الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قوله تعالى: {بالبينات} : يجوز فيه وجهان، أحدُهما أن يكونَ حالاً من «موسى» ، أي: جاءكم ذا بيناتٍ وحُجَجٍ أو ومعه البيناتُ. والثاني: أن يكونَ مفعولاً أي: بسبب إقامةِ البيناتِ، وما بعدَه من الجملِ قد تقدَّم مِثْلُه فلا حاجةَ إلى تكريرِه.
قوله تعالى: {وَأُشْرِبُواْ} : يجوزُ أَنْ يكونَ معطوفاً على قولِه: «قالوا سَمِعْنا» ، ويجوزُ أن يكونَ حالاً من فاعل «قالوا» ، أي: قالوا ذلك وقد أُشْربوا ولا بدَّ من إضمار «قد» لِيَقْرُبَ الماضي إلى الحالِ خلفاً للكوفيين، حيثُ قالوا: لا يُحْتاجُ إليها. ويجوز أن يكونَ مستأنفاً لمجردِ الإِخبارِ بذلك، واستضعَفَه أبو البقاء، قال:«لأنَّه قد قالَ بعدَ ذلك: {قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ} ، فهو جوابُ قولِهم:» سَمِعْنا وعَصَيْنا «، فالأَوْلَى ألَاّ يكونَ بينهما أجنبيٌ» . والواوُ في «أُشْرِبوا» هي المفعولُ الأولُ قامَتْ مقامَ الفاعلِ، والثاني هو «العِجْلَ» لأنَّ «شَرِبَ» يتعدَّى بنفسه فَأَكْسَبَتْه الهمزةُ مفعولاً آخرَ، ولا بد من حَذْفِ مضافَيْنِ قبلَ «العِجْل» والتقديرُ: وأُشْرِبوا حُبَّ عبادةِ العِجْلِ. وحَسَّن حَذْفَ هذين المضافين المبالغَةُ في ذلك، حتى كأنَّه تُصُوِّر إشرابُ ذاتِ العِجْل. والإِشرابُ: مخَالَطَةُ المائع بالجامِدِ، ثم اتُّسِعَ فيه حتى قيل في الألوان نحو: أُشْرِبَ بياضُه حُمْرةً. والمعنى: أنهم داخَلَهم حُبُّ عبادتِه، كما داخَل الصبغُ الثوبَ. ومنه:
617 -
إذا ما القلبُ أُشْرِبَ حُبَّ شيءٍ
…
فلا تَأْمَلْ له الدهرَ انْصِرافَا
وعَبَّر بالشربِ دونَ الأكل، لأنَّ الشربَ يتغَلْغَلْ في باطنِ الشيء بخلاف
الأكل، فإنه مجاوزٌ، ومنه في المعنى:
618 -
جَرَى حبُّها مَجْرى دَمي في مَفاصِلي
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقال بعضُهم:
619 -
تَغَلْغَلَ حُبُّ عَثْمَةَ في فؤادي
…
فبادِيه مع الخافي يَسيرُ
تَغَلْغَلَ حيثُ لم يَبْلُغْ شرابٌ
…
ولا حُزْنٌ ولم يَبْلُغْ سُرورُ
أكادُ إذا ذَكَرْتُ العهدَ مِنْها
…
أطيرُ لو أن إنساناً يَطيرُ
وقيل: الإشرابُ هنا حقيقةٌ، لأنه يُروى أن موسى عليه السلام بَرَدَ العِجل بالمِبْرَدِ ثم جعل تلك البُرادة في ماءٍ وأمرهم بشُرْبه، فَمَنْ كان يُحِبُّ العجل ظَهَرَتِ البُرادَةُ على شَفَتَيْه، وهذا وإنْ كان قال به السُّدِّي وابن جريج وغيرُهما فَيَرُدُّه قولُه:«في قُلوبهم» .
قوله: «بكُفْرهم» فيه وجهان، أظهرُهما: / أنَّها للسببيةِ متعلِّقَة [41 / ب] ب «أُشْرِبوا» ، أي: أُشْربوا بسببِ كفرِهم السابِق. والثاني: أنها بمعنى «مع» ، يَعْنُون بذلك أنَّها للحالِ، وصاحبُها في الحقيقةِ ذلك المضافُ المحذوفُ أي: أُشْرِبوا حُبَّ عبادةِ العجلِ مختلطاً بكُفْرهم. والمصدرُ مضافٌ للفاعِلِ، أي: بأَنْ كفروا. {قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ} كقولِه: {بِئْسَمَا اشتروا} [البقرة: 90] فَلْيُلْتفت إليه.
قوله: {إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ} يجوزُ فيه الوجهان السابقان من كونِها نافيةً وشرطيةً، وجوابُها محذوفٌ تقديرُه:«فبِئْسَما يَأْمرُكم» . وقيلَ: تقديرُه: فلا تقتلوا أنبياءَ الله ولا تُكّذِّبوا الرسلَ ولا تكتمُوا الحقَّ، وأَسْندَ الإِيمانَ إليهم تَهَكُّماً بهم، ولا حاجةَ إلى حَذْفِ صفةٍ أي: إيمانُكم الباطلُ، أو حَذْفِ مضافٍ أي: صاحبُ إيمانكم. وقرأ الحسن: «بِهُو إيمانُكُمْ» بضم الهاءِ مع الواو وقد تقدَّم أنِّها الأصل.
قوله تعالى: {إِن كَانَتْ لَكُمُ الدار الآخرة عِندَ الله خَالِصَةً} : شَرْطٌ جوابُه: «فَتَمَنَّوُا» و «الدارُ» اسمُ كان وهي الجنةُ. والأَوْلَى أن يُقَدَّر حَذْفُ مضافٍ، أي: نَعيمُ الدارِ، لأنَّ الدارَ الآخِرةَ في الحقيقةِ هي انقضاءُ الدنيا وهي للفريقَيْن. واختلفوا في خبر «كان» على ثلاثةِ أقوالٍ، أحدُها: أنه «خالصةً» فتكون «عند» ظرفاً لخالصةً أو للاستقرار الذي في «لكم» ، ويجوزُ أن تكونَ حالاً مِن «الدار» والعاملُ فيه «كان» أو الاستقرارُ. وأمَّا «لكم» فيتعلَّقُ بكان لأنها تعملُ في الظرفِ وشِبْهِه. قال أبو البقاء «ويجوز أن تكونَ للتبيينِ فيكونَ موضعُها بعد» خالصةً «أي خالصةً لكم فَتَتَعَلَّقَ بنفسِ» خالصةً «. وهذا فيه نظرٌ، لأنه متى كانت للبيانِ تعلَّقَتْ بمحذوفٍ تقديرُه: أعني لكم نحو: سُقْياً لك، تقديرُه: أعني بهذا الدعاءِ لك. وقد صَرَّح غيرُه في هذا الموضعِ بأنها للبيانِ وأنها متعلقةٌ حينئذٍ بمحذوف كما ذكرت. ويجوز أَنْ يكونَ صفةً ل» خالصةً «في الأصل قُدِّم عليها فصار حالاً منها فيتعلَّقَ بمحذوفٍ.
الثاني: أنَّ الخبر» لكم «فيتعلَّقُ بمحذوفٍ ويُنْصَبُ» خالصةً «حينئذٍ على الحالِ، والعاملُ فيها: إمَّا» كان «أو الاستقرارُ في» لكم «و» عند «منصوبٌ بالاستقرارِ أيضاً.
الثالث: أنَّ الخبرَ هو الظَرْفُ، و» خالصةً «حالٌ أيضاً، والعاملُ فيها: إمَّا» كانَ «أو الاسقرارُ، وكذلك» لكم «. وقد مَنَعَ من هذا الوجهِ قومٌ فقالوا:» لا يجوزُ أن يكونَ الظرفُ خبراً لأنَّ الكلامَ لا يَسْتَقِلُّ به «. وجَوَّزَ ذلك المهدوي وابنُ عطية وأبو البقاء. واستشعر أبو البقاء هذا الإِشكالَ وأجاب عنه فإنه قال:» وسَوَّغَ أن يكونَ «عند» خبرَ كان «لكم» ، يعني لفظَ «لكم» سَوَّغَ وقوعَ «عند» خبراً، إذ كان فيه تخصيصٌ وتَبْيينٌ، ونظيرُه قولُه:{وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص: 4]، لولا «له» لم يَصِحَّ أن يكونَ «كفواً» خبراً. و {مِّن دُونِ الناس} في محلِّ النصبِ ب «خالصةً» لأنَّك تقولُ:«خَلُصَ كذا مِنْ كذا» .
وقرأ الجمهورُ: «َتَمَنَّوُا الموتَ» بضمِّ الواو، ويُرْوَى عن أبي عمرو فتحُها تخفيفاً، واختلاسُ الضمة. وقرأ ابن أبي إسحاق بكسرها على التقاء الساكنين تشبيهاً بواو «لَوِ استطعنا» . و «إنْ كنتم» كقوله:{إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ} وقد تقدَّمَ.
قولُه تعالى: {أَبَداً} . . منصوبٌ بَيَتَمَنَّوْه، وهو ظرفُ زمانٍ يقعُ للقليلِ والكثيرِ، ماضياً كانَ أو مستقبلاً، تقول: ما فَعَلْتُه أبداً، وقال الراغب:«هو عبارةٌ عن مدةِ الزمانِ الممتدِّ الذي لا يَتَجزَّأ كما يتجزَّأُ الزمانُ، وذلك أنه يقال: زمانَ كذا ولا يُقال: أبدَ كذا، وكان مِنْ حَقِّه على هذا ألَاّ يُثَنَّى ولا يُجْمَعَ، وقد قالوا: آباد فجَمَعوه لاختلافِ أنواعِه، وقيل: آباد لغةٌ مُوَلَّدَةٌ، ومجيئُه بعد» لَنْ «يَدُلُّ على أن نَفْيَها لا يقتضي التأبيدَ، وقد تقدَّم ذلك، ودَعْوى التأكيدِ فيه بعيدةٌ» . وقال هنا: «ولن يَتَمَنَّوْه» فنَفى بلن وفي الجمعة ب «لا» قال صاحب المنتخب: «لأنَّ دَعْواهم هنا أعظمُ مِنْ دعواهُمْ هناك لأنَّ السعادةَ القُصْوى فوق مرتبةِ الولايةِ، لأنَّ الثانيةَ تُراد لحصولِ الأولى، والنفيُ ب» لن «أَبْلَغُ مِن النفي بِ» لا «.
قوله: {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} متعلِّقٌ بيتمنَّوْه، والباءُ للسببية أي بسببِ اجتراحِهم العظائمَ. و» ما «يجوزُ فيها ثلاثةُ أوجهٍ، أَظْهَرُها: كونُها موصولةً بمعنى الذي. والثاني: نكرةٌ موصوفةٌ والعائدُ على كلا القولَيْنِ محذوفٌ أي: بما قَدَّمَتْه، فالجملةُ لا محلَّ لها على الأولِ، ومحلُّها الجرُّ على الثاني. والثالث: أنَّها مصدريَّةٌ أي: بتَقْدِمَةِ أيديهِم. ومفعولُ» قَدَّمَتْ «محذوفٌ أي: بما قَدَّمَتْ أيدِيهم الشرَّ أو التبديلَ ونحوَه.
قولُه تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ الناس} . . هذه اللامُ جوابُ قسم محذوفٍ، والنونُ للتوكيدِ تقديرُه: واللهِ لَتَجِدَنَّهُم. و «وجَدَ» هنا متعديةٌ لمفعولَيْن أوَّلُهما الضميرُ، والثاني «أَحْرَصَ» ، وإذا تَعَدَّتْ لاثنين كانَتْ
ك «عَلِمَ» في المعنى نحو: {وَإِن وَجَدْنَآ أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} [الأعراف: 10] . ويجوزُ أن تكونَ متعديةً لواحدٍ ومعناها معنى لِقيَ وأصابَ، وينتصِبُ «أَحْرَصَ» على الحالِ: إمَّا على رَأْي مَنْ لا يشترطُ التنكيرَ في الحال، وإمَّا على رَأْي مَنْ يرى أنَّ إضافةَ «أَفْعَل» إلى معرفةٍ فجاءَتْ على أحدِ الجائِزَيْن، أعني عَدَمَ المطابقةِ، وذلك أنَّها إذا أُضيفَتْ إلى معرفةٍ على نيَّةِ «مِنْ» جازَ فيها وجهان: المطابقةُ لِما قبلَها نحو: الزيدان أَفْضَلا الرجالِ، والزيدون أفاضل الرجال، وهند فُضْلى النساء. والهنودُ فُضْلَياتُ النساءِ، ومنه قولُه:«أكابِرَ مجرميها» ، وعدمُها نحو: الزيدون أَفْضَلُ الرجالِ، وعليه هذه الآيةُ، وكلا الوجهين فصيحٌ، خلافاً لابن السراج حيث ادَّعى تعيُّنَ الإفرادِ، ولأبي منصور الجواليقي حيث زَعَم أنَّ المطابقةَ أفصحُ. وإذا أُضيفت لمعرفةٍ لَزِمَ أن تكونَ بعضَها، ولذلك مَنَع النحْويون:«يوسُف أَحْسَنُ إخوته» على معنى التفضيلِ، وتأوَّلوا ما يُوهِمُ غيرَه نحو:«الناقصُ والأشجُّ أعدلا بني مروان» بمعنى العادِلان فيهم، وأمَّا:
620 -
يا رَبَّ موسى أَظْلَمِي وَأَظْلَمُهْ
…
فاصبُبْ عليه مَلِكاً لا يَرْحَمُهْ
فشاذٌّ، وسَوَّغَ ذلك / كَوْنُ «أَظْلَمَ» الثاني مقحماً كأنه قال:«أَظْلَمُنا» . وأمَّا إذا أُضيفَ لنكرةِ فقد سَبَقَ حكمُها عند قولِه: «أوَّل كافر» .
قوله: {على حَيَاةٍ} متعلِّق ب «أَحْرَصَ» ، لأنَّ هذا الفعلَ يتعدَّى ب «على» ، تقول: حَرَصْتُ عليه. والتنكيرُ في «حياة» تنبيه على أنه أراد حياةً مخصوصةً وهي الحياةُ المتطاولةُ، ولذلك كانت القراءةُ بها أَوْقَعَ مِنْ قراءةِ أُبَيّ «على الحياة» بالتعريفِ. وقيل: إنَّ ذلك على حَذْفِ مضافٍ تقديرُه: على طُولِ حياةٍ، والظاهرُ أنه لا يَحتاج إلى تقدير صفةٍ ولا مضافٍ، بل يكونُ المعنى: أنَّهم أحرصُ الناسِ على مطلقِ حياةٍ. وإنْ قُلْتَ: فكيف وإنْ كَبُرَتْ فيكونُ أَبْلَغَ في وَصْفِهم بذلك. وأصلُ حياة: حَيَيَة تحرَّكتِ الياءُ وانفتح ما قبلها قُلِبَتْ أَلِفاً.
قولُه: {وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ} يجوزُ أَنْ يَكونَ متصلاً داخلاً تحتَ أَفْعَل التفضيلِ، ويجوزُ أن يكونَ منقطعاً عنه، وعلى القولِ باتصالِه به فيه ثلاثةُ أقوالٍ، أحدُها: أنه حُمِل على المعنى، فإنَّ مَعْنَى أحرصَ الناس: أَحْرَصَ من الناسِ، فكأنه قيل: أحرصَ من الناسِ ومِن الذين أشركوا. الثاني: أن يكون حَذَفَ من الثاني لدلالةِ الأولِ عليه، والتقديرُ: وأحرصَ من الذين أشركوا، وعلى ما تقرَّر من كونِ {وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ} متصلاً بأَفْعَلِ التفضيلِ فلا بُدَّ مِنْ ذِكْر «مِنْ» لأنَّ «أَحرصَ» جَرى على اليهودِ، فَلَوْ عُطِفَ بغيرِ «مِنْ» لكانَ معطوفاً على الناس، فيكونُ في المعنى: ولتجدنَّهم أحرصَ الذين أَشْرَكوا فيلزُم إضافةُ أَفْعَلَ إلى غيرِ ما اندَرَجَ تحتَه، لأنَّ اليهودَ ليسوا من هؤلاء المشركينَ الخاصِّينَ لأنهم قالوا في تفسيرهم إنهم المجُوس أو عَرَبٌ يَعْبُدون
الأصنامَ، اللهم إلا أَنْ يُقالَ إنه يَغْتفر في الثواني ما لا يُغْتفر في الأوائلِ، فحينئذٍ لو لم يُؤْتَ بمِنْ لكان جائزاً.
الثالث: أنَّ في الكلام حَذْفاً وتقديماً وتأخيراً، والتقديرُ: ولتجدنَّهم وطائفةً من الذين أشركوا أحرصَ الناسِ، فيكونُ {وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ} صفةً لمحذوفٍ، ذلك المحذوفُ معطوفٌ على الضمير في «لتجدنَّهم» ، وهذا وإنْ كان صحيحاً من حيث المعنى، ولكنه يَنْبُو عنه التركيبُ لا سيما على قولِ مَنْ يَخُصُّ التقديمَ والتأخيرَ بالضرورةِ. وعلى القولِ بانقطاعهِ من «أَفْعل» يكونُ {وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ} خبراً مقدَّماً.، و «يَوَدُّ أحدُهم» صفةً لمبتدأ محذوفٍ تقديرُه: ومن الذين أَشْركوا قومٌ أو فريقٌ يَوَدُّ أحدُهم، وهو من الأماكن المطَّردِ فيها حَذْفُ الموصوفِ بِجُمْلَتِه، كقولِه:{وَمَا مِنَّآ إِلَاّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} [الصافات: 164]، وقوله:«مِنَّا ظَعَنَ ومنَّا أقام» . والظَاهر أن الذين أشْركوا غيرُ اليهودِ كما تقدم. وأجاز الزمخشري أن يكونَ من اليهود لأنهم قالوا: عُزَيْرٌ ابنُ الله، فيكونَ إخباراً بأنَّ مِنْ هذه الطائفة التي اشتدَّ حرصُها على الحياةِ مَنْ يَوَدُّ لو يُعَمَّر ألفَ سنةٍ، ويكون من وقوعِ الظاهِرِ المُشْعِر بالغَلَبة موقعَ المضمرِ، إذا التقديرُ: ومنهم قومٌ يَوَدُّ أحدُهم. وقد ظَهَرَ مِمَّا تقدَّم أنَّ الكلامَ مِن باب عَطْفِ المفرداتِ على القولِ بدخول {وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ} تحت أَفْعَل، ومن بابِ عَطْفِ الجمل على القولِ بالانقطاعِ.
قوله: «يَوَدُّ أحدُهم» هذا مبنيٌّ على ما تقدَّم، فإنْ قيل بأنَّ {وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ} داخلٌ تحتَ «أَفْعَلَ» كان في «يَوَدُّ» خمسةُ أوجهٍ أحدُها: أنه حالٌ من الضمير في «لَتَجِدَنَّهم» أي: لتجِدنَّهم وادَّاً أحدُهم. الثاني: أنه حالٌ من الذين أشركوا فيكونُ العاملُ فيه «أَحْرَصَ» المحذوف. الثالث: أنه حالٌ من فاعلِ «أشْركوا» . الرابع: أنه مستأنفٌ استؤنفَ للإِخبار بتبيينِ حالِ أمرِهم في
ازديادِ حِرْصِهِم على الحياةِ. الخامسُ وهو قولُ الكوفيين: أنه صلةٌ لموصولٍ محذوفٍ، ذلك الموصولُ صفةٌ للذين أشركوا، والتقدير: ومن الذين أشركوا الذين يودُّ أحدُهم. وإنْ قيلَ بالانقطاع فيكونُ في محلِّ رفعٍ، لأنه صفةٌ لمبتدأٍ محذوفٍ كما تقدَّم. و «أحدٌ» هنا بمعنى واحد، وهمزتُه بدلٌ من واو، وليس هو «أحد» المستعملَ في النفي فإنَّ ذاك همزتُه أصلٌ بنفسِها، ولا يُستعملُ في الإِيجابِ المَحْض.
و «يودُّ» مضارعُ وَدِدْتُ بكسر العينِ في الماضي، فلذلك لم تُحْذَفْ الواوُ في المضارعِ لأنها لم تقعْ بين ياءٍ وكسرةٍ بخلافٍ «يَعِد» وبابه، وحكى الكسائي في «ودَدْت» بالفتحِ. قال بعضُهم:«فعلى هذا يُقال يَوِدُّ بكسر الواو» . والوَدادة التمني.
قوله: «لو يُعَمَّر» في «لو» هذه ثلاثةُ أقوال، أحدُها - وهو الجاري على قواعِد نحاةِ البصرة -: أنها حرفٌ لِما كان سيقَعُ لوقوعِ غيره، وجوابُها محذوفٌ لدلالةِ «يَوَدُّ» عليه، وحُذِفَ مفعولُ «يَوَدُّ» لدلالةِ «لو يُعَمَّرَ» عليه، والتقديرُ: يَوَدُّ أحدُهم طولَ العمرِ، لو يُعَمَّر ألفَ سنةٍ لَسُرَّ بذلك، فَحُذِفَ من كلِّ واحدٍ ما دَلَّ عليه الآخرُ، ولا محلَّ لها حينئذٍ من الإِعراب. والثاني - وبه قال الكوفيون وأبو علي الفارسي وأبو البقاء -: أنها مصدرية بمنزلة أَنْ الناصبةِ، فلا يكونُ لها جوابٌ، ويَنْسَبِكُ منها وما بعدَها مصدرٌ يكونُ مفعولاً ليَوَدُّ، والتقدير: يَوَدُّ أحدُهم تعميرَه ألفَ سنةٍ. واستدلَّ أبو البقاء بأنَّ الامتناعية معناها في الماضي، وهذه يَلْزَمُها المستقبل ك «أَنْ» ، وبأنَّ «يودُّ» / يتعدَّى لمفعول وليس مِمَّا يُعَلَّق، وبأنَّ «أَن» قد وَقَعَتْ بعد يَوَدُّ في قوله:{أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ} [البقرة: 266] وهو كثيرٌ، وموضعُ الردِّ عليه غيرُ الكتابِ. الثالث - وإليه نحا الزمخشري -: أن يكونَ معناها التمني فلا تحتاجُ إلى جوابٍ لأنها في
قوة: يا ليتني أُعَمَّر، وتكونَ الجملةُ من لَوْ وما في حَيِّزها في محلِّ نصبٍ مفعولاً به على طريقِ الحكايةَ بيَوَدُّ، إجراءً له مُجْرى القول. قال الزمخشري:«فإنْ قلت: كيف اتصل لو يُعَمَّر بَيَودُّ أحدُهم؟ قُلْتُ: هي حكايةٌ لوَدَادَتِهم، و» لو «في معنى التمني، وكان القياسُ:» لو أُعَمَّر «إلا أنَّه جرى على لفظِ الغَيْبَة لقوله:» يَوَدُّ أحدُهم «، كقولِك: حَلَفَ بالله ليَفْعَلَنَّ انتهى» . وقد تقدَّم شرحُه، إلا قولَه:«وكان القياسُ لو أُعَمَّر، يعني بذلك أنه كانَ مِنْ حَقِّه أَنْ يأتيَ بالفعلِ مُسْنَداً للمتكلم وحدَه وإنما أَجْرَى» يَوَدُّ «مُجْرى القولِ لأنَّ» يَوَدُّ «فعلٌ قَلبي والقولُ يَنْشَأُ عن الأمورِ القلبيَّةِ» .
و «ألفَ سَنَةٍ» منصوبٌ على الظرفِ بيُعَمَّر، وهو متعدٍّ لمفعولٍ واحد قد أٌقِيم مُقَامَ الفاعلِ. وفي «سَنَة» قولان «أحدُهما: أنَّ أصلَها: سَنَوة لقولهم: سَنَوات وسُنَيَّة وسانَيْتُ. والثاني: أنها من سَنَهَة لقولِهم: سَنَهات وسُنْيَهَة وسانَهْتُ، واللغتان ثابتتان عن العربِ كما ذَكَرْتُ لك.
قوله: {وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ العذاب} في هذا الضميرِ خمسةُ أَقْوالٍ، أحدُها: أنه عائدٌ على» أحد «وفيه حينئذٍ وَجْهان، أحدُهما: أنه اسمُ» ما «الحجازيةِ، و» بمُزَحْزِحِه «خبرُ» ما «، فهو في محلِّ نصبٍ والباءُ زائدة.
و «أَنْ يُعَمَّر» فاعلٌ بقولِه «بمُزَحْزِحِه» ، والتقديرُ: وما أحدُهم مُزَحْزِحَه تعميرُه. الثاني من الوجهين في «هو» : أن يكونَ مبتدأ، و «بمُزَحْزِحِهِ» خبرُه، و «أَنْ يُعَمَّر» فاعلٌ به كما تقدَّم، وهذا على كَوْنِ «ما» تميميَّةً، والوجهُ الأولُ أحسنُ لنزولِ القرآنِ بلغة الحجازِ وظهورِ النصب في قولِه:{مَا هذا بَشَراً} [يوسف: 31]، {مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} [المجادلة: 2] .
الثاني من الأقوال: أن يعودَ على المصدرِ المفهومِ من «يُعَمَّر» ، أي:
وما تعميره، ويكون قولُه:«أن يُعَمَّر» بدلاً منه، ويكون ارتفاعُ «هو» على الوَجْهَيْن المتقدِّمَين، أعني كونَه اسمَ «ما» او مبتدأ.
الثالثُ: أن يكونَ كناية عن التعميرِ، ولا يعودُ على شيء قبلَه، ويكونُ «أن يُعَمَّر» بدلاً منه مفسِّراً له، والفرقُ بين هذا وبين القولِ الثاني أنَّ ذاك تفسيرُه شيءٌ متقدِّمٌ مفهومٌ من الفعلِ، وهذا مفسَّرٌ بالبدلِ بعده، وقد تقدَّم أنَّ في ذلك خلافاً، وهذا ما عنى الزمخشري بقوله:«ويجوزُ أن يكونَ» هو «مبهماً، و» أَنْ يُعَمَّر «موضِّحَه» .
الرابع: أنه ضميرُ الأمرِ والشأنِ وإليه نحا الفارسي في «الحلبيَّات» موافقةً للكوفيين، فإنهم يُفَسِّرون ضميرَ الأمرِ بغيرِ جملةٍ إذا انتظَمَ من ذلك إسنادٌ معنويٌّ، نحو: ظَنَنْتُه قائماً الزيدانَ، وما هو بقائمٍ زيدٌ، لأنه في قوة: ظننتُه يقومُ الزيدان، وما هو يقومُ زيدٌ، والبصريُّون يَأْبَوْن تفسيرَه إلا بجملةٍ مُصَرَّحٍ بجُزْئَيْها سالمةٍ من حرفِ جرٌّ، وقد تقدَّم تحقيقُ القولين.
الخامسُ: أنَّه عِمادٌ، نعني به الفصلَ عند البصريين، نَقَلَه ابن عطية عن الطبري عن طائفةٍ، وهذا يحتاجُ إلى إيضاح: وذلك أنَّ بعض الكوفيين يُجِيزون تقديم العِماد مع الخبرِ المقدَّم، يقولون في: زيدٌ هو القائمُ: هو القائمُ زيدٌ، وكذلك هنا، فإنّ الأصلَ عند هؤلاءِ أَنْ يكونَ «بمُزَحزِحِه» خبراً مقدَّماً و «أَنْ يُعَمَّر» مبتدأً مؤخراً، و «هو» عَمادٌ، والتقديرُ: وما تعميرُه هو بمزحزحِه، فلمَّا قُدِّم الخبرُ قُدِّم معه العِمادُ. والبصريُّون لا يُجِيزون شيئاً من ذلك.
و «من العذابِ» متعلِّقٌ بقوله: «بمُزَحْزِحِه» و «مِنْ» لابتداءِ الغاية.
والزَّحْزَحَةُ: التنحِيَةُ، تقولُ: زَحْزَحْتُه فَزَحْزَحَ، فيكون قاصراً ومتعدِّياً، فمِنْ مجيئِه متعدِّياً قولُه:
621 -
يا قباضَ الروحِ مِنْ نَفْسٍ إذا احْتَضَرَتْ
…
وغافرَ الذنبِ زَحْزِحْني عَنِ النارِ
وأنشدَه ذو الرمة:
622 -
يا قابضَ الروح مِنْ جِسْم عَصَى زَمَنَاً
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ومن مجيِئه قاصراً قولُ الآخر:
623 -
خليلَيَّ ما بالُ الدُّجى لا يُزَحْزَحُ
…
وما بالُ ضوءِ الصبحِ لا يَتَوَضَّحُ
قولُه: «أَنْ يُعَمَّر» : إمَّا أَنْ يكونَ فاعِلاً أو بدلاً من «هو» أو مبتدأً حَسْبَ ما تقدَّم من الإِعرابِ في «هو» .
{والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} مبتدأٌ وخبرُه، و «بما» متعلِّقٌ ببصير. و «ما» يجوزُ أَنْ تكونَ موصولةً اسميةً أو نكرةً موصوفةً، والعائدُ على كلا القَوْلَيْنِ محذوفٌ أي: يَعْمَلُونه، ويجوز أن تكونَ مصدريةً أي: بِعَمَلِهم. والجمهورُ «يعملون» بالياء، نَسَقَاً على ما تقدَّم، والحسنُ وغيرُه «تَعْمَلُون» بالتاء للخطاب على الالتفات، وأتى بصيغةِ المضارعِ، وإن كانَ عِلْمُه محيطاً بأعمالِهم السالفةِ مراعاً لرؤوسِ الآي، وخَتْمِ الفواصلِ.
قوله تعالى: {قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ} . . . «مَنْ» شرطيةٌ في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ، و «كان» خبرُه على ما هو الصحيحُ كما تقدَّم، وجوابُهُ محذوفٌ تقديرُه: مَنْ كان عدوَّاً لجبريلَ فلا وَجْهَ لعداوتِه، أو فَلْيَمُتْ
غَيْظاً ونحوُه. ولا جائز أن يكونَ «فإنه نزَّله» جواباً للشرطِ لوجهين، أحدُهما من جهةِ المعنى، والثاني من جهةِ الصناعةِ، أما الأول: فلأنَّ فِعْلَ التنزيلِ متحقِّقُ المُضِيِّ، والجزاءُ لا يكون إلَاّ مستقبلاً ولقائلٍ أن يقولَ: هذا محمولٌ على التبيين، والمعنى: فقد تبيَّن أنه نَزَّله، كما قالوا في قوله:{وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ [مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ} [يوسف: 26] ونحوِه. وأمَّا الثاني: فلأنه] لا بد من جملة الجزاء مِن ضميرٍ يعودُ على اسمِ الشرطِ، فلا يجوزُ: مَنْ يَقُمْ فزيدٌ منطَلِقٌ، ولا ضميرَ في قولِه:«فإنَّه نَزَّله» يَعُودَ على «مَنْ» فلا يكونُ جواباً للشرط، وقد جاءَتْ مواضعُ كثيرةٌ مِنْ ذلك، ولكنهم أَوَّلُوها على حَذْفِ العائدِ فَمِنْ ذلك قُولُه:
624 -
فَمَنْ تَكُنِ الحضارَةُ أَعْجَبَتْهُ
…
فَأَيَّ رجالِ باديةٍ تَراني
وقولُه:
625 -
فَمَنْ يَكُ أَمْسى بالمدينةِ رَحْلُه
…
فإني وقَيَّارٌ بها لَغَريبُ
وينبغي أن يُبْنَى ذلك على الخلافِ في خبر اسم الشرط. فإنْ قيل: إنَّ الخبرَ هو الجزاءُ وحدَه - أو هو مع الشرطِ - فلا بدَّ من الضمير /، وإنْ قيل بأنه فعلُ الشرطِ وحدَه فلا حاجَةَ إلى الضميرِ، وقد تقدَّم قولُ أبي البقاء وغيره في ذلك عند قوله تعالى:{فَمَن تَبِعَ هُدَايَ} [البقرة: 38] ، وقد صَرَّحَ الزمخشري بأنَّه جوابُ الشرطِ، وفيه النظرُ المذكورُ، وجوابُه ما تقدَّم.
و «عَدُوَّاً» خبرُ كانَ، وَيَسْتَوي فيه الواحدُ وغيرُه، قال:«هم العدُوُّ» : والعَدَاوَةُ: التجاوُزُ. قالَ الراغب: «فبالقلب يُقال العَدَاوَةُ، وبالمشِي يقال: العَدْوُ، وبالإِخلال في العَدْلِ يقال: العُدْوان، وبالمكان أو النسب يقال: قومٌ عِدَىً أي غُرَبَاء» . و «لِجبريلَ» يجوزُ أنْ يكونَ صفةً ل «عَدُوّاً» فيتعلَّقَ بمحذوفٍ، وأَن تكونَ اللامُ مقويةً لتعدِيَةِ «عَدُوَّاً» إليه. وجبريل اسمُ مَلَكٍ وهو أعجمي، فلذلك لم يَنْصَرِفْ، وقولُ مَنْ قالَ:«إنَّه مشتقٌّ من جَبَرُوت الله» بعيدٌ، لأنَّ الاشتقاقَ لا يكونُ في [الأسماءِ] الأعجميةِ، وكذا قولُ مَنْ قالَ:«إنه مركبٌ تركيبَ الإِضافةِ، وأنَّ» جَبْر «معناه عَبْد، و» إيل «اسمٌ من أسماء الله تعالى فهو بمنزلةِ عبد الله» لأنه كانَ ينبغي أَنْ يَجْرِيَ الأولُ بوجوهِ الإِعراب وأن ينصرفَ الثاني، وكذا قولُ المهدوي: إنه مركَّبٌ تركيبَ مَزْجٍ نحو: حَضْرَمَوْت لأنه كانَ ينبغي أن يُبْنَى الأولُ على الفتحِ ليس إلَاّ.
وأمَّا ردُّ الشيخِ عليه بأنه لو كانَ مركباً تركيبَ مزجٍ لجازَ فيه أَنْ يُعْرَبَ إعرابَ المتضايِفَيْنِ أو يُبْنَى على الفتحِ كأحدَ عشرَ، فإنَّ كلَّ ما رُكِّب تركيبَ المَزْجِ يجوزُ فيه هذه الأوجهُ، وكونُه لم يُسْمَعْ فيه البناءُ ولا جريانُه مَجْرى المتضايِفَيْنِ دليلٌ على عَدَمِ تركيبِه تركيبَ المَزْجِ، فلا يَحْسُنَ رَدَّاً لأنه جاءَ على أحدِ الجائِزَيْنِ واتَّفَقَ أنه لم يُسْتَعْمَلْ إلا كذلك.
وقد تَصَرَّفَتْ فيه العربُ على عادَتها في الأسماءِ الأعجميَّةِ فجاءَتْ فيه بثلاثَ عشرةَ لغةً، أشهرُها وأفصحُها: جِبْرِيل بزنةِ قِنْدِيل، وهي قراءةُ
أبي عمرو ونافع وابن عامر وحفص عن عاصم. وهي لغةُ الحجازِ، قال ورقةُ بنُ نوفل:
626 -
وجِبْريلُ يأتيه ومِيكالُ مَعْهُما
…
مِنَ اللهِ وَحْيٌ يَشْرَحُ الصدرَ مُنْزَلُ
وقال حسان:
627 -
وجِبْريلٌ رسولُ اللهِ فينا
…
وروحُ القُدْسِ ليسَ له كِفَاءُ
وقال عمران بن حطان:
628 -
والروحُ جبريلُ منهم لا كِفَاءَ له
…
وكانَ جِبْرِيلُ عند الله مَأْمُوناً
الثانيةُ: كذلك إلا أنه بفتحِ الجيم، وهي قراءة ابن كثير والحسن، وقال الفراء:«لا أُحِبُّها لأنه ليس في كلامهم فَعْليل» . وما قاله ليس بشيء لأن ما أَدْخَلَتْه العربُ في لِسانِها على قسمين: قسمٍ ألحقُوه بأبنيتِهم كلِجام، وقسمٍ لم يُلْحقوه كإبْرَيْسَم، على أنه قِيل إنه نظيرُ شَمْوِيل اسمِ طائر، وعن ابن كثير أنه رأى النبى صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ: جَبْريلَ وميكائيل، قال: فلا أزال أقرؤهُما كذلك. الثالث: جَبْرَئيل كعَنْتَريس، وهي لغةُ قيسٍ وتميمٍ، وبها قرأ حمزةُ والكسائي، وقال حسان:
629 -
شهِدْنَا فما تَلْقى لنا من كتيبةٍ
…
َ الدهرِ الا جَبْرَئِيلُ أَمامَها
وقال جرير:
630 -
عبَدوا الصليبَ وكَذَّبوا بمحمدٍ
…
وبجَبْرَئِيلَ وكَذَّبوا مِيكالا
الرابعةُ: كذلك إلا أنه لا ياءَ بعد الهمزةِ، وتُرْوَى عن عاصمٍ ويحيى ابن يعمر. الخامسة: كذلك إلا أنَّ اللامَ مشدَّدَةٌ، وتُرْوى أيضاً عن عاصم ويحيى بن يعمر أيضاً قالوا: و «إلَّ» بالتشديد اسمُ الله تعالى، وفي بعض التفاسير:{لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلَا ذِمَّةً} [التوبة: 10] قيل: معناهُ الله. ورُوي عن أبي بكر لَمَّا سَمِعَ بسَجْع مُسَيْلَمة: «هذا كلامٌ لم يَخْرُجْ من إلّ» . السادسة: جَبْرَائِل بألفٍ بعدَ الراءِ وهمزةٍ مكسورةٍ بعدَ الألفِ، وبها قرأ عكرمةُ. السابعةُ: مِثلُها إلا أنَّها بياءٍ بعدَ الهمزةِ. الثامنة: جِبْرايِيل بياءَيْنِ بعد الألفِ من غير هَمْزٍ، وبها قَرأ الأعمشُ ويَحْيى أيضاً. التاسعةُ: جِبْرال. العاشرة: جِبْرايِل بالياءِ والقَصْرِ وهي قراءةُ طلحةَ بن مصرف. الحاديةَ عشرةَ، جَبْرِين بفتحِ الجيمِ والنون. الثانيةَ عشرةَ: كذلك إلا أنَّها بكسرِ الجيم. الثالثةَ عشرةَ: جَبْرايين. والجملةُ مِنْ قولِه: «مَنْ كان» في محلِّ نصبٍ بالقولِ، والضميرُ في قوله:«فإنَّه» يعودُ على جبريل، وفي قوله «نَزَّلَه» يعودُ على القرآنِ، وهذا موافقٌ لقولِه:{نَزَلَ بِهِ الروح الأمين}
[الشعراء: 193] في قراءةِ مَنْ رَفَع «الروح» ، ولقولِه «مصدِّقاً» ، وقيل: الأولُ يعودُ على اللهِ والثاني يعودُ على جِبْريل، وهو موافقٌ لقراءَةِ مَنْ قَرأَ {نَزَلَ به الروحُ} بالتشديدِ والنَّصْبِ، وأتى ب «على» التي تقتضي
الاستعلاء دونَ «إلى» التي تقتضي الانتهاء، وخَصَّ القلبَ بالذكر لأنه خزانةُ الحِفْظِ وبيتُ الرَّبِّ، وأضافه إلى ضميرِ المخاطب دونَ ياءِ المتكلِّمِ - وإنْ كان ظاهرُ الكلامِ يقتضي أَنْ يكون «على قلبي» - لأحدِ أمرَيْنِ: إمَّا مراعاةً لحالِ الأمرِ بالقولِ فَتَسْرُدُ لفظَه بالخطابِ كما هو نحوُ قولِك: قل لقومِك لا يُهينوك، ولو قلت: لا تُهينوني لجازَ، ومنه قولُ الفرزدق:
631 -
ألم تَرَ أنِّي يومَ جَوِّ سُوَيْقَةٍ
…
دَعَوْتُ فنادَتْني هُنَيْدَةُ: ما ليا
فَأَحْرَز المعنى ونكبَّ عن نداءِ هُنَيْدَةَ ب «مالك» ؟ ، وإمَّا لأنَّ ثَمَّ قولاً آخرَ مضمراً بعد «قُلْ» ، والتقديرُ: قُلْ يا محمد: قال الله مَنْ كان عدوَّاً لجبريلَ، وإليه نَحَا الزمخشري بقولِه:«جاءَتْ على حكايةِ كلامِ الله تعالى، قُلْ ما تكلَّمْتُ به من قولي: مَنْ كانَ عَدُوّاً لجبريلَ فإنه نَزَّله على قَلْبِكَ» فعلى هذا الجملةُ الشرطيةُ معمولةٌ لذلك القولِ المضمرِ، والقولُ المُضْمَرُ معمولٌ لِلَفْظِ «قُلْ» ، والظاهرُ ما تقدَّم من كونِ الجملةِ معمولةً لِلَفْظِ «قُلْ» بالتأويل المذكورِ أولاً، ولا يُنافيه قولُ الزمخشري فإنَّه قَصَدَ تفسيرَ المعنى لا تفسيرَ الإِعرابِ.
قوله: {بِإِذْنِ الله} في محلِّ نصبٍ على الحالِ من فاعل: «نَزَّله» إنْ قيلَ إنه ضميرُ جبريل، أو من مفعولِه إنُ قيل إنَّ الضميرَ المرفوعَ في «نَزِّلَ» يعودُ على الله، والتقديرُ: فإنَّه نَزَّله مأذوناً له أو ومعه إذْنُ الله. [والإِذْنُ في الأصلِ العِلْمُ بالشيءِ، والإِيذانُ: الإِعلامُ]، أَذِنَ به: عَلِمَ به. وأذَنْتُه بكذا: أَعْلَمْتُه به،
ثم يُطْلَقُ على التمكينِ، أَذِن لي في كذا: أَمْكَنني منه، وعلى الاختيارِ: فَعَلْتُه بإذنك: أي باختيارِك، وقولُ مَنْ قال بإذنه أي: بتيسيرِه راجعٌ إلى ذلك.
قولُه: «مُصَدِّقاً» حالٌ من الهاءِ في «نَزَّلَه» إنْ كانَ يعودُ الضميرُ على القرآنِ، وإنْ عادَ على جبريل ففيه احتمالان، أحدُهما: أَنْ يكونَ من المجرور المحذوفِ لفَهْمِ المعنى، والتقديرُ: فإنَّ الله / نَزَّل جبريلَ بالقرآنِ مصدِّقاً، والثاني: أن يكونَ مِنْ جبريل بمعنى مُصَدِّقاً لِما بينَ يديهِ من الرسلِ وهي حالٌ مؤكِّدةٌ، والهاءُ في «بين يديه» يجوزُ أن تعودَ على «القرآنِ» أو على «جِبْريل» .
و «هُدَىً وبُشْرَى» حالان مَعْطوفانِ على الحالِ قبلهما، فهما مصدران موضوعان مَوْضِعَ اسمِ الفاعلِ، أو على المبالغةِ أو على حَذْفِ مضافٍ أي: ذا هُدَىً، و «بُشْرى» ألفُها للتأنيثِ، وجاءَ هذا الترتيبُ اللفظيُّ في هذه الأحوالِ مطابقاً للترتيبِ الوجودِيِّ، وذلك أنَّه نَزَل مصدِّقاً للكتبِ لأنها من ينبوعٍ واحدٍ، والثاني: أنه حَصَلَتْ به الهدايةُ بعد نزولِه. والثالث: أنه بُشْرى لمَنْ حَصَلَتْ له به الهدايةُ، وخَصَّ المؤمنينَ لأنهم المنتفعونَ به دونَ غيرِهم وقد تقدَّم نحوُه.
قوله تعالى: {مَن كَانَ عَدُوّاً} : الكلامُ في «مَنْ» كما تقدَّم، إلَاّ أَنَّ الجوابَ هنا يَجُوز أن يكونَ {فَإِنَّ الله عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ} ، فإنْ قيل: وأين الرابطُ؟ فالجوابُ مِنْ وَجْهين أحدُهما: أنَّ الاسم الظاهرَ قامَ مَقام المضمرِ، وكان الأصلُ: فإنَّ الله عَدُوٌّ لهم، فأتى بالظاهرِ تنبيهاً على العلةِ. والثاني: أن يُرادَ بالكافرين العموم، والعموم من الروابط، لاندراجِ الأولِ. تحتَه. ويجوزَ أن يكونَ محذوفاً تقديرُه: مَنْ كانَ عَدُوَّاً لله فقد كَفَر ونحوُه. وقال بعضهم: الواوُ في قوله: {وملائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} بمعنى أو، قال: لأنَّ مَنْ عادى واحداً من هؤلاء المذكورين فالحكمُ فيه كذلك. وقال بعضُهم: هي للتفصيلِ، ولا حاجةَ إلى ذلك، فإنَّ هذا الحكمَ معلومٌ، وَذَكر
جبريلَ وميكالَ بعد اندراجهما أولاً تنبيهاً على فَضْلِهما على غيرِهما من الملائكةِ، وهكذا كلُّ ما ذُكِرَ: خاصٌ بعد عامٍ، وبعضهم يُسَمِّي هذا النوعَ بالتجريدِ، كأنه يعني به أنه جَرَّدَ من العموم الأولِ بعضَ أفرادِه اختصاصاً له بمزيَّةٍ، وهذا الحكمُ - أعني ذِكْرَ الخاصِّ بعد العامِّ - مختصٌّ بالواوِ، لا يَجُوز في غيرِها من حروف العَطْف.
وجَعَل بعضُهم مثلَ هذه الآيةِ - أعني في ذِكْرِ الخاصِّ بعد العامِّ تشريفاً له - قولَه: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن: 68] وهذا فيه نظر؛ فإن «فاكهةٌ» من باب المطلقِ لأنها نكرةٌ في سياقِ الإثبات، وليست من العمومِ في شيءٍ، فإنْ عَنَى أنَّ اسمَ الفاكهةِ يُطْلَقُ عليهما من بابِ صِدْقِ اللفظِ على ما يَحْتمله ثم نَصَّ عليه فصحيحٌ. وأتى باسمِ الله ظاهراً في قوله:{فَإِنَّ الله عَدُوٌّ} لأنه لو أُضْمِر فقيل: «فإنَّه» لأَوْهم عَوْدَه على اسمِ الشرط فينعكسُ المعنى، أو عَوْدَه على ميكال لأنه أقربُ مذكورٍ. وميكائيل اسمٌ أعجمي، والكلامُ فيه كالكلامِ في جِبْريل من كونِه مشتقاً من مَلَكوت الله أو أن «مِيك» بمعنى عبد، و «إيل» اسمُ الله، وأنَّ تركيبَه تركيبُ إضافةٍ أو تركيبُ مَزْجٍ، وقد عُرِف الصحيح من ذلك.
وفيه سبعُ لغاتٍ: مِيكال بزنة مِفْعال وهي لغةُ الحجاز، وبها قرأ أبو عمرو وحفص عن عاصم، قال:
632 -
ويومَ بَدْرٍ لقِيناكم لنا عُدَدٌ
…
فيه مع النصرِ مِيكالٌ وجِبريلٌ
وقوله:
633 -
. . . . . . . . . . . . . . . . . . .
…
. . . . . . . . . . . .
وكَذَّبوا مِيْكالا
الثانيةُ: كذلك، إلا أنَّ بعدَ الألفِ همزةً وبها قرأ نافع. الثالثة: كذلك إلا أنه بزيادةِ ياءٍ بعد الهمزةِ وهي قراءةُ الباقين. الرابعة: مِيكَئِيل مثل مِيكَعِيل وبها قرأ ابن محيصن. الخامسة: كذلك إلَاّ أنه لا ياءَ بعد الهمزة فهو مثلُ: مِيكَعِل وقُرىء بها. السادسةُ: ميكاييل بيائين بعد الألف وبها قرأ الأعمش. السابعة: ميكاءَل بهمزةٍ مفتوحةٍ بعد الألفِ كما يُقال: إسراءَل. وحكى الماوَرديُّ عن ابن عباس أن «جَبْر» بمعنى عَبْد بالتكبير، و «مِيكا» بمعنى عُبَيْد بالتصغير، فمعنى جِبْريل: عبد الله، ومعنى مِيكائيل: عُبَيْد الله قال: «ولا يُعْلَمُ لابنِ عباس في هذا مخالفٌ» . قوله: {وَمَا يَكْفُرُ بِهَآ إِلَاّ الفاسقون} هذا استثناءٌ مفرَّغٌ، وقد تقدَّم أن الفراءَ يُجِيز فيه النصبَ.
قوله تعالى: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ} : الجمهورُ على تحريك واو «أَوَ كلما» واختلف النحْويون في ذلك على ثلاثةِ أقوال، فقال الأخفش: إنّ الهمزةَ للاستفهام والواوُ زائدةٌ، وهذا على رأيِه في جوازِ زيادتِها. وقال الكسائي: هي «أَوْ» العاطفةُ التي بمعنى بل، وإنما حُرّكَتِ الواوُ، ويؤيِّدهُ قراءةُ مَنْ قرأَها ساكنةً. وقال البصريون: هي واوُ العطفُ قُدَّمَتْ عليها همزةُ الاستفهامِ على ما عُرِفَ، وقد تقدَّم أنَّ الزمخشري يُقَدِّرُ بينَ الهمزةِ وحرفِ العطف شيئاً يَعْطِفُ عليه ما بعده، لذلك قَدَّره هنا: أكفروا بالآياتِ البيِّناتِ وكُلَّما عاهدوا.
وقرأ أبو السَّمَّال العَدَوي: «أَوْ كلَّما» ساكنةَ الواو، وفيها أيضاً ثلاثةُ أقوال، فقالَ الزمخشري:«إنها عاطفةٌ على» الفاسقين «، وقدَّره بمعنى إلَاّ الذين فَسَقُوا أو نَقَضُوا يعني به أنه عَطَفَ الفعلَ على الاسم لأنه في تأويلهِ كقولِه: {إِنَّ المصدقين والمصدقات وَأَقْرَضُواْ} [الحديد: 18] أي: الذين اصَّدَّقوا وأَقْرضوا. وفي هذا كلامٌ يأتي في سورتِه إنْ شاء الله تعالى، وقال المهدوي:» أَوْ «لانقطاعِ الكلامِ بمنزلة أَمْ المنقطعةِ، يعني أنَّها بمعنى بل، وهذا رأيُ الكوفيين وقد تقدَّم تحريرُ هذا القولِ وما استدلُّوا به من قوله:
634 -
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
…
. . . . . . . . . . . . . . أو أَنْتَ في العَيْنِ أَمْلَحُ
في أولِ السورةِ، وقالَ بعضُهم: هي بمعنى الواوِ فتتفقُ القراءتان، وقد ثَبَتَ ورودُ» أو «بمنزلةِ الواوِ كقوله:
635 -
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
…
ما بَيْنَ مُلْجِمِ مُهْرِه أو سافِعِ
{خطيائة أَوْ إِثْماً} [النساء: 112]{آثِماً أَوْ كَفُوراً} [الإنسان: 24] فلْتَكُنْ هذه القراءةُ كذلك، وهذا أيضاً رأيُ الكوفيين كما تقدَّم. والناصبُ لكُلَّما بعدَه، وقد تقدَّم تحقيقُ القولِ فيها. وانتصابُ» عَهْداً «على أحدِ وَجْهين: إمَّا على المصدرِ الجاري على غيرِ الصَّدْر وكان الأصلُ:» معاهدةً «، أو على المفعولِ به على أَنْ يُضَمَّن عاهدوا
معنى أَعْطَوا، ويكونُ المفعولُ الأولُ محذوفاً، والتقديرُ: عاهدوا الله عَهْدَاً.
وقُرِىءَ:» عَهِدُوا «فيكونُ» عهْداً «مصدراً/ جارياً على صَدْرِه، وقُرىء أيضاً:» عُوْهِدُوا «مبنياً للمفعولِ»
قوله: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} هذا فيه قولان، أحدُهما: أنه من بابِ عطفِ الجملِ وهو الظاهرُ، وتكونُ «بل» لإِضرابِ الانتقالِ لا الإِبطالِ وقد عَرَفَتْ أنَّ «بل» لا تُسَمَّى عاطفةً حقيقةً إلا في المفرداتِ. والثاني: أنه يكونُ من عطفِ المفرداتِ ويكونُ «أكثرُهم» معطوفاً على «فريقٍ» ، و «لا يؤمنون» جملةٌ في محلِّ نصبٍ على الحال من «أكثرُهم» . وقال ابن عطية «من الضمير في» أكثرُهم «، وهذا الذي قاله جائزٌ، لا يُقال: إنها حالٌ من المضافِ إليه لأنَّ المضافَ جزءٌ من المضافِ إليه وذلك جائزٌ: وفائدةُ هذا الإِضرابِ على هذا القولِ أنه لمَّا كان الفريقُ ينطلِقُ على القليلِ والكثيرِ وأَسْنَدَ النَّبْذَ إليه، وكان فيما يتبادَرُ إليه الذهنُ أنَّه يُحْتمل أَنَّ النابذين للعَهْد قليلٌ بَيَّن أنَّ النابذين هم الأكثرُ دَفْعاً للاحتمال المذكورِ، والنَّبْذُ: الطَّرحُ وهو حقيقةٌ في الأجْرام وإسنادُه إلى العَهْدِ مجازٌ.
قوله تعالى: {الكتاب كِتَابَ الله} : «الكتابَ» مفعولٌ ثانٍ ل «أُوْتُوا» لأنه يتعدَّى في الأصلِ إلى اثنين. فأُقيم الأولُ مُقام الفاعلِ وهو الواوُ،
وبقي الثاني منصوباً، وقد تَقَدَّم أنه عند السهيلي مفعولٌ أوَّلُ، و «كتابَ الله» مفعولُ نَبَذَ، و «وراءَ» منصوبٌ على الظرفِ وناصبُه «نَبَذَ» ، وهذا مَثَلٌ لإِهمالِهم التوراةَ، تقولُ العرب:«جَعَلَ هذا الأمرَ وراءَ ظهره ودَبْرَ أذنِه» أي: أهمله، قال الفرزدق:
636 -
تَميمُ بنُ مُرٍّ لا تكونَنَّ حاجتي
…
بِظَهْرٍ فلا يَعْيَا عليَّ جوابُها
والنَّبْذُ: الطَّرْحُ - كما تقدَّم -. وقال بعضُهم: «النَّبْذ والطَّرْح والإلقاء متقاربة، إلا أن النبذَ أكثرُ ما يقال في المبسوط والجاري مَجْراه، والإِلقاء فيما يُعْتبر فيه ملاقاةٌ بين شيئين» ومن مجيء النَّبْذ بمعنى الطرح قوله:
637 -
إنَّ الذين أَمَرْتَهُمْ أَنْ يَعْدِلُوا
…
نَبَذُوا كتابَك واسْتَحَلُّوا المَحْرَما
وقال أبو الأسود:
638 -
وخَبَّروني مَنْ كنتُ أرسلْتُ أنَّما
…
أَخَذْتَ كتابي مُعْرِضاً بشِمالكا
نظْرتَ إلى عنوانِه فنبذْتَه
…
كنَبْذِكَ نَعْلاً أَخْلَقَتْ مِنْ نِعالِكا
قوله: {كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} جملةٌ في محلِّ نَصْبٍ على الحال، وصاحبُها، فريقٌ، وإنْ كان نكرةً لتخصيص بالوصفِ، والعاملُ فيها: نَبَذَ، والتقدير: مُشْبهين للجُهَّال. ومتعلَّقُ العلمِ محذوفٌ تقديرُه: أنه كتابُ الله لا يُداخِلُهم فيه شكٌّ، والمعنى: أنهم كفروا عِناداً.
قوله تعالى: {واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين} : هذه الجملةُ معطوفةٌ على مجموعِ الجملةِ السابقةِ من قولِه: «ولمَّا جاءَهم» إلى آخرها.
وقال أبو البقاء: «إنها معطوفةٌ على» أُشْرِبوا «أو على» نَبَذَ فريقٌ «، وهذا ليس بظاهر، لأنَّ عطفَها على» نَبَذَ «يقتضي كونَها جواباً لقولِه: {وَلَمَّا جَآءَهُمْ رَسُولٌ} واتِّباعُهم لِما تتلو الشياطينُ ليس مترتِّباً على مجيء الرسولِ بل كان اتِّباعُهم لذلك قبله، فالأَوْلَى أن تكونَ معطوفةً على جملةٍ لا كما تقدم. و» ما «موصولةٌ، وعائدُها محذوفٌ، والتقديرُ: تَتْلوه. وقيل:» ما «نافيةٌ وهذا غَلَطٌ فاحش لا يَقْتَضِيه نَظْمُ الكلامِ البتةَ، نقل ذلك ابنُ العربي. و» يَتْلو «في معنى تَلَتْ فهو مضارعٌ واقعٌ موقعَ الماضي كقوله:
639 -
وإذا مَرَرْتَ بقبرِه فاعْقِرْ بِه
…
كُوَمَ الهِجانِ وكلَّ طَرْفٍ سابحِ
وانضَحْ جوانِبَ قبرِه بدِمائِها
…
فَلَقَدْ يكونُ أخا دمٍ وذَبائحِ
أي: فلقَدْ كان، وقال الكوفيون: الأصلُ: ما كانت تَتْلو الشياطينُ، ولا يريدونَ بذلك أنَّ صلةَ» ما «محذوفةٌ، وهي» كانَتْ «، و» تتلو «في موضعِ الخبرِ، وإنما قَصَدوا تفسيرَ المعنى، وهو نظيرُ:» كانَ زيدٌ يقوم «المعنى على الإِخبار بقيامِه في الزمنِ الماضي
وقرأ الحسن والضحاك:» الشياطُون «إجراءً له مُجْرى جَمْعِ السلامةِ، قالوا: وهو غَلَطٌ. وقال بعضُهم: لَحْنٌ فاحِشٌ. وحكى الأصمعي:» بُستانُ فلانٍ حولَه بَساتُون «وهو يُقَوِّي قراءَةَ الحسن.
قوله: {على مُلْكِ سُلَيْمَانَ} فيه قولان: أحدُهما: أنه على معنى في، أي: في زمنِ ملكِه، والمُلْكُ هنا شَرْعُه. والثاني: أَنْ يُضَمَّن تَتْلو معنى:
تتقوَّل أي: تتقوَّل على مُلْكِ سليمان، وتَقَوَّل يتعدَّى بعلى، قال تعالى:{وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل} [الحاقة: 44] . وهذا الثاني أَوْلَى، فإن التجَوُّز في الأفعالِ أَوْلَى مِن التجوُّز في الحُروف، وهو مذهبُ البصريينَ كما مَرَّ غيرَ مرة. وإنما أَحْوَجَ إلى هذيْنِ التأويلَيْنِ لأن تلا إذا تعدَّى ب» على «كان المجرورُ ب» على «شيئاً يَصِحُّ أَنْ يُتْلى عليه نحو: تَلَوْتُ على زيدٍ القرآنَ، والمُلْكُ ليس كذلك.
والتلاوةُ: الاتِّباعُ أو القراءةُ وهو قريبٌ منه. وسُلَيمان عَلَمٌ أعجمي فلذلك لم ينصرِفْ. وقال أبو البقاء:» وفيه ثلاثةُ أسبابٍ: العجمةُ والتعريفُ والألفُ والنونُ «وهذا إنما يَثْبُتُ بعد دخولِ الاشتقاقِ فيه والتصريفِ حتى تُعْرَفَ زيادتُهما، وقد تقدَّم أنهما لا يَدْخلان في الأسماء الأعجمية، وكَرَّر قولَه {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} بذكرِه ظاهراً تفخيماً له وتعظيما كقوله:
640 -
لا أرى الموتَ يَسْبِقُ الموتَ شيءٌ
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك.
قوله: {ولكن الشياطين كَفَرُواْ} هذه الواوُ عاطفةٌ جملةَ الاستدراكِ على ما قبلَها.
وقرأ ابنُ عامر والكسائيُّ وحمزةُ بتخفيفِ «لكنْ» ورَفْعِ ما بَعْدها، والباقون بالتشديدِ والنصبِ وهو واضحٌ. وأمَّا القراءةُ الأولى فتكونُ «لكنْ» مخففةً من الثقيلة جيء بها لمجرَّدِ الاستدراك، وإذا خُفِّفَتْ لم تَعْمَلْ عند الجمهورِ، ونُقِلَ جوازُ ذلك عن يونسَ والأخفشِ. وهل تكونُ عاطفةً؟ الجمهورُ
على أنَّها تكونُ عاطفةً إذا لم يكنْ معها الواوُ، وكانَ ما بعدَها مفرداً، وذهبَ يونسُ إلى أنها لا تكونُ عاطفةً، وهو قويٌّ، فإنه لم يُسْمَعْ من لسانهم: ما قام زيدٌ لكن عمروٌ، وإن وُجِدَ ذلك في كتب النحويين فمِنْ تمثيلاتِهم، ولذلك لم يُمَثِّل بها سيبويه إلا مع الواو وهذا يَدُلُّ على نَفْيهِ. وأمَّا إذا وقعت بعدها الجملُ فتارةً تقترنُ بالواوِ وتارةً لا تقترنُ، قال زهير:
641 -
إنَّ ابنَ وَرْقَاءَ لا تُخْشَى بوادِرُهُ
…
لكنْ وقائِعُه في الحَرْبِ تُنْتَظَرُ
وقال الكسائي والفراء: «الاختيارُ تشديدُها إذا كانَ قبلَها واوٌ، وتخفيفُها إذا لم يكنْ» وهذا جنوحٌ منهما إلى القولِ بكونِها حرفَ عطفٍ. وأبعدَ مَنْ زَعَم أنها مركبةٌ من ثلاثِ كلماتٍ: لا النافيةِ وكافِ الخطابِ وأَنْ التي للإِثباتِ وإنَّما حُذِفَتِ الهمزةُ تخفيفاً.
قوله: {يُعَلِّمُونَ الناس السحر} «الناسَ» مفعولٌ أولُ، و «السحرَ» مفعولٌ ثانٍ. واختلفوا في هذه الجملةِ على خمسةِ أقوال، أحدُها: أنها حالٌ من فاعل «كفروا» ، أي: كفروا مُعَلِّمينَ. الثاني: أنها حالٌ من الشياطين، ورَدَّه أبو البقاء بأنَّ «لكنّ» لا تعملُ في الحال. وليس بشيء فإن «لكنَّ» فيها رائحةُ الفعل. الثالث: أنها في محلِّ رفعٍ على أنَّها خبرٌ ثانٍ للشياطين. الرابعُ: أنها بدلٌ من «كَفروا» أبدلَ الفعلَ من الفعلِ. الخامسُ: أنَّه استئنافيةٌ، أخبرَ عنهم بذلك، هذا إذا أعَدْنا الضميرَ من «يُعَلِّمون» على الشياطين، أمَّا إذا أَعَدْناه على «الذين اتَّبعوا ما تَتْلوا الشياطينُ» فتكونُ حالاً من فاعلِ «اتَّبعوا» ، أو استئنافيةً
فقط. والسِّحْرُ: كلُّ ما لَطُفَ ودَقَّ. سَحَرَهُ. إذا أبدى له أمراً يَدِقُّ عليه ويَخْفَى. قال:
642 -
. . . . . . . . . . . . . . . . . . .
…
أَدَاءٌ عَراني من حُبابِكِ أَمْ سِحْرُ
ويقال: سَحَره: أي خَدَعَه وعَلَّله، قال امرؤ القيس:
643 -
أرانا مُوضِعِيْنَ لأمرٍ غَيْبٍ
…
ونُسْحَرُ بالطَّعام وبِالشَّرابِ
أي: نُعَلَّلُ، وهو في الأصلِ: مصدرٌ يُقال: سَحَرَه سِحْراً، ولم يَجِيءْ مصدرٌ لفَعَل يَفْعَل على فِعْل إلَاّ سِحْراً وفِعْلاً.
قوله: {وَمَآ أُنْزِلَ} فيه أربعةُ أقوالٍ أَظْهَرُها / أنَّ «ما» موصولةٌ بمعنى الذي محلُّها النصبُ عطفاً على «السِّحْر» ، والتقديرُ: يُعَلِّمُون الناسً السحرَ والمُنَزَّلَ على المَلَكَيْن. الثاني: أنها موصولةٌ أيضاً ومحلها النصبُ لكنْ عطفاً على {مَا تَتْلُواْ الشياطين} والتقديرُ: واتَّبعوا ما تَتْلوا الشياطينُ وما أُنْزِل على المَلَكَيْن وعلى هذا فما بينهما اعتراضٌ، ولا حاجَةَ إلى القولِ بأنَّ في الكلامِ تقديماً وتأخيراً.
الثالث: أنَّ محلَّها الجَرُّ عطفاً على «مُلْكِ سليمان» والتقديرُ: افتراءً على مُلْكِ سُلَيْمان وافتراءً على ما أُنْزِلَ على المَلَكْين. وقال أبو البقاء: «تقديرُه: وعلى عَهْدِ الذي أُنْزِل» . الرابع: «أنَّ» ما «حرفُ نفيٍ، والجملةُ معطوفةٌ على الجملةِ المنفيَّةِ قبلها، وهي {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} ، والمعنى: وما أُنْزِل على المَلَكَيْنِ إباحةُ السِّحْرِ.
والجمهورُ على فَتْح لام» المَلَكَيْن «على أنَّهما من الملائكة، وقرأ ابن عباس وأبو الأسود والحسن بكَسْرها على أَنَّهما رَجُلانِ من الناسِ، وسيأتي تقريرُ ذلك.
قوله {بِبَابِلَ} متعلِّقٌ بأُنِزِلَ، والباءُ بمعنى» في «أي: في بابل: ويجوزُ أن يكونَ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من المَلَكَيْن أو من الضمير في» أُنْزل «فيتعلَّق بمحذوفٍ، ذَكَر هذين الوجهين أبو البقاء.
وبابل لَا يَنْصَرِفُ للعُجْمَةِ والعَلَمية، فإنها اسمُ أرضٍ وإنْ شِئْتَ للتأنيث والعَلَمية، وسُمِّيَتْ بذلك قال: لِتَبَلْبُلِ ألسنةِ الخلائقِ بها، وذلك أنَّ اللهَ تعالى أمرَ ريحاً فَحَشَرَتْهُمْ بهذه الأرضِ فلم يَدْرِ أحدٌ ما يقولُ الآخر، ثم فَرَّقَتْهُم الريحُ في البلادِ يتكلَّمُ كلُّ أحدٍ بلغةٍ. والبَلْبَلَةُ: التفرقةُ، وقيل: لَمَّا أُهْبِطَ نوحٌ عليه السلام نَزَلَ فبنى قريةً وسمّاها» ثمانينَ «، فَأَصْبَحَ ذاتَ يوم وقد تَبَلْبَلَتْ ألْسِنتُهم على ثمانينَ لغةً. وقيل: لِتَبَلْبُلِ ألسنةِ الخَلْقِ عند سقوطِ صَرْحِ نمرود.
قوله: {هَارُوتَ وَمَارُوتَ} الجمهورُ على فَتْح تائِهما، واختلف النحويون في إعرابهما، وذلكَ مبنيٌّ على القراءَتَيْنِ في» المَلَكَيْنِ «: فَمَنْ فَتَحَ لامَ» المَلَكَيْنِ «وهم الجمهورُ كان في هاروت وماروتَ أربعةُ أوجهٍ، أظهرُها: أنَّها بَدَلٌ من» الملَكَيْنِ «، وجُرَّ بالفتحةِ لأنهما لا يَنْصَرِفان للعُجْمةِ والعَلَمِيَّةِ. الثاني: أنهما عطفُ بيانٍ لهما. الثالث: أنهما بدلٌ من» الناس «في قوله: {يُعَلِّمُونَ الناس}
وهو بدلُ بعضٍ من كلٍ، أَوْ لأنَّ أقلَّ الجمعِ اثنان. الرابع: أنهما بدلٌ من» الشياطين «في قوِه:» ولكنَّ الشياطينَ «في قراءةِ مَنْ نَصَبَ، وتوجيهُ البدلِ كما تقدَّم. وقيل: هاروت وماروت اسمان لقبيلتينِ من الجن فيكونُ بدلَ كلٍ من كلٍ، والفتحةُ على هذين القولَيْنِ للنصْبِ. وأمَّا مَنْ قَرَأَ برفعِ» الشياطين «فلا يكونُ» هاروت وماروت «بدلاً منهم، بل يكونُ منصوباً في هذا القولِ على الذمِّ، أي: أذمُّ هاروتَ وماروتَ من بينِ الشياطينِ كلِّها، كقولِه:
644 -
أَقَارِعُ عَوْفٍ لا أُحاولُ غيرَها
…
وجوهَ قرودٍ تَبْتَغي مَنْ تُجادِعُ
أي: أذمُّ وجوهَ قرودٍ، ومَنْ كَسَرَ لامَهما فيكونان بدلاً منهما كالقولِ الأولِ إلا إذا فُسِّر بداودَ وسليمان - كما ذكره بعضُ المفسِّرين - فلا يكونَانِ بَدَلاً منهما بل يكونانِ متعلِّقين بالشياطين على الوَجْهَيْن السابقين في رفع الشياطين ونَصْبِه، أو يكونان بدلاً من» الناس «كما تقدَّم.
وقرأ الحسن: هاروتُ وماروتُ برفعهما، وهما خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ أي: هما هاروتُ وماروتُ، ويجوز أَنْ يكونا بدلاً من «الشياطين» الأولِ، وهو قولُه:{مَا تَتْلُواْ الشياطين} أو الثاني على قراءةِ مَنْ رفَعَه. ويُجْمعان على هَواريت ومَواريت وهَوارِتَة ومَوارِتَة، وليس مَنْ زعم اشتقاقَهما من الهَرْت والمَرْت وهو الكَسْر بمُصيبٍ لعدَمِ انصرافِهِما، ولو كانا مشتقَّينِ كما ذُكِر لانْصَرَفا.
قوله: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ} هذه الجملةُ عَطْفٌ على ما قبلَها. والجمهور على «يُعَلِّمان» مُضَعَّفاً، واختُلِفَ فيه على قَوْلَين: أحدُهما: أنه على بابِه من التعليم. والثاني: أنه بمعنى يُعْلِمان من «أَعْلم» ، فالتضعيفُ والهمزةُ
متعاقبان، قالوا: لأنَّ المَلَكَيْن لا يُعَلِّمان الناسَ السحرَ، إنما يُعْلِمانِهِم به ويَنْهَيانِهم عنه، وإليه ذَهَبَ طلحة بن مصرف، وكان يقرأ:«يُعْلِمان» من الإِعلام. وممَّن حكى أنتَ تَعَلَّمْ بمعنى اعلَمْ ابنُ الأعرابي وابن الأنباري وأنشدوا قولَ زهير:
645 -
تَعَلَّمَنْ هالَعَمْرُ اللهِ ذا قَسَمَاً
…
فاقْدِرْ بِذَرْعِكِ وانظُرْ أينَ تَنْسَلِكُ
وقولَ القطامي
646 -
تَعَلَّمْ أنَّ بعدَ الغَيِّ رُشْداً
…
وأَنَّ لذلك الغَيِّ انقِشاعاً
وقول كعب بن مالكِ:
647 -
تَعَلَّمْ رسولَ اللهِ أنَّك مُدْرِكي
…
وأنَّ وعيداً منكَ كالأخذِ باليدِ
وقول الآخر:
648 -
تَعَلَّمْ أنه لا طيرَ إلا
…
على مُتَطَيِّرٍ وهو الثُّبُورُ
والضميرُ في «يُعَلِّمان» فيه قولان، أحدُهما: أَنَّه يعودُ على هاروت وماروت، والثاني: أنه عائدٌ على المَلَكَيْنِ، ويؤيِّدُه قراءةُ أُبَيّ بإظهارِ الفاعلِ:«وما يُعَلَّمُ المَلَكان» ، والأولُ هو الأصحُّ؛ وذلك أنَّ الاعتمادَ إنما هو على البَدَل دون المبدل منه فإنه في حُكْم المُطَّرَح فمراعاتُه أَوْلَى تقول: «هندٌ
حُسْنُها فاتِنٌ» ولا تقول: «فاتنةٌ» مراعاةً لهند إلا في قليلٍ من الكلامِ كقوله:
649 -
إنَّ السيوفَ غُدُوَّها ورَواحَها
…
تَرَكَتْ هوازنَ مثلَ قَرْنِ الأعْضَبِ
وقول الآخر:
650 -
فكأنَّه لَهِقُ السَّراةِ كأنه
…
ما حاجِبَيْهِ مُعَيَّنٌ بِسَوادِ
فراعى المُبْدَلَ منه في قوله: تَرَكَتْ، وفي قوله: مُعَيَّن، ولو راعى البَدَلَ وهو الكثيرُ لقال: تَرَكا ومُعَيَّنان كقولِ الآخر:
651 -
فما كانَ قيسٌ هُلْكُهُ هُلْكَ واحدٍ
…
ولكنَّه بُنْيَانُ قَوْمٍ تَهَدَّمَا
ولو لَمْ يُراعِ البدلَ لَلَزِمَ الإِخبارُ بالمعنى عن الجثة. وأجاب الشيخ عن البيتين بأن «رَواحَهَا وغدوَّها» منصوبٌ على الظرفِ، وأن قوله «مُعَيَّنٌ» خبرٌ عن «حاجِبَيْه» وجازَ ذلك لأن كلَّ اثنين لا يُغْني أحدهما عن الآخر يجوزُ فيهما ذلك، قال:
652 -
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
…
بها العَيْنانُ تَنْهَلُّ
وقال:
653 -
لكأنَّ في العَيْنَيْن حَبَّ قَرَنْفُلٍ
…
أو سُنْبَلٍ كُحِلَتْ به فانْهَلَّتِ
ويجوز عكسه، قال:
654 -
إذا ذَكَرَتْ عيني الزمانَ الذي مضى
…
بصحراء فَلْجٍ ظَلَّتا تَكِفَانِ
و «مِنْ» زائدةٌ لتأكيدِ الاستغراقِ لا للاستغراق، لأنَّ «أحداً» يفيدُه بخلافِ:«ما جاءَني من رجلٍ» فإنَّهَا زائدةٌ للاستغراقِ، و «أحد» هنا الظاهرُ أنه الملازمُ للنفي وأنَّه الذي همزتُه أصلٌ بنفسِها.
وأجاز أبو البقاء أن يكون بمعنى واحد فتكونَ همزتُه بدلاً من واو.
قوله: {حتى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ} حتى: حرفُ غايةٍ وهي هنا بمعنى إلى / والفعلُ بعدَها منصوبٌ بإضمارِ «أَنْ» ولا يجوزُ إظهارها، وعلامةُ النصبِ حذفُ النونِ، والتقديرُ: إلى أَنْ يقولا، وهي متعلقةٌ بقولِه:«وما يُعَلِّمانِ» والمعنى أنه ينتفي تعليمُهما أو إعلامُهما على حسبِ ما مضى من الخلاف إلى هذه الغاية وهي قولُهم: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} وأجاز أبو البقاء أَنْ يقولَا «وهذا الذي أجازه لا يُعْرَفُ عن أكثر المتقدمين وإنما هو شيءٌ قاله الشيخُ
جمالُ الدين بنُ مالكِ وأنشد:
655 -
ليسَ العطاءُ من الفُضُولِ سَماحةً
…
حتى تَجودَ وما لَدَيْكَ قليلُ
قال:» تقديرُه: إلا أَنْ تجودَ «.
واعلم أنَّ» حتى «تكونُ حرفَ جر بمعنى إلى كهذِه الآية، وكقولِه:{حتى مَطْلَعِ [الفجر] } [القدر: 5] ، وتكونُ حرفَ عطفٍ، وتكونُ حرفَ ابتداءً فتقعُ بعدها [الجملُ كقوله] :
656 -
فما زالَتِ القَتْلَى تَمُجُّ دماءَها
…
بدَجْلَةَ حتى ماءُ دَجْلَةَ أَشْكَلُ
والغايةُ معنىً لا يفارقها في هذه الأحوالِ الثلاثة [فلذلك لا يكون ما بعدها] إلا غايةً لِما قبلها: إمَّا في القوةِ أو الضَّعْفِ أو غيرِهما، ولها أحكامٌ ستأتي إنْ شاء الله تعالى. و» إنَّما مكفوفةٌ بما الزائدةِ فلذلكَ وَقَعَ بعدَها الجملةُ، وقد تقدَّم أنَّ بعضَهم يُجِيزُ إعمالَها، والجملةُ في محلِّ نصبٍ بالقولِ، وكذلك:«فَلا تَكْفُرْ» .
قوله: {فَيَتَعَلَّمُونَ} في هذه الجملة سبعةُ أقوالٍ، أظهرُها، أنَّها معطوفةٌ على قولِه:«وما يُعَلِّمان» والضميرُ في «فيتعلَّمون» عائدٌ على «أحد» .
وجُمِعَ حَمْلاً على المعنى، نحو قولِه:{فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة: 47]، فإن قيل: المعطوفُ عليه منفيٌّ فيَلْزَمُ أَنْ يكونَ «فيتعلَّمون» منفياً أيضاً لعطفِه عليه وحينئذٍ ينعكسُ المعنى. فالجوابُ ما قالوه وهو أَنَّ {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حتى يَقُولَا} وإنْ كان منفيَّاً لفظاً فهو موجَبٌ معنىً لأنَّ المعنى: يَعَلِّمان الناسَ السحرَ بعدَ قولِهما: إنما نحنُ فتنةٌ، وهذا الوجهُ ذكره الزجاجُ وغيرُه.
الثاني: أنه معطوفٌ على {يُعَلِّمُونَ الناس السحر} قاله الفراء. وقد اعترَضَ الزجاجُ هذا القولَ بسبب لفظِ الجمع في «يُعَلِّمون» مع إتيانِه بضميرِ التثنية في «منهما» ، يعني فكانَ حقه أنْ يُقالَ:«منهم» لأجلِ «يَعَلِّمون» ، وأجازَه أبو عليّ وغيرُه، وقالوا: لا يمتنع عَطْفُ «فيتعلَّمون» على «يُعَلِّمون» وإن كان التعليمُ من المَلَكَيْنِ خاصةً، والضميرُ في «منهما» راجعٌ إليهما، فإنَّ قوله «منهما» إنما جاء بعدَ تقدُّم ذِكْرِ المَلَكَيْنِ.
وقد اعتُرِضَ على قولِ الفراء من وجهٍ آخرَ: وهو أنَّه يَلْزَمُ منه الإِضمارُ قبلَ الذكرِ، وذلك أَنَّ الضميرَ في «مِنهما» عائدٌ على المَلَكَيْن وقد فرضتم أنّ «فيتعلَّمون منهما» عَطْفٌ على «يُعَلِّمون» فيكونُ التقديرُ:«يُعَلِّمون الناسَ السحرَ فيتعلَّمون منهما» فيلزم الإِضمارُ في «منهما» قبلَ ذِكْرِ المَلَكَيْنِ، وهو اعتراضٌ واهٍ فإنَّهما متقدِّمان لفظاً، وتقديرُ تأخُّرِهما لا يَضُرُّ، إذ المحذورُ عَوْدُ الضميرِ على غيرِ مذكورٍ في اللفظ.
الثالث: - وهو أحدُ قَولَيْ سيبويه - أنه عَطْفٌ على «كفروا» ، و «كفروا» فِعْلٌ في موضعِ رفعٍ، فلذلك عُطِفَ عليهِ فعلٌ مرفوعٌ، قال سيبويه:«وارْتفَعَتْ» فيتعلَّمون «لأنه لم يُخْبِرْ عن المَلَكَيْن أنهما قالا: لا تَكْفُرْ
فيتعلَّموا ليَجْعلا كفره سبباً لتعلُّمِ غيرِه، ولكنه على: كفروا فيتعلَّمون» ، وشَرْحُ ما قالَه هو أنه يريد أنَّ ليس «فيتعلَّمون» جواباً لقولِه:«فلا تَكْفُرْ» فينتصِبَ في جوابِ النهي كما انتصَبَ: «فَيُسْحِتَكم» بعدَ قولِه: «لا تَفْتَرُوا» لأنَّ كُفْرَ مَنْ نَهَياه أَنْ يكفرَ ليس سبباً لتعلُّمِ مَنْ يتعلَّم. وقد اعتُرِضَ على هذا بما تقدَّم لزومِ الإضمارِ قبلَ الذكر وتقدَّم جوابُه.
الرابع: وهو القولُ الثاني لسيبويه - أنَّه خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ، والتقديرُ:«فهم يتعلَّمون» ، فَعَطَفَ جملةً اسميةً على فعليةٍ.
الخامس: قال الزجاج أيضاً: «والأجودُ أَنْ يكونَ معطوفاً على» يُعَلِّمان فيتعلَّمون «فاستغنى عِنْ ذكرِ» يَعَلِّمان «على ما في الكلام من الدليل عليهِ» . واعترَض أبو علي قولَ الزجاج فقال: «لا وجهَ لقولِه:» استغنى عن ذِكْرِ يُعَلِّمان «لأنه موجودٌ في النص» . وهذا الاعتراضُ من أبي علي تحاملٌ عليه لسببٍ وقَعَ بينهما، فإنَّ الزجاجَ لم يُرِدْ أنَّ «فيتعلَّمون» عطفٌ على «يُعَلِّمان» المنفيِّ ب «ما» في قوله «وما يُعَلِّمان» حتى يكونَ مذكوراً في النصِّ، وإنما أرادَ أن ثَمَّ فِعلاً مضمراً يَدُلُّ عليه قوةُ الكلامِ وهو: يَعَلِّمان فيتعلَّمون.
السادس: انه عَطْفٌ على معنى ما دَلَّ عليه أولُ الكلام، والتقديرُ: فَيَأْتُون فيتعلَّمونَ، ذكره الفراءُ والزَّجَّاجُ أيضاً.
السابع: قال أبو البقاء: «وقِيل هو مستأنَفٌ» وهذا يَحْتَمِل أَنْ يريدَ أنه
خبرُ مبتدأٍ مضمرٍ كقولِ سيبويه، وأن يكونَ مستقلاً بنفسِه غيرَ محمولٍ على شيءٍ قبلَه وهو ظاهرُ كلامِه. هذا نهايةُ القولِ في هذه المسألةِ، وقد أَمْعَنَ المهدويُّ رحمه الله فيها فأمتعَ.
قوله: «مِنْهُمَا» متعلِّقٌ بيُعَلِّمون. و «مِنْ» لابتداءِ الغايةِ، وفي الضمير ثلاثةُ أقوالٍ، أظهرُها: عَوْدُه إلى المَلَكَيْنِ، سواءً قُرِىء بِكْسر اللام أو فتحِها.
والثاني: أنه يعودُ على السحرِ وعلَى المُنَزَّل على الملَكَيْنِ، والثالث: أنه يعودُ على الفتنةِ وعلى الكفر المفهومِ من قولِه «فَلا تَكْفُرْ» وهو قولُ أبي مسلم.
قوله: {مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ} الظاهرُ في «ما» أنَّها موصولةٌ اسميةٌ، وأجاز أبو البقاء أن تكونَ نكرةً موصوفةً وليس بواضحٍ، ولا يجوزُ أن تكونَ مصدريةً لعَوْدِ الضميرِ في «به» عليها، والمصدريةُ حرفٌ عند جمهورِ النَّحْويين كما تقدَّم غيرَ مَرَّة.
و «بين المرءِ» ظَرْفٌ ل «يُفَرِّقون» . والجمهورُ على فَتْحِ ميم «المَرْء» مهموزاً وهي اللغة العالية. وقرأ ابنُ أبي إسحاق: «المُرْء» بضمِّ الميمِ مهموزاً، وقرأ الأشهب العقيلي والحسنُ:«المِرْء» بكسر الميم مهموزاً. فأمَّا الضمُّ فلغةٌ مَحْكِيَّةٌ، وأمَّا الكسرُ فَيَحتمِلُ أَنْ يكونَ لغةً مطلقاً، ويَحْتَمِلُ أَنْ يكونَ ذلك للإِتباع، وذلك أنَّ في «المَرْء» لغةً، وهي أنَّ فاءَه تَتْبَعُ لامَه فإنْ ضُمَّ ضُمَّتْ وإنْ فَتِحَ فُتِحَتْ وإنْ كُسِرَ كُسِرَتْ. تقول:«ما قام المُرْءُ» بضم الميم، و «رأيت المَرْءَ» بفتحها، و «مررت بالمِرْءِ» بكسرِها. وقد يُجْمع بالواوِ والنون وهو شاذٌ، قال الحسن في بعضِ مواعِظه:«أَحْسِنوا مَلأَكم أيها المَرْؤُوْن» أي:
أخلاقكم. وقرأ الحسن والزهري: «المِرِ» بكسر الميم وكسرِ الراء خفيفة، ووجهُها أنه نَقَلَ حركةَ الهمزةِ على الراءَ وحَذَفَ الهمزة تخفيفاً، وهو قياسٌ مُطَّرد. / وقرأ الزهري أيضاً:«المَرِّ» بتشديد الراء من غير همز، ووجهُها أنه نَقَلَ حركةَ الهمزةِ إلى الراء ثم نَوَى الوقفَ عليها مشدداً، كما رُوي عن عاصم «مُسْتَطرٌّ» بتشديد الراء، ثم أَجْرى الوصلَ مُجْرى الوقفِ.
قوله: {وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ} يجوز في «ما» وجهان، أحدُهما: أن تكونَ الحجازيةَ فيكون «هم» اسمَها، و «بضارِّين» خبرَها، والباءُ زائدةٌ، فهو في محلِّ نصبٍ، والثاني: أن تكونَ التميميةَ، فيكونَ «هم» مبتدأ، و «بضارِّين» خبرَه والباءُ زائدةٌ أيضاً فهو في محلِّ رفعٍ. والضميرُ فيه ثلاثةُ أقوالٍ، أحدُها: أنَّه عائدٌ على السَّحَرةِ العائدِ عليهم ضميرُ «فيتعلَّمون» . الثاني: يعود على اليهود العائدِ عليهم ضميرُ «واتَّبَعوا» . الثالث: يعودُ على الشياطين. والضميرُ في «به» يعودُ على «ما» في قولِه: {مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ} .
والجمهورُ على «بضارِّين» بإثباتِ النونِ و «من أحدٍ» مفعولٌ به، وقرأ الأعمشُ:«بضارِّي» من غيرِ نونٍ، وفي توجيهِ ذلك قولان، أظهرُهما: أنه أَسْقَطَ النونَ تخفيفاً وإنْ لم يَقَعْ اسمُ الفاعلِ صلةً لألْ ومثلُه قولُ الشاعر:
657 -
ولَسْنا إذا تَأَبْون سِلْماً بمُذْعِني
…
لكم غيرَ أنَّا إنْ نُسالَمْ نُسالِم
أي: بمُذْعنين، ونظيرُه في التثنية: «قَظَا قَظَا بَيْضُك ثِنْتا وبَيْضِي مِئَتا. يريدون: ثِنْتان ومِئَتان. والثاني - وبه قال الزمخشري وابنُ
عطية -: أن النونَ حُذِفَتْ للإِضافة إلى» أحد «وفُصِل بين المضافِ والمضافِ إليه بالجارِّ والمجرور وهو» به «كما فُصِل به في قول الآخر:
658 -
هما أَخَوا في الحربِ مَنْ لا أخَاله
…
إذا خافَ يَوْماً نَبْوةً فَدَعاهُما
وفي قوله:
659 -
كما خُطَّ الكتابُ بكفِّ يوماً
…
يهوديٍ يقارِبُ أو يُزِيلُ
ثم اسْتَشْكَلَ الزمخشري ذلك فقال:» فإنْ قلتَ كيفُ يُضافُ إلى أحد وهو مجرورٌ بمِن؟ قلت: جُعِل الجارُّ جزءاً من المجرور «، قال الشيخ:» وهذا التخريجُ ليس بجيد لأنَّ الفصلَ بين المتضايفَيْنَ بالظرفِ والمجرورِ من ضرائرِ الشعرِ، وأقبحُ من ذلك ألَاّ يكونَ ثُمَّ مضافٌ إليه، لأنه مشغولٌ بعاملِ جرَّ فهو المؤثِّرُ فيه لا الإضافةُ، وأمَّا جَعْلُه حرفَ الجرِّ جزءاً من المجرورِ فليس بشيء لأنَّ هذا مؤثرٌ فيه وجزءُ الشيءِ لا يُؤَثِّر فيه «وفي قولِ الشيخ نظرٌ، أمَّا كونُ الفصل من ضرائر الشعر فليس كما قال، لأنه قد فُصِل بالمفعولِ به في قراءة ابن عامر فبالظرفِ وشَبْهِهِ أَوْلَى، وسيأتي تحقيق ذلك في الأنعام.
وأمَّا قولُه:» لأنَّ جزءَ الشيءِ لا يؤثر فيه «فإنما ذلك في الجُزْءِ الحقيقي، وهذا إنما قال: نُنَزِّلُه منزلَة الجزءِ، ويَدُلُّ على ذلك قولُ النحويين: الفعلُ كالجزءِ من الفاعلِ ولذلك أُنِّثَ لتأنيثه، ومع ذلك فهو مؤثِّرٌ فيه.
و» مِنْ «في» مِنْ أَحَد «زائدةٌ لتأكيدِ الاستغراق كما تقدَّمَ في {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ} . وينبغي أَنْ يجيءَ قولُ أبي البقاء: إنَّ» أَحَداً «يجوزُ أَنْ يكونَ بمعنىً واحدٍ، والمعهودُ زيادةُ» مِنْ «في المفعولِ به المعمولِ لفعل منفيٍّ نحو:» ما ضَربْتُ من أحدٍ «إلا أنَّه حُمِلَتِ الجملةُ الاسميةُ الداخلُ عليها حرفُ النفي على الفعليةِ المنفيةِ في ذلك لأن المعنى: وما يَضُرُّون من أحدٍ، إلا انه عَدَلَ إلى هذه الجملةِ المصدَّرَة بالمبتدأِ المُخْبَرِ عنه باسمِ الفاعلِ الدالِّ على الثبوتِ والاستقرارِ المزيدِ فيه باءُ الجرِّ للتوكيدِ المرادِ الذي لَمْ تُفِدْه الجملةُ الفعلية.
قوله: {إِلَاّ بِإِذْنِ الله} هذا استثناءٌ مُفَرَّغٌ من الأحوالِ. فهو في محلِّ نصبٍ على الحالِ فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، وفي صاحبِ هذه الحالِ أربعةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه الفاعلُ المستكِنُّ في» بضارِّين «. الثاني: أنه المفعولُ وهو» أَحَدٍ «وجاءَتِ الحالُ من النكرةِ لاعتمادِها على النفيِ. والثالثُ: أنَّه الهاءُ في» به «أي بالسحرِ، والتقديرُ: وما يَضُرُّون أحداً بالسحرِ إلَاّ ومعه عِلْمُ الله أو مقروناً بإذنِ الله ونحوُ ذلك. والرابعُ: أنه المصدَرُ المعرِّفُ وهو الضررُ، إلَاّ أنه حُذِفَ للدلالةِ عليه.
قوله: {وَلَا يَنفَعُهُمْ} في هذه الجملةِ وجهان، أحدُهما - وهو الظاهرُ - أنها عَطْفٌ على «يَضُرُّهم» فتكونُ صلةً ل «ما» أيضاً، فلا مَحَلَّ لها مِن الإِعراب. والثاني - وأجازه أبو البقاء -: أن تكونَ خبراً لمبتدأٍ مضمرٍ
تقديرُه: وهو لا ينفعُهم، وعلى هذا فتكونُ الواو للحالِ، والجملةُ من المبتدأِ والخبر في محلِّ نَصْبٍ على الحالِ، وهذه الحالُ تكونُ مؤكِّدةً لأنَّ قولَه:«ما يَضُرُّهم» ، يُفْهَمُ منه عدمُ النفع، قال أبو البقاء:«ولا يَصِحُ عَطْفُه على» ما «لأنَّ الفعلَ لا يُعْطَفُ على الاسم» وهذا من المواضعِ المستغنى عن النصِّ على مَنْعِها لوضوحِها، وإنما يُنَصُّ على مَنْعِ شيءٍ يُتَوَهَّمُ جوازُه. وأتى هنا ب «لا» لأنها ينفى بها الحالُ والاستقبالُ، وإنْ كان بعضُهم خَصَّها بالاستقبالِ. والضُّرُّ والنَّفْعُ معروفان، يقال: ضَرَّه يَضُرُّه بضم الضاد، وهو قياسُ المضاعَفِ المتعدِّي، والمصدرُ: الضُّر والضَّر بالضم والفتح، والضَّرر بالفك أيضاً، ويقال: ضَارَه يَضيره بمعناه ضَيْراً، قال الشاعر:
660 -
تقولُ أُناسٌ لا يَضِيرُك نَأْيُها
…
بلى كلُّ ما شَفَّ النفوسَ يَضِيرُها
وليس حرفُ العلةِ مُبْدَلاً من التضعيفِ، ونَقَلَ بعضُهم: أنَّه لا يُبْنَى من «نفع» اسمُ مفعول فَيُقال: مَنْفُوع، والقياسُ لا يَأْباه.
قوله: {وَلَقَدْ عَلِمُواْ} تقدَّم أنَّ هذه اللامَ جوابُ قسمٍ محذوفٍ. و «عَلِمَ» يجوزُ أن تكون متعديةً إلى اثنين أو إلى واحدٍ، وعلى كلا التقديرَيْنِ فهي معلَّقةٌ عن العمل فيما بعدَها لأجلِ اللامِ، فالجملةُ بعدَها في محلِّ نصبِ: إمَّا سادةً مسدَّ مفعولين أو مفعولٍ واحدٍ على حَسَبِ ما تقدَّم، ويظهر أثرُ ذلك في العطفِ عليها، فإن اعتقدنا تعدِّيَها لاثنين عَطَفْنا على الجملةِ بعدَها مفعولَيْن وإلَاّ عَطَفْنا مفعولاً واحداً، ونظيرُه في الكلامِ: عَلِمْتُ لزيدٌ قائمٌ وعمراً ذاهباً، أو عَلِمْتُ لزَيدٌ قائمٌ وذهابَ عمروٍ. والذي يَدُلُّ على أنَّ الجملةَ المعلَّقة بعد «عَلِم» في محلِّ نصبٍ وعَطْفَ المنصوبِ على محلِّها قولُ الشاعرِ:
661 -
وما كنْتُ أدري قبلَ عَزَّةَ ما الهَوى
…
ولا موجعاتِ القَلْبِ حتى تَوَلَّتِ
رُوي بنصبِ «مُوجعات» على أنه عَطْفٌ على محلِّ «ما الهوى» ، وفي البيت كلامٌ، إذ يُحتمل أن تكونَ «ما» زائدةً، و «والهوى» مفعولٌ به، فَعَطَفَ «موجعات» ِ «عليه، ويُحتمل أن تكونَ» لا «نافيةً للجنس و» موجعاتِ «اسمُها والخبرُ محذوفٌ كأنه قال: ولا موجعاتِ القلب عندي حتى تولَّت.
والضميرُ في» عَلِموا «فيه خمسةُ أقوالٍ، أحدُها ضميرُ اليهودِ الذين بحضرة محمدٍ عليه السلام، أو ضميرُ مَنْ بحضرةِ سليمانَ، أو ضميرُ جميعِ اليهودِ أو ضميرُ الشياطين، أو ضميرُ المَلَكَيْنِ عند مَنْ يرى / أنَّ الاثنين جمعٌ.
قوله: {لَمَنِ اشتراه} في هذه اللامِ قولان، أحدُهما: - وهو الظاهرُ عند النحويين - أنها لامُ الابتداءِ المعلِّقةِ ل «عَلِم» عن العملِ كما تقدّم، و «مَنْ» موصولةٌ في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ، و «اشتراهُ» صلتُها وعائدُها. و {مَا لَهُ فِي الآخرة مِنْ خَلَاقٍ} جملةٌ من مبتدأٍ وخبرٍ ومِنْ زائدةٌ في المبتدأ، والتقديرُ: ما له خلاقٌ في الآخرةِ. وهذه الجملةُ في محلة رفعٍ خبراً ل «مَنْ» الموصولةِ فالجملةُ من قوله: «ولقد عَلِموا» مقسمٌ عليها كما تقدَّم، و «لَمَن اشتراه» غيرُ مقسمٍ عليها، هذا مذهبُ سيبويه والجمهور. الثاني - وهو قول الفراء، وتَبِعه أبو البقاء -: أن تكونَ هذه اللامُ هي الموطئةَ للقسَمِ، و «مَنْ» شرطيةٌ في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ، و {مَا لَهُ فِي الآخرة مِنْ خَلَاقٍ} جوابُ القسمِ، ف «اشتراه» على القولِ الأولِ صلةٌ وعلى هذا الثاني هو خبرٌ لاسمِ الشرطِ. ويكونُ جوابُ الشرطِ محذوفاً؛ لأنه إذا اجتمع شرطٌ وقَسَمٌ ولم يتقدَّمْهما
ذو خبر أُجيب سابقُهما غالباً، وقد يُجاب الشرطُ مطلقاً كقوله:
662 -
لَئِنْ كان ما حُدِّثْتُه اليومَ صادِقاً
…
أَصُمْ في نهارِ القَيْظِ للشمسِ باديا
ولا يُحْذَفُ جوابُ الشرطِ إلَاّ وفعلُه ماضٍ، وقد يكونُ مضارعاً كقوله:
663 -
لَئِنْ تَكُ قَدْ ضاقَتْ عليكم بيوتُكُمْ
…
لَيَعْلَمُ ربِّي أنَّ بيتيَ واسِعُ
فعلى قولِ الفراء تكونُ الجملتان من قوله: {وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشتراه} مُقْسَماً عليهما، ونُقِل عن الزجاج مَنْعُ قولِ الفراءِ فإنه قال:«هذا ليس موضعَ شرط» ولم يُوجِّهْ مَنْعَ ذَلك. والذي يَظْهَرُ في مَنْعِهِ، أنَّ الفعل بعد «مَنْ» وهو «اشتراه» ماضٍ لفظاً ومعنىً فإنَّ الاشتراءَ قد وَقَعَ وانفصَلَ، فَجَعَلُه شرطاً لا يَصِحُّ؛ لأنَّ فعلَ الشرطِ وإنْ كان ماضياً لفظاً فلا بدَّ أن يكونَ مستقبلاً معنىً.
والخَلاقُ: النَّصِيبُ، قال الزجاج:«أكثرُ استعمالِه في الخيرِ» فأمَّا قولُه:
664 -
يَدْعُون بالوَيْلِ فيها لا خَلاقَ لَهُمْ
…
إلا سَرابيلُ من قَطْرٍ وأغلالُ
فيَحْتمل ثلاثةَ أوجهٍ، أحدُها: أنه على سبيلِ التهكُّمِ بهم كقوله:
665 -
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
…
تَحِيَّةُ بَيْنِهم ضَرْبٌ وجَيِعُ
والثاني: أنه استثناءٌ منقطعٌ، أي: لكنْ لهم السرابيلُ مِنْ كذا، والثالث: أنه اسْتُعْمِل في الشرِّ على قِلَّة. والخَلاقُ: القَدْر قال:
666 -
فما لَكَ بيتٌ لدى الشامخاتِ
…
وما لَكَ في غالِبٍ مِنْ خَلاقِ
أي: من قَدْرٍ ورتبةٍ، وهو قريبٌ من الأولِ. والضميرُ المنصوبُ في «اشتراه» فيه أربعةُ أقوالٍ: يعودُ على السحرِ أو الكفرِ أو كَيْلِهم الذي باعوا به السحرَ أو القرآنَ لتعويضِهم كتبَ السحرِ عنه. وقد تقدَّم الكلامُ على قولِه: «ولَبِئْس ما» وما ذَكَر الناسُ فيها. واللامُ في «لَبِئْسَما» جوابُ قسمٍ محذوفٍ تقديرُه: والله لَبِئْسَما، والمخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ أي: السحرُ أو الكفرُ.
قوله: {لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} جوابُ لو محذوفٌ تقديرُه: لو كانوا يَعْلَمُون ذمَّ ذلك لَمَا باعُوا به أنفسَهم، وهذا أحسنُ مِنْ تقديرِ أبي البقاء:«لو كانوا يَنْتَفِعُون بعِلْمهم لامتنعُوا من شراء السحرِ» لأنَّ المقدَّرَ كلما كان مُتَصَيَّداً من اللفظِ كان أَوْلَى. والضميرُ في «به» يعودُ على السحرِ أو الكفرِ، وفي «يَعْلَمُون» يعودُ على اليهود باتفاق، واعلمْ أنَّ هنا سؤالاً معنوياً ذكره الزمخشري
وغيرُه، وهو مترتِّبٌ على عَوْدِ الضميرِ في «عَلِمُوا» و «يَعْلَمُون» ، وذلك أنَّ الزمخشري قال:«فإنْ قلتَ: كيف أَثْبَتَ لهم العلمَ أولَاّ في» ولقد عَلِمُوا «على سبيلِ التوكيد القسمي، ثم نفاه عنهم في قولِه: {لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} ؟ قلت: معناه: لو كانوا يَعْمَلون بعِلْمِهم، جَعَلهم حينَ لم يَعْلَموا به كأنهم مُنْسلخون عنه» وهذا بناءً منه على أنَّ الضميرين في «عَلِموا» و «يَعْلَمون» لشيءٍ واحدٍ. وأجابَ غيرُه على هذا التقدير بأن المرادَ بالعلم الثاني العقلُ لأنَّ العِلْمَ مِنْ ثمرتِه، فلمَّا انتفَى الأصلُ انتفى ثمرتُه، أو يغايِرُ بين متعلَّقِ العِلْمين أي: عَلِموا ضرره في الآخرةِ ولم يعلموا نَفْعَه في الدنيا، وأمَّا إذا أَعَدْتَ الضميرَ في «عَلِموا» على الشياطين أو على مَنْ بحضرةِ سليمانَ أو على المَلَكَين فلا إشكالَ لاختلافِ المُسْنَد إليه العلمُ حينئذ.
قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ} : «لو» هنا فيها قولان، أحدُهما: أنها على بابِها من كوِنها حرفاً لِما كان سيقع لوقوعِ غيره، وسيأتي الكلامُ في جوابها. وأجاز الزمخشري أن تكونَ للتمني أي: ليتهم آمنوا على سبيل المجازِ عن إرادةِ الله إيمانَهم واختيارَهم له، فعلى هذا لا يَلْزَمُ أن يكونَ لها جوابٌ لأنها قد تُجابُ بالفاءِ حينئذٍ، وفي كلامِه اعتزالٌ موضعُه غيرُ هذا الكتابِ.
و «أنهم آمنوا» مؤولٌ بمصدرٍ، وهو في محلِّ رفعٍ، واختُلِفَ في ذلك على قَولَيْن، أحدُهما - وهو قولُ سيبويه - أنَّه في محلِّ رفعٍ بالابتداء وخبرُه محذوفٌ، تقديرُه: ولو إيمانُهم ثابتٌ، وشَذَّ وقوعُ الاسمِ بعد لو، وإنَّ كانت مختصةً بالأفعال، كما شَذَّ نصبُ «غُدْوَةً» بعد «لَدُنْ» . وقيل: لا يَحْتاج هذا المبتدأ إلى خبرٍ لجَريانِ لفظِ المسندِ والمسندِ إليه في صلةِ «أَنَّ» ، وصَحَّح
الشيخ هذا في سورة النساء، وهذا يُشْبِهُ الخلافَ في «أنَّ» الواقعةِ بعد ظنَّ وأخواتِها، وقد تقدَّم تحقيقُه والله أعلم. والثاني: - وهو قولُ المبرد - أنه في محلِّ رفعٍ بالفاعليةِ، رافعُه محذوفٌ تقديرُه: ولو ثَبَتَ إيمانُهم، لأنَّها لا يَليها إلا الفعلُ ظاهراً أو مضمراً. وقد رَدَّ بعضُهم هذا بأنه لا يُضْمَرُ بعدَها الفعلُ إلا مفسَّراً بفعلٍ مثلِه، وهذا يُحْمَلُ على المبرد، ولكلِّ من القولين دلائلُ ليس هذا موضعَها. والضميرُ في «أنهم» فيه قولان، أحدُهما: عائدٌ على اليهودِ، والثاني: على الذينَ يُعَلِّمون السحرَ.
قوله: {لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ الله} في هذه اللامِ قولان، أحدُهما: أنها لامُ لامُ الابتداءِ وأنَّ ما بعدها استئنافُ إخبارٍ بذلك، وليس متعلِّقاً بإيمانِهم وتقواهم ولا مترتِّباً عليه، وعلى هذا فجوابُ «لو» محذوفٌ إذا قيل بأنها ليست للتمني أو قيل / بأنها للتمني ويكونُ لها جوابٌ تقديره: لأُثيبوا. والثاني: أنها جوابُ لو، فإنَّ «لو» تجابُ بالجملةِ الاسميةِ. قال الزمخشري:«أُوْثِرَتِ الجملةُ الاسميةُ على الفعليةِ في جوابِ لو لِما في ذلك من الدَلالةِ على ثبوتِ المُثُوبة واستقرارها، كما عَدَلَ عن النصبِ إلى الرفعِ في» سلامٌ عليكم «وفي قوع جوابِ» لو «جملةً اسميةً نَظَرٌ يحتاجُ إلى دليلٍ غير مَحَلِّ النزاع. قال الشيخ:» لم يُعْهَدْ في كلامِ العربِ وقوعُ الجملةِ الابتدائيةِ جواباً لِلَوْ، إنما جاءَ هذا المختلَفُ في تخريجِه، ولا تَثْبُتُ القواعدُ الكليةُ بالمُحْتَمَلِ.
ولمَثُوبة فيها قولان أحدُهما: أنَّ وزنَها مَفْعُولَة والأصلُ مَثْوُوْبَة، فثَقُلَتْ الضمةُ على الواوِ فَنُقِلَتْ إلى الساكنِ قبلها، فالتقى ساكنان فَحُذِفَ أحدُهما مثل: مَقُولة ومَجُوزة ومَصُوْن ومَشُوْب، وقد جاءَتْ مصادرُ على مَفْعُول كالمَعْقُول، فهي مصدرٌ نَقَل ذلك الواحدي.
والثاني: أنها مَفْعُلَةٌ من الثواب بضمَّ العين، وإنما نُقِلَتِ الضَمَّةُ منها إلى الثاء، ويقال:«مَثْوَبة» بسكون الثاءِ وفتحِ الواو، وكان مِنْ حَقِّها الإِعلالُ فيقال:«مَثُابة» كمَقامَة، إلا أنهم صَحَّحُوها كما صَحَّحُوا في الأعلام مَكْوَزَة، وبذلك قرأ أبو السَّمَّال وقتادة كمَشْوَرة. ومعنى «لَمَثُوبة» أي: ثوابٌ وجزاءٌ في من الله. وقيل: لَرَجْعَةٌ إلى الله.
قوله: {مِّنْ عِندِ الله} في محلِّ رفعٍ صفةً لِمَثُوبة، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، أي: لَمَثُوبة كائنة من عندِ الله. والعِنْدِيَّة هنا مجازٌ كما تقدَّم في نظائره. قال الشيخ: «وهذا الوصفُ هو المُسَوِّغُ لجوازِ الابتداءِ بالنكرةِ» قلت: ولا حاجةَ إلى هذا لأنَّ المُسَوِّغَ هنا شيء آخر وهو الاعتمادُ على لامِ الابتداءِ، حتى لو قيل في الكلام:«لَمَثُوبة خيرٌ» من غيرِ وصفٍ لَصَحَّ. والتنكيرُ في «لَمَثُوبَةٌ» يفيدُ أنَّ شيئاً من الثوابِ - وإنْ قَلَّ - خَيرٌ، فلذلك لا يُقال له قليلٌ، ونظيرُه:{وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله أَكْبَرُ} [التوبة: 72] .
وقوله «خيرٌ» خبرٌ لِمَثُوبَةٌ، وليست هنا بمعنى أَفْعَل التفضيلِ، بل هي لبيانِ أنها فاضلةٌ، كقوله:{أَصْحَابُ الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً} [الفرقان: 24]{أَفَمَن يلقى فِي النار خَيْرٌ} [فصلت: 40] .
قوله: {لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} جوابُها محذوفٌ تقديرُه: لكان تحصيلُ المثوبةِ خيراً، أي تحصيلُ أسبابِها من الإِيمانِ والتقوى، وكذلك قَدَّرَه، بعضُهم: لآمنوا. وفي مفعولِ «يَعْلَمُون» وجهان: أحدُهما: أنه محذوفٌ اقتصاراً أي: لو كانوا من ذوي العلمِ، والثاني: أنه محذوفٌ اختصاراً، تقديرُه: لو كانوا يَعْلمون التفضيلَ في ذلك، أو يعلمونَ أنَّ ما عند الله خيرٌ وأَبْقَى.
قوله تعالى: {لَا تَقُولُواْ رَاعِنَا} : الجمهورُ على «راعِنا» أمرٌ من المُراعاة، وهي النظرُ في مصالحِ الإِنسانِ وتَدَبُّرِ أمورِه، و «راعِنا» يقتضي المشاركةَ لأنَّ معناه: ليكن منك رعايةٌ لنا وليكن منا رعايةٌ لك، فَنُهوا عن ذلك لأنَّ فيه مساواتِهم به عليه السلام. وقرأ الحسنُ وأبو حَيْوَة:«راعِناً» بالتنوين، ووجهُه أنه صفةٌ لمصدرٍ محذوفٍ، أي: قولاً راعناً، وهو على طَريقِ النَسَب كلابن وتامر، والمعنى: لا تقولوا قولاً ذا رُعونة. والرُّعونة: الجَهْل والحُمْق والهَوَج، وأصلُ الرُّعونة: التفرُّقُ، ومنه:«جَيْشٌ أَرْعَنُ» أي: متفرِّقٌ في كل ناحية، ورجلٌ أَرْعَنُ: أي ليس له عَقْلٌ مجتمعٌ، وامرأةٌ رَعْنَاءٌ، وقيل للبَصْرةِ: الرَّعْناء، قال:
766 -
لولا ابنُ عُتْبَةَ عمروٌ والرجاءُ له
…
ما كانَتِ البصرةُ الرَّعْناءُ لي وَطَنا
قيل: سُمِّيت بذلك لأنها أَشْبَهت «رَعْنَ الجبلِ» وهو الناتِيءُ منه، وقال ابن فارس:«يقال: رَعَن الرجلُ يَرْعَنُ رَعَناً» . وقرأ أُبَيّ: راعُونا، وفي مصحف عبد الله كذلك، خاطَبوه بلفظِ الجمعِ تعظيماً، وفي مصحفِ عبدِ الله أيضاً، «ارْعَوْنا» لِما تقدَّم. والجملةُ في محل نصبٍ بالقول، وقَدَّم النهيَ على الأمرِ لأنه من باب التروك فهو أَسْهَلُ.
قوله: «انظُرْنا» الجملةُ أيضاً في محلِّ نَصْبٍ بالقولِ، والجمهورُ على «انظُرْنا» بوصلِ الهمزةِ وضَمِّ الظاء أمراً من الثلاثي، وهو نظرٌ من النَّظِرَة وهي التأخير، أي: أَخِّرْنا وتأنَّ علينا، قال امرؤ القيس:
668 -
فإنَّكما إنْ تَنْظُرانيَ ساعةً
…
من الدَّهْرِ يَنْفَعْني لدى أمِّ جُنْدَبِ
وقيل: هو من نَظَر أي: أبْصَرَ، ثم اتُّسِعَ فيه فَعُدِّيَ بنفسِه لأنه في الأصلِ يَتَعدَّى ب «إلى» ، ومنه:
669 -
ظاهراتُ الجَمالِ والحُسْنِ يَنْظُرْ
…
نَ كما يَنْظُرُ الأَراكَ الظباءُ
أي: إلى الأراك، وقيل: مِنْ نَظَر أي: تفكر ثم اتُّسِعَ فيه أيضاً فإنَّ أصلَه أَنْ يتعدَّى بفي، ولا بدَّ من حَذْفِ مضافٍ على هذا أي: انظُرْ في أمرنا وقرأ أُبيّ والأعمش: «أَنْظِرْنَا» بفتحِ الهمزةِ وكسرِ الظاءِ أمراً من الرباعي بمعنى: أَمْهِلْنا وأخِّرْنا، قال الشاعر:
670 -
أبا هندٍ فلا تَعْجَلْ عَلَيْنا
…
وأَنْظِرْنا نُخْبِّرْكَ اليَقينا
أي: أَمْهِلْ علينا، وهذا القراءةُ تؤيِّد أنَّ الأولَ من النَّظْرةِ بمعنى التأخير لا من البصرِ ولا من البصيرةِ، وهذه الآيةُ نَظيرُ التي في الحديد:: انظُرونا نقتبسْ «فإنها قُرِئَتْ بالوَجْهَيْنِ.
قوله تعالى: {مِنْ أَهْلِ الكتاب} : في «مِنْ» قولان: أحدهُما: أنها للتبعيضِ فتكونُ هي ومجرورُها في محلِّ نصبٍ على الحال
ويتعلَّقُ بمحذوف أي: ما يَوَدُّ الذين كفروا كائنين من أهلِ الكتابِ. الثاني: أنها لبيانِ الجنسِ وبه قالَ الزمخشري.
قوله: {وَلَا المشركين} عطفٌ على «أَهْلِ» المجرورِ بمِنْ و «لا» زائدةٌ للتوكيد لأنَّ المعنى: ما يَوَدُّ الذين كفروا مِنْ أهلِ الكتابِ والمشركين كقولِه: {لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب والمشركين} [البينة: 1] بغيرِ زيادة «لا» . وزعَمَ بعضُهم أنه مخفوضٌ على الجِوار وأنَّ الأصلَ: ولا المشركون، عطفاً على الذين وإنما خُفِض للمجاورة، نحو:«برؤوسكم وأرجلكِم» في قراءة الجر، وليس بواضح. وقال النحاس:«ويجوزُ: ولا المشركونَ بعطفِه على» الذين «وقال أبو البقاء:» وإنْ كان قد قرىء «ولا المشركون» بالرفع فهو عطفٌ على الفاعل، والظاهر أنه لم يُقْرأ بذلك «وهذان القولان يؤيِّدان ادِّعاءَ الخفضِ في الجوار.
قوله: {أَن يُنَزَّلَ} ناصبٌ ومنصوبٌ في تأويلِ مصدرٍ مفعولٌ ب» يَوَدُّ «أي: ما يودُّ إنزالَ خيرٍ، وبُني الفعلُ للمفعولِ للعلمِ بالفاعلِ وللتصريحِ به في قولِه:» من ربكم «، وأتى ب» ما «في النفي دونَ غيرِها لأنَّها لنفي الحالِ وهم كانوا متلبِّسين بذلك.
قولُه: {مِّنْ خَيْرٍ} / هذا هو القائمُ مَقَامَ الفاعلِ، و» مِنْ «زائدةٌ، أي: أَنْ يُنَزَّل خيرٌ من ربكم. وحَسُنَ زيادتُها هنا وإنْ كان» يُنَزَّل «لم يباشِرْه حرفُ النفي لانسحابِ النفي عليه من حيث المعنى لأنه إذا نُفِيَتِ الوَدادَةُ انتفى مُتَعَلَّقُها.
وهذا له نظائرُ في كلامِهم نحو:» ما أظنُّ أحداً يقولُ ذلك إلا زيدٌ «برفع» زيدٌ «بدلاً من فاعِل» يقول «وإنْ لم يباشر النفيَ، لكنه في قوةِ:» ما يقولُ أحدٌ ذلك إلا زيدٌ في ظني «وقولِه تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ} [الأحقاف: 33] زيدت الباءُ لأنه في معنى: أَوَلَيس اللهُ بقادرٍ، وهذا على رأي سيبويه وأتباعِه. وأمَّا الكوفيون والأخفش فلا يَحْتاجون إلى شَيءٍ من هذا. وقيل:» مِنْ «للتبعيض أي: ما يَوَدُّون أَنْ يُنَزَّلُ من الخيرِ قليلٌ ولا كثيرٌ، فعلى هذا يكونُ القائمُ مقامَ الفاعل:» عليكم «والمعنى: أَنْ يُنَزَّل عليكم بخير من الخُيور.
قوله: {مِّن رَّبِّكُمْ} في» مِنْ «أيضاً قولان، أحدُهما: أنَّها لابتداءِ الغايةِ فتتعلَّقُ بِيُنَزَّل. والثاني: أنها للتبعيضِ، ولا بُدَّ حينئذٍ مِنْ حَذْفِ مضاف تقديرُه: مِنْ خُيورِ ربِّكم، وتتعلَّقُ حينئذٍ بمحذوفٍ، لأنَّها ومجرورَها صفةً لقولِه:» مِنْ خيرٍ «أي: مِنْ خيرٍ كائن من خيورِ ربِّكم، ويكونُ في محلِّها وجهان: الجرُّ على اللفظِ، والرفعُ على الموضعِ لأنَّ» مِنْ «زائدةٌ في» خير «فهو مرفوعٌ تقديراً لقيامهِ مَقامَ الفاعل كما تقدَّم.
وتلخَّصَ ممَّا تقدم أنَّ في كلِّ واحدةٍ من لفظِ «مِنْ» قولين، الأولى: قيل إنها للتبعيض، وقيل: لبيان الجنس، وفي الثانيةِ قولان: زائدةٌ أو للتبعيضِ، وفي الثالثة أيضاً قولان ابتداءُ الغايةِ أو التبعيضُ.
قوله: {والله يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ} هذه جملةٌ ابتدائيةٌ تَضَمَّنَتْ رَدُّ ودَادَتِهم ذلك. و «يختصُّ» يَحْتملُ أن يكونَ هنا متعدِّياً وأن يكونَ لازماً، فإنْ
كان متعدِّياً كان فيه ضميرٌ يعودُ على اللهِ تعالى، وتكون «مَنْ» مفعولاً به أي يختصُّ الله الذي يشاؤه برحمتِه، ويكونُ معنى افْتَعَلَ هنا معنى المجرد نحو: كَسَب مالاً واكتسَبه، وإنْ كان لازماً لم يكن فيه ضميرٌ ويكونَ فاعلُه «مَنْ» أي: واللهُ يختصُّ برحمتِه الشخصَ الذي يَشاؤُه ويكون افتعل بمعنى فعل الفاعل بنفسه نحو اضطرب، والاختصاص ضد الاشتراك، وبهذا تبين فساد قول مَنْ زعم أنه هنا متعدٍّ ليس إلَاّ. و «مَنْ يجوز أن تكونَ موصولةً أو موصوفةً، وعلى كلا التقديرين فلا بُدُّ من تقديرِ عائدٍ، أي: يشاءُ اختصاصَه، ويجوزُ أَنْ يُضَمَّنَ» يشاء «معنى يَخْتار، فيحنئذٍ لا حاجة إلى حَذْفِ مضاف بل تقدِّره ضميراً فقط أي: يَشاؤه، و» يشاءُ «على القولِ الأولِ لا محلَّ له لكونِه صلةً، وعلى الثاني محلُّه النصبُ أو الرفعُ على ما ذُكِرَ في موصوفِه من كونِه فاعلاً أو مفعولاً.
قوله تعالى: {مَا نَنسَخْ} . . في «ما» قولان: أحدُهما - وهو الظاهرُ - أنَّها مفعولٌ مقدم لنَنْسَخْ، وهي شرطيةٌ جازمةٌ له، والتقدير: أيَّ شيءٍ نَنْسَخ، مثلَ قوله {أَيّاً مَّا تَدْعُواْ} [الإسراء: 110] . والثاني: أنَّها شرطيةٌ أيضاً جازمة لنَنْسَخْ، ولكنَّها واقعةٌ موقعَ المصدرِ، و «مِنْ آيةٍ» هو المفعولُ به، والتقديرُ: أَّي نَسْخٍ نَنْسَخ آيةً، قاله أبو البقاء وغيرُه، وقالوا: مجيءُ «ما» مصدراً جائز وأنشدوا:
671 -
نَعَبَ الغرابُ فقلتُ: بَيْنٌ عاجِلُ
…
ما شِئْتَ إذ ظَعَنُوا لِبَيْنٍ فانْعَبِ
وقد رَدَّ هذا القولَ بعضُهم بشيئين، أحدُهما: أنَّه يَلْزَمُ خُلُوُّ جملةِ الجزاءِ من ضميرٍ يعودُ على اسمِ الشرطِ وهو غيرُ جائزٍ، وقد تقدَّم تحقيقُ
الكلامِ في ذلك عند قولِه: {مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ} [البقرة: 97] . والثاني: أنَّ «مِنْ» لا تُزَادُ في الموجَبِ، والشرطُ موجَبٌ، وهذا فيه خلافٌ لبعضِ البصريين أجازَ زيادتَها في الشرطِ لأنه يُشْبِه النفيَ، ولكنه خلافٌ ضعيفٌ.
وقرأ ابنُ عامر: «نُنْسِخْ» بضمِّ النونِ وكسر السينِ من أَنْسَخَ، قال أبو حاتم:«هو غلطٌ» وهذه جرأةٌ منه على عادَتِه، وقال أبو عليّ: ليسَتْ لغةٌ لأنه لا يُقال: نَسَخَ وأَنْسخ بمعنىً، ولا هي للتعديةِ لأنَّ المعنى يجيءُ الأمرُ كذلكَ، فلم يبقَ إلا أَنْ يكونَ المعنى: ما نَجِدْه منسوخاً كما يُقال: أَحْمَدْتُه وأَبْخلْتُه، أي: وَجَدْتُه كذلك ثم قال: «وليس نَجِدُه منسوخاً إلا بأَنْ يَنْسَخَه، فتنفقُ القراءتان في المعنى وإن اختلفا في اللفظ» ، فالهمزةُ عنده ليس للتعديةِ. وجَعَلَ الزمخشري وابنُ عطية الهمزةَ للتعديةِ، إلا أنهما اختلفا في تقدير المفعولِ الأولِ المحذوفِ وفي معنى الإِنساخ، فَجَعَل الزمخشري المفعولَ المحذوفَ جبريلَ عليه السلام، والإِنساخَ هو الأمرَ بنَسْخِها، أي: الإِعلامُ به، وجَعَلَ ابنُ عطية المفعولَ ضميرَ النبي عليه السلام، والإِنساخَ إباحةَ النَّسْخ لنبيِّه، كأنه لَمَّا نَسَخَها أباحَ لَه تَرْكَها، فَسَمَّى تلك الإِباحة إنساخاً.
وخرَّج ابنُ عطية القراءةَ على كَوْنِ الهمزةِ للتعديةِ مِنْ وجهٍ آخرَ، وهو مِنْ نَسْخ الكتابِ، وهو نَقْلُه من غير إزالةٍ له، قال:«ويكونُ المعنى: ما نَكْتُبْ ونُنَزِّلْ من اللوح المحفوظ أو ما نؤخِّرْ فيه ونَتْرُكْهُ فلا نُنُزِّلْه، أيَّ ذلك فَعَلْنا فإنما نأتي بخيرٍ من المؤخَّر المتروك أو بمثله، فيجيء الضميران في» منها «و» بمثلها «
عائِدَيْنِ على الضمير في» نَنْسَأْها «قال الشيخ:» وذَهَلَ عن القاعدة وهي أنه لا بُدَّ من ضميرٍ يعودُ من الجزاء على اسم الشرطِ، و «ما» في قوله:«ما نَنْسَخْ» شرطيةٌ، وقولُه «أو نَنْسَأْها» عائدٌ على الآية، وإن كان المعنى ليس عائداً عليها من حيث اللفظُ والمعنى، بل إنما يعودُ عليها من حيث اللفظُ فقط نحو: عندي درهمٌ ونصفُه، فهو في الحقيقة على إضمار «ما» الشرطيةِ، التقدير: أو ما نَنْسَأْ من آيةٍ ضرورةَ أنَّ المنسوخِ غيرُ المَنْسُوء، ولكن يبقى قولُه: مَا نَنْسَخْ من آيةٍ مُفْلَتاً من الجوابِ، إذ لا رابطَ يعودُ منه إليه فَبَطَلَ هذا المعنى الذي قاله «.
قوله: {مِنْ آيَةٍ} «مِنْ» للتبعيضِ، فهي متعلِّقةٌ بمحذوف لأنها صفةٌ لاسمِ الشرط، ويَضْعُفُ جَعْلُها حالاً، والمعنى: أيَّ شيءٍ نَنْسَخْ من الآيات ف «آية» مفرد وقع موقِعَ الجمعِ، وكذلك تخريجُ كلِّ ما جاءَ من هذا التركيب:{مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ} [فاطر: 2]{وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ الله} ، وهذا المجرورُ هو المخصِّصُ والمبِّينُ لاسم الشرطِ؛ وذلك أَنَّ فيه إبهاماً من جهةِ عمومهِ، ألا ترى أنَّك لو قلت:«مَنْ يُكْرشمْ أُكْرِمْ» تناوَلَ النساءَ والرجالَ، فإذا قلت:«مِن الرجالِ» بَيَّنْتَ وخصَّصْتَ ما تناوَله اسمُ الشرط.
وأجاز أبو البقاء فيها وَجْهَيْنِ آخرين، أحدهما: أنَّها في موضع نصبٍ على التمييز، والممَّيز «ما» والتقدير: أَيَّ شيءٍ نَنْسَخْ، قال:«ولا يَحْسُنُ أن تقدِّر: أيَّ آيةٍ نَنْسَخْ، لأنَّك لا تَجْمَعْ بَيْنَ» آية «وبين المميَّز بآية، لا تقول: أيَّ آيةٍ نَنْسَخْ من آيةٍ، يعني أنك لو قَدَّرْتَ ذلك لاستَغْنَيْتَ عن التمييز. والثاني:
أنها زائدةٌ وآية حال /، والمعنى: أيَّ شيءَ نَنْسَخْ قليلاً أو كثيراً، وقد جاءت» آية «حالاً في قوله:{هذه نَاقَةُ الله لَكُمْ آيَةً} [الأعراف: 73] أي:» علامة «وهذا فاسدٌ لأن الحالَ لا تُجَرُّ ب» مِنْ «، وقد تقدَّم أنها مفعولٌ بها، و» مِنْ «زائدةٌ عل القَوْل بجَعْل» ما «واقعةً موقع المصدر، فهذه أربعةُ أوجه.
قولِه: {أَوْ نُنسِهَا} » أو «هنا للتقسيم، و» نُنْسِها «مجزومٌ عطفاً على فعل الشرطِ قبلَه. وفيها ثلاثَ عشرة قراءةً:» نَنْسَأها «بفتحِ حرفِ المضارعةَ وسكونِ النون وفتحِ السين مع الهمز، وبها قرأ أبو عمرو وابن كثير. الثانية: كذلك إلا أنه بغير همزٍ، ذكرها أبو عبيد البكري عن سعدِ بن أبي وقاص رضي الله عنه، قال ابن عطية:» وأراه وَهِمَ «. الثالثة:» تَنْسَها «بفتح التاء التي للخطاب، بعدَها نونٌ ساكنةٌ وسينٌ مفتوحةٌ من غيرِ همزٍ، وهي قراءةُ الحسن، وتُرْوى عن ابن أبي وقاص، فقيل لسعدِ بنِ أبي وقاص:» إن سعيدَ بن المسيَّبَ يَقْرؤها بنونٍ أولى مضمومةٍ وسينٍ مكسورةٍ فقال: إن القرآن لم يَنْزِلْ على المسيَّب ولا على ابن المسيَّبِ «وتلا: {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تنسى} [الأعلى: 6]{واذكر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: 24] يعني سعدٌ بذلك أن نسبةَ النسيانِ إليه
عليه السلامُ موجودةٌ في كتابِ الله فهذا مثلُه.
الرابعةُ: كذلك إلا أنه بالهمز: الخامسةُ: كذلك إلا أنَّه بضمِّ التاء وهي قراءةُ أبي حَيْوَة: السادسةُ: كذلك إلا أنَّه بغيرِ همزٍ وهي قراءةُ سعيدِ بن المسيَّبِ. السابعة: «نُنْسِها» بضمِّ حرفِ المضارعةِ وسكونِ النونِ وكَسْرِ السينِ من غيرِ همزٍ وهي قراءةُ باقي السبعةِ. الثامنةُ: كذلك إلا أنه بالهمز. التاسعةُ: نُنَسِّها بضمِّ حرفِ المضارعةِ وفتحِ النونِ وكسر السينِ مُشَدَّدَةً وهي قراءةُ الضحاك وأبي رجاء. العاشرةُ: «نُنْسِكَ. بضمِّ حرفِ المضارعةِ وسكونِ النونِ وكسرِ السينِ وكافٍ بعدها للخطاب. الحاديةَ عشرة: كذلك إلا أنه بفتح النون الثانيةِ وتشديد السين مكسورةً، وتروى عن الضحاك وأبي رجاء أيضاً. الثانيةَ عشرةَ: كذلك إلا أنه بزيادةِ ضمير الآية بعد الكاف:» نُنَسِّكَها «وهي قراءة حذيفة، وكذلك هي في مصحفِ سالم مولاه. الثالثةَ عشرةَ:» ما نُنْسِكَ من آيةٍ أو نَنْسَخْها نَجِىءْ بمثلِها «وهي قراءةُ الأعمش، وهكذا ثَبَتَتْ في مصحفِ عبد الله.
فأمَّا قراءةُ الهَمْز على اختلافِ وجوهِها فمعناها التأخيرُ من قولِهم: نَسَأَ الله وأَنْسَأَ اللهُ في أَجَلِكَ أي: أَخَّرَه، وبِعْتُه نسيئةً أي متأخراً، وتقولُ العرب: نَسَأْتُ الإِبلَ عن الحوضِ أَنْسَؤُها نَسْئَاً، وأنْسَأَ الإِبلَ: إذا أَخَّرَها عَنْ ورودِها يومَيْنِ فأكثرَ، فمعنى الآيةِ على هذا فيه ثلاثةُ أقوالٍ، أحدُها: نؤخِّرُ نَسْخَها ونزولَها وهو قولُ عطاء. الثاني: نَمْحُها لفظاً وحكماً وهو قول ابن
زيد. الثالث: نُمْضِها فلا نَنْسَخْها وهو قولُ أبي عبيد، وهو ضعيفٌ لقوله: نَأْتِ بخيرٍ منها، لأنَّ ما أُمْضِي وأُقِرَّ لا يُقال فيه: نَأْتِ بخير منه.
وأمَّا قراءةُ غيرِ الهَمْزِ على اختلافِ وجوهِها أيضاً ففيها احتمالان: أظهرُهما: أنها من النسيانِ، وحينئذٍ يُحْتَمَلُ أن يكونَ المرادُ به في بعض القراءاتِ ضدَّ الذِّكْرِ، وفي بعضِها التركَ. والثاني: أنَّ أصلَه الهمزُ من النَّسْء وهو التأخيرُ، إلا أنَّه أُبْدِلَ من الهمزةِ ألفٌ فحينئذٍ تتَّحِد القراءتان. ثم مَنْ قرأ مِنَ القُرَّاء:» نَنْسَاها «من الثلاثي فواضحٌ. وأمَّا مَنْ قرأ منهم مِنْ أَفْعَل، وهم نافع وابن عامر والكوفيون فمعناه عندهم: نُنْسِكَها، أي: نجعلُك ناسياً لها، أو يكونُ المعنى: نَأْمُرُ بتركها، يقال: أَنْسَيْتُهُ الشيءَ أي أَمَرْتُه بتركِه، ونَسِيْتُه تَرَكْتُه، وأنشدوا:
672 -
إنَّ عليَّ عُقْبَةً أَقْضِيها
…
لستُ بِناسِيها ولا مُنْسِيها
أي: لا تاركها ولا آمراً بتركها، وقد تكلَّم الزجاج في هذه القراءةِ فقال:» هذه القراءةُ لا يَتَوَجَّهُ فيها معنى الترك، لا يُقال: أَنْسَى بمعنى ترك قال الفارسي وغيرُه: «ذلك مُتَّجِهٌ لأنه بمعنى نَجْعَلُكَ تَتْرُكها» وقد ضَعَّفَ الزجاج أيضاً أَنْ تُحْمَلَ الآيةُ على معنى النسيانِ ضدَّ الذكرِ، وقال:«إنَّ هذا لم يكُنْ له عليه السلام ولا نَسي قرآناً» ، واحتجَّ بقوله تعالى:{وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بالذي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ}
[الإسراء: 86] أي لم نَفْعَل شيئاً من ذلك. وأجابَ الفارسي
عنه بأنَّ معناه لم نُذْهِبْ بالجميع. وهذا نهايةُ ما وَقَعْتُ عليه من كلام الناس.
قوله: «نَأْت» هو جوابُ الشرط، وجاء فعلُ الشرطِ والجزاءِ مضارعَيْنِ، وهذا التركيبُ أفصحُ التراكيبِ، أعني: مجيئهما مضارِعَيْن. وقوله: «بخيرٍ منها» متعلِّقٌ بِنَأْتِ، وفي «خير» هنا قولان، الظاهرُ منهما: أنها على بابها من كونها للتفضيل، وذلك أنَّ الآتيَ به إن كانَ أَخفَّ من المنسوخ أو المنسوء فخيريَّتُه بالنسبة إلى سقوطِ أعباء التكليف، وإنْ كانَ أَثْقَلَ فخيريَّتُه بالنسبة إلى زيادةِ الثوابِ، وقولُه:«أو مثلِها» أي في التكليف والثواب، وهذا واضحٌ. والثاني: أن «خيراً» هنا مصدرٌ، وليس من التفضيلِ في شيء، وإنَّما هو خيرٌ من الخُيورِ، كخير في قوله:{أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ} [البقرة: 105] و «مِنْ» لابتداء الغاية، والجارُ والمجرور صفةٌ لقولِه «خير» أي: خيرٌ صادِرٌ من جهتِها، والمعنى عند هؤلاء: مَا نَنْسَخْ من آيةٍ أو نؤخِّرْها نأتِ بخيرٍ من الخيور من جهةِ المنسوخِ أو المنسوء. وهذا بعيدٌ جداً لقوله بعدَ ذلك: «أو مثلِها» فإنه لا يَصِحُّ عَطْفُه على «بخير» على هذا المعنى، اللهم إلَاّ أَنْ يُقْصَدَ بالخيرِ عَدَمَ التكليفِ، فيكونَ المعنى: نَأْتِ بخيرِ من الخُيور، وهو عَدَمُ التكليفِ أو نَأْتِ بمثلِ المنسوخِ أو المَنْسوء. وأمَّا عَطْفُ «مثلِها» على الضمير في «منها» ، فلا يجوزُ إلا عند الكوفيين، لعدمِ إعادةِ الخافضِ، وقوله «ما نَنْسَخْ» فيه التفاتٌ من غيبةٍ إلى تكلم، ألا ترى أنَّ قبله «واللهُ يَخْتَصُّ» {والله ذُو الفضل} .
والنَّسْخُ لغةً: الإِزالةُ بغيرِ بدلٍ يُعْقِبُه، نَسَخَتِ الريحُ الأثرَ والشمسُ الظلَّ، أو نَقْلُ الشيءِ من غير إزالة [نحو:] نَسَخْتُ الكتابَ، وقال بعضهُم:
«والنسخُ: الإِزالةُ، وهو في اللغةِ على ضَرْبَيْن: ضرب فيه إزالةُ شيءٍ وإقامةُ غيره مُقامَه نحو:» نَسَخَتِ الشمسُ الظلَّ «فإنَّها ازالته وقامَتْ مَقامَه، ومنه {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ} ، والثاني: أن يُزيلَه ولا يَقُومَ شيءٌ مقامَه نحو: نَسَخَتِ الريحُ الأثر ومنه: فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقي الشيطانُ، النسيئة: التأخيرُ كما تقدَّم، والإمضاءُ أيضاً قال:
673 -
أَمُونٍ كأَلْواحِ الإرانِ نَسَأْتُها
…
على لاحِبٍ كأنَّه ظَهْرُ بُرْجُدٍ
قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ} : هذا استفهامٌ معناهُ التقريرُ، فلذلك لم يَحَتَجْ إلى معادِلٍ يُعْطَفُ عليه ب «أم» ، وأَمْ في قولِه:«أم تُريدون» :
منقطعةٌ هذا هو الصحيحُ في الآيةِ. قال ابنُ عطية «ظاهرُه الاستفهامُ المحضُ، فالمعادِلُ هنا على قولِ جماعةٍ: أَمْ تريدون، وقال قومٌ: أَمْ منقطعةٌ، فالمعادِلُ محذوفٌ تقديرُه: أَمْ عَلِمْتُم، هذا إذا أُريدَ بالخِطابِ أمتُه عليه السلام، أمَّا إذا أُرِيدَ هو به فالمعادِلُ محذوفٌ لا غيرُ، وكِلا القَوْلَين مَرْوِيُّ» انتهى. وهذا غيرُ مَرْضِيٍّ لِما مَرَّ أَنَّ المرادَ بِه التقريرُ، فهو كقولِه:{أَلَيْسَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36]{أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الانشراح: 1] والاستفهامُ بمعنى التقريرِ كثيرٌ جداً لا سيما إذا دَخَلَ على نفيٍ كما مَثَّلْتُه لك.
وفي قولِه: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله} التفاتان،
أحدُهما: خروجٌ من خطاب جماعةٍ وهو {خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ} ، والثاني: خروجٌ من ضميرِ المتكلِّم المعظِّمِ نفسَه إلى الغَيْبَةِ بالاسمِ الظاهر، فلم يقل: ألم تعلموا أننا، وذلكَ لِما يَخْفَى من التعظيمِ والتفخيم. {أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} : أَنَّ وما في حَيِّزِها: إمَّا سادةٌ مسدَّ مفعولَيْنِ كما هو مذهبُ الجمهورِ، أو واحدٍ والثاني محذوفٌ كما هو مذهبُ الأخفشِ حَسْبَ ما تقدَّم من الخلافِ.
قوله تعالى: {لَهُ مُلْكُ} . . . يجوزُ في «مُلْك» وجهان، أحدُهما أنَّه مبتدأٌ وخبرُه مُقَدَّمِ عليه، والجملةُ في محلَّ رفعٍ خبرٌ ل «أنَّ» . والثاني: أنه مرفوعٌ بالفاعليةِ، رَفَعَه الجارُّ قبله عند الأخفش، لا يقال: إنَّ الجارَّ هنا قد اعتمد لوقوعِه خبراً ل «أَنَّ» ، فيرفعُ الفاعلَ / عند الجميع، لأنَّ الفائدة لم تتمَّ به فلا يُجْعَلُ خبراً. والمُلْكُ بالضمِّ الشيءُ المَمْلوك، وكذلك هو بالكسرِ، إلا أنَّ المضمومَ لا يُسْتَعْمَل إلا في مواضِع السَّعَةِ وبَسْطِ السُّلْطانِ.
قوله: {وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ الله مِن وَلِيٍّ} يجوزُ في «ما» وجهان، أحدُهما: كونُهما تميميَّةً فلا عَمَلَ لها فيكونُ «لكم» خبراً مقدماً، و «مِنْ وليّ» مبتدأً مؤخراً زيدت فيه «مِنْ» فلا تعلُّقَ لها بشيءٍ. والثاني: أن تكونَ حجازيةً وذلك عند مَنْ يُجيز تقديمَ خبرِها ظرفاً أو حرفَ جرٍّ، فيكونُ «لكم» في محلِّ نصبٍ خبراً مقدَّماً، و «مِنْ وليّ» اسمها مؤخراً، و «مِنْ» فيه زائدةٌ أيضاً، و {مِّن دُونِ الله} فيه وجهان، أحدُهما أنَّه متعلِّقٌ بما تَعَلَّقَ به «لكم» من الاستقرارِ المقدَّرِ، و «مِنْ» لابتداءِ الغاية. والثاني: أنَّه في محلِّ نصبٍ على الحالِ من قوله: {مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} لأنَّه في الأصلِ صفةٌ للنكرةِ، فلمَّا قُدِّم عليها انتصَبَ حالاً، قاله أبو البقاء. فعلى هذا يتعلَّقُ بمحذوفٍ غيرِ الذين تعلَّق به «
لكم» . ولا نصير «عطفٌ على لفظِ» ولي «ولو قُرِىءَ برفعِهِ على الموضِع لكان جائزاً. وأتى بصيغة فَعيل في» وليَّ «و» نَصير «لأنها أَبْلَغُ من فاعل، ولأنَّ» وليَّاً «أكثرُ استعمالاً من» والٍ «ولهذا لم يَجِيءْ في القرآن إلا في سورةِ الرعدِ، وأيضاً لتواخي الفواصلِ وأواخرِ الآي. وفي قولِه» لكم «انتقالٌ من خطابِ الواحدِ لخطابِ الجماعةِ، وفيه مناسَبَةٌ، وهو أنَّ المنفيَّ صار نَصَّاً في العمومِ بزيادةِ» مِنْ «فناسَبَ كونَ المَنْفِيِّ عنه كذلكَ فجُمِعَ لذلك.
قوله تعالى: {أَمْ تُرِيدُونَ} . . قد تَقَدَّم أنَّ «أَمْ» هذه يجوزُ أن تكونَ متصلةً معادِلَةً لقولِه: «ألم تَعْلَمْ» ، وأَنْ تكونَ منقطعة وهو الظاهرُ، فَتُقَدَّر ببل والهمزِ، ويكون إضرابَ انتقالٍ من قصةٍ إلى قصة قال أبو البقاء: أَمْ هنا منقطعةٌ، إذ ليسَ في الكلام همزةٌ تقعُ موقعَها ومع أم: أيُّهما، والهمزةُ من قولِه:«ألم تعلمْ» ليسَتْ مِنْ أم في شيء والمعنى: بل أتريدون «فَخَرَجَ مِن كلام إلى كلام. وأصلُ تُريدون: تُرْودُون، لأنه مِنْ رَادَ يَرُودُ، وقد تقدَّم، فَنُقِلَتْ حركةُ الواوِ على الراءِ فَسَكَنَت الواوُ بعد كسرةٍ فقُبِلَتْ ياءً. وقيل» أم «للاستفهامِ، وهذه الجملةُ منقطعةٌ عما قبلها وقيل: هي بمعنى بل وحدَها، وهذان قولان ضعيفان.
قوله: {أَن تَسْأَلُواْ} ناصبٌ ومنصوبٌ في محلِّ نصبٍ مفعولاً به بقوله» تُريدون «، أي: أتريدون سؤالَ رسولِكم.
قولُه:» كما سُئِلَ «متعلِّقٌ بتَسْأَلوا، والكافُ في محلِّ نصبٍ، وفيها التقديران المشهوران: فتقديرُ سيبويه أنَّها حالٌ من ضمير المصدرِ المحذوف
أي: أَنْ تَسْأَلوه أي: السؤالَ حالَ كونِه مُشَبَّهاً بسؤالِ قومِ موسى له، وتقديرُ غيرِه - وهم جمهور النحويين - أنه نعت لمصدر محذوف، أي: إن تسألوا رسولكم سؤالاً مشبهاً كذا. و» ما «مصدرية، أي: كسؤال موسى، وأجاز الحوفي كونها بمعنى الذي فلا بدَّ من تقدير عائد، أي كالسؤال الذي سُئِله موسى. و» موسى «مفعول لم يُسمَّ فاعله، حُذِف الفاعل للعلم به، أي كما سأل قوم موسى.
والمشهور:» سُئِل «بضم السين وكسر الهمزة، وقرأ الحسن:» سِيل «بكسر السين وياء بعدها، مِنْ: سالَ يسال نحو خِفْتُ أخاف، وهل هذه الألفُ في» سال «أصلُها الهمزُ أولا؟ تقدَّم خلافٌ في ذلك وسيأتي تحقيقُه في» سَأَلَ «، وقُرىء بتسهيلِ الهمزةِ بينَ بينَ.
و «من قبلُ» متعلق بسُئل، و «قبلُ» مبنيةٌ على الضَمِّ لأن المضافَ إليه معرفةٌ أي: من قبلِ سؤالِكم. وهذا توكيدٌ، وإلَاّ فمعلومٌ أنَّ سؤال موسى كان متقدَّماً على سؤالهم.
قوله: {بالإيمان} فيه وجهان، أحدُهما: أنها باء العِوَضيَّة، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك. والثاني: أنها للسببية، قال أبو البقاء:«يجوز أن يكونَ مفعولاً بيتبدَّل، وتكون الباءُ للسبب كقولك: اشتريْتُ الثوبَ بدرهمٍ» وفي مثالِه هذا نظرٌ.
{فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السبيل} قُرِىَء بإدغام الدال في الضاد وإظهارها، و «سواءَ»
قال أبو البقاء: «سواء السبيلِ ظرفٌ بمعنى وَسَطِ السبيلِ وأعدله» وهذا صحيحٌ فإنَّ «سَواء» جاء بمعنى وَسَط، قال تعالى:{فِي سَوَآءِ الجحيم} [الصافات: 55] وقال عيسى بن عمر: «ما زلت أكتب حتى انقطع سَوائي» وقال حسان
674 -
يا ويحَ أصحابِ النبيِّ ورَهْطِه
…
بعدَ المُغَيَّبِ في سَواءِ المُلْحَدِ
ومن مجيئه بمعنى العَدْلِ قولُ زهير:
675 -
أَرُونا خُطَّةً لا عيبَ فيها
…
يُسَوِّي بيننا فياه السَّواءُ
والسبيلُ يُذَكَّر ويؤنَّث: {قُلْ هذه سبيلي} [يوسف: 108] . والجملةُ من قولِه: «فَقَدْ ضَلَّ» في محلِّ جزمٍ لأنَّها جزاءُ الشرطِ، والفاءُ واجبةٌ هنا لعَدَمِ صلاحيَتِه شَرْطَاً.
قوله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الكتاب لَوْ يَرُدُّونَكُم} : الكلامُ في «لو» كالكلامِ فيها عندَ قوله: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ} [البقرة: 96] ، فمَنْ جَعَلَهَا مصدريةً هناك جعَلها كذلك هنا، وقال: هي مفعولُ «يَوَدُّ» ، أي: وَدَّ كثيرٌ رَدَّكم. ومَنْ أبى جَعَلَ جوابَها محذوفاً تقديرُه: لو يَرُدُّونَكم كفاراً لَسُرُّوا - أو فرحوا - بذلك، وقال بعضُهم: تقديرُه: لو يَرُدُّونكم كفاراً لَوَدُّوا ذلك، فَوَدَّ دالَّةٌ على الجوابِ وليسَتْ بجوابٍ لأنَّ «لو» لا يتقدَّمُها جوابُها كالشرط. وهذا التقديرُ الذي قَدَّره هذا القائلُ فاسدٌ؛ وذلك أنَّ «لو» حرفٌ لما كان سيقعُ لوقوعِ
غيرِه فَيَلْزَمُ مِنْ تقديرِه ذلك أن وَدَادَتَهُم ذلك لم تَقَعْ، لأن الموجَبَ لفظاً منفيٌّ معنىً، والغرضُ أن ودَادَتَهم ذلك واقعةٌ باتفاقٍ، فتقديرُ: لَسُرُّوا ونحوِه هو الصحيحُ. و «يَرُدُّ» هنا فيه قولان، أحدُهما - وهو الواضحُ - أنها المتعديةُ لمفعولين بمعنى صَيَّر، فضميرُ المخاطبين مفعولٌ أَوَّلُ، و «كفاراً» مفعولٌ ثانٍ، ومِنْ مجيء رَدَّ بمعنى صَيَّر قوله:
676 -
رمى الحَدَثانُ نسوةَ آلِ حربٍ
…
بمِقْدارٍ سَمَدْنَ له سُمودا
فَرَدَّ شعورَهُنَّ السُّودَ بيضاً
…
وَرَدَّ وجوهَهُنَّ البِيضُ سُودا
وجَعَلَ أبو البقاء «كفاراً» حالاً من ضميرِ المفعولِ على أنَّها المتعديةُ لواحدٍ، وهو ضعيفٌ لأنَّ الحالَ يُسْتَغْنى عنها غالباً، وهذا لا بُدَّ منه.
و «مِنْ بعدِ» متعلِّقٌ بيَرُدُّونكم، و «مِنْ» لابتداءِ الغاية.
قوله: {حَسَداً} نصبٌ على المفعولِ له، وفيه الشروطُ المجوِّزة لنصبِه، والعاملُ فيه «وَدَّ» أي: الحاملُ على ودَادَتِهم رَدَّكم كفاراً حَسَدُهم لكم. وجَوَّزوا فيه وجهين آخرين، أحدُهما: أنه مصدرٌ في موضعِ الحالِ، وإنما لم يُجْمَعْ لكونِه مصدراً، أي: حاسِدِين، وهذا ضعيفٌ؛ لأنَّ مجيءَ المصدرِ حالاً لا يَطَّرِدُ. الثاني: أنه منصوبٌ على المصدريةِ بفعلٍ مقدَّرٍ من لفظِه أي يَحْسُدونكم حَسَداً، والأولُ أظهرُ الثلاثة.
قوله: {مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} في هذا الجارِّ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها، أنَّه متعلِّقٌ بوَدَّ، أي: وَدُّوا ذلك مِنْ قِبَلِ شَهَواتِهم لا من قبلِ التَدَيُّنِ، و «مِنْ» لابتداءِ
الغايةِ. الثاني: أنه صفةٌ ل «حَسَدا» ، فهو في محلِّ نصبٍ، ويتعلَّقُ بمحذوفٍ أي: حَسَداً كائناً مِنْ قِبَلهم وشهوتِهم، ومعناه قريبٌ من الأول. الثالث: انه متعلِّقُ بيردُّونكم، و «مِنْ» للسببية، أي: يكونُ الردُّ مِنْ تِلْقائِهم وجِهَتِهم وبإغوائهم.
قوله: «مِّن بَعْدِ مَا» متعلِّقٌ ب «وَدَّ» ، و «مِنْ» للابتداءِ، أي إنَّ ودَادَتَهم ذلك ابتدأتْ من حينِ وضوحِ الحقِّ وتبيُّنِه لهم، فكفرُهم عنادٌ، و «ما» مصدريةٌ أي: مِنْ بعدِ تبيُّنِ الحقِّ. والحَسَدُ: تمنِّي زوالِ نعمةِ الإِنسانِ، المصدرُ: حَسَدٌ وحَسَادَة.
والصَّفْحُ قريبُ من العفو، مأخوذٌ من الإِعراض بِصَفْحَةِ العنق، وقيل: معناهُ التجاوزُ، مِنْ تَصَفَّحْتُ الكتاب أي: جاوزت / ورقَه، والصَّفوح: من أسماء الله، والصَّفُوح أيضاً: المرأةُ تَسْتُر وجهَها إعراضاً، قال:
677 -
صَفُوحٌ فما تَلْقاكَ إلَاّ بِحِيلةٍ
…
فمَنْ ملَّ منها ذلك الوصلَ مَلَّتِ
قوله: {وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ} كقوله: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ} [البقرة: 106] فيجوز في «ما» أن تكونَ مفعولاً بها وأن تكونَ واقعةً موقعَ المصدرِ، ويجوز في «مِنْ خيرٍ» الأربعةُ الأوجهِ التي في «من آية» . من كونِه مفعولاً به أو حالاً أو تمييزاً أو متعلقاً بمحذوفٍ. و «مِنْ» تبعيضيةٌ، وقد تقدَّم تحقيقُها فَلْيُراجَع ثَمَّةَ. و «لأنفسِكم» متعلِّق بتقدِّموا، أي: لحياةِ أنفسِكم، فَحُذِفَ، و «تَجِدُوه» جوابُ الشرطِ، وهي المتعدِّيةُ لواحدٍ لأنها بمعنى الإِصابةِ، ومصدرُها الوِجْدانُ بكسرِ الواو كما تقدَّم، ولا بُدَّ من حذفِ مضافٍ أي: تَجدوا ثوابَه، وقد جَعَلَ الزمخشري الهاءَ عائدةً على «ما» وهو يريد ذلك، لأنَّ الخيرَ المتقدِّم سببٌ
مُنْقَضٍ لا يوجد، إنما يوجد ثوابُه. قوله:«عند الله» يجوزُ فيه وجهان. أحدُهما: أنه متعلقٌ ب «تجدوه» . والثاني: أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من المفعولِ أي: تَجِدُوا ثوابَه مُدَّخَراً مُعَدَّاً عند الله، والظرفيةُ هنا مجازٌ نحو:«لك عندَ فلانٍ يدُ» .
قوله تعالى: {إِلَاّ مَن كَانَ هُوداً} : «مَنْ» فاعلٌ بقوله «يَدْخُلَ» وهو استثناءٌ مفرغٌ، فإنَّ ما قبل «إلَاّ» مفتقرٌ لِما بعدَها، والتقديرُ: لن يدخلَ الجنةَ أحدٌ، وعلى مذهبِ الفراء يجوزُ في «مَنْ» وجهان آخران، وهما النصبُ على الاستثناءِ والرفعُ على البدلِ من «أحد» المحذوفِ، فإن الفراء يراعي المحذوفَ، وهو لو صُرِّح به لجاز في المستثنى الوجهان المذكوران فكذلك مع تقدِيره عندَه، وقد تقدَّم تحقيقُ المذهبين.
والجملةُ من قولِه: {لَن يَدْخُلَ الجنة إِلَاّ مَن} في محل نصبٍ بالقول، وحُمِلَ أولاً على لفظِ «مَنْ» فَأُفْرِدَ الضمير في قوله:«كان» ، وعلى معناها ثانياً فجُمِع في خَبَرِها وهو «هوداً» ، وفي مثلِ هذين الحَمْلين خلافٌ، أعني أن يكونَ الخبرُ غيرَ فعل، بل وصفاً يَفْصِلُ بين مذكرِه ومؤنثِه تاءُ التأنيثِ، فمذهَبُ جمهورِ البصريين والكوفيين جوازُه، ومذهبُ غيرِهم مَنْعُه، منهم أبو العباس، وهو مَحْجوجون بسماعِه من العربِ كهذه الآيةِ، فإنَّ هوداً جمعُ هائد على أظهر القولين، نحو: بازِل وبُزْل وعائِد وعُود وحائل وحُول وبائِر وبُور و «هائد» من الأوصافِ الفارقِ بين مذكرِها ومؤنثِها تاءُ التأنيثِ، وقال الشاعر:
678 -
وأَيْقَظَ مَنْ كان مِنْكم نِياما
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
و «نيام» جمعُ نائمٍ وهو كالأول، وفي «هُود» ثلاثةُ أقوالٍ، أحدُها: أنه جمعُ هائِدٍ كما تقدَّم. والثاني: أنه مصدرٌ على فُعْل نحو حُزْن وشُرْب، يوصف به الواحدُ وغيرُه نحو: عَدْل وصَوْم. والثالث: - وهو قَوْلُ الفراء - أنَّ أصلَه «يَهود» فحُذِفَتِ الياء من أوله، وهذا بعيدٌ جداً.
و «أو» هنا للتفصيلِ والتنويعِ لأنه لمَّا لَفَّ الضميرَ في قوله: «وقالوا» فَصَّل القائلين، وذلك لِفَهْمِ المعنى وأَمْنِ الإلباس، والتقديرُ: وقالَ اليهودُ لًَنْ يدخُلَ الجنةَ إلا مَنْ كانَ هُوداً، وقال النصارى: لَنْ يَدْخُلَ الجنةَ إلا مَنْ كان نصارى؛ لأنَّ مِن المعلومِ أنَّ اليهودَ لا تقول: لَنْ يَدْخُلَ الجنةَ إلا مَنْ كان نصرانياً وكذلك النَّصارى، ونظيرُه:{قَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نصارى} [البقرة: 135] إذ معلومُ أنَّ اليهودَ لا تَقُول: كونوا نصارى، ولا النصارى تقول: كونوا هوداً، وصُدِّرَت الجملةُ بالنفي ب «لن» لأنها تُخَلِّصُ للاستقبالِ ودخولُ الجنة مستقبلٌ. وقُدَّمَتِ اليهودُ على النصارى لفظاً لتقدُّمِهِم زماناً.
قوله: {تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ} «تلك» مبتدأ، و «أمانِيُّهم» خبرُه، ولا محلَّ لهذه الجملةِ لكونها اعتراضاً بين قولِه:«وقالوا» وبين: {قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ} فهي اعتراضٌ بين الدعوى ودليلها. والمشارُ إليه ب «تلك» فيه ثلاثةُ احتمالات أحدُها: أنه المقالةُ المفهومةُ مِنْ: «َقَالُواْ لَن يَدْخُلَ» ، أي: تلك المقالةُ أمانيُّهم، فإنْ قيل: فكيف أَفْرَدَ المبتدأ وجَمَعَ الخبرَ؟ فالجوابُ أن تلك كنايةً عن المقالةِ، والمقالةُ في الأصلِ مصدرٌ، والمصدرُ يقع بلفظِ الإِفرادِ للمفردِ والمثنَّى والمجموعِ، فالمرادُ ب «تلك» الجمعُ من حيث المعنى.
والثاني: - قاله
الزمخشري - وهو أَنْ يُشار بها إلى الأماني المذكورة وهي أمْنُيَّتُهُم ألَاّ يُنَزَّلَ على المؤمنين خيرٌ من ربهم، وأمنَّيتُهم أَنْ يَرُدُّوهم كفاراً، وأُمْنِيَّتُهم ألَاّ يَدْخُلَ الجنةَ غيرُهم. قال الشيخ:«وهذا ليس بظاهرٍ لأنّ كلَّ جملةٍ ذُكِرَ فيها وُدُّهم لشيء قد كَمَلَتْ وانفَصَلَتْ واستقلَّت بالنزولِ، فَيَبْعُد أنْ يشارَ إليها» . والثالث - وإليه ذهب الزمخشري أيضاً - أَنْ يكونَ على حَذْفِ مضافٍ أي: أمثالُ تلك الأُمْنِيَّة أمانِيُّهم، يريد أن أمانيَّهم جميعاً في البُطْلان مثلُ أمنِيَّتِهم هذه. انتهى ما قاله، يعني أنه أُشير بها إلى واحدٍ. قال الشيخُ في هذا الوجهِ، «وفيه قَلْبُ الوَضْعِ، إذ الأصلُ أن يكونَ» تلك «مبتدأ، و» أمانيُّهم «خبرٌ، فَقَلبَ هذا الوضعِ، إذ قال: إن أمانيَّهم في البُطْلان مثلُ أمنيَّتِهم هذه، وفيه أنَّه متى كان الخبرُ مُشَبَّهاً به المبتدأُ فلا يتقدَّمُ الخبرُ نحو: زيدٌ زهيرٌ، فإنْ تقدَّمَ كان ذلك من عكسِ التشبيهِ كقولك: الأسدُ زيدٌ شجاعةً» .
قوله: {هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ} هذه الجملةُ في محلِّ نصبٍ بالقولِ. واختُلِفَ في «هاتِ» على ثلاثة أقوال، أحدُها: أنه فعلٌ، وهذا هو الصحيحُ لاتصالِه بالضمائرِ المرفوعةِ البارزةِ نحو: هاتُوا، هاتي، هاتِيا، هاتِين. الثاني: أنه اسمُ فعلٍ بمعنى أحْضِرْ. والثالث - وبه قال الزمخشري -: أنه اسمُ صوتٍ بمعنى ها التي بمعنى أحْضِرْ.
وإذا قيل بأنه فعلٌ فاختُلِفَ فيه على ثلاثةِ أقوالٍ أيضاً، أصحُّها: أن هاءَه أصلٌ بنفسها، وأنَّ أصلَه هاتَي يُهاتي مُهاتاةً مثل: رامَى يُرامي مُراماة،
فوزنه فاعَلَ فنقول: هاتِ يا زيدُ وهاتي يا هندُ وهاتوا وهاتِين يا هندات، كما تقولُ: رامِ رامي راميا رامُوا رامِينَ. وزعم ابن عطية أن تصريفَه مهجورٌ لا يُقال فيه إلا الأمرُ، وليس كذلك.
الثاني: أنَّ الهاءَ بَدَلٌ من الهمزةِ وأنَّ الأصلَ: أَأْتى وزنُه: أَفْعَل مثل أَكْرم. وهذا ليس بجيدٍ لوجهين، أحدهما: أنَّ آتى يتعدَّى لاثنينِ وهاتى يتعدَّى لواحدٍ فقط. والثاني من الوجهين: أنه كان ينبغي أَنْ تعود الألفُ المُبْدَلةُ من الهمزةِ إلى أصلِها لزوالِ موجِبِ قَلْبِها وهو الهَمْزةُ الأولى ولم يُسْمع ذلك الثالث: أن هذه «ها» التي للتنبيه دَخَلَتْ على «أتى» ولَزِمَتْها، وحُذِفَتْ همزةُ أتى لُزوماً وهذا مردودٌ، فإنَّ معنى هاتِ أحْضِرْ كذا ومعنى ائتِ: احضَرْ أنت، فاختلافُ المعنى يَدُلُّ على اختلافِ المادة. فتحصَّل في «هاتُوا» سبعةُ أقوالٍ، فعلٌ أو اسمُ فعلٍ أو اسمُ صوتٍ، والفعلُ هل يَتصرَّفُ أو لا يتصرفُ، وهل هاؤُه أصلية أو بَدَلٌ من همزةٍ أو هي هاءُ التنبيه زِيدت وحُذِفَتْ همزتُه؟ وأصلُ هاتوا: هاتِيُوا، فاستُثْقِلَتِ الضمةُ على الياء فحُذِفَت، فالتقى ساكنان فَحُذِفَ أوَّلُهما وضُمَّ ما قبلَه لمجانسة الواو فصار هاتوا.
قوله: {بُرْهَانَكُمْ} مفعولٌ به، واختُلِفَ فيه على قَوْلَيْن، أحدُهما: أنه مشتقٌّ من البُرْهِ وهو القَطْعُ، وذلك أنه دليلٌ يفيدُ العلمَ القطعيَّ، ومنه: بُرْهَةُ الزمان أي: القِطْعَةُ منه فوزنه فُعْلان. والثاني: أن نونَه أصليةٌ لثبوتِها في بَرْهَنَ يُبَرْهِنُ بَرْهَنَةً، والبَرْهَنَةُ البيانُ، فَبَرْهَنَ فَعْلَلَ لا فَعْلَنَ، لأنَّ فعلنَ غيرُ موجود في أبنيتهم فوزنه فُعْلال، وعلى هذين القولين يترتَّب الخلافُ في صَرْفِ «بُرهان» وعدمِه مُسَمَّى به.
قوله تعالى: {وَهُوَ مُحْسِنٌ} : جملةٌ في موضعِ نصبٍ على الحالِ والعاملُ فيها «أَسْلم» ، وعَبَّر بالوجهِ لأنه أشرفُ الأعْضاءِ وفيه أكثرُ الحواسِّ، ولذلك يقال: وَجْهُ الأمرِ أي مُعظَمُه قال الأعشى:
679 -
أُؤوِّلُ الحُكْمَ على وَجْهِهِ
…
ليسَ قضائي بالهوى الجائِرِ
ومعنى أَسْلَمَ: خَضَع، ومنه:
680 -
وأَسْلَمْتُ وَجْهي لِمَنْ أَسْلَمَتْ
…
له المُزْنُ تَحْمِيلُ عَذْباً زُلالا
وهذه الحالُ مؤكِّدة لأنَّ مَنْ أَسْلَمَ وجهه لله فهو مُحْسِنٌ، وقال الزمخشري:«وهو مُحْسِنٌ له في عمله» فتكونُ على رأيه مبيِّنة، لأنَّ مَنْ أَسْلَم وجهَه قسمان: مُحْسِنٌ في عمله وغيرُ محسنٍ. قال الشيخ: «وهذا منه جُنوحٌ إلى الاعتزال» .
قوله {فَلَهُ أَجْرُهُ} الفاءُ جوابُ الشرطِ إنْ قيل بأنَّ «مَنْ» شرطية، أو زائدةٌ في الخبرِ إنْ قيل بأنَّها موصولةٌ، وقد تقدَّم تحقيقُ القولين عند قولِه {بلى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً} [البقرة: 81] وهذه نظيرُ تلك فَلْيُلْتفتُ إليها. وهنا وجهٌ آخرُ زائدٌ على ما في تلك ذكره الزمخشري وهو أن تكونَ «مَنْ» فاعلةً بفعلٍ محذوفٍ أي: بلى يَدْخُلها مَنْ أَسْلم، و «فله أجرُه» كلامٌ معطوفٌ على يَدْخُلَها. هذا نصُّه. و «له أجره» مبتدأٌ وخبرُه، إمَّا في محلّ ِجزمٍ أو رفعٍ على حَسَبِ ما تقدَّم من الخلافِ في «مَنْ» ، وحُمِل على لفظِ «مَنْ» فأُفْرِدَ الضميرُ في قوله:{فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ} وعلى معناها فجُمع في قولِه: {عليهم وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} ، وهذا أحسنُ
التركيبين - أعني البَداءَةَ بالحَمْلِ على اللفظ ثم الحَمْلِ على المعنى. والعاملُ في «عند» ما تعلَّق به «له» من الاستقرارِ، ولمَّا أحال أجرَه عليه أضافَ الظرفَ إلى لفظةِ الربِّ لِما فيها من الإِشعار بالإِصلاحِ والتدبيرِ، ولم يُضِفْهُ إلى الضمير ولا إلى الجلالةِ فيقول: فله أجرهُ عنده أو عندَ الله، لما ذكرْتُ لك، وقد تقدَّم الكلامُ في قولِه تعالى:«ولا خَوْفٌ» وما فيه من القرآءت.
قوله تعالى: {اليهود} : اليهودُ مِلَّةٌ معروفةٌ، والياءُ فيه أصليةُ لثبوتِها في التصريفِ، وليست من مادَّةِ هَوَد من قوله:{هُوداً أَوْ نصارى} [البقرة: 111] وقد تقدَّم أن الفراء يَدَّعي أنَّ «هوداً» أصلُه: يَهود فَحُذِفت ياؤُه، وتقدَّم أيضاً عند قولِه:«والذين هادوا» أنَّ اليهودَ نسبةُ ليهوذا ابن يعقوب. وقال الشلوبين: «يَهُود فيها وجهان، أحدُهما: أن تكونَ جمعَ يهودي فتكونَ نكرةً مصروفةً. والثاني: أَنْ تكونَ عَلَماً لهذه القبيلةِ فتكونَ ممنوعةُ من الصرف. انتهى، وعلى الأولِ دَخَلَتْ الألفُ واللامُ، وعلى الثاني قولُه:
681 -
أولئك أَوْلَى من يهودَ بمِدْحَةٍ
…
إذا أنتَ يوماً قُلْتَها لم تُؤَنَّبِ
وقال:
682 -
فَرَّتْ يهودُ وأَسْلَمَتْ جيرانُها
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ولو قيل بأنَّ» يهود «منقولٌ من الفعلِ المضارع نحو: يَزيد ويشكر لكان قولاً حسناً. ويؤيِّدُه قولُهم: سُمُّوا يهوداً لاشتقاقِهم من هاد يَهُود إذا تَحَرَّك.
قوله: {لَيْسَتِ النصارى} » ليس «فعلٌ ناقصٌ أبداً من أخواتِ كان ولا يتصرَّفُ ووزنُه على فَعِل بكسر العين، وكان من حقِّ فائِه أن تُكْسَرَ إذا أُسْنِدَ إلى تاء المتكلم ونحوِها دلالةًعلى الياءِ مثل: شِئْتُ، إلا أنه لَمَّا لم يتصرَّفْ بقيت الفاءُ على حالِها، وقال بعضُهم: لُسْتُ بضم الفاء، ووزنُه على هذه اللغة: فَعُل بضم العين، ومجيء فَعُل بضمِّ العينِ فيما عينُه ياءٌ نادر، لم يَجيء منه إلا» هَيُؤَ الرجلُ «إذا حَسُنَتْ هيئتُه. وكونُ» ليس «فعلاً هو الصحيحُ خلافاً للفارسي في أحدِ قولَيْه ومَنْ تابَعَه في جَعْلِها حرفاً ك» ما «ويَدُل على فعليَّتها اتصالُ ضمائرِ الرفعِ البارزةِ بها، ولها أحكامٌ كثيرةٌ. و» النصارى «اسمُها، و» على شيء «خبرُها، وهذا يَحْتمِل أن يكونَ ممَّا حُذِفَتْ فيه الصفةُ، أي على شيء مُعْتَدٍّ به كقولِه:» إنه ليس من أهلِك «أي: أهلِك الناجين، [وقوله:]
683 -
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
…
. . . . . . . . لقد وَقَعْتِ على لَحْمِ
أي: لحمٍ عظيمٍ وأَنْ يكونَ نفياً على سبيلِ المبالَغَةِ، فإذا نُفِي إطلاقُ الشيء على ما هُمْ عليه مع أنَّ الشيء يُطْلق على المعدومِ عند بعضهم كان ذلك مبالغةً في عدمِ الاعتدادِ به، وصارَ كقولهم:» أقَلُّ من لا شيء «.
قوله: {وَهُمْ يَتْلُونَ} جملةٌ حالية. وأصل يَتْلُون: يَتْلُوُوْنَ فأُعِلَّ بحذفِ اللام وهو ظاهر.
قوله: {كَذَلِكَ قَالَ الذين لَا يَعْلَمُونَ} في هذا الكافِ
قولان، أحدُهما: أنها في محلِّ نصبٍ وفيها حينئذ تقديران، أحدُهما: أنَّها نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ قُدِّم على عامِله تقديرُه: قولاً مثلَ ذلك القولِ قالَ الذين لا يعلمون. الثاني: أنها في محلِّ نصبٍ على الحالِ من المصدرِ المعرفةِ المضمرِ الدالِّ عليه» قال «تقديرُه: مثلَ ذلك القولِ قاله أي: قال القولَ الذين لا يعلمون حالَ كونِه مثلَ ذلك القولِ، وهذا رأيُ سيبويه والأول رأيُ النحويين كما تقدَّم غيرَ مرة.
وعلى هذين القولَيْن ففي «مثلَ قولهم» وجهان، أحدُهما: أنه منصوبٌ على البدلِ من موضعِ الكاف. الثاني من الوجهين: أنه مفعولٌ به العاملُ فيه «يَعْلمون» ، أي: الذين لا يعلمون مثلَ مقالةِ اليهود والنصارى مثلَ مقالهم، أي: إنهم قالوا ذلك على سبيلِ الاتفاقِ، وإن كانوا جاهلين بمقالةِ اليهود والنصارى.
الثاني من القولين: أنَّها في محلِّ رفعٍ بالابتداء، والجملةُ بعدها خبرٌ، والعائدُ محذوفٌ تقديرُه: مثلَ ذلك قاله الذين لا يعلمون، وانتصابُ «مثلَ قولهم» حينئذٍ إمَّا: على أنه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ أو مفعولٌ بيعلمون تقديرُه مثلَ قولِ اليهودِ والنصارى قالَ الذينَ لا يعلمون اعتقادَ اليهود والنصارى. ولا يجوزُ أَنْ ينتصِبَ نصبَ المفعولِ بقال لأنه أَخَذَ مفعولَه وهو العائدُ على المبتدأ، ذكر ذلك أبو البقاء، وفيه نظرٌ من وجهين: أحدُهما: أنَّ الجمهورَ يأبي جَعْلَ الكافِ اسماً. والثاني: حَذْفُ العائدِ المنصوبِ، والنحويون ينصُّون على مَنْعِه ويجعلون قولَه:
684 -
وخالِدٌ يَحْمَدُ ساداتُنا
…
بالحقِّ لا يُحْمَدُ بالباطِلِ
ضرورةً، وللكوفيين في هذه المسألةِ تفصيلٌ.
قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ} : «مَنْ» استفهامٌ في محلِّ رفعٍ بالابتداء، و «أظلمُ» أفعلُ تفضيلٍ خبرُه، ومعنى الاستفهامِ هنا النفيُ، أي: لا أحدَ أظلمُ منه، ولمَّا كان المعنى على ذلك أَوْرَدَ بعضُ الناس سؤالاً: وهو أنَّ هذه الصيغةَ قد تكرَّرتْ في القرآن: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى} [الأنعام: 21]{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ} [السجدة: 22]{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ علَى الله} [الزمر: 32] وكلُّّ واحدةٍ منها تقتضي أنَّ المذكورَ فيها لا يكونُ أحدٌ أظلمَ منه، فكيف يُوصفُ غيرُه بذلك؟ وفي ذلك ثلاثةُ أجوبةٍ، أحدُها: - ذكره هذا السائلُ - وهو أَنْ يُخَصَّ كلُّ واحدٍ بمعنى صلته كأنه قال: لا أحدَ من المانعين أظلمُ مِمَّنْ مَنَعَ مساجدَ الله، ولا أحدَ من المفترين أظلمُ مِمَّن افترى على الله، ولا أحدَ من الكذَّابين أظلمُ مِمَّن كَذَب على الله، وكذلك ما جاءَ منه. الثاني: أن التخصيصَ يكونُ بالنسبةِ إلى السَّبْقِ، لمَّا لم يُسْبَقْ أحدٌ إلى مثلِه حَكَم عليهم بأنَّهم أظلمُ مِمَّن جاء بعدَهم سالكاً طريقتَهم في ذلك، وهذا يُؤُول معناه إلى السَّبْقِ في المانعيَّةِ والافترائيِّةِ ونحوِهما. الثالث: أنَّ هذا نَفْيٌ للأظلميَّة، ونفيُ الأظلميَّةِ لا يَسْتَدْعي نفيَ الظالميةِ، لأنَّ نَفْيَ المقيدِ لا يَدُلُّ على نفيِ المطلقِ، وإذا لم يَدُلَّ على نَفْيِ الظالميةِ لم يكن مناقِضاً لأنَّ فيها إثباتَ التسوية في الأظلميةِ، وإذا ثَبَتَتْ التسويةُ في الأظلميةِ لم يكنْ أحدٌ مِمَّن وُصِف بذلك يزيدُ على الآخر لأنهم / متساوون في ذلك وصار المعنى: ولا أحدَ أظلمُ مِمَّن مَنَع ومِمَّن افترى وممَّن ذُكِّر، ولا إشكالَ في تساوي هؤلاء في الأظلميَّة، ولا يَدُل ذلك على أنَّ أحد هؤلاء يزيدُ على الآخرِ في الظلم، كما أنَّك إذا قلتَ: «
لا أحدَ أفقهُ من زيدٍ وبكرٍ وخالدٍ» لا يَدُلُّ على أن أحدَهم أفقهُ من الآخر، بل نَفَيْتَ أن يكونَ أحدٌ أفقهَ منهم، لا يُقال: إنَّ مَنْ مَنَع مساجدَ اللهِ وسَعَى في خرابِها ولم يَفْتَرِ على الله كذباً أقلُّ ظلماً مِمَّنْ جَمَعَ بين هذه الأشياء فلا يكونون متساوين في الأظلميةِ؛ لأنَّ هذه الآياتِ كلَّها في الكفار وهم متساوُون في الأظلميَّة وإن كان طُرُقُ الأظلميةِ مختلفةً.
و «مَنْ» يجوزُ أَنْ تكونَ موصولةً فلا محلَّ للجملةِ بعدَها، وأَنْ تكونَ موصوفةً فتكونَ الجملةُ في محلِّ جرٍّ صفةً لها، و «مساجد» مفعولٌ أولُ لمَنَع، وهي جمعُ مَسْجِد وهو اسمُ مكانِ السجودِ، وكان من حَقِّه أن يأتي على مَفْعَل بالفتح لانضمامِ عينِ مضارِعه ولكن شَذَّ كَسْرُه كما شَذَّت ألفاظُ يأتي ذكرُها، وقد سُمع «مَسْجَد» بالفتح على الأصل، وقد تُبْدَلُ جيمُه ياءً ومنه: المَسْيِد في لغة.
قوله: {أَن يُذْكَرَ} ناصبٌ ومنصوبٌ، وفيه أربعةٌ أوجهٍ أحدُها: أنه مفعولٌ ثانٍ لمَنَع، تقولُ: مَنَعْتُه كذا. والثاني: أنه مفعولٌ من أجلِه أي: كراهةَ أن يُذْكَرَ. وقال الشيخ: «فَتَعَيَّن حَذْفُ مضافٍ أي دخولَ مساجدِ الله، وما أَشْبهه» . والثالثُ: أنه بدلُ اشتمالٍ من «مساجد» ، أي: مَنَعَ ذِكْرَ اسمِه فيها. والرابع: أنه على إسقاطِ حرفِ الجرِّ، والأصلُ: مِنْ أَنْ يُذْكَرَ، وحينئذٍ يجيءُ فيها المذهبان المشهوران من كونها في محلِّ نصبٍ أو جرٍّ، و «في خَرابِها» متعلِّقٌ بسَعَى. واختُلِف في «خراب» : فقال أبو البقاء: «هو اسمُ مصدرٍ بمعنى التخريب كالسَّلامِ بمعنى التسليم، وأُضيف اسمُ المصدرِ لمفعوله لأنه يَعْمَلُ عَمَلَ الفعلِ. وهذا على أحدِ القَوْلينِ في اسمِ المصدرِ
هل يَعْمَلُ أو لا؟ وأنشدوا على إعماله:
685 -
أَكْفْراً بعد رَدِّ الموتِ عني
…
وبعد عَطائِك المئةَ الرِّتاعا
وقال غيرُه: هو مصدرُ خَرِبَ المكان يخرَب خَراباً، فالمعنى: سعى في أن تَخْرَبَ هي بنفسِها بعدمِ تعاهُدها بالعِمارة، ويقال: منزلٌ خَرابٌ وخَرِب كقوله:
686 -
ما رَبْعُ مَيَّةَ معمورٌ يَطِيفُ [به]
…
غَيْلانُ أَبْهى رُبَىً من رُبْعِها الخَرِب
فهو على الأولِ مضافٌ للمفعولِ وعلى الثاني مضافٌ للفاعل.
قوله: {مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَآ} :» لهم «خبرُ» كان «مقدَّمٌ على اسمِها، واسمُها» أَنْ يدخُلوها «لأنه في تأويل المصدرِ، أي: ما كان لهم الدخولُ، والجملةُ المنفيةُ في محلِّ رفعٍ خبراً عن» أولئك «.
قوله: {إِلَاّ خَآئِفِينَ} حالٌ من فاعل» يَدْخُلوها «، وهذا استثناءٌ مفرغٌ من الأحوالِ، لأن التقديرَ: ما كان لهم الدخولُ في جميع الأحوال إلا في حالةِ الخوف. وقرأ أُبَيّ» خُيَّفاً «وهو جمعُ خائف، كضارب وضُرَّب، والأصل: خُوَّف كصُوَّم، إلا أنه أَبْدل الواوَيْنِ ياءَيْنِ وهو جائزٌ، قالوا: صُوَّم وصُيَّم، وحَمَل أولاً على لفظ» مَنْ «، فَأَفْرَد في قوله:» مَنَع، وسعى «وعلى معناها ثانياً فجَمَع في قوله:» أولئك «وما بعده.
قوله: {لَّهُمْ فِي الدنيا خِزْيٌ} هذه الجملةُ وما بعدها لا محلَّ لها
لاستئنافِها عَمَّا قبلَها، ولا يجوز أن تكونَ حالاً لأنَّ خِزْيَهم ثابتٌ على كلِّ حالٍ لا يتقيَّد بحالِ دخولِ المساجدِ خاصةً.
قوله تعالى: {وَللَّهِ المشرق والمغرب} : جملةٌ مرتبطةٌ بقولِه: «مَنَعَ مساجدِ الله، وسعى في خَرابِها» يعني أنه إنْ سَعَى ساعٍ في المَنْعِ مِنْ ذِكْرِهِ تعالى وفي خَرابِ بيوتِه فليسَ ذلك مانعاً من أداءِ العبادَةِ في غيرِها لأنَّ المشرقَ والمغربَ وما بينهما له تعالى، والتنصيصُ على ذِكْرِ المَشْرقِ والمَغْرِبِ دونَ غيرِهما لوجهين، أحدُهما: لشَرَفِهما حيث جُعِلا لله تعالى. والثاني: أن يكونَ مِن حَذْفِ المعطوفِ للعِلْم أي: لله المشرقُ والمغربُ وما بينهما كقوله: «تَقِيكم الحَرَّ» أي والبردَ، وكقولِ الشاعر:
687 -
تَنْفي يداها الحصى في كلِّ هاجِرَةٍ
…
نَفْيَ الدراهيمِ تَنْقادُ الصيّاريفِ
أي: يَداها ورجلاها، ومثله:
688 -
كأنَّ الحَصَى من خَلْفِها وأمامِها
…
إذا نَجَلَتْه رِجْلُها خَذْفُ أَعْسَرَا
أي: رجلُها ويدُها. وفي المشرق والمغرب قَوْلان، أحدُهما: أنهما اسما مكانِ الشروقِ والغروبِ، والثاني: أنهما اسما مصدرٍ أي: الإِشراق والإِغرابُ، والمعنى: لله تَوَلِّي إشراقِ الشمسِ من مَشْرِقها وإغرابِها من مَغْربها، وهذا يُبْعِدُه قولُه:«فأينما تُوَلُّوا» ، وأَفْرد المشرقَ والمغربَ إذا المرادُ ناحيتاهما، أو لأنَّهما مصدران، وجاء المشارقُ والمغاربُ باعتبار وقوعِهما في
كلِّ يومٍ، والمشرقَيْن والمغربَيْن باعتبارِ مَشْرق الشتاءِ والصيف ومَغْربيهما. وكان مِنْ حقِّهما فتحُ العينِ لِما تقدَّم من أنَّه إذا لم تَنْكَسِرْ عينُ المضارعِ فحقُّ اسمِ المصدرِ والزمانِ والمكانِ فتحُ العينِ، ويجوزُ ذلك قياساً لا تلاوةً.
قوله: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ} «أين» هنا اسمُ شرطٍ بمعنى «إنْ» ، و «ما» مزيدةٌ عليها و «تُوَلُّوا» مجزومٌ بها. وزيادةُ «ما» ليست لازمةً لها بدليلِ قوله:
689 -
أَيْنَ تَضْرِبْ بنا العُداةَ تَجِدْنا
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . .
وهي ظرفُ مكان، والناصبُ لها ما بعدَها، وتكونُ اسمَ استفهامٍ أيضاً فهي لفظٌ مشتركٌ بين الشرطِ والاستفهامِ ك «مَنْ» و «ما» . وزعم بعضُهم أن أصلَها السؤالُ عن الأمكنةِ، وهي مبنيةٌ على الفتحِ لتضمُّنه معنى حرفِ الشرط أو الاستفهامِ. وأصلُ تُوَلُّوا: تُوَلِّيوا فَأُعِلَّ بالحَذْفِ. وقرأ الجمهور: تُوَلُّوا بضم التاء واللام بمعنى تَسْتقبلوا، فإنَّ «وَلَّى» وإن كان غالبُ استعمالِها أَدْبَر فإنها تقتضي الإِقبالَ إلى ناحية ما. تقول: وَلَّيْتُ عن كذا إلى كذا. وقرأ الحسن: «تَوَلَّوا» بفتحِهما، وفيها وجهان، أحدهما: أن يكونَ مضارعاً والأصل: تَتَوَلَّوا مِن التَّوْلِيَةِ فَحَذَف إحدى التاءَيْن تخفيفاً، نحو:{تَنَزَّلُ الملائكة} [القدر: 4] . والثاني: أن يكونَ ماضياً والضميرُ للغائِبين ردَّاً على قوله: «لهم في الدنيا، ولهم في الآخرة» فتتناسَقُ الضمائرُ، وقال أبو البقاء:«والثاني: أنه ماضٍ والضمير للغائبين، والتقديرُ: أَيْنما يَتَوَلَّوا» يعني أنه وإنْ كان ماضياً لفظاً فهو مستقبلٌ معنىً، ثم قال: «وقد يَجُوزُ أَنْ يكونَ ماضياً قد وَقَع،
ولا يكونُ» أَيْنَ «شرطاً في اللفظِ بل في المعنى، كما تقولُ:» ما صَنَعْتَ صنعتُ «إذا أَرَدْتَ الماضي، وهذا ضعيفٌ لأنَّ» أين «إمَّا شرطٌ أو استفهامٌ وليس لها معنىً ثالثٌ» .
انتهى وهو غيرُ واضحٍ.
قوله: {فَثَمَّ وَجْهُ الله} الفاءُ وما بعدَها جوابُ الشرطِ، فالجملةُ في محلِّ جزم، و «ثَمَّ» خبرٌ مقدم، و «وجهُ الله» رفعٌ بالابتداء و «ثَمَّ» اسمُ إشارةٍ للمكانِ البعيدِ خاصةً مثل: هُنا وهَنَّا بتشديدِ النونِ، وهو مبنيٌّ على الفتحِ لتضمُّنِه معنى حرفِ الإشارة أو حرفِ الخطاب. قال أبو البقاء:«لأنك تقولُ في الحاضر: هُنا، وفي الغائب هُناك، وثَمَّ ناب عن هناك» / وهذا ليس بشيءٍ. وقيل: بُني لِشَبَهِهِ بالحَرْفِ في الافتقارِ، فإنه يَفْتَقِرُ إلى مشارٍ إليه، ولا يَتَصَرَّف بأكثَر مِنْ جَرِّه ب «مِنْ» ، ولذلك غَلِط بعضُهم في جَعْله مفعولاً به في قوله:{وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ [رَأَيْتَ] } [الإنسان: 20] ، بل مفعولُ «رأيت» محذوف. ومعنى «وَجْهُ الله» جِهَتُه التي ارتضاها قِبْلةً وأمَرَ بالتوجُّه نحوَها، أو ذاتُه نحو:{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَاّ وَجْهَهُ} [القصص: 88] ، أو المرادُ به الجاهُ، أي فَثَمَّ جَلالُ الله وعَظَمَتُه مِنْ قولِهم: هو وجهُ القوم، أو يكونُ صلةً زائداً، وليس بشيءٍ، وقيل: المرادُ به العملُ قاله الفراء وعليه قوله:
690 -
أسْتَغْفِرُ اللهَ ذَنْباً لسْتُ مُحْصِيَه
…
ربُّ العبادِ إليه الوجهُ والعَمَلُ
قوله تعالى: {اتخذ الله وَلَداً سُبْحَانَهُ} : الجمهورُ: «وقالوا» بالواوِ عطفاً لهذِه الجملةِ الخبريةِ على ما قبلَها وهو أحسنُ في الربط. وقيل: هي معطوفةً على قوله: «وسعى» فيكونُ قد عَطَفَ على الصلة مع الفعلِ بهذه الجملِ الكثيرة، وهذا ينبغي أن يُنَزَّه القرآنُ عن مِثْله. وقرأ ابن عامر - وكذلك هي في مصاحف الشام - «قالوا» من غير واوٍ، وذلك يَحْتمل وجهين، أحدُهما: الاستئنافُ. الثاني: حَذْفُ حرفِ العطفِ وهو مرادٌ، استغناء عنه بربطِ الضميرِ بما قبلَ هذه الجملةِ. و «اتَّخَذَ» بجوزُ أن يكونَ بمعنى عَمِل وَصنَع، فيتعدَّى لمفعولٍ واحدٍ، وأن يكونَ بمعنى صَيَّر، فيتعدَّى لاثنين، ويكونُ الأولُ هنا محذوفاً تقديرُه:«وقالوا اتَّخذَ اللهُ بعضَ الموجودات ولداً» إلا أنَّه مع كثرةِ دَوْرِ هذا التركيبِ لم يُذْكَرْ معها إلا مفعولٌ واحدٌ: {وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً} [الأنبياء: 26]، {مَا اتخذ الله مِن وَلَدٍ} [المؤمنون: 91] {وَمَا يَنبَغِي للرحمن أَن يَتَّخِذَ وَلَداً} [مريم: 92] . والوَلَدُ: فَعَل بمعنى مَفْعول كالقَبْض والنَّقْص، وهو غيرُ مقيسٍ، والمصدرُ: الوِلادة والوَليديَّة، وهذا الثاني غريبٌ جداً.
قوله: {بَل لَّهُ مَا فِي السماوات والأرض} «بَلْ» إضرابٌ وانتقالٌ، و «له» خبرٌ مقدَّمٌ و «ما» مبتدأ مؤخرٌ، وأتى هنا ب «ما» لأنه إذا اختلَطَ العاقلُ بغيره كان المتكلمُ مُخَيَّراً في «ما و» مَنْ «، ولذلك لَمَّا اعتَبَر العقلاءَ غلَّبهم في قوله» قانتون «فجاء بصيغةِ السلامةِ المختصَّةِ بالعقلاء. قال الزمخشري» فإن قلت: كيف جاءَ ب «ما» التي لغير أولي العلمِ مع قوله «قانتون» ؟ قلت: هو كقولِه:
«سبحانَ ما سَخَّركُنَّ» وكأنه جاء ب «ما» دون «مَنْ» تحقيراً لهم وتصغيراً لشأنِهِمْ، وهذا جنوحٌ منه إلى أنَّ «ما» قد تقع على أولي العلمِ، ولكنَّ المشهورَ خلافُه. وأمَّا قولُه «سبحانَ ما سَخَّركُنَّ لنا» فسبحانُ غَيرُ مضافٍ، بل هو كقوله:
691 -
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
…
سبحان مِنْ علقمةَ. . . . . . . . . . . . . .
و «ما» مصدرية ظرفية.
قوله: {كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ} مبتدأٌ وخبرٌ، و «كلٌّ» مضافَةٌ إلى محذوفٍ تقديراً، أي: كلُّ مَنْ في السموات والأرض، وقال الزمخشري:«ويجوزُ أن يكونَ كلَّ مَنْ جَعَلوه لله وَلَداً» قال الشيخ: «وهذا بعيدُ جداً لأن المجعولَ ولداً لم يَجْرِ له ذِكْرٌ، ولأنَّ الخبرَ يشتركُ فيه المجعولُ [ولداً] وغيرُه» قوله: «لم يَجْرِ له ذِكْر» بل قد جَرَى ذِكْرُه فلا بُعْدَ فيه.
وجَمَعَ «قانِتون» حَمْلاً على المعنى لِما تقدَّم من أَنَّ «كُلاًّ» إذا قُطِعَتْ عن الإِضافة جاز فيها مراعاةُ اللفظِ ومراعاةُ المعنى وهو الأكثر نحو: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [الأنبياء: 33]{وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} [النمل: 87] . ومِنْ مراعاةِ اللفظِ: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ على شَاكِلَتِهِ} [الإسراء: 84]{فكُلاًّ أَخَذْنا بذَنْبِه} [العنكبوت: 40]، وحَسُنَ الجمعُ هنا لتواخي رؤوسِ الآي. والقُنُوت: الطاعةُ والانقيادُ أو طولُ القيام أو الصمتُ أو الدعاءُ.
قوله تعالى: {بَدِيعُ السماوات} : المشهورُ رَفْعُه على أنه
خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ أي: هو بديعُ. وقُرىء بالجرِّ على أنه بدلٌ من الضميرِ في «له» وفيه الخلافُ المشهورُ. وقُرىء بالنصبِ على المَدْحِ، وبديعُ السماواتِ من بابِ الصفةِ المشبهة أضيفَتْ إلى منصوبِها الذي كانَ فاعلاً في الأصلِ، والأصل: بديعٌ سماواتُه، أي بَدُعَتْ لمجيئِها على شكلٍ فائقٍ حسنٍ غريبٍ، ثم شُبِّهَتْ هذه الصفةُ باسمِ الفاعلِ فَنَصَبَتْ ما كانَ فاعلاً ثم أُضِيفَتْ إليه تخفيفاً، وهكذا كلُّ ما جاء من نظائرِه، فالإِضافةُ لا بدَّ وأن تكونَ من نصب لئلَاّ يلزم إضافة الصفةِ إلى فاعلِها وهو لا يجوزُ، كما لا يجوزُ في اسمِ الفاعلِ الذي هو الأصلُ. وقال الزمخشري:«وبديعُ السماواتِ» من باب إضافةِ الصفةِ المشبهةِ إلى فاعلِها «. وردَّ عليه الشيخُ بما تقدَّم، ثم أجابَ عنه بأنه يُحتمل أَنْ يريدَ إلى فاعلِها في الأصلِ قبل أن يُشَبَّه. وأجاز الزمخشري فيه وجهاً ثانياً: وهو أن يكونَ» بديع «بمعنى مُبْدِع، كما أنَّ سميعاً في قولِ عمرو بمعنى مُسْمِعِ نحو:
692 -
أمِنْ ريحانةَ الداعي السميعُ
…
يُؤَرِّقُني وأصحابي هُجُوعِ
إلا أنه قال:» وفيه نظرٌ «. وهذا الوجهُ لم يذكر ابنُ عطية غيرَه، وكأن النظرَ الي ذكر الزمخشري - والله أعلم - هو أنَّ فَعيلاً بمعنى مُفْعِل غيرُ
مَقيسٍ، وبيتُ عمروٍ مُتَأَوَّلٌ، وعلى هذا القولِ يكونُ بديعُ السماواتِ من بابِ إضافةِ اسمِ الفاعلِ لمنصوبِه تقديراً. والمُبْدِعُ: المخترِعُ المُنْشِىءُ، والبديع: الشيء الغريبُ الفائقُ غيرَه حُسْناً.
قوله: {وَإِذَا قضى أَمْراً} العاملُ في» إذا «محذوفٌ يَدُلُّ عليه الجوابُ من قولِه:» فإنما يقول «، والتقديرُ: إذا قضى أمراً يكونُ، فيكونُ هو الناصبُ له. و» قضى «له معانٍ كثيرةٌ، قال الأزهري:» قضى «على وجوهٍ مَرْجِعُها إلى انقطاعِ الشيء وتمامِه قال أبو ذؤيب:
693 -
وعليهما مَسْرودتان قَضَاهُما
…
داودُ أو صَنَعُ السَّوابِغِ تُبَّعُ
وقال الشماخ:
694 -
قَضَيْتَ أموراً ثم غادَرْتَ بعدَها
…
بوائِقَ في أَكْمامِها لم تُفَتَّقِ
فيكونُ بمعنى خَلَق نحو: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [فصلت: 12]، وبمعنى أَعْلَمَ:{وَقَضَيْنَآ إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الإسراء: 4]، وبمعنى أَمَر:{وقضى رَبُّكَ أَلَاّ تعبدوا إِلَاّ إِيَّاهُ} [الإِسراء: 23]، وبمعنى وفَّى:{فَلَمَّا قضى مُوسَى الأجل} [القصص: 29]، وبمعنى ألزم: قضى القاضي بكذا، وبمعنى أراد:{وَإِذَا قضى أَمْراً} [البقرة: 117][وبمعنى] أَنْهى، ويجيءُ بمعنى قَدَّر وأَمْضَى، تقول: قَضَى يقضي قَضاءً قال:
695 -
سَأَغْسِلُ عني العارَ بالسيفِ جالِباً
…
عليَّ قضاءُ الله ما كانَ جالِبا
قوله: {فَيَكُونُ} الجمهورُ على رفعه، وفيه ثلاثةُ أوجه، أحدُها: أن يكونَ مستأنفاً أي خَبَراً لمبتدأ محذوفٍ أي: فهو يكونُ، ويُعزْى لسيبويه، وبه قال الزجاج في أحدِ قولَيْه.
والثاني: أَنْ يكونَ معطوفاً على «يقولُ» وهو قول الزجاج والطبري. وردَّ ابن عطية هذا القولَ وجعله خطأً من جهةِ المعنى؛ لأنَّه يَقْتضي أنَّ القولَ مع التكوينِ والوجودِ «انتهى. يعني أنَّ الأمرَ قديمٌ والتكوينَ حادثُ فكيف يُعْطَفُ عليه بما يقتضي تعقيبَه له؟ وهذا الردُّ إنما يلزم إذا قيل بأنَّ الأمرَ حقيقةٌ، أمَّا إذا قيل بأنَّه على سبيلِ التمثيل - وهو الأصحُّ - فلا، ومثلُه قولُ أبي النجم:
696 -
إذا قالَتِ الأَنْسَاعُ للبَطْنِ الحَقي
…
الثالث: أن يكونَ معطوفاً على» كُنْ «من حيثُ المعنى، وهو قولُ الفارسي، وضَعَّفَ أن يكونَ عطفاً على» يقولُ «، لأنَّ من المواضعِ ما ليس
فيه» يقولُ «كالموضع الثاني في آل عمران، وهو: {ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 59] ، ولم يَرَ عطفَه على» قال «من حيث إنه مضارعٌ فلا يُعْطَف على ماضٍ فَأَوْرد على نفسه:
697 -
ولقد أَمُرُّ على اللئيمِ يَسُبُّني
…
فَمَضَيْتُ ثُمَّتَ قُلْتُ لا يَعْنِيني
فقال:» أَمُرُّ بمعنى مَرَرْت. قال بعضُهم: «ويكون في هذه الآيةِ - يعني في آيةِ آل عمران - بمعنى كان فَلْيَجُزْ عَطْفُه على» قال «.
وقَرأَ ابن عامر/» فيكونَ «نصبأ هنا وفي الأول من آل عمران، وهي:{لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وَيُعَلِّمُهُ} [آل عمران: 47]، تحرُّزاً من قوله:{كُن فَيَكُونُ الحق مِن رَّبِّكَ} [آل عمران: 59] وفي مريم: {كُن فَيَكُونُ وَإِنَّ الله رَبِّي} [مريم: 35]، وفي غافر:{كُن فيَكُونُ أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يُجَادِلُونَ} [غافر: 68]، ووافقه الكسائي على ما في النحل ويس وهي:{أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [يس: 82] . أمَّا آيتا النحلِ ويس فظاهِرتان لأنَّ قبلَ الفعل منصوباً يَصِحُّ عطفُه عليه وسيأتي.
وأمَّا ما انفرَدَ به ابنُ عامر في هذه المواضع الأربعة فقد اضطرب كلامُ
الناس فيها وهي لعمري تحتاج إلى فضل نظر وتأمل، ولذلك تجرَّأ بعض الناس على هذا الإِمام الكبيرِ، فقال ابن مجاهد:» قرأ ابن عامر «فيكونَ» نصباً وهذا غيرُ جائز في العربية؛ لأنه لا يكونُ الجواب هنا للأمر بالفاء إلا في يس والنحل، فإنه نَسَقٌ لا جوابٌ «، وقال في آل عمران:» قرأ ابن عامر وحدَه: «كن فيكونَ» بالنصب وهو وهمٌ «قال:» وقال هشام: كان أيوبُ بن تميم يقرأُ: فيكونُ نصباً ثم رَجَع فقرأ: فيكونُ رفعاً «، وقال الزجاج:» كن فيكونُ: رفعٌ لا غيرُ «.
وأكثرُ ما أَجابوا بأنَّ هذا مِمَّا رُوعي فيه ظاهرُ اللفظ من غير نظر للمعنى، يريدون أنه قد وُجِد في اللفظ صورةُ أمر فنَصَبْنا في جوابه بالفاء، وأمّا إذا نظرنا إلى جانب المعنى فإن ذلك لا يَصِحُّ لوجهين، أحدهما: أنَّ هذا وإن كان بلفظ الأمر فمعناه الخبرُ نحو:
{فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرحمن} [مريم: 75] أي: فَيَمُدُّ، وإذا كان معناه الخبرَ لم ينتصِبْ في جوابِه بالفاء إلا ضرورةً كقوله:
698 -
سَأَتْرُك منزلي لبني تميمٍ
…
وأَلحَقُ بالحجازِ فأستريحا
وقول الآخر:
699 -
لنا هَضْبةٌ لا يَنْزِلُ الذلُّ وَسْطَها
…
ويَأْوي إليها المُسْتجيرُ فَيُعْصَما
والثاني: أنَّ مِنْ شرطِ النصبِ بالفاءِ في جوابِ الأمرِ أَنْ يَنْعَقِدَ منهما شرطٌ وجزاءٌ نحو: «ائتني فأكرمك» تقديرُه: إنْ أتيتني أكرمتُك، وههنا لا يَصِحُّ ذلك إذ يَصيرُ التقديرُ: إنْ تَكُنْ تَكُنْ، فيتَّحِدُ فعلا الشرطِ والجزاءِ معنىً وفاعلاً، وقد عَلِمْت أنه لا بُدَّ من تغايرِهما وإلَاّ يلزمْ أن يكونَ الشيءُ شرطاً لنفسه وهو مُحال. قالوا: والمعاملةُ اللفظية واردةُ في كلامهم نحو: {قُل لِّعِبَادِيَ الذين آمَنُواْ يُقِيمُواْ} [إبراهيم: 31]{قُل لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ} [الجاثية: 14] وقال عمر ابن أبي ربيعة:
700 -
فَقُلْتُ لجَنَّادٍ خُذِ السيفَ واشتَمِلْ
…
عليه برفقٍ وارْقُبِ الشمسِ تَغْرُبِ
وأَسْرِجْ لي الدَّهْماءَ واذهَبْ بمِمْطَري
…
ولا يَعْلَمَنْ خلقٌ من الناسِ مَذْهَبي
فجعل «تَغْرُبِ» جواباً «ارقب» وهو غير مترتِّب عليه، وكذلك لا يلزمُ من قوله [تعالى] أَنْ يفعلوا، وإنما ذلك مراعاةً لجانبِ اللفظِ.
أمَّا ما ذكروه في بيتِ عمر فصحيحُ، وأمَّا الآياتُ فلا نُسَلِّم أنه غيرُ مترتِّبٍ [عليه] ، لأنه أرادَ بالعبادِ الخُلَّصَ، ولذلك أضافهم إليه، أو تقولُ إن الجزمَ على حَذْفِ لأمِ الأمر وسيأتي تحقيقهُ في موضعه. وقال الشيخ جمال الدين بنُ مالك:«إنَّ» أَنْ «الناصبةَ قد تُضْمر بعد الحَصْر بإنما اختياراً وحكاه عن بعض الكوفيين، قال:» وحَكَوْا عن العرب: «إنما هي ضربةٌ من الأسدِ فَتَحْطِمَ ظهرَه» بنصبِ «تَحْطِمَ» فعلى هذا يكون النصبُ في قراءة ابن
عامر محمولاً على ذلك، إلا أنَّ هذا الذي نَصَبوه دليلاً لا دليلَ فيه لاحتمالِ أَنْ يكونَ من بابِ العطفِ على الاسمِ، تقديرُه: إنما هي ضربةٌ فَحَطْم، كقوله:
701 -
لَلُبْسُ عباءةٍ وتَقَرَّ عيني
…
أَحَبُّ إليَّ من لُبْسِ الشُّفُوفِ
وهذا نهايةُ القول في هذه الآية.
قوله تعالى: {لَوْلَا يُكَلِّمُنَا الله} : «لولا» و «لَوْما» يكونانِ حَرْفي ابتداءٍ، وقد تقدم ذلك عند قوله {فَلَوْلَا فَضْلُ الله} [البقرة: 64] ، ويكونان حَرْفَيْ تحضيضٍ بمنزلة:«هَلَاّ» فيختصَّان بالأفعالِ ظاهرةً أو مضمرةً كقوله:
702 -
تَعُدُّون عَقْرَ النِّيْبِ أفضلَ مَجْدِكُم
…
بنى ضَوْطَرِى لولا الكَمِيَّ المقنَّعا
أي: لولا تَعُدُّون الكميَّ، فإنْ وَرَدَ ما يُوهم وقوعَ الاسمِ بعدَ حرفِ التحضيض يُؤَوَّل كقوله:
703 -
ونُبِّئْتُ ليلى أَرْسَلَتْ بشفاعةٍ
…
إليَّ فهلَاّ نفسُ لَيْلى شَفِيعُها
ف «نفسُ ليلى» مرفوعٌ بفعلٍ محذوفٍ يفسِّره «شفيعُها» أي: فَهَلَاّ
شَفَعَتْ نفسُ ليلى. وقال أبو البقاء: «إذا وَقَعَ بعدَها المستقبلُ كانَتْ للتحضيضِ وإنْ وَقَعَ [بعدها] الماضي كانَتْ للتوبيخ» وهذا شيءٌ يقولُه علماءُ البيانِ، وهذه الجملةُ التحضيضيةُ في محلِّ نصبٍ بالقول.
قوله: {كَذَلِكَ قَالَ الذين} قد تقدَّم الكلامُ على نظيرِه فَلْيُطْلَب هناك. وقرأ أبو حَيْوة وابن أبي إسحاق: «تَشَّابَهَتْ» بتشديد الشين، قال الداني:«وذلك غيرُ جائز لأنه فعلٌ ماض» يعني أن التاءَيْن المزيدتين إنما تجيئان في المضارع فَنُدْغِم، أمَّا الماضي فلا.
قولُه تعالى: {بالحق} : يجوزُ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أن يكونَ مفعولاً به أي: بسببِ إقامةِ الحقِّ. الثاني: أَنْ يكونَ حالاً من المفعولِ في، «أَرْسلناك» أي: أَرْسلناك ملتبساً بالحقِّ. الثالث: أن يكونَ حالاً من الفاعل أي: ملتبسين في الحقِّ، قوله:«بَشيراً ونذيراً» يجوزُ فيه وجهان، أحدُهما: ان يكونَ حالاً من المفعول، وهو الظاهرُ. الثاني: أن يكونَ حالاً مِن «الحقِّ» لأنه يُوصف أيضاً بالبِشارة والنِّذارة، وبشير ونذيرِ على صيغة فَعيل، أمَّا بشير فتقولُ هو من بَشَر مخففاً لأنه مسموعٌ فيه، وفَعِيلُ مُطَّردٌ من الثلاثي، وأمَّا «نذير» فمن الرباعي ولا يَنْقاس عَدْلُ مُفْعِل إلى فعيل، إلا أنَّ له هنا مُحَسِّناً.
قوله: {وَلَا تُسْأَلُ} قرأ الجمهور: «تُسْأَلُ» مبنياً للمفعول مع رفعِ الفعلِ على النفي. وقُرىء شاذاً: «تَسْأَلُ» مبنياً للفاعل مرفوعاً أيضاً، وفي هذه
الجملةِ وجهان: أحدُهما: أنه حالٌ فيكونُ معطوفاً على الحال قبلها، كأنه قيل: بشيراً أو نذيراً وغيرَ مسؤول. والثاني: أن تكونَ مستأنفةً. وقرأ نافع «تُسْأَلْ» على النهي وهذا مستأنفٌ فقط، ولا يجوزُ أن تكونَ حالاً لأنَّ الطَلَبَ لا يَقعُ حالاً. والجحيمُ: شدَّةُ تَوَقُّدِ النار، ومنه قيل لعين الأسد:«جَحْمة» لشدَّة توقُّدِها، يُقال: جَحِمَتِ النارُ تَجْحَمُ، ويقال لشدة الحر:«جاحم» ، قال:
704 -
والحربُ لا يَبْقى لِجَا
…
حمِها التخيُّلُ والمِراحُ
والرِّضا: ضدُّ الغضَبِ، وهو من ذَواتِ الواوِ لقولِهم: الرُّضْوانِ، والمصدر: رِضا ورِضاء بالقصرِ والمَدّ ورِضْواناً ورُضْواناً بكسرِ الفاء وضمِّها، وقد يَتَضَمَّن معنى «عَطَفَ» فيتعدَّى ب «على» ، قال:
705 -
إذا رَضِيَتْ عليَّ بنو قُشَيْرٍ
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
والمِلَّةُ في الأصلِ: الطريقةُ، يقال: طريقٌ مُمِلٌّ: أي: أثَّر فيه المَشْيُ ويُعَبَّر بها عن الشريعة تَشْبيهاً بالطريقةِ، وقيل: بل اشْتُقَّت من «أَمْلَلْتُ» لأنَّ الشريعةَ فيها مَنْ يُملي ويُمْلَى عليه.
قوله تعالى: {هُوَ الهدى} : يجوزُ في «هو» أَنْ يكونَ فَصْلاً أو مبتدأً وما بعدَه خبرُه، ولا يجوزُ أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ «هدى الله» لمجيئِه بصيغةِ الرفعِ، وأجازَ أبو البقاء فيه أن يكونَ توكيداً لاسم إنَّ، وهذا لا يجوزُ فإن المضمَر لا يؤكِّدُ المُظْهَرَ.
قوله: {وَلَئِنِ اتبعت} هذه تسمَّى اللامَ الموطِّئَةَ للقسم، وعلامتُها أَنْ تقعَ
قبلَ أدواتِ الشرطِ، وأكثرُ مجيئِها مع «إنْ» وقد تأتي مع غيرِها نحو:{لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ} [آل عمران: 81]، {لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ} [الأعراف: 18] وسيأتي بيانُه، ولكنها مُؤذِنةٌ بالقسم اعتُبر سَبْقُها فَأُجيبَ القَسَمُ دونَ الشرطِ بقوله:{مَا لَكَ مِنَ الله مِن وَلِيٍّ} وحُذِفَ جوابُ الشرط. ولو أُجيب الشرطُ لَوَجَبَتِ الفاءُ، وقد تُحْذَفُ هذه اللامُ ويُعْمَلُ بمقتضاها/ فيجابُ القَسَمُ نحو قوله تعالى:{وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ} [المائدة: 73] . قوله: «من العِلْم» في محلِّ نصب على الحال من فاعل «جاءك» و «مِنْ» للتبعيض، أي جاءَكَ حالَ كونِه بعضَ العلم.
قولُه تعالى: {الذين آتَيْنَاهُمُ} : رفعٌ بالابتداء، وفي خبرهِ قولان، أحدُهما:«يَتْلُونه» ، وتكونُ الجملةُ من قولِه «أولئكَ يؤمنون» : إمَّا مستأنفةً وهو الصحيحُ، وإمَّا حالاً على قولٍ ضعيفٍ تقدَّم مثلُه أولَ السورة. والثاني: أنَّ الخبرَ هو الجملةُ من قوله: «أولئك يؤمنون» ويكونُ «يتلونه» في محلِّ نصبٍ على الحالِ: إمّا من المفعولِ في «آتَيْناهم» وإمَّا من الكتاب، وعلى كِلا القَوْلَيْن فهي حالٌ مقدَّرة، لأنَّ وقتَ الإِيتاء لم يكونوا تالين، ولا كانَ الكتابُ مَتْلُوّاً. وجَوَّز الحوفي أن يكونَ «يَتْلونه» خبراً، و «أولئك يؤمنون» خبراً بعد خبر، قال:«مثلُ قولهم:» هذا حلوٌ حامِضٌ «كأنه يريدُ جَعْلَ الخبرينِ في معنى خبرٍ واحدٍ، هذا إنْ أُريد ب» الذين «قومٌ مخصوصونَ، وإنْ أريدَ بهم العمومُ كانَ» أولئكَ يُؤمِنونُ «الخبرَ. قال جماعة - منهم ابنُ عطية وغيرُه -» ويَتْلُونه «حالٌ لا يُسْتَغْنى عنها وفيها الفائدةُ» . وقال أيضاً أبو البقاء: «ولا يجوزُ أن يكونَ» يَتْلُونه «خبراً لئلا يلزَمَ منه أنَّ كلَّ مؤمِنٍ يتلو الكتاب حقَّ
تلاوتِه بأيِّ تفسيرٍ فُسِّرَت التلاوةُ» . قال الشيخ: «ونقول ما لَزِمَ من الامتناع مِنْ جَعْلِها خبراً يلزمُ في جَعْلِها حالاً لأنَّه ليس كل مؤمنٍ على حالِ التلاوة بِأيّ تفسير فُسِّرت التلاوة» .
قوله: {حَقَّ تِلَاوَتِهِ} فيه ثلاثة أوجه، أحدُها: أنَّه نُصِبَ على المصدرِ وأصلُه: «تلاوةً حقاً» ثم قُدِّم الوصفُ وأُضيفَ إلى المصدرِ، وصار نظير:«ضَرَبْتَ شديدَ الضربِ» أي: ضَرْباً شديداً. فلمّا قُدِّم وصفُ المصدرِ نُصِبَ نَصْبَه. الثاني: أنه حالٌ من فاعل «يَتْلونه» أي: يَتْلُونه مُحِقِّينِ، الثالث: أنه نَعْت مصدرٍ محذوفٍ. وقال ابن عطية: «و» حَقَّ «مصدرٌ والعاملُ فيه فعلٌ مضمرٌ وهو بمعنى أَفَعَل، ولا تجوزُ إضافتُه إلى واحدٍ معرَّفٍ، إنما جازَتْ هنا لأنَّ تَعَرُّفَ التلاوةِ بإضافتِها إلى الضميرِ ليس بتعرُّفٍ مَحْضٍ، وإنما هو بمنزلةِ قولهِم: رجلٌ واحدُ أمِّه ونسيج وحدِه» يعني أنه في قوةِ أفعَلِ التفضيلِ بمعنى أحقَّ التلاوةِ، وكأنه يرى أنَّ إضافةَ أفعل غيرُ محضةٍ، ولا حاجَةَ إلى تقديرِ عاملٍ فيه لأنَّ ما قبله يَطْلُبُه.
والضميرُ في «به» فيه أربعةُ أقوالٍ، أحدُها - وهو الظاهرُ -: عَوْدُه على الكتاب. الثاني: عَوْدُه على الرسولِ، قالوا:«ولم يَجْرِ له ذِكْرٌ لكنَّه معلومٌ» ولا حاجةَ إلى هذا الاعتذارِ فغنه مذكور في قولِه: «أَرْسلناك» ، إلا أنَّ فيه التفاتاً من خطابٍ إلى غَيْبة.
الثالثُ: أنَّه يعودُ على اللهِ تعالى، وفيه التِفاتٌ أيضاً من ضميرِ المتكلِّمِ المعظِّمِ نفسَه في قولِه:«أَرْسلناك» إلى
الغَيْبة. الرابعُ: قال ابن عطية: «إنه يعودُ على» الهدى «وقَرَّره بكلامٍ حَسَنٍ.
قوله: {وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} العاملُ في» إذا «قال. . . العامِلُ فيه» اذكر «مقدراً، وهو مفعولٌ، وقد تقدَّم أنَّه لا يَتَصَرَّفُ. فالأَوْلَى ما ذَكَرْتُه أولاً، وقَدَّره. . . كان كَيْتَ وكَيْتَ، فَجَعَلَه ظرفاً، ولكنَّ عاملَه مقدرٌ. و» ابتلى «وما بعده في محلِّ خفضٍ بإضافةِ الظرفِ إليه. وأصلُ ابتلى: ابتلَوَ، فألفُه عن واوٍ، لأنَّه من بَلا يَبْلو أي: اختبرَ. و» إبراهيمَ «مفعولٌ مقدمٌ، وهو واجبُ التقديمِ عند جمهورِ النحاةِ؛ لأنه متى اتَّصل بالفاعلِ ضميرٌ يعودُ على المفعولِ وَجَبَ تقديمُه لئلا يعودَ الضميرُ على متأخِّرٍ لفظاً ورتبةً. هذا هو المشهورُ، وما جاءَ على خلافِهِ عَدُّوه ضرورةً. وخالَفَ أبو الفتح وقال:» إنَّ الفعلَ كما يَطْلُبُ الفاعلَ يطلُبُ المفعولَ فصارَ لِلَّفظِ به شعورٌ وطَلَبٌ «وقد أنشد ابن مالك أبياتاً كثيرةً تأخَّر فيها المفعولُ المتصلُ ضميرُهُ بالفاعلِ، منها:
706 -
لَمَّا عصى أصْحابُه مُصْعَباً
…
أَدَّى إليه الكيلَ صاعاً بصاعْ
ومنها:
707 -
جَزَى بَنُوه أَبا الغَيْلانِ عن كِبَرٍ
…
وحُسْنِ فِعْلٍ كما يُجْزَى سِنِمَّارُ
وقال ابنُ عطية:» وقَدَّم المفعولَ للاهتمامِ بمَنْ وَقَع الابتلاءُ [به] ، إذ معلومٌ أنَّ اللهَ هو المبتلي، واتصالُ ضميرِ المفعولِ بالفاعلِ موجِبٌ للتقديم «يعني أنَّ الموجِبَ للتقديمِ سببان: سببٌ معنويٌّ وسببٌ صناعي.
و» إبراهيم «عَلَمٌ أَعْجَمي، قيل: معناه قبل النقلِ: أبٌ رحيمٌ، وفيه لغاتٌ تسعٌ، أشهرُها: إبراهيم بألف وياء، وإبراهام بألِفَيْن، وبها قرأ هشام وابنُ ذكوان في أحدِ وَجْهَيْهِ في البقرةِ، وانفرَدَ هشام بها في ثلاثةِ مواضعَ من آخرِ النساءِ وموضِعَيْنِ في آخرِ بَراءة وموضعٍ في آخرِ الأنعام وآخرِ العنكبوت، وفي النجم والشورى والذاريات والحديد والأول من الممتحنة، وفي إبراهيم وفي النحل موضعين وفي مريم ثلاثة، فهذه ثلاثة وثلاثون موضعاً منها خمسةَ عشرَ في البقرة وثمانيةَ عشرَ في السور المذكور. ورُوي عن ابن عامر قراءة جميع ما في القرآن كذلك. ويروى أنه قيل لمالكِ بنِ أنس: إنَّ أهلَ الشامِ يقرؤون ستةً وثلاثين موضعاً: إبراهام بالألف، فقال: أهلُ دمشقِ بأكل البطيخ أبصرُ منهم بالقرآءة. فقيل: إنَّهم يَدَّعون أنها قراءةُ عثمانَ، فقال: هذا مصحفُ عثمانَ فَأَخْرجه فوجَدَه كما نُقِل له. الثالثة: إبراهِم بألفٍ بعد الراء وكسرِ الهاءِ دون ياءٍ، وبها قرأ أبو بكر، وقال زيدٌ بن عمرو بن نفيل:
708 -
عُذْتُ بما عاذَ به إبراهِمُ
…
إذ قالَ وَجْهي لك عانٍ رَاغِمُ
الرابعة: كذلك، إلا أنه بفتحِ الهاءِ. الخامسة: كذلك إلا أنه بضمِّها.
السادسة: إبْرَهَم بفتح الهاء من غير ألفٍ وياء، قال عبد المطلب:
709 -
نحنُ آلُ اللهِ في كَعْبته
…
لم نَزَلْ ذاكَ على عهد ابْرَهَمْ
السابعة: إبراهوم بالواو. قال أبو البقاء: «ويُجْمع على أَباره عند قومٍ وعند آخرين بَراهم. وقيل: أبارِهَة وبَراهِمَة، ويجوز أَبَارهة» وقال المبرِّد: «لا يقال: بَراهِمَة فإنَّ الهمزةَ لا يَجُوز حَذْفُها» . وحكى ثعلب في جمعِه: بَراه، كما يُقال في تصغيره:«بُرَيْه» بحذفِ الزوائدِ.
والجمهورُ على نصبِ «إبراهيم» ورفعِ «ربُّه» كما تقدَّم، وقرأ ابن عباس وأبو الشعثاء وأبو حنيفة بالعكس. قالوا: وتأويلُها دَعَا ربَّه، فسَمَّى دعاءَه ابتلاءً مجازاً لأنَّ في الدعاءِ طلبَ استكشافٍ لِما تجري به المقاديرُ. والضميرُ المرفوعُ في «فَأَتَّمَّهُنَّ» فيه قولان: أحدُهما أنه عائدٌ على «ربه» أي: فأكملهنَّ. والثاني: أنه عائدٌ على إبراهيم أي: عَمِل بهنَّ وَوَفَّى بهنَّ.
قوله: {قَالَ إِنِّي} هذه الجملةُ القولية يجوز أَنْ تكونَ معطوفةً على ما قبلَها، إذا قلنا بأنها عاملةٌ في «إذ» لأن التقديرَ: وقالَ إني جاعِلُكَ إذا ابتلى، ويجوزُ أن تكونَ استئنافاً إذا قلنا: إنَّ العاملَ في «إذ» مضمرٌ، كأنه قيل: فماذا قال له ربُّه حين أتَمَّ الكلماتِ؟ فقيل: قال: إني جاعِلُك. ويجوزُ فيها أيضاً على هذا القولِ أن تكونَ بياناً لقوله: «ابتلى» وتفسيراً له، فيُرادُ بالكلماتِ
ما ذَكَره من الإِمامةِ وتَطْهِيرِ البيتِ ورَفْعِ القواعدِ وما بعدَها، نَقَل ذلك الزمخشري.
قوله: {جَاعِلُكَ} هو اسمُ فاعلٍ من «جَعَلَ» بمعنى صَيَّر فيتعدَّى لاثنين أحدُهما: الكافُ وفيها الخلافُ المشهورُ: هل هي في محلِّ نصبٍ أو جرٍّ؟ وذلك أن الضميرَ المتصل باسمِ الفاعلِ فيه ثلاثة أقوال، أحدُها: أنه في محلِّ جرٍّ بالإِضافة. والثاني: أنه في محلِّ نصبٍ، وإنَّما حُذِفَ التنوينُ لشدةِ اتصالِ الضميرِ، قالوا: ويَدُلُّ على ذلك وجودُه في الضرورةِ كقوله:
710 -
فما أَدْري وظني كلَّ ظَنِّ
…
أَمُسْلِمُني إلى قومي شُراحي
وقال آخر:
711 -
هُمُ الفاعلونَ الخيرَ والآمِرُونه
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وهذا على تسليمِ كونِ نون «مُسْلِمُني» تنويناً، وإلَاّ فالصحيحُ أنها نونُ وقايةٍ. الثالث - وهو مذهبُ سيبويه -/ أنَّ حكمَ الضميرِ حكمُ مُظْهره فما جاز في المُظْهَرِ يجوزُ في مضمرِه. والمفعولُ الثاني إماماً.
قوله: {لِلنَّاسِ} يجوزُ فيه وجهان، أحدُهما: أنَّه متعلِّقٌ بجاعل أي لأجلِ الناس. والثاني: انه حالٌ من «إماماً» فإنه صفةُ نكرةٍ قُدِّم عليها. فيكونُ حالاً منها، إذ الأصلُ: إماماً للناسِ، فعلى هذا يتعلقُ بمحذوفٍ. والإِمامُ:
اسمُ ما يُؤْتَمُّ به أي يُقْصَدُ ويُتَّبَعُ كالإِزار اسمُ ما يُؤْتَزَرُ به، ومنه قيل لخيط البَنَّاء:«إمام» ، ويكون في غيرِ هذا جَمْعاً لآمّ اسمِ فاعلٍ من أَمَّ يَؤُمُّ نحو: قائم وقِيام: ونائِم ونِيام وجائِع وجِياع.
قوله: {وَمِن ذُرِّيَّتِي} فيه ثلاثةُ أقوالٍ، أحدُها، أَنَّ «مِنْ ذريتي» صفةً لموصوفٍ محذوفٍ هو مفعولٌ أولُ، والمفعولُ الثاني والعاملُ فيهما محذوفٌ تقديرُه:«قال واجْعَلْ فريقاً من ذريتي إماماً» قاله أبو البقاء. الثاني: أنَّ «ومِنْ ذُرِّيَّتي» عطفٌ على الكافِ، كأنَّه قال:«وجاعلُ بعضِ ذريتي» كما يُقال لك: سَأُكْرمك، فتقول: وزيداً. قال الشيخ: «لا يَصِحُّ العطفُ على الكافِ لأنَّها مجرورةٌ، فالعطفُ عليها لا يكونُ إلا بإعادة الجارّ، ولم يُعَدْ، ولأنَّ» مِنْ «لا يُمْكِنُ تقديرُ إضافةِ الجارِّ إليها لكونِها حرفاً، وتقديرُها مرادفةً لبعض حتى تَصِحَّ الإِضافةُ إليها لا يَصِحُّ، ولا يَصِحُّ أن يقدَّرَ العطفُ من باب العطفِ على موضعِ الكاف لأنَّه نصبٌ فَتُجْعَلَ» مِنْ «في موضعِ نصبٍ لأنَّه ليسَ مِمَّا يُعْطَفُ فيه على الموضعِ في مذهبِ سيبويهِ لفواتِ المُحْرِزِ، وليسَ نظيرَ ما ذَكَر لأن الكاف في» سأكرمك «في موضعِ نصبٍ. الثالث: قال الشيخ:» والذي يَقْتضيه المعنى أن يكونَ «مِنْ ذرّيَّتي» متعلقاً بمحذوفٍ، التقديرُ: واجْعَلْ مِنْ ذرِّيّتي إماماً لأنَّ «إبراهيم» فَهِمَ من قولِه: «إني جاعلُك للناسِ إماماً الاختصاصَ، فسأل أَنْ يَجْعل مِنْ ذريتِه إماماً» فإنْ أرادَ الشيخُ التعلُّق الصناعيُّ فيتعدَّى «جاعل» لواحدٍ، فهذا ليسَ بظاهرٍ، وإن أرادَ التعلُّقَ المعنويَّ فيجوزُ أَنْ يريدَ ما يريده أبو البقاء. ويجوزُ أَنْ يكونَ «مِنْ ذرِّيَّتي» مفعولاً ثانياً قُدِّم على الأولِ فيتعلَّقَ بمحذوفٍ، وجاز ذلك لأنه يَنْعَقِدُ من هذين الجزأين مبتدأُ وخيرُ.
لو قلتَ: «مِنْ ذُرِّيَّتي إمامٌ» لصَحَّ. وقال ابن عطية: «وقيل هذا منه على جهةِ الاستفهامِ عنهم أي: ومِنْ ذريتي يا ربِّ ماذا يكون؟ فيتعلَّقُ على هذا بمحذوفٍ، ولو قَدَّره قبل» مِنْ ذريتي «لكانَ أَوْلى لأنَّ ما في حَيِّز الاستفهامِ لا يتقدَّم عليه.
وفي اشتقاق» ذُرِّيَّة «وتصريفها كلامٌ طويلٌ يَحْتاج الناظرُ فيه إلى تأمُّل. اعلم أنَّ في» ذرية «ثلاثَ لغاتٍ: ضَمَّ الذالِ وكسرَها وفتحَها، وبالضمِّ قرأ الجمهورُ، وبالفتحِ قرأ أبو جعفر المدني، وبالكسر قرأ زيد بن ثابت. فأمّا اشتقاقُها ففيه أربعةُ مذاهبَ، أحدُها: أنها مشتقةٌ من ذَرَوْتُ، الثاني: مِنْ ذَرَيْتُ، الثالث: من ذَرَأَ اللهُ الخَلْقَ، الرابع: من الذرّ. وأَمَّا تصريفُها: فَذُرِّيَّة بالضمِّ إن كانَتْ من ذَرَوْتُ فيجوز فيها أَنْ يكونَ وزنها فُعُّولَة، والأصلُ: ذُرُّوْوَة فاجتمع واوان: الأولى زائدةٌ للمدِّ والثانيةُ لامُ الكلمةِ، فَقُلِبَتْ لامُ الكلمةِ ياءً تخفيفاً فصار اللفظُ ذُرُّوْيَة، فاجتمع ياءٌ وواوٌ، وَسَبَقَتْ إحداهما بالسكون، فَقُلِبَتِ الواوُ ياءً وأُدْغِمَتْ في الياء التي هي منقلبةٌ من لامِ الكلمةِ، وكُسِرَ ما قبل الياءَ وهي الراءُ للتجانُسِ. ويجوزُ أَنْ يكونَ وزنُها فُعِّيْلَة، والأصلُ: ذُرِّيْوَة، فاجتمعَ ياءُ المدِّ والواوُ التي هي لامُ الكلمةِ وسَبَقَتْ إحداهما بالسكونِ فَقُلِبَتِ الواوُ ياءً وأُدغمت فيها ياءُ المدِّ.
وإن كانت من ذَرَيْتُ لغةً في ذَرَوْتُ فيجوز فيها أيضاً أن يكون وزنُها فُعُّولَة أو فُعِّيلة كما تقدَّم، وإنْ كانَتْ فُعُّولة فالأصلُ ذُرُّوْيَة فَفُعِل به ما تقدَّم من القلبِ والإِدغامِ، وإنْ كانَتْ فُعِّيْلَة فالأصلُ: ذُرِّيْيَة، فَأُدْغِمَتِ الياءُ الزائدةُ في الياءِ التي [هي] لامٌ. وإنْ كانَتْ من ذَرَأَ
مهموزاً فوزنُها فُعِّيْلة والأصلُ: ذُرِّيْئَة فَخُفَّفتِ الهمزةُ بأَنْ أُبْدِلَتْ ياءً كهمزةِ خطيئة والنسيء، ثم أُدْغِمَتِ الياءُ الزائدةُ في الياء المُبْدَلَةِ من الهمزةِ.
وإن كانَتْ من الذَّرِّ فيجوزُ في وزنها أربعةُ أوجه، أحدُها: فُعْلِيَّة وتَحْتمل هذه الياءُ أَنْ تكونَ للنسَبِ وغَيَّروا الذالَ من الفتحِ إلى الضمِّ كما قالوا في النَسَبِ إلى الدَّهْر: دُهْري وإلى السَّهْل: سُهْلي بضمِّ الدال والسين، وأَنْ تكونَ لغيرِ النسَبِ فتكونُ كقُمْرِيَّة. الثاني: أن يكونَ: فُعِّيْلَة كمُرِّيقَة، والأصلُ: ذُرِّيْرةً، فَقُلِبَتِ الراءُ الأخيرةُ ياءً لتوالي الأمثال، كما قالوا تَسَرَّيْتُ وتَظَنَّيْتُ في تَسَرَّرْتُ وتَظَنَّنْتُ. الثالث: أن تكونَ فُعُّولة كَقُدُّوس وسُبُّوح، والأصلُ: ذُرُّْوَرة، فَقُلِبَتِ الراءُ لِما تقدَّم، فصارَ ذُرُّوْيَة، فاجْتَمَعَ واوٌ وياءٌ، فجاء القلبُ والإدغامُ كما تقدَّم. الرابع: أن تكونَ فُعْلُولة والأصل: ذُرُّوْرَة، فَفُعِلَ بها ما تقدّم في الوجهِ الذي قبله.
وأمَّا ذِرِّيَّة بكسر الذال فإن كانت مِنْ ذَرَوْتُ فوزنُها فِعِّيْلَة، والأصل: ذِرِّيْوَة، فَأُبْدِلَتِ الواوُ ياءً وأُدْغَمَتْ في الياءِ بعدَها، فإنْ كانَتْ من ذَرَيْتُ فوزنها فِعِّيْلة أيضاً، وإنْ كانَتْ من ذَرَأَ فوزنُها فِعِّيْلة أيضاً كبِطِّيْخة، والأصل ذِرِّيْئَة فَفُعِل فيها ما تقدَّم في المضمومةِ الدالِ، وإن كانَتْ من الذَّرِّ فتحتمل ثلاثة أوجهٍ، أحدُها: أن يكونَ وزنُها فِعْلِيَّة نسبةً إلى الذرّ على غيرِ قياسٍ في المضمومةِ. الثاني: أَنْ تكونَ فِعِّيْلَة، الثالث: أن تكونَ فِعْلِيلَة كحِلْتيت والأصلُ فيها: ذِرِّيْرَة فَفُعِل فيهما ما تقدَّم من إبدالِ الراءِ الأخيرةِ ياءُ والإِدغامِ فيها.
وأمَّا «ذَرِّيَّة» بفتحِ الذال: فإن كانَتْ مِنْ ذَرَوْتُ أو ذَرَيْتُ فوزنُها: فَعِّيْلَة كسَكِّينة، والأصلُ: ذَرِّيْوَة أو ذَرِّيْيَة، أو فَعُّولة والأصلُ: ذَرُّوْوَة أو ذَرُّوْيَة،
فَعُعِل به ما تقدَّم في نَظيرهِ، وإنْ كانَتْ مِنْ ذَرَأَ فوزنُها: إمّا فَعِّيْلَة كسَكِّينة والأصلُ: ذَرِّيْئَة، وإمّا فَعُّولة كخَرُّوبة والأصلُ: ذَرَّوْءةَ ففُعِل به ما تقدَّم في نظيره. وإنْ كانَتْ من الذرّ ففي وَزْنِها أيضاً أربعة أوجهٍ أحدُها فَعْلِيَّة، والياءُ أيضاً تَحْتَمِلُ أَنْ تكونَ للنسَبِ ولم يَشِذُّوا فيه بتغيير كما شّذُّوا في الضم والكسرِ وأَنْ لا يكون نحو: بَرْنِيَّة، الثاني: فَعُّولة كَخرُّوبة والأصلُّ ذَرُّوْرَة، الثالث: فَعِّلية كسَكِّينة والأصلُ: ذَرِّيْرَة، الرابع: فَعْلُولة كبَكُّولَة والأصلُ: ذَرُّوْرَة أيضاً فَفُعِل به ما تقدَّم في نظيره، من إبدالِ الراءِ الأخيرةِ وإدغامِ ما قبلَها فيها وكُسِرَتِ الذالُ اتباعاً. وبهذا الضبطِ الذي فعلتُه اتَّضح القولُ في هذه اللفظةِ لغةً واشتقاقاً وتصريفاً، فإنَّ الناس قد استشكلوا هذه اللفظةَ بالنسبةِ لما ذكرْتُ، وغلِط أكثرهُم في تصريفِها بالنسبةِ إلى الأعمال التي قَدَّمْتُها والحمد لله.
وأمَّا مَنْ بناها على فَعْلَة مثلَ جَفْنَة فإنها عنده من ذَرَيْتُ. والذُّرِّيَّةُ: النَّسْلُ يقع على الذكور والإِناث والجمع الذَراري، وزعم بعضُهم أنها تقع على الآباء كوقوعِها على الأبناء مستدلاً بقوله {وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الفلك المشحون} [يس: 41] يعني نوحاً ومَنْ معه وسيأتي ذلك في موضِعِه.
قوله: {قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظالمين} الجمهورُ على نصبِ «الظالمين» مفعولاً و «عَهْدي» فاعلٌ، أي: لا يَصِلُ عهدي إلى الظالمين فيدرِكَهم. وقرأ قتادة والأعمش وأبو رجاء/: «والظالمون» بالفاعلية، و «عهدي»
مفعولٌ به، والقراءتان ظاهرتان، إذ الفعلُ يَصِحُّ نسبتُه إلى كلٍّ منهما فإنَّ مَنْ نالَكَ فقد نِلْتَه. والنَّيْلُ: الإدراك وهو العَطاءُ أيضاً، نال ينال نَيْلاً فهو نائل.
قوله تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا البيت} : «إذ» عَطْفٌ على «إذْ» قبلَها، وقد تقدَّم الكلامُ فيها، و «جَعَلْنا» يحتمل أن يكونَ بمعنى «خَلَقَ» و «وَضَعَ» فيتعدَّى لواحدٍ وهو «البَيْت» ، ويكون «مَثَابةً» نصباً على الحالِ، وأن يكونَ بمعنى صَيَّر فيتعدَّى لاثنين، فيكون «مثابةً» هو المفعولُ الثاني.
والأصلُ في «مَثَابة» مَثْوَبة، فَأُعِلَّ بالنقلِ والقلبِ، وهل هو مصدرٌ أو اسمُ مكانٍ قولان؟ وهل الهاءُ فيه للمبالغةِ كعَلَاّمة ونسَّابة لكثرةِ مَنْ يَثُوب إليه أي يرجع أو لتأنيث المصدرِ كمقامة أو لتأنيثِ البقعة؟ ثلاثةُ أقوال، وقد جاء حَذْفُ هذه الهاءِ قال ورقة بن نوقل:
712 -
مَثَابٌ لأَفْناءِ القبائلِ كلِّها
…
تَخُبُّ إليها اليَعْمَلاتُ الذَّوامِلُ
وقال:
713 -
جَعَلَ البيتَ مثاباً لهُمُ
…
ليس منه الدهرَ يَقْضُون الوطَرْ
وهل معناه من ثابَ يَثُوب أي: رَجَع، أو من الثوابِ الذي هو الجزاء؟ قولان أظهرُهما أوَّلُهما. وقرأ الأعمش وطلحة:«مَثَابَاتٍ» جَمْعاً، ووجهُه أنه مثابةٌ لكلِّ واحدٍ من الناس.
قوله: {لِّلنَّاسِ} فيه وجهان، أحدُهما: أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ لأنه صفةٌ لمثابة ومَحَلُّه النصبُ. والثاني: أنه متعلِّقٌ بجَعَلَ أي: لأجلِ الناسِ يعني مناسكَهم.
قوله: {وَأَمْناً} فيه وجهان، أحدُهما: أنه عَطْفٌ على «مَثَابة» وفيه التأويلاتُ المشهورةُ: إمَّا المبالغةُ في جَعْلِه نفس المصدر، وإمَّا على حَذْفِ مضافٍ أي: ذا أَمْن، وإمَّا على وقوعِ المصدرِ موقعَ اسمِ الفاعل أي: آمِنَاً، على سبيل المجاز كقوله:«حَرَماً آمِناً» . والثاني: أنه معمولٌ لفعلٍ محذوفٍ تقديرُه: وإذ جَعَلْنَا البيتَ مثابةً فاجْعَلوه آمِناً لا يعتدي فيه أحدٌ على أحد. والمعنى: أن الله جَعَلَ البيتَ محترماً بحكمه، وربما يُؤَيَّد هذا بقراءَةِ:«اتَّخِذُوا» على الأمرِ فعلى هذا يكونُ «وأَمْناً» وما عَمِل فيه من باب عطفِ الجملِ عُطِفَت جملةٌ أمريةٌ على خبريةٍ، وعلى الأول يكون من عطف المفردات.
قوله: {واتخذوا} قرأ نافعٌ وابنُ عامر: «واتَّخذوا» فعلاً ماضياً على لفظ الخبر، والباقون على لفظِ الأمرِ. فأمَّا قراءةُ الخبرِ ففيها ثلاثةُ أوجهٍ: أحدُها: أنه معطوفٌ على «جَعَلْنا» المخفوض ب «إذ» تقديراً فيكون الكلامُ جملةً واحدةً. الثاني: أنه معطوفٌ على مجموعِ قولِه: «وإذ جَعَلْنا» فيحتاجُ إلى تقديرِ «إذ» أي: وإذ اتخذوا، ويكون الكلامُ جملتين. الثالث: ذكره أبو البقاء أن يكونَ معطوفاً على محذوفٍ تقديرُه: فثابوا واتخذوا.
وأمَّا قراءةُ الأمرِ ففيها أربعةُ أوجهٍ، أحدُها: أنَّها عَطفٌ على «اذكروا» إذا قيل بأنَّ الخطابَ هنا لبني إسرائيل، أي: اذكروا نعمتي واتخذوا. والثاني:
أنها عطفٌ على الأمر الذي تَضَمَّنه قولُه: «مثابةً» كأنه قال: ثُوبوا واتَّخِذوا، ذكرَ هذين الوجهين المهدوي.
الثالث: أنه معمولٌ لقولٍ محذوفٍ أي: وقُلْنا اتَّخِذوا إن قيل بأنَّ الخطابَ لإِبراهيمَ وذرّيَّتِه أو لمحمدٍ عليه السلام وأمَّتِه. الرابع: أن يكونَ مستأنفاً ذكرَه أبو البقاء.
قوله: {مِن مَّقَامِ} في «مِنْ» ثلاثة أوجه: أحدُها: أنها تبعيضيةٌ وهذا هو الظاهرُ. الثاني: أنها بمعنى في. الثالث: أنها زائدةٌ على قولِ الأخفش. وليسا بشيء. والمَقامُ هنا مكانُ القيامِ، وهو يَصْلُح للزمانِ والمصدر أيضاً واصلُه:«مَقْوَم» فأُعِلَّ بنَقْلِ حركةِ الواوِ إلى الساكنِ قبلَها وقَلْبِها ألفاً، ويُعَبَّرُ به عن الجماعةِ مجازاً كما يُعَبَّر عنهم بالمجلسِ قال زهير:
714 -
وفيهمْ مَقاماتٌ حِسانٌ وجوهُهمْ
…
وأَنْدِيَةٌ يَنْتابُها القولُ والفِعْلُ
قوله: {مُصَلًّى} مفعولُ «اتَّخِذُوا» ، وهو هنا اسمُ مكانٍ أيضاً، وجاءَ في التفسير بمعنى قِبْلة. وقيل: هو مصدرٌ: فلا بُدَّ من حَذْفِ مضافٍ أي: مكانَ صلاة، وألفهُ منقلبةٌ عن واوٍ، والأصلُ:«مُصَّلَّوَ» لأنَّ الصلاةَ من ذواتِ الواوِ كما تقدَّم أولَ الكتابِ.
قوله: {وَإِسْمَاعِيلَ} إسماعيل عَلَمٌ أعجميٌّ وفيه لغتان: اللام والنونُ وعليه قولُ الشاعر:
715 -
قال جواري الحَيِّ لمَّا جِينا
…
هذا وربِّ البيتِ إسماعينا
ويجمع على: سَماعِلة وسَماعيل وأساميع. ومن أَغْرَبِ ما نُقِلَ في التسمية به أنَّ إبراهيمَ عليه السلام لمَّا دعا الله أَنْ يرزقَه ولداً كان يقول: اسْمَعْ إيل اسْمَعْ إيل، وإيل هو الله تعالى فَسَمَّى ولدُه بذلك.
قوله: {أَن طَهِّرَا} يَجوزُ في «أَنْ» وَجْهان، أحدُهما أنَّها تفسيريةٌ لجملةِ قولِه:«عِهِدْنا» فإنَه يتضمَّنُ معنى القولِ لأنَّه بمعنى أَمَرْنا أو وَصَّيْنا فهي بمنزلةِ «أي» التي للتفسيرِ، وشرطُ «أَنْ» التفسيريةِ أَنْ تَقَعَ بعدما هو بمعنى القولِ لا حروفِه. وقال أبو البقاء:«والمفسِّرةُ تقعُ بعد القولِ وما كان في معناه. وقد غَلِطَ في ذلك، وعلى هذا فلا محلَّ لها من الإِعرابِ. والثاني: أن تكونَ مصدريةً وخَرَجَتْ عن نظائرِها في جوازِ وَصْلِها بالجملةِ الأمريَّة قالوا:» كتبْتُ إليه بأَنْ قُمْ «وفيها بحثٌ ليس هذا موضعَه، والأصلُ: بأَنْ طَهِّرا، ثم حُذِفَتِ الباءُ فيَجيءُ فيها الخلافُ المشهورُ من كونِها في محل نصبِ أو خفضٍ. و» بيتي «مفعولٌ به أُضيف إليه تعالى تشريفاً. والطائفُ اسم فاعلٍ من طَاف يَطُوف، ويقال: أَطَاف رباعياً، قال:
716 -
أَطَافَتْ به جَيْلانُ عند قِطاعِه
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وهذا من باب فَعَل وأَفْعَل بمعنىً. والعُكوفُ لغةً: اللزومُ والَّلْبثُ، قال:
717 -
. . . . . . . . . . . . . . . .
…
عليه الطيرُ ترقبُه عُكوفا
وقال:
718 -
عَكْفَ النَّبِيطِ يَلْعَبُون الفَنْرَجا
…
ويقال: عَكَفَ يَعْكُف ويعكِف، بالفتحِ في الماضي والضمِّ والكسرِ في المضارع، وقد قُرِىء بهما. و» السجودُ «يجوز فيه وجهان، أحدُهُما: أنه جمع ساجِد نحو: قاعِد وقُعود، وراقِد ورُقُود، وهو مناسبٌ لِما قبله. والثاني: أنه مصدرٌ نحو: الدُّخول والقُعُود، فعلى هذا لا بُدَّ من حَذْفِ مضافٍ أي: ذوي السجودِ ذكرَه أبو البقاء.
وعَطَفَ أحد الوصفينِ على الآخر في قوله: الطائفين والعاكفين لتباينِ ما بينهما، ولم يَعْطِفْ إحدى الصفتينِ على الأخرى في قوله: الرُّكَّعِ السجودِ، لأنَّ المرادَ بهما شيءٌُ واحدٌ وهو الصلاةُ إذ لو عَطَفَ لَتُوُهِّم أنَّ كلَّ واحدٍ منهما عبادةٌ على حِيالها، وجَمَعَ صفتين جَمْع سلامة وأُخْرَيَيْنِ جمع تكسيرٍ لأجلِ المقابلةِ وهو نوعٌ من الفَصاحةِ، وأخَّر صيغةَ فُعول على فُعَّلَ لأنها فاصلة.
قوله تعالى: {اجعل هذا بَلَداً آمِناً} : الجَعْلُ هنا بمعنى التصيير فيتعدَّى لاثنين ف «هذا» مفعولٌ أولُ و «بلداً» مفعولٌ ثانٍ، والمعنى: اجْعَلْ هذا البلدَ أو هذا المكانَ. و «آمناً» صفةٌ أي ذا أَمْن نحو: «عيشةٌ راضيةٌ» أو آمِناً مَنْ فِيه نحو: ليلةٌ نائمٌ. / والبلدُ معروفٌ وفي تسميته قولان، أحدُهما: أنه مأخوذُ من البَلْدِ. والبَلْدُ في الأصل: الصَّدْر يقال: وضَعَتِ الناقةُ بَلْدَتها إذا
بَرَكَتْ أي: صدرَها، والبَلَدُ صدرُ القُرى فسُمِّي بذلك. والثاني: أنَّ البلدَ في الأصل الأثَرُ ومنه: رجلٌ بَليد لتأثير الجهل فيه، وقيل لِبَرْكَةِ البعيرِ «بَلْدَة» لتأثيرِها في الأرض إذا بَرَك قال:
719 -
أُنِيخَتْ فأَلْقَتْ بَلْدَةً فوق بلْدةٍ
…
قليلٌ بها الأصواتُ إلَاّ بُغامُها
قوله: {مَنْ آمَنَ} بدلُ بعضٍ من كل وهو «أهلَه» ولذلك عادَ فيه ضميرٌ على المُبْدَلِ منه، و «مِنْ» في «مِن الثمرات» للتبعيضِ. وقيل: للبيانِ، وليس بشيءٍ إذ لم يتقدَّمُ مُبْهَمٌ يبيَّنُ بها.
قولُه: {وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ} يجوزُ في «مَنْ» ثلاثة أوجه، أحدها: أن تكونَ موصولةً، وفي محلِّها حينئذٍ وجهان، أحدُهما: أنَّها في محلِّ نصبٍ بفعلٍ محذوفٍ تقديرُه، قال اللهُ وأرزقُ مَنْ كَفَرَ، ويكونُ «فأمتِّعُه» معطوفاً على هذا الفعلِ المقدَّرِ. والثاني من الوجهين: أن يكونَ في محلِّ رفعٍ بالابتداء و «فأمتِّعُه» الخبرَ، دَخَلَت الفاءُ في الخبرِ تشبيهاً له بالشرطِ، وسيأتي أنَّ أبا البقاء يمنعُ هذا والردُّ عليه. الثاني من الثلاثةِ الأوجهِ: أن تكونَ نكرةً موصوفةً ذكرَه أبو البقاء، والحكمُ فيها ما تقدَّم من كونِها في محلِّ نصبٍ أو رفع. الثالث: أن تكونَ شرطيةً ومحلُّها الرفعُ على الابتداءِ فقط، و «فأمتِّعُه» جوابُ الشرط.
ولا يجوزُ في «مَنْ» في جميع وجوهِها أَنْ تكونَ منصوبةً على الاشتغال، أمَّا إذا كانَتْ شرطاً فظاهرٌ لأنَّ الشرطيةَ إنما يفسِّر عاملَها فعلُ الشرطِ لا الجزاءُ، وفعلُ الشرطِ هنا غيرُ ناصبٍ لضميرِها بل رافعُه، وأمَّا إذا كانت موصولةً فلأنَّ
الخبرَ الذي هو «فأمتِّعه» شبيهٌ بالجَزاء ولذلك دَخَلَتْه الفاءُ، فكما أن الجزاءَ لا يفسِّر عاملاً فما أشبهَه أَوْلى بذلك، وكذا إذا كانَتْ موصوفةً فإنَّ الصفةَ لا تُفَسِّرُ. وقال أبو البقاء:«لا يجوزُ أن تكونَ» مَنْ «مبتدأ و» فأمتِّعُه «الخبرَ، لأنَّ» الذي «لا تدخُل الفاءُ في خبرها إلا إذا كان الخبرُ مُسْتَحِقَّاً بالصلةِ نحو: الذي يأتيني فله درهمٌ، والكفرُ لا يَسْتَحِقُّ به التمتُّعُ، فإنْ جَعَلْتَ الفاءَ زائدةً على قولِ الأخفش جازَ، أو [جعلت] الخبرَ محذوفاً و» فأمتِّعُه «دليلاً عليه جاز، تقديرُه: ومَنْ كَفَرَ أرزُقُه فَأمتِّعه.
ويجوز أَنْ تكونَ «مَنْ» شرطيةً والفاءُ جوابَها. وقيل: الجوابُ محذوفٌ تقديرُه: ومَنْ كَفَرَ أرزُقْ، و «مَنْ» على هذا رفعٌ بالابتداءِ، ولا يجوزُ أَنْ تكونَ منصوبةً لأن أداةَ الشرطِ لا يَعْمل فيها جوابُها بل فعلُ الشرطِ «. انتهى.
أمَّا قولُه:» لأنَّ الكفرَ لا يَسْتِحقُّ به التمتُّعُ «فليس بِمُسَلَّم، بل التمتعُ القليلُ والمصيرُ إلى النار مُسْتَحِقَّان بالكفرِ، وأيضاً فإنَّ التمتعَ إنْ سَلَّمْنا أنَّه ليس مُسْتَحِقاً بالكفر، ولكن قد عُطِفَ عليه ما هو مُسْتَحِقٌ به وهو المصيرُ إلى النار فناسَبَ ذلك أنْ يَقَعا جميعاً خبراً، وأيضاً فقد ناقَض كلامَه لأنه جَوَّز فيها أن تكونَ شرطيةً، وهل الجزاءُ إلا مُسْتَحِقٌّ بالشرط ومُتَرَتِّبٌ عليه فكذلك الخبرُ المُشَبَّهُ به. وأما تجويزُه زيادةَ الفاءِ وحَذْفَ الخبر أو جوابَ الشرطِ فأوجهٌ بعيدة لا حاجةَ إليها. وقرىء: أُمْتِعُه مخففاً من أَمْتَع يُمْتِعُ وهي قراءةُ ابنِ عامر، وفَأُمْتِعُّه بسكونِ العينِ وفيها وجهان: أحدُهما: أنه تخفيفٌ كقولِه:
720 -
فاليومَ أشربْ غيرَ مُسْتَحْقِبٍ
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . .
والثاني: أنَّ الفاءَ زائدةٌ وهو جوابُ الشرط فلذلك جُزِمَ بالسكونِ. وقرأ ابنُ عباس ومجاهد {فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ} على صيغةِ الأمر فيهما، ووجهُها أَنْ يكونَ الضميرُ في» قال «لإِبراهيم، يعني سألَ ربَّه ذلكَ، و» مَنْ «على هذه القراءة يجوز أن تكونَ مبتدأ وأن تكونَ منصوبة على الاشتغال بإضمارِ فعلٍ سواءً جَعَلْتَها موصولةً أو شرطيةً، إلا أنك إذا جَعَلْتَها شرطيةً قَدَّرْتَ الناصبَ لها متأخراً عنها لأنَّ أداة الشرط لها صدرُ الكلامِ.
وقال الزمخشري: {وَمَن كَفَرَ} عَطْفٌ على» مَنْ آمَنَ «كما عَطَفَ» ومِنْ ذريتي «على الكافِ في» جاعِلُك «. قال الشيخ: أمَّا عطفُ» مَنْ كَفَر «على» من آمَنَ «فلا يَصِحُّ لأنه يتنافى تركيبُ الكلامِ، لأنه يصيرُ المعنى: قال إبراهيم: وارزُقْ مَنْ كَفَرَ لأنه لا يكونُ معطوفاً عليه حتى يُشْرِكَه في العامل، و» من آمن «العامل فيه فعلُ الأمر وهو العاملُ في» ومَنْ كفر «، وإذا قَدَّرْتَه أمراً تنافى مع قوله» فَأُمَتِّعه «لأنَّ ظاهرَ هذا إخبارٌ من اللهِ بنسبةِ التمتع وإلجائِهم إليه تعالى وأنَّ كلاً من الفعلين تضمَّن ضميراً، وذلك لا يجوزُ إلا على بُعْدٍ بأن يكون بعد الفاء قولٌ محذوفٌ فيه ضميرٌ الله تعالى أي: قال إبراهيم وارزُقْ مَنْ كفر، فقال الله أمتِّعُه قليلاً ثم اضطرُّه، ثم ناقَضَ الزمخشري قوله هذا أنه عَطَفَ على» مَنْ «كما عَطَفَ» ومِنْ ذرِّيتي «على الكاف في» جاعِلك «فقال:» فإنْ قُلْتَ لِمَ خَصَّ إبراهيمُ المؤمنينَ حتى رَدَّ عليه؟ قلت: قاسَ الرزقَ على الإِمامة فَعَرَف الفرْقَ بينهما بأنَّ الإِمَامة لا تكون للظالِم، وأمَّا الرزقُ فربما يكون استدراجاً، والمعنى: قال وأرزقُ مَنْ كفر
فأمتِّعه «فظاهرُ قولِه» والمعنى قال «أنَّ الضمير ٌٌٌٌٌٌفي» قال «لله تعالى، وأنَّ» مَنْ كَفَرَ «منصوبٌ بالفعلِ المضارعِ المسندِ إلى ضميرِ المتكلِّم»
و «قليلاً نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ أو زمانٍ، وقد تقدَّم له نظائرُ واختيار سيبويه فيه.
وقرأ الجمهور: «أضطَرُّه» خبراً. وقرأ يحيى بن وثاب: «إضطرُّه» بكسر الهمزة، ووجهُها كسرُ حرفِ المضارعةِ كقولهم في أخال: إخالُ. وقرأ ابن مُحَيْصِن: «أطَّرُّه» بإدغامِ الضادِ في الطاءِ نحو: اطّجع في اضطجع، وهي مرذولةٌ لأن الضادَ من الحروفِ الخمسةِ التي يُدْغَمُ فيها ولا تُدْغَم هي في غيرها وهي حُروف: ضم شغر نحو: اطَّجع في اضطجع، وهي مرذولةٌ لأن الضادَ من الحروفِ الخمسةِ التي يُدْغَمُ فيها ولا تُدْغَم هي في غيرها وهي حُروف: ضم شغر نحو: اطَّجع في اضطجع [قاله الزمخشري، وفيه نظرٌ، فإن هذه الحروف قد أدغمت في غيرها، أدغم أبو عمرو الداني اللام في {يَغْفِرْ لَكُمْ} [نوح: 4]، والضاد في الشين:{لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ} [النور: 62]، والشين في السين:{العرش سَبِيلاً} [الإسراء: 42]، وأدغم الكسائي الفاء في الباء:{نَخْسِفْ بِهِمُ الأرض} [سبأ: 9]، وحكى سيبويه أن «مُضَّجعاً» أكثر فدل على أن «مُطَّجعاً كثير. وقرأ يزيد بن أبي حبيب:» أضطُّرُّه «بضم الطاء كأنه للإِتباع. وقرأ أُبَيّ:» فَنُمَتِّعُه ثم نَضَطَرُه «بالنون.
واضْطَرَّ افتعَل من الضُرِّ، وأصلُه: اضْتَرَّ فأُبدلت التاءُ طاءً لأن تاء الافتعال تُبْدل طاءً بعد حروفِ الإِطباق وهو متعدٍّ، وعليه جاء التنزيل، وقال:
721 -
اضطَرَّكَ الحِرْرُ مِنْ سَلْمى إِلى أَجَأٍ
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . .
والاضطرارُ: الإِلجاءُ والإِلزازُ إلى الأمرِ المكروهِ.
قوله:» وبئس المصيرُ «» المصير «فاعل والمخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ أي: النارُ. ومصير: مَفْعِل من صار يصير، وهو صالحٌ للزمان والمكانِ، وأمَّا المصدرُ فقياسُه الفتحُ لأنَّ ما كُسِر عينُ مضارِعِه فقياسُ ظرفِيَّة الكسرُ ومصدرُه الفتحُ/. ولكن النحويين اختلفوا فيما كانَتْ عينُه ياءً على ثلاثةِ مذاهبَ، أحدها: أنه كالصحيحِ وقد تقدَّم. والثاني: أنه مُخَيَّرٌ فيه. والثالث: مذاهبَ، أحدها: أنه كالصحيحِ وقد تقدَّم. والثاني: أنه مُخَيَّرٌ فيه. والثالث: أن يتُبع المسموعُ فما سُمِعَ بالكسرِ أو الفتح لا يَتَعَدَّى، فإنْ كان» المصيرُ «في الآية اسمَ مكانٍ فهو قياسي اتفاقاً، والتقدير: وبِئْسَ المصيرُ النارُ كما تقدَّم، وإن كان مصدراً على رأي مَنْ أجازه فالتقدير: وبِئْسَ الصيرورةُ صَيْرورتُهم إلى النار.
قوله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ} : «إذ» عطفٌ على «إذ» قبلها فالكلامُ فيهما واحِدٌ، و «يرفعُ» في معنى رفَعَ ماضياً، لأنَّها من الأدواتِ المخلِّصةِ المضارعَ للمُضِيّ. وقال الزمخشري:«هي حكايةُ حالٍ ماضية» قال الشيخ: «وفيه نظرٌ» . والقواعدُ: جمع قاعدة وهي الأساس والأصل لِما فوقُ، وهي صفةٌ غالبة ومعناها الثابتة، ومنه «قَعَّدك الله» أي: أسأل الله
تَثْبيتك، ومعنى رَفْعِها البناءُ عليها، لأنه إذا بُني عليها نُقِلَتْ من هيئة الانخفاض إلى الارتفاع. وأمّا القواعدُ من النساء فمفردُها «قاعِد» من غير تاءٍ لأنَّ المذكر لاحظَّ له فيها إذ هي من: قَعَدَتْ عن الزوج. ولم يقل «قواعد البيت» بالإِضافة لِما في البيان بعد الإِبهام من تفخيمِ شَأْنِ المبيَّن.
قوله: {مِنَ البيت} فيه وجهان، أحدُهما: أنَّه متعلِّقٌ ب «يرفع» ومعناها ابتداءُ الغايةِ. والثاني: أنَّها في محلِّ نصبٍ على الحالِ من «القواعدِ» فيتعلَّقُ بمحذوفٍ تقديرُه: كائنةً من البيت، ويكون معنى «مِنْ» التبعيضَ.
قوله: {وَإِسْمَاعِيلُ} فيه قولان، أحدُهما - وهو الظاهرُ - أنَّه عطفٌ على «إبراهيم» فيكونُ فاعلاً مشاركاً له في الرفعِ، ويكونُ قولُه:{رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ} في محلِّ نَصْب بإضمار القولِ، ذلك القولُ في محلِّ نصبٍ على الحالِ منهما أي: يَرْفَعان يقولان: ربَّنَا تقبَّلْ، ويؤيِّد هذا قراءةُ عبد الله بإظهار فعلِ القولِ، قرأ:«يقولان ربَّنا تقبَّلْ، ويؤيِّد هذا قراءةُ عبد الله بإظهار فعلِ القولِ، قرأ:» يقولان ربَّنا تقبَّلْ «أي: قائِلين ذلك، ويجوز ألَاّ يكونَ هذا القولُ حالاً بل هو جملةٌ معطوفةٌ على ما قبلها، ويكونُ هو العاملَ في» إذ «قبله، والتقديرُ: يقولان ربَّنا تقبَّلْ إذ يرفعان أي: وقتَ رَفْعِهما.
والثاني: الواوُ واو الحالِ، و» إسماعيلُ «مبتدأٌ وخبرهُ قولٌ محذوفٌ هو العاملُ في قولِه:» ربَّنا تَقبَّلْ «فيكونُ» إبراهيم «هو الرافعَ، و» إسماعيلُ «هو الداعيَ فقط، قالوا: لأنَّ إسماعيلَ كان حينئذٍ طفلاً صغيراً، وَرَوْوه عن علي عليه السلام. والتقديرُ: وإذ يرفع إبراهيمُ حالَ كونِ إسماعيل يقول: ربَّنا تقبَّلْ منا. وفي المجيء بلفظِ الربِّ تنبيهٌ بذِكْرِ هذه الصفةِ على التربية والإصلاح. وتقبَّلْ بمعنى اقبْلَ، فتفعَّلْ هنا بمعنى المجرَّد. وتقدَّم الكلام على نحوِ {إِنَّكَ أَنتَ السميع} من كون» أنت «يجوزُ فيه التأكيدُ والابتداءُ
والفصلُ، وتقدَّمت صفةُ السمع وإن كان سؤالُ التقبُّلِ متأخراً عن العمل للمجاوَرَةِ، كقولِه:{يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الذين اسودت} [آل عمران: 106] وتأخَّرت صفةُ العِلْمِ لأنَّها فاصلةٌ، ولأنَّها تَشْمَل المسموعاتِ وغيرَها.
قوله: {مُسْلِمَيْنِ} مفعولٌ ثان للجَعْل لأنَّه بمعنى التصيير، والمفعولُ الأولُ هو «ن» وقرأ ابن عباس «مسلمِين» بصيغةِ الجمع، وفي ذلك تأويلان أحدُهما: أنهما أَجْرَيَا التثنية مُجْرَى الجمعِ، وبه استدلَّ مَنْ يَجْعَلُ التثنيةَ جمعاً. والثاني: أنهما أرادا أنفسهما وأهلَهما كهاجر.
قوله {لَّكَ} فيه وجهان، أحدُهما: أن يتعلَّق بمُسْلِمَيْن، لأنه بمعنى نُخْلِصُ لك أوجهَنَا نحو:{أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ} فيكونَ المفعولُ محذوفاً لفَهْمِ المعنى. والثاني: أنه نعتٌ لِمُسْلِمَيْن، أي: مُسْلِمَيْن مستقرَّيْنِ لك أي: مستسلمَيْن، والأولُ أقوى معنىً.
قوله: {وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً} فيه قولان، أحدهُما - وهو الظاهر - أنَّ «مِنْ ذريتنا» صفةٌ لموصوفٍ محذوفٍ هو مفعولٌ أولُ، و «أمة مسلمة» مفعولٌ ثان تقديرُه: واجْعَلْ فريقاً من ذريتنا أمةً مسلمةً. وفي «من» حينئذ ثلاثة أقوالٍ، أحدُها: أنها للتبعيض، والثاني - أجازه الزمخشري - أن تكونَ لتبيين، قال: كقولِه: {وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ مِنْكُمْ} [النور: 55] . الثالث: أن تكون لابتداءِ غايةِ الجَعْل، قاله أبو البقاء.
الثاني من القولَيْن: أن يكونَ «أمَّةً» هو المفعولَ الأولَ، و «مِنْ ذريتنا»
حالٌ منها؛ لأنه في الأصل صفةٌ نكرةٍ فلمَّا قُدِّم عليها انتصَبَ حالاً، و «مُسْلِمَةً» هو المفعولُ الثاني، والأصل:«واجعَلْ أمةً من ذريتنا مسلمةً» ، فالواو داخلةٌ في الأصلِ على «أمة» وإنما فَصَلَ بينهما بقولِه:«مِنْ ذرِّيَّتنا» وهو جائزٌ لأنَّه من جملةِ الكلام المعطوفِ، وفي إجازتِه ذلك نظرٌ، فإنَّ النحويين كأبي علي وغيره منعوا الفصلَ بالظرفِ بين حرفِ العطفِ إذا كان على حرفٍ واحدٍ وبين المعطوفِ، وجَعَلوا قولَه:
722 -
يوماً تَراها كشِبْه أَرْدِيَةِ ال
…
عَصْبِ ويوماً أَديمَها نَغِلاً
ضرورةً فالفصلُ بالحالِ أبعدُ، وصار ما أجازه نظيرَ قولِك:«ضَرَبَ الرجلَ ومتجردةً المرأةَ زيدٌ» وهذا غيرُ فصيحٍ، ولا يجوزُ أن يكونَ «اجعَلْ» المقدرةُ بمعنى اخلُقْ وأوجِدْ، فيتعدَّى لواحدٍ ويتعلَّقَ «من ذريتنا» به، ويكونُ «أمةً» مفعولاً به؛ لأنه إنْ كان مِنْ عطفِ المفردات لَزِمَ التشريكُ في العاملِ الأولِ والعاملُ الأولُ ليس معناه «اخلُقْ» إنما معناه صيِّر، وإن كان من عطفِ الجملِ فلا يُحْذَفُ إلا ما دَلَّ عليه المنطوقُ، والمنطوقُ ليس بمعنى الخَلْقَ فكذلك المحذوفُ، ألا تراهم مَنَعوا في قولِه:{هُوَ الذي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ} [الأحزاب: 43] أن يكونَ التقديرُ: وملائكتُه يُصَلُّون لاختلافِ مدلولِ الصلاتين، وتأوَّلوا ذلك على قَدْرٍ مشتركٍ بينهما، وقوله «لكَ» فيه الوجهان المتقدمان بعد «مسلِمَيْنِ» .
قوله: {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} الظاهرُ أن الرؤيةَ هنا بَصَرِيَّة، فرأى في الأصلِ يتعدَّى لواحدٍ، فلمّا دَخَلَتْ همزةُ النقلِ أَكْسبتها مفعولاً ثانياً، ف «ن» مفعولٌ أولُ، و «مناسِكَنا» مفعولٌ ثانٍ.
وأجاز الزمخشري أن تكون منقولةً من «رأى»
بمعنى عَرَفَ فتتعدَّى أيضاً لاثنينِ كما تقدَّم، وأجاز قومٌ فيما حكاه ابن عطية أنها هنا قلبيَّةٌ، والقلبيةُ قبلَ النقلِ تتعدَّى لاثنين، كقوله:
723 -
وإنَّا لَقومٌ ما نرى القَتْلَ سُبَّةً
…
إذا ما رَأَتْه عامرٌ وسَلُولُ
وقال الكميت:
724 -
بأيِّ كتابٍ أم بأيَّةِ سُنَّةٍ
…
ترى حُبَّهم عاراً عليَّ وتَحسِبُ
وقال ابن عطية: «ويلزَمُ قائلَه أَنْ يتعدَّى الفعلُ منه إلى ثلاثةٍ: وينفصلُ عنه بأنّه يوجدُ مُعَدَّىً بالهمزةِ من رؤيةِ القلب كغيرِ المُعَدَّى وأنشد قولَ حطائط بن يعفر:
725 -
أَريني جواداً مات هَزْلاً لأَنني
…
أرى ما تَرَيْنَ أَوْ بخيلاً مُخَلَّدا
يعني: أنه قد تَعدَّت» عَلِم «القلبيةُ إلى اثنين سواءً كانت مجردةً من الهمزةِ أم لا، وحينئذٍ يُشْبه أن يكونَ ما جاء فيه فَعِل وأَفْعل بمعنىً وهو غريبٌ، ولكنَّ جَعْلَه بيتَ حطائط من رؤيةِ القلبِ ممنوعٌ بل معناه من رؤيةِ البصرِ، ألا ترى أن قولَه» جواداً ماتَ «من متعلِّقات البصر، فيَحْتاجُ في إثباتِ تعدِّي» أعلَم «القلبية إلى اثنين إلى دليلٍ. وقال بعضهم:» هي هنا بَصَريَّةٌ قلبيةٌ
معاً لأنّ الحَجَّ لا يَتِمُّ إلا بأمورٍ منها ما هو معلومٌ ومنها ما هو مُبْصَر «، ويلزَمُه على هذا الجمعُ بين الحقيقةِ والمجاز أو استعمالُ المشتركِ في معنييه معاً.
وقرأ الجمهور:» أَرِنَا «بإشباعِ كسرِ الراءِ هنا وفي النساء وفي الأعرافِ.» أَرِني أنظرْ «، وفي فُصّلت:{أَرِنَا الذين} [فصلت: 29] ، وقرأ ابن كثير بالإِسكان في الجميعِ ووافقه في فصلت ابنُ عامر وأبو بكر عن عاصم/، واختُلِف عن أبي عمرو فروى عنه السوسي موافقةَ ابنِ كثير في الجميع، وروى عنه الدوري اختلاسَ الكسرِ فيها. أمَّا الكسرُ فهو الأصلُ، وأمَّا الاختلاسُ فَحَسَنٌ مشهور، وأما الإِسكان فللتخفيفِ، شَبَّهوا المتصلَ بالمنفصلِ فسكَّنوا كسره، كما قالوا في فَخِذ: فَخْذ وكتِف: كتْف.
وقد غَلَّط قومٌ راويَ هذه القراءةِ وقالوا: صار كسرُ الراءِ دليلاً عَلى الهمزةِ المحذوفةِ فإنَّ أصلَه:» أَرْءِنا «ثم نُقِل، قاله الزمخشري تابعاً لغيره. قال الفارسي:» التغليطُ ليس بشيءٍ لأنَّها قراءةُ متواترةٌ، وأمّا كسرةُ الراءِ فصارَتْ كالأصلِ لأنَّ الهمزةَ مرفوضةُ الاستعمالِ «وقال أيضاً:» ألا تراهم أَدْغموا في {لَّكِنَّ هُوَ الله رَبِّي} [الكهف: 38]، والأصل:«لكنْ أنا» «نَقَلوا الحركةَ وحذفوا ثم أدغموا، فذهابُ الحركةَ في» أَرِنا «ليس بدونِ ذهابِها في الإِدغامِ، وأيضاً فقد سُمِع الإِسكانُ في هذا الحرفِ نَصَّاً عن العرب قال:
726 -
أَرْنا إدواةَ عبْدِ الله نَمْلَؤُها
…
من ماءِ زمزمَ إن القومَ قد ظَمِئوا
وأصل أَرِنَا: أَرْءِنا، فنُقِلَتْ حركةُ الهمزةِ إلى الراء وحُذِفَتْ هي، وقد تقدّم الكلامُ بأشبع مِنْ هذا عند قولِه:{حتى نَرَى الله} [البقرة: 55] .
والمناسِكُ واحدُها: مَنْسَك بفتح العين وكسرِها، وقد قرىء بهما والمفتوحُ هو المقيسُ لانضمامِ عينِ مضارعه. والمنسَكُ: موضعُ النسُك وهو العبادة.
قوله: {فِيهِمْ} في هذا الضميرِ قولان: أحدُهما: أنه عائدٌ على معنى الأمة، إذ لو عادَ على لفظِها لقال:» فيها «قاله أبو البقاء، والثاني: أنه يعودُ على الذريةِ بالتأويلِ. المتقدِّم. وقيل: يعودُ على أهل مكة، ويؤيده:{الذي بَعَثَ فِي الأميين رَسُولاً} [الجمعة: 2] .
قوله تعالى: {مِّنْهُمْ} : في محلِّ نصبٍ لأنه صفةٌ لرسولاً فيتعلَّقُ بمحذوفٍ أي: رسولاً كائناً منهم.
قوله: {يَتْلُواْ} في محلِّ هذه الجملة ثلاثةُ أوجه، أحدها: أنها في محلِّ نصبٍ صفةً ثانيةً لرسولاً، وجاء هذا على الترتيبِ الأحْسَنِ إذ تقدَّم ما هو شبيهٌ بالمفردِ وهو المجرورُ على الجملةِ. والثاني: أنها في محلِّ نَصْبٍ على الحالِ من «رسولا» لأنه لَمَّا وُصِفَ تخصَّصَ. الثالث: أنها حالٌ من الضميرِ في «مِنْهم» والعاملُ فيها الاستقرارُ الذي تعلَّق به «منهم» لوقوعِه صفةً.
وتقدَّم قولُه «العزيزُ» لأنها صفةُ ذاتٍ وتأخَّر «الحكيمُ» لأنها صفةُ فِعْل.
ويقال: عَزَّ يَعُزَّ، وَيَعَزُّ، ويَعِزُّ، ولكنْ باختلافِ معنىً، فالمضمومُ بمعنى غَلَب ومنه:{وَعَزَّنِي فِي الخطاب} [ص: 23] والمفتوحُ بمعنى الشدةِ، ومنه: عَزَّ لحمُ الناقة أي: اشتدَّ، وعَزَّ عليَّ هذا الأمرُ، والمكسورُ بمعنى النَّفاسةِ وقلةِ النظري.
قوله تعالى: {وَمَن يَرْغَبُ} : «مَنْ» اسمُ استفهامٍ بمعنى الإِنكار فهو نفيٌ في المعنى، ولذلك جاءَتْ بعده «إلَاّ» التي للإِيجابِ، ومحلُّه رفعٌ بالابتداءِ، و «يَرْغَبُ» خبرُه، وفيه ضميرٌ يعودُ عليه، والرغبةُ أصلُها الطلبُ، فإنْ تَعَدَّت ب «في» كانَتْ بمعنى الإِيثارِ له والاختيارِ نحو: رَغِبْت في كذا، وإن تَعَدَّت ب «عن» كانت بمعنى الزَّهادة نحو: رَغِبْت عنك.
قوله: {إِلَاّ مَن سَفِهَ} في «مَنْ» وجهان: أحدُهما: أنها في محلِّ رفعٍ على البدلِ من الضمير في «يَرْغَبُ» وهو المختارُ لأنَّ الكلامَ غيرُ موجبٍ، والكوفيون يَجْعَلون هذا من بابِ العطفِ، فإذا قلتَ: ما قام القومُ إلا زيدٌ، ف «إلَاّ» عندهم حرفُ عطفٍ وزيدٌ معطوفٌ على القوم، وتحقيقُ هذا مذكورٌ في كتبِ النحو. الثاني: أنها في محلِّ نصبٍ على الاستثناء و «مَنْ» يُحتمل أن تكونَ موصولةً وأَنْ تكونَ نكرةً موصوفةً، فالجملةُ بعدَها لا محلَّ لها على الأولِ، ومحلُّها الرفعُ أو النصبُ على الثاني.
قوله: {نَفْسَهُ} في نصبِه سبعةُ أوجهٍ، أحدُها: - وهو المختارُ - أَنْ يكونَ مفعولاً به؛ لأنَّ ثعلباً والمبرد حكيا أنَّ سَفِه بكسر [الفاء] يتعدَّى بنفسه كما يتعدَّى سَفَّه بفتح الفاء والتشديد، وحُكي عن أبي الخطاب أنها لغةٌ، وهو اختيارُ الزمخشريُ فإنه قال:«سَفِه نفسَه: امتَهَنَها واستخَفَّ بها» ، ثم ذَكَر
أوجهاً أُخَرَ، ثم قال:«والوجهُ الأول، وكفى شاهداً له بما جاء في الحديث:» الكِبْرُ أَنْ تَسْفَهَ الحقَّ وتَغْمَصَ الناسَ «الثاني: أنه مفعولٌ به ولكن على تضمين» سَفِه «. معنى فِعْلٍ يتعدَّى، فقدَّره الزجاج وابنُ جني بمعنى جَهِل، وقدَّره أبو عبيدة. بمعنى أهلك. الثالث: أنه منصوبٌ على إسقاطِ حرفِ الجرِّ تقديره: سَفِه في نفسه. الرابع: توكيدٌ لمؤكَّدٍ محذوفٍ تقديره: سَفِه قولَه نفسَه، فحذَفَ المؤكَّد، قياساً على النعت والمنعوت، حكاه مكي. الخامس: أنه تمييزٌ وهو قولُ بعضِ الكوفيين، قال الزمخشري:» ويجوز أَنْ يكونَ في شذوذِ تعريفِ المُمَيِّز نحو قوله:
727 -
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
…
ولا بفَزارةَ الشُّعْرِ الرِّقَابا
728 -
. . . . . . . . . . . . . . . . . . .
…
أجبَّ الظهرِ ليسَ له سَنامُ
فجعل الرِّقابَ والظهرَ تمييزَيْن، وليسَ كذلك، بل هما مُشَبَّهان
بالمفعول به لأنهما معمولاً صفةٍ مشبهةٍ، وهي الشُّعْر جمع أَشْعر، وأجَبّ وهو اسمٌ. السادس: أنه مشبّهٌ بالمفعولِ به وهو قولُ بعض الكوفيين. السابع: أنه توكيدٌ لِمَنْ سَفِه، لأنه في محلِّ نصبٍ على الاستثناء في أحد القولين، وهو تخريجٌ غريبٌ نقله صاحب «العجائب والغرائب» ، والمختارُ الأولُ لأنَّ التضمينَ لا يَنْقاسُ وكذلك حرفِ الجرِّ، وأمّا حَذْفُ المؤكَّد وإبقاءُ التوكيدِ فالصحيحُ لا يجوزُ، وأمَّا التمييزُ فلا يقع معرفةً، وما وَرَدَ نادرٌ أو مُتَأَوَّل، وأمّا النصبُ على التشبيهِ بالمفعولِ فلا يكونُ في الأفعالِ إنما يكون في الصفاتِ المشبَّهةِ خاصةً.
قوله: {فِي الآخرة} فيه خمسةُ أوجه، أحدُها: أنه متعلِّق بالصالحين على أن الألفِ واللامَ للتعريفِ وليستْ موصولةً. الثاني أنها متعلقةٌ بمحذوفٍ أيضاً لكن مِنْ جِنسِ الملفوظِ به أي: وإنه لصالحٌ في الآخرة لَمِن الصالحين. الرابع: أن يتعلَّقَ بقولِه «الصالحين» وإنْ كانت أل موصولةً: لأنه يُغْتفر في الظروفِ وشِبْهِها ما لا يُغْتَفَرُ في غيرِها اتِّساعاً، ونظيرُه قوله:
729 -
رَبَّيْتُه حتى إذا تَمَعْدَدا
…
كان جزائي بالعَصَى أَنْ أُجْلَدَا
الخامس: أن يتعلَّق ب «اصَطَفْيناه» قال الحسين بن الفضل: «في الكلامِ تقديمٌ وتأخيرٌ، مجازُه: ولقد اصطفيناه في الدنيا وفي الآخرة» وهذا ينبغي ألَاّ يجوزُ مثلُه في القرآنِ لنُبُوِّ السَّمْعِ عنه.
والاصطفاءُ: الاختيارُ، افتعال من صَفْوةِ الشيء وهي خِيارُه، وأصلُه: اصْتَفى، وإنما قُلِبت تاءُ الافتعال طاءً مناسبةً للصادِ لكونِها حرفَ إطباقٍ وتقدَّم ذلك عند قولِه:{أَضْطَرُّهُ} [البقرة: 126] . وأكَّد جملةَ الاصطفاءِ باللام، والثانية بإنَّ واللام، لأنَّ الثانية محتاجةٌ لمزيدِ تأكيدٍ، وذلك أنَّ كونَه في الآخرةِ من الصالحين أمرٌ مغيَّبٌ، فاحتاجَ الإِخبارُ به إلى فَضْلِ توكيدٍ، وأمَّا اصطفاءُ الله له/ فقد شاهَدُوه منه ونَقَله جيلٌ بعد جيلٍ.
قوله تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ} : في «إذ» خمسةُ أوجهٍ أصَحُّها أنه منصوبٌ ب «قال أَسْلَمْتُ» ، أي: قال أسلمتُ وقتَ قولِ الله له أَسْلَمْ. الثاني: أنه بَدَلٌ من قوله «في الدنيا» . الثالث: أنه منصوبٌ باصطفيناه. الرابع: أنه منصوبٌ ب «اذكر» مقدَّراً، ذكر ذلك أبو البقاء والزمخشري. وعلى تقدير كونِه معمولاً لاصطفيناه أو ل «اذكر» مقدرّاً يبقى قولُه «قال أسلمْتُ» غيرَ منتظم مع ما قبله، إلا أنْ يُقدَّرَ حذفُ حرفِ عطفٍ أي: فقال، أو يُجْعَلَ جواباً لسؤالٍ مقدَّرٍ أي: ما كان جوابُه؟ فقيل: قال أسلَمْتُ، الخامس: أبْعَدَ بعضُهم فجعله مع ما بعدَه في محلِّ نصبٍ على الحالِ والعاملُ فيه «اصطَفَيْناه» .
وفي قوله: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ} التفاتٌ إذ لو جاءَ على نَسَقِهِ لقيل: إذ قلنا، لأنَّه بعدَ «ولقَدِ اصْطَفَيْناه» وعكسُه في الخروجِ من الغَيْبةِ إلى الخطابِ قولُه:
730 -
باتَتْ تَشَكَّى إليَّ النفسُ مُجْهِشَةً
…
وقد حَمَلْتُكَ سبعاً بعدَ سَبْعينا
وقوله {لِرَبِّ العالمين} فيه من الفخامة ما ليس في قوله «لك»
أو «لربّي» ، لأنه إذا اعترف بأنَّه ربُ جميعِ العالمينِ اعتَرَف بأنه ربُّه وزيادةٌ بخلافِ الأول فلذلك عَدَلَ عن العبارَتَيْنِ. وفيه قوله:«أَسْلْمِ» حَذْفُ مفعولٍ تقديرُه: أَسْلِمْ لربِّك.
قوله تعالى: {ووصى} : قُرِىء مِنْ وصَّى، وفيه معنى التكثير باعتبارِ المفعولِ المُوَصَّى، وأَوْصى رباعياً وهي قراءةُ نافعٍ وابنِ عامر، وكذلك هي في مصاحفِ المدينةِ والشام، وقيل أَوْصى ووصَّى بمعنىً.
والضميرُ في «بها» فيه ستةُ أقوالٍ، أحدُها: أنه يعودُ على المِلَّة في قوله: {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ} ، قال الشيخ:«وبه ابتدأ الزمخشري، ولم يذكُرِ [المهدوي] وغيرَه» والزمخشري رحمه الله لم يذكرْ هذا، وإنما ذَكَرَ عَوْدَه على قوله «أَسَلَمْتُ» لتأويله بالكلمةِ، قال الزمخشري:«والضميرُ في» بها «لقولِه {أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العالمين} على تأويلِ الكلمةِ والجملةِ، ونحوُه رجوعُ الضميرِ في قولِه: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً} [الزخرف: 28] إلى قوله: {إِنَّنِي بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلَاّ الذي فَطَرَنِي} [الزخرف: 28] وقولُه» كلمةً باقيةً «دليلٌ على أن التأنيثِ على معنى الكلمة. انتهى. الثاني: أنَّه يعودُ على الكلمةِ المفهومةِ من قولِه» أَسْلَمْتُ «كما تقدَّم تقريرُه عن الزمخشري: قال ابن عطية:» وهو أصوبُ لأنه أقربُ مذكور «. الثالثُ: أنه يَعودُ على متأخر، وهو الكلمةُ المفهومةُ مِنْ قولِه:{فَلَا تَمُوتُنَّ إَلَاّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ} . الرابع: أنه
يعودُ إلى كلمةِ الإِخلاص وإن لم يَجْرِ لها [ذِكْرٌ] . الخامسُ: أنه يعودُ على الطاعةِ للعلم بها أيضاً. السادسُ: أنَّه يعودُ على الوصيَّةِ المدلولِ عليها بقوله:» ووصَّى «، و» بها «يتعلَّق لوصَّى. و» بنِيه «مفعولٌ به.
قوله: {وَيَعْقُوبُ} الجمهورُ على رفعه وفيه قولان، أظهرهُما: أنه عطفٌ على» إبراهيم «ويكونُ مفعولُه محذوفاً أي: ووصَّى يعقوبُ بنيه أيضاً، والثاني: أن يكونَ مرفوعاً بالابتداءِ وخبرُه محذوفٌ تقديرُه ويعقوبُ قال: يا بَنِيَّ إنَّ الله اصطفى. وقرأ إسماعيل بن عبد الله وعمرو بن فائد بنصبه عطفاً على» بَنيه «، أي: ووصَّى إبراهيمُ يعقوبَ أيضاً.
قوله: {يَا بَنِيَّ} فيه وجهان، أحدُهما: أنَّه من مقولِ إبراهيمِ، وذلك على القولِ بعطفِ يعقوبَ على إبراهيم أو على قراءتهِ منصوباً. والثاني: أنه مِنْ مقولِ يعقوبَ إنْ قُلْنا رفعُه بالابتداءِ ويكونُ قد حَذَفَ مقولَ إبراهيم للدلالةِ عليه تقديرُه:» ووصَّى إبراهيمُ بنيه يا بَنِيَّ، وعلى كلِّ تقديرٍ فالجملةُ من قوله:«يا بَنِيَّ» وما بعدها [منصوبةٌ] بقولٍ محذوفٍ على رأيِ البصريين، أي: فقال يا بَنِيَّ، وبفعل الوصيَّةِ لأنَّها في معنى القولِ على رأيِ الكوفيين، وقال الراجز:
731 -
رَجُلانِ مِنْ ضَبَّةَ أَخْبرانَا
…
إنَّا رَأَيْنا رجلاً عُرْيانا
بكسر الهمزةِ على إضمارِ القولِ، أو لإِجراءِ الخبرِ مُجْرى القولِ،
ويؤيِّد تعلُّقَها بالوصية قراءةُ ابنِ مسعود: «أَنْ يا بَنِيَّ» ب «أَنْ» المفسرة، ولا يجوزُ أن تكونَ هنا مصدريةً لعدمِ ما يَنْسَبِكُ منه مصدرٌ، ومَنْ أبى جَعْلَها مفسرةً وهم الكوفيون يجعلونَها زائدةً.
ويعقوبُ عَلَمٌ أعجمي ولذلك لا يَنْصَرِفُ، ومَنْ زَعَم أنَّه سُمِّي يعقوب لأنه وُلِد عَقِبَ العَيْص أخيه وكانا تَوْءَمين أَوْ لأنه كَثُر عَقِبُه ونَسْلُه فقد وَهمَ؛ لأنه كان ينبغي أن ينصَرِفَ لأنه عربيٌّ مشتق. ويعقوب أيضاً ذَكَرُ الحَجَل، إذا سُمِّي به المذكرُ انصرفَ، والجمعُ يعاقِبَة ويعاقيب.
و «اصطفى» ألفُه عن ياء، تلك الياءُ منقلبةُ عن واو لأنها من الصَّفْوة، ولمَّا صارتِ الكلمةُ أربعةً فصاعداً، قُلِبَتْ ياءً ثم انقَلَبَتْ ألفاً. و «لكم» أي لأجلكم، والالفُ واللامُ في «الذين» للعهدِ.
قوله: {فَلَا تَمُوتُنَّ إلا} هذا نَهْيٌ في الصورةِ عن الموتِ، وهو في الحقيقةِ نَهْيٌ عن كونِهم على خلافِ حالِ الإِسلامِ إذا ماتوا كقولك:«لا تُصَلِّ إلا وأنت خاشع» ، فَنهْيُك له ليس عن الصلاة، إنما هو عن تَرْك الخشوع في حالِ صلاتِه، والنكتةُ في إدخالِ حرفِ النهي على الصلاةِ وهي غيرُ مَنْهِيٍّ عنها هي إظهارُ أنَّ الصلاةَ التي لا خشوعَ فيها كالصلاة، كأنه قال: أَنْهَاك عنها إذا لم تُصَلِّها على هذه الحالةِ، وكذلك المعنى في الآيةِ إظهارُ أنَّ موتهم لا على حالِ الثباتِ على الإِسلامِ موتٌ لا خيرَ فيه، وأنَّ حقَّ هذا الموتِ ألَاّ يُجْعَلَ فيهم.
وأصل تموتُنَّ: تموتُونَنَّ: النونُ الأولى علامةُ الرفعِ والثانيةُ المشدَّدةُ للتوكيدِ، فاجتمع ثلاثةُ أمثالٍ فَحُذِفَتْ نونُ الرفعِ؛ لأنَّ نونَ التوكيدِ أَوْلى
بالبقاءِ لدلالِتها على معنىً مستقلٍ فالتقى ساكنان: الواوُ والنونُ الأولى المُدْغمة فَحُذِفَت الواوُ لالتقاءِ الساكنين، وبقيتِ الضمةُ تَدُلُّ عليها وهكذا كلُّ ما جاء من نظائره. {إَلَاّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ} هذا استثناءٌ مفرَّغٌ من الأحوالِ العامة، و «أنتم مسلمون» مبتدأٌ وخبرٌ في محلِّ نصلٍ على الحالِ كأنه قال تعالى «لا تَموتُنَّ على كلِّ حالٍ إلا على هذه الحالِ» ، والعاملُ فيها ما قبلَ إلَاّ.
قوله: {أَمْ} : في أم هذه ثلاثةُ أقوالٍ، أحدُهما - وهو المشهورُ -: أنها منقطعةٌ، والمنقطعةُ تُقُدَّر ب «بل» وهمزةِ الاستفهامِ وبعضُهم يقدَّرُها ببل وحدَها. ومعنى الإِضرابِ انتقالٌ من شيءٍ إلى شيءٍ لا إبطالٌ له، ومعنى الاستفهامِ الإِنكارُ والتوبيخُ فيؤُول معناه إلى النفي أي: بل أكنتم شهداءَ يعني لم تكونوا. الثاني: أنها بمعنى/ همزةِ الاستفهامِ وهو قولُ ابن عطية والطبري، إلا أنهما اختلفا في محلِّها: فإنَّ ابن عطية قال: «وأم تكون بمعنى ألفِ الاستفهامِ في صدرِ الكلامِ، لغةٌ يمانيَّة» وقال الطبري: «إنَّ أم يُستفهم بها وسْطَ كلامٍ قد تقدَّم صدرُه» ، قال الشيخ في قول ابن عطية:«ولم أقفْ لأحدٍ من النحويين على ما قال» ، وقال في قول الطبري:«وهذا أيضاً قولٌ غريبٌ» . الثالث: أنها متصلةٌ وهو قولُ الزمخشري، قال الزمخشري بعد أن جَعَلَها منقطعةً وجَعَلَ الخطابَ للمؤمنين قال بعد ذلك: «وقيل الخطابُ لليهود، لأنهم كانوا يقولون: ما مات نبيٌّ إلا على اليهودية، إلا أنهم لو شَهدوه وسمعوا ما قاله لبنيه وما قالوه لظَهَر لهم
حِرْصُه على مِلَّة الإِسلامِ ولَمَا ادَّعَوا عليه اليهوديةَ، فالآيةُ منافيةٌ لقولهم، فكيف يُقال لهم: أم كنتم شهداءَ؟ ولكن الوجهَ أن تكونَ» أم «متصلةً على أَنْ يُقَدَّرَ قبلَها محذوفٌ كأنه قيل: أَتَدَّعُون على الأنبياءِ اليهوديةَ أم كنتُمْ شهداءَ، يعني أنَّ أوائلكم من بني إسرائيلَ كانوا مشاهِدين له إذا أراد بَنيه على التوحيد وملَّةِ الإِسلامِ. فما لكم تَدَّعُون على الأنبياءِ ما هم منه بَراءٌ؟» .
قال الشيخ: «ولا أعلَمُ أحداً أجازِ حَذْفَ هذه الجملةِ، لا يُحْفَظُ ذلك في شعرٍ ولا غيرِه، لو قلت:» أم زيدٌ «تريد:» أقام عمروٌ أم زيدٌ «لم يَجُزْ، وإنما يجوز حَذْفُ المعطوفِ عليه مع الواوِ والفاءِ إذا دَلَّ عليه دليلٌ كقولك:» بلى وعمراً «لمَنْ قال: لم يَضرِبْ زيداً، وقوله تعالى:{فانفجرت} [البقرة: 60] أي فضربَ فانفجَرَتْ، ونَدَرَ حَذْفُه مع أو كقوله:
732 -
فَهل لكَ أو مِنْ والدٍ لَكَ قبلنا
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أي: من أخٍ أو والدٍ، ومع حتى كقوله:
733 -
فواعَجَباً حتى كُلَيْبٌ تَسُبُّني
…
كأن أباها نَهْشَلٌ أو مجاشِعُ
أي: يَسُبُّني الناسُ حتى كُلَيْبٌ، على نظرٍ فيه، وإنما الجائزُ حَذْفُ» أم «مع ما عَطَفَتْ كقوله:
734 -
دعاني إليها القلبُ إني لأَمرِهِ
…
سميعٌ فما أدري أَرُشْدٌ طِلابُها
أي: أم غَيٌّ، وإنما جاز ذلك لأنَّ المستفْهَمَ عن الإِثبات يتضمَّن نقيضَه، ويجوز حَذْفُ الثواني المقابلاتِ إذا دَلَّ عليها المعنى، ألا ترى إلى قولِه:{تَقِيكُمُ الحر} [النحل: 81] كيف حَذَف» والبردَ «.
انتهى. و «شهداء» خبرُ كان وهو جَمْعُ شاهد أو شهيد، وقد تقدَّم أول السورة.
قوله: {إِذْ حَضَرَ} «إذ» منصوبٌ بشهداءَ على أنَّه ظَرْفٌ لا مفعولٌ به أي: شهداء وقتَ حضور الموتِ إياه، وحضورُ الموتِ كنايةٌ عن حضورِ أسبابِهِ ومقدِّماته، قال الشاعر:
735 -
وقلْ لهمْ بادِروا بالعُذْرِ والتمِسوا
…
قولاً يُبَرِّئُكُم إني أنا الموتُ
أي: أنا سببُه، والمشهورُ نصبُ «يعقوب» ورفع «الموت» ، قَدَّم المفعولَ اهتماماً. وقرأ بعضُهم بالعكس. وقُرىء «حَضِر» بكسر الضاد قالوا: والمضارعُ يَحْضُر بالضم شاذ، وكأنه من التداخُلِ وقد تقدَّم.
قوله: {إِذْ قَالَ} «إذ» هذه فيها قولان أحدُهما: بدلٌ من الأولى، والعاملُ فيها: إمَّا العاملُ في إذ الأولى إنْ قلنا إنَّ البدلَ لا على نية تكرار العامل أو عاملٌ مضمرٌ إِنْ قلنا بذلك. الثاني: أنها ظرفٌ لحَضَر.
قوله: {مَا تَعْبُدُونَ} ؟ «ما» اسمُ استفهام في محلِّ نصبٍ لأنه مفعولٌ مقدَّمٌ بتعبدون، وهو واجبُ التقديمِ لأنَّ له صدرَ الكلام وأتى ب «ما» دون «مَنْ» لأحدِ أربعةِ معانٍ، أحدُهما: أنَّ «ما» للمُبْهَمِ أمرُه، فإذا عُلِمَ فُرِّق ب «ما»
و «مَنْ. قال الزمخشري:» وكفاك دليلاً قولُ العلماء «مَنْ لما يَعْقِل» . الثاني: أنها سؤالٌ عن صفةِ المعبود، قال الزمخشري:«كما تقول: ما زيدٌ؟ تريد: أفقيهٌ أم طبيبٌ أم غيرُ ذلك من الصفات» . الثالث: أن المعبودات ذلك الوقتَ كانت غيرَ عقلاء كالأوثان والأصنام والشمسِ. والقمرِ، فاسْتَفْهم ب «ما» التي لغير العاقل فَعَرَف بنوه ما أراد فأجابوه بالحقِّ. الرابع: أنه اختَبَرهم وامتحَنَهم فسألهم ب «ما» دون «مَنْ» لئلا يَطْرُقَ لهم الاهتداء فيكون كالتلقين لهم ومقصودُه الاختبارُ. وقولُه «مِنْ بعدي» أي بعد موتي.
قوله: {وإله آبَائِكَ} أعاد ذكرَ الإِله لئلا يَعْطِفَ على الضمير المجرورِ دون إعادة الجارَّ، والجمهور على «آبائِك» وقرأ الحسن ويحيى وأبو رجاء «أبيك» ، وقرأ أُبَيّ:«وإلَه إبراهيم» فأسقط «آبائك» . فأمّا قراءةُ الجمهور فواضحةٌ. وفي «إبراهيم» وما بعدَه حينئذٍ ثلاثةُ أوجهٍ، أوحدُها: أنه بدلٌ. والثاني: أنه عطفُ بيانٍ، ومعنى البدلية فيه التفصيلُ. الثالثُ: أنه منصوبٌ بإضمار «أعني» ، فالفتحةُ على هذا علامةٌ للنصبِ، وعلى القَوْلين قبلَه علامةٌ للجرِّ لعدَمِ الصَّرْفِ، وفيه دليلٌ على تسمية الجَدِّ والعمِّ أباً، فإنَّ إبراهيمَ جَدُّه وإسماعيلَ عمُّه، كما يُطْلَقُ على الخالة أب، ومنه:{وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ} [يوسف: 100] في أحد القولين. قال بعضهم: «وهذا من باب التغليب، يعني أنه غَلَّب الأبَ على غيره وفيه نظرٌ، فإنه قد جاء هذا الإِطلاقُ حيث لا تثنيةٌ ولا جمعٌ فَيُغَلَّبُ فيهما، قال عليه السلام:
«رُدُّوا عليَّ أبي» يعني العباس.
وأمَّا قراءة «أَبيك» فتحتملُ وجهين، أحدُهما: أن يكونَ مفرداً غيرَ
جمعٍ، وحينئذٍ: فإمّا أَنْ يكونَ واقعاً موقعَ الجمعِ أولا، فإن كان واقعاً موقع الجمعِ فالكلامُ في «إبراهيم» وما بعدَه كالكلامِ فيه على القراءة المشهورةِ، وإنْ لم يكنْ واقعاً موقعه بل أُريد به الإِفرادُ لفظاً ومعنىً فيكون «إبراهيم» وحدَه على الأوجه الثلاثة المتقدمة، ويكونُ إسماعيلُ وما بعدَه عطفاً على «أبيك» أي: وإله إسماعيل. الثاني: يكونَ جَمْعَ سلامةٍ بالياء والنون، وإنما حُذِفَت النون للإِضافة، وقد جاء جمعُ أب على «أَبُون» رفعاً، و «أبِين» جَرَّاً ونَصْباً حكاها سيبويه، قال الشاعر:
736 -
فلمَّا تَبَيَّنَّ أصواتَنا
…
بَكَيْنَ وفَدَّيْنَنَا بالأِبِينا
ومثله:
737 -
فَقُلْنا أَسْلِموا إنَّا أَبُوكمْ
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
والكلامُ في إبراهيمِ وما بعده كالكلامِ فيه بعد جمعِ التكسير. وإسحاق علم أعجمي ويكونُ مصدرَ أًسْحق، فلو سُمِّي به مذكرٌ لانصرَف، والجمعُ أساحِقة وأساحيق.
قولُه: {إلها وَاحِداً} فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها أنَّه بدل مِنْ «إلهك» بدلُ نكرةٍ موصوفةٍ من معرفةٍ كقولِه:{بالناصية نَاصِيَةٍ [كَاذِبَةٍ] } [العلق: 15] . والبصريون لا يَشْترطون الوصفَ مُسْتدِلِّين بقولِه:
738 -
فلا وأبيك خيرٍ منك
…
إنِّي لَيُؤْذِيني التَّحَمْحُمُ والصَّهيلُ
ف «خيرٍ» بدل من «أبيك» ، وهو نكرةٌ غيرُ موصوفةٍ. والثاني أنه حالٌ من «إلهك» / والعاملُ فيه «نعبدُ» ، وفائدةُ البدلِ والحالِ التنصيصُ على أن معبودَهم فَرْدٌ إذ إضافةُ الشيءِ إلى كثير تُوهم تعدادَ المضافِ، فنصَّ بها على نَفْي ذلك الإِبهامِ. وهذه الحالُ تسمّى «حالاً موطئةً» وهي أَنْ تذكرها ذاتاً موصوفةً نحو: جاء زيد رجلاً صالحاً. الثالث: - وإليه نحا الزمخشري - أن يكونَ منصوباً على الاختصاص أي: نريد بإلهك إلهاً واحداً. قال الشيخ: «وقد نَصَّ النحويون على أنَّ المنصوبَ على الاختصاص لا يكون نكرةً ولا مبهماً» .
قوله: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} في هذه الجملةِ ثلاثةُ أوجهٍ: أحدُها: أنها معطوفةٌ على قوله: «نعبد» يعني أنها تَتِمَّةُ جوابِهم له فأجابوه بزيادة. والثاني: أنها حالٌ من فاعلِ «نَعْبُدُ» والعاملُ «نَعْبُد» . والثالث: - وإليه نحا الزمخشري - ألَاّ يكونَ لها مَحَلٌّ، بل هي جملةٌ اعتراضيةٌ مؤكِّدةٌ، أي: ومِنْ حالِنا أنَّا له مخلصونَ. قال الشيخ: «ونصَّ النحويون على أنَّ جملةَ الاعتراضِ هي التي تفيدُ تقويةً في الحكمِ: إمَّا بين جُزْئَي صلةٍ وموصولٍ كقوله:
739 -
ماذا - ولا عُتْبَ في المقدورِ - رُمْتَ أما
…
يَكْفِيك بالنَّجْحِ أَمْ خُسْرٌ وتَضْلِيل
وقوله:
740 -
ذاكَ الذي - وأبيك - يَعْرِفُ مالكاً
…
والحقُّ يَدْفَعُ تُرَّهَاتِ الباطِلِ
أو بين مسندٍ ومسند إليه كقوله:
741 -
وقد أَدْرَكَتْني - والحوادِثُ جَمَّةٌ
…
أَسِنَّةُ قومٍ لا ضِعافٍ ولا عُزْلِ
أو بينَ شرطٍ وجزاءٍ أو قَسَمٍ وجوابِه، ممَّا بينهما تلازُمٌ ما، وهذه الجملةُ قبلَها كلامٌ مستقلَّ عمَّا بعدَها، لَا يُقال: إنَّ بينَ المُشار إليه وبينَ الإِخبارِ عنه تلازماً لأنَّ ما قبلها مِنْ مقول بني يعقوبَ وما بعدَها من كلام الله تعالى، أَخْبر بها عنهم، والجملةُ الاعتراضيةُ إنما تكونُ من الناطقِ بالمتلازِمَيْنِ لتوكيدِ كلامِه «. انتهى ملخصاً. وقال ابن عطية:» ونحنُ لَه مسلمون ابتداءٌ وخبرٌ أي: كذلك كنَّا ونحن نكون «. قال الشيخ:» يَظْهَرُ منه أنه جَعَلَ هذه الجملةُ عطفاً على جملةٍ محذوفةٍ ولا حاجةَ إليه «.
قولُه تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ} : «تلكَ» مبتدأٌ، و «أمةٌ» خبرُه، ويجوزُ أن تكونَ «أمةٌ» بدلاً من «تلك» و «قد خَلَتْ» خبرٌ للمبتدأ.: وأصل تلك: تي فلمَّا جِيء باللامِ للبعدِ حُذِفَتِ الياءُ لالتقاءِ الساكنَيْنِ، فإنْ قيلَ: لِمَ لَمْ تُكْسَرُ اللامُ حتى لا تُحْذَفَ الياءُ؟ فالجوابُ أَنَّه يَثْقُل اللفظُ بوقوع الياءِ بين كسرتين. وزعم الكوفيون أن التاءَ وحدَها هي الاسمُ، وليس ثَمَّ شيءٌ
محذوفٌ. وقوله «قد خَلَتْ» جملةٌ فعليةٌ في محلِّ رفع صفةً ل «أمَّة» ، إنْ قيل إنَّها خبرُ «تلك» ، أو خبرُ «تلك» إنْ قيل إنَّ «أُمَّة» بدلٌ من «تلك» ، كما تقدَّم، و «خَلَتْ» أي صَارتْ إلى الخلاءِ وهي الأرْضُ التي لا أنيسَ بها، والمرادُ به ماتَتْ، والمشارُ إليه هو إبراهيم ويعقوبُ وأبناؤُهم.
قوله: {لَهَا مَا كَسَبَتْ} في هذه الجملةِ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنْ تكونَ صفةً لأمة أيضاً، فيكونُ محلُّها رفعاً. والثاني: أن تكونَ حالاً من الضمير في «خَلَتْ» فمحلُّها نصبٌ، أي: خَلَتْ ثابتاً لها كَسْبُها. الثالث: أن تكونَ استئنافاً فلا محلَّ لها. وفي «ما» مِنْ قولِه: «ما كَسَبَتْ» ثلاثةُ أوجهٍ، أظهرُها: أنَّها بمعنى الذي. والثاني: أنها نكرةٌ موصوفة، والعائدُ على كِلا القولَيْنِ محذوفٌ أي: كَسَبَتْه، إلَاّ أنَّ الجملةَ لا محلَّ لها على الأول. والثالث: أنَ تكونَ مصدريةً فلا تحتاجُ إلى عائدٍ على المشهور، ويكونُ المصدرُ واقعاً موقعَ المفعولِ أي: له مكسُوبُها أو يكونُ ثمَّ مضافٌ أي: لها جزاءُ كَسْبِها.
قوله: {وَلَكُمْ مَّا كَسَبْتُمْ} إنْ قيل: إنَّ قولَه {لَهَا مَا كَسَبَتْ} مستأنَفٌ كانت هذه الجملةُ عطفاً عليه، وإنْ قيل إنَّه صفةٌ أو حالٌ فلا، أمَّا الصفةُ فلعدمِ الرابطِ فيها، وأمَّا الحالُ فلاختلافِ زمانِ استقرارِ كسبِها لها وزمانِ استقرارِ كسب المخاطَبين، وعطفُ الحالِ على الحالِ يُوجِبُ اتحادَ الزمانِ و «ما» مِنْ قولِه «ما كسبتم» ك «ما» المتقدمةِ.
قوله: {وَلَا تُسْأَلُونَ} هذه الجملةُ استئنافٌ ليس إلَاّ، ومعناها التوكيدُ لِما قبلَها، لأنه لمَّا تقدَّم أنَّ أحداً لا ينفعه كَسْبُ أحدٍ بل هو مختصٌّ به إِنْ خيراً وإنْ شراً فلذلك لا يُسْأل أحدٌ عن غيره، وذلك أنَّ اليهودَ افتخَروا بأسلافِهم فَأُخْبِروا بذلك. و «ما» يجوزُ فيها الأوجهُ الثلاثةُ مِنْ كَوْنِها موصولةً اسميةٌ
أو حرفية أو نكرةً، وفي الكلامِ حَذْفٌ أي: ولا يُسْأَلون عمّا كنتم تَعملون. قال أبو البقاء: «ودلَّ عليه: لَهَا ما كَسَبَتْ ولكم ما كَسَبْتُم انتهى. ولو جُعِلَ الدالُّ قولَه {وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} كان أَوْلى لأنه مقابلَةٌ.
قوله تعالى: {هُوداً أَوْ نصارى} : الكلامُ في «أو» كالكلامِ فيها عندَ قولِه: «وقالوا: لن يَدْخُلَ الجنةَ إلا مَنْ كان هوداً أو نصارى» وقد تقدَّم، و «تهتدوا» جزمٌ على جوابِ الأمرِ، وقد عُرِفَ ما فيه من الخلافِ: أعني هل جَزْمُه بالجملةِ قبلَه أو ب «إنْ» مقَدَّرَةً؟
قوله: {مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} قرأ الجمهور: «مِلَّةَ» نصباً، وفيها أربعة أوجه، أحدها: أنه مفعولُ فعلٍ مضمرٍ، أي: بل نتبعُ مِلّةَ، لأنَّ معنى كونوا هُوداً: اتبعوا اليهوديةَ أو النصرانية. الثاني: أنه منصوبٌ على خبر كان، أي: بل نكونُ مِلَّة أي: أهلَ ملة، كقول عدي بن حاتم:«إني من دين» أي من أهل دين، وهو قولُ الزجاج وتَبِعه الزمخشري. الثالث: أنه منصوبُ على الإِغراء أي: الزموا ملةَ وهو قولُ أبي عُبَيْدَةَ، وهذا كالوجهِ الأولِ في أنَّه مفعولٌ به وإن اختلفَ العاملُ. الرابع: أنه منصوبٌ على إسقاطِ حرفِ الجَرِّ، والأصلُ: نَقْتَدي بملةِ إبراهيم، فلمَّا حُذِفَ الحرفُ انتصَبَ، وهذا يحتملُ أَنْ يكونَ من كلامِ المؤمنين فيكونَ تقديرُ الفعلِ: بل نكونُ أو نتَّبع أو نَقْتدي كما
تقدَّم، وأن يكونُ خطاباً للكفارِ فيكونُ التقديرُ: كونوا أو اتَّبعوا او اقتدوا. وقرأ ابن هرمز وابن أبي عبلة «مِلَّةُ» رفعاً. وفيها وجهان: أحدُهما: خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ، أي: بل ملتُنا ملةُ إبراهيمَ أو نحن ملةُ، أي أهلُ ملة.
والثاني: أنها مبتدأٌ حُذِفَ خبرُه، تقديرُه: مِلَّة إبراهيمَ ملَّتُنا.
قوله: {حَنِيفاً} في نصبهِ أربعةُ أقوالٍ، أحدُها: أنه حالٌ من «إبراهيم» لأنَّ الحالَ تجيءُ من المضافِ إليهِ قياساً في ثلاثةِ مواضعَ على ما ذَكَرَ بعضُهم، أحدها: أن يكونَ المضافُ عاملاً عملَ الفعلِ. الثاني: أنْ يكون جزءاً نحو: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً} [الحجر: 47] . الثالث: أن يكونَ كالجزءِ كهذه الآية؛ لأنَّ إبراهيمَ لمَّا لازمَها تنزَّلَتْ منه منزلةَ الجزءِ. والنحويون يسضعفون مجيئَها من المضاف إليه ولو كانَ المضافُ جزءاً، قالوا: لأنَّ الحالَ لا بدَّ لها من عاملٍ، والعاملُ في الحالِ هو العاملُ في صاحبها، والعاملُ في صاحبِها لا يعملُ عملَ الفعل. ومَنْ جَوَّز ذلك قَدَّر العاملَ فيها معنى اللام أو معنى الإِضافةِ، وهما عاملان في صاحِبها عند هذا القائل. ولم يذكر الزمخشري غيرَ هذا الوجهِ، وشبَّهه بقولك:«رأيتُ وجهَ هندٍ قائمةً» وهو قولُ الزجَّاج.
الثاني: نصبُه بإضمارِ فعلٍ أي: نتبعُ حنيفاً، وقدَّره أبو البقاء بأعني، وهو قولُ الأخفشِ الصغيرِ وجَعَلَ الحالَ خطأ.
الثالث: أنه منصوبٌ على القَطْع وهو رأيُ الكوفيين، وكان الأصلُ عندهم: إبراهيمَ الحنيفَ، فلمَّا نكَّره لم يُمْكِن إتْباعه، وقد تقدَّم تحريرُ ذلك.
الرابع - وهو المختارُ - أن يكونَ حالاً من «ملَّة» فالعاملُ فيه ما قَدَّرناه عاملاً فيها، وقد تقدَّم، وتكونُ حالاً لازمةً لأنَّ الملَّةَ لا تتغيَّر عن هذا الوصفِ، وكذلك على القولِ بِجَعْلِها حالاً من «إبراهيم» لأنَّه لم يَنْتقِلْ عنها، فإنْ قيل: صاحبُ الحالِ مؤنثٌ فكان ينبغي أَنْ يطابقَه في التأنيثِ فيقال: حنيفةً، فالجوابُ من وجهين، أحدُهما: أنَّ فَعيلاً يستوي فيه المذكرُ والمؤنُث. والثاني: أن الملَّة بمعنى الدِّين، ولذلك أُبْدِلَتْ منه في قوله:{دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} [الأنعام: 161] ذكر ذلك ابنُ الشجري في «أماليه» .
والحَنَفُ: المَيْلُ ومنه/ سُمِّي الأحْنَفُ لِمَيْلِ إحدى قَدَمَيْهِ بالأصابعِ إلى الأخرى قالَتْ أمُّه:
742 -
واللَّهِ لولا حَنَفٌ برِجْلِه
…
ما كانَ في فِتْيانكم مِنْ مثلهِ
ويقال: رَجُلٌ أَحْنَفُ وامرأة حَنْفَاءُ، وقيل: هو الاستقامةُ، وسُمِّي المائلُ الرجلِ بذلك تفاؤلاً كقولِهم لِلديغ:«سليمٌ» ، وللمَهْلَكَة:«مفازة» قاله ابن قتيبة، وقيل: الحَنيفُ لَقَبٌ لمن تَدّيَّن بالإِسلام، قال عمرو:
743 -
حَمَدْتُ اللهَ حين هدى فؤادي
…
إلى الإِسلام والدينِ الحَنيفِ
قاله القفال، وقيل: الحَنيف: المائلُ عَمّا عليه العامَّةُ إلى ما لزِمه، قاله الزجاج وأنشد:
744 -
ولكنَّا خُلِقْنا إذْ خُلِقْنا
…
حنيفاً دينُنا عَنْ كلِّ دِينِ
قوله تعالى: {قولوا} : في هذا الضمير قولان، أحدُهما: أنَّه للمؤمنينِ والمرادُ بالمُنَزَّلِ إليهم القرآنُ على هذا. والثاني: أنه يعودُ على القائلين كونوا هوداً أو نصارى، والمرادُ بالمُنَزَّل إليهم: إمّا القرآنُ وإمَّا التوراةُ والإِنجيلُ، وجملةُ «آمنَّا» في محلِّ نَصْبِ بقولوا، وكرَّر الموصول في قولِه:{وَمَآ أُنزِلَ إلى إِبْرَاهِيمَ} لاختلافِ المنزَّلِ إلينا والمُنزَّلِ إليه، فلو لم يكرِّر لأوْهَمَ أن المنزَّلَ إلينا هو المنزَّلُ إليه، ولم يكرِّر في «عيسى» لأنه لم يخالِفْ شريعةَ موسى إلا في نَزْر يَسير، فالذي أوتيه عيسى هو عينُ ما أُوتيه موسى إلَاّ يسيراً، وقُدِّم المنزَّلُ إلينا في الذِّكرْ وإِنْ كان متأخراً في الإِنزال تشريفاً له.
والأسْباط: جمعُ «سِبْط» وهم في وَلَدِ يعقوبَ كالقبائل في وَلَدِ إسماعيلً. واشتقاقُهم من السَّبْط وهو التتابعُ، سُمُّوا بذلك لأنهم أمة متتابعون. وقيل: هو مَقْلُوبٌ من البَسْط، وقيل: مِنْ «السَّبَط: بالتحريك جمع» سَبَطة «وهو الشجرُ الملتفُّ. وقيل للحَسَنَيْن سِبْطا رسولِ الله صلى الله عليه وسلم لانتشارِ ذرِّيَّتهم، ثم قيل لكل ابن بنت:» سِبْط «.
قوله: {وَمَآ أُوتِيَ موسى} يجوزُ في» ما «وجهان، أحدُهما: أَنْ تكونَ في محلِّ جرٍّ عطفاً على المؤمَنِ به وهو الظاهرُ. والثاني: أنَّها في محلِّ رفعِ
بالابتداءِ، ويكونُ {وَمَا أُوتِيَ النبيون} عطفاً عليها، وفي الخبرِ وجهان، أحدُهما: أن يكونَ» مِنْ ربهم «. والثاني: أن يكون» لا نفرِّقُ «هكذا ذَكِرَ الشيخ، إلا أنَّ في جَعْلِه» لا نفرِّقُ «خبراً عن» ما «نظراً لا يَخْفى من حيثُ عدمُ عودِ الضميرِ عليها. ويجوزُ أن تكونَ» ما «الأولى عطفاً على المجرورِ، وما الثانيةُ مبتدأةً وفي خبرها الوجهانِ، وللشيخ أن ينفصِلَ عن عدمِ عَوْدِ الضميرِ بأنَّه محذوفٌ تقديرُه: لا نفرِّق فيه، وحَذْفُ العائدِ المجرورِ ب» في «مطَّردٌ كَما ذَكَر بعضُهم، وأنشد:
745 -
فيومٌ علينا ويومٌ لنا
…
ويومٌ نُسَاءُ ويَوْمٌ نُسَرّ
أي: نُساء فيه ونُسَرُّ فيه.
قوله: {مِن رَّبِّهِمْ} فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها - وهو الظاهرُ - أنَّه في محلِّ نصبٍ، و» مِنْ «لابتداءِ الغايةِ، ويتعلَّقُ ب» أُوتِيَ «الثانيةِ إن أَعَدْنا الضميرَ على النبيين فقط دونَ موسى وعيسى أو ب» أوْتِيَ «الأولى، وتكونُ الثانيةُ تكراراً لسقوطِها في آل عمران إنْ أَعَدْنَا الضميرَ على موسى وعيسى والنبيِّين، الثاني: أن يكون في محلِّ نصبٍ على الحالِ من العائدِ على الموصولِ فيتعلَّقَ بمحذوفٍ تقديرُه: وما أُوتيه كائناً من ربهم الثالث: انه في محلَّ رفعٍ لوقوعِه خبراً إذا جَعَلْنا» ما «مبتدأً وقد تقدَّم تحقيقُه.
قوله: {بَيْنَ أَحَدٍ} متعلِّقُ ب «لا نُفَرِّقُ» ، وفي «أحد» قولان أظهرُهما: أنَّه الملازِمُ للنفي الذي همزتُه أصليةٌ فهو للعمومِ وتحته أفرادٌ، فلذلك صَحَّ دخولُ «بين» عليه مِنْ غيرِ تقديرِ معطوفٍ نحو:«المالُ بين الناس» . والثاني: أنه الذي همزتُه بدلٌ من واوٍ بمعنى واحد، وعلى هذا فلا بدَّ من تقديرِ معطوفٍ
ليَصِحَّ دخولُ «بَيْنَ» على متعددٍ، ولكنه حُذِفَ لفَهْمِ المَعْنى، والتقدير: بين أحدٍ منهم، ونظيرُه ومثلُه قولُ النابغة:
746 -
فما كان بين الخيرِ لو جاءَ سالماً
…
أبو حُجُرٍ إلا ليالٍ قلائِلُ
أي: بين الخير وبيني. و «له» متعلِّقٌ بمسلمون، قُدِّم للاهتمامِ به لعَوْدِ الضميرِ على الله تعالى أو لتناسُبِ الفواصل.
قوله تعالى: {بِمِثْلِ مَآ آمَنْتُمْ بِهِ} : في الباءِ أقوالٌ، أحدُها: أنها زائدةٌ كهي في قولِه {وَلَا تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ} [البقرة: 195] وقوله: {وهزى إِلَيْكِ بِجِذْعِ} [مريم: 25] وقوله:
747 -
. . . . . . . . . . . . . . . . . .
…
سُودُ المَحاجِرِ لا يَقْرَأْنَ بالسُّوَرِ
والثاني: أنها بمعنى «على، أي: فإنْ آمَنوا على مثلِ إيمانكم بالله» . والثالث: أنَّها للاستعانةِ كهي في «نَجَرْتُ بالقَدُوم» و «كَتَبْتُ بالقلم» والمعنى: فإنْ دَخَلوا في الإِيمانِ بشهادةٍ مثلِ شهادتِكم، وعلى هذه الأوجهِ فيكونُ المؤمَنُ به محذوفاً، و «ما» مصدريةً والضميرُ في «به» عائداً على الله تعالى، والتقديرُ: فإنْ آمنوا باللهِ إيماناً مثلَ إيمانِكم به، و «مثل» هنا فيها قولان، أحدُهما: أنَّها زائدةٌ والتقديرُ: بما آمنْتُم به، وهي قراءة عبدِ الله بنِ مسعودٍ وابن
عباس، وذكر البيهقي عن ابن عباس: «لا تقولوا بمثلِ ما آمنتم [به] فإنَّ اللهَ لَيس لَه مِثْلٌ ولكن قولوا بالذين آمنتم به} وهذه تُرْوَى قراءةً [عن] أُبَيّ، ونظيرُها في الزيادةِ قولُ الشاعرِ:
748 -
فَصُيِّروا مثلَ كعصفٍ مَأْكُولْ
…
وقال بعضهم: هذا من مجازِ الكلام تقولُ: هذا أمرٌ لا يَفْعَلُه مثلُك، أي لا تَفْعَلُه أنت، والمعنى: فإن آمنوا بالذي آمنتم به، نَقَلَه ابنُ عطية، وهو يَؤُول إلى إلغاءِ» مثل «وزيادتِها، والثاني: أنها ليست بزائدةٍ، والمثليةُ متعلقةٌ بالاعتقادِ، أي: فإن اعتقدوا بمثلِ اعتقادكم، أو متعلقةٌ بالكتابِ أي: فإنْ آمنوا بكتاب مثلِ الكتابِ الذي آمنتُمْ به، والمعنى: فإنْ آمَنوا بالقرآنِ الذي هو مُصَدَّقٌ لِما في التوراةِ والإِنجيلِ، وهذا التأويلُ ينفي زيادةَ الباء.
و» ما «قولِه: {بِمِثْلِ مَآ آمَنْتُمْ} فيها وجهان، أحدُهما: أنَّها بمعنى الذي والمرادُ بها حينئذٍ: إمَّا اللهُ تعالى بالتأوِيل المتقدِّمِ عِندَ مَنْ يُجيز وقوعَ» ما «على أولي العلمِ نحو: {والسمآء وَمَا بَنَاهَا} [الشمس: 5] وإمَّا الكتابُ المنزَّلُ. والثاني: أنَّها مصدريةٌ وقد تقدَّم ذلك. والضميرُ في» به «فيه أيضاً وجهان، أحدُهما: أنَّه يعودُ على اللهِ تعالى كما تقدَّم. والثاني: أن يعودَ على» ما «إذا قيل: إنَّها بمعنى الذي.
قوله: {فَقَدِ اهتدوا} جوابُ الشرط في قوله:» فإنْ آمنوا «، وليس الجوابُ محذوفاً، كهو في قوله:{وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ} [فاطر: 4] لأنَّ تكذيبَ الرسلِ
ماضٍ محقَّقُ هناك فاحتجْنا إلى تقديرِ جوابٍ، وأمَّا هنا فالهدايةُ منهم لم تقعْ بعدُ فهي مستقبلةٌ معنىً وإن أُبْرِزَتْ في لفظِ المُضِيّ.
قوله: {فِي شِقَاقٍ} خبرٌ لقوله:» هم «وجَعَلَ الشِّقاقَ ظرفاً لهم وهم مظروفون له مبالَغَةً في الإِخبارِ باستعلائِه عليهم، وهو أَبْلَغُ مِنْ قولِك هم مُشاقُّون، ومثلُه:{إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ} [الأعراف: 66] ونحوُه: والشِّقاقُ مصدرٌ من شاقَّه يُشاقُّه نحو: ضاربه ضِراباً، ومعناه المخالَفَةُ والمُعَادَاةُ، وفي اشتقاقِه ثلاثةُ أقوالٍ، أحدُها: أنه من الشِّقِّ وهو الجانبُ.
وذلك أن أحد المُشاقِّين يَصير في شِقِّ صاحبِه/ أي: جانبِه، قال امرؤ القيس:
749 -
إذا ما بَكَى مِنْ خَلْفِها انْصَرَفَتْ له
…
بشِقًّ وشِقٌّ عندَنا لم يُحَوَّلِ
أي: بجانبٍ. الثاني: أنه من المَشَقَّة فإنَّ كلاً منهما يَحْرِصُ على ما يَشُقُّ على صاحبِه. الثالث: أنَّه من قولهم: «شَقَقْتُ العَصا بيني وبينك» وكانوا يفعلون ذلك عند تَعادِيهم، والفاءُ في قولهِ:«فَسَيَكْفِيكَهُم» تُشْعِرُ بتعقيبِ الكفاية عَقِبَ شِقاقهم. وجيءَ بالسينِ دونَ سوف لأنها أقربُ منها زماناً بوَضْعِها، ولا بُدَّ من حذفِ مضافٍ أي: فسيكفيكَ شِقاقَهم؛ لأنَّ الذواتِ لا تُكْفى إنما تُكْفَى أفعالُها، والمَكْفِيُّ به هنا محذوفٌ أي: بمَنْ يَهْدِيه الله أو بتفريق كلمتِهم.
قوله تعالى: {صِبْغَةَ الله} : قرأ الجمهورُ «صبغةَ» بالنصبِ، وقال الطبري:«مَنْ قَرَأَ مِلَّةُ إبراهيمَ بالرفع قرأ صبغةُ بالرفع» وقد تقدَّم أنها قراءةُ ابنِ هرمز وابن أبي عبلة. فأمَّا قراءةُ الجمهورِ ففيها أربعةُ
أوجهٍ أحدُها: أنَّ انتصابَها انتصابُ المصدرِ المؤكِّد وهذا اختاره الزمخشري، وقال:«هو الذي ذَكَر سيبويه والقولُ ما قالَتْ حَذامِ» انتهى قولُه. اختُلَفِ حينئذٍ عن ماذا انتصَبَ هذا المصدرُ؟ فقيل عن قولِه: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} وقيل: عَنْ قولِه: {فَقَدِ اهتدوا} . الثاني: أنَّ انتصابَها على الإِغراء أي: الزَمُوا صبغةَ الله، قال الشيخ:«وهذا ينافِرُه آخرُ الآيةِ وهو قولُه: {وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ} إلا أَنْ يُقَدَّر هنا قولٌ، وهو تقديرٌ لا حاجةَ إليه ولا دليلَ من الكلامِ عليه» . الثالث: أنها بدلٌ من «مِلَّةَ» وهذا ضعيف إذ قد وَقَعَ الفصلُ بينهما بجُملٍ كثيرة. الرابع انتصابُها بإضمار فعلٍ أي: اتِّبِعوا صبغةَ الله، ذكره أبو البقاء مع وجهِ الإِغراءِ، وهو في الحقيقةِ ليس زائداً فإنَّ الإِغراءَ أيضاً هو نصبٌ بإضمارِ فعلٍ.
وأمَّا قراءةُ الرفعِ فتحتملُ وَجْهين أحدُهما: أنَّها خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي:
ذلك الإِيمانُ صبغةُ الله. والثاني: أن تكونَ بدلاً مِنْ «مِلَّة» لأنَّ مَنْ رَفَعَ «صِبْغَة» رفع «مِلَّة» كما تقدَّم فتكونَ بدلاً منها كما قيل بذلك في قراءةِ النصبِ.
قولِه: {وَمَنْ أَحْسَنُ} مبتدأٌ وخبرٌ، وهذا استفهامٌ معناه النَّفْيُ أي: لا أحدَ، و «أَحْسَنُ» هنا فيها احتمالان، أحدُهما: أنها ليست للتفضيل إذ صبغةُ غيرِ الله منتفٍ عنها الحُسْنُ. والثاني: أنْ يُراد التفضيلُ باعتبارِ مَنْ يظنُّ أنَّ في صِبْغةِ غيرِ الله حُسْناً لا أنَّ ذلكَ بالنسبةِ إلى حقيقةِ الشيءِ. و «مِنَ الله» ، متعلِّقٌ بَحْسَنُ فهو في محلِّ نَصْبٍ. و «صبغةً» نصبٌ على التمييز مِنْ أَحْسَنُ، وهو من التمييز المنقولِ من المبتدأ والتقديرُ: ومَنْ صِبْغَتُه أحسنُ مِنْ صبغةِ الله، فالتفضيلُ إنَّما يَجْري بين الصبغتينِ لا بينَ الصابغين. وهذا غريبٌ أعني كَوْنَ التمييزِ منقولاً من المبتدأ.
قولُه: {وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ} جملةٌ من مبتدأٍ وخبرٍ معطوفةٌ على قَوْلِهِ {قولوا آمَنَّا بالله} فهي في محلِّ نصبٍ بالقول، قال الزمخشري:«وهذا العطفُ يَرُدُّ قولَ مَنْ زَعَمَ أنَّ» صبغة الله «بدلٌ مِنْ» مِلَّةَ «أو نصبٌ على الإِغراءِ بمعنى عليكم صبغةَ الله لما فيه مِنْ فَكِّ النَّظْم وإخراجِ الكلامِ عن التئامِهِ واتِّساقِه» . قال الشيخ: «وتقديرُه في الإِغراءِ: عليكم صبغةَ ليس بجيدٍ؛ لأنَّ الإِغراءَ إذَا كانَ بالظروفِ والمجروراتِ لا يجوزُ حَذْفُ ذلك الظرفِ ولا المجرورِ، ولذلك حينَ ذَكَرْنا وجهَ الإِغراءِ قدَّرْنا بالزموا صبغةَ الله. انتهى» . كأنَّه لضَعْفِ العَمَلِ بالظروف والمجروراتِ ضَعُفَ حَذْفُها وإبقاءُ عملِها.
قوله تعالى: {أَتُحَآجُّونَنَا} : الاستفهامُ هنا للإِنكار والتوبيخِ. والجمهورُ: «أتحاجُّوننا» بنونين الأولى للرفعِ والثانيةُ نونُ «ن»
وقرأ زيدٌ والحسنُ والأعمشُ بالإدغام، وأجاز بعضُهم حَذْفَ النونِ الأولى، فأمَّا قراءةُ الجمهورِ فواضحةٌ، وأمّا قراءةُ الإِدغامِ فلاجتماعِ مِثْلَيْن، وسَوَّغَ الإِدغام وجودُ حرفِ المَدِّ واللين قبلَه القائمِ مقام الحركةِ، وأما من حَذَفَ فبالحَمْلِ على نونِ الوقايةِ كقراءة:{فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} [الحجر: 54] وقولِه:
750 -
تَراه كالثَّغام يُعَلُّ مِسْكاً
…
يَسُوءُ الفالياتِ إذا فَلَيْني
يريد: فلينني، وهذه الآيةُ مثلُ قولِه:{أَفَغَيْرَ الله تأمروني أَعْبُدُ} [الزمر: 64] فإنه قُرِئَتْ بالأوجهِ الثلاثةِ: الفَكِّ والإِدغامِ والحَذْفِ، ولكن في المتواتِر، وهنا لم يُقْرَأْ في المشهورِ كما تقدَّم إلا بالفك. ومَحَلُّ هذه الجملةِ النصبُ بالقولِ قَبْلها. والضميرُ في «قل» يَحْتَمِلُ أن يكونَ للنبي عليه السلام أو لكلِّ مَنْ يَصْلُح للخطابِ، والضميرُ المرفوعُ في «أتحاجُّوننا» لليهودِ والنصارى أو لمشركي العَرَبِ. والمُحَاجَّةُ مُفَاعَلة من حَجَّه يَحُجُّه. وقولُه «في الله» لا بدَّ من حَذْفِ مضافٍ أي: في شأنِ الله أو دينِ الله.
قوله: {وَهُوَ رَبُّنَا} مبتدأٌ وخبرٌ في محلِّ نصبٍ على الحالِ، وكذا ما عُطِفَ عليه من قولِه:«ولنا أعمالُنا» ولا بُدَّ من حَذْفِ مضافٍ أي: جَزَاءُ أعمالِنا ولكم جزاءُ أعمالِكم.
قوله تعالى: {أَمْ تَقُولُونَ} : قرأ حمزة والكسائي وحفص وابن عامر بتاءِ الخطابِ والباقون بالياء، فأمّا قراءةُ الخطابِ فتحتمل «أم» فيها وَجْهين «، أحدُهما: أن تكونَ المتصلةَ، والتعادلُ بين هذه الجملةِ وبين قوله:» أتحاجُّوننا، فالاستفهامُ عن وقوعِ أحدِ هذين الأمْرَيْن: المُحاجَّةِ في اللهِ او ادِّعاءٍ على إبراهيمَ ومَنْ ذُكِرَ معه اليهوديَة والنصرانيةَ، وهو استفهامُ إنكارٍ وتويبخٍ كما تقدَّم فإنَّ كِلا الأمرين باطلٌ. والثاني: أن تكونَ المنقطعةَ فتتقدَّرَ ب «بل» والهمزةِ، على ما تقرَّر في المنقطعة على أصحِّ المذاهبِ، والتقدير: بل أتقولون: والاستفهامُ للإنكار والتوبيخِ أيضاً فيكونُ قد انتقل عن قولِه: أتحاجُّوننا وأَخَذَ في الاستفهام عن قضيةٍ أخرى، والمعنى على إنكارِ نسبةِ اليهوديةِ والنصرانيةِ إلى إبراهيمَ ومَنْ ذُكِرَ معه.
وأمَّا قراءةُ الغَيْبة فالظاهرُ أنَّ «أم» فيها منقطعةٌ على المعنى المتقدَّم. وحكى الطبري عن بعضِ النحويين أنها متصلةٌ لأنك إذا قلت: أتقومُ أم يقولم عمروٌ: أيكونُ هذا أم هذا. وردَّ ابنُ عطية هذا الوجهَ فقال: «هذا المثالُ غيرُ جيدٍ، لأنَّ القائلَ فيه واحدٌ والمخاطَبُ واحدٌ، والقولُ في الآيةِ من اثنين والمخاطَبُ اثنان غَيْرانِ، وإنّما تَتَّجِهُ معادَلةُ» أم «للألفِ على الحكم المعنوي، كأنَّ معنى قُلْ أتحاجُّوننا: أيُحاجُّون يا محمد أم يقولون» انتهى. وقال الزمخشري: «وفيمَنْ قَرَأَ بالياء لا تكونُ إلا منقطعةً» قال الشيخ: «ويمكن الاتصالُ مع قراءةِ الياءِ، ويكون ذلك من الالتفاتِ إذ صارَ فيه [
خروجٌ] من خطابٍ إلى غَيْبةِ، والضميرُ لناسٍ مخصوصين» . وقال أبو البقاء:«أم يقولونَ يُقْرأ بالياء ردَّاً على قوله:» فَسَيَكْفيكُهُم الله «فجَعَلَ هذه الجملةَ متعلقةً بقولِه:» فسيكفيكَهم «وحينئذٍ لا تكونُ إلا منقطعةً لِمَا عَرَفْتَ أنَّ من شرط المتصلةِ تقدُّمَ همزةِ استفهامٍ أو تسويةٍ مع أن المعنى ليس/ على أنَّ الانتقالَ مِن قولِه:» فَسَيَكْفيكهم «إلى قولِه» أم يقولون «حتى يَجْعَلَه ردَّاً عليه وهو بعيدٌ عنه لفظاً ومعنىً.
وقال الشيخ:» الأحسنُ في القراءتين أن تكونَ «أم» منقطعةً وكأنه أنكرَ عليهم مُحاجَّتَهم في الله ونسبة أنبيائِه لليهودية والنصرانية، وقد وَقَع منهم ما أَنْكَرَ عليهم، ألا ترى إلى قولِه:{قُلْ ياأهل الكتاب لِمَ تُحَآجُّونَ في إِبْرَاهِيمَ} [آل عمران: 65] الآيات وإذا جَعَلْناها متصلةً كان ذلك غيرَ متضمِّنٍ وقوعَ الجملتين، بل إحداهما، وصارَ السؤالُ عن تعيينِ إحداهما، وليس الأمرُ كذلك إذا وقعا معاً. وهذا الذي قاله الشيخُ حسنٌ جداً. و «أو» في قولِه:«هوداً أو نصارى» كهي في قولِه: {لَن يَدْخُلَ الجنة إِلَاّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نصارى}
[البقرة: 111] وقد تقدَّم تحقيقُه.
قوله: {أَمِ الله} أم متصلةٌ، والجلَالةُ عَطْفٌ على «أنتم» ، ولكنه فَصَل بين المتعاطِفينَ بالمسؤولِ عنه، وهو أحسنُ الاستعمالاتِ الثلاثةِ: وذلك أنه يَجوزُ في مثلِ هذا التركيبِ ثلاثةُ أوجهٍ: تقدُّمُ المسؤولِ عنه نحو: أأعلم أنتم أم اللهُ، وتوسُّطُه نحو: أأنتم أعلمُ أم اللهُ، وتأخيرُه نحو: أأنتم أم الله أعلمُ: وقال أبو البقاء: «أم الله» مبتدأ والخبرُ محذوفٌ، أي: أم الله أعلمُ، و «أم» هنا
المتصلةُ أي: أيُّكم أعلم «وهذا الذي قاله فيه نظرٌ، لأنَّه إذا قَدَّر له خبراً صناعياً صار جملةً، وأم المتصلةُ لا تَعْطِفُ الجملةَ بل المفردَ وما في معناه. وليس قولُ أبي البقاء بتفسيرِ معنىً فيُغْتفَرَ له ذلك بل تفسيرُ إعرابٍ، والتفضيلُ في قوله» أعلمُ «على سبيلِ الاستهزاءِ وعلى تقديرِ أن يُظَنَّ بهم عِلْمٌ من الجَهَلَةِ وإلاّ فلا مشاركةَ، ونظيرُه قولُ حسان:
751 -
أتَهْجوه ولَسْتَ له بكُفْءٍ
…
فَشَرُّكما لخيرِ كما الفِداءُ
وقد عُلِم أنَّ الرسولَ خيرٌ كلُّه.
قوله: {مِنَ الله} في» مِنْ «أربعة أوجه، أحدها: أنها متعلِّقةٌ ب» كَتَم «، وذلك على حَذْفِ مضافٍ أي: كَتَم مِنْ عبادِ الله شهادةً عندَه. الثاني: أن تتعلَّق بمحذوفٍ على أنَّها صفةٌ لشهادة بعد صفةٍ، لأنَّ» عنده «صفةٌ لشهادة» وهو ظاهرُ قولِ الزمخشري فإنَّه قال: و «مِنْ» في قولِه: {شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ الله} مثلُها في قولِك: «هذه شهادةٌ مني لفلان» إذا شَهِدْتَ له، ومثلُه:{بَرَآءَةٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ} [براءة: 1] الثالث: أنَّها في محلِّ نصبٍ على الحالِ من المضمرِ في «عنده» ، يعني مِن الضميرِ المرفوعِ بالظرفِ لوقوعِه صفةً، ذَكَره أبو البقاء. الرابع: أن يتعلَّقَ بذلك المحذوفِ الذي تعلَّق به الظرفُ وهو «عنده» لوقوعِه صفةً، والفرقُ بينه وبين الوجهِ الثاني أنَّ ذاك له عاملٌ مستقلٌ غيرُ العاملِ في الظرف.
قال أبو البقاء: «ولا يجوزُ أَنْ تُعَلَّقَ» مِنْ «بشهادةٍ، لئلا يُفْصَلَ بين
الصلةِ والموصولِ بالصفةِ يعني أنَّ» شهادة «مصدرٌ مؤولٌ بحرفٍ مصدري وفعلٍ فلو عَلَّقْتَ» مِنْ «بها لكنْتَ قد فَصَلْتَ بين ما هو في معنى الموصولِ وبين أبعاضِ الصلةِ بأجنبي وهو الظرفُ الواقعُ صفةً لشهادة. وفيه نظرٌ من وجهين: أحدُهما: لأ نُسَلِّمُ أنَّ» شهادة «يَنْحَلُّ لموصولٍ وصلتِه، فإنَّ كلَّ مصدرٍ لا يَنْحَلُّ لهما. والثاني: سَلَّمْنا ذلك ولكن لا نُسَلِّم والحالةُ هذه أنَّ الظرفَ صفةٌ بل هو معمولٌ لها، فيكونُ بعضُ الصلةِ لا أجنبياً حتى يَلْزم الفصلُ به بين الموصول وصلِته، وإنَّما كان طريقُ مَنْع هذا بَغَيْرِ ما ذَكَر، وهو أنَّ المعنى يأبى ذلك.
وكَتَمَ يتعدَّى لاثنين فأولُهما في الآيةِ الكرمية محذوفٌ تقديرُه: كَتَمَ الناسُ شهادةً، والأحسنُ من هذه الوجوهِ أن تكونَ» من الله «صفةً لشهادة أو متعلقةً بعامل الظرفِ لا متعلقةً بكتم، وذلك أنَّ كتمانَ الشهادةِ مع كونِها مستودعةً مِنَ الله عندَه أبلغُ في الأظلميَّةِ مِنْ كتمانِ شهادةٍ مطلقةٍ من عبادِ الله.
وقال في «ريّ الظمآن» : «في الآيةِ تقديمُ وتأخيرُ، والتقديرُ: ومَنْ أظلمُ مِنَ الله مِمَّنْ كَتَمَ شهادةً حَصَلَتْ له كقولِك:» ومَنْ أظلمُ من زيدٍ من جملةِ الكلمتين للشهادة «والمعنى: لو كانَ إبراهيمُ وبنوه يهوداً أو نصارى، ثم إنَّ الله كَتَمَ هذه الشهادةَ لم يكن أحدٌ مِمَّنْ يكتمُ الشهادةَ أظلمَ منه، لكن لمَّا استحال ذلك مع عَدْلِه وتنزيهه عن الكذبِ عَلِمْنا أنَّ الأمرَ ليس كذلك» . قال الشيخ: «وهذا متكلفٌ جداً من حيث التركيبُ ومن حيث المدلولُ: أمَّا التركيبُ فإنَّ التقديمَ والتأخيرَ من الضرائرِ عند الجمهور، وأيضاً فيبقى قوله:» مِمَّن كتم «متعلِّقاً إمَّا بأظلم، فيكونُ ذلك على طريق البدليَّةِ، ويكون
إذ ذاك بدلَ عامٍ من خاص وليس بثابتٍ، وإنْ كان بعضُهم زَعَمَ ورودَه، لكنَّ الجمهور تأوَّلوه بوضعِ العامِّ موضعَ الخاص، أو تكونُ» مِنْ «متعلقةً بمحذوف فتكونُ في موضعِ الحال أي: كائناً من الكاتمين. وأمَّا من حيث المدلولُ فإنَّ ثبوتَ الأظلميَّة لمن جُرَّ ب» مِنْ «يكونُ على تقدير، أي: إنْ كَتَمها فلا أحدَ أظلمُ منه، وهذا كلُّه معنىً لا يَليقُ به تعالى ويُنَزَّه كتابُه عنه» .
قوله تعالى: {مِنَ الناس} : في محلِّ نصبٍ على الحالِ، من «السفهاء» والعاملُ فيها «سيقولُ» وهي حالٌ مبيِّنة فإنَّ السَّفَه كما يوصف به الناسُ يُوْصَفُ به غيرُهم من الجمادِ والحيوانِ، وكما يُنْسَبُ القولُ إليهم حقيقةً يُنْسَبُ لغيرهم مجازاً فَرَفَع المجازَ بقولِه:«مِن الناسِ» ذكره ابن عطية وغيرُه.
قوله: {مَا وَلَاّهُمْ} «ما» مبتدأٌ وهي استفهاميةٌ، والجملةُ بعدها خبرٌ عنها، و «عن قِبْلَتِهم» متعلقٌ ب «وَلَاّهم» ، ولا بُدَّ من حذفِ مضافٍ في قولِه «عليها» أي: على توجُّهِهَا أو اعتقادِها، وجملةُ الاستفهامِ في محلِّ نصبٍ بالقولِ، والاستعلاءُ في قولِه «عليها» مجازٌ، نَزَّلَ مواظَبَتَهم على المحافظةِ عليها منزلةَ مَنِ استعلى على الشيء.
قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ} : الكافُ فيها الوجهانِ المشهوران كما تقدَّم ذلك غيَر مرةٍ، وهما: إمَّا النصبُ على نعتِ مصدرٍ محذوفٍ أو على الحالِ من المصدرِ المحذوفِ، والتقديرُ: جَعَلْناكم أمةً وسطاً جَعْلاً مثلَ ذلك ولكنَّ المشارَ إليه ب «ذلك» غيرُ مذكورٍ فيما تقدَّم، وإنما تقدَّم ما يَدُلُّ عليهِ واختلفوا في «ذلك» على خمسةِ أوجهٍ: أحدها أنَّ المشارَ إليه هو الهدفُ المدلولُ عليه بقولِ: {يَهْدِي مَن يَشَآءُ} والتقديرُ: جَعَلْناكم أمةً وسطاً مثلَ ما هَدَيْناكم
الثاني: أنه الجعلُ، والتقديرُ: جَعَلْناكم أمةً وسطاً مثلَ ذلك الجعلِ الغريبِ الذي فيه اختصاصُكم بالهدايةِ. الثالث: قيل: المعنى كما جَعَلْنا قِبْلَتَكم متوسطةً جَعَلْناكم أمةً وسطاً. الرابع: قيل: المعنى كما جعلنا القِبْلة وسطَ الأرضِ جَعَلْناكم أمةً وسطاً. الخامس: - وهو أبْعَدُها - أنَّ المشارَ إليه قولُه: {وَلَقَدِ اصطفيناه فِي الدنيا} أي: مثلُ ذلك الاصطفاءِ جَعَلْناكم أمةً وسطاً و «جَعَل» بمعنى صَيَّر، فيتعدَّى لاثنين، فالضميرُ مفعولٌ أولُ، و «أمةً» مفعولٌ ثانٍ ووسَطاً نعتُه. والوسَطُ بالتحريكِ: اسمٌ لما بينَ الطرفَيْن، ويُطْلَقُ على خِيارِ الشيءِ لأن الأوساطَ محميَّةٌ بالأطراف قال حبيب:
752 -
كانَتْ هي الوسَطَ المَحْمِيَّ فاكتَنَفَتْ
…
بها الحوادثُ حتى أَصْبَحَتْ طَرَفا
ووسَطُ الوادي خيرُ موضعٍ فيه، قالَ زهير:
753 -
هُمُ وسَطٌ تَرْضى الأنامُ بحُكْمِهِمْ
…
إذا نَزَلَتْ إحدى الليالي بمُعْظَمِ
وقوله:
754 -
وكُنْ من الناسِ جميعاً وسَطَا
…
وفَرَّق بعضُهم بين وسَط بالفتح ووسْط بالتسكين، فقال: كلُّ موضع صَلَح فيه لفظُ «بَيْنَ» يقال بالسكون وإلا فبالتحريك. فتقول: جَلَسْتُ وسْطَ القومِ بالسكون. وقال الراغب: «وسَطُ الشيءِ ما له طرفان متساويا القَدْر، ويُقال ذلك في الكمية المتصلة كالجسم الواحد، فتقول: وسَطُه صُلْبٌ، ووسْط بالسكون يُقال في الكميةِ المنفصلة كشيء يفصل بين جسمين نحو:»
وسْط القوم «كذا، وتحريرُ القولِ فيه هو أن المفتوحَ في الأصلِ مصدر، ولذلك استوى في الوصف به الواحد وغيره، المؤنث والمذكرُ، والساكنُ ظرفٌ والغالبُ فيه عدمُ التصرُّفِ، وقد جاء متمكناً في قول الفرزدق:
755 -
أتَتْه بمَجْلومٍ كأنَّ جبينَه
…
صلاءَةُ وَرْسٍ وَسْطُها قد تَفَلَّقَا
رُوي برفع الطاءِ والضميرُ لصلاءة، وبفتحِها والضميرُ للجائية.
قوله:» لتكونوا «يجوز في هذه اللامِ وجهان، أحدهما: أن تكونَ لام» كي «فتفيدَ العلة. والثاني أن تكونَ لامَ الصيرورةِ، وعلى كلا التقديرين فهي حرفُ جر، وبعدَها أَنْ مضمرةٌ، وهي وما بعدَها في محلِّ جر، وأتى ب» شهداء «جمعَ شهيدٍ الذي/ يَدُلُّ على المبالغةِ دونَ شاهِدين وشهود جمعَيْ شاهد.
وفي» على «قولان أحدُهما: أنَّها على بابِها، وهو الظاهرُ. والثاني أنها بمعنى اللام، بمعنى: أنكم تَنْقُلون إليهم ما عَلِمْتموه من الوحي والدين، كما نقله الرسولُ عليه السلام، وكذلك القولان في» على «الأخيرة، بمعنى أن الشهادَة بمعنى التزكية منه عليه السلام لهم.
وإنما قُدِّم متعلِّق الشهادة آخِراً وقُدِّم أولاً لوجهين، أحدُهما - وهو ما ذكره الزمخشري - أن الغرضَ في الأولِ إثباتُ شهادتِهم على الأمم، وفي الآخر اختصاصهم يكونِ الرسولِ شهيداً عليهم، والثاني: أن «شهيداً» أَشْبَهُ بالفواصلِ والمقاطعِ من «عليكم» فكان قولُه «شهيداً» تمامَ الجملةِ ومقطعَها دون «عليكم» . وهذا الوجهُ قاله
الشيخُ مختاراً له رادّاً على الزمخشري مذهبَه من أنَّ تقديمَ المفعولِ يُشْعِرُ بالاختصاصِ وقد تقدَّم ذلك.
قوله: {التي كُنتَ عَلَيْهَآ} في هذه الآيةِ خمسةُ أوجهٍ أحدُها: أنَّ «القِبلْة» مفعولٌ أولُ، و {التي كُنتَ عَلَيْهَآ} مفعولٌ ثانٍ، فإنَّ الجَعْلَ بمعنى التصييرِ، وهذا ما جَزَمَ به الزمخشري فإنَّه قال:{التي كُنتَ عَلَيْهَآ} ليس بصفةٍ للقبلة، إنما هي ثاني مفعولي جَعَلَ، يريد: وما جَعَلْنَا القبلةَ الجهةَ التي كنتَ عليها، وهي الكعبةُ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي بمكة إلى الكعبةِ، ثم أُمِر بالصلاةِ إلى صخرةِ بيتِ المَقْدِس ثم حُوِّلَ إلى الكعبةِ «.
الثاني: أنَّ» القِبلةَ «هي المفعولُ الثاني، وإنما قُدِّم، و {التي كُنتَ عَلَيْهَآ} هو الأول، وهذا ما اختارَه الشيخُ محتجَّاً له بأنَّ التصييرَ هو الانتقالُ من حالٍ إلى حالٍ، فالمتلبِّسُ بالحالةِ الأولى [هو المفعولُ الأولُ والملتبِّسُ] بالحالةِ الثانية هو المفعولُ الثاني، ألا ترى أنك تقول: جَعَلْتُ الطينَ خَزَفاً وجَعَلْتُ الجاهلَ عالِماً، والمعنى هنا على هذا التقديرِ، وما جَعَلْنا القبلةَ - الكعبة التي كانَتْ قبلةً لك أولاً ثم صُرِفْتَ عنها إلى بيت المقدس - قبلتك الآن إلا لِنَعْلمَ، ونسبَ الزمخشري في جَعْلِه» القبلةَ «مفعولاً أولَ إلى الوهم. وفيه نظر.
الثالث: أنَّ» القبلة «مفعولٌ أول، و» التي كنتَ «صفتَهَا، والمفعولُ الثاني محذوفٌ تقديرُه: وما جعلْنا القبلةَ التي كنت عليها منسوخةً. ولَمَّا ذكر
أبو البقاء هذا الوجهَ قَدَّره: وما جَعَلْنَا القبلةَ التي كنت عليها قبلة، ولا طائل تحته.
الرابع: أن» القبلةَ «مفعولٌ أولُ، و» إلا لِنَعْلَمَ «هو المفعولُ الثاني، وذلك على حَذْفِ مضافٍ تقديرُه: وما جعلنا صَرْفَ القِبْلةِ التي كنت عليها إلَاّ لنعلمَ، نحو قولِك: ضَرْبُ زيدٍ للتأديبِ، أي: كائنٌ أو ثابتٌ للتأديبِ.
الخامس: أنَّ» القبلةَ «مفعولٌ أولُ، والثاني محذوفٌ، و {التي كُنتَ عَلَيْهَآ} صفةٌ لذلك المحذوفِ، والتقديرُ: وما جَعَلْنا القبلةَ القبلةَ التي، ذكره أبو البقاء، وهو ضعيفٌ. وفي قوله» كنت «وجهان أحدهما: أنها زائدةُ، ويُروَى عن ابن عباس أي: أنتَ عليها، وهذا منه تفسيرُ معنىً لا إعراب.
والقِبْلَةُ في الأصلِ اسمٌ للحالة التي عليها المقابِلُ نحو: الجلْسة، وفي التعارف صار اسماً للمكان المقابل المتوجِّه إليه للصلاة.
وقال قطرب: «يقولون:» ليس له قِبْلَةٌ «أي جهةٌ يتوجه إليها» . وقال غيره: إذا تقابل رجلان فكلُّ واحدٍ قِبْلَةٌ للآخرِ.
قوله: {إِلَاّ لِنَعْلَمَ} قد تقدَّم أنه في أحدِ الأوجهِ يكون مفعولاً ثانياً، وأمَّا على غيره فهو استثناءٌ مفرغ من المفعولِ له العامِّ، أي: ما سببُ تحويل القبلة لشيء من الأشياء إلا لكذا. وقوله «لنعلم» ليس على ظاهره فإن علمَه قديمٌ غيرُ حادثٍ فلا بدَّ من تأويلِهِ وفيه أوجهٌ، أحدُها: لتمييز التابع من الناكص إطلاقاً للسببِ وإرادةَ المسبَّبِ. وقيل: على حَذْفِ مضافٍ أي لنعلمَ رسولَنا فَحَذَفَ، أو أرادَ بذلك تَعلُّقَ العلمِ بطاعتِهم وعِصْيانِهم في أمرِ القبِّلَه.
قوله: {مَن يَتَّبِعُ} في «مَنْ» وجهان، أحدُهما: أنها موصولةٌ، و «يتَّبع»
صلتُها، والموصولُ وصلتُه في محلِّ المفعولِ ل «نعلم» لأنه يتعدَّى إلى واحدٍ. والثاني: أنها استفهاميةٌ في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ و «يتَّبعُ» خبرهُ، والجملةُ في محلِّ نصبٍ لأنَّها معلِّقة للعلم، والعلم على بابِه، وإليه نحا الزمخشري في أحدِ قوليه. وقد رَدَّ أبو البقاء هذا الوجهَ فقال:«لأنَّ يُوجِبُ أَنْ تُعَلَّق» نعلم «عن العملِ، وإذا عُلِّقَتْ عنه لم يَبْقَ ل» مِنْ «ما تتعلَّقُ به لأنَّ ما بعد الاستفهامِ لا يتعلَّق بما قبله، ولا يَصِحُّ تعلُّقها بيتَّبعُ لأنها في المعنى متعلِّقةٌ بنَعْلَمَ، وليس المعنى: أيُّ فريقٍ يَتَّبعُ مِمَّنْ ينقلب» انتهى. وهو رَدٌّ واضحُ إذ ليس المعنى على ذلك، إنما المعنى على أَنْ يتعلَّقَ مِمَّنْ ينقلِبُ بنعلمَ نحو: عَلِمْتُ مَنْ أحسنَ إليك ممَّنْ أساءَ، وهذا يُقَوِّي التَجوُّزَ بالعِلْمِ عن التمييز؛ فإنَّ العلمَ لا يتعدَّى بمِنْ إلا إذا أريد به التمييزُ. وقرأ الزهري:«إلا ليُعْلَمَ» على البناءِ للمفعولِ، وهي قراءةٌ واضحةٌ لا تَحْتاجُ إلى تأويلٍ، فإنَّا [لا] نُقَدِّرُ ذلك الفاعل غيرَ اللهِ تعالى.
قوله: {على عَقِبَيْهِ} في محلِّ نَصْبٍ على الحال، أي: يَنْقِلِبُ مرتدَّاً راجعاً على عَقِبَيْه، وهذا مجازٌ، وقُرىء «على عَقْبَيْه» بسكون القاف وهي لغةُ تميم.
قوله: {وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً} «إنْ» هي المخففةُ من الثقيلةِ دَخَلَتْ على ناسخِ المبتدأ والخبر، وهو أغلبُ أحوالِها، واللامُ للفرقِ بينها وبين إنْ النافيةِ، وهل هي لامُ الابتداءِ أو لامٌ أخرى أُتِيَ بها للفرقِ؟ خلافٌ مشهور، وزعم الكوفيون أنها بمعنى «ما» النافية وأنَّ اللام بمعنى إلَاّ، والمعنى: ما كانت
إلا كبيرةً، نقل ذلك عنهم أبو البقاء، وفيه نظرٌ ليس هذا موضعَ تحريرِه.
والقراءةُ المشهورةُ نصبُ «كبيرةً» «على خبر» كان «واسمُ كانَ مضمرٌ فيها يعودُ على التَّوْلِيَةِ أو الصلاةِ أو القِبلةِ المدلولِ عليها بسياقِ الكلامِ وقرأ اليزيدي [عن أبي عمرو] برفعِها، وفيه تأويلان، أحدُهما - وذكره الزمخشري -: أنَّ» كان «زائدةٌ، وفي زيادتها عاملةً نظرٌ لا يَخْفى، وقد استدلَّ الزمخشري على ذلك بقوله:
756 -
فكيفَ إذا مَرَرْتَ بدارِ قومٍ
…
وجيرانٍ لنا كانوا كرامِ
فإنَّ قولَه «كرام» صفةٌ لجيران، وزادَ بينهما «كانوا» وهي رافعةٌ للضميرِ، ومَنْ مَنَع ذلك تأوَّل «لنا» خبراً مقدماً، وجملةُ الكونِ صفةٌ لجيران. والثاني: أنَّ «كان» غيرُ زائدةٍ، بل يكونُ «كبيرةً» خبراً لمبتدأٍ محذوفٍ، والتقديرُ: وإنْ كانَتْ لهي كبيرةٌ، وتكونُ هذه الجملةُ في محلّّ نصبٍ خبراً لكانت، ودخلت لام الفرقِ على الجملة الواقعةِ خبراً، وهو توجيهٌ ضعيفٌ، ولكن لا تُوَجَّه هذه القراءةُ الشاذةُ بأكثرَ مِنْ ذلك.
قوله: {إِلَاّ عَلَى الذين} متعلِّقٌ ب «كبيرة» ، وهو استثناءٌ مفرغٌ، فإنْ قيل: لَمْ يتقدَّمْ هنا نفيٌ ولا شبهُه، وشرطُ الاستثناءِ المفرَّغِ تَقَدَّمُ شيءٍ من ذلك، فالجوابُ أنَّ الكلام وإن كان موجَباً لفظاً فإنه في معنى النفي، إذ المعنى أنَّها لا تَخِفُّ ولا تَسْهُلُ إلا على الذينَ، وهذا التأويلُ بعينِه قد ذكروه في قوله: {
وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَاّ عَلَى الخاشعين} [البقرة: 45]، وقال الشيخ:«هو استثناءٌ من مستنثىً محذوفٍ تقديرُه: وإنْ كانت لكبيرةً على الناسِ إلا على الذين، وليسَ استثناءً مفرغاً لأنه لم يتقدَّمْه نفيٌ ولا شِبْهُه» وقد تقدم جوابُ ذلك.
قوله: {وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ} في هذا التركيب وما أشبهه مِمَّا ورد في القرآن وغيرِه نحو: {وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ} [آل عمران: 179]{مَّا كَانَ الله لِيَذَرَ} [آل عمران: 179] قولان أحدُهما: - قول البصريين - وهو أنَّ خبرَ «كان» محذوفٌ، وهذه اللامُ تُسَمَّى لامَ الجحود ينتصِبُ الفعلُ بعدها بإضمار «أَنْ» وجوباً، فينسبكُ منها ومن الفعلِ مصدرٌ مُنْجَرٌّ بهذه اللامِ، وتتعلَّق هذه اللامُ بذلك الخبرِ المحذوفِ، والتقديرُ: وما كان اللهُ مريداً لإِضاعةِ أعمالِكم، وشرطُ لام الجحودِ عندهم أن يتقدَّمَها كونٌ منفيٌّ. واشترط بعضُهم مع ذلك أن يكونَ كوناً ماضياً. ويُفَرَّقُ بينها وبينَ لام كي ما ذكرنا من اشتراطِ تقدُّمِ كونٍ منفيٍّ، ويَدُلُّ على مذهبِ البصريين التصريحُ بالخبرِ المحذوفِ في قوله: /
757 -
سَمَوْتَ ولم تَكُنْ أَهْلاً لِتَسْمُو
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
والقولُ الثاني للكوفيين: وهو أنَّ اللامَ وما بعدَها في محلِّ الخبرِ، ولا يُقَدِّرون شيئاً محذوفاً، ويزعمون أنَّ النصبَ في الفعلِ بعدَها بنفسِها لا بإضمارِ أَنْ، وأنَّ اللامَ للتأكيدِ، وقد رَدَّ عليهم أبو البقاء فقال: «وهو بَعيدٌ
لأنَّ اللَام لامُ الجرِّ و» أَنْ «بعدها مُرادَةٌ، فيصيرُ التقدير على قولهم: وما كان الله إضاعةَ إيمانكم، وهذا الردُّ هنا لازمٍ لهم، فإنَّهم لم يقولوا بإضمارِ» أَنْ «بعد اللام كما قَدَّمْتُ نقلَه عنهم، بل يزعمون النصبَ بها وأنها زائدةٌ للتأكيدِ، ولكنْ للردِّ عليهم موضعٌ غيرُ هذا.
واعلم أنَّ قولَك: «ما كان زيدٌ ليقومَ» بلامِ الجحودِ أَبْلَغُ من: «ما كان زيدٌ يقومُ» ، أمَّا على مذهبِ البصريين فواضحٌ، وذلك أنَّ مع لام الجحود نفيَ الإرادةِ للقيام والتهيئةِ، ودونَها نفيٌ للقيامِ فقط، ونفيُ التهيئةِ والإِرادة للفعلِ أبلغُ من نفيِ الفعلِ، إذ لا يلزمُ من نفي الفعل نفيُ إرادتِه، وأمَّا على مذهبِ الكوفيين فلأنَّ اللامَ عندهم للتوكيد والكلامُ مع التوكيدِ أبلغُ منه بلا توكيدٍ.
وقرأ الضَّحاك: «ليُضَيِّع» بالتشديد، وذلك أن أَضاع وضَيَّع بالهمزةِ أو التضعيف للنقلِ من «ضاع» القاصر، يقال: ضاع الشيء يضيع، وأضَعْتُه أي أهملته فلم أحفظْه، وأمّا ضاعَ المِسْك يَضوع أي: فاحَ فمادةٌ أخرى.
قوله: {لَرَءُوفٌ} قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وأبو بكر: لَرُؤفٌ على وزن: نَدُس، وهي لغةٌ فاشية كقوله:
758 -
وشَرُّ الظالمينَ فلا تَكُنْهُ
…
يقاتِلُ عَمَّه الرَّؤُفَ الرَّحيما
وقال آخر:
759 -
يَرَى للمُسلمين عليه حَقَّاً
…
كحقِّ الوالدِ الرَّؤُفِ الرحيمِ
وقرأ الباقون: «لَرَؤُوف» على زنة شَكُور، وقرأ أبو جعفر:«لَرَوُفٌ» من غير همزٍ، وهذا دأبُه في كلِّ همزةٍ ساكنةٍ أو متحركةٍ. والرأفة: أشدُّ الرحمة فهي أخصُّ منها، وفي رؤوف لغتان أَخْرَيَان لم تَصِلْ إلينا بهما قراءةٌ وهما: رَئِفٌ على وزن فَخِذ، ورَأْفٌ على وزن صَعْب. وإنما قُدِّم على «رحيم» لأجلِ الفواصل.
قوله تعالى: {قَدْ نرى} : «قد» هذه قالَ فيها بعضُهم: إنها تَصْرِفُ المضارعَ إلى معنى المضيِّ، وجَعَلَ، مِنْ ذلك هذه الآيةَ وأمثالَها وقولَ الشاعر:
760 -
لِقَوْمٍ لعَمْري قد نَرَى أمسِ فيهمُ
…
مرابطَ للأمْهارِ والعَكَرِ الدَّهِرْ
وقال الزمخشري: «قد نرى» : ربما نرى، ومعناه كثرةُ الرؤيةِ كقول الشاعر:
761 -
قد أَتْرُكُ القِرْنَ مُصَفْراً أناملُه
…
كأنَّ أثوابَه مُجَّتْ بفُرْصادِ
قال الشيخ: «وشرحه هذا على التحقيق متضادٌّ، لأنه شَرَحَ» قد نرى «بربما نرى، ورُبَّ على مذهب المحققين إنما تكون لتقليلِ الشيء في نفسِه أو لتقليلِ نظيرِه: ثم قال:» ومعناه كثرةُ الرؤيةِ فهو مضادٌّ لمدلولِ رُبَّ على مذهب الجمهور. ثم هذا الذي ادَّعاه من كثرةِ الرؤيةِ لا يَدُلُّ عليه اللفظُ لأنه
لم تُوضَعْ للكثرةِ «قد» مع المضارع سواءً أريد به المضيُّ أم لا، وإنما فُهِمَت الكثرةُ من متعلَّقِ الرؤيةِ وهو التقلُّبُ «.
قوله: {فِي السمآء} : في متعلَّق الجارِّ ثلاثةُ أقوال، أحدُها: أنه المصدرُ وهو» تقلُّب «، وفي» في «حينئذ وجهان، أحدُهما: أنَّها على بابِها الظرفية وهو الواضحُ. والثاني: أنَّها بمعنى» إلى «أي: إلى السماء، ولا حاجةَ لذلك، فإنَّ هذا المصدرَ قد ثَبَتَ تعدّيه ب» في «، قال تعالى: { [لَا يَغُرَّنَّكَ] تَقَلُّبُ الذين كَفَرُواْ فِي البلاد} [آل عمران: 196] . والثاني من القولين: أنه» نرى «وحينئذ تكونُ» في «بمعنى» مِنْ «أي: قد نَرى مِن السماء، وذكر السماء وإن كان تعالى لا يتحيَّزُ في جهة على سبيل التشريفِ. والثالث: أنه في محلِّ نصبٍ على الحالِ من» وجهِك «ذكرَه أبو البقاء فيتعلَّقُ حينئذٍ بمحذوفٍ، والمصدرُ هنا مضافٌ إلى فاعِلِه، ولا يجوزُ أن يكونَ مضافاً إلى منصوبهِ لأنَّ مصدرَ ذلك التقليب، ولا حاجةَ إلى حَذْفِ مضافٍ من قولِه» وجهك «وهو بصرُ وجهِك لأنَّ ذلك لا يكادُ يُسْتَعملُ، بل ذكر الوجهَ لأنه أشرَفُ الأعضاءِ وهو الذي يُقَلْبه السائلُ في حاجته وقيل: كَنَى بالوجهِ عن البصر لأنه مَحَلُّه.
قوله: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً} الفاءُ هنا للتسبب وهو واضحُ، وهذا جوابُ قسمٍ محذوفٍ، أي: فوالله لَنُوَلينَّكَ، و» نُوَلِّي «يتعدَّى لاثنين: الأول الكاف والثاني» قبلةً «، و» ترضاها «الجملة في محل نصبٍ صفةً لقبلةً، قال الشيخ:» وهذا - يعني «فلنولينك» - يَدُلُّ على أَنَّ في الجملةِ السابقةِ حالاً محذوفةً تقديرُه: قد نرى تقلُّبَ وجهِك في السماءِ طالباً قبلةً غيرَ التي أنت مستقبلَها.
قوله: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد} : «وَلَّى» يتعدَّى لاثنين أحدُهما «وجهك» والثاني «شطرَ» ويجوز أن ينتصبَ «شطر» على الظرفِ المكاني فيتعدَّى الفعلُ لواحدٍ وهو قولُ النحاس، ولَمْ يذكرِ الزمخشري غيرَه، والأولُ أوضحُ، وقد يتعدَّى إلى ثانيهما بإلى.
والشطر يكون بمعنى النصف من الشيء والجزء منه، ويكون بمعنى الجهة والنحو، قال:
762 -
ألا مَنْ مُبْلِغٌ عني رسولاً
…
وما تُغْني الرسالةُ شطرَ عمروِ
وقال:
763 -
أقولُ لأُمِّ زِنْباعٍ أَقيمي
…
صدورَ العيسِ شَطْرَ بني تميمِ
وقال:
764 -
وقد أَظَلَّكُمُ مِنْ شَطْرِ ثَغْرِكُمْ
…
هَوْلٌ له ظُلَمٌ يَغْشاكُمُ قِطَعا
وقال ابن أحمر:
765 -
تَعْدُو بنا شَطْرَ نجدٍ وهيَ عاقِدَةٌ
…
قد كارب العقدُ من إيقادها الحُقُبا
وقال:
766 -
وأَطْعَنُ بالرُّمْحِ شَطْرَ المُلو
…
كِ. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقال:
767 -
إنَّ العَسِيرَ بها داءٌ مُخامِرُها
…
وشَطْرَها نَظَرُ العينين مَحْسورُ
كل ذلك بمعنى: نحو وتِلْقاء. ويقال: شَطَرَ: بَعُد ومنه: الشاطرُ وهو الشابُّ البعيدُ من الجيرانِ الغائبِ عن منزلِه، يقال: شَطَر شُطوراً، والشَّطيرُ: البعيدُ ومنه منزل شَطِير، وشَطَر إليه أي أقبل. وقال الراغب: «وصار يُعَبَّر بالشاطر عن البعيدِ وجمعه شَطْر، والشاطر أيضاً لِمَنْ يتباعَدُ من الحقَّ وجمعُه شُطَّار.
وقوله: {حَيْثُ مَا كُنْتُمْ} في» حيثما «هنا وجهان، أظهرُهما: أنها شرطيةٌ، وشرطٌ كونِها كذلك زيادةُ» ما «بعدها خلافاً للفراء، ب» كنتم «، في محلِّ جزم بها، و» فولُّوا «جوابُها وتكون هي منصوبةً على الظرفِ بكنتم، فتكونُ هي عاملةً فيه الجزمَ، وهو عاملٌ فيها النصبَ نحو: {أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأسمآء الحسنى} [الإسراء: 110] واعلم أنَّ» حيث «من الأسماءِ اللازمةِ للإِضافةِ فالجملةُ التي بعدها كان القياسُ يقتضي أن تكونَ في محلِّ خفضٍ بها، ولكنْ مَنَعَ من ذلك مانعٌ وهو كونُها صارَتْ من عوامل الأفعالِ. قال الشيخ:» وحيث هي ظرفُ مكانٍ مضافةً إلى الجملةٍ فهي مقتضيةٌ للخفضِ بعدَها، وما اقتضى الخفضَ لا يقتضي الجزمَ، لأنَّ عواملَ الأسماءِ لا تعملُ في الأفعالِ، والإِضافةُ موضَّحةُ
لِما أُضيف، كما أنَّ الصلةَ موضِّحَةٌ فيُنافي اسمُ الشرط؛ لأنَّ اسمَ الشرطِ مبهمٌ، فإذا وُصِلَتْ ب «ما» زال منها معنى الإِضافةِ وضُمِّنَتْ معنى الشرطِ وجُوزي بها، وصارَتْ من عواملِ الأفعالِ «.
والثاني: أنها ظرفٌ غيرُ مضمَّنٍ معنى الشرط، والناصبُ له قولُه:» فَوَلُّوا «قاله أبو البقاء، وليس بشيء، لأنه متى زيدت عليها» ما «وَجَبَ تضمُّنُها معنى الشرطِ. وأصل وَلُّوا: وَلِّيُوا، فاستُثْقِلَتِ الضمة على الياءِ فَحُذِفَتْ فالتقى ساكنان فَحُذِفَ أوَّلُهما وهو الياءُ وضُمَّ ما قبلَه ليجانسَ الضميرَ فوزنه فَعُّوا. وقوله:» شَطْرَه «فيه القولان، وهما: إمَّا المفعولُ به وإمّاَ الظرفية كما تقدم.
قوله: {أَنَّهُ الحق} يُحْتمل أن تكونَ» أَنَّ «واسمُها وخبرُها سادَّةً مَسَدَّ المفعولَيْنِ ل» يَعْلَموْن «عند الجمهور، ومَسَدَّ أحدِهما عند الأخفشِ والثاني محذوفٌ على أنها تتعدَّى لاثنين، وأن تكونَ سادَّةً مسدَّ مفعولٍ واحدٍ على أنها بمعنى العرفان.
وفي الضميرِ ثلاثةُ أقوالٍ أحدُها: يعودُ على التوليِّ المدلولِ عليه بقولِه: «فولُّوا» . والثاني: على الشطر. والثالث: على النبي صلى الله عليه وسلم، ويكونُ على هذا التفاتاً من خطابه بقوله «فَلَنُوَلِّينَّكَ» إلى الغَيْبة.
قوله: {مِن رَّبِّهِمْ} متعلِّقٌ بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ من الحق أي: الحقُّ كائناً مِنْ ربهم. وقرىء: «عمَّا يعملون» بالغَيْبة ردَّاً على الذين أوتوا الكتاب أو رَدَّاً على المؤمنين ويكون/ التفاتاً من خطابِهم بقولِه: «وجوهكم - كنتم» . وبالخطاب على ردِّه للمؤمنين وهو الظاهرُ، أو للذين على الالتفات تحريكاً لهم وتَنْشِيطاً.
قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ} : فيه قولان، أحدُهما قولُ سيبويهِ وهو أنَّ اللامَ هي الموطِّئَةُ للقسَمِ المحذوفِ و «إنْ» شرطيةٌ، فقد اجتمعَ شرطٌ وقسمٌ، وسَبَقَ القسمُ فالجوابُ له إذ لم يتقدَّمْهما ذو خبرٍ، فلذلك جاء الجوابُ للقسمِ بما النافيةِ وما بعدَها، وحُذِفَ جوابُ الشرطِ لسدِّ جوابِ القسمِ مَسَدَّه، ولذلك جاء فعلُ الشرطِ ماضياً لأنه متى حُذِفَ الجوابُ وَجَبَ مضيُّ فعلِ الشرطِ إلا في ضرورةٍ، و «تَبِعوا» وإنْ كان ماضياً لَفْظاً فهو مستقبلٌ معنىً، أي: ما يتَّبعون لأنَّ الشرطَ قيدٌ في الجملةِ والشرطُ مستقبلٌ فَوَجَبَ أنْ يكونَ مضمونُ الجملةِ مستقبلاً ضرورةَ أنَّ المستقبلَ لا يكونُ شرطاً في الماضي.
الثاني: وهو قولُ الفراء - ويُنْقل أيضاً عن الأخفشِ والزجاج - أن «إنْ» بمعنى «لو» ، ولذلك كانَتْ «ما» في الجوابِ، فَجَعَلَ «ما تَبِعوا» جواباً لإِنْ لأنَّها بمعنى لو، أمّا إذا لم تكن بمعناها فلا تُجابُ ب «ما» وحدَها، بل لا بُدَّ من الفاءِ، تقول: إن تَزُرْني فما أزورك، ولا يجيز الفراء:«ما أزورك» بغير فاء. وقال ابن عطية: «وجاء جوابُ» لَئِنْ «كجوابِ لو، وهي ضدُّها في أَنْ» لو «تَطْلُبُ المُضِيَّ والوقوعَ و» إنْ «تَطْلُب الاستقبالَ، لأنهما جميعاً يترتَّب قبلَها القسمُ، فالجوابُ إنما هو للقسمِ، لأنَّ أحدَ الحَرْفَيْنِ يَقَع موقعَ الآخرِ هذا قولُ سيبويه» قال الشيخ: «هذا فيه تثبيجٌ وعدمُ نصٍ على المرادِ، لأنَّ أَوَّلَه يقتضي أنَّ الجوابَ ل» إنْ «وقولُه بعدَه: الجوابُ للقسم يَدُلُّ على أنه
ليسَ لإِنْ، وتعليلُه بقولِه:» لأنَّ أحد الحرفين يَقَعُ موقعَ الآخرِ لا يَصْلُحُ علةً لكونِ «ما تَبِعوا» جواباً للقسمِ، بل لكونِه جواباً لإِنْ، وقوله:«قولَ سيبويه» ليس في كتابِ سيبويه ذلك، إنما فيه أن «ما تَبِعوا» جوابُ القسمِ، ووقعَ فيه الماضي موقعَ المستقبلِ، قال سيبويه:«وقالوا: لَئِنْ فَعَلْتَ ما فَعَلَ يريد معنى ما هو فاعِلٌ وما يَفْعَلَ» .
وتلخَّص مِمَّا تقدَّم أنَّ قولَه: «ما تَبِعُوا» فيه قولان، أحدُهما: أنه جوابٌ الشرطِ ولذلك لم يَقْتَرِنْ بالفاءِ. والثاني: أنه جوابٌ لإِنْ إجراءً لها مُجرى لو. وقال أبو البقاء: «ما تَبِعوا» أي: لا يتَّبعوا، فهو ماضٍ في معنى المستقبلِ، ودخلَتْ «ما» حَمْلاً على لفظِ الماضي، وحُذِفَتْ الفاءُ في الجوابِ لأنَّ فعلَ الشرطِ ماضٍ، وقال الفراء: إنْ هنا بمعنى لو «وهذا من أبي البقاءِ يُؤْذِنْ أنَّ الجوابَ للشرطِ وإنما حُذِفَتِ الفاءُ لكونِ فعلِ الشرطِ ماضياً، وهذا منه غير مَرْضِيٍّ، لأنه خَالَفَ البصريين والكوفيين بهذه المقالةِ.
قوله: {وَمَآ أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ} «ما» تَحْتَمِل الوَجْهين أعنى كونها حجازيةً أو تميميةً، فعلى الأولِ يكون «أنتَ» مرفوعاً بها، و «بتابع» في محلِّ نصبٍ، وعلى الثاني يكون مرفوعاً بالابتداءِ و «بتابعٍ» في محلِّ رفعٍ، وهذه الجملةُ معطوفةٌ على جملةِ الشرطِ وجوابِه لا على الجوابِ وحدَه، إذ لا يَحُلُّ محلَّه لأنَّ نفيَ تَبَعيَّتِهم لقِبْلَتِه مقيدٌ بشرطٍ لا يَصِحُّ أَنْ يكونَ قيداً في نفي تبعيَّتِه قِبلَتَهم. وهذه الجملةُ أبلغُ في النفي مِنْ قولِه:{مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ} من وجوهٍ أحدُها: كونُها اسميةً متكررٌ فيها الاسمُ، مؤكَّدٌ نفيُها بالباءِ.
ووحَّد القبلةَ وإن كانت مثنَّاةً لأنَّ لليهودِ قِبلةً وللنصارى قبلةً أخرى لأحدِ وجهين: إمَّا لاشتراكِهما في البطلان صارا قِبلةً واحدةً، وإمَّا لأجْلِ المقابلةِ في
اللفظِ، لأنَّ قبلَه {مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ} . وقُرِىء «بتابعِ قبلتِهم» بالإِضافةِ تخفيفاً لأنَّ اسمَ الفاعلِ المستكملِ لشروطِ العملِ يجوزُ فيه الوجهان. واختُلِفَ في هذه الجملةِ: هل المرادُ بها النهيُ أي: لا تَتَّبعْ قبلتهم ومعناه الدوامُ على ما أنتَ عليه لأنَّه معصومٌ من اتِّباعِ قبلتِهم أو الإِخبارُ المحض بنفي الاتِّباع. والمعنى أنَّ هذه القبلةَ لا تصيرُ منسوخةً، أو قطعُ رجاءِ أهلِ الكتابِ أن يعودَ إلى قِبْلتِهم؟ قولان مشهوران.
قوله: {وَلَئِنِ اتبعت} كقولِه: «ولَئِنْ أَتَيْتَ» . وقولُه: «إنَّك» جوابُ القسمِ، وجوابُ الشرط محذوفٌ كما تقدَّم في نظيرِه، قال الشيخ:«لا يقال إنه يكونُ جواباً لهما لامتناع ذلك لفظاً ومعنىً، أمَّا المعنى فلأنَّ الاقتضاءَ مختلفٌ، فاقتضاءُ القسَمِ على أنه لا عملَ له [فيه] ، لأنَّ القسَم إنما جيءَ به توكيداً للجملةِ المُقْسَمِ عليها، وما جاءَ على سبيلِ التوكيدِ لا يناسِبُ أن يكونَ عاملاً، واقتضاءُ الشرطِ على أنه عاملٌ فيه، فتكونُ الجملةُ في موضعِ جزم، وعَمَلُ الشرطِ لقوةِ طلبه له، وأمَّا اللفظُ فإنَّ هذه الجملةَ إذا كانَتْ جوابَ قسمٍ لم تَحْتَجْ إلى مزيدِ رابطٍ، فإذا كانت جوابَ شرط احتيجت إلى مزيدِ رابطٍ وهو الفاء ولا يَجوزُ أن تكونَ خاليةً من الفاء موجودة فيها فلذلك امتنع أن تَكونَ جواباً لهما معاً» .
و «إذَنْ» حرفُ جوابٍ وجزاءٍ بنص سيبويه، وتَنْصِبُ المضارعَ بثلاثةِ شروطٍ: أن تكونَ صدراً، وألَاّ يُفْصَلَ بينها وبين الفعلِ بغيرِ الظرفِ والقسمِ
وألَاّ يكونَ الفعلُ حالاً، ودخلَتْ هنا بين اسمِ إنَّ وخبرِها لتقريرِ النسبةِ بينهما وكانَ حَدُّها أَنْ تتقدَّمَ أو تتأخَّرَ، فلم تتقدَّمْ لأنَّه سَبَقَ قسمٌ وشرطٌ والجوابُ هو للقسمِ، فلو تقدَّمَتْ لَتُوُهِّمَ أنها لتقريرِ النسبةِ التي بين الشرطِ والجوابِ المحذوفِ، ولم تتأخَّرْ لِئَلَاّ تفوتَ مناسبةُ الفواصلِ ورؤوسِ الآي.
قال الشيخ: «وتحريرُ معنى» إذَنْ «صعبٌ اضطربَ الناسُ في معناها وفي فهم كلامِ سيبويهِ فيها، وهو أنَّ معناها الجوابُ والجزاءُ» قال: «والذي تحصَّل فيها أنها لا تقعُ ابتداء كلامٍ، بل لا بدَّ أَنْ يسبِقَها كلامٌ لفظاً أو تقديراً، وما بعدها في اللفظِ أو التقديرِ وإنْ كان مُتَسَبِّباً عَمَّا قبلَها فهي في ذلك على وجهين، أحدُهما: أَنْ تَدُلَّ على إنشاءِ الارتباطِ والشرطِ، بحيث لا يُفْهم الارتباطُ من غيرِها مثالُ ذلك: أزورُك.
فتقول: إذاً أزورَك، فإنما تريد الآن أن تجعلَ فعلَه شرطاً لفِعْلِكَ، وإنشاءُ السببيةِ في ثاني حالٍ من ضرورته أن يكونَ في الجواب وبالفعلية في زمانٍ مستقبلٍ، وفي هذا الوجهِ تكونُ عاملة، ولعملها شروطٌ مذكورةٌ في النحوِ. الوجه الثاني: أن تكونَ مؤكِّدةً لجوابٍ ارتبط بمُقَدَّمٍ أو مَنْبَهَةً على مُسَبَّبٍ حَصَلَ في الحال، وهي في الحالَيْنِ غيرُ عاملةٍ لأنَّ المؤكِّداتِ لا يُعْتَمَدُ عليها والعاملُ يُعْتَمَدُ عليه، وذلك، نحو:«إنْ تأتني إذاً آتِكَ» ، و «واللَّهِ إذاً لافعلَنَّ» فلو أُسْقِطَتْ «إذاً» لَفَهُمَ الارتباطُ، ولَمَّا كانَتْ في هذا الوجهِ غير مُعْتَمَدٍ عليها جاز دخولُها على الجملةِ الاسميةِ الصريحةِ نحو:«أزورك» فتقول: «إذاً أنا أكرمُك» ، وجاز توسُّطُها نحو:«أنا إذاً أكرمُك» ، وتأخُّرها. وإذا تقرَّر هذا فجاءت «إذاً» في الآيةِ مؤكدةً للجوابِ المُرْتَبِطِ بما تقدَّم، وإنما قَرَّرْتُ معناها هنا لأنها كثيرةٌ الدَّوْرِ في القرآنِ فتُحْمَلُ في كلِّ موضعٍ على ما يناسِبُ من هذا الذي قَرَّرْناه «. انتهى كلامُه.
واعلم أنَّها إذا تقدَّمَها عاطفٌ جازَ إعمالُها وإهمالُها وهو الأكثرُ، وهي
مركبةٌ من همزة وذال ونون، وقد شَبَّهَتِ العربُ نونَها بتنوين المنصوبِ فَقَلَبُوها في الوقفِ ألفاً وكتبوها الكُتَّاب على ذلك، وهذا نهايةُ القولِ فيها. /
وجاء في هذا المكان {مِّن بَعْدِ مَا جَآءَكَ} وقال قبلَ هذا: {بَعْدَ الذي جَآءَكَ} [البقرة: 120] وفي الرعدَ: {بَعْدَ مَا جَآءَكَ} [الرعد: 37] فلم يأتِ ب» من «الجارةِ إلَاّ هنا، واختصَّ موضعاً ب» الذي «، وموضِعَيْنِ ب» ما «، فما الحكمةُ في ذلك؟ والجوابُ ما ذَكَرَه بعضُهم وهو أنَّ» الذي «أَخَصُّ، و» ما «أشدَّ إبهاماً، فحيث أتى بالذي أشير به إلى العلمِ بصحةِ الدينِ الذي هو الإِسلام المانعُ من مِلَّتَي اليهود والنصارى، فكان اللفظُ الأخَصُّ الأشهرُ أَوْلَى فيه لأنه عِلْمٌ بكلِّ أصولِ الدينِ، وحيث أتى بلفظِ» ما «أُشيرَ به إلى العلمِ بركنٍ من أركانِ الدينِ، أحدُهما: القِبلةُ، والآخرُ: بعض الكتاب لأنه أشَارَ إلى قولِه: {وَمِنَ الأحزاب مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ} [الرعد: 36] . قال» وأما دخولُ «مِنْ» ففائدتُه ظاهرةٌ وهي بيانُ أولِ الوقتِ الذي وَجَبَ [على] عليه السلام أن يخالِفَ أهلَ الكتابِ في قِبْلَتِهم، والذي يقال في هذا: إنَّه من بابِ التنوعِ في البلاغة.
قوله تعالى: {الذين آتَيْنَاهُمُ} : فيه ستةُ أوجهٍ أظهرُها: أنَّه مرفوع بالابتداءِ، والخبرُ وقوله «يَعْرفونه» . الثاني: أنه خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ أي: هم الذين آتيناهم. الثالث: النصبُ بإضمار أعني. الرابعُ: الجرُّ على البدلِ من «الظالمين» . الخامس: على الصفةِ للظالمين. السادس: النصبُ على البدلِ من {الذين أُوتُواْ الكتاب} في الآيةِ قبلَها.
قوله: «يَعْرفونه» فيه وجهان، أحدُهما: أنه خبرٌ للذين آتيناهم كما تقدَّم في أحدِ الأوجهِ المذكورةِ في «الذين آتيناهم» . الثاني: أنه نصبٌ على الحالِ على باقيةِ الأقوالِ المذكورةِ، وفي صاحبِ الحالِ وجهان، أحدُهما: المفعولُ الأولُ لآتيناهم، والثاني: المفعولُ الثاني وهو الكتاب، لأنَّ في «يَعْرفُونه» ضميرين يعودان عليهما. والضمير في «يَعْرفونه» فيه أقوالٌ، أحدُهما: أنه يعودُ على الحقِّ الذين هو التحوُّل. الثاني: على القرآن. الثالث: على العِلْم، الرابع: على البيتِ الحرام، الخامس: على النبي صلى الله عليه وسلم وبه بدأ الزمخشري، واختاره الزجاج وغيرُه، قالوا: وأُضْمِرَ وإنْ لم يَسْبِقْ له ذِكْرٌ لدلالة الكلامِ عليه وعَدِمِ الَّلبْسِ، ومثلُ هذا الإِضمارِ فيه تفخيمٌ له كأنَّه لشُهْرَتِه وكونِه علماً معلوماً مستغنىً عن ذِكْرِهِ بلفظِه. قال الشيخ:«بل هذا من بابِ الالتفات من الخطابِ في قوله:» قولِّ وجهَك «إلى الغيبة» .
قوله: {كَمَا يَعْرِفُونَ} الكافُ في محلِّ نَصْبٍ. إمَّا على كونِها نَعْتاً لمصدرٍ محذوفٍ أي: مَعرفةً كائنةً مثلَ معرفتِهم أبناءَهم أو في موضعِ نصبٍ على الحالِ من ضمير ذلك المصدرِ المعرفةِ المحذوفِ، التقديرُ: يعرفونه المعرفةَ مماثلة لعرفانهم، وهذا مذهبُ سيبويه، وتقدَّم تحقيقُ هذا. و «ما» مصدريةٌ لأنه يَنْسَبِكُ منها ومِمَّا بعدَها مصدرٌ كما تقدَّم تحقيقُه.
قوله: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} جملةٌ اسميةٌ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من فاعلِ يكتُمون، والأقربُ فيها أَنْ تكونَ حالاً لأنَّ لفظَ «يكتمُون الحق» يَدُلُّ على عِلْمه إذ الكتمُ إخفاءُ ما يُعْلَمُ، وقيل: متعلَّقُ العلم هو ما على
الكاتمِ من العقابِ، أي: وهم يعلمونَ العقابَ المُرَتَّبَ على كاتم الحق، فتكونُ إذ ذاكَ حالاً مبيِّنةً.
قوله تعالى: {الحق مِن رَّبِّكَ} : فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أظهرُها: أنه مبتدأٌ وخبرُه الجارُّ والمجرورُ بعده، وفي الألفِ واللامِ حينئذٍ وجهان، أحدُهما: أن تكونَ للعهدِ، والإِشارةُ إلى الحقِّ الذي عليه الرسولُ عليه السلام أو إلى الحقِّ الذي في قولِه «يكتمون الحقَّ» أي: هذا الذي يكتمونه هو الحقُّ من ربك، وأن تكونَ للجنسِ على معنى الحقُّ من اللهِ لا من غيره. الثاني: أنه خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ أي: هو الحقُّ من ربك، والضميرُ يعودُ على الحقِّ المكتومِ أي ما كتموه هو الحقُّ. الثالث: أنه مبتدأٌ والخبرُ محذوفٌ تقديرُه: الحقُّ من ربِّك يعرفونه، والجارُّ والمجرورُ على هذين القولين في محل نصبٍ على الحالِ من «الحق» ، ويجوز أن يكونَ خبراً بعد خبرٍ في الوجهِ الثاني.
وقرأ علي بن أبي طالب: {الحقَّ من ربك} نصباً، وفيه ثلاثةُ أوجه، أحدُها: أنه منصوبٌ على البدلِ من الحقّ المكتوم، قاله الزمخشري الثاني: أن يكونَ منصوباً بإضمار «الزم» ويدلُّ عليه الخطابُ بعده [في] قوله: «فلا تكونَنَّ» الثالث: أنه يكونَ منصوباً ب «يَعْلَمون» قبلَه. وذكر هذين الوجهين ابنُ عطية، وعلى هذا الوجهِ الأخيرِ يكونُ مِمَّا وقع فيه الظاهرُ موقعَ المضمر أي: وهم يعلمونَه كائناً من ربك، وذلك سائغٌ حسنٌ في أماكنِ التفخيم والتهويل نحو:
768 -
لا أَرى الموتَ يَسْبِقُ الموتَ شيءٌ
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
والنهيُ عن الكونِ على صفةٍ أبلَغُ من النهيِ عن نفسِ الصفةِ فلذلك جاءَ التنزيلُ عليه: نحو {فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الممترين} {فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الجاهلين} [الأنعام: 35] دونَ: لا تَمْتَرِ ولا تَجْهَلْ ونحوِه، وتقريرُ ذلك أنَّ قولَه:«لا تكُنْ ظالماً» نهي عن الكونِ بهذه الصفةِ، والنهيُ عن الكونِ على صفةٍ أبلغُ من النهي عن تلك الصفةِ، إذ النهيُ عن الكونِ على صفةٍ يَدُلُّ على عمومِ الأكوانِ المستقبلةِ عن تلكَ الصفةِ، والمعنى لا تَظْلِمْ في كل أكوانِك أي: في كل فردٍ فردٍ من أكوانِك فلا يَمُرُّ بك وقتٌ يؤخذ منك فيه ظلمٌ، فيصيرُ كأن فيه نصاً على سائرِ الأكوانِ بخلاف: لا تَظْلِمْ، فإنَّه يستلزِمُ الأكوانَ، وفَرْقٌ بين ما يَدُلَّ دلالةً بالنصِّ وبين ما يَدُلُّ دلالةً بالاستلزام.
والمتراءُ: افْتِعال من المِرْيَةِ وهي الشَّكُّ، ومنه المِراء قال:
769 -
فإيَّاك إيَّاكَ المِراءَ فإنَّه
…
إلى الشَّرِّ دَعَّاءٌ وللشَّرِّ جَالِبُ
ومارَيْتُه: جَادَلْتُه وشاكَلْتُه فيما يَدَّعِيه، وافتَعَل فيه بمعنى تَفَاعلَ يقال: تَمارَوْا في كذا وامتَرَوْا فيه نحو: تجاوَروا، واجتوروا. وقال الراغب:«المِرْيَةُ: التَّرَدُّدُ في الأمر وهي أخصُّ من الشك، والامتراءُ والمُماراةُ: المُحاجَّةُ فيما فيه مِرْية، وأصلَهُ من مَرَيْتُ الناقةَ إذا مسحتُ ضَرْعَها للحَلْبِ»
ففرَّق بين المِرْيةِ والشَّكِ كما تَرَى، وهذا كما تقدَّم له الفرقُ بين الرَّيْبَ والشك، وأنشدَ الطبري قولَ الأعشى:
770 -
تَدُرُّ على أَسْؤُقِ المُمْتَرِي
…
ن رَكْضاً إذا ما السرابُ ارْجَحَنْ
شاهداً على أنَّ الممترينَ الشاكُّون، قال:«ووَهِمَ في ذلك لأن أبا عبيدةَ وغيرَه قالوا: الممترون في البيت هم الذين يَمْرُون الخيلَ بأرجلِهم همزاً لتجريَ [كأنهم] يَتَحَلَّبون الجَرْيَ منها» .
قوله تعالى: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ} : جمهورُ القراء على تنوين «كل» ، وتنوينُه للعوض من المضافِ إليه، والجارُّ خبرٌ مقدَّمٌ، و «وِجْهَةٌ» مبتدأُ مؤخرٌ، واختُلِفَ في المضافِ إليه «كل» المحذوفِ فقيل: تقديرُه: ولكلِّ طائفةٍ من أهل الأديان، وقيل: ولكلِّ أهلِ موضعٍ من المسلمين وِجْهَتُه إلى جهة الكعبة يميناً وشمالاً ووراءُ وقُدَّامُ. وفي «وِجْهَة» قولان، أحدُهما - ويُعْزَى للمبرِّد والفارسي والمازني في أحدِ قولَيْه -: أنّها اسمُ المكانِ المتوجَّه إليه، وعلى هذا يكونُ إثباتُ الواوِ قياساً إذ هي غيرُ مصدرٍ. قال سيبويه «ولو بَنَيْتَ فعْلَةَ من الوَعْد لقلتَ: وِعْدَة، ولو بَنَيْتَ مصدراً لقلْتَ: عِدَة، والثاني: أنها مصدرٌ، ويُعْزى للمازني، وهو ظاهرٌ كلام سيبويه، فإنه قال بعد ذِكْر
حَذْفِ الواو من المصادر:» وقد أثبتوا فقالوا: وِجْهَة في الجِهة «، وعلَى هذا يكونُ إثباتُ الواوِ شاذاً مَنْبَهَةً على ذلك الأصلِ المتروكِ في عِدَة ونحوِها، والظاهرُ أَنَّ الذي سَوَّغَ إثباتَ الواوِ وإنْ كانَتْ مصدراً أنها مصدرٌ جاءَتْ على حَذْفِ الزوائدِ؛ إذ الفعلُ المسموعُ من هذه المادةِ تَوَجَّه واتَّجَهَ، ومصدرُهما التوجُّه والاتِّجاه، ولم يُسْمَعْ في فِعْلِه: وَجَهَ يَجِهُ كَوَعَدَ يَعِدُ، وكانَ الموجِبَ لحَذْفِ الواوِ من عِدَة وزِنَة الحملَ على المضارعِ لوقوعِ الواوِ بين ياءٍ وكسرةٍ، وهنا فلم يُسْمَعْ فيه مضارعٌ يُحْمَلُ مصدرُه عليه فلذلك قلت: إنَّ» وِجْهَة «مصدرٌ على حَذْفِ الزوائدِ لَتَوَجَّه أو اتَّجَه. وقد ألَمَّ أبو البقاء بشيءً من هذا.
قوله: {هُوَ مُوَلِّيهَا} جملةٌ من مبتدأٍ وخبرٍ في محلِّ رفعٍ لأنَّها صفةٌ لوِجْهَة، واختُلِف في» هو «على قولين، أحدَهما: أنه يعودُ على لفظِ» كل «/ لا على معناها ولذلك أُفْرِدَ، والمفعول الثاني محذوف لفهمِ المعنى تقديرُه هو مُوَلِّيها وَجْهَه أو نفسَه، ويؤيد هذا قراءةُ ابن عامر:» مُوَلَاّها «على ما لم يُسَمَّ فاعلُه كما سيأتي. والثاني: أنه يعودُ على اللهِ تعالى أي: الله مُوَلِّي القبلةِ إياه، أي ذلك الفريقُ.
وقرأ الجمهورُ:» مُوَلِّيها «على اسمُ فاعل، وقد تقدَّم أنه حُذِفَ أحدُ مفعولَيْه، وقرأ ابن عامر - ويُعْزَى لابن عباس - مُوَلَاّها على اسمِ المفعول، وفيه ضميرٌ مرفوعٌ قائمٌ مقامَ الفاعلِ، والثاني هو الضميرُ المتصلُ به وهو» ها «العائدُ على الوجهة، وقيل: على التوليةِ ذكره أبو البقاء، وعلى هذه القراءةِ بتعيَّن عَوْدُ» هو «إلى الفريق، إذ يَسْتَحِيلُ في المعنى عَوْدُه على الله تعالى، وقرأ
بعضُهم:» ولكلِّ وِجْهَةٍ «» بالإِضافة، ويُعزى لابنِ عامر، واختلفوا فيها على ثلاثةِ أقوالٍ أحدُها: - وهو قولُ الطبري -: أنها خطأ وهذا ليس بشيء، إذ الإِقدامُ على تخطئة ما ثَبَتَ عن الأئمةِ لا يَسْهُلُ.
والثاني - وهو قولُ الزمخشري وأبي البقاء: أنَّ اللامَ زائدةٌ في الأصلِ، قال الزمخشري: «المعنى وكلَّ وجهةٍ اللهُ مُولِّيها، فزيدتِ اللامُ لتقدُّمَ المفعولِ، كقولِك: لزيدٍ ضَرَبْتُ، ولزيدٍ أبوه ضاربه.
قال الشيخ: وهذا فاسدٌ لأنَّ العاملَ إذا تعدَّى لضمير الاسم لم يتعدَّ إلى ظاهرِه المجرورِ باللام لا تقولُ: لزيدٍ ضَرَبْتُه، ولا: لزيدٍ أنا ضَاربُه، لئلا يلزَم أحدُ محذورَيْن، وهما: إمَّا لأنه يكونُ العاملُ قوياً ضعيفاً، وذلك أنه من حيث تَعَدَّى للضمير بنفسِه يكون قوياً ومن حيث تَعَدَّى للظاهرِ باللامِ يكون ضعيفاً، وإمَّا لأنَّه يَصير المتعدِّي لواحدٍ متعدِّياً لاثنينِ، ولذلك تَأَوَّلَ النَّحْويون ما يُوهِمُ ذلك وهو قولُه:
771 -
هذا سُراقَةُ للقرآنِ يَدْرُسُه
…
والمرءُ عند الرُّشا إنْ يَلْقَهَا ذِيْبُ
على أنَّ الضميرَ في» يدرسه «للمصدرِ، أي: يدرس الدرسَ لا للقرآن، لأن الفعلَ قد تعدَّى إليه. وأمَّا تمثيلُه بقوله:» لزيدٍ ضَرَبْتُ «فليس نظيرَ الآية
لأنه لم يَتَعَدَّ في هذا المثال إلى ضميره، ولا يجوز أن تكونَ المسألةُ من باب الاشتغال، فتقدِّرَ عاملاً في» لكلِّ وِجْهةٍ «يفسِّره» مُولِّيها «لأنَّ الاسمَ المشتغِلَ عنه إذا كان ضميره مجروراً بحرفٍ ينتصبُ ذلك الاسم بفعل يوافِقُ العاملَ الظاهرَ في المعنى، ولا يجوزُ جَرُّ المشتغلِ عنه بحرفٍ، تقول: زيداً مررت به أي: لابست زيداً مررتُ به، ولا يجوزُ: لزيدٍ مررتُ به، قال تعالى:{والظالمين أَعَدَّ لَهُمْ} [الإنسان: 31] وقال:
772 -
أثعلبَةَ الفوارسٍ أم رياحا
…
عَدَلْتَ بهم طُهَيَّةَ والخِشابا
فأتى بالمشتغَلِ عنه منصوباً، وأمَّا تمثيلُه بقولِه: لزيدٍ أبوه ضاربُه فتركيبٌ غيرُ عربي.
الثالث: أن» لكلَّ وجهةٍ «متعلِّقٌ بقوله:» فاستبقوا الخيراتِ «أي: فاستبقوا الخيراتِ لكلِّ وجهةٍ، وإنما قُدِّم على العاملِ للاهتمامِ به، كما يُقَدَّمُ المفعولُ، ذكرَه ابنُ عطية، ولا يجوزُ أَنْ تُوَجَّه هذه القراءةُ على أنَّ» لكلِّ وجهةٍ «في موضعِ المفعولِ الثاني لمولِّيها، والمفعولُ الأولُ هو المضافُ إليه اسمُ الفاعل الذي هو» مُوَلٍّ «وهو» ها «، وتكون عائدةً على الطوائفِ، ويكونُ التقديرُ: وكلَّ وجهةٍ اللهُ مُوَلِّي الطوائفِ أصحابِ القِبْلاتِ، وزيدتْ اللامُ في المفعولِ لتقدُّمه ويكونُ العامِلُ فرعاً؛ لأنَّ النَحْويين نَصُّوا على أنه لا يجوزُ زيادةُ اللامِ للتقويةِ إلا في المتعدي لواحد فقط، و» مُوَلٍّ «مِمَّا يتعدَّى لاثنين، فامتنع ذلك فيه. وهذا المانعُ هو الذي مَنَعَ من الجوابِ عن الزمخشري فيما اعترَضَ به عليه الشيخُ من كونِ الفعلِ إذا تعدَّى للظاهرِ فلا يتعدَّى لضميرِه،
وهو أنه كان يمكن أن يُجابَ عنه بأَنَّ الضميرَ المتصل ب» مُوَلّ «ليس بضميرِ المفعولِ بل ضميرُ المصدرِ وهو التوليةُ، ويكون المفعولُ الأولُ محذوفاً، والتقدير: اللهُ» مُولِّي التوليةِ كلَّ وجهةٍ أصحابَها، فلما قُدِّمَ المفعولُ على العاملِ قَوِي باللامِ لولا أنهم نَصُّوا على المنعِ مِنْ زيادتِها في المتعدِّي لاثنينِ وثلاثة.
قوله: {فاستبقوا الخيرات} «الخيرات» منصوبةٌ على اسقاطِ حرفِ الجرِّ، التقديرُ: إلى الخيرات، كقول الراعي:
773 -
ثنائي عليكم آلَ حربٍ ومَنْ يَمِلْ
…
سِواكمْ فإني مُهْتَدٍ غيرُ مائِلِ
أي: إلى سواكم، وذلك لأنّ «استبق» : إمّا بمعنى سَبَق المجردِ أو بمعنى تسابق، لا جائز أن يكونَ بمعنى سَبَقَ لأنَّ المعنى ليس على اسبقوا الخيراتِ، فبقي أن يكون بمعنى تسابقَ ولا يتعدَّى بنفسِه.
والخَيْرَات جمع: خَيْرة وفيهما احتمالان: أحدُهما: أن تكونَ مخففةً من «خَيِّرَة» بالتشديدِ بوزنِ فَيْعِلَة نحو: مَيْت في مَيّت. والثاني: أن تكونَ غيرَ مخففةٍ، بل تَثْبُتُ على فَعْلَة بوزن جَفْنَة، يقال: رجلٌ خَيْرٌ وامرأةٌ خيرٌ، وعلى كِلا التقديرين فليسا للتفضيل. والسَّبْقُ: الوصولُ إلى الشيءِ أولاً، وأصلُه التقدُّمُ في السير، ثم تُجُوِّزَ به في كلِّ تقدُّم.
قوله: {أَيْنَ مَا تَكُونُواْ} «أين» اسمُ شرطٍ تَجْزِمُ فعلين كإنْ و «ما» مزيدةٌ عليها على سبيلِ الجواز، وهي ظرفُ مكانٍ، وهي هنا في محلِّ نصبٍ خبراً لكانَ، وتقديمُها واجبٌ لتضمُّنها معنى ماله صدرُ الكلامِ، و «تكونوا» مجزومٌ بها على الشرطِ، وهو الناصبُ لها، و «يأتِ» جوابُها، وتكونُ أيضاً استفهاماً فلا تعملُ شيئاً، وهي مبنيةٌ على الفتحِ لتضمُّن معنى حرفِ الشرطِ أو الاستفهام.
قولُه تعالى: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ} : «مِنْ حيثُ» متعلِّقٌ بقوله: «فولِّ» و «خرجْتَ» في محلِّ جَرٍّ بإضافة «حيث» إليها، وقرأ عبد الله «حيثَ» بالفتح، وقد تقدَّم أنها إحدى اللغات، ولا تكونُ هنا شرطيةً، لعدم زيادةِ «ما» ، والهاءُ في قولِه:«وإنَّه لَلْحَقُّ» الكلامُ فيها كالكلامِ عليها فيما تقدَّم. وقرىء «تَعْلَمون» بالياء والتاء، وهما واضحتان كما تقدَّم.
قوله تعالى: {لِئَلَاّ يَكُونَ} : هذه لامُ كي بعدها «أَنْ» المصدريةُ الناصبةُ للمضارعِ، و «لا» نافيةٌ واقعةٌ بين الناصبِ ومنصوبِهِ، كما تقعُ بين الجازمِ ومجزومِه نحوَ:{إِلَاّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ} [الأنفال: 73] ، و «أَنْ» هنا واجبةُ الإِظهارِ، إذ لو أُضْمِرَتْ لَثَقُلَ اللفظُ بتوالي لامَيْنِ، ولامُ الجرِّ متعلقةٌ بقولِه:«فَوَلُّوا وجوهَكم» . وقال أبو البقاء: متعلقةٌ بمحذوفٍ تقديرُه: فَعَلْنا ذلك لئلَاّ، ولا حاجةَ إلى ذلك، و «للناس» خبرٌ ل «يكون» مُقَدَّمٌ على اسمها، وهو «حُجَّةٌ» و «عليكم» في محلِّ نصبٍ على الحالِ، لأنَّه في الأصلِ صفةُ النكرةِ، فلمّا تقَدَّم عليها انتصَبَ حالاً، ولا يتعلَّقُ ب «حُجَّة» لئلا يَلْزَمَ تقديمُ معمولِ المصدر عليه، وهو ممتنعٌ، لأنَّه في تأويلِ صلةٍ وموصولٍ، وقد قالَ بعضُهم:«يتعلَّق بحُجَّة» وهو ضعيفٌ. ويجوزُ أن يكونَ «عليكم» خبراً ليكون، ويتعلَّقُ «للناسِ» ب «يكون» على رَأْي مَنْ يَرَى أنَّ كان الناقصةَ تعملُ في الظرفِ وشِبْهِه، وذكَّرِ الفعلَ في قوله «يكونَ» ؛ لأنَّ تأنيثَ الحجة غيرُ حقيقي، وحَسَّن ذلك الفصلُ أيضاً.
قوله: {إِلَاّ الذين} قرأ الجمهور «إلَاّ» بكسرِ الهمزةِ وتشديدِ اللام،
وقرأ ابن عباس وزيد بن علي وابن زيد بفتحِها وتخفيفِ اللامِ على أنها للاستفتاح. فأما قراءة الجمهور فاختلف النحويون/ في تأويلها على أربعةِ أقوال أظهرُها: - وهو اختيارُ الطبري، وبدأ به ابن عطية، ولم يذكر الزمخشري غيرَه - أنه استثناء متصلٌ، قال الزمخشري:«ومعناه لئلا يكونَ حجةٌ لأحدٍ من اليهودِ إلا للمعانِدِين منهم القائلينَ: ما ترك قبلتنا إلى الكعبةِ إلا مَيْلاً لدين قومه وحُبَّاً لهم، وأَطلْق على قولِهم» حجة «لأنهم ساقُوه مَساقَ الحُجّة. وقال ابن عطية:» المعنى أنه لا حجة لأحدٍ عليكم إلا الحجةُ الداحضةُ للذين ظلموا من اليهود وغيرِهم الذين تكلَّموا في النازلة، وسمَّاها حُجَّة، وحكم بفسادها حين كانت من ظالم «. الثاني: انه استثناءٌ منقطعٌ فيُقَدَّر ب» لكن «عند البصريين وببل عند الكوفيين لأنه استثناءٌ مِنْ غيرِ الأولِ والتقديرُ: لكنَّ الذين ظلموا فإنَّهم يتعلَّقون عليكم بالشُّبْهَة يَضَعونَها موضعَ الحُجَّةِ. ومثارُ الخلافِ هو: هل الحُجَّةُ هو الدليلُ الصحيحُ أو الاحتجاجُ صحيحاً كان أو فاسداً؟ فعلى الأولِ يكونُ منقطعاً وعلى الثاني يكون متصلاً. الثالث: - وهو قولُ أبي عبيدة - أن» إلَاّ «بمعنى الواو العاطفةِ، وجَعَلَ من ذلك قولَه:
774 -
وكلُّ أخٍ مُفَارِقُه أَخوه
…
لَعَمْرُ أبيك إلا الفَرْقَدان
وقولِ الآخر:
775 -
ما بالمدينةِ دارٌ غيرُ واحدةٍ
…
دارُ الخليفةِ إلا دارُ مروانا
تقديرُ ذلك عنده: «ولا الذين ظلموا - والفرقدان - ودار مروان» وقد خَطَّأه النحاةُ في ذلك كالزجاج وغيره. الرابع: أنَّ «إلا» بمعنى بَعْدَ، أي: بعد الذين ظلموا، وجعل منه قولَ الله تعالى:{لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلَاّ الموتة الأولى} [الدخان: 56]، وقولَه تعالى:{إِلَاّ مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 22] تقديرُه: بعد الموتةِ وبعدَ ما قد سَلَف، وهذا من أفسدِ الأقوالِ وأنْكَرِها وإنما ذكرْتُه لغرضِ التنبيه على ضَعْفِه.
و «الذين» في محلِّ نصب على الاستثناءِ، على القَوْلين اتصالاً وانقطاعاً. وأجاز قطرب أن يكونَ في موضع جَرٍّ بدلاً من ضمير الخطابِ في «عليكم» ، والتقديرُ: لئلا تَثْبُتَ حُجَّةٌ للناسِ على غيرِ الظالمين منهم، وهو أنتم أيها المخاطبون بتوليةِ وجوهِكِم إلى القبلة، ونُقِلَ عنه أنه كان يقرأ:{إِلَاّ عَلَى الذين} كأنه يكرر العاملَ في البدلِ على حِدِّ قوله: {لِلَّذِينَ استضعفوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} [الأعراف: 75] وهذا عند جمهورِ البصريين ممتنعٌ، لأنه يؤدِّي إلى بدلِ ظاهرٍ من ضميرِ حاضرٍ بدلِ كلٍّ مِنْ كلٍّ، ولم يُجِزْه من البصريين إلا الأخفشُ، وتأوَّل غيرُه ما وَرَدَ من ذَلك.
وإمَّا قراءةُ ابن عباس ف «ألا» للاستفتاح، وفي محلِّ «الذين» حينئذٍ ثلاثة أوجهٍ، أظهرُها: أنه مبتدأٌ وخبرُه قولُه: «فلا تَخْشَوْهم» وإنما دَخَلَتِ الفاءُ في
الخبرِ لأنَّ الموصلَ تَضَمَّنَ معنى الشرطِ، والماضي الواقعُ صلةً مستقبلٌ معنىً، كأنه قيل: مَنْ يظلمُ الناسَ فلا تَخْشَوهم، ولولا دخولُ الفاءِ لترجَّحَ النصبُ على الاشتغال، أي: لَا تَخْشَوا الذين ظلموا لا تَخْشَوْهم. الثاني: أن يكون منصوباً بإضمارِ فعلٍ على الاشتغال، وذلك على قول الأخفش فإنه يجيز زيادةَ الفاءِ. الثالث - نقله ابن عطية -: أن يكونُ منصوباً على الإِغراء.
ونُقِلَ عن ابن مجاهد أنَّه قرأ: {إِلَاّ الذين ظَلَمُواْ} وجعل «إلى» حرفَ جر متأولاً لذلك بأنَّها بمعنى مع، والتقديرُ: لئلا يكونَ للناسِ عليكم حجُةٌ مع الذين، والظاهرُ أنَّ هذا الروايَ وقع في سَمْعِهِ «إلا الذين» بتخفيف «إلا» فاعتقَدَ ذلك فيها، وله نظائرُ مذكورةٌ عندهم «. و» منهم «في محلِّ نصبٍ على الحالِ فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، ويحتمل أَنْ تكونَ» مِنْ «للتبعيضِ وأن تكونَ للبيان.
قوله: {وَلأُتِمَّ} فيه أربعةُ أوجهٍ، أَظْهَرُها: أنه معطوفٌ على قوله» لئلا يكونَ «كأن المعنى:» عَرَّفْناكم وجهَ الصوابِ في قبلتِكم والحُجَّم لكم لانتفاءِ حُجَجِ الناس عليكم ولإِتمام النعمةِ، فيكونُ التعريفُ مُعَلَّلاً بهاتين العلَّتين، والفصلُ بالاستثناءِ وما بعدَه كلا فصلٍ إذ هو من متعلِّقِ العلةِ الأولى. الثاني: أنه معطوفٌ على علةٍ محذوفةٍ وكلاهما معلولُها الخَشْيَةُ السابقةُ، فكأنه قيل: واخْشَوْني لأَوفِّيَكم ولأُتِمَّ نعمتي عليكم. الثالث: أنه مُتعلِّقٌ بفعلٍ محذوفٍ مقدرٍ بعدَه تقديرُه: «ولأتمَّ نعمتي عليكم عَرَّفْتُكم أمرَ قِبْلَتِكم. الرابع: وهو أضعفُها - أن تكونَ متعلقةً بالفعلِ قبلَها، والواوُ زائدة، تقديرُه: واخشَوْنِي لأُتِمَّ نعمتي. وهذه لامُ كي وأنْ مضمرةٌ بعدَها ناصبةٌ
للمضارعِ فينسبكُ منها مصدرٌ مجرورٌ باللامِ، وتقدَّم تحقيقُه، و» عليكم «فيه وجهان، أحدُهما: أن يتعلقَ بأُتِمَّ، والثاني: أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من نعمتي، أي: كائنةً عليكم.
قوله تعالى: {كَمَآ أَرْسَلْنَا} : في الكافِ قولان، أظهرُهما: أنَّها للتشبيه. والثاني: أنها للتعليل، فعلى القولِ الأولِ تكونُ نعتَ مصدرٍ محذوفٍ. واختَلَفَ الناسُ في متعلَّقِها حينئذٍ على خمسةِ أوجهٍ، أحدُها: أنها متعلقةٌ بقوله: «ولأتِمَّ» تقديرُه: ولأتَّم نعمتي عليكم إتماماً مثلَ إتمامِ الرسولِ فيكم، ومتعلَّقُ الإِتمامَيْنِ مختلفٌ، فالأولُ بالثوابِ في الآخرةِ والثاني بإرسالِ الرسولِ في الدنيا، أو الأولُ بإيجابِ الدعوةِ الأولى لإِبراهيم في قوله:{وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ} [البقرة: 138] والثاني بإجابةِ الدعوةِ الثانية في قوله: {رَبَّنَا وابعث فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ} [البقرة: 12]، [ورجَّحه مكي لأنَّ سياقَ اللفظِ يَدُلُّ على أنَّ المعنى] : ولأتمَّ نعمتي ببيان مِلَّةِ أبيكم إبراهيمَ كما أَجَبْنا دعوتَه فيكم فَأَرْسلنا إليكم رسولاً منكم. الثاني أَنها متعلقةٌ بيهتدون، تقديرُه: يَهْتدون اهتداءً مثلَ إرسالِنا فيكم رسولاً، ويكون تشبيهُ الهدايةِ بالإِرسال في التحقيق والثبوتِ، أي: اهتداءً متحققاً كتحققِ إرسالنا. الثالث: - وهو قول أبي مسلم - أنها متعلقةٌ بقولِه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة: 143]، أي: جَعْلاً مثلَ إرسالِنا. وهذا بعيدٌ جداً لطولِ الفصلِ المؤذنِ بالانقطاعِ. الرابع: أنها متعلقةٌ بما بعدها وهو «اذكروني» ، قال الزمخشري: «كما ذَكَرْتُكُم
بإرسالِ الرسلِ فاذكروني بالطاعة أذكركم بالثواب، فيكونُ على تقديرِ مصدرٍ محذوفٍ، وعلى تقديرِ مضافٍ أي: اذكروني ذكراً مثل ذِكْرِنا لكم بالإِرسال، ثم صار: مثلَ ذكرِ إرسالِنا، ثم حُذِفَ المضافُ وأقيم المضافُ إليه مُقامَه، وهذا كما تقول: كما أتاك فلان فإنه يكرمك، والفاءُ غيرُ مانعةٍ من ذلك» قال أبو البقاء:«كما لم تَمْنَعْ في باب الشرط» يعني أنَّ ما بعدَ فاءِ الجزاءِ يَعْمَلُ فيما قبلها. [وقد رَدَّ مكي هذا بأنَّ الأمرَ إذا كان له جوابٌ لم يتعلَّق بهِ ما قبله] لاشتغالِه بجوابِه و «اذكروني» قد أُجيب بقولِه: «أذكرْكم» فلا يتعلَّقُ به ما قبلَه، قال «ولا يجوزُ ذلك إلا على التشبيه بالشرطِ الذي يُجاب بجوابين نحو: إذا أتاك فلانٌ فأكرمه تَرْضَهْ، فيكونُ» كما «و» فأذكركم «جوابين للأمرِ، والأول أفصحُ وأشهرُ، وتقول:» كما أحسنت إليك فأكرمني «فيَصِحُّ أن تجعلَ الكافَ متعلقةً بأكرمني إذ لا جواب له» .
وهذا الذي منعه مكي قال الشيخ: «لا نعلم خلافاً في جوازِه» وأمَّا قولُه: «إلا أن يُشَبَّه بالشرطِ» وجعلُه «كما» جواباً للأمر فليس بتشبِيهٍ صحيحٍ ولا يُتَعَقَّلُ، وللاحتجاجِ عليه موضعٌ غيرُ هذا الكتاب. قال الشيخ: وإنما يَخْدِشُ هذا عندي وجودُ الفاء فإنها لا يعمل ما بعدها فيما قبلها وتَبْعُدُ زيادتُها «. انتهى وقد تقدَّم ما نقلته عن أبي البقاء في أنها غيرُ مانعةٍ من ذلك.
الخامس: أنها متعلقةٌ بمحذوفٍ على أنَّها حالٌ من «نعمتي» والتقديرُ: ولأُتِمَّ نعمتي مُشْبِهَةً إرسالنَا فيكم رسولاً، أي: مشبهةً نعمةَ الإِرسالِ، فيكونُ على حَذْفِ مضافٍ.
وأمَّا على القولِ بأنَّها للتعليلِ فتتعلَّقُ بما بعدَها، وهو قولُه:«فاذكروني» أي: اذكروني لأجلِ إرسالِنا فيكم رسولاً، وكونُ الكافِ للتعليل واضحٌ، وجَعَلَ بعضُهم منه:{واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 198]، وقولَ الآخر:
776 -
لا تَشْتُمِ الناسَ كما لا تُشْتَمُ
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ي: لا تشتم لامتناعِ الناسِ مِنْ شَتْمِكَ.
وفي «ما» المتصلةِ بهذه الكافِ ثلاثةُ أوجهٍ، أظهرُها: أنها مصدريةٌ وقد تقدَّم تحريرُه. والثاني: أنها بمعنى الذي، والعائدُ محذوفٌ، و «رسولاً» بدلٌ منه، والتقديرُ: كالذي أرسلناه رسولا، وهذا بعيدٌ جداً، وأيضاً فإنَّ فيه وقوعَ «ما» على آحادِ العقلاءِ وهو قولٌ مرجوحٌ الثالث: أنها كافةٌ للكافِ كهي في قولِه:
777 -
لَعَمْرُكَ إنني وأبا حُمَيْدٍ
…
كما النَّشْوانُ والرجلُ الحليمُ
ولا حاجةَ إلى هذا، فإنه لا يُصَار إلى ذلك إلَاّ حيث تعذَّرَ أَنْ ينسبكَ منها ومِمَّا بعدها مصدرٌ، كما إذا اتصلت بجملةٍ اسميةٍ كالبيتِ المتقدِّم. و «منكم» في محلِّ نصبٍ لأنه صفةٌ ل «رسولاً» وكذلك ما بعدَه من الجمل، ويُحْتمل أن تكونَ الجملُ بعده حالاً لتخصص النكرةِ بوَصْفِها بقوله:«منكم» ، وأتى بهذه الصفاتِ بصيغةِ المضارع لأنه يَدُلُّ على/ التجدُّدِ والحدوثِ، وهو مقصودُ ها هنا بخلاف كونِه منهم فإنَّه وصفٌ ثابتٌ له، وهنا قَدَّم التزكيةَ على
التعليمِ، وفي دعاء إبراهيم بالعكسِ، والفرقُ أنَّ المرادَ بالتزكيةِ هنا التطهيرُ من الكفرِ وكذلك فَسَّروه، وهناك المرادُ بها الشهادةُ بأنَّهم خيارٌ أزكياءُ وذلك متأخِّر عن تعلُّمِ الشرائعِ والعَمَلِ بها، وقوله:{وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ} بعد قوله: {وَيُعَلِّمُكُمُ الكتاب والحكمة} مِنْ بابِ ذكرِ العامِّ بعد الخاصِّ وهو قليلٌ بخلافِ عكسِه.
وقوله تعالى: {واشكروا لِي} : تقدَّم أنَّ «شكر» يتعدَّى تارةً بنفسِ وتارةً بحرفِ جَرٍّ على حدٍّ سواءٍ على الصحيحِ، وقال بعضُهم: إذا قلت: شكرْتُ لزيدٍ فمعناه شَكَرْتُ لزيدٍ صَنيعَه، فَجَعَلُوه متعدِّياً لاثنينِ أحدُهما بنفسِه والآخرُ بحرفِ الجَرّ، ولذلك فسَّر الزمخشري هذا الموضعَ بقولِه:«واشكُروا لي ما أَنْعَمْتُ به عليكم» . وقال ابن عطية: «واشكروا لي واشكروني بمعنى واحد، و» لي «أفصحُ وأشهرُ مع الشكر، ومعناه نعمتي وأيادِيَّ، وكذلك إذا قُلْتَ: شَكَرْتُك، فالمعنى شَكَرْتُ لك صنيعك وذَكَرْتُه، فَحَذَفَ المضافَ، إذ معنى الشكرِ ذِكْرُ اليدِ وذِكْرُ مُسْدِيها معاً، فما حُذِفَ مِنْ ذلك فهو اختصارٌ لدلالةِ ما بقي على ما حُذِفَ» .
قوله تعالى: {أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ} : خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ أي: لا تقولوا: هم أمواتٌ، وكذلك «أحياءٌ» خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي: بل هم أحياءٌ، وقد راعى لفظَ «مَنْ» مرةً فأَفْرَدَ في قولِه «يُقْتَلُ» ، ومعناها أخرى فَجَمَع في قولِه {أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ} واللامُ هنا للعِلَّة، ولا تكونُ للتبليغ، لأنهم لم يُبَلِّغوا الشهداء قولَهم هذا. والجملةُ من قولِه:«هم أمواتٌ» في محلِّ نصب بالقول لأنها محكيَّة به، وأما {بَلْ هُمْ أَحْيَاءٌ} فيتحمل وجهين، أحدهما
ألَاّ يكونَ له محلٌّ مِنَ الإِعرابِ، بل هو إخبارٌ مِنَ الله تعالَى بأنَّهم أحياءٌ، ويُرَجِّحُه قولُه:{وَلَكِن لَاّ تَشْعُرُونَ} إذ المعنى لا شعورَ لكم بحياتِهم. والثاني: أن يكون محلُّه النصبُ بقولٍ محذوفٍ تقديرُه، بل قولوا هم أحياء، ولا يجوزُ أن ينتصِبَ بالقولِ الأولِ لفسادِ المعنى، وحُذِفَ مفعولُ «يشعرون» «لِفَهْمِ المعنى أي: بحياتِهم.
قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ} : هذا جوابُ قسمٍ محذوفٍ، ومتى كان جوابُه مضارعاً مثبتاً مستقبلاً وَجَبَ تلقِّيه باللامِ وإحدى النونين خلافاً للكوفيين حيث يعاقبون بينهما، ولا يُجِيز البصريونَ ذلك إلا في ضرورةٍ. وفُتِح الفعل المضارعُ لاتصالِه بالنونِ وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك وما فيه من الخلاف.
قوله: «بشيءٍ» متعلِّقٌ بقولِه: «لَنَبْلُوَنَّكَ» والباءُ معناها الإِلصاقُ، وقراءةُ الجمهورِ على إفرادِ «شيء» ومعناها الدَّلالةُ على التقليلِ، إذ لو جَمَعَه لاحتمل أن يكون ضروباً من كل واحد. وقرأ الضحاك بن مزاحم «بأشياء» على الجمعِ، وقراءةُ الجمهور لا بُدَّ فيها من حذفٍ تقديرُه: وبشيءٍ من الجوعِ وبشيءٍ من النقصِ، وأمّا قراءةُ الضحاك فلا تحتاجُ إلى هذا، وقولُه «من الخوف» في محلِّ جرٍّ صفةً لشيء فيتعلَّقُ بمحذوفٍ.
قوله: {وَنَقْصٍ} فيه وجهان، أحدُهما: أن يكونَ معطوفاً على «شيء» والمعنى: بشيءٍ من الخوفِ وبنقصٍ، والثاني: أن يكونَ معطوفاً على الخوفِ، أي: وبشيءٍ من نَقْصِ الأموال، والأولُ أَوْلَى لاشتراكِهما في التنكيرِ.
قوله: {مِّنَ الأموال} فيه خمسةُ أوجهٍ، أحدُها: أَنْ يكونَ متعلِّقاً بنَقْصٍ لأنه مصدرُ نَقَص، وهو يتعدَّى إلى واحد، وقد حُذِفَ، أي: ونقصِ شيء مِنْ
كذا. الثاني: أن يكونَ في محلِّ جر صفةً لذلك المحذوفِ، فيتعلَّقَ بمحذوفٍ، أي: ونقصِ شيءٍ كائنٍ مِنْ كذا. الثالث: أن يكونَ في محلِّ نصبٍ صفةً لمفعولٍ محذوفٍ نُصِبَ بهذا المصدرِ المنوَّنِ، والتقديرُ: ونقصٍ شيئاً كائناً من كذا، ذكره أبو البقاء، ويكونُ معنى «مِنْ» على هذين الوجهين التبعيضَ. الرابع: أن يكونَ في محلّ جَرٍّ صفةً ل «نَقْص» ، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ أيضاً، أي: نقصٍ كائنٍ من كذا، وتكونُ «مِنْ» لابتداءِ الغايةِ. الخامس: أن تكونَ «مِنْ» زائدةً عند الأخفش، وحينئذ لا تَعَلُّق لها بشيءٍ.
قوله تعالى: {الذين إِذَآ أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ} : فيه أربعةُ أوجهٍ، أحدُها: أن يكونَ منصوباً على النعتِ للصابرين، وهو الأصحُّ. الثاني: أن يكونَ منصوباً على المدحِ. الثالث: أن يكونَ مرفوعاً على خبرِ مبتدأٍ محذوفٍ، أي: هم الذين، وحينئذٍ يَحْتمل أن يكونَ على القَطْع، وأَنْ يكونَ على الاستئنافِ. الرابعُ: أن يكونَ مبتدأ، والجملةُ الشرطيةُ من «إذا» وجوابِها صلته، وخبرهُ ما بعدَه من قولِه:{أولئك عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ} .
قوله تعالى: {أولئك} : مبتدأٌ، و «صلواتٌ» مبتدأٌ ثانٍ، و «عليهم» خبرُه مقدَّمٌ عليه، والجملةُ خبرُ قولِه «أولئك» ، ويجوزُ أَنْ تكونَ «صلوات» فاعلاً بقوله:«عليهم» . قال أبو البقاء: «لأنه قد قَوِيَ بوقوعِهِ خبراً. والجملةُ من قولِه:» أولئك «وما بعدَه خبرُ» الذين «على أحِد الأوجه المتقدِّمِة، أو لا محلَّ لها على غيرِه من الأوجه، و» قالوا «هو العاملُ في» إذا «لأنه جوابُها، وقد تقدَّم الكلامُ في ذلك، وتقدَّم أنها هل تقتضي التكرارَ أم لا؟
قوله: {إِنَّا للَّهِ} » إنَّ واسمُها وخبرُها في محلِّ نَصْبٍ بالقولِ، والأصل: إنَّنا بثلاث نوناتٍ، فَحُذِفَتِ الأخيرةُ من إنَّ لا الأولى، لأنه قد عُهِدَ حَذْفُها، ولأنها طَرَفٌ والأطرافُ أَوْلَى بالحَذْفِ، لا يُقال:«إنها لو حُذِفَتِ الثانيةُ لكانَتْ مخففةً، والمخففةُ لا تعملُ على الأفصح فكانَ ينبغي أن تُلْغَى فينفصلَ الضميرُ المرفوعُ حينئذٍ إذ لا عمل لها فيه، فدلَّ عَدَمُ ذلك على أنَّ المحذوفَ النونُ الأولى» لأنَّ هذا الحَذْفَ حَذْفٌ لتوالي الأمثالِ لا ذاك الحَذْفُ المعهود في «إنَّ» و «أصابَتْهم مصيبةٌ» من التجانسِ المغاير، إذ إحدى كلمتي المادةِ اسمٌ والأخرى فِعْلٌ، ومثلُه:{أَزِفَتِ الآزفة} [النجم: 57]{وَقَعَتِ الواقعة} [الواقعة: 1] قوله: {وَرَحْمَةٌ} عَطْفٌ على الصلاة وإن كانَتْ بمعناها، فإنَّ الصلاةَ من الله رحمةٌ لاختلافِ اللفظين كقولِه:
778 -
وقَدَّمَتِ الأدِيمَ لراهِشَيْهِ
…
وأَلْفَى قولَها كَذِباً ومَيْنَا
وقوله:
779 -
أَلا حَبَّذا هِنْدٌ وأرضٌ بها هندٌ
…
وهندٌ أتى مِنْ دونِها النَّأْيُ والبُعْدُ
قولُه: {مِّن رَّبِّهِمْ} فيه وجهان، أحدهما: أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ لأنه صفةٌ لصلوات، و «مِنْ» للابتداءِ، فهو في محلِّ رفعٍ أي: صلواتٌ كائنةٌ من ربهم. والثاني: أن يتعلَّقَ بما تَضَمَنَّه قولُه «عليهم» من الفعل إذا جَعَلْناه رافعاً لصلوات رَفْعَ الفاعلِ، فعلى الأولِ يكونُ قد حَذَفَ الصفةَ بعد «رحمة» أي: ورحمةٌ منه، وعلى الثاني لا يَحْتاج إلى ذلك. وقولُه {وأولئك هُمُ المهتدون} نظيرُ:{وأولئك هُمُ المفلحون} [البقرة: 5] .
قوله تعالى: {إِنَّ الصفا} : «الصَّفا» اسمُها، و {مِن شَعَآئِرِ الله} خبرُها. قال أبو البقاء:«وفي الكلامِ حَذْفُ مضافٍ، تقديرُه:» طوافُ الصفا، أو سَعْيُ الصفا «. وألفُ الصَّفا عن واوٍ بدليلِ قَلْبِها في التثنية واواً، قالوا: صَفَوان، والاشتقاقُ يَدُلُّ عليه أيضاً لأنَّه من الصَّفْوِ، وهو الخُلُوصُ، والصَّفا الحَجَرُ الأمْلَسُ وقيل: الذي لا يُخالِطُه غيرُه من طينٍ أو ترابٍ، ويُفَرَّقُ بين واحدِه وجَمْعِه تاءُ التأنيثِ نحو: صفاً كثيرٌ وصفاة واحدة، وقد يجمع الصَّفا على فُعول وأَفْعال قالوا: صُفِيٌّ بكسر الصاد وضمِّها كعِصِيّ، وأصْفاء، والأصل: صُفُوو وأَصْفاو، فَقُلِبَتِ الواوان في» صُفُوو «ياءَين، والواوُ في أصفاء همزةً ككساء وبابه. والمَرْوَةُ: الحِجارة الصِّغارُ، فقيل اللَّيِّنَة وقيل: الصُلبة، وقيل المُرْهَفَةُ الأطْراف، وقيل البيض وقيل: السُّود، وهما في الآية عَلَمان لجبلين معروفين. والألفُ واللامُ فيهما للغَلَبةِ كهما في البيت والنجم، وجمعها: مَرْوٌ، كقوله:
780 -
وترى المَرْوَ إذا ما هَجَّرَتْ
…
عن يَدَيْها كالفَراشِ المُشْفَتِرّْ
والشعائر: جمع شَعيرَة وهي العلامةُ، وقيل: جمع شِعارة، والرادُ بها في الآية مناسِكُ الحُجِّ، والأجود» شعائِر «بالهمزِ لزيادةِ حرفِ المَدّ وهو عكسُ معائِش ومصائب. /
قوله: {فَمَنْ حَجَّ البيت} » مَنْ «شرطيَّةٌ في محلِّ رفع بالابتداءِ، و» حَجَّ «في محلِّ جَزْمٍ، و» البيتَ «نَصْبٌ على المفعولِ به لا على الظرفِ، والجوابُ قولُه:» فلا جُناحَ «. والحَجُّ لغةً: القَصْدُ مرةً بعدَ أخرى، قال:
781 -
لِراهِبٍ يَحُجُّ بيتَ المَقْدِسِ
…
في مِنْقَلٍ وبُرْجُدٍ وبُرْنُسِ
والاعتمارُ: الزيارةُ، وقيل: مطلقُ القصدِ، ثم صارا عَلَمين بالغَلَبة في المعاني كالبيت والنجم في الأعيان.
وقوله: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ} الظاهرُ أنَّ» عليه «خبرُ» لا «، و» أَنْ يَطَّوَّفَ «أصلُه: في أَنْ يَطَّوَّفَ، فَحُذِف حرفُ الجر، فيجيء في محلِّها القولان، النصبُ أو الجرُّ. والوقفُ في هذا الوجهِ على قولِه» بهما «. وأجازوا بعد ذلك أوجهاً ضعيفةً منها: أن يكونَ الكلامُ قد تَمَّ عند قولِه» فلا جُناحَ «على أن يكونَ خبرُ» لا «محذوفاً، وقدَّره أبو البقاء:» فَلَا جُنَاحَ في الحج «ويُبْتدَأ بقولِه: {عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ} فيكونُ» عليه «خبراً مقدماً و» أَنْ يطَّوَّفَ «في تأويلِ مصدرٍ مرفوعٍ بالابتداءِ، فإنَّ الطوافَ واجبٌ، قال أبو البقاء هنا:» والجيدُ أن يكونَ «عليه» في هذا الوجهِ خبراً، و «أَنْ يَطَّوَّفَ» مبتدأً «.
ومنها: أن يكونَ {عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ} من بابِ الإِغراءِ، فيكونَ» أَنْ يَطَّوَّفَ «في محلِّ نصبٍ كقولك، عليك زيداً، أي: الزَمْه، إلا أنَّ إغراءَ الغائبِ ضعيفٌ، حكى سيبويه:» عليه رجلاً لَيْسَني «، قال: وهو شاذ.
ومنها: أَنَّ «أَنْ يطَّوَّفَ» في محلِّ رفعٍ خبراً ثانياً ل «لا» والتقديرُ: فلا جُناحَ الطوافُ بهما. ومنها: «أَنْ يطَّوَّفَ» في محلِّ نصبٍ على الحالِ من الهاءِ في «عليه» ، والعاملُ في الحالِ العاملُ في الخبرِ، والتقديرُ: فلا جُناحَ عليه في حالِ تَطْوافِه بهما. وهذان القولان ساقِطان ذَكَرْتُهما تنبيهاً على غَلَطِهما، ولا فائدةٌ في ذِكْرِ وجهِ الغَلَطِ إذا هو واضحٌ بأدنى نَظَرٍ.
وقراءةُ الجمهور «أَنْ يَطَّوَّفَ» بغير لا. وقرأ أنس وابن عباس وابن سيرين وشهر بن حوشب: «أَنْ لا يَطَّوَّفَ» قالوا: وكذلك في مُصْحَفي أُبَيّ وعبدِ الله. وفي هذه القراءةِ احتمالان، أحدُهما: أنَّها زائدة كهي في قولِه: {أَلَاّ تَسْجُدَ} [الأعراف: 12] وقوله:
782 -
وما أَلومُ البيضَ ألَاّ تَسْخَرا
…
لَمَّا رَأَيْنَ الشَّمَطَ القَفَنْدَرا
وحينئذٍ يتَّحِدُ معنى القراءتين. والثاني: أنها غيرُ زائدةٍ بمعنى أَنَّ رَفْعَ الجُناحِ في فِعْلِ الشيء هو رفعٌ في تَرْكِه، إذ هو تخييرٌ بين الفعلِ والتركِ نحو:{فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ أَن يَتَرَاجَعَآ} [البقرة: 230] ، فتكونُ قراءةُ الجمهورِ فيها رفعُ الجناحِ في فعلِ الطوافِ نَصَّاً وفي هذه رفعُ الجناحِ في الترك نَصَّاً.
وقرأ الجمهورُ: «يَطَّوَّفَ» بتشديد الطاءِ والواوِ، والأصلُ: يَتَطَوَّف، وماضيه كان أصله:«تَطَوَّفَ» ، فلمّا أُريد الإِدغامُ تخفيفاً قُلِبَتِ التاءُ طاءٌ وأُدْغِمت في الطاءِ فاحتيج إلى همزة وَصْلٍ لسكونِ أولِه لأجل الإِدغام فأُتي بها فجاء مضارعُه عليه: يَطَّوَّف فانحَذَفَت همزتُ الوصلِ لتحصُّنِ الحرفِ المدغمِ بحرفِ المضارعة، ومصدرُه على التطَّوفِ رجوعاً إلى أصلِ تَطَوَّفَ.
وقرأ أبو السَّمَّال: «يَطُوف» مخففاً، من طاف يَطُوف وهي سهلة. وقرأ
ابن عباس: «يَطَّاف» بتشديد الطاء مع الألف وأصله: يَطْتَوِف على وزن يَفْتَعِل وماضيه: أطْتَوَف افْتَعَل تحرَّكت الواوُ وانفتحَ ما قبلها فقُلِبَتْ ألفاً، ووَقَعَتْ تاءُ الافتعالِ بعدَ الطاءِ فَوَجَبَ قَلْبُها طاءً وإدغامُ الطاءِ فيها كما قالوا: أطَّلَب يَطَّلِبُ، والأصل: اطْتَلَب يَطْتَلِبُ، فصار: اطَّاف وجاء مضارعُه عليه: يَطَّاف. هذا هو تصريفُ هذه اللفظةِ من كونِ تاءِ الافتعال تُقْلَبُ طاءً وتُدَغَمُ فيها الطاءُ الأولى. وقال ابن عطية: «فجاء يَطْتَاف أُدْغِمَت التاءُ - بعد الإِسكانِ - في الطاءِ على مَذْهَبِ مَنْ أَجازَ إدغامَ الثاني في الأولِ كما جاءَ في» مُدَّكِر «، ومَنْ لم يُجِزْ ذلك قال: قُلَبَتِ التاءُ طاءٍ ثم أُدْغِمت الطاءُ في الطاء، وفي هذا نظرٌ لأنَّ الأصليَّ أُدْغِم في الزائد وذلك ضعيفٌ» .
وهذا الذي قاله ابنُ عطية فيه خطأٌ من وَجْهين، أحدُهما: كَوْنُه يَدَّعي إدغامَ الثاني في الأولِ وذلك لا نظيرَ له، إنما يُدْغَمُ الأولُ في الثاني. والثاني: أنه قال كما جاء في «مُدَّكِر» لأنه كان ينبغي على قوله أن يقال: مُذَّكِر بالذال المعجمة وهذه لغةٌ رديئةٌ، إنما اللغةُ الجيدةُ بالمهملة لأنَّا قلبْنا تاءَ الافتعالِ بعد الذالِ المعجمةِ دالاً مهملة فاجتمع متقاربان فَقَلَبْنا أوَّلَهما لجنسِ الثاني وأَدْغَمْنا، وسيأتي تحقيقُ ذلك.
ومصدر اطَّاف على الاطِّياف بوزن الافْتعال، والأصلُ: اطَّواف فكُسِر ما قبل الواو فقُلِبَتْ ياءً، وإنما عَادَتِ الواوُ إلى أصلِها لزوالِ موجب قَلْبها ألفاً ويُوضِّح ذلك قولُهم: اعتاد اعتياداً، والأصل: اعتِواد فَفُعِل به ما ذَكرْتُ لك.
قوله: {وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً} قرأ حمزةُ والكسائي «تَطَوعَّ» هنا وفي الآية
الآتية بعدها: يَطَّوَّعْ بالياء فعلاً مضارعاً، وقرأه الباقون:«تَطَوَّع» فعلاً ماضياً. فأمَّا على قراءتهما فتكونُ «مَنْ» شرطيةً ليس إلَاّ، لعملِها الجزمَ. وأصل يَطَّوَّع. يَتَطَوَّع فأُدْغِم على نحو ما تقدّم في «يطّوّف» وهي في محلِّ رفعٍ بالابتداء، والخبرُ فعلُ الشرطِ على ما هو الصحيحُ كما تقدَّم تحقيقُه. وقولُه:«فإنَّ الله» جملةٌ في محلِّ جزمٍ لأنَّها جوابُ الشرطِ، ولا بُدَّ مِنْ عائدٍ مقدَّرٍ أي: فإنَّ الله شاكرٌ له. وقال أبو البقاء: «وإذا جَعَلْتَ» مَنْ «شرطاً لم يكنْ في الكلامِ حَذْفُ ضميرٍ لأنَّ ضميرَ» مَنْ «في تطوَّع» وهذا يخالِفُ ما قَدَّمْتُ لك نَقْلَه عن النحويين من أنه إذا كان أداةُ الشرطِ اسماً لَزِمَ أن يكونَ في الجوابِ ضميرٌ يعودُ عليهِ وتقدَّم تحقيقُ ذلك.
وأمَّا على قراءة الجمهورِ فتحتمل وَجْهَيْنِ، أحدُهما: أن تكونَ شرطيةً، والكلامُ فيها كما تقدَّم. والثاني: أن تكونَ موصولةً و «تَطَوَّعَ» صلتَها فلا محلَّ له مِنْ الإِعراب حينئذٍ، وتكونُ في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ أيضاً و «فإنَّ الله» خبرُه، ودَخَلَت الفاءُ لِما تضمَّن مِنْ معنى الشرط، والعائدُ محذوفُ كما تقدَّم أي: شاكرٌ له، وانتصابُ «خيراً» على أحدِ أوجهِ: إمَّا على إسقاطِ حرفِ الجرِّ أي: تَطَوَّع بخيرٍ، فلمَّا حُذِفَ الحرفُ انتصَبَ نحو قولِه:
783 -
تَمُرُّونَ الدِّيار ولم تَعُوجُوا
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وهو غيرُ مقيسٍ. الثاني: أن يكونَ نعتَ مصدرٍ محذوفٍ أي: تطُّوعاً خيراً. والثالثُ: أن يكونَ حالاً من ذلك المصدر المقدَّر معرفةً، وهذا مذهبُ سيبويه وقد تقدَّم غيرَ مرةٍ، أو على تضمينِ «تَطَوَّعَ» ، فعلاً يتعدَّى،
أي: مَنْ فَعَلَ [خيراً متطوِّعاً به] . وقد تلخَّص مِمَّا تقدَّم أنَّ في قولِه: {فَإِنَّ الله شَاكِرٌ عَلِيمٌ} وجهين، أحدُهما: الجزمُ على القولِ بكونِ «مَنْ» شرطيةً والثاني: الرفعُ على القولِ بكونِها موصولةً.
قوله تعالى: {مَآ أَنزَلْنَا} : مفعول بيكتمون، و «أَنْزلنا» صلتُه وعائدُه محذوفٌ، أي أنزلناه. و «من البيناتِ» يجوز فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أظهرُها: أنها حالٌ من ما الموصولةِ فيتعلَّقُ بمحذوفٍ أي: كائناً من البينات. الثاني: أَنْ يتعلَّق بأنزلنا فيكونَ مفعولاً به قالَه أبو البقاء، وفيه نظرٌ مِنْ حيث إنه إذا كان مفعولاً به لم يتعدَّ الفعلُ إلى ضميرٍ، وإذا لم يتعدَّ إلى ضميرِ الموصولِ بقي الموصولُ بلا عائدٍ. الثالث: أن يكونَ حالاً من الضميرِ العائدِ على الموصولِ، والعاملُ فيه «أنزلنا» لأنه عاملٌ في صاحبها.
قوله: {مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ} متعلِّقٌ بيكتُمون ولا يتعلَّقُ بأَنْزَلْنا لفسادِ المعنى، لأنَّ الإِنزالَ لم يكُنْ بعد التبيين، وأمَّا الكتمان فبعد التبيين. والضميرُ في بَيَّنَّاه يعودُ على «ما» الموصولةِ. وقرأ الجمهور «بَيَّنَّاه» ، وقرأ طلحة بن مصرف «بَيَّنه» على ضمير الغائبِ وهو التفاتٌ من التكلمِ إلى الغَيْبةِ. و «الناس» متعلِّقٌ بالفعلِ قبلَه.
وقوله: {فِي الكتاب} يَحْتمل وجهين، أحدُهما: أنَّه متعلِّقٌ بقوله: «بَيَّنَّاه» . والثاني: أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ لأنَّه حالٌ من الضميرِ المنصوبِ في «بَيَّنَّاه» أي: بَيَّنَّاه حالَ كونِه مستقراً كائناً في الكتاب.
قوله: {أولئك يَلعَنُهُمُ} يجوز في «أولئك» وجهان، أحدُهما: أَنْ يكونَ مبتدأً و «يلعنُهم» خبرُه والجملةُ خبرُ «إنَّ الذين» /. والثاني: أن يكونَ بدلاً من «
الذين» و «يَلْعَنُهم» الخبرُ لأنَّ قولَه: «ويَلْعَنُهم اللاعنون» يَحْتَمل أنْ يكونَ معطوفاً على ما قبلَه وهو «يلعنهم الله» وأَنْ يكونَ مستأنفاً. وأتى بصلةِ الذينَ فعلاً مضارعاً وكذلك بفعل اللعنةِ دلالةً على التجدُّد والحُدوث، وأَنَّ هذا يتجدَّد وقتاً فوقتا، وكررت اللعنة تأكيداً في ذمِّهم. وفي قوله «يَلْعَنُهم اللهُ» التفاتٌ إذ لو جرى على سننِ الكلامِ لقال: نلعنهم لقوله: «أنزلنا» ولكن في إظهار هذا الاسم الشريف ما ليس في الضميرِ.
قوله: {إِلَاّ الذين تَابُواْ} : فيه وجهان، أحدُهما: أَنْ يكونَ استثناءً متصلاً، والمستثنى منه هو الضميرُ في «يلعنهم» . والثاني: أن يكونَ استثناءً منقطعاً لأنَّ الذين كَتَمُوا لُعِنوا قبل أن يتوبوا، وإنما جاء الاستثناءُ لبيان قَبولِ التوبة، لأنَّ قوماً من الكاتمين لم يُلْعَنوا، ذكر ذلك أبو البقاء وليس بشيء.
قوله: {وَمَاتُوا} هذه واوُ الحال، والجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحال، وإثباتُ الواو هنا أفصحُ خلافاً للفراء والزمخشري حيث قالا: إنَّ حذفَها شاذ.
وقوله: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ} «أولئك» مبتدأ، و «عليهم لعنةُ اللهِ» مبتدأً وخبرٌ، خبرٌ عن أولئك، وأولئك وخبرُه خبرٌ عن «إنَّ» . ويجوزُ في «لَعنةُ» ، الرفعُ بالفاعليةِ بالجارِّ قبلها لاعتمادِها فإنه وقع خبراً عن «أولئك» وتقدَّم تحريرُه في {عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ} [البقرة: 157] قوله: {والملائكة} الجمهورُ على جَرِّ الملائكة نَسفَاً على اسمِ الله. وقرأ الحسن بالرفع: {والملائكة والناس أَجْمَعِينَ} ، وخَرَّجَها النحويون على العطفِ على موضعِ اسمِ الله تعالى، فإنَّه وإنْ كان مجروراً بإضافةِ المصدرِ
إليه فموضعُه رفعٌ بالفاعليةِ لأنَّ هذه المصدرَ ينحلُّ لحرفٍ مصدريٍ وفِعْلٍ، والتقدير: أَنْ لَعَنَهم، أو أَنْ يَلْعَنَهم اللهُ، فَعَطَفَ «الملائكةُ» على هذا التقدير، قال الشيخ:«وهذا ليس بجائزٍ على ما تقرَّر من العطفِ على الموضعِ، فإنَّ مِنْ شرطِه أن يكونَ ثَمَّ مُحْرِزٌ للموضع وطالبٌ له، والطالبُ للرفعِ وجودُ التنوينِ في المصدرِ، هذا إذا سَلَّمْنا أن» لعنة «تَنْحَلُّ لحرفٍ مصدري وفِعْلٍ، لأنَّ الانحلالِ لذلك شرطُه أَنْ يُقْصَدَ به العلاج، ألا ترى أنَّ قولَه: {أَلَا لَعْنَةُ الله عَلَى الظالمين} [هود: 18] ليس المعنى على تقديرِ: أَنْ يَلْعَنَ اللهُ على الظالمين، بل المرادُ اللعنةُ المستقرةُ، وأضيفت لله تعالى على سبيلِ التخصيص لا على سبيل الحدوث» ونقلَ عن سيبويه أن قولَك: «هذا ضاربُ زيدٍ غداً وعمراً» بنصب «عمراً» أنَّ نصبَه بفعلٍ محذوفٍ، وأبى أَنْ ينصِبَه بالعطفِ على الموضعِ، ثم بعد تسليمِه ذلك كلَّه قال:«المصدرُ المنوَّنُ لم يُسْمَعْ بعدَه فاعلٌ مرفوعٌ ومفعولٌ منصوبٌ، إنما قاله البصريون قياساً على أَنْ والفعل ومَنَعَه الفراء وهو الصحيح» .
ثم إنَّه خَرَّجَ هذه القراءةَ الشاذة على أحدِ ثلاثةِ أوجه، الأولُ: أَنْ تكونَ «الملائكةُ» مرفوعةً بفعلٍ محذوفٍ أي: وتَلْعَنُهم الملائكة، كما نَصَبَ سيبويه «عمراً» في قولك:«ضاربُ زيدٍ وعمراً» بفعلٍ محذوفٍ. الثاني: أن تكونَ
الملائكةُ عطفاً على «لعنة» بتقديرِ حَذْفِ مضافٍ: ولَعْنَةُ الملائكةِ، فَلمَّا حُذِفَ المضافُ أٌقيم المضافُ إليه مُقامه. الثالث: أن يكونَ مبتدأً قد حُذِفَ خبرُه تقديره: والملائكةُ والناسُ أجمعون تَلْعَنُهم «. وهذه أوجهٌ متكلفة، وإعمالُ المصدرِ المنونِ ثابتٌ، غايةُ ما في الباب أنه قد يُحْذَفُ فاعله كقوله:{أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً} [البلد: 14] وأيضاً فقد أَتْبَعَتِ العربُ المجرورَ بالمصدرِ على مَوْضِعَيْه رفعاً على الشاعر:
784 -
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
…
مَشْيَ الهَلوكِ عليها الخَيْعَلُ الفَضُلَ
برفع» الفُضُلُ «وهي صفةٌ للهَلوك على الموضعِ؛ وإذا ثَبَتَ ذلك، في النعتِ ثَبَتَ في العطفِ لأنهما تابعان من التوابعِ الخمسةِ. و» أجمعين «من ألفاظِ التأكيدِ المعنوي بمنزلة» كل «.
قوله تعالى: {خَالِدِينَ} : حالٌ من الضمير في «عليهم» ، قوله «لا يُخَفَّفُ» فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أن يكونَ مستأنفاً. الثاني: أن يكونَ حالاً من الضمير في «خالدين» فيكونَ حالان متداخلان. الثالث: أن يكونَ حالاً ثانيةً من الضميرِ في «عليهم» ، وذلك عند مَنْ يُجيز تعدُّدَ الحالِ. وقد مَنَع أبو البقاء هذا الوجه بناءً منه على مذهبِه في ذلك.
قوله تعالى: {وإلهكم إله وَاحِدٌ} : خبرٌ المبتدأ، و «واحدٌ» صفةٌ، وهو الخبرُ في الحقيقةِ لأنه محطُّ الفائدةِ، ألا ترى أنه لو اقْتُصِر على ما قبلَه لم يُفِدْ وهذا يُشْبِهُ الحال الموطِّئةَ نحو: مررتُ بزيد رجلاً صالحاً، فرجلاً حالٌ وليست مقصودةً، إنما المقصودُ وَصْفُها.
قوله: {إِلَاّ هُوَ} رفعُ «هو» على أنَّه بدلٌ من اسم «لا» على المحلِّ، إذ محلُّه الرفعُ على الابتداءِ أو هو بَدَلٌ مِنْ «لا» وما عَمِلَتْ فيه لأنَّها وما بعدَها في محلِّ رفعٍ بالابتداء، وقد تقدَّم تقريرُ ذلك، ولا يجوزُ أن يكونَ «هو» خبرَ لا التبرئة لِما عَرَفْتَ أنها لا تَعْمَلُ في المعارفِ بل الخبرُ محذوفٌ أي: لا إله لنا، هذا إذا فَرَّعنا على أنَّ «لا» المبنيَّ معها اسمُها عاملةٌ في الخبر، أمَّا إذا جَعَلْنا الخبرَ مرفوعاً بما كان عليه قبل دخولِ لا وليس لها فيه عملٌ - وهو مذهبُ سيبويه - فكان ينبغي أَنْ يكونَ «هو» خبراً إلا أنه مَنَعَ من ذلك كونُ المبتدأِ نكرةً والخبرُ معرفةً وهو ممنوعٌ إلا في ضرائِر الشعرِ في بعضِ الأبوابِ.
واستشكل الشيخُ كونَه بدلاً مِنْ «إله» قال: «لأنه لم يُمْكِنْ تكريرُ العاملِ لا تقولُ:» لا رجلَ لا زيدَ «، والذي يظهر لي أنه ليس بدلاً من» اله «ولا مِنْ» رجل «في قولك» لا رجلَ إلا زيدٌ، إنما هو بدلٌ من الضميرِ المستكنِّ في الخبرِ المحذوفِ فإذا قُلْنا:«لا رجلَ إلا زيدٌ» فالتقدير: لا رجلَ كائنٌ أو موجودٌ إلا زيد، فزيدٌ بدلٌ من الضميرِ المستكنِّ في الخبر لا من «رجل» ، فليس بدلاً على موضعِ اسم لا، وإنما هو بدلٌ مرفوعٌ من ضمير مرفوع، ذلك الضميرُ هو عائدٌ على اسم [لا]، ولولا تصريحُ النَّحْويين أنَّه بدلٌ على الموضع من اسم «لا» لتأوَّلْنا كلامهم على ما تقدَّم تأويلُه «. وهذا الذي قالَه غيرُ مشكل لأنهم لم يقولوا: هو بدلٌ من اسمِ لا على اللفظِ حتى يَلْزَمَهم تكريرُ العاملِ،
وإنما كان يُشْكِلُ لو أجازوا إبدالَه من اسمِ» لا «على اللفظِ وهم لم يُجِيزوا ذلك لعدمِ إمكانِ تكريرِ العاملِ، ولذلك مَنَعوا وجهَ البدلِ في قولِهم {لا إله إلا اللهَ} وجعلوه انتصاباً على الاستثناء، وأجازوه في قولك:» لا رجلَ في الدارِ إلا صاحباً لك «لأنه يمكنُ فيه تكريرُ العاملِ.
قوله: {الرحمن الرحيم} فيه أربعة أوجه، أحدها: أن يكونَ بدلاً من» هو «بدلَ ظاهرٍ من مضمر، إلَاّ أنَّ هذا يؤدي إلى البدلِ بالمشتقات وهو قليلٌ، ويمكن.
الجوابُ عنه بأن هاتين الصفتين جَرَتا مجرى الجوامِد/ ولا سيما عند مَنْ يجعلُ «الرحمنُ» علماً، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك في البسملة. الثاني: أن يكونَ خبرَ مبتدأٍ محذوفٍ أي: هو الرحمنُ، وحَسَّن حذفَه توالي اللفظ ب «هو» مرتين. الثالث: أن يكونَ خبراً ثالثاً لقولِه: «وإلهُكم» أَخْبر عنه بقولِه: «إله واحد» ، وبقولِه:«لا إله إلا هو» ، وبقولِه:«الرحمن الرحيم» ، وذلك عند مَنْ يرى تعديدَ الخبر مطلقاً، الرابع: أن يكونَ صفةً لقولِه: «هو» وذلك عند الكسائي فإنه يُجيز وصفَ الضمير الغائبِ بصفةِ المَدْحِ، فاشترطَ في وصفِ الضمير هذين الشرطين: أن يكونَ غائباً وأن تكونَ الصفةُ صفةَ مدحٍ، وإنْ كانَ الشيخُ جمالُ الدين بن مالك أَطْلَقَ عنه جوازَ وصفِ ضمير الغائب. ولا يجوزُ أَنْ يكون خبراً ل «هو» هذه المذكورةِ لأنَّ المستثنى ليس بجملةٍ.
قوله تعالى: {الليل والنهار} : «الليل» قيل: هو اسمُ جنسٍ فيفرِّقُ بين واحدِه وجمعِه تاءُ التأنيث فيقال: ليلة وليل كتمرة وتمر، والصحيحُ أنه مفردٌ ولا يُحْفَظ له جمعٌ، ولذلك خَطَّأ الناسُ مَنْ زَعَم أنَّ اللياليَ جَمْعَ ليل، بل الليالي جمع لَيْلة، وهو جمعٌ غريب، ولذلك قالوا: هو جَمْع
ليلاة تقديراً وقد صُرِّح بهذا المفردِ في قَوْل الشاعر:
785 -
في كلِّ يوم وبكلِّ ليلاهْ
…
ويَدُلُّ على ذلك تصغيرُهم لها على لُيَيْلَة ونظير ليلة وليال كَيْكة وكَيَاك كأنهم تَوهَّموا أنها كَيْكات في الأصل، والكيكة: البيضة. وأمّا النهار فقال الراغب: «هو في الشرعِ لِما بينَ طلوعِ الفجر إلى غروبِ الشمس» ، وظاهرُ اللغة أنه من وقت الإِسفار، وقال ثعلب والنضر بن شميل:«هو من طُلوع الشمس» زاد النضر «ولا يُعَدُّ من قبل ذلك من النهار» . وقال الزجاجِ: «أولُ النهار دُرورُ الشمسِ» ويُجْمع على نُهُر وأَنْهِرَة نحو قَذَال وقُذُل وأَقْذِلة، وقيل: «لا يُجْمع لأنه بمنزلة المصدر، والصحيحُ جَمْعُه على ما تقدَّم قال:
786 -
لولا الثَّريدان لَمُتْنا بالضُّمُرْ
…
ثريدُ ليلٍ وثريدٌ بالنُّهُرْ
وقد تقدَّم اشتقاقُ هذه المادة وأنها تَدُلُّ على الاتساع، ومنه:» النهار «لاتساعِ ضوئِه عند قوله {مِن تَحْتِهَا الأنهار} [البقرة: 25] .
والاختلافُ مصدرٌ مضاف لفاعِله، المرادُ باختلافهما أنَّ كلَّ واحد يَخْلُف، ومنه:{جَعَلَ الليل والنهار خِلْفَةً} [الفرقان: 62]، وقال زهير:
787 -
بِها العِيْنُ والآرامُ يَمْشِيْنَ خِلْفَةً
…
وأَطْلاؤُها يَنْهَضْنَ مِنْ كلِّ مَجْثَمِ
وقال آخر:
788 -
ولها بالماطِرُون إذا
…
أَكَلَ النملُ الذي جَمَعا
خِلْفَةٌ حتى إذا ارتَبَعَتْ
…
سَكَنَتْ من جِلَّقٍ بِيَعَا
وقَدَّم الليلَ على النهار لأنَّه سابقهُ، قال تعالى:{وَآيَةٌ لَّهُمُ الليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار} [يس: 37] وهذا أصحُّ القولين، وقيل: النورُ سابِقُ الظلمةِ وينبني على هذا الخلافِ فائدةٌ: وهي أن الليلةَ هل هي تابعةٌ لليومِ قبلَها أو لليومِ بعدَها؟ فعلى القولِ الصحيح تكونُ الليلةُ لليوم بعدها، فيكونُ اليومُ تابعاً لها. وعلى القولِ الثاني تكونُ لليومِ قبلَها فتكونُ الليلةُ تابعةً له، فيومُ عرفَةَ على القولِ الأولِ مستثنىً من الأصل فإنه تابعٌ لليلةِ بعدَه، وعلى الثاني جاءَ على الأصل.
قوله: {والفلك} عطفٌ على» خَلْقِ «المجرورِ ب» في «لا على» السماواتِ «المجرورةِ بالإِضافة، والفُلْك [يكون واحداً كقولِه: {فِي الفلك المشحون} [الشعراء: 119] وجمعاً] كقوله: {فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم} [يونس: 22] فإذا أُريد به، الجَمعُ ففيه أقوالٌ، أحدُها: قولُ سيبويهِ - وهو الصحيحُ -» أنه جمعُ تكسير «فإنْ قيل: جمعُ التكسيرِ لا بُدَّ فيه من تغيُّرٍ ما، فالجوابُ أنَّ تغييره مقدَّرٌ، فالضمةُ في حالِ كونه جمعاً كالضمةِ في» حُمُر «و» نُدُب «وفي حالِ كونهِ مفرداً كالضمة في قُفْل.
وإنَّما حَمَل سيبويهِ على هذا، ولم يَجْعَلْه مشتركاً بين
الواحدِ والجمع نحو: «جُنُب» و «شُلُل» أنَّهم لو قَصَدوا الاشتراكَ لم يُثَنُّوه كما لا يُثَنُّون جُنُباً وشُلُلاً فلما ثَنَّوه وقالوا: «فُلْكان» عَلِمْنا أنهم لم يَقْصِدوا الاشتراكَ الذي قصدوه في جُنُب وشُلُل ونظيرُه: ناقةٌ هِجان ونوقٌ هِجان، ودِرْع دِلاص ودُروع دِلاص، فالكسَرةُ في المفردِ كالكسرة في كتاب، وفي الجمعِ كالكسرة في رجال، لأنهم قالوا في التثنيةِ هِجانان ودِلاصان.
الثاني: مذهبُ الأخفش أنَّه اسمُ جمعٍ كصَحْب ورَكْب. الثالث: أنه جَمْع فَلَك بفتحتين كأَسَد وأُسْد، واختار الشيخ أنه مشترك بين الواحدِ والجمعِ، وهو محجوجٌ بما تقدَّم من التثنيةِ، ولم يَذْكُر لاختيارِه وجهاً.
وإذا أُفْرِدَ «فُلْك» فهو مذكرٌ قال تعالى: {فِي الفلك المشحون} قالوا: - ومنهم أبو البقاء -: ويجوزُ تأنيثُه مستدلِّين بقوله: {والفلك التي تَجْرِي} فوصَفَه بصفةِ التأنيثِ، ولا دليلَ في ذلك لاحتمالِ أنْ يُرادَ به الجمعُ، وحينئذٍ فيوصفُ بما تُوصَفُ به المؤنثةُ الواحدةُ. وأصلُه: من الدوران ومنه: «فَلَك السماء» لدورَانِ النجومِ فيه، وفَلْكَةُ المِغْزَل، وفَلَكَتِ الجاريةُ استدارُ نَهْدُها. وجاءَ بصلةِ «التي» فعلاً مضارعاً ليدلَّ على التجدُّدُ والحدوثِ، وإسنادُ الجري إليها مَجازٌ، وقوله «في البحر» توكيدٌ، إذ معلومٌ أنها لا تجري في غيرِه، فهو كقولِه:{يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38] .
قوله: «بما يَنْفَعُ» في «ما» قولان «أحدُهما: أنَّها موصولةٌ اسميةٌ، وعلى هذا الباءُ للحال أي: تَجْري مصحوبةً بالأعيانِ التي تَنْفَعُ الناسَ. الثاني: أنها حرفيةٌ، وعلى هذا تكونُ الباءُ للسببِ أي: تَجْري بسببِ نَفْع الناسِ في التجارةِ وغيرِها.
قوله: {مِنَ السمآء مِن مَّآءٍ} : مِنْ الأولى معناها ابتداءُ الغايةِ أي: أَنْزَلَ من جهةِ السماءِ، وأمّا الثانيةُ فتحتملُ ثلاثةَ أوجهٍ، أحدَها: أَنْ تكونَ لبيانِ الجنس فإنّ المُنَزَّلَ من السماء ماءٌ وغيرُه. والثاني: أن تكونَ للتبعيضِ فإنّ المنزَّل منه بعضٌ لا كلٌّ. والثالثُ: أن تكونَ هي وما بعدها بدلاً مِنْ قولِه:» من السماء «بدلَ اشتمال بتكريرِ العاملِ، وكلاهما أعني - مِنْ الأولى ومِنْ الثانية - متعلقان بأَنْزَلَ.
فإنْ قيل: كيف تَعَلَّق حرفان متَّحدان بعاملٍ واحد؟ فالجوابُ أنَّ الممنوعَ من ذلك أن يتَّحِدا معنىً من غير عطفٍ ولا بدلٍ، لا تقول: أخذت من الدراهم من الدنانير. وأمَّا الآيةُ فإن المحذورَ فيها مُنْتَفٍ، وذلك أنك إنْ جَعَلْتَ» مِنْ «الثانية» للبيانِ أو للتبعيض فظاهرٌ لاختلافِ معناهما فإن الأولى للابتداءِ، وإنْ جعلتها لابتداءِ الغايةِ فهي وما بعدها بدلٌ، والبدلُ يجوزُ ذلك [فيه] كما تقدَّم. ويجوز أَنْ تتعلَّقَ «مِنْ» الأولى بمحذوفٍ على أنها حال: إمّا من الموصولِ نفسِه وهو «ما» أو من ضميره المنصوبِ بأنزل أي: وما أنزله الله حالَ كونِه كائناً من السماء.
قوله: {فَأَحْيَا بِهِ} عَطَفَ «أحيا» على «أنزل» الذي هو صلةٌ بفاء التعقيبِ دلالةً على سرعة النبات. و «به» متعلق «بأحيا، والباء يَجوز أن تكونَ للسبب وأن تكونَ باء الآلة، وكلُّ هذا مجازٌ، فإنه متعالٍ عن ذلك، والضميرُ في» به «يعودُ على الموصول. /
قوله: {وَبَثَّ فِيهَا} يجوزُ في» بَثَّ «وجهان، أظهرُهما: أنه عطفٌ على»
أنزل «داخلٌ تحت حكمِ الصلةِ؛ لأنَّ قولَه» فَأَحْيا «عطفٌ على» أنزل «فاتصل به وصارا جميعاً كالشيءِ الواحد، وكأنه قيل:» وما أنزل في الأرض من ماءٍ وبَثَّ فيها من كلِّ دابة لأنهم يَنْمُون بالخِصْبِ ويَعيشون بالحَيا. هذا نصُّ الزمخشري. والثاني: أنه عطفٌ على «أحيا» .
واستشكل الشيخُ عطفَه عليها، لأنَّها صلةٌ للموصول فلا بُدَّ من ضميرٍ يَرْجِعُ من هذه الجملةِ وليسَ ثَمَّ ضميرٌ في اللفظِ لأنَّ «فيها» يعودُ على الأرض، فبقي أن يكونَ محذوفاً تقديرُه: وبث به فيها، ولكن لا يجوزُ حذفُ الضمير المجرورِ بحرفِ إلَاّ بشروطٍ: أن يكونَ الموصولُ مجروراً بمثلِ ذلك الحرفِ، وأن يتَّحدَ متعلَّقهُما، وأَنْ لا يُحْصَرَ الضميرُ، وأَنْ يتعيَّنَ للربطِ، وألَاّ يكونَ الجارَّ قائماً مقامَ مرفوعٍ، والموصولُ هنا غيرُ مجرورٍ البتةَ، ولمَّا استشكل هذا بما ذَكَرَ خَرَّج الآية على حَذْفِ موصولٍ اسمي، قال: «وهو جائز شائع في كلامهم، وإنْ كان البصريون لا يُجيزونه، وأنشدَ شاهداً عليه:
789 -
ما الذي دأبُه احتياطَ وحَزْمٌ
…
وهواه أطاع يَسْتويانِ
أي: والذي أطاع، وقوله:
790 -
أَمَنْ يهجو رسولَ الله منكم
…
ويمدَحُه ويَنْصُره سَواءُ
أي: ومَنْ ينصرُه.
وقوله:
791 -
فواللهِ ما نِلْتُمْ وما نِيلَ منكمُ
…
بمعتدلٍ وَفْقٍ ولا متقاربِ
أي: ما الذي نلتم؛ وقوله تعالى: {وقولوا آمَنَّا بالذي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ} [العنكبوت: 46] أي: وبالذي أُنزل إليكم؛ ليطابقَ قولَه: {والكتاب الذي نَزَّلَ على رَسُولِهِ والكتاب الذي أَنَزلَ مِن قَبْلُ} [النساء: 136] . ثم قال الشيخ:» وقد يتمشَّى التقديرُ الأولُ «- يعني جوازَ الحَذْفِ وإن لم يوجد شرطُه - قال:» وقد جاءَ ذلك في أشعارِهم؛ وأَنْشَدَ:
792 -
وإنَّ لساني شُهْدَةٌ يُشْتَفَى بها
…
وهُوَّ على مَنْ صَبَّه اللهُ عَلْقَمُ
أي: عَلْقم عليه، وقوله:
793 -
لعلَّ الذي أَصْعَدْتِني أَنْ يَرُدَّني
…
إلى الأرض إن لم يَقْدِرِ الخيرَ قِادرُه
أي: أَصْعَدْتِني به.
قوله: {مِن كُلِّ دَآبَّةٍ} يجوز في «كل» ثلاثةُ أوجهٍ؛ أحدها: أن يكونَ في موضعِ المفعولِ به لبثَّ؛ وتكونُ «مِنْ» تبعيضيةً. الثاني: أن تكون «مِنْ» زائدةً على مذهب الأخفش، و «كلَّ دابة» مفعول به.
ل «بَثَّ» أيضاً والثالث: أن يكونَ في محلِّ نصب على الحالِ من مفعولِ «بَثَّ» المحذوفِ إذا قلنا إنَّ
ثَمَّ موصولاً محذوفاً تقديرُه: وما بثُّ حالَ كونِه كائناً من كلِّ دابة؛ وفي «مِنْ» حينئذ وجهان؛ أحدهما: أن تكونَ للبيان. والثاني: أن تكونَ للتبعيض.
وقال أبو البقاء: «ومفعولُ» بَثَّ «محذوفٌ» تقديرُه: وبثَّ فيها دوابَّ كلَّ دابِةٍ «، وظاهرُ هذا أنَّ {مِن كُلِّ دَآبَّةٍ} صفةٌ لذلك المحذوفِ وهو تقديرٌ لا طائلَ تحته.
والبَثُّ: نَشْرٌ وتفريق، قال:
794 -
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
…
وفي الأرضِ مَبْثُوثاً شجاعٌ وعَقْربُ
ومضارعُه يَبُثُّ بضمِّ العَيْنِ، وهو قياسُ المضاعفِ المتعدِّي، وقد جاء الكسرُ في أُلَيَفاظ؛ قالوا:» نَمَّ الحديثَ يَنِمُّه «بالوجهين. والدابَّةُ: اسمٌُ لكلِّ حيوانٍ، وزعَم بعضُهم إخراجَ الطيرِ منه ورُدَّ عليه بقولِ عَلْقمة:
795 -
كأنَّهم صابَتْ عليهم سَحابةٌ
…
صواعِقُها لطيرِهِنَّ دَبيبُ
وبقول الأعشى:
796 -
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
…
دبيبَ قَطا البَطْحَاءِ في كلِّ مَنْهَلِ
وبقوله: {والله خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ} [النور: 45] ، ثم فَصَّل بمَنْ يمشي على رِجْلين وهو الإِنسانُ والطير.
قوله: {وَتَصْرِيفِ الرياح} » تصريف «مصدر صَرَّف وهو الردُّ والتقليبُ، ويجوز أن يكونَ مضافاً للفاعل، والمفعولُ محذوفٌ تقديرُه: وتصريفِ الرياحِ السحابَ، فإنها تسوقُ السحابَ، وأن يكونَ مضافاً للمفعولِ، والفاعلُ محذوفٌ أي: وتصريفِ اللهِ الريحَ. والرياحُ: جمعُ ريح جمعَ تكسير، وياءُ الريحِ والرياحِ عن واوٍ؛ والأصلُ: رِوْح، لأنه من راح يروح، وإنما قُلِبَتْ في» ريح «لسكونها وانكسار ما قبلها، وفي» رياح «لأنها عينٌ في جمعٍ بعد كسرةٍ وبعدَها ألفٌ وهي ساكنةٌ في المفردِ، وهو إبدالٌ مطردٌ، ولذلك لمّا زال موجبُ قَلْبِها رَجَعَتْ إلى أصلِها فقالوا: أَرْواح قال:
797 -
أَرَبَّتْ بها الأرواحُ كلَّ عَشِيَّةٍ
…
فلم يَبْقَ إلَاّ آلُ خَيْمٍ مُنَضَّدِ
ومثلُه:
798 -
لَبَيْتٌ تَخْفُقُ الأرواحُ فيه
…
أَحَبُّ إليَّ من قصرٍ مُنيفِ
وقَدْ لَحَنَ عمارةُ بن عقيل بن بلال فقال» الأرياح «في شعرِه، فقال له أبو حاتم:» إن الأرياح لا تجوزُ «فقال له عمارة: ألا تسمع قولهم: رياح. فقال أبو حاتم: هذا خلافُ ذلك، فقال: صَدَقْتَ ورَجَعَ. قال الشيخ:» وفي محفوظي قديماً أنَّ «الأرياح» جاء في شِعْر بعضِ فصحاءِ العرب المستشهدِ
بكلامِهم كأنهم بَنَوْه على المفردِ وإن كانت علةُ القلبِ مفقودةً في الجمع، كما قالوا: عيد وأعياد، والأصلُ: أَعْواد لأنه من عاد يَعُود، لكنه لمَّا تُرِك البدلُ جُعِلَ كالحرفِ الأصليِّ «. قلت: ويؤيِّد ما قاله الشيخُ أن التزامهم الياء في الأرياح لأجلِ اللَّبسِ بينه وبي أَرْواح جمع رُوح، كما قالوا: التُزِمَت الياءُ في أعياد فرقاً بينه وبين أَعْواد جمع عُود الحطبِ، ولذلك قالوا في التصغير عُيَيْد دون عُوَيْد، وعَلَّلوه باللَّبْسِ المذكورِ.
قال ابنُ عطية: «وجاءَتْ في القرآنِ مجموعةً مع الرحمةِ مفردة مع العذابِ إلا في قولِه: {وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} [يونس: 22] وهذا أَغْلَبُ وقوعِها في الكلامِ، وفي الحديث:» الله اجعلها رياحاً ولا تَجْعَلْها ريحاً «لأنَّ ريحَ العذابِ شديدةٌ ملتئمةٌ الأجزاءِ كأنّها جسمٌ واحدٌ، وريحُ الرحمةِ ليِّنةٌ متقطعةٌ، وإنما أُفرِدَتْ مع الفُلْك - يعني في يونس - لأنها لإِجراء السفن وهي واحدةٌ متصلةٌ؛ ثم وُصِفَتْ بالطيِّبة فزالَ الاشتراكُ بينها وبين ريح العذاب» . انتهى وهذا الذي قالَه يَرُدُّه اختلافُ القراءِ في أحدَ عشر موضعاً يأتي تفصيلُها. وإنما الذي يقال: إنَّ الجمعَ لم يأتِ مع العذابِ أصلاً؛ وأمَّا المفردُ فجاءَ فيهما، ولذلك اختصَّها عليه السلام في دعائِه بصيغةِ الجمعِ.
وقرأ هنا «الريح» بالإِفراد حمزةُ والكسائي، والباقون بالجمع،
فالجمعُ لاختلافِ أنواعِها: جَنوباً ودَبوراً وصَبا وغيرَ ذلك، وإفرادُها على إرادة الجنس.
والسحابُ: اسمُ جنسٍ واحدَتُه سَحابةٌ، سُمِّي بذلك لانسحابِه، كما قيل له: حَبِيٌّ لأنه يَحْبُو، ذكر ذلك أبو علي، وباعتبار كونِه اسمَ جنس وَصَفَه بوصفِ الواحدِ المذكَّر في قوله:«المُسَخَّر» كقوله: {أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ} [القمر: 20] ولمّا اعتبر معناه تارةً أخرى وَصَفَه بما يوصَفُ به الجمعُ في قوله: {سَحَاباً ثِقَالاً} [الأعراف: 57]، ويجوز أن يوصفَ بما تُوصفُ به المؤنثةُ الواحدةُ كقولِه:{أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} / [الحاقة: 7] وهكذا كلُّ اسم جنس فيه لغتان: التذكيرُ باعتبارِ اللفظِ والتأنيثُ باعتبارِ المعنى.
والتسخيرُ: التذليلُ وجَعْلُ الشيءِ داخلاً تحت الطَّوْعِ. وقال الراغب: «هو القَهْرُ على الفعلِ وهو أبلغُ من الإِكراه» .
قوله: {بَيْنَ السمآء} في «بين» قولان، أحدهما: أنه منصوبٌ بقوله: «المُسخَّرِ» ؛ فيكونُ ظرفاً للتسخير. والثاني: أن يكونَ حالاً من الضمير المستتِر اسمِ المفعول، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، أي: كائناً بين السماء و «لآياتٍ» اسمُ إنَّ والجارُ خبرٌ مقدمٌ، ودَخَلَتِ اللامُ على الاسمِ لتأخُّرِه عن الخبر، ولو كان موضعَه لما جازَ ذلك فيه.
وقوله: {لِّقَوْمٍ} في محلِّ نصبٍ لأنَّه صفةٌ لآيات، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ وقولُه «يَعْقِلون» الجملةُ في محلذ شجرٍ لأنها صفةٌ لقومٍ.
قوله تعالى: {مَن يَتَّخِذُ} : «مَنْ» في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ وخبرُه الجارُّ قبلَه، ويجوزُ فيها وجهان، أحدُهما: أن تكون موصولةً. الثاني: أن تكونَ موصوفةً، فعلى الأولِ لا محلَّ للجملةِ بعدها، وعلى الثاني محلُّها الرفعُ، أي: فريقٌ أو شخصٌ متَّخِذٌ؛ وأَفْرَدَ الضميرَ في «يتَّخذ» حَمْلاً على لفظِ «مَنْ» .
قوله: {مِن دُونِ الله} متعلِّقٌ بيتَّخذ. والمرادُ بدون هنا: غَيْر، وأصلُها أن تكونَ ظرفَ مكانٍ نادرةَ التصرُّف؛ وإنما أَفْهَمَتْ معنى «غير» مجازاً؛ وذلك أنك إذا قلت:«اتخذتُ من دونِك صديقاً» أصلُه: اتَّخَذْتُ من جهةٍ ومكانٍ دونَ جهتِك ومكانِك صديقاً، فهو ظرفٌ مجازيٌّ. وإذا كان المكانُ المتَّخَذُ منه الصديقُ مكانَك وجهتُك منحطةً عنه ودونه لزم أن يكونَ غيراً لأنه ليس إياه، ثم حُذِفَ المضافُ وأقيم المضافُ إليه مقامه مع كونه غيراً فصارت دلالته على الغيريَّة بهذا الطريق لا بطريقِ الوَضْع لغةً، وقد تقدَّم تقريرُ شيءٍ من هذا أول السورةِ. و «يتَّخِذُ» يَفْتَعِلُ من الأخْذِ، وهي متعدِّيَةٌ إلى واحد وهو: أَنْداداً «. وقد تقدَّم الكلامُ على» أنداداً أيضاً واشتقاقه.
قوله: {يُحِبُّونَهُمْ} في هذه الجملةِ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أن تكونَ في محلِّ رفعٍ صفةً ل «مَنْ» في أحدِ وجهَيْها، والضميرُ المرفوعُ يعودُ عليها باعتبارِ المعنى بعد اعتبارِ اللفظِ في «يتَّخِذُ» . والثاني: أن تكونَ في محلِّ نصبٍ صفةً لأنداداً، والضميرُ المنصوبُ يعودُ عليهم، والمرادُ بهم الأصنامُ، وإنما جمعَ العقلاءَ لمعاملتهم لهم معاملةَ العقلاءِ، أو يكونُ المرادُ بهم مَنْ عُبِد من دونِ الله عقلاءَ وغيرهم، ثم غَلَّبَ العقلاءَ على غيرِهم. الثالث: أن تكونَ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من الضميرِ في «يَتَّخِذ» ، والضميرُ المرفوعُ عائدٌ على ما عاد عليه الضميرُ في «يتَّخِذُ» ، وجُمِعَ حَمْلاً على المعنى كما تقدَّم.
قوله: {كَحُبِّ الله} الكافُ في محلِّ نصبٍ: إمَّا نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ أي: يُحِبُّونهم حباً كحُبِّ اللَّهِ، وإمَّا على الحالِ من المصدرِ المعرَّفِ كما تقدَّمَ تقريرُه غيرَ مرةٍ. والحُبُّ: إرادةُ ما تراه وتظنه خيراً، وأصلهُ من حَبَبْتُ فلاناً: أصبْتُ حبة قلبِه نحو: كَبِدْتُه. وأَحْبَبْتُه: جَعَلْتُ قلبي مُعَرَّضاً بأن يحبَّه، لكن أكثر الاستعمالِ أن يُقال: أَحْبَبْتُه فهو محبوب، ومُحَبّ قليلٌ كقوله:
799 -
ولقد نَزَلْتِ فلا تظنِّي غيرَه
…
مني بمنزلةِ المُحَبِّ المُكْرَمِ
والحُبُّ في الأصلِ مصدرُ حَبَّه، وكان قياسُه فتحَ الحاءِ، ومضارِعُه يَحُبُّ بالضم وهو قياسُ فِعْل المضعَّف وشَذَّ كسرُه، ومحبوب أكثر من مُحَبّ، ومُحِبّ أكثر من حابّ، وقد جُمِع الحبُّ لاختلافِ أنواعِه، وقال:
800 -
ثلاثَةُ أحبابٍ فَحُبُّ علاقةٍ
…
وحُبُّ تِمِلَاّقٍ وحُبُّ هو القتلُ
والحُبُّ مصدرٌ مضافٌ لمنصوبه والفاعلُ محذوفٌ تقديرُه: كحبِّهم الله أو كحبِّ المؤمنين الله، بمعنى أنهم سَوَّوا بين الحُبَّين: حبِّ الأندادِ وحُبِّ اللهِ.
وقال ابن عطية: «حُبّ» مصدرٌ مضافٌ للمفعول في اللفظ، وهو في التقدير مضافٌ للفاعلِ المضمرِ تقديرُه: كحبِّكم اللَّهَ أو كَحبِّهم اللَّهَ حَسْبَ ما قَدَّر كلَّ وجهٍ منها فرقةٌ «. انتهى، وقوله» للفاعل المضمر «يريد أنَّ ذلك الفاعلَ مِنْ جنسِ الضمائر وهو:» كُمْ «أو» هِمْ «، أو يكونُ يُسَمِّى الحَذْف
أضماراً وهو اصطلاحٌ شائعٌ، ولا يريد أن الفاعلَ مضمرٌ في المصدرِ كما يُضْمَرُ في الأفعالِ لأنَّ هذا قولٌ ضعيفٌ لبعضِهم، مردودٌ بأنَّ المصدرَ اسمُ جنسٍ؛ واسمُ الجنسِ لا يُضْمَرُ فيه لجمودِه.
وقال الزمخشري:» كحُبِّ اللهِ: كتعظيمِ اللهِ، والخُضوعُ له، أي: كما يُحَبُّ اللهُ، على أنَّه مصدرٌ مبنيٌّ من المفعولِ، وإنما استُغْنِيَ عن ذِكْرِ مَنْ يُحِبُّه لأنه غيرُ ملتبسٍ «. انتهى. أمّا جَعْلُه المصدرَ من المبني للمفعول فهو أحدُ الأقوالِ الثلاثةِ: أعني الجوازَ مطلقاً. والثاني: المنعُ مطلقاً وهو الصحيحُ. والثالث: التفصيلُ بين الأفعالِ التي لم تُسْتَعْمَلْ إلا مبنيةً للمفعولِ فيجوزُ نحو: عَجِبْتُ من جنونِ زيدٍ بالعلمِ، ومنه الآيةُ الكريمةُ فإنَّ الغالِبَ في» حُبّ «أن يُبْنى للمفعولِ، وبَيْنَ غيرها فلا يجوزُ، واستدلَّ مَنْ أجازه مطلقاً بقول عائشة:» نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قَتْلِ الأبتر وذو الطُّفْيَتَيْن «برفعِ» ذو «عطفاً على محلّ» الأبتر «لأنه مفعولٌ لم يُسَمَّ فاعلُه تقديراً أي: أن يُقْتَلَ الأبترُ. ولتقريرِ هذه الأقوالِ موضعٌ غيرُ هذا.
وقد رَدَّ الزجاجُ تقديرَ مَنْ قَدَّر فاعل المصدرِ المؤمنين أو ضميرَهم، وقال:» ليس بشيء «، والدليلُ على نقضه قولُه بعدُ: {والذين آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً للَّهِ} ، ورجَّحَ أن يكونَ فاعلُ المصدرِ ضميرَ المتَّخِذين، أي: يُحِبُّون الاصنامَ كما يُحِبُّون الله، لأنهم أَشْرَكوها مع الله تعالى فَسَوَّوا بين الله وبين أوثانِهم في المحبَّةِ» . وهذا الذي قاله الزجّاجُ من الدليلِ واضحٌ؛ لأنَّ التسوية بين مَحَبَّةِ
الكفار لأوثانهم وبين محبةِ المؤمنين لله ينافي قوله: {والذين آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً للَّهِ} فإنَّ فيه نفيَ المساواةِ.
وقرأ أبو رجاء: «يَحُبُّونهم» من «حَبَّ» ثلاثياً، و «أَحَبَّ» أكثرُ، وفي المثل:«مَنْ حَبَّ طَبَّ» .
قولُه: {أَشَدُّ حُبّاً للَّهِ} المفضلُ عليه محذوفٌ، وهم المتخذون الأنداد، أي: أشدُّ حباً لله من المتخذين الأنداد لأوثانِهم، وقال أبو البقاء:«ما يتعلَّقُ به» أشدّ «محذوفٌ تقديرُه:» أشدُّ حباً لله مِنْ حُبِّ هؤلاء للأندادِ «والمعنى: أنَّ المؤمنين يُحِبُّون الله أكثرَ مِنْ محبَّةِ هؤلاء أوثَانَهم. ويُحْتَملُ أن يكونَ المعنى أنَّ المؤمنين يُحِبُّون الله تعالى أكثر مِمَّا يُحِبُّه هؤلاء المتَّخِذون؛ لأنهم لم يَشْرَكوا معه غيره.
وأتى بأشدَّ متوصِّلاً بها إلى أَفْعَل التفضيل من مادة الحب لأن «حُبَّ» مبنيٌّ للمفعولِ والمبنيُّ للمفعولِ لا يُتَعَجَّبُ منه ولا يُبْنَى منه أفعل للتفضيل، فلذلك أتى بما يَجُوز ذلك فيه. فأمَّا قولُهم:«ما أحبَّه إلي» فشاذٌّ على خلافٍ في ذلك بين النحويين. و «حباً» تمييزٌ منقولٌ من المبتدأ تقديرُه: حُبُّهم للهِ أشَدُّ.
قوله: {وَلَوْ يَرَى الذين} جوابُ لو محذوفٌ، واختُلِفَ في تقديره، ولا يَظْهَرُ ذلك إلا بعد ذِكْرِ القراءت الواردة في ألفاظِ هذه الآيةِ الكريمة: قرأ ابنُ عامر ونافع: «ولو ترى» بتاءِ الخطابِ، و «أن القوة» و «أن الله بفتحِهما، وقرأ ابنُ عامر:» إذ يُرَوْن «بضم الياء، والباقون بفتحِهما. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكوفيون:» ولو يرى «بياء الغيبة،» أنَّ القوة «و» أنَّ الله «
بفتحِهما، وقرأ الحسن وقتادة وشيبة ويعقوب وأبو جعفر:» ولو تَرَى «بالخطاب،» إن القوة «و» إن الله «بكسرهما، وقرأت طائفةٌ:» ولو يرى «بياء الغيبة،» إن القوة «و» إن الله «بكسرهما. إذا تقرَّر ذلك فقد اختلفوا في تقديرِ جواب لو، فمنهم مَنْ قَدَّره قبل قولِه:» أن القوة «ومنهم مَنْ قدَّره بعد قولِه:» وأنَّ الله شديدُ العذابِ «/ وهو قولُ أبي الحسن الأخفش والمبرد. أمَّا مَنْ قَدَّره قبل» أنَّ القوةَ «فيكونُ» أنَّ القوةَ «معمولاً لذلك الجوابِ. وتقديرُه على قراءةِ ترى - بالخطاب - وفتح أنَّ وأنَّ: لعلِمْتَ أيها السامعُ أنَّ القوةَ لله جميعاً، والمرادُ بهذا الخطابِ: إمّا النبيُّ عليه السلام وإمّا كلُّ سامعٍ. وعلى قراءةِ الكسرِ في» إنّ «يكونُ التقديرُ: لقلت إنَّ القوةَ لله جميعاً، والخلافُ في المرادِ بالخطاب كما تقدَّم، أو يكونُ التقديرُ: لاستعظَمت حالَهم، وإنما كُسِرَتْ» إنَّ «لأنَّ فيها معنى التعليل نحو قولك: لو قَدِمْتَ على زيد لأحْسنَ إليك إنَّه مكرمٌ للضِّيفان، فقولك: أنه مكرِمٌ للضِّيفان» عِلَّةٌ لقولِك «أَحْسَنَ إليك» .
وقال ابنُ عطية: «تقديرُه: ولو ترى الذين ظَلَموا في حال رؤيتهم العذابَ وفزعهم منه واستعظامِهم له لأقَرُّوا له لأقَرُّوا أنَّ القوةَ لله جميعاً» وناقشه الشيخ فقال: «كان ينبغي أن يقولَ: في وقتِ رؤيتهم العذابَ فيأتي بمرادف» إذ «وهو الوقتُ لا الحالُ، وأيضاً فتقديرُه لجوابِ» لو «غيرُ مُرَتَّبٍ على ما يلي» لو «، لأنَّ رؤية السامعِ أو النبي عليه السلام الظالمينَ في وقتِ رؤيتهم لا يترتَُّبُ عليها إقرارُهم بأنّ القوة لله جميعاً، وهو نظيرُ قولِك:» يا زيدُ لو ترى عَمْراً في وقتِ ضَرْبِه لأقَرَّ أنَّ الله قادِرٌ عليه «فإقرارُه بقدرةِ الله ليست مترتبةً على رؤيةِ زيد»
انتهى.
وتقديرُه على قراءةِ «يرى» بالغيبة: لعلموا أنَّ القوةَ، إنْ كان فاعل «يرى» «الذين ظلموا» ، وإن كان ضميراً يعودُ على السامعِ فيُقَدَّرُ: لَعَلِمَ أنَّ القوة.
وأمَّا مَنْ قَدَّره بعدَ قولِه: شديدُ العذاب فتقديرُه على قراءة «ترى» بالخطابِ: لاستعظَمْتَ ما حلَّ بهم، ويكونُ فتحُ «أنَّ» على أنه مفعولٌ من أجلِه، أي: لأنَّ القوةَ لله جميعاً، وكَسْرُها على معنى التعليلِ نحو:«أكرِمْ زيداً إنه عالم، وأَهِنْ عمراً إنَّه جاهلٌ» ، أو تكونُ جملةً معترضةً بين «لو» وجوابِها المحذوفِ. وتقديرُه على قراءةِ «ولو يرى» بالغيبة إن كان فاعلُ «يرى» ضميرَ السامعِ: لاستعظَمَ ذلك، وإنْ كان فاعلُه «الذين» كان التقديرُ: لاستعظَموا ما حَلَّ بهم، ويكونُ فتحُ «أنَّ» على أنها معمولةٌ ليرى، على أن يكونَ الفاعلُ «الذين ظلموا» ، والرؤيةُ هنا تحتِملُ أن تكونَ من رؤيةِ القلبِ فتسدَّ «أنَّ» مسدَّ مفعولهما، وأن تكونَ من رؤية البصرِ فتكونَ في موضعِ مفعولٍ واحدٍ.
وأمَّا قراءةُ «يرى الذين» بالغَيبة وكسرِ «إنَّ» و «إنَّ» فيكونُ الجوابُ قولاً محذوفاً وكُسِرتَا لوقوعِهما بعد القولِ، فتقديرُه على كونِ الفاعلِ ضميرَ الرأي: لقال إنَّ القوةَ؛ وعلى كونه «الذين» : لقالوا: ويكونُ مفعولُ «يرى» محذوفاً أي: لو يرى حالهم. ويُحتمل أن يكونَ الجوابُ: لاستَعْظَم أو لاستَعْظَموا على حَسَبِ القولين، وإنما كُسِرتا استئنافاً، وحَذْفُ جوابِ «لو» شائعٌ مستفيضٌ، وكثُر حَذْفهُ في القرآن. وفائدةُ حَذْفِه استعظامُه وذهابُ النفسِ كلَّ مذهبٍ فيه بخلافِ ما لو ذُكِر، فإنَّ السامعَ يقصُر هَمَّه عليه، وقد وَرَدَ في أشعارهم ونثرِهم حَذْفُه كثيراً. قال امرؤ القيس:
801 -
وجَدِّكَ لو شيءُ أتانا رسولُه
…
سِواك ولكن لَمْ نَجِدْ لَكَ مَدْفَعا
وقال النابغة:
802 -
فما كان بين الخيرِ لو جاءَ سالماً
…
أبو حُجُرٍ إلَاّ ليالٍ قلائِلُ
ودَخَلَتْ «إذ» وهي ظرفُ زمانٍ ماضٍ في أثناءِ هذه المستقبلات تقريباً للأمر، وتصحيحاً لوقوعِه، كما وَقَعَتْ صيغة المضيِّ موقعَ المستقبل لذلك كقولِهِ:{ونادى أَصْحَابُ الجنة} [الأعراف: 44]{ونادى أَصْحَابُ النار} [الأعراف: 50]، وكما قال الأشتر:
803 -
بَقَّيْتُ وَفْرِي وانحرَفْتُ عن العُلَى
…
ولَقِيْتُ أضيافي بوجهِ عَبُوسِ
إِنْ لم أشُنَّ على ابن حربٍ غارةً
…
لم تَخْلُ يوماً من نِهاب نفوسِ
فأوقع «بَقَّيْتُ» و «انحَرَفْتُ» - وهما بصيغة المضيِّ - موقِعَ المستقبلِ لتعليقهما على مستقبلٍ وهو قولُه: «إنْ لم أشُنَّ» .
وقيل: أَوْقَعَ «إذ» موقع «إذا» وقيل: زمن الآخرة متصلٌ بزمن الدنيا، فقامَ أحدُهما مقامَ الآخر لأنَّ المجاور للشيءِ يقوم مقامه، وهكذا كلَّ موضعٍ وَقَع مثلَ هذا، وهو في القرآن كثيرٌ.
وقراءةُ ابنِ عامر «يُرَوْنَ العذاب» مبنياً للمفعول مَنْ أَرَيْتُ المنقولةِ من رَأَيْتُ بمعنى أبصرتُ فتعدَّتُ لاثنين، أولُهما قامَ مَقامَ الفاعلِ وهو الواو، والثاني هو «العذابُ» ، وقراءةُ الباقين واضحةٌ.
وقال الراغبُ: «قوله» : «أنَّ القوة» بدلٌ من «الذين» قال: «وهو ضعيفٌ» قال الشيخ: «ويصيرُ المعنى: ولو تَرى قوةَ الله وقدرَتَه على الذين ظلموا» . وقال في «المنتخب» : «قراءةُ الياء عند بعضهم أَوْلَى من قراءة التاء» ، قال:«لأنَّ النبيَّ عليه السلام والمؤمنين قد عَلِموا قَدْرَ ما يُشَاهِدُه الكفارُ، وأمّا الكفارُ فلم يَعْلَمُوه فوجَبَ إسنادُ الفعلِ إليهم» وهذا ليس بشيءٍ فإنَّ القراءَتَيْنِ متواتِرتان.
قوله: {جَمِيعاً} حالٌ من الضمير المستكنِّ في الجارِّ والمجرور الواقع خبراً، لأنَّ تقديره:«أنَّ القوةَ كائنةٌ لله جميعاً» ، ولا جائزٌ أن يكونَ حالاً من القوة، فإنَّ العاملٍ في الحال هو العاملُ في صاحبِها، و «أنَّ» لا تعملُ في الحال، وهو مُشْكلٌ، فإنَّهم أجازوا في «ليت» أن تعمل في الحال، وكذا «كأنَّ» لِما فيها من معنى الفعل - وهو التمني والتشبيه - فكان ينبغي أن يجوزَ ذلك في «أنَّ» لِما فيها من معنى التأكيد. و «جميع» في الأصل: فَعِيل من الجَمْعِ، وكأنه اسمُ جمعٍ، فلذلك يُتْبَع تارةً بالمفرد، قال تعالى:{نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ} [القمر: 44] ، وتارةً بالجمعِ، قال تعالى:{جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [يس: 32] ، ويَنْتَصِبُ حالاً، ويؤكد به بمعنى «كل» ، ويَدُلُّ على الشمول كدلالةِ «كل» ، ولا دلالة له على الاجتماع في الزمان، تقول:«جاء القومُ جميعُهم» لا يلزُم أَنْ يكونَ مجيئُهم في زمنٍ واحدٍ، وقد تقدَّم ذلك في الفرقِ بينها وبين «جاؤوا معاً» .
قوله تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ} : في «إذْ» ثلاثة أوجهٍ، أحدُها: أنَّها بدلٌ من «إذ يَرَوْن» . الثاني: أنها منصوبةٌ بقولِه «شديدُ العذاب» الثالث: - وهو أضعفها - أنها معمولةٌ لا ذكر مقدراً. و «تَبَرَّأ» في محلِّ خفضٍ بإضافةِ الظرفِ إليه. والتبرُّؤُ: الخلوصُ والانفصال، ومنه: بَرِئْتُ من الدَّيْن، وقد تَقدَّم تحقيقُ ذلك عند قولِه:{إلى بَارِئِكُمْ} [البقرة: 54] . والجمهورُ على تقديم «اتُّبِعوا» مبنياً للمفعول على «اتَّبعوا» مبنياً للفاعل. وقرأ مجاهد بالعكس، وهما واضحتان، إلَاّ أنَّ قراءة الجمهورِ واردةٌ في القرآنِ أكثرَ.
قوله: {وَرَأَوُاْ العذاب} في هذه الجملة وجهانِ: أظهرهُما: أنها عطفٌ على ما قبلها، فتكونُ داخلةً في حَيِّز الظرف، تقديرُه:«إذ تبرّأ الذين اتُّبِعوا، وإذْ رَأَوا» . والثاني: أن الواو للحالِ والجملةُ بعدها حاليةٌ، و «قد» معها مضمرةٌ، والعاملُ في هذه الحالِ:«تَبَرَّأ» أي: تبرَّؤوا في حالِ رؤيتهم العذابَ.
قوله: {وَتَقَطَّعَتْ} يجوزُ أن تكونَ الواوُ للعطفِ وأَنْ تكونَ للحالِ، وإذا كانت للعطفِ فهل عَطَفَتْ «تَقَطَّعَتْ» على «تَبَرَّأ» ، ويكون قوله:«ورأوا» حالاً، وهذا اختيار الزمخشري، أو عَطَفَتْ على «رأوا» ؟ وإذا كانت للحال فهل هي حالٌ ثانية للذين، أو حالٌ للضميرِ في «رَأوا» ؟ وتكونُ حالاً متداخلةً إذا جَعَلْنا «ورأوا» حالاً.
والباءُ في «بهم» فيها أربعةُ أوجهٍ، أحدُهُما: أنَّها للحالِ أي: تَقَطَّعَتْ موصولةً بهم الأسبابُ نحو: «خَرَج بثيابه» . الثاني: أن تكونَ للتعديةِ، أي:
قَطَّعَتْهُم الأسبابُ كما تقولُ: تَفَرَّقَتْ بهم الطرقُ «أي: فَرَّقَتْهم. الثالث: أن تكون للسببية، أي: تَقَطَّعتْ بسببِ كفرِهم الأسبابُ التي كانوا يَرْجُون بها النجاة. الرابع: أن تكونَ بمعنى» عن «، أي: تَقَطَّعت عنهم.
والأسبابُ: الوَصْلاتُ بينهم، وهي مجازٌ، فإن السبب في الأصل الحَبْلُ ثم أُطلقَ على كلِّ ما يُتَوصَّل به إلى شيء: عيناً كان أو معنىً، وقد تُطْلَقُ الأسبابُ على الحوادِثِ، قال زهير:
804 -
ومَنْ هابَ أسبابُ المنايا يَنَلْنَه
…
ولو نالَ أسبابَ السماءِ بسُلَّمِ
وقد وُجِد هنا نوعٌ من أنواعِ: البديع هو الترصيعُ/، وهو عبارةُ عن تَسْجِيع الكلامِ، وهو هنا في موضعَيْن، أحدُهما {اتبعوا مِنَ الذين اتبعوا} ولذلك حَذَفَ عائدَ الموصولِ الأولِ فلم يَقُلْ: من الذين اتَّبعوهم لفوات ذلك والثاني: {وَرَأَوُاْ العذاب وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسباب} وهو كثيرٌ في القرآنِ {إِلَاّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ} [البقرة: 73] .
قوله تعالى {فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ} : منصوبٌ بعد الفاء بِأَنْ مضمرةً في جواب التمني الذي أُشْرِبته «لو» ، ولذلك أُجيبت بجواب «ليت» الذي في قوله: يا ليتني كنتُ معهم فأفوز «، وإذا أُشْرِبَتْ معنى التمني فهل هي الامتناعيةُ المفتقرةُ إلى جوابٍ أم لا تحتاجُ إلى جوابٍ؟ الصحيحُ أنها تحتاجُ إلى جوابٍ، وهو مقدَّرٌ في الآيةِ تقديرُه: لتبرَّأنا ونحوُ ذلك. وقيل:» لو «في هذه الآيةِ ونظائرها لِما كان سَيَقَعُ لوقوع غيره، وليس فيها معنى التمني،
والفعلُ منصوبٌ ب» أَنْ «مضمرةً على تأويلِ عَطْفِ اسم على اسم وهو» كَرَّة «والتقديرُ: لو أنَّ لنا كرةً فتبرُّؤاً فهو من باب قوله:
805 -
لَلُبْسُ عباءةٍ وتَقَرَّ عيني
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ويكونُ جواب لو محذوفاً أيضاً كما تقدَّم. وقال أبو البقاء:» فنتبرأ «منصوبٌ بإضمار أنْ تقديرُه: لو أنّ لنا أن نرجِع فنتبرأ» فَحَلَّ «كرة» إلى قولِه «أَنْ نَرْجِعَ» لأنه بمعناه وهو قريبٌ، إلَاّ أنَّ النَّحْويين يُؤَوِّلون الفعلَ المنصوبَ بمصدرٍ ليَعْطِفُوهُ على الاسم قبلَه، ويتركون الاسمَ على حالِه، وذلك لأنه قد يكونُ اسماً صريحاً غير مصدرٍ نحو:«لولا زيدٌ ويخرج لأكرمتُك» فلا يتأتّى تأويله بحرف مصدري وفعلٍ. والقائل بأنّ «لو» التي للتمني لا جوابَ لها استدلَّ بقول الشاعر:
806 -
فلو نَبْشُ المقابرِ عن كُلَيْبٍ
…
فَتُخْبَر بالذَّنائِبِ أيُّ زُورِ
وهذا لا يَصِحُّ فإنَّ جوابَها في البيتِ بعدَه وهو قولُه:
807 -
بيومِ الشَّعْثَمَيْنِ لقَرَّ عيناً
…
وكيف لقاءُ مَنْ تحتَ القبورِ
واستدلَّ هذا القائلُ أيضاً بأنَّ «أنَّ» تُفْتَحُ بعد «لو» كما تُفْتَحُ بعدَ ليت في قولِه:
808 -
يا ليتَ أنَّا ضَمَّنا سَفينَهْ
…
حتَّى يعودَ البحرُ كَيَّنُونَهْ
وههنا فائدةٌ ينبغي أن يُنتبه لها وهي: أنَّ النحاة قالوا: «كلُّ موضعٍ نُصِبَ
فيه المضارعُ بإضمارِ أَنْ بعد الفاء إذا سَقَطَت الفاءُ جُزِم إلا في النفي» ، [و] ينبغي أَنْ يُزادَ هذا الموضعُ أيضاً فيُقال: وإلا في جوابِ التمني ب «لو» ، فإنَّه يُنْصبُ المضارع فيه بإضمار «أَنْ» بعدَ الفاء الواقعةِ جواباً له، ومع ذلك لو سَقَطَت هذه الفاءُ لم يُجْزَمْ. قال الشيخ:«والسببُ في ذلك أنها محمولةٌ على حرف التمني وهو ليت، والجزمُ في جوابِ ليت إنما هو لتضَمُّنِها معنى الشرط أو لدلالتِها على كونِه محذوفاً على اختلافِ القولين فصارت» لو «فرع الفرع، فَضَعُفَ ذلك فيها.
قوله:» كما «الكافُ موضعُها نصبٌ: إمَّا على كونِها نعتَ مصدرٍ محذوفٍ، أي: تبرُّؤاً مثلَ تبرئتهم، وإمَّا على الحالِ من ضمير المصدر المُعرَّفِ المحذوفِ أي: نتبَّرؤه - أي التبرؤ - مشابهاً لتبرئتهم، كما تقدَّم تقريره غيرَ مرةٍ.
وقال ابنُ عطية: «الكافُ في قوله» كما «في موضعِ نصبٍ على النعت: إمَّا لمصدرٍ أو لحالٍ تقديرُه: متبرئين كما» . قال الشيخ: «وأمّاً قولُه» لحال تقديرُه متبرئين كما «فغيرُ واضحٍ، لأنَّ» ما «مصدريةٌ فصارَتِ الكافُ الداخلةُ عليها من صفاتِ الأفعال، ومتبرئين من صفاتِ الأعيانِ فكيف يُوصف بصفاتِ الأفعالِ» قال: «وأيضاً لا حاجةَ لتقدير هذه الحال؛ لأنها إذ ذاك تكونُ حالاً مؤكدةً، وهي خلافُ الأصلِ، وأيضاً فالمؤكَّد ينافيه الحذفُ لأنَّ التأكيدَ يُقَوِّيه فالحَذْفُ يناقِضُه» .
قوله: {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ} في هذه الكافِ قولان، أحدُهما: أنَّ موضعَها نصبٌ: إمَّا نعتَ مصدرٍ محذوفٍ، أو حالاً من المصدرِ المعرَّفِ، أي: يُريهم
رؤيةً كذلك، أو يَحْشُرهم حشراً كذلك، أو يَجْزيهم جزاءً كذلك، أو يُريهم الإِراءةَ مشبهةً كذلك ونحوُ هذا. والثاني: أن يكونَ موضعُها رفعاً على انه خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي: الأمرُ كذلك أو حَشْرُهم كذلك قاله أبو البقاء. قال الشيخ: «وهو ضعيفٌ لأنه يقتضي زيادةَ الكافَ وحَذْفَ مبتدأ، وكلاهما على خلاف الأصل» . والإِشارةُ بذلك إلى إرءَتِهم تلك الأهوال، والتقدير: مثلَ إراءتهم الأهوال يُريهم اللهَ أعمالهم حسراتٍ، وقيل: الإِشارة إلى تبرؤ بعضِهم مِنْ بعضٍ.
والرؤيةُ هنا تحتملُ وَجْهَيْن، أحدُهما: أن تكونَ بصريةً، فتتعدَّى لاثنين بنقل الهمزة، أولُهُما الضميرُ والثاني «أعمالَهم» و «حسراتٍ» على هذا حالٌ من «أعمالهم» . والثاني: أن تكون قلبية، فتتعدَّى لثلاثة ثالثُها «حسرات» و «عليهم» يجوزُ فيه وجهان: أن يتعلَّق ب «حسراتٍ» لأنَّ «يَحْسَر» يُعَدَّى بعلى، ويكونَ ثمَّ مضافٌ محذوفٌ أي: على تفريطهم. والثاني: أن تتعلَّق بمحذوفٍ لأنَّها صفةٌ لحَسَرات، فهي في محل نصبٍ لكونِها صفةً لمنصوبٍ.
والكَرَّةُ: العَوْدَةُ، وفِعْلُها كَرَّ يَكُرُّ كَرَّاً، قال:
809 -
أَكُرُّ على الكتيبةِ لا أُبالي
…
أفيها كانَ حَتْفِي أَمْ سِواها
والحسرةُ: شِدَّةُ النَّدَمِ، وهو تألمُ القلب بانحساره عما يُؤمِّلهُ، واشتقاقُها: إمَّا من قولِهم: بعيرٌ حَسِير، أي: منقطعُ القوةِ أو مِنَ الحَسْرِ وهو الكِشْفُ.
قولُه تعالى: {مِمَّا فِي الأرض حَلَالاً طَيِّباً} : «حلالاً» فيه خمسةُ أوجهٍ، أحدُها: أَن يكونَ مفعولاً ب «كُلوا» ، و «مِنْ» على هذا فيها
وجهان، أحدُهما: أَنْ تتعلَّق بكُلوا، ويكونُ معناها ابتداءَ الغايةِ. والثاني: أنْ تتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنَّها حالٌ من «حلالاً» وكانت في الأصلِ صفةً له فلمّا قُدِّمت عليه انتصَبَت حالاً، ويكونُ معنى «مِنْ» التبعيض. الثاني: أن يكونَ انتصابُ «حلالاً» على أنه نعت لمفعولٍ محذوفٍ، تقديرُه: شيئاً أو زرقاً حلالاً ذكرَه مكي، واستبعدَه ابنُ عطية، ولم يُبَيِّنْ وجهَ بُعْدِهِ، والذي يَظْهَرُ في بُعْدِه أنَّ «حلالاً» ليس صفةً خاصةً بالمأكولِ، بل يُوصَفُ به المأكولُ وغيرُه، وإذا لم تكن الصفةُ خاصةً لا يجُوزُ حَذْفُ الموصوفِ. الثالثُ: أَنْ ينتصِبَ «حلالاً» على أنه حالٌ من «ما» بمعنى الذي، أي: كُلوا من الذي في الأرض حال كَونِه حلالاً. الرابع: أن ينتصِبَ على أنَّه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ، أي: أكلاً حلالاً، ويكون مفعولُ «كُلوا» محذوفاً، و «ما في الأرض» صفةٌ لذلك المفعولِ المحذوفِ، ذكره أبو البقاء، وفيه من الردِّ ما تقدَّم على مكي، ويجوزُ على هذا الوجهِ الرابع ألَاّ يكونَ المفعولُ محذوفاً بل تكون «مِنْ» مزيدةً على مذهب الأخفش تقديرُه: كُلوا ما في الأرض أكلاً حلالاً. الخامس: أنْ يكونَ حالاً من الضمير العائِد على «ما» قاله ابنُ عطية، يعني بالضمير الضميرَ المستكنَّ في الجارِّ والمجرورِ الواقعِ صلةً.
و «طيباً» فيه ثلاثة أوجه، أحدُها: أن يكونَ صفةً لحلالاً، أمَّا على القول بأنَّ «مِنْ» للابتداءِ متعلِّقة ب «كُلوا» فهو واضحُ، وأمّا على القولِ بأنّ «مِما في الأرض» حالٌ من «حلالاً» ، فقال أبو البقاء: «ولكنَّ موضعَها بعد
الجارِّ والمجرور، لئلا يُفْصَلَ بالصفةِ بين الحالِ وذي الحالِ» وهذا الذي قاله ليس بشيء فإنَّ الفصلَ بالصفةِ بين الحال وصاحِبها ليس بممنوع، تقول:«جاءني زيدٌ الطويلُ راكباً» بل لو قَدَّمْتَ الحالَ على الصفةِ فقلتَ: «جاءني زيدٌ راكباً الطويلُ» كان في جوازه نظرٌ. الثاني: أن يكونَ صفةً لمصدرٍ محذوفٍ أو حالاً من المصدرِ المَعْرفة المحذوفِ أي: أكلاً طيباً. الثالث: أن يكونَ حالاً من الضميرِ في «كُلوا» تقديرُه: مستطيبين، قاله ابنُ عطية، قال الشيخُ:«وهذا فاسدٌ في اللفظ/ والمعنى، أمّا اللفظُ فلأنَّ» الطيِّب «اسمُ فاعل فكان ينبغي أن تُجْمَعَ لتطابق صاحبَها فيقال: طيبين، وليس» طيب «مصدراً فيقال: إنما لم يُجْمَع لذلك.
وأما المعنى فإنَّ «طيباً» مغايرٌ لمعنى «مستطيبين» لأنَّ الطِّيب من صفاتِ المَأْكولِ والمستطيبَ من صفاتِ الآكلينَ، تقول: طاب لزيدٍ الطعامُ، ولا تقولُ:«طابَ زيدٌ الطعام» بمعنى استطابه «.
والحَلالُ: المأذونُ فيه، ضدُّ الحرام الممنوع منه. [يُقال:] حَلَّ يَحِلُّ بكسرِ العين في المضارعِ، وهو القياسُ لأنه مضاعَفٌ غيرُ متعدٍّ، ويقال: حَلال وحِلُّ، كحرام وحَرَم، وهو في الأصل مصدرٌ، ويقالُ:» حلٌِ بِلٌّ «على سبيلِ الإِتباع كحَسَنٌ بَسَنٌ. وَحَلَّ بمكان كذا يحِلُّ بضمِّ العَيْنِ وكسرِها، وقرىء، {فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي} [طه: 81] بالوجهين.
قوله: {خُطُواتِ} قرأ ابنُ عامر والكسائي وقنبل وحَفص: خُطُوات بضم الخاء والطاء، وباقي السبعة بسكون الطاءِ، وقرأ أبو السَّمَّال» خُطَوات «
بفتحها، ونقل ابنُ عطية وغيرُه عنه أنه قرأ» خَطَوات «بفتح الخاء والطاء، وقرأَ عليّ وقتادة والأعمش بضمِّها والهمز.
فأمّا قراءةُ الجمهورِ والأولى من قراءَتَيْ أبي السَّمَّال فلأنَّ» فَعْلَة «الساكنةَ العين السالمتها إذا كانت اسماً جاز في جَمْعِها بالألف والتاءِ ثلاثةُ أوجهٍ - وهي لغاتٌ مسموعةٌ عن العرب -: السكونُ وهو الأصلُ، والإِتباع، والفتحُ في العَيْنِ تخفيفاً. وأمَّا قراءةُ أَبي السَّمَّال التي نَقَلَها ابنُ عطية فهي جَمْعُ خَطْوة بفتح الخاء، والفرقُ بين الخطوة بالضم والفتح: أنَّ المفتوحَ مصدرٌ، دالةٌ على المَرَّة من خَطَا يَخْطُوا إذا مَشَى، والمضمُوم اسمٌ لِما بين القَدَمَيْن كأنه اسمٌ للمسافةِ، كالغُرْفَة اسمٌ للشيءِ المُغْتَرَف، وقيل: إنهما لغتان بمعنى واحدٍ ذكرَه أبو البقاء.
وأمَّا قراءةُ عليّ ففيها تأويلان، أحدُهما: - وبه قال الأخفش - أنَّ الهمزةَ أصلُ وأنه من الخطأ، و» خُطُؤات «جمع» خِطْأَة «إِنْ سُمِعَ، وإلَاّ فتقديراً، وتفسيرُ مجاهدٍ إياه بالخطايا يؤيِّد هذا، ولكنْ يُحْتَمَل أَنْ يكونَ مجاهِدٌ فَسَّره بالمرادفِ. والثاني: أنه قَلَبَ الهمزةَ عن الواوِ لأنَّها جاورت الضمةَ قبلَها فكأنَّها عليها، لأنَّ حركةَ الحرف بين يديه على الصحيح لا عليه.
قوله: {إِنَّهُ لَكُمْ} قال أبو البقاء:» إنما كسر الهمزة لأنه أراد الإِعلامَ
بحالِه، وهو أبلغُ من الفتح، لأنه إذا فَتَح الهمزةَ صار التقديرُ: لا تتَّبِعوه لأنه عدوٌّ لكم، واتِّباعُهُ ممنوعٌ وإن لم يكن عدواً لنا، ومثلُه:
810 -
لبَّيْكَ إنَّ الحَمْدَ لك
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
كَسْرُ الهمزةِ أجودُ لدلالةِ الكسرِ على استحقاقه الحمدَ في كلِّ حالٍ وكذلك التلبيةُ «انتهى. يعني أن الكسرَ استئنافٌ فهو بعضُ إخبارٍ بذلك، وهذا الذي قاله في وجهِ الكسرِ لا يتعيَّنُ، لأنه يجوزُ أن يُرادَ التعليل مع كسرِ الهمزةِ فإنهم نَصُّوا على أنَّ» إنَّ «المسكروةَ تفيدُ العلةَ أيضاً، وقد ذكر ذلك في هذه الآية بعينها فينبغي أن يقالَ: قراءةُ الكسرِ أَوْلَى لأنها محتملةٌ للإِخبارِ المَحْضِ بحالِهِ وللعلِّيَّة، وأمّا المفتوحةُ فهي نصٌّ في العلِّيَّة، لأنَّ الكلامَ على تقديرِ لامِ العلةِ.
قوله تعالى: {وَأَن تَقُولُواْ} : عطفٌ على قولِه «بالسوءِ» تقديرُه: «وبأنْ تقولوا» فيحتملُ موضعُها الجرَ والنصبَ بحسب قولي الخليلِ وسيبويه. و «الفحشاءُ» مصدرٌ من الفُحْش، كالبأساء من البأْسِ. والفُحْشُ قُبْحُ المنظر، قال امرؤ القيس:
811 -
وجِيدٍ كجيدٍ الرِّئْمِ ليس بفاحِشٍ
…
إذا هي نَصَّتْهُ ولا بِمُعَطَّلِ
وتُوُسِّع فيه حتى صارَ يُعَبَّرُ به عن كلِّ مستقبَحٍ معنىً كان أو عيناً.
قولُه تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ} : الضميرُ في «لهم» فيه أربعةُ أقوال، أحدُها: أنه يعود على «مَنْ» في قولِهِ: {مَن يَتَّخِذُ} [البقرة: 165] وهذا بعيدٌ. الثاني: أنه يعودُ على العرب الكفَّار لأنَّ هذا حالُهم. الثالث: أنه يعودُ على اليهودِ لأنَّهم أشدُّ الناس اتِّباعاً لأسلافِهِم. الرابعُ: أنه يعودُ على الناسِ في قولِهِ: {يَا أَيُّهَا الناس} [البقرة: 168] ، قاله الطبري، وهو ظاهرٌ، إلَاّ أَنَّ ذلك يكونُ من بابِ الالتفات من الخطابِ إلى الغَيْبَةِ، وحكمتُه أنهم أُبْرِزوا في صورةِ الغائبِ الذي يُتَعَجَّبُ مِنْ فِعْلِهِ، حيث دُعِيَ إلى شريعةِ اللَّهِ والنورِ والهدى فأجابَ باتِّباع شريعةِ أبيه.
قوله: {بَلْ نَتَّبِعُ} بل هنا عاطفةٌ هذه الجملةَ على جملةٍ محذوفةٍ قبلها تقديرُه: لا نتَّبعُ ما أنزل اللَّهُ بل نَتَّبعُ كذا، ولا يجوزُ أنْ تكونَ معطوفةً على قولِهِ:«اتَّبِعُوا» لفسادِهِ. وقال أبو البقاء: «بل» هنا للإِضرابِ عن الأول، أي: لا نَتَّبعُ ما أَنْزَلَ اللَّهُ، وليس بخروجٍ من قصةٍ إلى قصةٍ يعني بذلك أنه إضرابُ إبطالٍ لا إضرابُ انتقالٍ، وعلى هذا فيقالُ: كلُّ إضرابٍ في القرآنِ فالمرادُ به الانتقالُ من قصةٍ إلى قصةٍ إلَاّ في هذه الآية، وإلَاّ في قولهِ:{أَمْ يَقُولُونَ افتراه بَلْ هُوَ الحق} [السجدة: 3] فإنه محتمل للأمرين فإن اعتبرْتَ قوله: «أم يقولون افتراه» كان إضرابَ انتقالٍ، وإن اعتبرْتَ «افتراه» وحدَه كان إضرابَ إبطالٍ.
قوله: {أَلْفَيْنَا} في «ألفى» هنا قولان، أحدُهما: أنها متعدِّيةٌ إلى مفعولٍ واحدٍ، لأنها بمعنى «وَجَدَ» التي بمعنى أصابَ، فعلى هذا يكونُ «عليه» متعلِّقاً بقولِهِ «أَلْفينَا» . والثاني: أنها متعدِّية إلى اثنين، أولُهما «آباءَنا» والثاني:«عليه» ؛ فَقُدِّمَ على الأولِ. وقال أبو البقاء: «هي محتملةٌ للأمرين، أعني كونَها متعديةً لواحدٍ أو لاثنين» قال أبو البقاء: «ولامُ أَلْفَيْنَا واوٌ لأنَّ الأصلَ فيما جُهِلَ من اللاماتِ أنْ يكونَ واواً» يعني فإنَّه أوسعُ وأكثرُ فالردُّ إليه أَوْلَى.
قوله: {أَوَلَوْ} الهمزةُ للإِنكار، وأمَّا الواو ففيها قولان، أحدُهما: - وإليه ذهب الزمخشري - أنها واوُ الحالِ، والثاني - وإليه ذهب أبو البقاء وابن عطية - أنها للعطفِ. وقد تقدَّم الخلافُ في هذه الهمزةِ الواقعةِ قبل الواوِ والفاءِ وثُمَّ: هل بعدَها جملةٌ مقدرةٌ؟ وهو رأيُ الزمخشري، ولذلك قَدَّرَه هنا: أيتَّبِعُونَهم ولو كانَ آباؤُهُم لا يَعْقِلُون شيئاً من الدين ولا يهتدون للصواب، أو النيةُ بها التأخيرُ عن حرفِ العطف؟ وقد جَمَعَ الشيخ بين قولِ الزمخشري وقولِ ابن عطية فقال:«والجمعُ بينهما أنَّ هذه الجملةَ المصحوبةَ ب» لو «في مثلِ هذا السياقِ جملةٌ شريطةٌ، فإذا قال:» اضربْ زيداً ولو أَحْسَنَ إليك «فالمعنى: وإنْ أَحسَنَ إليكَ، وكذلك:» أَعْطوا السائلَ ولو جاءَ على فرسٍ «» رُدُّوا السائلَ ولو بشقَّ تمرةٍ «المعنى فيهما:» وإنْ «، وتجيء»
لو «هنا تنبيهاً على أنَّ ما بعدها لم يكن يناسبُ ما قبلها، لكنها جاءت لاستقصاء الأحوال التي يقع فيها الفعلُ، ولتدلُّ على أن المرادَ بذلك وجودُ الفعلِ في كل حالٍ، حتى في هذه الحالِ التي لا تناسبُ الفعلَ، ولذلك لا يجوزُ:» اضربْ زيداً ولو أساء إليكَ «ولا:» أَعْطُوا السائل ولو كان محتاجاً «، فإذا تقرَّر هذا فالواوُ في» ولو «في الأمثلةِ التي ذكرناها عاطفةٌ على حالٍ مقدرةٍ، والمعطوف على الحالِ حالٌ، فَصَحَّ أن يقالَ إنها للحالِ من حيثُ عطفُها جملةً حاليةً على حالٍ مقدرةٍ، وصَحَّ أن يقالَ إنها للعطف من حيث ذلك العطفُ، والمعنى - والله أعلمُ - أنها إنكارُ اتِّباعِ آبائِهِم في كلِّ حالٍ حتى في الحالة التي تناسِبُ أنْ يَتَّبِعُوهُمْ فيها وهي تَلَبُّسهم بعدمِ العَقْلِ والهدايةِ، ولذلك لا يجوزُ حذف هذه الواوِ الداخلةِ على» لو «إذا كانت تنبيهاً على أنَّ ما بعدها لم يكن مناسباً ما قبلها، وإنْ كانتِ الجملةُ الحاليةُ فيها ضميرٌ عائدٌ على ذي الحالِ، لأنَّ مجيئَها عاريةً من هذه الواو مؤذنٌ بتقييدِ الجملةِ السابقةِ بهذه الحال.
فهو يُنافي استغراقَ الأحوالِ، حتى هذه الحالُ، فهما معنيانِ مختلفانِ، ولذلك ظهر الفرقُ بين:«أَكْرِمْ زَيْداً لو جَفَاك» وبين «أكْرمْ زيداً ولو جَفَاك» انتهى. وهو كلامٌ حَسَنٌ/ وجوابُ «لو» محذوفٌ تقديرُه: لاتَّبعوهم، وقدَّره أبو البقاء:«أفكانوا يَتَّبِعونهم» وهو تفسيرُ معنىً، لأن «لو» لا تُجاب بهمزةِ الاستفهام.
قوله: {شَيْئاً} فيه وجهان، أحدُهما: أنه مفعولٌ به، فَيَعُمُّ جميعَ المعقولاتِ لأنها نكرةٌ في سياقِ النفي، ولا يجوزُ أن يكونَ المرادُ نَفيَ الوحدةِ فيكونَ المعنى: لا يعقلون شيئاً بل أشياءَ. والثاني: أن ينتصبَ على المصدريةِ، أي: لا يَعْقِلُون شيئاً من العقلِ. وقَدَّمَ نفيَ العقلِ على نفيِ الهدايةِ؛ لأنه تصدرُ عنه جميعُ التصرفاتِ.
قوله تعالى: {وَمَثَلُ الذين كَفَرُواْ} : اختلفَ الناسُ في هذه الآيةِ اختلافاً كثيراً واضطربوا اضطراباً شديداً، وأنا بعونِ اللَّهِ قد لَخَّصْتُ أقوالَهم مهذبةً، ولا سبيلَ إلى معرفةِ الإِعرابِ إلَاّ بعد معرفةِ المعنى المذكورِ في هذه الآيةِ.
وقد اختلفُوا في ذلك: فمنهم مَنْ قال: معناها أنَّ المَثَلَ مضروبٌ بتشبيهِ الكافِرِ بالناعِقِ. ومنهم مَنْ قالَ: هو مضروبٌ بتشبيهِ الكافر بالمنعوق به. ومنهم مَنْ قال: هو مضروبٌ بتشبيهِ الداعي والكافرِ بالناعقِ والمنعوقِ به. فهذه أربعةُ أقوالٍ.
فعلى القولِ الأولِ: يكون التقديرُ: «وَمَثَلُ الذين كفروا في قلةِ فَهْمِهِمْ كمثلِ الرعاةِ يُكَلِّمون البُهْمَ، والبُهْمُ لا تَعْقِلُ شيئاً» . وقيلَ: يكون التقديرُ: ومثلُ الذين كفروا في دعائِهم آلهتَهم التي لا تفقَه دُعَاءَهم كمَثَلِ الناعِقِ بغنمِهِ لا ينتفعُ من نعيقِهِ بشيءٍ، غيرَ أنَّه في عَناءٍ، وكذلك الكافرُ ليس له من دعائِهِ الآلهةَ إلا العَناءُ.
قال الزمخشري - وقد ذكر هذا القولَ - «إلَاّ أَنَّ قولَه {إِلَاّ دُعَآءً وَنِدَآءً} لا يساعدُ عليه لأنَّ الأصنامَ لا تَسْمَعُ شيئاً» . قال الشيخ: «ولَحَظَ الزمخشري في هذا القولِ تمامَ التشبيهِ من كلِّ جهةٍ، فكما أن المنعوق به لا يسمع إلا دعاءً ونداءً فكذلك مدعُوُّ الكافرِ من الصنمِ، والصنَمُ لا يسمع، فَضَعُفَ عنده هذا القولُ» قال: «ونحن نقول: التشبيهُ وَقَعَ في مُطْلَقِ الدعاءِ
لا في خصوصياتِ المدعوِّ، فتشبيه الكافرُ في دعائه الصنمَ بالناعِقِ بالبهيمةِ لا في خصوصياتِ المنعوقِ به» .
وقيل في هذا القولِ: - أعني قولَ مَنْ قال التقديرُ: وَمَثَلُ الذين كفروا في دعائِهِم آلهتَهم - إن الناعق هنا ليس المرادُ به الناعقَ بالبهائِمِ، وإنما المرادُ به الصائحُ في جوفِ الجبلِ فيجيبُه الصَّدى، فالمعنى: بما لا يَسْمَعُ منه الناعقُ إلا دعاءَ نفسِهِ ونداءها، فعلى هذا القولِ يكونُ فاعلٌ «يسمع» ضميراً عائداً على الذين يَنْعِقُ، ويكونُ العائدُ على «ما» الرابطُ للصلةِ بالموصولِ محذوفاً لفهمِ المعنى، تقديرُه: بما لا يَسْمَعُ منه، وليس فيه شرطُ جوازِ الحذفِ فإنَّه جُرَّ بحرفٍ غيرِ ما جُرَّ به الموصولُ، وأيضاً فقد اختَلَفَ متعلَّقاهما، إلا أنه قد وَرَدَ ذلك في كلامهم. وأمّا على القولين الأوَّلَيْن فيكون فاعلُ «يَسْمَعُ» ضميراً يعود على «ما» الموصولةِ، وهو المنعوقُ به. وقيل: المرادُ بالذين كفروا المتبوعون لا التابعون، والمعنى: مَثَلُ الذين كفروا في دعائِهم أتباعَهم، وكونِ أتباعِهم لا يحصُلُ لهم منهم إلا الخَيْبَةُ؛ كَمَثَلِ الناعِقِ بالغنم. فعلى هذه الأقوالِ كلِّها يكونُ «مثل» مبتدأً و «كمثلِ» خبرَه، وليس في الكلام حذفٌ إلا جهةُ التشبيهِ.
وعلى القولِ الثاني من الأقوالِ الأربعةِ المتقدمةِ فقيل: معناه: وَمَثَلُ الذين كفروا في دعائِهم إلى الله تعالى وَعَدَمِ سماعِهِم إياه كَمَثَلِ بهائِمِ الذي يَنْعِقُ، فهو على حذفِ قيدٍ في الأولِ وحَذْفِ مضافٍ في الثاني.
وقيل التقديرُ: وَمَثَلُ الذين كفروا في عَدَم فَهْمِهِم عن اللِّهِ ورسولِهِ كَمَثَلِ المنعوقِ به من البهائِمِ التي لا تَفْقَهُ من الأمرِ والنهي غيرَ الصوتِ، فيُرادُ بالذي يَنْعقُ الذي يُنْعَقُ به ويكونُ هذا من القلبُ، وقال قائلُ هذا: كما تقولون: «دَخَلَ
الخاتَمُ في يدي والخِفُّ في رِجْلِي» . وإلى هذا التفسير ذهب الفراءُ وأبو عبيدة وجماعةٌ، إلا أن القلبَ لا يقعُ على الصحيح إلا في ضرورةٍ أو ندورٍ.
وأمَّا على القولِ الثالثِ فتقديرُهُ: وَمَثَلُ داعي الذين كفروا كمثلِ الناعِقِ بغنمِهِ، في كونِ الكافرِ لا يَفْهَمُ مِمَّا يخاطِبُ به داعيه إلا دَوِيَّ الصوتِ دونَ إلقاء فكرٍ وذهنٍ، كما أنَّ البهيمَةَ كذلك، فالكلامُ على حَذْفِ مضافٍ من الأول. قال الزمشخري:«ويجوز أن يُرادَ ب» ما لا يَسْمَعُ «الأصَمُّ الأصلج الذي لا يَسْمَعُ من كلامِ الرافعِ صوتَه بكلامِهِ إلا النداءَ والصوتَ لا غيرُ من غير فَهْمٍ للحروفِ» وهذا منه جنوحٌ إلى جوازِ إطلاقِ «ما» على العقلاءِ، أو لَمَّا تَنَزَّل هذا منزلةَ مَنْ لا يَسْمَعُ مِنَ البهائِم أوقَعَ عليه «ما» .
وأمَّا على القولِ الرابعِ - وهو اختيار سيبويهِ في هذه الآية - وتقديرُه عندَه: «مَثَلُكَ يا مُحَمَّدُ ومثلُ الذين كفروا كمثلِ الناعقِ والمنعوقِ به» واختلفَ الناسُ في فَهْمِ كلامِ سيبويه، فقائلٌ: هو تفسير معنىً، وقيل: تفسيرُ إعرابٍ، فيكونُ في الكلامِ حَذْفَان: حَذْفٌ من الأولِ وهو حَذْفُ «داعيهم» وقد أثبتَ نظيره في الثاني، وحَذْفٌ من الثاني وهو حَذْفُ المنعوقِ، وقد أثبت نظيرَه في الأول، فشبَّه داعيَ الكفارِ براعي الغنم في مخاطبتِهِ مَنْ لا يَفْهَمُ عنه، وَشَبَّه الكفارَ بالغنَمِ في كونِهِم لا يسمعونَ مِمَّا دُعُوا إليه إلَاّ أصواتاً لا يَعْرفون ما وراءها. وفي هذا الوجْهِ حَذْفٌ كثيرٌ، إذ فيه حَذْفُ معطوفَيْنِ إذ التقديرُ
الصناعي: وَمَثَلُ الذين كفروا وداعيهم كَمَثَلِ الذي يَنْعِقُ بالمنعوقِ به. وقد ذَهَبَ إليه جماعةٌ منهم أبو بكر ابنُ طاهر، وابن خروف والشلوبين، قالوا: العربُ تستحسنُ هذا، وهو من بديعِ كلامِها، ومثلُه قولُه:{وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ} [النمل: 12] تقديرُهُ: وأَدْخِلْ يَدَكَ في جيبكَ تَدْخُلْ، وَأَخْرِجْهَا تَخْرُجْ، فَحذَف «تَدْخُلْ» لدلالة «تَخْرُجْ» وَحَذَفَ «وَأَخْرِجْهَا» لدلالةِ:«وَأَدْخِلْ» ، قالوا: ومثلُهُ قولُه:
812 -
وإني لَتَعْروني لذاكراكِ فَتْرَةٌ
…
كما انتَفَضَ العُصْفُورَ بَلَّلَهُ القَطْرُ
لم يُرِدْ أن يُشَبِّه فترَتَه بانتفاضِ العصفورِ حين بَلَّلهُ القَطْرُ لأنَّهما ضِدَّان، إذ هما حركةٌ وسكونٌ، ولكنَّ تقديرَه: إني إذا ذكرتُكِ عَراني انتفاضٌ ثم أفترُ، كما أنَّ العصفورَ إذا بلَّله القطرُ عراهُ فترةٌ ثم يَنْتَفِضُ، غيرَ أَنَّ وجيبَ قلبِهِ واضطرابَه قبل الفترة، وفترةَ العصفورِ قبل انتفاضه.
وهذه الأقوالُ كلُّها إنما هي على القولِ بتشبيهِ مفردٍ بمفردٍ ومقابلةِ جزءٍ من الكلام السابقِ بجزءٍ من الكلامِ المشبَّهِ به، أمَّا إذا كانَ التشبيهُ من بابِ تشبيهِ جملةٍ بجملةٍ فلا يُنْظَرُ في ذلك إلى مقابلةِ الألفاظِ المفردةِ، بل يُنْظَرُ إلى المعنى، وإلى هذا نَحَا أبو القاسم الراغبُ. قال الراغب: «فلما شَبَّه قصةَ
الكافرين في إعراضِهم عن الدَّاعي لهم إلى الحقِّ بقصةِ الناعقِ قدَّم ذكرَ الناعقِ لينبني عليه ما يكونُ منه ومن المنعوقِ به» .
والكاف ليست بزائدةً خلافاً لبعضهم؛ لأنَّ الصفةَ ليست عينَ الصفةِ الأخرى فلا بُدَّ من الكافِ، حتى إنه لو جاءَ الكلامُ دونَ الكافِ اعتقادنا وجودَها تقديراً تصحيحاً للمعنى.
وقد تلخَّصَ مِمَّا تقدَّم أنَّ «مثلُ الذين» مبتدأٌ، و «كمثل الذي» خبرُه: إمَّا مِنْ غيرِ اعتقادِ حذفٍ، أو على حَذْفِ مضافٍ من الأولِ، أي: مَثَلُ داعي الذينَ، أو من الثاني: أي: كمثلِ بهائِمِ الذي، أو على حَذْفَيْنِ: حَذَفَ من الأول ما أثبتَ نظيرَه في الثاني، ومِن الثاني ما أثبتَ نظيرَه في الأولِ كما تقدَّم تحريرُ ذلك كله. وهذا نهايةٌ القولِ في هذه الآيةِ الكريمةِ.
والنَّعِيقُ: دعاءُ الراعي وتصويتُهُ بالغنم، قال:
813 -
فانْعَقْ بضَأْنِك يا جريرُ فإنَّما
…
مَنَّتْكَ نفسُك في الخَلاءِ ضَلالا
يقال: نَعَقَ بفتح العين ينعقِ بكسرها، والمصدرُ: النَّعيقُ والنُّعاقُ والنَّعْقُ، وأمّا «نَعَقَ الغرابُ» فبالمعجمة، وقيل: بالمهملةِ أيضاً في الغرابِ وهو غريبٌ/.
قوله: {إِلَاّ دُعَآءً} هذا استثناءٌ مفرَّغٌ لأنَّ قبلَهُ «يَسْمَعُ» ولم يأخُذْ مفعولَه. وزعم بعضُهم أنَّ «إلَاّ» زائدةٌ، فليسَ من الاستثناء في شيء. وهذا قولٌ مردودٌ، وإن كان الأصمعيُّ قد قال بزيادةِ «إلَاّ» في قولِهِ:
814 -
حَراجِيجُ لا تَنْفَكُّ إلا مُنَاخَةً
…
على الخَسْفِ أو نَرْمِي بها بلدا قَفْرَا
فقد ردَّ الناسُ عليه، ولم يقبلوا قوله. وفي البيت كلامٌ تقدَّم.
وأوردَ بعضهم هنا سؤالاً معنوياً: وهو قولهُ: {لَا يَسْمَعُ إِلَاّ دُعَآءً وَنِدَآءً} ليس المسموعُ إلا الدعاءَ والنداءَ فكيف ذَمَّهم بأنهم لا يَسْمَعُون إلا الدعاء، وكأنَّه قيل: لا يَسْمَعُون إلا المسموعَ، وهذا لا يَجُوز؟ فالجوابُ أنَّ في الكلام إيجازاً، وإنما المعنى: لا تَفْهَمُ معانيَ ما يقال لهم، كما لا تُمَيِّز البهائِمُ بين معاني الألفاظِ التي يُصَوَّتُ بها، وإنما تَفْهَمُ شيئاً يسيراً قد أَدْرَكَتْه بطولِ الممارسةِ وكثرةِ المعاودةِ، فكأنه قيل: ليسَ لهم إلا سماعُ النداء دون إدراكِ المعاني والأغراضِ. وهذا السؤالُ من أصلِهِ ليس بشيءٍ، ولولا أنَّ الشيخَ ذكره لم أذكرْهُ.
وهنا سؤالٌ آخرُ: وهو هل هذا من بابِ التكرارِ لمَّا ختلفَ اللفظُ، فإنَّ الدعاءَ والنداءَ واحدةٌ؟ والجوابُ أنه ليس كذلك، فإنَّ الدعاءَ طلبُ الفعلِ والنداءَ إجابةُ الصوتِ. ذكر ذلك عليُّ بن عيسى.
قولُه تعالى: {كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ} : مفعولُ «كُلوا» محذوفٌ، أي: كُلوا رزقَكم. وفي «مِنْ» حينئذٍ وجهان، أحدُهما: أَنْ تكونَ لابتداءِ الغايةِ فتتعلَّقَ ب «كلوا» . والثاني: أَنْ تكونَ تبعيضيَّة فتتعلَّق بمحذوفٍ إذ هي حالٌ من ذلك المفعولِ المقدَّرِ، أي: كُلوا رزقَكم حالَ كونِهِ بعضَ طيباتِ ما رزقناكم. ويجوزُ في رأيِ الأخفش أن تكونَ «مِنْ» زائدةً في
المفعولِ به، أي: كلوا طيباتِ ما رزقناكم. و «إنْ كُنْتُمْ» شرطٌ وجوابُهُ محذوفٌ، أي: فاشكروا له. وقولُ مَنْ قال مِنَ الكوفيين إنَّها بمعنى «إذ» ضعيفٌ. و «إياه» مفعولٌ مقدَّمٌ ليُفيدَ الاختصاصَ، أو لكونِ عامِلِه رأسَ آيةٍ، وانفصالُهُ واجبٌ، ولأنه متى تأخَّر وَجَبَ اتِّصالُه إلا في ضرورةٍ كقولِهِ:
815 -
إليك حتى بَلَغَتْ إيَّا كا
…
وفي قولِهِ: {واشكروا للَّهِ} التفاتٌ من ضميرِ المتكلّم إلى الغَيْبَةِ، إذ لو جَرَى على الأسلوبِ الأولِ لقال:«واشكرونا» .
قوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة} : الجمهُور قرؤوا «حَرَّم» مشدَّد مبنياً للفاعِلِ، «الميتة» نصباً، على أنَّ «ما» كافةٌ مهيِّئَةٌ لإِنَّ في الدخولِ على هذه الجملَةِ الفعليةِ، وفاعلُ «حَرَّم» ضَمِيرُ اللَّهِ تعالى. و «الميتةَ» مفعولٌ به. وابنُ أبي عبلة برفع الميتة وما بعدَها. وتخريجُ هذه القراءةِ سهلٌ، وهو أن تكونَ «ما» موصولةً، و «حَرَّمَ» صلتها، والفاعلُ ضميرُ اللَّهِ تعالى، والعائدُ محذوفٌ لاستكمالِ الشروطِ، تقديرُهُ: حَرَّمه، والموصولُ وصلتُه في محلِّ نصبٍ اسمُ «إنَّ» و «الميتةُ» خبرُها.
وقرأ أبو جعفر: «حُرَّم» مبنياً للمفعولِ، فتحتملُ «ما» في هذه القراءةِ وجهين، أحدُهما: أن تكونَ «ما» مهيِّئَةً، و «الميتةُ» مفعولُ ما لم يُسَمَّ فاعلُه والثاني: أن تكون موصولةً، فمفعولُ «حَرَّمَ» القائم مقامَ الفاعلِ ضميرٌ مستكنٌ يعود على «ما» الموصولةِ، و «الميتةُ» خبرُ «إنَّ» .
وقرأ أبو عبدِ الرحمن السُّلَّمي: «حَرُمَ» بضمِّ الراء مخففةً، و «الميتةُ» رفعاً «و» ما «تحتملُ الوجهين أيضاً، فتكونُ مهيئةً، و» الميتةُ «فاعلٌ بحَرُم، أو موصولةً، والفاعلُ ضميرٌ يعودُ على» ما «، وهي اسمُ» إنَّ «، و» الميتةُ «خبرُها.
والجمهورُ على تخفيفِ» المَيْتَة «في جميع القرآنِ، وأبو جَعْفَرٍ بالتشديدِ وهو الأصل، وهذا كما تقدَّم في أنَّ» المَيْت «مخفَّفٌ من» الميِّت «وأن أصلَه: مَيْوِت، وهما لغتان، وسيأتي تحقيقُ ذلك عند قولِهِ {وَتُخْرِجُ الحي مِنَ الميت} [الآية: 27] في آلِ عمران. ويُحْكَى عن قدماءِ النحاة أن» المَيْت «بالتخفيف مَنْ فارقَتْ روحُهُ جسدَه، وبالتشديد مَنْ عايَنَ أسبابَ الموتِ ولم يَمُتْ. وحكى ابنُ عطية عن أبي حاتم أنَّ ما قد ماتَ يُقالان فيه، وما لم يَمُتْ بعدُ لا يقال فيه بالتخفيفِ، ثم قال:» ولم يَقْرَأ أحدٌ بتخفيفِ ما لم يَمُتْ إلا ما رَوَى البزي عن ابنِ كثير: {وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} [إبراهيم: 17] . وأمَّا قولُه:
816 -
إذا ما ماتَ مَيْتٌ من تميمٍ
…
فَسَرَّكَ أن يعيشَ فَجِىءْ بِزادِ
[فقد حُمِل على مَنْ شارَفَ الموتَ، وحَمْلُه على الميتِ حقيقةً أبلغُ في الهجاء] .
وأصل «مَيِّتة» : مَيْوِتَة، فَأُعِلَّتْ بقَلْبِ الواوِ ياءً وإدغامِ الياءِ فيها، وقال الكوفيون: أصلُه: مَوِيت، ووزنُه فَعيل.
واللحمُ معروفٌ، وجمعه لُحوم ولُحْمان، يُقال: لَحُمَ الرجلُ بالضم لحامةً فهو لَحِيم، أي: غَلُظَ، ولَحِمَ بالكسر يَلْحَم بالفتح فهو لَحِم: اشتاق إلى اللَّحْم وألحمَ الناسُ فهو لاحِمٌ، أي: أَطعَمَهم اللحمَ، وأَلْحَمَ كثُر عنده اللحمُ.
والخنزير حيوانٌ معروفٌ، وفي نونِه قولانِ؛ أصحُّهما أنَّها أصليةٌ ووزنُه فِعْليل كغِرْبيب. والثاني: أنها زائدةٌ اشتقُّوه من خَزَر العَيْنِ أي: ضيقها لأنه كذلك يَنْظُر. وقيل: الخَزَرُ النظرُ بمؤخَّرِ العَيْنِ، يقال: هو أَخْزَرُ بيِّنُ الخَزَرِ.
قوله: {وَمَآ أُهِلَّ بِهِ} «ما» موصولةٌ بمعنى الذي، ومَحَلُّهما: إمَّا النصبُ وإمَّا لرفعُ عطفاً على «الميِّتة» ، والرفعُ: إمَّا على خبر إنَّ، وإمَّا على الفاعلية على حَسَبِ ما تقدَّم من القراءاتِ. و «أُهِلَّ» مبنيٌّ للمفعول، والقائمُ مقامَ الفاعلِ هو الجارُّ والمجرورُ في «به» ، والضميرُ يعودُ على «ما» ، والباءُ بمعنى «في» . ولا بُدَّ من حَذْفِ مضافٍ أي: في ذَبْحِه، لأنَّ المعنى وما صَحَّ في ذَبْحِه لغَيْرِ اللهِ. والإِهلالُ: مصدرُ أَهَلَّ أي: صَرَخَ ورفَع صوتَه ومنه: الهِلال لأنه يُصرَخُ عند رؤيتِه، واستهَلَّ الصبيُّ. قال ابن أحمر:
817 -
يُهِلُّ بالغَرْقَدِ رُكْبَانُها
…
كما يُهِلُّ الراكبُ المُعْتَمِرُ
قال النابغة:
818 -
أو دُرَّةٌ صَدَفِيَّةٌ غَوَّاصُها
…
بَهِجٌ متى يَرَها يَهِلُّ ويَسْجُدُ
وقال:
819 -
تَضْحَكُ الضَّبْعُ لقتلى هُذَيْلٍ
…
وترى الذئبَ لها يَسْتَهِلُّ
قوله: {فَمَنِ اضطر} في «مَنْ» وجهان، أحدُهما: أن تكونَ شرطيةً. والثاني: أن تكونَ موصولةً بمعنى الذي، فعلى الأولِ يكونُ «اضطُرَّ» في محلِّ جَزْم بها.
وقوله: {فلا إِثْمَ} جوابُ الشرطِ، والفاءُ فيه لازمةٌ. وعلى الثاني لا محلَّ لقولِه:«اضطُّرَّ» من الإِعرابِ لوقوعهِ صلةً، ودخَلَتِ الفاءُ في الخبرِ تشبيهاً للموصولِ بالشرطِ. ومحلُّ {فلا إِثْمَ عَلَيْهِ} الجزمُ على الأولِ والرفعُ على الثاني.
والجمهورُ على «اضْطُرَّ» بضمِّ الطاءِ وهي أصلُها، وقرأ أبو جعفر بكسرها لأنَّ الأصل:«اضْطُرِرَ» بكسرِ الراءِ الأولى، فلمّا أُدْغِمَتِ الراءُ في الراءِ نُقِلَت حركتُها إلى الطاءِ بعد سَلْبِها حَرَكَتَها. وقرأ ابن محيصن:«اطُّرَّ» بإدغام الضادِ في الطاء. وقد تقدَّم الكلامُ في هذه المسألةِ بأشبعَ مِنْ هذا عند قولِه: {ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إلى عَذَابِ النار} [البقرة: 126] .
وقرأ أبو عمرو وعاصمٌ وحمزةٌ بكسرِ نون «مَنْ» على أصلِ التقاءِ
الساكنين، وضَمَّها الباقون إتباعاً لضمِّ الثالث. وليس هذا الخلافُ مقصوراً على هذه الكلمةِ، بل إذا التقى ساكنان من كلمتين، وضُمَّ الثالثُ ضَمَّاً لازماً نحو:{وَلَقَدِ استهزىء} [الأنعام: 10]{قُلِ ادعوا} [الإسراء: 110] قالتِ اخْرُجْ جرى الخلافُ المذكورُ. إلَاّ أنَّ أبا عمروٍ خرجَ عن أصلِه في {أو} [المزمل: 3] و {قل} [110: الإسراء] فضمَّهما، وابنَ ذكوان خرجَ عن أصلِه فكسر التنوين خاصة نحو:{مَحْظُوراً انظر} [20-21: الإسراء]، واختُلف عنه في:{بِرَحْمَةٍ ادخلوا} [الأعراف: 49]، واختُلف عنه في:{خَبِيثَةٍ اجتثت} [إبراهيم: 26] ، وسيأتي بيان الحكمةِ في ذلك عند ذكره إنْ شاء الله تعالى.
قوله: {غَيْرَ بَاغٍ} نصبٌ على الحالِ، واختُلِفَ في صاحبها، فالظاهر أنه هو الضميرُ المستتر في «اضطُرَّ» ، وجَعَلَه القاضي وأبو بكر الرازي من فاعل فعلٍ محذوفٍ بعد قولِه:«اضطُرَّ» ، قالا: تقديرُه: فمَنْ اضطُرَّ فأكلَ غيرَ باغ، كأنهما قصدا بذلك أن يَجْعلاه قيداً في الأكلِ لا في الاضطرارِ.
قال الشيخ «ولا يتعيَّن ما قالاه، إذا يُحْتَملُ أَنْ يكونَ هذا المقدَّرُ بعد قولِه: {غَيْرَ
بِاغٍ وَلَا عَادٍ} بل هو الظاهرُ والأَولى، لأنَّ في تقديره قبل» غيرَ باغ «فصلاً بين ما ظاهرُه الاتصالُ بما بعده، وليس ذلك في تقديره بعد قوله:» غيرَ باغ «.
و» عادٍ «اسمُ فاعلٍ من عدا يَعْدُو إذا تجاوزَ حَدَّه، والأصلُ: عادِوٌ، فَقُلبت الواوُ ياءٌ لانكسارِ ما قبلها كغازٍ من الغَزْو. وهذا هو الصحيحُ، وفيه قولٌ ثانٍ: أنه مقلوبٌ من عادَ يعودُ فهو عائدٌ، فَقُدِّمَتِ اللامُ على العينِ فصارِ اللفظُ: عادِو، فأُعِلَّ بما تقدَّم، ووزنُه: فالِع، كقولهم: شاكٍ في شائِك من الشوكة، وهارٍ والأصل هائر، لأنه من هار يَهُور، قال أبو البقاء:» ولو جاء في غيرِ القرآن منصوباً عطفاً على موضعِ «غير» جاز «يعني فكان يقال: ولا عادياً.
وقد اختلف القُرَّاء في حركةِ التقاء الساكنين مِنْ نحو: {فَمَنِ اضْطُرَّ} ، وبابِِِِه فأبو عمرو وحمزة وعاصم على كسرِ الأولِ منهما، والباقون على الضم إلا ما يُسْتثنى لبعضهم. وضابطُ محلِّ اختلافهم: كلُّ ساكنين التقيا من كلمتين ثالثُ ثانيهما مضمومٌ ضمةً لازمةً، نحو:» فَمَنِ اضطُرَّ « {فَمَنِ اضطُرَّ} {أَوِ انقص مِنْهُ قَلِيلاً} [المزمل: 3]{وَقَالَتِ اخرج عَلَيْهِنَّ} [يوسف: 31]{قُلِ ادعوا الله} [الإسراء: 110]{أَنِ اعبدوا} [المائدة: 117] {وَلَقَدِ
استهزىء} [الأنعام: 10] » محظوراً انظر «: وفُهِم من قولي» كلمتين «الاحترازُ من أن يُفْصَلَ بينهما بكلمةٍ أخرى نحو: {إِنِ الحكم} [الأنعام: 57] فإنَّ هذا وإنْ صَدَقَ عليه أنَّ الثالثَ مضمومٌ ضماً لازماً؛ إلا أنه قد فُصِلَ بينهما بكلمةٍ أخرى وهي أل المعرفة. ومِنْ قولي:» ضمةً لازمةً «الاحترازُ من نحو: {أَنِ امشوا} [ص: 26] فإنَّ الشين أصلُها الكسرُ، فَمَنْ كَسَرَ فعلى أصلِ التقاءِ الساكنين، ومَنْ ضَمَّ فللإِتباع.
واسْتُثْنِي لأبي عمروٍ موضعان فضمَّهما: وهما:» قُل ادْعُوا «» أو انْقُصْ منه «، واسْتُثْنِي لابن ذكوان عن ابن عامر التنوينُ فكسره نحو:» محظوراً نظر «، واختلف عنه في لفظتين:{خَبِيثَةٍ اجتثت} [إبراهيم: 26]{بِرَحْمَةٍ ادخلوا الجنة} [الأعراف: 49] / والمقصودُ بذلك الجمعُ بين اللغتين.
قوله تعالى: {مِنَ الكتاب} : في محلِّ نصبٍ على الحالِ، وفي صاحبِها وجهان، أحدُهما: أنه العائدُ على الموصولِ، تقديرُه: أنزله اللهُ حالَ كونِه من الكتابِ، فالعاملُ فيه «أَنْزَلَ» ، والثاني: أنه الموصولُ نفسه، فالعاملُ في الحالِ «يكتمون» .
قوله: {وَيَشْتَرُونَ بِهِ} الضميرُ في «به» يُحْتَمَلُ أن يعودَ على «ما» الموصولةِ، وأَنْ يعودَ على الكَتْمِ المفهومِ من قولِه:«يكتمون» وأَنْ يعودَ على الكتابِ، أظهرها أوَّلُها، ويكونُ ذلك على حَذْفِ مضافٍ، أي: يشترون بكَتْمِ ما أَنْزل.
قوله: {إِلَاّ النار} استثناءٌ مفرغٌ؛ لأن قبلَه عاملاً يَطلُبه، وهذا من مجاز الكلام، جَعَل ما هو سببٌ للنار كقولِهم:«أكل فلانٌ الدمَ» يريدون الدِّية التي بسببها الدمُ، قال:
820 -
فلو أَنَّ حَيَّاً يقبلُ المالَ فِدْيةً
…
لَسُقْنا إليه المالَ كالسيلِ مُفْعَما
ولكنْ أبى قومٌ أُصيب أخوهمُ
…
رِضا العارِ واختاروا على اللبنِ الدِّما
وقال:
821 -
أَكَلْتُ دماً إنْ لم أَرْعُكِ بِضَرَّةٍ
…
بعيدةِ مَهْوى القِرْطِ طَيِّبَةِ النَّشْرِ
وقال:
822 -
يَأْكُلْن كَلَّ ليلةٍ إكافا
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
يريد: ثمن إكاف.
وقوله: {فِي بُطُونِهِمْ} يجوزُ فيه ثلاثةُ أوجه، أظهرُها: أَنْ يتعلَّقَ بقولِه: «يأكلون» فهو ظرفٌ له. قال أبو البقاء: «وفيه حَذْفُ مضافٍ أي طريق بطونهم، ولا حاجةَ إلى ما قاله من التقدير. والثاني: أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على
أنه حالٌ من النارِ. قال أبو البقاء:» والأجْوَدُ أن تكونَ الحالُ هنا مقدرةً لأنها وقتَ الأكلِ ليسَتْ في بطونِهم، وإنما تَؤُولُ إلى ذلك، والتقدير، ثابتةً أو كائنةً في بطونهم قال:«وَيَلْزَمُ من هذا تقديمُ الحالِ على حرف الاستثناءِ وهو ضعيفٌ، إلا أن يُجْعَلَ المفعولُ محذوفاً، و» في بطونِهم «حالاً من أو صفةً له، أي: في بطونهم شيئاً يعني فيكونُ» إلا النار «منصوباً على الاستثناءِ التام، لأنه مستثنى من ذلك المحذوفِ. إلا أنه قال بعد ذلك» وهذا الكلامُ في المعنى على المجازِ، وللإِعرابِ حكمُ اللفظ. والثالثُ: أن يكونَ صفةً أو حالاً من مفعول «كُلوا» محذوفاً كما تقدَّم تقريرُه.
قوله تعالى: {فَمَآ أَصْبَرَهُمْ} : في «ما» هذه خمسةُ أقوالٍ، أحدها: - وهو قولُ سيبويه والجمهور - أنها نكرةٌ تامةٌ غيرُ موصولةٍ ولا موصوفةٍ، وأنَّ معناها التعجب، فإذا قلت: ما أحسنَ زيداً، فمعناه: شيءٌ صَيَّر زيداً حسناً. والثاني: - وإليه ذهب الفراء - أنَّها استفهاميةٌ صَحِبها معنى التعجب، نحو:{كَيْفَ تَكْفُرُونَ} [البقرة: 28] . والثالث: - ويُعْزَى للأخفش - أنها موصولةٌ. والرابعُ: - ويُعْزَى له أيضاً - أنها نكرةٌ موصوفةٌ. وهي على الأقوالِ الأربعةِ في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ، وخبرُها على القولين الأوَّلين الجملةُ الفعليةُ بعدها، وعلى قولَيْ الأخفش يكون الخبرُ محذوفاً، فإنَّ الجملةَ بعدها إمَّا صلةٌ أو صفةٌ. وكذلك اختلفوا في «أَفْعل» الواقع بعدَها أهو اسمٌ - وهو قولُ الكوفيين - أم فعلٌ؟ وهو الصحيحُ. ويترتبُ على هذا الخلافِ خلافٌ في
نَصْبِ الاسمِ بعدَه: هل هو مفعولٌ به أو مُشَبَّهٌ بالمفعولِ به. ولهذا المذاهبِ دلائلُ واعتراضاتُ وأجوبةٌ ليس هذا موضوعَها.
والمرادُ بالتعجبِ هنا وفي سائرِ القرآنِ الإِعلامُ بحالهم أنها ينبغي أن يُتَعجَّب منها، وإلا فالتعجُّبُ مستحيلٌ في حَقِّه تعالى. ومعنى «على النار» [أي] على عَمَل أهلِ النارِ، وهذا من مجازِ الكلام.
الخامس: أنَّها نافيةٌ، أي: فما أصبرَهم اللهُ على النار، نقله أبو البقاء وليس بشيءٍ.
قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ الله} : اختلفوا في محلِّ «ذلك من الإِعراب. فقيل: رفعٌ، وقيل: نصبٌ. والقائلون بأنه رفعٌ اختلفوا على ثلاثةِ أقوال، أحدُهما: أنه فاعلٌ بفعل محذوفٍ، أي: وَجَبَ لهم ذلك. والثاني: أنَّ» ذلك «مبتدأٌ، و» بأنَّ الله «خبرُه، أي: ذلك العذابُ مستحقٌّ بما أَنْزَل اللهُ في القرآنِ من استحقاقِ عذابِ الكافر. والثالث: أنه خبرُ والمبتدأ محذوفٌ، أي الأمرُ ذلك، والإِشارةُ إلى العذابِ، ومَنْ قاله بأنه نصبٌ قدَّره. فَعَلْنا ذلك، والباءُ متعلقةٌ بذلك المحذوفِ ومعناها السببيةٌ.
قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ الله} : قرأ الجمهور برفع «البر» ، وحمزة وحَفْص عن عاصم بنصبه. فقراءةٌ الجمهور على أنه اسمُ «ليس» ، و «أن تُوَلُّوا» خبرها في تأويلِ مصدرٍ، أي: ليس البرُّ توليتكم. ورُجِّحَتْ هذه القراءةُ من حيث إنه ولي الفعلُ مرفوعَه قبل منصوبِه. وأمّا قراءةُ حمزةَ وحفص فالبرَّ خبرٌ مقدَّمٌ، و «أن تُوَلُّوا» اسمها في تأويلِ مصدرٍ. ورُجِّحَتْ هذه القراءةُ بأنّ المصدر المؤولَ أَعْرَفُ من المُحَلّى بالألفِ واللام،
لأنه يُشْبِهُ الضميرَ من حيث إنه لا يُوصَف ولا يُوْصَفُ به، والأعرافُ ينبغي أن يُجْعَلَ الاسمَ، وغيرُ الاعرفِ الخبرَ. وتقديمُ خبرِ ليس على اسمِها قليلٌ حتى زَعَم مَنْعَه جماعةٌ، منهم ابن دَرَسْتَوَيْه قال: لأنها تُشْبه «ما» الحجازية، ولأنها حرفٌ على قولِ جماعةٍ، ولكنه محجوجٌ بهذه القراءة المتواترةٍ وبقول الشاعر:
823 -
سَلِي إْن جَهِلْتِ الناسَ عَنَّا وعنهم
…
وليس سواءً عالِمٌ وجَهُولُ
وقال آخر:
824 -
أليسَ عظيماً أَنْ تُلِمَّ مُلِمَّةٌ
…
وليس علينا في الخُطوبِ مُعَوَّلُ
وفي مصحفِ أُبَيّ وعبد الله: «بأن تُوَلُّوا» بزيادةِ الباءِ وهي واضحةٌ، فإنَّ الباءَ تُزاد في خبرِ «ليس» كثيراً.
وقوله: {قِبَلَ} منصوبٌ على الظرفِ المكاني بقوله «تُوَلُّوا» ، وحقيقةُ قولك:«زيدٌ قِبَلك» : أي في المكانِ الذي قبلك فيه، وقد يُتَسَّع فيه فيكونُ بمعنى «عند» نحو:«قِبَل زيدٍ دَيْنٌ» أي: عندَه دَيْنٌ.
قوله: {ولكن البر مَنْ آمَنَ} في هذهِ الآيةِ خمسةُ أوجهٍ، أحدُها: أنَّ «البِرَّ» اسمُ فاعلٍ من بَرَّ يَبَرُّ فهو بِرٌّ، والأصلُ: بَرِرٌ بكسرِ الراءِ الأولى بزنة «فَطِن» ، فلما أُريد الإِدغام نُقِلَتْ كسرةُ الراءِ إلى الباءِ بعد سَلْبِها حركتَها،
فعلى هذه القراءةِ لا يَحتاج الكلامُ إلى حَذْفٍ وتأويلٍ لأنَّ البِرَّ من صفاتِ الأعيان، كأنه قيل: ولكن الشخصَ البِرِّ مَنْ آمن. الثاني: أنَّ في الكلامِ حذفَ مضافٍ من الأولِ تقديرُه: «ولكنَّ ذا البِرَّ مَنْ آمن» . الثالث: أن يكونَ الحذفُ من الثاني، أي: ولكن البِرَّ بِرُّ مَنْ آمن، وهذا تخريجُ سيبويه واختيارُه، وإنما اختارَه لأنَّ السابق إنما هو نفيُ كونِ البر هو تَوْلِيَةُ الوجهِ قِبَل المشرقِ والمغربِ، فالذي يُسْتَدْرك إنما هو من جنس ما يُنْفَى، ونظيرُ ذلك:«ليس الكرمُ أن تَبْذُلَ درهماً ولكن الكرمَ بَذْلُ الآلاف» ولا يناسِبُ «ولكن الكريم مَنْ يبذُلُ الآلاف» . الرابع: أن يُطْلَقَ المصدرُ على الشخصِ مبالغةً نحو: «رجلٌ عَدْلٌ» . ويُحكى عن المبردِ: «لو كنتُ مِمَّن يقرأُ لقرأتُ:» ولكنَّ البَرَّ «بفتح الباء وإنما قال ذلك لأن» البَرَّ «اسم فاعل تقول: بَرَّ يبَرُّ فهو بارٌّ وبَرٌّ، فتارةً تأتي به على فاعِل وتارة على فَعِل.
الخامس: أن المصدرَ وقع مَوْقِع اسمِ الفاعلِ نحو: «رجل عَدْل» أي عادل، كما قد يَقَعُ اسمُ الفاعلِ موقعه نحو:«أقائماً وقد قعد الناس» في قولٍ، وهذا رأيُ الكوفيين.
والأَوْلَى فيه ادِّعاءُ أنه محذوفٌ من فاعل، وأن أصلَه بارٌّ، فجُعل «بِرَّاً» ك «سِرّ» ، وأصلُه: سارٌّ، وربٌّ أصله رابٌّ. وقد تقدَّم ذلك.
وجَعَلَ الفراء «مَنْ آمَنَ» واقعاً موقِعَ «الإِيمان» فأوقَعَ اسمَ الشخصِ على المعنى كعكسه، كأنه قال:«ولكنَّ البِرَّ الإِيمانُ بالله» . قال: «والعربُ تَجْعَلُ الاسمُ خبراً للفعلِ وأنشد:
825 -
لَعَمْرُك ما الفتيانُ أن تَنْبُت اللِّحى
…
ولكنما الفتيانُ كلُّ فتىً نَدِي
جَعَلَ نباتَ اللحيةِ خبراً للفتيانِ، والمعنى: لَعَمْرُكَ ما الفتوةُ أَنْ تَنْبُتَ اللِّحى.
وقرأ نافع وابن عامر:» ولكنْ البِرُّ «هنا وفيما بعد بتخفيف لكن، وبرفع» البرُّ «، والباقون بالتشديد ولنصب، وهما واضحتان ممَّا تقدَّم في قولِه: {ولكن الشياطين كَفَرُواْ} [البقرة: 102] ، وقرىء:» ولكنَّ البارَّ «بالألف وهي تقوِّي أنَّ» البِرَّ «بالكسرِ المرادُ به اسمُ الفاعلِ لا المصدرُ.
وَوَحَّد» الكتابَ «لفظاً والمرادُ به الجمعُ، وحَسَّن ذلك كونُه مصدراً في الأصلِ، أو أرادَ به الجنسَ، أو أراد به القرآنَ، فإنَّ مَنْ آمنَ به فقد آمَنَ بكلِّ الكتبِ فإنَّه شاهدٌ لها بالصحةِ.
قوله: {على حُبِّهِ} في محلِّ نصبٍ على الحالِ، العاملُ في» آتى «، أي: آتى المالَ حالَ محبَّتِه له واختياره إياه. والحبُّ مصدرٌ حَبَبْتُ لغةً في أحببت كما تقدَّم، ويجوزُ أن يكونَ مصدرَ الراعي على حَذْف الزوائد، ويجوز أن يكونَ اسمَ مصدرٍ وهو الإِحباب كقوله:{أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً} [نوح: 17] .
والضميرُ المضافُ إليه هذا المصدرُ فيه أربعةُ أقوالٍ. أظهرُها: أنه يعودُ على المالِ لأنه أبلغُ من غيرِه كما ستقف عليه. الثاني: أنه يعودُ على الإِيتاء المفهومِ من قوله:» آتى «أي: على حُبِّ الإِيتاء، وهذا بعيدٌ من حيث
المعنى. أمّا من حيث اللفظُ. فإنَّ عَوْدَ الضميِر على غيرِ مذكورٍ بل مدلولٌ عليه بشيءٍ خلافُ الأصل. وأما من حيث المعنى فإن المدح لا يَحْسُنُ على فعل شيء يحبه الإِنسان لأنَّ هواه يساعده على ذلك وقال زهير:
826 -
تَراهُ إذا ما جِئتَه مُتَهَلِّلاً
…
كأنَّك تُعْطيه الذي أنت سائلُهُ
والثالث: أن يعودَ على الله تعالى، وعلى هذه الأقوالِ الثلاثةِ يكون المصدرُ مضافاً للمفعولِ، وعلى هذا فالظاهِرُ أَنَّ فاعلَ هذا المصدرِ هو ضميرُ/ المُؤتي. وقيل: هو ضمير المؤتَوْن. أي: حُبِّهم له واحتياجِهِم إليه، وليس بذاك.
و «ذي القربى» على هذه الأقوالِ الثلاثةِ منصوبٌ بآتى فقط، لا بالمصدرِ لأنه قد استوفى مفعولَه. الرابع: أن يعودَ على «مَنْ آمن» ، وهو المُؤْتِي للمال، فيكون المصدرُ على هذا مضافاً للفاعِلِ، وعلى هذا فمفعولُ هذا المصدرِ يُحْتمل أن يكونَ محذوفاً، أي:«حُبِّه المال» ، وأن يكونَ «ذوي القربى» ، إلا أنه لا يكونُ فيه تلك المبالغَةُ التي فيما قبله.
قال ابن عطية: «ويجيء قولُه:» على حُبِّه «اعتراضاً بليغاً في أثناء القولِ» . قال الشيخ: «فإن أراد بالاعتراضِ المصطلحَ عليه فليس بجيد، فإن ذلك من خصوصياتِ الجملة التي لا مَحَلَّ لها، وهذا مفردٌ وله محلٌّ، وإن أراد به الفصلَ بالحال بين المفعولين، وهما» المال «و» ذوي «فَيَصِحُّ إلا أنه فيه إلباسٌ» .
قوله: {ذَوِي} فيه وجهان، أحدُهما - وهو الظاهر - أنه مفعولُ بآتى، وهل هو الأولُ و «المالَ» هو الثاني - كما هو قول الجمهور - وقُدِّم للاهتمام، أو هو الثاني فلا تقديمَ ولا تأخير كما هو قول السهيلي؟ والثاني: أنه منصوبٌ ب «حُبِّه» على أنَّ الضميرَ يعودُ على «مَنْ آمن» كما تقدَّم.
قوله: {واليتامى} ظاهرُهُ أنه منصوبٌ عطفاً على «ذوي» . وقال بعضُهم: «هو عطفٌ على» القُرْبى «، أي: آتى ذوي اليتامى، أي: أولياءَهم، لأن الإِيتاءَ إلى اليتامى لا يَصِحُّ» ولا حاجةَ إلى هذا فإن الإِيتاء يَصْدُق وإن لم يباشر مَنْ يؤتيه بالإِيتاء، يقال:«أتيتُ السلطانُ الخراجَ» وإنما أعطيتُ أعوانَهُ.
و «ابن السبيل» اسمُ جنسٍ أو واحدٌ أُريد [به] الجمعُ، وسُمِّي ابنُ السبيلِ - لملازمتِهِ إياها في السفرِ، أو لأنَّه تُبْرِزُهُ فكأنها وَلَدَتْهُ.
قوله: {وَفِي الرقاب} متعلِّقٌ بآتى. وفيه وجهان، أحدُهما: أن يكونَ ضَمَّنَ «آتى» معنى فِعْلٍ يتعدَّى لواحدٍ، كأنه قال: وَضَع المالَ في الرقاب. والثاني: أن يكونَ مفعولُ «آتى» الثاني محذوفاً، أي: آتى المالَ أصحابَ الرقاب في فكِّها أو تخليصِها، فإنَّ المرادَ بهم المكاتَبون أو الأُسارى أو الأرِقَّاءُ يُشْتَرُوْن فيُعْتَقُون. وكلُّ هذه أقوالٌ قيل بها.
قوله: {وَأَقَامَ الصلاة} عَطْفٌ على صلةِ «مَنْ» وهي: آمن وآتى، وإنما قَدَّم الإِيمانَ لأنه رأسُ الأعمالِ الدينيةِ، وثَنَّى بإيتاء المالِ لأنه أَجِلُّ شيء عند العرب وبه يَتَمَدَّحُون ويفتخرون بفكِّ العاني وقِرى الضِّيفان، يَنْطِقُ بذلك نظمُهم ونثرُهم.
قوله: {والموفون} في رفعه ثلاثةُ أوجه، أحدُها: - ولم يذكر الزمخشري غيرَه - أنه عطفٌ على «مَنْ آمن» ، أي: ولكنَّ البِرَّ المؤمنون
والموفون. والثاني: أن يَرْتفعَ على خبرِ مبتدأٍ محذوفٍ، أي: هم المُوفون. وعلى هذينِ الوجهين فنصْبُ «الصابرين» على المدحِ بإضمارِ فعلٍ، وهو في المعنى عَطْفٌ على «مَنْ آمن» ، ولكنْ لَمَّا تكرَّرت الصفاتُ خُولف بين وجوه الإِعرابِ.
قال الفارسي: «وهو أبلغُ لأنَّ الكلامَ يَصِيرُ على جملٍ متعددةٍ، بخلافِ اتفاق الإِعراب فإنه يكونُ جملةً واحدةً، وليس فيها من المبالغةِ ما في الجملِ المتعددةِ.
فإن قيل: لِمَ لا يجوزُ على هذين الوجهين أن يكونَ معطوفاً على» ذوي القربى «أي: وآتى المالَ الصابرين؟ قيل: لئلَاّ يلزمَ من ذلك محذورٌ وهو الفصلُ بين المعطوفِ والمعطوفِ عليه الذي هو في حكمِ الصلة بأجنبي وهو الموفون. والثالث: أن يكونَ» الموفون «عطفاً على الضمير المستتر في» آمَنَ «، ولم يُحْتَجْ إلى التأكيدِ بالضميِر المرفوعِ المنفصلِ لأنَّ طولَ الكلامِ أغنى عن ذلك. وعلى هذا الوجهِ يجوزُ في» الصابرين «وجهان، أحدُهما: النصبُ بإضمارِ فعلٍ كما تقدَّم، والثاني: العطفُ على» ذوي القربى «، ولا يَمْنَعُ من ذلك ما تقدَّم من الفصلِ بالأجنبي، لأنَّ الموفين على هذا الوجه داخلٌ في الصلةِ فهو بعضُها لا أجنبيٌّ منها.
وقوله: {إِذَا عَاهَدُواْ} » إذا «منصوبٌ بالموفُون، أي: الموفون وقتَ العهدِ من غيرِ تأخيرِ الوفاءِ عن وقتِهِ.
وقرأ الحسنُ والأعمشُ ويعقوبُ:» والصابرون «، وحكى الزمخشري قراءَة:» والموفين «و» الصابرين «.
قال الراغب: وإنما لم يَقُلْ:» وأوفى «كما قال» وأقام «لأمرين، أحدُهما: اللفظُ، وهو أنَّ الصلةَ متى طالت كان الأحسنُ أن تُعْطَفَ على الموصولِ دون الصلة لئلا تطولَ وَتَقْبُحَ. والثاني: أنه ذكر في الأولِ ما هو داخلٌ في حَيِّز الشريعةِ وغيرُ مستفادٍ إلَاّ منها، والحكمةُ العقليةُ تقتضي العدالةَ دون الجَوْر، ولمَّا ذكرَ وفاءَ العهدِ وهو مِمَّا تقضي به العُقولُ المجردةُ صار عطفُهُ على الأولِ أحسنَ، ولَمَّا كان الصبرُ من وجهٍ مبدَأَ الفضائِلِ ومن وجهٍ جامعاً للفضائلِ إذ لا فضيلَةَ إلا وللصبرِ فيها أثرٌ بليغٌ غَيَّر إعرابَهُ على هذا المَقْصِد» وهذا كلامٌ حَسَنٌ طائِلٌ.
و «حين البأسِ» منصوبٌ بالصابرين، أي: الذين صَبَروا وقتَ الشدةِ.
والبأساءُ والضراءُ فيهما قولان، أحدُهما: - وهو المشهورُ - أنهما اسمان مشتقان من البُؤْس والضُرّ، وألفُهما للتأنيث، والثاني: أنهما وَصْفان قائمانِ مقام موصوف. والبؤس والبأساء: الفقر، يقال: بَئِس يَبْأَس إذا افتقر. قال الشاعر:
827 -
ولم يَكُ في بُؤْسٍ إذا بات ليلةً
…
يناغي غَزالاً ساجيَ الطَّرْفِ أَكْحَلَا
وأما البأسُ فشدةُ القتالِ خاصةً، بَؤُسَ الرجلُ أي: شَجُع.
قوله: {أولئك الذين صَدَقُوا} مبتدأٌ وخبرٌ، وأتى بخبر «أولئك» الأولى موصولاً بصلةٍ وهي فعلٌ ماضٍ لتحقُّقِ اتِّصافهم به، وأنَّ ذلك قد وَقَع منهم واستقرَّ، وأتى بخبرِ الثانيةِ بموصولٍ صلتُه اسمُ فاعل ليدلَّ على الثبوت، وأنه ليس متجدِّداً بل صار كالسَّجِيَّةِ لهم، وأيضاً فلو أتى به فعلاً ماضياً لَمَا حَسُنَ وقوعُه فاصلةً.
قوله تعالى: {القصاص فِي القتلى} : أي: بسببِ القتلى، و «في» تكون للسببية كقوله عليه السلام:«إنَّ امرأة دخلت النارَ في هرة» أي: بسببها. و «فَعْلَى» يَطَّرد أن يكون جمعاً لفَعِيل بمعنى مفعول وقد تقدَّم شيءٌ من هذا عند قولِه: {وَإِن يَأتُوكُمْ أسارى} [البقرة: 85] .
قوله: {الحر بِالْحُرِّ} مبتدأٌ وخبرٌ، والتقديرُ: الحُرُّ مأخوذٌ بالحُرِّ، أو مقتولٌ بالحُرِّ، فَتُقَدِّر كوناً خاصاً حُذِفَ لدلالةِ الكلامِ عليه، فإن الباءَ فيه للسبب، ولا يجوزُ أن تقدِّره كوناً مطلقاً، إذ لا فائدةَ فيه لو قلت: الحُرَّ كائنٌ بالحر، إلا أنْ تُقَدِّر مضافاً، أي: قتلُ الحرِّ كائنٌ بالحر. وأجاز الشيخ أن يكونَ «الحُرُّ» مرفوعاً بفعلٍ محذوفٍ تقديرُه: يُقْتَلُ الحُرُّ بالحر، يَدُلُّ عليه قولُه:{القصاص فِي القتلى} فإنَّ القِصاصَ يُشْعِرُ بهذا الفعلِ المقدِّر، وفيه بَعْدٌ.
والقِصاص مصدرُ قاصَّهُ يُقاصُّه قِصاصاً ومُقَاصَّةً، نحو: قاتَلْتُهُ قِتالاً ومُقَاتَلَةً، وأصلُهُ من قَصَصْتُ الشيءَ اتَّبَعْتَ أثرَه، لأنه اتباعُ دمِ المقتول.
والحُرُّ وصفٌ، و «فُعْل» الوصف جَمْعُه على أفعال لا ينقاس، قالوا: حُرّ وأحرار، ومُرّ وأمرار، والمؤنثة حُرَّة، وجمعها على «حرائِر» محفوظُ أيضاً، يقال: حَرَّ الغلام يَحَرُّ حُرِّيَّةً.
قوله: {فَمَنْ عُفِيَ} يجوزُ في «مَنْ» وجهان، أحدُهما: أن تكونَ شرطيةً. والثاني: أن تكونَ موصولةً. وعلى كلا التقديرين فموضعُهما رفعٌ بالابتداء. وعلى الأول يكونُ «عُفِي» في محلِّ جزمٍ بالشرطِ، وعلى الثاني لا محلَّ له وتكونُ الفاءُ واجبةً في قولِه:«فاتِّباع» على الأول، ومحلُّها وما بعدها الجزمُ،
وجائزةٌ في الثاني، ومحلُّها وما بعدَها الرفعُ على الخبر. والظاهرُ أنَّ «مَنْ» هو القاتلُ، والضميرُ في «له» و «أخيه» عائدٌ على «مَنْ و» شيءٌ «هو القائمُ مقامَ الفاعلِ، والمرادُ به المصدرُ، وبُني» عُفِي «للمفعولِ وإن كان قاصراً، لأنَّ القاصِرَ يتعدَّى للمصدرِ كقوله: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصور نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ} [المؤمنون: 101] . والأخ هو المقتولُ أو وليُّ الدمِ، وسَمَّاه أخاً للقاتل استعطافاً له عليه، وهذا المصدرُ القائمُ مقامَ الفاعلِ المرادُ به الدمُ المعفوُّ عنه. وعَفَا يتعدَّى إلى الجاني وإلى الجنايةِ ب» عن «، تقول: عَفَوْتُ عن زيد، وعَفَوْتُ عن ذنبِ زيدٍ، فإذا عُدِّي إليهما معاً تعدَّى إلى الجاني باللام وإلى الجناية بعَنْ، تقول: عَفَوْتُ لزيدٍ عن ذنبِهِ، والآيةُ من هذا الباب/ أي: فَمَنْ عُفِيَ له عن جِنايَتِهِ. وقيل» مِنْ «هو وليُّ الدمِ. أي: مَنْ جُعِلَ له من دمِ أخيه بَدَلُ الدمِ وهو القصاصُ أو الدِّيةُ والمرادُ ب» شيء «حينئذٍ ذلك المستحِقُّ، والمرادُ بالأخِ المقتولُ، ويُحتمل أَنْ يُرَاد به على هذا القولِ أيضاً القاتلُ، ويُراد بالشيء الديةُ و» عُفِي «بمعنى يُسِّر على هذين القَولين، وقيل: بمعنى تُرِكَ.
وشَنَّع الزمخشري على مَنْ فَسَّر «عُفِيَ» بمعنى «تُرِكَ» قال: فإنْ قلت: هَلَاّ فَسَّرْت «عُفي» بمعنى «تُركَ» حتى يكونَ «شيء» في معنى المفعول به. قلت: لأنَّ عَفَا الشيء بمعنى تَرَكَه ليس يَثْبُتُ، ولكن «أعفاه» ومنه:«وَأَعْفوا اللَّحى» فإنْ قلت: قد ثَبَتَ قولُهم: عفا أَثَرُه إذا مَحاه وأَزاله، فَهَلَاّ جَعَلْتَ معناه: فَمَنْ مُحِيَ لَهُ مِنْ أخيه شيءٌ. قلت: عبارةٌ قلقةٌ في مكانِها، والعفُو في باب الجنايات عبارةٌ متداولةٌ مشهورةٌ في الكتابِ والسنةِ واستعمالِ الناسِ فلا يُعْدَلُ عنها إلى أخرى قلقةٍ نابيةٍ عن مكانِها، وترى كثيراً مِمَّن
يتعاطى هذا العلمَ يَجْتَرِىءُ إذا أُعْضِلَ عليه تخريجُ وجهٍ للمُشْكلِ مِنْ كَلامِ الله على اختراعِ لغةٍ وادِّعاءٍ على العربِ ما لم تَعْرفه، وهذه جرأةٌ يُستعاذُ باللَّهِ منها.
قال الشيخ: «إذا ثَبَتَ أنَّ» عَفَا «بمعنى مَحا فَلَا يَبْعُدُ حَمْلُ الآية عليه ويكونُ إسنادُ» عَفَا «لمرفوعِهِ إسناداً حقيقياً؛ لأنه إذا ذاك مفعولٌ به صريحٌ، وإذا كان لا يتعدَّى كان إسنادُهُ لمرفوعِهِ مجازاً لأنَّه مصدرٌ مشبَّهٌ بالمفعولِ به، فقد يتعادَلُ الوجهان: أعنى كونَ عفا اللازمِ لشهرتِهِ في الجناياتِ و» عفا «المتعدِّي بمعنى» مَحَا «لتعلقِهِ بمرفوعِهِ تعلقاً حقيقياً» فإن قيل: تُضَمِّنُ «عَفَا» معنى «تَرك» فالجوابُ أنَّ التضمينَ لا يَنْقاس، وقد أجاز أبنُ عطية أَنْ يكونَ عَفا بمعنى تَرَكَ. وقيل: إن «عُفِيَ» بمعنى فَضِلَ، والمعنى: فَمَنْ فَضِلَ له من الطائفتين على الأخرى شيءٌ من تلك الدِّيات، مِنْ قَوْلِهِم: عَفَا الشيءُ إذا كَثُرَ. وأَظْهَرُ هذه الأقوالِ أوَّلُها.
قوله: {فاتباع بالمعروف} في رَفْع «اتباع» ثلاثةُ أوجهٍ أحدُها: أن يكونَ خبرَ مبتدأٍ محذوفٍ، فقدَّرَهُ ابنُ عطية: فالحكمُ أو الواجبُ الاتِّباعُ، وَقَدَّره الزمخشري: فالأمرُ اتِّباع. قال ابنُ عطية: «وهذا سبيلُ الواجباتِ، وأمَّا المندوباتُ فتجيءُ منصوبةً كقوله: {فَضَرْبَ الرقاب} [محمد: 4] . قال الشيخ» ولا أدري ما الفرقُ بين النصبِ والرفعِ إلا ما ذكروه من أنَّ الجملةَ الاسميَّةَ
أثبَتُ وأكدُ، فيمكنُ أن يكونَ مستندُ ابنِ عطية هذا، كما قالوا في قوله:{قَالُواْ سَلَاماً قَالَ سَلَامٌ} [هود: 69] .
الثاني: أن يرتفع بإضمارِ فعلٍ، وقَدَّرَهُ الزمخشري: فليكن اتِّباعُ. قال الشيخ: «هو ضعيفٌ إذ» كان «لا تُضْمَرُ غالباً إلا بعد» إنْ «- الشرطية و» لو «لدليلٍ يَدُلُّ عليه» .
الثالث: أن يكونَ مبتدأً محذوفَ الخبر، فمنهم مَنْ قَدَّره متقدماً عليه، أي: فعليه اتِّباع، ومنهم مَنْ قَدَّره متأخراً عنه، أي: فاتِّباع بالمعروفِ عليه.
قوله: {بالمعروف} فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أن يتعلَّقَ باتِّباعِ فيكونَ منصوبَ المحلّ. الثاني: أن يكونَ وصْفاً لقوله «اتِّباع» فيتعلَّق بمحذوفٍ ويكونُ مَحلُّه الرفعَ. الثالث: أن يكونَ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من الهاءِ المحذوفةِ تقديرُهُ: فعليه اتِّباعُه عادلاً، والعاملُ في الحالِ معنى الاستقرار.
قوله: {وَأَدَآءٌ} في رفعِهِ أربعة أوجهٍ، الثلاثةُ المقولةُ في قولِه «فاتِّباعٌ» لأنه معطوفٌ عليه. والرابعُ: أن يكونَ مبتدأ خبرُه الجارُّ والمجرورُ بعدَه، وهو «بإحسان» وهو بعيدٌ. و «إليه» في محلِّ نصبٍ لتعلُّقِهِ «بأداء» ويجوزُ أن يكونَ في محلِّ رفعٍ صفةً لأداء، فيتعلَّقَ بمحذوفٍ، أي: وأداءٌ كائنٌ إليه.
و «بإحسانٍ» فيه أربعةُ أوجه: الثلاثةُ المقولةُ في «بالمعروف» ، والرابعُ:
أن يكونَ خبرَ «الأداء» كما تقدَّم في الوجهِ الرابع مِنْ رفعِ «أداء» . والهاءُ في «إليه» تعودُ إلى العافي وإنْ لَمْ يَجْرِ له ذِكْرٌ، لأنَّ «عَفَا» يَسْتَلْزِمُ عافياً، فهو من بابِ تفسيرِ الضميرِ بمصاحبٍ بوجهٍ ما، ومنه:{حتى تَوَارَتْ بالحجاب} أي الشمس، لأنَّ في ذِكْرِ «العشيّ» دلالةً عليها، ومثله:
828 -
فإنَّك والتأبينَ عروةَ بعدَما
…
دَعَاكَ وأيدينا إليه شَوارعُ
لكالرجلِ الحادي وقد تَلع الضحى
…
وطيرُ المنايا فوقَهُنَّ أواقِعُ
فالضميرُ في «فوقهُنَّ» للإِبل، لدلالةِ لفظِ «الحادي» عليها لأنها تُصاحِبُه بوجهٍ ما.
قوله: {ذلك تَخْفِيفٌ} الإِشارةُ بذلك إلى ما شَرَعه من العفوِ والديةِ و «من ربكم» في محلِّ رفعٍ لأنه صفةٌ لِما قبلَه فيتعلَّقُ بمحذوفٍ. و «رَحمة» صفتُها محذوفةٌ أيضاً أي: ورحمةٌ من ربكم.
وقوله: {فَمَنِ اعتدى} يجوز في «مَنْ» الوجهان الجائزان في قولِهِ: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ} من كونِها شرطية وموصولةً، وجميعُ ما ذُكِرَ ثَمَّةَ يعودُ هنا.
قوله: {وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ} يجوزُ أنْ يَكُونَ «لكم» الخبر وفي القصاص يتعلق بالاستقرار الذي تضمنه «لكم» ، ويجوزُ أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنَّهُ حالٌ من «حياةٌ» ، لأنه كان في الأصل صفةً لها، فلمَّا قُدِّم عليها نُصِبَ حالاً، ويجوزُ أن يكونَ «في القصاص» هو الخبرَ، و «لكم» متعلقٌ بالاستقرارِ المتضمِّن له، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك في قولِهِ:{وَلَكُمْ فِي الأرض مُسْتَقَرٌّ} [البقرة: 36] ، وهناك أشياءُ لا تَجِيءُ هنا.
وقرأ أبو الجوزاء «في القَصَص» والمرادُ به القرآنُ. قال ابن عطية: «ويَحتمل أن يكون مصدراً كالقِصاص، أي إنه إذا قُصّ أثرُ القاتِلِ قَصَصَاً قُتِلَ كما قَتَل» .
والقِصاصُ مصدرُ قَصَّ أي: تَتَبَّع، وهذا أصلُ المادة، فمعنى القِصاص تتَبُّعُ الدم بالقَوَد، ومنه «القصيص» لما يُتَتَبَّعُ من الكلأ بعد رَعْيِهِ، والقَصَصُ تَتَبُّع الأخبار ومثله القَصُّ، والقَصُّ أيضاً الجِصُّ، ومنه الحديث:
«نهى عليه الصلاة والسلام عن تقصيص القبورِ» أي تَجْصيصِها.
ونظيرُ هذا الكلامِ قولُ العرب: «القتلُ أَوْفَى للقتل» ويُرْوى أَنْفَى للقتل، ويُرْوَى: أَكفُّ للقتَل. وهذا وإنْ كان بليغاً فقد أَبْدَتِ العلماءُ بينه وبين الآية الكريمةِ وجوهاً عديدةً في البلاغةِ وُجِدَتْ في الآية الكريمة دونَه، منها: أنَّ في قولِهم تكرار الاسم في جملةٍ واحدةٍ. ومنها: أنه لا بُدَّ من تقديرِ حذفٍ لأنَّ «أَنْفَى» وأَوْفَى «و» أكفُّ «أفعلُ تفضيلٍ فلا بدَّ من تقديرِ المفضَّل عليه، أي: أنفى للقتل مِنْ ترك القتل. ومنها: أنَّ القِصاصَ أَمُّ إذ يوجدُ في النفس وفي الطَّرَف. والقتلُ لا يكونُ إلا في النفس. ومنها: أنَّ ظاهرَ قولِهم كونُ وجودِ الشيء سبباً في انتفاء نفسِه. ومنها: أنَّ في الآية نوعاً من البديع يُسَمَّى الطباق وهو مقابلةُ الشيء بضده فهو يُشْبِهُ قوله تعالى: {أَضْحَكَ وأبكى} [النجم: 43] قوله: {ياأولي الألباب} منادى مضافٍ وعلامةُ نصبِهِ الياءُ. واعلم أن»
أولي «اسمُ جمعٍ لأنَّ واحدَه وهو» ذو «من غير لفظِه. ويَجْرِي مَجْرَى جمعِ المذكرِ السالم فِي رفعِهِ بالواوِ ونصبِه وجرِّه بالياء المكسورِ ما قبلها، وحكمهُ في لزوم الإِضافة إلى اسمِ جنسٍ حكمُ مفردِه. وقد تقدَّم في قولِه: {ذَوِي القربى} [البقرة: 177] ويقابِلُه في المؤنث: أُولات: وكُتِبا في المصحفِ بواوٍ بعد الهمزةِ قالوا: لِيُفَرِّقوا بين» أُولي كذا «في النصبِ والجر وبين» إلى «التي هي حرفُ جر، ثم حُمِل باقي الباب عليه، وهذا كما تقدَّم في الفرقِ بين» أولئك «اسمَ إشارةٍ و» إليك «جاراً ومجروراً وقد تقدَّم. وإذا سَمَّيْتَ بأولي من أُولي كذا قلت: جاء أُلون ورأيت إلين، بردِّ النونِ لأنها كالمقدَّرة حالة الإِضافةِ فهو نظيرُ: ضارِبُو زيدٍ وضاربي زيدٍ.
والألبابُ جمعُ» لُبٍّ «وهو العقلُ الخالي من الهَوي، سُمِّيَ بذلك لأحدِ وجهين: إمَّا لبنائِه من لَبَّ بالمكانِ أقامَ به، وإمَّا من اللُّباب وهو الخالِصُ، يقال: لبُبْتُ بالمكان ولبِبْتُ بِضمِّ العينِ وكسرِها، ومجيءُ المضاعَفِ على فَعْل بضمِّ العينِ شاذ، استَغْنَوا عنه بِفَعَل مفتوح العين، وذلك في ألفاظ محصورة نحو: عَزُزْتُ/ وسَرُرْتُ ولَبُبت ودَمُمْتُ ومَلُلْتُ، فهذه بالضمِّ وبالفتح، إلا لَبُبْت فبالضمِّ والكسرِ كما تقدَّم.
قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ} : «كُتِبَ» مبنيٌّ للمفعول وحُذِفَ الفاعلُ للعلم به - وهو اللهُ تعالى - وللاختصار. وفي القائمِ مقامَ الفاعلِ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أن يكونَ «الوصيةُ» أي: كُتِب عليكم الوصيةُ، وجاز تذكيرُ الفعلِ لوجهين، أحدُهُما: كونُ القائمِ مقامَ الفاعلِ مؤنثاً مجازياً، والثاني: الفصلُ بينه وبين مرفوعه. والثاني: أنه الإِيصاءُ المدلولُ عليه بقوله: {الوصية لِلْوَالِدَيْنِ} أي: كُتِب هو أي: الإِيصاء.
والثالث: أنه الجارُّ والمجرورُ، وهذا يتَّجِهُ على رَأي الأخفشِ والكوفيين. و «عليكم» في محلِّ رفعٍ على هذا القولِ، وفي محلِّ نصبٍ على القولين الأوَّلين.
قوله: {إِذَا حَضَرَ} العاملُ في «إذا» «كُتِب» على أنها ظرفٌ محضٌ، وليس متضمناً للشرطِ، كأنه قيل: كُتِب عليكم الوصيةُ وَقْتَ حضورِ الموتِ، ولا يجوزُ أن يكونَ العاملُ فيه لفظَ «الوصية» لأنها مصدرٌ، ومعمولُ المصدرِ لا يتقدَّم عليه لانحلاله لموصولٍ وصلةٍ إلا على مذهبِ مَنْ يَرى التوسُّع في الظرفِ وعديلِه، وهو أبو الحسن، فإنه لا يَمْنَعُ ذلك، فيكون التقديرُ: كُتِب عليهم أَنْ تُوصوا وَقْتَ حضورِ الموت.
وقال ابن عطية: «ويتَّجِه في إعرابِ هذه الآية أن يكونَ» كُتِب «هو العامل في» إذا «، والمعنى: توجَّه عليكم إيجابُ الله ومقتضى كتابه إذا حضر، فعبَّر عن توجُّهِ الإِيجابِ بكُتب، لينتظم إلى هذا المعنى أنه مكتوبٌ في الأزل، و» الوصيةُ «مفعولٌ لم يُسَمَّ فاعلُه بكُتِب. وجوابُ الشرطَيْنِ» إنْ «و» إذا «مقدرٌ يَدُلُّ عليه ما تقدَّم من قوله كُتِب» . قال الشيخ: «وفي هذا تناقضٌ لأنه جَعَلَ العاملَ في» إذا «كُتِبَ، وذلك يَسْتَلْزم أن يكونَ» إذا «ظرفاً محضاً غيرَ متضمنٍ للشرطِ، وهذا يناقِضُ قوله:» وجوابُ «إذا» و «إنْ» محذوفٌ؛ لأنَّ إذا الشرطيةَ لا يَعْمَلُ فيها إلا جوابُها أو فعلُها الشرطِيُّ، و «كُتِب» ليس أحدَهما، فإنْ قيل: قومٌ يجيزون تقديم جوابِ الشرطِ فيكونُ «كُتب» هو الجوابَ، ولكنه تقدَّم، وهو عاملٌ في «إذا» فيكونُ ابنُ عُطية يقولُ بهذا القولِ. فالجوابُ: أنَّ ذلك لا يجوزُ، لأنه صَرَّح بأنَّ جوابَها محذوف مدلولٌ عليه بكُتب، ولم يَجْعَل كُتِبَ هو الجوابَ «.
ويجوز أَنْ يكونَ العاملُ في» إذا «الإِيصاء المفهوم من لفظ» الوصية «وهو القائمُ مقامَ الفاعلِ في» كُتِب «كما تقدَّم. قال ابنُ عطيةَ في هذا الوجهِ:» ويكونُ هذا الإِيصاءُ المقدَّرُ الذي يَدُلُّ عليه ذِكْرُ الوصية بعدُ هو العاملَ في «إذا» وترتفع «الوصيةُ» ، بالابتداء، وفيه جوابُ الشرطين على [نحو] ما أنشده سيبويه:
829 -
مَنْ يفعلِ الصالحاتِ اللهُ يحفظُه
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ويكون رفعُها بالابتداءِ، أي: فعليه الوصيةُ بتقديرِ الفاءِ فقط، كأنه قال فالوصيةُ للوالدَيْنِ «. وناقشه الشيخ من وجوهٍ، أحدُها: أنه متناقضٌ من حيث إنه إذا جَعَلَ» إذا «معمولةً للإِيصاء المقدَّر تمحَّضَتْ للظرفية فكيف يُقَدَّر لها جوابٌ كما تقدَّم تحريرُه؟ والثاني: أنَّ هذا الإِيصاء: إمَّا أَنْ تُقَدِّرَ لَفظَه محذوفاً أو تُضْمِرَه، وعلى كِلا التقديرين فلا يَعْمَلُ لأنَّ المصدرَ شَرْطُ إعماله ألَاّ يُحْذَفَ ولا يُضْمَرَ عند البصريين، وأيضاً فهو قائمٌ مقامَ الفاعلِ فلا يُحْذَفُ. الثالث: قولُه» جوابُ الشرطين «والشيءُ الواحدُ لا يكونُ جواباً لاثنين، بل جوابُ كلِّ واحد مستقلٌ بِقَدْرِه. الرابعُ: جَعْلُه حَذْفَ الفاءِ جائزاً في القرآن، وهذا نصُّ سيبويه على أنه لا يجوزُ إلا ضرورةً وأنشد:
مَنْ يفعلِ الحسناتِ اللهُ يَشْكُرها
…
والشرُّ بالشرِّ عند الله سِيَّانِ
وإنشادُه» مَنْ يَفْعَلِ الصالحات اللهُ يحفظه «يجوزُ أن يكونَ روايةً،
إلا أنَّ سيبويهِ لم يُنْشِدْه كذا بل كما تقدَّم والمبرد رُوي عنه أَّنه لا يُجِيزُ حَذْفَ الفاءِ مطلقاً، لا في ضرورة ولا غيرها، ويَرْوِيه:» مَنْ يفعل الخيرَ فالرحمنُ يشكُره «، وردَّ الناسُ عليه بأنَّ هذه لَيسَتْ حجةً على روايةِ سيبويه.
ويجوزُ أَنْ تكونَ» إذا «شرطيةً، فيكونَ جوابُها وجوابُ» إنْ «محذوفَيْن. وتحقيقُه: أنَّ جواب» إنْ «مقدَّرٌ، تقديرُه:» كُتب الوصيةُ على أحدكم إذا حضَرهُ الموتُ إن ترك خيراً فلْيُوص «، فقولُه» فَلْيُوصِ «جوابٌ لإِنْ، حُذِفَ لدلالةِ الكلام عليه، ويكونُ هذا الجوابُ المقدرُ دالاً على جوابِ» إذا «فيكونُ المحذوفُ دَالاً على محذوفٍ مثله. وهذا أَوْلَى مِنْ قولِ مَنْ يقول: إنَّ الشرطَ الثاني جوابُ الأول، وحُذف جوابُ الثاني، وأَوْلَى أيضاً مِنْ تقديرِ مَنْ يُقَدِّره مِنْ معنى» كُتِبَ «ماضي المعنى، إلَاّ أَنْ يُؤَوِّلَه بمعنى: يتوجَّه عليكم الكَتْبُ إن تَرَكَ خيراً.
قوله:» الوصيةُ «فيه ثلاثةُ أوجهٍ، [أحدها:] أن يكونَ مبتدأً وخبرُه» للوالدَيْن «. والثاني: أنه مفعولُ» كُتِب «وقد تقدَّم. الثالث: أنه مبتدأ خبرُه محذوفٌ أي: فعليه الوصيةُ، وهذا عندَ مَنْ يُجيز حَذْفَ فاءِ الجوابِ وهو الأخفشُ وهو محجوجٌ بنقلِ سيبويه.
قوله: {الوصية} فيه ثلاثةُ أوجهٍ، [أحدها:] أن يكون مبتدأً وخبرُه» للوالدَيْن «. والثاني: أنه مفعولُ» كُتِب «وقد تقدَّم. الثالث: أنه مبتدأ خبرُه محذوفٌ أي: فعليه الوصيةُ، وهذا عندَ مَنْ يُجيز حَذْفَ فاءِ الجوابِ وهو الأخفشُ وهو محجوجٌ بنقلِ سيبويه.
قوله:» بالمعروف «يجوزُ فيه وجهان، أحدُهما: أن يتعلَّق بنفسِ» الوصية «، والثاني أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من الوصية، أي: حالَ كونِها ملتبسةً بالمعروفِ لا بالجَوْر.
قوله: {حقاً} في نصبه ثلاثةُ أوجهٍ أحدُها: أَنْ يكونَ نعتاً لمصدرٍ
محذوفٍ، وذلك المصدرُ المحذوفُ: إمَّا مصدرُ «كُتِب» أو مصدرُ «أَوْصى» أي كَتْباً أو إيصاءً حقاً. الثاني: أنه حالٌ من المصدَرِ المُعَرَّفِ المحذوف: [إِمَّا] مصدرُ «كُتِب» أو «أَوْصَى» كما تقدَّم. الثالث: أَنْ يَنْتَصِبَ على أنه مؤكد لمضمونِ الجملة، فيكونُ عاملُه محذوفاً، أي: حَقَّ ذلك حقاً، قاله الزمخشري وابن عطية وأبو البقاء. وقال الشيخ:«وهذا تَأْباه القواعدُ النحوية، لأنَّ ظاهرَ قولِه:» على المتقين «أن يتعلَّق ب» حقاً «أو يكونَ في موضعِ الصفة له، وكِلا التقديرين لا يجوزُ. أمَّا الأولُ فلأنَّ المصدرَ المؤكِّد لا يعملُ، وأمَّا الثاني فلأن [الوصفَ يُخْرِجُه عن التأكيد] ، وهذا لَا يَلْزَمُهم فإنهم والحالةُ هذه لا يقولونُ إنَّ» على المتقين «متعلِّقٌ به. وقد نَصَّ على ذلك أبو البقاء فإنه قال: /» وقيل هو متعلقٌ بنفسِ المصدرِ وهو ضعيفٌ، لأنَّ المصدرَ المؤكِّد لا يعملُ، وإنما يَعْمَلُ المصدرُ المنتصِبُ بالفعلِ المحذوفِ إذ نابَ عنه كقولِك: ضرباً زيداً، أي: اضرِبْ «إلا أنه جَعَله صفَةً لحقّ، فهذا يَرِدُ عليه.
وقال بعضُ المُعْرِبين:» إنه مؤكِّدُ لِما تَضمَّنَه معنى «المتقين» كأنه قيل: على المتقين حقاً، كقوله:{أولائك هُمُ المؤمنون حَقّاً} [الأنفال: 74] . وهذا ضعيفٌ لتقدُّمِه على عامِله الموصولِ، ولأنه لا يتبادَرُ إلى الذهن.
قال الشيخ: «والأَوْلى عندي أن يكونَ مصدراً مِنْ معنى» كُتب «لأنَّ معنى» كَتَبَ الوصيةَ «أي: حَقَّتْ وَوَجَبَتْ، فهو مصدرٌ على غيرِ الصَّدْر نحو: قَعَدْتُ جلوساً.
قوله تعالى: {فَمَن بَدَّلَهُ} : «مَنْ» يجوزُ أَنْ تكونَ شرطيةً وموصولةً، والفاءُ: إمّا واجبةٌ إن كانَتْ شرطاً، وإمّا جائزٌ إنْ كانت موصولةً، بلفظِ المؤنَّثِ لأنَّها في معنى المذكَّر، وهو الإِيصاءُ. أو تعود على نفس الإِيصاء المدلولِ عليه بالوصِيَّة، إلَاّ أنَّ اعتبارَ التذكير في المؤنثِ قليلٌ وإن كان مجازياً، ألا ترى أنه لا فرق بين قولك: هند خرجَتْ والشمسُ طلَعَتْ، ولا يجوزُ: الشمسُ طَلَع، كما لا يَجُوزُ:«هند خرج» إلَاّ في ضرورةٍ. وقيل: تعودُ على الأمرِ والفَرْضِ الذي أَمَرَ به اللهُ وفَرَضه. وكذلك الضميرُ في «سَمِعَه» والضميرُ في «إثمُه» يعودُ على الإِيصاء المُبَدَّلِ، أو التبديلِ المفهوم من قولِه:«بَدَّله» .
وقد راعى المعنى في قوله: {عَلَى الذين يُبَدِّلُونَهُ} إذ لو جَرَى على نَسَق اللفظِ الأولِ لقالَ: «فإنَّما إثمُه عليه - أو على الذي يُبَدِّله» .
وقيل: الضميرُ في «بَدَّله» يعودُ على الكَتْبِ أو الحقِّ أو المعروفِ. فهذه ستةُ أقوالٍ.
و «ما» في قولِه: {بَعْدَمَا سَمِعَهُ} يجوزُ أَنْ تكونَ مصدريةً أي: بعد: سماعِه، وأن تكون موصولةً بمعنى الذي. فالهاءُ في «سَمِعَه» على الأول تعودُ على ما عادَ عليه الهاءُ في «بَدَّله» ، وعلى الثاني تعودُ على الموصولِ، أي بعد الذي سَمِعَه من أوامرِ الله.
قوله تعالى: {فَمَنْ خَافَ} : يجوزُ فيها الوجهان الجائزان في «مَنْ» قبلَها. والفاءُ في «فلا إثم» هي جوابُ الشرطِ أو الداخلةُ في الخبر. و «مِنْ موصٍ» يجوزُ فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أن تكونَ متعلقةً بخاف على انها لابتداءِ الغاية. الثاني: أن تتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنها حالٌ من «جَنَفَاً» ، قُدِّمَتْ عليه، لأنها كانَتْ في الأصل صفةً له، فلمَّا تَقَدَّمَتْ نُصِبَتْ حالاً. ونظيره:«أخَذْتُ من زيد مالاً» إن شِئت عَلَّقْتُ «مِنْ زيد» ب «أَخَذْتُ» ، وإنْ شِئْتَ جَعَلْتَه حالاً من «مالاً» لأنه صفته في الأصلِ، الثالث: أن تكونَ لبيان جنسِ الجانفين: وتتعلَّقُ أيضاً بخاف. فعلى القولين الأولين لا يكونَ الجانِفُ من الموصِين بل غيرُهم، وعلى الثالث يكونُ من الموصين.
وقرأ أبو بكر وحمزة والكسائي: «مُوَصٍّ» بتشديدِ الصادِ والباقون بتخفيفها. وهما من أوصى ووصَّى، وقد تقدَّم أنهما لغتان، إلَاّ أن حمزةَ والكسائي وأبا بكر هم من جملةِ الذين يَقْرؤون {ووصى بِهَآ إِبْرَاهِيمُ} [البقرة: 132] مضعَّفاً، وأنَّ نافعاً وابن عامر يقرآن:«أوصى» بالهمزة، فلو لم تكن القراءةُ سُنَّةً متبعةً لا تجوزُ بالرأي لكان قياسُ قراءةِ ابن كثير وأبي عمرو وحفص هناك «ووصَّى» بالتضعيف أن يقرآ هنا «مُوَصٍّ» بالتضعيف، وأما نافعٌ وابنُ عامر فإنهما قرآ هنا «مُوصٍ» مخففاً على قياس قراءتهما هناك و «أَوْصَى» على أَفْعَل. وكذلك حمزة والكسائي وأبو بكر قرؤوا:«ووصَّى» هناك بالتضعيف فقرؤوا هنا «مُوَصٍّ» بالتضعيفِ على القياس.
والخَوْفُ هنا بمعنى الخَشْيَة وهو الأصلُ، وقيل: بمعنى العِلْم وهو مجازٌ، والعلاقةُ بينهما هو أنَّ الإِنسَان لا يَخافُ شيئاً حتى يَعْلَم أنه مِمَّا يُخاف منه فهو من باب التعبير عن السبب بِالمُسَبِّبِ. ومِنْ مجيء الخوف
بمعنى العِلْم قولُه تعالى: {إِلَاّ أَن يَخَافَآ أَلَاّ يُقِيمَا حُدُودَ الله} [البقرة: 229]، وقولُ أبي مِحْجن الثقفي:
830 -
إذا مُتُّ فادْفِنِّي إلى جَنْبٍ كَرْمَةٍ
…
تُرَوِّي عظامي في المَمات عروقُها
ولا تَدْفِنَنِّي في الفلاةِ فإنني
…
أخَافُ إذا ما مُتُّ ألَاّ أذوقُها
والجَنَفُ لأهلِ اللغةِ فيه قولان أحدُهما: المَيْلُ، قال الأعشى:
831 -
تَجانَفُ عن حُجْرِ اليمَامةِ ناقتي
…
وما قَصَدَتْ من أهلِها لِسِوائكا
وقال آخر:
832 -
هُمُ المَوْلى وإنْ جَنَفُوا عَلَيْنا
…
وإنَّا مِنْ لقائِهِمْ لَزُورُ
وقيل: هو الجَوْرُ. قال:
833 -
إني امرؤٌ منعَتْ أَرومةُ عامرٍ
…
ضَيْمي وقد جَنَفَتْ عليَّ خُصومُ
يقال: جَنِفَ بكسر النون يَجْنَفُ بفتحها فهو جَنِفٌ وجانِفٌ، وأَجْنَفَ جاء بالجَنَفِ كَألَام جاء بما يُلام عليه.
والضميرُ في «بينهم» عائد على الموصي والورثةِ، أو على الموصَى لهم، أو على الورثةِ والمُوصى لهم. والظاهرُ عودُه على المَوصى لهم، إذ يدلُّ على ذلك لفظُ «المُوصى» . وهو نظيرُ {وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ} [البقرة: 178] [في] أن الضمير يعودُ للعافي لاستلزام «عفا» له، ومثلُه ما أنشد الفراء:
834 -
وما أَدْري إذا يَمَّمْتُ أرضاً
…
أريدُ الخيرَ أيُّهما يَليِني
فالضمير في «أيُّهما» يعودُ على الخيرِ والشرِّ، وإنْ لم يَجْرِ ذِكْرُ الشِّر لدلالةِ ضِدِّه عيله، والضميرُ في «عليه» وفي «خاف» وفي «أصلح» يعود على «مَنْ» .
قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام} : «الصيامُ» مفعولُ لم يُسَمَّ فاعلُه وقُدِّم عليه هذه الفَضْلَةُ وإنْ كان الأصلُ تأخيرها عنه لأنَّ البداءة بذكرِ المكتوبِ عليه آكدُ مِنْ ذِكْر المكتوبِ لتعلُّق الكتب بِمَنْ يؤدِّي.
والصيام: مصدرُ صام يصوم صوماً، والأصلُ: صِواماً، فَأُبْدِلَتْ الواوُ ياءٌ والصومُ مصدرٌ أيضاً، وهذان البناءانِ - أعني فَعْل وفِعال - كثيران في كلِّ فعلٍ واويِّ العينِ صحيحِ اللامِ، وقد جاء منه شيءٌ قليل على فُعول قالوا: غار غُووراً، وإنما استكرهوه لاجتماعِ الواوَيْنِ/، ولذلك هَمَزه بعضُهم فقال: الغُؤُور. والصيام لغةً الإِمساكُ عن الشيء مطلقاً، ومنه: صامَتِ الريحُ: أمسكَتْ عن الهبوبِ، والفرسُ: أَمْسَكَتْ عن العَدْوِ، [وقال] :
835 -
خيلٌ صِيامُ وخيلٌ غيرُ صائمةٍ
…
تحتَ العَجاجِ وأُخْرى تَعْلِكُ اللُّجُما
وقال تعالى: {إِنِّي نَذَرْتُ للرحمن صَوْماً} [مريم: 26] أي: سكوتاً لقوله: {فَلَنْ أُكَلِّمَ اليوم إِنسِيّاً} . وصامَ النهارُ أي: اشتدَّ حَرَّه، قال:
836 -
حتى إذا صامَ النهارُ واعتَدَلْ
…
ومالَ للشمسِ لُعابٌ فَنَزَلْ
كأنهم تَوَهَّموا ذلك الوقتَ إمساكَ الشمسِ عن المَسِيرِ. ومَصَامُ النجومِ: إمساكُها عن السيرِ، قال امرؤ القيس:
837 -
كأنَّ الثُّرِيَّا عُلِّقَتْ في مَصامِها
…
بأمراسِ كُتَّانٍ إلى صُمِّ جَنْدَلِ
قوله: {كَمَا كُتِبَ} فيه خمسةُ أوجهٍ، أحدها: أنَّ محلَّها النصْب على نعتِ مصدرٍ محذوفٍ أي: كُتِبَ كَتْباً مثلَ ما كُتِبَ. الثاني: أنه في محلِّ حالٍ من المصدرِ المعرفةِ أي: كُتِبَ عليكم الصيامُ الكَتْبَ مُشْبِهاً ما كُتِبَ. و «ما» على هذين الوجهينِ مصدريةٌ. الثالث: أن يكون نعتاً لمصدرٍ من لفظِ الصيام، أي: صوماً مثلَ ما كُتِبَ. ف «ما» على هذا الوجه بمعنى الذي، أي: صوماً مماثلاً للصومِ المكتوبِ على مَنْ قبلكم. و «صوماً» هنا مصدر مؤكِّد في المعنى، لأنَّ الصيامَ بمعنى: أنْ تصُومُوا صوماً، قاله أبو البقاء، وفيه أنَّ المصدرَ المؤكِّد يُوصَفُ، وقد تقدَّم مَنْعُه عندَ قولِهِ تعالى {بالمعروف حَقّاً عَلَى المتقين} [البقرة: 180] . وقال الشيخ - بعد أَنْ حكى هذا عن ابن عطية - «وهذا فيه بُعْدٌ؛ لأنَّ تشبيهَ الصوم بالكتابةِ لا يصحُّ، هذا إن كانت» ما «مصدريةً، وأمّا إن كانت
موصولةً ففيه أيضاً بُعْدٌ؛ لأنَّ تشبيه الصومِ بالصومِ لا يَصِحُّ إلَاّ على تأويلٍ بعيدٍ» .
الرابع: أن يكونَ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من «الصيام» ، وتكونُ «ما» موصولةً، أي: مُشْبهاً الذي كُتِبَ. والعاملُ فيها «كُتِبَ» لأنه عاملٌ في صاحبِها. الخامس: أن يكونَ في محلِّ رفعٍ لأنَّه صفةٌ للصيامِ، وهذا مردودٌ بأنَّ الجارَّ والمجرورَ من قبيلَ النكرات والصيامُ معرفةٌ، فكيف تُوصَفُ المعرفةُ بالنكرةِ؟ وأجابَ أبو البقاء عن ذلك «بأنَّ الصيامَ غيرُ مُعَيَّنٍ» كأنه يعني أنَّ «أل» فيه للجنسِ والمعرَّفُ بأل الجنسيةِ عندهم قريبٌ من النكرةِ، ولذلك جازَ أن تَعْتَبِرَ لفظة مرةً ومعناه أخرى، قالوا:«أهلك الناسَ الدينارُ الحمرُ والدِرْهَمُ البيض» ومنه:
838 -
ولقد أَمُرُّ على اللئيمَ يَسُبُّنِي
…
فَمَضَيْتُ ثمَّتَ قُلْتُ لا يَعْنِيني
[وقولُه تعالى:]{وَآيَةٌ لَّهُمُ الليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار} [يس: 37] وقد تقدَّم الكلامُ على مثلِ قولِه: {الذين مِن قَبْلِكُمْ} كيف وُصِلَ الموصول بهذا، والجوابُ عنه في قولِه:{خَلَقَكُمْ والذين مِن قَبْلِكُمْ} [البقرة: 21] .
قوله {أَيَّاماً} في نصبِه أربعةُ أوجه، أظهرُها: أنه منصوبٌ بعاملٍ مقدَّرٍ يَدُلُّ عليه سياقُ الكلامِ تقديرُه: صوموا أياماً، ويَحْتَمِلُ هذا النصبُ وجهين: إمَّا الظرفيةَ وإمَّا المفعولَ به اتساعاً.
الثاني: أنه منصوبٌ بالصيام، ولم يَذْكُرِ الزمخشري غيرَه، ونَظَّرهُ
بقولِكَ: «نَوَيْتُ الخروجَ يوم الجمعةِ» ، وهذا ليس بشيءٍ، لأنَّه يلزُم الفصلُ بين المصدرِ ومعمولِهِ بأجنبي، وهو قولُه:«كما كُتِبَ» لأنه ليس معمولاً للمصدرِ على أيَّ تقديرٍ قَدَّرْتَه. فإنْ قِيل: يُجْعَل «كما كُتِبَ» صفةً للصيام، وذلك على رأي مَنْ يُجِيزِ وَصْفَ المعرَّفِ بأل الجنسيةِ بما يَجْرِي مَجْرى النكرةِ فلا يكونُ أجنبياً. قيل: يَلْزُمُ مِنْ ذَلك وصفُ المصدرِ قبل ذِكْرِ معمولِهِ، وهو ممتنعٌ.
الثالث: أنه منصوبٌ بالصيام على أَنْ تقدِّر الكافَ نعتاً لمصدرٍ من الصيام، كما قد قال به بعضُهم، وإنْ كان ضعيفاً، فيكونُ التقديرُ:«الصيام صوماً كما كُتِبَ» فجاز أن يَعْمل في «أياماً» «الصيامُ» لأنه إذ ذاك عاملٌ في «صوماً» الذي هو موصوفٌ ب «كما كُتِبَ» فلا يقعُ الفصلُ بينهما بأجنبي بل بمعمولِ المصدرِ.
الرابع: أن ينتصِبَ بكُتب: إمَّا على الظرف وإمَّا على المفعولِ به توسُّعاً، وإليه نحا الفَراء وتَبِعَهُ أبو البقاء. قال الشيخ: «وكِلا القولينِ خطأٌ: أمَّا النصبُ على الظرفِ فإنه محلٌّ للفعل، والكتابةُ ليست واقعةً في الأيامِ، لكنْ متعلَّقُها هو الواقعُ في الأيام. وأمَّا النصبُ على المفعولِ اتِّساعاً فإنَّ ذلك مبنيٌّ على كونِهِ ظرفاً لكُتِبَ، وقد تقدَّم أنه خطأ.
و» معدوداتٍ «صفةٌ، وجَمْعُ صفةِ ما لا يَعْقِل بالألفِ والتاءِ مُطَّرِدٌ نحو هذا، وقولِه» جبال راسيات - وأيام معلوماتٌ «.
قوله: {أَوْ على سَفَرٍ} في محلِّ نصبٍ عطفاً على خبرِ كان. و» أو «هنا
للتنويع، وعَدَلَ عن اسمِ الفاعلِ، فلم يَقُلْ:» أو مسافراً «إشعاراً بالاستعلاءِ على السفرِ لما فيه من الاختيارِ بخلافِ المرضِ فإنه قَهْرِيٌّ.
قوله: {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} الجمهورُ على رفعِ» فَعِدَّةٌ «، وفيه وجوهٌ أحدُها، أنه مبتدأ والخبرُ محذوفٌ: إمَّا قبلَه تقديرُهُ: فعليه عِدَّةٌ، أو بعدَه أي: فَعِدَّةٌ أمثلُ به. الثاني: أنه خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي: فالواجبُ عِدَّةٌ.
الثالث: أن يرتفَع بفعلٍ محذوفٍ، أي: فتجزيه عِدَّةٌ. وقرىء: «فَعِدَّةً» نصباً بفعلٍ محذوف، تقديره: فَلْيَصُمْ عِدَّةً. وكأن أبا البقاء لم يَطَّلِعْ على هذه القراءة فإنه قال: «ولو قُرِىء بالنصبِ لكان مستقيماً» . ولا بدَّ من حذفِ مضافٍ تقديرُه: «فَصَوْمُ عدَّة» ومِنْ حَذْفِ جملةٍ بين الفعلينِ ليصحَّ الكلامُ تقديره: فأفْطَرَ فعدةٌ، ونظيرُه:{أَنِ اضرب بِّعَصَاكَ البحر فانفلق} [الشعراء: 63] أي: فَضَرَبَ فانفلقَ. و «عدةٌ» بمعنى معدودةٌ كالطِّحْن والذِّبْح. ونَكَّر قوله «فَعِدَّةٌ» ولم يَقُل «فَعِدَّتُها» اتِّكالاً على المعنى. و «من أيامٍ» في محلِّ رفعٍ أو نصبٍ على حَسَبِ القراءتين صفةُ لِعِدَّة.
قوله: {أُخَرَ} صفةٌ لأيَّامٍ. و «أُخَرُ» على ضَرْبَيْن، ضربٍ: جَمْعُ «أخرى» تأنيثِ «آخَر» الذي هو أَفْعَلُ تفضيلٍ. وضَرْبٍ جمعُ أُخْرى بمعنى آخِرة، تأنيث:«آخِر» المقابِل لأوَّل، ومنه قولُه تعالى:{قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولَاهُمْ} [الأعراف: 49] . فالضربُ الأولُ لا يَنْصَرِفُ، والعلةُ المانعةُ له من الصرفِ: الوصفُ والعَدْلُ.
واختلف النحويون في كيفيةِ العَدْلِ، فقال الجمهورُ: إنه عَدْلٌ عن الألفِ واللامِ، وذلك أن «أُخَر» جمع أُخْرى، وأُخْرَى تأنيث «آخَر» وآخَرُ أَفعَلُ تفضيلٍ، وأفعلُ التفضيل لا يخلو عن أحدِ ثلاثةِ استعمالات: إمَّا مع أل وإمَّا مع «مِنْ» وإمَّا مع الإِضافة. لكنَّ «مِنْ ممتنعةٌ لأنَّها معها يَلْزَمُ الإِفرادُ والتذكير، ولا إضافة/ في اللفظِ، فَقَدَّرْنَا عَدْلَه عن الألفِ واللامِ، وهذا كما قالوا في» سَحَر «إنه عَدْلٌ عن
الألفِ واللامِ إلَاّ أنَّ هذا مع العَلَمِيَّةِ. ومذهبُ سيبويه أنه عَدْلٌ من صيغةً إلى صيغة لأنه كان حقُّ الكلام في قولك:» مررت بنسوة أُخَرَ «على وزن فُعَل أن يكونَ» بنسوة آخَرَ «على وزن أَفْعَل لأنَّ المعنى على تقديرِ مِنْ، فَعُدِلَ عن المفردِ إلى الجمع. ولتحقيقِ المذهبين موضعٌ هو أليقُ به من هذا.
وأما الضَّرْب الثاني فهو مُنْصَرِفٌ لِفُقْدَانِ العلةِ المذكورةِ. والفرقُ بين» أُخْرَى «التي للتفضيل و» أُخرى «التي بمعنى متأخرة أنَّ معنى التي للتفضيلِ معنى» غير «ومعنى تَيْكَ معنى متأخرة، ولكونِ الأولى بمعنى» غير «لا يجوزُ أن يكونَ ما اتصل بها إلا مِنْ جنسِ ما قبلَها نحو:» مررتُ بك وبرجلٍ آخرَ «ولا يجوزُ: اشتريت هذا الجَمَل وفرساً آخرَ لأنه من غيرِ الجنس. وأمَّا قوله:
839 -
صَلَّى على عَزَّةَ الرحمانُ وابنتِها
…
ليلى وصَلَّى على جاراتِها الأُخَرِ
فإنه جعل ابنتَها جارةً لها، ولولا ذلك لم يَجُزْ. ومعنا التفضيل في آخَر وأوَّل وما تصرَّف منهما قلقٌ، وتحقيقُ ذلك في كتبِ النحوِ، وقد بَيَّنْتُ ذلك في» شرح التسهيل «فَلْيُلتفت إليه.
وإنَّما وُصِفَت الأيام ب «أُخَر» من حيث إنها جَمْعُ ما لا يَعْقِلُ، وجَمْعُ ما لا يَعْقِلُ يجوزُ أن يعامَلَ معاملَةَ الواحدَةِ المؤنثةِ ومعاملةَ جَمْعِ الإِناث، فَمِن الأولِ:{وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أخرى} [طه: 18] ، ومِنْ الثاني هذه الآيةُ ونظائرها،
وإنما أُوثِرَ هنا معاملتُه معاملَةَ الجَمْعِ لأنه لو جِيءَ به مُفْرَداً فقيل: عِدَّةٌ من أيامٍ أخرى لأوْهَمَ أنه وصفٌ لعِدَّة فيفوتُ المقصودُ.
قوله: {يُطِيقُونَهُ} الجمهورُ على «يُطِيقُونه» من أطاق يُطِيق، مثل أَقامَ يُقيم. وقَرَأَ حُميد:«يُطْوِقُونه» من أَطْوقَ، كقولهم: أَطْوَلَ في أَطال، وأَغْوَلَ في أَغال، وهذا تصحيحٌ شاذ، ومثله في الشذوذ من ذواتِ الواو: أَجْوَدَ بمعنى أجاد، ومِنْ ذوات الياء: أَغْيَمتِ السماءُ وأَجْيَلَت، وأَغْيَلَتِ المرأة، وأَطْيَبَت، وقد جاء الإِعلال في الكلِ وهو القياسُ، ولم يَقُلْ بقياسِ نحو:«أَغْيَمَت» و «أطْوَل» إلا أبو زيد.
وقرأ ابن عباس وابن مسعود: «يُطَوَّقونه» مبنياً للمفعول من طَوَّق مضعفاً على وزنِ قَطَّع. وقرأت عائشة وابن دينار: «يَطَّوَّقُونَه» بتشديد الطاء والواو من أَطْوَقَ، وأصلُه تَطَوَّق، فَلَمَّا أُريد إدغامُ التاءِ في الطاء قُلِبَتْ طاءً، واجْتُلِبَتِ همزةُ الوصل لتمكُّنِ الابتداءِ بالساكن، وقد تقدَّم تقريرُ ذلك في قولِه:{أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158] . وقرأ عكرمة وطائفةٌ: «يَطَّيَّقونُه» بفتحِ الياء وتَشْدِيد الطاء والياء، وتُرْوى عن مجاهدٍ أيضاً. وقُرىء أيضاً هكذا لكن ببناءِ الفعل للمفعول.
وقد رَدَّ بعضُ الناسِ هذه القراءةَ. وقال ابن عطية: «تشديدُ الياء في هذه اللفظةِ ضعيفٌ» وإنما قالوا بِبُطْلَانِ هذه القراءةِ لأنها عندهم من ذوات الواوِ وهو الطَّوْق، فمن أين تَجِيءُ الياءُ؟ وهذه القراءةُ ليست باطلةً ولا ضعيفةً، ولها تخريجٌ حسنٌ: وهو أنَّ هذه القراءةَ ليست مِنْ تَفَعَّل حتى يلزمَ ما قالوه من الإشكال، وإنما هي من تَفَيْعَل، والأصلُ: تَطَيْوَق من الطَّوْقِ، كتَدَيَّر وتَحَيَّر من الدَّوَران، والحَوْر، والأصلُ: تَدَيْوَر وتَحَيْوَرَ، فاجتمعت الياءُ والواوُ، وسبقت إحداهما بالسكونِ فقُلِبَت الواوُ ياءً، وأُدْغِمَت الياءُ في الياءِ، فكان الأصلُ: يَتَطَيْوَقُونه، ثم أُدْغِمَ بعد القلبِ، فَمَنْ قَرَأَه «يَطَّيَّقونه» بفتح الياءِ بناه للفاعل، ومَنْ ضَمَّها بَناه للمفعول. وتَحْتَمِل قراءةُ التشديد في الواوِ أو الياءِ أن تكونَ للتكلفِ، أي: يتكلَّفون إطاقَتَه، وذلك مجازٌ من الطَّوْقِ الذي هو القِلَادَةُ، كأنه بمنزلةِ القِلادَةِ في أَعْنَاقِهِم.
وأَبْعَدَ مَنْ زَعَمَ أنَّ «لا» محذوفةٌ قبلَ «يُطِيقُونَه» وأنَّ التقديرَ: «لا يُطيقونه» ونَظَّره بقولِهِ:
840 -
فحالِفْ فلا واللَّهِ تَهْبِطُ تَلْعَةً
…
من الأرضِ إلا أنت للذلِّ عارِفُ
وقوله:
841 -
آليتُ أمدحُ مُغْرَما أبداً
…
يَبْقى المديحُ وَيذْهَبُ الرِّفْدُ
وقوله:
842 -
فقلتُ يمِينَ اللَّهِ أَبْرَحُ قاعِداً
…
ولو قَطَعوا رأسي لديك وأَوْصَالي
المعنى: لا تهبط ولا أمدح ولا أبرحُ.
وهذا ليس بشيء، لأنَّ حَذْفَهَا مُلْبِسٌ، وأمَّا الأبيات المذكورةٌ فلدلالةِ القَسَمِ على النفي.
والهاءُ في «يُطِيقُونَه» للصومِ، وقيل: للفِداءِ، قاله الفراء.
و «فِدْيَةٌ» مبتدأٌ، خبرُهُ في الجارِّ قبلَه. والجماعةُ على تنوينِ «فِدْيَة» ورفع «طعام» وتوحيدِ «مسكين» وهشامٌ كذلك إلَاّ أنه قرأ:«مساكين» جمعاً، ونافع وابنُ ذكوان بإضافة «فدية» إلى «طعام مساكين» جمعاً. فالقراءةُ الأولى يكونُ «طعام» بدلاً من «فِدْية» بَيَّن بهذا البدلِ المرادَ بالفدية، وأجازَ أبو البقاء أن يكونَ خبرَ مبتدأٍ محذوف، أي: هي طعام. وأما إضافة الفِدْية للطعامِ فمِنْ باب إضافة الشيء إلى جنسه، والمقصودُ به البيانُ كقولِك. خاتَمُ حديدٍ وثوبُ خَزٍّ وبابُ ساجٍ، لأنَّ الفِدْيَةَ تكونُ طعاماً وغيرَه. وقال بعضهم:«يجوزُ أن تكونَ هذه الإِضافة من بابِ إضافة الموصوفِ إلى الصفةِ، قال:» لأنَّ الفديةَ لها ذاتٌ وصفتُها أنَّها طعامٌ «وهذا فاسدٌ، لأنَّه: إمَّا أنَّ يريدَ بطعام المصدر بمعنى الإِطعام كالعَطاءِ بمعنى الإِعطاء، أو يريدَ به المفعولَ، وعلى كِلا التقديرين فلا يُوصف به؛ لأن المصدرَ لا يُوصَفُ به إلا عند المبالغةِ، وليسَتْ مُرادةً هنا، والذي بمعنى المفعولِ ليس جارياً على فِعْلٍ ولا ينقاسُ، لا تقولُ: ضِراب بمعنى مَضْروب، ولا قِتال بمعنى مَقْتُول، ولكونِها غيرَ جاريةً على فِعْلٍ لم تعملْ عَمَله، لا تقول:» مررت برجلٍ طعامٍ خبزُه «وإذا كانَ غيرَ صفةٍ فكيفَ يقال: أُضيف الموصوفُ لصفتِه؟
وإنَّما أُفْرِدَت» فِدْية «لوجهين، أحدُهما: أنَّها مصدرٌ والمصدرُ يُفْرَدُ، والتاء فيها ليست للمَرَّة، بل لِمُجَرَّدِ التأنيث. والثاني: أنه لَمَّا أضافها إلى مضافٍ إلى الجمع أَفْهَمَتِ الجَمْعَ/، وهذا في قراءةِ» مساكين «بالجمع. ومَنْ جمع» مساكين «فلمقابلةِ الجمع بالجمعِ، ومَنْ أَفْرَدَ فعلى مراعاةِ إفرادِ العمومِ، أي: وعلى كلِّ واحدٍ مِمَّن يُطيق الصومَ لكلِّ يوم يُفْطِرُه إطعامُ مسكين. ونظيرهُ: {والذين يَرْمُونَ المحصنات ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فاجلدوهم ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] .
وتَبَيَّن مِنْ إفراد» المسكين «أنَّ الحكم لِكلِّ يومٍ يُفْطِرُ فيه مسكينٌ، ولا يُفْهَم ذلك من الجَمْعِ. والطعامُ: المرادُ به الإِطعامُ، فهو مصدرٌ، ويَضْعُفُ أنْ يُراد به المفعولُ، قال أبو البقاء:» لأنه أضافه إلى المسكين، وليس الطعامُ للمسكين قبل تمليكِه إياه، فلو حُمِلَ على ذلك لكان مجازاً، لأنه يصير تقديرُه: فعليه إخراجُ طعامٍ يصيرُ للمساكين، فهو من باب تسميةِ الشيءِ، بما يَؤُول إليه، وهو وإنْ كان جائزاً إلا أنه مجازٌ والحقيقةُ أولى منه «.
قوله: {فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً} قد تقدَّم نظيرُه والكلامُ مستوفىً عليه عند قولِه: {وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ الله شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 158] فَلْيُلْتفت إليه. والضميرُ في قولِهِ:» فهو «ضميرُ المصدرِ المدلولِ عليه بقولِهِ:» فَمَنْ تَطَوَّع «أي: فالتطوعُ خيرٌ له و» له «في مَحَلِّ رفعٍ لأنه صفةٌ لخيرٍ، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، أي: خيرٌ كائنٌ له.
قوله: {وَأَن تَصُومُواْ} في تأويل مصدرٍ مرفوعٌ بالابتداء تقديرُه:» صومكم «و» خَيْرٌ «خبرُه. ومثلُه: {وَأَن تعفوا أَقْرَبُ للتقوى} [البقرة: 237] وقوله: {إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} شرطٌ حُذِفَ جوابُهُ، تقديرُه: فالصومُ خيرٌ لكم. وحُذِفَ مفعولُ العلم: إمَّا اقتصاراً، أي: إن كنتمْ من ذوي العلم والتمييز، أو اختصاراً أي: تعلمونَ ما شرعيتُه وتبيينُه، أو فَضْلَ ما عِلِمْتُم.
قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ} : فيه قراءتان، المشهورةُ الرفعُ، وفيه أوجهٌ، أحدُها: أنه مبتدأٌ، وفي خبرهِ حينئذٍ قولان، الأولُ: أنه قولُه {الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن} ويكون قد ذَكَرَ هذه الجملةَ مَنْبَهَةً على فَضْلِه ومَنْزِلَتِه، يعني أنَّ هذا الشهر الذي أُنْزِلَ فيه القرآنُ هو الذي فُرِضَ عليكم صومُهُ، والقولُ الثاني: أنه قولُه: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وتكونُ الفاءُ زائدةً وذلك على رأي الأخفشِ، وليست هذه الفاء لا تزاد في الخبرِ لشبهِ المبتدأِ بالشرطِ، وإن كان بعضُهم زَعَم أنَّها مثلُ قولِهِ:{قُلْ إِنَّ الموت الذي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ} [الجمعة: 8] وليس كذلك، لأنَّ قولِهِ:{الموت الذي تَفِرُّونَ} يُتَوَهَّم فيه عمومٌ بخلاف شهر رمضان. فإنْ قيل: أين الرابطُ بين هذه الجملةِ وبين المبتدأِ؟ قيل: تكرارُ المبتدأِ بلفظِه كقوله:
843 -
لا أَرى الموتَ يَسْبِقُ الموتَ شيءٌ
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وهذا الإِعراب - أعني كون «شهر رمضان» مبتدأ - على قولِنا: إن الأيامَ المعدوداتِ هي غيرُ رمضان، أمَّا إذا قُلْنا إنها نفسُ رمضان ففيه الوجهان الباقيان.
أحدُهما: أن يكون خَبَرَ مبتدأٍ محذوفٍ، فقدَّرَهُ الفراء: ذلكم شهرُ رمضانَ، وقدَّره الأخفش: المكتوبُ شهرُ، والثاني: أن يكونَ بدلاً مِنْ قَوْلِهِ «الصيام» أي: كُتِبَ عليكم شهرُ رمضانَ، وهذا الوجهُ وإن كان ذهب إليه الكسائي بعيدٌ جداً لوجهين، أحدُهما: كثرةُ الفصلِ بين البدلِ والمُبْدَلِ منه. والثاني: أنه لا يكونُ إذ ذاك إلا مِنْ بدلِ الإِشمالِ وهو عكسُ بدلِ الاشتمالِ، لأنَّ بدلَ الاشتمال غالباً بالمصادرِ كقوله:{عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ} [البقرة: 217]، وقول الأعشى:
844 -
لقد كانَ في حَوْلٍ ثَواءٍ ثَوَيْتُه
…
تَقَضِّي لُباناتٍ وَيَسْأَمُ سائِمُ
وهذا قد أُبْدِلَ فيه الظرفُ من المصدرِ. ويمكن أن يوجَّهَ قولُه بأنَّ الكلامَ على حَذْفِ مضافٍ تقديرُهُ: صيامُ شهر رمضان، وحينئذٍ يكونُ من بابِ [بدلِ] الشيءِ من الشيءِ وهما لعينٍ واحدة. ويجوزُ أن يكونَ الرفعُ على البدلِ من قوله «أياماً معدوداتٍ» في قراءةِ مَنْ رَفَع «أياماً» ، وهي قراءة عبدِ الله وفيه بُعْدٌ.
وأَمَّا غيرُ المشهورِ فبالنصب، وفيه أوجهٌ، أجودُها، النصبُ بإضمار
فعلٍ أي: صُوموا شهرَ رمضانَ. الثاني - وذَكَره الأخفشُ والرُمَّاني -: أن يكونَ بدلاً من قولِهِ «أياماً معدوداتٍ» ، وهذا يُقَوِّي كونَ الأيام المعدودات هي رمضانَ، إلا أن فيه بُعْداً من حيث كثرةُ الفَصْلِ. الثالثَ: نَصْبٌ على الإِغراء ذكره أبو عبيدة والحوفي. الرابع: أَنْ ينتصِبَ بقولِهِ: «وَأَنْ تصوموا» حكاه ابن عطية، وجَوَّزَهُ الزمخشري، وغَلَّطَهما الشيخُ:«بأنَه يَلْزَمُ منه الفصلُ بين الموصولِ وصلِتهِ بأجنبي، لأنَّ الخبرَ وهو» خيرٌ «أجنبي من الموصولِ، وقد تقدَّم أنه لا يُخْبَرُ عن الموصولِ إلا بعد تمامِ صلتِهِ، و» شهر «على رأيهم من تمامِ صلة» أَنْ «فامتنع ما قالوه.
وليس لقائلٍ أن يقول: يتخرَّجُ ذلك على الخلافِ في الظرفِ وحَرفِ الجر فإنه يُغْتَفَرُ فيه ذلك عند بعضهم لأنَّ الظاهرَ من نصبِهِ هنا أنه مفعولٌ به لا ظرفٌ «. الخامسُ: أنه منصوبٌ ب» تَعْملون «على حَذْفِ مضافٍ، تقديرُهُ: تعلمونَ شرفَ شهرِ رمضان فَحُذِفَ المضافُ وأقيم المضافُ إليه مُقَامَهُ في الإِعرابِ.
وأَدْغم أبو عمر راء» شهر «في راء» رمضان «، ولا يُلْتفت إلى من استضعفها من حيثُ إنَّه جَمَعَ بين ساكنين على غيرِ حَدَّيْهِما، وقولُ ابن عطية:» وذلك لا تقتضيه الأصولُ «غيرُ مقبولٍ منه، فإنَّه إذا صَحَّ النقلُ لا يُعارَضُ بالقياس.
والشهرُ لأهلِ اللغة فيه قولان، أشهرهُما: أنه اسمٌ لمدةِ الزمانِ التي
يكونُ مَبْدَؤُها الهلال خافياً إلى أن يَسْتَسِرَّ، سُمِّي بذلك لِشُهْرَتِهِ في حاجةِ الناسِ إليه من المعلوماتِ. والثاني - قاله الزجاج - أنه اسمٌ للهلالِ نفسه. قال:
845 -
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
…
والشهرُ مثلُ قُلَامَةِ الظُّفْرِ
سُمِّي بذلك لبيانِهِ، قال ذو الرُّمَّة:
846 -
. . . . . . . . . . . . . . . . . . .
…
يَرى الشهرَ قبلَ الناسِ وهو نَحِيلُ
يقولون: رَأَيْتُ الشهرَ أي: هلاله، ثم أُطْلِقَ على الزمانِ لطلوعِهِ فيه، ويقال: أَشْهَرْنا أي: أتى علينا شهرٌ. قال الفراء:» لم أَسْمَعْ فعلاً إلَاّ هذا «قال الثعلبي:» يُقال شَهَرَ الهِلالُ إذا طَلَعَ «. ويُجْمَعُ في القلةِ على أَشْهُر/ وفي الكثرةِ على شُهور. وهما مَقِيسان.
ورمضانُ علمٌ لهذا الشهر المخصوصِ وهو علمُ جنسٍ، وفي تسميته برمضان أقوالٌ، أحدُهما: أنَّه وافق مجيئه في الرَّمْضَاء - وهي شِدَّةُ الحَرِّ - فَسُمِّي بذلك، كربيع لموافقتِه الربيعَ، وجُمادى لموافقتِه جمود الماء، وقيل: لأنه يَرْمَضُ الذنوبَ أي: يَحْرِقُها بمعنى يَمْحُوها. وقيل: لأنَّ القلوبَ تَحْتَرق فيه من الموعظة. وقيل: من رَمَضْتُ النَّصْلَ دَقَقْتُه بين حجرينِ ليَرِقَّ
يقال: نَصْلٌ رَميض ومَرْموض. وكان اسمه في الجاهليةِ ناتِقاً. أنشد المفضَّل:
847 -
وفي ناتِقٍ أَجْلَتْ لدى حَوْمةِ الوَغى
…
وولَّتْ على الأدبارِ فُرْسانُ خَثْعَمَا
وقال الزمشخري:» الرَّمَضانُ مصدرُ رَمِضَ إذا احترَق من الرَّمْضاء «قال الشيخ:» وَيَحْتَاج في تحقيقِ أنَّه مصدرٌ إلى صحةِ نقلٍ، فإن فَعَلاناً ليس مصدرَ فَعِل اللازم، بل إِنْ جاءَ منه شيءٌ كان شاذَّاً «. وقيل: هو مشتقٌّ من الرَّمَضِيّ وهو مَطَرٌ يأتي قبلَ الخريفِ يُطَهِّر الأرضَ من الغبار فكذلك هذا الشهرُ يُطَهِّر القلوبَ من الذنوب.
والقرآنُ في الأصلِ مصدرُ» قَرَأْتُ «، ثم صارَ عَلَماً لِما بين الدَّفَّتْينِ ويَدُلُّ على كونِه مصدراً في الأصلِ قولُ حَسَّان في عثمانَ رضي الله عنهما:
848 -
ضَحُّوا بأَشْمَطَ عنوانُ السجودِ به
…
يُقَطِّعُ الليلَ تسبيحاً وقُرْآنا
وهو مِنْ قَرَأَ بالهمزِ أي: جَمَعَ، لأنه يَجْمَعُ السورَ والآيات والحِكَمَ والمواعِظَ والجمهورُ على همزه، وقرأ ابنُ كثير من غيرِ همزٍ.
واختُلِفَ في تخريج قراءته على وَجْهَيْن أَظهرُهما: أنه من باب النقلِ، كما يَنْقُل ورش حركةَ الهمزة إلى الساكنِ قبلَها ثم يَحْذِفُها في نحوِ:{قَدْ أَفْلَحَ} [المؤمنون: 1] وهو وإنْ لم يكنْ أصلُه النقلَ، إلا أنَّه نَقَلَ هنا لكثرةِ الدَّوْر وجمعاً بين اللغتين.
والثاني: أنه مشتقٌّ عنده مِنْ قَرَنْتُ بين الشيئين، فيكونُ وزنُهُ على هذا: فُعالاً، وعلى الأول. فُعْلاناً، وذلك أنه قد قُرِنَ فيه بين السورِ والآياتِ والحِكَمْ والمواعِظِ.
وأما قولُ مَنْ قال إنَّه مشتقٌّ مِنْ قَرَيْتُ الماءَ في الحَوْضِ أي جَمَعْتُه فغلطٌ، لأنَّهما مادتان متغايرتان. و «القرآنُ» مفعولٌ لم يُسَمَّ فاعله، ومعنى {أُنْزِلَ فِيهِ القرآن} : أنَّ القرآن نَزَلَ فيه فهو ظرفٌ لإِنزالِه: قيل في الرابع والعشرين منه، وقيل: أُنْزِلَ في شأنِه وفضلِه، كقولك «أُنِزِلَ في فلانٍ قرآنٌ» .
قوله: {هُدًى} في محلِّ نصبٍ على الحالِ من القرآن، والعاملُ فيه «أُنْزِلَ» وهُدَىً ومصدرٌ، فإمَّا أَنْ يكونَ على حَذْفِ مضافٍ أي: ذا هدى أو على وقوعِه موقعَ اسمِ الفاعلِ أي: هادياً، أو على جَعْلِه نفسَ الهُدى مبالغةً.
قوله: {لِّلنَّاسِ} يجوزُ فيه وجهان، أحدُهما: أَنْ يتعلَّقَ ب «هُدَىً» على قولِنا بأنه وَقَعَ مَوْقِعَ «هادٍ» ، أي: هادياً للناس. والثاني: أَنْ يتعلَّق بمحذوفٍ لأنه صفةٌ للنكرةِ قبلَه، ويكونُ محلُّه النصبَ على الصفةِ، ولا يجوزُ أَنْ يكون «هُدَىً» خبر مبتدأ محذوفٍ تقديرُه:«هو هدى» لأنه عُطِفَ عليه منصوبٌ صريحٌ وهو: «بَيِّنات» ، و «بَيِّنات» عطفٌ على الحالِ فهي حالٌ أيضاً، وكِلا الحالَيْنِ لازمةٌ، فإنَّ القرآن لا يكون إلا هُدىً وبيناتٍ، وهذا من باب عطف الخاص على العامَّ، لأنَّ الهدى يكونُ بالأشياء الخفيَّة والجليَّةِ، والبَيِّنات من الأشياء الجَلِيَّة.
قوله: {مِّنَ الهدى والفرقان} هذا الجارُّ والمجرورُ صفةٌُ لقوله: «هدىً وبَيِّناتٍ» فمحلُّه النصبُ، ويتعلَّق بمحذوفٍ، أي: إنَّ كَوْنَ القرآنِ هدىً وبّيِّناتٍ «هو من جملةِ هُدَى الله وبَيِّناتِه؛ وعَبَّر عن البيناتِ بالفرقان ولم يأتِ» من الهُدى والبينات «فيطابقْ العجزُ الصدر لأنَّه فيه مزيدٌ معنىً لازم للبينات
وهو كونُه يُفَرِّقُ بين الحقِّ والباطلِ، ومتى كان الشيءُ جليَّاً واضحاً حَصَل به الفرقُ، ولأنَّ في لفظِ الفرقانِ تواخيّ الفواصِلِ قبله، فلذلك عَبَّر عن البينات بالفرقان. وقال بعضُهم:» المرادُ بالهُدى الأولِ أصولُ الدياناتِ وبالثاني فروعُها «. وقال ابنُ عطية:» اللامُ في الهُدى للعهدِ، والمرادُ الأولُ «يعني أنه تقدَّم نكرةٌ، ثم أُعيد لفظُها معرفاً بأل، وما كان كذلك كانَ الثاني فيه هو الأولَ نحو قولِه:{إلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فعصى فِرْعَوْنُ الرسول}
[المزمل: 15-16]، ومِنْ هنا قال ابن عباس:«لن يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْن» وضابطُ هذا أَنْ يَحُلَّ محلَّ الثاني ضميرُ النكرةِ الأولى، ألا ترى أنه لو قيل: فعصاه لكان كلاماً صحيحاً «.
قال الشيخ:» وما قاله ابنُ عطية لا يتأتَّى هنا، لأنه ذَكَرَ هو والمُعْرِبُون أنَّ «هدى» منصوبٌ على الحالَ، والحالُ وَصْفٌ في ذي الحال، وعَطَفَ عليه «وَبيِّنات» فلا يَخْلو قولُه «من الهدى» - والمرادُ به الهدى الأولُ - من أن يكونَ صفةً لقولِه «هُدَىً» أو لقولِهِ «وبيناتٍ» أَوْ لهما، أو متعلِّقاً بلفظ «بينات» . لا جائزٌ أن يكونَ صفةً ل «هدى» لأنه مِنْ حيثُ هو وَصْفٌ لزم أن يكونَ بعضاً، ومن حيث هو الأولُ لَزِم أن يكونَ إياه، والشيء الواحدُ لا يكونُ بعضاً كُلاًّ بالنسبةِ لماهِيَّته، ولا جائزٌ أَنْ يكونَ صفةً لبيناتٍ فقط لأنَّ «وبينات» معطوفٌ على «هُدَى» و «هُدَى» حالٌ، والمعطوفُ على الحالِ حالٌ، والحالانِ وصفٌ في ذي الحال، فمِنْ حيثُ كونُهما حالَيْن تَخَصَّص بهما ذو الحال إذ هما وَصْفان، ومِنْ حيثُ وُصِفَتْ «بَيِّنات» بقوله:«مِنَ الهدى» خَصَصْناها به/ فتوقَّفَ تخصيصُ القرآن على قوله: «هُدَىً وَبَيَّنات» معاً، ومن حيثُ جَعَلْتَ «مِنَ الهدى» صفةً لبيِّنات وتَوَقَّفَ تخصيصُ «بيِّنات» على «هُدَى» فَلَزِمَ من ذلك
تخصيصُ الشيءِ بنفسِه وهو مُحالٌ. ولا جائزٌ أَنْ يَكونَ صفةً لهما لأنه يَفْسُدُ من الوجهينِ المذكورينِ مِنْ كونِه وَصَفَ الهدى فقط، أو بينات فقط.
ولا جائزٌ أَنْ يتعلَّق بلفِظِ «بينات» لأنَّ المتعلَّقَ قَيْدٌ في المتعلَّقِ به، فهو كالوصفِ فيمتنع من حيثُ يمتنعُ الوصفُ، وأيضاً فلو جَعَلْتَ هنا مكانَ الهدى ضميراً فقلْتَ: منه، أي: من ذلك الهُدى لم يَصِحَّ، فلذلك اخْتَرْنا أن يكونَ الهُدى والفرقانُ عامَّيْنِ حتى يكونَ هُدَى وبينات بعضاً منهما «.
قوله: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ} » مَنْ «فيها الوجهانِ: أعني كونَها موصولةً أو شرطيةً، وهو الأظهرُ. و» منكم «في محلِّ نصبٍ على الحالِ من الضميرِ المستكنِّ في» شَهِدَ «، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، أي: كائناً منكم. وقال أبو البقاء:» منكم «حالٌ من الفاعلِ، وهي متعلقةٌ ب» شِهِدَ «. قال الشيخ:» فَناقَضَ، لأنَّ جَعْلَهَا حالاً يوجِبُ أَن يكونَ عاملُها محذوفاً، وجَعْلَها متعلقةً بشَهِدَ يوجِبُ ألَاّ تكونَ حالاً «. ويمكنُ أَنْ يُجابَ عن اعتراضِ الشيخ عليه بأنَّ مرادَه التعلُّق المعنوي، فإنَّ كائناً الذي هو عاملٌ في قولِه» منكم «هو متعلِّقٌ بشَهِدَ، وهو الحالُ حقيقةً.
وفي نَصْبِ» الشهر «قولان، أحدُهما: أنَّه منصوبٌ على الظرف، والمرادُ بشَهِدَ: حَضَر ويكونُ مفعولُ» شَهِدَ «محذوفاً تقديرُه: فَمَنْ شَهِدَ منكُم المِصْرَ أو البلدَ في الشهرِ.
والثاني: أنه منصوبٌ على المفعولِ به، وهو على حَذْفِ مضافٍ. ثم اختلفوا في تقدير ذلك المضاف: فالصحيحُ أنَّ تقديره «دخول الشهر» . وقال بعضُهم: هلال الشهر، وهذا ضعيفٌ لوجهين، أحدهما: أنك لا تقول: شَهِدْتُ الهلالَ، إنما تقول: شاهَدْتُ الهِلالَ.
والثاني: أنه كان يَلْزَمُ الصومَ كلُّ مَنْ شَهِدَ الهلالَ، وليس كذلك. وقال الزمخشري:«الشهرَ منصوبٌ على الظرف، وكذلك الهاءُ في» فَلْيَصُمْه «، ولا يكونُ مفعولاً به كقولك: شَهِدْتُ الجمعة، لأنَّ المقيمَ والمسافِرَ كِلاهُما شاهِدَان للشهرِ» وفي قوله: «الهاء منصوبةٌ على الظرفِ» فيه نظرٌ لا يَخْفَى، لأنَّ الفعلَ لا يتعدَّى لضميرِ الظَرْفِ إلا ب «في» ، اللهم إلَاّ أَنْ يُتَوَسَّع فيه، فَيُنْصَبَ نَصْبَ المفعولِ به، وهو قد نَصَّ على أَنَّ نَصْبَ الهاءِ أيضاً على الظرفِ.
والفاءُ في قولِه: «فَلْيَصُمْهُ» : إمَّا جوبُ الشرطِ، وإمَّا زائدةٌ في الخبر على حَسَبِ ما تقدَّم في «مَنْ» ، واللامُ لامُ الأمرِ. وقرأ الجمهورُ بسكونِها وإنْ كان أصلُها الكسرَ، وإنما سكَّنوها تشبيهاً لها مع الواوِ والفاءِ ب «كَتِف» ، إجراءً للمنفصِلِ مُجْرَى المتصلِ. وقرأ السلمي وأبو حَيْوة وغَيرُهُما بالأصل، أعني كسر لامِ الأمر في جميعِ القرآن. وفَتْحُ هذه اللامِ لغةُ سُلَيْم فيما حكاه الفراء، وقَيَّد بعضُهم هذا عن الفراء، فقال:«مِنَ العرب مَنْ يفتحُ هذه اللام لفتحةِ الياء بعدها» ، قال:«فلا يكونُ على هذا الفتحُ إنِ انكسَرَ ما بعدها أو ضُمَّ نحو: لِيُنْذِرُ، ولِتُكْرِمْ أنتَ خالداً» .
والألفُ واللامُ في قولِه {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ} للعهدِ إذ لو أَتَى بدَله بضميرٍ فقالَ: فَمَنْ شَهِدَه منكم لَصَحَّ، إلا أنَّه أَبْرزه ظاهراً تَنْويهاً به.
قوله: {يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر} تقدَّم معنى الإِرادة واشتقاقُها عند قوله تعالى: {مَاذَآ أَرَادَ الله بهذا} [البقرة: 26] . و «أراد» يتعدى في الغالبِ إلى الأجْرام بالياء
وإلى المصادرِ بنفسِه كالآيةِ الكريمةِ، وقد يَنعكِسُ الأمرُ، قال الشاعر:
849 -
أرادَتْ عَراراً بالهَوانِ ومَنْ يُرِدْ
…
عَراراً لعَمْرِي بالهَوانِ فَقَدْ ظَلَمْ
والباءُ في «بكم» قالَ أبو البقاء: «للإِلصاقِ، أي: يُلْصِقُ بكم اليُسْرَ وهو من مجازِ الكلامِ، أي: يريدُ اللهُ بفِطْركم في حالِ العُذْرِ اليسرَ. وفي قولِه: {وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ العسر} تأكيدٌ، لأنَّ قبلَه {يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر} وهو كافٍ عنه. وقرأ أبو جعفر ويحيى بن وثاب وابن هرمز:» اليُسُر والعُسُر «بضمّ السين، واختلف النحاةُ: هل الضَمُّ أصلٌ والسكونُ تخفيفٌ، أو الأصلُ السكونُ والضمُّ للإِتباعِ؟ الأولُ أظهرُ لأنه المعهودُ في كلامِهم.
قوله: {وَلِتُكْمِلُواْ} في هذه اللام ثلاثةُ أقوالٍِ، أحدُها: أنها زائدةٌ في المفعولِ به كالتي في قولك: ضَرَبْتُ لزيدٍ، و «أَنْ» مُقَدَّرةٌ بعدَها تقديرُه:«ويريد أنْ تُكمِلوا العِدَّة» أي: تكميلَ، فهو معطوفٌ على اليُسْر. ونحوُه قولُ أبي صخر:
850 -
أريدُ لأَنْسَى حُبَّها فكأنَّما
…
تَمَثَّلُ لي ليلى بكلِّ طريقِ
وهذا قولُ ابن عطية والزمخشري وأبي البقاء، وإنما حَسُنَتْ زيادةُ هذه اللام في المفعولِ - وإنْ كان ذلك إنما يكونُ إذا كان العاملُ فرعاً
أو تقدَّمَ المعمولُ - من حيث إنه لمَّا طالَ. الفصلُ بين الفعلِ وبين ما عُطِفَ على مفعوله ضَعُفَ بذلك تَعَدِّيه إليه فَعُدِّي بزيادة اللام قياساً لضَعْفِه بطولِ الفصلِ على ضَعْفِه بالتقديم.
الثاني: أنَّها لامُ التعليل وليسَتْ بزائدةٍ، واختلَفَ القائلون بذلك على ستةِ أوجه أحدُها: أن يكونَ بعدَ الواوِ فعلٌ محذوفٌ / وهو المُعَلَّل تقديرُه: «ولِتُكْمِلوا العِدَّة فَعَلَ هذا» ، وهو قولُ الفراء. الثاني - وهو قولُ الزجاج - أن تكونَ معطوفةً على علة محذوفةٍ حُذِفَ معلولُها أيضاً تقديرُه: فَعَلَ الله ذلك لِيُسَهِّل عليكِم ولِتُكْمِلوا. الثالث: أن يكونَ الفعلُ المُعَلَّلُ مقدراً بعد هذه العلةِ تقديرُه: «ولِتُكْمِلوا العدَّةَ رخَّص لكم في ذلك» ونَسبه ابن عطية لبعض الكوفيين. الرابع: أنَّ الواوَ زائدةٌ تقديرُه: يريد الله بكم كذا لِتُكْمِلوا، وهذا ضعيفٌ جداً. الخامسُ: أَنْ يكونَ الفعلُ المُعَلَّلُ مقدراً بعدَ قولِه: «ولَعَلَّكم تَشْكُرون» ، تقديرُه: شَرَعَ ذلك، قاله الزمخشري، وهذا نصُّ كلامِه قال:«شَرَعَ ذلك، يَعني جُملةَ ما ذَكَر من أمرِ الشاهدِ بصومِ الشهرِ وأمرِ المرخَّصِ له بمراعاةِ عِدَّةِ ما أَفْطَر فيه ومن الترخيص في إباحةِ الفطر، فقولُه:» ولِتُكْمِلوا «علَّةُ الأمر بمراعاةِ العدَّة، و» لِتُكَبِّروا «علةُ ما عُلِم من كيفية القضاءِ والخروج عن عُهْدةِ الفِطْر و» لعلَّكم تَشْكرون «علةُ الترخيصِ والتيسير، وهذا نوعٌ من اللفِّ لطيفُ المَسْلَكِ، لا يهتدي إلى تبينُّه إلا النُّقَّابُ من علماءِ البيانِ» . السادس: أن تكونَ الواوُ عاطفةً على علةٍ محذوفةٍ، التقديرُ: لتعملوا ما تعلَمون ولِتُكْملوا، قاله الزمخشري، وعلى هذا فالمعلَّلُ هو إرادةُ التيسيرِ. واختصارُ
هذه الأوجهِ أَنْ تكونَ هذه اللامُ علةً لمحذوفٍ: إمّا قبلَها وإمَّا بَعدَها، أو تكونَ علةً للفعلِ المذكور قبلَها وهو «يُريد» .
الثالث: أنَّها لامُ الأمرِ، وتكونُ الواوُ قد عَطَفَتْ جملةً أمريةً على جملةٍ خبريَّةٍ، فعلى هذا يكونُ من بابِ عطفِ الجملِ، وعلى ما قبلَه يكونُ من عَطْفِ المفردات كما تقدَّم تقريرُه، وهذا قولُ ابنِ عطية، وضَعَّفه الشيخُ بوجهَيْنِ، أحدُهما: أنَّ أَمْرَ المخاطبِ بالمضارع مع لامِه لغةٌ قليلةٌ نحوُ: لِتَقُمْ يا زيد، وقد قرىء شاذاً:{فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ} [يونس: 58] بتاء الخطاب. والثاني: أن القُرَّاءَ أَجْمَعُوا على كسرِ هذه اللامِ، ولو كانَتْ للأمرِ لجاز فيها الوجهان: الكسرُ والإِسكانُ كأخواتها.
وقرأ الجمهورُ «ولِتُكْمِلوا» مخففاً من أَكْمل، والهمزةُ فيه للتعدية. وقرأ أبو بكر بتشديدِ الميم، والتضعيفُ للتعديةِ أيضاً؛ لأنَّ الهمزةَ والتضعيفَ يتعاقبان في التعديةِ غالباً، والألفُ واللامُ في «العِدَّة» تَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أحدُهما: أنها للعهدِ فيكونُ ذلك راجعاً إلى قولِه تعالى: {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وهذا هو الظاهرُ، والثاني: أَنْ تكونَ للجنسِ، ويكونُ ذلك راجعاً إلى شهرِ رمضانَ المأمورِ بصومِه، والمعنى أنكم تأتُون ببدلِ رمضان كاملاً في عِدَّته سواءً كان ثلاثين أم تسعةً وعشرين. واللامُ في «وَلِتُكَبِّروا» كهي في «ولِتُكْمِلوا» ، فالكلام فيها كالكلام فيها، إلَاّ أنَّ القولَ الربعَ لا يتأتَّى هنا.
قوله: {على مَا هَدَاكُمْ} هذا الجارُّ متعلِّقٌ ب «تُكَبِّروا» . وفي «على»
قولان، أحدُهما: أنها على بابِها من الاستعلاءِ، وإنما تَعَدَّى فعلُ التكبيرِ بها لتضمُّنِهِ معنى الحمدِ. قال الزمخشري:«كأنَّه قيل: ولِتُكَبِّروا الله حامِدين على ما هَدَاكم» قال الشيخ: «وهذا منه تفسيرُ معنى لا إعراب، إذ لو كان كذلك لكانَ تعلُّقُ» على «ب» حامدين «التي قَدَّرها لا ب» تُكَبِّروا «، وتقديرُ الإِعراب في هذا هو:» ولِتَحْمَدُوا الله بالتكبيرِ على ما هداكم، كما قدَّره الناسُ في قوله:
851 -
قد قَتَلَ اللهُ زياداً عَنِّي
…
أي: صَرَفَه بالقتلِ عني، وفي قولِه:
852 -
ويَرْكَبُ يومَ الرَّوْع مِنَّا فوارِسٌ
…
بصيرونَ في طَعْن الكُلى والأباهِرِ
أي: متحكِّمون بالبصيرة في طَعْن الكُلى «. والثاني: أنها بمعنى لامِ العلَّةِ، والأول أَولَى لأنَّ المجازَ في الحرفِ ضعيفٌ.
و» ما «في قوله: {على مَا هَدَاكُمْ} فيها وجهان، أظهرهُما: أنها مصدريةٌ، أي: على هدايته إياكم. والثاني: أنَّها بمعنى الذي. قال الشيخ:» وفيهُ بَعُدٌ مِنْ وَجْهَيْن، أحدُهما: حَذْفُ العائدِ تقديرُه: هداكُموه «وقَدَّره منصوباً لا مجروراً باللامِ ولا بإلى، لأنَّ حَذْفَ المنصوبِ أسهلُ،
والثاني: حَذْفُ مضافٍ يَصِحُّ به معنى الكلامِ، تقديرُه: على اتِّباع الذي هَداكُمْ أو ما أَشْبَهَه» .
وخُتِمَتْ هذه الآية بترجِّي الشكر لأنَّ قبلَها تيسيراً وترخيصاً، فناسَبَ خَتْمَها بذلك. وخُتمت الآيتان قبلَها بترجِّي التقوى، وهو قولُه:{وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ} [البقرة: 179] وقولُه: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام} [البقرة: 178] لأنَّ القصاصَ والصومَ من أشقِّ التكاليفِ، فناسَب خَتْمَها بذلك، وهذا أسلوبٌ مطَّردٌ، حيث وَرَدَ ترخيصٌ عقَّب بترجي الشكر غالباً، وحيث جاء عَدَمُ ترخيصِ عَقَّب بترجي التقوى وشِبْهِها، وهذا من محاسِن علمِ البيانِ.
قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ} : في «أُجيب» وجهانِ أحدُهما: أنها جملةٌ في محلِّ رفع صفةً ل «قَرِيبٌ» والثاني أنها خبرٌ ثانٍ لإِنِّي، لأنَّ «قريب» خبرٌ أولُ.
ولا بُدَّ من إضمارِ قولٍ بعدَ فاء الجزاء تقديرُه: فَقُلْ لهم إني قَرِيبٌ، وإنما احتُجْنا إلى هذا التقديرِ لأنَّ المترتِّب على الشرط الإِخبارُ بالقُرْبِ. وجاء قولُه «أجيب» مراعاةً للضميرِ السابقِ على الخبرِ، ولم يُراعَ الخبرُ فيقالُ:«يُجيبُ» بالغَيْبَة مراعاةً لقولِه: «قريبٌ» لأنَّ الأَشهَر من طريقتي العرب هو الأولُ، كقوله تعالى:{بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [النمل: 55] وفي أخرى {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} [النمل: 47]، وقولِ الشاعر:
853 -
وإنَّا لَقَوْمٌ ما نرى القَتْلَ سُبَّةً
…
إذا ما رَأَتْهُ عامِرٌ وسَلُولُ
/ ولو راعى الخبر لقال: «مَا يَرَوْنَ القَتْلَ» .
وفي قوله: {عَنِّي} و «إنِّي» التفاتٌ من غَيْبَة إلى تَكَلُّمٍ، لأنَّ قبلَه، «ولتُكَّبِّروا الله» والاسمُ الظاهرُ في ذلك كالضميرِ الغائبِ. والكافُ في «سألَكَ» للنبي صلى الله عليه وسلم وإنْ لم يَجْرِ لَه ذكْرٌُ، إلَاّ أنَّ قولَه:{أُنْزِلَ فِيهِ القرآن} يَدُلُّ عليه، لأنَّ تقديره:«أُنْزِلَ فيه القرآنُ على الرسول صلى الله عليه وسلم» . وفي قوله: «فإني قريب» مجازٌ عن سرعةِ إجابته لدعوةِ داعيه، وإلَاّ فهو متعالٍ عن القُرْبِ الحس لتعاليه عن المكان، ونظيرُه:{وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد} [ق: 16] ، «» هو بَيْنَكم وبين أَعْنَاق رواحلِكم «
والعاملُ في» إذا «قال الشيخ:» قولُه: أُجيبُ «يعني» إذا «الثانيةَ فيكونُ التقديرُ: أُجيبُ دعوته وقتَ دعائِه، فيُحْتَملُ أنْ تكونَ لمجردِ الظرفية وأَنْ تكونَ شرطيةً، وحذف جوابها لدلالةِ» أُجِيْبُ «عليه، وحينئذٍ لا يكونُ» أُجيبُ «هذا الملفوظُ به هو العامل فيها، بل ذلك المحذوفُ، أو يكونُ هو الجوابَ عند مَنْ يُجيز تقديمَه على الشرط، وأمَّا» إذا «الأولى فإنَّ العاملَ فيها ذلك القولُ المقدَّرُ. والهاء في» دعوة «ليستْ الدالَّة على المَرَّة نحو: ضَرْبَة وقَتْلَة، بل التي بُنِيَ عليها المصدرُ نحو: رَحْمة ونَجْدة، فلذلك لم تَدُلَّ على الوَحْدَة.
والياءان من قولِه:» الداع - دعانِ «من الزوائدِ عند القُرَّاء، ومعنى ذلك أنَّ الصحابَة لم تُثْبِتْ لها صورةً في المصحفِ، فمن القُرَّاء مَنْ أَسْقَطَها تَبَعاً للرسم وَقْفاً ووَصْلاً، ومنهم مَنْ يُثْبِتُها في الحالَيْن، ومنهم مَنْ يُثْبِتَها وَصَّلاً
ويَحْذِفُها وَقْفاً، وجملةُ هذه الزوائد اثنتان وستون ياءً، ومعرفةُ ذلك مُحَالةُ على كتبِ القراءاتِ، فَأَثْبَتَ أبو عمروٍ وقالون هاتين الياءيْن وَصْلاً وحَذَفَاها وقفاً.
قوله: {فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي} في الاستفعالِ هنا قولان، أحدُهما: أنَّه للطلب على بابِه، والمعنى: فَلْيَطْلبُوا إجابتي قاله ثعلب. والثاني: أنه بمعنى الإِفعال، فيكون استفعل وأَفْعَل بمعنىً، وقد جاءَتْ منه ألفاظٌ نحو: أقرَّ واستقرَّ؛ وأبَلَّ المريضُ واسْتَبَلَّ، وأحصدَ الزرعُ واستحصد، واستثار الشيء وأثارَه، واستعجله وأَعْجَله، ومنه استجابَهُ وأجَابَهُ، وإذا كان استفعل بمعنى أَفْعَل فقد جاء متعدِّياً بنفسه وبحرف الجرِّ، إلا أنه ل يَرِدْ في القرآن إلَاّ مُعَدَّىً بحرف الجرِّ نحو:{فاستجبنا لَهُ} [الأنبياء: 84] فاستجاب لَهُمْ «، ومِنْ تعدِّيه بنفسِه قوله:
854 -
وداعٍ دَعَا يا مَنْ يُجيبُ إلى النَّدى
…
فلم يَسْتَجِبْه عند ذاك مُجيبُ
ولقائلٍ أن يقولَ: يَحْتَمِلُ هذا البيتُ أَنْ يكونَ مِمَّا حُذِفَ منه حرفُ الجر.
واللامُ لامُ الأمر، وفَرَّق الرماني بين أَجاب واستجاب: بأنَّ» استجاب «لا يكون إلا فيما فيه قبول لِما دُعِي إليه نحو: {فاستجبنا لَهُ} [الأنبياء: 76] {فاستجاب لَهُمْ رَبُّهُمْ} [آل عمران: 195] ، وأمَّا» أجاب «فأعمُّ لأنه قد يُجيب بالمخالفة، فَجَعَل بينهما عموماً وخصوصاً.
والجمهورُ على» يَرْشُدون «بفتح الياءِ وضمِّ الشينِ، وماضيه رَشَدَ بالفتح وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة بخلافٍ عنهما بكسر الشين، وقُرىء بفتحها. وماضيه رَشِد بالكسر، وقرىء، يُرْشَدون» مبنياً للمفعول، وقرىء:«يُرْشِدُونَ» بضم الياء وكسر الشين من أَرْشد. المفعولُ على هذا محذوفٌ تقديرُه: يُرْشِدون غيرَهم.
قوله تعالى: {لَيْلَةَ الصيام} : منصوبٌ على الظرفِ، وفي الناصبِ له ثلاثةُ أقوالٍ، أحدُها: - وهو المشهورُ عند المُعْرِبين - أنه «أُحِلَّ» ، وليس بشيءٍ، لأنَّ الإِحلال ثابتٌ قبلَ ذلك الوقتِ. الثاني: أنه مقدرٌ مدلولٌ عليه بلفظ «الرفث» ، تقديرُه: أُحِلَّ لكم أن تَرْفُثوا ليلة الصيامِ، كما خَرَّجوا قول الشاعر:
855 -
وبعضُ الحِلْم عِند الجَهْ
…
لِ للذلَّةِ إذْعان
أي: إذعان للذلة إذعانٌ، وإنما لم يَجُزْ أن يَنْتَصِب بالرَّفَثِ لأنه مصدرٌ مقدَّرٌ بموصولٍ، ومعمولُ الصلة لا يتقدَّمُ على الموصولِ فلذلك احْتُجْنا إلى إضمار عاملٍ مِنْ لفظ المذكورِ. الثالث: أنه متعلِّق بالرفثِ، وذلك على رَأْي مَنْ يرى الاتساعَ في الظروف والمجرورات، وقد تقدَّم تحقيقه.
وأضيفت الليلة اتساعاً لأنَّ شرطَ صحتِه وهو النيةُ موجودةٌ فيها، والإِضافة [تحصُل] بأدنى ملابسةٍ، وإلَاّ فمِنْ حَقِّ الظرف المضاف إلى حَدَثٍ أن يُوجَدَ ذلك الحدثُ في جزء من ذلك الظرف، والصومُ في الليلِ غيرُ معتبرٍ، ولكنَّ المُسَوِّغَ لذلك ما ذَكرْتُ لك.
والجمهورُ على «أُحِلَّ» مبنياً للمفعولِ للعلمِ به وهو اللَّهُ تعالى، وقرىء مبنياً للفاعلِ، وفيه حينئذٍ احتمالان، أحدُهما: أن يكونَ من باب الإِضمارِ لفَهْمِ المعنى، أي أَحَلَّ اللَّهُ، لأنَّ من المعلومِ أنه هو المُحَلِّل والمحرِّم. والثاني: أن يكونَ الضميرُ عائداً على ما عاد عليه من قولِهِ: {فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي} وهو المتكلمُ، ويكونُ ذلك التفاتاً، وكذلك في قوله «لكم» التفاتٌ من ضميرِ الغَيْبة في:«فَلْيَسْتجيبوا وَلْيؤمنوا» . وعُدِّي «الرفث» بإلى، وإنما يتعدَّى بالباء لِما ضُمِّن مِنْ معنى الإِفضاء، كأنه قيل: أُحِلَّ لكم الإِفضاءُ إلى نسائِكم بالرَّفَث.
وقرأ عبد الله «الرَّفوث» . والرَّفَثُ لغةً مصدرُ: رَفَثَ يَرْفُث إذا تكلم بالفُحْشِ، وأَرْفَثَ أتى بالرَّفَثِ، قال العجاج:
856 -
ورُبَّ أسرابِ حجيجٍ كُظَّمِ
…
عن اللَّغا وَرَفَثِ التكلُّم
وقال الزجاج: - ويُروى عن ابن عباس - «إن الرفثَ كلمةٌ جامعةٌ لكلِّ ما يريدُه الرجلُ من المرأة» . وقيل: الرفث: الجِماعُ نفسُه، وأنشد:
857 -
ويُرَيْنَ من أَنَسِ الحديثِ زوانيا
…
ولَهُنَّ عن رَفَثِ الرجالِ نفارُ
وقول الآخر:
858 -
فَظِلْنَا هنالِكَ في نِعْمَةٍ
…
وكلِّ اللَّذاذَةِ غيرَ الرَّفَثْ
ولا دليل فيه لاحتمالِ إرادة مقدمات الجِماع كالمداعَبَةِ والقُبْلَةِ، وأنشد ابنُ عباس وهو مُحْرِمٌ: /
859 -
وهُنَّ يَمْشِين بنا هَمِيسا
…
إنْ يَصْدُقِ الطيرُ نَنِكَ لَمِيسا
فقيل له: رَفَثْتَ، فقال: إنما الرَّفَث عند النساء.
قوله: {كُنتُمْ تَخْتانُونَ} في محلِّ رفعٍ خبرٌ لأنَّ. و «تَخْتانون» في محلِّ نصبٍ خبرٌ لكان. قال أبو البقاء: «وكُنْتُم هنا لفظُها لفظُ الماضي ومعناها المضيُّ أيضاً، والمعنى: أن الاختيان كان يقعُ منهم فتاب عليهم منه، وقيل: إنه أرادَ الاختيان في الاستقبال، وذَكَرَ» كان «ليحكي بها الحالَ كما تقول: إن فعلت كنت ظالماً» وفي هذا الكلامِ نظرٌ لا يَخْفى.
و «تَخْتَانون» تَفْتَعِلُون من الخيانة، وعينُ الخيانة واوٌ لقولِهم: خانَ يخُون، وفي الجمع: خَوَنَة، يقال: خانَ يَخُون خَوْناً وخِيانة، وهي ضدُّ الأمانة، وتَخَوَّنْتُ الشيءَ تَنَقَّصْتُه، قال زهير:
860 -
بآرِزَةِ الفَقَارَةِ لم يَخُنْهَا
…
قِطافٌ في الرِّكاب ولا خِلاءُ
وقال الزمخشري: «والاختيانُ: من الخيانة كالاكتساب من الكَسْبِ، فيه زيادةٌ وشِدَّة» يعني من حيثُ إن الزيادة في اللفظ تُنْبِىءُ عن زيادةٍ في المعنى، كما قَدَّمَهُ في قولِهِ الرحمنُ الرحيمُ. وقيل هنا: تختانون أَنْفُسَكُم أي:
تتعهدونها بإتيانِ النساء، وهذا يكون بمعنى التخويل، يقال: تَخَوَّنه وَتَخَوَّله بالنون واللام، بمعنى تَعَهَّده، إلا أنَّ النونَ بدلٌ من اللام، لأنه باللامِ أشهرُ.
و «عَلِمَ» إنْ كانَتِ المتعدية لواحد بمعنى عَرَف، فتكونُ «أنَّ» وما في حيِّزها سادَّة مَسَدَّ مفعولٍ واحدٍ، وإن كانتِ المتعديةَ لاثنينِ كانَتْ سادةً مَسَدَّ المفعولينِ على رأي سيبويه، ومَسَدَّ أحدِهما والآخرُ محذوفٌ على مذهبِ الأخفش.
وقوله: {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ} لا محلَّ له من الإِعراب، لأنه بيانٌ للإِحلالِ فهو استئنافٌ وتفسيرٌ: وقَدَّمَ قولَه: {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ} على {وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ} تنبيهاً على ظهورِ احتياجِ الرجل للمرأةِ وعَدَم صَبْرِهِ عنها، ولأنَّه هو البادىءُ بطلبِ ذلك، وكَنَى باللباسِ عن شِدَّة المخالَطَةِ كقولِهِ - هو النابغة الجَعْدِي -:
861 -
إذا ما الضجيعُ ثُنَى جيدَها
…
تَثَنَّتْ عليه فكانَتْ لباسا
وفيه أيضاً:
862 -
لَبِسْتُ أُناساً فَأَفْنَيْتُهُمْ
…
وَأَفْنَيْتُ بعد أُناسٍ أُناسا
قوله: {فالآن بَاشِرُوهُنَّ} قد تقدَّم الكلامُ على «الآن» . وفي وقوعِهِ ظرفاً للأمرِ تأويلٌ، وذلك أنه للزمنِ الحاضِرِ والأمرُ مستقبلٌ أبداً، وتأويلُهُ ما قاله أبو البقاء قال: «والآن: حقيقَتُه الوقتُ الذي أَنْتَ فيه، وقد يقع على
الماضي القريب منكَ، وعلى المستقبلِ القريبِ، تنزيلاً للقريبِ منزلةَ الحاضِرِ، وهو المرادُ هنا، لأنَّ قولَه:» فالآن باشِروهُنَّ «أي: فالوقتُ الذي كان يُحَرَّمُ عليكم فيه الجِماعُ من الليل» وقيل: هذا كلامٌ محمولٌ على معناه، والتقدير: فالآن قد أَبَحْنا لكم مباشَرَتَهُنَّ، ودَلَّ على هذا المحذوفِ لفظُ الأمرِ فالآن على حقيقته
وقرىء: «واتَّبِعُوا» من الاتِّباع، وتُرْوى عن ابن عباس ومعاوية ابن قرة والحسن البصري. وفَسَّروا «ما كَتَبَ اللَّهُ» بليلةِ القدر، أي: اتَّبِعوا ثوابها، قال الزمخشري:«وهو قريبٌ من بِدَعِ التفاسير» .
قوله: {حتى يَتَبَيَّنَ} «حتى» هنا غايةٌ لقولِهِ: «كُلُوا واشربوا» بمعنى إلى، ويقال: تَبَيَّن الشيءُ وأبان واستبان وبانَ كُلُّه بمعنىً، وكلُّها تكونُ متعديةٌ ولازمةً، إلَاّ «بان» فلازمٌ ليس إلَاّ. و «مِن الخيط» مِنْ لابتداءِ الغاية وهي ومجرورُها في محلِّ نصبٍ ب يتبيَّن، لأنَّ المعنى: حتى يُبايِن الخيطُ الأبيضُ الأسودَ.
و «من الفجر» يجوزُ فيه ثلاثة أوجهٍ، أحدُها: أن تكونَ تبعيضيةً فتتعلَّق أيضاً ب «يتبيَّن» ؛ لأنَّ الخيطَ الأبيضَ وهو بعَضُ الفجرِ وأولُه، ولا يَضُرُّ تعلُّق حرفين بلفظٍ واحدٍ بعاملٍ واحدٍ لاختلافِ معناهما. والثاني: أن تتعلَّق بمحذوفٍ على أنها حالٌ من الضمير في الأبيض، أي: الخيطُ الذي هو أبيضُ كائناً من الفجرِ، وعلى هذا يجوزُ أن تكونُ «مِنْ» لبيانِ الجنس كأنه قيل
الخيطُ الأبيضُ الذي هو الفجرُ. والثالث: أن يكونَ تمييزاً، وهو ليس بشيء، وإنما بَيَّن قولَه «الخيط الأبيض» بقولِهِ:«مِنَ الفجرِ» ، ولم يُبَيِّن الخيطَ الأسود فيقول: مِنَ الليلِ اكتفاءً بذلك، وإنما ذَكَرَ هذا دونَ ذاك لأنَّه هو المَنُوط به الأحكامُ المذكورةُ من المباشَرَةِ والأكلِ والشُّرْبِ.
وهذا من أحسنِ التشبيهات حيث شَبَّه بياضَ النَّهار بخيطٍ أبيضَ، وسوادَ الليل بخيطٍ أسودَ، حتى إنه لما ذَكَر عَديُّ بن حاتَمٍ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم إنه فَهِمَ من الآية حقيقةَ الخيطِ تعجَّب منه، وقال:«إن وسادَك لَعَرِيض» ويُروى: «إنك لعريضُ القَفَا» وقد رُوي أنَّ بعضَ الصحابة فَعَلَ كَفِعْل عَدِيّ، ويُرْوى أن بينَ قولِهِ «الخيط الأبيض» «من الخيط الأسود» عاماً كاملاً في النزولِ. وهذا النوعُ من بابِ التشبيهِ من الاستعارة، لأنَّ الاستعارَة هي أَنْ يُطْوَى فيها ذِكْرُ المُشَبَّهِ، وهنا قد ذُكِرَ وهو قولُهُ:«من الفجر» ، ونظيرُهُ قولُكَ:«رأيت أسداً من زيدٍ» لو لم تَذْكُر: «من زيدٍ» لكانَ استعارةً. ولكنَّ التشبيهَ هنا أبلغُ، لأنَّ الاستعارة لا بد فيها من دلالةٍ حاليةٍ، وهنا ليس ثَمَّ دلالةٌ، ولذلك مَكَثَ بعضُ الصحابة يَحْمِلُ ذلك على الحقيقةِ مدةً، حتى نَزَلَ «مِنَ الفَجْرِ» فَتُرِكَتْ الاستعارة وإنْ كانَتْ أبلغَ لِمَا ذَكَرْتُ لك.
والفجرُ مصدر فَجَرَ يَفْجُرُ أي: انشَقَّ.
قوله: {إِلَى الليل} فيه وجهان: أحدُهما: أنه متعلِّق بالإِتمامِ فهو غايةٌ له. والثاني: أنه في محلِّ نصبٍ على الحالِ من الصيام، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، أي: كائناً إلى الليل، و «إلى» إذا كان ما بعدها من غيرِ جنسِ ما قبلَها لم يدخُلْ فيه، والآيةُ من هذا القبيلِ.
«وأنتم عاكفون» جملةٌ حاليةٌ من فاعل «تباشروهُنَّ» ، والمعنى: لا تباشروهُنَّ وقد نَوَيْتُم الاعتكافَ في المسجد، وليس المرادُ النهيّ عن مباشرتِهِنَّ في المسجدِ بقيدِ الاعتكافِ، لأنَّ ذلك ممنوعٌ منه في غير الاعتكاف أيضاً.
والعُكُوف: الإِقامَةُ والملازَمَةُ له، يقال: عَكَف / بالفتح يَعْكِفُ بالضم والكسر، وقد قُرىء:{يَعْكُفُونَ على أَصْنَامٍ} [الأعراف: 138] بالوجهين وقال الفرزدق:
863 -
تَرَى حَوْلَهُنَّ المُعْتَفِين كأنَّهم
…
على صَنَمٍ في الجاهليةِ عُكَّفُ
وقال الطرماح:
864 -
وظلَّ بناتُ الليلِ حولي عُكَّفاً
…
عكوفَ البواكي بينهنَّ صَريعُ
ويقال: الافتعالُ منه في الخير، والانفعالُ في الشَّرِّ. وأمَّا الاعتكافُ في الشرع فهو إقامةٌ مخصوصةٌ بشرائط، والكلامُ فيه بالنسبة إلى الحقيقةِ الشرعيةِ كالكلام في الصلاةِ. وقرأ قتادة:«عَكِفُون» كأنه يقال: عاكِفٌ وعَكِفُ نحو بار وَبَرّ ورَابٌّ ورَبٌّ. وقرأ الأعمش: «في المسجدِ» بالإِفرادِ كأنه يريد الجنسَ.
قوله: {تِلْكَ حُدُودُ الله} مبتدأٌ وخبرٌ، واسمُ الإِشارة أَخْبَرَ عنه بجمعٍ، فلا جائزٌ أنْ يُشار به إلى ما نُهِيَ عنه في الاعتكاف لأنه شيءٌ واحدٌ، بل هو إشارةٌ
إلى ما تضمَّنَتْه آيةُ الصيامِ من أولها إلى هنا، وآيةُ الصيامِ قد تَضَمَّنَتْ عدةَ أوامِرَ، والأمرُ بالشيء نْهَيٌ عن ضدَّه، فبهذا الاعتبارِ كانَتْ عِدَّةَ مناهيَ، ثم جاء آخرُها صريحَ النهي وهو:«ولا تباشِرُوهُنَّ» فأَطْلَقَ على الكل «حدوداً» تغليباً للمنطوقِ به، واعتباراً بتلك المناهي التي تضمَّنَتْهَا الأوامرُ، فقيل فيها حدودٌ، وإنما اضطُرِرْنا إلى هذا التأويلِ لأنَّ المأمورَ به لا يقال فيه «فلا تَقْرَبُوها» .
قال أبو البقاء: «دخولُ الفاءِ هنا عاطفةٌ على شيءٍ محذوفٍ تقديرُه:» تَنَبَّهوا فلا تَقْرَبُوها «ولا يَجُوز في هذه الفاء أَنْ تكونَ زائدةً كالتي في قولِهِ تعالى: {وَإِيَّايَ فارهبون} [البقرة: 40] على أحدِ القولَيْنِ، لأنه كانَ ينبغي أن ينتصِبَ» حدودَ الله «على الاشتغالِ، لأنه الفصيحُ فيما وَقَعَ قبل أمر أو نهي نحو:» زيداً فاضْرِبْه، وعمراً فلا تُهِنْهُ «فلمَّا أَجْمَعَت القُرَّاءُ هنا على الرفع علمنا أنَّ هذه الجملةَ التي هي» فلا تَقْرَبُوها «منقطعةٌ عمَّا قبلها، وإلَاّ يلزمْ وجودُ غيرِ الفصيحِ في القرآنِ.
والحدودُ: جَمْعُ حَدٍّ وهو المنعُ، ومنه قيلَ للبَوَّاب: حَدَّاد، لأنَّه يَمْنَعُ من العبور. وحَدُّ الشيءِ منتهاه ومنقطَعُه، ولهذا يُقال: الحَدُّ مانِعٌ جامع أي: يَمْنَعَ غير المحدودِ الدخولَ في المحدودِ. والنهيُ عن القربانِ أبْلَغُ من النهيِ عن الالتباسِ بالشيءِ، فلذلك جاءتِ الآيةُ الكريمةُ.
وقال هنا:» فلا تقْرَبُوها «وفي مواضع أُخَرَ: {فَلَا تَعْتَدُوهَا} [البقرة: 229] ومثلُه: {
وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله} [البقرة: 229]{وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ} [النساء: 14] لأنه غَلَّب هنا جهةَ النهي إذ هو المُعَقَّبُ بقوله: {تِلْكَ حُدُودُ الله} وما كان مَنْهِيّاً عن فعلِهِ كان النهيُ عن قُرْبَانِهِ أبلغَ، وأمَّا الآياتُ الأُخَرُ فجاء» فلا تَعْتَدُوها «عَقِبَ بيانِ أحكامٍ ذُكِرَت قبلُ كالطلاقِ والعِدَّة والإِيلاءِ والحَيْض والمواريث، فناسَبَ أن يَنْهَى عن التَّعدِّي فيها، وهو مجاوَزَةُ الحَدِّ الذي حَدَّه اللَّهُ فيها.
قوله: {كذلك يُبَيِّنُ الله} الكافُ في محلِّ نصب: إمَّا نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ، أي: بياناً مثلَ هذا البيانِ، أو حالاً من المصدرِ المحذوفِ كما هو مذهبُ سيبويه.
قولُه تعالى: {بَيْنَكُمْ} : في هذا الظرفِ وجهان، أحدُهما: أن يتعلَّقَ بتأكلوا بمعنى: لا تَتَنَاقَلوها فيما بينكم بالأكلِ. والثاني: أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ لأنه حالٌ من «أموالكم» ، أي: لا تأكلوها كائنةً بينكم. وقَدَّره أبو البقاء أيضاً بكائنةٍ بينكم أو دائرةٍ بينكم، وهو في المعنى كقولِهِ:{إِلَاّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ} [البقرة: 282] ، وفي تقدير «دائرةً» - وهو كونٌ مقيَّدٌ - نَظَرٌ لا يَخْفَى، إلَاّ أَنْ يُقالَ: دَلَّتِ الحالُ عليه.
قولُه {بالباطل} فيه وجهان، أحدُهما: تعلُّقه بالفعل، أي: لا تَأْخُذوها بالسببِ الباطلِ. الثاني: أَنْ يكونَ حالاً، فيتعلَّقَ بمحذوفٍ، ولكنْ في صاحِبها احتمالان، أحدهما: أنه المالُ، كأن المعنى، لا تأكلوها ملتبسةً بالباطلِ، والثاني: أَنْ يكونَ الضميرَ في «تأكلوا» كأنَّ المعنى: لا تأكلوها مُبْطِلين، أي: مُلْتَبِسينَ بالباطِل.
قوله {وَتُدْلُواْ بها} في «تَدْلُوا» ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه مجزومٌ عطفاً على ما قبلَه، ويؤيِّدهُ قراءة أُبيّ:«ولا تُدْلُوا» بإعادةِ لا الناهيةِ، والثاني: أنَّه منصوبٌ على الصرف، وقد تقدَّم معنى ذلك وأنه مذهبُ الكوفيين، وأنه لم يَثْبُتْ بدليلٍ. والثالث: أنه منصوبٌ بإضمارِ أنْ في جواب النهي، وهذا مذهبُ الأخفشِ، وجَوَّزَهُ ابنُ عطيَّة والزمخشري ومكي وأبو البقاء. قال الشيخ:«وأَمَّا إعرابُ الأخفشِ وتجويزُ الزمخشري ذلك هنا فتلك مسألةُ:» لا تأكل السمك وتشربَ اللبن «. قال النحويون: إذا نُصِبَ لِوَجْهَيْنِ، أحدُهما: أنَّ النهيَ عن الجمعِ لا يَسْتَلْزِمُ النهيَ عن كلِّ واحدٍ منهما على انفرادِهِ، والنهيُ عن كلِّ واحدٍ منهما يَسْتَلْزِمُ النهيَ عن الجمعِ بينهما؛ لأن الجمعَ بينهما حصولُ كلِّ واحدٍ منهما، وكلُّ واحدٍ منهما منهيٌّ عنه ضرورةً، ألا ترى أنَّ أَكْلَ المالِ بالباطلِ حرامٌ سواءً أُفْرِدَ أم جُمِعَ مع غيرهِ من المُحَرَّمات. والثاني - وهو أَقْوَى - أَنَّ قولَه» لِتأكلوا «عِلَّةٌ لِمَا قَبْلَهَا، فلو كان النهيُ عن الجمعِ لم تَصِحَّ العلةُ له، لأنه مركبٌ من شيئين لا تَصِحُّ العلةُ أن تَتَرتَّب على وجودهما، بل إنما تترتَّب على وجودِ أحدهما، وهو الإدلاء بالأموالِ إلى الحكام» .
و «بها» متعلقٌ ب «تُدْلُوا» ، وفي الباء قولان، أحدُهما: أنها للتعديةِ، أي لترسِلوا بها إلى الحكام، والثاني: أنَّها للسببِ بمعنى أن المراد بالإِدْلَاءِ الإِسراعُ بالخصومةِ في الأموالِ إمَّا لعدمِ بَيِّنةٍ عليها، أو بكونِهَا أمانةً كمالِ الأيتام. والضميرُ في «بها» الظاهرُ أنه للأموالِ وقيل: إنه / لشهادةِ الزُّورِ لدلالةِ السياقِ عليها، وليس بشيءٍ.
و «من أموال» في محلِّ نصبٍ صفةً ل «فريقاً» ، أي: فَريقاً كائناً من أموالِ الناس.
قوله: {بالإثم} تَحْتَمِلُ هذه الباء أَنْ تكونَ للسببِ فتتعلَّقَ بقوله «لتأكلوا» وأّنْ تكونَ للمصاحبةِ، فتكونَ حالاً من الفاعلِ في «لتأكلوا» ، وتتعلَّقَ بمحذوفٍ أي: لتأكلوا ملتبسين بالإِثْم. «وأنتم تعلمون» جملةٌ في محلِّ نصبٍ على الحال من فاعلِ «لتأكلوا» ، وذلك على رَأْيِ مَنْ يُجيز تَعَدُّدَ الحالِ، وأَمَّا مَنْ لا يُجِيزُ ذلك فيَجْعَلُ «بالإِثم» غيرَ حالٍ.
قولُه تعالى: {عَنِ الأهلة} : متعلِّقٌ بالسؤال قبلَه، يُقال:«سألَ به وعنه» بمعنىً. والضميرُ في «يَسْأَلُونك» ضميرُ جماعةٍ، وفي القصةِ أن السائل اثنان، فَيَحْتَمِلُ ذلك وجهين، أحدُهما: أنَّ ذلك لكونِ الاثنين جمعاً. والثاني: من نسبةِ الشيء إلى جمْعٍ وإنْ لم يَصْدُرْ إلَاّ من واحدٍ منهم أو اثنين، وهو كثيرٌ في كلامِهِم.
والجمهور على إظهار نونِ «عَنْ» قبل لام «الأهلَّة» وورش على أصِله من نقلِ حركةِ الهمزةِ إلى الساكنِ قبلَها، وقُرِىءَ شاذاً:«علَّ هِلَّة» وتوجيهُها أنه نَقَلَ حركةَ همزة «أهلة» إلى لامِ التَّعريفِ، وأدغم نونَ «عن» في لام التعريف لسقوطِ همزةِ الوصلِ في الدَّرْج، وفي ذلك اعتدادٌ بحركةِ الهمزةِ المنقولةِ وهي لغةُ مَنْ يقول:«لَحْمَر» من غيرِ همزةِ وصلٍ.
وإنما جُمِعَ الهلالُ وإنْ كان مفرداً اعتباراً باختلافِ أزْمَانِهِ، قالوا من حيث كونُهُ هلالاً في شهرٍ غيرُ كونِهِ هلالاً في آخرَ. والهلالُ هذا الكوكبُ المعروفُ. واختَلَفَ اللغويون: إلى متى يسمى هِلالاً؟ فقال الجمهورُ: يُقال له: هلالٌ لِلَيْلَتَيْنِ، وقيل: لثلاثٍ، ثم يكونُ قمراً. وقال أبو الهيثم:«يُقال له هلالٌ لليلَتْين من أول الشهر ولَيْلَتين من آخره وما بينهما قمرٌ» . وقال الأصمعي: «يقال له هلالٌ إلى أن يُحَجِّرَ، وتحجيرُه أن يستديرَ له كالخيطِ الرقيق» ، ويُقال له بَدْرٌ من الثانيةَ عشرةَ إلى الرابعةَ عشرةَ، وقيل:«يُسَمَّى هلالاً إلى أن يَبْهَرَ ضَوءُه سوادَ الليل، وذلك إنَّما يكونُ في سبعِ ليالٍ» ، والهلالُ يكونُ اسماً لهذا الكوكبِ، ويكونُ مصدراً، يقال: هَلَّ الشهرُ هلالاً.
ويقال: أُهِلَّ الهلالُ واسْتُهِلَّ مبنياً للمفعولِ وأَهْلَلْنَاه واسْتَهْلَلْنَاهُ، وقيل: يقال: أَهَلَّ واسْتَهَلَّ مبنياً للفاعلِ وأنشد:
865 -
وشهرٌ مُسْتَهِلٌّ بعدَ شهرٍ
…
وحَوْلٌ بعدَهُ حولٌ جَدِيدُ
وسُمِّي هذا الكوكبُ هلالاً لارتفاعِ الأصواتِ عند رؤيتِه، وقيل: لأنه من البيان والظهورِ، أي: لظهورهِ وقتَ رؤيَتِهِ بعد خَفَائِهِ، ولذلك يُقال: تَهَلَّلَ وَجْهُهُ: ظَهَرَ فيه بِشْرٌ وسرورٌ وإنْ لم يَكُنْ رفَعَ صوتَه. . . ومنه قول تأبَّط شرّاً.
866 -
وإذا نَظَرْتَ إلى أَسِرَّةِ وَجْهِه
…
بَرَقَتْ كبَرْقِ العارضِ المُتَهَلِّلِ
وقد تقدَّم أن الإِهلال الصراخُ عند قولِه: {وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ} [البقرة: 173] وفِعال المضعَّفُ يَطَّردُ في تكسيرِه أَفْعِلة كأَهِلَّة، وشَذَّ فيه فِعَل كقولهم: عِنَن وحِجَج في: عِنَان وحِجاج.
وقَدَّر بعضُهم مضافاً قبلَ «الأهِلَّة» أي: عَنْ حكمِ اختلافِ الأهِلَّة لأن السؤال عن ذاتِها غيرُ مفيدٍ، ولذلك أُجيبوا بقولِه:«قل هي مواقيتُ» وقيل: إنهم لَمَّا سألوا عن شيء قليلِ الجَدْوى أُجيبوا بما فيه فائدةٌ، وعَدَلَ عن سؤالِهم إذ لا فائدة فيه، وعلى هذا فلا يُحْتاجُ إلى تقديرِ مضافٍ.
و «للناسِ» متعلِّقٌ بمحذوفٌ، لأنه صفةٌ ل «مواقيت» أي: مواقيتُ كائنةً للناسِ. والمواقيتُ: جَمْعُ ميقات، رَجَعِتِ الواوُ إلى أصلها إذا الأصلُ: مِوْقات من الوقت، وإنما قُلِبت ياءً لكسرِ ما قبلها، فلمّا زَالَ موجبُه في الجمعِ رُدَّت واواً، ولا يَنْصَرِفُ لأنه بزنةِ مُنْتهى الجموعِ. والميقات منتهى الوقت.
قوله: {والحج} عطفٌ على «الناس» ، قالوا: تقديرُه: ومواقيتُ الحَجِّ، فحذف الثاني اكتفاءً بالأول، ولمَّا كانَ الحجُّ مِنْ أعظمِ ما تُطْلَبُ مواقيتهُ وأشهرُه بالأهِلَّة أُفْرِد بالذِّكر، وكأنه تخصَّص بعد تعميم، إذ قولُه «مواقيتُ للناسِ» ليس المعنى لذواتِ الناس، بل لا بُدَّ من مضافٍ أي: مواقيتُ لمقاصدِ الناسِ المحتاجِ فيها للتأقيتِ، ففي الحقيقة ليس معطوفاً على الناسِ، بل على المضافِ المحذوفِ الذي ناب «الناس» منابَه في الإِعراب.
وقرأ الجمهورُ «الحج» بالفتح في جميعِ القرآنِ إلا حمزةَ والكسائي
وحفصاً عن عاصم فقرؤوا {حِجُّ البيت} [آل عمران: 97] بالكسر، وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق بالكسر في جميع القرآن، وهل هما بمعنىً واحدٍ أو مختلفان؟ قال سيبويه:«هما مصدران» فالمفتوحُ كالردِّ والشدِّ، والمكسورُ كالذِّكر، وقيل: بالفتحِ هو مصدرٌ، وبالكسرِ هو اسمٌ.
قوله: {وَلَيْسَ البر بِأَن تَأْتُواْ} كقوله: {لَّيْسَ البر أَن تُوَلُّواْ} [البقرة: 177] وقد تقدَّم؛ إلا أنَّه لم يُخْتلف هنا في رفع «البر» ، لأنَّ زيادةَ الباءِ في الثاني عَيَّنت كونَه خبراً، وقد تقدَّم لنا أنها قد تُزادُ في الاسم ولا حاجة إلى إعادة ما تقدَّم.
وقرأ أبو عمرو وحفص وورش «البُيوت» و «بُيوت» بضمِّ الباء وهو الأصلُ، وقرأ الباقون بالكسرِ لأجلِ الياء، وكذلك في تصغيره، ٌٌٌ ولا يُبالَى بالخروجِ من كسرٍ إلى ضمٍ لأنَّ الضمةَ في الياءِ، والياءُ بمنزلة كسرتين فكانت الكسرةُ التي في الباء كأنها وَلِيَتْ كسرةً، قاله أبو البقاء.
و «مِنْ» في قولِه: «مِنْ ظهورِها» و «من أبوابها» متعلقةٌ بالإِتيان ومعناها ابتداءُ الغاية. والضميرُ في «ظهورها» و «أبوابِها» للبيوتِ، وجِيء به كضميرِ المؤنثةِ الواحدِ لأنه يجوزُ فيه ذلك.
وقوله: {ولكن البر مَنِ اتقى} «كقوله: {ولكن البر مَنْ آمَنَ} [البقرة: 177] سواءٌ بسواء ولمَّا تقدَّم جملتانِ خبريتان، وهما:» وليس البرُّ « {ولكن البر مَنِ اتقى} عُطِف عليهما جملتان أمريتان، الأولى للأولى، والثانية للثانية، وهما:» وَأْتُوا البيوت «» واتَّقوا الله «. وفي التصريح بالمفعول في قوله:» واتقوا الله «دلالةٌ على أنه محذوفٌ من اتقى، أي: اتقى الله.
قوله تعالى: {فِي سَبِيلِ الله} : متعلِّقٌ بقاتِلوا، على أحد معنيين: إمَّا أن تقدِّر مضافاً، أي في نصرةِ سبيلِ الله، / والمرادُ بالسبيلِ: دينُ الله، لأنَّ السبيلَ في الأصلِ الطريقُ، فتُجُوِّز به عن الدينِ، لَمّا كان طريقاً إلى الله، وإمَّا أن تُضَمِّن «قاتلوا» معنى بالِغوا في القتالِ في نصرةِ دينِ الله. والذين يقاتلونكم «مفعولُ» قاتلوا.
قوله تعالى: {حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم} : «حيث» منصوبٌ بقوله: «اقتلوهم» ، و «ثَقِفْتُموهم» في محلِّ خفضٍ بالظرف، وثَقِفْتموهم أي: ظَفِرتْم بهم، ومنه:«رجلٌ ثقيف» : أي سريعُ الأخذ لأقرانِه، قال:
867 -
فإمَّا تَثْقَفوني فاقتلوني
…
فَمَنْ أَثْقَفْ فليسَ إلى خلودِ
وثَقِفَ الشيءَ ثقافةً إذا حَذَقَه، ومنه الثقافةُ بالسيف، وثَقِفْتُ الشيء قَوَّمُتُه ومنه الرماح المُثَقَّفة، قال الشاعر:
686 -
ذَكَرْتُكِ والخَطِيُّ يَخْطِرُ بَيْننا
…
وقد نَهِلَتْ مِنَّا المثقَّفَةُ السُّمْرُ
قوله: {مِّنْ حَيْثُ} متعلِّقٌ بما قبله، وقد تُصُرِّفَ في «حيث» بجَرِّها بمِنْ كما جُرَّت بالباء وفي، وبإضافة «لدى» إليها. و «أَخْرجوكم» في محلِّ جرٍّ بإضافتها إليه. ولم يذكر «للفتنة» ولا «للقتل» - وهما مصدران - فاعلاً ولا مفعولاً، إذ المراد إذا وُجِدَ هذان، من أيِّ شخص كان بأي شخصٍ كان، وقد تقدَّم أنه يجوز حَذْفُ الفاعلِ مع المصدر.
قوله: {وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ} قرأ الجمهورُ الأفعالَ الثلاثة: «ولا تُقاتلوهم حتى يقاتِلوكم، فإنْ قاتلوكم» بالألف من القتال، وقرأها حمزة والكسائي من غير ألف من القتل. فأما قراءة الجمهور فهي واضحةٌ لأنها نَهْيٌ عن مقدِّمات القتل، فدلالتها على النهي عن القتل بطريقِ الأوْلى. وأمّا قراءةُ الأخوين ففيها تأويلان، أحدُهما: أن يكونَ المجازُ في الفعل، أي: ولا تأخذوا في قتلهم حتى يأخذوا في قَتْلكم. ومنه {قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ} [آل عمران: 146] ثم قال: «فما وَهَنوا» أي ما وَهَن مَنْ بقيَ منهم، وقال الشاعر:
869 -
فإنْ تَقْتُلونا نُقَتِّلْكُمُ
…
وإنْ تَفْصِدوا الدَّمَ نَفْصِدِ
أي: فإنْ تقتلوا بعضنا. وأَجْمَعوا على «فاقتلوهم» أنَّه من القتل، وفيه بشارةٌ بأنهم إذا فعلوا ذلك فإنهم مُتَمَكِّنون منهم بحيثُ إنكم أَمَرْتُم بقتلِهم لا بقتالِهم لنصرتِكم عليهم وخُذْلانِهم، وهي تؤيِّد قراءةَ الأخوينِ، ويؤيِّدُ قراءةَ الجمهورِ:{وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله} .
و «عند» منصوبٌ بالفعل قبله. و «حتى» متعلقةٌ به أيضاً غايةٌ له بمعنى «إلى» ، والفعلُ بعدها منصوبٌ بإضمار «أَن» كما تقرَّر. والضميرُ في «فيه» يعودُ
على «عند» ، إذ ضميرُ الظرفِ لا يتعدَّى إليه الفعلُ إلا ب «في» ، لأنَّ الضميرَ يَرُدُّ الأشياءَ إلى أصولِها، وأصلُ الظرفِ على إضمارِ «في» اللهم إلا أَنْ يُتَوَسَّعَ في الظرفِ فَيَتَعدَّى الفعلُ إلى ضميره مِنْ غيرِ «في» ، لا يُقال: «الظرف ليس حكمه حكمَ ظاهره، ألا ترى أنَّ ضميرَه يُجَرُّ بفي وإن كان ظاهرُه لا يجوزُ ذلك فيه. ولا بدَّ مِنْ حذفٍ في قوله:{فَإِن قَاتَلُوكُمْ فاقتلوهم} أي: فإنْ قاتلوكم فيه فاقتلوهم فيه، فَحَذَفَ لدلالةِ السياقِ عليه.
قوله: {كَذَلِكَ جَزَآءُ} فيه وجهان: أحدُهما: أنَّ الكافَ في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ، و «جزاءُ الكافرين» خبرُه، أي: مثلُ ذلك الجزاءِ جزاؤهم، وهذا عند مَنْ يرى أن الكافَ اسمٌ مطلقاً، وهو مذهبُ الأخفش. والثاني: أن يكونَ «كذلك» خبراً مقدماً، و «جزاءٌ» مبتدأ مؤخراً، والمعنى: جزاءُ الكافرين مثلُ ذلك الجزاءِ وهو القتلُ. و «جزاء» مصدرٌ مضافٌ لمفعولِه أي: جزاءُ الله الكافرين. وأجاز أبو البقاء أن يكونَ «الكافرين» مرفوعَ المحلِّ على أن المصدرَ مقدرٌ من فعلٍ مبنيٍّ للمفعولِ، تقديرُه: كذلك يُجْزى الكافرون، وقد تقدَّم لنا في ذلك خلافٌ.
ومتعلق الانتهاء محذوف؛ أي: عن القتال. وانتهى «افتعل» من النهي، وأصلُ انتهَوا: انتهَيُوا، فاستُثْقِلَتْ الضمةُ على الياءِ فَحُذِفَتْ ساكنان فَحُذِفَتِ الياءُ لالتقاءِ الساكنين، أو تقول: تَحَرَّكَتِ الياء وانفتحَ ما قبلَها فَقُلِبَتْ ألفاً، فالتقى ساكنان، فَحُذِفَتِ الألفُ وبَقِيَتِ الفتحة تَدُلُّ عليها.
قوله تعالى: {حتى لَا تَكُونَ} : يجوزُ في «حتى» أن تكونَ معنى كي، وهو الظاهرُ، وأن تكونَ بمعنى إلى، وأَن مضمرةٌ بعدَها في الحالين. و «تكونُ» هنا تامةٌ و «فتنةٌ» فاعلٌ بها، وأمَّا {وَيَكُونَ الدين للَّهِ} فيجوزُ أن تكونَ تامةً أيضاً، وهو الظاهرُ، ويتعلَّقُ «لله» بها، وأن تكونَ ناقصةً و «لله» الخبرَ، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ أي: كائناً لله. و {إِلَاّ عَلَى الظالمين} في محلِّ رفعٍ خبرُ «لا» التبرئةِ، ويجوزُ أن يكونَ خبرُها محذوفاً تقديرُه: لا عدوانَ على أحد، فيكونُ «إلا على الظالمين» بدلاً على إعادةِ تكرارِ العامل. وهذه الجملةُ وإنْ كانَتْ بصورةِ النفي فهي في معنى النهي، لئلا يلزم الخُلْفُ في خبره تعالى، والعربُ إذا بالَغَتْ في النهي عن الشيء، أَبْرَزَتْه في صورةِ النفي المَحْضِ كأنه ينبغي ألَاّ يوجدَ البتةَ فَدَلُّوا على هذا المعنى بما ذكرْتُ لك، وعكسُه في الإِثباتِ إذا بَالَغُوا في الأمرِ بالشيءِ أبرزوه في صورة الخبرِ نحو:{والوالدات يُرْضِعْنَ} [البقرة: 17] وسيأتي.
قوله تعالى: {الشهر الحرام بالشهر} مبتدأٌ خبرُه الجارُّ بعده، ولا بُدَّ من حَذْفِ مضافٍ/ تقديرُه: انتهاكُ حرمةِ الشهرِ الحرام بانتهاكِ حرمةِ الشهرِ، والألفُ واللامُ في الشهر الأول والثاني للعهد، لأنهما معلومان عند المخاطبين، فإنَّ الأولَ ذو القعدة من سنة سبع، والثاني من سنة ست.
وقرىء: «والحُرْمات» بسكون الراء، ويُعْزى للحسن، وقد تقدَّم أنَّ جمعُ فَعْلَة بشروطِها يجوزُ فيه ثلاثة أوجه: هذان الاثنانِ وفَتْحُ العين، عند قوله {فِي ظُلُمَاتٍ} [البقرة: 17]
وقوله: {فَمَنِ اعتدى} يجوزُ في «مَنْ» وجهان، أحدُهما: أن تكونَ شرطيةً وهو الظاهرُ فتكونُ الفاء جواباً. والثاني: أن تكونَ موصولةً فتكونَ الفاءُ زائدةً في الخبر، وقد تقدَّم لذلك نظائر.
قوله: {بِمِثْلِ مَا اعتدى} في الباء قولان، أحدُهما: أن تكونَ غيرَ زائدةٍ، بل تكونُ متعلقةً باعتدوا، والمعنى بعقوبةٍ مثلِ جنايةِ اعتدائِه. والثاني: أنها زائدةٌ أي: مثلَ اعتدائه، فتكون: إمّا نعتاً لمصدرٍ محذوف أي: اعتداء مماثلاُ لاعتدائه، وإمَّا حالاً من المصدرِ المحذوفِ كما هو مذهبُ سيبويه أي: فاعتدوا الاعتداء مُشْبِهاً اعتداءَه. و «ما» يجوزُ أن تكونَ مصدريةً فلا تفتقر إلى عائدٍ، وأَنْ تكونَ موصولةً فيكونُ العائدُ محذوفاً، أي: مثلَ ما اعتدى عليكم به، وجاز حذفُه لأنَّ المضافَ إلى الموصول قد جُرَّ بحرفٍ جُرَّ به العائدُ واتَّحد المتعلَّقان.
قوله تعالى: {وَلَا تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ} : في هذه الباء ثلاثة أوجه أحدُها: أنها زائدةٌ في المفعول به لأن «ألقى» يتعدَّى بنفسه، قال تعالى:{فألقى موسى عَصَاهُ} [الشعراء: 45]، وقال:
870 -
حتى إذا أَلْقَتْ يداً في كافِرِ
…
وأَجَنَّ عَوْراتِ الثغورِ ظلامُها
فزيدت الباءُ في المفعولِ كما زيدت في قوله:
871 -
وأَلْقى بكفَّيْهِ الفتى استكانَةً
…
من الجوع وَهْناً ما يَمُرُّ وما يَحْلُو
وهذا قولُ أبي عبيدة، وإليه ميلُ الزمخشري، قال:«والمعنى: ولا تَقْبِضُوا التهلكة أيديكم، أي: لا تَجْعلوها آخذةً بأيديكم مالكةً لكم» إلا أنه مردودٌ بأنَّ زيادةَ الباءِ في المفعولِ لا تَنْقاسُ، إنما جاءتْ في الضرورة كقوله:
872 -
. . . . . . . . . . . . . . . .
…
سُودُ المَحاجِرِ لا يَقْرَأْنَ بالسُّوَرِ
الثاني: أنها متعلقةٌ بالفعلِ غيرُ زائدةٍ، والمفعولُ محذوفٌ، تقديرُه: ولا تُلْقوا أنفسكم بأيديكم، ويكون معناها السبب كقولِك: لا تُفْسِدْ حالَك برأيك. الثالث: أن يضمَّن «ألقى» معنى ما يتعدَّى بالباء، فيُعدَّى تعديته، فيكونُ المفعول به في الحقيقة هو المجرورَ بالباء تقديره: ولا تُفْضوا بأيديكم إلى التهلكة، كقولك: أَفْضَيْتُ بجَنْبي إلى الأرضِ أي: طَرَحْتُه على الأرض، ويكونُ قد عَبَّرَ بالأيدي عن الأنفس، لأنَّ بها البطشَ والحركةَ، وظاهرُ كلام أبي البقاء فيما حكاه عن المبرد أن «ألقى» يتعدَّى بالباء أصلاً من غيرِ تضمينٍ، فإنه قال:«وقال المبرد: ليست بزائدةٍ بل هي متعلقةٌ بالفعلِ كمَرَرْتُ بزيدٍ والأوْلى حَمْلُه على ما ذَكَرْتُ» .
والتَّهْلُكَةُ: مصدرٌ بمعنى الهَلاكِ، يُقال: هَلَكَ يَهْلَكُ هُلْكاً وهَلاكاً وهَلْكاءَ على وزنِ فَعْلاء ومَهْلكاً ومَهْلكة مثلثَ العين وتَهْلُكَة. وقال الزمخشري «ويجوزُ أن يقال: أصلُها التَّهلِكة بكسر اللام كالتَّجْرِبة، على أنه مصدرٌ من هلَّك - يعني بتشديد اللام - فَأُبْدِلَتِ الكسرةُ ضمة كالجِوار
والجُوار» ، ورَدَّ عليه الشيخ بأنَّ فيه حَمْلاً على شاذ ودَعْوى إبدالٍ لا دليل عليها، وذلك أنه جَعَله تَفْعِلة بالكسر مصدر فَعَّل بالتشديد، ومصدرُه إذا كان صحيحاً غيرَ مهموزٍ على تَفْعيل، وتَفْعِلة فيه شاذٌّ. وأمَّا تنظيرُه له بالجِوار والجُوار فليس بشيء، لأن الضمَّ فيه شاذٌّ، فالأَولى أن يقال: إنَّ الضمَّ أصلٌ غيرُ مُبْدَلٍ من كسر. وقد حكى سيبويه مِمَّا جاء من المصادر على ذلك التَضُرَّة والتَّسُرَّة. قال ابن عطية: «وقرأ الخليل التَّهْلِكة بكسر اللام وهي تَفْعِلة من هَلَّك بتشديد اللام» وهذا يَقَوِّي قولَ الزمخشري.
وزعم ثعلب أن «تَهْلُكَه» لا نظير لها، وليس كذلك لِما حكى سيبويه. ونظيرها من الأعيان على هذا الوزن: التَّنْفُلة والتنصُبة.
والمشهورُ أنه لا فرقَ بين التَّهْلُكه والهَلاك، وقال قومٌ: التَّهْلُكَة: ما أمكن التحرُّزُ منه، والهَلاكُ ما لا يمكن. وقيل: هي نفسُ الشيء المُهْلِك. وقيل: هي ما تَضُرُّ عاقبتُه. والهمزة في «ألقى» للجَعلِ على صفة نحو: أَطْرَدْتُه أي: جعلتُه طريداً فيه ليست للتعدية لأنَّ الفعلَ متعدٍّ قبلَها، فمعنى أَلْقيتُ الشيء جَعلْتُه لُقَىً فهو فُعَل بمعنى مَفْعول، كما أن الطريد فَعِيل بمعنى مفعول، كأنه قيل: لا تَجْعلوا أنفسكم لُقَىً إلى التهلُكَه.
قوله تعالى: {والعمرة للَّهِ} : الجمهورُ على نصب «العمرة» على العطفِ على ما قبلها و «لله» متعلقٌ بأتِمُّوا، واللامُ لامُ المفعولِ من أجله. ويجوزُ أن تتعلَّق بمحذوف على أنها حالٌ من الحج والعمرة،
تقديره: أتِمُّوها كائنين لله. وقرأ عليّ وابن مسعود وزيد بن ثابت: «والعمرةُ» بالرفع على الابتداء، و «لله» الخبر، على أنها جملةٌ مستأنفةٌ.
قوله: {فَمَا استيسر} ما موصولةٌ بمعنى الذي، ويَضْعُفُ جَعْلُها نكرةً موصوفةً، وفيها ثلاثةُ أقوالٍ، أحدُها: أنها في محلِّ نصبٍ أي: فَلْيَهْدِ أو فلينْحَر، وهذا مذهبُ ثعلب. والثاني: ويُعْزى للأخفش أنه مبتدأ والخبرُ محذوفٌ تقديرُه: فعليه ما استَيْسر. والثالث: أنه خبرُ مبتدأ محذوفٍ تقديرُه: فالواجبُ ما استَيْسر واستَيْسر هنا بمعنى يَسَر المجرد كصَعُب واستصعَبَ وغَنِيَ واستغنى، ويجوزُ أن يكون بمعنى تَفَعَّل نحو: تكَّبر واستكبر، وتَعَظَّم واستعظم. وقد تقدَّم ذلك في أولِ الكتاب.
والحَصْرُ: المَنْعُ، ومنه قيل للمَلِك: الحَصِير، لأنه ممنوعٌ من الناس، وهل حُصِر وأُحْصِر بمعنىً أو بينهما فرقٌ؟ خلافٌ بين أهلِ العلمِ. فقال الفراء والزجاج والشيباني إنهما بمعنىً، يُقالان في المرضِ والعَدُوِّ جميعاً وأنشدوا:
873 -
وما هَجْرُ ليلى أَنْ تكونَ تباعَدَتْ
…
عليكَ ولا أَنْ أَحْصَرَتْكَ شُغُولُ
وفَرَّق بعضُهم، فقال الزمخشري: يقال: أُحْصِر فلانٌ إذا معه أمرٌ من خوف أو مرض أو عجز، قال تعالى:{الذين أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ الله} [البقرة: 273]، وقال ابن ميادة:«وما هَجْرُ ليلى أن تكون تباعَدَتْ» ، وحُصِر إذا حبسه عدوٌّ أو سجن، هذا هو الأكثرُ في كلامهم، وهما بمعنى المنع في كل شيء/ مثل: صَدَّه وأصدَّه، وكذلك الفراء والشيباني، ووافقه ابن عطية أيضاً فإنه قال:«والمشهورُ من اللغة: أُحْصِر بالمرضِ وحُصِر بالعَدُوِّ. وعكس ابن فارس في» مجمله «فقال» حُصِر بالمرضِ وأُحْصِر بالعَدُوّ «وقال ثعلب:» حُصِر في الحَبْسِ أقوى من أُحْصِر «، ويقال: حَصِرَ صدرُه أي: ضاق؛ ورجل حَصِر: لا يبوحُ بسرِّه، قال جرير:
874 -
وَلَقَد تَكَنَّفني الوُشاةُ فصادَفُوا
…
حَصِراً بسرِّك يا أُمَيْمَ حَصُورا
والحَصيرُ معروفٌ لامتناعِ بعضه ببعض، والحصير أيضاً المِلك كما تقدَّم لاحتجابه. قال لبيد:
875 -
. . . . . . . . . . . . . . . . . . .
…
جِنٌّ لدى باب الحصيرِ قِيامُ
قوله: {مِنَ الهدي} فيه وجهان: أحدُهما: أن تكونَ» مِنْ «تبعيضيةً ويكونَ محلُّها النصبَ على الحال من الضمير المستتر في» اسْتَيْسر «العائدِ على» ما «أي: حالَ كَوْنِهِ بعض الهَدْي. والثاني: أن تكون» مِنْ «لبيان الجنس فتتعلَّقَ بمحذوفٍ أيضاً.
وفي الهَدْي قولان، أحدُهما: أنه جمعُ هَدْيَة كجَدْي جمع جَدْيَة السَّرْج. والثاني: أن يكونَ مصدراً واقعاً موقع المفعول أي: المُهْدَى، ولذلك يقعُ للأفرادِ والجمعِ.
قال أبو عمرو بن العلاء: «لا أعْرف لهذه اللفظة نظيراً» .
وقرأ مجاهد والزهري: «الهَدِيُّ» بتشديد الياء، وفيها وجهان، أحدهما: أن يكونَ جمع هَدِيَّة كمطيَّة ومطايا وركيَّة ورَكايا. والثاني: أن يكون فَعيلاً بمعنى مفعول نحو: قتيل بمعنى مَقْتُول.
و «مَحِلَّه» يجوز أَنْ يَكُونَ ظرفَ مكانٍ أو زمانٍ، ولم يُقْرَأ إلَاّ بكسرِ الحاءِ فيما عَلِمْتُ إلَاّ أنه يجوزُ لغةً فتحُ حائِه إذا كان مكاناً. وفَرَّق الكسائي بينهما، فقال:«المكسورُ هو الإِحلالُ من الإِحرامِ، والمفتوحُ هو مكانُ الحلولِ من الإِحصار» .
وقيل: {مِنكُم} فيه وجهان، أحدُهما: أن يكون في محلِّ نصبٍ على الحال من «مريضاً» ؛ لأنه في الأصل صفةٌ له، فلمَّا قُدِّم عليه انتَصَبَ حالاً. وتكونُ «مِنْ» تبعيضيةً، أي: فَمَنْ كان مريضاً منكم. والثاني: أجازه أبو البقاء أن يكونَ متعلِّقاً بمريضاً، قال الشيخ:«وهو لا يكادُ يُعْقَلُ» . «ومَنْ» يجوز أنْ تكونَ شرطيةً وأَنْ تكونَ موصولةً.
قوله: {أَوْ بِهِ أَذًى} يجوز أَنْ يكونَ هذا من بابِ عَطْفِ المفرداتِ وأن يكون من بابِ عطفِ الجمل: أما الأولُ فيكونُ «به» هذا الجَارُّ والمجرور
معطوفاً على «مريضاً» الذي هو خبرُ كان، فيكونُ في محلِّ نصبٍ. ويكونُ «أذىً» مرفوعاً به على سبيلِ الفاعليةِ، لأنَّ الجارَّ إذا اعتمد رَفَع الفاعل عند الكل، فيصيرُ التقديرُ: فَمَنْ كان كائناً به أذى من رأسِهِ. وأما الثاني فيكونُ «به» خبراً مقدَّماً، ومحلُّه على هذا رَفْعٌ، وفي الوجهِ الأولِ كان نصباً، و «أذىً» مبتدأٌ مؤخَّرٌ، وتكونُ هذه في محلِّ نصبٍ لأنها عَطفٌ على «مريضاً» الواقع خبراً لكان، فهي وإنْ كانَتْ جملةً لفظاً فهي في محلِّ مفردٍ، إذ المعطوفُ على المفردِ مفردٌ، لا يقال: إنه عاد إلى عطفِ المفرداتِ فيتَّحِدُ الوجهانِ لوضوحِ الفرقِ. وأجازوا أن يكونَ «أذى» معطوفاً على إضمارِ «كان» لدلالةِ «كانَ» الأولى عليها، وفي اسمِ «كان» المحذوفَةِ حنيئذٍ احتمالان، أحدُهما: أن يكونَ ضميرَ «مَنْ» المتقدمة، فيكونُ «به» خبراً مقدماً، و «أذى» مبتدأ مؤخراً، والجملةُ في محلِّ نصبٍ خبراً لكان المضمرةِ. والثاني: أن يكونَ «أذى» ، و «به» خبرَها، قُدِّم على اسمِها.
وأجاز أبو البقاء أن يكونَ «أو به أذى» معطوفاً على «كان» ، وأَعْرَبِ «به» خبراً مقدماً متعلِّقاً بالاستقرارِ، و «أذى» مبتدأ مؤخراً، والهاءُ في «به» عائدةٌ على مَنْ. وهذا الذي قاله خَطَّأَهُ الشيخُ فيه، قال:«لأنه كان قد قَدَّمَ أن» مَنْ «شرطيةُ، وعلى هذا التقدير يكون خطأ، لأن المعطوفَ على جملةِ الشرط شرطٌ والجملةُ الشرطيةُ لا تكونُ إلا فعليةً، وهذه كما ترى جملةُ اسميةٌ على ما قَرَّرَهُ.
فكيف تكونُ معطوفةً على جملةِ الشرطِ التي يجِبُ أن تكونَ فعليةً؟ فإنْ قيل: فإذا جَعَلْنَا «مَنْ» موصولةً فهل يَصِحُّ ما قاله من كون «به أذى» معطوفاً على «كان» ؟ فالجوابُ أنه لا يَصِحُّ أيضاً؛ لأنَّ «مَنْ» الموصولةَ إذا
ضَمِّنَتْ معنى اسم الشرطَ لزِمَ أن تكونَ صلتُها جملةً فعليةً أو ما هي في قوتها «. والباءُ في» به «يجوزُ فيها وجهان، أحدُهما: أن تكونَ للإِلصاق، والثاني: أن تكونَ ظرفيةً.
قولُهُ: {مِّن رَّأْسِهِ} فيه وجهان، أحدُهما: أنَّه في محلِّ رفع لأنه صفةٌ لأذى، أي أذى كائنٌ من رأسِهِ. والثاني: أن يتعلَّق بما يتعلَّقُ» به «من الاستقرارِ، وعلى كلا التقديرين تكونُ» مِنْ «لابتداءِ الغاية.
قوله: {فَفِدْيَةٌ} في رفعها ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أن تكونَ مبتدأً والخبرُ محذوفٌ، أي: فعليه فديةٌ. والثاني: أنْ تكونَ خبرَ مبتدأ محذوف أي: فالواجبُ عليه فديةٌ. والثالثُ: أن يكونَ فاعلَ فعلٍ مقدَّر أي: فَتَجِبُ عليه قديةُ. وقُرىء شاذاً:» فَفِدْيَةً «نصباً، وهي على إضمارِ فعلٍ أي: فَلْيَفْدِ فديةً. و» مِنْ صيام «في محلِّ رفعٍ أو نصبٍ على حسب القراءتين صفةً ل» فدية «، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، و» أو «للتخيير، ولا بُدَّ مِنْ حَذْفِ فعلٍ قبلَ الفاء تقديرهُ: فَخَلقَ فَفِدْيَة.
وقرأ الحسنُ والزهري» نُسْك «بسكون السين، وهو تخفيفُ المضموم. والأذى مصدرٌ بمعنى الإِيذاء وهو الألمُ، يقال: آذاه يُؤْذِيه إيذاءً وأذى، فكأنَّ الأذى مصدرٌ على حَذْفِ الزوائد أواسمُ مصدرٍ كالعطاء اسم للإِعطاء، والنبات للإِنبات.
وفي النُّسُك قولان، أحدُهما: أنه مصدرٌ يقال: نَسَكَ ينسُك نُسْكاً ونُسُكاً بالضم، والإِسكان كما قرأه الحسن. والثاني: أنه جمع نَسِيكة، قال ابن الأعرابي:» النَّسيكة في الأصل سَبيكة الفضة، وتُسَمَّى العبادةُ بها لأنَّ العبادة مُشْبِهَةٌ سبيكة الفِضَّة في صفائها وخُلوصِها من الآثام، وكذلك سُمِّي العابدُ ناسكاً، وقيل للذَّبِيحة «نَسِيكة» لذلك «.
قوله: {فَإِذَآ أَمِنتُمْ} الفاءُ عاطفةٌ على ما تقدَّم، و» إذا «منصوبةٌ بالاستقرار المحذوفِ؛ لأنَّ التقديرَ: فعليه ما اسْتَيْسَرَ، أي. فاستقرَّ عليه ما استيسر.
وقوله: {فَمَن تَمَتَّعَ} الفاءُ جوابُ الشرطِ بإذا، والفاءُ في قولِهِ:» فما استيْسَرَ «جوابُ الشرطِ الثاني. ولا نعلمُ خلافاً أنه يقعُ الشرطُ وجوابُهُ جواباً لشرطٍ آخرَ مع الفاءِ. وقد تقدَّم الكلامُ في» فما استَيْسَرَ «/ فأغنى عن إعادته.
قوله: {فَصِيَامُ} في رفعِه الأوجهُ الثلاثةُ المذكورةُ في قولِهِ:» فَفِدْيَةٌ «.
وقرىء «فصيام» نصباً، على تقديرِ فَلْيَصُمْ، وأُضيف المصدرُ إلى ظَرْفِهِ معنىً، وهو في اللفظِ مفعولٌ به على السَّعِةِ. و «في الحج» متعلقٌ بصيام. وقَدَّر بعضُهم مضافاً أي: في وقتِ الحَجِّ. ومنهم مَنْ قَدَّر مضافين، أي: وقتَ أفعالِ الحَجِّ، ومنهم مَنْ قَدَّره ظَرفَ مكانٍ أي: مكانَ الحج، ويترتَّب على ذلك أحكامٌ.
قوله: {وَسَبْعَةٍ} الجمهورُ على جَرِّ «سبعة» عطفاً على ثلاثة. وقرأ زيد بن علي وابن أبي عبلة: «وسبعةً» بالنصب. وفيها تخريجان، أحدهما: قاله الزمخشري وهو أن يكون عطفاً على محلَّ «ثلاثة» كأنه قيل: فصيامُ ثلاثة، كقوله:{أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً} [البلد: 14، 15]، يعني أن المضافَ إليه المصدرُ منصوبٌ معنى بدليلِ ظهورِ عملِ المُنَوَّنِ النصبَ في «يتيماً» . والثاني: أن ينتصبَ بفعلٍ محذوفٍ تقديرُه: «فَلْيَصُومُوا» ، قال الشيخ: «
وهذا مُتَعَيَّنٌ، لأنَّ العطفَ على الموضعِ يُشْتَرَطُ فيه وجودُ المُحْرِزِ» يعني على مذهب سيبويه.
قوله: {إِذَا رَجَعْتُمْ} منصوبٌ بصيام أيضاً، وهي هنا لِمَحْضِ الظرفِ، وليس فيها معنى الشرط. لا يقال: يَلْزَمُ أن يعملَ عامِلٌ واحدٌ في ظرفي زمان، لأنَّ ذلك جائزٌ مع العطفِ والبدلِ، وهنا يكونُ عَطَفَ شيئين على شيئين، فَعَطَفَ «سبعةٍ» على «ثلاثة» وعطف «إذا» على «في الحج» .
وفي قوله: {رَجَعْتُمْ} شيئان: أحدُهما التفاتٌ، والآخرُ الحَمْلُ على المعنى، أمَّا الالتفاتُ: فإنَّ قبلَه «فَمَنْ تَمَتَّعَ فَمَنْ لَم يَجِدُ» فجاء بضمير الغَيْبَةِ عائداً على «مَنْ» ، فلو سيق هذا على نظم الأولِ لقيل:«إذا رجع» بضميرِ الغَيْبَةِ. وأمَّا الحملُ: فلأنه أتى بضميرِ جمعٍ اعتباراً بمعنى «منْ» ، ولو راعى اللفظَ لأفردَ، فقال:«رَجَعَ» .
وقوله: {تِلْكَ عَشَرَةٌ} مبتدأ وخبرٌ، والمشارُ إليه هي السبعةُ والثلاثةُ، ومميِّزُ السبعةِ والعشرةِ محذوفٌ للعلمِ به. وقد أثبت تاءَ التأنيثِ في العددِ مع حَذْفِ التمييزِ، وهو أحسنُ الاستعمالَيْنِ، ويجوزُ إسقاطُ التاءِ حينئذٍ، وفي الحديث:«وأَتْبَعَهُ بستٍ من شوال» ، وحكى الكسائي:«صُمْنَا من الشهرِ خمساً»
وفي قوله: {تِلْكَ عَشَرَةٌ} - مع أن من المعلوم أن الثلاثةَ والسبعة عشرة - أقوالٌ كثيرةٌ لأهلِ المعاني، منها قولُ ابن عرفة: «العرب إذا ذكرت
عددين، فمذهبُهم أن يُجملوهما» ، وحَسَّن هذا القولَ الزمخشري بأَنْ قال:«فائدةُ الفَذْلَكَةِ في كل حساب أن يُعْلَمَ العددُ جملةً كام يُعْلَمُ تفصيلاً، لِيُحْتَاط به من جهتين فيتأكَّد العِلمُ، وفي أمثالهم» علمان خيرٌ من علم «. قال ابن عرفة:» وإنما تَفْعَلُ العربُ ذلك لأنَّها قليلةُ المعرفة بالحساب، وقد جاء:«لا نَحْسُب ولا نكتُب»
، وَوَرَدَ ذلك في أشعارِهِم، قال النابغة:
876 -
تَوَهَّمْتُ آياتٍ لها فَعَرَفَتُها
…
لستةِ أيامٍ وذا العامُ سابعُ
وقال الفرزدق:
877 -
ثلاثٌ واثنتان فَهُنَّ خَمْسٌ
…
وسادسةٌ تَميلُ إلى شَمَام
وقال الأعشى:
878 -
ثلاثٌ بالغَدَاةِ فَهُنَّ حَسْبي
…
وسِتٌّ حين يُدْرِكُني العِشاءُ
فذلك تِسْعَةٌ في اليومِ رِيِّي
…
وشُرْبُ المرءِ فَوْقَ الرَّيِّ داءُ
وقال آخر:
879 -
فَسِرْتُ إليهمُ عِشْرِينَ شهراً
…
وأربعةً فذلك حِجَّتانِ
وعن المبرد: «فتلك عشَرَةٌ: ثلاثةٌ في الحج وسبعةٌ إذا [رجعتم] فَقَدَّم وأخَّر» ، ومثله لا يَصِحُّ عنه. وقال ابن الباذش:«جيء بعشرة توطئةً للخبرِ بعدها، لا أنها هي الخبرُ المستقلُّ بفائدةِ الإِسناد كما تقول:» زيدٌ رجل صالح «
يعني أن المقصودَ الإِخبارُ بالصلاح، وجيء برجلٍ توطئةً، إذ معلومٌ أنه رجل. وقال الزجاج» جَمَعَ العدَدَيْنِ لجوازِ أن يُظَنَّ أنَّ عليه ثلاثةً أو سبعةً؛ لأنَّ الواوَ قد تقوم مَقامَ أو، ومنه:{مثنى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] فأزال احتمالَ التخيير، وهذا إنما يتمشَّى عند الكوفيين، فإنهم يُقيمون الواوَ مُقامَ أو. وقال الزمخشري:«الواوُ قد تجيء للإِباحةِ في قولِك:» جالس الحسنَ ابن سيرين «ألا ترى أنه لو جالَسَهما معاً أو أحدَهما كان ممتثلاُ فَفُذْلِكَتْ نفياً لِتَوَهُّم الإِباحة» قال الشيخ: «وفيه نظرٌ لأنه لا تُتَوَهَّمُ الإِباحه، فإنَّ السياق سياقُ إيجاب، فهو ينافي الإِباحة، ولا ينافي التخييرَ، فإن التخييرَ يكون في الواجبات، وقد ذكر النحويون الفرقَ بين التخييرِ والإِباحةِ» .
قوله: {ذلك لِمَن} «ذلك» مبتدأٌ، والجارُّ بعدَه الخبرُ. وفي اللامِ قولان، أحدُهما: أنَّها على بابِها، أي ذلك لازمٌ لِمَنْ. والثاني: أنها بمعنى على، كقولِهِ:{أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله} ، [البقرة: 161] ولا حاجةَ إلى هذا. و «مَنْ» يجوز أن تكونَ موصولةً وموصوفةً. و «حاضري» خبرُ «يكن» وحُذِفَت نونُه للإِضافة و «شديدُ العقاب» من باب إضافةِ الصفةِ المشبهة إلى مرفوعها، وقد تقدَّم أن الإِضافة لا تكون إلا مِنْ نَصْبِ، والنصبُ والإِضافةُ أبلغُ من الرفعِ؛ لأن فيها إسنادَ الصفةِ للموصوفِ ثم ذكر مَنْ هي له حقيقةٌ، والرفعُ إنما فيه إسنادُها لمَنْ هي له حقيقةٌ، دونَ إسنادٍ إلى موصوف.
قوله تعالى: {الحج أَشْهُرٌ} : «الحَجُّ» مبتدأ و «أشهرٌ» خبرهُ، والمبتدأ والخبرُ لا بد أَنْ يَصْدُقَا على ذاتٍ واحدة، و «الحَجُّ» فِعْلٌ من الأفعال، و «أشهرٌ» زمانٌ، فهما غَيْران، فلا بُدَّ من تأويل، وفيه ثلاثةُ احتمالاتٍ، أحدُهما: أنه على حَذْف مضافٍ من الأول، تقديره: أشهرُ الحجِّ أشهرٌ معلوماتٌ. الثاني: الحَذْفُ من الثاني تقديرُه: الحَجُّ حَجُّ أشهرٍ، فيكونُ حَذَفَ من كلِّ واحدٍ ما أَثْبَتَ نظيرَهُ. الثالث: ان تَجْعَلَ الحدثَ نفسَ الزمانِ مبالغةً، ووجهُ المجازِ كونُه حالاً فيه، فلما اتُّسِعَ في الظرفِ جُعِلَ نفسَ الحدثِ، ونظيرُها:{وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْراً} [الأحقاف: 15] / وإذا كان ظرفُ الزمانِ نكرةً مُخْبَراً به عن حَدَثٍ جاز فيه الرفعُ والنصبُ مطلقاً، أي: سواءً كان الحدث مستوعباً للظرفِ أم لا، هذا مذهبُ البصريين.
وأمَّا الكوفيون فقالوا: إنْ كانَ الحدثُ مستوعباً فالرفعُ فقط نحو: «الصومُ يومٌ» وإن لم يكن مستوعباً فهشام يلتزم رفعَه أيضاً نحو: «ميعادُك يومُ» والفراءُ يجيز نصبَهُ مثلَ البصريين، وقد نُقِلَ عنه أنه مَنَع نصْبَ «أشهر» يعني في الآية لأنها نكرةٌ، فيكونُ له في المسألة قولان، وهذه المسألةُ بعيدةُ الأطرافِ تضُمُّها كتبُ النحويين. قال ابن عطية:«ومَنْ قَدَّر الكلامَ: [الحج] في أشهر فيلزَمُهُ مع سقوطِ حرفِ الجر نصبُ الأشهر، ولم يقرأ به أحدٌ» قال الشيخ: «ولا يلزم ذلك، لأنَّ الرفعَ على جهةِ الاتساعِ، وإن كان أصلُهُ الجرَّ بفي» .
قوله: {فَمَنْ} : «مَنْ» يجوزُ فيها أن تكون شرطيةً، وأَنْ تكونَ موصولةً كما تقدَّم في نظائرها، و «فيهن» متعلِّقٌ ب «فَرَضَ» ، والضميرُ في «فيهن» يعودُ على «أشهر» ، وجيء به كضمير الإِناث لما تَقَدَّم مِنْ أَنَّ جمعَ غير العاقلِ في
القلَّةِ يُعامَل معاملةَ جمْعِ الإِناثِ على الأفصحِ، فلذلك جاء «فيهنَّ» دونَ «فيها» ، وهذا بخلافِ قولِهِ {مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة: 36] لأنه هناك جمعُ كثرة.
قوله: {فَلَا رَفَثَ} الفاءُ: إمَّا جوابُ الشرطِ، وإمَّا زائدةٌ في الخبرِ على حَسَبِ النحويين المتقدمين. وقرأ أبو عمرو وابن كثير بتنوين «رفث» و «فُسوق» ورفعِهما وفتحِ «جدال» ، والباقون بفتح الثلاثة، وأبو جعفر - ويروى عن عاصم - برفع الثلاثة والتنوين، والعطاردي بنصب الثلاثة والتنوين.
فأمَّا قراءة الرفع ففيها وجهان، أظهرُهما: أنَّ «لا» ملغاةٌ وما بعدها رفعٌ بالابتداء، وسَوَّغ الابتداء بالنكرةِ تقدُّم النفيِ عليها. و «في الحجّ» خبرُ المبتدأ الثالث، وحُذِفَ خبرُ الأولِ والثاني لدلالةِ خبرِ الثالثِ عليهما، أو يكونُ «في الحج» خبرَ الأول، وحُذِفَ خبرُ الثاني والثالث لدلالةِ خبرِ الأولِ عليهما، ويجوزُ أَنْ يكونَ «في الحج» خبرَ الثلاثة.
ولا يجوزُ أن يكونَ «في الحج» خبرَ الثاني، وحُذِفَ خبرُ الأولِ والثالثِ لقُبْحِ مثل هذا التركيب، ولتَأْدِيَتِهِ إلى الفَصْلِ.
والثاني: أن تكون «لا» عاملَةً عملَ ليس، ولعملِها عملَها شروطٌ: تنكيرُ الاسم، وألاّ يتقدَّم الخبرُ ولا ينتقض النفيُ، فيكونُ «رفث» اسمَها وما بعدَه عطفٌ عليه، و «وفي الحجِّ» الخبرُ على حسَبِ ما تقدَّم من التقادير فيما قبلَه. وابنُ عطية جَزَمَ بهذا الوجهِ، وهو ضعيفٌ لأنَّ إعمالَ «لا» عَمَلَ ليس لم يَقُمْ عليه دليلٌ صريحٌ، وإنما أنشدوا أشياءَ محتملةً، أنشد سيبويه:
880 -
مَنْ صَدَّ عن نيرانِها
…
فأنا ابنُ قيسٍ لا براحُ
وأنشد غيره:
881 -
تَعَزَّ فلا شيءٌ على الأرضِ باقيا
…
ولا وَزَرٌ مِمَّا قَضَى اللَّهُ واقِيَا
وقول الآخر:
882 -
أَنْكَرْتُها بعد أعوامٍ مَضَيْنَ لها
…
لا الدارُ داراً ولا الجيرانُ جيرانا
وأنشدَ ابنُ الشجري:
883 -
وحَلَّتْ سوادَ القلبِ لا أنا باغياً
…
سِواها ولا في حُبِّها متراخِيا
والكلامُ في هذه الأبيات له موضعٌ غيرُ هذا.
وأمَّا مَنْ نَصَبَ الثلاثةَ منونةً فتخريجُها على أن تكونَ منصوبة على المصدرِ بأفعالٍ مقدرةٍ من بفظِها، تقديرُه: فلا يَرْفُثُ رَفَثَاً ولا يَفْسُقُ فُسوقاً ولا يجدال جِدالاً، وحينئذٍ فلا عمل للا فيما بعدها، وإنما هي نافيةٌ للجمل المقدرة، و «في الحجِّ» متعلِّقٌ بأيِّ المصادرِ الثلاثةِ شِئْتَ، على أن المسألة من التنازعِ، ويكونُ هذا دليلاً على تنازع أكثرَ مِنْ عاملين، وقد يمكنُ أن يُقَال: إن هذه «لا» هي التي للتبرئِة على مَذْهَبِ مَنْ يرى أنَّ اسمهَا معربٌ منصوب، وإنما حُذِفَ تنوينُه تخفيفاً، فروجعُ الأصلُ في هذه القراءة الشاذةِ كما روجع في قوله:
884 -
ألا رجلاً جَزاه اللهُ خيراً
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقد تقدَّم تحريرُ هذا المذهبِ.
وأمَّا قراءةُ الفتحِ في الثلاثةِ فهي «لا» التي للتبرئةِ. وهل فتحةُ الاسمِ فتحةُ إعرابٍ أم بناءٍ؟ قولان، الثاني للجمهورِ. وإذا بُني معها فهل المجموع منها ومن اسمِها في موضعِ رفعٍ بالابتداء، وإن كَانَتْ عاملةً في الاسمِ النصبَ على الموضع ولا خبرَ لها؟ أو ليس المجموعُ في موضعِ مبتدأ، بل «لا» عاملةٌ في الاسمِ النصبَ على الموضعِ وما بعدها خبرٌ ل «لا» ، لأنها أُجْرِيَتْ مُجْرى «أنَّ» في نصبِ الاسمِ ورفعِ الخبر؟ قولان، الأولُ قولُ سيبويه، والثاني قولُ الأخفش. وعلى هذين المذهبين يترتَّب الخلافُ في قوله «في الحج» فعلى مذهبِ سيبويه يكونُ في موضعِ خبرِ المبتدأ، وعلى رأي الأخفش يكونُ في موضعِ خبرِ «لا» ، وقد تقدَّم ذلك أولَ الكتابِ، وإنما أُعيدُ بعضَه تنبيهاً عليه.
وأمَّا مَنْ رفع الأوَّلَيْن وفتحَ الثالث: فالرفعُ على ما تقدَّم، وكذلك الفتحُ، إلا أنه ينبغي أَنْ يُتَنَبَّه لشيءٍ: وهو أنَّا إذا قلنا بمذهبِ سيبويه من كونِ «لا» وما بُني معها في موضعِ المبتدأ يكونُ «في الحج» خبراً عن الجميع، إذ ليس فيه إلا عَطْفُ مبتدأٍ على مبتدأ. وأمَّا على مذهبِ الأخفشِ فلا يجوز أن يكونَ «في الحج» إلا خبراً للمبتدأيْنِ أو خبراً ل «لا» . ولا يجوزُ أن يكونَ خبراً للكلِّ لاختلافِ الطالبِ، لأنَّ المبتدأ يَطْلُبه خبراً له ولا يطلبُه خبراً له.
وإنما قُرِىء كذلك، قال الزمخشري:«لأنهما حَمَلا الأوَّلَيْنِ على معنى النهي، كأنه قيل: فلا يكونَنَّ رفثٌ ولا فسوقٌ، والثالِثُ على معنى الإِخبار بانتفاءِ الجدال، كأنه قيل: ولا شكَّ ولا خلافَ في الحج» واستدلَّ
على أنّ المنهيَّ عنه هو الرفثُ والفسوقُ دونَ الجدالِ بقولِه عليه السلام: «مَنْ حَجَّ فلم يَرْفُثْ ولم يَفْسُقْ» وأنه لم يَذْكُرِ الجدالَ. وهذا الذي ذكره الزمخشري سبقه إليه صاحبُ هذه القراءة، إلا أنه أفصحَ عن مرادِه، قال أبو عمرو بن العلاء - أحد قارئيها -: الرفعُ بمعنى فلا يكونُ رفثٌ ولا فسوقٌ؛ أَيْ شيءٌ يَخْرُج من الحَجِّ، ثم ابتدأ النفيَ فقال:«ولا جدالَ» ، فأبو عمرو لم يجعل النفيَيْن الأوَّلَيْن نهياً، بل تركهما على النفي الحقيقي؛ فمِنْ ثَمَّ كان في قولِه هذا نظرٌ؛ فإنَّ جملة النفيِ بلا التبرئةِ قد يرادُ بها النهيُ أيضاً، وقيل ذلك في قوله:{لَا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2] . والذين يظهر في الجوابِ عن ذلك ما نقله أبو عبد الله الفاسي عن بعضهم فقال: «وقيل: الحُجَّةُ لمَنْ رفعهما أنَّ النفي فيهما ليس بعامٍّ، إذ قد يقع الرفث والفسوق في الحج من بعضِ الناسِ بخلاف نفي الجدال في أمر الحج فإنه عامٌّ. . .» وهذا يتمشَّى على عُرْفِ النحويين فإنهم يقولون: لا العاملةُ عملَ «ليس» لنفي الوَحْدة، والعاملةُ عملَ «إنَّ» لنفي الجنس، قالوا: ولذلك يُقال: لا رجلَ فيها بل رجلان أو رجال إذا رفعت، ولا يَحْسُن ذلك إذا بَنَيْتَ اسمَها أو نَصَبْتَ بها. وتوسَّط بعضُهم فقال: التي للتبرئة نصٌّ في العمومِ، وتلك ليست نَصَّاً، والظاهرُ أنَّ النكرةَ في سياق النفي مطلقاً للعموم.
وقد تقدَّم معنى الرَّفَثِ والفِسْق. وقرأ عبد الله «الرَّفُوث» وهو مصدر بمعنى الرَّفث.
وقوله: {فَلَا رَفَثَ} وما في حَيِّزه في محلِّ جَزْمٍ إن كانت «مَنْ» شرطيةٌ، ورفع إن كانت موصولةً، وعلى كِلا التقديرين فلا بُدَّ من رابطٍ يَرْجِع إلى «مَنْ» ؛ لأنها إنْ كانَتْ شرطيةً فقد تقدَّم أنه لا بد من ضميرٍ يعودُ على اسمِ الشرط، وإنْ كانت موصولةً فهي مبتدأٌ والجملةُ خبرُها ولا رابطَ في اللفظِ، فلا بدَّ من تقديرِه وفيه احتمالان، أحدُهما: أن تقدِّره بعد «جدال» تقديرُه: ولا جدالَ منه ويكون «منه» صفةً ل «جدال» ، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، فيصيرُ نظيرَ قولِهم:«السَّمْنُ مَنَوانِ بدرهم» تقديره: منوانِ منه.
والثاني: أنْ يُقَدَّرَ بعد الحج «تقديره: ولا جدالَ في الحجِّ منه، أو: له. ويكونُ هذا الجارُّ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من» الحج «. وللكوفيين في هذا تأويلٌ آخرُ/ وهو أنَّ الألفَ واللامَ نابت منابَ الضميرِ، والأصلُ: في حَجِّه، كقوله:{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} [النازعات: 40] ثم قال: {فَإِنَّ الجنة هِيَ المأوى} [النازعات: 41] أي: مَأْواه.
وكَرَّر الحجَّ وَضْعاً للظاهر موضعَ المضمر تفخيماً كقوله:
885 -
لا أرى الموتَ يَسْبِقُ الموتَ شيءٌ
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وكأنَّ نظمَ الكلام يقتضي:» فَمَنْ فرض فيهنَّ الحجَّ فلا رَفَث فيه «، وحَسَّنَ ذلك في الآيةِ الفصلُ بخلاف البيت.
والجِدال مصدر» جادَلَ «. والجدالُ: أشدُّ الخصام مشتقٌّ من الجَدالة،
وهي الأرض؛ كأنَّ كلَّ واحد من المتجادِلَيْن يرمي صاحبه بالجَدالَةِ، قال الشاعر:
886 -
قد أَرْكَبُ الآلَةَ بعدَ الآلَهْ
…
وأترُكُ العاجِزَ بالجَدَالَهْ
ومنه:» الأجْدل «الصقر، لشِدَّته. والجَدْلُ فَتْلُ الحَبْل، ومنه: زِمامٌ مجدولٌ أي مُحْكَمُ الفَتْلِ.
قولُه: {وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ} تقدَّم الكلامُ على نظيرتها، وهي:{مَا نَنسَخْ} ، فكلُّ ما قيلَ ثَمَّ يُقال هنا. قال أبو البقاء:» ونزيدُ هنا وجهاً آخرَ: وهو أن يكونَ «منْ خير» في محلِّ نصبٍ نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ، تقديرُه: وما تفعلوا فعلاً كائناً مِنْ خيرٍ «.
و» يَعْلَمْه «جزمٌ على جوابِ الشرطِ، ولا بُدَّ من مجازٍ في الكلام: فإمَّا أن يكون عَبَّر بالعلمِ عن المُجازاة على فِعْلِ الخير، كأنه قيل: يُجازِكم، وإمَّا أَنْ تُقَدِّر المجازاةَ بعد العلمِ أي: فيثيبه عليه.
وفي قوله: {وَمَا تَفْعَلُواْ} التفاتٌ؛ إذ هو خروجٌ مِنْ غَيْبَةٍ في قولِه:» فَمَنْ فَرَض «. وحُمِلَ على معنى» مَنْ «إذ جَمَعَ الضميرَ ولم يُفْرِدْه.
وقد خَبَط بعضُ المُعْرِبين فقال:» مِنْ خير «متعلقٌ بتَفْعلوا، وهو في موضعِ نصبٍ نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ، تقدرُه:» وما تفعلوه فعلاً مِنْ خير «والهاءُ في» يَعْلَمْه «تعودُ إلى» خير «. وهذا غلطٌ فاحشٌ؛ لأنه من حيثُ عَلَّقه بالفعلِ
قبلَه كيف يَجْعَلُه نعت مصدرٍ محذوفٍ؟ ولأنَّ جَعْلَه الهاءَ تعود إلى» خير «يلزم منه خلوُّ جملةِ الجوابِ من ضميرٍ يعود على اسمِ الشرطِ، وذلك لا يجوز أمَّا لو كانَتْ أداةُ الشرط حرفاً فلا يُشْترط فيه ذلك فالصوابُ ما تقدَّم. وإنما ذكرتُ لك هذا لئلا تراه فَتَتَوهَّمَ صِحَّتَه. والهاءُ عائدةٌ على» ما «التي هي اسمُ الشرط. وألفُ» الزاد «منقلبةٌ عن واوٍ لقولِهم: تَزَوَّدَ.
قوله تعالى: {أَن تَبْتَغُواْ} : «أَنْ» في محلِّ نصبٍ عند سيبويه والفراء، وجَرٍّ عند شَيْخَيْهما والأخفش؛ لأنَّها على إضمار حرفِ الجَرِّ، في أَنْ، وهذا الجارُّ متعلَّقٌ: إمَّا بجُناحِ لما فيه من معنى الفعلِ وهو الميلُ والإِثمُ، وما كانَ في معناهما، وإمَّا بمحذوفٍ، لأنه صفةٌ ل «جُناح» ، فيكونُ مرفوعَ المحلِّ أي: جناحٌ كائنٌ في كذا. ونقل أبو البقاء عن بعضهم أنه متعلقٌ ب «ليس» ، واستضعفه، ولا ينبغي ذلك، بل يُحْكَمُ بتخطئتِه البتة.
قوله: {مِّن رَّبِّكُمْ} يجوز أَنْ يتعلَّق بتبتغوا، وأن يكونَ صفةً ل «فضلاً» ، فيكونُ منصوبَ المحل، متعلقاً بمحذوفٍ. و «مِنْ» في الوجهين لابتداءِ الغاية، لكنْ في الوجهِ الثاني تحتاجُ إلى حَذْفِ مضافٍ أي: فضلاً كائناً مِنْ فُضولِ ربكم.
قوله: {فَإِذَآ أَفَضْتُم} العاملُ فيها جوابُها وهو «فاذكروا» قال أبو البقاء. «ولا تمنع الفاءُ من عملِ ما بعدَها فيما قبلها لأنه شرطٌ» . وقد منع الشيخ
مِنْ ذلك بِما معناه أنَّ مكانَ إنشاء الإِفاضة غيرُ مكانِ الذكر؛ لأنَّ ذلك عرفات وهذا المَشْعَرَ الحرام، وإذا اختلف المكانُ لزم منه اختلافُ الزمانِ ضرورةً، فلا يجوزُ أَنْ يكونَ الذكر عند المشعر الحرام واقعاً عند إنشاء الإِفاضة.
قوله: {مِّنْ عَرَفَاتٍ} متعلِّقٌ ب «أَفَضْتُم» والإِفاضةُ في الأصل: الصبُّ، يقال: فاضَ الماء وأَفَضْتُه، ثم يُستعمل في الإِحرام مجازاً. والهمزة في «أَفَضْتُم» فيها وجهان، أحدهما: أنها للتعدية فيكون مفعولُه محذوفاً تقديره: أَفَضْتُم أنفسكم، وهذا مذهبُ الزجاج وتبعه الزمخشري، وقَدَّره الزجاج فقال:«معناه: دَفَع بعضُكم بعضاً» . والثاني: أن أَفْعَل هنا بمعنى فَعَل المجردِ فلا مفعولَ به. قال الشيخ: «لأنه لا يُحفظ: أَفَضْتُ زيداً بهذا المعنى الذي شرحناه، وكان قد شرحه بالانخراط والاندفاعِ والخروج من المكانِ بكثرة.
وأصل أَفَضْتُم: أَفْيَضْتُم فَأُعِلَّ كنظائره، بأَنْ نُقِلَتْ حركةُ حرفِ العلة على الساكنِ قبله فتحرَّك حرفُ العِلَّة في الأصلِ وانفتح ما قبله فَقُلِب ألفاً وهو من ذواتِ الياء من الفَيْض كما ذَكَرْتُ لك، ولا يكون من ذواتِ الواوِ من قولهم: فَوْضى الناسِ وهم أخلاطُ الناسِ بلا سائسٍ.
وعَرَفات اسمُ مكانٍ مخصوصٍ، وهل هو مشتقٌّ أو مرتجل؟ قولان أحدهما: أنه مرتجلٌ وإليه ذهب الزمخشري قال:» لأنَّ العَرَفَة لا تُعْرَف في أسماء الأجناس إلا أَنْ تكونَ جمعَ عارف «. والثاني: أنه مشتقٌّ، واختُلِفَ في اشتقاقه، فقيل: من المعرفة لأن إبراهيم عليه السلام لَمَّا عَرَّفه جبريل هذه البقعة فقال: عَرَفْتُ عَرَفْتُ، أو لأنه عَرَّفَه بها هاجَرَ واسماعيلَ لَمَّا اخَّرجَتْهما
سارةُ في غَيْبته فوجَدهما بها، أو لأنَّ آدم عَرَف بها حواء.
وقيل: مشتقةٌ من العَرْف وهو الرائحةُ الطيبة، وقيل: من العُرْف وهو الارتفاعُ ومنه عُرْفُ الديك، وعرفات جمع عَرَفة في الأصل ثم سُمِّي به هذا الموضعُ، والمشهور أنَّ عرفات وعَرَفه واحد. وقيل: عَرَفةُ اسمُ اليومِ وعرفات اسمُ مكان، والتنوين في عَرَفات وبابِهِ فيه ثلاثةُ أقوال، أظهرُها: أنه تنوينُ مقابلةٍ، يَعْنُون بذلك أنَّ تنوينَ هذا الجمع مقابلٌ لنونِ جمع/ الذكور، فتنوينُ مسلمات مقابل لنون مسلمين، ثم جُعِل كلُّ تنوينٍ في جمعِ الإِناث - وإن لم يكن لهنّ جمعٌ مذكرٌ - كذلك طَرْداً للباب. والثاني أنه تنوينُ صرفٍ وهو ظاهرُ قولِ الزمخشري فإنه قال:«فإن قلت: فهلَاّ مُنِعَت الصرفَ وفيها السببان: التعريفُ والتأنيثُ. قلت: لا يخلو التأنيثُ: إما أن يكونَ بالتاءِ التي في لفظِها وإما بتاء مقدرة كما في» سعاد «فالتي في لفظِها ليست للتأنيث، وإنما هي مع الألف التي قبلها علامةُ جمعِ المؤنث، ولا يَصِحُّ تقديرُ التاءِ فيها، لأنَّ [هذه] التاء لاختصاصها بجمعِ المؤنثِ مانعةٌ من تقديرُها كما لا تُقَدَّر تاءُ التأنيث في بنت؛ لأنَّ التاءَ التي هي بدلٌ من الواو لاختصاصِها بالمؤنث كتاءِ التأنيث فَأَبَتْ تقديرَها» فمنع الزمخشري أن يكون التأنيثُ سبباً فيها فصار التنوينُ عنده للصرفِ. والثالث: أنَّ جمعَ المؤنثِ إنْ كان له جمعٌ مذكرٌ كمسلمات ومسلمين فالتنوين للمقابلةِ وإلَاّ فللصرفِ كعرفات.
والمشهورُ - حالَ التسمية به - أن يُنَوَّن وتُعْرِبَه بالحركتين: الضمة والكسرة كما لو كان جَمْعاً، وفيه لغة ثانية: وهو حَذْفُ التنوينِ تخفيفاً
وإعرابُه بالكسرةِ نصباً. والثالثة: إعرابُه غيرَ منصرف بالفتحة جراَ، وحكاها الكوفيون والأخفش، وأنشدَ قول امرىء القيس:
887 -
تَنَوَّرْتُها مِنْ أَذْرِعاتَ وأهلُها
…
بيثربَ أدنى دارِها نظرٌ عالي
بالفتح.
قوله: {عِندَ المشعر الحرام} فيه وجهان، أحدُهما: أن يتعلَّقَ باذكروا. والثاني: أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من فاعلِ «اذكروا» أي: اذكروه كائنين عند المشعِر.
قوله: {كَمَا هَدَاكُمْ} فيه خمسةُ أقوالٍ، أحدُها: أن يكونَ في محلِّ نصبٍ على أنَّها نعتُ مصدرٍ محذوفٍ أي: ذكراً حسناً كما هداكم هدايةٌ حسنة، وهذا تقدير الزمخشري. والثاني: أن تكونَ في محلِّ نصبٍ على الحال من ضمير المصدرِ المقدرِ، وهو مذهبُ سيبويه. والثالث: أن تكونَ للتعليل بمعنى اللام، أي: اذكروه لأجلِ هدايته إياكم، حكى سيبويه «كما أنه لا يَعْلَمُ فتجاوزَ الله عنه» . ومِمَّنْ قَالَ بكونِها للعِلِّيَّة الأخفشُ وجماعةٌ.
و «ما» في «كما» يجوزُ فيها وجهان، أحدُهما: أن تكونَ مصدريةً، فتكونَ مع ما بعدها في محلِّ جر بالكافِ، أي: كهدايته. والثاني: - وبه قال
الزمخشري وابن عطية - أن تكونَ كافةً للكافِ عن العملِ، فلا يكونُ للجملة التي بعدها محلُّ من الإِعرابِ، بل إنْ وَقَع بعدَها اسمٌ رُفِعَ على الابتداء كقوله:
888 -
ونَنْصُرُ مولانا ونعلُم أنَّه
…
كما الناسُ مجرومٌ عليه وجَارِمُ
وقال آخر:
889 -
لعمرك إنني وأبا حميدٍ
…
كما النشوانُ والرجلُ الحليمُ
أريد هجاءَه وأخاف ربي
…
وأعلم أنه عبدٌ لئيم
وقد منع صاحبُ «المستوفى» كونَ «ما» كافةً للكافِ، وهو محجوجٌ بما تقدَّم.
والرابع: أن يكونَ في محلِّ نصب على الحال من فاعل «اذكروا» تقديرُه: مُشْبِهين لكم حين هداكم. قال أبو البقاء: «ولا بُدَّ من حذفِ مضافٍ؛ لأنَّ الجثة لا تشبه الحدثَ. والخامس: أن تَكونَ الكافُ بمعنى» على «كقوله: {وَلِتُكَبِّرُواْ الله على مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 185] .
قوله: {وَإِن كُنْتُمْ مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضآلين} :» إنْ «هذه هي المخففةُ من الثقيلة، واللامُ بعدها للفرق بينها وبين النافيةِ، وجازَ دخولُ» إنْ «على الفعل
لأنه ناسخٌ. وهل هذه اللامُ لام الابتداءُ التي كانت تصحبُ» إنَّ «أو لامٌ أخرى غيرُها، اجتُلِبَتْ للفرق؟ قولان هذا رأيُ البصريين. وأمَّا الكوفيون فعندهم فيها خلاف: فالفراءُ يزعم أنها بمعنى» إنْ «النافية واللامُ بمعنى إلَاّ أي: ما كنتم من قبلِه إلا من الضالين، ومذهبُ الكسائي التفصيلُ: بين أنْ تدخُلَ على جملةٍ فعليةٍ فتكونَ» إنْ «بمعنى قد، واللامُ زائدة للتوكيدِ وبين أن تدخلَ على جملةٍ اسمية فتكون كقولِ الفراء، وقد تقدَّم طرفٌ من هذه الأقوال.
و» من قبله «متعلقٌ بمحذوفٍ يَدُلُّ عليه» لمن الضالين «، تقديرُه: كنتم من قبله ضالِّين لمن الضالين. ولا يتعلَّق بالضالِّين بعده، لأنَّ ما بعد أل الموصولة لا يعمل فيما قبلها، إلا على رأي مَنْ يتوسَّع في الظرف، وقد تقدم تحقيقه. والهاء في» قبله «عائدةٌ على» الهدى «المفهومِ من قوله» كما هداكم.
قوله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ} استشكل الناسُ مجيءَ «ثم» هنا من حيث إنَّ الإِفاضة الثانية هي الإِفاضةُ الأولى؛ لأنَّ قريشاً كانت تَقِفُ بمزدلفة وسائرُ الناسِ بعرفة، فأُمروا أن يَفيضوا من عرفةَ كسائرِ الناسِ، فكيف يُجاء ب «ثم» التي تقتضي الترتيب والتراخيَ؟ وفي ذلك أجوبةٌ: أحدُها: أنَّ الترتيبَ في الذِّكر لا في الزمانِ الواقعِ فيه الأفعالُ، وحَسَّنَ ذلك أن الإِفاضةَ الأولى غيرُ مأمورٍ بها، إنما المأمورُ به ذكرُ اللهِ إذا فُعِلَت الإِفاضةَ. والثاني: أن تكونَ هذه الجملة معطوفةً على قولِه: {واتقوني يا أولي} ففي الكلام تقديمٌ وتأخيرٌ وهو بعيدٌ. الثالث: أن تكونَ «ثم» بمعنى الواو، وقد قال به بعضُ النحويين، فهي لعطفِ كلامٍ على كلامٍ منقطعٍ من الاول. الرابع: أن الإِفاضة الثانيةَ هي من جَمْعٍ إلى مُنى، والمخاطبون بها جميعُ
الناس، وبهذا قال جماعةٌ كالضحاك ورجَّحه الطبري، وهو الذي يقتضيه ظاهرُ القرآنِ وعلى هذا ف «ثم» على بابها، قال الزمخشري:«فإنْ قلت: كيف موقعُ» ثم «؟ قلت: نحوُ موقِعها في قولك:» أحْسِنْ إلى الناس ثم لا تُحْسِن إلى غير كريم «تأتي ب» ثم «لتفاوتِ ما بين الإِحسانِ إلى الكريمِ والإِحسان إلى غيرِه وبُعْدِ ما بينهما، فكذلك حين أمرَهم بالذكر عند الإِفاضةِ من عرفات قال:» ثم أفيضوا «لتفاوتِ ما بين الإِفاضَتَيْنِ وأنَّ إحداهما صوابٌ والثانيةَ خطأٌ» . قال الشيخ: «وليست الآية نظيرَ المثال الذي مثَّله، وحاصلُ ما ذَكَرَ أن» ثم «تَسْلُب الترتيبَ وأنَّ لها معنىً غيرَه سَمَّاه بالتفاوتِ/ والبُعْدِ لما بعدها مِمَّا قبلها، ولم يَذْكُر في الآية إفاضة الخطأ حتى تجيء» ثم «لتفاوتِ ما بينها، ولا نعلمُ أحداً سبقه إلى إثبات هذا المعنى لثم» . وهذا الذي ناقشَ الشيخُ به الزمخشري تحاملٌ عليه، فإنه يعني بالتفاوتِ والبُعْد التراخيَ الواقعَ بين الرتبتين. وسيأتي له نظائرُ، وبمثلِ هذه الأشياءِ لا يُرَدُّ كَلامُ مثلِ هذا الرجل.
و «من حيث» متعلِّقٌ بأَفيضوا، و «مِنْ» لابتداءِ الغايةِ، و «حيث» هنا على بابِها من كونِها ظرفَ زمانٍ، وقال القفال:«هي هنا لزمانِ الإِفاضة» وقد تقدَّم أن هذا قولُ الأخفش، وتقدَّم دليلُه، وكأن القفال رام بذلك التغايرَ بين الإِفاضتين ليقع الجوابُ عن مجيء «ثم» هنا، ولا يفيدُ ذلك لأن الزمان يستلزمُ مكانَ الفعلِ الواقعِ فيه.
و «أفاض الناسُ» في محلِّ جرٍّ بإضافة «حيثُ» إليها. والجمهورُ على رفعِ السين من «الناسُ» .
وقرأ سعيد بن جبير: «الناسي» وفيها تأويلان،
أحدهما: أنه يُراد به آدمُ عليه السلام، وأيَّدوه بقوله:{فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} [طه: 115] . والثاني: أن يُراد به التاركُ للوقوف بمزدلفة، وهم جَمْعُ الناس، فيكون المرادُ بالناسي حنسَ الناسين. قال ابن عطية:«ويجوزُ عند بعضِهم حذفُ الياءِ، فيقول:» الناس كالقاضِ والهادِ «قال: أمّا جوازُه في العربية فذكره سيبويه، وأمّا جوازُه قراءَةً فلا أحفظه» . قال الشيخ: «لم يُجِزْ سيبويه ذلك إلا في الشعر، وأجازه الفراء في الكلامِ، وأمّا قوله:» لم أحفظْه «قد حَفِظَه غيرُه، حكاها المهدوي قراءةً عن سِعيد بن جبير أيضاً.
قوله: {واستغفروا الله} » استغفر «يتعدَّى لاثنين أولُهما بنفسِه، والثاني» ب «مِنْ» ، نحو: استغفرتُ الله من ذنبي، وقد يُحْذَفُ حرفُ الجر كقولِه:
890 -
أستغفرُ اللهَ ذنباً لستُ مُحْصِيَه
…
ربُّ العبادِ إليه الوجهُ والعَمَلُ
هذا مذهبُ سيبويه وجمهورِ الناس. وقال ابن الطراوة: إنه يتعدَّى إليهما بنفسِه أصالةً، وإنما يتعدَّى ب «من» لتضمُّنه معنى ما يتعدَّى بها، فعنده «استغفرت الله من كذا» بمعنى تُبْت إليه من كذا، ولم يَجِىءْ «استغفر» في القرآن متعدِّياً إلَاّ للأولِ فقط، فأمَّا قولُه تعالى:{واستغفر لِذَنبِكَ} [غافر: 55]{واستغفري لِذَنبِكِ} [يوسف: 29]{فاستغفروا لِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 135] فالظاهرُ أنَّ هذه اللامَ لامُ العلةِ
لا لامُ التعديةِ، ومجرورُها مفعولٌ من أجلِه لا مفعولٌ به. وأمّا «غَفَر» فَذُكِرَ مفعولُه في القرآنِ تارةً:{وَمَن يَغْفِرُ الذنوب إِلَاّ الله} [آل عمران: 135]، وحُذِف أخرى:{وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ} [المائدة: 40] . والسين في «استغفر» للطلبِ على بابها. والمفعولُ الثاني هنا محذوفٌ للعلم به، أي: مِنْ ذنوبكم التي فَرَطَتْ منكم.
قوله تعالى: {مَّنَاسِكَكُمْ} : جمعُ «مَنْسَك» بفتحِ السين وكسرِها، وسيأتي تحقيقُهما، وقد تقدَّم اشتقاقها قريباً. والقُراء على إظهار هذا، وروى عن أبي عمرو الإِدغامُ، قالوا: شَبَّه الإِعرابِ بحركةِ البناءِ فَحَذَفَها للإِدغام، وأدغم أيضاً «مناسككم» ولم يُدْغِم ما يُشْبِهه من نحو:{جِبَاهُهُمْ} [التوبة: 35] و {وُجُوهُهُمْ} [آل عمران: 106] قوله: {كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ} الكافُ كالكاف في قوله {كَمَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 198] إلَاّ في كونِها بمعنى «على» أو بمعنى اللام، فَلْيُلتفت إليه. والجمهورُ على نصبِ «آباءكم» مفعولاً به، والمصدرُ مضافٌ لفاعِلِه على الأصل. وقرأ محمد بن كعب:«آباؤكم» رفعاً، على أنَّ المصدرَ مضافٌ للمفعولِ، والمعنى: كما يَلْهَجُ الابنُ بذكر أبيه. ورُوِيَ عنه أيضاً: «أباكم» بالإِفراد على إرادة الجنسِ، وهي توافِقُ قراءةَ الجماعة في كونِ المصدر مضافاً لفاعله، ويَبْعُد أن يقال: هو مرفوعٌ على لغةِ مَنْ يُجري «أباك» ونحوَهُ مُجرى المقصورِ.
قوله: {أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً} يجوزُ في «أشد» أن يكونَ مجروراً وأَنْ يكونَ منصوباً: فأمّا جَرُّه فذكروا فيه وجهين، أحدهما: أن يكونَ مجروراً عطفاً على «ذكِركم» المجرورِ بكافِ التشبيه، تقديرُه: أو كذكرٍ أشدَّ ذكراً، فتجعلُ للذكرِ ذِكْرَاً مجازاً، وإليه ذهب الزجاج، وتبعه أبو البقاء، وابن عطية.
والثاني: أنه مجرورٌ عطفاً على المخفوض بإضافة المصدرِ إليه، وهو ضميرُ المخاطبين. قال الزمخشري:«أو أَشدَّ ذكراً في موضع جر عطفاً على ما أُضِيف إليه الذكر في قولِه:» كذكركم «كما تقول: كذكرِ قريشٍ آباءَهم أو قومٍ أشدَّ منهم ذِكْراً» وهذا الذي قاله الزمخشري معنى حسنٌ، ليس فيه تَجوُّزٌ بأَنْ يُجْعَل للذكْرِ ذِكْرٌ، لأنه جَعَلَ «أشد» من صفات الذاكرين، إلا أن فيه العطفَ على الضميرِ المجرور من غير إعادة الجار وهو ممنوعٌ عند البصريين ومَحَلُّ ضرورة.
وأمَّا نصبُه فمن أوجهٍ، أحدُه: أن يكونَ معطوفاً على «آباءكم» قال الزمخشري، فإنه قال:«بمعنى أو أشدَّ ذكراً من آبائِكم، على أن» ذِكْراً «من فِعْلِ المذكور» وهذا كلامٌ يَحْتاج إلى تفسيرٍ، فقولُه:«هو معطوفٌ على آباءكم» معناه أنك إذا عَطَفْتَ «أشدّ» على «آباءكم» كان التقديرُ: أو قوماً أشدَّ ذكراً من آبائكم، فكان القومُ مذكورين، والذكرُ الذي هو تمييزُ بعد «أشدَّ» هو من فِعْلهم، أي: من فعلِ القوم المذكورين، لأنه جاء بعد «أَفْعَلَ» الذي
هو صفةٌ/ للقومِ، ومعنى «من آبائِكم» أي من ذكرِكم لآبائكم وهذا أيضاً ليس فيه تجوزٌّ بأنْ جُعِل الذكرُ ذاكراً.
الثاني: أن يكونَ معطوفاً على محلِّ الكاف في «كذكركم» لأنها عندهم نعتٌ لمصدر محذوف، تقديرُه: ذكراً كذكركم آباءكم أو أشدََّ، وجَعَلوا الذِّكْرَ ذاكراً مجازاً كقولهم: شعرٌ شاعِرٌ، وهذا تخريجُ أبي علي وابن جني.
الثالث: قاله مكي: أن يكونَ منصوباً بإضمار فعلٍ، قال: «تقديرُه: فاذكروه ذكراً أشد من ذكركم لآبائكم، فيكونُ نعتاً لمصدر في موضع الحالِ، أي: اذكروه بالغين في الذِّكْر.
الرابع: أن يكونَ منصوباً بإضمار فعلِ الكون، قال أبو البقاء:» وعندي أنَّ الكلام محمولٌ على المعنى، والتقدير: أو كونوا أشدَّ لله ذِكْراً منكم لآبائكم، ودلَّ على هذا المعنى قولُه:«فاذكروا الله» أي: كونوا ذاكِريه، وهذا أسهلُ مِنْ حَمْلِه على المجاز «يعني المجاز الذي تقدَّم ذكره عن الفارسي وتلميذه.
الخامس: أن يكون» أشدَّ «نصباً على الحال من» ذِكْراً «لأنه لو تأخَّر عنه لكان صفةً له، كقوله:
891 -
لميَّةَ موحشاًَ طَلَلٌ
…
يَلُوح كأنه خِلَلُ
» موحشاً «حالٌ من» طلل «، لأنه في الأصلِ صفةٌ، فلما قُدِّم تعذَّر بقاؤه
صفةً فَجُعِلَ حالاً، قاله الشيخ، فإنه قال بعد ذكره ثلاثةَ أوجه لنصبه ووجهين لجِرّه:» فهذه خمسةُ أوجه كلُّها ضعيفة، والذي يتبادر إلى الذهنِ في الآية أنهم أُمروا بأَنْ يَذْكُروا الله ذكراً يُماثل ذكرَ آبائِهم أو أشدَّ، وقد ساغ لنا حَمْلُ هذه الآية عليه بوجهٍ، ذُهلوا عنه «، فَذَكَر ما تقدم. ثم جَوَّز في» ذِكْراً «والحالةُ هذه وجهين، أَحدُهما: أن يكونَ معطوفاً على محلِّ الكاف في» كذكركم «. ثم اعترض على نفسِه في هذا الوجه بأنه يلزم منه الفصلُ بين حرفِ العطف وهو» أو «وبين المعطوف وهو» ذِكْراً «بالحال» وهو «أشدَّ» ، وقد نصَّ النحويون [على] أن الفصلَ بينهما لا يجوز إلا بشرطين، أحدُهُما: أن يكون حرفُ العطفِ أكثرَ من حرفٍ واحد. والثاني: أن يكونَ الفاصلُ قَسَماً أو ظرفاً أو جاراً، وأحدُ الشرطين موجودٌ وهو الزيادة على حرفٍ والآخرُ مفقودٌ، وهو كونُ الفاصل ليس أحدَ الثلاثةِ المتقدمة. ثم أجابَ بأن الحالَ مقدرةٌ بحرفِ الجر وشَبَّهه بالظرفِ فَأُجْرِيَت مُجْرَاهما.
والثاني: من الوجهين في «ذِكْراً» أن يكونَ مصدراً لقوله: «فاذكروا» ويكون قولُه: «كذكركم» في محلِّ نصبٍ على الحال من «ذِكْراً» لأنها في الأصل صفةٌ له، فلما قُدِّمت كانت في محلِّ حال، ويكون «أشدَّ» عطفاً على هذه الحالِ، وتقديرُ الكلام: فاذكروا الله ذكراً كذكركم، أي: مُشْبِهاً ذكركم أو أشدَّ، فيصيرُ نظيرَ:«اضربْ مثل ضربِ فلانٍ ضرباً أو أشد» الأصل: اضرب ضرباً مثلَ ضَرْبِ فلانٍ أو أشدَّ.
و «ذِكْراً» تمييزٌ عند غير الشيخ كما تقدَّم، واستشكلوا كونَه تمييزاً منصوباً
وذلك أن أفعلَ التفضيلِ يجب أن تُضاف إلى ما بعدها إذا كان مِنْ جنسِ ما قبلها نحو: «وجهُ زيدٍ أحسنُ وجهٍ» ، «وعِلْمُهُ أكثرُ علم» وإنْ لم يكن مِنْ جنسِ ما قبلها وجب نصبُه نحو:«زيد أحسنُ وجهاً وخالدٌ أكثرُ علماً» .
إذا تقرَّرَ ذلكَ فقولُه: «ذِكْراً» هو من جنس ما قبلها فعلى ما قُرِّر كان يقتضي جَرَّه، فإنه نظيرُ:«اضربْ بكراً كضربِ عمرو زيداً أو أشدَّ ضربٍ» بالجرِّ فقط. والجوابُ عن هذا الإِشكالِ مأخوذٌ من الأوجه المتقدمة في النصبِ والجر المذكورين في «أشدَّ» من حيث أن يُجْعَل الذكرُ ذاكراً مجازاً كقولهم: «شِعْرٌ شاعرٌ» كما قال به الفارسي وصاحبُه، أو يُجْعَلَ «أشدَّ» من صفاتِ الأعيان لا من صفاتِ الإِذكار كما قال به الزمخشري، أو يُجْعَلَ «أشدَّ» حالاً من «ذِكْراً» أو ننصبَه بفعلٍ. وهذا كلُّه وإن كان مفهوماً مِمّا تقدَّم إلا أني ذكرتُه بالتنصيص، تسهيلاً للأمر فإنه موضعٌ يحتاج إلى نظرٍ وتأمل. وهذا نهايةُ القول في هذه المسألةِ بالنسبة لهذا الكتاب. و «أو» هنا قيل للإباحةِ، وقيل للتخيير، وقيل: بمعنى بل.
قوله: {مَن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا} «مَنْ» مبتدأٌ، وخبرُه في الجارِّ قبله، ويجوز أن تكونَ فاعلةً عند الأخفش، وأن تكونَ نكرةً موصوفة. وفي هذا الكلام التفاتٌ، إذ لو جَرَى على النسقِ الأولِ لقيل:«فمنكم» ، وحُمِل على معنى «مَنْ» إذ جاء جَمْعاً في قوله:«ربَّنا آتِنا» ، ولو حُمِل على لفظِها لقال «ربِّ آتني» .
وفي مفعول «آتِنا» الثاني - لأنه يتعدَّى لاثنين ثانيهما غيرُ الأول - ثلاثةُ أقوالٍ، أظهرُها: أنه محذوفٌ اختصاراً أو اقتصاراً، لأنه من باب «أعطى» ، أي: آتِنا ما نريد أو مطلوبنَا. والثاني: أن «في» بمعنى «مِنْ» أي: من الدنيا. والثالث: أنها زائدةُ، أي: آتِنا الدنيا، وليسا بشيء.
قوله تعالى: {فِي الدنيا حَسَنَةً} : يجوز في الجار وجهان، أحدهما: أن يتعلَّقَ بآتِنا كالذي قبله. والثاني: أجازه أبو البقاء أن يتعلَّقَ بمحذوف على أنه حالٌ من «حسنةً» لأنه كان في الأصل صفةً لها، فلما قُدِّم عليها انتصَبَ حالاً.
قوله: {وَفِي الآخرة حَسَنَةً} هذه الواوُ عاطفةٌ شيئين على شيئين متقدمين. ف «في الآخرة» عطفٌ على «في الدنيا» بإعادةِ العاملِ. و «حسنةً» عطفٌ على «حسنةٍ» . والواو تَعْطِفُ شيئين فأكثرَ على شيئين فأكثرَ. تقول: «أَعْلَمَ الله زيداً عمراً فاضلاً وبكراً خالداً صالحاً» اللهم إلا أن تنوبَ عن عاملين ففيها خلافٌ لأهلِ العربية وتفصيلٌ كثيرٌ يأتي في موضعِه إنْ شاء الله تعالى. وليس هذا كما زعم بعضهُم أنه من بابِ الفصلِ/ بين حرفِ العطفِ وهو على حرفٍ واحد وبين المعطوفِ بالجار والمجرور، وجعله دليلاً على أبي علي الفارسي حيث منع ذلك إلا في ضرورةٍ؛ لأن هذا من باب عَطْفِ شيئين على شيئين كما ذكرتُ لك، لا من باب الفصلِ، ومحلُّ الخلافِ إنما هو نحو:«أكرمت زيداً وعندك عمراً» . وإنما يُرَدُّ على أبي علي بقولِه: {إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأمانات إلى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ الناس أَن تَحْكُمُواْ [بالعدل] } [النساء: 58] وقوله تعالى: {الله الذي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرض مِثْلَهُنَّ} [الطلاق: 12] .
وقوله: «قِنا» ممَّا حُذِفَ منه فاؤُه ولامُه من وقى يقي وقاية. أمَّا حذفُ فائه فبالحَمْلِ على المضارع لوقوعِ الواوِ بين ياءٍ وكسرةٍ، وأمَّا حذفُ لامه فلأنَّه الأمرَ جارٍ مجرى المضارعِ المجزوم، وجزمِه بحذفِ حرفِ العلةِ
فكذلك الأمرُ منه، فوزن «قِنا» حينئذ: عِنا، والأصل: اوْقِنا، فلمَّا حُذِفَت الفاءُ اسْتُغْنِي عن همزةِ الوصلِ فَحُذِفَتْ. و «عذاب» مفعولٌ ثانٍ.
قوله تعالى: {أولئك} : مبتدأ و «لهم» خبرٌ مقدم، و «نصيب» مبتدأ، وهذه الجملةُ خبرُ الأولِ، ويجوز أن يكونَ «لهم» خبرَ «أولئك» ، و «نصيب» فاعلٌ به لِما تضمَّنه من معنى الفعلِ لاعتمادِه، والمشارُ إليه بأولئك فيه قولان، أظهرهُما: أنهما الفريقان: طالبُ الدنيا وحدَها وطالبُ الدنيا والآخرة. وقيل: بل للفريقِ الأخيرِ فقط، أعنى طالبَ الدنيا والآخرة.
قوله: {مِّمَّا كَسَبُواْ} متعلقٌ بمحذوفٍ لأنه صفةٌ ل «نصيب» ، فهو في محلِّ رفعٍ. وفي «مِنْ» ثلاثةُ أقوال، أحدُها: أنها للتبعيض، أي: نصيب من جنس ما كسبوا. والثاني: أنها للسببيةِ، أي: من أجلِ ما كَسَبوا. والثالث: أنها للبيان. و «ما» يجوزُ فيها وجهان، أن تكونَ مصدريةً أي: مِنْ كَسْبِهم، فلا تحتاجُ إلى عائدٍ. والثاني: أنها بمعنى الذي، فالعائدُ محذوفٌ لاستكمال الشروط، أي: من الذي كسبوه.
قوله تعالى: {مَّعْدُودَاتٍ} : صفة لأيام، وقد تقدَّم أن صفةَ ما لا يعقل يَطَّرِد جَمْعُها بالألفِ والتاءِ. وقد طَوَّل أبو البقاء هنا بسؤال وجواب، أما السؤالُ فقال: إنْ قيل «الأيام» واحدُها «يوم» و «المعدودات» واحدتُها «معدودةٌ» ، واليومُ لا يُوَصَفُ بمعدودة لأنَّ الصفةَ هنا مؤنثة والموصوفُ مذكَّر، وإنما الوجهُ أن يقالَ:«أيامٌ معدودةٌ» فَتَصِفُ الجمع بالمؤنثِ، فالجوابُ أنه أَجْرى «معدودات» على لفظ أيام، وقابَلَ الجمعَ بالجمع مجازاً، والأصلُ معدودة، كما قال: {لَن تَمَسَّنَا النار إِلَاّ أَيَّاماً
مَّعْدُودَةً} [البقرة: 80]، ولو قيل: إن الأيام تَشْتمل على الساعات، والساعةُ مؤنثة فجاء الجمعُ على معنى ساعات الأيام، وفيه تنبيهٌ على الأمر بالذكر في كلِّ ساعاتِ هذه الأيامِ أو في معظمِها لكانَ جواباً سديداً. ونظيرُ ذلكَ الشهر والصيف والشتاء فإنَها يُجاب بها عن كم، [وكم] إنما يجابُ عنها بالعدد، وألفاظُ هذه الأشياءِ ليسَتْ عدداً وإنما هي أسماءُ المعدودات فكانت جواباً من هذا الوجهِ «وفي هذا السؤالِ والجوابِ تطويلٌ من غيرِ فائدةٍ، وقولُه» مفرد معدودات معدودة بالتأنيث «ممنوعٌ بل مفردُهَا» معدود «بالتذكير، ولَا يضُرُّ جمعُه بالألفِ والتاء، إذ الجمع بالألفِ والتاءِ لَا يسْتْدعي تأنيثَ المفرد، ألا ترى إلى قولِهم: حَمَّامات وسِجِلَاّت وسُرادِقات.
قوله: {فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ} » مَنْ «يجوزُ فيها وجهان، أحدهما: أن تكونَ شرطيةً، ف» تَعَجَّل «في محلِّ جزمٍ، والفاءُ في قولِه:» فلا «جوابُ الشرط، والفاءُ وما في حَيِّزها في محلِّ جزمٍ أيضاً على الجواب. والثاني: أنها موصولةٌ لا فلا محلَّ لتَعَجَّل لوقوعِه صلةً، ولفظه ماضٍ ومعناه يحتمل المضيَّ والاستقبالَ؛ لأنَّ كلَّ ما وقع صلةً فهذا حكمُه. والفاءُ في» فلا «زائدةُ في الخبرِ، وهي وما بعدها في محلِّ رفعٍ خبراً للمبتدأ. و» في يومين «متعلق بتَعجَّل، ولا بد من ارتكابِ مجاز لأن الفعلَ الواقعَ في الظرفِ المعدودِ يستلزم أن يكونَ واقعاً في كلٍّ مِنْ معدوداتِه، تقولُ:» سِرْت يومين «لا بد وأَنْ يكونَ السيرُ وقع في الأول والثاني أو بعضِ الثاني، وهنا لا يقع التعجيل في اليوم الأول من هذين اليومين بوجهٍ، ووجهُ المجاز: إمَّا من حيث إنه نَسَب الواقعَ في
أحدهما واقعاً فيها كقوله: {نَسِيَا حُوتَهُمَا} [الكهف: 61] و {يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ} [الرحمن: 22] ، والناسي أحدُهما، وكذلك المُخْرَجُ من أحدِهما، وإمَّا من حيث حَذْفُ مضافٍ أي: في تمامِ يومين أو كمالِهما.
و» تعجَّل «يجوزُ أن يكونَ بمعنى استعجَلَ، كتكبَّر واستكبر، أو مطاوعاً لعجَّل نحو كَسَّرْتُه فَتَكَسَّر، أو بمعنى المجرد، وهو عَجِل، قال الزمخشري:» والمطاوعة أوفق، لقوله:«ومَنْ تأخَّر» ، كما هي كذلك في قوله:
892 -
قد يُدْرِك المتأنِّي بعضَ حاجتِه
…
وقد يكونُ مع المُسْتعجِلِ الزَّلَلُ
لأجلِ قولِه «المتأني» . وتعجَّل واستعجل يكونان لازمين ومتعديين، ومتعلَّقُ التعجيلِ محذوفٌ، فيجوزُ أن تقدِّرَه مفعولاً صريحاً أي: من تعجَّل النَّفْر، وأن تقدِّرَه مجروراً أي: بالنفر، حَسَبَ استعمالِه لازماً ومتعدياً.
وفي هذه الآيات من علمِ البديعِ: الطباقُ، وهو ذكرُ الشيء وضدِّه في «تعجَّل وتأخر» فهو كقوله:{هُوَ أَضْحَكَ وأبكى} [النجم: 43] و {أَمَاتَ وَأَحْيَا} [النجم: 43] وهذا طباقٌ
غريب، من حيث جَعَل ضدَّ «تَعَجَّل» :«تأخَّر» ، وإنما ضدُّ «تعجَّل» :«تأنَّى» وضدُّ تأخَّر: تقدَّم، ولكنه في «تعجَّل» عَبَّر بالملزوم عن اللازم، وفي «تأخَّر» باللازم عن الملزومِ. وفيها من علم البيان: المقابلةُ اللفظية، وذلك أن المتأخِّرَ بالنَّفْر آتٍ بزيادةٍ في العبادة فله زيادةٌ في الأجر على المتعجِّل فقال في حقه أيضاً:{فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} ليقابلَ قولَه أولاً: {فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} ، فهو كقولِهِ:{وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى: 40] و {فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ} [البقرة: 194] .
وقرأ الجمهور {فلا إِثْمَ} بقطعِ الهمزةِ على الأصلِ، وقرأ سالم ابنَ عبد الله:«فلا اثمَ» بوصلِها وحَذْفِ ألفِ لا، ووجهُه أنه خَفَّف الهمزةَ بينَ بينَ فَقَرُبَتْ من الساكنِ فَحذَفَها تشبيهاً بالألف، فالتقى ساكنان: ألفُ لا وثاء «أثم» ، فَحُذِفت ألفُ «لا» لالتقاءِ الساكنين. وقال أبو البقاء:«ووجهُها أنَّه لمَّا خَلَطَ الاسمَ ب» لا «حَذَفَ الهمزةَ تشبيهاً لها بالألف» يعني أنه لمَّا رُكِّبت «لا» مع اسمها صارا كالشيء الواحد، والهمزةُ شبيهةُ الألف، فكأنه اجتمعَ ألِفان فَحُذِفَت الثانيةُ لذلك، ثم حُذِفَت الألفُ لِما ذكرْتُ لك.
قوله: {لِمَنِ اتقى} / هذا الجارُّ خبرُ مبتدأ محذوفٍ، واختلفوا في ذلك المبتدأ حَسَبَ اختلافِهم في تعلُّقِ هذا الجارِّ من جهةِ المعنى لا الصناعة فقيل: يتعلَّقُ من جهةِ المعنى بقولِه: {فلا إِثْمَ عَلَيْهِ} فتُقَدِّر له ما يَليقُ به أي: انتفاءُ الإِثمِ لِمَن اتَّقى. وقيل: متعلِّقٌ بقولِه: «واذكروا» أي: الذكرُ لمَنِ اتقى. وقيل: متعلِّق بقولِه: «غفورٌ رحيم» أي: المغفرة لمن اتقى. وقيل:
التقديرُ: السلامة لمن اتقى. وقيل: التقديرُ: ذلك التخييرُ وَنفْيُ الإِثم عن المستعجلِ والمتأخرِ لأجلِ الحاجِّ المتَّقي، لئلا يتخالجَ في قلبِه شيءٌ منهما فيحسَبَ أنَّ أحدَهما يُرهِقُ صاحبَه إثماً في الإِقدامِ عليه، لأنَّ ذا التقوى حَذِرٌ متحرزٌ من كلِّ ما يُريبه. وقيل: التقديرُ: ذلكَ الذي مَرَّ ذكرهُ من أحكام الحج وغيرهِ لِمَنِ اتقى، لأنه هو المنتفعُ به دون مَنْ سِواه، كقوله:{ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ الله} [الروم: 38] . قال هذين التقديرين الزمخشري. وقال أبو البقاء: «تقديرُه: جوازُ التعجيل والتأخير لمن اتقى» . وكلُّها أقوالٌ متقاربة. ويجوز أن يكونَ «لمَن اتقى» في محلِّ نصب على أن اللامَ لامُ التعليل، وتيعلَّقُ بقولِه {فلا إِثْمَ عَلَيْهِ} أي: انتقى الإِثمُ لأجلٍ المتَّقي، ومفعولُ: اتَّقى «محذوفٌ، أي: اتَّقى اللهَ، وقد جاءَ مصرَّحاً به في مصحفِ عبدِ الله وقيل: اتقى الصيدَ.
قولُه تعالى: {مَن يُعْجِبُكَ} : «مَنْ» يجوزُ أن تكونَ موصولةً، وأن تكونَ نكرةً موصوفةً، وقد تقدَّم نظيرُها أول السورة فيُنْظر هناك. والإِعجاب: استحسان الشيء والميلُ إليه والتعظيمُ له. والهمزةُ فيه للتعدي. وقال الراغب: «العَجَبُ حَيْرَةٌ تَعْرِضُ للإِنسان [عند الجهل] بسبب الشيء، وليس هو شيئاً له في ذاته حالةٌ. بل هو بحسَبِ الإِضافات إلى مَنْ يَعْرِف السبب ومَنْ لا يعرفه، وحقيقةُ أعجبني كذا: ظَهَر لي ظهوراً لم أَعْرِفْ سبَبه» . انتهى. ويقال: عَجِبْتُ من كذا، قال:
893 -
عَجِبْتُ والدهرُ كثيرٌ عجبُهْ
…
مِنْ عَنَزِيٍّ سَبَّني لم أَضْرِبُهْ
قوله: {فِي الحياة} في وجهانِ، أحدهُما أن يتعلَّقَ ب «قوله» ، أي: يعجِبُك ما يقولُه في معنى الدنيا، لأنَّ ادِّعاءَه المحبةَ بالباطلِ يَطْلُب حظاً من الدنيا. والثاني: أن يتعلَّقَ ب «يعجِبُك» أي: قولُه حلوٌ فصيحٌ في الدنيا فهو يعجبُك ولا يعجبُك في الآخرة، لِمَا يُرْهِقُه في الموقف من الحَبْسَة واللُّكْنة، أو لأنه لا يُؤْذَنُ لهم في الكلامِ. قال الشيخ:«والذي يظهرُ أنه متعلق بيعجُبك، لا على المعنى الذي قاله الزمخشري، بل على معنى أنك تستحْسِنُ مقالتَه دائماً في مدةِ حياته إذ لا يَصْدُرُ منه من القولِ إلا ما هو معجِبٌ رائقٌ لطيفٌ، فمقالتُه في الظاهرِ مُعْجِبَةٌ دائماً، لا تراه يَعْدِل عن تلك المقالةِ الحسنةِ الرائعة إلى مقالةٍ خَشِنَةٍ منافيةٍ» .
قوله: {وَيُشْهِدُ الله} في هذه الجملةِ وجهان، أظهرُهما: أنها عطفٌ على «يُعْجِبَك» ، فهي صلةٌ لا محلَّ لها من الإِعراب أو صفةٌ، فتكونُ في محلِّ رفعٍ على حَسَبِ القول في «مَنْ» . والثاني: أن تكونَ حاليةً، وفي صاحبِها حينئذٍ وجهان، أحدهُما: أنه الضميرُ المرفوعُ المستكنُّ في «يعجبك» ، والثاني: أنه الضميرُ المجرُور في «قوله» تقديرُه: يُعْجِبُك أَنْ يقولَ في أمر الدنيا، مُقْسِماً على ذلك. وفي جَعْلها حالاً نظرٌ من وجهين، أحدهُما: من جهةِ المعنى، والثاني من جهةِ الصناعة، وأمَّا الأول فلأنه يَلْزَمُ منه أن يكونَ الإعجابُ والقولُ مقيدين بحالٍ والظاهرُ خلافهُ. وأمَّا الثاني فلأنه مضارع مثبتٌ فلا يَقَعُ حالاً إلا في شذوذٍ، نحو: «قُمْتُ وأصُكُّ عينه، أو ضرورةً نحو:
894 -
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
…
نَجَوْتُ وأَرْهُنُهم مالِكا
وتقديرُه مبتدأً قبلَه على خلافِ الأصلِ، أي: وهو يُشْهِدُ.
والجمهورُ على ضَمِّ حرفِ المضارعة وكسرِ الهاء، مأخوذاً من أَشْهَدَ ونصبِ الجلالة مفعولاً به. وقرأ أبو حيوة وابن محيصن بفتحهِما ورفعِ الجلالةِ فاعلاً، وقرأ أُبيّ:» يستشهد الله «. فأمَّا قراءةُ الجمهور وتفسيرُهم فإن المعنى: يَحْلف بالله ويُشْهده إنه صادق، وقد جاءَتِ الشهادةُ بمعنى القَسَم في آية اللِّعان، قيل: فيكونُ اسمُ الله منتصباً على حَذْفِ حرفِ الجر أي: يُقْسِمُ بالله، وهذا سهوٌ من قائِله، لأنَّ المستعملَ بمعنى القسَم» شَهِد «الثلاثي لا» أَشْهَد «الرباعي، لا تقولُ: أُشْهِد بالله، بل: أَشْهَدُ بالله، فمعنى قراءةِ الجمهور: يَطَّلِعُ الله على ما في قلبه، ولا يَعْلَمُ به أحدٌ لشدةِ تكتُّمِه
وأمَّا تفسيرُ الجمهورِ فيحتاجُ إلى حَذْفِ ما يَصِحُّ به المعنى، تقديرُه: وَيْحْلِفُ بالله على خِلافِ ما في قلبه، لأنَّ الذي في قلبه هو الكفرُ، وهو لا يَحْلِفُ عليه، إنما يَحْلِفُ على ضدِّه وهو الذي يُعْجِبُ سامعَه، ويُقَوِّي هذا التأويلَ قراءةُ أبي حيوة؛ إذ معناها: وَيطَّلِعُ الله على ما في قلبه من الكفر.
وأمَّا قراءة أُبيّ فيَحْتمل استَفْعَل وجهين، أحدهما: أن يكونَ بمعنى أَفْعل فيوافِقَ قراءةَ الجمهور. والثاني: أنه بمعنى المجرد وهو شَهِد، وتكونُ الجلالةُ منصوبةً على إسقاطِ الخافضِ.
قوله: {وَهُوَ أَلَدُّ الخصام} الكلامُ في هذه الجملةِ كالتي قبلَها، ونزيد
عليها وجهاً آخرَ وهو أن تكونَ حالاً من الضميرِ في «يُشْهِدُ» . والأَلَدُّ: الشديدُ من اللَّدَدِ وهو شدةُ الخصومةِ، قال:
895 -
إنَّ تحتَ الترابَ عَزْماً وحَزْما
…
وخَصيماً أَلَدَّ ذا مِغْلاقِ
ويقال: لَدِدْتُ بكسر العين ألَدُّ بفتحهِا، ولَدَدْتُه بفتح العَيْن ألُدُّ بضمها أي: غَلَبْتُه في ذلك فيكونُ متعدياً قال:
896 -
تَلُدُّ أقرانَ الرجالِ اللَّدَدِ
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ورجلٌ أَلَدُّ وأَلَنْدَدٌ وَيَلَنْدَدٌ، وامرأةٌ لَدَّاءُ، والجمعُ لُدٌّ كحُمْر.
وفي اشتقاقهِ أقوالٌ، أحدُها: من لُدَيْدَي العُنُق وهما صَفْحتاه قاله الزجاج، وقيل: مَن لُدَيْدَي الوادي وهما جانباه، سُمِّيا بذلك لاعوجاجهما وقيل: هو مِنْ لدَّه إذا حَبَسه فكأنه يَحْبِسُ خصمَه عن مفاوضِته.
وفي «الخصامِ» قولان، أحدُهما: أنه جَمْعُ خَصْم/ بالفتح نحو: كَعْب وكِعاب وكَلْب وكِلَاب وبَحْر وبِحار، وعلى هذا فلا تَحْتاج إلى تأويلِ، والثاني: أنه مصدرٌ، يقال: خاصَمَ خِصاماً نحو: قاتَل قِتالاً، وعلى هذا فلا بد من مُصَحِّحٍ لوقوعِه خبراً عن الجثة، فقيل: في الكلام حذفٌ من الأولِ أي:
وخصامُه أشدُّ الخصامِ، وقيل: من الثاني: أي وهو أشدُّ ذوي الخصام. وقيل: [أُريد] بالمصدر اسمُ الفاعلِ كما يُوصَفُ به في قولِهم: رجلٌ عَدْلٌ. وقيل: «أفْعَلُ» هنا ليسَتْ للتفضيلِ، بل هي بمعنى لَديدُ الخِصام، فهو من بابِ إضافةِ الصفةِ المشبهةِ. وقال الزمخشري:«والخِصامُ المُخَاصَمَةُ، وإضافةُ الألدِّ بمعنى» في «كقولِهم:» ثَبْتُ الغَدْر «يعني أن» أَفْعَل «ليس من بابِ ما أُضيف إلى ما هو بعضه بل هي إضافةٌ على معنى» في «قال الشيخ:» وهذا مخالِفٌ لِما يَزْعمه النحاةُ من أن أَفْعَل لا تُضاف إلا إلى ما هي بعضُه، وفيه إثباتُ الإِضافةِ بمعنى «في» وهو قولٌ مرجوحٌ. وقيل:«هو» ليس ضميرَ «مَنْ» بل ضميرُ الخصومة يفسِّرهُ سياقُ الكلامِ، أي: وخصامُه أشدُّ الخصام. وجعل أبو البقاء «هو» ضميرَ المصدر الذي هو «قوله» فإنه قال: «وَيجوزُ أن يكونَ» هو «ضميرَ المصدرِ الذي هو» قولُه «وقوله خِصام» .
قوله تعالى: {وَإِذَا تولى سعى} : «سَعَى» جوابُ إذا الشرطية وهذه الجملةُ الشرطيةُ تحتملُ وَجْهَيْنِ، أحدُهما: أن تكونَ عطفاً على ما قبلَها وهو «يُعْجِبُكَ» فتكون: إمَّا صلةً أو صفةً حسب ما تقدَّم في «مَنْ» ، والثاني أن تكونَ مستأنفةً لمجردِ الاخبارِ بحالِهِ، وقد تَمَّ الكلامُ عند قولِهِ:«ألدُّ الخصام» .
والتولِّي والسَّعْيُ يحتملان الحقيقةَ أي: تولَّى ببدنِهِ عنكَ وسعى بِقَدَمَيْهِ، والمجازَ بأن يريدَ بالتولِّي الرجوعَ عن القولِ الأولِ، وبالسعي العملَ والكَسْبَ من السَّعاية، وهو مجازٌ شائعٌ، ومنه: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَاّ
مَا سعى} [النجم: 39] وقال امرؤُ القيس:
897 -
فلو أنَّ ما أسْعى لأدنى معيشةٍ
…
كفاني ولم أَطْلُبْ قليلٌ من المالِ
ولكنَّمَا أسعى لمجدٍ مُؤثَّلٍ
…
وقد يُدْرِكُ المجدَ المؤثَّلَ أَمْثَالي
وقال آخر:
898 -
أسعى على حَيِّ بني مالِكِ
…
كلُّ امرىءٍ في شَأْنِهِ ساعي
والسَّعايَةُ بالقولِ ما يقتضي التفريقَ بين الأخِلَاّءِ، قال:
899 -
ما قلتُ ما قال وشاةٌ سَعَوْا
…
سَعْيَ عَدُوٍ بَيْنَنَا يَرْجُفُ
قوله: {فِي الأرض} «متعلِّقٌ ب» سَعَىَ «، فإنْ قيل: معلومٌ أنَّ السَّعْيَ لا يكونُ إلَاّ في الأرضِ قيل: لأنه يُفيدُ العمومَ، كأنه قيل: أيَّ مكانٍ حَلَّ فيه من الأرضِ أفسدَ فيه، فَيَدُلُّ لفظُ الأرضِ على كثرة فسادِهِ، إذ يلزَمُ مِنْ عمومِ الظَّرفِ عمومُ المظروفِ، و» ليفسِدَ «متعلقٌ ب» سعى «علةً له.
قوله: {وَيُهْلِكَ الحرث} الجمهورُ على:» يُهْلِكَ «بضم الياء وكسر اللامِ ونصبِ الكافِ.» الحَرْثَ «مفعولٌ به، وهي قراءةٌ واضحةٌ من: أَهْلَكَ يُهْلك، والنصبُ عطفٌ على الفعِل قبلَهُ، وهذا شبيهٌ بقولِهِ تعالى: {وملائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ} [البقرة: 98] فإنَّ قولَه:» ليفسدَ «يشتملُ على أنه يُهْلكُ الحرثَ والنسلَ، فخصَّهُما
بالذكر لذلك. وقرأ أُبيّ:» وليُهْلِكَ «بإظهارِ لامِ العلة وهي معنى قراءةِ الجمهور، وقرأ أبو حيوة - ورُويت عن ابن كثير وأبي عمرو -» وَيَهْلِكَ الحرثُ والنَّسْلُ «بفتح الياء وكسرِ اللام من هَلَك الثلاثي، و» الحرث «فاعل، و» النسلُ «عطفٌ عليه. وقرأ قوم:» ويُهْلِكُ الحرثَ «من أَهْلَكَ، و» الحرث «مفعولٌ به إلا أنهم رفعوا الكافَ. وخُرِّجتْ على أربعةِ أوجهٍ: أن تكونَ عطفاً على» يُعْجِبُك «أو على» سَعَى «لأنه في معنى المستقبل، أو على خبر مبتدأٍ محذوفٍ أي: وهو يُهْلِكُ، أو على الاستئنافِ. وقرأ الحسن:» ويُهْلَكَ «مبنياً للمفعول،» الحَرْثُ «رفعاً، وقرأ أيضاً:» ويَهَلَكُ «بفتح الياء واللامِ ورفعِ الكافِ،» الحرثُ «رفعاً على الفاعلية، وفتحُ عينِ المضارعِ هنا شاذٌّ لفَتْحِ عينِ ماضِيهِ، وليس عينُهُ ولا لامُهُ حرفَ حلقٍ فهو مثلُ رَكَنَ يَرْكَنُ بالفتحِ فيهما. و» ألحَرثُ «تقدَّم.
والنَّسْلُ: مصدرُ نَسَلَ ينسُل أي: خَرَجَ بسرعة، ومنه: نَسَلَ وَبَرُ البعيرِ، ونَسَلَ ريشُ الطائِر أي: خَرَجَ وتطايَرَ، وقيل: النسلُ الخروجُ متتابعاً، ومنه:» نُسالُ الطائر «ما تتابعَ سقوطُهُ من ريشِهِ، قال امرؤُ القيس:
900 -
وإنهْ تَكُ قَدْ سَاءَتْكِ مني خليقَةٌ
…
فَسُلِّي ثيابي من ثيابِكِ تَنْسُلِ
وقوله: {مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ} [الأنبياء: 96] يحتمِلُ المعنيين. و» الحرثَ والنسلَ «وإن كانا في الأصلِ مصدَرَيْنِ فإنهما هنا واقعان موقعَ المفعولِ به.
الشرطيةُ تحتملُ الوجهين المتقدِّمَيْنِ في نظيرتِها، أعني كونَها مستأنفةً أو معطوفةً على «يُعْجِبُك» وقد تقدَّم أيضاً أولَ السورةِ عند قولِهِ:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُواْ} ما الذي قام مقامَ الفاعلِ؟ وخلافُ الناسِ فيه.
قوله: «بالإِثمِ» في هذه الباءِ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنْ تكونَ للتعديةِ وهو قولُ الزمخشري فإنه قال: «أَخَذْتُهُ بكذا إذا حَملْتُهُ عليه وأَلْزَمْتُهُ إياه أي: حَمَلَتْهُ العِزَّةُ على الإِثْمِ وأَلْزَمَتْهُ ارتكابَه» قال الشيخ: «وباء التعدية بابُها الفعلُ اللازم نحو: {ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ} [البقرة: 17] ، { [وَلَوْ شَآءَ الله لَذَهَبَ] بِسَمْعِهِمْ} [البقرة: 20] ، ونَدَرَتِ التعديةُ بالباءِ في المتعدِّي نحو:» صَكَكْتُ الحجرَ بالحجرِ «أي: جَعَلْتُ أحدَهما يَصُكُّ الآخرَ. الثاني: أن تكونَ للسببيةِ بمعنى أنَّ إثمَه كان سبباً لأخْذِ العِزَّةِ له كما في قوله:
901 -
أَخَذَتْهُ عِزَّةٌ مِنْ جَهْلِهِ
…
فَتَوَلَّى مُغْضَباً فِعْلَ الضَّجِرْ
والثالث: أن تكونَ للمصاحبةِ فتكونَ في محلِّ نصبٍ على الحالِ، وفيها حينئذٍ وجهانِ، أحدُهما: أن تكونَ حالاً من» العزَّةُ «أي: ملتبسةً بالإِثمِ. والثاني: أن تكونَ حالاً من المفعولِ أي: أَخَذَتْهُ ملتبساً بالإِثمِ.
وفي قوله» العزَّةُ بالإِثم «التَتْميم وهو نوعٌ من عِلْمِ البديعِ، وهو عبارةٌ عن إردافِ الكلمةِ بأُخْرَى تَرْفَعُ عنها اللَّبْسَ وتُقَرِّبُها من الفَهْم، وذلك أنَّ العزَّةَ تكونُ محمودةً ومَذمومةً. فَمِنْ مجيئها محمودة:{وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8] {
أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين} [المائدة: 54]، فلو أُطْلِقَتْ لَتَوَهَّمَ فيها بعضُ مَنْ لا عنايةَ له المحمودةَ فقيل:» بالإِثم «تتميماً للمرادِ فَرُفِعَ اللَّبْسُ بها.
قوله: {فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ} » حَسْبُهُ «مبتدأ و» جهنَّمُ «خبرُه أي: كافيهم جهنَّمُ، وقيل:» جهنَّمُ «فاعلٌ ب» حَسْب «، ثم اختلف القائلُ بذلك في» حَسْب «فقيل: هو بمعنى اسم الفاعل، أي الكافي، وهو في الأصل مصدرٌ/ أريد به اسمُ الفاعِل، والفاعِلُ - وهو جهنَّمُ - سَدَّ مَسَدَّ الخبر، وقَوِيَ» حَسْب «لاعتمادِهِ على الفاءِ الرابطةِ للجملةِ بما قبلَها، وهذا كلُّه معنى كلام أبي البقاء. وقيل: بل» حَسْب «اسمُ فعلٍ، والقائِلُ بذلك اختلَفَ: فقيل: اسمُ [فعلٍ] ماضٍ، أي: كفاهم، وقيل فعلُ أمرٍ أي: لِيَكْفِهم، إلَاّ أن إعرابَه ودخولَ حروفِ الجر عليه يمنُع كونَه اسم فعلٍ. وقد تلخَّصَ مِمَّا تقدَّم أن» حَسْب «هل هو بمعنى اسم الفاعل وأصلُه مصدرٌ أو اسمُ فعلٍ ماضٍ أو فِعْلُ أمر؟ وهو من الأسماء اللازمةِ للإِضافةِ، ولا يَتَعَرَّفُ بإضافتِه إلى معرفةٍ، تقولُ، مَرَرْتُ برجلٍ حَسْبِك، ويُنْصَبُ عنه التمييزُ، ويكونُ مبتدأ فيُجَرُّ بباء زائدة، وخبراً فلا يُجَرُّ بها، ولا يُثَنَّى ولا يُجْمَعُ ولا يُؤَنَّثُ وإنْ وقع صفةً لهذه الأشياء.
و «جهنَّمُ» اخَتَلَفَ الناسُ فيها، فقيل: هي أعجميةٌ وعُرِّبتْ، وأصلُها كَهْنَام، فمنعُها من الصرفِ للعلمية والعُجْمَةِ. وقيل: بل هي عربيةُ الأصلِ، والقائلون بذلك اختلَفوا في نونِها: هل هي زائدةٌ أم أصليةٌ؟ فالصحيحُ أنها زائدةٌ ووزنُها «فَعَنَّل» مشتقةٌ من «رَكِيَّةٌ جَهْنام» أي: بعيدةُ القَعْر، وهي من الجَهْم وهو الكراهةُ، وقيل: بل نونُها أصليَّةٌ ووزنُها فَعَلَّل كعَدَبَّس، قال:
لأن «فعنَّلاً» مفقودٌ في كلامِهم، وجعل «زَوْنَكاً» فَعَلَّلاً أيضاً، لأنَّ الواوَ أصلٌ في بناتِ الأربعةِ كوَرَنْتَل، لكنَّ الصحيحَ إثباتُ هذا البناءِ، وجاءَتْ منه ألفاظ، قالوا:«ضَغَنَّط» من الضَّغاطة وهي الضخامة، و «سَفَنَّج» و «هَجَنَّف» للظَّلِيم، والزَّوْنَك: القصير سُمِّي بذلك لأنه يَنْزَوِكُ في مِشْيَتِهِ أي: يَتَبَخْتَرُ، قال حسان:
902 -
أَجْمَعْتَ أَنَّك أنتَ أَلأَمُ مَنْ مَشَى
…
في فُحْشِ زانيةٍ وَزْوكِ غُرابِ
وهذا كلُّه يَدُلُّ على أنَّ النونَ زائدةٌ في «زَوْنَكَ» وعلى هذا فامتناعُها للتأنيثِ والعلَميةِ.
«ولَبِئْسَ المِهادُ» المخصوصُ بالذَّمِّ محذوفٌ، أي: وَلَبِئْسَ المِهادُ جَهَنَّمُ، وحَسَّنَ حَذْفَهُ هنا كونُ «المِهاد» وقعَ فاصلةً، وقد تقدَّمَ الكلامُ على «بئس» وخلافِ الناسِ فيها. وحُذِفَ هذا المخصوصُ بذلك على أنه مبتدأ والجملةُ من نِعْمَ وبِئْسَ خبرُهُ، سواء تقدَّم أو تأخَّرَ؛ لأنَّا لو جَعَلْنَاه خبرَ مبتدأٍ محذوفٍ أو مبتدأً محذوفَ الخبرِ، ثم حذَفْنَاهُ، كنا قد حَذَفْنَا الجملةَ بأسْرِهَا من غَيْرِ أنْ ينوبَ عنها شيءٌ، وأيضاً فإنَّه يَلْزَمُ من ذلك أنْ تكونَ الجملةُ مُفْلَتَةً مِمَّا قبلها إذ ليس لها موضعٌ من الإِعرابِ، وليست معترضةً ولا مفسِّرةً ولا صلةً ولا مستأنفةً.
والمِهَادُ فيه قولان، أحدُهماٌٌٌ: أنه جَمْعُ «مَهْد» وهو ما يوطأُ للنومِ والثاني: أنه اسمٌ مفردٌ، سُمِّيَ به الفراشُ المُوَطَّأُ للنومُ، وهذا من بابِ التهكم والاستهزاءِ، أي: جُعِلَتْ جَهَنَّمُ لهم بَدَلَ مِهادٍ يَفْترشونه وهو كقولِهِ:
903 -
وخيلٍ قد دَلَفْتُ لها بِخَيْلٍ
…
تحيةُ بينِهم ضَرْبٌ وَجِيعُ
أي: القائمُ لهم مقامَ التحيةِ الضربُ الوجيع.
قوله تعالى: {مَن يَشْرِي} : في «مَنْ» الوجهانِ المتقدِّمان في «مَنْ» الأولى، ومعنى يَشْري: يَبيع، قال تعالى:{وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} [يوسف: 20] ، إن أَعَدْنَا الضميرَ المرفوعَ على الآخرة، وقال:
904 -
وَشَرَيْتُ بُرْداً ليتني
…
من بعدِ بُرْدٍ كنتُ هامَهْ
فالمعنى: يَبْذُل نفسَه في اللَّهِ، وقيل: بل هو على أصلِهِ من الشِّراء وذلك أَنَّ صُهَيْباً اشترى نفسَه من قريشٍ لمَّا هاجَرَ، والآيةُ نَزَلَتْ فيه.
قوله: {ابتغآء} منصوبٌ على أنه مفعولٌ من أجله. والشروطُ المقتضيةُ للنصبِ موجودةٌ. والصحيحُ أنَّ إضافةَ المفعولِ له مَحْضَةٌ، خلافاً للجرمي والمبرد والرياشي وجماعةٍ من المتأخَّرين. و «مرضاة» مصدرٌ مبنيٌّ على تاء التأنيث كَمَدْعَاة، والقياسُ تجريدُهُ عنها نحو: مَغْزَى ومَرْمَى
ووقَفَ حمزة عليها بالتاء، وذلك لوجهين: أحدهما أَنَّ بعضَ العربِ يقِفُ على تاء التأنيثِ بالتاءِ كما هي: وأنشدوا:
905 -
دارٌ لسَلْمَى بعد حولٍ قد عَفَتْ
…
بل جَوْزِ تيهاءَ كظهْرِ الجَحَفَتْ
وقد حكى هذه اللغةَ سيبويه. والثاني: أن يكونَ وقف على نيةِ الإِضافة، كأنه نَوَى لفظَ المضافِ إليه لشدةِ اتِّصال المتضايفَيْنِ فأَقَرَّ التاءَ على حالِها مَنْبَهَةً على ذلك، وهذا كما أَشَمُّوا الحرفَ المضمومَ ليُعْلِمُوا أنَّ الضَّمَّة كالمنطوق بها. وقد أمالَ الكسائي وورش «مَرْضات» .
وفي قولِهِ: {بالعباد} خروجٌ من ضميرِ الغَيْبَةِ إلى الاسمِ الظاهِرِ، إذ كان الأصلُ «رؤوف به» أو «بهم» ، وفائدةُ هذا الخروجِ أنَّ لفظَ «العباد» يُؤْذِنُ بالتشريفِ، أو لأنَّ فاصلةٌ فاخْتِير لذلك.
قولُه تعالى: {السلم} : قرأ هنا «السَّلْم» بالفتحِ نافعُ والكسائي وابن كثير، والباقون بالكَسْر، وأمَّا التي في الأنفال فلم يَقْرَأها بالكسر إلا أبو بكر وحدَه عن عاصم، والتي في القتال فلم يَقْرأْها بالكسر إلا حمزةُ وأبو بكر وحدَه عن عاصم، والتي في القتال فلم يَقْرَأْها بالكسر إلا حمزةُ وأبو بكر أيضاً، وسيأتي. فقيل: هما بمعنىً وهو الصلحُ، ويُذَكَّر ويُؤَنَّث، قال تعالى:{وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فاجنح لَهَا} ، وحَكَوْا:«بنو فلان سِلْمٌ وسَلْمٌ» ، وأصلُه من الاستسلام وهو الانقيادُ، ويُطْلَقُ على الإِسلامِ، قاله الكسائي وجماعة، وأنشدوا:
906 -
دَعَوْتُ عشيرتي للسِّلْمِ لَمَّا
…
رأيُتُهمُ تَوَلَّوا مُدْبِرِينا
يُنْشَد بالكسر، وقال آخر في المفتوح:
907 -
شرائِعُ السَّلْم قد بانَتْ معالِمُها
…
فما يَرى الكفرَ إلا مَنْ بِه خَبَلُ
فالسِّلْمُ والسَّلْمُ في هذين البيتين بمعنى الإِسلام، إلَاّ أنَّ الفَتْح فيما هو بمعنى الإِسلام قليلٌ. وقرىء «السَّلَم» بفتحِهِما، وقيل: بل هما مختلفا المعنى: فبالكسر الإِسلامُ وبالفتحِ الصلحُ.
قوله: {كَآفَّةً} منصوبٌ على الحالِ، وفي صاحبِها ثلاثةُ أقوالٍ، أحدُها: وهو الأظهَرُ أنه الفاعلُ في «ادخُلوا» والمعنى: ادخُلُوا السِّلْم جميعاً. وهذه حالٌ تُؤَكِّدُ معنى العمومِ، فإنَّ قولَكَ:«قام القومُ كافةً» بمنزلةِ: قاموا كلُّهم. والثاني: أنه «السِّلْم» ، قاله الزمخشري وأبو البقاء، قال الزمخشري:«ويَجُوزُ أن تكونَ» كافةً «حالاً من» السِّلْمِ «لأنها تُؤَنَّثُ كما تُؤَنَّثُ كما تُؤَنَّث الحَرْبُ، قال الشاعر:
908 -
السِّلْمُ تأخذُ منها ما رَضِيتَ به
…
والحربُ يَكْفيكَ من أَنْفَاسِها جُرَعُ
على أنَّ المؤمنينَ أُمِرُوا أن يدخُلُوا في الطاعاتِ كلِّها، ولا يَدْخُلوا في طاعةٍ دونَ طاعةٍ، قال الشيخ:» تعليلُه كونُ «كافةً» حالاً من «السِّلم» بقولِه: «لأنها تُؤَنَّثُ كما تُؤَنَّثُ الحرب» ليس بشيء/ لأنَّ التاءَ في «كافة» ليست للتأنيثِ، وإن كان أصلُها أَنْ تَدُلُّ عليه، بل صار هذا نقلاً مَحْضاً إلى معنى
جميع وكل، كما صار قاطبةً وعامَّة إذا كانَ حالاً نَقْلاً مَحْضاً. فإذا قلت:«قامَ الناسُ كافً وقاطبةً» لم يَدُلَّ شيءٌ من ذلك على التأنيث، كما لا يَدُلُّ عليه «كُلّ» و «جميع» .
والثالثُ: أن يكونَ صاحبُ الحالِ هما جميعاً، أعني فاعلَ «ادخُلُوا» و «السِّلْم» فتكونُ حالاً من شيئين. وهذا ما أجازه ابنُ عطية فإنه قال:«وتَسْتَغْرِقُ» «كافة» حينئذٍ المؤمنين وجميعَ أجزاءِ الشرع، فتكونُ الحالُ مِنْ شيئين، وذلك جائِزٌ نحو قولِهِ:{فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ} [مريم: 37] . ثم قال بعد كلامٍ: «وكافةً معناه جميعاً، فالمرادُ بالكافة الجماعةُ التي تَكُفُّ مخالِفيها» .
وقوله: «نحو قوله: تَحْمِلُه» يعني أنَّ «تَحْمِلُهُ» حالٌ من فاعل «أَتَتْ» ومِنَ الهاء في «بِهِ» . قال الشيخ: «هذا المثالُ ليس مطابقاً للحال من شيئين لأنَّ لفظَ» تَحْمِلُهُ «لا يحتمل شيئين، ولا تقع الحالُ من شيئين إلا إذا كان اللفظُ يحتملُهما، واعتبارُ ذلك بجَعْلِ ذوي الحال مبتدأين، وجَعَل تلك الحالَ خبراً عنهما، فمتى صَحَّ ذلك صَحَّتِ الحالُ نحو:
909 -
وَعُلِّقْتُ سلمى وَهْيَ ذاتُ مُوَصَّدٍ
…
ولم يَبْدُ للأتْرابِ من ثَدْيِها حَجْمُ
صَغِيرَيْنِ نَرْعى البَهْم يا ليت أنَّنا
…
إلى اليومِ لم نَكْبَر ولم تكْبَرِ البُهْمُ
فصغيرَيْنِ حالٌ من فاعل» عُلِّقْتُ «ومن» سلمى «لأنك لو قُلْت: أنا وسَلْمى صغيران [لَصَحَّ]، ومثلُه قولُ امرىءِ القيس:
910 -
خَرَجْتُ بها نمشي تَجُرُّ وراءَنا
…
على أَثَرَيْنَا ذَيْلَ مِرْطٍ مُرَحَّلِ
فنمشي حالٌ من فاعل» خَرَجْتُ «ومن» ها «في» بها «، لأنَّك لو قلت:» أنا وهي نمشي «لصَحَّ، ولذلك أَعْرب المُعْرِبون» نَمْشِي «حالاً منهما كما تَقَدَّم، و» تَجُرُّ «حالاً من» ها «في» بها «فقط، لأنه لا يصلح أن تجعل» تَجُرُّ «خبراً عنهما، لو قلت:» أنا وهي تَجَرُّ «لم يَصِحَّ فكذلك يتقدَّر بمفردٍ وهو» جارَّة «وأنت لو أَخْبَرْتَ به عن اثنين لم يَصِحَّ فكذلك» تحمله «لا يَصْلُح أن يكونَ خبراً عن اثنين، فلا يَصِحُّ أن يكونَ حالاً منهما، وأمَّا» كافة «فإنها بمعنى» جميع «، و» جميع «يَصحُّ فيها ذلك، لا يُقال:» كافة «لا يَصحُّ وقوعُها خبراً لو قلتَ:» الزيدون، والعمرون كافة «لم يَجُزْ، فلذلك لا تقع حالاً على ما قَرَّرتُ؛ لأنَّ ذلك إنما هو بسبب التزام نصب» كافةً «على الحال، وأنها لا تتصرَّف لا من مانعِ معنوي، بدليلِ أنَّ مرادفها وهو» جميع «و» كل «يُخْبَرُ به، فالعارضُ المانِعُ ل» كافَّة «من التصرُّفِ لا يَضُرُّ، وقوله:» الجماعة التي تَكُفُّ مخالِفيها «يعني أنَّها في الأصلِ كذلك، ثم صار استعمالها بمعنى جميع وكُل» .
واعلَمْ أنَّ أصلَ «كافة» اسمُ فاعل من كَفَّ يَكُفُّ أي مَنَع، ومنه:«كَفُّ الإِنسان» ، لأنها تَمْنَعُ ما يقتضيه، و «كِفّة الميزان» لجمعِها الموزون، والكُفَّة بالضم لكل مستطيلٍ، وبالكسر لكلِّ مستدير. وقيل:«كافة» مصدرٌ
كالعاقبة والعافية. وكافة وقاطبة مِمَّا لَزِم نصبُهما على الحالِ فإخراجُهما عن ذلك لَحْنٌ.
والجمهورُ على {زَلَلْتُمْ} : بفتح العين، وأبو السَّمَّال قرأها بالكسرِ، وهما لغتان كضَلَلْتُ وضَلِلْتُ. و «ما» في «مِنْ بعدِما» مصدريَّةٌ، و «مِنْ» لابتداءِ الغايةِ، وهي متعلِّقَةٌ ب «زَللْتُم» .
قولُه تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ} : «هل» لفظُهُ استفهامٌ والمرادُ به النفيُ كقوله:
911 -
وهلْ أنا إلا مِنْ غُزَيَّةَ إنْ غَوَتْ
…
غَوَيْتُ وإنْ تَرْشُدْ غُزَيَّةُ أَرْشُدِ
أي: ما ينظُرون، وما أنا، ولذلك وقَعَ بعدها «إلَاّ» كما تَقَعُ بعد «ما» .
و «يَنْظُرون» هنا بمعنى يَنْتَظِرُون، وهو مُعَدَّىً بنفسِه، قال امرؤ القيس:
912 -
فإنَّكما إنْ تَنْظُراني ساعةً
…
من الدَّهْرَ يَنْفَعْني لدى أُمِّ جُنْدَبِ
وليس المرادُ هنا بالنظرِ تَرَدُّدَ العينِ، لأنَّ المعنى ليس عليه. واستدّلَّ بعضُهم على ذلك بأن النظر بمعنى البصر يتعدَّى بإلى، ويُضافُ إلى الوجه، وفي الآية الكريمة متعدٍّ بنفسِه، وليسَ مضافاً إلى الوجه، ويعني بإضافته إلى الوجهِ قوله تعالى:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 23] فيكونُ بمعنى الانتظار. وهذا ليس بشيءٍ. أمَّا قولُه: «إنَّ الذي بمعنى البصر يتعدَّى بإلى
فمُسَلَّم، قوله:» وهو هنا متعدٍّ بنفسه «ممنوعٌ، إذ يُحتمل أن يكونَ حرفُ الجر وهو» إلى «محذوفاً، لأنه يَطَّرِدُ حَذْفُه مع» أَنْ «، إذا لم يكن لَبْسٌ، وأمَّا قولُه:» يُضافُ إلى الوجهِ «فممنوعٌ أيضاً، إذ قد جاء مضافاً للذاتِ. قال تعالى: {أرني أَنظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف: 143] {أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الإبل} [الغاشية: 17] . والضميرُ في» ينظرون «عائدٌ على المخاطبين بقولِه:» زَلَلْتُم «فهو التفاتٌ.
قولُه: {إِلَاّ أَن يَأْتِيَهُمُ} هذا مفعولُ» ينظرون «وهو استثناءٌ مفرَّغٌ أي: ما ينظرون إلا إتيان الله.
قوله: {فِي ظُلَلٍ} فيه أربعةُ أوجهٍ، أحدُها: أن يتعلَّق بيأتِيَهم، والمعنى: يأتيهم أمرُه أو قُدْرَتُه أو عقابُه أو نحوُ ذلك، أو يكونُ كنايةً عن الانتقام؛ إذ الإتيان يمتنعُ إسنادُه إلى الله تعالى حقيقةً. والثاني: أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ، وفي صاحبها وجهان، أحدُهما: هو مفعولُ يأتيهم، أي: في حالِ كونِهم مستقرين في ظُلَل وهذا حقيقةٌ. والثاني: أنه الله تعالى بالمجاز المتقدَّم، أي: أمرُ الله في حال كونه مستقراً في ظُلَل. الثالث: أن تكونَ» في «بمعنى الباء، وهو متعلقٌ بالإِتيانِ، أي: إلَاّ أَنْ يأتيهم بظُلَل. ومِنْ مجيءِ» في «بمعنى الباءِ قوله:
913 -
. . . . . . . . . . . . . . . . .
…
خَبيرون في طَعْنِ الكُلى والأباهِرِ
لأنَّ» خبيرين «إنَّما يتعدَّى بالباءِ كقوله:
914 -
. . . . . . . . . . . . . . . .
…
خبيرٌ بأَدْواءِ النِّساء طَبيبُ
الرابع: أن يكونَ حالاً من» الملائكة «مقدَّماً عليها، والأصل: إلَاّ أَنْ يأتيَهم اللهُ والملائكةُ في ظُلَلٍ، ويؤيَّد هذا قراءة عبد الله إياه كذلك، وبهذا أيضاً يَقِلُّ المجازُ، فإنَّه والحالةُ هذه لم يُسْنَدْ إلى اللهِ تعالى إلا الإِتيانُ فقط بالمجازِ المتقدِّم.
وقرأ أُبَيّ وقتادةُ والضحاكُ: في ظلالٍ، وفيها وجهان، أَحدُهما: أَنَّها جمع ظِلّ نحو: صِلّ وصِلال.
والثاني: أنها جمعُ ظُلَّة كقُلَّة وقِلال، وخُلَّة وخِلال، إلَاّ أنَّ فِعالاً لا يَنقاس في فُعْلَة.
قوله: {مِّنَ الغمام} فيه وجهانِ، أحدُهما: أنه متعلقٌ بمحذوف؛ لأنه صفةٌ ل «ظُلَل» التقدير: ظُلَلٍ كائنةٍ من الغَمام. و «مِنْ» على هذا للتبعيضِ.
والثاني: أنها متعلقةٌ ب «يأتيهم» ، وهي على هذا لابتداءِ الغاية، / أي: من ناحيةِ الغمام.
والجمهور: «الملائكةُ» رفعاً عطفاً على اسم «الله» . وقرأ الحسن وأبو جعفر: «والملائكةِ» جراً وفيه وجهان، أحدُهما: الجر عطفاً على «ظُلَلٍ» ، أي: إلا أن يأتيهم في ظللٍ وفي الملائكة؛ والثاني: الجر عطفاً على «الغمام» أي: من الغمام ومن الملائكة، فتوصفُ الملائكة بكونِهَا ظُللاً على التشبيه.
قوله: {وَقُضِيَ الأمور} الجمهور على «قُضِيَ» فعلاً ماضياً مبنياً للمفعول وفيه وجهان، أحدُهما: أن يكونَ معطوفاً على «يَأْتِيهم» وهو داخلٌ في حَيِّز الانتظار، ويكونُ ذلك من وَضْعِ الماضي موضعَ المستقبل، والأصل،
ويُقْضى الأمر، وإنما جِيء به كذلك لأنه محققٌ كقوله:{أتى أَمْرُ الله} [النحل: 1] . والثاني: أن يكونَ جملةً مستأنفةً برأسِها، أَخْبر الله تعالى بأنه قد فَرَغَ من أمرهم، فهو من عطفِ الجملِ وليس داخلاً في حَيِّز الانتظار، وقرأ معاذ ابن جبل «وقضاء الأمر» قال الزمخشري:«على المصدرِ المرفوع عطفاً على الملائكة» . وقال غيرُه: بالمدِّ والخفض عطفاً على «الملائكة» قيل: «وتكون على هذا» في «بمعنى الباء» أي: بُظللٍ وبالملائكةِ وبقضاء الأمر، فيكونُ عن معاذ قراءتان في الملائكة: الرفعُ والخفضُ، فنشأ عنهما قراءتان له في قوله:«وقُضي الأمر» .
قوله: {وَإِلَى الله تُرْجَعُ الامور} هذا الجار متعلِّقٌ بما بعدَه، وإنما قُدِّم للاختصاص، أي: لا تَرْجعُ إلا إليه دون غيره. وقرأ الجمهور: «تُرْجَعُ» بالتأنيث لجريان جمعِ التكسير مَجْرى المؤنث، إلَاّ أنَّ حمزةَ والكسائي ونافعاً قرؤوا ببنائِه للفاعل، والباقون ببنائِه للمفعول، و «رجع» يُستعمل متعدياً تارةً ولازماً أخرى. وقال تعالى:{فَإِن رَّجَعَكَ الله} [التوبة: 83] فجاءت القراءتان على ذلك، وقد سُمِع في المتعدي «أرجع» رباعياً وهي لغةٌ ضعيفة، ولذلك أَبَت العلماءُ أن تَجْعَل قراءَة مَنْ بناه للمفعول مأخوذةً منها. وقرأ خارجة عن نافع:
«يُرْجَعُ» بالتذكير وببنائه للمفعول لأن تأنيثه مجازي، والفاعلُ المحذوفُ
في قراءةِ مَنْ بناه للمفعول: إمَّا اللهُ تعالى، أي: يرجعها إلى نفسه بإفناء هذه الدار، وإمَّا ذوو الأمور؛ لأنه لَمَّا كانت ذواتُهم وأحوالُهم شاهدةً عليهم بأنهم مَرْبوبون مَجْزِيُّون بأعمالهم كانوا رادِّين أمورَهم إلى خالقها.
قوله تعالى: {سَلْ} : قرأ الجمهور: «سَلْ» وهي تحتمل وجهين، أحدُهما: أَن تكونَ مِنْ لغة: سال يَسال مثل: خاف يخاف، وهل هذه الألفُ مُبْدَلَةٌ من همزة أو واو أو ياء؟ خلافٌ تقدَّم في قوله:{فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ} فحينذٍ يكونُ الأمر منها: «سَلْ» مثل «خَفْ» ، لَمَّا سكنت اللام حَمْلاً للأمر على المجزوم التقى ساكنان فَحُذِفت العين لذلك، فوزنُه على هذا فَلْ. والثاني: أن تكون من سأل بالهمز، والأصل: اسْأَلْ ثم أُلقيت حركة الهمزة على السين تخفيفاً، واعتدَدْنا بحركةِ النقلِ فاستَغْنينا عَنْ همزة الوصلِ فَحَذَفْنَاها ووزنُه أيضاً: فُلْ بحذفِ العين، وإن كان المأخَذُ مختلفاً. وروى عباس عن أبي عمرو:«اسأَلْ» على الأصْلِ من غير نَقْلٍ. وقرأ قومُ: «اسَلْ» بالنقلِ وهمزةِ الوصلِ، كأنهم لم يَعْتَدُّوا بالحركةِ المنقولةِ كقولِهم:«الحْمَر» بالهمز. وسيأتي لهذه المسائل مزيدُ بيانٍ في مواضِعها كما ستقفُ عليه إنْ شاء الله. و «بنى» مفعولٌ أولُ عند الجمهور.
وقوله: {كَمْ آتَيْنَاهُم} في «كَمْ» وجهانِ، أحدُهما أنَّها في محل نصبٍ. واختُلف في ذلك فقيل: نصبُها على أنها مفعولٌ ثانٍ لآتيناهم على مذهبِ
الجمهور، وأولُ على مذهبِ السهيلي، كما تقدَّم تقريرُه. وقيل: يجوزُ أَن يَنْتَصِبَ بفعل مقدَّر يفسِّرهُ الفعلُ بعدَها تقديرُه: كم آتينا آتيناهم، وإنما قدَّرْنَا ناصبَها بعدَها لأنَّ الاستفهامَ له صدُر الكلامِ ولا يَعْمَلُ فيه ما قبلَه، قاله ابنُ عطية، يعني أنه عنده من بابِ الاشتغالِ. قال الشيخ:«وهذا غيرُ جائز إنْ كان» من آية «تمييزاً، لأن الفعلَ المفسِّر لم يعملْ في ضمير» كم «ولا في سببّها، وإذا لم يكن كذلك امتنع أن يكون من باب الاشتغال، إذ من شرطِ الاشتغال أن يعملَ المفسِّرُ في ضميرِ الأولِ أو في سببِّه. ونظيرُ ما أجازه أن تقولَ:» زيداً ضربْتُ «ويكونُ من بابِ الاشتغال، وهذا ما لا يُجيزه أحدٌ. فإنْ قُلْنَا إنَّ مميِّزها محذوفٌ، وأُطْلِقَتْ» كم «على القوم جاز ذلك لأنَّ في جملةِ الاشتغالِ ضميرَ الأول، لأنَّ التقديرَ:» كم من قومٍ آتيناهُمْ «قلت: هذا الذي قاله الشيخُ مِنْ كونِه لا يتمشَّى على كونِ» من آية «تمييزاً قد صَرَّح به ابنُ عطية فإنه قال:» وقولُه «مِن آية» هو على التقديرِ الأولِ مفعولٌ ثانٍ لآتيناهم، وعلى الثاني في موضعِ التمييز «يعني بالأول نصبَها على الاشتغالِ، وبالثاني نصبَها بما بعدَها.
والثاني من وَجْهَي كم: أن تكون في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ والجملةُ بعدَها في محلِّ رفعٍ خبراً لها والعائدُ محذوفٌ تقديرُه: كم آتيناهموها أو أتيناهم إياها، أجاز ذلك ابنُ عطية وأبو البقاء، واستَضْعَفَه الشيخ من حيث إنَّ حَذْفَ عائدِ المنصوبِ لا يجوزُ إلَاّ في ضرورةٍ كقوله.
915 -
وخالدٌ يَحْمَدُ ساداتُنا
…
بالحقِّ لا يُحْمَدُ بالباطِل
أي: وخالدٌ يحمَدُه/. وهذا نقلُ بعضِهم، وأمَّا ابنُ مالك فَنَقَل أنَّ المبتدأ إذا كانَ لفظَ «كُل» أو ما أشبهها في الانتقار والمعموم جازَ حَذْفُ عائده المنصوب اتفاقاً من البصريين والكوفيين، ومنه:{وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى} [النساء: 95] في قراءة نافعٍ، وإذا كان المبتدأُ غيرَ ذلك فالكوفيون يَمْنَعُون ذلك إلَاّ في السَّعَةِ، والبصريُّون يُجيزونه بضعفٍ، ومنه:{أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُونَ} [المائدة: 50] برفع «حكم» . فقد حَصَل أنَّ الذي أجازَه ابن عطية ممنوعٌ عند الكوفيين ضعيفٌ عند البصريين.
وهل «كَمْ» هذه استفهاميةٌ أو خبريةٌ؟ الظاهرُ الأولُ، وجَوَّزَ الزمخشري فيها الوجهين، ومَنَعَه الشيخُ من حيث «إنَّ» كَمْ «الخبرية مستقلةٌ بنفسها غيرُ متعلقةٍ بالسؤال، فتكونُ مفلتةً مِمّا قبلها، والمعنى يؤدِّي إلى انصباب السؤال عليها، وأيضاً فَيَحْتَاج إلى حَذْفِ المفعول الثاني للسؤالِ تقديرُه: سَلْ بَنِي إسرائيل عن الآيات التي آتيناهم، ثم قال: كثيراً من الآيات التي آتيناهم، والاستفهاميةُ لا تحتاجُ إلى ذلك.
و» من آيةٍ «فيه وجهان، أحدُهما: أنها مفعولٌ ثانٍ على القولِ بأن» كم «منصوبةٌ على الاشتغال كما تقدَّم تحقيقُه، ويكون مميِّز» كم «محذوفاً، و» مِن «زائدةٌ في المفعول؛ لأنَّ الكلام غيرُ موجب إذ هو استفهامٌ. وهذا إذا قلنا إنَّ» كم «استفهاميةٌ لا خبريةٌ، إذ الكلام مع الخبرية إيجابٌ، و» مِنْ «لا تُزادُ في
الواجب إلا على رأي الأخفش والكوفيين، بخلاف ما إذا كانت استفهاميةً. قال الشيخ:» فيمكن أن يجوزَ ذلك فيه لانسحابِ الاستفهام على ما بعده وفيه بُعْدٌ، لأنَّ متعلَّقَ الاستفهامِ هو المفعولُ الأول لا الثاني، فلو قلت:«كم من درهمٍ أعطيتهُ من رجلٍ» على زيادةِ «من» في «رجل» لكان فيه نظرٌ «انتهى.
والثاني: أنها تمييزٌ، ويجوزُ دخولُ» مِنْ «على ممِّيِز» كم «استفهاميةٌ كانت أو خبريةً مطلقاً، أي: سواءً وليها مميِّزها أم فُصِل بينهما بجملةٍ أو ظرفٍ أو جارٍ ومجرورٍ، على ما قَرَّره النحاةُ. و» كم «وما في حَيِّزها في محلِّ نصب أو خفضٍ، لأنها في محلِّ المفعول الثاني للسؤال فإنه يتعدَّى لاثنين: إلى الأول بنفسه وإلى الثاني بحرفِ جَر: إمّا عن وإمَّا الباء نحو: سألته عن كذا وبكذا، قال تعالى:{فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً} [الفرقان: 59]، وقد جُمِع بينهما في قوله:
916 -
فَأَصْبَحْنَ لا يَسْأَلْنني عن بما بِه
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقد يُحْذَفُ حرفُ الجرِّ، فمِنْ ثَمَّ جاز في محلِّ» كم «النصبُ والخفضُ بحسَبِ التقديرين و» كم «هنا معلِّقةٌ للسؤال، والسؤالُ لا يُعَلَّقُ إلا بالاستفهامِ كهذه الآية، وقوله تعالى:
{سَلْهُمْ: أَيُّهُم بِذَلِكَ زَعِيمٌ} [القلم: 40] وقوله:
917 -
يا أيُّها الراكبُ المُزْجِي مَطِيَّتَه
…
سائلْ بني أسدٍ ما هذه الصَّوْتُ
وقال آخر:
918 -
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
…
واسألْ بمَصْقَلَةَ البَكْرِيِّ ما فَعَلا
وإنما علَّق السؤالَ وإن لم يكن من أفعال القلوب، قالوا: لأنه سببٌ للعلمِ والعلمُ يُعَلَّق فكذلك سَبَبُه، وإذا كانوا قد أَجْرَوا نقيضه في التعليق مُجْراه في قوله:
919 -
وَمَنْ أنتُمُ إنَّا نسِينا مَنَ أَنْتُمُ
…
وريحُكمُ من أيِّ ريحِ الأَعاصِرِ
فإجراؤهم سبَبَه مُجْراه أَوْلى.
واختلفَ النحويون في «كم» : هل بسيطةٌ أو مركبةٌ من كافِ التشبيه وما الاستفهاميةُ حُذِفَتْ ألفُها لانجرارِها، ثم سُكِّنَتْ ميمُها، كما سُكِّنَّتْ ميمُ «لِمْ» من «لِمْ فَعَلْتَ كذا» في بعض اللغاتِ، فَرُكِّبتا تركيباً لازماً؟ والصحيحُ الأول. وأكثرُ ما تجيء في القرآنِ خبريةً مراداً بها التكثيرُ ولم يأتِ مميِّزُها في القرآنِ إلا مجروراً بِمِنْ.
قوله: {وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ الله} «مَنْ» شرطيةٌ في محلِّ رفعٍ بالابتداء. وقد تقَدَّمَ الخلافُ في خبرِ اسمِ الشرطِ ما هو؟ ولا بُدَّ للتبديل من مفعولين: مُبَدَّل وبَدَل، ولم يَذْكر هنا إلا أحدَهما وهو المُبَدَّل، وحَذَفَ البَدَلَ، وهو المفعول
الثاني لفهمِ المعنى. وقد صَرَّح به في قوله: {بَدَّلُواْ نِعْمَةَ الله كُفْراً} [إبراهيم: 28] فكفراً هو المحذوفُ هنا. وكان قد تقدَّم عند قولِهِ تعالى: {فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ} [البقرة: 59] أن «بَدَّل» يتعدَّى لاثنين أحدُهما بنفسه وهو البدلُ وهو الذي يكون موجوداً وإلى الآخر بحرفِ الجر وهو المُبَدَّلُ وهو الذي يكون متروكاً، وقد يُحْذَفُ حرفُ الجَرِّ لفهمٍ المعنى فالتقدير هنا:«وَمَنْ يُبَدِّل بنعمتِهِ كفراً» ، فَحَذَفَ حرفَ الجر والبدل لفهمِ المعنى. ولا جائِزٌ أَنْ تُقَدِّر حرفَ الجر داخِلاً على «كفراً» فيكونَ التقديرُ:«وَمَنْ يُبَدِّل بالكفرِ نعمةَ الله» لأنه لا يترتَّبُ عليه الوعيد في قوله: {فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب} . وكذلك قولُه: {فأولئك يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 70] تقديرُهُ: بسيئاتهم حسناتٍ، ولا يجوز تقديرُه:«سيئاتِهِم بحسناتٍ» لأنه لا يترتَّبُ على قوله: {إِلَاّ مَن تَابَ} .
وقُرِىء: «يُبْدِل» مخففاً، و «مِنْ» لابتداءِ الغايةِ. و «ما» مصدريةٌ، والعائدُ من جملةِ الجزاءِ على اسمِ الشرطِ محذوفٌ لفهمِ المعنى أي: العقاب له، أو لأنَّ «أَلْ» نابَتْ منابَه عند الكوفيين.
قوله تعالى: {زُيِّنَ} : إنَّما لم تَلْحَقِ الفعلَ علامةُ تأنيثٍ لكونِهِ مؤنثاً مجازياً، وحَسَّن ذلك الفصلُ. وقرأ ابن أبي عبلة:«زُيِّنَتْ» بالتأنيث مراعاةً للفظِ. وقرأ مجاهد وأبو حيوة: «زَيَّنَ» مبنياً للفاعل، و «الحياة» مفعولٌ، والفاعلُ هو الله تعالى، والمعتزلةُ يقولون: إنه الشيطان.
وقوله: {وَيَسْخَرُونَ} يَحْتَمِل أن يكونَ من باب عَطْفِ الجملةِ الفعلية على
الجملة الفعليةِ، لا من بابِ عطفِ الفعلِ وحدَه على فعلٍ آخرَ، فيكونُ من عطف المفردات، لِعَدَمِ اتِّحادِ الزمانِ. ويَحْتَمل أن يكونَ «يَسْخَرُون» خبرَ مبتدأ محذوفٍ، أي: وهم يَسْخَرُون فيكون مستأنفاً، وهو من عَطْفِ الجملةِ الاسمية على الفعلية. وجِيءَ بقولِهِ:«زُيِّن» ماضياً دلالةً على أنَّ ذلك قد وقع وَفُرِغَ منه، وبقوله:«وَيَسْخَرُون» مضارعاً دلالةً/ على التَّجَدُّدِ والحدوثِ.
قوله: {والذين اتقوا فَوْقَهُمْ} مبتدأٌ وخبرٌُ، و «فوق» هنا تَحْتَمل وجهين، أحدُهما: أن تكونَ ظرفَ مكانٍ على حقيقتِها، لأنَّ المتقين في أَعلى عَلِّيِّين، والكافرين في أسفلِ سِجِّين. والثاني: أن تكون الفوقيةُ مجازاً: إمَّا بالنسبة إلى نعيمِ المؤمنين في الآخرة ونعيمِ الكافرين في الدنيا. و «يوم» منصوب بالاستقرار الذي تعلَّق به «فوقهم» .
قولُه: {مَن يَشَآءُ} مفعولُ «يشاء» محذوفٌ، أي: مَنْ يشاءُ أَنْ يَرزقَه. و «بغيرِ حساب» هذا الجارُّ فيه وجهان، أحدُهما: أنه زائدٌ. والثاني: أنه غيرُ زائدٍ، فعلى الأول لا تَعَلُّقَ له بشيء، وعلى الثاني هو متعلِّقٌ بمحذوف. فأمّا وجهُ الزيادةِ: فهو أنه تقدَّمه ثلاثةُ أشياءَ في قوله: {والله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ} الفعلُ والفاعلُ والمفعولُ، وهو صالحٌ لأنْ يتعَلَّقَ من جهةِ المعنى بكلِّ واحدٍ منها، فإذا تعلَّق بالفعلِ كان من صفاتِ الأفعالِ، تقديرُهُ: والله يرزق رزقاً غيرَ حساب، أي: غير ذي حساب، أي: أنه لا يُحْسَب ولا يُحْصَى لكثرتِهِ، فيكونُ في محلِّ نصبٍ على أنه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ، والباءُ زائدةٌ.
وإذا تَعَلَّقَ بالفاعل كان من صفاتِ الفاعلين، والتقديرُ: واللَّهُ يرزق غيرَ
محاسِبٍ بل متفضلاً أو غيرَ حاسِبٍ، أي: عادٍّ. ف «حساب» واقعٌ موقعَ اسمِ فاعلٍ من حاسَب أو من حَسَبَ، ويجوزُ أن يكونَ المصدرُ واقعاً موقعَ اسمِ مفعولٍ من حاسَبَ، أي: الله يرزقُ غيرَ مُحَاسَبٍ أي: لا يحاسبه أحدٌ على ما يُعْطِي، فيكونُ المصدرُ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من الفاعل، والباءُ فيه مزيدةٌ.
وإذا تعلَّق بالمفعولِ كانَ من صفاتِهِ أيضاً والتقديرُ: والله يرزقُ مَنْ يشاء غيرَ محاسَبٍ أو غيرَ محسوبٍ عليه، أي: معدودٍ عليه، أي: إنَّ المرزوق لا يحاسِبُهُ أحدٌ، أو لا يَحْسُبُ عليه أي: لا يَعُدُّ. فيكونُ المصدرُ أيضاً واقعاً موقعَ اسمِ مفعولٍ من حاسَبَ أو حَسَبَ، أو يكونُ على حَذْفِ مضافٍ أي غيرَ ذي حساب أي: محاسبة، فالمصدرُ واقعٌ موقعَ الحالِ والباءُ أيضاً زائدةٌ فيه، ويحتمل في هذا الوجهِ أن يكونَ المعنى أنه يُرْزَق مِنْ حيثُ لا يَحْتَسِبُ، أي: من حيث لا يظنُّ أن يأتيَه الرزقُ، والتقديرُ: يرزقُه غيرَ محتسِب ذلك، أي: غيرَ ظانٍّ له، فهو حالٌ أيضاً.
ومثلُه في المعنى {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 3] وكونُ الباء تُزادُ في الحال ذكروا لذلك شرطاً - على خلافٍ في جواز ذلك في الأصل - وهو أن تكون الحال منفيَّةً كقوله:
920 -
فما رَجَعَتْ بخائبةٍ رِكابٌ
…
حكيمُ بن المُسَيَّب مُنْتَهَاها
وهذه الحالُ - كما رأيتَ - غيرُ منفيةٍ فالمنعُ من الزيادة فيها أَوْلى.
وأمَّا وجهُ عدمِ الزيادةِ فهو أن تَجْعَلَ الباءَ للحالِ والمصاحبة. وصلاحيةُ وصفِ الأشياء الثلاثة - أعني الفعلَ والفاعلَ والمفعولَ - بقولِهِ: «بغير
حساب» باقيةٌ أيضاً، كما تقدَّم في القولِ بزيادَتِها. والمُراد بالمصدرِ المحاسبةُ أو العدُّ والإِحصاءُ أي: يرزقُ مَنْ يشاء ولا حسابَ على الرزقِ، أو ولا حسابَ للرازق، أو ولا حسابَ على المرزوق، وهذا أَوْلَى لما فيه من عدمِ الزيادةِ، التي الأصلُ عدمُها ولِما فيه من تَبَعِيَّة المصدرِ على حالِهِ، غيرَ واقعٍ موقع اسمِ فاعلٍ أو اسم مفعولٍ، ولِما فيه من عَدَمِ تقديرِ مضافٍ بعد «غير» أي: غيرَ ذي حساب. فإذاً هذا الجارُّ والمجرورُ متعلِّقٌ بمحذوفٍ لوقوعِه حالاً من أي الثلاثةِ المقتدِّمةِ شِئْتَ كما تقدَّم تقريرُه، أي: ملتبساً بغيرِ حسابٍ.
قولُه تعالى: {مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} : حالان من «النبيين» . قيل: وهي حالٌ مقارنَةٌ، لأنَّ بعثَهم كان وقتِ البِشارة والنِّذارة. وفيه نظرٌ، لأنَّ البِشارةَ والنِّذارةَ بعدَ البعثِ. والظاهِرُ أنها حالٌ مقدَّرَةٌ. وقد تقدَّم معنى البشارة والنذارةِ في قولِهِ:{أَأَنذَرْتَهُمْ} [البقرة: 6]{وَبَشِّرِ الذين آمَنُواْ} [البقرة: 25] .
قوله: {مَعَهُمُ} هذا الظرفُ فيه وجهان، أحدُهما: أنه متعلقٌ بأنزلَ. وهذا لا بُدَّ فيه من تأويلٍ، وذلك أنه يلزَمُ من تعلُّقِهِ بأَنْزَلَ أن يكونَ النبيون مصاحِبين للكتابِ في الإِنزالِ، وهم لا يُوصَفُونَ بذلك لِعَدَمِهِ فيهم. وتأويلُهُ أنَّ المرادَ بالإِنزالِ الإِرسالُ، لأنه مُسَبِّبٌ عنه، كأنه قيل: وأرسلَ معهم الكتابَ فتصِحُّ مشاركتُهم له في الإِنزالِ بهذا التأويلِ. والثاني: أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من الكتاب، وتكونُ حالاً مقدرةً أي: وأنزلَ مقدِّراً مصاحبتَه إياهم، وقدَّره أبو البقاء بقوله:«شاهداً لهم ومُؤَيِّداً» ، وهذا تفسيرُ معنىً لا إعرابٍ.
والألفُ واللامُ في «الكتاب» يجوزُ أَنْ تكونَ للعهدِ بمعنى أنه كتابٌ
معينٌ كالتوراةِ مثلاً، فإنها أُنْزِلَتْ على موسى وعلى النبيين بعدَه، بمعنى أنَّهَم حَكَموا بها، واستداموا على ذلك، وأَنْ تكونَ للجنس، أي: أنزلَ مع كلِّ واحدٍ منهم من هذا الجنسِ. وقيل: هو مفردٌ وُضِعَ مَوْضِعَ الجَمْعِ، أي: وأَنْزَلَ معهم الكُتُبَ وهو ضعيفٌ.
وهذه الجملةُ معطوفةٌ على قولِهِ: «فَبَعَثَ» لا يُقال: البشارة والنِّذارة ناشئةٌ عن الإِنزال فكيفَ قُدِّما عليه؟ لأنا لا نُسَلِّم أنَّهما إنما يكونَان بإنزالِ كتابٍ، بل قد يكونَانِ بوحيٍ من اللَّهِ تعالى غير مَتْلُوٍّ ولا مَكْتُوبٍ. ولئن سَلَّمنا ذلك، فإنَّما قُدِّما لأنهما حالان من «النبيين» فالأَوْلَى اتَّصالُهُما بهم.
قوله: {بالحق} فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أن يكونَ متعلِّقاً بمحذوف على أنه حالٌ من الكتابِ أيضاً عند مَنْ يُجَوِّزُ تعَدُّدَ الحالِ وهو الصحيحُ. والثاني: أن يتعلَّق بنفسِ الكتابِ لما فيه من معنى الفعلِ، إذ المرادُ به المكتوبُ. والثالث: أن يتعلَّق بأنزالَ، وهذا أَوْلَى لأنَّ/ جَعْلَه حالاً لا يَسْتَقِيم إلا أَنْ يكونَ حالاً مؤكدةً، إذ كُتُب اللَّهِ تعالى لا تكونُ ملتبسةً بالحقِّ، والأصلُ فيها أَنْ تكونَ منتقلةً، ولا ضرورةَ بنا إلى الخروج عن الأصلِ. ولأنَّ الكتابَ جارٍ مَجْرى الجوامِدِ.
قوله: {لِيَحْكُمَ} هذا الجارُّ متعلقٌ بقوله: «أنزل» واللامُ للعلةِ. وفي الفاعلِ المضمرِ في «ليحكم» ثلاثةُ أقوالٍ، أحدُها: وهو أظهرُها، أنه يعودُ على اللَّهِ تعالى لتقدُّمِهِ في قوله:«فَبَعَثَ الله» ولأنَّ نسبةَ الحكمَ إليه حقيقةٌ، ويؤيِّده قراءةُ الجَحْدَرِي فيما نقله عنه مكي:«لنحكمَ» بنون العظَمَةِ،
وفيه التفاتٌ من الغَيْبَةِ إلى التكلُّمِ. وقد ظَنَّ ابنُ عطية أن مكياً غَلِطَ في نَقْلِ هذه القراءةِ عنه وقال: «إنَّ الناسَ رَوَوْا عن الجحدري:» ليُحْكَمَ «على بناءِ الفعلِ للمفعولِ» ولا ينبغي أن يُغَلِّطَه لاحتمالِ أن يكونَ عنه قراءتان.
والثاني: أنه يعودُ على «الكتاب» أي: ليحكم الكتابُ، ونسبةُ الحكم إليه مجازٌ كنسبةِ النطق إليه في قوله تعالى:{هذا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بالحق} [الجاثية: 29]، ونسبةُ القضاء إليه في قوله:
921 -
ضَرَبَتْ عليكَ العنكبُوتُ بنَسْجِها
…
وقضى عليك به الكتابُ المُنَزَّلُ
ووجهُ المجازِ أنَّ الحكمَ فيه فَنُسِبَ إليه. والثالثُ: أنه يعودَ على النبي، وهذا استضعَفَهُ الشيخُ من حيث إفرادُ الضميرِ، إذ كان ينبغي على هذا أن يُجْمَعَ ليطابِقَ «النبيين» . ثم قال:«وما قالَه جائزٌ على أَنْ يعودَ الضميرُ على إفراد الجمعِ على معنى: ليحكمَ كلُ نبي بكتابِهِ. و» بين «متعلق ب» يَحْكم «. والظرفيةُ هنا مجازٌ. وكذلك» فيما اختلفوا «متعلقٌ به أيضاً. و» ما «موصولةٌ، والمرادُ بها الدين، أي: ليحكم اللَّهُ بين الناسِ في الدِّين، بعد أن كانوا متفقين عليه. ويَضْعُفُ أن يُرَادَ ب» ما «النبيُّ صلى الله عليه وسلم، لأنها لغير العقلاءِ غالباً. و» فيه «متعلِّقٌ ب» اختلفوا «، والضميرُ عائدٌ على» ما «الموصولةِ.
قوله: {وَمَا اختلف فِيهِ} الضمير في» فيه «فيه أوجهٌ، أظهُرها: أنه عائدٌ على» ما «الموصولةِ أيضاً، وكذلك الضميرُ في» أوتوه «. وقيل: يعودان على الكتابِ، أي: وما اخْتَلَفَ في الكتاب إلا الذين أُوتوا الكتابَ. وقيل: يعودان
على النبيِّ قاله الزجاج. أي: وما اختلفَ في النبيّ إلا الذين أُوتوا علمَ نبوتِه. وقيل: يعودُ على عيسى للدلالةِ عليه.
قوله: {مِن بَعْدِ} فيه وجهانِ، أحدُهما: وهو الصحيحُ، أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ تقديرُهُ: اختلفوا فيه مِنْ بَعْد. والثاني: أنه متعلِّقٌ ب» اختلف «الملفوظِ به، قال أبو البقاء: ولا تَمْنَعُ» إلَاّ «من ذلك، كما تقول:» ما قام إلا زيدٌ يومَ الجمعة «. وهذا الذي أجازه أبو البقاء للنحاةِ فيه كلامٌ كثيرٌ. وملخَّصُه أن» إلا «لا يُسْتَثْنَى بها شيئان دونَ عطفٍ أو بدليةٍ، وذلك أنَّ» إلَاّ «مُعَدِّيَةٌ للفعلِ، ولذلك جازَ تَعَلُّقُ ما بعدها بما قبلَها، فهي كواوِ مع وهمزة التعدية، فكما أن واو» مع «وهمزة التعدية لا يُعَدِّيان الفعلَ لأكثرَ من واحدٍ، إلَاّ مع العطفِ، أو البدليةِ كذلك» إلا «. وهذا هو الصحيحُ، وإنْ كان بعضُهم خالَفَ. فإن وَرَدَ من لسانِهم ما يُوهم جوازَ ذلك يُؤَوَّل. فمنه قولُه: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَاّ رِجَالاً نوحي} [النحل: 43-44] ثم قال:» بالبينات «، فظاهر هذا أن» بالبينات «متعلقٌ بأرسلنا، فقد استُثْنِيَ ب» إلا «شيئان، أحدُهما» رجالاً «والآخرُ» بالبينات «.
وتأويلُه أنَّ «بالبينات» متعلِّقٌ بمحذوفٍ لئلا يلزَمَ منه ذلك المحذورُ. وقد منع أبو الحسن وأبو علي: «ما أخذ أحدٌ إلا زيدٌ درهماً» و «ما ضربَ القومُ إلا بعضُهم بعضا» . واختلفا في تصحيحِها فقال أبو الحسن: «طريقُ تصحيحِها بأَنْ تُقَدِّم المرفوعَ الذي بعد» إلَاّ «عليها، فيقال: ما أخذَ أحدٌ زيدٌ إلا درهماً، فيكونُ» زيدٌ «بدلاً من» أحد «و» درهماً «مستثنى مفرغٌ من ذلك المحذوف، تقديرُهُ: ما أخذ أحدٌ زيدٌ شيئاً إلا درهماً» . وقال أبو علي: «طريقُ ذلك زيادةُ منصوبٍ
في اللفظ فَيَظْهَرُ ذلك المقدَّرُ المستثنى منه، فيقال:» ما أخذ أحدٌ شيئاً إلا زيدٌ درهماً «فيكونُ المرفوعُ بدلاً من المرفوعِ، والمنصوبُ بدلاً من المنصوب وكذلك: ما ضَرَبَ القومُ أحداً إلا بعضُهم بعضاً. وقال أبو بكر بن السراج: تقول:» أعطيت الناسَ درهماً إلا عُمَراً «جائز. ولو قلت:» أعطيتُ الناسَ درهماً إلا عمراً الدنانيرَ «لم يَجُزْ، لأنَّ الحرفَ لا يُسْتَثْنَى به إلا واحدٌ. فإنْ قُلْتَ:» ما أَعْطَيْتُ الناسَ درهماً إلا عَمْراً دانقاً «على الاستثناءِ لم يَجُزْ، أو على البدلِ [جاز] فَتُبْدِلُ» عمراً «من الناس، و» دانقاً «من» درهماً «. كأنك قلتَ:» ما أعطيت إلا عمراً دانقاً «يعني أنَّ الحصرَ واقعٌ في المفعولين.
قال بعض المحققين:» وما أجازَه ابن السراج من البدل في هذه المسألة ضعيفٌ، وذلك أنَّ البدلَ في الاستثناء لا بُدَّ من مُقارَنَتِهِ ب «إلَاّ» ، فَأَشْبَهَ العطفَ، فكما أنه لا يَقَعُ بعدَ حرفِ العطفِ معطوفان لا يَقَعُ بعدَ «إلَاّ» بدلان «.
فإذا عُرِفَ هذا الأصلُ وما قال الناسُ فيه كان إعرابُ أبي البقاء في هذه الآيةِ الكريمةِ من هذا البابِ، وذلك أنه استثناءٌ مفرَّغٌ، وقد وَقَعَ بعدَ» إلَاّ «الفاعلُ وهو» الذين «، والجارُّ والمجرورُ وهو» مِنْ بعد «، والمفعولُ من أجلِهِ وهو» بغياً «فيكونُ كلٌّ منهما محصوراً. والمعنى: وما اختلفَ فيه إلا الذين أُوتوه إلَاّ من بعدِ ما جَاءَتْهُم البيناتُ إلا بغياً. وإذا كان التقدير كذلك فقد اسْتُثْنِيَ ب» إلَاّ «شيئان دونَ الأولِ الذي هو فاعلٌ من غيرِ عطفِ ولا بدليةٍ. وإنما استوفيتُ الكلام في هذه المسألة لكثرةِ دُوْرِها.
قوله: {بَغْياً} في نصبِهِ وجهان، أظهرُهما: أنه مفعولٌ من أجلِهِ لاستكمالِ الشروطِ، هو علةٌ باعثةٌ. والعامِلُ فيه مضمرٌ على ما اخترناه،
وهو الذي تُعَلِّقُ به» فيه «و» اختلف «المفلوظُ به عند مَنْ يرى أنَّ» إلَاّ «يُسْتثنى بها شيئان.
والثاني: أنه مصدرٌ في محلِّ حالٍ أي: باغين، والعامِلُ فيها ما تقدَّم. و «بينهم» متعلقٌ بمحذوفٍ لأنه صفةٌ ل «بغياً» . أي: بَغْياً كائناً بينهم.
قوله: {لِمَا اختلفوا فِيهِ} «لِما» متعلِّقٌ ب «هَدَى» وما موصولةٌ، والضمِيرُ في «اختلفوا» عائدٌ على «الذين أوتوه» ، وفي «فيه» عائدٌ على «ما» وهو متعلِّقٌ ب «اختلف» .
و {مِنَ الحق} متعلِّقٌ بمحذوفٍ لأنه في موضعِ الحالِ من «ما» في «لِما» . و «مَنْ» يجوزُ أن تكونَ للتبعيضِ وأن تكونَ للبيانِ عند مَنْ يرى ذلك تقديرُهُ: الذي هو الحق. وأجاز أبو البقاء أن يكونَ «مِنَ الحق» حالاً من الضميرِ في «فيه» والعامِلُ فيها «اختلفوا» . وزعم الفراء أنَّ في الكلامِ قَلْباً والأصلُ: «فَهَدى الله الذينَ آمنوا للحقِّ ممَّا اختلفوا» واختاره الطبري. وقال ابن عطية: «ودعَاه إلى هذا التقديرِ خَوْفُ أن يحتملَ اللفظُ أنهم اختلفوا في الحقِّ، فهدى الله المؤمنين لبعضِ ما اختلفوا فيه، وعَسَاهُ أن يكونَ غيرَ حقٍ في نفسِهِ» قال: «والقلبُ في كتابِ اللَّهِ دونَ ضرورةٍ تدفعُ إليه عجزٌ وسوءُ فهمٍ» انتهى. قلت: وهذا الاحتمالُ الذي جَعَلَه ابنُ عطية حاملاً للفراء على ادعاءِ القلبِ لا يُتَوَهَّمُ أصلاً.
قوله: {بِإِذْنِهِ} فيه وجهان، أحدُهما: أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ لأنه حالٌ من «الذين آمنوا» أي: مأذوناً لهم. والثاني: أن يكونَ متعلقاً بهدى مفعولاً به، أي: هداهم بأمرهِ.
قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ} : «أم» هذه فيها أربعةُ أقوالٍ: أنْ تكونَ منقطعةً فتتقدَّر ب «بل» والهمزةِ. ف «بل» لإِضرابِ انتقالٍ من إخبارٍ إلى إخبارٍ، والهمزةُ للتقريرِ. والتقديرُ/: بل أحَسِبْتُم. والثاني: أنها لمجردِ الإِضرابِ من غير تقديرِ همزةٍ بعدها، وهو قولُ الزجاج وأنشد:
922 -
بَدَتْ مثل قَرْنِ الشمسِ في رَوْنَقِ الضحى
…
وصورتِها أم أنتَ في العينِ أَمْلَحُ
أي: بل أنت. والثالث: وهو قولُ بعض الكوفيين أنها بمعنى الهمزةِ فعلى هذا يُبْتَدَأُ بها في أولِ الكلامِ. ولا تحتاجُ إلى الجملةِ قبلَها يُضْرَبُ عنها. والرابع: أنها متصلةٌ، ولا يَسْتَقِيمُ ذلك إلا بتقديرِ جملةٍ محذوفةٍ قبلَها، فقدَّرَهُ بعضُهم: فَهَدَى اللَّهُ الذين آمنوا، فصَبَروا على استهزاءِ قومهم، أفتسلُكون سبيلَهم أم تحسَبون أن تدخلوا الجنة من غير سلوكِ سبيلهِم.
و «حَسِبْتُم» هنا من أخوات «ظنَّ» ، تنصبُ مفعولَيْن أصلُهما المبتدأ والخبرُ، و «أَنْ» وما بعدَها سادَّةٌ مَسَدَّ المفعولَيْنِ عند سيبويهِ، ومسدَّ الأولِ والثاني محذوفٌ عند أبي الأخفش، كما تقرَّر ذلك. ومضارِعُها فيه الوجهان: الفتحُ - وهو القياسُ - والكسرُ. ولها من الأفعالِ نظائِرُ، سيأتي ذلك في آخرِ السورةِ، ومعناها الظنُّ، وقد تُسْتَعْمَلُ في اليقين قال:
923 -
حَسِبْتُ التقى والجودَ خيرَ تجارةٍ
…
رَباحاً إذا ما المرءُ أصبحَ ثاقِلا
ومصدرُها: الحُسْبان. وتكون غيرَ متعديةٍ إذا كان معناها الشقرة، تقول: حَسِبَ زيدٌ، أي اشْقَرَّ، فهو أَحْسَبُ أي: أَشْقَرُ.
قوله: {وَلَمَّا يَأْتِكُم} الواوُ للحالِ، والجملةُ بعدَها في محلِّ نصبٍ عليها، أي: غيرَ آتيكم مثلُهم. و «لَمَّا» حرفُ جزمٍ معناهُ النفي ك «لم» ، وهو أبلغُ من النفي ب «لم» ، لأنها لا تنفي إلا الزمانَ المتصلَ بزمانِ الحالِ. والفرقُ بينها وبين «لم» من وجوهٍ، أحدُها: أنه قد يُحْذَفُ الفعلُ بعدها في فصيحِ الكلام إذا دَلَّ عليه دليلٌ كقولِهِ:
924 -
فَجِئْتُ قبورَهم بَدْءاً وَلَمَّا
…
فنادَيْتُ القبورَ فلم تُجِبْنَهْ
أي: ولمَّا أكن بدءاً أي: مبتدئاً، بخلافِ «لم» فإنه لا يجوزُ ذلك فيها إلا ضرورةً. ومنها: أنَّها لنفيِ الماضي المتصلِ بزمانِ الحال و «لم» لنفِيهِ مطلقاً أو منقطعاً على ما مَرَّ. ومنها: أنَّ «لَمَّا» لَا تَدْخُل على فعلِ شرطٍ ولا جزاءٍ بخلافِ «لم» . واختُلِفَ في «لمَّا» فقيل: بسيطةٌ، وقيل: مركبةٌ مِنْ لم و «ما» زيدَتْ عليها.
وفي قولِه {مَّثَلُ الذين} حَذْفُ مضافٍ وحَذْفُ موصوفٍ تقديرُهُ: ولَمَّا يأتِكُمْ مَثَلُ محنةِ المؤمنينِ الذين خَلَوْا.
و «مِنْ قبلِكم» متعلِّقٌ ب «خَلَوا» وهو كالتأكيدِ، فإنَّ الصلةَ مفهومةٌ من قولِهِ:«خَلَوا» .
قوله: {مَّسَّتْهُمُ البأسآء} في هذه الجملةِ وجهان، أحدُهما: أن تكونَ لا محلَّ لها من الإِعراب لأنها تفسيريةٌ أي: فَسَّرَتِ المَثَلَ وَشَرَحَتْهُ كأنه قيل:
ما كانَ مَثَلُهم؟ فقيل: مَسَّتهم البأساءُ. والثاني: أن تكونَ حالاً على إضمارِ «قد» جَوَّزَ ذلك أبو البقاء، وهي حالٌ من فاعلِ «خَلَوا» . وفي جَعْلِهَا حالاً بُعْدٌ.
قوله: {حتى يَقُولَ} قرأ الجمهورُ: «يقولُ» نصباً، وله وجهان، أحدُهما: أنَّ «حتى» بمعنى «إلى» ، أي: إلى أن يقولَ، فهو غايةٌ لما تقدَّم من المسِّ والزلزالِ، و «حتى» إنما يُنْصَبُ بعدها المضارعُ المستقبلُ، وهذا قد وقع ومَضَى. فالجوابُ: أنه على حكايةِ الحالِ، حكى تلك الحالَ. والثاني: أنَّ «حتى» بمعنى «كي» ، فتفيدُ العِلَّةَ، وهذا ضَعيفٌ؛ لأنَّ قولَ الرسول والمؤمنين ليس علةً للمسِّ والزلزالِ، وإن كان ظاهرُ كلامِ أبي البقاء على ذلك فإنه قال:«ويُقْرَأ بالرفعِ على أن يكونَ التقديرُ: زُلْزِلُوا فقالوا: فالزَّلْزَلَةُ سببُ القولِ» و «أَنْ» بعد «حتى» مضمرةٌ على كِلا التقديرين. وقرأ نافع برفِعِهِ على أنَّه حالٌ، والحالُ لا يُنْصَبُ بعد «حتى» ولا غيرِها، لأنَّ الناصبَ يُخَلِّصُ للاستقبالِ فتَنَافيا.
واعلم أنَّ «حتى» إذا وَقَعَ بعدها فعلٌ: فإمَّا أن يكونَ حالاً أو مستقبلاً أو ماضياً، فإنْ كان حالاً رُفِعَ نحو:«مَرِض حتى لا يَرْجونه» أي في الحال. وإن كان مستقبلاً نُصِبَ، تقول: سِرْتُ حتى أدخلَ البلدَ وأنت لم تدخُلْ بعدُ. وإن كان ماضياً فتحكيه، ثم حكايتُك له: إمَّا أَنْ تَكونَ بحسَب كونِهِ مستقبلاً، فتنصبَه على حكايةِ هذه الحالِ، وإمَّا أن يكونَ بحسَبِ كونِهِ حالاً، فترفَعَهُ على حكايةِ هذه الحالِ، فيصدُقُ أن تقولَ في قراءةِ الجماعةِ: حكايةُ حالٍ، وفي قراءةِ نافع أيضاً: حكايةُ حالٍ. وإنَّما نَبَّهْتُ على ذلك لأنَّ عبارةَ بعضِهم
تَخُصُّ حكايةً الحالِ بقراءةِ الجمهورِ، وعبارَةَ آخرين تَخُصُّها بقراءةِ نافع. قال أبو البقاء في قراءةِ الجمهور:«والفعلُ هنا مستقبلٌ حُكِيت به حالُهم والمعنى على المُضِيِّ» وكان قد تقدَّم أنه وجَّه الرفعَ بأنَّ «حتى» للتعليلِ.
قوله: «معه» هذا الظرفُ يجوزُ أن يكونَ منصوباً بيقول، أي: إنهم صاحبوه في هذا القولِ وجامَعُوه فيه، وأن يكونَ منصوباً بآمنوا، أي: صاحبوه في الإِيمانِ.
قوله: {متى نَصْرُ الله} «متى» منصوبٌ على الظرفِ فموضعُهُ رفعٌ خبراً مقدماً، و «نصرٌ» مبتدأٌ مؤخرٌ. وقال أبو البقاء:«وعلى قولِ الأخفش موضعُه نصبٌ على الظرفِ و» نصرُ «مرفوعٌ به» . و «متى» ظرفُ زمانٍ لا يَتَصَرَّفُ إلا بجرِّه بحرفٍ.
وهو مبنيٌّ لِتَضَمُّنِهِ: إما لِمَعْنَى همزة الاستفهام وإمَّا معنى «مَنْ» الشرطية، فإنه يكونُ اسمَ استفهامٍ، ويكونُ اسمَ شرطٍ فيجزمُ فعلين شرطاً وجزاءً.
والظاهرُ أنَّ جملةَ {متى نَصْرُ الله} من قولِ المؤمنينَ، وجملةَ {ألا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ} من قولِ الرسولِ، فَنُسِبَ القولُ إلى الجميعِ إجمالاً، ودلالةُ الحالِ مبيِّنَةٌ للتفصيلِ المذكور. وهذا أَوْلَى مِنْ قَوْلِ مَنْ زَعَم أَن في الكلامِ تقديماً وتأخيراً، والتقديرُ: حتى يقولَ الذين آمنوا {متى نَصْرُ الله} فيقولُ الرسولُ «إلا إنَّ» ، فَقُدِّمَ الرسولُ لمكانَتِهِ، وقُدِّم المؤمنون لتقدُّمِهِم في الزمان. قال ابن عطية:«هذا تَحَكُّمٌ وحَمْلُ الكلامِ على غير وجهِهِ»
وهو كما قال. وقيل: الجملتانِ من قولِ الرسولِ والمؤمنين معاً، يعني أن الرسولَ قالَهما معاً، وكذلك أتباعُهُ قالوهما معاً، وقولُ الرسول {متى نَصْرُ الله} ليس على سبيلِ الشَّكِّ، إنما هو على سبيلِ الدعاء باستِعْجَال النصر. وقيل: إنَّ الجملةَ الأولى من كلام الرسولِ وأتباعه، والجملة الأخيرةَ من كلامِ اللَّهِ تعالى، أجابهُم بما سألوه الرسُلُ واستبطَأَهُ الأتباع. فالحاصل أن الجملتين في محل نصب بالقول.
قوله تعالى: {مَاذَا يُنْفِقُونَ} : قد تقدَّم أنَّ «ماذا» له ستة استعمالات/ وتحقيقُ القولِ فيه عند قولِه {مَاذَآ أَرَادَ الله بهذا} [البقرة: 26] . وهنا يجوزُ أَنْ تكونَ «ماذا» بمنزلةِ اسمٍ واحدٍ بمعنى الاستفهام فتكونَ مفعولاً مقدَّماً، ويجوزُ أن تكونَ «ما» و «ذا» خبرَه، وهو موصولٌ. و «ينفقون» صلتُه والعائدُ محذوفٌ، و «ماذا» معلِّقٌ للسؤال فهو في موضعِ المفعولِ الثاني، وقد تقدَّم تحقيقُه في قوله:{سَلْ بني إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم} [البقرة: 211] ، وجاء «ينفقون» بلفظ الغيبة؛ لأنَّ فاعلٌ الفعلِ قبلَه ضميرُ غَيْبَةٍ في «يسألونك» ، ويجوزُ في الكلامِ «ماذا ننفقُ» كما يجوزُ: أَقْسَمَ زيدٌ ليَضْرِبَنَّ ولأضْرِبَنَّ، وسيأتي لهذا مزيدٌ بيانٍ في قولِه تعالى:{يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ} [المائدة: 4] في المائدةِ.
[قوله] : {قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ} يجوزُ في «ما» وجهان، أحدُهما: أن تكونَ شرطيةً، وهو الظاهرُ لتوافق ما بعدها، ف «ما» في محلِّ نصبٍ مفعولٌ مقدَّمٌ واجبُ التقديمِ، لأنَّ له صدرَ الكلامِ. و «أنفقْتُمْ» في محلِّ جزمٍ بالشرطِ، و «مِنْ خيرٍ» تقدَّم إعرابُه في قوله:{مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ} [البقرة: 106] .
وقوله: {فَلِلْوَالِدَيْنِ} جوابُ الشرطِ، وهذا الجارُ خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ أي: فمَصْرِفُه للوالدَيْن، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ: إمَّا مفردٌ وإمَّا جملةٌ على حَسَبِ ما ذُكِر من الخلافِ فيما مَضَى. وتكونُ الجملةُ في محلِّ جزمٍ بجوابِ الشرطِ. والثاني: أن تكونَ «ما» موصولةً، و «أنفقتم» صلتُها، والعائدُ محذوفٌ لاستكمالِ الشروطِ، أي: الذي أنفقتموه. والفاءُ زائدةٌ في الخبرِ الذي هو الجارُّ والمجرورُ. قال أبو البقاء في هذا الوجهِ: «ومِنْ خيرٍ يكونُ حالاً من العائدِ المحذوفِ» .
وهم إنما سألوا عن المُنْفَقِ، فكيف أُجيبوا ببيانِ المَصْرِفِ للمُنْفِقِ عليه؟ فيه أجوبةٌ منها: أنَّ في الآيةِ حَذْفاً وهو المُنْفَقُ عليه فَحُذف، تقديره: ماذا ينفقون ولِمَنْ يُعْطونه، فجاء الجوابُ عنهما، فأجابَ عن المُنْفَقِ بقوله:«مِنْ خيرٍ» وعن المُنْفقِ عليه بقوله: «فللوالدَيْن» وما بعده. ومنها: أن يكون «ماذا» سؤالاً عن المَصْرِفِ على حَذْفِ مضافٍ، تقديرُه: مَصْرِفُ ماذا يُنْفقون؟ ومنها: أن يكونَ حَذَفَ من الأولِ ذِكْرَ المَصْرِفِ ومن الثاني ذِكْرَ المُنْفَقِ، وكلاهما مرادٌ، وقد تقدَّم شيءٌ من ذلك في قولِه تعالى:{وَمَثَلُ الذين كَفَرُواْ كَمَثَلِ} [البقرة: 171] . وقال الزمخشري: قد تضمَّن قولُه: {مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ} بيانَ ما يُنفقونه. وهو كلُّ خيرٍ؛ وبُني الكلامُ على ما هو أَهَمُّ وهو بيانُ المَصْرِفِ، لأنَّ النفقة لا يُعْتَدُّ بها أَنْ تقعَ موقِعَها. [قال] :
925 -
إنَّ الصنيعة لا تكونُ صنيعةً
…
حتى يُصابَ بها طريقُ المَصْنَعِ «
وأمَّا قولُه: {وَمَا تَفْعَلُواْ} ف» ما «شرطيةٌ فقط لظهورِ عملها الجزمَ بخلافِ الأولى. وقرأ علي رضي الله عنه:» وما يفعلوا «بالياء على الغَيْبَة، فيُحْتمل أن يكونَ من بابِ الالتفات من الخطابِ، وأن يكونَ مِنْ الإِضمارِ لدلالةِ السياقِ عليه، أي: وما يفعلِ الناسُ.
وقرىء: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال} : ببناءِ «كَتَب» للفاعل وهو ضميرُ اللهِ تعالى ونَصْبِ «القتال» .
قوله: {وَهُوَ كُرْهٌ} هذه واوُ الحالِ، والجملةُ بعدها في محلِّ نصبٍ عليها والظاهرُ أنَّ «هو» عائدٌ على القتالِ. وقيل: يعودُ على المصدرِ المفهومِ من كَتَب، أي: وكَتْبُه وفَرْضُه. وقرأ الجمهورُ «كُرْهٌ» بضمِّ الكافِ، وقرأ السلميُّ بفتحِها. فقيل: هما بمعنىً واحدٍ، أي: مصدران كالضَّعْف والضُّعْف، قاله الزجاج وتبعه الزمشخري. وقيل: المضمومُ اسمُ مفعولٍ والمفتوحُ المصدرُ. وقيل: المفتوحُ بمعنى الإِكراه، قالَه الزمخشري في توجيهِ قراءةِ السُّلَمي، إلا أنَّ هذا من بابِ مجيءِ المصدرِ على حَذْفِ الزوائدِ وهو لا ينقاسُ. وقيل: المفتوحُ ما أُكْرِهَ عليه المرءُ، والمضمومُ ما كَرِهَهُ هو.
فإن كان «الكَرْهُ» و «الكُرْه» مصدراً فلا بُدَّ من تأويلٍ يجوزُ معه الإِخبار به عن «هو» ، وذلك التأويلُ: إمَّا على حَذْفِ مضاف، أي: والقتالُ ذو كُرْهٍ، أو على المبالَغَةِ، أو على وقوعِه موقعَ اسمِ المفعول. وإنْ قُلْنا: إنَّ «كُرْهاً»
بالضمِّ اسمُ مفعولٍ فلا يُحْتاجُ إلى شيءٍ من ذلك. و «لكم» في محلِّ رفعٍ، لأنه صفةٌ لكُره، فيتعلَّقُ بمحذوفِ أي: كرهٌ كائِنٌ.
قوله: {وعسى أَن تَكْرَهُواْ} «عسى» فعلٌ ماضٍ نُقِل إلى إنشاءِ الترجِّي والإِشفاق. وهو يرفعُ الاسمَ ويَنْصِبُ الخَبَر، ولا يكونُ خبرُها إلا فعلاً مضارعاً مقروناً ب «أَنْ» . وقد يجيءُ اسماً صريحاً كقوله:
926 -
أَكْثَرْتَ في العَذْلِ مُلِحَّاً دائماً
…
لا تُكْثِرَنْ إني عَسَيْتُ صائِماً
وقالَتِ الزبَّاء: «عسى الغُوَيْرُ أَبُؤسا» وقد يَتَجَرَّدُ خبرُها من «أَنْ» كقوله:
927 -
عسى فَرَجٌ يأتي به اللهُ إنه
…
له كلَّ يومٍ في خَلِقَتِهِ أَمْرُ
وقال آخر:
928 -
عَسَى الكربُ الذي أَمْسَيْتَ فيه
…
يكونُ وراءَه فرجٌ قَرِيبُ
وقال آخر:
929 -
فأمَّا كَيِّسٌ فَنَجا ولكِنْ
…
عَسَى يَغْتَرُّ بي حَمِقٌ لَئيمُ
وتكونُ تامة إذا أُسْنِدَتْ إلى «أَنْ» أو «أنَّ» ، لأنهما يَسُدَّان مَسَدَّ اسمها وخبرها، والأصحُّ أنها فعلٌ لا حرفٌ، لاتصالِ الضمائرِ البارزةِ المرفوعةِ بها، ووزنُها «فَعَل» بفتح العين، ويجوزُ كَسْرُ عينِها إذا أُسْنِدَتْ لضمير متكلمٍ أو مخاطبٍ أو نونِ إناثٍ، وهي قراءةُ نافعٍ، وستأتي: ولا تتصرَّفُ بل تلزم المضيَّ. والفرقُ بين الإِشفاقِ والترجِّي بها في المعنى: أنَّ الترجِّي في المحبوباتِ والإِشفاقَ في المكروهاتِ. و «عسى» من الله تعالى واجبةٌ؛ لأنَّ الترجِّي والإِشفاق مُحالان في حقَّه. وقيل: كلُّ «عسى» في القرآن للتحقيقِ، يَعْنُون الوقوعَ، إلا قولَه تعالى:{عسى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ} [التحريم: 5] الآية، وهي في هذه الآيةِ ليسَتْ ناقصةً فتحتاجُ إلى خبرٍ بل تامةٌ، لأنها أُسْنِدَتْ إلى «أَنْ» ، وقد تقدَّم أنها تَسُدُّ مسدَّ الخبرين بعدها.
وزعم الحوفي أن «أَن تكرهوا» في محلِّ نصب، ولا يمكن ذلك إلا بتكلُّفٍ بعيد.
قوله: {وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} في هذه الجملةِ وجهان، أظهرُهما: أنها في محلِّ نصبٍ على الحال/ وإنْ كانَتْ الحالُ من النكرةِ بغيرِ شرطٍ من الشروطِ المعروفةِ قليلةً. والثاني: أن تكونَ في محلِّ نصبٍ على أنها صفةٌ لشيئاً. وإنما دخلتِ الواوُ على الجملةِ الواقعةِ لأنَّ صورتَها صورةُ الحالِ. فكما تدخل الواوُ عليها حاليةً تدخلُ عليها صفةً، قاله أبو البقاء. ومثلُ ذلك ما أجازه الزمخشري في قوله:{وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلَاّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ}
فَجَعل: «ولها كتابٌ» صفةً لقرية، قال:«وكان القياسُ ألَاّ تتوسَّطَ هذه الواوُ بينهما كقولِه: {وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلَاّ لَهَا مُنذِرُونَ} وإنما توسَّطَتْ لتأكيدِ لصوقِ الصفةِ بالموصوفِ، وما يُقال في الحالِ:» جاءني زيدٌ عليه ثوبٌ، وعليه ثوبٌ «. وهذا الذي أجازه أبو البقاء هنا والزمخشري هناك هو رأيُ ابنِ جني، وسائرُ النَّحْويين يُخالِفونه.
قوله تعالى: {قِتَالٍ فِيهِ} : قراءةُ الجمهور: «قتالٍ» بالجر، وفيه ثلاثةُ أوجهٍ أحدها: أنه خفضٌ على البدلِ من «الشهر» بدلِ الاشتمال؛ إذ القتالُ واقعٌ فيه فهو مشتملٌ عليه. والثاني: أنه خفضٌ على التكرير، قال أبو البقاء:«يريد أنَّ التقديرَ:» عن قتالٍ فيه «. وهو معنى قول الفراء، لأنه قال:» وهو مخفوضٌ ب «عَنْ» مضمرةً. وهذا ضعيفٌ جداً، لأنَّ حرفَ الجر لا يبقى عملُه بعد حذفِه في الاختيار «. وهذا لا ينبغي أن يُعَدَّ خلافاً بين البصريين والكسائي والفراء، لأنَّ البدلَ عند جمهور البصريين على نِيَّةِ تكرار العامل، وهذا هو بعينه قولُ الكسائي. وقوله: لأنَّ حرفَ الجرِّ لا يَبْقَى عملُه بعد حَذْفِه» إن أراد في غيرِ البدل فَمُسَلَّم، وإن أرادَ في البدلِ فممنوعٌ، وهذا هو الذي عناه الكسائي. الثالث: قاله أبو عبيدة: «أنه خفضٌ على الجِوار» . قال أبو البقاء: «وهو أَبْعَدُ من قولِهما - يعني الكسائيَّ والفراء - لأن الجِوار من مواضعِ الضرورةِ أو الشذوذِ فلا يُحْمَلُ عليه
ما وُجِدَتْ عنه مَنْدُوحة» . وقال ابن عطية: «هو خطأ» . قال الشيخ: «إن كان أبو عبيدة عَنَى بالجِوار المصطلحَ عليه فهو خطأ. وجهةٌ الخطأِ أنَّ الخفض على الجوار عبارةٌ عن أن يكونَ الشيءُّ تابعاً لمرفوعٍ أو منصوبٍ من حيثُ اللفظُ والمعنى فَيُعْدَلَ به عن تَبَعيِّتِه لمتبوعِه لفظاً، ويُخْفَضَ لمجاوَرَتِه لمخفوضٍ. كقولِهم:» هذا جُحْر ضَبًّ خَرِبٍ «بجرِّ» خرب «، وكان من حقِّه الرفعُ؛ لأنه من صفاتِ الجحر لا من صفاتِ الضبِّ، ولهذه المسألةِ مزيدُ بيانٍ يأتي في موضِعه إن شاء الله تعالى، و» قتالٍ «هنا ليس تابعاً لمرفوعٍ أو منصوب وجاور مخفوضاً فَخُفِض. وإن كان عَنَى أنه تابعٌ لمخفوضٍ فَخَفْضُه بكونه جاور مخفوضاً، أي صار تابعاً له، لم يكنْ خطأً، إلا أنه أغْمَضَ في عبارته فالتبس بالمصطلحِ عليه.
وقرأ ابن عباس والأعمش:» عن قتالٍ «بإظهارِ» عن «وهي في مصحفِ عبد الله كذلك،، وقرأ عكرمة:» قَتْلٍ فيه، قل قتلٌ فيه «بغير ألف.
وقُرىء شاذاً:» قتالٌ فيه «بالرفع، وفيه وجهان، أحدهما: أنه مبتدأٌ والجارُّ والمجرورُ بعده خبرٌ، وسَوَّغ الابتداء به وهو نكرةٌ أنه على نيةِ همزةِ الاستفهامِ، تقديرُه: أقتالٌ فيه. والثاني: أنه مرفوعٌ باسم فاعل تقديرُه: أجائزٌ قتالٌ فيه، فهو فاعلٌ به. وعَبَّر أبو البقاء في هذا الوجهِ بان يكونَ خبر مبتدأٍ محذوفٍ، فجاء رفعُه من ثلاثةِ أوجهٍ: إمَّا مبتدأٌ وإمَّا فاعلٌ وإمَّا خبرُ مبتدأٍِ.
قالوا: ويَظْهَرُ هذا من حيث إنَّ سؤالهم لم يكن عن كينونةِ القتالِ في الشهرِ
أم لا، وإنما كان سؤالُهم: هل يجوزُ القتالُ فيه أولا؟ وعلى كِلا هذين الوجهين فهذه الجملةُ المُسْتَفْهَمُ عنها في محلِّ جرٍ بدلاً من الشهرِ الحرامِ، لأن «سأل» قد أخَذَ مفعولَيْه فلا تكونُ هي المفعولَ وإن كانت مَحَطَّ السؤالِ.
وقوله: {فِيهِ} على قراءةِ خفضٍ «قتالٍ» فيه وجهان، أحدُهما: أنه في محلِّ خفضٍ لأنه صفةٌ ل «قتال» . والثاني: أنه في محلِّ نصبٍ لتعلُّقه بقتال لكونه مصدراً. وقال أبو البقاء: «كما يتعلَّقُ بقاتل» . ولا حاجة إلى هذا التشبيه، فإنَّ المصدر عاملٌ بالحَمْلِ على الفعلِ. والضميرُ في «يسألونك» قيل للمشركين، وقيل للمؤمنين. والألفُ واللامُ في «الشهر» قيل: للعهدِ وهو رجب، وقيل: للجنسِ فَيَعُمُّ جميعَ الأشهرِ الحُرُمِ.
قوله: {قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} جملةٌ من مبتدأٍ وخبرٍ، مَحلُّها النصبُ بقُلْ، وجازَ الابتداءُ بالنكرةِ لأحدِ وجهينِ: إمَّا الوصفُ، إذا جَعَلْنَا قولَه «فيه» صفةً له وإمَّا التخصيصُ بالعملِ إذا جَعَلْناه متعلقاً بقتال، كما تقدَّم في نظيرِه. فإنْ قيل: قد تقدَّم لفظُ نكرة وأُعيدت من غيرِ دخول ألفٍ ولامٍ عليها وكان حقُّها ذلك، كقوله تعالى:{كَمَآ أَرْسَلْنَآ إلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فعصى فِرْعَوْنُ الرسول} [المزمل: 15-16] فقال أبو البقاء: «ليس المرادُ تعظيمُ أيِّ قتالٍ كان، فعلى هذا» قتالٌ «الثاني غيرُ الأول» ، وهذا غيرُ واضحٍ؛ لأنَّ الألف واللامَ في الاسمِ المُعادِ أولاً لا تفيدُ
تعظيماً، بل إنما تفيدُ العهد في الاسمِ السابقِ. وأَحْسَنُ منه قَولُ بعضِهم:«إنَّ الثاني غيرُ الأولِ، وذلك أنَّ سؤالهم عن قتالِ عبدِ الله بن جحش، وكان لنصرةِ الإِسلامِ. وخُذْلانِ الكفرِ فليس من الكبائرِ، بل الذي من الكبائرِ قتالٌ غيرُ هذا، وهو ما كانَ فيه إذلالُ الإِسلامِ ونصرةُ الكفرِ، فاختير التنكيرُ في هذين اللفظين لهذه الدقيقةِ، ولو جِيء بهما معرفتين أو بأَحدِهما مُعَرَّفاً لَبَطَلَتْ هذه الفائدةُ» .
قوله: {وَصَدٌّ} فيه وجهان، أحدُهما مبتدأٌ وما بعده عطفٌ عليه، و «أكبرُ» خبرٌ عن الجميعِ. وجاز الابتداءُ بصدّ لأحدِ ثلاثةِ أوجهٍ: إمَّا لتخصيصِه بالوصفِ بقولِه: {عَن سَبِيلِ الله} وإمَّا لتعلُّقِه به، وإمَّا لكونِه معطوفاً، والعطفُ من المسوِّغات. والثاني: أنه عطفٌ على «كبيرٌ» أي: قتالٌ فيه كبيرٌ وصَدٌّ، قاله الفراء. قال ابن عطية:«وهو خطأٌ لأنَّ المعنى يسوقُ إلى أنَّ قوله:» وكفرٌ به «عَطْفٌ أيضاً على» كبيرٌ «، ويَجِيءُ من ذلك أنَّ إخراجَ أهلِ المسجدِ منه أكبرُ من الكفرِ، وهو بَيِّنٌ فسادُه» . وهذا الذي رَدَّ به قولَ الفراء غيرُ لازم له؛ إذ له أن يقول: إنَّ قولَه «وكفرٌ به» مبتدأٌ، وما بعده عطفٌ عليه، و «أكبرُ» خبرٌ عنهما، أي: مجموعُ الأمرين أكبرُ من القتال والصدِّ، ولا يلزَمُ من ذلك أن يكونَ إخراجُ أهلِ المسجدِ أكبرَ من الكفر، بل يلزمُ منه أنه أكبرُ من القتالِ.
في الشهرِ الحرامِ.
وهو مصدرٌ حُذِفَ فاعلُه ومفعولُه؛ إذ التقديرُ: وصَدُّكم - يا كفارُ - المسلمين عن سبيلِ الله وهو الإِسلامُ.
و «كفرٌ» فيه وجهان، أحدُهما: أنه عطفٌ على «صَدّ» على قولنا بأن «
صداً» مبتدأٌ لا على قولنا بأنه خبرٌ ثان عن «قتال» ، لأنه يلزَمُ منه أن يكونَ القتالُ في الشهرِ الحرامِ كفراً وليس كذلك، إلا أَنْ يرادَ بقتالِ الثاني ما فيه هَدْمُ الإِسلامِ وتقويةُ الكفرِ كما تقدَّم ذلك عن بعضِهم، فيكونُ كفراً، فَيَصِحُّ عطفُه عليه مطلقاً، وهو أيضاً مصدرٌ لكنه لازمٌ، فيكونُ قد حُذِفَ فاعلُه فقط: أي: وكُفْرُكم. والثاني: أن يكونَ مبتدأً كما يأتي تفصيلُ القولِ فيه. والضميرُ في «به» فيه وجهان، أحدُهما: / أنه يعودُ على «سبيل» لأنه المحدَّثُ عنه. والثاني أنه يعودُ على الله، والأولُ أظهرُ. و «به» فيه الوجهان، أعني كونَه صفةً لكفر، أو متعلقاً به، كما تقدَّم في «فيه» .
قوله: {والمسجد الحرام} الجمهورُ على قراءته مجروراً. وقرىء شاذاً مرفوعاً. فأمَّا جرُّه فاختلف فيه النحويون على أربعةِ أوجهٍ، أحدها: - وهو قولُ المبرد وتبعه في ذلك الزمخشري وابنُ عطية، قال ابن عطية:«وهو الصحيحُ - أنه عطفٌ على» سبيلِ الله «أي: وصَدٌّ عن سبيلِ الله وعن المسجد» . وهذا مردودٌ بأنه يؤدِّي إلى الفصلِ بين أبعاضِ الصلةِ بأجنبي تقريرُه أنَّ «صداً» مصدرٌ مقدَّرٌ بأَنْ والفعلِ و «أَنْ» موصولٌ، وقد جعلتم «والمسجدِ» عطفاً على «سبيلِ» فهو من تمام صلته، وفُصِل بينهما بأجنبي وهو «وكفرٌ به» . ومعنى كونِه أجنبياً أنه لا تعلُّق له بالصلةِ. فإن قيل: يُتَوَسَّعُ في الظرفِ وحرفِ الجر ما لم يُتَّسَعْ في غيرِهما. قيل: إنما قيل بذلك في التقديمِ لا في الفصلِ.
الثاني: أنه عطفٌ على الهاءِ في «به» أي: وكفرٌ به وبالمسجِد، وهذا يتخرَّج على قول الكوفيين. وأمَّا البصريون فيشترطون في العطفِ على الضميرِ المجرورِ إعادةَ الخافض إلا في ضرورة، فهذا التخريجُ عندهم فاسدٌ. ولا بد من التعرُّض لهذه المسألة وما هو الصحيحُ فيها. فأقولُ وبالله العون: اختلف النحاةُ في العطفِ على الضمير المجرورِ على ثلاثةِ مذاهبَ: أحدُها - وهو مذهبُ الجمهور من البصريين -: وجوبُ إعادةِ الجار إلا في ضرورةٍ. الثاني: أنه يجوزُ ذلك في السَّعَةِ مطلقاً، وهو مذهبُ الكوفيين، وتَبِعهم أبو الحسن ويونس والشلوبيين.
والثالث: التفصيلُ، وهو إنْ أُكِّد الضميرُ جاز العطفُ من غيرِ إعادةِ الخافِض نحو:«مررت بك نفسِك وزيدٍ» ، وإلا فلا يجوزُ إلا ضرورةً، وهو قولُ الجَرْميّ. والذي ينبغي أنه يجوزُ مطلقاً لكثرةِ السماعِ الوارد به، وضَعْفِ دليل المانعين واعتضاده بالقياس.
أما السَّماعُ: ففي النثرِ كقولِهم: «ما فيها غيرُه وفرسه» بجرِّ «فرسه» عطفاً على الهاء في «غيره» . وقوله: {تَسَآءَلُونَ بِهِ والأرحام} في قراءة جماعةٍ كثيرة، منهم حمزةُ، وستأتي هذه الآيةُ إن شاء الله، ومنه:{وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ} [الحجر: 20] ف «مَنْ» عطف على «لكم» في قولِه تعالى: {لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ} وقولُه: {مَا يتلى عَلَيْكُمْ} [النساء: 127] عطف على «فيهِنّ» وفيما يُتْلى عليكم «. وفي النظم وهو كثيرٌ جداً، فمنه قولُ العباس بن مرداس:
930 -
أَكُرُّ على الكتيبةِ لا أُبالي
…
أفيها كان حَتْفي أم سواها
ف» سواها «عطفٌ على» فيها «، وقولُ الآخر:
931 -
تُعَلَّقُ في مثلِ السَّوارِي سيوفُنا
…
وما بينها والأرضِ غَوْطٌ نَفانِفٌ
وقول الآخر:
932 -
هَلَاّ سَأَلْتَ بذي الجماجم عنهمُ
…
وأبي نُعَيْم ذي اللِّواء المُحْرِقِ
وقول الآخر:
933 -
بنا أبداً لا غيرِنا تُدْرَكُ المُنَى
…
وتُكْشَفُ غَمَّاءُ الخطوبِ الفَوادِحِ
وقول الآخر:
934 -
لو كانَ لي وزهيرٍ ثالثٌ وَرَدَتْ
…
من الحِمامِ عِدانا شَرَّ مَوْرودِ
وقال آخر:
935 -
إذا أَوْقدوا ناراً لحربِ عَدُوِّهمْ
…
فَقَدْ خابَ مَنْ يَصْلَى بها وسعيرِها
وقال آخر:
936 -
إذا بنا بل أُنَيْسانَ اتَّقَتْ فِئَةٌ
…
ظَلَّتْ مُؤَمَنَّةً مِمَّنْ يُعادِيها
وقال آخر:
937 -
آبَكَ أيِّهْ بيَ أو مُصَدَّرِ
…
من حُمُرِ الجِلَّةِ جَأْبٍ حَشُوَرِ
وأنشد سيبويه:
938 -
فاليومَ قَرَّبْتَ تهجُونا وَتشْتِمُنا
…
فاذهبْ فما بك والأيام مِنْ عَجَبِ
فكثرةُ ورودِ هذا وتصرُّفُهم في حروفِ العطفِ، فجاؤوا تارة بالواو، وأخرى ب» لا «، وأخرى ب» أم «، وأخرى ب» بل «دليلٌ على جوازِه. وأمّا ضَعْفُ الدليل: فهو أنهم منعوا ذلك لأنَّ الضميرَ كالتنوين، فكما لا يُعْطف على التنوين لا يُعْطَفُ عليه إلا بإعادة الجار. ووجهُ ضعفه أنه كان بمقتضى هذه العلةِ ألَاّ يُعْطَفَ على الضمير مطلقاً، أعنى سواءً كان مرفوعَ الموضعِ أو منصوبَه أو مجرورَه، وسواءً أُعيد معه الخافِضُ أم لا كالتنوين.
وأمَّا القياسُ فلأنه تابعٌ من التوابعِ الخمسةِ فكما يُؤَكَّدُ الضميرُ المجرورُ ويُبْدَلُ منه فكذلك يُعْطَفُ عليه.
الثالث: أن يكونَ معطوفاً على» الشهر الحرام «أي: يسألونَك عن الشهرِ الحرامِ وعن المسجدِ الحرام. قال أبو البقاء:» وضَعُفَ هذا بأنَّ القومَ لم يَسْأَلوا عن المسجدِ الحرام إذ لم يَشُكُّوا في تعظيمِه، وإنما سَأَلوا عن
القتالِ في الشهرِ الحرامِ لأنه وَقَعَ منهم، ولم يَشْعُروا بدخولِه فخافُوا من الإِثمِ، وكانَ المشركونَ عيَّروهم بذلك «ولا يَظْهَرُ ضَعْفُه بذلكَ لأنه على هذا التخريجِ يكونُ سؤالُهم عن شيئين، أحدُهما القتالُ في الشهر الحرامِ.
والثاني: القتالُ في المسجد الحرام، لأنهم لم يَسْأَلوا عن ذات الشهر ولا عن ذاتِ المسجدِ، إنما سألوا عن القتالِ فيهما كما ذَكَرْتُم، فَأُجيبوا بأنَّ القتالَ في الشهرِ الحرامِ كبيرٌ وصَدُّ عن سبيلَ الله تعالى، يكون «قتال» أَخْبر عنه بأنه كبيرٌ، وبأنه صَدٌّ عن سبيل الله، وأُجيبوا بأنَّ القتالَ في المسجد الحرامِ وإخراجَ أهلِه أكبرُ من القتالِ فيه. وفي الجملةِ فَعَطْفُه على الشهرِ الحرامِ متكلَّفٌ جداً يَبْعُدُ عنه نَظمُ القرآنِ والتركيبُ الفصيحُ.
الرابع: أَنْ يتعلَّقَ بفعلٍ محذوفٍ دَلَّ عليه المصدرُ تقديرُه: ويَصُدُّون عن المسجدِ، كما قال تعالى:{هُمُ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام} [الفتح: 25] قاله أبو البقاء، وجَعَله جيداً. وهذا غيرُ جيد لأنه يَلْزَمُ منه حذفُ حرفِ الجرِ وإبقاءُ عملهِ، ولا يجوزُ ذلك إلا في صورٍ ليس هذا منها، على خلافٍ في بعضها، ونصَّ النحويون على أنَّه ضرورةٌ كقوله:
939 -
إذا قيل: أيُّ الناسِ شَرُّ قبيلةٍ
…
أشارَتْ كليبٍ بالأكفِّ الأصابعُ
أي: إلى كليب فهذه أربعة أوجه، أجودها الثاني.
وأمَّا رفعُه فوجهُه أنَه عَطْفٌ على «وكفرٌ به» على حَذْفِ مضافٍ تقديرُه «وكفرٌّ بالمسجدِ» فَحُذِفَتْ الباءُ وأُضيف «كفرٌ» إلى المسجدِ، ثم حُذِفَ المضافُ وأُقيم المضافُ إليه مُقامه، ولا يَخْفَى ما فيه من التكلُّفِ، إلا أنه لا تُخَرَّجُ هذه القراءةُ الشاذةُ بأكثرُ مِنْ ذلك.
قوله: {وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ} عَطْفٌ على «كفرٌ» أو «صدٌ» على حَسَبِ الخلافِ المتقدَّمِ، وهو مصدرٌ حُذِفَ فاعلُه، وأُضيف إلى مفعولُه، تقديرُه:«وإخراجُكم أهلَه» . والضميرُ في «أهله» و «مِنه» عائدٌ على المسجدِ وقيل: الضميرُ في «منه» عائدٌ على سبيلِ الله، والأول أظهرُ و «منه» متعلِّقٌ بالمصدرِ.
قوله: {أَكْبَرُ} فيه وجهان، أحدُهما: أنه خبرٌ عن الثلاثةِ، أعني: صداً وكفراً وإخراجاً كما تقدَّم، وفيه حينئذٍ احتمالان، أحدُهما: أن يكونَ خبراً عن المجموعِ، والاحتمالُ الآخرُ أن يكونَ خبراً عنها باعتبارِ كلِّ واحدٍ، كما تقول:«زيدٌ وبكرٌ وعمرٌ أفضلُ من خالدٍ» أي: كلُّ واحِدٍ منهم على انفرادِه أفضلُ من خالدٍ. وهذا هو الظاهرُ. وإنما أُفْرِد الخبرُ لأنه أفضلُ من تقديرِه: أكبر من القتال في الشهرِ الحرامِ. وإنِّما حُذِفَ لدلالةِ المعنى.
الثاني من الوجهين في «أكبر» : أن يكونَ خبراً عن الأخير، ويكون خبر «وصد» و «كفر» محذوفاً لدلالة خبر الثالث عليه تقديرُه: وصد وكفر أكبر. قال أبو البقاء/ في هذا الوجه: «ويجب أن يكونَ المحذوفُ على هذا» أكبر «لا» «كبير» كما قدَّره بعضهم؛ لأن ذلك يوجب أن يكون إخراج أهل المسجد منه حُذِفَ خبر «وصد» و «كفر» لدلالة خبر «قتال» عليه أي: القتال في الشهر الحرام كبير، والصد والكفر كبيران أيضاً، وإخراجُ أهل المسجد أكبرُ من القتالِ في الشهر الحرام.
ولا يلزم من ذلك أن يكونَ أكبرَ من مجموعِ ما تقدَّم حتى يلزمَ ما قاله من المحذور.
قوله: {عِندَ الله} متعلِّق ب «أكبر» ، والعنديةُ هنا مجازٌ لِما عُرف. وصرح هنا بالمفضول في قوله:{والفتنة أَكْبَرُ مِنَ القتل} ؛ لأنه لا دلالة عليه لو حُذِفَ،
بخلاف الذي قبله حيث حُذِفَ. قوله: «حتى يَرُدُّوكم» حتى حرف جر، ومعناها يَحتمل وجهين: أحدهما: الغاية، والثاني: التعليل بمعنى كي، والتعليلُ أحسنُ لأن فيه ذِكْرَ الحامل لهم على الفعل، والغاية ليس فيها ذلك، ولذلك لم يَذْكر الزمخشري غيرَ كونِها للتعليل قال:«وحتى» معناها التعليل كقولك: فلان يعبد الله حتى يدخل الجنة «أي:» يقاتلونكم كي يردُّكم «ولم يذكر ابن عطية غير كونها غايةً قال:» ويردُّوكم «نصب ب» حتى «لأنها غاية مجردة» وظاهر قوله: «منصوب بحتى» أنه لا يُضْمِر «أَنْ» لكنه لا يريدُ ذلك وإن كان بعضهم يقول بذلك. الفعلُ بعدها منصوبٌ بإضمار أن وجوباً.
و «يزالون» مضارع زال الناقصة التي ترفع الاسم وتنصب الخبر، ولا تعمل إلا بشرطِ أَنْ يتقدَّمها نفيٌ أو نهي أو دعاء، وقد يُحْذف النافي بإطِّراد إذا كان الفعل مضارعاً في جوابِ قسم وإلَاّ فسماعاً، وأحكامُها في كتب النحو، ووزنُها فَعِل بكسر العين، وهي من ذوات الياء بدليل ما حكى الكسائي في مضارعها: يَزيل، وإن كان الأكثر يَزال، فأمَّا زال التامة فوزنها فَعَل بالفتح، وهي من ذوات الواو لقولِهم في مضارعها يَزُول، ومعناها التحول. و «عن دينكم» متعلق «بيردوكم» وقوله:«إن استطاعوا» شرط جوابه محذوف للدلالة عليه أي: إن استطاعوا ذلك فلا يزالون يقاتلونكم، ومَنْ رأى جوازَ تقديمِ الجواب جعل «لا يزالون» جواباً مقدماً، وقد تقدَّم الردُّ عليه بأنه كان ينبغي أَنْ تَجِبَ الفاَءُ في قولِهم:«أنت ظالم إنْ فعلت» .
قوله: {وَمَن يَرْتَدِدْ} «مَنْ» شرطيةٌ في محلِّ رفع بالابتداءِ، ولم يَقْرأ هنا أحدٌ بالإِدغام، وفي المائدة اختلفوا فيه، فنُؤَخِّر الكلامَ على هذه المسألةِ إلى هناك إن شاءَ اللهُ تعالى.
وَيَرْتَدِدُ يَفْتَعِلُ من الردِّ وهو الرجوعُ كقولِه: {فارتدا على آثَارِهِمَا قَصَصاً} [الكهف: 64] : قال الشيخ: «وقد عَدَّها بعضُهم فيما يتعدَّى إلى اثنين إذا كانت عنده بمعنى صَيَّر، وَجَعَلَ من ذلك قولَه:
{فارتد بَصِيراً} [يوسف: 96] أي: رَجَع «وهذا منه [سهو] ؛ لأنَّ الخلافَ إنما هو بالنسبةِ إلى كونِها بمعنى صار أم لا، ولذلك مثَّلوا بقوله:» فارتدَّ بصيراً «فمنهم مَنْ جَعَلها بمعنى» صار «، ومنهم مَنْ جَعَل المنصوبَ بعدَها حالاً، وإلا فأينَ المفعولان هنا؟ وأمَّا الذي عَدُّوه يتعدَّى لاثنين بمعنى» صَيَّر «فهو رَدَّ لا ارتدَّ، فاشتبه عليه ردَّ ب» ارتَدَّ «. وصيَّر ب» صارَ «.
و» منكم «متعلِّقٌ بمحذوفٍ؛ لأنه حالٌ من الضميرِ المستكنِّ في» يَرْتَدِدْ «، و» من «للتبعيض، تقديرُه: ومَنْ يَرْتَدِدْ في حالِ كونِه كائناً منكم، أي: بعضكم. و» عن دينه «متعلِّقٌ بيرتددْ. و» فَيَمُتْ «عطفٌ على الشرط والفاءُ مُؤْذِنَةٌ بالتعقيب.
{وَهُوَ كَافِرٌ} جملةٌ حاليةٌ من ضميرِ» يَمُتْ «، وكأنها حالٌ مؤكِّدَةٌ لأنها لو حُذِفَتْ لفُهِم معناها، لأنَّ ما قبلَها يُشْعِرُ بالتعقيبِ للارتداد، وجيء بالحالِ هنا
جملةً، مبالغةً في التأكيدِ من حيث تكرُّرُ الضميرِ بخلافِ ما لو جِيء بها اسماً مفرداً.
وقوله: {فأولائك} جوابُ الشرطِ. قالَ أبو البقاء: و» مَنْ في موضعِ مبتدأ، والخبرُ هو الجملةُ التي هي قولُه:«فأولئك حَبِطَتْ» ، وكان قد سَلَفَ له عند قوله:{فَمَن تَبِعَ هُدَايَ} [البقرة: 38] أنَّ خبرَ اسم الشرطِ هو فعلُ الشرطِ لا جوابُه ورَدَّ على مَنْ يَدَّعي ذلك بما حَكَيْتُه عنه ثَمَّةَ، ويَبْعُدُ منه تَوَهُّمُ كونِها موصولةً لظهورِ الجزمِ في الفعلِ بعدها، ومثلُه لا يقعُ في ذلك.
و «حَبِط» فيه لغتان: كسرُ العينِ - وهي المشهورةُ - وفَتْحُها، وبها قرأ أبو السَّمَّال في جميعِ القرآنِ، ورويتْ عن الحسنِ أيضاً. والحُبوط: أصلُه الفسادُ ومنه: «حَبِطَ بطنُه» أي: انتفخ، ومنه «رَجلٌ حَبَنْطَى» أي: منتفخُ البطنِ.
وحُمِل أولاً على لفظِ «مَنْ» فَأَفْرَدَ في قوله: «يَرْتَدِدْ، فيمتْ وهو كافرٌ» وعلى معناها ثانياً في قولِه: «فأولئك» إلى آخره، فَجَمَع، وقد تقدَّم أن مثلَ هذا التركيبِ أحسنُ الاستعمالَيْنِ: أعني الحَمْلَ أولاً على اللفظِ ثم على المعنى. وقولُه «في الدنيا» متعلِّقٌ ب «حَبِطَتْ» .
وقوله: {وأولائك أَصْحَابُ النار} إلى آخرِهِ تقدَّم إعرابُ نظيرتِها. واختلفوا في هذه الجملةِ: هل هي استئنافيةٌ، أي: لمجرَّدِ الإخبارِ بأنهم أصحابُ النارِ، فلا تكونُ داخلةٍ في جزاء الشرطِ، بل تكونُ معطوفةً على جملةِ الشرطِ، أو هيَ معطوفةً على الجوابِ فيكونُ محلُّها الجزم؟ قولان،
رُجِّع الأولُ بالاستقلالِ وعدمِ التقييدِ، والثاني بأنَّ عطفَها على الجزاءِ أقربُ من عطفِها على جملةِ الشرطِ، والقربُ مُرَجِّحٌ.
قولُه تعالى: {إِنَّ الذين آمَنُواْ} : إنَّ واسمُها، و «أولئك» مبتدأ، و «يَرْجُون» خبرُه، والجملةُ خبرُ «إنَّ» ، وهو أحسنُ من كونِ «أولئك» بدلاً من «الذين» و «يرجُون خبرٌ» إنَّ «. وجيء بهذه الأوصافِ الثلاثةِ مترتبةً على حَسَبِ الواقعِ، إذ الإيمانُ أولُ ثم المهاجَرةُ ثم الجهادُ. وأَفْرَدَ الإِيمانَ بموصولٍ وحدَه لأنه أصلُ الهجرةِ والجهادِ، وجَمَعَ الهجرةَ والجهادَ في موصولٍ واحدٍ لأنَّهما فَرْعانِ عنه، وأتى بخبرِ» إنَّ «اسمَ إشارة لأنه متضمِّنٌ للأوصافِ السابقةِ. وتكريرُ الموصولِ بالنسبةِ إلى الصفاتِ لا الذواتِ، فإنَّ الذوات متحدةٌ موصوفةٌ بالأوصافِ الثلاثةِ، فهو من بابِ عَطْفِ بعضِ الصفاتِ على بعض والموصوفُ واحدُ. ولا تقولُ: إنَّ تكريرَ الموصولِ يَدُلُّ على تَغايرِ الذواتِ والموصوفةِ لأنَّ الواقعَ كان كذلك. وأتى ب» يَرْجُون «لِيَدُلَّ على التجدُّدِ وأنهم في كلِّ وقتٍ يُحْدِثُون رجاءً.
والمهاجَرةُ مُفاعَلَةٌ من الهَجْرِ، وهي الانتقالُ من أرضِ إلى أرضٍ، وأصلُ الهجرِ التركُ. والمجاهدةُ مفاعلةٌ من الجُهْدِ. وهو استخراجُ الوُسْع وبَذْلُ المجهود، والإِجهادُ: بَذْلُ المجهودِ في طَلَبِ المقصودِ، والرجاءُ: الطمعُ، وقال الراغب: وهو ظَنُّ يقتضي حصولَ ما فيه مَسَرَّةٌ، وقد يُطْلَقُ على الخوفِ، وأنشد:
940 -
إذا لَسَعَتْه النحلُ لَم يَرْجُ لَسْعَها
…
وخالَفَها في بَيْتِ نُوبٍ عَواسلِ
أي: لم يخف/، وقال تعالى:{لَا يَرْجُونَ لِقَآءَنَا} [يونس: 7] أي: لا يَخافون، وهل إطلاقُه عليه بطريقِ الحقيقةِ أو المجازِ؟ فزعم قومٌ أنَّه حقيقةٌ، ويكونُ من الاشتراك اللفظي، وزعم قومٌ أنه من الأضدادِ، فهو اشتراكٌ لفظي أيضاً. قال ابنُ عطية:» وليس هذا بجيدٍ «. يعني أن الرجاء والخوفَ ليسا بضدين إذ يمكنُ اجتماعُهما، ولذلك قال الراغب: - بعد إنشادِه البيتَ المتقدم -» ووجْهُ [ذلك] أن الرجاءَ والخوفَ يتلازمان «، وقال ابن عطية:» والرجاءُ أبداً معه خوفٌ، كما أن الخوفَ معه رجاءٌ «. وزعم قومٌ أنه مجازٌ للتلازمِ الذي ذكرناه عن الراغب وابنِ عطية.
وأجاب الجاحظُ عن البيتِ بأنَّ معناه لَم يَرْجُ بُرْءَ لَسْعِها وزواله فالرجاءُ على بابه» . وأمَّا قولُه: {لَا يَرْجُونَ لِقَآءَنَا} أي لا يَرْجُون ثوابَ لقائِنا، فالرجاءُ أيضاً على بابِه، قاله ابنُ عطية. وقال الأصمعي: «إذا اقترن الرجاءُ بحرفِ النفي كان بمعنى الخوفِ كهذا البيتِ والآيةِ. وفيه نظرٌ إذ النفيُ لا يُغَيِّر مدلولاتِ الألفاظِ.
وكُتبت» رحمة «هنا بالتاءِ: إمَّا جرياً على لغةِ مَنْ يَقِفُ على تاءِ التأنيث بالتاءِ، وإمَّا اعتباراً بحالِها في الوصلِ، وهي في القرآن في سبعةِ مواضعَ كُتبت في الجميع تاءً، هنا وفي الأعراف:{إِنَّ رَحْمَةَ الله} [الأعراف: 56]، وفي هود: {رَحْمَةُ الله
وَبَرَكَاتُهُ} [هود: 73]، وفي مريم:{ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ} [مريم: 2]، وفي الروم:{فانظر إلى آثَارِ رَحْمَتِ الله} [الروم: 50]، وفي الزخرف:{أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ. . . وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ} [الزخرف: 32] .
قوله تعالى: {عَنِ الخمر والميسر} : الخمرُ: المُعْتَصَرُ من العِنَبِ إذا غَلى وقَذَفَ بالزَّبَدِ، ويُطْلَقُ على ما غلى وقَذَف بالزَّبَد من غيرِ ماءِ العنب مجازاً.
وفي تسميِتها «خمراً» أربعةُ أقوال، أحدُها: - وهو المشهورُ - أنها سُمِّيتْ بذلك لأنهَا تَخْمُر العقلَ أي تستُرُه، ومنه: خِمارُ المرأة لسَتْرِهِ وَجْهَها، و:«خامِري حَضاجِرُ، أتَاك ما تُحَاذِرُ» يُضْرَبُ للأحمقِ، وحضاجرُ عَلَمٌ للضبُع، أي: استتر عن الناس. ودخَل في خِمار الناس وغِمارهم. وفي الحديث: «خَمِّروا آنيتَكم» ، وقال:
941 -
ألا يا زيدُ والضحاكَ سِيرا
…
فَقَدْ جاوَزْتُما خَمَرَ الطرِيقِ
أي: ما يَسُْرُكما من شجرٍ وغيرِه. وقال العَّجاج يصف مسير جيشٍ ظاهر:
942 -
في لامعِ العِقْبَانِ لا يَمْشِي الخَمَرْ
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
والثاني: لأنها تُغَطَّى حتى تُدْرَكَ وتشتدَّ، ومنه «خَمِّروا آنيتَكم»
والثالث: - قال ابنُ الأنباري - لأنها تخامِرُ العقلَ أي: تخالِطُه، يقال: خامره الداءُ أي: خالَطَه. والرابع: لأنها تُتْرَكُ حتى تُدْرَكَ، ومنه:«اختمر العجينُ» أي: بَلَغَ إدراكُه، وخَمَّر الرأيَ أي: تركَه حتى ظهرَ له فيه وجهُ الصوابِ، وهذه أقوالٌ متقاربةٌ. وعلى هذه الأقوال كلِّها تكونُ الخمرُ في الأصل مصدراً مراداً به اسمُ الفاعلِ أو اسمُ المفعولِ.
والمَيْسِرُ: القِمار، مَفْعِل من اليُسْر، يقال: يَسَرَ يَيْسِر. قال علقمة:
943 -
لو يَيْسِرون بخيلٍ قد يَسَرْتُ بها
…
وكلُّ ما يَسَرَ الأقَوامُ مَغْرومُ
وقال آخر:
944 -
أقولُ لهم بالشِّعْبِ إذ يَيْسِرونَني
…
ألم تَيْئَسوا أني ابنُ فارسِ زَهْدَمِ
وفي اشتقاقِه أربعةُ أقوال، أحدُها: من اليُسْر وهو السهولةُ، لأنَّ أَخْذَه سهل. الثاني: من اليَسار وهو الغنى، لأنه يَسْلُبه يساره، الثالثة: مِنْ يَسَر لي كذا أي: وَجَب، حكَاه الطبري عن مجاهد. وردَّ ابنُ عطية عليه. الرابع: من يَسَر إذا جَزَر، والياسرُ الجازرُ، وهو الذي يُجَزِّىء الجَزُور أجزاءً. قال ابن عطية: «وسُمِّيت الجَزُور التي يُسْتَهَمُ عليها مَيْسِراً لأنَّها موضعُ
اليُسْرِ، ثم سُمِّيت السهامُ مَيْسِراً للمجاورة» واليَسَرُ: الذي يَدْخُل في الضربِ بالقِدَاح، ويُجْمع على أَيْسار، وقيل، بل «يُسَّر» جمع ياسِر كحارِس وحُرَّس وأَحْراس.
وللميسر كيفيةٌ، ولسهامه - وتُسَمَّى القِداحَ والأزلامَ أيضاً - أسماءٌ لا بُدَّ من ذِكْرها لتوقَّفِ المعنى عليها. فالكيفيةُ أنَّ لهم عشرةَ أقداح وقيل أحدَ عشرَ، لسبعةٍ منها حظوظٌ، وعلى كل منها خطوطٌ، فالخطُّ يقدِّرُ الحَظَّ، وتلك القداحُ هي: الفَذُّ وله سهمٌ واحد، والتَّوْءَمُ وله اثنان، والرقيبُ وله ثلاثةُ، والحِلْسُ وله أربعةٌ، والنافِسُ وله خمسةٌ، والمُسْبِلُ وله ستةٌ، والمُعَلَّى وله سبعةٌ، وثلاثةٌ أغفالٌ لا خطوطَ عليها وهي المَنِيح والسَّفِيح والوَغْدُ، ومَنْ زاد رابعاً سمَّاه المُضَعَّفُ. وإنما كَثُروا بهذه الأغفالِ ليختلطَ على الحُرْضَة وهو الضاربُ، فلا يميلُ مع أحدٍ، وهو رجلٌ عَدْلٌ عندهم، فيجثوا ويلتحِفُ بثوبٍ، ويُخْرِج رأسه، فيجعلُ تلك القداحَ في الرِّبابة وهي الخَريطةُ، ثم يُخَلْخِلُها ويُدْخِلُ يده فيها، ويُخْرِجُ باسم رجلٍ رجلٍ قَدَحاً فَمَنْ خَرَجَ على اسمه قدحٌ: فإنْ كانَ من ذوات السهام فاز بذلك النصيبِ وأخذَه، وإنْ كان من الأغفال غرِّم من الجَزور، وكانوا يفعلون هذا في الشَّتْوة وضيقِ العيش، ويُقَسِّمونه على الفقراء ولا يأكلون منه شيئاً، ويفتخرون بذلك، ويسمون مَنْ لم يَدْخُل معهم فيه: البَرَم، والجَزورُ تُقْسَمُ عند الجمهور على عددِ القداحِ فتقسَمُ عشرةَ أجزاء، وعند الأصمعي على عددِ خطوط القداحِ، فتقسم على ثمانيةٍ وعشرين جزءاً.
وخَطَّأ ابنُ عطية الأصمعيَّ في ذلك، وهذا عجيبٌ منه، لأنه يُحْتَمل أنَّ العربَ كانت تقسِّمُها مرةً على عشرةٍ ومرةً على ثمانية وعشرين/.
وقولُه {عَنِ الخمر} لا بد من حذفِ مضافٍ، إذ السؤالُ عن ذَاتَيْ الخمرِ
والميسرِ غيرُ مُرادٍ. والتقدير. عن حكمِ الخمرِ والميسرِ حِلاًّ، وحُرْمَةً، ولذلك جاء الجوابُ مناسباً لهذا المُقَدَّرِ.
قوله: {فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ} الجارُّ خبرٌ مقدمٌ، و «إثمٌ» مبتدأٌ مؤخر، وتقديمُ الخبرِ هنا ليس بواجبٍ وإن كان المبتدأُ نكرةً، لأنَّ هنا مسوغاً آخر، وهو الوصفُ أو العطفُ، ولا بد من حَذْفِ مضافٍ أيضاً، أي: في تعاطِيهما إثمٌ، لأنَّ الإِثمَ ليس في ذاتِهما.
وقرأ حمزةُ الكسائي: «كثيرٌ» بالثاء المثلثة، والباقونَ بالباء ثانيةِ الحروفِ. ووجهُ قراءةِ الجمهور واضح، وهو أن الإِثمَ يُوصف بالكِبرَ، ومنه آية {حُوباً كَبِيراً} [النساء: 2] . وسُمِّيت الموبِقات: «الكبائر» ، ومنه قولُه تعالى:{يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثم} [الشورى: 37] ، وشربُ الخمرِ والقمارُ من الكبائرِ، فناسب وصفُ إثمهما بالكِبَر، وقد أجمعَتِ السبعةُ على قوله:«وإثْمهما أكبرُ» بالباء الموحَّدة، وهذه توافقها لفظاً.
وأمَّا وجهُ قراءة الأَخَوَين: فإمَّا باعتبارِ الآثمين من الشاربين والمقامرين فلكلِّ واحدٍ إثمٌ، وإما باعتبارِ ما يترتب على تعاطيهما من توالي العقابِ وتضعيفه، وإمّا باعتبارِ ما يترتَّبُ على شُرْبها مِمَّا يصدُر من شاربها من الأقوال السيئة والأفعال القبيحةِ، وإمَّا باعتبار مَنْ يزاولها من لَدُنْ كانت عِنباً إلى أن شُربَتْ، فقد لَعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الخمر، ولعن معها عشرةً: بائِعَها ومُبتاعَها، فناسَب ذلك أن يُوصَف إثمُها بالكثرةِ. وأيضاً
فإن قوله: «إثم» مقابلٌ ل «منافع» و «منافع» جمعٌ، فناسَبَ أن تُوصفَ مقابلةً بمعنى الجمعية وهو الكَثْرَةُ. وهذا الذي ينبغي أن يفعله الإِنسانُ في القرآن، وهو أن يَذْكر لكلِّ قراءةٍ توجيهاً من غير تعرُّضٍ لتضعيفِ القراءة الأخرى كما فعل بعضهُم، وقد تقدَّم فصلٌ صالحٌ من ذلك في قراءَتَيْ:«مَلِكَ» و «مالِك» .
وقال أبو البقاء: «الأحسنُ القراءةُ بالباء لأنه يُقال: إثمٌ كبير وصغير، ويُقال في الفواحش العظامِ» الكَبائرُ «، وفيما دونَ ذلك» الصغائرُ «وقد قُرىء بالثاءِ وهو جَيدٌ في المعنى، لأن الكثرةَ كِبر، والكثيرَ كبيرٌ، كما أنَّ الصغيرَ حقيرٌ ويَسيرٌ.
قوله تعالى: {فِي الدنيا} : فيه خمسةُ أوجهٍ، أظهرُها: أن يتعلَّقَ بيتفكرون على معنى يتفكرون في أمرهما، فيأخذونَ ما هو الأصلحُ، ويُؤْثِرُون ما هو أبقى نفعاً. والثاني: أن يتعلَّقَ ب «يبيِّن» ويُرْوَى معناه عن الحسن، وحينئذٍ يُحْتَمَلُ أن يُقَدَّر مضافٍ، أي: في أمرِ الدنيا والآخرة، ويُحْتَمل ألَاّ يقدَّرَ، لأنَّ بيانَ الآيات وهي العلاماتُ يظهرُ فيها. وجعل بعضُهم قولَ الحسن من التقديم والتأخير، ثم قال:«ولا حاجة لذلك، لحَمْلِ الكلام على ظاهره، يعني مِنْ تعلق في الدنيا ب» تتفكرون «. وهذا ليس من التقديم والتأخير في شيء، لأنَّ جملةَ الترجِّي جاريةٌ مَجْرى العلةِ فهي متعلقةٌ بالفعل معنى، وتقديمُ أحدِ المعمولاتِ على الآخرِ لا يقال فيه تقديمٌ وتأخيرٌ، ويُحْتَمل أن تكونَ اعتراضيةً فلا تقديمَ ولا تأخيرَ.
والثالث: ان تتعلَّق بنفسِ» الآيات «لِما فيها من معنى الفعل وهو ظاهرُ قول مكي فيما فهمه عنه ابنُ عطية. قال مكي:» معنى الآيةِ أنه يبيِّن للمؤمنين آياتٍ في الدنيا والآخرةِ يَدُلُّ عليها وعلى منزِلَتِها لعلهم يتفكرون في تلك الآيات «قال ابن عطية:» فقولُه: «في الدنيا» يتعلَّقُ على هذا التأويلِ بالآيات «وما قاله عنه ليس بظاهرٍ، لأنَّ شرحَهُ الآيةُ لا يقتضي تَعَلُّقَ الجار بالآيات. ثم إن عنى ابنُ عطية بالتعلُّق التعلُّق/ الاصطلاحي، فقال الشيخ:»
فهو فاسدٌ، لأنَّ «الآيات» لا تعملُ شيئاً البتة، ولا يتعلَّقُ بها ظرفٌ ولا مجرورٌ «وهذا من الشيخ فيه نظرٌ، فإن الظروفَ تتعلَّقُ بروائح الأفعال، ولا شك أن معنى الآياتِ العلاماتُ الظاهرةُ فيتعلَّق بها الظرفُ على هذا. وإن عنى التعلقَ المعنويَّ وهو كونُ الجارِّ من تمام معنى» الآيات «فذلك لا يكون إلا إذا جَعَلْنا الجارَّ حالاً من» الآيات «ولذلك قَدَّرَها مكي نكرةً فقال:» يبيِّن لهم آياتٍ في الدنيا «لِيُعْلِمَ أنها واقعةً موقعَ الصفةِ لآيات، ولا فرقَ في المعنى بين الصفةِ والحالِ فيما نحن بصدده، فعلى هذا تتعلق بمحذوفٍ لوقوعِها صفةً.
الرابع: أن تكونَ حالاً من» الآيات «كما تقدَّم تقريرُه الآن. الخامسُ: أن تكون صلةً للآيات فتتعلَّق بمحذوفٍ أيضاً، وذلك مذهبُ الكوفيين فإنهم يَجْعَلُون من الموصولات الاسمَ المعرَّفَ بأَل وأنشدوا:
946 -
لَعَمْرِي لأنت البيتُ أُكْرِمُ أَهْلَهُ
…
وَأَقْعُدُ في أَفْيَائِهِ بالأصائِلِ
ف» البيت «عندهم موصول، ولتقرير مذهبِهم والردِّ عليه موضعٌ هو أليقُ به.
والتَّفكُّر: تَفَعُّل من الفِكْر، والفِكْر: الذهنُ، فمعنى تفكَّر في كذا: أجال ذهنَه فيه وردَّده.
قوله: {إِصْلَاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ} » إصلاحٌ «مبتدأ، وسَوَّغَ الابتداءَ به أحدُ شيئين: إمَّا وصفُه بقوله» لهم «، وإمَّا تخصيصُه بعملِه فيه، و» خيرٌ «خبرُه.
و «إصلاحٌ» مصدرٌ حُذِفَ فاعلُهُ، تقديره: إصلاحُكم له، فالخيريَّةُ للجانبين أعني جانبَ المُصْلِحِ والمُصْلَح له، وهذا أَوْلى من تخصيصِ أحدِ الجانبين
بالإصلاح كما فَعَلَ بعضُهم. قال أبو البقاء: «فيجوزُ أن يكونَ التقديرُ:» خيرٌ لكم «، ويجوز أن يكونَ:» خيرٌ لهم «أي إصلاحُهم نافعٌ لكم» .
و «لهم» : إمَّا في محلِّ رفعٍ على أنه صفةً ل «خير» ، أو نصبٍ على أنه متعلق به معمول له كما تقدم. وأجاز أبو البقاء فيه أن يكونَ حالاً من «خير» قُدِّم عليه، وكان أصلُه صفةً فلما قُدِّم انتصَبَ حالاً عنه، واعتذَرَ عن الابتداءِ بالنكرةِ حينئذٍ بأحد وجهينِ: إمَّا لأنَّ النكرةَ في معنى الفعلِ تقديرُه: أَصْلِحُوهم، وإمَّا بأنَّ النكرةَ والمعرفة هنا سواءٌ لأنَّه جنسٌ.
قوله: {فَإِخْوَانُكُمْ} الفاء جوابُ الشرط، و «إخوانُكم» خبرُ مبتدأ محذوفٍ، أي: فهم إخوانُكم. والجملةُ ي محلِّ جزمٍ على جوابِ الشرط. والجمهورُ على الرفع، وقرأ أبو مُجْلز:«فإخوانَكم» نصباً بفعل مقدر، أي: فقد خالَطْتُم إخوانَكم. والجملةُ الفعلية أيضاً في محلِّ جزمٍ، وكأن هذه القراءة لم يَطَّلِعْ عليها أبو البقاء، فإنه قال:«ويجوزُ النصبُ في الكلام، أي: فقد خالطْتُم إخوانَكم» .
وقوله: {يَعْلَمُ المفسد مِنَ المصلح} تقدَّم الكلام عليه في قوله: {إِلَاّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرسول مِمَّن يَنقَلِبُ} [البقرة: 143] ، والمُفْسِدُ والمُصْلِحُ جنسان هنا،
وليس الألف واللام لتعريفِ المعهود، وهذا هو الظاهرُ. وقد يجوز أن تكونَ للعهدِ أيضاً.
وفي قوله: {تُخَالِطُوهُمْ} التفاتٌ من ضميرِ الغيبةِ في قولِهِ: «ويسألونك» إلى الخطابِ لينبِّه السامعَ إلى ما يُلْقَى إليه. ووقََع جوابُ السؤالِ بجملتين: إحداهما من مبتدأٍ وخبرٍ، وأُبْرِزَتْ ثبوتيةً مُنَكَّرَة المبتدإِ لتدلَّ على تناولِهِ كلَّ إصلاح على طريقِ البدليةِ، ولو أُضيفَ لَعَمَّ أو لكانَ معهوداً في إصلاحٍ خاص، وكلاهُما غيرُ مرادٍ، إمَّا العمومُ فلا يُمْكِنُ، وأمَّا المعهودُ فلا يتناولُ غيره؛ فلذلك أُوثر التنكيرُ الدالُّ على عمومِ البدل، وأُخْبِرَ عنه ب «خير» الدالِّ على تحصيل الثواب، ليتبادَرَ المسلمُ إليه. والآخرُ من شرطٍ وجزاءٍ، دالّ على جوازِ الوقوعِ لا على طلبه وندبيَّتِهِ.
قوله: {وَلَوْ شَآءَ الله} مفعولُ «شاءَ» محذوفٌ، أي: إعناتَكم. وجوابُ لو: «لأعنَتَكم» ، وهو الكثيرُ أعني ثبوتَ اللامِ في الفعلِ المُثْبَتِ.
والمشهورُ قطعُ همزةِ «لأعنتكم» لأنها همزةُ قطعٍ. وقرأ البزي عن ابن كثير في المشهور بتخفيفِها بينَ بينَ، وليس من أصلِهِ ذلك، ورُوِيَ سقوطُها البتة، وهي كقراءة:{فلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173] شذوذاً وتوجيهاً. ونسبَ بعضُهم هذه القراءة إلى وَهْم الراوي، باعتبارِ أنه اعتقدَ في سماعِهِ التخفيفَ إسقاطاً، لكنَّ الصحيحَ ثبوتُها شاذةً.
والمخالطةُ: الممازَجَةُ. والعَنَتُ: المشقةُ، ومنه «عَقَبَةٌ عَنَوُتٌ» ، أي: شاقةُ المَصْعَدِ.
قولُه تعالى: {وَلَا تَنْكِحُواْ} : الجمهورُ على فتح تاءِ المضارعةِ، وقرأ الأعمش بضمِّها من: أنكَحَ الرباعي، فالهمزةُ فيه للتعديةِ، وعلى هذا فأحدُ المفعولين محذوفٌ، وهو المفعولُ الأولُ لأنه فاعلٌ معنىً تقديرُهُ: ولا تُنْكِحُوا أنفسَكم المشركاتِ.
والنكاحُ في الأصلِ عند العرب: لزومُ الشيءِ والإِكبابُ عليه، ومنه:«نَكَح المطرُ الأرضَ» ، حكاه ثعلب عن أبي زيد وابن الأعرابي. وقيل: أصلُه المداخَلَةُ ومنه: تناكَحَت الشجر: أي تداخلت أغصانُها، ويُطْلق النكاح على العَقْد كقوله:
947 -
ولا تَقْرَبَنَّ جارةً إنَّ سِرَّها
…
حرامٌ عليك فانِكحَنْ أو تأبَّدا
أي: فاعقد أو توحَّشْ وتجَنَّبِ النساء. ويُطْلَقُ أيضاً على الوَطْءِ كقوله:
948 -
البارِكينَ على ظهورِ نِسْوَتِهِمْ
…
والناكحينَ بِشَطْءِ دجلةَ البَقَرَا
وحكى الفراء «نُكُح المرأةِ» بضمِّ النونِ على بناء «القُبُل» و «الدُّبُر» ، وهو بُضْعُها، فمعنى قولِهم:«نَكَحَها» أي أصابَ ذلك الموضعَ، نحو كَبَده: أي أصابَ كَبِدَه، وقلَّما يقال: ناكحها، كما يقال باضَعَهَا.
وقال أبو علي: «فَرَّقَتِ العربُ بين العَقْد والوطء بفرق لطيف، فإذا قالوا:» نكح فلانٌ فلانةً «أو ابنةَ فلان أرادوا عقدَ عليها، وإذا قالوا: نَكَحَ
امرأتَه أو زوجته فلا يريدون غير المجامعَةِ وهل إطلاقُهُ عليهما بطريق الحقيقةِ فيكونُ من باب الاشتراكِ أو بطريق الحقيقة والمجاز؟ الظاهر: الثاني: فإنَّ المجازَ خيرٌ من الاشتراكِ، وإذا قيلَ بالحقيقةِ والمجاز فإنهما حقيقة: ذهب قومٌ إلى أنه حقيقةٌ في الوطء وذهبَ قومٌ إلى العكس. قال الراغب:» أصلُ النكاحِ للعقدِ ثم استُعِيرَ للجِماع، ومُحالٌ أن يكونَ في الأصلِ للجماعِ ثم استُعير للعقد، لأنَّ أسماءَ الجماعِ كلَّها كناياتٌ لاستقباحِهم ذِكْرَه كاستقباحِهم تعاطِيه، ومُحالٌ أن يستعير مَنْ لا يقصِدُ فُحشاً اسمَ ما يستفظعونه لِما يستحسنونه. قال تعالى:{فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء} [النساء: 3] قوله: {حتى يُؤْمِنَّ} / «حتى» بمعنى «إلى» فقط، والفعلُ بعدَها منصوبٌ بإضمار «أَنْ» أي: إلى أن يؤمنَّ، وهو مبنيٌّ على المشهورِ لاتصاله بنونِ الإِناث، والأصل: يُؤْمِنْنَ، فَأُدْغِمَت لامُ الفعلِ في نون الإِناث.
قوله: {وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ} سَوَّغَ الابتداءَ ب «أَمَة» شيئان: لامُ الابتداء والوصفُ «وأصل» أمة «: أَمَوٌ، فَحُذِفَت لامُها على غيرِ قياسٍ، وعُوِّضَ منها تاءُ التأنيث ك» قُلَة «و» ثُبَة «يدلُّ على أنَّ لامَها واوٌ رجوعُها في الجمع. قال الكلابي:
949 -
أمَّا الإِماءُ فلا يَدْعُونني ولداً
…
إذا تداعى بنون الإِمْوانِ بالعارِ
ولظهورها في المصدرِ أيضاً، قالوا: أَمَةٌ بيِّنة الأُمُوَّة وأَقَرَّت له بالأُمُوَّة. وهل وزنُها» فَعَلة «بتحريكِ العين أو» فَعْلة «بسكونها؟ قولان، أظهرُهُما الأولُ، وكان قياسُها على هذا أن تُقْلَبَ لأمُها ألِفاً لتحرُّكِها وانفتاحِ ما قبلَها كفتاة وقَناة، ولكنْ حُذِفَتْ على غيرِ قياس.
والثاني: قال به أبو الهيثم، فإنه زَعَمَ أنَّ جَمْعَ الأمة أَمْوٌ، وأنَّ وزنَها فعْلَة بسكون العين فيكون مثل نخل ونخلة فأصلها أَمْوَة، فحذفوا لامها إذ كانت حرف لين، فلمَّا جَمَعوها على مثل نَخْلة ونَخْل لَزِمَهُم أن يقولوا: أَمَة وأَم، فكَرهوا أن يَجْعَلُوها حرفين، وكَرِهُوا أن يَرُدُّوا الواوَ المحذوفَةَ لمَّا كانت [آخر] الاسمِ، فقدَّموا الواوَ وَجَعَلُوا ألفاً بين الهمزة والميم فقالوا: أام. وما زعَمه ليس بشيء إذ كان يلزَمُ أن يكونَ الإِعرابُ على الميمِ كما كان على لام «نَخْل» وراء «تمر» ، ولكنه على التاءِ المحذوفَةِ مقدَّرٌ كما سيأتي بيانُهُ. وجُمِعَت على «إمْوان» كما تقدَّم، وعلى إماء، والأصلُ: إماؤٌ، نحو رقبة ورِقاب، فَقُلِبَت الواوُ همزةً لوقوعها طرفاً بعد ألفٍ زائدةٍ ككساء. وفي الحديث:«لا تَمْنَعُوا إماءَ اللَّهِ مساجدَ الله» وعلى آمِ، قال الشاعر:
950 -
تَمْشِي بها رُبْدُ النَّعا
…
مِ تَماشِيَ الآمِ الزوافِرْ
والأصل «أَأْمُوٌ» بهمزتين، الأولى مفتوحةٌ زائدةٌ، والثانيةُ ساكنةٌ هي فاءُ
الكلمة نحو: أَكَمَةَ وأَأْكُم، فوقعت الواوُ طرفاً مضموماً ما قبلَها في اسمٍ معربٍ ولا نظيرَ له، فَقُلِبَتِ الواوُ ياءً والضمةُ كسرةً لتصِحَّ الياءُ، فصارَ الاسمُ من قبيلِ المنقوصِ. نحو: غازٍ وقاضٍ، ثم قُلِبَتِ الهمزةُ الثانيةُ ألِفاً لسكونِها بعد أخرى مفتوحةٍ، فتقولُ: جاء آمٌ ومررت بآمٍ ورأيت آمياً، تقدِّرُ الضمة والكسرة وتُظْهِرُ الفتحةَ، ونظيرُهُ في هذا القلبِ مجموعاً أَدْلٍ وأَجْرٍ جمعُ دَلْو وجَرْو، وهذا التصريفُ الذي ذكرناهُ يَرُدُّ على أبي الهيثم قولَه المتقدمَ، أعني كونَه زعمَ أن آمياً جمع أَمْوَة بسكونِ العينِ، وأنه قُلب، إذ لو كان كذلكَ لكانَ ينبغي أن يُقالَ جاء آمٌ ومررت بآمٍ ورأيت آماً، وجاء الأم ومررتُ بالآم، فَتُعْرَبُ بالحركاتِ الظاهرِةِ.
والتفضيلُ في قوله: {خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكةٍ} : إمَّا على سبيلِ الاعتقادِ لا على سبيلِ الوجودِ، وإمَّا لأنَّ نكاحَ المؤمنةِ يشتملُ على منافعَ أُخْرَوِيَّة ونكاحَ المشركةِ الحرة يشتملُ على منافعَ دنيويةٍ، هذا إذا التزمنا بأن «أَفْعَلَ» لا بد أن يَدُلَّ على زيادةٍ ما وإلَاّ فلا حاجةَ إلى هذا التأويلِ كما هو مذهبُ الفراء وجماعةٌ.
وقوله: {مِّن مُّشْرِكَةٍ} يَحْتَمِلُ أن يكونَ «مشركةٍ» صفةً لمحذوفٍ مدلولٍ عليه مقابِلِهِ أي: مِنْ حرَّةٍ مشركةٍ، أو مدلول عليه بلفظِهِ أي: مِنْ أَمَةٍ مشركةٍ، على حَسَبِ الخلافِ في قوله:«ولأمةٌ» هل المرادُ المملوكَةُ للآدميين أو مطلقُ النساء لأنهنَّ مِلكٌ لله تعالى؟ وكذلك الخلافُ في قولِهِ: {وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ} والكلامُ عليه كالكلامُ على هذا.
قوله: {وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} وقوله «ولو أَعْجَبَكم» هذه الجملةُ في محلِّ نصبِ على الحالِ، وقد تقدَّم أنَّ «لو» هذه في مثل هذا التركيبِ شرطيةٌ بمعنى «إنْ» نحو:«رُدُّوا السائلَ ولو بظَلْفٍ مُحْرقٍ» ، وأنَّ الواوَ للعطفِ على حالٍ
محذوفةٍ، التقديرُ: خيرٌ من مشركةٍ على كلِّ حالٍ، ولو في هذه الحال، وأنَّ هذا يكون لاستقصاءِ الأحوالِ، وأنَّ ما بعدَ «لو» هذه إنما يأتي وهو مُنافٍ لِما قبلَه بوجهٍ ما، فالإِعجابُ منافٍ لحكمِ الخيريةِ، ومقتضٍ جوازَ النكاح لرغبةِ الناكحِ فيها.
وقال أبو البقاء: «لو» هنا بمعنى «إنْ» ، وكذا كُلُّ موضعٍ وقع بعد «لو» الفعلُ الماضي، وكان جوابُها متقدماً عليها، وكونُها بمعنى «إنْ» لا يُشْتَرَطُ فيه تقدُّمُ جوابِها، ألا ترى أنَّهم قالوا في قولِهِ تعالى:{لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ} [النساء: 9] إنها بمعنى «إنْ» مع أنَّ جوابَها وهو «خافوا» متأخِّرٌ عنها، وقد نَصَّ هو على ذلك في آيةِ النساء قال في خافوا:«وهو جوابُ» لو «ومعناها» إنْ «.
قوله: {والمغفرة} الجمهورُ على جَرَّ» المغفرة «عطفاً على» الجنة «و» بإذنه «متعلِّقٌ بيدعو، أي: بتسهيلهِ.
وفي غير هذه الآيةِ تقدَّمَتِ» المغفرة «على الجنة: {سابقوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ} [الحديد: 21] {وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ} [آل عمران: 133] ، وهذا هو الأصل لأنَّ المغفرةَ سببٌ في دُخُولِ الجنَّةِ، وإنما أُخِّرَت هنا للمقابلَةِ، فإنَّ قبلَها» يدعو إلى النار «، فقدَّم الجنة ليقابِلَ بها النارَ لفظاً، ولتشُّوقِ النفوسِ إليها حين ذَكَرَ دعاءَ اللَّهِ إليها فأتى بالأَشْرَفِ. وقرأ الحسن» والمغفرةُ بإذنِهِ «على الابتداءِ والخبرِ، أي: حاصلةٌ بإِذنِهِ.
قولُه تعالى: {عَنِ المحيض} : مَفْعِلِ من الحَيْضِ، ويُراد به المصدرُ والزمانُ والمكانُ، تقولُ: حاضَتِ المرأَةُ تحيضُ حَيْضاً، ومَحِيضاً ومَحاضاً، فَبَنَوْه على مَفْعِل ومَفْعَل بالكسرِ والفتحِ.
واعلم أنَّ في المَفْعَل مِنْ يَفْعِل بكسر العينِ اليائيها ثلاثةَ مذاهبَ، أحدُها: أنه كالصحيح، فتُفْتَحُ عينُه مراداً به المصدرُ، وتُكْسَرُ مراداً به الزمانُ والمكانُ. والثاني: أَنْ يُتَخَيَّرُ بين الفتحِ والكسر في المصدرِ خاصةً، كما جاء هنا: المَحيضُ والمَحاضُ، ووجهُ هذا القول أنه كَثُر هذان الوجهان: أعني الكسر والفتح فاقتاسا. والثالث: أن يُقْتَصَرَ على السماع، فيما سُمِع فيه الكسرُ أو الفتحُ لا يَتَعَدَّى. فالمحيضُ المرادُ به المصدرُ ليس بمقيس على المذهبين الأول والثالث، مقيسٌ على الثاني. ويقال: امرأَةٌ حائِضٌ ولا يُقال: «حائِضَةٌ» إلا قليلاً، أنشدَ الفراء:
951 -
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
…
كحائِضَةٍ يُزْنَى بها غيرِ طاهرِ
والمعروفُ أن النَّحويين فَرَّقوا بين حائض وحائضة: فالمجرد من تاء التأنيث بمعنى النَسَب أي: ذاتُ حيضٍ، وإنْ لم يكن عليها حَيْضٌ، والملتبسُ بالتاءِ لِمَنْ عليها الحَيْضُ في الحال، فيُحتمل أن يكونَ مرادُ الشاعرِ ذلك، وهكذا كلُّ صفةٍ مختصةٍ بالمؤنثِ نحو: طامِث ومُرْضِع وشبهِهما/.
وأصلُ الحَيْض السَّيَلانُ والانفجار، يُقال: حاضَ السيلُ وفاضَ، قال الفراء:«حاضَت الشَجرةُ أي: سالَ صَمْغُها» ، قال الأزهري: «ومن هذا
قيل للحوضِ: حَيْضٌ، لأنَّ الماءَ يسيل إليه» والعربُ تُدْخِلُ الواو على الياءِ، والياءَ على الواو، لأنهما من حَيَّز واحدٍ وهو الهواء. والظاهرُ أن المحيض في هذه الآية يُراد به المصدرُ وإليه ذهب الزمخشري وابن عطية، قال ابن عطية:«والمحيضُ مصدرٌ كالحيضِ، ومثله:» المقيل «مِنْ قال يَقيل، قال الراعي:
952 -
بُنِيَتْ مَرافِقُهُنَّ فوقَ مَزَلَّة
…
لا يَسْتَطِيعُ بها القُرادُ مَقيلا
وكذلك قال الطبري:» إنَّ المحيضَ اسمُ كالمعيش اسمُ العيشِ «وأنشد لرؤبة:
953 -
إليك أشكو شدَّة المعيشِ
…
ومَرَّ أعوامٍ نَتَفْنَ ريشي
وقيل: المَحيضُ في الآية المرادُ به اسمُ موضعِ الدم وعلى هذا فهو مقيسٌ اتِّفاقاً، ويؤيِّد الأول قولُه:{قُلْ هُوَ أَذًى} . وقد يجاب عنه بأنَّ ثَمَّ حذفَ مضافٍ أي: هو ذو أذىً، ويؤيِّدُ الثانيَ قولُه:{فاعتزلوا النسآء فِي المحيض} . ومَنْ حَمَلَه على المصدر قَدَّر هنا حذف مضافٍ أي: فاعتزلوا وَطْءَ النساءِ في زمانِ الحَيْضِ، ويجوزُ أن يكونَ المحيضُ الأولُ مصدراً والثاني مكاناً.
وقوله: {هُوَ أَذَى} فيه وجهان: أحدُهما قالَه أبو البقاء:» أن يكونَ
ضميرَ الوطءِ الممنوعِ «وكأنه يقول: إن السياقَ يَدُلُّ عليه وإنْ لم يَجْرِ له ذِكْرٌ. الثاني: أن يعودَ على المحيض، قال أبو البقاء:» ويكون التقديرُ: «هو سببُ أذىً» ، وفيه نظرٌ، فإنَّهم فَسَّروا الأذى هنا بالشيء القذِرِ، فإذا أَرَدْنا بالمحيضِ نَفْسَ الدمِ كانَ شيئاً مُسْتَقْذَراً فلا حاجة إلى تقديرِ حذفِ مضافٍ.
وجاء: {وَيَسْأَلُونَكَ} ثلاثَ مرات بحرفِ العطفِ بعدَ قولِه: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر} [البقرة: 21] وهي: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ} [البقرة: 219]، و {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى} [البقرة: 320] {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المحيض} [البقرة: 222] . وجاء «يَسْأَلُونك» أربعَ مراتٍ من غيرِ عطفٍ. {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة} [البقرة: 189]{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ} [البقرة: 215]{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام} [البقرة: 217]{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر} [البقرة: 219] . فما الفرقُ؟ والجوابُ: أنَّ السؤالاتِ الأواخرَ وقعَتْ في وقتٍ واحدٍ فَجُمِع بينها بحرفِ الجمعِ وهو الواوُ، أمَّا السؤالاتُ الأُوَلُ فوقعَتْ في أوقاتٍ متفرقةٍ، فلذلك استؤْنِفَتْ كلُّ جملةٍ، وجيء بها وحدها.
قوله: {حتى يَطْهُرْنَ} «حتى» هنا بمعنى «إلى» والفعلُ بعدها منصوبٌ بإضمار أَنْ، وهو مبنيٌّ لاتصالِه بنون الإِناثِ.
وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر بتشديد الطاءِ والهاءِ، والأصلُ:
يَتَطَهَّرْنَ، فَأُدغم. والباقون:«يَطْهُرْنَ» مضارعُ طَهُر. قالوا: وقراءةُ التشديد معناها يَغْتَسِلْنِ. وقراءةُ التخفيف معناها يَنْقَطِعُ دَمُهُنَّ. ورجَّح الطبري قراءة التشديدِ وقال: «هي بمعنى يَغْتَسِلْنَ لإِجماع الجميع على تحريمِ قُرْبان الرجالِ امرأتَه بعد انقطاع الدم حتى تَطْهُرَ، وإنما الخلافُ في الطُهْر ما هو؟ هل هو الغُسْلُ أو الوضوءُ أو غَسْل الفرجِ فقط؟» قال ابنُ عطية: «وكُلٌّ واحدة من القراءتين تَحْتِمَل أن يُرادَ بها الاغتسالُ بالماءِ، وأن يُرادَ بها انقطاع الدمِ وزوالُ أذاه. قال:» وما ذَهَبَ إليه الطبري مِنْ أنَّ قراءَة التشديدُ مُضَمَّنُها الاغتسالُ، وقراءةُ التخفيف مُضَمَّنُها انقطاعُ الدم أمرٌ غيرُ لازم، وكذلك ادعاؤه الإِجماع «وفي رَدَّ ابنِ عطية عليه نظرٌ؛ إذ لو حَمَلْنَا القراءتين على معنىً واحدٍ لَزِم التكرارُ. ورجَّح الفارسي قراءةَ التخفيف لأنها من الثلاثي المضادِّ لطمِثَ وهو ثلاثي.
قوله: {مِنْ حَيْثُ} في» مِنْ «قولان، أحدُهما: أنُّها لابتداءِ الغايةِ، أي: من الجهة التي تنتهي إلى موضِعْ الحَيْض. والثاني: أن تكونَ [بمعنى] » في «، أي: في المكان الذي نُهيْتُم عنه في الحَيْض. ورَجَّح هذا بعضُهم بأنه ملائمٌ لقولِه: {فاعتزلوا النسآء فِي المحيض} ، ونَظَّر بعضُهم هذه الآية بقولِهِ:{لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الجمعة} [الجمعة: 9]{مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرض} [فاطر: 40] أي: في يوم الجمعة
وفي الأرضِ. قال أبو البقاء:» وفي الكلامِ حَذْفٌ تقديرُه: أَمَرَكُم اللهُ بالإِتيانِ منه «يعني أنَّ المفعولَ الثاني حُذِفَ للدلالةِ عليه. وكَرَّر قولَه» يحب «دلالةً على اختلافِ المقتضي للمحبَّة فتختلفُ المحبَّةُ.
قولُه تعالى: {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ} : مبتدأٌ وخبرٌ. ولا بدَّ من تأويلٍ ليصحَّ الإِخبارُ عن الجثةِ بالمصدرِ. فقيل: على المبالغة، جُعِلوا نفس الفعل. وقيل: أراد بالمصدر اسم المفعول. وقيل: عَلى حَذْفِ مضافٍ من الأولِ، أي: وَطْءُ نسائِكم حَرْثٌ أي: كحَرْث، وقيل: من الثاني أي: نساؤكم ذواتُ حَرْثٍ. و «لكم» في موضِع رفعٍ لأنه صفةٌ لحَرْث، فيتعلَّق بمحذوفٍ. وإنما أفرد الخبرَ والمبتدأُ جمعٌ لأنه مصدرٌ والأفصحُ فيه الإِفرادُ والتذكيرُ حينئذٍ.
قوله: {أنى شِئْتُمْ} «أنَّى» ظرفُ مكانٍ، ويُسْتَعْمَلُ شرطاً واستفهاماً بمعنى «متى» ، فيكونُ ظرفَ زمانٍ ويكونُ بمعنى كيف، وبمعنى مِنْ أين، وقد فُسِّرت الآية الكريمةُ بكلٍّ من هذه الوجوهِ. وقال النحويون:«أنَّى» لتعميم الأحوال. وقال بعضُهم: إنما تجيءُ سؤالاً وإخباراً عن أمرٍ له جهاتٌ، فهي على هذا أعمُّ مِنْ «كيف» ومِنْ «أين» ومِنْ «متى» . وقالوا: إذا كانت شرطيةً فهي ظرفُ مكانٍ فقط. واعلم انها مبنيةٌ لتضمُّنها: إمَّا معنى حرفِ الشرطِ أو الاستفهامِ، وهي لازمةُ النصب على الظرفيةِ. والعاملُ فيها هنا قالوا: الفعلُ قبلها وهو: «فأتوا» قال الشيخ: «وهذا لا يَصِحُّ، لأنَّها: إمَّا/ شرطيةٌ أو استفهاميةٌ، لا جائزٌ أن تكونَ شرطيةً لوجهين، أحدُهما: من جهة المعنى وهو أنَّها إذا كانَتْ شرطاً كانت ظرف مكانٍ كما تقدَّم، وحينئذ يقتضى الكلامُ الإِباحةَ في غير القُبُل وقد ثبت تحريمُ ذلك. والثاني: من جهةِ الصناعةِ. وهو أنَّ اسمَ الشرط لا يعملُ فيه ما قبله، لأنَّ له صدرَ الكلام، بل يعمل فيه فعلُ الشرط،
كما أنه عاملٌ في فعلِ الشرطِ الجزمَ. ولا جائزٌ أن تكون استفهاماً؛ لأنَّ الاستفهامَ لا يعملُ فيه ما قبلَه لأنَّ له صدرَ الكلام، ولأنَّ» أنَّى «إذا كانَتْ استفهاميةً اكتفَتْ بما بعدَها من فعلٍ واسم نحو:{أنى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ} [الأنعام: 101]{أنى لَكِ هذا} [آل عمران: 37] وهذه في هذه الآية مفتقرةٌ لِما قبلَها كما ترى، وهذا موضعٌ مُشْكِلٌ يَحْتَاجُ إلى تأمُّلٍ ونظرِ.
ثم الذي يظهرُ أنها هنا شرطيةٌ ويكونُ قد حُذِف جوابُها: لدلالة ما قبله عليه، تقديرُه: أنَّى شِئْتُم فَأْتُوه، ويكون قد جُعِلَت الأحوالُ فيها جَعْلَ الظروفِ، وأُجْرِيَتْ مُجراها تشبيهاً للحالِ بظرفِ المكانِ ولذلك تُقَدَّرُ ب» في «، كما أُجْرِيت» كيف «الاستفهاميةُ مُجْرى الشرطِ في قولِهِ: {يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ} [المائدة: 64] وقالوا: كيف تصنع أصنع، فالمعنى هنا ليس استفهاماً بل شرطاً، فيكونُ ثَمَّ حَذْفٌ في قوله: {يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ} أي: كيف يشاء ينفق، وهكذا كلُّ موضعٍ يُشْبِهُه. وسيأتي له مزيدٌ بيانٍ. فإنْ قلتَ: قد أَخْرَجْتَ» أنَّى «عن الظرفيةِ الحقيقيةِ وجعلتَها لتعميمِ الأحوالِ مثل كيف، وقلت: إنها مقتضيةٌ لجملةٍ أخرى كالشرطِ، فهل الفعلُ بعدها في محلِّ جزمٍ اعتباراً بكونِها شرطيةً، أو في محلِّ رفعٍ كما تكونُ كذلك بعد» كيف «التي تُسْتَعْمَل شرطية؟ قلت: تَحْتَمِل الأمرين، والأرجحُ الأولُ لثبوتِ عمل الجزم، لأنَّ غايةَ ما في البابِ تشبيهُ الأحوالِ بالظروفِ للعلاقةِ المذكورةِ، وهو تقديرُ» في «في كلٍّ منهما» .
ولم يَجْزِمْ ب «كيف» إلا بعضُهم قياساً لا سماعاً. ومفعولُ «شئتم» محذوفٌ أي: شِئْتُمْ إتيانَه بعد أن يكونَ في المحلِّ المُباح.
قوله: {وَقَدِّمُواْ} مفعولُه محذوفٌ أي: نيَّةَ الولدِ أو نيةَ الإِعفاف وذِكْرَ اللَّهِ أو الخيرِ، كقولِهِ:{وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ} [البقرة: 110] و «لأنفسكم» متعلقٌ بقَدِّموا. واللامُ تحتملُ التعليلَ والتعدي. والهاءُ في «ملاقوه» يجوزُ أَنْ تعودَ على اللهِ تعالى. ولا بُدَّ مِنْ حَذْفِ مضافٍ أي: ملاقو جزائِه، وأَن تعودَ على مفعولِ «قَدِّموا» المحذوفِ، على حَذْفِ مضافٍ أيضاً أي: ملاقُو جزاءِ ما قَدَّمتم، وأن تعودَ على الجزاءِ الدالِّ عليه مفعولُ «قَدِّموا» المحذوف.
والضميرُ في «وبَشِّر» للرسول عليه السلام لِجَرْي ذِكْرِه في قوله: {يَسْأَلُونَكَ} قاله أبو البقاء، وفيه نظرٌ لأنَّ ضميرَ الخطابِ والتكلم لا يَحْتَاج أَنْ يُقالَ فيهما تَقدَّم ذِكْرُ ما يَدُلُّ عليهما. ويجوزُ أن يكونَ لكلِّ مَنْ يَصِحُّ منه البِشارة.
قوله تعالى: {لأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ} : هذه اللامُ تحتملُ وجهينِ، أحدُهما: أن تكونَ مقويةً لتعديةِ «عُرْضة» تقديرُه: ولا تجعلوا اللَّهَ مُعَدَّاً ومَرْصَدَآً لحَلْفِكم. والثاني: ان تكون للتعليلِ، فتتعلَّقَ بفعلِ النهيِ أي: لا تَجْعلوه عُرْضَةً لأجْلِ أَيْمانكم.
قوله: {أَنْ تَبَرَّواْ} فيه ستةُ أوجهٍ، أحدُها وهو قولُ الزجاج والتبريزي وغيرهما، أنها في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ، والخبرُ محذوفٌ تقديرُه: أَنْ تَبَرُّوا وتتقوا وتُصْلِحُوا خيرٌ لكم مِنْ أَنْ تجعلوه عُرْضَةً لأَيْمانكم، أو بِرُّكم
أَوْلَى وأَمْثَلُ، وهذا ضعيفٌ؛ لأنه يؤدِّي إلى انقطاع هذه الجملةِ عمَّا قبلها، والظاهر تعلُّقُها به.
الثاني: أنَّها في محلِّ نصبٍ على أنها مفعولٌ من أجله، وهذا قولُ الجمهورِ، ثم اختلفوا في تقديرِه، فقيل: إرادةَ أن تَبَرُّوا، وقيل: كراهةَ أن تبروا، قاله المهدوي، وقيل: لترك أَنْ تَبروا، قال المبرد، وقيل: لئلا تبروا: قاله أبو عبيدة والطبري، وأنشدا:
954 -
. . . فلا واللهِ تَهْبِطُ تَلْعَةً. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
…
أي: لا تهبطُ، فحذف «لا» ومثله:{يُبَيِّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ} [النساء: 176] أي: لئلا تضِلُّوا. وتقديرُ الإِرادة هو الوجهُ، وذلك أنَّ التقاديرَ التي ذكرتها بعدَ تقديرِ الإِرادة لا يظهرُ معناها، لِما فيه من تعليل امتناعِ الحَلْفِ بانتفاء البِر، بل وقوع الحَلْف مُعَلَّلٌ بانتفاء البِرِّ، ولا ينعقد منهما شرطٌ وجزاءٌ، لو قلتَ في معنى هذا النهي وعلَّتِه:«إنْ حَلَفْتَ بالله بَرَرْتَ» لم يصحَّ، بخلافِ تقديرِ الإِرادة، فإنه يُعَلِّل امتناعَ الحَلْفِ بإرادة وجودِ البِرِّ، وينعقدُ منهما شرطٌ وجزاءٌ، تقول: إنْ حَلَفْتَ لم تَبَرَّ وإنْ لم تَحْلِفْ بَرَرْتَ.
الثالث، أنَّها على إسقاطِ حرف الجرِّ، أي: في أَنْ تَبَرُّوا، وحينئذ يَجِيء فيها القولان: قولُ سيبويه والفراء، فتكونُ في محلِّ نصبٍ، وقولُ الخليل والكسائي فتكونُ في محلِّ جرٍّ. وقال الزمخشري:«ويتعلَّقُ» أَنْ
تَبَرُّوا «بالفعلِ أو بالعُرْضَةِ، أي: ولا تَجْعَلُوا اللهَ لأجلِ أيْمانكم عُرْضَةً لأنْ تَبَرُّوا» . قال الشيخ: «وهذا التقديرُ لا يصحُّ للفصلِ بين العاملِ ومعمولهِ بأجنبي، وذلك أنَّ» لأيمانِكم «عنده متعلقٌ بتجعلوا، فوقع فاصلاً بين» عُرْضَة «التي هي العاملُ وبين» أَنْ تَبَرُّوا «الذي هو في أن تبروا، وهو أجنبيٌّ منهما. ونظيرُ ما أجازه أن تقولَ:» امرُرْ واضربْ بزيدٍ هنداً، وهو غيرُ جائزِ، ونَصُّوا على أنه لا يجوزُ/:«جاءني رجلٌ ذو فرسٍ راكبٌ أَبْلَقَ» أي رجلٌ ذو فرسٍ أبلقَ راكبٌ، لِما فيه من الفصلِ بالأجنبي.
الرابع: أنها في محلِّ جَرٍّ عطفُ بيان لأَيْمانكم، أي للأمورِ المَحْلُوفِ عليها التي هي البِرُّ والتقوى والإِصلاحِ. قال الشيخ:«وهو ضعيفٌ لِما فيه من جَعْل الأيمان بمعنى المَحْلوف عليه» ، والظاهرُ أنها هي الأقسام التي يُقْسَمُ بها، ولا حاجةَ إلى تأويلها بما ذُكِر مِنْ كَوْنِها بمعنى المَحْلُوف عليه إذ لم تَدْعُ إليه ضرورةٌ، وهذا بخلافِ الحديثِ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:
«إذا حَلَفْتَ على يمينٍ فرأيت غَيرها خيراً منها» فإنه لا بد من تأويله فيه بالمحلوف عليه، ولا ضرورةَ تدعو إلى ذلك في الآية الكريمة.
الخامسُ: أَنْ تكونَ في محلِّ جرٍ على البدلِ من «لأَيْمانكم» بالتأويل
الذي ذكره الزمخشري، وهذا أَوْلَى من وجهِ عطفِ البيانِ، فإنَّ عَطْفَ البيانِ أكثرُ ما يكونُ في الأعلام.
السادس: - وهو الظاهرُ - أنَّها على إسقاطِ حرفِ الجر لا على ذلك الوجه المتقدم، بل الحرفُ غيرُ الحرفِ، والمتعلَّقُ غيرُ المتعلَّقِ، والتقديرُ:«لأِقْسامِكِم على أَنْ تَبَرُّوا» ف «على» متعلقٌ بإقْسامكم، والمعنى: ولا تَجْعَلوا الله مُعَرَّضاً ومُتبدَّلاً لإِقسامكم على البرِّ والقتوى والإِصلاح التي هي أوصافٌ جميلةٌ خوفاً من الحِنْثِ، فكيف بالإِقسام على ما ليس فيه بِرٌّ ولا تقوى !!! .
والعُرْضَةُ في اشتقاقها ثلاثةُ أقوال، أحدُها: أنها فُعْلَة بمعنى مَفْعول من العَرْض كالقُطْبَة والغُرْفَة. ومعنى الآية على هذا: لَا تَجْعَلُوه مُعَرَّضاً للحَلْفِ من قولهم: فلانٌ عُرْضَةٌ لكذا أي: مُعَرَّضٌ، قال كعب:
955 -
من كلِّ نَضَّاخَة الذِّفْرَى إذا عَرِقَتْ
…
عُرضَتُها طامِسُ الأعلامِ مَجْهُولُ
وقال حبيب:
956 -
متى كانَ سَمْعي عُرْضَةً لِلَّوائِمِ
…
وكيفَ صَفَتْ للعاذِلِين عَزائِمي
وقال حسان:
957 -
. . . . . . . . . . . . . . . . . .
…
هُمُ الأنصارُ عُرْضَتُها اللِّقاءُ
وقال أوس:
958 -
وأَدْمَاءُ مثلُ الفَحْلِ يوماً عَرَضْتُها
…
لرحلي وفيها هِزَّةٌ وتقاذُفُ
فهذا كلُّه بمعنى مُعَرَّضٌ لكذا.
والثاني: أنها اسمُ ما تَعْرِضُه على الشيءِ، فيكونُ من: عَرَضَ العُودَ على الاناء فيعترضُ دونَه، ويصيرُ حاجزاً ومانعاً، ومعنى الآية على هذا النَهْيُ عن أَنْ يَحْلِفُوا باللهِ على أنهم لا يَبَرُّون ولا يتقون ويقولون: لا نَقْدِرُ أَنْ نَفْعَلَ ذلك لأجلِ حَلْفِنَا.
والثالث: أنَّها من العُرْضَة وهي القوة، يقال:«جَمَلٌ عُرْضَةَ للسفرِ» أي قويٌّ عليه، وقال ابن الزبير:
959 -
فهذي لأيَّامِ الحروبِ وهذه
…
لِلَهْوي وهَذي عُرْضَةٌ لارتحالِنا
أي قوةٌ وعُدَّةٌ، ومعنى الآية على هذا: لا تَجْعَلُوا اليمينَ بالله تعالى قوةً لأنفسكم في الامتناعِ عن البّرِ.
والأيمان: جمعُ يمين، وأصلُها العَضْوُ، واستُعْملت في الحَلْفِ مجازاً لما جَرَتْ عادةُ المتعاقِدِين بتصافِحِ أَيْمانهم. واشتقاقُها من اليُمْن. واليمينُ أيضاً اسمٌ للجهةِ التي تكونُ من ناحيةِ هذا العضو فينتصبُ على الظرف، وكذلك اليسارُ تقول: زيدٌ يمينَ عمروٍ وبكرٌ يسارَه. وتُجْمَع اليمينُ على أَيْمُن وأَيْمان. وهل المرادُ بالأَيْمَان في الآية القسمُ نفسُه أو المُقْسَمُ عليه؟ قولان، الأولُ أولى. وقد تقدَّمَ تجويزُ أن يكونَ المرادُ به المحلوفَ عليه واستدلالُه بالحديث والجوابُ عن ذلك.
قوله: {والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} خَتَم بهاتين الصفتين لتقدُّم مناسبتهما، فإنَّ الحَلْفَ متعلِّقٌ بالسمع، وإرادة البرِ من فِعْلِ القلبِ متعلقةٌ بالعِلْم. وقَدَّم السميع لتقدُّم متعلَّقِه وهو الحَلْفُ.
قوله تعالى: {باللغو} : متعلَّقٌ ب «يُؤاخِذُكم» . والباءُ معناها السببيةُ كقولِه تعالى: {فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ} [العنكبوت: 40]، {وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِظُلْمِهِمْ} [النحل: 61] .
واللَّغْوُ: مصدرُ لَغا يَلْغو، يقال: لَغا يلغو لَغْواً، مثل غَزا يغزوا غزواً ولَغِي يَلْغَى لَغَىً مثل لَقِيَ يَلْقَى لَقَىً، ومن الثاني قولُه تعالى:{والغوا فِيهِ} واختُلِفَ في اللغُو: فقيل: ما سَبَقَ به اللسانُ مِنْ غيرِ قصدٍ، قاله الفراء، ومنه قول الفرزدق:
960 -
ولَسْتَ بمأخوذٍ بلَغْوٍ تَقُوله
…
إذا لم تُعَمِّدْ عاقِدَاتِ العَزائِمِ
ويُحْكى أن الحسنُ سُئل عن اللغو وعن المَسْبِيَّة ذاتِ زَوْج، فنهض الفرزدق وقال: «ألم تَسْمَع مَا قُلْتُ، وأنشد: ولستَ بمأخوذ، وقوله:
961 -
وذاتِ حليلٍ أَنْكَحَتْها رِماحُنا
…
حلالٌ لِمَنْ يَبْني بها لم تُطَلَّقِ
فقال الحسنُ: ما أذكاك لولا حِنْثُك» . وقد يُطْلَقُ على كل كلامٍ قبيح «لَغْو» .
قال تعالى: {وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ} [الفرقان: 72]{لَاّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً} [مريم: 62] وقال:
962 -
ورَبِّ أسرابِ حجيجٍ كُظَّمِ
…
عن اللَّغَا ورفَثِ التكلُّمِ
وقيل: ما يُطْرَحُ من الكلامِ استغناءً عنه، مأخوذٌ من قولِهِم لِما لا يُعْتَدُّ به من أولادِ الإِبلِ في الدِيَةَ «لَغْوُ» ومنه:
963 -
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
…
كما أَلْغَيْتَ في الدِّيَة الحُوارا
وقيل: هو ما لا يُفْهَمُ، من قولِهم:«لغا الطائرُ» صَوَّت: واللغوُ: ما لَهِجَ به الإِنسانُ، واللغةُ مأخوذةٌ من هذا. قال الراغب:«ولَغِي بكذا: أي لَهج به لَهَج العُصفور بِلَغاه، ومنه قيل للكلام الذي تَلْهَجُ به فَرقةٌ لغة، لجعلها مشتقةً من لَغِي بكذا أي أولعَ به. وقال ابن عيسى: - وقد ذكر أن اللغةَ ما لا يفيدُ -:» ومنه اللغةُ لأنَّها عند غيرِ أهلِها لَغْوٌ «وقد غَلَّطوه في ذلك.
قوله: {في أَيْمَانِكُمْ} فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أن يتعلَّقَ بالفعلِ قبلَه. الثاني: أَنْ يتعلَّقَ بنفسِ المصدرِ قبلَه كقولك:» لغا في يمينِه «. الثالث: أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من اللغو، وتعرفه من حيث المعنى أنك
لو جعلتَه صلةً لموصولٍ، ووصفْتَ به اللغوَ لصَحَّ المعنى، أي: اللغوُ الذي في أَيْمانِكم.
قوله: {ولكن يُؤَاخِذُكُم} وَقَعْت هنا» لكن «بين نقيضَيْنِ باعتبار وجودِ اليمينِ، لأنها لا تَخْلُوا: إمَّا أَنْ لا يقصِدَها القلبُ بل جَرَتْ على اللسانِ وهي اللغُو، وإمَّا أن يقصِدَها وهي المنعقدةُ.
قوله {بِمَا كَسَبَتْ} متعلِّقٌ بالفعلِ قبلَه، والباءُ للسببيةِ كما تقدَّم. و» ما «يجوزُ فيها ثلاثةُ أوجهٍ، أظهرُها: أنها مصدريةٌ لتقابِلَ المصدرَ وهو اللغوُ، أي: لا يؤاخِذُكم باللغوِ ولكنْ بالكَسْبِ. والثاني. أنها بمعنى الذي.
ولا بُدَّ من عائدٍ محذوفٍ أي: كَسَبَته، ويرجِّحُ هذا أنها بمعنى الذي أكثرُ منها مصدريةً. والثالثُ: أن تكونَ نكرةً موصوفةً والعائدُ/ أيضاً محذوفٌ وهو ضعيفٌ، وفي هذا الكلام حَذْفٌ تقديرُه: ولكنْ يُؤاخِذُكم في أَيْمانكم بما كَسَبَتْ قلوبُكم، فحَذَفَ لدلالةِ ما قبلَه عليه.
والحليمُ مِنْ حَلُم - بالضم - يَحْلُم إذا عَفَا مع قدرة، وأمَّا حَلِمَ الأديمُ فبالكسر، وتَثَقَّبَ يَحْلَم بالفتح أي: فسد وتثقَّب قال:
964 -
فإنَّك والكتابَ إلى عليٍّ
…
كدابِغَةٍ وقد حَلِمَ الأَديمُ
وأمَّا «حَلَم» أي رأى في نومِه فبالفتح، ومصدرُ الأولِ «الحِلْم» بالكسر قال الجَعْدي:
965 -
ولا خيرَ في حِلْمٍ إذا لم تَكُنْ له
…
بوادرُ تَحْمي صَفْوَه أن يُكَدَّرا
ومصدرُ الثاني «الحَلَمُ» بفتحِ اللامِ، ومصدرُ الثَالثِ، «الحُلُم» و «الحُلْم» بضمِّ الحاءِ مع ضمِّ اللامِ وسكونِها.
قوله تعالى: {لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ} : هذه جملةٌ من مبتدأ وخبرٍ، وعلى رأي الأخفش من بابِ الفعلِ والفاعلِ لأنه لا يَشْتَرِط الاعتماد. و «من نسائهم» في هذا الجارِّ ثمانيةُ أوجهٍ، أحدُها: أنْ يتعَلَّقَ بيُؤْلُون، قال الزمخشري:«فإنْ قلت: كيف عُدِّي بمِنْ وهو مُعَدَّى ب» على «؟ قلت: قد ضُمِّنَ في القَسَم المخصوص معنى البُعْد، فكأنه قيل: يَبْعُدُون من نسائِهم مُؤْلين أو مُقْسِمينَ» . الثاني: أنَّ «آلى» يتَعَدَّى بعلى وبمن، قاله أبو البقاء نقلاً عن غيرِه أنهُ يقال: آلى من امرأتِهِ وعلى امرأتِه. والثالث: أنَّ «مِنْ» قائمةٌ مقامَ «على» ، وهذا رأيٌ الكوفيين. والرابع: أنها قائمةٌ مقامَ «في» ، ويكونُ ثَمَّ مضافٌ محذوفٌ أي: على تَرْكِ وَطْءِ نسائِهم أو في تركِ وطءِ نسائِهم. والخامس: أنَّ «مِنْ» زائدةٌ والتقديرَ: يُؤْلُون أَنْ يَعْتَزِلوا نساءَهم. والسادسُ: أَنْ تتعلَّقَ بمحذوفِ، والتقديرُ: والذين يُؤْلُون لهم من نسائِهم تربُّص أربعةِ، فتتعلَّقَ بما يتعلق به «لهم» المحذوفُ، هكذا قَدَّره الشيخ وعَزاه للزمخشري، وفيه نظرٌ، فإنَّ الزمخشري قال:«ويجوزُ أن يُراد: لهم من نسائهم تربُّصُ، كقولك:» لي منك كذا «فقوله» لهم «لم يُرد به أن ثَمَّ شيئاً محذوفاً وهو لفظُ» لهم «إنما أرادَ أَنْ يعلِّق» مِنْ «بالاستقرار الذي تعلَّقَ به» للذين «غايةُ ما فيه أنه أتى بضمير» الذين «تبييناً للمعنى. وإلى هذا المنحى نحا أبو البقاء فإنه قال:» وقيل: الأصلُ «على» ولا يَجُوزُ أن تقومَ «
مِنْ» مقامَ «على» ، فعندَ ذلك تتعلَّقُ «مِنْ» بمعنى الاستقرار، يريدُ الاستقرارَ الذي تعلَّقَ به قولُه «للذين» ، وعلى تقدير تسليمِ أنَّ لَفظةَ «لهم» مقدرةٌ وهي مُرادةٌ فحينئذٍ إنما تكونُ بدلاً من «للذين» بإعادةِ العاملِ، وإلَاّ يبقَ قولُه «للذين يُؤْلُون» مُفْلَتاً. وبالجملةِ فتعلُّقه بالاستقرار غيرُ ظاهرٍ. وأمَّا تقديرُ الشيخِ:«والذين يُؤْلون لهم من نسائهم تربُّصُ» فليس كذلك، لأنَّ «الذين لو جاء كذلك غيرَ مجرورِ باللام سَهُل الأمرُ الذي ادَّعاه، ولكن إنما جاءَ كما تراه مجروراً باللام. ثم قال الشيخ:» وهذا كلَّه ضعيفٌ يُنَزَّه القرآنُ عنه، وإنما يتعلَّق بيُؤْلُون علَى أحدِ وجهين: إمَّا أنْ تكونَ «مِنْ» للسبب، أي يَحْلِفون بسببِ نسائِهم، وإمَّا أَنْ يُضَمَّنَ معنى الامتناع، فيتعدَّى ب «مِنْ» ، فكأنه قيل: للذين يمتنعون من نسائِهم بالإِيلاءِ، فهذان وَجْهان مع الستة المتقدمة، فتكونُ ثمانيةً، وإن اعتَبَرْتَ مطلقَ التضمينِ فتجيءُ سبعةً.
والإِيلاءُ: الحَلْف، مصدرُ آلى يُولي نحو: أَكْرم يُكرِم إكراماً، والأصل: إإلاء، فأُبْدِلت الهمزةُ الثانيةُ ياءً لسكونِها وانكسار ما قبلها نحو:«إيمان» .
ويقال تَأَلَّى وايتَلى على افْتَعل، والأصلُ: اإتَلْى، فَقُلِبَتْ الثانيةُ لِما تقدَّم.
والحَلْفَةُ: يُقال لها الأَلِيَّة والأَلُوَّة والأَلْوَةِ والإِلْوَة، وتُجْمَعُ الأَلِيَّةُ على «ألايا» كعَشِيَّة وعَشايا، ويجوزُ أن تُجْمَعَ الأَلُوَّة أيضاً على «ألايا» كرَكُوبة ورَكائب. قال كُثَيِّر عزة:
966 -
قليلُ الأَلايا حافظٌ ليمينِه
…
إذا صَدَرَتْ منه الأَلِيَّةُ بَرَّتِ
وقد تقدَّم كيف تصريفُ أَلِيَّة وأَلايا عند قولِه: {نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ} [البقرة: 58] جمع خطيئة.
والتَّرَبُّصُ: الانتظارُ، وهو مقلوبُ التصبُّر. قال:
967 -
تَرَبَّصْ بها رَيْب المنونِ لعلَّها
…
تُطَلَّقُ يوماً أو يموتُ حليلُها
وإضافةُ التربُّصِ إلى الأشهرِ فيها قولان، أحدهُما: أنَّه من بابِ إضافةِ المصدر لمفعولِه على الاتساع في الظَّرْفِ حتى صارَ مفعولاً به فأُضيفَ إليه والحالةُ هذه. والثاني: أنه أضيفَ الحَدَثُ إلى الظرفِ من غيرِ اتِّساعِ. فتكونُ الإِضافةُ بمعنى «في» وهو مذهبٌ كوفي، والفاعلُ محذوفٌ تقديرُه: تربُّصُهم أربعةُ أشهرٍ.
قوله: {فَآءُوا} ألفُ «فاء» منقلبةٌ عن ياءِ لقولِهم: فاء يفيءُ فَيْئَةً. رجَع. والفَيءُ: الظِلُّ لرجوعِه من بعد الزوال. وقال علقمة:
968 -
فقلتُ لها فِيئي فما تَسْتَفِزُّني
…
ذَواتُ العيونِ والبنانِ المُخَضَّبِ
قوله تعالى: {عَزَمُواْ الطلاق} : في نصبِ «الطلاق» وجهان، أحدُهما: أنه على إسقاطِ الخافضِ، لأنَّ «عزم» يتعدَّى ب «على» ، قال:
969 -
عَزَمْتُ على إقامةِ ذي صباحٍ
…
لأمرٍ ما يُسَوَّدُ مَنْ يسَودُ
والثاني: أن تَضَمِّن «عزم» معنى نَوَى، فينتصبَ مفعولاً به.
والعَزْم: عَقْدُ القلبِ وتصميمُه: عَزَمَ يَعْزِم عَزْماً وعُزْماً بالفتحة والضمة، وعَزِيمة وعِزاماً بالكسر. ويستعمل بمعنى القَسَمِ: عَزَمْتُ عليكَ لتَفعلَّنَّ.
والطلاقُ: إحلالُ العَقْدِ، يقال: طَلَقَتْ بفتح اللام - تَطْلُقُ فهي طالِقٌ وطالقَةٌ، قال الأعشى:
970 -
أيا جارتا بيني فإنَّكِ طالِقَهْ
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وحكى ثعلب: «طَلُقت» بالضم، وأنكره الأخفش، والطلاقُ يجوز أَنْ يكون مصدراً أو اسمَ مصدرٍ وهو التطليقُ.
قوله: {فَإِنَّ الله} ظاهرُه أنَّه جوابُ الشرطِ، وقال الشيخ:«ويَظْهَرُ أنَّه محذوفٌ، أي: فَلْيُوقِعوه. وقرأ عبد الله:» فإن فاؤوا فيهنَّ «وقرأ أبَيّ» فيها «، والضميرُ للأَشْهُرِ.
وقراءةُ الجمهورِ ظاهرُها أنَّ الفَيْئَة والطلاقَ إنما تكونُ بعد مضيِّ أربعة الأشهر، إلَاّ أنَّ الزمخشريَّ لمَّا كان يَرى بمذهبِ أبي حنيفة: وهو أنَّ الفَيْئَة في مدة أربعةِ الأشهرِ، ويؤيِّدُه القراءةُ المقتدِّمَةُ احتاج إلى تأويلِ الآيةِ بما نصُّه.» فإنْ قلت: كيف موقعُ الفاءِ إذا كانت الفيئةُ قبل انتهاءِ مدةِ التربُّص؟ قلت: موقعٌ صحيحٌ، لأنَّ قولَه:«فإنْ فاؤوا، وإنْ عَزَموا» تفصيلٌ لقولِه: «للذين يُؤْلُون مِنْ نسائِهِم، والتفصيلُ يَعْقُب المُفَصَّل، كما تقول:» أنَا نزيلُكم هذا الشهرَ فإنْ أَحْمَدْتُكم أقمتُ عندَكم إلى آخرِه، وإلَاّ لم أقُمْ إلَاّ ريثما أتحولُ «. قال الشيخ:» وليس بصحيحٍ، لأنَّ ما مثَّله ليس بنظيرِ الآيةِ، ألا ترى أنَّ المثالَ
فيه إخبارٌ عن المُفَصَّل حالُه، وهو قولُه:«أنا نزيلُكم هذا الشهر» ، وما بعد الشرطينِ مُصَرَّحٌ فيه بالجوابِ الدالِّ على اختلافِ متعلَّقِ/ فعلِ الجزاء، والآيةُ ليسَتْ كذلك، لأنَّ الذين يُؤْلُون ليس مُخْبَراً عنهم ولا مُسْنَداً إليهم حكمٌ، وإنما المحكومُ عليه تربُّصُهم، والمعنى: تربُّص المُؤْلِين أربعةُ أشهر مشروعٌ لهم بعد إيلائِهم، ثم قال: فإنْ فاؤوا وإنْ عَزَموا «فالظاهرُ أنَّهُ يَعْقُبُ تربُّصَ المدةِ المشروعةِ بأسْرِها، لأنَّ الفيئةَ تكونُ فيها، والعَزْمَ على الطلاقِ بعدَها، لأنهَّ التقييدَ المغايرَ لا يَدُلُّ عليه اللفظُ، وإنما يُطابقُ الآيةَ أَنْ تقولَ:» للضيفِ إكرامُ ثلاثةِ أيامٍ، فإنْ أقامَ فنحن كرماءُ مُؤْثِرُون وإنْ عَزَم على الرحيلِ فله أنْ يَرْحَلَ «فالمتبادَرُ إلى الذِّهْنِ أنَّ الشرطينُ مُقَدَّران بعدَ إكرامِه» .
قوله تعالى: {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ} : مبتدأٌ وخبرٌ، وهل هذه الجملةُ من بابِ الخبرِ الواقعِ موقعَ الأمرِ أي: ليترَبَّصْنَ، أو على بابها؟ قولان. وقال الكوفيون: إنَّ لَفظَها أمرٌ على تقدير لام الأمرِ، ومَنْ جَعَلَها على بابها قَدَّر: وحكمُ المطلقاتِ أَنْ يتربَّصْنَ، فَحَذَفَ «حكم» مِن الأول و «أنْ» المصدرية من الثاني، وهو بعيدٌ جداً.
و «تَرَبَّص» يتعدَّى بنفسِه لأنه بمعنى انتظَر، وهذه الآيةُ تَحتَمِلُ وجهين، أحدُهما: أن يكونَ مفعول التربص محذوفاً وهو الظاهرُ، تقديرُه: يتربَّصْنَ التزويجَ أو الأزواجَ، ويكونُ «ثلاثة قروءٍ» على هذا منصوباً على الظرفِ، لأنَّه اسمُ عددٍ مضافٍ إلى ظرفٍ، والثاني: أن يكونَ المفعولُ هو نفسَ «ثلاثةَ قروءٍ» أي ينتظرونَ مُضِيَّ ثلاثةِ قروء.
وأمَّا قولُه: {بِأَنْفُسِهِنَّ} فيحتملُ وَجْهَيْن، أحدُهما وهو الظاهرُ: أَنْ يتعلَّق ب «يتربَّصْنَ» ، ويكونُ معنى الباءِ السببيةَ أي: بسبب أنفسِهنَّ: وذِكْرُ الأنفسِ أو الضميرِ المنفصلِ في مثلِ هذا التركيب واجبٌ، ولا يجوزُ أَنْ يُؤْتى بالضميرِ
المتصلِ، لو قيل في نظيرِه:«الهنداتُ يتربَّصْنَ بهنَّ» لم يَجُزْ لئلَا يَتَعَدَّى فِعْلُ المضمرِ المنفصلِ إلى ضميرِه المتصلِ في غير الأبواب الجائز فيها ذلك.
والثاني: أن يكونَ «بأنفسِهِنَّ» تأكيداً للمضمرِ المرفوعِ المتصلِ وهو النونُ، والباءُ زائدة في التوكيد، لأنه يجوزُ زيادتُها في النفسِ والعينِ مؤكَّداً بهما. تقولُ: جاء زيدٌ نفسُه وبنفسِه وعينُه وبعينِه. وعلى هَذا فلا تتعلَّقُ بشيء لزيادتِها. لا يقالُ: لا جائزُ أن تكونَ تأكيداً للضمير؛ لأنَّه كانَ يجِبُ أن تُؤكَّدَ بضميرِ رفعٍ منفصلٍ، لأنه لا يُؤَكَّدُ الضميرُ المرفوعُ المتصلُ بالنفسِ والعينِ إلَاّ بعد تأكيدِه بالضميرِ المرفوعِ المنفصلِ فيقال: زيد جاء هو نفسُه عينُه، لأنَّ هذا المؤكَّد خَرَج عن الأصلِ، لمَّا جُرَّ بالباءِ الزائدةِ أَشْبَهَ الفَضَلات، فَخَرَج بذلك عن حكمِ التوابعِ فلم يُلْتَزَمْ فيه ما التُزِمَ في غيرِه، ويُؤيِّد ذلك قولُهم:«أَحْسِنْ بزيدٍ وأَجْمِلْ» ، أي: به، وهذا المجرورُ فاعلٌ عند البصريين، والفاعلُ عندَهم لا يُحْذَفُ، لكنه لَمَّا جَرَى مَجْرى الفَضَلاتِ بسبب جَرِّه بالحرفِ أو خَرَجَ عن أصلِ بابِ الفاعلِ، فلذلك جازَ حَذْفُه، على أنَّ أبا الحسنِ الأَخفشَ ذَكَر في «المسائل» أنهم قالوا:«قاموا أنفسُهم» من غير تأكيدٍ. وفائدةُ التوكيدِ هنا أن يباشِرْنَ التربُّصَ هُنَّ، لا أنَّ غيرَهُنَّ يباشِرْنَهُنَّ التَربُّصَ، ليكونَ ذلك أَبلغَ في المرادِ.
والقُروءُ: جَمْعُ كثرةٍ، ومِنْ ثلاثةٍ إلى عشرةُ يُمَيَّز بجموع القلةِ ولا يُعْدَلُ عن القلةِ إلى ذلك إلا عند عدم استعمالِ جمعِ قلةٍ غالباً، وههنا فلفظُ جمعِ القلةِ موجودٌ وهو «أَقْراء» ، فما الحكمةُ بالإِتيانِ بجمعِ الكثرةِ مع وجودِ جمع القلةِ؟ .
فيه أربعةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه لَمَّا جَمَع المطلقاتِ جمعَ القُروء، لأنَّ كَلَّ مطلقةً تترَّبصُ ثلاثةَ أقراءٍ فصارَتْ كثيرةً بها الاعتبارِ.
الثاني: أنه من باب الاتساعِ ووضعِ أحدِ الجمعين موضعَ الآخر. والثالث: أنَّ قروءاً جمعُ قَرْءٍ بفتحِ القافِ، فلو جاءَ على «أَقْراء» لجاءَ على غير القياسِ لأنَّ أَفْعالاً لا يطَّرِدُ في فَعْل بفتح الفاء. والرابع - وهو مذهب المبرد -: أنَّ التقديرَ «ثلاثةً من قروء» ، فَحَذَفَ «مِنْ» . وأجاز: ثلاثة حمير وثلاثةَ كلابٍ، أي: مِنْ حمير ومِنْ كلاب. وقال أبو البقاء: «وقيل: التقديرُ ثلاثة أقراء مِنْ قروء» وهذا هو مذهبُ المبرد بعيِنه، وإنما فسَّر معناه وأَوْضَحَه.
والقَرْءُ في اللغةِ قيل: أصلُه الوقتُ المعتادُ تردُّدُهُ، ومنه: قَرْءُ النجمِ لوقتِ طلوعِه وأُفولِه، يقال:«أَقْرأ النجمُ» أي: طَلَع أو أَفَل. [ومنه قيلَ لوقت] هبوبِ الريحِ: «قَرْؤُها وقارِئُها، قال الشاعر:
971 -
شَنِئْتُ العَقْر عَقْرَ بني شُلَيْلٍ
…
إذا هَبَّتْ لقارِئِها الرِّياحُ
أي: لوقتها، وقيل: أصلُه الخروجُ من طُهْرٍ إلى حَيْضٍ أو عكسُه، وقيل: هو مِنْ قولِهم: قَرَيْتُ الماءَ في الحوضِ أي: جَمَعْتُهُ، وهو غَلَطٌ لأنَّ هذا من ذواتِ الياءِ والقَرْءُ مهموزٌ.
وإذا تقرَّر ما ذَكَرْتُ لك فاعلمْ أنَّ أهلَ العلمِ اختلفوا في إطلاقِه على الحيضِ والطُّهر: هل هو من بابِ الاشتراكِ اللفظي، ويكونُ من الأضدادِ أو مِنَ الاشتراكِ المعنوي فيكونُ من المتواطِىء، كما إذا أَخَذْنا القَدْرَ المشتركَ: إمَّا الاجتماعَ وإمَّا الوقتَ وإمَّا الخروجَ ونحوَ ذلك. وقَرْءُ المرأةِ لوقتِ حَيْضِها وطُهْرِها، ويُقال فيهما: أَقْرأتْ المرأةُ أي: حاضَتْ أو طَهُرت. وقال
الأخفش: أَقْرَأَتْ أي: صارَتْ ذاتَ حيضٍ، وقَرَأَت بغير ألفٍ أي: حاضَتْ. وقيل: القَرْءُ: الحَيْضُ مع الطهرِ، وقيل: ما بَيْنَ الحَيْضَتين. وقيل: أصلُه الجمعُ، ومنه: قَرأْتُ الماءَ في الحوضِ: جَمَعْتُه، ومنه: قرأ القرآنَ: وقولُهم: ما أَقْرَأَتْ هذه الناقةُ في بطنِها سلاقِط، أي: لم تجمعْ فيه جنيناً، ومنه قولُ عمرو بن كلثوم:
972 -
ذِرَاعَيْ عَيْطَلٍ أدماءَ بِكْرٍ
…
هِجانِ اللونِ لَم تَقْرأْ جَنِينَا
وعلى هذا إذا أُريد به الحيضُ فلاجتماعِ الدمِ في الرحمِ، وإذا أُريدَ به الطُّهرُ فلاجتماع/ الدم في البدنِ، ولكنَّ القائلَ بالاشتراكِ اللفظي وجَعْلِهما من الأضدادِ هم جمهورُ أهلِ اللسانِ كأبي عمرو ويونس وأبي عبيدة.
ومن مجيء القَرْء والمرادُ به الطُّهرُ قولُ الأعشى:
973 -
أفي كلِّ عامٍ أنتَ جاشِمُ غَزْوَةٍ
…
تَشُدُّ لأقْصاها عظيمَ عَزائِكا
مُوَرِّثَةً عِزَّاً وفي الحي رفعةً
…
لِما ضاعَ فيها مِنْ قُروءِ نِسائكا
ومن مجيئِه للحيضِ قولُه:
974 -
يا رُبَّ ذي ضِغْن عليَّ فارِضِ
…
له قُروءٌ كقُروءِ الحائِضِ
أي: فسالَ دَمُه كدمِ الحائضِ. ويقال» قُرْء «بالضمِّ نقله الأصمعي، و» قَرْء «بالفتح نقله أبو زيد، وهما بمعنى واحدٍ.
وقرأ الحسن: «ثلاثَةَ قَرْوٍ» بفتحِ القافِ وسكونِ الراءِ وتخفيفِ الواوِ من غير همزٍ: ووجهُها أنه أضافَ العددَ لاسمِ الجنسِ، والقَرْو لغةً في القَرْءِ. وقرأ الزهري - ويُروى عن نافع -:«قُرُوّ» بتشديدِ الواوِ، وهي كقراءةِ الجمهورِ إلا أنه خَفَّفَ فَأَبْدَلَ الهمزةَ واواً وأَدْغَمَ فيها الواوَ قبلها.
قوله: {لَهُنَّ} متعلَّقٌ ب «يَحِلُّ، واللامُ للتبليغِ، كهي في» قُلْتُ لك «.
قوله: {مَا خَلَقَ} في» ما «وجهان، أظهرُهما: أنَّها موصولةٌ بمعنى الذي، والثاني: أنها نكرةٌ موصوفةٌ، وعلى كِلا التقديرين فالعائدُ محذوفٌ لاستكمالِ الشروطِ، والتقديرُ: ما خَلَقَه، و» ما «يجوزُ أن يُرَاد بها الجنينُ وهو في حكمِ غيرِ العاقلِ. فلذلك أُوقِعَتْ عليه» ما «وأَنْ يُرادَ بها دمُ الحيضِ.
قوله: {في أَرْحَامِهِنَّ} فيه وجهان، أحدُهما: أن يتعلَّق بخَلق. والثاني: أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من عائِد» ما «المحذوفِ، التقديرُ ما خَلَقه الله كائناً في أرحامِهِنَّ، قالوا: وهي حالٌ مقدَّرَةٌ قال أبو البقاء:» لأنَّ وقتَ خَلْقِه ليس بشيءٍ حتى يَتِمَّ خَلْقُه «. وقرأ مُبَشّر بن عُبَيْد:» في أرحامهنَّ «و» بردِّهُنَّ «بضمِّ هاءِ الكنايةِ، وقد تقدَّم أنه الأصلُ وأنه لغةُ الحجازِ، وأنَّ الكسرَ لأجلِ تجانسِ الياءِ أو الكسرةِ.
قوله: {إِن كُنَّ} هذا شرطٌ، وفي جوابه المذهبانِ المشهورانِ: إمَّا محذوفٌ، وتقديرهُ مِنْ لفظِ ما تقدَّم لتقوى الدلالةُ عليه، أي: إن كُنَّ يُؤْمِنَّ باللهِ واليومِ الآخرِ فلا يَحِلُّ لهنَّ أَنْ يكتُمْنَ، وإمَّا أنه متقدِّمٌ كما هو مذهبُ الكوفيين وأبي زيد، وقيل:» إنْ «بمعنى إذ وهو ضعيفٌ.
قوله: {وَبُعُولَتُهُنَّ} الجمهورُ على رفعِ تاءِ بعولتهن، وسَكَّنها مسلمة بن محارب، وذلك لتوالي الحركاتِ فَخُفِّف، ونظيرُه قراءةُ:{وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف: 30] بسكونِ اللامِ حكاها أبو زيد، وحكى أبو عمروٍ أنَّ لغةَ تميم تسكينُ المرفوعِ من» يُعَلِّمُهم «ونحوه، وقيل: أجرى ذلك مُجْرى عَضُد وعَجُز، تشبيهاً للمنفصِل بالمتصلِ. وقد تقدَّم ذلك بأشبع مِنْ هذا.
و» أَحَقُّ «خبرٌ عن» بُعُولتهنّ «وهو بمعنى حقيقُون، إذ لا معنى للتفضيلِ هنا، فإنَّ غيرَ الأزواجِ لا حقَّ لهنَّ فيهن البتة، ولا حقَّ أيضاً للنساء في ذلك، حتى لو أَبَتْ هي الرَّجْعَةَ لم يُعْتَدَّ بذلك فلذلك قلت: إنَّ» أحقُّ «هنا لا تفضيلَ فيه.
والبعولةُ: جَمْعُ» بَعْلٍ «وهو زوجُ المرأةِ. . .، قالوا: وسُمِّي بذلك. . . المستعلي على. . . ولِما علا من الأرض. . . فَشَرِبَ بعروقِه، بَعْلٌ، ويقال: بَعَلَ الرجلُ يَبْعَل كمَنَعَ يَمْنَعُ. والتاء في بعولة لتأنيثِ الجمعِ نحو فُحولة وذُكورة، ولا يَنْقاس هذا لو قلت: كَعْب وكُعوبة لم يَجُزْ.
والبُعولة أيضاً مصدرُ بَعَل الرجلُ بُعولةً وبِعالاً، وامرأةٌ حسنةُ التَّبَعُّلِ، وباعَلَها كنايةُ عن الجِماع.
قوله: {بِرَدِّهِنَّ} متعلِّقٌ بأحقّ. وأمَّا «في ذلك» ففيه وجهان، أحدُهما: أنه متعلقٌ أيضاً بأحقّ، ويكونُ المشارُ إليه بذلك على هذا العِدَّةَ، أي تستحق
رَجْعَتَهَا ما دامَتْ في العِدَّة، وليس المعنى أنه أحقُّ أن يَرُدَّها في العِدَّة، وإنما يَرُدُّها في النكاح أو إلى النكاحِ. والثاني: أن تتعلَّقَ بالردِّ ويكونُ المشارُ إليه بذلك على هذا النكاحَ، قاله أبو البقاء.
والضميرُ في «بُعولَتِهِنّ» عائدٌ على بعضِ المطلقات وهنَّ الرَّجْعِيَّات خاصةً. وقال الشيخ: «والأَولى عندي أن يكونَ على حَذْفِ مضافٍ دَلَّ عليه الحكمُ، أي: وبعولةُ رجعياتِهِنَّ» فعلى ما قاله الشيخُ يعودُ الضميرُ على جميعِ المطلقاتِ.
قوله: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الذي عَلَيْهِنَّ} خبرٌ مقدَّمٌ فهو متعلق بمحذوف، وعلى مذهبِ الأخفش من باب الفعلِ والفاعلِ. وهذا من بديعِ الكلامِ، وذلك أنه قد حِذِف من أوَّله شيءٌ أُثبت في آخره نظيرُه، وحُذِفَ من آخره شيءٌ أُثبتَ نظيرُه في الأولِ، وأصلُ التركيبِ. ولهنَّ على أزواجِهنَّ مِثْلُ الذي لأزواجِهِنَّ عليهنَّ، فَحُذِف «على أزواجهن» لإِثباتِ نظيرِه وهو «عليهنَّ» ، وحُذِفَتْ «لأزواجِهنَّ» لإِثباتِ نظيرِه وهو «لَهُنَّ» .
قوله: {بالمعروف} فيها وجهان، أحدُهما: أن يتعلَّقَ بما تعلَّقَ به «لَهُنَّ» من الاستقرار أي: استقرَّ لهن بالمعروفِ. والثاني: أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ لمثل، لأنَّ «مثل» لا يتعرَّفُ بالإِضافةِ، فعلى الأول هو في محلِّ نصبٍ، وعلى الثاني هو في محلِّ رفعٍ.
قوله: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} فيه وجهان، أظهرُهما: أنَّ «للرجال» خبرٌ
مقدَّمٌ و «درجةٌ» مبتدأٌ مؤخرٌ، و «عليهنَّ» فيه وجهان على هذا التقديرِ: إمَّا التعلُّقُ بما تعلَّقَ به «للرجالِ» ، وإمَّا التعلقُ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من «درجة» مقدَّماً عليها لأنه كان صفةً في الأصلِ فلمَّا قُدِّم انتصبَ حالاً. والثاني: أن يكونَ «عليهنّ» هو الخبرَ، و «للرجالِ» حالٌ من «درجة» لأنه يجوزُ أن يكونَ صفةً لها في الأصل، ولكنَّ هذا ضعيفٌ من حيث إنه يَلْزَمُ تقديمُ الحالِ على عامِلها/ المعنوي لأنَّ «عليهنَّ» حينئذٍ هو العاملُ فيها لوقوعه خبراً. على أنَّ بعضَهم قال: متى كانتِ الحالُ نفسُها ظرفاً أو جاراً ومجروراً قوي تقديمُها على عاملها المعنويّ، وهذا مِنْ ذاك، هذا معنى قول أبي البقاء. وقد رَدَّه الشيخُ بأنَّ هذه الحالَ قد تَقَدَّمَتْ على جُزْأَي الجملةِ فهي نظيرُ:«قائماً في الدارِ زيدٌ» ، قال:«وهذا ممنوعٌ لا ضعيفٌ، كما زعم بعضُهم، وجَعَلَ محلَّ الخلافِ فيما إذا لم تتقدَّم الحالُ - العاملُ فيها المعنى - على جُزْأَي الجملةِ، بل تتوسَّطُ نحو:» زيدٌ قائماً في الدار «، قال:» فأبو الحسن يُجيزها وغيرُه يَمْنَعُها «.
قوله تعالى: {الطلاق مَرَّتَانِ} : مبتدأٌ وخبرٌ، والطلاقُ يجوزُ أَنْ يكونَ مصدرَ طَلَقَتْ المرأةُ طَلاقاً، وأن يكونَ اسمَ مصدر وهو التطليق كالسلام بمعنى التسليم. ولا بد من حذف مضافٍ قبل المبتدأ ليكونَ المبتدأُ عين الخبرِ، والتقديرُ: عددُ الطلاقِ المشروعِ فيه الرَّجْعَةُ مرتان.
والتثنية في «مرَّتان» حقيقةٌ يُراد بها شَفْع الواحد. وقال الزمخشري: «إنها من باب التثنية التي يُراد بها التكرير، وجعلها مثل: لَبَيَّك وسَعْديك
وَهَذَاذَيك» . وردَّ عليه الشيخ ذلك «بأنه مناقضٌ في الظاهر لما قاله أولاً وبأنه مخالفٌ للحكم في نفس الأمر، أمّا المناقضةُ فإنه قال: الطلاقُ مرتان، أي: الطلاقُ الشرعي تطليقةٌ بعد تطليقةٍ على التفريق دونَ الإِرسال دفعةً واحدةً، فقولُه هذا ظاهرٌ في التثنية الحقيقية. وأمَّا المخالفة فلأنه لا يُراد أن الطلاقَ المشروعَ يقع ثلاثَ مراتٍ فأكثر، بل مرتين فقط، ويَدُلُّ عليه قولُه بعدَ ذلك:» فإمساكُ «أي بالرَّجْعَةِ من الطَّلْقَة الثانية،» أو تسريحٌ «أي: بالطلقة الثالثة، ولذلك جاء بعده» فإن طلَّقها «. انتهى ما ردَّ به عليه، والزمخشري إنما قال ذلك لأجلِ معنى ذكره، فيُنْظَرُ كلامُه في» الكشاف «، فإنه صحيحٌ.
والألفُ وللام في» الطلاق «قيل: هي للعهدِ المدلولِ عليه بقوله: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} وقيل: هي للاستغراق، وهذا على قولنا: إن هذه الجملة مقتطعة مِمَّا قبلَها ولا تَعَلُّقَ لها بها.
قوله: {فَإِمْسَاكٌ} في الفاء وجهان، أحدُهما: أنها للتعقيبِ، أي: بعد أن عرَّفَ حكم الطلاقِ الشرعي أنه مرتان، فيترتب عليه أحدُ هذين الشيئين. والثاني: أن تكونَ جوابَ شرطٍ مقدرٍ تقديرُه: فإنْ أوقعَ الطَّلْقَتَيْنِ ورَدَّ الزوجةَ فإمساكُ.
وارتفاعُ» إمساك «على أحدِ ثلاثةِ أوجهٍ: إمَّا مبتدأ وخبرُه محذوفٌ متقدماً، تقديرُه [عند] بعضِهم: فعليكم إمساكُ، وقَدَّره ابنُ عطية متأخراً، تقديرُه: فإمساكٌ أمثلُ أو أحسنُ. والثاني: أن يكونَ خبرَ مبتدأٍ محذوفٍ، أي: فالواجبُ إمساكُ. والثالث: أن يكونَ فاعلَ فعلٍ محذوفٍ أي: فليكن إمساكٌ بمعروف.
قوله: {بِمَعْرُوفٍ} و» بإحسان «في هذه الباءِ قولان، أحدُهما: أنها متعلقةٌ بنفسِ المصدرِ الذي يليه. ويكونُ معناها الإِلصاق. والثاني: أن تتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنها صفةٌ لما قبلها، فتكونَ في محلِّ رفعٍ أي: فإمساكٌ كائنٌ بمعروفٍ أو تسريحٌ كائنٌ بإحسان.
والتسريحُ: الإِرسالُ والإِطلاقُ، ومنه قيل للماشيةِ: سَرْح، وناقة سُرُح، أي: سَهْلَةُ السير لاسترسالها فيه. قالوا: ويجوزُ في العربيةِ نَصْبُ» فإمساكُ «و» تسريحٌ «على المصدرِ، أي: فأمسكوهُنَّ إمساكاً بمعروفٍ أو سَرِّحُوهُنَّ تسريحاً بإحسان، إلا أنه لم يَقْرأ به أحدٌ.
قوله: {أَن تَأْخُذُواْ} أَنْ وما في حَيِّزها في محلِّ رفعٍ على أنه فاعلٌ يَحِلُّ، أي: ولا يَحِلُّ لكم أخْذُ شيءٍ مِمَّا آتيتموهنَّ.
و «مِمَّا» فيه وجهان، أحدُهما: أن يتعلَّقَ بنفسِ «تأخذوا» ، و «مِنْ» على هذا لابتداءِ الغايةِ. والثاني: أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من «شيئاً» قُدِّمتَ عليه، لأنها لو تأَخَّرَتْ عنه لكانَتْ وصفاً. و «مِنْ» على هذا للتبعيضِ. و «ما» موصولةٌ، والعائدُ محذوفٌ، تقديرُه: من الذي آتيتموهُنَّ إياه. وقد تقدَّم الإِشكالُ والجوابُ في حَذْفِ العائدِ المنصوبِ المنفصلِ عند قوله تعالى {وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [يس: 54] . وهذا مثلُه فَلْيُلْتفتْ إليه.
و «آتى» يتعدَّى لاثنين أولُهما «هُنَّ» والثاني هو العائدُ المحذوفُ. و «شيئاً» مفعولٌ به ناصبُه «تأخذوا» . ويجوزُ أن يكونَ مصدراً أي: شيئاً من الأخْذِ. والوجهانِ منقولانِ في قوله: {لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً} [البقرة: 3] قوله: {إِلَاّ أَن يَخَافَآ} هذا استثناءٌ مفرغٌ، وفي «أَنْ يخافا» وجهان، أحدُهما: أنه في محلِّ نصبٍ على أنه مفعولٌ من أجلِه، فيكونُ مسثتنىً من
ذلك العامِّ المحذوفِ، والتقديرُ: ولا يَحِلُّ لكم أن تأخُذوا بسبب من الأسباب إلا بسببِ خوفِ عدم إقامة حدودِ الله، وحُذِفَ حرفُ العلةِ لاستكمالِ شروطِ النصب، لا سيما مع «أَنْ» ، ولا يجيء هنا خلافُ الخليل وسيوبه: أهي في موضعِ نصبٍ أو جرّ بعد حَذْفِ اللامِ، بل هي في محلِّ نصبٍ فقط، لأنَّ هذا المصدرَ لو صُرِّح به لنُصِبَ وهذا قد نصَّ عليه النحويون، أعني كونَ أَنْ وما بعدها في محلِّ نصبٍ بلا خلافٍ إذا وقعَتْ موقعَ المفعولِ له.
والثاني: أنه في محلِّ نصبٍ على الحالِ فيكونُ مستثنىً من العامِّ أيضاً تقديرُه: ولا يحِلُّ لكم في كلَّ حالٍ من الأحوالِ إلا في حالِ خوفِ ألَاّ يقيما/ حدودَ الله. قال أبو البقاء: والتقديرُ: إلَاّ خائفين، وفيه حَذْفُ مضافٍ تقديرُه: ولا يَحِلُّ أَنْ تأخذوا على كلِّ حال أو في كلِّ حالٍ إلا في حالِ الخوفِ. والوجهُ الأولُ أحسنُ وذلك أنَّ «أَنْ» وما في حَيِّزها مؤولةٌ بمصدرٍ، وذلك المصدرُ واقعٌ موقع اسمِ الفاعلِ المنصوبِ على الحال، والمصدرُ لا يطَّرِدُ وقوعُه حالاً فكيف بما هو في تأويله!! وأيضاً فقد نَصَّ سيبويه على أنَّ «أَنْ» المصدرية لا تقع موقعَ الحالِ.
والألفُ في قوله «يخافا» و «يُقيما» عائدةٌ على صنفي الزوجين. وهذا الكلامُ فيه التفاتٌ، إذ لو جَرَى على نَسَقِ الكلامِ لقيل: «ألَاّ أَنْ تَخافوا ألَاّ تقيموا بتاءِ الخطابِ للجماعةِ، وقد قَرأَها كذلك عبد الله، ورُوي عنه أيضاً بياءِ الغَيْبة وهو التفاتٌ إيضاً.
والقراءةُ في» يخافا «بفتحِ الياءِ واضحةٌ، وقرأها حمزة بضمِّها على البناء للمفعول. وقد استشكلها جماعة وطعن فيها آخرون لعدم معرفتهم بلسان العرب.
وقد ذكروا فيها توجيهاتٍ كثيرةً. أحسنُها أَنْ يكونَ «أَنْ يقيما» بدلاً من الضميرِ في «يخافا» لأنه يَحُلُّ مَحَلَّه، تقديرُه: إلا أَنْ يُخاف عدمُ إقامتهما حدودَ الله، وهذا من بدلِ الاشتمال كقولك:«الزيدان أعجباني عِلْمُهما» ، وكان الأصلُ: إلا أن يخاف الولاةُ الزوجين ألَاّ يقيما حدودَ الله، فَحُذِفَ الفاعلُ الذي هو «الوُلاةُ» للدلالة عليه، وقامَ ضميرُ الزوجين مقامَ الفاعلِ، وبقيتْ «أَنْ» وما بعدها في محلِّ رفعٍ بدلاً كما تقدَّم تقديرُه.
وقد خَرَّجه ابن عطية على أنَّ «خاف» يتعدَّى إلى مفعولين كاستغفر، يعني إلى أحدِهما بنفسِه وإلى الآخرِ بحرفِ الجَرِّ، وجَعَلَ الألِفَ هي المفعولَ الأولَ قامَتْ مقامَ الفاعلِ، وأَنْ وما في حَيِّزها هي الثاني، وجَعَل «أَنْ» في محلِّ جرٍ عند سيبويه والكسائي. وقد رَدَّ عليه الشيخ هذا التخريج بأنَّ «خافَ» لا يتعدَّى لاثنين، ولم يَعُدَّه النحويون حين عَدُّوا ما يَتَعدَّى لاثنين، ولأنَّ المنصوبَ الثاني بعده في قولك:«خِفْتُ زيداً ضَرْبَه» ، إنما هو بدلٌ لا مفعولٌ به، فليس هو كالثاني في «استغفرت الله ذنباً» ، وبأن نسبة كَوْن «أَنْ» في محلِّ جر عند سيبويه ليس بصحيح، بل مذهبُه أنها في محلِّ نصب وتبعه الفراء، ومذهبُ الخليل أنها في محلِّ جر، وتَبِعه الكسائي. وهذا قد تقدَّم غيرَ مرةٍ.
وقال غيرُه كقولِه، إلَاّ أنَّه قَدَّر حرفَ الجرِّ «على» والتقدير: إلَاّ أن يَخاف الولاةُ الزوجين على ألاّ يقيما، فبُني للمفعولِ، فقام ضميرُ الزوجينِ مَقامَ الفاعلِ، وحُذِفَ حرفُ الجر مِنْ «أَنْ» ، فجاء فيه الخلافُ المتقدمُ بين سيبويه والخليلِ.
وهذا الذي قاله ابنُ عطيةُ سَبَقَه إليه أبو علي، إلَاّ أنه لم يُنْظِّرْه ب «استغفر» .
وقد استشكل هذا القراءةَ قومٌ وطَعَنَ عليها آخرون، لا علمَ لهم بذلك، فقال النحاس:«لا أعلمُ في اختيارِ حمزة أبعدَ من هذا الحرفِ، لأنه لا يُوجِبه الإِعرابُ ولا اللفظُ ولا المعنى: أمّا الإِعرابُ فلأنَّ ابنَ مسعود قرأ {إلَاّ أَنْ تخافوا ألَاّ يقيموا} فهذا إذا رُدَّ في العربيةِ لما لم يُسَمَّ فاعلُه كان ينبغي أَنْ يُقال: {إلَاّ أَنْ يُخاف} . وأمَّا اللفظُ: فإنْ كان على لفظِ» يُخافا «وَجَبَ أَنْ يقال: فإن خيف، وإن كان على لفظ» خِفْتُم «وَجَب أن يقال: إلَاّ أَنْ تَخافوا. وأمَّا المعنى: فَأَسْتبعدُ أن يُقالَ:» ولا يَحِلُّ لكم أن تأخذوا مِمَّا آتيتموهُنَّ شيئاً إلا أن يَخاف غيرُكم، ولم يَقُلْ تعالى: ولا جُنَاح عليكم أن تَأْخُذوا له منها فديةً، فيكون الخَلْعُ إلى السلطان والفَرْضُ أنَّ الخَلْعَ لا يحتاج إلى السلطانِ «.
وقد رَدَّ الناسُ على النحاس: أمَّا ما ذكره من حيث الإِعرابُ فلا يَلْزَمُ حمزةَ ما قرأ به عبد الله. وأمَّا مِنْ حيثُ اللفظُ فإنه من باب الالتفاتِ كما قَدَّمْتُه
أولاً، ويَلْزَمُ النحاسَ أنه كان ينبغي على قراءةِ غيرِ حمزةَ أن يَقْرأ:«فإنْ خافا» ، وإنَّما هو في القراءتين من الالتفاتِ المستحسنِ في العربيةِ. وأمَّا من حيثُ المعنى فلأنَّ الولاةَ هم الأًصلُ في رفعِ التظالمِ بين الناس وهم الآمرون بالأخْذِ والإِيتاء.
ووجَّه الفراء قراءةَ حمزةَ بأنه اعتبرَ قراءةَ عبدِ الله {إلا أن تَخافوا} وخَطَّأَهُ الفارسي وقال: «لم يُصِبْ، لأنَّ الخوفَ في قراءةِ عبدِ الله واقعٌ على» أَنْ «، وفي قراءة حمزةَ واقعٌ على الرجلِ والمرأةِ» . وهذا الذي خَطَّأَ به القرَّاء ليس بشيءٍ، لأنَّ معنى قراءةِ عبدِ الله: إلَاّ أَنْ تخافُوهُمَا، أي الأولياءُ الزوجين ألَاّ يُقيما، فالخوفُ واقعٌ على «أَنْ» وكذلك هي في قراءةِ حمزةَ: الخوفُ واقعٌ عليها أيضاً بأحدِ الطريقينِ المتقدِّمَيْنِ: إمَّا على كونِها بدلاً من ضميرِ الزوجينِ كما تقدَّم تقريرُه، وإمَّا على حَذْفِ حرفِ الجَرِّ وهو «على» .
والخوفُ هنا فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه على بابِه من الحَذَرِ والخَشْيَةِ، فتكونُ «أَنْ» في قراءةِ غير حمزةَ في محلِّ جَرٍّ أو نصبٍ على حَسَبِ الخلافِ فيها بعدَ حذفِ حرفِ الجرِّ، إذ الأصلُ، مِنْ أَلَاّ يُقيما، أو في محلِّ نصبٍ فقط على تعديةِ الفعلِ إليها بنفسِهِ كأنه قيل: إلَاّ أَنْ يَحْذَرَا عدَمَ إقامةِ حدودِ اللَّهِ. والثاني: أنه بمعنى العلمِ وهو قَوْلُ أبي عبيدة، وأنشد:
975 -
فقلتُ لهم خافُوا بألفَيْ مُدَجَّجٍ
…
سَراتُهُمُ في الفارسِيِّ المُسَرَّدِ
ومنه أيضاً:
976 -
ولا تَدْفِنَنِّي في الفَلاةِ فإنَّني
…
أخافُ إذا ما مِتُّ أَلَاّ أَذُوقُها/
ولذلك رُفِعَ الفعلُ بعدَ أَنْ، وهذا لا يَصِحُّ في الآيةِ لظهورِ النصبِ. وأمَّا البيتُ فالمشهورُ في روايتِهِ «فقلت لهم ظُنُّوا بألفَيْ» . والثالث: الظنَّ، قاله الفراء، ويؤيِّده قراءةُ أُبَيّ:{إلَاّ أنْ يَظُنَّا} وأنشد:
977 -
أتاني كلامٌ مِنْ نُصَيْبٍ يقولُه
…
وما خِفْتُ يا سَلَاّمُ أنَّكَ عائِبي
وعلى هذينِ الوجهينِ فتكونُ «أَنْ» وما في حَيِّزها سادةً مَسَدَّ المفعولَيْنِ عند سيبويه ومسدَّ الأول والثاني محذوف عند الأخفش كما تقدَّم تقريرُه غيرَ مرة، والأولُ هو الصحيحُ، وذلك أَنَّ «خافَ» مِنْ أفعالِ التوقع، وقد يميل فيه الظنُّ إلى أحدِ الجائِزَيْنِ، ولذلك قال الراغب:«الخوفُ يُقال لِما فيه رجاءٌ ما، ولذلك لا يُقال: خِفْتُ أَلَاّ أقدر على طلوعِ السماءِ أو نَسْفِ الجبالِ» .
وأصلُ يُقيما: يُقْوِما، فَنُقِلَتْ كسرةُ الواوِ إلى الساكنِ قبلَها، ثم قُلِبَتْ الواوُ ياءً لسكونِها بعد كسرةٍ، وقد تقدَّم تقريرُه في قولِهِ:{الصراط المستقيم} [الفاتحة: 5] وزعم بعضُهم أنَّ قوله: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ} معترضٌ بين قولِهِ: {الطلاق مَرَّتَانِ} وبين قولِهِ: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ} وفيه بُعْدٌ.
قوله: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} «لا» واسمُها وخبرُها، وقولُه:{فِيمَا افتدت بِهِ} متعلِّقٌ بالاستقرار الذي تضمَّنَهُ الخبرُ وهو: «عَلَيْهِما» . ولا جائزٌ أن يكونَ «
عليهما» متعلقاً «ب» جُنَاح «، و» فيما افتَدَتْ «الخبرَ، لأنه حينئذٍ يكونُ مُطَوَّلاً والمُطَوَّلُ مُعْرَبٌ، وهذا - كما رأيتَ - مبنيٌّ.
والضميرُ في» عليهِما «عائدٌ على الزوجينِ، أي لا جُنَاحَ على الزوجِ فيما أَخَذَ، ولا على المرأةِ فيما أَعْطَتْ. وقال الفراء:» إنَّما يعودُ على الزوجِ فقط، وإنما أعادَهُ مُثَنَّى والمرادُ واحِدٌ كقولِهِ تعالى:{يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ} [الرحمن: 22]{نَسِيَا حُوتَهُمَا} [الكهف: 61] وقولُه:
978 -
فإنْ تَزْجُرَاني يا بنَ عَفَّانَ أَنْزَجِرْ
…
وإنْ تَدَعاني أَحْمِ عِرْضاً مُمَنَّعَا
وإنما يخرجُ من الملحِ، والناسي يُوشَعُ وحدَه، والمنادى واحدٌ في قوله:«يابنَ عفان» . و «ما» بمعنى الذي أو نكرةٌ موصوفة، ولا جائزٌ أن تكونَ مصدريةً لعَوْدِ الضميرِ مِنْ «به» عليها، إلا على رَأْيِ مَنْ يجعلُ المصدريةَ اسماً كالأخفشِ وابنِ السراج و [مَنْ] تابَعهما.
قوله: {تِلْكَ حُدُودُ الله} مبتدأٌ وخبرٌ، والمشارُ إليه جميعُ الآياتِ من قولِهِ:{وَلَا تَنْكِحُواْ المشركات} إلى هنا.
وقوله: {فَلَا تَعْتَدُوهَا} أصلُه: تَعْتَدِيُوهَا، فاسْتُثْقِلَتِ الضمَّةُ على الياءِ؛ فَحُذِفَتْ فَسَكَنَتِ الياءُ وبعدَها واوُ الضمير ساكنةٌ، فَحُذِفَت الياءُ لالتقاءِ الساكنينِ، وضُمَّ ما قبلَ الواوِ لتصِحَّ، ووزنُ الكَلِمَةِ: تَفْتَعُوها.
قوله: {وَمَن يَتَعَدَّ} «مَنْ» شرطيةٌ في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ، وفي خبرِها الخلافُ المتقدِّمُ.
وقوله: {فأولئك} جوابُها. ولا جائزٌ أَنْ تَكونَ موصولةً، والفاءُ زائدةً في الخبرِ لظهورِ عملِها الجزمَ فيما بعدَها. و «هم» من قوله:«فأولئك هم» يحتمل ثلاثةَ أوجهٍ، أحدُها: أن يكونَ فصلاً. والثاني: أن يكونَ بدلاً و «الظالمون» على هذين خبرُ «أولئك» والإِخبارُ بمفردٍ. والثالث: أن يكونَ مبتدأً ثانياً، و «الظالمونَ» خبرَه، والجملةُ خبرَ «أولئك» ، والإِخبارُ على هذا بجملةٍ ولا يَخْفى ما في هذه الجملةِ من التأكيدِ من حيثُ الإِتيانُ باسمِ الإِشارةِ للبعيدِ وتوسُّطُ الفصل والتعريفُ باللامِ في «الظالمون» أي: المبالغون في الظلم. وَحَمَل أولاً على لفظِ «مَنْ» فَأَفْرَد في قولِهِ «يَتَعَدَّ» ، وعلى معناها ثانياً فَجَمَعَ في قولِهِ:{فأولئك هُمُ الظالمون} .
قولُه تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} : أي: مِنْ بعدِ الطلاقِ الثالثِ، فلمَّا قُطِعَتْ «بعدُ» عن الإِضافةِ بُنِيَتْ على الضَّمِّ لِما تَقَدَّم تقريُرُه. و «له» و «مِنْ بعد» و «حتى» ثلاثتُها متعلقةٌ ب «يَحِلُّ» . ومعنى «مِنْ» ابتداءُ الغايةِ واللامُ للتبليغِ، وحتى للتعليل، كذا قال الشيخ، والظاهرُ أنها للغايةِ، لأنَّ المعنى على ذلك، أي: يمتدُّ عدمُ التحليلِ له إلى أَنْ تنكَحَ زوجاً غيرَه، فإذا طَلَّقها وانقَضَتْ عِدَّتُها منه حَلَّت للأولِ المُطَلِّقِ ثلاثاً، ويَدُلُّ على هذا الحذفِ فحوى الكلامِ.
و «غيرَه» صفةٌ ل «زوجاً» ، وإن كان نكرةً، لأنَّ «غير» وأخواتِها لا تتعرَّفُ بالإِضافة لكونِها في قوةِ اسمِ الفاعلِ العاملِ. و «زوجاً» هل هو للتقييد
أو للتوطِئَةِ؟ وينبني على ذلكَ فائدةٌ، وهي أنه إنْ كان للتقييدِ: فلو كانت المرأةُ أَمَةً وطَلَّقها زوجُها ثلاثاً ووطئِها سَيِّدُها لم تَحِلُّ للأولِ لأنه ليس بزوجٍ، وإن كانت للتوطئةِ حَلَّتْ، لأنَّ ذِكْرَ الزوج كالمُلْغَى، كأنه قيل: حتى تنكِحَ غيره، وإنما أتى بلفظ «زَوْج» لأنه الغالبُ.
قوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} الضميرُ المرفوعُ عائدٌ على «زوجاً» النكرةِ، أي: فإنْ طَلَّقها ذلك الزوجُ الثاني، وأتى بلفظِ «إنْ» الشرطية دونَ «إذا» تنبيهاً أنَّ طلاقَه يجبُ أن يكونَ باختياره من غيرِ أَنْ يُشترط عليه ذلك، لأنَّ «إذا» للمحققِ وقوعُه و «إنْ للمبهم وقوعُه أو المتحقَّقِ وقوعُه، المبهمِ زمانُ وقوعِه، نحو قولِهِ تعالى: {أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ الخالدون} [الأنبياء: 34] قوله: {عَلَيْهِمَآ} الضميرُ في» عليهما «يجوزُ أن يعودَ على المرأةِ والزوجِ الأولِ المُطَلِّقِ ثلاثاً، أي: فإنْ طَلَّقَها الثاني وانقَضَتْ عِدَّتُها منه فلا جُنَاحَ على الزوجِ المُطَلِّقِ ثلاثاً ولا عليها أن يتراجَعَا. ويجوزُ أن يعودَ عليها وعلى الزوجِ الثاني، أي: فلا جُنَاحَ على المرأةِ ولا على الزوجِ الثاني أَنْ يتراجَعَا ما دامَتْ عِدَّتُها باقيةً، وعلى هذا فلا يُحْتَاجُ إلى حَذْفِ تلك الجملةِ المقدَّرَةِ وهي» وانقَضَتْ عِدَّتُها «وتكون الآيةُ قد أفادَتْ حكمينِ، أحدُهما: أَنها لا تَحِلُّ للأول إلَاّ بعدَ أن تتزوجَ بغيرِهِ، والثاني: أنه يجوزُ أَنْ يراجِعَها الثاني ما دامَتْ عِدَّتُها منه باقيةً، ويكونُ ذلك دفعاً لوَهْمِ مَنْ يَتَوَهَّمُ أنها إذا نَكَحَتْ غيرَ الأولِ حَلَّت للأولِ فقط ولم يكُنْ للثاني عليها رَجْعَةٌ.
قوله: {أَن يَتَرَاجَعَآ} أي: في أَنْ، ففي محلِّها القولانِ المشهوران، و» عليهما «خبرُ» لا «، و» في أن «متعلِّقٌ بالاستقرارِ، وقد تقدَّم أنه لا يجوزُ أن يكونَ» عليهما «متعلقاً» ب «جُنَاح، والجارُّ الخبرُ، لما يَلْزَمُ من تنوينِ اسمِ» لا «، لأنه حينئذٍ يكونُ مُطَوَّلاً.
قولُهُ: «إنْ ظَنَّا» شرطٌ جوابُهُ محذوفٌ عند سيبويهِ لدلالةِ ما قبلَه عليه، ومتقدِّمٌ عند الكوفيين وأبي زيد. والظَّنُّ هنا على بابِهِ من ترجيحِ أحدِ الجانبين، وهو مُقَوٍّ أن الخوفَ المتقدِّمَ بمعنى الظَّنِّ. وزعم أبو عبيدة وغيرُهُ أنه بمعنى اليقين، وضَعَّفَ هذا القولَ الزمخشري لوجهين، أحدُهما من جهةِ اللفظِ وهو أَنَّ «أَنْ» الناصبة لا يعمل فيها يقينٌ، وإنما ذلك للمشدَّدة والمخففةِ منها، لا تقول: عَلِمْتُ أَنْ يقومَ زيدٌ/، إنما تقولُ: عَلِمْتُ أن يقومَ زيدٌ. والثاني من جهةِ المعنى: فإنَّ الإِنسانَ لا يتيقَّنُ ما في الغدِ وإنما يَظُنُّه ظناً.
قال الشيخ: «أمَّا ما ذكرَهُ من أنه لا يقال:» علمت أن يقومَ زيد «فقد ذكره غيرُه مثل الفارسي وغيره، إلا أن سيبويه أجاز:» ما علْمتُ إلا أن يقومَ زيدٌ «فظاهرُ هذا الردُّ على الفارسي. قال بعضُهم: الجمعُ بينهما أنَّ» عَلِمَ «قد يُرَادُ بها الظَّنُّ القويُّ كقوله: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} [الممتحنة: 10] وقوله:
979 -
وأعلمُ علمَ حقٍ غيرِ ظنٍّ
…
وتَقْوى اللَّهِ من خير العتادِ
فقوله:» علمَ حق «يُفْهَمُ منه أنه قد يكونُ علمَ غيرِ حق، وكذا قولُه:» غيرِ ظَنٍّ «يُفْهَمُ [منه] أنه قد يكونُ عِلْمٌ بمعنى الظن. ومِمَّا يدلُّ على أنَّ» عَلِمَ «التي بمعنى» ظَنَّ «تعملُ في» أَنْ «الناصبةِ قولُ جرير:
980 -
نرضَى عن الناسِ إنَّ الناسَ قد علموا
…
أنْ لا يدانَينا مِنْ خَلْقِهِ أَحَدُ
ثم قال الشيخ:» وَثَبَت بقولِ جرير وتجويز سيبويهِ أنَّ «عَلِمَ» تعملُ «أَنْ» الناصبةِ، فليسَ بوهمٍ من طريقِ اللفظِ كما ذكره الزمخشري. وأَمَّا قولُهُ:«لأنَّ الإِنسانَ لا يعلمُ ما في الغدِ» فليسَ كما ذَكَرَ، بل الإِنسانُ يعلمُ أشياءَ كثيرةً واقعةً في الغدِ وَيَجْزِمُ بها «وهذا الرَّدُّ من الشيخِ عجيبٌ جداً، كيف يُقال في الآية: إنَّ الظن بمعنَى اليقين، ثم يَجْعَل اليقينَ بمعنى الظن المسوغِ لعمِلِهِ في» أَنْ «الناصبةِ. وقولُهُ» لأنَّ الإِنسانَ قد يَجْزِمُ بأشياءَ في الغد «مُسَلَّمٌ، لكنْ ليس هذا منها.
وقوله: {أَن يُقِيمَا} إمَّا سادٌّ مسدَّ المفعولَيْن، أو الأولِ والثاني محذوفٌ، على حَسَبِ المذهبين المتقدمين.
قوله: {يُبَيِّنُهَا} في هذه الجملةِ وجهان، أحدُهما: أنها في محلِّ رفعٍ خبراً بعد خبرٍ، عند مَنْ يرى ذلك. والثاني: أنها في محلِّ نصبٍ على الحال، وصاحبُها» حدودُ الله «والعاملُ فيها اسمُ الإِشارة وقُرِىءَ:» نبيِّنها «بالنون، ويُروى عن عاصم، على الالتفاتِ من الغَيْبَةِ إلى التكلم للتعظيم. و» لقومٍ «متعلقٌ به. و» يعلمون «في محلِّ خفضٍ صفةً لقومٍ. وخَصَّ العلماءَ بالذكرَ لأنهم هم المنتفعون بالبيانِ دونَ غيرهم.
قولُه تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ} : شرطٌ جوابُهُ «فَأَمْسِكُوهُنَّ» ، وقوله:«فبَلَغْنَ» عطفٌ على فعلِ الشرط. والبلوغُ: الوصولُ إلى الشيء: بَلَغَهُ يبلُغه بُلوغاً، قال امرؤ القيس:
981 -
ومَجْرٍ كَغُلَاّنِ الأُنَيْعِمِ بالِغٍ
…
ديارَ العدوِّ ذي زُهاءٍ وَأَرْكَانِ
ومنه: البُلْغَةُ والبَلاغُ اسمٌ لِما يُتَبَلَّغُ به.
قوله: {بِمَعْرُوفٍ} في محلِّ نصبٍ على الحال، وصاحبُها: إمَّا الفاعلُ أي: مصاحبين للمعروف، أو المفعولُ أي: مصاحباتٍ للمعروف.
قوله: {ضِرَاراً} فيه وجهان، أظهرهُما أنه مفعولٌ من أجِلِهِ أي: لأجلِ الضِّرارِ. والثاني: أنه مصدرٌ في موضِعِ الحالِ أي: حالَ كونِكُم مُضَارِّينَ لهنَّ.
قوله: {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ} أدغم أبو الحارث عن الكسائي اللامَ في الذالِ إذا كان الفعلُ مجزوماً كهذه الآية، وهي في سبعةِ مواضعَ في القرآن:{وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} في موضعين، {وَمَن يَفْعَلْ ذلك فَلَيْسَ مِنَ الله فِي شَيْءِ} [آل عمران: 28] ، {وَمَن يَفْعَلْ ذلك عُدْوَاناً وَظُلْماً} [النساء: 30] ، {وَمَن يَفْعَلْ ذلك ابتغآء مَرْضَاتِ الله} [النساء: 114] {وَمَن يَفْعَلْ ذلك يَلْقَ أَثَاماً} [الفرقان: 68]، {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فأولئك هُمُ الخاسرون} [المنافقون: 9] . وجاز لتقارُبِ مَخْرَجَيْهِمَا واشتراكِهِما في الانفتاحِ والاستفال والجَهْر. وتَحَرَّز من غيرِ المجزومِ نحوُ: يفعلُ ذلك. وقد طَعَنَ قومٌ على هذه الروايةِ فقالوا: لا تَصِحُّ عن الكسائي لأنها تخالِفُ أصولَه، وهذا غيرُ صوابٍ.
قوله: {لِّتَعْتَدُواْ} هذه لامُ العلة، وأجاز أبو البقاء:«أن تكونَ لامَ العاقبةِ، أي: الصيرورة، وفي متعلَّقِها وجهان، أحدُهما: أنه» لا تُمْسِكُوهُنَّ «. والثاني: أنه المصدرُ إنْ قلنا إنه حال، وإنْ قُلْنَا إنه مفعولٌ من أجله تعلَّقَتْ به فقط، وتكون علةً للعلةِ، كما تقول:» ضربت ابني تأديباً لينتفعَ «، فالتأديب علةٌ للضربِ والانتفاعُ علةٌ للتأديب، ولا يجوز أن تتعلَّقُ والحالةُ هذه ب» لا تُمْسِكُوهن «. و» تَعْتَدُوا «منصوبٌ بإضمارِ» أنْ «وهي وما بعدَها في محلِّ جر بهذه اللام، كما تقدَّم تقريرُه غيرَ مرةٍ. وأصل» تَعْتَدُوا «تَعْتَدِيُوا، فأُعِلَّ كنظائرِهِ، ولا يخفَى ذلك مِمَّا تَقدم.
قوله: {عَلَيْكُمْ} يجوزُ فيه وجهان، أحدُهما: أن يتعلَّقَ بنفسِ» النعمة «إن أريدَ بها الإِنعامُ، لأنها اسمُ مصدر كنبات من أَنْبَتَ، ولا تمنع تاءُ التأنيث من عملِ هذا المصدرِ لأنه مبنيٌّ عليها كقوله:
982 -
فلولا رجاءُ النصرِ منك ورهبةٌ
…
عقابَكَ قد كانوا لنا كالموارِدِ
فأعمل» رهبةٌ «في» عقابك «، وإنما المحذُور أن يعملَ المصدرُ الذي لا يُبْنَى عليها نحو: ضربٌ وضَرْبَةٌ، ولذلك اعتذر الناس عن قوله:
983 -
يُحايي به الجَلْدُ الذي هو حازِمٌ
…
بضربةِ كَفَّيْهِ المَلَا وهْوَ راكِبُ
بأنَّ المَلا وهو السراب منصوبٌ بفعلٍ مقدر لا بضربة. والثاني: ان يتعلَّقَ بمحذوفٍ، على أنه حالٌ من» نعمة «إنْ أريد بها المُنْعَمُ به، فعلى الأول
تكون الجلالةُ في محلِّ رفعٍ، لأنَّ المصدرَ رافعٌ لها تقديراً إذا هي فاعلةٌ به وعلى الثاني في محلِّ جر لفظاً وتقديراً.
قوله: {وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ} يجوزُ في «ما» وجهان، أحدُهما: أن تكونَ في محلِّ نصبٍ عطفاً على «نعمة» أي اذكروا نعمتَه والمُنَزَّل عليكم، فعلى هذا يكون قولُه «يَعِظُكُم» حالاً، وفي صاحبِها ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه الفاعلُ في «أنزل» وهو اسمُ الله تعالى، أي: أنزله واعظاً به لكم. والثاني: أنه «ما» الموصولةُ، والعاملُ في الحالِ اذكروا. والثالث: أنه العائد على «ما» المحذوفُ، أي: وما أنزلهُ موعوظاً به، فالعاملُ في الحالِ على هذا القولِ وعلى القولِ الأولِ أَنْزَل.
والثاني: من وَجْهَي «ما» أن تكونَ في محلِّ رفع بالابتداء، ويكون «يَعِظُكُم» على هذا في محلِّ رفعٍ خبراً لهذا المتبدإِ، أي: والمُنَزَّلُ عليكم موعوظُ به. وأولُ الوَجْهَيْنِ أقوى وأحسنُ.
قوله: {عَلَيْكُمْ} متعلِّقٌ ب «أَنْزَلَ» . و «من الكتاب» متعلِّقٌ بمحذوفٍ لأنه حالٌ، وفي صاحبِهِ وجهان، أحدُهما: أنه «ما» الموصولةُ. والثاني: «أنه عائدُها المحذوفُ، إذ التقدير: أنزله في حالِ كونِهِ من الكتاب. و» مِنْ «يجوز أن تكون تبعيضية وأن/ تكونَ لبيانِ الجنسِ عند مَنْ يرى ذلك. والضمير في» به «يعودُ على» ما «الموصولةِ.
قوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ} : الآية. كالتي قبلها، إلَاّ أنَّ الخطابَ في «طَلَّقتم» للأزواجِ، وفي «فلا تعضُلُوهُنَّ» للأولياء. وقيل: الخطابُ فيهما للأولياءِ وفيهِ بَعْدٌ من حيث إنَّ الطلاقَ لا يُنْسَبُ إليهم إلا بمجازٍ بعيد، وهو أَنْ جَعَلَ تَسَبُّبهُمْ في الطلاق طلاقاً. وقيل: الخطابُ فيهما للأزواج ونُسِبَ العَضْلُ إليهم، لأنهم كذلك كانوا يفعلون، يُطَلِّقونَ ويأْبَوْنَ أن تتزوجَ المرأَةُ بعدَهم ظلماً وقهراً.
قوله: {أَزْوَاجَهُنَّ} مجازٌ لأنه إنْ أُريد المطلَّقون فتسميتُهم بذلك اعتباراً بما كانوا عليه، وإن أُريد بهم غيرُهم مِمَّن يُرِدْنَ تزويجهم فباعتبار ما يَؤُولون إليه. والفاء [في] فلا تَعْضُلُوهُنَّ جوابُ «إذا» .
والعَضْلُ قيل: المَنْعُ، ومنه:«عَضَلَ أَمَته» مَنَعَها من التزوَّجِ يَعْضِلُها بكسر العين وضَمِّها، قال ابن هرمز:
984 -
وإنَّ قصائدي لك فاصطَنِعْني
…
كرائمُ قد عُضِلْنَ عن النِّكاحِ
وقال:
985 -
ونحنُ عَضَلْنا بالرماحِ نساءَنا
…
وما فيكُمُ عن حُرْمَةِ اللهِ عاضِلُ
ومنه: «دجاجةٌ مُعْضِل» أي: احتبس بيضُها: وقيل: أَصلُه الضيقُ، قال أوس:
986 -
تَرى الأرضَ منَّا بالفضاءِ مريضةً
…
مُعَضَّلَةً منا بجيشٍ عَرَمْرم
أي: ضيقةً بهم، وعَضَلَتِ المرأةُ أي: نَشَبَ ولدُها في بطنِها، وداءٌ عُضال أي: ضَيِّقُ العلاجِ، وقالت ليلى الأخيلية:
987 -
شَفاهَا من الداءِ العُضالِ الذي بها
…
غلامٌ إذا هَزَّ القَناةَ شَفاها
والمُعْضِلات: المُشْكَلات لضِيق فَهْمها، قال الشافعي:
988 -
إذا المُعْضِلَاتُ تَصَدَّيْنَنِي
…
كَشَفْتُ حقائقَها بالنَّظَرْ
قوله: {أَن يَنكِحْنَ} فيه وجهان: أحدُهما: أنه بدلٌ من الضمير المنصوبِ في «تَعْضُلوهُنَّ» بدلُ اشتمال، فيكونُ في محلِّ نصبِ، أي: فلَا تَمْنَعُوا نكاحَهُنَّ. والثاني: أن يكونَ على إسقاطِ الخافض، وهو إمَّا «مِنْ» أو «عَنْ» ، فيكونُ في محلِّ «أَنْ» الوجهانِ المشهوران: أعني مذهبَ سيبويه ومذهب الخليل. و «يَنْكِحْنَ» مضارعُ نَكَح الثلاثي وكانَ قياسُه أنْ تُفْتَحَ عينُه لأنَّ لامَه حرُف حلقٍ.
قوله: {إِذَا تَرَاضَوْاْ} في ناصبِ هذا الظرفِ وجهان، أحدُهما:«ينكِحْنَ» أي: أَنْ ينكِحْنَ وقتَ التراضي. والثاني: أن يكونَ «تعضُلوهنَّ» أي: لَا تعضُلوهنَّ وقتَ التراضي، والأولُ أظهرُ. و «إذا» هنا متمحضةٌ للظرفية. والضميرُ في «تراضَوا» يجوزُ أن يعودَ إلى الأولياءِ وللأزواج، وأَنْ يعودَ على الأزواج والزوجاتِ، ويكونُ مِنْ تغليبِ المذكرِ على المؤنِثِ.
قوله {بَيْنَهُمْ} ظرفُ مكانٍ مجازي، وناصبُه «تراضَوا» .
قوله: {بالمعروف} فيه أربعةُ أوجهٍ، أحدُهما: أنه متعلقٌ بتراضَوا، أي: تراضَوا بما يَحْسُن من الدِّينِ والمروءةِ، والثاني: أن يتعلَّقَ ب «يَنْكِحْنَ» فيكونُ «ينكِحْنَ» ناصباً للظرفِ، وهو «إذا» ؛ ولهذا الجارِّ أيضاً: والثالث: أَنْ يتعلَّق بمحذوفٍ على أنه حالٌ من فاعلِ تراضَوا.
والرابع: أنه نعتُ مصدر محذوف، دَلَّ عليه الفعلُ أي: تراضِياً كائناً بالمعروف.
قوله: {ذلك} مبتدأُ. و «يُوعظ» وما بعدَه خبرُه. والمخاطَبُ: إمَّا الرسولُ عليه السلام أو كلُّ سامعٍ، ولذلك جِيءَ بالكافِ الدالَّةِ على الواحدِ، وإمَّا الجماعةُ وهو الظاهرُ، فيكونُ ذلك بمعنى «ذلكم» ولذلك قال بعدَه:«منكم» .
و «مَنْ كان» في محلِّ رفع لقيامِه مقامَ الفاعلِ. وفي «كان» اسمُها يعودُ
على «مَنْ» ، و «يؤمِنُ» في محلِّ نصبٍ خبراً لها، و «منكم» : إمَّا متعلِّقٌ بكانَ عندَ مَنْ يرى أنها تعملُ في الظرفِ وشبهِه، وإمَّا بمحذوفٍ على أنه حالٌ من فاعل يؤمنُ. وأتى باسم إشارةِ البعيدِ تعظيماً للمشار إليه، لأنَّ المشارَ إليه قريبٌ، وهو الحكمُ المذكورُ في العَضْل. وأَلفُ «أزكى» عن واو.
وقوله: {ذلكم} متعلقٌ بمحذوفٍ لأنه صفةٌ ل «أَزْكى» فهو في محلِّ رفع. وقولُه: «وَأَطْهَرُ» أي: لكم، والمُفَضَّلُ عليه محذوفٌ للعلمِ أي: من العَضْلِ.
قوله تعالى: {والوالدات يُرْضِعْنَ} : كقوله: {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ} فَلْيُلتفتْ إليه. والوالدُ والوالدةُ صفتان غالبتانِ جاريتانِ مَجْرى الجوامدِ، ولذلك لم يُذْكَرَ موصوفُهما.
قوله {حَوْلَيْنِ} منصوبٌ على ظرفِ الزمانِ، ووصفُهما بكاملين رفعاً للتجوُّز، إذ قد يُطْلَقُ «الحولان» على الناقصين شهراً وشهرين. والحَوْلُ: السنةُ، سَمُيِّتْ لتحوُّلِها، والحَوْلُ أيضاً: الحَيْلُ ويقال: لا حولَ ولا قوة، ولا حَيْلَ ولا قوة.
قوله: {لِمَنْ أَرَادَ} في هذا الجارِّ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه متعلقٌ بيُرْضِعْنَ، وتكونُ اللامُ للتعليلِ، و «مَنْ» واقعةٌ على الآباء، أي: الوالدات يُرْضِعْنَ لأجلِ مَنْ أَرادَ إتمام الرضاعةِ من الآباءِ، وهذا نظيرٌ قولِك:«أَرْضَعَتْ فلانةٌ لفلانٍ ولدَه» . والثاني: أنها للتبيين، فتتعَلَّق بمحذوفٍ، وتكونُ هذه اللامُ كاللام في قوله تعالى:{هَيْتَ لَكَ} [يوسف: 23]، وفي قولهم:«سُقْياً لك» . فاللامُ بيانٌ للمدعوِّ له بالسَّقْي وللمُهَيَّتِ به، وذلك أنه لمّا ذَكَر أنَّ الوالداتِ يُرْضِعْنَ أولَادَهُنَّ حولينِ كاملينِ بيَّن أنَّ ذلكَ الحكمَ إنما هو لِمَنْ أرادَ أن يُتِمَّ الرَّضَاعَة. و «مَنْ» تحتمل حينئذ أن يُرادَ بها الوالداتُ فقط أو هُنَّ والوالدون معاً. كلُّ
ذلك محتملٌ. والثالث: أنَّ هذه اللامَ خبرٌ لمبتدأ محذوفٌ فتتعلَّقُ بمحذوفٍ، والتقديرُ: ذلك الحكمُ لِمَنْ أرادَ. و «مَنْ» على هذا تكونُ للوالداتِ والوالدَيْنِ معا.
قوله: {أَن يُتِمَّ الرضاعة} «أَنْ» وما في حَيِّزها في محلِّ نصب مفعولاً بأراد، أي: لمن أراد إتمامَها. والجمهور على «يُتمَّ الرَّضاعة» بالياء. المضمومة من «أتَمَّ» وإعمال أنْ الناصبة، ونصب «الرَّضاعة» مفعولاً به، وفتح رائها. وقرأ مجاهد والحسن وابن محيصن وأبو رجاء:«تَتِمَّ» بفتح التاء من تَمَّ، «الرضاعة» بالرفع فاعلاً وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة كذلك إلا أنهما كَسَرا راء «الرضاعة» ، وهي لغةٌ كالحَضارة والحِضارة، والبصريون يقولون: فتحُ الراء مع هاء التأنيثِ وكسرُها مع عدمِ الهاء، والكوفيون يزعمون العكسَ. وقرأ مجاهد - ويُرْوى عن ابنِ عباس -:{أَنْ يُتِمُّ الرَّضاعة} برفع «يُتِمُّ» وفيها قولان، أحدُهما قولُ البصريين: أنها «أَنْ» الناصبة أُهْمِلت حَمْلاً على «ما» أختِها لاشتراكِهما في المصدرية، وأنشدوا على ذلك قوله:
989 -
إني زعيمٌ يا نُوَيْ
…
قَةُ إنْ أَمِنْتِ من الرَّزاحِ
أنْ تهبطِين بلادَ قَوْ
…
مٍ يَرْتَعُون من الطِّلاحِ
وقولَ الآخر:
990 -
يا صاحبيَّ فَدَتْ نفسي نفوسَكما
…
وحيثما كُنتما لُقِّيتما رَشَدا
أَنْ تقرآنِ على أسماءَ ويَحْكُما
…
مني السلامَ وألَاّ تُشْعِرا أَحَدا
فأَهْملها ولذلك ثَبَتَتْ نونُ الرفع، وأَبَوأ أن يَجْعلوها المخففةَ من الثقيلةِ
لوجهين، أحد لوجهين، أحدُهما: أنه لم يُفْصَل بينها وبين الجملةِ الفعليةِ بعدَها، والثاني: أنَّ ما قبلَها ليس بفعلِ علمٍ ويقينٍ.
والثاني: وهو قولُ الكوفيين أنها المخففةُ من الثقيلة، وشَذَّ وقوعُها موقعَ الناصبةِ، كما شذَّ وقعُ «أَنْ» الناصبةِ موقعَها في قوله:
991 -
. . . . . . . . . . . . قد علموا
…
أَنْ لا يُدانِينَا في خَلْقهِ أحدُ
وقرأ مجاهد: «الرَّضْعَة» بوزن القَصْعة. والرَّضْعُ: مَصُّ الثَّدْي: ويقال للَّئيم: راضعٌ، وذلك أنه يَخاف أن يَحْلُبَ الشاةَ فَيُسْمَعَ منه الحَلْبُ، فَيُطْلَبَ منه اللبنُ، فَيَرْتَضِعُ ثديَ الشاةِ بفَمِه.
قوله: {وَعلَى المولود لَهُ} هذا الجارُّ خبرٌ مقدَّمٌ، والمبتدأ قولُه:«رِزْقُهن» ، و «أل» في المولودِ موصولةٌ، و «له» قائمٌ مقامَ الفاعل للمولودِ، وهو عائدُ الموصولِ، تقديرُه: وعلى الذي وُلِدَ له رِزْقُهُنَّ، فَحُذِف الفاعلُ وهو الوالداتُ، والمفعولُ وهو الأولادُ، وأُقيمَ هذا الجارُّ والمجرورُ مُقامَ الفاعلِ.
وذَكَر بعضُ الناسِ أنه لا خلافَ في إقامةِ الجارِّ والمجرور مُقامَ الفاعلِ إلا السهيلي، فإنهَ مَنَع من ذلك. وليس كما ذَكَر هذا القائلُ، وأنا أبسُطُ مذاهبَ الناسِ في هذه المسألةِ، فأقول بعونِ الله: اختلف الكوفيون والبصريون في هذه المسألةِ فأجازها البصريون مطلقاً، وأما الكوفيون فقالوا: لا يَخْلو: إمَّا أن يكونَ حرفُ الجر زائداً فيجوزَ ذلك نحو: ما ضُرب من أحد، وإن كان غيرَ زائدٍ لم يَجُزْ ذلك عندَهم، ولا يجوزُ عندَهم أن يكونَ الاسمُ المجرورُ في موضعِ رفعٍ باتفاقٍ بينهم. ثم اختلفوا بعد هذا الاتفاقِ في
القائمِ مقامَ الفاعل: فذهب الفراء إلى أنَّ حرفَ الجرِّ وحدَه في موضعِ رفعٍ، كما أنَّ «يقوم» من «زيد يقوم» في موضع رفعٍ. وذهب الكسائي وهِشام إلى أنَّ مفعولَ الفعلِ ضميرٌ مستترٌ فيه، وهو ضَميرٌ مبهمٌ من حيثُ أَنْ يرادَ به ما يَدُلُّ عليه الفعلُ من مصدر وزمانٍ ومكانٍ ولم يَدُلَّ دليلٌ على أحدِها، وذهب بعضُهم إلى أنَّ القائمَ مقامَ الفاعلِ ضميرُ المصدرِ، فإذا قلت:«سِيرَ بزيدٍ» فالتقديرُ: سير هو، أي: السيرُ، لأنَّ دلالةَ الفعلِ على مصدرهِ قويةٌ، وهذا يوافِقُهم فيه بعضُ البصريين. ولهذه الأقوالِ دلائلُ واعتراضاتٌ وأجوبةٌ لا يحتملها هذا الموضوعُ فَلْيُطْلب من كتبِ النَّحْويين.
قوله: {بالمعروف} يجوز أن يتعلَّقَ بكلٍّ مِنْ قولِه: «رزقُهنَّ» و «كسوتُهنَّ» على أن المسألة من بابِ الإِعمالِ، وهو على إعمالِ الثاني، إذ لو أُعْمِل الأولُ لأُضْمِر في الثاني، فكان يقال: وكسوتهنَّ به بالمعروفِ. هذا إنْ أُريد بالرزقِ والكسوةِ المصدران، وقد تقَدَّم أنَّ الرزقَ يكون مصدراً، وإنْ كانَ ابنُ الطراوةِ قد رَدَّ على الفارسي ذلك في قوله:{مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِّنَ السماوات والأرض} [النحل: 73] كما سيأتي تحقيقُه في النحل، وإنْ أريدَ بهما اسمُ المرزوقِ والمكسوِّ كالطِّحْن والرِّعْي فلا بدَّ من حذفِ مضافٍ، تقديرُه: اتِّصالُ أو دفعُ أو ما أشبهَ ذلك مِمَّا يَصِحُّ به المعنى، ويكونُ «بالمعروف» متعلِّقاً بمحذوفٍ على أنه حالٌ منهما.
وجَعَلَ أبو البقاء العاملَ في هذه الحالِ الاستقرار الذي تَضَمَّنه «على» .
والجمهورُ على «كِسْوَتِهِنَّ» بكسر الكاف، وقرأ طلحة بضمها، وهما لغتان في المصدر واسم المكسوِّ، وفعلُها يتعدَّى لاثنين، وهما كمفعولّيْ «
أعطى» في جوازِ حَذْفِهما أو حَذْفِ أحدِهما اختصاراً أو اقتصاراً. قيل: وقد يتعدَّى إلى وَاحدٍ وأنشدوا:
992 -
وَأْركَبُ في الروعِ خَيْفانَةً
…
كسا وجَهَا سَعَفٌ مُنْتَشِرْ
ضَمَّنه معنى غَطَّى. وفيه نظرٌ لاحتمالِ أنه حُذِف أحدُ المفعولين للدلالةِ عليه، أي: كسا وجهَها غبارٌ أو نحوه.
قوله: {لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ} الجمهورُ على «تُكَلَّفُ» مبنياً للمفعولِ، «نفسٌ» قائمٌ مقامَ الفاعلِ وهو الله تعالى، «وُسْعَها» مفعولٌ ثانٍ، وهو استثناءٌ مفرغٌ، لأنَّ «كَلَّفَ» يتعدَّى لاثنين. قال أبو البقاء:«ولو رُفِعَ الوُسْعُ هنا لم يَجُزْ لأنه ليس ببدَلٍ» .
وقرأ أبو رجاء: {لَا تَكَلَّفُ نفسٌ} بفتح التاءِ والأصلُ: «تتكلف» فَحُذِفَتْ إحدى التاءين تخفيفاً: إمَّا الأولى أو الثانيةُ على خلافٍ في ذلك تقدَّم، فتكونُ «نفسٌ» فاعلاً، و «وُسْعَها» مفعول به، استثناء مفرغاً أيضاً. وَرَوى أبو الأشهب عن أبي رجاء أيضاً:{لا يُكَلِّفُ نفساً} بإسناد الفعلِ إلى ضميرِ الله تعالى، فتكونُ «نفساً» و «وُسْعَها» مفعولَيْنِ.
والتكليفُ: الإِلزامُ، وأصلُه من الكَلَفِ، وهو الأثرُ من السَّوادِ في الوجهِ، قال:
993 -
يَهْدِي بها أَكْلَفُ الخَدَّيْنِ مُخْتَبِرٌ
…
من الجِمالِ كثيرُ اللَّحْمَ عَيْثُومُ
وَفلانٌ كَلِفٌ بكذا: أي مُغْرىً به.
وقوله: {لَا تُضَآرَّ} / ابنُ كثير وأبو عمرو: «لا تضارُّ» برفع الراء مشددةً، وتوجيهُها واضحٌ، لأنه فعلٌ مضارعٌ لم يَدْخُلْ عليه ناصبٌ ولا جازمٌ فَرُفِعَ، وهذه القراءةُ مناسِبَةٌ لِما قبلِهَا من حيث إنه عَطَفَ جملةً خبريةً على خبريةً لفظاً نَهْيِيَّةٌ معنى، ويدل عليه قراءةُ الباقين كما سيأتي. وقرأ باقي السبعة بفتح الراءِ مشددةً، وتوجيهُها أنَّ «لا» ناهيةٌ فهي جازمةٌ، فَسَكَنَتِ الراء الأخيرةُ للجزمِ وقبلَها راءٌ ساكنةٌ مدغمةٌ فيها، فالتقى ساكنان فَحَرَّكْنا الثانيةَ لا الأولى، وإنْ كان الأصلُ الإِدغامَ، وكانَتِ الحركةُ فتحةً وإنْ كانَ أصلُ التقاءِ الساكنينِ الكسرَ لأجلِ الألفِ إذ هي أختُ الفتحةِ، ولذلك لَمَّا رَخَّمَتِ العربُ «إسحارّ» وهو اسمُ نباتٍ قالوا:«إسحارَ» بفتح الراء خفيفةً، لأنهم لمَّا حَذَفوا الراءَ الأخيرةَ بقيتِ الراءُ الأولى ساكنةً والألفُ قبلَها ساكنةٌ فالتقى ساكنان، والألفُ لا تقبلُ الحركَةَ فحَرَّكوا الثاني وهو الراءُ، وكانَتِ الحركةُ فتحةً لأجلِ الألفِ قبلَها، ولم يَكْسِروا وإنْ كان الأصلَ، لما ذكرْتُ لك من مراعاةِ الألف.
وقرأ الحسن بكسرِها مشددةً، على أصلِ التقاءِ الساكنين، ولم يُراعِ الألفَ، وقرأ أبو جعفرٍ بسكونِها مشددةً كأنه أجرى الوصلَ مُجْرى الوقفِ فسكَّنَ، ورُوِي عنه وعن ابن هرمز بسكونِهَا مخففةً، وتَحْتمل هذه وجهين، أحدهما: أن يكونَ من ضارَ يَضير، ويكونُ السكونُ لإِجراءِ الوصلِ مُجْرى الوقف.
والثاني: أن يكونَ من ضارَّ يُضارُّ بتشديد الراءِ، وإنما استثقل تكريرَ حرفٍ هو مكررٌ في نفسِه فَحَذَفَ الثانيَ منهما، وَجَمَع بين الساكنين - أعني الألفَ والراء - إمَّا إجراءً للوصلِ مُجْرى الوقفِ، وإمَّا لأنَّ الألفَ قائمةٌ مقامَ الحركةِ لكونِها حرفَ مَدٍّ.
وزعم الزمخشري «أن أبا جعفر إنما اختلس الضمة فتَوَهَّم الراوي أنه سَكَّنَ، وليس كذلك» انتهى. وقد تقدَّم شيءٌ من ذلك عند {يَأْمُرُكُمْ} [البقرة: 67] ونحوه.
ثم قراءةُ تسكينِ الراء تحتملُ أَنْ تكونَ مِنْ رفعٍ فتكونَ كقراءةِ ابن كثير وأبي عمرو، وأن تكونَ من فَتْح فتكونَ كقراءةِ الباقين، والأولُ أَوْلى، إِذ التسكينُ من الضمةِ أكثرُ من التسكينِ من الفتحةِ لخفتها.
وقرأ ابن عباس بكسر الراءِ الأولى والفكِّ، ورُوي عن عمر ابن الخطاب:«لا تضارَرْ» بفتح الراء الأولى والفك، وهذه لغةُ الحجاز أعني [فكَّ] المِثْلين فيما سَكَنَ ثانيهما للجزمِ أو للوقفِ نحو: لم تَمْرُرْ، وامرُرْ، وبنو تميم يُدْغِمون، والتنزيلُ جاء باللغتين نحو:{وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ} [المائدة: 54] في المائدةِ، قُرىء في السبعِ بالوجهين وسيأتي بيانُه واضحاً.
ثم قراءةُ مَنْ شَدَّد الراءَ مضمومةً أو مفتوحةً أو مكسورةً أو مُسْكَّنةُ أو خَفَّفها تحتملُ أن تكونَ الراءُ الأولى مفتوحةً، فيكونُ الفعلُ مبنياً للمفعول، وتكونُ «والدةٌ» مفعولاً لم يُسَمَّ فاعله، وحُذِفَ الفاعلُ للعِلْمِ به، ويؤيده قراءةُ عمرَ رضي الله عنه. وأَنْ تكونَ مكسورةً فيكونُ الفعلُ مبنياً للفاعلِ، وتكونُ «والدةٌ» حينئذ فاعلاً به، ويؤيده قراءةُ ابنِ عباس.
وفي المفعولِ على هذا الاحتمالِ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدهما - وهو الظاهر - أنه محذوفٌ تقديرُه: «لا تُضَارِرْ والدةٌ زوجَها بسسبِ ولدِها بما لا يَقْدِرُ عليه من رزقٍ وكِسْوةٍ ونحو ذلك، ولا يضارِرْ مولودٌ له زوجتَه بسبب ولدِه
بما وَجَبَ لها من رزقٍ وكسوةٍ، فالباءُ للسببيةِ. والثاني: - قاله الزمخشري - أن يكونَ» تُضارَّ «بمعنى تَضُرُّ، وأن تكونَ الباءُ من صلتِه أي: لا تضرُّ والدةٌ بولِدها فلا تسيءُ غذاءه وتعهُّدَه ولا يَضُرُّ الوالدُ به بأن ينزِعه منها بعدما ألِفَها.» انتهى. ويعني بقولِه «الباءُ من صلته» أي: تكونَ متعلقةً به ومُعَدِّيةً له إلى المفعول، كهي في «ذهبت بزيدٍ» ويكونُ ضارَّ بمعنى أضرَّ فاعَلَ بمعنى أَفْعَل، ومثلُه: ضاعفْتُ الحِسابَ وأَضْعَفْتُه، وباعَدْته وأبعدْتُه، وقد تقدَّم أن «فاعَلَ» يأتي بمعنى أَفْعَل فيما تقدَّم، فعلى هذا نفسُ المجرور بهذه الباءِ هو المفعول به في المعنى، والباءُ على هذا للتعديةِ، كما ذكرْتُ في التنظيرِ بذَهَبْتُ بزيدٍ، فإنه بمعنى أَذْهبته.
والثالث: أن الباءَ مزيدةٌ، وأنَّ «ضارَّ» بمعنى ضَرَّ، فيكون «فاعَلَ» بمعنى «فعَلَ» المجردِ، والتقديرُ: لا تَضُرُّ والدةٌ ولدَها بسوءِ غذائِه وعَدَم تعهُّدِه، ولا يَضُرُّ والدٌ ولدَه بانتزاعِه من أمه بعدما أَلِفهَا ونحوِ ذلك. وقد جاء «فاعَل» بمعنى فَعَل المجرد نحو: واعَدْته ووعَدْتُه، وجاوَزْته وجُزْته، إلا أنَّ الكثيرَ في فاعَل الدلالةُ على المشاركةِ بين مرفوعِه ومنصوبِه، ولذلك كان مرفوعهُ منصوباً في التقدير، ومنصوبُه مرفوعاً في التقدير، فمن ثَمَّ كانَ التوجيهُ الأولُ أرجحَ مِنْ توجيهِ الزمخشري وما بعدَه، وتوجيهُ الزمخشري أَوْجَهَ مِمَّا بعدَه.
و «له» في محلِّ رفعٍ لقيامِه مَقامَ الفاعلِ.
وقوله: {لَا تُضَآرَّ وَالِدَةٌ} فيه دلالةٌ على ما يقولُه النحويون، وهو أنه إذا اجتمع مذكرٌ ومؤنثٌ، معطوفاً أحدُهما على الآخرِ كان حكمُ الفعلِ السابِق عليهما للسابِق منهما، تقول: قامَ زيدٌ وهندٌ، فلا تُلْحِقُ علامةَ تأنيثٍ، وقامَتْ هندٌ وزيدٌ، فتلحقُ العلامةَ، والآيةُ الكريمة من هذا القبيل، ولا يُستثنى من ذلك
إلَاّ أَنْ يكونَ المؤنثُ مجازياً، فَيَحْسُنُ الَاّ يراعي المؤنثُ وإنْ تقدَّم كقوله تعالى:{وَجُمِعَ الشمس والقمر} [القيامة: 9] .
ولا يَخْفى ما في هذه الجملِ من علمِ البيان، فمنه: الفصلُ والوصلُ/ أمَّا الفصلُ وهو عدمُ العطفِ بين قولِه: {لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ} وبين قوله: «لا تضارَّ» لأنَّ قوله: «لا تُضارَّ» كالشرحِ للجملةِ قبَلها، لأنه إذا لَمْ تُكَلَّفِ النفسُ إلا طاقَتَها لم يقع ضررٌ، لا للوالدة ولا للمولود له. وكذلك أيضاً لم يَعْطِف {لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ} على ما قبلَها، لأنها مع ما بعدَها تفسيرٌ لقوله «بالمعروفِ» . وأمَّا الوصلُ وهو العطفُ بين قوله:«والوالداتُ يُرْضِعْنَ» وبين قولِه: «وعلى المولودِ له رزقُهن» فلأنَّهما جملتان متغايرتان في كلٍّ منهما حكمٌ ليس في الأخرى. ومنه إبراز الجملةِ الأولى مبتدأ وخبراً، وجَعْلُ الخبرِ فعلاً، لأنَّ الإِرضاع إنما يتجدَّدُ دائماً. وأُضيفت الوالداتُ للأولاد تنبيهاً على شفقتهنَّ وحَثَّاً لهنَّ على الارضاع. وجيء بالوالدات بلفظِ العموم وإنْ كان جمعَ قلة، لأنَّ جمعَ القلةِ متى حُلِّي بأَل عمَّ، وكذلك «أولادَهُنَّ» عامٌّ، لإِضافته إلى ضمير العامِّ، وإنْ كان أيضاً جمع قلةٍ. ومنه إبرازُ الجملةِ الثانيةِ مبتدأً وخبراً، والخبرُ جارٌّ ومجرورٌ بحرفِ «على» الدالِّ على الاستعلاء المجازي في الوجوبِ وقُدِّم الخبرُ اعتناءً به. وقُدِّم الرزْقُ على الكسوةِ لأنه الأهمُّ في بقاءِ الحياةِ ولتكرره كلَّ يومٍ. وأُبرزت الثالثة فعلاً ومرفوعَه، وجُعِل مرفوعُه نكرةً في سياقِ النفي ليعمَّ ويتناولَ ما سبقَ لأجله من حكم الوالدات في الإِرضاع والمولود له في الرزق والكِسْوة الواجبَتَيْنِ عليه للوالدةِ، وأُبْرِزَت الرابعةُ كذلك لأنها كالإِيضاح لما قبلها والتفصيلِ بعد الإِجمال، ولذلك لم يُعْطَفْ عليها كما ذَكَرْتُه لك.
ولَمَّا كان تكليفُ النفسِ فوق الطاقة ومُضَارَّةُ أحدِ الزوجينِ للآخر
مِمّ يتكرَّر ويتجدَّدُ أتى بهاتين الجملتين فعليتين وأَدْخَلَ عليهما حرف النفي وهو «لا» لأنه موضوعٌ للاستقبال غالباً.
وأمَّا في قراءة مَنْ جَزَمَ فإنَّها ناهيةٌ، وهي للاستقبالِ فقط، وأضافَ الولدَ إلى الوالدة والمولودِ له تنبيهاً على الشفقةِ والاستعطافِ، وقدَّمَ ذِكْرَ عدم مُضَارَّةِ الوالد مراعاةً لِمَا تقدَّم من الجملتين، إذ قد بدأ بحكمِ الوالداتِ وثَنَّى بحكمِ الوالدِ. ولولا خوفُ السآمةِ وأنَّ الكتابَ غيرُ موضوعٍ لهذا الفنِّ لذكرْتُ ما تَحتمِلُه هذه الآية الكريمةُ من ذلك.
قولُه: {وَعَلَى الوارث مِثْلُ ذلك} هذه جملةٌ من مبتدأٍ وخبرٍ، قَدَّم الخبرَ اهتماماً، ولا يَخْفَى ما فيها، وهي معطوفةٌ على قولِه:{وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ} وما بينهما اعتراضٌ؛ لأنه كالتفسيرِ لقوله «بالمعروف» كما تقدَّم التنبيهُ عليه.
والألفُ واللامُ في «الوارث» بدلٌ من الضميرِ عندَ مَنْ يَرى ذلك، ثم اختلفوا في ذلك الضمير: هل يعودُ على المولود له وهو الأبُ، فكأنه قيل: وعلى وارِثِه، أي: وارِثِ المولدِ له، أو يعودُ على الولدِ نفسه، أي: وارثِ الولد؟ وهذا على حَسَبِ اختلافِهم في الوارثِ.
وقرأ يحيى بن يعمر: «الوَرَثَة» بلفظ الجمعِ، والمشارُ إليه بقوله «مثلُ ذلك» إلى الواجبِ من الرزق والكسوة، وهذا أحسنُ مِنْ قول مَنْ يقول: أُشير به إلى الرزق والكسوة. وأشير بما للواحدِ للاثنين كقوله: {عَوَانٌ بَيْنَ ذلك} [البقرة: 68] . وإنما كان أحسنَ لأنه لا يُحْوِج إلى تأويل، وقيل: المشارُ إليه
هو عَدَمُ المُضَارَّة، وقيل: أجرةُ المثلِ، وغيرُ ذلك.
قوله: {عَن تَرَاضٍ} فيه وجهان، أحدُهما: - وهو الظاهر - أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ إذ هو صفةٌ ل «فِصالاً» ، فهو في محلِّ نصبٍ أي: فصالاً كائناً عن تراضٍ، وقدَّره الزمخشري: صادراً عن تراضٍ، وفيه نظرٌ من حيث كونُه كوناً مقيَّداً. والثني: أنه متعلَّقٌ بأراد، قاله أبو البقاء، ولا معنى له إلَاّ بتكلفٍ. و «عن» للمجاوزة مجازاً لأنَّ التراضيَ معنىً لا عينٌ.
و «تراض» مصدرُ تفاعَل، فعينُه مضمومةٌ وأصله: تفاعُل تراضُوٌ، فَفُعِل فيه ما فُعِل ب «أَدْلٍ» جمعَ دَلْوٍ، مِنْ قلبِ الواو ياءً والضمةِ قلبِها كسرةً، إذ لا يوجَدُ في الأسماءِ المعربةِ واوٌ قبلَها ضمةٌ لغير الجمع إلا ويُفْعَلُ بها ذلك تخفيفاً.
قوله {مِّنْهُمَا} في محلِّ جرٍّ صفةً ل «تَراضٍ» ، فيتعلَّق بمحذوفٍ، أي تراضٍ كائنٍ أو صادرٍ منهما. و «مِنْ لابتداء الغايةِ.
وقوله: {وَتَشَاوُرٍ} حُذِفَتْ لدلالةِ ما قبلَها عليها والتقدير: وتشاورٍ منهما، ويُحْتَمَل أَنْ يكونَ التشاوُرُ من أحدِهما مع غيرِ الآخر لتتفق الآراءُ منهما ومِنْ غيرِهما على المصلحةِ.
قوله: {فَلَا جُنَاحَ} الفاءُ جوابُ الشرطِ، وقد تقدَّم نظيرُ هذه الجملة، ولا بُدَّ قبلَ هذا الجواب من جملةٍ قد حُذِفَت ليصحَّ المعنى بذلك تقديرُه: فَفَصَلاه أو فَعَلا ما تراضيا عليه فلا جُناحَ عليهما في الفِصال أو في الفَصْلِ.
قوله: {أَن تسترضعوا} أنْ وما في حَيِّزها في محلِّ نصبٍ مفعولاً ب «أراد» وفي «استرضع» قولان للنحْويين، أحدُهما: أنه يتعدَّى لاثنين ثانيهما بحرف الجرِّ، والتقديرُ: أَنْ تسترضعوا المراضعَ لأولادِكم، فَحُذِف المفعولُ الأول وحرفُ الجر من الثاني، فهو نظيرُ «أمرتُ الخيرَ» ، ذكرْتَ المأمورَ به لوم تَذْكُرِ المأمورَ، لأنَّ الثاني منهما غيرُ الأول، وكلُّ مفعولين كانا كذلك فأنتَ فيهما بالخيار بين ذِكْرِهما وحَذْفِهما، وذِكْرِ الأولِ، دونَ الثاني والعكس. والثاني: أنه متعدٍّ إليهما بنفسِه، ولكنه حُذِفَ المفعولُ الأولُ وهذا رأيُ الزمخشري، ونَظَّر الآية الكريمة بقولك:«أنجح الحاجة» واستَنْجَحَتْه الحاجة «وهذا يكون نقلاً بعد نقلٍ، لأنَّ الأصلَ/» رَضِعَ الولدُ «، ثم تقول:» أَرْضَعَت المرأةُ الولدَ «، ثم تقول:» استرضَعْتُها الولد «هكذا قال الشيخ.
وفيه نظرٌ، لأنَّ قولَه» رضِع الولدُ «يُعتقدُ أنَّ هذا لازمٌ ثمَ عَدَّيْتَه بهمزةِ النقلِ، ثمَ عَدَّيْتَه ثانياً بسينِ الاستفعال، وليس كذلك لأنَّ» رَضِع الولدُ «متعدٍّ، غاية ما فيه أنَّ مفعولَه غيرُ مذكورٍ تقديرُه: رَضِع الولدُ أمَّه، لأنَّ المادةَ تقتضي مفعولاً به كضَربَ، وأيضاً فالتعديةُ بالسين قولٌ مرغوب عنه. والسينُ للطلبِ على بابها نحو: استسقيتُ زيداً ماءً واستطْعَمْته خبزاً، فكما أنَّ ماءٌ وخبزاً منصوبان لا على إسقاط الخافضِ كذلك» أولادكم «. وقد [جاء] استفعل للطلب وهو مُعَدَّى إلى الثاني بحرف جر، وإن كان» أَفْعَل «الذي هو أصلُه متعدِّياً لاثنين نحو:» أفهمني زيدٌ المسألةَ «واستفهمتُه عنها، ويجوز حَذْفُ» عن «، فلم يَجِىءْ مجيء» استَسْقَيْت «و» استطعمت «من كونِ ثانيهما منصوباً على لا على إسقاطِ الخافض.
وفي هذا الكلام التفاتٌ وتكوينٌ: أمَّا الالتفاتُ فإنه خروجٌ من ضميرِ الغَيْبةِ في قوله» فإنْ أرادوا «إلى الخطابِ في قولِه:» وإنْ أردْتُم «إذا المخَاطَبُ الباءُ والأمهاتُ. وأمَّا التكوينُ في الضمائِر فإنَّ الأول ضميرُ تثنيةٍ وهذا ضميرُ جمعٍ، والمرادُ بهما الآباءُ والأمهاتُ أيضاً، وكأنه رَجَعَ بهذا الضمير المجموع إلى الوالدات والمولودِ له، ولكنه غَلَّب المذكَّرَ وهو المولودُ له، وإنْ كان مفرداً لفظاً. و» فلا جُناحَ «جوابُ الشرط.
قوله: {إِذَا سَلَّمْتُم مَّآ آتَيْتُم} » إذا «شرطٌ حُذِفَ جوابُه لدلالةِ الشرطِ الأولِ وجوابِه عليه، قال أبو البقاء:» وذلك المعنى هو العاملُ في «إذا» وهو متعلقٌ بما تَعَلَّق به «عليكم» . وهذا خطأٌ في الظاهرِ، لأنه جَعَلَ العاملَ فيها أولاً ذلك المعنى المدولَ عليه بالشرطِ الأولِ.
وجوابِه، فقولُه ثانياً «وهو متعلقٌ بما تعلَّقَ به عليكم» تناقضٌ، اللهم إلا أن يُقالَ: قد يكونُ سقطت من الكاتب ألفٌ، وكان الأصلُ «أو هو متعلقٌ» فَيَصِحُّ، إلا أنه إذا كان كذلك تمحَّضَتْ «إذا» للظرفية، ولم تكنْ للشرطِ، وكلامُ هذا القائِل يُشْعر بأنها شرطيةٌ في الوجهينِ على تقدير الاعتذارِ عنه.
وقرأ الجمهور: «آتيتم» بالمدِّ هنا وفي الروم: {وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن رِّباً} [الروم: 39] ، وقَصَرَهما ابنُ كثير. ورُوي عن عاصم «أوتيتم» مبنياً للمفعول، أي: ما أَقْدَرَكم الله عليه. فأمَّا قراءةُ الجمهورِ فواضحةٌ لأنَّ آتى بمعنى أعطى فهي تتعدَّى لاثنين أحدُهما ضميرٌ يعودُ على «ما» الموصولةِ، والآخر ضميرٌ يعودُ على المراضعِ، والتقديرُ: ما آتيتموهنَّ إياه، ف «هُنَّ» هو المفعولُ الأول، لأنه فاعلٌ في المعنى، والعائدُ هو الثاني، لأنه هو المفعولُ في المعنى. والكلامُ على
حذفِ هذا الضمير وهو منفصلٌ قد تقدَّم ما عليه من الإِشكال والجوابُ عند قوله: {وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 3] فَلْيُلْتفتْ إليه.
وأمَّا قراءةُ القصرِ فمعناها جِئْتم وفَعَلْتُم كقولِ زهير:
994 -
وما كان مِن خيرٍ أَتَوْه فإنَّما
…
توارَثَهُ آباءُ آبائِهم قَبْلُ
أي: فعلوه، والمعنى إذا سَلَّمتم ما جِئْتُمُ وفَعَلْتُم، قال أبو علي:«تقديرُ: ما أتيتم نَقْدَه أو إعطاءه، فَحُذِفَ المضافُ وأقيم المضافُ إليه مُقامَه، وهو عائدُ الموصول، فصار: آتيتموه أي جئتموه، ثم حُذِفَ عائدُ الموصولِ» . وأجاز أبو البقاء أن يكونَ التقديرُ: ما جِئْتُم به فَحُذِفَ، يعني حُذِف على التدريج، بأنَّ حُذِفَ حرف الجر أولاً فاتصل الضمير منصوباً بفعلٍ فَحُذِفَ.
و «ما» فيها وجهان، أظهرهُما: أنها بمعنى الذي، وأجاز أبو عليّ فيها أن تكون موصولةً حرفيةً، ولكنْ ذَكَر ذلك مع قراءةِ القصرِ خاصة، والتقدير: إذا سَلَّمتم الإِتيان، وحينئذٍ يُسْتَغْنَى عن ذلك الضمير المحذوف. ولا يختصُّ ذلك بقراءة القصرِ، بل يجوزُ أن تكونَ مصدريةً مع المدِّ أيضاً على أَن المصدرَ واقعٌ موقع المفعولِ، تقديرُه: إذا سلَّمتم الإِعطاء، أي المُعْطَى والظاهرُ في «ما» أن يكونَ المرادُ بها الأجرةَ التي تُعْطاها المرضعُ، والخطابُ على هذا في قولِه:«سَلَّمتم» و «آتيتم» للآباء خاصةً، وأجازوا أن يكونَ المرادُ
بها الأولادَ، قاله قتادة والزهري. وفيه نظرٌ من حيث وقوعُها على العقلاء، وعلى هذا فالخطابُ في «سَلَّمتم» للآباء والأمهاتِ.
وقرأ عاصم في رواية شيبان: «أُوتيتم» على البناء للمجهول ومعناه: ما آتاكم الله وأَقْدركم عليه من الأجرة، وهو في معنى قولِه تعالى:{وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد: 7] قوله: {بالمعروف} فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أَنْ يتعلَّق ب «سَلَّمْتم» أي: بالقولِ الجميلِ. والثاني: أنْ يتعلَّق ب «آتيتم» ، والثالثُ: أن يكونَ حالاً من فاعل «سَلَّمْتم» أو «آتيتم» ، فالعاملُ فيه حينئذٍ محذوفٌ أي: ملتبسين بالمعروفِ.
قولُه تعالى: {والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ} الآية: فيه أوجهٌ: الأولُ: أَنَّ «الذين» مبتدأٌ لا خبرَ له، بل أَخْبر عن الزوجات المتصلِ ذِكْرُهُنَّ به، لأنَّ الحديثَ معهنَّ في الاعتدادِ، فجاء الخبرُ عن المقصود، إذ المعنى: مَنْ مات عنها زوجُها تربَّصت. وإليه ذهب الكسائي والفراء، وأنشد الفراء:
995 -
لعَلِّيَ إنْ مَالَتْ بِيَ الريحُ مَيْلَةً
…
على ابن أبي ذِبَّانَ أَنْ يتندَّما
فقال: «لعلي» ثم قال: «أن يتندم» فأخبر عن ابن أبي ذبَّان، فترك
المتكلم، إذا التقديرُ: لعل ابن أبي ذبان أن يتندَّمَ إنْ مالت بي الريحُ ميلةً. وقال آخر:
996 -
بني أسدٍ إنَّ ابن قَيسٍ وقَتْلَه
…
بغيرِ دَمٍ دارُ المَذَلَّةِ حُلَّتِ
فأخبرَ عن قتلِه بأنه دارُ مذلَّة، وتَرَكَ الإِخبار عن ابن قيس.
وتحريرُ مذهبِ الكسائي والفراء أنه إذا ذُكِر اسمٌ، وذُكِر اسمٌ مضافٌ إليه فيه معنى الإِخبارِ تُرِك عن الأولِ وأُخْبِر عن الثاني/ نحو:«إنَّ زيداً وأخته منطلقةٌ» ، المعنى: أنَّ أخت زيد منطلقة، لكنَّ الآية الكريمة والبيتَ الأول ليسا من هذا الضربِ، وإنما الذي أورده تشبيهاً بهذا الضرب قوله:
997 -
فَمَنْ يكُ سائِلاً عني فإني
…
وجِرْوَةَ لا تَرُودُ ولا تُعارُ
ولتحرير هذا المذهب والردِّ عليه وتأويلِ دلائِله كتابٌ غيرُ هذا.
الثاني: أَنَّ له خبراً وهو «يتربَّصْن» ولا بُدَّ من حذفٍ يصحِّحُ وقوعَ هذه الجملةِ خبراً عن الأول لخلوِّها من الرابط، والتقديرُ: وأزواجُ الذين يُتَوفَّوْن يتربَّصْنَ. ويدلُّ على هذا المحذوفِ قولُه: «ويَذَرون أزواجاً» فَحُذِفَ المضافُ وأقيم المضافُ إليهُ مُقامَه لتلك الدلالةِ. الثالث أن الخبرَ أيضاً «يتربَّصْن» ولكن حُذِفَ العائدُ من الكلامِ لدلالةِ عليه، والتقدير: يتربصن بعدهم أو بعد موتِهم، قاله الأخفش. الرابع: أنَّ «يتربَّصْنَ» خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ، التقديرُ: أزواجُهم يتربَّصْنَ، وهذه الجملةُ خبرٌ عن الأول، قاله المبردُ. الخامس: أنَّ
الخبرَ محذوفٌ بجملتِه قبلَ المبتدأ، تقديرُه: فيما يُتْلى عليكم حكمُ الذين يُتَوَفَّوْن، ويكون قولُه «يتربَّصْنَ» جملةً مبيِّنَةً للحكم ومفسِّرة له، فلا موضع لها من الإِعرابِ، ويُعْزى هذا لسيبويه. قال ابن عطية:«وحكى المهدويُّ عن سيبويه أنَّ المعنى:» وفيما يُتْلَى عليكم الذين يُتَوَفَّون، ولا أعرفُ هذا الذي حكاه، لأنَّ ذلك إنما يتَّجهُ إذا كان في الكلام لفظُ أمرٍ بعد المبتدأ نحو قوله تعالى:{والسارق والسارقة فاقطعوا} [المائدة: 38]، {الزانية والزاني فاجلدوا} [النور: 2] ، وهذه الآيةُ فيها معنى الأمر لا لفظُه، فتحتاجُ مع هذا التقديرِ إلى تقديرِ آخر يُسْتغنى عنه إذا حَضَرَ لفظُ الأمرِ «. السادس: أنّ بعضَ الجملةِ قَام مَقام شَيءً مضافٍ إلى عائدِ المبتدأ، والتقديرُ:» والذين يُتَوفَّون منكم ويذرون أزواجاً يتربصُ أزواجُهم «فَحُذِف» أزواجهُم «بجملته، وقامَتِ النون التي هي ضميرُ الأزواج مَقامَهُنَّ بقيدِ إضافتهنَّ إلى ضميرِ المبتدأ.
وقراءةُ الجمهورِ «يُتَوَفَّوْنَ» مبنياً لِما لم يُسَمَّ فاعلُه، وقرأ مير المؤمنين - ورواها المفضل عن عاصم - بفتح الياء على بنائه للفاعل، ومعناها يَسْتوفون آجالَهم، قاله أبو القاسم الزمخشري.
والذي يُحكى أن أبا الأسود كان خلفَ جنازةٍ فقال له رجل: مَن المتوفِّي؟ بكسر الفاء، فقال: اللهُ، وكان أحدَ الأسباب الباعثة لعلي رضي الله عنه على أَنْ أمرَه بوضعِ كتابٍ في النحو. [وهذا] تُناقِضُه هذه القراءة.
وقد تقدَّم احتمالات في قوله: «يَتَرَبَّصْنَ بأنفسِهن ثلاثةَ قُروء» وهل «
بأنفسهن» تأكيدٌ أو لا؟ وهل نصبُ «قروء» على الظرفِ أو المفعوليةِ؟ وهي جاريةٌ ههنا.
قوله: {مِنكُمْ} في محلِّ نصبٍ على الحالِ من مرفوعِ «يَتَوَفَّوْن» والعاملُ فيه محذوفٌ تقديره: حالَ كونِهم منكم. و «مِنْ» تحتمل التبعيض وبيانَ الجنسِ.
قوله: {وَعَشْراً} إنما قال «عشراً» من غير تأنيثٍ في العدد لأحد أوجهٍ، الأولُ: أنَّ المراد «عَشْر ليال» . مع أيامِها، وإنما أوثرت الليالي على الأيام في التاريخ لسَبْقها. قال الزمخشري:«وقيل» عَشْراً «ذهاباً إلى الليالي، والأيامُ داخلةٌ فيها، ولا تراهم قطُّ يستعملون التذكيرَ ذاهبين فيه إلى الأيام، تقول:» صُمْت عشراً «، ولو ذكَّرْت خَرَجْتَ من كلامِهم، ومن البيِّن قولُه تعالى:{إِن لَّبِثْتُمْ إِلَاّ عَشْراً} [طه: 103]، {إِن لَّبِثْتُمْ إِلَاّ يَوْماً} [طه: 104] .
والثاني - وهو قولُ المبرد -: أَنَّ حَذْف التاء لأجلِ أنَّ التقديرَ عشرُ مُدَدٍ كلُّ مدة منها يومٌ وليلةٌ، تقول العرب:» سِرْنا خمساً «أي: بين يوم وليلة قال:
998 -
فطافَتْ ثلاثاً بين يومٍ وليلةٍ
…
وكان النكيرُ أَنْ تُضِيفَ وتَجْأرا
والثالث: أنَّ المعدودَ مذكرٌ وهو الأيام، وإنما حُذِفَت التاء لأنَّ المعدودَ
المذكَّر متى ذُكِرَ وَجَبَ لَحاقُ التاء في عدده، وإذا حُذِفَ لفظاً جاز في العددِ الوجهان: ذِكْرُ التاءِ وعدمُها. حكى الكسائي:» صُمْنَا من الشهرِ خمساً «، ومنه الحديث:» وأتبعَه بستٍّ من شوال «، وقال آخر:
999 -
وإلَاّ فسيري مثلَ ما سار راكبٌ
…
تيمَّمَ خَمْساً ليس في سيره أَمَمْ
نَصَّ النحويون على ذلك. قال الشيخ:» فلا يُحْتَاج إلى تأويلها بالليالي ولا بالمُدَد كما قدَّره الزمخشري والمبرد على هذا «قال:» وإذا تقرر هذا فجاء قولُهُ: «وعشراً» على أحدِ الجائزين، وإنما حَسُنَ حذفُ التاءِ هنا لأنه مقطعُ كلامٍ فهو شبيهٌ بالفواصِلِ، كما حَسَّنَ قولَه:{إِن لَّبِثْتُمْ إِلَاّ عَشْراً} [طه: 103] كونُه فاصلةً، فقوله:«ولو ذَكَّرْتَ لخرَجْتَ من كلامهم» ليس كما ذكر، بل هو الأفصحُ. وفائدةُ ذكره «إن لبثتم إلَاّ يوماً» بعد قولِهِ «إلا عَشْراً» أنه على زعمِهِ أرادَ الليالي والأيامُ داخلةٌ معها، فقولُهُ «إلا يوماً» دليلٌ على إرادةِ الأيام «، قال الشيخ:» وهذا عندنا يَدُلُّ على أنَّ المرادَ بالعشر الأيامُ، لأنهم اختلفوا في مُدَّة اللَّبْث، فقال بعضُهم:«عشراً» وقال بعضُهم: «يوما» فدلَّ على أنَّ المقابَلَ باليومِ إنما هو أيام، إذ لا يَحْسُنُ في المقابَلَةِ أن يقولَ بعضُهم: عشرُ ليال، فيقول البعضُ: يومٌ «.
قوله: {بالمعروف} فيه أربعةُ أوجهٍ، أحدُها: أن يكونَ حالاً من فاعل «فَعَلْنَ» أي: فَعَلْنَ ملتبساتٍ بالمعروفِ ومصاحباتٍ له. والثاني: أنه مفعولٌ به أي: تكونُ الباءُ باءَ التعدية. والثالثُ: أن يكونَ نعتَ مصدر محذوفٍ أي:
فَعَلْنَ فِعْلاً بالمعروف، أي: كائناً، ويجيءُ فيه مذهب/ سيبويه: أنه حالٌ من ضميرِ المصدرِ المعرفةِ أي: فَعَلْنَه - أي الفعلَ - ملتبساً بالمعروفِ وهو الوجهُ الرابعُ.
و «بما تعملون» متعلق ب «خبيرٌ» . وقُدِّمَ لأجلِ الفاصلةِ. و «ما» يجوزُ أن تكونَ مصدريةً وأن تكونَ بمعنى الذي أو نكرةً موصوفة، وهو ضعيفٌ. وعلى هذين القولين فلا بدَّ من عائدٍ محذوفٍ، وعلى الأولِ لا يُحتاج إليه إلا على رأيٍ ضعيفٍ.
قوله تعالى: {مِنْ خِطْبَةِ النسآء} : في محل نصبٍ على الحالِ وفي صاحبها وجهان، أحدُهما: الهاءُ المجرورةُ في «به» ، والثاني:«ما» المجرورُة ب «في» ، والعاملُ على كِلا التقديرين محذوفٌ، وقال أبو البقاء:«حالٌ من الهاءِ المجرورةِ، فيكونُ العاملُ فيه» عَرَّضْتم «. ويجوزُ أن يكونَ حالاً من» ما «فيكونُ العاملُ فيه الاستقرارَ» . وهذا على ظاهره ليس بجيد، لأنَّ العاملَ فيه محذوفٌ على ما تقرَّر، إلا أَنْ تريدَ من حيث المعنى لا الصناعةُ فقد يجوزُ له ذلك.
والخِطْبَةُ مصدرٌ مضافٍ للمفعول أي: من خِطْبَتِكم النساء، فَحُذِفَ الفاعلُ للعلم به. والخِطْبَةُ مصدرٌ في الأصل بمعنى الخَطْب، والخَطْب: الحاجة، ثم خُصَّت بالتماس النكاح لأنه بعضُ الحاجات، يقال: ما خطبُكَ؟ أي: ما حاجتُك. وقال الفراء: «الخِطْبَةُ مصدرٌ بمعنى الخَطْب وهي من قولك: إنه لَحَسَنُ الجِلْسَةِ والقِعْدَةِ أي: الجلوس والقعود، والخُطْبَةُ -
بالضم - الكلامُ المشتملُ على الوعظِ والزجرِ، وكلاهما من الخَطْب الذي هو الكلام، وكانت سَجاحُ يُقال لها خِطْبٌ فتقول: نِكْحٌ.
قوله: {أَوْ أَكْنَنتُمْ} » أو «هنا للإِباحةِ أو التخيير أو التفصيلِ أو الإِبهامِ على المخاطب، وأَكَنَّ في نفسِهِ شيئاً أي: أَخْفاه، وَكَنَّ الشيء بثوبٍ ونحوهِ: أي سَتَرَهُ به، فالهمزةُ في» أكنَّ «للتفرقة بين الاستعمالَيْنِ كأشرَقَتْ وشَرَقَتْ. ومفعول» أكنَّ «محذوفٌ يعودُ على» ما «الموصولةِ في قوله:» فيما عَرَّضْتم «أي: أو أكننتموه. ف» في أنفسكم «متعلِّقٌ ب» أَكْنَنتم «، ويَضْعُفُ جَعْلُهُ حالاً من المفعولِ المقدَّرِ.
قوله: {ولكن} هذا الاستدراكُ فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه استدراكٌ من الجملةِ قبلَه، وهي قولُهُ:» ستذكرونَهُنَّ «، فإنَّ الذِّكْرَ يقع على أنحاءٍ كثيرةٍ ووجوهٍ متعددةٍ، فاسْتُدْرِكَ منه وجهٌ نُهِيَ فيه عن ذِكْرٍ مخصوص، ولو لم يُسْتَدْرَك لكانَ من الجائز، لاندراجِهِ تحت مطلقِ الذِّكْرِ. وهو نظيرُ:» زيدٌ سيلقى خالداً ولكنْ لا يواجهُهُ بِشَرٍّ «. لمَّا كانت أَحوالُ اللقاءِ كثيرةً، من جملتها مواجهتُه بالشرِّ، استُدْرِكَت هذه الحالةُ من بينِها. والثاني - قاله أبو البقاء - قاله الزمخشري - أنَّ المُسْتَدْرَكَ منه جملةٌ محذوفةٌ قبل» لكنْ «تقديرُهُ:» فاذكروهُنَّ، ولكن لا تواعِدُوهُنَّ سراً «وقد تقدَّم أنَّ المعنى على
الاستدراكِ من الجملةِ قبلَه فلا حاجَةَ إلى حذفِ. . .، وإنما الذي يَحْتاجه ما بعدَ» لكن «وقوعُ ما قبلَها من حيثُ المعنى لا من حيثُ اللفظُ، لأنَّ نَفْيَ المواجهةِ بالشرِّ يستدعي وقوعَ اللقاءِ.
قوله: {سِرّاً} فيه خمسةُ أوجهٍ، أحدُها: أن يكونَ مفعولاً ثانياً لتواعِدُوهُنَّ.
والثاني أنه حالٌ من فاعلِ «تواعدوهُنَّ» أي: لا تواعدوهُنَّ مُسْتَخْفين بذلك. والثالث: أنه نعت مصدرٍ محذوفٍ أي: مواعدةً سراً. والرابعُ: أنه حالٌ من ذلكَ المصدرِ المُعَرَّفِ، أي: المواعدةَ مستخفيةً والخامس: أَنْ ينتصِبَ على الظرفِ مجازاً أي: في سِرٍّ. وعلى الأقوالِ الأربعةِ فلا بُدَّ من حَذْفِ مفعولٍ تقديرُهُ: لا تواعدوهُنَّ نكاحاً.
والسِّرُّ: ضدُّ الجَهْرِ، وقيل: يُطْلَقُ على الوَطْءِ وعلى الزِّنا بخصوصيةٍ، وأنشدوا للحُطَيئة:
1000 -
ويَحْرُم سِرُّ جارتِهم عليهم
…
ويأكلُ جارُهُمْ أُنُفَ القِصاعِ
وقولَ الآخر - هو الأعشى -:
1001 -
ولا تَقْرَبَنَّ جارةً إنَّ سِرَّها
…
حَرامٌ عليكَ فانكِحَنْ أو تَأَبَّدا
قوله: {إِلَاّ أَن تَقُولُواْ} في هذا الاستثناءِ قولان، أحدُهما: أنه استثناءٌ منقطعٌ لأنه لا يندرجُ تحت «سِرّ» على أيِّ تفسيرٍ فَسَّرْتَه، به، كأنه [قال] : لكنْ قولوا قولاً معروفاً. والثاني: أنه متصلٌ وفيه تأويلان ذكَرهما الزمخشري
فإنه قال: «فإنْ قلتَ بِمَ يَتَعَلَّقُ حرفُ الاستثناءِ؟ قلت: ب» لا تواعِدُوهُنَّ «، أي: لا تواعِدُوهُنَّ مواعَدةً قط إلا مواعدةً معروفة غيرَ مُنْكَرةٍ، أو لا تواعِدُوهُنَّ إلا بِأَنْ تقولوا، أي: لا تواعدوهُنَّ إلَاّ بالتعريض، ولا يكونُ استثناءً منقطعاً من» سراً «لأدائِهِ إلى قولِكَ: لا تواعِدوهُنَّ إلا التعريضَ» انتهى. فَجَعَلَهُ استثناءً متصلاً مفرغاً على أحدِ تأويلين، الأولُ: أنه مستثنى من المصدرِ، ولذلك قَدَّره: لا تواعِدُوهُنَّ مواعدةً قط إلَاّ مواعدةً معروفةً. والثاني: أنه من مجرورٍ محذوفٍ، ولذلك قَدَّره ب «إلَاّ بأَنْ تقولوا» ، لأنَّ التقديرَ عنده: لا تواعِدُوهُنَّ بشيء إلا بِأَنْ تقولوا، ثم أَوْضَحَ قولَه بأنْ تقولوا بالتعريضِ، فلمَّا حُذِفَتْ الباءُ من «أَنْ» وهي باءُ السببيةِ بقي في «أَنْ» الخلافُ المشهورُ بعدَ حَذْفِ حرفِ الجرِّ، هل هي في محلِّ نصبٍ أم جر؟ وقولُهُ:«لأدائِهِ إلى قولِكَ إلى آخره» يعني أنه لا يَصِحُّ تسلُّط العاملِ عليه فإنَّ القولَ المعروفَ عندَهُ المرادُ به التعريضُ، وأنت لو قلت:«لا تواعِدُوهُنَّ/ إلَاّ التعريض» لم يَصِحَّ لأنَّ التعريضَ ليس مواعداً.
ورَدَّ عليه الشيخ بأنَّ الاستثناءَ المنقطعَ ليس مِنْ شرطِهِ صِحَّةُ تسلُّطِ العاملِ عليه بل هو على قسمين: قسمٍ يَصِحُّ فيه ذلك، وفيه لغتان: لغةُ الحجازِ وجوبُ النصب مطلقاً نحو: «ما جاء أحدُ ألا حماراً» ، ولغةُ تميم إجراؤه مُجْرى المتصلِ فيُجْرون فيه النصبَ والبدلية بشرطه، وقسم لا يَصِحُّ فيه ذلك نحو:«ما زادَ إلا ما نَقَصَ» ، و «ما نفَعَ إلا ما ضَرَّ» . وحكمُ هذا النصبُ عند العربِ قاطبةً، فالقسمان يشتركان في التقديرِ بلكن عند البصريين، إلَاّ أنَّ أحدَهما يَصِحُّ تسلُّط العاملِ عليه في قولك:«ما جاء أَحدٌ إلا حمار» لو قلت: «ما جاءَ إلا حمارٌ» صَحَّ بخلافِ القسمِ الثاني، فإنَّه
لا يتوجَّه عليه العاملُ «ولتحقيقِ هذا موضعٌ هو أليقُ به، وقد تقدَّمَ منه طرفٌ صالحٌ.
قوله: {عُقْدَةَ} في نصبهِ ثلاثةُ أوجه، أحدُها: أنه مفعولٌ به على أنه ضَمَّنَ «عَزَم» معنى ما يتعدَّى بنفِسِه وهو: تَنْووا أو تباشِروا ونحوُ ذلك. والثاني: أنه منصوبٌ على إسقاطِ حرفِ الجر وهو «على» ، فإنَّ «عَزَم» يتعدَّى بها، قال:
1002 -
عَزَمَتُ على إقامةِ ذي صباحٍ
…
لأمرٍ ما يُسَوَّدُ مَنْ يَسُودُ
وحذفها جائز كقول عنترة:
1003 -
ولقد أبيتُ على الطَّوى وأظلُّه
…
حتى أنالَ به كريمَ المَطْعَمِ
أي: وأظلُّ عليه. الثالثُ: أنه منصوبٌ على المصدرِ، فإنَّ المعنى: ولا تَعْقِدُوا عقدةَ، فكأنه مصدرٌ على غير الصدرِ، نحو: قَعَدْتُ جلوساً، والعُقْدَةُ مصدرٌ مضافٍ للمفعولِ والفاعلُ محذوفٌ، أي: عُقْدَتَكم النكاحَ.
قوله: {فاحذروه} الهاءُ في «فاحذَرُوه» تعودُ على اللَّهِ تعالى، ولا بُدَّ من حذفِ مضافٍ أي: فاحذَرُوا عقابَه. ويَحْتَمِلُ أَنْ تعودَ على «ما» في قوله {مَا في أَنْفُسِكُمْ} بمعنى ما في أنفسكم من العَزْمِ على ما لا يجوزُ، قاله الزمخشري.
أقوالٍ، أظهرُها: أن تكونُ مصدريةً ظرفيةً، تقديرُهُ: مدةَ عدمِ المَسيس كقوله:
1004 -
إني بحبلِكَ واصلٌ حَبْلِي
…
وبريش نَبْلِكَ رائِشٌ نَبْلي
ما لم أَجِدْكَ على هُدَى أَثَرٍ
…
يَقْرُو مِقَصَّكَ قائِفٌ قَبْلي
والثاني: أن تكونَ شرطيةً بمعنى إنْ، نقله أبو البقاء. وليس بظاهرٍ، لأنه يكونُ حينئذٍ من بابِ اعتراضِ الشرطِ على الشرطِ، فيكونُ الثاني قيداً في الأول نحو:«إنْ تأتِ إنُ تُحْسِنْ إليَّ أكرمْك» أي: إنْ أتيتَ مُحْسِناً، وكذا في الآيةِ الكريمة: إنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ غيرَ ماسِّين لَهُنَّ، بل الظاهرُ أنَّ هذا القائل إنما أرادَ تفسير المعنى، لأنَّ «ما» الظرفيةَ مُشَبَّهةُ بالشرطيةِ، ولذلك تقتضي التعميم. والثالث: أن تكونَ موصولة بمعنى الذي، وتكونُ للنساءِ؛ كأنه قيلَ: إنْ طَلَّقْتُمْ النساءَ اللائي لم تَمَسُّوهُنَّ، وهو ضعيفٌ، لأنَّ «ما» الموصولةَ لا يُوصَفُ بها، وإنْ كان يوصفُ بالذي والتي وفروعِهِا.
وقرأ الجمهورُ: «تَمَسُّوهُنَّ» ثلاثياً وهي واضحةٌ. وقرأ حمزة والكسائي: «تماسُّوهُنَّ» من المفاعلَةِ، فيُحْتَمَلُ أَنْ يكونَ فاعَلَ بمعنى فَعَل كسافر، فتوافِقَ الأولى، ويُحْتَمل أَنْ تكونَ على بابِها من المشاركَةِ، فإنَّ الفعلَ مِن الرجلِ والتمكينَ من المرأةِ، ولذلك قيلَ لها زانيةٌ. ورجَّح الفارسي
قراءة الجمهورِ بأنَّ أفعالَ هذا البابِ كلَّها ثلاثيةٌ نحو: نكح فرع سفد وضربَ الفحلُ.
قوله: {أَوْ تَفْرِضُواْ} فيه أربعةُ أوجهٍ، أحدها: أنه مجزومٌ عطفاً على «تَمَسُّوهُنَّ» ، و «أَو» على بابها من كونِها لأحدِ الشيئين، قاله ابن عطية. والثاني: أنه منصوبٌ بإضمار أَنْ عطفاً على مصدرٍ متوهمٍ، و «أو» بمعنى إلَاّ التقدير: ما لم تَمَسُّوهُنَّ إلا أَنْ تَفْرِضُوا، كقولِهِم: لألزَمَنَّكَ أو تقضيَني حقي، قاله الزمخشري. والثالث: أنه معطوفٌ على جملةٍ محذوفةٍ تقديره: «فَرَضْتُم أو لم تَفْرِضُوا» فيكونُ هذا من بابِ حذفِ الجزمِ وإبقاءِ عمله، وهو ضعيفٌ جداً، وكأنَّ الذي حَسَّنَ هذا كونُ لفظِ «لم» موجوداً قبل ذلك. والرابع: أن تكونَ «أو» بمعنى الواو، و «تَفْرِضُوا» عطفاً على «تَمَسُّوهُنَّ» فهو مجزومٌ أيضاً.
قوله: {فَرِيضَةً} فيها وجهان، أظهرُهما: أنها مفعولٌ به وهي بمعنى مفعولة، أي: إلَاّ أَنْ تَفْرِضُوا لهنَّ شيئاً مفروضاً. والثاني: أن تكونَ منصوبةً على المصدرِ بمعنى فَرْضاً. واستجود أبو البقاء الوجهَ الأولَ، قال:«وأَنْ يكونَ مفعولاً به وهو الجيدُ» والموصوفُ محذوفٌ تقديرُهُ: متعةً مفروضةً.
قوله: {وَمَتِّعُوهُنَّ} قال أبو البقاء: «وَمَتِّعُوهُنَّ معطوفٌ على فعلٍ محذوف تقديرُهُ: فَطَلِّقُوهُنَّ ومَتِّعُوهُنَّ» . وهذا لا حاجَةَ إليه، فإنَّ الضميرَ
المنصوبَ في «مَتِّعوهن» عائدٌ على المطلقاتِ قبل المسيسِ وقبلَ الفَرْضِ، المذكورَيْن في قولِه:{إِن طَلَّقْتُمُ النسآء} إلى آخرها.
قوله: {عَلَى الموسع قَدَرُهُ} ، جملةٌ من مبتدأ وخبرٍ، وفيها قولان، أحدُهما: أنها لا محلَّ لها من الإِعراب، بل هي استئنافيَّةٌ بَيَّنَتْ حالَ المُطَلِّقِ بالنسبةِ إلى إيسارِهِ وإقتارِهِ. والثاني: أنها في موضعِ نصبٍ على الحالِ، وذو الحال/ فاعل «متِّعوهن» . قال أبو البقاء:«تقديرُهُ: بقَدر الوُسْع» ، وهذا تفسير معنىً. وعلى جَعْلِهَا حاليةً فلا بُدَّ من رابطٍ بينها وبين صاحبها، وهو محذوفٌ تقديرهُ: على الموسِع منكم. ويجوزُ على مذهبِ الكوفيين ومَنْ تابعهم أن تكونَ الألفُ واللامُ قامَتْ مقامَ الضميرِ المضافِ إليه تقديرُهُ: «على مُوْسِعِكُم قَدَرُه» .
وقرأ الجمهورُ: «المُوسِعِ» بسكونِ الواو وكسرِ السينِ اسمَ فاعِلٍ من أَوْسع يُوسع. وقرأ أبو حيوة بفتح الواو والسين مشددة، اسمَ مفعولٍ من «وسَّعَ» . وقرأ حمزة والكسائي وابن ذكوان وحفص:«قَدَرَه» بفتحِ الدالِ في الموضعين، والباقون بسكونِها.
واختلفوا: هل هما بمعنىً واحدٍ أو مختلفان؟ فذهب أبو زيد والأخفش وأكبرُ أئمةِ العربيةِ إلى أنهما بمعنىً واحدٍ، حكى أبو زيد:«خُذْ قَدَر كذا وقَدْر كذا» ، بمعنى واحدٍ، قال:«ويُقْرَأُ في كتابِ اللَّهِ:» فسالتْ
أوديةٌ بقدَرها «و» قَدْرها «، وقال: {وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ} [الرعد: 17] ولو حُرِّكَت الدالُ لكان جائزاً. وذهبَ جماعةٌ إلى أنهما مختلفانِ، فالساكنُ مصدرٌ والمتحركُ اسمٌ كالعَدِّ والعَدَدِ والمَدِّ والمَدَد، وكأنَّ القَدْر بالتسكين الوُسْعُ، يقال:» هو يُنفق على قَدْرِهِ «أي وُسْعِهِ. وقيل: بالتسكين الطاقةُ، وبالتحريك المقدارُ. قال أبو جعفر:» وأكثرُ ما يُسْتَعْمَل بالتحريكِ إذا كان مساوياً للشيءِ، يُقال:«هذا على قدَر هذا» .
وقرأ بعضهم بفتحِ الراء، وفي نصبِه وجهان، أحدُهما: أن يكونَ منصوباً على المعنى، قال أبو البقاء:«وهو مفعولٌ على المعنى، لأنَّ معنى» مَتِّعوهن «لِيُؤَدِّ كلٌّ منكم قدَرَ وُسْعِهِ» وشَرْحُ ما قاله أن يكونَ من باب التضمين، ضَمَّنَ «مَتِّعوهنَّ» معنى «أدُّوا» . والثاني: أن يكونَ منصوباً بإضمارِ فعلٍ تقديرُهُ: فَأَوْجِبوا على الموسِعِ قَدَره. وجعله أبو البقاء أجودَ من الأول. وفي السجاوندي: «وقال ابن أبي عبلة:» قَدَرَه أي قَدَرَه الله «انتهى. وظاهِرُ هذا أنه قرأ بفتحِ الدالِ والراءِ، فيكونُ» قَدَرَه «فعلاً ماضياً، وجَعَلَ فيه ضميراً فاعلاً يعودُ على اللِّهِ تعالى، والضميرُ المنصوبُ يعود على المصدرِ المفهومِ من» مَتِّعوهن «. والمعنى: أنَّ الله قَدَرَ وكَتَبَ الإِمتاعَ على المُوسِعِ وعلى المُقْتِرِ.
قوله: {مَتَاعاً} في نصبِهِ وجهان، أحدُهما: أنه منصوبٌ على المصدرِ، وتحريرُه أنه اسمُ مصدرٍ، لأنَّ المصدرَ الجاريَ على صَدْرِهِ إنَّما هو التمتيعُ، فهو من بابِ:
{أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً} [نوح: 17] . وقال الشيخ: «قالوا: انتصَبَ على المصدرِ، وتحريرُهُ أن المتاعَ هو ما يُمَتَّع به، فهو اسمٌ له، ثم أُطْلِقَ على المصدرِ على سبيلِ المجازِ، والعامِلُ فيه:» وَمَتِّعوهُنَّ «وفيه نظرٌ، لأنَّ المعهود أنْ يُطلَق المصدرُ على أسماءِ الأعيان كضَرْب بمعنى مَضْروب، وإمَّا إطلاقُ الأعيان على المصدرِ فلا يجوزُ، وإنْ كانَ بعضُهم جَوَّزه على قلةٍ نحو قولهم:» تِرْبَاً وَجَنْدلاً «و» أقائماً وقد قَعَدَ الناسُ «. والصحيح أن» تِرْباً «ونحوَه مفعولٌ به، و» قائماً «نصبٌ على الحالِ.
والثاني من وَجْهَي» متاعاً «أن يَنْتَصِبَ على الحالِ. والعاملُ فيه ما تضمَّنه الجارُّ والمجرورُ من معنى الفعلِ، وصاحبُ الحالِ ذلك الضميرُ المستكنُّ في ذلك العاملِ، والتقديرُ: قَدَرُ الموسِعِ يستقرُّ عليه في حالِ كونِهِ متاعاً.
قوله: {بالمعروف} فيه وجهان، أحدُهما: أَنْ يتعلَّقَ بمتِّعوهن فتكون الباءُ للتعديةِ. والثاني: أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنه صفةٌ لمتاعا، فيكونَ في محلِّ نصبٍ، والباءُ للمصاحبةِ، أي: متاعاً ملتبساً بالمعروفِ. وجَوَّز الحوفي وجهاً ثالثاً وهو أنْ يتعلَّقَ بنفسِ» متاعاً «.
قوله: {حَقّاً} في نصبِه أربعةُ أوجهٍ، أحدُهما: أنه مصدرٌ مؤكِّدٌ لمعنى الجملةِ قبله كقولِك:» هذا ابني حقاً «وهذا المصدرُ يَجبُ إضمارُ عامِله
تقديرُه: حَقَّ ذلك حقاً. ولا يجوزُ تقديمُ هذا المصدر على الجملةِ قبلَه. والثاني: أَنْ يكونَ صفةً لمتاعاً، أي: متاعاً واجباً على المحسنين. والثالث: أنه حالٌ مِمَّا كان حالاً منه» متاعاً «، وهذا على رأي مَنْ يجيز تعدُّد الحالِ. والرابعُ: أن يكونَ حالاً من» المعروف «، أي بالذي عُرِف في حالِ وجوبِه على المحسنين. و» على المحسنين «يجوزُ أن يتعلَّقَ بحقاً، لأنه بمعنى الواجبِ، وأَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ لأنه صفةٌ له.
قولُه تعالى: {وَقَدْ فَرَضْتُمْ} : هذه الجملةُ في موضع نصبٍ على الحالِ، وذو الحالِ يجوزُ أن يكونَ ضميرَ الفاعلِ، وأَنْ يكونَ ضميرَ المفعولِ لأنَّ الرابطَ موجودٌ فيهما. والتقديرُ: وإنْ طَلَّقتموهنَّ فارِضين لهن أو مفروضاً لهن، و «فريضة» فيهما الوجهان المتقدمان.
والفاءُ في «فنصفُ» جوابُ الشرطِ، فالجملةُ في محلِّ جزمِ جواباً للشرطِ، وارتفاعُ «نصفُ» على أحدِ وجهين: إمَّا الابتداءُ والخبر حينئذ محذوفٌ، وإنْ شِئْتَ قَدَّرْتُه قبله، أي: فعليكم أو فَلَهُنَّ نصفُ، وإنْ شِئْتَ بعدَه أي: فنصفُ ما فرضتُم عليكم - أو لَهُنَّ - وإمَّا على خبرِ مبتدأٍ محذوفٍ تقديرُه: فالواجبُ نصفُ.
وقرأ فرقة: «فنصفَ» بالنصبِ على تقدير: «فادْفَعُوا أو أَدُّوا» . وقال أبو البقاء: ولو قُرِىء بالنصبِ لكان وجهُه «فأَدُّوا نصفَ» فكأنه لم يَطَّلِعْ عليها قراءةً مرويَّةً.
والجمهورُ على كسر نونِ «نِصْف» . وقرأ زيد وعلي، ورواها
الأصمعي قراءةً عن أبي عمرو: «فَنُصف» بضمِّ النون هنا وفي جميع القرآن، وهما لغتان. وفيه لغةٌ ثالثة:«نَصيف» بزيادةِ ياءٍ، ومنه الحديث:«ما بَلَغ مُدَّ أحدِهم ولا نَصِيفه» و «ما» في «ما فرضتم» بمعنى الذي، والعائدُ محذوفٌ لاستكمالِ الشروطِ، ويَضْعُفُ جَعْلُها نكرةً موصوفةً/.
قوله: {إَلَاّ أَن يَعْفُونَ} في هذا الاستثناءِ وجهان، أحدُهما: أن يكونَ استثناءً منقطعاً، قال ابن عطية وغيرُه:«لأنَّ عفوهُنَّ عن النصف ليس من جنسِ أَخْذِهِنَّ» . والثاني: أنه متصلٌ، لكنه من الأحوال، لأنَّ قولَه:{فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} معناه: فالواجبُ عليكم نصفُ ما فَرَضْتُم في كلِّ حال إلا في حالِ عَفْوِهِنَّ، فإنه لا يَجِبُ، وإليه نحا أبو البقاء، وهذا ظاهرٌ، ونظيرُه:{لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَاّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ} [يوسف: 66] . قال الشيخ: «إلَاّ أَنْ مَنْ مَنَعَ أَنْ تَقع أَنْ وصلتُها حالاً كسيبويه فإنه يمنعُ ذلك، ويكونُ حينئذٍ منقطعاً» .
وقرأ الحسن «يَعْفُونَه» بهاء مضمومةٍ، وفيها وجهان، أحدهما: أنها ضميرٌ يعودُ على النصفِ. والأصلُ: إلَاّ أَنْ يَعْفُونَ عنه، فَحُذِف حرفُ الجرِّ، فاتصل الضميرُ بالفعلِ. والثاني: أنها هاءُ السكتِ والاستراحةِ، وإنما ضَمَّها تشبيهاً بهاءِ الضميرِ كقول الآخر:
1005 -
هم الفاعلونَ الخيرَ والآمرونَه
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
على أحدِ التأويلين في البيت أيضاً.
وقرأ ابن أبي إسحاق: «تَعْفُون» بتاءِ الخطابِ، ووجهُها الالتفاتُ من ضميرِ الغَيْبة إلى الخطابِ، وفائدةُ هذا الالتفاتِ التحضيضُ على عَفْوِهِنَّ وأنه مندوبٌ.
و «يَعْفُون» منصوبٌ بأَنْ تقديراً فإنَّه مبنيٌّ لاتصالِه بنونِ الإِناثِ. هذا رأيُ الجمهور. وأمَّا ابن درستويه والسهيلي فإنه عندهما معربٌ. وقد فَرَّق الزمخشري وأبو البقاء بين قولك: «الرجالَ يَعْفُون» و «النساءُ يَعْفُون» وإنْ كان هذا من واضحاتِ النحو: بأنَّ قولك «الرجالُ يَعْفُون» : الواو فيه ضميرُ جماعة الذكورِ وحُذِفت قبلها واوٌ أخرى هي لام الكلمة، فإن الأصل: يَعْفُوُون فاستُثْقلت الضمةُ على الواوِ الأولى فحُذِفَتْ فبقيت ساكنة، وبعدها واو الضمير أيضاً ساكنةً، فحُذِفت الواو الأولى لئلَاّ يتلقى ساكنان، فوزنُه يَفْعُون والنونُ علامة الرفعِ فإنه من الأمثلةِ الخمسةِ.
وأنَّ قولك: «النساء يَعْفُون» الواوُ لامُ الكلمةِ والنونُ ضميرُ جماعةِ الإِناثِ، والفعلُ معها مبنيٌّ لا يَظْهَرُ للعامِل فيه أثرٌ. وقد ناقش الشيخُ الزمخشريَّ بأنَّ هذا من الواضحات التي بأدنى قراءة في هذا العلمِ تُعْرَفُ، وبأنه لم يبيِّن حَذْفَ الواو من قولك «الرجال يعفون» وأنه لم يذكر خلافاً في بناء المضارع المتصل بنون الإِناث، وكلُّ هذا سهلٌ لا ينبغي أن يُنَاقَشَ بمثلِه.
قوله: {أَوْ يَعْفُوَاْ الذي} «أو» هنا فيها وجهان، أحدُهما: هي للتنويع. والثاني: أنها للتخييرِ. والمشهورُ فتحُ الواوِ عطفاً على المنصوبِ قبله. وقرأ
الحسن بسكونِها، استثقل الفتحةَ على الواوِ فقدَّرها كما يقدِّرُها في الألف، وسائرُ العرب على استخفافها، ولا يجوزُ تقديرُها إلا في ضرورةٍ كقوله - هو عامر بن الطفيل -:
1006 -
فما سَوَّدَتْني عامِرٌ عن وراثةٍ
…
أبى اللَّهُ أَنْ أَسْمو بأمٍّ ولا أَبِ
ولَمَّا سَكَّن الواوَ حُذِفَتْ للساكن بعدَها وهو اللامُ من «الذي» . وقال ابنُ عطية: «والذي عندي أنه استثقل الفتحةَ على واو متطرفةٍ قبلها متحركٌ لقلَّةِ مجيئِها في كلامِهم، وقال الخليلُ:» لم يَجِيء في الكلامِ واوٌ مفتوحةٌ متطرفةٌ قبلَها فتحةٌ إلا قولُهم: «عَفَوة» جمع عَفْو، وهو ولدُ الحِمار، وكذلك الحركةُ - ما كانت - قبلَ الواو المفتوحةِ فإنَّها ثقيلةٌ «انتهى. قالَ الشيخ:» فقوله: لقلَّةِ مجيئها يعني مفتوحةً مفتوحاً ما قبلَها، وهذا الذي ذكره فيه تفصيلٌ، وذلكَ أنَّ الحركةَ قبلَهَا: إمَّا أَنْ تكونَ ضمةً أو كسرةً أو فتحةً. فإنْ كانَتْ ضمةً: فإمَّا أَنْ يكونَ ذلك في اسم أو فعلٍ، فإنْ كان في فعلٍ فهو كثيرٌ، وذلك جميعُ أمثلةِ المضارعِ الداخلِ عليها حرفُ نصبٍ نحو:«لَنْ يغزُوَ» ، والذي لحِقَه نونُ التوكيد منها نحو:«هلَ يَغْزُوَنَّ» ، وكذا الأمرُ نحو:«اغزُوَنَّ» ، وكذا الماضي على فَعُل في التعجِب نحو: سَرُوَ الرجل، حتى إن ذوات الياء تُرَدُّ إلى الواو في التعجب فيقولون:«لَقَضُوَ الرجلُ» ، على ما أُحْكِم في بابِ التصريف. وإنْ كان ذلك في اسم: فإمَّا أن يكونَ مبنياً
على هاءِ التأنيث فيكثرُ أيضاً نحو: عَرْقُوة وتَرْقُوة وقَمَحْدُوَة. وإنْ كان قبلها فتحة فهو قليل كما ذكر الخليل، وإن كان قبلها كسرةٌ قُلِبت الواوُ ياءً نحو: الغازي والغازية، وشَذَّ من ذلك «أَفْرِوَة» جمع فَرِوَة وهي مَيْلَغَةُ الكلب، و «سواسِوَة» وهم: المستوون في الشر، و «مقاتِوَة» جمعُ مُقْتَوٍ وهو السائسُ الخادِمُ.
وتلخَّص من هذا أنَّ المرادَ بالقليلِ واوٌ مفتوحةٌ متطرفةً ما قبلها في اسم غيرٍ ملتبسٍ بتاءِ التأنيثِ، فليس قولُ ابنِ عطية «والذي عندي إلى آخره» بظاهر.
والمرادُ بقولِه: {الذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح} قيل: الزوجُ: وقيلَ: الوليُّ، وأل في النكاحِ للعهدِ، وقيد بدلٌ من الإِضافةِ، أي: نكاحُه كقوله:
1007 -
لهمْ شَيمَةٌ لم يُعْطِها اللهُ غيرَهم
…
من الجودِ، والأحلامُ غيرُ عَوازِبِ
أي أحلامُهم، وهذا رأيُ الكوفيين. وقال بعضُهم: في الكلامِ حذفٌ تقديره: بيده حلُّ عقدةِ النكاحِ، كما قيل ذلك في قوله:{وَلَا تعزموا عُقْدَةَ النكاح} [البقرة: 235] أي عَقْدَ عقدة النكاح وهذا يؤيِّد أنَّ المرادَ الزوجُ/.
قوله: {وَأَن تعفوا أَقْرَبُ} «أن تَعْفُوا» في محل رفع بالابتداء لأنه في تأويل «عَفْوُكم» ، و «أقربُ» خبره. وقرأ الجمهور «تَعْفُوا» بالخطاب، والمرادُ الرجالُ والنساءُ، فَغَلَّبَ المذكَّرَ، والظاهرُ أنه للأزواجِ خاصةً، لأنهم المخاطَبون في صدرِ الآيةِ، وعلى هذا فيكونُ التفاتاً من غائبٍ، وهو قولُه:{الذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح} - على قولنا أنَّ المرادَ به الزوجُ وهو المختارُ - إلى الخطابِ الأولِ في صدرِ الآيةِ. وقرأ
الشعبي وأبو نهيك: «يَعْفوا» بياء من تحت. قال الشيخ: «جعله غائباً، وجُمِع على معنى:» الذي بيدِه عقدةُ النكاح «لأنه للجنس لا يُراد به واحد» يعني أنَّ قولَه: «وأن يَعْفوا» أصله «يَعْفُوُون» فلمَّا دَخَل الناصبُ حُذِفَتْ نونُ الرفعِ ثم حُذِفَتِ الواوُ التي هي لامُ الكلمةِ، وهذه الياءُ فيه هي ضميرُ الجماعةِ، جُمِعَ على معنى الموصولِ، لأنه وإنْ كان مفرداً لفظاً فهو مجموعٌ في المعنى لأنه جنسٌ. ويظهر فيه وجهٌ آخرُ، وهو أن تكونَ الواوُ لامَ الكلمةِ، وفي هذا الفصلِ ضميرٌ مفردٌ يعودُ على الذي بيده عقدةُ النكاحِ، إلا أنه قَدَّر الفتحة في الواوِ استثقالاً كما تقدَّم في قراءةِ الحسن، تقديرُه: وأَنْ يعفو الذي بيده عقدةُ.
قوله: {للتقوى} متعلِّقٌ بأقرب، وهي هنا للتعديةِ، وقيل: بل هي للتعليلِ. و «أقربُ» تتعدَّى تارةً باللام كهذه الآيةِ، وتارةً بإلى كقولِه تعالى:{وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد} [ق: 16] . وليست «إلى» بمعنى اللام، وقيل: بل هي بمعناها، وهذا مذهبُ الكوفيين، أعني التجوُّزَ في الحروفِ. ومعنى اللامِ و «إلى» في هذا الموضعِ يتقارَبُ.
وقال أبو البقاء: «ويجوزُ في غيرِ القرآن:» أقربُ من التقوى وإلى التقوى «إلَاّ أنَّ اللامَ هنا تَدُلُّ على معنىً غير معنى» إلى «وغير معنى» مِنْ «، فمعنى اللامِ: العفو أقربُ من أجل التقوى، واللام تدلُّ على علة قرب العفو، وإذا قلت: أقربُ إلى التقوى كان المعنى: يقارب التقوى، كما تقول:
أنت أقربُ إليَّ، و» أقرب من التقوى «يقتضي أن يكونَ العفوُ والتقوى قريبَيْن، ولكنَّ العفوَ أشدُّ قُرباً من التقوى، وليس معنى الآية على هذا» انتهى.
فَجَعَلَ اللامَ للعلة لا التعديةِ، و «إلى» للتعديةِ.
واعلمْ أنَّ فِعْلَ التعجب وأفعلَ التفضيلِ يتعدَّيان بالحرفِ الذي يتعدَّى به فعلُهما قبل أن يكونَ تعجباً وتفضيلاً نحو: «ما أزهدني فيه وهو أزهدُ فيه» ، وإنْ كان من متعدٍّ في الأصلِ: فإن كان الفعلُ يُفْهِمُ علماً أو جَهْلاً تعدَّيا بالباءِ نحو: «هو أعلمُ بالفقه» ، وإنْ كان لا يُفْهِمُ ذلك تعدَّيا باللامِ نحو:«ما أضربَكَ لزيدٍ» ، و «أنت أضربُ لعمروٍ» إلَاّ في بابِ الحُبِّ والبغضِ فإنهما يتعدَّيان إلى المفعولِ ب «في» نحو:«ما أحبَّ زيداً في عمروٍ وأبغضه في خالدٍ، وهو أحبُّ في بكر وأبغض في خالد» وإلى الفاعل المعنوي ب «إلى» نحو: «زيدٌ أحبُّ إلى عمروٍ من خالد، وما أحبَّ زيداً إلى عمرو» ، أي: إنَّ عمراً يحبُ زيداً. وهذه قاعدةٌ جليلةٌ قَلَّ مَنْ يَضْبِطُها.
والمُفَضَّلُ عليه في الآيةِ الكريمةِ محذوفٌ، تقديرُه: أقربُ للتقوى من تَرْكِ العفوِ. والياءُ في التقوى بدلٌ من واو، وواوُها بدلٌ من ياءٍ لأنها من وَقَيْتُ أقِي وقايةً، وقد تقدَّم ذلك أول السورةِ.
قوله: {وَلَا تَنسَوُاْ الفضل} الجمهورُ على ضَمِّ الواو مِنْ «تَنْسَوا» لأنها واوُ ضميرٍ. وقرأ ابن يعمر بكسرِها تشبيهاً بواو «لو» كما ضَمُّوا الواو من «لو» تشبيهاً بواوِ الضميرِ. وقال أبو البقاء «في واو» تَنْسَوا «من القراءات ووجوهها ما ذكرناه في {اشتروا الضلالة} [البقرة: 16] . وكان قد قَدَّم فيها خمسَ قراءاتٍ، فظاهرُ كلامِه عَوْدُها كلِّها إلى هنا، إلَاّ أنه لم يُنْقَلْ هنا إلا الوجهان اللذان ذَكَرْتُهما.
وقرأ عليٌّ رضي الله عنه:» ولا تناسَوا «قال ابن عطية:» وهي قراءةُ متمكِّنةٌ في المعنى، لأنه موضعُ تناسٍ لا نسيانٍ، إلَاّ على التشبيه «. وقال أبو البقاء: على بابِ المفاعلة، وهي بمعنى المتاركةِ لا بمعنى السهو، وهو قريبٌ من قولِ ابنِ عطية.
قوله: {بَيْنَكُمْ} فيه وجهان، أحدُهما: أنه منصوبٌ ب» تَنْسَوُا «. والثاني: أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ من الفضلِ أي: كائناً بينكم. والأولُ أَوْلى لأنَّ النهيَ عن فِعْلٍ يكونُ بينَهم أبلغَ من فعلٍ لا يكونُ بينهم.
قوله تعالى: {حَافِظُواْ} : في «فاعَل» هنا قولان، أحدُهما: أنه بمعنى فَعِل كطارَقْتُ النعل وعاقَبْتُ اللصَّ. ولمَّا ضَمَّن المحافظةَ معنى المواظبةِ عَدَّاها ب «على» الثاني: أنَّ «فاعَل» على بابِها من كونِها بين اثنين، فقيل: بين العبدِ وربِّه، كأنه قيل: احفَظْ هذه الصلاةَ يحفظْكَ اللهُ. وقيل: بين العبدِ والصلاةِ أي: احفَظْها تحفَظْك.
وقال أبو البقاء: «ويكون وجوبُ تكريرِ الحفظِ جارياً مَجْرى الفاعِلين، إذ كان الوجوبُ حاثَّاً على الفعلِ، فكأنه شريكُ الفاعلِ للحفظ، كما قالوا في {وَاعَدْنَا موسى} [البقرة: 51] فالوعدُ من اللهِ والقَبولُ من موسى بمنزلةِ الوعد. وفي» حافِظوا «معنىً لا يوجَدُ في» احفظوا «وهو تكريرُ الحفظ» وفيه نظر؛ إذ المفاعلةُ لا تَدُلُّ على تكريرِ فعلٍ البتةِ.
قوله: {والصلاة الوسطى} ذَكَر الخاصَّ بعد العامَّ، وقد تقدَّم فائدُته عند قولِه:{مَن كَانَ عَدُوّاً للَّهِ} [البقرة: 98]، والوُسْطى: فُعْلَى معناها التفضيلُ، فإنها مؤنثةٌ للأوسط، كقولِه - يمدح الرسول عليه السلام:
1008 -
يا أوسطَ الناسِ طُرَّاً في مفاخِرهمْ
…
وأكرمَ الناسِ أمَّا بَرَّةً وأَبَا
وهي [من] الوسطِ الذي هو الخِيارُ/ وليست من الوَسَطِ الذي معناه: متوسطٌ بين شيئين، لأنَّ فُعْلى معناها التفضيلُ؛ ولا يُبْنى للتفضيل إلا ما يَقْبل الزيادةَ والنقصَ، والوَسَطُ بمعنى العَدْل والخيارِ يقبلُهما بخلافِ المتوسطِ بين الشيئين فإنه لا يَقْبَلُهما فلا يُبْنى منه أفعلُ التفضيل.
وقرأ علي: «وعلى الصلاة» بإعادةِ حرفِ الجَرِّ توكيداً، وقَرَأَتْ عائشةُ رضي الله عنها «والصلاةَ» بالنصبِ، وفيها وجهان، أحدُهما على الاختصاصِ، ذكرَه الزمخشري، والثاني على موضعِ المجرورِ، مثلُه نحو: مررتُ بزيدٍ وعَمْراً، وسيأتي بيانُه في المائدة.
قوله: {قَانِتِينَ} حالٌ من فاعلِ «قوموا» . و «لله» يجوزُ أَنْ تتعلَّقَ اللامُ بقوموا، ويجوزُ أنَ تتعلَّق بقانتين، ويدلُّ للثاني قولُه تعالى:{كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ} [البقرة: 116] . ومعنى اللامِ التعليلُ.
قوله تعالى: {فَرِجَالاً} : منصوبٌ على الحالِ، والعاملُ فيه محذوفٌ تقديرُه: «فَصَلُّوا رجالاً، أو فحافِظُوا عليها رِجالاً وهذا أَوْلَى لأنه
و» رجال «جَمْعُ راجِل كقائِم وقيام، وصاحِب وصِحاب، يُقال منه: رَجِل يَرْجَلُ رَجْلاً، فهو راجِلٌ ورَجُلٌ بوزن عَضُد، وهي لغةُ الحجازِ، يقولونَ: رَجِل فلانٌ فهو رَجُلٌ ويقال: رَجْلان ورَجِيل قال الشاعر:
1009 -
عليَّ إذا لاقَيْتُ ليلى بخُفْيَةٍ
…
أَنَ أزدارَ بيتَ اللهِ رَجْلانَ حافِيا
كلُّ هذا بمعنى مَشَى على قدميه لعدمِ المركوبِ. ولهذا اللفظ جموعٌ كثيرة: رِجال كما تقدَّم، وقال تعالى:{يَأْتُوكَ رِجَالاً وعلى كُلِّ ضَامِرٍ} [الحج: 27] ، وقال
1010 -
وبنو غُدانَةَ شاخِصٌ أبصارُهُمْ
…
يَمْشُون تحتَ بُطونِهِنَّ رِجَالا
ورَجِيل ورُجالى، وتُروى قراءةً عن عكرمة، ورَجالى ورَجَّالة ورُجَّال وبها قرأ عكرمةُ وابن مَخْلد، ورُجَّالى ورُجلان ورِجْلة ورَجْلَة بسكونِ الجيمِ وفتحِها وأَرْجِلَة وأراجِل وأراجِيل ورُجَّلاً بضم الراءِ وتشديد الجيمِ من غير ألفٍ، وبها قُرِىء شاذَاً.
ورُكْبَان جمع راكِب، قيل: ولا يُقال إلَاّ لِمَنْ رَكِبَ جَمَلاً، فأمَّا راكبُ الفرسِ ففارسٌ، وراكبُ الحمار والبغل حَمَّار وبَغَّال، والأَجْوَدُ صاحبُ حمارٍ وبَغْلٍ. و» أو «هنا للتقسيمِ وقيلَ: للإِباحةِ، وقيل: للتخييرِ.
قوله: {كَمَا عَلَّمَكُم} الكافُ في محلِّ نصبٍ: إمَّا نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ، أو حالاً من ضميرِ المصدر المحذوفِ، ويجوزُ فيها أن تكونَ للتعليلِ أي: فاذكروه لأجلِ تعليمِهِ إياكم. و» ما «يجوزُ أَنْ تكونَ مصدريةً وهو الظاهرُ، ويجوزُ أَنْ تكونَ بمعنى الذي، والمعنى: فصَلُّوا الصلاةَ كالصلاةِ التي عَلَّمكم، وعَبَّر بالذكر عن الصلاةِ، ويكونُ التشبيهُ بين هيئتي الصلاتين الواقعةِ قبلَ الخوفِ وبعدَه في حالةِ الأمنِ. قال ابنُ عطية:» وعلى هذا التأويلِ يكونُ قولُه: {مَّا لَمْ تَكُونُواْ} بدلاً من «ما» في «كما» وإلَاّ لَم يَتَّسِقْ لفظُ الآية «قال الشيخ:» وهو تخريجٌ ممكِنٌ، وأحسنُ منه أن يكونَ «ما لم تكونوا» بدلاً من الضمير المحذوفِ في «عَلَّمكم» العائدِ على الموصول، إذ التقديرُ: عَلَّمكموه، ونَصَّ النحويون على أنه يجوزُ: ضَرَبْتُ الذي رأيتُ أخاك «أي: رأيته أخاك، فأخاك بدلٌ من العائدِ المحذوف» .
قوله تعالى: {والذين يُتَوَفَّوْنَ} فيه ثمانية أوجهٍ، أحدُها: أنه مبتدأ، و «وصيةًٌ» مبتدأٌ ثانٍ، وسَوَّغَ الابتداءَ بها كونُها موصوفةً تقديراً، إذ التقديرُ:«وصيةٌ من الله» أو «منهم» على حَسَبِ الخلافِ فيها: أهي واجبةٌ من الله أو مندوبةٌ للأزواج؟ و «لأزواجِهم» خبرُ المبتدأ الثاني فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، والمبتدأُ الثاني وخبرُهُ خبرُ الأولِ. وفي هذه الجملةِ ضميرُ الأولِ. وهذه نظيرُ قولِهِم:«السمنُ مَنَوانِ بدرهمٍ» تقديرُهُ: مَنَوانِ منه، وجَعَلَ ابنُ عطية المسوِّغَ للابتداء بها كونَها في موضِعِ تخصيصٍ. قال:«كما حَسُنَ أَنْ يرتفعَ:» سلامٌ عليك «و» خيرٌ بين يديك «لأنها موضعُ دعاءٍ» وفيه نظرٌ.
والثاني: أن تكونَ «وصيةٌ» مبتدأٌ، و «لأزواجِهم» صفتَها، والخبرُ محذوفٌ، تقديرُهُ: فعليهم وصيةٌ لأزواجِهم، والجملةُ خبرُ الأول.
والثالث: أنها مرفوعةٌ بفعلٍ محذوفٍ تقديرُه: كُتِبَ عليهم وصيةٌ، و «لأزواجهم» صفةٌ، والجملةُ خبرُ الأولِ أيضاً. ويؤيِّد هذا قراءةُ عبدِ الله:«كُتِبَ عليهم وصيةٌ» وهذا من تفسيرِ المعنى لا الإِعرابِ، إذ ليس هذا من المواضعِ التي يُضْمَرُ فيها الفعْلُ.
الرابع: «أن» الذينَ «مبتدأٌ على حَذْفِ مضافٍ من الأولِ تقديرُهُ: ووصيةُ الذين.
والخامسُ: أنه كذلك إلا أنه على حَذْفِ مضاف من الثاني: تقديرُهُ:» والذين يُتَوَفَّوْنَ أهلُ وصية «ذكر هذين الوجهين الزمخشري. قال الشيخ:» ولا ضرورةَ تدعو إلى ذلك «.
وهذه الأوجُهُ الخمسةُ فيمنَ رَفَع» وصيةٌ «، وهم ابن كثير ونافع والكسائي وأبو بكر عن عاصم، والباقونَ يَنْصِبُونها، وارتفاعُ» الذين «على قراءتهم فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه فاعلُ فعلٍ محذوفٍ تقديرُهُ: وَلْيُوصِ الذين، ويكون نصبُ» وصية «على المصدر. والثاني: أنه مرفوعٌ بفعلٍ مبني للمفعولِ يتعدَّى لاثنين، تقديرُه: وأُلْزِم الذين يُتَوَفَّوْنَ/ ويكونُ نصبُ» وصية «على أنها مفعولٌ ثانٍ لألْزِمَ، ذكره الزمخشري. وهو والذي قبلَه ضعيفان؛ لأنه ليس من مواضع إضمار الفعل. والثالث: أنه مبتدأٌ وخبرُهُ محذوفٌ،
وهو الناصبُ لوصية تقديرُهُ: والذين يُتَوَفَّوْنَ يُوصُون وصيةً، وقَدَّرَهُ ابنُ عطية:» لِيوصوا «، و» وصيةً «منصوبةٌ على المصدرِ أيضاً. وفي حرفِ عبد الله:» الوصيةُ «رفعاً بالابتداء والخبرُ الجارُّ بعدها، أو مضمرٌ أي: فعليهم الوصيةُ: والجارُّ بعدَها حالٌ أو خبرٌ ثانٍ أو بيان.
قوله: {مَّتَاعاً} في نصبِهِ سبعةُ أوجهٍ، أحدُها: أنَّه منصوبٌ بلفظِ» وصية «لأنها مصدرٌ منونٌ، ولا يَضُرُّ تأنيثُها بالتاءِ لبنائِها عليها، فهي كقولِهِ:
1011 -
فلولا رجاءُ النصر مِنْكَ ورهبةٌ
…
عقابَك قد كانوا لنا كالموارِدِ
والأصلُ: وصيةٌ بمتاعٍ، ثم حُذِفَ حرفُ الجَرِّ اتساعاً، فَنُصِبَ ما بعدَه، وهذا إذا لم تَجْعَلِ «الوصية» منصوبةً على المصدرِ، لأنَّ المصدرَ المؤكِّد لا يعملُ، وإنما يجيء ذلك حالَ رفعِها أو نصبِها على المفعولِ كما تقدَّم تفصيلْهُ.
والثاني: أنه منصوبٌ بفعلٍ: إمَّا من لفظِهِ أي: مَتِّعوهن متاعاً أي: تمتيعاً، أو من غير لفظهِ أي: جَعَل اللَّهُ لهنَّ متاعاً. والثالث: أنه صفةٌ لوصيةٍ، والرابع: أنه بدلٌ منها. الخامس: أنه منصوبٌ بما نصبَها أي: يُوصُون متاعاً، فهو مصدرٌ أيضاً على غير الصدر ك «قَعَدْتُ جُلوساً» ، هذا فيمن نَصَبَ «وصية. السادس: أنه حالٌ من الموصين: أي مُمَتَّعين أو ذوي مَتاعٍ. السابع: أنه حالٌ من أزواجهم، أي: ممتعاتٍ أو ذواتِ متاع، وهي حالٌ مقدَّرة إن كانتِ الوصيةُ من الأزواج.
وقرأ أُبَيّ:» متاعٌ لأزواجِهِم «بدلَ» وصيةٌ «، ورُوي عنه» فمتاعٌ «، ودخولُ
الفاءِ في خبرِ الموصولِ لشبهِهِ بالشرطِ، وينتصِبُ» متاعاً «في هاتين الروايتين على المصدرِ بهذا المصدر، فإنه بمعنى التمتيع، نحو:» يعجبني ضربٌ لك زيداً ضرباً شديداً «ونظيرُه: {فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُوراً} [الإسراء: 63] و» إلى الحَوْلِ «متعلِّقٌ ب» مَتاع «أو بمحذوفٍ على أنه صفةٌ له.
قوله: {غَيْرَ إِخْرَاجٍ} في نصبِهِ ستةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه نعتٌ ل» متاعاً «. الثاني: أنه بدلٌ منه. الثالث: أنه حالٌ من الزوجات أي: غيرَ مخرجاتٍ. الرابع: أنه حالٌ من الموصين، أي: غيرَ مُخْرَجين. الخامس: أنه منصوب على المصدر تقديرُهُ: لا إخراجاً قاله الأخفش. السادس: أنه على حذفِ حرفِ الجرِّ، تقديرُهُ: مِنْ غيرِ إخراجٍ، قاله أبو البقاء، وفيه نظر.
قوله: {فِي مَا فَعَلْنَ في أَنْفُسِهِنَّ} هذان الجارَّان يتعلَّقان بما تعلَّق به خبرُ» لا «وهو» عليكم «من الاستقرارِ، والتقديرُ: لا جُنَاح مستقرٌّ عليكم فيما فَعَلْنَ في أنفسِهِنَّ. و» ما «موصولةٌ اسميةٌ والعائدُ محذوفٌ تقديرُهُ: فَعَلْنَهُ. و» مِنْ معروف «متعلِّقٌ بمحذوفٍ لأنه حالٌ من ذلك العائِد المحذوفِ تقديرُهُ. فيما فَعَلْنَه كائناً من معروف.
وجاء في هذه الآية» من معروفٍ «نكرةً مجرورةٌ ب» مِنْ «، وفي الآيةِ قبلها» بالمعروفِ «مُعَرَّفاً مجروراً بالباء لأنَّ هذه لامُ العهدِ، كقولك:» رأيتُ رجلاً فأكرمْتُ الرجلَ «إلَاّ أنَّ هذه وإنْ كانت متأخرةً في اللفظ فهي مُقَدَّمةٌ في التنزيل، ولذلك جَعَلَها العلماء منسوخةً بها إلا عند شذوذ. وتقدَّم نظائر هذه الجملِ، فلا حاجة إلى إعادةِ الكلامِ فيها.
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين} : هذه همزةُ الاستفهامِ دَخَلَتْ على حرفِ النفيِ، فَصَيَّرَتِ النفيَ تقريراً، وكذا كلُّ استفهامٍ دخَلَ على نفي نحو:{أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الانشراح: 1]{أَلَيْسَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36] فيمكن أن يكونَ المخاطبُ عَلِمَ بهذه القصةِ قبلَ نزولِ هذه الآيةِ، فيكونُ التقريرُ ظاهراً أي: قد رأيتَ حالَ هؤلاء، ويمكن أنه لم يَعْلَمْ بها إلا مِنْ هذه الآيةِ، فيكون معنى هذا الكلامِ التنبيهَ والتعجُّبَ من حالِ هؤلاءِ، والمخاطَبُ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم َ أو كُلُّ سامِعٍ. ويجوزُ أن يكونَ المرادُ بهذا الاستفهام التعجبَ من حالِ هؤلاءِ، وأكثرُ ما يَرِدُ كذلك:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين تَوَلَّوْاْ قَوْماً} [المجادلة: 14]{أَلَمْ تَرَ إلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظل} [الفرقان: 45]، وقالَ الشاعر:
1012 -
ألم تَرَ أني كلما جِئْتُ طارِقاً
…
وَجَدْتُ بها طِيباً وإنْ لم تَطَيَّبِ
والرؤية هنا عِلْمية فكانَ من حَقِّها أن تتعدَّى لاثنين، ولكنها ضُمِّنَتْ معنى ما يتعدَّى بإلى، والمعنى: ألم ينته علمُك إلى كذا. وقال الراغب: «رأيت: يتعدَّى بنفسه دونَ الجارِّ، لكن لما استعيرَ قولُهم:» ألم تَرَ «بمعنى ألم تَنْظُر عُدِّيَ تعديتَه، وقَلَّما يُستعمل ذلك في غيرِ التقديرِ، لا يُقال: رأيت إلى كذا» .
وقرأ السلمي: «تَرْ» بسكون الراء، وفيها وجهان، أحدُهما: أنه تَوَهَّم أن الراءَ لامُ الكلمةِ فسَكَّنَهَا للجزمِ كقولِهِ:
1013 -
قالَتْ سُلَيْمَى اشترْ لنا سَوِيقاً
…
واشترْ فَعَجِّل خادِماً لَبِيقا
وقيل: هي لغة قوم، لم يكتفوا في الجزم بحذف حرف العلة. والثاني: أنه أَجْرى الوصلَ مُجْرى الوقف، وهذا أَوْلى فإنه كثيرٌ في القرآنِ نحوُ:«الظنونا» و «الرسولا» و «السبيلا» و «لم يَتَسَنَّهْ» «وبهداهم اقتده» وقوله: «ونُصْلِهِ» و «نؤته» و «يُؤدّه» ، وسيأتي ذلك.
قوله: {وَهُمْ أُلُوفٌ} مبتدأٌ وخبرٌ، وهذه الجملةُ في [موضع] نصبٍ على الحال، وهذا أحسنُ مجيئِها، إذ قد جُمَعَ فيها بين الواوِ والضمير. و «أُلوفٌ» فيه قولان، أظهرُهُما: أنه جمعُ «أَلْف» لهذا العَدَدِ الخاصِّ وهو جَمْعُ كثرةٍ، وجمعُ القلةِ: آلاف كحُمول وأَحْمال. والثاني: أَنه جَمْعُ «آلِف» على فاعِل كشاهد وشُهود وقاعِد وقُعود. أي: خَرَجوا وهم مؤتلفون، قال الزمخشري:«وهذا من بِدَع التفاسير» .
قوله: {حَذَرَ الموت} مفعولٌ من أجلِهِ، وفيه شروطُ النصبِ، أعني المصدريةَ واتحادَ الفاعلِ والزمانِ. /
قوله: {ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} فيه وجهانِ، أحدُهما: أنه معطوفٌ على معنى: فقالَ لهم اللَّهُ: موتوا، لأنه أَمْرٌ في معنى الخبرِ تقديرُهُ: فأماتَهُم اللَّهُ ثم أحياهُمْ. والثاني: أنه معطوفٌ على محذوفٍ، تقديرهُ: فماتوا ثم أحياهم، و «ثم» تقتضي تراخي الإِحياءِ عن الإِماتَةِ.
وألفُ «أحيا» عن ياء، لأنه من «حَيِيَ» ، وقد تقدَّم تصريفُ هذه المادةِ عند قولِه:{إِنَّ الله لَا يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً} [البقرة: 26] قوله: {إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ} أَتَى بهذه الجملةِ مؤكَّدة ب «إنَّ» واللام، وأتى بخبرِ «إنَّ» :«ذو» الدالة على الشرفِ بخلافِ «صاحب» . و «على الناسِ» متعلقٌ بفَضْل. تقول: تَفَضَّل فلان عليَّ، أو بمحذوفٍ لأنه صفة له فهو في محل جر، أي: فضلٍ كائنٍ على الناس. وأل في الناسِ للعمومِ، وقيل للعهدِ، والمرادُ بهم الذين أماتهم.
قوله: {ولكن أَكْثَرَ الناس} هذا استدراكٌ مِمَّا تَضَمَّنَهُ قولُهُ {إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس} ، لأنَّ تقديرَه: فيجِبُ عليهم أَنْ يشكُروا لتفضُّلِهِ عليهم بالإِيجادِ والرزق، ولكنَّ أكثرَهم غيرُ شاكرٍ.
قولُه تعالى: {وَقَاتِلُواْ} : هذه الجملةُ فيها أقوالٌ، أحدُها: أنها عطفٌ على قولِهِ: «موتوا» وهو أمرٌ لِمَنْ أَحْيَاهُم اللَّهُ بعدَ الإِماتَةِ بالجهادِ، أي: فقال لهم: مُوتوا وقاتِلوا، رُوي ذلك عن ابنِ عباس والضحاك. قال الطبري:«ولا وجهَ لهذا القولِ» . والثاني: أنها معطوفةٌ على قوله: {حَافِظُواْ عَلَى الصلوات} وما بينهما اعتراضٌ. والثالث: أنها معطوفةٌ على محذوفٍ تقديرُهُ «فَأَطِيعُوا وقاتِلوا، أو فلا تَحْذَروا الموتَ كما حَذِرَهُ الذين مِنْ
قَبْلِكُمْ فلم يَنْفَعهم الحذرُ» ، قاله أبو البقاء. والظاهرُ أنَّ هذا أمرٌ لهذه الأمةِ بالجهادِ، بعد أَنْ ذَكَرَ أن قوماً لم ينفعْهم الحذرُ من الموتِ، فهو تشيجعٌ لهم، فيكونُ من عطفِ الجملِ فلا يُشْتَرَطُ التوافُق في أمرٍ ولا غيرِه.
قوله تعالى: {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً} : «مَنْ» للاستفهام ومَحَلُّها الرفعُ على الابتداءِ، و «ذا» اسم إشارةٍ خبرُهُ، و «الذي» وصلتُهُ نعتٌ لاسمِ الإِشارةِ أو بدلٌ منه، ويجوزُ أن يكونَ «مَنْ ذا» كلُّه بمنزلَةِ اسمٍ واحدٍ تركَّبا كقولِكَ:«ماذا صَنَعْتَ» كما تقدَّم شرحُه في قوله: {مَاذَآ أَرَادَ الله} [البقرة: 26] . ومَنَع أبو البقاء هذا الوجه وفَرَّق بينه وبين قولِكَ: «ماذا» حيثُ يُجْعَلان اسماً واحداً بأنَّ «ما» أشدُّ إبهاماً مِنْ «مَنْ» لأنَّ «مَنْ» لمَنْ يَعْقِلُ. ولا معنى لهذا المنعِ بهذه العلةِ، والنحويون نَصُّوا على أنَّ حكمَ «مَنْ ذا» حكمُ «ماذا» .
ويجوز أن يكونَ «ذا» بمعنى الذي، وفيه حينئذٍ تأويلان، أحدُهما: أنَّ «الذي» الثاني تأكيدٌ له، لأنه بمعناه، كأنه قيل: مَنْ الذي الذي يُقْرِضُ؟ والثاني: أن يكونَ «الذي» خبرَ مبتدأٍ محذوفٍ، والجملةُ صلةُ ذا، تقديرهُ:«مَنْ الذي هو الذي يُقْرِضُ» وذا وصلتُه خبرُ «مَنِ» الاستفهامية. أجاز هذين الوجهين جمالُ الدين بن مالك، وهما ضعيفان، والوجهُ ما قَدَّمْتُهُ.
وانتصَبَ «قرْضاً» على المصدرِ على حذفِ الزوائدِ، إذ المعنى: إقراضاً كقوله: {أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً} [البقرة: 26]، وعلى هذا فالمفعولُ الثاني محذوفٌ تقديرُهُ:«يُقْرِض اللَّهَ مالاً وصدقةً» ، ولا بدَّ من حذفِ مضافًٍ تقديرهُ: يقرضُ
عبادَ اللَّهِ المحاويجَ، لتعاليه عن ذلك، أو يكونُ على سبيل التجوُّزِ، ويجوز أن يكونَ بمعنى المفعول نحو: الخَلْق بمعنى المخلوق، وانتصابُهُ حينئذٍ على أنه مفعولٌ ثانٍ ل «يُقْرِض» .
«وحَسَناً» يجوزُ أن يكونَ صفةً لقرضاً بالمعنيينِ المذكورين، ويجوز أن يكونَ نعتَ مصدرٍ محذوفٍ، إذ جعلنا «قَرْضاً» بمعنى مفعول أي: إقراضاً حسناً.
قوله: {فَيُضَاعِفَهُ} قرأ عاصم وابن عامر هنا، وفي الحديد بنصب الفاء، إلَاّ أنَّ ابنَ عامر يشدِّد العينَ من غير ألفٍ. والباقون برفعِها، إلَاّ أنَّ ابن كثير يشدِّد العينَ من غير ألفٍ، فالرفعُ من وجهين، أحدُهما: أنه عطفٌ على «يقرضُ» الصلةِ. والثاني: أنه رفعٌ على الاستئناف أي: فهو يُضاعِفُهُ، والأولُ أحسنُ لعدَمِ الإِضمارِ.
والنصبُ من وجهين، أحدُهما: أنه منصوبٌ بإضمارٍ «أَنْ» عطفاً على المصدر المفهومِ من «يقرضُ» في المعنى، فيكونُ مصدراً معطوفاً على مصدرٍ تقديرُهُ: مَنْ ذا الذي يكونُ منه إقراضٌ فمضاعفةٌ من اللَّهِ، كقوله:
1014 -
لَلُبْسُ عباءَةٍ وتَقرَّعيني
…
أحبُّ إليَّ مِنْ لُبْسِ الشفوفِ
والثاني: أنه نصبٌ على جوابِ الاستفهامِ في المعنى، لأنَّ الاستفهامِ وإنْ وَقَعَ عن المُقْرِضِ لفظاً فهو عن الإِقراضِ.
معنىً كأنه قال: أيقرضُ اللَّهَ أَحَدٌ فيضاعفَه.
قال أبو البقاء: «ولا يجوز أن يكونَ جوابَ الاستفهامِ على اللفظِ لأنَّ المُسْتَفْهَمَ عنه في اللفظِ المُقْرِضُ أي الفاعلُ للقرضِ، لا عن القرضِ، أي: الذي هو الفعلُ» وقد مَنَعَ بعضُ النحويين النصبَ بعد الفاء في جواب الاستفهام الواقعِ عن المسندِ إليه الحكمُ لا عن الحكمِ، وهو مَحْجوجٌ بهذه الآيةِ وغيرِها، كقوله:«مَنْ يستغفرُونِي فأغفرَ له، مَنْ يدعوني فأستجيبَ له» بالنصبِ فيهما.
قال أبو البقاء: «فإنْ قيلَ: لِمَ لَا يُعْطَفُ الفعلُ على المصدرِ/ الذي هو» قرضاً «كما يُعْطَفُ الفعلُ على المصدرِ بإضمار» أَنْ «مثلَ قولِ الشاعر:
1015 -
لَلُبْسُ عباءةٍ وتَقَرَّعَيْني
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
قيل: هذا لا يَصِحُّ لوجهين، أحدُهما: أنَّ» قرضاً «هنا مصدرٌ مؤكِّدٌ، والمصدرُ المُؤَكِّدِ لا يُقَدَّرُ ب» أَنْ «والفعلِ. والثاني: أنَّ عَطْفَهُ عليه يُوجِبُ أن يكونَ معمولاً ليقرضُ، ولا يَصِحُّ هذا في المعنى، لأن المضاعفَةَ ليستُ مُقْرِضَةً، وإنما هي فعلُ اللِّهِ تعالى، وتعليلُه في الوجهِ الأولِ يُؤْذِنُ بأنه يَشْتَرِط في النصبِ أنْ يُعْطَفَ على مصدرٍ يتقدَّر ب» أَنْ «والفعلِ، وهذا ليسَ بشرطٍ، بل يجوزُ ذلك وإن كان الاسمُ المعطوفُ عليه غيرَ مصدرٍ كقوله:
1016 -
ولولا رجالٌ من رِزامٍ أَعِزَّةٍ
…
وآلُ سبيعٍ أو أَسُوءَك عَلْقَما
ف» أسوءَك «منصوبٌ بأنْ عطفاً على» رجالٌ «فالوجهُ في مَنْعِ ذلك أنْ يُقال: لو عُطِفَ على» قرضاً «لشاركه في عاملِهِ وهو» يُقْرض «فيصيرُ التقديرُ: مَنْ ذا الذي يقرض مضاعفةً، وهذا ليسَ صحيحاً معنىً.
وقد تقدَّم أنه قرىء» يُضاعِفُ «و» يُضَعِّفُ «فقيل: هما بمعنىً، وتكونُ المفاعلَةُ بمعنى فَعَل المجرد، نحو: عاقَبْت، وقيل: بل هما مختلفان، فقيل: إنَّ المضعَّفَ للتكثير. وقيل: إنَّ» يُضَعِّف «لِما جُعِلَ مثلين، و» ضاعَفَه «لِما زيد عليه أكثرُ من ذلك.
والقَرْضُ: القَطْعُ، ومنه:» المِقْراضُ «لِما يُقْطَع به، وقيل للقَرْض» قرض «لأنه قَطْعُ شيءٍ من المالِ، هذا أصلُ الاشتقاقِ، ثم اختلف أهل العلم في» القَرْض «فقيل: هو اسمٌ لكلِّ ما يُلْتَمَسُ الجزاءُ عليه. وقيل: أن تُعْطِيَ شيئاً ليرجِعَ إليك مثلُهُ. وقال الزجاج:» هو البلاءُ حَسَناً كان أو سيئاً «.
قوله: {أَضْعَافاً} فيه ثلاثة أوجهٍ، أظهرُها: أنه حالٌ من الهاء في» يضاعِفُ «وهل هذه حالٌ مؤكِّدَةٌ أو مبيِّنة، الظاهرُ أنها مُبَيِّنَةٌ، لأنَّها وإنْ كانَتْ من لفظِ العامِلِ، إلَاّ أنَّها اختصَّتْ بوصفِها بشيءٍ آخرَ، فَفُهِمَ منها ما لا يُفْهَمُ من عاملِها، وهذا شأنُ المبيِّنة. والثاني: أنه مفعولٌ به على تضمين» يضاعِفُ «معنى يُصَيِّر، أي: يُصَيِّره بالمضاعَفَةِ أضْعافاً.
والثالث: أنه منصوبٌ على المصدرِ.
قال الشيخ: «قيل: ويجوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ على المصدرِ باعتبار أَنْ يُطْلَقَ الضِّعْفُ - وهو المضاعَفُ أو المضعَّفُ - بمعنى المضاعفَة أو التضعيف، كما أُطلِقَ العَطاء وهو اسمُ المُعْطَى بمعنى الإِعطاء. وجُمِعَ لاختلافِ جهاتِ التضعيفِ باعتبارِ اختلاف الأشخاصِ واختلاف المُقْرِضِ واختلافِ أنواعِ الجزاء» وسَبَقَه إلى هذا أبو البقاء، وهذه عبارتُهُ، وأنشد:
1017 -
أكفراً بعد ردِّ الموتِ عني
…
وبعدَ عطائِكَ المئةَ الرِّتاعا
والأَضْعافُ جمع «ضِعْف» ، والضِّعْفُ مثل قَدْرَيْنِ متساويين. وقيل: مثلُ الشيء في المِقْدَارِ. ويقال: ضِعْفُ الشيء: مثلُهُ ثلاثَ مرات، إلَاّ أنه إذا قيل «ضعفان» فقد يُطْلَقُ على الاثنين المِثْلَيْنِ في القَدْرِ من حيث إنَّ كلَّ واحدٍ يُضَعِّفُ الآخرَ، كما يقال زَوْجان، من حيث إنَّ كلاً منهما زوجٌ للآخر.
وقرأ أبو عمرو [وابن عامر وحمزة وحفص وقنبل]«وَيَبْسُطُ» بالسين على الأصلِ، والباقون بالصادِ لأجل الطاء. وقد تقدَّم تحقيقُه في «الصراط» .
قوله تعالى: {مِن بني} : فيه وجهان، أحدُهما: أنه صلةٌ للملأ على مذهب الكوفيين، لأنهم يَجْعِلون المعرَّفَ بأل موصولاً ويُنْشِدُون:
1018 -
لَعَمْرِي لأنتَ البيتُ أُكَرِمُ أهلَه
…
وأَقْعُدُ في أفنائِهِ بالأصائِلِ
فالبيت موصولٌ، فعلى هذا لا محلَّ لهذا الجارِّ من الإِعرابِ. والثاني: أنه متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه حال من الملأ، و «مِنْ» للتبعيض، أي: في حالِ كونِهم بعضَ بني إسرائيل.
والملأ: الأشْرافُ، سُمُّوا بذلك لأنهم يَمْلَؤُون العيونَ هيبةً، [أو المجالسَ إذا حَضَروا]، أو لأنهم مَليئون بما يُحْتاج إليهم فيه. وقال الفراء: «الملأُ: [الرجالُ في كلِّ القرآن، وكذلك] القومُ والرهطُ والنفرُ، ويُجْمع على أَمْلاء، قال:
1019 -
وقالَ لها الأملاءُ من كلِّ مَعْشَرٍ
…
وخيرُ أقاويل الرجالِ سديدُها
وهو اسمُ جمعٍ لا واحدَ له من لفظه كالقومِ والرهطِ.
و {مِن بَعْدِ موسى} متعلِّقٌ بما تعلَّقَ به الجارُّ الأولُ وهو الاستقرار، ولا يَضُرُّ اتحادُ الحرفينِ لفظاً لاختلافِهما معنىً، فإنَّ الأولى للتبعيض والثانيةَ لابتداءِ الغايةِ. وقال أبو البقاء:» مِنْ بعدِ «متعلِّقٌ بالجار الأول، أو بما تعلَّق به الأول» يعني بالأول: «من بني» ، وجعله عاملاً في «مِنْ بعد» لِما تضمَّنه من الاستقرار، فلذلك نَسَبَ العملَ إليه، وهذا على رأي بعضِهم، يَنْسِبُ العمل للظرفِ والجارِّ الواقِعَيْن خبراً أو صفةً أو حالاً أو صلةً، فتقول في نحو:«زيدٌ في الدار أبوه» أبوه: فاعلٌ بالجارِّ، والتحقيقُ أنه فاعلٌ بالاستقرار الذي تعلَّق
به الجارُّ، وهو الوجهُ الثاني. وقَدَّر أبو البقاء مضافاً محذوفاً. تقديرُه: مِنْ بعدِ موتِ موسى، ليصِحَّ المعنى بذلك.
قوله: {إِذْ قَالُواْ} العاملُ في هذا الظرفِ أجازوا فيه وجهين، أحدُهما: أنه العاملُ في «مِنْ بعد» لأنَّه بدلٌ منه، إذ هما زمانان، قاله أبو البقاء والثاني: أنه «ألم تر» وكلاهما غيرُ صحيحٍ. أمَّا الأولُ فلوجهين. أحدُهما: من جهة اللفظِ، والآخرُ: مِنْ جهةِ المعنى. فأمّا الذي من جهةِ اللفظِ فإنه على تقدير إعادة «مِنْ» و «إذ» لا تُجَرُّ ب «مِنْ» . الثاني: أنه ولو كانَتْ «إذ» من الظروف التي تُجَرُّ ب «من» كوقت وحين لم يَصِحَّ ذلك أيضاً، لأنَّ العاملَ في «مِنْ بعد» محذوفٌ فإنه حالٌ تقديرُه: كائنين من بعد، ولو قلت: كائن من حين قالوا لنبيٍّ لهم ابعثْ لنا ملكاً لم يَصِحَّ هذا المعنى. وأمَّا الثاني فلأنه تقدَّم أن معنى «ألم تر» تقريرٌ للنفي، والمعنى: ألم ينته علمُك، أو قد نَظَرْتَ إلى الملأ، وليس انتهاءُ علمِه إليهم ولا نظرُه إليهم كان في وقتِ قولِهم ذلك، وإذا لم تكنْ ظرفاً للانتهاءِ ولا للنظر فكيف تكونُ معمولاً لهما أو لأحدِهما؟
وإذ قد بَطَلَ هذان الوجهان فلا بُدَّ له من عاملٍ يَصِحُّ به المعنى وهو محذوفٌ، تقديرُه: ألم تَر إلى قصة الملأ أو حديثِ الملأ أو ما في معناه؛ وذلك لأنَّ الذواتِ لا يُتَعَجَّبُ منها، إنما يُتَعَجَّبُ من أحداثها، فصار المعنى: ألم تَرَ إلى ما جرى للملأ من بني إسرائيل إلى آخرها، فالعاملُ هو ذلك المجرورُ، ولا يَصِحُّ إلا به لِما تَقدَّم.
قوله: {لِنَبِيٍّ} متعلِّقٌ ب «قالوا» ، فاللامُ فيه للتبليغ، و «لهم» متعلقٌ
بمحذوفٍ لأنه صفةٌ لنبي، ومحلُّه الجرُّ، و «ابعَثْ» وما في حَيِّزه في محلِّ نصبٍ بالقولِ. و «لنا» الظاهرُ أنه متعلِّقٌ بابعَثْ، واللامُ للتعليلِ أي: لأجلِنا.
قوله: {نُّقَاتِلْ} الجمهورُ بالنونِ والجزمِ على جوابِ الأمر. وقرىء بالياء والجزمِ على ما تقدَّم، وابنُ أبي عبلة بالياءِ ورفعِ اللامِ على الصفةِ لملكاً، فمحلُّها النصبُ. وقُرىء بالنونِ ورفعِ اللام على أنها حالٌ من «لنا» فمحلُّها النصبُ أيضاً أي: ابعَثْه، لنا مقدِّرين القتال، أو على أنها استئنافُ جوابٍ لسؤالٍ مقدَّرٍ كأنه قال لهم: ما يَصْنعون بالملكِ؟ فقالوا نقاتِلْ.
قوله: {هَلْ عَسَيْتُمْ} عسى واسمُها، وخبرُها {أَلَاّ تُقَاتِلُواْ} والشرطُ معترضٌ بينهما، وجوابُه محذوفٌ للدلالة عليه، وهذا كما توسَّط في قوله:{وَإِنَّآ إِن شَآءَ الله لَمُهْتَدُونَ} [البقرة: 70] ، وهذا على رأي مَنْ يَجْعَلُ «عسى» داخلةً على المبتدأ والخبرِ، ويقولُ إنَّ «أَنْ» زائدةٌ لئلا يُخْبَرَ بالمعنى عن العين. وأمّا مَنْ يرى أنّها تُضَمَّنُ معنى فعلٍ متعدٍ فيقولُ:«عَسَيْتم» فعلٌ وفاعلٌ، و «أَنْ» وما بعدَها مفعولٌ به تقديرُه: هل قَارَبْتُم عدم القتالِ، فهي عنده ليسَتْ من النواسخِ، والأولُ هو المشهورُ.
وقرأ نافع «عَسِيْتُم» هنا وفي القتال: بكسرِ السينِ، وهي لغةٌ مع تاءِ الفاعلِ مطلقاً/ ومع ن، ومع نونِ الإناثِ نحو: عَسِينا وعَسِين، وهي لغةُ الحجاز، ولهذا غَلِطَ مَنْ قال:«عسى تُكْسَرُ مع المضمر» وأَطْلَقَ، بل كان ينبغي
له أن يُقَيِّدَ بما ذَكَرْتُ، إذ لا يقال: الزيدان عَسِيا والزيدون عَسِيوا بالكسرِ البتة.
وقال الفارسي: «ووجهُ الكسرِ قولُ العربِ:» هو عَسٍ بكذا «مثلَ: حَرٍ وشَجٍ، وقد جاء فَعَل وفَعِل في نحو: نَقَم ونَقِم، فكذلك عَسَيْتُ وعَسِيْتُ، فإنْ أُسْنِدَ الفعلُ إلى ظاهرٍ فقياسُ عَسِيتم - أي بالكسر - أن يقال:» عَسِيَ زيدٌ «مثل:» رَضِي زيدٌ «. فإن قيل فهو القياسُ، وإنْ لم يُقَلْ فسائِغٌ أن يُؤْخَذَ باللغتين، فتُسْتَعملَ إحداهما موضعَ الأخرى كما فُعِل ذلك في غيره» فظاهر هذه العبارة أنه يجوز كسرُ سينِها مع الظاهرِ بطريق القياسِ على المضمرِ، وغيرُه من النحويين يمنعُ ذلك حتى مع المضمر مطلقاً، ولكن لا يُلتفت إليه لورودِه متواتراً، وظاهرُ قوله «قولُ العرب: عسىٍ» أنه مسموعٌ منهم اسمُ فاعلها، وكذلك حكاه أبو البقاء أيضاً عن ابن الأعرابي، وقد نَصَّ النحويون على أن «عسى» لا تتصرَّف.
واعلم أنَّ مدلولَ «عسى» إنشاءٌ لأنها للترجي أو للإِشفاق، فعلى هذا: فكيف دَخَلَتْ عليها «هل» التي تقتضي الاستفهامَ؟ فالجوابُ أن الكلامَ محمولٌ على المعنى، قال الزمخشري:«والمعنى: هل قارَبْتم ألَاّ تقاتلوا، يعني: هل الأمرُ كما أتوقعه أنكم لا تقاتلون، أراد أن يقولَ: عَسَيْتُم ألَاّ تقاتلوا، بمعنى أتوقَّعُ جبنَكم عن القتالِ، فأدخلَ» هل «مستفهماً عما هو متوقعٌ عنده ومَظْنونٌ، وأرادَ بالاستفهام التقريرَ، وثَبَتَ أنّ المتوقَّع كائنٌ وأنه صائبٌ في توقعه، كقوله تعالى: {هَلْ أتى عَلَى الإنسان} [الإنسان: 1] معناه التقريرُ»
وهذا من أَحسنِ الكلامِ، وأحسنُ مِنْ قول مَنْ زعم أنها خبرٌ لا إنشاءٌ، مُسْتَدِلاً بدخولِ الاستفهام عليها، وبوقوعِها خبراً لإنَّ في قوله:
1020 -
لا تُكْثِرَنْ إني عَسَيْتُ صائماً
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وهذا لا دليلَ فيه لأنه على إضمار القولِ كقوله:
1021 -
إنَّ الذين قَتَلْتُمْ أمسِ سيِّدَهمْ
…
لا تَحْسَبُوا ليلَهم عن ليلكِم ناما
ولذلك لا توصلُ بها الموصولات خلافاً لهشام.
قوله: {وَمَا لَنَآ أَلَاّ نُقَاتِلَ} هذه الواوُ رابطةٌ لهذا الكلام بما قبلَه، ولو حُذِفَتْ لجازَ أن يكونَ منقطعاً مِمَّا قبله. و «ما» في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ، ومعناها الاستفهامُ، وهو استفهامُ إنكارٍ. و «لنا في محلِّ رفع خبر ل» ما «.
و» ألَاّ نقاتِلَ «فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أظهرُها: أنَّها على حذفِ حرفِ الجرِّ، والتقديرُ: وما لَنا في ألَاّ نقاتل، أي: في تركِ القتالِ، ثم حُذِفَتْ» في «مع» أَنْ «فجرى فيها الخلافُ المشهورُ بين الخليل وسيبويه: أهي في محلِّ جر أم نصبٍ؟ وهذا الجارَّ يتعلَّقُ بنفسِ الجارِّ الذي هو» لنا «، أو بما يتعلَّق هو به على حَسَبِ ما تقدَّم في {مِن بَعْدِ موسى} . والثاني: مذهبُ الأخفش أنَّ» أَنْ «زائدةٌ، ولا يَضُرُّ عملُهَا مع زيادتِها، كما لا يضرُّ ذلك في حروف الجرِ الزائدةِ، وعلى هذا فالجملةُ المنفيَّة بعدَها في محلِّ نصبٍ على الحال، كأنه
قيل: ما لَنا غيرَ مقاتِلين، كقولِه:{مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} [نوح: 13]{وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ} [المائدة: 84] وقول العرب:» مالك قائماً «، وقوله تعالى: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ} [المدثر: 49] وهذا المذهبُ ضعيفٌ لأنَّ الأصلَ عدمُ الزيادة، فلا يُصارُ إليها دون ضرورةٍ. والثالث: - وهو أضعفُها - مذهبُ الطبري أنَّ ثَمَّ واواً محذوفةً قبلَ قولِه:» أن لا نقاتلَ «. قال:» تقديرُه: وما لنا ولأن لا نقاتلَ، كقولك: إياك أن تتكلَّمَ، أي: إياك وأن تتكلم، فَحُذِفَتْ الواوُ، وهذا كما ترى ضعيفٌ جداً.
وأمَّا قولُه: «إنَّ قولَهم إياك أَنْ تتكلم على حذفِ الواوِ» فليس كما زعم، بل «إياك» ضُمِّنتْ معنى الفعلِ المرادِ به التحذيرُ، و «أَنْ تتكلمَ» في محلِّ نصبٍ به تقديره: احذَرْ التكلمَ.
قولُه: {وَقَدْ أُخْرِجْنَا} هذه الجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحالِ، والعاملُ فيها:«نقاتلُ» ، أنكروا ترك القتال وقد التبسوا بهذه الحالِ. وهذه قراءةُ الجمهورِ، أعني بناء الفعلِ للمفعولِ. وقرأ عمرو بن عبيد:«أَخْرَجَنا» على البناء للفاعل. وفيه وَجْهان، أحدُهما: أنه ضميرُ اللهِ تعالى، أي: وقد أَخرَجَنا الله بذنوبنا. والثاني: أنه ضميرُ العدوّ.
«وأبنائنا» عَطْفٌ على «ديارنا» أي: ومن أبنائِنا، فلا بُدَّ من حذفِ مضافٍ تقديرُه:«من بين أبنائِنا» كذا قدَّره أبو البقاء. وقيل: إنَّ هذا على القلبِ، والأصلُ: وقد أُخْرِجَ أبناؤنا منا، ولا حاجةَ إلى هذا.
قوله: {إِلَاّ قَلِيلاً} نصبٌ على الاستثناء المتصلِ من فاعل «تَوَلَّوا» والمستثنى لا يكونُ مبهماً، لو قلت:«قام القومُ إلا رجالاً» لم يَصِحَّ، وإنما صَحَّ هذا لأنَّ «قليلاً» في الحقيقةِ صفةٌ لمحذوفٍ، ولأنه قد تَخَصَّص بوصفِه بقولِه:«منهم» ، فَقَرُبَ من الاختصاصِ بذلك.
وقرأ أُبَي: «إلَاّ أن يكونَ قليلٌ منهم» وهو استثناءٌ منقطعٌ، لأنَّ الكونَ معنىً من المعاني والمستثنى منه جُثَتٌ. وهذه المسألةُ/ تحتاجُ إلى إيضاحها لكثرة ِفائدتِها. وذلك أنّ العربَ تقول:«قام القومُ إلا أَنْ يكونَ زيدٌ وزيداً» بالرفع والنصبِ، فالرفعُ على جَعْلِ «كان» تامةً، و «زيدٌ» فاعلٌ، والنصبُ على جَعْلَهَا ناقصةً، و «زيداً» خبرُها واسمُها ضميرُ عائدٌ على البعض المفهومِ من قوةِ الكلامِ، والتقديرُ: قام القوم إلا أَنْ يكونَ هو - أي بعضُهم - زيداً، والمعنى: قام القوم إلا كونَ زيدٍ في القائمين، وإذا انتفى كونُه قائماً انتفى قيامُهُ. فلا فرقَ من حيث المعنى بين العبارتين، أعني «قام القوم إلا زيداً» و «قاموا إلا أن يكون زيداً» ، إلا أن الأولَ استثناءٌ متصلٌ، والثاني منقطعٌ لِما تقدَّم تقريرُه.
قوله تعالى: {طَالُوتَ مَلِكاً} : «مَلِكاً» حال من «طالوت» فالعاملُ في الحالِ «بَعَثَ» . و «طالوتُ» فيه قولان، أظهرهُما: أنه اسمٌ أعجميٌّ فلذلك لم ينصَرِفْ للعلتين، أعني العلمية والعجمة الشخصيةَ. والثاني: أنه مشتقٌ من الطُول، ووزنه فَعَلوت كرَهَبوت ورَحَموت، وأصلُه طَوَلُوت، فقُلِبت الواوُ ألفاً لتحركها وانفتاحِ ما قبلها، وكأنَّ الحاملَ لهذا القائلِ بهذا القولِ ما روي في القصةِ أنه كان أطولَ رجلٍ في زمانه، إلا أنَّ هذا القولَ مردودٌ بأنه لو كان مشتقاً من الطول لكان ينبغي أن ينصرفَ، إذ ليس فيه
إلا العلميةُ. وقد أجابوا عن هذا بأنه وإن لم يكن أعجمياً ولكنه شبيه بالأعجمي، من حيث إنه ليس في أبنية العرب ما هو على هذه الصيغة، وهذا كما قالوا في حَمْدُون وسراويل ويعقوب وإسحق عند مَنْ جعلهما مِنْ سَحَقَ وعَقِب وقد تقدمَ.
قوله: {أنى يَكُونُ لَهُ الملك} «أنَّى» فيه وجهان، أحدُهما: أنها بمعنى كيف، وهذا هو الصحيحُ. والثاني: أنها بمعنى مِنْ أين، أجازه أبو البقاء، وليس المعنى عليه. ومحلُّها النصبُ على الحالِ، وسيأتي الكلام في عامِلها ما هو؟ و «يكون» فيها وجهان، أحدُهما: أنها تامةٌ، و «الملك» فاعلٌ بها و «له» متعلقٌ بها، و «علينا» متعلقٌ بالملك، تقول:«فلان مَلَك على بني فلان أمرَهم» فتتعدى هذه المادةُ ب «على» ، ويجوز أن تتعلَّق بمحذوفٍ على أنه حالٌ من «المُلْك» ، و «يكون» هي العاملةُ في «أنَّى» ، ولا يجوز أن يعملَ فيها أحدُ الظرفين، أعني «له» و «علينا» لأنه عاملٌ معنوي والعاملُ المعنوي لا تتقدَّمُ عليه الحالُ على المشهور. والثاني: أنها ناقصةٌ و «له» الخبر «، و» علينا «متعلقٌ: إمَّا بما تعلَّق به هذا الخبرُ، أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ من» المُلك «كما تقدَّم، والعاملُ في هذه الحالِ» يكون «عند مَنْ يُجيز في» كان «الناقصةِ أن تعملَ في الظرفِ وشبهِه، وإمَّا بنفس المُلْك كما تقدَّم تقريرُه، والعاملُ في» أنَّى «ما تعلَّق به الخبرُ أيضاً، ويجوز أن يكونَ» علينا «هو الخبر، و» له «نصبٌ على الحال، والعاملُ فيه الاستقرارُ المتعلِّقُُ به الخبرُ، كما تقدم تقريره، أو» يكون «عند مَنْ يُجيز ذلك في الناقصة. ولم أرَ مَنْ جَوَّز أن تكونَ» أنى «في محلِّ نصب خبراً ل» يكون «بمعنى» كيف يكون الملك علينا له «ولو قِيل به لم يمتنع معنىً ولا صناعةً.
قوله: {وَنَحْنُ أَحَقُّ} جملةٌ حاليةٌ، و «بالمُلْك» و «منه» كلاهما متعلقٌ ب «أحقُّ» . {وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً} هذه الجملةُ الفعليةُ عطفٌ على الاسمية قبلها، فهي في محلِّ نصب على الحالِ، ودخلت الواوُ على المضارعِ لكونه منفياً و «سعةً» مفعولٌ ثانٍ ليُؤْتَ، والأولُ قَام مقامَ الفاعلِ.
و «سَعَةً» وزنُها «عَلَة» بحذفِ الفاءِ وأصلُها «وُسْعَة» وإنما حُذِفَتِ الفاءُ في المصدر حَمْلاً على المضارع، وإنما حُذِفَتْ في المضارع لوقوعِها بين ياءٍ - وهي حرفُ المضارعة - وكسرةٍ مقدرة، وذلك أنَّ «وَسِع» مثلُ «وَثِق» ، فحقُّ مضارعهِ أن يجيء على يَفْعِل بكسرِ العين، وإنما مَنَعَ ذلك في «يَسَع» كونُ لامهِ حرف حلقٍ فَفُتِحَ عينُ مضارعهِ لذلك، وإنْ كان أصلُها الكسرَ، فَمِنْ ثَمَّ قلنا: بين ياءٍ وكسرةٍ مقدرةٍ، والدليلُ على ذلك أنهم قالوا: وَجِلَ يَوْجَل فلم يَحْذفوها لمَّا كانت الفتحةُ أصليةً غير عَارِضةً، بخلاف فتحة «يَسَع» و «يَهَب» وبابِهما.
فإن قيل: قد رأيناهم يَحْذِفُون هذه الواو وإنْ لم تَقَعْ بين ياءٍ وكسرةٍ، وذلك إذا كان حرفُ المضارعةِ همزة نحو:«أَعِدُ» أو تاءً نحو: «تَعِد» أو نوناً نحو: «نَعِد» ، وكذلك في الأمرِ والمصدر نحو:«عِدْ عِدة حسنةً» فالجوابُ أنَّ ذلك بالحَمْلِ على المضارع مع الياءَ طَرْداً لِلْبَاب، كما تقدَّم لنا في حذفِ همزةِ أَفْعَلَ إذا صار مضارعاً لأجلِ همزةِ المتكلمِ ثم حُمِل باقي البابِ عليه.
وفُتِحَتْ سينُ «السَّعة» لَمَّا فُتِحَتْ في المضارعِ لأجل حرفِ الحلقِ، كما كُسِرت عينُ «عِدة» لَمَّا كُسِرَت في «يَعِد» إلا أنه يُشْكِلُ على هذا: وَهَبَ يَهَبُ هِبة، فإنهم كَسَروا الهاء في المصدرِ وإنْ كانت مفتوحةً في المضارعِ لأجْلِ أنَّ العينَ حرفُ حلقٍ، فلا فرقَ بين «يَهَب» و «يَسَع» في كونِ الفتحةِ عارضةً
والكسرةِ مقدرةً، ومع ذلك فالهاء مكسورةٌ في «هِبة» ، وكان مِنْ حَقِّها الفتحُ لفتحِها في المضارع ك «سَعَة» .
و «من المال» فيه وجهان، أحدُهما: أنه متعلقٌ بيُؤْتَ. والثاني: أنه متعلقٌ بمحذوفٍ لأنه صفةٌ لسَعَة، أي: سَعَةً كائنةً من المالِ.
قوله: {فِي العلم} فيه وجهان، أحدُهما: أنه متعلِّقٌ ب «بَسْطَة» كقولِك: «بَسَطْتُ له في كذا» . والثاني: أنه متعلقٌ بمحذوفٍ لأنه صفةٌ ل «بَسْطَة» أي: بَسْطَة مستقرةً أو كائنة.
و «واسعٌ» فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه على النسبِ أي: ذو سَعَةِ رحمةٍ، كقولهم: لابن وتامر أي: صاحبُ تمرٍ ولبنٍ. والثاني: أنه جاءَ على حذفِ الزوائدِ من أَوْسَع، وأصلُه مُوْسِع. وهذه العبارةُ إنما يتداولُها النحويون في المصادرِ فيقولون: مصدر/ على حذفِ الزوائدِ. والثالث: أنه اسمُ فاعلٍ من «وَسِع» ثلاثياً. قال أبو البقاء: فالتقديرُ على هذا: واسعُ الحلم، لأنك تقول وَسِعَ حلمُه «.
قوله تعالى: {أَن يَأْتِيَكُمُ التابوت} : «أَنْ» وما في حَيِّزها في محلِّ رفعٍ خبراً ل «إنَّ» ، تقديرُه: إنَّ علامَة مُلْكِه إيتاؤُكم التابوت.
وفي «التابوتِ» قولان، أحدُهما: أنه فاعولٌ، ولا يُعْرَفُ له اشتقاقٌ، وَمَنَع قائلُ هذا أن يكون وَزْنُه فَعَلُوتاً مشتقاً من تابَ يَتوبُ كَمَلَكوت من المُلْكِ ورهَبوت من الرُّهْبِ، قال: لأنَّ المعنى لا يساعِدُ على ذلك. والقول الثاني: أن وزنَه فَعَلوت كمَلَكوت، وجَعَلَه مشتقاً من التَّوْب وهو الرجوعُ، وجَعَلَ معناه
صحيحاً فيه، لأنَّ التابوتَ هو الصندوقُ الذي توضع فيه الأشياءُ فيَرجع إليه صاحبُه عند احتياجِه إليه، فقد جعلنا فيه معنى الرجوعِ.
والمشهورُ أن يوقَفَ على تائِه بتاءٍ من غير إبدالِها هاءً لأنها: إمَّا أصلٌ إنْ كان وزنُه فاعولاً، وإمَّا زائدةٌ لغيرِ التأنيثِ كمَلَكوت، ومنهم مَنْ يَقْلِبها هاءً، وقد قُرِىء بها شاذاً، قرأها أُبيّ وزيد بن ثابت وهي لغةُ الأنصار، ويحكى أنهم لمَّا كَتَبوا المصاحفَ زمنَ عثمانَ رضي الله عنه اختلفوا فيه فقالَ زيد:«بالهاء» ، وقال [أُبَيّ:] «بالتاء» ، فجاؤوا عثمان فقال:«اكتبوه على لغةِ قريش» يعني بالتاء.
وهذه الهاءُ هل هي أصلٌ بنفسِها فيكونُ فيه لغتان، ووزنُه على هذا فاعول ليس إلا، أو بَدَلٌ من التاءِ لأنها قريبةٌ منها لاجتماعهما في الهَمْسِ، أو إجراءً لها مُجْرى تاءِ التأنيث؟ فقال الزمخشري:«فإنْ قلت: ما وزنُ التابوت؟ قلت: لا يَخْلو أَنْ يكونَ فَعَلوتا أو فاعولا، فلا يكون فاعولا لقلةِ نحو سَلِسٌ وقَلِقٌ» ، يعني أنَّ اتِّحاد الفاءِ واللامِ في اللفظِ قليلٌ جداً. «ولأنه تركيبٌ غيرُ معروفٍ» يعني في الأوزان العربية، ولا يجوز تَركُ المعروفِ [إليه] فهو إذاً فَعَلوت من التوبِ وهو الرجوعُ، لأنه ظرفٌ تُودَعُ فيه الأشياءُ فَيُرْجَعُ إليه كلَّ وقتٍ.
وأَمَّا مَنْ قرأ بالهاءِ فهو فاعول عندَه، إلَاّ مَنْ يَجْعَلُ هاءَه بدلاً من التاءِ لاجتماعِهِما في الهَمْسِ، ولأنهما من حروفِ الزيادة، ولذلك أُبْدِلَتْ منه تاءِ التَّأنِيثِ.
قوله: {فِيهِ سَكِينَةٌ} يجوز أن يكونَ «فيه» وحدَه حالاً من التابوت، فيتعلَّقَ بمحذوفٍ، ويرتفعُ «سكينة» بالفاعلية، والعاملُ فيه الاستقرارُ والحالُ هنا من قبيلِ المفردات، ويجوزُ أن يكونَ «فيه» خبراً مقدماً. و «سكينةٌ» مبتدأ مؤخراً، والجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحال، والحالُ هنا من قبيلِ الجملِ. و «سكينةٌ» فعيلة من السكون، وهو الوقارُ. وقرأ أبو السَّمَّال بتشديدِ الكافِ، قال الزمخشري:«وهو غريبٌ» .
قوله: {مِّن رَّبِّكُمْ} يجوز أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل «سكينة» ، ومحلُّه الرفعُ.
ويجوز أن يتعلَّق بما تعلَّق به «فيه» من الاستقرار. و «مِنْ» يجوز أن تكونَ لابتداءِ الغايةِ وأَنْ تكونَ للتبعيضِ. وثَمَّ مضافٌ محذوفٌ أي: من سكيناتِ ربكم.
و «بَقِيَّة» وزنها فَعِيلة والأصلُ: بَقِيْيَة بياءين، الأولى زائدةٌ والثانيةُ لامُ الكلمةِ، ثم أُدْغِمَ، ولا يُسْتَدَلُّ على أنَّ لامَ «بَقِيَّة» ياءٌ بقولهِم:«بَقِيَ» في الماضي، لأنَّ الواوَ إذا انكسَرَ ما قبلَهَا قُلِبَت ياءً، ألا ترى أنَّ «رَضِي» و «شَقِيَ» أصلهما من الواوِ: الشِّقْوَة والرِّضوان.
و «مِمَّا تَرَك» في محلِّ رفعٍ لأنه صفةٌ ل «بَقَيَّة» فيتعلَّقُ بمحذوفٍ أي: بقيةٌ كائنةٌ. و «مِنْ» للتبعيضِ، أي: من بَقِيَّاتِ ربكم، و «ما» موصولةٌ اسميةٌ، ولا تكونُ نكرةً ولا مصدريةً.
و «آل» تقدَّم الكلامُ فيه، وقيل: هو هنا زائدٌ كقولِهِ:
1022 -
بثينةُ من آلِ النساءِ وإنَّما
…
يَكُنَّ لوصلٍ لا وصالَ لغائِبِ
يريدُ بُثَيْنَةُ من النساء. قال الزمخشري: «ويجوزُ أن يريدَ: مِمَّا تَرَكَ موسى وهارون، والآلُ مقحمٌ لتفخيم شأنِهِما، أي زائدٌ للتعظيمِ. واستشكل الشيخ كيفية إفادةِ التفخيمِ بزيادةِ الآل. و» هارون «أعجمي. قيل: لم يَرِدْ في شيءٍ من لغةِ العربِ، قاله الراغب، أي: لم تَرِدْ مادُتُه في لُغَتِهِم.
قوله: {تَحْمِلُهُ الملائكة} هذه الجملةُ تحتملُ أن يكونَ لها محلٌّ من الإِعرابِ على أنها حالٌ من التابوتِ أي: محمولاً للملائكةِ وألَاّ يكونَ لها محلٌّ لأنها مستأنفةٌ، إذ هي جوابُ سؤالٍ مقدَّرٍ كأنه قيل: كيف يأتي؟ فقيل: تَحْمِلُهُ الملائكةُ.
وقرأ مجاهد» يَحْمِلُه «بالياء من أسفلَ، لأنَّ الفعلَ مُسْنَدٌ لجمعِ تكسيرٍ فيجوزُ في فِعْلِهِ الوجهان. و» ذلك «مشارٌ به قيل: إلى التابوت. وقيل: إلى إتيانه، وهو الأحسنُ لتناسِبَ آخرُ الآيةِ أولَها. و» إنْ «الأظهَرُ فيها أنها على بابها من كونِها شرطيةً وجوابُها محذوفٌ. وقيل: هي بمعنى» إذ «.
قوله تعالى: {فَصَلَ} : أي: انفصلَ، فلذلك كان قاصراً. وقيل: إنَّ أصلَه التَّعدِّي إلى مفعولٍ ولكنه حُذِفَ، والتقديرُ: فَصَلَ نفسَه ثم كَثُرَ حَذْفُ هذا المفعولِ حتى صار الفعلُ كالقاصِرِ.
و «بالجنودِ» متعلِّقٌ بمحذوفٍ لأنه حالٌ من «طالوت» أي: مصاحباً لهم. وبين جملةِ قولِهِ «فلمَّا فَصَلَ» وبين ما قبلَها من الجملِ جملةٌ محذوفةٌ يَدُلُّ
عليها فحوى الكلامِ وقوتُه، تقديرُهُ: فجاءَهم التابوت، فَمَلَكُوا طالوتَ وتأهَّبوا للخروجِ وهي كقولِهِ:{فَأَرْسِلُونِ يُوسُفُ أَيُّهَا الصديق} [يوسف: 45-46] .
والجمهورُ على قراءةِ «بنهَر» بفتح الهاء وهي اللغةُ الفصيحةُ، وفيه لغةً أخرى: تسكينُ الهاء، وبها قرأ مجاهد وأبو السَّمَّال في جميع القرآنِ، وقد تقدَّم ذلك واشتقاقُ هذه/ اللفظة عند قولِهِ تعالى:{مِن تَحْتِهَا الأنهار} [البقرة: 25] .
وأصلُ الياء في «مُبْتَلِيكُمْ» واوٌ لأنه من بَلَا يَبْلُوا أي: اختبَرَ، وإنَّما قُلِبَتْ لانكسارِ ما قبلَها.
وقوله: {فَلَيْسَ مِنِّي} أي: من أشياعي وأصحابي، و «من» للتبعيضِ، كأنه يجعلُ أصحابَه بعضَه، ومثلُه قولُ النابغة:
1023 -
إذا حاوَلْتَ في أسدٍ فُجوراً
…
فإني لَسْتُ منكَ ولَسْتَ مِنِّي
ومعنى يَطْعَمْهُ: يَذُقْهُ، تقولُ العربُ:«طَعِمْتُ الشيءَ» أي: ذُقْتُ طَعْمَهُ قال:
1024 -
فإنْ شِئْتِ حَرَّمْتُ النساءَ سِواكُمُ
…
وإنْ شئتِ لم أَطْعَمْ نُقاخاً ولا بَرْدا
قوله: {إِلَاّ مَنِ اغترف} منصوبٌ على الاستثناء، وفي المستثنى منه وجهان، الصحيحُ أنه الجملة الأولى وهي:«فَمَنْ شَرِبَ منه فليس مني» ، والجملة الثانيةُ معترِضَةٌ بين المستثنى والمستثنَى منه، وأصلُها التأخيرُ، وإنَّما
قُدِّمَتْ لأنها تَدُلُّ عليها الأولى بطريقِ المفهومِ، فإنَّه لَمَّا قال تعالى:{فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي} فُهِمَ منه أنَّ مَنْ لم يَشربْ فإنَّه منه، فلمَّا كانَتْ مدلولاً عليها بالمفهومِ صارَ الفصلُ بها كَلا فصل. وقال الزمخشري:«والجملةُ الثانية في حكم المتأخرةِ، إلَاّ أنها قُدِّمَتْ للعنايةِ، كما قُدِّمَ» والصابئون «في قولِهِ: {إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ والصابئون} [المائدة: 69] .
والثاني: أنه مستثنى من الجملةِ الثانيةِ، وإليه ذهب أبو البقاء. وهذا غيرُ سديدٍ لأنه يؤدِّي إلى أن المعنى: ومَنْ لم يَطْعَمْه فإنه مني إلَاّ مَنِ اغتَرَف بيدِهِ فإنه ليس مني، لأنَّ الاستثناءَ من النفي إثباتٌ، ومن الإِثباتِ نفيٌ، كما هو الصحيحُ، ولكن هذا فاسدٌ في المعنى لأنهم مفسوحٌ لهم في الاغترافِ غَرفةً واحدةً.
والاستثناء إذا تعقَّبَ الجملَ وصَلَحَ عَوْدُهُ على كلٍّ منها هل يختصُّ بالأخيرة أم لا؟ خلافٌ مشهورٌ، فإنْ دَلَّ دليلٌ على اختصاصِهِ بإحدى الجملِ عمِلَ به، والآيةُ من هذا القبيلِ، فإنَّ المعْنى يعود إلى عَوْدِه إلى الجملَةِ الأولى لا الثانيةِ لِمَا ذكرْتُ لك.
وقرأ الحَرَمِيَّان وأبو عمرو:» غَرفة «بفتحِ الغين والباقون بضمها.
فقيل: هما بمعنى المصدرِ، إلَاّ أنهما جاءا على غيرِ الصدر كنبات من أَنْبَتَ،
ولو جاءَ على الصدرِ لقيل: اغترافاً. وقيل: هما بمعنى المُغْتَرَفِ كالأكل بمعنى المأكول. وقيل: المفتوحُ مصدرٌ قُصِدَ به الدلالة على الوَحْدَةِ فإنَّ «فَعْلَة» يدلُّ على المَرَّة، والمضِمُومُ بمعنى المفعول، فحيث جعلتهما مصدراً فالمفعولُ محذوفٌ، تقديرُهُ: إلَاّ من اغترف ماءً، وحيث جعلَتهما بمعنى المفعولِ كانا مفعولاً به، فلا يُحتاج إلى تقديرِ مفعولٍ.
ونُقِلَ عن أبي عليّ أنه كان يُرَجِّح قراءة الضم لأنه في قراءةِ الفتح يَجْعلها مصدراً، والمصدرُ لا يوافق الفعلَ في بنائِهِ، إنما جاء على حَذْفِ الزوائد وجَعْلُها بمعنى المفعول لا يُحْوِج إلى ذلك فكانَ أرجَح.
قوله: {بِيَدِهِ} يجوزُ أن يتعلَّق ب «اغَتَرف» وهو الظاهِرُ. ويجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه نعتٌ ل «غُرْفة» ، وهذا على قولِنا بأن «غُرفة» ، بمعنى المفعولِ أظهرُ منه على قولِنَا بأنها مصدرٌ، فإنَّ الظاهرَ من الباءِ على هذا أَنْ تكونَ ظرفيةً، أي غُرفةً كائنةً في يدهِ.
قوله: {إِلَاّ قَلِيلاً} هذه القراءةُ المشهورةُ، وقرأ عبدُ الله وأُبَيّ «إلا قليلٌ» ، وتأويلُهُ أنَّ هذا الكلامَ وإن كان موجباً لفظاً فهو منفيٌّ معنىً، فإنه في قوةِ: لم يُطيعوه إلا قليلٌ منهم، فلذلك جَعَلَهُ تابعاً لِمَا قبله في الإِعراب. قال الزمخشري:«وهذا مِنْ مَيْلِهم مع المعنى والإِعراضِ عن اللفظِ جانباً، وهو بابٌ جليلٌ من علمِ العربيةِ، فلمَّا كان معنى» فَشَرِبُوا منه «في معنى»
فلم يُطيعوه «حَمَل عليه، ونحوُه قولُ الفرزدق:» لم يَدَعْ من المالِ إلا مُسْحَتاً أو مُجَلَّفُ «يشير إلى قولِهِ:
1025 -
وَعَضُّ زمانٍ يابنَ مروانَ لم يَدَعْ
…
من المالِ إلا مُسْحَتاً أو مُجَلَّفُ
فإنَّ معنى» لم يَدَعْ من المالِ إلا مُسْحَتاً «لم يَبْقَ من المال إلا مُسْحَتٌ، فلذلك عَطَفَ عليه» مُجَلَّفُ «بالرفعِ مراعاةً للمعنى الذي ذكرْتُهُ لك. وفي البيت وجهان آخران، أحدُهما. . . .
ولا بُدَّ من التعرُّضِ لهذه المسألةِ لعمومِ فائدِتهَا فأقولُ: إذا وَقَع في كلامِهِم استثناءٌ موجَبٌ نحو:» قام القومُ إلا زيداً «فالمشهورُ وجوبُ النصبِ على الاستثناءِ. وقال بعضُهم: يجوزُ أن يَتْبَعَ ما بعدَ» إلا «ما قبلَها في الإِعراب فتقول:» مررت بالقومِ إلا زيدٍ «بجرّ» زيد «، واختلفوا في تابِعِيَّةِ هذا، فعبارةُ بعضِهم أنه نعتٌ لما قبلَه، ويقولُ: إنه يُنْعَتُ بإلَاّ وما بعدَها مطلقاً سواءً كان متبوعُها معرفةً أم نكرةً مضمراً أم ظاهراً، وهذا خارجٌ عن قياس باب النعتِ لِما قَد عَرَفْتَ فيما تقدَّم. ومنهم مَنْ قال: لا يُنْعَتُ بها إلا نكرةً أو معرفةً بأل الجنسيةِ لقربِها من النكرةِ.
ومنهم مَنْ قال: قَوْلُ النَّحْوِيين هنا نعتٌ إنما يَعْنُون به عطفَ البيانِ. ومن مجيءِ الإِتباعِ بما بعد «إلَاّ» قولُهُ:
1026 -
وكلُّ أَخٍ مفارقُه أخوه
…
لَعَمْرُ أبيكَ إلا الفرقدانِ
قولُهُ: {جَاوَزَهُ هُوَ والذين آمَنُواْ} «هو» ضميرٌ مرفوعٌ منفصلٌ مؤكِّدٌ للضميرِ المستكنِّ في «جاوَزَ» .
وقوله: {والذين} يَحْتَمِلُ وجهين، أظهرُهُما: أنه عطفٌ على الضميرِ المستكنِّ في «جاوَزَ» لوجودِ الشرطِ، وهو توكيدُ المعطوفِ عليه بالضمير المنفصلِ. والثاني: أن تكونَ الواوُ للحالِ، قالوا: ويَلْزَمُ من الحالِ أن يكونوا جاوزوا معه، وهذا القائلُ يجعلُ «الذين» مبتدأ والخبرَ «قالوا: لا طاقة» فصارَ المعنى: «فلمَّا جاوزه والحالُ أنَّ الذين آمنوا قالوا هذه المقالة» والمعنى ليس عليه.
ويجوز إدغامُ هاء «جاوزه» في هاء «هو» ، ولا يُعْتَدُّ بفصلِ صلةِ الهاءِ لأنها ضعيفةٌ، وإنْ كان بعضُهم استضعَفَ/ الإِدغامَ، قال: إلا أَنْ تُخْتَلَس الهاءُ «يعني فلا يبقى فاصلٌ. وهي قراءةُ أبي عمرو. وأَدْغَمَ أيضاً واوَ» هو «في واو العطف بخلافٍ عنه، فوجهُ الإِدغام ظاهرٌ لالتقاء مِثْلين بشروطِهِما. ومَنْ أظهر وهو ابنُ مجاهد وأصحابُهُ قال:» لأنَّ الواو إذا أُدْغِمَت سَكَنَتْ، وإذا سَكَنَت صَدَقَ عليها أنها واوٌ ساكنة قبلَها ضمة، فصارَتْ نظيرَ:«آمنوا وكانوا» فكما لا يُدْغم ذاك لا يدغم هذا «. وهذه العلةُ فاسدةٌ لوجهين، أحدُهما: أنها [ما] صارَتْ مثلَ» آمنوا وكانوا «إلا بعد الإِدغام، فكيف يُقال ذلك؟ وأيضاً فإنهم أدغموا:{يَأْتِيَ يَوْمٌ} [البقرة: 254] وهو نظيرُ: {فِي يَوْمٍ} [إبراهيم: 18] و {الذى يُوَسْوِسُ} [الناس: 4] بعينِ ما عَلَّلوا به.
وشرطُ هذا الإِدغام في هذا الحرفِ عند أبي عمرو ضمُّ الهاءِ كهذه الآيةِ، ومثله {هُوَ والملائكة} [آل عمران: 18] {هُوَ وَجُنُودُهُ} [القصص: 39]، فلو سَكَنَتِ الهاءُ امتنع الإِدغامُ نحو:{وهو وليُّهم} [الأنعام: 127] ولو جرى فيه الخلاف أيضاً لم يكن بعيداً، فله أُسوة بقوله:{خُذِ العفو وَأْمُرْ} [الأعراف: 199] بل أَوْلى لأن سكونَ هذا عارضٌ بخلافِ: {العفو وَأْمُرْ} .
قوله: {لَا طَاقَةَ لَنَا} » لنا «هو خبرٌ» لا «فيتعلَّقُ بمحذوفٍ. ولا يجوز أن يتعلَّقَ بطاقة، وكذلك ما بعدَه من قولِهِ» اليوم «و» بجالوت «لأنه حينئذٍ يَصير مُطَوَّلاً، والمُطوَّلُ ينصبُ منوناً، وهذا كما تراه مبنياً على الفتح، بل» اليوم «و» بجالوت «متعلِّقان بالاستقرارِ الذي تعلَّق به» لنا «.
وأجاز أبو البقاء أن يكونَ» بجالوت «هو خبرَ» لا «، و» لنا «حينئذٍ: إما تبيينٌ أو متعلِّقٌ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ لطاقة.
والطاقَةُ: القدرةُ وعينُها واو، لأنها من الطَّوْق وهو القدرةُ، وهي مصدرٌ على حذفِ الزوائِد، فإنَّها من» أَطَاق «ونظيرُها: أجاب جابةً، وأغار غارةً، وأطاع طاعةً.
و «جالوت» اسمٌ أعجميٌّ ممنوعُ الصرفِ، لا اشتقاقَ له، وليس هو فَعَلوتا من جال يَجُول كما تقدَّم في طالوت، ومثلُهما داود.
قوله: {كَم مِّن فِئَةٍ} «كم» خبريةٌ فإنَّ معناها التكثيرُ، ويدل على ذلك قراءة أُبَيّ:«وكائن» وهي للتكثير ومحلُّها الرفعُ بالابتداء و «من فئةٍ» تمييزُها، و «مِنْ» زائدةٌ فيه. وأكثرُ ما يجيء مميِّزها ومميِّز «كائن» مجروراً بمِنْ، ولهذا جاء التنزيلُ على ذلك، وقد تُحْذَفُ «مِنْ» فَيُجَرُّ مميِّزها بالإِضافة لا بمِنْ مقدرةً على الصحيح، وقد يُنْصَبُ حَمْلاً على مميِّز «كم» . الاستفهامية، كما أنه قد يُجَرُّ الاستفهاميةِ حمْلاً عليها وذلك بشروط مذكورةٍ في النحو. ومِنْ مجيءِ مميِّز «كائن» منصوباً قولُ الشاعر:
1027 -
اطرُدِ اليأسَ بالرجاءِ فكائِنْ
…
آلماً حُمَّ يُسْرُهُ بعدَ عُسْرِ
وأجازوا أن يكون «من فئةٍ» في محلِّ رفعٍ صفةً ل «كم» فيتعلَّقَ بمحذوفٍ. و «غَلَبَت» هذه الجملةُ هي خبرُ «كم» والتقديرُ: كثيرٌ من الفئاتِ القليلةِ غالبةٌ الفئاتِ الكثيرةَ.
وفي «فئة» قولان أحدُهما: أنها من فاء يَفِيء أي: رَجَعَ فَحُذِفَتْ عينُها ووزنُها فِلَة. والثاني: أنها من فَأْوَتُّ رأسَه ي: كسرتُه، فحُذِفَت لامُها ووزنُها فِعَة كمئة، إلَاّ أنَّ لامَ مئة ياءٌ ولامَ هذه واوٌ، ومعناها على كلٍّ من الاشتقاقين صحيحٌ، فإنَّ الجماعَةَ من الناس يَرْجِعُ بعضُهم إلى بعضٍ، وهم أيضاً قطعةٌ من الناسِ كقِطَعِ الرأسِ الكسَّرة.
قوله: {بِإِذْنِ الله} فيه وجهان، أظهرُهما: أنه حالٌ فيتعلَّقُ بمحذوفٍ،
والتقدير: ملتبسين بتيسيرِ الله لهم. والثاني: أنَّ الباءَ للتعدية ومجرورُها مفعولٌ به في المعنى، ولهذا قال أبو البقاء:«وإنْ شِئْتَ جَعَلْتَها مفعولاً به» .
وقوله: {والله مَعَ الصابرين} مبتدأٌ وخبرٌ، وتَحْتَمِل وجهين، أحدُهما: أن يكونَ محلُّها النصبَ على أنها من مقولهم. والثاني: أنها لا محلَّ لها من الإِعراب، على أنها استئنافٌ أَخْبَرَ اللَّهُ تعالى بها.
قوله تعالى: {بَرَزُواْ لِجَالُوتَ} : في هذه اللام وجهان، أحدُهما: أنَّها تتعلَّق ببرزوا، والثاني: أنها تتعلَّقُ بمحذوفٍ على أنها ومجرورَها حالٌ من فاعلِ «بَرَزوا» قال أبو البقاء: «ويجوزُ أن تكونَ حالاً أي: برزوا قاصدين لجالوتَ» . ومعنى برزوا صاروا إلى بَراز من الأرض، وهو ما انكشَفَ منها واستوى، ومنه المُبَارَزَةُ في الحَرْبِ لظهورِ كلِّ قِرْن لصاحبهِ. وفي ندائِهِم بقولِهم:«رَبَّنا» اعترافٌ منهم بالعبودية وطلبٌ لإِصلاحهم لأنَّ لفظة «الرب» تُشْعر بذلك دونَ غيرها، وأتوا بلفظِ «على» في قولهم:«أَفْرِغ علينا» طلباً لأنْ يكونَ الصبرُ مستعلياً عليهم وشاملاً لهم كالظرفِ.
قوله تعالى: {وَالهَزْمُ} : أصلُه الكَسْر، ومنه «سِقاء مُتَهَزِّم» و «قَصَبٌ متهزِّمٌ» أي متكسِّر. قوله:«بإذنِ الله» فيه الوجهانِ المتقدِّمان أعني كونَه حالاً أو مفعولاً به. و «مِمَّا يشاء» فاعلٌ «يشاء» ضميرُ الله تعالى. وقيل: ضميرُ داود والاولُ أظهرُ.
قوله: {وَلَوْلَا دَفْعُ} قرأ نافع هنا، وفي الحج:«دِفاع» والباقون: «
دَفْع» . فأمَّا «دَفْع» فمصدر دَفَعَ يَدْفَع ثلاثياً. وأمَّا «دفاع» فيحتمل وجهين: أحدُهما: أن يكونَ مصدر دَفَعَ الثلاثي أيضاً نحو: كَتَب كِتاباً، وأن يكونَ مصدرَ «دافع» نحو: قاتل قِتالاً، قال أبو ذؤيب:
1028 -
ولقد حَرَصْتُ بأَنْ أدافعَ عنهُم
…
فإذا المَنِيَّةُ أَقْبَلَتْ لا تُدْفَعُ
و «فاعَل» هنا بمعنى فَعَل المجرد فتتَّحد القراءتان في المعنى.
ومَنْ قرأ «دفاع» وقرأ في الحج {يُدَافِعُ عَنِ الذين آمنوا} [الآية: 38] وهو نافع، أو قرأ «دَفْع» وقرأ «يَدْفَع» - وهما أبو عمرو وابن كثير - فقد وافق أصلَه، فجاء بالمصدرِ على وَفْقِ الفعل. وأمَّا من قرأ هنا «دَفْع» وفي الحج «يُدافِع» وهم الباقون فقد جَمَعَ بين اللغتين، فاستعمل الفعلَ من الرباعي والمصدرَ من الثلاثي. والمصدرُ هنا مضافٌ لفاعِله وهو الله تعالى، و «الناسَ» مفعول أول، و «بعضهم» بدلٌ من «الناسِ» بدلٌ بعضٍ مِنْ كُلٍّ.
و «ببعضٍ» متعلِّقٌ بالمصدرِ، والباءُ للتعديةِ، فمجرورُها المفعولُ الثاني في المعنى، والباءُ إنما تكون للتعديةِ في اللازمِ نحو:«ذَهَبَ به» فأمّا المتعدِّي لواحدٍ فإنما يتعدَّى بالهمزة تقول: «طَعِمَ زيدٌ اللحم وأَطْعَمْتُه اللحم» / ولا تقول: «طَعِمْته باللحم» فتعدِّيه إلى الثاني بالباءِ إلَاّ فيما شَذَّ قياساً وهو «دَفَع» و «صَكَّ» ، نحو: صَكَكْتُ الحجرَ بالحجرِ أي: جَعَلْتُ أحدَهما يَصُكُّ الآخر، ولذلك قالوا: صَكَكْتُ الحجرَيْنِ أحدَهما بالآخر.
قوله: {ولكن الله} وجهُ الاستدراكِ أنه لَمَّا قسَّم الناسَ إلى مدفوعٍ ومدفوعٍ به، وأنه بهذا الدفعِ امتنع فسادُ الأرض فقد يَهْجِسُ في نفسِ مَنْ
غُلِب عمّا يريدُ من الفساد أنَّ الله غيرُ متفضِّلٍ عليه حيث لم يُبْلِغه مقاصده وطلبه، فاستدرك عليه أنَّه وإن لم يَبْلُغْ مقاصده أنَّ الله متفضلٌ عليه ومُحْسِنٌ إليه لأنه مندرجٌ تحت العالمين، وما مِنْ أحدٍ ألا ولله عليه فضلٌ وله فضلُ الاختراعِ والإِيجادِ.
و «على» يتعلَّق ب «فَضْل» ، لأنَّ فعلَه يتعدَّى بها، وربما حُذِفَتْ مع الفعلِ. قال - فَجَمع بين الحذف والإِثبات -:
1029 -
وجَدْنا نَهْشَلاً فَضَلَتْ فُقَيْماً
…
كفَضْلِ ابنِ المَخاض على الفَصيلِ
أمّا إذا ضُعِّف فإنه لا تُحْذَفُ «على» أصلاً كقولِه: {فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ} [البقرة: 253] ، ويجوزُ ان تتعلَّقٌ «على» بمحذوفٍ لوقوعِها صفةً لفَضْل.
قوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ الله} : مبتدأٌ وخبرٌ، و «نَتْلوها» فيه قولان، أحدُهما: أن تكونَ حالاً، والعاملُ فيها معنى الإِشارة. والثاني أن تكونَ مستأنفةً فلا محلَّ لها. ويجوزُ غيرُ ذلك، وأَخْذُه مِمّا مضى سَهْلٌ وأُشير إليها إشارةُ البعيدِ لِما تقدَّم في قولِه:{ذَلِكَ الكتاب} [البقرة: 2] . قوله: «بالحقِّ» يجوزُ فيه أن يكونَ حالاً من مفعولِ «نَتْلوها» أي: ملتبسةً بالحق، أو مِنْ فاعِله؛ أي: نَتْلوها ومعنا الحقُّ، أو من مجرورِ «عليك» أي: ملتبساً بالحق.
قوله تعالى: {فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ} : يجوزُ أن يكونَ حالاً من المشارِ إليه، والعاملُ معنى الإِشارةِ كما تقدَّم، ويجوزُ أن يكونَ مستأنفاً، ويجوزُ أن يكونَ خيرَ «تلك» على أن يكونَ «الرسلُ» نعتاً ل «تلك» أو عطفَ بيانٍ أو بدلاً.
قوله: {مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ الله} هذه الجملةُ تحتملُ وجهين، أحدهما: أن تكونَ لا محلَّ لها من الإِعراب لاستئنافِها. والثاني: أنها بدلٌ من جملةِ قوله «فَضَّلْنا» والجمهورُ على رفعِ الجلالة على أنه فاعلٌ، والمفعولُ محذوفٌ وهو عائدُ الموصولِ أي: مَنْ كَلَّمه الله. وقُرِىء بالنصبِ على أنَّ الفاعلَ ضميرٌ مستترٌ وهو عائدٌ الموصولِ أيضاً، والجلالةُ نَصْبٌ على التعظيمِ.
وقرأ أبو المتوكل وابن السَّمَيْفَع: «كالَمَ اللهَ» على وزن فاعَلَ ونصبِ الجلالة، و «كليم» على هذا معنى مكالِم نحو: جَلِيس بمعنى مُجالِس، وخليط بمعنى مخالط. وفي هذا الكلامِ التفاتٌ لأنه خروجٌ من ضميرِ المتكلمِ المعظِّم نفسَه في قوله:«فَضَّلْنا» إلى الاسمِ الظاهرِ الذي هو في حكمِ الغائبِ.
قوله: {دَرَجَاتٍ} في نصبِه ستةُ أوجهٍ، أحدها أنه مصدرٌ واقعٌ موقع الحالِ. الثاني: انه حالٌ على حذفِ مضافٍ، أي: ذوي درجاتٍ. الثالث: أنه مفعول ثان ل «رفع» على أنه ضُمِّنَ معنى بلَّغ بعضهم درجات. الرابع أنه بدلُ اشتمالٍ أي: رَفَع درجاتٍ بعضَهم، والمعنى: على درجاتِ بعض. الخامس: أنه مصدرٌ على معنى الفعل لا لفظِه، لأن الدرجةَ بمعنى الرَّفْعة، فكأنه قيل: ورَفَع بعضَهم رَفعاتٍ. السادس: أنه على إسقاطِ الخافضِ، وذلك الخافضُ يَحْتمل أن يكونَ «على» أو «في» أو «إلى» تقديرُه: على درجاتٍ أو في درجاتٍ أو إلى درجاتٍ، فلمَّا حُذِفَ حرفُ الجر انتصَبَ ما بعده.
قوله: {وَلَوْ شَآءَ الله} مفعولُه محذوفٌ، فقيل: تقديرُه: أَنْ لا تختلفوا وقيل: أَنْ لا تفشلوا، وقيل: أَنْ لا تُؤمروا بالقتال، وقيل: أَنْ يضطرَّهم إلى الإِيمانِ، وكلُّها متقاربة.
و «مِنْ بعدِهم» متعلِّقٌ بمحذوفٍ لأنه صلةٌ، والضميرُ يعودُ على الرسل. و {مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ} فيه قولان، أحدُهما: أنه بدلٌ من قولِه: «مِنْ بعدِهم» بإعادةِ العاملِ. والثاني: أنه متعلقٌ باقتتل، إذ في البينات - وهي الدلالاتُ الواضحةُ - ما يُغْنِي عن التقاتلِ والاختلافِ. والضميرُ في «جاءتهم» يعودُ على الذين مِنْ بعدِهم، وهم أممُ الأنبياء.
قوله: {ولكن اختلفوا} وجهُ هذا الاستدراكِ واضحٌ، فإنَّ «لكن» واقعةٌ بين ضدين، إذ المعنى: ولو شاءَ اللهُ الاتفاقَ لاتفقوا ولكنْ شاءَ الاختلافَ فاختلفوا. وقال أبو البقاء: «لكنْ» استدراكٌ لما دَلَّ الكلامُ عليه، لأنَّ اقتتالهم كان لاختلافهم، ثم بيَّن الاختلاف بقوله:{فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَّن كَفَرَ} فلا محلَّ حينئذٍ لقولِه: {فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ} .
وقوله: {وَلَوْ شَآءَ الله مَا اقتتلوا} فيه قولان، أحدُهما: أنها الجملةُ الأولى كُرِّرت تأكيداً قاله الزمخشري. والثاني: أنها ليست لتأكيدِ الأولى، بل أفادَتْ فائدةٌ جديدةً، والمغايَرةُ حَصَلَتْ بتغايرِ متعلَّقهما، فإنَّ متعلَّقَ الأولى مغايرٌ لمتعلَّق المشيئةِ الثانيةِ، والتقديرُ في الأولى: «ولو شاءَ الله أن يَحُولَ بينهم وبين القتال بأن يَسْلُبَهم القِوى والعقول، وفي الثاني: ولو شاءَ لم يأمرِ المؤمنين بالقتال، ولكن شاءَ أَمَرهم بذلك. وقوله:{ولكن الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} هذا استدراكٌ أيضاً على المعنى، لأنَّ المعنى: ولو شاءَ الله لمنعَهم [
من ذلك] ، ولكنَّ اللهَ يفعل ما يريدُ مِنْ عدمِ منعِهم من ذلك أو يفعلُ ما يريدُ من اختلافِهم.
قوله تعالى: {أَنْفِقُواْ} : مفعولُه محذوفٌ، تقديرُه: شيئاً ممَّا رزقناكم فعلى هذا «ممَّا رزقناكم» متعلقٌ بمحذوفٍ في الأصل لوقوعِه صفةٌ لذلك المفعولِ، وإنْ لم تقدِّرْ مفعولاً محذوفاً فتكونُ متعلقةً بنفسِ الفعلِ.
و «ما» يجوزُ أَنْ تكونَ بمعنى الذي، والعائدُ محذوفٌ أي: رزقناكُموه، وأن تكونَ مصدريةً فلا حاجةَ إلى عائدٍ، ولكن الرزقَ المرادَ به المصدرُ لا يُنفقُ، فالمراد به اسمُ المفعول، وأن تكونَ نكرةً موصوفةً وقد تقدَّم تحقيقُ هذا عند قولِه:{وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 3] .
قوله: {مِّن قَبْلِ} متعلقٌ أيضاً بأنفِقوا، وجاز تعلُّقُ حرفين بلفظٍ واحدٍ بفعلٍ واحدٍ لاختلافِهما معنىً؛ فإنَّ الأولى للتبعيضِ والثانيةَ لابتداءِ الغايةِ، و «أَنْ يأتي» في محلِّ جرٍ بإضافة «قبل» إليه أي: من قبلِ إتيانه.
وقوله: {لَاّ بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ} إلى آخره: الجملةُ المنفيَّةُ صفةٌ ل «يوم» فمحلُّها الرفعُ. وقرأ/ «بَيْعٌ» وما بعدَه مرفوعاً منوناً نافع والكوفيون وابن عامر، وبالفتح أبو عمرو وابن كثير، وتوجيهُ ذلك، مذكورٌ في قوله:{فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ} [البقرة: 197] فليُنْظر ثَمَّةَ.
والخُلَّة: الصداقة كأنها تتخلَّل الأعضاء، أي: تدخل خلالها، أي وَسْطَها.
والخُلَّة: الصديقُ نفسه، قال:
1030 -
وكان لها في سالفِ الدهرِ خُلَّةً
…
يُسارِقُ بالطَّرْفِ الخِباءَ المُسَتَّرا
وكأنه من إطلاقِ المصدرِ على العينِ مبالغةً، أو على حذفِ مضافٍ، أي: كان لها ذو خُلَّة. والخليلُ: الصديقُ لمداخَلَتِه إياك، ويَصْلُح أَنْ يكونَ بمعنى فاعل أو مفعول، وجَمْعُه «خُلَاّن» ، وفُعْلان جمعُ فَعيل نُقِل في الصفات، وإنما يَكْثرُ في الجوامِدِ نحو:«رُغفانٍ. وقوله:» هم الظالمون «يجوز أن يكونَ» هم «فصلاً أو مبتدأً وما بعده خبرٌ، والجملةُ خبرُ الأولِ.
قوله تعالى: {الله لَا إله إِلَاّ هُوَ [الحي] } : مبتدأٌ وخبرٌ. و «الحيّ» فيه سبعةُ أوجه، أحدُها: أن يكونَ خبراً ثانياً للجلالة. الثاني: أن يكونَ خبراً لمبتدأ محذوف أي: هو الحيُّ. الثالث: أن يكونَ بدلاً من قوله: «لا إله إلا الله هو» فيكونَ في المعنى خبراً للجلالةِ، وهذا في المعنى كالأولِ، إلا أنه هنا لم يُخْبَرْ عن الجلالةِ إلَاّ بخبرٍ واحدٍ بخلافِ الأول. الرابع: أن يكونَ بدلاً من «هو» وحدَه، وهذا يبقى من بابِ إقامةِ الظاهرُ مُقامَ المضمرِ، لأنَّ جملةَ النفي خبرٌ عن الجلالةِ، وإذا جعلتَه بدلاً حَلَّ محَلَّ الأولِ فيصيرُ التقدير: الله لا إله إلا اللهُ. الخامس: أن يكون مبتدأً وخبرُه {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ} . السادس: أنه بدلٌ من «الله» السابع: أنه صفة لله، وهو أجودُها، لأنه قرىء بنصبِهما «الحيَّ القيومَ» على القطع، والقطعُ إنما هو في باب النعتِ، لا يقال في هذا الوجهِ الفصلُ بين الصفة والموصوفِ بالخبرِ، لأنَّ ذلك جائزٌ حسن [تقول: زيدٌ قائمٌ العاقلُ] .
و «الحيُّ» فيه قولان، أحدهما: أن أصله حَيْيٌ بياءين من حَيي يَحْيَا فهو حيٌّ، وهذا واضح، وإليه ذهب أبو البقاء. والثاني: أن أصلَه حَيْوٌ فلامه
واو، فَقُلِبت الواوُ ياءً لانكسارِ ما قبلها متطرفةً، وهذا لا حاجةَ إليه وكأنَّ الذي أَحْوجَ هذا القائلَ إلى ادِّعاء ذلك أنَّ كونَ العينِ واللامِ من وادٍ واحد هو قليلٌ في كلامِهم بالنسبةِ إلى عَدَمِ ذلك فيه، ولذلك كتبوا «الحياة» بواوٍ في رسم المصحف العزيز تنبيهاً على هذا الأصلِ، ويؤيده «الحيوان» لظهورِ الواو فيه. ولناصِر القول الأول أن يقول: قلبت الياءُ الثانيةُ واواً تخفيفاً، لأنه لمّا زيد في آخره ألفٌ ونونٌ استثُقْل المِثْلان.
وفي وزنه أيضاً قولان، أحدُهما: أنه فَعْل، والثاني: أنه فَيْعِل فَخُفِّف، كما قالوا مَيْت وهَيْن، والأصل: هَيّن ومَيّت.
والقَيُّوم: فَيْعُول من قام بالأمر يَقُوم به إذا دَبَّره، قال أمية:
1031 -
لم تُخْلَقِ السماءُ والنجومُ
…
والشمسُ معها قَمَر يَعُومُ
قَدَّره مهيمنٌ قَيُّومُ
…
والحشرُ والجنةُ والنعيمُ
إلا لأمرٍ شأنُه عظيمُ
…
وأصلُه قَيْوُوم، فاجتمعت الياءُ والواوُ وسَبَقَت إحداهما بالسكون فَقُلِبت الواوُ ياءً وأُدغمت فيها الياءُ فصارَ قَيُّوماً.
وقرأ ابن مسعود والأعمش: «القَيَّام» ، وقرأ علقمة:«القَيِّم» وهذا كما يقولون: دَيُّور وديار ودَيِّر. ولا يجوز أن يكونَ وزنُه فَعُّولاً ك «سَفُّود» إذ لو كان كذلك لكان لفظُه قَوُّوما، لأن العينَ المضاعَفَةَ أبداً من جنس الأصلية
كسُبُّوح وقُدُّوس وضَرَّاب وقَتَّال، فالزائدُ من جنسِ العَيْنِ، فلمَّا جاء بالياء دونَ الواوِ علمنا أن أصله فَيْعُول لا فَعُّول؛ وعدَّ بعضُهم فَيْعُولاً من صيغ المبالغة كضَرُوب وضَرَّاب.
قوله: {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ} في هذه الجملةِ خمسةُ أوجه، أحدُها: أنها في محلِّ رفعٍ خبراً للحيّ كما تقدَّم في أحدِ أوجهِ رفعٍ الحيّ. الثاني: أنها خبرٌ عن الله تعالى عند مَنْ يُجيز تعدُّد الخبرِ. الثالث: أنها في محلِّ نصبٍ على الحالِ من الضمير المستكنِّ في «القَيُّوم» كأنه قيل: يقوم بأمر الخلق غيرَ غافلٍ، قاله أبو البقاء. الرابع: أنها استئنافٌ إخبارٍ، أخبر تعالى عن ذاتِه القديمة بذلك. الخامس: أنها تأكيدٌ للقَيُّوم لأن مَنْ جاز عليه ذلك استحالَ أن يكونَ قَيُّوماً، قاله الزمخشري، فعلى قولِه إنها تأكيدٌ يجوز أن يكونَ محلُّها النصبَ على الحالِ المؤكدة، ويجوز أن تكونَ استئنافاً وفيها معنى التأكيدِ فتصيرُ الأوْجُه أربعةً.
والسِّنَةُ: النُّعاس، وهو ما يتقدَّم النومَ من الفتور، قال عديّ بن الرقاع:
1032 -
وَسْنانُ أَقْصَدَه النُّعاسُ فَرَنَّقَتْ
…
في عينِه سِنَةٌ وليس بنائمِ
وهي مصدرُ وَسَن يَسِنُ مثلَ: وَعَد يَعِد، وقد تقدَّم علةُ الحذفِ عند قوله {سَعَةً مِّنَ المال} [البقرة: 247] . وقال ابن زيد: «الوَسْنان: الذي يقوم من النوم وهو لا يعقل، حتى إنه ربما جرَّد السيف على أهله» وهذا القولُ ليس بشيءٍ لأنه لا يُفْهَمُ من لغةِ العرب ذلك. وقال المفضَّل: «السِّنَةُ: ثِقَلٌ في الرأسِ، والنعاسُ في العينين، والنومُ في القلب» .
وكررت «لا» في قوله: «ولا نومٌ» تأكيداً، وفائدتها انتفاءُ كلِّ واحدٍ منهما، ولو لم تُذْكَرْ لاحتُمِلَ نفيُهما بقيدِ الاجتماعِ، ولا يَلْزَمُ منه نفيُ كلِ واحدٍ منهما على حِدَته، ولذلك تقول:«ما قامَ زيدٌ وعمروٌ بل أحدُهما» ، ولو قلت:«ما قامَ زيدٌ ولا عمرو بل أحدُهما» لم يَصِحَّ، والمعنى: لا يَغْفَلُ عن شيءٍ دقيقٍ ولا جليلٍ، فعبَّر بذلك عن الغفلةِ، لأنه سببها، فَأَطْلَقَ اسمَ السببِ على مُسَبَّبه.
قوله: {لَّهُ مَا فِي السماوات} هي كالتي قبلها إلَاّ في كونِها تأكيداً و «ما» للشمولِ. واللامُ في «له» للمِلْك، وكرَّر «ما» تأكيداً، وذَكَر هنا المظروفَ دون الظرفِ لأنَّ المقصودَ نفيُ الإلهية عن غيرِ الله تعالى، وأنه لا ينبغي أَنْ يُعْبد إلا هو، لأنَّ ما عُبِد من دونِه في السماء كالشمس والقمر والنجوم أو في الأرض كالأصنامِ وبعضِ بني آدم، فكلُّهم مِلْكُه تعالى تحتَ قهرِه، واستغنى عن ذِكْر أنَّ السماواتِ والأرضَ مِلْكٌ له بذكرِه/ قبل ذلك أنه خالقُ السماوات والأرض.
قوله: {مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ} كقوله: {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ} [البقرة: 245] و «مَنْ» وإن كان لفظُها استفهاماً فمعناه النفيُ، ولذلك دَخَلتْ «إلا» في قولِه «إلاّ بإذنه» .
و «عنده» فيه وجهان، أحدُهما: أنه متعلِّقٌ بيَشْفَع.
والثاني: أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ لكونِه [حالاً] من الضمير في «يَشْفع» أي يَشْفَعُ مستقراً عنده، وقوي هذا الوجهُ بأنه إذا لم يَشْفَعُ عنده مَنْ هو عنده وقريبٌ منه فشفاعةُ غيرِه أبعدُ. وضَعَّفَ بعضُهم الحالِيَّة بأنَّ المعنى: يَشْفَع إليه.
و «إلَاّ بإذنه» متعلقٌ بمحذوفٍ، لأنه حالٌ من فاعلِ «يَشْفَع» فهو استثناءٌ مفرَّغ، والباءُ للمصاحبةِ، والمعنى: لا أحدَ يشفعُ عندَه إلَاّ مأذوناً له منه، ويجوزُ أن يكونَ مفعولاً به أي: بإذنه يَشْفعون كما تقول: «ضَرَب بسيفه» أي هو آلةٌ للضربِ، والباءُ للتعديةِ.
و «يَعْلَمُ» هذه الجملةُ يجوز أن تكونَ خبراً لأحدِ المبتدأين المتقدمين أو استئنافاً أو حالاً. والضميرُ في «أيديهم» و «خلفهم» يعودُ على «ما» في قوله: {لَّهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} إنه غَلَّبَ مَنْ يعقِلُ على غيرِه. وقيل: يعودُ على العُقَلاء ممَّن تضمَّنه لفظُ «ما» دونَ غيرِهم. وقيل: يعودُ على ما دَلَّ عليه «مَنْ ذا» من الملائكةِ والأنبياء. وقيل: من الملائكة خاصةً.
قوله: {بِشَيْءٍ} متعلِّقٌ بيحيطون. والعلمُ هنا بمعنى المَعْلوم لأنَّ عِلْمَه تعالى الذي هو صفةٌ قائمةٌ بذاتِه المقدَّسة لا يتبعَّضُ، ومِنْ وقوعِ العلم موقعَ المعلوم قولُهم:«اللهم اغفر لنا عِلْمَك فينا» وحديثُ موسى والخَضِر عليهما السلام «ما نَقَص عِلْمي وعلمُك من عِلمه إلَاّ كما نَقَص هذا العصفورُ من هذا البحر» ولكونِ العلمِ بمعنى المعلومَ صَحَّ دخولُ التبعيضِ، والاستثناءُ عليه. و «مِنْ علمه» يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بيحيطون، وأَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ لأنه صفةٌ لشيء، فيكونَ في محلَّ جر. و «بما شاءَ» متعلِّقٌ بيُحيطون أيضاً، ولا يَضُرُّ تعلُّقُ هذين الحرفين المتَّحدين لفظاً ومعنىً بعاملٍ واحدٍ؛ لأنَّ الثاني ومجروره بدلان من الأوَّلَيْن بإعادةِ العاملِ بطريقِ الاستثناءِ، كقولك:«ما مررت بأحدٍ إلا بزيدٍ» ومفعولُ «شاء» محذوفٌ تقديرُه: إلا بما شاء أن يُحيطوا به، وإنما قَدَّرتُه كذلك لدلالةِ قوله:{وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ} .
قوله: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ} الجمهورُ على «وَسِعَ» بفتح الواوِ وكسرِ السينِ وفتحِ العينِ فعلاً ماضياً.
و «كرسيُّه» بالرفع على أنه فاعلُه، وقُرىء «وَسْعَ» سَكَّن عينَ الفعلِ تخفيفاً نحو: عَلْمَ في عَلِمَ. وقرىء أيضاً: «وَسْعُ كرسيِّه» بفتح الواو وسكونِ السين ورفعِ العين على الابتداء، «كرسيِّه» خفضٌ بالإِضافة، «السماواتُ» رفعاً على أنه خبرٌ للمبتدأ.
والكُرْسِيُّ الياءُ فيه لغير النسب واشتقاقُه من الكِرْس وهو الجمع، ومنه الكُرَّاسة للصحائف الجامعةِ للعلمِ، ومنه قولُ العجاج:
1033 -
يا صاحِ هل تَعْرِفُ رسماً مُكْرَساً
…
قال نَعَمْ أعرِفُه وأَبْلَسا
وجمعه كَرَاسيّ كبُخْتيّ وبَخَاتيّ، وفيه لغتان: المشهورةُ ضمُّ كافِه، والثانيةُ كسرُها، وكأنه كسرُ إتباع، وقد يُعَبَّر به عن المَلِك لجلوسه عليه تسميةُ للحالِّ باسم المَحَلِّ، ومنه:
1034 -
قد عَلِمَ القُدُّوسُ مَوْلى القُدْسِ
…
أنَّ أبا العباسِ أَوْلِى نَفْسِ
في مَعْدِنِ المَلِكِ القديمِ الكُرْسي
…
وعن العلمِ تسميةً للصفةِ باسمِ مكانِ صاحبِها، ومنه قيل للعلماء:«الكَراسيّ» قال:
1035 -
يَحُفُّ بهم بيضُ الوجوه وعُصْبَةٌ
…
كراسِيُّ بالأحداثِ حين تَنُوبُ
وَصَفَهم بأنهم عالمونَ بحوادثِ الأمورِ ونوازِلِها ويُعَبَّرُ به عن السِّرِّ قال:
1036 -
مالي بأَمْرِكَ كُرْسِيٌّ أُكاتِمُهُ
…
ولا بِكُرْسِيِّ - عَلْمَ اللَّهُ - مَخْلُوقِ
وقيل: الكُرْسيُّ لكل شيء أصلُه.
قوله: {وَلَا يَؤُودُهُ} يقال: آدَه كذا أي: أَثْقله ولَحِقه منه مَشَقَّةٌ، قال:
1037 -
ألا ما لسَلْمَى اليومَ بَتَّ جَدِيدُها
…
وَضَنَّتْ وما كانُ النَّوالُ يَؤُودُها
أي: يُثْقِلها، ومنه المَوْءُوْدَة للبنت تُدْفَنُ حيةً، لأنهم يثقلونها بالتراب. وقُرىء «يَوْدُه» بحذفِ الهمزة، كما تُحذف همزة «أناس» ، وقرىء «يَوُوده» بإبدال الهمزة واواً.
و «حِفْظ» مصدرٌ مضافٌ لمفعولِهِ، أي لا يَؤُوْده أَنْ يحفظَهما.
و «العليّ» أصلُه: عَلِيْوٌ فأُدْغم نحو: مَيِّت، لأنه من علا يعلو، قال:
1038 -
فَلَمَّا عَلَوْنَا واستَوَيْنَا عليهِمُ
…
تَرَكْنَاهُمُ صَرْعَى لنسرٍ وكاسِرِ
والعظيمُ «تقدَّم معناها، وقيل: هو هنا بمعنى المُعَظَّم كما قالوا:» عتيق «بمعنى مُعَتَّق قال:
1039 -
فكأنَّ الخمرَ العتيقَ من الإِسْ
…
فَنْطِ ممزوجةً بماءٍ زُلالِ
قيل: وأُنْكِرَ ذلك لانتفاء هذا الوصفِ قبل الخَلْقِ وبعد فنائِهم، إذ لا مُعَظَّم له حينئذٍ، وهذا فاسدٌ لأنه مستحقٌ هذا الوصفَ. وقيل في الجواب عنه: إنه صفة فعلٍ كالخَلْق والرِّزْق، والأولُ أصحُّ.
قال الزمخشري:» فإنْ قلت: كيف تَرَتَّبَتِ الجملُ في آيةِ الكرسي غير حرفِ عطفٍ؟ قلت: ما منها جملةٌ إلا وهي واردةٌ على سبيل البيانِ لما تَرَتَّبَتْ عليه، والبيانُ مُتَّحِدٌ بالمُبَيَّن، فلو توسَّط بينهما عاطفٌ لكان كما تقول العرب:«بين العصا ولِحائها» فالأُولى بيانٌ لقيامِهِ بتدبيرِ الخَلْق وكونِهِ مهيمناً عليه غيرَ ساهِ عنه، والثانيةُ لكونِهِ مالكاً لما يدبِّره، والثالثة لكبرياء شأنه، والرابعة لإِحاطته بأحوال الخلق وعِلْمِه بالمرتضى منهم، المستوجِب للشفاعةِ وغير المُرْتَضَى، والخامسةُ لسَعَةِ علمه وتعلُّقِهِ بالمعلوماتِ كلِّها أو لجلالِهِ وعِظَم قدرتِهِ «انتهى. يعني غالبَ الجملِ وإلَاّ فبعضُ الجملِ فيها معطوفة وهي قولُهُ:» ولا يُحيطُونَ «وقولُهُ» ولا يَؤُودُه «وقولُه: {وَهُوَ العلي العظيم} .
قوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدين} : كقولِهِ: {لَا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2] وقد تقدَّم. والجمهور على إدغام دالِ «قد» في تاءِ «تَبَيَّن» لأنها من مَخْرَجِها. ومعنى الإِكراه نسبتُهم إلى كراهةِ الإِسلام. قال الزجاجُ: «لا تَنْسُبوا إلى الكراهةِ مَنْ أسلم مُكْرَهاً» . يقال: «أَكْفَره» نَسَبَه إلى الكفرِ، قال:
1040 -
وطائفةٌ قد أَكْفروني بحبِّهم
…
وطائفةٌ قالوا مسيءٌ ومُذْنِبُ
[وأل في «الدين» للعهدِ، وقيل: عِوَضٌ من الإِضافة أي «في دين الله» ] .
والرُّشْدُ: مصدرُ رَشَدَ بفتح العين يَرْشُد بضمها. وقرأ الحسن «الرُّشُد» [بضمتين كالعُنُق، فيجوز أن يكونَ هذا أصلَه، ويجوزُ أَنْ يكونَ إتباعاً، وهي مسألةُ خلافٍ أعني ضَمَّ عينِ الفعلِ. وقرأ أبو عبد الرحمن] الرَّشَد بفتح الفاء والعينِ، وهو مصدرُ رشِد بكسرِ العينِ يَرْشَد بفتحها، ورُوي عن أبي عبد الرحمن أيضاً:«الرَّشادُ» بالألف.
/قوله {مِنَ الغي} متعلِّقٌ بتبيَّن، و «مِنْ» للفصلِ والتمييزِ كقولك: مَيَّزتُ هذا من ذاك. وقال أبو البقاء: «في موضعِ نصبٍ على أنه مفعولٌ» وليس بظاهرٍ لأنَّ معنى كونِهِ مفعولاً به غيرُ لائقٍ بهذا المحلِّ. ولا محلَّ لهذه الجملةِ من الإِعرابِ، لأنها استئنافٌ جارٍ مجرى التعليلِ لعدَمِ الإِكراه في الدين. والغَيُّ: مصدرُ غَوَى بفتح العين قال: {فغوى} [طه: 121]، ويقال:«غَوَى الفصيلُ» إذا بَشِمَ وإذا جاع أيضاً، فهو من الأضداد. وأصلُ الغَيّ:«غَوْيٌ» فاجتمعت الياء والواو، فَأُدْغِمَتْ نحو: مَيّت وبابِهِ.
قوله: {بالطاغوت} متعلِّقٌ ب «يكْفر» ، والطاغوتُ بناء مبالغةٍ كالجَبَروت والملَكوت. واختُلِفَ واختُلِفَ فيه، فقيل: هو مصدرٌ في الأصلِ ولذلك يُوَحَّد ويُذَكَّر، كسائرِ المصادرِ الواقعةِ على الأَعْيَان، وهذا مذهبُ الفارسي، وقيل: هو اسمُ
جنسٍ مفردٍ، فلذلك لَزِمَ الإِفرادَ والتذكيرَ، وهذا مذهبُ سيبويه. وقيل هو جمعٌ، وهذا مذهبُ المبردِ، وهو مؤنثٌ بدليلِ قوله تعالى:{والذين اجتنبوا الطاغوت أَن يَعْبُدُوهَا} [الزمر: 17] . واشتقاقُه من طغَى يَطْغَى، أو من طَغَا يَطْغُو، على حَسَبِ ما تقدَّم أولَ السورة؟ هل هو من ذواتِ الواوِ أو من ذواتِ الياء؟ وعلى كِلا التقديرين فأصلُه طَغَيُوت أو طَغَوُوت لقولِهم «طُغْيان» في معناه، فَقُلِبَت الكلمةُ بأَنْ قُدِّمَتْ اللامُ وأُخِّرت العينُ، فتحرَّك حرفُ العلةِ وانفَتَحَ ما قبلَه فَقُلِبَ ألفاً، فوزنه الآن فَلَعُوت، وقيل: تاؤُه ليسَتْ زائدةً، وإنما هي بدلٌ من لامِ الكلمة، ووزنُه فاعول. قال مكي:«وقد يَجُوز أن يكونَ أصلُ لامِهِ واواً فيكونُ أصلُه طَغَووتاً لأنه يقال: طَغَى يَطْغى ويَطْغو، وطَغَيْتُ وطَغَوْتُ، ومثلُه في القلب والاعتلال والوزن: حانوت، لأنه من حَنا يَحْنو وأصله حَنَوُوت، ثم قُلِب وأُعِلَّ، ولا يجوزُ أن يكونَ من: حانَ يَحِين لقولِهم في الجمع حَوانيت» انتهى.
كأنَّه لمَّا رأى أَنَّ الواوَ قد تُبْدَل تاءً كما في تُجاه وتُخَمَة وتُراث وتُكَأة، ادَّعى قَلْبَ الواوِ التي هي لامٌ تاءً، وهذا ليسَ بشيءٍ.
وقَدَّم ذِكْرَ الكفر بالطاغوتِ على ذِكْرِ الإِيمانِ باللَّهِ اهتماماً بوجوبِ الكفرِ بالطاغوتِ، وناسَبَه اتصالُهُ بلفظٍ «الغَيّ» .
والعُرْوَة: موضعُ شَدِّ الأيدي، وأصلُ المادةِ يَدُلُّ على التعلُّق، ومنه: عَرَوْتُه: أَلْمَمْتُ به متعلِّقاً، واعتراه الهَمُّ: تعلَّق به. والوُثْقى: فُعْلى للتفضيل تأنيثَ الأوثق، كفُضْلى تأنيثَ الأفضل، وجَمْعُها على وُثَق نحو: كُبْرى وكُبَر، فأمَّا «وُثُق» بضمتين فجمع وَثِيق.
قوله: {لَا انفصام لَهَا} كقولِهِ: {لَا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2] والجملةُ فيها ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُهما: أن تكونَ استئنافاً فلا محلَّ لها حينئذٍ. والثاني: أنها حالٌ من العُرْوة، والعاملُ فيها «استمسَكَ» . والثالث: أنها حالٌ من الضميرِ المستترِ في «الوُثْقى» . و «لها» في موضِعِ الخبرِ فتتعلَّقُ بمحذوفٍ أي: كائنٌ لها. والانفصامُ - بالفاء - القَطْعُ من غير بَيْنُونة، والقصمُ بالقافِ قَطْعٌ ببينونةٍ، وقد يُستعمل ما بالفاءِ مكانَ ما بالقافِ.
قولُه تعالى: {والذين كفروا أَوْلِيَآؤُهُمُ} : الذين مبتدأٌ أولُ، وأولياؤهم مبتدأٌ ثانٍ، والطاغوتُ: خبرُه، والجملةُ خبرُ الأول. وقرأ الحسن [ «الطواغيت» بالجمعِ، وإن كان أصلُه مصدراً لأنه لمَّا] أطلق على المعبودِ مِنْ دونِ الله اختلفَت أنواعُه، ويؤيِّد ذلك عَوْدُ الضمير مَجْمُوعاً من قولِهِ:«يُخْرِجونهم» .
قوله: {يُخْرِجُونَهُمْ} هذه الجملةُ وما قبلَها من قولِهِ: «يُخْرِجُهم» الأحْسنُ فيها ألَاّ يكونَ لها محلٌّ من الإِعراب، لأنهما خَرَجا مخرجَ التفسيرِ للولاية، ويجوزُ أن يكونَ «يُخْرِجُهم» خبراً ثانياً لقولِهِ:«الله» وأن يكونَ حالاً من الضمير في «وليُّ» ، وكذلك «يُخْرجونهم» والعامِلُ في الحال ما في معنى الطاغوت، وهذا نظيرُ ما قاله الفارسي في قولِهِ:{نَزَّاعَةً} [المعارج: 16] إنها حالٌ العاملُ فيها «لَظَى» وسيأتي تحقيقُه. و «من» [و]«إلى» متعلقان بفعلي الإِخراج.
أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين خَرَجُواْ} [البقرة: 243] . وقرأ عليٌّ رضي الله عنه: «تَرْ» بسكون الراء، وتقدَّم أيضاً توجيهُها. والهاءُ في «ربه» فيهما قولان، أظهرهُما: أنها تعودُ على «إبراهيم» ، والثاني: تعودُ على «الذي» ، ومعنى حاجَّه: أظهرَ المغالَبَة في حُجَّتِهِ.
قوله: {أَنْ آتَاهُ الله} فيه وجهان، أظهرهُما: أنه مفعولٌ من أجله على حذفِ حرفِ العلةِ، أي: لأنْ آتاه، فحينئذٍ في محلِّ «أَنْ» الوجهان المشهوران، أعني النصبَ أو الجرَّ، ولا بُدَّ من تقديرِ حرفِ الجرِ قبل «أَنْ» لأنَّ المفعول من أجله هنا نَقَّص شرطاً وهو عدمُ اتحادِ الفاعلِ، وإنما حُذِفَت اللام، لأنَّ حرفَ الجرِّ يطَّرد حَذْفُهُ معها ومع أنَّ، كما تقدَّم غيرَ مرة. وفي كونِهِ مفعولاً من أجلِهِ معنيان، أحدُهما: أنه من بابِ العكسِ في الكلام بمعنى أنه وَضَعَ المُحَاجَّة موضعَ الشكر، إذ كان من حَقِّه أن يشكرَ في مقابلة إتيانِ المُلْك، ولكنه عَمِلَ على عكس القضية، ومنه:{وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة: 82]، وتقول:«عاداني فلانٌ لأني أَحْسنت أليه» وهو باب بليغٌ. والثاني: أنَّ إيتاءَ المُلْكِ حَمَلَه على ذلك، لأنه أورثه الكِبْرَ والبَطَرَ، فتسبَّب عنهما المُحاجَّةُ.
الوجه الثاني: أنَّ «أَنْ» وما في حَيِّزها واقعةٌ موقعَ ظرفِ الزمان، قال الزمخشري:«ويجوزُ أن يكونَ التقديرُ: حاجَّ وقتَ أَنْ آتاه» . وهذا الذي أجازه الزمخشري محلُّ نظرٍ، لأنه إنْ عنى أنَّ ذلكَ على حَذْفِ مضاف ففيه
بُعْدٌ من جهةِ أنَّ المُحاجَّةَ لم تقعْ وقتَ إيتاءِ اللهِ له المُلْكَ، إلا أنْ يُتَجَوَّزَ في الوقتِ، فلا يُحْمَل على الظاهِرِ، وهو أنَّ المُحاجَّة وَقَعَتْ ابتداءَ إيتاءِ المُلْك، بل يُحْمَلُ على أنَّ المُحاجَّة وقعتْ وقتَ وجودِ المُلْك، وإنْ عنى أَنْ «أَنْ» وما في حَيَّزها واقعةٌ موقعَ الظرفِ فقد نَصَّ النحويون على منعِ ذلك وقالوا: لا يَنْوب عن الظرفِ الزماني إلا المصدرُ الصريحُ، نحو:«أتيتُك صياحَ الديك» ولو قلت: «أن يصيح الديك» لم يَجُزْ. كذا قاله الشيخ، وفيه نظرٌ، لأنه قال:«لا ينوبُ عن الظرفِ إلا المصدرُ الصريحُ» وهذا معارَضٌ بأنهم نَصُّوا على أنَّ «ما» المصدريةَ تنوبُ عن الزمان، وليست بمصدرٍ صريحٍ.
والضمير في «آتاه» فيه وجهان، أحدُهما - وهو الأظهرُ - أن يعودَ على «الذي» ، وأجاز المهدوي أن يعودَ على «إبراهيم» أي: مَلَكَ النبوة. قال ابن عطية: «هذا تحاملٌ من التأويل» وقال الشيخ: «هذا قولُ المعتزلة، قالوا: لأنَّ الله تعالى قال:
{لَا يَنَالُ عَهْدِي الظالمين} [البقرة: 124] والمُلْك عهدٌ، ولقولِهِ تعالى:{فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الكتاب والحكمة وَآتَيْنَاهُمْ مُّلْكاً عَظِيماً} [النساء: 54] .
قوله: {إِذْ قَالَ} فيه أربعةُ أوجهٍ، أظهرُها: أنه معمولٌ لحاجَّ. الثاني: أن يكونَ معمولاً لآتاه، ذَكَرَهُ أبو البقاء. وفيه نَظَرٌ من حيث إنَّ وقتَ إيتاءِ المُلْكِ ليس وقتَ قولِ إبراهيم:{رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ} ، إلا أن يتُجَوَّز في الظرفِ كما تقدَّم. والثالث: أن يكونَ بدلاً من «أنْ آتاه الله المُلْك» إذا
جُعِلَ بمعنى الوقت، أجازه الزمخشري بناءً منه على أنَّ «أَنْ» واقعةٌ موقعَ الظرفِ، وقد تقدَّم ضعفُهُ، وأيضاً فإن الظرفَيْنِ مختلفان كما تقدَّم إلا بالتجوزِ المذكورِ. وقال أبو البقاء:«وذكر بعضُهم أنه بدلٌ من» أَنْ آتاه «وليس بشيءٍ، لأنَّ الظرفَ غيرُ المصدرِ، فلو كانَ بدلاً لكانَ غلطاً إلا أَنْ تُجْعَل» إذ «بمعنى» أَنْ «المصدرية، وقد جاء ذلك» انتهى. وهذا بناءٌ منه على أنَّ «أَنْ» مفعولٌ من أجله/ وليست واقعةً موقعَ الظرفِ، أمَّا إذا كانَتْ «أَنْ» واقعةً موقعَ الظرفِ فلا تكونُ بدلَ غلط، بل بدلُ كلٍ من كلٍ، كما هو قولُ الزمخشري وفيه ما تقدَّم، مع أنه يجوزُ أَنْ تكونَ بدلاً مِنْ «أَنْ آتاه» و «أن آتاه» مصدرٌ مفعولٌ من أجلِهِ بدلَ اشتمالٍ، لأنَّ وقتَ القولِ لاتساعِهِ مشتملٌ عليه وعلى غيره. الرابع: أنَّ العاملَ فيه «تَرَ» من قوله: «ألم ترَ» ذكره مكي، وهذا ليس بشيءٍ، لأنَّ الرؤيةَ على كِلا التفسيرين المذكورين في نظيرتِها لم تكنْ في وقتِ قوله:{رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ} .
و {رَبِّيَ الذي يُحْيِي} مبتدأٌ وخبرٌ في محلِّ نصب بالقول. قولُه: {قَالَ أَنَا أُحْيِي} مبتدأٌ وخبرٌ منصوبُ المحل بالقول أيضاً. وأخبر عن «أنا» بالجملةِ الفعلية، وعن «ربي» بالموصولِ بها، لأنه في الإِخبارِ بالموصولِ يُفيد الاختصاصَ بالمُخْبَرِ عنه بخلافِ الثاني، فإنه لم يَدَّعِ لنفسِهِ الخسيسةِ الخصوصيةَ بذلك.
و «أنا» ضميرٌ مرفوعٌ منفصلٌ، والاسمُ منه «أَنْ» والألفُ زائدةٌ لبيانِ
الحركةِ في الوقفِ، ولذلك حُذِفَتْ وصلاً، ومن العربِ مَنْ يُثبتها مطلقاً، فقيل: أُجري الوصلُ مُجْرى الوقف. قال:
1041 -
وكيفَ أنا وانتحالِ القوا
…
في بعدَ المشيبِ كفى ذاك عارَا
وقال آخر:
1042 -
أنا سيفُ العشيرةِ فاعرِفوني
…
حَمِيداً قد تَذَرَّيْتُ السَّناما
والصحيح أنه فيه لغتان، إحداهما: لغةُ تميمٍ، وهي إثباتُ ألفه وصلاً ووقفاً وعليها تُحْمَلُ قراءةُ نافع فإنه قرأ بثبوتِ الألفِ وصلاً قبل همزةٍ مضمومة نحو:«أنا أُحيي» أو مفتوحةٍ نحو: {وَأَنَاْ أَوَّلُ} [الأعراف: 143]، واخْتُلِفَ عنه في المكسورة نحو:{إِنْ أَنَاْ إِلَاّ [نَذِيرٌ] } [الشعراء: 115]، وقراءةُ ابن عامر:
{لكنا هُوَ الله رَبِّي} على ما سيأتي، هذا أحسنُ من توجيهِ مَنْ يقول:«أَجْرِي الوصلُ مُجرى الوقف» . واللغةُ الثانية: إثباتُها وقفاً وَحَذْفُها وصلاً، ولا يجوزُ إثباتُها وصلاً إلا ضرورةً كالبيتين المتقدِّمين. وقيل: بل «أنا» كلُّه ضمير.
وفيه لغاتٌ: أنا وأَنْ - كلفظِ أَنْ الناصبةِ - وآن، وكأنه قَدَّم الألفَ على
النونِ فصار أان. قيل: إنَّ المرادُ به الزمانُ، [و] قالوا: أنَهْ وهي هاءُ السكت، لا بدلٌ من الألف: قال: «هكذا فَرْدِي أَنَهْ» وقال آخر:
1043 -
إنْ كنتُ أدري فعليَّ بَدَنَهْ
…
من كَثْرةِ التخليطِ فيَّ مَنْ أَنَهْ
وإنما أثبت نافع ألفَه قبل الهمز جمعاً بين اللغتين، أو لأنَّ النطقَ بالهمزِ عَسِرٌ فاستراح له بالألف لأنها حرفُ مدٍّ.
قوله: {فَإِنَّ الله} هذه الفاءُ جوابُ شرطٍ مقدَّرٍ تقديرُه: قال إبراهيم إنْ زعمت أو مَوَّهت بذلك فإن الله، ولو كانت الجملةُ محكيةً بالقولِ لَمَا دَخَلَتْ هذه الفاءُ، بل كان تركيبُ الكلامِ: قال إبراهيم إنَّ الله يأتي. وقال أبو البقاء: «دخلَتِ الفاءُ إيذاناً بتعلُّق هذا الكلامِ بما قَبْلَه، والمعنى إذا أدَّعَيْت الإِحياء والإِماتَة ولم تَفْهَمْ فالحجةُ أنَّ الله يأتي، هذا هو المعنى» . والباءُ في «بالشمسِ» للتعديةِ، تقولُ: أَتَتِ الشمسُ، وأتى اللهُ بها، أي: أجاءها. و «من المشرق» و «مِن المغرب» متعلقان بالفعلَيْن قبلهما، وأجاز أبو البقاء فيهما بَعْدَ أَنْ منع ذلك أن يكونا حالَيْن، وجَعَلَ التقدير: مسخرةً أو منقادةً. وليته استمرَّ على مَنْعِه ذلك.
قوله: {فَبُهِتَ} الجمهورُ: «بُهِتَ» مبنياً للمفعول، والموصولُ مرفوعٌ به، والفاعلُ في الأصل هو إبراهيمُ، لأنه المناظِرُ له. ويُحْتمل أن يكونَ الفاعلُ
في الأصل ضميرَ المصدرِ المفهوم من «قال» أي: فَبَهَته قولُ إبراهيم. وقرأ ابن السَّمَيْفَع: «فَبَهَتَ» بفتحِ الباءِ والهاءِ مبنياً للفاعلِ، وهذا يَحْتَمِلُ وجهين، أحدُهما: أن يكونَ الفعلُ متعدِّياً، وفاعلُه ضميرٌ يعودُ على إبراهيم، و «الذي» هو المفعولُ، أي: فَبَهَت إبراهيمُ الكافرَ، أي غَلَبة في الحُجَّة، أو يكونُ الفاعلُ الموصولَ، والمفعولُ محذوفٌ وهو إبراهيمُ، أي: بَهَتَ الكافرُ إبراهيم أي: لَمّا انقطَع عن الحُجَّة بَهَته. والثاني: أن يكونَ لازماً والموصولُ فاعلٌ، والمعنى معنى بُهِت، فتتَّحدُ القراءتان، أو بمعنى أَتَى بالبُهْتان. وقرأ أبو حَيْوة:«فَبَهُتَ» بفتح الباء وضمِّ الهاء كظَرُفَ، والفاعلُ الموصولُ. وحكى الأخفش:«فَبُهِتَ» بكسر الهاء، وهو قاصرُ أيضاً. فيَحصُلُ فيه ثلاثُ لغاتٍ: بَهَتَ بفتحهما، بَهُت بضم العين، بَهِت بكسرها، فالمفتوحُ يكون لازماً ومتعدياً، قال:{فَتَبْهَتُهُمْ} [الأنبياء: 40] . والبَهْتُ: التحيُّر والدَّهَشُ، وباهَتَه وبَهَته واجهه بالكذبِ، ومنه الحديث:«إنَّ اليهودَ قومٌ بُهُتٌ» ، وذلك أن الكذب يُحَيِّر المكذوبَ عليه.
قوله تعالى: {أَوْ كالذي مَرَّ} : الجمهورُ على سكونِ واوِ «أو» وهي هنا للتفصيلِ، وقيل: للتخيير بين التعجب مِنْ شأنهما. وقرأ أبو سفيان ابن حسين «أوَ» بفتحِها، على أنها واوُ العطفِ، والهمزةُ قبلها للاستفهام.
وفي قوله: {كالذي} أربعةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه عطفٌ على المعنى وتقديرُه عند الكسائي والفراء: هل رأيتَ كالذي حاجَّ إبراهيم أو كالذي مَرَّ على قرية، هكذا قال مكي، أمَّا العطفُ على المعنى فهو وإنْ كان موجوداً في لسانهم كقوله:
1044 -
تقيٌّ نقيٌّ لم يُكَثِّرْ غنيمةً
…
بِنَهْكَةِ ذي قُرْبى ولا بِحَقَلِّدِ
وقول الآخر:
1045 -
أجِدَّكَ لن تَرَى بثُعَيْلِباتٍ
…
ولا بَيْدَانَ ناجيةً ذَمُولا
ولا متدارِكٍ والليلُ طَفْلٌ
…
ببعضِ نواشغِ الوادي حُمُولا
فإنَّ معنى الأولِ: ليسَ بمكثرٍ ولذلك عَطَفَ عليه «ولا بِحَقَلَّدِ» ومعنى الثاني: أَجِدَّك لستَ براءٍ، ولذلك عَطَفَ عليه «ولا متداركٍ» ، إلا أنهم نَصُّوا على عدمِ اقتياسِه.
الثاني: أنه منصوبٌ على إضمارِ فعلٍ، وإليه نَحَا الزمخشري، وأبو البقاء، قال الزمخشري:«أو كالذي: معناه أو رَأَيْتَ مثلَ الذي» ، فَحُذِفَ
لدلالةِ «ألم تَرَ» لأنَّ كلتيهما كلمتا تعجُّبٍ، وهو حسنٌ، لأنَّ الحذفَ ثابتٌ كثيرٌ بخلافِ العطفِ على المعنى.
الثالث: انَّ الكافَ زائدةٌ كهي في قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] وقول الآخر:
1046 -
فَصُيِّروا مثلَ كَعَصْفٍ مأكولْ
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
والتقدير: ألم تَرَ إلى الذي حاجَّ، أو إلى الذي مَرَّ على قريةٍ. وفيه ضعفٌ لأنَّ الأصلَ عدمُ الزيادةِ.
والرابع: أنَّ الكافَ اسمٌ بمعنى مِثْل، لا حرفٌ، وهو مذهبُ الأخفش وهو الصحيحُ من جهةِ الدليل، وإنْ كان جمهورُ البصريين على خلافِه، فالتقديرُ: ألم تَرَ إلى الذي حاجَّ، أو إلى مِثْل الذي مَرَّ وهو معنى حسنٌ. وللقولِ باسميةِ الكافِ دلائلُ مذكورةٌ في كتب القوم، ذَكَرْنَا أحسَنها في هذا الكتابِ، منها معادَلَتُها في الفاعليةِ ب «مثل» في قوله:
1047 -
وإنّك لم يَفْخَرْ عليك كفاخرٍ
…
ضعيفٍ ولم يَغْلِبْكَ مثلُ مُغَلَّبِ
ومنها دخولُ حروف الجرِ، والإِسناد إليها. وتقدَّم الكلامُ في اشتقاقِ القرية.
قوله: {وَهِيَ خَاوِيَةٌ} هذه الجملةُ فيها/ خمسةُ أوجهٍ، أحدُها أنْ تكونَ حالاً من فاعلِ «مَرَّ» والواوُ هنا رابطةٌ بين الجملةِ الحاليةِ وصاحبها، والإِتيانُ بها واجبٌ لخلوِّ الجملةِ من ضميرٍ يعودُ إليه. والثاني: أنها حالٌ من «قرية» : إمَّا على جَعْل «على عروشها» صفةً لقرية على أحدِ الأوجهِ الآتيةِ في هذا الجارِّ، أو على رأي مَنْ يجيزُ الإِتيانَ بالحالِ من النكرة مطلقاً، وهو ضعيفُ عند سيبويهِ. الثالث: أنها حالٌ من «عروشها» مقدَّمةٌ عليه، تقديرُه: مَرَّ على قرية على عروشِها وهي خاويةٌ.
الرابع: أن تكونَ حالاً من «ها» المضافِ إليها «عروش» قال أبو البقاء: «والعاملُ معنى الإِضافة وهو ضعيفٌ مع جوازه» انتهى. والذي سَهَّل مجيءَ الحال من المضاف إليه كونُه بعضَ المضافِ، لأنَّ «العروش» بعضُ القريةِ، فهو قريبٌ من قولِه تعالى:{مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً} [الأعراف: 43] . الخامس: أن تكونَ الجملةُ صفةً لقرية، وهذا ليسَ بمرتضى عندَهم، لأنَّ الواوَ لا تَدْخُلُ بين الصفةِ والموصوفِ، وإنْ كانَ الزمخشري قد أجازَ ذلك في قوله تعالى:{وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلَاّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ} [الحجر: 4] فَجَعَل «ولَهَا كتابٌ» صفةً، قال:«وتوسَّطت الواوُ إيذاناً بإلصاق الصفة بالموصوف» وهذا مذهبٌ سبقه إليه أبو الفتح ابن جني في بعضِ تصانيفِه، وفيه ما تقدَّم، وكأنَّ الذي سَهَّل ذلك تشبيهُ الجملة الواقعة صفةً بالواقعَةِ حالاً، لأنَّ الحالَ صفةٌ في المعنى. ورتَّب أبو البقاء جَعْلَ هذه الجملة صفةً لقرية على جوازِ جَعْلِ «على عروشها» بدلاً من «قرية» على
إعادةِ حرفِ الجر ورتَّب جَعْلَ «وهي خاويةٌ» حالاً من العروش أو من القرية أو مِنْ «ها» المضافِ إليها على جَعْلِ «على عروشها» صفةً للقرية، وهذا نصُّه قد ذكرتُه ليتضِحَ لك، فإنه قال:«وقيل هو بدلٌ من القرية تقديرُه: مَرَّ على قرية على عروشها أي: مَرَّ على عروش القرية، وأعادَ حرفَ الجر مع البدلِ، ويجوز أن يكونَ» على عروشها «على هذا القول صفةً للقريةِ لا بدلاً، تقديرُه: على قريةٍ ساقطةٍ على عروشها، فعلى هذا يجوزُ أن تكونَ» وهي خاويةٌ «حالاً من العروشِ وأن تكونَ حالاً من القرية لأنها قد وُصِفَتْ، وأن تكونَ حالاً من» ها «المضافِ إليه، وفي هذا البناءِ نظرٌ لا يخفى.
قوله: {على عُرُوشِهَا} فيه أربعةُ أوجه، أحدُها: أن يكونَ بدلاً من» قرية «بإعادة العاملِ. الثاني: أن يكونَ صفةً ل» قرية «كما تقدَّم تحقيقُه، فعلى الأولِ يتعلَّقُ ب» مَرَّ «لأنَّ العاملَ في البدلِ العاملُ في المُبْدَلِ منه، وعلى الثاني يتعلَّقُ بمحذوفٍ أي: ساقطةٍ على عروشِها. الثالث: أن يتعلَّقَ بنفسِ خاوية، إذا فَسَّرنا» خاوية «بمعنى متهدِّمة ساقطة. الرابع: أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ يَدُلُّ عليه المعنى، وذلك المحذوفُ قالوا: هو لفظُ» ثابتة «، لأنهم فَسَّروا» خاويةٌ «بمعنى: خاليةٌ مِنْ أهلِها ثابتةٌ على عروشِها، وبيوتُها قائمةٌ لم تتهدَّمْ، وهذا حَذْفٌ من غيرِ دليلٍ ولا يتبادَرُ إليه الذهن. وقيل:» على «بمعنى» مع «أي: مع عروشِها، قالوا: وعلى هذا فالمرادُ بالعروشِ الأبنيةُ.
والخاوي: الخالي. يقال: خَوَتِ الدارُ تَخْوِي خَواءً بالمد، وخُوِيَّاً، وخَوِيَتْ أيضاً بكسرِ العينِ تَخْوَى خَوَىً بالقصر، وخَوْياً.
والخَوَى: الجوعُ لخلوِّ البطنِ من الزاد. والخَوِيُّ على فَعِيل: البطنُ السهل من الأرض، وخَوَّى البعيرُ: جافى جَنْبَه عن الأرض. قال:
1048 -
خَوَّى على مُسْتَوِيات خَمْسِ
…
كِرْكِرَةٍ وثَفِناتٍ مُلْسٍ
والعروشُ: جمعُ عَرْش، وهو سقفُ البيت، وكذلك كل ما هُيِّىء ليُسْتَظَلَّ به. وقيل: هو البنيانُ نفسُه، قال:
1049 -
إنْ يَقْتُلوكَ فقد ثَلَلْتُ عروشَهُمْ
…
بعُتيبةَ بنِ الحارثِ بِنْ شهابِ
قوله: {أنى يُحْيِي هذه الله} في «أنِّى» وجهان، أحدُهما: أَنْ تكونَ بمعنى «متى» قال أبو البقاء: «فعلى هذا تكونُ ظرفاً» والثاني: انها بمعنى كيف. قال أبو البقاء: فيكونُ موضعُها حالاً من «هذه» وتقدَّم لما فيه من الاستفهام، والظاهر انها بمعنى كيف، وعلى كلا القولين فالعاملُ فيها «يُحْيي» . و «بعد» أيضاً معمولٌ له. والإِحياءُ والإِماتةُ مَجازٌ إنْ أُريدَ بهما العمرانُ والخرابُ، أو حقيقةٌ إنْ قَدَّرْنا مضافاً أي: أنَّى يُحْيي أهلَ هذه القريةِ بعد مَوْتِ أهلِها، ويجوزُ أن تكونَ هذه إشارةً إلى عظامِ أهلِ القريةِ البالية وجثثهم المتمزقةِ، دَلَّ على ذلك السياقُ.
قوله: {مِئَةَ عَامٍ} قال أبو البقاء: «مئة عام ظرفٌ لأماتَه على المعنى، لأنَّ المعنى ألبثه مئة عام، ولا يجوزُ أن يكونَ ظرفاً على ظاهر اللفظِ، لأنَّ الإِماتةَ تقعُ في أدنى زمان، ويجوزُ أن يكونَ ظرفاً لفعلٍ محذوف تقديرُه:» فأَماته اللهُ فلبِثَ مئة عام «، ويَدُلُّ على ذلك قولُه:» كم لَبِثْتَ «، ولا حاجَةَ إلى هذين التأويلين، بل المعنى جَعَلَه ميِّتاً مئة عام.
و» مئة «عقدٌ من العدد معروفٌ، ولامُها محذوفةٌ، وهي ياءٌ، يدُلُّ على
ذلك قولُهم:» أَمْأَيْتُ الدراهم «أي: صَيَّرْتُها مئةً، فوزنُها فِعَة ويُجْمَع على» مِئات «وشذَّ فيها مِئُون قال:
1050 -
ثلاثُ مئينٍ للملوكِ وَفَى بها
…
ردائي وَجَلَّتْ عن وجوه الأهاتِمِ
كأنهم جَرَوها بهذا الجمعِ لِما حُذِفَ منها، كما قالوا: سِنون في سَنَة.
والعامُ مدةٌ من الزمانِ معلومةٌ، وعينُهُ واوٌ لقولِهم في التصغير، عُوَيْم، وفي التكسير:» أَعْوَام «. وقال النقاش:» هو في الأصلِ مصدَرٌ سُمِّيَ به الزمانُ لأنه عَوْمَةٌ من الشمس في الفلك، والعَوْمُ: هو السَّبْح. وقال تعالى: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40] فعلى هذا يكونُ العامُ والعَوْمُ كالقَوْل والقَال «.
قوله: {كَمْ} منصوبٌ على الظرفِ، ومميِّزُها محذوفٌ تقديرُهُ: كم يوماً أو وقتاً. والناصبُ له» لَبِثْتَ «، والجملةُ في محلِّ نصبٍ بالقولِ، والظاهرُ أنَّ» أو «في قوله: {يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} بمعنى» بل «للإِضراب وهو قولٌ ثابتٌ، وقيل: هي للشك. وقوله: {قَالَ بَل لَّبِثْتَ} عَطَفَتْ» بل «هذه الجملةَ على جملةٍ محذوفةٍ تقديرهُ: ما لبثتُ يوماً أو بعضَ يوم، بل لبثتُ مئةَ عام.
وقرأ نافع وعاصم وابن كثير بإِظهارِ الثاء في جميع القرآن، والباقُون بالإِدغام.
قوله: {لَمْ يَتَسَنَّهْ} هذه الجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحال. وزعم
بعضُهم أن المضارعَ المنفيَّ ب «لم» إذا وَقَع حالاً فالمختارُ دخولُ واوِ الحال وأنشد: /
1051 -
بأَيْدي رجالٍ لم يَشِيْموا سيوفَهُمْ
…
ولم تَكْثُر القَتْلى بها حينَ سُلَّتِ
وزعم آخرون أنَّ الأَوْلَى نفيُ المضارعِ الواقعِ حالاً بما ولمَّا وكلا الزعمين غيرُ صحيحين. لأنَّ الاستعمالَيْنِ واردان في القرآنِ، قال تعالى:{فانقلبوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سواء} [آل عمران: 174]، وقال تعالى:{أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ} [الأنعام: 93] فجاء النفيُ ب لم مع الواوِ ودونِها.
قيل: قد تقدَّم شيئاَن وهما «طعامِك وشرابِك» ولم يُعِدِ الضميرَ إلا مفرداً، وفي ذلك ثلاثةُ أجوبةٍ، أحدُها: أنهما لمَّا كانا متلازِمَيْنِ، بمعنى أنَّ أحدَهما لا يُكْتَفَى به بدونِ الآخر صارا بمنزلةِ شيءٍ واحدٍ حتى كأنه [قال:] فانظُرْ إلى غذائِك. الثاني: أنَّ الضميرَ يعودُ إلى الشراب فقط، لأنه أقربُ مذكورٍ، وثَمَّ جملةٌ أخرى حُذِفَتْ لدلالةِ هذه عليها. والتقديرُ: وانظرْ إلى طعامِكَ لم يَتَسَنَّهْ وإلى شرابِك لم يَتَسَنَّهْ، أو يكونُ سكتَ عن تغيُّرِ الطعامِ تنبيهاً بالأدنى على الأعلى، وذلك أنه إذا لم يتغيَّرِ الشرابُ مع نَزْعَة النفس إليه فَعَدَمُ تغيُّر الطعامِ أَوْلَى، قال معناه أبو البقاء. والثالث: أنه أفردَ في موضِعِ التثنيةِ، قاله أبو البقاء وأنشد:
1052 -
فكأنَّ في العينين حَبَّ قَرَنْفُلٍ
…
أو سُنْبَلٍ كُحِلَتْ به فانْهَلَّتِ
وليس بشيءٍ.
وقرأ حمزةُ والكسائي: «لم يَتَسَنَّهْ» بالهاء وقفاً وبحذفها وصلاً، والباقون بإثباتِها في الحالين. فأمَّا قراءتهما فالهاءُ فيها للسكتِ. وأمَّا قراءةُ الجماعَةِ فالهاء تحتملُ وجهين، أحدُهما: أن تكونَ أيضاً للسكتِ، وإنما أُثبتت وصلاً إجراء للوصلِ مُجْرى الوقفِ، وهو في القرآن كثيرٌ، سيمرُّ بك منه مواضعُ، فعلى هذا يكون أصلُ الكلمةِ: إمَّا مشتقاً من لفظ «السَّنة» على قولنا إنَّ لامَها المحذوفةَ واوٌ، ولذلكَ تُرَدُّ في التصغير والجمع، قالوا: سُنَيَّة وسَنَوات، وعلى هذه اللغة قالوا:«سانَيْتُ» أُبْدِلَتِ الواوُ ياءً لوقوعِها رابعةً، وقالوا: أَسْنَتَ القومُ، فقلبوا الواوَ تاءً، والأصل أَسْنَوُوا، فأَبْدَلوها في تُجاه وتُخَمة كما تقدَّم، فأصله: يَتَسَنَّى فحُذِفَتْ الألفُ جزماً، وإمَّا مِنْ لفظ «مَسْنون» وهو المتغيِّرُ ومنه {مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} [الحجر: 26] ، والأصل: يتَسَنَّنُ بثلاثِ نونات، فاسْتُثْقِلَ توالي الأمثال، فَأَبْدَلْنَا الأخيرةَ ياءً، كما قالوا في تَظَنَّنَ: تظَنَّى، وفي قَصَّصْت أظفاري: قَصَّيْت، ثم أَبْدَلْنَا الياء ألفاً لتحرُّكِها وانفتاح ما قبلَها، ثم حُذِفَتْ جزماً، قاله أبو عمرو، وخَطَّأَه الزجاج، قال:«لأنَّ المسنونَ المصبوبَ على سَنَنِ الطريق» .
وحُكِيَ عن النقاش أنه قال: «هو مأخوذٌ من أَسِنَ الماءُ» أي تغيَّر، وهذا وإن كان صحيحاً معنىً فقد رَدَّ عليه النحويون قولَه لأنه فاسدٌ اشتقاقاً، إذ
لو كان مشتقاً من «أَسِنَ الماء» لكان ينبغي حين يُبْنَى منه تفعَّل أن يقال تأسَّن.
ويمكن أَنْ يُجَابَ عنه أنه يمكنُ أن يكونَ قد قُلِبَت الكلمةُ بَنْ أُخِّرَتْ فاؤها - وهي الهمزة - إلى موضِع لامِها فبقي: يَتَسَنَّأ بالهمزةِ آخِراً، ثم أُبْدِلَت الهمزةُ ألفاً كقولِهم في قرأ:«قَرَا» ، وفي استَهْزا «ثم حُذِفَتْ جزماً.
والوجه الثاني: أن تكونَ الهاءُ أصلاً بنفسِها، ويكونُ مشتقاً من لفظ» سنة «أيضاً، ولكن في لغةِ من يَجْعَلُ لامَها المحذوفَةَ هاءً، وهم الحجازيون، والأصلِ: سُنَيْهَة، يَدُلُّ على ذلك التصغيرُ والتكسير، قالوا: سُنَيْهَة وسُنَيْهات وسانَهْتُ، قال شاعرهم:
1053 -
وليسَتْ بِسَنْهَاء ولا رُجَّبِيَّةٍ
…
ولكنْ عرايا في السنينِ الجوائِحِ
ومعنى» لم يَتَسَنَّهْ «على قولِنا: إنه من لفظِ السَّنَة، أي: لم يتغيَّر بمَرِّ السنين عليه، بل بقي على حالِه، وهذا أَوْلى من قولِ أبي البقاء في أثناءِ كلامه» من قولك أَسْنى يُسْنِي إذا مَضَتْ عليه سِنونَ «لأنه يَصِيرُ المعنى: لم تَمْضِ عليه سنونَ، وهذا يخالِفُهُ الحِسُّ والواقعُ.
وقرأ أُبَيّ:» لم يَسَّنَّه «بإدغام التاء في السين، والأصل:» لم يَتَسَنَّه «
كما قرىء {لَاّ يَسَّمَّعُونَ إلى الملإ} [الصافات: 8]، والأصل: يَتَسَمَّعون فَأُدْغِم. وقرأ طلحة بن مصرف:» لمئة سنة «.
قوله: {وَلِنَجْعَلَكَ} فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه متعلقٌ بفعلٍ محذوفٍ مقدَّرٍ بعده، تقديرُهُ: ولنجعلكَ فَعَلْنا ذلك. والثاني: أنه معطوفٌ على محذوفٍ تقديرُهُ: فَعَلْنا ذلك لتعلَمَ قدرتَنا ولنجعلَكَ. الثالث: أن الواوَ زائدةٌ، واللامُ متعلقةٌ بالفعلِ قبلَها أي: وانظُرْ إلى حمارِك لنعجلَكَ. وليس في الكلامِ تقديمٌ وتأخيرٌ كما زعم بعضُهم فقال: إنَّ قوله:» ولنجعلَكَ «مؤخر بعد قولِهِ:» وانظُرْ إلى العظامِ «، وأَنْ الأنظارَ الثلاثةَ منسوقةٌ بعضُها على بعضٍ، فُصِل بينها بهذا الجار، لأنَّ النظرَ الثالثَ من تمامِ الثاني، فلذلك لم تُجْعَل هذه العلةُ فاصلةً معترضةً. وهذه اللامُ لامُ كي، والفعلُ بعدها منصوبٌ بإضمار» أَنْ «وهي وما بعدَها من الفعلِ في محلِّ جرٍ على ما سبَقَ بيانُهُ غيرَ مرةٍ. و» آية «مفعولٌ ثانٍ لأنَّ الجَعْلَ هنا بمعنى التصيير. و» للناس «صفةٌ لآية، و» أل «في الناسِ قيل: للعهدِ إنْ عَنَى بهم بقيةَ قومِهِ. وقيل: للجنس إنْ عَنَى جميعَ بني آدم.
قوله: {كَيْفَ} منصوبٌ نصبَ الأحوالِ، والعاملُ فيها» نُنْشِزُها «وصاحبُ الحالِ الضميرُ المنصوبُ في» نُنْشِزُها «، ولا يعملُ في هذه الحالِ» انظُرْ «، إذ الاستفهامُ له صدرُ الكلامِ، فلا يعملُ فيه ما قبلَه، هذا هو القولُ في هذه المسألةِ ونظائِرها.
وقال أبو البقاء: «كيف نُنْشِزُها في موضِعِ الحالِ من»
العظام «، والعامل في» كيف «ننشِزُها، ولا يجوز أن يعمل فيها» انظر «لأنَّ الاستفهامَ لا يعملُ فيه ما قبلَه، ولكن» كيف «و» نُنْشِزُها «جميعاً حالٌ من» العظام «، والعاملُ فيها» انظر «تقديره: انظرْ إلى العظامِ مُحْياةً وهذا ليس بشيء، لأن هذه جملة استفهام، والاستفهام لا يقع حالاً، وإنما الذي يقع حالاً وحدَه» كيف «، ولذلك تُبْدَلُ منه الحالُ بإعادةِ حرفِ الاستفهامِ نحو:» كيف ضَرَبْتَ زيداً أقائماً أم قاعداً «؟
والذي يقتضيه النظرُ الصحيحُ في هذه المسألةِ وأمثالِها أَنْ تكونَ جملةُ» كيف نُنْشِزُها «بدلاً من» العظام «، فتكونَ في محلِّ نصبٍ، وذلك أنَّ» نظر «البصرية تتعدَّى ب» إلى «، ويجوزُ فيها التعليقُ كقولِهِ تعالى: {انظر كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ} [هود: 21] فتكونُ الجملةُ في محلِّ نصبٍ؛ لأن ما يتعدى بحرف الجر يكون ما بعده في محل نصب به. ولا بدَّ من حَذْفِ مضافٍ لتصِحَّ البدليةُ، والتقديرُ: إلى حالِ العظام، ونظيرُهُ قولُهم:» عَرفْتُ زيداً: أبو مَنْ هو؟ فأبو مَنْ هو بدلٌ من «زيداً» ، على حذفٍ تقديرُهُ:«عَرَفْتُ قصةَ زيد» . والاستفهامُ في بابِ التعليقِ لا يُراد به معناه، بل جرى في لسانِهم مُعَلَّقاً عليه حكمُ اللفظِ دونَ المعنى، و [هو] نظيرُ «أيّ» في الاختصاص نحو:«اللهم اغفر لنا أَيَّتُها العِصابة» فاللفظُ كالنداء في جميعِ أحكامه، وليس معناه عليه.
وقرأ أبو عمرو والحرميَّان: «نُنْشِرُها» بضم النون وكسر الشين والراءِ المهملةِ، والباقون كذلك إلَاّ أنها بالزاي المعجمة. وابنُ عباس بفتح النونِ وضَمِّ الشين والراء المهملةِ أيضاً/. والنخعي كذلك إلا أنها بالزاي المعجمةِ، ونُقِلَ عنه أيضاً ضَمُّ الياء وفتحِها مع الراءِ والزاي.
فَأَمَّا قراءة الحرميّين: فَمِنْ «أَنْشَرَ اللَّهُ الموتى» بمعنى أَحْيَاهم، وأمَّا قراءةُ ابنِ عباس فَمِنْ «نَشَر» ثلاثياً، وفيه حينئذٍ وجهان، أحدُهما: أَنْ يكونَ بمعنى أَفْعَلَ فتتحدَ القراءتان. والثاني: أَنْ يكونَ مِنْ «نَشَرَ» ضِدَّ طَوى أي يَبْسُطها بالإِحياءِ، ويكونُ «نَشَرَ» أيضاً مطاوعَ أَنْشَرَ، نحو: أَنْشَرَ الله الميت فَنَشَرَ، فيكونُ المتعدي واللازمُ بلفظٍ واحد، إلَاّ أنَّ كونَه مطاوعاً لا يُتَصَوَّر في هذه الآيةِ الكريمةِ لتعدِّي الفعل فيها، وإنْ كان في عبارةٍ أبي البقاء في هذا الموضِعِ بعضُ إبهامٍ. ومِنْ مجيء «نشر» لازماً قوله:
1054 -
حتى يقولَ الناسُ مِمَّا رَأَوا
…
يا عجباً للميِّت الناشِرِ
فناشِر مِنْ نَشَر بمعنى حَيِيَ.
وأمَّا قراءةُ الزاي فَمِنْ «النَّشْز» وهو الارتفاعُ، ومنه:«نَشْزُ الأرضِ» وهو المرتفعُ، ونشوزُ المرأةِ وهو ارتفاعُها عن حالِها إلى حالةٍ أخرى، فالمعنى: يُحَرِّك العظامَ ويرفعُ بعضَها إلى بعضٍ للإحياء.
قال ابنُ عطية: «وَيَقْلَقُ عندي أن يكونَ النشوزُ رَفْعَ العظامِ بعضِها إلى بعضٍ، وإنما النشوزُ الارتفاعُ قليلاً قليلاً» ، قال:«وانظُر استعمالَ العربِ تجدْه كذلك، ومنه:» نَشَزَ نابُ البعير «و» أَنْشَزُوا فَأَنْشَزوا «، فالمعنى هنا على التدرُّجِ في الفعلِ فَجَعَل ابنُ عطية النشوزُ ارتفاعاً خاصاً.
ومَنْ ضَمَّ النونَ فَمِنْ» أَنْشَزَ «، ومَنْ فَتَحَها فَمِنْ» نَشَزَ «، يقال:» نَشَزه «و» أَنْشَزَه «بمعنىً. ومَنْ قرأ بالياءِ فالضميرُ لله تعالى. وقر أبُيّ» نُنْشِئُها «من
النَّشْأَة. ورجَّح بعضُهم قراءة الزاي على الراء بِأَنْ قال: العِظامُ لا تُحْيَا على الانفرادِ بل بانضمامِ بعضِها إلى بعضٍ، والزايُ أَوْلى بهذا المعنى، إذ هو بمعنى الانضمام دونَ الإِحياءِ، فالموصوفُ بالإِحياءِ الرجلُ دونَ العظامِ، ولا يقال: هذا عَظمٌ حيٌّ، وهذا ليس بشيءٍ لقولِه:{مَن يُحيِي العظام وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس: 1] .
ولا بُدَّ من ضميرٍ محذوفٍ من قوله:» العِظام «أي العظامِ منه، أي: من الحمارِ، أو تكونُ» أل «قائمةً مقامَ الإِضافة أي عظامِ حمارِك.
قوله: {لَحْماً} مفعولٌ ثانٍ ل» نَكْسُوها «وهو من بابِ أعطى، وهذا من الاستعارة، ومثلُه قولُ لبيد:
1055 -
الحمدُ للَّهِ إذْ لم يَأْتِنِي أَجَلي
…
حتى اكتسَيْتُ من الإِسلامِ سِرْبالا
قوله: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ} في فاعِل» تبيَّن «قولان، أحدُهما: مضمرٌ يُفَسِّره سياقُ الكلام، تقديرُهُ: فلمَّا تبيَّن له كيفيةُ الإِحياء التي استقر بها. وقدَّره الزمخشري:» فلمَّا تبيَّن له ما أَشْكَل عليه «يعني من أَمْر إحياء الموتى، والأولُ أَوْلَى، لأنَّ قوة الكلامِ تَدِلُّ عليه بخلافِ الثاني. والثاني - وبه بدأ الزمخشري -: أن تكونَ المسألةُ من بابِ الإِعمال، يعني أن» تَبَيَّن «يطلُبُ فاعلاً، و» أَعْلَمُ «يطلبُ مفعولاً، و {أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} يصْلُح أن يكونَ فاعلاً لتبيَّن، ومفعولاً لأعلَمُ، فصارَتِ المسألةُ من التنازعِ، وهذا نصُّه قال:» وفاعل «تبيَّن» مضمرٌ تقديرُه: فلمَّا تبيَّن له أن الله على كل شيء قدير
قال: أَعْلَمُ أنَّ اللَّهَ على كل شيء قديرٌ، فَحُذِفَ الأولُ لدلالةِ الثاني عليه، كما في قولهم:«ضربني وضربتُ زيداً» فَجَعَله مِنْ بابِ التنازعِ كما ترى، وجَعَله من إعمال الثاني وهو المختارُ عند البصريين، فلمَّا أعملَ الثاني أَضْمَرَ في الأولِ فاعلاً، ولا يجوزُ أن يكونَ من إعمال الأولِ؛ لأنه كان يلزَمُ الإِضمارُ في الثاني بضميرِ المفعول فكان يُقال: فلما تبيَّن له قال أَعلمُه أن الله. ومثلُه في إعمالِ الثاني:
{آتوني أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً} [الكهف: 96]{هَآؤُمُ اقرؤا كِتَابيَهْ} [الحاقة: 19] .
إلَاّ أنَّ الشيخَ ردَّ عليه بأنَّ شرطَ الإِعمالِ على ما نصَّ عليه النحويون اشتراكُ العاملَيْنِ، وأَدْنى ذلك بحرف العطف - حتى لا يكونَ الفصلُ معتبراً - أو يكونُ العاملُ الثاني معمولاً للأول نحو:«جاءني يضحكُ زيدٌ» فإنَّ «يضحك» حالٌ عاملُها «جاءني» فيجعل في «جاءني» أو في «يضحك» ضميراً حتى لا يكونَ الفعلُ فاصلاً، ولا يَردُ على هذا جَعلُهُم {آتوني أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً} {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِي الكلالة} [النساء: 176] {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ الله} [المنافقون: 5]{هَآؤُمُ اقرؤا كِتَابيَهْ} [الحاقة: 19] من بابِ الإِعمال، لأنَّ هذه العواملَ مشتركةٌ بوجهٍ ما من وجوهِ الاشتراك، ولم يُحْصَرِ الاشتراكُ في العطفِ ولا العملِ، فإذا كان على ما نَصُّوا فليس العاملُ الثاني مشتركاً مع الأولِ بحرفِ العطفِ ولا بغيره، ولا هو معمولٌ للأولِ بل هو معمولٌ لقال، و «قال»
جوابُ «لَمَّا» إنْ قلنا إنَّها حرفٌ، وعاملةٌ في «لَمَّا» إن قلنا إنها ظرفٌ، و «تبيَّن» على هذا القولِ مخفوضٌ بالظرفِ، ولم يذكر النحاةُ التنازعَ في نحو:«لو جاء قتلتُ زيداً» ولا «لَمَّا جاء ضربتُ زيداً» ولا «حين جاء قتلتُ زيداً» ولا «إذا جاء قتلت زيداً» ، ولذلك حَكَى النحاةُ أنَّ العربَ لا تقول:«أَكْرَمْتُ أهنتُ زيداً» - يعني لعدمِ الاشتراكِ بين العاملين - وقد ناقضَ قولَه حيث جَعَل الفاعلَ محذوفاً كما تقدَّم في عبارتِهِ، والحذفُ ينافي الإِضمارَ، فإنْ كان أرادَ بالإِضمارِ في قوله:«وفاعل تبيَّن مضمرٌ» الحذفَ فهو قول الكسائي، لأنه لا يُجيز إضمارَ المرفوع قبلَ الذكر فيدَّعي فيه الحذفَ ويُنْشِدُ:
1056 -
تَعَفَّقَ بالأَرْطى لها وأرادَها
…
رجالٌ فَبَذَّت نبلَهم وكَلِيبُ
ولهذا تأويلٌ مذكورٌ، ورُدَّ عيه بالسماع قال:
1057 -
هَوَيْنَنِي وهَوَيْتُ الخُرَّدَ العُرُبا
…
أزمانَ كنتُ منوطاً بي هوىً وصِبا
فقال: «هَوَيْنَنِي» فجاءَ في الأول بضمير الإِناث من غيرِ حذفٍ. انتهى ما رُدَّ به عليه، وفيه نَظَرٌ لا يَخْفى.
وقرأ ابن عباس: «تُبُيِّن» مبنياً للمفعولِ، والقائمُ مقامَ الفاعلِ الجارُّ والمجرورُ بعدَه. ابنُ السَّمَيْفَع «يُبَيِّن» من غيرِ تاءٍ مبنياً للمفعولِ، والقائمُ مقامَه ضميرُ كيفيةِ الإِحياء أو الجارُّ والمجرورُ.
قوله: {قَالَ أَعْلَمُ} الجمهورُ على «قال» مبنياً للفاعلِ. وفي فاعلِهِ على قراءةِ حمزة والكسائي: «اعْلَمْ» أمراً من «عَلِمَ» قولان، أظهرِهُما: أنه ضميرٌ يعودُ على اللِّهِ تعالى أو على المَلِكِ، أي: قال اللَّهُ أو المَلِكُ أو المَلِكُ لذلك المارِّ اعْلَمْ. والثاني: أنه ضميرٌ يعودُ على المارِّ نفسهِ، نَزَّلَ نفسَه منزلَةَ الأجنبي فخاطَبَهَا، ومنه:
1058 -
وَدِّعْ هُرَيْرَةَ. . . . . . . . .
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
[وقوله] :
1059 -
ألم تَغْتَمِضْ عيناك. . .
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
[قوله] :
1060 -
تطاولَ ليلُك. . . . . . . . .
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
يعني نفسَه. قال أبو البقاء: «ما تقولُ لنفسِك: اعلمْ يا عبدَ الله، ويُسَمَّى هذا التجريدَ» يعني كأنه جَرَّد من نفسه مخاطباً يخاطِبُه. وأمَّا على قراءةِ غيرهما: «أعلمُ» مضارعاً للمتكلمِ ففاعلُ «قال» ضميرُ المارِّ، أي: قال المارُّ: أعلَمُ أنا.
وقرأ الأعمش: «قيل» مبنياً للمفعولِ. والقائمُ مقامَ الفاعلِ: إمَّا ضميرُ المصدرِ من الفعلِ، وإمَّا الجملةُ التي بعده، على حَسَبَ ما تقدَّم في أولِ السورة.
وقرأ حمزة والكسائي: «اعلمْ» على الأمر، والباقون:«أعلمُ» مضارعاً «والجعفي عن أبي بكر:» أَعْلِمُ «أمراً من» أَعْلَمَ «، والكلامُ فيها كالكلامِ في قراءةِ حمزة والكسائي بالنسبةِ إلى فاعل» قال «ما هو؟ و» أنَّ الله «في محلِّ نصب، سادَّةً مسدَّ المفعولين، أو الأولِ/ والثاني محذوفٌ على ما تقدم من الخلاف.
قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ} : في العامل في «إذ» ثلاثةُ أوجهٍ، أظهرُها: أنه قال: {أَوَلَمْ تُؤْمِن} أي: قال له ربُّه وقتَ قولِه ذلك. والثاني: أنه «ألم تَرَ» أي: ألم تر إذا قال إبراهيم. والثالث: أنه مضمرٌ تقديرُه: واذكر. ف «إذ» على هذين القولين مفعولٌ به لا ظرفٌ. و «ربِّ» منادى مضافٌ لياءِ المتكلم، حُذِفَتْ استغناءً عنها بالكسرةِ قبلَها، وهي اللغةُ الفصيحةُ، وحُذِفَ حرفُ النداءِ.
وقوله: {أَرِنِي} تقدَّم ما فيه من القراءاتِ والتوجيهِ في قوله: {وَأَرِنَا} [البقرة: 128] . والرؤيةُ هنا بصريةٌ تتعدَّى لواحدٍ، ولَمَّا دخلَتْ همزةُ النقلِ أكسبته مفعولاً ثانياً، والأول ياء المتكلم، والثاني الجملة الاستفهامية، وهي معلقة للرؤية
و «رأى» البصرية تُعَلَّق كما تعلق «نظر» البصرية، ومن كلامهم:«أما تَرى أيُّ برقِ ههنا» .
و «كيف» في محلِّ نصبٍ: إمَّا على التشبيه بالظرفِ، وإمَّا على التشبيهِ بالحال كما تقدَّم في {كَيْفَ تَكْفُرُونَ} [البقرة: 28] . والعاملُ فيها «تُحْيي» وقَدَّره مكي: بأي حالٍ تُحْيي الموتى، وهو تفسيرُ معنىً لا إعرابٍ.
قوله: {قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن} في هذه الواوِ وجهان، أظهرُهما: أنها للعطفِ قُدِّمَتْ عليها همزةُ الاستفهامِ لأنها لها صدرُ الكلامِ كما تقدَّم تحريرُه غيرَ مرةٍ، والهمزةُ هنا للتقريرِ، لأنَّ الاستفهامَ إذا دخل على النفي قَرَّره كقوله:
1061 -
ألستُمْ خيرَ مَنْ رَكِبَ المطايا
…
وأندى العاملينَ بطونَ راحِ
[و] : {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الانشراح: 1]، المعنى: أنتم خيرُ، وقد شَرَحْنا.
والثاني: أنها واوُ الحالِ، دَخَلَت عليها ألفُ التقريرِ، قاله ابن عطية، وفيه نظرٌ من حيث إنها إذا كانَتْ للحالِ كانَتِ الجملةُ بعدَها في محلِّ نصبٍ، وإذا كانَتْ كذلك استدعَتْ ناصباً وليس ثَمَّ ناصبٌ في اللفظِ، فلا بدَّ من تقديرِه: والتقدير «أسألْتَ ولم تؤمِنْ» ، فالهمزةُ في الحقيقةِ إنما دَخَلَتْ على العاملِ في الحالِ. وهذا ليس بظاهرِ، بل الظاهرُ الأولُ، ولذلك أُجيبت ببلى، وعلى ما قالَ ابنُ عطية يَعْسُر هذا المعنى. وقوله «بلى» جوابٌ
للجملةِ المنفيَّةِ وإنْ صارَ معناها الإِثباتَ اعتباراً باللفظِ لا بالمعنى، وهذا من قسمِ ما اعتُبر فيه جانبُ اللفظِ دون المعنى، نحو:{سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} [البقرة: 6] وقد تقدَّم تحقيقُه.
قوله: {لِّيَطْمَئِنَّ} اللامُ لامُ كي، فالفعلُ منصوبٌ بعدها بإضمار «أَنْ» ، وهو مبنيٌّ لاتصالِه بنونِ التوكيدِ، واللامُ متعلقةٌ بمحذوفٍ بعد «لكنْ» تقديرُه: ولكنْ سألتك كيفية الإِحياء للاطمئنانِ، ولا بُدَّ من تقديرِ حذفٍ آخرَ قبلَ «لكنْ» حتى يَصِحَّ معه الاستدراكُ والتقديرُ: بلى آمنْتُ وما سألتُ غيرَ مؤمنٍ، ولكنْ سألتُ ليطمئِنَّ قلبي.
والطُّمأنينة «السكونُ، وهي مصدرُ» اطمأنَّ «بوزن اقشعرَّ، وهي على غيرِ قياسِ المصادرِ، إذ قياسُ» اطمأنَّ «أَنْ يكونَ مصدرُه على الاطمئنان. واختُلِف في» اطمأنَّ «هل هو مقلوبٌ أم لا؟ فمذهب سيبويه أنه مقلوبٌ من» طَأْمَنَ «، فالفاءُ طاءٌ، والعينُ همزةٌ، واللامُ ميمٌ، فَقُدِّمَتِ اللامُ على العينِ فوزنُه: افْلَعَلَّ بدليلِ قولهم: طامنتُه فتطامَنَ. ومذهب الجرمي أنه غيرُ مقلوبٍ، وكأنه يقولُ: إن اطمأنَّ وطَأْمَنَ مادتان مستقلتان، وهو ظاهرُ كلام أبي البقاء، فإنه قال:» والهمزةُ في «ليطمَئِنَّ» أصلٌ، ووزنه يَفْعَلِلُّ، ولذلك جاء {فَإِذَا اطمأننتم} [النساء: 103] مثل: اقْشَعْررتم «. انتهى. فوَزنُهُ على الأصلِ دونَ القلبِ، وهذا غيرُ بعيدٍ، ألا ترى أنهم في جَبَذَ وجَذَبَ قالوا: ليس أحدُهما مقلوباً من الآخرِ لاستواءِ المادَّتين في الاستعمالِ. ولترجيحِ كلٍّ من المذهبين موضعٌ غيرُ هذا.
قوله: {مِّنَ الطير} في متعلِّقه قولان، أحدُهما: أنه محذوفٌ لوقوعِ الجارِّ صفةً لأربعة، تقديرُه: أربعةً كائنةً من الطيرِ. والثاني: أنه متعلقٌ بخُذْ، أي: خُذْ من الطير.
و» الطيرُ «اسمُ جمعٍ كرَكْب وسَفْر. وقيل: بل هو جمعُ طائرٍ نحو: تاجر وتَجْر، وهذا مذهبُ أبي الحسن. وقيل: بل هو مخففٌ من» طَيِّر «بتشديدِ [الياء] كقولِهم:» هَيْنَ ومَيْت «في: هَيِّن ومَيَّت. قال أبو البقاء:» هو في الأصلِ مصدرُ طارَ يطير، ثم سُمِّي به هذا الجنسُ «. فَتَحَصَّلَ فيه أربعةُ أقوالٍ.
وجاء جَرُّه ب» مِنْ «بعد العددِ على أفصحِ الاستعمالِ، إذ الأفصحُ في اسمِ الجَمْعِ في بابِ العددِ أَنْ يُفْصَل بمِنْ كهذه الآيةِ، ويجوزُ الإِضافةُ كقولِه تعالى:{تِسْعَةُ رَهْطٍ} [النمل: 48]، وقال:
1062 -
ثلاثةُ أنفسٍ وثلاثُ ذَوْدٍ
…
لقد جارَ الزمانُ على عيالي
وزعم بعضهم أن إضافته نادرةٌ لا يُقاس عليها، وبعضُهم أَنَّ اسمَ الجمعِ لما يَعْقِل مؤنثٌ، وكلا الزعمين ليس بصوابٍ، لما تقدَّم من الآيةِ الكريمةِ، واسمُ الجمع لما لا يَعْقِل يُذَكَّر ويؤنَّثُ، وهنا جاء مذكراً لثبوتِ التاءِ في عددِه.
قوله: {فَصُرْهُنَّ} قرأ حمزة بكسر الصادِ، والباقونَ بضمِّها وتخفيفِ
الراء. واختُلِف في ذلك فقيل: القراءتان يُحتمل أَنْ تكونا بمعنىً واحدٍ، وذلك أنه يقال: صارَه يَصُوره ويَصِيره، بمعنى قَطَعه أو أماله فاللغتان لفظٌ مشتركٌ بين هذين المعنيين، والقراءتان تَحْتَمِلهما معاً، وهذا مذهبُ أبي عليّ. وقال الفراء:» الضمُّ مشتركٌ بين المعنيين، وأمَّا الكسرُ فمعناه القطعُ فقط «. وقال غيرُه:» الكسرُ بمعنى القَطْعِ والضمُّ بمعنى الإِمالةِ «. ونُقِل عن الفراء أيضاً أنه قال:» صَارَه «مقلوبُ من قولهم:» صَراه عن كذا «أي: قَطَعه عنه. ويقال: صُرْتُ الشيءَ فانصار أي: قالت الخنساء:
1063 -
فلو يُلاقي الذي لاقَيْتُه حَضِنٌ
…
لَظَلَّتِ الشمُّ منه وَهْيَ تَنْصارُ
أي: تَنْقَطِعُ. واختُلف في هذه اللفظةِ: هل هي عربيةٌ او مُعَرَّبة؟ فعن ابنِ عباس أنها مُعَرَّبةٌ من النبطية، وعن أبي الأسود أنها من السريانية، والجمهورُ على أنها عربيةٌ لا معرَّبةٌ.
و «إليك» إنْ قلنا: إنَّ «صُرْهُنَّ» بمهنى أمِلْهُنَّ تعلَّق به، وإنَّ قلنا: إنه بمعنى قَطِّعْهُنَّ تعلَّقَ ب «خُذْ» .
وقرأ ابن عباس: «فَصُرَّهُنَّ» بتشديد الراءِ مع ضَم الصادِ وكسرِها، مِنْ: صَرَّه يَصُرُّه إذا جَمَعه؛ إلا أنَّ مجيءَ المضعَّفِ المتعدِّي على يَفْعِل بكسر العين في المضارعِ قليلٌ. ونقل أبو البقاء عَمَّنْ شَدَّد الراءَ أنَّ منهم مَنْ يَضُمُّها، ومنهم مَنْ يفتَحُها، ومنهم مَنْ يكسِرُها مثل:«مُدَّهُنَّ» فالضمُّ على الإِتباعِ، والفتحُ للتخفيفِ، والكسرُ على أصلِ التقاءِ الساكنينِ.
ولمَّا فَسَّر أبو البقاء «فَصُرْهُنَّ» بمعنى «أَمِلْهُنَّ» قَدَّر محذوفاً بعده تقديرُه: فَأَمِلْهُنَّ إليك ثم قَطِّعْهُنَّ، ولمَّا فسَّره بقطِّعْهن قَدَّر محذوفاً يتعلَّق به «إلى» تقديرُه: قَطِّعْهُنَّ بعد أَنْ تُميلَهُنَّ [إليك] . ثم قال: «والأجودُ عندي أن يكونَ» إليك «حالاً من المفعولِ المضمرِ تقديرُه: فَقَطِّعْهُنَّ مُقَرَّبةً إليك أو ممالةً أو نحوُ ذلك.
قوله: {ثُمَّ ا} » جَعَلَ «يُحتمل أَنْ يكونَ بمعنى الإِلقاء فيتعدَّى لواحدٍ وهو» جزءاً «، فعلى هذا يتعلَّقُ» على كل «و» منهنَّ «باجعَلْ، وأن يكونَ بمعنى» صَيَّر «فيتعدَّى لاثنين فيكونَ» جُزْءاً «الأولَ، و» على كل «هو الثاني، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ. و» منهنَّ «يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ على هذا بمحذوفٍ على أنه حالٌ من» جزءاً «لأنه في الأصل صفةُ نكرةٍ، فلمَّا قُدِّم عليها نُصب حالاً. وأجازَ أبو البقاء أن يكونَ مفعولاً ل» اجْعَلْ «يعني إذا كانَت» اجْعَلْ «بمعنى» صَيِّر «فيكونُ» جزءاً «مفعولاً أول، و» منهنَّ «مفعولاً ثانياً قُدِّم على الأولِ، ويتعلَّقُ حينئذٍ بمحذوفٍ. [ولا بد من حذفِ صفةٍ مخصِّصةٍ بعدَ] قولِه:» كلِّ جبلٍ «تقديرُه:» على كل جبلٍ بحضرتِك، أو يَليك «حتى يَصِحَّ المعنى.
وقرأ الجمهورُ:» جُزْءاً «بسكونِ الزاي والهمزِ، وأبو بكر ضَمَّ الزايَ، وأبو جعفر شَدَّد الزايَ من غيرِ همزٍ، ووجهها أنه لَمَّا حَذَفَ الهمزةَ وقف على الزاي ثم ضَعَّفها كما قالوا:» هذا فَرَجّْ «، ثم أُجري الوصل مُجرى الوقفِ. وقد تقدَّم تقريرُ ذلك عند قولِه:{هُزُواً} [البقرة: 67] . وفيه لغةٌ أخرى وهي: كسرُ
الجيم. قال أبو البقاء:» ولا أعلم أحداً قرأ بها. والجزءُ: القطعةُ من الشيءِ، وأصلُ المادة يَدُلُّ على القطعِ والتفريقِ ومنه: التجزئةُ والأجزاءُ/.
قوله: {يَأْتِينَكَ} جوابُ الأمر، فهو في محلِّ جزمٍ، ولكنه بُني لاتِصاله بنونِ الإِناثِ.
قوله: «سَعْياً» فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه مصدرٌ واقعٌ موقعَ الحالِ من ضميرِ الطير، أي: يأتينك ساعياتٍ، أو ذواتِ سَعْي. والثاني: أن يكونَ حالاً من المخاطبِ، ونُقِل عن الخليلِ ما يُقَوِّي هذا، فإنه رُوِي عنه:«أن المعنى: يأتينك وأنت تسعى سعياً» فعلى هذا يكونُ «سعياً» منصوباً على المصدرِ، وذلك الناصبُ لهذا المصدرِ في محلِ نصبٍ على الحالِ من الكافِ في «يأتينك» . قلت: والذي حَمَلَ الخليلَ رحمه الله على هذا التقديرِ انه لا يقال عنده: «سَعَى الطائرُ» فلذلك جَعَل السَّعَيَ من صفاتِ الخليلِ عليه السلام لا من صفةِ الطيورِ. والثالث: أن يكونَ «سَعْياً» منصوباً على نوعِ المصدرِ، لأنه نوعٌ من الإِتيان، إذ هو إتيانٌ بسرعةٍ، فكأنه قيل: يأتينك إتياناً سريعاً. وقال أبو البقاء: «ويجوزُ أن يكونَ مصدراً مؤكِّداً، لأنَّ السعي والإِتيان يتقاربان» ، وهذا فيه نظرٌ؛ لأن المصدرَ المؤكِّد لا يزيدُ معناه على معنى عامِله، إلَاّ أنه تَساهَلَ في العبارةِ.
قوله تعالى: {مَّثَلُ الذين يُنْفِقُونَ} : «مَثَلُ» مبتدأٌ، و «كمثلِ حبةٍ» خبرُه. ولا بُدَّ من حذفٍ حتى يَصِحَّ التشبيهُ، لأنَّ الذين ينفقون لا يُشَبَّهون بنفسِ الحبةِ. واختُلِفَ في المحذوفِ، فقيل: من الأول تقديرُه: وَمَثلُ مُنْفَقِ الذين أو نفقةِ الذين. وقيل: من الثاني تقديرُه: ومثل الذي ينفقون
كزارعِ حبةٍ؛ أو مِنَ الأولِ والثاني باختلافِ التقدير، أي: مَثَلُ الذين ينفقون ونفقتُهم كمثلِ حبةٍ وزارِعِها. وهذه الأوجهُ قد تقدَّم تقريرُها محررةً عند قولِه تعالى: {وَمَثَلُ الذين كَفَرُواْ كَمَثَلِ الذي يَنْعِقُ} [البقرة: 171] بأتمِّ بيانٍ فليُراجَعْ. والقولُ بزيادةِ الكافِ أو «مثل» بعيدٌ جداً، فلا يُلْتفت إلى قائله.
والحَبَّةُ: واحدةُ الحَبُّ، وهو ما يُزْرَعُ للاقتياتِ، وأكثرُ إطلاقِه على البُرّ قال المتلمس:
1064 -
آليتُ حَبَّ العراقِ الدهرَ أَطْعَمُه
…
والحَبُّ يأكلُه في القَرْيَةِ السُّوسُ
و «الحِبَّة» بالكسر: بذورُ البَقْلِ مِمَّا لا يُقْتات [به] ، و «الحُبَّة» بالضم الحُبُّ.
قوله: {أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ} هذه الجملةُ في محلِّ جرٍ لأنها صفةٌ لحبة، كأنه قيل: كمثل حبةٍ منبتةٍ.
وأَدْغم تاءَ التأنيثِ في سين «سبع» أبو عمرو وحمزة والكسائي وهشام. وأَظْهر الباقون، والتاءُ تقاربُ السينَ ولذلك أُبْدِلَتْ منها، قالوا: ناس ونات، وأكياس وأكيات، قال:
1065 -
عمروَ بنَ يربوعٍ شرارَ الناتِ
…
ليسوا بأجيادٍ ولا أَكْياتِ
أي: شرار الناس ولا أكياس.
وجاء التمييزُ هنا على مِثال مَفاعِل، وفي سورة يوسف مجموعاً بالألفِ والتاء، فقال الزمخشري:«فإنْ قلتَ: هلَاّ قيل» سبع سنبلات «على حَقِّه من التمييزِ بجمعِ القلة كما قال: {وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ} . قلت: هذا لِما قَدَّمْتُ عند قولِه:» ثلاثَةُ قروء «من وقوعِ أمثلةِ الجمعِ متعاورةً مواقعها» يعني أنه من بابِ الاتساعِ ووقوعِ أحدِ الجمعين موقعَ الآخرِ، وهذا الذي قاله ليس بمخلِّص ولا مُحَصِّلٍ، فلا بُدَّ من ذكرِ قاعدة مفيدةٍ في ذلك:
اعلم أنَّ جمعي السلامةِ لا يميز بهما عدد إلا في موضعين، أحدهما: ألا يكونَ لذلك المفردِ جمعٌ سواه، نحو: سبع سماوات، وسبع بقرات، وتسع آيات، وخمس صلوت، لأنَّ هذه الأشياءَ لم تُجْمَعْ إِلا جمعَ السلامةِ، فأمَّا قولُه:
1066 -
. . . . . . . . . . . . . . . . . . .
…
. . . فوقَ سَبْعِ سَمائيا
فشاذٌّ منصوصٌ على قلتِهِ، فلا التفاتَ إليه. والثاني: أن يُعْدَلَ إليه لأجلِ مجاورة غيرهِ كقولِهِ: {وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خَضْرٍ} عَدَل من «سنابل» إلى «سنبلات» لأجلِ مجاورتِهِ «سبعِ بقرات» ، ولذلك إذا لم توجَدْ المجاورةُ مُيِّز بجمعِ التكسيرِ دونَ جمع السلامةِ، وإنْ كان موجوداً نحو:«سبع طرائق وسبع ليالٍ» مع جواز: طريقات وليلات. والحاصلُ أنَّ الاسمَ إذا كان له جمعان: جمعُ تصحيحٍ وجمعُ تكسيرٍ، فالتكسيرُ إمَّا للقلةِ أو للكثرةِ، فإنْ كان للكثرةِ: فإمَّا من بابِ مَفَاعِل أو من غيره، فإنْ كان من بابِ مفاعل أُوثر على
التصحيحِ، تقول: ثلاثة أحامد: وثلاث زيانب، ويجوز قليلاً: أحمدِين وزينبات.
وإن كانَ من غيرِ بابِ مفاعِلِ: فإمَّا أَنْ يكثُرَ فيه غيرُ التصحيحِ وغيرُ جمعِ الكثرةِ أو يَقِلَّ. فإن كانَ الأولَ فلا يجوزُ التصحيحُ ولا جمعُ الكثرةِ إلا قليلاً نحو: ثلاثة زيود وثلاث هنود وثلاثة أفلس، ولا يجوزُ: ثلاثة زيدين، ولا ثلاث هندات، ولا ثلاثة فلوس، إلَاّ قليلاً. وإن كان الثاني أُوثِرَ التصحيحُ وجمعُ الكثرة نحو: ثلاث سعادات وثلاثة شُسُوع، وعلى قلةٍ يجوز: ثلاث سعائد، وثلاثة أَشْسُع. فإذا تقرَّر هذا فقولُهُ:«سبع سنابل» جاءَ على المختارِ، وأمَّا «سبعِ سنبلات» فلأجلِ المجاورةِ كا تقدَّم.
والسنبلةُ فيها قولان، أحدهما: أنَّ نونَها أصليةٌ لقولِهِم: سَنْبَل الزرعُ «أي أخرجَ سنبلَه. والثاني: أنها زائدةٌ، وهذا هو المشهورُ لقولِهم:» أسبلَ الزرعُ «، فوزنُها على الأولِ: فُعْلُلَة وعلى الثاني: فُنْعُلَة، فعلى ما ثبت من حكايةِ اللغتين: سَنْبَلَ الزرعُ وأَسْبَلَ تكونُ من بابِ سَبِط وسِبَطْر.
قوله: {فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ} هذا الجارُّ في محلِّ جر صفةً لسنابل، أو نصب صفةً لسبع، نحو: رأيتُ سبعَ إمَّاءٍ أحرارٍ وأحراراً، وعلى كِلا التقديرين فيتعلَّقُ بمحذوفٍ. وفي رفعِ» مئة «وجهان، أحدُهما: بالفاعليةِ بالجارِّ؛ لأنه قد اعتمد إذ قد وَقَعَ صفةً. والثاني: أنها مبتدأٌ والجارُّ قبلَه خبرُه، والجملةُ صفةٌ، إمَّا في محلِّ جرٍ أو نصبٍ على حَسَبِ ما تقدَّم، إلا أنَّ الوجهَ [الأول] أولى؛ لأنَّ
الأصلَ الوصفُ بالمفرداتِ دونَ الجملِ. ولا بد من تقديرِ حذفِ ضميرٍ أي: في كلِّ سنبلةٍ منها أي: من السنابِلِ.
والجمهورُ على رفع» مئة «على ما تقدَّم، وقرىء بنصبَها. وجَوَّزَ أبو البقاء في نصبِها وجهينِ، أحدُهما: بإضمارِ فعلٍ، أي: أَنْبَتَتْ أو أَخْرَجَتْ. والثاني: أنها بدلٌ من» سبعُ «، وفيه نظرٌ، لأنه: إمَّا أنْ يكونَ بدلَ كلٍّ من كلَّ أو بعضٍ من كلٍ أو اشتمالٍ، فالأولُ لا يَصِحُّ لأنَّ المئة ليست نفسَ سبع سنابل، والثاني لا يَصِحُّ أيضاً لعدمِ الضميرِ الراجِعِ على المبدلِ منه، ولو سُلِّمَ عدم اشتراطِ الضميرِ فالمئة ليسَتْ بعضَ السبعِ، لأنَّ المظروفَ ليس بعضاً للظرفِ والسنبلةُ ظرفٌ للحبةِ، ألا تَرَى قولَه: {فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ} فَجَعَلَ السنبلةَ وعاءً للحَبِّ، والثالثُ أيضاً لا يَصِحُّ لعدمِ الضميرِ، وإنْ سُلَّمَ فالمشتملُ على» مئة حبة «هو سنبلة من سبع سنابَل، إلا أَن يقال إن المشتمل على المشتملِ على الشيء هو مشتملٌ على ذلك الشيءِ، فالسنبلةُ مشتملةٌ على مئة والسنبلة مشتمَل عليها سبعُ سنابلَ، فَلَزِمَ أنَّ السبعَ مشتملةٌ على» مئة حبة «. وأسهلُ من هذا كلِّه أن يكونَ ثَمَّ مضافٌ محذوفٌ، أي: حَبَّ سبعِ سنابل، فعلى هذا يكونُ» مئة حبة «بدلَ بعضٍ مِنْ كل.
قولُه تعالى: {الذين يُنْفِقُونَ} : فيه وجهان، أحدُهما: أن يكونَ مرفوعاً بالابتداءِ وخبرُهُ الجملةُ من قولِه: «لهم أجرُهم» ، ولم يُضَمَّن المبتدأُ هنا معنى الشرطِ فلذلك لم تَدْخُلَ الفاءُ في خبره، لأنَّ القصدَ بهذهِ
الجملةِ التفسيرُ للجملةِ قبلَها، لأنَّ الجملة قبلَها أُخْرِجَتْ مُخْرَجَ الشيءِ الثابت المفروغِ منه، وهو تشبيهُ نفقتِهم بالحَبَّةِ المذكورة، فجاءَتْ هذه الجملةُ كذلك، والخبرُ فيها أُخرج مُخْرَج الثابتِ المستقرِّ غيرِ المحتاجِ إلى تعليقِ استحقاقٍ بوقوعِ غيرِهِ ما قبله.
والثاني: أنَّ «الذين» خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ أي: / هم الذين يُنْفقون، وفي قوله:«لهم أجرُهم» على هذا وجهان، أحدُهما: أنَّها في محل نصبٍ على الحال. والثاني: - وهو الأَوْلَى – أن تكونَ مستأنفةً لا محلَّ لها من الإِعرابِ، كأنها جوابُ سائِلٍ قال: هل لهم أَجْرٌ؟ وَعَطَفَ ب «ثم» جرياً على الأغلبِ، لأنَّ المتصدِّقَ لغيرِ وجهِ اللهِ لا يَحْصُل منه المَنُّ عقيبَ صدقَتِهِ ولا يؤذِي على الفور، فجرى هذا على الغالب، وإنْ كان حكمُ المنِّ والأذى الواقِعَيْن عقيبَ الصدقةِ كذلك.
وقال الزمخشري: «ومعنى» ثُمَّ «إظهارُ التفاوتِ بين الإِنفاقِ وتَرْكِ المنِّ والأذى، وأنَّ تَرْكَهما خيرٌ من نفسِ الإِنفاقِ، كما جَعَلَ الاستقامَةَ على الإِيمانِ خيراً من الدخولِ فيه بقولِهِ: {ثُمَّ استقاموا} [فصلت: 30] ، فَجَعَلَهَا للتراخي في الرتبةِ لا في الزمانِ، وقد تكرَّر له ذلك غيرَ مرةٍ. و» ما «مِنْ قولِهِ:» ما أَنْفَقُوا «يجوزُ أن تكونَ موصولةً اسميةً فالعائدُ محذوفٌ، أي: ما أنفقوه، وأن تكونَ مصدريةً فلا تحتاجُ إلى عائدٍ، أي:
لا يُتْبِعُون إنفاقَهم. ولا بُدَّ من حذفٍ بعد» مَنَّاً «أي: مَنَّاً على المُنْفِقِ عليه ولا أذى له، فَحُذِفَ للدلالة.
والمَنُّ: الاعتدادُ بالإِحسانِ، وهو في الأصل: القَطْعُ، ولذلك يُطْلَقُ على النعمةِ، لأنَّ المُنْعِمَ يَقْطَعُ من مالِهِ قطعةً للمُنْعَمِ عليه. والمَنُّ: النقصُ من الحق، والمَنُّ: الذي يُوزن به، ويُقال في هذا» منا «مثل: عَصَا. وتقدَّمَ اشتقاقُ الأذى.
و» مَنَّاً «مفعولٌ ثانٍ، و» لا أذى «عطفٌ عليه، وأبعدَ مَنْ جَعَلَ» ولا أذى «مستأنفاً، فَجَعَلَهُ من صفاتِ المتصدِّق، كأنه قال: الذين ينفقون ولا يتأذَّوْن بالإِنفاقِ، فكيونُ» أذى «اسمَ لا وخبرُها محذوفٌ، أي: ولا أذىً حاصلٌ لهم، فهي جملةٌ منفيةٌ في معنى النهي، وهذا تكلُّفٌ، وحَقٌّ هذا القائلِ أن يقرأ» ولا أذى «بالألف غيرَ مُنَوَّنٍ، لأنه مبنيٌّ على الفتح على مشهورِ مذهبِ النحاةِ.
قوله تعالى: {قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ} : فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه مبتدأٌ وساغَ الابتداءُ بالنكرةِ لوصفِها وللعطفِ عليها. و «مغفرةٌ» عَطْفٌ عليه، وسَوَّغَ الابتداءَ بها العطفُ أو الصفةُ المقدَّرَةُ، إذ التقديرُ: ومغفرةٌ من السائلِ أو من اللِّهِ. و «خيرٌ» خبرٌ عنهما. [وقال أبو البقاء في هذا الوجهِ: «والتقديرُ: وسببُ مغفرة] ، لأنَّ المغفرةَ من الله تعالى، فلا تفاضُلَ بينها وبين فعلِ العبدِ، ويجوزُ أن تكونَ المغفرةُ مجاوزَةَ المزكِّي واحتمالَه للفقيرِ، فلا يكونُ فيه حذفُ مضافٍ» .
والثاني: أنَّ «قولٌ معروفٌ» مبتدأٌ وخبرُهُ محذوفٌ أي: أمثلُ أو أَوْلَى بكم، و «مغفرةٌ» مبتدأٌ، و «خيرٌ» خبرُها، فهما جملتان، ذَكَرَهُ المهدويّ وغيرُهُ. قال ابن عطية:«وهذا ذهابٌ برونقِ المعنى» . والثالث: أنه خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ تقديرُهُ: المأمورُ به قولٌ معروفٌ.
قوله: {يَتْبَعُهَآ أَذًى} في محلِّ جرٍّ صفةً لصدقة، ولم يُعِدْ ذِكْرِ المَنِّ فيقولُ: يتبَعُها مَنٌّ وأذى، لأنَّ الأذى يشملُ المنَّ وغيرَه، وإنَّما ذُكِرَ بالتنصيصِ في قولِهِ:{لَا يُتْبِعُونَ مَآ أَنْفَقُواُ مَنّاً وَلَا أَذًى} لكثرةِ وقوعِهِ من المتصدِّقين وعُسْرِ تحَفُّظِهِمْ منه، ولذلك قُدِّمَ على الأذى.
قولُهُ تعالى: {كالذي} : «كالذي» الكاف في محلِّ نصبٍ، فقيل: نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ أي: لا تُبْطِلُوها إبطالاً كإبطالِ الذي يُنْفِقُ رئاءَ الناسِ. وقيل: في محلِّ نصبٍ على الحالِ من ضمير المصدرِ المقدَّرِ كما هو رأيُ سيبويه، وقيل: حالٌ من فاعِلِ «تُبْطِلُوا» أي: لا تُبْطِلُوهَا مُشْبِهين الذي يُنْفِقُ رياءَ.
و «رئاءَ» فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ تقديرُهُ: إنفاقاً رئاءَ الناس، كذا ذكره مكي. والثاني: أنه مفعولٌ من أَجْلِهِ أي: لأجلِ رئاءِ الناسِ، واستكمل شروطَ النصبِ. والثالث: أنه في محلِّ حالٍ، أي: يُنْفِقُ مرائياً.
والمصدرُ هنا مضافٌ للمفعولِ وهو «الناس» ، ورئاءَ مصدرٌ راءى كقاتَلَ قِتالاً، والأصلُ:«رِئايا» فالهمزةُ الأولى عينُ الكلمة، والثانيةُ بدلٌ من ياءٍ هي
لامُ الكلمة، لأنها وَقَعَتْ طرفاً بعد ألفٍ زائدةٍ. والمُفَاعَلَةُ في «راءى» على بابِها لأنَّ المُرائِيَ يُرِي الناسَ أعمالَهُ حتى يُرُوه الثناءَ عليه والتعظيم له. وقرأ طلحة - ويروى عن عاصم -:«رِياء» بإبدالِ الهمزةِ الأولى ياءً، وهو قياسُ تخفيفِها لأنها مفتوحةٌ بعد كسرةٍ.
قوله: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ} مبتدأٌ وخبرٌ، ودَخَلَتِ الفاءُ، قال أبو البقاء:«لتربطَ الجملةَ بما قبلَها» وقد تقدَّم مثلُه، والهاءُ في «فَمَثَلُهُ» فيها قولان، أظهرهُما: أنها تعودُ على {كالذي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ الناس} لأنه أقربُ مذكورٍ. والثاني: أنها تعودُ على المانِّ المُؤْذِي، كأنه تعالى شَبَّهه بشيئين: بالذي يُنْفِقُ رُئَاءَ وبصفوانٍ عليه ترابٌ، ويكونُ قد عَدَلَ من خطابٍ إلى غَيْبه، ومن جمعٍ إلى إفرادٍ.
والصَّفْوان: حَجَرٌ كبيرٌ أملسُ، وفيه لغتان: أشهرهُما سكونُ الفاءِ والثانيةُ فَتْحُها، وبها قرأ ابن المسيَّبِ والزهري، وهي شاذَّةٌ، لأن «فَعَلان» إنَّما يكونُ في المصادرِ نحو: النَّزَوان والغَلَيَان، والصفاتِ نحو: رجلٌ طَغَيَان وتيسٌ عَدوَان، وأَمَّا في الأسماءِ فقليلٌ جداً. واختُلِفَ في «صَفْوَان» فقيل: هو جمعٌ مفردُهُ: صَفا، قال أبو البقاء:«وجَمْعُ» فَعَلَ «على» فَعْلَان «قليلٌ» . وقيل: هو اسمُ جنسٍ، قال أبو البقاء:«وهو الأجودُ، ولذلك عادَ الضميرُ عليه مفرداً في قولِهِ:» عليه «وقيل: هو مفردٌ، واحدُ صُفِيٌّ قاله الكسائي، وأنكره المبردُ. قال:» لأنَّ صُفِيّاً جمعُ صفا نحو: عُصِيّ في عَصَا، وقُفِيّ في قَفَا «.
ونُقِلَ عن الكسائي أيضاً أنه قال:» صَفْوَان مفردٌ، ويُجْمع على صِفْوانٍ بالكسر. قال النحاس:«ويجوزُ أن يكونَ المسكورُ الصادِ واحداً أيضاً، وما قاله الكسائي غيرُ صحيحٍ بل صِفْوان - يعني بالكسر - جمعٌ لصَفَا كوَرَل ووِرْلان، وأخ وإخْوان وكَرَى وكِرْوَان» .
و «عليه ترابٌ» يجوزُ أن يكونَ جملةً من مبتدأٍ وخبرٍ، وقَعَتْ صفةً لصَفْوان، ويجوزُ أن يكونَ «عليه» وحدَه صفةً له، و «ترابٌ» فاعلٌ به، وهو أَوْلى لِمَا تَقَدَّم عند قولِهِ
{فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ} [البقرة: 261] . والترابُ مَعْرُوفٌ، ويُقال فيه تَوْراب، ويُقال: تَرِبَ الرجلُ: افتقَرَ. ومنه: {أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد: 16] كأنَّ جِلْدَه لَصِق به لفقرِه، وأَتْرَبَ: أي استغنى، كأنَّ الهمزةَ للسلب، أو صار مالُهُ كالترابَ.
«فأصابَه» عطفٌ على الفعلِ الذي تَعَلَّقَ به قوله: «عليه» أي: استقرَّ عليه ترابٌ فأَصابَهُ. والضميرُ يعودُ على الصَّفْوان، وقيل: على الترابِ. وأمَّا الضميرُ في «فتركه» فعلى الصَفْوَانِ فقط. وألفُ «أَصابه» من واوٍ، لأنه من صَابَ يَصُوب.
والوابِلُ: المطرُ الشديدُ، وبَلَتِ السماءُ تَبِل، والأرضُ مُوْبُولَة، ويقال أيضاً: أَوْبَلَ فهو مُوبِل، فيكونُ مِمَّا اتفقَ فيه فَعَل وأَفْعَلَ، وهو من الصفاتِ الغالبةِ كالأبطح، فلا يُحْتَاج معه إلى ذكرِ موصوفٍ. قال النضر بن شميل:
«أولُ ما يكونُ المطرَ رَشَّاً ثم طشَّاً. ثم طَلَاّ وَرذاذاً ثم نَضْحَاً، وهو قَطْرٌ بين قَطْرَين، ثم هَطْلاً وَتَهْتَاناً ثم وابِلاً وجُوداً. والوبيلُ: الوَخيمُ، والوبيلةُ: حُزْمَةُ الحطبِ، ومنه قيل للغليظَةِ: وَبِيلَةٌ على التشبيهِ بالحزمة.
قوله: {فَتَرَكَهُ صَلْداً} كقوله: {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ} [البقرة: 17] . والصَّلْدُ: الأجردُ الأملسُ، ومنه:» صَلَدَ جبينُ الأصلعِ «: بَرَقَ، والصَّلِدُ أيضاً صفةٌ، يُقال: صَلِدَ بكسر اللام يَصْلَد بفتحهِا فهو صَلِد. [قال] النقاش:» الصَّلْدُ بلغةِ هُذَيل «. وقال أبان بن تغلب:» الصَّلْد: اللَّيِّن من الحجارةِ «وقال علي ابن عيسى:» هو من الحجارة ما لا خيرَ فيه، وكذلك من الأرضين وغيرِها، ومنه:«قِدْرٌ صَلُود» أي: بَطِيئة الغَلَيان «.
قوله {لَاّ يَقْدِرُونَ} في هذه الجملة قولان، أحدهما: أنها استئنافية فلا موضع لها من الإِعراب. والثاني: أنها في محلِّ نصبٍ على الحالِ من» الذي «في قولِه:» كالذي يُنْفِقُ «، وإنما جُمع الضميرُ حَمْلاً على المعنى، لأنَّ المرادَ بالذي الجنسُ، فلذلك جاز الحَمْلُ على لفظِه مرةً في قولِه:» ماله «و» لا يؤمِنُ «» فمثلُه «وعلى معناه أخرى. وصار هذا نظير قولِه: {كَمَثَلِ الذي استوقد نَاراً} [البقرة: 17] ثم قال: {بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ} [البقرة: 17] ، وقد تقدَّم تحقيقُ القولِ في ذلك. وقد زَعَم ابن عطية أَنَّ مَهْيَعَ كلامِ العرب الحَمْلُ على اللفظِ أولاً ثم المعنى ثانياً، وأنَّ العكسَ قبيحٌ، وتقدَّم الكلامُ معه في ذلك. وقيل: الضميرُ في» يَقْدِرون «عائدٌ على المخاطبين بقوله: {ياأيها الذين آمَنُواْ لَا تُبْطِلُواْ}
ويكونُ من بابِ الالتفاتِ من الخطابِ إلى الغَيْبة، وفيه بُعْدٌ. وقيل: يعودُ على ما يُفْهَم من السياقِ. أي: لا يَقْدِرُ المانُّون ولا المؤذون على شيء من نفع صدقاتهم. وسَمَّى الصدقة كسباً/. قال أبو البقاء:» ولا يجوزُ أن يكونَ «ولا يقدرون» حالاً من «الذي» لأنه قد فُصِل بينهما بقوله: «فمثلُه» وما بعدَه، ولا يَلْزَمُ ذلك، لأنَّ هذا الفصلَ فيه تأكيدٌ وهو كالاعتراض.
وقولُه تعالى: {وَمَثَلُ الذين يُنْفِقُونَ} : إلى قوله: «كَمَثَلِ حَبة» كقوله: {مَّثَلُ الذين يُنْفِقُونَ. . . كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ} [البقرة: 261] في جميعِ التقاديرِ فليُراجَعْ. وقرأ الجحدريَّ «كمثلِ حبةٍ» بالحاءِ المهملة والباءِ.
قوله: {ابتغآء} فيه وجهان، أحدُهما: أنه مفعولٌ من أجلِه، وشروطُ النصبِ متوفرةٌ. والثاني: أنه حالٌ، و «تثبيتاً» عطفٌ عليه بالاعتبارين: أي لأجلِ الابتغاء والتثبيتِ، أو مبتغين مُثَبِّتِين. ومنع ابنُ عطية أن يكونَ «ابتغاء» مفعولاً من أجلِه، قال:«لأنه عَطَفَ عليه» تثبيتاً «، وتثبيتاً لا يَصِحَّ أن يكونَ مفعولاً من أجلِه، لأنَّ الإِنفاقَ لا يكونُ لأجلِ التثبيتِ، وحَكَى عن مكي كونه مفعولا من أجلِه، قال:» وهو مردودٌ بما بَيَّنَّاه «.
وهذا الذي رَدَّه لا بُدَّ فيه من تفصيلٍ، وذلك أنَّ قولَه:» وتثبيتاً «إمَّا أنْ يُجْعَلَ مصدراً متعدياً أو قاصراً، فإن كان قاصراً، أو متعدياً وقَدَّرْنا المفعولَ هكذا:» وتثبيتاً من أنفسهم الثوابَ على تلك النفقة «، فيكونُ تثبيتُ الثواب وتحصيلُه من اللهِ حاملاً لهم على النفقةِ، وحينئذٍ يَصحُّ أَنْ يكونَ» تثبيتاً «
مفعولاً من أجلِه، وإنْ قَدَّرْنا المفعولَ غيرَ ذلك، أي: وتثبيتاً من أنفسِهم أعمالَهم بإخلاصِ النية، أو جَعَلْنَا» مِنْ أنفسهم «هو المفعول في المعنى، وأنَّ» مِنْ «بمَعْنَى اللام أي: لأنفسهم، كما تقولُ:» فَعَلْتُه كسراً مِنْ شهوتي «فلا يتضحُ فيه أن يكون مفعولاً من أجلِه.
وأبو البقاء قد قَدَّر المفعولَ المحذوفَ» أعمالَهم بإخلاصِ النيةِ «، وجَوَّز أيضاً أن يكونَ» مِنْ أنفسهم «مفعولاً، وأن [تكونَ] » مِنْ «بمعنى اللام، وكان قَدَّم أولاً أنه يجوزُ فيهما المفعولُ من أجلِه والحالية، وهو غيرُ واضحٍ كما تقدَّم.
وتلخَّص أنَّ في» من أنفسهم «قولين، أحدُهما: أنه مفعولٌ بالتجوُّز في الحرفِ، والثاني: أنه صفةٌ ل» تثبيتاً «، فهو متعلِّقٌ بمحذوفٍ، وتلخَّص أيضاً أن التثبيت يجوزُ أن يكونَ متعدّياً، وكيف يُقَدَّر مفعولُه، وأَن يكونَ قاصراً.
فإن قيل:» تثبيت «مصدرَ ثَبَّت وثَبَّتَ متعدٍ، فكيفَ يكونُ مصدرُه لازماً. فالجوابُ أنَّ التثبيتَ مصدرُ تَثَبَّتَ فهو واقعٌ موقعَ التثبُّتِ، والمصادرُ تنوبُ عن بعضها. قال تعالى: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} [المزمل: 8] والأصلُ:» تبتُّلا «ويؤيِّد ذلك قراءةُ مَنْ قرأ:» وَتَثَبُّتاً «، وإلى هذا نحا أبو البقاء. قال الشيخ:» ورُدَّ هذا القولُ بأنَّ ذلكَ لا يكونُ إلا مع الإِفصاح بالفعلِ المتقدِّم على المصدر، نحوُ الآيةِ، وأمَّا أَنْ يُؤْتى بالمصدرِ من غيرِ نيابةٍ على فعلٍ مذكورٍ فلا يُحْمَل
على غيرِ فعلِه الذي هو له في الأصل «ثم قال:» والذي نقول: إنَّ ثَبَتَ - يعني مخففاً - فعلٌ لازمٌ معناه تمكَّن ورَسَخَ، وثَبَّت معدَّى بالتضعيف، ومعناه مَكَّن وحَقَّق.
قال ابن رواحة:
1067 -
فَثَبَّتَ اللهُ ما أتاك مِنْ حَسَنٍ
…
تثبيتَ عيسى ونصراً كالذي نُصِروا
فإذا كان التثبيتُ مُسْنَداً إليهم كانت «مِنْ» في موضِع نصب متعلقةً بنفس المصدرِ، وتكونُ للتبعيضِ، مثلُها في «هَزَّ من عِطْفِهِ» و «حَرَّك مِنْ نشاطِه» وإن كان مسنداً في المعنى إلى أنفسهم كانت «مِنْ» أيضاً في موضعِ نصبٍ صفة لتثبيتاً «.
قال الزمخشري:» فإنْ قلت: فما معنى التبعيضُ؟ قلت: معناه أنَّ مَنْ بَذَلَ مالَه لوجه الله فقد ثَبَّتَ بعضَ نفسه، ومَنْ بَذَلَ روحَه ومالَه معاً فقد ثَبَّت نفسَه كلَّها «. قال الشيخ:» والظاهرُ أنَّ نفسَه هي التي تُثَبِّته وتَحْمِلُه على الإِنفاق في سبيل الله ليس له مُحَرِّكٌ إلا هي، لِما اعتقدَتْه من الإِيمان والثواب «يعني فيترجَّح أنَّ التثبيتَ مسندٌ في المعنى إلى أنفسِهم» .
قوله: {بِرَبْوَةٍ} في محلِّ جر لأنه صفةٌ لجنة. والباءُ ظرفيةٌ بمعنى «في» أي جنةٍ كائنةٍ في ربوةٍ. والربوةُ: أرضٌ مرتفعةٌ طيبةٌ، قالَه الخليلُ. وهي مشتقةٌ من رَبَا يَرْبُو أي: ارتَفَع، وتفسيرُ السدّي لها بما انخفض من الأرض ليس بشيء. ويقال: رَبْوة ورَباوة بتثليثِ الراءِ فيهما، ويُقال أيضاً: رابية، قال:
1068 -
وغيثٍ من الوَسْمِيّ حُوٍّ تِلاعُه
…
أَجابَتْ روابيه النَّجاءَ هَواطِلُهُ
وقرأ ابن عامر وعاصمِ «رَبْوة» بالفتح، والباقون الضمِّ، قال الأخفشُ:«ونختار الضمَّ لأنه لا يكاد يُسْمع في الجمع إلا الرُّبا» يعني فَدَلَّ ذلك على أن المفردَ مضمومُ الفاءِ، نحو بُرْمَة وبُرَم، وصورة وصُوَر. وقرأ ابن عباس «رِبْوَة» بالكسر، والأشهب العقيلي:«رَياوة» ، مثل رسالة وأبو جعفر:«رَبَاوة» مثل كراهة، وقد تقدَّم أنَّ هذه لغاتٌ.
قوله: {أَصَابَهَا وَابِلٌ} هذه الجملةُ فيها أربعةُ أوجهٍ، أحدها: أنها صفةٌ ثانيةٌ لجنة، وبُدىء هنا بالوصفِ بالجارِّ والمجرور ثم بالجملةِ، لأنه الأكثرُ في لسانهم لقُرْبهِ من المفرد، وبُدىء بالوصفِ الثابتِ المستقرِّ وهو كونُها بربوة، ثم بالعارضِ وهو إصابةُ الوابلِ. وجاء قولُه في وصف الصفوان - وصَفَهُ بقوله:{عَلَيْهِ تُرَابٌ} - ثم عَطَفَ على الصفةِ «فأصابه وابلٌ» وهنا لم يَعْطِفُ بل أَخْرَجَ صفةً.
والثاني: أن تكونَ صفةً ل «ربوة» ، قال أبو البقاء:«لأنَّ الجنةَ بعضُ الربوة» كأنه يعني أنه يَلْزَمُ من وصفِ الربوة بالإِصابةِ وصفُ الجنةِ به الثالث: أن تكونَ حالاً من الضميرِ المستكنِّ في الجارِّ لوقوعِه صفةً. الرابع: أن تكونَ حالاً من «جنة» ، وجاز ذلك لأنَّ النكرةَ قد تَخَصَّصتْ بالوصفِ، ولا بُدَّ من تقديرِ «قد» حينئذٍ، أي: وقد أصابها.
قوله: {فَآتَتْ أُكُلَهَا} فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: وهو الأصحُّ أنَّ «آتَتْ»
تتعدَّى لاثنين، حُذِفَ أولُهما وهو «صاحبها» أو «أهلَها» . والذي حَسَّن حَذفَه أنَّ القصدَ الإخبارُ عَمَّا تُثْمِرُ لا عمَّن تُثْمَرُ له، ولأنه مقدرٌ في قولِه:«كمثل جنةٍ» أي غارِس جنةٍ أو صاحبِ جنةٍ، كما تقدَّم. و «أُكُلَها» هو المفعولُ الثاني. و «ضِعْفَيْن» نصبٌ على الحال من «أُكُلَها. والثاني: أنَّ» ضِعْفِين «هو المفعول الثاني، وهذا سهوٌ من قائلِه وغَلَطٌ. والثالث: أنَّ» آتَتْ «هنا بمعنى أَخْرَجَت، فهو متعدِّ لمفعولٍ واحدٍ. قال أبو البقاء:» لأنَّ معنى «آتَتْ» : أَخْرَجَتْ، وهو من الإِتاء، وهو الرَّيْع «قال الشيخ:» لَا نَعْلَم ذلك في لسان العرب «. ونسبة الإِيتاء إليها مجازٌ.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو» أُكْلها «بضمِّ الهمزة وسكونِ الكافِ، وهكذا كلُّ ما أُضِيف من هذا إلى مؤنثٍ، إلا أبا عمرو فإنه يُثَقِّل ما أُضيف إلى غير ضمير أو إلى ضمير المذكر، والباقون بالتثقيل مطلقاً، وسيأتي إيضاح هذا كلِّه. والأَكُلُ بالضم: الشيءُ المأكولُ، وبالفتحِ مصدرٌ، وأُضيف إلى الجنة لأنها محلُّهُ أو سببُه/.
قوله: {فَطَلٌّ} الفاءُ جوابُ الشرطِ، ولا بُدَّ من حذفٍ بعدَها لتكمُلَ جملةُ الجوابِ. واختُلِفَ في ذلك على ثلاثة أوجه، فذهَب المبرد إلى أنَّ المحذوفَ خبرٌ، وقوله:» فَطَلٌّ «مبتدأٌ، والتقدير:» فَطَلٌّ يِصيبها «. وجاز الابتداء هنا بالنكرةِ لأنها في جوابِ الشرطِ، وهو من جملةِ المُسَوِّغات للابتداء بالنكرةِ، ومن كلامِهم:» إنْ ذَهَبَ غَيْرُ فَعَيْرٌ في الرِّباط «. والثاني: أنه خبرُ مبتدأٍ
مضمرٍ، أي: فالذي يُصيبها طَلٌّ. والثالث: أنه فاعلٌ بفعلٍ مضمرٍ تقديرُه: فيُصيبها طلٌّ، وهذا أَبْيَنُها.
إلَاّ أنَّ الشيخَ قال: - بعد ذِكْرِ الثلاثة الأوجهِ -» والأخير يحتاج فيه إلى حَذْفِ الجملةِ الواقعةِ جواباً وإبقاءِ معمولٍ لبعضها، لأنه متى دخلت الفاءُ على المضارعِ فإنما هو على إضمارِ مبتدأٍ كقولِه:{وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ} [المائدة: 95] أي: فهو ينتقمُ، فلذلك يُحتاج إلى هذا التقديرِ هنا، أي: فهي، أي: الجنةُ يُصيبها طَلُّ، وأمَّا في التقديرين السابقين فلا يُحتاج إلَاّ إلى حَذْفِ أحدِ جُزْئي الجملةِ «وفيما قاله نظرٌ، لأنَّا لا نُسَلِّم أن المضارع بعد الفاءِ الواقعةِ جواباً يَحْتَاجُ إلى إضمارِ مبتدأ.
ونظيرُ الآية قوُ امرىء القيس:
1069 -
ألا إنْ لا تَكُنْ إبِلٌ فمِعْزَى
…
كأنَّ قُرونَ جِلَّتِها العِصِيُّ
فقوله» فَمِعْزى «فيه التقاديرُ الثلاثةُ.
وادَّعى بعضُهم أنَّ في هذه الآيةِ تقديماً وتأخيراً، والأصلُ:» أصابها وإبلٌ، فإنْ لم يُصِبْها وابلٌ فَطَلٌّ فآتَتْ أكلَها ضِعْفين «حتى يُجْعَلَ إيتاؤها الأُكُلَ ضعفينِ على الحالين من الوابلِ والطلِّ، وهذا لا حاجة إليه لاستقامة المعنى بدونِه، والأصلُ عدمُ التقديرِ والتأخيرِ، حتى يَخُصُّه بعضُهم بالضرورةِ.
والطَّلُّ: المُسْتَدَق مِن القَطْرِ. وقال مجاهد: «هو الندى» وهذا تَجَوُّزٌ منه. ويقال: طَلَّه الندى، وأَطَلَّه أيضاً، قال:
1070 -
ولَمَّا نَزَلْنَا منزلاً طَلَّه الندى
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ويُجْمع «طَلّ» على طِلال.
قوله: {والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} قراءةُ الجمهورِ: «تَعْلَمون» خطاباً وهو واضحٌ، فإنه من الالتفاتِ من الغَيْبة إلى الخطابِ الباعثِ على فعلِ الإِنفاقِ الخالصِ لوجهِ اللهِ والزاجر عن الرياءِ والسُمْعَةِ. والزهري بالياء على الغَيْبَة، ويَحْتَمِل وجهين، أحدُهما: أن يعودَ على المنفقين، والثاني: ان يكونَ عاماً فلا يَخُصُّ المنفقين، بل يعودُ على الناسِ أجمعين، ليندرجَ فيهم المنفقونَ اندراجاً أولياً.
قوله تعالى: {مِّن نَّخِيلٍ} : في محلِّ رفعٍ صفةً لجنة، أي: كائنةٍ من نخيل. و «نخيل» فيه قولان، أحدُهما: أنه اسمُ جمعٍ. والثاني: أنه جمعُ «نخل» الذي هو اسمُ الجنسِ، ونحوه: كَلْب وكَلِيب. قال الراغب: «سُمِّي بذلك لأنه منخولُ الأشجار وصَفِيُّها، لأنه أكرمُ ما يَنْبُتُ» وذَكَرَ له منافَع وشَبَهاً من الآدميين. والأعناب: جمع عِنَبَة، ويقال:«عِنَباء» مثل «سِيرَاء» بالمدِّ، فلا ينصرفُ. وحيث جاء في القرآن ذِكْرُ هذين فإنما يَنُصُّ على النخلِ دونَ ثمرتِها وعلى ثمرةِ الكَرْم دون الكَرْم، لأنَّ النخلَ كلَّه منافعُ، وأعظمُ منافِع الكَرْم ثمرتُه دونَ باقِيه.
[قوله: {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا} هذه الجملةُ في محلِّها وجهان، أحدهما: أنَّها في محلِّ رفعٍ صفةً لجنة] . والثاني: أنها في محلِّ نصب، وفيه أيضاً
وجهان فقيل: على الحالِ من «جَنَّة» لأنها قد وُصِفَت. وقيل: على أنها خبرُ «تكون» نقله مكي.
قوله: {لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثمرات} جملةٌُ من مبتدأٍ وخبرٍ، فالخبرُ قولُه:«له» و {مِن كُلِّ الثمرات} هو المبتدأُ، وذلك لا يَسْتَقِيم على الظاهر، إذ المبتدأ لا يكونُ جاراً ومجروراً فلا بدَّ من تأويلِه. واختُلف في ذلك، فقيل: المبتدأ في الحقيقةِ محذوفٌ، وهذا الجارُّ والمجرورُ صفةٌ قائمةٌ مقامَه، تقديرُه:«له فيها رزقٌ من كلِّ الثمراتِ أو فاكهةٌ من كلِّ الثمرات» فَحُذِف الموصوفُ وبقيت صفتُه: ومثله قولُ النابغة:
1071 -
كأنَّك من جِمالِ بني أُقَيْشٍ
…
يُقَعْقِعُ خلفَ رِجْلَيه بِشَنِّ
أي: جَمَلٌ من جمالِ بني أُقَيْشٍ، وقولُه تعالى:{وَمَا مِنَّآ إِلَاّ لَهُ مَقَامٌ [مَّعْلُومٌ] } [الصافات: 164] أي: وما منا أحدٌ إلا له مقامٌ. وقيل: «مِنْ» زائدةٌ تقديرُه: له فيها كلُّ الثمرات، وذلك عند الأخفش لأنه لا يَشْتَرِط في زيادتها شيئاً. وأمَّا الكوفيون فيشترطون التنكير، والبصريون يَشْتَرِطُونه وعدَم الإِيجاب، وإذا قلنا بالزيادة فالمرادُ بقوله:«كلّ الثمرات» التكثيرُ لا العمومُ، لأنَّ العمومَ متعذَّرٌ. قال أبو البقاء:«ولا يجوزُ أَنْ تكونَ» مِنْ «زائدةً لا على قولِ سيبويه ولا قولِ الأخفش، لأنَّ المعنى يصير: له فيها كلُّ الثمراتِ، وليسَ الأمرُ على هذا، إلَاّ أَنْ يُراد به هنا الكثرة لا الاستيعاب فيجوزُ عند الأخفش، لأنه يُجَوِّزُ زيادةَ» مِنْ «في الواجب.
قوله: {وَأَصَابَهُ الكبر} فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أَنَّ الواوَ للحالِ، والجملةُ بعدها في محلِّ نصبٍ عليها، و» قد «مقدرةٌ أي: وقد أَصابه، وصاحبُ الحال هو» أحدُكم «، والعاملُ فيها» يَودُّ «ونظيرُها: {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ} [البقرة: 28]، وقوله تعالى:{وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا} [آل عمران: 168] أي: وقد كُنتم، وقد قَعَدوا.
والثاني: أن يكونَ قد وَضَع الماضي موضعَ المضارع، والتقديرُ «ويصيبه الكِبَر» كقوله:{يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة فَأَوْرَدَهُمُ} [هود: 98] أي: فيوردهم. قال الفراء: «يجوزُ ذلك في» يودُّ «لأنه يُتَلَقَّى مرةً ب» أَنْ «ومرةً ب» لو «فجاز أن يُقَدَّر أحدُهما مكانَ الآخر» .
والثالث: أنه حُمِل في العطفِ على المعنى، لأنَّ المعنى: أيودُّ أحدُكم أَنْ لو كانَتْ فأصابه الكِبَرُ، وهذا الوجه فيه تأويلُ المضارع بالماضي ليصِحَّ عطفُ الماضي عليه، عكسُ الوجهِ الذي قبلَه، فإنَّ فيه تأويلَ الماضي بالمضارع. واستضعف أبو البقاء هذا الوجهَ بأنه يؤدي إلى تغيير اللفظ مع صحةِ المعنى. والزمخشري نَحَا إلى هذا الوجه أيضاً فإنه قال: «وقيل يقال: وَدِدْتُ لو كان كذا، فَحُمِل العطفُ على المعنى، كأنه قيل: أيودُّ أحدُكم لو كَانَتْ له جنةٌ وأصابَه الكِبَرُ.
قال الشيخ:» وظاهرُ كلامِه أَنْ يَكونَ «أصابه» معطوفاً على متعلَّق «
أيودُّ» وهو «أَنْ تَكُونَ» لأنه في معنى «لو كانَتْ» ، إذ يقال: أيودُّ أحدُكم لو كانَتْ، وهذا ليس بشيءٍ، لأنه يَمْتَنِع من حيثُ المعنى أَنْ يكونَ معطوفاً على «كانت» التي قَبلها «لو» لأنه متعلَّق الوُدِّ، وأمَّا «أصابَه الكبر» فلا يمكنُ أن يكونَ متعلَّق الودِّ، لأنَّ «أصابه الكِبَرُ» لا يودُّه أحدٌ ولا يتمنَّاه، لكن يُحْمل قولُ الزمخشري على أنه لمّا كان «أيودُّ» استفهاماً معناه الإِنكارُ جُعِل متعلَّقُ الوَدادة الجَمْعَ بين الشيئين، وهما: كونُ جنة له وإصابةُ الكِبَر إياه، لا أنَّ كلَّ واحد منهما يكونُ مودوداً على انفرادِهِ، وإنما أنكروا وَدادة الجمع بينهما «.
قوله: {وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ} هذه الجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من الهاءِ في» وأَصابَه «. وقد تقدَّم اشتقاقُ الذريَّة. وقرىء» ضِعاف «، وضُعَفاءُ وضِعاف منقاسان في ضَعيف، نحو: ظَريف وظُرَفاء وظِراف، وشَريف وشُرَفاء وشِراف.
وقوله: {فَأَصَابَهَآ إِعْصَارٌ} هذه الجملةُ عطفٌ على صفةِ الجنة قبلها، قاله أبو البقاء، يعني على قولِه:» مِنْ نخيل «وما بعدَه.
وأتى في هذه الآيات كلِّها نحوُ» فأصَابه وابلٌ - وأَصابَه الكِبَر، فأصابها إعصارٌ «لأنه أبلغُ وأَدَلُّ على التأثيرِ بوقوعِ الفعلِ على ذلك الشيءِ، من أنه لم يُذْكَرْ بلفظ الإِصابة، حتى لو قيل:» وَبَل «و» كَبِر «» وأَعْصَرَتْ «لم يكن فيه ما في لفظِ الإِصابة من المبالغةِ/.
والإِعصارُ: الريحُ الشديدةُ المرتفعةُ، وتُسَمِّيها العامَّةُ: الزَّوْبعة. وقيل:
هي الريحُ السَّموم، سُمِّيتِ بذلك لأنها تَلُفُّ كما يُلَفُّ الثوبُ المعصورُ، حكاه المهدوي. وقيل: لأنها تَعْصِر السحابَ، وتُجْمع على أعاصير، قال:
1072 -
وبَيْنما المرءُ في الأحياءِ مغتبطٌ
…
إذ هُوَ في الرَّمْسِ تَعْفُوه الأعاصِيرُ
والإِعصار من بين سائرِ أسماءِ الريحِ مذكرٌ، ولهذا رَجَع إليه الضميرُ مذكَّراً في قولهِ:«فيه نارٌ» .
و «نار» يجوز فيه الوجهانِ: أعني الفاعليةَ والجارُّ قبلَها صفةٌ لإِعصاراً، والابتدائيةُ والجارُّ قبلَها خبرُها، والجملةُ صفةُ «إعصار» ، والأولُ أَوْلى لِما تقدَّم من أنَّ الوصفَ بالمفردِ أَوْلى، والجارُّ أقربُ إليه من الجملة.
وقوله: {فاحترقت} أي: أَحْرَقها فاحتَرَقَتْ، فهو مطاوعٌ لأَحْرق الرباعي، وأمَّا «حَرَقَ» من قولِهم:«حَرَق نابُ الرجل» إذا اشتدَّ غيظهُ، فيُستعمل لازماً ومتعدياً، قال:
1073 -
أَبى الضيمَ والنعمانُ يَحْرِقُ نابَهُ
…
عليه فَأَفْضى والسيوفُ مَعاقِلُهْ
رُوي برفع «نابه» ونصبه. وقولُه «كّذلك يُبَيَّن» إلى آخرِه قد تقدَّم نظيرُه.
قوله تعالى: {أَنْفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} : في مفعولِ «أنفقوا» قولان، أحدُهما: أنه المجرورُ ب «مِنْ» ، و «مِنْ» للتبعيض أي: أنفقوا بعضَ ما رزقناكم. والثاني: أنه محذوفٌ قامَتْ صفتُه مقامَه، أي: شيئاً مِمَّا رزقناكم، وتقدَّم له نظائرُ. و «ما» يجوزُ أن تكونَ موصولةً اسمية. والعائد محذوفٌ لاستكمالِ الشروطِ، أي: كَسَبتموه، وأن تكونَ مصدريةً
أي: من طيباتَ كَسْبكم، وحينئذٍ لا بُدَّ من تأويلِ هذا المصدرِ باسمِ المفعولِ أي: مكسوبِكم، ولهذا كان الوجهُ الأولُ أَوْلى.
و «مِمَّا اَخْرَجْنا» عطفٌ على المجرور ب «مِنْ» بإعادةِ الجارِ، لأحدِ معنيين: إمَّا التأكيدِ وإمَّا للدلالةِ على عاملٍ آخرَ مقدرٍ، أي: وأَنْفقوا مِمَّا أَخْرجنا. ولا بدَّ من حَذْفِ مضافٍ، أي: ومن طيباتِ ما أَخْرَجنا. و «لكم» متعلِّقٌ ب «أخرجنا» ، واللامُ للتعليلِ. و «مِنْ الأرض» متعلِّقٌ ب «أخرجنا» أيضاً، و «مِنْ» لابتداءِ الغاية.
قوله: {وَلَا تَيَمَّمُواْ الخبيث} الجمهورُ على «تَيَمَّموا» ، والأصلُ: تَتَيَمَّمُوا بتاءين، فحُذِفَتْ إحداهما تخفيفاً: إمَّا الأولى وإمَّا الثانيةُ، وقد تقدَّم تحريرُ القولِ فيه عند قولِه:{تَظَاهَرُونَ} [البقرة: 85] .
وقرأ البزي هنا وفي مواضع أُخَرَ بتشديدِ التاءِ، على أنه أَدْغم التاءَ الأولى في الثانيةِ، وجاز ذلك هنا وفي نظائِره؛ لأنَّ الساكنَ الأول حرفُ لينٍ، وهذا بخلاف قراءتِه {نَاراً تلظى} [الليل: 14] {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ} [النور: 15] فإنه فيه جَمَعَ بين ساكنين والأولُ حرفٌ صحيحٌ، وفيه كلامٌ أهلِ العربيةِ يأتي ذِكْرُه إن شاءَ اللهُ تعالى.
وقرأ ابن عباس والزهري «تُيَمِّمو» بضم التاء وكسر الميمِ الأولى وماضيه: يَمَّم، فوزنُ «تُيَمِّموا» على هذه القراءة: تُفَعِّلوا من غيرِ حذفٍ، ورُوي عن عبد الله «تُؤَمِّموا» من أَمَّمْتُ أي قَصَدْتُ.
والتيممُّ: القصدُ، يقال: أَمَّ كردَّ، وأَمَّمَ كأَخَّرَ، ويَمَّم، وتَيَمَّم بالتاء
والياء معاً، وتَأَمَّم بالتاء والهمزةِ، وكلُّها بمعنَى قَصَدَ. وفَرَّق الخليلُ رحمه الله بينها بفروقٍ لطيفة فقال: «أَمَّمْتُه قَصَدْتُ أَمامه، ويَمَّمْتُه: قصدْتُ. . . ويَمَّمْتُه: قصدتُه من أي جهة كان.
والخبيثُ والطيبُ: صفتانِ غالبتان لا يُذْكَر موصوفُهما: قال: {والطيبون لِلْطَّيِّبَاتِ} [النور: 26]{وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخبآئث} [الأعراف: 157]، قال عليه السلام:» مِنَ الخُبْث والخَبائث «
قوله: {مِنْهُ تُنْفِقُونَ} » منه «متعلِّقٌ بتنفقون، وتُنْفِقُون في محلِّ نصبٍ على الحال من الفاعل {تَيَمَّمُواْ} أي: لا تَقْصِدوا الخبيث منفقين منه، قالوا: وهي حالٌ مقدَّرةٌ، لأن الإِنفاقَ منه يَقَعُ بعد القصد إليه، قاله أبو البقاء وغيره. والثاني: أنها حالٌ من الخبيث، لأن في الجملة ضميراً يعود إليه أي: لا تَقْصِدُوا مُنْفَقاً منه.
والثالث: أنه مستأنفُ ابتداءِ إخبارٍ بذلك، وتَمَّ الكلامُ عند قولِه:{وَلَا تَيَمَّمُواْ الخبيث} ثم ابتدأ خبراً آخرَ، فقال: تُنفقون منه وأنتم لا تأخذُونه إلا إذا أَغْمضتم، كأن هذا عتابٌ للناسِ وتقريعٌ، وهذا يَرُدُّه المعنى.
قوله: {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ} فيها قولان، أحدُهما: أنها مستأنفة لا مَحَلَّ لها، وإليه ذهب أبو البقاء. والثاني: أنها في محلِّ نصبٍ على الحال، ويَظْهَرُ
هذا ظهوراً قوياً عند مَنْ يرى أن الكلامَ قد تَمَّ عند قولِهِ: {وَلَا تَيَمَّمُواْ الخبيث} وما بعدَه استئنافٌ، وقد تقدَّم تفسيرُ معناه.
والهاء في «بآخذِيه» تعودُ على «الخبيث» وفيها وفي نحوها من الضمائر المتصلةِ باسمِ الفاعلِ قولان مشهورانِ، أحدُهما: أنها في محلِّ جر وإن كام محلُّهَا منصوباً لأنها مفعولٌ في المعنى. والثاني: - وهو رأي الأخفش - أنها في محلِّ نصب، وإنما حُذِفَ التنوينُ والنونُ في نحو:«ضاربيك» لِلَطافة الضمير، ومذهبُ هشام أنه يجوز ثبوتُ التنوينِ مع الضميرِ، فيجيز:«هذا ضارِبُنْك» بثبوتِ التنوين، وقد يَسْتَدِلُّ لمذهبه بقوله:
1074 -
همُ الفاعلونُ الخيرَ والآمِرُونه
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقوله الآخر:
1075 -
ولم يَرْتَفِقْ والناسُ مُحْتَضِرُونه
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فقد جَمَع بين النونِ النائبةِ عن التنوينِ وبين الضميرِ. ولهذه الأقوالِ أدلةٌ مذكورةٌ في كتبِ القومِ.
قوله: {إِلَاّ أَن تُغْمِضُواْ} الأصلُ: إلَاّ بأَنْ، فَحُذِف حرف الجر مع «أَنْ» فيجيءُ فيها القولان: أهي في محلِّ جر أم نصب؟ وهذه الباءُ تتعلَّقُ «تُيَمِّموا» «بآخذيه» . وأجاز أبو البقاء أن تكونَ «أَنْ» وما في حَيِّزها في محلِّ نصبٍ
على الحال، والعاملُ فيها «أخِذيه» . والمعنى: لَسْتم بآخذِيه في حالٍ من الأحوالِ إلا في حالِ الإِغماضِ، وقد تقدَّم أَنْ سيبويه لا يُجيز أن تقعَ «أَنْ» وما في حيِّزها موقعَ الحالِ. وقال الفراء:«المعنى على الشرطِ والجزاء؛ لأنَّ معناه: إنْ أَغْمضتم أَخَذْتم، ولكن لَمَّا وقعت» إلَاّ «على» أَنْ «فتحها، ومثلُه:{إِلَاّ أَن يَخَافَآ} [البقرة: 229]{إَلَاّ أَن يَعْفُونَ} [البقرة: 237] . وهذا قولٌ مردودٌ عليه في كتبِ النحو.
والجمهورُ على» تُغْمِضوا «بضمِّ التاء وكسرِ الميمِ مخففةً من» أَغْمَض «وفيه وجهان، أحدُهما: أنه حُذِفَ مفعولُه، تقديرُه: تُغْمِضُوا أبصارَكم أو بصائرَكم. والثاني: في معنى ما لا يتعدَّى، والمعنى إلا أَنْ تُغْضُوا، مِنْ قولهم:» أَغْضَى عنه «.
وقرأ الزهري:» تُغْمِّضوا «بضم التاءِ وفتحِ الغينِ وكسرِ الميمِ مشددةً ومعناها كالأولى. ورُوي عنه أيضاً» تَغْمَضوا «بفتحِ التاءِ وسكونِ الغَيْن وفتحِ الميمِ، مضارعُ» غَمِضَ «بكسر الميم، وهي لغةٌ في» أَغْمض «الرباعي، فيكونُ ممَّا اتفق فيه فَعِل وأَفْعل. ورُوي عن اليزيدي» تَغْمُضوا «بفتحِ التاءِ وسكونِ الغينِ وضمِّ الميمِ. قال أبو البقاء:» وهو من غَمُضَ يَغْمُضُ كظَرُف يظرُفُ، أي: خَفِيَ عليكم رأيُكم فيه «.
ورُوي عن الحسن:» تُغَمِّضُوا «بضمِّ التاءِ وفتحِ الغَيْنِ وفتحِ الميمِ
مشددةً على ما لم يُسَمَّ فاعلُه. وقتادةُ كذلك إلا أنه خَفَّفَ الميم، والمعنى: / إلا أن تُحْمَلوا على التغافل عنه والمسامحِة فيه. وقال أبو البقاء في قراءةِ قتادة:» ويجوزُ أن يكونَ من أَغْمَضَ أي: صُودف على تلك الحالِ كقولِك: أَحْمَدْتُ الرجل أي: وَجَدْتُه محموداً «وبه قال أبو الفتح. وقيل فيها أيضاً: إنَّ معناها إلَاّ أَنْ تُدْخَلوا فيه وتُجْذَبوا إليه.
قوله تعالى: {الشيطان يَعِدُكُمُ} : مبتدأٌ وخبرٌ، وقد [تقدم] اشتقاقُ الشيطانِ وما فيه. ووزنُ يَعِدُكم: يَعِلُكم بحَذْفِ الفاءِ وهي الواوُ لوقوعِها بين ياءٍ وكسرةٍ، وقرأ الجمهور:«الفَقْر» بفتح الفاء وسكونِ القافِ، وروى أبو حيوة عن بعضِهم:«الفُقْر» بضم الفاء وهي لغةٌ، وقرىء «الفَقَر» بفتحتين. قوله:«منه» فيه وجهان: أحدهما: أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ لأنه نعتٌ لمغفرة. والثاني: ان يكونَ مفعولاً متعلقاً بيَعِد أي: يَعِدُكم من تِلْقاءِ نفسِه. و «فَضْلاً» صفتُه محذوفةٌ أي: وفضلاً منه، وهذا على الوجهِ الأولِ، وأمَّا الثاني فلا حَذْفَ فيه.
قوله تعالى: {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ} : الجمهورُ على «يُؤْتِي» «ومَنْ يُؤْتَ» بالياءَ فيهما، وقرأ الربيع بن خيثم بالتاءِ على
الخطاب فيهما. وهو خطابٌ للباري على الالتفاتِ. وقرأ الجمهور: «ومن يُؤْتَ» مبنياً للمفعول، والقائمُ مقامَ الفاعلِ ضميرُ «مَنْ» الشرطيةِ، وهو المفعولُ الأولُ، و «الحكمةَ» مفعولٌ ثانٍ. وقرأ يعقوب:«يُؤْتِ» مبنياً للفاعل، والفاعلُ ضميرُ الله تعالى، و «مَنْ» مفعولٌ مقدمٌ، و «الحكمة» مفعولٌ ثان كقولِك؛ «يَّاً يُعْطِ زيدٌ درهماً أُعْطِه درهماً» .
وقال الزمخشري: بمعنى «ومَنْ يُؤتِهِ اللهُ» . قال الشيخ: «إن أرادَ تفسيرَ المعنى فهو صحيحٌ، وإن أرادَ الإِعرابَ فليس كذلك، إذ ليس ثَمَّ ضميرُ نصبٍ محذوفٌ، بل مفعولٌ» يُؤْتِ «مَنْ الشرطيةُ المتقدمةُ. قلت: ويؤيِّدُ تقديرَ الزمخشري قراءةُ الأعمش: {ومَنْ يُؤْتِه الحكمةَ} بإثباتِ هاءِ الضمير، و» مَنْ «في قراءتِه مبتدأٌ لاشتغالِ الفعلِ بمعمولهِ، وعند مَنْ يجوِّزُ الاشتغالَ في أسماء الشرطِ والاستفهامِ يجُّوز في» مَنْ «النصبَ بإضمارِ فعلٍ، ويقدِّرُه متأخراً، والرفعُ على الابتداءِ، وقد تقدَّم تحقيق هذهِ في غضونِ هذا الإِعرابِ.
وقوله: {أُوتِيَ} جوابُ الشرطِ، والماضي المقترنُ بقد الواقعُ جواباً للشرطِ تارةً يكونُ ماضيَ اللفظِ مستقبلَ المعنى كهذه الآية، فهو الجوابُ
حقيقةً، وتارةً يكونُ ماضيَ اللفظِ والمعنى نحو:{وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ} [فاطر: 4] فهذا ليسَ جواباً، بل الجوابُ محذوفٌ أي: فَتَسَلَّ فقد كُذِّبَتْ رسلٌ، وسيأتي له مزيدُ بيانٍ.
والتنكيرُ في» خيراً «قال الزمخشري:» يفيدُ التعظيمَ كأنه قال: فقد أُوتِي أيَّ خيرٍ كثير «. قال الشيخ:» وتقديرُه هكذا يُؤدي إلى حَذْفِ الموصوفِ ب «أي» وإقامةِ الصفةِ مُقامَه، فإنَّ التقديرَ: فقد أوتي خيراً أيَّ خيرٍ كثيرٍ، وإلى حذفِ «أيَّ» الواقعةِ صفةً، وإقامةِ المُضاف إليها مُقامَها، وإلى وصفِ ما يُضاف إليه «أي» الواقعةُ صفةً نحو: مَرَرْتُ برجلٍ أيِّ رجلٍ كريمٍ، وكلُّ هذا يَحْتاج إثباتُه إلى دليل، والمحفوظُ عن العربِ أنَّ «أياً» الواقعةَ صفةً تُضاف إلى ما يُماثِلُ الموصوف نحو:«دَعَوْتُ أمرَأً أيَّ امرىءٍ، فأجابني» وقد يُحْذَفُ الموصوفُ بأيّ كقوله:
1076 -
إذا حارَب الحَجَّاجُ أيَّ منافقٍ
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
تقديرُهُ: منافقاً أيَّ منافقٍ، وهذا نادرٌ، وقد تقدَّم أَنَّ تقديرَ الزمخشري كذلك، أعني كونَه حَذَفَ موصوفَ أيّ. وأصلُ «يَذَّكَّرُ» : يَتَذَكَّر فَأَدْغَمَ.
مَا نَنسَخْ} [البقرة: 106]{وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ} [البقرة: 197] وقد تقدَّم تحقيقُ القولِ فيهما. وتقدَّم أيضاً مادة «نذر» في قوله: {أَأَنذَرْتَهُمْ} [البقرة: 6]، إلَاّ أنَّ النَّذْرَ له خصوصيةٌ: وهو عقدُ الإِنسانِ ضميره على شيءٍ والتزامُهُ، وفعلُهُ: نَذَرَ - بالفتح - ينذُرُ وينذِرُ: بالكسرِ والضَّمِّ في المضارع، يُقال: نَذَرَ فهو ناذِرٌ، قال عنترة:
1077 -
الشاتِمَيْ عِرْضي ولَمْ أَشْتُمهما
…
والناذِرين إذا لمَ ألقهما دَمي
وقولُه: {فَإِنَّ الله يَعْلَمُهُ} جوابُ الشرطِ إنْ كانَت «ما» شرطيةً، أو زائدةٌ في الخبرِ إنْ كانَتْ موصولةً. ووحَّد الضميرَ في «يَعْلَمُهُ» وإنْ كان قد تقدَّم شيئان: النَّفقةُ والنَّذْرَ لأنَّ العطفَ هنا ب «أو» ، وهي لأحدِ الشيئين، تقول:«إن جاء زيدٌ أو عمروٌ أكرمته» ، ولا يجوز: أكرمتهما، بل يجوز أَنْ تراعيَ الأولَ نحو:«زيدٌ أو هندٌ منطلقٌ، أو الثانيَ نحو: زيدٌ أو هندٌ منطلقة، والآيةُ من هذا، ولا يجوزُ أَنْ يُقالَ: منطلقان. ولهذا تَأوَّل النحْويون: {إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فالله أولى بِهِمَا} [النساء: 135] كما سيأتي. ومن مراعاةِ الأولِ قولُهُ: {وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا} [الجمعة: 11] ، وبهذا الذي قررته لا يُحتاجُ إلى تأويلاتٍ ذكرها المفسرون هنا: فرُوي عن النحاس أنه قال:» التقديرُ: وما أنفقتم من
نفقةٍ فإن الله يعلَمُها، أو نَذَرْتُم من نَذْرٍ فإنَّ الله يعلَمُهُ، فَحُذِفَ، ونظَّره بقوله:{والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة وَلَا يُنفِقُونَهَا} [التوبة: 34] وقولِهِ:
1078 -
نحنُ بما عندَنَا وأنت بما
…
عندَكَ راضٍ والرأيُ مختلِفُ
وقولِ الآخر:
1079 -
رماني بأمرٍ كنت منه ووالدي
…
بريئاً ومن أجل الطَوِيِّ رماني
وهذا لا يُحتاج إليه؛ لأنَّ ذلك إنما هو في الواوِ المقتضيةِ للجَمْع بين الشيئين، وأمَّا «أو» المقتضيةُ لأحدِ الشيئين فلا. وقال ابن عطية:«وَوَحَّدَ الضمير في» يَعْلَمُهُ «وقد ذَكَرَ شيئين من حيث إنه أراد ما ذَكَرَ أو ما نَصَّ، ولا حاجَةَ إلى هذا أيضاً لِمَا عَرَفَتْ من حكم» أو «.
قوله تعالى: {فَنِعِمَّا هِيَ} : الفاءُ جوابُ الشرط، و «نِعْمَ» فعلٌ ماضٍ للمدح نقيضُ بئس، وحكمُها في عدمِ التصرفِ والفاعلِ واللغاتِ حكمُ بئس كما تقدَّم فلا حاجَةَ إلى الإِطالة بتكررِهِ.
وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي هنا وفي النساء: «فَنَعِمَا» بفتحِ النونِ وكسرِ العينِ، وهذه على الأصلِ، لأنَّ الأصل على «فَعِل» كعَلِم وقرأ
ابن كثير وورش وحفص بكسر النونِ والعينِ، وإنما كَسْرُ النونِ إتباعاً لكسرةِ العينِ وهي لغةُ هُذَيْل. قيل: وَتَحْتمل قراءةُ كسرِ العين أن يكونَ أصلُ العينِ السكونَ، فلمَّا وقعتْ بعدَها «ما» وأَدْغَمَ ميم «نِعْم» فيها كُسِرَتْ العينُ لالتقاء الساكنين. وهو محتملٌ. وقرأ أبو عمرو وقالون وأبو بكر بكسرِ النون وإخفاء حركةِ العين. ورُوي عنهم الإِسكانُ أيضاً، واختاره أبو عبيد، وحكاه لغةً للنبي صلى الله عليه وسلم في نحو قولِهِ:«نِعْمَّا المالُ الصالحُ مع الرجلِ الصالحِ»
والجمهورُ على اختيارِ الاختلاسِ على الإِسكانِ، بل بعضُهم يَجْعَلُهُ من وَهْم الرواة عن أبي عمرو، ومِمَّن أنكره المبرد والزجاج والفارسي قالوا: لأنَّ فيه جمعاً بين ساكنين على غير حَدِّهما. قال المبرد: «لا يَقْدِرُ أحدٌ أن ينطِقَ به، وإنما يرومُ الجمعَ بين ساكنين فيحرِّكُ ولا يَشْعُر» وقال الفارسي: «لعل أبا عمرو أخفى فظنَّه الراوي سكوناً» .
وقد تقدَّم الكلام على «ما» اللاحقةِ لنِعْم وبِئْس. و «هي» مبتدأ ضميرٌ عائدٌ على الصدقات على حَذْف مضاف، أي: فنِعْم إبداؤها، ويجوز أَنْ لا يُقَدَّر مضافٌ، بل يعودُ الضميرُ على «الصدقات» بقيد صفةِ الإِبداء تقديرهُ: فنِعِمَّا هي أي: الصدقاتُ المُبْدَاةُ. وجملةُ المدحِ خبرٌ عن «هي» ، والرابطُ العمومُ، وهذا أَوْلى الوجوهِ، وقد تقدَّم تحقيقُها.
والضميرُ في «وإنْ تخفوها» يعودُ على الصدقاتِ. فقيل: يعودُ عليها لفظاً ومعنىً. وقيل: يعودُ على الصدقاتِ لفظاً لا معنىً، لأنَّ المرادَ بالصدقاتِ
المبداةِ الواجبةُ، وبالمُخْفَاةِ: المتطوَّعُ بها، فيكونُ من باب «عندي درهمٌ ونصفُه» ، أي: ونصفُ درهمٍ آخرَ، وكقوله:
1080 -
كأنَّ ثيابَ راكبِهِ بريحٍ
…
خَرِيقٌ وهْي ساكنةُ الهُبوبِ
أي: وريحٌ أخرى ساكنة الهبوب، ولا حاجة إلى هذا في الآية.
والفاءُ في قولِهِ: «فهو» جوابُ الشرط، والضميرُ يعودُ على المصدر المفهومِ من «تُخْفُوها» أي: فالإِخفاءُ، كقولِهِ:{اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ} [المائدة: 8] و «لكم» صفةٌ لخير، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ. و «خير» يجوزُ أن يكون للتفضيلِ، فالمُفَضَّلُ عليه محذوفٌ أي: خيرٌ من إبدائها، ويجوزُ أن يُرَادَ به الوصفُ بالخيريَّة أي: خيرٌ لكم من الخيورِ.
وفي قوله: «إنْ تُبْدوا، وإن تُخْفُوها» نوعٌ من البديع وهو الطباق اللفظي.
وفي قوله «وتُؤتوها الفقراء» طباقٌ معنوي، لأنه لا يُؤتي الصدقاتِ إلا الأغنياءُ، فكأنه قيل: إن يُبْدِ الأغنياءُ الصدقاتِ، وإنْ يُخْفِ الأغنياءُ الصدقاتِ، ويُؤْتُوها الفقراء، فقابلَ الإِبداءَ بالإِخفاءِ [لفظاً] ، والأغنياءَ بالفقراءِ معنىً.
قوله: {وَيُكَفِّرُ} قرأَ الجمهورُ «ويُكَفِّرُ» بالواو، والأعمش بإسقاطِها والياءِ وجَزْم الراء. وفيها تخريجان، أحدُهما: أنه بدلٌ من موضِعِ قوله: {فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} لأنه جوابُ الشرط كأنَّ التقدير: وإنْ تخفوها يكنْ خيراً لكم
ويكفِّرْ. والثاني: أنه حَذَفَ حرفَ/ العطفِ فتكونُ كالقراءةِ المشهورةِ، والتقديرُ:«ويكفِّرُ» وهذا ضعيف جداً.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر بالنونِ ورفعِ الراءِ، وقرأ نافع وحمزةُ والكسائي بالنونِ وجزمِ الراء، وابنُ عامر وحفصٌ عن عاصم: بالياء ورفع الراء، والحسنُ بالياء وجزمِ الراء، ورُوي عن الأعمش أيضاً بالياء ونصب الراء، وابن عباس:«وتُكَفِّرْ» بتاءِ التأنيثِ وجزمِ الراءِ، وعكرمة كذلك إلا أنه فَتَحَ الفاءَ على ما لم يُسَمَّ فاعلُهُ، وابنُ هرمز بالتاءِ ورفعِ الراء، وشهر ابن حوشب - ورُويت عن عكرمة أيضاً - بالتاءِ ونصبِ الراءِ، وعن الأعمش أيضاً بالنونِ ونَصْبِ الراء، وعَن الأعمش أيضاً بالنونِ ونَصْبِ الراءِ، فهذه إحدى عشرةَ قراءةً، والمشهورُ منها ثلاثٌ.
فَمَنْ قرأ بالياء ففيه ثلاثة أوجه، أظهرُها: أنه أَضْمَرَ في الفعل ضميرَ اللَّهِ تعالى، لأنه هو المكفِّر حقيقةً، وتَعْضُده قراءةُ النونِ فإنها متعيِّنةٌ له. والثاني: أنه يعودُ على الصرفِ المدلولِ عليه بقوةِ الكلامِ، أي: ويكفِّرْ صَرْف الصدقاتِ. والثالث: أنه يعودَ على الإِخفاءِ المفهومِ من قولِهِ: «وإنْ تُخْفُوها» ، ونُسِبَ التكفيرُ للصرفِ والإِخفاءِ مجازاً، لأنهما سببٌ للتكفير، وكما يجوزُ إسنادُ الفعلِ إلى فاعِلِهِ يجوزُ إسنادُهُ إلى سببه.
ومَنْ قرأَ بالتاءِ ففي الفعلِ ضميرُ الصدقاتِ ونُسِبَ التكفيرُ إليها مجازاً كما تَقَدَّم. ومَنْ بناه للمفعولِ فالفاعلُ هو اللَّهِ تعالى أو ما تقدَّم. ومَنْ قرأ بالنون فهي نونُ المتكلمِ المعظِّم نفسَهُ. ومَنْ جَزَمَ الراءَ فللعطف على محلِّ الجملةِ الواقعةِ جواباً للشرطِ، ونظيرُهُ قولُه:{مَن يُضْلِلِ الله فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ} في قراءةِ مَنْ جَزَمَ {وَيَذَرُهُمْ} [الأعراف: 186]
ومَنْ رفع فعلى ثلاثةِ أوجهٍ، أحدُها: أن يكونَ مستأنفاً لا موضعَ له من الإِعرابِ، وتكونُ الواوُ عاطفةً جملةَ كلامٍ على جملةِ كلامٍ آخرَ. والثاني: أنه خبرُ مبتدأٍ مضمرٍ، وذلك المبتدأ: إمَّا ضميرُ اللَّهِ تعالى أو الإِخفاءُ أي: وهو يُكَفِّر فيمَنْ قَرَأَ بالياء أو ونحن نكفِّر فيمن قرأ بالنون أو وهي تُكَفِّر فيمن قرأ بتاءِ التأنيث. والثالث: أنه عطفٌ على محلِّ ما بعد الفاءِ، إذْ لو وقع مضارعُ بعدَهَا لكانَ مرفوعاً كقولِهِ:{وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ} [المائدة: 95] ونظيرُهُ {وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ} [الأعراف: 186] في قراءةِ مَنْ رفع.
ومَنْ نَصَبَ فعلى إضمار «أَنْ» عطفاً على مصدرِ مُتَوَهَّمٍ مأخوذٍ من قوله: {فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} ، والتقديرُ: وإنْ تُخْفوها يكنْ أو يوجَدْ خيرٌ وتكفيرٌ.
ونظيرُها قراءةُ مَنْ نَصَبَ: «فيغفرَ» بعد قوله: {يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله} [البقرة: 284]، إلَاّ أنَّ تقديرَ المصدرِ في قوله:«يحاسِبْكم» أسهلُ منه هنا، لأنَّ ثمةَ فعلاً مصرَّحاً به وهو «يحاسبْكم» ، والتقديرُ: يَقَعُ محاسبةٌ فغفرانٌ، بخلافِ هنا، إذ لا فعلَ ملفوظٌ به، وإنما تَصَيَّدْنَا المصدرَ من مجموعِ قولِهِ:{فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} .
وقال الزمخشري: «ومعناه: وإنْ تُخْفوها يكنْ خيراً لكم وأَنْ يُكَفِّر» قال الشيخ: «وظاهر كلامِهِ هذا أنَّ تقديرَه» وأَنْ يكفِّرَ «يكون مقدَّراً بمصدرٍ، ويكونُ معطوفاً على» خيراً «الذي هو خبر» يَكُنْ «التي قَدَّرَها، كأنه قال: يَكُنِ الإِخفاءُ خيراً لكم وتكفيراً، فيكونُ» أَنْ يكفِّر «في موضِعِ نصبٍ، والذي تقرَّر
عند البصريين أنَّ هذا المصدرَ المنسَبِكَ من» أَنْ «المضمرةِ مع الفعلِ المنصوبِ بها هو مرفوعٌ معطوفٌ على مصدرٍ متوهَّمٍ مرفوعٍ، تُقَدِّره من المعنى. فإذا قلت:» ما تأتينا فتحدثَنا «فالتقديرُ: ما يكون منك إتيانٌ فحديثٌ، وكذلك:» إنْ تجيءْ وتُحْسِنَ إليَّ أُحْسِنْ إليك «التقدير: إن يكنْ منك مجيء وإحسان أُحْسن إليك، فعلى هذا يكون التقديرُ: وإنْ تُخْفوها وتُؤْتوها الفقراءَ فيكونُ زيادةُ خيرٍ للإِخفاءِ على خيرِ الإِبداء وتكفيرٌ» . انتهى ولم أَدْرِ ما حَمَلَ الشيخ على العدولِ عن تقدير أبي القاسم إلى تقديرِهِ وتطويلِ الكلامِ في ذلك مع ظهورِ ما بين التقديرين؟ .
وقال المهدوي: «هو مُشَبَّهٌ بالنصبِ في جوابِ الاستفهامِ، إذ الجزاءُ يَجِبُ به الشيءُ لوجوبِ غيرهِ كالاستفهامِ» . وقال ابنُ عطية: «الجزمُ في الراءِ أفصحُ هذه القراءاتِ لأنها تُؤْذِنُ بدخولِ التكفيرِ في الجزاء وكونِهِ مشروطاً إنْ وقع الإِخفاءُ، وأمَّا رفعُ الراء فليسَ فيه هذا المعنى» قال الشيخ: «ونقولُ إنَّ الرفعَ أبلغُ وأَعَمَُّ، لأنَّ الجزمَ يكونُ على أنه معطوفٌ على جوابِ الشرطِ الثاني، والرفعُ يدلُّ على أنَّ التكفير مترتِّبٌ من جهةِ المعنى على بَذْلِ الصدقاتِ أُبْدِيَتْ أو أخْفيت، لأنَّا نعلمُ أنَّ هذا التكفيرَ متعلِّقٌ بما قبلَه، ولا يختصُّ التكفيرُ بالإخفاءِ فقط، والجزمُ يُخَصِّصُهُ به، ولا يمكن أَنْ يقالَ إن الذي يُبدي الصدقاتِ لا يكفِّرْ من سيئاتِهِ، فقد صارَ التكفيرُ شاملاً للنوعَيْنِ من إبداءِ الصدقاتِ وإخفائِها وإنْ كانَ الإِخفاءُ خيراً» .
قوله: {مِّن سَيِّئَاتِكُمْ} في «مِنْ» ثلاثةُ أقوالٍ، أحدُها: للتبعيض،
أي: بعضَ سيئاتكم، لأن الصدقاتِ لا تكفِّر جميعَ السيئاتِ، وعلى هذا فالمفعولُ في الحقيقةِ محذوفٌ، أي: شيئاً من سيئاتكم، كذا قَدَّرَهُ أبو البقاء. والثاني: أنها زائدةٌ وهو جارٍ على مذهبِ الأخفش وحكاه ابنُ عطية عن الطبري عن جماعةٍ، وجَعَلَهُ خطأً، يعني من حيث المعنى. ولثالث: أنها للسببيةِ، أي: مِنْ أَجْلِ ذنوبكم، وهذا ضعيفٌ. والسيئاتُ جمعَ سيِّئة، ووزنها فَيْعِلة وعينُها واوٌ، والأصلُ: سَيْوِءَة فَفُعِلَ بها ما فُعِلَ بميِّت، وقد تقدَّمَ.
قوله تعالى: {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} : «هُداهم» : اسم ليس وخبرُها الجارُّ والمجرورُ. و «الهُدَى» مصدرٌ مضافٌ إلى المفعولِ، أي: ليس عليك أن تهديَهم، ويجوز أن يكونَ مضافاً لفاعلِهِ، أي: ليس عليك أن يَهْتدَوا، يعني: ليس عليك أن تُلْجِئَهم إلى الاهتداء.
وفيه طباقٌ معنويٌّ، إذ التقدير: هدى للضالين. وفي قوله: {ولكن الله يَهْدِي} مع قوله «هداهم» جناسٌ مغاير لأنَّ إحدى الكلمتين اسمٌ والأخرى فعلٌ. ومفعولُ «يشاءُ» محذوفٌ، أي: هدايَتَه.
وقوله: {فَلأَنْفُسِكُمْ} خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ أي: فهو لأنفسكم. وقوله «إلَاّ ابتغاءَ» فيه وجهان، أحدُهما: أنه مفعولٌ من أجله أي: لأجل ابتغاءِ وجهِ اللَّهِ، والشروطُ هنا موجودةٌ. والثاني: أنه مصدرٌ في محل الحالِ، أي: إلَاّ مبتغين، وهو في الحالَيْنِ استثناءٌ مفرَّغٌ، والمعنى: وما تُنْفِقُونَ نفقةً معتدّاً
بقَبولِهَا إلَاّ ابتغاءَ وجهِ [اللَّهِ] ، أو يكونُ الخاطَبُون بهذا ناساً مخصوصين، وهم الصحابةُ، لأنهم كانوا كذلك، وإنما احتجنا إلى هذين التأويلين لأنَّ كثيراً ينفق لابتغاءِ غير وجهِ الله.
وقوله: {يُوَفَّ} جوابُ الشرط/، وقد تقدَّم أنه يقال:«وَفَّى» بالتشديدِ و «وفَى» بالتخفيفِ «و» أَوْفَى «رباعياً.
وقوله: {وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} جملةٌ من مبتدأٍ وخبرٍ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من الضميرِ في» إليكم «، والعاملُ فيها» يُوَفَّ «، وهي تشبهُ الحالَ المؤكِّدَةَ لأنَّ معناها مفهومٌ من قولِهِ:» يوفَّ إليكم «لأنهم إذا وُفُّوا حقوقَهم لم يُظْلَموا. ويجوز أن تكونَ مستأنفةً لا محلَّ لها من الإِعراب، أخبرَهم فيها أنه لا يقعُ عليهم ظلمٌ فيندرجُ فيه توفيةُ أجورِهم بسببِ إنفاقهِم في طاعةِ اللَّهِ تعالى اندراجاً أوَّليَّاً.
قوله تعالى: {لِلْفُقَرَآءِ} : في تعلُّقِ هذا الجارِّ خمسةُ أوجهٍ، أحدُها: - وهو الظاهر - أنه متعلِّقٌ بفعلٍ مقدرٍ يدلُّ عليه سياقُ الكلامِ، واختلفت عباراتُ المُعْربين فيه، فقال مكي - ولم يذكُرْ غيرَه -:«أَعْطُوا للفقراءِ» وفي هذا نظرٌ، لأنه يلزمُ زيادةُ اللامِ في أحدِ مفعولَي أعطى، ولا تُزادُ اللامُ إلا لضعفِ العامل: «إمَّا بتقدُّمِ معمولِهِ كقولِهِ تعالى: {لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} [يوسف: 43]، وإمَّا لكونِه فرعاً نحو قولِهِ تعالى:{فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} [هود: 107] ويَبْعُد أن يُقالَ: لمَّا أُضْمِرَ العاملُ ضَعُفَ فَقَوِيَ باللامِ، على أنَّ بعضَهم يُجيز ذلك وإنْ لم يَضْعُفِ العاملُ، وجَعَلَ منه {رَدِفَ لَكُم} [النمل: 72] ، وسيأتي بيانُهُ في موضعه
إن شاء الله تعالى: وقَدَّرَهُ أبو البقاء:» اعجبوا للفقراء «وفيه نظرٌ، لأنه لا دلالة من سياقِ الكلامِ على العَجَبِ، وقَدَّرَهُ الزمخشري:» اعْمدوا أو اجعَلوا ما تُنْفقون «والأحسنُ من ذلكَ ما قدَّره مكي، لكنْ فيه ما تقدَّم.
الثاني: أنَّ هذا الجارَّ خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ، تقديرُهُ: الصدقاتُ أو النفقاتُ التي تُنْفِقُونَهَا للفقراء، وهو في المعنى جوابٌ لسؤالٍ مقدَّرٍ، كأنهم لَمَّا حُثُّوا على الصدقاتِ قالوا: فلمَنْ هي؟ فَأُحِثُّوا بأنها لهؤلاء، وفيها فائدةُ بيانِ مَصْرِفِ الصدقاتِ. وهذا اختيارُ ابنِ الأنباري قال:» كما تقول: «عاقل لبيب» ، وقد تقدَّم وصفُ رجل، أي: الموصوفُ عاقلٌ، وتكتبون على الأكياس:«ألفان ومئتان» ، أي: الذي في الكيس ألفان. وأنشد:
1081 -
تسأَلُنِي عن زوجِها أيُّ فتى
…
خَبٌّ جَروزٌ وإذا جاعَ بكى
يريد: هو خَبّ.
الثالث: أنَّ اللامَ تتعلَّقُ بقولِهِ: {إِن تُبْدُواْ الصدقات} [البقرة: 271] وهو مذهبُ القَفَّال، واستبعَدَه الناسُ لكثرةِ الفواصِلِ.
الرابع: أنه متعلِّقٌ بقولِه: {وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ} وفي هذا نظرٌ من حيث إنه يلزمُ فيه الفصلُ بين فعلِ الشرطِ وبين معمولهِ بجملةِ الجوابِ، فيصيرُ نظيرَ قولِك:«مَنْ يُكْرِمْ أُحْسِنْ إليه زيداً. وقد صَرَّح بالمنع من ذلك - مُعَلِّلاً بما ذَكرتُه - الوَاحديُّ فقال:» ولا يجوزُ أَنْ يكونَ العاملُ في هذه اللام «تنفقوا»
الأخيرَ في الآيةِ المتقدمةِ، لأنه لا يُفْصَلُ بين العاملِ والمعمولِ بما ليس منه كما لا يجوزُ:«كانت زيداً الحُمَّى تأخُذُ» .
الخامس: أَنَّ «للفقراء» بدلٌ من قولِه: «فلأنفسِكم» ، وهذا مردودٌ قال الواحدي وغيرُه:«لأنَّ بدلَ الشيءِ من غيرهِ لا يكونُ إلا والمعنى مشتملٌ عليه، وليس كذلك ذِكْرُ النفسِ ههنا، لأنَّ الإِنفاقَ من حيث هو عائدٌ عليها، وللفقراءِ من حيث هو واصلٌ إليهم، وليس من بابِ {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران: 97] لأنَّ الأمرَ لازمٌ للمستطيع خاصةً» قلت: يعني أنَّ الفقراءَ ليسَتْ هي الأنفسَ ولا جزءاً منها ولا مشتملةً عليها، وكأن القائلَ بذلك توهَّم أنه من بابِ قولِه تعالى:
{وَلَا تقتلوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] في أحدِ التأويلين.
والفقيرُ: قيل: أصلُه من «فَقَرَتْه الفاقِرة» أي: كَسَرَتْ فَقارَ ظهرِه الداهيةُ. قال الراغب: «وأصلُ الفقيرِ: هو المكسور الفَقار، يقال: فَقَرَتْه الفاقرةُ» أي: الداهية تكسِر الفَقار، و «أَفْقَرك الصيدُ فارمِه» أي أَمْكَنَكَ من فَقارِه. وقيل: هو من الفُقْرَة أي الحُفْرة، ومنه قيل لكل حفرةٍ يجتمع فيها الماءُ: فقيرٌ. وَفَقَرْتُ للغسيلِ حَفَرْتُ له حُفْرة: غرسْتُه فيها. قال:
1082 -
ما ليلةُ الفقيرِ إلا شيطانْ
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . .
قيل: هو اسم بئر. وَفَقَرْتُ الخَرَزَ: ثقبتُه. وقال الهروي: يُقال «فَقَره»
إذا أصاب فَقَار ظهرِه نحو: رَأَسه أي: أصاب رَأْسَه، وَبَطَنه: أي أصاب بطنه. وقال الأصمعي: «الفَقْر: أَنْ يُحَزَّ أنفُ البعير حتى يَخْلُص الحَزُّ إلى العَظْمِ، ثم يُلْوى عليه جريرٌ يُذَلَّلُ به الصَّعْبُ من الإِبل، ومنه قيل: عَمِل به الفاقرِة» . والفِقَرات - بكسر الفاء وفتح القاف -: جمع فِقَرة: الأمورُ العظام، ومنه حديث السعي:«فِقَراتُ ابنِ آدم ثلاثُ: يوم وُلد ويومَ يموتُ، ويوم يُبْعَثُ» والفُقَر: بضمِّ الفاءِ وفتحِ القافِ - جمع فُقْرَة وهي الحَزُّ وخَرْم الخَطْم، ومنه قول أبي زياد:«يُفْتقَرُ الصَعبُ ثلاثَ فُقَرٍ في خَطْمِه» ومنه حديثُ سعد: «فأشار إلى فُقَرٍ في أنفه» أي شَقٍّ وحَزٍّ/. وقد تقدَّم الكلام في الإِحصارِ، والفرقُ بين فَعَل وأَفْعَل منه.
قوله: {فِي سَبِيلِ} يجوز فيه وجهان، أحدُهما: أن يتعلَّقَ بالفعلِ قبلَه فيكونَ ظرفاً له. والثاني: أن يكونَ متعلِّقَاً بمحذوفٍ على أنه حال من مرفوع «أُحْصِروا» أي: مستقرين في سبيلِ اللهِ. وقَدَّره أبو البقاء بمجاهِدين في سبيل الله «فهو تفسيرُ معنىً لا إعراب، لأنَّ الجارَّ لا يتعلَّقُ إلا بالكونِ المطلقِ.
قوله: {لَا يَسْتَطِيعُونَ} في هذه الجملةِ احتمالان، أظهرُهما: أنها
حالٌ، وفي صاحبِها وجهان، أحدُهما: أنه» الفقراء «وثانيهما: أنه مرفوعُ» أُحْصِروا «. والاحتمالُ الثاني: أن تكونَ مستأنفةً لا محلَّ لها من الإِعرابِ. و» ضرباً «مفعولٌ به، وهو هنا السفرُ للتجارةِ، قال:
1083 -
لَحِفْظُ المالِ أيسرُ مِنْ بقاه
…
وضربٌ في البلادِ بغير زاد
يقال: ضَرَبْتُ في الأرض ضرباً ومَضْرِباً أي: سِرْتُ.
قوله: {يَحْسَبُهُمُ} يجوزُ في هذه الجملةِ ما جازَ فيما قبلها من الحاليةِ والاستئنافِ، وكذلك ما بعدَها. وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة:» يَحْسَبُ «- حيث ورد - بفتح السين والباقونَ بكسرِها. فأمَّا القراءةُ الأولى فجاءَتْ على القياسِ، لأنَّ قياسَ فَعِل بكسر العين يَفْعَل بفتحِها لتتخالفَ الحركتان فيخِفَّ اللفظُ، وهي لغةُ تميم والكسرُ لغةُ الحجاز، وبها قرأ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وقد شَذَّتْ ألفاظٌ أُخَرُ جاءت في الماضي والمضارع بكسرِ العينِ منها نَعِم يَنْعِم، وبَئِس يَبْئِسُ، ويَئِس يَيْئِس، ويَبِس يَيْبِس من اليُبوسة، وعَمِد يَعْمِد، وقياسُها كلُّها الفتحُ، واللغتان فصيحتان في الاستعمال، والقارىء بلغةِ الكسر اثنان من كبار النحاة أبو عمرو - وكفى به - والكسائي، وقارئا الحرمين نافع وابن كثير.
والجاهلُ هنا: اسمُ جنسٍ لا يُراد به واحدٌ بعينه. و «أغنياءَ» هو المفعول الثاني.
قوله: {مِنَ التعفف} في «مِنْ» هذه ثلاثة أوجه، أحدها: أنها سببية، أي: سَبَبُ حُسْبانِهم أغنياءَ تعفُّفُهم فهو مفعولٌ من أجله، وجَرُّه بحرفِ السبب هنا واجبٌ لفَقْدِ شرطٍ من شروطِ النصبِ وهو اتحادُ الفاعلِ، وذلك أنَّ فاعلَ
الحُسْبان الجاهلُ، وفاعلَ التعفف هم الفقراءُ، ولو كان هذا المفعولُ له مستكملاً لشروطِ النصبِ لكان الأحسنُ جَرَّه بالحرف لأنه معرَّفٌ بأل، وقد تقدَّم أنَّ جَرَّ هذا النوعِ أحسنُ من نصبِه، نحو: جئت للإكرام، وقد جاء نصبُه، قال:
1084 -
لا أقعدُ الجُبْنَ عن الهيجاءِ
…
ولو توالَتْ زُمَرُ الأعداءِ
والثاني: أنها لابتداءِ الغايةِ، والمعنى أنَّ مَحْسَبَةَ الجاهلِ غِناهم نَشَأَتْ من تعفُّفهم لأنه لا يَحْسَب غناهم غنى تعففٍ، إنما يحسَبُه غنى مالٍ، فقد نشأَتْ مَحْسَبَتُه مِنْ تعفُّفهِم، وهذا على أنَّ تعفَّفَهم تعففٌ تام. والثالث: أنها لبيانِ الجنس، وإليه نحا ابن عطية، قال:«يكونُ التعففُ داخلاً في المَحْسَبة، أي: إنه لا يظهرُ لهم سؤالٌ بل هو قليلٌ، فالجاهلُ بهم مع علمِه بفقرِهم يحسَبُهم أغنياءَ عنه، ف» مِنْ «لبيانِ الجنس على هذا التأويلِ، قال الشيخ:» وليس ما قالَه من أنَّ «مِنْ» هذه في هذا المعنى لبيانِ الجنس المصطلحَ عليه، لأنَّ لها اعتباراً عند القائل بهذا المعنى وهو أن تتقدّرَ «مِنْ» بموصولٍ، وما دَخَلَت عليه يُجْعَلُ خبرَ مبتدأ محذوفٍ كقوله:{فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان} [الحج: 30] يَصِحُّ أَنْ يُقال: الذي هو الأوثان، ولو قلت هنا:«يَحْسَبهم الجاهلُ أغنياءَ الذي هو التعفف» لم يَصِحَّ هذا التقديرُ، وكأنه سَمَّى الجهةَ التي هم أغنياءُ بها بيانَ الجنسِ أي: بَيَّنَتْ بأيِّ جنسٍ وَقَع غناهم، أي غناهم بالتعففِ لا غنى بالمالِ، فَسَمَّى «مِنْ» الداخلةَ على ما يبيِّن جهة الغنى
ببيانِ الجنس، وليس المصطلحَ عليه كما قَدَّمناه، وهذا المعنى يَؤُول إلى أنَّ «مِنْ» سببية، لكنها تتعلق بأغنياء لا بيحسَبهم. انتهى «.
وتتعلَّقُ» مِنْ «على الوجهين الأوَّلَيْنِ بيَحْسَبهم. قال أبو البقاء:» ولا يجوزُ أَنْ تتعلَّقَ بمعنى «أغنياء» لأنَّ المعنى يَصيرُ إلى ضد المقصود وذلك أنَّ معنى الآية أنَّ حالَهم يَخْفَى على الجاهلِ بهم فيظنُّهم أغنياءَ، ولو عُلِّقَتْ «مِنْ» بأغنياءَ صار المعنى أنَّ الجاهلَ يَظُنُّ أنهم أغنياءُ ولكن بالتعفف، والغنيُّ بالتعفف فقيرٌ في المال «.
انتهى، وما قاله أبو البقاء يحتملُ بحثاً.
وأما على الوجه الثالث - وهو كونُها لبيانِ الجنس - فقد صَرَّح الشيخ بتعلُّقها بأغنياء، لأن المعنى يعودُ إليه، ولا يجوزُ تعلُّقها في هذا الوجهِ بالحُسْبان، وعلى الجملةِ فكونُها لبيانِ الجنسِ قَلِقُ المعنى.
والتعفُّفُ: تَفَعُّل من العِفَّة، وهي تَرْكُ الشيء، والإِعراضُ عنه مع القدرةِ على تعاطِيه، قال رؤبة:
1085 -
فَعَفَّ عن أسرارِها بعد الغَسَقْ
…
ولم يَدَعْها بعد فَرْكٍ وعَشَقْ
وقال عنترة:
1086 -
يُخْبِرْكَ مَنْ شهدَ الوقيعةَ أنني
…
أغشى الوغَى وأعِفُّ عند المَغْنَمِ
ومنه: «عفيفُ الإِزار» كنايةٌ عن حصانته. / وعَرَّف التعففَ لأنه سَبق منهم مراراً فصار كالمعهود، ومتعلَّقٌ التعففِ، محذوفٌ اختصاراً. أي: عن السؤالِ، والأحسنُ ألَاّ يُقَدَّرَ.
قوله: {تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ} السِّيما - العلامةُ ويجوز مَدُّها وإذا مُدَّتْ فالهمزةُ فيها منقلبةٌ عن حرفٍ زائدٍ للإِلحاقِ: إمَّا واوٌ، وإمَّا ياء، فهي كعِلْباء ملحقةً بسِرْداح، فالهمزةُ للإلحاقِ لا للتأنيث وهي منصرفةٌ لذلك.
و «سيما» مقلوبةٌ قٌدِّمَتْ عينُها على فائها لأنها مشتقةٌ من الوَسْم فهي بمعنى السِّمة أي العلامةُ، فلما وقَعَتْ الواوُ بعد كسرةٍ قُلبت ياءً، فوزنُ سيما: عِفْلا، كما يقال اضْمَحَلَّ، وامضَحَلَّ، [و] وو «خِيمة» و «خامة» ، وله جاه ووجَهْ، أي: وَجاهة.
وفي الآيةِ طباقٌ في موضعينِ، أحدُهما:«أُحْصِروا» مع قوله: {ضَرْباً فِي الأرض} ، والثاني قوله «أغنياءَ» مع قوله «للفقراءِ» نحو:{أَضْحَكَ وأبكى} {وَأَمَاتَ وَأَحْيَا} [النجم: 43] . ويقال «سِيمِيا» بياء بعد الميم، وتُمَدُّ كالكيمياء. وأشد:
1087 -
غلامٌ رماه اللهُ بالحُسْنِ يافعاً
…
له سِيمِياءُ لا تَشُقُّ على البصَرْ
والباءُ تتعلَّق ب «تَعْرِفهم» ومعناها السببية، أي: إنَّ سببَ معرفتِك إياهم هي سِيماهم.
قوله: {إِلْحَافاً} في نصبِه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: نصبُه على المصدرِ بفعلٍ مقدَّر أي: يُلْحِفون إلحافاً، والجملةُ المقدرةُ حالٌ من فاعل «يَسْألون» والثاني: أن يكونَ مفعولاً من أجلِه، أي: لا يَسْألون لأجلِ الإِلحافِ. والثالث: أن يكونَ مصدراً في موضعِ الحالِ تقديرُه: لا يَسْألون مُلْحِفين.
واعلمْ أنَّ العربَ إذا نَفَتِ الحكمَ عن محكومٍ عليه فالأكثرُ في لسانِهم نَفْيُ ذلك القيدِ، نحو:«ما رأيتُ رجلاً صالحاً» ، الأكثرُ على أنك رأيت رجلاً ولكن ليسَ بصالحٍ، ويجوزُ أنَّكَ لم تَرَ رجلاً البتةَ لا صالحاً ولا طالحاً، فقوله:{لَا يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً} المفهومُ أنهم يسألونَ لكن لا بإلحاف، ويجوز أن يكونَ المعنى: أنهم لا يَسْألون ولا يُلْحِفون، والمعنيان منقولان في التفسير. والأرجحُ الأولُ عندهم، ومثلُه في المعنى:«ما تأتينا فتحدثنا» يجوز أنه يأتيهم ولا يحدِّثُهم، ويجوزُ أنه لا يأتيهم ولا يحدِّثُهم، انتفى السبب وهو الإِتيانُ فانتفى المُسَبَّبُ وهو الحديثُ.
وقد شَبَّه الزجاج - رحمه الله تعالى - معنى هذه الآيةِ الكريمة بمعنى بيت امرىء القيس وهو قوله:
1088 -
على لاحِبٍ لا يُهْتدى بمَنارهِ
…
إذا سافَه العَوْدُ النباطيُّ جَرْجَرا
قال الشيخ: «تشبيهُ الزجاج إنما هو في مُطْلَقِ انتفاءِ الشيئين أي: لا سؤالَ ولا إلحافَ، وكذلك هذا: لا منارَ ولا هدايةَ، لا أنه مثلُه في خصوصية النفي، إذ كان يلزمُ أن يكون المعنى: لا إلحافَ فلا سؤالَ، وليس تركيبُ الآيةِ على هذا المعنى، ولا يَصِحُّ: لا إلحافَ فلا سؤالَ لأنه لا يلزمُ من نفي الخاص نفيُ العام، كما لَزِم من نفيِ المنارِ نفيُ الهداية التي هي من بعض لوازمِهِ، وإنما يُؤدِّي معنى النفي على طريقة النفي في البيت أن لو كان
التركيب:» لا يُلْحِفون الناسَ سؤالاً «لأنه يلزمُ من نفيِ السؤال نفيُ الإِلحافِ، إذ نفيُ العامِّ يَدُلُّ على نفيِ الخاص. فتلخَّص من هذا كلَّه أنَّ نَفْيَ الشيئين: تارةً تُدْخِلُ حرفِ النفي على شيءٍ فتنتفي جميعُ عوارضِه، وتُنَبِّهُ على بعضِها بالذكرِ لغرضٍ ما، وتارةً تُدْخِلُ حرفَ النفي على عارضٍ مِنْ عوارضِه، والمقصودُ نفيهُ فتنتفي لنفيهِ عوارضُه» .
قلت: قد سَبَقه ابنُ عطية إلى هذا فقال: «تَشْبيهُه ليس مثلَه خصوصيةِ النفي، لأنَّ انتفاءَ المنارِ في البيتِ يَدُلُّ على نفي الهدايةِ، وليس انتفاءُ الإِلحاحِ يدلُّ على انتفاءِ السؤالِ.» وأطالَ ابنُ عطية في تقريرِ هذا وجوابُه ما تقدم: من أنَّ المرادَ نفيُ الشيئين لا بالطريقِ المذكورِ في البيتِ، وكان الشيخُ قد قال قبلُ ما حكيته عنه آنفاً:«ونظيرُ هذا: ما تَأْتينا فتحدِّثَنا» فعلى الوجه الأول يعني نفيَ القيدِ وحدَه: ما تأتينا مُحَدِّثاً، إنما تأتي ولا تحدِّثُ، وعلى الوجه الثاني يعني نفيَ الحكمِ بقيده ب «ما يكون منك إتيانٌ فلا يكونُ حديثٌ» ، وكذلك هذا: لا يقعُ منهم سؤالٌ البتَّةَ فلا يقعُ إلحاحٌ، ونَبَّه على نفي الإلحاحِ دونَ غيرِ الإِلحاح لقبحِ هذا الوصفِ، ولا يُرَادُ به نفيُ هذا الوصفِ وحدَه ووجودُ غيرِه؛ لأنه كانَ يَصيرُ المعنى الأول، وإنما يُراد بنفي هذا الوصفِ نفيُ المترتباتِ على المنفيِّ الأولِ، لأنه نَفَى الأولَ على سبيل العمومِ فتنتفي مترتِّباتُه، كما أنك إذا نَفَيْتَ الإِتيانَ فانتفى الحديثُ انتفى جميعُ مترتِّباتُ الإِتيانِ من المجالسةِ والمشاهدةِ والكينونةِ في محلٍّ واحد، ولكنَ نبَّه بذكرِ مترتِّب واحدٍ لغرضٍ ما على ذِكْرِ سائرِ المترتِّبات، قلت: وهو تقريرٌ لِمَا تَقدَّم.
وأمَّا الزمخشري فكأنه لم يَرْتَضِ تشبيهَ الزجاج، فإنه قال: «وقيل: هو نفيٌ للسؤالِ، والإِلحاف جميعاً كقوله:
على لاحِبٍ لا يُهْتَدَى بمنارِه
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
يريد نفيَ المنارِ والاهتداءِ به» .
وطريقُ أبي إسحاق الزجاج هذه قد قَبِلها الناسُ ونَصَروها واستحسنوا تنظيرَها بالبيت كالفارسي وأبي بكر بن الأنباري، قال أبو علي: «لم يُثْبِتْ في قوله: {لَا يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً} مسألةً فيهم، لأن المعنى: ليس منهم مسألةٌ فيكونَ منهم إلحافٌ، ومِثْلَ ذلك قولُ الشاعر:
1089 -
لا يَفْزَعُ الأرنبُ أهوالَها
…
ولا ترى الضَبَّ بها يَنْجَحِرْ
أي: ليس فيها أرنبٌ فيفزعَ لهولِها ولا ضَبُّ فينجحرَ، وليس المعنى أنه ينفي الفزعَ عن الأرنبِ والانجحار عن الضب. وقال أبو بكر: «تأويلُ الآية: لا يسألون البتةَ فيخرجهم السؤالُ في بعض الأوقات إلى الإِلحافِ؛ فجَرى هذا مَجْرى قولِك: / فلان لا يُرْجى خيرُه أي: لا خيرَ عنده البتة فيُرْجى، وأنشد قول امرىء القيس:
1090 -
وصُمٌّ صِلابٌ ما يَقِين من الوَجَى
…
كأنَّ مكانَ الرَّدْفِ منه على رَالِ
أي: ليس بهن وَجَى فيشتكينَ من أجله، وقال الأعشى:
1091 -
لا يَغْمِزُ الساقَ مِنْ أَيْنٍ ولا وَصَبٍ
…
ولا يَعَضُّ على شُرْسُوفه الصَّفَرُ
معناه: ليس بساقِه أَيْنٌ ولا وصبٌ فيغمزَها. وقال الفراء قريباً منه فإنه قال:» نفى الإِلحاف عنهم وهو يريدُ جميعَ وجوهِ السؤال كما تقول في الكلام: «قَلَّ ما رأيتُ مثلَ هذا الرجل» ولعلك [لم تَرَ قليلاً ولا كثيراً من أشباهه] . جَعَل أبو بكر الآيةَ عند بعضِهم من بابِ حَذْفِ المعطوف، وأن التقدير: لا يسألونَ للناسَ إلحافاً ولا غيرَ إلحاف. كقوله تعالى: {تَقِيكُمُ الحر} [النحل: 81] أي: والبردَ.
والإِلحافُ والإِلحاحُ واللَّجاجُ والإِحفاءُ، كلُّه بمعنى، يقال: ألحفَ وألحَّ في المسألةِ: إذا لَجَّ فيها. وفي الحديثِ: «مَنْ سَأَلَ وله أربعون فقد أَلْحَفَ» ، واشتقاقُه من اللِّحاف، لأنه يشتملُ الناسَ بمسألتِه ويَعُمُّهم. كما يشتملُ اللِّحافُ من تحتِه ويُغَطِّيه، ومنه قولُ ابن أحمر يصفُ ذَكَرَ نعامٍ يَحْضُن بيضَه بجناحَيه ويجعلُ جناحَه لها كاللحاف:
1092 -
يظلُّ يَحُفُّهُنَّ بقَفْقَفَيْهِ
…
ويَلْحَفُهُنَّ هَفْهافاً ثَخِينا
وقال آخرُ في المعنى:
1093 -
ثم راحوا عَبَقُ المِسْكِ بهم
…
يُلْحِفُون الأرضَ هُدَّابَ الأَزُرْ
أي: يُلْبِسونها الأرضَ كإلباسِ اللحافِ للشيءِ. وقيل: بل اشتقاقُ
اللفظةِ من «لَحْفِ الجبل» وهو المكانُ الخَشِنُ، ومجازُه أنَّ السائلَ لكثرة سؤالِه كأنه استعمل الخشونةَ في مسألتِه، وقيل: بل هي «من لحَفَني فلانٌ» أي أعطاني فَضْلَ ما عنده، وهو قريبٌ من معنى الأول.
قوله تعالى: {الذين يُنْفِقُونَ} : مبتدأٌ، وخبرُه الجملةُ من قوله «فلهم أجرُهمْ» ودَخَلَتِ الفاءُ لِما تضمَّنه الموصولُ من معنى الشرط. وقال ابنُ عطية:«وإنما يوجَدُ الشَّبَهُ - يعني بين الموصولِ واسمِ الشرط - إذا كان الموصولُ موصولاً بفعل، وإذا لم يَدْخُلْ على الموصول عاملٌ يُغَيِّر معناه» . قال الشيخ: «فَحَصَر الشبه فيما إذا كان» الذي «موصولاً بفعل، وهذا كلامُ غير مُحَرَّر، أمَّا قولُه» الذي «فلا يختصُّ ذلك ب» الذي «، بل كلُّ موصولٍ غيرِ الألفِ واللامِ حكمُه حكمُ» الذي «بلا خلافٍ، وفي الألفِ واللامِ خلاف، ومذهبُ سيبويه المنعُ من دخولِ الفاءِ. الثاني: قولُه» موصولاً بفعلٍ «فأَطْلَقَ الفعلَ واقتصرَ عليه، وليس كذلك، بل شرطُ الفعلِ أن يَصْلُحَ لمباشَرةِ أداةِ الشرط فلو قلت:» الذي سيأتيني - أو لمَّا يأتيني - أو ما يأتيني أو ليس يأتيني - فله درهمٌ لم يَجُزْ شيء من ذلك، لأنَّ أداةَ الشرطِ لا يَصِحُّ أن تَدْخُلَ على شيءٍ من ذلك، وأمَّا الاقتصارُ على الفعلِ فليس كذلك بل الظرفُ والجارُّ والمجرورُ في الوصلِ كذلك، متى كان شيءٌ منهما صلةً لموصولٍ جازَ دخولُ الفاءِ. وقوله:«وإذا لم يدخُلْ على» الذي «عاملٌ يغيِّر معناه» عبارةٌ غيرُ ملخَّصة، لأن العاملَ لا يُغَيِّر معنى الموصولِ، إنما يغيِّرُ معنى الابتداءِ، بأَنْ يُصَيِّره تمنياً أو تَرَجِّياً أو ظناً نحو: لعل الذي يأتيني - أو ليت الذي يأتيني، أو ظننت الذي يأتيني - فله درهمٌ، لا يجوزُ دخولُ الفاءِ لتغيُّرِ معنى الابتداءِ.
وكان ينبغي له أيضاً أن يقولَ: «ويُشْترط أن يكونَ الخبرُ مستحقاً بالصلةِ كالآية الكريمة، لأنَّ ترتُّبَ الأجرِ إنما هو على الإِنفاق.
قلت: وقولُ الشيخِ أيضاً:» بل كلُّ موصولٍ «ليسَ الحكمُ أيضاً مقتصراً على كلِّ موصول، بل كلُّ نكرةٍ موصوفة بما يجوز أن يكون صلةً مجوِّزةً لدخولِ الفاءِ أو ما أُضيف إلى تلك النكرةِ أو إلى ذلك الموصولِ أو الموصوفِ بالموصولِ حكمُه كذلك. وهذه المسألةُ قد قَدَّمْتُها متقنةً.
والرِّبا لامُه واوٌ لقولِهم: رَبا يَرْبو، فلذلك يُثَنَّى بالواوُ ويكتَبُ بالألفِ. وجَوَّز الكوفيون تثنيته بالياءِ وكذلك كتابتُه، قالوا لكسر أولِه ولذلك أمالوه، وليس هذا مختصاً بمكسور الأولِ، بل الثلاثي من ذواتِ الواوِ المكسورُ الأولِ أو المضمومُه نحو:«رِبا» و «عُلا» حكمُه ما ذكرته عنهم، فأمَّا المفتوحُ الأولِ نحو: عصا وقَفَا فلم يُخالفوا البصريين، وكُتب في القرآنِ بخطِ الصحابة بواوٍ بعدها ألفٌ. والمادةُ تَدُلُّ على الزيادةِ والارتفاعِ ومنه الرَّبْوَةُ. وقال حاتم الطائي يصف رُمْحاً:
1094 -
وأسمرَ خطِيَّاً كأن كعوبَه
…
نَوَى القَسْبِ قد أَرْبَى ذِراعاً على العُشْرِ
…
وقيل: إنما كُتِبَ بالواوِ لأنَّ أهلَ الحجازِ تَعَلَّموا الخطَّ من أهلِ الحِيرة، وأهلُ الحِيرةِ يقولونَ:«الرِّبو» بالواوِ «فكتبوها كذلك ونقلَها أهلُ الحجاز كذلك خَطَّاً لا لفظاً. وقد قرأ العدويُّ:» الرِّبَو «كذلك بواوٍ خالصة بعد فتحةِ
الباء. فقيل: هذا القارىءُ أجرى الوصلَ مُجْرى الوقفِ، وذلك أنَّ من العربِ مَنْ يقلِبُ ألفَ المقصورِ واواً فيقول: هذه أَفْعَو، وهذا من ذاك، إلا أنه أَجْرى الوصلَ مُجْرى الوقفِ.
وقد حكى أبو زيد ما هو أغربُ من ذلك فقال:» قرأ بعضُهم بكسرِ الراءِ وضمِ الباء وواوٍ بعدها «، ونَسَبَ هذه للغلط؛ وذلك لأنَّ لسانَ العرب [لا] يبقي واواً بعد ضمةٍ في الأسماءِ المعربة، بل إذا وُجد ذلك لم يُقَرَّ على حاله، بل تُقْلَبُ الضمةُ كسرةً والواوُ ياءً نحو: دَلْوٍ وأَدْلٍ، وجَرْوٍ وأَجْرٍ وأنشد أبو عليّ:
1095 -
ليثٌ هِزَبْرٌ مُدِلٌّ عند خِيسَتِه
…
بالرَّقْمتينِ له أَجْرٍ وأَعْراسُ
ونهايةُ ما قيلَ فيها أنَّ قارئها قَلَبَ الألفَ واواً كقولِهم في الوقف: أَفْعَو، ثم أُجْرِي مُجْرى الوقفِ في ذلك، ولم يَضْبِطِ الراوي عنه ما سَمِع فظنَّه بضمِّ الباء لأجلِ الواوِ فنقلها كذلك، وليت الناسَ أَخْلَوا تصانيفهم من مثلِ هذه القراءات التي لو سَمِعها العامةُ لمَجُّوها ومن تعاليلها، ولكن صارَ التاركُ لها يَعُدُّه بعضُهم جاهلاً بالاطلاع عليها.
ويقال: رِبا ورِما، بإبدالِ بائِه ميماً، كما قالوا: كََثَم في كَثَب. والألفُ واللام في» الرِّبا «يجوز أن تكونَ للعهدِ، إذ المرادُ الربا الشرعيُّ، ويجوز أن تكونَ لتعريفِ الجنس/.
قوله: {لَا يَقُومُونَ} الظاهرُ أنها خبرُ الموصولِ المتقدِّم. وقال بعضهم: إنها حالٌ، وهو سهوٌ، وقد يُتَكلَّفُ تصحيحُه بأن يُضْمَرَ الخبرُ كقراءة من قرأ {وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} وقوله:
1096 -
. . . لا أنا باغياً
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
في أحد الوجهين:
قوله: {إِلَاّ كَمَا يَقُومُ} فيه الوجهان المشهوران وهما: النصبُ على النعتِ لمصدرٍ محذوفٍ أي: لا يقومون إلا قياماً مثلَ قيامِ الذي يتخبطه الشيطانُ، وهو المشهورُ عند المعربين، أو النصبُ على الحالِ من ضميرِ ذلك المصدرِ المقدَّرِ أي: لا يقومونَهُ أي القيامَ إلا مُشْبِهاً قيامَ الذي يتخبطه الشيطانُ، وهو رأي سيبويه، وقد قَدَّمْتُ تحقيقهما.
و «ما» الظاهرُ أنها مصدريةٌ أي: كقيامِ. وجَوَّزَ بعضُهم أن تكون بمعنى الذي، والعائدُ محذوفٌ، والتقديرُ: إلا كالقيامِ الذي يقومه الذي يتخبَّطُه الشيطانُ، وهو بعيد.
و «يتخبَّطه» يَتَفَعَّلُه، وهو بمعنى المجردِ أي يخبِطُه؛ فهو مثل: تَعدَّى الشيءَ وعَدَاه. ومعنى ذلك مأخوذٌ من خَبَط البعيرُ بأخفافِه: إذا ضرب بها الأرضَ. ويقال: فلان يَخْبِط خَبْطَ عَشْواء، قال علقمة:
1079 -
وفي كل حَيًّ قد خَبَطْتَ بنعمةٍ
…
فَحُقَّ لشَأْسٍ من نَداكَ ذَنُوبُ
وقال زهير:
1098 -
رأيتُ المنايا خَبْطَ عَشْوَاءَ مَنْ تُصِبْ
…
تُمِتْه ومَنْ تُخْطِىءْ يُعَمَّر فَيَهْرَمِ
قوله: {مِنَ المس} فيه ثلاثةُ أوجه، أحدُها: أنه متعلقٌ بيتخبَّطه من جهةِ الجنونِ، فيكونُ في موضعِ نصبٍ قاله أبو البقاء. والثاني: أنه يتعلَّقُ بقوله: «يقومُ» أي: لا يقومون من المسِّ الذي بهم إلا كما يقوم المصروع. الثالث: أنه يتعلَّقُ بقولِه: «يقومُ» أي: كما يقومُ المصروع من جنونِه. ذكر هذين الوجهين الأخيرين الزمخشري.
قال الشيخ: «وكان قَدَّم في شرحِ المَسِّ أنه الجنونُ، وهذا الذي ذهب إليه في تعلُّقِ» من المس «بقوله» لا يقومون «ضعيفٌ لوجهين، أحدُهما: أنه قد شَرَحَ المسَّ بالجنون، وكان قد شَرَحَ أنَّ قيامَهم لا يكون إلا في الآخرة وهناك ليس بهم جنونٌ ولا مَسٌّ، ويَبْعُدُ أن يَكْنى بالمسِّ الذي هو الجنونُ عن أكلِ الربا في الدنيا، فيكونُ المعنى: لا يقومون يومَ القيامة أو من قبورهم من أجلِ أكلِ الرِّبا إلا كما يقومُ الذي يتخبَّطُهُ الشيطان، إذ لو أُريد هذا المعنى لكان التصريحُ به أَوْلَى من الكنايةِ عنه بلفظِ المَسِّ، إذ التصريحُ به أَبْلَغُ في الزجرِ والردعِ. والوجه الثاني: أنَّ ما بَعد.» إلَاّ «لا يتعلَّقُ بما قبلها إلا إنْ كان في حَيِّز الاستثناء، وهذا ليسَ في حَيَّز الاستثناء، ولذلك منعوا أَنْ يتعلَّقَ» بالبيناتِ والزبرِ «بقوله: {وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَاّ رِجَالاً} [النحل: 44] وأنَّ التقديرَ: وما أرسلنا بالبيناتِ والزبرِ إلا رجالاً» .
قلت: أمَّا تضعيفُه المعنى فليس بجيدٍ، بل الكنايةُ في لسانِهم أَبْلَغُ وهذا مِمَّا لا يُخْتَلَفُ فيه. وأمَّا الوجهُ الثاني فإنه يُغتْفرُ في الجارِّ والظرفِ ما لا يُغْتَفَرُ في غيرِه، وشواهدُهُ كثيرةٌ.
والمَسُّ عُبِّر به عن الجنونِ في لسانهم، قالوا: مُسَّ فهو مَمْسُوس، مثل: جُنَّ فهو مَجْنون، وأنشد أبو بكر:
1099 -
أُعَلِّلُ نفسي بما لا يكونُ
…
كذي المَسِّ جُنَّ ولم يُخْنَقِ
وأصلُه أنَّهم يقولون: إنَّ الشيطانَ يَمَسُّ الإِنسانَ بيدِه ويُرْكِضُه برجلِه، ويُعَبَّرُ بالجنونِ عن النشاطِ والسرعةِ وخفةِ الحركةِ، لذلك قال الأعشى يصف ناقته:
1100 -
وتُصبحُ عن غِبِّ السُّرى وكأنما
…
أَلَمَّ بها مِن طائفِ الجنِّ أَوْلَقُ
وقال آخر:
1101 -
بَخِيلٍ عليها جِنَّةٌ عبقريةٌ
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . .
قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ} مبتدأٌ وخبرٌ، أي: ذلك التخبُّطُ، أو ذلك القيامُ بسبب افترائِهم هذا القولَ. وقيل:«ذلك» خبرُ مبتدأٍ مضمرٍ تقديرُه: قيامُهم ذلك. قال الشيخ: «إلا أنَّ في هذا الوجهِ فصلاً بين المصدرِ ومتعلَّقِه الذي
هو» بأنهم «، على أنه لا يَبْعُدُ جوازُ ذلك لحذفِ المصدرِ، فلم يَظْهَرْ قُبْحٌ بالفصلِ بالخبرِ» .
وقد جَعَلوا الربا أصلاً والبيعَ فرعاً حتى شَبَّهوه به، قال الزمخشري:«فإنْ قلت: هلَاّ قيل: إنما الربا مثلُ البيع، لأنَّ الكلامَ في الربا لا في البيعِ. قلت: جِيء به على طريقةِ المبالغةِ، وهو أنهم قد بَلَغ من اعتقادهم في حِلّ الربا أنهم جَعَلوه أصلاً وقانوناً في الحِلِّ، حتى شَبَّهوا به البيع» . قلت: وهو بابٌ في البلاغةِ مشهورٌ، وهو أعلى رتب التشبيه، ومنه قوله:
1102 -
ورَمْلٍ كأوراكِ العَذارى قَطَعْتُه
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
قوله: {وَأَحَلَّ الله البيع} الظاهرُ أنه من كلامِ اللهِ تعالى، أَخْبر بأنه أَحَلَّ هذا وحَرَّم ذاك، وعلى هذا فلا محلَّ لهذه الجملةِ من الإِعراب. وقال بعضُهم:«هذه الجملةُ من تَتِمَّةِ قولِ الذين يأكلون الربا، فتكونُ في محلِّ نصبٍ بالقول عطفاً على المقول» وهو بعيدٌ جداً، نَقَلْتُه عن قاضي [القضاء عز الدين في درسه] .
قوله: {فَمَن جَآءَهُ} يُحتمل أَنْ تكونَ شرطيةً وهو الظاهرُ، وأَنْ تكونَ موصولةً وعلى كِلا التقديرَيْنِ فهي في محلِّ رفعٍ بالابتداء.
وقوله: {فَلَهُ مَا سَلَفَ} هو الخبرُ، فإنْ كانَتْ شرطيةًَ فالفاءُ واجبةٌ، وإن
كانَتْ موصولةً فهي جائزةٌ، وسببُ زيادتِها ما تقدَّم مِنْ شَبَهِ الموصولِ لاسمِ الشرطِ. ويجوزُ حالَ كونها شرطيةً وجهٌ آخرُ وهو أن تكونَ منصوبةً بفعلٍ مضمرٍ يفسِّره ما بعدَه، وتكونُ المسألةُ من بابِ الاشتغالِ، ويُقَدَّر الفعلُ بعدَها لأنَّ لها صدرَ الكلامِ، والتقديرُ: فأيُّ شخصٍ جاءَتِ الموعظةُ جاءته، ولا يجوزُ ذلك فيها موصولةً لأنَّ الصلةَ لا تُفَسِّر عاملاً، إذ لا يَصِحُّ تسلُّطها على ما قبلها، وشرطُ التفسيرِ صحةُ التسلُّطِ. وسَقَطَتِ التاءُ من الفعلِ لشيئين: الفصلُ بين الفعلِ وفاعلِه بالمفعولِ، وكونُ التأنيثِ مجازياً، وقرأ الحسن، «جاءَتْه» على الأصل.
قوله: {مِّنْ رَّبِّهِ} يجوزُ أن تكونَ متعلقةً بجاءَتْه، وتكونُ لابتداءِ الغاية مجازاً، وأن تتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنها صفةٌ لموعظة، أي: موعظةٌ من موعظاتِ ربه، أي بعضُ مواعِظه.
وقوله: {فانتهى} نَسَقٌ على «جاءَتْه» عَطَفَه بفاءِ التعقيبِ أي: لم يتراخَ انتهاؤُه عن مجيء الموعظهِ. /
وقوله: {وَمَنْ عَادَ} الكلامُ على «مَنْ» هذه في احتمالِ الشرطِ والموصولِ كالكلامِ على التي قبلها. والضميرُ في قولِه «فَأَمْرُه» يعودُ على «ما سَلَف» ، أي: وأمرُ ما سلَفَ إلى الله، أي: في العفوِ عنه وإسقاطِ التِّبِعَةِ منه. وقيل: يعودُ على المنتهي المدلولِ عليه بانتهى أي: فأمرُ المنتهي عن الربا إلى الله في العفوِ والعقوبةِ. وقيل: يعودُ على ذي الربا في أَنْ ينتبهَ على الانتهاءِ أو يعيدَه إلى المعصيةِ. وقيل: يعودُ على الرِبا أي: في عفو الله عمَّا شاء منه أو في استمرارِ تحريمِه.
قوله تعالى: {يَمْحَقُ الله الربا وَيُرْبِي} : الجمهورُ على التخفيفِ في الفعلين من مَحَقَ وأَرْبى. وقرأ ابن الزبير: ورُويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «يُمْحِّق ويُرَبِّي» بالتشديدِ فيهما من «مَحَّق ورَبَّى» بالتشديدِ فيهما.
وقوله: {سَلَفَ} سَلَفَ بمعنى مَضَى وانقضى، ومنه: سالفُ الدهرِ، وله سَلَفٌ صالح: آباءٌ متقدِّمون. ومنه {فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً} أي: أمةً متقدمةً يَعتبر بهم مَنْ بعدهم. ويُجمع السَّلَفُ على: أَسْلاف وسُلوف. والسالِفَةُ والسُّلاف: المتقدِّمون في حربٍ أو سفرٍ. والسالفةُ من الوجه لتقدُّمها. قال:
1103 -
ومَيَّةُ أحسنُ الثَّقَلَيْنِ جِيداً
…
وسالفةً وأَحْسَنْه قَذالا
وسُلافة الخمر قيل لها ذلك لتقدُّمها على العَصْرِ. والسُّلْفَةُ ما يُقَدَّم من الطعامِ للضيفِ. يُقال: «سَلِّفوا ضيفكم ولَهِّنوه» أي: بادِروه بشيء ما. ومنه: السَّلَفُ في الدَّيْن لأنه تقدَّمه مالٌ.
وقوله: {عَادَ} أي: رَجَعَ، يُقال: عادَ يعود عَوْداً ومَعاداً، وعن بعضهم أنها تكونَ بمعنى صار، وعليه:
1104 -
وبالمَحْضِ حتى عاد جَعْداً عَنَطْنَطَا
…
إذا قام ساوى غاربَ الفَحْلِ غاربُه
وأنشدوا
1105 -
تُعِدُّ لكم جَزْرُ الجَزُورِ رماحُنا
…
ويَرْجِعْنَ بالأسيافِ مُنْكَسِرَاتِ
والمَحْقُ: النقصُ، يُقال: مَحَقْتُهُ فانمَحَقَ، وامتَحَقَ، ومنه المُحاق في القمر، قال:
1106 -
يَزْداد حتى إذا ما تَمَّ أَعقَبهُ
…
كَرُّ الجديدَيْنِ نَقْصاً ثم يَنْمَحِقُ
وأنشد ابن السكيت:
1107 -
وَأَمْصَلْتُ مالي كلَّه بحياتِهِ
…
وماسُسْتَ من شيءٍ فَرَبُّكَ ماحِقُهْ
ويقال: هَجِيرٌ ماحِقٌ: إذا نَقَصَ كلُّ شىءٍ بِحَرِّه.
وقد اشتملَتْ هذه الآيةُ على نوعين من البديع، أحدُهما: الطباقُ في قولِه: «يَمْحَقُ ويُرْبي» فإنهما ضِدَّان، نحو:{أَضْحَكَ وأبكى} [النجم: 43]، والثاني: تجنيسُ التغايرِ في قولِهِ: «الرِّبا ويُرْبى» إذ أحدُهما اسمٌ والآخرُ فِعْلٌ.
قوله تعالى: {وَذَرُواْ} : فُتِحَتِ العينُ من «ذَرْ» حَمْلاً على «دَعْ» إذ هو بمعناه، وفُتِحَتْ في «دَعْ» لأنه أمْرٌ من «يَدَعُ» وفُتِحَتْ من «يَدَعُ» وإنْ كان قياسُها الكسرَ لكونِ الفاءِ واواً كيَعِدُ لكونِ لامِهِ حرفَ حلقٍ.
ووزنُ «ذروا» : عَلوا لأنَّ المحذوفَ الفاءُ لا يُستعمل منه ماضٍ إلَاّ في لُغَيَّة، وكذلك «دَعْ» .
وقرأ الحسن: «ما بَقَا» بقلبِ الكسرةِ فتحةً والياءِ الفاً، وهي لغةٌ لطيء ولغيرِهِم، ومنه قولُ علقمة التميمي:
1108 -
زَهَا الشوقُ حتى ظَلَّ إنسانُ عينِهِ
…
يَفِيضُ بمغمورٍ من الدَّمْعِ مُتْأَقِ
وقال الآخر:
1109 -
وما الدُّنيا بباقاةٍ علينا
…
وما حَيٌّ على الدنيا بباقِ
ويَقُولون في الناصيةِ: ناصاةٌ. وقرأ الحسنُ أيضاً: «بَقِيْ» بتسكين الياء، قال المبرد:«تسكينُ ياءِ المنقوصِ في النصب مِنْ أحسنِ الضرورةِ، هذا مع أنه مُعربٌ فهو في الفعلِ الماضي أحسنُ» قلت: وإذا كانوا قد حَذَفوها من الماضي صحيحَ الآخرَ فَأَوْلى من حرفِ العلةِ، قال:
1110 -
إنما شِعْرِيَ قَيْدٌ
…
قد خُلْطَ بجُلْجُلانْ
وقال جرير في تسكينِ الياء:
1111 -
هو الخليفةُ فارضُوا ما رَضِيْ لكمُ
…
ماضي العزيمةِ ما في حُكْمِهِ جَنَفُ
وقال آخر:
1112 -
لَعَمْرُكَ لا أخشى التَّصَعْلكَ ما بقِي
…
على الأرضِ قَيْسِيٌّ يسوق الأباعرا
قوله: {مِنَ الربا} متعلِّقٌ ببقيَ كقولهم: «بَقِيَتْ منه بقيةٌ» ، والذي يظهر أنه متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من فاعلِ «بقَى» ، أي: الذي بقي حالَ كونِهِ بعضَ الربا، فهي تبعيضيةٌ.
ونَقَل ابنُ عطية هنا أنَّ العدويَّ - وهو أبو السَّمَّال - قرأ «من الرِّبُو» بتشديدِ الراء مكسورةً، وضمِّ الباءِ بعدَها واوٌ. قلت: قد قَدَّمْتُ أن أبا السَّمَّال إنما قرأ «الربا» في أولِ الآيةِ بواوٍ بعد فتحةِ الباءِ، وأنَّ أبا زيدٍ حَكَى عن بعضِهم أنه ضَمَّ الباءَ، وقدَّمْتُ تخريجَهما على ضعفه.
وقال ابن جني: «شَذَّ هذا الحرفُ في أَمْرين، أحدُهما: الخروجُ من الكسرِ إلى الضم بناءً لازماً، والآخر: وقوعُ الواوِ بعدَ الضمةِ في آخرِ الاسمِ، وهذا شيءٌ لم يأتِ إلا في الفعلِ نحو: / يَغْزُو وَيَدْعُو، وأَمَّا» ذو «الطائية بمعنى الذي فشاذةٌ جداً، ومنهم مَنْ يُغَيِّرُ واوَها إذا فارَقَ الرفعَ، فيقولُ:» رأيتُ ذا قام «، ووجهُ القراءةِ أنه لمَّا فَخَّم الألفَ انتحى بها الواوَ التي الألفُ بدلٌ منها، على حَدِّ قولهم: الصلاةُ والزكاةُ، وهي بالجملةِ قراءةٌ شاذةٌ» . قلت: غيرُهُ يقيِّدُ العبارَةَ فيقولُ: «ليسَ في الأسماء المُعْرَبَةِ واوٌ قَبْلَهَا ضمةٌ» حتى يُخرجُ عنه «ذو» بمعنى الذي و «هو» من الضمائر، وابنُ جني لم يَذْكِر القيدَ استثنى «ذو الطائية» ويَرِدُ عليه نحو «هو» ، ويَرِدُ على العبارةِ «ذو» بمعنى صاحب فإنَّها معربةٌ آخرِها واوٌ بعدَ ضمةٍ.
وقد أُجيبَ عنه بأنها تتغيَّر إلى
الألفِ والياءِ فلم يُبالَ بها، وأيضاً فإنَّ ضمةَ الدالِ عارضةٌ، إذ أصلُها الفتحُ، وإنما ضُمَّت إتباعاً على ما قَرَّرتُهُ في إعرابِ الأسماءِ الستةِ في كتبِ النحوِ: وقوله: «بناءً لازماً» تحرُّزٌ من وجودِ الخروجِ من كسرٍ إلى ضم بطريقِ العَرَض نحو: الحِبُك فإنه من التداخُل، ونحوُ:«الرِّدُءْ» موقوفاً عليه، فالخروجُ من كسرٍ إلى ضَمٍّ في هاتين الكلمتينِ ليس بلازمٍ. وقوله:«مِنْهُم مَنْ يغيِّرُ واوَها» المشهورُ بناؤُهاعلى الواوِ مطلقاً، وقد تُعْرَب كالتي بمعنى صاحب وأنشدوا:
1113 -
فإمَّا كِرامٌ مُوسِرُون لَقِيتُهمُ
…
فَحَسْبي من ذي عندَهم ما كَفانيا
ويُروى: «مِنْ ذو» على الأصلِ.
قوله: {إِن كُنْتُمْ} شرطٌ وجوابُه محذوفٌ عند الجمهورِ أي: فاتَّقُوا وذَروا، ومتقدِّمٌ عند جماعةٍ. وقيل:«إنْ» هنا بمعنى إذ، وهذا مردودٌ مرغوبٌ عنه. وقيل: يُراد بهذا الشرطِ هنا الاستدامةُ.
قوله تعالى: {فَأْذَنُواْ} : قرأ حمزة وأبو بكر عن عاصمٍ: «فآذِنوا» بألف بعد الهمزةِ، والباقون بدونِ ألف، ساكنَ الهمزةِ.
فالأُولى من آذَنَه بكذا أي: أَعْلمه كقولِهِ: {فَقُلْ آذَنتُكُمْ على سَوَآءٍ} [الأنبياء: 109] والمعنى: أَعْلِمُوا غيرَكم. أُمِرَ المخاطبون بتركِ الربا أَنْ يُعْلِمُوا غيرَهم مِمَّنْ هو على حالهم في المَقامِ بالرِّبا بمحاربةِ اللِّهِ ورسولِهِ، فالمفعولُ هنا محذوفٌ، وقد صَرَّحَ به الشاعرُ في قولِهِ:
1114 -
آذَنَتْنَا بِبَيْنِها أسماءُ
…
رُبَّ ثاوٍ يُمَلُّ منه الثَّواءُ
وفي قولِهِ تعالى: {آذَنتُكُمْ} . وقيل: الهمزةُ في «فَأْذَنُوا» للصيرورةِ لا للتعديةِ، والمعنى: صِيروا عالِمين بالحربِ، قاله أبو البقاء، وفيه بُعْدٌ كبير.
وقراءةُ الباقين أَمْرٌ من: أَذِنَ يَأْذَنُ أي عَلِمَ يَعْلَمُ أي: فاعلَموا يُقال: أَذِن به فهو أَذِين، أي: عَلِمَ به فهو عليم.
ورجَّح جماعةٌ قراءةَ حمزةَ. قال مكيّ: «لولا أَنَّ الجماعَةَ على القصرِ لكان الاختيارُ المدَّ. ووجَّه ذلك أن آذَنَ بالمدِّ أَعَمُّ من أَذِنَ بالقصر، لأنهم إذا أَعلمُوا غيرَهم فقد عَلِموا هم ضرورةً، من غيرِ عكسٍ، أو يَعْلَمُون هم بأنفسِهم ولا يَعْلَمُ غيرُهُم» . قال: «وبالقصرِ قرأ علي بن أبي طالب وجماعةٌ» .
وعَكَسَ أبو حاتمٍ فرجَّح قراءةَ القصرِ، واستبعدَ قراءةَ المَدِّ قال:«إذ الأمرُ فيه بالحربِ لغيرِهم والمرادُ هم؛ لأنهم المخاطَبون بتركِ الربا» وهذا الذي قالَه غيرُ لازمٍ؛ لأنك إذا كنتَ على حالةٍ فقلتُ لك يا فلان: «أعلِمْ فلاناً أنه
مرتكبُ قبيحاً» وهو شيءٌ مماثِلٌ لِما أنت عليه عِلِمْتَ قطعاً أنك مأمورٌ به أيضاً، بل هو أَبْلَغُ من أمري لك مواجهةً. وكذلك قال ثعلب، قال:«الاختيارُ قراءةُ العامة من الإِذن لأنه يُفَسِّر كونوا على إذْنٍ وعِلْمٍ، ولأنَّ الكلامَ يَجْرى به على وجهٍ واحدٍ وهو أَدَلُّ على المرادِ، وأقربُ في الأفهام» . وقال أبو عبيدة: «يقال: أَذِنْتُه بالشيء فَأَذِنَ به» ، أي: عَلِمَ، مثل: أَنْذَرْتُهُ بالشيء فَنَذِرَ به، فجعله مطاوعاً لأفْعَلَ.
وقال أبو عليّ: «وإذا أُمرِوا بإعلامِ غيرِهم عَلِموا هم لا محالَةَ، ففي إعلامِهِم علمُهم، ليس في علمِهم إعلامُهم غيرَهم، فقراءةُ المدِّ أرجحُ لأنها أبلغُ وأكدُ.
وقال الطبري:» قراءةُ القصرِ أَرْجَحُ لأنها تختصُّ بهم، وإنما أُمِرُوا على قراءةِ المدِّ بإعلام غيرِهم «.
وقال الزمخشري:» وقُرِىء فآذِنُوا: فَأَعْلِموا بها غيرَكم، وهو من الإِذْن وهو الإِسماع، لأنه من طرق العلمِ. وقرأ الحسنُ:«فَأَيْقِنُوا» وهو دليلٌ لقراءةِ العامةِ «يعني بالقصرِ، لأنها نصٌّ في العلمِ لا في الإِعلام.
وقال ابنُ عطية:» والقراءتان عندي سواءٌ، لأنَّ المخاطَبَ محصورٌ، لأنه كلُّ مَنْ لا يَذَرُ ما بقي من الربا.
فإنْ قيل: «فَأْذَنوا» فقد عَمَّهم الأمرُ، وإنْ قيلَ «فآذِنُوا» بالمدِّ فالمعنى: أعلِمُوا أنفسَكم أو بعضكم بعضاً، وكأنَّ هذه
القراءةَ تقتضي فَسْحاً لهم في الارتياءِ والتثبُّتِ أي: فَأْعِلموا نفوسَكم هذا، ثم انظُروا في الأرجحِ لكم: تَركِ الربا أو الحربِ «.
قوله: {بِحَرْبٍ} الباءُ في قراءةِ القصر قال الشيخ:» للإِلصاقِ، تقول أَذِنَ بكذا أي: عَلِمَ كذا، ولذلك قال ابنُ عباس وغيرُه: المعنى: فاستيقنوا بحربٍ من الله «قلت: قد قَرَّرْتُ أنَّ فعلَ العلمِ وإنْ كانَ في الأصلِ/ متعدياً بنفسِهِ فإنَّما يُعَدَّى بالباءِ لِما تَضَمَّنَ من معنى الإِحاطة فكذلك هذا، ويَظْهَرُ من كلامِ ابن عطية أنَّ هذه الباءَ ظرفيةٌ فإنه قال:» هي عندي من الإِذن، وإذا أَذِنَ المرءُ في شيءٍ فقد قَرَّره وبنى مع نفسِه عليه، فكأنه قيل لهم: قَرِّروا الحربَ بينكم وبين اللَّهِ ورسولهِ «فقوله:» وإذا أَذِنَ المرءُ في شيء «يقتضي تقديرَه:» فَأْذنوا في حربٍ، ولا يتأتَّى هذا إلا على قراءةِ القصرِ، وأمَّا الباءُ مع قراءةِ المَدِّ فهي مُعَدِّيةٌ للإِعلام بالطريقِ الذي قَدَّرْتُه.
قوله: {مِّنَ الله} متعلِّقٌ بمحذوفٍ لأنَّه صفةٌ للنكرةِ قبلَه. و «مِنْ» فيها وجهان، أظهرهما: أنها لابتداءِ الغايةِ مجازاً، وفيه تهويلٌ وتعظيمٌ للحربِ حيث هو واردٌ من جهةِ اللَّهِ تعالى. والثاني: أنها تبعيضيةٌ أي: من حروبِ الله فهو على حَذْفِ مضاف. قال الزمخشري: «فإنْ قلت: هلَاّ قيل بحربِ اللَّهِ ورسولهِ قلت: هذا أَبْلَغُ؛ لأنَّ المعنى فَأْذَنوا بنوعٍ من الحربِ عظيمٍ من عندِ الله ورسولِهِ. انتهى. وإنما كان أبلغَ لأنَّه لو أُضِيفَ لاحتملَ إضافةَ المصدرِ إلى فاعلِهِ وهو المقصودُ، ولاحتملَ الإِضافةَ إلى مفعوله بمعنى أنكم تُحاربون اللَّهَ ورسولَه، والمعنى الأولُ أبلغُ، فلذلك تَرَكَ ما هو محتملٌ إلى ما هو نَصٌّ في المرادِ.
قولُهُ: {وَلَا تُظْلَمُونَ} فيها وجهان، أظهرهُما: أنها لا محلَّ لها لاستئنافِها، أخبرُهم تعالى بذلك أي: لا تَظْلِمُون غيرَكم بأَخْذِكُمْ الزيادةَ منه، ولا تُظْلمون أنتم أيضاً بضياع رؤوسِ أموالِكم. والثاني: أنها في محلِّ نصبٍ على الحالِ من الضميرِ في» لكم «والعاملُ ما تضمَّنه الجارُّ من الاستقرارِ لوقوعِهِ خبراً في رأي الأخفش.
وقرأ الجمهورُ الأولَ مبنياً للفاعلِ والثاني مبنياً للمفعولِ. ورَوَى أبان والمفضَّلُ عن عاصم بالعكسِ. ورجَّح الفارسي قراءةَ العامةِ بأنها تناسِبُ قولَه: {وَإِنْ تُبْتُمْ} في إسنادِ الفعلين إلى الفاعلِ، فَتَظْلِمُون مبنياً للفاعل أَشْكَلُ بما قبله. وقال أبو البقاء:» يُقْرَأُ بتسمية الفاعل في الأول وتَرْكِ التسميةِ في الثاني. ووجهُه أنَّ مَنْعَهم من الظلمِ أهمُّ فبُدِىءَ به، ويُقرأ بالعكسِ، والوجهُ فيه أنه قَدَّمَ ما تطمئِنُّ به نفوسُهم من نفيِ الظلمِ عنهم، ثم مَنَعَهم من الظلمِ، ويجوزُ أن تكونَ القراءتان بمعنى واحدٍ لأنَّ الواوَ لا تُرَتِّبُ.
قوله تعالى: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ} : في «كان» هذه وجهان، أحدُهما: - وهو الأظهر - أنها تامةٌ بمعنى حَدَثَ ووُجِدَ أي: وإن حَدَثَ ذو عسرةٍ فتكتفي بفاعلِها كسائرِ الأفعال، قيل: وأكثرُ ما تكونُ كذلك إذا كانَ مرفوعُها نكرةً نحو: «قد كان مِنْ مَطَرٍ» . والثاني: أنها الناقصةُ والخبرُ محذوفٌ. قال أبو البقاء: «تقديره: وإنْ كان ذو عسرة لكم عليه حَقٌّ أو نحوُ ذلك» وهذا مذهبُ بعضِ الكوفيين في الآية، وقَدَّر الخبر: وإنْ كان من غُرمائِكُمْ ذو عُسْرَةٍ. وقَدَّرَهُ بعضُهم: وإنْ كان ذو عسرةٍ غريماً.
قال الشيخ: «وَحَذْفُ خبرٍ كان» لا يُجيزه أصحابُنا لا اختصاراً ولا اقتصاراً، لعلةٍ ذكروها في النحو. فإنْ قيل: أليسَ أن البصريين لَمَّا استدَلَّ عليهم الكوفيون في أَنْ «ليس» تكونُ عاطفةً بقولِهِ:
1115 -
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
…
إنما يَجْزِي الفتى ليسَ الجَمَلْ
تأوَّلوها على حَذْفِ الخبر. وأنشدوا شاهداً على حَذْفِ الخبرِ قولَه:
1116 -
. . . . . . . . . . . . . . . . . . .
…
يبغى جِوارَك حين ليسَ مُجِيرُ
وإذا ثبَتَ هذا ثَبَتَ في سائِرِ البابِ. فالجوابُ أن هذا مختصٌّ بليس، لأنها تُشْبِهُ لا النافيةَ، و «لا» يجوز حذفُ خبرها فكذا ما أَشْبهها، والعلةُ التي أشار إليها الشيخُ هي أنَّ الخبرَ تأَكَّد طلبُهُ من وجهين: أحدُهما: كونُ خبراً عن مُخْبَرٍ عنه، والثاني: كونُه معمولاً للفعلِ قبله، فلمَّا تَأَكَّدَتْ مطلوبيتُهُ امتنَعَ حَذْفُهُ.
وتَقَوَّى الكفيون بقراءةِ عبدِ الله وأُبَيّ وعثمان: «وإن كان ذا عُسْرةٍ» أي: وإنْ كان الغريمُ ذا عسرةٍ. قال أبو عليّ: «في» كان «اسمُها ضميراً
تقديرُه: هو، أي الغريمُ، يَدُلُّ على إضمارِهِ ما تقدَّم من الكلامِ، لأنَّ المُرابي لا بُدَّ له مِمَّنْ يُرابيه» .
وقرأ الأعمشُ: «وإنْ كان مُعْسِراً» قال الداني عن أحمد بن موسى: «إنها في مصحف عبد الله كذلك.
ولكنَّ الجمهورَ على ترجيحِ قراءةِ العامةِ وتخريجِهم القراءةَ المشهورة. قال مكي:» وإنْ وقع ذو عسرةٍ، وهو سائغٌ في كلِّ الناس، ولو نَصَبْتَ «ذا» على خبرِ «كان» لصار مخصوصاً في ناسٍ بأعيانِهم، فلهذه العلةِ أَجْمَعَ القُرَّاءُ المشهورون على رفع «ذو» . وقد أَوْضَحَ الواحدي هذا فقال:«أي: وإن وقع ذو عسرةٍ، والمعنى على هذا يَصِحُّ، وذلك أنه لو نُصِبَ فقيل: وإنْ كان ذا عسرةٍ لكان المعنى: وإنْ كان المشتري ذا عسرةٍ فنظرةٌ، فتكون النظرة مقصورةً عليه، وليس الأمرُ كذلك، لأن المشتريَ وغيرَه إذا كان ذا عسرةٍ فله النظرةُ إلى الميسرةِ» . وقال الشيخ: «مَنْ نصب» ذا عسرة «أو قرأ» مُعْسِراً «فقيل» : يختصُّ بأهلِ الربا، ومَنْ رفع فهو عامٌّ في جميعِ مَنْ عليه دَيْنٌ، قال:«وليس بلازمٍ، لأنَّ الآية إنما سيقت في أهلِ الربا وفيهم نَزَلَتْ» قلت: وهذا الجوابُ لا يُجْدِي، لأنه وإن كان السياقُ كذا فالحكمُ ليس خاصاً بهم.
والعُسْرَةُ بمعنى العُسْر.
قوله: {فَنَظِرَةٌ} الفاءُ جوابُ الشرط و «نَظِرةٌ» خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ، أي: فالأمرُ أو فالواجِبُ، أو مبتدأٌ خبرُهُ محذوفٌ، أي: فعليكم نظرةٌ، أو فاعلٌ بفعلٍ مضمرٍ، أي: فتجِبُ نظرةٌ.
وقرأ العامة: «نَظِرة» بزنة «نَبِقَة» . وقرأ الحسن ومجاهد وأبو رجاء: «فَنَظْرة» بتسكين العين، وهي لغةٌ تميمية يقولون:«كَبْد» في «كَبِد» و «كَتْف» في «كَتِف» . وقرأ عطاء «فناظِرَة» على فاعِلَة، وقد خَرَّجَهَا أبو إسحاق على أنها مصدرٌ نحو:{لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةً} [الواقعة: 2]{يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الأعين} [غافر: 19]{أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} [القيامة: 25] . وقال الزمخشري «فناظِرُهُ أي فصاحبُ الحقِ ناظرُه أي: منتظره، أو صاحبُ نظرته على طريقةِ النسب، كقولِهِم:» مكان عاشِب وباقل «بمعنى ذو عشبٍ وذو بَقْلٍ، وعنه:» فناظِرْهُ «على الأمرِ بمعنى: فسامِحْهُ بالنظرةِ وباشِره بها» فنقلُه عنه القراءةَ الأولى يقتضي أن تكونَ قراءتُهُ «ناظِر» اسمَ فاعل مضافاً لضميرِ ذي العُسْرَةِ بخلافِ القراءةِ التي قَدَّمْتُها عن عطاء، فإنها «ناظرةٌ» بتاء التأنيث، ولذلك خَرَّجها الزجاج على المصدرِ. وقرأ عبد الله، «فناظِرُوه» أمراً للجماعةِ بالنظرةِ، فهذه ستُ قراءاتٍ مشهورُها واحدٌ.
وهذه الجملةُ لفظُها خبرٌ ومعناها الأمرُ، كقولِهِ:{والوالدات يُرْضِعْنَ} [البقرة: 233] وقد تقدَّم. والنظرةُ من الانتظارِ وهو الصبرُ والإِمهالُ.
قوله: {إلى مَيْسَرَةٍ} قرأ نافع وحده: «مَيْسُرَة» بضم السين، والباقون
بفتحِها. والفتحُ هو المشهورُ إذ مَفْعَل ومَفْعَلَه بالفتحِ كثيرٌ، ومَفْعُلٌ بالضم معدومٌ إلا عند الكسائي، وسأُورد منه ألفاظاً، وأَما مَفْعُلة فقالوا: قليلٌ جداً وهي لغةُ الحجاز، وقد جاءَتْ منها ألفاظٌ نحو: المَسْرُقَة والمَقْبُرَةِ والمَشْرُبة، والمَسْرُبة والمَقْدُرَة والمَأْدُبَة والمَفْخُرَة والمَزْرُعة ومَعْوُلَة ومَكْرُمَة ومَأْلُكة.
وقد رَدَّ النحاسُّ الضمَّ تجرُّؤاً منه، وقال:«لم تَأْتِ مَفْعُلة إلا في حروفٍ معدودةٍ ليس هذه منها، وأيضاً فإنَّ الهاءَ زائدةٌ ولم يأتِ في كلامِهِ مَفْعُل البتةَ» انتهى. وقال سيبويه: «ليس في الكلامِ مَفْعُل» قال أَبو علي: «يعني في الآحادِ» . وقد حَكَى عن سيبويه «مَهْلَك» مثلثَ اللام. وقال الكسائي: «مَفْعُل» في الآحادِ، وأوردَ منه: مَكْرُماً في قولِ الشاعر:
1117 -
ليومِ رَوْعٍ أو فَعالِ مَكْرُمِ
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ومَعْوُن في قولِ الآخر - وهو جميل -:
1118 -
بُثَيْنُ الزمي «لا» إنَّ لا إنْ لَزِمْتِهِ
…
على كثرةِ الواشين أيُّ مَعْونِ
ومَأْلُكاً في قول عديّ:
1119 -
أَبْلِغِ النعمانَ عني مَأْلُكاً
…
أنه قد طالَ حَبْسي وانتظاري
وهذا لا يَرِدُ على سيبويهِ لوجهين، أحدُهما: أنَّ هذا جمعٌ لمَكْرُمَة ومَعُونَةَ وَمَأْلُكَة، وإليه ذهب البصريون والكوفيون خلا الكسائي، ونُقِلَ عن الفراء أيضاً. والثاني: أن سيبويه لا يعتدُّ بالقليل فيقول: «لم يَرِدْ كذا» وإن كان قد ورَدَ منه الحرفُ والحرفان، لعدمِ اعتدادِهِ بالنادر القليلِ.
وإذا تقرَّر هذا فقد خَطَّأ النحويون مجاهداً وعطاءً في قراءتهما: «إلى مَيْسُرِهِ» بإضافة «مَيْسُر» مضمومَ السينِ إلى ضميرِ الغريم، لأنهم بَنَوْهُ على أنه ليسَ في الآحادَ مَفْعُل، ولا ينبغي أن يكونَ هذا خطأ، لأنه على تقديرِ تسليمِ أنَّ مَفْعُلاً ليس في الآحادِ، فَمَيْسُر هنا ليس واحداً، إنما هو جَمْعُ مَيْسُرَة كما قلتم أنتم: إن مَكْرُماً جمع مَكْرُمَة ونحوه، أو يكونُ قد حَذَفَ تاءَ التأنيثِ للإِضافةِ كقوله:
1120 -
إنَّ الخليطَ أَجَدُّوا البَّيْنَ فانجردوا
…
وأَخْلَفوك عِدَ الأمرِ الذي وَعَدوا
أي: عِدة الأمر، ويَدُلُّ على ذلك أنهم نَقَلوا عنهما أنهما قرآ أيضاً:«إلى مَيْسَرِهِ» بفتح السينِ مضافاً لضميرِ الغريمِ، وهذه القراءةُ نَصٌّ فيما ذكرْتُهُ لك من حذفِ تاءِ التأنيثِ للإِضافةِ لتوافق قراءةَ العامةِ:«إلى مَيْسَرَة» بتاءِ التأنيث.
وقد خَرَّجها أبو البقاء على وجهٍ آخرَ، وهو أَنْ يكونَ الأصلُ:«ميسورِه» فَخُفِّفَ بحذفِ الواوِ اكتفاءً بدلالةِ الضمةِ عليها، وقد يتأيَّدُ ما ذَكَرَهُ على ضَعْفَهِ بقراءةِ عبد الله، فإنه قرأ: إلى مَيْسُوره «بإضافةِ» ميْسور «للضمير، وهو مصدرٌ على مفَعْول كالمَجْلود والمَعْقُول، وهذا إنما يتمشَّى على رأي الأخفش، إذ أَثْبَتَ من المصادرِ زنة مَفْعُول، ولم يُثْبِتْه سيبويه.
قوله: {وَأَن تَصَدَّقُواْ} قرأ عاصم بتخفيفِ الصاد، والباقون بتثقيلها. وأصلُ القراءتين واحدٌ، إذ الأصلُ: تَتَصَدَّقُوا، فَحَذَفَ عاصم إحدى التاءين: إمَّا الأولى وإما الثانيةِ، وتَقَدَّمَ تحقيقُ الخلافِ فيه، وغيرُهُ أدغم التاء في الصادِ، وبهذا الأصلِ قرأ عبد الله:» تَتَصَدَّقوا «. وحُذِفَ مفعولُ التصدُّقِ للعلمِ به، أي: بالإِنظار. وقيل: برأس المال على الغريم. و {إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} جوابُهُ محذوفٌ. و» أَنْ تَصَدَّقُوا «بتأويل مصدرٍ مبتدأٌ، و» خيرٌ لكم «خبرُهُ.
قوله تعالى: {تُرْجَعُونَ فِيهِ} : هذه الجملةُ في محلِّ نصبٍ صفةً للظرفِ. وقرأ أبو عمرو: «تَرْجِعُون» بفتح التاء مبنياً للفاعل، والباقون مبنياً للمفعول. وقرأ الحسن:«يَرْجِعُون» بياء الغيبة على الالتفاتِ. قال ابن جني: «كأنَّ اللَّهَ تعالى رَفَقَ بالمؤمنين عن أَنْ يواجِهَهُم بذكرِ الرَّجْعَةِ إذ هي مِمَّا تتفطَّر لها القلوب فقال لهم:» واتقوا «ثم رَجَعَ في ذكرِ الرجعة إلى الغَيْبَةِ فقال:» يَرْجِعُون «.
قوله: {وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} جملةٌ حاليةٌ من» كلِّ نفس «وجُمِعَ اعتباراً بالمعنى، وأعادَ الضميرَ عليها أولاً مفرداً في» كَسَبَتْ «اعتباراً باللفظِ، وقُدِّمَ اعتبارُ اللفظ، لأنه الأصلُ، ولأنَّ اعتبارَ المعنى وَقَعَ رأسَ فاصلة فكان تأخيرُهُ أحْسَنَ.
قال أبو البقاء:» ويجوزُ أن يكونَ حالاً من الضمير في: «يُرْجَعُون» على القراءةِ بالياء، ويجوزُ أن يكونَ حالاً منه أيضاً على القراءة بالتاء، على أنه خروجٌ من الخطابِ إلى الغَيْبة كقوله تعالى:{حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم} [يونس: 22] ، ولا ضرورةَ تَدْعُوا إلى ما ذكر.
قوله تعالى: {إلى أَجَلٍ} : متعلِّقٌ بتدايَنْتُمْ، ويجوزُ أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ لدَيْن. و «مُسَمَّى» صفةٌ لدَيْن، فيكونُ قد قَدَّم الصفةَ المؤولةَ على الصريحةِ وهو ضعيفٌ، فكان الوجهُ الأولُ أوجَهَ.
و «تَدَايَنَ» تفاعَلَ من الدَّيْن كتبايَعَ من البَيْع، يقال: داينْتُ الرجل أي: عاملْتُه بدَيْنٍ، وسواءً كنت معطياً أم آخذاً، قال رؤبة:
1121 -
دايَنْتُ أَرْوى والديونُ تُقْضى
…
فَمَطَّلَتْ بعضاً وأَدَّتْ بَعْضَا
ويقال: دِنْتُ الرجلَ: إذا بِعْتُهُ بدَيْنٍ، وأَدِنْتُه أنا: أَخَذْتُ منه بدَيْن، فَفَرَّقوا بين فَعَل وأَفْعَلَ.
قوله: {فاكتبوه} الضميرُ يعودُ على «بدَيْن» وإنما ذَكَرَ قولَه «بدَيْن» ليعيدَ عليه هذا الضميرَ، وإنْ كان الدَّيْن مفهوماً/ من قولِهِ:«تدايَنْتُم» ، أو لأنه قد
يُقال: تَداينوا أي: جازى بعضُهم بعضاً فقال: «بَدْينٍ» ليُزِيلَ هذا الاشتراكَ، أو ليدُل به على العمومِ، أي: أيِّ دين كان من قليلٍ وكثيرٍ.
وقوله: {إِلَى اأَجَلٍ} على سبيلِ التأكيدِ، إذ لا يكونُ الدَّيْن إلَاّ مؤجَّلاً، وألفُ «مُسَمَّى» منقلبةٌ عن ياءٍ، تلك الياءُ منقلبةٌ عن واو، لأنه من التسميةِ، وقد تقدَّم أنَّ المادةَ مِنْ سما يسمو.
قوله: {بالعدل} فيه أوجهٌ، أحدُها: أن يكونَ الجارُّ متعلقاً بالفعلِ قبلَه. قال أبو البقاء: «بالعدلِ» متعلِّقٌ بقولِهِ: فَلْيَكْتُبْ، أي: ليكتبْ بالحقِّ، فيجوزُ أَنْ يكونَ حالا أي: ليكتبْ عادِلاً، ويجوزُ أَنْ يكونَ مفعولاً به أي: بسببِ العَدْلِ «. قولُه أولاً:» بالعدلِ متعلِّقٌ بقوله فَلْيَكْتُب «يريدُ التعلقَ المعنويَّ؛ لأنه قد جَوَّزَ فيه بعدَ ذلك أَنْ يكونَ حالاً، وإذا كانَ حالاً تعلَّقَ بمحذوفٍ لا بنفسِ الفعلِ. وقوله:» ويجوزُ أَنْ يكونَ مفعولاً «يعني فتتعلَّقُ الباءُ حينئذٍ بنفسِ الفعلِ.
والثاني: أَنْ يتعلَّقَ ب» كاتب «. قال الزمخشري:» متعلَّقٌ بكاتب صفةً له، أي: كاتبٌ مأمونٌ على ما يَكْتب «وهو كما تقدَّم في تأويل قول أبي البقاء. وقال ابنُ عطية:» والباءُ متعلقةٌ بقولِهِ: «وَلْيَكْتُب» ، وليْسَتْ متعلقةً بقولِهِ «كاتبٌ» لأنه كان يَلْزَمُ ألَاّ يكتبَ وثيقةً إلا العدلُ في نفسِهِ، وقد يكتُبها الصبيُّ والعبدُ «.
الثالث: أن تكونَ الباءُ زائدةً، تقديرُهُ: فَلْيكتب بينكم كاتبُ العدلِ.
قوله: {أَنْ يَكْتُبَ} مفعولٌ به أي: لا يأبَ الكتابَةَ.
و» كما عَلَّمه الله «يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بقولِهِ:» أَنْ يَكْتُبَ «على أنه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ، أو حالٌ من ضميِرِ المصدرِ على رأيِ سيبويه، والتقدير: أَنْ يكتبَ كتابةً مثلَ ما عَلَّمه الله، أو أَنْ يكتبَهُ أي: الكَتْبَ مثلَ ما عَلَّمه الله. ويجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بقوله» فَلْيَكْتُبْ «بعدَه.
قال الشيخ: «والظاهرُ تعلُّق الكافِ بقولِهِ:» فَلْيَكْتُب «وهو قَلِقٌ لأجلِ الفاءِ، ولأجلِ أنه لو كانَ متعلِّقاً بقولِهِ:» فَلْيكتب «لكان النظمُ فَلْيكتب كما عَلَّمه الله، ولا يُحتاج إلى تقديمِ ما هو متأخرٌ في المعنى» .
وقال الزمخشري: - بعد أَنْ ذكرَ تعلُّقَهُ بِأَنْ يكتُبَ، وب «فليكتب» - «فإنْ قلت: أيُّ فرقٍ بين الوجهين؟ قلت: إنْ عَلَّقْتَه بأَنْ يكتب فقد نَهَى عن الامتناعِ من الكتابةِ المقيَّدةِ، ثم قيل له: فَلْيَكْتُب تلك الكتابةَ لا يَعْدِلُ عنها، وإنْ عَلَّقْته بقوله:» فَلْيكتب «فقد نَهَى عن الامتناعِ بالكتابة على سبيلِ الإِطلاق، ثم أَمَرَ بها مقيدةً» ويجوزُ أن تكونَ متعلقةً بقولِهِ: لا يَأْبَ، وتكونُ الكافُ حينئذٍ للتعليلِ. قالَ ابنُ عطية:«ويُحْتَمل أن يكونَ» كما «متعلقاً بما في قولِه» ولا يأْبَ «من المعنى أي: كما أَنْعَمَ الله عليه بعلمِ الكتابةِ فلا يَأْبَ هو، وَلْيُفْضِل كما أُفْضِلَ عليه» . قال الشيخ: «وهو خلافُ الظاهِرِ، وتكونُ الكافُ في هذا القولِ للتعليلِ» قلت: وعلى القولِ بكونِها متعلقةً
بقوله: «فَلْيكتب» يجوزُ أَنْ تكونَ للتعليلِ أيضاً، أي: فلأجلِ ما عَلَّمه اللَّهُ فليكتبْ.
وقرأ العامةُ: «فَلْيكتب» بتسكينِ اللام كقولهم: «كَتْف» في كَتِف، إجراءً للمنفصلِ مُجْرى المتصلِ. وقد قرأَ الحسن بكسرِها وهو الأصلُ.
قوله: {وَلْيُمْلِلِ} أمرٌ من أَمَلَّ يُمِلُّ، فلمَّا سَكَنَ الثاني جزماً جَرى فيه لغتان: الفكُّ وهو لغةُ الحجازِ، والإِدْغامُ وهو لغةُ تميم، وكذا إذا سَكَنَ وقفاً نحو: أملِلْ عليه وأَمِلَّ، وهذا مطَّرِدٌ في كلِّ مضاعفٍ وسيأتي تحقيقُ هذا إنْ شاء الله تعالى عند قراءتَيْ:«مَنْ يَرْتَدِدْ، ويرتدَّ» في المائدةِ وعلَّة كلِّ لغةٍ.
وقُرىء هنا شاذاً: «وَلْيُمِلَّ» بالإِدغامِ، ويقال: أَمَلَّ يُمِلُّ إملالاً، وأَمْلَى يُملي إملاءً. ومِنْ الأولى قولُه:
1122 -
ألا يا ديارَ الحيِّ بالسَّبُعان
…
أَمَلَّ عليها بالبِلَى المَلَوانِ
ومن الثانيةِ قولُه تعالى: {فَهِيَ تملى عَلَيْهِ} [المائدة: 54]، ويقال: أَمْلَلْتُ وَأَمْلَيْتُ، فقيل: هما لغتانِ، وقيل: الياءُ بدلٌ من أحدِ المِثْلَيْنِ، وأصلُ المادتين: الإِعادةُ مرةً بعد أخرى.
و «الحقُّ» يجوز أَنْ يكونَ مبتدأً، و «عليه» خبرٌ مقدمٌ، ويجوزُ أَنْ يكونَ
فاعلاً بالجارِّ قبله لاعتمادِهِ على الموصولِ، والموصولُ هو فاعِلُ «يملل» ومفعولُه محذوفٌ أي: وَلْيُمْلِلُ الديَّانُ الكتابَ ما عليه من الحقِّ، فَحَذَفَ المفعولين للعلمِ بهما. ويتعدَّى ب «على» إلى أحدِاهما: فيُقال: أَمْلَلْتُ عليه كذا، ومنه الآيةُ الكريمة.
قوله: {وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ} يجوزُ في «منه» أن يكونَ متعلقاً بيبخَسْ، و «مِنْ» لابتداءِ الغايةِ، والضميرُ في «منه» للحقِّ. والثاني: أنها متعلقة بمحذوفٍ لأنها في الأصلِ صفةٌ للنكرةِ، فلمَّا قُدِّمَتْ على النكرةِ نُصِبَتْ حالاً.
و «شيئاً» : إمَّا مفعولٌ به وإمَّا مصدرٌ.
والبَخْسُ: النَّقْصُ، يُقال منه: بَخَس زيدٌ عمراً حقَّه يَبْخَسُهُ بَخْسَاً، وأصلُهُ من: بَخَسْتُ عينه، فاستعيرَ منه بَخْسُ الحق، كما قالوا:«عَوَرْتُ حَقَّه» استعارةً مِنْ عَوَرِ العَيْنِ. ويقال: بَخَصْتُه بالصادِ. والتباخُسُ في البَيْعِ: التناقُصُ، لأنَّ كلَّ واحدٍ من المتبايِعَيْنِ يُنْقِصُ الآخرَ حَقَّه.
قوله: {أَن يُمِلَّ هُوَ} أَن وما في حَيِّزها في محلِّ نصبٍ مفعولاً به، أي: لا يستطيعُ الإِملالَ، و «هو» تأكيدٌ للضميرِ المستتر. وفائدةُ التوكيِدِ به رَفْعُ المجازِ الذي كان يحتمِلُه إسنادُ الفعلِ إلى الضميرِ، والتنصيصُ على أنه غيرُ مستطيعٍ بنفسِه، قاله الشيخ.
وقُرىء بإسكان هاء «هو» وهي قراءةٌ ضعيفة لأنَّ هذا الضميرَ كلمةٌ مستقلةٌ منفصلة عما قبلَها. ومَنْ سَكَّنَهَا أجرى المنفصلَ مُجْرى المتصلِ، وقد تقدَّم تحقيقُ هذا في أول/ هذه السورة. قال الشيخ: «وهذا أشذُّ مِنْ قراءةِ
مَنْ قَرَأَ: {ثُمَّ هُوَ يَوْمَ القيامة} [القصص: 6] قلت: فَجَعَلَ هذه القراءةَ شاذةً وهذه أشدَّ منها، وليسَ بجيدٍ، فإنَّها قراءةٌ متواترةٌ قرأ بها نافع بن أبي نُعَيم قارىءُ أهلِ المدينة فيما رواه عنه قالُون، وهو أضبطُ رواتِهِ لحرفِهِ، وقرأ بها الكسائي أيضاً وهو رئيس النحاة.
والهاء في» وَليُّه «للذي عليه الحقُّ إذا كان متَّصفاً بإحدى الصفاتِ الثلاثِ. وقولُه» بالعَدْل «كما تقدَّم في نظيرِهِ فلا حاجةَ إلى إعادتِهِ.
وقوله: {واستشهدوا} يجوزُ أن تكونَ السينُ على بابِها من الطلب أي: اطلُبوا شهيدَيْن، ويجوزُ أن يكونَ استفعلَ بمعنى أَفْعَلَ، نحو: اسْتَعْجَلَ بمعنى أَعْجَل، واسْتيقن بمعنى أَيْقَنَ وفي قوله:» شهيدين «تنبيهٌ على أنه ينبغي أن يكونَ الشاهدُ ممَّن تتكرَّرُ منه الشهادةُ حيث أتى بصيغةِ المبالغة.
قوله: {مِّن رِّجَالِكُمْ} يجوزُ أن يتعلَّقَ باستشهِدوا، وتكونُ» مِنْ «لابتداءِ الغايةِ، ويجوزُ أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ لشهيدَيْن و» مِنْ «تبعيضيةٌ.
قوله: {فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ} جَوَّزُوا في» كان «هذه أَنْ تكونَ الناقصةَ وأَنْ تكونَ التامَةَ، وبالإِعرابين يختلفُ المعنى: فإنْ كانَتْ ناقصةً فالألفُ اسمُها، وهي عائدةٌ على الشهيدَيْن أي: فإن لم يكنِ الشاهدان رَجُلَيْن، والمعنى على هذا: إن أغْفَلَ ذلك صاحبُ الحق أو قصد أَنْ لا يُشْهِدَ رجلين لغرضٍ له، وإنْ كانَتْ تامةً فيكون» رجلين «نصباً على الحال المؤكِّدة كقولِهِ: {فَإِن كَانَتَا اثنتين} [النساء: 176] ، ويكونُ المعنى على هذا أنه لا يُعْدَل إلى ما ذَكَرَ إلا عند عدمِ الرجال. والألفُ في» يكونا «عائدةٌ على» شهيدين «، تفيدُ الرجوليةَ، والتقديرُ: فإنْ لم يُوجَدِ الشهيدان رَجُلَيْن.
قوله: {فَرَجُلٌ وامرأتان} يجوزُ أَنْ يرتفعَ ما بعدَ الفاءِ على الابتداءِ والخبرُ محذوفٌ تقديرُهُ: فرجلٌ وامرأتان يَكْفُون في الشهادةِ، أو مُجْزِئون ونحوُه.
وقيل: هو خبرٌ والمبتدأٌ محذوفٌ تقديرُهُ: فالشاهدُ رجلٌ وامرأتان وقيل: بل هو مرفوعٌ بفعلٍ مقدَّرٍ تقديرُهُ: فيكفي رجلٌ أي: شهادةُ رجلٍ، فَحُذِفَ المضافُ للعلمِ به، وأُقيم المضافُ إليه مُقامه. وقيل: تقديرُه الفعلِ: فَلْيَشْهَدْ رَجُلٌ، وهو أحسنُ، إذ لا يُحْوِج إلى حذفِ مضافٍ، وهو تقديرُ أبي القاسم الزمخشري. وقيل: هو مرفوعٌ بكان الناقصةِ، والتقديرُ: فليكن مِمَّنْ يشهدون رجلٌ وامرأتان. وقيل: بل بالتامةِ وهو أَوْلى، لأنَّ فيه حذفَ فعلٍ فقط بقي فاعلُهُ، وفي تقدير الناقصة حذفُها مع خبرِها، وقد عُرِفَ ما فيه، وقيل: هو مرفوعٌ على ما لم يُسَمَّ فاعلُهُ، تقديرُهُ: فليُسْتَشْهَد رجلٌ. قال أبو البقاء: «ولو كان قد قُرىء بالنصبِ لكانَ التقديرُ: فاسْتَشْهِدُوا» قلت: وهو كلامٌ حسنٌ.
وقرىء: «وامرأْتان» بسكون الهمزةِ التي هي لامُ الكلمة، وفيها تخريجان، أحدُهما: أنه أَبْدَلَ الهمزةَ ألفاً، وليس قياسُ تخفيفِها ذلك، بل بَيْنَ بينَ، ولمَّا أبدلَهَا ألفاً هَمَزَهَا كمَا هَمزتِ العربُ نحو: العَأْلَم والخَأْتم وقوله:
1123 -
وخِنْدِفٌ هامةُ هذا العَأْلَمِ
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك في سورة الفاتحة، وسيأتي له مزيدُ بيانٍ إن شاء الله تعالى في قراءة ابنِ ذكوان:{مِنسَأَتَهُ} [الآية: 14] في سبأ.
وقال أبو البقاء في تقرير هذا الوجِهِ، ونَحا إلى القياسِ فقال: «ووجهُهُ أنه خَفَّفَ الهمزةَ - يعني بينَ بينَ - فَقَرُبَتْ من الألفِ، والمُقَرَّبَةُ من الألفِ في حكمِها؛ ولذلك لا يُبْتَدَأُ بها، فلمَّا صارَتْ كالألفِ قَلَبَها همزةً ساكنةً كما قالوا: خَأْتم وعَأْلم.
والثاني: أن يكونَ قد استثقلَ تواليَ الحركاتِ، والهمزةُ حرفٌ يُشْبِهُ حرفَ العلةِ فَتُسْتثقل عليها الحركةُ فَسُكِّنَتْ لذلك. قال الشيخ:» ويمكن أَنْ سَكَّنها تخفيفاً لتوالي كثرةِ الحركاتِ، وقد جاء تخفيفُ نظيرِ هذه الهمزة في قول الشاعر:
1124 -
يَقُولون جَهْلاً ليس للشيخِ عَيِّلٌ
…
لَعَمْرِي لقد أَعْيَلْتُ وأْنَ رَقُوبُ
يريدُ: وأنا رَقوب، فَسَكَّنَ همزة «أنا» بعد الواوِ، وحَذَفَ ألف «أنا» وصلاً على القاعدةِ. قلت: قد نَصَّ ابنُ جني على أن هذا الوجهَ لا يجوزُ فقال: «ولا يجوزُ أن يكونَ سَكَّنَ الهمزةَ لأنَّ المفتوحَ لا يُسَكَّنُ لخفةِ الفتحةِ» وهذا من أبي الفتح محمولٌ على الغالِبِ، وإلا فقد تقدَّمَ لنا آنفاً في قراءة الحسنِ «ما بَقِي من الربا» وقبلَ ذلك أيضاً الكلامُ على هذه المسألةِ، وورودُ ذلك في ألفاظٍ نظماً ونثراً، حتى في الحروف الصحيحةِ السهلةِ، فكيف بحرفٍ ثقيلٍ يُشْبِه السُّفْلَةَ؟
قوله: {مِمَّن تَرْضَوْنَ} فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه في محلِّ رفعٍ نعتاً لرجل وامرأتين/. والثاني: أنه في محلِّ نصبٍ لأنه نعتٌ لشهيدين. واستضعف الشيخُ الوجهَ الأولَ قال: «لأنَّ الوصفَ يُشْعِر اختصاصَه بالموصوفِ، فيكون قد انتفى هذا الوصفُ عن» شهيدين «، واستضعفَ الثاني أبو البقاء قال:» للفصلِ الواقعِ بينهما «.
الوجهُ الثالث: أنه بَدَلٌ مِنْ قولِه «من رجالكم» بتكريرِ العاملِ، والتقديرُ:«واستشهِدوا شهيدَيْن مِمَّنْ تَرْضَوْن» ، ولم يذكر أبو البقاء تضعيفَه. وكان ينبغي أن يُضَعِّفَه بما ضَعَّفَ وجهَ الصفة، وهو للفصلِ بينهما، وضَعَّفه الشيخ بأنَّ البدلَ يُؤْذِنُ أيضاً بالاختصاص بالشهيدين الرجلين فَيَعْرَى عنه رجلٌ وامرأتان. وفيه نظرٌ، لأنَّ هذا من بدلِ البعضِ إنْ أخذنا «رجالكم» على العمومِ، أو الكلِّ من الكِّل إن أخذناهم على الخصوصِ، وعلى كِلا التقديرين فلا ينفي ذلك عَمَّا عداه، وأمّا في الوصفِ فمسلَّمٌ، لأنَّ لها مفهوماً على المختارِ، الرابع: أن يتعلَّقَ باستشهدوا، أي: استشهدوا مِمَّن تَرْضَوْن. قال الشيخ: «ويكون قيداً في الجميعِ، ولذلك جاء متأخراً بعد الجميعِ» .
قوله: {مِنَ الشهدآء} يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من العائدِ المحذوفِ، والتقدير: مِمَّنْ تَرْضَوْنَه حالَ كونِه بعضَ الشهداء. ويجوزُ أن يكونَ بدلاً مِنْ «مِنْ» بإعادةِ العاملِ، كما تقدَّم في نفسِ «مِمَّنْ تَرْضَوْن» ، فيكونُ هذا بدلاً مِنْ بدلٍ على أحدِ القولين في كلٍّ منهما.
قوله: {أَن تَضِلَّ} قرأ حمزةُ بكسر «إنْ» على أنَّها شرطيةٌ، والباقون
بفتحِها، على أنَّها المصدريةُ الناصبةٌ، فأمَّا القراءةُ الأولى فجوابُ الشرطِ فيها قولُه «فتذكِّرُ» ، وذلك أنَّ حمزةَ رحمه الله يقرأ:«فَتُذَكِّرُ» بتشديدِ الكافِ ورفعِ الراءِ فَصَحَّ أن تكونَ الفاءُ وما في حَيِّزها جواباً للشرطِ، ورَفَعَ الفعلَ لأنه على إضمارِ مبتدأ أي: فهي تُذِكِّر، وعلى هذه القراءةِ فجملةُ الشرطِ والجزاءِ هل لها محلُّ من الإِعراب أم لا؟ فقال ابن عطيةَ:«إنَّ محلَّها الرفعُ صفةً لامرأتين» ، وكان قد تقدَّم أنَّ قولَه:«مِمَّنْ تَرْضَوْن» صفةٌ لقولِه «فرجلٌ وامرأتان» قال الشيخ: «فصار نظيرَ» جاءني رجلٌ وامرأتان عقلاءُ حُبْلَيَان «وفي جوازِ مثلِ هذا التركيبِ نظرٌ، بل الذي تقتضيه الأقيسةُ تقديمُ» حُبْلَيَان «على» عقلاء «؛ وأمَّا إذا قيل بأنَّ» ممَّنْ تَرْضَوْن «بدلٌ من رجالكم، أو متعلِّقٌ باستشهدوا فيتعذَّرُ جَعْلُه صفةً لامرأتين للزومِ الفصلِ بين الصفةِ والموصوف بأجنبي» . قلت: وابن عطية لم يَبْتَدِعْ هذا الإِعرابَ، بل سَبَقَه إليه الواحدي فإنه قال:«وموضعُ الشرطِ وجوابُه رفعٌ بكونِهما وصفاً للمذكورين وهما» امرأتان «في قوله:» فرجلٌ وامرأتان «لأنَّ الشرطَ والجزاءَ يُوصَفُ بهما، كما يُوصَلُ بهما في قولِه {الذين إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرض أَقَامُواْ الصلاة} [الحجر: 41] .
والظاهرُ أنَّ هذه الجملةَ الشرطيةَ مستأنفةٌ للإِخبار بهذا الحكمِ، وهي جوابٌ لسؤالٍ مقدَّر، كأن قائلاً قال: ما بالُ امرأتين جُعِلَتا بمنزلةِ رجل؟ فأُجيبَ بهذه الجملةِ.
وأمَّا القراءةُ الثانيةُ ف «أَنْ» فيها مصدريةٌ ناصبةٌ بعدَها، والفتحةُ فيه حركةُ إعرابٍ، بخلافِها في قراءةِ حمزة، فإنها فتحةُ التقاءِ ساكنين، إذ اللامُ الأولى ساكنةٌ للإِدغامِ في الثانية، والثانيةُ مُسَكَّنةٌ للجزم، ولا يمكنُ إدغامٌ في ساكنٍ،
فَحرَّكْنا الثانيةَ بالفتحةِ هرباً من التقائِهما، وكانتِ الحركةُ فتحةً، لأنها أَخَفُّ الحركاتِ، وأَنْ وما في حَيَّزها في محلِّ نصبٍ أو جرٍّ بعدَ حذفٍ حرفِ الجر، وهي لامُ العلة، والتقديرُ: لأنْ تَضِلَّ، أو إرادةَ أَنْ تَضِلَّ.
وفي متعلَّقِ هذا الجارِّ ثلاثةُ أوجه، أحدُها: أنه فِعْلٌ مضمرٌ دَلَّ عليه الكلامُ السابق، إذ التقديرُ: فاستشهِدوا رجلاً وامرأتين لأنْ تَضِلَّ إحداهما، ودَلَّ على هذا الفعلِ قولُه:{فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وامرأتان} قالَه الواحدي، ولا حاجةَ إليه، لأنَّ الرافعَ لرجل وامرأتين مُغْنٍ عن تقدير شيءٍ آخرَ، وكذلك الخبرُ المقدَّرُ لقولِك:«فرجلٌ وامرأتان» إذ تقديرُ الأولِ: فَلْيَشْهد رجلٌ، وتقديرُ الثاني: فرجلٌ وامرأتان يشهدون لأَنْ تَضِلَّ، وهذان التقديرانِ هما الوجهُ الثاني والثالثُ من الثلاثةِ المذكورةِ.
وهنا سؤالٌ واضحٌ جَرَتْ عادةُ المُعْرِبين والمفسِّرين يسألونَه وهو: كيف جُعِل ضلالُ إحداهما علةً لتطلُّبِ الإِشهاد أو مراداً لله تعالى، على حَسَبِ التقديرَيْن المذكورَيْن أولاً؟ وقد أجابَ سيبويه وغيرُه عن ذلك بأن الضلالَ لَمَّا كان سبباً للإِذكار، والإِذكارُ مُسَبَّباً عنه، وهم يُنَزَّلون كلَّ واحدٍ من السببِ والمُسَبَّب منزلةَ الآخرِ لالتباسِهما واتصالِهما كانَتْ إرادةُ الضلالِ المُسَبَّبِ عنه الإِذكارُ إرادةً للإِذكارِ. فكأنه قيل: إرادَةَ أَنْ تُذَكِّر إحداهما الأخرى إنْ ضَلَّتْ، ونظيرُه قولُهم:«أَعْدَدْتُ الخشبةَ أَنْ يميلَ الحائطُ فأدعمَه، وأعدْدتُ السلاحَ ان يجيءَ عدوٌ فأدفعَه» فليس إعدادُك الخشبةَ لأَنْ يميلَ الحائطُ ولا إعدادُك السلاحَ لأنْ يجيءَ عدوٌ، وإنما هما للإِدغام إذا مالَ/ وللدفع إذا جاء العدوُ، وهذا مِمَّا يعدُ إليه المعنى ويُهْجَرُ فيه جانبُ اللفظَ.
وقد ذهب الجرجاني في هذه الآيةِ إل أنَّ التقديرَ: مخافةَ أَنْ تَضِلَّ، وأنشد قول عمروٍ:
1125 -
. . . . . . . . . . . . . . . . . .
…
فَعَجَّلْنا القِرى أَنْ تَشْتِمُونا
أي: مخافَةَ أَنْ تَشْتِمونا «وهذا صحيحٌ لو اقتُصِر عليه مِنْ غيرِ أَنْ يُعْطَفَ عليه قولُه» فَتُذَكِّرَ «لأنه كان التقديرُ: فاستشهِدوا رجلاً وامرأتين مخافةَ أَنْ تضِلَّ إحداهما، ولكنَّ عَطْفَ قوله:» فتذكِّر «يُفْسِده، إذ يَصِيرُ التقديرُ: مخافةَ أَنْ تذكر إحداهما الأخرى، وإذكارُ إحداهما الأخرى ليس مخوفاً منه، بل هو المقصودُ، قال أبو جعفر:» سمعتُ عليَّ بن سليمان يَحْكي عن أبي العباس أن التقديرَ كراهةَ أَنْ تَضِلَّ «قال أبو جعفر:» وهو غلطٌ إذ يصيرُ المعنى: كراهةَ أَنْ تُذَكِّر إحداهُما الأخرى «انتهى.
وذهب الفراء إلى أغربَ مِنْ هذا كلِّه فَزَعَمَ أَنَّ تقديرَ الآيةِ الكريمة:» كي تذكِّر أحداهما الأخرى إنْ ضَلَّت «فلَّما قُدِّم الجزاءُ اتصلَ بما قبلَه ففُتِحَتْ» أَنْ «، قال:» ومثلُه من الكلامِ: «إنه ليعجبُني أَنْ يسألَ السائلُ فيُعْطى» معناه: إنه ليعجبني أَن يُعْطَى السائلُ إن سَأَلَ؛ لأنه إنما يُعْجِبُ الإِعطاءُ لا السؤالُ،
فلمَّا قَدَّموا السؤالَ على العَطِيَّة أصحبوه أَنْ المفتوحة لينكشِفَ المعنى «، فعنده» أنْ «في» أَنْ تَضِلَّ «للجزاءِ، إلَاّ أنه قُدِّم وفُتِح وأصلُه التأخيرُ.
وأنكر هذا القولَ البصريُّون وَردُّوه أبلغ ردٍّ. قال الزجاج: «لَسْتُ أدري لمَ صار الجزاءُ [إذا تقدَّم] وهو في مكانِه وغيرِ مكانِه وَجَبَ أن يَفْتَحْ أن» . وقال الفارسي: «ما ذَكَرَه الفراء دعوى لا دلالةَ عليها والقياسُ يُفْسِدُها، ألا ترى أنَّا نَجِدُ الحرفَ العاملَ إذا تغيَّرت حركتُه لم يُوْجِبْ ذلك تغيُّراً في عَملِهِ ولا معناه، وذلك ما رواه أبو الحسن من فتحِ اللامِ الجارَّةِ مع المُظْهَرِ عن يونس وأبي عبيدة وخلف الأحمر، فكما أنَّ هذه اللامَ لَمَّا فُتِحَتْ لم يتغيَّر من عملها ومعناها شيءٌ، كذلك» إنْ «الجزائيةُ ينبغي إذا فُتِحَتْ ألَاّ يتغيَّر عملها ولا معناها، ومِمَّا يُبْعِدُه أيضاً أنَّا نجدُ الحرفَ العاملَ لا يتغيَّر عملُه بالتقديمِ ولا بالتأخيرِ، ألا ترى لقولِك:» مررتُ بزيدٍ «ثم تقول:» بزيد مررت «فلم يتغيَّر عملُ الباءِ بتقديمها من تأخيرٍ» .
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «فَتُذِكِرَ» بتخفيفِ الكافِ ونصبِ الراءِ من أَذْكَرْتُه أي: جَعَلْتُه ذاكراً للشيءِ بعدَ نِسْيانِه، فإنَّ المرادَ بالضلالِ هنا النسيانُ كقولِه تعالى:{فَعَلْتُهَآ إِذاً وَأَنَاْ مِنَ الضالين} [الشعراء: 20] وأنشدوا الفرزدق:
1126 -
ولقد ضَلَلْتَ أباكَ يَدْعُو دارمِاً
…
كضلالِ ملتمسٍ طريقَ وِبارِ
فالهمزةُ في «أَذْكَرْتُه» للنقلِ والتعديةِ، والفعلُ قبلَها متعدٍّ لواحدٍ، فلا بُدَّ
من آخرَ، وليسَ في الآية إلا مفعولٌ واحدٌ فلا بُدَّ من اعتقادِ حذفِ الثاني، والتقديرُ فَتُذْكِرَ إحداهما الأخرى الشهادةَ بعد نِسْيانِها إن نَسِيَتْهَا، وهذا التفسيرُ هو المشهورُ.
وقد شَذَّ بعضُهم فقال: «معنى فَتُذْكِرَ إحداهما الأخرى أي: فتجعلَها ذَكَراً، أي: تُصَيِّرُ حكمَها حكمَ الذَّكَرِ في قَبولِ الشهادةِ. وروى الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء قال:» فَتُذَكِّر إحداهما الأخرى بالتشديدِ فهو من طريقِ التذكير بعد النسيان، تقول لها: هل تَذْكُرين إذ شَهِدْنا كذا يومَ كذا في مكان كذا على فلانٍ أو فلانة، ومَنْ قرأ «فَتُذْكِرَ» بالتخفيف فقال: إذا شَهِدَتِ المرأةُ ثم جاءَتِ الأخرى فَشَهِدَتْ معها فقد أَذْكَرَتْها لقيامِهما مقامَ ذَكَر «ولم يَرْتَضِ هذا من أبي عمرو المفسرون وأهلُ اللسان، بل لم يُصَحِّحوا روايةَ ذلك عنه لمعرفتِهم بمكانتِه من العلمِ، ورَدُّوه على قائله من وجوهٍ منها: أنَّ الفصاحةَ تقتضي مقابلةَ الضلالِ المرادِ به النسيانُ بالإِذكار والتذكيرِ، ولا تناسُبَ في المقابلةِ بالمعنى المنقولِ عنه. ومنها: أنَّ النساءَ لو بَلَغْنَ ما بلغْنَ من العَدَدِ لا بد معهنَّ مِنْ رجلٍ يَشْهَدُ معهم، فلو كان ذلك المعنى صحيحاً لذكَّرَتْها بنفسِها من غيرِ انضمامِ رجلٍ، هكذا ذَكَروا، وينبغي أَنْ يكونَ ذلك فيما يُقْبَلُ فيه الرجلُ مع المرأتينِ، وإلَاّ فقد نَجِدُ النساءَ يَتَمَحَّضْنَ في شهاداتٍ من غيرِ انضمامِ رجلٍ إليهنَّ، ومنها: أنها لو صَيَّرَتْها ذَكَراً لكان ينبغي أَنْ يكونَ ذلك في سائرِ الأحكامِ، ولا يُقْتَصرُ به على ما فيه.
. . وفيه نظرٌ أيضاً، إذ هو مشتركٌ الإِلزامِ/ لأنه يُقال: وكذا إذا فَسَّرْتموه بالتذكير بعد النسيانِ لم يَعُمَّ الأحكامَ كلَّها، فما أُجيب به فهو جوابُهم أيضاً.
وقال الزمخشري: «ومِنْ بِدَع التفاسيرِ:» فَتُذَكِّرَ «فتجعلَ إحداهما الأخرى ذَكَرَاً، يعني أنهما إذا اجتمعتا كانتا بمنزلةِ الذَّكَر» انتهى. ولم يَجْعَلْ هذا القولَ مختصاً بقراءةٍ دونَ أُخْرى.
وأمَّا نصبُ الراءِ فنسقٌ على «أَنْ تَضِلَّ» لأنَّهما يَقْرآن: «أَنْ تَضِلَّ» بأَنْ الناصبةِ، وقرأ الباقون بتشديدِ الكافِ من «ذَكَّرْتُه» بمعنى جَعَلْتُه ذاكِراً أيضاً، وقد تقدَّم أنَّ حمزةَ وحدَه هو الذي يَرْفع الراء.
وخَرَجَ من مجموعِ الكلمتين أنَّ القُرَّاءَ على ثلاثِ مراتبَ: فحمزة وحدَه: «إنْ تَضِلَّ فتذكَّرُ» بكسر «إنْ» وتشديدِ الكافِ ورفعِ الراء، وأبو عمرو وابنُ كثير بفتح «أنْ» وتخفيفِ الكافِ الراء، والباقون كذلك، إلا أنهم يُشَدِّدون الكافَ.
والمفعولُ الثاني محذوفٌ أيضاً في هذه القراءة كما في قراءة ابن كثير وأبي عمرو، وفَعَّل وأَفْعَل هنا بمعنى، [نحو] : أَكْرَمْتُه وَكَرَّمته، وفَرَّحته وأَفْرحته. قالوا: والتشديدُ في هذا اللفظ أكثرُ استعمالاً من التخفيفِ، وعليه قولُه:
1127 -
على أنني بعدَ ما قد مضى
…
ثلاثونَ للهَجْرِ حَوْلاً كميلا
يُذَكِّرُنِيك حنينُ العَجولِ
…
ونَوْحُ الحمامةِ تَدعُو هَدِيلا
وقرأ عيسى بن عمر والجحدري: «تُضَلَّ» مبنياً للمفعول، وعن
الجحدري أيضاً: «تُضِلَّ» بضمِ التاء وكسر الضاد من أَضَلَّ كذا أي: أضاعه، والمفعولُ محذوفٌ أي: تُضِلَّ الشهادة. وقرأ حميد بن عبد الرحمن ومجاهد: «فَتَذْكُرُ» برفع الراء وتخفيف الكاف، وزيد بن أسلم:«فتُذاكِرُ» من المذاكرة.
وقوله: {إِحْدَاهُمَا} فاعل «والأخرى» مفعول، وهذا مِمَّا يَجِبُ تقديمُ الفاعلِ فيه لخفاءِ الإِعرابِ والمعنى نحو: ضَرَب موسى عيسى. قال أبو البقاء: ف «إحداهما» فاعلٌ، و «الأخرى» مفعول، ويَصِحُّ العكس، إلا أنه يمتنع على ظاهرِ قول النحويين في الإِعراب، لأنه إذا لم يظهر الإِعرابُ في الفاعلِ والمفعولِ وَجَبَ تقديمُ الفاعل [فيما] يُخاف فيه اللَّبْسُ، فعلى هذا إذا أُمِنَ اللَّبْسُ جازَ تقديمُ المفعولِ كقولك:«كسر العصا موسى» ، وهذه الآيةُ من هذا القبيلِ لأنَّ النِّسْيَانِ والإِذكارَ لا يتعيَّنُ في واحدةٍ منهما بل ذلك على الإِبهامِ، وقد عُلِم بقوله «فَتُذَكِّرَ» أنَّ التي تُذَكِّر هي الذاكرة والتي تُذَكَّرُ هي الناسية، كما علم من لفظ «كَسَر» مَنْ يَصِحُّ منه الكسرُ، فعلى هذا يجوز أن يُجْعل «إحداهما» فاعلاً، و «الأخرى» مفعولاً وأن تعكس «انتهى.
ولَمَّا أَبْهَمَ الفاعلَ في قولِه: {أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا} أَبْهَمَ أيضاً في قوله: «فَتُذَكِّر إحداهما» لأنَّ كلاً من المرأتين يجوزُ عليها ما يجوزُ على صاحبتِها من الإِضلالِ والإِذكارِ، والمعنى: إنْ ضَلَّتْ هذه أَذْكَرَتْها هذه، فَدَخَلَ الكلامَ معنَى العموم
قال أبو البقاء: «فإنْ قيل: لِمَ لَمْ يَقُلْ:» فتذكِّرها الأخرى «؟ قيل فيه وجهان، احدُهما: أنه أعاد الظاهرَ لِيَدُّلَّ على الإبهامِ في الذِّكْر والنسيان، ولو أَضْمَرَ لَتَعَيَّن عودُه على المذكور. والثاني: أني وَضَع الظاهرَ مَوْضِع المضمرِ، تقديرُه:» فتذكِّرها «وهذا يَدُلَّ على أن» إحداهما «الثانية مفعولٌ مقدمٌ، ولا يجوزُ أن يكونَ فاعلاً في هذا الوجهِ، لأنَّ المضمرَ هو المُظْهَرُ بعينه، والمُظْهَرُ الأول فاعل» تضِلَّ «فلو جعل الضمير لذلك المظهَرِ لكانت الناسيةُ هي المُذَكِّرَة، وذا مُحَالٌ» قلت: وقد يتبادَرُ إلى الذهنِ أنَّ الوجهينِ راجعانِ لوجهٍ واحدٍ قبلَ التأمُّلِ، لأنَّ قولَه:«أعادَ الظاهرَ» قريبٌ من قوله: «وَضَعَ الظاهرَ مَوْضِعَ المضمرِ» .
و «إحدى» تأنيثُ «الواحد» قال الفارسيّ: «أَنَّثُوه على غير بنائِه، وفي هذا نظرٌ، بل هو تأنيثُ» أَحَد «ولذلك يقابُلونها به في: أحد عشرَ وإحدى عَشَرَة [و] واحدٍ وعشرين وإحدى وعشرين. وتُجْمَعُ» إحدى «على» إحَد «نحو: كِسْرَة وكِسَر. قال أبو العباس:» جَعَلَوا الألفَ في الإِحدى بمنزلةِ التاء في «الكِسْرة» فقالوا في جَمْعِها: إحَد كما قالوا: كَسْرة وكِسَر، كما جَعَلُوه مثلَها في الكُبْرَى والكُبَر، والعُلْيا والعُلى، فكما جَعَلوا هذه كظُلْمة وظُلَم جعلوا الأولَ كسِدْرَة وسِدَر «قال:» وكما جعلوا الألفَ المقصورةَ بمنزلةِ التاءِ فيما ذُكِر جعلوا الممدودة أيضاً بمنزلتِها في قولِهم «قاصِعَاء وقواصِع» ودامّاء ودوامّ «يعني أن فاعِلَة نحو: ضارِِبَة تُجمع على ضوارب، كذا
فاعِلاء نحو: قاصِعاء وراهِطاء تُجْمَع على فَواعِل، وأنشد ابنُ الأعرابي على إحدى وإحَد قولَ الشاعر:
1128 -
حتى استثاروا بيَ إحدى الإِحَدِ
…
ليثاً هِزَبْراً ذا سلاحٍ مُعْتَدي
قال: يقال: هو إحدى الإِحَدِ، وأَحَدُ الأَحَدَيْنِ، وواحدُ الآحادِ، كما يقال: واحدٌ لا مِثْلَ له، وأنشد البيت.
واعلَمْ أنَّ» إحدى «لا تُسْتعمل إلا مضافةً إلى غيرِها، فيقال: إحدى الإِحَدِ وإحداهما، ولا يقال: جاءَتْني إحدى، ولا رأيت إحدى، وهذا بخلافِ مذكَّره.
و» الأُخْرى «تأنيث» آخَر «الذي هو أَفْعَلُ التفضيلِ، وتكونُ بمعنى آخِرة، كقولِه تعالى:{قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولَاهُمْ}
[الأعراف: 38] ، يُجْمَعُ كلُّ منهما على «أُخَر» ، ولكنَّ جمعَ الأولى ممتنعٌ من الصرفِ، وفي علتِه خلافٌ، وجَمْعُ/ الثانيةِ منصرفٌ، وبينهما فرقٌ في المعنى، وهذا كلُّه سأوضِّحه إن شاء الله تعالى في الأعرافِ فإنه أَلْيَقُ به.
قوله: {وَلَا يَأْبَ الشهدآء} مفعولُه محذوفٌ لفهمِ المعنى، أي: لا يَأْبَوْن إقامةَ الشهادةِ، وقيل: المحذوفُ مجرورٌ لأنَّ «أبى» بمعنى امتنع، فيتعدَّى تعديتَه أي مِنْ إقامةِ الشهادة.
و {إِذَا مَا دُعُواْ} ظرفٌ ل «يَأْبَ» أي: لا يَمْتنعون في وقتِ دَعْوَتهم
لأدائِها، أو لإِقامتها، ويجوزُ أن تكونَ متمحضةً للظرف، ويجوز أَنْ تكونَ شرطيةً والجوابُ محذوفٌ أي: إذا دُعوا فلا يَأْبُوا.
قوله: {أَن تَكْتُبُوهُ} مفعولٌ به والناصبُ له «تَسْأَموا» لأنه يتعدَّى بنفسِه قال:
1129 -
سَئِمْتُ تكاليفَ الحياةِ ومَنْ يَعِشْ
…
ثمانينَ حَوْلاً لا أبا لَكَ يَسْأَمِ
وقيل: بل يتعدَّى بحرفِ الجر، والأصلُ: مِنْ أَنْ تكتبُوه، فَحَذَفَ حرفَ الجرِّ للعلمِ به فَيَجْري الخلافُ المشهور في «أَنْ» بعدَ حذفِه، ويَدُلُّ على تعدِّيه ب «مِنْ» قوله:
1130 -
ولقد سَئِمْتُ من الحياةِ وطولِها
…
وسؤالِ هذا الناسِ كيف لبيدُ
والسَّأَم والسَّآمَةُ: المَلَلُ من الشيءَ والضَّجَرُ منه.
والهاءُ في «تَكْتبوه» يجوزُ أَنْ تكونَ للدَّيْن في أول الآية، وأن تكونَ للحقّ في قولِه:«فإنْ كان الذي عليه الحقُّ» وهو أقربُ مذكورٍ، والمرادُ به «الدَّيْن» وقيل: يعودُ على الكتابِ المفهومِ من «يَكْتبوه» قاله الزمخشري.
و «صغيراً أو كبيراً» حالٌ، أي: على أيّ حالٍ كان الدَّيْنُ قليلاً أو كثيراً، وعلى أيِّ حالٍ كان الكتابُ مختصراً أو مُشْبَعاً، وجَوَّزَ السجاوندي انتصابَه على خبرِ «كان» مضمرةً، وهذا لا حاجةَ تَدْعُوا إليه، وليس من مواضعِ إضماره.
وقرأ السلمي: {ولا يَسْأَموا أَنْ يَكْتبوه} بالياءِ من تحتُ فيهما. والفاعلُ على هذه القراءةِ ضميرُ الشهداءِ، ويجوزُ أن يكونَ من بابِ الالتفاتِ، فيعودُ: إمَّا على المتعامِلِين وإمَّا على الكُتَّاب.
قوله: {إلى أَجَلِهِ} يجوزُ فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أظهرُها: أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ أي: أَنْ تكتبوه مستقراً في الذمَّةِ إلى أجلِ حُلولِه. والثاني: أنه متعلِّقٌ بتكتبُوه، قاله أبو البقاء. وهذا قد ردَّه الشيخ فقال:«هو متعلقٌ بمحذوفٍ لا ب» تكتبوه «لعدمِ استمرارِ الكتابةِ إلى أجلِ الدَّيْن إذ ينقضي في زمنٍ يسير، فليس نظيرَ:» سرت إلى الكوفةِ. والثالث: أن يتعلَّقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من الهاءِ، قاله أبو البقاء.
قوله: {ذَلِكُمْ} مُشَارٌ به لأقربِ مذكورٍ وهو الكَتْب. وقيل إليه وإلى الإِشهاد، وقيل: إلى جميع ما ذُكِر وهو أحسنُ. و «أَقْسَطُ» قيل: هو من أَقْسَطَ إذا عَدَلَ، ولا يكونُ من قسَطَ، لأنَّ قَسَط بمعنى جار، وأَقْسَط بمعنى عَدَل، فتكونُ الهمزةُ للسَّلْبِ، إلا أنه يَلْزَمُ بناءُ أَفْعَل من الرباعي، وهو شاذٌّ.
قال الزمخشري: «إنْ قلتَ مِمَّ بُنِي أَفْعلا التفضيلِ - أعني أَقْسَط وأَقْوم؟ - قلت: يجوزُ على مذهبِ سيبويه أَنْ يكونا مَبْنِيَّين مِنْ» أقسط «و» أقام «وأَنْ يكونَ» أَقْسَط «من قاسِط على طريقةِ النسبِ بمعنى: ذي قِسْطٍ؛ و» أقوم «من قويم» . قال الشيخ: لم ينصَّ سيبويه على أنَّ أفعلَ التفضيلِ يُبْنَى من «
أَفْعل» ، إنما يُؤْخَذُ ذلك بالاستدلالِ، فإنه نصَّ في أوائلِ كتابِه على أنَّ «أَفْعَل» للتعجبِ يكونُ من فَعَل وفَعِل وفَعُل وأَفْعَل، وظاهرُ هذا أن «أَفْعَل» للتعجب يُبنى منه أَفْعل للتفضيل، فما اقتاسَ في التعجب اقتاسَ في التفضيلِ، وما شَذَّ فيه شَذَّ فيه شَذَّ فيه. وقد اختلف النحويون في بناءِ التعجبِ وأَفْعَل التفضيل من أَفْعَل على ثلاثةِ مذاهب: الجوازُ مطلقاً، والمنعُ مطلقاً، والتفضيلُ بين أَنْ تكونَ الهمزةُ للنقلِ فيمتنِعَ، أو لا فيجوزَ، وعليه يُؤَوَّل كلامُ سيبويه، حيث قال:«إنه يبنى من أَفْعَل» أي الذي همزتُه لغيرِ التعدية. ومَنْ مَنَعَ مطلقاً قال: «لم يَقُلْ سيبويه وأَفْعَلَ بصيغة الماضي» إنما قالها أَفْعِل بصيغةِ الأمر، فالتبس على السامعِ، ويعني أنه يكونُ فعلُ التعجب على أَفْعِلْ، بناؤُه من فَعَل وفَعِل وفعُل، وعلى أفعِل. ولهذه المذاهبِ موضوعٌ هو أليقُ بالكلامِ عليها.
ونَقَل ابن عطية أنه مأخوذٌ من «قَسُط» بضمِّ السينِ نحو: «أَكْرَمَ» من «كَرُم» . وقيل: هو من القِسْط بالكسر وهو العَدْلُ، وهو مصدرٌ لم يُشْتَقَّ منه فِعْلٌ، وليس من الإِقساط؛ لأنَّ أفعَل لا يُبنى من «الإِفعال» . وهذا الذي قلته كلَّه بناءً منهم على أنَّ الثلاثيَّ بمعنى الجَوْر والرباعيَّ بمعنى العَدْل.
ويُحكى أن سعيد بن جبير لَمَّا سأله الظالمُ [الحجَّاجُ] بن يوسف: ما تقول فِيَّ؟ فقال: «أقولُ إنك قاسِطٌ عادِلٌ» ، فلم يَفْطِن له إلا هو، فقال: إنه جعلني جائراً كافراً، وتلا قوله تعالى:{وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً} [الجن: 15]{ثْمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1] .
وأمَّا إذا جَعَلْناه مشتركاً بين عَدَلَ وبين جارَ فالأمرُ واضحٌ قال ابن القطاع: «قَسَط قُسوطاً وقِسْطاً: جارَ وعَدَل ضِدٌّ» . وحكى ابن السِّيد في كتابِ «الاقتضاب» له عن ابن السكيت في كتاب «الأضداد» عن أبي عبيدة: «قَسَط: جارَ، وقَسَط: عَدَل، وأَقْسطَ بالألفِ عَدَلَ لا غير. وقال أبو القاسم الراغب الأصبهاني:» القِسْطُ أن يأخذَ قِسْطَ غيرِه، وذلك جَوْرٌ، والإِقساطُ أن يُعْطِي قسطَ غيرِه، وذلك إنصافٌ، ولذلك يقال: قَسَط إذا جار، وأَقْسَط إذا عَدَل «وسيأتي لهذا أيضاً مزيدُ بيانٍ في سورة النساءِ إن شاء الله تعالى.
و «عند الله» / ظرفٌ منصوبٌ ب «أَقْسَط» أي: في حكمِه. وقوله «وَأَقْوَمُ» إنما صَحَّت الواوُ فيه لأنه أفعلُ تفضيلٍ، وأفعلُ التفضيلِ يَصِحُّ حملاً على فِعْل التعجب، وصَحَّ فعلُ التعجبِ لجريانه مَجْرى الأسماء لجمودِه وعدمِ تصرُّفِه.
و «أَقْوَمُ» يجوزُ أن يكونَ من «أقام» الرباعي المتعدِّي؛ لكنه حَذَف الهمزةَ الزائدة، ثم أتى بهمزةِ أَفْعل كقولِه تعالى:{أَيُّ الحِزْبَيْنِ أحصى} [الكهف: 12] فيكونُ المعنى: أَثْبَتُ لإِقامتِكم الشهادةَ، ويجوزُ أن يكونَ من «قام» اللازم ويكونُ المعنى: ذلك أثبتُ لقيامِ الشهادةِ، وقامَتِ الشهادةُ: ثَبَتَتْ، قاله أبو البقاء.
قوله: «للشهادةِ متعلِّق ب» أَقْوَم «، وهو مفعولٌ في المعنى، واللامُ زائدةٌ ولا يجوزُ حَذْفَها ونصبُ مجرورِها بعد أفعلِ التفضيلِ إلا ضرورةً كقوله:
1131 -
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
…
وأضْرَبَ منا بالسيوفِ القَوانِسا
وقد قيلَ: إن» القوانسَ «منصوبٌ بمضمرٍ يَدُلُّ عليه أفعلُ التفضيلِ، هذا معنى كلام الشيخ، وهو ماشٍ على أنَّ» أَقْوَم «من أقام المتعدي، وأما إذا جعلته من» قَام «بمعنى ثَبَت فاللامُ غير زائدة.
قوله: {أَلَاّ ترتابوا} أي: أقربُ، وحرفُ الجرِّ محذوفٌ، فقيل: هو اللامُ أي: أَدْنى لئلَاّ ترتابوا، وقيل هو» إلى «وقيل: هو» من «أي: أَدْنى إلى أن لا ترتابوا وأدنوى مِنْ أن لا ترتابوا. وفي تقديرهم» مِنْ «نظرٌ، إذ المعنى لا يساعِدُ عليه. و» ترْتابوا «: تَفْتَعِلُوا من الرِّيبة، والصل:» تَرْتَيِبوا «، فَقُلِبَتِ الياءُ ألفاً لتحرُّكِها وانفتاحِ ما قبلَها. والمفضَّلُ عليه محذوفٌ لفهم المعنى، أي: أَقْسطُ وأقومُ وأدنى لكذا مِنْ عدمِ الكَتْب، وحَسَّن الحذفَ كونُ افعلَ خبراً للمبتدأ بخلافِ كونِه صفةً أو حالاً. وقرأ السلمين:{أَنْ لا يرتابوا] بياء الغيبة كقراءةِ: {ولا يَسْأموا أَنْ يكتبوه} وتقدَّم توجيهُ ذلك.
قوله: {إِلَاّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً} في هذا الاستثناءِ قولان، أحدُهما: أنه متصلٌ قال أبو البقاء:» والجملةُ المستثناةُ في موضعِ نصبٍ لأنه استثناءٌ من الجنس لأنه أمرٌ بالاستشهادِ في كلِّ معاملةٍ، واستثنى منها التجارة الحاضرةَ،
والتقديرُ: إلا في حالِ حضورِ التجارةِ «. والثاني: انه منقطعٌ، قال مكي ابن أبي طالب:» و «أَنْ» في موضعِ نصبٍ على الاستثناءِ المنقطعِ «قلت: وهذا هو الظاهرُ، كأنه قيل: لكنّ التجارةَ الحاضرةَ فإنه يجوزُ عدمُ الاستشهادِ والكَتْبِ فيها.
وقرأ عاصم هنا» تجارةً «بالنصب، وكذلك» حاضرةً «لأنها صفتُها، وفي النساء وافقه الأخوان، والباقون قرؤوا بالرفعِ فيهما. فالرفعُ فيه وجهان، أحدُهما: أنها التامةُ أي: إلا أَنْ تَحْدُثَ أو تقعَ تجارةً، وعلى هذا فتكونُ» تُديرونها «في محلِّ رفعٍ صفةً لتجارةً أيضاً، وجاء هنا على الفصيحِ، حيث قَدَّم الوصفَ الصريحَ على المؤول.
والثاني: ان تكونَ الناقصةَ، واسمُها «تجارةٌ» والخبرُ هو الجملةُ من قوله:«تُديرونها» كأنه قيل: إلا أن تكونَ تجارةٌ حاضرةٌ مدارةً، وسَوَّغ مجيءَ اسمِ كان نكرةً وصفُه، وهذا مذهبُ الفراء وتابعه آخرون.
وأمَّا قراءةُ عاصم فاسمُها مضمرٌ فيها، فقيل: تقديرُه: إلا أَنْ تكونَ المعاملةُ أو المبايَعَةُ أو التجارةُ. وقَدَّره الزجاج إلَاّ أَنْ تكونَ المداينةُ، وهو أحسنُ. وقال الفارسي: «ولا يجوزُ أن يكونَ التداينُ اسمَ كان لأنَّ التداينَ معنىً، والتجارةُ الحاضرةُ يُراد بها العينُ، وحكمُ الاسمِ أن يكونَ الخبرَ في المعنى، والتدايُن حَقٌّ في ذمةِ المستدينِ، للمدين المطالبةُ به، وإذا كان
كذلك لم يَجُزْ أن يكونَ اسمَ كان لاختلافِ التداينِ والتجارةِ الحاضرةِ» وهذا الذي قاله الفارسي لا يَظْهَرُ رداً على أبي إسحاق، لأن التجارةَ أيضاً مصدرٌ، فهي معنىً من المعاني لا عينٌ من الأعيان، وبين الفارسي والزجاج محاورةٌ لأمرٍ ما.
وقال الفارسيّ أيضاً: «ولا يجوزُ أيضاً أَنْ يكونَ اسمَها» الحقُّ «الذي في قوله:» فإن كان الذي عليه الحق «للمعنى الذي ذكرنا في التداين، لأنَّ ذلك الحقَّ دَيْنٌ، وإذا لم يَجُزْ هذا لم يَخْلُ اسمُ كان من أحدِ شيئين، أحدُهما: أنَّ هذه الأشياءَ التي اقتضَتْ من الإِشهادِ والارتهانِ قد عُلِم من فحواها التَبايعُ، فأضمرَ التبايعَ لدلالةِ الحالِ عليه كما أضمرَ لدلالةِ الحال فيما حكى سيبويه:» إذا كان غداً فأتني «ويُنْشَدُ على هذا» :
1132 -
أعينيَّ هَلَاّ تبكِيان عِفاقا
…
إذا كان طَعْناً بينهم وعِناقا
أي: إذا كان الأمر. والثاني: أن يكونَ أضمرَ التجارة كأنه قيل: إلا أن تكونَ التجارةُ تجارةً، ومثلُه ما أنشدَه الفراء:
1133 -
فَدىً لبني ذُهْلِ بن شيبانَ ناقتي
…
إذا كان يوماً ذا كواكبَ أَشْهَبَا
وأنشد الزمخشري:
1134 -
بني أسدٍ هل تَعْلَمُون بلاءنا
…
إذا كان يوماً ذا كواكبَ أَشْنَعا
أي: إذا كان اليومُ يوماً. و «بينكم» ظرفٌ لتُديرونها.
قوله: {فَلَيْسَ} قال أبو البقاء: «دَخَلَتِ الفاءُ في» فليس «إيذاناً بتعلُّق ما بعدَها بما قبلَها» قلت: هي عاطفةٌ هذه الجملةَ على الجملةِ من قولِه: {إِلَاّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً} إلى آخرها، والسببيةُ فيها واضحةُ أي: بسببٍ عن ذلك رُفِع الجناحُ في عَدَمِ الكتابة.
وقوله: {أَلَاّ تَكْتُبُوهَا} أي: «في أن لا» ، فَحُذفَ حرفُ الجر فبقي في موضعِ «أَنْ» الوجهان:
قوله: {إِذَا تَبَايَعْتُم} يجوزُ أن/ تكونَ شرطيةً، وجوابُها: إمَّا متقدم عند قومٍ، وإمَّا محذوفٌ لدلالةِ ما تقدَّم عليه تقديرُه: إذا تبايَعْتُم فَأَشْهِدوا، ويجوزُ أن تكونَ ظرفاً محضاً أي: افعلوا الشهادةَ وقتَ التبايعِ.
قوله: {وَلَا يُضَآرَّ} العامة على فتح الراء جزماً، و «لا» ناهيةٌ، وفُتِح الفعلُ لما تقدم في قراءةِ حمزةَ:«إن تَضِلَّ» .
ثم هذا الفعلُ يحتملُ أن يكونَ مبنياً للفاعلِ، والأًصلُ:«يضارِرْ» بكسر الراءِ الأولى فيكونُ «كاتب» و «شهيد» فاعلَيْن نُهِيا عن مُضَارَّةِ المكتوبِ له والمشهودِ له، نُهِيَ الكاتبُ عن زيادةِ حرفٍ يُبْطل به حقاً أو نقصانِه، ونُهِيَ الشاهدُ [عن] كتمِ الشهادةِ، واختاره الزجاج، ورجَّحه بأنَّ الله تعالى قال:{فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ} ، ولا شك أنَّ هذا من الكاتبِ والشاهدِ فِسْقٌ، ولا يَحْسُنُ أن يكونَ إبرامُ الكاتبِ والشهيدِ والإِلحاحُ عليهما فسقاً. ونُقل في التفسير عن ابن عباس ومجاهد وطاووس
هذا المعنى. ونَقَل الداني عن عمر وابن عباس ومجاهد وابن أبي إسحاق أنهم قرؤوا الراءَ الأولى بالكسرِ حين فَكُّوا.
ويُحْتمل أن يكونَ الفعلُ فيها مبنياً للمفعول، والمعنى: أَنَّ أحداً لا يُضارِرُ الكاتبَ ولا الشاهدِ، ورُجِّح هذا بأنه لو كان النهيُّ متوجِّهاً نحو الكاتبِ والشهيدِ لقال: وإنْ تفعلا فإنه فسوقٌ بكما، ولأنَّ السياقَ من أولِ الآيات إنما هو للمكتوبِ له والمشهودِ له. ونُقِل في التفسير هذا المعنى عن ابن عباس ومَنْ ذُكِر معه. وذكر الداني أيضاً عنهم أنهم قرؤوا الراءَ الأولى بالفتح. قلت: ولا غَرْوَ في هذا إذ الآيةُ عندهم مُحْتَمِلةٌ للوجهين فَسَّروا وقرؤوا بهذا المعنى تارةً وبالآخرِ أخرى.
وقرأ أبو جعفر وعمرو بن عبيد: «ولا يُضارّ» بتشديد الراءِ ساكنةً وَصْلاً، وفيها ضعفٌ من حيث الجمعُ بين ثلاثِ سواكن، لكنه لمَّا كانت الألفُ حرفَ مدٍّ قام مَدُّها مقامَ حركةٍ، والتقاءُ الساكنين مغتفرٌ في الوقف، ثم أُجْري الوصلُ مُجْرى الوقف في ذلك.
وقرأ عكرمة/: «ولا يُضارِرْ كاتباً ولا شهيداً» بالفكِّ وكسرِ الراءِ الأولى، والفاعلُ ضميرُ صاحب الحق، ونَصْبِ «كاتباً» و «شهيداً» على المفعولِ به أي: لا يضارِرْ صاحبُ حقٍ كاتباً ولا شهيداً بأن يُجْبِرَهُ ويُبْرِمَه بالكتابة والشهادةِ؛ أو بأَنْ يحمِلَه على ما لا يَجُوز.
وقرأ ابن محيصن: «ولا يُضارُّ» برفع الراء، وهو نفيٌ فيكونُ الخبر بمعنى النهي كقوله:{فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقْ} [البقرة: 197]
وقرأ عكرمة في رواية مُقْسِم: «ولا يُضارِّ» بكسر الراءِ مشددةً على أصلِِ التقاءِ الساكنين. وقد تقدَّم لك تحقيقُ هذه الأشياءِ عند قولِه {لَا تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} [البقرة: 233] .
قوله: {وَإِن تَفْعَلُواْ} أي: تفعلوا شيئاً مِمَّا نَهَى اللهُ عنه، فَحُذِف المفعولُ به للعلمِ به. والضميرُ في «فإنه» يعودُ على الامتناع أو الإِضرار. و «بكم» متعلقٌ بمحذوفٍ، فقدَّرَه أبو البقاء:«لاحِقٌ بكم» وينبغي أن يُقَدَّر كوناً مطلقاً، لأنه صفةٌ ل «فسوق» أي: فسوقٌ مستقرٌّ بكم، أي: ملتبسٌ بكم ولاصقٌ بكم.
قوله: {وَيُعَلِّمُكُمُ الله} يجوزُ في هذهِ الجملةِ الاستئنافُ - وهو الظاهرُ - ويجوزُ أَنْ تكونَ حالاً من الفاعلِ في «اتَّقوا» قال أبو البقاء: «تقديره: واتقوا اللهَ مضموناً لكم التعليمُ أَو الهدايةُ، ويجوزُ أن تكونَ حالاً مقدَّرَة» . قلت: وفي هذينِ الوجهينِ نظرٌ لأنَّ المضارعَ المثبتَ لا تباشِرُه واوُ الحال، فإنْ وَرَدَ ما ظاهرُه ذَلك يُؤَوَّلُ، لكنْ لا ضرورةَ تَدْعو إليه ههنا.
قوله تعالى: {وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً} : العامةُ على «كاتباً» اسمَ فاعل. وقرأ أُبَيّ ومجاهد وأبو العالية: «كِتاباً» ، وفيه وجهان، أحدهما: أنه مصدرٌ أي ذا كتابة. والثاني: أنه جَمْع كاتبٍ، كصاحب وصِحاب. ونقل الزمخشري هذه القراءة عن أُبَيّ وابن عباس فقط، وقال: «وقال ابن
عباس: أرأيتَ إن وجدتَ الكاتبَ ولم تَجِدْ الصحيفةَ والدَّواة» . وقرأ ابن عباس والضحاك: «كُتَّاباً» على الجمع، اعتباراً بأنَّ كلَّ نازلةٍ لها كاتبٌ. وقرأ أبو العالية:«كُتُباً» جمع كتاب، اعتباراً بالنوازلِ، قلت: قولُ ابن عباس: «أرأيتَ إنْ وجدت الكاتب الخ» ترجِيحٌ للقراءةِ المرويَّةِ عنه واستبعادٌ لقراءةِ غيرِه/ «كاتباً» ، يعني أن المرادَ الكتابُ لا الكاتبُ.
قوله: {فَرِهَانٌ} فيه ثلاثة أوجه، أحدُها: أنه مرفوعٌ بفعلٍ محذوفٍ، أي: فيكفي [عن] ذلك رُهُنٌ مقبوضةٌ. الثاني: أنه مبتدأٌ والخبرُ محذوفٌ أي: فرُهُن مقبوضة تكفي. الثالث: أنه خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ تقديرُه: فالوثيقةُ أو فالقائمُ مقامُ ذلك رُهُنٌّ مقبوضةٌ.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: «فَرُهُنٌّ» بضم الراء والهاء، والباقون «فَرِهَانٌ» بكسر الراء وألف بعد الهاء، رُوي عن ابن كثير وأبي عمرو تسكينُ الهاءِ في رواية.
فأمَّا قراءةُ ابن كثير فجمع رَهْن، وفَعل يُجْمع على فُعل نحو: سَقْف وسُقُف. ووقع في أبي البقاء بعد قوله: «وسَقْف وسُقُف، وأَسَد وأُسُد، وهو [وهم] » ولكنهم قالوا: إن فُعُلاً جَمعُ فَعْل قليل، وقد أورد منه الأخفش ألفاظاً منها: رَهْن ورُهُن، ولَحْد القبر ولُحُد، وقَلْب النخلة وقُلُب، ورجلٌ
ثَطٌّ وقومٌ ثُطٌّ، وفرس وَرْدٌ وخيلٌ وُرُدٌ، وسهم حَشْر وسهام حُشُر. وأنشد أبو عمرو حجةً لقراءتهِ قولَ قعنب:
1135 -
بانَتْ سعادُ وأمسى دونَها عدنُ
…
وَغلَّقَتْ عندَها مِنْ قبلِك الرُّهُنُ
وقال أبو عمرو: «وإنما قَرَأت فَرُهُن للفصلِ بين الرهانِ في الخيلِ وبين جمع» رَهْن «في غيرها» ومعنى هذا الكلام أنما اخترتُ هذه القراءةَ على قراءة «رهان» ، لأنه لا يجوزُ له أَنْ يفعلَ ذلك كما ذَكَر دونَ اتِّباع روايةٍ.
واختار الزجاجِ قراءتَه هذه قال: «وهذه القراءة وافَقَت المصحفَ، وما وافقَ المصحفَ وصَحَّ معناه، وقَرَأت به القُرَّاء فهو المختارُ» . قلت: إن الرسم الكريم «فرهن» دون ألفٍ بعد الهاء، مع أنَّ الزجاج يقول:«إنَّ فُعُلاً جمعَ فَعْلٍ قليلٌ» ، وحُكي عن أبي عمرو أنه قال:«لا أعرفُ الرِّهان إلا في الخيل لا غير» . وقال يونس: «الرَّهْنُ والرِّهان عربيان، والرُّهُنْ في الرَّهْنِ أكثرُ، والرِّهان في الخيلِ أكثرُ» وأنشدوا أيضاً على رَهْن ورُهُن قوله - البيت -:
1136 -
آلَيْتُ لا نُعْطِيه من أَبْنائِنا
…
رُهُناً فيُفْسِدَهم كَرَهْنٍ أَفْسدا
وقيل: إنَّ رُهُنا جمعُ رِهان، ورِهان جمعُ رَهْن، فهو جَمْعُ الجمع، كما قالوا في ثِمار جمعَ ثَمَر، وثُمُر جَمعُ ثِمار، وإليه ذهب الفراء وشيخه، ولكنَّ جَمْعَ الجمعِ غيرُ مطرَّدٍ عند سيبويه وجماهيرِ أتباعه.
وأمَّا قراءةُ الباقين «رِهانِ فرِهان جمعُ» رَهْن «وفَعْل وفِعال مطردٌ كثير نحو: كَعْب/ وكِعَاب، وكَلْب وكِلاب، ومَنْ سَكَّن ضمةَ الهاءِ في» رُهُن «فللتخفيفِ وهي لغةٌ، يقولون: سُقْف في سُقُف جمعَ سَقْف.
والرَّهْنُ في الأصل مصدُرَ رَهَنْتُ، يقال: رَهنْتُ زيداً ثوباً أَرْهَنُه رَهْناً أي: دفعتُه إليه رَهْناً عنده، قال:
1137 -
يراهِنُني فَيَرْهَنُنِي بَنِيه
…
وأَرْهَنُه بَنِيَّ بما أَقولُ
وأرهنْتُ زيداً ثوباً أي: دفعتُه إليه ليرهنَه، فَفرَّقوا بين فَعَل وأَفْعَل. وعند الفراء رَهَنْتُه وأَرْهَنْتُه بمعنى، واحتجَّ بقولِ همام السلولي:
1138 -
فَلَمَّا خَشِيْتُ أظافيرَهُمْ
…
نَجَوْتُ وأَرْهَنْتُهُمْ مالِكا
وأنكر الأصمعيُّ هذه الروايةَ وقال:» إنما الروايةُ: وأَرْهنُهُم مالكا «، والواوُ للحالِ كقولِهِم:» قَمْتُ وأصُكُّ عينَه «وهو على إضمارِ مبتدأ.
وقيل: أرْهْنَ في السِّلعة إذا غالى فيها حتى أَخَذَها بكثيرِ الثمنِ ومنه قولُه:
1139 -
يَطْوي ابنُ سلمى بها من راكبٍ بَعُداً
…
عِيدِيَّةٌ أُرْهِنَتْ فيها الدَّنانيرُ
ويقال: رَهَنْتُ لساني بكذا، ولا يُقال فيه» أَرْهَنْتُ «وأنشدوا
. . . . . . . . . . . . . . . . . .
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ثم أُطْلق الرَّهْنُ على المرهونِ من بابِ إطلاقِ المصدرِ على اسمِ المفعول نحو قولِه تعالى: {هذا خَلْقُ الله} [لقمان: 11] ، و» درهَمٌ ضَرْبُ الأمير «، فإذا قلت:» رَهَنْتُ زيداً ثوباً رَهْناً «فرَهْناً هنا مصدرٌ فقط، وإذا قلت» رهنْتُ زيداً رَهْناً «فهو هنا مفعولٌ به لأنَّ المرادَ به المرهونُ، ويُحتمل أن يكونَ هنا» رَهْناً «مصدراً مؤكداً أيضاً، ولم يَذْكرِ المفعولَ الثانيَ اقتصاراً كقوله:{وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ} [الضحى: 4] .
و» رَهْن «مِمَّا استُغْنى فيه بجمعِ كثرتِه عن جمعِ قلَّته، وذلك أنَّ قياسَه في القلةِ أَفْعُل كفَلْس وأفلُس، فاستُغْنِيَ برَهْن ورِهان عن أَرْهُن.
وأصلُ الرَّهْنِ: الثبوتُ والاستقرارُ، يقال: رَهَنَ الشيءُ، فهو راهنٌ إذا دام واستقر، ونِعمة راهنة أي دائمة ثابتة. وأنشد ابن السكيت:
1140 -
لا يَسْتَفيقون منها وَهْي راهِنةٌ
…
إلا بهاتِ وإنْ عَلُّوا وإنْ نَهِلوا
ويقال:» طعام راهن «أي: مقيم دائم، قال:
1141 -
الخبزُ واللحمُ لهم راهِن
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أي: دائمٌ مستقرٌّ، ومنه سُمِّي المرهونُ» رَهْناً «لدوامهِ واستقرارهِ عند المُرْتَهِنِ.
وقوله: {وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً} في هذه الجملةِ ثلاثةُ أوجه، أحدُها: أنها عطفٌ على فعلِ الشرطِ أي:» وإنْ كنتم ولم تَجِدوا «فتكونُ في محلِّ جزمِ لعطفِها على ما هو مجزومٌ تقديراً. والثاني: أن تكونَ معطوفةٌ على خبرِ كان، أي: وإنْ كنتم لم تَجِدُوا [كاتباً} والثالث: أَنْ تكونَ الواوُ للحال، والجملةُ بعدَها نصبٌ على الحالِ فهي على هذين الوجهين الأخيرين في محلِّ نصب.
قوله: {فَإِنْ أَمِنَ} قرأ أُبَيّ فيما نَقَلَه عنه الزمخشري «أُومِنَ» مبنياً للمفعول. قال الزمخشري: «أي أَمِنَه الناس ووصفوا المَدْيونَ بالأمانةِ والوفاء» . قلت: وعلامَ تنتصبُ «بعضاً؟ والظاهرُ نصبُه/ بإسقاط الخافض على حذفِ مضافٍ أي: فإن أومِنَ بعضُكم على متاعِ بعضٍ أو على دَيْنِ بعض.
قوله: {فَلْيُؤَدِّ الذي اؤتمن} إذا وُقِفَ على» الذي «وابتُديء بما بعدها قيل:» اوتُمِنَ «بهمزةٍ مضمومة بعدَها واو ساكنة، وذلك لأنَّ أصلَه أُأْتُمِنَ، مثل
اقْتُدِرَ بهمزتين: الأولى للوصلِ والثانيةُ فاءُ الكلمة، ووقعَتِ الثانيةُ ساكنةً بعد أخرى مثلِها مضمومةً وجب قَلْبُ الثانيةُ لمجانِسِ حركةِ الأولى فقلت: أُوْتُمِنَ. فأمَّا في الدَّرْج فتذهبُ همزةُ الوصلِ فتعود الهمزةُ إلى حالِها لزوالِ موجبِ قلبِها واواً بل تُقْلَبُ ياءً صريحةً في الوصلِ في رواية ورش والسوسي.
ورُوي عن عاصم:» الذي اوتُمِن «برفعِ الألفِ ويُشيرِ بالضمة إلى الهمزة، قال ابن مجاهد:» وهذه الترجمةُ غلط «. ورَوى سليم عن حمزة إشمامَ الهمزةِ الضمَّ، وفي الإِشارة والإِشمامِ المذكورَيْن نظرٌ. وقرأ عاصم أيضاً في شاذِّة:» الَّذِتُّمِنَ «بإدغامِ الياء المبدلةِ من الهمزةِ في تاء الافتعال، قال الزمخشري:» قياساً على «اتَّسر» في الافتعال من اليُسْر، وليس بصحيحٍ لأنَّ الياءَ منقلبةٌ عن الهمزةِ فهي في حكمِ الهمزةِ، واتَّزر عاميُّ، وكذلك «رُيَّا» في «رُؤْيا» قال الشيخ:«وما ذكر الزمخشري فيه أنه ليس بصحيح وأن» اتَّزر «عامِّي - يعني أنه من إحداث العامة لا أصلَ له في اللغة - قد ذَكَره غيرُه أنَّ بعضَهم أَبْدَلَ وأدْغَمَ:» اتَّمَنَ واتَّزَرَ «وأنَّ ذلك لغةٌ رديئة، وكذلك» رُيَّا «في رُؤْيا، فهذا التشبيهُ: إمَّا أن يعودَ على قولِه:» واتَّزر عاميٌّ «فيكونُ إدغام» رُيَّا «عامياً، وإمَّا أَنْ يعودَ إلى قولِه» فليس بصحيحٍ «أي: وكذلك إدْغَامُ» رُيَّا «ليس بصحيحٍ، وقد حكَى الكسائي الإِدغمَ في» رُيَّا «.
وقولُه: {أَمَانَتَهُ} يجوزُ أن تكونَ الأمانةُ بمعنى الشيء المُؤْتَمَنِ عليه فينتصبَ انتصابَ المفعولِ به بقولِه:» فليؤدِّ «، ويجوزُ أَنْ تكونَ مصدراً على أصلِها، وتكونُ على حَذْفِ مضاف، أي: فليؤدِّ دَينَ أمانتهِ. ولا جائزٌ أن تكونَ منصوبةٌ على مصدرِ ائتُمِنَ. والضميرُ في» أمانتَه «يُحْتَمل أَنْ يعودَ على صاحبِ الحقِّ، وأَنْ يعودَ على الذي ائتُمِن.
قوله: {فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} في هذا الضمير وجهان، أحدُهما: أنه ضميرُ الشأنِ والجملةُ بعدَه، مفسِّرٌ له. والثاني: أنه ضميرُ» مَنْ «في قولِه:» ومَنْ يَكتُمْها «وهذا هو الظاهرُ.
وأمَّا «آثمٌ قلبُه» ففيه أوجهٌ: أظهرُها: أنَّ الضميرَ في «إنه» ضميرُ «مَنْ» و «آثمٌ» خبرُ إنَّ، و «قلبُه» فاعلٌ بآثم، نحو قولِك: زيدٌ إنه قائمٌ أبوه، وعَمَلُ اسمِ الفاعلِ هنا واضحٌ لوجودِ شروطِ الإِعمال. ولا يجيءُ هذا الوجهُ على القولِ بأنَّ الضميرَ ضميرُ الشأن، لأنَّ ضميرَ الشأنَ لا يُفَسَّر إلا بجملةٍ، واسمُ الفاعلِ مع فاعلِه عند البصريين مفردٌ، والكوفيون يُجيزون ذلك.
الثاني: أن يكونَ «آثمٌ» خبراً مقدماً، و «قلبُه» مبتدأ مؤخراً، والجملةُ خبرَ «إنَّ» ذكر ذلك الزمخشري وأبو البقاء وغيرُه، وهذا لا يجوزُ على أصول الكوفيين؛ لأنه لا يعودُ عندَهم الضميرُ المرفوعُ على متأخرٍ لفظاً، و «آثمٌ» قد تَحَمَّل ضميراً لأنه وَقَع خبراً، وعلى هذا الوجهِ فيجوزُ أن تكونَ الهاءُ ضميرَ الشأن وأَنْ تكونَ ضميرَ «مَنْ» .
والثالث: أن يكونَ «آثم» خبرَ إنَّ، وفيه ضميرٌ يعودُ على ما تعودُ عليه الهاء في «إنه» ، و «قلبُه» بدلٌ من ذلك الضمير المستترِ بدلُ بعضٍ من كل.
الرابع: أن يكونَ «آثم» مبتدأً، و «قلبُه» فاعلٌ سدَّ مسدَّ الخبر، والجملةُ
خبرُ إنَّ، قاله ابن عطية، وهو لا يجوزُ عند البصريين، لأنه لا يعملُ عندَهم اسمُ الفاعل إلا إذا اعتمد على نفيٍ أو استفهام نحو: ما قائمٌ أبواك، وهل قائمٌ أخواك، وما قائمٌ قومك، وهل ضاربٌ إخوتك. وإنما يجوزُ هذا عند الفراءِ من الكوفيين والأخفشِ من البصريين، إذ يجيزان: قائمٌ الزيدان وقائمٌ الزيدون، فكذلك في الآية الكريمة.
وقرأ ابنُ أبي عبلة: «قلبَه» بالنصب، نسبَها إليه ابن عطية. وفي نصبه ثلاثةُ أوجه، أحدُها: أنه بدلٌ من اسم «إنَّ» بدلُ بعض من كل، ولا محذورَ في الفصلِ بالخبر - وهو آثمٌ - بين البدلِ والمبدلِ منه، كما لا محذورَ في الفصل به بين النعتِ والمنعوتِ نحو: زيد منطلق العاقل، مع أنَّ العاملَ في النعت والمنعوت واحدٌ، بخلافِ البدلِ والمبدلِ منه/ فإنَّ الصحيحَ أنَّ العاملَ في البدلِ غيرُ العاملِ في المُبْدَلِ منه.
الثاني: أنه منصوبٌ على التشبيهِ بالمفعولِ به، كقولك:«مررت برجلٍ حسنٍ وجهُه» وفي هذا الوجه خلافٌ مشهورٌ، وهو ثلاثةُ مذاهبَ: الأول مذهب الكوفيين وهو الجواز مطلقاً، أعني نظماً ونثراً. الثاني: المنعُ مطلقاً، وهو مذهبُ المبرد. الثالث: مَنْعُه من النثر وجوازُه في الشعرِ، وهو مذهبُ سيبويه، وأنشدَ الكسائي على ذلك:
1142 -
أَنْعَتُها إنِّيَ مِنْ نُعَّاتِها
…
مُدارةَ الأخفْافِ مُجْمَرَّاتِها
غُلْبَ الرِّقابِ وعَفَرْ نِياتِها
…
كُومَ الذُّرى وادِقَةً سُرَّاتِها
ووجه ضعفِه عند سيبويه في النثر تكرُّر الضمير.
والثالث: أنه منصوبٌ على التمييز حكاه مكي وغيرُه، وضَعَّفوه بأنَّ التمييز لا يكونُ إلا نكرةً، وهذا عند البصريين، وأمَّا الكوفيون فلا يَشْتَرطون تنكيرَه، ومنه عندهم:
{إِلَاّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة: 130]{بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} [القصص: 85] وأنشدوا:
1143 -
إلى رُدُحٍ من الشِّيزى مِلاءٍ
…
لُبَابَ البُرِّ يُلْبَكُ بالشِّهادِ
وقرأ ابن أبي عبلة - فيما نقل عنه الزمخشري - «أَثِم قلبَه» جعل «أثم» فعلاً ماضياً مشدد العين، وفاعلُه مستترٌ فيه، «قلبه» مفعول به أي: جعل قلبَه آثماً أي: أثم هو، لأنه عَبَّر بالقلب عن ذاتِه كلها لأنه أشرفُ عضوٍ فيها.
وقرأ أبو عبد الرحمن: «ولا يَكْتُموا» بياء الغَيْبَةِ، لأنَّ قبلَه غيباً وهم من ذَكَر في قولِه:{كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ} ، وهو وإنْ كان بلفظِ الإِفراد فالمرادُ به الجَمْعُ، ولذلك اعتبَرَ معناه في قراءة أبي عبد الرحمن فجَمَعَ في قوله:«ولا يكتموا» .
وقد اشتملَتْ هذه الآياتُ على أنواع من البديعِ منها: التجنيسُ المغايرُ في «تدايَنْتُم بدَيْن» نظائره، والمماثلُ في قولِه:{وَلَا تَكْتُمُواْ الشهادة وَمَن يَكْتُمْهَا} والطباقُ في «تَضِلَّ» و «تذكِّر» و «صغيراً وكبيراً» ، وهي كثيرةٌ، وتؤخذ مِمَّا تقدَّم فلا حاجةَ إلى التكثير بذكرِها. وقرأ السلمي أيضاً:{والله بِمَا تَعْمَلُونَ} بالغيبة جرياً على قراءته بالغَيْبَة.
قوله تعالى: {فَيَغْفِرُ} قرأ ابن عامر وعاصم برفع «يغفرُ» و «يعذبُ» ، والباقون من السبعةِ بالجزم. وقرأ ابنُ عباس والأعرج وأبو حيوة:«فيغفرَ» بالنصب.
فأمَّا الرفعُ فيجوزُ أَنْ يكونَ رفعُه على الاستئنافِ، وفيه احتمالان، أحدُهما: أن يكونَ خبرَ مبتدأٍ محذوفٍ أي: فهو يغفرُ. والثاني: أنَّ هذه جملةٌ فعليةٌ من فعلٍ وفاعلٍ عُطِفَتْ على ما قبلها. وأمّا الجزمُ فللعطفِ على الجزاءِ المجزوم.
وأمَّا النصبُ فبإضمارِ «أَنْ» وتكونُ هي وما في حَيِّزها بتأويلِ مصدرٍ معطوف على المصدر المتوهَّم من الفعلِ قبلَ ذلك تقديره: تكنْ محاسبةٌ فغفرانٌ وعذابٌ. وقد رُوي قولُ النابغة بالأوجهِ الثلاثة وهو:
1144 -
فإنْ يَهْلِكْ أبو قابوسَ يَهْلِكْ
…
ربيعُ الناسِ والبلدُ الحرامُ
ونأخذْ بعدَه بذِنابِ عيشٍ
…
أجَبَّ الظهرِ ليسَ له سَنامُ
بجزمِ «نأخذ» عطفاً على «يَهْلك ربيع» ونصبهِ ورفعِه، على ما ذكرتُه لك
في «فَيغفر» وهذه قاعدةٌ مطردةٌ: وهي أنه إذا وقع بعدَ جزاءِ الشرط فعلٌ بعد فاءٍ أو واوٍ جازَ فيه هذه الأوجُهُ الثلاثةُ، وإن توسَّطَ بين الشرطِ والجزاءِ جاز جزمُه ونصبُه وامتنع رفعُه نحو: إن تأتني فَتَزُرْني أو فتزورَني، أو وتزرْني أو وتزورَني.
وقرأ الجعفيّ وطلحة بن مصرف وخلاد: «يَغْفِرْ» بإسقاطِ الفاء، وهي كذلك في مصحفِ عبد الله، وهي بدلٌ من الجوابِ كقوله تعالى:{وَمَن يَفْعَلْ ذلك يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ العذاب} [الفرقان: 68-69] . وقال أبو الفتح: «وهي على البدلِ من» يُحاسِبْكم «فهي تفسيرٌ للمحاسبة» قال الشيخ: «وليس بتفسيرٍ، بل هما مترتِّبان على المحاسَبَةِ» . قال الزمخشري: «ومعنى هذا البدلِ التفصيلُ لجملة الحساب لأنَّ التفصيلَ أوضحُ من المفصَّلِ، فهو جارٍ مجرى بَدَلِ البعضِ من الكلِ أو بدلِ الاشتمال، كقولك:» ضربتُ زيداً رأسه «و» أحببتُ زيداً عقله «، وهذا البدلُ واقعٌ في الأفعالِ وقوعَه/ في الأسماءِ لحاجةِ القبيلين إلى البيان» .
قال الشيخ: «وفيه بعضُ مناقشةٍ: أمَّا الأولُ فقولُه:» ومعنى هذا البدلِ التفصيلُ لجملةِ الحسابِ «وليس العذابُ والغفرانُ تفصيلاً لجملةِ الحسابِ، لأنَّ الحسابَ إنما هو تعدادُ حسناتِه وسيئآتِه وحصرُها، بحيث لا يَشُذُّ شيءٌ منها، والغفرانُ والعذابُ مترتِّبان على المحاسَبَة، فليست المحاسبةُ مفصَّلةً بالغفرانِ والعذابِ. وأمَّا ثانياً فلقوله بعد أَنْ ذَكَر بدلَ البعض
من الكل وبدلَ الاشتمال:» وهذا البدلُ واقعٌ في الأفعالِ وقوعَه في الأسماء لحاجةِ القبيلين إلى البيان «أمَّا بدلُ الاشتمال فهو يمكنُ، وقد جاءَ لأنَّ الفعلَ يَدُلُّ على الجنسِ وتحتَه أنواعٌ يشتمِلُ عليها، ولذلك إذا وَقَع عليه النفيُ انتفَتْ جميعُ أنواعه، وأمَّا بدلُ البعضِ من الكلِّ فلا يمكنُ في الفعل إذ الفعلُ لا يقبلُ التجزُّؤ، فلا يُقال في الفعلِ له كل وبعض إلا بمجازٍ بعيدٍ، فليس كالاسم في ذلك، ولذلك يَسْتَحِيل وجود بدل البعض من الكل في حق الله تعالى، إذ الباري تعالى لا يتقسم ولا يتبعض.
قلت: ولا أدري ما المانعُ من كونِ المغفرةِ والعذابِ تفسيراً أو تفصيلاً للحساب، والحسابُ نتيجتُه ذلك، وعبارةُ الزمخشري هي بمعنى عبارة ابن جني. وأمَّا قولُه:«إنَّ بدلَ البعضِ من الكل في الفعلِ متعذرٌ، إذ لا يتحقق فيه تجزُّؤٌ» فليس بظاهرٍ، لأنَّ الكليةَ والبعضيةَ صادقتان على الجنس ونوعِه، فإنَّ الجنسَ كلٌّ والنوعَ بعضٌ. وأمَّا قياسُه على الباري تعالى فلا أدري ما الجامع بينهما؟ وكان في كلامِ الزمخشري ما هو أولى بالاعتراض عليه. فإنه قال:«وقرأ الأعمش:» يَغْفر «بغير فاءٍ مجزوماً على البدلِ من» يحاسِبْكم «كقوله:
1145 -
متى تَأْتِنا تُلْمِمْ بنا في ديارِنا
…
تَجِدْ حَطَباً جَزْلاً وناراً تَأَجَّجا
وهذا فيه نظرٌ؛ لأنه لا يطابق ما ذكره بعدَ ذلك كما تقدَّم حكايتُه عنه؛ لأن البيت قد أُبْدِل فيه من فعلِ الشرط لا من جوابِه، والآية قد أُبْدل فيها من نفسِ الجواب، ولكنَّ الجامعَ بينهما كونُ الثاني بدلاً مِمَّا قبلَه وبياناً له.
وقرأ أبو عمرو بإدغام الراء في اللام والباقون بإظهارها. وأظهر الباءَ قبل الميم هنا ابن كثير بخلافٍ عنه، وورش عن نافع، والباقون بالإِدغم. وقد طَعَن قومٌ على قراءةِ أبي عمرو لأنَّ إدغام الراءِ في اللام عندهم ضعيفٌ.
قال الزمخشري:» فإنْ قلت: «كيف يَقْرأ الجازم» ؟ قلت: يُظْهِر الراءَ ويُدْغِم الباء، ومُدْغِمُ الراءِ في اللامِ لا حنٌ مخطىء خطأً فاحشاً، وراويه عن أبي عمروٍ مخطىءٌ مرتين، لأنه يَلْحَنُ ويَنْسُبُ إلى أعلمِ الناس بالعربية ما يؤُذن بجهلٍ عظيم، والسببُ في هذه الروايات قلةُ ضبطِ الرواة، وسببُ قلةِ الضبطِ قلةُ الدراية، ولا يَضْبِط نحوَ هذا إلا أهلُ النحو «قلت: وهذا من أبي القاسم غير مَرْضِيٍّ، إذ القُرَّاء مَعْنِيُّون بهذا الشأن، لأنهم تَلقَّوا عن شيوخهم الحرفَ بعد الحرفِ، فكيف يَقِلُّ ضبطُهم؟ وهو أمرٌ يُدْرَكُ بالحسِّ السمعي، والمانعُ من إدغام الراءِ في اللامِ والنونِ هو تكريرُ الراءِ وقوتها، والأقوى لا يدغم في الأضعف، وهذا مَذهبُ البصريين: الخليل وسيبويه ومَنْ تَبِعهما، وأجاز ذلك الفراء والكسائي والرؤاسي ويعقوب الحضرمي ورأسُ البصريين أبو عمرو، وليس قولُه:» إن هذه الروايةَ غَلَطٌ عليه «بمُسَلَّم. ثم ذكر الشيخ نقولاً عن القراء كثيرةً هي منصوصة في كتبهم، فلم أرَ لذكرها هنا فائدةً، فإنَّ مجموعها مُلَخَّصٌ فيما ذكرته، وكيف يُقال إن الراوي ذلك عن
أبي عمروٍ مخطىءٌ مرتين، ومن جملة رُواته اليزيديُّ إمامُ النحوِ واللغةِ، وكان ينازع الكسائي رئاسته، ومحلُّ مشهور بين أهلِ هذا الشأن.
قوله تعالى: {والمؤمنون} : يجوزُ فيه وجهان، أحدُهما: أنه مرفوعٌ بالفاعليةِ عطفاً على «الرسول» فيكونُ الوقفُ هنا، ويَدُّلُّ على صحةِ هذا ما قرأ به أمير المؤمنين عليُّ ابن أبي طالب:«وآمن المؤمنون» ، فَأَظْهَر الفعلَ، ويكون قولُه:«كلُّ آمَن» جملةً من مبتدأٍ وخبر يَدُلُّ على أنَّ جميعَ مَنْ تقدَّم ذكرُه آمَنَ بما ذكر. والثاني: أن يكون «المؤمنون» مبتدأً، و «كلٌّ» مبتدأٌ ثانٍ، و «آمن» خبرٌ عَنْ «كل» وهذا المبتدأ وخبرُه خبرُ الأولِ، وعلى هذا فلا بُدَّ من رابطٍ بين هذه الجملةِ وبين ما أخبر بها عنه، وهو محذوفٌ تقديرُه:«كلُّ منهم» وهو كقولهم: «السَّمْنُ منوانِ بدرهم» تقديرُه: منوانِ منه. قال الزمخشري: «والمؤمنون إْن عُطِفَ على الرسول كان الضميرُ الذي التنوينُ نائبٌ عنه في» كل «راجعاً إلى» الرسول «و» المؤمنون «أي: كلهم آمن بالله وملائكتِه وكتبهِ ورسلِه من المذكورين ووُقِفَ عليه، وإن كان مبتدأ كان الضميرُ للمؤمنين» .
فإن قيل: هل يجوزُ أَنْ يكون «المؤمنون» مبتدأ، و «كلٌ» تأكيدٌ له، و «آمن» خبرُ هذا المبتدأ، فالجوابُ أنَّ ذلك لا يجوزُ لأنهم نَصُّوا على أنَّ «كُلَاّ» وأخواتِها لا تَقَعُ تأكيداً للمعارف إلا مضافةً لفظاً لضميرِ الأول، ولذلك رَدُّوا قولَ مَنْ قال: «إنَّ كُلَاّ في قراءة من قرأ: {إِنَّا كُلٌّ فِيهَآ} [غافر: 48] تأكيدٌ لاسم إنَّ.
وقرأ الأخَوَان هنا» وكتابِه «بالإِفراد والباقون بالجمعِ. وفي سورة التحريم قرأ أبو عمرو وحفص عن عاصم بالجمعِ والباقون بالإِفراد. فتلخَّص من ذلك أنَّ الأخوين يقرآن بالإِفراد في الموضعين، وأنَّ أبا عمرو وحفصاً يقرآن بالجمعِ في الموضعين، وأنَّ نافعاً وابن كثير وابن عامر وأبا بكر عن عاصم قرؤوا بالجمعِ/ هنا وبالإِفرادِ في التحريم.
فأمَّا الإِفرادُ فإنه يُراد به الجنسُ لا كتابٌ واحدٌ بعينِه، وعن ابن عباس:» الكتاب أكثر من الكتب «قال الزمخشري:» فإنْ قلت: كيف يكون الواحدُ أكثرَ من الجمع؟ قلت: لأنه إذا أُريد بالواحدِ الجنسُ، والجنسيةُ قائمةٌ في وحدات الجنس كلِّها لم يَخْرُجْ منه شيء، وأمَّا الجمعُ فلا يَدْخُل تحته إلَاّ ما فيه الجنسية من الجموع «. قال الشيخ:» وليس كما ذكر لأنَّ الجمعَ متى أُضِيف أو دَخَلَتْه الألفُ واللامُ [الجنسية] صارَ عامَّاً، ودلالةُ العامِّ دلالةٌ على كلِّ فردٍ فردٍ، فلو قال:«أَعْتَقْتُ عبيدي» لشمل ذلك كلَّ عبدٍ له، ودلالةُ الجمعِ أظهرُ في العموم في الواحدِ سواءً كانت فيه الألفُ واللامُ أو الإضافةُ، بل لا يُذْهَبُ إلى العموم في الواحدِ إلَاّ بقرينةٍ لفظيةٍ كَأَنْ يُسْتَثْنَى منه أو يوصفَ بالجمعِ نحو:
{إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ إِلَاّ الذين آمَنُواْ} [العصر: 2]«أهلك الناسَ الدينارُ الصُّفر والدرهم البيض» أو قرينةٍ معنويةٍ نحو: «نيَّةُ المؤمنِ أبلغُ مِنْ عملِه» وأقصى حالِهِ أن يكونَ مثلَ الجمعِ العامِّ إذا أريد به العمومُ «قلت: للناس خلافٌ في الجمعِ المحلَّى بأَلْ أو المضافِ: هل عمومُه بالنسبةِ إلى مراتبِ الجموعِ أم إلى أعمَّ من ذلك، وتحقيقُه في علم الأصول.
قال الفارسي:» هذا الإِفرادُ ليس كإفراد المصادر وإنْ أريدَ بها الكثيرُ كقوله تعالى: {وادعوا ثُبُوراً كَثِيراً} [الفرقان: 24] ولكنه كما تُفْرَدُ الأسماءُ التي يُرَاد بها الكثرةُ نحو: كَثُرَ الدينارُ والدرهمُ، ومجيئها بالألف واللامِ أكثرُ من مجيئها مضافةً، ومن الإِضافةِ:{وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34] وفي الحديث: «مَنَعَتِ العراقُ درهمَها وقَفِيزها» يُراد به الكثيرُ، كما يُراد بما فيه لامُ التعريفُ «. قال الشيخ:» انتهى ملخصاً، ومعناه أنَّ المفردَ المحلَّى بالألفِ واللامِ يَعُمُّ أكثرَ من المفردِ المضافِ «.
قلت: وليس في كلامه ما يدُلُّ على ذلك البتةَ، إنما فيه أنَّ مجيئها في الكلامِ مُعَرَّفةً بأل أكثرُ من مجيئها مضافةً، وليس فيه تَعَرُّضٌ لكثرةِ عمومٍ ولا قِلَّتِهِ.
وقيل: المرادُ بالكتابِ هنا القرآن فيكونُ المرادُ الإِفرادَ الحقيقي. وأمَّا الجمعُ فلإِرادةِ كلِّ كتابٍ، إذ لا فرق بين كتابٍ وكتابٍ، وأيضاً فإنَّ فيه مناسبةً لِما قبلَه وما بعدَه من الجمعِ.
ومَنْ قَرَأ بالتوحيدِ في التحريم فإنما أراد به الإِنجيلَ كإرادة القرآن هنا، ويجوزُ أن يُرادَ به أيضاً الجنسُ. وقد حَمَل على لفظ» كُل «في قوله:» آمن «فَأَفْرَدَ الضميرَ وعلى معناه فجمع في قوله:» وقالوا سَمِعْنَا «. قال الزمخشري:» ووحَّد ضمير «كل» في «آمَنَ» على معنى: كُلُّ واحدٍ منهم آمَنَ، وكان يجوزُ أن يُجْمَعَ كقولِه تعالى:{وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} [النمل: 87] .
وقرأ يَحْيى بن يَعْمر - ورُويت عن نافع - «وكُتْبِهِ ورُسْلِهِ» بإسكانِ العينِ فيهما. ورُوي عن الحسن وأبي عمرو تسكينُ سين «رُسْله» .
قوله: {لَا نُفَرِّقُ} هذه الجملةُ منصوبةٌ بقولٍ محذوف تقديرُه: يقولون لا نُفرِّق، ويجوز أن يكونَ التقديرُ: يقول، يعني يجوزُ أَنْ يراعى لفظُ «كل» تارةً ومعناها أخرى في ذلك القولِ المقدرِ، فَمَنْ قَدَّر «يقولون» راعى معناها، وَمَنْ قدَّر «يقول» راعى لفظَها، وهذا القَولُ المضمرُ في محلِّ نصبٍ على الحالِ ويجوزُ أَنْ يكونَ في محلِّ رفعٍ لأنه خبرٌ بعد خبرٌ، قاله الحوفي.
والعامَّةُ على «لا نفرِّقُ» بنون الجمعِ. وقرأ ابن جبير وابن يعمر وأبو زرعة ويعقوب، ورُويت عن أبي عمرو أيضاً:«لا يُفَرِّقُ» بياء الغيبة حملاً على لفظ «كل» .
وروى هارون أن في مصحف عبد الله «لا يُفَرِّقون» بالجمعَ حَمْلا على معنى «كل» ، وعلى هاتين القراءتين فلا حاجةَ إلى إضمارِ قولٍ، بل الجملةُ المنفيةُ بنفسِها: إمَّا في محلِّ نصبٍ على الحالِ، وإمَّا في محلِّ رفعٍ خبراً ثانياً كما تقدَّم في ذلك القولِ المضمرِ.
قوله: {بَيْنَ أَحَدٍ} متعلِقٌ بالتفريقِ، وأُضيف «بين» إلى أحد وهو مفرد، وإنْ كان يقتضي إضافَتَه إلى متعدد نحو:«بين الزيدين» أو «بين زيد وعمرو» ، ولا يجوزُ «بين زيد» ويَسْكُت: إمَّا لأنَّ «أحداً» في معنى العموم وهو «أحد» الذي لا يُسْتعمل إلا في الجَحْد ويُراد به العمومُ، فكأنه قيل: لا نفرِّقُ بين
الجميعِ من الرسل. قال الزمخشري: كقوله: {فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة: 47]، ولذلكَ دَخَل عليه «بين» وقال الواحدي:«وبين» تقتضي شيئين فصاعداً، وإنما جاز ذلك مع «أحد» وهو واحدٌ في اللفظِ، لأنَّ «أحداً» يجوزُ أَنْ يُؤَدَّى عن الجميعِ، قال الله تعالى:{فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} وفي الحديث: «ما أُحِلَّتْ الغنائمُ لأحدٍ سودِ الرؤوسِ غيرِكم» يعني فوصَفَه بالجمع، لأنَّ المرادَ به جمعٌ. قال:«وإنَّما جازَ ذلكَ لأن» أحداً «ليس كرجل يجوز أن يُثَنَّى ويُجْمع، وقولُك:» ما يفعل هذا أحدٌ «تريد ما يفعلُه الناسُ كلُّهم، فلمٌا كان» أحد «يؤدَّى عن الجميع جاز أَنْ يُسْتعمل معه لفظُ» بَيْن «وإنْ كان لا يجوز أَنْ تقولَ:» لا نفرِّقُ بين رجلٍ منهم «.
قلت: وقد رَدَّ بعضُهم هذا التأويلَ فقال:» وقيل إنَّ «أحداً» بمعنى جميع، والتقديرُ: بين جميعِ رسلهِ «ويَبْعُدُ عندي هذا التقديرُ، لأنه لا ينافي كونَهم مفرِّقين بين بعضِ الرسلِ، والمقصودُ بالنفي هو هذا؛ لأن اليهود والنصارى ما كانوا يُفَرِّقون بين كلَّ الرسلِ بل البعضُ. وهو محمد صلى الله عليه وسلم فَثَبَت أنَّ التأويل الذي ذكروه باطلٌ، بل معنى الآية: لا نفرِّق بين أحدٍ من رسلهِ وبين غيرهِ في النبوة، وهذا وإنْ كان في نفسه صحيحاً إلا أنَّ القائلين بكونِ» أحد «بمعنى جميع، وإنما يريدون في العمومِ المُصَحِّح لإِضافة» بين «إليه/، ولذلك يُنَظِّرونه بقولِه تعالى:{فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ} وبقوله:
1146 -
إذا أمورُ الناسِ دِيكَتْ دُوْكاً
…
لا يَرْهَبُون أحداً رَأَوْكا
فقال:» رَأَوْكَ «اعتباراً بمعنى الجميعِ المفهومِ من» أحد «.
وأمَّا لأن ثَمَّ معطوفاً محذوفاً لدلالةِ المعنى عليه، والتقديرُ:» لا نفرِّقُ بين أحدٍ من رسلهِ وبين أحدٍ، وعلى هذا فأحد هنا ليس الملازمَ للجحدِ ولا همزتُه أصليةٌ بل هو «أحد» الذي بمعنى واحد وهمزتُه بدلٌ من الواو، وحَذْفُ المعطوفِ كثيرٌ جداً [نحو] :
{سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر} [النحل: 81] أي: والبرد، [وقوله] :
1147 -
فما كانَ بين الخيرِ لو جاءَ سالماً
…
أبو حُجُرٍ إلَاّ ليالٍ قلائِلُ
أي: بينَ الخيرِ وبيني.
و «مِنْ رسله» في محلِّ جرٍ لأنه صفةٌ ل «أحد» ، و «قالوا» عطفٌ على «آمَنَ» ، وقد تقدَّم أنه حَمَل على معنى «كُل» .
قوله: {غُفْرَانَكَ} منصوبٌ: إمَّا على المصدريةِ. قال الزمخشري: «منصوبٌ بإضمارِ فعلِه، يقال:» غفرانَك لا كُفْرانَك «أي: نَسْتغفرك ولا نَكْفرك» فقدَّره جملةً خبريةً، وهذا ليس مذهبَ سيبويه، إنما مذهبُه تقديرُ ذلك بجملةٍ طلبية كأنه قيل:«اغفْر غفرانَك» . ونَقَلَ ابنُ عطيَة هذا قولاً عن الزجاج، والظاهر أنَّ هذا من المصادرِ اللازمِ إضمارُ عاملِها لنيابتِها عنه، وقد اضطربَ فيها كلامُ ابن عصفور، فَعَدَّها تارةً مع ما يلزمُ فيه إضمارُ الناصبِ نحو:«سبحانَ الله ورَيْحَانَه» ، و «غفرانَك لا كفرانكَ» ،
وتارةً مع ما يجوزُ إظهارُ عاملهِ. والطلبُ في هذا البابِ أكثرُ، وقد تقدَّم لك نحوٌ من هذا في أولِ الفتحة.
والمصير: اسمُ مصدرٍ مِنْ صارَ يصير أي: رَجَعَ، وقد تقدَّم لك في قوله:{المحيض} [البقرة: 222] أنَّ في المَفْعِل من الفعلِ المعتلِّ العينِ بالياءِ ثلاثةَ مذاهبَ وهي: جريانُه مَجْرَى الصحيح، فيُبْنى اسمُ المصدرِ منه على مَفْعَل بالفتح، والزمانُ والمكانُ بالكسرِ نحو: ضَرَبَ يَضْرِبَ مَضْرِباً، أو يُكْسَرُ مطلقاً، أو يُقْتَصَرُ فيه على السَّماعِ فلا يَتَعَدَّى وهو أعدلُهَا، ويُطلَق المصيرُ على المعنى، ويُجْمَعُ على مُصْران كرغيفَ ورُغْفان، ويُجْمَع مُصْران على مَصارين.
قوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلَاّ وُسْعَهَا} : «وُسْعَها» مفعولٌ ثانٍ. وقال ابنُ عطية: «يُكَلِّفُ» يتعدَّى إلى مفعولَيْنِ، أحدُهما محذوفٌ، تقديرُه: عبادةً أو شيئاً «. قال الشيخ:» إن عَنى أنَّ أصلَه كذا فهو صحيحٌ، لأنَّ قولَه:«إلَاّ وُسْعَها» استثناءٌ مفرغٌ من المفعولِ الثاني، وإنْ عَنَى أنَّه محذوفٌ في الصناعة فليس كذلك، بل الثاني هو «وُسْعَها» نحو: وما أعطَيْتُ زيداً إلا درهماً «و» ما ضربْتُ إلا زيداً «هذا في الصناعة هو المفعولُ وإن كان أصلُه: ما أعطيت زيداً شيئاً إلاّ درهماً» . والوُسْعُ: ما يَسَعُ الإِنسانَ، ولا يَضِيقُ عليه، ولا يَخْرج منه.
وقرأ ابنُ أبي عَبْلَة: «إلا وَسِعَها» جَعَلَه فعلاً ماضياً، وخَرَّجُوا هذه القراءةَ على أنَّ الفعلَ فيها صلةٌ لموصولٍ محذوفٍ تقديرُه:«إلَاّ ما وَسِعَها»
وهذا الموصولُ هو المفعولُ الثاني كما كان «وُسْعَها كذلك في قراءةِ العامةِ، وهذا لا يجوزُ عند البصريين، بل عند الكوفيين، على أنَّ إضمارَ مثلِ هذا الموصولِ ضعيفٌ جداً إذ لا دلالةَ عليه، وهذا بخلافِ قولِ الآخر:
1148 -
ما الذي دَأْبُه احتياطٌ وحَزْمٌ
…
وهواهُ أَطاعَ يَسْتَوِيان
وقول حسان أيضاً:
1149 -
أَمَنْ يَهْجُو رسولَ الله منكم
…
ويَمْدَحُه ويَنْصُرُه سَواءٌ
وقد تقدَّم تحقيقُ هذا. وهل لهذه الجملة محلٌّ من الإِعراب أم لا؟ الظاهرُ الثاني لأنها سِيقَتْ للإِخبارِ بذلك، وقيل: بل محلُّها نصبٌ عطفاً على» سَمِعْنا «و» أَطَعْنَا «أي: وقالوا أيضاً: لا يُكَلِّفُ اللهُ نفساً. وقد خُرِّجَتْ هذه القراءةُ على وجهٍ آخرَ: وهو أَنْ تَجْعَلَ المفعولَ الثاني محذوفاً لفَهْمِ المعنى، وتَجْعَلَ هذه الجملة الفعلية في محلِّ نصبٍ صفةً لهذا المفعولِ، والتقديرُ: لا يُكَلِّفُ اللهُ نفساً شيئاً إلَاّ وَسِعَها. قال ابن عطية: وفي قراءةِ ابن أبي عبلة تَجَوُّزٌ لأنه مقلوبٌ، وكان وجهُ اللفظِ: إلا وَسِعَتْه كما قال: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السماوات والأرض} [البقرة: 255] {وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} [طه: 98] ، ولكن يجيءُ هذا من باب:» أَدْخَلْتُ القَلَنْسُوَةَ في رأسي «.
قوله: {لَهَا مَا كَسَبَتْ} هذه الجملةُ لا محلَّ لها لاستئنافِها وهي كالتفسيرِ لِما قبلها؛ لأنَّ عَدَم مؤاخذتِها بكسْبِ غيرِها واحتمالَها ما حَصَّلَتْهُ هي فقط من
جملةِ عدمِ تكليفِها بما لا تَسَعُه. وهل يظهرُ بين اختلافِ لفظَيْ فعلِ الكسبِ معنىً أم لا؟ فقال بعضُهم: نعم، وفَرَّقَ بأنَّ الكسبَ أَعَمُّ، إذ يقال:» كَسَب «لنفسِه ولغيرِه» ، و «اكتسب» أخصُّ؛ إذ لا يقال:«اكتسب لغيرِه» وأنشدَ قولَ الحطيئة:
1150 -
أَلْقَيْتَ كاسِبَهم في قَعْرِ مُظْلِمَةٍ
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ويقال: هو كاسبُ أهلهِ، ولا يُقالُ: مكتسبُ أهلِه.
جاء القرآن بالكسب والاكتساب في موردٍ واحدٍ. قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر: 38] . وقال تعالى: {وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَاّ عَلَيْهَا} [الأنعام: 164]، وقال تعالى:{بِغَيْرِ مَا اكتسبوا} [الأحزاب: 58] فقد استعمل الكَسْب والاكتسابَ في الشرِّ» .
وقال أبو البقاء: «وقال قومٌ:» لا فَرْقَ بينهما، وذكر نحواً مِمَّا تقدَّم. وقال آخرون:«افتْعَلَ يَدُلُّ على شدَّة الكَلَفِة. وفعلُ السيئة شديدٌ لِما يَؤُول إليه» . وقال الواحدي: «الصحيحُ عند أهلِ اللغة أن الكسبَ والاكتسابَ واحدٌ لا فرقَ بينهما، قال ذو الرمة:
1151 -
. . . . . . . . . . . . . . . . . .
…
ألفَى أباه بذاك الكسبِ يَكْتَسِبُ
قلت: وإنما أَتى في الكسبِ باللامِ وفي الاكتسابِ ب» على «؛ لأنَّ اللامَ تقتضي المِلْكَ والخيرَ يُحَبُّ ويُسَرُّ به، فجيء معه بما يَقْتَضِي المِلْكُ، ولَمَّا كان الشرُّ يُحْذَرُ وهو ثِقَلٌ ووِزْرٌ على صاحبهِ جِيءَ معه ب» على «المقتضيةِ لاستعلائِهِ عليه.
وقال بعضَهم:» فيه إيذانٌ أَنَّ أَدْنى فعلٍ من أفعالِ الخير يكونُ للإنسان تكرُّماً من اللهِ على عبدهِ حتى يصلَ إليه ما يفعلُهُ معه ابنُ من غيرِ علمِه به،
لأنه من كسبهِ في الجملةِ، بخلافِ العقوبةِ فإنه فا يُؤَاخَذُ بها إلا مَنْ جَدَّ فيها واجتهَدَ «. وهذا مبنيٌّ على القولِ بالفرق بين البنائين وهو الأظهرُ.
قوله: {لَا تُؤَاخِذْنَا} يُقْرأ بالهمزةِ وهو من الأخْذ بالذَّنْبِ، ويُقْرَأُ بالواوِ، ويَحْتمل وجهين، أحدُهما: أَنْ يكونَ مِن الأخْذِ أيضاً، وإنما أُبْدِلَتِ الهمزةُ واواً لفتحِها وانضمامِ ما قبلها، وهو تخفيفٌ قياسي، ويَحْتمل أَنْ يكونَ من: واخذه بالواو، قاله أبو البقاء: وجاء هنا بلفظِ المفاعلةِ وهو فعلُ واحدٍ، لأنَّ المسيءَ قد أَمْكَنَ من نفسِه وطَرَقَ السبيلَ إليها بفعله، فكأنه أعانَ مَنْ يعاقِبُه بذَنْبِه، ويأخذُ به على نفسِه فَحَسُنَتْ المفاعَلَةُ. ويجوزُ أَنْ يكونَ من بابِ: سافرت وعاقبت وطارقت.
وقرأ أُبَيّ:» ربَّنا ولا تُحَمِّلْ علينا إصْراً «بتشديد الميم.
قال الزمخشري: «فإنْ قلت: أَيُّ فرق بين هذه الشديدةِ والتي في» ولا تُحَمِّلْنا؟ قلت: هذه للمبالغةِ في حَمَّل عليه، وتلك لنقل «حَمَلَه» من مفعولٍ واحدٍ إلى مفعولَيْن «. انتهى يعني أنَّ التضعيفَ في الأولِ للمبالغةِ ولذلك لم يتعدَّ إلا لمفعولٍ واحدٍ، وفي الثانيةِ للتعدية، ولذلك تعدَّى إلى اثنين أولُهما» ن «والثاني {مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} .
والإِصْرُ: في الأصل الثِّقَلُ والشِّدَّة. وقال النابغة:
1152 -
يا مانعَ الضَّيْمِ أَنْ يَغْشَى سَرَاتَهُمُ
…
والحاملَ الإِصرِ عنهم بعد ما عَرِقُوا
وأُطْلِقَ على العهدِ والميثاقِ لِثِقَلِهما، كقولِه تعالى:{وَأَخَذْتُمْ على ذلكم إِصْرِي} [آل عمران: 81] أي: عَهْدِي. {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ} [الأعراف: 157] أي: التكاليف الشاقة ثم يُطْلَقُ على كل ما يَثْقُل، حتى يُرْوى عن بعضِهم أنه فسَّر الإِصرَ هنا بشماتةِ الأعداءِ وأنشد:
1153 -
أَشْمَتَّ بيَ الأعداءَ حينَ هَجَرْتَني
…
والموتُ دونَ شماتةِ الأَعْدَاءِ
ويقال: الإِصْرُ أيضاً: العَطْفُ والقَرابةُ، يُقال:» ما يَأْصِرُني عليه آصِرَةٌ «أي: ما يَعْطِفُني عليه قرابةٌ ولا رَحِمٌ، وأنشد للحطيئة:
1154 -
عَطَفُوا عليَّ بغير آ
…
صِرَةٍ فقد عَظُمَ الأواصِرْ
وقيل: الإِصرُ: الأمرُ الذي تُرْبَطُ به الأشياءُ، ومنه» الإِصارُ «للحبلِ الذي تُشَدُّ به الأحْمَال، يقال: أَصَرَ يأصِرُ أَصْراً بفتحِ الهمزةِ، فأما بكسرها فهو اسمٌ. ويُقال بضمِّها أيضاً، وقد قُرىء به شاذاً:
وقرأ أُبَيّ: {وَلَا تُحَمِّل عَلَيْنَآ} بالتشديدِ مبالغةً في الفِعْلِ.
والطاقَةُ: القُدْرَةُ على الشيءِ وهي في الأصلِ، مصدرٌ، جاءَتْ على حَذْفِ الزوائدِ، وكان مِنْ حقِّها» إطاقة «لأنها من أَطَاق، ولكن شَذَّتْ كما شَذَّتْ أُلَيفْاظٌ نحو: أَغار غارةً، وأَجابَ جابةً، قالوا:» ساء سمعاً فساءَ
جابة «؛ ولا ينقاسُ فلا يُقال: طال طالة. ونظيرُ أجابَ جابةً: {أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً} [نوح: 17] وأعطى عَطاءً في قوله:
1155 -
. . . . . . . . . . . . . . . . . .
…
وبعدَ عطائِك المئةَ الرِّتاعا
وقولُه تعالى: {مَوْلَانَا} والمَوْلَى: مَفْعَل من وَلِي يَلِي، وهو هنا مصدر يُرادُ به الفاعلُ، فيجوز أن يكونَ على حَذْفِ مضافٍ أي: صاحِبُ تولِّينا أي: نُصْرتِنا ولذلك قال:» فانصُرْنا «، والمَوْلَى يجوزُ أَنْ يكونَ اسمَ مكانٍ ايضاً واسمَ زمانٍ.
وقوله تعالى: {فانصرنا} أتى هنا بالفاء إعلاماً بالسببيةِ؛ لأنَّ اللهَ تعالى لمَّا كانَ مولاهم ومالكَ أمورِهم وهو مُدَبِّرُهم تَسَبَّب عنه أَنْ دَعَوْه بأن يَنصُرَهم على أعدائِِهم كقولِك» أنت الجوادُ فتكرَّمْ عليَّ وأنت البطلُ فاحْمِ حَرَمَك «.
وقد اشتملَتْ هذه السورةُ على أنواع كثيرةٍ من العلومِ، تقدَّم التبيهُ على غالبِها، والذكيُّ مستغنٍ عن التصريحِ بالتلويحِ.