوق كل يوم اثنين ويصلى فيه العيدان، وفيه للخطبة منبر من اللبن ملتصق بظهر ضريح الشيخ المجذوب. وعدة أهلها أكثر من أربعة آلاف نفس وأكثرهم مسلمون، وللأقباط كنيسة فى جهتها الشرقية أحدثت أوائل حكم الخديوى إسماعيل من طرف ذى ثروة من أهاليها يسمى منهرى شنودة. وفيها معمل دجاج عماله من قرية أدفا الواقعة غربى سوهاج إلى الشمال. وفيها جزارون بكثرة ونجارون وأنوال كثيرة لنسج ثياب الصوف. وبها كثير من خلايا النحل-وهذه الحرف الثلاثة خاصة بالنصارى-وفيها أيضا فيخورة صنّاعها من أهل طهطا، وفيها عدة مدافن لأموات المسلمين متفرقة فى نواحيها وفى خلالها.

ولأولاد الشيمى فى شمالها الشرقى جنينة فيها قليل من الفواكه. وزمامها نحو ثلاثة آلاف فدان غير الأباعد، وتكسب أهلها من الزرع المعتاد سيما الذرة الصيفى فلهم فيها اجتهاد زائد بحيث لا يساويهم فى إجادة زرعها إلا القليل ويزرع الستة أشخاص- ويسمون بالشدة-خمسة أفدنة يسقونها بالشادوف على عين غير مبنية بل مطوية بلبشة من الجريد، فإن سلم الزرع من الآفة ومنعت الموانع الموجبة لعطشها جاء محصول الخمسة أفدنة نحو تسعين معشرة، يأخذ صاحب الأرض إردبا أو أكثر فى كراء العين،

ص: 226

ويخرج منها أجرة الحرث والتسبيخ، ثم يأخذ ربع الباقى فى حصة أرضه، ثم يقسم الباقى على الشدة، فينوب الواحد منهم نحو عشر معشرات-والمعشرة أردب إلا سدسا-ولهم معرفة تامة بالفلاحة، بفتح الفاء، كما فى القاموس، وهى حرث الأرض.

والعادة عند أكثر فلاحى مصر أو جميعهم، أن يجعل الغيط عند الحرث مراجع، ويسمونها مراجع البقر-واحدها مرجع-وهو مساحة مقدرة طولا فقط، ويختلف عرضه بسبب سعة الغيط، فيجعلون طول المرجع عشر قصبات ثم يقطعونه دهايب يخط بالمحراث معتدلا، وعرض الدهيبة قصبتان فى طول المرجع، وإنما أضيف المرجع للبقر لأن حكمته الرفق ببهيمة الحرث، والبقر هو الغالب فى إثارة الأرض، لأن طول الخط يورثها الضعف والهزال. فجعلوا لها ذلك لتستريح عقب كل خط، لأن الحراث ينزع المحراث فى رأس المرجع ويدير البقر ثم يغرزه فى الأرض ويسوق البقر إلى الرأس الآخر وهكذا فيحصل لها بذلك نشاط، كما يفعل مثل ذلك كل ذى عمل، حتى المسافر يجعل سيره محطات وفراسخ، والمؤلف يجعل كتابه أبوابا وفصولا.

ونقل (كترمير) عن كتاب السلوك للمقربزى، أن المرجع قياس من الأقيسة، استعمل فى البلاد الغربية من بلاد الإسلام، وكان طوله خمس خطوات وخمس أثمان خطوة وذلك عبارة عن ثمانية أذرع وثلث، اهـ.

وهذا ليس هو مرجع الفلاحة المصرية. وقال أيضا: والمرجع يذكر كثيرا فى كتاب الزراعة لابن العوام وفيه، أن الأرض السهلة يحفر المرجع منها ثلاثة رجال فى يوم واحد اهـ.

قلت: مراد بالحفر قلب الأرض لتنقية الزرع من الحشائش، ويكون ذلك بالفأس المسماة بالطورية، ويسمى ذلك الحفر عزقا، بالعين المهملة والزاى والقاف.

وفى موضع آخر من كتاب الزراعة: المرجع الذى هو ثلاثون باعا، وفى موضع يبذر فى أرض اشبيليا فى المرجع من الأرض من ثلث قدح إلى ثلثين.

ص: 227

وقال أيضا: ويبذر فى المرجع نحو من قدح واحد، اهـ.

وأما الدهيبة ففائدتها راجعة للبذر، فيستعين بها الباذر على اتقانه وموازنته، فيبذر فيها على حسب الأرض، فإن الأراضى تختلف فى طلب البذر قلة وكثرة، فقد يحتاج الفدان إلى نصف أردب من القمح أو أكثر وذلك فى الأرض الزرقاء، وقد يكتفى بويبة كما فى بعض أراضى الجزائر، وللباذر فى حال بذره خطوات متوازنة/ويبذر بيده اليمنى بقوة متوازنة، فيكون بذره فى نصف عرض الدهيبة ثم يرجع فيها فيبذر النصف الآخر، وذلك بعد تشقيق الأرض تشقيقا غليظا واسعا-ويسمى برشا وبراشا-وبعد البذر تشقق ثانية لتغطية البذر تشقيقا بليغا بحيث تنحل الأرض وتنقلب طبقة من وجهها-ويسمى ذلك رد أو رداد-وقد يكتفى فى الحرث وإثارة الأرض بتشقيقها مرة واحدة مبالغا فيها بعد بذرها بلاطا-ويسمى ذلك أخذا بالسكة-وذلك إذا كانت الأرض سهلة صفراء الطينة، وأكثر ما يكون ذلك فى زرع الشعير والعدس ونحوهما، أما البرسيم ونحوه فالغالب زرعه من غير إثارة للأرض، بل يبذر حبه بعد نزول الماء عن الأرض قبل جفافها، ثم يغطى بآلة من الخشب-تسمى لوحا-ويسمى ذلك تلويقا، وإذا طال مكث الماء على الأرض إلى نصف شهر بابه فأكثر، صح زرع الفول والقمح لوقا بلا إثارة للأرض بل يكون ذلك فى الفول أجود وأكثر متحصلا.

ثم إنه يمر الآن فى وسط هذه البلدة فرع من تلغراف الوجه القبلى المار فى الحاجر الغربى، يتفرغ عند نزل القاضى من بلاد الهلة على جسر كوم بدر، مشرقا إلى أن يشق بنجا فيستقيم مقبلا إلى أن يرد المحطة فى مدينة طهطا.

ومن حوادث هذه البلدة أنه فى أوائل نزول أحمد باشا طاهر حاكما على الصعيد قبل سنة 1240، كان بها عمدة مشهور يدعى حسن بن أبى زيد، كان كريما شجاعا مقداما، ووقعت له عدة شدائد. منها، أنه فى هذا التاريخ حصل تشاجر فى سوق هذه البلدة بين بعض الأهالى والعساكر، فتطاول الأهالى على العساكر وضربوهم، ثم تغلب

ص: 228

العساكر عليهم، ففر الأهالى، وأمسك العسكر بعضا من فقراء نساء البلد وأخذوهن إلى طهطا محل إقامة الكاشف، فخاف الأهالى العار وخرجوا عليهم وأطلقوا منهم النساء، ثم أخبر العساكر الكاشف بما حصل وهوّلوا له الواقعة، ونسبوا أمر ذلك إلى العمدة المذكور، وهو فى الواقع برئ، فامتلأ منه الكاشف غيظا، ورفع الشكاية إلى أحمد باشا، وكبّر عنده الجريمة وأفهمه أنه رأس الفساد غليظ القلب غير منقاد إلى الأحكام، فأضمر له الباشا السوء وأهدر دمه، لما وقع فى قلبه من صدق الخبر، وكان من عادته أنه إذا أراد إنسانا بسوء أغار عليه وقتله، فأحس ذلك العمدة بتوعده، ففر من البلد بأبنائه الكبار وبقى كذلك مدة، حتى لقيه بعض أصحابه من العساكر، فحذره من الرجوع، وقال له عما قليل تحصل الإغارة على بلدتك لأجلك. فلم يمض إلا يسير حتى أرسل إليها الباشا أرطة من العبيد فأغاروا عليها ليلا، وأحاطوا بها إلى الصباح، وحضر الباشا صبيحتها، ودخل العبيد البلد فجمعوا كافة أهلها ذكورا وإناثا خارج البلد، وجرى فيهم الزجر على إحضار ذلك العمدة، وكان كثير من الناس مختفيا فى مطامير تحت الأرض، ففتن بعضهم على بعض فأخرجوا من المطامير وفيهم جماعة من مشايخها، فأمر الباشا بالتنشين على بعض المشايخ وأقاربهم فقتل منهم بالرصاص اثنين، وكان عازما على قتل كثير منهم إن لم يحضروا ذلك العمدة، فأغاثهم الله بالعسكرى الذى كان قد اجتمع به فى غيبته، فأخبر الباشا أنه رآه فى أقصى الصعيد وأن أهل البلد لا يعرفون مكانه، فعفا عن بقية الناس وخلى سبيلهم ورحل عنها بعساكره. وبقى العمدة هاربا مدة أشهر وليس فى منزله إلا النساء والأطفال، ثم إن أكبر أولاده عبد الرحمن خاف على الأموال والعيال، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، فأخذ كفنه على رأسه وسافر إلى أحمد باشا، ودخل عليه فى بلاد ملوى، فقبله وأمره أن يعمر فى البلد مكان أبيه، ثم بعد مدة سافر أبوه أيضا بكفنه إلى الباشا ولم يتوسط إليه إلا بمقدمه وكاتبه، فلما دخل عليه عرفه وعفا عنه وعرف أنه كان متهما بالباطل وأعطاه الآمان، وكف عنه أذى الحكام. ثم بعد ذلك بقليل جعل حاكم خط فأقام كذلك أربع سنين وكان متجافيا عن الظلم حسن السلوك، إلا أن أولاده لم يسيروا بسيره بل تطاولوا على أهل البلد وأسرفوا فى أذاهم، حتى حمل ذلك

ص: 229

أهل البلد على أن تحزبوا على قتله، ودبروا ذلك سرا فعملوا حيلة بأن قطعوا جسرا من الجسور التى فى محافظته فى أيام ركوب النيل للأراضى، وأنهوا إليه خبر القطع فخرج إليه فارسا مسرعا، وكانوا قد كمنوا له بالسلاح فضربوه بالرصاص فقتل نهار سنة خمس وأربعين ولم يعلم قاتله.

وكان إذ ذاك حاكم تلك الأقاليم شريف باشا الكبير، وكان عنده بمنزلة، فأمر بنفى نصف أهل البلد وهدم بيوتهم وحرث مكانها، فنفوا مدة. ثم ظهر قاتله فصلب فيه اثنان ورجع باقيهم إلى محله. واستمر ابنه عمدة على البلد، وكان غليظ القلب لا ينقاد لأصاغر الحكام فكرهوه، وتسبب عن ذلك أخذه فى التقهقر وظهور غيره شيئا فشيئا، إلى أن صار عمدّها الآن أولاد الشيمى، فصار بيتهم من البيوت المشهورة، وبنوا أبنية مشيدة وملكوا أملاكا كثيرة، {وَ تِلْكَ الْأَيّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النّاسِ}

(1)

، وهذا العمدة هو حسن بن أبى زيد بن حسين بن محمد بن على مرتين.

‌ترجمة الشيخ هارون

والآن ابن ابنه الشيخ هارون بن عبد الرازق بن حسن المالكى مقيم بالأزهر للإفادة والاستفادة، أخذ عن شيخ/المالكية الشيخ محمد عليش، أكبر المتمسكين بسنة النبى صلى الله عليه وسلم، وعن الشيخ أحمد منة الله المالكى، وعن الشيخ أحمد أبى السعود المالكى الإسماعيلى، قطب زمانه، وعن الشيخ منصور كساب العدوى، والشيخ محمد قطة العدوى المالكيين، وعن الشيخ محمد الأشمونى، والشيخ محمد الانبابى، والشيخ محمد الخضرى الشافعيين، وأخذ بعض البخارى عن الشيخ إبراهيم السقاء الشافعى، وعن الشيخ على محمد فرغلى الأنصارى بطهطا، وعن جم غفير من مشاهير الأزهر فى وقته، رضي الله عنهم، كما أخبر هو عن نفسه، وهو الآن من جملة المعلمين بالمدارس الملكية.

(1)

سورة آل عمران، آية 140.

ص: 230

ويتبع هذه القرية كفر صغير فى قبليها فوق الجسر الذاهب إلى طهطا، فيه ضريح ولى يسمى بالشيخ عامر، يقال إنه من ذرية أبى الحجاج الأقصرى الشهير. وكفر صغير أيضا فى بحريها فى داخل نخليها، يسمى السبائكة، يزعم سكانه أنهم من ذرية سيدى أبى مدين التلمسانى، رئيس الأربعين الذين أتوا من بلاد المغرب.

ويتفرع منها أربعة جسور، هذا وجسر يصل إلى ترعة شطورة بعد مروره على قرية عرب بخواج، وهى قرية صغيرة فيها نخيل ومساجد، وفيها مقابر نصارى بنجا والبلاد المجاورة لها. وجسر يصل إلى الجبل الغربى تقطعه الترعة السوهاجية، وفوق السوهاجية بالشاطئ الشرقى فى بحرى هذا الجسر قرية بنى حرب، وهى قرية صغيرة حسنة البناء كثيرة النحيل، وأهلها أكثر من ألف نفس أكثرهم مسلمون. والجسر الرابع يخرج منها مبحرا فيمر على نجع الشيخ أحمد، وهى قرية تشبه بنى حرب، وفيه بيت عمدتها أحمد سلامة، مشهور بالكرم، ثم على قرية المدمر.

وبواسطة تلك الجسور تجد طرق بنجا مستعملة دائما، لا فرق بين زمن النيل وغيره، فلذا فى أيام النيل يكون بها كثير من الغرباء والطوائف مثل الحلب والتتر والأحمدية، ويتفرع منها فى غير أيام النيل عدة طرق منها ما يوصل إلى قرية الوقات فى بحريها، وهى قرية صغيرة، ثم إلى عزبة مشطا، ثم إلى طما، ومنها ما يوصل إلى قرية الشيخ زين الدين فى شرقيها، وهى قرية صغيرة بينها وبين النيل أقل من ساعة وفيها نخيل كثير، وفيها منظرة حسنة للشيخ محمد زين الدين. وللمذكور ولدان من علماء المسلمين، لهم درس دائم فى جامع الشيخ زين الدين الذى سميت القرية باسمه، وهو جامع قديم، وقد جدده لطيف باشا سنة 1289.

وفيها نصارى كثيرون فى حارات مخصوصة، يشبهون نصارى البنادر، منهم كتبة وصيارفة، وفى جنوبها الغربى كنيسة إفرنجية. وفيها أنوال لنسج الصوف، وربما نسجت فيها ملاآت القطن المصبوغ، وفيها معمل دجاج. وتكسب أهلها من الزرع كما جاورها من البلاد مثل قرية السوالم فى قبليها، وقرية شطورة فى بحريها، وهى قرية على شاطئ

ص: 231

النيل الغربى-وقيل إنه أكلها مرارا ثم تباعد عنها الآن-وهى أصغر من بنجا وأغلب أبنيتها من الطين، وجدد فيها الآن بناء الآجر واللبن، ونخيلها كثير ومساجدها عامرة ويزرع فى أطيانها البطيخ والدخان والذرة النيلية، وفى بحريها قرية العتامنة، ثم قرية مشطا.

ومن عوائد تلك القرى ككثير من البلاد المجاورة لها، أن يلبس أغلب الرجال قلانس من صوف أبيض تسمى باللبدة تصنع فى بندر طهطا والغنائم وطما-وصنعة الغنائم أجود وأرغب عندهم-فيتخيرون الصوف الأبيض الناعم ويندفونه ثم يفرمونه كفرم الدخان المشروب، ثم يصنعونه بالصابون، فيديم الصانع دلكه بالصابون حتى يتلبد ويصير بالهيئة المطلوبة، ويتنافسون فى تحسينها وتقويتها-حتى قيل إن بعض اللبدات يقف الرجل عليها ولا تثنى-وبعضها يجعل صنوبرى الشكل، والأغلب ما يكون أعلاه كأسفله فى السعة أو أضيق قليلا، ومنهم من يتعمم بالبلين-بشد اللام-وهو ما ينسج من غزل الصوف الأبيض الغليظ، وقد يكون فيه خطوط سود، ويجعل عرضه نحو ثلث ذراع فى طول نحو خمسة أذرع، ويكون نسجه مسترخيا ووزنه أكثر من نصف رطل، ويجعلون للعمامة قبلة، ويجعلونها ذات اعوجاج، لها زاويتان عن اليمين وعن الشمال، وقد قل ذلك اليوم، وكاد لا يوجد. ويلبسون ثياب الصوف بجميع ألوانه زعابيط ودفافى، إلا الأبيض فلا يجعل زعبوطا إلا مصبوغا بالنيلة ونحوها، ومنهم من يلبس تحت الصوف ثوب قطن أو كتان فيكون الصوف دثارا والقطن شعارا، ومنهم من يلبس الصوف منفردا وهم الفقراء، بل فقراء النساء ربما لبسن الصوف منفردا. فقد قيل إن نساء ناحية شطورة كن قبل زمن العزيز محمد على لشدة فقرهن يلبسن زعابيط كهيئة زعابيط الرجال، فكانت لا تميز ملبوسها من ملبوس زوجها إلا بالرزة، وهى الخرزة التى تجعلها فى جيبها والعروة التى تدخل فيها.

ومؤنتهم فى الغالب الذرة والشعير وقليل القمح، ويخلطون الذرة بقليل من الحلبة

ص: 232

يرونها مصلحة لها، فيخلط على الويبة الذرة نحو نصف صاع من الحلبة. ومن أفخر فطوراتهم القدوسية وتسمى بالسكسكية، وقد سبق وصفها فى الكلام على أم دومة

(1)

.

ويطبخون فى قدور النحاس وأبرمة الهمر، وهى أوانى/على هيئة القدور الصغيرة، تتخذ من الطين المخلوط بالهمر، وهو نوع من الحجر ناعم يسحق ويخلط به الطين فيكون هو النصف أو أكثر. وكذا يأكلون فى أوانى من الهمر تسمى المراجيس، ويستعملون كثيرا من أنواع الفخار، مثل الطواجن والمواجير والزبادى والقلل والكيزان-التى تسمى عندهم المناطيل-يشربون فيها، ويعجنون فى القعاديات-وهى مواجير كبيرة تسع الواحدة ويبة عجين وأكثر-وكانوا فى السابق يستعملون النحاس قليلا.

وبالجملة فأغلب ما يستعمله أهل تلك البلاد وغيرها من بلاد القطر، من ملبوس وغيره، كان من مصنوعاتهم من منسوج الكتان والقطن الغليظ ونحو ذلك، وكان الوارد من البلاد الأجنبية قليلا.

ولما جاءت العائلة المحمدية وحصلت الألفة بين مصر والبلاد الأجنبية، تواردت الأشياء من تلك الجهات، وكثرت فى مصر الخيرات والبركات، فلبس أهل مصر الملابس الفاخرة، فلبست نساء الأكابر الطرابيش عليها أقراص الذهب وعصائب الحرير المحلاوى، وملاآت الحرير والثياب الحرير الإسكندرانى الذى ينسج من الحرير الغليظ فى ناحية ادكو، وبعضهم يلبس ثياب المقصب ورقائق الحرير، بعد أن كن يلبسن على رؤسهن البرانس القطن المرصعة بالودع. وصار الرجال يلبسون الجوخ والقطانى، ويتعممون بالشاش الرفيع، وكان استعمال التلى قليلا فكثر-وهو خيط الفضة-تجعله نساء الصعيد فى الثياب، فيجعلن فى الثوب من مثقال فأقل إلى ثلاثين مثقالا، فتخيط به المرأة جيب درعها نحو إصبعين من كل جهة، وتجعل الجيب مستطيلا يبلغ سرتها.

(1)

انظر الخطط التوفيقية ط 2، مركز تحقيق التراث 1990، ج 8، ص 272.

ص: 233

ولا تكتفى بذلك بل تجعل التلى طرازا تحت الجيب حتى يحازى الطراز فرجها، وتجعله فى هيئة شجرة أو قرصا قدر الرغيف، وتجعل على كتفيها كذلك، وتطرز به خياطات الدرع، وكذلك يجعلن فى ضفائر رؤسهن فروع الحرير الأحمر المضفورة، فتجعل ضفائر رأسها نحو عشر ضفائر، وتجعل فى كل ضفيرة فرعا فيه ثلاث خيوط مضفورة وترخيه من خلفها فيبلغ كعبيها، وربما خرجت كذلك، لتستقى من البئر أو من البحر، لأن عادة أكثر البلاد أن الاستقاء على النساء، فيخرج كثير من النساء متبرجات بزينتهن، ويعدون استقاء الرجل عيبا وهذا فى غير الأكابر. وأما الأكابر فلا تخرج نساؤهم بل لهم خادم سقاء من الرجال، لكن لا يتحرجون من دخوله، بل يدخلون البيوت من غير استئذان، وكذلك باقى الخدمة لا سيما النصرانى، فيدخل بيت بدويه فى أى وقت من غير استئذان، بل يعدون الاحتجاب منه عيبا، احتقارا له كالعبد المملوك.

(بنها)

مدينة هى رأس مديرية القليوبية على الشاطئ الشرقى لبحر دمياط، فى غربى آثار مدينة اتريب، ويقال لها بنها العسل لما سيأتى. وبها ديوان المديرية، والمجلس، والضابطية، وحكيم باشا، وياشمهندس، والمحكمة الشرعية. وبها سوق دائم وحوانيت مشحونة بالمتاجر فى الشارع الموصل لديوان المديرية والمحطة. وبها وكائل ومساجد عامرة أحدها بمنارة. وفيها أبنية مشيدة، وفى بحريها سراى المرحوم سعيد باشا التى بناها عباس باشا لنفسه، وهى التى استشهد فيها، ثم اشتراها سعيد باشا، وهى الآن فى ملك ورثته. وبجوار السراى محل كان معدا لنزول المسافرين، والآن بنى به الخديوى إسماعيل المدرسة الأهلية لتعليم الأطفال اللغاب والرياضة والخط والقرآن، وفيها نحو مائتين من أولاد الأهالى، يصرف عليهم من الإحسانات الخديوية مع ما هو مفروض على أهالى الأغنياء منهم جريا على قوانين المكاتب الأهلية، وعندها محطة حافلة للسكة الحديد على الفرع الطوالى وفرع الزقازيق، وعندها أيضا كبرى حديد موضوع على البحر يمر عليه وابور السكة الموصل إلى الإسكندرية. وبها أرحية تديرها جيوأنات، ووابورات لحلج القطن والطحين لجماعة من الدول المتحابة، وبها معاصر للزيت لبعض أهاليها.

ص: 234

وسوقها العمومى كل يوم أحد، وفيها أرباب حرف كثيرة وتجار. ويزرع فى أرضها الذرة الطويلة بكثرة والقطن قليلا، وأكثر أهلها مسلمون ويسكنها بعض الإفرنج.

والظاهر أن هذه البلدة عامرة من قبل الإسلام، لما اشتهر أنه عليه الصلاة والسلام لما أهدى إليه المقوقس هديته التى من ضمنها شئ من عسل بنها، قال:«بارك الله فى عسل بنها» ، وهى إلى الآن فيها بقايا خلايا النحل وكذلك القرى القريبة منها مثل مرصفا وكفر النصارى. وعسل تلك الجهة مشهور بصدق الحلاوة وجودة اللون.

وكثير من قراها التى إلى جهة النيل مثل، أجهور، والعمار، وسيفة، وكفر منصور فيها شجر البرتقال والتين البرشومى والخوخ والليمون بكثرة، حتى إن زرع غير الأشجار بها قليل. كما أن ناحية بيسوس وأبى الغيط ونحوها تكثر من زرع البطيخ والشمام، والقرى التى تجاور مصر من بلادها تكثر من زرع الخضر، وقصب السكر.

ومع جودة أرض تلك البلاد هى قليلة الماء لعلوها، ولذا ترى عناية الجناب الخديوى عملت الطرق فى تكثير مائها على الوجه الذى يكون به نفعها وتقرّبه عيون أهلها، كما هى عوائده السنية.

‌حادثة الشيخ سليمان البنهاوى

وفى/الجبرتى من حوادث سنة اثنتين وعشرين ومائتين وألف

(1)

، أن رجلا ظهر بناحية بنها العسل يعرف بالشيخ سليمان ادعى الولاية وأقام مدة فى عشة بالغيط، فاعتقد فيه الناس السلوك والجذب، واجتمع عليه الكثير من أهل القرى والبلدان ونصبوا له خيمة وصاروا يجتمعون عليه ويعظمونه ويحتفلون به لاعتقادهم ولايته وصلاحه. واستمر على ذلك مدة حتى أقبلت عليه الدنيا وكثر جمعه، وتواردت عليه النذور والهدايا، وصار

(1)

تاريخ الجبرتى، المرجع السابق، ج 4، ص 67.

ص: 235

يكتب إلى النواحى أوراقا يستدعى منهم القمح والدقيق ويرسلها مع المريدين، يقول فيها: الذى نعلم به أهل القرية الفلانية حال وصول الورقة إليكم تدفعون لحاملها خمسة أرادب قمحا أو أقل أو أكثر، برسم طعام الفقراء، وكراء الطريق المعين ثلاثون رغيفا أو نحو ذلك، فلا يتأخرون عن إرسال المطلوب فى الحال. وصار أولاده وأتباعه ينادون فى تلك النواحى بقولهم: لا ظلم اليوم، ولا تعطوا الظلمة شيئا من المظالم التى يطلبونها منكم، ومن أتى إليكم فاقتلوه. فكان كلما ورد أحد من العساكر المعينين إلى تلك النواحى لطلب الكلف والفرضة المجعوله عليهم، طردوه وفزعوا عليه وإن عاند قتلوه، فثقل أمره على الكشاف والعساكر. وصار له عدة خيام وأخصاص، واجتمع لديه من المردان نحو مائة وستين أمرد، وغالبهم أولاد مشايخ بلاد، وكان إذا بلغه أن البلد الفلانية فيها غلام وسيم الصورة أرسل بطلبه فيحضرونه إليه فى الحال، ولو كان ابن عظيم البلدة، حتى صاروا يأتون إليه من غير طلب، واجتمع عنده الكثير من جنس المردان وكذلك ذوو اللحى، وعمل للمردان عقودا من الخرز الملوّن فى أعناقهم وأقراطا فى آذانهم.

ثم إن رجلا من فقهاء الأزهر من أهالى بنها، يقال له الشيخ عبد الله البنهاوى ادّعى دعوى على أطيان مستأجرة من أراضى بنها أنها كانت لأسلافه، وأن الملتزمين بالقرية استولوا عليها من غير حق لهم فيها، وتخاصم مع الملتزمين ومشايخ البلد، وانعقد بسببه مجالس، ولم يحصل منها شئ سوى التشنيع عليه من المشايخ الأزهرية والسيد عمر النقيب، ثم بعد ذلك كتب عرضحال ورفع أمره إلى كتخدا بيك والباشا، فأمر الباشا بعقد مجلس بسببه، وأمر بحضور السيد عمر والمشايخ فعقدوا المجلس وحضر المشايخ ولم يظهر له حق فأخبروا الباشا أنه غير محق. ثم سافر إلى بلده وذهب إلى الشيخ سليمان المذكور، ومدح له مصر وحسّن له الحضور إليها وأغراه على ذلك. وقال له: متى وصلت اجتمع عليك المشايخ وأهالى البلد من عمد وتجار وصناع وغيرهم، ويكون على يدك الفتوح ويكون لك صيت عظيم. فحينئذ أطاع شياطينه وحضر إلى مصر برجاله وغلمانه ومعهم الطبول والكاسات، ودخلوا المدينة على حين غفلة وبأيديهم

ص: 236

الفراقل يفرقعون بها فرقعة متتابعة، ومازالوا على ذلك إلى أن دخلوا المشهد الحسينى وجلسوا بالمسجد يذكرون، ودخلوا بيت السيد عمر مكرم وهم يفرقعون، وأقاموا بالمسجد إلى العصر. فدعاهم إنسان من الأجناد يقال له إسماعيل كاشف أبو مناخير، وكان له فى الشيخ المذكور اعتقاد فذهبوا معه إلى المنزل فعشاهم وباتوا عنده. ولما طلع النهار ركب الشيخ بغلة الجندى وذهب بطائفته إلى ضريح الإمام الشافعى، وجلس بالمسجد مع أتباعه يذكرون، فبلغ خبره كتخدا بيك فكتب تذكرة وأرسلها إلى السيد عمر بطلب الشيخ المذكور للتبرك به وأكد فى الطلب، وكان قصده أن يفتك به، فعلم السيد عمر ما يريد فأرسل إليه يقول له: إن كنت من أهل الكرامة فأظهر كرامتك وإلا فاذهب وتغيب. وكان صالح أغاقوج لما بلغه خبره ركب فى عساكره وذهب إلى مقام الإمام الشافعى، وأراد القبض عليه، فخوّفه الحاضرون وقالوا له لا ينبغى التعرّض له فى ذلك المكان فإذا خرج فدونك وإياه، فعند ذلك خرج ينتظره بقصر شويكار فتباطأ الشيخ إلى قريب العصر، ثم خرج من الباب القبلى وتفرّق عنه الكثير من المجتمعين عليه، فذهب إلى مقام الليث بن سعد، ثم سار من ناحية الجبل وذهب أتباعه وغلمانه إلى بيت إسماعيل كاشف الذى باتوا به، ولما وصل إلى ناحية الصحراء لحقه الحاج سعودى الجناوى مختفيا وبلغه رسالة السيد عمر، ورجع إليه فوجد كتخدا بيك وصالح أغا حضرا إلى السيد عمر يسألانه عنه فأخبرهما أنه ذهب ولم تلحقه المراسيل، فاغتاظ الكتخدا، وقال: نرسل إلى كاشف القليوبية بالقبض عليه وانصرفوا، وقصدت العساكر بيت إسماعيل كاشف المذكور فقبضوا على الغلمان وأخذوهم إلى دورهم ولم ينج منهم إلا من كان بعيدا أو هرب، وتفرقت أتباعه ذوات اللحى، وأما الشيخ فسار من طريق الصحراء حتى وصل إلى بهتيم، وذهب إلى نوب، فعرف بمكانه الشيخ عبد الله البنهاوى، الذى كان أغراه على الحضور إلى مصر، ولما سقط فى يده تبرأ منه. وذهب إلى الكتخدا وطلب له أمانا وأخبره أنه مختف فى ضريح الإمام الشافعى فأعطاه أمانا/وذهب به إليه وأحضره من نوب، فلما حضر عند الكتخدا قال له: أرخ لحيتك واترك ما أنت عليه، وأقم ببلدك وأعطيك طينا تزرعه، ولا تتعرض لأحد ولا أحد يتعرّض لك، والشيخ ساكت لا يتكلم

ص: 237

وصحبته أربعة من تلامذته هم الذين يخاطبون الكتخدا أو يكلمونه، ثم أمر أشخاصا من العساكر بأخذه، فأخذوه وذهبوا به إلى بولاق وأنزلوه فى مركب وانحدروا به، ثم غابوا حصة وانقلبوا راجعين، وبعد ذلك تبين أنهم قتلوه وألقوه فى البحر وقتلوا من كان معه إلا واحدا ألقى بنفسه فى البحر وسبح فى الماء وطلع البر وهرب وانقضى أمره، انتهى.

(بنهو)

بموحدة فنون فهاء فواو، قرية صغيرة من قسم طحطا بمديرية جرجا، قبلى بندر طحطا بأقل من ساعة فى داخل حوض بنهو وبنى عمار. وأكثر أهلها مسلمون وفيهم كرم وبشاشة، ولهم مضايف حسنة، ولهم اعتناء بالصلاة والأذان والأذكار، فلذا يوجد بها أربعة مساجد عامرة نظيفة، ويصلون الجمعة فى واحد منها وهو أقدمها، وفوق بعض دورها أبراج حمام ونخيلها كثير حولها وفى داخل المنازل، ويتسوّقون من سوق طحطا يوم الخميس. وعدة أهلها ذكورا وإناثا نحو الألفين، وتكسبهم من الفلاحة.

وفى غربيها بنحو ربع ساعة قرية بنى عمار على الجسر الخارج من طحطا المعروف بجسر بنى عمار، وهى أصغر من بنهو وأوصافها كأوصافها، وغربى بنى عمار بأقل من ساعة قرية عنيبس على جسر عنيبس. وغربى عنيبس بأقل من ساعة ناحية نزة تفصل بينهما ترعة السوهاجية.

(بنود)

قرية من قسم قنا، كانت قديما رأس قسم، وأغلب أبنيتها من الآجر، وبها جامع بمنارة، وأبراج حمام، ولها سوق يجتمع فيه خلق كثيرون. وهى على الشاطئ الشرقى من النيل، وناحية الخربة فى بحريها على نحو ساعتين، وتجاهها فى الغرب ناحية البلاص المشهورة بعمل جرار الفخار، وكذا دير البلاص الواقع فى غربيها إلى بحرى، على نحو نصف ساعة، وناحية الزوايدة بحرى طوخ، فإن جميع الجرار المنتشرة فى القطر من هذه البلاد، ويصنعون أيضا أوانى من الفخار مثل المناقد والقلل والقسوط وغيرها من الأوانى المستعملة فى الأرياف، وقد تكلمنا على تلك الصنعة وطينتها فى الكلام على ناحية البلاص، وبهذه القرية شجر المقل بكثرة-كقرية الدير- وفيها جناين وفى قرية طوخ أيضا جنينة لعمدتها متسعة ذات فواكه.

ص: 238

(بنوفر)

قرية من مديرية الغربية بمركز كفر الزيات، موضوعة بجوار الشاطئ الشرقى لبحر رشيد، غربى كفر الزيات بنحو ثلاثة أرباع ساعة، فى مقابلة كفر مجاهد الذى على الشط الغربى للبحر، وأبنيتها كمعتاد الأرياف، وبها جامع من غير منارة. وبها جملة من النخيل، وتكسب أهلها من الزرع.

‌ترجمة الشيخ محمد البنوفرى المالكى

وينسب إليها كما فى ذيل الطبقات للشعرانى، الإمام الصالح، الورع الزاهد الخاشع الناسك، الشيخ محمد البنوفرى المالكى. رضي الله عنه. قال: صحبته سنين عديدة فرأيته على قدم عظيم فى هضم النفس وكثرة التواضع والتورع فى اللقمة، لا يأكل لأحد طعاما إلا إن علم منه كثرة الورع فى كسبه، وله تهجد عظيم فى الليل وحال مع الله عز وجل. وكان العالم الفاضل الشيخ عبد الرحمن الأجهورى يحبه ويبالغ فى محبته وفى الثناء عليه، ويصفه بالزهد والورع والخوف من الله عز وجل. أخذ العلم عن جماعة من العلماء، كالشيخ ناصر الدين اللقانى، والشيخ عبد الرحمن الأجهورى، والشيخ فتح الدين الدميرى، والشيخ نور الدين الديلمى وغيرهم، فأحبوه وأجازوه بالإفتاء والتدريس. ولم يزل مكبا على الاشتغال بالعلم والعمل، غير ملتفت إلى شئ من أمور الدنيا، طارحا للتكليف محبا للخمول، كارها للشهرة، يلبس ما وجد ويأكل ما وجد، لا يكاد يعرف أحد أنه من العلماء. وسمعته مرات يقول: والله ما أرى جميع ما تعلمته من العلم إلا حجة علىّ يوم القيامة لعدم العمل والإخلاص فيه وما سمعته قط يذكر أحدا بغيبة لا عدوا ولا صديقا، فأسأل الله تعالى أن يزيد من فضله وينفعنا ببركاته أمين.

‌ترجمة السيد مصطفى البنوفرى الحنفى

وإليها ينسب أيضا كما فى الجبرتى

(1)

، العلامة الفقيه السيد مصطفى بن أحمد بن محمد البنوفرى الحنفى، أخذ الفقه عن والده، وعن السيد محمد بن أبى السعود،

(1)

تاريخ الجبرتى، المرجع السابق، ج 106،2.

ص: 239

والشيخ محمد الدلجى، وحضر المعقول على الشيخ عيسى البراوى وغيره، ودرس فى محل والده بالقرب من رواق الشوام، إلا أنه لم يكن له حظ فى الطلبة، فكان يأتى الجامع كل يوم ويجلس وحده ساعة ثم يقوم ويذهب إلى بيته بسويقة العزى، وكان لا يعرف التصنع وفيه جذب، ويعود المرضى كثيرا الأغنياء والفقراء، توفى سنة تسع وتسعين ومائة، انتهى.

(بنويط)

قرية قديمة فى مديرية جرجا بقسم سوهاج، على تلول عالية قبلى طحطا، بنحو ساعة، وغربى ناحية المراغة كذلك، وشرقى ناحية جهينة كذلك، وبها كوهر جلة وأخذت منها الأهالى سباخا بكثرة، ولم تزل تأخذ منها إلى الآن. وأكثر أهلها/مسلمون، وبها مساجد عامرة ونخيلها حولها، ويخرج منها جسر يمتد إلى جهتى الغرب والشرق، فالشرقى يتصل بناحية المراغة، والغربى يتصل بناحية جهينة.

وفى مديرية أسيوط بقسم منفلوط قرية تسمى بلوط، فى حوض المحرق غربى ناحية القوصية إلى جهة قبلى. وفى كتب الفرنساوية ترجمة بلفظ بلويت، بلام بعد الباء الموحدة وتاء مثناة فى آخره، ولا يعرف من هذا الاسم بلدة فى الديار المصرية، فلعله محرف عن بنويط، بنون بعد الباء وطاء فى آخره، أو عن بلوط لأن لغتهم لا تفرق بين الطاء والتاء.

(بنى أحمد)

قرية بقسم منية ابن خصيب فى قبليها بنحو ساعة، فيها أبنية مشيدة، وفيها بيت مشهور كان منه ناظر قسم، ومنه آخر فى مجلس شورى النواب بمصر المحروسة، وفيها مساجد عامرة وبساتين، وأكثر أهلها مسلمون.

‌ترجمة الشيخ أحمد الأحمدى الصعيدى

وقد نشأ منها الشيخ أحمد الصعيدى المترجم فى خلاصة الأثر

(1)

، بأنه أحمد

(1)

خلاصة الأثر، المرجع السابق، ج 1، ص 373.

ص: 240

الأحمدى الصعيدى، من بنى أحمد قرية من أعمال المنية، كان ماشيا على طريق القوم بكثرة العبادة، محبا للفقراء والعلماء، صوفيا زاهدا، عمت امداداته واشتهر صيته، وكان يحج سنة ويترك أخرى، مع إدامته لخشونة عيشه، وكان ربما لبس الخيش وكان كثيرا ما ينشد:

اقنع بلقمة وشربة ماء ولبس الخيش

قل لقلبك ملوك الأرض راحوا بيش

وكان كثير الفكر والذكر والصلاة على النبى صلى الله عليه وسلم، وكانت وفاته سنة سبع بعد الألف كما فى طبقات المناوى، وقيل سنة عشر بعد الألف، انتهى.

(بنى حسن)

كانت تعرف قديما ببسيوس أو تميدوس. وفى خطط أنتونان أن بعد هذه المدينة عن مدينة أنصنا ثمانية أميال رومانية، وقد قيس هذا القدر على الخرطة فوجد قدره بالمتر 11822 ووقع على بنى حسن القديمة.

ويوجد فيها آثار عتيقة كثيرة، ومغارات عديدة فى الجبل عليها كتابة قديمة. وكان للرومانيين فيها فرقة من العساكر الخيالة، وهى الآن خراب، وفى قبليها بلدة بنى حسن، المعمورة الآن، وتسمى بنى حسن الشروق، وهى فى شرق البحر الأعظم، بحرى الشيخ تمى قريبة من الجبل، وهى على ثلاث قرى ودورها مبنية باللبن، وبها نخيل بكثرة وبعض أهلها نصارى.

ومن كان فى مدينة أنصنا وقصد المغارات يمر أولا على بنى حسن القديمة، ثم يدخل فى الجبل من فجوة عرضها نحو عشرين مترا فى واد تجرى فيه السيول إلى النيل فى أوقات الأمطار بسرعة شديدة، بسبب ارتفاع الجبل فى هذه المواضع إلى مائتى قدم فأكثر، وبين بنى حسن ونزلة نوير سبعة وديان من هذا القبيل نشأ من جريان السيول فيها ردم أغلب أرض الزراعة وخراب جملة من القرى ترى آثارها إلى الآن.

وتلك المغارات بعضها قريب من بعض وأبوابها فى مستوى واحد تقريبا، وهى

ص: 241

ثلاثون مغارة، منها خمس عشرة لم تتغير كتابتها ونقوشها والباقى تلف ما عليه من الكتابة. وهذه المغارات مرتبة مع الانتظام التام، فيها أعمدة من أنواع مختلفة بعضها يشابه الطرق المستعملة الآن بيننا فى العمارات التى ينسبها المعماريون والمؤلفون إلى الأروام.

وحيث أن الكتابات والنقوش التى على تلك الأعمدة وغيرها من العمارات تدل دلالة واضحة على أنها من أعمال المصريين، كان ذلك دليلا على أن الأروام أخذت طرق العمارة عن المصريين، كما أخذت كثيرا من المعارف، ثم أن النقوش التى على جدران المغارات باقية على ألوانها الأصلية ما بين أصفر وأزرق وأحمر، كأنها وضعت بالأمس، وهى كثيرة جدا دالة على أمور مختلفة من أمور المصريين فى الأزمان السابقة، فمنها ما هو متعلق بوصف أحوال الزراعة وآلاتها وكيفياتها، ومنها ما هو متعلق بالصيد من النهر وبالقنص فى البر، وبعضها فى ألعاب المسارعة والرقص والمباسطة، وبعضها فى الصنائع والحرف. ونقل جميع هذه الكتابات يحتاج إلى مجلدات.

وفى هذه المغارات عدة قبور مشهور منها اثنان، الأول قبر امزاميننها والثانى قبر نمهو طيب، وبالقرب من هذه البلدة على الشاطئ الأيسر من النيل خراب ممتد فى سعة عظيمة فى مقابلة المغارة الكبرى، يعرف بين الأهالى بالعنبجى أو العننج وهو بين كوم الزهير ومنشأة وابيس، وطوله قريب من 5000 متر، وبه كثير من الطوب والحجر، ويعرف هذا الخراب فى بعض الجهات بمدينة داود، وأحد التلال الموجودة فى جهة الشمال يسمى بكوم بنى داود، وجميع هذه الإشارات تدل على أنه كان فى هذا الموضع مدينة عظيمة يغلب على الظن أنها مدينة تيودوزو بوليس وهى من ضمن المدن التى كانت مشهورة فى الأقاليم الوسطى.

وحيث أن هذا الاسم رومى ومعناه مدينة تيودوز فلا مانع أن هذا القيصر وضع اسمه على مدينة قديمة من مدن مصر، كما فعل ذلك أركاديوس بن ديوتوز الأكبر فإنه سمى الأقاليم/الوسطى باسمه أركاديا.

ص: 242

ويعلم من خطط الرومانيين أنه كان فى هذا الموضع أو قريبا منه مدينة تسمى ايزوى، وكان فيها عساكر للمحافظة، ويحقق ذلك المعبد المصرى الذى فى القرية المعروفة بالبربى البعيدة عن الخراب بقدر ستة آلاف متر من الجهة الغربية، وحول هذا الموضع تلال وآثار قديمة وهى: كوم بنشها، والحاج سليمان، ونهالة، وكوم نواجة، وكوم مسمار، والكوم الأحمر، وصنعاء العجوز، وفى بحرى بنى حسن بنحو ساعة ناحية المظاهرة.

ويقابل بنى حسن فى البر الغربى قرية البربى عند ترعة السبخة، وقرية بوقرقاص، وهى قرية أغلب أهلها نصارى، ولهم شهرة فى نسج الصوف ويعملون جبة الصوف من نحو نصف رطل. وترعة الابراهيمية والسكة الحديد من غربيها، وبها كنيسة وأبراج حمام ونخيل.

(بنى حميل)

قرية من قسم برديس بمديرية جرجا، فى وسط حوض برديس شرقى العربات المدفونة بنحو ساعة، والبحر فى شرقيها بنحو ساعة أيضا، وفيها بستان لحميد بيك أبو ستيت، فيه أنواع كثيرة من الفواكه.

‌ترجمة شيخ العرب أبى ستيت

وأبو ستيت هذا فلاح ترقى فى مدة الخديوى إسماعيل حتى كان مدير جرجا ثم قنا، وبلغت مزروعاته نحو سبعة آلاف فدان، ونخيله نحو مائة فدان فى عدة بلاد.

ومنزله يشبه منازل مصر، فى كفر غربى برديس يقال له السنباط، له فيه مضائف وجامع ومكتب وهما عامران بالمجاورين من فقراء البلدان يقرؤن القرآن ويطلبون العلم، ولهم جراية ومرتبات يصرفها عليهم من ماله حسبة، ومع ذلك فقد اشتهر عنه الغدر وقتل النفس واتهم هو وابنه أحمد فى قتل رجل، ورفعت الشكاية فيهما للخديوى إسماعيل فقبض عليهما وسجنا نحو سنتين لتحقيق القضية، ثم حكمم عليهما بالنفى إلى السودان مدة حياتهما، فنفيا إليه فى شهر جمادى الأولى من هذه السنة، أعنى سنة ثلاث وتسعين.

ص: 243

بالناحية المذكورة جامع بمئذنة بناه أبو ستيت بيك المذكور، وجبانتها مشهورة بالأولياء تأتى إليها الزوار من قاصى البلدان.

(بنى سويف)

هى مدينة كبيرة بالصعيد الأدنى رأس مديرية بنى سويف، واقعة قبلى بوش بنحو ساعة ونصف على الشاطئ الغربى من النيل، ذات أبنية وقصور مشيدة وقيساريات وفنادق، وبها حمام أنشأه حسن بيك أبو نشانين بالشركة مع حسن أفندى نامه، وكيل تلك المديرية سابقا، رسمه الأمير محمد بيك عبد الرحمن مفتش الهندسة. وبها جوامع عامرة أشهرها جامع البحر وهو جامع قديم مبنى بالحجر الدستور، وبها مقام الشيخة حورية ويعمل لها ليلة كل سنة. وكان بها قشلاق كبير بنى مدة العزيز محمد على يشتمل على أربعمائة أودة كان معدا لإقامة العساكر والباش بزوك، وكان به محلات نفيسة مشرفة على البحر كان ينزل فيها العزيز وشريف باشا وأحمد باشا طاهر.

ثم هدمه المرحوم سعيد باشا وعمل محله السراى الموجودة الآن، وجعل أمامها ميدانا للعسكر وبنى به ديوان المديرية. وكان بها أيضا فوريقة للأقمشة جعل فى محلها الآن المدرسة ومسكن المدير. وبها مجلس الاستئناف والمجلس المحلى والمحكمة الشرعية ومحل حكيم باشا، وبها اسبتالية داخل البلد، وبها محل باشمهندس وبيوت مستخدمى المديرية.

وفى جهتها البحرية محطة سكة الحديد وبها بستان بحرى الفوريقة للميرى.

وسوقها العمومى يوم الثلاثاء. ويقابلها فى شرقى البحر ناحية بياض النصارى بجوار الجبل، وهى جملة كفور.

وجبانة بنى سويف فى الجبل بقرب تلك الناحية، تشيع إليها الجنائز فى المراكب.

ومحجر المرمر فى ذلك الجبل قبلى ناحية بياض فى مقابلة الناحية المعروفة بالمليحية، وبين بياض ومحطة الورشة نحو ساعتين، ومن المحطة إلى محل قطع المرمر مسافة اثنتى عشرة ساعة، والطريق إليه معتدلة تمشى عليها العربات الحاملة للرخام، وفيها آبار ماء، وتلك

ص: 244

الطريق توصل إلى دير المقدس أنطوان المعروف بدير بوش، ويتوصل إليه أيضا من جهة اطفيح، ومن جهة دير الميمون، وذلك الدير قريب من البحر الأحمر.

والمرمر المستخرج من ذلك الجبل يوجد به كثير من السوس وتؤثر فيه العوارض الجوية، وهو على ألوان، فبعضه معرق وأغلب لونه الصفرة والخضرة، وهو أقل جودة مما يستخرج من محجر أسيوط، الذى أنعم به العزيز محمد على، على سليم باشا السلحدار.

ويعلم مما ذكره أنطونان فى خططه، أن مدينة بنى سويف هى فى محل مدينة سينى، وأن البعد الذى كان بين سينى وبين أزيو-التى هى الزواية-عشرون ميلا، كما أن هذا القدر بعينه كان بين سينى وتاكونا، وهو عبارة عن تسعة وعشرين ألف متر وخمسمائة متر.

ويظهر أن مدينة سينى حدثت بعد خراب مدينة هيركليوبوليس، فلعلها كانت فى الأصل موردة لها ثم خلفتها بعد خرابها، كما حصل ذلك لمدن كثيرة كمدينة أبولونو بوليس فإنها كانت موردة لمدينة أبيدوس، ثم صارت مدينة سينى كلما انحطت هيركليوبوليس/تأخذ هى فى الزيادة حتى كانت رأس المديرية، ولفظ سينى ربما دل على ذلك لأن معناه الجديدة ولم يكن بالقرب منها إلا مدينة هيركليوبوليس، انتهى.

وفى الضوء اللامع

(1)

للسحاوى، أن هذه القرية كانت تعرف قديما ببنمسوية ثم اشتهرت ببنى سويف، وبعد أن كان ينسب إليها بالبنمساوى، بكسر الموحدة والنون وسكون الميم ثم مهملة، صار يقال فى النسبة إليها السويفى.

(1)

الضوء اللامع، المرجع السابق، ج 8، ص 72.

ص: 245

‌ترجمة الشيخ محمد محب الدين السويفى

وإليها ينسب الشيخ محمد بن عبد الكافى بن عبد الله بن أبى العباس أحمد بن على بن محمد محب الدين الأنصارى العبادى البنمساوى القاهرى، ويعرف كأبيه بالسويفى، ولد تقريبا سنة سبعين وسبعمائة بالقاهرة، ونشأ بها، وحفظ القرآن والعمدة والتنبيه، ودخل الإسكندرية والصعيد وغيرهما، وحدث بالكثير وسمع منه الأئمة، وكان عالى الهمة صبورا. مات بالقاهرة فى ربيع الأول سنة اثنتين وخمسين، انتهى.

‌ترجمة أنطونان قيصر الروم

(فائدة) أنطونان المار ذكره يلقب بالصالح، وهو من قياصرة الروم، جلس على تخت القيصرية بعد أدريان سنة مائة وثمان وثلاثين ميلادية، واشتغل باصلاح حال الرعية، وبنى ما تهدم فى الحروب من المدن والضياع، وردع المفسدين من الحكام فى الولايات، ومنع التعدى على النصارى وظلمهم، ومات سنة مائة وإحدى وستين، وحزنت عليه الرعايا. وبنت السيناتو عمودا رفعته لبقاء ذكره موجودا إلى الآن.

وإليه تنسب خطط مقدر فيها أبعاد البلدان، يعتمد عليه فى الجغرافية القديمة، والظاهر أنه عمل بأمره، لا أنه عمله بنفسه، انتهى. «من قاموس الجغرافية الإفرنجى» .

‌ترجمة مصطفى بيك السراج

ومن مدينة بنى سويف هذه، المرحوم مصطفى بك السراج، ولد بها سنة ألف ومائتين وتسع وثلاثين هجرية، وكان أبوه انكشاريا وأمه سويفية. ودخل مكتب الديوان بها، وأخذ منها إلى مدرسة الألسن سنة اثنتين وخمسين فأقام بها ست سنين، ثم جعل معلم جغرافية بتلك المدرسة، ثم أخذ إلى المعية السنية بوظيفة مترجم فرنساوى فأقام سنة. ثم

ص: 246

جعل مترجم قلم أفرنجى بضبطية المحروسة فى سنة ستين. ثم تعين معلم تركى فى البلاد السودانية بالمكتب الذى أنشئ هناك تحت نظر المرحوم رفاعة بيك الطهطاوى، فأقام كذلك سنتين ثم عاد إلى مصر، فجعل مترجم مجلس تجارة الإسكندرية، فأقام بهذه الوظيفة عشر سنين ثم جعل رئيس ذلك المجلس، ثم تشرف بالرتبة الرابعة من سنة اثنتين وسبعين إلى سنة تسع وسبعين، وأحيل عليه فى خلال ذلك تصفية تركة المرحوم محمد على باشا الصغير، ثم أحيل عليه أيضا فى آخر تلك المدة تصفية تركة المرحوم سعيد باشا، وأنعم عليه بالرتبة الثالثة. وفى ربيع الأول سنة ثمانين جعل ترجمان أول فى محافظة الإسكندرية وأنعم عليه بالرتبة الثانية. وفى أوائل سنة اثنتين وثمانين جعل رئيس المجلس الابتدائى بالإسكندرية. وفى أثناء تلك السنة تعين لتحقيق دعوى الكنت دوبيسون الفرنساوى، وأحيلت عليه أيضا دعوى سد أبى قير، ورياسة مجلس الإسكندرية، ورياسة كومسيون تفتيش المطيوعات، ورياسة كومسيون تعديل ديوان الأهالى مع الأجانب بالإسكندرية. ثم توفى إلى رحمة الله تعالى فى أثناء سنة أربع وثمانين ومائتين وألف.

(بنى صبورة)

بلدة قديمة من مديرية جرجا بمركز المنشأة، واقعة قبلى سوهاج بنحو ساعة، فيها أبنية فاخرة، ومساجد عامرة، وأكثر أهلها أغنياء وعدتهم أكثر من أربعة آلاف نفس.

‌ترجمة محمد بيك أبو حمادى

ومنها محمد بيك أبو حمادى، له شهرة من زمن العزيز محمد على، وهو فلاح أخذ فى الترقى من زمن المرحوم سعيد باشا إلى أن صار فى زمن الخديوى إسماعيل من أعضاء مجلس الاستئناف بأسيوط ثم مدير جرجا. وابنه أحمد كان وكيل مديرية جرجا، ثم توفيا إلى رحمة الله تعالى. وقد جعل منهم ناظر قسم وحاكم خط. ومنهم ابنه همام رئيس المجلس المحلى بجرجا، ولهم أبنية تشبه قصر المديرية الذى بسوهاج، ولهم جامع عامر رتب فيه شيخا لتدريس العلم لتلامذة يأتون من بلاد كثيرة، وجعل لهم مرتبات من ماله

ص: 247

حسبة لله تعالى، وله بستان غربى البحر الأعظم فى مقابلة أخميم إلى قبلى، فيه جميع الفواكه، وله جنينة فى أخميم كذلك وكانت وفاة ذلك البيك سنة تسع وثمانين ومائتين وألف.

(بنى عبيد)

اسم مشترك بين قريتين، إحداهما قرية من قسم منية ابن خصيب، وكانت سابقا رأس قسم وهى فى حوض الطهتشاوى على الشاطئ الغربى من الإبراهيمية، بين المنية وملوى، وبها قليل من النخيل وجامع عظيم بناه عمدتها المرحوم حسن أبو سليمان.

‌ترجمة حسن أبى سليمان

وكان شيخا كريما له شهرة فى جميع بلاد الصعيد صاحب خير ودين، تألفه الفقراء والمساكين فى أسفاره ومضايفه. ويقال إنه لما سافر إلى الحج الشريف أمر مناديا: يا من يريد الحج، فحج معه خلق كثير على طرفه. وبلغت مزروعاته نحو اثنى عشر ألف فدان وعند موته ترك أربعة آلاف فدان، ولم يترك ذرية. وكان محترما عند الأمراء والحكام، متنحيا عن الوظائف/الميرية. أقام ابن أخيه موسى بكفر الفقاعى وهو عمدة بنى عبيد، وبنى بذلك الكفر منزلا يشبه منازل مصر وهو محترم أيضا.

والثانية: قرية من مديرية الدقهلية بمركز نوسا الغيط، فى شرق منية عجلان بنحو أربعة آلاف وخمسمائة متر، وفى الجنوب الشرقى لناحية منية سويد بنحو ثلاثة آلاف وخمسمائة متر، وبها زاوية للصلاة.

(بنى عدى)

بلدة كبيرة من قسم منفلوط بمديرية أسيوط بحافة بساط الجبل، غربى منفلوط إلى جهة قبلى. وهى ثلاث قرى: القبلية والوسطى والبحرية، وأبنيتها بالاجر واللبن، وبها جوامع كثيرة كلها عامرة وفى بعضها تقرأ دروس العلم، وبها أثر قصر كان بناه لاظ أوغلى مدة إقامته هناك بالعساكر بعد قيامهم من ناحية أسوان، وبها

ص: 248

جنان ونخيل فى الجهة القبلية، وأكثر أهلها مسلمون وتكسبهم من الزرع والتجارة، فمنهم من يتجر فى الغنم، ومنهم من يتجر فى الغلال، يتسوقون ذلك من الصعيد الأعلى ويوجهونه إلى مصر، وكثير منهم محترفون بمصر وبولاق، فمنهم شيخ ساحل بولاق، ومنهم البوابون بالخانات، وتجار الدخان والنشوق وغيره، وقل أن توجد حرفة شريفة أو وضيعة إلا وفيها ناس منها، ومنهم من يتجر فى محصولات الواحات مثل التمر والأرز والنيلة، بسبب أن منها طريقا إلى الواحات مسافتها ثلاثة أيام، فتنزل عليها محصولاتها كثيرا، ثم توجه إلى القاهرة وغيرها، لا سيما التمر بأنواعه مثل العجوة، التى توضع فى مقاطف طويلة من الخوص تسمى العجول، والتمر الناشف.

وكان لأهلها فى السابق ككثير من بلاد منفلوط شهرة بأكل الخلد، ويسمونه زغلول الغيط، ولهم مهارة فى صيده وفى صنعة طبخه، فيجعلون منه محمرا ومشويا وطواجن، ويقدمونه للضيوف فيحسبونه حماما، ومنهم من يبيعه. وذلك جائز عند المالكية إذا لم يصل إلى النجاسات، وإلا فلا يجوز أكله كفأر البيوت. وأما العرسة فلا تؤكل لما قيل أن أكلها يورث العمى، والخلد بتثليث الخاء المعجمة وسكون اللام، هو فار الغيط كما فى كتب اللغة.

وفى هذه البلدة تنسج أحرمة الصوف الأسود فتشبه فى الجودة أحرمة بلاد المغرب، وكذا ينسج بها ثياب الصوف الجيدة ذات الصفاقة مع الرقة، وأكثر من يغزله عندهم النساء-كما هو العادة القديمة أن الغزل للنساء والخياطة للرجال.

وهكذا تجد فى أهل هذه البلدة نوعا من التمسك بعوائد العرب، فإنهم قوم كرام، ذو همم علية وذكاء وفطنة وفصاحة، قيل إنهم من قبيلة بنى عدى القبيلة المشهورة القرشية.

ص: 249

وقد وقع لهم مع الفرنسيس حروب كما فى الجبرتى فى حوادث سنة 1213

(1)

وحاصلها: أنه فى زمن انتشار الفرنسيس فى البلاد القبلية من مصر وضربهم الأموال والكلف على أهالى تلك البلاد امتنع أهالى بنى عدى من دفع المال، ورأوا فى أنفسهم الكثرة والقوة فحضرت إليهم جملة من عساكر الفرنسيس وضربوهم فخرجوا عليهم وقاتلوهم، فركب عليهم الفرنسيس تلا عاليا وضربوا عليهم بالمدافع فأتلفوهم وأحرقوا جرونهم، ثم هجموا عليهم وأسرفوا فى قتلهم ونهبوهم وأخذوا شيئا كثيرا وأموالا عظيمة وودائع كثيرة كانت عندهم.

وهى أيضا مشهورة بالعلماء من قديم الزمان، والجامع الأزهر دائما لا يخلو منهم، ولا ينقص المجاورون منهم به عن نحو الثلاثين، ومنهم شيخ رواق الصعائدة غالبا، ومنهم المدرسون والمؤلفون قديما وحديثا.

‌ترجمة العلامة الشيخ على العدوى المنسفيسى

وأجلهم الإمام الهمام شيخ مشايخ الإسلام وعالم العلماء الأعلام، إمام المحققين وعمدة المدققين، الشيخ على بن أحمد بن مكرم الله الصعيدى العدوى المالكى، ولد ببنى عدى-كما أخبر عن نفسه-سنة اثنتى عشرة ومائة وألف، ويقال له أيضا المنسفيسى لأن أصوله من منسفيس قرية من مديرية المنية. قدم إلى مصر وحضر دروس المشايخ كالشيخ عبد الوهاب الملوى، والشيخ شلبى البرلسى، والشيخ سالم النفراوى، والشيخ عبد الله المغربى، والشيخ إبراهيم شعيب المالكى، والشيخ الحفنى والسيد البليدى، وآخرين.

وأخذ الطريقة الأحمدية عن الشيخ على بن محمد الشناوى، ودرس بالأزهر وغيره، وكان يحكى عن نفسه أنه طالما كان يبيت بالجوع فى مبدأ اشتغاله بالعلم، وكان لا يقدر

(1)

انظر تاريخ الجبرتى، المرجع السابق، ج 3، ص 2 - 70 حوادث سنة 1213.

ص: 250

على ثمن الورق ومع ذلك إن وجد شيئا تصدق به، ورأى غير واحد من الصالحين النبى صلى الله عليه وسلم فى المنام يأمره بالحضور عليه.

وقال العلامة الشيخ محمد الأمير: لقد سمعت شيخنا العفيفى فى مرض موته يقول: الشيخ الصعيدى ناج والذى يحضر عليه ناج. وشهد له بالصلاح والمعرفة أكثر من النصف من أهل عصره.

وله مؤلفات دالة على فضله منها: حاشية على الخرشى أربع مجلدات كبار، وحاشية على أبى الحسن مجلدان، وحاشية على ابن تركى، وأخرى على الزرقانى-وكلها فى مذهب مالك-وحاشية على شرح الهدهدى فى علم التوحيد، وحاشيتان على عبد السلام على الجوهرة كبرى وصغرى، وحاشية على الأخضرى/على السلم فى المنطق، وحاشية على شرح شيخ الإسلام على ألفية المصطلح للعراقى، وغير ذلك.

وكان علماء المالكية قبل ظهور المترجم لا يعرفون الحواشى على شروح كتبهم الفقهية، فهو أوّل من خدم كتب مذهبهم بالحواشى، وله أيضا شرح على خطبة كتاب إمداد الفتاح على نور الإيضاح، فى مذهب الحنفية للشيخ الشرنبلالى.

وكان رحمه الله شديد الشكيمة فى الدين، يصدع بالحق ويأمر بالمعروف وإقامة الشريعة، ويحب الاجتهاد فى طلب العلم، ويكره سفاسف الأمور، وينهى عن شرب الدخان ويمنع من شربه بحضرته وبحضرة أهل العلم تعظيما لهم، وكان إذا دخل منزلا من منازل الأمراء ورأى من يشرب الدخان نهاه عن شربه فينتهى فى الحال، وشاع عنه ذلك حتى ترك شربه بحضرته، ودخل يوما على على بيك فى أيام إمارته لقضاء حاجة عنده فأخبروه قبل وصول الشيخ إلى مجلسه فرفع الشبك من يده وأمر بإخفائه من وجهه، ولما مات على بيك واشتغل محمد بيك أبو الذهب بإمارة مصر كان يعظمه ويحبه ولا يرد شفاعته، وكان كل من تعسرت عليه حاجته ذهب إلى الشيخ وأنهى إليه قصته فيكتبها مع غيرها فى قائمة حتى تمتلأ الورقة ثم يذهب إلى الأمير بعد نحو يومين، وبعد الجلوس

ص: 251

يخرجها من جيبه ويقص ما فيها ويأمره بقضاء جميعه والأمير لا يخالفه ولا ينقبض منه، ولما بنى ذلك الأمير مدرسته تعين المترجم للتدريس بها داخل القبة على الكرسى، وابتدأ بها البخارى وحضره كبار المدرسين مع إدامة الدرس بالأزهر وغيره، وكان يقرأ فى مسجد الغريب عند باب البرقية فى وظيفة جعلها له عبد الرحمن كتخدا، ووظيفة بعد الجمعة بجامع مرزة ببولاق، وكان على قدم السلف فى التقوى والاشتغال وشرف النفس ولا يركب إلا الحمار، ويواسى أهله وأقاربه، ويرسل إلى فقرائهم الصلات حتى الطرح للنساء والمداسات، ولم يزل على الإقراء والإفادة حتى تمرض أياما قليلة بجراح فى ظهره، وتوفى عاشر رجب سنة 1189، ودفن بالبستان بالقرافة الكبرى، انتهى جبرتى

(1)

.

‌ترجمة الشيخ محمد عبادة

وفيه أيضا

(2)

: أن من علمائها أحد الأئمة الأعلام وأوحد فضلاء الأنام، الشيخ محمد ابن عبادة بن برى المالكى، ينتهى نسبه إلى ابن صالح المدفون بالعلوة فى بنى عدى، قدم مصر سنة أربع وستين ومائة وألف، وجاور بالأزهر وحفظ المتون، ثم حضر على شيوخ الوقت مثل الشيخ على العدوى المذكور، والشيخ عمر الطحلاوى، والشيخ خليل، والشيخ البيلى، وأخذ المعقولات عن شيخه الشيخ على العدوى وغيره، ولازمه ملازمة كلية، وانتسب إليه حسا ومعنى، وصار من نجباء تلامذته، ودرس الكتب الكبار فى الفقه والمعقول، ونوه الشيخ بفضله وأمر الطلبة بالأخذ عنه، وصار له باع طويل فى العلوم وفصاحة فى التقرير والتحرير وقوة استحضار، ثم تصدى للتأليف فألف حاشية على شرح الشذور لابن هشام، وحاشية على مولد النبى عليه الصلاة والسلام للغيطى،

(1)

تاريخ الجبرتى، المرجع السابق، ج 1، ص 420 - 421.

(2)

تاريخ الجبرتى، المرجع السابق، ج 1، ص 61.

ص: 252

وحاشية على مولد ابن حجر، وحاشية على شرح ابن جماعة فى مصطلح الحديث، وحاشية على جمع الجوامع فى الأصول، وحاشية على السعد فى العلوم الثلاثة، وحاشية على شرح أبى الحسن فى الفقه، وحاشية على شرح العلامة الخرشى فى الفقه أيضا، وكتب على الرسالة العضدية وعلى آداب البحث والاستعارات، ولم يزل يملى ويفيد ويحرر ويجيد، حتى وافاه الحمام فى أواخر جمادى الثانية من سنة ثلاث وتسعين ومائة وألف، ودفن بقرافة المجاورين عليه رحمة الله.

‌ترجمة العارف بالله تعالى أبى البركات سيدى أحمد الدردير

ومن علمائها أبو البركات الشيخ أحمد الدردير، وقد ترجمه الجبرتى أيضا بقوله

(1)

:

هو القطب الكبير والإمام الشهير العالم، العلامة شيخ أهل الإسلام وبركة الأنام، الشيخ أحمد بن محمد بن أحمد بن أبى حامد العدوى المالكى الأزهرى الخلوتى الشهير بالدردير- وسبب تلقيبه بذلك هو أن قبيلة من العرب نزلت ببلدهم كان كبيرهم يلقب بالدردير فولد جده عند نزول هذه القبيلة فلقب بذلك، فهو لقبه ولقب جده من قبله، ولد ببنى عدى-كما أخبر عن نفسه-سنة سبع وعشرين ومائة وألف وحفظ القرآن وجوّده وحبب إليه طلب العلم، فورد الأزهر وحضر دروس العلماء وسمع الأولية عن الشيخ محمد الدفرى بشرطه، وسمع الحديث على كل من الشيخ محمد الصباغ وشمس الدين الحفنى، وتفقه على الشيخ على الصعيدى ولازمه فى جل دروسه حتى أنجب، وتلقن الذكر وطريق الخلوتية من الشيخ الحفنى وصار من أكبر خلفائه، وحضر بعض دروس الشيخ الملوى والجوهرى وغيرهما، ولكن جل اعتماده على الشيخين الحفنى والصعيدى، وأفتى فى حياة شيوخه مع كمال الزهد والعفة.

(1)

تاريخ الجبرتى، المرجع السابق، ج 2، ص 157.

ص: 253

وتصدى للتأليف، فألف: شرح مختصر خليل واقتصر فيه على الراجح من الأقوال، ومتنافى فى فقه المذهب سماه «أقرب المسالك لمذهب مالك» ، وشرحه بشرح جليل، ربما كان أجل من شرحه لمتن سيدى خليل، ورسالة فى متشابهات القرآن، ونظم الخريدة/السنية فى التوحيد وشرحها، ورسالة فى المعانى والبيان، ورسالة أفرد فيها طريقة حفص، ورسالة فى المولد الشريف، ورسالة فى الاستعارات، وأخرى على آداب البحث، ورسالة جعلها شرحا على رسالة قاضى مصر عبد الله أفندى المعروف بطرطر زاده، فى قوله تعالى:{يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ}

(1)

الآية، وله غير ذلك.

ولما توفى الشيخ الصعيدى تعين المترجم شيخا على المالكية، ومفتيا وناظرا على وقف الصعائدة، وشيخا على طائفة الرواق، ولم يزل على ذلك حتى توفى فى سادس شهر ربيع الأول من سنة إحدى ومائتين وألف، ودفن بزاويته التى أنشأها بخط الكعكيين بجوار ضريح سيدى يحيى بن عقب، وقد أنشأها بعد عودته من الحج فى سنة تسع وتسعين ومائة وألف. ومن غريب ما اتفق له أن تاريخ موته جمل جملة «رضي الله عنه» .

ومما اتفق له كما فى الجبرتى أيضا

(2)

، أنه كان بطنتدا لزيارة سيدى أحمد البدوى فى وقت المولد المعروف بالشرنبابلية، وكان ذلك فى منتصف جمادى الثانية من سنة مائتين وألف، وكان هناك على جارى العادة كاشف المنوفية والغربية فعسفوا بالناس وجعلوا على كل جمل يباع فى المولد نصف ريال فرانسة، وأخذوا جمال الأشراف وكان ذلك أواخر أيام المولد، فذهبوا إلى الشيخ الدردير وشكوا إليه ما حل بهم، فأمر الشيخ بعض أتباعه بالذهاب إليه فامتنعوا، فركب الشيخ بنفسه وتبعه جماعة كثيرة من العامة، فلما وصل إلى خيمة كتخدا الكاشف دعاه فحضر إليه-والشيخ راكب على بغلته-فكلمه ووبخه وقال أنتم ما تخافون من الله، وفى أثناء كلام الشيخ مع كتخدا الكاشف هجم على

(1)

سورة الأنعام، آية 158.

(2)

تاريخ الجبرتى، المرجع السابق، ج 2، ص 111.

ص: 254

الكتخدا رجل من عامة الناس وضربه بنبوت، فلما عاين خدامه ضرب سيدهم هجموا على العامة بنبابيتهم وقبضوا على سيدى أحمد الصاوى تابع الشيخ وضربوه عدة نبابيت، وهاجت الناس ووقع النهب فى الخيام وفى البلد، ونهبت عدة دكاكين وأسرع الشيخ فى الرجوع إلى محله وراق الحال بعد ذلك، وركب كاشف المنوفية وهو من جماعة إبراهيم بيك الكبير وحضر إلى كاشف الغربية، فحضر به عند الشيخ وأخذوا بخاطره وصالحوه ونادوا بالأمان وانفض المولد ورجع الناس إلى أوطانهم، فلما استقر الشيخ بمنزله بالقاهرة حضر إليه إبراهيم بيك الوالى وأخذ بخاطره وكذلك إبراهيم بيك الكبير وكتخدا الجاويشية، انتهى.

‌ترجمة الشيخ أحمد البيلى العدوى المالكى

ومن علمائها الإمام الفاضل الشيخ أحمد بن موسى بن أحمد بن محمد البيلى العدوى المالكى، ولد سنة إحدى وأربعين ومائة وألف، لازم الشيخ عليا الصعيدى ملازمة كلية، وكان له قريحة جيدة وحافظة غريبة، يملى فى تقريره خلاصة ما ذكره أرباب الحواشى، والطلبة يكتبون ذلك بين يديه، وقد خرج من تقاريره على عدة كتب كان يقرؤها حتى صارت مجلدات، ودرس فى حياة شيخه سنين. وكان له علم بتنزيل الأوفاق والوفق المئينى والعددى والحرفى وطريق لتنزيله بالتطويق والمربعات وغير ذلك.

ولما توفى الشيخ أحمد الدردير ولى مشيخة رواق الصعائدة، وله مؤلفات منها:

مسائل كل صلاة بطلت على الإمام بطلت على المأموم إلخ، توفى رحمه الله فى سنة ألف ومائتين وثلاث عشرة انتهى، جبرتى

(1)

.

(1)

تاريخ الجبرتى، المرجع السابق، ج 3، ص 63.

ص: 255

‌ترجمة الشيخ أحمد كبوه

ومنهم الشيخ أحمد كابوه شيخ رواق الصعائدة، من سنة ست وستين من القرن الثالث عشر إلى أن توفى سنة أربع وثمانين، ولم يشتغل فى مدة عمره إلا بالتعلم فى صغره والتعليم فى كبره، درس مختصر الشيخ خليل فى مذهب مالك-بعد المغرب-نحو عشرين مرة، كل مرة فى سنتين، وكذا شرح الخرشى عليه-فى الغداة-فكان هذا دأبه دائما.

‌ترجمة الشيخ عبد الله القاضى

ومن علمائها الشيخ عبد الله القاضى، ولد بها سنة إحدى وثمانين من القرن الثانى عشر، وجاور بالأزهر حتى أتقن فنونه، وتصدر للتدريس وتولى مشيخة رواق الصعائدة سنة اثنتين وخمسين، ثم آلت إليه مشيخة المالكية فقام بالوظيفتين إلى أن توفى سنة سبع وخمسين ومائتين، وكانت له دراية تامة بلغة العرب وأشعارهم وأساليب كلامهم، ومن أشياخه الشيخ محمد الأمير الكبير وطبقته.

‌ترجمة الشيخ محمد الحداد العدوى

ومن علمائها العالم الكبير والعلامة الشهير الشيخ محمد الحداد المالكى العدوى الخلوتى الأزهرى، ولد رحمه الله تعالى سنة 1218 هجرية بها، وتربى بين أبويه إلى أن حفظ القرآن على يد رجل من كبار الصالحين يقال له الشيخ عبد الرحمن جعفر، ثم حضر إلى مصر وأقام بها لطلب العلم الشريف مدة حتى فتح الله عليه، وقرأ جميع الكتب التى تقرأ بالجامع الأزهر، وأخذ طريق الخلوتية عن الأستاذ الشهير السيد محمد فتح الله اليمديسى المتلقى عن الشيخ الصاوى المالكى، المدفون بالبقيع، المتلقى عن القطب الشهير الشيخ أحمد الدردير المالكى الخلوتى الحفنى رضي الله عنه، وسنده مشهور، وأذنه شيخه الشيخ

ص: 256

فتح الله بالتلقين والإرشاد، ثم توجه إلى ناحية الواحات الداخلة بمديرية أسيوط لأنه كان لوالده رحمه الله بها نخيل وعقار وغير ذلك، فأقام بها نحو عشر سنين ونشر الطريقة بها وقرأ العلوم كذلك حتى تمكنت/عقائد الدين وفروعه من قلوب أهلها واشتغلوا بأوراد الطريق ثم حضر إلى الجامع الأزهر واشتغل بقراءة العلوم من معقول ومنقول مع الاشتغال بالطريق مع أولاده، فكان يشتغل نهارا بالعلم وليلا بالأوراد والذكر. وقد تلقى غير طريقة الخلوتية من الطرق بعضها عن أبى العباس الخضر وبعضها عن غيره بسند كل المتصل.

وأما مشايخه فى العلم فمنهم: العلامة الشيخ مصطفى البولاقى المالكى، والعلامة الشيخ خضارى المالكى، والعالم العامل الكبير الشيخ مصطفى المبلط الشافعى، رحمه الله، وشيخ الإسلام الشيخ إبراهيم البيجورى الشافعى، والشيخ حمد محمد كابوه العدوى المالكى وغيرهم من أكابر العلماء.

وقد أجازه مشايخه الأعلام بقراءة العلم وتدريسه، واشتغل بذلك مع الجد والاجتهاد إلى أن توفى، رحمة الله تعالى، ليلة السبت 26 جمادى الآخرة سنة إحدى وثمانين ومائتين وألف هجرية، ودفن بالقرافة الكبرى قريبا من زاوية شيخ الإسلام الشيخ عبد الله الشرقاوى الشافعى، ومقامه مشهور هناك عليه سحائب الرحمة والرضوان.

‌ترجمة العلامة الشيخ محمد قطة العدوى

ومن علمائها، الفاضل المحقق الشيخ محمد ابن الشيخ عبد الرحمن قطة المالكى.

الذى آلت إليه بعد تصحيح كتب قلم الترجمة وظيفة رياسة تصحيح المطبوعات العقلية والنقلية والأدبية بمطبعة بولاق، وشهرته فى تصحيح الكتب لا تحتاج إلى دليل، وتوفى رحمه الله، سنة إحدى وثمانين عقب حج مبرور، ودفن ببستان العلماء. وهو ابن الإمام

ص: 257

الجهبذ الشهير الشيخ عبد الرحمن قطة العدوى المالكى، قرين مفتى السادة المالكية الشيخ محمد الأمير الكبير.

‌ترجمة العلامة الشيخ منصور كساب العدوى

ومنها العلامة الشيخ منصور كساب، كان حلالا للمشكلات، درس فى الأزهر الكتب الكثيرة وأفاد وأجاد، وله تقريرات على شرح الأشمونى وحاشية الصبان على ألفية ابن مالك، ورسالة فى الأشكال المنطقية. توفى، رحمه الله، قبيل سنة 1380 ودفن ببستان العلماء بقرافة المجاورين.

وبالجملة فهى مع كونها بلدة ريفية منبع لجهابذة العلماء من عدة أجيال إلى الآن.

وفى القاموس الجهبذ بالكسر الناقد الخبير، اهـ. ويطلق على صراف النقود بحسب الأصل، ثم أطلق على من يقف على غوامض الأمور ودقائقها، وهى كلمة فارسية معناها ناقد، ويقال فيها كهبذ بالكاف. قاله، دساسى.

(بنى عياض)

هذه القرية من مركز العلاقمة بمديرية الشرقية، موقعها قبلى ناحية أبى كبير، إلى جهة الشرق على بعد خمسمائة متر، وهى فى الجهة الغربية من بحر فاقوس، ويجاورها من الجهة البحرية الجزيرة الواصلة إلى ناحية أبى كبير وهى جزيرة رمال فاسدة، وأبنية البلد باللبن الرملى، وبها مساجد ومكاتب أهلية ونخيل بكثرة، وبجوارها من الجهة الغربية دار للدائرة السنية لمهمات ومواشى الشفلك، وهى مشهورة بعمل البرم العياضى والطواجن التى يطبخ فيها السمك، وبضفر الخوص. وزمامها ألف وتسعمائة وأربعة وثمانون فدانا وكسر، وعدد أهلها ثلاثة آلاف واثنتان وعشرون نفسا وتكسبهم من الزراعة.

(بنى محمد)

هذه بلدة كبيرة من مديرية أسيوط بقسم أبنوب الحمام فى شرقى النيل، بينها وبين أسيوط نحو ثلاث ساعات، وهى تشمل على ثلاث قرى متلاصقة، وبها

ص: 258

مساجد عامرة وكنائس ومكاتب للمسلمين والنصارى، ونخيل وبساتين، ولها سوق كل يوم خميس. وعمدتها عبد الوهاب كان ناظر قسم أسيوط مدة الخديوى إسماعيل باشا وقبلها. وعدة أهلها أكثر من عشرة آلاف نفس وتكسبهم من الزرع ومنهم من ينسج الصوف، وأكثرهم أصحاب ثروة لخصوبة أرضهم وكثرة متحصلها، وفيهم الكرم والشجاعة وعلوة الهمة.

وفى كتاب البيان والإعراب عمن بأرض مصر من الأعراب للمقريزى، أن بنى محمد من ولد حسان بن ثابت بن المنذر بن حزام بن عمرو بن زيد مناة بن عدى بن عمرو بن مالك بن النجار أبى الوليد الأنصارى رضي الله عنه، نسبة إلى الأنصار.

والأنصار قبيل عظيم من قبائل الأزد، قيل لهم الأنصار من أجل أنهم نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم الأوس والخزرج ابنا حارثة، وهو العنقاء بن عمرو وهو مزيقيا بن عامر، وهو ماء السماء بن حارثة، وهو الغطريف بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد، هكذا تقول الأنصار.

وقال ابن الكلبى وغيره: عمرو مزيقيا بن عامر بن حارثة بن ثعلبة بن امرئ القيس بن مازن بن الأزد، انتهى.

(بنى مزار)

هى بلدة غربى النيل بقدر ألف متر ومائة، وفى غربى الترعة الإبراهيمية بقدر خمسين متر، وفى الشمال الشرقى لبلقيس بنحو ألفين وخمسمائة متر، وفى الجنوب الشرقى لقرية طنبو بنحو ثلاثة آلاف وخمسمائة متر، وكانت فى الأصل رأس المديرية وهى الآن رأس قسم من مديرية المنية. وبها قاض، وكان بها فى مدة العزيز محمد على قشلاق للعساكر وإقامة الحاكم، وشونة غلال للميرى/وكان بها سابقا طرخانة نيلة، وفى قبليها تلال كبيرة هى آثار بلد يقال لها العنبس من المدن القديمة، والعنبس الجديدة الآن شرقى تلك التلول. ومبانى ناحية بنى مزار من الآجر واللبن، وحاراتها ضيقة، وفى بحريها على نحو ثلثى ساعة قرية بوجرج، وعلى نحو ساعتين مدينة البهنسا، ويقابلها على الشاطئ الشرقى للنيل ناحية بنى صامت.

ص: 259

ومن أهالى بنى مزار طائفة أشراف يقال لهم أولاد أبى الليل، وفى كل سنة يعملون ليلة لوالدهم يجتمع فيها خلق كثير، وفى شرقيها ترعة جديدة لرى سواحل بنى مزار وغيرها، وكان حفرها سنة 1255. ولها سوق جمعى، وفيها للدائرة السنية ديوان تفتيش زراعته خمسة عشر ألف فدان، يزرع منها كل سنة نحو ستة آلاف فدان قصبا، ويزرع الباقى قطنا وحبوبا.

‌مطلب فوريقة بنى مزار

وفيها فوريقة إنجليزية لعصر القصب وعمل السكر، يتحصل منها كل يوم من السكر الأبيض الحب ستمائة قنطار، ومن السكر الأحمر مائتان وخمسون قنطارا من النمرة (2) ويتحصل منها فى السنة ثلاثة وستون ألف قنطار سكرا أبيض حبا، وستة وعشرون ألفا ومائتان وخمسون قنطارا سكرا أحمر. ولا يستخرج بها السبيرتو بل ينقل العسل منها إلى فوريقة مغاغة لاستخراج ذلك منه.

بجوار الفوريقة ديوان التفتيش والمخازن اللازمة للآلات وحفظ السكر، ومساكن المستخدمين من المهندسين الأوروباويين وغيرهم، ووابور النور اللازم لإدارة حركة الفوريقة ليلا، يدخل نوره فى جميع العنابر والمحلات، وهكذا كل فوريقة، لأنها تدور ليلا ونهارا، من ابتداء مدة العصر إلى انتهائها نحو ثلاثة شهور أو أربعة.

وهناك محطة للسكة الحديد يتفرع منها فرع يمر فوق الإبراهيمية بواسطة كبرى من الخشب، حتى يمر بوسط الفوريقة ويذهب مغربا قدر ألف متر، ويتفرع منه فرع إلى آخر التفتيش فى الجهة الجنوبية، وعلى الفرع المتجه إلى الغرب بعد مروره قدر مائتين وخمسين مترا من الفرع الأول، فرع آخر يتجه إلى الشمال فيتلاقى مع الفرع المار فى غربى بوجرج من تفتيش آبة الوقف وطوله إلى نهاية التفتيش البحرية سبعة آلاف متر، وطول فرع تفتيش آبة المتلاقى مع هذا الجسر الموصل إلى آية أربعة آلاف متر، وطول فرع آبة

ص: 260

الآخر المار فى شرقى الفوريقة إلى أن يتلاقى مع الفرع المار فى غربى بوجرج أربعة آلاف متر أيضا، ثم يمتد فرع بنى مزار المتجه إلى الغرب حتى يتلاقى مع جسر الحوشة، وطوله ألفان ومائتان وخمسون مترا، ثم على الفرع المتجه إلى الشمال المار فى غربى بوجرج بعد مفارقة الفرع المتلاقى مع فرع تفتيش آبة بقدر ألفى متر، وفرع آخر متجه إلى الغرب ومتلاق مع جنابيه جسر الحوشة وطوله ألف وخمسمائة متر.

ومنها عبد السميع بيك قائمقام، كان حكيما بالاسبتالية العمومية.

(بنى هلال)

قرية من مديرية جرجا بقسم سوهاج على الجانب الغربى للنيل، فى جنوب قرية صوامعة أبى هنتش، وفى شمال ناحية المراغة بقليل، وفيها مساجد ونخيل، وتزرع فى أرضها الذرة الطويلة كثيرا والبصل والمقاثئ-سيما العجور الكبير الذى يقال له الحرش-وعندها أرض قحلة ينبت فيها الهيش والحلفاء، فلذا ينسج فيها وفى كفورها حصر الحلفاء، وتعمل بها الحبال التى يقتت بها القمح والشعير بعد حصاده، والشبك الذى يحمل فيه التبن إلى المنازل بعد تذريته. وليس لها سوق ولا عليها طريق فلذا تجد فى طباع أهلها الغلظة والتوحش.

والظاهر أن أصلهم من عرب بنى هلال كما يدل عليه كلام المقريزى فى رسالته البيان والإعراب، قال: فأما بنو هلال فإنهم بنو هلال بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر ابن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس غيلان،-ويقال قيس ابن عيلان، بالمهملة-بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان. وبنو هلال بطن من بنى عامر، وكانوا أهل بلاد الصعيد كلها إلى عيذاب وبأخميم منهم بنو قرة، وبساقية قلتة منهم بنو عمرو، انتهى.

وساقية قلتة قريبة من هذه القرية فإنها فى شرقى النيل فى جنوبها الشرقى، وكل هذه البلاد قديما كان يقال لها بلاد إخميم.

ص: 261

(بهبيط)

بلدة قديمة فى شمال سمنود على نحو ثمانية آلاف وستمائة متر بقرب ترعة الثعبانية التى فمها من فرع دمياط، وكان فى تلولها وقت أن دخل الفرنساوية أرض مصر سور مربع الشكل، طوله ثلثمائة واثنان وستون مترا، فى عرض مائتين وأحد وأربعين مترا، وكان بناؤه من اللبن والطين، وله خمسة أبواب اثنان فى الجنوب وواحد فى الشمال واثنان فى الحائط الغربى، والظاهر أنه كان سور البلد القديمة وفى داخله ساحة طولها ثمانون مترا فى عرض خمسين، كان بها قطع من الأعمدة والحجارة الكبيرة تدل على أنه كان فى هذا الموضع معبد كبير، وبعض هذه الحجارة كبير جدا طوله ثلاثة أمتار وأربعة أعشار متر وعرضه متر/وأربعة أعشار، فى سمك سبعة أعشار متر.

وعلى تلك الآثار كتابة هيروجليفية، ويظهر من الصور التى وجدت هناك أن المقدسة إزيس كانت هى المقدس فى هذه البلدة، وأنها فى محل المدينة القديمة التى يسميها الرومانيون إزيس أو بيدوم، وبعضهم يسميها إزوم-يعنى مدينة إزيس-ويقال إنه كان فى الوجه البحرى من هذا الاسم ثلاث مدن إحداها هذه، وكان بكل منها معبد للمقدسة إزيس.

(بهتيم)

قرية من مديرية القليوبية بضواحى مصر، فى جنوب ناحية بلقس بنحو أربعة آلاف متر، وفى شمال ناحية الأميرية بنحو ثلاثة آلاف ومائتى متر، وبها جامع.

(بهجورة)

قرية كبيرة من قسم فرشوط بمديرية قنا، واقعة فى حوض بهجورة، شرقى فرشوط على ثلثى ساعة، والبحر فى شرقيها على نحو ساعة، وفيها مسجد به منارة، وكنيسة للأقباط، وأبراج حمام وعصارات قصب، وعدد وافر من النخيل والأشجار ذات الفواكه لبعض كبرائها والمستخدمين من أقباطها، ويتحصل منها كل سنة مقدار عظيم من عسل القصب والسكر الخام.

ص: 262

ويتبع هذه البلدة عدة نجوع منها نجع أبى حمادى فوق الشط الغربى للنيل، فى شرقى بهجورة على نحو ربع ساعة تجاه ناحية القصر والصياد، فيه للميرى أبراج حمام بكثرة وعدد وافر من النخيل وبساتين ذات فواكه، وسوق دائم بحوانيت قليلة وقهاو.

وفيه أبنية جيدة ومساجد عامرة، أحدها تبع الدائرة السنية له منارة وأرضه مبلطة، وله مطهرة حسنة، وسقوفه من جريد النخل وخشبه.

‌مطلب تفتيش أبى حمادى

وهناك ديوان تفتيش لزراعة الدائرة، وعمارة كبيرة فيها مساكن المستخدمين، وفيها فوريقة لعصر القصب وعمل السكر للدائرة السنية، مثل فوريقة المنية والروضة، والمخازن اللازمة. وأطيان هذا التفتيش اثنان وثلاثون ألف فدان، منها فى أبى حمادى عشرون ألفا، وفى القصر والصياد ثمانية آلاف، وفى بخانس أربعة آلاف، يزرع منها قصبا نحو أحد عشر فدان والباقى يزرع حبوبا، ويسقى قصبها بواسطة الوابورات المركبة على النيل فى البر الغربى والشرقى، والرىّ المعتاد للأطيان يكون بفيضان النيل، ولأطيان البر الغربى ترعتان ترعة المصافنة فمها بقرب ناحية الشيخ سليم، وترعة أبى حمار فمها عند كلح أبى زيط، وينقل القصب إلى الفوريقات من زرع أبى حمادى بواسطة الأبل، ومن زراعة القصر والصياد وبخانس بواسطة صنادل تجرّها وابورات بخارية بحرية مخصصة لذلك التفتيش.

(بهرمس)

قرية بقسم أول بمديرية الجيزة، غربى القناطر الخيرية على بعد نصف ساعة، وهى بلدة صغيرة بناؤها من الطوب الأحمر واللبن، وفيها مساجد ومضايف ونخيل قليل، وبنى بها عمدتها عبد الواحد أفندى أبو إسماعيل وأقاربه أبنية مشيدة، والمذكور كان رئيس مجلس الجيزة، وابنه يوسف أغا تولى وظيفة ناظر قسم بالمديرية ثم ترتب عليه ذنب فألحق بالجهادية نفرا عسكريا، ثم عفى عنه ولزم بيته وكل ذلك فى زمن الخديوى إسماعيل.

ص: 263

ومن البلدة المذكورة محمد أفندى بكر، دخل مدرسة قصر العينى فى ابتداء أمره، ثم نقل إلى مدرسة المهندسخانة، ثم إلى مدرسة العمليات إلى أن صار باشمهندس الدقهلية.

(بهواش)

قرية من مديرية المنوفية بمركز أشمون جريس، بحرى ترعة النعناعية، وأغلب بنائها بالطوب الأحمر، وبها جامع قديم له منارة مقام الشعار، وجملة زوايا ومقام الشيخ على السطوحى، وبها أيضا معمل فراريج وعندها قنطرة بثلاث عيون على ترعة النعناعية، ورى أرضها منها ومن الشنشورية، وأهلها مسلمون وتكسبهم من الزراعة وغيرها.

‌ترجمة عمر أفندى منصور

ومن هذه القرية نشأ عمر أفندى منصور باشكاتب دائرة الحضرة الخديوية التوفيقية، دخل أول أمره مدرسة المحاسبة وتعلم بها، ثم خرج إلى الوظائف بالامتحان سنة ألف ومائتين وأربع وخمسين، وتنقل فى جهات فى حرفة الكتابة، ثم جعل باشكاتب مدرسة قوله سنة سبعين، وبعد عوده منها جعل رئيس قلم قضايا بالأوقاف سنة ثمان وسبعين، ثم جعل رئيس قلم عسكرية بديوان الجهادية، ثم جعل باشكاتب دائرة المرحوم عباس باشا، ثم استخدم فى ديوان المالية، ثم انتقل إلى دائرة الحضرة الخديوية التوفيقية وهو بها إلى الآن. انتهى.

(بهوت)

بضم الموحدة والهاء وسكون الواو وفى آخره مثناة فوقية، قرية من مديرية الغربية بمركز المحلة الكبرى.

ص: 264

‌ترجمة الشيخ محمد البهوتى

وإليها ينسب الشيخ محمد البهوتى المترجم فى خلاصة الأثر

(1)

: بأنه محمد بن أحمد بن على البهوتى الحنبلى الشهير بالخلوتى المصرى العالم العلم، إمام المعقول والمنقول، المفتى المدرس. ولد بمصر وبها نشأ، وأخذ الفقه عن عبد الرحمن البهوتى الحنبلى، ولازم الشيخ منصور البهوتى الحنبلى، وتخرج بالغنيمى، واختص بعده بالنور الشبراملسى ولازمه، وكان يجرى بينهما فى الدرس محاورات ونكات دقيقة، وكان الشبراملسى/ لا يخاطبه إلا بغاية التعظيم لفضله وكونه رفيقه فى الطلب. وكتب كثيرا من التحريرات منها: تحريراته على الاقناع وعلى المنتهى. جردت بعد موته فبلغت حاشية الاقناع اثنتى عشرة كراسة. وحاشية المنتهى أربعين كراسة ومن شعره:

سمحت بعد قولها لفؤادى

ذب أسى يا فؤاده وتفتت

ونجا القلب من حبائل هجر

نصبتها لصيده ثم حلت

وقوله:

كأن الدهر فى خفض الأعالى

وفى رفع الأسافلة اللئام

فقيه عنده الأخبار صحت

بتفضيل السجود على القيام

وكانت وفاته بمصر سنة ثمان وثمانين وألف، انتهى.

‌ترجمة الشيخ عبد الرحمن البهوتى الحنبلى والشيخ منصور

وأما شيخه عبد الرحمن البهوتى الحنبلى فقال فى الخلاصة

(2)

: إنه كان موجودا فى الأحياء فى سنة أربعين وألف، وهو عبد الرحمن بن يوسف بن على زين الدين، ابن القاضى جمال الدين بن نور الدين المصرى، خاتمة المحققين، ولد بمصر وبها نشأ، وقرأ

(1)

خلاصة الأثر، المرجع السابق، ج 3، ص 390.

(2)

خلاصة الأثر، المرجع السابق، ج 2، ص 45.

ص: 265

الكتب الستة وغيرها، ومن مشايخه الجمال يوسف بن القاضى زكريا، والشمس الشامى صاحب السيرة. ومن مشايخه فى فقه مذهبه، والده وجده، والتقىّ الفتوحى الحنبلى صاحب منتهى الإرادات. وفى فقه مالك، الشيخ الجيزى والدميرى والحطاب. وفى فقه أبى حنيفة، شمس الدين البرهمتوشى والسلمى، وابن غانم المقدسى. وفى فقه الشافعى، الخطيب الشربينى والعلقمى.

وعنه أخذ جمع، منهم: منصور البهوتى بن يونس بن صلاح الدين بن حسن بن أحمد بن على بن إدريس الحنبلى، شيخ الحنابلة بمصر، الذائع الصيت البالغ الشهرة، كان ورعا متبحرا فى العلوم الدينية، ورحل الناس إليه من الآفاق، أخذ عن جمع منهم:

الجمال يوسف البهوتى، والشيخ عبد الرحمن البهوتى المترجم، وأخذ عنه الشيخ محمد ومحمد بن أبى السرور البهوتيان وغيرهما.

ومن مؤلفاته: شرح الإقناع ثلاثة أجزاء، وحاشية على الإقناع، وشرح على منتهى الإرادات، وحاشية على المنتهى، وغير ذلك.

وكان شيخا له مكارم دارة، وفى كل ليلة جمعة يجعل ضيافة ويدعو جماعته من المقادسة، وإذا مرض منهم أحد أخذه إلى بيته ومرضه إلى أن يشفى، وتأتيه الصدقات فيفرقها على طلبة مجلسه، وكانت وفاته سنة إحدى وخمسين وألف بمصر، ودفن فى تربة المجاورين. انتهى.

‌ترجمة الشيخ صالح البهوتى

وينسب إليها أيضا، كما فى الجبرتى

(1)

، الإمام الفقيه الفرضى الحيسوب صالح بن

(1)

تاريخ الجبرتى، المرجع السابق، ج 1، ص 71.

ص: 266

حسن بن أحمد بن على البهوتى الحنبلى، أخذ عن أشياخ وقته، وكان عمدة فى مذهبه وفى المعقول والمنقول والحديث، وله عدة تصانيف وحواش وتعليقات وتقييدات مفيدة، متداولة بأيدى الطلبة. أخذ عن الشيخ منصور البهوتى الحنبلى، والشيخ محمد الخلوتى، وأخذ الفرائض عن الشيخ سلطان المزاحى والشيخ محمد الدلجمونى، وهو من مشايخ الشيخ عبد الله الشبراوى، وله ألفية فى الفرائض، ونظم الكافى. توفى يوم الجمعة ثامن ربيع الأوّل سنة إحدى وعشرين ومائة وألف، انتهى.

(تم الجزء التاسع ويليه الجزء العاشر أوله البهنسا)

ص: 267