الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
المقَدِّمَة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].
أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى لم يخلق الخلق سدى، ولم يتركهم هملاً، بل خلقهم لأمر عظيم ألا وهو عبادته، قال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] وقد أمرهم بما خلقهم لأجله من إفراده بالعبادة والدعاء، فقد أمرهم بالإخلاص له في نوعي الدعاء: دعاء العبادة ودعاء المسألة، قال تعالى:{وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [الأعراف: 29] ونهاهم عن الشرك به في الدعاء بنوعيه، قال
تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18].
فلا يدعى مع الله أحد كائناً من كان سواء كان ملكاً مقرباً أو نبياً مرسلاً أو غير ذلك لأن الله وحده هو المستحق لأن يدعى رغبة ورهبة وخوفاً وطمعاً، وهو الذي يصمد إليه في الحوائج ويقصد بالاستعانة والسؤال. قال تعالى:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص: 1، 2]{يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن: 29].
فالخلق جميعاً مفطورون على الاحتياج إلى الله تعالى والافتقار إليه افتقاراً ذاتياً، فهم محتاجون إلى الله تعالى من جهة كونه ربهم يستعينون به على جلب منافعهم ودفع المضار عنهم، كما أنهم محتاجون إليه من جهة كونه معبودهم وإلههم الذي تألهه قلوبهم محبة ورجاء وخوفاً وتعظيماً، فالناس مضطرون إلى الله تعالى اضطراراً ذاتياً يَحْمِلُهم على دعائه، فهم لا يستغنون عن الله في لحظة من لحظاتهم في حركاتهم وسكناتهم، فهم وإن غفلوا عن هذا الاضطرار في وقت الرخاء إلَّا أنهم سرعان ما يرجعون إلى الفطرة إذا داهمتهم المدلهمات، قال تعالى:{وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 67].
أهمية هذا البحث وأسباب اختيار الموضوع:
إن للدعاء درجة سامية، ومنزلة رفيعة وأهمية كبرى، إذ الدعاء هو العبادة فقد صح الخبر عن المصطفى صلوات الله وسلامه عليه بأن الدعاء هو العبادة بصيغة الحصر ولا يخفى مكانة العبادة فقد خلقنا الله تعالى من العدم لعبادته، وقد افتتح الله القرآن بالدعاء واختتمه به، فسورة الفاتحة مشتملة على دعاء الثناء كما مشتملة على دعاء المسألة إذ فيها الدعاء بأجل المطالب وأفضل الرغائب، وهو طلب الإعانة على مرضاة الله تعالى وسؤال الهداية، وقد فرض الله علينا أن نناجيه وندعوه بذلك في كل صلاة، وسورة الإخلاص في دعاء الثناء والمعوذتان في طلب العياذة الذي هو أحد أنواع دعاء المسألة.
وقد سمى الله الدعاء ديناً في غير ما آية، والدين هو الإسلام كله، كما سماه عبادة في غير ما آية، والعبادة هي العلة الغائية للوجود.
وقد أمرنا الله بالدعاء ووعدنا بالإجابة تفضلاً وتكرماً وإحساناً، وتوعد من استكبر عن دعائه فقال عز من قائل:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)} [غافر: 60]. فالدعاء سمة العبودية وعنوان التذلل والخضوع والاستكانة، وتلبية للاحتياج والافتقار الذاتي، ودليل الصدق في اللجأ والرجاء والرغبة والطمع والخوف والرهبة. فهو لب العبادة ومخها وروحها، فصرفُه لله تعالى عبادة وتوحيد، وصرفه لغيره تعالى شرك وتنديد.
فالشرك في نوعي الدعاء أعظم مسألة خالف فيها الرسول صلى الله عليه وسلم المشركين وهو أغلب شركهم، وهو أصل شرك العالم، ولهذا لم يرد في القرآن - التحذير من سائر أنواع الشرك - مثل ما ورد في التحذير من الشرك في الدعاء.
فقد كرر الله تعالى وأعاد التحذير من ذلك في آيات كثيرة جداً، كما بيّن لنا كيف ندعوه ونناجيه وذكر لنا أدعية الأنبياء والصالحين وابتهالاتهم ومناجاتهم. وقد بيّن لنا الرسول صلى الله عليه وسلم كيفية عبادة الله ومناجاته وآداب خطاب الله تعالى وسؤاله.
فوجب علينا أن نتقيد بما بيّن لنا وأن ندعو كما شرع لنا وأن لا ندعو بالبدع والمحدثات فضلاً أن ندعو بالشركيات والكفريات لأن ذلك من تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، وشهادة أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فمن دعا غير الله تعالى واستغاث به لم يحقق شهادته واعترافه بتفرد الله تعالى بالألوهية والعبادة، كما أن من دعا بأدعية مشتملة على البدع لم يحقق شهادته بتجريد المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وما ذلك إلَّا لأن الدعاء عبادة، والعبادة مبناها على التوقيف، فالدعاء من أهم العبادات وأجلها التي يجب إخلاصها لله تعالى، وتجريد المتابعة فيها لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومع وضوح هذا الأمر سوّل الشيطان للبعض أن يصرف هذه العبادة العظيمة لغير الله تعالى وسماها لهم بأسماء غير حقيقية: سماها لهم باسم التوسل تارة وباسم الشفاعة تارة وباسم محبة الصالحين تارة أخرى وباسم التبرك تارة أخرى.
فانتشر الشرك في الدعاء بهذه الأسماء الموهمة حتى صار معروفاً شب عليه الصغير وشاب عليه الكبير، وصار من ينكره يتهم بالخروج عن إجماع المسلمين تارة، وبكراهية وبغض الأولياء وتنقصهم تارة أخرى، وبتفريق وحدة المسلمين تارة أخرى، وبالتطرف والتشدد وضيق الأفق والجمود الفكري وتتبع الشواذ وإثارة الخلاف في المسائل الفرعية تارة أخرى.
وبنصب هذه التهم وقف بعض الناس في وجه الدعاة إلى الإخلاص وتجريد الدعاء لله وحده، كما وقفوا في وجههم بتلفيق الشبهات، وإيراد الحكايات والمنامات محاولين بذلك تسويغ الدعاء غير المشروع بل استحبابه فسوّغوا الاستغاثة والاستمداد من غير الله تعالى وزعموا للمدعوين من دون الله التصرف في الكون وسماعهم لنداء المستغيثين وصراخ المكروبين وعلمهم بحوائج الداعين ونياتهم وأنواع طلباتهم ففتحوا بذلك باباً عظيماً من الشرك لا يزال يقتحم فيه كثير من المسلمين إلى اليوم، فوجب على من يعرف ذلك منهم نصحهم وبيان الحق في ذلك كل حسب استطاعته وقدرته، فمن هنا رأيت أن يكون موضوع رسالتي في مرحلة الماجستير بالدراسات العليا بالجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية في هذا الموضوع مع قلة بضاعتي وكساد معلوماتي لعلّي أستفيد وينفع الله بهذا العمل من يشاء من عباده، وهو المسؤول وحده أن يجعله خالصاً لوجهه نافعاً مفيداً وهو ولي التوفيق وهو المستعان وعليه التكلان.
خطة البحث:
تشتمل على: مقدمة وأربعة أبواب وملحق وخاتمة.
فالمقدمة تشتمل على سبب اختيار الموضوع وأهميته ومنهج البحث.
وأما الباب الأول: ففي معنى الدعاء وأنواعه وآدابه والإجابة وأنواعها.
وهو يشتمل على ثلاثة فصول:
الفصل الأول: في معنى كلمة الدعاء والكلمات الدالة على معناه.
ويشتمل على مبحثين:
المبحث الأول: في معنى الدعاء اللغوي والشرعي.
ويشتمل على ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: في أصل كلمة الدعاء.
المطلب الثاني: في معنى الدعاء اللغوي.
المطلب الثالث: في المعنى الشرعي للدعاء والمناسبة بينه وبين المعنى اللغوي.
المبحث الثاني: في الكلمات الدالة على معنى الدعاء.
ويشتمل على مقدمة ومطلبين:
المقدمة: في وجوب الاعتناء بمعرفة الأسماء الشرعية، وذكر أقسام الكلمات.
المطلب الأول: في الكلمات المرادفة للدعاء.
المطلب الثاني: في الكلمات الخاصة بنوع معين من أنواع الدعاء.
الفصل الثاني: في أنواع الدعاء وأقسامه.
ويشتمل على مبحثين:
المبحث الأول: في أقسام الدعاء باعتبار معناه.
المبحث الثاني: في أقسام الدعاء باعتبار صيغه ومتعلقاته.
ويشتمل على مطلبين:
المطلب الأول: في أقسام الدعاء باعتبار صيغه.
المطلب الثاني: في أقسام الدعاء باعتبار متعلقاته.
الفصل الثالث: في آداب الدعاء والإجابة وأنواعها.
ويشتمل على تمهيد وثلاثة مباحث:
فالتمهيد يحتوي على تنبيهين:
التنبيه الأول: في السبب المانع من التوسع في هذا الفصل.
التنبيه الثاني: في عبارات العلماء وألفاظهم في هذه الآداب.
المبحث الأول: في الآداب العدمية التي يطلب عدمها وانتفاؤها.
المبحث الثاني: في الآداب الثبوتية.
المبحث الثالث: في الإجابة وأنواعها.
وأما الباب الثاني: ففي منزلة الدعاء من العقيدة، وعدم تنافيه مع القدر، وحكمه الشرعي.
ويشتمل على ثلاثة فصول:
الفصل الأول: في منزلة الدعاء ومكانته من العقيدة وأهميته من بين سائر العبادات.
ويشتمل على مبحثين:
المبحث الأول: في كون الدعاء يزيد في الإيمان والتوحيد، ودلالته على وجود الله جل وعلا.
ويشتمل على مطلبين:
المطلب الأول: في كون الدعاء يزيد في الإيمان والتوحيد.
المطلب الثاني: في دلالته على وجود الله جل وعلا.
المبحث الثاني: في علاقة الدعاء بالتوحيد بأنواعه الثلاثة.
ويشتمل على ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: في علاقته بتوحيد الربوبية.
المطلب الثاني: في علاقته بتوحيد الأسماء والصفات.
المطلب الثالث: في علاقته بتوحيد العبادة والألوهية، وأهميته ومزاياه من بين سائر العبادات.
الفصل الثاني: في عدم تنافي الدعاء والقدر.
ويشتمل على مبحثين:
المبحث الأول: في مذاهب الناس في الدعاء واتجاهاتهم وحجج كل فريق ومناقشتها.
المبحث الثاني: في الصواب الذي تدل عليه الأدلة الصحيحة.
الفصل الثالث: في حكم الدعاء الشرعي.
ويشتمل على مبحثين:
المبحث الأول: في أقوال العلماء ومذاهبهم في حكم الدعاء.
المبحث الثاني: في المذهب الراجح.
وأما الباب الثالث: ففي الدعاء غير المشروع.
ويشتمل على ثلاثة فصول:
الفصل الأول: في دعاء غير الله تعالى وما ورد في التحذير منه ومفاسده وأسباب انتشاره في العالم الإسلامي.
ويشتمل على مبحثين:
المبحث الأول: فيما ورد في التحذير منه ومفاسده.
ويشتمل على تمهيد، وثلاثة مطالب:
المطلب الأول: في الآيات الواردة في التحذير من دعاء غير الله تعالى، وأساليب القرآن المتنوعة في ذلك.
المطلب الثاني: فيما ورد من السنة المشرفة في التحذير من ذلك.
المطلب الثالث: في مفاسد دعاء غير الله تعالى وآثاره الضارة.
المبحث الثاني: في أسباب انتشار دعاء غير الله تعالى في العالم الإسلامي.
الفصل الثاني: في مراتب الدعاء غير المشروع، ومظاهر غلو المتأخرين وحكم من دعا غير الله تعالى.
ويشتمل على ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: في مراتب الدعاء غير المشروع وحكم كل مرتبة.
المبحث الثاني: في مظاهر غلو المتأخرين في دعاء غير الله تعالى.
المبحث الثالث: في حكم من دعا غير الله تعالى.
الفصل الثالث: في الأدعية المبتدعة وما ورد في التحذير من الابتداع في الدعاء وغيره من العبادات، وآثارها الضارة، وأسباب انتشارها، وأنواعها.
ويشتمل على مبحثين:
المبحث الأول: فيما ورد في التحذير من الابتداع في الدين عموماً وفي الدعاء خصوصاً من الكتاب والسنة وآثار السلف وأقوال العلماء، وآثار الأدعية المبتدعة الضارة وأسباب انتشارها.
ويشتمل على تمهيد وأربعة مطالب:
المطلب الأول: فيما ورد في التحذير من الابتداع في الدين.
المطلب الثاني: في الأدلة الدالة على منع الابتداع في الأدعية الراتبة.
المطلب الثالث: في آثار الأدعية المبتدعة الضارة ونتائجها السيئة.
المطلب الرابع: في أسباب انتشار الأدعية المبتدعة.
المبحث الثاني: في أنواع الأدعية المبتدعة.
ويشتمل على أربعة مطالب:
1 -
المطلب الأول: في الدعاء عند الأضرحة والقباب.
2 -
المطلب الثاني: في التوسل بالذوات.
3 -
المطلب الثالث: في الأدعية والأوراد الراتبة.
4 -
المطلب الرابع: في الأدعية الجماعية.
وأما الباب الرابع: ففي مناقشة بعض شبه المجيزين للدعاء غير المشروع.
ويشتمل على تمهيد وثلاثة فصول: فالتمهيد في أنواع تلك الشبهات وأسبابها والجواب الإجمالي عنها.
الفصل الأول: في مناقشة ما احتجوا به من الأدلة الصحيحة.
ويشتمل على مبحثين:
المبحث الأول: في مناقشة ما احتجوا به من القرآن الكريم.
المبحث الثاني: في مناقشة ما احتجوا به من السنة الصحيحة.
الفصل الثاني: في مناقشة ما احتجوا به من الأدلة غير الصحيحة.
ويشتمل على ثلاثة مباحث:
1 -
المبحث الأول: الأحاديث الضعيفة.
2 -
المبحث الثاني: الأحاديث الواهية والموضوعة.
3 -
المبحث الثالث: الحكايات والنظريات.
الفصل الثالث: في مناقشة ردودهم وإجاباتهم عن الأدلة المانعة للدعاء غير المشروع. ويحتوي على تمهيد وتسع شبه.
وأما الملحق: فيشتمل على نماذج من الأدعية الشركية والبدعية، ونماذج أخرى من الأدعية المأثورة.
وأما الخاتمة: فتحتوي على أهم النتائج.
منهج البحث:
1 -
جمعت مادة البحث من المصادر المختلفة التي هي مظان لموضوع البحث حسب ما يسره الله لي ووفقني للاطّلاع عليه ولم أدخر وسعاً في البحث عن كل ما يظن أن له علاقة بالبحث. ومع هذا لا أدّعي أني وقفت على كل ما كتب في الموضوع لكثرته وكثرة الخوض في مسائله بحق أو باطل.
2 -
بيّنت في المسائل التي تطرقت إليها ما ظهر لي أنه الحق والصواب مستدلاً بالكتاب والسنّة وأقوال السلف الصالح ومن على منهجهم بدون أن أشرح وجه الدلالة إذا كان واضحاً.
3 -
أوردت شبه المخالفين وحججهم من كتبهم غالباً مبيناً وجهة نظرهم نظرهم، ثم ناقشتهم بمحكم الكتاب والسنة، مؤيداً ما أذكره بأقوال أهل العلم.
4 -
حاولت بقدر المستطاع أن لا أخرج في المناقشة عن الأسلوب العلمي، والمجادلة بالتي هي أحسن، وفي الغالب أنقل كلام العلماء المحققين في الباب وأكتفي بذلك لأن القارئ يقتنع بكلام العلماء لا بكلام أمثالي.
5 -
قد أستدل بأقوال بعض المخالفين إذا وجدت في كلامه ما يصلح لمناقشة المخالف وإقناعه، كما أني قد أقدم كلام من يرى المخالف حجيته على كلام من هو لا يقتنع به ولا يسلم له، لأن الغرض من البحث هو محاولة إقناع المخالف ودعوته بالتي هي أحسن وليس مجرد غلبته، ولهذا الغرض نفسه أكثر العزو إلى المصادر المتعددة حتى ولو كانت المسألة واضحة يمكن الاكتفاء فيها ببعض تلك المصادر لتحصل الطمأنينة لمن يريد الحق ويتحراه وينشده.
6 -
إذا عزوت قولاً إلى عدة مصادر أقدم في الغالب المصدر الذي يكون النص كله أو جله منقولاً منه.
7 -
عزوت الآيات الواردة في الرسالة بذكر رقمها واسم السورة في الصلب لا في الهامش تفادياً من كثرة الحواشي لكثرة ورود الآيات في الرسالة.
8 -
خرّجت الأحاديث من المصادر الأصلية ونقلت أقوال النقّاد فيها، وتوسّعت في بعض الأحاديث التي يقتضي المقام التوسع فيها.
وإذا كان الحديث في الصحيحين اقتصرت عليهما غالباً، وإذا أحلت على البخاري فالمراد به متن البخاري المطبوع مع الفتح وأحيل في الغالب إلى أول موضوع ورد فيه الحديث لأن ذلك أسهل لمن يريد تتبع ألفاظ الحديث لوجود أرقام مواضع ورود الحديث في الموضع الأول.
9 -
نقلت الآراء المحكية من كتب أصحابها ما وجدت إلى ذلك سبيلاً.
10 -
ترجمت للأعلام غير المشهورين.
11 -
عملت الفهارس الآتية:
أ - فهرس للآيات.
ب - فهرس للأحاديث.
جـ - فهرس للآثار.
د - فهرس للمصادر والمراجع.
هـ - فهرس للموضوعات.
الباب الأول في معنى الدعاء وأنواعه وآدابه والإجابة وأنواعها
ويشتمل على ثلاثة فصول:
الفصل الأول: في معنى كلمة الدعاء والكلمات الدالة على معناه.
الفصل الثاني: في أنواع الدعاء وأقسامه.
الفصل الثالث: في آداب الدعاء والإجابة وأنواعها.
الفصل الأول في معنى كلمة الدعاء والكلمات الدالة على معناه
ويشتمل على مبحثين:
المبحث الأول: في معنى الدعاء اللغوي والشرعي.
المبحث الثاني: في الكلمات المرادفة للدعاء.
المبحث الأول في معنى الدعاء اللغوي والشرعي
ويشتمل على ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: في أصل كلمة الدعاء.
المطلب الثاني: في معنى الدعاء اللغوي.
المطلب الثالث: في المعنى الشرعي للدعاء، والمناسبة بينه وبين المعنى اللغوي.
المطلب الأول: في أصل كلمة الدعاء:
أصل كلمة الدعاء مصدر لِفِعْل "دَعَا".
قال الإمام أبو سليمان حَمْد بن محمد الخطابي (ت 388 هـ) رحمه الله تعالى: أصل هذه الكلمة مصدر من قولك دعوت الشيء أدعوه دعاء"
(1)
، وآخره ممدود
(2)
، وهو مصدر قياسي، لأن الأفعال التي تدل على الأصوات تأتي مصادرها القياسية، إما على فُعَال أو فَعِيل، قال ابن مالك رحمه الله:
(1)
شأن الدعاء للخطابي ص: 3 وعنه في إتحاف السادة المتقين للزبيدي: 5/ 27، والأزهية في أحكام الأدعية للزركشي ص:27.
(2)
جمهرة اللغة لابن دريد: 3/ 242، وتاج العروس للزبيدي: 10/ 136.
للدَّا فَعَالٌ أو لصوت وَشَمَلْ
…
سيراً وصوتاً الفعيلُ كصَهَلْ
(1)
هذا ولم يأت في الأصوات إلا فعال بالضم وأما الفتح فلم يأت إلا في كلمة واحدة وهو غواث، يقال: أجاب الله دُعَاءه وغُوَاثَه، وغَوَاثَه، وقد أتى مكسوراً نحو النداء والصياح
(2)
فتحصل من هذا أن الفعال بالضم هو الأكثر
(3)
ويليه الكسر، وأما الفتح فلم يأت إلا في كلمة واحدة. والدعاء هو المصدر المشهور لدعا
(4)
.
وهناك صيغ أخرى نص بعض علماء اللغة على مصدريتها لفِعْلِ "دَعَا"، كما ورد استعمالها في اللغة الفصحى، ومن تلك المصادر:
1 -
دَعْوٌ، قال ابن دريد
(5)
: "الدَّعْوُ مصدرُ دعا يدعو دَعواً ودُعَاءً"
(6)
. فقد قدمه ابن دريد في الذكر على الدعاء - المصدر المشهور. . . ويقال في المرة الواحدة منه: دَعْوةٌ
(7)
.
ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في حضور النساء للعيد: "لِتُلْبِسْهَا صاحبَتُها من
(1)
ألفية ابن مالك مع شرح ابن عقيل: 2/ 124.
(2)
إصلاح المنطق لابن السكيت: 107. نقله عن الفراء ومثله في الصحاح للجوهري: 1/ 289، والبارع في اللغة ص: 431.
(3)
معاني القرآن وإعرابه للزجاج: 3/ 204.
(4)
مشارق الأنوار للقاضي عياض: 1/ 260.
(5)
هو أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي البصري أديب نحوي لغوي نسابة، قال الذهبي: كان آية من الآيات في قوة الحفظ، وقال الدارقطني: تكلموا فيه، توفي 321 هـ، تاريخ بغداد: 2/ 195 - 197، وسير أعلام النبلاء: 15/ 96 - 97، وبغية الوعاة: 1/ 76، ومعجم المؤلفين: 9/ 189.
(6)
جمهرة اللغة: 2/ 283 ونحوه في المحكم: 2/ 234، ولسان العرب: 3/ 1386.
(7)
الصحاح للجوهري: 6/ 2337، واللسان لابن منظور: 3/ 1386، وفي التهذيب قال الليث: دعا يدعو دعوة ودعاء. . .: 3/ 120 فقدمه في الذكر مما يشعر بأنه مصدر مشهور.
جِلْبَابها، وَلْتَشْهدِ الخيرَ ودَعوةَ المسلمين"
(1)
أي دعاء المسلمين.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن عفريتاً من الجن تَفَلَّتَ البارحة ليقطع علي صلاتي" وفيه: "فذكرت دعوة أخي سليمان "رب هب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي"
(2)
- أي دعاء أخي سليمان.
2 -
وهناك مصدر ثان وهو دَعْوَى.
فقد حكاها سيبويه رحمه الله في المصادر التي في آخرها ألف التأنيث، وأنشد:
وَلَّتْ ودَعواها شديدٌ صَخَبُهُ
(3)
ذَكَّر على معنى الدعاء، قال سيبويه: ومن كلامهم: اللهم أشركنا في دعوى المسلمين"
(4)
.
ومن هذا الباب قوله تعالى: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10)} [يونس: 10] أي دعاؤهم فيها
…
وآخر دعاءهم
…
3 -
وهناك مصدر ثالث دِعَاوَةٌ
(5)
.
4 -
وهناك أيضاً مصدر رابع وهو دِعَاية.
يقال: دعا دعاية، كما يقال: رمى رماية وشكى شكاية فمن ذلك دعاية الإسلام أي دعوته
(6)
.
(1)
البخاري مع الفتح: 1/ 423 برقم 324.
(2)
البخاري مع الفتح: 6/ 457 برقم 3423.
(3)
البيت لبَشِيْر بن النِّكْث نسبه إليه سيبويه في الكتاب: 2/ 228، وأقرته المعاجم اللغوية التي نقلت كلام سيبويه وستأتي في الرقم التالي.
(4)
الكتاب: 2/ 228، وعنه في معاني القرآن للزجاج: 2/ 318، وتهذيب اللغة للأزهري: 3/ 120، والمحكم لابن سيده: 2/ 234، والمخصص له أيضاً: 13/ 88، واللسان: 3/ 1385.
(5)
ذكره القاضي عياض في مشارق الأنوار: 1/ 260 نقلاً عن البارع في اللغة ولم أجده فيه ولعله من القسم المفقود.
(6)
مشارق الأنوار: 1/ 260، واللسان: 3/ 1386، وتاج العروس: 10/ 128.
5 -
وهناك مصدر خامس، وهو دَاعِية كعَاقِبة وعافية
(1)
.
ويظهر من تتبع موارد استعمال مادة كلمة دعا - أن المصدرين الآخرين ربما يكونان خاصين بالاستعمال في الدعاء بمعنى الحث على الشيء لا الدعاء بمعنى السؤال والطلب.
وأما المصدر الثاني الذي هو الدعوى فإنه يستعمل في الكثير بمعنى الادعاء كما يستعمل في معنى الدعاء، قال ابن جرير الطبري رحمه الله: "وللدعوى في كلام العرب وجهان أحدهما الدعاء، والآخر الادعاء للحق، ومن الدعوى التي معناها الدعاء قول الله تبارك وتعالى:{فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ} [الأنبياء: 15] ومنه قول الشاعر:
إذا مَذِلَتْ رِجْلي دَعَوْتُكِ أَشْتَفِي
…
بِدَعْوَاكِ مِنْ مَذْلٍ بها فَيَهُوْنُ
(2)
"
(3)
وقد سبقه إلى نحو
(4)
هذا أبو عبيدة معمر بن المثنى
(5)
.
الدعاء له إطلاقان:
ثم إن كلمة الدعاء كما تطلق على المصدر تطلق على المفعول به، تقول: دعوت الله دعاء أي دعوة، ففي هذا المثال يراد بها المصدر، وتقول أيضاً: سمعت دعاء كما تقول: سمعت صوتاً فالمراد بها في هذا التركيب ألفاظ الأدعية المدعو بها، لا مجرد الفعل الذي هو التكلم بالأدعية، فيكون من باب إطلاق المصدر وإرادة اسم المفعول به.
(1)
لسان العرب: 3/ 1386، وتاج العروس: 10/ 128.
(2)
البيت لكثير كما في بلوغ الأرب للألوسي: 2/ 320. قوله: مذلت رجلي خدرت، اللسان: 7/ 4164، مادة مذل.
(3)
جامع البيان: 8/ 119 - 120.
(4)
انظر مجاز القرآن: 1/ 210 و 275.
(5)
هو النحوي اللغوي صدوق أخباري وقد رمي برأي الخوارج من السابعة (ت 208 هـ) وقيل بعد ذلك، تقريب التهذيب ص: 541 رقم 6812.
قال أبو سليمان الخطابي رحمه الله بعد أن ذكر أن أصل الكلمة مصدر: "ثم أقاموا المصدر مقام الاسم، تقول: سمعت دعاء كما تقول: سمعت صوتاً، وكما تقول: اللهم اسمع دعائي، وقد يوضع المصدر موضع الاسم، كقولهم: رجل عدل، وهذا درهمٌ ضَرْبُ الأمير، وهذا ثوبٌ نَسْجُ اليمن"
(1)
.
فتحصَّل من هذا أن الدعاء له إطلاقان: أحدهما: إطلاقه على المصدر الذي هو التكلم، والثاني: إطلاقه على اسم المفعول الذي هو الألفاظ المدعو بها.
أصل الهمزة في دعاء:
الأصل في همزة دعاء الواو، فأصله دعاو
(2)
فهي واوية الأصل بدليل قولك دعوت أدعو، و"اسم الفاعل داع والمفعول مدعو"
(3)
فهذا يدل على أن أصل الهمزة في دعاء الواو وإنما أبدلت همزة لتطرفها إثر ألف زائدة، قال ابن مالك رحمه الله:
أَحْرُفُ الإبدال هَدَأْتُ مُوْطِيَا
…
فأَبْدِل الهمزةَ من واو ويا
آخراً إثر ألف زِيْدَ وفي
…
فَاعِلِ مَا أُعِلَّ عيناً ذا اقتفي
(4)
المطلب الثاني: في معنى الدعاء اللغوي:
أطلقت هذه المادة - د ع و - في الكتاب والسنّة وكلام العرب وأهل العلم على معان شتى، ولكن تلك المعاني بينها تفاوت، فمنها ما استعملت فيه كثيراً وهو المراد عند الإطلاق، ومنها ما استعملت فيه
(1)
شأن الدعاء: 4، وعنه في إتحاف السادة: 5/ 27، والأزهية في أحكام الأدعية:27.
(2)
الصحاح للجوهري: 6/ 2337، وتاج العروس: 10/ 126، واللسان: 3/ 1386.
(3)
جمهرة اللغة لابن دريد: 3/ 242.
(4)
الألفية مع شرح ابن عقيل: 2/ 548.
نادراً، وهذا مع ورود تلك المعاني كلها، وصحتها عند أهل اللغة.
ويمكن عند التأمل إرجاع تلك المعاني إلى أصل واحد تدور عليه وهو إمالة الشيء. قال ابن فارس
(1)
رحمه الله:
"دعو. الدال والعين والحرف المعتل أصل واحد، وهو أن تميل الشيء إليك بصوت وكلام فيكون منك"
(2)
.
ثم بيّن رحمه الله كيف أن المعاني المتعددة ترجع إلى ذلك، فبيّن أن قولهم دعا الله فلاناً بما يكره أي أنزله به يرجع إلى ذلك لأنه إذا فعل ذلك به أماله إليه وأن قولهم تداعت الحيطان إذا سقط واحد وآخر بعده، صار كأن الأول دعا الثاني وأماله إلى نفسه، ودواعي الدهر صروفه كأنها تميل الحوادث
(3)
.
وتلك المعاني المتعددة المتحدة في الأصل نذكرها واحدة تلو الأخرى مع ذكر أمثلة وشواهد من استعمالها في الكتاب أو السنة أو كلام أهل اللغة المعتبرين، الذين يستشهد بكلامهم.
ثم نذكر المعاني التي ذكرها بعض العلماء وهي ترجع في الحقيقة إلى المعاني السابقة، مستشهدين في ذلك كله بكلام علماء اللغة المعتبرين، وهذا أوان الشرع في ذلك وبالله التوفيق وعليه التكلان:
1 - فأول تلك المعاني: الطلب والسؤال:
قال ابن سيده
(4)
رحمه الله: "طلب الطالب للفعل من غيره"
(5)
.
(1)
هو أحمد بن فارس بن زكريا أبو الحسين اللغوي المحدث وكان رأساً في الأدب بصيراً بفقه مالك مناظراً متكلماً على طريقة أهل الحق أي على مذهب أهل الحديث (ت 395 هـ)، السير: 17/ 104 - 105، وانظر المنتظم: 7/ 103، وبغية الوعاة: 1/ 352.
(2)
معجم مقاييس اللغة لابن فارس: 2/ 279.
(3)
المرجع نفسه: 2/ 279 - 280.
(4)
هو علي بن إسماعيل الأندلسي الضرير أحد من يضرب بذكائه المثل، إمام في اللغة والعربية، حافظ لهما (ت 458 هـ)، سير أعلام النبلاء: 18/ 144 - 146، والعبر في خبر من غبر: 2/ 308.
(5)
المخصص لابن سيده: 13/ 88.
وقال الحافظ أبو بكر بن العربي المالكي (ت 543 هـ): "الدعاء في اللغة والحقيقة هو الطلب
(1)
.
وقال محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ): معنى الدعاء حقيقة وشرعاً: الطلب"
(2)
.
وذكر هذا المعنى للدعاء كثير من العلماء من غير هؤلاء
(3)
الثلاثة.
ثم إن هذا المعنى هو أكثر استعمالاً من المعاني الأخرى في الكتاب والسنة واللغة ولسان الصحابة ومن بعدهم من العلماء
(4)
.
وفعل "دَعَا" إذا استعمل في هذا المعنى "يتعدى إلى النفع المطلوب بالباء يقال: دعوت الله بالفلاح"
(5)
ويتعدى إلى المدعو المطلوب منه بنفسه، كما أنه يتعدى في الخير باللام وفي الشر بعلى، يقال:"دعوت له بخير وعليه بشر"
(6)
.
ومما ورد من استعماله في هذا المعنى:
قوله تعالى: {وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَامُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ} [الأعراف: 134].
وقوله عز من قائل: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ} [البقرة: 61].
وقوله عز وجل: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ
(1)
أحكام القرآن لابن العربي: 2/ 815.
(2)
فتح القدير: 4/ 498.
(3)
منهم ابن منظور في اللسان: 3/ 1387، ومقاتل بن سليمان البلخي في الأشباه والنظائر: 287، وابن الجوزي في نزهة النواظر: 294، والدامغاني في الوجوه والنظائر: 174 - 175، والزبيدي في إتحاف السادة: 5/ 27، والقرافي في الفروق: 4/ 259، والطرطوشي في الدعاء المأثور ص:32.
(4)
فتح المجيد: 180.
(5)
الكليات للكفوي: 2/ 333.
(6)
المحكم لابن سيده: 2/ 234، واللسان: 3/ 1387، وأساس البلاغة للزمخشري: 1/ 272، وتاج العروس للزبيدي: 10/ 127.
ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} [آل عمران: 38].
وقوله سبحانه: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ
…
} [الأنعام: 40، 41].
وقوله تعالى: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63)} [الأنعام: 63].
وقوله سبحانه: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ} [يونس: 12].
وقوله عز وجل: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل: 62].
وقوله سبحانه: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا} [الإسراء: 56].
وقوله جلّت قدرته: {وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ} [الإسراء: 11].
فالدعاء في هذه الأمثلة معناه الطلب، وليس هو مطلق الطلب، بل طلب خاص وهو "طلب الأدنى من الأعلى تحصيل الشيء بلا غضاضة من الأعلى"
(1)
. وذلك لأن صيغة الطلب والاستدعاء تختلف بحسب الطالب والمطلوب منه، فإذا كانت ممن يقدر على قهر المطلوب منه، فإنها تقال على وجه الأمر، وإذا كانت من الفقير من كل وجه للغني من كل وجه فإنها تقال على وجه السؤال بتذلل وافتقار
(2)
فيسمى ما كان من الأدنى للأعلى دعاء، وما كان من الأعلى للأدنى أمراً، وما كان من الأقران بعضهم من بعض التماساً، قال صاحب السلم:
أمر مع استعلا وعكسه دعا
…
وفي التساوي فالتماس وقعا
(3)
(1)
نزهة النواظر في علم الوجوه والنظائر لابن الجوزي ص: 294.
(2)
الفتاوى: 10/ 246، ونقله في تحفة الجليس: 101، أو دلائل الرسوخ:75.
(3)
السلم المنورق في علم المنطق المطبوع ضمن مجموع المتون ص: 273.
والحاصل أن الصيغة الواحدة تفرق بحسب النظر للمخاطَب والمخاطِب إن كانا متساويين أو أحدهما أعلى من الآخر
(1)
.
وهذا ما ذهب إليه جمع من علماء أهل البلاغة والمنطق وهو مذهب المعتزلة وبعض الفقهاء واعترض عليه بأنه ورد إطلاق لفظ الأمر على غير هذا الوجه في مثل قول فرعون لقومه {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} [الأعراف: 110] والمقام للمشورة، وفرعون أعلى منهم رتبة
(2)
.
2 - العبادة:
وهذا المعنى ورد بكثرة في استعمالات القرآن الكريم والسنّة، وكلام أهل العلم، وممن صرح بهذا المعنى أبو إسحاق الزجاج
(3)
فإنه قال في قوله تعالى: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186]: "معنى الدعاء الله عز وجل على ثلاثة أضرب، فضرب منها توحيده والثناء عليه، كقولك: يا الله لا إله إلا أنت" وقولك: "ربنا لك الحمد. . ."
(4)
.
وقال الزجاج أيضاً عند قوله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55] في تفسير خفية: "أي اعتقدوا عبادته في أنفسكم لأن الدعاء معناه العبادة"
(5)
.
كما صرح بهذا المعنى أيضاً كثير من اللغويين والمفسرين
(6)
، فمن
(1)
دلائل الرسوخ في الرد على المنفوخ: 75، أو تحفة الجليس: 101، ومفتاح العلوم للسكاكي ص:319.
(2)
انظر الإبهاج في شرح المناهج للسبكي 2/ 6 - 7.
(3)
هو إبراهيم بن محمد بن السري البغدادي لغوي، نحوي، مفسر، لزم المبرد، (ت 311 هـ)، سير أعلام النبلاء: 14/ 360، تاريخ بغداد: 6/ 89 - 93، ومعجم المؤلفين: 1/ 33.
(4)
معاني القرآن وإعرابه للزجاج: 1/ 255، وعنه في تهذيب اللغة: 3/ 119، وفي اللسان: 3/ 1385.
(5)
معاني القرآن للزجاج: 2/ 344.
(6)
. منهم ابن جرير في التفسير، فإنه فسر آية:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي} إلخ بوجهين أحدهما: العبادة، جامع البيان: 2/ 160، وفي تفسير قوله تعالى: {وَلَا تَطْرُدِ =
هؤلاء: الإمام أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري اللغوي المشهور (ت 370 هـ)، فإنه قال:
"وقد يكون الدعاء عبادة، ومنه قول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأعراف: 194] أي الذين تعبدون من دون الله. . ." ثم ذكر إطلاقه على توحيد الله وثنائه الذي هو بمعنى عبادته وذكره تعالى ثم قال: "وروي مثل ذلك عن سعيد بن المسيب في قوله: {لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا} [الكهف: 14] أي لن نعبد إلهاً دونه.
وقال عز وجل: {أَتَدْعُونَ بَعْلًا} [الصافات: 125]، أتعبدون رباً سوى الله وقال:{فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [الشعراء: 213]، أي لا تعبده"
(1)
.
وفوق هذا البيان من أهل اللغة بيان الرسول صلى الله عليه وسلم هذا المعنى بقوله: "الدعاء هو العبادة"
(2)
ولا حاجة بعد ذلك إلى بيان أحد من البشر، ولكن ذكرنا ذلك للاستئناس بأقوال العلماء. ومن استعماله في هذا المعنى قوله تعالى:{قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأنعام: 56]. وقوله تعالى: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117)} [النساء: 117]، وقوله سبحانه:{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} [الكهف: 28] وقد تقدم ذكر بعض الأمثلة في كلام الأزهري.
= الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ} الآية. . ذكر نحوه: 7/ 205، ومنهم ابن الجوزي في نزهة النواظر: 293، ومقاتل بن سليمان البلخي في الأشباه والنظائر: 286، ومن اللغويين الأزهري في التهذيب كما سيأتي في الرقم التالي، وابن منظور في اللسان: 3/ 1385، والزبيدي في تاج العروس: 10/ 127، وفي شرح الإحياء: 5/ 27، إلا أنه سماه توحيداً فقال:"ويطلق ويراد به التوحيد كما في قول الله تعالى: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ}، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} " ومثله أبو بكر الطرطوشي في الدعاء المأثور ص: 31، وأبو البقاء الكفوي في كلياته: 2/ 333.
(1)
تهذيب اللغة: 3/ 119، 124، وعنه في اللسان: 3/ 1385.
(2)
سيأتي تخريج الحديث في ص: 54.
3 - الرغبة إلى الله عز وجل:
وهذا المعنى ذكره غير واحد من علماء اللغة، وقدمه كثير منهم على غيره من معاني الدعاء الأخرى في سردهم لتلك المعاني، منهم صاحب المحكم، وصاحب القاموس، وصاحب المصباح، وصاحب الكليات
(1)
.
وهذا المعنى أعم من المعنيين السابقين إذ الرغبة تارة تكون بالمسألة، وتارة بالعبادة والثناء، فالرغبة تحصل بالنوعين: السؤال، والعبادة، كما أن الرغبة هي سبب باعث على الطلب والسؤال، وباعث أيضاً على العبادة والثناء، فيكون الدعاء من آثار الرغبة ونتائجها، وتكون الرغبة لازمة له، ومن هنا ندرك أنه لا تنافي بين هذه المعاني بل هي متلازمة ومتداخلة.
4 - الاستغاثة والاستعانة:
وهذا المعنى ذكره كثيرون من علماء اللغة وعلماء تفسير القرآن الكريم
(2)
.
ومن شواهد استعماله قوله تعالى:
{وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 23].
قال الفراء
(3)
: وادعوا شهداءكم من دون الله" يقول: "آلهتكم،
(1)
راجع المحكم: 2/ 234، والقاموس مع تاج العروس: 10/ 126، والمصباح المنير: 1/ 264، والكليات: 2/ 333.
(2)
انظر معاني القرآن للفراء: 1/ 19، والأشباه والنظائر لمقاتل بن سليمان: 287، وغريب القرآن لابن قتيبة: 43، وتهذيب اللغة للأزهري: 3/ 119، ونزهة النواظر لابن الجوزي: 294، والوجوه والنظائر للدامغاني: 174، ولسان العرب: 3/ 1385، والكليات: 2/ 334، وإتحاف السادة: 5/ 27، والدعاء المأثور ص:32.
(3)
هو يحيى بن زياد بن عبد الله أبو زكريا الأسدي مولاهم الديلمي الكوفي نزيل بغداد النحوي المشهور صدوق (ت 207 هـ)، تقريب التهذيب ص: 590 رقم 7552، والسير: 10/ 118، وبغية الوعاة: 25/ 333 رقم 2115.
يقول: استغيثوا بهم، وهو كقولك للرجل إذا لقيت العدو خالياً: فادع المسلمين، ومعناه استغث بالمسلمين، فالدعاء ههنا بمعنى الاستغاثة"
(1)
.
وقال أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة (ت 276 هـ) في تفسير هذه الآية: "أي ادعوهم ليعاونوكم على سورة مثله ومعنى الدعاء هاهنا - الاستغاثة -، ومنه دعاء الجاهلية، ودعوى الجاهلية، وهو قولهم: يا آل فلان، إنما هو استغاثتهم"
(2)
.
وهذا المعنى الذي هو الاستغاثة والاستعانة هو نوع من أنواع المعنى الأول الذي هو السؤال والطلب فهو قسم منه لا قسيم له
(3)
.
5 - النداء والصياح:
وقد ذكره أيضاً غير واحد من علماء اللغة وعلماء تفسير غريب القرآن الكريم
(4)
ومنه قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا} [الكهف: 52].
وقوله تقدست أسماؤه: {قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ} [الأنبياء: 45].
(1)
معاني القرآن للفراء: 1/ 19، وقد نقله عنه في اللسان: 3/ 1385.
(2)
غريب القرآن لابن قتيبة: 43.
(3)
قسم الشيء: ما يكون مندرجاً تحته، وأخص منه كالاسم، فإنه أخص من الكلمة ومندرج تحتها، وقسيم الشيء: هو ما يكون مقابلاً للشيء ومندرجاً معه تحت شيء آخر كالاسم، فإنه مقابل للفعل ومندرجان تحت شيء آخر وهي الكلمة التي هي أعم منهما. التعريفات للجرجاني ص:175.
(4)
منهم ابن سيده في المحكم: 2/ 234، والجوهري في الصحاح: 6/ 2337، والزمخشري في أساس البلاغة: 1/ 272، وصاحب اللسان: 3/ 1386، والزبيدي في التاج: 10/ 128، وأبو البقاء في الكليات: 2/ 333 - 334، ومقاتل بن سليمان في الأشباه: 286، وابن الجوزي في نزهة النواظر: 294، وانظر أيضاً إتحاف السادة: 5/ 27.
وقوله: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} [النمل: 80].
وقوله عز من قائل: {فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} [الروم: 52].
وقوله تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً} [البقرة: 171].
وقوله تعالى: {يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ} [القمر: 6].
وقوله تعالى: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 52].
ثم إن الدعاء إذا استعمل بمعنى النداء يتعدى لواحد"
(1)
تقول: دعوت زيداً أي ناديته ففي هذا المثال تعدى للمفعول الواحد فقط وهو زيداً.
6 - القول:
ذكره غير واحد من العلماء
(2)
. ومنه قوله تعالى: {فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأعراف: 5].
وقوله تعالى: {فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ} [الأنبياء: 15].
وقوله تعالى: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . قال أبو عبيدة معمر بن المثنى
(1)
الكليات للكفوي: 2/ 333، والنهاية في غريب الحديث لابن الأثير: 2/ 121.
(2)
انظر الأشباه والنظائر لمقاتل بن سليمان: 285، ومجاز القرآن لأبي عبيدة معمر بن المثنى: 1/ 210، 275، ومعاني القرآن للفراء: 2/ 200، ومعاني القرآن للزجاج: 3/ 416، ومعاني القرآن للأخفش الأوسط: 2/ 413، وجامع البيان: 8/ 119 - 120 و 11/ 90، ونزهة النواظر: 293، والمحكم: 2/ 234، والكليات: 2/ 334، والدعاء المأثور:33.
في تفسير هذه الآية: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا} : أي دعاؤهم أي قولهم وكلامهم
(1)
، وقال به قتادة بن دعامة أيضاً
(2)
.
وقوله تعالى: {يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} [الحج: 13].
فقد ذهب أبو إسحاق الزجاج إلى أن يدعو في الآية: "بمنزلة يقول، ولمن مرفوع بالابتداء، ومعناه يقول: لمن ضره أقرب من نفعه - إلهٌ وربٌّ ..
وكذلك قول عنترة:
يَدْعُونَ عنترَ والرماحُ كأنها
…
أَشْطَانُ بئرٍ في لَبَانِ الأَدْهَم
(3)
معناه: يقولون: يا عنتر، فدلت يدعون عليها"
(4)
.
7 - التسمية:
ذكرها كثير من علماء اللغة
(5)
. ومما ورد من استعماله في هذا المعنى قوله تعالى: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأحزاب: 5].
ويتعدى في هذا الحال إلى المفعول الأول بنفسه، وإلى الثاني بالباء، وقد تحذف الباء فيتعدى إلى الثاني أيضاً.
(1)
مجاز القرآن: 1/ 275.
(2)
أخرجه عنه ابن جرير في تفسيره: 115/ 90.
(3)
ديوان عنترة ص: 29، الغريب: الأشطان جمع شطن وهو حبل البئر، اللبان: الصدر، الأدهم: فرسه، انظر اللسان مادة شطن ولبن.
(4)
معاني القرآن للزجاج: 3/ 416، والمحكم: 2/ 432، وكذلك قاله الأخفش الأوسط سعيد بن مسعدة (ت 215 هـ) كما في معاني القرآن له: 2/ 413، وانظر لسان العرب: 3/ 1386.
(5)
منهم ابن سيده في المحكم: 2/ 235، والزجاج في معاني القرآن: 3/ 416، والزمخشري في الكشاف: 2/ 425، وفي أساس البلاغة: 1/ 273، والراغب في المفردات: 170، وابن منظور في اللسان: 3/ 1387، والكفوي في الكليات: 2/ 333، 334.
تقول: دعوته بزيد، ودعوته زيداً أي سميته به. قال الشاعر:
أَهْوَى لَهَا مِشْقَصاً حَشْراً فَشَبْرَقَهَا
…
وَكُنْتُ أَدْعُو قَذَاهَا الإِثْمِدَ الْقَرِدَا
(1)
أي أسميه وأراد أهوى لها بمشقص فحذف الحرف وأوصل
(2)
وقد يحذف المفعول الثاني ويستغنى بالأول نحو دعوت زيداً، والأصل دعوته زيداً
(3)
.
8 - الحث على الشيء والحض عليه والسوق إليه:
وقد ذكره كثير من أهل العلم
(4)
، وقد ورد استعماله في هذا المعنى في الكتاب العزيز كثيراً، فمن ذلك قوله تعالى:{وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [يونس: 25].
وقوله تعالى: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [يوسف: 33].
وقوله تعالى في قصة صاحب آل فرعون: {وَيَاقَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى
(1)
البيت لابن أحمر الباهلي نسبه إليه في مجاز القرآن لأبي عبيدة: 2/ 12، ومعاني القرآن للزجاج: 3/ 416، والمحكم: 2/ 235، والطبري: 16/ 131، واللسان: 3/ 1387، والتهذيب: 3/ 124.
غريب البيت: المشقص: النصل الطويل غير العريض، والحشر هو السهم الذي حشر حشراً وهو المخفف الريش، شبرقها أي مزقها، والإثمد: الكحل الأسود، والقرد الذي يتقطع في العين وقيل: الذي يلزم بعضه بعضاً، وأدعو: أسمي.
والمعنى: كنت أسمي الإثمد قذى من حذري عليها مع أن الإثمد يصلحها فكيف بما يؤذيها، انظر مجاز القرآن: 2/ 12، واللسان 4/ 2185، 2299 في مادتي شقص وشبرق، وحاشية تفسير الطبري: 16/ 131.
(2)
المحكم: 2/ 235، واللسان: 3/ 1387.
(3)
الكشاف للزمخشري: 2/ 378.
(4)
منهم ابن سيده في المحكم: 2/ 234، والراغب في المفردات: 170، وابن منظور في اللسان: 3/ 1386، والفيروز أبادي في القاموس، انظر القاموس مع تاج العروس: 10/ 127، والكفوي في الكليات: 2/ 333.
وقوله عز وجل: {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب: 46].
وقوله تعالى: {يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ} [الأحقاف: 31].
والمشهور في مصدر دعا بهذا المعنى، هو الدعوة، فهي أكثر استعمالاً في هذا المعنى من استعمالها بمعنى السؤال.
9 - إنزال مكروه:
ذكر هذا المعنى جماعة من علماء اللغة
(1)
وقالوا: إن العرب تقول: دعاه الله بما يكره، أي أنزله به وذكروا له شاهداً من قول الشاعر:
دَعَاكَ اللَّهُ من قَيْسٍ بِأَفْعَى
…
إِذَا نَام العيونُ سَرَتْ عَلَيْكَا
(2)
هذا حاصل ما وقفت عليه من معاني كلمة الدعاء وما تصرف عنها وقد بقيت عدة معاني ذكرها بعض العلماء، وعند إمعان النظر ترجع إلى المعاني المذكورة السابقة فتكون من بعض أفراد المعاني السابقة وليست جديدة، وسأذكر تلك المعاني مع شواهدها، وأبين رجوعها إلى المعاني السابقة، مع الإشارة إلى من جعلها من معاني الدعاء.
(1)
منهم الخليل بن أحمد الفراهيدي في كتاب العين: 2/ 221، وابن سيده في المحكم: 2/ 235، وابن فارس في معجمه: 2/ 280، وابن منظور في اللسان: 3/ 1387، والزمخشري في أساس البلاغة: 1/ 272 إلا أنه جعله من معاني الدعاء المجازية، ولا يخفى توسعه في باب المجاز والتأويل.
(2)
البيت في المصادر السابقة، المحكم، ومعجم ابن فارس وغيرهما وقد قيل: إنه لأبي النجم، وفي رواية من ضبع بدل قيس، والقيس هنا من أسماء الذكر، انظر في هذا: المصادر السابقة.
وأنشد الجاحظ بيتاً قريباً من هذا في الحيوان: 1/ 176/ 4: 258:
رَمَاك الله من أَيْرٍ بأَفْعى
…
ولا عَافَاك من جَهْدِ البَلاءِ
ف
من تلك المعاني:
1 - الرفعة والتنويه:
فقد ذكر هذا المعنى الراغب الأصفهاني، وفسر به قوله تعالى:{لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ}
(1)
[غافر: 43].
وهذا الذي قاله الراغب رحمه الله فيه نظر، فقد ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله من معاني الدعاء الاستغاثة، ثم قال:"ويطلق أيضاً على رفعة القدر كقوله تعالى: {لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ} كذا قال الراغب، ويمكن رده إلى الذي قبله"
(2)
.
ويؤيد الاحتمال الذي أبداه الحافظ أن أقوال المفسرين في الآية تدور حول المعاني الآتية:
أحدها: أنه ليس له استجابة دعوة أي دعاءٍ أي لا يستجيب لأحد في الدنيا ولا في الآخرة.
ثانيها: أنه ليست له دعوة إلى عبادته في الدنيا لأن الأوثان لا تدَّعِي الربوبية ولا تَدْعُو إلى عبادتها، وفي الآخرة تتبرأ من عابديها.
وثالثها: أنه ليس له شفاعة
(3)
.
فتبين مما تقدم أن "دعوة" في الآية معناها يرجع إما إلى الدعاء بمعنى الطلب والمسألة على المعنى الأول والثالث لأن الشفاعة نوع من الدعاء، أو يرجع إلى الدعاء بمعنى الحث على المعنى الثاني.
(1)
المفردات: 170.
(2)
الفتح: 11/ 94.
(3)
تفسير البغوي: 4/ 99، والطبري: 24/ 69 وفيه سقط، وابن كثير: 4/ 80، وتفسير الرازي: 14/ 72، وزاد المسير: 7/ 225، وفتح القدير: 4/ 494، وروح المعاني: 8/ 24/ 72، ومعاني القرآن للزجاج: 4/ 376.
وقد تقدم كل من المعنيين فيكون هذا المثال داخلاً في أحدهما، وبهذا يتضح أن هذا المعنى الذي ذكره الراغب للدعاء لا يصح الاستشهاد عليه بالآية المذكورة إذا لم يكن هناك شاهد آخر من اللغة الفصحى يدل له، فعلى هذا لا يصح عده من معاني الدعاء اللغوية مع العلم بأن المعاجم اللغوية الأخرى التي اطلعنا عليها لم تذكر هذا المعنى.
2 - العذاب:
فقد ذكره بعض علماء اللغة
(1)
ومثلوا له بقوله تعالى: {إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى} [المعارج: 15 - 17]. وقالوا: إن دعوتها لهم هو ما تفعل بهم من الأفاعيل، وادَّعوا أن هذا المعنى هو الصحيح، وأنه ليس بمعنى النداء، الحقيقي، قال ابن سيده:"وقيل هو من الدعاء الذي هو النداء وليس بقوي"
(2)
. وهذا الذي قالوه غير صحيح، لأنه خروج عن ظاهر اللغة بدون ضرورة تلجيء إليه، وذلك من تحريف الكلم عن مواضعه وقد تسرب هذا التأويل إلى هؤلاء اللغويين من المعتزلة والجهمية الذين فتحوا باب التأويل والتحريف في كلام الله ورسوله وقلدهم بعض علماء اللغة بدون إحاطة بما يحتوي كلامهم عليه من المفاسد. ثم إن هؤلاء فروا من القول بنداء النار، وكلامها وهذا أمر ثابت بغير هذه الآية من الكتاب والسنة بعبارات صريحة لا تحتمل التأويل، قال تعالى:{يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق: 30]. وعن أبي
(1)
ذكره الخليل بن أحمد في العين: 2/ 221 وحكاه بصيغة يقال، وذكره الأزهري في تهذيب اللغة: 3/ 125، ثم قال وفي قول تنادى، وذكره في المحكم: 2/ 235، ونقله عن محمد بن يزيد وهو المبرد في اللسان: 14/ 260، ونقل عن ثعلب: تنادى من أدبر وتولى، ونقله في الوجوه والنظائر للدامغاني: 175، ونقل عن ثعلب أيضاً: دعاك الله أي أماتك الله، والإماتة أيضاً راجعة إلى معنى إنزال المكروه، وانظر أيضاً تاج العروس: 10/ 128.
(2)
المحكم: 2/ 235 وقد ذكر قبل هذا معنى آخر وهو أنها تفعل بهم الأفاعيل وهو راجع إلى العذاب.
هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اشتكت النار إلى ربها فقالت: رب أكل بعضي بعضاً، فأذن لها بنفسين. . ."
(1)
.
وعنه رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "تحاجت الجنة والنار" فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين، وقالت الجنة: مالي لا يدخلني إلّا ضعفاء الناس وسَقَطُهم، قال الله تبارك وتعالى للجنة:"أنتِ رحمتي أرحم بكِ من أشاء من عبادي، وقال للنار: إنما أنتِ عذاب أعذب بكِ من أشاء من عبادي. . ."
(2)
.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تزال جهنم تقول: هل من مزيد حتى يضع فيها رب العزة تبارك وتعالى قدمه فتقول: قط قط وعزتك، ويزوي بعضها إلى بعض"
(3)
.
وقد دلت هذه النصوص القطعية الصريحة على أن النار تتكلم حقيقة، فبذلك يصح أنها تنادي، فلا حاجة إلى تأويل "تدعو" في الآية إلى تعذب، ثم إن هذا المعنى الذي هو العذاب لو ثبت لغوياً أنه من معاني الدعاء فهو داخل تحت إنزال المكروه فهو ليس معنى جديداً.
3 - الاستفهام:
فقد ذكره بعض علماء تفسير غريب القرآن
(4)
. ومثلوا له بقوله تعالى في قصة مراجعة بني إسرائيل لموسى عليه السلام في ذبح البقرة: {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ} [البقرة: 68، 69، 70] أي استفهم لنا ربك.
وهذا المعنى راجع إلى المعنى الأول الذي هو الطلب فإن الاستفهام
(1)
البخاري: 2/ 18 رقم 537، 6/ 330 رقم 3260 ومسلم: 1/ 431 رقم 617.
(2)
البخاري مع الفتح: 8/ 595 برقم 4850، ومسلم: 4/ 2186 رقم 2846.
(3)
البخاري مع الفتح: 8/ 594 رقم 4848، ومسلم: 4/ 2187 رقم 2848.
(4)
منهم مقاتل بن سليمان في الأشباه والنظائر: 287، وابن الجوزي في نزهة النواظر: 295، والدامغاني في الوجوه:175.
قسم من أقسام الطلب وليس قسيماً له ومما يدل على رجوعه إلى ذلك ما روي عن الكلبي
(1)
أنه فسره بقوله: "سل لنا ربك"
(2)
.
4 - الجعل:
فقد ذكره بعضهم من معاني الدعاء
(3)
ومثلوا له بقوله تعالى: {أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91)} [مريم: 91] وبقوله تعالى: {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ} [لقمان: 30]، وبقول الشاعر:
أَهْوَى لها مِشْقَصاً حَشْراً فَشَبْرَقَها
…
وكنت أدعو قَذَاها الإِثْمِدَ القردَا
(4)
وبقول آخر:
أَلَا رُبَّ من تَدْعُو نصيحاً وإِن تَغِبْ
…
تَجِدْهُ بِغَيْبٍ غَيْرَ مُنْتَصِحِ الصَّدْرِ
(5)
وترجع هذه الأمثلة إلى ما تقدم من المعاني.
ففي الآية الأولى ذهب الأكثرون إلى أنها بمعنى سموا، فترجع إلى معنى التسمية، فعلى هذا فإن الدعاء بمعنى التسمية يتعدى إلى مفعوليه كما تقدم، اقتصر هنا على المفعول الثاني، وحذف الأول ليفيد العموم والإحاطة لكل ما دعي له عز وجل ولداً من عيسى وعزير وغيرهما
(6)
.
(1)
هو محمد بن السائب الكوفي المفسر النسابة الأخباري متهم بالكذب ورمي بالرفض من السادسة (ت 146 هـ) تقريب التهذيب ص: 479 رقم 5901، وميزان الاعتدال: 3/ 556 رقم 7574.
(2)
تهذيب اللغة: 3/ 123، اللسان: 3/ 1387.
(3)
منهم أبو عبيدة معمر بن المثنى في مجاز القرآن: 2/ 12 و 128، والأزهري في تهذيب اللغة: 3/ 124، نقلاً عن الأخفش، والطبري في التفسير: 16/ 131، والبغوي في التفسير: 3/ 209، والراغب الأصفهاني في المفردات: 170، وابن منظور في اللسان: 3/ 1387.
(4)
تقدم هذا البيت ص: 17.
(5)
ورد ذكره في مجاز القرآن والطبري واللسان في المواضع السابقة ولم ينسبه في هذه المراجع إلى قائله.
(6)
الكشاف: 2/ 425، وروح المعاني: 16/ 141.
وفي الآية الثانية بمعنى العبادة أو السؤال كما هو واضح، وسيأتي ما يؤيد أنها بمعنى العبادة
(1)
، وفي البيتين يرجع الدعاء إلى معنى التسمية، فقوله:"وكنت أدعو قذاها" أي أسميه
(2)
، وقوله:"من تدعو نصيحًا" أي تسميه نصيحًا، وتلقبه بذلك.
5 - الاستحضار:
فقد ذكره بعضهم
(3)
ومثل له بقوله تعالى: {يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ} [ص: 51].
وقولهم: دعا بالكتاب أي استحضره، وهذا راجع إلى معنى الطلب أيضًا، فالمعنى أنه طلب حضور الكتاب في المثال الثاني، وأما في الآية فالمعنى أن أهل الجنة يسألون ويطلبون الفواكه الكثيرة والشراب.
6 - الندبة:
فقد ذكر هذا المعنى كثير من علماء اللغة وقالوا: "يقال: دعا الميت: ندبه"
(4)
والظاهر أنه يرجع إلى معنى النداء، فلذلك قال ابن سيده وغيره:"ودعا الميت ندبه كأنه ناداه"
(5)
ففيه معنى النداء فيرجع إليه.
7 - الثناء:
فقد ذكره بعضهم
(6)
ومثل له بقوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا
(1)
سيأتي في ص: 123.
(2)
المحكم: 2/ 235، وفسره الأزهري بقوله:"أي كنت أجعل وأسمي" فعطف أحدهما على الآخر. التهذيب: 3/ 124.
(3)
ذكره الزمخشري في أساس البلاغة: 1/ 273، والزبيدي في تاج العروس: 10/ 128.
(4)
ذكره ابن سيده في المحكم: 2/ 235، وابن منظور في اللسان: 3/ 1387، والزمخشري في أساس البلاغة ص: 189، والزبيدي في التاج: 10/ 127.
(5)
المصادر السابقة في المواضع نفسها.
(6)
ذكره القشيري في شرح أسماء الله الحسنى ونقله عنه الحافظ في الفتح: 11/ 94.
الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا} [الإسراء: 110].
وفي التمثيل بهذه الآية نظر، لأن الدعاء هنا إما بمعنى النداء على ما اختاره أبو حيان وجماعة
(1)
أو بمعنى التسمية على ما اختاره الزمخشري
(2)
أو بمعنى السؤال المتضمن معنى التسمية على ما اختاره ابن القيم.
وقد عقب ابن القيم على اختيار الزمخشري بأنها بمعنى التسمية، فقال:
"وهذا الذي قاله هو من لوازم المعنى المراد بالدعاء في الآية، وليس هو عين المراد، بل المراد بالدعاء معناه المعهود المطرد في القرآن وهو دعاء السؤال ودعاء الثناء ولكنه متضمن معنى التسمية فليس المراد مجرد التسمية الخالية عن العبادة والطلب بل التسمية الواقعة في دعاء الثناء والطلب، فعلى هذا المعنى يصح أن يكون في تدعوا معنى تسموا فتأمله، والمعنى أيًّا ما تسموا في ثنائكم ودعائكم وسؤالكم والله أعلم"
(3)
.
والحاصل أن التمثيل بالآية غير متفق عليه مع احتماله لمعنى الثناء ولكنه في معنى السؤال أظهر كما يدل عليه سبب النزول
(4)
فلا يعد هذا المعنى معنى مستقلًا للدعاء.
8 - الإيمان:
فقد فسر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قوله تعالى: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ} [الفرقان: 77] بقوله رضي الله عنه: "يقول: لولا إيمانكم"
(5)
.
(1)
البحر المحيط: 6/ 90، وروح المعاني: 15/ 192.
(2)
الكشاف: 2/ 378، وروح المعاني: 15/ 192.
(3)
بدائع الفوائد: 3/ 5، ونحوه في الفتاوى: 15/ 14.
(4)
انظر في سبب النزول تفسير ابن جرير: 15/ 182، فقد أخرجه عن ابن عباس، ومكحول مرسلًا.
(5)
أخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره: 19/ 55 من طريق علي وهو ابن أبي طلحة عن ابن عباس به.
وقد ذكره أيضًا البخاري رحمه الله في كتاب الإيمان فقال: "دعاؤكم، إيمانكم"
(1)
، فالبخاري يشير بهذا إلى "أن الدعاء عمل، وقد أطلقه على الإيمان، فيصح إطلاق أن الإيمان عمل"
(2)
فهو يستدل بهذا على أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان. وذكر محمد صديق حسن خان (ت 1307 هـ) رحمه الله: أن "أصل الدعاء في اللغة الإيمان"
(3)
وهذا الذي قاله لم أجد من سبقه إليه، فإن ابن عباس والبخاري إنما ذهبا إلى أن معنى الدعاء في الآية - الإيمان - ولم يقولا: بأنه هو الأصل في اللغة، مع أن كلامهما يمكن أن يحمل على أنهما أرادا بالإيمان العبادة لأن معنى الإيمان عند الإفراد يشمل جميع أنواع العبادة، وجميع أنواع الطاعات كما ذكر ذلك في مسألة الفرق بين الإيمان والإسلام والفقير والمسكين، وإطلاق الدعاء على العبادة ثابت كما تقدم.
ومما يدل على هذا الاحتمال أن ابن جرير فسر الدعاء في الآية بالعبادة والطاعة، ثم قوى هذا التفسير بقول ابن عباس:"لولا إيمانكم"
(4)
فدل على أنه يرى أنه لا فرق بين تفسير الدعاء بالعبادة وبين تفسيره بالإيمان فكلاهما يطلق على الآخر.
ومن هنا يتضح أن هذا المعنى ليس معنىً مستقلًا، بل هو راجع إلى معنى العبادة الذي تقدم.
هذه المعاني المتقدمة هي المعاني التي ذكروها لمادة "د ع و" المجردة.
وأما مادة "د ع و" المزيدة فقد ذكروا لها معاني أغلبها ترجع إلى هذه
(1)
البخاري مع الفتح: 1/ 49، وذكره في تاج العروس نقلًا عن البخاري: 10/ 128.
(2)
فتح الباري: 1/ 49.
(3)
الدين الخالص: 1/ 224.
(4)
جامع البيان: 19/ 55.
المعاني عند التأمل، ومن المعاني التي ذكروها: التمني، والزعم، والتداعي.
1 -
أما التمني: فقد ذكره كثير من العلماء
(1)
ومثلوا له بقوله تعالى: {لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ} [يس: 57]، وقوله تعالى:{وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} [فصلت: 31]، وبنحو قولهم:"فلانٌ في خير ما ادَّعَى" أي ما تمنَّى وقولهم: "ادَّعِ عليَّ ما شِئْتَ" أي تَمَنَّ عَلَيَّ
(2)
.
وهذا المعنى يرجع عند التأمل إلى معنى الطلب إذ التمني أحد أنواع الطلب ومما يقوي هذا المعنى ما قاله الراغب الأصفهاني في تفسير الآية السابقة {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} : أي ما تطلبون
(3)
وكذلك ما قاله ابن سيده في المحكم حيث ذكر أن ادعى بمعنى تمنى ثم قال: "وفي التنزيل {وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ} معناه ما يتمنون، وهو راجع إلى معنى الدعاء أي ما يدعيه أهل الجنة"
(4)
.
ومثله قول الزجاج بعد تفسيره بالتمني: "وهو مأخوذ من الدعاء، المعنى: كل ما يدعو أهل الجنة يأتيهم"
(5)
، وقولهم: ادّع علي ما شئت أي اطلب مني ما شئت وقولهم: فلان في خير ما ادعى أي في خير ما طلب.
(1)
منهم أبو عبيدة في المجاز: 2/ 164، وابن سيده في المحكم: 2/ 235، والزجاج في معاني القرآن: 4/ 292، والأزهري في التهذيب نقلًا عن ابن هانئ: 3/ 124.
(2)
ذُكِرَ هذان المثالان في المحكم: 2/ 235، واللسان: 3/ 1387، والتهذيب: 3/ 124.
(3)
المفردات: 170.
(4)
المحكم: 2/ 135، ونحوه في تاج العروس: 10/ 127 قوله: يدعيه أي يدعوه فيه إبدال.
(5)
معاني القرآن للزجاج: 4/ 291.
2 -
وأما الزعم والادعاء حقًا كان أو باطلًا، فقد ذكره بعض أهل العلم
(1)
ومن أمثلته التي ذكروها قوله تعالى: {وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ} [الملك: 27]، أي هذا العذاب الذي زعمتم أنه باطل وأنه لا يقع.
ويحتمل رجوعه إلى معنى الطلب أيضًا فالمعنى على ذلك: هذا الذي كنتم تَدْعُون اللَّهَ تعالى بتعجيله يعني قولهم: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ} [الأنفال: 32].
فهذا ظاهر على قراءة تدعون بالتخفيف وأما على قراءة التشديد فيحتمل أن يكون تدعون تفتعلون من الدعاء أو من الدعوى
(2)
وذكر البغوي القراءتين وأن معناهما واحد مثل تذكرون وتذكرون وقال: "تفتعلون من الدعاء أي أن تدعوه وتتمنوه أنه يجعله لكم"
(3)
.
3 -
وأما التداعي والتساقط فقد ذكرته طائفة أهل اللغة
(4)
ومن أمثلته حديث: يُوْشِكُ أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها"
(5)
.
وقولهم: "تداعت الحيطان" أي تساقطت.
وهذا المعنى راجع إلى النداء فمعنى أن تداعى عليكم الأمم: أي
(1)
انظر المحكم لابن سيده: 25/ 235، واللسان: 3/ 1387 - 1388.
(2)
انظر ذلك في المصادر السابقة، ومعاني القرآن للزجاج: 5/ 201، والتهذيب نقلًا عن الزجاج: 3/ 120.
(3)
تفسير البغوي: 4/ 373، وانظر في القراءتين: النشر في القراءات العشر لابن الجزري: 2/ 389.
(4)
منهم صاحب القاموس انظر القاموس مع التاج: 10/ 128 إلا أنه جعله من المجاز، وابن الأثير في النهاية: 2/ 121، وابن منظور: 13/ 1388.
(5)
أخرجه أحمد في المسند: 5/ 278، وأبو داود: 4/ 483 رقم 4297 وهو من مسانيد ثوبان وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة: 2/ 683 رقم 958، وصحيح الجامع: 6/ 364 رقم 8035.
تجتمع ويدعو بعضهم بعضًا، كما في النهاية
(1)
.
وفي المثال الثاني جعل الحيطان كأنه يدعو بعضه بعضًا كما سبقت الإشارة إلى ذلك في كلام ابن فارس
(2)
.
المطلب الثالث: في المعنى الشرعي للدعاء والمناسبة بينه وبين المعنى اللغوي:
قد تنوعت عبارات العلماء في تعريف الدعاء، وتعددت كلماتهم، وكلها تهدف إلى الكشف عن حقيقة معناه الشرعي، وإليك بعض تلك العبارات:
قال أبو سليمان الخطابي (ت 388 هـ): "ومعنى الدعاء: استدعاء العبد ربه عز وجل العناية، واستمدادُه إياه المعونةَ، وحقيقته إظهار الافتقار إليه، والتبرؤ من الحول والقوة"
(3)
.
وقال أبو عبد الله الحسين بن الحسن الحَلِيميُّ (ت 403 هـ): "الدعاء: قول القائل: يا الله يا رحمن يا رحيم وما أشبه ذلك"
(4)
.
وقال القاضي أبو بكر بن العربي المالكي (ت 543 هـ): "حقيقة الدعاء مناداة الله تعالى لما يريد من جلب منفعة أو دفع مضرة من المضار والبلاء بالدعاء، فهو سبب لذلك، واستجلاب لرحمة المولى"
(5)
.
(1)
النهاية في غريب الحديث: 2/ 120، وقال في اللسان وتداعى القوم دعا بعضهم بعضًا حتى يجتمعوا: 3/ 1386.
(2)
تقدم في ص: 26.
(3)
شأن الدعاء للخطابي ص: 4.
(4)
المنهاج في شعب الإيمان للحليمي: 1/ 522.
(5)
مراقي الزلفى لابن العربي بواسطة نبذة في الدعاء وآدابه وأسبابه لليافعي ص: 22 ولم أطلع على كتاب ابن العربي وانظر نسبة الكتاب إلى ابن العربي في كتاب آراء أبي بكر بن العربي لعمار طالبي: 1/ 76 - 77، ومقدمة قانون التأويل للسليماني ص:153.
وقال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية (ت 728 هـ): "إن دعاء المسألة: هو طلبُ ما ينفع الداعي، وطلبُ كشفِ ما يضره، ودَفْعِهِ"
(1)
.
وقال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب (ت 1206 هـ): "وهو الطلب بياء النداء لأنه ينادى به القريب والبعيد، وقد يستعمل في الاستغاثة أو بأحد أخواتها"
(2)
.
وعرفه الشيخ حسين بن مهدي النعمي اليمني (ت 1187 هـ) بقوله: فالمعنى الذي هو راجع وضعًا لا قصدًا إلى القوي القادر، بحيث لا يصلح إلا له، ولا يتحصل إلا به أو عنه، اسمُ طلبه والتماسِه، واللفظُ الذي يكون له هو الدعاء وضعًا وشرعًا والدعاء في لسان أنبياء الله ورسله وكتابه - اسمٌ لطلب ذلك المعنى -"
(3)
وقال أيضًا: "إن الدعاء عند المتشرعة والإسلاميين طَبْعٌ وهيئةٌ لازمةٌ طلبَ العاجزِ للقادر وسؤاله منه"
(4)
وعرفه أيضًا بتعريف آخر أطول هذا يرجع إلى هذا المعنى
(5)
.
وعرفه الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ (ت 1285 هـ) بقوله: "هو السؤال والطلب رغبة أو رهبة أو مجموعهما"
(6)
. وهناك تعريفات
(1)
الفتاوى: 15/ 10، ومثله في بدائع الفوائد: 3/ 2.
(2)
الرسائل الشخصية من مؤلفات الشيخ ص: 4.
(3)
معارج الألباب في مناهج الحق والصواب ص: 196.
(4)
معارج الألباب ص: 218.
(5)
فقد ذكر في ص 193 تعريفًا طويلًا أدخل فيه شروط صحة الدعاء وهي:
أ - كون المدعو قادرًا بالذات.
ب - كونه متمكنًا من المطلوب منه.
جـ - كون حصول المطلوب يتوقف على إرادته فقط.
د - عجز المخلوق عن تحصيله.
هـ - صلاحية المحل للقيام بالسؤال والعلم بما فيه الخير
…
(6)
القول الفصل النفيس ص: 47.
أخرى
(1)
تدور حول التعريفات السابقة. وكل هذه التعريفات خاصة بأحد نوعي الدعاء، وهو دعاء المسألة ولا تشمل دعاء العبادة، ولكن يمكن أن تشمله بطريق التلازم، وذلك بأن يقال: إن المراد من دعاء العبادة هو طلب الثواب والخوف من العقاب فهو طلب جلب منفعة أو دفع مضرة كما يأتي بيان ذلك عند ذكر تلازم نوعي الدعاء.
ولعل التعريف الشامل أن يقال: "الرغبة إلى الله تعالى والتوجه إليه، في تحقيق المطلوب، أو دفع المكروه، والابتهال إليه في ذلك إمَّا بالسؤال، أو بالخضوع والتذلل، والرجاء والخوف والطمع".
فقولنا بالسؤال يراد به دعاء المسألة وقولنا: أو بالخضوع .. إلخ يراد به دعاء العبادة فشمل التعريف نوعي الدعاء، فصار جامعًا مانعًا. وسيأتي مزيد بيان لهذين النوعين من الدعاء في مبحث أنواع الدعاء إن شاء الله تعالى.
وأما المناسبة بين المعنى اللغوي والشرعي فواضحة إذ الدعاء في اللغة كما تقدم يطلق على الطلب والعبادة والرغبة فهذه المعاني موجودة
(1)
من ذلك تعريف مرتضى الزبيدي حيث قال: "وأما حقيقته اصطلاحًا فمعنى قائم بالنفس وهو نوع من أنواع الكلام النفسي، وله صيغ تخصه في الإيجاب افعل، وفي النفي لا تفعل، إتحاف السادة: 5/ 27، فهذا التعريف ينحى منحى الأشاعرة في الكلام النفسي والمآخذ عليه مذكورة في بحث كلام الله تعالى. انظر مختصر الصواعق: 2/ 291 - 298.
ومن ذلك تعريف الدكتور محمد سيد طنطاوي المصري في كتابه الدعاء ص: 13 بقوله: "الابتهال إلى الله تعالى بالسؤال، والرغبة فيما عنده من الخير، والتضرع إليه في تحقيق المطلوب، وإدراك المأمول"، وهو مأخوذ مما تقدم في المعنى اللغوي الثالث وهو تعريف ناقص لعدم تضمنه ما كان لدفع المرهوب.
ومن ذلك أيضًا تعريف الدكتور محمد صالح علي مصطفى في كتابه أصول التوحيد في القرآن الكريم ص: 50 حيث قال: "والمراد منه السؤال من الله خفية وعلانية، والطلب منه بتضرع وخضوع مع رجاء الإجابة" وهو خاص أيضًا بدعاء المسألة.
في المعنى الشرعي إذ الداعي - سواء كان دعاء مسألة أو عبادة - طالب للأجر والثواب أو طالب لحاجته من نيل مرغوب أو دفع مرهوب، كما أنه راغب إلى الله تعالى في تحقيق ذلك، ومستعينٌ بالله تعالى، ومستغيثٌ به في ذلك، ومنادٍ له بقوله: يا رب أو اللهم إلخ
…
فأغلب المعاني اللغوية التي للدعاء لها مناسبة جلية للمعنى الشرعي.
ثم بعد هذه التعريفات المتعددة لمعنى الدعاء الشرعي بقي أن نعلم أن معنى الدعاء القائم بقلب المؤمن، ووجدانه، وشعوره، وراء هذه العبارات اللفظية، وإنما هذه العبارات تمثيل وإشارة، وتفهيم، وتقريب. وإلا فما يقوم بالقلب حينئذ من الرغبة والابتهال، والانطراح بين يدي الرب، والافتقار إليه، والتذلل بين يديه والالتجاء إليه والاعتصام به، والتزلف إليه: أمرٌ لا تحيط به العبارة. ونظير هذا التعبير عن معنى بقية الأعمال الصالحة القلبية، كمحبة الله وخشيته، وإجلاله، ومهابته ورجائه والتوكل عليه، فإن العبارة تقصر عن وصف ذلك، مهما تنوعت العبارات، ولا تدرك حقيقة تلك الأعمال إلّا بالاتصاف بذلك، لا بمجرد الوصف والخبر
(1)
.
(1)
انظر بدائع الفوائد: 2/ 200 - 201، والفتاوى: 10/ 333.
المبحث الثاني في الكلمات الدالة على معنى الدعاء
ويشتمل على مقدمة ومطلبين:
المقدمة: في وجوب الاعتناء بمعرفة الأسماء الشرعية، وأقسام الكلمات، والأسباب الداعية لشرحها.
المطلب الأول: في الكلمات المرادفة للدعاء.
المطلب الثاني: في الكلمات الخاصة بنوع معين من أنواع الدعاء.
مقدمة في الأسباب الداعية إلى التعرض لشرح هذه الكلمات، وفي ذكر أقسامها
ومما ينبغي أن يعلم أنه يجب الاعتناء بمعرفة معاني الأسماء الشرعية، وتعريفاتها وما أراد الشارع منها.
فإن بيّن الشارع مراده منها يجب معرفة ذلك البيان والالتزام به وإن كان مما هو معروف لدى أهل اللغة العربية فينبغي معرفة معناه في لغتهم أو عرفهم
(1)
.
وذلك لأن معرفة الأسماء الشرعية من معرفة حدود ما أنزل الله تعالى، وقد ذم الله تعالى من لا يعرف حدود ما أنزل الله على رسوله فقال:{الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [التوبة: 97].
ثم إن تلك المعرفة يتعلق بها قيام مصالح الناس
(2)
ليتعاملوا على أساسه حتى لا تختلط المفاهيم، وتتضارب الاصطلاحات.
(1)
الأسماء الشرعية منها ما بيّنه الشارع كالصلاة والزكاة والخمر، ومنها ما هو معروف باللغة كالشمس والقمر، ومنها ما يرجع إلى عرفهم كالبيع والنكاح.
انظر في هذا: الفتاوى: 19/ 235 - 236.
(2)
انظر الانتصار لحزب الله الموحدين لأبا بطين: 21 - 22.
هذا في الأسماء الشرعية العامة، وأما في الأسماء الشرعية الأصولية الاعتقادية التي يسبب عدم معرفتها الضلال في الدين وربما يؤدي إلى الخروج عن الإسلام جملة.
ففي هذه الأسماء يجب الاعتناء أكثر، حتى تتضح معالم الدين والتوحيد، ومعالم الشرك وذرائعه، ووسائله، ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة.
فلهذا فإني سأتعرض لشرح معنى بعض الأسماء التي تشترك مع الدعاء في المفهوم، ولها دلالة على معنى الدعاء.
لكلمة الدعاء نظائر، وأخوات، في اللغة، والاستعمال، تستخدم استخدام كلمة الدعاء وترد بمعناها، أو ببعض معناها، وقد تتعاقب مع الدعاء في موضوعات متشابهة، وبين تلك الكلمات وبين كلمة الدعاء اشتراك ومناسبة، وقد تكون تلك النسبة ترادفًا
(1)
، وقد تكون عمومًا وخصوصًا من وجه
(2)
، وقد تكون عمومًا وخصوصًا مطلقًا
(3)
، وهذه الكلمات ترد في ثنايا هذه الرسالة مرارًا وتكرارًا، والبحث والتنقيب عن هذه الكلمات، والكشف عن معانيها، وعلاقتها بالدعاء، يزيد معنى الدعاء وضوحًا وبيانًا ويزيد القارئ فهمًا وإدراكًا وإحاطة بالبحث بجوانبه المختلفة، كما أن القرآن الكريم قد ترد فيه بعض هذه الكلمات متعاقبة للدعاء، وهذا يقتضي معرفة معاني هذه الكلمات، وبيان مجيئها بمعنى الدعاء وذكر وجه المناسبة والعلاقة بين هذه الكلمات من جهة، وبين الدعاء من جهة أخرى حتى تتضح الصورة الكاملة لمعنى الدعاء ونظائره. وسأذكر إن شاء الله تعالى هذه الكلمات وأقتصر على الكلمات الكثيرة
(1)
الترادف: عبارة عن الاتحاد في المفهوم، وقيل: هو توالي الألفاظ المفردة الدالة على شيء واحد باعتبار واحد، اهـ. التعريفات للجرجاني ص:56.
(2)
العموم والخصوص من وجه هو أن يجتمع اللفظان في مادة، وينفرد كل واحد منهما في مادة أخرى.
(3)
العموم والخصوص المطلق أن يجتمعا في مادة، وينفرد أحدهما في مادة أخرى.
التوارد في الكتاب والسنة واستعمال أهل العلم دون الكلمات التي يندر استعمالها أو التي تستعمل في دعاء خاص نادر الوقوع كالتسميت والتشميت فقد وردا بمعنى الدعاء للعاطس والأَلّ بمعنى رفع الصوت بالدعاء والمَلَق بمعنى الدعاء والتضرع
(1)
.
فهذه وأمثالها لا أعقد المقارنة بينها وبين كلمة الدعاء، لعدم كثرة استعمالها في الكتاب والسنة وكلام أهل العلم.
وهذه الكلمات الدالة على معنى الدعاء يمكن تقسيمها إلى الأقسام التالية:
أ - قسم يستعمل مرادفًا للدعاء أو أعم من الدعاء، ومن هذا القسم كلمة العبادة والذكر، والصلاة، والاستعانة.
ب - قسم خاص بنوع معين من أنواع الدعاء، وهذا القسم يتنوع إلى ثلاثة أنواع:
1 -
النوع الأول: ما كان مختصًا بالاستعمال في دفع المكاره والمضار، ومن هذا النوع: كلمة الاستعاذة، والاستغاثة، والاستجارة، واللياذة، والاستغفار والشفاعة.
2 -
النوع الثاني: ما كان مختصًا بالاستعمال في جلب المنافع والمسار، ومن هذا النوع النوع كلمة السؤال.
3 -
النوع الثالث: ما كان مختصًا بالاستعمال في صفة معينة من صفات الدعاء، ومن هذا النوع كلمة النداء، والجؤار، والابتهال.
المطلب الأول: في القسم الأول:
وهو ما يستعمل مرادفًا للدعاء أو أعم من الدعاء. ومن كلمات هذا القسم:
(1)
المخصص: 13/ 88 قال نقلًا عن الخليل: إياك أدعو فتقبل مَلَقي أي دعائي وتضرعي.
العبادة:
إن كلمتي الدعاء والعبادة قد تكرر ورودهما في القرآن الكريم على مورد واحد، وتعاقبهما على موضوع واحد أو على موضوعات متشابهة، كما أنه ورد في القرآن جمعهما في آية واحدة وسياق واحد باستعمال إحداهما في صدر الكلام والأخرى في نهايته، أو عطف جملة فيها إحدى الكلمتين على جملة فيها الأخرى، بحيث لو أن إحدى الكلمتين رفعت من مكانها ووضعت الأخرى مكانها لاستقام المعنى ولم يحصل خلل في نظم الكلام فهذه الأساليب تدل على اشتراك الكلمتين في المفهوم أو ترادفهما.
ويكفي في الدلالة على اشتراكهما ما ورد في الحديث الصحيح الذي رواه النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب ويقول: "إن الدعاء هو العبادة" ثم قرأ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} "
(1)
.
(1)
تخريجه:
قد روي هذا الحديث عن النعمان: يُسَيْعُ بن مَعْدَان الحضرمي، ورواه عن يسيع ذَرّ بن عبد الله المرهبي، وروى عن ذر راويان إمامان ثقتان اشتهر الحديث عنهما وهما:
1 -
منصور بن المعتمر.
2 -
والأعمش سليمان بن مهران.
أما منصور: فقد روى عنه حسب اطلاعي خمسة وهم: سفيان الثوري وشعبة بن الحجاج، والسدي الكبير إسماعيل بن عبد الرحمن، وشيبان بن عبد الرحمن أبو معاوية، وجرير بن عبد الحميد الرازي.
طريق سفيان الثوري:
أخرجه ابن المبارك في الزهد ص: 459 رقم 1299، وأحمد في المسند: 4/ 267 عن عبد الرزاق وهو ابن همام، وأخرجه أحمد أيضًا في: 4/ 276، والترمذي: 5/ 374 رقم 3247، وابن جرير في التفسير: 24/ 78، كلاهما عن محمد بن بشار وهو بندار. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= والحاكم: 1/ 490 من طريق إبراهيم بن هارون الأصبهاني.
ثلاثتهم - أعني أحمد وابن بشار والأصبهاني - عن عبد الرحمن بن مهدي والطبراني في الدعاء: 2/ 786 رقم 1 من طريق محمد بن يوسف الفريابي وأبي حذيفة وهو موسى بن مسعود، والبغوي في التفسير: 4/ 103، وفي شرح السنة: 5/ 184 رقم 1384 من طريق الفريابي، وابن منده في التوحيد: 2/ 180 رقم 325 من طريق قبيصة وهو ابن عقبة وعبد الرزاق.
ستتهم - أعني ابن المبارك وعبد الرزاق، وابن مهدي والفريابي وأبا حذيفة وقبيصة - عن سفيان الثوري عن منصور به.
طريق شعبة:
أخرجه ابن المبارك في الزهد ص: 459 رقم 1298، ومن طريقه النسائي في الكبرى التفسير: 2/ 253 ح 484 وكما في تحفة الأشراف: 9/ 30 عن سويد بن نصر عن ابن المبارك به، وأبو داود الطيالسي في المسند ص: 108 رقم 801، ومن طريقه القضاعي في مسند الشهاب: 1/ 51 رقم 29، وأحمد في المسند: 4/ 277 عن محمد بن جعفر وهو غندر، وأبو داود في السنن: 2/ 161 رقم 1479 عن حفص بن عمر وهو الحوضي، وابن جرير في التفسير: 24/ 78، من طريق غندر وابن مهدي والطبراني في الدعاء: 2/ 787 رقم 2 من طريق الحوضي وأبي الوليد الطيالسي، ومن طريقه المزي في التهذيب: 32/ 306 في ترجمة يسيع، والحاكم: 1/ 91 من طريق عبد الرحمن بن مهدي، وسقط من النسخة "عن شعبة"، والبخاري في الأدب المفرد رقم 714 عن أبي الوليد.
ستتهم - أعني ابن المبارك والطيالسي وغندر والحوضي وابن مهدي وأبا الوليد - عن شعبة عن منصور به.
طريق السدي إسماعيل بن عبد الرحمن:
أخرجه ابن جرير في التفسير: 24/ 79 من طريق أسباط بن نصر الهمداني عن السدي عن منصور به.
طريق شيبان بن عبد الرحمن النحوي:
أخرجه الطبراني في الدعاء: 2/ 787 رقم 3 من طريق سعد بن حفص عن شيبان أبي معاوية، وهو ابن عبد الرحمن النحوي عن منصور به.
وقد وهم محقق كتاب الدعاء للطبراني فظن أن شيبان أبا معاوية هو أبو معاوية الضرير محمد بن خازم الذي يروي عن الأعمش كما سيأتي، فجعل الرواية هذه والراوية الآتية طريقًا واحدًا وليس الأمر كذلك بل هما شخصان مختلفان اتفقا في الكنية.
طريق جرير بن عبد الحميد: =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= أخرجه أبو يعلى عن أبي خيثمة وهو زهير بن حرب، ومن طريق أبي يعلى أخرجه ابن حبان (موارد) ص: 595 رقم 2396، والحاكم: 1/ 491 من طريق يحيى بن يحيى، والقضاعي في مسند الشهاب: 1/ 52 رقم 29 من طريق محمد بن قدامة. ثلاثتهم - أعني أبا خيثمة ويحيى وابن قدامة - عن جرير بن عبد الحميد عن منصور به.
وأما الأعمش فقد روى عنه أربعة عشر راويًا وهم: الثوري، وشعبة، ووكيع، وأبو معاوية محمد بن خازم وعبد الله بن نمير، وأبو عوانة الوضاح، وعبد الله بن إدريس، وعبد الله بن داود، وزهير بن معاوية، ومروان بن معاوية، والقاسم بن معن، وحفص بن غياث، وجرير بن عبد الحميد، وفضيل بن عياض.
طريق الثوري:
أخرجه أحمد: 4/ 276، والترمذي: 5/ 374 رقم 3247، وابن جرير في التفسير: 24/ 78 كلاهما عن محمد بن بشار، والحاكم: 1/ 490 من طريق إبراهيم بن هارون الأصبهاني.
ثلاثتهم - أعني أحمد وابن بشار والأصبهاني - عن عبد الرحمن بن مهدي عن الثوري عن الأعمش به.
طريق شعبة:
أخرجه أحمد: 4/ 277 عن محمد بن جعفر وهو غندر، والبخاري في الأدب المفرد: 2/ 178 رقم 185 عن أبي الوليد الطيالسي، والطبراني في الدعاء: 2/ 787 رقم 2 من طريق حفص بن عمر الحوضي وأبي الوليد الطيالسي.
ثلاثتهم - أعني غندر والطيالسي والحوضي - عن شعبة عن الأعمش به.
طريق وكيع:
أخرجه أحمد: 4/ 276، وابن ماجه: 2/ 1258 رقم 3828 عن علي بن محمد وهو الطنافسي، كلاهما عن وكيع عن الأعمش به.
طريق أبي معاوية محمد بن خازم الضرير:
أخرجه أحمد: 4/ 271، وابن أبي شيبة: 10/ 200 رقم 9216، والترمذي: 5/ 211 رقم 2969 عن هناد وهو ابن السري، ومن طريقه أخرجه القضاعي في مسند الشهاب: 1/ 52 رقم 29، وأخرجه النسائي في السنن الكبرى التفسير: 2/ 253 ح 484، وكما في تحفة الأشراف: 9/ 30 عن هناد بن السري أيضًا.
ثلاثتهم - أعني أحمد وابن أبي شيبة وابن السري - عن أبي معاوية عن الأعمش به.
طريق عبد الله بن نمير:
أخرجه أحمد: 4/ 271 عنه عن الأعمش به. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= طريق أبي عوانة الوضاح بن عبد الله اليشكري:
أخرجه الطبراني في الدعاء: 2/ 788 رقم 5.
طريق عبد الله بن إدريس وهو الأودي:
أخرجه القضاعي في مسند الشهاب: 1/ 52 رقم 29.
طريق عبد الله بن داود الخريبي:
أخرجه الطبراني في الدعاء: 2/ 788 رقم 4، 6 من طريق ابن عيينة ومسدد، ومن طريق مسدد أخرجه القضاعي في مسند الشهاب: 1/ 52 رقم 30، كلاهما - أعني ابن عيينة ومسددًا - عن عبد الله بن داود الخريبي عن الأعمش به.
طريق زهير بن معاوية:
أخرجه الطبراني في الدعاء: 2/ 788 رقم 7 من طريق عمرو بن خالد الحراني عن زهير عن الأعمش به.
طريق مروان بن معاوية:
أخرجه الترمذي: 5/ 456 رقم 3372 عن أحمد بن منيع عن مروان بن معاوية عن الأعمش به.
طريق القاسم بن معن:
أخرجه الطبراني في الصغير: 2/ 97، وفيه بعد سوق الآية:"قال: يعني عن دعائي".
طريق حفص بن غياث:
أخرجه البيهقي في الدعوات: ورقة 2 ل ب رقم 4، وعبد الغني المقدسي في الحث على الدعاء رقم 8 ورقة 147.
طريق جرير بن عبد الحميد:
أخرجه ابن جرير في التفسير: 2/ 160، عن ابن حميد - وهو محمد بن حميد الرازي - عن جرير عن الأعمش به.
وفي النسخة المطبوعة من تفسير ابن جرير تصحف اسم جرير إلى جويبر والصواب - والله أعلم - جرير، وهو ابن عبد الحميد الرازي، وابن حميد معروف بالرواية عنه.
طريق فضيل بن عياض:
أخرجه أبو نعيم في الحلية: 8/ 120 من طريق سويد بن سعيد عن فضيل بن عياض عن الأعمش به.
وحاصل هذه الطرق: أن الحديث قد رواه عن ذر راويان: منصور والأعمش
وكلاهما حافظان ثقتان، ثم اشتهر الحديث عنهما، فقد روى عن منصور خمسة من الرواة وعن الأعمش أربعة عشر راويًا حسب اطلاعي. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وأما ذر فهو ابن عبد الله المرهبي، فهو ثقة عابد لكنه رمي بالإرجاء، قاله الحافظ في التقريب رقم 1840.
وقال الترمذي: ولا نعرفه إلا من حديث ذر: 5/ 456.
لكن وجدت له متابعًا فقد أخرج ابن جرير في التفسير: 24/ 79 من طريق الحسن بن أبي جعفر عن محمد بن جحادة عن يسيع الحضرمي به، والحسن بن أبي جعفر هو الجُفْرِي، قال فيه الحافظ ضعيف الحديث مع عبادته وفضله "التقريب رقم 1222" ومثل هذا لا بأس به في المتابعة.
وأما يُسَيْع فهو ابن معدان الحضرمي الكوفي ويقال فيه: أُسَيْع، فهو ثقة روى عن علي والنعمان، قال ابن المديني: معروف، وقال النسائي: ثقة أخرجوا له حديثه عن النعمان: "الدعاء هو العبادة" وذكره ابن حبان في الثقات "التهذيب: 11/ 380"، وقد عرف هذا الحديث عنه كما تدل عليه عبارة النسائي السابقة، وهو ثقة.
الحكم على الحديث:
الحديث رجال إسناده كلهم ثقات ..
وقد صحح هذا الحديث جماعة من المحدثين منهم الترمذي والحاكم والذهبي والنووي وابن حجر والسخاوي والألباني.
قال الترمذي: حسن صحيح "الترمذي: 5/ 456".
وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي "المستدرك: 1/ 491".
وقال النووي: روينا بالأسانيد الصحيحة ثم ذكره "الأذكار ص: 345".
وقال الحافظ ابن حجر إسناده جيد "الفتح: 1/ 49".
وحسنه السخاوي كما في الفتوحات الربانية "7/ 191".
وصححه الألباني في صحيح الجامع: 3/ 150 رقم 3401.
وفي صحيح ابن ماجه: 2/ 324 رقم 3086.
هذا وللحديث شواهد من حديث البراء بن عازب وأنس بن مالك وعبد الله بن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهم:
1 -
حديث البراء:
أخرجه أبو يعلى في معجمه ص: 262 رقم 328، والخطيب في التاريخ: 12/ 279 من طريق عياش بن محمد الجوهري، كلاهما - أعني أبا يعلى والجوهري - عن يحيى بن أيوب عن حميد بن عبد الرحمن عن الأعمش عن طلحة بن مصرف عن عبد الرحمن بن عوسجة عن البراء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الدعاء هو العبادة وقرأ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} ". =
فهذا الحديث يدل على اتحاد معناهما ومن هنا فلا بد لي من دراسة معنى العبادة وذكر المناسبة بينها وبين الدعاء وبيان تعاقبهما في استعمال القرآن الكريم حتى يتضح معناهما ومدى اشتراكهما في المفهوم.
المعنى اللغوي للعبادة
(1)
:
يقال عبد الله يعبده عبادة ومعبدًا ومعبدة وعبودة وعبودية خضع له
= وحميد هذا هو الرؤاسي ثقة كما في التقريب رقم 1551، وتهذيب الكمال رقم 1531/ 7، ويحيى بن أيوب هو المقابري البغدادي ثقة، كما في التقريب رقم 7512. فالحديث رجال إسناده كلهم ثقات ..
حديث أنس بن مالك:
أخرجه الترمذي: 5/ 456 رقم 3371، والطبراني في الدعاء: 2/ 789 رقم 8، والقشيري في الرسالة: 2/ 526.
بلفظ: "الدعاء مخ العبادة".
والحديث ضعيف لأن فيه ابن لهيعة وليس من طريق العبادلة.
وقد ضعفه الألباني "ضعيف الجامع: 3/ 158 رقم 3003"، ولكنه يصلح في الشواهد.
حديث ابن عباس:
أخرجه الحاكم: 1/ 491، بلفظ:"أفضل العبادة هو الدعاء وقرأ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} ".
وصححه الحاكم حيث ذكر حديث النعمان بن بشير ثم قال:
ولهذا الحديث شاهد بإسناد صحيح عن عبد الله بن عباس فذكر طريقين فيهما ضعف ولكن يقوي أحدهما الآخر، وقد وافق الذهبي الحاكم وحسنه الألباني في الصحيحة: 4/ 106 رقم 1579.
حديث أبي هريرة:
أخرجه ابن عدي في الكامل: 5/ 1743 بلفظ: "أفضل العبادة الدعاء قال الله عز وجل: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ
…
عَنْ عِبَادَتِي} عن دعائي" وقد ضعفه ابن عدي بعمران القطان.
وهذه الشواهد يقوي بعضها بعضًا، وبها يتقوى حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما مع أنه صحيح لذاته والله أعلم.
(1)
انظر في هذا تهذيب اللغة: 2/ 234، والصحاح: 2/ 503، والمخصص: 13/ 96، ولسان العرب: 5/ 2778، وتاج العروس: 8/ 331 ط الكويت، ومعاني =
وذل له وأطاعه، وتأله له وتنسك.
فالعبادة والعبودة، والعبودية: الخضوع والتذلل، والطاعة والانقياد، والتأله والتنسك، يقال: طريق معبد أي مذلل وطئته الأقدام وذللته.
قال طرفة بن العبد
(1)
:
تُبَارِي عِتَاقًا نَاجِيَاتٍ وَأَتْبَعَتْ
…
وَظِيْفًا وظيفًا فوق مَوْرٍ مُعَبَّد
(2)
يعني بالمور الطريق، وبالمعبد المذلل الموطوء، ومن ذلك قيل للبعير المذلل بالركوب في الحوائج: معبد، كما يقال أيضًا للبعير المَهْنُوء بالقَطِرَان: معبد.
قال طرفة بن العبد أيضًا:
إِلى أَنْ تَحَامَتْنِي العشيرةُ كُلُّها
…
وأُفْرِدتُ إِفْرادَ البعير الْمُعَبَّدِ
(3)
وإنما قيل: معبد للبعير المهنوء بالقطران لأنه يتذلل لشهوته القطران فلا يمتنع.
وذكر ابن فارس أن هذه المادة تدل على أصلين كأنهما متضادان:
= القرآن للزجاج: 1/ 48، والمفردات ص: 319، وتفسير ابن جرير الطبري: 1/ 69، وتفسير ابن كثير: 1/ 25، وتفسير البغوي: 1/ 41، ومدارج السالكين: 1/ 74.
(1)
هو طرفة بن العبد بن سفيان بن سعد صاحب إحدى المعلقات السبعة، البداية: 2/ 204.
(2)
ديوان طرفة ص: 13 ونسب إلى طرفة في المصادر السابقة أيضًا، قال الأعلم الشنتمري في شرحه للبيت: المباراة في السير أن يفعل هذا مثل ما يفعل الآخر، أي تباري هذه الناقة بسيرها إبلًا عتاقًا، والعتاق الكرام البيض والناجيات السراع، والوظيف من الرسغ إلى الركبة وفي الرجل من الرسغ إلى العرقوب أي أتبعت هذه الناقة وظيف رجلها وظيف يدها، أو وضعت وظيف رجلها موضع وظيف يدها وهو ضرب من السير
…
اهـ، شرح الأعلم مع الديوان ص:13.
(3)
ديوان طرفة مع شرح الأعلم ص: 31 وقبله:
وما زال تَشْرابِي الخمورَ ولَذَّتِي
…
وبَيْعِي وإِنْفَاقي طَرِيْفي ومَتْلَدِي
أحدهما اللين والذل، والآخر الشدة والغلظ، فمن الأول العبد المملوك، والبعير المعبد، والطريق المعبد، ومن الثاني العَبَدَة وهي القوة والصلابة، يقال: هذا ثوب له عَبدَة إذا كان صفيقًا قويًا
(1)
. هذا ومن استعمال العبادة بمعنى الطاعة والانقياد قوله تعالى: {أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ} [يس: 60] أي لا تطيعوه، وقوله تعالى:{فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} [المؤمنون: 47]، أي مطيعون متذللون لنا يدينون لنا والعرب تسمي كل من دان للملك عابدًا له
(2)
.
فتحصل مما سبق أن العبادة في اللغة الخضوع والتذلل، والطاعة، وهل تطلق العبادة على كل خضوع وتذلل أو كل طاعة أم هناك تقييد؟.
قال الزجاج: "ومعنى العبادة في اللغة الطاعة مع الخضوع"
(3)
فقيد الطاعة بالخضوع.
وقال ابن سيده: "وكل خضوع ليس فوقه خضوع فهو عبادة، طاعة كان للمعبود أو غير طاعة، وكل طاعة لله على جهة الخضوع والتذلل فهي عبادة، والعبادة نوع من الخضوع لا يستحقه إلا المنعم بأعلى أجناس النعم كالحياة والفهم والسمع والبصر"
(4)
.
فعلى هذا لا يقال كما قال الخليل بن أحمد الفراهيدي (ت 175 هـ): "عبد يعبد عبادة إلا لمن يعبد الله وأما عبدٌ خَدَمَ مولاه فلا يقال عبده"
(5)
.
وأيد عدم الإطلاق إلا في حق الله تعالى الزمخشري وتبعه الصنعاني
(1)
معجم مقاييس اللغة: 4/ 205.
(2)
تفسير ابن جرير: 18/ 25.
(3)
معاني القرآن: 1/ 48، وتهذيب اللغة: 2/ 234.
(4)
المخصص لابن سيده: 13/ 96.
(5)
العين: 20/ 48، والتهذيب: 2/ 235، واللسان: 5/ 2776، وتاج العروس: 8/ 331 ط. الكويت.
فإنه قال في تعريف العبادة: "والعبادة أقصى غاية الخضوع والتذلل
…
ولذلك لم تستعمل إلا في الخضوع لله تعالى لأنه مولى أعظم النعم، فكان حقيقيًا بأقصى غاية الخضوع"
(1)
.
كما يؤيد ذلك أيضًا كلام الراغب الأصفهاني حيث قال: "العبودية إظهار التذلل، والعبادة أبلغ منها لأنها غاية التذلل، ولا يستحقها إلا من له غاية الإفضال وهو الله تعالى"
(2)
.
ولكن الراغب لم ينف الاستعمال اللغوي، وإنما نفى الاستحقاق. وقد ذهب إلى قريب من تعريف الزمخشري الشيخ محمد رشيد رضا تبعًا لشيخه محمد عبده حيث قال:"ضَرْبٌ من الخضوع بالغٌ حَدَّ النهاية، ناشئٌ عن استشعارِ القلب عظمةً للمعبود لا يعرف منشأها، واعتقادِه بسلطة له لا يدرك كنهها وماهيتها، وقُصَارَى ما يعرفه منها أنها محيطة به، ولكنها فوق إدراكه"
(3)
. وقريب من هذا تعريف الشيخ عبد الرحمن المعلمي بأنها الخضوع طلبًا للنفع الغيبي
(4)
وقال في كتابه العبادة: خضوع اختياري يطلب به نفع غيبي فإن كان الله زيد "بسلطان" وإن كان لغيره زيد "بغير سلطان"
(5)
.
(1)
الكشاف: 1/ 10، وتطهير الاعتقاد ص:11.
(2)
المفردات ص: 319.
(3)
تفسير المنار: 1/ 48، وله تعريف قريب من هذا حيث قال:"وأدق تعريف لها أن يقال: هي كل قول وعمل بدني أو نفسي يوجه ويتقرب به إلى من يعتقد فاعله أن له قدرة على النفع ودفع الضر فوق الأسباب التي يقدر عليها البشر إما بذاته كالخالق تعالى وإما بالوساطة والتأثير عنده تعالى" ذكره في تعليقه على مجموعة الرسائل: 4/ 525، وله تعريف آخر أيضًا في تعليقه على مجموعة الرسائل: 4/ 848، وتعريف آخر في هامش صيانة الإنسان ص: 227 وكلها تدول حول ملاحظة السلطة الغيبية في العبادة.
(4)
القائد إلى تصحيح العقائد ص: 105 و 101.
(5)
العبادة: ل 480.
فعلى هذا لا تطلق العبادة إلا باعتبار الاعتقاد بالسلطة الغيبية، وأما الخضوع بغير اعتقاد للسلطة الغيبية للمخضوع له فليس بعبادة ويفهم من هذا أن العبادة لا تطلق في حق المخلوق، فهذا القول يعكر عليه ما ورد من إطلاق العبادة في حق المخلوق نحو قوله تعالى:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ} [يونس: 18]، وقوله:{أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} [المؤمنون: 47]، ويمكن الإجابة عن هذا بأن الأصل أن لا تستعمل إلا في حق الله تعالى، أو أنه لا يستحقها إلّا هو، كما هو نص عبارة ابن سيده والراغب المتقدمتين.
وأما إذا استعملت في غير حق الله تعالى فلاعتقاد العابد السلطة الغيبية لمعبوده فصار إلهه ومعبوده، وكأنه مولى أعظم النعم، فلهذا صرف له ما لا يصرف إلا لذي السلطة القاهرة الغيبية الذي هو العبادة فتحصل من هذا أن قول الزمخشري أن العبادة لم تستعمل إلا في الخضوع لله تعالى لا يستقيم إلا على إرادة أصل الاستعمال أو إرادة الاستحقاق، أو يقال: إنه لاحظ المعنى الشرعي ولم يلاحظ الاستعمال اللغوي وقد أشار إلى هذا الوجه الأخير الشيخ حسين بن مهدي النعمي
(1)
.
المعنى الشرعي للعبادة:
قد تنوعت عبارات العلماء في بيان وشرح معنى العبادة الشرعي، ولكثرة تلك التعريفات نشير إلى بعضها:
1 -
قال ابن كثير: "وفي الشرع عبارة عما يجمع كمال المحبة والخضوع والخوف"
(2)
.
2 -
ونحوه قول شيخ الإسلام: "وهي اسم يجمع كمال الحب لله ونهايته، وكمال الذل لله ونهايته، فالحب الخلي عن ذل، والذل الخلي عن
(1)
معارج الألباب ص: 189.
(2)
تفسير ابن كثير: 1/ 25.
حب لا يكون عبادة وإنما العبادة ما يجمع كمال الأمرين"
(1)
.
ونحوه قوله الآخر: "وعبادة الله وحده يدخل فيها كمال المحبة لله وحده، وكمال الخوف منه وحده، والرجاء له والتوكل عليه"
(2)
.
ودلالة العبادة على المحبة ناتجة من أن آخر مراتب الحب هو التتيم، يقال: تَيم الله أي عبد الله فالمتيم المعبد لمحبوبه، ومن خضع لإنسان مع بغضه له لا يكون عابدًا له، ولو أحب شيئًا ولم يخضع له لم يكن عابدًا له كما قد يحب ولده وصديقه
(3)
.
وعرفها أيضًا بقوله: "اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة"
(4)
.
3 -
وعرفها الرازي بقوله: "فهي فعل أو قول أو ترك فعل أو ترك قول، ويؤتى به لمجرد اعتقاد أن الآمر به عظيم يجب قبوله"
(5)
، وقال أيضًا:"عبارة عن الفعل الذي يؤتى به لغرض تعظيم الغير"
(6)
.
4 -
وعرفها صالح بن مهدي المقبلي اليمني (ت 1108 هـ) بقوله: "الاعتراف بما ينبغي بالقول والفعل" ومن لازم الاعتراف الضراع
(7)
.
5 -
وقال النعمي: "هي وقفك النفس على مطلوب حكم الله تركًا وعملًا واعتقادًا أو استعمال نفسك له وحده تركًا وعملًا واعتقادًا على مقتضى حكمه الطلبي"
(8)
.
(1)
الفتاوى: 10/ 19، ومنهاج السنة: 3/ 290.
(2)
التسعينية ضمن الفتاوى الكبرى: 5/ 251.
(3)
العبودية: 44، وانظر مدارج السالكين: 1/ 74.
(4)
العبودية: 38.
(5)
تفسير الرازي: 26/ 239.
(6)
المرجع نفسه: 1/ 246.
(7)
العلم الشامخ ص: 48.
(8)
معارج الألباب ص: 188.
6 -
وعرفها بعضهم بأنها: "ما أمر به شرعًا من غير اطراد عرفي، ولا اقتضاء عقلي"
(1)
.
وهذا التعريف ربما يفهم منه أنها خاصة بجانب الأمر فقط والصحيح أنها تشمل جانب الترك الذي هو النهي، والمأثور عن السلف وأهل اللغة تفسيرها بالطاعة فيدخل الأمران
(2)
.
وفي بعض هذه التعريفات نظر لا يخفى ومناقشة هذه التعريفات تطول، وهناك تعريفات أخرى تدور حول هذه التعريفات المذكورة
(3)
.
(1)
الانتصار لحزب الله الموحدين ص: 9، وتحفة الجليس: 97، ومجموعة الرسائل والمسائل النجدية: 4/ 501، والهدية السنية ص:5.
(2)
مجموعة الرسائل النجدية: 4/ 501.
(3)
من تلك التعريفات:
أ - تعريف زكريا الأنصاري وقد بيّن فيه الفرق بين العبادة والطاعة والقربة بأن العبادة ما يثاب على فعله ويتوقف على نية، وأن الطاعة ما يثاب عليه وإن لم يتوقف على نية، وأن القربة كذلك إلا أنه بعد معرفة من يتقرب إليه. اهـ. حاشية ابن عابدين على الدر: 1/ 106.
ب - تعريف القاضي ولعله القاضي أبو يعلى: "كل ما كان طاعة لله أو قربة إليه أو امتثالًا لأمره ولا فرق بين أن يكون فعلًا أو تركًا". اهـ. المسودة في أصول الفقه لآل تيمية ص: 43.
جـ - التعريف الذي حكاه الشيخ عبد اللطيف عن بعضهم: "هي فعل ما أمر الله به ورسوله وترك ما نهى الله عنه ورسوله ابتغاء وجه الله والدار الآخرة. اهـ. تحفة الجليس: 97.
د - تعريف الشهاب علي البيضاوي بأنها: "فعل اختياري مناف للشهوات البدنية يصدر عن نية يراد بها التقرب إلى الله تعالى" نقله عنه المسائل النجدية: 4/ 848.
هـ - تعريف الجرجاني: "فعل المكلف على خلاف هوى نفسه تعظيمًا لربه"، التعريفات للجرجاني:146.
و- تعريف محمد صديق حسن خان "ما أمر به الشارع من أفعال العباد وأقوالهم المختصة بجلال الله تعالى وعظمته". اهـ. الدين الخالص: 1/ 215.
وأحسن هذه التعريفات هو ما قاله ابن كثير وابن تيمية رحمهما الله تعالى وذلك لأنه يمثل حقيقة العبادة ويبينها بأدق تعبير وأوجزه مع الشمول والإحاطة.
قال الشيخ يوسف القرضاوي في ترجيحه لتعريف شيخ الإسلام ابن تيمية: "فهو ينظر إلى العبادة نظرة أعمق وأوسع فهو يحلل معناها إلى عناصره البسيطة، فيبرز إلى جوار المعنى الأصلي في اللغة وهو غاية الطاعة والخضوع عنصرًا جديدًا له أهمية كبرى في الإسلام وفي كل الأديان عنصرًا لا تتحقق العبادة - كما أمر الله - إلا به، وذلك هو عنصر الحب، فبغير هذا العنصر العاطفي الوجداني لا توجد العبادة التي خلق الله لها الخلق
…
"
(1)
.
فتبين بهذه التعريفات أن الدين كله داخل في مفهوم العبادة بدون استثناء، فعلى هذا فدعاء المسألة داخل في العبادة، وهو واحد من أفراد العبادة الكثيرة المتنوعة بل هو من أجلها وأما دعاء العبادة فهو والعبادة سيان كما هو واضح. ولبيان هذه الحقيقة لا بد من استعراض استعمال القرآن الكريم لهاتين الكلمتين في الأساليب المتنوعة، وقد تقدمت الإشارة إلى أنهما يتعاقبان على موضوع واحد أو على موضوعات متشابهة وإلى أنهما قد يردان في آية واحدة، ونورد بعض الأمثلة على ذلك ونقارن بعضهما ببعض على شكل مجموعات.
أمثلة تعاقبهما على موضوع واحد:
1 -
قوله تعالى: {يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ} [الحج: 12].
(1)
العبادة في الإسلام للقرضاوي ص: 31. ويؤخذ على كلام القرضاوي هذا أنه عطف الأديان على الإسلام بعد جمعه له وهذا لا يستقيم لأنه لا يوجد دين صحيح سوى الإسلام. قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} .
2 -
قوله تعالى: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا
…
} [الأنعام: 71].
3 -
قوله تعالى: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ} [يونس: 106].
فهذه المجموعة من الآيات التي استعمل فيها متصرفات الدعاء مثل المجموعة التالية التي استعمل فيها متصرفات العبادة من حيث الموضوع ومضمون الكلام فكلا المجموعتين في بيان جهالة المشركين حيث صرفوا عبادتهم لما لا ينفعهم ولا يضرهم، قال تعالى:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ} [الفرقان: 55]. وقال عز من قائل:
{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ} [يونس: 18].
وقال سبحانه: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا} [المائدة: 76].
وقال تعالى: {قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ} [الأنبياء: 66].
ومن ذلك أيضًا: قوله تعالى: {هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [غافر: 65].
وقال سبحانه: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [غافر: 14].
وقال تعالى: {وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الأعراف: 29].
فهذه المجموعة من الآيات التي استعمل فيها مادة الدعاء مثل المجموعة التالية التي استعمل فيها مادة العبادة فالمجموعتان فيهما الأمر بإخلاص العبادة لله تعالى.
قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5].
{فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر: 2].
{قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي} [الزمر: 14].
ومن أمثلة استعمالهما في موضوعات متشابهة قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ} [العنكبوت: 17].
فهذه المجموعة التي استعمل فيها مادة العبادة تتحدث عن أن المعبودين من دون الله لا يملكون الرزق لعابديهم فكذلك الآيات الآتية التي تتحدث عن أن المدعوين من دون الله لا يملكون شيئًا كما أنهم لا يستطيعون نصر أنفسهم ولا غيرهم فموضوع المجموعتين متشابه وقريب جدًا.
قال تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} [فاطر: 13].
{وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} [الأعراف: 197].
ومن أمثلة ورودهما في جملة واحدة وسياق واحد أو جملتين مقترنتين وذلك بجعل أحدهما مكان الآخر إذ لو رفع أحدهما ووضع الآخر موضعه لاستقام المعنى مما يدل على اتحاد معناهما.
قوله تعالى: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ} [الأنعام: 56].
{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60]، ففي هذه الآية "وضع عبادتي موضع دعائي"
(1)
، فإنه لو قيل: إن الذين يستكبرون عن دعائي لاستقام المعنى.
فهذه الاستعمالات بهذه الأساليب المتنوعة، والمتكررة في عدة آيات، تدل على أن معناهما واحد في هذه التراكيب، وأن مفهومهما متحد، أو أنهما متقاربان ومشتركان في المعنى. وليس معنى هذا أن كلمة الدعاء قد انمحت دلالتها على السؤال والطلب ولا تدل إلا على معنى العبادة كما يظنه بعض الذين يجيزون سؤال غير الله تعالى بل هي تدل على معنى السؤال والطلب إما تضمنًا أو استلزامًا ولا ينفك أحدهما عن الآخر بل هما متلازمان كما سيأتي
(2)
.
فتحصل مما تقدم أن النسبة بين العبادة والدعاء الترادف والتوافق، هذا إذا افترقا، وأما إذا اجتمعا فقد يفرق بين معنييهما، وذلك بأن يراد من الدعاء دعاء المسألة، ويراد بالعبادة امتثال الأوامر واجتناب المناهي، وإلى هذا المعنى أشار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بقوله:"فأحد الاسمين يتناول الآخر عند تجرده عنه، ولكن إذا جمع بينهما فإنه يراد بالسائل، الذي يطلب جلب المنفعة، ودفع المضرة، بصيغ السؤال والطلب، ويراد بالعابد من يطلب ذلك بامتثال الأمر، وإن لم يكن في ذلك صيغ سؤال"
(3)
. فاتضح بهذا أنهما ليسا في كل الأساليب متحدين في المفهوم
(1)
فتح الباري: 11/ 95.
(2)
يأتي ص: 115.
(3)
الفتاوى: 10/ 240.
بل لكل واحد منهما مفهومه الخاص وذلك عند الاجتماع، وأما عند الافتراق والتجرد فيتناول مفهوم أحدهما الآخر.
ومثل الدعاء غيره من أنواع العبادات الكثيرة، مثل التوكل والتقوى والطاعة فإن هذه الألفاظ إذا اقترنت كان لها معنى خاص وإذا انفردت عمت، قال شيخ الإسلام: "ومن هذا الباب لفظ العبادة، فإذا أمر بعبادة الله مطلقًا دخل في عبادته كل ما أمر الله به، فالتوكل عليه مما أمر الله به والاستعانة به مما أمر الله به، فيدخل ذلك في مثل قوله:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، وفي قوله:{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36]، ثم قد يقرن بها اسم آخر كما في قوله:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وقوله: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123]، وقول نوح:{اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ}
(1)
[نوح: 3]، وذكر شيخ الإسلام أيضًا أن:"العبادة إذا أفردت دخل فيها التوكل ونحوه وإذا قرنت بالتوكل صار التوكل قسيمًا لها"
(2)
ولا يخفى أن الدعاء مثل التوكل تمامًا.
ثم إن هذا المذكور من تنوع معنى العبادة بحسب الاجتماع والتفرق ليس خاصًا بها، فهذا الأسلوب كثيرًا ما يجيء في القرآن، تتنوع دلالة اللفظ في عمومه، وخصوصه بحسب الإفراد والاقتران كلفظ المعروف والمنكر ولفظ الفقراء والمساكين ولفظ البر والتقوى، ولفظ الإيمان والإسلام، ولفظ الكفر والفسوق والمعصية، ولفظ الصالح والصديق، وهذا باب واسع كثر وروده في القرآن الكريم
(3)
.
(1)
الإيمان: 143، ط. دار الكتب العلمية، وضمن الفتاوى: 7/ 163.
(2)
الفتاوى: 10/ 274.
(3)
يرجع في هذا إلى كتاب الإيمان لابن تيمية ففيه بحث ممتع في هذا من ص 14 - 79، والعبودية: 76 - 80، والفتاوى: 10/ 274.
الخلاصة:
إن الدعاء والعبادة تكون النسبة بينهما تارة الترادف وتارة العموم والخصوص المطلق.
فإذا أريد بالدعاء دعاء العبادة تكون النسبة الترادف.
وإذا أريد من الدعاء دعاء المسألة فالنسبة العموم بالنسبة للعبادة والخصوص بالنسبة للدعاء، فإن العبادة أعم مطلقًا فتشمل الدعاء والتوكل والمحبة وغيرها من أنواع العبادات والدعاء خاص بالسؤال والطلب.
وإن شئت تقول: النسبة بينهما التلازم كما سيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى في نوعي الدعاء وتلازمهما.
الذكر:
الكلمة الثانية من القسم الأول: الذكر:
وقد ورد في الأحاديث وآثار السلف وكتب أهل العلم إطلاق الذكر على الدعاء أو العكس وكذلك عطف أحدهما على الآخر فلهذا ينبغي بيان العلاقة التي بينهما وبيان السبب في إطلاق أحدهما على الآخر، وذلك باستعراض معنى الذكر لغة وشرعًا وبيان إطلاق الدعاء على الذكر ووجه ذلك ثم بيان النسبة بينهما.
المعنى اللغوي والشرعي للذكر:
الذكر في أصل اللغة: "الحفظ للشيء، وعدم نسيانه، وجري الشيء على اللسان"
(1)
، وقيل:"أصل الذكر في اللغة التنبيه على الشيء، ومن ذكَّرك شيئًا فقد نبهك عليه وإذا ذكَّرته فقد نبهته عليه"
(2)
.
(1)
تهذيب اللغة: 10/ 162، واللسان: 3/ 1507، وتاج العروس: 3/ 226.
(2)
نقل هذا القول النووي عن الواحدي في تهذيب الأسماء واللغات: 3/ 111.
وأما في الشرع: فقد ورد إطلاق الذكر على أمور: قال بعضهم:
إن الذكر يطلق على الصلاة، وقراءة القرآن، والتسبيح، والدعاء، والشكر، والطاعة
(1)
.
وزاد بعضهم غير هذه الأمور مما ورد إطلاق لفظ الذكر عليه في الكتاب والسنة
(2)
.
وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي
(3)
: "وإذا أطلق ذكر الله شمل كل ما يقرب العبد إلى الله من عقيدة، أو فكر، أو عمل قلبي، أو عمل بدني، أو ثناء على الله، أو تعلم علم نافع وتعليمه، ونحو ذلك فكله ذكر لله تعالى"
(4)
.
وهذه الأمور التي أشار إليها السعدي تتنوع إلى خمسة أنواع ويطلق على كلها الذكر وهي:
1 -
ذكر أسماء الرب تبارك وتعالى وصفاته والثناء عليه بها وتنزيهه إما إنشاءً أو إخبارًا.
2 -
ذكر أمره ونهيه، وأحكامه إخبارًا أو امتثالًا.
3 -
ذكره بكلامه الذي أنزله وتعبدنا بتلاوته.
(1)
نقل هذا القول عن أبي العباس - ولعله الزجاج - كما في تهذيب اللغة: 10/ 163.
(2)
نقل القاضي عياض عن الحربي أنه قال: للذكر ستة عشر وجهًا: الطاعة، وذكر اللسان، وذكر القلب، والإخبار، والحفظ، والعظمة، والشرف والخير، والوحي، والقرآن، والتوراة، واللوح المحفوظ، واللسان، والتفكر، والصلوات، وصلاة واحدة، وزاد القاضي عياض أيضًا فقال:"وقد جاء بمعنى التوبة، وبمعنى الغيب، وبمعنى الخطبة". اهـ. مشارق الأنوار: 1/ 269.
(3)
هو الشيخ عبد الرحمن بن ناصر التميمي علامة القصيم، مفسر، محدث، لغوي، أصولي، فقيه توفي عام 1376 هـ، يراجع في ترجمته رسالة الشيخ عبد الرزاق ابن الشيخ عبد المحسن العباد ومعجم المؤلفين: 13/ 396.
(4)
الرياض النضرة ص: 245.
4 -
ذكر آلائه وإحسانه وأياديه ومواقع فضله.
5 -
ذكره بدعائه واستغفاره والتضرع إليه
(1)
.
إذا عرفنا هذه الأنواع - نستطيع أن نقول -: إن دعاء المسألة هو النوع الأخير الذي هو ذكره بدعائه، واستغفاره، ومع هذا فقد ورد في أحاديث كثيرة إطلاق الدعاء على الذكر الأعم من معنى دعاء المسألة. ومن تلك الأحاديث:
قوله صلى الله عليه وسلم: "أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له
…
"
(2)
.
وقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: "أفضل الذكر لا إله إلا الله وأفضل الدعاء الحمد لله"
(3)
.
(1)
الوابل الصيب: 178 - 181، ومدارج السالكين: 2/ 430، وسفر السعادة للفيروز أبادي ص: 152 وكأنه نقل كلام ابن القيم، وشرح حديث العلم لابن رجب: 17 - 21، وقواعد الأحكام 2/ 170، وفيه ذكر مراتب هذه الأنواع من الأذكار، وانظر الفتاوى: 10/ 661.
(2)
أخرجه مالك في الموطأ عن طلحة بن عبيد الله بن كريز مرسلًا: 1/ 422 رقم 246. وقد قال ابن عبد البر: لا خلاف عن مالك في إرسال هذا الحديث، ولا أحفظ بهذا الإسناد مسندًا من وجه يحتج بمثله، وقد جاء مسندًا من حديث علي بن أبي طالب وعبد الله بن عمرو بن العاص، انظر التمهيد: 6/ 39، وقد وصل هذا المرسل ابن عدي في الكامل: 4/ 1600 من طريق عبد الرحمن بن يحيى المدني عن مالك، وقال ابن عدي: وهذا منكر عن مالك عن سمي عن أبي صالح عن أبي هريرة لا يرويه عنه غير عبد الرحمن بن يحيى هذا، وعبد الرحمن غير معروف، وقد أشار ابن عبد البر في كلامه السابق إلى شواهده عن علي وابن عمرو، وهناك شاهد آخر عن المطلب بن عبد الله بن حنطب مرسلًا، وقد ذكر الألباني هذه الشواهد وما فيها من الكلام، ثم قال: وجملة القول: إن الحديث ثابت بمجموع هذه الشواهد. الصحيحة: 4/ 6 رقم 1503، وقال في صحيح الجامع: حسن: 1/ 362 رقم 1113.
(3)
أخرجه الترمذي: 5/ 462 رقم 3383، والنسائي في عمل اليوم والليلة ص: 480 رقم 831، وابن ماجه: 2/ 1249، والحاكم: 1/ 498، وقال صحيح الإسناد وأقره الذهبي، ومدار الحديث على موسى بن إبراهيم. قال الحافظ: "ولم =
ومن ذلك حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو عند الكرب يقول: "لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب السموات والأرض ورب العرش العظيم"
(1)
.
وحديث سعد بن أبي وقاص رفعه: "دعوة ذي النون إذ دعا وهو في بطن الحوت: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فإنه لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب الله تعالى له"
(2)
.
وقد أجاب عدة علماء عما يبدو في الظاهر من إشكال في إطلاق الدعاء على الذكر والثناء في هذه الأحاديث السابقة، ومن العلماء الذين أجابوا عن ذلك:
أ - سفيان بن عيينة، فقد سئل عن دعاء يوم عرفة فقال: إنما هو ذكر، وليس فيه دعاء، ثم قال: أما علمت قول الله عز وجل حيث يقول: إذا شغل عبدي ثناؤه علي عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين"
(3)
.
= أقف في موسى على تجريح ولا تعديل إلا أن ابن حبان ذكره في الثقات وقال: يخطئ وهذا عجيب منه لأن موسى مقل، فإذا كان يخطئ مع قلة روايته فكيف يوثق ويصحح حديثه؟، فلعل من صححه أو حسنه تسمح لكون الحديث من فضائل الأعمال"، نتائج الأفكار: 1/ 59 وعنه في إتحاف السادة للزبيدي: 5/ 52، وقد حسن الحديث الألباني في الصحيحة: 3/ 484، وصحيح ابن ماجه: 2/ 319.
(1)
أخرجه البخاري انظر الفتح: 11/ 145 رقم 6345، 6346، ومسلم: 4/ 2092 رقم 2730.
(2)
أخرجه الترمذي: 5/ 529 رقم 3505، وأحمد في المسند: 1/ 170، والنسائي في عمل اليوم والليلة رقم 656، والحاكم في المستدرك: 1/ 505 و 2/ 383 وقال صحيح الإسناد وأقره الذهبي وحسنه الحافظ ابن حجر كما في الفتوحات الربانية: 4/ 11، وصححه الألباني في صحيح الجامع: 3/ 145 رقم 3378، وتخريج الكلم الطيب رقم 122 ص 74.
(3)
قد روي هذا الحديث من طريق عمر بن الخطاب وجابر وحذيفة وأبي سعيد وابن عمر وروي مرسلًا عن عمرو بن مرة كما روى عن مالك بن الحويرث موقوفًا. وسيأتي تخريج هذه الطرق في ص 385 إن شاء الله تعالى.
قال: هذا تفسيره ثم قال: أما علمت قول أمية
(1)
بن أبي الصَّلت حين أتى ابن جدعان
(2)
يطلب نائله وفضله:
أأطلب حاجتي أم قد كفاني
…
حياؤك إن شيمتك الحياء
إذا أثنى عليك المرء يومًا
…
كفاه من تعرضه الثناء
(3)
قال سفيان رحمه الله، هذا مخلوق حين ينسب إلى أن يكتفى بالثناء عليه فكيف بالخالق تبارك وتعالى؟
(4)
. فعلى هذا القول إن الذكر ليس طلبًا ولكنه تعرض للنوال والعطاء.
ب - وقد ذهب ابن تيمية وابن القيم إلى أن الثناء نفسه يعد نوعًا من أنواع الطلب وذلك لأن الثناء يتضمن الطلب فقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم: الحمد دعاء، في حديث:"وأفضل الدعاء الحمد لله" مع أن الحمد: "ثناء
(1)
أمية بن أبي الصلت عبد الله بن أبي ربيعة أبو عثمان وأبو الحكم، الثقفي، شاعر جاهلي أدرك الإسلام، وكاد أن يسلم، انظر البداية: 2/ 205 - 213.
(2)
وابن جدعان هو عبد الله بن جدعان أحد الكرماء الأجواد الممدوحين المشهورين وهو جاهلي أيضًا وكان له جفنة يأكل الراكب منها وهو على بعيره من عرض حافتها وكثرة طعامها. اهـ. البداية: 2/ 202 - 213.
(3)
ديوان أمية بن أبي الصلت ص: 333 - 334، والتمهيد لابن عبد البر: 6/ 44، وشأن الدعاء ص: 207، والبداية: 2/ 313، وهناك رواية أخرى: حباؤك إن شيمتك الحباء، كما أن هناك عدة أبيات بين هذين البيتين منها:
وعلمك بالأمور وأنت قرم
…
لك الحسب المهذب والثناء
كريم لا يغيره صباح
…
عن الخلق السني ولا مساء
إلى أن يقول: إذا أثنى عليك المرء يومًا
…
إلخ.
(4)
التمهيد لابن عبد البر: 6/ 43 - 45، وشأن الدعاء للخطابي ص: 206 - 207، وفيه قول السائل لابن عيينة بعد ذلك، لما سألت سفيان رحمه الله عن هذا، فكأني إنما سألته عن آية من كتاب الله لأني لم أدع كبير أحد بالعراق إلا سألته عنه، فما فسره لي كما فسر ابن عيينة، وانظر أيضًا: شرح مسلم للنووي: 17/ 48، وفتح الباري: 11/ 147، والمنهاج للحليمي: 1/ 537 - 538، والفتاوى: 10/ 245، وتحفة الجليس ص:99.
محض، لأن الحمد متضمن الحب والثناء، والحب أعلى أنواع الطلب للمحبوب، فالحامد طالب للمحبوب فهو أحق أن يسمى داعيًا من السائل الطالب، فنفس الحمد والثناء متضمن لأعظم الطلب، فهو دعاء حقيقة، بل أحق أن يسمى دعاء من غيره من أنواع الطلب الذي هو دونه"
(1)
.
جـ - وعلل أبو إسحاق الزجاج تسمية الذكر والثناء دعاء، بأن الدعاء معناه النداء، فالإنسان يصدر في الذكر والثناء بالنداء كأن يقول: يا الله لا إله إلا أنت، ويقول: ربنا لك الحمد، إذا قال هذا فقد دعاه أولًا ثم أتى بالثناء والتوحيد
(2)
.
د - وعلل العز بن عبد السلام ذلك بقوله: لما كان الذكر يترتب عليه ما يترتب على الدعاء شابه الدعاء فسمي به
(3)
.
هـ - وقال الخطابي: إن الداعي يفتتح دعاءه بالثناء على الله سبحانه ويقدمه أمام مسألته، فسمى الثناء دعاء، إذ كان مقدمة له وذريعة إليه على مذهبهم في تسمية الشيء باسم سببه
(4)
.
و- وقال محب الدين الطبري
(5)
في حديث دعاء عرفة: "معناه أفضل ما يستبدل به عن الدعاء يوم عرفة، لا إله إلا الله وحده لا شريك له"
(6)
.
ز - وعلل الدهلوي ذلك فقال: "وسر قوله عليه السلام: "أفضل
(1)
الفتاوى: 15/ 19، وبدائع الفوائد: 3/ 9 - 10.
(2)
معاني القرآن وإعرابه للزجاج: 1/ 255، وعنه في تهذيب اللغة للأزهري: 3/ 119، ولسان العرب: 3/ 1385.
(3)
انظر الأجوبة القاطعة لحجج الخصوم للأسئلة الواقعة في كل العلوم الورقة 74 ل أ، والقرى لقاصد أم القرى ص: 397، وذكر صاحب اللسان: 3/ 1385 أن التهليل والتحميد والتمجيد سمي دعاء لأنه بمنزلته في استيجاب ثواب الله وجزائه. اهـ.
(4)
شأن الدعاء ص: 206، والقرى لقاصد أم القرى ص: 397، وشرح النووي: 17/ 47.
(5)
هو أحمد بن عبد الله بن محمد أبو العباس المكي شيخ الحرم، وحافظ الحجاز بلا مدافعة (ت 674 هـ)، تذكرة الحفاظ: 4/ 1474، وطبقات الشافعية: 8/ 18.
(6)
القرى لقاصد أم القرى ص: 398.
الدعاء الحمد لله" أن الدعاء على قسمين: والحمد لله يفيدهما جميعًا، فإن الشكر يزيد النعمة ولأنها معرفة ثبوتية"
(1)
.
هذا حاصل ما أجاب به العلماء عن إطلاق الدعاء على الذكر ولكن هذين الوجهين الأخيرين لا ينطبقان على كل الأحاديث التي ورد فيها إطلاق الدعاء على الذكر فهما خاصان ببعضها، فالأجوبة الأولى هي الأقوى والأقوم.
النسبة بين الدعاء والذكر:
قد علم مما سبق أن الذكر يعم جميع أفعال العبد، وتصرفاته، إذا نوى بها الطاعة فهو يشمل الأنواع السابقة، فمفهومه أوسع من دعاء المسألة ومن هنا يمكن أن نقول: إن مفهومه ومفهوم دعاء العبادة متساويان، فهما مترادفان، هذا إذا أريد من الدعاء دعاء العبادة وأما إذا أريد من الدعاء دعاء المسألة فتكون النسبة بينهما العموم والخصوص المطلق، لأن الذكر أعم مطلقًا من الدعاء لأن الدعاء لا ينفك عن كونه ذكرًا، وأما الذكر فيكون سؤالًا وغير سؤال، وإن شئت قلت: النسبة بينهما التلازم، فإن دعاء المسألة ذكر وثناء وتضرع وافتقار، كما أن في الذكر طلب جلب النفع ودفع الضر ورجاء الثواب وخوف العقاب.
قال الخطابي رحمه الله: "وفيه - أي دعاء المسألة - معنى الثناء على الله عز وجل وإضافة الجود والكرم عليه"
(2)
. وقال شيخ الإسلام رحمه الله: "إن كل واحد من الدعاء والذكر يتضمن الآخر ويدخل فيه"
(3)
.
والحاصل أن العلاقة بين الدعاء والذكر إما ترادف واتحاد، وإما عموم وخصوص مطلق، وإما تلازم، ولا يتصور انفكاك أحدهما عن
(1)
حجة الله البالغة: 2/ 72.
(2)
شأن الدعاء: 1/ 4.
(3)
الفتاوى: 15/ 19، وانظر بدائع الفوائد: 3/ 10.
الآخر، فلهذا كانت أغلب الكتب المصنفة في الأذكار تشتمل على الأدعية وبالعكس، ومن هنا جاءت تسمية المؤلفين الكتب المصنفة في الأذكار والأدعية تترجم عن هذا المعنى وتعبر عنه بعناوينها البارزة والمتعددة والحاوية لهذا المعنى، فمن تلك المؤلفات كتب سميت بعنوان كتاب الذكر أو الأذكار، وأخرى سميت باسم الدعاء أو الأدعية، وأخرى بالجمع بين الاسمين كتاب الذكر والدعاء، أو الأذكار والأدعية، أو الدعوات والأذكار، إلى غير ذلك وكلها مضمونها واحد وتهدف إلى هدف واحد.
الكلمة الثالثة من القسم الأول: الصلاة:
الصلاة معناها في اللغة: الدعاء
(1)
، قال تعالى:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة: 103]، وقد قالت عائشة رضي الله عنها في قوله تعالى:{وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} [الإسراء: 110]. أنزل ذلك في الدعاء
(2)
فيكون معنى بصلاتك: بدعائك.
وقال تعالى: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ
…
} إلى قوله: {
…
وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ} أي دعواته
(3)
، وقال صلى الله عليه وسلم:"إذا دعي أحدكم فليجب فإن كان صائمًا فليصل، وإن كان مفطرًا فليطعم"
(4)
أي فليدع لهم بالبركة والخير، وكل داع فهو مصل ومنه قول الأعشى
(5)
:
(1)
الصحاح: 6/ 2402، والمخصص: 13/ 85، ومعاني القرآن للزجاج: 2/ 466، ولسان العرب: 4/ 2490، والمفردات: 285، وتفسير الطبري: 1/ 104، وتفسير ابن كثير: 1/ 42، وجلاء الأفهام: 81 - 89، ومجموع الفتاوى: 10/ 238، وبيان تلبيس الجهمية: 2/ 452، 453.
(2)
البخاري مع الفتح: 8/ 405 برقم 4723.
(3)
انظر الفتح: 11/ 137.
(4)
مسلم: 2/ 1054 رقم 1431.
(5)
الأعشى هو ميمون بن قيس البكري وكان أعشى العينين فلقب بالأعشى، أدرك الإسلام ولم يوفق (ت 7 هـ).
لها حارس لا يبرح الدهر بيتها
…
وإن ذبحت صلى عليها وزمزما
(1)
يعني بذلك دعا لها. وقال الأعشى أيضًا:
تقول بنتي وقد قَرُبْتُ مُرْتَحِلًا
…
يا رب جَنّب أبي الأوصَابَ والوَجَعَا
عليك مثلُ الذي صليتِ فاغْتَمِضِي
…
نومًا فإِنَّ لجنبِ المرءِ مضطجَعَا
(2)
يقول: عليكِ من الدعاء مثل الذي دعيته لي.
وقال أيضًا:
وَقَابَلَهَا الرِّيحُ في دَنّها
…
وصلى على دَنّها وارتسم
(3)
أي دعا لها: ألا تَحْمَضَ ولا تَفْسُد
(4)
. وجاءت تسمية الصلاة الشرعية مأخوذة من هذا الأصل اللغوي، قال ابن جرير الطبري رحمه الله:"وأرى أن الصلاة المفروضة سميت صلاة، لأن المصلي متعرض لاستنجاح طلبته من ثواب الله بعمله مع ما يسأل ربه فيها من حاجاته - تعرضَ الداعي بدعائه ربه - استنجاح حاجاته وسؤله"
(5)
. وقال شيخ الإسلام رحمه الله:
"إن الصلاة الشرعية هي دعاء كلها فإن الدعاء هو قصد المدعو تارة لذاته وتارة لمسألته أمرًا منه وهذا كالشخص يدعو غيره ويطلبه ويقصده
(1)
ديوان الأعشى ص: 186، زمزم المغني: ترنم، الرواية في الديوان ما برح.
(2)
: ديوان الأعشى: 105 - 106.
وبعد البيت الأول قوله:
واستشفَعَتْ من سَرَاةِ الحي ذَا شَرَفٍ
…
فقد عصاها أبوها والذي شفعا
مهلًا بني فإن المرء يبعثه
…
هَمٌّ إذا خالط الهيزوم والضلعا
عليك مثل الذي
…
إلخ.
(3)
ديوان الأعشى ص: 196، ارتسم الرجل: كبر ودعا، والارتسام: التكبير والتعوذ. اهـ. اللسان: 3/ 1646 مادة رسم.
(4)
تهذيب اللغة: 12/ 237.
(5)
جامع البيان: 1/ 104، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير: 1/ 42.
تارة لذاته، وتارة لأمر يطلبه منه، والصلاة تتضمن هذين النوعين: عبادة الله والثناء عليه والسؤال له"
(1)
.
وبهذا تقرر أن الصلاة الشرعية معناها الدعاء كما أن الصلاة في اللغة هي الدعاء.
وقد اختلف في الصلاة الشرعية، هل هي باقية على معناها اللغوي الذي هو الدعاء أم لا؟. ومثل الصلاة غيرها من الأسماء الشرعية كالإيمان والإسلام والزكاة.
أ - فقالت المعتزلة والخوارج وطائفة من الفقهاء:
إنها اسم شرعي منقول عن معناه اللغوي فهو اسم مخترع، لم يلاحظ فيه معناه الأصلي.
فعلى هذا القول لا علاقة بين المعنى اللغوي والمعنى الشرعي.
ب - وقال الجمهور: إنها باقية في الشرع على ما كانت عليه في اللغة ثم اختلف هؤلاء:
1 -
فمنهم من قال: إن الشارع زاد في أحكامها وضم إليها شروطًا وقيودًا ولم يزد في معنى الاسم.
فالصلاة معناها الدعاء، واشترط للاعتداد بها الركوع والسجود .. إلخ.
2 -
ومنهم من قال: إن الشارع تصرف فيها - تصرف أهل العرف -، فهي بالنسبة إلى اللغة مجاز، وبالنسبة إلى عرف الشارع حقيقة، فعلى هذا فالشارع زاد في معنى الاسم، حيث كانت الصلاة لا تطلق في اللغة إلا على الدعاء فزاد في معناها الركوع والسجود .. إلخ. فالشارع زاد في معنى الاسم والحكم. وهذا شبيه بتصرف أهل العرف في الكلمة فقد
(1)
بيان تلبيس الجهمية: 2/ 453.
يخصون مدلول الكلمة اللغوي ببعض الأفراد أو يجعلونه أعم، فنحو كلمة الدابة تطلق في اللغة على كل ما يَدِبُّ على الأرض فخصت في عرف الناس بالفرس، وفي عرف بعضهم بالحمار، ومثلها الرقبة: تطلق على العضو المخصوص، ثم استعملت في العرف في جميع البدن.
3 -
ومنهم من قال: إن الشارع لم ينقلها، ولم يغيرها، ولكن استعملها مقيدة لا مطلقة
(1)
.
فالصلاة لم تنقل عن معناها اللغوي الذي هو الدعاء، ولكنها استعملت في دعاء مخصوص، كما أن أهل اللغة يستعملون الكلمة مطلقة في معناها العام، ثم يستعملونها خاصة ومقيدة بالإضافة أو لام التعريف. فتعتبر الكلمة في مثل هذا من اسم الجنس لا يدل على شخص معين إلا بالقيد
(2)
، فالشارع استعمل لفظ الصلاة على وجه يختص بمراده ولم يستعمله مطلقًا وهو إنما قال:"أقيموا الصلاة" بعد أن عرفهم الصلاة المأمور بها فكان التعريف منصرفًا إلى الصلاة التي يعرفونها، لم ينزل لفظ الصلاة، وهم لا يعرفون معناه
(3)
. وهذا المسلك الذي سلكه الشارع موجود في أساليب العرب يأتي أحدهم إلى الكلمة فيقيدها أو يخصها بشيء، فالشارع أتى إلى بعض الكلمات فاستعملها مقيدة، ومختصة، إما بالإضافة أو اللام.
وهذه الأقوال المتقدمة أرجحها القول الأخير وذلك للأمور التالية:
(1)
انظر في حكاية هذا الاختلاف والاستدلال لهذه الأقوال ومناقشة أدلتها الكتب التالية: المعتمد في الأصول: 1/ 18 - 21، والتمهيد في أصول الفقه: 1/ 88 - 97، والمستصفى: 1/ 326 - 332، والمسودة: 561 - 562، وجمع الجوامع: 1/ 301 - 304 مع حاشية البناني، والوصول: 1/ 102 - 105، والإحكام للآمدي: 1/ 35 - 43، وإرشاد الفحول: 21 - 22، وفواتح الرحموت: 1/ 222 - 223، والإيمان لشيخ الإسلام: 255، 106، وفلسفة المجاز: 33 - 35.
(2)
الإيمان: 115.
(3)
الإيمان ص: 257.
1 -
أن الأقوال الأخرى لم تسلم من الاعتراض والاستشكال.
2 -
ولأن الأصل بقاء الكلمة على معناها، وعدم الزيادة، ولم يأت من ادعى عكس ذلك ببرهان قاطع.
3 -
ولأن مثلَ هذا الاستعمال من تقييد المراد بالكلمة، أو تخصيصها معروفٌ في أساليب اللغة.
وقد رجح هذا المذهب الأخير شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله تعالى، قال ابن تيمية:"والتحقيق أن الشارع لم ينقلها ولم يغيرها، ولكن استعملها مقيدة لا مطلقة"
(1)
هذا ما ذكره في اسم الإيمان.
ومما ذكره ابن تيمية فيما يختص بموضوع الصلاة الذي نحن بصدده ما معناه:
إن الصلاة بالمعنى العام تتضمن كل ما كان ذكرًا لله أو دعاء له، وهذا المعنى - وهو دعاء الله - أي قصده والتوجه إليه المتضمن ذكره على وجه الخشوع والخضوع، هو حقيقة الصلاة الموجودة في جميع موارد اسم الصلاة كصلاة القائم والقاعد والقارئ والناطق والأخرس وإن تنوعت حركاتها وألفاظها فإن إطلاق لفظ الصلاة على مواردها هو بالتواطئ المنافي للاشتراك، والمجاز، وذلك لأن اسم الجنس العام المتواطئ المطلق إذا دل على نوع أو عين يكون قد دل على شيئين: على المعنى المشترك الموجود في جميع الموارد، وعلى ما يختص به هذا النوع أو العين، فاللفظ المشترك الموجود في جميع التصاريف يدل على القدر المشترك، وما قرن باللفظ من لام التعريف مثلًا يدل على الخصوص والتعيين، فاسم الصلاة مثلًا فيه عموم وإطلاق، ولا يستعمل إلا مقرونًا بقيد يخصه ببعض موارده كصلواتنا، وصلاة الملائكة، والصلاة من الله سبحانه
(2)
.
(1)
الإيمان ص: 255.
(2)
الفتاوى: 14/ 215 - 216.
وقال ابن القيم بعد أن ذكر أن الدعاء يعم النوعين وأنه لفظ متواطئ:
"وهذه الطريقة أحسن من الطريقة الأولى، ودعوى الخلاف في مسمى الدعاء، وبهذا تزول الإشكالات الواردة على اسم الصلاة الشرعية، هل هو منقول عن موضعه في اللغة فيكون حقيقة شرعية أو مجازًا شرعيًا، فعلى هذا تكون الصلاة باقية على مسماها في اللغة، وهو الدعاء، والدعاء دعاء عبادة ودعاء مسألة، والمصلي من حين تكبيره إلى سلامه بين دعاء العبادة ودعاء المسألة فهو في صلاة حقيقة لا مجازًا ولا منقولة.
لكن خص اسم الصلاة بهذه العبادة المخصوصة كسائر الألفاظ التي يخصها أهل اللغة والعرف ببعض مسماها، كالدابة والرأس ونحوهما.
فهذا غاية تخصيص اللفظ وقصره على بعض موضوعه، ولهذا لا يوجب نقلًا ولا خروجًا عن موضوعه الأصلي والله أعلم"
(1)
. وإنما هو مجرد تصرف في استعمالات اللفظ ولا مانع من ذلك إطلاقا لا في اللغة ولا في اصطلاح الشرع إذ من المعلوم "أن الشارع يتصرف في اللغة تصرف أهل العرف، يستعمل اللفظ تارة فيما هو أعم من معناه في اللغة، وتارة فيما هو أخص"
(2)
.
النسبة بين الدعاء والصلاة:
إن النسبة بين الدعاء والصلاة تارة تكون العموم والخصوص المطلق، وتارة الترادف، فإذا أريد منها الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم تكون النسبة من باب العموم والخصوص المطلق فإن الدعاء عام والصلاة خاصة، فإنها أحد نوعي دعاء المسألة.
(1)
جلاء الأفهام 82، وبدائع الفوائد: 3/ 6.
(2)
الفتاوى: 19/ 283.
قال ابن القيم رحمه الله: "ودعاء العبد وسؤاله من ربه نوعان:
أحدهما: سؤاله حوائجه ومهماته وما ينوبه في الليل والنهار فهذا دعاء وسؤال، وإيثار لمحبوب العبد ومطلوبه.
والثاني: سؤاله أن يثني على خليله وحبيبه ويزيد في تشريفه
…
ولا ريب أن الله تعالى يحب ذلك ورسوله يحبه، فالمصلي عليه صلى الله عليه وسلم قد صرف سؤاله ورغبته وطلبه إلى محاب الله ورسوله وآثر ذلك على طلبه حوائجه ومحابه هو"
(1)
. فدل هذا الكلام على أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم أحد نوعي دعاء المسألة فتكون النسبة بينهما من باب العموم والخصوص المطلق، ولكن ابن القيم نفسه أبدى إشكالًا في كون الصلاة بمعنى الدعاء وذكر من وجوه الإشكال أن الدعاء يكون بالخير والشر والصلاة لا تكون إلا في الخير وأن الدعاء يتعدى باللام والصلاة لا تتعدى إلا بعلى، والدعاء إذا تعدى بعلى يختلف عن معنى الصلاة لأنه حينئذ في الشر، وأن فعل الدعاء يقتضي مدعوًا ومدعوًا له نحو دعوت الله لك بخير والصلاة لا تقتضي ذلك لا تقول: صليت الله عليك ولا لك، فدل هذا على أنهما ليسا بمعنى واحد
(2)
.
ويمكن أن يجاب عن هذه الإشكالات بأنه لا يلزم من كون أحدهما بمعنى الآخر لغة، أن يتحدا في جميع الاستعمالات من التعدي واللزوم وغيرهما ولكن المقصود أنهما مشتركان في القدر المشترك الذي يصدق عليهما ويوجد في جميع موارد استعمالهما.
وأما إذا أريد من الصلاة - الصلاة المفروضة فتكون النسبة بينهما من باب العموم والخصوص المطلق أيضًا لأن الصلاة المفروضة هي نوع خاص مقيد خص بالتعريف بأل بهذه الصلاة ذات الأركان. وأما إذا أريد
(1)
جلاء الأفهام: 270.
(2)
بدائع الفوائد: 1/ 26.
من الصلاة القدر المشترك الذي هو قصد الله والتوجه إليه وذكره بخشوع وخضوع، فالنسبة بينها وبين الدعاء في هذه الحالة - الترادف والاتحاد في المفهوم.
الكلمة الرابعة من القسم الأول: الاستعانة:
هي مصدر استعان يقال: استعنت بفلان فأعانني وعاونني، وتقول: أعنته إعانة واستعنته، واستعنت به وعاونته، وقد تعاونّا: أي أعان بعضنا بعضًا.
وقال الخليل
(1)
: "كل شيء استعنت به أو أعانك، فهو عونك. والصوم عون على العبادة
…
وأعنته إعانة وتعاونوا أي أعان بعضهم بعضًا"
(2)
.
وفي الشرع: هي "طلب ما يتمكن به العبد من الفعل، ويوجب اليسر عليه"
(3)
. أو يقال: هي الاعتماد على الله تعالى مع الثقة به
(4)
.
وهذا التعريف الأخير يشتمل على أمرين أساسيين للاستعانة الشرعية وهما ركنا التعريف لأن الاستعانة الشرعية تتضمن أصلين كما قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "الثقة بالله، والاعتماد عليه، فإن العبد قد يثق بالواحد من الناس، ولا يعتمد عليه في أموره - مع ثقته به - لاستغنائه عنه، وقد يعتمد عليه - مع عدم ثقته به - لحاجته إليه ولعدم من يقوم
(1)
هو الخليل بن أحمد بن عمرو الفراهيدي البصري صاحب العربية والعروض، وأول من استخرجه، وكان آية في الذكاء، دينًا ورعًا، قانعًا، متواضعًا، كبير الشأن شيخ سيبويه (ت 175 هـ). انظر الجرح والتعديل: 3/ 380، وسير أعلام النبلاء: 7/ 429، وبغية الوعاة: 1/ 557 - 560.
(2)
العين للخليل: 2/ 253، والمحكم: 5/ 264، وتهذيب اللغة: 3/ 202، والصحاح: 6/ 2169.
(3)
روح المعاني: 1/ 87.
(4)
هذا التعريف مأخوذ من كلام ابن القيم الآتي.
مقامه، فيحتاج إلى اعتماده عليه مع أنه غير واثق به"
(1)
.
النسبة بين الدعاء والاستعانة:
قد اتضح من التعريف الشرعي أن الاستعانة ودعاء المسألة، مترادفان فلهذا كثيرًا ما يعبر عن دعاء المسألة بالاستعانة، وإذا نظرنا إلى الدعاء بنوعيه: المسألة والعبادة تكون النسبة بينهما العموم والخصوص المطلق لأن الدعاء أعم مطلقًا، لكن ذكر ابن تيمية رحمه الله في الفرق بين التوكل والاستعانة أن التوكل "يتناول التوكل عليه ليعينه على فعل ما أمر، والتوكل عليه ليعطيه ما لا يقدر العبد عليه، فالاستعانة تكون على الأعمال، وأما التوكل فأعم من ذلك، ويكون التوكل عليه لجلب المنفعة ودفع المضرة"
(2)
فعلى هذا فدعاء المسألة أعم لأنه مثل التوكل تمامًا والله أعلم.
المطلب الثاني: في القسم الثاني: وهو ما كان خاصًا بنوع معين من أنواع الدعاء:
وهو يتنوع إلى ثلاثة أنواع:
النوع الأول من القسم الثاني:
يشتمل على الكلمات التالية: الاستعاذة، والاستغاثة والاستجارة، واللياذة، والاستغفار، والشفاعة، وهذه ست كلمات.
أ - الاستعاذة:
يقال: عاذ فلان بربه يعوذ عوذًا وعياذًا ومعاذًا، لاذ به ولجأ إليه واعتصم، عذت بفلان واستعذت به أي لجأت إليه، وهو عياذي أي
(1)
مدارج السالكين: 1/ 75.
(2)
الفتاوى: 8/ 177.
ملجأي، وعاذ وتعوذ، واستعاذ بمعنى واحد
(1)
.
وهذه المادة في تصرفاتها تدل على التحرز والتحصن، وحقيقة معناها: الهروب من شيء تخافه إلى من يعصمك منه ولهذا يسمى المستعاذ به: معاذًا، كما يسمى: ملجأ وَوَزَرًا ..
(2)
.
وقال الرازي ما معناه: إن الاستعاذة مشتقة من العوذ، وله معنيان:
أحدهما: الالتجاء والاستجارة، والثاني: الالتصاق، يقال: أطيب اللحم عُوَّذُه وهو ما التصق بالعظم
(3)
.
وذكر ابن القيم رحمه الله: أن في أصله قولين:
أحدهما أنه مأخوذ من الستر، تقول العرب للبيت الذي في أصل الشجرة التي قد استتر بها "عُوَّذ"، وكذلك العائذ قد استتر من عدوه بمن استعاذ به منه واستجَنَّ به منه.
وثانيهما: أنه مأخوذ من لزوم المجاورة، تقول العرب للحم إذا لصق بالعظم فلم يتخلص منه: عوذ، لأنه اعتصم به واستمسك به، فكذلك العائذ قد استمسك بالمستعاذ به، واعتصم به، ولزمه. وقال رحمه الله:"والقولان حق، والاستعاذة تنتظمهما معًا، فإن المستعيذ مستتر بمعاذه، مستمسك به معتصم به، قد استمسك قلبه به ولزمه، كما يلزم الولد أباه إذا أشهر عليه عدوه سيفًا وقصده به فهرب منه، فعرض له أبوه في طريق هربه، فإنه يلقي نفسه عليه ويستمسك به أعظم استمساك، فكذلك العائذ قد هرب من عدوه الذي يبغي هلاكه إلى ربه ومالكه، وفر إليه، وألقى نفسه بين يديه، واعتصم به، والتجأ إليه"
(4)
.
(1)
العين للخليل: 2/ 229، والصحاح: 2/ 566، وتهذيب اللغة: 3/ 147، والمحكم: 2/ 241، واللسان: 3/ 498.
(2)
بدائع الفوائد: 2/ 200.
(3)
تفسير الرازي: 1/ 71.
(4)
بدائع الفوائد: 2/ 200.
وما ذكره الرازي وابن القيم رحمهما الله تعالى متقاربان لأن الالتجاء إلى الشيء فيه معنى الاستتار به والاحتماء به وهذا بالنسبة إلى المعنيين الأولين، وأما بالنسبة إلى المعنيين الأخيرين وهما: الالتصاق عند الرازي ولزوم المجاورة عند ابن القيم فهما متلازمان لأنه يلزم من الالتصاق بالشيء مجاورته.
هذا هو معنى الاستعاذة في اللغة.
وأما الاستعاذة في الشرع: فهي "الالتجاء إلى الله تعالى، والالتصاق بجانبه من شر كل ذي شر"
(1)
، وقد تقدم في كلام ابن القيم الإشارة إلى المناسبة بين المعنى اللغوي والشرعي.
النسبة بين الدعاء والاستعاذة:
قد تحصل مما سبق أن الاستعاذة خاصة بما إذا كان المطلوب منع الشدة، أو رفعها وذلك أن المستعاذ منه إذا كان يخاف وقوعه في المستقبل فإنه يطلب منعه، نحو أعوذ بالله من عذاب جهنم أو عذاب القبر، وإن كان حاضرًا فإنه يطلب رفعه، نحو ما ورد في الحديث:"أعوذ بالله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر"
(2)
فمن هنا يعلم أن الاستعاذة خاصة بدفع الضرر الحاصل أو المتوقع، وأما الدعاء فإنه يعم ما كان لمنع الشدة ورفعها، كما أنه يعم ما كان لحصول منفعة وطلب خير
(3)
.
فتبين بهذا أن بينهما العموم والخصوص المطلق، فالدعاء أعم مطلقًا، فالاستعاذة نوع من أنواع الدعاء، وقسم من أقسامه.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: "فالاستعاذة والاستجارة، والاستغاثة كلها من نوع الدعاء والطلب وقول القائل: لا يستعاذ به، ولا يستجار به
(1)
تفسير ابن كثير: 1/ 15.
(2)
أخرجه مسلم: 4/ 1728 رقم 2202، وأبو داود: 4/ 217 رقم 3891.
(3)
الرد على البكري: 288 - 289.
ولا يستغاث به، ألفاظ متقاربة"
(1)
. والحاصل أن الاستعاذة والاستجارة والاستغاثة واللياذة على قول، والاستغفار، هذه الألفاظ خاصة بدفع المضار والمكاره.
ب - الاستغاثة:
الاستغاثة مصدر استغاث، والاسم الغوث، والغُواث، والغَواث، يقال: أجاب الله دعاءه، وغُواثه، وغَواثه، ولا يوجد في اللغة العربية فعال بالفتح في الأصوات إلَّا غَواث والباقي بالضم أو الكسر، ويقول الواقع في بلية: أغثني أي فرّج عني، وغَوَّثَ الرجل واستغاث صاح، وقال: واغوثاه، وضُرب فلان فَغَوَّث تغويثًا أي قال: واغوثاه. وهذا المعنى هو أصله ثم استعمل بمعنى صاح ونادى طلبًا للغوث، ويقال: استغاثني فلان فأغثته إغاثة، ومغوثة، ويقال أيضًا: أغاثه الله إغاثة وغياثًا وغوثًا
(2)
. يقال ذلك إذا استجاب له، فالإغاثة هي الاستجابة "إلا أن الإغاثة أحق بالأفعال، والاستجابة أحق بالأقوال، وقد يقع كل منهما موقع الآخر"
(3)
.
وقد فسر ابن الأثير رحمه الله في النهاية الإغاثة بالإعانة
(4)
.
وقال الشيخ سليمان بن عبد الله رحمه الله تعقيبًا على تفسير ابن الأثير السابق: "فعلى هذا تكون الاستغاثة هي الاستعانة، ولا ريب أن من استغاثك فأغثته فقد أعنته، إلا أن لفظ الاستغاثة مخصوص بطلب العون في حال الشدة بخلاف الاستعانة"
(5)
.
(1)
الرد على البكري: 289، والفتاوى: 15/ 227.
(2)
تهذيب اللغة 8/ 177، والصحاح: 1/ 289، والبارع: 432، واللسان: 6/ 3312، وتاج العروس: 1/ 636.
(3)
الرد على البكري: 214.
(4)
النهاية: 3/ 392.
(5)
تيسير العزيز الحميد: 215.
والسين والتاء في الاستغاثة للطلب فمعنى الاستغاثة: "طلب الغوث كالاستعانة طلب العون والاستنصار طلب النصر"
(1)
فمن هنا قال بعضهم في بيان معناها:
"الاستغاثة طلب الغوث
(2)
وهو التخليص من الشدة والنقمة، والعون على الفكاك من الشدائد"
(3)
.
النسبة بين الاستغاثة والدعاء:
فقد تحصل مما سبق أن الاستغاثة خاصة بما إذا كان المطلوب رفع الشدة الواقعة، وأما الدعاء فيشمل ما إذا كان المطلوب حصول منفعة أو دفع شدة، كما أنه يشمل طلب منع الشدة التي لم تقع ويشمل أوقات الشدة والرخاء فهو أعم، فعلى هذا "فبينهما عموم وخصوص مطلق يجتمعان في مادة، وينفرد الدعاء في مادة، فكل استغاثة دعاء وليس كل دعاء استغاثة"
(4)
.
وقد حكى شيخ الإسلام رحمه الله أنهم قالوا في الفرق بين المستغيث والداعي: "أن المستغيث ينادي بالغوث، والداعي ينادي بالمدعو"
(5)
وهذا القول مبني على الأصل حيث إن معنى غَوَّثَ الرجل قال: واغوثاه ولكن هذا المعنى غير مراد الآن، قال الزبيدي
(6)
بعد ذكر هذا المعنى نقلًا عن شيخه: "وقد صرح أئمة النحو بأن هذا أصله ثم
(1)
الرد على البكري: 249، والدر النضيد:3.
(2)
في الأصل العون، والظاهر ما أثبتناه.
(3)
تاج العروس: 1/ 636.
(4)
الدين الخالص: 2/ 270.
(5)
الرد على البكري: 214.
(6)
الزبيدي هو محمد بن محمد بن عبد الرزاق الحسيني الملقب بمرتضى أبو الفيض لغوي نحوي مشارك في عدة علوم (ت 1205 هـ)، معجم المؤلفين: 11/ 282، وفهرس الفهارس: 1/ 526 رقم 300.
استعملوه بمعنى صاح ونادى طلبًا للغوث"
(1)
.
فعلى هذا فالفرق المذكور لا يتمشى مع المستعمل الآن إلا إذا نظر إلى الأصل فقط وبهذا يتضح أن الصحيح في الفرق بين الدعاء والاستغاثة هو ما تقدم من أن بينهما العموم والخصوص المطلق. والله أعلم.
جـ - الاستجارة:
يقال: جار واستجار طلب أن يجار أي سأله أن يجيره، أما في استجار فظاهر لأن السين والتاء يدلان على الطلب.
وأما جار فهو مخرج على الجار بمعنى المستجير لكون المجاورة تستدعي الاستجارة، وأجاره الله من العذاب أنقذه، وأجاره أعاذه، ومن عاذ بالله أي استجار به أجاره الله، ومن أجاره الله لم يُوْصَل إليه، وهو سبحانه وتعالى يجير ولا يجار عليه أي يعيذ، وقال لنبيه:{قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ} [الجن: 22] أي لن يمنعني والجار والمجير هو الذي يمنعك ويجيرك
(2)
.
النسبة بين الدعاء والاستجارة:
يظهر مما ذكره علماء اللغة من استعمالات كلمة الاستجارة أنها خاصة بطلب دفع المضار والمكاره.
ومن هنا نستطيع أن نقول: إن المناسبة بينها وبين الدعاء العموم والخصوص المطلق فكل استجارة دعاء وليس كل دعاء استجارة، لأن الدعاء يشمل ما كان لدفع المضار أو جلب المنافع والاستجارة خاصة بدفع المضار وقد تقدم في الاستعاذة قول شيخ الإسلام أن الاستجارة والاستعاذة والاستغاثة قرائب في المعنى وأنها نوع من أنواع الدعاء والطلب.
(1)
تاج العروس: 1/ 636.
(2)
الصحاح: 2/ 618، واللسان: 2/ 723، وتاج العروس: 3/ 113.
د - اللياذة:
يقال: لاذ به يلوذ لوذًا ولواذًا ولياذًا إذا لجأ إليه، وعاذ به واستتر به واحتصن به واستغاث به
(1)
، هذا كلام علماء اللغة وهو يدل على أن مفهوم اللياذ ومفهوم الاستعاذة شيء واحد، لكن ذهب ابن كثير إلى تغايرهما وقَوَّى ذلك بشاهد من شعر المتنبي، قال ابن كثير
(2)
: "العياذة تكون لدفع الشر، واللياذ يكون لطلب جلب الخير، كما قال المتنبي:
يا من ألوذ به فيما أومله
…
ومن أعوذ به ممن أحاذره
لا يجبر الناس عظمًا أنت كاسره
…
ولا يهيضون عظمًا أنت جابره"
(3)
فيدل هذا البيت الأول على أن العياذة في جانب دفع المضار، واللياذ في جانب جلب المسار، لكن المتنبي ليس حجة لكونه في العصر العباسي الثاني إذ ولادته في عام 303 هـ وتوفي سنة 354 هـ.
وممن صرح باتحاد مفهوم اللياذة والعياذة العز بن عبد السلام فإنه قال: "الإعادة واللياذة بمعنى واحد وهو الاستجارة بذي سلطان من مكروه"
(4)
.
فجعل اللياذة لدفع الشر كالعياذة ويؤيده تفسير اللغويين لليّاذة بالاستعاذة كما تقدم، ويمكن أن يقال: إن التفريق بينهما إنما يكون عند
(1)
الصحاح: 22/ 570، والنهاية: 4/ 276، واللسان: 7/ 4097.
(2)
تفسير ابن كثير: 1/ 15.
(3)
البيت في ديوان المتنبي مع شرح البرقوقي: 2/ 272 وهي من قصيدة يمدح فيها جعفر بن كيغلغ، والرد على البكري: 288 بدون نسبة إليه، ونسبه في شفاء العليل ص: 504 إلى أحمد بن حسين الكندي وهو المتنبي. والهيض: الكسر بعد جبور العظم وهو أشد ما يكون من الكسر. اهـ. اللسان: 8/ 4736، وفي الديوان بعد البيت الأول ومن توهمتُ أن البحر راحته .. جودا وإن عطاياه جواهره
…
لا يجبر البيت.
(4)
الفوائد في مشكل القرآن ص: 1.
الاجتماع لا عند الافتراق.
هذا ومما ينبغي أن يعلم أن قائل هذين البيتين قد ارتكب خطأً فاحشًا لأنه صرف لب التجائه واعتصامه لغير الله تعالى.
وقد أنكر العلماء هذين البيتين، وشنعوا على قائلهما وبينوا أنهما لا يليقان إلا بجناب الله تعالى حتى إن بعضهم كان يقول عن نفسه:"ربما قلت هذين البيتين في السجود، أدعو الله بما تضمناه من الذل والخضوع"
(1)
.
النسبة بين الدعاء واللياذ:
إن الدعاء أعم مطلقًا لأنه يعم ما كان لدفع المضار وما كان لجلب المسار، واللياذ خاص بجلب المسار على ما قاله ابن كثير أو خاص بدفع الشر على ما قاله العز بن عبد السلام ويدل عليه كلام أهل اللغة وهو الظاهر والله أعلم.
وإن اللياذ والاستعاذة مترادفان على هذا القول، وعلى الأول متباينان.
كما أن اللياذ يكون من النوع الثاني وهو الخاص بجلب المسار على ما يدل عليه بيت المتنبي، وذهب إليه ابن كثير.
هـ - الاستغفار:
مصدر استغفر يقال: استغفر الله لذنبه ومن ذنبه بمعنى، فغفر له ذنبه غفرًا وغفرانًا ومغفرة. وأصل الغفر التغطية والستر، وكل شيء سترته فقد غفرته، ومنه قيل للذي يكون تحت بيضة الحديد على الرأس: مِغْفَر،
(1)
البداية والنهاية: 11/ 275، حكاية عن ابن القيم عن شيخه ابن تيمية فهو الحاكي عن نفسه - رحمة الله على الجميع -. وانظر ما قاله ابن القيم في شفاء العليل ص:504.
ومنه غفر الله ذنوبه، أي سترها، والغفر، والمغفرة، التغطية على الذنوب والعفو عنها
(1)
.
المناسبة بين الاستغفار والدعاء:
الدعاء يعم ما كان طلبًا للخير أو طلبًا لدفع الشر، والاستغفار خاص بطلب دفع الشر، فكل استغفار دعاء، وليس كل دعاء استغفارًا.
قال شيخ الإسلام رحمه الله في شرح حديث النزول: "من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له"
(2)
: "فذكر أولًا لفظ الدعاء، ثم ذكر السؤال، والاستغفار، والمستغفر سائل، كما أن السائل داع، لكن ذكر السائل لدفع الشر بعد السائل الطالب للخير، وذكرهما جميعًا بعد ذكر الداعي الذي يتناولهما وغيرهما، فهو من باب عطف الخاص على العام"
(3)
ومثله قول الحافظ ابن حجر رحمه الله في شرح الحديث: "والفرق بين الثلاثة: أن المطلوب إما لدفع المضار أو جلب المسار، وذلك إما ديني وإما دنيوي، ففي الاستغفار إشارة إلى الأول وفي السؤال إشارة إلى الثاني، وفي الدعاء إشارة إلى الثالث"
(4)
.
ثم إنه قد ورد التفريق بينهما في الأثر على وجه آخر لا يتعلق بالنظر إلى صيغتهما بل إلى وصفهما وهو ما روي عن ابن عباس مرفوعًا وموقوفًا: "المسألة أن ترفع يديك حذو منكبيك أو نحوهما والاستغفار أن تشير بإصبع واحدة، والابتهال أن تمد يديك جميعًا، وفي لفظ: "هكذا الإخلاص يشير بإصبعه التي تلي الإبهام، وهذا الدعاء فرفع يديه حذو منكبيه وهذا الابتهال فرفع يديه مدًا
…
"
(5)
. وهذا الحديث تفسير
(1)
الصحاح: 2/ 770 - 771، والنهاية: 3/ 373، واللسان: 6/ 3273 - 3274.
(2)
سيأتي تخريجه إن شاء الله تعالى في ص: 216.
(3)
الفتاوى: 10/ 239، ونحوه في اقتضاء الصراط المستقيم:412.
(4)
فتح الباري: 3/ 31.
(5)
أخرجه أبو داود: 2/ 165 - 166 رقم 1489، وابن فضيل في الدعاء برقم 16، =
بالوصف المقارن لهذه الأمور، وفيه الإشارة إلى أن الابتهال أشد مبالغة في الطلب ويليه المسألة أو الدعاء ثم الاستغفار أو الإخلاص والله أعلم.
و- الشفاعة:
يقال: شفع لي شفاعة، وتشفع، طلب، واستشفعه طلب منه الشفاعة أي قال له كن لي شفيعًا، فالشفاعة على هذا بمعنى الطلب للغير.
وروي عن المبرد
(1)
وثعلب
(2)
أنهما قالا في قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} قالا: "الشفاعة الدعاء هنا".
والشفاعة كلام الشفيع للملك في حاجة يسألها لغيره والشفع خلاف الوتر تقول: كان وترًا فشفعته شفعًا، والشافع: الطالب لغيره ويقال له أيضًا: شفيع، والمشفّع الذي يقبل الشفاعة والمشفَّع الذي تقبل شفاعته
(3)
.
= وجعله من مرسل عكرمة والطبراني في الدعاء: 2/ 883 رقم 208، والحديث قد تكلم عليه ابن أبي حاتم في العلل: 2/ 203، وسكت عنه أبو داود والمنذري وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع: 6/ 14 رقم 6570، وله شاهد من حديث أنس أخرجه الطبراني في الدعاء: 2/ 884، والبزار كما في كشف الأستار: 4/ 42، وانظر مجمع الزوائد: 10/ 169.
(1)
هو محمد بن يزيد بن عبد الأكبر الأزدي البصري أبو العباس إمام العربية ببغداد في زمانه وكان فصيحًا بليغًا مفوهًا ثقة أخباريًا علامة صاحب نوادر وظرافة (ت 285 هـ)، بغية الوعاة: 1/ 269.
(2)
هو أحمد بن يحيى بن يسار أبو العباس إمام الكوفيين في اللغة والنحو، ثقة حجة دين صالح مشهور بالحفظ (ت 292 هـ)، تاريخ بغداد: 5/ 204، والسير: 14/ 6، وبغية الوعاة: 2/ 396.
(3)
تهذيب اللغة: 1/ 436 - 437، والصحاح: 3/ 1238، والمخصص: 12/ 224، والمحكم: 1/ 233، والنهاية: 2/ 485، واللسان: 4/ 2289، والفتاوى: 1/ 130.
وأصل هذه المادة تدور على الدلالة على مقارنة الشيئين، من ذلك الشفع خلاف الوتر والشفعة في الدار لأنه يشفع بها ماله، والشاة الشافع التي معها ولدها وشفع فلان لفلان إذا جاء ثانيه ملتمسًا مطلبه ومعينًا له
(1)
.
وفي الاصطلاح: السؤال في التجاوز عن الذنوب والجرائم
(2)
.
النسبة بينها وبين الدعاء:
فقد تقدم تفسير المبرد وثعلب للشفاعة بالدعاء في آية الكرسي، فالشفاعة دعاء مخصوص بطلب التجاوز عن الجرائم فالنسبة بينهما العموم والخصوص المطلق فكل شفاعة دعاء وليس كل دعاء شفاعة، لأنها خاصة بطلب التجاوز عن الجرائم والدعاء عام.
وقد فرق أبو عبد الله الحليمي بين دعاء الرجل لغيره بالخير وبين الشفاعة له بأن الشفاعة تكون بعد ظهور سوء حال المشفوع له، وأما الدعاء له فيكون قبل ظهور حال المدعو له
(3)
، فعلى كلام الحليمي النسبة بينهما التباين، والأول هو الصحيح كما هو واضح.
ويمكن على بعد أن الحليمي يريد بأن الشفاعة خاصة بما بعد ظهور حال المشفوع له وأما الدعاء فيعم الحالين فعلى هذا التأويل فكلامه راجع إلى ما تقدم من أن بينهما العموم والخصوص المطلق والله أعلم.
النوع الثاني: وهو ما كان خاصًا بجلب المسار وهو كلمة السؤال، وكلمة اللياذ على قول:
السؤال:
يقال: سأل يسأل سؤالًا، ومسألة ومساءلة والجمع مسائل إذا طلب،
(1)
معجم مقاييس اللغة: 3/ 201.
(2)
النهاية: 2/ 485.
(3)
المنهاج في شعب الإيمان للحليمي: 1/ 543 في النسخة المطبوعة تصحيفات كثيرة في هذا الموضع وغيره.
ويقال أيضًا: سألت وسَلْتُ أَسَل، والرجلان يتساءلان، ويتسايلان.
والسُّوْلُ: ما يسأله الإنسان، وهو طلبته وأمنيته التي يسألها من إطلاق الفُعْل على المفعول كالخبز على المخبوز والأُكل على المأكول. قال تعالى:{قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَامُوسَى} [طه: 36]، أي أمنيتك التي سألتها وطِلْبَتك الّتي طلبتها
(1)
.
ومن استعمال السؤال بمعنى الدعاء: قوله تعالى: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} بمعنى دعا داع كما قاله مجاهد
(2)
.
وقوله تعالى: {كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا} [الفرقان: 16]، أي كان وعدًا مسؤولًا إنجازُه تسأله الملائكة بقولهم:{رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ} [غافر: 8] أو أن المؤمنين سألوا ربهم ذلك في الدنيا حين قالوا: {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ} [آل عمران: 194]
(3)
.
ومن ذلك أيضًا قوله تعالى: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 32]، وقوله تعالى:{وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} [إبراهيم: 34]، وقوله تعالى:{يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن: 29].
النسبة بين الدعاء والسؤال:
فالنسبة بينهما العموم والخصوص المطلق لأن الدعاء يعم ما كان لجلب المسار ودفع المضار، والسؤال خاص بجلب المسار، وقد تقدم نقل كلام ابن تيمية وابن حجر في ذلك في الاستغفار وهذا هو الذي يظهر من تتبع استعمالات المادتين، ولكن القاضي عياضًا حكى أن بعض
(1)
تهذيب اللغة: 13/ 67، والمخصص: 12/ 218، والصحاح: 5/ 1723، ومعجم مقاييس اللغة: 3/ 124، واللسان: 3/ 1906 - 1907، وتفسير القرطبي: 11/ 195.
(2)
المصادر السابقة وابن جرير: 29/ 69، وتفسير غريب القرآن لابن قتيبة: 485، والوجوه والنظائر:224.
(3)
المصادر السابقة وابن جرير: 18/ 189.
المشايخ فرق بين الدعاء والسؤال بقوله: "الداعي: المضطر، والسائل المختار، قال الله تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} فللسائل المثوبة وللداعي الإجابة"
(1)
.
ويدل على ضعف هذا الفرق ما ورد في الحديث من استعمال الدعاء في الاختيار وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "من أراد أن يستجيب الله له في الشدة فليكثر الدعاء في الرخاء"
(2)
، وذكر الكرماني شارح البخاري فرقًا آخر فقال: ويحتمل أن يقال: الدعاء ما لا طلب فيه نحو يا الله، والسؤال الطلب، أو أن يقال: المقصود واحد وإن اختلف اللفظان
(3)
ولا يخفى ضعف الاحتمال الأول مما سبق نقله عن علماء اللغة من إطلاق الدعاء على الطلب فتحصل مما سبق أن الراجح أن يقال في النسبة بينهما أن الدعاء أعم مطلقًا فكل سؤال دعاء، وليس كل دعاء سؤالًا.
ومثل كلمة السؤال كلمة اللياذة على ما يشهد له بيت المتنبي وقد ذهب إلى ذلك ابن كثير
(4)
.
وأما على القول الآخر وهو الذي تشهد له أقوال علماء اللغة وعباراتهم فليس من هذا النوع الذي نحن بصدده.
النوع الثالث: الكلمات المختصة بصفة من صفات الدعاء: النداء والجؤار والابتهال:
1 - النداء:
يقال: ناداه، ونادى به، نداء، ومناداة، صاح به.
(1)
مشارق الأنوار على صحاح الآثار لعياض: 1/ 260، ونحوه في الكليات: 2/ 334.
(2)
سيأتي تخريجه ص: 197.
(3)
الفتح: 3/ 31، وشرح الكرماني للبخاري المسمى بالكواكب الدراري في شرح البخاري: 6/ 200.
(4)
تقدم ص: 92.
والنداء بالكسر ممدودًا، الصوت، وقد يضم مثل الدعاء، والرغاء.
أو النداء: الدعاء بأرفع الصوت
(1)
، وهذا المعنى للنداء مجمع عليه بين أهل اللغة
(2)
، قال ابن القيم في النونية:
أم أجمع العلماء والعقلاء من
…
أهل اللسان وأهل كل لسان
أن النداء الصوت الرفيع وضده
…
فهو النجاء كلاهما صوتان
(3)
وقد ورد استعماله بمعنى الدعاء في القرآن الكريم في عدة آيات، منها {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} [مريم: 2، 3].
{وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء: 83].
{فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87].
{وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} [الأنبياء: 89].
{وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ} [الصافات: 75].
{وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} [ص: 41].
{فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ} [القلم: 48].
(1)
الصحاح: 6/ 2505، واللسان: 7/ 4388، والمفردات: 486، والوجوه للدامغاني:450.
(2)
حكى هذا الإجماع شيخ الإسلام في التسعينية
…
انظر دلائل الرسوخ: 82، أو تحفة الطالب: 109، وقال في الفتاوى: 12/ 587: "والنداء لا يكون إلا صوتًا باتفاق أهل اللغة"، ونحوه في الحجة في بيان المحجة: 1/ 398، ومختصر الصواعق: 2/ 277، والرد على من أنكر الحرف للسجزي: ص 166.
(3)
النونية مع شرح الهراس: 1/ 122.
{وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ} ويدل على أن النداء في هذه الآية هو الدعاء - كون "ما فعلوه هو عين ما أمروا به"
(1)
.
النسبة بين النداء والدعاء:
إن النداء في الأصل خاص بالدعاء بأرفع الصوت فلا يشمل الدعاء بالسر والنجوى، وأما الدعاء فعام فيكون النداء من جنس الدعاء وأنواعه "وليس قسيمًا للدعاء"
(2)
فعلى هذا فكل نداء دعاء، وليس كل دعاء نداء فبينهما العموم والخصوص المطلق، وقيل: إن الدعاء للقريب والنداء للبعيد
(3)
. فهذا الفرق بالنظر إلى أصل النداء لكنه لا يتمشى مع الاستعمال القرآني المتقدم والذي يظهر من سياق الآيات أن المراد من النداء فيها مطلق الدعاء، ومما يدل على أن النداء والدعاء معناهما واحد قول الحليمي رحمه الله بعد أن عرف الدعاء:"وهو أيضًا نداء قال الله عز وجل: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} [مريم: 1 - 3]، وقال: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا} [الأنبياء: 89]، وقال في آية أخرى: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ} [آل عمران: 38]، ومعنى رب: يا رب فثبت أن النداء دعاء"
(4)
.
ومما يدل على اتحاد مفهومهما أيضًا أن الله سبحانه وتعالى عطف أحدهما على الآخر عطف تفسير فقال: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً} [البقرة: 171]، وذكر الراغب الأصبهاني: أنه يستعمل كل واحد منهما موضع الآخر، ومثل لذلك بالآية السابقة
(5)
.
(1)
دلائل الرسوخ: 82، أو تحفة الجليس:109.
(2)
تحفة الطالب: 109.
(3)
الكليات للكفوي: 2/ 334، وذكره في الجامع للأحكام للقرطبي: 2/ 215، وأيده بأن الأذان يسمى نداء لكونه للأباعد.
(4)
المنهاج في شعب الإيمان للحليمي: 1/ 522.
(5)
المفردات: 170.
ويظهر من هذا أن النداء قد يستعمل بمعنى الدعاء فيتحد مفهومه مع مفهوم الدعاء، وقد يختلف بأن يراد من النداء ما يختص برفع الصوت والدعاء أعم.
وهناك فرق آخر بينهما في الاستعمال اللفظي بأن النداء قد يقال: بيا أو بأيا أو نحو ذلك من غير أن يُضَمَّ إليه الاسم والدعاء لا يكاد يقال إلا إذا كان معه الاسم نحو يا فلان
(1)
.
2 - الجؤار:
يقال: جأر إلى الله تعالى يجأر جأرًا وجؤارًا، رفع صوته مع تضرع واستغاثة.
والجؤار: رفع الصوت، والاستغاثة، وأصله الصوت الشديد
(2)
.
ومن استعماله بمعنى الدعاء قوله تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} [النحل: 53].
قال مجاهد: تضرعون دعاءً
(3)
.
وقال السدي
(4)
: تضجون بالدعاء
(5)
.
وقال ثعلب: هو رفع الصوت إليه بالدعاء.
(1)
الكليات للكفوي: 2/ 333، وتأسيس التقديس لأبي بطين ص:52.
(2)
معاني القرآن للفراء: 2/ 105، ومجاز القرآن: 1/ 361، ومعاني القرآن للزجاج: 3/ 204، والصحاح: 2/ 607، والمحكم: 7/ 336، والمفردات: 103، والنهاية: 1/ 232، واللسان: 1/ 528.
(3)
أخرجه الطبري عنه: 14/ 121، ونحوه في الدر المنثور: 4/ 120، ونسبه إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم إضافة إلى ابن جرير، واللسان: 1/ 528، وتاج العروس: 3/ 81.
(4)
هو إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي كريمة صدوق يهم ورمي بالتشيع (ت 127 هـ) تقريب، وهو الكبير وأما الصغير فمحمد بن مروان فضعيف، متروك الحديث متهم. اهـ. الميزان: 4/ 32.
(5)
الدر المنثور: 4/ 120، وتاج العروس ولكن بلفظ يصيحون: 3/ 81، ونحوه في اللسان: 1/ 528.
ومنه
(1)
قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ} [المؤمنون: 64]، قال ابن عباس: يستغيثون
(2)
.
النسبة بين الدعاء والجؤار:
يظهر من إطلاقات كلمة الجؤار أنها خاصة في الأصل بالدعاء الذي يصحبه رفع الصوت ولا يطلق على الدعاء الخفي، فعلى هذا فهو خاص بنوع خاص من الدعاء.
3 - الابتهال:
يقال: ابتهل في الدعاء إذا اجتهد، قال ابن دريد:"ويقال: ابتهلوا إلى الله عز وجل إذا أخلصوا له الدعاء".
والابتهال: الاجتهاد في الدعاء وإخلاصه لله عز وجل.
وفي التنزيل: {ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} . أي يُخلصُ ويجتهد كلٌّ مِنَّا في الدعاء واللعن على الكاذب منا.
والمبتهل الداعي، وأصله: التضرع والمبالغة في السؤال
(3)
.
وقال الزجاج: ومعنى الابتهال في اللغة: المبالغة في الدعاء وأصله الالتعان، يقال: بهله الله أي لعنه الله ومعنى لعنه الله باعده الله من رحمته
(4)
.
المقارنة بين الابتهال والدعاء:
روي عن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "هذا
(1)
انظر الاستشهاد بالآية في المحكم: 7/ 336، اللسان: 1/ 528.
(2)
الطبري: 18/ 37، ونسبه في الدر أيضًا إلى ابن أبي حاتم وابن المنذر: 5/ 12.
(3)
جمهرة اللغة لابن دريد: 1/ 330، الصحاح: 4/ 1643، والنهاية: 1/ 167، واللسان: 1/ 375.
(4)
معاني القرآن للزجاج: 1/ 423.
الإخلاص يشير بإصبعه التي تلي الإبهام، وهذا الدعاء فرفع يديه حذو منكبيه، وهذا الابتهال فرفع يديه مدًا"
(1)
.
ويظهر من تتبع إطلاقات الابتهال أنه خاص بالدعاء المبالغ فيه والذي اجتهد الداعي فيه وبالغ كما يستفاد ذلك من عبارات اللغويين التي تقدمت.
ومن صور المبالغة والاجتهاد وآدابه مد اليدين جميعًا. فيكون الابتهال خاصًا بصفة معينة من صفات الدعاء.
(1)
أخرجه الطبراني في الدعاء: 2/ 883 رقم 208، وقد تقدم بقية تخريجه ص:94.
الفصل الثاني في أنواع الدعاء وأقسامه
ويشتمل على مبحثين:
المبحث الأول: في أقسام الدعاء باعتبار معناه.
المبحث الثاني: في أقسام الدعاء باعتبار صيغه ومتعلقه.
ويشتمل على مطلبين:
المطلب الأول: في أقسام الدعاء باعتبار صيغه.
المطلب الثاني: في أقسام الدعاء باعتبار متعلقه.
المبحث الأول في أقسام الدعاء باعتبار معناه
اتجه العلماء في تقسيم الدعاء باعتبار معناه إلى أربع اتجاهات حسب ما أمكن الاطلاع عليه:
أ - الاتجاه الأول: أن الدعاء ينقسم إلى ثلاثة أنواع:
1 -
دعاء توحيد وثناء.
2 -
دعاء أمر أخروي.
3 -
دعاء حظ دنيوي.
ب - الاتجاه الثاني: أن الدعاء ينقسم أيضًا إلى ثلاثة أنواع:
1 -
دعاء مسألة.
2 -
دعاء ثناء.
3 -
دعاء تعبد.
جـ - الاتجاه الثالث: أن الدعاء ينقسم إلى نوعين:
1 -
دعاء عبادة.
2 -
دعاء عادة.
د - الاتجاه الرابع: أن الدعاء يتنوع إلى نوعين:
1 -
دعاء مسألة.
2 -
دعاء عبادة.
فهذه الاتجاهات الأربع تكون القسمة فيها باعتبار الاتجاهين الأولين ثلاثية، وباعتبار الاتجاهين الأخيرين ثنائية.
ثم هذه الاتجاهات الأربع ليس بينها كبير اختلاف وتباين، لكن بعضها أدق من بعض في الشمول والاستيعاب، فبعضها أدق من بعض وأحكم وأشمل وأعم.
وسنذكر ما في كل اتجاه من عدم الشمول والدقة ثم نبيّن الاتجاه الدقيق وبالله التوفيق وعليه التكلان ..
أ - الاتجاه الأول: أن الدعاء ثلاثة أنواع:
1 -
النوع الأول: دعاء توحيد وثناء.
2 -
النوع الثاني: دعاء أمر أخروي.
3 -
النوع الثالث: دعاء أمر دنيوي.
فأول من وقفت على كلامه ممن ذهب إلى هذا الاتجاه هو أبو إسحاق الزجاج
(1)
فإنه قال: "معنى دعاء الله عز وجل على ثلاثة أضرب، فضرب منها توحيده والثناء عليه، كقولك: يا الله لا إله إلا أنت، وكقولك: ربنا لك الحمد، [إذا قلته] فقد دعوته بقولك: ربنا ثم أتيت بالثناء والتوحيد. ومثله قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60] فهذا ضرب من الدعاء.
وضرب ثان: هو مسألة الله العفوَ والرحمةَ وما يقرب منه كقولك: اللهم اغفر لنا.
(1)
تقدمت ترجمته ص: 29.
وضرب ثالث: هو مسألته [الحظ] من الدنيا كقولك: اللهم ارزقني مالًا وولدًا وما أشبه ذلك. وإنما سمي هذا أجمعُ دعاءً، لأن الإنسان يصدر في هذه الأشياء بقوله: يا الله، يا رب ويا حي فلذلك سُمي دعاءً"
(1)
.
وهذا التقسيم الذي ذكره الزجاج يرجع في الحقيقة إلى نوعين فقط وذلك لأن الضرب الثاني والثالث كلاهما سؤال الله تعالى والطلب منه إلا أن أحدهما يتعلق بحظ من حظوظ الدنيا والآخر يتعلق بالآخرة، وهذا التعلق لا يخرجهما عن كونهما نوعًا واحدًا، ويدل على هذا أن ابن سيده ذكر أن الدعاء على وجهين: الأول طلب في مخرج اللفظ، والمعنى على التعظيم والمدح، والثاني الطلب لأجل الغفران أو عاجل الإنعام
(2)
.
ومن هنا نستطيع أن نقول: إن تقسيم الدعاء إلى نوعين فقط - وهو الذي سيأتي بعد هذا - أدقُّ وأوجزُ وأخصرُ، وإن هذا التقسيم ليس دقيقًا، ثم إن قول الزجاج: فضرب منها توحيده والثناء عليه وتمثيله له بما يشتمل على الذكر والتهليل والتحميد لا يشمل أنواع العبادات الأخرى مع أنه يطلق على جميع أنواع العبادات.
ويؤكد تعليله تسميتها دعاء بأن في أولها الدعاء الذي هو النداء بقوله: يا الله يا رحمن أنه يريد حصر إطلاق الدعاء على نوع خاص من العبادة وهو ما كان من باب الثناء والذكر وهذا دليل آخر على عدم دقة هذا التقسيم وأبو إسحاق الزجاج نفسه ذكر في موضع آخر
(3)
أن الدعاء معناه العبادة ولم يقيده بالثناء والذكر.
(1)
معاني القرآن: 1/ 255، وتهذيب اللغة للأزهري: 3/ 119، ولسان العرب: 3/ 1385، وما بين المعكوفتين ليس في كتاب الزجاج المطبوع وإنما هو زيادة من المرجعين الآخرين، وقوله: فلذلك، في الأصل: فكذلك.
(2)
المخصص: 13/ 88.
(3)
معاني القرآن للزجاج: 2/ 344.
ب - الاتجاه الثاني: أن الدعاء على ثلاثة أنواع أيضًا:
1 -
النوع الأول: دعاء مسألة.
2 -
النوع الثاني: دعاء ثناء.
3 -
النوع الثالث: دعاء تعبد.
فأول من وقفت على كلامه ممن ذهب إلى هذا الاتجاه هو ابن القيم رحمه الله فإنه قال في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180]، قال رحمه الله:"الدعاء بها يتناول دعاء المسألة، ودعاء الثناء، ودعاء التعبد"
(1)
.
فالمراد بدعاء المسألة هو "طلب ما ينفع الداعي وطلب كشف ما يضره أو دفعه"
(2)
.
والمراد بدعاء الثناء هو ذكر أسماء الرب تبارك وتعالى وصفاته، والثناء عليه بهما وتنزيهه وتقديسه إما إنشاء وإما إخبارًا
(3)
.
والمراد بدعاء التعبد هو سائر أنواع العبادات القلبية والبدنية والمالية فإن فيها نوعًا من الطلب والسؤال كما سيأتي.
فهذا التقسيم هو مثل التقسيم الأول يرجع في الحقيقة إلى نوعين فقط. فدعاء الثناء، ودعاء التعبد، يعدان قسمًا واحدًا وليسا قسمين ويدل لذلك أن ابن القيم نفسه ذكر في الآية السابقة في موضع آخر
(4)
أن الدعاء فيها مرتبتان، دعاء ثناء وعبادة، ودعاء طلب ومسألة فجعل دعاء الثناء والعبادة نوعًا واحدًا كما أنه ذكر في موضع آخر أن الدعاء نوعان دعاء ثناء ودعاء مسألة
(5)
.
(1)
مدارج السالكين: 1/ 420.
(2)
بدائع الفوائد: 3/ 2.
(3)
الوابل الصيب: 178 - 180.
(4)
بدائع الفوائد: 1/ 164.
(5)
زاد المعاد: 1/ 234 - 235.
ويمكن أن يقال: إنما ذكر دعاء الثناء مفردًا عن دعاء التعبد لأن الثناء على المدعو يدل على الطلب والمسألة أكثر من دلالة أنواع العبادات الأخرى، لأن الداعي ربما يتعرض لحوائجه بالمدح والثناء لمن يريد منه النوال والعطاء، فالعبادات الأخرى وإن كانت تستلزم الطلب والسؤال إلا أن دلالتها أقل من دلالة الثناء على الطلب. وتقدم
(1)
ما يزيد هذا وضوحًا في كلام سفيان بن عيينة رحمه الله.
جـ - الاتجاه الثالث: أن الدعاء على نوعين:
1 -
النوع الأول: دعاء عبادة.
2 -
النوع الثاني: دعاء عادة.
فأول من وقفت على كلامه في ذلك هو الشيخ محمد رشيد رضا
(2)
، ثم الشيخ أبو السمح محمد عبد الظاهر
(3)
رحمهما الله تعالى.
قال الشيخ محمد رشيد: "إن الدعاء قسمان: دعاء العبادة، ودعاء العادة، فالثاني ما يطلبه الناس بعضهم من بعض مما يقدرون عليه بالأسباب التي سخرها الله لهم، ودعاء العبادة: هو طلب ما وراء الأسباب مما لا يقدر عليه إلا رب العباد"
(4)
وذكر نحوه الشيخ أبو السمح
(5)
.
ويلاحظ على هذا التقسيم أنه غير شامل إذ لا يشمل دعاء التعبد والثناء فدعاء العبادة على هذا التفسير راجع إلى دعاء المسألة إلَّا أنه خاص
(1)
ص: 75.
(2)
هو محمد رشيد بن علي رضا بن محمد القلموني البغدادي الأصل الحسيني، مفسر أديب سياسي، له جهود في خدمة الإسلام ونشر العقيدة الصحيحة لاسيما ما يتعلق بتوحيد الألوهية، وقد أصدر مجلة المنار في مصر، (ت 1354 هـ)، انظر معجم المؤلفين: 9/ 210.
(3)
هو خطيب وإمام الحرم المكي، ومدير دار الحديث المكية، (ت 1393 هـ).
(4)
تعليق الشيخ محمد رشيد على صيانة الإنسان ص: 374.
(5)
انظر حياة القلوب بدعاء علام الغيوب ص: 31.
بسؤال الله تعالى فهو تقسيم لدعاء المسألة إلى كونه عبادة إذا كان فيما وراء الأسباب وكونه عادة إذا كان في الأمور العادية التي هي مرتبطة بالأسباب، وقد ذكر العلماء ما يشبه هذا في الاستغاثة الجائزة وغير الجائزة كما سيأتي
(1)
إن شاء الله تعالى.
د - الاتجاه الرابع: أن الدعاء على نوعين:
1 -
النوع الأول: دعاء مسألة.
2 -
النوع الثاني: دعاء عبادة.
فأول من رأيت قد صرح بهذا الاتجاه هو شيخ الإسلام ابن تيمية وتبعه ابن القيم وغيره.
وأما شيخ الإسلام فقد ذكر هذا التقسيم في عدة مواضع من كتبه، فمن ذلك قوله: "لفظ الدعاء والدعوة في القرآن يتناول معنيين دعاء العبادة ودعاء المسألة
…
"
(2)
ويسميه في مواضع دعاء العبادة، ودعاء المسألة والاستعانة
(3)
.
وأما ابن القيم فإنه ذكر هذا التقسيم في عدة مواضع من كتبه أيضًا منها قوله في جلاء الأفهام: "والدعاء نوعان دعاء عبادة ودعاء مسألة، والعابد داع، كما أن السائل داع"
(4)
، وقوله في بدائع الفوائد في تفسير آية:{ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً .. } [الأعراف: 55]: "هاتان الآيتان مشتملتان على آداب نوعي الدعاء، دعاء العبادة ودعاء المسألة فإن الدعاء في القرآن يراد به هذا تارة وهذا تارة، ويراد به مجموعهما"
(5)
.
(1)
يأتي في ص: 491.
(2)
الفتاوى: 10/ 237 - 238، ونحوه في الفتاوى: 15/ 10، واقتضاء الصراط:411.
(3)
الفتاوى: 1/ 69 و 2/ 456.
(4)
جلاء الأفهام ص: 18.
(5)
بدائع الفوائد: 3/ 2، وسياقه في هذا الموضع مأخوذ من كلام شيخه ابن تيمية في الفتاوى، قارن بين الموضعين الفتاوي: 15/ 10 - 28.
وقال في البدائع في موضع آخر: "فالتشهد يجمع نوعي الدعاء دعاء الثناء والخير، ودعاء الطلب والمسألة"
(1)
.
وإنما قيدنا في بداية الكلام بأن هؤلاء هم أول من صرح بهذا التقسيم لأن هذا التقسيم موجود قبل هؤلاء في ضمن كلام من سبقهم من السلف وذلك لدلالة القرآن والسنة عليه، فالسلف فهموا هذا التقسيم من الكتاب والسنة، فمن العلماء الذين أشاروا إلى ذلك بدون تصريح للتقسيم:
1 -
سفيان بن عيينة عندما سئل عن معنى دعاء يوم عرفة كما مر
(2)
.
2 -
ابن جرير فإنه ذكر في قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ} [البقرة: 186]. وجهين أحدهما: مسألة العبد ربه ما وعد أولياءه على طاعتهم بعملهم بطاعته، ومعنى الإجابة الوفاء بما وعدهم على العمل من الأجر واستدل على ذلك بحديث:"الدعاء هو العبادة" ثم قال: "فأخبر صلى الله عليه وسلم أن دعاء الله إنما هو عبادته ومسألته بالعمل له والطاعة، ثم نقل عن الحسن البصري في قوله تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}، اعملوا وأبشروا فإنه حق على الله أن يستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله"
(3)
.
وقال أيضًا: "والدعاء لله يكون بذكره وتمجيده والثناء عليه قولًا وعملًا، وقد يكون بالعمل له بالجوارح"
(4)
.
3 -
البغوي فإنه قال: "قيل: معنى الدعاء هاهنا الطاعة، ومعنى الإجابة الثواب"
(5)
.
(1)
بدائع الفوائد: 2/ 190.
(2)
مر ص: 53.
(3)
تفسير ابن جرير: 2/ 160 - 161، وبدائع الفوائد: 3/ 2 - 14.
(4)
تفسير ابن جرير: 7/ 205.
(5)
معالم التنزيل: 1/ 156.
وهذا التقسيم الرابع هو التقسيم الأحسن والأدق، لأنه أشمل وأعم، كما أنه أوجز وأخصر، فلهذا فهو أدق وأحكم، أما كونه أشمل وأعم، فلأنه يدخل فيه جميع أنواع الدعاء، فلم يخرج عنه شيء لم يشمله، وأما كونه أوجز وأخصر فواضح لكون القسمة فيه ثنائية، وأما كونه أدق وأحكم فلسلامته من الاعتراضات التي في التقسيمات الأخرى.
وجه انقسام الدعاء إلى نوعين:
قد ذكرنا في تعريف الدعاء أن معناه هو الرغبة والقصد والتوجه إلى المدعو وهذا القصد والتوجه إلى المدعو يكون "تارة لذاته، وتارة لمسألته أمرًا منه، وهذا كالشخص يدعو غيره، ويطلبه، ويقصده، تارة لذاته، وتارة لأمر يطلبه منه"
(1)
.
فالقصد إلى المدعو لذاته هو المسمى بدعاء العبادة والثناء، والقصد إلى المدعو لمسألته هو المسمى بدعاء المسألة، وهذا هو وجه انحصار وانقسام الدعاء إلى نوعين فقط.
ثم إن كلا النوعين من دعاء الثناء والذكر والعبادة ودعاء المسألة والطلب فيه خاصية وفائدة لا تكون في النوع الآخر ففي الثناء والعبادة تمتلئ القلوب بعظمة الله وجلاله وفي السؤال والطلب تمتلئ بالرغبة والانطراح بين يدي الله تعالى.
قال الإمام الدهلوي رحمه الله: واعلم أن الدعوات التي أمرنا بها النبي صلى الله عليه وسلم على قسمين:
أحدهما: ما يكون المقصود منه أن تملأ القوى الفكرية بملاحظة جلال الله وعظمته، أو يحصل حالة الخضوع والإخبات، فإن لتعبير اللسان عما يناسب هذه الحالة أثرًا عظيمًا في تنبه النفس لها وإقبالها عليها.
والثاني: ما يكون فيه الرغبة في خير الدنيا والآخرة والتعوذ من
(1)
انظر الفتاوى: 15/ 10، وبدائع الفوائد: 3/ 3، وبيان تلبيس الجهمية: 2/ 458.
شرهما لأن همة النفس وتأكد عزيمتها في طلب شيء يقرع باب الجود بمنزلة إعداد مقدمات الدليل لفيضان النتيجة، وأيضًا فإن الحاجة اللذاعة لقلبه، توجهه إلى المناجاة، وتجعل جلال الله حاضرًا بين عينيه، وتصرف همته إليه، فتلك الحالة غنيمة المحسن"
(1)
.
ثم إنَّ كلا النوعين من خصائص الله تعالى فلا يليقان بأن يصرفا لأحد كائنًا من كان سواء كان ملكًا مقربًا أو نبيًا مرسلًا فالله هو المدعو دعاء المسألة للنفع والضر كما أنه هو المدعو المعبود للرجاء والخوف
(2)
.
فهذان النوعان مختصان به تبارك وتعالى ولا يصلحان أن يصرفا لغيره.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: وكلا نوعي الدعاء مختصان بالله تعالى حقان له لا يصلحان لغيره بل دعاء غيره بأحد النوعين شرك وذلك من معنى أنه الأحد الصمد فإن كونه أحدًا يوجب أن لا يشرك به في العبادة ولا الاستغاثة فلا يدعى غيره.
والاسم الصمد جاء معرفًا يبين أنه هو الصمد الذي يستحق أن يصمد إليه بكلا نوعي الصمد، وهذان الاسمان الأحد والصمد لم يذكرا في القرآن إلا في هذه السورة - يعني سورة الإخلاص -. والله هو المقصود لذاته ولما يطلب منه فهو مقصود مدعو لنفسه كما أنه مقصود مدعو لما يسأل عنه ويطلب منه وهو الصمد في الأمرين لا يصلح لغيره أن يكون هو المعبود ولا أن يكون هو المتوكل عليه المستعان به المسؤول منه
(3)
.
تلازم نوعي الدعاء:
قد ذكرنا أن الدعاء ينقسم إلى دعاء عبادة، ودعاء مسألة، وهذا
(1)
حجة الله البالغة: 2/ 74.
(2)
بدائع الفوائد: 3/ 2، والفتاوى: 15/ 10.
(3)
بيان تلبيس الجهمية: 2/ 457 - 458.
التقسيم معناه أن الدعاء يراد به تارة دعاء المسألة، وتارة دعاء العبادة، وليس معنى هذا أنهما متضادان بحيث أنه لا يدل إلا على النوع الذي أريد به، بل معناه أنه في تلك الحالة دلالته على أحد النوعين أظهر، ويدل على النوع الآخر إما بدلالة الالتزام
(1)
أو بدلالة التضمن، وعلى النوع الذي يكون فيه أظهر بدلالة المطابقة.
فإذا أريد به المسألة والطلب يدل على العبادة بطريق التضمن
(2)
لأن الداعي دعاء المسألة عابد لله تعالى بسؤاله، ورغبته، والتضرع إليه، والابتهال إليه، والانطراح بين يديه، وهو يرجو قبول دعوته، وقضاء حاجته، وهو مع ذلك خائف من طرده، وعدم قبول دعوته، فهذا هو لب العبادة ومخها وروحها وحقيقتها. فالآيات التي ورد فيها الدعاء مرادًا به دعاء المسألة - تدل هذه الآيات بطريق التضمن على دعاء العبادة -.
وأما إذا أريد بالدعاء دعاء العبادة، فإنه يدل على دعاء المسألة بطريق دلالة الالتزام
(3)
وذلك لأن العابد لله تعالى كالذي يذكر الله مثلًا فهو في الحقيقة سائل وإن كان لا يأتي بلفظ السؤال كالذي يطوف على بعض الأبواب والأسواق ليدعو الناس يكون سائلًا وإن حذف لفظ السؤال
(4)
.
فالعابد لله سبحانه سائل لله تعالى، يسأله الفوز بالجنة، والنجاة من النار، فإنه يعبد الله خوفًا من عقابه، وطمعًا في رحمته، ولا يخلو العابد في قرارة نفسه من الخوف والرجاء، لا كما يزعمه بعض المتصوفة "إنه
(1)
دلالة اللفظ على تمام ما وضع له تسمى مطابقة، وعلى جزئه تضمنًا، وعلى الخارج التزامًا، قال صاحب السلم: دلالة اللفظ على ما وافقه .. يدعونها دلالة المطابقة، وجزئه تضمنًا وما لزم .. فهو التزام إن يعقل التزم. اهـ. إرشاد الفحول ص: 17، وسلم المنورق ضمن مجموع المتون: 273، ومنهاج السنة: 5/ 452 - 454.
(2)
مجموع الفتاوى: 15/ 10، 10/ 243، وجلاء الأفهام ص:81.
(3)
الفتاوى: 15/ 11، بدائع الفوائد: 3/ 3، ونحوه في اقتضاء الصراط:411.
(4)
المنهاج في شعب الإيمان للحليمي: 1/ 537.
يعبد الله لا خوفًا من النار ولا طمعًا في الجنة وإن هذا المقام نقص، وإنما الكمال في عبادة الله لذاته"
(1)
وهذا باطل مخالف لنصوص الكتاب والسنة ولواقع عباد الله الصالحين من الصحابة والتابعين وسلف هذه الأمة.
ولهذا فالعبادة تستلزم السؤال والطلب، فإذا أريد من الدعاء دعاء العبادة فإنه يدل على دعاء المسألة استلزامًا.
فالعابد لا بد أن يطلب غرضًا ما عاجلًا أو آجلاً، فلا يخلو في قرارة نفسه من رغبة أو رهبة.
وبما تقدم تبين أن نوعي الدعاء متلازمان، لا ينفك أحدهما عن الآخر، فحيث ذكر أحدهما دخل معه الآخر إما تضمنًا وإما التزامًا، وبهذا التقرير يندفع ما يردده بعض المخالفين من أن الآيات الواردة في التحذير من دعاء غير الله - المراد بها العبادة فقط وليس المراد بها السؤال والطلب فلا يدخل فيها طلب الشفاعة من الأموات والتوسل بهم بل ولا دعاؤهم والاستغاثة بهم والهتاف باسمهم من مسافات بعيدة، هكذا زعموا وأولوا كل الآيات التي فيها التحذير من دعاء غير الله تعالى - بالعبادة. ولم يقتصروا على هذا فقط، بل ضيقوا معنى العبادة حيث إن مفهومها عندهم لا يشمل إلا السجود والركوع ونحو ذلك، وأما الدعاء والاستغاثة، والنذر، والذبح، وما إلى ذلك فليست داخلة في العبادة، هكذا زعموا وهذا الزعم الذي زعموه ستأتي مناقشته
(2)
إن شاء الله تعالى.
ضوابط معرفة نوعي الدعاء:
قد ورد إطلاق الدعاء في القرآن الكريم على ثلاثة أوجه:
1 -
أن يراد منه دعاء المسألة.
(1)
الفتاوى: 10/ 691.
(2)
سيأتي ص: 877.
2 -
أن يراد منه دعاء العبادة.
3 -
أن يراد منه مجموعهما.
فهذه الأوجه الثلاثة هي التي تدور عليها إطلاقات الدعاء في القرآن الكريم إما أن يراد منه أحدهما أو يراد منه ما يشمل النوعين
(1)
.
وهذه الاستعمالات الثلاث كثيرة في القرآن الكريم قد ورد بكل منها عدة آيات، وفيما يلي بيان لتلك الاستعمالات مع المحاولة لجعل ضوابط تعرف بها تلك الآيات مع أن هذه الضوابط ليست ضوابط بالمعنى الصحيح الذي لا يمكن تخلفه أو انفكاكه بل هو تقريبي وذلك لأن الأمر يتطلب استقراءً تامًا في كتاب الله تعالى ودراسة كل آية دراسة وافية، وما قال فيها علماء التفسير.
بعض الآيات التي تكون دلالتها على دعاء المسألة أقوى:
ويمكن تقسيم تلك الآيات إلى أربع مجموعات:
1 -
المجموعة الأولى: الآيات التي تتحدث عن التجاء الإنسان إلى الله تعالى في وقت الشدائد والمصائب والاضطرار، وعن كشف الله تعالى لتلك الشدائد.
2 -
المجموعة الثانية: الآيات التي تتحدث عن طلب الأمم من الأنبياء التوسل لهم إلى الله بالدعاء.
3 -
المجموعة الثالثة: الآيات التي تتحدث عن نداء الأنبياء لربهم وابتهالاتهم.
4 -
المجموعة الرابعة: الآيات التي تتحدث عن عدم سماع المدعوين من دون الله لدعاء من دعاهم.
ففي هذه المجموعات تكون دلالة الآيات على دعاء المسألة أظهر،
(1)
انظر الفتاوى: 15/ 10، وبدائع الفوائد: 3/ 3.
وقد تكون الدلالة على المسألة واضحة صريحة حتى تعد نصًا فيها كما في المجموعة الثانية والثالثة، ومع هذا فهي دالة على دعاء العبادة بطريق التضمن فهي تدل على دعاء المسألة مطابقة، وعلى دعاء العبادة تضمنًا.
ومن هنا نجد من العلماء من يحمل تلك الآيات على دعاء العبادة مع ظهورها في المسألة وذلك لتداخل النوعين من حيث التلازم وعدم انفكاك أحدهما عن الآخر.
أمثلة المجموعة الأولى:
وهي التي تتحدث عن التجاء الإنسان إلى الله تعالى في الشدائد، وكشف الله لها: منها قوله تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ} [النمل: 62]، فهذه الآية أظهر في دعاء المسألة لأن المضطر يحتاج إلى نيل مطلوبه العاجل أكثر من احتياجه إلى الأجر والثواب في الآخرة فإن الإجابة تكون على دعاء المسألة بنيل المطلوب، وفي دعاء العبادة بالأجر والثواب، ومما يؤيد كونها في دعاء المسألة قوله:"ويكشف السوء" فكشف السوء هو مطلوب السائل المضطر فهو به أنسب وأليق. ومن ذلك قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 40، 41].
قال الدهلوي رحمه الله: "وليس المراد من الدعاء العبادة كما قاله بعض المفسرين بل هو الاستعانة، لقوله تعالى: {بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ} "
(1)
.
وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن رحمه الله: "وهذا الدعاء ظاهر في دعاء المسألة حال الشدة والضرورة"
(2)
. ومن ذلك قوله تعالى:
(1)
حجة الله البالغة: 1/ 62.
(2)
تحفة الطالب والجليس: 103.
{وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 67]، فهذا "ظاهر في دعاء المسألة لمناسبة الحال والواقع"
(1)
.
ومن ذلك قوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ} [يونس: 12].
وقوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ} [الزمر: 8].
وقوله جل شأنه: {فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ} [الزمر: 49].
أمثلة المجموعة الثانية:
وهي الآيات التي تتحدث عن طلب الأمم عن أنبيائهم دعاء الله لهم والتوسل لهم: فمن ذلك قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا
…
} [البقرة: 61].
وقوله تعالى: {وَقَالُوا يَاأَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ} [الزخرف: 49].
وقوله تعالى: {وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَامُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ} [الأعراف: 134].
أمثلة المجموعة الثالثة:
وهي الآيات التي تتحدث عن نداء الأنبياء لربهم وسؤالهم له: ومن ذلك قوله تعالى: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ} [آل عمران: 38].
وقوله تعالى: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} [القمر: 10].
(1)
المرجع السابق: 101.
وقوله جل شأنه: {فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا} [الأعراف: 189].
وقوله عز من قائل: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ} [الدخان: 22].
وقوله تعالى: {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ .. } إلى قوله: { .. قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا} [يونس: 89].
وقوله تعالى: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا .. } إلى قوله: { .. وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} [مريم: 3 - 4].
فهذا في دعاء المسألة أظهر، والمعنى إنك عودتني إجابتك وإسعافك ولم تشقني بالرد والحرمان فهو توسل إليه تعالى بما سلف من إجابته وإحسانه
(1)
.
أمثلة المجموعة الرابعة:
وهي الآيات التي تتحدث عن عدم سماع المدعوين من دون الله دعاء من دعاهم، ومن ذلك قوله تعالى:{وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} [فاطر: 13 - 14]، فسياق الآيات يدل على أن المراد بالدعاء دعاء المسألة فهو صريح في دعاء المسألة
(2)
.
وقوله تعالى: {وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ} [القصص: 64]، فهذا أظهر في دعاء المسألة يبكتهم الله عز وجل ويخزيهم يوم القيامة بأمرهم بطلب من شركائهم فلا يستجيبون لدعوتهم، وليس المراد اعبدوهم وهو نظير قوله تعالى:{وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ} [الكهف: 52]
(3)
.
(1)
الفتاوى: 15/ 14، وبدائع الفوائد: 3/ 4.
(2)
النبذة الشريفة ضمن مجموعة الرسائل: 4/ 600.
(3)
الفتاوى: 15/ 15، وبدائع الفوائد: 3/ 6.
وقوله تعالى: {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا} [الأعراف: 198].
أمثلة للآيات التي يراد بها دعاء العبادة وهي فيه أظهر:
فقد ورد في القرآن الكريم استعمال الدعاء بمعنى العبادة وكثر ذلك
(1)
حتى ادعى بعضهم أن ذلك هو المراد في كل ما ورد في القرآن كما سيأتي
(2)
فلهذا نورد بعض الأمثلة لهذا الاستعمال، ونشير إلى ما يمكن اعتباره ضابطاً لهذا الاستعمال، ثم نشير إلى السبب في العدول من العبادة إلى الدعاء مع أنه لو عبر بالعبادة بدل الدعاء لكان أوضح في المراد. فمن الآيات التي تكون في دعاء العبادة أظهر، قوله تعالى:{قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأنعام: 56، وغافر 66] فالدعاء هنا أظهر في العبادة بدليل اقترانه بقوله: "أَن أَعبد".
وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ .. } إلى قوله: { .. إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا} [النساء: 116، 117].
وقوله تعالى: {أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ} [الصافات: 125] تقدم
(3)
تفسير الأزهري للآية بأن معناها أتعبدون ربًا سوى الله.
وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [العنكبوت: 42].
وقوله تعالى: {أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} [يونس: 66].
وقوله تعالى: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [مريم: 48، 49].
(1)
فتح القدير للشوكاني: 4/ 498.
(2)
يأتي في ص: 877.
(3)
ص: 30.
وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} [الحج: 73].
وقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} [الحج: 62].
وقوله تعالى: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [غافر: 14].
فهذا في دعاء العبادة: "والمعنى اعبدوه وحده وأخلصوا عبادته لا تعبدوا معه غيره"
(1)
.
وقوله تعالى: {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} [الطور: 28]. "فهذا دعاء العبادة المتضمن للسؤال رغبة ورهبة والمعنى إنا كنا من قبل نخلص له العبادة، وبهذا استحقوا أن وقاهم عذاب السموم لا بمجرد السؤال المشترك بين الناجي وغيره، فإن الله سبحانه يسأله من في السموات ومن في الأرض، والفوز والنجاة إنما هي بإخلاص العبادة لا بمجرد السؤال والطلب"
(2)
.
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ما يمكن اعتباره ضابطاً للآيات التي يكون فيها حمل الدعاء على العبادة أظهر فقال: "وكل موضع ذكر فيه دعاء المشركين لأوثانهم فالمراد به دعاء العبادة المتضمن
(3)
دعاء المسألة، فهو في دعاء العبادة أظهر، لوجوه ثلاثة:
أحدها: أنهم قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]. فاعترفوا بأن دعاءهم إياهم عبادتهم لهم.
الثاني:: أن الله تعالى فسر هذا الدعاء في موضع آخر كقوله تعالى:
(1)
الفتاوى: 15/ 13، وبدائع الفوائد: 3/ 4.
(2)
الفتاوى: 15/ 14، وبدائع الفوائد: 3/ 5 - 6.
(3)
قوله: "المتضمن يريد به المستلزم، وكأنه ما أراد التقيد باصطلاح المناطقة وإنما أولنا هذا لأن الشيخ نفسه رحمه الله يقرر أن هذا من باب التلازم وليس من باب التضمن كما تقدمت الإشارة إلى كلامه ص:87.
{وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ} [الشعراء: 92، 93].
وقوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء: 98].
وقوله تعالى: {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} [الكافرون: 2]، وهو كثير في القرآن فدعاؤهم لآلهتهم هو عبادتهم لها.
الثالث: أنهم كانوا يعبدونها في الرخاء فإذا جاءتهم الشدائد دعوا الله وحده وتركوها، ومع هذا فكانوا يسألونها بعض حوائجهم ويطلبون منها وكان دعاؤهم لها دعاء عبادة ودعاء مسألة"
(1)
.
ويأتي هنا سؤال مهم جدًا وهو أنه إذا كان المراد بالدعاء في الآيات التي ذكر فيها دعاء المشركين لأوثانهم، العبادة المستلزمة للسؤال والطلب فما هو السر وما هي الحكمة في العدول في كلام الله تعالى الحكيم من العبادة إلى الدعاء فهل هناك أسرار وحكم ونكات؟؟ فالجواب: إن المسلم لا بد له أن يعتقد أن من كلام الله تعالى له أسرار وفوائد وحكم وهذا العدول لا بد أن يكون فيه سر وإن كنا لا نستطيع الجزم بعين السر، وهذا هو معتقد المسلم الإجمالي، وأما تفصيلًا فقد يكون العالم يظهر له مَّا فيذكره بدون ادعاء أنه عين ما أراده الله من ذلك، فالجزم سوء أدب، فعلى هذا فنذكر بعض ما قاله العلماء في سر العدول عن التعبير بالعبادة إلى التعبير بالدعاء.
1 -
قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن رحمهما الله بعد أن ذكر أن الدعاء عماد الدين قال: "وأنت ترى كل العبادات الباطنة والظاهرة، دالة على الطلب والمسألة على اختلاف المطلوب والمسؤول، وكأن هذا هو الوجه في التعبير بالدعاء دون العبادة، في أكثر موارد القرآن والسنة"، ثم ذكر أنه يشهد لهذا حديث أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة، وجواب ابن عيينة عن ذلك
(2)
.
(1)
الفتاوى: 15/ 13، وبدائع الفوائد: 3/ 4.
(2)
تحفة الطالب والجليس: 98 - 99، أو دلائل الرسوخ:73.
2 -
وقال الشيخ حسين بن مهدي النعمي رحمه الله بعد أن أورد سؤالاً هل سجل الله تعالى على الوثنية بالسجود لغيره كما سجل بدعائهم غيره؟؟ قال: "وكأنه -والله أعلم- لما كان الدعاء هو العبادة أو مخها، والسجود إنما هو كأنه عبارة عن بعض معاني الدعاء، وهو المعنى الأشمل الأكمل في هذا الباب كان قبلة القصد، وعمدة المنتحى، وقاعدة المرمى، ومع التأمل أيضًا كأن الدعاء بعض معاني السجود، وكأنهما أيضًا لتلاقي حاصلهما فرسا رهان"
(1)
.
3 -
ويمكن أن يقال في سر العدول أيضًا: إن أغلب عبادة المشركين لأوثانهم إنما هو بالدعاء والطلب كما هو مشاهد اليوم بين من يعبد القبور، فإن أغلب أعمالهم نحوها الاستغاثة والاستمداد والاستشفاع، فهذه الأعمال التي هي من أنواع الدعاء، أكثر وقوعاً وانتشارًا من الأعمال الأخرى كالنذر والذبح.
فلكون دعاء غير الله تعالى أكثر وقوعًا من غيره من أنواع الشرك الموجود عندهم، صار أهم من غيره، وانصب توجيه الإنكار عليه دون غيره من أنواع العبادات.
ومن هنا نستطيع أن نعرف أيضًا السبب في أن القرآن الكريم لم يكثر من النهي عن السجود لغيره تعالى والنذر، والذبح، وأنواع العبادات، مثل ما أكثر من النهي عن دعاء غيره تعالى فإننا إذا تتبعنا الآيات التي نهت صراحة عن السجود لغيره تعالى لا نجد إلا آية واحدة وهي قوله تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت: 37]. بينما نجد الآيات الكثيرة المتنوعة الأساليب التي نهت عن دعاء غير الله تعالى كثيرة جدًا. فالسبب في هذا والله أعلم هو أن دعاء غير الله تعالى الأكثر وقوعًا وانتشارًا من السجود كما أن الدعاء هو المعنى الأشمل
(1)
معارج الألباب: 187 - 188.
الأكمل وهو لب العبادة ومخها فصار هو الأهم.
أمثلة للآيات التي يراد بالدعاء فيها مجموع الأمرين: دعاء العبادة ودعاء المسألة:
وهذه الآيات تختلف فيها وجهات النظر فمن هنا نجد من المفسرين من يفسرها بالمسألة ومن يفسرها بالعبادة وهذا الخلاف منهم يدل على أن الآية تحتمل الأمرين فلو لم تحتمل لما اختلفوا والذي يحل هذا الاختلاف هو حمل الآية على الحقيقة المتضمنة للأمرين جميعًا وبهذا يرتفع الخلاف، وتكون الآية صالحة للأمرين.
فمن تلك الآيات:
قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي} [البقرة: 186].
فهذه الآية فسرت بنوعي الدعاء
(1)
، قيل في قوله تعالى:{أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ} أعطيه إذا سألني، وقيل:"أجيبه بالثواب على طاعته إياي إذا أطاعني، فيكون معنى الدعاء مسألة العبد ربه ما وعد أولياءه على طاعتهم بعملهم بطاعته، ومعنى الإجابة من الله التي ضمنها له الوفاء له بما وعد العاملين له بما أمرهم به"
(2)
فعلى القول الثاني يكون معنى الدعاء ههنا الطاعة، ومعنى الإجابة، الثواب
(3)
.
فهذه الآية تحتمل المعنيين فلهذا فسرت بهما، فيكون الراجح فيها أنها في مجموع المعنيين فالمراد بالدعاء فيها المعنى الشامل العام المشترك الذي يصدق على النوعين.
(1)
الفتاوى: 15/ 11، وبدائع الفوائد: 3/ 3 وجلاء الأفهام ص: 81، وزاد المعاد: 1/ 235.
(2)
ابن جرير الطبري: 2/ 160.
(3)
انظر تفسير البغوي: 1/ 156، ونحوه في القرطبي: 2/ 308.
ومن تلك الآيات أيضًا قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60].
فقد فسرت هذه الآية بالمعنيين
(1)
فقد ورد في تفسيرها بالعبادة حديث النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدعاء هو العبادة" وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وقال ربكم ادعوني أستجب لكم
…
" وهذا هو من البيان الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتبيينه للناس، ويؤيد هذا أيضًا قوله في آخر الآية: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} كما يؤيده قول الحسن البصري فقد روي عنه أنه قال في هذه الآية: "ادعوني أستجب لكم قال: اعملوا وأبشروا، فإنه حق على الله أن يستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله
(2)
.
وفسرت أيضا بدعاء المسألة وفسر قوله: "عن عبادتي أي عن دعائي، وإلى هذا ذهب السدي
(3)
، وقال السبكي: الأولى حمل الدعاء على ظاهره وأما قوله عن عبادتي فوجه الربط أن الدعاء أخص من العبادة فمن استكبر عنها استكبر عن الدعاء، وعلى هذا فالوعيد إنما هو في حق من ترك الدعاء استكباراً ومن فعل ذلك فقد كفر"
(4)
. ومن تلك الآيات:
قوله تعالى: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ} فالأرجح أنه إضافة المصدر إلى فاعله أي لولا دعاؤكم إياه فعلى هذا فالمراد به نوعا الدعاء أي ما يعبأ بكم ربي لولا أنكم تعبدونه أو لولا أنكم تدعونه دعاء
(1)
الفتاوى: 15/ 12، وبدائع الفوائد: 3/ 3، وجلاء الأفهام ص: 81، وتفسير البغوي: 4/ 103.
(2)
أخرجه ابن المبارك في الزهد رواية نعيم بن حماد ص: 18 رقم 76، ومن طريقه ابن جرير: 2/ 161، والطبراني في الدعاء: 2/ 789 رقم 9.
(3)
ابن جرير 24/ 79، وزاد المسير: 7/ 234.
(4)
فتح الباري: 11/ 95، والزرقاني: 2/ 32.
مسألة، وقد ورد
(1)
تفسير الدعاء في الآية بالإيمان والعبادة والمسألة، وهذا يدل على أن الآية تحتمل المعنيين وأنها مشتركة ولكن شيخ الإسلام
(2)
يرى أنها في العبادة أظهر مع دلالتها على المسألة فتكون من الوجه الثاني المتقدم.
ومن تلك الآيات:
قوله تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} [الرعد: 14]، فقد فسر قوله تعالى له دعوة الحق بتوحيد الله وشهادة أن لا إله إلا الله، روي ذلك عن علي وابن عباس وقتادة أي لله من خلقه الدعوة التي هي الحق فهذه الدعوة خاصة به فليست تنبغي لغيره
(3)
.
فعلى هذا فمعنى الدعوة العبادة وأهم العبادات التوحيد أي فالله الحق هو الذي يوحد ويفرد بالعبادة.
وفسر أيضًا بالدعاء والسؤال والتضرع، أي الله مختص به الدعاء الحق والتضرع الثابت الواقع في محله المجاب عند وقوعه
…
فإجابة الدعاء له تعالى دون غيره، ويؤيد هذا الوجه تمام الآية
(4)
ولهذا يرى بعضهم أن هذه الآية نص في دعاء المسألة
(5)
لكن مفسرو السلف علي وابن عباس وغيرهما فسروا بما يفيد دلالتها على العبادة.
(1)
تفسير البغوي: 3/ 379، وابن جرير: 19/ 55، وانظر ما تقدم في ص 42 - 43.
(2)
الفتاوى: 15/ 12، وبدائع الفوائد: 3/ 3.
(3)
تفسير ابن جرير أخرجه عن علي وابن عباس وقتادة وابن زيد 13/ 128، وزاد المسير: 4/ 317، وابن كثير: 2/ 507.
(4)
روح المعاني: 13/ 123.
(5)
انظر القول الفصل النفيس: 78، 89.
ومن تلك الآيات:
قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} . فالدعاء بالأسماء الحسنى يتناول دعاء المسألة ودعاء العبادة
(1)
، ففي السؤال والطلب يدعى الله تعالى بأسمائه وصفاته التي تتناسب مع المطلوب نحو يا غفار اغفر لي، وفي العبادة يعبد الله تعالى ويمدح ويثني عليه ويذكر بأسمائه الحسنى وصفاته العليا كما أنه يعبد أيضًا "باستحضار معاني الأسماء الحسنى وتحصيلها في القلوب حتى تتأثر القلوب بآثارها ومقتضياتها وتمتلئ بأجل المعارف فمثلًا أسماء العظمة والكبرياء والمجد والجلال والهيبة تملأ القلوب تعظيمًا الله وإجلالًا له وأسماء الجمال والبر والإحسان والرحمة والجود تملأ القلب محبة الله وشوقاً له وحمدًا له وشكرًا
…
فهذه المعارف التي تحصل للقلوب بسبب معرفة العبد بأسمائه وصفاته وتعبده بها الله لا يحصل العبد في الدنيا أجل ولا أفضل ولا أكمل منها وهي أفضل العطايا من الله لعبده وهي روح التوحيد وروحه، ومن انفتح له هذا الباب انفتح له باب التوحيد الخاص والإيمان الكامل الذي لا يحصل إلا للكمل من الموحدين، وإثبات الأسماء والصفات هو الأصل لهذا المطلب الأعلى"
(2)
.
ويشبه هذه الآية الحديث الوارد في إحصاء الأسماء الحسنى فقد فسر بالمسألة بها وبالتعبد بها.
فقد فسر إحصاء الأسماء الحسنى الوارد في حديث: "إن لله تسعة وتسعين اسمًا من أحصاها دخل الجنة"
(3)
بالتعبد بها بحسن المراعاة لها والمحافظة على حدودها في معاملة الرب سبحانه بها وذلك مثل أن يقول: يا رحمن يا رحيم فيخطر بقلبه الرحمة ويعتقدها صفة الله عز وجل
(1)
مدارج السالكين: 1/ 418.
(2)
القول السديد في مقاصد التوحيد للسعدي: 133 - 134.
(3)
سيأتي تخريجه ص: 203.
فيرجو رحمته ولا ييأس من مغفرته
…
وإذا قال: السميع البصير علم أنه لا يخفى على الله خافية وأنه بمرأى منه ومسمع فيخافه في سره وعلنه ويراقبه في كافة أحواله"
(1)
.
إطلاق الدعاء على النوعين:
إذا أطلق الدعاء وأريد منه ما يشمل النوعين فهل هو من باب استعمال المشترك
(2)
في معنييه كليهما أو حقيقة
(3)
هو في أحدهما مجاز في الآخر أو هو حقيقة في القدر المشترك بينهما فيكون من باب الأسماء المتواطئة
(4)
.
فهذه الاحتمالات ثلاث فالاحتمالان الأولان فيهما خلاف طويل بين الأصوليين في جوازهما. فبالنسبة إلى استعمال المشترك في معنييه كليهما
(1)
شأن الدعاء: 27 - 28، وانظر طريق الهجرتين: 43 - 45، والفتح: 11/ 225 - 227 و 13/ 378.
(2)
المشترك: ما وضع لمعنى كثير بوضع كثير كالعين لاشتراكه بين المعاني: الباصرة والجارية والشمس
…
ومعنى الكثرة ما يقابل الوحدة لا ما يقابل القلة، فيدخل فيه المشترك بين المعنيين فقط كالقرء والشفق. اهـ. التعريفات:215.
(3)
الحقيقة كلمة استعملت فيما وضعت له، والمجاز كلمة استعملت في غير ما وضعت له لقرينة وسيأتي تعريف المجاز بتوسع في مبحث شبهة المجاز العقلي إن شاء الله تعالى ص:912.
(4)
المتواطئ: هو الكلي الذي يكون حصول معناه وصدقه على أفراده الذهنية والخارجية على السوية كالإنسان والشمس، فإن الإنسان له أفراد في الخارج وصدقه عليها بالسوية والشمس لها أفراد في الذهن وصدقها عليها أيضًا بالسوية. اهـ. التعريفات ص: 199، وقال الآمدي ما ملخصه: إن الكلي ما يصح أن يشترك في مفهومه كثيرون سواء وقعت الشركة بالفعل كاسم الكوكب أو لم تقع كالشمس والقمر وإن هذه الأسماء الكلية إذا كان لا اختلاف في مدلولها بشدة ولا ضعف ولا تقدم ولا تأخر فهي متواطئة كالإنسان والفرس وإلا فمشككة كالوجود والأبيض. اهـ. الإحكام: 1/ 18 - 19، وانظر تعريفه أيضًا في مناقشة شيخ الإسلام في العقود الدرية: 71 - 75، والفتاوى: 11/ 142 - 145.
ذهبت طائفة من العلماء إلى جوازه وذهب آخرون إلى امتناعه مطلقًا، وذهبت طائفة أخرى إلى امتناعه في الإثبات دون النفي
(1)
.
واختلفوا أيضًا في الجمع بين الحقيقة والمجاز، ذهب الجمهور إلى المنع من ذلك، وأجاز ذلك بعض الشافعية وبعض المعتزلة، وقال آخرون: يجوز ذلك عقلًا لا لغة
(2)
.
وعلى كل من الاحتمالين اعتراضات ومناقشات طويلة من المجيزين والمانعين في كتب أصول الفقه
(3)
.
القول الراجح:
الراجح أن استعمال الدعاء في معنييه من باب الأسماء المتواطئة، فيكون قد استعمل في حقيقته المتضمنة للأمرين جميعًا
(4)
. فإن الراجح في الألفاظ الدالة على معنيين فصاعدًا أنها من باب الأسماء المتواطئة وليست من باب استعمال اللفظ المشترك في معنييه أو معانيه ولا من باب استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه، وذلك لأن كونها من المتواطئة أسلم من الاعتراض كما أنه أدق نظرًا.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "واللفظ إذا استعمل في معنيين فصاعداً فإما أن يجعل حقيقة في أحدهما مجازًا في الآخر، أو
(1)
الإحكام للآمدي: 1/ 20 - 23، وفواتح الرحموت: 1/ 198 - 201، وإرشاد الفحول ص: 20 - 21، وجمع الجوامع: 1/ 294.
(2)
إرشاد الفحول 28، وفواتح الرحموت 1/ 216، المسودة: 166 - 169، وجمع الجوامع: 1/ 298.
(3)
المصادر السابقة تحت الرقمين السابقين، وانظر أيضًا أصول السرخسي: 1/ 173 وما بعدها، والفتاوى: 20/ 438 وما بعدها، وزاد المعاد 5/ 606 - 607 فقد ذكر في إبطال المسألة الأولى خمسة وجوه، وجلاء الأفهام: 84 - 85 ذكر فيه وجهين من المحاذير في المسألة الأولى.
(4)
الفتاوى: 15/ 11، وجلاء الأفهام: 81، وبدائع الفوائد: 3/ 3.
حقيقة فيما يختص به كل منهما فيكون مشتركًا اشتراكًا لفظيًا، أو حقيقة في القدر المشترك بينهما، وهي الأسماء المتواطئة، وهي الأسماء العامة كلها، وعلى الأول يلزم المجاز، وعلى الثاني يلزم الاشتراك، وكلاهما خلاف الأصل، فوجب أن يجعل من المتواطئة، وبهذا يعرف عموم الأسماء كلها"
(1)
.
ومثل كلمة الدعاء الكلمات الواقعة في القرآن الدالة على معنيين فأكثر فهي من هذا القبيل فمن تلك الكلمات كلمة "دلوك" في قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} فسر الدلوك بالزوال، وفسر بالغروب، وليس بقولين بل اللفظ يتناولها معًا فإن الدلوك هو الميل، ودلوك الشمس، ميلها ولهذا الميل مبتدأ ومنتهى، فمبتدأه الزوال، ومنتهاه الغروب، واللفظ متناول لهما بهذا الاعتبار
(2)
. إذا أطلق الدعاء على النوعين فإنه يطلق عليهما لتضمنه القدر المشترك الذي يتحقق في النوعين، وهذا القدر المشترك الذي يصدق على النوعين ما هو؟.
وفي الحقيقة يصعب التحديد بالدقة القدر المشترك الصادق على النوعين وذلك لأنه أمر كلي لا يوجد كليًا عامًا إلا في الذهن، والتعبير عن ذلك الكلي صعب ويمكن أن نقول: إن القدر المشترك بين نوعي الدعاء هو: "الرغبة إلى الله تعالى للنفع والضر، والابتهال إليه، والتقرب إليه بكل ما يحبه ويرضاه" فهذا القدر المشترك يصدق على النوعين.
كما أنه يمكن أن نقول: إن هذا هو تعريف الدعاء العام الشامل للنوعين وقد تقدم، وقد أشار شيخ الإسلام رحمه الله إلى هذا القدر المشترك في تعريف الصلاة بمعنى الدعاء فذكر أن المعنى العام هو:"دعاء الله أي قصده والتوجه إليه المتضمن ذكره على وجه الخشوع والخضوع"
(3)
.
(1)
الإيمان: 97 - 98.
(2)
الفتاوى: 15/ 11، وبدائع الفوائد: 3/ 3.
(3)
الفتاوى لابن تيمية 14/ 215.
وسبب الصعوبة في تحديد القدر المشترك يعود إلى أنه أمر ذهني لم يحتج أهل اللغة إلى التعبير عنه، قال شيخ الإسلام:"والقدر المشترك بين مسميات الأسماء المتواطئة أمر كلي عام، لا يوجد كليًا عامًا إلا في الذهن، وهو مورد التقسيم بين الأنواع، لكن ذلك المعنى العام الكلي كان أهل اللغة لا يحتاجون إلى التعبير عنه، لأنهم إنما يحتاجون إلى ما يوجد في الخارج، وإلى ما يوجد في القلوب في العادة، وما لا يكون في الخارج إلاَّ مضافًا إلى غيره لا يوجد في الذهن مجردًا"
(1)
.
وأما إذا أطلق وأريد منه أحد النوعين، فإما أن يكون تخصيصه لقرينة لفظية مثل لام العهد نحو الدعاء مرادًا به دعاء المسألة أو الإضافة نحو دعاء العبادة أو دعاء المسألة.
فهذا أيضًا لا يخرجه عن أن يكون متواطئاً، كما إذا قال الرجل: جاء القاضي، وعنى به قاضي بلده، لكون اللام فيه للعهد، وأما أن يكون لغلبة الاستعمال عليه فيصير مشتركًا بين اللفظ العام والمعنى الخاص فعلى كونه مخصصًا بقرينة لفظية فهو من الأسماء المتواطئة وأما على كونه مخصصًا بغلبة الاستعمال فهو لفظ مشترك
(2)
.
ويمكن أن يقال في الدعاء عند الإطلاق أنه يراد به دعاء المسألة لغلبة الاستعمال فيه كما أشار إليه صاحب فتح المجيد بقوله: "إنّ الدعاء أكثر ما يستعمل في الكتاب والسنة واللغة ولسان الصحابة ومن بعدهم من العلماء في السؤال والطلب كما قال العلماء من أهل اللغة وغيرهم"
(3)
.
أي نوعي الدعاء أفضل:
إذا تقرر أن الدعاء نوعان: دعاء عبادة، ودعاء مسألة يأتي سؤال
(1)
الإيمان: 98.
(2)
العقود الدرية ص: 74.
(3)
فتح المجيد ص: 180.
مهم لمن يعتني بالعبادة ويتخيرها أي النوعين أفضل؟ وهذا سؤال لأن مهم المؤمن يحتاج إلى فقه ومعرفة بمراتب الأعمال وتفاوتها ومقاصدها حتى لا يشتغل بمفضولها عن فاضلها فيفوت إبليس الفضل الذي بينهما، أو ينظر إلى فاضلها فيشتغل به عن مفضولها وإن كان ذلك وقته فتفوته مصلحته بالكلية لظنه أن اشتغاله بالفاضل أكثر ثوابًا وأعظم أجرًا
(1)
.
فالعلماء قد اختلفوا في الجواب على ثلاثة أقوال:
1 -
أن دعاء العبادة أفضل.
2 -
أن دعاء المسألة أفضل.
3 -
التفصيل والقول بأن ذلك يختلف بحسب الأشخاص والأحوال.
أدلة الفريق الأول
(2)
:
أ - قوله صلى الله عليه وسلم: "أفضل الكلام بعد القرآن أربع، وهن من القرآن: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر"
(3)
.
ب ـ وقوله صلى الله عليه وسلم عندما سئل أي الكلام أفضل؟، قال: ما اصطفى الله لملائكته
(4)
.
جـ ـ إن دعاء العبادة حق الرب ووصفه، ودعاء المسألة حظ العبد ومصلحته، فالشيء يشرف بحسب متعلقه.
إن دعاء العبادة لا يكون إلا من مخلص وأما دعاء المسألة فيكون من
(1)
الوابل الصيب: 189.
(2)
انظر هذه الأدلة في مدارج السالكين: 1/ 75 - 77، وبدائع الفوائد: 2/ 190، والوابل الصيب، 182 والفتاوي: 22/ 379 - 389 وانظر في الاختلاف في قيام الدعاء مقام الفاتحة، روضة الطالبين: 1/ 246، وذكر في الأزهية ص: 50 أنه مذهب ابن عيينة واختاره ابن الصباغ الشافعي، ونحوه في الدعاء المأثور ص:143.
(3)
أخرجه أحمد في المسند: 5/ 20، ومسلم: 3/ 1685 رقم 2137.
(4)
أخرجه مسلم: 4/ 2093 رقم 2731.
مخلص ومن غير مخلص لأن الله تعالى يسأله من في السموات والأرض والكفار يسألون الله فيجيبهم.
هـ - ولأن العبادة شكر لنعمة الله تعالى والله يحب أن يشكر، وأما الدعاء فهو طلب لفعله وتوفيقه، ويحصل بالشكر لله وعبوديته التوفيق والإعانة، فكان الأولى الالتزام بالشكر حتى يحصل له الأمران ويشير إلى هذا قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي:"من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين"
(1)
.
ولهذا كان المستحب في الدعاء أن يبدأ الداعي بحمد الله تعالى والثناء عليه بين يدي حاجته ثم يسأل حاجته.
و- ثم إن العبادة هي الغاية المطلوبة لذاتها وهي التي خلقنا من أجلها، والسؤال وسيلة إليها والمقاصد والغايات أشرف من الوسائل.
ز - إن العلماء يختلفون في العاجز عن الفاتجة هل يقوم الدعاء المحض وهودعاء المسألة مقام الذكر·
إلى غير ذلك من الأدلة الكثيرة الدالة على فضل دعاء الثناء والعبادة.
أدلة الفريق الثاني:
أ - قوله صلى الله عليه وسلم: "الدعاء هو العبادة" وسيأتي توجيه وجه الاستدلال ومناقشته.
ب - وصفه صلى الله عليه وسلم الدعاء بأنه مخ العبادة وأن ذلك لكونه يستدعي مزيد حضور قلبي دون سائر العبادات التي يغلب على المتعبد بها الغفلة والسهو.
جـ ـ إن الدعاء فيه غاية التذلل والخضوع وإظهار الفاقة وذل العبودية وعز الربوبية.
(1)
سيأتي تخريجه ص: 385.
د - إن كل داع عابد ولا ينعكس.
هذه هي أهم العلل التي فضلوا من أجلها الدعاء على غيره من أنواع العبادات كما ذكرها الزبيدي مؤيداً بها هذا القول
(1)
.
ويمكن أن يستدل لهم بالأحاديث التالية زيادة على الحديثين الماضيين:
1 -
قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه: "ليس شيء أكرم على الله من الدعاء"
(2)
.
2 -
حديث ابن عباس مرفوعًا: "أفضل العبادة الدعاء" وقرأ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} الآية
(3)
.
3 -
حديث عائشة رضي الله عنها قالت: سئل النبي صلى الله عليه وسلم: "أي العبادة
(1)
إتحاف السادة: 5/ 4.
(2)
أخرجه البخاري في الأدب المفرد رقم 712،713، والترمذي: 5/ 455 رقم 3370، وابن ماجه: 2/ 1258 رقم 3829، وأحمد في المسند: 2/ 362، والحاكم: 1/ 490، والطبراني في الدعاء: 2/ 798 رقم 28، وفي الأوسط: 3/ 252 رقم 2544، وابن حبان "موارد رقم 2397" والبيهقي في الدعوات رقم 3، وعبد الغني المقدسي في الترغيب في الدعاء رقم "1"، وابن عدي في الكامل: 5/ 1742 كلهم من طريق عمران بن دوار القطان عن قتادة بن أبي الحسن عن أبي هريرة به، قال الحافظ في عمران صدوق يهم، ورمي برأي الخوارج، وقد حسن الترمذي هذا الحديث، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، ثم ذكر الحاكم بعد تصحيحه بأن أحاديث الدعوات يتساهل فيها لأنها من فضائل الأعمال وروى ذلك بإسناده عن ابن مهدي، وقال ابن القطان: رواته كلهم ثقات وما موضع في إسناده ينظر فيه إلا عمران، إتحاف السادة: 5/ 29، وفيض القدير: 5/ 366 وقد حسن الحديث أيضًا الشيخ الألباني في صحيح ابن ماجة: 2/ 324 رقم 3087.
(3)
أخرجه الحاكم: 1/ 491، وصححه ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني في الصحيحة: 4/ 106 رقم 1579، وصححه في صحيح الجامع: 1/ 367 رقم 1133، وله شاهد من حديث أبي هريرة أخرجه ابن عدي في الكامل: 5/ 1743 وضعفه.
أفضل؟ قال: دعاء المرء لنفسه
(1)
.
4 -
وحديث ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سلوا الله من فضله فإن الله يحب أن يسأل وأفضل العبادة انتظار الفرج"
(2)
.
مناقشة أدلة الفريق الثاني:
ذكر وجه الحصر في قوله صلى الله عليه وسلم: "الدعاء هو العبادة":
هذا الحديث إفادة الحصر من عدة وجوه.
1 -
تعريف طرفي المبتدأ والخبر.
2 -
ضمير الفصل.
3 -
الجملة الإسمية التي تدل على الاستمرار والدوام.
وقد ذكر العلماء في توجيه هذا الحصر عدة أوجه:
الوجه الأول:
وهو ما ذكره الخطابي، وقد تبع الخطابي كثير ممن جاء بعده، قال الخطابي رحمه الله: "إنه معظم العبادة، أو أفضل العبادة كقولهم: الناس بنو تميم، والمال الإبل، يريدون أنهم أفضل الناس أو أكثرهم عددًا أو ما
(1)
أخرجه البخاري في الأدب المفرد 2/ 179 رقم 715، والحاكم: 1/ 543، وأبو نعيم في أخبار أصبهان: 1/ 211، وقد صححه الحاكم وتعقبه الذهبي بقوله: قلت: مبارك واه، ومبارك هذا هو مبارك بن حسان السلمي قال فيه الحافظ: لين الحديث. اهـ. التقريب: 6460.
(2)
أخرجه الترمذي: 5/ 565 رقم 3571، والطبراني في الدعاء: 2/ 795 رقم 22، وعبد الغني المقدسي في الترغيب في الدعاء رقم 11، والحديث في إسناده حماد ابن واقد العيشي، قال فيه الحافظ: ضعيف، التقريب رقم 1508، وقد حَسَّن مع ذلك إسناده فيما حكاه عنه السخاوي في المقاصد الحسنة ص: 99 رقم: 195، وقد ضعف الحديث الألباني، انظر الضعيفة: 1/ 499 رقم 492. والشطر الأخير من الحديث رواه البزار كما في كشف الأستار: 4/ 32، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: 10/ 147، وفيه من لم أعرفه، وأخرجه القضاعي في مسند الشهاب: 2/ 245 رقم 1283.
أشبه ذلك، وأن الإبل أفضل أنواع الأموال وأنبلها، وكقول النبي صلى الله عليه وسلم:"الحج عرفة" يريد أن معظم الحج الوقوف بعرفة، وذلك لأنه إذا أدرك عرفة فقد أمن فوات الحج ومثل هذا في الكلام كثير"
(1)
.
ويؤيد هذا الوجه ما ورد في معنى هذا الحديث من حديث أنس مرفوعًا: "الدعاء مخ العبادة"
(2)
فمُخ الشيء خالصه ولبه ووجه تخصيص الدعاء بذلك: "أنه لما كان المُخ من أعضاء الحيوان هو المغذي لها والمقوم لاستدامة بقائها شبه الدعاء به لأنه يعمل هذا العمل، وذلك لأنه يشتمل على حضور قلبي لا يوجد في غيره فهو يستدعي مزيد حضور في قلب الداعي"
(3)
.
فالحصر على هذا الوجه حصر إضافي وليس حقيقيًا فكأن العبادات الأخرى ليست عبادة فهو لكماله المطلق، وكونه غاية في التذلل والخضوع، صار كأنه الوحيد في استحقاق هذا الاسم وأن غيره لا يطلق عليه هذا الاسم، فهو الفرد الكامل من أنواع العبادات ومن هنا استدل بهذا الحديث القائلون بأفضلية الدعاء المطلقة على سائر أنواع العبادات.
الوجه الثاني:
أن الغرض من العبادة طلب الثواب عليها، وهذا هو المطلوب
(4)
.
(1)
شأن الدعاء للخطابي ص: 5 - 6، وانظر فتح الباري: 11/ 94، ونسبه إلى الجمهور، وتفسير الرازي: 5/ 106، وإتحاف السادة نقلًا عن الخطابي: 5/ 29، والرسائل الشخصية: 105، وتحفة الطالب ص: 98، ومصباح الظلام ص: 199، وعون المعبود: 4/ 352، وفيض القدير: 3/ 540، والأزهية ص: 30 نقلًا عن الخطابي.
(2)
تقدم تخريجه ص: 59.
(3)
إتحاف السادة: 5/ 4.
(4)
النهاية لابن الأثير: 4/ 305 مادة مخ والرسائل الشخصية من مؤلفات الشيخ ص: 105.
بالدعاء أيضًا فكل من العبادة والدعاء طلب، فالداعي دعاء المسألة يطلب جلب منفعة أو دفع مضرة، والعابد كذلك يطلب جلب الثواب ودفع العقاب فالغرض منهما شيء واحد، وقد تقدم بيان تضمن كل منهما للطلب.
فعلى هذا فالحصر حقيقي فجميع أنواع العبادات هي دعاء الله تعالى وسؤال له لمرضاته وجناته وللنجاة من غضبه وعقابه.
الوجه الثالث:
أن العبادة في الحديث على معناها اللغوي الذي هو التذلل والخضوع فمعنى "الدعاء هو العبادة"، أن الدعاء الذي هو طلب قضاء حوائج من الله تعالى هو إظهار غاية التذلل والافتقار إلى الله تعالى والاستكانة له وما شرعت العبادات إلا للخضوع للباري وإظهار الافتقار إليه
(1)
.
الوجه الرابع:
أن الدعاء هو العبادة سواء استجيب أو لم يستجب، لأنه إظهار العبد العجز والاحتياج من نفسه والاعتراف بأن الله تعالى قادر على إجابته كريم لا بخل له ولا فقر ولا احتياج له إلى شيء حتى يدخره لنفسه ويمنعه من عباده، وهذه الأشياء هي العبادة بل مخها
(2)
.
الوجه الخامس:
إن الدعاء امتثال أمر الله تعالى حيث قال: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} فهو مأمور به والمأمور به عبادة
(3)
. ويؤيد هذا الوجه قراءة النبي صلى الله عليه وسلم للآية.
والذي يظهر والله أعلم أنه لا حاجة إلى تأويل معنى الحديث
(1)
فتح الباري: 11/ 95، نقلًا عن الطيبي ونحوه في فيض القدير: 3/ 540.
(2)
تحفة الأحوذي: 9/ 312.
(3)
انظر النهاية لابن الأثير: 4/ 305، وعون المعبود: 4/ 353، وفيض القدير: 3/ 540.
واستشكاله وذلك لما تقدم في مبحث التعريف أن الدعاء يطلق على العبادة لغة وشرعًا وأن دعاء المسألة متضمن لدعاء العبادة، والعبادة مستلزمة للسؤال والطلب.
والشارع الحكيم قد بيّن البيان الشافي ولا حاجة بعد بيان الشارع إلى بيان آخر وقد ذكرنا إطلاق القرآن الدعاء على العبادة، والعبادة على الدعاء.
والرسول صلى الله عليه وسلم بين أن الدعاء هو العبادة، فهذا من البيان الذي أمر بتبيينه للناس. قال تعالى:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} .
وقد ذكر ابن القيم
(1)
رحمه الله بيان الرسول صلى الله عليه وسلم للقرآن وذكر أنه على أوجه، ثم ذكر أن من تلك الأوجه:"بيان معناه وتفسيره لمن احتاج إلى ذلك" وضرب أمثلة لذلك وذكر من تلك الأمثلة هذا الذي نحن فيه فقال: "وكما فسر الدعاء في قوله: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} بأنه العبادة".
والحاصل أن الحديث لا يدل صراحة للقائلين بأفضلية دعاء المسألة لاحتماله للأوجه المذكورة ولا يمكن الاستدلال به إلا على الوجه الأول فقط، وأما على الأوجه الأخرى الباقية فلا يصح الاستدلال به.
ومن المعلوم أن الدليل إذا دخله الاحتمال سقط به الاستدلال ومن هنا تتلخص مناقشة أدلتهم في الآتي:
1 -
أن الاستدلال بحديث "الدعاء هو العبادة" لا يتم لاحتماله للأوجه الأخرى المذكورة ففي بعض الأوجه أن الدعاء والعبادة سيان في المفهوم فلا يتم الاستدلال به.
2 -
ثم هو معارض بالأحاديث المصرحة بفضل الأذكار على غيره
(1)
أعلام الموقعين: 2/ 295 - 296.
نحو أفضل الكلام بعد القرآن أربع: سبحان الله والحمد لله .. ونحو قوله صلى الله عليه وسلم عندما سئل أي الكلام أفضل قال: "ما اصطفى الله لملائكته"، مما اسْتَدَلَّ به مَنْ فَضَّلَ دعاء العبادة.
وأما ما ادعى من المزايا الأخرى من مزيد الحضور القلبي والتذلل والخضوع فنقول: إن المزايا والفضائل والخصائص لا تقتضي الأفضلية المطلقة كما قال العلماء
(1)
وبيّنوا ذلك في الأحاديث التي تتعلق بمناقب الصحابة وفضائلهم في نحو قوله صلى الله عليه وسلم: "أمين هذه الأمة أبو عبيدة"
(2)
فتخصيصه بالأمانة لا يقتضي أفضليته على الخلفاء الأربعة، فكذلك ما نحن فيه.
3 -
وأما ما ادّعى من عدم انعكاس إطلاق الدعاء على العبادة فغير مسلم لما علم من تلازمهما وأن كل عابد داع وقد تقدم ذلك مفصلًا.
4 -
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس شيء أكرم على الله"، فعلى فرض صحة الحديث فهو أيضًا من باب الخصائص والمزايا فكونه أكرم لا يدل على الأفضلية المطلقة.
وقد أجاب بعضهم
(3)
بأن المراد أكرم على ما سواه من العبادات القولية لأن سوق كل شيء يعتبر في بابه فلا يرد أن الصلاة أفضل من العبادات البدنية.
ويعترض عليه بأن الإشكال باق بنحو: "أفضل الأذكار قول لا إله إلا الله" وأحب الأذكار "سبحان الله".
(1)
انظر منهاج السنة: 4/ 607، وقال الحافظ ابن حجر:"لا يلزم من ثبوت خصوصية شيء من الفضائل ثبوت الفضل المطلق كحديث أقرؤكم أبي وأقرضكم زيد ونحو ذلك"، فتح الباري: 7/ 108.
(2)
أخرجه البخاري: 7/ 92 - 93 رقم 3744، ومسلم: 4/ 1881 رقم 2419.
(3)
انظر حاشية السندي على ابن ماجه: 2/ 429.
وأجاب بعضهم بأن معنى أكرم أسرع قبولًا وأنفع تأثيرًا فيكون من باب الخصائص والمزايا وبأنه يمكن أن يكون معنى الدعاء هنا الدعوة إلى الله تعالى وهو معنى صحيح قد ورد للدعاء، كما تقدم في التعريف.
وبهذا نقول: إن الاستدلال بالحديث على الأفضلية لا يتم لهذه الاحتمالات المذكورة، وهذا وقد بقي الجواب عن الأحاديث الثلاثة الأخيرة فهي نص في محل النزاع، ويمكن أن يقال في الجواب عنها أن المراد بالدعاء فيها هو العبادة بالمعنى الشامل كما هو لفظ الحديث الثالث فليست نصًا في محل النزاع.
أو يقال: إن هذه الأفضلية المذكورة في هذه الأحاديث مقيدة ببعض الأحوال وليست أفضلية مطلقة في جميع الأحوال والأشخاص كما يتضح هذا مما سيأتي في القول الثالث والله أعلم.
القول الثالث:
وهو القول الراجح: إن الأفضل يتنوع باعتبارات ومع ذلك إذا نظر بدون اعتبار فدعاء العبادة أفضل، فجنس الدعاء الذي هو ثناء وعبادة أفضل من جنس الدعاء الذي هو سؤال وطلب وإن كان المفضول قد يفضل على الفاضل في موضعه الخاص بسبب وبأشياء أخرى، فالمفضول له أمكنة وأزمنة وأحوال يكون فيها أفضل من الفاضل
(1)
.
قال ابن القيم رحمه الله: جنس الذكر أفضل من جنس الدعاء من حيث النظر إلى كل منهما مجردًا، وقراءة القرآن أفضل من الذكر، والذكر أفضل من الدعاء، هذا من حيث النظر إلى الكل مجردًا، وقد يعرض للمفضول ما يجعله أولى من الفاضل بل يعينه فلا يجوز أن يعدل عنه إلى
(1)
الفتاوى: 10، وجواب أهل العلم والإيمان:131.
الفاضل وهذا كالتسبيح في الركوع والسجود فإنه أفضل من قراءة القرآن فيهما بل القراءة فيهما منهي عنها نهي تحريم أو كراهة، وكذلك التسبيح والتحميد والتشهد والذكر عقيب السلام من الصلاة، أفضل من القراءة.
وهكذا الأذكار المقيدة بمحال مخصوصة أفضل من القراءة المطلقة، والقراءة المطلقة أفضل من الأذكار المطلقة، اللهم إلا أن يعرض للعبد ما يجعل الذكر أو الدعاء أنفع له من قراءة القرآن مثاله أن يتفكر في ذنوبه فيحدث ذلك له توبة واستغفارًا أو يعرض له ما يخاف أذاه من شياطين الإنس والجن فيعدل إلى الأذكار، والدعوات التي تحصنه وتحوطه.
وكذلك أيضًا قد يعرض للعبد حاجة ضرورية إذا اشتغل عن سؤالها بقراءة أو ذكر لم يحضر قلبه فيهما، وإذا أقبل على سؤالها والدعاء لها اجتمع قلبه كله على الله تعالى، وأحدث له تضرعًا وخشوعًا وابتهالًا، فهذا قد يكون اشتغاله بالدعاء -والحالة هذه- أنفع، وإن كان كل من القراءة والذكر أفضل وأعظم أجرًا
(1)
.
والحاصل أن "الأفضل في كل وقت وحال: إيثار مرضاة الله في ذلك الوقت والحال والاشتغال بواجب ذلك الوقت ووظيفته ومقتضاه"
(2)
.
وقد ذكر شيخ الإسلام ضابطًا لتفاضل العبادات وتنوع ذلك ثم ذكر الأفضل المطلق فقال رحمه الله: "إن الأفضل يتنوع:
1 -
تارة بحسب أجناس العبادات كما أن جنس الصلاة أفضل من جنس القراءة وجنس القراءة أفضل من جنس الذكر، وجنس الذكر أفضل من جنس الدعاء.
(1)
الوابل الصيب: 182 - 188، ومدارج السالكين 1/ 88 - 90، وزاد المعاد: 1/ 206، وقريب من كلام ابن القيم كلام العز بن عبد السلام في قواعده: 2/ 168 - 169 و 190 - 191، والزرقاني على الموطأ 2/ 32، والزركشي في الأزهية ص:51.
(2)
مدارج السالكين: 1/ 89.
2 -
وتارة يختلف باختلاف الأوقات كما أن القراءة والذكر والدعاء بعد الفجر والعصر هو المشروع دون الصلاة.
3 -
وتارة باختلاف عمل الإنسان الظاهر، كما أن الذكر والدعاء في الركوع والسجود هو المشروع دون القراءة، وكذلك الذكر والدعاء في الطواف مشروع، وأما القراءة في الطواف ففيها نزاع معروف.
4 -
وتارة باختلاف الأمكنة: كما أن المشروع بعرفة ومزدلفة وعند الجمار وعند الصفا والمروة هو الذكر والدعاء دون الصلاة ونحوها، والطواف بالبيت للوارد أفضل من الصلاة، والصلاة للمقيمين بمكة أفضل.
5 -
وتارة باختلاف مرتبة جنس العبادة، فالجهاد للرجال أفضل من الحج وأما النساء فجهادهن الحج، والمرأة المتزوجة طاعتها لزوجها أفضل من طاعتها لأبويها، بخلاف الأيمة فإنها مأمورة بطاعة أبويها.
6 -
وتارة يختلف باختلاف حال قدرة العبد وعجزه، فما يقدر عليه من العبادات أفضل في حقه مما يعجز عنه، وإن كان جنس المعجوز عنه أفضل، وهذا باب واسع يغلو فيه كثير من الناس ويتبعون أهواءهم فإن من الناس من يرى أن العمل إذا كان أفضل في حقه لمناسبة له ولكونه أنفع لقلبه وأطوع لربه، يريد أن يجعله أفضل لجميع الناس ويأمرهم بمثل ذلك، والله بعث محمدًا بالكتاب والحكمة وجعله رحمة للعباد وهديًا لهم يأمر كل إنسان بما هو أصلح له فعلى المسلم أن يكون ناصحًا للمسلمين يقصد لكل إنسان ما هو أصلح له.
وبهذا تبين لك أن من الناس من يكون تطوعه بالعلم أفضل له ومنهم من يكون تطوعه بالجهاد أفضل، ومنهم من يكون تطوعه بالعبادات البدنية -كالصلاة والصيام- أفضل له.
والأفضل المطلق ما كان أشبه بحال النبي صلى الله عليه وسلم باطنًا وظاهرًا فإن خير الكلام كلام، الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم
(1)
.
(1)
الفتاوى: 10/ 427 - 429، و 22/ 308 - 309، والرد على الإخنائي ص: 115 وعنه في الصارم المنكي: 134، ونحوه في قاعدة التوسل:36.
والحاصل أن الأفضلية تتنوع وأن الشخص الواحد يكون هذا له تارة أفضل وتارة هذا أفضل، ومعرفة أن هذا أفضل له ومعرفة حال كل الأشخاص وبيان الأفضل لكل أحد لا يمكن استقصاؤه ولا ضبطه بل لا بد في ذلك من هداية يهدي الله بها عبده إلى ما هو أصلح له وما صدق الله عبده إلا صنع له
(1)
.
ثم إذا عرفنا هذا فلا بد من الإشارة إلى أن الأعمال المتحدة في
الجنس تتفاضل بتفاضل ما في القلوب من الإيمان والمحبة والتعظيم والإجلال، وقصد وجه المعبود وحده دون شيء من الحظوظ سواه، وتتفاضل أيضًا بتجريد المتابعة فتتفاضل الأعمال بحسب تجريد الإخلاص والمتابعة تفاضلًا لا يحصيه إلا الله
(2)
.
(1)
الفتاوى: 22/ 309، وجواب أهل العلم والإيمان:138.
(2)
المنار المنيف في الصحيح والضعيف ص: 33، ونحوه في سير أعلام النبلاء: 11/ 420.
المبحث الثاني في أقسام الدعاء باعتبار صيغه ومتعلقاته
ويشتمل على مطلبين:
المطلب الأول: في أقسام الدعاء باعتبار صيغه:
ينقسم الدعاء باعتبار صيغه إلى نوعين: طلبية وخبرية:
فالمراد بالصيغة الطلبية ما يراد منها إنشاء الدعاء وهو ما يقابل الإخبار، وقد سبق لنا بحمد الله في التعريف أن الدعاء طلب خاص وهو طلب الأدنى من الأعلى بلا غضاضة، وليس هو طلبًا مطلقًا، والطلبية تتنوع إلى نوعين
(1)
أيضًا:
الأول: طلب حصول الفعل وذلك في الإيجاب، وتكون الصيغة في هذا بافعَل ونحوه مثاله: ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا الأبرار [آل عمران: 193].
الثاني: طلب عدم الوقوع، وذلك في النفي وتكون صيغته لا تفعل ونحوه مثاله:{رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} [الأنبياء: 89].
وقد يجتمع النوعان في مثال واحد نحو: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ
(1)
انظر إتحاف السادة للزبيدي: 5/ 27.
{وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً} [آل عمران: 8].
وبقي نوع آخر وهو أن تكون الجملة خبرية ولكنها متضمنة للإنشاء لقصد المتكلم منها الإنشاء وذلك نحو السلام عليكم، ففي هذه الحالة تكون الجملة الدعائية متضمنة للإنشاء والإخبار فجهة الخبرية فيها لا تناقض جهة الإنشائية وذلك لأن المعنى كان حاصلًا قبل الإنشاء من غير جهة المتكلم، وليس للمتكلم إلا دعاؤه بحصوله، ومحبته، ففي السلام عليكم السلامة المطلوبة لم تحصل بفعل المُسَلَّم وليس للمسلم إلا الدعاء بها ومحبتها، فإذا قال السلام عليكم تضمن الإخبار بحصول السلامة، والإنشاء للدعاء بها وإرادتها وتمنيها
(1)
.
ثم إن السبب في إطلاق الجملة الخبرية على الطلبية، تلازمهما لأنه إذا استعملت الخبرية في الطلب فإنها إنما استعملت في لازمها وجعل اللازم لقوة الطلب والإرادة له كأنه موجود محقق مخبر عنه فكان هذا طلبًا مؤكدًا ولهذا يكثر ذلك في الدعاء الذي يجتهد فيه الداعي
(2)
.
والخبرية تتنوع إلى ثلاثة أنواع
(3)
:
النوع الأول:
ما كان الدعاء بجملة خبرية أو عدة جمل خبرية تصف حال الداعي وتصف فقره، وحاجته، وتضرعه وتذلله بين يدي الله تعالى نحو قول موسى عليه السلام:{رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24] فقد وصف نفسه بالفقر إلى ما أنزل الله إليه من الخير، وهو متضمن
(1)
بدائع الفوائد: 2/ 139 - 140.
(2)
الفتاوى الكبرى: 5/ 184.
(3)
انظر عن هذه الأنواع وشرحها: الفتاوى: 10/ 244، وتفسير ابن كثير: 1/ 26 - ، 27 وجلاء الأفهام 79، والوابل: 182 - 186، ونحوه في شرح الإحياء للزبيدي: 5/ 42، والأزهية:95.
لسؤال الله إنزال الخير إليه وهذا تعرض للسؤال والطلب بدون تصريح بذلك وهذا من حسن الأدب في الطلب.
النوع الثاني:
ما كان الدعاء بجملة خبرية أو جمل خبرية تصف حال المسؤول وتثني عليه بكرمه وجوده وتفضله وإنعامه وغوثه وإجابته للدعاء وغير ذلك. وقد تقدم بحمد الله وتوفيقه وجه كون ثناء المسؤول ومدحه ثناء وطلبًا وقول ابن عيينة وغيره في ذلك بما فيه الكفاية.
النوع الثالث:
ما كان الدعاء بجملة خبرية أو عدة جمل خبرية تصف حال المسؤول وحال السائل، فهذا النوع يجمع بين النوعين السابقين نحو دعوة ذي النون عليه السلام:{لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87].
أي هذه الصيغ أكمل؟:
فهذه الأنواع لكل نوع منها خاصة
(1)
لا تكون للنوع الآخر ويكون كل نوع منها أنسب للسائل من النوع الآخر، وهذا النوع الآخر، يكون أنسب لسائل آخر وهكذا.
وهذا يحتاج إلى فقه، وتمييز بين الحالات وتنزيل كل حال منزلته التي تليق به مثال ذلك دعوة ذي النون:{لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87]، حيث كانت بصيغة الخبر بوصف حال المسؤول بالتفرد بالألوهية، ووصفه بالتنزيه والتعظيم، ووصف حال السائل بالاعتراف بالظلم وبأن ما أصابه كان بذنبه.
(1)
الفتاوى: 10/ 247.
ولم تكن بصيغة الطلب الصريح لاستشعاره أنه مسيء ظالم وهو الذي أدخل الضر على نفسه، فناسب حاله أن يذكر ما يرفع سببه من الاعتراف بظلمه
(1)
بدون أن يصرح بطلبه. فهذه الأنواع كل منها أبلغ من الآخر من جهة، ففي حال الخبر بوصف الحاجة والافتقار، يكون من السؤال بالحال، وهو أبلغ من جهة العلم والبيان، ومن جهة حسن الأدب في السؤال، فقول القائل لمن يعظمه ويرغب إليه أنا جائع، أنا مريض فيه حسن أدب في السؤال، وفيه إظهار حاله وإخباره على وجه الذل والافتقار المتضمن لسؤال الحال.
وأما قوله أطعمني وداوني ونحو ذلك مما هو بصيغة الطلب، طلب جازم من المسؤول، ففيه الرغبة التامة والسؤال المحض، بصيغة الطلب، وهذا أظهر من جهة القصد، والإرادة فلهذا كان غالب الأدعية من هذا النوع الذي هو الطلب الصريح، لأن السائل يتصور مقصوده ومراده فيطلبه، ويسأله، فهو سؤال بالمطابقة والقصد الأول، وتصريح به باللفظ، وإن لم يكن فيه وصف لحال السائل والمسؤول
(2)
.
والأكمل المطلق ما كان جامعًا بين الأنواع كلها من وصف حال السائل ووصف حال المسؤول، ثم الطلب الصريح، فإنه يتضمن الخبر والعلم المقتضي للسؤال والإجابة، ويتضمن القصد والطلب الذي هو نفس السؤال، فيتضمن السؤال والمقتضي له والإجابة
(3)
.
قال ابن القيم: "إن الدعاء الذي يتقدمه الذكر والثناء أفضل وأقرب إلى الإجابة من الدعاء المجرد، فإن انضاف إلى ذلك إخبار العبد بحاله ومسكنته وافتقاره واعترافه، كان أبلغ في الإجابة وأفضل، فإنه يكون قد
(1)
الفتاوى: 10/ 248.
(2)
يراجع الفتاوى: 10/ 246.
(3)
الفتاوى: 10/ 246، وجلاء الأفهام: 79، والوابل الصيب: 183، وإتحاف السادة المتقين: 5/ 42، والأزهية ص:95.
توسل إلى المدعو بصفات كماله وإحسانه، وفضله، وعَرَّض بل صرح بشدة حاجته وضرورته، وفقره ومسكنته، فهذا المقتضى منه، وأوصاف المسؤول مقتضى من الله، فاجتمع المقتضى من السائل، والمقتضى من المسؤول في الدعاء، وكان أبلغ وألطف موقعًا، وأتم معرفة وعبودية، وأنت ترى في الشاهد -والله المثل الأعلى- أن الرجل إذا توسل إلى من يريد معروفه بكرمه وجوده، وبره، وذكر حاجته هو، وفقره، ومسكنته، كان أعطف لقلب المسؤول، وأقرب لقضاء حاجته، فإذا قال له: أنت جودك قد سارت به الركبان، وفضلك كالشمس لا تنكر ونحو ذلك، وقد بلغت بي الحاجة والضرورة مبلغًا لا صبر معه ونحو ذلك كان أبلغ في قضاء حاجته من أن يقول ابتداء: أعطني كذا وكذا"
(1)
.
وهكذا كانت عامة أدعية النبي صلى الله عليه وسلم فهي في الغالب تجمع هذه الأنواع كلها فلهذا ينبغي للعاقل أن لا يعدل عنها إلى غيرها، وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم أعطي جوامع الكلم فلا يمكن لغيره أن يأتي بمثل أدعيته صلى الله عليه وسلم.
مثال ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه لما قال له: علمني دعاء أدعو به في صلاتي، قال:"قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم"
(2)
فقد جمع صلى الله عليه وسلم في هذا الدعاء هذه الصيغ كلها من وصف حال السائل بالظلم، ووصف الله بالتفرد بالمغفرة ثم الطلب للمغفرة والرحمة.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: فهذا فيه وصف العبد لحال نفسه المقتضي حاجته إلى المغفرة، وفيه وصف ربه الذي يوجب أنه لا يقدر على هذا المطلوب غيره، وفيه التصريح بسؤال العبد لمطلوبه، وفيه بيان
(1)
الوابل الصيب: 185.
(2)
أخرجه البخاري: 22/ 317 رقم 834، ومسلم: 4/ 2078 رقم 2705.
المقتضي للإجابة، وهو وصف الرب بالمغفرة والرحمة، فهذا ونحوه أكمل أنواع الطلب"
(1)
.
المطلب الثاني: في أقسام الدعاء باعتبار متعلقاته:
ينقسم الدعاء باعتبار متعلقاته إلى ثلاثة أقسام:
1 -
أقسام الدعاء باعتبار الداعي.
2 -
أقسام الدعاء باعتبار المدعو المطلوب منه.
3 -
أقسام الدعاء باعتبار الشيء المطلوب.
وجه الحصر في هذه الأقسام الثلاثة:
وجه الحصر في هذه الأقسام هو أن متعلق الدعاء ثلاثة:
1 -
الداعي الطالب للحاجة.
2 -
المدعو المطلوب منه.
3 -
المدعو به المطلوب.
وكل هذه الأقسام الثلاثة تنقسم إلى أربعة أقسام، وإليك تفصيل هذه الأقسام:
أقسام الدعاء باعتبار الداعي:
قد سبق أن الدعاء نوعان: دعاء عبادة ودعاء استعانة، فالداعي إما أن يتصف بهما معًا أو يتصف بأحدهما دون الآخر، أو يتركهما جميعًا، فهذه أربعة أقسام وهي القسمة الممكنة في العقل.
وقد جمع الله بين هذين الأصلين العبادة والاستعانة اللذين أحدهما غاية العبد التي خلق من أجلها والآخر وسيلة إليها في مواضع
(2)
من
(1)
الفتاوى: 10/ 247، وانظر جلاء الأفهام: 79 - 80، والوابل الصيب:186.
(2)
انظر في هذا: جامع الرسائل: 1/ 91، ومنهاج السنة: 5/ 394، وبيان تلبيس الجهمية: 2/ 457، وكتاب التوحيد وإخلاص العمل: 165 - 166، والفتاوى: =
كتابه، منها {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]، وقوله تعالى حكاية عن العبد الصالح شعيب عليه السلام قوله:{وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88]، وقول إبراهيم والذين معه:{رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [الممتحنة: 4]، وقوله سبحانه إذ أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول:{قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} [الرعد: 30]، كما أمره بهما في قوله:{فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123]، وفي قوله:{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} [الفرقان: 58]، وفي قوله:{رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا} [المزمل: 9].
ومع كون هذين الأصلين يوجدان في البشر إلا أن الأصل الذي هو الاستعانه هو الأكثر فيهم لأن علم النفوس البشرية بحاجتها وفقرها إلى الرب قبل علمها بحاجتها وفقرها إلى الإله المعبود، كما أن قصدها لدفع حاجاتها العاجلة قبل الآجلة، ولهذا كان إقرارهم بالربوبية أسبق من الألوهية كما هو معروف من دعوة الرسل ومن الإخلاص في وقت الشدائد
(1)
.
وهذان الأصلان كلاهما ملازمان للإنسان، وذلك لأن الإنسان حساس متحرك بالإرادة فهو همام حارث بل كل حي له إحساس وعمل بإرادة ولا بد في العمل الإرادي الاختياري من مراد وهو المطلوب، ولا يحصل المراد إلا بأسباب ووسائل تحصله.
فلهذا فلا بد لكل إنسان من إرادة ولا بد لكل مريد من مستعان به مدعو ومسؤول يستعان به على تحصيل المراد المطلوب.
= 14/ 8 - 9، والتدمرية ص: 63، ومدارج السالكين: 1/ 75، وإغاثة اللهفان: 1/ 23 - 24، وذكر أنها سبعة مواضع ونحوه في طريق الهجرتين ص: 56 - 256.
(1)
الفتاوى: 14/ 14، والعبودية: 108 - 109.
وهذا المستعان به إذا كان مستعانًا به لذاته فلا بد أن يذل له الطالب السائل ويحبه، ويعتمد عليه ويرجوه ويخافه وينقاد له، فيكون هو الغاية المطلوبة لهذا الإنسان، فيكون هو معبوده ومقصوده والمستعان به
(1)
.
فتبين بهذا العلاقة التي بين العبادة والاستعانة، وأنه لا بد لكل إنسان في كل وقت وحال من منتهى يطلبه وهو إلهه ولا بد له أيضًا من منتهى يطلب منه ويستعين به وذلك صمده الذي يصمد إليه في سؤاله واستعانته
(2)
.
ومن هنا يظهر لنا تلازم العبادة والاستعانة للإنسان وأن أحدهما وسيلة والآخر غاية، ثم الإنسان في هذين الواجبين لا يخلو من أحوال أربعة هي القسمة الممكنة، إما أن يأتي بهما جميعًا وإما أن يأتي بالعبادة فقط وإما أن يأتي بالاستعانة فقط وإما أن يتركهما جميعًا
(3)
.
فهذه الأحوال الأربعة هي القسمة الممكنة في الإنسان، وهي أيضًا متفاوتة:
القسم الأول:
وهو أجلّها وأفضلها وهم أهل العبادة والاستعانة بالله عليها، فعبادةُ الله غايةُ مرادهم، وطلبهم أن منه يعينهم عليها ويوفقهم للقيام بها نهاية مقصودهم، ولهذا كان من أفضل ما يُسأل الربُّ تبارك وتعالى الإعانةُ على مرضاته، وهو الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم لحبه معاذ بن جبل رضي الله عنه فقال: "يا معاذ والله إني لأحبك فلا تنسَ أن تقول دبر كل صلاة اللهم
(1)
كتاب التوحيد وإخلاص العمل ص: 158 - 159، أو الفتاوى: 1/ 34، والعبودية ص: 112، وإغاثة اللهفان: 1/ 35، 22 وطريق الهجرتين ص:55.
(2)
كتاب التوحيد 160، أو الفتاوى: 1/ 36، وإغاثة اللهفان: 1/ 35، ومنهاج السنة: 5/ 393، والعبودية: 108 - 109.
(3)
كتاب التوحيد: 165.
أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك"
(1)
فأنفع الدعاء: طلب العون على مرضاته، وأفضل المواهب: إسعافه بهذا المطلوب، وجميع الأدعية المأثورة مدارها على هذا، وعلى دفع ما يضاده وعلى تكميله وتيسير أسبابه
(2)
.
القسم الثاني: وهو شر الأقسام:
وهم المعرضون عن عبادته والاستعانة به، فلا عبادة، ولا استعانة، فلا هو مع الشريعة الأمرية، ولا مع القدر الكوني
(3)
.
وهؤلاء "فريقان: أهل دنيا، وأهل دين، فأهل الدين منهم هم أهل الدين الفاسد الذين يعبدون غير الله، ويستعينون غير الله بظنهم وهواهم:{إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم: 23].
وأهل الدنيا منهم الذين يطلبون ما يشتهونه من العاجلة بما يعتقدونه من الأسباب"
(4)
.
فهؤلاء أهل الدنيا يظنون أن الأسباب هي القادرة وحدها على تحصيل مسبباتها فلهذا فلا يطلبون العون من خالق الأسباب لهذا الظن الفاسد.
(1)
أخرجه أبو داود: 2/ 180 رقم 1522، والنسائي: 3/ 45، وأحمد في المسند: 5/ 245، 247، وابن خزيمة في صحيحه: 1/ 369 رقم 751، وصححه الألباني في صحيح الجامع: 6/ 304 رقم 07846
(2)
مدارج السالكين: 1/ 78، وتجريد التوحيد المفيد للمقريزي ص: 37 وهو منقول من ابن القيم بدون الإشارة إليه، وانظر ما يتعلق بالأدعية الواردة في طلب الإعانة على مرضاة الله في الاحتجاج بالقدر لابن تيمية: 45 - 48.
(3)
مدارج السالكين: 1/ 78، وتجريد التوحيد المفيد: 38 والفتاوى: 10/ 672، وكتاب التوحيد وإخلاص العمل: 169، والتدمرية:64.
(4)
كتاب التوحيد وإخلاص العمل: 169 - 170.
القسم الثالث:
له من نوع عبادة بلا استعانة، وهؤلاء نوعان:
(1)
أحدهما: القدرية القائلون بأنه قد فعل بالعبد جميع مقدوره من الألطاف، وأنه لم يبق في مقدوره إعانة له على الفعل، فإنه قد أعانه بخلق الآلات وسلامتها، وتعريف الطريق وإرسال الرسل وتمكينه من الفعل فلم يبق بعد هذا إعانة مقدورة يسأله إياها، فهؤلاء لهم نصيب منقوص من العبادة ولكنهم لا يطلبون من الله الإعانة عليها، ولا يطلبون منه صلاح قلوبهم ولا هدايتها، فلهذا هم موكولون إلى أنفسهم، مسدود عليهم طريق الاستعانة.
النوع الثاني: من لهم عبادات وأوراد ولكن حظهم ناقص من التوكل والاستعانة لم تتسع قلوبهم لارتباط الأسباب بالقدر، فلم تنفذ قوى بصائرهم من السبب إلى المسبب، فضعفت عزائمهم، وقصرت هممهم، فقل نصيبهم من الاستعانة.
ومشكلة أهل هذا القسم أنهم ينظرون إلى جانب الأمر والنهي والعبادة شاهدين لإلهية الرب سبحانه الذي أمروا أن يعبدوه، ولا ينظرون إلى جانب القضاء والقدر، والتوكل والاستعانة. وهو حال كثير من المتفقهة والمتعبدة، فهم مع حسن قصدهم وتعظيمهم لحرمات الله ولشعائره، يغلب عليهم الضعف والعجز والخذلان، لأن الاستعانة بالله والتوكل عليه واللجأ إليه والدعاء له هي التي تقوي العبد وتيسر عليه الأمور ولهذا قال بعض السلف: "من سره أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله
(2)
"
(3)
.
(1)
مدارج السالكين: 1/ 81، وتجريد التوحيد المفيد: 40، والفتاوى: 13/ 323، وكتاب التوحيد وإخلاص العمل: 167 - 168.
(2)
هذا الأثر قد روي مرفوعًا من طريق ضعيف رواه كذلك ابن أبي الدنيا في كتاب التوكل ص: 60 رقم 9، والحاكم: 4/ 270، وضعفه الذهبي في تلخيصه، وانظر بقية الكلام على طرقه في تخريج الدوسري لكتاب التوكل لابن أبي الدنيا ص:60.
(3)
الفتاوي: 10/ 32 - 33، والتدمرية:64.
القسم الرابع:
من
لا يعبد الله تعالى، ولكنه يستعين به على أهوائه وحظوظ نفسه وشهواته، وأغراضه، ويطلبها منه، وينزلها، به فتقضى له، ويسعف بها، سواء كانت أموالًا أو رياسة أو جاهًا عند الخلق أو أحوالًا من كشف، وقوة، وتمكين، ولكن لا عاقبة له
(1)
وهؤلاء يشهدون ربوبية الله للخلق وافتقارهم إليه ويستعينون به غير ناظرين إلى الأمر والنهي ومرضاة الله ومحبته وغضبه، وهذا حال كثير من المتفقرة والمتصوفة.
وليس الكلام في الكفار والظلمة المعرضين عن الله فإن هؤلاء دخلوا في القسم الثاني الذين لا عبادة لهم ولا استعانة، ولكن الكلام في قوم عندهم توجه إلى الله وتأله ونوع من الخشية والذكر والزهد، ولكن يغلب عليهم التوجه بإرادة أحدهم وذوقه ووجده، لا بالأمر الشرعي وهم أصناف:
منهم المعرض عن التزام العبادات مع ما يحصل له من الشياطين من كشف له أو تأثير، وهؤلاء كثيرًا ما يسلبون أحوالهم، وقد يعودون إلى نوع من المعاصي والفسوق، بل كثير منهم يرتد عن الإسلام لأن العاقبة للتقوى، وهم لا تقوى لهم
(2)
.
ومنهم من يقوم بالعبادات الشرعية الظاهرة كالصلاة والصيام والحج، وترك المحرمات، لكن في أعمال القلوب لا يلتزم الأمر الشرعي، بل يسعى لما يحبه ويريده والله تعالى قال:{كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ} [الإسراء: 20].
(1)
مدارج السالكين: 1/ 82، وتجريد التوحيد: 41، والفتاوي: 3/ 125، وكتاب التوحيد مع إخلاص العمل ص:168.
(2)
الفتاوى: 10/ 33 - 34، و 13/ 324 - 325.
وأبغض خلقه عدوه إبليس، ومع هذا فقد سأله حاجة فأعطاه إياها، ومتعه بها ولكن لما لم تكن عونًا له على مرضاته، كانت زيادة له في شقوته، وبعده عن الله، وهكذا كل من استعان به على أمر وسأله إياه، ولم يكن عونًا على طاعته، كان مبعدًا له عن مرضاته، قاطعًا له عنه، وذلك أن الله سبحانه يعطي السلطان والمال للبر والفاجر، فقد يعطي أحد هؤلاء تصرفًا إما بقهر عدوه، وإما بنصر وليه كما تعطي الملوك وقد يعطي نوعًا من له، المكاشفة إما بإخبار الجن له، وقد يعرف أنه من الجن وقد لا يعرف، وإما بغير ذلك
(1)
.
أنواع الدعاء باعتبار متعلقه الذي هو المدعو:
فالدعاء باعتبار تعلقه بالمدعو يتنوع إلى أربعة أنواع أيضًا وذلك لأن المدعو بدعاء المسألة يكون تارة هو المدعو بدعاء العبادة، فيكون هو المسؤول وهو المعبود معًا وهذا المدعو المسؤول إما هو الله أو غيره أو يختلفان، فهذه أربعة
(2)
أنواع وإليك تفصيلها:
1 -
أن يعبد غير الله ويستعين به ويدعوه من دون الله تعالى، وهذا أشر الأقسام. وذلك كالذين يعبدون الشمس والقمر والكواكب وغير ذلك ويطلبون منهم الحاجات ويفزعون إليهم في النوائب.
2 -
أن يعبد الله ولكنه يستعين بغيره مثل كثير من أهل الدين يقصدون طاعة الله ورسوله، ولكن تخضع قلوبهم لمن يستشعرون نصرهم ورزقهم من الملوك والأغنياء والمشايخ، فيصرفون استعانتهم لهؤلاء ويرجونها منهم.
3 ـ أن يستعين بالله ويدعوه ويخلص له في الدعاء والاستعانة ولكنه
(1)
الفتاوى: 13/ 324 - 325، ومدارج السالكين: 1/ 79.
(2)
انظر في هذه الأنواع: كتاب التوحيد وإخلاص العمل: 160 - 161، أو الفتاوى: 1/ 36.
يعبد غيره كالذين يستعينون بالله ويعتمدون عليه ويسألونه ويلجأون إليه ولكن مقصودهم غير ما أمر الله به ورسوله، وغير اتباع دينه وشريعته. وهذا كما يحصل من المشركين الأوائل عند الشدائد حيث كانوا يدعون الله تعالى في الشدائد مع عبادتهم للأصنام في الرخاء.
4 -
أن لا يعبد إلا الله ولا يستعين إلا به ولا يدعو غيره وهم أهل التوحيد الخالص الذين أخلصوا دينهم الله.
ويتنوع الدعاء باعتبار المدعو أيضًا إلى أربعة أنواع أخرى وهي:
1 -
أن يسأل الله تعالى فقط.
2 -
أن يسأل المخلوق فقط.
- أن يسألهما جميعًا.
4 -
أن يسأل سؤالًا مطلقًا ولا يعين فيه المسؤول.
وسيأتي
(1)
ما يتعلق بهذه الأقسام من ناحية الحكم إن شاء الله تعالى.
أنواع المدعو به:
تدور مطالب جنس البشر وأمنياتهم وأدعيتهم وأسئلتهم على أربعة مطالب فهي أمهات مطالب السائلين من رب العالمين:
الأول: خير موجود بالفعل، فهذا يطلب دوامه وثباته، وأن لا يسلب ولا يزول.
والثاني: خير، معدوم، فهذا يطلب وجوده، وحصوله ووقوعه.
والثالث: شر موجود بالفعل، فهذا يطلب رفعه وإزالته، أو تخفيفه على الأقل.
(1)
سيأتي ص: 483 - 516، وانظر الرد على البكري 35 - 36 و 55 و 121، وجلاء العينين: 539 - 540.
والرابع شر معدوم يخاف من وقوعه فهذا يطلب بقاؤه على العدم وأن لا يوجد.
وقد جاءت هذه المطالب الأربعة في قوله تعالى حكاية عن دعاء عباده في آخر آل عمران: 193 - 194: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا} ، فهذا الطلب لدفع الشر الموجود فإن الذنوب والسيئات شر، ثم قال:{وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ} فهذا طلب لدوام الخير الموجود وهو الإيمان حتى يتوفاهم عليه فهذا قسمان.
ثم قال: {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ} فهذا طلب للخير المعدوم أن يؤتيهم إياه، ثم قال:{وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} فهذا طلب أن لا يوقع بهم الشر المعدوم وهو خزي يوم القيامة.
فانتظمت الآيتان المطالب الأربعة أحسن انتظام، مرتبة أحسن ترتيب، قدم فيها النوعان اللذان في الدنيا، وهما المغفرة، ودوام الإسلام إلى الموت، ثم أتبعا بالنوعين اللذين في الآخرة، وهما أن يعطوا ما وعدوه على ألسنة رسله وأن لا يخزيهم يوم القيامة
(1)
فهذه هي مطالب الإنسان التي يريدها ويتمناها ويسألها من ربه ولا تخرج مطالبه في الجملة عن هذه الأنواع الأربعة.
وقد تقدم لنا
(2)
أن الدعاء يطلق على الأنواع الأربعة، وأن الاستعاذة والاستجارة والاستغفار لا تطلق إلّا على جانب الشر، أي النوع الثالث والرابع، وأن اللياذ لا يطلق إلا على جانب الخير أي الأول والثاني عند بعض العلماء وعند البعض يُطلق على جانب الشر، وأما السؤال فيطلق في جانب الخير فقط.
(1)
بدائع الفوائد: 2/ 207 - 208، وطريق الهجرتين ص:55.
(2)
تقدم ص: 88 - 98.
الفصل الثالث في آداب الدعاء والإجابة وأنواعها
ويشتمل على تمهيد وثلاثة مباحث:
- المبحث الأول: في آداب الدعاء العدمية التي يطلب انتفاؤها وعدمها.
- المبحث الثاني: في آداب الدعاء الثبوتية التي يطلب ثبوتها ووجودها.
- المبحث الثالث: في الإجابة وأنواعها.
التمهيد
ويشتمل على تنبيهين:
1 -
التنبيه الأول: في السبب المانع من التوسع في هذا الفصل:
إن آداب الدعاء وما ينبغي أن يتصف به الداعي من الصفات والأحوال كثيرة جدًا وقد توسع العلماء في ذكر ذلك حيث ذكروا الآداب التي ينبغي للداعي أن يلتزم بها وبينوا ما في ذلك من الأسرار والحكم كما بيّنوا كل خصلة من خصال تلك الآداب، بيّنوا دليلها من الكتاب والسنة وآثار السلف، كما بيّنوا أوقات الدعاء التي ترجى فيها الإجابة والأماكن الفاضلة التي هي أرجى من غيرها، وبيّنوا الأحوال والأوصاف التي هي أرجى من غيرها، كما بيّنوا ألفاظ الأدعية الواردة المطلقة منها والمقيدة بزمان أو مكان أو حال وشرحوا معانيها وما تحمل من أسرار وحكم وابتهالات وعبر ودروس وتنزيه وتقديس الله تعالى، وكذلك بيّنوا ما يتعلق بالإجابة وما يلزم لها وموانعها.
كل ذلك بأدلة ثابتة من الكتاب والسنّة وآثار السلف وأقوال العلماء.
فمن العلماء من أفرد هذه الأمور بمؤلف مستقل، وهم كثيرون جدًا
(1)
.
ومنهم من ذكر هذه الأمور في ضمن كتابه المشتمل على موضوعات
(1)
قد تتبعت المؤلفات في الأدعية إلى القرن السادس فبلغت نحو 60 مؤلفًا مستقلًا، وأما بعد القرن السادس فهي كثيرة جدًا، يصعب استقصاؤها.
شتى كأصحاب الكتب الستة وغيرها من السنن والمعاجم والمسانيد.
فهذا هو أحد الأسباب التي منعتني من استقصاء ما في هذا الفصل من الكلام والسبب الثاني: أن المسائل المتعلقة بهذا الفصل هي من المسائل التي يتفق عليها كثير من علماء المسلمين، والاختلاف والمناقشة فيها قليلة إذا قارنا بما يأتي إن شاء الله تعالى في الباب الثاني والثالث والرابع.
ومن هنا لم أتوسع في هذا الفصل ولكن مع هذا العذر فإني أرى لزامًا عليّ أن أبيّن بعض آداب الدعاء بالإيجاز والاختصار بدون استقصاء والله المستعان وعليه التكلان.
التنبيه الثاني: في عبارات المؤلفين وتسمياتهم لهذه الآداب:
إن العلماء الذين تكلموا عن هذه الآداب قد اختلفت عباراتهم وإطلاقاتهم، فمنهم من سمى هذه الآداب شروطًا
(1)
، ومنهم من سماها آدابًا
(2)
، ومنهم من سمى بعضها أركانًا
(3)
، ومنهم من سمى بعضها شروطًا
(1)
فممن سماها شروطًا: ابن جماعة محمد بن إبراهيم الكناني المتوفى سنة 733 هـ، فقد قال في ذلك شعرًا:
قالوا شروط الدعاء المستجاب لنا
…
عشر بها بشر الداعي بإفلاح
طهارة وصلاة معها ندم
…
وقت، خشوع، وحسن الظن يا صاح
وحل قوت ولا يدعى بمعصية
…
اسم يناسب مقرون بإلحاح
ذكره عنه السبكي في طبقات الشافعية: 9/ 142، وسمى الحافظ ابن حجر: طيب المطعم وعدم الاستعجال وعدم الإثم والقطيعة شرطًا كما في الفتح: 11/ 96، ومنهم أيضًا القرطبي في جامع الأحكام: 2/ 311، ومنهم سهل بن عبد الله التستري فإنه قال شروط الدعاء سبعة كما في الجامع للقرطبي: 2/ 311، ومنهم الرازي في التفسير: 14/ 141.
(2)
وممن سماها آدابًا: الغزالي في الإحياء: 1/ 361 - 365، وابن الجزري في عدة الحصن مع التحفة ص:43.
(3)
منهم ابن عطاء الله الإسكندراني فإنه قال: "للدعاء أركان وأجنحة وأسباب وأوقات
…
فأركانه حضور القلب والرقة والاستكانة والخشوع وتعلق القلب بالله
…
كما في نبذة في الدعاء لليافعي ص: 21، وجامع الأحكام للقرطبي: 2/ 311، ومنهم الحليمي في المنهاج: 1/ 522 على ما في النسخة المطبوعة.
وبعضها سننًا
(1)
، ومنهم من سمى بعضها شروطًا وبعضها آدابًا
(2)
.
هذا ومما ينبغي التفطن له أن هذه الآداب ليست على مرتبة واحدة بالنسبة لأهميتها للدعاء فبعضها أهم من بعض فهذا هو السبب لاختلاف عبارات المؤلفين فيها، ومما يدل على تفاوت مراتب تلك الآداب أن بعض ما ورد من الأحاديث ربما يدل بظاهره على أن بعض تلك الآداب شرط حقيقي مثل ما يأتي في التلبس بالحرام.
وقد ذكر الزبيدي هذه المسألة عندما عنون الغزالي: "آداب الدعاء" قال الزبيدي: وقد ذكر فيها ما يصلح أن يكون شرطًا له، ولم يميز المصنف بين الأدب والشرط هنا كما فعل الحليمي في المنهاج وغيره ونحن نشير إلى ذلك
(3)
ونقل عن ابن الجزري بعض الآداب ثم قال: "وبعض ذلك يعد شرطًا"
(4)
، ثم عندما ذكر المصنف التوبة ذكر حديث الرجل يطيل السفر
…
فأنّى يستجاب له، قال:"ويؤخذ من هذا الحديث أن هذا شرط لا أدب. قال الطرطوشي: من آدابه أكل الحلال ولعله من شروطه"
(5)
.
(1)
منهم الخطابي في كتابه شأن الدعاء ص: 13 فإنه قال فإن من شرائط صحته أن يكون ذلك من العبد بإخلاص نيته وإظهار فقر ومسكنة، فذكر أمورًا ثم قال:"ومن سنته أن يرفع إلى الله عز وجل يديه باسطًا كفيه. . .".
(2)
منهم الحليمي في كتابه المنهاج في شعب الإيمان حيث ذكر 11 شرطًا في: 1/ 522، 524 - 530، ثم عد خصالًا أخرى تبلغ 15 خصلة فسماها آدابًا: 1/ 523 - 524 و 530 - 539. ومما ينبغي التنبيه عليه أن الذي في النسخة المطبوعة وهي سقيمة جدًا وفيها تحريف وتصحيف أن الحليمي سماها أركانًا بدل الشروط لكن الزركشي والزبيدي نقلا عن الحليمي هذه الشروط وذكرا أنه سماها شروطًا وهذا يؤيد احتمال التحريف، انظر الأزهية 57، وإتحاف السادة: 5/ 34، 44، وممن سلك هذا المسلك الطرطوشي في كتابه الدعاء ص 44، 57.
(3)
إتحاف السادة: 5/ 31.
(4)
المرجع نفسه: 5/ 44.
(5)
المرجع نفسه: 5/ 41، وانظر كلام الطرطوشي في كتابه الدعاء المأثور وآدابه ص:57.
وأما الحليمي فقد ذكر بعض هذه الآداب وسماها أركانًا، والركن ما لا يتم الشيء إلا به وهو أهم من الشرط لأن الشرط خارج الماهية، وأما الركن فداخل في الماهية لكن الذي في شرح الإحياء للزبيدي وفي الأزهية للزركشي
(1)
يفيد أن الحليمي عبر بالشروط لا بالأركان وهو الأقرب.
وقد عد الحليمي أحد عشر شرطًا
(2)
فالبعض من هذه الشروط التي ذكرها يمكن أن يعد من قبيل الشرط الحقيقي والبعض الآخر من قبيل الآداب، فالذي يعد من الشروط هو ألا يكون المسؤول بالدعاء ممتنعًا عقلًا ولا عادة كإحياء الموتى ورؤية الله في الدنيا وهذا يمكن عده شرطًا كما سيأتي في مبحث الاعتداء وأما غير ذلك مما سماه شرطًا أو ركنًا فكله من الآداب.
والذي يظهر بعد تأمل ما ذكروه من الشروط أو الآداب أن الأولى تسميتها آدابًا، وأما تسميتها شروطًا فمن باب المسامحة في التعبير أو من باب التغليب لأن بعضها يمكن أن يعد شرطًا بالمعنى الاصطلاحي كبعض الأمثلة التي تذكر في الاعتداء، والذي يرجح تسميتها آدابًا عدة أمور:
الأول: إن حد الشرط المصطلح عليه لا ينطبق عليها إذ معنى الشرط هو ما يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده وجود
(3)
كالوضوء للصلاة.
ومن المعروف أن هذه الآداب لا يلزم من عدم بعضها عدم إجابة الدعاء ويوضح هذا الأمرُ التالي:
(1)
الأزهية ص: 57، وإتحاف السادة: 5/ 44.
(2)
المنهاج في شعب الإيمان: 1/ 522 - 523، وعنه في إتحاف السادة: 5/ 44.
(3)
انظر عن هذا في كتب الأصول: روضة الناظر: 1/ 162، والأحكام للآمدي: 1/ 121، والأحكام لابن حزم: 1/ 44.
الثاني: إن إجابة الدعاء من مقتضى ربوبية الله تعالى لجميع الخلق مؤمنهم وكافرهم فهو يربيهم بالنعم، ومنها إجابة دعائهم وقضاء حوائجهم.
وهذا يقتضي أن الله سبحانه وتعالى يجيب دعاء الفاسق والعاصي والكافر فليس شرطًا أن يكون الداعي من المخلصين.
فمن هنا نقول: إن الإخلاص لله تعالى في الدعاء من الآداب المهمة لرجاء قبول الدعاء ومع هذا فقد يجيب الله تعالى في النادر لمن دعا غيره أو دعا دعاء بدعيًا كمن يدعو عند الأضرحة بخشوع واضطرار، وذلك إما استدراجًا وابتلاء وإما لاضطراره أو خشوعه وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالي
(1)
.
ومن ذلك التوبة فهي من أهم الآداب التي تطلب للداعي ومع ذلك فقد يقبل الله دعاء العاصي والفاسق والكافر بل إبليس لما دعا الله تعالى أجابه الله، قال تعالى:{قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} [الحجر: 36 - 38].
ومن آكد الآداب عدم التلبس بالحرام، لأن التلبس بالحرام من موانع الإجابة ولكن قد يوجد ما يمنع هذا المانع من منعه كما قاله ابن رجب رحمه الله
(2)
، ونحوه قول الشوكاني:"إن ملابسة المعصية مقتضية لعدم الإجابة إلا إذا تفضل الله على عبده، وهو ذو الفضل العظيم"
(3)
.
الثالث: إن بعض العلماء أشاروا إلى عدم لزوم بعضها لإجابة الدعاء، وأن الدعاء جائز بدونها، وأنها آداب مكملة، وأنها أرجى للإجابة وهؤلاء إنما ذكروا ذلك في بعضها، وما لم يذكروا فيه فهو مثل الذي ذكروا، لأنها من باب واحد إلّا أن بعض ما ذكر فيما يتعلق بالشرط الذي
(1)
سيأتي ص 814.
(2)
جامع العلوم والحكم ص: 100.
(3)
تحفة الذاكرين ص: 44.
هو عدم الاعتداء قد يعد من الشرط الحقيقي وسيأتي التنبيه عليه إن شاء الله تعالى.
ومن هؤلاء العلماء البخاري فيما يتعلق باستقبال القبلة، فإنه عقد أولًا باب الدعاء غير مستقبل القبلة فأورد ما يدل على ذلك وهو حديث أنس بن مالك في استسقاء النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة الجمعة، ثم عقد ثانيًا باب الدعاء مستقبل القبلة فذكر حديثًا يدل على ذلك
(1)
.
ومنهم أبو عبد الله الحليمي فإنه ذكر الآداب التي للدعاء والأحوال والمواطن ثم قال: "إنها أسباب تقوي الرجاء بالله جل ثناؤه وفي إجابة الدعاء، لا أن الدعاء لا يقبل إلَّا عندها فمن عرضت له حاجة في غيرها فلا ينبغي له أن يمتنع من الدعاء خيفة الرد، بل يدعو قوى الرجاء، حسن الظن بالله تعالى فإنه يستجيب دعاءه بجوده وكرمه"
(2)
.
ومنهم القرطبي فإنه ذكر الاختلاف في رفع اليدين في الدعاء ثم قال: "قلت: والدعاء حسن كيفما تيسر، وهو المطلوب من الإنسان لإظهار موضع الفقر والحاجة إلى الله عز وجل، والتذلل له والخضوع، فإن شاء استقبل القبلة ورفع يديه فحسن، وإن شاء فلا، فقد فعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم حسبما ورد في الأحاديث، وقد قال تعالى: ا {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55]، ولم يزد صفة من رفع يدين وغيرها وقال: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا} [آل عمران: 191]، فمدحهم ولم يشترط حالة غير ما ذكر، وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته يوم الجمعة وهو غير مستقبل القبلة"
(3)
.
ونحو كلام القرطبي هذا ما ذكره المناوي من أن عدم رد الله تعالى
(1)
انظر البخاري مع الفتح: 11/ 143 - 144 باب رقم 24 ورقم 25.
(2)
المنهاج في شعب الإيمان: 1/ 540.
(3)
الجامع لأحكام القرآن: 7/ 225.
للدعاء لا يتوقف على الرفع إذا توافرت الشروط
(1)
ويريد بهذا أن الرجل لو لم يرفع يديه ولكنه خشع وأخلص .. إلخ، قد تجاب دعوته وأن الإجابة ليست متوقفة على الرفع وكأن المناوي يرى أن بعضها شرط حقيقي والله أعلم.
(1)
فيض القدير: 2/ 229.
المبحث الأول في آداب الدعاء العدمية
للدعاء آداب كثيرة تتنوع إلى عدة أنواع باعتبارات شتى ونظرات مختلفة، فيمكن تقسيمها باعتبار إلى ظاهرية وباطنية، وباعتبار إلى عدمية ووجودية، أو يقال إلى سلبية وإيجابية، وباعتبار آخر إلى آداب تتعلق بالداعي وأخرى بالدعاء وأخرى بالمدعو فيه، ولاختلاف هذه الاعتبارات اختلفت عبارات العلماء في تقسيمها.
فقد قسمها القرطبي بالنظر إلى ما يطلب للداعي أو للدعاء أو المدعو به، فذكر مما يطلب للداعي:
"أن يكون عالمًا بأن لا قادر على حاجته إلا الله، وأن الوسائط في قبضته ومسخرة بتسخيره"
(1)
.
فهذا الشرط داخل في الإخلاص في التقسيم الذي ذكرناه فإن هذا العلم يقتضي أن يخلص الداعي في دعائه وأن لا يدعو إلا الله تعالى على وفق سنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
ثم ذكر من الشروط في الداعي:
- أن يدعو بنية صادقة وحضور قلب.
(1)
الجامع لأحكام القرآن: 2/ 311 - 312.
- وأن يكون مجتنبًا لأكل الحرام.
- وأن لا يمل من الدعاء.
وذكر من شروط المدعو فيه أن يكون من الأمور الجائزة الطلب والفعل شرعًا بأن لا يكون فيه إثم أو قطيعة رحم.
وذكر من شروط الدعاء أن يكون سليمًا من اللحن.
وقد أشار الغزالي في الإحياء وتابعه شارحه الزبيدي إلى انقسامها إلى ظاهرية وباطنية حيث قال الغزالي عند ذكر التوبة: "وهو الأدب الباطن"
(1)
، وقال الزبيدي عند قول الغزالي وهي عشرة:"تسعة منها ظاهرة والعاشر أدب باطني"
(2)
.
وأما الزركشي فقد قسمها أيضًا إلى ظاهرة وباطنة ثم ذكر من الباطنة التوبة وحضور القلب والثقة بالله، والخيفة، والتضرع، وقرع النفس بالتخويف والتفويض إلى الله، وقطع النظر عمن سواه، واجتناب المحرمات، والتعفف عن الشبهات، وتجنب اليأس من الإجابة.
ثم ذكر الآداب الظاهرة فذكر الصدقة والصوم والطهارة والصلاة واستقبال القبلة والتطيب بالطيب وخفض الصوت ورفع الأيدي والتعميم وتقديم الثناء والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم
(3)
.
الآداب العدمية:
وهذه التقسيمات السابقة متداخلة وليس بينها تناف وتضاد وإنما هي اصطلاحات فقط، فلهذا يمكن لنا تقسيمها إلى الآداب العدمية والآداب الثبوتية، ونبدأ بذكر آداب الدعاء العدمية قبل الثبوتية وذلك لأن التخلية
(1)
الإحياء: 1/ 365.
(2)
إتحاف السادة: 5/ 31.
(3)
انظر الأزهية: 108 - 109.
قبل التحلية، ولأن هذه الآداب العدمية أهم من أكثر الآداب الثبوتية لأن العدمية ورد فيها ما يدل على أنها سبب لمنع قبول الدعاء وأن الدعاء يرد بها، وأما الثبوتية فالوارد في أغلبها إنما هو الحث عليها والأمر بها. وقد علم أن باب المنهيات أشد من باب المأمورات كما يدل عليه حديث:"إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم وما نهيتكم عنه فاجتنبوه"
(1)
.
فالآداب العدمية خمسة:
1 -
عدم الاعتداء.
2 -
عدم التلبس بالحرام.
3 -
عدم الاستعجال.
4 -
عدم التعليق.
5 -
عدم الغفلة.
ثم إن هذه الآداب العدمية: الخصلة الواحدة منها لها اعتبارات عدة، فباعتبار هي سبب لمنع إجابة الدعاء حيث يعتبر وجودها سببًا لمنع إجابة الدعاء، وباعتبار آخر فهي سبب لإجابة الدعاء وذلك باعتبار عدمها.
ولهذا عدها بعضهم في موانع الإجابة ولم يعدها في آداب الدعاء
(2)
، والحاصل أن هذه اعتبارات واصطلاحات ولا مشاحة في الاصطلاح.
وبعد هذا الإجمال إليك هذه الآداب مفصلة بإيجاز.
من آداب الدعاء: عدم الاعتداء:
تعريف الاعتداء:
هذه المادة تدل على "تجاوز في الشيء وتقدم لما ينبغي أن يقتصر
(1)
أخرجه البخاري: 13/ 251 رقم 7288، ومسلم: 2/ 975 رقم 1337.
(2)
انظر جوامع العلوم ص: 100 ذكر أن التلبس بالحرام من موانع الإجابة.
عليه والتعدي: تجاوز ما ينبغي أن يقتصر عليه والاعتداء مشتق من العدوان"
(1)
.
وقد حذر الله تعالى من الاعتداء عمومًا في كل شيء، ونهى عن الاعتداء في الدعاء خصوصًا، فقال:{ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف: 55].
فالاعتداء في الآية وإن كان يشمل كل اعتداء إلا أنه لوروده بعد الأمر بالدعاء يدل بصفة خاصة على أهمية عدم الاعتداء في الدعاء، وأن الدعاء الذي يتضمن الاعتداء لا يحبه الله ولا يرضاه فهو إذن لا يستجيب له، هذا ويشمل الاعتداء في الدعاء أمورًا منها:
أ - الشرك بالله تعالى في الدعاء فإن أعظم العدوان هو الشرك، وهو وضع العبادة في غير موضعها فهذا العدوان داخل دخولًا أوليًا في قوله تعالى:{إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}
(2)
.
فصرف الدعاء الذي هو من أهم العبادات التي يتقرب بها العبد إلى الله تعالى إلى التقرب به لعبد فقير لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا، فهذا الصرف "من أعظم الاعتداء والعدوان والذل والهوان"
(3)
.
فمن اعتدى في الدعاء بدعائه لغير الله تعالى سواء دعاه مستقلًا أو دعاه ليكون واسطة فقد ارتكب إثمًا عظيمًا وأبعد نفسه عن رحمة الله تعالى بصرفه لخالص رجائه ورغباته وتوجهاته لغير الله تعالى، فالذين يدعون غير الله تعالى ويرجون قبول دعائهم فقد ضلوا الطريق الصحيح لقبول الدعاء، ولهذا قال الله تعالى:{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [الأحقاف: 5].
(1)
معجم مقاييس اللغة: 4/ 349.
(2)
الفتاوى: 15/ 23، وبدائع الفوائد: 3/ 13.
(3)
الرد على البكري ص: 95.
ب - من الاعتداء الذي تشمله الآية الابتداع في الدعاء، فإن الدعاء عبادة وهي توقيفية، فمن ابتدع عبادة لم يشرعها الله ولا رسوله، فقد اعتدى طوره واعتدى على حق الله الذي هو التشريع.
ثم إنه عَبَدَ الله بما لم يشرعه وتقرب إليه بما لم يأذن به وسأل الله تعالى بما لم يأذن له بسؤاله به
(1)
.
جـ - من الاعتداء في الدعاء: سؤال الله تعالى ما لا يجوز له سؤاله
(2)
، وهذا يتصور في أشياء:
1 -
سؤاله ما لا يليق به مثل منازل الأنبياء، وقد فسر بعض السلف الآية بذلك
(3)
.
ويدل على ذلك ما ورد عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه أنه سمع ابنه يقول: اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها، فقال: أي بني سل الله الجنة وتعوذ به من النار، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الطهور والدعاء"
(4)
.
وإنما أنكر عبد الله بن مغفل على ابنه هذا الدعاء لأن ابنه طمع فيما لا يبلغه عمله حيث سأل منازل الأنبياء، وهذا اعتداء في الدعاء لما فيه من تجاوز الأدب ويحتمل أنه إنما نهاه لأنه سأل شيئًا معينًا
(5)
، ويمكن أنه
(1)
الفتاوى: 15/ 23، وبدائع الفوائد: 3/ 13.
(2)
قال القرطبي: "ومن شرط المدعو فيه أن يكون من الأمور الجائزة الطلب والفعل شرعًا"، الجامع: 2/ 311.
(3)
أخرجه الطبري بإسناده عن أبي مجلز لاحق بن حميد: 8/ 207، وذكره البغوي: 2/ 166، وانظر بغية المرتاد ص:390.
(4)
أخرجه أحمد في المسند: 4/ 87، وأبو داود: 1/ 169 رقم 96، وابن ماجه: 2/ 1271 رقم 3864، وقال الحافظ ابن كثير بعد أن ساق إسناده:"وهو إسناد حسن لا بأس به"، التفسير: 2/ 222، وصححه الألباني في الإرواء: 1/ 171، وصحيح ابن ماجه: 2/ 331 رقم 3116.
(5)
عون المعبود: 2/ 169.
نهاه لكونه من تكثير الكلام بدون فائدة
(1)
.
فإذا كان هذا الصحابي الجليل ينكر على من يسأل الله تعالى ويخلص له تعالى في سؤاله إلا أنه يسيء في طلب ما لا يليق به ويعد هذا اعتداء فكيف لو رأى من يدعو غير الله تعالى ويستغيث به ويجعل هجيراه ليل نهار نداء اسم الولي إن قام وإن قعد؟ فلا شك أن هذا اعتداء فوق ذلك بكثير، وأي اعتداء أكبر من صرف خالص حق الله تعالى لعبد لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا فضلًا عن غيره؟
2 -
سؤال الله تعالى المعونة على الحرام
(2)
.
فهذا من الاعتداء في الدعاء فالله لا يحب الحرام ولا الفحشاء فكيف يطلب معاونته على ذلك؟ وقد ورد ما يدل على أن الدعاء الذي يتضمن إثمًا أو قطيعة رحم مردود لا يقبل، قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه: "لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم، أو قطيعة رحم ما لم يستعجل
…
إلخ"
(3)
.
فجميع أنواع الحرام داخلة في هذا الحديث: "فيدخل في الإثم كل ما يأثم به من الذنوب ويدخل في الرحم جميع حقوق المسلمين ومظالمهم"
(4)
.
فمن دعا بإثم أو قطيعة رحم فقد اعتدى على غيره وظلمه، فهذا داخل في الاعتداء المنهي عنه في الدعاء.
ويدخل في هذا: "أن يسأل ما فيه ظلم لغيره"
(5)
.
(1)
انظر ما سيأتي ص: 180.
(2)
الفتاوى: 15/ 22، وبدائع الفوائد: 3/ 13، وانظر المنهاج للحليمي: 1/ 525، والأزهية:58.
(3)
أخرجه مسلم: 4/ 2096 رقم 2736.
(4)
الجامع لأحكام القرآن: 2/ 311.
(5)
الرد على البكري ص: 94.
ومن هذا الباب الدعاء على المؤمنين باللعنة والخزي ونحو ذلك، فقد قال بعض السلف في تفسير المعتدين:"هم الذين يدعون على المؤمنين فيما لا يحل فيقولون: اللهم اخزهم .. اللهم العنهم"
(1)
.
وذكر ابن الصلاح رحمه الله أن كون الدعاء على الشخص اعتداء مشروط بما "إذا كان قصده بالدعاء على فلان غير صحيح فإن كان صحيحًا بأن كان في قصر عمره مثلًا صلاح للمسلمين لظلمه أو نحو ذلك فليس اعتداء"
(2)
.
ومن هذا الباب تحجير رحمة الله وتضييقها، وذلك بطلبها لنفسه خاصة ومنعها لغيره من المسلمين، ومن ذلك قول الأعرابي:"اللهم ارحمني ومحمدًا ولا ترحم معنا أحدًا"، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"لقد تحجرت واسعًا"
(3)
يريد رحمة الله
(4)
.
ومثل الدعاء على المؤمنين الدعاء على نفسه وأهله وعلى أمواله فقد نهينا عن ذلك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا تدعوا على أنفسكم ولا تدعوا على أولادكم ولا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله ساعة يسأل فيها عطاء فيستجيب لكم"
(5)
.
فالذي يدعو على نفسه أو أهله أو ماله فقد اعتدى على حق نفسه ثم إن نفسه ملك الله تعالى فلا يجوز له أن يتعدى فيها ما شرعه الله.
(1)
نقله البغوي عن عطية ولعله العوفي: 2/ 166، ونقل ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير نحوه كما في روح المعاني: 8/ 140.
(2)
فتاوى ابن الصلاح ضمن المجموعة المنيرية: 4/ 30.
(3)
أخرجه أبو داود: 1/ 264 رقم 380، والترمذي: 1/ 275 رقم 147، وابن ماجه: 1/ 176 رقم 529، وأصل الحديث مخرج في الصحيحين في قصة بول الأعرابي: البخاري: 1/ 322 رقم 219، ومسلم: 1/ 236 رقم 284.
(4)
الرد على البكري ص: 94، وانظر عدة الحصن ص: 44، والتحفة ص:49.
(5)
أخرجه مسلم: 4/ 2304 رقم 3009.
ويدخل في هذا أيضًا الدعاء بتعجيل العقوبة في الدنيا فإن العبد عليه أن يطمع في رحمة الله تعالى التي وسعت كل شيء وفي عفوه ومغفرته وجوده وفضله فيسأل العفو والعافية في الدنيا والآخرة، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من قول:"ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار"
(1)
.
وقد وصف الله عباده المؤمنين بأنهم يقولون ذلك عندما يفرغون من أعمال الحج وأن لهم نصيبًا في الدنيا والآخرة بسبب هذا القول: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [البقرة: 201 - 202].
ولهذا لما عاد النبي صلى الله عليه وسلم مريضًا صار كالفرخ من الضعف فسأله: "هل كنت تدعو بشيء؟ " قال: نعم كنت أقول: "اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سبحان الله، لا تطيقه!! أفلا قلت: اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار؟ "
(2)
.
ويدخل في هذا الدعاء على النفس بالموت لضر نزل به فمن هنا نهي عن الدعاء بالموت وتمنيه فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يتمنى أحدكم الموت ولا يدع به من قبل أن يأتيه، إنه إذا مات أحدكم انقطع عمله وإنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيرًا"
(3)
.
ففي الدعاء على النفس بالموت اعتداء على النفس وهي ليست من حق الإنسان بل هي ملك الله تعالى كما أنه اعتداء على الدعاء المشروع الذي هو طلب العافية في الدنيا والآخرة إلى الدعاء غير المشروع.
(1)
أخرجه البخاري: 11/ 191 رقم 6389، ومسلم: 4/ 2070 رقم 2690.
(2)
أخرجه مسلم: 4/ 1068، وأحمد في المسند: 3/ 107، 228، وأخرجه هناد بن السري في الزهد من مرسل الحسن البصري: 1/ 254 رقم 441.
(3)
أخرجه مسلم: 4/ 2065 رقم 2682.
3 -
سؤاله تعالى ما يناقض حكمته، أو يتضمن مناقضة شرعه وأمره، أو يتضمن خلاف ما أخبر به
(1)
.
ويتصور هذا في عدة أمور قد أكثر بعضهم
(2)
ضرب الأمثلة لهذه الأمور، ونوجزها فيما يلي:
1 -
الدعاء بالمحال كالدعاء بدخول إبليس وأبي جهل وأضرابهما الجنة، والدعاء بمثل هذا يصل حكمه عند بعضهم إلى الكفر لما في ذلك من طلب إكذاب الله تعالى لنفسه
(3)
.
2 -
الدعاء بما لا مطمع فيه كمن يدعو بالخلود في الدنيا، وقد علم أن الله استأثر بالبقاء وكتب الفناء على خلقه
(4)
.
ومن هذا الباب الدعاء برفع لوازم البشرية من الحاجة إلى الطعام والشراب أو يسأله أن يهب له ولدًا من غير زوجة
(5)
.
3 -
الدعاء بما يناقض ما علمه الله تعالى نحو السؤال بأن لا يقيم الساعة
(6)
.
(1)
بدائع الفوائد: 3/ 13، والفروق: 4/ 260، وما بعدها، والأزهية: 144، وحاشية ابن عابدين: 1/ 522 - 523.
(2)
وهو القرافي المالكي أحمد بن إدريس، (ت 684 هـ)، فقد ذكر في كتابه الفروق: 4/ 259 - 297 أمثلة كثيرة وذكر أن أربعة أقسام منها تصل إلى الكفر وأن 12 قسمًا محرم ولا يصل إلى الكفر، وفي بعض ما ذكر مآخذ ستأتي الإشارة إلى ذلك في ص:406.
(3)
وقد جعل القرافي الدعاء بنفي ما دل السمع على ثبوته كفرًا لأنه تكذيب لله تعالى، واعترض عليه ابن الشاط بأن هذا تكفير بالمآل وهو أمر مختلف فيه، انظر حواشي الفروق: 4/ 260، وانظر روح المعاني: 8/ 140، 11/ 148، وابن عابدين: 1/ 523، والإعلام بقواطع الإسلام: 2/ 177 - 180.
(4)
شأن الدعاء ص: 15.
(5)
الفتاوى: 15/ 22، وبدائع الفوائد: 3/ 13.
(6)
الرد على البكري ص: 94، والفتاوى: 10/ 713 و 14/ 365 - 367.
فالحاصل أن الدعاء المشتمل على سؤال ما هو من خصائص الألوهية كطلب علم الغيب والبقاء في الدنيا أو طلب ما هو من خصائص النبوة كالوحي أو طلب ما يناقض علم الله وشرعه أو خبره يعد مثل هذا من الاعتداء ومن هذا ما يصل إلى الكفر والعياذ بالله، وتعد هذه الأمور من سؤال الرب تبارك وتعالى ما لم يكن يفعله
(1)
.
د - ومن جملة الاعتداء في الدعاء: سوء الأدب في خطاب الله ومناجاته، وذلك بأن يخاطب الداعي "ربه جل ثناؤه بما لو خاطب به كفؤه وقرينه ينسبه إلى قلة الحياء، وسوء الأدب أو ركاكة العقل"
(2)
.
وهذا الأمر يتصور في أشياء منها:
1 -
رفع الصوت بالدعاء رفعًا يخل بالأدب، قال عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي، (ت 150 هـ):"من الاعتداء رفع الصوت، والنداء في الدعاء والصياح"
(3)
.
وأما الرفع غير المخل بالأدب -إذا كان لقصد التعليم- فجائز كما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جهر في أدعية وذلك لتعليم أصحابه فيكون له أجران أجر الدعاء وأجر التعليم
(4)
.
2 -
دعاء الله تعالى بدون تضرع في دعائه تعالى وخطابه، فإن دعاء غير المتضرع يشبه المستغني المدل على ربه، وهذا من أعظم الاعتداء، لمنافاته لدعاء الذليل فمن لم يسأل مسألة مسكين متضرع خائف فهو معتد
(5)
.
(1)
الفتاوى: 1/ 130.
(2)
المنهاج للحليمي: 1/ 522.
(3)
تفسير الطبري: 8/ 207، والبغوي: 2/ 166، وهذا اللفظ من البغوي وفي لفظ الطبري ركاكة.
(4)
قواعد الأحكام: 2/ 178 - 179.
(5)
الفتاوى: 15/ 23، وبدائع الفوائد: 3/ 13.
ويدل على كون هذا من الاعتداء في الدعاء أن الله تعالى قال أولًا: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} ثم عقبه بقوله: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} فدل هذا على أن عدم التضرع اعتداء في الدعاء كما أن عدم الخفية يعد اعتداء.
3 -
تكثير الكلام الذي لا حاجة إليه، فقد جعله بعض الصحابة من الاعتداء في الدعاء، روى أبو داود وغيره عن ابن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: سمعني أبي وأنا أقول: "اللهم إني أسألك الجنة ونعيمها، وبهجتها، وكذا وكذا وأعوذ بك من النار وسلاسلها وأغلالها وكذا وكذا، فقال: يا بني إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "سيكون قوم يعتدون في الدعاء"، فإياك أن تكون منهم، إن أعطيت الجنة أعطيتها وما فيها من الخير، وإن أعذت من النار أعذت منها وما فيها من الشر"
(1)
(2)
.
وقد علل بعض العلماء نهي سعد لابنه عن هذا بكونه طلبًا لما لا يليق به من منازل الأنبياء ويمكن أن يكون النهي لعدة علل لأن العلل لا تتزاحم فالشيء الواحد قد تكون له عدة علل.
وقد تقدم نقل ما يفيد ذلك في نهي عبد الله بن مغفل لابنه عن نحو ذلك.
4 -
تكلف
(3)
السجع في الدعاء، وتكلف صنعة الكلام له، وفي البخاري عن ابن عباس في وصيته لمولاه عكرمة:"فانظر السجع من الدعاء فاجتنبه فإني عهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لا يفعلون إلا ذلك الاجتناب"
(4)
.
(1)
أخرجه أبو داود: 2/ 161 رقم 1480، وأحمد: 1/ 171، 183، وصححه الألباني في صحيح الجامع: 3/ 218 رقم 3565.
(2)
الرد على البكري ص: 94 - 95.
(3)
قد عقد البخاري بابًا فقال: باب ما يكره من السجع من الدعاء: "البخاري مع الفتح: 11/ 138".
(4)
البخاري مع الفتح: 11/ 138 رقم 6337.
والسجع المذموم في الدعاء هو المتكلف فإنه يذهب بالخشوع والخضوع والإخلاص ويلهي عن الضراعة والافتقار وفراغ القلب، فأما ما حصل بلا تكلف ولا إعمال فكر لكمال الفصاحة ونحو ذلك أو كان محفوظاً فلا بأس به بل هو حسن
(1)
.
ويدل لذلك ما ورد من الأدعية مسجعاً نحو قوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع"
(2)
.
ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، هازم الأحزاب"
(3)
.
وهذا الذي وقع في الأحاديث الصحيحة من السجع كان يصدر من غير قصد إليه. ولأجل هذا يجيء في غاية الانسجام
(4)
.
وقد أنكر العلماء الأدعية المسجعة إنكاراً شديداً وبيّنوا كونها من موانع إجابة الدعاء، قال القرطبي بعد أن ذكر أنواع الاعتداء في الدعاء:"ومنها أن يدعو بما ليس في الكتاب والسنة فيتخير ألفاظاً مفقرة وكلمات مسجعة، قد وجدها في كراريس لا أصل لها ولا معول عليها، فيجعلها شعاره ويترك ما دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل هذا يمنع من استجابة الدعاء"
(5)
.
والقرطبي رحمه الله تعالى يشير بهذا إلى ما يصطنعه بعض الناس من الأدعية المبتدعة وتكون في الغالب أحزاباً مجزأة على عدد الأيام والشهور
(1)
شرح النووي: 17/ 41، وغذاء الألباب للسفاريني: 1/ 409، وشرح الإحياء: 5/ 38.
(2)
أخرجه مسلم: 4/ 2088 رقم 2722.
(3)
أخرجه البخاري: 6/ 120 رقم 2966، ومسلم: 3/ 1363 رقم 1742.
(4)
فتح الباري: 11/ 139.
(5)
الجامع لأحكام القرآن: 7/ 226.
أو على الحوادث والملمات كما أنها تكون بالسجع المتكلف، ويزداد الأمر سوءاً وخطراً إذا كانت مشتملة على الاعتداء في المعنى بالاستغاثة بغير الله تعالى ونحو ذلك.
ثم إن الذين يدعون بتلك الأدعية يغنون ويطربون بها وربما تشبه أصواتهم أصوات المغنين، وقد أنكر العلماء هذه الفعلة في الأدعية أيضاً.
قال الكمال ابن الهمام الحنفي (ت 861 هـ):
ما تعارفه الناس في هذه الأزمان من التمطيط والمبالغة في الصياح والاشتهار لتحريرات النغم إظهاراً للصناعة النغمية لا إقامة للعبودية فإنه لا يقتضي الإجابة بل هو من مقتضيات الرد وهذا معلوم إن كان قصده إعجاب الناس فكأنه قال: اعجبوا من حسن صوتي وتحريري، ولا أرى أن تحرير النغم في الدعاء كما يفعله القراء في هذا الزمان يصدر ممن يفهم معنى الدعاء والسؤال وما ذاك إلا نوع لعب فإنه لو قدر في الشاهد سائل حاجة من ملك أدى سؤاله وطلبه بتحرير النغم فيه من الخفض والرفع والتطريب والترجيع كالتغني نسب البتة إلى قصد السخرية واللعب إذ مقام طلب الحاجة التضرع لا التغني فاستبان أن ذاك من مقتضيات الخيبة والحرمان
(1)
.
وممن أنكر ذلك أيضاً المفسر الألوسي فإنه ذكر كراهة رفع الصوت بالدعاء ثم قال: "وترى كثيراً من أهل زمانك يعتمدون الصراخ في الدعاء، خصوصاً في الجوامع حتى يعظم اللغط ويشتد، وتستك المسامع وتستد، ولا يدرون أنهم جمعوا بين بدعتين رفع الصوت في الدعاء، وكون ذلك في المسجد"
(2)
.
(1)
فتح القدير لابن الهمام: 1/ 261 - 163، وفيض القدير للمناوي: 1/ 229 نقلاً عنه.
(2)
روح المعاني: 8/ 139.
وممن أنكر ذلك قبل هؤلاء أبو بكر الطرطوشي فإنه ذكر أن ذلك ليس من كلام الماضين وأنَّه ينافي مقام الدعاء من التذلل والخشوع إذ السجع تكلف وتصنع واشتغال الخواطر بإقامة الأوزان
(1)
.
هذا وبعد أن استعرضنا ما ذكره العلماء من معاني الاعتداء ينبغي أن يعلم أنه ليس معنى الاعتداء الإكثار من الدعاء خلافاً لما يتبادر من لفظ الاعتداء لأننا أمرنا بالإكثار من الدعاء
(2)
.
عدم التلبس بالحرام
(3)
:
من أهم آداب الدعاء أن يكون الداعي مجتنباً للتلبس بالحرام أكلاً وشرباً ولبساً وتغذية فلهذا ينبغي له أن يتحرى ويجتهد إذا أراد أن يكون مجاب الدعوة، في أن يكون متلبساً بالحلال أكلاً وشرباً ولبساً وتغذية.
فللحلال سر عجيب في قبول الأعمال عند الله تعالى ..
كما أن للحرام منعاً وسداً وشؤماً على متناوله، ومن ذلك رد طاعته، وعدم قبول الأعمال، ومن الأعمال المهمة التي ترد بالتلبس بالحرام الدعاء، فقد جاء ذلك مصرحاً في حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال:{يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51)} [المؤمنون: 51]، وقال:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172]، ثم ذكر الرجل
(1)
كتاب الحوادث والبدع ص: 121، والدعاء المأثور ص:146.
(2)
شأن الدعاء للخطابي ص: 14.
(3)
هذا الأدب دلت عليه الأدلة المذكورة ومع ذلك نشير إلى من ذكر أنه من آداب الدعاء وذلك للاستئناس بأقوال العلماء وكذلك نفعل فيما يأتي من الآداب فمن العلماء الذين ذكروا هذا الأدب الطرطوشي وقال: ولعله من شروطه كما في الأزهية ص: 71، والدعاء المأثور ص: 57، والقرطبي في الجامع: 2/ 311 وجعله من شروط الداعي، وابن الجزري في عدة الحصن مع التحفة ص: 43 وجعله آكد الآداب.
يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب، ومطعمه حرام ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك"
(1)
.
وفي هذا الحديث إشارة إلى أنه لا يقبل العمل ولا يزكو إلا بأكل الحلال، وإن أكل الحرام يفسد العمل ويمنع قبوله وذكر الدعاء كمثال على العمل الصالح الذي لا يقبل مع الحرام وإن أكل الحرام وشربه ولبسه والتغذي به سبب موجب لعدم إجابة الدعاء
(2)
.
وفي الحديث أيضاً الإشارة إلى أنه ينبغي الاعتناء بالحلال لمن أراد الدعاء أكثر من غيره
(3)
.
وهذا الذي ذكر من أن التلبس بالحلال من أسباب الإجابة كما أن التلبس بالحرام يمنع من الإجابة، ليس معناه أن هذا لازم في كل دعاء وأنَّه لا يقبل أي دعاء إلا ممن يأكل الحلال، وإنما هذا إشارة إلى أن هذا هو الدعاء الأقرب إلى الإجابة وإلى هذا المعنى أشار في الحديث بقوله:"فأنى يستجاب له" أي "كيف يستجاب له فهو استفهام وقع على وجه التعجب والاستبعاد وليس صريحاً في استحالة الاستجابة، ومنعها بالكلية، فيؤخذ من هذا أن التوسع في الحرام والتغذي به من جملة موانع الإجابة، وقد يوجد ما يمنع هذا المانع من منعه"
(4)
.
عدم الاستعجال
(5)
:
ومن أهم آداب الدعاء أن لا يستعجل الداعي في دعوته، فيستحسر
(1)
أخرجه مسلم: 2/ 703 رقم 1015.
(2)
جامع العلوم والحكم: 93، 100.
(3)
شرح النووي: 7/ 100.
(4)
جامع العلوم والحكم ص: 100.
(5)
ذكره الحليمي ولكنه جعله من الأركان أو الشروط المنهاج: 1/ 522، 530، والقرطبي: 2/ 311 وابن الجزري في العدة ص: 44، والطرطوشي في الدعاء المأثور ص: 49، وابن الجوزي كما في غذاء الألباب: 2/ 506.
ويسأم ويترك الدعاء، واللائق بالعبد أن يلازم الطلب ولا ييأس ولا يستعجل، فإن العبد لا يعرف المصلحة هل هي في وقوع المطلوب بالسرعة أو في تأخيرها أو دفع بلاء آخر لا يدريه هو أو ادخار الأجر له في الآخرة؟ وليس ذلك من شأن العبد فعليه أن يكل الأمور إلى عالم الغيب والشهادة ويسأل الله تعالى، ثم إن الدعاء عبادة عظيمة، وليس لمجرد قضاء الحاجات السريعة فقط.
وقد ورد النهي عن استعجال الدعاء وأن ذلك من موانع الإجابة فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: دعوت فلم يستجب لي" وفي لفظ لمسلم: "لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ما لم يستعجل، قيل: يا رسول الله: ما الاستعجال؟ قال: يقول: قد دعوت، وقد دعوت فلم أرَ يستجيب لي فيستحسر عند ذلك ويدَعُ الدعاء"
(1)
.
وقال بعضهم: "لا يكن تأخرُ أَمَدِ العطاء مع الإلحاح في الدعاء مُوجباً ليأسك فهو الذي ضمن لك الإجابة فيما يختاره لك لا فيما تختاره لنفسك، وفي الوقت الذي يريد لا في الوقت الذي تريد"
(2)
.
ولعل الحكمة في المنع
(3)
من ذلك:
1 -
أن هذا القول يدل على تضجر قائله وملله وهذا يؤدي إلى انقطاعه عن الدعاء وتركه له، وفي ذلك ترك لأهم العبادات، وقد أشير إلى هذا في الحديث بقوله:"فيستحسر عند ذلك ويدَع الدعاء".
2 -
أن هذا القول فيه اتهام للرب تبارك وتعالى وتبخيل للكريم
(1)
أخرجه البخاري: 11/ 140 رقم 6340، ومسلم: 4/ 2095 - 2096 رقم 2735، وابن ماجه: 2/ 1266 رقم 3853.
(2)
الحكم العطائية مع شرحها غيث المواهب العلية ص: 64.
(3)
انظر المنهاج للحليمي: 1/ 530، والفتح: 11/ 140 - 141، وإتحاف السادة: 5/ 39.
الجواد الذي لا تعجزه الإجابة ولا ينقصه العطاء حيث يظن هذا الداعي أنه قد أتى من الدعاء ما يستحق به الإجابة ولكن الله تعالى لم يستجب له.
3 -
أن الاستعجال والتضجر من التأخر فعل من له حق عند آخر يقتضيه وليس لأحد من الله حق حاصل عنده متأخر عنه فيستعجل به ويتضجر من تأخره مع أن إجابة الدعاء فضل من الله تعالى على العبد الداعي يعطيه إذا شاء تفضلاً وتكرماً ولكنه يعطيه في الوقت المناسب على الوجه المناسب الذي يريده لا على ما يريده العبد.
هذا ومما ينبغي التفطن له أنه ليس من معنى
(1)
الاستعجال: سؤال الداعي ربه أن يعجل له الإجابة.
عدم التعليق
(2)
:
من آداب الدعاء المهمة أن لا يعلق الدعاء ولا يتردد، بل عليه العزم والجد والاجتهاد في الطلب من غير ضعف ولا تردد، ولا تعليق على المشيئة، وذلك بأن يقول: اللهم اغفر لي إن شئت، أو أعطني إن شئت.
وإنما لم يحتج إلى التعليق على المشيئة مع أنه مطلوب في كل شيء يقع في المستقبل؛ لأنَّه إنما يحتاج إلى ذلك إذا كان المطلوب منه يتأتى إكراهه على الشيء فيخفف الأمر عليه، ويُعلم بأنه لا يطلب منه ذلك الشيء إلا برضاه، وأما الله سبحانه فإنه لا مكره له فلا فائدة في التعليق
(3)
.
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالعزم في الطلب، ونهى عن التعليق بالمشيئة فقد روى أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دعا أحدكم
(1)
انظر تحفة الذاكرين ص: 50.
(2)
ذكره الحليمي في الآداب في المنهاج: 1/ 523، 531، والغزالي في الإحياء: 1/ 364، وعنه النووي في الأذكار ص: 364، وابن الجزري ص:44.
(3)
المنتقى للباجي: 1/ 356، والفتح: 11/ 140، وشرح النووي: 7/ 17.
فليعزم المسألة، ولا يقولن: اللهم إن شئت فأعطني فإنه لا مستكره له"
(1)
.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقولن أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت ليعزم المسألة فإنه لا مستكره له". وفي لفظ لمسلم: "وليعظم الرغبة فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه". وفي لفظ آخر له أيضاً: "فإن الله صانع ما شاء لا مكره له"
(2)
ففي هذه الأحاديث أنه ينبغي للداعي أن يجتهد في الدعاء ويكون على رجاء الإجابة ولا يقنط من الرحمة فإنه يدعو كريماً، وقد قال ابن عيينة: "لا يمنعن أحدًا من الدعاء ما يعلم في نفسه -يعني من التقصير- فإن الله قد أجاب دعاء شر خلقه وهو إبليس حين قال: {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79)}
(3)
.
وقد فسر بعضهم العزم الوارد في هذه الأحاديث بحسن الظن بالله تعالى في الإجابة
(4)
. وهو قريب من المعنى الأول، وحسن الظن مطلوب في الدعاء أيضاً لما ورد في الحديث القدسي:"أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا دعاني"
(5)
.
ومما ينبغي أن يعلم أن النهي عن التعليق خاص بما هو خير محض من المطالب الدينية كسؤال الرحمة والمغفرة والمطالب الدنيوية المعينة على الدين كالعافية والرزق، وأما الأمور التي لا يتحقق العبد مصلحتها وعواقبها فيعلقها على اختيار ربه له الأصلح كما في دعاء الاستخارة الوارد
(6)
.
(1)
البخاري مع الفتح: 11/ 139 رقم 6338، ومسلم: 4/ 2063 رقم 2678.
(2)
البخاري مع الفتح: 11/ 139 رقم 6339، ومسلم 4/ 2063 رقم 2679.
(3)
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 2/ 313، وفتح الباري: 11/ 140.
(4)
شرح النووي: 17/ 7.
(5)
أخرجه مسلم: 4/ 2067 رقم 2675.
(6)
انظر في هذا الفرق بين المطالب في القول السديد ص: 136 - 137.
والسر في النهي عن التعليق هو أن عدم العزم في السؤال لا يليق بالبائس الفقير ذي الحاجة الشديدة وإنما يليق بمن يمكن الاستغناء له، ولا أحد يستغني عن فضل الله وجوده وكرمه، وأما المضطر فإنه يجزم ويسأل سؤال الفقير المضطر إلى ما سأله
(1)
.
ثم إن الداعي إذا لم يكن جازماً لم يكن رجاؤه صادقاً قوياً لأن الباعث على الدعاء هو الرجاء فإذا كان الغالب على قلب الداعي أنه لا يجاب لم يكن رجاؤه صادقاً، فلا يخلص الدعاء ولا يتحقق منه الإلحاح في الطلب لأنَّه لم يتحقق الباعث عليه، والداعي إنما يجاب تصديقاً لرجائه فإذا لم يصدق رجاؤه لم يستوجب أن يجاب
(2)
.
وذلك لأن روح الدعاء وسره هو رغبة النفس في الشيء مع تطلعها إلى الملأ الأعلى والطلب بالشك يشتت العزيمة ويفتر الهمة
(3)
.
ثم إن عدم الجزم فيه سوء ظن بالله تعالى لأن الداعي إذا لم يدع ربه على يقين أنه يجيبه فعدم إجابته إما لعجز المدعو، أو بخله، أو عدم علمه بالابتهال، وكل هذا محال على الله تعالى
(4)
.
عدم الغفلة والتكاسل
(5)
:
فالدعاء دواء نافع مزيل للداء ولكن غفلة القلب تبطل قوته، ومن المعلوم أن مقصود مقصود الدعاء هو حضور القلب ولكن الغفلة وضعف حضور القلب وعدم إقباله على الله وجمعيته عليه وقت الدعاء، هذه الأمور
(1)
المنتقى شرح الموطأ للباجي: 1/ 356 - 357، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 2/ 312.
(2)
المنهاج للحليمي: 1/ 527، وفيض القدير: 1/ 228، وإتحاف السادة: 5/ 39.
(3)
حجة الله البالغة: 2/ 74.
(4)
فيض القدير: 1/ 228.
(5)
ذكره ابن القيم في الجواب الكافي وعدَّ وجود الغفلة من موانع الإجابة ص: 7، والنووي في الأذكار:356.
تضعف قوة الدعاء وتبطل تأثيره فيكون بمنزلة القوس الرخو جداً فإن السهم يخرج منه خروجاً ضعيفاً
(1)
. ولهذا حث الرسول صلى الله عليه وسلم على حضور القلب وحذر من الغفلة وأخبر أنها مانعة من قبول الدعاء، فقال صلوات الله وسلامه عليه:"ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلب غَافِل لَاهٍ"
(2)
.
هذا إذا كان يمكن للداعي إحضار قلبه فأما إذا كان لا يمكنه ذلك وليس في وسعه إلا الدعاء وهو ساه فالدعاء أفضل من تركه
(3)
.
(1)
الجواب الكافي ص: 7.
(2)
أخرجه الترمذي: 5/ 517 رقم 3479، والطبراني في الدعاء: 2/ 812 رقم 62، والحاكم: 1/ 493، وقال: حديث مستقيم تفرد به صالح المري وهو أحد زهاد أهل البصرة، وتعقبه الذهبي بقوله صالح متروك، وسبقه إلى ذلك المنذري في الترغيب: 2/ 277، وقال النووي: إسناده فيه ضعف، الأذكار ص: 356، ولكن الحديث له شاهد بسند ضعيف عند أحمد: 2/ 177 من حديث ابن عمر وفيه ابن لهيعة، ولهذا الشاهد قواه الألباني ووضعه في الصحيحة: 2/ 143 رقم 594، وله شاهد آخر مرسل أخرجه ابن المبارك في الزهد من رواية نعيم من طريق صفوان بن سليم مرفوعاً: "إن القلوب أوعية وبعضها أوعى من بعض فادعوا الله
…
إلخ"، الزهد ص: 21 رقم 85. هذا وقد ضعف الحديث الحافظ العراقي وتلميذه الحافظ ابن حجر كما في شرح الإحياء: 5/ 39، وفيض القدير: 1/ 229.
(3)
الفتاوى البزازية: 4/ 41، وفتاوى قاضيخان: 3/ 422.
المبحث الثاني في آداب الدعاء الثبوتية
فالمراد من الثبوتية هي الآداب التي يطلب ثبوتها ووجودها، فلهذا يمكن تسميتها آداباً وجودية أو إيجابية، بمعنى الإيجاب ضد النفي والسلب، وهذه الآداب الثبوتية كثيرة نقتصر هنا على أهمها وأصحها دليلاً، وهي كالآتي:
1 -
الإخلاص.
2 -
التوبة.
3 -
التضرع والخشوع.
4 -
الإلحاح والتكرار.
5 -
الإكثار من الدعاء في الرخاء.
6 -
خفض الصوت.
7 -
التوسل بأسماء الله الحسنى.
8 -
اختيار جوامع الكلم.
9 -
استقبال القبلة.
10 -
الطهارة.
11 -
الافتتاح بالثناء على الله تعالى والصلاة على نبيه محمد وعلى آله وصحبه صلى الله عليه وسلم.
12 -
رفع اليدين.
13 -
تحري الأوقات الفاضلة.
14 -
تحري الأماكن الفاضلة.
15 -
تحري الأحوال الفاضلة.
فهذه هي بعض الآداب الثبوتية إجمالاً وإليك تفصيلها بإيجاز:
الإخلاص في الدعاء
(1)
:
وهو أهم هذه الآداب وأوكدها لأن عدم إخلاص الدعاء الله تعالى تارة يكون شركاً صريحاً مخرجاً عن الملة، وقد يكون شركاً أصغر فيكون الدعاء محبطاً لا يمكن قبوله واستجابته.
وقد أمر الله تعالى بالإخلاص في الدعاء فقال: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14)} [غافر: 14].
وقال تعالى: {هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [غافر: 65].
وقال عز من قائل: {وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29)} [الأعراف: 29].
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله، وقد دلت الآية يعني بها قوله تعالى:{فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [غافر: 65] أن الإجابة مشترطة بالإخلاص
(2)
.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "إن الله لا يقبل من مسمع، ولا
(1)
قد ذكره في آداب الدعاء كثيرون منهم الخطابي وجعله من شرائط صحة الدعاء في كتابه شأن الدعاء ص: 13، والقرطبي جعله أيضاً من شرط الداعي في أحكام القرآن: 2/ 311، وابن الجزري في العدة مع التحفة:43.
(2)
فتح الباري: 11/ 95.
مراء، ولا لاعب، ولا داع إلا داعياً دعاء ثبتاً من قلبه"
(1)
.
والإخلاص في الدعاء يستوجب الاعتقاد بأن المدعو هو القادر وحده على قضاء حاجته كما يستوجب دعاءه بنية صادقة وقد عبر القرطبي عن الإخلاص في الدعاء بقوله: "فمن شرط الداعي أن يكون عالماً بأن لا قادر على حاجته إلا الله، وأن الوسائط في قبضته ومسخرة بتسخيره، وأن يدعو بنية صادقة"
(2)
.
وقد تبين من هذا أن الإخلاص لله تعالى وصحة الاعتقاد له أثره الخاص في استجابة الدعاء ومن هنا قيل: "إجابة الدعاء تكون عن صحة الاعتقاد وعن كمال الطاعة لأنَّه عقب آية الدعاء بقوله: "فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي"
(3)
.
التوبة
(4)
والرجوع إلى الله تعالى:
فإن المعاصي من الأسباب الرئيسية في منع قبول الدعاء، فينبغي للداعي أن يبادر إلى التوبة والاستغفار قبل دعائه ليكون مؤهلاً لقبول دعوته.
(1)
أخرجه ابن المبارك في الزهد برواية نعيم ص: 20 رقم 83 وبوب عليه باب الإخلاص في الدعاء، وأحمد في الزهد ص: 159، ووكيع في الزهد: 2/ 579، رقم 305، وهناد بن السري في الزهد: 2/ 442 رقم 874، والبخاري في الأدب المفرد: 2/ 65 رقم 606 وإسناده صحيح كما قاله محقق زهد وكيع الشيخ عبد الرحمن الفريوائي.
(2)
الجامع لأحكام القرآن: 2/ 311.
(3)
الفتاوى: 14/ 33 - 34.
(4)
ذكرها الحليمي في المنهاج: 1/ 523، 530، والغزالي في الإحياء: 1/ 365، وعنه النووي في الأذكار ص: 354، والزركشي في الأزهية ص: 70 وعنه في إتحاف السادة: 5/ 41 وبدأ الحليمي والزركشي بالتوبة قبل غيرها من الآداب، وابن القيم في الجواب الكافي ص: 10، وابن الجزري ص: 44 التحفة، وقد ذكر البخاري باب التوبة في أوائل كتاب الدعاء إشارة إلى كونها من آدابه، انظر الفتح: 11/ 102.
وقد كان الأنبياء يحثون أممهم على التوبة والاستغفار ويخبرونهم أن ذلك سبب لنزول المطر وإدرار السماء والإمداد بالأموال والبنين، وغير ذلك.
قال نوح عليه السلام: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12)} [نوح: 10 - 12].
وقال هود عليه السلام: {وَيَاقَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} [هود: 52].
وقال تعالى في هذه الأمة {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا} [هود: 3].
ومما يدل على أن التوبة من الأسباب المهمة لقبول الدعاء ما ورد من الأحاديث التي تدل على أن المعاصي سبب لرد إجابة الدعاء وقد تقدم بعضها عند ذكر التلبس بالحرام.
التضرع
(1)
والخشوع والتذلل والرغبة والرهبة:
وهذا هو روح الدعاء ولبه ومقصوده
(2)
فالله سبحانه وتعالى يحب عبده الذي إذا ابتلاه تضرع إليه وتملق له وتذلل وقرع بابه وأدام ذلك ولا يحب من لا يتضرع ولا يتذلل ويعتدي في الدعاء بعدم التضرع أو رفع الصوت أو غير ذلك.
قال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55)} [الأعراف: 55].
(1)
وقد ذكره غير واحد في آداب الدعاء كالخطابي في شأن الدعاء ص: 13، وابن القيم في الجواب ص: 10، والغزالي في الإحياء: 1/ 364، وعنه النووي في الأذكار ص 364، وابن الجزري في عدة الحصن ص: 44، وابن الجوزي كما في غذاء الألباب: 2/ 506.
(2)
الفتاوى: 15/ 16.
فأمر الله تعالى بدعائه بتضرع وخفية وحذر من الاعتداء، قال شيخ الإسلام رحمه الله:"ومن العدوان أن يدعوه غير متضرع، بل دعاء هذا كالمستغني المدل على ربه، وهذا من أعظم الاعتداء لمنافاته لدعاء الذليل، فمن لم يسأل مسألة مسكين متضرع خائف فهو معتد"
(1)
.
وقد وصف الله زكريا عليه السلام وأهله بأنهم يدعون الله تعالى رغبة ورهبة فقال: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)} [الأنبياء: 90]، هذا والتضرع هو حقيقة الدعاء ولا يخفى على العاقل ما فيه من أثر واضح في إجابة الدعاء ولهذا كان كل من يصدق في رغبته في الدعاء لا بد أن يتضرع حتى ولو كان مشركاً في غير وقت الرغبة الصادقة الملحة، قال تعالى:{قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأنعام: 63].
الإلحاح
(2)
والتكرار وعدم الضجر والملل:
ويحصل الإلحاح بتكرار الدعاء مرتين وثلاثاً وأكثر لكن الاقتصار على الثلاث مرات أفضل اتباعاً
(3)
للحديث حيث ورد ما يدل على تكريره للدعاء ثلاث مرات فقد روى ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعجبه أن يدعو ثلاثاً ويستغفر ثلاثاً
(4)
.
(1)
الفتاوى: 15/ 23.
(2)
ذكره الحليمي وعده من الآداب: 1/ 553، 531، وابن القيم في الجواب الكافي ص: 5، والغزالي في الإحياء: 1/ 364، وعنه النووي في الأذكار ص: 354، وبوب البخاري فقال باب تكرير الدعاء: 11/ 192، وذكره ابن الجوزي كما في غذاء الألباب: 2/ 506.
(3)
إتحاف السادة: 5/ 39.
(4)
أبو داود: 2/ 182 رقم 1524، والنسائي في عمل اليوم والليلة ص: 331 رقم 457، وعنه ابن السني ص: 178 رقم 368، وابن حبان:"موارد 598 رقم 2410" والحديث رجاله ثقات.
ووقع في حديث عائشة رضي الله عنها في قصة سحره صلى الله عليه وسلم: "فدعا ثم دعا ثم دعا"
(1)
.
وإذا بحثنا عن أدعية النبي صلى الله عليه وسلم لا نجد كثيراً منها فيها التكرار والبسط والتطويل وذكر كل معنى بصريحه نحو قوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخّرت وما أسررت وما أعلنت وما أنت أعلم به مني"
(2)
.
ومعلوم أنه لو قيل اغفر لي كل ما صنعت لكان أوجز ولكن في مقام الدعاء والتضرع وإظهار العبودية والافتقار فالتفصيل والبسط أفضل من الإيجاز والاختصار وذلك أن الدعاء عبودية لله وافتقار إليه وتذلل بين يديه، فكل ما كثره العبد وطوله وأعاده وأبداه ونَوَّعَ جمله كان ذلك أبلغ لعبوديته وإظهار فقره وتذلله وكان ذلك أقرب له من ربه وأعظم لثوابه، هذا بخلاف المخلوق فإنك كلما كثرت سؤاله وكررت حوائجك إليه أبرمته وثقلت عليه وهنت عنده وكلما تركت سؤاله كنت أعظم عنده ولهذا قال بعضهم:
فالله يغضب إن تركت سؤاله
…
وبني آدم حين يسأل يغضب
(3)
الدعاء
(4)
في الرخاء والإكثار منه في وقت اليسر والسعة:
إن من شأن العبد الصالح أن يلازم الدعاء في حالتي الرخاء والشدة، وأما غير الصالح فإنه لا يلتجيء إلى الله تعالى إلا في وقت الشدة ثم ينساه، وهذا شأن أكثر الناس إلا من عصمه الله، فقد ذكر الله تعالى هذه الطبيعة البشرية في عدة آيات من كتابه العزيز، قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ
(1)
مسلم: 4/ 1719 رقم 2189، ونحوه في البخاري: 11/ 193 رقم 6391 ورقم 5763.
(2)
أخرجه مسلم: 1/ 536 رقم 771 من حديث علي.
(3)
جلاء الأفهام: 175 - 176.
(4)
ذكره الحليمي من الآداب في المنهاج: 1/ 523، 531، وابن الجوزي كما في: غذاء الألباب: 2/ 506.
الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ} [يونس: 12].
وقال عز من قائل: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا} [الزمر: 8].
وقال جل جلاله {فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ} [الزمر: 49].
وقال تبارك وتعالى: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51)} [فصلت: 51].
فقد بيّن الله في هذه الآيات وأمثالها طبيعة ابن آدم في الالتجاء إلى الله في الشدائد ونسيانه في الرخاء.
كما بيّن في آيات أخر مثالاً واقعياً من تلك الطبيعة البشرية فذكر حالة الذين تضطرب بهم السفن وتتلاطم بهم الأمواج وأنهم يخلصون في هذه الحالة.
قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67)} [الإسراء: 67].
وقال تعالى: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)} [لقمان: 32].
والذي ينبغي أن يكون عليه المسلم أن يلازم الدعاء في الرخاء والشدة وذلك أسرع في إجابة دعائه، كما ورد في حديث ابن عباس المشهور:"تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة"
(1)
.
(1)
أخرجه أحمد: 1/ 307، 303، 393، والترمذي: 4/ 667 رقم 2516، وابن السني في عمل اليوم والليلة ص: 202 رقم 425، والحاكم: 3/ 541، =
والمراد بالمعرفة المطلوبة من العبد في الحديث هي: "المعرفة الخاصة التي تقتضي ميل القلب إلى الله بالكلية والانقطاع إليه والأنس به والطمأنينة بذكره والحياء منه والهيبة له"
(1)
، ومن المعرفة أيضاً إخلاص الدعاء له في حالة الرخاء، وكذلك المراد بمعرفة الله لعبده هو المعرفة الخاصة التي تقتضي محبته لعبده وتقريبه إليه وإجابته لدعائه وإنجاءه من الشدائد وهي المشار إليها بقوله صلى الله عليه وسلم فيما يحكي عن ربه:"ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه وفي رواية ولئن دعاني لأجيبنه"
(2)
.
وفي الجملة فمن عامل الله بالتقوى والطاعة في حال رخائه عامله الله باللطف والإعانة في حال شدته
(3)
.
ومن الأحاديث الدالة على سرعة إجابة دعاء من يلازم الدعاء في الرخاء ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: "من سره أن يستجيب الله له عند الشدائد والكُرَب فليكثر الدعاء في الرخاء"
(4)
.
= والطبراني في الدعاء: 2/ 803 رقم 41، 42، والآجري ص: 198، وابن أبي عاصم في السنة: 1/ 138 رقم 316 - 318 ويراجع في الكلام على الحديث جامع العلوم: 774، 178، وقد صحح الحديث الشيخ الألباني في صحيح الجامع: 2/ 44 رقم 2958، وفي ظلال الجنة: 1/ 138 رقم 316. وانظر بقية الكلام على هذا الحديث وطرقه في ص: 533.
(1)
جامع العلوم: 178.
(2)
أخرجه البخاري: 11/ 341 رقم 6502.
(3)
جامع العلوم: 179.
(4)
رواه الترمذي: 5/ 462، والحاكم: 1/ 544، وابن عدي: 5/ 1990، والطبراني في الدعاء: 2/ 805، وقد صححه الحاكم ووافقه الذهبي وحسنه الألباني في صحيح الجامع: 5/ 300 رقم 6166.
خفض الصوت بالدعاء
(1)
:
من آداب الدعاء المهمة مخافتة الدعاء والإسرار به وعدم الجهر به، قال تعالى:{ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55)} [الأعراف: 55].
وروى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه أنهم كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فجعل الناس يجهرون بالتكبير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
"أيها الناس اربعوا على أنفسكم إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، إنكم تدعون سميعاً قريباً وهو معكم"
(2)
. وقد فسرت عائشة رضي الله عنها قوله تعالى: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} [الإسراء: 110] أي بدعائك
(3)
.
وقال الإمام أحمد رحمه الله: "ينبغي أن يسر دعاءه لقوله تعالى: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا}، قال هذا في الدعاء"، وقال أيضاً:"كانوا يكرهون أن يرفعوا أصواتهم بالدعاء"
(4)
.
وقال الحسن البصري رحمه الله: "إن كان الرجل لقد جمع القرآن وما يشعر به جاره، وإن كان الرجل لقد فقه الفقه الكثير وما يشعر به الناس، وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة في بيته وعنده الزوار وما يشعرون به، ولقد أدركنا أقواماً ما كان على ظهر الأرض من عمل يقدرون على أن يفعلوه في سر فيكون علانية أبداً، ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يسمع لهم صوت، إن كان إلا همساً بينهم وبين ربهم عز
(1)
ذكره الحليمي في المنهاج: 1/ 123، 535، وابن تيمية في الفتاوى: 15/ 15، وابن القيم في بدائع الفوائد: 3/ 6، والغزالي في الإحياء: 1/ 363، وعنه في الأذكار ص 353، وابن الجزري في العدة ص: 44، وابن الجوزي كما في غذاء الألباب: 2/ 505، والطرطوشي في الدعاء المأثور ص:50.
(2)
أخرجه البخاري: 6/ 135 رقم 2992، ومسلم: 4/ 2076 رقم 2704.
(3)
أخرجه البخاري في التفسير: 8/ 405 رقم 4723.
(4)
غذاء الألباب للسفاريني: 1/ 408، واقتضاء الصراط ص:311.
وجل، ذلك أن الله تعالى يقول:{ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} وذلك أن الله تعالى ذكر عبداً صالحاً ورضي قوله فقال: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3)} [مريم: 3] ".
وقد وردت في بعض طرق هذا الأثر زيادة في أوله: "بين دعوة السر ودعوة العلانية سبعون ضعفاً"
(1)
. ونقل نحو هذا عن ابن عباس في صدقة السر والعلانية ثم قال: وكذلك جميع الفرائض والنوافل في الأشياء كلها
(2)
. وهذا الأثر الموقوف على ابن عباس له حكم الرفع.
قال القرطبي: "مثل هذا لا يقال من جهة الرأي وإنما هو توقيف"
(3)
.
وذكر شيخ الإسلام رحمه الله عشرة فوائد في إخفاء الدعاء
(4)
أذكرها مع طولها لنفاستها وكونها درراً من الحكم والأسرار العظيمة التي تضمنه كلامه رحمه الله.
أحدها: أنه أعظم إيماناً لأن صاحبه يعلم أن الله يسمع الدعاء الخفي.
وثانيها: أنه أعظم في الأدب والتعظيم لأن الملوك لا ترفع الأصوات عندهم ولله المثل الأعلى.
وثالثها: أنه أبلغ في التضرع والخشوع الذي هو روح الدعاء ولبه
(1)
أخرجه ابن المبارك في الزهد ص: 45 رقم 40، ومن طريقه ابن جرير: 7/ 206، وذكره البغوي في التفسير: 2/ 166، وابن تيمية في الفتاوى: 15/ 15، وابن القيم في بدائع الفوائد: 3/ 6، وابن كثير في تفسيره: 2/ 221.
(2)
أخرجه ابن جرير: 3/ 92.
(3)
الجامع لأحكام القرآن: 3/ 332.
(4)
ذكر ذلك في الفتاوى: 15/ 15 - 19، وساقها ابن القيم قريباً من عبارة شيخه مع: بعض الزيادات في بدائع الفوائد: 3/ 6، وانظر أيضاً قواعد الأحكام للعز: 2/ 176 - 177 - 178.
ومقصوده، فإن الخاشع الذليل إنما يسأل مسألة مسكين ذليل قد انكسر قلبه، وذلت جوارحه، وخشع صوته، حتى إنه ليكاد تبلغ ذلته وضراعته إلى أن ينكسر لسانه فلا يطاوعه بالنطق، وقلبه يسأل طالباً مبتهلاً، ولسانه لشدة ذلته ساكتاً، وهذه الحال لا تأتي مع رفع الصوت بالدعاء أصلاً.
ورابعها: أنه أبلغ في الإخلاص.
وخامسها: أنه أبلغ في جمعية القلب على الله في الدعاء فإنَّ رفع الصوت يفرقه فكلما خفض صوته كان أبلغ في تجريد همته وقصده للمدعو سبحانه.
وسادسها: أنه دال على قرب صاحبه إلى من يدعوه وهو الله القريب المجيب ولا يكون من نداء البعيد للبعيد حتى يحتاج إلى رفع الصوت.
ولهذا أثنى الله على عبده زكريا بقوله عز وجل: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3)} [مريم: 3]، ففي ذلك استحضار القلب قرب الله عز وجل، وأنَّه أقرب إليه من كل قريب فلهذا يخفي دعاءه ما أمكن وإلى ذلك أشار صلى الله عليه وسلم بقوله:"اربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً إنكم تدعون سميعاً قريباً أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته".
وقال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة: 186].
وهذا القرب من الداعي هو قرب خاص، فهو قريب من داعيه وقريب من عابديه وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد.
وسابعها: أنه أدعى إلى دوام الطلب والسؤال فإن اللسان لا يمل والجوارح لا تتعب بخلاف ما لو رفع فإنه يضعف.
وثامنها: أن إخفاء الدعاء أبعد له من القواطع والمشوشات فإنه إذا أخفى دعاءه لم يدر به أحد حتى يشوش عليه، وربما تعلقت نفس الداعي بمراقبتهم فتتفرق همته فيضعف أثر الدعاء.
وتاسعها: أن أعظم النعمة الإقبال على الله وعبادته، ولكل نعمة
حاسد ولا نعمة أعظم من هذه النعمة والأسلم له إخفاء نعمته عن الحاسد.
وقد قال يعقوب ليوسف عليهما السلام {لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا} [يوسف: 5].
وعاشرها: أن الدعاء هو ذكر للمدعو سبحانه وتعالى فهو ثناء على الله مع الطلب منه فهو ذكر وزيادة، وقد أمر الله تعالى بإخفاء الذكر مع في قوله:{وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً} [الأعراف: 205].
هذا آخر الفوائد التي ذكرها شيخ الإسلام رحمه الله تعالى - وهو كما ترى - يذهب إلى عدم الفرق بين الذكر والدعاء وهذا هو الصواب.
وقد ذهب بعضهم إلى الفرق بين الذكر والدعاء:
فذهب إلى أن الأفضل في الدعاء السر دون الذكر وعلل ذلك بقوله: لأنَّه أقرب إلى الإجابة إلَّا عند الضرورة.
ونقل عن الفتاوى البزازية أن الواعظ إذا جهر بالدعاء لا بأس به نعم إذا تعلموا وجهر يكون جهرهم بدعة.
ثم علل ثانياً بقول الله تعالى في زكريا إذ نادى ربه نداء خفياً وأنَّه يستحب في الاستعاذة اتفاقاً لكونها دعاء
(1)
.
وقد حكى بعض علماء الحنفية أن المستحب عندهم في الأذكار والأدعية الخفية إلا فيما تعلق بإعلانه مقصود كالأذان والخطبة وتكبيرات الصلاة
(2)
.
وفي هذا رد على بعض الحنفية الذين يميلون إلى استحباب الجهر
(1)
انظر سباحة الفكر في الجهر بالذكر للكنوي ص: 40، 41، وهذا الكتاب يميل إلى إستحباب ما تفعله الصوفية من الجهر بالذكر والاجتماع له وفيه تعسف وانظر ما يرد عليه في الفتاوى البزازية: 4/ 42.
(2)
المبسوط للسرخسي: 4/ 6.
بالذكر مراعاة لما جرت عليه عادة المتصوفة من الجهر بالذكر والاجتماع عليه.
فتبيّن مما تقدم أن الأفضل هو خفض الصوت ولكن في بعض الأوقات يأتي عارض يجعل الجهر أولى مثل قصد تعليم جاهل أو طرد نحو نعاس أو كسل عن الداعي نفسه أو إدخال سرور على قلب مؤمن أو تنفير مبتدع عن بدعة أو نحو ذلك
(1)
.
التوسل
(2)
إلى الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العليا إما في أول الدعاء أو آخره:
كما يقع كثيراً في الأدعية المأثورة فإنها إما تبتدئ بالتوسل باسم مناسب من أسماء الله الحسنى أو تختم به نحو {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)} [آل عمران: 8]. ونحو: {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38)} [آل عمران: 38]. ونحو: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151)} [الأعراف: 151]. ونحو: {أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155)} [الأعراف: 155]، ونحو:{وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128)} [البقرة: 128].
وقد أمرنا الله تعالى بالتوسل إليه في الدعاء بأسمائه الحسنى فقال: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180].
والدعاء بالأسماء الحسنى له مرتبتان:
"إحداهما دعاء ثناء وعبادة، والثاني دعاء طلب ومسألة فلا يثني عليه إلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، وكذلك لا يسأل إلا بها، فلا يقال: يا
(1)
الفتاوى البزازية: 4/ 42، والفتاوى الهندية: 5/ 318.
(2)
ذكره في المنهاج من الشروط: 1/ 522، 530، وابن القيم في الجواب ص: 10 والزركشي في الأزهية: 69، 93، والزبيدي في إتحاف السادة: 5/ 42.
موجود أو يا شيء أو يا ذات اغفر لي وارحمني، بل يسأل في كل مطلوب باسم يكون مقتضياً لذلك المطلوب، فيكون السائل متوسلاً إليه بذلك الاسم، ومن تأمل أدعية الرسل ولا سيما خاتمهم وإمامهم وجدها مطابقة لهذا"
(1)
.
وقد فسر قوله صلى الله عليه وسلم: "إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة"
(2)
فسر بالدعاء بها، وهو واحد من مراتب الإحصاء الثلاثة وهي:
الأولى: إحصاء ألفاظها وعددها، والثانية: فهم معانيها ومدلولها، والثالثة: الدعاء بها. وقد رجح الخطابي هذا المعنى الأخير الذي هو عدُّها للدعاء بها
(3)
.
وأما التوسل بدعاء الغير فليس من آداب الدعاء وذلك أن السؤال من الغير فيه نوع افتقار إلى غير الله تعالى ولهذا لم ينقل عن كبار الصحابة أنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء لأنفسهم وإنما سأله عمر الدعاء للمسلمين عندما أراد النبي صلى الله عليه وسلم ذبح رواحل المسلمين عندما نفدت أزوادهم في غزوة تبوك
(4)
.
وأما التوسل بالغائب أو الميت فجدير بالمنع وأحرى. ومن هنا نعرف خطأ من عده من آداب الدعاء كابن الجزري في الحصن
(5)
وسيأتي بيان ما في ذلك بتوسع بحول الله وقوته.
(1)
بدائع الفوائد: 1/ 164، 2/ 143، ومدارج السالكين: 1/ 448.
(2)
أخرجه البخاري: 5/ 354 رقم 2736، ومسلم: 4/ 2062 رقم 2677.
(3)
بدائع الفوائد: 2/ 143 وانظر شأن الدعاء للخطابي: 26 وقد ذكر معنيين آخرين، والفتح: 13/ 378.
(4)
أخرجه مسلم: 1/ 55 رقم 27.
(5)
عدة الحصن مع التحفة ص: 44، وقد تبعه الشوكاني كما في التحفة ص: 47، وقبله الزبيدي في الإتحاف: 5/ 44، وبعده صديق حسن خان في نزل الأبرار ص:37.
وأما التوسل بالأعمال الصالحة، فقد ورد بكثرة في القرآن الكريم التوسل بالإيمان والأعمال الصالحة، وهذا يدل على استحبابه وذلك نحو:{رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} [آل عمران: 193].
{رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16)} [آل عمران: 16].
ومن هذا الباب الحرص على الأدعية التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها مظنة للإجابة أو هي متضمنة للاسم الأعظم
(1)
ومن ذلك ما رواه بريدة بن الحصيب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول: "اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد" فقال: "لقد سألت الله بالاسم الذي إذا سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب"
(2)
.
ومن ذلك ما رواه سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "دعوة ذي النون إذ دعا وهو في بطن الحوت لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين إنه لم يدع بها مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له"
(3)
.
ومن ذلك ما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يصلي ويقول: "اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلَّا أنت المنان بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم" فقال
(1)
الجواب الكافي ص: 10.
(2)
أخرجه أبو داود: 2/ 166 رقم 1493، والترمذي: 5/ 515 رقم 3475، والنسائي: 3/ 45 باب 58، وأحمد: 5/ 360، وابن ماجه: 2/ 1267 رقم 3857، وابن أبي شيبة: 10/ 271 رقم 9409، والطبراني في الدعاء: 2/ 832 رقم 114، وابن حبان [موارد] ص: 592 رقم 2383، والحاكم: 1/ 504، وصححه ووافقه الذهبي.
(3)
تقدم ص: 74.
النبي صلى الله عليه وسلم: "لقد دعا الله باسمه العظيم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى"
(1)
.
ومن ذلك ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الكرب: "لا إله إلا الله العظيم الحليم لا إله إلا الله رب العرش العظيم لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض ورب العرش الكريم"
(2)
.
اختيار
(3)
جوامع الكلم وأحسن الكلام وأحسن الألفاظ وأنبلها وأجمعها للمعاني وأبينها:
قد حث رسول الله صلى الله عليه وسلم ورغب في ذلك، قالت عائشة رضي الله عنها:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستحب الجوامع من الدعاء، ويدع ما سوى ذلك"
(4)
.
والسبب في ذلك ما ذكره الخطابي من أن الدعاء مناجاة العبد لسيد السادات الذي ليس له مثل ولا نظير ولو تقدم بعض خدم ملوك أهل الدنيا إلى صاحبه ورئيسه في حاجة يرفعها إليه لتخير له محاسن الكلام ولتخلص إليه بأجود ما يقدر عليه من البيان ولئن لم يستعمل هذا المذهب في مخاطبته ولم يسلك هذه الطريقة، أوشك أن ينبو سمعه عن كلامه وألا يحظى بطائل من حاجته من عنده هذا ولله المثل الأعلى، فما ظنك برب
(1)
أخرجه أبو داود: 2/ 167 رقم 1495، والنسائي: 3/ 44 رقم الباب 58، والترمذي: 5/ 550 رقم 3544، وأحمد: 1203، وابن ماجه: 2/ 1268 رقم 3858، وابن حبان:[موارد]: 592 رقم 2382، والحاكم: 1/ 503 - 504 وصححه ووافقه الذهبي.
(2)
تقدم تخريجه ص: 74.
(3)
ذكر هذا الخطابي في شأن الدعاء ص: 14، والحليمي في المنهاج: 1/ 523، 532.
(4)
أخرجه أبو داود: 2/ 162 رقم 1482، وابن أبي شيبة: 10/ 199 رقم 9214، والحاكم: 1/ 539، والطبراني في الدعاء: 2/ 807 رقم 50، وأحمد: 6/ 189، وابن حبان موارد: رقم 2412 ص 598، وقد صححه الحاكم ووافقه الذهبي وصححه الألباني كما في صحيح الجامع: 4/ 264 رقم 4825.
العزة سبحانه وبمقام عبده الذليل بين يديه ومن عسى أن يبلغ بجهد بيانه كنه الثناء عليه، وهذا رسوله وصفيه صلى الله عليه وسلم قد أظهر العجز والانقطاع دونه فقال في مناجاته:"وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك"
(1)
.
ويدخل في هذا مراعاة الإعراب في الأدعية لأنَّه بالإعراب يستقيم المعنى وبعدمه يختل ويفسد وربما انقلب المعنى باللحن حتى يصير كالكفر إن اعتقد صاحبه، وقد أخرج الخطابي بإسناده عن الأصمعي أنه مر برجل يقول في دعائه يا ذو الجلال والإكرام فقال: ما اسمك؟ قال ليث، فأنشأ يقول:
ينادي ربه باللحن ليث
…
لذاك إذا دعاه لا يجيب
(2)
والحاصل أنه ينبغي التحفظ من الخطأ في في الدعاء لأن تعظيم الله تعالى واجب على العبد بكل حال وهو في حال مسألته والرغبة أوجب وألزم
(3)
.
ولكن هذا في القادر الذي يستطيع الإعراب والإفصاح وأما العاجز فلا بأس بأن يدعو بما يستطيع. قال ابن الصلاح رحمه الله: "ثم إن الدعاء الملحون ممن لا يستطيع غير الملحون لا يقدح في الدعاء ويعذر فيه"
(4)
.
استقبال القبلة
(5)
:
وذلك لأن القبلة هى الجهة الفاضلة التي ينبغي أن يتجه إليها في
(1)
أخرجه مسلم: 1/ 352 رقم 486.
(2)
شأن الدعاء للخطابي: 15 - 16، والجامع لأحكام القرآن: 2/ 312.
(3)
المنهاج للحليمي: 1/ 529.
(4)
فتاوى ابن الصلاح ضمن المجموعة المنيرية: 4/ 30، وشرح الإحياء: 5/ 54، والأزهية:68.
(5)
ذكره الخطابي في شأن الدعاء: 13 وجعله من الشرائط والحليمي في المنهاج: 1/ 523، 533، والزركشي في الأزهية ص: 72 والغزالي في الإحياء: 1/ 364، وعنه النووي في الأذكار: 353، وابن القيم في الجواب ص: 10، وابن الجزري في العدة 43، وابن الجوزي كما في غذاء الألباب: 2/ 505.
العبادات وهي أيضاً قبلة للدعاء كما أنها قبلة للصلوات وليست السماء قبلة للدعاء كما زعم ذلك بعضهم وستأتي مناقشة ذلك في مبحث العلو إن شاء الله.
وقد ورد في ذلك عدة أحاديث من ذلك حديث ابن مسعود رضي الله عنه في إلقاء قريش الأذى على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي وفيه: "استقبل النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة فدعا على نفر من قريش"
(1)
.
وحديث عمر رضي الله عنه: "لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين فاستقبل القبلة ثم مد يديه فجعل يهتف بربه"
(2)
.
وحديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه في الاستسقاء قال: "إن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى المصلى يصلي وإنه لما دعا أو أراد أن يدعو استقبل القبلة وحول رداءه"
(3)
.
ولكن مع ثبوت هذه الأحاديث التي تدل على مشروعية استقبال القبلة وأفضليته للدعاء فالذي ينبغي أن يعلم أنه ليس بلازم في الدعاء، فقد ورد ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا غير مستقبل القبلة في بعض الأحيان ولهذا عقد البخاري رحمه الله في صحيحه باب
(4)
الدعاء غير مستقبل القبلة وأورد فيه حديث الاستسقاء في خطبة الجمعة. ومن المعلوم أن الخطيب يكون مستدبراً للقبلة في حال الخطبة وذلك للإشارة إلى أن الاستقبال ليس بلازم وإن كان أفضل وأرجى للقبول.
الطهارة قبل الدعاء
(5)
:
وهذا من الآداب التي ينبغي للداعي أن يتصف بها فاللائق بمن يريد
(1)
البخاري: 7/ 293 رقم 3960 ورقم 240، ومسلم: 3/ 1420 رقم 1794.
(2)
مسلم: 3/ 1383 رقم 1763.
(3)
أخرجه البخاري: 2/ 515 رقم 1028 و 11/ 144 رقم 6343.
(4)
انظر ذلك في البخاري مع الفتح الدعوات: 11/ 143.
(5)
ذكرها الخطابي وعدها من الشروط: شأن الدعاء ص: 13، والحليمي في المنهاج: 1/ 523، 533، وابن القيم في الجواب ص: 10، والزبيدي في إتحاف السادة: 5/ 41، وابن الجزري في العدة ص: 43، والزركشي في الأزهية ص:71.
خطاب الله ومناجاته أن يكون على أحسن الأحوال ومن ذلك الطهارة الظاهرة بالوضوء والطهارة الباطنة بالتوبة والاستغفار حتى يكون مؤهلاً لخطاب الله تعالى ومناجاته.
وقد ورد ما يدل على استحباب الوضوء للدعاء في حديث أبي موسى الأشعري في قصة استشهاد أبي عامر وطلبه من النبي صلى الله عليه وسلم الاستغفار فلما وصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وفاته وطلبه منه الاستغفار دعا بماء فتوضأ ثم دعا له
(1)
.
وهذا الوضوء ليس بلازم إذ المضطر قد لا يسعفه الوقت للاستعداد بالوضوء فيتجه إلى الله تعالى بالسرعة فيجيبه الله على حسب قوة إخلاصه ورجائه وتضرعه وخشوعه.
ثم إن الوضوء للدعاء ليس صفة دائمة في جميع الدعوات التي نقلت عن النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان كما قالت عائشة رضي الله عنها: "يذكر الله في جميع أحيانه"
(2)
.
والدعاء نوع من الذكر كما تقدم وذلك كالدعاء عند الخروج من الخلاء فإنه لا يؤخره حتى يتوضأ بل يقوله مباشرة عند الخروج.
افتتاح الدعاء
(3)
بالثناء على الله تعالى بالمحامد التي تليق بجلاله وبذكر جوده وكرمه ثم بالصلاة والسلام على نبيه محمد صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه:
وذلك أن الأدب في خطاب العظماء أنه يقدم ثناؤهم وذكر جودهم وفضلهم على خطابهم بالحاجة وقد قال الشاعر:
(1)
أخرجه البخاري: 8/ 41 رقم 4223.
(2)
أخرجه مسلم: 1/ 282 رقم 373.
(3)
ذكره الخطابي في شأن الدعاء ص: 13، والحليمي في المنهاج: 1/ 523، 533، والغزالي في الإحياء: 1/ 365، وعنه النووي في الأذكار ص: 354، وابن القيم في الوابل: 182، والجواب: 10، وابن عبد السلام في قواعده: 2/ 168، والزركشي في الأزهية: 80 - 83، وابن الجزري في العدة:43.
أأذكر حاجتي أم قد كفاني
…
ثناؤك إن شيمتك الوفاء
ولله المثل الأعلى فالذي يريد دعاءه عليه أن يقدم بين يدي حاجته الثناء وهذا من التوسل إلى الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العليا.
وإذا تأملنا الأدعية الواردة في القرآن والسنة نجد كثيراً منها تبتدئ بالثناء على الله تعالى بجميل أوصافه، فمن ذلك الدعاء الذي حكاه الله عن عباده أولي الألباب في آخر سورة آل عمران فقد بدئ بالثناء على الله بالتنزيه وعدم العبث: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ
…
} [آل عمران: 191 - 194]، ومن ذلك دعاء الفاتحة الذي هو أفضل دعاء فقد بدئ بالثناء على الله، ومن ذلك دعاء يوسف الذي حكاه الله في آخر سورة يوسف آية 101: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
…
} ودعاء الملائكة: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا
…
} [غافر: 7].
ومن ذلك الدعاء الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوله في قيام الليل: "اللهم لك الحمد أنت قيم السموات والأرض، ولك الحمد أنت ملك السموات والأرض"
…
إلى أن قال بعد ثناء طويل: "فاغفر لي ما قدمت
…
"
(1)
.
قال الحافظ في شرحه لهذا الحديث: وفيه استحباب تقديم الثناء على المسألة عند كل مطلوب اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم
(2)
.
وأما الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فهي نوع من أنواع الدعاء إذ الدعاء نوعان:
أحدهما: سؤال العبد حوائجه ومهماته، وهذا إيثار لمحبوب العبد ومطلوبه.
والثاني: سؤال العبد ربه أن يصلي على خليله وحبيبه ولا ريب أن الله تعالى يحب ذلك ورسوله يحب ذلك، فالمصلي عليه قد صرف
(1)
البخاري مع الفتح: 3/ 3 رقم 1120.
(2)
الفتح: 3/ 5.
سؤاله ورغبته إلى محاب الله ورسوله وآثر ما يحبه الله ورسوله على محاب نفسه. فهذا جزاؤه من جنس عمله.
ومثال هذا ما يوجد عند الناس بما يفعلونه عند ملوكهم إذا أرادوا التقرب إليهم أثنوا على من يحبونه وسألوا منه أن ينعموا عليه وبذلك يتوسلون إلى القرب عندهم والحظو لديهم
(1)
.
ثم إن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم هي دعاء له فكلما صلى عليه مرة واحدة صلى الله عليه عشراً: "وهو لو دعا لآحاد المؤمنين لقالت الملائكة: آمين ولك بمثله فدعاؤه للنبي صلى الله عليه وسلم أولى بذلك"
(2)
.
فتبيّن بهذا أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيها معنى الدعاء فكيف إذا تقدمت أمام الدعاء فصارت له كالمفتاح كما أن مفتاح الصلاة الطهور؟
(3)
.
وقد اتفق العلماء على استحبابها في الدعاء حتى حكى الزمخشري أن بعض العلماء أوجبها في كل دعاء
(4)
.
وقد ورد الحث على تقديم الثناء والصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث متعددة، منها: حديث فضالة بن عبيد رضي الله عنه قال: "سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يدعو في صلاته فلم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "عجل هذا"، ثم دعاه فقال له ولغيره: "إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد الله والثناء عليه ثم ليصل على النبي صلى الله عليه وسلم ثم ليدع بعد بما شاء"
(5)
.
(1)
جلاء الأفهام: 270، وبدائع الفوائد: 2/ 190.
(2)
قاعدة جليلة في التوسل ص: 71 رقم 214.
(3)
قاعدة جليلة في التوسل ص: 227.
(4)
الفتح: 11/ 153.
(5)
أخرجه أبو داود: 2/ 162 رقم 1481، والنسائي: 3/ 38 باب 48، والترمذي: 2/ 488 رقم 593 و 5/ 516 رقم 3477 وابن خزيمة: 1/ 351 رقم 709، وابن حبان [موارد] رقم 510، والحاكم: 1/ 268، وصححه ووافقه الذهبي وقد صححه الترمذي وابن خزيمة وابن حبان كما في الفتح 11/ 165، وصححه الألباني في صحيح الجامع: 1/ 237 رقم 661.
وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كل دعاء محجوب حتى يصلى على النبي صلى الله عليه وسلم "
(1)
.
من آداب الدعاء
(2)
: رفع اليدين:
1 -
ذهب أكثر العلماء إلى استحباب رفع اليدين في الدعاء ويدل لهم أحاديث كثيرة جداً أفردها المنذري في جزء
(3)
وكذلك السيوطي في رسالة سماها "فض الوعاء في أحاديث رفع اليدين في الدعاء"، وادعى في أولها تواترها وأنَّه وقعت له منها نيف وأربعون حديثاً
(4)
.
وذكر في تدريب الراوي أن من المتواتر ما تواتر معناه، ومثل له بأحاديث رفع اليدين في الدعاء ثم قال:"فقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم نحو مائة حديث فيه رفع يديه في الدعاء وقد جمعتها في جزء لكنها في قضايا مختلفة، فكل قضية منها لم تتواتر، والقدر المشترك فيها وهو الرفع عند الدعاء تواتر باعتبار المجموع"
(5)
. وممن أقر بتواتره صاحب نظم المتناثر
(6)
.
(1)
روي عن علي وعبد الله بن بسر ومعاذ، فأما حديث على فقد روي مرفوعاً وموقوفاً وذكر فيه ابن القيم ثلاث علل في جلاء الأفهام: 11 - 12، وحديث عبد الله بن بسر أخرجه النَّسَائِي في الخصائص كما في جلاء الأفهام: 226، وحديث معاذ أخرجه ابن حبان كما أشار إليه في صحيح الجامع وحسنه الألباني في صحيح الجامع: 4/ 173.
(2)
قد بوّب البخاري في صحيحه لهذه المسألة فقال: باب رفع الأيدي في الدعاء. البخاري مع الفتح: 11/ 141، والخطابي جعله من سننه ص: 13، والحليمي في المنهاج: 1/ 523، 534، وابن القيم في الجواب ص: 10، والغزالي في الإحياء: 1/ 362، وعنه النووي في الأذكار: 357، والزركشي في الأزهية: 73، والطرطوشي في الدعاء المأثور ص:53.
(3)
انظر عن جزء المنذري الفتح: 11/ 142.
(4)
طبعت الرسالة بتحقيق محمد شكور المياديني بمكتبة المنار في الأردن عام 1405 هـ وجملة الأحاديث الموصولة فيها 47 والمرسلة 9 والموقوفة 3 والمجموع 59.
(5)
تدريب الراوي: 2/ 180.
(6)
انظر نظم المتناثر من الحديث المتواتر للكتاني: 113.
وقال النووي: "قد ثبت رفع يديه صلى الله عليه وسلم في الدعاء في مواطن غير الاستسقاء وهي أكثر من أن تحصى، وقد جمعت منها نحواً من ثلاثين حديثاً من الصحيحين أو أحدهما"
(1)
.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأما رفع النبي صلى الله عليه وسلم بالدعاء فهو في الحديث أكثر من أن يبلغه الإحصاء"
(2)
وذكر أيضاً أن الرفع تواترت به السنن
(3)
.
2 -
وقالت طائفة: يكره رفع اليدين في الدعاء وإنما يشير بأصبع واحدة.
3 -
وقيل: إن الرفع خاص بالاستسقاء.
4 -
وقيل: إنه خاص بالاستسقاء والنازلة
(4)
.
ويستدل لهذين المذهبين الأخيرين بحديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يرفع يديه في شيء من دعائه إلا في الاستسقاء، وإنه يرفع حتى يرى بياض إبطيه"
(5)
.
ويقاس على الاستسقاء النازلة على رأي المذهب الأخير. واستدل
(6)
للمذهب الثاني بما رواه مسلم عن عمارة بن رُؤَيْبَة أنه رأى بشر بن مروان على المنبر رافعاً يديه فقال: قبح الله هاتين اليدين، لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يزيد على أن يقول بيده هكذا وأشار بإصبعه المسبحة
(7)
.
(1)
شرح مسلم للنووي: 6/ 190.
(2)
بيان تلبيس الجهمية: 2/ 444.
(3)
الفتاوى: 5/ 265.
(4)
يراجع في حكاية هذه الأقوال إلى: الجامع لأحكام القرآن: 7/ 224 - 225، والفتح: 11/ 143.
(5)
البخاري: 2/ 517 رقم 1031.
(6)
الجامع للقرطبي: 7/ 225.
(7)
أخرجه مسلم: 2/ 595 رقم 874.
والصواب مذهب الجمهور لأن القاعدة المعروفة أنه عندما يظهر ما يشبه التعارض بين النصوص أن يجمع بينها أولاً إن أمكن، ثم يرجح بينها إن لم يمكن الجمع وقد أمكن هنا الأمران
(1)
الجمع والترجيح.
أ - فأما الجمع بينها فيمكن أن يقال فيه: إن حديث أنس في الاستسقاء يحمل على أن المنفي فيه صفة خاصة لا أصل الرفع وذلك لأن الرفع في الاستسقاء يخالف غيره إما بالمبالغة إلى أن تصير اليدان في حذو الوجه مثلاً، وأما في غيره فإلى حذو المنكبين فقط أو أن الكفين في الاستسقاء يليان الأرض وفي غيره يليان السماء لأنَّه ورد في مسلم:"عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم استسقى فأشار بظهر كفيه إلى السماء"
(2)
.
وأما حديث عمارة بن رُؤَيبة فخاص برفع اليدين على المنبر في خطبة الجمعة كما هو ظاهر سياق الحديث فلا معنى للتمسك به في منع رفع اليدين في الدعاء مع ثبوت الأخبار بمشروعيته
(3)
.
ب - وأما إذا قلنا: إن الجمع لا يمكن فننتقل إلى الترجيح، وجانب الإثبات أرجح لأمرين:
1 -
إن أحاديث الإثبات متواترة وحديث النفي غير متواتر، فالمتواتر مقدم على غيره.
2 -
إن أحاديث الرفع مثبتة فالصحابة الذين رووها أخبروا عن شيء عاينوه وشاهدوه أو سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم، فالمثبت مقدم على النافي والحافظ حجة على من لم يحفظ لاسيما والمثبتون جماعة والنافي واحد، ولعله لم ير ذلك أو لم يحضره أو حضر ولم يتفطن.
(1)
انظر عن هذين الأمرين: شرح النووي لمسلم: 6/ 190، والفتح: 2/ 517، 413، 11/ 142.
(2)
أخرجه مسلم: 2/ 612 رقم 896.
(3)
الفتح: 11/ 143، وإتحاف السادة: 5/ 35.
مسح الوجه باليدين بعد الفراغ من الدعاء:
قد اختلف الفقهاء في ذلك فمنهم من استحب
(1)
ذلك ومنهم من كره ذلك
(2)
وعده بدعة، واستدل القائلون بالاستحباب بأحاديث كلها واهية فلم يسلم طريق من تلك الطرق من ضعف شديد، بين ذلك الشيخ الألباني والشيخ بكر أبو زيد حفظهما الله تعالى
(3)
.
ولكن الحافظ ابن حجر حَسَّن إسناد حديث ابن عباس
(4)
وقال في الأحاديث الواردة في مسح الوجه: إن مجموعها يقضي بأنه حسن
(5)
.
وهذا فيه نظر لأن تقويتها يمكن لو أن هناك طريقاً ليس فيه ضعف شديد وهذا الأمر لا يوجد هنا إذ الطرق كلها واهية إذ لم يسلم طريق من ضعف شديد.
واحتج القائلون بالبدعية بأمرين:
1 -
إن المسح عبادة وهي توقيفية ولم يثبت بطريق يمكن الأخذ به.
2 -
إن أحاديث رفع الأيدي في الدعاء متواترة فلم يرد فيها أنه مسح الوجه بعد الرفع إلا في أحاديث ضعيفة جداً، فهذا يدل على نكارة تلك الأحاديث أو شذوذها.
(1)
منهم الحليمي في المنهاج: 5351/ 523، والغزالي في الإحياء: 1/ 363، وابن الجزري في العدة ص:44.
(2)
منهم الإمام مالك وابن المبارك، وأحمد، والبيهقي، والعز ابن عبد السلام، والنووي في قول، وابن تيمية، وابن عرفة، والفيروز أبادي، نقل عن هؤلاء الشيخ بكر أبو زيد في رسالته ص: 53 - 57.
(3)
أورد الشيخ الألباني الأحاديث المتعلقة بالمسح وبين ضعفها في كتابه إرواء الغليل: 2/ 178 - 182، وللشيخ بكر أبو زيد رسالة مستقلة في الموضوع سماها جزء في مسح الوجه بعد رفعهما للدعاء وهي من الأجزاء الحديثية التي يصدرها تباعاً الشيخ بكر أبو زيد، وهذا الجزء هو الثاني منها ونشرته دار الرشد بالرياض عام 1404 هـ.
(4)
انظر فض الوعاء: 74 نقلاً عن نتائج الأفكار لابن حجر.
(5)
بلوغ المرام مع سبل السلام: 4/ 1630.
ومن هنا قال العز ابن عبد السلام: لا يفعله إلا جاهل
(1)
.
وقال النووي: لا يندب
(2)
.
وقال شيخ الإسلام: وأما رفع النبي صلى الله عليه وسلم في الدعاء فيه أحاديث كثيرة صحيحة وأما مسحه وجهه بيديه فليس عنه فيه إلا حديث أو حديثان لا يقوم بهما حجة، والله أعلم
(3)
أي أن هذه الأحاديث التي فيها المسح تعد منكرة فلا تصلح دليلاً.
تحري الأوقات الفاضلة
(4)
:
قد فضّل الله الأوقاتَ بعضها على بعض فجعل بعضها نفحات لرحمته وجوده وكرمه فينبغي للإنسان أن يترصد تلك الأوقات الفاضلة فيدعو الله فيها فهي أرجى للإجابة من غيرها، ومن تلك الأوقات:
1 -
الأسحار. فقد وردت أحاديث وآثار تدل على قبول الدعاء في جوف الليل عموماً وفي الأسحار خصوصاً، ووصف الله عباده المتقين بأنهم يستغفرون بالأسحار {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17)} [آل عمران: 17]، وقال:{كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18)} [الذاريات: 17 - 18] والاستغفار نوع من الدعاء كما تقدم.
ومن الأحاديث التي وردت في قبول الدعاء في الأسحار ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر يقول: من يدعوني
(1)
فتاوى العز ابن عبد السلام الموصلية نقل عن هذه الفتاوى، الزركشي في الأزهية ص: 106، والمناوي في فيض القدير: 1/ 369 ولم أجد هذا النص في فتاوى العز المطبوعة.
(2)
شرح المهذب: 3/ 441 - 442، والفتوحات الربانية: 2/ 311.
(3)
الفتاوى: 22/ 519.
(4)
انظر في هذا المنهاج: 1/ 523، 535، والفتاوى: 10/ 660 - 662، والجواب الكافي: 10، والإحياء: 1/ 361، والأزهية: 107 - 110.
فأستجيب له من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له"
(1)
.
2 -
يوم الجمعة:
ففي يوم الجمعة ساعة يستجاب فيها للعبد، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر يوم الجمعة فقال:"فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو يصلي يسأل الله شيئاً إلا أعطاه إياه"
(2)
.
وقد اختلف في تعيين هذه الساعة على نحو أربعين
(3)
قولاً وأقوى هذه الأقوال قولان:
أحدهما: ما بين جلوس الإمام على المنبر إلى الفراغ الصلاة.
وثانيهما: ما بعد صلاة عصر يوم الجمعة إلى الغروب.
فهاتان الساعتان قد صح في كل منهما ما يدل على أنه يستجاب فيه الدعاء، وبذلك تنحصر ساعة الإجابة فيهما ولا تعارض بين ما ورد فيه لاحتمال أن يكون صلى الله عليه وسلم دل على أحدهما في وقت وعلى الآخر في وقت آخر
(4)
.
3 -
شهر رمضان المبارك لا سيما العشر الأواخر ولا سيما ليلة القدر.
إن الله سبحانه وتعالى فضل الشهور بعضها على بعض، ومن الشهور الفاضلة شهر رمضان فهو موسم الخيرات وزيادة عطايا الرب وهباته ففيه تفتح أبواب الخيرات ويتعرض فيه لجود الرب وكرمه وفضله، ومما ورد مما يدل على فتح أبواب الرحمة والخيرات في شهر رمضان - ما رواه أبو هريرة مرفوعاً -: "إذا كان رمضان فتحت أبواب الرحمة وغلقت أبواب
(1)
البخاري: 3/ 29 رقم 1145، ومسلم: 1/ 521 رقم 758، وهو حديث متواتر كما قاله الذهبي في العلو ص:73.
(2)
أخرجه البخاري: 22/ 415 رقم 935، ومسلم: 2/ 583 رقم 852.
(3)
انظر عن هذه الأقوال وأدلتها: فتح الباري: 2/ 416 - 421.
(4)
زاد المعاد: 1/ 394، وفتح الباري: 2/ 422.
جهنم وسلسلت الشياطين"
(1)
.
4 -
يوم عرفة. فهذا يوم عظيم تستجاب فيه الدعوات. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة وأفضل ما قلته:
…
"
(2)
.
قال ابن عبد البر: "وفيه من الفقه أن دعاء يوم عرفة أفضل من غيره
…
وفي الحديث أيضاً دليل على أن دعاء يوم عرفة مجاب كله في الأغلب"
(3)
.
ثم بقي هنا سؤال هل قبول الدعاء يوم عرفة خاص بعرفة؟
الجواب: إن الحديث لم يقيد فضيلة الدعاء يوم عرفة بعرفة خاصة، وربما يمكن أن يكون هذا الدعاء أفضل حتى في غير عرفة ولكن الباجي المالكي قال:"ويحتمل أن يريد به الحاج خاصة لأن معني دعاء يوم عرفة في حقه يصح وبه يختص، وإن وصف اليوم في الجملة بيوم عرفة فإنه يوصف بفعل الحاج فيه"
(4)
.
وهذا الذي قاله الباجي هو الظاهر لأن السلف لم يشتهر عنهم الحرص على الدعاء في يوم عرفة بغير عرفة. ولكن يعكر على هذا ما أن روي ابن عباس وعمرو بن حريث من الصحابة وطائفة من البصريين والمدنيين كانوا يعرفون يوم عرفة في الأمصار وأنكره عليهم آخرون
(5)
.
(1)
أخرجه مسلم: 2/ 758 رقم 1079.
(2)
تقدم ص: 51.
(3)
التمهيد: 6/ 41.
(4)
المنتقى شرح الموطأ: 1/ 358.
(5)
وممن أنكر هذا التعريف الحسن البصري وإبراهيم النخعي والحكم وحماد يراجع في هذا إلى المصنف لعبد الرزاق: 4/ 376 - 379، والسنن الكبرى: 5/ 118، وقال شيخ الإسلام: غايته أنه مما يسوغ فيه الاجتهاد لا أنه سنة سنها النبي صلى الله عليه وسلم لأمته أو يقال: إنه لا بأس به أحياناً لعارض إذا لم يجعل سنة راتبة. اهـ. قاعدة في التوسل ص: 103، واقتضاء الصراط:310.
5 -
ما بين الأذان والإقامة:
فعند الأذان تطرد الشياطين، وتتجه القلوب إلى الله تعالى تاركة هموم الدنيا مقبلة إلى الوقوف بين يدي الله تعالى، ففي هذا الوقت يرجى قبول الدعاء، فقد روى أنس بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"الدعاء لا يرد بين الأذان والإقامة فادعوا"
(1)
.
أن يتحرى الأماكن الفاضلة
(2)
.
وذلك كالمساجد والمشاعر المقدسة كعرفة والمشعر الحرام والجمرتين الصغرى والوسطى دون الكبرى وجوف الكعبة والصفا والمروة وذلك لأن هذه المواضع قد شرفها الله تعالى وتعبدنا بتعظيمها وجعل العبادة فيها أفضل من العبادة في غيرها. وجعلها الله تعالى أماكن لقبول الدعاء فيها أكثر من غيرها وهذا الأمر معروف حتى عند الكفار في جاهليتهم، فقد كان مشركو قريش يرون أن الدعاء في مكة مستجاب.
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في قصة طرح الكفار سلى جزور على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي قال: "فشق عليهم إذ دعا عليهم وكانوا يرون أن الدعوة في ذلك البلد مستجابة"
(3)
.
(1)
أخرجه أحمد: 3/ 155، 225، وأبو داود: 1/ 144، والنسائي في عمل اليوم والليلة ص: 117 رقم 67، 72 والترمذي: 1/ 415 رقم 212، 5/ 577، والطبراني في الدعاء: 483 - 488، وصححه الألباني في الإرواء: 1/ 261 برقم 244.
(2)
انظر المنهاج: 1/ 123، 539، والأزهية: 110، وقد ذكر ابن القيم في الزاد: 2/ 288، ست وقفات للدعاء وذكر عند الملتزم: 2/ 298، وعند الصفا: 2/ 228، ويوم عرفة: 2/ 238، وقال: وأسانيد هذه الأدعية فيها لين وذكر السفاريني أنه لا يعلم بورود شيء من ذلك مرفوعاً إلا ما ورد بسند حسن عند الطبراني من استجابته عند الكعبة، وما ورد في مسجد الأحزاب: انظر غذاء الألباب: 2/ 504 - 505.
(3)
أخرجه البخاري: 1/ 349 رقم 240.
فينبغي للمسلم أن يتحرى الدعاء في هذه الأماكن الفاضلة التي الدعاء فيها أقرب للإجابة من غيرها لعل الله يمن عليه بجوده.
أن يتحرى الأحوال الفاضلة
(1)
:
فالإنسان له أحوال يكون فيها خشوعه وتضرعه أكثر، وعند التأمل يرجع شرف الأوقات إلى شرف الحالات أيضاً. إذ وقت السحر وقت يحصل به تمام صفاء القلب وإخلاصه وفراغه من المشوشات. قال شيخ الإسلام:"والناس في آخر الليل يكون في قلوبهم من التوجه والتقرب والرقة ما لا يوجد في غير ذلك الوقت"
(2)
.
ويوم عرفة ويوم الجمعة وقت اجتماع الهمم وتعاون القلوب على ذكر الله تعالى وعبادته. قال شيخ الإسلام: "فإنه من المعلوم أن الحجيج عشية عرفة ينزل على قلوبهم من الإيمان والرحمة والنور والبركة ما لا يمكن التعبير عنه"
(3)
.
ولتداخل شرف الأوقات بشرف الحالات اختلفت اعتبارات العلماء فمنهم من يعتبر الحالات أوقاتاً وبالعكس فنجد ابن القيم يجعل أدبار الصلوات وبين الأذان والإقامة من الأوقات
(4)
.
ونجد الحليمي والغزالي يجعلان ذلك من الأحوال
(5)
.
والفرق بين الأحوال والأوقات واضح إذ أحوال الداعي مختلفة غير مستمرة في أزمنة وإن كانت لا تخلو عنها فالحال وصف للداعي وأما
(1)
انظر المنهاج: 1/ 523، 538، والإحياء: 1/ 362، وعنه في الأذكار:353.
(2)
الفتاوي: 5/ 130 - 131، ونحوه في: 5/ 373.
(3)
الفتاوى شرح حديث النزول: 5/ 374.
(4)
الجواب الكافي: 10، ومثل ابن القيم شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية في فتاواه: 10/ 661 - 662.
(5)
انظر المنهاج: 1/ 538 - 539، والإحياء: 1/ 362.
الزمان والمكان فظرفان له
(1)
.
ومن هذه الأحوال حال الاضطرار ففي الاضطرار تجتمع النية وتتوجه القلوب إلى الله تعالى ويقطع الرجاء عن غير الله تعالى ومن هنا تحصل سرعة الإجابة، قال تعالى:{أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل: 62] ومن الأحوال حالة السجود ففي حالة السجود يتذلل العبد لربه ويتضرع ويضع أشرف موضع من جسده على مواطئ الأقدام فلهذا فالسجود مظنة لإجابة الدعاء.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء"
(2)
.
وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ألا إني نهيت أن أقرأ القرآن راكعاً أو ساجداً فأما الركوع فعظموا فيه الرب عز وجل وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمن أن يستجاب لكم"
(3)
.
وبهذا قد انتهينا من ذكر آداب الدعاء على وجه الإيجاز فنبدأ في الكلام على الإجابة وبالله التوفيق:
(1)
الفتوحات الربانية: 7/ 246.
(2)
مسلم: 1/ 350 رقم 482، وأبو داود: 18/ 545 رقم 875، وأحمد: 2/ 421.
(3)
مسلم: 1/ 348 رقم 479.
المبحث الثالث في الإجابة وأنواعها
تعريف الإجابة:
يقال: أجاب الله دعاءه إجابة، المصدر: الإجابة، والاسم الجابة: كالطاعة، واسم الفاعل المجيب، وهو في أسماء الله تعالى: الذي يقابل الدعاء والسؤال بالعطاء والقبول، ويقال أيضاً: استجاب الله دعاءه استجابة واستجاب له.
والإجابة والاستجابة بمعنى واحد، السين والتاء زائدتان، قال الشاعر:
وَدَاعٍ دَعا يا من يُجِيبُ إلَى الندى
…
فلم يستجبه عند ذاك مجيب
(1)
أي فلم يجبه، ومن ذلك قوله تعالى:{ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]، وقوله تعالى:{فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ} [آل عمران: 195].
وقوله تعالى: {وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [الشورى: 26].
(1)
قائل هذا البيت هو كعب بن سعد الغنوي كما في مجاز القرآن: 1/ 67، 112 والصحاح: 1/ 14، واللسان: 2/ 716، والطبري: 2/ 159.
ففي هذه الآيات معنى استجاب أجاب كما هو واضح
(1)
.
الإجابة وأنواعها:
قد تقدم أن الدعاء ينقسم إلى نوعين: دعاء عبادة، ودعاء مسألة.
وكذا الاستجابة تتنوع إلى نوعين: فلكل نوع من الدعاء نوع من الاستجابة يناسبه، فاستجابة دعاء العبادة بإعطاء الثواب والأجر، واستجابة دعاء المسألة بإعطاء المسؤول.
قال ابن القيم رحمه الله: "والاستجابة أيضاً نوعان: استجابة دعاء الطالب بإعطائه سؤاله، واستجابة دعاء المثني بالثواب وبكل واحد من النوعين فسر قوله تعالى: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186]. والصحيح أنه يعم النوعين"
(2)
. أي أنه يراد به القدر المشترك الذي يصدق على النوعين.
ومثل الاستجابة السماع، فإن السمع يطلق "ويراد به إدراك الصوت، ويراد به معرفة المعنى مع ذلك ويراد به القبول والاستجابة مع الفهم"
(3)
كما يطلق على سماع القبول والانقياد
(4)
فسماع الله تعالى للدعاء يشمل سماع العلم والإحاطة وسماع الإجابة والقبول فهو يسمع دعاء السائلين سمع إجابة ويسمع كل ما يقولونه سمع علم وإحاطة لا يشغله سمع عن سمع ولا تغلطه المسائل فإنه سبحانه هو الذي خلقهم كلهم ويرزقهم كلهم
(5)
.
وقد أمر الله تعالى عباده بدعائه ووعدهم بالإجابة تفضلاً منه وتكرماً
(1)
انظر المصادر السابقة وغريب القرآن لابن قتيبة ص: 74، والمفردات: 102، والنهاية: 1/ 310 وشأن الدعاء للخطابي: 72 والجامع لأحكام القرآن: 2/ 313.
(2)
زاد المعاد: 1/ 235.
(3)
قاعدة في التوسل ص: 54.
(4)
بدائع الفوائد: 2/ 75.
(5)
الفتاوى: 5/ 480، وجامع الرسائل: 2/ 16، 54، وقاعدة التوسل ص: 53 - 54.
وامتناناً وإحساناً، قال تعالى:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ} [البقرة: 186]، وقال عز من قائل:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60].
وهذا الوعد من الله تعالى لا يتخلف قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9)} [آل عمران: 9].
والاعتقاد بعدم خلف الله لوعده هو عقيدة المؤمن بربه وهو الذي تقتضيه النصوص الشرعية كما تقتضيه الفطر السليمة والعقول النيرة والعادات الجارية من الكرماء. فلله المثل الأعلى إذ الكريم إذا وعد لا بد أن يفي فكيف بأكرم الكرماء الذي رحمته وسعت كل شيء؟؟
فإذا ثبت هذا يأتي هنا سؤال جد مهم وهو أننا نرى بعض الناس يدعون فلا يستجاب لهم مع أن وعد الله محقق لا يتخلف
(1)
.
وقبل الخوض في جوابه لا بد من معرفة أن حكمة الله تعالى اقتضت أن لا يجاب على كل أدعية الإنسان وأمنياته، لأنَّه قد يدعو بما فيه ضرر عليه أو بما لا مصلحة له فيه، وقد يدعو بما فيه ضرر على غيره، فالإنسان محدود المعرفة وقاصر العلم بمصالحه، فلو أن الله تعالى أجاب له كل ما يريده لأدى ذلك إلى مفاسد له ولغيره، قال تعالى:{وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} [يونس: 11].
وقال تعالى: {وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11)} [الإسراء: 11].
وقال تعالى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} [المؤمنون: 71].
(1)
انظر عن هذا السؤال: تفسير الطبري: 2/ 160، والبغوي: 1/ 155، والمنهاج للحليمي: 1/ 541، وزاد المسير: 10/ 189، والجامع لأحكام القرآن: 2/ 309، وتفسير الرازي: 5/ 107، وشرح الإحياء للزبيدي: 5/ 28.
وقد بيّن الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز الدعوات التي لم يستجبها بعين المطلوب مع أن الذين دعوه هم أنبياؤه ورسله الكرام ومع ذلك قد تتأخر الإجابة بعين المطلوب ويخبرهم الله تعالى أن ما سألوه لا تقتضيه الحكمة الإلهية فإذا كان هذا في الأنبياء والرسل مع ما أعطاهم الله من المنزلة والكرامة فكيف بمن دونهم؟
ومن الأمثلة التي بَيَّنَ اللهُ فيها ذلك: قوله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ} [آل عمران: 128].
فقد نزلت في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم على الذين آذوه يوم أُحد وقتلوا أصحابه فدعا عليهم فنزلت
(1)
.
وقوله تعالى في سؤال موسى رؤيةَ ربِّه تعالى: {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ} [الأعراف: 143].
وقوله تعالى في سؤال نوح نجاةَ ابنه: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [هود: 45، 46].
ومن هنا ينبغي للعبد أن لا يعترض إذا تأخرت الإجابة لدعائه وليعلم أن إجابة الله لسائليه ليست لكرامة السائل عليه بل يسأله عبده الحاجة فيقضيها له وفيها هلاكه وشقوته، وقد يمنعه منها لكرامته عليه ومحبته له فيمنعه حماية وصيانة وحفظاً لا بخلًا
(2)
.
هذا وإذا عرفنا أن الإجابة قد تتأخر لحكم وأسرار يعلمها الله تعالى نبدأ في الجواب عن السؤال الماضي فنقول وبالله التوفيق:
(1)
أخرجه البخاري: 7/ 365 رقم 4070، والترمذي: 5/ 226 رقم 3002.
(2)
مدارج السالكين: 1/ 79، والآداب الشرعية: 2922، وقد ذكر ابن الجوزي فوائد مهمة في هذا الموضوع في صيد الخاطر في عدة مواضع منه منها ص: 85 - 86 و 124 - 125 و 150 و 178 و 190 - 191 و 277 و 285 - 286.
قد أجاب العلماء عن هذا السؤال بوجوه:
الوجه الأول
(1)
: أن الإجابة في الآيتين الماضيتين مطلقة لم تقيد، ولكنها جاءت مقيدة في آية أخرى وهي قوله تعالى:{قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41)} [الأنعام: 40، 41].
ففي هذه الآية قيدت إجابة الدعاء بالمشيئة، ومن القواعد المقررة المعلومة أن المطلق يحمل على المقيد، فتكون الإجابة مقيدة بالمشيئة.
هذا الجواب سديد إلا أنه يمكن أن يخدش فيه بأن يقال: إن التقييد بالمشيئة لم يكن لأن الإجابة غير موعود بها جزماً بل إنما قيدت الإجابة بالمشيئة لأن الأمور كلها بمشيئة الله تعالى
(2)
كما قد قيل في نحو قوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح: 27]، مع أنه خبر محقق لا يمكن أن يتخلف.
لكن هذا الخدش ضعيف لأن سياق الآية يدل على أن التقييد بالمشيئة قصد به أن الله تعالى في بعض الأحيان ربما لا يكشف ما يدعون إليه، هذا هو الظاهر من السياق والله أعلم.
الوجه الثاني
(3)
: أن العموم في الآيتين الذي يفيد الإجابة في جميع الحالات وبدون شرط، هذا العموم خص بما إذا وافق القضاء أو إذا كانت الإجابة خيراً للداعي أو إذا استوفت الشروط فهو من العام المخصوص.
وهذا الوجه الثاني أعم من الوجه الأول ولا غبار عليه لأن كثيراً من
(1)
انظر عن هذا الوجه المصادر السابقة التي أشير إليها في إيراد السؤال، وشأن الدعاء ص:12.
(2)
تفسير البغوي: 2/ 96.
(3)
انظر عن هذا الوجه: التمهيد لابن عبد البر: 10/ 296، والبغوي: 1/ 156، وزاد المسير: 1/ 190، والجامع لأحكام القرآن: 2/ 309، والمنهاج للحليمي: 1/ 541 - 542، والفتح: 3/ 32، وشرح الإحياء: 5/ 28.
النصوص العامة قد جرى فيها التخصيص، ويدل له عدة أحاديث وردت تبين تخصيص هذا العموم بشروط، منها قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه:
"لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ما لم يستعجل. . ."
(1)
.
فقد اشترط في هذا الحديث لإجابة الدعاء أمران: عدم الدعاء بالإثم أو قطيعة رحم، وعدم الاستعجال، فيستفاد منه تخصيص عموم الإجابة بهذين الشرطين.
قال ابن عبد البر رحمه الله: "في هذا الحديث دليل على خصوص قول الله عز وجل: ادعوني استجب لكم وإن الآية ليست على عمومها ألا ترى أن هذه السنة الثابتة خصت منها الداعي إذا عجل فقال: قد دعوت فلم يستجب لي، والدليل على صحة هذا التأويل قول الله عز وجل، فيكشف ما تدعون إليه إن شاء"
(2)
ولكن ابن عبد البر رحمه الله بعد هذا الكلام رجع فاختار الوجه الثالث الآتي.
ومنها حديث الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يقول: يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب له
(3)
.
ففي هذا الحديث اشترط لقبول الدعاء عدم التلبس بالحرام فيخص به أيضاً عموم الإجابة. ومنها حديث: "ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه"
(4)
.
ففي هذا اشترط للإجابة حضور القلب وعدم الغفلة وصرح بعدم الاستجابة لدعاء الغافل اللاهي.
(1)
أخرجه مسلم: 4/ 2096 رقم 2735.
(2)
التمهيد لابن عبد البر: 10/ 296.
(3)
أخرجه مسلم: 2/ 703 رقم 1015 وتقدم 147.
(4)
تقدم ص: 189.
ومنها حديث دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لأمته فدعا لها في ثلاث فأجيب في اثنتين ومنع الثالثة وفيه: "يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد"
(1)
.
فهذا نص واضح جلي بأن الإجابة مقيدة بعدم سبق القضاء.
وحاصل هذا الوجه أن يقال: إن ما تدل عليه الآيتان من إجابة الله للدعاء من باب الوعد والوعيد، وقد قرر العلماء أن نصوص الوعد والوعيد المطلقة مقيدة بوجود المقتضي وعدم المانع المنافي.
فعلى هذا إن الإجابة إنما تحصل إذا استوفت الشروط المقتضية لها وانعدمت الموانع.
قال الحليمي: إن معنى قوله جل ثناؤه ادعوني أستجب لكم أي بحسب نظري لكم ورحمتي لكم لا بحسب أهوائكم وأمانيكم صحت أو فسدت لأن هذه الآية غير مفردة في القرآن عن أخرى لكن بينتها آيات أخرى منها قوله تعالى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} [المؤمنون: 71].
وقوله: {وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11)} [الإسراء: 11].
فدل هذا على أن الله تعالى إنما يستجيب الدعاء المستجمع شرائطه إذا علم للداعي فيما سأل خيراً، فأما إذا علم أن له فساداً أو شراً فإنه لا ستجيب له دعاءه إكراماً وثواباً له بدعائه
(2)
.
فعلى هذا القول إن الدعاء مع استيفائه لآدابه وشروطه قد لا يستجاب إذا لم يكن في مصلحة الداعي.
(1)
أخرجه مسلم من حديث ثوبان: 4/ 2215 رقم 2889، وأحمد: 5/ 284، 278، ومسلم من حديث سعد بن أبي وقاص رقم 2890، وأخرجه أحمد من حديث شداد بن أوس: 4/ 123، والطبري: 7/ 223 وقال ابن كثير في حديث شداد إسناد جيد قوي تفسير ابن كثير: 2/ 141".
(2)
المنهاج للحليمي: 1/ 541 - 542.
والحاصل أن الآيتين على هذا الوجه الثاني قد دخلهما التخصيص وليستا باقيتين على العموم، فعلى هذا يوجد من الدعاء ما لا يجيبه الله تعالى.
الوجه الثالث
(1)
: إن الوعد بالإجابة باق على عمومه فما من رجل يدعو إلا ويجيب الله له ولكن الإجابة تتنوع، والداعي لا بد أن يعوض من دعائه عوضاً ما وليس شرطاً أن تكون بعين المطلوب وربما تكون بمثل المطلوب أو ادخار الأجر له أو دفع البلاء عنه، أو بشرح صدره لتحمل البلاء والصبر على ذلك، فالإجابة حاصلة لا محالة وذلك لأن الله سبحانه قد أخبر بها عن نفسه والخبر لا ينسخ لئلا يوصف المخبر بالكذب، والله سبحانه وتعالى عندما وعد بالإجابة لم يقل أجيب في الحال، فإذا استجاب ولو في الآخرة كان الوعد صادقاً.
وقد يعتقد الداعي المصلحة في المعين ولا مصلحة له في ذلك فيجاب إلى مقصوده الأصلي وهو طلب المصلحة، وقد تكون المصلحة في التأخير أو المنع وادخار الأجر له أو صرف البلاء عنه إلى غير ذلك، ويدل لهذا الوجه حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من مسلم ينصب وجهه الله عز وجل في مسألة إلا أعطاه إياها، إما أن يعجلها له وإما أن يدخرها له"
(2)
.
وحديث عبادة بن الصامت رفعه: "ما على الأرض مسلم يدعو الله
(1)
انظر عن هذا الوجه: شأن الدعاء للخطابي: 12 - 13، والمنهاج للحليمي: 1/ 542، والتمهيد لابن عبد البر: 11/ 296 - 297، ومعالم التنزيل للبغوي: 1/ 156، وزاد المسير: 1/ 190، وفتح الباري: 11/ 95 - 96، 141، والجامع للقرطبي: 2/ 310، وتفسير الرازي: 1/ 107 - 108، وإتحاف السادة: 5/ 29.
(2)
أخرجه أحمد في المسند: 2/ 448، وقال الهيثمي: رجاله ثقات وفي بعضهم خلاف "المجمع: 10/ 148" وقال المنذري: رواه أحمد بإسناد لا بأس به: الترغيب: 2/ 272.
بدعوة إلا آتاه الله إياها، أو صرف عنه من السوء مثلها ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم"
(1)
.
وحديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من مسلم يدعو دعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله إحدى ثلاث: إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يكف عنه من الشر مثلها، قالوا: إذًا نكثر، قال: الله أكثر"
(2)
.
قال ابن عبد البر رحمه الله: "فعلى هذا يكون تأويل قول الله عز وجل والله أعلم -: {فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ} أنه يشاء وأنَّه لا مكره، ويكون قوله عز وجل: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} على ظاهره وعمومه بتأويل حديث أبي سعيد"
(3)
.
وقال ابن عبد البر أيضاً في موضع آخر تعقيباً على حديث أبي سعيد المتقدم: "هذا الحديث يخرج في التفسير المسند لقول الله عز وجل: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} فهذا كله من الاستجابة، وقد قالوا: كرم الله لا تنقضي حكمته، ولذلك لا تقع الإجابة في كل دعوة قال الله عز وجل:{وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ}
(4)
[المؤمنون: 71].
(1)
أخرجه الترمذي: 5/ 566 رقم 3573، وأحمد: 5/ 329، والطبراني في الدعاء: 2/ 20 رقم 86، وفي إسناده عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان قال فيه الحافظ صدوق يخطئ ورمي بالقدر، وتغير.
(2)
أخرجه أحمد: 3/ 18، وابن أبي شيبة: 10/ 201 رقم 9219، والحاكم: 1/ 493، والطبراني في الدعاء: 2/ 802 رقم 37، وأبو يعلى: 2/ 296 رقم 1019، والبزار كما في كشف الأستار: 4/ 40 رقم 3143، قال المنذري: رواه أحمد والبزار وأبو يعلى بأسانيد جيدة "الترغيب: 2/ 272" وقال الهيثمي: "ورجال أحمد وأبي يعلى وأحد إسنادي البزار رجاله رجال الصحيح غير علي بن علي الرفاعي وهو ثقة" "المجمع: 10/ 148 - 149. وقال الحافظ في الفتح: حديث صحيح 11/ 96.
(3)
التمهيد لابن عبد البر: 10/ 267.
(4)
التمهيد لابن عبد البر: 5/ 345.
وهذا الوجه قد يعترض عليه بأن الوعد وإن كان عاماً لكنه وردت نصوص أخرى تخصه، فلا بد من الأخذ بها، وأما تنوع الإجابة فصحيح ولكن هذا التنوع للدعاء الذي استوفى الشروط وأما إذا لم يستوف الشروط فقد لا يجاب عليه أصلاً.
وقال الباجي المالكي شارح الموطأ عند ذكر حديث: ما من داع يدعو إلا كان بين إحدى ثلاث .. قال: "هذا إنما يكون للداعي من المسلمين إذا دعا فيما يجوز له أن يدعو فيه فذلك الذي لا يخلو من أن يستجاب له فيما دعا فيه أو يدخر له أجر بدعائه وإخلاصه وذكره الله، وإقراره له بالربوبية، وإما أن يكفر له بعض ما سلف من ذنوبه"
(1)
.
ثم إن هذا ليس خاصاً بالدعاء بل الأعمال الصالحات جميعها يشترط في قبولها أمور من وجود المقتضي وعدم المانع فإذا لم يوجد المقتضي كأن لم تستوف الشروط أو وجد المانع فإنها لا تقبل.
والدعاء من جملة الأعمال الصالحات، فإذا لم يستوف الشروط أو وجد المانع فإنه لا يقبل لعموم الأدلة قال تعالى:{إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27)} [المائدة: 27].
ثم إن هناك أدلة تدل على عدم قبول بعض الأدعية نحو دعاء المتلبس بالحرام، والدعاء بالإثم أو قطيعة الرحم، أو الذي يستعجل صاحبه أو دعاء الغافل اللاهي غير المتضرع، وأما الادعاء بأن هذا خبر، والنسخ لا يدخل في الأخبار، فيقال: إن هذا ليس من باب النسخ بل هذا من باب أن الوعد نفسه الذي هو الخبر لا يقتضي أنه يحصل بدون مقتض ولا مانع.
ثم إن الحديث الذين استدلوا به في بعض طرقه وهو حديث أبي سعيد في آخره ما يدل على الشرط وهو: "ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم
(1)
المنتقى للباجي: 1/ 360.
ما لم يستعجل" فهذان الشرطان معتبران لأن المطلق يحمل على المقيد.
الوجه الرابع
(1)
: إن الوعد على الدعاء الذي هو بمعنى العبادة والطاعة، والإجابة بمعنى الثواب والأجر فقد صح ما ورد من قول النبي صلى الله عليه وسلم:"الدعاء العبادة"
(2)
.
فالدعاء الموعود عليه بالإجابة هو العبادة، فلا يأتي الاعتراض بتخلف إجابة الدعاء في بعض الأحيان.
فهذا الوجه يعترض عليه بأنا إذا فسرنا الدعاء بدعاء المسألة فماذا تكون الإجابة؟، لأن الدعاء يطلق على دعاء المسألة اتفاقاً فهذا الجواب لا يتمشى إلا على تفسير الدعاء بدعاء العبادة أن تفسير الدعاء بدعاء مع المسألة أيضاً أمر متفق عليه في الجملة فلا يزال الاعتراض وارداً كما أن هناك نصوصاً أخرى غير الآيتين بعضها لا يمكن حملها على دعاء العبادة فماذا يكون الجواب عنها؟
الوجه الخامس
(3)
: إن معنى أجيب أسمع، ويقال: ليس في الآية أكثر من إجابة الدعاء، فأما إعطاء المنية فليس بمذكور فيها، وقد يجيب الوالد ولده ثم لا يعطيه سؤله، فالإجابة كائنة لا محالة عند حصول الدعوة.
وهذا الوجه يقال فيه: إن الإجابة بالسماع فقط بدون إعطاء الأماني لا تسمى إجابة الدعاء لأننا قدمنا أن الإجابة نوعان: فإجابة دعاء المسألة تكون بالنوال، لا بالسماع والمقال لأن هذه الإجابة إنما تكون في سؤال الاستفهام
(4)
فلا يتبادر من سياق الآية هذا المعنى وإنما سياق الآية في
(1)
انظر عن هذا الجواب: الطبري: 2/ 160، ومعالم التنزيل: 1/ 156، والرازي: 5/ 108، وشرح الإحياء: 5/ 28، وأضواء البيان: 1/ 121.
(2)
تقدم ص: 54.
(3)
انظر عن هذا الوجه معالم التنزيل للبغوي: 1/ 156، والرازي: 5/ 108، وشرح الإحياء للزبيدي: 5/ 29.
(4)
انظر ما ذكره الراغب الأصفهاني في معنى الجواب (المفردات) ص: 102.
الإجابة بالنوال، ثم إن ما يفعله الوالد مع ولده من إجابته سؤاله ثم منعه، لا يليق بالله تعالى لما في ذلك من الخلف بالوعد أو الكذب والخداع والله سبحانه منزه عن ذلك.
الوجه السادس
(1)
: إن الوعد المذكور خاص بالمؤمنين الصادقين المخلصين وأن الكمل من المؤمنين لا ترد دعوتهم.
واستدل أصحاب هذا الوجه بحديث الولي المشهور: "لئن استعاذني لأعيذنه ولئن سألني لأعطينه"
(2)
وقالوا: إن من بلغ رتبة المحبة وكان الله سمعه وبصره يجاب له كل دعاء ويحصل بغيته على حسب إرادته
(3)
.
وقالت المعتزلة: إن الإجابة خاصة بالمؤمنين {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82] وذلك لأن وصف الإنسان بأن الله قد أجاب دعوته -هذا الوصف صفة مدح وتعظيم ألا ترى أنا إذا أردنا المبالغة في تعظيم حال إنسان في الدين قلنا: إنه مستجاب الدعوة، وإذا كان هذا من أعظم المناصب في الدين، والفاسق واجب الإهانة في الدين -ثبت أن هذا الوصف لا يثبت إلا لمن لا يتلوث إيمانه بالفسق، بل الفاسق قد يفعل الله ما يطلبه إلا أن ذلك لا يسمى إجابة الدعوة
(4)
وإنما يسمى قضاء الحاجة.
وهذا الفرق بين المؤمن الصالح والفاسق في إجابة الدعاء غير صحيح لأمور:
1 -
إن الله سبحانه وتعالى قد امتن على المشركين بأنه هو الذي
(1)
انظر الإشارة إلى هذا الوجه في المنهاج للحليمي: 1/ 542، وتفسير الرازي: 5/ 109، وأضواء البيان للشنقيطي: 1/ 121.
(2)
أخرجه البخاري: 11/ 341 رقم 6502.
(3)
قطر الولي: 464، 424.
(4)
تفسير الرازي: 5/ 109، وذكر في فتاوى قاضيخان: 3/ 429 هل يجوز أن يقال في دعاء الكافر يستجاب دعاؤه أم لا؟
يجيبهم عند الاضطرار ولم يقل يقضي حاجتهم. قال تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62)} [النمل: 62]، وسياق الآيات يدل على أن الخطاب موجه إلى المشركين لأنهم يعترفون بهذه الأمور ومع ذلك لا يفردون الله تعالى بتوحيد العبادة.
2 -
إن إجابة الدعاء من مقتضى الربوبية وهي شاملة للخلق مؤمنهم وكافرهم فهو يربيهم بالنعم ومنها إجابة الدعاء وإغاثة الملهوف وإعانة المكروب وإزالة الشدائد وكشف الكربات. قال تعالى: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29)} [الرحمن: 29].
3 -
ثم إن الله تعالى قد أجاب دعوة شر خلقه وهو إبليس، قال سفيان بن عيينة رحمه الله: لا يمنعن أحداً ما يعرفه من نفسه من الدعاء فإن الله قد أجاب دعوة شر خلقه إبليس.
4 -
ثم إنه ليس هناك فرق لغوي أو شرعي بين إجابة الدعاء، وقضاء الحاجة فالمآل واحد.
5 -
ثم إن هذا تقييد لما أطلقه الله تعالى وتخصيص لعموم ما لم يخصه الله فيكون من باب التأويل المذموم.
6 -
ثم إن القول بأن دعاء الكمل يجاب بعينه منقوض لمخالفته لما هو مقطوع به من رد الله تعالى لبعض دعوات رسله حتى أولي العزم منهم:
أ - من ذلك أن الله سبحانه لم يجب دعوة نوح في ابنه بل عاتبه على ذلك: {فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [هود: 46].
ب - ومن ذلك أن الله عز وجل لم يجب دعوة إبراهيم في أبيه: {وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86)} [الشعراء: 86].
ج - ومن ذلك أن الله تبارك وتعالى لم يقبل استغفار النبي صلى الله عليه وسلم لأبي طالب وصلاته على عبد الله بن أبي ابن سلول.
د -وقد صرح النبي صلى الله عليه وسلم أنه دعا لأمته بثلاث فأجاب الله له في اثنتين ومنعه الثالثة.
فعلى هذا نقول: فأي محبة الله تعالى فوق محبة هؤلاء أولي العزم وأي كمال فوقهم؟
فثبت بهذا أن الله سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء يجيب من يشاء متى ما شاء فهو يجيب بعين المطلوب وهذا هو الغالب الكثير تفضلاً منه وإحساناً وكرماً.
وقد لا يجيب بعين المطلوب لحكم وأسرار يعلمها الله تعالى فقد تكون هناك مصلحة للداعي أو لغيره تمنع من إجابة الدعاء، قال تعالى:{وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} .
هذا وقد اعترض الحافظ ابن حجر رحمه الله على من قال: "إن جميع دعوات الأنبياء مستجابة، فقال: وما جزمه بأن جميع أدعيتهم مستجابة ففيه غفلة عن الحديث الصحيح: سألت الله ثلاثاً فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة"
(1)
.
هذا آخر الأجوبة عما يرد من السؤال عن عدم الاستجابة لكل دعاء، وبهذا ننتهي من الباب الأول وبالله التوفيق وعليه التكلان.
(1)
الفتح: 11/ 97، ولكنه ذكر في موضع آخر ما يفيد أن دعوة المؤمن لا ترد مطلقاً إلا أن الإجابة تتنوع، انظر الفتح: 11/ 95 - 96، 141.
الباب الثاني في منزلة الدعاء من العقيدة، وعدم تنافيه مع القدر، وحكمه الشرعي
ويشتمل على ثلاثة فصول:
الفصل الأول: في منزلة الدعاء ومكانته من العقيدة وأهميته من بين سائر العبادات.
الفصل الثاني: في عدم تنافي الدعاء والقدر.
الفصل الثالث: في حكم الدعاء الشرعي.
الفصل الأول في منزلة الدعاء ومكانته من العقيدة وأهميته من بين سائر العبادات
ويحتوي على مبحثين:
المبحث الأول: في كون الدعاء يزيد في الإيمان والتوحيد ودلالته على وجود الله تعالى.
المبحث الثاني: في علاقته بالتوحيد بأنواعه الثلاثة.
المبحث الأول في كون الدعاء يزيد في الإيمان والتوحيد ودلالته على وجود الله جل وعلا
ويشتمل على مطلبين:
المطلب الأول: في كون الدعاء يزيد في الإيمان والتوحيد:
الدعاء يزيد في الإيمان والتوحيد والمعرفة وحياة القلب ويقوي الفطرة، وهذا الأمر مجرب يعرفه من وقع في مشكلة فاضطره ذلك إلى الالتجاء إلى الله والرغبة إليه والانطراح بين يدي الله تعالى والتملق له.
فجعل له هذا "من الإيمان بالله ومحبته ومعرفته وتوحيده ورجائه وحياة قلبه، واستنارته بنور الإيمان ما قد يكون أنفع له من ذلك المطلوب"
(1)
.
وقد دلت الأدلة القاطعة على زيادة الإيمان بالطاعات عموماً وللدعاء خصوصية في زيادة الإيمان، إذ الداعي ولا سيما المضطر تلجئه الحاجة الملحة والفقر الشديد إلى من يقضي حاجته ويكشف كربه وحينئذ يجد الفطرة ترشده وتهديه إلى الله تبارك وتعالى ويصل الأمر إلى أن تكون معرفته بخالقه وصفاته ضرورية فيزداد يقيناً وإيماناً وإخلاصاً كما يزداد
(1)
الفتاوى: 10/ 596 و 22/ 385، واقتضاء الصراط:411.
معرفة بحاجته وضعفه وعجزه وأن الذي يدعوه عالم بحاله وقادر على قضاء حوائجه.
فإكثار الدعاء الله تعالى والتوجه إليه كل وقت يزيد الإيمان ويقويه وينمي الفطرة ويصقلها ويجليها مما شابها، ويجعل القلب متعلقاً بالله تعالى محباً له راغباً راهباً، ويفتح له هذا باباً عظيماً من لذيذ المناجاة وحلاوة الإيمان وبشاشته وبرد اليقين وراحة البال وطمأنينة النفس:"مما هو أحب إليه من تلك الحاجة التي قصدها أولاً، ولكنه لم يكن يعرف ذلك أولاً حتى يطلبه ويشتاق إليه"
(1)
.
ومما يدل على أن الدعاء يزيد في الإيمان والمعرفة لصفات الرب من القدرة والعلم .. إلخ. كما أنه يزيد في معرفة الإنسان لنفسه بالعجز، أن الداعي لا يُقْدِم على الدعاء إلا إذا عرف من نفسه الحاجة إلى ذلك المطلوب وأنَّه عاجز عن تحصيله.
وعرف أن ربه تبارك وتعالى يسمع الدعاء ويعلم الحاجة وهو قادر على إيصالها إليه، وعرف أن ربه رحيم تقتضي رحمته قضاء تلك الحاجة.
ولا شك أن معرفة العبد نفسه بالعجز والنقص، ومعرفته ربه بالقدرة والعلم والرحمة وسائر صفات الكمال من أعظم المعارف وفي هذا معرفة ذل العبودية، وعز الربوبية
(2)
.
فهاتان المعرفتان من أهم أساسيات العقيدة، فإن اعتراف العبد بعجزه ونقصه يستوجب له الالتجاء إلى من يقوي عجزه، ويكمل نقصه، ولن يجد أحداً يستطيع ذلك إلا الله تعالى فحينئذ يجد نفسه أنه لا بد له من الالتجاء إلى القوي العزيز وهو عندما يلتجئ لا بد أن يعرف صفات الله تعالى التي من أجلها التجأ إليها من قدرته على قضاء حوائجه،
(1)
إغاثة اللهفان: 1/ 29.
(2)
انظر فيض القدير: 5/ 365 - 366، وتحفة الذاكرين ص: 28، وروح المعاني: 8/ 139، وتفسير الرازي: 14/ 135.
واستغاثته، وكشف كرباته، ومن علمه بحاله ومكانه ومصلحته في الحال والمستقبل، ومن رحمته بعبده وجوده وكرمه.
وبهذا يتبين أن الدعاء يتضمن الإيمان بالله وبأسمائه وصفاته
…
وقد ذكر ابن القيم أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والتي هي نوع من أنواع الدعاء كما تقدم
(1)
: "متضمنة لكل الإيمان، بل هي متضمنة للإقرار بوجود الرب المدعو، وعلمه، وسمعه، وقدرته، وإرادته، وصفاته، وكلامه،
…
ولا ريب ولا ريب أن هذه أصول الإيمان والصلاة عليه صلى الله عليه وسلم هي متضمنة لعلم العبد ذلك وتصديقه به"
(2)
.
وهكذا سائر الأدعية فهي مشتملة على أصول الإيمان، بل أغلب الأدعية المأثورة إذا تأملناها نجدها تشتمل على أصول الإيمان بطريق المطابقة، وقليل منها هو الذي يدل على ذلك بطريق التضمن أو الالتزام.
ثم إن الداعي لو فرض أنه قد لا يستحضر هذه المعاني التي يتضمنها الدعاء فإن هذا لا ينافي ما يقتضيه حقيقة معنى الدعاء.
فالذي ينبغي له أن يستشعر ذلك ويجتهد في إحضار قلبه وتوجهه إلى الباري سبحانه واعتقاد تلك الصفات التي يدل عليها الدعاء الذي يدعو به إما مطابقة أو تضمنًا أو التزامًا.
قال ابن القيم: "وحق الداعي أن يستشعر عند دعائها -أي الفاتحة- ما يجب عليه اعتقاده مما لا يتم الإيمان إلا به، إذ الدعاء مخ العبادة، والمخ لا يكون إلا في عظم، والعظم لا يكون إلا في لحم ودم، فإذا وجب إحضار معتقدات الإيمان عند الدعاء وجب أن يكون الطلب ممزوجًا بالثناء، فمن ثم جاء لفظ الطلب للهداية والرغبة فيها مشوبًا بالخبر تصريحًا من الداعي بمعتقده وتوسلًا منه بذلك الاعتقاد الصحيح إلى ربه،
(1)
تقدم ص: 78.
(2)
جلاء الأفهام ص: 270.
فكأنه متوسل إليه بإيمانه واعتقاده أن صراط الحق هو الصراط المستقيم وأنه صراط الذين اختصهم بنعمته وحباهم بكرامته
…
"
(1)
.
وقد صرح العلماء باشتمال الدعاء على التوحيد ودلالته المتنوعة العقدية والعلمية، ومن هؤلاء الذين صرحوا القاضي عياض فإنه قال:"أذن الله في دعائه، وعلم الدعاء في كتابه لخليقته، وعلم النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء لأمته، واجتمعت فيه ثلاثة أشياء: العلم بالتوحيد، والعلم باللغة، والنصيحة للأمة"
(2)
.
وقال الزركشي في معنى كون الدعاء مخ العبادة: "إنما كان مخًا لتضمنه التوحيد إذ الداعي لا يدعو الله إلا وهو يوحده، ويعتقد أنه لا معطي غيره"
(3)
وذكر ابن عقيل الحنبلي أن في الدعاء معنى الوجود والغنى والسمع والكرم والرحمة والقدرة فإن من ليس كذلك لا يدعى
(4)
.
فتبين بهذا أن الدعاء يزيد في إيمان الداعي ومعرفته وتوحيده، ويتضمن اعتقاد الداعي بوجود الرب المدعو، وعلمه وسمعه وقدرته وسائر صفاته، فالواجب على الداعي استشعار هذه المعاني وهذه الصفات.
المطلب الثاني: في دلالة الدعاء على وجود الله تعالى:
إن الاعتراف بوجود الله تعالى أمر فطري ضروري لا يحتاج إلى إقامة برهان ولا سوق أدلة ولا ذكر حجج لأن الفطر البشرية مقرة بذلك، ومعرفته أمر ضروري لولا أن شياطين الإنس والجن تلقي بعض الأوهام بين ضعفاء العقول فتشوش عليهم، فلهذا لا نرى القرآن الكريم يكثر من إقامة البراهين الجدلية في هذا الموضوع ولكنه يشير إلى ذلك بأدلة كافية مقنعة ملزمة.
(1)
بدائع الفوائد: 2/ 11 - 12.
(2)
الفتوحات الربانية: 1/ 17.
(3)
الأزهية ص: 30، وعنه في إتحاف السادة: 5/ 29.
(4)
الآداب الشرعية: 2/ 292، وانظر ما سيأتي في ص:272.
وإذا رجعنا إلى موضوعنا وهو دلالة الدعاء على وجود الله تعالى نجد الله تعالى ذكر ذلك في كتابه الحكيم، فقد ذكر أدلة وجوده وبراهين وحدانيته وحجج تفرده بالربوبية والألوهية، ومن ضمن تلك الحجج إجابة المضطرين وإغاثة الملهوفين وإنقاذ المكروبين.
قال تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62)} [النمل: 62]، وقد ذكر قبل ذلك الآيات الكونية الكبرى من خلق السموات والأرض وإنزال المطر وإنبات الحدائق والأشجار وجعل الأرض مستقرة وخلق الأنهار والجبال والبحار، فهذه آيات كونية كبرى، ثم ذكر أدلة فطرية ضرورية وهي آية إجابة الدعاء.
فقد وصف الله نفسه في هذه الآيات بتفرده بخلق الكون وتصريفه بإنزال المطر وإخراج الثمرات والرزق وتسخير الفلك والأنهار والشمس والقمر والليل والنهار.
فهذه الأمور هي الأدلة الكونية الكبرى ثم قرن بهذه الأدلة الكبرى دليلًا آخر ألا وهو إجابة الدعاء، فدلت هذه المقارنة بالأدلة الكونية على عظمة دلالة إجابة الدعاء فهي من أعظم الأدلة الدالة على وجود الله تعالى، يعرف ذلك من وقع في خطر شديد وكرب عظيم فاستغاث بربه فأجابه وأنقذه مما وقع فيه فيحصل له علم ضروري بوجود الله تعالى.
ومن الأدلة على دلالة الدعاء على وجود الله وصفاته:
أن الداعي يريد حصول مطلوبه وغرضه على وجه معين، وفي الغالب الغرض الذي يريده الداعي الأسباب الظاهرة العادية لا تقتضي وجوده مطلقًا، أو على الوجه الذي يريده بل ربما الأسباب الظاهرة تقتضي عدم وجوده أو وجوده على وجه آخر يخالف ما يريده الداعي.
ومع هذه التوقعات والاحتمالات التي على ضد مراد الداعي يقوم الداعي بالتوجه إلى الله تعالى والإقبال على ربه ويستغيث به فيحصل المطلوب وفق غرضه وعلى الوجه الذي يريده، وقد كان قبل ذلك يعد وقوعه شبه المستحيل على الصفة المطلوبة. أترى ما الذي غيَّر الأسباب الظاهرة عن مجراها وعاداتها إلى ما يريده الداعي؟ مثال ذلك ما يقع للمسلمين في الاستسقاء حيث يجدون تأخر المطر وليس هناك سبب يقتضيه من غيم أو ريح أو تغير طقس، ومع ذلك يخرجون إلى الفلاة متضرعين مبتهلين خاشعين فيصلون صلاة الاستسقاء فيدعون الله تعالى، فيغيثهم الله في اليوم نفسه أو قريبًا منه.
وهذا أمر مشاهد واقع إلى الآن في بلاد المسلمين لاسيما في البلاد المتمسكة بدينها، وقد وردت الأحاديث الصحاح بأن النبي صلى الله عليه وسلم يدخل عليه رجل وهو يخطب فيطلب منه الدعاء بالسقيا فما ينزل عن المنبر حتى يجيش المسجد وقد كان قبل الدعاء لا يرى في المدينة سحابة ولا قزعة.
فمن الذي حرك السحاب والرياح وأتى بالمطر في لحظات معدودة؟؟
كل ذلك دليل قاطع على وجود الله تعالى وتفرده بالربوبية والألوهية وأنه متصف بصفات الجلال والجمال من السمع والعلم والرحمة والكرم والجود والقدرة وغير ذلك.
قال بعضهم في تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة: 186]: الآية تدل على أنه إنما يعرف بحدوث تلك الأشياء على وفق غرض الداعي، فدل على أنه لولا مدبر لهذا العالم
يسمع دعاءه ولا يخيب رجاءه، وإلا لما حصل ذلك المقصود في ذلك الوقت
(1)
.
وقال ابن القيم: "وحصول الإجابة عقيب سؤال الطالب على الوجه المطلوب دليل على علم الرب تعالى بالجزئيات، وعلى سمعه لسؤال عبيده، وعلى قدرته على قضاء حوائجهم وعلى رأفته ورحمته بهم"
(2)
.
فإجابة الدعاء على وفق مراد الداعي مع عدم الأسباب الظاهرة المقتضية لذلك تدل دلالة واضحة على أن هناك مدبرًا لهذا الكون يغيره حسب ما يشاء.
وذكر الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله تعالى بعض البراهين العقلية الفطرية على ربوبية الله وإلاهيته ثم قال: "ومن براهين وحدانية الباري وربوبيته، إجابته للدعوات في جميع الأوقات فلا يحصي الخلق ما يعطيه للسائلين وما يجيب به أدعية الداعين من بر وفاجر، ومسلم وكافر، تحصل المطالب الكثيرة، ولا يعرفون لها شيئًا من الأسباب سوى الدعاء والطمع في فضل الله والرجاء لرحمته، وهذا برهان مشاهد محسوس لا ينكره إلا مباهت مكابر"
(3)
.
دلالة الدعاء على وجود الله تعالى من ناحية الافتقار والحاجة والضرورة الفطرية:
إن الافتقار والاحتياج من لوازم الإنسان وضرورياته، فهو دائمًا يحتاج إلى نيل مراده من عزيز قوي يبلغه مراده وفي هذا اعتراف منه بالرب القوي الذي يبلغه مراده.
والفطرة السليمة الإنسانية شهدت بضرورة فطرتها وبديهة فكرتها على رب حكيم قادر عليم قال تعالى: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ} [إبراهيم: 10]
(1)
تفسير الرازي: 5/ 104.
(2)
مدارج السالكين: 3/ 355.
(3)
الرياض الناضرة والحدائق المنيرة الزاهرة ص: 253.
{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف: 87].
وهذه الفطرة راسخة في أعماقهم ووجدانهم ومشاعرهم، فهم وإن غفلوا عن هذه الفطرة في حال السراء فلا شك أنهم يلوذون إليها في حال الضراء. قال تعالى:{وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 67].
والاستدلال بالفطرة هو المنهج القرآني، وقد حاد عنه المتكلمون حيث يهتمون بإثبات الصانع بأدلة جدلية وآراء منطقية، وأدلتهم الجدلية هي "دون ما شهدت به الفطرة الإنسانية من احتياج ذاته إلى مدبر هو منتهى مطلب الحاجات، فيرغب إليه ولا يرغب عنه، ويستغني به ولا يستغني عنه، ويتوجه إليه ولا يعرض عنه، ويتضرع إليه في الشدائد والمهمات" وذلك لأن الإنسان يعرف احتياج نفسه وافتقارها أكثر من معرفته احتياج الممكن إلى الواجب والحادث إلى المحدث.
وهذه الطريقة هي سنّة الله وطريقته في كتابه فإنه يحتج عليهم بحاجتهم وافتقارهم إليه. قال تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل: 62]، {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الأنعام: 63].
والاستدلال الأحسن والموصل إلى المعرفة هو الاستشهاد بأفعال الله تعالى عليه وأنه لا شهادة للفعل إلا من حيث احتياج الفطرة واضطرار الخلقة، فحيثما كان الاضطرار والعجز أشد، كان اليقين أوفر وآكد:{وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 67]، {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل: 62].
والمعارف التي تحصل من تعريفات أحوال الاضطرار أشد رسوخًا في القلب من المعارف التي هي نتائج الأفكار في حال الاختيار
(1)
.
(1)
انظر ما نقله ابن تيمية في درء تعارض العقل: 7/ 397 - 403 عن كتاب نهاية الإقدام للشهرستاني ص: 124، وانظر كتاب التوحيد وإخلاص العمل: 171 - 172، والرياض الناضرة ص:252.
هذا وافتقار العبد إلى الله تعالى من جهتين: من جهة العبادة وجهة الاستعانة، قال شيخ الإسلام رحمه الله: والقلب فقير بالذات إلى الله من وجهين: من جهة العبادة وهي العلة الغائية، ومن جهة الاستعانة والتوكل وهي العلة الفاعلة فالقلب لا يصلح ولا يفلح ولا ينعم ولا يسر ولا يطمئن إلا بعبادة ربه وحبه والإنابة إليه وهذا لا يحصل له إلا بإعانة الله له فإنه لا يقدر على تحصيل ذلك له إلا الله فهو دائمًا مفتقر إلى حقيقة، {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} فهو مفتقر إلى الله من حيث المطلوب المحبوب المراد المعبود ومن حيث هو المسؤول المستعان به المتوكل عليه، فهو إلهه الذي لا إله له غيره وهو ربه الذي لا رب له سواه
(1)
.
(1)
العبودية: 108 - 109.
المبحث الثاني
في علاقة الدعاء بالتوحيد بأنواعه الثلاثة
ويشتمل على ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: في علاقة الدعاء بتوحيد الربوبية:
إن الدعاء له علاقة وثيقة وارتباط قوي بالتوحيد بأنواعه الثلاثة: توحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات، وتوحيد الألوهية والعبادة، وإليك بيان ذلك:
1 - علاقة الدعاء بتوحيد الربوبية:
فتوحيد الربوبية هو إفراد الله تعالى بأفعاله، ومن جملة أفعال الله تعالى إجابة الداعي وإغاثة المستغيث.
لأن من معاني توحيد الربوبية الإقرار بأن الله تعالى رب كل شيء وأنه النافع الضار، المتفرد بإجابة الدعاء عند الاضطرار، قال تعالى:{أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62)}
(1)
[النمل: 62].
فالإقرار بتفرد الله بإجابة الدعاء من توحيده في ربوبيته، لأن من
(1)
تيسير العزيز الحميد: 33.
مقتضى الربوبية أن يربيهم بالنعم وبما يحتاجون إليه، ومن ذلك إجابة المضطر وإغاثة الملهوف، وكشف الكرب وإزالة الضر، فهو يربي عباده بهذه النعم، فالربوبية تتضمن "خلقهم وتدبيرهم وتربيتهم وإصلاحهم وجلب مصالحهم وما يحتاجون إليه ودفع الشر عنهم وحفظهم مما يفسدهم، هذا معنى ربوبيته لهم، وذلك يتضمن قدرته التامة ورحمته الواسعة وإحسانه وعلمه بتفاصيل أحوالهم، وإجابة دعواتهم وكشف كرباتهم"
(1)
.
فتوحيد الربوبية هو إفراد الله تعالى بأفعاله هو التي منها إجابة الدعاء، فهو الذي يستحق طلبها منه وحده وهو الذي يجب إخلاص نوعي الدعاء له. قال شيخ الإسلام رحمه الله: "فهو سبحانه مستحق التوحيد، الذي هو دعاؤه وإخلاص الدين له: دعاء العبادة بالمحبة والإنابة والطاعة والإجلال والإكرام والخشية والرجاء ونحو ذلك من معاني تألهه وعبادته، ودعاء المسألة والاستعانة بالتوكل عليه، والالتجاء إليه والسؤال له ونحو ذلك مما يفعل سبحانه بمقتضى ربوبيته.
ولهذا جاءت الشريعة الكاملة في العبادة باسم الله، وفي السؤال باسم الرب، فيقول المصلي والذاكر: الله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، وكلمات الأذان الله أكبر
…
إلى آخرها ونحو ذلك"
(2)
.
ومن هنا نستطيع أن نعرف سر كثرة ورود لفظ الرب في دعوات الأنبياء والمرسلين وعباد الله الصالحين دون اسم الجلالة، أو غيره من الأسماء الحسنى والصفات العلى، وقد حكى الله لنا تلك الأدعية التي فيها النداء باسم الرب في آيات كثيرة، قال تعالى في دعاء آدم وحواء عليهما السلام:
(1)
بدائع الفوائد: 2/ 247.
(2)
الفتاوى: 2/ 456، وقاعدة جليلة ص:53.
{قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)} [الأعراف: 23]، ومن دعوات نوح عليه السلام:{رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا} [نوح: 28]، ومن أدعية إبراهيم عليه السلام:{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41)} [إبراهيم: 35 - 41].
وقد تكرر لفظ الرب في هذا الدعاء تسع مرات، كما أنه قد تكرر لفظ الرب في دعاء آخر لإبراهيم عليه السلام أربع مرات ذكره الله في سورة البقرة من قوله تعالى:{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ} إلى قوله: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)} [البقرة: 126 - 129].
ومن أدعية يوسف عليه السلام: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33)} [يوسف: 33].
ومن أدعية موسى عليه السلام: {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً
وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ} [يونس: 88].
{رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي} [طه: 25 - 27].
ومن أدعية زكريا عليه السلام {رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89)} [الأنبياء: 89].
وقد وصف الله تعالى في كتابه الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بأنهم يدعون بالدعاء الذي في آخر البقرة، وقد تكرر فيه اسم "الرب" أربع مرات:
وكذلك وصف الله أولي الألباب الذاكرين الله في كل الأحوال بأنهم يدعون بدعاء ذكره في آخر سورة آل عمران، وقد تكرر فيه اسم "الرب" خمس مرات من آية 191 إلى آية 194 ومثل ذلك ما وصف الله به عباده الذين قضوا أعمال الحج بأنهم يقولون {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201)} [البقرة: 201].
إلى غير ذلك من الأدعية الواردة المأثورة الكثيرة التي لو تتبعناها لطال بنا البحث.
وهذا الذي ذكر يكفي للدلالة على أن إجابة الدعاء من مقتضى الربوبية وأن ذلك هو الحكمة في تكرار لفظ "الرب" في الأدعية المأثورة دون باقي أسماء الله الحسنى ومن ذلك اسم الجلالة وبهذا يعرف ما في
قول الخطابي رحمه الله تعالى في اسم الجلالة "الله": "إنه أشهر أسماء الرب تعالى وأعلاها محلًا في الذكر والدعاء"
(1)
.
فبالنسبة إلى كونه أعلاها في الذكر لا خلاف في ذلك وأما بالنسبة إلى الدعاء فيعكر عليه ما تقدم من أدعية الأنبياء مع ما في معنى الربوبية من مناسبة للإجابة، وقد قال شيخ الإسلام رحمه الله مبينًا هذا المعنى:
"إن الإله هو المعبود الذي يستحق أن يعبد، والرب هو الذي يرب عبده فيدبره.
ولهذا كانت العبادة متعلقة باسمه "الله"، والسؤال متعلقًا باسمه "الرب" إلى أن قال: ولما كانت العبادة متعلقة باسمه "الله" تعالى جاءت الأذكار المشروعة بهذا الاسم مثل كلمات الآذان: الله أكبر الله أكبر، ومثل الشهادتين: أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدًا رسول الله، ومثل التشهد، التحيات لله، ومثل التسبيح، والتهليل، والتكبير: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله.
وأما السؤال فكثيرًا ما يجيء باسم الرب كقول آدم وحواء: {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)}
…
إلى أن قال:
وقد نقل عن مالك أنه قال: أكره للرجل أن يقول في دعائه يا سيدي يا سيدي يا حنان يا حنان، ولكن يدعو بما دعت به الأنبياء ربنا ربنا، نقله عنه العتبي
(2)
في العتبية، فإذا سبق إلى قلب العبد قصد السؤال ناسب أن يسأله باسمه "الرب" وإن سأله باسمه "الله" لتضمنه اسم الرب
(1)
شأن الدعاء: 30
(2)
العتبي: هو محمد بن أحمد بن عبد العزيز بن عتبة أبو عبدالله الأموي القرطبي المالكي، فقيه الأندلس جمع المسائل المستخرجة وهي التي تسمى العتبية، توفي 255 هـ، انظر السير: 12/ 335. وهذا النص عن مالك في العتبية المطبوعة مع شرحها البيان والتحصيل لابن رشد: 1/ 456 و 17/ 423.
كان حسنًا، وأما إذا سبق إلى قلبه قصد العبادة فاسم "الله" أولى بذلك. إذا بدأ بالثناء ذكر اسم "الله" وإذا قصد الدعاء دعا باسم "الرب""
(1)
.
ومما سبق يتضح أن اسم "الرب" من مقتضى معناه إجابة الدعاء لأن الإجابة من جملة تربية العبد بما يصلحه وبما يحتاج إليه كما أنها من ناحية أخرى عطاء ونفع وتدبير من الله للعبد وهذه الصفات تختص باسم الرب، ومن مقتضى معناه.
قال ابن القيم رحمه الله: "وصفات الفعل والقدرة، والتفرد بالضر والنفع والعطاء والمنع ونفوذ المشيئة، وكمال القوة، وتدبير الخليقة أخص باسم الرب"
(2)
.
ولهذه المعاني السابقة قال بعضهم: إنه الاسم الأعظم.
قال القرطبي رحمه الله: "قال بعض العلماء: إن هذا الاسم هو الاسم الأعظم لكثرة دعوة الداعين به، وتأمل ذلك في القرآن كما في آخر آل عمران وسورة إبراهيم وغيرهما، ولما يشعر به هذا الوصف من الصلة بين الرب والمربوب مع ما يتضمنه من العطف، والرحمة، والافتقار في كل حال"
(3)
.
وبما تقدم تبين لنا علاقة الدعاء بالربوبية، وأن إجابة الدعاء من مقتضاها وأن ذلك هو السر في تكرار اسم الرب في الأدعية المأثورة دون باقي أسماء الله الحسنى.
2 - ومن الأدلة الدالة على علاقة الدعاء بالربوبية أن من معاني توحيد الربوبية الإقرار بتفرد الله تعالى بالتصرف المطلق
في الملك
(1)
الفتاوى: 10/ 284 - 286، ونحوه في: 14/ 12 - 14، و 1/ 74، وبيان تلبيس الجهمية: 2/ 454، وكتاب التوحيد وإخلاص العمل ص: 170 - 171.
(2)
مدارج السالكين: 1/ 33.
(3)
الجامع لأحكام القرآن: 1/ 137.
والملكوت وأنه القادر القدرة المطلقة، فالمدعو لا بد أن يكون قادرًا القدرة المطلقة، ومتصرفًا التصرف المطلق إذ لولا اعتقاد الداعي بأن المدعو يقدر على أن يتصرف في الكون، ويغير الأحداث من الصعب إلى السهل، ومن الضيق إلى السعة، ومن الشدة إلى اليسر، ومن الكرب إلى الفرج، لما وجه الداعي دعاءه وطلبه إلى المدعو، إذ العاجز عن التصرف وعن التغيير لا يوجه إليه طلب التصرف والتغيير عند من له عقل سليم. ولهذا عاب الله تعالى على المشركين فقال:{أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193)} [الأعراف: 191 - 193].
وهذا التلازم بين الدعاء وبين كون المدعو متصرفًا التصرف المطلق وقادرًا القدرة المطلقة - يقتضيه وضع الدعاء وحقيقته.
ثم هاتان الصفتان اللتان هما التصرف المطلق والقدرة المطلقة - من خصائص الربوبية فلا يتصف بهما غير الله تعالى، فمن صرف الدعاء لغير الله تعالى فقد صرف له ما هو من خصائص الربوبية، فلذا وجب إخلاص الدعاء لله تعالى.
وربما يوجد بعض الأشخاص الذين لا يستحضرون عند الدعاء هذه التفاصيل لما يستلزمه معنى الدعاء ويقتضيه.
ولكن هذا لا يمنع أن الدعاء من شأنه وطبيعته اعتقاد الداعي تلك الخصائص للمدعو كما أنه لا يُجِيرُ للآخرين إنكار تلك الحقيقة الواقعة من الداعين الذين يستحضرون تلك المعاني والخصائص للمدعو.
3 - ومن معاني توحيد الربوبية الاعتراف بأن الله هو النافع الضار
إذ من شأن الدعاء أن يكون المدعو يستطيع أن ينفع داعيه أو يضره.
ولهذا عاب الله على المشركين الذين عبدوا ما لا ينفعهم ولا يضرهم، فقال تعالى:{يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12)} [الحج: 12].
وقال تبارك وتعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ} [يونس: 18].
وقال تعالى حاكيًا توبيخ إبراهيم لقومه: {قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67)} [الأنبياء: 66، 67].
وهذا التلازم أيضًا يقال فيه ما سبق في مثله من كون شأن الدعاء وحقيقته يقتضي ذلك.
والحاصل أن هذا التلازم الذي نقول به واضح في دعاء العبد لربه فإنه يعتقد هذه اللوازم.
كما أن هذا التلازم هو من مقتضى حقيقة الدعاء وطبيعته وشأنه. وأما في حالة دعاء الموتى والغائبين فهو كذلك أيضًا ويدل لذلك أمور:
1 -
أقوال وتصرفات من يدعو الأموات والغائبين فقد صرح بعضهم باعتقادهم في المدعوين التصرف المطلق والقدرة على النفع والضر، وهو اعتراف منهم بالحقيقة، والاعترافُ هو أقوى برهان وأنصع حجة وأوضح دليل.
2 -
أقوال العلماء الذين صرحوا بهذا التلازم في مطلق الدعاء.
3 -
أقوال العلماء الذين صرحوا باعتقاد الداعين للأموات لمدعويهم هذه اللوازم وسيأتي هذان الأمران في آخر هذا البحث لتعلقه بموضوع البحث كله، وأما ما يتعلق بالأمر الأول فنذكره هنا .. وبالله التوفيق.
اعتقاد من يدعو غير الله تعالى لمدعوه التصرف والقدرة على النفع والضر:
وهذه نقول من كتبهم المعتبرة التي هي حجة بينهم وفيها ما ينادي باعتقادهم التصرف للأولياء وفي بعضها ادعاء من يزعم الولاية لنفسه أنه يتصرف في الكون ويجيب الداعي، وفي البعض الآخر ادعى له المريدون
وعَدَّوْه من كراماته، واعتقادهم التصرف له يدل على أنهم يعتقدون أنه ينفع ويضر، ومن أقاويلهم الباطلة في ذلك ما قاله بعضهم:
"لو تحركت نملة سوداء في ليلة ظلماء فوق صخرة صماء، ولم أسمعها لقلت: إني مخدوع أو ممكور بي".
فقال آخر مستدركًا عليه: "كيف أقول ذلك، وأنا محركها؟ "
(1)
.
ففي هذا ادعى الأول السمع المحيط للكون، وذلك يستلزم العلم المحيط أيضًا وادعى الثاني زيادة على ذلك التصرف المطلق في الكون والقدرة على النفع والضر.
وقد ذكروا مراتب الأولياء وقسموهم إلى مجموعات تتصرف في الكون وتدبر أمره فهناك القطب أو الغوث الأعظم وهناك الإمامان وهناك البدلاء وهناك الأوتاد والنجباء والنقباء. فلكل هذه المجموعة مهمة أساسية تتصرف فيها حسب زعمهم.
فالقطب عندهم -وقد يسمى غوثًا باعتبار التجاء الملهوف إليه- "عبارة عن الواحد الذي هو موضع نظر الله في كل زمان أعطاه الطلسم الأعظم من لدنه، وهو يسري في الكون وأعيانه الباطنة والظاهرة سريان الروح في الجسد بيده قسطاس الفيض الأعظم
…
فهو يفيض روح الحياة على الكون الأعلى والأسفل. . ."
(2)
.
وأما الإمامان فأحدهما عن يمين القطب، ونظره في الملكوت وهو مرآة ما يتوجه من المركز القطبي إلى العالم الروحاني من الإمدادات والآخر عن يساره ونظره في الملك وهو مرآته في المحسوسات وهو أعلى من صاحبه ويخلف القطب إذا مات
(3)
.
(1)
الإنسان الكامل: 1/ 122، والعلم الشامخ: 556، 457.
(2)
التعريفات للجرجاني: 177 - 178.
(3)
المرجع نفسه: 35.
وأما الأوتاد فهم أربعة رجال منازلهم على منازل الأربعة الأركان من العالم شرق وغرب وشمال وجنوب
(1)
فهؤلاء هم يثبتون الأرض ويحفظونها من الجهات الأربع.
وأما النجباء فهم مشغولون بحمل أثقال الخلق من الأشياء التي لا تفي القوة البشرية بحملها
(2)
.
وأما النقباء فهم المشرفون على بواطن الناس وخفايا الضمائر والسرائر
(3)
.
وهؤلاء الأولياء بهذه المراتب الست لهم ديوان خاص يجتمعون فيه كل ليلة لتدبير الكون علويه وسفليه، قالوا إنهم يجتمعون في غار حراء، ويتفقون على ما يكون من ذلك الوقت إلى مثله الغد من فهم يتكلمون في قضاء الله تعالى في اليوم المستقبل والليلة التي تليه ولهم التصرف في العوالم كلها السفلية والعلوية
(4)
.
فإذا كان هؤلاء اقتسموا التصرف في الكون فماذا بقي لله الواحد القهار؟
ثم إذا سمع العامي أن هؤلاء هم المتصرفون وأن الغوث معهم ورئيسهم فلماذا لا يستغيث بهم أو بالغوث وحده؟ ولماذا يبقى في الشدة وهؤلاء يجتمعون كل ليلة؟ فما عليه إلا أن يذكر حاجته لهم أو لأحدهم فما عليها إلا أن تقضى في تلك الليلة، ويُبْرِمَ الأمر فيها المجتمعون ويصدروا الأوامر النهائية لقضائها.
(1)
المرجع نفسه: 39.
(2)
المرجع نفسه: 239.
(3)
المرجع نفسه: 245.
ويراجع في هذه المراتب الفتوحات المكية: 2/ 7، 8، 52، 208، والتصوف بين الحق والخلق: 88 - 92، والتصوف لإحسان إلهي: 231 .. وانظر قريبًا من هذه المراتب مراتب أخرى لما يسمى "رجال الغيب" في الإنسان الكامل: 2/ 45.
(4)
الإبريز للدباغ: 2/ 2 - 9.
ومن هنا ندرك لماذا يدعي بعض هؤلاء القطبية أو البدلية إلى آخر تلك الألقاب.
فممن ادعى ذلك ابن الفارض، فقد قال في تائيته:
فبي دارت الأفلاك فاعجب لقطبها الـ
…
محيط بها والقطب مركز نقطتي
(1)
وادعى ابن عربي تفويض العالم إليه
(2)
.
وقد ذكروا عن إبراهيم الدسوقي أنه سئل عن البدوي فقال: الدنيا مقسومة بيننا وبينه أربعة أقسام، ربع لي، وربع لأحمد الرفاعي، وربع للجيلاني، وربع لحضرة البدوي. وكل منهم يتصرف في ربعه إلا أن البدوي له خصيصة لم يخص بها أحد سواه وهو أن الله تعالى جعل له كرسيًا في مكان بين السماء والأرض يتصرف في أمور العالم العلوي والعالم السفلي
(3)
.
ومن ذلك ما نقله الشعراني عن البدوي من ادعائه أنه يحمي الوحوش والسمك في البحار بعضهم عن بعض فلهذا فهو غير عاجز عن حماية من يحضر مولده
(4)
.
كما ادعي له أنه يسلب الإيمان والعلم
(5)
.
ومن ذلك ما سمعه المقبلي
(6)
من بعضهم أنه يقول: "لا يكون الولي وليًا عندنا أهل الحق حتى يكون الكون بأجمعه كحبة خردل في
(1)
ديوان ابن الفارض: 52.
(2)
العلم الشامخ: 558.
(3)
العلم الشامخ: 571، والسيد البدوي: 258، نقلًا عن كتاب النصيحة العلوية: ق 37/ ب.
(4)
الطبقات الكبرى: 1/ 162، والسيد البدوي: 252، 261، 286.
(5)
الطبقات: 1/ 162.
(6)
هو صالح بن مهدي بن علي الصنعاني ثم المكي. قال الشوكاني: وهو ممن برع في جميع علوم الكتاب والسنّة وحقق الأصولين والعربية وفاق في جميع ذلك: (ت 1108 هـ). البدر الطالع: 1/ 288.
كفه" يعني فيتصرف فيه كيف يشاء
(1)
.
وبعض هؤلاء قصر التصرف في القبر لبعض كبار الأولياء ومثل لذلك البعض بالشافعي والليث والبدوي وأضرابهم، فهؤلاء لهم التصرف في قبورهم بحسب صدق من توجه إليهم، وأما النبي صلى الله عليه وسلم فبابه مفتوح فما على من عنده حاجة إلا أن يصلي عليه ثم يسأله حاجته
(2)
، قال الألوسي:"ومنهم من يثبت التصرف لهم جميعًا في قبورهم لكنهم متفاوتون فيه حسب تفاوت مراتبهم، والعلماء منهم يحصرون التصرف في القبور في أربعة أو خمسة"
(3)
.
ومن ذلك ما قيل من أن الولي إذا تقرب إلى الله تعالى حتى يصير مقاربًا لله تعالى يحصل له أنه إذا تصرف على سبيل التمكين في الأمور لا يستعصي عليه شيء مما يطلبه فإذا تشوف للعلم علمه، ويفعل ما يريد إحداثه في العالم مثل إحياء الميت وإبراء الأكمه والأبرص وغير ذلك ..
وإذا اتصف بصفة الخلة تظهر في أجزاء جسده آثار التخلل بأن تنفعل الأشياء له بلفظة كن وأن يبرئ العلل والأمراض ويأتي بالمخترعات بيده، وأن يكون لرجله المشي في الهواء، وأن يقدر على التصور بكل صورة بتمام هيكله
(4)
.
فالولي إذا وصل إلى هذه الدرجة يفعل ما يشاء ويريد وينفع ويضر بيده كل شيء!! تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا.
ويكفي لمعرفة مدى ادعاء هؤلاء التصرف وتصديق بعض الناس لهم قراءة بعض كتب هؤلاء التي احتوت على ما لا يتصور أن يصدقه عاقل
(1)
الأرواح النوافخ بهامش العلم الشامخ: 529.
(2)
شواهد الحق للنبهاني: 149.
(3)
روح المعاني: 17/ 213، ونحوه في غاية الأماني: 1/ 247.
(4)
الإنسان الكامل للجيلي: 2/ 145 - 146.
فضلًا عن مسلم قرأ كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وعرف الإسلام ومن تلك الكتب كتاب الطبقات الكبرى للشعراني وهو كتاب معتبر عندهم فقد حوى العجائب والغرائب من ادعاء تصريف الكون والحوادث الكثيرة، فالذين ترجم لهم نحو ثلثمائة إذا استثنينا الصحابة والتابعين وبعض كبار الصالحين، فكثير من هؤلاء المترجم لهم ذكر لهم الشعراني ما يدل على تصرفهم في الكون وعلمهم للغيب وغير ذلك مما لا يصدقه العقل.
ومثل كتاب الطبقات كتاب جواهر المعاني لعلي حرازم في ترجمة التيجاني ففي هذا الكتاب تصوير للتيجاني بأنه المدبر للكون والمتصرف في شؤون الناس، فمما ادعاه للتيجاني أنه نائب عن الله أو خليفته في جميع مملكته الإلهية بلا شذوذ متصفًا بجميع صفات الله وأسمائه حتى كأنه عينه
(1)
.
ومن تلك الكتب كتب البريلويين الذين تجاوزوا المعقول والمنقول فيما زعموا للنبي صلى الله عليه وسلم والصالحين.
ومن ذلك ما قالوه في الشيخ الجيلاني أنه هو الغوث الذي حصلت له قدرة كلمة "كن فيكون" وأن قلوب الناس في يده يصرفها كيف يشاء، وأن له حق التثبيت في اللوح المحفوظ وأنه يملك أن يجعل المرأة رجلًا
(2)
.
ومن تلك الكتب كتب الرافضة ففيها العجائب والطامات، ففيها ادعاء لأئمتهم التصرف في الكون وعلم الغيب وغير ذلك مما هو من خصائص الربوبية
(3)
.
(1)
جواهر المعاني وبلوغ الأماني في فيض سيدي أبي العباس التيجاني: 2/ 145، والتحفة السنية:46.
(2)
انظر ما نقله الشيخ إحسان إلهي ظهير عن كتبهم المعتمدة لديهم في كتابه البريلوية ص: 72.
(3)
انظر ما سيأتي نقله في ص: 465 - 467، 931 - 936.
والحاصل:
إن إجابة الدعاء من مقتضى الربوبية التي هي شاملة للخلق كلهم، ولهذا كانت إجابة الدعاء غير خاصة بالمؤمنين بل الله يسأله كل الخلائق فيجيبهم.
قال تعالى: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29)} [الرحمن: 29] يسأله المطيع والعاصي والكافر والمنافق، فهو كل يوم يجيب داعيًا ويكشف كربًا ويجيب مضطرًا ويغفر ذنبًا كما قاله مجاهد وغيره
(1)
.
وهو يمد كلًا من العاصي والطائع بما يتكفل له حياته، قال تعالى:{كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20)} [الإسراء: 20].
بل لما سأله إبليس اللعين بقوله: {رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36)} [الحجر: 36] أجابه الله إلى ما طلبه وأعطاه بغيته مع أنه أبغض خلق الله إلى الله، قال تعالى:{قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38)} [الحجر: 37 - 38].
فاتضح مما سبق أن إجابة الدعاء من مقتضى الربوبية وأنها شاملة للخلق أجمع، وأنها فعل من أفعال الله تعالى وأن الإقرار بتفرده بها إقرار بتفرده بأفعاله وأن الإخلاص في الدعاء يستلزم الإخلاص في توحيد الربوبية وأن الشرك في الدعاء يستلزم الشرك في الربوبية، كما أنه يستلزم الاعتقاد بعلم الغيب والتصرف المطلق والقدرة المطلقة والنفع والضر للمدعو. وقد يقال: إن الداعي ربما لا يستحضر عند الدعاء تلك اللوازم للدعاء من كون المدعو قادرًا القدرة المطلقة ومتصرفًا ومالكًا للنفع والضر فلا يقال: إنه أشرك في الربوبية.
(1)
أخرجه الطبري: 27/ 135، وقد روي نحوه مرفوعًا من حديث أبي الدرداء أخرجه ابن ماجه: 1/ 73 رقم 202، وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجه: 1/ 40.
الجواب: إن من طبيعة الدعاء أن يستحضر الداعي تلك المعاني وهي لازمة له وإلا كان مثل كلام المجنون الذي لا يدري ما يقول، وأيضًا لا يشترط في الحكم بالشرك أن يستحضر المشرك جميع لوازمه وقبائحه ولو استحضر ذلك لما أشرك مع أن الأدلة السابقة وواقع هؤلاء يدلان على أن قسمًا منهم يعتقد بتلك اللوازم أيضًا.
المطلب الثاني: في علاقته بتوحيد الأسماء والصفات:
إن الدعاء له علاقة قوية وارتباط وثيق بتوحيد الأسماء والصفات لأن معنى توحيد الأسماء والصفات هو الإقرار بما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله من الأسماء الحسنى والصفات العلى إثباتًا بدون تمثيل ولا تشبيه وتنزيهًا بدون تعطيل ولا تحريف ولا تأويل.
ومن عدم التشبيه والتمثيل اعتقاد أنَّ الله هو المتفرد بها لا يشركه فيها غيره وأسماء الله الحسنى وصفاته العليا الواردة في الكتاب والسنة كثيرة جدًّا نقتصر منها هنا على بعضها وهي العلم المحيط للغيب والشهادة، والسمع والبصر وصفة المعية، والإرادة والحياة، والقيومية، والجود والكرم والرحمة وصفة العلو.
ومن شأن الدعاء أن يعتقد الداعي اتصاف المدعو بهذه الصفات.
واعتقاد الداعي أن الله هو المتفرد بها وأنه وحده هو المستحق للاتصاف بهذه الصفات هو من توحيد الأسماء والصفات، كما أن اعتقاده أن غير الله تعالى متصف بها - كاتصاف الله تعالى - يكون إلحادًا فيها وشركًا.
صفة العلم:
إن من شأن الدعاء أن يعتقد الداعي أن مدعوه يعلم بدعائه وأحواله وما هو فيه من الكرب والشدة والفاقة والهم والغم.
وإلا لو كان المدعو يجهل بدعائه وأحواله ومكانه لم يكن هناك فائدة في دعائه والاستغاثة به، إذ الإجابة لدعاء الداعي فرع عن علم المدعو بحاجة الداعي.
فالداعي يعتقد أن المدعو عالم، وعلمه محيط بجميع الكائنات، وما تتحرك ذرة في السماء والأرض إلا وهو عالم بها ولا يخطر على البال خاطر إلا وهو يعلمه، ولا يختلج في النفس شيء إلا وهو مطلع عليه، ولا ينتاب الداعي، نائبة ولا تحدث له حادثة إلا وهو يعلمها، ولا عليه هم ولا غم ولا حزن إلا وهو مطلع عليه وعالم به وبأسبابه وبما يرفع ذلك أو يخففه، فهذا العلم المحيط
(1)
الشامل للغيب والحاضر صفة خاصة بالله تعالى، قال تعالى:{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59)} [الأنعام: 59]. وقال عز من قائل: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61)} [يونس: 61].
وقال تعالى: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65)} [النمل: 65].
وقال عز من قائل: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن: 26].
فالاعتقاد بالعلم المحيط الشامل للكون علويه وسفليه من مقتضيات معنى الدعاء ولوازمه فلو قلنا جدلًا: إنه لا يلزم منه اعتقاد الداعي بالعلم المحيط للكون فلا بد أن نقول: إنه يلزمه أن يعتقد أن المدعو علمه محيط بالداعي وبحاله وخواطره.
(1)
انظر رسالة التوحيد للدهلوي: 34 - 35.
وذلك لأن الداعي لو لم يرسخ في ذهنه أن المدعو المستغاث به يعلم حاجته وسره وعلانيته وخواطره، وهواجسه وخلجات فؤاده وحركات أنفاسه ووساوس نفسه.
لو لم يرسخ في ذهنه هذا لما نادى واستغاث وطلب النجدة والإنقاذ ولما أتعب نفسه في التذلل والتضرع والابتهال، والانطراح بين يدي المسؤول، إذ إجابة الدعاء فرع عن العلم بنداء الداعي واستغاثته وأحواله وحاجته لأن الجاهل بهذه الأمور لا يمكن إجابته كما لا يخفى.
وهذا التلازم الذي نقول به قد قال به الرازي وغيره ممن يعترف بكلامه المخالف، وهو تلازم واضح بيِّن لا مفر منه، وسيأتي كلام الرازي وغيره في آخر هذا البحث.
ويؤكد هذا التلازم أيضًا ادعاء هؤلاء العلم بالغيب لمن يدعونهم، وادعاء الآخرين ذلك لأنفسهم، كما يؤكده شهادات كبار العلماء باعتقادهم ذلك، ويؤكده الواقع المشاهد من أحوال من يدعو غير الله تعالى.
فأما ادعاؤهم معرفة الغيب لأنفسهم فكثير جدًّا، فمن ذلك:
ما ذكره الطوسي في كتابه اللمع أنه سمع من شيخه أنه دخل على الشبلي
(1)
فكان يقول له ولمن معه أي الزائرين المريدين:
"مروا أنا معكم حيث ما كنتم أنتم في رعايتي وفي كلأتي"
(2)
.
وهذا واضح في ادعائه لعلم الغيب ولا ينفع فيه التأويل لأنه نص صريح لا يقبل التأويل.
وذكر القشيري عن الخضر أنه لقي في المدينة النبوية وليًا أعظم منه
(1)
الشبلي هو أبو بكر دلف بن جعفر وقيل جعفر بن يونس قال الذهبي: وكان فقيهًا عارفًا بمذهب مالك لكنه يحصل له جفاف دماغ وسكر فيقول أشياء يعتذر عنه وله مجاهدات عجيبة انحرف منها مزاجه. اهـ. سير أعلام النبلاء: 15/ 367.
(2)
اللمع: 478، وتلبيس إبليس:348.
قال الخضر: "فعلمت أن الله عبادًا لم أعرفهم"
(1)
ومن المعلوم أن الخضر نبي على الراجح فإذا كان الولي أعلم منه فمعناه أنه مطلع على الغيب.
وذكر الشعراني عن أحدهم أنه كان يقول:
"أعرف تلامذتي من يوم "ألست بربكم" وأعرف من كان في ذلك كان الموقف عن يميني ومن عن شمالي ولم أزل من ذلك اليوم أربي تلامذتي وهم في الأصلاب لم يحجبوا عني إلى وقتي هذا"
(2)
أي أن علمه مستمر ومحيط بتلامذته، كما أنه متصرف فيهم قبل وجودهم!!!
هذه بعض الأمثلة لادعائهم لأنفسهم معرفة الغيب.
وأما ادعاء مريديهم لهم ذلك فكثير أيضًا، فمن ذلك ما قاله صاحب الجواهر في شيخه التيجاني:
"ومن كماله رضي الله عنه ونفوذ بصيرته الربانية، وفراسته النورانية التي ظهر مقتضاها في معرفة أحوال الأصحاب وفي غيرها من إظهار مضمرات وإخبار بمغيبات وعلم بعواقب الحاجات، وما يترتب عليها من المصالح والآفات، وغير ذلك من الأمور الواقعات. . ."
(3)
. . ونقل صاحب الجواهر عن شيخه التيجاني أنه يذهب إلى ادعاء ثبوت العلم اللدني وأنه قال في قوله تعالى {فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ
…
}: أو صديق أو ولي
(4)
.
وهكذا زادوا في كتاب الله تعالى بدون حياء ولا خجل، وادعوا الكشف الإلهي وقراءة اللوح المحفوظ، إلى غير ذلك مما كان له أثر في
(1)
الرسالة: 2/ 685.
(2)
الطبقات الكبرى: 1/ 183.
(3)
جواهر المعاني: 1/ 63.
(4)
المرجع نفسه: 1/ 218، نقله عن المرسي راضيًا به ومحتجًا به على مذهبه في إثبات ما يسمى عندهم بالعلم اللدني.
التأثير على الناس في اعتقاد علم هؤلاء للغيب ومعرفتهم بالداعي وأحواله وابتهالاته. وهذا الاعتقاد الفاسد تسرب إلى بعض المسلمين بطريق المتصوفة وتسرب إلى المتصوفة من طريق الروافض، فإنهم قد ادعوا لأئمتهم معرفة الغيب وغلوا في ذلك، فمن ذلك ما ادعوه لمهديهم الغائب من أنه قال في إحدى توقيعاته: نحن وإن كنا نائين بمكاننا النائي عن مساكن الظالمين. فإنا نحيط علمًا بأنبائكم، ولا يعزب عنا شيء من أخباركم ومعرفتنا بالذل الذي أصابكم
…
إنا غير مهملين لمراعاتكم ولا ناسين لذكركم ولولا ذلك لنزل بكم البلاء"
(1)
.
وزعموا أيضًا أن عليًا رضي الله عنه قال في الغائب: تسمع الكلام وتسلم على الجماعة ترى ولا ترى"
(2)
، وقال أحدهم مجيزًا دعاء غائبهم المنتظر:"لا يخفى علينا أنه (ع) وإن كان مخفيًا عن الأنام ومحجوبًا عنهم ولا يصل إليه أحد ولا يعرف مكانه إلا أن ذلك لا ينافي ظهوره عند المضطر المستغيث به الملتجئ إليه الذي انقطعت عنه الأسباب، وأغلقت دونه الأبواب، فإنَّ إغاثة الملهوف وإجابة المضطر في تلك الأحوال، وإصدار الكرامات الباهرة والمعجزات الظاهرة هي من مناصبه الخاصة كما يظهر من الحكايات المتعددة التي نقلها العلماء الأعلام رضوان الله عليهم في محالها، فعند الشدة وانقطاع الأسباب من المخلوقين وعدم إمكان الصبر على البلايا. يستغيثون به ويلتجئون إليه"
(3)
.
صفتا السمع والبصر:
ومن الصفات التي هي من مقتضيات الدعاء ولوازمه صفتا السمع والبصر العامين وذلك لأن من شأن الداعي أن يعتقد أن المدعو المنادى المستغاث به يسمع نداءه واستصراخه ويري تضرعه وتذلله وانطراحه بين
(1)
الاحتجاج للطبرسي: 2/ 497، وتاريخ الغيبة الكبرى للصدر:51.
(2)
الغيبة للنعماني: 144.
(3)
المهدي وظهوره للشاهرودي ص: 336.
يديه ومكانه في هذا العالم الفسيح المترامي الأطراف والمختلطة فيه أصوات المستغيثين ونداءات المضطرين وشكايات المضطهدين.
وهذا الاعتقاد من لوازم الدعاء، ومقتضياته فلهذا عاب إبراهيم - عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والتسليم - قومه لدعائهم الأصنام التي لا تسمع قال تعالى:{قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73)} [الشعراء: 72، 73].
فسماعُ أصوات الخلائق من البعد ليس إلا لله رب العالمين الذي يسمع أصوات العباد كلهم قال تعالى: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80)} [الزخرف: 80]، وقال:{مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة]، وليس أحد من البشر بل ولا من الخلق يسمع أصوات العباد، كلهم ومن قال هذا في بشر فقوله من جنس قول النصارى الذين يقولون: إن المسيح هو الله وإنه يعلم ما يفعله العباد ويسمع أصواتهم ويجيب دعاءهم
(1)
.
والخلاصة أن اعتقاد الداعي بأن مدعوه يسمع مناجاته ونداءاته وأنه يراه ويرى تضرعه وانكساره وانطراحه بين يديه هذا الاعتقاد من لوازم معنى الدعاء ومقتضياته، وأنَّ الداعين لغير الله تعالى كثير منهم يعتقد ذلك فيمن يدعوه
(2)
وسنذكر إن شاء الله تعالى ذلك مفصلا
(3)
.
صفة المعية والقرب:
ومن صفات الجلال والجمال التي يدل عليها الدعاء صفة قرب الله
(1)
الرد على الأخنائي ص: 134 - 135، وعنه في الصارم المنكي ص:147.
(2)
انظر ما يفيد اعتقادهم للسمع والبصر المحيطين لغير الله تعالى في: البريلوية لإحسان إلهي: 63، 78، وانظر أيضًا: 106 - 112 مسألة الحاضر والناظر حيث يعتقدون أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يخلو منه مكان ولا زمان فهو حاضر في كل مكان بعينه وكذلك الأولياء يستطيعون الحضور وانظر الكتاب نفسه ص: 114 وما بعدها.
(3)
يأتي حكاية أقاويلهم في ذلك ص: 931 - 940.
من عباده، قال تعالى:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ} [البقرة: 186]، قيل في سبب نزولها: إنها نزلت في سائل سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ فأنزل الله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي} عني الآية
(1)
، هذا وإن صفة المعية من خصائص الله تعالى وليست كمعية المخلوق كما هو في باقي صفات الله تعالى، قال تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11].
وقد دل الدليل الصريح على دلالة الدعاء واستلزامه لصفة المعية في دعاء الله تعالى ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: يقول الله تعالى: "أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا دعاني"
(2)
.
قال ابن كثير في معنى الحديث: وهذا كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)} [النحل: 128]، وقوله لموسى وهارون عليهما السلام:{إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46]، والمراد من هذا أنه تعالى لا يخيب دعاء داع ولا يشغله عنه شيء بل هو سميع الدعاء ففيه ترغيب للدعاء وأنه لا يضيع لديه تعالى
(3)
.
فالله سبحانه وتعالى قريب يسمع من دعاه، ولا يحتاج إلى واسطة تبلغه وترفع الأمر إليه أو تؤثر في إرادته ومشيئته أو واسطة تعينه أو تنوب عنه.
ثم هذا القرب الذي يحصل للداعي المخلص هو من أعظم أنواع القرب إلى الله تعالى، وهو قرب خاص.
قال الشوكاني: "أعظم أنواع قرب العبد من الرب ما صرح به في
(1)
أخرجه ابن جرير الطبري: 2/ 158، وابن أبي حاتم كما في ابن كثير: 1/ 218، وفيه أن أعرابيًا .. إلخ، والبغوي: 1/ 155، وذكره في زاد المسير: 1/ 888.
(2)
أخرجه البخاري: 13/ 384 رقم 7405، ومسلم: 4/ 2061، 2067 رقم 2675.
(3)
تفسير ابن كثير: 1/ 218.
الكتاب العزيز بقوله سبحانه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}
(1)
.
وقال ابن القيم: إن هذا القرب المذكور في القرآن والسنة قرب خاص وهو غير قرب الإحاطة
(2)
وذكر شيخ الإسلام أيضًا أن القرب هنا خاص بحالة الدعاء وليس قربًا عامًا في جميع الأحوال
(3)
.
والمقصود هنا إثبات أن الدعاء يقتضي ويستلزم اعتقاد الداعي أن المدعو قريب يسمع يعلم سره ونجواه، إذ لولا هذا لما وجه نداءه وأنه معه وجه نداءه لمن ليس قريبًا منه، فمن صرف الدعاء لغير الله تعالى يلزمه أن يعتقد هذا القرب له.
ومن الصفات التي هي من لوازم الدعاء صفة الحياة والقيومية:
إذ الميت أو النائم أو الغافل لا يستطيع التصرف لنفسه فكيف يغيث مضطرًا وينقذ هالكًا؟
ولهذا التلازم عاب الله تعالى المشركين بدعائهم للأصنام التي ليس
لها حياة فضلًا عن القوامة فقال: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21)} [النحل: 20 - 21].
وقد بقيت صفات كثيرة من لوازم الدعاء ومقتضياته، من ذلك صفة الإرادة المطلقة والجود والكرم والرأفة والرحمة والغنى وغيرها، إذ المتصف بأضدادها لا يرجى خيره ولا يطمع في إحسانه، ولا يتعرض
لفضله ونواله.
ونكتفي بهذا القدر في تتبع الصفات التي يعتقدها الداعي للمدعو،
(1)
قطر الولي: 399.
(2)
انظر طريق الهجرتين ص: 22.
(3)
انظر الفتاوى: 5/ 129 - 130 و 240 - 241.
أو هي لازمة لطبيعة الدعاء وإن لم يستحضرها الداعي عند الدعاء، وذلك لأن الذي ذكرناه يدل على ما بقي.
هذا ونؤخر الكلام على صفة العلو لطول الكلام عليها.
الخلاصة:
إن الدعاء من لوازمه ومقتضيات معناه أن يكون المدعو متصفًا بصفات الكمال والجلال والجمال، ومن تلك الصفات: العلم المحيط والسمع والبصر والمعية والقرب والحياة والقيومية والإرادة والجود والكرم والرحمة. . . وهي صفات خاصة بالله تعالى ولا تليق لغيره. .
فصرف الدعاء لغير الله تعالى يستلزم صرف هذه الصفات لذلك الغير وادعاءها له واعتقاد استحقاقه لها فيكون شركًا في توحيد الأسماء والصفات، وكون الدعاء من لوازمه هذه الصفات قد ذكرنا فيما سبق الأدلة على ذلك من الآيات، ومما يؤكد ذلك تصريح بعضهم بما يفيد ذلك من ادعاء ذلك لنفسه أو اعتقاده لغيره من المدعوين.
والآن نتبع ذلك بأقوال العلماء الذين قالوا بذلك التلازم لمطلق الدعاء، ثم بأقوال العلماء الذين ذكروا أن بعض الذين يدعون الأموات يعتقدون لهم علم الغيب والتصرف في الكون والسمع والبصر العامين
…
إلخ.
أقوال الذين ذكروا أن الدعاء يستلزم الاعتقاد بصفات الجلال والكمال الله تعالى:
فمن العلماء الذين ذكروا هذا التلازم ابن القيم والرازي والزبيدي وابن أبي العز والزركشي وابن عقيل.
فقد ذكر ابن القيم رحمه الله أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وهي كما تقدم
(1)
نوع من الدعاء - تتضمن كل الإيمان "بل هي متضمنة للإقرار
(1)
ص: 83.
بوجود الرب المدعو، وعلمه وسمعه وقدرته وإرادته وصفاته وكلامه"
(1)
.
وقال أيضًا: وحصول الإجابة عقيب السؤال على الوجه المطلوب دليل على علم الرب تعالى بالجزئيات وعلى سمعه لسؤال عبيده وعلى قدرته على قضاء حوائجهم وعلى رأفته ورحمته بهم
(2)
.
وذكر الرازي في معرض شرحه للاستعاذة - وقد تقدم
(3)
أنها نوع من الدعاء - أنها لا تتم إلا بعلم العبد بعجزه عن جلب المنافع ودفع المضار وبعلمه أيضًا بأن الله المستعاذ به قادر على إيجاد المنافع ودفع المضار ولا يقدر على ذلك غيره فإذا حصل له هذا العلم بالله وبنفسه يحصل له التواضع والانكسار في القلب كما يحصل له طلب ذلك من الله باللسان.
وذكر الرازي أيضًا أنه يلزمه في الاستعاذة أن يعلم أن الله عالم بجميع المعلومات فإنه لو لم يكن كذلك لجاز أن لا يكون عالمًا به ولا بأحواله فعلى هذا التقدير تكون الاستعاذة به عبثًا، ولا بد أن يعلم أيضًا كونه قادرًا على كل شيء وإلا فربما كان عاجزًا عن تحصيل مراد العبد، ولا بد أن يعلم أنه جواد كريم إذ لو كان البخل عليه جائزًا لما كان في الاستعاذة به فائدة.
وبهذا الاعتقاد يعرف أن في الدعاء اعترافًا بعز الربوبية وذل العبودية.
ثم ذكر الرازي أن من الناس من يقول بعدم الحاجة إلى العلم بهذه اللوازم التي ذكرت ثم ذكر أن هذا ضعيف جدًّا لأن إبراهيم عليه السلام
(1)
جلاء الأفهام: 270
(2)
مدارج السالكين: 3/ 355
(3)
ص: 83
عاب أباه في قوله: {لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [مريم: 42].
فبتقدير أن لا يكون الإله عالمًا بكل المعلومات قادرًا على كل شيء كان سؤاله لمن لا يسمع ولا يبصر وكان داخلًا تحت ما جعله إبراهيم عيبًا على أبيه
(1)
.
وفي معنى كلام الرازي هذا قول الزبيدي: إن الدعاء يدل على قدرة الله وعجز الداعي
(2)
.
وقال ابن أبي العز شارح الطحاوية إن من فوائد الدعاء العاجلة معرفة العبد بربه وإقراره به وبأنه سميع قريب قدير عليم رحيم، وإقراره بفقره إليه واضطراره إليه وما يتبع ذلك من العلوم العلية والأحوال الزكية التي هي من أعظم المطالب
(3)
.
وذكر الزركشي أن من فوائد الدعاء إظهار العبودية والإقرار بالفقر والحاجة والاعتراف بالربوبية
(4)
.
وذكر ابن رجب أن في السؤال إظهار الذل والمسكنة وفيه الاعتراف بقدرة المسؤول على رفع هذا الضر، ونيل المطلوب وجلب المنافع ودرء المضار
(5)
.
ومن أصرح من وقفت على كلامه من العلماء الذين صرحوا باشتمال الدعاء على الاعتقاد بالصفات العليا أبو الوفا ابن عقيل الحنبلي فإنه قال:
"قد ندب الله إلى الدعاء وفيه معاني الوجود والغنى والسمع
(1)
تفسير الرازي: 1/ 72 - 73
(2)
إتحاف السادة: 5/ 29
(3)
شرح الطحاوية ص: 461.
(4)
الأزهية ص: 38
(5)
جامع العلوم والحكم ص: 181.
والكرم والرحمة، والقدرة فإن من ليس كذلك لا يدعى، ومن يقول بالطبائع يعلم أن النار لا يقال لها: كفى ولا النجم لا يقال له: أصلح مزاجي لأن هذه عندهم مؤثرة طبعًا لا اختيارًا، فشرع الدعاء والاستشفاء ليبين كذلك أهل الطبائع وقال:{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ} [الحجر: 21] حتى لا يطلب إلا منه.
ثم أحب أن يظهر جواهر أهل الابتلاء فقال لذا: اذبح ولدك، وقرص هذا بالبلاء ليحملهم على الدعاء واللجاء))
(1)
.
فقد اتضح من كلام هؤلاء العلماء تضمن الدعاء لاعتقاد الداعي بهذه الصفات العليا التي هي من خصائص الله تعالى لا يشركه فيها غيره.
فبهذا نعلم أن من صرف الدعاء للمخلوق أيًا كان فقد صرف له هذه الصفات التي هي خاصة بالله تعالى فبهذا يكون قد أشرك في توحيد الأسماء والصفات، ووصف غير الله تعالى بصفات هي من خصائص الله تعالى وصفاته كما أن من أخلص الله تعالى في الدعاء فقد أخلص في توحيد الأسماء والصفات.
أقوال العلماء الذين ذكروا أن الداعين للأموات يعتقدون اتصافهم بمعرفة الغيب وغيرها من الصفات التي هي لازمة لمن يستحق الدعاء:
والعلماء الذين بينوا أن الداعين للأموات أو الغائبين يعتقدون لمن يدعونهم علم الغيب وسماع النداء والقدرة على النفع والضر - كثيرون منهم:
1 -
المفسر الألوسي أبو الفضل محمود (ت 1270 هـ) فإنه قال:
"ولا أرى أحدًا ممن يقول ذلك - يشير إلى قولهم: يا سيدي فلان
(1)
الآداب الشرعية لابن مفلح نقلًا عن كتاب الفنون لابن عقيل: 2/ 292، وشرح الطحاوية ص: 459، وشرح كتاب التوحيد للغنيمان: 1/ 196.
أغثني - إلا وهو يعتقد أن المدعو الحي الغائب أو الميت المغيب يعلم الغيب أو يسمع النداء ويقدر بالذات أو بالغير على جلب الخير ودفع الأذى، وإلا لما دعاه ولا فتح فاه"
(1)
.
وذكر الألوسي أيضًا أن ممن يندرج في قوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)} ? [يوسف: 106] عبدة القبور الناذرون لها المعتقدون للنفع والضر
(2)
فقد وصفهم الألوسي باعتقاد النفع والضر.
2 -
والعالم المجاهد محمد إسماعيل الدهلوي الملقب بالشهيد (ت 1247 هـ) فإنه ذكر الذين يقولون: يا سيدنا ادعو الله لنا وأنهم يظنون أنهم ما أشركوا لأنهم على زعمهم لم يطلبوا منهم قضاء الحاجات، وإنما طلبوا منهم الدعاء فقط.
ثم قال: "وهذا باطل فإنهم وإن لم يشركوا عن طريق طلب قضاء الحاجات فإنهم أشركوا عن طريق النداء، فقد ظنوا أنهم يسمعون نداءهم عن بعد كما يسمعون نداءهم عن قرب"
(3)
.
فقد صرح الدهلوي رحمه الله باعتقادهم لمدعويهم السمع الذي لا يليق إلا بالله تعالى وأنهم ما صرفوا الدعاء للولي لولا هذا الاعتقاد.
3 -
والشيخ عبد الرحمن بن عبد اللطيف بن حسن (ت 1285 هـ) فإنه قال تعليقًا على قول البوصيري:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به
…
سواك عند حدوث الحادث العمم
قال: "ولا ريب أن هذا الدعاء الذي دعاه البوصيري واستغاث فيه بالنبي صلى الله عليه وسلم يقتضي إثبات قدرة عامة وعلم عام وسمع محيط لاسيما إن كان من يدعو الصالحين ويسألهم جعل ذلك ديدنه في كل زمان ومكان
(1)
روح المعاني: 6/ 128.
(2)
المرجع السابق: 13/ 67، ونحوه في: 17/ 213 و 24/ 11.
(3)
رسالة التوحيد: 66 - 67، وانظر: 34 - 35، 59.
وإن بعدت الديار وتناءت الأقطار وإن زعم أنه لم يثبت قدرة ولا علمًا ولا سمعًا عامًا محيطًا لا يليق بالمخلوق فهو مكابر ملبوس عليه ثم في ذلك من الخضوع والذل والمحبة والإنابة ما هو من خالص العبادة ولبها فكيف جاز صرفه لغير الله؟ "
(1)
.
وقال أيضًا: "بل من دعاهم فهو يرى ويعتقد أن لأرواحهم قدرة وعلمًا بحاله وسمعًا ليس من جنس قدرة العباد وعلمهم وسمعهم"
(2)
.
4 -
والشيخ عبد الحي بن عبد الحليم اللكنوي (ت 1304 هـ) فقد ذكر أنه يلزم الاحتراز عن مثل الورد المشهور وهو ورد: "يا شيخ عبد القادر جيلاني شيئًا الله وعلل ذلك بأن بعض الفقهاء حكم بكفر قائله ثم علله أيضًا بأن هذا الورد يتضمن نداء الأموات من أمكنة بعيدة، لم يثبت شرعًا أن الأولياء لهم قدرة على سماع النداء من أمكنة بعيدة ثم ذكر أن من اعتقد أن غير الله تعالى حاضر وناظر وعالم للخفي والجلي في كل وقت وفي كل آن فقد أشرك، وذكر أن اعتقاد أن عبد القادر يعلم أحوال مريديه في كل وقت ويسمع نداءهم من عقائد الشرك
(3)
.
5 -
والشيخ محمد بشير السهسواني (ت 1326 هـ) فإنه قال: "فنداء الميت بعيدًا من القبر، وكذا نداء الغائب يقتضي اعتقاد علم الغيب لذلك الميت والغائب"
(4)
.
وذكر أيضًا أن المستغيثين بالأموات والغائبين يعتقدون أنهم يعلمون استغاثتهم، ويسمعون دعاءهم من كل مكان وفي كل زمان وأن هذا إثبات لعلم الغيب لهم
(5)
.
(1)
مصباح الظلام: 200 - 201.
(2)
المرجع نفسه: 254.
(3)
مجموع فتاوى عبد الحي اللكنوي: 1/ 264، نقلًا عن تعليق الندوي على رسالة التوحيد ص: 140 - 141.
(4)
صيانة الإنسان: 373
(5)
المرجع السابق: 230.
6 -
والشيخ حافظ الحكمي (ت (1377 هـ) فقد ذكر تلازم أنواع التوحيد الثلاثة وتلازم بعضها لبعض وأنها لا ينفك بعضها عن بعض وأن الشرك في نوع منها يلزم منه الشرك في الباقي، ثم قال: "مثال ذلك في هذا الزمن عباد القبور إذا قال أحدهم يا شيخ فلان - لذلك المقبور أغثني أو افعل لي كذا ونحو ذلك يناديه من مسافة بعيدة وهو مع ذلك تحت التراب وقد صار ترابًا فدعاؤه إياه عبادة صرفها له من دون الله لأن الدعاء مخ العبادة، فهذا شرك في الإلهية وسؤاله إياه تلك الحاجة من جلب خير أو دفع ضر أو رد غائب أو شفاء مريض أو نحو ذلك مما لا يقدر عليه إلا الله معتقدًا أنه قادر على ذلك هذا شرك في الربوبية حيث اعتقد أنه متصرف مع الله تعالى في ملكوته ثم إنه لم يدعه هذا الدعاء إلا اعتقاده أنه يسمعه على البعد والقرب في أي وقت كان وفي أي مكان ويصرحون بذلك وهذا شرك في الأسماء والصفات حيث أثبت له سمعًا محيطًا بجميع المسموعات لا يحجبه قرب ولا بعد فاستلزم هذا الشرك في الإلهية الشرك في الربوبية والأسماء والصفات
(1)
.
7 -
والشيخ علي محفوظ الحنفي صاحب كتاب الإبداع (ت 1361 هـ) فإنه ذكر أن العوام إذا نزل بهم أمر خطير في البر أو البحر تركوا دعاء الله ونادوا بعض الأولياء كالبدوي والدسوقي وزينب، ثم قال:
"معتقدين أنهم يتصرفون في الأمور ولا تسمع منهم أحدًا يخص مولاه بتضرع ودعاء وقد لا يخطر له على بال أنه لو دعا الله وحده ينجو من تلك الشدائد"
(2)
.
والحاصل أنه قد تبين مما سبق أن الدعاء يستلزم اعتقاد الداعي لمدعوه صفات الكمال والجلال التي لا تليق لغير الله تعالى من العلم المحيط والقدرة المطلقة والتصرف المطلق والسمع وغير ذلك، كما تبين
(1)
معارج القبول: 1/ 435، ويراجع: 1/ 446 و 445.
(2)
الإبداع في مضار الابتداع: 212.
أن كثيرًا من العلماء صرحوا بالتلازم بين الدعاء وبين هذا الاعتقاد كما صرحوا أن من يدعو غير الله تعالى يعتقد فيمن يدعوه هذه الصفات سواء اعترف بهذه الحقيقة أو كابر عقله وتأول بأنه لا يعتقد ذلك، فالحقيقة ثابتة لا يغيرها إنكار المكابر المعاند. هذا ومن الصفات التي يدل عليها الدعاء صفة العلو وكان اللائق أن تذكر مع ما تقدم من الصفات ولكن أخرناها لطول الكلام عليها ونذكرها الآن وبالله التوفيق وعليه التكلان.
دلالة الدعاء على علو الله تعالى:
اتفق بنو آدم على اختلاف مللهم ونحلهم وعاداتهم وتقاليدهم على مر الدهور والأزمان وتباعد الأوطان - إلا من فسدت فطرته وانطمست بصيرته - على اعتقاد علو الله تعالى.
فعقيدة علو الله أمر، فطري فطر الله الناس عليها بخلاف استواء الله على عرشه فهو أمر سماعي دلت الأدلة السمعية القطعية على ثبوته الله تعالى
(1)
.
وأما العلو فهو فطري ضروري ثبت بالفطرة قبل الأدلة السمعية فجاءت الأدلة السمعية فزادته برهانًا على برهان، ويقينًا على يقين.
ولكون العلو أمرًا فطريًا نجد البشر على اختلاف مستوياتهم في المعرفة، واختلاف لغاتهم وتباعد أوطانهم وتباين عاداتهم وتقاليدهم اتفقوا على التوجه بالدعاء إلى السماء ورفع الأيدي إليها، لا يختلف في ذلك مسلمهم وكافرهم عربيهم وعجميهم عالمهم وجاهلهم، وما ذلك إلا أنه أمر فطري ضروري فكما أن معرفتهم بخالقهم أمر فطري، ومعرفتهم بحاجتهم وافتقارهم إليه، وأنه القادر على إجابة دعائهم ورغباتهم أمر فطري،
(1)
انظر في كون العلو من الصفات العقلية والاستواء من الصفات الخبرية منهاج السنة: 2/ 327، والاستقامة: 1/ 161، والتدمرية ص: 26، والفتاوى: 5/ 122.
فكذلك اعتقادهم العلو أمر فطري؛ انظر إلى من وقع في كرب عظيم تجده يتجه مباشرة بفطرته إلى جهة السماء قلبًا وقالبًا ظاهرًا وباطنًا يرفع يديه إلى السماء في الظاهر ويتجه بفكره وقلبه نحو السماء يتطلع نحوها وينتظر الفرج من جهتها لا من الجهة السفلى ولا من الجهات الأخرى، فهذه المعرفة الفطرية تزداد قوة على قوة عند بعض الناس وقد تضعف عند من اجتالتهم شياطين الإنس والجن بالشبهات والشكوك، قال الله تعالى في حديث قدسي: وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم"
(1)
.
ومع هذه الشبهات تجد أحدهم إذا وقع في شدة وكرب يرجع إلى فطرته ويتجه نحو السماء بدافع باطني قوي لا تستطيع الشبهات أن تمنعه وتعارضه لأنه أمر ضروري لا تستطيع الشكوك دفعه ولا مقاومته.
وكلما أكثر العبد من الدعاء ازداد علمه الضروري بعلو الله تعالى.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: وأما كونه عاليًا على مخلوقاته بائنًا منهم فهذا أمر معلوم بالفطرة الضرورية التي يشترك فيها جميع بني آدم، وكل من كان بالله، أعرف وله أعبد ودعاؤه له أكثر، وقلبه له أذكر، كان علمه الضروري بذلك أقوى وأكمل، فالفطرة مكملة بالشريعة المنزلة فإن الفطرة تَعْلَم الأمر مجملًا، والشريعة تفصله وتبينه
(2)
.
وذلك أن الرسل صلوات الله عليهم بعثوا بتكميل الفطرة وتقريرها لا بتبديل الفطرة وتغييرها، قال تعالى:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الروم: 30].
ومن هنا جاءت الشريعة برفع الأيدي في الدعاء إلى جهة العلو تكميلًا لما عليه الفطرة من اعتقاد العلو
(3)
لأن الله تعالى قد فطر العباد.
(1)
أخرجه مسلم من حديث عياض بن حمار المجاشعي: 4/ 2197 رقم 2865.
(2)
نقض المنطق ص: 39، أو الفتاوى: 4/ 45، وهو قطعة من نقض المنطق إلى ص: 190 فتأمل.
(3)
الفتاوى: 6/ 575 - 576.
عربهم وعجمهم - على أنهم إذا دعوا الله توجهت قلوبهم إلى العلو، ولا يقصدونه تحت أرجلهم، فهذه الفطرة تدفع شبهات أهل الحلول والتعطيل
(1)
.
والمقصود أن الإكثار من الدعاء يزيد الفطرة قوة ويصقلها ويجليها مما علق بها لاسيما فيما يتعلق باعتقاد علو الله تعالى، كما أن الإيمان بالعلو يجعل العبد يتجه بقلبه إلى الله تعالى بخلاف من لا يؤمن بذلك فإن اتجاهه بالقلب إلى الله يكون ناقصًا ضعيفًا، قال الجويني والد إمام الحرمين أبو محمد عبد الله بن يوسف (ت 438 هـ) في رسالته القيمة في إثبات الاستواء والفوقية:"العبد إذا أيقن أن الله تعالى فوق السماء عال على عرشه بلا حصر ولا كيفية وأنه الآن في صفاته كما كان في قدمه، صار لقلبه قبلة في صلاته وتوجهه ودعائه، ومن لا يعرف ربه بأنه فوق سماواته على عرشه فإنه يبقى ضائعًا لا يعرف وجهة معبوده"
(2)
.
وقد تبين من كلام الجويني أن الإيمان بعلو الله تعالى يجعل القلب مطمئنًا غير حائر بخلاف من لم يؤمن بذلك فإنه يعيش في حيرة وارتياب وشك، وقد حكى شيخ الإسلام اتفاق أهل المعرفة بالله على أن معرفة العبد بربه وتوجهه إليه ودعاءه له لا يتم بدون الإقرار بعلو الله تعالى وأن الإقرار بذلك يثبت الإلهية في القلب ويوحد قصده، وأما بدون تلك المعرفة فيبقى مضطربًا عنده نوع من الريب والاضطراب
(3)
.
وقد قرر العلماء دلالة الفطرة على علو الله تعالى على أبلغ وجه وكثر كلامهم في بيان ذلك وقد نقل المحققون من أهل العلم كلام العلماء ذلك وبيانهم لاتفاق الناس على اعتقاد ذلك.
(1)
المرجع نفسه: 5/ 259.
(2)
رسالة في إثبات الاستواء والفوقية لأبي محمد الجويني ضمن المجموعة المنيرية: 1/ 185، ونحوه في طريق الهجرتين ص:20.
(3)
بيان تلبيس الجهمية: 2/ 466، والفتاوى: 5/ 259، 273.
وإليك خلاصة
(1)
كلام هؤلاء المحققين الذين ذكروا دلالة توجه البشر بالدعاء إلى السماء ورفع الأيدي إليها على علو الله تعالى:
قال العلماء: إن العلم بالعلو أمر فطري ضروري مستقر في فطر بني آدم لا يختص به أهل الملل والشرائع.
كما أن قصدهم لربهم عند الحاجات التي لا يقضيها إلا هو هو أيضًا أمر ضروري.
وكذلك قصدهم الله تعالى بتوجه قلوبهم إلى العلو أيضًا أمر ضروري فهم مفطورون على الإقرار به وأنه في العلو، وعلى أنهم محتاجون إليه يسألونه عند الضرورات وعلى أنهم يقصدونه في العلو لا في السفل وأن قلوبهم بفطرتها تتوجه إلى العلو.
وإنما قلنا: إن علمهم بهذا ضروري لأنه يلزم نفوس بني آدم لزومًا لا يمكنهم الانفكاك عنه أعظم من لزوم العلم الضروري بالأمور الحسابية ككون الواحد ثلث الثلاثة، لأن هذا علم مجرد ليسوا مضطرين إليه، فقد لا يخطر ذلك ببال أحدهم، وأما هذا العلم فهم مع كونهم مضطرين إليه مضطرون أيضًا إلى موجبه ومقتضاه وهو الدعاء والسؤال للمدعو الذي هو فوق.
وهذا أمر متفق عليه بين العقلاء السليمي الفطرة، فأما الذين لا يجدون في أنفسهم علمًا ضروريًا وقصدًا ضروريًا لمن هو فوق العالم فقد مرضت قلوبهم وفسدت فطرتهم ففسد إحساسهم الباطن كما يفسد الإحساس الظاهر كالمرة التي تفسد الذوق فالعبرة بذوي الفطرة السليمة من الفساد، فهؤلاء متفقون على ذلك وكل منهم يخبر بذلك عن فطرته من غير مواطأة من بعضهم لبعض.
(1)
انظر عن هذه الخلاصة: درء تعارض العقل: 7/ 25، 132 - 133، 6/ 12، 85، 265، 272، 343، وتلبيس الجهمية: 2/ 446 - 447، 460، 469 - 470، 484، واجتماع الجيوش الإسلامية ص: 50، والصواعق المرسلة: 4/ 1306.
ويمتنع في مثل هؤلاء أن يتفقوا على تعمد الكذب عادة، فإن إجماع المسلمين حجة فكيف بإجماع جميع الأمم والطوائف مع اختلاف أجناسهم وبلدانهم ولغاتهم؟
ويمتنع أيضًا غلطهم في الأمور الفطرية الضرورية، فإن ذلك يسد باب العلم والمعرفة وأن يثق الإنسان بشيء من علومه فيستلزم القدح في جميع العلوم والمعارف.
أقوال العلماء الذين صرحوا بدلالة الدعاء على العلو:
قد صرح كثير من علماء الإسلام بدلالة الدعاء على علو الله جل وعلا ونذكر أقوال بعض العلماء الذين صرحوا بذلك.
قال أبو حنيفة رحمه الله عندما سئل عمن يقول: "لا أدري العرش في السماء أم في الأرض؟، قال: هو كافر، لأنه أنكر أن يكون في السماء لأنه تعالى في أعلى عليين، وأنه يُدْعَى من أعلى لا من أسفل"
(1)
.
فقد صرح أبو حنيفة رحمه الله بأن الاتجاه في الدعاء إلى العلو يدل على علو الله تعالى.
وقد ذكر مثل ذلك أبو محمد عبدالله بن سعيد بن كلاب حيث ذكر أن الله سبحانه وتعالى قد غرس في الفطرة ومعارف الآدميين الاعتقاد بالعلو، وأنه لا شيء أبين منه ولا أوكد: "لأنك لا تسأل أحدًا من الناس عربيًا ولا أعجميًا ولا مؤمنًا ولا كافرًا فتقول أين ربك؟، إلا قال في السماء أفصح أو أومأ بيده
…
ولا رأينا أحدًا إذا دعاه إلا رافعًا يده إلى السماء ولا وجدنا أحدًا غير الجهمية يسأل عن ربه فيقول: في كل مكان كما يقولون. . .".
(1)
انظر درء تعارض العقل: 6/ 263، والفتوى الحموية ص: 28، ووصفه ابن تيمية بالشهرة عند أصحابه عن أبي مطيع البلخي، وانظر العلو للعلي الغفار "المختصر ص 136"، واجتماع الجيوش ص: 46، وشرح الطحاوية ص:263.
فقد ذكر ابن كلاب في هذا الكلام أن العلم بأن الله فوق، فطري مغروس في فطر العباد، اتفق عليه عامتهم وخاصتهم، وأنه لم يخالف الجماعة في ذلك إلا نفر قليل
(1)
.
وقال ابن قتيبة أبو محمد عبدالله بن مسلم (ت 276 هـ) في معرض إثبات العلو: "ولو أن هؤلاء رجعوا إلى فطرهم وما ركبت عليه خلقتهم من معرفة الخالق لعلموا أن الله تعالى هو العلي وهو الأعلى
…
وأن الأيدي ترفع بالدعاء إليه
…
والأمم كلها عربيها وعجميها تقول: إن الله تعالى في السماء ما تركت على فطرها ولم تنقل عن ذلك بالتعليم"
(2)
.
وقال عثمان بن سعيد الدارمي المتوفى (282 هـ):
"وقد اتفقت الكلمة من المسلمين والكافرين أن الله في السماء، وحدوه بذلك إلا المريسي الضال وأصحابه، حتى الصبيان الذين لم يبلغوا الحلم، قد عرفوه بذلك، إذا حزب الصبي شيء يرفع يديه إلى ربه يدعوه في السماء دون ما سواها"
(3)
.
وله مثل هذا الكلام في موضع آخر
(4)
.
وقال محمد بن عثمان بن أبي شيبة العبسي (ت 297 هـ):
"وأجمع الخلق جميعًا إذا دعوا الله جميعًا أنهم رفعوا أيديهم إلى السماء، فلو كان الله عز وجل في الأرض السفلى ما كانوا يرفعون أيديهم إلى السماء وهو معهم في الأرض"
(5)
.
(1)
درء تعارض العقل: 6/ 194، والفتاوى: 5/ 320، واجتماع الجيوش: 112، وسير أعلام النبلاء: 11/ 175.
(2)
تأويل مختلف الحديث ص: 271، ونقله في العلو ص: 216، وبيان تلبيس الجهمية: 2/ 436.
(3)
رد الإمام عثمان بن سعيد الدارمي على المريسي ص: 25، وعنه في درء تعارض العقل: 2/ 59، واجتماع الجيوش ص:90.
(4)
انظر الرد على الجهمية للدارمي ص: 37.
(5)
كتاب العرش وما روي فيه: 51.
وقد عقد أبو بكر ابن إسحاق بن خزيمة المتوفى (311) هـ) بابًا في كتاب التوحيد فقال: "باب ذكر البيان أن الله عز وجل في السماء كما أخبرنا في محكم تنزيله وعلى لسان نبيه وكما هو مفهوم في فطرة المسلمين، علمائهم وجهالهم وأحرارهم ومواليهم ذكرانهم وإناثهم بالغيهم وأطفالهم، كل من دعا الله جل وعلا فإنما يرفع رأسه إلى السماء ويمد يديه إلى الله إلى أعلاه لا إلى الأسفل"
(1)
.
وابن خزيمة رحمه الله إمام من أئمة المسلمين الذين دافعوا عن نقاء العقيدة وصفائها وبذلوا جهودًا عظيمة في سبيل ذلك وهو إذ يخبر عن دلالة الفطرة على العلو وإجماع الناس على ذلك، إنما يخبر عن قضية مسلمة لدى البشر لا يختلف في ذلك إلا من فسدت فطرته بالشبهات، وليس هذا خاصًا بابن خزيمة المعروف بمواقفه السلفية، بل غيره اعترف بذلك، والمعترفون بهذا كثيرون ومن أولئك:
الإمام الأشعري (ت 324 هـ) الذي ينتسب إلى مذهبه الأشاعرة المتأخرون الذين خالفوا مذهبه الأخير فقد قال الأشعري مستدلًا على علو الله تعالى:
"ورأينا المسلمين جميعًا يرفعون أيديهم إذا دعوا نحو السماء لأن الله تعالى مستو على العرش الذي هو فوق السماوات، فلولا أن الله عز وجل على العرش لم يرفعوا أيديهم نحو العرش، كما لا يحطونها إذا دعوا إلى الأرض"
(2)
.
وقال أبو سليمان الخطابي "ت 388 هـ": وقد جرت عادة المسلمين خاصتهم وعامتهم أن يدعوا ربهم عند الابتهال والرغبة إليه ويرفعوا أيديهم
(1)
كتاب التوحيد لابن خزيمة ص: 110، وعنه في بيان تلبيس الجهمية: 2/ 436.
(2)
الإبانة ص: 107، ونقله في العلو ص: 238 "المختصر"، ودرء تعارض العقل: 6/ 199، والفتاوى: 3/ 225، وبيان تلبيس الجهمية: 2/ 434، واجتماع الجيوش: 117، والفتوى الحموية ص: 56 - 57.
إلى السماء، وذلك لاستفاضة العلم عندهم بأن المدعو في السماء سبحانه وتعالى"
(1)
.
فقد نسب الخطابي هذا إلى عامة المسلمين فقط والصواب أنه عادة عامة للمسلم والكافر لأنه أمر فطري ضروري كما تقدم.
ولهذا قال أبو يعلى محمد بن الحسين بن الفراء شيخ الحنابلة (ت 458 هـ): "إن كل عاقل من مسلم وكافر إذا دعا فإنما يرفع يديه ووجهه إلى نحو السماء"
(2)
.
وقال حافظ المغرب أبو عمر ابن عبد البر (ت 463 هـ) في كتابه التمهيد في معرض بيان استواء الله على عرشه: "ومن الحجة أيضًا في أنه عز وجل على العرش فوق السماوات السبع أن الموحدين أجمعين من العرب والعجم إذا كربهم أمر أو نزلت بهم شدة رفعوا وجوههم إلى السماء، يستغيثون ربهم تبارك وتعالى، وهذا أشهر وأعرف عند الخاصة والعامة من أن يحتاج فيه إلى أكثر من حكايته، لأنه اضطرار لم يؤنبهم عليه أحد ولا أنكره عليهم مسلم"
(3)
.
وقال أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني الأشعري المتكلم المشهور (ت 403 هـ): "فإن قالوا: فهل تقولون: إنه في كل مكن؟ قيل: معاذ الله بل هو مستو على العرش
…
إلى أن قال: ولو كان في كل مكان لكان في جوف الإنسان وفمه وفي الحشوش والمواضع التي يرغب عن ذكرها
(1)
قاله الخطابي في كتابه شعار الدين وهو كتاب له في أصول الدين ولم أطلع عليه وقد نقل هذا النص عنه ابن تيمية في بيان تلبيس الجهمية: 2/ 437، وابن القيم في الصواعق: 2/ 127.
(2)
إبطال التأويل لأبي يعلى: ق 167 ل ب، ونقله عنه في بيان تلبيس الجهمية: 2/ 438، ودرء التعارض: 6/ 208.
(3)
التمهيد: 7/ 134، واجتماع الجيوش ص: 50، والفتاوي: 3/ 220، ووصف كتاب التمهيد بأنه أشرف كتاب ألف في فنه، وانظر درء تعارض العقل: 6/ 255، وتلبيس الجهمية: 2/ 530، والحموية ص:51.
تعالى عن ذلك
…
إلى أن قال: ولصح أن يرغب إليه إلى نحو الأرض وإلى وراء ظهورنا وعن أيماننا وشمائلنا، وهذا ما أجمع المسلمون على خلافه وتخطئة قائله"
(1)
.
هذا وقد صرح بهذه الحقيقة كثير من المحققين من غير من تقدم منهم قوام السنة ويحيى بن عمار السجزي وابن قدامة وغيرهم رحمهم الله
(2)
.
هذا ومما يقرر كون رفع الأيدي إلى السماء يدل على العلو وأن ذلك أمر ضروري. القصة التي وقعت للهمذاني محمد بن أبي علي الحسن بن محمد (ت 531 هـ) وهي أنه قال: سمعت أبا المعالي الجويني - وهو عبد الملك بن عبدالله بن يوسف إمام الحرمين (ت 478 هـ) - وقد سئل عن قوله تعالى: {الرحمن على العرش استوى} ؟ فقال: كان الله ولا عرش، وجعل يتخبط في الكلام وقلت: قد علمنا ما أشرت إليه فهل عندك للضرورات من حيلة؟ فقال: ما تريد بهذا القول وما تعني بهذه الإشارة؟ فقلت ما قال عارف قط يا رباه إلا قبل أن يتحرك لسانه قام من باطنه قصد لا يلتفت يمنة ولا يسرة يقصد الفوق، فهل لهذا القصد الضروري عندك من حيلة فنبئنا نتخلص من الفوق والتحت؟، وبكيت وبكى الخلق، فضرب الأستاذ بكمه على السرير وصاح: يا للحيرة وخرق ما كان عليه وانخلع، وصارت قيامة في المسجد ونزل، ولم يجبني إلا يا الحيرة الحيرة والدهشة والدهشة، فسمعت بعد ذلك أصحابه يقولون: سمعناه يقول: حيرني الهمذاني
(3)
.
(1)
التمهيد للباقلاني ص: 260 رقم 440، ونقله عنه شيخ الإسلام في الحموية ص: 58 لكن عن كتابه الآخر المسمى بالإبانة وأشار إلى كتاب التمهيد وأن كلامه فيه أكثر.
(2)
انظر الحجة في بيان المحجة: 1/ 114 و 2/ 106، وإثبات صفة العلو لابن قدامة ص:63.
(3)
ذكر هذه القصة غير واحد من العلماء منهم شيخ الإسلام ابن تيمية في نقض =
فهذا الشيخ الهمذاني قد استدل على علو الله تعالى بما يجده الداعي من ضرورة في اعتقاد العلو عند الدعاء حتى لا يمكن دفعها بأي وسيلة فهي أكبر برهان، فلهذا لم يستطع الجويني مع ذكائه وعلمه الرد عليها ..
شبهة في دلالة الدعاء على العلو:
هذا ومع اتفاق العقلاء على اعتقاد العلو في جميع أحوالهم لا سيما عند الاضطرار، وجد من ينكر
(1)
ذلك ويكابر حسه وعقله ويورد بعض
= المنطق ص: 38، 52، وبيان تلبيس الجهمية: 2/ 446، 466، 468، والاستقامة: 1/ 167، والفتاوى: 3/ 220 - 221، ودرء تعارض العقل: 5/ 346، ومنهاج السنة: 2/ 642، وابن القيم في اجتماع الجيوش ص: 108، والذهبي فقد أخرجها بإسناده في السير: 18/ 477، وفي العلو: 277 "المختصر"، وقال الألباني: إسناد هذه القصة مسلسل بالحفاظ، مختصر العلو: 277، هذا وهناك طريق أخرى غير التي أخرجها الذهبي وهي طريق الحافظ محمد بن طاهر المقدسي عن الهمذاني به ومن طريقه ذكرها شيخ الإسلام، وقد حاول ابن السبكي الطعن فيها ولكنه لم يستطع إلا بأن يطعن فيها بأنها إجازة وبأن من فيها يحط على الأشعري ولا يعلم علم الكلام "طبقات الشافعية: 5/ 190". فسبحان الله!! قد أجاز الرواية بالإجازة أغلب العلماء في الحديث النبوي مع تشددهم في تحمل الحديث النبوي، فكيف بغيره من الروايات والحكايات كهذا الذي نحن فيه؟ ثم إن السبكي نفسه ممن يقول بجواز الإجازة كما صرح به في كتابه جمع الجوامع: 2/ 174، وأما عدم معرفة علم الكلام فمتى كان عيبًا؟؟ ولكن التعصب للمذهب هو الذي يعميه ويجعله يتحامل على شيخه الذهبي ويتهمه بتنقيص الجويني، وحاشا الذهبي من ذلك، ثم إن هناك طريق المقدسي فيتقوى الطريقان مع الإجازة، ثم هناك احتمال أن الرواية ليست بإجازة في هذه الحكاية وإنما هي سماع لأن لفظ الذهبي هكذا: "أخبرنا يحيى بن أبي منصور الفقيه في كتابه" وعند ابن السبكي زيادة وغيره من كتابهم، فيحتمل أن السماع كان إملاء من الكتاب لا من الحفظ كما يحتمل أنها إجازة مع المناولة وهي من أقوى الإجازات والله أعلم ..
(1)
انظر تأسيس التقديس للرازي ص: 76 - 77، وعنه في درء تعارض العقل: 6/ 344 و 7/ 21، وبيان تلبيس الجهمية: 2/ 431 - 432، وانظر الأزهية: 75 - 76، وإتحاف السادة: 5/ 35، وشرح الفقه الأكبر ص:172.
الشبهات على ذلك وحاصل شبهاتهم تدور على أربعة أمور:
1 -
أن الرفع إلى السماء إنما هو لأن السماء محل الأنوار من الشمس والقمر والكواكب والهواء ونزول الغيث، وهذه الأمور هي أرزاقنا، فنحن نحتاج إليها.
2 -
أن السماء قبلة للدعاء كما أن الكعبة قبلة للصلاة.
3 -
أن الملائكة في السماء وهي وسائط جعلها الله لمصالح عباده فترفع الأيدي إليهم لا إلى الله تعالى.
4 -
ثم اعترضوا بوضع الجبهة على الأرض وقالوا: فكما أنه لا يدل على أن الله في الأرض فكذلك رفع الأيدي إلى السماء لا يدل على أن الله في السماء.
وقد ناقش العلماء المحققون هذه الشبهات وبينوا بطلانها بأوجه كثيرة
(1)
نذكر بعضها إن شاء الله تعالى.
مناقشة قولهم الأول
(2)
:
1 -
لو كان السبب في رفع الأيدي إلى السماء هو حاجتنا إلى النعم والأرزاق التي من جهتها -كما زعموا- لكانت الأرض وما فيها تستحق ذلك لكثرة حاجتنا إليها من القرار عليها وما تخرج من الأرزاق، وقد نهي عن النظر إلى السماء في الصلاة دون الأرض كما ورد ذلك في السنة الصحيحة وذلك لأن الخشوع يكون بخفض البصر ولو كانت الجهات مستوية لما نهي عن ذلك.
(1)
وقد ناقش شيخ الإسلام هذه الشبهات في بيان تلبيس الجهمية: 2/ 431 - 502 في نحو 70 صفحة ذكر فيه نحو 40 وجهًا لبطلانها، وكذلك في درء تعارض: 7/ 20 - 25.
(2)
انظر عن هذه المناقشة: بيان تلبيس: 2/ 448، ودرء تعارض: 7/ 22، وشرح الطحاوية:267.
2 -
ثم الاحتجاج إنما هو برفع الأيدي حين الدعاء وذلك لأن الذين يدعون غير الله يرفعون أيديهم نحو مدعوهم، فالذين يدعون الشمس والقمر والكواكب أو القبر أو الصنم يتجهون إلى ذلك المعبود ويمدون أيديهم إليه.
مناقشة قولهم: إن السماء قبلة للدعاء
(1)
:
1 -
إن هذا قول لم يقله أحد من السلف ولا أنزل الله به من سلطان ثم هو مخالف لإجماع المسلمين.
2 -
إن قبلة الدعاء هي قبلة الصلاة، فإنه يستحب للداعي أن يستقبل القبلة كما ذكرنا ذلك في آداب الدعاء، وليس هناك قبلتان إحداهما للصلاة والأخرى للدعاء، ومن المعلوم أن الصلاة فيها الدعاء في الفاتحة وغيرها والدعاء نفسه صلاة كما تقدم بيان ذلك
(2)
.
3 -
إن القبلة هي ما يستقبله العابد بوجهه كما يستقبل المصلي الكعبة، وكما يوجه المحتضر والمدفون، فالاستقبال بالوجه ضد الاستدبار، فأما ما حاذه الإنسان برأسه أو يديه فهذا لا يسمى قبلة، فلو كانت السماء قبلة الدعاء لكان المشروع للداعي أن يوجه وجهه إليها وهذا لم يشرع.
4 -
إن القبلة أمر تتميز به الملل ويقبل النسخ والتبديل، قال تعالى:{وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ} [البقرة: 145].
وأما الرفع إلى السماء فلم تختلف فيه الملل وبنو آدم عربهم وعجمهم.
(1)
انظر عن هذه المناقشة: بيان تلبيس الجهمية: 2/ 452، 460، 462، 463، وشرح الطحاوية:267.
(2)
تقدم ص: 84.
5 -
إن القبلة أمر توقيفي وليس أمرًا ضروريًا والناس لم يفعلوا الرفع إلى السماء عن توقيف لأنه من المعلوم أنهم يفعلون ذلك بفطرتهم وعقولهم من غير أن يوقفهم أحد ولا تلقوه عن أحد.
وأما قولهم: إن الإشارة قد تكون إلى الملائكة التي هي مدبرة أمر العباد فالجواب
(1)
عنه كالتالي:
1 -
إشارة الإنسان إلى الشيء مشروطة بشعوره به، وقصد الإشارة إليه، فإن لم يشعر به ولم يقصد الإشارة إليه فمحال أن يشير إليه، والداعون لله مخلصين له الدين لا تخطر لهم الملائكة في تلك الحال فضلًا عن أن يقصدوا الإشارة إليها.
2 -
الإشارة إلى الملائكة حين دعاء الله وحده لا شريك له، إشراك بالله، بل دعاء الملائكة ومسألتهم إشراك بالله فكيف بالإشارة إليهم حين دعاء الله وحده؟؟
3 -
ثم إنه لا يجوز لأحد أن يرفع يديه داعيًا لا إلى الملائكة ولا إلى غير الملائكة بل هذا من خصائص الربوبية، ومن أجاز رفع الأيدي عند الدعاء إلى غير الله فهو من المشركين الذين يدعون غير الله تعالى.
مناقشة اعتراضهم
(2)
بوضع الجبهة على الأرض:
1 -
إن وضع الجبهة على الأرض لم يتضمن قصدهم لأحد في السفل بل السجود بها يعقل أنه تواضع وخضوع للمسجود له لا طلب وقصد ممن هو في السفل بخلاف رفع الأيدي إلى العلو عند الدعاء، فإنهم يقصدون به الطلب ممن هو في العلو والاستدلال إنما هو بقصدهم القائم بقلوبهم، وما يتبعه من حركات أبدانهم، والداعي يجد من قلبه
(1)
انظر عن هذه الأجوبة: بيان تلبيس الجهمية: 2/ 449 - 450.
(2)
انظر عن هذه المناقشة في: درء: 7/ 21 - 24، وتلبيس الجهمية: 2/ 448، وشرح الطحاوية ص:268.
معنى يطلب العلو، والساجد لا يجد من قلبه معنى يطلب السفل بل الساجد أيضًا يقصد في دعائه العلو، فقصد العلو عند الدعاء يتناول القائم والقاعد والراكع والساجد.
2 -
إنه لو قدر أن أحدهم يدعو صنمًا أو غيره مما يكون على الأرض، لكان توجه قلبه ووجهه وبدنه إلى جهة معبوده الذي يسأله ويدعوه كما يفعله النصارى في كنائسهم فإنهم يتوجهون إلى الصورة التي في الحيطان وكذلك من يقصد الموتى في قبورهم فإنه يوجه قصده وعينه إلى من في القبر، فإذا قدر أن القبر أسفل منه توجه إلى أسفل فعلم بذلك أن الخلق متفقون على أن توجيه القلب والعين واليد عند الدعاء إلى جهة المدعو فلما كانوا يوجهون ذلك إلى السماء علم إطباقهم على أن الله في جهة السماء.
3 -
إن الواحد منهم إذا اجتهد في الدعاء حال سجوده يجد قلبه يقصد العلو مع أن وجهه يلي الأرض فعلم أن القلوب حال الدعاء لا تقصد إلا العلو، وأما الوجوه والأيدي فيتنوع حالها تارة تكون في حالة السجود إلى جهة الأرض لكون ذلك غاية الخضوع، وتارة تكون حال القيام مطرقة لكون ذلك أقرب إلى الخشوع، وتارة تتوجه إلى السماء لتوجه القلب.
ونختم هذا البحث بما ذكره ابن القيم رحمه الله في النونية من اتفاق الثقلين على العلو ودلالة الفطرة عليه وأن الشبهات لا تستطيع مقاومتها. فقال:
وعلوه فوق الخليقة كلها
…
فطرت عليه الخلق والثقلان
لا يستطيع معطل تبديلها .. أبدًا وذلك سنة الرحمن
كل إذا نابه أمر يرى
…
متوجهًا بضرورة الإنسان
نحو العلو فليس يطلب خلفه
…
وأمامه أو جانب الإنسان
ونهاية الشبهات تشكيك
…
وتخميش وتغبير على الإيمان
لا يستطيع تعارض المعلوم والـ
…
معقول عند بدائه الإنسان
فمن المحال القدح في المعلوم
…
بالشبهات هذا بين البطلان
وإذا البدائه قابلتها هذه
…
الشبهات لم تحتج إلى بطلان
(1)
المطلب الثالث: في علاقة الدعاء بتوحيد العبادة، ومنزلة الدعاء من بين سائر العبادات:
علاقة الدعاء بتوحيد العبادة جلية واضحة، إذ الدعاء بنوعيه هو العبادة كما صح بذلك الخبر عن المصطفى صلوات الله وسلامه عليه، فتوحيد العبادة والإلهية هو إفراد الله تعالى بالعبادة، والعبادة هي الدعاء فمن أفرد الله بالدعاء فقد وَحَّدَ الله في عبادته، ومن صرف الدعاء لغير الله تعالى فقد أشرك في توحيد العبادة والألوهية.
ولكون الدعاء هو العبادة التي خلقنا أجلها، صارت له مكانة عظيمة ومنزلة سامية ودرجة رفيعة، وهذه المكانة يمكن إيجازها في الأوجه التالية:
1 -
مما يبين مكانة الدعاء العظيمة ومنزلته الرفيعة، افتتاح القرآن الكريم واختتامه بالدعاء، فقد بدأ الله تعالى كتابه العزيز بسورة الفاتحة التي هي مشتملة على نوعي الدعاء: دعاء الثناء والعبادة، ودعاء المسألة والطلب، ثم اختتمه بمثل ما افتتح به وهو سورة الإخلاص والمعوذتان، فسورة الإخلاص في دعاء الثناء، والمعوذتان في دعاء المسألة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
وأما سورة الإخلاص والمعوذتان، ففي الإخلاص الثناء على الله، وفي المعوذتين دعاء العبد ربه ليعيذه، والثناء مقرون بالدعاء، كما قرن بينهما في أم القرآن المقسومة بين الرب والعبد نصفها ثناء للرب ونصفها دعاء للعبد.
(1)
النونية مع شرح الهراس: 1/ 186 - 187.
وقد ختم المصحف بحقيقة الإيمان، وهو ذكر الله ودعاؤه كما بنيت عليه أم القرآن، فإن حقيقة الإنسان المعنوية هو المنطق، والمنطق قسمان: خبر، وإنشاء، وأفضل الخبر وأنفعه وأوجبه ما كان خبرًا عن الله كنصف الفاتحة وسورة الإخلاص، وأفضل الإنشاء الذي هو الطلب، وأنفعه وأوجبه، ما كان طلبًا من الله كالنصف الثاني من الفاتحة والمعوذتين
(1)
.
وقال القرطبي: قال بعض العلماء فجعل الله - جل وعز - عُظْمَ الدعاء وجملته موضوعًا في هذه السورة، نصفها فيه مجمع الثناء، ونصفها فيه مجمع الحاجات وجعل هذا الدعاء الذي في هذه السورة أفضل من الذي يدعو به الداعي، لأن هذا الكلام قد تكلم به رب العالمين، فأنت تدعو بدعاء هو كلامه الذي تكلم به، وفي الحديث: "ليس شيء أكرم على الله من الدعاء
(2)
"
(3)
.
فتبين مما سبق مدى عناية القرآن الكريم بالدعاء وافتتاحه به واختتامه به وهذا دليل واضح على منزلة الدعاء ومكانته.
2 -
إن الله سبحانه وتعالى قد سمى الدعاء الدين، في غير موضع من كتابه.
قال تعالى: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [لقمان: 32].
وقال سبحانه: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت: 65].
وقال جل جلاله {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ
(1)
الفتاوى: 16/ 478 - 479.
(2)
قد تقدم تخريجه ص: 136.
(3)
الجامع لأحكام القرآن: 1/ 147.
الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22)} [يونس: 22].
وقال عز من قائل: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14)} [غافر: 14].
وقال جل ثناؤه: {هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65)} [غافر: 65].
وقال تبارك وتعالى: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29)} [الأعراف: 29].
ففي هذه الآيات سمى الله الدعاء دينًا فأخبر في الآيات الثلاث الأول أن المشركين يخلصون له الدين في الشدائد، وأمر في الآيات الثلاث الأخيرة بإخلاص الدين له، والدين معناه دعاء المسألة في الثلاث الأول وذلك واضح من سياق الآيات.
وأما الثلاثة الأخيرة فتحتمل المعنيين، دعاء العبادة ودعاء المسألة، فيكون مما استعمل الدعاء فيه في المعنيين جميعًا بإطلاقه على الحقيقة المتضمنة للأمرين جميعًا.
فإذا ثبت هذا نقول: قد علم أن الدين يشمل أعمال الإسلام كلها، قال تعالى:{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19].
وقال سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)} [البينة: 5]. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل: "أتاكم ليعلمكم دينكم"
(1)
، فشمل هذا الإسلام والإيمان والإحسان.
(1)
أخرجه البخاري: 1/ 114 رقم 50، ومسلم: 1/ 39 رقم 9، كلاهما من حديث أبي هريرة، وأخرجه مسلم من حديث عمر برقم 8.
فتبين من هذا أن الدين عام لجميع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من إسلام وإيمان وإحسان، وقد أطلق مع شموله هذا على الدعاء فدل على أهميته العظيمة ومنزلته الرفيعة.
ومن هنا يتبين عظمة الدعاء وأهميته وأنه الدين كله وأنه "من أفضل العبادات وأجل الطاعات، ولهذا أخبر أنه الدين فذكره معرفًا بالألف واللام"
(1)
.
3 -
إن الله سبحانه وتعالى قد سمى الدعاء عبادة في غير موضع من كتابه وكذلك سماه النبي صلى الله عليه وسلم العبادة كما ثبت في الحديث الصحيح.
ومما ورد من تسمية الله الدعاء عبادة، قوله تعالى في قصة إبراهيم
مع أبيه: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [مريم: 48 - 49].
وقوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)} [غافر: 60].
وقد تقدم ضرب الأمثلة المتنوعة في ذلك في ذكر المناسبة بين الدعاء والعبادة
(2)
.
وقد علم فضل العبادة ومكانتها وأن الله ما خلق الجن والإنس إلا من أجلها قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} [الذاريات: 56].
4 -
إن الله سبحانه وتعالى توعد من ترك الدعاء للاستكبار بدخول
جهنم ذليلًا حقيرًا، قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ
(1)
النبذة الشريفة ضمن مجموعة الرسائل والمسائل النجدية: 4/ 597، وتأسيس التقديس ص:78.
(2)
تقدم ص: 66 - 69.
الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)} [غافر: 60].
وهذا وعيد شديد لمن لم يدع الله تعالى ويلتجيء إليه استكبارًا وترفعًا، ومن هنا ذهب بعضهم إلى وجوب الدعاء كما سيأتي.
وقد استدل بعضهم على أهمية الدعاء بقوله تعالى: {وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ} [التوبة: 67] وأن الآية تدل على ذم من يترك الدعاء فمعنى {يَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ} أي لا يمدونها إلينا في سؤال، هكذا قال بعضهم
(1)
.
ولكن التفسير المأثور عن مجاهد، أنهم لا يبسطونها بنفقة في حق الله، وعن قتادة: لا يبسطونها بخير
(2)
.
وهذا التفسير هو اللائق بسياق الآيات.
5 -
إن الدعاء يشتمل على خصائص جليلة ومزايا كثيرة لا توجد في غيره من أنواع العبادات، فمن تلك الميزات والخصائص
(3)
:
أ - نفع الدعاء يقع في الحياة والممات حيث ثبت انتفاع الميت بدعاء الأحياء من ولد أو والد أو قريب أو صديق، قال صلى الله عليه وسلم:"إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة"، وفيه:"أو ولد صالح يدعو له"
(4)
.
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} [الحشر: 10].
وصلاة الجنازة هي دعاء للميت، فالدعاء يصل ثوابه للمدعو له إجماعًا بخلاف غيره من أنواع العبادات، ففي وصولها إليه خلاف. إلا أنه يشاركه في هذه الميزة الصدقة.
ب- سهولة الدعاء وعدم تقيده بزمان ولا مكان ولا حال، بخلاف
(1)
ذكر هذا التفسير القشيري في رسالته: 2/ 526.
(2)
انظر تفسير ابن جرير: 10/ 174، والدر المنثور: 2/ 255.
(3)
انظر عن هذه الخصائص: الأزهية ص: 21 - 23، وإتحاف السادة للزبيدي: 5/ 4، وذكر الميزة الثالثة أيضًا الدهلوي في الحجة: 1/ 76.
(4)
أخرجه مسلم: 3/ 1255 رقم 1631.
غيره من العبادات إلا أنه يشاركه في هذه الميزة الذكر، وهو دعاء أيضًا كما مر.
جـ- اشتماله على حضور قلبي لا يوجد في غيره، فإن من تعبد بالصلاة أو الصوم أو الحج أو غيرها، يغلب عليه فيها الغفلة، فإذا دعا استدعى ذلك منه مزيد حضور في قلبه، ولهذا ورد فيه أنه مخ العبادة دون غيره من العبادات، لأن المخ هو المغذي للأعضاء والمقوم لاستدامة بقائها، فالدعاء شبه به لأنه يعمل هذا العمل، ومنه يتضح أن الدعاء:"يفتح بابًا عظيمًا من المحاضرة ويجعل الانقياد التام والاحتياج إلى رب العالمين في جميع الحالات بين عينيه".
د - اشتماله على التذلل وإظهار الفاقة وذل العبودية وعز الربوبية، فاشتماله على هذه المزايا والخصائص يدل على أهمية الدعاء ومكانته.
6 -
إن الدعاء يجتمع فيه من أنواع العبادات ما لا يجتمع في غيره، فالدعاء يتضمن أنواعًا كثيرة من العبادات، ولذلك ورد في الحديث:"الدعاء هو العبادة" وفي رواية: "مخ العبادة".
وذلك لأنه يجتمع فيه من أنواع العبادات ما لا يجتمع في غيره، وإليك بعض ما يشتمل عليه من العبادات:
1 -
توجه القلب إلى المدعو، وقصده بكليته.
2 -
رجاء إجابته للدعاء والرغبة إليه رغبة صادقة مع قطع الرجاء والأمل عن غيره.
3 -
الخوف من عدم إجابته، والرهبة والخشية منه.
4 -
التوكل والاعتماد عليه في قضاء الحاجات، وإجابة الدعوات ونيل الرغبات.
5 -
تعظيم المدعو بأنواع التعظيم من التضرع والتذلل والخضوع والتملق والانطراح بين يديه، والابتهال إليه.
6 -
ذكر المدعو باللسان، واللهج باسمه في السر والعلن، وندائه والاستغاثة به والهتاف باسمه.
7 -
محبة المدعو، فإن النفس مولعة بحب من يحسن إليها ولا إحسان أفضل من إجابة ملهوف وإغاثة مكروب، وإعانة مضطر.
8 -
التواضع، وإظهار الافتقار والعجز، والتبري من الحول والقوة.
9 -
ما يتبع هذه الأمور من البكاء ورفع الأيدي إلى السماء.
فهذه الأنواع من العبادات من أعظم أعمال القلوب، كما إن النداء وذكر المدعو واللهج باسمه من أعظم أعمال اللسان والذكر، كما إن الخشوع والتضرع ورفع الأيدي إلى السماء من أعظم أعمال الجوارح، فالإخلاص في هذه الأنواع من العبادات يعد من الإخلاص في أهم أعمال القلوب التي يتقرب بها إلى الله تعالى والتي هي أفضل من الأعمال البدنية، والأعمال المالية من حيث الجملة، والإشراك في هذه الأعمال يعد من الإشراك في أهم الأعمال القلبية التي هي أفضل أنواع العبادات والقربات، كما إن فيه إشراكًا في أنواع مهمة من الأعمال البدنية، فحصل بهذا أن الشرك في الدعاء شرك في العبادة والقصد والطلب، ومن هنا جاءت عناية القرآن الكريم بالتحذير من الشرك في الدعاء وهذا هو الوجه التالي.
7 -
ومما يدل على أهمية الدعاء ومنزلته عناية القرآن الكريم بموضوع الشرك في الدعاء، وذلك لأن الضد يظهر به حسن ضده كما قيل:
والشيء يظهر حسنه الضد
(1)
.
وقيل أيضًا: وبضدها تتبين الأشياء
(2)
.
فضد دعاء الله تعالى هو دعاء غيره تعالى، وقد اعتنى القرآن الكريم
(1)
بيت لدوقلة المنبجي:
وأوله: ضدان لما استجمعا حسنا. .
انظر وهامش تفسير الفاتحة ص: 49.
(2)
هذا شطر بيت للمتنبي أوله:
ونذيمهم وبهم عرفنا فضله ..
انظر ديوان المتنبي مع شرح البرقوقي: 1/ 149.
ببيان موضوع دعاء غير الله تعالى بيانًا شافيًا نكاد أن نقول بدون مبالغة: إنه لم يعتن بأي موضوع آخر مثل ما اعتنى بهذا الموضوع.
وهذا البيان المتناهي والاعتناء البالغ يمكن تصويره، وتصوير سببه بالأوجه التالية:
1 -
إن هذه المسألة
(1)
: "هي أعظم مسألة خالف رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها المشركين، فإنهم كانوا يتعبدون بإشراك الصالحين في دعاء الله تعالى وعبادته" يريدون بذلك شفاعتهم ووساطتهم، كما قال تعالى:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18]، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بهدم هذه العقيدة والأمر بإخلاص الدعاء الله وحده.
فالشرك في الألوهية هو السبب الرئيسي في الخلاف بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين المشركين، وأما الخلاف في الربوبية وفي الإلحاد في الأسماء والصفات فنادر، فلم يكن الخلاف فيهما يقرب من الخلاف في توحيد العبادة، ثم إن الشرك في دعاء المسألة أكثر من الشرك في غيره من أنواع العبادات، ويوضح هذا الوجه التالي:
2 -
إن أغلب شرك الأوائل الذين أرسل إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم كان في الدعاء، فالشرك في الدعاء هو الأكثر انتشارًا ووقوعًا بينهم من أنواع الشرك الأخرى كالنذر والذبح والطواف والسجود من أنواع الشرك في الألوهية والعبادة، وذلك لأن هذه الأمور لا يمكن وقوعها كل وقت وزمان ولا في كل مكان، كما أن الحاجة إليها أقل من الحاجة إلى الدعاء.
إذ الافتقار والاحتياج من لوازم الإنسان، ومن هنا كان دعاء الصالحين والاستغاثة بهم هو الأكثر وقوعًا وانتشارًا لأن الإنسان المشرك
(1)
مسائل الجاهلية ص: 4 - 5.
كلما وقع في مشكلة لا يخطر بباله إلا الاتجاه إلى معبوده بالدعاء والاستغاثة، فهو لا يفكر أولًا إلا في التقرب إلى معبوده بالدعاء، وأما أنواع العبادات الأخرى ففي مرتبة متأخرة، وليست بتلك الكثرة التي تقع بالنسبة إلى الدعاء ومن هنا كانت هذه المسألة أعظم مسألة خالف فيها الرسول صلى الله عليه وسلم المشركين فكانت هي نقطة الخلاف الأساسية، وكان التركيز عليها أكثر.
ومن المعلوم أن الشرك في أنواع العبادات عمومًا أكثر من الشرك في الربوبية أو في الأسماء والصفات يشهد بذلك الماضي والحاضر، ولا يمكن الاختلاف بذلك لأن الواقع أكبر برهان.
3 -
إن الله سبحانه وتعالى لم يحذر في كتابه العزيز عن أي شرك من أنواع الشرك مثل ما حذر عن الشرك في الدعاء.
فلو أحصينا ما ورد في التحذير من دعاء غير الله تعالى بالأساليب المتنوعة - وسيأتي إن شاء الله تعالى الإشارة إلى بعض تلك الأساليب - وقارنا ذلك بما ورد في التحذير من السجود لغير الله تعالى أو الركوع أو الطواف أو النذر أو الذبح أو العكوف
…
من أنواع الشرك في الألوهية، أو قارنا بما ورد في التحذير عن الشرك في الربوبية أو الشرك والإلحاد في أسماء الله تعالى وصفاته، لوجدنا بدون شك أن ما ورد في التحذير من دعاء غير الله تعالى أكثر بكثير من ذلك كله.
قال الشيخ حمد بن ناصر بن مُعَمَّر رحمه الله: "لا نعلم نوعًا من أنواع الكفر والردة ورد فيه من النصوص مثل ما ورد في دعاء غير الله بالنهي عنه والتحذير من فعله والوعيد عليه"
(1)
.
فإذا عرفنا عناية الله تعالى به أكثر من غيره نقول:
(1)
النبذة الشريفة ضمن الرسائل النجدية: 4/ 602، وانظر أيضًا الانتصار لحزب الله ص:26.
إنه لا بد أن الله سبحانه وتعالى ما اعتنى به أكثر من غيره إلا لحكم عظيمة، وأسرار بالغة، من ذلك -والله أعلم- كثرة وقوع الشرك في الدعاء أكثر من غيره من أنواع الشرك قديمًا وحديثًا، فاستحق الاعتناء به، والتحذير منه.
ومن ذلك ما قاله بعضهم من أن العبادات كلها دالة على الطلب والمسألة، على اختلاف المطلوب والمسؤول
(1)
فصار الدعاء هو المعنى الأشمل الأعم من غيره
(2)
فعلى هذا يكون التحذير منه تحذيرًا من جميع أنواع الشرك في الألوهية.
والمقصود من هذا أن الله سبحانه وتعالى حذرنا في القرآن الكريم من دعاء غيره أكثر من تحذيره مما سواه من أنواع الشرك، وذلك يدل على أهميته أكثر من غيره. ويزيد هذا الوجه الوجه التالي وضوحًا.
4 -
إن أصل شرك العالم هو الشرك في الدعاء وطلب الحوائج من الصالحين الميتين.
قال ابن القيم رحمه الله في ذكر أنواع الشرك: "ومن أنواعه: طلب الحوائج من الموتى، والاستغاثة بهم، والتوجه إليهم، وهذا أصل شرك العالم"
(3)
.
فتبين بهذا سر عناية الله تعالى بالشرك في الدعاء أكثر من غيره، كما تبين بذلك منزلته ومكانته.
وإذا عرفنا عناية القرآن الكريم بموضوع الدعاء ننتقل إلى عناية العلماء المصلحين به ونخص العلماء المصلحين لأن بعض العلماء قد اهتموا بموضوعات بعيدة عن منهج القرآن الكريم فاعتنوا بعلم الكلام ولا
(1)
تحفة الطالب والجليس: 98 - 99، أو دلائل الرسوخ:73.
(2)
معارج الألباب ص: 187.
(3)
مدارج السالكين: 1/ 346، وعنه في فتح المجيد: 173، 212.
تجد في كلامهم التحذير من الشرك وربما لا يعرف بعضهم حقيقة الشرك، فإنا لله وإنا إليه راجعون ..
عناية العلماء المصلحين بمسألة دعاء غير الله تعالى:
إن علماء هذه الأمة المعتنين منهم بسلامة عقيدتها تبعوا سنة الله في هذه المسألة، فاعتنوا بها أكثر من غيرها من مسائل الشرك، فكانت محل اهتمامهم في بحوثهم ومؤلفاتهم ورسائلهم الشخصية وهؤلاء العلماء منهم شيخا الإسلام ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب رحمهما الله تعالى، فقد عنيا بهذا الموضوع عناية فائقة.
فقد ألف فيه ابن تيمية عدة مؤلفات مثل كتاب الاستغاثة المعروف بالرد على البكري، والقاعدة الجليلة في التوسل والوسيلة وغيرهما.
وأما الشيخ محمد بن عبد الوهاب فأغلب كتبه في هذا الموضوع لكون الخصومة فيه كما سيأتي:
وربما يقول قائل: إننا لا نجد الكلام على هذه المسألة والاهتمام بها عند أئمة السلف كأصحاب المذاهب الأربعة وغيرهم من المحدثين والفقهاء والمفسرين.
فنقول وبالله التوفيق:
1 -
إننا قد بينا بما لا يدع مجالًا للشك عناية القرآن الكريم بهذه المسألة أكثر من غيرها فكفى به برهانًا وحجة، قال تعالى:{أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [العنكبوت: 51، 52].
إن الله تعالى قد بيّن هذه المسألة وأوضحها أكثر من غيرها، وهو عالم بما سيقع من الانحراف فيها، فلا حاجة إلى بيان أحد كائنًا من كان إذ المسألة ليست قابلة للاجتهاد فهي قطعية الثبوت، قطعية الدلالة، لا
تقبل النقاش ولا المعارضة من أحد، كما أنها ليست خافية بل هي واضحة المعالم، لأنها أصل الدين الذي بعثت به الرسل وأنزلت به الكتب.
2 -
إن علماء هذه الأمة لا سيما المصلحين منهم ينصب اعتناؤهم على الأمر الذي وقع وحصل في زمانهم فقد حذروا من الكلام في الفرضيات والخيالات التي لم تقع.
وهذه المسألة لم تقع بهذه الصورة ولم تنتشر في زمانهم وذلك لقوة الإسلام وعزته، فلم يستطع الشيطان أن يلبس على المسلمين في الزمن الأول أن دعاء غير الله تعالى الذي قد عرف بالضرورة من الإسلام منافاته للإسلام، أنه مما يتقرب به إلى الله وأنه جائز بل مستحب.
فأوائل هذه الأمة لم يقع فيهم مثل هذا وقد تكلم السلف فيما وقع من البدع، تكلموا في بدعة القدرية والجهمية والخوارج وغيرها عندما وقعت هذه البدع في زمانهم
(1)
، وأما هذه المسألة فلم تقع بهذه الصورة في زمانهم.
قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله: "وهذه الاعتقادات في الأموات إنما حدثت بعد الإمام أحمد ومن في طبقته من أهل الحديث والفقهاء والمفسرين"
(2)
.
ويؤيد هذا ما ذكره ابن تيمية
(3)
رحمه الله في أصناف القدرية الثلاثة: المكذبين به، والدافعين به للأمر والنهي، والطاعنين به على الرب عز وجل بجمعه بين الأمر والقدر حيث ذكر أن أخف هؤلاء هم الصنف الأول، وهم المكذبون ومع ذلك كثر فيهم الكلام من السلف والتغليظ عليهم دون الصنفين الآخرين لعدم كثرتهما ولعدم تظاهرهما باعتقادهما،
(1)
انظر منهاج السنة: 1/ 308.
(2)
القول الفصل النفيس ص: 15.
(3)
منهاج السنة النبوية: 3/ 82.
فلهذا قل فيهما الكلام دون الصنف الأول الذي هو أخف بالنسبة إليهما.
ومن هنا نعرف أن السبب في عدم كثرة كلام السلف في مسألة دعاء غير الله تعالى عدم انتشار الشرك الواضح في مثل هذا في الصدر الأول. وسيأتي بيان مزيد إن شاء الله
(1)
.
ويوضح عناية العلماء المصلحين بهذه المسألة عدة مظاهر منها:
1 -
أنهم يقدمون الكلام عليها على غيرها من المسائل الأخرى فمن ذلك ما فعله شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله حيث بدأ كتابه "مسائل الجاهلية التي خالف فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الجاهلية" بهذه المسألة وبيّن أنها أعظم مسألة خالف فيها الرسول صلى الله عليه وسلم الجاهلية
(2)
.
ومن ذلك قوله رحمه الله بعد أن بيّن أن التوحيد الذي دعت إليه الرسل هو إفراد الله بالعبادة: "فمن ذلك لا يدعى إلا إياه كما قال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18] "
(3)
.
وقال أيضًا: "اعلم رحمك الله أن التوحيد الذي فرض الله على عباده قبل فرض الصلاة والصوم هو توحيد عبادتك أنت فلا تدع إلا الله وحده
…
".
ثم ذكر أن صفة إشراك المشركين الأولين "أنهم يدعون الله ويدعون معه الأصنام والصالحين"
(4)
.
وقال في موضع آخر عندما ذكر الأصل الجامع لعبادة الله وحده: "فإن قيل فما أنواع العبادة التي لا تصلح إلا لله تعالى، قلت: من أنواعها الدعاء والاستعانة والاستغاثة
…
إلخ"
(5)
.
(1)
ص 562.
(2)
مسائل الجاهلية ص: 4 - 5، وانظر مؤلفات الشيخ، قسم العقيدة ص:334.
(3)
الرسائل الشخصية: مؤلفات الشيخ ص: 166.
(4)
رسالة في توحيد العبادة: قسم العقيدة: مؤلفات الشيخ ص: 398.
(5)
الأصل الجامع لعبادة الله: مؤلفات الشيخ: قسم العقيدة ص: 379.
وأكثر كلام
(1)
الشيخ يدور حول هذه المسألة، أو ذكر ذرائعها، والأسباب المؤدية إليها وخطورتها والتحذير منها فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيرًا، وهو عندما يريد التحذير من أنواع الشرك في العبادة يبدأ بدعاء
(2)
المسألة الذي نحن بصدده.
ومن هؤلاء الأمير الصنعاني، فإنه بدأ بالدعاء قبل غيره من أنواع العبادات فقال: "فإفراد الله بالعبادة لا يتم إلا بأن يكون الدعاء
…
"
(3)
.
ومنهم الشيخ حمد بن ناصر بن مُعَمَّر الحنبلي فإنه عرف العبادة بقوله: "اسم جامع لما يحبه الله
…
ثم قال: من ذلك الدعاء بما لا يقدر على جلبه أو دفعه إلا الله"
(4)
.
ومنهم الشيخ سعد بن حمد بن عتيق فقد ذكر الآيات التي تدل على اختصاص العبادة بالله تعالى، ثم قال:"ومن أعظم أنواعها الدعاء"
(5)
.
وقبل هؤلاء كان يفعل مثل ذلك ابن تيمية فمما قال: "إن حقيقة التوحيد أن نعبد الله وحده فلا يدعى إلا هو، ولا يخشى إلا هو"
(6)
.
وقال أيضًا: "والله عز وجل له حق لا يشركه فيه غيره فلا يعبد إلا الله ولا يدعى إلا الله ولا يخاف إلا الله"
(7)
.
وغير هؤلاء آخرون يقدمون ذكر الدعاء على غيره للاعتناء به
(1)
انظر على سبيل المثال مؤلفات الشيخ: قسم العقيدة ص: 157، والرسائل الشخصية ص:104.
(2)
انظر زيادة على ما تقدم تفسير الفاتحة للشيخ ص: 42 - 43.
(3)
تطهير الاعتقاد ص: 16.
(4)
النبذة الشريفة النفيسة ضمن الرسائل النجدية ص: 594، والرسالة كلها في موضوع الدعاء.
(5)
المجموع المفيد ص: 9.
(6)
منهاج السنة: 3/ 490.
(7)
قاعدة التوسل ص: 158، وضمن الفتاوى: 1/ 365.
وأهميته
(1)
، فهذا الصنيع من هؤلاء العلماء يدل على أهمية الدعاء عندهم وخطورة الشرك فيه.
2 -
من مظاهر اعتنائهم أيضًا: أنهم فسروا الشرك في الألوهية بأنه الشرك في الدعاء بنوعيه: العبادة والمسألة، وغالبًا يقدمون دعاء المسألة.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: "وجماع الأمر: أن الشرك نوعان: شرك في ربوبيته
…
وشرك في الألوهية: بأن يدعو غيره دعاء عبادة، أو دعاء مسألة"
(2)
.
وقال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: "وأعظم نهي نهى الله عنه الشرك به، وهو أن يدعو مع الله غيره، أو يقصده بغير ذلك من أنواع العبادة"
(3)
.
وقال أيضًا: "وتوحيد الإلهية هو أن لا يدعى ولا يرجى إلا الله وحده لا شريك له ولا يستغاث بغيره ولا يذبح
…
". ثم بيّن الشيخ رحمه الله أن شرك الذين قاتلهم الرسول صلى الله عليه وسلم كان بدعاء الصالحين
(4)
.
وقال بعضهم: "قد ذكر العلماء رحمهم الله تعالى أن الشرك نوعان أكبر وأصغر فالأكبر أن يجعل لله ندًا من خلقه يدعوه كما يدعو الله، ويخافه كما يخاف الله"
(5)
.
ومثله قول الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله: "فالشرك الأكبر أن يصرف العبد نوعًا من أنواع العبادة لغير الله كأن يدعو غير الله أو يرجوه أو يخافه"
(6)
.
(1)
انظر مثلًا الهدية السنية ص: 5.
(2)
اقتضاء الصراط المستقيم ص: 357.
(3)
مؤلفات الشيخ قسم العقيدة ص: 381.
(4)
المرجع السابق ص: 366.
(5)
مجموعة الرسائل النجدية ونسبه إلى جواب قاضي الدرعية الشيخ عبد العزيز ومن حوله من العلماء: 4/ 564.
(6)
سؤال وجواب في أهم المهمات ص: 12، ونحوه في رسالة أبا بطين: انظر الدرر السنية: 8/ 218.
ومثله قول
(1)
الشوكاني: "إن الشرك هو دعاء غير الله تعالى أو اعتقاد القدرة لغيره فيما لا يقدر عليه سواه أو التقرب إلى غيره
…
".
ففي هذه الأمثلة السابقة نجد العلماء قد فسروا الشرك في الألوهية بأنه الشرك في الدعاء بنوعيه وقدموا من النوعين دعاء المسألة، وذلك يدل على عنايتهم به أكثر من غيره لمكانته العظيمة أولًا ثم لوقوع الخصومة فيه ثانيًا، ويبين هذا الوجه الآتي.
3 -
ثم إن الخصومة الكبرى التي وقعت بين الدعاة إلى التوحيد الخالص وبين مخالفيهم إنما وقعت في هذه المسألة، وهي إفراد الله تعالى بالدعاء والتحذير من دعاء غيره تعالى لأن المخالفين يرون أن دعاء غير الله إذا كان المقصود به التوسط لا بأس به، وأن الدعاء ليس مثل السجود والركوع في منع صرفه لغير الله تعالى إلى غير ذلك مما سيأتي في ذكر شبههم فاحتاج الدعاة إلى التوحيد إلى كثرة الخوض فيه وبيانه بكل الطرق وبأساليب متنوعة، وبيان أن الدعاء من أهم العبادات وأن صرفه لغير الله شرك وضلال، فهذا هو الذي جعلهم يبدأون به قبل غيره، ويُعْنَوْنَ به أكثر.
وقد ذكر الشيخ عبد الله ابن الشيخ محمد رحمهما الله أنه لم يكن هناك خلاف له وَقْع بينهم - أي بين الدعاة إلى التوحيد الخالص ومخالفيهم - إلَّا في أمرين:
"أحدهما: إخلاص التوحيد لله تعالى، ومعرفة أنواع العبادة وأن الدعاء من جملتها وتحقيق معنى الشرك الذي قاتل عليه الرسول صلى الله عليه وسلم. والثاني: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"
(2)
.
وذكر الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن - رحمهما الله - أن الخصومة
(1)
الدر النضيد ص: 18.
(2)
الهدية السنية ص: 27، والدرر السنية في الأجوبة النجدية: 1/ 110.
فيما دلت عليه كلمة الإخلاص وأننا نقول: "دعاء الأنبياء والصالحين من الأموات والغائبين للشفاعة أو غيرها شرك ظاهر مستبين
…
ونُدْخِل دعاء الأموات والغائبين فيما دلت عليه الآيات القرآنية"
(1)
، كما ذَكَر في موضع آخر أن هذا هو أصل دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وجهاده
(2)
.
وقد ذكر الشيخ نفسه رحمه الله أن ما حصل له من الفتنة من مخالفيه هو إظهاره النهيَ عن دعوة الصالحين والأمر بإخلاص الدعاء لله تعالى مع هدم البناء على القبور
(3)
.
وصنيع العلماء المصلحين هذا يدل على اتباعهم لطريقة القرآن وهو دليل قاطع على مكانة الدعاء وخطورة الشرك فيه.
(1)
مصباح الظلام ص: 301.
(2)
المرجع نفسه ص: 354.
(3)
الدرر السنية في الأجوبة النجدية: 1/ 28، والرسائل الشخصية: مؤلفات الشيخ ص: 40، وتفسير الفاتحة ص:48.
307
الفصل الثاني
في عدم تنافي الدعاء والقدر
ويشتمل على مبحثين:
المبحث الأول: في مذاهب الناس واتجاهاتهم وحجج كل فريق ومناقشتها.
المبحث الثاني: في الصواب الذي تدل عليه الأدلة الصحيحة.
المبحث الأول: في مذاهب الناس في الدعاء واتجاهاتهم وحجج كل فريق ومناقشتها
ذهب الناس في أمر الدعاء إلى مذاهب شتى، وآراء متباينة، وأقوال مختلفة، وكثر النقاش بين أصحاب تلك المذاهب والآراء، فأدلى كل صاحب مذهب بحجته، وقوّى مذهبه بما استطاع من حجة منقولة أو معقولة حتى صارت تلك الأقوال تستحق أن تفرد بدراسة خاصة، وذلك لتشعب الموضوع وكثرة حجج كل فريق، وأدلته، ولتعلق الموضوع بمسألة القدر التي هي من أهم مسائل العقيدة التي يلتبس فيها الحق بالباطل على كثير من الناس وبعون الله وتوفيقه، سأذكر تلك الآراء مع بيان حجة كل فريق ومناقشة ما يستحق المناقشة من تلك المذاهب بإيجاز، ثم أذكر الصواب حسب ما ظهر لي والله المستعان، وعليه التكلان.
حاصل مذاهب الناس في الدعاء:
أ - إن الدعاء لا معنى له ولا فائدة منه ولا يدعى الله تعالى.
ب - إن الدعاء لا يجلب منفعة ولا يدفع مضرة وإنما هو عبادة محضة.
جـ - إن الدعاء علامة وأمارة ودلالة محضة على حصول المطلوب، وليس هو سببًا لحصول المطلوب.
د - إن الدعاء يرد القضاء، ويغيره من قضاء إلى قضاء.
هـ - إن الدعاء ينفع في بعض الأمور دون بعض.
و- إن الدعاء سبب من الأسباب وهو داخل في القضاء.
وقد يكون في المذهب الواحد من هذه المذاهب عدة اتجاهات. وقد يختلف أصحاب المذهب الواحد في تحليل مذهبهم، ولكنهم يتفقون في أصل المذهب الرئيسي ومن هنا نعدهم أصحاب مذهب واحد لاتفاقهم في النتيجة، ويتضح هذا جليًا في المذهب الأول كما سيأتي.
هذا هو حاصل مذاهب الناس في الدعاء إجمالًا وإليك تفصيل ذلك:
أ - المذهب الأول:
إن الدعاء لا معنى له ولا يدعى الله تعالى، وفي هذا المذهب ثلاث اتجاهات، وكلها متفقة على أن لا يدعى الله تعالى.
1 -
الاتجاه الأول: مذهب طائفة من المتفلسفة وغالية المتصوفة:
ذهبوا إلى أن الدعاء لا معنى له ولا فائدة فيه، والعلة في ذلك عندهم هو أن المشيئة الإلهية إذا اقتضت فلا بد أن يحصل وإن لم تقتضِ فلا يحصل فلا فائدة في الدعاء.
2 -
الاتجاه الثاني: مذهب أرسطو وأتباعه:
والعلة عندهم أن الله ليس عالمًا ولا مريدًا
…
إلخ.
3 -
الاتجاه الثالث: مذهب ابن عربي وطائفته:
والعلة عندهم أن الداعي والمدعو واحد
…
إلخ.
وإليك تفصيل هذه الاتجاهات الثلاث.
1 - الاتجاه الأول
(1)
: مذهب طائفة من المتفلسفة وغالية المتصوفة:
إن الدعاء لا معنى له ولا فائدة فيه، وشبهتهم في هذا الاحتجاج بمشيئة الله تعالى وعلمه وقضائه وقدره، قالوا إن المشيئة الإلهية إذا اقتضت وجود المطلوب فلا بد أن يحصل سواء دعا أو لم يدعُ، فيكون الدعاء تحصيل الحاصل.
وإن لم تقتضه فلا يمكن أن يحصل سواء دعا أو لم يدع فثبت بهذا أنه لا فائدة في الدعاء على الحالين.
ومثل هذا يقال في علم الله فإن علم الله أنه يوجد فلا بد أن يوجد .. إلخ.
وساق هؤلاء الأدلة المتضافرة المتواترة الدالة على سبق القضاء والقدر وتلك الأدلة معروفة مشهورة، منها قوله تعالى:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد: 22]، وقوله تعالى:{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49]، وحديث علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ما منكم من أحد إلا قد كتب مقعده من النار أو من الجنة
…
"
(2)
وغير ذلك من الأحاديث المتضافرة.
(1)
انظر عن هذا المذهب: شأن الدعاء للخطابي ص: 6، واقتضاء الصراط المستقيم: 358، ومنهاج السنّة: 5/ 362، والتحفة العراقية: 47، والفتاوى: 8/ 138، ومدارج السالكين: 3/ 104، وزاد المعاد: 3/ 481، والجواب الكافي ص: 14، وشرح العقيدة الطحاوية: 460، والاعتصام للشاطبي: 1/ 27، 357، وتفسير الفخر الرازي: 5/ 104 - 105، 14/ 134، وساق عدة شبه ترجع إلى ما ذكر، وفيض القدير: 2/ 541، وشرح الفقه الأكبر للقاري: 194 - 196، ونسب هذا المذهب إلى بعض المعتزلة، وانظر هذا المذهب على وجه السؤال في المنهاج للحليمي: 1/ 540. وذكره الزركشي في الأزهية ص: 34 قريبًا من سياق الرازي.
(2)
أخرجه البخاري في القدر: باب وكان أمر الله قدرًا مقدورًا: 11/ 494 رقم 6605، ومسلم: 4/ 2039 رقم 2647.
وهناك طائفتان أخريان ذهبتا إلى القول بأن الله لا يدعى ولكن قالتا بتأثير الدعاء. وهما أصحاب الاتجاهين التاليين:
2 - الاتجاه الثاني: مذهب أرسطو وأتباعه:
ذهبوا إلى أن الله تعالى لا يدعى، لأنه عندهم "لا يفعل شيئًا ولا يريد شيئًا، ولا يعلم شيئًا، ولا يخلق شيئًا، فعلى أي شيء يشكر أم على أي شيء يحمد ويعبد؟ "
(1)
وعلى أي أساس يطلب منه قضاء الحاجات ونيل الرغبات، ودفع الكربات؟ إذا الله عندهم "لا يحدث شيئًا بمشيئته واختياره، بل لا سبب للحوادث إلا حركة الفلك فلهذا لم يثبتوا لله تعالى إجابة سائل ولا إحداث أمر"
(2)
.
فإذا كان الله لا يستطيع الإجابة ولا إحداث أي أمر فليس هناك فائدة في دعائه.
3 - الاتجاه الثالث: مذهب ابن عربي وطائفته:
ذهبوا إلى القول بأنه يستحيل من العبد أن يدعو الله - تعالى الله عما يقولون - لاعتقادهم أحدية العين، فالداعي هو المدعو، فكيف يدعو نفسه؟
(3)
.
ويقول ابن الفارض
(4)
مثبتًا لأحدية الداعي والمدعو:
(1)
جامع الرسائل: 1/ 104، وانظر بيان تلبيس الجهمية: 2/ 451، والفتاوى: 8/ 195.
(2)
الرد على البكري: 63.
(3)
جامع الرسائل: 1/ 105، وانظر فصوص الحكم لابن عربي: 1/ 183 - 184، وانظر التعليق عليه لأبي العلا عفيفي: 2/ 265، ويراجع فصوص الحكم أيضًا: 1/ 60 - 61.
(4)
ابن الفارض هو عمر بن علي بن مرشد الحموي المصري صاحب الاتحادية ت 636 هـ، قال الذهبي: فإن لم يكن في تلك القصيدة صريح الاتحاد الذي لا حيلة في وجوده فما في العالم زندقة وضلال، السير: 22/ 368.
فإن دُعِيَتْ كنتُ المجيبَ وإن أكن
…
منادى أجابت من دعاني ولبتِ
فقد رفعت تاء المخاطب بيننا
…
وفي رفعها عن فرقة الفرق رفعتي
(1)
فهذان الاتجاهان اشتركا مع الطائفة الأولى في أن الله - تعالى عما يقول هؤلاء - لا يجيب الدعاء وأنه من أجل هذا فلا يدعى، ولكن اختلفوا في تعليل ذلك وتوجيهه.
فالعلة عند الاتجاه الأول: هو الاحتجاج بسبق المشيئة والعلم والقضاء والقدر، وعند الثاني: عدم علم الله للدعاء وعدم قدرته، وعند الثالث: اتحاد الداعي والمدعو وكونهما شيئًا واحدًا. لكن الاتجاهان الأخيران أثبتا تأثير الدعاء على وجه يطابق عقيدة القائلين بالاتجاهين.
سبب تأثير الدعاء عند أرسطو وأتباعه:
فهؤلاء لما رأوا تأثير الدعاء وتحققوا من ذلك لم يمكنهم إنكار هذا الأمر الذي شهدت به تجارب الأمم وأقرت به الفطر والعقول، ولكنهم لجأوا إلى تفسير ذلك بما يوافق عقيدتهم فزعمت طائفتهم من الملاحدة والصابئين والمتفلسفة المشائين أتباع أرسطو ومن تبعه من متفلسفة أهل الملل كالفارابي وابن سينا ومن سلك سبيلهما ممن خلط ذلك بالكلام والتصوف والفقه زعموا أن الدعاء إنما تأثيره بكون النفس تتصرف في العالم، لا يكون الله يجيب الداعي، فتأثير الدعاء عندهم إنما هو من تأثير النفوس البشرية من غير أن يثبتوا للخالق سبحانه بذلك علمًا مفصلًا أو قدرة على تغيير العالم، أو أن يثبتوا أنه لو شاء أن يفعل غير ما فعل لأمكنه ذلك، بل العالم عندهم فيض فاض عنه بغير مشيئته وقدرته وعلمه فلهذا فالله تعالى على رأيهم لا يستطيع التأثير في العالم، وإنما هو علة العلل كما يسمونه، وهكذا يزعمون في تأثير سائر الممكنات المخلوقات من القوى الفلكية والطبيعية والقوى النفسانية والعقلية، فالدعاء عند هؤلاء
(1)
ديوان ابن الفارض ص: 42.
سبب تأثيره إنما هو من قوة النفوس وليس من الله "فهم لا يقصدون الله أن يفعل شيئًا ولا يطلبون منه شيئًا ولكن يقوون نفوسهم قوة يزعمون أنهم يفعلون بها"
(1)
.
وهؤلاء أعظم شركًا وغلوًا في الضلال والغي من مشركي العرب الذين يعتقدون الوساطة والشفاعة لأصنامهم.
قال شيخ الإسلام في تفضيل أهل الكتاب والمشركين على الفلاسفة الملاحدة: "فمشركو العرب مع أهل الكتاب يدعون الله، ويقولون: إنه يسمع دعاءهم ويجيبهم، وهؤلاء - يعني الفلاسفة - عندهم لا يعلم شيئًا من جزئيات العالم، ولا يسمع دعاء أحد ولا يجيب أحدًا، ولا يُحْدِث في العالم شيئًا ولا سبب للحدوث عندهم إلا حركات الفلك، والدعاء عندهم يؤثر، لأنه تصرف النفس الناطقة في هيولى
(2)
العالم"
(3)
.
وهؤلاء قالوا أيضًا في تعليل وتجويز دعاء غير الله تعالى وتأثيره وزيارة القبور الزيارة الشركية: إن الأرواح المعظمة المفارقة للجسد، أو الجواهر العلويات كالشمس والقمر وسائر الكواكب، يفيض عليها من جهة الرب، فإذا اتصل بها أحد بدعائها أو الاستشفاع بها، أو زيارة هياكلها أو قبورها وأضرحتها فاض على هذا الداعي أو الزائر منها ما فاض عليها من جهة الرب من غير فعل من تلك الأرواح والجواهر ومن غير سؤال منها ويمثلون ذلك بالشمس إذا طلعت على مرآة فانعكس الشعاع الذي على المرآة على موضع آخر فأشرق بذلك الشعاع، فهذا الشعاع حاصل
(1)
بيان تلبيس الجهمية: 2/ 451، والفتاوى: 8/ 195، والرد على المنطقيين: 103 - 105، 535 - 537، والرد على البكري ص: 268، وقاعدة التوسل: 25، ومصباح الظلام:176.
(2)
الهيولى: لفظ يوناني بمعنى الأصل والمادة، وفي الاصطلاح جوهر في الجسم قابل لما يعرف لذلك الجسم من الاتصال والانفصال محل للصورتين الجسمية والنوعية. اهـ. التعريفات ص:257.
(3)
الفتاوى: 17/ 293 - 294، والرد على المنطقيين: 535 - 537.
بمقابلة المرآة والذي للمرآة حاصل بمقابلة الشمس.
فكذلك الداعي المستشفع إذا توجه إلى شفيعه أشرق عليه من جهته مقصود الشفاعة وذلك المدعو الشفيع أشرق عليه من جهة الحق.
فلهذا يرى هؤلاء دعاء الموتى عند القبور وغير القبور ويتوجهون إليهم ويقولون: إن أرواحنا إذا توجهت إلى روح المقبور في القبور اتصلت به ففاضت عليها المقاصد من جهته، ومن هنا يفضلون الدعاء والصلاة عندها على الدعاء والصلاة في المساجد
(1)
.
كما يقولون في الزيارة الشركية: إن الأرواح المفارقة تجتمع هي والأرواح الزائرة فيقوى تأثيرها
(2)
.
وأما ابن عربي وشيعته فقد فسروا سبب تأثير الدعاء بأن الداعي هو المدعو فلا بد أن يلبي رغبات نفسه، قال ابن عربي:"فما يطلب الحق من العبد بأمره هو بعينه يطلبه العبد من الحق بأمره، ولهذا كان كل دعاء مجابًا ولا بد وإن تأخر"
(3)
.
والحاصل أن هذين المذهبين يريان تأثير الدعاء إلا أنهما يفسران ذلك على طريقة تناسب عقيدتهما الباطلة.
وإني أرى أن هذين المذهبين لا يستحقان المناقشة الطويلة ففي حكايتهما ما يغني عن الرد عليهما لوضوح بطلانهما ومناقضتهما للشرائع
(1)
الرد على المنطقيين: 103 - 105، 535، والرد على البكري: 62 - 63، 267، وقاعدة التوسل ص: 25، وملحق المصنفات: 97، والرد على من قال بقول الفلاسفة في دعاء الموتى للشيخ عبد الرحمن بن حسن ضمن مجموعة الرسائل: 4/ 383، وانظر إتحاف السادة: 5/ 51 - 52، وإغاثة اللهفان: 1/ 169 - 170، وراجع حاشية قاعدة في التوسل ص: 156 تحقيق الشيخ ربيع للاطلاع على ما نقله عن كتاب المضنون به على غير أهله: 2/ 151.
(2)
الرد على البكري ص: 268.
(3)
فصوص الحكم: 1/ 147.
السماوية جميعًا مناقضة واضحة لا تلتبس على من عرف مبادئ الإسلام، ولهذا نكتفي بهذا وسوف لا نعرج عليهما في مناقشة الشبه
(1)
.
هذا ومما ينبغي أن يعلم أن الدعاء من الأسباب وأن الناس قد افترقوا في الأسباب إلى ثلاث فرق رئيسية: مغضوب عليهم، وضالون، ومهتدون.
فالمغضوب عليهم يطعنون في عامة الأسباب المشروعة وغير المشروعة ويقولون: الدعاء المشروع قد يؤثر وقد لا يؤثر، ويتصل بذلك الكلام في دلالة الآيات على تصديق الأنبياء عليهم السلام.
والضالون يتوهمون في كل ما يتخيل سببًا، والمتكايسون من المتفلسفة يحيلون ذلك على أمور فلكية وقوى نفسانية وأسباب طبيعية.
فأما المهتدون فهم لا ينكرون ما خلقه الله من القوى والطبائع إذ الجميع خلق الله لكنهم يؤمنون بما وراء ذلك من قدرة الله التي هو بها على كل شيء قدير ومن أنه كل يوم هو في شأن ومن أن إجابته لعبده المؤمن خارجة عن قوة نفس العبد وتصرف جسمه وروحه وبأن الله يخرق العادات لأنبيائه وأوليائه
(2)
.
ب - المذهب الثاني
(3)
:
قالت طائفة من الصوفية: إن الدعاء لا يجلب به منفعة، ولا يدفع به مضرة، وإنما هو عبادة محضة تعبدية غير معقول المعنى، كبعض أعمال العبادات الأخرى مثل رمي الجمار وغيره، ولا أثر للدعاء في
(1)
انظر مناقشة الفلاسفة في الرد على البكري ص: 270 - 276.
(2)
اقتضاء الصراط المستقيم ص: 361 - 362.
(3)
انظر عن هذا المذهب: جامع الرسائل لابن تيمية: 1/ 87، والتحفة العراقية: 47، والفتاوى: 8/ 192، 530 - 531، وزاد المعاد: 3/ 481، ومدارج السالكين: 3/ 104، والجواب الكافي: 14، والآداب الشرعية: 2/ 288.
حصول المطلوب، وجودًا وعدمًا، بل ما يحصل بالدعاء يحصل بغيره.
وقالوا: إن الدعاء عند أهل التسليم والتفويض - يعنون أنفسهم - على وجهين:
"أحدهما: يريد بذلك تزيين الجوارح الظاهرة بالدعاء، لأن الدعاء ضرب من الخدمة، يريد أن يزين جوارحه بهذه الخدمة.
والوجه الثاني: أن يدعو ائتمارًا لما أمره الله تعالى بالدعاء"
(1)
، فالدعاء عندهم لإظهار العبودية وامتثال الأوامر الإلهية فقط، وليس له تأثير في حصول المطلوب، فهؤلاء على اتجاهين:
1 -
فمنهم من يجعل الدعاء من حظ العامة، وأن مقامات الخواص ترك الدعاء والتوكل نظرًا للقدر
(2)
.
2 -
ومنهم من يجعل الدعاء بعدم المؤاخذة على الخطأ والنسيان مثل: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286]، يجعله عديم الفائدة إذ هو مضمون الحصول، فلا يجوز الدعاء بهذا إلَّا تلاوة لا دعاء ويعلل ذلك بأن الدعاء به يتضمن الشك في وقوعه لأن الداعي بين الخوف والرجاء، والشك في وقوع ذلك شك في خير الله
(3)
.
وقد جوز بعضهم الدعاء بالآية السابقة إن أراد بالخطأ العمد وبما لا يطاق الرزايا والمحن
(4)
.
وقد رويت عن هؤلاء أقوال كثيرة في تقرير هذا المذهب، من ذلك ما قاله بعضهم عندما طلب منه أن يدعو: "أخشى أني إن دعوت أن يقال
(1)
اللمع للطوسي: 333.
(2)
الفتاوى: 10/ 35، و 8/ 284، وبدائع الفوائد: 2/ 240.
(3)
مدارج السالكين: 2/ 118، والفتاوى: 8/ 287.
(4)
ذهب إلى هذا القرافي في الفروق: 4/ 274 - 278، وحاشية ابن عابدين على الدر: 1/ 522، وانظر ما سيأتي في ص: 405 - 407.
لي: إن سألتنا مالك عندنا فقد اتهمتنا وإن سألت ما ليس لك عندنا فقد أسأت الثناء علينا، وإن رضيت أجرينا لك الأمور، ما قضينا لك به في الدهور"
(1)
.
وقال آخر: "من عرف الله أمسك عن رفع حوائجه إليه لما علم أنه العالم بأحواله"
(2)
.
وروي عن الجنيد أنه دخل عليه جماعة فقالوا: "أين نطلب الرزق؟ فقال: إن علمتم في أي موضع هو، فاطلبوه منه، قالوا: فنسأل الله تعالى ذلك، فقال: إن علمتم أنه ينساكم فذكروه فقالوا: ندخل البيت فنتوكل فقال: التجربة شك قالوا: فما الحيلة؟ فقال: ترك الحيلة"
(3)
.
وقال آخر: "طلبك منه اتهام"
(4)
.
ومن أقوال هؤلاء في كون الدعاء من حظ العامة ما حكاه القشيري في رسالته من أنه "قيل: دعاء العامة بالأقوال، ودعاء الزهاد بالأفعال، ودعاء العارفين بالأحوال
…
وقيل: ألسنة المبتدئين منطلقة بالدعاء، وألسنة المتحققين خرست عن ذلك"
(5)
.
وبلغ الحال ببعضهم إلى أن قال: "الفقير هو الذي لا يكون له إلى الله حاجة"
(6)
، فهذا في غاية الشناعة ومع ذلك حاول بعضهم تأويله
(7)
(1)
الرسالة القشيرية: 2/ 533، وإتحاف السادة المتقين: 5/ 177، والأزهية:45.
(2)
اللمع للطوسي: 332، وتلبيس إبليس: 337، ونسبه إلى أبي العباس بن عطاء.
(3)
الرسالة القشيرية: 1/ 427.
(4)
العلم الشامخ: 40، 460، نسبه إلى ابن عطاء.
(5)
رسالة القشيري: 2/ 533.
(6)
رسالة القشيري: 2/ 545، والعلم الشامخ ص:38.
(7)
فقد حاول القشيري تأويله إلى أنه يشير إلى سقوط المطالبات وانتفاء الاختيار وأوله صاحب عوارف المعارف إلى أنه مشغول بالعبودية وتام الثقة بربه وبعلمه. اهـ. انظر الرسالة ص: 545، والعلم الشامخ:38.
مع أنه صريح في مراد القائل لا يقبل التأويل، وتتلخص شبههم الرئيسية في ثلاث:
1 -
الاستدلال بعموم علم الله تعالى وأن السؤال مع العلم والقدر لا حاجة إليه.
2 -
الاستدلال بما روي من أن إبراهيم الخليل عندما ألقي في النار قال: حسبي من سؤالي علمه بحالي
(1)
.
3 -
أن سؤال الله تعالى فيه سوء الأدب واتهام للرب بعدم إعطائه للعبد ما يستحقه، وأنه لذلك ليس من مقامات الخواص.
وأصل شبهة أصحاب المذهب الأول والمذهب الثاني أنهم لما أثبتوا أن الله إذا قضى شيئًا فلا بد أن يكون وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأن ما سبق به علمه فهو كائن لا محالة صاروا يظنون ما يوجد بسبب يوجد بدونه، وما يوجد مع عدم المانع يوجد مع المانع، وأن كون الأمور مقدرة مقضية يمنع أن تتوقف على أسباب مقدرة أيضًا تكون من العبد، وهذا غلط عظيم ضلت فيه طوائف، حتى وصل الأمر ببعضهم إلى القول بأنه لا حاجة إلى الأعمال المأمور بها فإن من خلق للجنة فهو يدخلها وإن لم يؤمن ولم يعمل، ومن خلق للنار فهو يدخلها وإن آمن وعمل
(2)
.
وكذلك قول من قال: إن الدعاء لا يؤثر شيئًا، والتوكل لا يؤثر شيئًا هو من هذا الجنس لكن إنكار ما أمر به من الأعمال كفر ظاهر، بخلاف إنكار تأثير الدعاء أو التوكل إذ ليس تعليق المقاصد بالدعاء والتوكل
(1)
ذكره البغوي في التفسير: 3/ 350، حكاية عن كعب الأحبار، وسيأتي الكلام عليه ص: 337، وانظر الاستدلال بهذه الحكاية في تفسير الرازي: 14/ 135، وروح المعاني: 2/ 82، وفي الرسالة القشيرية: 1/ 420.
(2)
جامع الرسائل: 1/ 92 - 93، والتحفة العراقية: 47، والفتاوى: 10/ 22، 8/ 138.
كتعليق سعادة الآخرة بالإيمان، ولكن الأصل واحد وهو النظر إلى المقدور مجردًا عن أسبابه ولوازمه
(1)
.
فهؤلاء رَكَّبُوا من هذا الأصل مقدمتين فاسدتين وهما:
أن الشيء المطلوب المدعو به إن قدر فلا بد أن يحصل سواء دعا به أم لا فيكون الدعاء من باب تحصيل الحاصل وإن لم يقدر فلا يحصل سواء دعا به أم لا فلا فائدة في الدعاء في الحالين.
حاصل شبههم تدور على الأمور التالية:
1 -
الاحتجاج بالمشيئة الإلهية وأن المطلوب إذا قضي إلى آخر المقدمتين.
2 -
الاحتجاج بعلم الله تعالى وأن المطلوب إذا علمه الله فلا بد أن يحصل .. إلخ. وقووا هذه الشبهة بما روي عن إبراهيم الخليل عليه السلام من قوله: (حسبي من سؤالي علمه بحالي).
3 -
الاحتجاج بأنه ليس من مقامات الخواص لأن في ذلك سوء الأدب واتهامًا لله تعالى وشكًا في وقوع أرزاقه، وما قدره الله تعالى.
فعلى هذه الأمور تدور شبهاتهم وإليك مناقشة هذه الشبهات الثلاثة:
مناقشة الشبهة الأولى:
وهي قولهم: "إن المشيئة الإلهية إذا اقتضت
…
إلخ"، فالجواب عنها على تسعة أوجه:
الأول: أن الحصر في المقدمتين غلط لوجهين:
1 -
لأنه بقيت مقدمة ثالثة أخرى، وهي أنه إن قضى الله بحصول هذا الشيء المطلوب عند حصول سببه من الدعاء أو التوكل أو غيرهما
(1)
جامع الرسائل: 1/ 94، والفتاوى: 8/ 176.
فإنه يحصل عند وجود هذا السبب فإذا لم يحصل السبب امتنع المسبب
(1)
.
2 -
لو سلمنا جدلًا أن الدعاء لا تأثير له في المطلوب لا نسلم أنه لا فائدة فيه بل فيه فوائد أخر غير حصول المطلوب من تحصيل مصلحة أخرى عاجلة وآجلة ودفع مضرة أخرى عاجلة وآجلة كما نبه على ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "ما من مؤمن ينصب وجهه لله عز وجل يسأله مسألة إلا أعطاه إياها إما عجلها له في الدنيا وإما ادخرها له في الآخرة ما لم يعجل
…
"
(2)
.
ولو لم يكن في الدعاء من الفوائد إلا معرفة الداعي بربه وإقراره به وبأنه سميع قريب قدير عليم رحيم، وإقراره بفقره إليه واضطراره إليه، وما يتبع من العلوم العلية والأحوال الزكية التي هي من أعظم المطالب، لكفى ذلك في فوائد الدعاء فكيف وفيه فوائد أخرى من تحقيق المطلوب ودفع المكروه؟ ومن فوائده التي هي أهم من مطلوب العبد أنه يستدعي حضور القلب مع الله وهو منتهى العبادات والغالب على الخلق أنهم لا تنصرف قلوبهم إلى ذكر الله عز وجل إلا عند إلمام حاجة وإرهاق ملمة فإن الإنسان إذا مسه الشر فذو دعاء عريض، فالحاجة تحوج إلى الدعاء، والدعاء يرد القلب إلى الله عز وجل بالتضرع والاستكانة فيحصل به الذكر الذي هو أشرف العبادات، ومن تلك الفوائد أنه يعطي سكينة في نفسه، وانشراحًا في صدره وصبرًا يسهل معه احتمال ثقل الواردات عليه، وعلى كل حال فلا يعدم فائدة دعائه
(3)
.
(1)
انظر في هذا الجواب: مدارج السالكين: 2/ 119، وزاد المعاد: 3/ 481 و 4/ 16، والجواب الكافي: 15، وشرح الطحاوية: 460، والفتاوى: 8/ 139، وفيض القدير: 2/ 541.
(2)
تقدم تخريجه ص: 228.
(3)
شأن الدعاء: 13، وإحياء علوم الدين: 1/ 390، وشرح الطحاوية: 461، وتفسير الرازي: 14/ 135، والأزهية ص: 35 - 39.
حاصل هذين الوجهين السابقين هو أن هناك خللًا في الحصر في المقدمتين إذ هناك مقدمة ثالثة.
كما أن هناك خللًا في المقدمة الثانية لأنه لا يلزم من عدم تأثير الدعاء في المطلوب عدم فائدته مطلقًا.
الثاني
(1)
: قد أجاب النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الشبهة عندما سئل عنها لما قال: "ما منكم من أحد إلا وقد علم مقعده من الجنة أو النار، قالوا: أو لا ندع العمل ونتكل على الكتاب؟ فقال: لا اعملوا فكل ميسر لما خلق له أما من كان من أهل السعادة فسييسر لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاء فسييسر إلى عمل أهل الشقاء" وهذا الحديث قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح من عدة طرق
(2)
.
فتبين بهذا أن ما سبق به الكتاب سبق بالأسباب التي تفضي إليه، فالسعادة سبقت بأن صاحبها يستعمل فيما يصير به سعيدًا، والشقاوة سبقت بأن صاحبها يستعمل فيما يصير به شقيًا، فالقدر يتضمن الغاية وسببها، لم يتضمن غاية بلا سبب، كما تضمن أن هذا يولد له بأن يتزوج ويطأ المرأة، وهذا ينبت أرضه بأن يزرع ويسقي الزرع، وأمثال ذلك.
ويقوي هذا أيضًا ما روي أنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله أرأيت أدوية نتداوى بها ورقى نسترقيها وتقاة نتقيها هل ترد من قدر الله شيئًا؟ فقال: هي من قدر الله
(3)
.
(1)
انظر الجواب هذا في منهاج السنّة: 5/ 362.
(2)
أخرجه البخاري من حديث علي بن أبي طالب: 11/ 494 رقم 6605، ومسلم: 4/ 2039 رقم 2647، وله شاهد من حديث عمران بن الحصين أخرجه البخاري: 11/ 491 رقم 6596، ومسلم: 4/ 2041 رقم 2649، ومن حديث جابر أخرجه مسلم القدر: 4/ 2040 رقم 2648.
(3)
أخرجه الترمذي: 4/ 399 رقم 3065، وابن ماجه: 2/ 1137 رقم 3437، وأحمد في المسند: 3/ 421 وكلهم من طريق الزهري عن أبي خزامة عن أبيه وقد اختلف فيه كما في الإصابة: 7/ 106 هل هو تابعي أم صحابي والراجح أنه صحابي، وأخرجه الحاكم من طريق الزهري أيضًا فجعله من مسند حكيم بن حزام =
فبيّن صلى الله عليه وسلم أنه يرد قدر الله بقدر الله إما دفعًا لما انعقد سببه ولَّما يقع، وإما رفعًا لما وجد، وأن الأسباب التي تدفع بها المكاره هي من قدر الله ليس القدر مجرد دفع المكروه بلا سبب
(1)
.
ولم يخرج شيء في الوجود عن قدر الله، وإنما يرد القدر بالقدر وهذا كرد قدر الجوع والعطش والحر والبرد بأضدادها، وكرد قدر العدو بالجهاد، والكل من قدر الله: الدافع، والمدفوع، والدفع
(2)
.
الثالث
(3)
: أن العبد لا يدري ماذا قدر الله له، فإنه لا يدري هل الله علق نيل مرغوبه والوصول إلى محبوبه، أو علق دفع المضار عنه، ورفع البلايا والمَصائب، علق هذه الأمور على دعائه والابتهال إليه، أم لا؟.
فما دام لا يعرف ذلك فما عليه إلا الاجتهاد وبذل المستطاع في رجاء رحمة الله واستجلاب الخير واستدفاع الشر بما جعله الله سببًا لذلك.
ومبنى العبادات والطاعات على الخوف والرجاء "دون اليقين الذي يقع معه طمأنينة النفس فيفضي بصاحبه إلى ترك العمل والإخلاد إلى دعة العطلة".
والله سبحانه وتعالى "قد لطف بعباده فعلل طباعهم البشرية بوضع هذه الأسباب ليأنسوا بها فيخفف عنهم ثقل الامتحان الذي تعبدهم به، وليتصرفوا بذلك بين الرجاء والخوف، وليستخرج منهم وظيفتي الشكر والصبر في طوري السراء والضراء والشدة والرخاء، ومن وراء ذلك علم الله تعالى فيهم".
= وذكر الاختلاف فيه على الزهري وصححه ووافقه الذهبي: المستدرك: 1/ 32.
(1)
جامع الرسائل: 1/ 94، ومنهاج السنة: 3/ 232.
(2)
زاد المعاد: 4/ 16، ومدارج السالكين: 1/ 200، والفتح: 11/ 149.
(3)
انظر هذا الوجه في شأن الدعاء للخطابي: 9 - 12، والمنهاج في شعب الإيمان للحليمي: 1/ 540 - 541.
فالحاصل أن العبد لا يدري هل الأمر معلق بالدعاء إن اجتهد وابتهل في الدعاء يعطى، وإن لم يجتهد في الدعاء فلا يعطى؟، لذا عليه الاجتهاد بالدعاء لاحتماله أن مطلوبه معلق على الدعاء.
ويزيد هذا الوجه وضوحًا الوجه التالي:
الرابع: أن الله سبحانه وتعالى أمرنا أن نعمل ونكد ونجتهد ونحرص وأن ندفع قدره بقدره فالعبد مأمور بأن يزيل الشر بالخير ويزيل الكفر بالإيمان والبدعة بالسنة والمعصية بالطاعة من نفسه ومن عنده بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد بحسب الإمكان وإن كان كل ذلك بقدر الله
(1)
، ولهذا قال عمر بن الخطاب لأبي عبيدة رضي الله عنهما عندما هم بالرجوع من الطريق لسماعه بوقوع الطاعون بالشام فقال له أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه: أفرارًا من قدر الله؟ فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو كان لك إبل فهبطت واديًا له عدوتان إحداهما مخصبة والأخرى جَدِبَة أليس إن رعيت الخَصِبَة رعيتها بقدر الله وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله
(2)
؟ فالعبد يدفع قدر الله تعالى بقدر الله تعالى، لأن القدر السابق لا يمنع العمل ولا يوجب الاتكال عليه بل يوجب الجد والاجتهاد، ولهذا لما سمع بعض الصحابة إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بالقدر السابق وجريانه على الخليقة بالأسباب قال:"ما كنت أشد اجتهادًا مني الآن"
(3)
.
وهذا مما يدل على جلالة فقه الصحابة ودقة أفهامهم وصحة
(1)
الفتاوى: 8/ 547 - 548.
(2)
أخرجه مالك في الموطأ: 2/ 894 رقم 22.
(3)
لم أجد هذا الأثر بهذا اللفظ ولكن هناك عدة روايات بمعناه فقد روي عن عمر من حديث أبي هريرة وعن سراقة، وابن عباس. حديث عمر أخرجه ابن أبي عاصم عن أبي هريرة في السنة: 2/ 72 رقم 165 وصححه الألباني وفيه قال - أي عمر - فالآن نجتهد والآجري ص: 170، وابن حبان رقم 1807 وحديث سراقة أخرجه ابن أبي عاصم رقم 167، والطبراني في الأوسط كما في المجمع: 7/ 195، وفيه قال سراقة: الآن نجتهد وقال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح، =
علومهم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرهم بالقدر السابق وجريانه على الخليقة بالأسباب فإن العبد ينال ما قدر له بالسبب الذي أُقْدِر عليه ومُكِّن منه وهيء له فإذا أتى بالسبب أوصله إلى القدر الذي سبق له في أم الكتاب وكلما زاد اجتهادًا في تحصيل السبب كان حصول المقدور أدنى إليه وهذا كما إذا قدر له أن يكون من أعلم أهل زمانه فإنه لا ينال ذلك إلا بالاجتهاد والحرص على التعلم وأسبابه
(1)
.
وقد فَطر الله سبحانه عباده على الحرص على الأسباب التي بها مَرامُ معاشهم ومصالحهم الدنيوية، بل فطر الله سائر الحيوانات على الحرص على المنافع وهداها لمصالحها المعاشية بما يحفظها ويقيمها سواء كان الحيوان ناطقًا أو بهيمة أو طيرًا أو دواب فقد هدى الذكر للأنثى وهداهما إلى التقام الثدي عند الخروج من بطن الأم وتمييز الأم من غيرها وإلى المرعى النافع دون الضار، وهدى بعض الحيوانات إلى ما يعجز عنه البشر كهداية النحل إلى الأفعال العجيبة والبالغة الغاية في الدقة، وكهداية النمل إلى الطرق والحيل التي فيها معاشها مع كونها من أصغر الحيوانات، وهداية الهدهد، والحمام والذئب والثعلب إلى ما هو أعجب من الأعمال والحيل التي يعملها الإنسان، وقد قال تعالى حاكيًا عن موسى:{قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 50].
وقال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} [الأنعام: 38]
(2)
.
= وقال الألباني: إسناده صحيح على شرط مسلم، وأصل الحديث في مسلم: 4/ 2040، وحديث ابن عباس أخرجه البزار كما في كشف الأستار: 4/ 19، والطبراني كما في المجمع: 7/ 195، وقال الهيثمي: ورجال الطبراني ثقات وفيه قال القوم بعضهم لبعض: فالجد إذًا.
(1)
شفاء العليل: 56.
(2)
يراجع شفاء العليل من 144 - 171 فإنه ذكر أمور كثيرة وضرب أمثلة رائعة في الموضوع، وبدائع الفوائد: 2/ 35 - 36.
والمسلم مأمور أن يفعل ما أمر به ويدفع ما نهى الله عنه وإن كانت أسبابه قد قدرت فيدفع قدر الله بقدر الله، فالعبد له مع المقدور حالان: حال قبل وقوع المقدور، فعليه قبل وقوعه أن يستعين بالله ويتوكل عليه ويدعوه ويجتهد في دفعه فإذا قدر المقدور بغير فعله واختياره فعليه أن يصبر عليه أو يرضى به، وإن كان بفعله وهو نعمة حمد الله تعالى على توفيقه وإن كان ذنبًا استغفر الله منه
(1)
.
ويدل لهذا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله، وما شاء الله فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان"
(2)
ففي هذا الحديث الأمر بالحرص على ما ينفع الإنسان والاستعانة بالله على ذلك وعدم العجز وهذا قبل الوقوع ثم الأمر بالصبر.
ثم إن دفع القدر بالقدر نوعان:
أحدهما: دفع القدر الذي انعقدت أسبابه - ولَمَّا يقع - بأسباب أخرى من القدر تقابله فيمتنع وقوعه كدفع العدو بقتاله، ودفع الحر والبرد ونحوه.
الثاني: دفع القدر الذي قد وقع واستقر بقدر آخر يرفعه ويزيله، كدفع قدر المرض بقدر التداوي ودفع قدر الذنب بقدر التوبة، ودفع قدر الإساءة بقدر الإحسان.
فهذا شأن العارفين وشأن الأقدار، لا الاستسلام لها وترك الحركة والحيلة فإنه عجز والله تعالى يلوم على العجز فإذا غُلِبَ العبدُ، وضاقت به
(1)
شأن الدعاء للخطابي: 132، والفتاوى: 8/ 76، ومدارج السالكين: 2/ 223، وزاد المعاد: 2/ 444 - 445، وإغاثة اللهفان: 1/ 24، ومنهاج السنة: 3/ 26، 78، 232، وطريق الهجرتين ص: 38، والتدمرية ص:62.
(2)
رواه مسلم: 4/ 2052 رقم 2664.
الحيل، ولم يبق له مجال فهنالك الاستسلام للقدر، والانطراح كالميت بين يدي الغاسل يقلبه كيف يشاء
(1)
.
الخامس: إن هذه الشبهة كما قال ابن الجوزي: "رد لجميع الشرائع وإبطال لجميع أحكام الكتب وتبكيت للأنبياء كلهم فيما جاؤوا به لأنه إذا قال في القرآن: {وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} قال القائل: لماذا إن كنت سعيدًا فمصيري إلى السعادة وإن كنت شقيًا فمصيري إلى الشقاوة فما تنفعني إقامة الصلاة؟ وما يفضي إلى رد الكتب وتجهيل الرسل محال باطل"
(2)
.
السادس: إن هذه الشبهة مخالفة للكتاب والسنة وإجماع السلف وأئمة الدين ومخالفة لصريح المعقول، ومخالفة للحس والمشاهدة
(3)
. وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان دلالة هذه الأمور على تأثير الدعاء وفي هذا القول رد لتلك الدلالة، وبهذا يتضح مخالفة هذه الشبهة لهذه الأدلة المذكورة كما أن في هذا القول ردًا للأسباب وقد دلت الأدلة المذكورة على مشروعيته فمن لم يأخذ بالأسباب فقد خالف تلك الأدلة من الكتاب والسنة والإجماع والعقل والحس.
السابع: إن هذه الشبهة فيها إبطال للحكم الربانية والعلل الإلهية حيث رتب الله سبحانه وتعالى المسببات على الأسباب والمعلولات على العلل وربط بعضها ببعض على نظام دقيق يكفل ببقاء الكون ونظامه فمن أنكر هذا فقد خالف الحكمة في وضع الدنيا فإن الله تعالى وضع الأشياء على حكمة فوضع للآدمي يدًا يدافع بها ولسانًا ينطق به، وعقلًا يهديه إلى دفع المضار واجتلاب المصالح، وجعل الأغذية والأدوية لمصلحة الآدميين فمن أعرض عن استعمال ما خلق له وأرشد إليه فقد رفض أمر
(1)
مدارج السالكين: 1/ 200، ومنهاج السنة النبوية: 3/ 232، وطريق الهجرتين، ص:38.
(2)
تلبيس إبليس: 365.
(3)
منهاج السنة النبوية: 5/ 362، وانظر شفاء العليل:396.
الشرع وعطل حكمة الصانع"
(1)
.
الثامن: إن هذه الشبهة فيها إلغاء للأسباب، وهو نقص في العقل، قالت طائفة من العلماء
(2)
: "الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسبابًا نقص في العقل، والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع وإنما التوكل والرجاء معنى يتألف من موجب التوحيد والعقل والشرع"
(3)
.
وإنما كان الالتفات إلى الأسباب شركًا، لأن معنى الالتفات إلى السبب هو اعتماد القلب عليه ورجاؤه والاستناد إليه، وليس في المخلوقات ما يستحق هذا لأنه لا يوجد سبب مستقل بمطلوب، بل لا بد من انضمام أسباب أخر إليه، وما ثَمَّ علة تامة إلا مشيئة الله، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ولا بد أيضًا من صرف الموانع والمعارضات عنه حتى يحصل المقصود، فكل سبب فله شريك وله ضد، فإن لم يعاونه شريكه ولم يصرف عنه ضده لم يحصل مسببه فالمطر وحده لا ينبت النبات إلا بما ينضم إليه من الهواء والتراب وغير ذلك، ثم الزرع لا يتم حتى تصرف عنه الآفات المفسدة له، والطعام والشراب لا يغذي إلا بما جعل في البدن من الأعضاء والقوى، ومجموع ذلك لا يفيده إن لم تصرف المفسدات، فلا يتم المطلوب إلا بوجود المقتضي وعدم المانع، وكل سبب معين فإنما هو جزء من المقتضي فليس في الوجود شيء واحد هو المقتضي بنفسه.
وأما أن يكون في المخلوقات علة تامة تستلزم معلولها وسبب تام يستلزم مسببه فهذا باطل
(4)
.
(1)
تلبيس إبليس: 304 - 305.
(2)
نسبه في منهاج السنة: 5/ 366 إلى الغزالي وابن الجوزي.
(3)
الفتاوى: 8/ 169، 170، ومنهاج السنة: 5/ 366، والآداب الشرعية: 2/ 286.
(4)
الفتاوى: 8/ 167، 169، 133، وبيان تلبيس الجهمية: 2/ 457.
هذا ومما ينبغي أن يعلم أنه بعد انتفاء المانع ووجود المقتضي فلا بد من تسخير مسبب الأسباب وخالق الأسباب كلها سواء كانت حركة حي باختياره وقصده، كما يحدثه تعالى بحركة الملائكة والجن والإنس والبهائم، أو حركة جماد بما يجعل الله فيه من الطبع أو بقاسر يقسره كحركة الرياح والمياه فالله خالق ذلك كله فإنه لا حول ولا قوة إلا به وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن فالرجاء يجب أن يكون كله للرب والتوكل عليه والدعاء له فإنه إن شاء ذلك ويسره كان وتيسر ولو لم يشأ الناس، وإن لم يشأه ولم ييسره لم يكن وإن شاءه الناس
(1)
.
وإنما كان محو الأسباب أن تكون أسبابًا نقصًا في العقل، كما أنه قدح في الشرع لأن في ذلك مخالفة لما تشهد له العقول والفطر السليمة كما أن فيه مخالفة لما شرعه الله تعالى من طلب الأسباب، فمن رفض الأسباب صار مخالفًا لما يقتضيه العقل والشرع فهو نقص في العقل، كما أنه قدح في الشرع لأن الشارع جعل أفعال العباد سببًا لما نيط بها فهي سبب في وجود ما علق عليها والعقل السليم لا ينكر ذلك لأنه أمر مشاهد محسوس وإنما ينكر ذلك العقل الذي أصابه خلل من مرض الجهل والشبهات، إذ العقل السليم يعرف أن ما أمر الله به من العبادات والدعوات والعلوم والأعمال من أعظم الأسباب فيما نيط بها من العبادات، وكذلك ما نهى عنه من الكفر والفسوق والعصيان هي من أعظم الأسباب لما علق بها من شقاوات، وكذلك الدعاء والتوكل من أعظم الأسباب لما جعله الله سببًا له فمن قال: ما قدر لي فهو يحصل لي دعوت أو لم أدع، وتوكلت أو لم أتوكل فهو بمنزلة من يقول: ما قسم لي من السعادة والشقاوة فهو يحصل لي آمنت أو لم أؤمن وأطعت أم عصيت، ومعلوم أن هذا ضلال وكفر وإن كان الأول ليس في مثل هذا الضلال
(2)
.
(1)
الفتاوى: 8/ 166.
(2)
الفتاوى: 8/ 175 - 177، ويراجع زاد المعاد: 2/ 363، وشفاء العليل:396.
فتبين بهذا التقرير أن نفي الأسباب نقص واضح في العقل، وقدح في الشرع.
وقد ذكر ابن الجوزي رحمه الله أن الإعراض عن الأسباب إنما كان قدحًا في الشرع لأنه ترك لما أمر الله به ولأنه طلب لتعاطي رتبة تَرْقَى على رتبة الأنبياء لأن موسى عليه السلام لما قيل له: {إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} [القصص: 20] خرج ولما جاع واحتاج إلى عفة نفسه أجر نفسه ثمان سنين
…
(1)
.
ومما يدل على أن إنكار الأسباب قدح في الشرع ما ثبت من إنكار الله تعالى في كتابه العزيز على من ظن أن وجود الأسباب كعدمها، وأنه لا فرق بين ما أمر الله به وأحبه ورضيه وبين ما نهى عنه وأبغضه، فقال تعالى:{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية: 21].
وقال تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم: 35، 36].
وقال تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص: 28].
وقال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9].
وقال تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر: 19 - 22].
(1)
تلبيس إبليس: 285.
وقال تعالى: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر: 20].
فقد أنكر الله تعالى في هذه الآيات على من ظن أن وجود الأسباب كعدمها
(1)
، فثبت بهذا كون إنكار الأسباب قدحًا فيما جاءت به الشريعة.
التاسع
(2)
: إن هذا القول يلزم القائل به أمور في غاية الشناعة:
أحدها: أن لا يعمل الأسباب التي توصله إلى منافعه الدنيوية فيلزمه أن يترك الأكل والشرب ويقول: إن قضى لي الشبع والري فلا بد أن يصل إليَّ سواء أكلت وشربت أو تركت، وعليه أن لا يلبس إذا برد ولا يتزوج وأن لا يأتي أهله إذا أراد الولد وأن لا يتداوى إذا مرض، وأن يلقى الكفار بدون سلاح، وإذا أراد الحج أن لا يسافر ولا يتحرك بل يجلس في بيته، وإذا أراد أن يتحصل على الزرع فعليه أن لا يحرث ولا يزرع.
فهذه الأمور الشنيعة قد التزم ببعضها بعض أهل الضلال من هؤلاء، فقد قال العز بن عبد السلام رحمه الله: ولقد قال بعض مشايخ الضلال منهم: "لا يجوز التداوي لأنه شرك واعتماد على الأسباب فكان جوابه: أن لا يأكل ولا يشرب ولا يلبس ولا يركب ولا يدفع عن نفسه من أراد قتله ولا عن أهله من قصدهم بالزنا والفواحش فبهت الذي فجر والله لا يهديه وأمثاله إلى الحق والصواب"
(3)
.
ثانيها
(4)
: أن لا يطالب بشيء إذا أفسدوا عليه أمواله أو قتلوا أولاده، أو ضربوه أو سبوه أو اعتدوا على عرضه وحرمته وعليه أن لا ينتصر من الظالم ولا يغضب عليه ولا يذمه، ولا يلتزم بهذا من له أدنى
(1)
الفتاوى: 10/ 28، وجواب أهل العلم والإيمان:173.
(2)
انظر هذا الوجه في فتاوى العز بن عبد السلام: 99، وزاد المعاد: 4/ 15 - 16، و 3/ 481، وتفسير الرازي: 14/ 135، وتلبيس إبليس:287.
(3)
فتاوى العز بن عبد السلام: 99.
(4)
انظر هذا الوجه في منهاج السنة: 3/ 23، 55، 56، 57، وزاد المعاد: 4/ 16، والتدمرية ص:61.
مسكة من عقل بل فطر الله الحيوان على حب الانتقام والجزاء عند الاعتداء عليه، فهذا أمر ممتنع في الفطرة لا يمكن أحدًا أن يفعله فهو ممتنع طبعًا محرم شرعًا، ففي هذا مخالفة لسنة الله الكونية والشرعية.
ثالثها
(1)
: أن لا يقول بمعاقبة الكفار ولا بجهادهم وقتالهم ولا بإقامة الحدود ولا يلوم إبليس ولا فرعون وقوم نوح وعاد وثمود وغيرهم ولا ينكر أي منكر وقع في الأرض ولا أي فساد في المجتمع.
رابعها: أن يقول: لا حاجة بنا إلى الطاعة والإيمان لأن ما قضاه الله من الثواب والعقاب لا بد وما يدري هذا القائل الأخرق الأحمق أن الله قد رتب مصالح الدنيا والآخرة على الأسباب بناء على ما سبق به القضاء لا بغيره
(2)
. ومع وضوح شناعة هذا اللازم قد التزم به بعضهم حتى قال: "لا حاجة إلى الأعمال المأمور بها فإن من خلق للجنة فهو يدخلها وإن لم يؤمن ومن خلق للنار فهو يدخلها وإن آمن"
(3)
.
والحاصل أن الاحتجاج بالقضاء والقدر ليس حجة مقبولة فإن القدر يؤمن به ولا يحتج به، فإن المحتج به فاسد العقل والدين ولا بد أن يتناقض ولا يستطيع أحد أن يلتزم بما يترتب عليه من المفاسد الشنيعة فلهذا كان الاحتجاج بالقدر باطلًا بطلانًا ضروريًا مستقرًا في جميع الفطر والعقول، وهذا أمر جبل الله عليه الناس كلهم مسلمهم وكافرهم لا يحتجون به، ولكون الاحتجاج به باطلًا في فِطَر الخلق وعقولهم لم تذهب إليه أمة من الأمم ولا يمكن اثنان أن يتعاشرا ساعة واحدة إن لم يكن أحدهما ملتزمًا مع الآخر نوعًا من الشرع
(4)
.
(1)
انظر هذا الوجه في الفتاوى: 2/ 323، ومنهاج السنّة: 3/ 81.
(2)
العز بن عبد السلام، فتاويه: 99، وانظر هذا الإلزام في تفسير الرازي أيضًا: 14/ 135.
(3)
جامع الرسائل: 1/ 92.
(4)
منهاج السنة: 3/ 65، 66، 84، 150، 230 - 231، والفتاوى: 2/ 323، والتدمرية ص:61.
هذا وقد تبين مما سبق بطلان هذه الشبهة وفسادها وما تؤدي إليه من لوازم في غاية الشناعة، وهذا عاقبة من يترك منهج الكتاب والسنة وآثار السلف ويتبع زبالة الأفكار، ونسأل الله تعالى أن يرزقنا الإخلاص والاتباع إنه المستعان وولي ذلك والقادر عليه.
مناقشة الشبهة الثانية وهي: استدلالهم بعلم الله تعالى على عدم طلب الدعاء:
قد أكثر الصوفية من الاستدلال والاحتجاج بعلم الله تعالى على عدم الحاجة إلى الدعاء حتى عد بعضهم هذا الأمر أصلًا من أصول طريقتهم، فقد روى الطوسي
(1)
الصوفي عند ذكر أصول طريقتهم عن بعضهم أنه قال: "أصلنا السكوت، والاكتفاء بعلم الله عز وجل"
(2)
.
وهذا يدل على مدى اعتمادهم في عدم الحاجة إلى الدعاء على العلم، وقد تقدم نقل بعض كلامهم، كما يؤكد هذا ما ذكرناه من تعلقهم بما روي عن إبراهيم الخليل عليه السلام:"حسبي من سؤالي علمه بحالي".
وأصل شبهتهم ظنهم أن مجرد علم الله بالشيء يكفي في وجوده ولا يحتاج إلى ما به يكون من الفاعل الذي يفعله وسائر الأسباب.
وهذا الظن باطل من أساسه وغير صحيح، وهو جهل بحقيقة علم الله تعالى وما يقتضيه فإن علم الله بالشيء لا يقتضي عدم طلبه من الله تعالى، قال ابن الجوزي:"هذا سد لباب السؤال والدعاء، وهو جهل بالعلم"
(3)
.
(1)
هو عبد الله بن علي أبو نصر السراج الزاهد شيخ الصوفية وصاحب كتاب اللمع، ت 378 هـ، العبر: 2/ 151.
(2)
اللمع ص: 289، ذكره عن أبي عثمان الصوفي.
(3)
تلبيس إبليس: 337.
وإنما صار هذا الظن جهلًا بالعلم لوجهين ذكرهما شيخ الإسلام:
أحدهما: أن العلم يطابق المعلوم، ويتعلق به على ما هو عليه، وهو سبحانه قد علم أن المكونات تكون بما يخلقه من الأسباب لأن ذلك هو الواقع فمن قال: إنه يعلم شيئًا بدون الأسباب فقد قال على الله الباطل، وهو بمنزلة من قال: إن الله يعلم أن هذا الولد ولد بلا أبوين وأن هذا النبات نبت بلا ماء.
ثانيهما: أن العلم ليس موجبًا بنفسه لوجود المعلوم باتفاق العلماء، بل هو مطابق له على ما هو عليه لا يكسبه صفة ولا يكتسب منه صفة، بمنزلة علمنا بالأمور التي قبلنا، كالموجودات التي كانت قبل وجودنا مثل علمنا بالله وأسمائه وصفاته فإن هذا العلم ليس مؤثرًا في وجود المعلوم باتفاق العلماء، وإن كان من علومنا ما يكون له تأثير في وجود المعلوم كعلمنا بما يدعونا إلى الفعل، ويعرفنا صفته وقدره فإن الأفعال الاختيارية لا تصدر إلا ممن له شعور وعلم، إذ الإرادة مشروطة بوجود العلم
(1)
.
والحاصل أن علم الله بما سيكون لا يكون هو المؤثر في وجوده بدون الأسباب التي علمها الله وجوده بها فإن ذلك يخالف الواقع الذي علمه الله تعالى لأنه يعلم الأشياء على ما هي عليه فإذا كانت تقع بسبب، علمها تقع بسبب لا بدون سبب، فإذا حصل الدعاء من العبد علمنا أن المعلوم لله تعالى والذي قدره الله تعالى هو الدعاء، وإذا لم يحصل الدعاء من العبد علمنا أن المعلوم لله تعالى والذي قدره الله تعالى هو عدم الدعاء
(2)
.
وأما مناقشة استدلالهم بما روي عن إبراهيم الخليل عليه وعلى نبينا السلام فتتلخص في ناحيتين:
(1)
الفتاوى: 8/ 280، وجامع الرسائل: 1/ 172.
(2)
الفتاوى: 8/ 195 - 196.
أ - ناحية الإسناد:
قد ذكره البغوي في تفسيره بصيغة تشعر بالضعف حيث قال: "وروي عن أبي بن كعب" فذكره
(1)
بدون إسناد ولم نطلع له على إسناد لا ضعيف ولا قوي ومن هنا قال ابن تيمية رحمه الله:
"ليس له إسناد معروف وهو باطل"
(2)
.
ونقل صاحب تنزيه الشريعة عن ابن تيمية أنه قال: "موضوع" وأقره
(3)
، وقال الألباني:"لا أصل له"
(4)
ب - من جهة المعنى:
1 -
إن الذي ثبت في الصحيح
(5)
عن ابن عباس أنه قال: "حسبي الله ونعم الوكيل" قال ابن عباس قالها إبراهيم حين ألقي في النار، وقالها محمد حين:{قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} [آل عمران: 173].
وهذا لا يقتضي امتناعه عن سؤال الله تعالى كما هو ظاهر.
2 -
يناقضه ما ذكره الله تعالى عنه في كتابه من دعواته وابتهالاته ولجوئه إلى الله تعالى في الشدائد مثل ما حكى عنه من دعائه عند فراق زوجه وولده الوحيد {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ
…
} الآيات [إبراهيم: 37 - 41]، ومن الأدلة على وضع الحديث مخالفته للقطعي من الكتاب والسنة أو المعقول الصريح، قال ابن الجوزي: "ما أحسن قول القائل: إذا رأيت الحديث يباين المعقول أو يخالف المنقول،
(1)
معالم التنزيل: 3/ 250.
(2)
قاعدة في التوسل ص: 35.
(3)
تنزيه الشريعة: 1/ 250.
(4)
السلسلة الضعيفة: 1/ 28 رقم 21.
(5)
أخرجه البخاري: 8/ 229 رقم 4563.
أو يناقض الأصول، فاعلم أنه موضوع"
(1)
.
3 -
يناقضه أيضًا ما روي عنه أنه قال: "اللهم إنك واحد في السماء، وأنا في الأرض واحد أعبدك"
(2)
وهذا تعرض للسؤال وإخبار عن حاله، وهو أبلغ السؤال كما تقدم.
4 -
ثم كيف يقول الخليل عليه السلام: "حسبي من سؤالي علمه بحالي، والله بكل شيء عليم وقد أمر العباد بأن يعبدوه ويتوكلوا عليه ويسألوه لأنه سبحانه جعل هذه الأمور أسبابًا لما يرتبه عليها من إثابة العابدين وإجابة السائلين وهو سبحانه يعلم الأشياء على ما هي عليه، فعلمه بأن هذا محتاج أو هذا مذنب لا ينافي أن يأمر هذا بالتوبة والاستغفار، ويأمر هذا بالدعاء وغيره من الأسباب التي تقضي بها حاجته، كما يأمر هذا بالعبادة والطاعة التي بها ينال كرامته"
(3)
.
مناقشة الشبهة الثالثة: وهي قولهم أن فيه سوء الأدب واتهام الله تعالى بعدم إعطائه لعبده ما يستحق وإن ترك الدعاء من مقام الخواص:
الجواب: إنه يلزم على هذا القول أن الأنبياء أساؤوا الأدب مع الله تعالى وأنهم اتهموه وقد طلبوا من الله تعالى حوائج الدنيا والآخرة وقد حكى الله لنا ابتهالاتهم ومناجاتهم التي استغاثوا فيها بالله تعالى وطلبوا حوائج الدنيا والآخرة.
(1)
تدريب الراوي: 1/ 277، وفتح المغيث: 1/ 269.
(2)
أخرجه عثمان الدارمي في النقض على المريسي ص: 95، وأبو نعيم في الحلية: 1/ 19، ومن طريقه ابن قدامة في العلو: رقم 42، ونسبه ابن كثير في التفسير: 3/ 184، وابن القيم في تهذيب السنن: 7/ 113 إلى مسند الحسن بن سفيان والهيثمي في الزوائد: 8/ 201، إلى البزار، قال الذهبي في العلو ص 21: حسن الإسناد.
(3)
قاعدة في التوسل: 36.
قال المقبلي اليمني رحمه الله في رد هذا القول: إنه "بدعة خلاف صرائح الكتاب والسنة فإن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم لم يتحاموا طلب الحوائج وأثنى الله عليهم لنقتدي بهم وعلمنا أيضًا في آيات كثيرة طلب الحوائج.
فهذه الدعوى من المتصوفة وإن كان ظاهرها أنها خصلة جميلة فهي دعوى كاذبة لأنه لا أحد أعرف في الوثوق بربه من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم.
وهكذا تكون البدع التي يغتر بها حسنة الظاهر قبيحة المخبر وما يعقلها إلا العالمون"
(1)
.
فتبين بهذا أنه ليس في الدعاء سوء الأدب ولا اتهام الله تعالى بل هو دأب عباد الله الصالحين ومقام خواص عباد الله من النبيين والصديقين والشهداء، لكن إذا دعا الرجل بما فيه حظ النفس يمكن اعتباره من حظ العامة.
قال شيخ الإسلام رحمه الله ما معناه: يمكن أن الدعاء من حظوظ العامة إذا كان الذي دعا به من الأمور المباحة التي فيها حظوظ للنفس، وأما إذا كان يدعو بالاستعانة على طاعات الله وعلى الاستقامة والنصر على أعداء الله والتمكن في الدعوة إلى الله فلا، ففي هذه الحالة فالدعاء إما واجب أو مستحب، وأما إذا دعا الله في حصول المحرمات فهو من الظالمين لأنفسهم
(2)
.
مناقشة تعلق بعضهم بأن الدعاء لا يجوز بما ثبت أنه مضمون الحصول كدعاء آخر البقرة {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا
…
}.
الجواب: إن أحسن الدعاء ما ورد في القرآن والسنة فكيف ينهى
(1)
العلم الشامخ ص: 38 - 40، وذكر نحوه في ص:460.
(2)
الفتاوي: 10/ 36، 18 و 596.
عنه، ثم لو كان الدعاء بتحصيل ما هو مضمون الوقوع ممنوعًا لما ساغ الدعاء بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ولا بالوسيلة له ولا بلعن الشياطين ونحو ذلك مما فيه إظهار العجز والعبودية أو الرغبة بحب النبي صلى الله عليه وسلم أو حب الدين أو النفرة عن فعل الكافرين
(1)
. ثم إنه يمكن حمله على طلب مثله أو الإجابة بإعطاء العوض في الدنيا والآخرة
(2)
.
وسيأتي مزيد مناقشة لهذا القول إن شاء الله تعالى
(3)
.
ج - المذهب الثالث:
إن الدعاء علامة وأمارة ودلالة محضة على حصول المطلوب المسؤول، وجعلوا ارتباطه المطلوب ارتباط الدليل بالمدلول لا ارتباط السبب بالمسبب بمنزلة الخبر الصادق والعلم السابق وبمنزلة رؤية الغيم الأسود البارد في زمن الشتاء وإن ذلك دليل وعلامة على أنه ممطر وقالوا مثل ذلك في حكم الطاعات مع الثواب والكفر والمعاصي مع العقاب، هي أمارات محضة لوقوع الثواب والعقاب لا أنها أسباب لذلك. وهكذا عندهم الكسر مع الانكسار، والحرق مع الإحراق، والإزهاق مع القتل ليس شيء من ذلك سببًا البتة ولا ارتباط بينه وبين ما يترتب عليه إلا مجرد الاقتران العادي لا التأثير السببي
(4)
.
وهذا القول "هو قول من ينفي الأسباب في الخلق والأمر ويقول: إن الله يفعل عندها لا بها، وهو قول طائفة من متكلمي أهل الإثبات للقدر كالأشعري وغيره وهو قول طائفة من الفقهاء والصوفية"
(5)
.
(1)
حاشية ابن عابدين على الدر: 1/ 522.
(2)
أنوار البروق: 4/ 274.
(3)
سيأتي ص: 406.
(4)
جامع الرسائل: 1/ 88، واقتضاء الصراط: 358، والفتاوي: 8/ 192، 531، والجواب الكافي:15.
(5)
جامع الرسائل: 1/ 87.
مناقشة هذا المذهب:
ذكرنا فيما مضى أن إنكار الأسباب مضلة في الفكر ونقصان في العقل وأن الله سبحانه قد أنكر على من سوى بين وجود الأسباب وعدمها بما فيه الكفاية وفي ذلك رد على هذا القول، إلا أن هذا القول لم ينكر في الظاهر وجود الأسباب وإن كان في الحقيقة يؤدي إلى إنكارها ويؤول إلى الجبر لأنه يقول أن الأشياء توجد عند الأسباب لا بها، فالأشياء توجد مقترنة بالأسباب لا بالأسباب.
وهذا هو الرأي المعروف بكسب الأشعري
(1)
.
وقد اختلف الناس في الأسباب من قدرة العبد وغيرها من الأسباب التي خلق الله تعالى بها المخلوقات على أربعة أقوال:
1 -
قول من ينكر الأسباب بالكلية وأنها ليست أسبابًا وأن وجودها كعدمها وليس هناك إلا مجرد اقتران عادي كاقتران الدليل بالمدلول، فهذا هو قول الأشعري ومن تبعه من أهل الكلام.
2 -
قول الطبعيين الذين يجعلونها عللًا مقتضية مؤثرة بنفسها.
3 -
قول المعتزلة الذين يفرقون بين أفعال الحيوان وغيرها.
4 -
القول الرابع قول أهل السنة والجماعة الذين يعترفون بالأسباب وأن الله ربط الأسباب بالمسببات "وأن العبد فاعل لفعله حقيقة، وله قدرة واختيار وقدرته مؤثرة في مقدورها كما تؤثر القوى والطبائع، وغير ذلك من الشروط والأسباب"
(2)
.
فالأقوال الثلاثة الأول باطلة، فأما بطلان قول الطبعيين والمعتزلة
(1)
انظر معنى الكسب عندهم في أصول الدين للبغدادي ص: 133 - 134، ومحصل الرازي ص: 287، والمواقف للأيجي: 311 - 312، ومنهاج السنة: 3/ 209.
(2)
منهاج السنة: 3/ 109، 12، والفتاوى: 8/ 175، 137 - 138.
فواضح وأما بطلان قول الأشعري ومن تبعه فكذلك لأنه مخالف للحس والعقل ولفظ القرآن وهو أحد عجائب الدنيا الغريبة والتي هي غير معقولة لا يصدقها العقل وأنشد في ذلك بعضهم:
مما يقال ولا حقيقة تحته
…
معقولة تدنو إلى الأفهام
الكسب عند الأشعري والحال عند
…
البهشمي وطفرة النظام
(1)
أما كونه مخالفًا للحس والعقل فلأن الحس والعقل يشهدان بأنها أسباب ويعلمان الفروق بين الجبهة وبين العين في اختصاص أحدهما بقوة ليست في الآخر وبين الخبز والحصى في أن أحدهما يحصل به الغذاء دون الآخر
(2)
.
وعند التأمل فقول الأشاعرة بالكسب يؤول إلى الجبر فلا فرق في الحقيقة بين الجبر وبين الكسب المزعوم.
ذكر الألوسي رحمه الله أن الضرورة تكذب قول الجبرية القائلين بأن أفعال العباد كحركة المرتعش وأن القول بأن لهم قدرة غير مؤثرة كاليد المشلولة كما هو الشائع من مذاهب الأشاعرة يؤول إلى قول الجبرية إذ لا فرق بين قدرة لا أثر لها وبين عدم القدرة بالكلية إلا بما هو كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا، وأن القول بأن لهم قدرة مستقلة يفعلون بها ما شاؤوا كما هو قول المعتزلة، ترده النصوص القواطع، وأن صدور الفعل من العباد يستدعي قدرة يكون بها الإيجاد، وأن تفسير ذلك بالكسب لا يرتضيه المنصف العاقل، وأن القول بأن للعباد قُدَرًا مؤثرة بإذن الله وإعانته هو اللبن السائغ الذي يخرج من بين فرث ودم بلا جبر ولا تفويض
(3)
. وهذا الكلام الذي ذكره الألوسي رحمه الله هو الحق الذي لا مرية فيه، وهو الذي يجب قبوله على المنصف، وقد
(1)
منهاج السنة: 1/ 459.
(2)
الفتاوى: 8/ 175.
(3)
روح المعاني: 1/ 87.
اعترف كبار الأشاعرة بأن الكسب اسم بلا حقيقة.
قال الرازي بعد أن أورد إشكالات في معنى الكسب: وعند هذا التحقيق يظهر أن الكسب اسم بلا مسمى"
(1)
.
وأما مخالفته للقرآن فلأن الله تعالى صرح في القرآن بأنه يفعل بهذه الأسباب لا عندها، قال تعالى:
1 -
2 -
وقال تعالى: {وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [البقرة: 164]، وقوله:{وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ} [ق: 9].
3 -
وقال سبحانه {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ} [المائدة: 16].
4 -
وقال جل وعلا: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: 160].
5 -
وقال عز من قائل: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} [البقرة: 26].
وقال تعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} [التوبة: 14].
وقال تعالى: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا} [التوبة: 52].
وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه أبو هريرة: "إن هذه القبور مملوءة على أهلها ظلمة وإن الله جاعل بصلاتي عليهم نورًا"
(2)
.
(1)
محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين ص: 288.
(2)
أخرجه البخاري: 3/ 404 - 405 رقم 1337، ومسلم: 2/ 659، وأبو داود: 3/ 541 رقم 3203، وابن ماجه: 1/ 489 رقم 1527، وأحمد في المسند: 2/ 388.
فمن قال يفعل عندها لا بها فقد خالف لفظ القرآن والسنة
(1)
.
وقد عرفت بهذا أن مذهب أهل السنة والجماعة هو الحق لموافقته للكتاب والسنة والعقل والحس.
ثم إن معنى إثبات أهل السنة والجماعة للأسباب ليس معناه أنها هي المؤثرة بنفسها وأنها علل مقتضية لا يتخلف عنها معلولها كما هو مذهب الطبعيين بل هم يقولون: إن الله جعلها أسبابًا لمسبباتها، وإنه لا بد من صرف الله عنها الموانع ثم إنه لا بد من تسخير الله تعالى لتلك الأسباب وإبقاء مفعوليتها.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: "وليس من الأسباب ما هو مستقل بوجود المسبب لكن له شريك فيه وله ضد، فإن لم يعاونه شريكه ولم يصرف عنه ضده، لم يحصل مسببه، ومن هنا لا يوجد ما هو علة تامة تستلزم معلولها إلا مشيئة الله تعالى فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن"
(2)
.
وهذا الكلام من شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في حقيقة الأسباب وأنه ليس في المخلوقات علة تامة تستلزم معلولها ولا سبب تام يستلزم مسببه يرد على ما زعمه البوطي وشنع به على شيخ الإسلام من أنه بإثباته القوة التي وضعها الله في الأشياء جنح إلى رأي الفلاسفة وقلدهم وخالف أهل السنة والجماعة
(3)
- أي الأشاعرة - وأنه تناقض.
وحاصل شبهاته تدور على الآتي:
(1)
انظر في هذا الفتاوى: 8/ 175، 137، 138، ومنهاج السنة: 5/ 363 - 366، و 3/ 113 - 114.
(2)
بيان تلبيس الجهمية: 2/ 457، وانظر أيضًا الفتاوى: 8/ 167، ومنهاج السنة: 3/ 115، وجامع الرسائل: 2/ 210، والتدمرية ص:57.
(3)
السلفية مرحلة: 173 - 174.
1 -
أن إثبات الأسباب يتنافى مع صفات الربوبية والألوهية
(1)
.
2 -
أننا لم نصل إلى الآن إلى الكشف عن تلك القوة المودعة، كما أن الله لم يخبرنا عنها
(2)
. فإذا هي خيالات وأوهام، وسمى هذه الشبهة منطق العلم
(3)
.
3 -
يؤول ما ورد من حروف السببية والتعليل في كتاب الله تعالى لئلا يتعارض مع النصوص الأخرى
(4)
.
مناقشة هذه الشبهة:
أقول وبالله التوفيق: إن هذه المسألة مبنية على مسألة قدرة العبد وهي المعروفة بكسب الأشعري التي هي إحدى محالات علم الكلام.
فلهذا لا نطيل الكلام عليها وإنما نشير إلى ما يتعلق بالموضوع:
1 -
إن ما زعمه من التنافي مع صفات الربوبية والألوهية غير وارد أصلًا وذلك لأنه إنما يرد لو أثبتنا أسبابًا وعللًا مستقلة وقد علمت أن الشيخ رحمه الله يقول ما نصه: "وأما أن يكون في المخلوقات علة تامة تستلزم معلولها وسبب تام يستلزم مسببه فهذا باطل"
(5)
.
ويقول أيضًا: "إنه ليس في الوجود سبب يستقل بحكم، بل كل سبب فهو مفتقر إلى أمور أخرى تضم إليه، وله موانع وعوائق تمنع موجبه وما ثَمَّ سبب مستقل إلا مشيئة الله وحده، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن"
(6)
ويقول أيضًا: "وهو - أي الله - وإن كان قد خلق ما خلقه بأسباب
(1)
السلفية مرحلة: 176، 184، الأولى أن يقتصر على صفات الربوبية راجع ما تقدم ص:253.
(2)
المصدر نفسه: 182.
(3)
المصدر نفسه: 184.
(4)
المصدر نفسه: 177.
(5)
الفتاوى: 8/ 167.
(6)
منهاج السنة النبوية: 5/ 367، ونحوه في: 3/ 115، ونحوه في: 3/ 12، ونحوه في الفتاوى: 1/ 137، وقاعدة التوسل: 121 - 122، وضمن الفتاوى: 1/ 308.
345
فهو خالق السبب والمقدر له وهو مفتقر إليه كافتقار هذا وليس في المخلوقات سبب مستقل بفعل خير ولا دفع ضر"
(1)
.
كما أنه يبين أن تأثير الأسباب مشروط بشرطين وهما:
1 -
وجود المقتضي. 2 - عدم الموانع.
ثم مع هذين الشرطين يشترط شرطًا آخر وهو الأهم وهو أنه لا بد من تسخير مسبب الأسباب وإبقائه لها وتيسيره ذلك، وبهذا تبين أنه لا منافاة بين الأسباب وصفات الربوبية.
وقد مثل البوطي بصفة القيومية وزعم أننا لو قلنا بالسببية الحقيقية للزم "أن الأشياء بعد أن أودعت فيها قواها المزعومة أصبحت تؤدي مهماتها استقلالًا ودونما حاجة إلى عون مستمر فتصبح كجهاز العقل الآلي المعروف اليوم"
(2)
.
وقد عرفت أن هذا إنما يلزم لو قلنا: إنها سبب تام مستقل إلخ، ولم يدع ذلك أحد ممن هو يرد عليه.
2 -
إن ما ادعاه أن من حروف السببية والتعليل في كتاب الله تعالى مؤولة لأن هناك نصوصًا صريحة محذرة من أن تفهم معاني هذه الحروف على حقيقتها في حق الله تعالى
(3)
.. هذا الكلام فيه وجوه:
1 -
أنه ظن أن الآيات التي تدل على السببية والتعليل - وهي أكثر من ألف موضع في القرآن كما قاله ابن القيم
(4)
- تتعارض وتتنافى مع الآيات التي تدل على تفرد الله بالخلق والإيجاد وهي أيضًا كثيرة.
(1)
العبودية ص: 117 - 118.
(2)
السلفية: 177.
(3)
السلفية مرحلة: 177.
(4)
الجواب الكافي ص: 16، وذكر في شفاء العليل ص: 397 أن ما يفيد إثبات الأسباب من القرآن والسنة لو تتبع لزاد على عشرة آلاف موضع وأن ذلك حقيقة وليس مبالغة.
وهذا الظن باطل لا أساس له لأننا كما تقدم لا نرى سببًا تامًا ولا علة تامة وإنما هي أسباب جعلها الله تعالى، إن شاء أبقى سببيتها وإن شاء سلبها السببية وأبطل مفعولها، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
2 -
أن البوطي نفسه ذكر في أول كتابه الذي زعم فيه هذا الكلام السابق اتفاق علماء اللغة على أن الحقيقة لا يعدل عنها إلا لضرورة في الكلام، ولا ضرورة هنا تلجئ إلى تأويل أكثر من ألف موضع في القرآن الكريم.
3 -
ثم إنه استدل بما وقع لمريم في قوله تعالى: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا} وأن هذا التساقط ليس من قوة الهز وإنما هو من الله تعالى.
الجواب: أننا لم نزعم أن الأسباب لازمة ولا يَحْرِقُها الله تعالى وقد علم أن العلماء سموا مثل هذا خوارق العادة فالله سبحانه يخرق الأسباب والعادات إن شاء وإن شاء أبقاها على عادتها.
4 -
وأما ما زعم من أن القوة لو كانت موجودة لرأيناها أو لاخبرنا الله بها
…
إلخ.
فمن المعلوم عقلًا عدم الملازمة بين وجود الشيء وبين رؤيته كما في الروح والنفس والحرارة والبرودة، وأما إخبار الله تعالى بذلك فقد حصل ففي أكثر من ألف موضع ذكر ما يفيد ذلك.
5 -
وأما ما زعمه من تناقض ابن تيمية
(1)
فذلك إنما حصل للبوطي هذا الظن من عدم استيعابه لكلام الشيخ أو من سوء الظن أو غير ذلك، وأما لو أطراف كلامه وتتبعه في مظانه لعلم يقينًا أنه ليس هناك تناقض وقد نقلت فيما مضى ما يفيد ذلك ولله الحمد.
(1)
السلفية مرحلة: 184.
المذهب الرابع
(1)
: أن الدعاء يرد القضاء ويغيره من قضاء إلى قضاء:
وقد استدل هؤلاء بأدلة كثيرة أقواها الأحاديث المصرحة برد الدعاء للقضاء، ثم أحاديث الاستعاذة من سوء القضاء، فمن الأحاديث التي تدل على رد الدعاء للقضاء:
1 -
حديث سلمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يرد القضاء إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلّا البر"
(2)
.
2 -
وحديث ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يزيد في العمر إلّا البر، ولا يرد القدر إلَّا الدعاء، وإنَّ الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه"
(3)
.
(1)
انظر عن هذا المذهب: شأن الدعاء للخطابي ص: 7، وقطر الولي للشوكاني: 479 - 498، وقد نصر فيه هذا المذهب وقواه كما فعل ذلك في رسالتين مستقلتين:
إحداهما: في أن إجابة الدعاء لا ينافي القضاء طبعت ضمن مجموع للشوكاني باسم أمناء الشريعة، من ص 130 - 135.
وثانيتهما: سماها باسم تنبيه الأفاضل على ما ورد في زيادة العمر ونقصه من الدلائل، طبعت مع المجموع المذكور من ص 112 - 128، وقد تعسف الشوكاني رحمه الله في تقوية هذا المذهب في هذه الرسائل وعليه مآخذ كثيرة في رده على الجمهور وكثير من تلك المآخذ يفهم مما ذكرناه فيما سبق.
(2)
أخرجه الترمذي: 4/ 448 رقم 2129، والطبراني في الدعاء: 2/ 299 رقم 30، وفي الكبير: 6/ 308، وحسنه الترمذي وقال الألباني بعد أن أطال الكلام عليه: "والخلاصة: إن الحديث حسن كما قال الترمذي بالشاهد من حديث ثوبان
…
" الصحيحة: 1/ 2/ 78 رقم 154 وحسنه أيضًا في صحيح الجامع: 6/ 230 رقم: 7564.
(3)
أخرجه ابن ماجه: 2/ 1334 رقم 22، وأحمد في المسند: 5/ 277، 280، 282، وابن أبي شيبة في المصنف: 10/ 441 رقم 9916، والطبراني في الدعاء: 2/ 799 رقم 31، والحاكم: 1/ 493، وصححه ووافقه الذهبي واعترض عليهما الألباني بجهالة أحد رواته كما في الصحيحة: 1/ 2/ 78.
3 -
وحديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يغني حذر من قدر، والدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، وإن الدعاء والبلاء ليعتلجان إلى يوم القيامة"
(1)
.
ومن الأحاديث التي تدل على الاستعاذة من شر القضاء:
1 -
ما ورد في حديث القنوت: "وقني شر ما قضيت"
(2)
.
2 -
وما ورد في حديث أبي هريرة قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء"
(3)
.
مناقشة هذه الأدلة:
الجواب عن هذا:
1 -
إن هذه الأحاديث لو فرضنا أنها تكون معارضة لما يدل على
(1)
أخرجه الطبراني في الدعاء: 2/ 800 رقم 22، والحاكم: 1/ 492، والبزار كما في كشف الأستار: 3/ 29 رقم 2165، والحديث صححه الحاكم وقال الذهبي: زكريا - وهو ابن منظور - مجمع على ضعفه وقال الهيثمي: وفيه زكريا بن منظور، وثقه أحمد بن صالح المصري وضعفه الجمهور المجمع: 7/ 209" وقد حسنه الألباني كما في صحيح الجامع: 6/ 241 رقم 7616، وله شاهد من حديث معاذ أخرجه أحمد 5/ 234، والطبراني في الدعاء: 2/ 800 رقم 32، قال الهيثمي: "رواه أحمد والطبراني، وشهر بن حوشب لم يسمع من معاذ، ورواية إسماعيل بن عياش عن أهل الحجاز ضعيفة" المجمع: 10/ 146، وله شاهد آخر من حديث ابن عمر أخرجه الترمذي: 5/ 552 رقم 3548، والحاكم: 1/ 493، وقال الترمذي: غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد الرحمن بن أبي بكر القرشي وهو ضعيف من قبل حفظه، وصححه الحاكم وتعقبه الذهبي بأن عبد الرحمن واه.
(2)
أخرجه أحمد: 1/ 199، 200، وأبو داود: 2/ 133 رقم 1425، والترمذي: 2/ 328 رقم: 464، والنسائي: 3/ 206، وانظر الكلام على طرق هذا الحديث في تلخيص الحبير: 1/ 247 - 250، وإرواء الغليل: 2/ 172، وقد صححه الألباني فيه.
(3)
أخرجه البخاري: 11/ 148 رقم 6347، ومسلم: 4/ 2080 رقم 2707.
عدم تغيير ما سبق به القضاء، لكانت النصوص القطعية الدالة على عدم التغيير أقوى وأرجح، هذا على فرض الترجيح.
2 -
الصحيح أنه ليس هناك تعارض فالجمع ممكن جدًا لأن هذا - كما تقدم - من رد القضاء بالقضاء والكل من قضاء الله وقدره، الرد والراد والمردود.
ولا يخرج شيء من قدر الله تعالى فالله الذي قدر البلاء هو الذي قدر دفعه بالدعاء أو غير ذلك من الأسباب، فالقضاء والقدر شامل للجميع وقد تقدم بيان ذلك بما فيه الكفاية.
3 -
ليس في هذه الأحاديث ما يدل صراحة على أن الدعاء ليس داخلًا في القضاء، ويحمل رد القضاء بالدعاء الوارد في هذه الأحاديث على معنى أن الدعاء قد سبق به القضاء فهو سبب علق عليه المسبب في القضاء السابق أولًا وليس معناه أن الدعاء يأتي بقضاء جديد لم يسبق به القضاء، وذلك لما يلزم - لو ثبت ذلك - من عدم شمول القضاء لكل شيء، وهذا يتنافى مع النصوص الكثيرة الدالة على شمول القضاء.
وبهذا تبين أن الدعاء لا يرد القضاء بمعنى أنه لا يأتي بقضاء جديد لم يسبق.
المذهب الخامس: التفريق بين الأمور:
قال أصحاب هذا المذهب: "إن الدعاء يكون مشروعًا نافعًا في بعض الأشياء دون بعض"
(1)
.
وقالوا بعدم مشروعية الدعاء بطول العمر أو البقاء، وعللوا ذلك بأنه أمر قد فرغ منه، واستدلوا بما رواه مسلم عن عبد الله بن مسعود قال: قالت أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم أمتعني بزوجي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبأبي
(1)
شرح الطحاوية ص: 91.
أبي سفيان وبأخي معاوية"، قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "قد سألت الله لآجالٍ مضروبةٍ، وأيام معدودةٍ، وأرزاقٍ مقسومةٍ، لن يعجل شيئًا قبل حله أو يؤخر شيئًا حله، ولو كنت سألت الله أن يعيذك من عذاب في النار، أو عذاب في القبر، كان خيرًا وأفضل"
(1)
.
واستدل لهم أيضًا بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقبل طلب الأنصار بالدعاء لهم برفع الحمى، فقال لهم:"أو تصبرون؟ "
(2)
.
وقد روى هذا المذهب عن الإمام أحمد رحمه الله فقد روي عنه أنه كان يكره أن يدعى له بطول العمر، ويقول: هذا أمر فرغ منه، وقال غيره:"إن الدعاء بطول البقاء محدث"
(3)
.
وقد ورد عن أحمد الدعاء للمتوكل بطول البقاء
(4)
فهذا فيه نوع تناف مع ما روي عنه من كراهية الدعاء له بطول العمر وتعليله ذلك بأنه مفروغ منه.
وأيد هذا المذهب شارح الطحاوية
(5)
وذهب إلى أن الدعاء لا تأثير له في زيادة العمر بخلاف صلة الرحم ويمكن أن يعد من هذا المذهب ما ذهب إليه القرافي من عدم الدعاء بالأمر المقطوع فيه كرفع الخطأ والنسيان. وسيأتي
(6)
مناقشة القرافي في هذا إن شاء الله تعالى.
(1)
أخرجه مسلم: 4/ 2051 رقم 2663، وأحمد في المسند: 1/ 390، 413، 433، 445.
(2)
سيأتي تخريجه ص: 384.
(3)
غذاء الألباب: 1/ 296، وشرح الطحاوية:91.
(4)
أخرجه عنه ابنه في كتاب السنة: 1/ 140 رقم 108، وذكره الذهبي في السير: 11/ 287.
(5)
انظر شرح الطحاوية: 90.
(6)
سيأتي ص: 406.
مناقشة من يفرق في الدعاء بين الأشياء:
1 -
إن التفريق لا دليل عليه إذ الحجة بأنه أمر قد فرغ منه، فهذه الحجة موجودة في كل الأشياء فالكل مقدر قد فرغ منه
(1)
.
2 -
قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم دعاؤه لبعض أصحابه بطول العمر، من ذلك دعاؤه صلى الله عليه وسلم لأنس بطول العمر بقوله صلى الله عليه وسلم:"اللهم أكثر ماله وولده وأطل عمره واغفر ذنبه"
(2)
.
وقد بوب البخاري في كتاب الدعوات فقال: باب دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لخادمه بطول العمر وبكثرة ماله، فأورد دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لأنس
(3)
.
والظاهر أن البخاري يشير بهذا التبويب إلى الرد على من قال بعدم الدعاء بطول العمر والله أعلم.
وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم أيضًا لأبي اليَسَر كعب بن عمرو بطول العمر فقال: "اللهم أمتعنا به" وكان يحدث بهذا الحديث ويبكي ثم يقول: أمتعوا بي لعمري كنت آخرهم
(4)
. وروي أيضًا أنه صلى الله عليه وسلم دعا بطول العمر لأم قيس ابنة محصن أخت عكاشة، قال الراوي:"ولا نعلم امرأة عمرت ما عمرت"
(5)
.
(1)
غذاء الألباب: 1/ 297.
(2)
أخرجه ابن سعد: 7/ 19، وإسناده صحيح كما قاله الحافظ في الفتح: 4/ 229، وأخرجه البخاري في الأدب المفرد رقم 653.
(3)
البخاري مع الفتح: 11/ 144، وليس في حديث أنس الذي ساقه البخاري التصريح بالدعاء بطول العمر، ولكن البخاري يشير بذلك إلى ما ورد في بعض طرقه من الدعاء له بطول العمر كما قاله الحافظ في الفتح: 11/ 144 - 145.
(4)
أخرجه ابن إسحاق في السيرة كما في سيرة ابن هشام: 3/ 335، ومن طريقه الإمام أحمد في المسند: 3/ 427 - 428، وفي إسناده راو مبهم، وانظر كونه آخر أهل بدر وفاة (ت 55 هـ): في الكنى للدولابي: 1/ 62، والإصابة: 7/ 468، والتهذيب: 8/ 438، والبداية: 8/ 81.
(5)
أخرجه البخاري في الأدب المفرد: 2/ 107 رقم 652، وأحمد في المسند: 6/ 355، والنسائي في السنن: 4/ 24 رقم الباب 29، وفي إسناده أبو الحسن مولى =
3 -
قد ثبت عن بعض الصحابة الدعاء بطول العمر، فقد دعا سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه بطول العمر على الرجل الذي قال:"إن سعدًا كان لا يسير بالسرية، ولا يقسم بالسوية، ولا يعدل في القضية، قال سعد: أما والله لأدعون بثلاث: اللهم إن كان عبدك هذا كاذبًا قام رياء وسمعة فأطل عمره، وأطل فقره، وعرضه بالفتن، وكان بعد إذا سئل يقول: شيخ كبير مفتون أصابتني دعوة سعد. قال الراوي: فأنا رأيته بعد قد سقط حاجباه على عينيه من الكبر، وإنه ليتعرض للجواري في الطرق يغمزهن"
(1)
.
فتبين مما تقدم ثبوت الدعاء بطول العمر وأنه مشروع لا محذور فيه.
وأما ما استدل به القائلون بالتفريق بين الأشياء في الدعاء من قول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار: أوَ تصبرون؟، فيمكن أن يجاب عنه بأنه "سؤال كشف وتعليم، فأوحى الله إليه أنه لا يكشف عنهم في ذلك الوقت، وأخر الدعاء، ويحتمل أنه رأى بهم جزعًا وقلة صبر فأمرهم به"
(2)
.
ومما يبين هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد دعا برفع الحمى عن المدينة عند قدومه إليها وإصابة أبي بكر وبلال رضي الله عنهما بالحمى فقال صلى الله عليه وسلم: "اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، اللهم بارك لنا في صاعنا، وفي مدنا وصححها لنا وانقل حماها إلى الجحفة"
(3)
.
ويمكن أن يجاب أيضًا عن حديث أم حبيبة رضي الله عنها بأنه صلى الله عليه وسلم علم بالوحي بأنه لا يزاد في أعمار هؤلاء الذين دعت لهم أم حبيبة أو يقال: إنه رأى حرصها الشديد على ذلك فمنعها، أو أنه صلى الله عليه وسلم أرشدها إلى
= أم قيس قال الحافظ فيه: جهله ابن القطان. اهـ. التهذيب: 2/ 74.
(1)
أخرجه البخاري: 2/ 236 رقم 755.
(2)
إتحاف السادة: 5/ 118، والأزهية: 49 - 50.
(3)
أخرجه البخاري: 4/ 99 رقم 1889، ومسلم 2/ 1003 رقم 1376.
الأفضل وهو طلب الأمر الأخروي من الاستعاذة من النار، أو عذاب القبر دون النفع الدنيوي من التمتع بهؤلاء الذين ذكرتهم، ويدل لهذا قوله:"كان خيرًا وأفضل" فإن اسم التفضيل يدل على المشاركة والزيادة فأصل الخيرية والفضل ثابت لما دعت به والله أعلم.
وأما التفريق بين صلة الرحم وبين الدعاء بأن الأول يزيد في العمر دون الثاني فيعترض عليه بأن كليهما سببان متماثلان، فأما أن نمنع تأثيرهما في المسببات أو نجيز تأثيرهما كباقي الأسباب الشرعية، ولا يجوز أن نفرق بين متماثلين بدون دليل واضح ولا يقال إن النص ورد في صلة الرحم بزيادة العمر لأننا نقول: إنه قد ورد النص أيضًا بالدعاء بطول العمر وثبت تأثيره في ذلك كما في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لأنس وأبي اليسر وأم قيس ودعاء سعد بن أبي وقاص على الرجل، فكل هذا يدل على أنه لا فرق بين الأمرين والله أعلم.
المبحث الثاني في الصواب الذي تدل عليه الأدلة الصحيحة وهو:
المذهب السادس: وهو الذي عليه جمهور أهل السنة والجماعة:
وهو الصواب
(1)
الذي دل عليه الكتاب والسنة، والفطرة والعقل السليم وتجارب الأمم والواقع التاريخي، والمشاهدة والحس وهو أن الدعاء سبب من الأسباب وأن له تأثيرًا في المطلوب المسؤول كسائر الأسباب المقدرة والمشروعة، وهذا يعترف به جماهير بني آدم من المسلمين واليهود والنصارى والصابئين والمجرمين والمشركين
(2)
. ولم يشذ عن هذا إلا طوائف.
بل هو شبه اتفاق بين أهل الملل وأساطين الفلاسفة حتى يذكر عن بطليموس
(3)
أنه قال:
"واعلم أن ضجيج الأصوات في هياكل العبادات، بفنون اللغات، على اختلاف الحاجات، يحلل ما عقدته الأفلاك الدائرات"
(4)
، فهذا
(1)
انظر: اقتضاء الصراط المستقيم ص: 358، ومنهاج السنة: 5/ 362، 3/ 213 - 214، وزاد المعاد: 3/ 481.
(2)
الفتاوى: 8/ 195.
(3)
هو القلوذي العالم المشهور صاحب كتاب المجسطي في الفلك إمام في الرياضة من فلاسفة اليونان، انظر الفهرست لابن النديم ص: 35 - 38.
(4)
الرد على المنطقيين ص: 272، ومنهاج السنة النبوية: 5/ 446، ونقل ابن مفلح =
الفيلسوف يعترف ويقر بتأثير الدعاء لكنه يفسر ذلك التأثير على وجه يوافق عقيدته بتأثير الكواكب.
والدعاء مثل سائر الأسباب كالتوكل والصدقة
…
سبب لجلب المنافع ودفع المضار
(1)
.
ثم الدعاء - مع ثبوت كونه سببًا - داخل في القضاء، ولا يخرج عن القضاء فإن الدعاء من جملة ما سبق به القضاء لأن الله سبحانه أحاط بكل شيء علمًا وقدر كل شيء تقديرًا ولا يمكن أن يخرج شيء عن قضائه، فلهذا فالدعاء نفسه داخل في القضاء فإذا قدر الدعاء وأنه سبب لكذا فلا بد أن يدعو الرجل وأن يتسبب ذلك فيما جعله الله سببًا فالدعاء سبب لجلب النفع كما أنه سبب لدفع البلاء فإذا كان أقوى منه دفعه وإن كان سبب البلاء أقوى لم يدفعه، لكن يخففه ويضعفه، وليس شيء من الأسباب أنفع من الدعاء ولا أبلغ في حصول المطلوب.
ولهذا أمر صلى الله عليه وسلم عند انعقاد أسباب الشر بما يدفع موجبها بمشيئة الله تعالى وقدرته من الصلاة، والدعاء، والذكر والاستغفار والتوبة، والإحسان بالصدقة والعتاقة، فإن هذه الأعمال الصالحة تعارض الشر الذي انعقد سببه كما في الحديث:"إن الدعاء والبلاء ليلتقيان بين السماء والأرض فيعتلجان"
(2)
، وهذا كما لو جاء عدو فإنه يدفع بالدعاء وفعل الخير وبالجهاد له وإذا هجم البرد يدفع باتخاذ الدفء، فكذلك الأعمال الصالحة والدعاء
(3)
.
= عن شيخه ابن تيمية أنه قال: "وأقر أولهم وآخرهم أن الله تعالى يدفع عن أهل العبادة والدعاء ببركته ما زعموا أن الأفلاك توجبه، وأن لهم من ثواب الدارين ما لا تقوى الأفلاك أن تجلبه". اهـ. الفروع: 6/ 178.
(1)
الفتاوى: 10/ 550.
(2)
تقدم تخريجه ص: 349.
(3)
منهاج السنة 5/ 445، والرد على المنطقيين: 271 - 272، والفتاوى: 8/ 196، وزاد المعاد: 4/ 182، والجواب الكافي:15.
ويدل على دفاع العدو بالدعاء مع الجهاد قوله صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص: "هل تنصرون إلا بضعفائكم" ولفظ النسائي: "إنما نصر الله هذه الأمة بضعفتهم بدعواتهم وصلاتهم وإخلاصهم"
(1)
.
والحاصل أن من جملة القضاء ردَّ البلاء بالدعاء، فالدعاء داخل تحت القضاء وليس خارجًا عنه، فالدعاء سبب لرد البلاء، واستجلاب الرحمة كما أن الترس سبب لدفع السلاح، والماء سبب لخروج النبات من الأرض فكما أن الترس يدفع السهم فيتدافعان، فكذلك الدعاء والبلاء، وليس من شرط الاعتراف بالقضاء أن لا يحمل السلاح، وقد قال الله تعالى:{وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} [النساء: 102]، فالله تعالى هو الذي قدر الأمر، وقدر سببه
(2)
.
دلالة الكتاب على ذلك:
أ - قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60].
وجه الاستدلال بالآية:
1 -
إن الله تعالى قد علق في هذه الآية الإجابة بالدعاء تعليق المسبب بالسبب
(3)
فلو كانت الاستجابة تقع بدون سبب الدعاء لكان تعليق الإجابة بالدعاء لا فائدة فيه فيكون عبثًا، حاشا كلام الله من ذلك.
2 -
هذه الصيغة تدل على الشرط والجزاء فإن جواب الأمر يجزم إن قصد الجزاء وتَسَبُّبُ الفعل عن الطلب السابق وإن اختلفوا هل الجازم حرف شرط محذوف مع فعله أو الجملة السابقة لنيابتها عن حرف الشرط أو لتضمنها معنى حرف الشرط
(4)
.
(1)
البخاري: 6/ 88 رقم 2896، والنسائي: 6/ 37 رقم الباب 37.
(2)
الأذكار: 354، والإحياء: 1/ 30.
(3)
الفتاوى: 8/ 193.
(4)
حاشية الخضري: 2/ 117.
فهذا يدل على أن هذه الصيغة صيغة شرط وجزاء، والشرط والجزاء يتلازمان فلو كان وجود الدعاء وعدمه سواء لزم أنه لا فائدة في اشتراطه في وقوع الإجابة فيكون اشتراطه عبثًا، حاشا كلام الله من ذلك.
3 -
هذه الآية تدل على الوعد بالإجابة عند وجود الدعاء فلو كان وجوده وعدمه سواء لزم أنه لا حاجة إلى هذا الوعد الذي هو من الله الذي لا يخلف الميعاد.
4 -
إن الله سبحانه قد أمر في الآية بالدعاء، وأوامر الله لا تخلو من فوائد
…
5 -
ثم إن الوعيد الشديد لمن تكبر عن الدعاء يدل على أهمية الدعاء وأنه ذو شأن عظيم، ولا يمكن أن يتوعد عليه إلا وله فائدة.
ب - قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186].
وجه الدلالة من الآية:
1 -
هذه الآية نزلت بسبب السؤال
(1)
عن الدعاء، فلو كان الدعاء غير نافع، لبينت الآية ذلك لأن هؤلاء السائلين كانوا محتاجين إلى معرفة ذلك، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة.
2 -
الآية رتبت الإجابة على الدعاء بإذا الشرطية التي تدل على التحقيق ولها جواب مقدر، والجواب يترتب على الشرط وجودًا وعدمًا.
3 -
وهذا وعد صريح بإجابة الدعاء، والله لا يخلف الميعاد، وقد علق هذا الوعد على الدعاء بإذا التحقيقية.
(1)
روي في سبب نزولها أن سائلًا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد أقريب ربنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟، وقيل غير ذلك، انظر تفسير الطبري: 2/ 158، ومعالم التنزيل: 1/ 155، والدر المنثور: 1/ 194.
جـ - قال تعالى: {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 32].
إن الله سبحانه وتعالى نهى في هذه الآية عن الحسد وتمني زوال نعمة الغير وأمر بسؤاله من فضله فدل على أنه بسبب السؤال يعطي مثل ما أعطى لذلك الذي فضله وربما يعطي أكثر، فلو كان الدعاء والسؤال لا أثر له في إعطاء السائل ما تمناه وسأله، للزم أنه لا فائدة في الأمر به في هذا المقام، وهذا يخالف ما يقتضيه سياق الآية.
د - قال تعالى: {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34].
فبينت الآية أن الإيتاء والإعطاء يكون من المسؤول المطلوب فلو كان السؤال ليس له أثر سببي في الإيتاء لم يعلق به الإيتاء لاسيما أن سياق الآيات في ذكر نعم الله على عباده ومن ذلك نعمة إجابة الدعاء وإعطاء المسؤول.
هـ - قال تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل: 62].
فالآية صريحة الدلالة على أن دعاء المضطر هو السبب في إجابة سؤاله وكشف السوء عنه، وهذا من آيات الله العظيمة الدالة على وحدانيته وتفرده بالربوبية والألوهية، ولهذا أعقبه بقوله:{أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل: 62].
و- قد وردت آيات كثيرة جدًا ذكر الله فيها ما وقع لأنبيائه وأوليائه وعباده الصالحين من المحن والبلايا والشدائد العظام فاستغاثوا بربهم، وتضرعوا له، وابتهلوا إليه فاستجاب الله لهم وكشف عنهم تلك المحن بعد دعائهم.
وقد حكى الله لنا ألفاظ دعواتهم وصيغ ابتهالاتهم لنقتدي بهم ونأخذ
العبر والدروس، ومن تلك الدروس التي نأخذها تأثير الدعاء وفائدته العظيمة في جلب المنافع ودفع المضار وأنه سمة العبودية وأنه الغذاء الروحي لاسيما عند نزول الشدائد المدلهمة، ونسوق إن شاء الله تعالى جملة مما حكى الله لنا من تلك الأدعية المباركة.
ومما حكى الله لنا عن نوح عليه السلام مما يدل على تأثير الدعاء:
قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ} [الصافات: 75]. ما أصرحها في تأثير الدعاء وأوضحها وأبينها من حجة قاطعة وما أبلغها من برهان ساطع!! ومثلها قوله تعالى في قصة نوح أيضًا: {وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنبياء: 76، 77]، ودلالة الآية على تأثير الدعاء من أوجه:
1 -
الأول: إلغاء السببية، وهي موضوعة في اللغة العربية للترتيب والتعقيب فالمعطوف بها مرتب على المعطوف عليه ترتب المسبب على سببه والمعلول على علته.
وقد ذكر علماء اللغة إفادتها للسببية لاسيما في عطف الجمل والأوصاف.
قال ابن هشام
(1)
النحوي بعد أن ذكر أنها ترد على ثلاثة أوجه:
أحدها: أن تكون عاطفة، وتفيد ثلاثة أمور أحدها الترتيب
…
الأمر الثاني: التعقيب ....
والأمر الثالث: السببية .. وذلك غالب في العاطفة جملة أو صفة، فالأول نحو {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} [القصص: 15] ونحو: {فَتَلَقَّى
(1)
هو عبد الله بن يوسف بن أحمد بن هشام الأنصاري الحنبلي النحوي أتقن العربية ففاق الأقران بل الشيوخ (ت 761 هـ)، الدرر الكامنة: 2/ 308، وبغية الوعاة: 2/ 68.
آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة: 37].
والثاني نحو {لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54)} [الواقعة: 51 - 55]
(1)
.
2 -
الثاني: كلمة استجبنا إذ استجابة النداء من الله تعالى تكون بإعطاء السؤال إذ الاستجابة نوعان كما تقدم
(2)
.
3 -
الثالث: كلمة نجينا المعطوفة فالاستجابة والإنجاء من الكرب العظيم والنصر كل هذا مترتب على ندائه ودعائه الله تعالى ترتب المسبب على السبب والمعلول على العلة.
وقوله تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84)} [الأنبياء: 83، 84].
تدل الآيتان على المقصود من عدة أوجه:
منها العطف بالفاء السببية في الموضعين فاستجبنا، فكشفنا ودلالة استجبنا وكشفنا اللغوية ودلالة السياق هذه الدلالات الواضحة على تأثير الدعاء لا ينكرها إلا من طمس الله بصيرته وختم على قلبه. وقوله تعالى فيما حكاه لنا من استغاثة المؤمنين من الأمم السابقة:{وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ} [البقرة: 249، 250].
وقال أيضًا في آية أخرى: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ
(1)
مغني اللبيب عن كتب الأعاريب: 213 - 216، وانظر نحوه في حاشية الخضري على ابن عقيل: 2/ 62.
(2)
تقدم ص: 222.
فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)} [آل: عمران: 147، 148].
ومثل استغاثة هؤلاء المؤمنين من الأمم السابقة في طلب النصر على الأعداء ما وقع من استغاثة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يوم بدر ومناشدتهم لربهم في النصر على كفار قريش قال تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9)} [الأنفال 9].
فهذه الآية واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار على أن الاستغاثة هي السبب في استجابة الله للمؤمنين ونصرهم على عدوهم وتأييدهم وإمدادهم بملائكته.
وقوله تعالى فيما حكى الله لنا عن ابتهالات يونس ودعواته:
فدلت الآيتان على أن الدعاء هو السبب في نجاته من عدة أوجه، منها الفاء السببية، ومنها: كلمتا: استجبنا ونجينا كما دلت على أن هذا ليس خاصًّا به بل المؤمنون عامة إذا وقعوا في شدة واستغاثوا بربهم فهو ينجيهم، كما دلت أيضًا على أنه لولا الدعاء لما نجا من هذا الكرب العظيم ولبقي في بطن الحوت، وقد صرحت بذلك آية أخرى قال تعالى:{فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144)} [الصافات: 143 - 144]، فكلمة لولا في مثل هذا الموضع تدل على امتناع الجملة الثانية لوجود الأولى
(1)
. وهذا صريح قاطع في أن الدعاء هو السبب في نجاته ولو لم يحصل الدعاء لما نجا ولبقي في بطن الحوت إلى يوم القيامة.
(1)
مغني اللبيب عن كتب الأعاريب ص: 359 وانظر أيضًا الجواب الكافي ص: 17
وقوله تعالى مبينًا حالة يوسف عليه السلام وما حصل له من المحن: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34)} [يوسف: 33 - 34] فدلالتها على تأثير الدعاء من وجوه كثيرة منها الفاء المعقبة السببية وكلمة استجاب والفاء السببية أيضًا في "فصرف"، وتذييل الآية بالسميع العليم أي أنه يسمع التجأ إليه وقصد بابه ويعلم حاله وتضرعه وافتقاره فيرحمه فينقذه من الشدة.
وقوله تعالى: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى} [آل عمران: 38 - 39].
فقوله: {إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} يدل على أن الله يسمع ويجيب.
وقوله تعالى: {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3)} [مريم: 2 - 3].
دلت الآية على أن الرحمة حصلت له حين ندائه لا قبله مما يدل على توقف الرحمة على النداء توقف المسبب على السبب، ويدل قوله:{وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} على أن الله لم يخيبه فيما مضى بل يقضي له حاجته ويبلغه إلى سُوءلِهِ.
وقوله تعالى: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء 89 - 90]. ففي هذا ترتيب للاستجابة على النداء، كما أن فيه تعليلًا للاستجابة بكونهم مسرعين في الخيرات، وداعين رغبة ورهبة.
وقوله تعالى في قصة تضرع موسى وابتهاله إلى الله: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26)} إلى أن أجابه الله بقوله: {قَدْ أُوتِيتَ
سُؤْلَكَ يَامُوسَى (36)} [طه: 25 - 36] ما أوضحها في الدلالة على تأثير الدعاء في الإجابة!!
وقوله تعالى في قصة موسى وهارون في استغاثتهما بالله في إنقاذهما والمؤمنين من طغيان فرعون وملئه: {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88) قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا} [يونس: 88 - 89]، فصرحت الآيتان بإجابة دعوتهما واستغاثتهما بالله تعالى وأن ذلك عقب ابتهالهما إلى الله تعالى فدل هذا على ترتب الإجابة على الدعاء ترتب المسبب على السبب.
ز - وقد دل القرآن على أن حصول الدعاء سبب في كشف البلايا والمصائب ومنع وقوع العذاب والهلاك وأن ترك الدعاء سبب في وقوع العذاب والهلاك وهذا صريح في تأثير الدعاء في منع وقوع العذاب وكذلك العكس، قال تعالى:{قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ} إلى قوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43)} [الأنعام: 40 - 43].
قال ابن كثير رحمه الله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ (42)} يعني الفقر والضيق في العيش "والضراء" وهي الأمراض والأسقام والآلام لعلهم يتضرعون أي يدعون الله ويتضرعون إليه ويخشعون قال الله تعالى: {فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} أي فهلا إذا ابتليناهم بذلك تضرعوا إلينا وتمسكنوا.
(1)
.
فمعنى هذا أنهم لو دعوا الله وتضرعوا لارتفع العذاب عنهم كما
(1)
تفسير ابن كثير: 2/ 132.
حصل لقوم يونس، ولكنهم لم يدعوا الله ولم يتضرعوا إليه، فوقع العذاب فهذا صريح في تأثير الدعاء في ذلك كما هو صريح من قوله تعالى في أول هذه الآيات {فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ} إذ هو واضح في أن الدعاء هو السبب للكشف، فالفاء للسببية.
ومثل هذه الآية السابقة قوله تعالى: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77)} [الفرقان: 77]، فإنه يدل - على تفسير الدعاء بدعاء المسألة - على أن الله تعالى لا يعبأ بعباده لولا دعاؤهم له فدل على أن الدعاء له أثير عظيم.
ح - ثم إن الله سبحانه وتعالى وصف الأصنام بأنها لا تسمع نداء من دعاها فلا تجيب دعاء فدل هذا على أن الله بخلافها فهو يسمع نداء من استغاث به فيجيب، له قال الله تعالى حكاية عن إبراهيم:{قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72)} [الشعراء: 72]، كما أن إبراهيم قال في وصف الله تعالى:{إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} إبراهيم: 39].
ط - وقد ذكر الله تعالى أن الاستغفار والتوبة سببان لنزول المطر وللإمداد بالأموال والبنين ولكثرة البساتين والأنهار كما أنهما سببان للعيش والتمتع بالمتاع الحسن في الحياة الدنيا، قال تعالى:{فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12)} [نوح: 10 - 12].
وقال: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} [هود: 3].
وذكر الله أيضًا أن الاستغفار يمنع من نزول العذاب، قال تعالى:{وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)} [الأنفال: 23]، فدلت هذه الآيات على أن الاستغفار والتوبة من جملة الأسباب المشروعة، وتقدم
(1)
أن الاستغفار نوع من أنواع الدعاء فثبت أن كليهما من الأسباب، وقد كان لهما الأثر العظيم في هذه الأمور المذكورة في الآيات السابقة فلولاهما لما حصلت هذه الأشياء، فدل على أنهما سببان في ذلك وأن وجودهما ليس كعدمهما.
والحاصل أن القرآن من أوله إلى آخره صريح في ترتب الجزاء بالخير والشر والأحكام الكونية والأمرية على الأسباب، بل في ترتب أحكام الدنيا والآخرة ومصالحهما ومفاسدهما على الأسباب والأعمال ترتب الجزاء على الشرط والمعلول على العلة والمسبب على السبب، وهذا بمختلف الصيغ والأساليب المتنوعة الكثيرة في مواضع كثيرة، وهذه المواضع تزيد في القرآن الكريم على ألف موضع كما قاله
(2)
ابن القيم رحمه الله، بل ذكر ابن القيم في موضع آخر أن ما يفيد إثبات الأسباب من القرآن والسنة لو تتبع لزاد على عشرة آلاف موضع، وأن ذلك حقيقة وليس مبالغة
(3)
.
وأما السنة الدالة على تأثير الدعاء فأكثر من أن تحصر فقد تواتر عنه إلا الله صلى الله عليه وسلم أمران: الأول: فعله للدعاء، والثاني: حثه صلى الله عليه وسلم وترغيبه في الدعاء، وقد ذكر تواتر الأمرين عنه الكتاني
(4)
في رسالته في الأحاديث المتواترة
(5)
.
(1)
كما تقدم ص: 94.
(2)
الجواب الكافي: 16 - 17.
(3)
شفاء العليل: 397
(4)
هو محمد بن جعفر بن إدريس بن محمد الزمزمي محدث له الرسالة المستطرفة لبيان مشهور كتب السنة المشرفة وغيرها (ت 1345 هـ) له ترجمة في أوائل الرسالة المستطرفة ومعجم المؤلفين: 9/ 150.
(5)
نظم المتناثر ص: 113.
فلهذا نكتفي بإيراد بعض الأحاديث الدالة على المراد، من ذلك:
1 -
قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أنس رضي الله عنه: "لكل نبي دعوة دعاها لأمته، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي، هذا لفظ مسلم، وفي البخاري: لكل نبي سأل سؤالًا - أو قال لكل نبي دعوة قد دعا بها - فاستجيب، فجعلت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة"
(1)
.
2 -
حديث أنس بن مالك الآخر، قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة إذ قام رجل فقال: يا رسول الله هلك الكراع وهلك الشاء، وفي رواية وجاع العيال وفي رواية أخرى هلكت الأموال وانقطعت السبل فادع الله أن يسقينا، فمد يديه ودعا، وفي رواية وما نرى في السماء قزعة فوالذي نفسي بيده ما وضعها حتى ثار السحاب أمثال الجبال ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته، فمطرنا من الجمعة إلى الجمعة ثم جاء ذلك الرجل أو غيره في الجمعة المقبلة فقال: تهدمت البيوت وانقطعت السبل فادع الله يمسكها فرفع يديه فقال: اللهم حوالينا ولا علينا، فما يشير بيده إلى ناحية من السحاب إلا انفرجت"
(2)
.
3 -
حديث النزول، وهو حديث مشهور مستفيض متواتر
(3)
، ومن طرقه ما رواه أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير فيقول: من يدعوني
(1)
رواه البخاري بصيغة التعليق جازمًا به: 11/ 96 رقم 6305، ومسلم: 1/ 190 رقم 200، من طريق قتادة وسليمان التيمي عن أنس وله شاهد من حديث أبي هريرة، أخرجه البخاري رقم 6304، ومسلم رقم 199، ومن حديث جابر أخرجه مسلم برقم 201.
(2)
أخرجه البخاري في 15 موضعًا، انظر الإشارة إليها في البخاري مع الفتح: 2/ 413 رقم 932، ومسلم: 2/ 612 برقم 897.
(3)
قد ذكر الكتاني ممن حكم بتواتره أبا زرعة والسخاوي وابن عبد الهادي وذكر الكتاني أيضًا 23 صحابيًا ممن روى أحاديث النزول، انظر نظم المتناثر ص: 115، والصارم المنكي ص:220.
فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟ "
(1)
.
دلالة الفطرة على تأثير الدعاء:
الإنسان من طبيعته أنه إذا كان في سعة وعافية نسي ربه وتمرد وعصى، وإذا وقع في شدة وضيق تحركت فطرته ومشاعره واتجه إلى الله ونسي ما كان يدعو من قبل وهنا يوقن أنه لا منقذ إلا الله، وتنكشف عنه الحجب ويزول الرين، وتذهب الغشاوة وينطرح بين يدي الله منكسرًا متواضعًا مبتهلًا متضرعًا باكيًا ويجأر إلى الله كاشف السوء مجيب المضطرين غياث المغيثين منقذ الهالكين، وجابر المنكسرين، ومنقذ الغرقى وسامع النجوى.
فكم من ملحد نزلت به ضائقة آب إلى الله
(2)
، وكم من شارد فاسق وقع في مأزق تاب إلى الله ورجع إلى طاعته.
فالفطرة خير شاهد وأقوى دليل وأنصع برهان، وأوضح حجة لأنها تحتاج إلى تركيب مقدمة وإقامة أدلة جدلية واستنتاج، ودليلها لا يمكن مقاومته ولا دفعه بالشبهات والوساوس، ألا ترى الإنسان إذا ما وقع في مصيبة يتجه مباشرة إلى السماء ويرفع يديه قائلًا: يا رب يا رب.
وهذه الحالة تهجم عليه وتسيطر على تفكيره وشعوره، وتجعله يشعر أنه لا منقذ ولا منجي ولا مغيث إلا الله سبحانه وتعالى.
فلو لم تدل الفطرة على تأثير الدعاء لما اتجهت إلى الدعاء ولكانت تلجأ إلى وسائل أخرى للاستغاثة والاستعانة.
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى طبيعة الإنسان هذه في عدة آيات، منها:
قوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا
(1)
أخرجه البخاري مع الفتح: 3/ 29 رقم 1145، ومسلم: 1/ 521 رقم 758.
(2)
انظر الإشارة إلى هذا في: العقيدة في الله لعمر الأشقر ص: 67.
فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ} [يونس: 12].
وقال سبحانه: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ} [الزمر: 8].
وقال تعالى: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51)} [فصلت: 51].
وقال جل جلاله {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53)} [النحل: 53].
وقال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67)} [الإسراء: 67].
وقال تعالى: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)} [لقمان: 32].
فالإنسان في مثل هذه الشدائد ينسى تلك الأشياء التي كان يتعلق بها ويرجع إلى ربه فتحصل له معرفة قوية من أقوى ما يكون من المعارف، فإن المعارف التي تحصل في النفس بالأسباب الاضطرارية أثبت وأرسخ من المعارف التي ينتجها مجرد النظر القياسي الذي ينزاح عن النفوس في مثل هذه الحال"
(1)
وقد تقدم ما يتعلق بهذا
(2)
.
(1)
الفتاوى: 8/ 194.
(2)
تقدم ص: 246.
دلالة العقل السليم على تأثير الدعاء:
فالعقل السليم يدل على تأثير الدعاء لأن العقل دل على وجود الله تعالى وأنه الفعال لما يريد وأنه لا معقب لحكمه.
فإذا سلم العقل هذا فلا يمتنع من أن الفاعل المختار يجعل الأشياء مرتبطة بأسبابها وعللها ويرتب مصالح العباد في دنياهم وأخراهم على الأسباب وينظم الكون بأجمعه ويربط بعضه ببعض على أسباب وعلل إذا وجدت وجدت مسبباتها ومعلولاتها فالعقل يسلم بهذا ولا ينكر بل يعترف.
ومن المعلوم أن الشرع لا يأتي بما يحيله العقل السليم الذي لم تدنسه لوثة الشبهات والشهوات وإن كان الشرع قد يأتي بما يحار فيه العقل ويعجز عن إدراكه مفصلا
(1)
.
وأن العقل البشري قاصر الإدراك لا يحيط حتى بالمحسوسات فكيف بالأمور المعنوية التي ليست تحت التجربة والمشاهدة.
ثم إن العقل يرى آثار الأدعية وإجابتها وما يحصل بالدعوات من كشف الكربات ونيل الرغبات ويرى ترتب ذلك كله على الدعاء ترتبًا متكررًا وواقعًا، فلا يرى لهذا عللًا غير الدعاء فلا بد أن يصدق ذلك.
دلالة الواقع التاريخي:
فقد استفاض في التاريخ وتواتر إجابة الله تعالى لنداء المضطرين وابتهالات المنكسرين، وتضرع المساكين واستغاثة المستغيثين، وتملق الخاشعين.
وقد ثبت على مدى التاريخ ما يفيد بالمجموع تواتر ذلك وإن لم يتواتر أفراد تلك الوقائع.
(1)
انظر درء تعارض العقل والنقل: 7/ 327، والفتاوي: 3/ 339، و 5/ 29 - 30، وشرح الطحاوية ص: 390 - 391 وانظر ما سيأتي ص: 681.
ولا مانع من إيراد بعض تلك الوقائع التاريخية على سبيل التمثيل لا الحصر وإليك ذلك:
أ - ما ذكر الله تعالى في القرآن الكريم من قصص أنبيائه ورسله مثل نداء، نوح، وإبراهيم وأيوب ويونس وغيرهم عليهم السلام، وقد سبق ذكر ذلك ولله الحمد.
ب - ما ثبت في السنة الصحيحة من ذلك وإليك بعض الأمثلة:
1 -
قصة
(1)
أصحاب الغار الذين توسلوا بصالح أعمالهم بعد أن انطبقت عليهم الصخرة فأنقذهم الله فخرجوا سالمين.
2 -
قصة أويس القرني حيث روى مسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن رجلًا يأتيكم من اليمن يقال له أويس لا يدع باليمن غير أم له قد كان به بياض، فدعا الله فأذهبه عنه إلا موضع الدينار أو الدرهم، فمن لقيه منكم فليستغفر لكم
(2)
.
3 -
قصة
(3)
جريج الراهب الذي دعا الله تعالى وصلى لما اتهم فأنطق الله الغلام فبرأه.
جـ - ما حفظه التاريخ الموثق من إجابة الله تعالى للمستغيثين به، ولا نستطيع أن نذكر كل ما حصل من ذلك لأنه أمر يتجدد كل لحظة، قال تعالى:{يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29)} [الرحمن: 29] ويكفي لمعرفة ما وقع من ذلك الاطلاع على الكتب المصنفة في الفرج بعد الشدة
(4)
وغيرها كالكتب التاريخية.
(1)
أخرجها البخاري من حديث ابن عمر في عدة مواضع من صحيحه، انظر البخاري مع الفتح: 4/ 408 رقم 2215، و 5/ 16 رقم 2333 و 6/ 505 رقم 3465، ورقم 5974، وأخرجها مسلم: 4/ 2099 رقم 2743.
(2)
أخرجه مسلم: 4/ 1968 رقم 2542
(3)
أخرجها البخاري: 6/ 476 رقم 3436، ومسلم: 4/ 1976 رقم 2550.
(4)
والكتب التي ألفت في الفرج بعد الشدة كثيرة منها: لابن أبي الدنيا، وللمدائني، وللأزدي، وللتنوخي. انظر مقدمة كتاب الفرج بعد الشدة للتنوخي: 1/ 52.
ففي هذه الكتب وقائع كثيرة جدًّا فيها بيان أخبار الذين وقعوا في كرب وشدة وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وانقطعت بهم الحيل فالتجأوا إلى الله تعالى بصدق وإخلاص فجاءهم الفرج بعد الشدة والسعة بعد الضيق والسرور والفرح بعد الغم والهم.
ولا يزال التاريخ إلى الآن يشهد بذلك فكم يقع يوميًا من ذلك ولا ينكر هذا إلا معاند مكابر.
وليس يصح في الأذهان شيء
…
إذا احتاج النهار إلى دليل
تجارب الأمم:
وقد دلت تجارب الأمم على اختلاف أجناسها ومللها ونحلها على أن التقرب إلى رب العالمين، وطلب مرضاته والالتجاء إليه والانطراح بين يديه والبر والإحسان إلى خلقه من أعظم الأسباب الجالبة لكل خير، وأضدادها من أكبر الأسباب الجالبة لكل شر، فما استجلبت نعم الله واستدفعت نقمه بمثل طاعته والتقرب إليه بأنواع الطاعات، والرغبة إليه والاستعانة به والإحسان إلى خلقه فهذا مجرب عند جميع الأمم على مدى التاريخ
(1)
، وهو أمر معلوم عند الناس خاصتهم وعامتهم، وأهل الأرض كلهم مقرون به، لأنهم جربوه
(2)
.
ومن هنا كان اعتقاد تأثير الدعاء من الأصول المسلمة المقررة لدى مشركي العرب وغيرهم فلهذا أتى الدين الإسلامي بتقرير ذلك وتأكيده ولكنه نقحه وهذبه من الشوائب التي زادوها من الشرك فيه، وصرفه لمن لا يستحق.
قال الدهلوي رحمه الله بعد أن ذكر الأصول المسلمة لدى المشركين: "ومنها
…
أن هنالك لأدعية الملائكة المقربين وأفاضل
(1)
انظر الجواب الكافي ص: 16.
(2)
الوابل الصيب: 57، وبدائع الفوائد: 2/ 242، واقتضاء الصراط:364.
الآدميين تأثيرًا بوجه من الوجوه، لكن صار في أذهانهم متمثلًا بشفاعة ندماء الملوك إليهم"
(1)
.
ويدل على اعتقاد المشركين بتأثير الدعاء أدلة كثيرة، نكتفي منها بمثالين:
المثال الأول: قصة قريش مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رميهم الأذى على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي عند الكعبة قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم صلاته رفع صوته، ثم دعا عليهم
…
ثم قال: "اللهم عليك بقريش ثلاث مرات فلما سمعوا صوته ذهب عنهم الضحك وخافوا دعوته"، وفي رواية للبخاري: وكانوا يرون أن الدعوة في ذلك البلد مستجابة"
(2)
.
وهذا يدل على أن قريشًا تعتقد أن الدعاء مجاب في البلد الحرام، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ويمكن أن يكون ذلك مما بقي عندهم من شريعة إبراهيم عليه السلام
(3)
.
والمثال الثاني: قصة قتل خبيب بن عدي فإنه لما أرادوا قتله، صلى ركعتين ودعا عليهم: اللهم أحصهم عددًا واقتلهم بددًا ولا تبق أحدًا" فلما سمعوا دعاءه هذا ألقى أبو سفيان ابنه معاوية على الأرض، فَرَقًا من دعوة خبيب وكانوا يقولون إن الرجل إذا دعي عليه، فاضطجع لجنبه زالت عنه
(4)
.
(1)
حجة الله البالغة: 1/ 125.
(2)
أخرجه البخاري مع القصة: 1/ 349 رقم 220، ومسلم: 2/ 1418 رقم 1794.
(3)
فتح الباري: 1/ 351.
(4)
أصل القصة في الصحيح انظر البخاري: 7/ 379، وأما إلقاء أبي سفيان معاوية فأخرجه ابن إسحاق في سيرته انظر سيرة ابن هشام: 3/ 173، والفتح: 7/ 373.
دلالة المشاهدة والحس:
إن المشاهدة لتأثير الدعاء لمن أكبر الأدلة وأصدقها برهانًا وأقواها حجة، فنحن رأينا وشاهدنا في أنفسنا ومن حولنا تأثير الدعاء، فمن منا لا يقع في شدة وكرب وضيق ثم يستغيث بربه فلا يرى أثر ذلك؟ فنحن نشاهد في حياتنا وأيامنا القصيرة وقائع لنا ولغيرنا يحصل فيها إجابة الدعاء بعد يأس وقنوط من المخلوقات، وبعد انقطاع السبل والحيل، فهذا يكفي وحده للدلالة لكن الإنسان يجادل، ويكابر قال الله تعالى:{وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} الكهف: 54] ولا يعترف ولا يعتبر بما وقع له أو لغيره بل يحاول أن يتناسى ذلك، ولا يأخذ منه أي عبرة ودرس، ويصل به الأمر إلى إنكار مشاهداته وإحساساته لاسيما إذا تأثر بلوثة الشبهات والأفكار المنحرفة .. فنسأل الله تعالى أن يهدينا سواء السبيل.
وبهذا نصل إلى أن الحق الذي لا مرية فيه أن الدعاء سبب من الأسباب وأن له تأثيرًا في جلب المنافع ودفع المضار كسائر الأسباب المقدرة والمشروعة، وأنه لا منافاة بين القدر والدعاء، فالدعاء من جملة ما سبق به القضاء وتضمنه القدر السابق.
الجواب عن الاعتراض بأن الدعاء قد أثر في الله تعالى:
فإذا ثبت - ولله الحمد - بالأدلة الصحيحة أن الدعاء له أثر عظيم في المطلوب من جلب نفع ودفع ضر.
فلا يتوهمن
(1)
متوهم أن ذلك تأثير من العبد السائل في الله المسؤول، تعالى عن ذلك وتقدس.
وذلك لأن الله سبحانه هو الذي حرك العبد إلى الدعاء ويسره له وهو
(1)
انظر في هذا اقتضاء الصراط: 359 والفتاوى: 14/ 382 - 383، وشرح الطحاوية: 461، والجواب الكافي: 15: والتمهيد 5/ 346، والفتح: 11/ 98، والرسالة القشيرية: 2/ 527.
الذي قذف في قلب العبد الحركة إلى الدعاء وألهمه التضرع والابتهال والانطراح بين يديه ووفقه لذلك وصرف عنه الموانع من استكبار وإلحاد وكسل وغير ذلك، فهذا الخير والتوفيق منه ولولا هذا الإلهام لما دعا العبد، وقد قال عمر رضي الله عنه: إني لا أحمل هم الإجابة، وإنما أحمل هم الدعاء، ولكن إذا ألهمت الدعاء فإن الإجابة معه".
وأخذ الشاعر هذا المعنى فنظمه فقال:
لو لم ترد نيل ما أرجو وأطلبه
…
من جود كفيك ما علمتني الطلبا
فإذا أراد الله بعبد خيرًا ألهمه دعاءه والاستعانة به وجعل استعانته ودعاءه سببًا للخير الذي قضاه له.
كما أن الله تعالى إذا أراد أن يشبع عبدًا أو يرويه ألهمه أن يأكل أو يشرب، وإذا أراد أن يتوب على عبد ألهمه أن يتوب فيتوب عليه، وإذا أراد أن يرحمه ويدخله الجنة يسره لعمل أهل الجنة، والمشيئة الإلهية هي التي اقتضت وجود هذه الخيرات بأسبابها المقدرة لها كما اقتضت وجود دخول الجنة بالعمل الصالح ووجود الولد بالوطء، والعلم بالتعلم، فعلم بهذا أن إلهام الله لعبده الدعاء هو السبب الرئيسي في القضية فلهذا قال عمر رضي الله عنه ما تقدم، وقال أبو حازم الأعرج:"لأن أحرم الدعاء أشد علي من أن أحرم الإجابة"
(1)
.
فمبدأ الأمور من الله وتمامها من الله تعالى قال تعالى: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5)} [السجدة 5]، فأخبر سبحانه أنه يبتدئ بتدبير الأمر ثم يصعد إليه الأمر الذي دبره ..
وقد قال مطرف بن عبد الله بن الشخير أحد أئمة التابعين: نظرت في
(1)
الرسالة القشيرية: 2/ 527، ونحوه في: 2/ 534.
هذا الأمر فوجدت مبدأه من الله وتمامه على الله ووجدت ملاك ذلك الدعاء
(1)
.
ومما يدل على هذا حديث ابن عمر مرفوعًا: "من فتح له منكم باب الدعاء فتحت له أبواب الرحمة"
(2)
.
وهذا الذي تقدم مستقيم على أصول أهل السنة المؤمنين بالقدر وأن الله خالق كل شيء وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
ولكنه يناقض قول القدرية: "فإنهم إذا جعلوا العبد هو الذي يُحْدِث ويخلق أفعاله بدون مشيئة الله، وخلقه لزمهم أن يكون العبد قد جعل ربه فاعلًا لما لم يكن فاعلًا له فبدعائه جعله مجيبًا له وبتوبته جعله قابلًا للتوبة"
(3)
.
وهؤلاء القدرية فروا من القول بالقدر ظنًا منهم بأنه يستلزم الظلم للعبد، ولكنهم وقعوا في هذا اللازم الذي في غاية الشناعة وهكذا كل من يترك الكتاب والسنة لما يتخيله بعقله القاصر فإنه لا بد أن يقع في محذور شر من المحذور الذي فر منه أو مثله، فمن ذلك المعطلة الذين فروا من إثبات صفات الله تعالى فرارًا من التشبيه بالمخلوق فوقعوا في التشبيه بالمعدوم فوقعوا في شر مما فروا منه قال شيخ الإسلام رحمه الله: وهؤلاء جميعهم يفرون من شيء فيقعون في نظيره بل وفي شر منه مع ما يلزمهم من التحريف والتعطيل
(4)
.
(1)
أخرجه اللالكائي في شرح أصول الاعتقاد رقم 1257، وأبو نعيم في الحلية: 2/ 208.
(2)
أخرجه الترمذي: 5/ 552 رقم 3548، والحاكم: 1/ 1490، وصححه وتعقبه الذهبي بقوله: قلت: المليكي ضعيف وقال الحافظ في إسناده لين، الفتح: 11/ 141.
(3)
الفتاوى: 14/ 383.
(4)
التدمرية ص: 7.
والذي يعصم من مثل هذه المحاذير هو الاعتصام بالكتاب والسنة واتباع السلف الصالح في فهمهما ونسأل الله تعالى أن يرزقنا حسن الاتباع ويجنبنا الابتداع.
الفصل الثالث في حكم الدعاء الشرعي
يشتمل على مبحثين:
المبحث الأول: في أقوال العلماء في حكم الدعاء.
المبحث الثاني: في كون الراجح جريان الأحكام الخمسة فيه.
المبحث الأول في أقوال العلماء في حكم الدعاء
أقوال العلماء في حكم الدعاء:
اختلف العلماء في حكم الدعاء فمن قائل بالوجوب، ومن قائل بالاستحباب، ومن قائل غير ذلك .. وإليك تفصيل ذلك:
1 -
قال بعضهم: إن الدعاء واجب، بل هو من أهم الواجبات، وأعظم المفروضات
(1)
. ويدل لهذا القول عدة أدلة نذكر منها ما يأتي:
أ - قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60].
وجه الدلالة:
1 -
الأمر في قوله: {ادْعُونِي} والأمر للوجوب، ولا صارف له
(2)
.
2 -
الآية تدل على أن ترك العبد دعاء ربه من الاستكبار وهو كفر، وتجنب ذلك واجب لا شك فيه
(3)
.
(1)
تحفة الذاكرين ص: 28، والأزهية ص: 33، وإتحاف السادة: 5/ 30.
(2)
النبذة الشريفة لابن مُعَمَّر ضمن المسائل النجدية: 4/ 595.
(3)
تحفة الذاكرين ص: 28.
ب - قوله تعالى: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 32]، ولا صارف لهذا الأمر عن الوجوب.
جـ - قوله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف: 55] ولا صارف له أيضًا.
د - قوله تعالى: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ} [العنكبوت: 17]"وهذا أمر والأمر يقتضي الوجوب، فالاستغاثة بالله واللجأ إليه في أمر الرزق وغيره أصل عظيم".
هـ - قوله صلى الله عليه وسلم: "من لم يسأل الله يغضب عليه"
(1)
.
وهذا دليل واضح على الوجوب لأن تجنب ما يغضب الله منه لا خلاف في وجوبه
(2)
. وذلك لأن الغضب لا يكون إلا على ترك واجب أو فعل محرم
(3)
.
وقد ذهب إلى الوجوب الشوكاني
(4)
ونسبه الزركشي
(5)
إلى بعض الأئمة.
(1)
أخرجه الترمذي: 5/ 456 رقم 3373، وابن ماجه 2/ 1258 رقم 3827، وأحمد: 2/ 442، 443، والبخاري في الأدب المفرد رقم 658، والطبراني في الدعاء: 2/ 796 رقم 23، وفي الأوسط: 3/ 216 رقم 2452، والحاكم: 1/ 491، كلهم من طريق أبي المليح صبيح عن أبي صالح الخوزي عن أبي هريرة به، قال الحافظ في الفتح: 11/ 95 "وهذا الخوزي مختلف فيه ضعفه ابن معين وقواه أبو زرعة"، وقال ابن كثير في التفسير: 4/ 85 "تفرد به أحمد وهذا إسناد لا بأس به" وقد وَهَّم ابنُ حجر ابن كثير في قوله بتفرد أحمد بالحديث في الفتح: 11/ 95، وقد حسن الحديث الألباني في الضعيفة: 29، وفي صحيح ابن ماجه: 2/ 324 رقم 3085.
(2)
تحفة الذاكرين: 28.
(3)
جلاء الأفهام: 213.
(4)
تحفة الذاكرين: 28.
(5)
الأزهية: 33، وعنه في إتحاف السادة: 5/ 30.
382
وقد صرح الخطابي بالوجوب إلا أن كلامه يحتمل أنه يريد بالوجوب التأكد والاستحباب لوقوعه في مقابل القائلين بعدم نفع الدعاء
(1)
.
وذكر ابن القيم أن من الدعاء ما هو واجب
(2)
، وهذا هو الصحيح كما سيأتي.
2 -
وقال آخرون: إن الدعاء مستحب، وقد نسب الإمام النووي هذا المذهب إلى الجمهور فقال: "اعلم أن المذهب المختار الذي عليه الفقهاء والمحدثون وجماهير العلماء من الطوائف كلها من السلف والخلف، أن الدعاء مستحب)
(3)
، ويدل لهذا المذهب الأدلة التي سبق الاستدلال بها في المذهب الأول نظرًا لاشتراك المذهبين في كون الدعاء مشروعًا إلا أن هذا المذهب يحمل تلك الأدلة على الاستحباب كما سيأتي في مناقشة أدلة الوجوب.
وهذا المذهب هو الأقرب إلى الصواب.
3 -
وقالت طائفة: إن الأولى ترك الدعاء والخمود تحت جريان الحكم، والرضا بما سبق به القدر
(4)
، فحكم الدعاء عند هؤلاء أنه خلاف الأولى.
4 -
وقالت طائفة
(5)
: يكون صاحب دعاء بلسانه ورضا بقلبه ليأتي بالأمرين جميعًا.
(1)
شأن الدعاء: 7، 8.
(2)
جلاء الأفهام: 213.
(3)
الأذكار: 353، وشرح مسلم للنووي: 17/ 30.
(4)
الرسالة القشيرية: 2/ 527، والأذكار: 353، وشرح مسلم: 17/ 30، والأزهية 45، وفتح الباري: 11/ 95، وإتحاف السادة: 5/ 117، وفيض القدير: 1/ 228، وشرح الفقه الأكبر للقاري: 196، وشرح الزرقاني: 2/ 32، والآداب الشرعية: 2/ 289.
(5)
انظر عن المذهب الرابع والخامس الكتب التالية: الرسالة القشيرية: 2/ 527 - 528، والأذكار: 353، وشرح مسلم: 17/ 30، وفتح الباري: 11/ 95، والأزهية: 47، وشرح الإحياء: 5/ 117، وشرح الفقه الأكبر للقاري: 196، وشرح الزرقاني: 2/ 32، والآداب الشرعية: 2/ 289.
5 -
وآخرون ذهبوا إلى أن الدعاء تارة يكون أفضل وتارة يكون السكوت أفضل وذلك يختلف بحسب الأوقات، والأحوال، وهؤلاء اختلفوا على أقوال:
1 -
قيل: ما كان للمسلمين فيه نصيب، أو لله سبحانه وتعالى فيه حق، فالدعاء أولى، وإن كان لنفسك فيه حظ فالسكوت أتم.
2 -
وقيل: إذا وجد في قلبه إشارة إلى الدعاء فالدعاء أفضل، وإذا وجد إشارة إلى السكوت فالسكوت أتم.
وذهب إلى اختيار القول بالإشارة القشيري، واعترض الحافظ عليه بأنه لا يتأتى من كل أحد
(1)
.
3 -
وقيل لا يدعو إلا بطاعة ينالها أو خوف سخط، فإن دعا بسوى ذلك فقد خرج عن حد الرضا
(2)
أي لا يدعو بما يتعلق بأمور الدنيا.
هذه الأقوال الأربعة الأخيرة، ذهب إليها المتصوفة، وقد استدلوا لما ذهبوا إليه بحجج نذكرها ثم نناقشها بما يسره الله تعالى.
ومن حجتهم حديث ابن عباس رضي الله عنهما في المرأة التي كانت تصرع حيث قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "إن شئتِ صبرت ولك الجنةُ، وإن شئتِ دعوتُ اللَّهَ أن يعافيَكِ، فقالت: أصبر، فقالت: إني أتكَشَّف فادعُ الله أن لا أَتكشَّفَ، فدعا لها"
(3)
.
وحديث جابر رضي الله عنه في شكاية أهل قباء الحمى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقوله لهم: "ما شئتم، إن شئتم أن أدعو الله لكم فيكشفها عنكم وإن شئتم أن تكون لكم طهورًا؟، قالوا: يا رسول الله أوَ تفعل؟، قال: نعم، قالوا: فدعها"
(4)
.
(1)
الفتح: 11/ 95.
(2)
الأزهية ص: 47، وإتحاف السادة: 5/ 117.
(3)
أخرجه البخاري: 10/ 114 رقم 5652، ومسلم: 4/ 1994 رقم 2576، وأحمد: 1/ 347.
(4)
أخرجه أحمد 3/ 316، وأبو يعلى: 3/ 408 رقم 1892، و 4/ 208 رقم =
وحديث: "من شغله ذكري عن مسألتي أعطيه أفضل ما أعطي السائلين"
(1)
.
= 2319، والحاكم: 1/ 73، وصححه ووافقه الذهبي. وقال الهيثمي: رجال أحمد رجال الصحيح: 2/ 306، وله شاهد من حديث أم طارق، المسند: 6/ 378. وقال الهيثمي: رواه أحمد والطبراني في الكبير ورجاله ثقات "المجمع: 2/ 306".
(1)
قد روي هذا الحديث عن عُمر بن الخطاب وجابر وحذيفة وأبي سعيد وابن عمر وعمرو بن مرة مرسلًا ومالك بن الحويرث موقوفًا.
أما حديث عمر فأخرجه البخاري في خلق أفعال العباد ص: 105 عن شيخه ضرار بن صرد وهو مختلف فيه حيث كذبه ابن معين، وقال الحافظ فيه في التقريب صدوق له أوهام وخطأ، ورمي بالتشيع.
ولكنه لم يتفرد فقد تابعه يحيى بن عبد الحميد وهو الحماني وهو متكلم فيه أيضًا وقد أخرج هذه المتابعة القضاعي في مسند الشهاب: 2/ 326 رقم 889، كلاهما - أعني ضرار بن صرد والحماني عن صفوان بن الصهباء عن بكير بن عتيق عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه عن جده مرفوعًا.
وصفوان هذا قال فيه الحافظ: مقبول، واختلف فيه قول ابن حبان.
فمثل هذا الحديث يصلح في الشواهد.
وأما حديث جابر فقد أخرجه القضاعي في مسنده: 1/ 340 رقم 378 من طريق الضحاك بن حمرة عن أبي الزبير عنه، والضحاك قال فيه الحافظ: ضعيف "التقريب: 2966".
وأما حديث حذيفة فأخرجه أبو نعيم في الحلية: 7/ 313.
من طريق أبي مسلم عبد الرحمن بن واقد عن سفيان بن عيينة عن منصور عن ربعي عن حذيفة به، وعبد الرحمن بن واقد قال فيه ابن عدي: حدث بالمناكير عن الثقات وسرق الحديث "الكامل: 4/ 1626"، وقال الحافظ صدوق يغلط "التقريب رقم 4036".
وقال الألباني: وبقية رجال الإسناد ثقات رجال الشيخين، فالإسناد حسن عندي لولا ما يخشى من سرقة عبد الرحمن بن واقد أو غلطه"، الضعيفة: 4/ 509.
ويمكن أن يقال: إن عبد الرحمن بن واقد لم ينفرد به عن ابن عيينة فإن الحسين بن الحسن المروزي روى أنه سأل ابن عيينة عن معنى الحديث فأجابه بما تقدم في ص: 75 وقد أخرج هذه الرواية الخطابي في شأن الدعاء ص: 207، وابن عبد البر في التمهيد: 6/ 44، والحسين المروزي صدوق كما في التقريب رقم 1315. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وأما حديث أبي سعيد الخدري فأخرجه الترمذي: 5/ 184 رقم 2926، والدارمي في مسنده: 2/ 317 رقم 1359، وعبد الله أحمد في السنة: 1/ 149 رقم 128، وعثمان الدارمي في الرد على الجهمية ص: 135 رقم 285 و 339، وابن حبان في المجروحين من طريق أبي يعلى: 2/ 277، والعقيلي في الضعفاء: 4/ 49، والبيهقي في الاعتقاد ص: 101 - 102، والخلال في السنة ق 180/ أ، وابن بطة في الإبانة ق 2/ 467 - 468.
كلهم من طريق محمد بن الحسن بن أبي يزيد الهمداني عن عمرو بن قيس عن عطية عن أبي سعيد الخدري به.
وقال العقيلي: ولا يتابع عليه يعني محمد بن الحسن الهمداني وقد كذبه بعضهم، وقال الحافظ: ضعيف كما في التقريب رقم 5820، وقال الذهبي: حَسَّن الترمذي حديثه فلم يُحْسِن: 3/ 515.
وفي الإسناد أيضًا عطية العوفي وهو متكلم فيه أيضًا وبه أعله الحافظ في الفتح: 9/ 66 فقال: "ورجاله ثقات إلا عطية العوفي ففيه ضعف" واستدرك عليه المباركفوري بمحمد بن الحسن الهمداني في تحفة الأحوذي: 8/ 285.
وأما حديث عبد الله بن عمر فأخرجه الطبراني كما في الفتح: 11/ 134 وقد حكم الحافظ على إسناده بأنه لين.
وأما مرسل عمرو بن مرة فأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف: 10/ 237 رقم 9322، وأما الموقوف على مالك بن الحويرث فقد أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف: 10/ 237 رقم 9320، وفيه ابن الحارث وعزاه في اللآلي: 2/ 343 إلى مصنف عبد الرزاق وابن أبي الدنيا.
والحاصل أنه يمكن أن يتقوى الحديث بمجموع هذه الطرق الخمسة: طريق أبي سعيد، وابن عمر وحذيفة وجابر وعمر بن الخطاب، مع مرسل عمرو بن مرة وأثر مالك بن الحويرث.
وقد قال الحافظ في حديث ابن عمر: إن إسناده لين كما تقدم.
ونقل عنه السيوطي في اللآلي: 2/ 342، أنه قال في حديث عمر: هذا حديث حسن.
وقد أورده ابن الجوزي في الموضوعات فلم يصب: 3/ 165.
ومن هنا يظهر أن الحديث حسن إن شاء الله تعالى بمجموع هذه الطرق لأن الضعف في أغلبها ليس شديدًا كما رأيت والله أعلم.
ويؤيد صحة الحديث كثرة استدلال السلف بهذا الحديث والسؤال عن معناه بدون نكير بينهم، ويدل على ذلك قول الحسين المروزي:"ما تركت كبير أحد بالعراق إلا سألت عنه"، انظر ما تقدم في ص: 75 الهامش.
مناقشة هذه الأقوال:
مناقشة أدلة الوجوب:
أ - يجاب عن استدلالهم بالآية الأولى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} بأمور:
1 -
المراد بالدعاء هنا العبادة كما يدل عليه آخر الآية {عَنْ عِبَادَتِي} وليس المراد بها دعاء المسألة ويدل على ذلك أيضًا أنه لو كانت الآية في دعاء المسألة لم تتخلف الإجابة كما يدل عليه صيغة الشرط والجزاء وهذا يخالف الواقع ويخالف قوله تعالى: {فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 41].
ويمكن أن يجاب عن هذا بأن الآية تشمل النوعين: المسألة والعبادة، وأن الإجابة مشروطة بوجود شروط وفقدان موانع فلا يرد الاعتراض، وقد تقدم بحث ذلك
(1)
.
وأجابوا عن آخر الآية بأن الوعيد خاص بمن ترك الدعاء للاستكبار وأما من تركه ولم يقصد الاستكبار فهذا لا تشمله الآية
(2)
.
وشذت طائفة فقالت: المراد بالدعاء في الآية: ترك الذنوب
(3)
.
والحاصل أن الآية ليست نصًا في الوجوب لاحتمال حملها على معنى العبادة كما يدل عليه آخر الآية.
ويمكن الإجابة عن الأمر في الآية الثانية والثالثة والرابعة بأن المقصود هو إخلاص الطلب لله تعالى وأن لا يصرف لغيره وأما أصل نفس الطلب فليس داخلًا فيها.
(1)
تقدم ص: 225.
(2)
الفتح: 11/ 95.
(3)
نقل ذلك الطبري عن سفيان قيل له: ادع الله، قال: إن ترك الذنوب هو الدعاء، الطبري: 4/ 79.
وأما الحديث فيجاب بما فيه من الكلام.
ثم يجاب أخيرًا بأنه لم يعهد من السلف من قال بوجوب الدعاء المطلق، فقد حكى شيخ الإسلام أن الدعاء لم يجب منه دعاء مفرد أصلًا إلا أنه وجب ضمن الذكر والثناء مثل دعاء الفاتحة، وما اختلف فيه من الدعاء بعد التشهد، وأما الدعاء المفرد فلم يجب
(1)
.
مناقشة شبه المذاهب الأخيرة:
هذه المذاهب
(2)
الثلاثة الأخيرة قد ذهب إليها أكثر المتصوفة وظنوا أن الدعاء يتنافى مع الرضا بالقضاء، ولا يمكن الجمع بينهما كما ظنوا أن في الدعاء معارضة لحكم الله وقضائه، ومعاندة له، وأنه ينافي التوكل.
ومن هنا ذهبوا إلى أن الأولى: السكوت عن الدعاء والتسليم للمقدور وتفويض الأمر إلى الله تعالى، وظنوا أن هذا هو الرضا المطلوب شرعًا، وبلغ بهم الأمر إلى ما نقل عن بعضهم أنه قال:
"الرضا أن لا تسأل الله الجنة ولا تستعيذ به من النار"
(3)
.
وروي عن آخر أنه قال: "الرضا أنه لو جعل الله جهنم عن يمينه ما سأل أن يحولها إلى يساره"
(4)
.
وقال بعضهم: "التوكل على الله تعالى بكمال الحقيقة ما وقع لإبراهيم عليه السلام في الوقت الذي قال لجبريل عليه السلام: أما إليك فلا، لأنه غابت نفسه بالله تعالى فلم ير مع الله غير الله عز وجل"
(5)
.
(1)
الفتاوى: 22/ 381.
(2)
انظر مدارج السالكين: 2/ 238، 44، 46، والفتح: 11/ 95.
(3)
الرسالة القشيرية ونسبه إلى أبي سليمان الداراني: 1/ 452، والفتاوى: 10/ 678.
(4)
الرسالة القشيرية ونسبه إلى رويم: 1/ 424.
(5)
المرجع نفسه: 1/ 420.
وهذا يشير إلى أنهم اعتمدوا في مذهبهم على ما روي عن إبراهيم الخليل عليه السلام من قوله: علمه بحالي يغني عن سؤالي وقد تقدم ما فيه.
واستنبط لهم ابن أبي جمرة
(1)
دليلًا آخر وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم أخَّر الدعاء للاستسقاء حتى طلبوه منه، وإنما أخَّر ذلك لأن مقام التفويض أفضل
(2)
.
وقد رد الشيخ عبد العزيز بن باز - حفظه الله - على هذا الكلام بقوله: "في هذا نظر، والصواب أن الأخذ بالأسباب والبدار بالدعاء، والاستغاثة عند الحاجة أولى وأفضل، وسيرته صلى الله عليه وسلم وسيرة أصحابه رضي الله عنهم تدل على ذلك، ولعله إنما أخر الدعاء لأسباب اقتضت ذلك غير التفويض، فلما سأله هذا السائل بادر بإجابته، وذلك عن إذن الله سبحانه وتشريعه، لأنه صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، والله أعلم"
(3)
.
ويمكن أن يجاب عن حديث المرأة التي تصرع وحديث الأنصار في أمرهم بالصبر بأنه رأى منهم الجزع وقلة الصبر فأمرهم بذلك أو أنه أوحي إليه أنه لا يكشف عنهم في ذلك الوقت وأخر الدعاء، قاله الزركشي وتبعه الزبيدي
(4)
.
ويدل قوله في حديث المرأة: "إن شئت صبرت ولك الجنة" على أن الابتلاء أفضل لها لما يترتب عليه من دخول الجنة فلهذا دعا لها في قضية التكشف مما يدل على أن الدعاء أفضل إذا لم يعارضه ما هو أولى.
(1)
هو عبد الله بن أبي جمرة وصفه ابن حجر بالإمام القدوة الذي شرح البخاري، (ت 699 هـ) وهو صوفي كما يظهر من كلامه، انظر الدرر الكامنة: 2/ 254، ومعجم المؤلفين: 6/ 40.
(2)
نقله عن ابن أبي جمرة في الفتح: 2/ 507، ولم يعترض عليه.
(3)
تعليق الشيخ ابن باز على هامش فتح الباري: 2/ 507.
(4)
الأزهية: 49 - 50، وإتحاف السادة: 5/ 118.
ثم إنه يلزم من كلامهم عدة محذورات، منها:
1 -
ترك الدعاء الذي أمرنا الشارع به وهو عبادة من أعلى أنواع العبادات، وقد أرشدنا الله تعالى إلى دعائه ولم يقيده بشيء فقال:{وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 32]، فليس في هذا تقييد بأن لا يكون من حظ النفس.
والقول بالإشارة القلبية لا يمكن أن يذهب إليه لأنه يحتمل أن تكون لَمَّةً شيطانية فربما يوسوس له الشيطان فيترك طلب ما يكون الأولى له طلبه من المصالح الدنيوية والأخروية.
ثم يفوت العبد بهذه الوساوس الاستعانة بالله والتضرع إليه واللجأ إليه والتملق له إلى غير ذلك من الفوائد التي اشتمل عليها الدعاء، ثم إن الإشارة القلبية لا تتأتى من كل أحد
(1)
.
ثم هو معارض بما ثبت وتواتر من دعائه صلى الله عليه وسلم بكشف البلايا كالاستسقاء ونحوه، ويمكن أن يقال أيضًا: إن ذلك خاص بالحمى لأن فيها كفارة كما ورد في أحاديث أخرى، وكذلك خاص بتلك المرأة لما ذكر لها من الأجر وليس ذلك أمرًا عامًا والله أعلم. وأما حديث من شغله ذكري فيحمل على اختلاف الأحوال والأشخاص كما تقدم
(2)
ولا يمكن الاستدلال به على أفضلية السكوت مطلقًا.
أصل شبهتهم:
قد التبست عليهم هذه الشبهة ودخل عليهم إبليس بسببها من جهتين:
إحداهما: ظنهم أن الرضا بكل ما يوجد في الكون أمر يحبه الله ويرضاه وأن هذا من أعظم ما يوصل إلى الله تعالى ومرضاته، فجعلوا
(1)
الفتح: 11/ 95.
(2)
ص: 142.
الرضا بكل حادث وبكل حال يكون فيها العبد طريقًا إلى الله تعالى.
وثانيتهما: أنهم لم يميزوا بين الدعاء المشروع المأمور به إيجابًا أو استحبابًا مثل دعاء الفاتحة والذي في آخر الصلاة، وبين الدعاء غير المشروع كالذي فيه الاعتداء.
وهاتان الجهتان غير صحيحتين لأن الطريق الموصل إلى رضا الله تعالى هو أن ترضيه بفعل ما يحبه ويرضاه من الأعمال الصالحة وليس بالرضا بكل ما يحدث، فإن الله لم يأمر بهذا، ولا رضيه، بل الله سبحانه يكره ويسخط ويبغض على أعيان أفعال موجودة لا يحصيها إلا هو، وولاية الله موافقته بحب ما يحبه وبغض ما يبغضه، وولاية من يواليه وعداوة من يعاديه لا بحب ما يكرهه ويسخطه.
هذا بالنسبة إلى الجهة الأولى ..
ثم إن الرضا الذي هو من طريق الله لا يمكن أن يتضمن ترك واجب أو مستحب فالدعاء الواجب أو المستحب لا يكون تركه من الرضا كسائر الأعمال الصالحات.
فقد تبين غلط هؤلاء من جهة ظنهم أن الرضا مشروع بكل مقدور، ومن جهة أنهم لم يميزوا بين الدعاء المشروع وغير المشروع
(1)
.
ثم يقال ثانيًا: "هنا أمران: قضاء الله، وهو فعل قائم بذات الله تعالى، ومَقْضِيٌّ، وهو المفعول المنفصل عنه، فالقضاء كله خير وعدل وحكمة، نرضى به كله، والمقضي قسمان، منه ما يرضى به، ومنه ما لا يرضى به"
(2)
.
ثم إن هؤلاء لم يعرفوا أن الدعاء والتوكل والتداوي من الأسباب
(1)
الفتاوى: 10/ 711 - 714، ومنهاج السنة: 3/ 205 - 206، وشرح الطحاوية ص:227.
(2)
شرح الطحاوية ص: 227، ومنهاج السنة: 3/ 209.
التي شرعها الله تعالى لا يخرج الأخذ بها من الرضا بقضاء الله تعالى، كما أن من عرض له كلب الجوع لا يخرجه فزعه إلى الغذاء من التوكل والرضا بالقضاء، لأن الله تعالى جعل أسبابًا لدفع الأدواء كما جعل الأكل سببًا لدفع الجوع، وقد كان قادرًا أن يحيي خلقه بغير هذا ولكنه خلقهم ذوي حاجة فلا يندفع عنهم أذى الجوع إلا بما جعل سببًا لدفعه عنهم
(1)
فكذا الداء العارض والبلاء النازل قد لا يندفعان إلا بالدواء والدعاء.
فتحصل من هذا أن الدعاء والإلحاح على الله في الطلب لا يتنافى مع الرضا ولا مع التوكل، وإنما الذي ينافي الرضا ما لو ألح على الله "متحكمًا عليه متخيرًا عليه ما لم يعلم هل يرضاه أم لا كما يلح على ربه في ولاية شخص أو إغنائه، أو قضاء حاجته، فهذا ينافي الرضا لأنه ليس على يقين أن مرضاة الرب في ذلك"
(2)
.
(1)
تلبيس إبليس: 287 - 288.
(2)
مدارج السالكين: 2/ 238.
المبحث الثاني في كون الراجح جريان الأحكام الخمسة فيه
الراجح أن الدعاء تجري فيه الأحكام الخمسة: فتارة يجب، وتارة يستحب، وتارة يباح، وتارة يكره، وتارة يحرم.
فتختلف فيه الأحكام بحسب الاعتبارات. وأما الأصل فيه بدون الاعتبارات الندب والاستحباب كما حكى ذلك النووي عن السلف فيما تقدم، وكما ذكر شيخ الإسلام أنه لم يجب دعاء مفرد أصلًا.
وقال القرافي
(1)
: "اعلم أن الدعاء الذي هو الطلب من الله تعالى له حكم باعتبار ذاته من حيث هو طلب من الله تعالى، وهو الندب، لاشتمال ذاته على خضوع العبد لربه، وإظهار ذلته وافتقاره إلى مولاه، فهذا ونحوه مأمور به، وقد يعرض له متعلقاته ما يوجبه، أو يحرمه، والتحريم ينتهي إلى الكفر، وقد لا ينتهي"
(2)
.
وهذا التفصيل الذي ذكره القرافي هو الذي تدل عليه الأدلة ويجتمع به شملها ويدل على هذا أيضًا قول شيخ الإسلام: "وأما الدعاء فلم يجب منه دعاء مفرد أصلًا"، ثم ذكر دعاء الفاتحة والاستعاذة في التشهد
(3)
.
(1)
هو أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن بن عبد الله الصنهاجي الأصل أبو العباس فقيه أصولي (ت 684 هـ)، معجم المؤلفين: 1/ 158.
(2)
الفروق للقرافي: 4/ 259 - 260.
(3)
الفتاوى: 22/ 381.
وقال أيضًا: "والقاعدة الكلية في شرعنا: أن الدعاء إن كان واجبًا أو مستحبًا فهو حسن يثاب عليه الداعي، وإن كان محرمًا كالعدوان في الدعاء فهو ذنب ومعصية، وإن كان مكروهًا فهو ينتقص مرتبة صاحبه، وإن كان مباحًا مستوي الطرفين فلا له ولا عليه"
(1)
.
فاتضح من هذا أن الدعاء تجري فيه الأحكام الخمسة: وإليك تفصيل ذلك:
الدعاء الواجب:
الدعاء الواجب ينقسم إلى قسمين: واجب باتفاق، وواجب مختلف فيه.
فمن الواجب المتفق عليه: دعاء الفاتحة، والتوبة، والاستغفار.
ومن الواجب المختلف فيه: الدعاء الذي في آخر التشهد، ودعاء دخول المسجد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
وإليك نبذة في الكلام على هذه الأمور، فنبدأ أولًا بدعاء الفاتحة.
الأول: دعاء الفاتحة:
اتفق العلماء من حيث الجملة - وإن اختلفوا في بعض الصور كالمأموم - على وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة، فهي أعظم سورة في القرآن الكريم كما ثبت ذلك في الحديث
(2)
الصحيح، وقد أوجب الله علينا قراءتها في كل ركعة، وكل مسلم يجب عليه أن يكررها في اليوم والليلة سبع عشرة مرة، هذا في الصلاة المفروضة عدا النوافل والسنن، وأما مع
(1)
الاحتجاج بالقدر ص: 60 - 61، وانظر الفتاوى: 10/ 279.
(2)
فقد روى البخاري عن أبي سعيد المعلي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "لأعلمنك سورة هي أعظم السور في القرآن قبل أن تخرج من المسجد"، ثم قال له:"الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني، والقرآن العظيم الذي أوتيته"، الصحيح: 8/ 156 رقم (4474).
النوافل الرواتب وغيرها فأكثر من ذلك بكثير، وما شرع ذلك إلَّا لحكمة جليلة وسر عظيم، وقد علم أن الصلاة أفضل ما يتقرب به العبد في الجملة:"وهي مؤلفة من كلم طيب وعمل صالح، أفضل كلمها الطيب القرآن، وأفضل عملها الصالح وأوجبه السجود"
(1)
.
والقرآن الذي تجب قراءته على المصلي هو الفاتحة، قال صلى الله عليه وسلم في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه المتفق عليه:"لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب"
(2)
.
وقال صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله تعالى: حمدني عبدي، وإذا قال: الرحمن الرحيم، قال الله تعالى: أثنى عليّ عبدي، وإذا قال: مالك يوم الدين، قال: مجدني عبدي، فإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين، قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين، قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل"
(3)
.
فقد أطلق في هذا الحديث لفظ الصلاة على القراءة، كما في قوله تعالى:{وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} [الإسراء: 110] "أي بقراءتك كما جاء مصرحًا به في الصحيح عن ابن عباس
(4)
.
وهكذا قال في هذا الحديث: "قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فنصفها لي ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل".
(1)
الفتاوى: 14/ 5، وكتاب التوحيد وإخلاص العمل ص:162.
(2)
البخاري: 2/ 237 رقم 756، ومسلم: 1/ 295 رقم 394.
(3)
رواه مسلم: الصلاة 1/ 296 رقم 395.
(4)
رواه البخاري في تفسير سورة الإسراء: 8/ 404 رقم 4722.
ثم بيّن تفصيل هذه القسمة في قراءة الفاتحة، فدل على عظمة القراءة في الصلاة وأنها من أكبر أركانها إذ أطلقت العبادة وأريد بها جزء واحد منها وهو القراءة، كما أطلق لفظ القراءة والمراد به الصلاة في قوله:{وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78] والمراد صلاة الفجر كما جاء مصرحًا به في الصحيحين: "إنه يشهدها ملائكة الليل وملائكة النهار
(1)
"
(2)
.
وهذا كله يدل على فضل هذه السورة وفضل ما اشتملت عليه من الدعاء العظيم، وقد ثبت كما في الحديث السابق أن هذه السورة منقسمة بين الله وبين عبده وأن هاتين الكلمتين مقتسم السورة فإياك نعبد مع ما قبلها لله، وإياك نستعين مع ما بعدها للعبد وله ما سأل.
ولهذا قال من قال من السلف: نصفها ثناء، ونصفها مسألة، وكل واحد من العبادة والاستعانة دعاء، وهما نوعا الدعاء وهما جميعًا مختصان بالله حقان له لا يصلحان لغيره بل دعاء غيره بأحد النوعين شرك.
وإذا كان الله قد فرض علينا أن نناجيه وندعوه بهاتين الكلمتين في كل صلاة فمعلوم أن ذلك يقتضي أنه فرض علينا أن نعبده وأن نستعينه، إذ إيجاب القول الذي هو إقرار واعتراف، ودعاء، وسؤال، هو إيجاب لمعناه، ليس إيجابًا لمجرد لفظ لا معنى له، فإن هذا لا يجوز أن يقع، بل إيجاب ذلك أبلغ من إيجاب مجرد العبادة والاستعانة، فإن ذلك قد يحصل أصله بمجرد القلب، أو القلب والبدن، بل أوجب الله دعاءه، ومناجاته، وتكليمه، ومخاطبته بذلك، ليكون الواجب من ذلك كاملًا صورة ومعنى بالقلب وبسائر الجسد
(3)
.
(1)
أخرجه البخاري: 2/ 137 رقم 648، ومسلم: 1/ 450 رقم 649.
(2)
تفسير ابن كثير: 1/ 11.
(3)
الفتاوى: 14/ 8، وكتاب التوحيد وإخلاص العمل لله ص: 165، وبيان تلبيس الجهمية: 2/ 457.
مدى ضرورة الإنسان إلى هذا الدعاء
(1)
:
الإنسان مضطر دائمًا إلى أن يهديه الله الصراط المستقيم، لأنه يحتاج كل وقت وفي كل لحظة، أن يفعل ما أمره الله به في ذلك الوقت، من علم وعمل، وأن لا يفعل ما نهى عنه، ويحتاج أيضًا إلى أن يحصل له إرادة جازمة لفعل المأمور وكراهة جازمة لترك المحظور، فإنه لا يكفي مجرد علمه إن لم يجعله الله مريدًا للعمل بعلمه، وإلا كان العلم حجة عليه ولم يكن مهتديًا، ويحتاج أيضًا إلى أن يجعله الله قادرًا على العمل بتلك الإرادة الصالحة، فهذا العلم المفصل والإرادة المفصلة والقدرة على ذلك لا يتصور أن تحصل للعبد في وقت واحد، بل كل وقت يحتاج إلى أن يجعل الله في قلبه من العلوم والإرادات ما يهتدي به في ذلك الوقت إلى الصراط المستقيم، وأن يجعله قادرًا على ذلك، ويدخل في هذا من أنواع الحاجات ما لا يمكن إحصاؤه، نعم حصل له هدى مجمل بدخوله في دين الإسلام، ولكن هذا المجمل لا يغنيه إن لم يحصل له هدى مفصل في كل ما يأتيه ويذره من الجزئيات التي يحار فيها أكثر عقول الخلق، ويغلب الهوى والشهوات أكثر عقولهم لغلبة الشهوات والشبهات عليهم، وإنما يعرف بعض قدر هذا الدعاء من اعتبر أحوال نفسه ونفوس الناس المأمورين بهذا الدعاء ورأى ما في النفوس من الجهل والظلم، فإن
(1)
يراجع في هذا إلى الكتب التالية: جامع الرسائل: 1/ 99 - 100، وكتاب التوحيد وإخلاص العمل: 193 - 195، والفتاوى: 14/ 37، 320 - 322 و 10/ 108 - 109، ومدارج السالكين: 1/ 9 - 10، وإغاثة اللهفان: 1/ 20، ومفتاح السعادة: 1/ 107، ورسالة الصلاة: 144 - 145، وبدائع الفوائد: 2/ 38، ورتب فيه ابن القيم هذه الأمور التي يحتاج إليها الإنسان إلى سبعة أمور وهي مذكورة هنا بدون تفصيل:
1 -
معرفة كونه محبوبًا للرب، 2 - أن يحصل له عزم عليه، 3 - أن يقوم به فعلًا وتركًا، هذه الثلاثة أصول الهداية، وثلاثة أخرى من تمامها:
1 -
الحاجة إلى تفصيلها، 2 - أن يهتدي إلى جميع الوجوه، لا إلى وجه واحد، 3 - الدوام والاستمرار. وذكر أمرًا سابعًا وهو التوبة مما مضى.
الإنسان خلق ظلومًا جهولًا، فالأصل فيه عدم العلم وميله إلى ما يهواه من الشر، فيحتاج دائمًا إلى علم مفصل يزول به جهله، وعدلٍ في محبته وبغضه ورضاه، وغضبه، وفعله، وتركه، وإعطائه، ومنعه، وأكله، وشربه، ونومه، ويقظته.
فكل ما يقوله وما يعمله يحتاج فيه إلى علم ينافي جهله، وعدل ينافي ظلمه، فإن لم يمن الله عليه العلم المفصل والعدل المفصل، وإلا كان فيه من الجهل والظلم ما يخرج به عن الصراط المستقيم.
وقد قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم بعد صلح الحديبية وبيعة الرضوان: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} إلى قوله تعالى: {وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [الفتح: 1 - 2]، فإذا كان هذا حاله في آخر حياته، أو قريبًا منها، فكيف حال غيره؟.
وقال في حق موسى وهرون: {وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الصافات: 117، 118].
والمسلمون قد تنازعوا فيما شاء الله من الأمور الخبرية العلمية الاعتقادية والعملية، مع أنهم كلهم متفقون على أن محمدًا حق، والقرآن حق، فلو حصل لكل منهم الهدى إلى الصراط المستقيم فيما اختلفوا فيه لم يختلفوا ثم الذين علموا ما أمر الله به أكثرهم يعصونه ولا يحتذون حذوه، فلو هدوا إلى الصراط المستقيم في تلك الأعمال لفعلوا ما أمروا به وتركوا ما نهوا عنه.
والذين هداهم الله من هذه الأمة حتى صاروا من أولياء الله المتقين كان من أعظم أسباب ذلك دعاؤهم الله بهذا الدعاء في كل صلاة مع علمهم بحاجتهم وفاقتهم إلى الله دائمًا في أن يهديهم الصراط المستقيم فبدوام هذا الدعاء والافتقار صاروا من أولياء الله.
ثم ما حصل فيه الهدى في الماضي فهو محتاج إلى حصول الهدى فيه في المستقبل، فالناس كلهم مضطرون إلى هذا الدعاء، ولهذا فرضه الله
عليهم في كل صلاة فليسوا إلى شيء من الدعاء أحوج منهم إليه وإذا حصل الهدي إلى الصراط المستقيم، حصل النصر والرزق وسائر ما تطلبه النفوس من السعادة.
فحاجة العبد إلى سؤال هذه الهداية ضرورية في سعادته ونجاته وفلاحه بخلاف حاجته إلى الرزق والنصر فإن الله يرزقه فإذا انقطع رزقه مات والموت لا بد منه، فإذا كان من أهل الهداية كان سعيدًا قبل الموت وبعده، وكان الموت موصلًا إلى السعادة الأبدية، وكذلك النصر إذا قدر أنه غلب حتى قتل فإنه يموت شهيدًا، وكان القتل من تمام النعمة.
فتبين بهذا أن الحاجة إلى الهدى أعظم من الحاجة إلى النصر والرزق بل لا نسبة بينهما لأنه إذا هدي كان من المتقين {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2، 3].
وكان ممن ينصر الله ورسوله ومن نصر الله نصره الله وكان من جند الله وهم الغالبون، ثم أيضًا إن الهدى التام يتضمن حصول أعظم ما يحصل به الرزق والنصر، فالهدى التام - وهو أن يهتدي ويأمر غيره ويهديه بقوله وفعله ورؤيته - يتضمن الرزق والنصر لأنه إذا هدي ثم أمر وهدي غيره بقوله وفعله ورؤيته اكتمل له الهدى التام فيحصل له كل مطلوب ومقصود.
وقد ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى أن من ضل عن علم فهو شبيه باليهود ومن ضل عن جهل فهو شبيه بالنصارى، ثم قال:"ومن تصور الشبهين والوصفين وعلم أحوال الخلق، علم ضرورته وفاقته إلى هذا الدعاء الذي ليس للعبد دعاء أنفع منه ولا أوجب منه عليه وإن حاجته إليه أعظم من حاجته إلى الحياة والنفس لأن غاية ما يقدر بفوتهما موته، وهذا يحصل له بفوته شقاوة الأبد فنسأل الله أن يهدينا الصراط المستقيم"
(1)
.
(1)
بدائع الفوائد: 2/ 32.
وبما سبق تقريره يعلم الجواب عما أورده
(1)
بعضهم في قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} حيث قالوا: المؤمن قد هدي إلى الصراط المستقيم فأي فائدة في طلب الهدى؟
ثم يجيب بعضهم بأن المراد ثبتنا على الهدى، أو يقول بعضهم: الزم قلوبنا الهدى، ويقول بعضهم: زدني هدى، وإنما يوردون هذا السؤال لعدم تصورهم الصراط المستقيم الذي يطلب العبد الهداية إليه.
مكانة هذا الدعاء:
فاتضح مما سبق تقريره أن دعاء الفاتحة أفضل دعاء دعا به العبد ربه، وأوجب دعاء، وأنفعه، وأعظمه، وأحكمه، وهو أجل المطالب ونيله أشرف المواهب، وأنجح الرغائب، لأنه جامع لكل مطلوب لأن فيه طلب الإعانة على مرضاة الله فإذا أعين الإنسان على مرضاة الله حصل له كل خير واندفع عنه كل الشرور، وبهذا تجتمع له مصالح الدين والدنيا والآخرة.
وفيه أيضًا طلب الهداية إلى الصراط المستقيم، فإذا هدي الإنسان إلى الصراط المستقيم في علمه وعمله وأحواله كلها، لم يبق له شيء من المطالب إلا ودخل في ذلك، فسؤال الهداية متضمن لحصول كل خير، والسلامة من كل شر
(2)
.
وقد قال العز بن عبد السلام رحمه الله تعالى: "والهداية لأفضل
(1)
انظر في هذا الإيراد الكتب التالية: معاني القرآن للزجاج: 1/ 49، وجامع البيان للطبري: 1/ 72، والفتاوى: 10/ 106 - 107، وبدائع الفوائد: 2/ 37، ومفتاح دار السعادة: 1/ 108
(2)
انظر الفتاوى: 14/ 40، 320 و 17/ 132، والاحتجاج بالقدر: 46، ومدارج السالكين: 1/ 10، 23، 24، 52، وزاد المعاد: 4/ 177 - 178، ورسالة الصلاة ص: 145، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 1/ 147، وشرح الفقه الأكبر للقاري: 71، وتفسير الفاتحة ص: 51، وشرح الطحاوية ص:534.
الأعمال والأحوال والأقوال في أوقاتها المضروبة لها أفضل ما مَنَّ به الإله سبحانه وتعالى"
(1)
.
ثم إن هذا الدعاء اشتمل على أكمل صيغ الدعاء من الجمع بين الثناء على المسؤول وإفراده بالطلب وسؤال الحاجة، ففي الفاتحة تعليم الله عباده كيفية سؤاله وأمرهم أن يقدموا بين يديه حمده والثناء عليه، وتمجيده وهذا أكمل أحوال السائل أن يمدح مسؤوله، ثم يسأل حاجته، وحاجة إخوانه المؤمنين ثم ذكر عبوديتهم وتوحيدهم، فهاتان وسيلتان إلى مطلوبهم: توسل إليه بأسمائه وصفاته وتوسل إليه بعبوديته، وهاتان الوسيلتان لا يكاد يرد معهما الدعاء
(2)
.
فتبين بهذا لماذا كان هذا الدعاء هو المفروض، دون غيره من الأدعية، ولماذا لا يقوم غير الفاتحة مقامها؟
الثاني: التوبة والاستغفار:
قد اتفق العلماء على وجوب التوبة من الذنب، قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} [التحريم: 8].
وقال عز من قائل: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} [هود: 3].
وقال سبحانه: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} [نوح: 10].
ولفظ الأمر في هذه الآيات للوجوب إذ لا صارف له، فثبت بهذا وجوب الاستغفار وقد تقدم في التعريف
(3)
أن الاستغفار نوع من أنواع الدعاء.
(1)
قواعد الأحكام: 2/ 191.
(2)
مدارج السالكين: 1/ 23، وتفسير ابن كثير: 1/ 26.
(3)
تقدم ص: 94.
قال ابن القيم رحمه الله في مناقشته لمن أنكر وجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: "إن قولكم: الدعاء لا يجب باطل، فإن من الدعاء ما هو واجب، وهو الدعاء بالتوبة والاستغفار من الذنوب والهداية والعفو وغيرها"
(1)
.
الدعاء المختلف في وجوبه:
فمن الدعاء المختلف في وجوبه:
1 -
الدعاء الذي في آخر الصلاة فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو به في صلاته ويأمر به أصحابه.
فقد روى طاوس عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم هذا الدعاء كما يعلمهم السورة من القرآن يقول: "قولوا: اللهم إنا نعوذ بك من عذاب جهنم وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات"
(2)
.
فهذا الدعاء تنازع العلماء في وجوبه فأوجبه طاوس، قال مسلم بن الحجاج بعد إخراجه للحديث:"بلغني أن طاوسًا قال لابنه: أدعوت بها في صلاتك؟ فقال: لا، قال: أعد صلاتك لأن طاوسًا رواه عن ثلاثة أو أربعة أو كما قال"
(3)
.
وقد تبع طاوسًا طائفة من الفقهاء وهو قول في مذهب أحمد
(4)
.
ويرى ابن حزم أنه يلزم المصلي أن يقوله في التشهدين الأول
(1)
جلاء الأفهام: 312 - 313.
(2)
أخرجه مسلم: 1/ 413 رقم 590. وله شاهد من حديث عائشة، أخرجه البخاري: 2/ 317 رقم 832، ومسلم: 1/ 412 رقم 589، ومن حديث أبي هريرة أخرجه مسلم برقم 588.
(3)
صحيح مسلم: 1/ 413.
(4)
الفتاوي: 10/ 713 و 220/ 381، والفتح: 2/ 321.
والأخير وأن ما ورد في بعض طرق الرواية من تقييد ذلك بالتشهد الأخير لا يخص العموم الوارد في الروايات الأخرى فيشمل اسم التشهد الجميع
(1)
.
وهذا مردود لمخالفته قاعدة حمل المطلق على المقيد لاسيما مع اتحاد مخرج الحديث
(2)
.
وقد عد الحافظ ابن حجر إيجاب ابن حزم له في التشهد الأول إفراطًا
(3)
.
والذين لم يقولوا بوجوب هذا الدعاء استدلوا بحديث ابن مسعود في التشهد وفيه: ثم يتخير من الدعاء"
(4)
.
قال ابن المنذر: لولا حديث ابن مسعود: "ثم ليتخير من لقلت بوجوبها"
(5)
.
ويمكن أن يقال: إن الأمر بالتخيير يحمل على الأدعية التي بعد الاستعاذة فيتخير في الأدعية التي بعدها، وأما الاستعاذة من هذه الأمور الأربعة فلا تخيير فيها
(6)
.
هذا ومما لا شك فيه أن هذا الدعاء من أوكد الأدعية وأهمها في التشهد.
قال شيخ الإسلام: ولا ريب أنه أوكد الأدعية المشروعة في هذا الموضع فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينقل عنه أنه أمر بدعاء بعد التشهد إلا بهذا
(1)
المحلى: 3/ 271 - 272.
(2)
انظر هامش المحلى: 3/ 272.
(3)
الفتح: 2/ 321.
(4)
البخاري مع الفتح: 2/ 320 رقم 831 و 835، ومسلم: 1/ 301 رقم 402.
(5)
الفتح: 2/ 321.
(6)
انظر الإشارة إلى هذا في الفتح: 2/ 318.
الدعاء، وإنما نقل عنه أنه كان يقول: أدعية مشروعة، وأمره أوكد من فعله باتفاق المسلمين"
(1)
.
2 -
ومن الدعاء المختلف في وجوبه في وجوبه دعاء دخول المسجد.
فقد ذهب ابن حزم إلى وجوبه وأن من دخل المسجد وتركه فقد عصى الله بتركه مع صحة صلاته
(2)
.
والظاهر أنه أوجبه لورود الأمر به حيث ذهب في دعاء الاستفتاح إلى عدم الوجوب وعلل ذلك بقوله:
"وإنما لم نذكر ذلك فرضًا لأنه فعل منه عليه السلام ولم يأمر به، فكان الائتساء به حسنًا"
(3)
.
فدل هذا التعليل على أن إيجابه لدعاء دخول المسجد للأمر الوارد فيه وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا دخل أحدكم المسجد، فليقل اللهم افتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج، فليقل: اللهم إني أسألك من فضلك"
(4)
.
3 -
ومن الدعاء المختلف فيه الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فقد ذكر الحافظ ابن حجر
(5)
أن حاصل ما وقف عليه من أقوال العلماء في حكمها عشرة، مذاهب منها الوجوب في الجملة بغير حصر، ومنها أنها تجب في العمرة مرة ومنها أنها تجب في التشهد الأخير، ومنها أنها تجب في
الصلاة من غير تعيين المحل ومنها أنها تجب في كل دعاء.
وقد ذكر ابن القيم
(6)
أدلة بعض هذه المذاهب وناقشها بتوسع وأطال في ذلك.
(1)
بغية المرتاد ص: 513 - 514.
(2)
المحلى: 4/ 60.
(3)
المحلى: 4/ 97.
(4)
أخرجه مسلم: 1/ 494 رقم 713، والنسائي: 2/ 41، وأخرجه أبو داود: 1/ 317 رقم 465، كلهم من حديث أبي حميد أو أبي أسيد.
(5)
فتح الباري: 11/ 152 - 153.
(6)
جلاء الأفهام: 229 - 240، وفي 193 - 216.
والمقصود هنا بيان أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من الدعاء المختلف في وجوبه ولهذا نكتفي بهذا القدر بدون توسع.
وأما الدعاء المستحب فهو كثير جدًّا وغالب الأدعية المأثورة من هذا الباب نحو أدعية النوم والاستيقاظ والدعاء عقب الوضوء، والدعاء بين الأذان والإقامة ودعاء الاستخارة، وقد ورد الأمر بصلاة الاستخارة، وبالدعاء عقبها والعلماء لم يقولوا بالوجوب مع ورود الأمر به
(1)
. ولعله قد ثبت عندهم الصارف.
وأما الدعاء المحرم فهو يتنوع إلى نوعين:
وذلك أن التحريم تارة من جهة المطلوب، وتارة من جهة نفس الطلب، فالأول مثل أن يسأل الله ما يضره في دنياه أو في آخرته، ومثل أن يدعو على غيره دعاء منهيًا عنه وأما الثاني الذي هو من جهة الطلب فمثل دعاء غير الله تعالى أو دعاء بكلمات فيها اعتداء
(2)
وقد قسم القرافي الدعاء المحرم إلى قسمين:
1 -
نوع محرم ينتهي إلى الكفر.
2 -
نوع محرم لا ينتهي إلى الكفر.
ثم هذان النوعان قد قسمهما أيضًا القرافي المالكي إلى أقسام، وقد قسم الذي ينتهي إلى الكفر إلى أربعة أقسام
(3)
.
ثم قسم المحرم الذي لا ينتهي إلى الكفر إلى اثني عشر قسمًا
(4)
، وعد كل تلك الأقسام ومثل لها بأمثلة.
ولكن كثيرًا من تلك الأقسام والأمثلة عليها مؤاخذات لأن ذلك
(1)
نيل الأوطار: 3/ 83.
(2)
انظر اقتضاء الصراط ص: 352 - 355.
(3)
انظر الفروق: 4/ 260 - 265.
(4)
انظر المرجع السابق: 4/ 265 - 297.
التقسيم عقلي اعتمد فيه القرافي على الاحتمالات العقلية وما يقتضيه التقسيم المنطقي، وكثير منها لا دليل عليها بل في بعضها خالف النصوص القطعية ولهذا رد عليه العلماء وبينوا خطأه فيها
(1)
.
ومن الأمور التي عليه فيها مؤاخذة ما ذكره بقوله: "القسم الثالث الذي ليس بكفر وهو محرم أن يطلب الداعي من الله تعالى نفي أمر دل السمع على نفيه وله أمثلة، الأول أن يقول {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} مع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه"
(2)
.
فقد دل هذا الحديث على أن هذه الأمور مرفوعة عن العباد فيكون طلبها من الله تعالى طلبًا لتحصيل الحاصل فيكون سوء أدب على الله تعالى لأنه طلب عري عن الحاجة والافتقار إليه"
(3)
.
وهذا الكلام - كما هو واضح - غير صحيح فكيف يكون ما
(1)
وممن رد عليه ابن الشاط قاسم بن عبد الله (ت (723 هـ) في كتابه البروق في تعقب مسائل القواعد والفروق وهو مطبوع بهامش الفروق فقد اعترض على كثير مما أورده القرافي وكذلك الزركشي في كتابه الأزهية في أحكام الأدعية فقد نقل عنه بعض كلامه ثم قال: هذا حاصل ما ذكره القرافي وفيه نظر" الأزهية: 147، ونحوه في موضع آخر، انظر ص 150 ولعل ابن القيم أراده عندما قال: ورأيت بعض متعمقي هؤلاء في كتاب له لا يجوز الدعاء بهذا وإنما يجوزه تلاوة لا دعاء مدارج السالكين: 3/ 118، واعترض عليه أيضًا ابن حجر الهيتمي في الإعلام بقواطع الإسلام: 2/ 177 - 180.
(2)
قد روي الحديث من طريق أبي ذر وثوبان وابن عمر وأبي بكرة وأم الدرداء والحسن البصري مرسلًا، وهذه الطرق لا تخلو من ضعف لكن يقوي بعضها بعضًا ومن هنا قال السخاوي ومجموع هذه الطرق يظهر أن للحديث أصلًا، ونقل عن النووي تحسينه المقاصد ص: 230 رقم 528" وقد صححه أيضًا الألباني في صحيح الجامع: 3/ 179 رقم 3509، وفي الإرواء: 1/ 124 رقم 82.
(3)
الفروق: 4/ 274.
حكاه الله تعالى عن الرسول والمؤمنين أنهم يقولونه محرمًا ويكون الدعاء به لا فائدة فيه؟ ثم من الذي قال من السلف بهذه القاعدة التي تخالف الكتاب والسنة وعمل المسلمين؟ فإن المسلمين ما زالوا يدعون بهذا الدعاء في ابتهالاتهم إلى الله تعالى وهو من أفضل الدعوات"
(1)
.
ثم إن القاعدة التي وضعها منقوضة بمثل قوله تعالى: {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ} [آل عمران 194]، وقول الملائكة:{رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ} [غافر: 8] وبمثل طلب الوسيلة للنبي الله والصلاة والسلام عليه وعلى الأنبياء
(2)
.
وورد في حديث أبي ذر مرفوعًا: "إن الله ختم سورة البقرة بآيتين أعطانيهما من كنزه الذي تحت العرش فتعلموهن وعلموهن نساءكم وأبناءكم فإنها صلاة وقرآن ودعاء"
(3)
.
وأما الدعاء المكروه:
فهو مثل الدعاء الذي يشتمل على السجع المتكلف، والتشدق، والتشهق.
وكالدعاء الذي فيه الاعتداء كقول الرجل: "اللهم إني أسألك القصر الأبيض في يمين الجنة".
وقد تقدم بيان أنواع الاعتداء في الدعاء فبعض أنواع الاعتداء محرم وبعضها مكروه
(4)
.
(1)
مدارج السالكين: 3/ 119.
(2)
انظر حاشية ابن عابدين على الدر: 1/ 522.
(3)
أخرجه الحاكم: 1/ 562 وقال: صحيح على شرط الشيخين، وقال الذهبي: كذا قال ومعاوية - يعني ابن صالح - لم يحتج به البخاري قال: ورواه ابن وهب عن معاوية مرسلًا ويؤيده ما أخرجه الفريابي في الذكر وابن الضريس في فضائل القرآن، وأبو عبيد عن ابن المنكدر مرسلًا في فضائل القرآن - بلفظ: "إنهن قرآن وإنهن دعاء انظر الدر المنثور: 1/ 378، والأزهية:148.
(4)
وقد ذكر القرافي خمسة أسباب للدعاء المكروه:
1 -
الأماكن كالحمامات، 2 - =
وأما الدعاء المباح:
فهو كالدعاء الذي لطلب الفضول التي لا معصية فيها
(1)
إذا لم يكن طلبه لهذا المباح للاستعانة به على طاعة الله لأنه إن قصد بطلب المباح الاستعانة به على طاعة الله وعبادته يكون دعاؤه من باب المندوب ولم يكن من المباح
(2)
.
والحاصل أنه قد اتضح مما سبق أن الدعاء تجري فيه الأحكام الخمسة وأن منه ما هو محرم وهذا المحرم منه ما ينتهي إلى الكفر ومنه ما لا ينتهي، وتفصيل ما هو محرم وينتهي إلى الكفر والذي لا ينتهي هو الذي نبحث عنه في الباب التالي إن شاء الله تعالى.
= الهيئات كالدعاء مع النعاس، 3 - الخوف من تسببه للكبر والخيلاء، 4 - كون متعلقه مكروهًا كالدعاء بالإعانة على اكتساب الرزق بالحجامة، 5 - عدم تعينه للقربة والطاعة كالذي يجري على اللسان بدون قصد. وهذا الأخير يعترض عليه بمثل تربت يداك.
(1)
الفتاوى: 10/ 714.
(2)
المرجع نفسه: 10/ 279.
الباب الثالث في الدعاء غير المشروع
ويشتمل على ثلاثة فصول:
الفصل الأول في دعاء غير الله تعالى وما ورد في التحذير منه ومفاسده وأسباب انتشاره في العالم الإسلامي.
الفصل الثاني في مراتب الدعاء غير المشروع، ومظاهر غلو المتأخرين فيه وحكم من دعا غير الله تعالى.
الفصل الثالث: في الأدعية المبتدعة وما ورد في التحذير من الابتداع في الدعاء وغيره.
الفصل الأول في دعاء غير الله تعالى، وما ورد في التحذير منه، ومفاسده وأسباب انتشاره في العالم الإسلامي
ويشتمل على مبحثين:
المبحث الأول: فيما ورد في التحذير منه ومفاسده.
ويشتمل على تمهيد وثلاثة مطالب:
المبحث الأول فيما ورد من التحذير من دعاء غير الله في كتاب الله تعالى والسنة النبوية وبيان مفاسده وآثاره الضارة
تمهيد:
إن دعاء غير الله تعالى قبيح شرعًا وعقلًا واتفقت الفطر السليمة والشرائع المنزلة على منع ذلك وقبحه وشناعته.
وأجمع علماء الأمة على أن طلب الحوائج من غير الله تعالى من الأموات والاستغاثة بهم شرك بالله تعالى يخرج من الملة.
وتواترت أدلة الكتاب والسنة على التحذير من ذلك والمبالغة في النهي عنه، والتشنيع على فاعله وذم مرتكبه.
وتضافرت نصوص الكتاب والسنة على ذلك حتى صار من ضروريات الإسلام التي لا يرتاب فيها كل من فهم الكتاب والسنة.
وهذا ليس خاصًّا بالشريعة الإسلامية بل الشرائع كلها جاءت بذلك فهو من الأصول الثابتة التي اتفقت فيها الشرائع السماوية، والكتب المنزلة.
ففي التوراة: إن موسى عليه السلام نهى بني إسرائيل عن دعاء الأموات وغير ذلك من الشرك، وذكر أن ذلك من أسباب عقوبة الله لمن فعله وذلك أن دين الأنبياء عليهم السلام واحد وإن تنوعت شرائعه كما في الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنا معاشر الأنبياء ديننا
واحد"
(1)
(2)
. فالأنبياء متفقون في الأصول الأساسية، فمن الأصول المتفق عليها بين النبوات "المنع من دعاء الغائبين والأموات فلا يدعون الشفاعة ولا غيرها
(3)
.
ومع أن الأنبياء جاؤوا بهذا الأصل العظيم إلا أن الشريعة الخاتمة جاءت على وجه خاص لا يوجد في غيرها من الشرائع حيث حافظت على التوحيد الخالص والمنع من دعاء غير الله تعالى أشد المحافظة، فسدت كل الطرق المؤدية إلى ما يناقض التوحيد أو يمنع كماله أو يخدش فيه، لأن هذا الأصل به يتحقق إخلاص الدعاء بنوعيه الله تعالى فيتحقق الغرض الذي خلقنا أجله، من، وهو إخلاص العبادة الله تعالى. قال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].
ومن هنا جاءت هذه الشريعة الغراء بالتحذير البالغ مما يناقض هذا الأصل أو يمنع كماله.
ومن أهم ما يناقضه: دعاء غير الله تعالى ولهذا جاء التحذير منه بأساليب متنوعة نشير إلى بعضها إن شاء الله تعالى.
المطلب الأول: الآيات الواردة في التحذير من دعاء غير الله تعالى، وأساليب القرآن المتنوعة في ذلك:
لقد حذر الله سبحانه وتعالى من دعاء غيره في القرآن الكريم تحذيرًا بالغًا وتنوعت أساليب القرآن في ذلك، وتكررت في مناسبات شتى ومواضع متعددة وبعبارات متنوعة، وذلك لخطورة دعاء غير الله تعالى وكونه أعظم الظلم وأكبر معصية عصى الله به، ولكونه أكثر وقوعًا من غيره من أنواع الكفر الأخرى وأكثر انتشارًا في جميع أصناف الناس وطبقاتهم، وجميع الأزمان والأمكنة.
(1)
أخرجه البخاري: 6/ 477 رقم 3442، ومسلم: 4/ 1837 رقم 2365.
(2)
قاعدة في التوسل: 153.
(3)
مصباح الظلام: 265.
ولهذا أبدى الله في كتابه العزيز التحذير منه وأعاد، ونَوَّعَ الأساليب كما نوع الأدلة والبراهين على قبح ذلك في الفطر والعقول السليمة.
وهذا موجز لبعض تلك الآيات الواردة في التحذير من دعاء غير الله تعالى ونوردها حسب الموضوعات التي تتحدث عنها والأساليب التي وردت بها، وإليك تلك الآيات الكريمة:
1 -
آيات نَهَى اللهُ فيها عن دعاء غيره مخاطبًا فيها نبيه وصفيه محمدًا صلى الله عليه وسلم وهذا أبلغ ما يكون من النهي لأنه إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحذره الله من دعاء غيره مع أنه المعصوم فمن باب أولى أن يخاف منه باقي الأمة، ويحذروا من الوقوع فيه وفي هذا رد صريح لمن يزعم أن الشرك لا يقع في هذه الأمة المرحومة.
ومن أمثلة تلك الآيات قوله تعالى:
{وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} [يونس: 106]، ففي هذه الآية تحذير - من أشد ما يكون من التحذير - من دعاء غير الله تعالى وأن فاعله ظالم أي مشرك فإن الظلم هو الشرك، قال تعالى:{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13].
وقوله تعالى: {فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} [الشعراء: 213].
وقوله تعالى: {وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)} [القصص: 88].
ففي هاتين الآيتين أن من دعا غير الله مع الله فقد جعله إلها أي معبودًا، فكيف بمن أفرد الدعاء لغير الله تعالى، وأخلص الدعاء له واعتقد أن الأولياء أسرع
(1)
في الإجابة من الله تعالى؟ تعالى الله عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا.
ففي هذه الآيات وجه خطاب التحذير إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم للدلالة على خطر دعاء غير الله تعالى.
2 -
آيات وجَّه اللهُ فيها النهي عن دعاء غير الله تعالى إلى جميع
(1)
انظر ما سيأتي ص: 517.
الناس كافة منها قوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18].
ففيها نهي وتحذير عن دعاء غيره معه فكيف بإخلاص الدعاء لغيره؟ كما هو واقع عن كثير من الناس.
كما أن فيها نهيًا عن دعاء أي شيء كائنًا ما كان سواء كان ملكًا مقربًا أو نبيًا مرسلًا أو غيرهما لأن النكرة في سياق النهي تعم.
ومما لا ينقضي عجبه أن الكليني الرافضي أخرج بإسناده عن أبي الحسن وهو علي الرضا أنه قال في قوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} قال: نحن الأوصياء
(1)
.
وهذا من أقبح التحريف لكلام الله تعالى وتفسير له بما يناقض مدلوله صراحة فإن الآية دالة على النهي عن دعاء غير الله تعالى بصيغة هي من أوضح صيغ العموم.
ولكن القوم من أسخف الناس عقولًا إذ يصدقون بمثل هذا الكذب الواضح والتحريف الفظيع لكلام الله تعالى.
3 -
آيات وجه الله فيها الخطاب لنبيه صلى الله عليه وسلم بإخلاص الدعاء له وحده وفي ذلك الأمر نهي عن دعاء غيره تعالى لأن الأمر بالشيء نهي عن ضده كما أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم أمر لأمته ونهيه نهي لأمته بأبلغ وجه كما أن الأمر بالدعاء يدل على أنه إما واجب أو مستحب وما كان كذلك لا يكون إلا عبادة والعبادة خصيصة من خصائص الله لا يجوز صرفها لغيره تعالى.
مثال ذلك قوله تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الانشراح: 7 - 8].
فقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من الصلاة أو الجهاد أو غيرهما مما يشتغل به أن يفرد الله تعالى بالرغبة إليه بدعائه وسؤاله
(2)
.
ومن هذا الباب الآيات التي أمر فيها النبي صلى الله عليه وسلم بالاستعاذة إذ
(1)
الكافي: 1/ 352.
(2)
انظر ابن جرير الطبري: 30/ 236 - 237.
الاستعاذة نوع من الدعاء كما سبق
(1)
ومن أمثلتها: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1)} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1)} وقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98)} [النحل: 98] وقوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97)} [المؤمنون: 97].
ففي هذه الآيات أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بالاستعاذة بالله تعالى فيفهم منه بطريق الاستعاذة بغيره تعالى لأنه لا يعقل أن يستعاذ بمخلوق المخالفة النهي عن من مخلوق، وقد صرح كثير من علماء السلف بهذا كما سيأتي
(2)
.
4 -
آيات أمر الله فيها عباده بإخلاص الدعاء له وحده، وفي ذلك نهي عن دعاء غيره أو إشراكه معه في الدعاء، وذلك لأن الأمر بالشيء نهي عن ضده، وهذه قاعدة مقررة في علم الأصول
(3)
.
قال تعالى: {وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [الأعراف: 39].
وقال عز من قائل: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [غافر: 14].
وقال سبحانه: {هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65)} [غافر: 65].
وقال: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)} [الأعراف: 55 - 56].
وقال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60].
وقال تعالى: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 32].
وقال تعالى: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ} [العنكبوت: 17] ففي الآية حصر لطلب الرزق بالله تعالى ويدل على ذلك تقديم الظرف. قال شيخ الإسلام رحمه الله: "ولم يقل فابتغوا الرزق لأن تقديم الظرف يشعر
(1)
سبق ص: 88.
(2)
سيأتي ص: 426.
(3)
القواعد والفوائد الأصولية لابن اللحام: 183.
بالاختصاص والحصر كأنه قال: لا تبتغوا الرزق إلا عند الله تعالى"
(1)
.
وقال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 162]، فهذه الآية "من أوضح الأدلة على تحريم دعاء الموتى، فإن الصلاة دعاء صريح قولًا وعملًا وقد دلت الآية على أن ذلك الله وحده لا شريك له. . ."
(2)
.
وقد تقدم
(3)
بفضل الله تعالى بيان اشتمال الصلاة على الدعاء والعلاقة بينهما.
وقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180]. فهذه الآية تأمر
(4)
بإخلاص الدعاء الله تعالى بالتوسل إليه بأسمائه الحسنى، كما تنهى عن الإلحاد فيها، فالأمر بالدعاء بالأسماء الحسنى فيه نهي عن الدعاء بغير الأسماء الحسنى فكيف بدعاء غير الله تعالى والاستعانة به؟
ومما يضحك ويبكي ما ذكره الكليني في الكافي بإسناده عن جعفر الصادق أنه قال في قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} : نحن الأسماء الحسنى التي لا يقبل الله من العباد إلا بمعرفتنا"
(5)
.
فهذا القول الذي حكاه كذبًا عن الصادق رحمه الله يكفي في رده حكايته لوضوح تحريفه لكلام الله تعالى وكم للروافض من مثل هذه التحريفات لكلام الله تعالى!!!
(1)
العبودية ص: 92.
(2)
مصباح الظلام: 260.
(3)
ص 79 - 84.
(4)
قال الحافظ نقلًا عن غيره في هذه الآية أن التعريف في الأسماء للعهد فلا بد من المعهود فإنه أمر بالدعاء بها ونهي عن الدعاء بغيرها فلا بد من وجود المأمور بها. الفتح: 11/ 221.
وقال شيخ الإسلام فقد يقال: قوله: "فادعوه بها" أمر أن يدعى بالأسماء الحسنى وأن لا يدعى بغيرها كما قال: "ادعوهم لآبائهم" فهو نهي أن يدعوا لغير آبائهم .. اهـ. الفتاوى: 6/ 142.
(5)
الكافي: 1/ 111.
5 -
آيات تصور من يدعو غير الله تعالى بأحط صورة وتمثل هلاكه بما يوضح قبح دعاء غير الله تعالى ومدى شناعته، وفي ذلك أبلغ زجر وأشد تقريع.
قال تعالى: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا
…
} الآية [الأنعام: 71].
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} [الرعد: 14].
وقال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42)} [العنكبوت: 41 - 42].
6 -
آيات تبين عجز المدعوين من دون الله تعالى وعدم استحقاقهم للدعاء وأهليتهم له، لأنه ليس لهم الصفات التي ينبغي أن تكون للذي يستحق أن يتوجه إليه بالدعاء.
وفي ذلك أبلغ تحذير لمن يدعونها بتسخيف عقولهم وتسفيه أحلامهم وهذه المجموعة من الآيات التي تبين عجز المدعوين تتنوع إلى عدة أنواع: -
أ - نوع بين الله فيها صفات من يستحق الدعاء من السمع والبصر المحيطين والعلم الشامل والحياة
…
إلى آخر الصفات التي يستحقها من يستحق أن يوجه إليه الدعاء وأن المدعوين من دون الله تعالى ليست لهم هذه الصفات.
فمن الآيات التي بينت ذلك قوله تعالى في قصة إبراهيم عليه السلام مع قومه:
{قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ} [الشعراء: [72 - 73].
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ
تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} [فاطر: 13 - 14].
وقوله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف: 6 - 7].
وقوله عز من قائل: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النحل: 20 - 21].
ب - نوع بيّن الله فيها أن المدعوين من دون الله تعالى ليس لهم ملك ولا شراكة فيما يطلب منهم ولا تقبل منهم شفاعة فكيف يدعون وأي فائدة في ذلك؟
ففي هاتين الآيتين نفي لكل من الملك والشراكة والمعاونة والشفاعة، وهذه الأمور الأربعة هي التي يمكن أن يدعيها الذين يَدْعُون غير الله لمن يدعونهم فإذا لم تكن ولا واحدة منها فلا يصح عقلًا أن يوجه السؤال لمن لا يتصف بواحدة منها فكفى بهذه الآية نورًا وبرهانًا ونجاة وتجريدًا للتوحيد وقطعًا لأصول الشرك ومواده لمن عقلها"
(1)
.
ومن هذا النوع قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ} [الأحقاف: 4].
وقوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ} [فاطر: 40].
جـ - نوع بيّن الله فيها عجز المدعوين عن دفع الضرر عن أنفسهم فضلًا عن غيرهم وفي هذا أبلغ رادع لمن يطلب منهم دفع الضرر أو إيصال النفع.
(1)
مدارج السالكين: 1/ 343، والقاعدة في التوسل:111.
وقال جل شأنه: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197)} [الأعراف: 197].
د - نوع بين الله فيها عجزهم وعدم استطاعتهم لإزالة ضر أو جلب نفع عن الداعين لهم والمستغيثين بهم في الشدائد والمصائب.
وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56)} [الإسراء: 56].
7 -
آيات توضح أن المدعوين أنفسهم يلتجئون إلى الله تعالى ويتقربون إليه فهم بين الخوف والرجاء أليس اللائق أن يلتجأ إلى من يلتجئون إليه وأن يتقرب إلى من يتقربون إليه؟.
قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء: 56 - 57].
ومثل هذه الآية قوله تعالى: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُون
…
} [النساء: 172].
8 -
آيات وصفت دعاء غير الله تعالى بأنه شرك أو كفر أو وصفت الداعين بأنهم مشركون أو كافرون، وفي ذلك أعظم تحذير وأبلغ إنذار من دعاء غير الله تعالى.
وستأتي
(1)
تلك الآيات إن شاء الله تعالى في مبحث حكم من دعا غير الله تعالى.
9 -
آيات توضح أن دعاء غير الله تعالى ضلال مبين وأنه مضلة في الرأي
(1)
ستأتي ص: 529 - 533.
والفكر وأنه خسران مبين، وأنه لا يزداد بذلك إلا طغيانًا وضلالًا وإثمًا.
قال تعالى: {يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13)} [الحج: 13 - 14].
وقال تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6)} [الجن: 6].
10 -
آيات تصف المؤمنين بإخلاص الدعاء الله وحده وبأنهم يلتجئون في الشدائد والكربات إلى الله وحده أو تخبر عن تعهد المؤمنين والتزامهم بإخلاص الدعاء الله تعالى وأنهم لا يدعون غيره، ففي هذا تعريض وتوبيخ لمن يلتجيء إلى غير الله تعالى في الشدائد والكربات ويدعو مع الله الأموات والغائبين ولا يلتزم بإخلاص الدعاء.
قال تعالى في وصف عباد الرحمن {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [الفرقان: 68].
وقال عز شأنه: {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} [الكهف: 14].
11 -
آيات تبيّن غياب المدعوين عن الداعين عند هجوم الشدائد ونزول المحن والبلايا والمصائب مع العلم بأن الذي لا ينفع عند الاضطرار لا حاجة تدعو إلى عبادته ودعائه في الرخاء، ففي هذا أوضح تحذير وأبلغ زجر لمن يدعو ما لا ينفعه عند الشدائد.
قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ} [الإسراء: 67].
وقال سبحانه: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48)} [فصلت: 47 - 48]
وقال تعالى: {ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ (74)} [غافر: 73 - 74].
وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41)} [الأنعام: 40 - 41].
وقال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (37)} [الأعراف: 37].
وقال تعالى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101)} [هود: 101].
12 -
آيات تتوعد من يدعو غير الله تعالى بالعذاب الأليم وبأن له الحساب القاسي، قال تعالى:{وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117)} [المؤمنون: 117].
وقال تعالى: {فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213)} [الشعراء: 113].
13 -
آيات كثيرة حذر الله فيها من عبادة غيره بأساليب متعددة، وقد علمنا أن الدعاء هو العبادة.
فتلك الآيات الواردة في التحذير من عبادة غير الله تعالى تكون محذرة أيضًا من دعاء غير الله تعالى لما تقدم من تلازم نوعي الدعاء: دعاء المسألة ودعاء العبادة، وقد تقدم ذلك مفصلًا في مبحث
(1)
أقسام الدعاء ولله الحمد.
المطلب الثاني: فيما ورد من السنة المشرفة من التحذير من دعاء غير الله تعالى:
قد وردت أحاديث كثيرة في التحذير من توجيه السؤال والدعاء لغيره تعالى تصريحًا أو تلميحًا.
ومن تلك الأحاديث:
(1)
تقدم ص: 115.
1 -
ما ورد في ذم سؤال الناس أموالهم وفي ذلك تحذير بليغ من باب أولى من سؤالهم ما لا يقدرون عليه إذ كيف يمكن سؤالهم وهم أموات لا يعلمون شيئًا مما يطلب منهم ولا يقدرون عليه؟؟. فالأحاديث الدالة على ذم سؤال الناس كثيرة جدًّا منها:
حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله وليس في وجهه مزعة لحم"
(1)
.
وحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لأن يغدو أحدكم فيحطب على ظهره فيتصدق به ويستغني به من الناس خير له أن يسأل رجلًا أعطاه أو منعه ذلك فإن اليد العليا خير من من السفلى"
(2)
.
وحديث عوف بن مالك الأشجعي مرفوعًا في البيعة: "ولا تسألوا الناس شيئًا"
(3)
2 -
وهناك أحاديث تنهى عن دعاء غير الله تعالى وتحذر من مغبة ذلك وتبين أنه سبب لدخول النار أو تصفه بأنه أكبر الكبائر منها:
قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود رضي الله عنه: "من مات وهو يدعو الله ندا دخل النار"
(4)
.
وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود أيضًا عندما سئل أيُّ الذنب أكبرُ عند الله؟: "أن تدعو لله ندًا وهو خلقك"
(5)
.
3 -
ومنها أحاديث تأمر بسؤال الله تعالى وتحث عليه وترغب فيه، وفي ذلك زجر عن ضد ذلك لأن الأمر بالشيء نهي عن ضده، فمن تلك
(1)
أخرجه البخاري: 3/ 338 رقم 1474، ومسلم: 2/ 720 رقم 1040.
(2)
البخاري: 3/ 335 رقم 1470، ومسلم: 2/ 721 رقم 1042.
(3)
مسلم 2/ 721 رقم 1043.
(4)
البخاري مع الفتح: 8/ 176 رقم 4497، ومسلم: 12/ 94 رقم 92، وأحمد: 1/ 374، 462، 464.
(5)
البخاري: 12/ 187 رقم 6861، وانظر: 8/ 163 رقم 4477 بلفظ أن تجعل، وأخرجه مسلم: 1/ 91 رقم 86، وأحمد: 18/ 380، 431، 434، 462.
الأحاديث قوله صلى الله عليه وسلم: إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله"
(1)
.
وعن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما روى عن الله تبارك وتعالى أنه قال: "
…
يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم. . ."
(2)
.
4 -
ومنها أحاديث تأمر بالاستعاذة بالله، وكلماته، وتحث عليه ومثلها الأحاديث التي فيها استعاذة الرسول صلى الله عليه وسلم بالله وكلماته. وقد تقدم لنا في التعريف أن الاستعاذة نوع من الدعاء، ففي الأمر بالاستعاذة بالله وكلماته نهي عن الاستعاذة بغير الله وكلماته، ففي ذلك نهي عن الاستعاذة بالمخلوق.
وبهذا استدل الإمام أحمد وغيره على أن كلام الله غير مخلوق، إذ المخلوق لا تجوز الاستعاذة
(3)
به.
قال نعيم بن حماد شيخ البخاري: "دلت هذه الأحاديث -يعني الواردة في الاستعاذة بأسماء الله وكلماته والسؤال بها - على أن القرآن غير مخلوق إذ لو كان مخلوقًا لم يستعذ بها إذ لا يستعاذ بمخلوق. قال الله تعالى: {فاستعذ بالله} وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وإذا استعذت فاستعذ بالله"
(4)
وقال نعيم أيضًا: "لا يستعاذ بالمخلوق ولا بكلام العباد والجن والإنس والملائكة"
(5)
.
وقال الخطابي رحمه الله: "وكان أحمد بن حنبل يستدل بقوله بكلمات الله التامة على أن القرآن غير مخلوق، وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يستعيذ بمخلوق"
(6)
.
(1)
سيأتي تخريجه ص 533.
(2)
أخرجه مسلم مطولًا: 4/ 1994 رقم 2577.
(3)
الرد على البكري: 287، ومنهاج السنة: 2/ 374 - 375، واقتضاء: 418، وجامع الرسائل: 2/ 19، وقاعدة التوسل: 140، وملحق المصنفات:102.
(4)
الفتح: 13/ 381.
(5)
خلق أفعال العباد للبخاري ص: 57، وانظر نحوه عن سوار بن عبد الله القاضي في كتاب السنة لعبد الله: 1/ 162 رقم 172.
(6)
معالم السنن للخطابي: 4/ 332 - 333، ونحوه في الأسماء والصفات للبيهقي ص:241.
ومن تلك الأحاديث ما روته خولة بنت حكيم السلمية رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا نزل أحدكم منزلًا فليقل: أعوذ بكلمات الله التامة من شر ما خلق، فإنه لا يضره شيء حتى يرتحل منه"
(1)
".
وما رواه ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يعوذ الحسن والحسين ويقول: إن أباكما كان يعوذ بها إسماعيل وإسحاق: أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة"
(2)
.
وقد نص كثير من علماء السلف عند ذكرهم لأحاديث الاستعاذة بكلمات الله تعالى ودلالتها على أن القرآن غير مخلوق، نصوا على أنه: لا تجوز الاستعاذة بغير الله تعالى وأن ذلك لا يمكن أن يصدر عن مسلم عاقل وإليك نصوصهم:
أ - قول الإمام أحمد بن حنبل (ت 241 هـ) وقد تقدم نقله قريبًا
(3)
.
ب - قول نعيم بن حماد (ت 228 هـ) قال البخاري: وقال نعيم بن حماد: "لا يستعاذ بالمخلوق ولا بكلام العباد والجن والإنس والملائكة"
(4)
.
وقال أيضًا فيما نقله عنه الحافظ ابن حجر عن كتابه الرد على الجهمية:
"دلت هذه الأحاديث - يعني الواردة في الاستعاذة بأسماء الله وكلماته والسؤال بها - على أن القرآن غير مخلوق إذ لو كان مخلوقًا لم يستعذ بها إذ لا يستعاذ بمخلوق قال الله تعالى: {فاستعذ بالله} وقال النبي صلى الله عليه وسلم:
(1)
أخرجه مسلم: 4/ 2081 رقم 2708، والنسائي في عمل اليوم ص: 376 رقم 560، وأحمد 6/ 377، والترمذي: 5/ 496 رقم 3437، وابن السني من طريق النسائي: 249 رقم 528، والطبراني في الدعاء: 2/ 1186 رقم 830، وابن ماجه: 2/ 1174 رقم 3547، وابن أبي شيبة: 10/ 87 رقم 9458.
(2)
أخرجه البخاري: 6/ 408 رقم 3371، وأبو داود 5/ 104 رقم 4737، والترمذي: 4/ 396 رقم 2060، والنسائي في عمل اليوم: 553 رقم 1006، وأحمد: 1/ 270، 236.
(3)
تقدم ص: 424، 425.
(4)
خلق الأفعال للبخاري ص: 143 رقم 438.
وإذا استعذت فاستعذ بالله"
(1)
.
جـ ـ وقال سوار بن عبد الله القاضي البصري (ت 245 هـ): "دخلت على رجل أعوذه من وجع به فقال: القرآن ليس بمخلوق، وذلك أنه كل من عوذني قال: أعيذك بالله، أعيذك بالقرآن فعلمت أن القرآن ليس بمخلوق
(2)
.
د - وقد عقد البخاري رحمه الله في كتابه خلق الأفعال بابًا بعنوان باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بكلمات الله لا بكلام غيره وأورد كلام نعيم بن حماد ثم قال: وفي هذا دليل أن كلام الله غير مخلوق وأن سواه خلق ثم أورد أحاديث كثيرة في الاستعاذة بكلمات الله
(3)
.
5 -
وقال الخلال أبو بكر أحمد بن محمد بن هارون وارث علم الإمام أحمد (ت 311 هـ)، تعليقًا على هذه الأحاديث:"ولا يجوز أن يقال: أعيذك بالسماء أو بالجبال أو بالأنبياء أو بالملائكة أو بالعرش أو بالأرض مما خلق الله لا يتعوذ إلا بالله أو بكلماته"
(4)
.
6 -
وقال إمام الأئمة ابن خزيمة (ت 311 هـ): "أفليس العلم محيطًا - يا ذوي الحجا - أنه غير جائز أن يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتعوذ بخلق الله عالمًا من شر خلقه؟ هل سمعتم يجيز أن يقول الداعي: أعوذ بالكعبة من شر خلق الله أو يجيز أن يقول: أعوذ بالصفا والمروة، أو أعوذ بعرفات ومنى من شر ما خلق؟.
هذا لا يقوله ولا يجيز القول به مسلم يعرف دين الله، محال أن يستعيذ مسلم بخلق الله من شر خلق الله"
(5)
.
فهذا الكلام من هذا الإمام نص صريح في موضوع بحثنا ومناقشتنا مع القبوريين من ذوي أدعياء العلم المجيزين لمثل هذه الصيغ التي ينكر
(1)
فتح الباري: 13/ 381
(2)
السنة لعبد الله: 1/ رقم 172.
(3)
خلق الأفعال: 143 - 148.
(4)
السنة للخلال: ق 175/أ.
(5)
كتاب التوحيد: 1/ 401 - 402.
ابن خزيمة أن يقول به عالم بل مسلم يعرف الدين وعده من المحال ولكن هذا قد وقع في الأزمنة المتأخرة بعد ابن خزيمة وعده بعضهم سائغًا بل من القربات.
7 -
وقد ذكر الإمام ابن بطة العكبري عبيد الله بن محمد (ت 387 هـ) أحاديث الاستعاذة ثم قال: "فتفهموا رحمكم الله هذه الأحاديث، فهل يجوز أن يعوذ النبي صلى الله عليه وسلم بمخلوق ويتعوذ هو ويأمر أمته أن يتعوذوا بمخلوق مثلهم؟ وهل يجوز أن يعوذ إنسان نفسه أو غيره بمخلوق مثله فيقول: أعيذ نفسي بالسماء أو بالجبال أو بالأنبياء أو بالعرش أو بالكرسي أو بالأرض؟ وإذا جاز أن يتعوذ بمخلوق مثله فليعوذ نفسه وغيره بنفسه فيقول: أعيذك بنفسي"
(1)
.
8 -
وقال الإمام البيهقي أبو بكر بن أحمد (ت 458 هـ): "فاستعاذ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر أن يستعاذ في هذه الأخبار بكلماته كما أمره الله تعالى جل ثناؤه أن يستعيذ "به إلى أن قال: "ولا يصح أن يستعيذ بمخلوق عن مخلوق"
(2)
".
وهذه الأقوال السابقة من هؤلاء الأئمة الكبار تعد من نفائس كلام السلف في هذه المسألة التي هي دعاء غير الله تعالى والاستعاذة والاستغاثة بغيره، وهي من أمهات المسائل التي طال حولها الجدل من زمن ابن تيمية رحمه الله إلى وقتنا الحاضر وقد غفل عن هذه النصوص كثير ممن تكلم في هذه المسألة مع كونها صريحة في محل الخلاف وقد نص عليها كبار أئمة السلف من القرن الثالث إلى ما بعد وبها يتبين بطلان ما زعمه بعضهم من تفرد ابن تيمية وأتباعه بالكلام على هذه المسألة، والله أعلم.
9 -
ومنها أحاديث وردت في سد الذرائع التي توصل إلى دعاء غير الله تعالى، وهذه الأحاديث كثيرة جدًّا وسيأتي
(3)
بعضها إن شاء الله تعالى.
(1)
الإبانة: ق 2/ 480 - 481، والنسخة المختصرة: 135/أ.
(2)
الأسماء والصفات للبيهقي ص: 241.
(3)
سيأتي ص: 455 - 457.
هذا ومن الأدلة الدالة على منع دعاء غير الله تعالى بعدما تقدم من الكتاب والسنة الأمور التالية:
1 -
إجماع علماء الأمة على منع دعاء غير الله تعالى وعده كفرًا وسيأتي
(1)
نقل هذا الإجماع إن شاء الله تعالى.
2 -
أن الله سبحانه وتعالى لم يذكر لنا في كتابه العزيز - مع كثرة ما ذكره من أدعية الأنبياء والصالحين - لم يذكر دعاء واحدًا فيه دعاء لغير الله تعالى، وهذا من الأدلة الجلية الواضحة على أنه لو كان سائغًا لذكره الله تعالى. وقد علمنا أن الله ذكر النهي عنه بأبلغ الأساليب وكرر ذلك وأعاد.
3 -
أن الرسول صلى الله عليه وسلم مع العلم أمته كل خير وحذرها من كل شر ومما علمها الدعاء، فقد حوت كتب السنة المشرفة ألفاظ الأدعية التي علمها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته وهي كثيرة جدًّا فمع هذه الكثرة وحرص النبي صلى الله عليه وسلم على الخير لم نجد دعاء واحدًا صحيحًا فيه الاستغاثة بغير الله تعالى ودعاؤه والالتجاء إليه.
4 -
قد علم
(2)
من دين الإسلام بالاضطرار والتواتر وبإجماع سلف الأمة وأئمتها أن ذلك ليس بواجب ولا مستحب كما علم أن النبي صلى الله عليه وسلم والأنبياء قبله لم يَشْرَعوا للناس دعاء الملائكة والأنبياء والصالحين لا في حياتهم ولا بعد مماتهم.
بل الأنبياء مجمعون على منعه كما تقدم، وما كان كذلك لا يكون عبادة كما لا يمكن لأحد أن يجيزه أو يتأول لمن يفعله إذ من المعلوم أن الدعاء عبادة وهي توقيفية، وقد علمنا أنه لم يشرع دعاء الأموات بل هو ممنوع اتفاقًا.
5 -
أن الرسول
(3)
صلى الله عليه وسلم مع كونه لم يشرع هذا - فإنه قد هذا - فإنه قد حرم ذلك وحرم ما يفضي إليه كاتخاذ القبور مساجد.
(1)
سيأتي ص: 534.
(2)
الفتاوى: 1/ 159 - 163، والقاعدة في التوسل:19.
(3)
قاعدة في التوسل: 21 - 22.
6 -
أن العلماء
(1)
قالوا لا يجوز توجيه الدعاء إلى أسماء الله وصفاته لأنها إنما يُدْعَى الله بها ولا تُدعى هي فلا يقال يا علم الله ارزقني ولا يقال يا قدرة الله افعلي لي كذا لأن الله تعالى قال: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180]. ولم يقل فادعوها.
فإذا كان العلماء يتفقون على عدم جواز ذلك في أسماء الله وصفاته فمن باب أولى وأحرى ألا يجوز دعاء الأموات والغائبين.
وهذا بيّن واضح ولله الحمد.
ولكن الأمر احتاج إلى ذكر مثل هذه العلل، لوجود من يجادل بالباطل ويحاول إباحة دعاء الأموات أو استحبابه فإنا لله وإنا إليه راجعون. . .
المطلب الثالث: في مفاسد دعاء غير الله تعالى وآثاره الضارة وخطورته على سلامة العقيدة:
إن أعظم مسألة خالف فيها الرسول صلى الله عليه وسلم المشركين هي مسألة الدعاء بنوعيه: دعاء العبادة والمسألة وهي التي وقع فيها النزاع والخصومة بينه وبينهم فهم كانوا يتعبدون بإشراك الصالحين في دعاء الله تعالى وعبادته ويرون ذلك من تعظيم الصالحين، ويريدون بذلك شفاعتهم عند الله قال تعالى:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18]. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وخالفهم في ذلك فأتى بإخلاص الدعاء وجميع أنواع العبادات الله.
وهي أعظم مسألة خالف فيها الرسول صلى الله عليه وسلم المشركين، وهي التي تفرق الناس لأجلها إلى مسلم وكافر وعندها وقعت العداوة ولأجلها شرع الجهاد
(2)
.
فإذا كانت بهذه المنزلة فأي شخص يقع فيها يقع في مفاسد جمة ومضار كثيرة تزلزل عقيدته وتهدم إيمانه حتى يخرج عن الملة والعياذ بالله.
(1)
انظر الرد على البكري: 79، وانظر إنكار الإمام الخطابي على من قال: يا غفران ويا سبحان - في شأن الدعاء ص: 17.
(2)
مسائل الجاهلية: 4، 5، ومؤلفات الشيخ قسم العقيدة: 1/ 334.
ولكونها أعظم مسألة خولف فيها الأنبياء عليهم السلام عامة ونبينا صلى الله عليه وسلم خاصة، كثر اعتناء العلماء بهذه المسألة أكثر من غيرها من مسائل العقيدة لاسيما شيخي الإسلام ابن تيمية وابن عبد الوهاب رحمهما الله تعالى فإنهما قد أسهبا الكلام فيها وأشبعا وأبدا وأعادا وجاهدا في سبيل ذلك حتى غدت مسائلها واضحة نيرة فجزاهما الله عن الإسلام أفضل ما جزي عالمًا على دعوته وجهاده.
إن مفاسد دعاء غير الله تعالى وآثاره الضارة كثيرة جدًّا نذكر منها بعضها على سبيل الإجمال مستعينين بالله ومستهدين به وهو ولي التوفيق.
1 -
إن دعاء غير الله تعالى فيه إضاعة لمعنى العبودية، ولمقتضيات الربوبية، فعبودية العبد الله تعالى أشرف صفات العبد وأعلى مقاماته، ولهذا وصف الله رسوله محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم بها في أشرف المقامات في مقام الإسراء، والدعوة إليه وإنزال الوحي والتحدي بالقرآن، قال تعالى:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الإسراء: 1].
وقال تعالى: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الجن: 19].
وقال سبحانه: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1].
وقال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة: 23].
ومع أن عبودية العبد الله تعالى أشرف مقاماته صرفها الداعي لغير الله تعالى إلى من لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا فضلًا عن غيره.
قال الشيخ حسين النعمي رحمه الله: "فالداعي سوى الله والملتجئ إلى غيره، وصارف اضطراره وافتقاره عنه إلى من دونه، بهيئة ما ينبغي أن يكون الله. مضيع لمعنى العبودية ومقتضيات الربوبية"
(1)
.
(1)
معارج الألباب: 195.
ثم إن الداعي إنما يدعو إلهه عند انقطاع أمله مما سواه وذلك خلاصة التوحيد
(1)
.
فالداعي لغير الله تعالى قد صرف أهم العبادات القلبية لغيره تعالى فكفي بذلك قبحًا وشناعة وفسادًا ولو لم يكن فيه إلا نقص محبة الله تعالى وخوفه ورجائه والتوكل عليه والإنابة إليه من قلب الداعي بسبب قسمته ذلك بينه سبحانه وتعالى وبين من دعاه من دون الله ليقضي حاجته أو يتوسط له عند الله تعالى - فينقص ويضعف أو يضمحل ذلك التعظيم والمحبة والخوف والرجاء بسبب صرف أكثره أو بعضه إلى من دعاه من دون الله - لكفى ذلك في شناعته وقبحه
(2)
وآثاره الضارة.
فكيف وفيه مفاسد أخرى عظيمة وعواقب وخيمة؟
2 -
إن دعاء غير الله تعالى فيه إذلال الداعي لنفسه وإخضاعه إياها لمخلوق مثله لا يملك لنفسه نفعًا ولا يدفع عنها ضرًا، فضلًا عن الداعي الأجنبي فكيف يذل الداعي نفسه لهذا المخلوق العاجز؟ ولقد كرم الله الإنسان وشرفه وفضله على كثير من خلقه فإذا سلب الإنسان نفسه هذه الكرامة وأذلها لمخلوق ضعيف فقد ضيع حقها وأذلها.
ففي دعاء غير الله تعالى إضاعة لحقوق النفس وكرامتها وشرفها كما أن فيه إضاعة لحقوق الله تعالى وعبوديته وقد ذكر ابن رجب رحمه الله أن سؤال الله هو المتعين وعلل ذلك بأن فيه إظهار الذل والافتقار، ولا يصلح الذل والافتقار إلا لله وحده لأنه حقيقة العبادة، ثم ذكر أن الإمام أحمد يدعو ويقول:"اللهم كما صنت وجهي عن السجود لغيرك فصنه عن المسألة لغيرك ولا يقدر على كشف الضر وجلب النفع سواك"
(3)
.
(1)
تيسير العزيز الحميد ص: 243.
(2)
انظر إغاثة اللهفان: 1/ 50.
(3)
جامع العلوم والحكم ص: 181.
3 -
إن دعاء غير الله تعالى فيه شكاية العبد لمولاه الذي هو أرحم الراحمين إلى من لا يرحمه، فإنّ الداعي لغير الله تعالى ترك ربه وخالقه وذهب إلى فقير بالذات وطلب منه أن ينفعه فتَرْكُه لربه ومُولِي نِعمه - مع ذهابه إلى غيره - فيه شكاية لمولاه واللائق بالعبد أن لا يشكو إلا إلى الله.
قال يعقوب عليه السلام {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [يوسف: 86].
وقد رأى الفضيل بن عياض رحمه الله رجلًا يشتكي إلى آخر فقال: يا هذا تشتكي من يرحمك إلى من لا يرحمك؟ كما قيل:
وإذا شكوت إلى ابن آدم إنما
…
تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم
وشكى إليه رجل مرة حاله فقال له: يا أخي أمدبرًا غير الله تريد؟
(1)
.
وفي هذا الصنيع خطر عظيم وظلم جسيم "لأن الظلم وضع الشيء في غير موضعه، ولا أعظم ظلمًا من شكاية العبد ربه الذي هو أرحم الراحمين فيما أصابه من ضر أو فاته من خير إلى من لا يرحمه ولا يسمعه ولا يبصره، ولا يعلمه ولا يملك لنفسه ولا لداعيه من ضر ولا نفع ولا موت ولا حياة ولا نشور، ولا يغني عنه مثقال ذرة، وعدوله عمن بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه ويفزع في قضاء حوائجه إلى من لا قدرة له على شيء البتة. . ."
(2)
.
4 -
إن دعاء غير الله تعالى فيه إساءة للظن بالله سبحانه وتعالى.
فالذي يدعو غير الله تعالى ويلتجيء إلى باب غير باب الله تعالى سواء اعتقد لذلك الغير الاستقلال أو الوساطة فقد ظن بربه السوء لأن هذا
(1)
الرد على البكري: 102.
(2)
معارج القبول: 1/ 416.
الداعي لغير الله لا يخلو إما أن يظن أن الله سبحانه يحتاج إلى من يدبر أمر العالم معه من وزير أو ظهير، وهذا أعظم التنقيص لمن هو غني عن كل ما سواه ومفتقر إليه كل ما سواه.
وإما أن يظن أن قدرة الله إنما تتم بقدرة الشريك، أو أنه لا يعلم حتى تعلمه الواسطة، أو لا يرحم حتى تجعله الواسطة يرحم، أو لا يكفي العبد وحده، أو لا يفعل ما يريده العبد حتى تشفع عنده الواسطة كالرؤساء والملوك، أو لا يجيب دعاء عباده حتى يسألوا الواسطة أن ترفع تلك الحاجات إليه أو أن للمخلوق عليه حقًّا يقسم به عليه، ويتوسل به إليه كما هو عادة الرؤساء
(1)
.
فكل هذا إساءة للظن بالله تعالى وأي إساءة أعظم من هذا؟.
5 -
إن دعاء غير الله تعالى
(2)
فيه تشبيه الخالق بالمخلوق إذ اعتقد الداعي أن من يدعوه يتوسط له لدى الله تعالى كما يتوسط لدى الرؤساء والزعماء وهذا التشبيه صرح به بعضهم
(3)
ظنًا منهم أن الخالق مثل المخلوق، حاشا وكلا فإن الله تعالى ليس كمثله شيء وهو السميع البصير لأن الواسطة إنما جازت عند الرؤساء لأنهم لا يعرفون أحوال الناس وحقيقة الأمر، أو لكونهم عاجزين عن تدبير الرعية، أو غير ذلك.
وأما الله سبحانه فليس كذلك، فمن دعا المخلوق وأراد الشفاعة والوساطة - كما هو عقيدة غالب من يدعو غير الله تعالى - فقد شبه الله تعالى بالرؤساء الجاهلين العاجزين المحتاجين إلى من يساعدهم ويعاونهم.
كما أن فيه تشبيه المخلوق بالخالق لأن الدعاء من أخص خصائص الإلهية فمن صرفه لغير الله تعالى فقد أعطى خصيصة من أهم خصائص
(1)
انظر في هذا الجواب الكافي: 143، وإغاثة اللهفان: 1/ 50، وتجريد التوحيد: 31 - 32.
(2)
الواسطة بين الحق والخلق ضمن الفتاوى: 1/ 126 - 127.
(3)
انظر شواهد الحق للنبهاني ص: 145.
الإلهية لغير الله تعالى فيكون قد شبه الغير بمن لا شبيه له"
(1)
.
6 -
إن دعاء
(2)
غير الله تعالى فيه تشبه بالنصارى الذين يدعون المسيح ومريم والحواريين والقديسين.
كما أن فيه تشبهًا بالمشركين الذين يدعون الصالحين الذين عبدوا الأصنام اعتقادًا بأنها على صورتهم فهم لم يعبدوها لكونها أحجارًا، وسيأتي
(3)
بيان أن أصل وضع الأصنام كان من صور الصالحين.
فالداعي للصالحين مُضَاهٍ للمشركين، ولمن اتخذ المسيح وأمه إلهين من دون الله فلهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:"لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم فقولوا عبد الله ورسوله"
(4)
.
فيستفاد من هذا الحديث أن من أطرى الرسول صلى الله عليه وسلم فقد شابه النصارى في إطرائهم لعيسى عليه السلام فثبت بهذا أن من دعا رجلًا أو امرأة من دون الله فهو مضاه لمن اتخذ المسيح وأمه إلهين من دون الله"
(5)
.
7 -
إن دعاء
(6)
غير الله تعالى ردة صريحة وكفر بواح وشرك قراح، فهو أشد كفرًا من اليهودية والنصرانية. وبهذا يعلم شدة خطره وأنه غاية في الشرك والكفر وانسلاخ عن ربقة الإسلام وخروج عن حظيرته.
فالداعي لغير الله تعالى لا تقبل منه الجزية كما تقبل من اليهود والنصارى ولا تحل ذبيحته ولا ينكح مسلمة ولا تنكح إن كانت امرأة بل يجب مفارقتها ولا يرث ولا يورث.
قال القرافي: "وهذا فساد كله يتحصل بدعاء واحد من هذه الأدعية
(1)
تجريد التوحيد: 27.
(2)
انظر الرد على البكري: 103 - 104، والفتاوى: 3/ 275.
(3)
يأتي ص: 458 و 893.
(4)
يأتي تخريجه ص: 460.
(5)
الفتاوى: 3/ 275
(6)
انظر مؤلفات الشيخ: 1/ 389.
ولا يرجع إلى الإسلام ولا ترتفع أكثر هذه المفاسد إلا بتجديد الإسلام والنطق بالشهادتين"
(1)
.
فالأمر أخطر مما يظنه بعض من يتساهل في هذا الباب ويحاول تبريره بأوهى الشبهات التي هي أضعف من خيط العنكبوت.
8 -
إن سؤال الناس في الأصل محرم، لأن فيه أنواع الظلم الثلاثة، الظلم في حق الله بالشرك والظلم للمسؤول بإيذائه له، وظلم الإنسان لنفسه بتعبيدها لغير الله وقد أبيح من ذلك من سؤال الحي ما دل الشرع على إباحته
(2)
.
فإذا كان أصل السؤال محرمًا فكيف بسؤال الميت والغائب سؤال تضرع ومسكنة وذلة وافتقار ومحبة؟ فهو يشتمل على أعلى أنواع الظلم الثلاثة من ظلم لحق الله تعالى وصرف خصيصة من خصائص الألوهية إلى من لا يملك لنفسه نفعًا فضلًا عن داعيه ثم من ظلم لحقوق الغير الذي هو المسؤول بإيذائه حيث يتأذى من عبادته ويكره ذلك. فالصالحون لا يحبون أن يعبدوا من دون الله، ثم من ظلم نفسه حيث أذلها وعَبَّدها لغير باريها وفاطرها وعلقها بفقير بالذات عاجز بالذات.
9 -
إن ترك
(3)
السؤال للمخلوق اعتياضًا بسؤال الخالق أفضل من الحاجة والفقر، قال تعالى:{فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الانشراح: 7 - 8].
وقال يعقوب عليه السلام {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف: 86].
(1)
الفروق: 4/ 265.
(2)
الرد على البكري: 103 و 307 - 308 وقاعدة جليلة: 41 - 42، 34، ومدارج السالكين: 2/ 232 - 233.
(3)
انظر الرد على البكري: 98 - 99، وقاعدة في التوسل:38.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس: "إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله"
(1)
.
ولهذا كان كبار الصحابة لا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا لأنفسهم فلم ينقل عن أبي بكر ولا عمر أنهما سألاه شيئًا من المال لأنفسهما.
هذا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك الأنبياء السابقون.
هذا مع الحاجة وأما إذا لم يكن حاجة فالسؤال حرام.
فإذا كان ترك سؤال الأنبياء في حياتهم أفضل مع الحاجة والفاقة ومع عدم الحاجة يكون حرامًا فكيف بسؤال الغائب والميت منهم ومن غيرهم؟ فلا شك أنه أعظم حرمة، وأشد خطورة على سلامة العقيدة وصفائها.
هذا وبما تقدم يعلم فساد دعاء غير الله وآثاره الضارة وعواقبه السيئة، فنسأل الله تعالى أن يجنبنا من الشرك وذرائعه وهو ولي التوفيق ..
(1)
سيأتي تخريجه ص: 533.
المبحث الثاني في أسباب انتشار دعاء غير الله تعالى في العالم الإسلامي
إن الله سبحانه وتعالى أرسل الرسل وأنزل الكتب للدعوة إلى توحيده وإخلاص الدعاء له وحده، وقد بيّن الله تعالى في كتابه العزيز خطورة دعوة غير الله تعالى أتم بيان حتى صار ذلك من ضروريات الإسلام، إلا أنه لما اشتدت غربة الإسلام انتشر الشرك ودعاء غير الله تعالى في الأمة الإسلامية، فاحتاج الأمر إلى دراسة أسباب ذلك الانتشار، وذلك لأنه إذا أريد حل مشكلةٍ مَّا حَلًّا جذريًا فلا بد من دراسة أسبابها ومقتضياتها وملابساتها والعوامل التي أدت إلى ظهورها وتفاقمها وانتشارها وذلك "لأن معرفة المرض وسببه يعين على مداواة أصحابها وإزالة شبهاتهم"
(1)
.
ثم إن العاقل يعلم أن أمة من الأمم لم تجمع على أمر بلا سبب
(2)
يقتضي ذلك فدعاء غير الله قد اجتمع عليه أصناف من الناس فمن مجيز له ومن معتقد كونه قربة وعبادة فلا يتصور أن يكون ذلك بدون سبب، فلهذا لا بد من دراسة الأسباب التي أدت إلى انتشار دعاء غير الله تعالى.
(1)
الرد على البكري: 80.
(2)
الفتاوى: 27/ 178.
وهذه الأسباب متعددة، ومتفاوتة في درجات تأثيرها، فبعضها له تأثير قوي وبعضها تأثيره ضعيف وبعضها خاص ببعض الأزمنة أو ببعض الأقطار الإسلامية أو ببعض الأشخاص، والبعض الآخر شامل لأزمنة مختلفة وأماكن متعددة، ولجماعات كثيرة ولكن الكل له تأثير في ذلك على تفاوت في درجات التأثير.
فأذكر إن شاء الله تعالى هذه الأسباب مقدمًا الأهم فالأهم وهذا أوان الشروع في ذلك وبالله التوفيق وهو المستعان.
السبب
(1)
الأول: الجهل والإعراض عن الكتاب والسنة:
لقد كان الناس قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم في جاهلية جهلاء يعبدون الأصنام ويدعونها من دون الله تعالى، وذلك لذهاب آثار الرسل السابقين وقلتها من العلم الصحيح في الاعتقادات والأعمال ثم بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق يعلم الناس الكتاب والحكمة التي هي السنة ويزكيهم، قال تعالى:{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164].
فعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه الدين كله فدلهم على كل خير وحذرهم من كل شر، والصحابة بلغوا هذا العلم النبوي الشريف إلى التابعين، والتابعون لمن بعدهم وهكذا كل جيل إلى أن قل العلم الصحيح علم الكتاب والسنة فيما بعد وتناقص وتسبب ذلك "في الجهل بحقيقة ما
(1)
انظر هذا السبب في إغاثة اللهفان: 1/ 166، وزاد المعاد: 5/ 787، وهداية الحياري ص: 16 فقد ذكر ابن القيم فيه من أسباب عدم قبول الحق: الجهل والعداوة والحسد والعادات والجاه والشهوات والخوف على النفس والمال والجاه وغير ذلك، كما ذكر القرافي أن الجهل هو السبب للأدعية الكفرية أو المحرمة، انظر الفروق: 4/ 265.
بعث الله به رسوله، بل جميع الرسل من تحقيق التوحيد وقطع أسباب الشرك، فقل نصيبهم من ذلك ودعاهم الشيطان إلى الفتنة، ولم يكن عندهم من العلم ما يبطل دعوته، فاستجابوا له بحسب ما عندهم من الجهل
…
"
(1)
.
والسبب في ذلك قلة انتشار العلم الصحيح من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بسبب إعراض الناس عن تعلم العلم الصحيح، حيث قَلَّتْ دراسةُ القرآن الكريم بتدبر وتعقل وفهم بحجة أن فهم القرآن صعب على أفهام الناس، ولا يستطيعه إلا من درس كل العلوم من نحو وصرف وبيان ومعان ولغة والفقه وأصوله والمنطق والفلسفة، ولهذا قل في بعض الأقطار الإسلامية دراسة تفسير القرآن الكريم بتدبر وفهم، وقلّ تفسيره بما يطابق ما انتشر في المجتمع بل صاروا يفسرون الآيات المتعلقة بالشرك بما يفهم أنها خاصة بكفار قريش ولا يدخل فيها ما يفعله الناس اليوم فصاروا كما قال الله تعالى في اليهود {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [البقرة: 78]، وقال عز من قائل:{مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة: 5]، واقتصروا على تلاوته على الأموات وعند المقابر والمشاهد، وكتابته للتمائم والحجب أو زخرفته بالذهب، وحفظه للتبرك، وقراءته في افتتاح الحفلات وأدى كل هذا إلى الجهل بالقرآن الكريم، ثم إلى عدم تطبيقه الاعتقادات والأعمال والتشريعات.
قال الشيخ أبو بكر الجزائري في وصف أحوال المسلمين في القرون الأخيرة كان القرآن يقرأ على الأموات دون الأحياء ويعتبر تفسيره خطيئة من الخطايا وذنبًا من الذنوب إذ ساد بين المسلمين القول بأن تفسير القرآن صوابه خطأ وخطأه كفر فلذا القارئ يقرأ {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} والناس حول ضريح الولي المدفون في ناحية المسجد
(1)
إغاثة اللهفان: 1/ 166 - 167.
يدعون بأعلى أصواتهم يا سيدي يا سيدي كذا وكذا ولا يجرؤ أحد أن يقول: يا إخواننا لا تدعوا السيد فإن الله تعالى يقول: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا
…
}
(1)
.
وهؤلاء لم يكتفوا بأن امتنعوا بأنفسهم عن تفسير القرآن وتدبره بل راحوا يحذرون غيرهم إذ قالوا: إن الغضب ينزل على أهل البلد إذا حصل خطأ في التفسير، وهذا كلام باطل لا أصل له، وما ألقى هذا بين الناس إلا الشيطان ليصدهم به عن سبيل الله
(2)
.
وقد وصف الله كتابه بالبيان والوضوح قال تعالى: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ} [البقرة: 99].
والأنبياء لم يبعثوا إلا لهداية الضلال وتعليم الجهال، والقول بصعوبة القرآن يتنافى مع مقتضى البيان والوضوح وغرض الإرسال
(3)
.
وقد وصل الأمر في إهمال الاعتناء بالكتاب إلى ما ذكره أحد العلماء المعاصرين أنه وزملاءه تحصلوا على شهادة العالمية من إحدى المراكز الدينية الكبرى ولم يدرسوا آية واحدة من كتاب الله تعالى
(4)
.
وكذلك أصاب السنة
(5)
مثل ما أصاب القرآن الكريم فقد تركوا الاعتناء بالسنة وتركت دراستها في أغلب المعاهد الإسلامية، وإنما كانوا يقرأونها للتبرك بها والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند ذكره، وكانوا يقرأون
(1)
أيسر التفاسير: 1/ 5 - 6.
(2)
السنن والمبتدعات: 218.
(3)
رسالة التوحيد لمحمد إسماعيل الدهلوي ص: 21 - 22.
(4)
انظر ما ذكره الشيخ عبد الحميد بن باديس من حصوله على الشهادة من جامع الزيتونة: في الاتجاه السلفي ص: 243.
(5)
انظر في قلة الاعتناء بالسنة: تذكرة الحفاظ: 2/ 530، و 4/ 1485، والأمصار ذات الآثار ص: 16، 20، 21، 35، 37، 12، 59، 77، 113، 117، وتوضيح الأفكار: 2/ 351، ومقدمة مفتاح كنوز السنة لرشيد رضا ص:"ص".
البخاري في وقت الشدائد والمحن، ويطلبون بقراءته النصر على الأعداء وتفريج الكرب
(1)
.
ولم يقتصر الأمر على صحيح البخاري بل اعتقدوا ذلك في غيره من بعض كتب الفقه
(2)
، وهؤلاء الذين يدرسون البخاري للتبرك لا يتفقهون فيه ولا يعرفون مبادئ التوحيد والشرك ووصل الأمر ببعضهم إلى ما ذكره حسين بن مهدي النعمي رحمه الله من أن قومًا يقرأون صحيح البخاري بمدينة زبيد فإذا فرغوا - إما أحيانًا أو مطلقًا - ذهبوا إلى مشهد هناك، فيظلون عاكفين هنالك ما شاء الله، وعليهم السكينة والوقار وضروب من الخضوع والتأدب لنازل الحفرة، ثم قال: وهل هذا عمل بشيء وجدوه في كتاب البخاري أو غيره أما هو؟ "
(3)
والسبب في هذا أن أغلبيتهم لا يفقهون في الحديث ولا همة لهم في معرفته ولا في التدين به بل الصحيح والموضوع عندهم بنسبة واحدة، إنما همتهم في السماع على جهلة الشيوخ وتكثير العدد من الأجزاء والرواة لا
(1)
ومن صور ذلك ما ذكره ابن سيد الناس والسبكي أنه لما وقعت حادثة التتار اجتمع الناس في مصر فقرأوا البخاري حتى ختموه يوم الجمعة وأن هذا عادتهم عند النوازل يرجون عند ختمه بركة الدعاء أجوبة ابن سيد الناس لوحة 66/أوطبقات الشافعية: 211/ 9. وانظر كلامًا ممتعًا حول قراءة البخاري لدفع الوباء ومقاومة الجيوش وغير ذلك في قواعد التحديث للقاسمي من 263 - 267 فقد ذكر فيه ما يبكي ويضحك عن علماء الأزهر وغيرهم وقد ذكر ابن عبد الهادي في العقود الدرية ص: 138، قراءة الحافظ المزي للبخاري للاستسقاء، ويجاب عن هذا بأنه كان للانتصار لابن تيمية كما يعرف من الرجوع إلى كتب التاريخ.
(2)
ذكر صاحب كشف الظنون: 2/ 1231 أن الحنفية يتبركون بقراءة مختصر القدوري في أيام الوباء وأنه كتاب مبارك من حفظه يكون آمنًا من الفقر. وانظر أيضًا: مقدمة مقالات الكوثري ص: 54. وذكر الكتاني أنه جرب قراءة كتاب الشفا للقاضي عياض لشفاء الأمراض المزمنة وتفريج الكروب ودفع الخطوب. اهـ. الرسالة المستطرفة ص: 106.
(3)
معارج الألباب: 178، ونحوه في البصائر للمتوسلين بالمقابر ص:451.
يتأدبون بآداب الحديث
(1)
.
وليس معنى هذا الذي ذكرناه من قلة الاعتناء بدراسة السنة وتدريسها أنه لا يوجد من يعتني بالسنة وتدريسها ودراستها حاشا وكلا، بل لا يزال
(2)
في الأمة الإسلامية جهابذة يعتنون بالحديث وعلومه وإن كانوا قلة بل المقصود أن الفهم الصحيح لها والاعتناء بتطبيقها عمليًا من جمهور طلبة العلم هو الذي قل وأدى إلى انتشار الجهل بها، ثم إلى انتشار الخرافات والبدع والشركيات في العالم الإسلامي.
فقد انتشر جهل حقيقة الدين الإسلامي وما بعث الله به نبيه صلى الله عليه وسلم وجميع الرسل من حقيقة التوحيد وإخلاص الدعاء له وصار الناس يظنون الشرك أنه هو التوحيد الخالص وأنه مما يتقرب به إلى الله تعالى، وصاروا يتهمون من دعا إلى التوحيد الخالص بأنه جاء بما يخالف الإسلام.
ووصل الأمر إلى أن اعتقد جماهير من المسلمين أن دعاء الموتى ونداء من تحت الأجداث واستغاثة من في القبور من الطاعات وأن ذلك مما يقرب إلى الله تعالى وأنه من دين الإسلام.
ثم هؤلاء الذين تركوا الاعتناء بالكتاب والسنة اعتاضوا عن ذلك بالاعتناء بالفلسفة والمنطق والتعمق في المسائل الغريبة نادرة الوقوع من المسائل الفقهية مع الجمود والتعصب، وترك السنة الصحيحة لمراعاة المذهب.
كما أنهم أفنوا أعمارهم في دراسة غوامض اللغة وغرائبها وشواذها.
فهذه العلوم لا تشفي عليلًا ولا تهدي السبيل المستقيم، والدارسُ المعتني بها بعيدٌ عن واقع الأمة وآلامها وعلاج عقيدة المجتمع ومشاكله.
(1)
زغل العلم ص: 27.
(2)
انظر توضيح الأفكار: 2/ 352، وزغل العلم: 33، والأمصار ذات الآثار: 27، ومقدمة كنوز السنة ص:"ق".
فحصل من هذا كله انتشار الجهل بالكتاب والسنّة.
وهذا الانتشار للجهل ورفع العلم مما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله: "يقبض العلم ويظهر الجهل والفتن"
(1)
. وهذا هو مصداق ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث، فقد انتشر الجهل بحقيقة التوحيد وما يضاده أو ينافي كماله وتسبب هذا في انتشار الشرك والبدع فصار المعروف منكرًا والمنكر معروفًا.
قال ابن القيم رحمه الله: "قد غلب الشرك على أكثر النفوس لظهور الجهل وخفاء العلم فصار المعروف منكرًا والمنكر معروفًا، والسنة بدعة، والبدعة سنة، ونشأ في ذلك الصغير وهرم عليه الكبير، وطمست الأعلام واشتدت غربة الإسلام، وقلّ العلماء، وغلب السفهاء، ولكن مع هذا لا تزال طائفة من العصابة المحمدية بالحق قائمين، ولأهل الشرك والبدع مجاهدين إلى أن يرث الله سبحانه الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين"
(2)
.
وذكر ابن القيم أيضًا أن الجهل هو السبب الرئيسي في المنع من قبول الحق فالجهل هو السبب الغالب على أكثر النفوس فإن من جهل شيئًا عاداه وعادي أهله
(3)
.
ومما ينبغي أن يعلم أن هذا الجهل المنتشر حصل للناس لسببين:
أحدهما: هذا الذي تقدم من عدم الاعتناء بدراسة القرآن الكريم وتدبره وفهمه.
وثانيهما: أنهم حملوه على قوم مضوا وأن الواقع لا يدخل تحته،
(1)
البخاري: 1/ 182 رقم 85.
(2)
زاد المعاد: 3/ 507.
(3)
هداية الحيارى: 16.
فقد ذكر ابن القيم أن القرآن مملوء بالآيات التي تقطع أصول الشرك ومواده ثم قال: "ولكن أكثر الناس لا يشعرون بدخول الواقع تحته، وتضمنه له، ويظنونه في نوع وفي قوم قد خلوا من قبل ولم يعقبوا وارثًا، وهذا هو الذي يحول بين القلب وبين فهم القرآن، ولعمر الله إن كان أولئك قد خلوا فقد ورثهم من هو مثلهم أو شر منهم أو دونهم، وتناول القرآن لهم كتناوله لأولئك ولكن الأمر كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية"، وهذا لأنه إذا لم يعرف الجاهلية والشرك، وما عابه القرآن وذمه وقع فيه وأقره ودعا إليه وصوبه وحسنه وهو لا يعرف أنه هو الذي كان عليه أهل الجاهلية أو نظيره أو شر منه أو دونه"
(1)
.
وبسبب الجهل بحقيقة دين الإسلام وحقيقة التوحيد والشرك تمكن الشيطان من التلبيس على كثير من الناس في دعاء غير الله تعالى بأن زين لهم ذلك باسم التوسل تارة وباسم الشفاعة تارة وباسم محبة الصالحين تارة أخرى، إلى غير ذلك من تلبيسات الشيطان لأن الباب الأعظم الذي يدخل منه إبليس على الناس هو الجهل، فهو يدخل منه على الجهال بأمان، وأما العالم فلا يدخل عليه إلا مسارقة"
(2)
.
وقد صرح القرافي المالكي يكون الجهل هو السبب للأدعية الشركية فقد ذكر الأدعية المحرمة والأدعية المكفرة وبين خطورتها ثم قال: "وأصل كل فساد في الدنيا والآخرة إنما هو الجهل فاجتهد في إزالته عنك ما استطعت كما أن أصل كل خير في الدنيا والآخرة إنما هو العلم فاجتهد في تحصيله ما استطعت والله تعالى هو المعين على الخير كله"
(3)
.
(1)
مدارج السالكين: 1/ 343 - 344، وانظر مجموعة الرسائل النجدية: 4/ 567، وتحفة الجليس: 59 - 60.
(2)
تلبيس إبليس: 134.
(3)
الفروق: 4/ 265.
السبب الثاني
(1)
: الشبهات التي يتشبثون بها في جواز دعاء غير الله تعالى:
ومن الأسباب التي أدت إلى انتشار دعاء غير الله تعالى بعض الشبهات التي ظن عباد القبور أنها صحيحة وتدل على جواز دعاء الموتى ولكنها كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا، فهم يتركون الأمور الواضحة ويتبعون المتشابه، وتلك الشبه على أقسام ثلاثة:
1 -
نصوص متشابهة لم يفهموها ولم يفقهوا ما دلت عليه ويحتجون بها ويوردونها من غير فهم لمعناها ولا معرفة لما دلت عليه وذلك كتأويلهم لبعض الآيات القرآنية وتفسيرها بما يجيز دعاء غير الله تعالى وكذلك تأويلهم لبعض الأحاديث الصحيحة.
2 -
أحاديث مكذوبة مختلقة وضعها أشباه عباد الأصنام من المقابرية على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تناقض دينه وما جاء به.
3 -
"حكايات حكيت لهم عن أصحاب القبور أن فلانًا استغاث بالقبر الفلاني في شدّة فخلص منها وفلانًا دعاه، أو دعا به في حاجة فقضيت له وفلانًا نزل به ضر فاسترجى صاحب ذلك القبر فكشف ضره.
وعند السدنة والمقابرية من ذلك شيء كثير يطول ذكره، وهم من أكذب خلق الله تعالى على الأحياء والأموات"
(2)
.
وقد تكون تلك الحكايات صحيحة ولكنها من الشيطان، فإنه قد يتراءى لبعضهم في صورة من يعتقد فيه، أو ينتسب إلى رجل صالح ويتسمى باسمه كالخضر وعبد القادر، وقد تخاطب الشياطين من استغاث
(1)
انظر عن هذا السبب: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح: 1/ 317، وإغاثة اللهفان: 18/ 167، ومصباح الظلام ص: 305 ومجموعة الرسائل النجدية: 4/ 323.
(2)
إغاثة اللهفان: 1/ 167.
بغير الله أو دعاه وينسب ذلك إلى هذا المدعو أو المستغاث به ويقول أحدهم: رأيت فلانًا وخاطبني فلان أو نحو هذا
(1)
.
وقد تقضي الشياطين بعض حوائج من استغاث بالأموات من الأنبياء والصالحين والشيوخ فيظن أن ذلك كرامة وخرق عادة بسبب استغاثته، وقد يصل الأمر في بعض الأحيان أن ينزل عليه طعام من الهواء أو نفقة أو سلاح أو غير ذلك مما يطلبه فيظن ذلك من كرامة من استغاث به ودعاه، وإنما ذلك في الحقيقة كله من الشياطين.
وهذا من أعظم الأسباب التي عبدت بها الأوثان
(2)
في زمان الجاهلية الأولى ولا زالت هذه الأمور موجودة بعد دخول الإسلام عند من يدعو الأموات لأن الشيطان أقسم أنه لا يزال يضل بني آدم.
لكن هذه الأمور من الأحوال الشيطانية تضعف حيث يقوى نور الإيمان والتوحيد وتظهر آثار النبوة والرسالة وتقوى حيث يضعف الإيمان، ويقوى الشرك والكفر والفسوق والعصيان فلهذا يكثر وقوعه في المشركين ومن يشابههم ويكثر في بلادهم
(3)
ويقل في بلاد المسلمين لا سيما أهل التوحيد الخالص المتمسكين بالكتاب والسنة.
فتبين مما سبق أن الحكايات لها أثر كبير في انتشار دعاء غير الله تعالى.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية مبينًا كون الحكايات أحد الأسباب الرئيسية
(1)
الجواب الصحيح: 1/ 318 - 320، والصفدية: 1/ 190 - 193: ومنهاج السنة: 1/ 483 و 2/ 451 و 3/ 491، والجواب الباهر: 62، ومصباح الظلام ص: 305، والدر النضيد ص 27، والفتاوى: 17/ 456 - 458.
(2)
قاعدة في التوسل والوسيلة ص: 155، 32، أو الفتاوي: 1/ 360 - 361، واقتضاء الصراط:320.
(3)
قاعدة في التوسل: 156، وما بعدها والصفدية: 2/ 292، وانظر ما يتعلق بالجاهلية في الأصنام للكلبي ص: 12، وانظر أيضًا: الفتاوى: 17/ 459.
في انتشار الشرك في الدعاء: "فإنه ما من أحد يعتاد دعاء الميت والاستغاثة به نبيًا كان أو غير نبي إلا وقد بلغه من ذلك ما كان من أسباب ضلاله"
(1)
.
وسيأتي - إن شاء الله تعالى - مناقشة هذه الشبهات في الباب الرابع.
السبب الثالث: علماء السوء وأئمة الضلالة، والزنادقة:
ومن الأسباب التي أدت إلى انتشار دعاء غير الله تعالى وجود علماء السوء وأئمة الضلالة والزنادقة، فقد كان العلماء العاملون هم الذين يوجهون الحكام والشعوب فكانوا سلاطين السلاطين وأمراء الأمراء.
فكانوا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ولا يخافون في الله لومة لائم وكانوا يحاربون الشرك والبدعة وهؤلاء العلماء في تاريخ هذه الأمة الإسلامية كثيرون في كل زمان ومكان إلا أن بعض علماء السوء تركوا هذا الواجب الديني ورضوا بالحياة الدنيا ووصل الأمر ببعضهم إلى أن تقربوا إلى بعض أئمة الضلال ببعض الفتاوى وطلب بعض الرخص لهم وقد يصل الأمر إلى أن يصنفوا لهم بعض الكتب على أهوائهم، وقد ذكر شيخ الإسلام أمثلة منهم في كتاب الاستقامة
(2)
.
وبعضهم يطلب للعوام والجهال ما يبرر ويجيز ما يفعلونه من الشركيات والبدع والخرافات فتارة يؤوله بالمجاز، وتارة بالتوسل، وتارة يؤيده بالأحاديث الموضوعة المكذوبة، وتارة بحجج فلسفية، ومنهم من يؤلف في إباحة دعاء الموتى وإنزال الحوائج بهم مؤلفات وينشرها بين الجهال.
فهؤلاء الذين ابتليت بهم الأمة الإسلامية هم من جملة الأسباب التي أدت إلى انتشار دعاء الموتى والاستعانة بهم. فهؤلاء قد عكسوا القضية من حيث أن الله تعالى أمرهم بتبليغ الحق والأمر بالمعروف والنهي عن
(1)
قاعدة في التوسل ص: 30.
(2)
الاستقامة: 1/ 43 - 47.
المنكر وأعظم المنكرات هو الشرك بالله تعالى.
قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران: 187].
وقد وجد من علماء بعض الفرق الضالة، قوم صنفوا الكتب التي تدعو إلى عبادة الأئمة ودعائهم بل إلى تأليههم.
ومنهم من صنف في أدعية الأضرحة كابن المفيد
(1)
الرافضي، ألف كتابًا وسماه "الحج" إلى زيارة المشاهد" وعامة تلك الأدعية في تلك الكتب كذب وزور
(2)
.
ومن هؤلاء الذين صنفوا هذه الكتب قوم لهم أغراض فاسدة قصدهم إضلال الأمة قال شيخ الإسلام وهذا إنما ابتدعه وافتراه في الأصل قوم من المنافقين والزنادقة ليصدوا به الناس عن سبيل الله، ويفسدوا عليهم دين الإسلام وابتدعوا لهم أصل الشرك المضاد لإخلاص الدين لله. . .
ولهذا صنف طائفة من الفلاسفة الصابئين المشركين في تقرير هذا الشرك ما صنفوه، واتفقوا هم والقرامطة الباطنية على المحادة لله ورسوله حتى فتنوا أممًا كثيرة وصدوهم عن دين الله.
وأقل ما صار شعارًا لهم تعطيل المساجد وتعظيم المشاهد فإنهم يأتون من تعظيم المشاهد وحجها والإشراك بها ما لم يأمر الله به ولا رسوله بل نهى الله عنه ورسوله عباده المؤمنين.
(1)
هو محمد بن محمد بن النعمان عالم الرافضة هلك عام 413 هـ، سير أعلام النبلاء: 17/ 344.
(2)
انظر عن كتاب ابن المفيد وأمثاله في: منهاج السنة: 1/ 476، والفتاوى: 4/ 17، وإغاثة اللهفان: 1/ 154، والفوائد الموضوعة: 55 - 56.
وأما المساجد فيخربونها فتارة لا يصلون جمعة ولا جماعة بناء على ما أصلوه من شعب النفاق وهو أن الصلاة لا تصح إلا خلف معصوم
(1)
.
فقد تبين بهذا مدى تسبب علماء السوء في انتشار الشرك في الدعاء وغيره.
وأما أئمة الضلالة فقد نشروا بين المسلمين عبادة القبور ودعاءها.
وقد خاف رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمته الأئمة المضلين فقال محذرًا من منهم: "وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين"
(2)
.
وقد وقع ما خاف منه الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد تسلط على المسلمين في بعض فترات تاريخهم الطويل بعض أئمة الضلالة من الرافضة والباطنية والزنادقة.
وذلك بسبب
(3)
بعد المسلمين عن الاعتصام بالكتاب والسنة، فنشروا العقائد الضالة والأفكار المنحرفة بكل الوسائل الممكنة لهم.
فمن أئمة الضلالة من استطاع - بعد سيطرته وتمكنه في الأرض - أن يدعي الألوهية كالحاكم بأمر الله الباطني العبيدي "وقد أمر أهل مصر إذا قاموا عند ذكره أن يخروا سجدًا له حتى إنه ليسجد بسجودهم من في الأسواق من الرعاع وغيرهم ممن كان لا يصلي الجمعة، وكانوا يتركون السجود الله في يوم الجمعة وغيرها ويسجدون للحاكم"
(4)
.
(1)
الفتاوى: 4/ 517، 27/ 168، والرد على البكري: 306، والعقود الدرية: 255، والرد على الأخنائي: 32/ ومنهاج السنة: 1/ 474، 478 و 7/ 211.
(2)
أخرجه أبو داود: 4/ 451 رقم 4252، وأحمد: 18/ 278، 284، والحاكم: 4/ 449، وصححه ووافقه الذهبي وصححه أيضًا الألباني في الصحيحة: 4/ 109 رقم 1582 كلهم من حديث ثوبان وأصله في صحيح مسلم رقم 2889.
(3)
انظر ما ذكره ابن القيم من أن سبب استيلاء القرامطة والعبيديين على المسلمين اشتغالهم بالفلسفة وعلوم أهل الإلحاد: إغاثة اللهفان: 2/ 197 - 198.
(4)
البداية والنهاية: 12/ 10.
وآخرون لم يستطيعوا أن يدعوا لأنفسهم الألوهية ولكن ادعوا لأئمتهم الألوهية
(1)
.
ومن دون هؤلاء آخرون غلوا في أئمة البيت وإن لم يصلوا إلى التأليه، ولكنهم بنوا على قبورهم أو الأماكن التي يزعمون أنها قبورهم المشاهد والقباب والأضرحة المزخرفة وهؤلاء لهم آثار باقية ودول خطيرة إلى الآن ولا تزال تلك الآثار الباقية تنشر الشرك في ربوع الأمة الإسلامية وتفسد عقائدها بشتى الوسائل.
فمن تلك الآثار المشهد الذي بني في دولة الباطنيين العبيديين على رأس الحسين المزعوم في القاهرة
(2)
. ولا يزال موجودًا إلى الآن يطاف به ويدعى ويعبد فإنا لله وإنا إليه راجعون.
كما أن بني بويه الذين كانوا على عقيدة الرافضة ظهر في دولتهم بناء المشهد على قبر علي رضي الله عنه المزعوم بناحية النجف
(3)
. ولا يزال يعبد ويدعى ويطاف به.
وهؤلاء الذين نشروا الشرك ربما يكون بعضهم من الجاهلين المغرورين والبعض الآخر زنادقة ممن يريد إفساد دين المسلمين.
والأدلة على أن بعض من نشر بين المسلمين دعاء غير الله تعالى زنادقة كثيرة:
1 -
منها ما ذكره ابن الجوزي عن ابن عقيل الحنبلي أنه ذكر أن الملاحدة لما رأوا انتشار الإسلام ولم يستطيعوا مقاومته اندسوا بين المسلمين فعملوا حيلًا منها رواية ما يقارب المعجزات من ذكر خواص في أحجار وخوارق العادات في بعض البلاد وأخبار عن الغيوب عن كثير من
(1)
منهاج السنة: 5/ 334.
(2)
انظر رأس الحسين: 168، 186.
(3)
المرجع نفسه: 168.
الكهنة والمنجمين وبالغوا في تقرير ذلك، وذلك ليقول من رأى ذلك مع عدم علمه لقصدهم: وهل ما جاءت به النبوات إلا مقارب هذا؟ "
(1)
.
2 -
ومن ذلك ما فعله الباطنية من الإسماعيلية والقرامطة ويدل على ذلك ما ثبت في رسائل إخوان الصفا من قولهم: إن التقرب إلى الله تعالى بالأنبياء أولى من التوسل بالأصنام التي لا تسمع ولا تبصر وأن من قصر فهمه ومعرفته فليس له طريق إلى الله تعالى إلا بأنبيائه ومن قصر عنهم فبالأئمة من خلفائهم وأوصيائهم والتعلق بهم والذهاب إلى مساجدهم ومشاهدهم، والدعاء والصلاة والصيام والاستغفار والرحمة عند قبورهم وعند تماثيلهم المصورة على أشكالهم لتذكرهم من الأصنام والأوثان وما يشاكل ذلك طلبًا للزلفى إلى الله
(2)
.
3 -
ومن ذلك ما ذكره ابن حزم أن بعض الفرس لما عجزوا عن مقاومة انتشار الإسلام أظهروا التشيع وذلك كيدًا للإسلام وأهله
(3)
.
وذكر ابن الجوزي أن من أتباع القرامطة والعبيديين طائفة انقطعت دولة أسلافهم بدولة الإسلام كأبناء الأكاسرة والدهاقين وأولاد المجوس فهؤلاء حاقدون على الإسلام كما ذكر أن منهم من قصد إبطال الإسلام ورد الدولة الفارسية وأظهر مذهب الإمامية
(4)
.
4 -
وما ذكر عن رجل فرنسي أسلم وتنسك وصار إمامًا لمسجد كبير في تونس فلما جاءت الحملة الفرنسية على تونس طلب منه الناس أن يستأذن لهم على ضريح الشيخ فدخل في الضريح فخرج بأن الشيخ منعهم من المقاومة فاستسلموا
(5)
.
(1)
تلبيس إبليس: 68، ونحوه في ص: 364، ونحوه في المنتظم: 5/ 118، وانظر نحوه في قواعد عقائد آل محمد للديلمي:31.
(2)
رسائل إخوان الصفا: 4/ 20.
(3)
الفصل: 2/ 273.
(4)
المنتظم: 5/ 118.
(5)
التصوف بين الحق والخلق: 211.
5 -
وما ذكر عن امرأة فرنسية أظهرت الإسلام وتزوجت بأحد شيوخ التيجانية ثم بعد وفاته بأخيه شيخهم أيضًا، فبذلك قدمت خدمة جليلة للاستعمار الفرنسي
(1)
.
فتبين مما سبق أن بعض علماء السوء وأئمة الضلال والزنادقة سعوا في نشر الشرك في هذه الأمة.
السبب الرابع: التقليد الأعمى للآباء والأسلاف، واستصحاب العوائد وإِلْفُها:
إن الله سبحانه وتعالى أعطى الإنسان العقل ليفكر ويعتبر به ولكن بعض الناس لم يستخدموا عقولهم في طلب الحجة والدليل والتفكر والاعتبار، بل أهملوه وقلدوا الآخرين بدون برهان ولا سلطان، فرأوا الآباء والأجداد والمشايخ يعظمون القبور ويدعون الأضرحة، فقلدوهم وتبعوهم بدون إعمال عقولهم هل هذه القبور تستحق العبادة والدعاء أم لا؟
وهؤلاء رأوا أن هذا قد شب عليه الصغير وشاب عليه الكبير بدون نكير، فلهذا إذا رأوا من ينكر عليهم قالوا كما قال الأولون:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [المائدة: 104].
وقال تعالى: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف: 22، 23].
قال ابن الجوزي: "وقد لبس إبليس على جمهور العوام بالجريان مع العادات وذلك من أكثر أسباب هلاكهم، فمن ذلك أنهم يقلدون الآباء والأسلاف في اعتقادهم على ما نشأوا عليه من العادة، فترى الرجل منهم
(1)
التيجانية لدخيل الله: 61 - 63، والتصوف بين الحق والخلق: 212 - 213.
يعيش خمسين سنة على ما كان عليه أبوه ولا ينظر أكان على صواب أم على خطأ"
(1)
.
فالذين يدعون غير الله تعالى ويجيزونه يستدلون بالكثرة وبالآباء والأجداد على صحة دعاء غير الله تعالى بل بعضهم يتهم من لا يجيز ذلك بأنه خالف إجماع الأمة المحمدية المرحومة، وهذا الاستدلال والاحتجاج بتقليد الآباء والأجداد له سبب خفي، وهو أنه "ينشأ أحدهم وهو حسن الظن بأسلافه ومشايخه فلا يزال يسمع ما يقوي حسن ظنه ويسمع ما يبعد المخالف، ثم يتدرج إلى مثل هذه الحالة من عدم قبول الحق، ومع هذه الحالة هناك عوامل وأسباب أخرى خفية ربما يذهل عنها"
(2)
.
والمقلد يزين له الشيطان أن التقليد أفضل لسلامته من الوقوع في اشتباه الأدلة وأن الأسلاف لا يخطئون إلى غير ذلك من الشبه.
قال ابن الجوزي رحمه الله في بيان طريق دخول إبليس في إفساد العقائد:
"فإن إبليس زيّن للمقلدين أن الأدلة قد تشتبه والصواب قد يخفى والتقليد سليم، وقد ضل في هذا الطريق كثير وبه هلاك عامة الناس
…
واعلم أن العلة التي بها مدحوا التقليد بها يذم لأنه إذا كانت الأدلة تشتبه والصواب يخفى وجب هجر التقليد لئلا يوقع في ضلال. . .".
ثم قال: واعلم أن عموم أصحاب المذاهب يعظم في قلوبهم الشخص فيتبعون قوله من غير تدبر بما قال: وهذا عين الضلال لأن النظر ينبغي أن يكون إلى القول لا إلى القائل كما قال علي رضي الله عنه. . .
(1)
تلبيس إبليس ص: 399، وانظر أيضًا: القول الفصل النفيس ص: 100، فقد أن استصحاب العوائد من أعظم أسباب الوقوع في الشرك، ونحوه في قطف ذكر الثمر ص:113.
(2)
العلم الشامخ: 287.
إن الحق لا يعرف بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله"
(1)
.
السبب الخامس: عدم امتثال أمر الشارع بسد ذرائع الشرك وحماية جناب التوحيد:
قد أمر الشارع الحكيم بسد ذرائع الشرك ووسائله كلها صغيرها وكبيرها وحذر من الاقتراب إليها وذلك حماية لجناب التوحيد والوسائل التي نهى الشارع عنها كثيرة ومتنوعة لأن منافذ الشرك كثيرة والطرق إليه متعددة، ومن تلك الوسائل التي نهينا عنها وسائل لفظية نحو الحلف بغير الله، وقول ما شاء الله وشئت.
وقد حذرنا الرسول صلى الله عليه وسلم من ذلك فقال: "من حلف بغير الله فقد أشرك"
(2)
.
وقال للذي قال له ما شاء الله وشئت: "أجعلتني الله ندًا بل ما شاء الله وحده"
(3)
.
ومن تلك الوسائل وسائل عَمَلِيَّة: نحو البناء على القبور، وشد الرحل إليها واتخاذها مساجد والصلاة عندها أو إليها، وقصدها لعبادة الله عندها كالدعاء عندها والذبح الله عندها ووضع تماثيل لأصحابها والاجتماع عندها في مواسم وأعياد معينة.
وقد حذر الشارع الحكيم من هذه الأمور وغيرها، صيانة لعقيدة
(1)
تلبيس إبليس: 81 - 82.
(2)
أخرجه أبو داود: 3/ 570 رقم 3251، والترمذي: 4/ 110 رقم 1535، والحاكم: 1/ 18 وصححه ووافقه الذهبي كما صححه الألباني كما في صحيح الجامع: 5/ 282 رقم 6080، والإرواء: 8/ 189 رقم 2561.
(3)
أخرجه ابن ماجه: 1/ 684 رقم 2117، وأحمد 1/ 214، 224، 283، 347، والنسائي في عمل اليوم: 988، وابن السني رقم 667، وحسنه الألباني في الصحيحة:139.
التوحيد وسدًا لأبواب الشرك ومنافذه.
فقد ثبت في الأحاديث الصحيحة النهي عن هذه الأشياء وإليك بعضها:
فقد ثبت في حديث جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يجصص القبر وأن يقعد عليه وأن يبني عليه
(1)
.
وثبت أمره بهدم أبنية القبور وتسويتها بالأرض. قال علي رضي الله عنه لأبي الهياج الأسدي: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا تدع تمثالًا إلا طمسته ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته"
(2)
.
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم نهيه عن شد الرحل إلى القبور، فروى أبو سعيد وأبو هريرة رضي الله عنهما مرفوعًا:"لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا"
(3)
.
ووردت أحاديث كثيرة في النهي عن اتخاذ القبور مساجد والصلاة إليها أو عندها ولعن من فعل ذلك، فعن عائشة وابن عباس رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حضرته الوفاة جعل يلقي على وجهه خميصة له فإذا اغتم كشفها عن وجهه وهو يقول:"لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد تقول عائشة: يحذر ما صنعوا"
(4)
.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "وكأنه صلى الله عليه وسلم علم أنه مرتحل من ذلك المرض، فخاف أن يعظم قبره كما فعل من مضى فلعن اليهود
(1)
رواه مسلم: 2/ 667 رقم 970.
(2)
رواه مسلم 2/ 666، رقم 969.
(3)
البخاري: 3/ 63 رقم 1188، 1189 و 3/ 70 رقم 1197، ومسلم: 2/ 1014 رقم 1397.
(4)
البخاري: 1/ 532 رقم 435، 436، ومسلم: 1/ 377 رقم 531 وله شاهد من حديث أبي هريرة البخاري رقم 437، ومسلم رقم 530.
والنصارى إشارة إلى ذم من يفعل فعلهم"
(1)
.
وروي جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول: ". . . ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني ذلك"
(2)
.
أنهاكم عن ومن الوسائل التي نهى عنها وضع التماثيل والصور على القبور، قالت عائشة رضي الله عنها: إن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة فيها تصاوير لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح، فمات بنوا على قبره مسجدًا وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله"
(3)
.
وقد أمر صلى الله عليه وسلم بطمس التماثيل والصور كما في حديث علي المتقدم كما حذر أشد التحذير من التصوير للحيوان مطلقًا فقال:
"أشد الناس عذابًا يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله"
(4)
.
وحذر من اعتياد قبره صلوات الله وسلامه عليه فقال فيما رواه أبو هريرة: "لا تجعلوا بيوتكم قبورًا ولا تجعلوا قبري عيدًا وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم"
(5)
.
(1)
فتح الباري: 1/ 532.
(2)
أخرجه مسلم: 18/ 377 رقم 532 والأحاديث الواردة في التحذير من اتخاذ القبور مساجد كثيرة ذكر الألباني في تحذير الساجد ص: 27 وما قبلها عن الحارث النجراني وأسامة بن زيد وأبي عبيدة بن الجراح وزيد بن ثابت وابن مسعود وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين.
(3)
أخرجه البخاري: 1/ 523 رقم 427، ومسلم: 1/ 375 رقم 528.
(4)
أخرجه البخاري: 10/ 386 - 387 رقم 5954، ومسلم: 3/ 1667 رقم 2107.
(5)
أخرجه أبو داود: 2/ 534 رقم 2042، وأحمد: 2/ 367.
وقد صحح إسناد الحديث النووي في الأذكار ص: 106، ونقل السخاوي هذا التصحيح فأقره في القول البديع ص: 154، وقال ابن تيمية: وهذا حديث حسن ورواته ثقات مشاهير لكن عبد الله بن نافع فيه لين لا يمنع الاحتجاج به هذا ما ذكره =
ولا يخفى حكمة نهي الشارع عن تعظيم القبور وتصوير تماثيل أصحابها لأن ذلك من الأسباب الرئيسية في عبادة أصحابها ودعائهم.
قال شيخ الإسلام: "والشرك في بني آدم أكثره عن أصلين: أولها: تعظيم قبور الصالحين، وتصوير تماثيلهم للتبرك بها، وهذا أول الأسباب التي بها ابتدع الآدميون وهو شرك قوم نوح
…
والسبب الثاني: عبادة الكواكب. . ."
(1)
.
وذكر ابن القيم أيضًا أن "غالب شرك الأمم كان من جهة الصور والقبور"
(2)
.
فتبين مما تقدم أن الشارع الحكيم قد سد كل الطرق والوسائل التي تؤدي إلى الشرك ودعاء غير الله تعالى بنوعيه.
ولكن بعض المسلمين لم يمتثلوا هذا النهي وهذا التحذير البليغ فطرقوا تلك المحاذير وفتحوا تلك السدود، فقاموا بتشييد الأضرحة وزخرفتها، مع إسدال الستور وإيقاد البخور ونثر الزهور، وذبح النحور، وتقديم النذور، والانحناء عند المرور، ودعوا عند تلك القبور، ففتحوا بذلك بابًا من أبواب الشرك الذي أمر الشارع بسده، بل تعدوه
= في الرد على الأخنائي ص: 92، ونحوه في اقتضاء الصراط المستقيم ص:321.
وقال الحافظ ابن عبد الهادي: "وهو حديث حسن جيد الإسناد وله شواهد كثيرة يرتقي بها إلى درجة الصحة" الصارم ص: 310، وحسنه أيضًا الحافظ كما في الفتوحات الربانية: 3/ 313، وصححه الألباني في صحيح الجامع: 6/ 132 رقم 7103، وحسن إسناده في تحذير الساجد ص: 142، والشواهد التي أشار إليها ابن عبد الهادي ستأتي في ص:610.
(1)
الرد على المنطقيين ص: 285، والفتاوى: 17/ 460، وقاعدة في التوسل: 17، وجامع الرسائل: 2/ 53، وانظر أيضًا شرح الطحاوية ص:20.
(2)
زاد المعاد: 4/ 458، ونحوه في إغاثة اللهفان: 1/ 145، نقلًا عن شيخه، وفي 2/ 161.
واقتحموا الشرك فإذا جاء العامي عند مشهد من تلك المشاهد رأى ما يبهره من القباب المزخرفة والأضرحة المزينة ورأى الستائر المسدولة والأبخرة المتصاعدة، والأزهار المتناثرة، ورأى الناس يطوفون حول القبر، ويصرخون بندائه واستغاثته، ورأى هذا يبكي، وآخر يناجي ويتضرع، وآخر يتمرغ بتراب القبر، وآخر يقبض النذور ويُبَارِك، وآخر يحكي كرامات الشيخ وخوارقه وآخر يقول: كنت في شدة فدعوت الشيخ فاستجاب لي إذا رأى العامي هذه الأمور - ولم يجد من ينكر ذلك - ظنَّ أن هذا من دين الإسلام، وقلد هؤلاء وعمل مثل عملهم وتأثر بما رأى وسمع "ويضيق صدره عن تصور ما لهذا الولي من المنزلة، ويدخله من الروع والمهابة ما يغرس في قلبه من العقائد الوهمية. . . ما يزلزله عن الإسلام قليلًا قليلًا حتى يطلب من صاحب هذا القبر ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى"
(1)
.
هذا ومن جملة الوسائل التي نهى عنها الشارع الغلو في الصالحين، ومع كونه من جملة الذرائع والوسائل نُفْرِدُه بعنوان مستقل لكونه من الأسباب الرئيسية لانتشار دعاء غير الله تعالى قديمًا وحديثًا كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
السبب السادس: الغلو في الصالحين
(2)
:
ومن الأسباب التي أدت إلى انتشار دعاء غير الله تعالى الغلو في الصالحين، وقد حذرنا الله تعالى من الغلو في الدين عمومًا في العقائد والأعمال والعبادات فقال تعالى:{يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَ} [النساء: 171].
(1)
الإبداع في مضار الابتداع: 213.
(2)
قد ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى أن تلاعب الشيطان بالمشركين في عبادة الأصنام له أسباب عديدة تلاعب بكل قوم على قدر عقولهم ثم ذكر منها تعظيم الموتى، والغلو في المخلوق. اهـ. إغاثة اللهفان: 2/ 161، 164.
فهذه الآية وإن كان سياقها في أهل الكتاب السابقين إلا أن مدلولها ينطبق على هذه الأمة أيضًا إذ نهينا أن نسلك مسالكهم ونتبع سبيلهم وأن نتشبه بهم. وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هذه الأمة ستتبع سنن من سبقها من الأمم فقال: "لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرًا شبرًا وذراعًا ذراعًا"
(1)
.
وقد حذر المصطفى صلوات الله وسلامه عليه من إطرائه والغلو في مدحه فقال في حديث عمر الطويل: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله ورسوله"
(2)
ومع هذا التحذير الواضح غلا فيه قوم، والذي ألجأهم إلى هذا الغلو "اعتقادهم أنه يكفِّر عنهم سيئاتهم ويدخلهم الجنة وكلما غلوا كانوا أقرب إليه فهم أعصى الناس لأمره"
(3)
.
وقال صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس رضي الله عنهما: "إياكم والغلو في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين"
(4)
.
فهذا الحديث وإن كان سبب وروده في رمي الجمار، إلا أن لفظه عام، فهو يشمل التحذير من أنواع الغلو سواء في الاعتقادات أو الأعمال
(5)
.
ومن أنواعه الغلو في الصالحين أو فيمن يعتقد فيه الصلاح.
(1)
البخاري: 13/ 300 رقم 7320، ومسلم: 4/ 2054 رقم 2669 من حديث أبي سعيد الخدري.
(2)
البخاري: 12/ 144 رقم 6830 و 6/ 478.
(3)
الموضوعات للقاري: 119، والبريلوية:143.
(4)
أخرجه أحمد في المسند: 1/ 215، 347، والنسائي: 5/ 218، وابن ماجه: 2/ 1008، وابن أبي عاصم في السنة رقم 98، وابن خزيمة في صحيحه: 4/ 274 رقم 2867، وابن حبان (موارد) ص: 249 رقم 1011، والحاكم: 1/ 466، وابن الجارود في المنتقى ص: 171 رقم 473. وقد صحح الحديث ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وقال: على شرط الشيخين ووافقه الذهبي وصححه شيخ الإسلام في الاقتضاء ص: 106 وقال: هذا إسناد صحيح على شرط مسلم وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة: 3/ 278 رقم 1282.
(5)
انظر اقتضاء الصراط ص: 106.
ولم يحذرنا الشارع الحكيم من الغلو في الصالحين إلا لحكم عظيمة وأسرار بالغة فمن ذلك أن الغلو في الصالحين هو السبب الرئيسي في انتشار الشرك.
أ - فالغلو في الصالحين هو السبب في أول شرك ظهر على وجه الأرض، فقد روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أن ودًا وسواعًا ويغوث ويعوق ونسرًا أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابًا، وسموها بأسمائهم ففعلوا فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عبدت
(1)
.
وروى ابن جرير بإسناده إلى محمد بن قيس قال: "كانوا قومًا صالحين من بني آدم وكان لهم أتباع يقتدون بهم فلما ماتوا قال أصحابهم الذين يقتدون بهم: لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم، فصوروهم فلما ماتوا وجاء آخرون دب إليهم إبليس فقال: إنما كانوا يعبدونهم، وبهم يسقون المطر فعبدوهم"
(2)
.
وهكذا تدرج بهم الشيطان حتى عبدوا هؤلاء الصالحين، فالشيطان لا يأتي إلى الإنسان بالطريق المباشر ولكنه يأتي بحيل وأساليب متنوعة تؤدي في النهاية إلى الضلال نعوذ بالله منه.
فهو يتدرج "مع كل في عشه فقال لمن له انتماء ما إلى الشرع يقربونكم إلى الله زلفى ونحو ذلك، وكذلك عبادة سائر الأحجار يقال: سببها استعظام بعض أهل الحرم أن يغيبوا عن الحرم في سفرهم فأخرجوا منه حجرًا"
(3)
ثم تدرج الشيطان في ذلك حتى عبدت الأحجار.
(1)
البخاري: 8/ 667 رقم 4920.
(2)
ابن جرير الطبري: 29/ 98 - 99، وإسناده ضعيف لكنه يتقوى بحديث ابن عباس السابق كما أن هناك روايات أخرى عن بعض التابعين تشهد لذلك، من ذلك ما روي عن محمد بن كعب القرظي وأبي جعفر.
(3)
الأرواح النوافخ: 39، وانظر تلبيس إبليس: 55، والأصنام للكلبي:6.
ب - ثم وقع الشرك بعد قوم نوح عليه السلام في الأمم الأخرى بسبب الغلو في الصالحين أيضًا، فقد أخبرنا الله تعالى أن اليهود غلوًا في عزير وقالوا ابن الله وغلت النصارى في عيسى فقالوا: ابن الله تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا.
قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [براءة: 30].
وقوله تعالى: {يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ} يشير إلى أن مثل هذا الغلو موجود في الأمم التي قبلهم لأن عبادة الأبطال والغلو فيهم موجودة في السابقين قبلهم
(1)
.
ولم يقتصر غلو اليهود والنصارى على أنبيائهم فقد غلوا أيضًا في أحبارهم ورهبانهم قال تعالى {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [براءة: 31].
غلوا في الأحبار والرهبان فعبدوهم من دون الله إذ أطاعوهم في التحليل والتحريم كما في حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه، قال صلى الله عليه وسلم:
"أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئًا استحلوه وإذا حرموا عليهم شيئًا حرموه"
(2)
.
(1)
انظر تفسير المنار: 10/ 298، والمسيحية لأحمد شلبي ص:135.
(2)
الترمذي: 5/ 278 رقم 3095، وابن جرير: 10/ 114، وقال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد السلام بن حرب، وغطيف بن أعين ليس بمعروف في الحديث، وقال في التقريب رقم 5364 - ضعيف.
والحديث له شاهد موقوف عن حذيفة من طريق حبيب بن أبي ثابت عن أبي البختري عنه أخرجه ابن جرير: 10/ 114، وأبو البختري هو سعيد بن فيروز ثقة كثير الإرسال كما في التقريب وحديثه عن حذيفة مرسل كما في التهذيب: 4/ 72، =
وهذا لا ينافي ما ثبت من أنهم عبدوهم أيضًا في غير التحليل والتحريم، لاسيما النصارى فإنه يوجد فيهم من يعبد القديسين ويدعوهم من دون الله تعالى وذلك كثير فيهم
(1)
.
وذلك لأن الذي في حديث عدي رضي الله عنه إنما هو نوع واحد من عباداتهم المتعددة الأنواع وليس حصرًا لأنواع العبادة التي وقعت منهم أو تقع منهم.
ويدل على ذلك عموم اللفظ في الآية، وعطف المسيح على الأحبار والرهبان وإن كان ذلك من دلالة الاقتران، وهي وإن كانت ضعيفة لكنها هنا لم تكن هي الدليل وحدها وذلك لأنهم لم يعبدوا المسيح بالطاعة فقط، بل عبدوه بكل أنواع العبادات ويؤيد عبادتهم لهم بغير الطاعة قوله صلى الله عليه وسلم:"أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح صوروا فيه تلك الصور. . ."
(2)
.
وهذه الأدلة تجعلنا نؤول حديث عدي عن ظاهره الذي يقتضي
= وجامع التحصيل: 222.
وقد حسن الحديث شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب الإيمان ص: 61 فقال: "وفي حديث عدي بن حاتم وهو حديث حسن طويل رواه أحمد والترمذي وغيرهما ثم ساقه، ولم أجده في المسند: 4/ 255 - 259 في مسند عدي.
وحسنه الألباني أيضًا في تخريج الحلال رقم 6 وقد ضعفه جاسم الدوسري في النهج السديد رقم 92.
(1)
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية عبادة النصارى للقديسين ولمريم وغلوهم في الأحبار والرهبان بقصد قبورهم لدعائهم وغير ذلك مما يفيد عبادتهم لهم بغير الطاعة أيضًا انظر ذلك في الفتاوى: 1/ 135، والجواب الصحيح: 1/ 319، ورأس الحسين: 162 - 164، والجواب الباهر، ومنهاج السنة: 2/ 435، والرد على البكري: 265 - 266، وقاعدة في التوسل:19. كما ذكر أنهم يسمون مشركين باعتبار ابتداعهم للشرك. انظر الرد على البكري ص: 148، والفتوى الحموية ص: 14، كما ذكر عبادتهم لصور القداديس في الكنائس: الفتاوى: 17/ 455.
(2)
تقدم تخريجه ص: 457.
حصر عبادتهم للأحبار والرهبان في الطاعة فقط.
جـ - ثم إن الشرك عندما وقع في مشركي العرب وقع بسبب الغلو في الصالحين أيضًا، ومما يدل على ذلك ما أخرجه البخاري بسنده عن أبي الجوزاء عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى:{اللَّاتَ وَالْعُزَّى} ، كان اللات رجلًا يلت سويق الحاج
(1)
. وفي رواية ابن أبي حاتم زيادة كان يلت السويق على الحجر فلا يشرب منه أحد إلا سمن فعبدوه"
(2)
.
ونحو قول ابن عباس قول مجاهد: كان رجل يلت السويق فمات فاتخذ قبره مصلى
(3)
.
د - ثم إن الشرك عندما وقع في هذه الأمة المحمدية وقع بسبب الغلو في الصالحين، وهو أن أول شرك في هذه الأمة هو الشرك الذي وقع من السبئية الذين غلوا في علي رضي الله عنه حتى ألهوه، وقالوا له أنت ربنا وخالقنا ورازقنا.
وهؤلاء قد أحرقهم علي رضي الله عنه عندما لم يرجعوا عن قولهم بعد استتابتهم، فقد روى أبو طاهر
(4)
المخلص من طريق عبد الله بن شريك العامري عن أبيه قال: "قيل لعلي إن هنا قومًا على باب المسجد يدعون أنك ربهم فدعاهم فقال لهم: ويلكم ما تقولون؟، قالوا: أنت ربنا
(1)
صحيح البخاري: 8/ 611 رقم 4859، وأخرجه أيضًا عبد بن حميد كما في الجواب الباهر: 37، وابن جرير: 27/ 59.
(2)
فتح الباري: 8/ 612، والجواب الباهر:37.
(3)
أخرجه عبد بن حميد في التفسير كما في الجواب الباهر: 37، والطبري: 27/ 58 بإسناد صحيح وذكر الكلبي في الأصنام ص: 16 أنه كان يهوديًا يلت عندها السويق.
(4)
هو محمد بن عبد الرحمن بن العباس مسند وقته، وكان ثقة من الصالحين (ت 393 هـ)، العبر: 2/ 185، والبداية: 11/ 355.
وخالقنا ورازقنا فقال: ويلكم إنما أنا عبد مثلكم أكل الطعام كما تأكلون وأشرب كما تشربون إن أطعت الله أثابني إن شاء، وإن عصيته خشيت أن يعذبني فاتقوا الله وارجعوا فأبوا، فلما كان الغد غدوا عليه فجاء قنبر فقال: قد والله رجعوا يقولون ذلك الكلام فقال: أدخلهم فقالوا كذلك، فلما كان الثالث قال: لئن قلتم ذلك لأقتلنكم بأخبث قتلة، فأبوا إلا ذلك
…
فخَدَّ لهم أخدودًا بين باب المسجد والقصر، وقال: احفروا فابعدوا في الأرض وجاء بالحطب فطرحه بالنار في الأخدود، وقال: إني طار حكم فيها أو ترجعوا فأبوا أن يرجعوا فقذف بهم فيها حتى إذا احترقوا قال:
إني إذا رأيت أمرًا منكرا
…
أوقدت ناري ودعوت قنبرا"
(1)
وقد حسن الحافظ ابن حجر إسناد هذه القصة
(2)
وأما أصل قصة الإحراق فقد أخرجها البخاري وغيره مختصرة بدون هذا التفصيل من طريق عكرمة: "أن عليًا رضي الله عنه حرق قومًا فبلغ ابن عباس فقال: لو كنت أنا لم أحرقهم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تعذبوا بعذاب الله" ولقتلتهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من بدل دينه فاقتلوه"
(3)
.
وقد تبع هؤلاء السبئية الذين غلوا في علي إخوانهم الرافضة الذين غلوا في علي وأئمة أهل البيت ووصفوهم بصفات الربوبية، وأعطوهم حق التصرف في الكون وزعم بعض المعاصرين منهم سيطرتهم على
(1)
ذكره الحافظ في فتح الباري: 12/ 270، وانظر أحوال الرجال للجوزجاني ص: 37، ومسند أبي يعلى: 1/ 349 رقم 449، ومختلف الحديث لابن قتيبة: 73، ومنهاج السنة: 1/ 23 - 34، ومقالات الإسلاميين: 1/ 86، وفرق الشيعة للنوبختي: 43: 43 - 44، وصرح فيه بأن السبئية أول من قال بالغلو، واختيار معرفة الرجال للطوسي ص: 106 رقم الحديث: 170 - 174، والفتاوى: 4/ 518.
(2)
فتح الباري: 12/ 270.
(3)
البخاري: 6/ 149 رقم 3017، و 12/ 267 رقم 6922، وأحمد في المسند: 1/ 217، 282.
جميع ذرات هذا الكون وأن مقامهم لا يبلغه ملك مقرب ولا نبي مرسل.
قال صاحب الحكومة الإسلامية:
"فإن للإمام مقامًا محمودًا ودرجة سامية وخلافة تكوينية تخضع لولايتها وسيطرتها جميع ذرات هذا الكون. وإن من ضروريات مذهبنا أن لأئمتنا مقامًا لا يبلغه ملك مقرب، ولا نبي مرسل.
وبموجب ما لدينا من الروايات والأحاديث فإن الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم والأئمة (ع) كانوا قبل هذا العالم أنوارًا فجعلهم الله بعرشه محدقين
…
وقد ورد عنهم (ع) إن لنا مع الله حالات لا يسعها ملك مقرب ولا نبي مرسل"
(1)
.
وهذا الغلو والإطراء الذي جاوز المعقول والمنقول متأصل في الرافضة، ويكفي للدلالة على ذلك الأبواب التي بوب بها الكليني في كافيه وهو أهم كتاب من كتب الشيعة الأصولية فمن أبوابه في كتاب الحجة من قسم الأصول:
باب أن الأئمة ولاة أمر الله وخزنة علمه: 1/ 148.
باب أن الأئمة خلفاء الله عز وجل في أرضه وأبوابه التي يؤتى منها: 1/ 149.
باب أن الأئمة نور الله عز وجل: 1/ 150.
باب أن الأئمة عليهم السلام هم أركان الأرض: 1/ 152.
باب عرض الأعمال على النبي صلى الله عليه وسلم والأئمة: 1/ 170.
باب أن الأئمة يعلمون متى يموتون وأنهم لا يموتون إلا باختيار منهم: 1/ 202.
(1)
الحكومة الإسلامية ص: 52، وانظر هذه الأحاديث التي أشار إليها في: من لا يحضره الفقيه: 2/ 372، ونحوه في أصول الكافي: 1/ 116.
باب أن الأئمة يعلمون علم ما كان وما يكون وأنه لا يخفى عليهم الشيء: 1/ 203.
وقد حوى في داخل هذه الأبواب أنواعًا من المبالغات التي لا يمكن أن يصدقه العقل فمن ذلك ما رواه بسنده إلى أبي عبد الله أنه كان مع جماعة من الشيعة في الحجر فقال: ورب الكعبة ورب البنية - ثلاث مرات - لو كنت بين موسى والخضر لأخبرتهما أني أعلم منهما، ولأنبأتهما بما ليس في أيديهما لأن موسى والخضر عليهما السلام أعطيا علم ما كان ولم يعطيا علم ما يكون وما هو كائن حتى تقوم الساعة، وقد ورثناه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وراثة"
(1)
.
وروى أيضًا أن الروح المذكور في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} أنه خلق من خلق الله أعظم من جبريل وميكائيل كان مع رسول الله يخبره ويسدده وهو مع الأئمة من بعده
(2)
.
هذا ويكفينا من هذا كله مما يختص بموضوعنا - مسألة دعاء غير الله تعالى - ما أخرجه الكليني بسنده عن جعفر الصادق في قول الله تعالى: والله الأسماء الحسنى فادعوه بها نحن والله الأسماء الحسنى التي لا يقبل الله من العباد إلا بمعرفتنا
(3)
.
وأخرج أيضًا بإسناده إلى أبي الحسن - علي الرضا - في قوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} قال: نحن الأوصياء
(4)
.
(1)
الكافي: 12/ 204، ونحوه في بصائر الدرجات الكبرى:149.
(2)
الكافي: 1/ 214، ونحوه في بصائر الدرجات:475.
(3)
الكافي: 1/ 111، ويشبه هذا ما نقل عن التيجاني الكذاب أنه قال:"نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التوجه بالأسماء الحسنى وأمرني بالتوجه بصلاة الفاتح" اهـ. انظر الأنوار الرحمانية لهداية الفرقة التيجانية ص: 30 نقلًا عن الإفادة الأحمدية ص: 57.
(4)
الكافي: 1/ 352.
وهذا الذي يقول به هؤلاء من الإدعاءات الكثيرة في أئمتهم ومدعويهم لا يصدقه العقل السليم ولكن الأمر كما قال الإمام الشاطبي رحمه الله:
"ولولا الغلو في الدين والتكالب على نصر المذهب، والتهالك في محبة المبتدع لما وسع ذلك عقل أحد"
(1)
.
وقد وضح مما تقدم مدى ما وصل إليه غلو الروافض في أئمتهم ولم يصل إلى هذا الحد من الغلو في الصالحين في هذه الأمة أحد مثلهم. ثم قلدهم الصوفية فغلوا في شيوخهم ورفعوهم فوق منزلتهم، ومن طريق هاتين الفرقتين انتشرت الشركيات في هذه الأمة وانتشر الغلو في الصالحين وعباداتهم ودعاؤهم من دون الله تعالى.
وهذا ليس افتراء على هاتين الفرقتين بل يشهد بذلك التاريخ الصحيح.
فالشيعة هم أول من اعتنى بالمشاهد وتزيينها وزخرفتها مع تعطيلهم للمساجد فمن ذلك ما ذكره الإمام أحمد رحمه الله مما يقع عند قبر الحسين بكربلاء
(2)
.
وما ذكره المؤرخون في حوادث سنة 236 هـ من هدم المتوكل قبر الحسين لأنه كان مزارًا للناس، وقد أنذر صاحب شرطته الناس بأنه "من وجد عند قبره بعد ثلاث بعثناه إلى المطبق"
(3)
فلم يبق هناك بشر واتخذ ذلك الموقع مزرعة تحرث وتستغل
(4)
.
ومما يؤكد هذا أن إخوان الصفا مع فسادهم وانحلالهم يتهمون الشيعة بأن منهم من جعل التشيع مكسبًا مثل النائحة والقصاص، وجعلوا شعارهم لزوم المشاهد وزيارة القبور
(5)
.
(1)
الاعتصام: 1/ 259.
(2)
اقتضاء الصراط المستقيم: 305 - 306، 391، والرد على الأخنائي:32.
(3)
المطبق: السجن تحت الأرض المعجم الوسيط: 2/ 556 مادة طبق.
(4)
تاريخ الأمم: 9/ 185، والبداية: 10/ 328، ومقاتل الطالبين: 395 - 396.
(5)
رسائل إخوان الصفا: 4/ 199.
وقد صرح المؤرخون الموثوقون بأن الروافض هم السبب في نشر الشركيات في هذه الأمة حيث تأثر بهم المتصوفة ومن طريقهم انتشر في عوام المسلمين.
قال ابن خلدون: "ثم حدث أيضًا عند المتأخرين من الصوفية الكلام في الكشف وفيما وراء الحس، وظهر منهم القول بالحلول والوحدة، فشاركوا فيها الإمامية والرافضة لقولهم بألوهية الأئمة، وحلول الإله فيهم.
وظهر منهم القول بالقطب والأبدال، وكأنه يحاكي مذهب الرافضة في الإمام والنقباء وأشربوا أقوال الشيعة وتوغلوا في الديانة بمذهبهم حتى جعلوا مستند طريقهم في لبس الخرقة أن عليًا رضي الله عنه ألبسها الحسن البصري
…
ولا يعلم هذا من وجه صحيح"
(1)
.
وقال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في رسالته إلى السويدي
(2)
:
إن أول من أدخل الشرك في هذه الأمة هم الرافضة الملعونة الذين يدعون عليًا وغيره، ويطلبون منهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات
(3)
.
وقال في كتاب التوحيد: "وبسبب الرافضة حدث الشرك وعبادة القبور، وهم أول من بنى عليها المساجد"
(4)
.
وقال أحد الشيعة المعاصرين معترفًا بهذه الحقيقة: "والحقيقة أن للغلو والتصوف هدفًا مشتركًا هو أن يكون للإنسان موضع قدم في
(1)
مقدمة ابن خلدون: 323.
(2)
هو الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله زين الدين البغدادي أبو الخير، فقيه مؤرخ أديب (ت 1200 هـ)، المسك الأذفر للألوسي: 131 - 133، ومعجم المؤلفين: 5/ 149.
(3)
مؤلفات الشيخ: الرسائل الشخصية: 36.
(4)
كتاب التوحيد: 73.
الإلهية، وتصريف شؤون الدين والدنيا بقدرة غيبية وهذا هو السبب الذي من أجله رفع الأئمة أولًا إلى الإلهية، وارتفع رؤساء مدارس الغلو إلى النبوة، ثم استقلوا فارتفعوا إلى الإلهية بأنفسهم، والتصوف يهدف إلى هذه النتيجة"
(1)
.
وهذا اعتراف صريح بتأثر التصوف بالتشيع وأن هدفهما عبادة الإنسان والغلو فيه لكن تخصيص الغلاة من الروافض بهذه العقيدة غير صحيح كما يريده صاحب هذا الكلام، بل الواقع يدل على أن أغلب الشيعة من الغلاة، وقلّ أن يوجد فيهم معتدل إلا ما كان في القرون الأولى كما قاله الذهبي رحمه الله
(2)
.
هذا فمن الغلو الذي عند المتصوفة دعاويهم الباطلة لأنفسهم، فمنهم من يدعو إلى عبادته والاستغاثة به من دون الله تعالى ومنهم من يغلو في شيخه ويرفعه فوق منزلته ويصفه بأوصاف الربوبية التي لا يستحقها إلا الله تعالى.
ومن أمثلة ذلك الحكاية التي تحكى عن معروف الكرخي وهي أنه أمر ابن أخيه بقصد قبره للدعاء
(3)
.
ومن ذلك ما نقل عن الشبلي من قوله لمن خرج من عنده: "مروا وأنا معكم حيثما كنتم وأنتم في رعايتي وكلاءتي"
(4)
.
وقوله: "إن محمدًا يشفع في أمته، وأشفع بعده في النار حتى لا يبقى فيها أحد"
(5)
.
(1)
الصلة بين التصوف والتشيع ص: 128، لكامل الشيبي وهو من الشيعة المعاصرين.
(2)
ميزان الاعتدال للذهبي: 1/ 5 - 6.
(3)
تاريخ بغداد في ترجمته.
(4)
و
(5)
تلبيس إبليس: 348.
ومن ذلك ما ذكر عن عبد السلام بن مشيش أنه قال للشاذلي عندما زاره: يا علي طلعت إلينا فقيرًا من علمك وعملك فأخذت منا غنى الدنيا والآخرة
(1)
.
فانظر إلى هذه الحكاية إن صحت إلى أي مدى بلغت الوقاحة بهذا الرجل حتى يدعي أنه يعطي غنى الدنيا والآخرة، وما الذي بقي الله؟ سبحانه وتعالى عما يصفون.
ونحوه قول الشبلي: "إن الله عبادًا لو بزقوا على جهنم - لأطفأوها"
(2)
.
وقول أحدهم: "لو رأيت أبا يزيد مرة واحدة كان أنفع لك من رؤية الله سبعين مرة"
(3)
.
ومن ذلك ما قاله أحدهم في البدوي:
يا من رماه الدهر بالإزعاج
…
ناد بعزم يا أبا فراج
فهو الأمان من الحوادث إن أتت
…
وهو الملاذ لنا وعون الراجي
وهو المراد إذا الخطوب تراكمت
…
وهو المجيب لدعوة المحتاج
وهو الطبيب لنا ومرهم طبه
…
يبري ضعيف الحال دون علاج
(4)
وقال آخر أيضًا فيه:
وهو المجيب لسائل يتوسل
…
إذ باسمه عند المخاوف يهتف
وهو الملاذ إذا الخطوب تراكمت
…
وهو المعاذ في الشدائد يعرف
وهو الذي في الكرب يكشف غمه
…
وهو الذي للسوء عنا يصرف
(1)
أبو الحسن الشاذلي: 19.
(2)
تلبيس إبليس: 361.
(3)
المرجع نفسه: 354.
(4)
السيد البدوي بين الحقيقة والخرافة ص: 280 نقلًا عن مخطوط الجواهر السنية: ق 104.
وهو الذي تلقى السعادة عنده
…
وهو الذي يحنو عليك ويعطف
وهو الذي عمن أتى أعتابه
…
كل المخاوف والمتاعب يكشف
(1)
والحاصل أن الغلو في الصالحين من الأسباب التي أدت إلى انتشار دعاء غير الله تعالى في العالم الإسلامي.
وقد أمرنا الشارع هذه الأمة الوسطية بالتوسط في الصالحين بدون إفراط ولا تفريط لا نرفعهم فوق منزلتهم التي يستحقونها، ولا ننزلهم عن المنزلة التي أنزلهم الله تعالى بها، وقد ذكر الإمام مسلم رحمه الله في مقدمة صحيحه حديث عائشة رضي الله عنها:"أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننزل الناس منازلهم"
(2)
.
فأهل السنة والجماعة يرون محبة الصالحين وتوقيرهم واحترامهم والترحم عليهم والترضي عنهم عملًا بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} [الحشر: 10]، كما أن أهل السنة لا يرفعونهم فوق المنزلة التي يستحقونها فهم وسط في باب محبة الصالحين كما هم وسط في جميع أبواب الاعتقادات والأعمال بين الفرق الضالة كما أن هذه الأمة المحمدية وسط بين سائر الأمم.
السبب السابع: تأثر المسلمين بمن اختلط بهم من أصحاب الديانات الأخرى:
لقد تأثر المسلمون بمن جاورهم واختلط بهم في بلادهم الواسعة على مدى التاريخ حيث يجاورهم اليهود والنصارى والبوذيون والهنادك وغيرهم من الوثنيين.
تأثر المسلمون باليهود والنصارى في تعظيم القبور والمشاهد لأن
(1)
المرجع نفسه ص: 281 نقلًا عن الجواهر: ق 117، 118.
(2)
مقدمة صحيح مسلم ص: 6.
هاتين الطائفتين تعظمان القبور والمشاهد، قال صلى الله عليه وسلم:"لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما صنعوا"
(1)
.
والنصارى أشد غلوًا في ذلك من اليهود كما في الصحيحين: "أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكرت عنده أم حبيبة وأم سلمة رضي الله عنهما كنيسة رأينها بأرض الحبشة وذكرتا من حسنها وتصاوير فيها فقال: "إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدًا وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله
(2)
".
وقد أضلوا كثيرًا من جهال المسلمين حتى صاروا يُعَمِّدُون
(3)
أولادهم، ويزعمون أن ذلك يوجب طول العمر والولد، وحتى جعلوهم يزورون ما يعظمونه من الكنائس والبيع، حتى صار كثير من جهال المسلمين ينذرون للمواضع التي يعظمها النصارى كما قد صار كثير من جهالهم يزورون كنائس النصارى ويلتمسون البركة من قسيسيهم ورهبانهم
(4)
وهذا التعظيم للقبور والمشاهد يؤدي في النهاية إلى عبادتها ودعائها من دون الله تعالى كما هو الواقع.
كما أن المسلمين تأثروا بأصحاب الديانات الأخرى مثل البوذية والهندوسية.
وذلك عن طريق المتصوفة الذين أخذوا مذهبهم عن البوذية والهندوسية وغيرهم من الوثنيين ثم ألبسوه ثوبًا إسلاميًا بالزور والبهتان، وقسموا الدين إلى الحقيقة والشريعة فادعوا أنهم أصحاب الحقيقة وأنهم
(1)
تقدم تخريجه ص: 456.
(2)
تقدم تخريجه ص: 457.
(3)
يعمِّدون: يقال عند النصارى: عَمَّدَ الطفل: غسله بماء المعمودية، فهو مُعَمَّدٌ وهو أن يغمس القس الطفل في ماء يتلو عليه بعض الشيء مما يسمى عندهم آية التنصير. اهـ. انظر المعجم الوسيط: 2/ 632.
(4)
رأس الحسين: 162 - 163.
وصلوا إلى اليقين فسقطت عنهم التكاليف الشرعية التي هي للعوام فبذلك أباحوا لأنفسهم المحرمات وترك الواجبات ويحتمل أن بعض المسلمين تأثروا بفكرة الفرس القائلة بأن ملوكهم الساسانيين كائنات إلهية اصطفاهم الله للحكم وخصهم بالسيادة وأيدهم بروح منه فهم ظل الله في أرضه"
(1)
.
فتأثر بعض المسلمين باعتقاد تلك المعتقدات في بعض أئمة آل البيت ثم في غيرهم من الصالحين.
فتأثر هؤلاء المتصوفة بالمذاهب القديمة واضح جدًّا لأن المذاهب الباطلة هي السائدة بينهم تفوح منها رائحة الغنوصية تارة، والهندية تارة أخرى أو النصرانية في بعض اتجاهاتها، وإذا وجدنا في كلامهم نصوصًا إسلامية فهي مبتورة ملتوية المعنى من فرط اختفائها وراء التأويل"
(2)
.
ولكون تأثرهم واضحًا جليًا لا يحتاج الباحث فيه إلى كبير عناء ومشقة في إثبات وجود عناصر غريبة عن حقائق الإسلام والإيمان، ففي التصوف عناصر لا تمت إلى الإسلام بصلة وإنما هي من أفكار المذاهب القديمة التي تسربت إلى المتصوفة
(3)
.
ومن طريقهم تسربت تلك الأفكار الهدامة إلى الأمة الإسلامية فانتشر الشرك والبدع.
ومن هذا النوع رواسب الجاهلية وتقاليدها وعاداتها التي بقيت في بعض الأقطار التي دخلت في الإسلام، ولكن تلك الأعراف والعادات لا
(1)
فجر الإسلام ص: 111، والصلة بين التصوف والتشيع: 149، 372، والتصوف لإحسان إلهي: 274 - 275.
(2)
ابن تيمية والتصوف لمصطفى حلمي: 349.
(3)
انظر لإثبات هذه الحقيقة: التصوف المنشأ والمصدر لإحسان إلهي فقد جمع فيه أقوال من أثبت ذلك وقارن بين التصوف والمذاهب التي هي أصل له، فجزاه الله خيرًا.
زال لها آثار باقية وتأثير مستمر في نشر الشرك والبدعة والخرافات.
ومن تلك الأعراف الجاهلية السجود أمام الملوك والعظماء والمشايخ للتحية، وتقبيل الأرض
(1)
، وخلع النعال، وكشف الرأس، والانبطاح على الأرض
(2)
.
ومن تلك الأعراف وضع تماثيل منحوتة في الميادين العامة أو على القبور
(3)
.
والحاصل أن هذه الأمور كانت عادات وتقاليد لبعض الأقطار قبل الإسلام وبقيت في تلك الأقطار، وهذه الرواسب الجاهلية في تعظيم العظماء ومن يعتقد فيهم الصلاح تؤدي في النهاية إلى عبادتهم ودعائهم من دون الله تعالى.
وهذا يشهد له الواقع التاريخي قديمًا وحديثًا.
وبهذا يتبين أن اختلاط المسلمين بغيرهم ومساكنتهم لهم ودخول كثير منهم في الإسلام مع بقاء بعض العادات الجاهلية، من إحدى الأسباب التي أدت إلى انتشار دعاء غير الله تعالى.
السبب الثامن: الأغراض الدنيوية والشهوات النفسية:
ومن الأسباب التي أدت إلى انتشار دعاء غير الله تعالى الأغراض
(1)
البداية لابن كثير: 11/ 271، 12/ 72، 76، 88، والإسلام وتقاليد الجاهلية: 162، وما بعدها والمنتظم لابن الجوزي: 8/ 136 و 164 و 170، وطبقات الشافعية: 3/ 390، والإعلام بقواطع الإسلام ص: 21، والروضة للنووي: 1/ 326، وقد ذكر الذهبي في السير: 15/ 122 أن عضد الدولة البويهي لما قبل الأرض أمام الخليفة العباسي الطائع الله قال زياد قائد عضد الدولة: "أهذا هو الله؟. اهـ. فانظر إلى مدى أثر مثل هذا العمل على العقيدة وقد ذكر الذهبي في المشتبه ص: 230 أن من أبواب بغداد باب النوبى وأن فيه العتبة التي يقبلها الملوك والرسل. اهـ.
(2)
الإسلام وتقاليد الجاهلية: 165 - 168.
(3)
الإسلام وتقاليد الجاهلية: 165 - 168.
الدنيوية والأهواء النفسية، ومن تلك الأغراض الدنيوية: الاسترزاق والتكسب من أصحاب الأغراض الفاسدة والأهواء الباطلة، فالسدنة حول القبور لهم أثر كبير في تزيين دعاء صاحب القبر بحكاية الكرامات، وخوارق العادات وذلك في الغالب كذب وزور وافتراء.
قال الإمام الشوكاني رحمه الله: "وربما يقف جماعة من المحتالين على قبر ويجلبون الناس بأكاذيب يحكونها عن ذلك الميت ليستجلبوا منهم النذور ويستدروا منهم الأرزاق ويقتنصوا النحائر ويستخرجوا من عوام الناس ما يعود عليهم وعلى من يعولونه ويجعلون ذلك مكسبًا ومعاشًا وربما يهولون على الزائر لذلك الميت بتهويلات ويجعلون قبره بما يعظم في عين الواصلين إليه ويوقدون في المشهد الشموع، ويوقدون فيه الأطياب ويجعلون لزيارته مواسم مخصوصة يتجمع فيها الجمع الجم فيبهر الزائر ويرى ما يملأ عينه وسمعه من ضجيج الخلق وازدحامهم وتكالبهم على القرب من الميت والتمسح بأحجار قبره وأعواده، والاستغاثة به والالتجاء إليه وسؤاله قضاء الحاجات ونجاح الطلبات مع خضوعهم واستكانتهم وتقريبهم إليه نفائس الأموال ونحرهم أصناف النحائر"
(1)
.
وقد يصل الأمر بالمزورين إلى أن يضعوا أحاديث مكذوبة على النبي صلى الله عليه وسلم أو على الصحابة أو على لسان كبار العلماء ترويجًا لقصد المزور للدعاء عنده أو دعائه والاستغاثة به، ومن ذلك ما ذكره ابن القيم رحمه الله
(1)
الدر النضيد: 27 - 28 وانظر ما كتبه الدكتور أحمد صبحي عن النذور التي للبدوي وعجل البدوي وأعمال السدنة في كتابه القيم السيد البدوي من ص: 296 إلى 299 وما كتبه الشيخ إحسان إلهي ظهير عن قادة البريلويين وتحايلهم على أتباعهم ومنعهم من الاتصال بأصحاب العقيدة الصحيحة - في كتابه البريلوية ص: 113 - 114، 144، 146، 161 وما كتبه الشيخ علي محفوظ في الإبداع ص: 213 وما كتبه علي الدخيل الله في التيجانية ص: 60 عن مشايخ الطرق واستخدام الاستعمار لهم بإعطائهم النفوذ والمال.
في صخرة بيت المقدس حيث قال: وكل حديث في الصخرة فهو كذب ومفترى، والقدم التي فيها كذب موضوع مما عملته أيدي المزورين الذين يروجون لها ليكثر سواد الزائرين"
(1)
.
ومن تلك الأغراض والأهواء الفاسدة طلب الجاه والشرف والمكانة في قلوب العامة من سدنة الأضرحة الذين يخافون أن يذهب جاههم وشرفهم إذا ترك الناس عبادة القبور.
فإن السدنة يعدون لدى العامة الزائرين من أهل الشرف والمكانة دينيًا واجتماعيًا، فإذا سافروا ومروا على القرى والمدن فأهل تلك الناحية يجتمعون للقائهم والتبرك بهم وإعطاء الصدقات والنذور إليهم وتقبيل أيديهم للتبرك بهم ويعدون ضيافتهم وإكرامهم من أهم القربات إلى الولي.
ثم إن أحد هؤلاء السدنة لو طلب من شخص ماله فلا بد أن يعطيه وربما لا يملك إلا إياه ومع هذا لا يستطيع منعه خوفًا على نفسه من غضب السادن ثم يغضب بسببه الولي.
والحاصل أن للسدنة أثرًا واضحًا في تزيين دعاء صاحب القبر فهم لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر الذي يرونه عند القبر فبدلًا عن هذا يزينون دعاء الولي والاستغاثة به.
ومن صور الأهواء النفسية سهولة هذه الأوضاع والرسوم الشركية على النفس البشرية واستصعابها للتكاليف الشرعية فإن العوام يعتقدون أن الولي يحتمل الذنوب وإن زيارته كفارة للآثام والخطايا، وإن شفاعته مضمونة لمريديه وأحبابه فلا حاجة للتقيد بالأمور الشرعية، فإنه يغني عنه دعاء الولي والاستغاثة به وزيارته فغرتهم الأماني الكاذبة على الله تعالى قال ابن عقيل الحنبلي
(2)
رحمه الله:
(1)
المنار المنيف: 87، وعنه في تحذير المسلمين:169.
(2)
هو علي بن عقيل بن محمد أبو الوفاء البغدادي شيخ الحنابلة ومؤلف كتاب الفنون الذي يزيد على أربعمائة مجلد وكان إمامًا مبرزًا كثير العلوم خارق الذكاء عديم النظير (ت 513 هـ)، العبر للذهبي: 2/ 400، والبداية: 12/ 197.
لما صعبت التكاليف على الجهال والطَّغَامِ عدلوا عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاع وضعوها لأنفسهم، فسهلت عليهم إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم وهم عندي كفار لهذه الأوضاع، مثل تعظيم القبور وخطاب الموتى بالحوائج وكتب الرقاع يا مولاي افعل بي كذا وكذا، وإلقاء الخرق على الشجر اقتداء بمن عبد اللات والعزّى"
(1)
.
فهذه الأوضاع توافق أهواء الناس ورغباتهم ولا تكلفهم الكثير من المشاق.
ومن صور الشهوات النفسية ما يحصل في كثير من أعياد ومواليد أصحاب الأضرحة من اختلاط النسوان بالمردان وخروج المحجبات وانتشار أنواع الفساد وما يتسبب عن ذلك من مفاسد دينية وأخلاقية لا يعبر عنها القلم
(2)
.
فكثير من الشباب والشابات يقصدون عيد الولي لعله يكون هناك لقاء ما ثم يتكرر ذلك منهم حتى يصير عادة ثم عبادة لا يستطيعون تأخر سنة عن عيد الولي خوفًا من الولي من جهة ولاستصحاب العوائد من جهة أخرى.
السبب التاسع: التعصب والحمية الجاهلية:
ومن الأسباب التي أدت إلى انتشار دعاء غير الله تعالى التعصب لجيل الآباء والأجداد والحمية الجاهلية والأنفة والاستكبار عن اتباع الحق، وذلك لأنه قد يظهر الحق لبعض الناس في عدم جواز دعاء غير الله تعالى والتوسل البدعي وقصدِ الأضرحة للدعاء ولكن لا يمتثل الحق الذي ظهر له تعصبًا لمذهبه وعادات قومه ومألوفاته.
(1)
تلبيس إبليس: 402، وإغاثة اللهفان: 1/ 152، ومفيد المستفيد: 301، والدر النضيد:40.
(2)
انظر عن ذلك: السيد البدوي: 323.
وهذا التعصب ناشيء عن التكبر والاستعلاء تارة، وعن الحسد تارة، وعن خوف لحوق العار به وبالمشايخ تارة، فيكون ذلك التعصب ناشئًا عن الكبر حيث يرى أن الداعي إلى الحق أقل منه علمًا وجاهًا ومركزًا في القوم وهذا غالب على بعض علماء السوء الذين يجيزون الاستغاثة بغير الله حيث يرون أن الدعاة إلى الحق كانوا طلبة صغارًا تخرجوا عليهم ثم إن هؤلاء الطلبة ربما درسوا في بعض الجامعات التي المنهج الصحيح في العقيدة فإذا رجعوا إلى بلادهم ودعوا إلى العقيدة الصحيحة وترك دعاء الأولياء وقف ضدهم مشايخ السوء تعصبًا وتكبرًا عن اتباع الطالب الذي كان يدرس عندهم ثم صار يدعو لما يخالف مذهبهم فيستكبرون عن اتباع تلميذهم وينطبق على هؤلاء قوله تدرس تعالى:{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14].
وقد يكون ذلك ناشئًا عن الحسد لأن المتعصب يخاف ذهاب جاهه واحتلال الداعي إلى تصحيح العقيدة مكانه وترك الناس له، فيمتنع عن اتباع الحق خوفًا من ذهاب جاهه وحسدًا وبغيًا كما فعل أهل الكتاب مع النبي صلى الله عليه وسلم قال تعالى:{وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة: 109]، وقد يكون ناشئًا عن خوف لحوق العار به وبمن سبقه من أسلافه من مشايخه وآبائه فلو ترك مذهبهم خاف أن يلحقهم العار.
هذا وإن هذه الأسباب وغيرها مما لم تذكر قد أدت إلى انتشار دعاء غير الله تعالى في العالم الإسلامي على الوجه الذي نراه اليوم في أنحاء العالم الإسلامي.
وإن الشيطان قد زين لابن آدم هذا الشرك ووسائله وأسبابه بطرق متعددة وأساليب متنوعة حتى أوقعه في حبائل الشرك، ولا يسلم من ذلك إلا من عصمه الله وجعله من عباده الصالحين الذين قال الله فيهم:{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42] فنسأل الله تعالى أن يحفظنا منه إنه سميع قريب وهو ولي التوفيق ..