المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

{وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ - الدليل إلى القرآن

[عمرو الشرقاوي]

فهرس الكتاب

‌مقدِّمَةُ الإصدار الثاني

الحمد لله الكريم الوهَّاب، الرحيم التواب، غافرِ الذنبِ وقابلِ التوبِ شديد العقاب ذي الطَّوْلِ لا إله إلا هو إليه المصير، والصلاة والسلام على النَّبي الأوَّاب، مُبَلِّغِ الكتاب، وعلى الآل والأصحاب، صلاةً تدوم إلى يوم الحساب، ويكون لنا بها عند الله زُلفَى وحسن مآب، وبعد:

لقد دعت الحاجة إلى كتابة العلم لأهل العصر باللغة التي تناسبهم، وبالأسلوب الذي لا يجدون معه وحشة، وهذا ليس ببعيد عن صنيع علمائنا المُتَقَدِّمِين، قال الإمام الوَاحِدِي (ت: 468): «إني كنت قد ابتدأت بإبداع كتاب في التفسير لم أُسبق إلى مثله، وطال علي الأمر في ذلك لشرائط تقلدتها، ومواجب من حق النصيحة لكتاب الله تعالى تحملتها، ثم استعجلني قبل إتمامه والتقصِّي عمَّا لزمني من عهدة أحكامه نفر متقاصرو الرغبات

إلى إيجاز كتاب في التفسير، يقرب على من تناوله، ويسهل على من تأمَّله من أوجز ما عُمِل في بابه وأعظمه فائدة على متحفظيه وأصحابه.

وهذا كتاب أنا فيه نازل إلى درجة أهل زماننا تعجيلًا لمنفعتهم، وتحصيلًا للمثوبة في إفادتهم ما تمنَّوه طويلًا، فلم يغن عنهم أحد فتيلًا»

(1)

.

(1)

الوجيز، للواحدي:(85)، بتصرف، وانظر: خصائص التراكيب، محمد أبو موسى:(55).

ص: 11

ومن هنا جاء كتاب «الدليل إلى القرآن» لتقريب علوم القرآن لأهل العصر، وقد نفع الله تعالى به، وله الحمد والمنَّة، وطبع طبعات متعددة، وقرِّرَ في عدة برامج علمية، وقد دعت الحاجة إلى إعادة النظر فيه، وإزالة ما قد يوهم غير المراد عند ناظريه، وإضافة ما يثريه.

وإذ أقدمه في إصداره الثاني، فإني أقف بباب الكريم سبحانه راجيًا أن ينفع به، وأن يكتب له القبول، وأن يجعله خالصًا لوجهه الكريم سبحانه جل شأنه، والحمد لله أن جعلنا من أمة القرآن، ونسأله أن يجعلنا من أَهْلِه الذين هم أَهْلُه!

وكتبه

عمرو صبحي علي الشرقاوي

فجر غرة ذي الحجة لعام (1441) من الهجرة النبوية

ص: 12

‌مقدِّمَة الإصدار الأول

الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب، هدىً وذكرى لأولي الألباب، وأودعه من العجائب العجب العُجاب، وجعله حاليًا بالأحرف السبعة وكمال الشرعة وفَصْل الخطاب، والصلاة والسلام على النَّبي الأوَّاب، وعلى الآل والأصحاب، صلاةً تدوم إلى يوم الحساب، ويكون لنا بها عند الله زُلْفَى وحسن مآب، وبعد:

فإنَّ ثمار التجهيل التي تمارس على الأمة الإسلامية آتت أُكْلَها، وقد نال أعظم كتاب في الكون، وأشرف دستور للعالمين، القرآن الكريم، نصيبَه من هذا التجهيل.

فصرنا نرى ونسمع من لا يعرف عن القرآن إلا اسمه، وعن المصحف إلا رسمه، لا يعرف شيئًا مما يتعلق بهذا الكتاب المجيد إلا معلومة شاردة، أو معرفة ناقصة.

وفي وسط هذا الظلام ظل أهل الحق وطلابه يسألون، وللمعرفة عن القرآن يتعطشون، ولأجل هؤلاء جاء هذا الكتاب.

حاولت عبر هذا الكتاب أن أشارك في تقريب القارئ من المشروع الحقيقي للأمة، مشروع (تلاوة القرآن)، تتميمًا لمقصد البعثة المحمدية، {وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ} [النمل: 92]!

ص: 13

«وحقيقةُ التلاوةِ هي التلاوةُ المطلقةُ التَّامَّةُ، وهي تلاوةُ اللفظِ والمعنى؛ فتلاوةُ اللفظِ جزءُ مُسمى التلاوةِ المُطلقةِ، وحقيقةُ اللفظِ إنما هي الاتباعُ، يقال: اتلُ أثر فلانٍ، وتلوتُ أثرهُ، وقفوتُهُ وقصصتُهُ، بمعنى تَبعتُهُ، ومنه قوله تعالى:{وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2)} [الشمس 1: 2]، أي: تَبعَها في طلوع بعد غَيبتها، ويُقال: جاءَ القومُ يتلو بعضهم بعضًا، أي: يتبع، ويُسمَّى تالي الكلام تاليًا، لأنَّهُ يُتبِعُ بعضَ الحروف بعضًا، لا يُخرجُها جُملةً واحدةً، بل يُتبِعُ بعضها بعضًا مُرتبةً، كُلَّما انقضى حرفٌ أو كلمةٌ أتبعهُ بحرفٍ آخرَ وكلمةٍ أُخرى، وهذه التّلاوةُ وسيلةٌ وطريقٌ.

والمقصودُ: التِّلاوةُ الحقيقيةُ، وهي: تلاوَةُ المعنى واتِّباعُهُ؛ تصديقًا بخبرهِ وائتمارًا بأمرهِ، وانتهاءً عن نهيهِ، وائتمامًا به، حيثُما قادكَ انقدتَ معه، فتلاوةُ القُرآنِ تتناولُ تلاوةَ لفظهِ ومعناهُ، وتلاوةُ المعنى أشرفُ من مجرَّد تلاوةِ اللفظِ، وأهلُها هم أهلُ القرآن الذين لهم الثناءُ في الدنيا والآخرة، فإنهم أهلُ تلاوةٍ ومتابعةٍ حقًّا»

(1)

.

جاء هذا الكتاب ليرفع عنَّا قشرة الجهل بهذا الكتاب، لكي يكون هاديًا مع الهداة للدلالة على هذا الكتاب المجيد.

وقد جعلته في سؤال وجواب، اتِّباعًا لسنة جبريل عليه السلام، في سؤاله النَّبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإيمان والإحسان، وإثارة للذهن، ودفعًا للسآمة والملل، وجاء مختصرًا موجزًا في عبارته، وتوخيت - قدر وسعي - أن تكون عبارته ميسرة ليصلح لعموم القراء.

(1)

مفتاح دار السعادة، ابن القيم:(1/ 202).

ص: 14

ولولا أن عنوان «الطريق إلى القرآن» قد سبق به الحبيب الأستاذ إبراهيم السكران، وجعله عنوان كتابه، وهو من أجمل الكتب التي تحدثت عن القرآن = لجعلته عنوان كتابي، والذي أرجو أن يسهم في تقريب كثير من المفاهيم التي ينبغي معرفتها عن كتاب الله إلى عموم الناس، مؤمنهم وكافرهم، كبيرهم وصغيرهم، ذكرهم وأنثاهم.

ولذا سميته: «الدليل إلى القرآن»

(1)

.

وقد قسمته إلى ثمانية أقسام، وفي كل قسم عددٌ من الأسئلة، والأقسام هي:

أولًا: القرآن .. مصدريته .. وتاريخه.

ثانيًا: علوم القرآن.

ثالثًا: إعجاز القرآن.

رابعًا: التفسير .. التدبر .. التأثر.

خامسًا: حفظ القرآن .. وتجويده.

سادسًا: أحكام فقهية تتعلق بالقرآن المجيد.

سابعًا: كتب الدراسات القرآنية.

ثامنًا: أفياء .. منشورات قرآنية.

(1)

يقال: دل على الشيء، ودل إليه، وعليه: فلا بأس من استخدام حرف الجر (إلى) مع الفعل (دل)، إما على الجواز الأصلي، وإما على تضمينه معنى (هدى)، انظر: المصباح المنير: (1/ 199)، ومعجم الصواب اللغوي:(1/ 367).

ص: 15

وقد انتفعت بتوجيهات من تفضل بقراءة الكتاب قبل طباعته، وهم عدد من أهل العلم والفضل، واستفدت كثيرًا من توجيهاتهم في تقويم الكتاب، وتصحيح ما وقع فيهم، فلهم جميعًا أهدي ثمرة مجهودهم، وشكر الله لهم، وجزاهم خيرًا، وجعلنا وإياهم من المشتركين في الأجر، ومن المتنعمين بنور الكتاب.

وأسأل الله أن يقربنا من كتابه، وأن يجعله ربيع قلوبنا، وأن ينفع بهذا الكتاب، وأن يجعله محققًا للرغبة التي بعثتني على كتابته، وأن يجد قارئه ما يمكن أن يكون قد مر على خاطره، وسأل عنه حول القرآن وما يتعلق به، وإني لأرجو ممن قرأه ألا يبخل علي بنصح إن رآه، فإنَّ النصيحة من الدين، وإني لها - إن شاء الله - لممتثل، وأرجو من أهل العلم أن يسامحوا ما وقع فيه من خلل، فإنه لغيرهم، ومثل هذا يعفى عنه إن شاء الله، وإني بنصحهم مسترشد، والحمد لله رب العالمين

(1)

.

عمرو الشرقاوي

amr.alsharqawi@gmail.com

(1)

لم أثبت شيئًا من مراجع الكتاب، لطبيعته، وأهم مراجع الكتاب التي رجعت لها:

1 -

المقدمات الأساسية في علوم القرآن، د. عبد الله الجديع، ط. مؤسسة الريان.

2 -

مدخل إلى التعريف بالمصحف الشريف، د. حازم حيدر، ط. معهد الإمام الشاطبي.

3 -

المحرر في علوم القرآن، د. مساعد الطيار، ط. معهد الإمام الشاطبي.

4 -

محاضرات في علوم القرآن، د. غانم قدوري، ط. دار عمار.

5 -

مناهل العرفان، العلَّامة الزرقاني، ط. إحياء الكتب العربية.

ص: 16

‌ما القُرآن؟

إنَّ أنسب ما نتعرف به على القرآن هو القرآن نفسه، وقد أخبرنا المتكلم بالقرآن سبحانه وبحمده أنَّه كلام الله، وأخبر أنَّه نزل بواسطة أمين الوحي جبريل، على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، بلسان عربي مبينٍ واضحٍ لا لبس فيه، يقول الله تعالى:{وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)} [سورة: الشعراء].

وكان وقت ابتداء نزوله ليلةَ القَدْر من شهر رمضان، كما قال سبحانه:{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1)} [القدر: 1]، وقال:{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: 185].

ولم ينزل القرآن في وقت واحد، وإنَّما نزل مفرقًا، كما قال تعالى:{وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105) وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106)} [سورة: الإسراء]، وقال:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32)} [سورة: الفرقان].

وقد شدَّدَ القرآن على كونه ليس من كلام البشر، بل هو كلام خالق البشر، ورد على الشبهات التي تزعم أنه من قول البشر، فالقرآن كلام الله، لا تدخل لأحد من البشر فيه، حتى ولو كان هذا التدخل من قبل محمد صلى الله عليه وسلم، يقول الله

ص: 19

تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)} [سورة: الحاقة].

وأخبر القرآن عن حال النَّبي صلى الله عليه وسلم حين يتنزل عليه القرآن، فقال تعالى:{لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19)} [سورة: القيامة]، وعن ابن عباس رضي الله عنهما، في قوله:{لا تحرك به لسانك لتعجل به} [القيامة: 16]، قال:«كان النَّبي صلى الله عليه وسلم يُعالِج من التنزيل شدة كان يحرك شفتيه» ، فقال ابن عباس:«أنا أحركهما كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحركهما» فقال سعيد: «أنا أحركهما كما كان ابن عباس يحركهما فحرك شفتيه» فأنزل الله تعالى: {لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه} [القيامة: 17] قال: جمعه في صدرك ثم تقرؤه {فإذا قرأناه فاتبع قرآنه} [القيامة: 18] قال: فاستمع وأنصت، ثم إنَّ علينا أن تقرأه قال:«فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتاه جبريل استمع، فإذا انطلق جبريل قرأه النَّبي صلى الله عليه وسلم كما أقرأه» [رواه البخاري: (5)، ومسلم: (448)، واللفظ له].

وقد حُصِرَت دعوة النَّبي صلى الله عليه وسلم في تلاوة الكتاب، يقول الله تعالى:{إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92)} [النمل: 91 - 92].

ص: 20

وقد جُعِلَت تلاوة الكتاب تجارةً رابحة، قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29)} [فاطر: 29].

وهذا القرآن لا ريب فيه، فالشك لا يتطرق إليه بأي وجه من الوجوه، فلا ريبَ في أخباره، ولا ريبَ في أحكامه، فأخباره الصدق، وأحكامه العدل، قال الله:{ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2].

والقرآن هو النور الذي أنزله الله ليُخرِجَ الناس من الظلمات بإذن ربهم إلى صراط مستقيم، قال الله تعالى:{قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)} [سورة: المائدة].

والقرآن هو الموعظة، والشفاء، كما قال سبحانه:{يا أيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)} [سورة: يونس]، ومن تمسك بهذا القرآن فإنه المبصر حقًّا، لأن القرآن بصائر، قال تعالى:{قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104)} [سورة: الأنعام]، وقال:{وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203)} [سورة: الأعراف]، فللقلب بصيرة هي نوره لا يصل إليها المرء إلا بالقرآن، وإلا فالعمى لازم له، وبقدر الإقبال على الكتاب يكون الأخذُ من نوره، والتبصر ببصائره، وكما أن العين لا تبصر إلا بنور قدامها، فكذلك القلب لا يبصر إلا بنور القرآن!

ص: 21

وأخبر القرآن عن حال أهل الإيمان حين تلاوته، فقال:{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23)} [سورة: الزمر].

القرآن هو: الفرقان، والكتاب، والذكر، والتنزيل، والقرآن: حق وصدق، وعزيز، وعظيم، وعلي، ومجيد، وقبل ذلك: إنَّه وحي!

والقرآن: رحمة، وشفاء، وكريم، ومبارك، ونور.

إنَّه النبأ العظيم!

وأدعوك في ختام هذا الجواب، أن تختم القرآن - ولو ختمة واحدة - لتتعرف عليه حق التعرف.

ص: 22

‌ما الحجج الدالة على أن القرآن كلام الله؟

يعبَّر عن هذه المسألة، بتعبير آخر، هو:«مصدرية القرآن» ، وقد أخبر القرآن عن مصدره، كما سبق في السؤال الماضي، لكننا سننطلق في الإجابة عن هذا السؤال، بذكر الحجج التي نصل بها للإيمان بأن الله تعالى هو مصدر هذا الكتاب المجيد.

وقد لخَّصنا هذه الحجج من كتاب ممتع للعَلَّامة د. محمد دراز (ت: 1377)، وهو بعنوان:«النبأ العظيم» .

‌الحجة الأولى: الإقرار.

لقد أقر النَّبي صلى الله عليه وسلم على نفسه أنَّ القرآن الذي جاء به ليس من كلامه، وإنَّما هو وحي من ربه إليه.

وحجية هذا الإقرار: أنَّ القرآن حجَّ العرب، وعجزوا أمامه، فالمصلحة تقتضي أن ينسب محمد صلى الله عليه وسلم القرآن له، لتروج زعامته، ويرتفع قدره عند هؤلاء القوم، ولم يفعل، وحاشاه أن يفعل!

وإنما لم يفعل؛ لأنَّه صادق أمين، ولم يكن ليدع الكذب على الناس ويكذب على الله.

ص: 23

فإن قال قائل: إنَّه لم يفعل ذلك إلا ليستجلب مزيدًا من الأتباع بنسبة هذا الكلام للرب، ويستدعي لنفسه طاعة وسلطانًا.

فنقول: هذا الكلام فاسد من جهتين:

‌الجهة الأولى:

أنَّ محمدًا عليه الصلاة والسلام قد صدر عنه الكلام الذي نسبه لنفسه، والكلام الذي نسبه لربه، وأوجب القرآن على الناس طاعة محمد صلى الله عليه وسلم، وجعل طاعته من طاعة الله تعالى، فهلَّا جعل كل أقواله من كلام الله كما يقول هذا القائل.

‌الجهة الثانية:

أنَّ هذا الكلام مبني على افتراض باطل، هو: أن يكون محمد صلى الله عليه وسلم قد سوَّغ لنفسه أن يصل إلى مقصده، ولو بالكذب والتمويه.

وهذا باطل؛ لأن سيرةَ محمد صلى الله عليه وسلم، وأحوالَه تأبى ذلك.

فإنَّ صفاته وشمائله قبل النبوة وبعدها، تأبى أن يكون كاذبًا، فقد كان أعداؤه قبل أصحابه يشهدون له بالصدق، والأمانة، ولم يقل أحد منهم قط: إنَّه كاذب.

‌الحجة الثانية: أُمِّيةُ النَّبي صلى الله عليه وسلم

-.

لم يكن النَّبي صلى الله عليه وسلم ممن يرجع بنفسه لكتب العلم، ودواوينه، ومن المتَّفق عليه؛ أنَّه صلى الله عليه وسلم لم يكن يمارس القراءة والكتابة قبل بعثته.

ولا يمكن أن يكون القرآن من استنباط النَّبي صلى الله عليه وسلم بالذكاء الفطري الذي كان يتمتع به؛ لأنَّ القرآن قد احتوى على ما لا يمكن أن يستنبط بالعقل ولا بالتفكير،

ص: 24

وفيه أيضًا ما لا يدرك بالوجدان ولا بالشعور، كالوقائع التاريخية، والحقائق الدينية الغيبية، والتي جاءت في القرآن بصورة مفصلة، والإخبار بالأمور المستقبلية، والتي وقعت كما أخبر.

‌الحجة الثالثة: أنَّه لم يأخذ القرآن عن معلم.

لا يمكن أن يكون القرآن قد أُخِذَ عن معلم، لأنَّ قوم النَّبي صلى الله عليه وسلم كانوا من الجهل بحيث لا يمكن أن يكون أحدهم معلمًا لمحمد صلى الله عليه وسلم، ولو فرضنا أن فيهم من يصلح لذلك، فلم لم يأخذوا عنه كما أخذ محمد صلى الله عليه وسلم بدلًا من مقارعته بالسيوف؟!

ومن المستحيل أن يكون القرآن قد أُخِذَ عن اليهود والنصارى، ولينظر قائل تلك المقالة إلى حديث القرآن عن أهل الكتاب، وذكره لهم، وكيف يصوِّر القرآن علومهم بأنها الجهالات، وعقائدهم بأنها الخرافات، وأعمالهم بأنها الجرائم والمنكرات.

وفي القرآن ما لا يوجد في كتب أهل الكتاب، كقصة هود وشعيب عليهما السلام، فمن أين أتى بها؟!

ولا يمكن أن يكون القرآن قد أُخِذَ عن شعر بعض العرب، كأمية بن أبي الصلت وغيره، لأن القرآن نفى أن يكون شعرًا، ولأن في الشعر ما لا يوجد في القرآن، كوصف الخمر، ونحوها، ولأن العرب لم يدَّعِ أحدٌ منهم أن القرآن مسروق أو منحول من الشعر الموجود في ذلك العصر أيًّا كان قائله.

‌الحجة الرابعة: التَّحدِّي وعجز العرب.

لقد تحدى القرآن العرب، وكرر التحدي عليهم أن يأتوا بمثل القرآن، وظل يتدرج بهم إلى أن وصل أن يأتوا بسورة من مثل القرآن، فعجزوا.

ص: 25

فإن كان القرآن من كلام محمد صلى الله عليه وسلم، فلم عجزت العرب عنه؟!

إنَّ أحدًا منهم لم يستطع أن يجاريه، ولا أن يطعن في عربيته، ولذا: فإن أي طعن يوجه للقرآن من جهة عربيته من طاعن متأخر عن أبي جهل، وأبي لهب وأضرابهم، فاعلم أنه باطل في ذاته؛ إذ لو كان صحيحًا لما غفل عنه هؤلاء الأعداء، وهم أبصر الناس باللغة، وأحرصهم على الطعن في القرآن.

‌الحجة الخامسة: ظاهرة الوحي.

لم يكن الوحي حالة اختيارية تعتري محمدًا صلى الله عليه وسلم، بل كان حالة غير اختيارية، وهذا - لمن يؤمن بالغيب - دليل على كون القرآن من عند الله، فقوة الوحي قوة خارجية، لأنها تتصل بنفس محمد صلى الله عليه وسلم حينًا بعد حين، وهي قوة عالمة، وهي قوة أعلى من قوته، لأنها تحدث آثارًا في بدنه، وهي قوة خيرة معصومة، لا توحي إليه إلا الحق، فماذا عسى أن تكون تلك القوة إن لم تكن قوة ملك كريم؟!

ولم يكن الوحي يعكس شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم، ففي أكثر الأوقات لا يذكر عنه شيئًا، وتأمَّل - مثلًا -: حين مات عمه أبو طالب، وزوجته خديجة، وحزن لذلك حزنًا شديدًا، ومع ذلك لم يشر الوحي إلى ذلك.

بل نجد في الوحي آيات اللوم والعتاب له عليه الصلاة والسلام، كقوله سبحانه:{عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ 43} [التوبة: 43]، وقال سبحانه:{عَبَسَ وَتَوَلَّى 1 أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى 2 وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى 3 أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى 4 أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى 5 فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى 6 وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى 7 وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى 8 وَهُوَ يَخْشَى 9 فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى 10} [عبس: 1 - 10].

ص: 26

‌الحجة السادسة: إعجاز القرآن.

لقد جاء القرآن نموذجًا لا يبارى في الأدب العربي، إنَّه المثل الأعلى لما يمكن أن يسمى أدبًا بوجه عام، فلغته تأخذ بالقلوب، وتفحم بالحجة، وتجلب السرور الهادئ لا الصاخب.

ومما يبين إعجاز القرآن في لغته:

1 -

أنَّ لغة القرآن مادة صوتية، تبعد عن طراوة لغة أهل الحضر، وخشونة لغة أهل البادية، إنها تجمع بين رقة الأولى، وجزالة الثانية.

2 -

إنَّها ترتيب في مقاطع الكلمات في نظام أكثر تماسكًا من النثر، وأقل نظمًا من الشعر.

3 -

كلماته منتقاة، لا توصف بالغريب إلا نادرًا، تمتاز بالإيجاز العجيب، والنقاء في التعبير.

4 -

إنَّ أسلوب القرآن يجمع بين العقل والعاطفة على رغم ما بينهما من تباعد.

5 -

وهو في وحدة سوره، وترتيبها، وتناسق أجزائها آية وأي آية!.

*‌

‌ مراجع إثرائية:

1 -

النبأ العظيم، د. محمد دراز، اعتناء: عمرو الشرقاوي، ط. مركز تفكر للبحوث والدراسات.

2 -

تنزيه القرآن الكريم، د. منقذ السقار، ط. مركز تكوين.

3 -

براهين النبوة، د. سامي عامري، ط. مركز تكوين.

ص: 27

‌ما مبررات وبراهين الإيمان بسلامة النص القرآني من التحريف؟

لقد اتفقت كلمة المسلمين جميعًا على أن القرآن كلام الله، وحجة من أعظم حججه على عباده، وأبلغها دلالة، ومن أكبر الحجج على صحة النص القرآني الموجود بين أيدينا:

‌الحجة الأولى: العناية بالقرآن في عهد النَّبي صلى الله عليه وسلم، وعهد الصحابة.

تمثلت العناية القصوى بالقرآن في عهد النَّبي صلى الله عليه وسلم في حفظ القرآن في قلوب الراسخين في العلم من أصحاب النَّبي صلى الله عليه وسلم، وتدوينهم له، وتلاوتهم له آناء الليل وأطراف النهار.

ولما دعت الحاجة - وهي كثرة قتل القراء في موقعة اليمَامَة - كان الجمع الأول للقرآن في عهد أبي بكر رضي الله عنه.

وبعد جمع أبي بكر، بات القرآن الكريم محفوظًا في مصحف أبي بكر بين دفتين، وعدة صحف ومصاحف خاصَّة تجمع سوره وآياته كلها أو بعضها.

فأمَّا مصحف أبي بكر فقد انتقل من أبي بكر لعمر بن الخطاب، ومنه إلى بيت حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها.

ص: 28

ثم دعت الحاجة إلى جعل هذا المكتوب في مصاحف على صورة تسد باب اختلاف الذين لا يعلمون، فتمَّ جمعه والعناية الفائقة به في عهد عثمان رضي الله عنه.

وبعد ذلك حصلت عمليات تطوير خط المصحف الشريف، وظلت هذه المحاولات، وهذه الحياطة إلى زمان الطِّباعة، وانتِشَار المصاحف عبر الأقطَار الإسلامية، وانتقالها إلى المسلمين جيلًا بعد جيل.

وليس في القرآن بحمد الله خطأ استطاع أن يثبته أحدٌ كائنًا من كان من وقت تدوينه إلى زمان الناس، وما أُثير من شبهات حول الرسم، أو ما ادُّعي أنه مخالف للعربية، تصدى له علماء الإسلام بالبيان، والتمحيص، ومصنفاتهم حاضرة قريبة من طالبِ الحق والهدى.

‌الحجة الثانية: تَلَقِّي القرآن بالمشافهة.

لقد كان القرآن محفوظًا في الصدور كما هو مكتوب في الصحف، وكان الناس ولا يزالون يتلقون هذا القرآن عن أشياخهم، إلى أن يتصل السند بكبار أصحاب النَّبي صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء الصحابة أخذوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وهذه الحجة مما يعرف تفصيلها من كتب تاريخ القراءات، وبيان جهود العلماء المبذولة في ضبط الأوجه القرآنية التي يقرأ بها القرآن.

فمن الذي يتصور وقوع التحريف في سورة الحمد (الفاتحة)؟ وهي السورة التي تقرأ في محاريب المسلمين كل يوم عدة مرات، وكذلك سائر القرآن كان يُقرأ في محاريب المسلمين مرة بعد مرة، أيتفق كل هؤلاء على التحريف، ولا نجد إنكارًا عليهم، سبحانك هذا بهتان عظيم!

ص: 29

‌الحجة الثالثة: عدم وجود فجوة تاريخية في مسار القرآن.

وهذا بخلاف التوراة التي انقطع سندها بعد موسى عليه السلام بستة قرونٍ على الأقل، وتعددت نسخها، واختلفت فيما بينها، وبخلاف الإنجيل الذي ظل يُتناقل شفهيًا، وتعرض لكثير من التَّحريف حتى دوِّن متأخرًا بعد أن ناله ما ناله من التَّحريف.

لقد وصل القرآن إلينا، بلغته الأصلية التي كان عليها، فلم يتعرض لما قد تتعرض له الترجمة، من اختلاف، وكونها عرضة للاشتباه في الفهم، ونحو ذلك.

وقد نقل إلينا بالمشافهة، وتداوله عددٌ كبير من الناس، ودون في زمان النَّبي صلى الله عليه وسلم، وجمع بعده في دفتين بعد مدة وجيزة جدًّا، كما سلف، وإنَّ المطلع على المخطوطات الموجودة للمصحف الشريف، والتي هي عتيقة، وترجِع إلى العصور الأولى من نزول القرآن، يعلم كيف أن الله تعالى قد أحاط القرآن بعناية خاصَّة، لئلا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، لأنه تنزيل من حكيمٍ حميد.

ومع كل العواصف التي عصفت بأمة الإسلام إلا أنَّ أحدًا منهم لم تمتد يده للقرآن ليحرفه، بل ولم يستطع، وأنَّى له ذلك، بل إنهم على اختلافهم وتناحرهم كانوا معظمين للقرآن معتنين بشأنه، كما يعرف من تاريخ كتابة المصحف والعناية به.

وبعد؛ فإنَّ أعظم دليل على عدم تحريف القرآن، هو القرآن ذاته، فقد احتفظ القرآن بكل خصائصه التي كان عليها زمان النبوة، لقد ظل مُؤثرًا في الأمة، ومعجزًا على مر الدهور، لا يزال الناس يأخذون منه، وَيَرِدُونَه فلا تنفد عجائبه، ولا يَخْلَقُ على كثرة الرد.

ص: 30

*‌

‌ مراجع إثرائية:

1 -

مدخل إلى القرآن الكريم، د. محمد دراز، ط. دار القلم.

2 -

تاريخ القرآن عند الشيعة الاثنى عشرية، د. عبد العزيز الضامر، ط. مركز تكوين.

3 -

موثوقية نقل القرآن، د. عبد الله موسى رمضان، ط. مكتبة التوعية.

4 -

المصاحف المنسوبة للصحابة، د. محمد الطاسان، ط. دار التدمرية.

5 -

رسم المصحف، د. غانم قدوري الحمد، ط. دار عمار.

ص: 31

‌ما المراد بكلمة (الوحي)؟

الوحي المقصود هنا: هو القرآن، فالقرآن هو الوحي الذي أنزله الله بواسطة جبريل عليه السلام على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى:{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ 3} [يوسف: 3]، وقال:{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ 7} [الشورى: 7]، وقال:{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ 52} [الشورى: 52].

ويطلق الوحي في اللغة على: «الإعلام في خفاءٍ وسرعةٍ» ، وهو بهذا المفهوم يشمل الوحي العام، والوحي الخاص.

فالوحي قسمان: عام، وخاص.

‌القسم الأول: الوحي العام.

فالوحي العام يشمل: الإشارة، والإيماء، والإلهام، ويشمل أيضًا ما إذا كان الإعلام من الخير أو الشر.

ص: 32

فمن أنواع الوحي العام:

1 -

الإلهام، والمقصود به: الإلهام الفطري.

ومنه: ما وقع لأم موسى عليه السلام، قال تعالى:{وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ 7} [القصص: 7].

ومنه: ما حصل للحواريين (أصحاب عيسى عليه السلام، كما قال تعالى:{وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ 111} [المائدة: 111].

وقد يقع الإلهام لبعض المخلوقات، كما أخبر الله عن النحل، قائلًا:{وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ 68} [النحل: 68].

2 -

ما يلقيه الله تعالى لملائكته، قال تعالى:{إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ 12} [الأنفال: 12].

3 -

ويطلق الوحي بهذا المفهوم العام على فعل بعض المخلوقين، كما قال سبحانه عن زكريا عليه السلام، {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا 11} [مريم: 11]، فالمعنى: أشار إليهم أن يُسَبِّحوا الله بكرة وعشيًا.

4 -

ويطلق الوحي بهذا المفهوم العام على ما يلقيه الشياطين إلى أوليائهم، قال تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ 112} [الأنعام: 112].

ص: 33

‌القسم الثاني: الوحي بالمفهوم الشرعي.

أما الوحي بالمفهوم الشرعي، فيطلق على «إعلام الله لنبي من أنبيائه، بكيفيَّة معينةٍ، بنبوته، وما يتبعها من أوامرَ ونواهٍ وأخبار» .

وهذا الوحي بالمفهوم الشرعي له أنواع متعددة، ذكر الله تعالى أعلاها في قوله:{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ 51} [الشورى: 51].

هذه مقاماتُ الوحي بالنسبة إلى جناب الله عز وجل:

1 -

فتارةً يُقذف في روع النَّبي صلى الله عليه وسلم شيءٌ لا يتمارى فيه أنه من الله عز وجل، وهذا يقع يقظة ومنامًا.

2 -

وتارةً يقع بتكليم الله عز وجل مباشرة من وراء حجاب، كما حصل لموسى عليه السلام.

3 -

وتارةً يقع بتكليم المَلَك، وبهذه الطريقة وقع نزول القرآن، فقد نزل به جبريل عليه السلام.

ص: 34

‌كيف كانت حال النَّبي صلى الله عليه وسلم عند نزول الوحي؟

ورد ذلك في بعض الأحاديث، والتي وصفت حال النَّبي صلى الله عليه وسلم حين ينزل عليه الوحي، ومن هذه الأحاديث:

1 -

عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، أن الحارث بن هشام رضي الله عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:«يا رسول الله، كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أحيانًا يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشده علي، فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال، وأحيانًا يتمثل لي الملك رجلًا فيكلمني فأعِي ما يقول» قالت عائشة رضي الله عنها: ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد، فيَفصِم عنه وإنَّ جبينه ليتفصد عرقًا»، [رواه البخاري:(2)].

[(صلصلة) هي صوت الحديد إذا حرك وتطلق على كل صوت له طنين. والمشبه هنا صوت الملك بالوحي. (فيفصم) يُقْلِع، ويذهب. (وعيت) فهمت وحفظت. (لَيتَفَصَّد) يسيل، مبالغة من كثرة عرقه].

2 -

عن ابن عباس في قوله تعالى: {لا تحرك به لسانك لتعجل به} [القيامة: 16] قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعالِجُ من التَّنزيل شدة، وكان ممَّا يحرك شفتيه - فقال ابن عباس: فأنا أحركهما لكم كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحركهما،

ص: 35

وقال سعيد: أنا أحركهما كما رأيت ابن عباس يحركهما، فحرَّك شفتيه - فأنزل الله تعالى:{لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه} [القيامة: 17] قال: جمعه لك في صدرك وتقرؤه: {فإذا قرأناه فاتبع قرآنه} [القيامة: 18] قال: فاستمع له وأنصت: {ثم إن علينا بيانه} [القيامة: 19] ثم إنَّ علينا أن تقرأه، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إذا أتاه جبريل استمع فإذا انطلق جبريل قرأه النَّبي صلى الله عليه وسلم كما قرأه»، [رواه البخاري:(5)].

[يعالج من التنزيل شدة: يتكلف ويتحمل من تنزيل القرآن عليه شِدَّة، وسبب الشِّدَّة: هيبة الملك، وما جاء به، وثقل الوحي].

ص: 36

‌صف لحظة نزول القرآن.

ورد ذلك في حديث السيدة عائشة رضي الله عنها، ولأدعك مع الحديث الجليل، لتتأمله جيدًا:

عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت: «أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه - وهو التعبد - الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ، قال: «ما أنا بقارئ» ، قال:(فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني، فقال: {اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم. الذي علم بالقلم. علم الإنسان ما لم يعلم} [العلق]).

فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، فقال:«زملوني زملوني» فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر:«لقد خشيت على نفسي» فقالت خديجة: كلا والله ما

ص: 37

يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة وكان امرأ تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخًا كبيًرا قد عمي، فقالت له خديجة: يا ابن عم، اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزل الله على موسى، يا ليتني فيها جذعًا، ليتني أكون حيًّا إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أو مخرجي هم» ، قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا.

ثم لم ينشب ورقة أن توفي، وفتر الوحي صلى الله عليه وسلم، [رواه البخاري:(3)].

[غطَّني، أي: ضمه بشدة].

ص: 38

‌هل نزل القرآن جملة واحدة أم نزل مفرقًا، وما فائدة تفريقه؟

نزل القرآن على النَّبي صلى الله عليه وسلم مدة ثلاثٍ وعشرين سنة، وهي مدة بعثته صلى الله عليه وسلم، قال عز وجل:{وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا} [الفرقان: 32].

وأما عن فوائد هذا النزول المنجم (أي: المفرق)، فمنها:

1 -

تثبيت قلب النَّبي صلى الله عليه وسلم، ولقد كان تأخر الوحي عن رسول الله يقلقه كثيرًا، محبة منه لكلام ربه سبحانه وبحمده.

2 -

مواكبة الحوادث والمسائل التي تقع في عصر النبوة، إذ كان القرآن ينزل بشأنها؛ تلك الحوادث والمسائل هي أسباب النزول التي صارت علمًا مُهمًّا لمن أراد أن يفسِّر القرآن.

3 -

التَّدرج في التشريع وبيان الأحكام والحدود، فالشريعة لم تنزل جملة واحدة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل كان ينزل منها الشيء بعد الشيء من تفاصيل الأحكام والحدود حتى اكتملت الشريعة وتم الدين.

ص: 39

‌ما أول ما نزل من القرآن؟

أوَّلُ ما نزل من القرآن سورة (اقرأ)، ففي حديث عائشة أم المؤمنين أنها أخبرت عن أول مجيء جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم وهو في غار حراء، قالت:«حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ، قال: «ما أنا بقارئ» ، قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني، فقال:{اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم. الذي علم بالقلم. علم الإنسان ما لم يعلم} [العلق]» [رواه البخاري: (3)].

وهذا صريح أنَّ أولَ نزول للقرآن كان في غار حراء، وأنَّ أولَ ما نزل منه هذه الآيات الخمس من أولِ سورة العلق.

ثم حصل فتور للوحي [أي: انقطاع للوحي فترة من الزمان، وقد اختلف العلماء في تحديد مدة هذه الفترة]، ونزل بعد هذا الفتور سورة المدثر.

ص: 40

‌ما آخر ما نزل من القرآن؟

ليس في هذه المسألة حَسمٌ، ولعل أصَحَّ ما قيل فيها: إنَّ آخر ما نزل من آيات القرآن هي آيات الربا في سورة البقرة، وآخرها قوله تعالى:{وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [البقرة: 281].

أما آخر سورة نزلت، فلعل أصح ما قيل في هذا أيضًا: إنها سورة النصر.

ص: 41

‌ما المراد بالقراءات؟

القراءات هي: (علم بكيفية أداء كلمات القرآن، واختلافها معزوًا لناقله).

فأنت تسمع اليوم: قراءة ورش عن نافع، وقالون عن نافع، وحفص عن عاصم، وشعبة عن عاصم، والدوري، وحمزة .. إلى آخره.

ولكي تتصور كيفية وجود هذه القراءات، فسنعرض إلى تاريخ القراءات بصورة مختصرة جدًّا، فنقول:

نزل القرآن على النَّبي صلى الله عليه وسلم بواسطة جبريل عليه السلام، فقد كان جبريل يأخذ القرآن عن رب العالمين تعالى، وينزل به على قلب النَّبي صلى الله عليه وسلم، وكان النَّبي صلى الله عليه وسلم يُقرئ الصحابة، وقد أخذوا عنه القرآن، وصار القرآن يحمل عنهم بالتلقي.

وكان للعرب طرق مختلفة في كيفية أداء الحروف، فبعضهم كان يهمز، وبعضهم يترك الهمز، وبعضهم يقرأ بالإمالة، وبعضهم لا يميل، وهكذا.

وقد سمح النَّبي صلى الله عليه وسلم أن يقرأ كل واحد فيهم، بطريقة قومه في أداء هذه الحروف.

ص: 42

ومع ذلك: فإنهم تلقوا بعض الكلمات عن النَّبي صلى الله عليه وسلم بأوجه مختلفة، فمثلًا: كلمة (ضنين) في قوله تعالى: {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ 24} [التكوير: 24]، قُرئت بالضاد، وقُرئَت بالظاء (بظنين)، وقد تلقاها الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ومن هنا ظهرت الأوجه المختلفة في أداء كلمات القرآن الكريم، واختار كل صحابي لنفسه قراءة مما أخذه عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومما اجتهد فيه مما يجوز الاجتهاد فيه.

وفي تلك المرحلة، كان الصحابة يعلم بعضهم بعضًا القرآن، ولما تم جمع عثمان رضي الله عنه، انتصب بعض الصحابة لإقراء القرآن، وصار الناس يرحلون من الأمصار للأخذ عنهم، والقراءة عليهم.

وتشكلت في هذه المرحلة مسألة التلقي الشفوي للقرآن، بأن يرحل الطالب إلى شيخ فيتلقى عنه القرآن، وقد ظهر في ذلك الزمن أئمة صاروا أئمة الإقراء في زمانهم، ومثَّلت هذه القراءات اختيار هؤلاء القراء مما أخذوه، وتلقوه عن شيوخهم إلى الصحابة رضوان الله عليهم، وكثرت الاختيارات وتنوعت.

وكانت هذه الفترة تمهيدًا للمرحلة التي بعدها، وهي فترة التدوين لروايات القراءات مع توفرها وبروزها ووضوحها وكثرتها.

وفي مرحلة من تلك المراحل اختار الإمام أبو بكر ابن مجاهد (ت: 324)، سبعة قراء من قراء الأمصار الإسلامية الكبرى، اشتهروا بالضبط والإتقان، ورجوع الناس إليهم في القراءة، وجمَعَ اختياراتهم في كتابه:«السبعة في القراءات» ، وهم: «نافع المدني، وابن كثير المكي، وأبو عمرو بن العلاء البصري، وابن عامر الشامي، وعاصم الكوفي، وحمزة بن حبيب الزيات

ص: 43

الكوفي، وعلي الكسائي الكوفي»، وصار يطلق على قراءة هؤلاء: القراءات السبع.

وقد اختار العلماء لكل قارئ من هؤلاء القراء اثنين ممن أخذوا عنه القراءة، فاختاروا لعاصم - مثلًا - راويين، هما: أبو بكر بن عياش شعبة، وحفص بن سليمان، ولنافع: قالون، وورشًا، وهكذا.

وألفت كتب في قراءة هؤلاء السبعة، أشهرها: كتاب: «التيسير» لأبي عمرو الداني (ت: 444)، ونظمه للإمام الشاطبي (ت: 590).

وبعد هذه المرحلة، ألف العلماء كتبًا كثيرة في القراءات، وصار بعضهم يزيد على هذه القراءات السبع، لئلا يظن الناس أن القراءات السبع هي الأحرف السبعة.

وصار العلماء يحررون هذه القراءات، ويعتنون بأمرها، حتى وصلت إلى إمام عظيم القدر، وهو الإمام ابن الجزري رحمه الله (ت: 833)، فألف كتابه العظيم:«النشر في القراءات العشر» ، وزاد على هؤلاء الأئمة السبعة، ثلاثة هم:«أبو جعفر بن يزيد القعقاع، ويعقوب الحضرمي، وخلف البزار» .

وكانت قراءات الأئمة العشرة منتشرة في الأمصار الإسلامية، يقرأ أهل كلِّ مصر وما حوله بقراءة إمامهم، واستمر الحال على ذلك قرونًا، وذكر الداني أنَّ إمام الجامع الكبير في البصرة لا يقرأ إلَّا بقراءة يعقوب، وكان أهل مصر يقرؤون برواية ورش حتى القرن الخامس الهجري، ثم انتشرت بينهم قراءة أبي عمرو البصري.

ويبدو أنَّ الأمر استمر على هذا الحال زمنًا بعد ذلك، حتى امتد حكم الدولة العثمانية للبلاد العربية في القرن العاشر الهجري، فانتشرت رواية حفص

ص: 44

عن عاصم في معظم العالم الإسلامي منذ ذلك الوقت بسبب اعتماد الدولة العثمانية لها، ثم طباعة المصحف بها، وازدادت انتشارًا في زماننا هذا بسبب كثرة المصاحف المطبوعة بها، وانتشار التسجيلات بها، وعبر الإذاعات ووسائل الإعلام المتعددة فرواية حفص عن عاصم يقرأ بها معظم المسلمين في الدول الإسلامية وغيرها.

ويُقْرَأُ برواية قالون عن نافع، في ليبيا وأجزاء من تونس والجزائر.

وبرواية ورش عن نافع في غرب مصر وليبيا وتونس والجزائر والمغرب وموريتانيا وتشاد والكاميرون ونيجيريا وأغلب البلاد الأفريقية الغربية، وفي شمال وغرب السودان.

ويقرأ برواية الدوري عن أبي عمرو في السودان والصومال، وحضر موت في اليمن.

أمَّا المصاحف فنظرًا لانتشار رواية حفص عن عاصم بين معظم المسلمين؛ فإنَّ غالبية المصاحف تُطبع وَفق روايته، وتأتي بعد ذلك المصاحف المطبوعة برواية ورش عن نافع، حيث طبعت في مجمع الملك فهد بالمدينة المنورة وفي بلاد المغرب العربي وسوريا وقطر، وطبعت مصاحف برواية قالون في ليبيا وتونس والجزائر، وبرواية الدوري في السودان والمدينة المنورة.

ويَلحظُ القارئ في هذه المصاحف وجود اختلافات يسيرة بينها في الضبط وفي الحركات المثبتة على الألفاظ المُختلَف فيها بين هذه الروايات، كما تختلِف هذه المصاحف في رسم بعض الألفاظ تبعًا للمذهب الذي رُسِم به المصحف، وتختلف في عدد آياتها حسب العدد المعتمَد لبلد القارئ.

ص: 45

مصطلحات مهمة متعلقة بالقراءات:

- (القراءة، والرواية، والطريق): يُقال: قراءة فلان إذا نُسبت لأحد القُرَّاء السبعة أو العشرة، أو غيرهم ممَّن تتوافر لقراءتهم شروط القبول كأن يُقال: قراءة نافع، أو قراءة ابن كثير، أو قراءة حمزة وهكذا.

وأمَّا الرواية: فهي التي تُنسب لأحد الرواة عن القارئ، كأن يُقال رواية حفص عن عاصم، أو رواية قالون عن نافع، أو رواية البَزِّي عن ابن كثير.

والطريق: يُطلق على ما ينسب للآخذ عن الراوي ولو نزل، كطريق الأزرق لرواية ورش عن نافع، أو طريق عبيد بن الصباح لرواية حفص عن عاصم.

فالقارئ: (نافع - عاصم)، والراوي:(ورش - حفص)، والطريق:(الأزرق - عبيد بن الصباح).

فالطَّبقة الأولى، وهي طبقة الشيوخ اصطلحوا على تسميتهم:(القراء)، والطبقة الثانية، وهم التلاميذ اصطلحوا على تسميتهم:(الرواة)، والطبقة التي تحتها مهما نزلت اصطلحوا على تسميتهم:(الطرق).

- (الأصول): مسائل علم القراءات التي لها قاعدة معينة تندرج فيها الجزئيات، مثل: الإدغام، والمد، والإمالة، ونحوها، وقد يُخالف بعض القراء القاعدة في كلمات يسيرة.

- (الفَرْش): الألفاظ القرآنية التي اختلف فيها القراء، والتي لا تندرج ضمن قواعد ومسائل أصول القراءة، وسميت بالفرش لانتشارها وتفرقها في السور؛ فإنَّ فرش الشيء: نشره وبثه، مثل: كلمة (ضنين) في قوله تعالى: {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ 24} [التكوير: 24]، فقد قرأها بعض القراء (بظنين) بالظاء، ومثل كلمة (الصراط) فقد قرأها بعض القراء (السراط) بالسين.

ص: 46

* مراجع إثرائية:

1 -

مقدمات في علم القراءات، د. القضاة، د. أحمد خالد شكري، ط. دار عمار.

2 -

الأساس في علم القراءات، د. علي الجعفري، ط. أروقة.

3 -

القراءات القرآنية، د. عبد الحليم قابة، ط. دار طيبة الخضراء.

ص: 47

‌ما المراد بنزول القرآن على سبعة أحرف؟

لقد كان موضوع (الأحرف السبعة) ولا يزال من الموضوعات المُشكِلة في علوم القرآن، غير أنَّ كل الاختلاف فيها لا يؤثر على صحة نقل القرآن، وموثوقية وصوله إلينا.

وعلى المؤمن أن يسلم بهذه الحقيقة؛ لأن اختلاف العلماء في مسألة الأحرف السبعة كبير، وقد لا يستوعبه عقل المبتدئ، لكن المهم: أن نُظهر عدة نقاط محكمات لا بد أن تكون في وعينا عند دراستنا لهذا الموضوع:

1 -

أنَّ هذه الأحرف نزلت من عند الله، وأنَّها نزلت للتخفيف على الأمة.

2 -

أنَّ الصحابة فهموا معنى الأحرف السبعة، وعملوا بمقتضى فهمهم.

3 -

أنَّ العدد «سبعة» يُقصد به العدد المعروف، وهو ما بين الستة والثمانية.

4 -

أنَّ العلماء اتفقوا على أن الأحرف السبعة ليست هي القراءات السبع، لأن القراءات نشأَتْ بعد الأحرف السبعة ونزولها، وانتهاء نزول القرآن.

والقراءات كلها (السبعة، والعشرة، وما زاد عليها) هي جزءٌ من الأحرف السبعة.

ص: 48

5 -

أنَّ كل الاختلاف الحاصل في هذا الموضوع لا يؤثر على صحة النص القرآني، لأنه محفوظ بحمد الله تعالى، وقد تقدمت الأدلة على ذلك.

والاختلاف بين الأحرف السبعة هو اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد، فلا تناقض بين معاني الأحرف السبعة على أي مذهب من مذاهب العلماء المفسرين لمعنى الأحرف.

أي: لا يوجد تعارض بين حرف وآخر من الأحرف السبعة على أي تفسير لها، كما أنَّه لا يوجد تعارض ولا تناقض بين القراءات القرآنية.

وقد اختلف العلماء في بيانها، ومن الأقوال القريبة، أنَّها:(وجوه قرائية منزلة، متعددة، متغايرة، في الكلمة القرآنية الواحدة ضمن نوع واحد من أنواع التغاير).

فاللفظ الواحد قد يحتمل عدة أوجه من القراءة، وهذه الأوجه لا يمكن أن تتعدى في اللفظ الواحد سبعة أوجه، فقد يرد وجهان فقط في قراءة الحرف، مثل:(ننشرها - ننشزها).

وقد يرد اللفظ على أربعة أوجه، مثل:(فيضاعفَه - فيضاعفُه - فيضعِّفَه - فيضعِّفُه).

وقد يرد على خمسة أوجه، مثل:(هَيتَ لك - هَيتُ - هِيتَ - هِئتَ - هئتُ).

وهكذا، وليس عندنا لفظ يُقرأ على سبعة أوجه، وهذه الأوجه ترد في بعض الكلمات القرآنية، لا في كل كلمة من كلمات القرآن.

وقد وقع تركٌ لبعض الأوجه، فلم يعد يُقرأ بها.

ص: 49

* مراجع إثرائية:

1 -

قضية الجمع القرآني، أحمد سالم، ط. مركز تفكر للبحوث والدراسات.

2 -

المحرر في علوم القرآن، د. مساعد الطيار، ط. معهد الإمام الشاطبي.

3 -

معاني الأحرف السبعة، أبو الفضل الرازي، ت: د. حسن عتر، ط. دار النوادر.

4 -

حديث الأحرف السبعة، د. عبد العزيز القاراء، ط. مؤسسة الرسالة.

5 -

الأساس في علم القراءات، علي الجعفري، أروقة.

ص: 50

‌متى جمُع القرآن، وما عدد مرات جمعه؟

اعلم أن القرآن لم يجمع بين دفتين زمن النَّبي صلى الله عليه وسلم، مع أنه كان يكتب بين يديه؛ لأن الحاجة لم تدع إلى ذلك، ولأن القرآن ما زال ينزل ويضاف إليه، وينسخ منه.

ولما دعت الحاجة - وهي كثرة موت القراء في موقعة اليمامة - كان الجمع الأول للقرآن في عهد أبي بكر رضي الله عنه، وقد قام بعملية الجمع زيد بن ثابت رضي الله عنه، وقد اتكأ زيد على الأساسين اللذين كانا قد جمع بهما القرآن زمن النَّبي صلى الله عليه وسلم، وهما:

1 -

صُدور الرجال.

2 -

الصُّحف المفرقة وما يشبهها من أدوات الكتابة.

ويمكننا تلخيص مميزات هذا الجمع في النقاط التالية:

(1)

أن كتابته قامت على أدق وسائل التثبت والاستيثاق.

(2)

أنه جُمع في مصحف واحد مرتب الآيات والسور.

(3)

اقتصاره على ما لم تنسخ تلاوته، وتجريده مما ليس بقرآن.

ص: 51

(4)

إجماع الصحابة على صحته ودقته، وعلى سلامته من الزيادة والنقصان، وتلقيهم له بالقبول والعناية.

وبعد أن تمَّ الجمع الأول، صارت الصحف إلى أبي بكر، ثم إلى عمر، ثم إلى أم المؤمنين حفصة بنت عمر رضي الله عنهم أجمعين.

بعد ذلك: أصبح القرآن الكريم بعد الجمع الأول محفوظًا في مصاحف تجمع سوره وآياته كاملة بين دفتين، أحدها: مصحف أبي بكر الموجود في بيت حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها، وقد كان نفر من الصحابة الذين حملوا القرآن عن النَّبي صلى الله عليه وسلم يكتبون القرآن بأيديهم وفق ما سمعوه من النَّبي صلى الله عليه وسلم، ونظرًا لنزول القرآن على سبعة أحرف فقد كان يقع أن يكون الذي مع صحابي منهم هو على حرف خلاف الذي مع صحابي آخر، ونظرًا إلى أنه وقع في العرضة الأخيرة نسخٌ [والعرضة الأخيرة، هي: آخر مرة قرأ جبريل فيها القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان]، ونظرًا إلى أنَّه ليس كل واحد من أولئك الصحابة شهد تلك العرضة = فقد وقع أن اختلف صحابة النَّبي صلى الله عليه وسلم في القرآن اختلافًا لا يخرج عن كونه اختلافًا في الأحرف التي تدور عليها آيات القرآن، وما يمكن أن يكون منها منسوخًا وما يمكن أن يكون منها محفوظًا، ولو بقي هذا الاختلاف في المحفوظ في الصدور يتداوله حملة القرآن عن أشياخهم = لهان الأمر، ولكان من جنس اختلاف الصحابة في الأحرف السبعة حتى في زمان حياة النَّبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه تعدى إلى الذين ينظرون في الصحف لا يتبينون وجه هذه الكلمة المكتوبة في هذا المصحف ولِمَ تختلف صورتها باختلاف المصاحف، ولِمَ يوجد في مصحف ما لا يوجد في آخر؟

ص: 52

وهنا: مست الحاجة إلى جعل هذا المكتوب على صورة تسد باب اختلاف الذين لا يعلمون، ولم يكن أمام عثمان رضي الله عنه للقيام بهذه العملية التوحيدية أفضل من مصحف أبي بكر رضي الله عنه، لذا فقد جعله أمامه، وقام باستنساخه.

وكانت أركان هذه العملية التوحيدية ثلاثة، وهي:

(1)

أن تنسخ الصحف الأولى التي جمعها زيد بن ثابت في عهد أبي بكر الصديق في مصاحف متعددة عبر منهج حدده عثمان رضي الله عنه.

(2)

أن ترسل نسخة إلى كل مصر من الأمصار؛ فتكون مرجعًا للناس منه يَقرَؤُون ويُقرِؤُون، وإليه يحتكمون عند الاختلاف، ومع كل نسخة قارئ يُقرئ الناس بها.

(3)

أن يحرق ماعدا هذه النسخ.

وقد تم هذا الجمع عبر لجنة مكونة من أربعة أشخاص، وهم: زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام.

وقد أجمع الصحابة على هذا الجمع العظيم، وقد قال علي رضي الله عنه:«رحم الله عثمان، لو وليته؛ لفعلت ما فعل في المصاحف» .

وقد وقع خلاف بين العلماء في عدد المصاحف، والصحيح أنها ستة: المصحف الذي استكتبه عثمان لنفسه، والمصحف المدني الذي كان عند زيد بن ثابت، والمصحف المكي، والمصحف الكوفي، والمصحف البصري، والمصحف الشامي، وهذه المصاحف هي التي نقل العلماء عنها، وحكوا ما فيها من الرسم، أمَّا ما عدا ذلك كالمصحف المنسوب للبحرين أو لليمن، فلم ينقل عنهما، مما يشير إلى عدم وجودهما أصلًا.

ص: 53

الموضوع

الجمع في عهد أبي بكر

الجمع في عهد عثمان

سبب الجمع

كثرة قتل القراء

اختلاف الناس في القراءة

الذي أشار بالجمع

عمر بن الخطاب

حذيفة بن اليمان

لجنة الجمع

1 - زيد بن ثابت.

2 - عمر بن الخطاب

1 - زيد بن ثابت الأنصاري.

2 - عبدالله بن الزبير.

3 - سعيد بن العاص.

4 - عبدالرحمن بن الحارث بن هشام.

5 - أبي بن كعب.

وغيرهم.

مقصد الجمع

جمع القرآن بين دفتين

1 - نسخ مصحف أبي بكر رضي الله عنه في عدد من المصاحف عبر منهج معين.

2 - إرسال قارئ مع كل نسخة ليُقرأ أهل المصر الذين أرسل إليهم.

ص: 54

الموضوع

الجمع في عهد أبي بكر

الجمع في عهد عثمان

منهج الجمع

1 - الجمع من صدور الرجال.

2 - عرضه على المكتوب في زمان النَّبي صلى الله عليه وسلم

1 - نسخ مصحف أبي بكر في عدد من المصاحف.

2 - أنَّ يكتب بلسان قريش عند الاختلاف.

3 - أنَّ يحرق ما عدا هذه المصاحف.

نتيجة الجمع

أجمع الصحابة عليه

أجمع الصحابة عليه

ص: 55

*‌

‌ بيان موقف ابن مسعود رضي الله عنه من جمع القرآن.

بداية لا بد من التنبيه إلى أن ابن مسعود رضي الله عنه لم يعترض على نفس الجمع، ولم يعترض على المجموع، وإنما عرض له إشكال في طريقة الجمع في عهد عثمان رضي الله عنه.

ودليل ذلك: أنه لم يرد أن ابن مسعود اعترض على جمع أبي بكر رضي الله عنه.

فالحاصل: أنه قد ورد اعتراضه رضي الله عنه على جمع عثمان رضي الله عنه في عدَّة أمور، منها: أنه قد استُثْنِيَ من لجنة الجمع، وأنه لم يكن يثبت المعوذتين في مصحفه.

وإنما اختار عثمان زيدًا لأجل أنه هو المختار في الجمع الأول، ولاختصاصه عن ابن مسعود بالكتابة واشتهاره، بينما اشتهر عبد الله بالإقراء والقراءة، وفعل عثمان رضي الله عنه متعلق بالرسم، وليس بالقراءة، فإن عثمان رضي الله عنه لم يمنع أحدًا من القراءة، ولم يفرض على أحدٍ من الصحابة قراءة بعينها دون أخرى.

كما كان ابن مسعود في ذلك الوقت كبير السن، بينما كان زيد في شبابه، ومثل هذا يجعله أقدر على حمل أعباء تلك المهمة، مع اعتبارات أخرى.

وقد ثبت عن ابن مسعود أنه تمسك بقراءته لا غير، وما ورد أنه أمر الناس أن يمسكوا مصاحفهم ونحو ذلك لا يثبت أمام النقد والتمحيص، ولو ثبت فإنه خطأ منه، ولا يؤثر بحمد الله على صحة النص القرآني، لأن الصحابة أجمعوا عليه، ولأن ابن مسعود لم يعترض على شيء فيه.

أما ما ورد عنه من أنه لم يكن يرى أن المعوذتين من القرآن، وكان يرى أن الله تعالى أنزلهما للتعوذ فقط (على جهة الدعاء فحسب) حاول بعض العلماء

ص: 56

نفي ثبوته، وأوله بعضهم بتأويلات متكلفة، والذي أرتضيه: أنه قد ثبت عنه ذلك، وهذا خطأ منه رضي الله عنه، وخالف بذلك قول الصحابة جميعًا، وإجماع المسلمين بعده رضي الله عنه.

فحاصل الأمر: أنه لم يعلم، وغيره قد علم، ومن علم حجة على من لم يعلم، وهذا مما يسوغ في هذا الزمان، ولا يقال: إنَّه قد حضر العرضة، إذ يمكن أن يكون حضوره لبعضها، أو أنَّه حضرها وظنها دعاءً لا من القرآن.

وليس بمستغرب أن يخفى بعض العلم على بعض الصحابة، ولا بد من التنبه إلى أن المعوذتين أنزلتا في المدينة، ولم ينكر ابن مسعود أنهما أنزلتا من الله، لكنه كان لا يرى قرآنيتهما فحسب، فهذا ظن ظنه، وبان خطؤه بإجماع الأمة.

وقد ذكر بعض العلماء أن ابن مسعود رجع عن ذلك، وأن الأسانيد الإقرائية إليه فيها إثبات المعوذتين، والله أعلم.

* مراجع إثرائية:

1 -

قضية الجمع القرآني، أحمد سالم، ط. مركز تفكر للبحوث والدراسات.

2 -

جمع القرآن، د. أكرم الدليمي، ط. دار الكتب العلمية.

3 -

تحقيق موقف الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود من الجمع العثماني، د. محمد الطاسان، ط. كرسي القرآن وعلومه.

ص: 57

‌ما المراد بالرسم العثماني؟

تعني عبارة (رسم المصحف) طريقة رسم الكلمات في المصحف من ناحية (عدد حروف الكلمة ونوعها)، لا من حيث (نوع الخط وجماليته).

ويستند رسم الكلمات في المصحف إلى طريقة رسمها في المصاحف التي نسخت في خلافة عثمان، رضي الله عنه، والتي عرفت في المصادر الإسلامية باسم المصاحف العثمانية، نسبة إلى سيدنا عثمان لكونه هو الذي أمر بنسخها وإرسالها إلى البلدان خارج الجزيرة العربية، كما صار رسم الكلمات فيها يعرف بالرسم العثماني.

وقد حافظ المسلمون على رسم الكلمات في المصحف كما جاءت في المصاحف العثمانية الأولى، مع ما في عدد منها من حذف بعض الحروف أو زيادة بعضها، اقتداء بعمل الصحابة، رضي الله عنهم.

وقد كانت المصاحف العثمانية مجرَّدة من نقاط الإعجام ومن الحركات وغيرها من العلامات، لخلوِّ الكتابة العربية في تلك الحقبة منها، وبقيت الكتابة العربية تستعمل على ذلك النحو حتى النصف الثاني من القرن الأول الهجري،

ص: 58

حين بدأت الدراسات اللغوية في العراق، وكان خلوُّ الكتابة العربية من العلامات من أولى المشكلات التي عالجتها تلك الدراسات.

وتُجمِع المصادر العربية القديمة على أن أبا الأسود الدؤلي (ظالم بن عمرو [ت: 69]) هو أول من اخترع طريقة لعلامات الحركات تعتمد على النقاط الحمر، وكان ذلك في البصرة، فجعل الفتحة نقطة فوق الحرف، والكسرة نقطة تحت الحرف، والضمة نقطة أمام الحرف، وجعل التنوين نقطتين.

وتنسب المصادر العربية إلى نصر بن عاصم الليثي البصري (ت: 90)، وهو تلميذ أبي الأسود الدؤلي، اختراع نقاط الإعجام التي تميز بين الحروف المتشابهة في الرسم، مثل الدال والذال، والراء والزاي، ونحوها، وكان ذلك بتوجيه من الحجاج بن يوسف الثقفي في أثناء ولايته على العراق بين سنة (75 - 95 هـ).

ولم تستمر طريقة أبي الأسود الدؤلي في تمثيل الحركات بالنقاط الحمر طويلًا، لصعوبتها عند الكتابة، واحتمال التباسها بنقاط الإعجام التي وضعها نصر للتمييز بين الحروف المتشابهة في الرسم، وذلك حين جعل الخليل بن أحمد الفراهيدي البصري (ت: 170) الحركات حروفا صغيرة مكان النقاط الحمر، وكذلك وضع الخليل علامة للهمزة والتشديد والرَّوْم والإِشْمام، واستخدمت العلامات الجديدة تدريجيًا، حتى زالت طريقة الدؤلي بعد ذلك.

وصارت المباحث المتعلقة بالعلامات الكتابية علمًا أُطلق عليه اسم (علم النَّقط والشَّكل)، وهو يعالج كيفية استخدام العلامات في رسم المصحف خاصة، ومذاهب العلماء في ذلك، وسمي هذا العلم في العصور المتأخرة بعلم الضبط.

* مراجع إثرائية:

ص: 59

1 -

الميسر في رسم المصحف، د. غانم قدوري الحمد، ط. معهد الإمام الشاطبي.

2 -

رسم المصحف، د. غانم قدوري الحمد، ط. دار عمار.

ص: 60

‌ما المراد بالمكي والمدني، وما الفائدة المترتبة على معرفته؟

ينقسم القرآن من حيث مكان نزوله إلى قسمين:

الأول: القرآن المكي، وهو:(ما نزل قبل الهجرة).

والثاني: القرآن المدني، وهو:(ما نزل بعد الهجرة).

لم يحدِّثنا التاريخ أن النَّبي صلى الله عليه وسلم كان قد أمر أصحابه بحفظ الآيات والسور على زمان النزول، وإنما تشير الروايات إلى أنه كان يحدد لهم مواضع الآيات من السور وقت التنزيل وعند كتابتها في الرقاع.

وفي الحديث: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يأتي عليه الزمان وهو ينزل عليه من السور ذوات العدد، فكان إذا نَزلَ عليه الشيء دعا بعض من يكتب له، فيقول: (ضعوا هذه في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا)، وإذا أُنزِلَت عليه الآيات، قال: (ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا)، وإذا أُنزِلَت عليه الآية، قال: (ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا)» ، [رواه أحمد: 499].

ص: 63

ومن ثمَّ فإن الصحابة كانت جهودهم متجهة إلى حفظ القرآن مرتبًا على نحو ما يرتبه لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن بقي في ذاكرتهم ما لاحظوه من مكان وزمان نزول كثير من الآيات والسور، ونقل ذلك عنهم تلامذتهم من التابعين.

ولمعرفة الفرق بين المكي والمدني فوائد منها:

1 -

معرفة الناسخ والمنسوخ من القرآن، لأن المتأخِّر (المدني) ينسخ المتقدم (المكي).

2 -

فهم الآيات وتفسيرها تفسيرًا صحيحًا، وتنزيلها على المعاني اللائقة بها من حيث مراد الله منها.

3 -

تأكيد الإعجاز في القرآن، فبرغم اختلاف الزمان الذي نزل فيه المكي والمدني إلا أن الأسلوب لم يختلف من حيث الجزالة والبلاغة والبيان.

4 -

الرد على بعض الشبهات التي يثيرها خصوم الإسلام، فإنَّ إعجاز القرآن لم يختلف مع طول المدة، ولم يحصل تناقض بين القرآن المكي والمدني.

5 -

مراعاة أسلوب التدرج في التربية أخذًا من المنهج القرآني، ومراعاته في الدعوة أيضًا.

*‌

‌ حصر السور المكية والمدنية:

تحديد مكية السورة أو مدنيتها ثبت بحسب النصوص الواردة عن الصحابة والتابعين، وما لم يثبت فيه نص فهو باجتهاد العلماء عبر الضوابط التي وضعوها لتمييز المكي والمدني.

ص: 64

‌السور المكية

(1)

الأنعام

(2)

الأعراف

(3)

يونس

(4)

هود

(5)

يوسف

(6)

إبراهيم

(7)

الحجر

(8)

النحل

(9)

الإسراء

(10)

الكهف

(11)

مريم

(12)

طه

(13)

الأنبياء

(14)

المؤمنون

(15)

الفرقان

(16)

الشعراء

(17)

النمل

(18)

القصص

(19)

العنكبوت

(20)

الروم

(21)

لقمان

(22)

السجدة

(23)

سبأ

(24)

فاطر

(25)

يس

(26)

الصافات

(27)

ص

(28)

الزمر

(29)

غافر

(30)

فصلت

(31)

الشورى

(32)

الزخرف

(33)

الدخان

(34)

الجاثية

(35)

الأحقاف

(36)

ق

(37)

الذاريات

(38)

الطور

(39)

النجم

(40)

القمر

(41)

الملك

(42)

القلم

(43)

الحاقة

(44)

المعارج

(45)

نوح

(46)

الجن

(47)

المزمل

(48)

المدثر

(49)

القيامة

(50)

المرسلات

(51)

النبأ

(52)

النازعات

(53)

عبس

(54)

التكوير

(55)

الانفطار

(56)

الانشقاق

(57)

البروج

(58)

الطارق

(59)

الأعلى

(60)

الغاشية

(61)

الفجر

(62)

البلد

(63)

الشمس

(64)

الليل

(65)

الضحى

(66)

الشرح

(67)

التين

(68)

العلق

(69)

القدر

(70)

القارعة

(71)

الهمزة

(72)

الفيل

(73)

قريش

(74)

الكافرون

(75)

المسد

ص: 65

‌السور المدنية

(1)

البقرة

(2)

آل عمران

(3)

النساء

(4)

المائدة

(5)

الأنفال

(6)

التوبة

(7)

النور

(8)

الأحزاب

(9)

محمد

(10)

الفتح

(11)

الحجرات

(12)

الحديد

(13)

المجادلة

(14)

الحشر

(15)

الممتحنة

(16)

الصف

(17)

الجمعة

(18)

المنافقون

(19)

الطلاق

(20)

التحريم

(21)

البينة

(22)

النصر

ص: 66

‌السور المختلف فيها والراجح أنها مكية:

(1)

الفاتحة

(2)

الرعد

(3)

الحج

(4)

الرحمن

(5)

الواقعة

(6)

التغابن

(7)

الإنسان

(8)

الزلزلة

(9)

العاديات

(10)

التكاثر

(11)

العصر

(12)

الماعون

(13)

الكوثر

(14)

الإخلاص

‌السور المختلف فيها والراجح أنها مدنية:

(1)

المطففين

(2)

الفلق

(3)

الناس

*‌

‌ مراجع إثرائية:

1 -

المكي والمدني في القرآن الكريم، د. عبد الرزاق حسين أحمد، ط. دار ابن عفان.

2 -

المكي والمدني من السور والآيات، د. محمد الفالح، ط. دار التدمرية.

ص: 67

‌هل لكل آية من القرآن سبب نزول، وما المراد بأسباب النزول؟

نزول القرآن لا يخرج عن قسمين:

الأول: أن لا يكون له سبب مباشر (نزول ابتدائي)، بل ينزل حسب الحاجة والمصلحة، وهو أكثر القرآن.

الثاني: أن يقع حدث فينزل قرآن بشأنه، وهذا هو المراد بأسباب النزول، وفيه مؤلفات في حصر الآيات التي نزلت بسبب.

وهذا الحدث يشمل كل قول أو فعل، أو سؤال وقع ممن عاصروا التنزيل، ونزل القرآن بسببهم.

ويمكن أن نعرف سبب النزول بأنَّه: «كل قول أو فعل نزل بشأنه قرآن عند وقوعه» .

ولأسباب النزول عدة فوائد، يمكننا أن نبرز بعضها في النقاط الآتية:

1 -

الإعانة على فهم المراد من الآية.

2 -

تصور أحوال من نزل فيهم القرآن.

3 -

إبراز حكم التشريع الباهرة.

ص: 68

4 -

الكشف عن الظرفين المكاني والزماني لنزول الآيات.

5 -

التأسي والاقتداء بما وقع للسلف من حوادث في الصبر على المكاره واحتمال الأقدار المؤلمة.

* مراجع إثرائية:

1 -

المحرر في أسباب النزول، د. خالد المزيني، ط. دار ابن الجوزي.

2 -

التسهيل في أسباب التنزيل، عمرو الشرقاوي، ط. مركز تفكر.

3 -

التوظيف العلماني لأسباب النزول، د. أحمد قوشتي، ط. البيان.

ص: 69

‌هل رُتِّب القرآن على حسب نزوله؟

من المعروف أن ترتيب الآيات والسور في المصحف لم يعتمد على تأريخ نزولها، وإنما اعتمد على بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم وقراءته للقرآن وتعليمه ذلك للصحابة.

وفي الحديث: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يأتي عليه الزمان وهو ينزل عليه من السور ذوات العدد، فكان إذا نَزلَ عليه الشيء دعا بعض من يكتب له، فيقول: (ضعوا هذه في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا)، وإذا أُنزِلَت عليه الآيات، قال: (ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا)، وإذا أُنزِلَت عليه الآية، قال: (ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا)» ، [رواه أحمد: 499].

ولم يعد تأريخ نزول الآيات والسور محفوظًا على نحو مفصل، لأن الصحابة لم يعتنوا بهذا الجانب من تأريخ القرآن، وإنما كانت عنايتهم متجهة إلى حفظه على نحو ما يقرؤه لهم النَّبي صلى الله عليه وسلم، لكنَّ إشاراتٍ تأريخية ومعنوية ارتبط بها نزول آيات وسور من القرآن ظلت تشير إلى وقت نزولها ومكانه، واعتنى علماء

ص: 70

القرآن من الصحابة والتابعين بحفظ تلك الإشارات والبناء عليها، حتى صارت علمًا من علوم القرآن يسمى بعلم المكي والمدني، وأفرده بالتصنيف جماعة من العلماء.

ص: 71

‌كيف تم ترتيب سور القرآن وآياته؟

الصحيح أن السور رتبت في المصحف بتوقيف من النَّبي صلى الله عليه وسلم، وقد ذُكرت بعض السور مرتبة في عدد من الأحاديث، ومنها:

عن عبد الرحمن بن يزيد بن قيس، سمعت ابن مسعود، يقول في (بني إسرائيل، والكهف، ومريم، وطه، والأنبياء): «إنهن من العِتَاقِ الأُوَل، وهن من تِلادي» ، [رواه البخاري:(4994)]، ومقصوده: أن هذه السور من محفوظه القديم.

وقد أجمع العلماء أن ترتيب الآيات مأخوذ من النَّبي صلى الله عليه وسلم، لم يتدخل فيه أحد.

ص: 72

‌ما عدد سور القرآن؟

عدد سور القرآن مائة وأربع عشرة سورة بإجماع العلماء، أولها (الفاتحة) وآخرها (الناس).

وأطول سورة في القرآن هي سورة (البقرة)، وأقصر سورة هي (الكوثر)، وأطول آية هي آية (الدَّيْن)، وأقصر آية هي (والضُّحى) وما شابهها.

وتنقسم سور القرآن إلى أربعة أقسام، بحسب الطول والقصر:

1 -

الطوال: وهي سبع سور، البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، واختلف العلماء في السابعة، فقال بعضهم: الأنفال والتوبة، وقال بعضهم: يونس.

2 -

المئين: وهي السور التي تزيد آياتها على مائة أو تقاربها، كالأنفال، ويونس، وهود، والنحل، والإسراء، والمؤمنون.

3 -

المثاني: وهي التي تلي المئين في عدد الآيات، وسميت بذلك لأنها تُثنَّى في القراءة، وتُكرَّر أكثر من الطوال والمئين، كالنور، والفرقان، والقصص، ويس، والزمر.

ص: 73

4 -

المفصل: وهي السور من سورة: (ق)، أو سورة (الحجرات) إلى سورة (الناس)، وتسميته بالمفصَّل لكثرة الفصل بين سوره بالبسملة.

والمفصل ثلاثة أقسام: طوال، وأوساط، وقصار.

فطواله: من أول (الحجرات) إلى سورة (النبأ)، وأوساطه: من سورة (النبأ) إلى سورة (الضحى)، وقصاره: من سورة (الضحى) إلى آخر القرآن، وقيل:«تعرف الطوال من غيرها بالمقايسة، فالحديد وقد سمع مثلًا طوال، والطور مثلًا قريب من الطوال، ومن تبارك إلى الضحى أوساطه، ومن الضحى إلى آخره قصاره» .

وأما تجزئة القرآن وتحزيبه وقسمة الأرباع على الصورة التي توجد في مصاحف المسلمين = فإنها اجتهادية، ولها أصل من فعل أصحاب النَّبي صلى الله عليه وسلم، لكن على غير هذه القسمة، وكان السلف يختلفون في ذلك، وليس المعنى فيه تعبديًّا وإنما هو لتيسير أخذ القرآن.

ص: 74

‌هل يمكن أن تتعدد أسماء سور القرآن، وكيف تم تسمية سور القرآن؟

كانت أسماء السور معروفة في زمان النَّبي صلى الله عليه وسلم، وقد وردت أحاديث كثيرة فيها أسماء للسور، ووردت روايات كثيرة عن الصحابة، وفيها أنهم كانوا يعرفون السور بأسمائها.

وتنقسم السور من حيث التسمية إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: ما ثبت عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، وهذا كثير، ومن أمثلته: عن أبي أمامة الباهلي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اقرؤوا القرآن، فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه.

اقرؤوا الزهراوين: البقرة وسورة آل عمران، فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان - أو كأنهما غيايتان، أو كأنهما فرقان من طير صواف - تحاجَّان عن أصحابهما.

اقرؤوا سورة البقرة، فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا يستطيعها البطلة» [رواه مسلم:(804)].

ص: 75

القسم الثاني: ما ثبتت تسميته عن الصحابي، ومثال ذلك ما رواه البخاري بسنده عن سعيد بن جبير قال:«قلت لابن عباس رضي الله عنهما: سورة الحشر. قال: قل: سورة بني النضير» [رواه البخاري: (4029)].

القسم الثالث: تسمية من دون الصحابي إلى وقتنا هذا، وغالب تسمياتهم تأتي حكاية لبداية السورة؛ كقولهم: سورة (أرأيت)، سورة (لم يكن)، وهكذا؛ حيث إنَّه لم يرد النهي عن تسمية السور بأسماء تدل عليها، وعلى هذا مضى السلف والخلف.

ومما يحسن علمه أن بعض السور لها أكثر من اسم، وكل هذا واسع، فقد تكون تلك التسميات مما ثبت عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، أو مما أخذ عنه وعن الصحابة، أو مما اجتهد العلماء فيه.

فسورة الفاتحة - مثلًا - تسمى (الفاتحة - أم الكتاب - السبع المثاني - الرقية)، وسورة الإسراء تسمى بسورة (بني إسرائيل)، وسورة غافر تسمى بسورة (المؤمن)، وسورة محمد صلى الله عليه وسلم تسمى بسورة (القتال)، وهكذا.

وأمَّا ما تراه مذكورا في فواتح السور في مصاحف المسلمين من أسمائها؛ فذلك مما زاده كتاب المصاحف تعريفًا بالسورة، كما زادوا ذكر المكي والمدني وعدد آي السورة، ولم يكن شيء من ذلك موجودًا في المصاحف العثمانية، فليست تلك التسمية جزءًا من المصحف.

* مراجع إثرائية:

أسماء سور القرآن وفضائلها، د. منيرة الدوسري، ط. دار ابن الجوزي.

ص: 76

‌هل لبعض سور القرآن وآياته فضائل خاصة؟

ورد عن النَّبي صلى الله عليه وسلم ما يدل أنَّ لبعض السور والآيات فضائل خاصة، وذلك إمَّا بذكر أجر يترتب على قراءتها، وإما بقصد قراءتها في وقت معين، وإمَّا ببيان أثرها الحسي والمعنوي على المسلم.

والملاحظ أن السور التي ورد لها فضائل أقل من السور التي لم يرد فيها فضائل، والقرآن كله فاضلٌ باعتبار أنه كلام الله، وباعتبار فصاحته وبيانه، وغير ذلك من أوجه تفضيله.

وبما أنَّ الأصل في التفضيل النقل عن النَّبي صلى الله عليه وسلم فإنه يحرم الكذب فيها كما حصل من بعض الزهاد الذين أرادوا الترغيب بالقرآن فاعتمدوا الكذب في هذا الباب، والعياذ بالله.

ومن السور التي ثبت لها فضل:

‌1 - سورة الفاتحة، وهي أعظم سور القرآن، عن أبي سعيد بن المعلى، قال: مر بي النَّبي صلى الله عليه وسلم وأنا أصلي، فدعاني فلم آته حتى صليت ثم أتيت، فقال:«ما منعك أن تأتيني؟» فقلت: كنت أصلي، فقال: ألم يقل الله: {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم} [الأنفال: 24]، ثم قال:«ألا أعلمك أعظم سورة في القرآن قبل أن أخرج من المسجد» فذهب النَّبي صلى الله عليه وسلم ليخرج

ص: 77

من المسجد فذكرته، فقال:«الحمد لله رب العالمين. هي السبع المثاني، والقرآن العظيم الذي أوتيته» [رواه البخاري: (4703)].

‌2 - سورة البقرة وآل عمران، عن أبي أمامة الباهلي، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول:«اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه، اقرءوا الزهراوين البقرة، وسورة آل عمران، فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان، أو كأنهما غيايتان، أو كأنهما فرقان من طير صواف، تحاجان عن أصحابهما، اقرءوا سورة البقرة، فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة» . [رواه مسلم: (804)].

ومنها: سورة الملك، والإخلاص، والكافرون، والأعلى، والغاشية.

وكما أن لبعض السور فضائل خاصة، فلبعض الآيات فضائل كذلك، وأعظم آية في القرآن هي (آية الكرسي)، ومن الآيات التي لها فضائل:(خواتيم سورة البقرة).

* مراجع إثرائية:

1 -

فضائل القرآن وسوره وآياته، د. فاروق حمادة، دار القلم.

2 -

فضائل القرآن، د. عبد السلام الجار الله، ط. دار التدمرية.

ص: 78

‌ما المقصود بموضوعات السور ومقاصدها، وما أثر معرفة ذلك؟

هناك تقارب شديد بين موضوعات السور ومقاصدها، فلكل سورة من القرآن مقصد وغاية، أي: مغزى ترجع إليه معاني السورة ومضمونها، ويمثل روحها الذي يسري في جميع أجزائها.

وقد يكون المقصد هو نفس موضوع السورة، وقد يختلف المقصد عن الموضوع، بأن يكون للسورة الواحدة عدد من الموضوعات، وهذه الموضوعات ترجع إلى مقصد واحد.

ومعرفة موضوعات السورة، ومقصدها، من أهم المعينات على تدبر السورة، وإدراك إعجازها، لأنك تجد أن السورة على اختلاف موضوعاتها تؤدي إلى هدف واحد في تناسق لا بد أن يحكم الناظر فيه باستحالة أن يكون هذا الكلام من صنع البشر.

والبحث عن موضوعات السورة، ومقصدها، لا بد فيه من أمور:

ص: 79

أهمها: إدراك معاني السورة، وإدراك المناسبات بين الآيات، وإدراك المناسبة بين السورة وما قبلها وما بعدها، وهذا كله يجعل القارئ للقرآن أكثر انتباهًا لما يتلوه، وأشد استحضارًا لما يفهمه.

ومن‌

‌ الكتب المهمة في هذا المضمار:

1 -

أسماء سور القرآن، وفضائلها، د. منيرة الدوسري، دار ابن الجوزي، وهو أهم كتاب في بابه.

2 -

النبأ العظيم، د. محمد دراز، مركز تفكر.

3 -

محتويات سور القرآن الكريم، للشيخ أحمد الطويل، دار الوطن.

4 -

دلائل النظام، للمعلم الفراهي.

5 -

البرهان في تناسب سور القرآن، للإمام ابن الزبير الغرناطي، دار ابن الجوزي.

6 -

التناسب بين السور في المفتتح والخواتيم، د. فاضل السامرائي، دار ابن كثير.

ومن التفاسير التي اعتنت بإبراز هذه الجوانب:

1 -

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، للإمام البقاعي.

2 -

التحرير والتنوير، للإمام الطاهر ابن عاشور.

3 -

في ظلال القرآن، للأستاذ سيد قطب.

4 -

موسوعة التفسير الموضوعي، جامعة الشارقة.

ص: 80

‌ما عدد آي القرآن المجيد؟

اختلف العلماء في عد آي القرآن، والخلاف فيه محتمل مقبول؛ لأنه لا أثر له في أصل القرآن، وإنما يقع أثره في أمور، منها:

1 -

أن الوقف على رأس الآية سنة عند بعض العلماء، ومعرفة مكانه يعين على تطبيق هذه السنة.

2 -

أنها تتعلق ببلاغة القرآن، فالوقف على رأس الآية - ولو كان ما بعدها متعلقًا بها من جهة المعنى - مقصد من مقاصد المتكلم، وإلا فما فائدة رأس الآية، لذا فإن من يقف على رؤوس الآي التي تتعلق بما بعدها، فإنه يستجلب ذهنك للتفكير والتدبر في هذه الجملة التي انقطع فيها المبتدأ عن الخبر، وشبه الجملة عن متعلقه

إلخ.

3 -

وكان الصحابة رضي الله عنهم يتعاملون به في تقدير زمن بعض الأمور المتعلقة بتوقيت الصلاة، فكانوا يحسبونها بعدد الآي: عن أنس، عن زيد بن ثابت رضي الله عنه، قال:«تسحرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قام إلى الصلاة» ، قلت: كم كان بين الأذان والسحور؟ قال: «قدر خمسين آية» ، [رواه البخاري:(1921)].

وتُنسب مذاهب علم عد الآي إلى جماعة من كبار علماء القراءة في أمصارهم، وتُروى بالأسانيد المتصلة إليهم.

ص: 81

والمذاهب المشهورة في علم العدد ستة هي: العدد المدني الأول، والعدد المدني الثاني، والمكي، والبصري، والشامي أو الدمشقي، والكوفي.

وسأذكر عدد آي القرآن في كل مذهب من المذاهب الستة:

1 -

العدد المدني الأول: (6217).

2 -

العدد المدني الثاني: (6214).

3 -

العدد المكي: (6219)، وقيل:(6220).

4 -

العدد البصري: (6204).

5 -

العدد الدمشقي: (6226)، وقيل:(6227).

6 -

العدد الكوفي: (6236).

وتنقسم سور القرآن من حيث الاتفاق والاختلاف في عد آيها إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: ما لم يختلف فيه لا في إجمال ولا في تفصيل، وهو أربعون سورة، منها: سورة: (يوسف - النحل - الأحزاب - الحجرات - التغابن).

القسم الثاني: ما اختلف فيه تفصيلًا لا إجمالًا، وهو أربع سور:(القصص - العنكبوت - الجن - العصر).

القسم الثالث: ما اختلف فيه إجمالًا وتفصيلًا، وهو بقية السور (سبعون سورة).

والمقصود بالإجمال: عدد آي السورة، والتفصيل: موطن الاختلاف في عد الآية داخل السورة.

ص: 82

فمثلًا: سورة العصر (3 آيات) باتفاق علماء العد، فهذا اتفاق في (الإجمال)، لكنهم اختلفوا في تفصيل العد، فبعضهم عد {والعصر} آية، وبعضهم لم يعدها آية، وعد {وتواصوا بالحق} آية، فهذا اختلاف في (التفصيل).

* مراجع إثرائية:

الميسر في علم عد الآي، د. أحمد خالد شكري، ط. معهد الإمام الشاطبي.

ص: 83

‌ما الحكمة من تكرار قصص القرآن الكريم؟

إذا أردنا أن نُعدد الفوائد التي يضفيها هذا الأسلوب على مجمل ما في القرآن الكريم لعددنا شيئًا كثيرًا، ولكنا نقتصر هنا على بعض هذه الفوائد:

1 -

زيادة بعض التفاصيل التي لم تذكرها الآيات من قبل.

2 -

تأكيد التحدي الذي جاء به القرآن لمشركي العرب أن يأتوا بشيء من مثله، فقد كشف هذا التنوع في العبارة عن عجزهم عن الإتيان بمثله بأي نظم جاء، وبأي عبارة عبَّر.

3 -

إذهاب السآمة والملل عن القصة، وذلك أن العرض الجديد يشد الأسماع، ويلفت الأنظار، ويبقي صلة المتعة والفائدة بين القارئ والنص المقدس.

4 -

ظهور الأمر العجيب في إخراج صور متباينة في النظم بمعنى واحد، وقد كان المشركون في عصر النَّبي صلى الله عليه وسلم يعجبون من اتساع الأمر في تكرير هذه القصص والأنباء مع تغاير النظم، وبيان وجوه التأليف، فعرفهم الله سبحانه أن

ص: 84

الأمر بما يتعجبون منه مردود إلى قدرة من لا يلحقه نهاية، ولا يقع على كلامه عدد.

5 -

التناسق مع الموضوع والمناسبة التي وردت القصة لأجلها، فأحيانًا تقتضي هذه المناسبة إبراز معنى في الحوار الدائر لم يكن من الضروري إبرازه في مناسبة أخرى وردت فيها القصة، وهذه الفائدة باب واسع من أبواب اكتشاف بحور بلاغة القرآن وإعجازه، وأمثلتها التفصيلية موجودة في بطون كتب التفسير.

6 -

ليتهيأ لمن لا يقرأ القرآن كاملًا الوقوف على قصص القرآن، وما تحويه من عبر في الجزء الذي يتلوه.

* مراجع إثرائية:

1 -

دعوة الرسل، للشيخ محمد أحمد العدوي، اعتناء: عمرو الشرقاوي، ط. مركز تفكر.

2 -

القصص القرآني، د. صلاح الخالدي، ط. دار القلم.

ص: 85

‌هل قصة يوسف عليه السلام هي أحسن قصص القرآن؟

اشتهر بين الناس أنَّ أحسن قصة في القرآن قصة يوسف عليه السلام، والصحيح أنَّها ليست أحسن قصص القرآن، وأنَّ أحسن قصص القرآن قصة موسى عليه السلام.

وأمَّا قوله تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [يوسف: 3]، فليس المراد به قصة يوسف وحدها، بل هي مما قصه الله، ومما يدخل في أحسن القصص.

ومعلوم أن قصة موسى عليه السلام وما جرى له مع فرعون وغيره، أعظم وأشرف من قصة يوسف، ولهذا هي أعظم قصص الأنبياء التي تذكر في القرآن.

وقد تكررت قصة موسى عليه السلام في القرآن، وبسطت أكثر من غيرها، وفيها من العبر والعظات ما يجعلها أفضل قصص القرآن.

بل إنَّ قصص سائر الأنبياء، كنوح وهود وصالح وشعيب وغيرهم، أعظم من قصة يوسف، ولهذا كرر الله تعالى تلك القصص، ولم يكرر قصة يوسف.

وهذا مما يدعو المؤمن إلى النظر في تلك القصص، وتأملها.

فما فعلته الأنبياء من الدعوة إلى توحيد الله وعبادته ودينه، وإظهار آياته وأمره ونهيه، ووعده ووعيده، ومجاهدة المكذبين لهم، والصبر على أذاهم =

ص: 86

هو أعظم عند الله، ولهذا كانوا أفضل من يوسف صلوات الله عليهم أجمعين، وما صبروا عليه وعنه أعظم من الذي صبر يوسف عليه وعنه، وعبادتهم لله وطاعتهم وتقواهم وصبرهم بما فعلوه، أعظم من طاعة يوسف وعبادته وتقواه، وأولئك هم أولوا العزم الذين خصهم الله بالذكر في قوله:{وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا 7} [الأحزاب: 7]، وقال تعالى:{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ 13} [الشورى: 13].

وهم يوم القيامة الذين تطلب منهم الأمم الشفاعة، وبهم أُمر خاتم الرسل أن يقتدى في الصبر، فقيل له:{فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ 35} [الأحقاف: 35]، فقصصهم أحسن من قصة يوسف.

فعلى المؤمن أن ينظر في قصص الأنبياء، وأن يعتبر بها، وأن ينزل ما جرى لهم على حاله = فإنهم خير العالمين، وصفوة الخلق، وهم الذين أمر الله بالاقتداء بهم كما قال سبحانه:{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ 90} [الأنعام: 90].

* مراجع إثرائية:

مجموع الفتاوى، شيخ الإسلام ابن تيمية:(17/ 19 - 34).

ص: 87

‌ما المراد بالنسخ في القرآن الكريم؟

يطلق النسخ في كتب العلم على نوعين:

1 -

نسخ كلي: وهذا الذي يدخل في الأحكام، ولا يجري على الأخبار، وتعريفه:(رفع حكم دليل شرعي، أو لفظه، بدليل).

2 -

نسخ جزئي: وهذا يدخل في الأحكام والأخبار، وفي هذا توسيع لمصطلح النسخ، فأي رفع من معنى الآية يعتبر - على هذا الاصطلاح - نسخًا، ويدخل في ذلك تخصيص العام، وتقييد المطلق، وبيان المجمل.

ومن أمثلته:

أن ابن عباس حكم على قوله تعالى: {والشعراء يتبعهم الغاوون} [الشعراء: 224] أنه منسوخ بقوله تعالى: {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات} [الشعراء: 227].

والآية المنسوخة خبر، وقد تقرر في قواعد النسخ أن الأخبار لا تنسخ.

ولكن إذا حملت النسخ على مطلق الرفع، وأنَّه هنا رفع بعض العموم الوارد على لفظ الشعراء، وبهذا يكون الاستثناء الوارد بعد هذا العموم قد خصص من الشعراء من آمن بالله = صحَّ لك ما ورد من الحكم بالنسخ، وأنه لا يراد به

ص: 88

النسخ على الاصطلاح المتأخر الذي استقر عليه علماء أصول الفقه وغيرهم، والله أعلم.

* وقد انتهى النسخ بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يمكن بحال أن يقع نسخ بعد ذلك، لأن الدين قد كمل واستقر، فلا يجوز لأحد أن يدعي نسخ حكم من الأحكام الشرعية بحجة عدم موائمته للعصر، لأن النسخ موقوف على الدليل الشرعي، وليس متروكًا لأهواء الناس.

فليس لعالم أن يدعي نسخ شيء في القرآن إلا بدليل شرعي.

* والنسخ من الأمور التي يدخلها الاجتهاد، فقد يقول عالم بنسخ آية، ويرى آخرون أنها ليست منسوخة، ولم يقع النسخ في كثير من الآيات، بل في قليل منها، فالأصل: الإحكام لا النسخ، فليس الأمر بمهولٍ، حتى إنَّه ليظن الظان أن القرآن منسوخٌ كله، فإن هذا خلاف الحقيقة، فإن الحقيقة أن الأقل من آيات القرآن هو المنسوخ، وبعض أنواع النسخ أقل من البعض الآخر.

* وإيماننا بوقوع النسخ في الإسلام، تابعٌ لإيماننا بعلم الله تعالى وحكمته، وهو من أفعال الله تعالى، فالله تعالى قد علم الحكم الأول، وعلم أنه سيُنسخ في الزمان المتأخر، فإيماننا بكمال علم الله تعالى، وإحاطته بخلقه، يجعلنا نؤمن بالنسخ، وأنه من محاسن الشريعة، بل من محاسن الشرائع السماوية.

فإذا آمنت أن الحكم لله، وأنه يعلم من خلق، ويعلم ما يصلحهم = سهُل عليك الإيمان بالنسخ تبعًا لذلك.

* وفكرة النسخ - في ذاتها - فكرةٌ سائغة لأن الحوادث والمستجدات تتطلب حلولًا متنوعة، والله تعالى نص في بعض الآيات على كونها مؤقتة، مثل: {حَتَّى

ص: 89

يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [البقرة: 109]، و {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النساء: 15]، فبعض الأحكام كان لمدة محددة، ينتهي بانتهائها.

* والنسخ انعكاس لفكرة التدرج، والمسلك التدريجي في التعليم والتشريع ليس عيبًا، وإنما هو أنجح المناهج في تكوين النفس الواعية المستنيرة المشبعة بالحكمة، والأمم المنظمة، والخلق المتين.

* وفرض وقوع النسخ لا يترتب عليه وقوع محال عقلي، بل إنَّ العقل ليجد في النسخ مراعاةً لمصالح العباد، ورحمة بهم، وهذا واقعٌ في كثير من وقائع النسخ التي يذكرها العلماء، فكم من حكمٍ خُفف وأثبت مكانه حكمٌ آخر.

وقد تكون المصلحة ابتلاءً يبتلي الله به بعض عباده، ليقول أهل الثبات: آمنا به كلٌ من عند ربنا، وليعترض عليه السفهاء من الناس.

* ووقوع النسخ في الشريعة، له عدة فوائد تترتب عليه، من أهمها:

1 -

التدرج في الأحكام على الأمة حتى لا تنفر ويسهل عليها تقبله، كما حصل في تشريع تحريم الخمر، واستخدام هذا الأسلوب في الدعوة، فالداعي يبدأ مع المدعو بالتدرج وتعليقه بالدار الآخرة وزرع الإيمان في قلبه، ثم يخبره بأحكام الإسلام شيئًا فشيئًا.

2 -

بيان رحمة الله بهذه الأمة؛ فهو سبحانه يراعي أحوال الناس وعاداتهم ويتدرج معهم رحمة بهم حتى لا ينفروا من الإسلام، بل يحببهم به حتى يكونوا من أهله.

3 -

التذكير بنعمة الله لاسيما في بعض أنواع النسخ الذي يكون فيها النسخ من أثقل إلى أسهل كما هو الحال في عدة المتوفى عنها زوجها وغير ذلك.

ص: 90

4 -

إرادة الخير بهذه الأمة، فإنَّ النسخ إن كان إلى ما هو أخف ففيه سهولة ويسر، وإن كان إلى ما هو أثقل ففيه زيادة الثواب والأجر.

5 -

يقع في النسخ تطييب نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ونفوس أصحابه بتمييز هذه الأمة على الأمم وإظهار فضلها، ومثاله قصة نسخ استقبال القبلة، حيث كانت حين فرضت الصلاة إلى بيت المقدس، ثم حولت إلى الكعبة.

* والقرآن ينسخ بالقرآن باتفاق العلماء، واختلفوا في نسخ القرآن بالسنة.

* وقد وقع النسخ في القرآن الكريم، والأدلة على وقوعه كثيرة، ويمكننا أن نردها إلى عدة معاقد:

‌الأول: دلالة الوقوع.

وهو أصدق دليل على وجوده، فقد وقع النسخ في القرآن، ونحن إذا تلمسنا دلالة تلك الآيات على النسخ، لوجدناها نصوصًا صريحة بوقوعه، ومن ذلك قوله سبحانه:{*سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ 142} [البقرة: 142]، فهذه الآية دليل على وقوع النسخ، لأنها تدل على تغير في القبلة، وهذا التغير نسخ من قبلة إلى أخرى، كما قال تعالى:{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ 144} [البقرة: 144].

وهذا أول نسخ حصل في الإسلام.

هذا من غير ضميمة الأحاديث المصرحة بوجود النسخ في هذه الآيات، فكيف بوجودها؟!

ص: 91

ومن أمثلة الوقوع أيضًا قوله تعالى: {*إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ 20} [المزمل: 20]، فهذه الآية نسخت أول السورة، وهو قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ 1 قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا 2 نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا 3 أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا 4} [المزمل: 1 - 4].

فقد نُسِخ فرض قيام الليل الكائن في أول الإسلام، وأصبح مستحبًا كما ورد في آخر السورة المباركة.

‌ثانيًا: دلالة الإجماع.

فقد أجمع العلماء على وقوع النسخ في القرآن، وإن اختلفوا في تفصيل الآيات المنسوخة، وهذا الإجماع من أقوى مراتب الإجماع، لأنه إجماع الصحابة رضي الله عنهم، وسائر من بعدهم من علماء المسلمين.

وقد نص الصحابة أنفسهم، وهم أعلم الناس بالقرآن والسنة على أهمية تعلم الناسخ والمنسوخ.

وقد ألَّف العلماء مؤلفات كثيرة في علم (الناسخ والمنسوخ) وهذا دليل عملي على أهمية هذا العلم، ومن باب أولى على وقوعه، ووجوده.

ومن أمثلة ما أجمع العلماء على نسخه: نسخ إيجاب الصدقة بين يدي رسول الله الثابت في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المجادلة: 12].

ص: 92

حيث نسخها قوله تعالى: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ 13} [المجادلة: 13].

‌ثالثًا: دلالة القرآن.

فقد ذكر الله النسخ في عدد من الآيات، من أظهرها قوله تعالى:{وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ 101 قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ 102} [النحل: 101 - 102]، وقال تعالى:{*مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ 106} [البقرة: 106].

فهذه الآيات تتحدث عن وجود النسخ ووقوعه في القرآن الكريم.

- ومن المهم أن نعلم أن سور القرآن، من حيث وجود الناسخ والمنسوخ فيها، فيما ذكره بعض العلماء، إلى أربعة أقسام:

الأول: قسم ليس فيه ناسخ ولا منسوخ؛ وهو ثلاث وأربعون سورة: (الفاتحة، ويوسف، ويس، والحجرات، والرحمن، والحديد، والصف، والجمعة، والتحريم، والملك، والحاقة، ونوح، والجن، والمرسلات، وعمَّ، والنازعات، والانفطار، وثلاث بعدها، والفجر وما بعدها إلى آخر القرآن، إلا التين والعصر والكافرون).

الثاني: قسم فيه الناسخ والمنسوخ، وهي خمس وعشرون:(البقرة، وثلاث بعدها، والحج، والنور وتالياها، والأحزاب، وسبأ، والمؤمن، والشورى، والذاريات، والطور، والواقعة، والمجادلة، والمزمل، والمدَّثر، وكُوِّرت، والعصر).

ص: 93

الثالث: قسم فيه الناسخ فقط، وهو ستٌّ:(الفتح، والحشر، والمنافقون، والتغابن، والطلاق، والأعلى).

الرابع: قسم فيه المنسوخ فقط، وهو الأربعون الباقية.

* ويقع النسخ في القرآن على وجوه:

1 -

نَسْخ الحكم، وبقاء التلاوة: فتبقى الآية في المصحف، ولكن لا يعمل بها، مثاله: قوله تعالى: {واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا} [النساء: 15]، نُسِخ بقوله تعالى:{الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} [النور: 2]، ونُسِخ بالرجم.

2 -

نَسْخ التلاوة، مع بقاء الحكم: فترفع الآية من المصحف، ويبقى العمل بحكمها، وهذا النوع قليل الوجود في النصوص المنقولة إلينا، وثبوت حكمه مع نسخ تلاوته إنما عرف عن طريق النقل الثابت، ومثاله: عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: «إنَّ الله بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان مما أنزل الله آية الرجم، فقرأناها وعقلناها ووعيناها، رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: والله، ما نجد آية الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله» [رواه البخاري: (6829)، ومسلم: (1691)].

ومن الناس من ذهب إلى رد وجود هذا النوع من النسخ، وتعرض لبعض الأحاديث الواردة بذلك بالتضعيف، ولأخرى بالتأويل، ولم يتعرض لطائفة أخرى منها وهي ثابتة صريحة، كهذا الذي ذكرت، والصواب ما بينت من ثبوت هذا

ص: 94

النوع من النسخ، واندراجه تحت القول بصحة النَّسخ، وهذا أصح مَسْلكًا من رد الصحيح الثابت بغير حجة مع إمكان حمله على معنى صحيح.

3 -

نسخ التلاوة والحكم:

وهو نوعَان:

الأول: ما بلغنا لفظه أو موضوعه، كما في حديث عائشة رضي الله عنها قالت:«كان فيما أنزل من القرآن: عشر رضعات معلومات يحرمن، ثم نسخن بخمس معلومات» [رواه مسلم: (1452)].

والثاني: ما بلغنا مجرد الخبر عنه ورفع منه كل شيء، كما في حديث زر بن حبيش قال: قال لي أبي بن كعب: «كأين تقرأ سورة الأحزاب؟ أو كأين تعدها؟ قال: قلت له: ثلاثًا وسبعين آية، فقال: قط؟ لقد رأيتها وإنها لتعادل سورة البقرة» [رواه أحمد في زيادات المسند: (21207)].

* مراجع إثرائية:

1 -

النسخ في القرآن، د. مصطفى زيد، ط. دار اليسر.

2 -

الآيات المنسوخة، د. عبد الله الأمين الشنقيطي، ط. مكتبة ابن تيمية.

3 -

محاضرة: الرد على من أنكر وقوع النسخ في القرآن، للشيخ د. الشريف حاتم العوني.

ص: 95

‌هل يقع التعارض في القرآن الكريم؟

لا يوجد تعارض حقيقيٌ في القرآن، هذه حقيقة لا جدال فيها، لأن الله أخبرنا بذلك، فالقرآن لا ريب فيه، ولا يمكن أن يتطرق إليه الاختلاف بوجه من الوجوه؛ لأن الله سبحانه حين أنزل القرآن للناس، جعله هاديًا للتي هي أقوم، جعله نورًا يهتدي به الناس ليخرجوا من الظلمات.

ومن تمام كون القرآن نورًا وهدى ألا يكون فيه تعارض ولا اختلاف بوجه من الوجوه؛ لأنه كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، قال سبحانه:(أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا)[النساء: 82]، وقال:(أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)[محمد: 24].

فالذي يمكن حصوله أن يتوهم العقل وجود تعارض بين آية وآية، أو بين آية وحديث، أو بين حديث وحديث، أمَّا أن يحصل هذا التعارض حقيقة فلا يمكن بحال من الأحوال.

*‌

‌ من حِكَمِ حصول توهم التعارض:

1 -

لا شك أن عقول بني آدم متفاوتة، وعلمهم متفاوت كذلك، ومن تمام حكمة الله تعالى في خلقه أن يُظهر فضل أهل العلم، وشرفهم، فإذا توهم متوهم

ص: 96

حصول التعارض وكشف العالم ما يزيل هذا التعارض؛ ظهر فضله، وتبينت مكانته.

2 -

ومن حكمة الله أن ينشأ في العقل توهم للتعارض ليتحفَّز العقل للبحث عما يزيل هذا التعارض، فيكون باعثًا له على التعلم، ومعرفة أهل العلم، والأخذ عنهم.

3 -

وقد ينشأ توهم التعارض لأجل خلل في القلب، وخلل في تلقي الوحي، وإنك إذا تأملت العوائق التي ذكرها القرآن متعلقة بفهمه = ستجد أنه أثبت عائقًا، ونفى عائقًا:

- فأما العائق الذي نفاه، فهو: وجود الاختلاف فيه.

- وأما العائق الذي أثبته، فهو: إغلاق القارئ قلبه.

ونحن إذا تأملنا قوله: {أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24]، سنجد أنه أرجع الخلل إلى القلوب، لأن القلب إذا تأثر بالهوى قاده إلى الزيغ والانحراف عن طريق الوصول إلى المعنى الصحيح.

4 -

ولذلك أمر الله بترك العجلة في تلقي الوحي، وأن يُتلى القرآن على مُكث ومَهَلٍ، وأن يرجع غير العالم إلى العالم لإزالة ما يلتبس عليه فهمه في القرآن المجيد.

قال سبحانه: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا 114} [طه: 114]، وقال:{وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا 105} [الإسراء: 105].

ولا يخلو كتاب من كتب تفسير القرآن من إزالة ما قد يوهم التعارض بين آيات القرآن المجيد.

ص: 97

وإذا حصل إشكال في توهم التعارض بين آية وآية، أو بين آية وحديث، أو بين حديث وحديث، فإنَّ هناك طرقًا لدفع هذا التوهم، منها:

1 -

تحرير وجه التعارض.

2 -

جمع الآيات في نفس الموضوع.

3 -

النظر في السياق.

4 -

تلمس الأحاديث والآثار الصحيحة لدفع التعارض.

5 -

إعمال قواعد الترجيح.

فإن حصل لك إشكال، ولم تستطع الوصول إلى ما يدفع هذا التعارض فسَلْ أهل العلم، وسيجيبونك بدفع ما توهمته من تعارض.

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يزيل للصحابة ما قد يوهم التعارض بين آيات القرآن الكريم بعضها البعض، وبين آيات القرآن وكلامه صلى الله عليه وسلم، وكان الصحابة يفعلون.

وقد أتي رجلٌ لابن عباس رضي الله عنهما ليعرض عليه ما توهمه من تعارض في القرآن الكريم، فقال الرجل لابن عباس: «إني أجد في القرآن أشياء تختلف علي.

1 -

قال: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون: 101]، {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات: 27]، {وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء: 42]، {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23]، فقد كتموا في هذه الآية.

2 -

وقال: {أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا} [النازعات: 27] إلى قوله: ({دَحَاهَا} [النازعات: 30]، فذكر خلق السماء قبل خلق الأرض، ثم قال:{قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا} [فصلت: 9] إلى {طَائِعِينَ} [فصلت: 11]، فذكر في هذه الآية خلق الأرض قبل السماء.

ص: 98

3 -

وقال: وكان الله غفورًا رحيمًا، وكان الله عزيزًا حكيمًا، وكان الله سميعًا بصيرًا، فكأنه كان، ثم مضى».

هذه نماذج ثلاثة، لموهم التعارض بين آيات القرآن الكريم، وقد أجاب عنها ابن عباس إجابة شافية، فقال رضي الله عنه:

«1 - لا أنساب في النفخة الأولى: ثم نفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله، فلا أنساب بينهم عند ذلك ولا يتساءلون، ثم في النفخة الآخرة أقبل بعضهم على بعض يتساءلون.

2 -

وأما قوله: {مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23]، {وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء: 42]، فإنَّ الله يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم وقال المشركون تعالوا نقول: لم نكن مشركين، فختم على أفواههم فتنطق أيديهم، فعند ذلك عرف أن الله لا يكتم حديثًا وعنده {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء: 42] الآية.

3 -

وخلق الأرض في يومين، ثم خلق السماء، ثم استوى إلى السماء فسواهن في يومين آخرين، ثم دحا الأرض، ودحيها أن أخرج منها الماء والمرعى، وخلق الجبال والآكام وما بينهما في يومين آخرين، فخلقت الأرض وما فيها من شيء في أربعة أيام، وخلقت السموات في يومين، وكان الله غفورًا رحيمًا، سمى نفسه بذلك، وذلك قوله: إني لم أزل كذلك».

ثم قال ابن عباس للرجل في وصية جامعة لكيفية التعامل الصحيح مع موهم التعارض:

«فإنَّ الله لم يرد شيئًا إلَّا أصاب به الذي أراد، فلا يختلف عليك القرآن فإنَّ كلًّا من عند الله» .

فإنَّ كُلًّا من عند الله!

ص: 99

‌ثالثًا: إعجاز القرآن

«الإتيان بمثل القرآن لم يكن قط في قدرة أحد من المخلوقين، ويظهر لك قصور البشر في أن الفصيح منهم يصنع خطبة أو قصيدة يستفرغ فيها جهده، ثم لا يزال ينقحها حولًا كاملًا، ثم تعطى لآخر نظيره فيأخذها بقريحة جامَّة فيبدل فيها وينقح ثم لا تزال كذلك فيها مواضع للنظر والبدل.

وكتاب الله لو نزعت منه لفظة ثم أدير لسان العرب في أن يوجد أحسن منها؛ لم يوجد.

ونحن تبين لنا البراعة في أكثره ويخفى علينا وجهها في مواضع لقصورنا عن مرتبة العرب يومئذ في سلامة الذوق وجودة القريحة وميز الكلام».

ابن عطية

ص: 101

‌ما المراد بالإعجاز في القرآن الكريم؟

القرآن الكريم هو أعظم آيات النَّبي، وقد تحدى الله به العرب، فعجزوا عن الإتيان بمثله، بل ولا الإتيان بسورة من مثله.

وقد تنوعت ألوان الإعجاز في القرآن الكريم.

والذي ينتظم - من وجوه الإعجاز المحكية - في كلِّ سورة من سور القرآن، ولا يتخلف عن واحدةٍ منها = هو ما يتعلق بالنظم العربي، دون ما سواه من أنواع الأوجه المحكية في إعجاز القرآن، مع الإقرار بأن أوجه الإعجاز متنوعة.

ص: 103

أريد مثالًا على إعجاز القرآن الكريم من جهة نظمه.

إنَّ التعامل مع القرآن الكريم يحتاج إلى تجرد، وصدق في طلب الحق، ونحن نرى من صدق في طلب الحق يقوده القرآن إلى الإيمان بالله والتصديق بكلامه.

ونحن نبين إن شاء الله تعالى شيئًا من إعجاز القرآن في هذه السورة المباركة، سورة الكافرون، وكيف أنها مع وجازتها حوت من المعاني الشيء الكثير، والكثير جدًّا، وسنجعل هذه الفوائد على هيئة نقاط ليتضح لك الأمر.

يقول الله تعالى: {قُلْ يا أيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)} [سورة: الكافرون].

وهذه السورة الكريمة، جمعت التوحيد العملي، فهي سورة البراءة من الكافرين.

1 -

افتتحها الله بقول (قل) ليبين أن أمر الدين ليس بيد أحد، ولو كان محمدًا صلى الله عليه وسلم، بل الدين لله، منه وإليه.

2 -

ثم يأتي النداء {يا أيها} ، الذي يستدعي إقبال المنادى، وانتباهه إلى ما يقال.

3 -

جمع الله عز وجل في الآية الأولى بين عدة أصناف في وصف واحد، فجمع بين كل من لم يؤمن برسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنهم جميعًا يشتركون في وصف الكفر، فهذه آية واحدة تتحدث عن الكافرين من مشركين، ويهود، ونصارى، وبوذيين، وغيرهم.

ص: 104

4 -

ثم أمر الله نبيه أن ينفي عبادته لآلهة المشركين في الحاضر، فقال:{لا أعبد ما تعبدون} ، أي: الآن.

5 -

وأن ينفي عبادته لآلهة المشركين في المستقبل، فقال:{ولا أنا عابد ما عبدتم} .

6 -

وفي مقابل نفي عبادته لآلهة المشركين في الحاضر، جاء إثبات الشرك لهم في الحاضر، في قوله:{ولا أنتم عابدون ما أعبد} ، وفي مقابل نفي عبادته لآلهتهم في المستقبل قال:{ولا أنتم عابدون ما أعبد} .

7 -

وعبر عن الله تعالى المعبود ب (ما)، والتي تعني في هذا السياق المعبود الموصوف بكونه أهلًا للعبادة، ولم يعبر ب (من) التي لا تفيد هذا المعنى.

تنبيه: (ما): تستخدم للعاقل وغيره، وتطلق على العاقل ويراد بها: التفخيم والتعظيم، أما (من) فلا تستخدم إلا للعاقل.

8 -

وقدم قوله: {لكم دينكم} على قوله: {ولي دين} ليشعرهم بسوء اختيارهم، وعسير عاقبتهم، وليخبرهم أنه اختار النصيب الأوفر، والحظ الأفضل.

9 -

في السورة عدة أساليب، منها: الأمر، والنداء، والنفي، واستخدام الجملة الفعلية، واستخدام الفعل المضارع، واسم الفاعل، والدلالة على الحال، والدلالة على الاستقبال، وأسلوب التقديم والتأخير، وغيرها من الأساليب التي اجتمعت في سورة عدد آيها (6) آيات!

10 -

وفي السورة بيان لشجاعة النَّبي صلى الله عليه وسلم، حيث خاطبهم بما يكرهون، وتبرأ منهم، ولم يخش أحدًا إلا الله الذي عصمه من شرهم ومكرهم.

تلك عشرة كاملة، وإن أردت بيانًا وزيادة زدناك، والله يؤتي فهم كتابه من يشاء، ويفتح عليه بما شاء.

ص: 105

* مراجع إثرائية:

1 -

إعجاز القرآن بين ابن تيمية والباقلاني، د. محمد العواجي، ط. دار المنهاج.

2 -

كتب الدكتور فاضل السامرائي، ط. دار ابن كثير.

3 -

أسرار البلاغة القرآنية في سورة (تبت يد أبي لهب)، د. محمود توفيق سعد، ط. مكتبة وهبة.

ص: 106

‌هل في القرآن ما يسمى بالإعجاز العلمي؟

لا شك أن القرآن الكريم جاء بما يعجز البشر عن الإتيان بمثله، وما يسمى الآن «الإعجاز العلمي» بصورته الحالية، فيه خللٌ كبير من الناحية الشرعية، ومن الناحية التجريبية كذلك، وأكثر التفسير الواقع بالإعجاز العلمي = جهلٌ وتخرص، وعدم مراعاة لحقوق السلف وتفسيرهم مع الخلل الشديد في تطبيق العلم التجريبي على نصوص الوحي.

والحاصل: أننا نثبت أصل الإعجاز العلمي، لكننا نحذر من الإسراف المغالي في حمل الآية على مكتشف أو نظرية أو ما يدعى أنه (علمي)، ثم إنَّ ما ثبت، وهو قليل جدًّا، ليس مركزيًّا في الاحتجاج القرآني على الإعجاز.

ومن الخلل الموجود عندهم تصحيح بعض الموضوعات والأحاديث الضعيفة جدًّا لكي تقوى حجتهم، ومن العجب أنهم يقولون إنَّ تضعيف العلماء لها، إنَّما حصل لأجل عدم علمهم بالمكتشف الجديد!!

ولو تأمَّلت أكثر الذين اهتدوا بسبب الكتاب، ستجد أنهم لا يذكرون (الإعجاز العلمي) إلا على سبيل الندرة!، بل بعضهم يهتدي بمجرد السماع، وبعضهم بفهم المعاني، وأسباب كثيرة ليس الإعجاز منها!

ص: 107

وكما لا يرضى أَهْل الإعجاز العلمي بما عند المفسرين من تفسير كل ظواهر الكون التي أثبت البحث التجريبي المعاصر خطأها، فإنَّ المفسرين لا يرضون لكل واحد من الباحثين التجريبيين أن يوافق بين البحث التجريبي وما ورد في القرآن.

ونسوق نصًّا للعلامة د. محمد دراز، يقول فيه:«القرآن في دعوته إلى الإيمان والفضيلة، لا يسوق الدروس من التعاليم الدينية والأحداث الجارية وحدها، وإنما يستخدم في هذا الشأن الحقائق الكونية الدائمة، ويدعو عقولنا إلى تأمل قوانينها الثابتة، لا بغرض دراستها وفهمها في ذاتها فحسب، وإنما لأنها تذكر بالخالق الحكيم القدير» ، ويقول:«دفع الحماس بعض المفسرين المحدثين إلى المبالغة في استخدام هذه الطريقة التوفيقية لصالح القرآن، بحيث أصبحت خطرًا على الإيمان ذاته؛ لأنها إما أن تقلل من الاعتماد على معنى النص باستنطاقه ما لا تحتمله ألفاظه وجمله، وإما أن تُعوِّل أكثر مما يجب على آراء العلماء وحتى على افتراضاتهم المتناقضة أو التي يَصعُب التحقق من صحتها، وبعد أن نستبعد هذه المبالغات عن البحث، نرى أنَّ من مقتضيات الإيمان التي لا غنى عنها أن نضاهي الحقائق الفورية التي نجدها في القرآن مع نتائج العلماء المنهجية البطيئة» .

وانظر مقالة: ({يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} [الطارق: 7] بين دعاوى الإشكال والاقتباس والإعجاز العلمي!)، د. حسام الدين حامد لتتبين منهج التعامل مع النصوص المتعلقة بالإعجاز العلمي.

ومن الكتب التي يمكن الولوج إلى الموضوع من خلالها:

1 -

الإعجاز العلمي إلى أين؟، د. مساعد الطيار.

ص: 108

2 -

منهج الاستدلال بالمكتشفات العلمية على النبوة والربوبية، د. سعود العريفي.

3 -

التفسير العلمي التجريبي، د. عادل الشدي.

4 -

النظريات العلمية الحديثة، د. حسن الأسمري.

5 -

الإعجاز العلمي في القرآن الكريم عرض وتقويم، د. زاهر الشهري.

ص: 109

‌هل في القرآن ما يسمى بالإعجاز العددي؟

سأجيب عن السؤال في عدة نقاط لئلا يتشتَّت الكلام:

1 -

البحث في العدد وأسراره له سلف من فعل الصحابة والأئمة، وهو - وإن كان قليلًا - إلا أنه لم يكن متكلفًا، ودلالة الآيات عليه ظاهرة.

2 -

ظهر التكلف فيما سمي متأخرًا بالإعجاز العددي، وبدا هذا التكلف عند من تزعم هذا الأمر، واتخذته بعض الفرق الباطنية ذريعة وسندًا لآرائهم وضلالاتهم.

3 -

افتقر هذا النوع من الدراسات إلى المنهجية العلمية، ووقع الخبط والخلط فيه ظاهرًا بين من يدعون البحث فيه، ولا أَدَلَّ على ذلك من تخطئة بعضهم بعضًا في قضايا كثيرة، من أبرزها: قضية الحادي عشر من سبتمبر، وعلاقة سورة التوبة بها!.

4 -

لم ينتبه من تكلم في الإعجاز عمومًا إلى كون القرآن كتاب هداية، وإن شئت فارجع إلى كتاب الشيخ مساعد الطيار في الإعجاز ففيه إشارات نفيسة.

5 -

الإعجاز العددي ليس من متين العلم، وإنما هو من باب اللطائف والملح.

ص: 110

كأن يقول قائل: «إنَّ من اللطائف في سورة (الكوثر) أن عدد الكلمات الظاهرة في السورة عشر كلمات، وهذا يوافق اليوم العاشر من شهر الحج (شهر ذي الحجة)، وهذا من لطائف السورة، لكنه لا يدخل في حد الإعجاز، وليس من متين العلم، والله أعلم» .

وأخيرًا، فبدراسة كثير من الكتب التي اهتمت بهذا اللون، يمكننا القول: إنَّ هذه الفكرة تقوم باعتماد شروط توجيهية حينًا، وانتقائية حينًا آخر، من أجل إثبات صحة وجهة نظر بشكل يسوق القارئ إلى النتائج المحددة سلفًا، وقد أدت هذه الشروط التوجيهية أحيانًا إلى الخروج على ما هو ثابت بإجماع الأمة، كمخالفة الرسم العثماني للمصاحف، وإلى اعتماد رسم بعض الكلمات كما وردت في أحد المصاحف دون الأخذ بعين الاعتبار رسمها في المصاحف الأخرى، وأدت كذلك إلى مخالفة مبادئ اللغة العربية من حيث تحديد مرادفات الكلمات وأضدادها، إلى آخر التخبط والاختلاف الذي جر إليه زعم وجود الإعجاز العددي بهذه الصورة المعاصرة، ولذا ننصح بالابتعاد عنه.

مثال للخطأ والتحكم في مسألة الإعجاز العددي:

قال أحدهم: «ورد اليوم مفردًا (365) مرة بعدد أيام السنة» .

وإذا ما نظرنا فيما جمع وجدناه جمع لفظي (اليوم) و (يومًا)، وترك (يومكم)، (يومهم)، (يومئذ)؛ لأنه لو فعل لاختلف الحساب والعد.

ص: 111

‌هل يحق لكل أحد أن يفسر القرآن، وما الفرق بين التفسير والتدبر؟

هذا السؤال من أهم الأسئلة التي ينبغي التوقُّف عندها، ولأجل ذلك؛ سأحاول الإجابة عليه بصورة واضحة، ولا بأس إن طالت الإجابة قليلًا، فأقول:

التفسير هو «بيان معاني القرآن العظيم» ، وهذا البيان إما أن يصل إليه المفسر اجتهادًا، وإما أن يصل إليه تقليدًا.

والاجتهاد على قسمين:

1 -

الاجتهاد في بيان المعنى المراد من الآية، وأئمة المجتهدين هم الحجة من الصحابة والتابعين وأتباعهم.

2 -

أن يجتهد في التخيُّر من أقوال المجتهدين السابقين، أو بناء الأقوال على أقوالهم، وهم على طبقات شتى، ومن أجلِّهم: الإمام ابن جرير، وابن عطية، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وكثير غيرهم.

وتكاد كلمة العلماء تتفق على أهمية علم التفسير، وأنَّه من أعوص العلوم، ويقصدون بذلك حقِيقةَ كَيفِيَّة الوصولِ للمعنى من الآيات، وأنَّه يحتاج إلى آلات قد لا تتيسر للإنسان إلا بجهد جهيد.

ص: 115

فالتفسير علم عظيم، خطير، جليل، وهو من أعوص علوم الشريعة، لا كما يُظَن، ومُتعَلَّقُه كلام الله تعالى، وهو شرح له وبيان عن معانيه وأحكامه، قدر الطاقة البشرية.

ومن ثَمَّ فإنَّ مسؤوليته عظيمة، والكلام فيه بغير علم كاف وتحقيق تام = من الافتراء على الله، والقول عليه بغير علم، ولذا كان كثير من السلف، أصحاب الفهوم الصحيحة، والألسن الفصيحة، يتورعون عن الكلام فيه بحرف، ويقولون: الله أعلم بما قال، وما عندهم من العلم في القرآن أعظم مما عند أكبر كابر في الخلف.

وكثير من الناس يظن أن التفسير مجرد (تأليف)، وكتابة إنشاء حلوة حول الآيات، كتفسير نص شعري، ولربما سماه تأملًا، أو خواطر، وغير ذلك، ولا يغني هذا عن التبِعَة المذكورة.

أما التدبر فأقرب ما يمكن أن يقال في تعريفه، أنه «تأمل القرآن بقصد الاتعاظ والامتثال» ، أو «الوقوف مع الآيات والتأمل فيها، والتفاعل معها؛ للانتفاع والامتثال» .

وهذا التدبر لا بد أن يسبقه فهم للمعنى المراد من الآية، إذ محل التدبر مدلولات الآيات.

وعليه، فيمكن التفريق بين التدبر والتفسير من عدة وجوه:

1 -

أنَّ التفسير هو كشف المعنى المراد في الآيات، والتدبر هو ما وراء ذلك من إدراك مغزى الآيات ومقاصدها، واستخراج دلالاتها وهداياتها، والتفاعل معها، واعتقاد ما دلت عليه وامتثاله.

ص: 116

2 -

أنَّ التدبر أُمر به عامة الناس للانتفاع بالقرآن والاهتداء به، ولذلك خوطب به ابتداءً الكفار في آيات التدبر، والناس فيه درجات بحسب رسُوخ العلم والإيمان وقوة التفاعل والتأثر.

وأما التفسير فمأمور به بحسب الحاجة إليه لفهم كتاب الله تعالى بحسب الطاقة البشرية، والناس فيه على درجات أيضًا.

3 -

أنَّ التدبر لا يحتاج إلى شروط إلا فهم المعنى العام مع حسن القصد وصدق الطلب، ولذلك قال الله تعالى:{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر 17]، أمَّا التفسير فله شروط ذكرها العلماء، لأنه من القول على الله، ولذا تورع عنه بعض السلف.

ومما ينبغي التأكيد عليه: أن يُعلم أنَّ الناس على درجات متفاوتة في التدبر بحسب آلاتهم وإمكاناتهم، فليس تدبر العالم المتبحر في الشريعة كتدبر العامي، ولكل درجات، والله يهدي من يشاء إلى صراطٍ مستقيم.

على أن كثيرًا من الناس قد يتجرأ على كتاب الله تعالى فيفسره بمعهود قومه، أو بما يهجم على خاطره من المعاني، وقد يسمي ذلك (الخواطر أو التأملات أو التدبر أو غير ذلك)، وهذا من الخطأ ومجانبة للصواب.

فلا بد من العلم أنَّ الله تعالى حين شرع التدبر للناس لم يشرع لهم أن يتجرؤوا على كتابه، بل هذا أمر لهم بتحصيل الآلة المعينة على تدبر القرآن.

والتأثُّر بالقرآن يحصل للمتدبر، وقد لا يحتاج الإنسان لكي يتأثر بالقرآن إلى تأمل عقلي، أو حتى إلى معرفة عميقة بالدلالات، بل إنَّ بعض المشركين، وبعض الأعاجم يقع عنده من التأثر بالقرآن مع عدم معرفة المعنى، إذ للقرآن سطوة على النفوس!

ص: 117

تنبيه مهم:

هناك فرقٌ بين التفسير والمعلومات الموجودة في كتب التفسير، فليس كل معلومة موجودة في كتب التفسير هي من صلب علم التفسير، إذ كل علم له بالقرآن تعلق، وقد يستطرد المفسر في علم برع فيه، فيتكلم عليه في سياقات كلامه عن الآيات، وقد يذكر بعض اللطائف والفوائد وغير ذلك.

وهذه اللطائف والفوائد هي في الحقيقة نوع من التدبر للقرآن المجيد.

* مراجع إثرائية:

1 -

أول تدبر، د. نايف الزهراني.

2 -

القواعد والأصول، وتطبيقات التدبر، د. خالد السبت، ط. الحضارة.

3 -

الخلاصة في تدبر القرآن، د. خالد السبت، ط. الحضارة.

ص: 118

‌نسمع عن لون من ألوان التفسير، وهو:(التفسير الإشاري) فما معناه، وما حكمه؟

مصطلح التفسير الإشاري يطلق على معانٍ، منها حقٌ، ومنها باطل.

فأما الحق الذي فيه، فهو (تأويل القرآن بغير ظاهره لإشارة خفية تظهر لأهل العلم بالقرآن، ويمكن الجمع بينها وبين الظاهر المراد).

وأما الباطل الذي فيه، وقد يسمى:(التفسير الباطني/ الصوفي/ الإشاري)، فيخضع لمبدأ حاكم، وهو:

1 -

استبدال مبدأ الدلالة (اللغوية) الظاهرة بمبدأ الدلالة (الرمزية) الباطنة.

2 -

استبدال مبدأ (عمومية إمكان معرفة المعنى) - من خلال الاعتماد على بيان قائل النص (الله)، أو مبلغه (الرسول) - بمبدأ (خصوصية معرفة المعنى) عن طريق الاعتماد على علم اختص به أناس دون غيرهم، وهم:

إمَّا الأئمة المعصومون من (آل البيت)، كما عند الشيعة الإمامية أو الإسماعيلية.

أو الأولياء الذين يفتح الله عليهم، ويكشف لهم هذه المعاني الباطنة - كما عند الصوفية - عن طريق ما يُسمى عندهم ب (الكشف).

ص: 119

ولمزيد من المعرفة بهذه الطوائف، والمبادئ التي اعتمدوا عليها، يرجى مراجعة كتاب:(العقائدية، وتفسير النص القرآني)، للباحث الأستاذ: ياسر المطرفي.

* وتعود كثير من التفاسير الإشارية وتفاسير الوعاظ وما يذكره بعض المعاصرين من فوائد الآيات = إلى الاستنباط.

وهذه الفوائد والإشارات على قسمين:

القسم الأول: أن تكون هذه الفوائد والإشارات صحيحة بذاتها، لا تخالف أمرًا من أمور الشريعة، وهي على قسمين من حيث ربطها بالآية:

أولًا: أن يكون الربط صحيحًا؛ أي: أن يكون بين الفائدة المذكورة والآية ارتباط بوجه ما.

ثانيا: أن يكون الربط بالآية غير صحيح، فالكلام باستقلاله صحيح، ولكن ربطه بالآية خطأ؛ لأن الآية لا تدل عليه.

القسم الثاني: أن تكون هذه الفوائد والإشارات غير صحيحة بذاتها، لأنها تحمل خطأ ما، وفي هذه الحال فإنَّ ربطها بالآي خطأٌ.

وهذا النوع من التفسير هو نوع من الاستنباط لا يقبل إلَّا بشروط ذكرها المفسرون لا تجد تفاسير الصحابة خارجة عنها، والشروط هي:

1 -

أن لا يُناقض معنى الآية.

2 -

وأن يكون معنى صحيحًا في نفسه.

3 -

وأن يكون في اللفظ إشعارٌ به.

4 -

وأن يكون بينه وبين معنى الآية ارتباط وتلازم.

ص: 120

فإذا اجتمعت هذه الأمور الأربعة كان استنباطًا حسنًا.

وعند محاكمة تلك الاستنباطات إلى هذه الشروط نجدها تتوافق مع المنقول من تفسيرات الصحابة دون توافقها مع المنقول من التفاسير الباطنية المنقولة عن الشيعة أو الإسماعيلية أو بعض المتصوفة.

وبمعنى آخر: إنَّ طريق الوصول إلى الباطن في تفسير الصحابة والتابعين يكون من خلال الظاهر عن طريق دلالة التمثيل، أو دلالة الإيحاء، أو دلالات اللغة، أو المقام، أو السياق بحيث يظهر للمطلع عليه تناسبٌ بين الظاهر والباطن الذي آل إليه.

بخلاف التأويل عند الباطنية الذي لا يُتَوَصَّل إليه من خلال الظاهر، بل من خلال الإمام المعصوم أو الولي المكاشف، ولذلك لا تناسب بين الظاهر والباطن الذي آل إليه ألبتة!

ولكن هذا لا يعني عدم وجود تفسيرات إشارية عند هؤلاء هي من جنس ما عند الصحابة، فهذا قد يوجد كما يوجد عند غيرهم، لكن الشأن فيما هو من خصائص تفسيرهم الذي لا وجود له عند الصحابة، فهذا النوع يحكم ببطلانه.

ومن أمثلة التفسير الإشاري عند الصحابة، ما ورد عن ابن عباس، قال:«كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر، فقال بعضهم: لم تدخل هذا الفتى معنا ولنا أبناء مثله؟ فقال: «إنه ممن قد علمتم» قال: فدعاهم ذات يوم ودعاني معهم قال: وما رأيته دعاني يومئذ إلا ليريهم مني، فقال: ما تقولون في {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ 1 وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا 2} [النصر: 1 - 2] حتى ختم السورة، فقال بعضهم: أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، وقال بعضهم: لا ندري، أو لم يقل بعضهم شيئا، فقال لي: يا ابن عباس، أكذاك

ص: 121

تقول؟ قلت: لا، قال: فما تقول؟ قلت: هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه الله له: إذا جاء نصر الله والفتح فتح مكة، فذاك علامة أجلك:{فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر: 3]، قال عمر:(ما أعلم منها إلا ما تعلم)»، [رواه البخاري:(4294)].

ومن أمثلته: الربط بين فهم القرآن وطهارة القلوب في قوله تعالى: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79]، قال البخاري (ت: 256) رضي الله عنه: «{لَا يَمَسُّهُ} [الواقعة: 79] لا يجد طعمه ونفعه إلا من آمن بالقرآن، ولا يحمله بحقه إلا الموقن» ، [صحيح البخاري:(9/ 155)].

ففهم البخاري (ت: 256) من إشارة الآية، أنَّه «لا ينال معانيه ويفهمه كما ينبغي إلا القلوب الطاهرة، وأنَّ القلوب النجسة ممنوعة من فهمه، مصروفة عنه. فتأمَّل هذا النسب القريب وعقدَ هذه الأخوة بين هذه المعاني وبين المعنى الظاهر من الآية، واستنباطَ هذه المعاني كلِّها من الآية بأحسن وجه وأبينه» ، [أعلام الموقعين عن رب العالمين:(1/ 451)].

قال ابن تيمية (ت: 728): « .. فهذا من نوع القياس فالذي تسميه الفقهاء قياسًا هو الذي تسميه الصوفية إشارة.

وهذا ينقسم إلى: صحيح وباطل، كانقسام القياس إلى ذلك.

فمن سمع قول الله تعالى: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79] وقال: إنه اللوح المحفوظ، أو المصحف فقال: كما أن اللوح المحفوظ الذي كتب فيه حروف القرآن لا يمسه إلا بدن طاهر، فمعاني القرآن لا يذوقها إلا القلوب الطاهرة، وهي قلوب المتقين = كان هذا معنى صحيحًا واعتبارًا صحيحًا، ولهذا يروى هذا عن طائفة من السلف»، [مجموع الفتاوى:(13/ 242)].

ص: 122

‌ما المراد بالأحرف المقطعة، وما قصة تفسير القرآن بالآرامية؟

الأحرف المقطعة: أحرف هجائية (لا معنى لها، ومغزاها تحدي العرب)، وإخبارهم أن القرآن مؤلف من جنس هذه الحروف، ولها هدف آخر، وهو:(التَّشويق وإثارة الانتباه).

والقرآن أَنزله الله بلسان عربي مبين، وظل العلماء يفسرونه عبر مقتضى لغة العرب جيلًا بعد جيل، حتى طل علينا في هذه العصور من يزعم أن القرآن لا يفسر إلا عبر لغة أخرى هي: الآرامية، وهي إحدى اللغات السامية، والتي كانت منتشرة في فترة قديمة.

وهذا الزعم، يقتضي عدة أمور، تدعونا عند تأملها إلى الانتهاء إلى بطلانها، ومن مقتضياتها:

1 -

أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وصحابته لم يفهموا القرآن على وجهه، ولا عقلوا مراد الله تعالى منه، ومن باب أولى من جاء بعدهم من المسلمين.

2 -

أنَّ هذا التراث الإسلامي الضخم من تفسير وفقه وحديث وأصول وغيرها كله لا قيمة له! أو على الأقل هو محل الشك والارتياب لأن أصحابه

ص: 123

الذين أنتجوه واعتمدوا في أكثره على القرآن الكريم لم يفهموا مراد الله ولا عرفوا مقصوده، فكيف لهم أن يستنبطوا منه هذه الأحكام والمسائل وهم لم يعرفوا الآرامية، وهي الشرط عند أصحاب هذا الزعم لفهم القرآن؟ وكيف سنثق بتراثنا الفقهي المبني على الكتاب والسنةِ إذا كان أعلامُهُ لم يفهموا كلام الله؛ لأننا نعرفُ أن أكثرهم لم يدرس الآرامية ولم يشتغل بها.

3 -

ويقتضي هذا الزعمُ أن دارس الآرامية يفهم القرآن أكثر من دارس العربية المختص بها! وعندئذٍ لا معنى لقوله تعالى: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} [الزمر: 28]!! ولا معنى لأحد عشر آيةً نصتْ على عربية القرآن! بل يصدقُ عليه حينئذٍ أنه قرآن آراميٌّ غير ذي عوج!

4 -

ويقتضي هذا الزعم أن نتحير في التعامل مع حديث النَّبي صلى الله عليه وسلم، فما الذي سنفعله بالحديث النبويِّ الذي جاء بذات الألفاظ الموجودة في القرآن، هل سنزعمُ أيضًا أنه ذو جذور آرامية ونفسره على هذه الوجه؟ أم سنجري الحديث النبوي على مقتضى العربية ونقتصر في التفسير الآرامي على القرآن الكريم فيكون لدينا معنيان متعارضانِ للفظِ الواحدِ؟ الحور العين مثلًا في الحديث النبوي هل هي العنب كذلك كما يزعمه أصحابُ المدخل الآرامي؟ وهل نتكلف تفسيرها بهذا؟ وماذا عن قوله صلى الله عليه وسلم:(له سبعون من الحور العين)؟ هل هي سبعون حبة عنب؟ أم سبعون عنقودًا؟ أم سبعون جفنة؟ وإذا كانت سبعين عنبة .. فماذا عمن نُصَّ أنَّ له اثنتين من الحور العين؟ هل سيكون نصيبه في الجنة عنبتينِ مثلًا؟ وهل هذا غايةُ نعيمه؟! وكيف نصنع بقوله صلى الله عليه وسلم: (زوجتان من الحور العين)، زوجتانِ من العنب مثلًا؟ وقوله في صفة الحور العين:(ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها)، والنصيف الخمار، كيف نفهمه؟ وهل تلبس العنبةُ خمارًا ثم يكون خمارها خيرًا من الدنيا وما فيها؟

ص: 124

هكذا يذهب بنا المدخل الآرامي إلى حالة من التشظي والتفكك بين الوحيين، أو حالة من التكلف المعيب الذي لا يقبله عقل ولا منطق.

هذه كلها مقتضياتٌ مباشرةٌ، ولوازم عقلية لا فكاكَ منها، فإذا أضفتَ إلى ذلك إمكانيةَ أن يكون مدخلًا كما أسلفنا للطعنِ والتشكيك في كتابِ الله فإنَّ الأمر يعظُمُ عندك ويكبُرُ.

ويمكن الرجوع لسلاسل د. سامي عامري، في بيان تلك المسألة، وهي بعنوان:(سلسلة: شبهة القراءة السريانية للقرآن .. تزييف التاريخ وتحريف اللغة)، (شبهات وسائل التواصل حول الإسلام ومقدساته).

ومقال الدكتور عادل بانعمة: (القرآن الكريم والمدخل الآرامي، تعليقات حول تفسير القرآنِ العربيّ بمقتضى اللغةِ الآرامية)، ومقال:(نقد دعوى تفسير القرآن باللغة الآرامية، ردود متفرقة في مكان واحد).

ص: 125

‌لماذا أتدبر القرآن، وما الطريق إليه؟

إنَّ الله يقول جوابًا عن مثل هذا السؤال، ببيان عام للناس جميعًا، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57].

إنَّنا نريد من القرآن = الحياة!

فلا حياة للقلب، ولا سلامة له بغير الإقبال على هذا الكتاب المجيد، إنَّ للمسلم أوصافًا يستمدها بحسب تعلقه بالقرآن، فله من المجد، والحفظ، والرحمة، والهدى، والذكر، بحسب تعلقه بالقرآن تلاوة وفهمًا وعملًا، وقد وعد ربنا الأكرم من أقبل على كتابه تعرضًا لنفحاته بالكرم الجزيل، والأجر العميم.

ففي القرآن الشفاء من الأدواء القلبية المهلكة في العاجل والآجل، {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء: 82]، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37].

وفي التعلق بالقرآن يجد الإنسان البصيرة التي هي النور الذي يبصر به مواضع قدمه، ومن يضلل الله فما له من هاد، {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء: 105].

ص: 126

وفي القرآن يحصل القارئ السكينة التي تنزل على القلب بردًا وسلامًا، لتطفئ النار التي تشتعل، لأنه يرى في القرآن مصارع الظالمين، وإن طال الزمان، ومهلكهم الذي جعل الله له موعدًا.

إنَّه لا يحدثك عن القرآن وما يفعله في النفوس، مثل القرآن، {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 102].

{أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الرعد: 19].

أما التدبر، فهو تجربة تخوضها، ونعيم تتذوقه، ومهما أخبرت عنه، فلا بد أن تحياه بنفسك، إنه يبدأ من معرفة مراد الله تعالى بكلامه، بفهم الكلام أولا، وبتثوير هذه المعاني.

إنَّ القرآن كالتمرة كلما زدتها مضغا أعطتك حلاوة، والقرآن يحلو كلما كررته، ولذا ينبغي عليك أن تزيد تكراره، فإنَّ عجائبه لا تنقضي، ولا يخلق على كثرة الرد.

ليس للتدبر دروب وعرة، ولا مسالك موحشة، لأن الله يسر القرآن للناس يأخذ كل منهم بمقدار استعداده، لكن أحدًا لا يجالس القرآن إلا خرج منه بشيء، ولا تزال تخرج بالشيء تلو الشيء حتى تقف على ما يدهش الألباب، ويأخذ بالنفوس.

افهم المعنى، وكرر الآية، ولا تستعجل، بل ازدد في الفهم، وابحث بصدق عن دواء دائك، وشفاء نفسك = فإنك لاقيه.

ص: 127

وآفة كثير من الناس انشغالهم بالحديث حول التدبر عن التدبر نفسه، فانشغلوا بالوسيلة عن الغاية، وببنيات الطريق عن واضحاته.

أقبل على القرآن متأملًا، وباحثًا عن مرادك، وتلمسه = تجده.

إنَّ في القرآن الكفاية، {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت: 51]، اللهم اكفنا بالقرآن، ولا تسلبنا نعمته، واجعل لنا حظا منه!

ولمن يحب الخطوات العملية:

1 -

لا بد من تهيئة نفسك لتدبر القرآن، وذلك بمحبة القرآن، وتعظيمه، واستشعار الافتقار لهداياته.

2 -

كن مع القرآن دائمًا، تلاوة، واستماعًا، وبحثًا عن الأسئلة التي تدور في ذهنك فيه.

3 -

افهم المعنى من كتب التفسير، فشرط التدبر فهم المعنى.

4 -

استعن بالكتب التي تعينك على إدراك بعض اللطائف الموجودة في الآيات.

5 -

لا تمل من إعادة وتكرار التلاوة مرة بعد أخرى.

ويمكن للمتدبر أن يحدد موضوعًا، ويفتش عنه في القرآن، أو يبحث عن هداية القرآن في مسألة، أو قضية، وسيجد خيرًا عظيمًا.

ص: 128

‌هل التدبر خاص بالآيات التي تتكلم عن الدار الآخرة، وهل يمكن أن يتدبر الإنسان آيات الأحكام؟

اعلم - نفعك الله بما تعلم - أنَّ القرآن نور كله، وهداية كله، ورحمة كله، وهو كتاب عظيم في حديثه عن الله، واليوم الآخر، وفي حديثه عن التشريع.

وليس التدبر أن تدمع عينك، وأن يحضر قلبك عند آيات الآخرة فحسب، بل إنَّ حضور القلب، وانفعال الجوارح بالعمل بأحكام الله وشرائعه، باب عظيم من أبواب التدبر، من وَلَجه نال خيري الدنيا والآخرة.

وتأمل - مثلًا - ختام آيات المواريث، والآيات الأولى من سورة النساء، تأمل خواتيم الآيات بالعظات الباهرات، والآيات النيرات على عظمة هذا الدين.

تأمَّل آية الميراث الأولى، وختامها بقوله سبحانه:{آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 11]، وتأمَّل في أولئك الذين يتفننون في منع هذا أو ذاك من الميراث الذي جعله الله حقًّا له.

ص: 129

بل تأمَّل في آية هجر النساء بعد الوعظ، ثم يأتي الضرب في مرتبة متأخرة عنهما، وتختم الآية بقوله:{إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} [النساء: 34]، عليٌ على من طغى وجاوز الحد مطلع عليه، كبير لا يرضى أن تُظلم المرأة ولا أن تضرب ضربًا مؤذيًا لها، وتأمل في الآية التي تليها، وختمه لها باسمي العليم الخبير!

إنَّ القرآن عظيم في كل تفاصيله، جليل في كل مفرداته، يحتاج إلى إقبال وفهم، مع إيمان وحسن تلقٍ، فإذا حصل ذلك أثمرت شجرة الإيمان في القلب، وآتت أُكْلَها بإذن ربها، وصار أصلها ثابت وفرعها في السماء.

وهذا غيضٌ من فيضٍ، وقطرةٌ من بحرِ العظمة في آيات الأحكام، وحسن نظمها وجلاله.

ص: 130

‌كيف أحب القرآن؟

بالإقبال عليه!

لا بد من القرب من القرآن بإزالة العوائق بينك وبينه، ولتتحايل على نفسك بالاستعانة بمشوقات القلب لكلام الرب.

القرآن نور، وهدى، ورحمة، وموعظة.

القرآن حياة.

القرآن الروح التي تغذي الأرواح، فالأرواح دون القرآن في شقاءٍ وتعبٍ، ونكدٍ، وهمٍّ، بل هي فاقدة للحياة.

ولا يحدثك عن القرآن مثل القرآن = فأقبل عليه.

اسمع القرآن من قارئ تحب صوته.

واجتهد في الدعاء أن يجعل الله القرآن ربيع قلبك.

واستعن بما يعينك على الإقبال على القرآن دون الاستغراق في ذلك، فاقرأ:(الطريق إلى القرآن، والمشوق إلى القرآن)، واسمع محاضرات الشيخ فريد الأنصاري عن القرآن.

ص: 131

وأول طريق التصالح مع القرآن أن تتحايل على نفسك بالإكثار من تلاوة القرآن، تلاوة لا كالتلاوات السابقة، تلاوة لا تنتظر فيها موعدًا، تلاوة لا تنشغل فيها بغير القرآن، إنَّ القرآن كتاب عزيز لا بد أن تُعطِيه أنْفَس ما تملك من أوقات، فأقبل عليه وإياك أن تبخل، ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه!

إنَّ القرآن لهو بحق مشروع العمر، وبرنامج العبد في سيره إلى الله حتى يلقى الله!

وما كان تنجيم القرآن، وتصريف آياته على مدى ثلاث وعشرين سنةً، إلا خدمةً لهذا المقصد الرباني الحكيم!

إنَّ نور القرآن لا يمتد شعاعه إلى الآخرين؛ إلا باشتعال قلب حامل كلماته، وتوهجه بحقائقه الإيمانية الملتهبة!

ص: 132

‌ما فائدة التعرض المتكرر للقرآن؟

القرآن .. كالبحر من أي النواحي أتيته!

لو أنزله الرحمن على جبل لرأيته خاشعًا متصدعًا من خشية الله.

ولا شك أنَّ التلاوة (اليومية) للقرآن تعطي القلب زادًا إيمانيًّا يجعل القلب في جاهزية مستمرة لتلقي حقائق الوحي نورًا يبدد الظلمات والران من القلب.

ففي التَّعرض المتكرر للقرآن فائدة عظيمة، لأنه يصادف أحوال القلب المختلفة.

فإذا صادف حال البلاء، أو النعمة، أو المرض، أو العافية، أو الغنى، أو الفقر، أو الخوف، أو الأمن، أو التفكر في الآخرة، أو البعد عنها .. إلى آخره؛ ووافقت قراءة التالي أو استماعه موضعًا من كتاب الله يتكلم عن تلك الحالة، أحدث ما لا يمكن وصفه!

إنَّ الارتباط بالقرآن يعطيك تميزًا عن بقية الخلق، لأن ارتباطك به يجعلك من أهل الله! كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أهل القرآن هم أهل الله، وخاصته» [رواه أحمد: (12279)، والدارمي: (3369)، وابن ماجة: (215)، وإسناده حسن].

ص: 133

‌هل من دلالة على ما يمكن تتبعه وتدبره في القرآن؟

كثيرةٌ هي المشاريع القرآنية التي يمكن تتبعها وتدبرها، والانتفاع بالقرآن من خلالها، غير أني أنبهك على بعض المشاريع التي يمكن أن يجد فيها مريدٌ بُغيته.

‌1 - ومن المشاريع: (مشروع المضغ).

قال بشر بن السري: «إنَّما الآية مثل التَّمرة كلما مضَغْتَها استَخرْجت حلاوتها» [البرهان في علوم القرآن: (1/ 471)].

إنَّ القرآن كالتمرة كلما زِدتها مضغًا أعطتك حلاوة، فجرِّب أن تأخذ آية من كتاب الله، أو سورة، وقلب هذه السورة، تعرَّف على معناها العام، ثم صلِّ بها، وتوسع فيما أنت بحاجة إلى التوسع فيه من معانيها، ولاحظ المعاني المتكررة في السورة، وكررها مرة أخرى.

إنَّ القرآن «لا تزيده تلاوته إلا حلاوة، ولا ترديده إلا محبة، ولا يزال غضًّا طريًّا، وغيره من الكلام، ولو بلغ في الحسن والبلاغة مبلغه؛ يُمل مع الترديد، ويُعَادى إذا أعيد، لأنَّ إعادة الحديث على القلب أثقل من الحديد.

ص: 135

وكتابنا بحمد الله يُستلذ به في الخلوات، ويُؤنس به في الأزمات» [معترك الأقران:(1/ 184)].

‌2 - ومنها: مشروع (ختمة موضوعية).

خذ موضوعًا وتتبعه في القرآن، لاحظ - مثلًا - كيف تحدث القرآن عن الدنيا، وكيف تعرض القرآن لحل الإشكالية في الموازنة بين الدنيا والدين.

في الأزمات التي يحياها الناس، تأمل كيف عالج القرآن المجيد هلع الناس، وجزعهم، {قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا 16 قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا 17} [الأحزاب: 16 - 17].

‌3 - ومنها: مشروع (تَتَبُّع آية).

اختر آية من آيات القرآن، وتتبع أقوال أهل التفسير فيها، اقرأ كل ما تعرفه من التفاسير، ولو وصلت مائة تفسير، ثم سَلِ الله الفتح.

أَمَا كان ابن تيمية (ت: 728) يقول: «ربما طالعت على الآية الواحدة نحو مئة تفسير! ثم أسأل الله الفهم وأقول: يا معلم إبراهيم.

ويذكر قصة معاذ بن جبل، وقوله لمالك بن يخامر لما بكى عند موته، وقال: أنا لا أبكي على دنيا كنت أصيبها منك، ولكن أبكي على العلم والإيمان اللذين كنت أتعلمهما منك.

فقال: إنَّ العلم والإيمان مكانهما، من ابتغاهما وجدهما، فاطلب العلم عند أربعةٍ وسمَّاهم، فقال: عند أبي الدرداء، وعبد الله بن مسعود، وسلمان الفارسي، وعبد الله بن سلام، فإن أعياك العلم عند هؤلاء؛ فليس هو في

ص: 136

الأرض، فاطلبه من معلِّم إبراهيم» [الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيمية خلال سبعة قرون:(283)].

والتتبع (المعرفي) يستتبع أن تقوم بتلك الآية مرددًا إياها، مستخرجًا كنوزها، مستمتعًا بتلك الفوائد التي حصَّلتها.

عن أبي ذر، أن النَّبي صلى الله عليه وسلم «قرأ هذه الآية فرددها حتى أصبح: إ {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ 118} [المائدة: 118]» [رواه أحمد: (21388)].

وعن أبي سعيد الخدري «أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ردَّدَ آية حتى أصبح» ، [رواه أحمد]:(18/ 137)].

وقال عبد الرحمن بن عجلان: «بت عند الربيع بن خثيم ذات ليلة فقام يصلي فمر بهذه الآية: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ 21} [الجاثية: 21] الآية، فمكث ليلته حتى أصبح ما جاوز هذه الآية إلى غيرها ببكاء شديد» [فضائل القرآن، لأبي عبيد: (2/ 112)].

‌4 - ومنها: مشروع (ما تكرر).

ما تكرر من معاني القرآن، فإنَّ العناية بتدبره آكد، ولذا جعل الله الفاتحة أفضل سور القرآن، وهي التي تتكرر في كل ركعة.

وكان النَّبي صلى الله عليه وسلم يكرر سورًا بعينها لما تحويه من معان جليلة، وفي الصلاة تكرر سور بعينها:(الأعلى - الغاشية - الكافرون - الإخلاص)، فتأمَّلها، وأعطها مزيدًا من العناية.

ص: 137

وفي القرآن نفسه من القصص ما تكرر مما يدل على أهميته وجلالة قدره، كقصة الكليم موسى عليه السلام.

فلتأخذ طرفًا من هذه المعاني، ولتُذِقْ قلبك حلاوة هذا الكتاب المجيد.

‌5 - ومنها: مشروع (علمتني قصة).

في تلاوتك لقصة إبراهيم عليه السلام تجد أن (القلب السليم) لم يُذكر إلا في قصته وحده دون سائر الأنبياء، لم لا يأخذك هذا الطَرَف لتتأمل قصة إبراهيم في القرآن كلها، لتستخرج منها كيف حصل إبراهيم الخليل عليه السلام على (القلب السليم).

(علمني أبي)، و (علمني موسى)، سلسلتان للشيخ الكريم د. سلمان العودة، فيهما تتبع جميل، وتدبر رائع لقصتي نبي الله آدم وموسى في القرآن الكريم، فاصنع كصنيعه.

‌6 - ومنها: مشروع (تأمُّل مثل).

الأمثال لا يعقلها إلا العالمون، فلم لا تحرص على تأمُّل أمثال الكتاب المجيد، هذا مثلٌ قرآني جليل، يتردد على مسامعنا كثيرًا، هل وقفت عنده يومًا متأملًا؟

{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ 24 تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينِ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ 25 وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ 26} [إبراهيم: 24 - 26].

ص: 138

وكما قال الشيخ عبد القاهر (ت: 471) إنَّ «التمثيل إذا جاءَ في أعقاب المعاني أو بَرَزَتْ هي باختصار في مَعرِضه، ونُقِلت عن صُوَرها الأصلية إلى صورته، كساها أُبَّهةً، وكَسَبها مَنْقَبةً، ورفع من أقدارها، وشَبَّ من نارها، وضاعف قُواها في تحريك النُّفوس لها، ودعا القُلوب إليها، واستثار لها من أقاصي الأفئدة صبابةً وكلَفًا، وقَسَر الطِّباع على أن تُعطيها محبَّة وشَغَفًا» [أسرار البلاغة: (115)].

وإن شئت أن تنبهر بطرفٍ من تأمُّل العلماء للأمثال، فانظر ما كتبه الشمس ابن قيِّم الجوزية في كتابه (الأُبَّهة)«إعلام الموقعين عن رب العالمين» .

‌7 - ومنها: (قفزة معرفية متعلقة بالقرآن).

مما يمكن لصاحب الهمة أن يفعله، أن يقفز قفزة معرفية تتعلق بالقرآن المجيد، كالانتهاء من جرد تفسير كامل للقرآن في وقت وجيز.

وكلٌ يأخذ من التفسير بحسب ما آتاه الله، فمنهم من يستفتح الطريق عبر تفسير مختصر، ومنهم من يتوسط، وللمنتهي شأنٌ يخصُّه، ألحقنا الله بمنازل السابقين!

تلك سبعةٌ كاملةٌ، وحَسْبنا السَّبعة، لأنهم قالوا: إنَّ (العَرَبَ تضَعُ التَّسْبيعَ مَوضِع التَّضْعِيفِ وَإِنْ جاوَزَ السَّبْعَ)، وفي القرآن العزيز:{مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ 261} [البقرة: 261]!

واعلم أنَّ «القرآن مشروع العمر، وبرنامج العبد في السير إلى الله إلى أن يلقى الله، وليس المقصود أن تدرك الهدف كله، لكن يكفيك أن تموت وأنت على الطريق» .

ص: 139

‌خامسًا: حفظ القرآن .. وتجويده

«وأمَّا طلب حفظ القرآن: فهو مقدمٌ على كثير مما تسميه الناس علمًا، وهو إما باطل، أو قليل النفع.

وهو أيضًا مقدمٌ في التعلم في حق من يريد أن يتعلم علم الدين من الأصول والفروع، فإنَّ المشروع في حق مثل هذا في هذه الأوقات أن يبدأ بحفظ القرآن، فإنه أصل علوم الدين.

والمطلوب من القرآن هو فهم معانيه، والعمل به، فإن لم تكن هذه همة حافظه لم يكن من أهل العلم، والدين، والله سبحانه أعلم»

ابن تيمية

ص: 141

‌هل يجب على كل مسلم أن يحفظ القرآن؟

ليس من الصواب حمل الناس جميعًا على حفظ القرآن، ولا طلب العلم، وهكذا .. ، بل لا بد من توجيه المسلم لمعرفة فروض الأعيان عليه، وحفظ ما يقيم به صلاته من القرآن، مع إتقان تلاوته، والإتقان مهم جدًّا.

فإن وجد من نفسه همَّة، فليحفظ المفصل [(من سورة ق أو الحجرات وحتى ختام المصحف)]، مع فهم المعنى، ولا يتجاوز المفصل حتى يفهم معناه.

وإنَّما يبدأ بالمفصل؛ لأنه يجمع أكثر معاني القرآن، وحفظه يسير على أغلب الناس، فسيجد من نفسه همةً لإكماله وبركة.

فإن فعل: انتقل إلى حفظ سورتي (البقرة وآل عمران)، وقد قال أنس رضي الله عنه:«كان الرجل إذا قرأ: البقرة، وآل عمران، جد فينا - يعني عظم -» ، [رواه أحمد: 12215].

فإن حفظ سورتي (البقرة وآل عمران) فليحفظ السور التي ثبت فضلها، فباقي المصحف.

والذي أراه يدل على هذا الأصل: ما ذُكر عن محفوظ الصحابة من القرآن مع كونهم أحد أذهانًا، وأصفى أفئدة، ومع ذلك فإنَّ كثيرًا منهم لم يحفظ القرآن المجيد كله.

ص: 143

وليُعلم: أن حفظ القرآن فرض كفاية على أهل الإسلام، وحافظ القرآن يرجى أن يكون له من المنزلة - إن كان من أهل القرآن - ما ليس لغيره.

والقرآن محفوظ، وحافظ المحفوظ محفوظ، مع ما ثبت من فضل حُفَّاظ القرآن، وكرامتهم عند الله، ليس هم فحسب، وإنما هم وآباؤهم، جعلنا الله من أهل القرآن.

قال الإمام السخاوي (ت: 643):

وبعد فالقرآن نورٌ مشرقُ

حاملُه مُسَددٌ موفَّقُ

وجاءَ عن سيدِنا محمد

ذي الفضْلِ والفخر الرَّسولِ المرشد

في فضلِ حفَّاظ القران المهَرَة

أنَّهمُ معَ الكرامِ السَّفَرة

لأنَّه في صحفٍ مُطَهَّرة

وهْيَ بأيدِيهِم كما قد ذَكَرَه

فالحافظُ المتقنُ قد ساوى المَلَك

فاستعمِلِ الجِدَّ فمن جَدَّ مَلَكْ

ص: 144

‌هل تجب قراءة القرآن بالتجويد على كل مسلم؟

تعلُّم أحكام القراءة والتجويد التي تحفَظ اللسان من اللحن المفسد للمعنى واجب على كل مسلمٍ ومسلمةٍ، كي يقرأَ الفاتحة وسائر سور القرآن الكريم قراءة صحيحة في مقتضى اللغة العربية الأصلية.

أما تعلم الأحكام التحسينية التي تتعلق بصفات الحروف ومخارجها وأحكامها التي لا يُؤدي الجهل بها إلى إفساد المعنى واللحن الجلي فهو تعلم مندوب ومستحب، وليس بواجب.

وقد أمر الله عز وجل بتدبر القرآن وفهم معانيه، وحثَّ نبيه صلى الله عليه وسلم على الإكثار من تلاوته لتحقيق هذا الغرض، وهذا الأخذ للقرآن تلاوة أو حفظًا أو تدبرًا لا يتهيأ على الوجه المأمور به لمن قرأ قراءة ملحونة مختلة، وفاعل هذا خارج بالقرآن عن سننه.

فضبط التلاوة سببٌ للتدبر وفهم القرآن، كما أنه سبب للخشوع عند تلاوته وانتفاع القلب به، وكل هذا مأمور به مطلوب إما وجوبًا وإما ندبًا، فضبط التلاوة يأخذ حكم ما كان سببًا فيه.

ص: 145

وإذا كان اللحن منفيًّا في الأصل عن القرآن، فإضافته إليه من باب تحريف الكلم عن مواضعه.

وقراءة القرآن بغير التجويد أو بغير النحو عدول به عن المسموع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخروج به عن عربيته، وهذا لا يحل.

والقراءة بالتجويد تتم بمراعاة القواعد التي وضعت من قبل الأئمة القراء، وصنفت فيها المصنفات، مع الاستعانة ما أمكن بأخذها عن صاحب دراية ومعرفة من القراء المتقنين للتلاوة بتلك القواعد، ولا يجوز للمسلم أن يفرط في ذلك ما وجد إليه سبيلًا، فإن عجز اجتهد في الضبط بما تيسر له، بالسماع من قارئ متقن بواسطة الوسائل السمعية الحديثة، أو بأخذه من الكتب والرسائل التي ألفت فيه.

وقد بين صلى الله عليه وسلم أن من بذل وسعه مجتهدًا في إتقان التلاوة ولم يساعده لسانه على إخراجها على وجوهها، إذ التعتعة عسر في النطق ومشقة، فهذا مأجور من جهتين: على اجتهاده في طلب الصواب، وعلى نفس تلاوته.

فالأعجمي ربما لم تساعده لغته ولسانه على أن يعطي كل حرف حقه ومستحقه، ومع ذلك يثني النَّبي صلى الله عليه وسلم على جلوسه لقراءة القرآن، لا ينقص حسن عمله ذلك عن حسن عمل من كان معه من العرب الفصحاء، وحثه النَّبي صلى الله عليه وسلم على التلاوة وإن كانت عجمته لا تساعده على الإتقان، وإنما ذلك لصحة المقاصد من أولئك المجتمعين، ولذا ذم بمقابلهم القراء المتكلفين لإقامة الألفاظ حتى إنَّ أحدهم ليحرص على الدقة في أدائه يقيم الحرف كإقامة السهم من القوس، لكنهم يبتغون به الدنيا.

ص: 146

فعليه، ومع ما بيناه من وجوب القراءة بالتجويد نقول: لا يجوز أن يجعل ذلك حائلًا دون قراءة القرآن لمن بذل وسعه للقراءة به لكنه لم يحققه على وجهه لعجزه.

ومن الدروس التي يمكن الاستعانة بها: تلاوات تعليمية بالصوت والصورة لجزء (عم والفاتحة) للشيخ، د. أيمن رشدي سويد، وسماع التلاوات التعليمية للشيخ محمود خليل الحصري.

وهناك العديد من البرامج والوسائط المختلفة لتعلم تجويد الفاتحة، وقصار السور، ويسهل على أي أحد أن ينتفع بها.

ص: 147

‌ما أسهل الطرق لتعلم الوقف والابتداء في القرآن؟

أسهل طريقة لتعلم الوقف والابتداء هي الأخذ بما وجد في المصاحف من علامات للوقف والابتداء، فينبغي على عموم المسلمين ملاحظة ما ذكر من التعريف بتلك العلامات في أواخر المصاحف، وأن يستعملوها على الصورة التي بُيِّنَت لهم، فإنَّ ذلك معين على تدبر القرآن وفهمه، خاصَّةً ما كان منه من الوقف اللازم، فعليهم التزام الوقف عنده، وما كان من الممنوع فلا يوقف عنده، ويترك الوقف في موضع ليس فيه علامة وقف أصلًا.

لا أستثني من هذا إلا من أوتي حظًّا من فهم القرآن، وعُدَّة واقية من الخطأ في ضبط المعنى، من أهل العلم والذكر، فهؤلاء قد يستحسنون مواضع للوقف باجتهادهم في تدبر القرآن.

ولا بد أن يراعى في الابتداء صحة المعنى واستقامة السياق، ولو استعمل إنسان علامات الوقف المثبتة في المصاحف في خلال الآية لا على رأسها، فوقف عند علامة من تلك العلامات غير علامة الوقف الممنوع، فلو جعل ابتداءه من الكلمة التالية لعلامة الوقف دائمًا فذلك أسلم له وأبعد عن الخلل.

ص: 148

لكن لو انقطع نفسه في غير موضع وقف، فالذي يحسن به: أن يعود إلى شيء من الآية قبل موضع وقوفه فيصله بما بعده بشرط أن يصح المعنى بذلك الابتداء.

كما لو قرأ: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة: 6] فانقطع النفس، وليس عند هذا في المصحف وقف، إنما الوقف على قوله:{ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة: 6]، وهو وقف كاف، ويسمى (الوقف الجائز)، فعليه حينئذ أن يعود ليبدأ في موضع يتصل به الكلام المفيد، فلا يبدأ بقوله:{يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة: 6] فهذا مخل بالسياق، وإنما يرجع فيقرأ:{فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة: 6].

ومن علامات الوقف والابتداء في المصحف:

(م): وتفيد لزوم الوقف ولزوم البدء بما بعدها وهو ما يسمى بالوقف اللازم.

(لا): تفيد النهي عن الوقف في موضعها، والنهي عن البدء بما بعدها.

(صلي): تفيد بأن الوصل أولى مع جواز الوقف.

(قلي): تفيد بأن الوقف أولى مع جواز الوصل.

(ج): تفيد جواز الوقف.

(النقط المثلثة): تفيد جواز الوقف بأحد الموضعين، وليس في كليهما، وهو ما يسمى بوقف المعانقة.

وكانت المصاحف الأولى خالية من علامات الوقف، وظلت كذلك قرونًا كثيرة، وعمل الخطاطون في فترات متأخرة على وضع علامات لأنواع الوقف التي

ص: 149

ذكرها العلماء في كتبهم، مثل (م، ج، صلى، قلى، لا) ونحوها، وتجد في آخر المصاحف المطبوعة توضيحًا لدلالة تلك العلامات وما يشبهها.

وقد تختلف هذه العلامات من مصحف إلى آخر تبَعًا لاختلاف اجتهاد العلماء في فهم التركيب النحوي للآيات، وما يترتب على ذلك من تغير المعنى.

ص: 150

‌ما معنى أن فلانًا أخذ إجازة في القرآن؟

معناه: أنه قرأ على شيخ ضابط متقن للقرآن، وهذا الشيخ قد أخذ على شيخ آخر، وهكذا إلى أن يتصل سنده بالنبي صلى الله عليه وسلم، فيقرأ عليه هذا الطالب القرآن كله، ويجيزه الشيخ أن يَقرأ ويُقرئ القرآن كما تعلم، ويصير بذلك مُجازًا، ويصح له أن يجيز غيره حينئذٍ.

ص: 151

‌ما المراد بالتغني بالقرآن، وهل يجوز تعلم المقامات الموسيقية لتحسين الصوت؟

لقد حثَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم على تحسين الصوت بالقرآن، وهو معنى التغني بالقرآن، فمعناه: تحسين الصوت بالقرآن، بإقامة حروفه حَسب قوانين التلاوة الصحيحة، وهو علم التجويد.

فمن تَعلَّم التجويد حقًّا، وقرأ القرآن بلا مبالغة وتكلف، فقد تغنى بالقرآن، وله أجره.

أما تعلُّم المقامات للقراءة بها، فقد اختلف العلماء في حكمه:

1 -

فقال بعضهم بجوازه، بشرط عدم الإخلال بقواعد التجويد، فإن أخلت المقامات بالتجويد، وتصنع القارئ في القراءة، وطوع القرآن لتلك المقامات فإنَّ ذلك غير جائز.

2 -

ومنع بعض العلماء من تعلم المقامات مطلقًا، واقتصروا على التجويد فحسب.

ص: 152

والخلاصة؛ أن التغني المحمود بالقرآن، هو: ما يساعد على المقصود من التلاوة وهو العظة والاعتبار، وفهم معانيه، وتدبر آياته، وتذوق جمال لفظه، وطَلَاوةِ أسلوبه، وحلاوة بلاغته، وهذا مستحسن مطلوب.

وأن على القارئ أن يلتزم بأحكام تلاوة القرآن، والتي وضعها العلماء في علم التجويد، وألا يتكلف القراءة بالمقامات.

ص: 153

‌ما النصيحة لمن ختم القرآن الكريم حفظًا؟

لقد أراد الله بك الخير، ووفقك لوراثة الكتاب، فاعمل على تحصيل الوراثة كما أراد الله، أنت في مقام اصطفاء فإياك أن تفرط فيه!

أقبل على شأنك، ولتستقم على أخلاق حملة الكتاب، وعليك بمراجعة محفوظك، وفهم كلام ربك، والعمل به.

كن مقبلًا على ما يعينك على القرب من كتاب الله، فبقدر قربك يكون أخذك.

ص: 154

‌كيف أضبط متشابهات القرآن، وما الكتب المعينة على ذلك؟

أفضل طريقة لضبط متشابهات القرآن = كثرة المراجعة، فإنَّ من كثرت مراجعته للقرآن استطاع أن يستحضر المتشابهات، وأن يفرق بينها بيسر إن شاء الله.

ومما يعين على ضبط المتشابه:

1 -

تلاوة القرآن في الصلاة.

2 -

فهم القرآن.

3 -

إيجاد طريقة خاصة لضبط المتشابه.

4 -

تقييد الآيات المشتبهة على الحافظ، وإدمان النظر فيها.

5 -

معرفة الفروق البلاغية بين المتشابهات اللفظية.

ومن الكتب الجيدة في مسألة الحفظ، والمراجعة، وضبط المتشابهات اللفظية، وغايتها أن تكون كالفهرس، وإلا فإنَّ الجهد الشخصي يعد العامل الأساس في الضبط والاستحضار:

ص: 155

1 -

الحصون الخمسة في حفظ القرآن الكريم، والجبال الرواسي في مراجعة وإتقان كلام رب الناس، ورسوخ، وعلامات، وجميعها للشيخ د. سعيد أبو العلا حمزة.

2 -

الكليات في المتشابهات اللفظية القرآنية، للشيخ عبد الرحمن القصير.

3 -

الضبط بالتقعيد للمتشابه اللفظي في القرآن المجيد، للشيخ فواز آل حنين.

4 -

دليل الآيات المتشابهة على الحفاظ، د. سراج صالح ملائكة.

5 -

إعانة الحفاظ للآيات المتشابهة الألفاظ، وهو كتاب جيد للشيخ محمد طلحة بلال أحمد منيار.

6 -

دليل الحفاظ في متشابه الألفاظ، للشيخ يحيى الزواوي.

وهذا الموضوع تظهر فيه بعض الإبداعات الفردية للمؤلفين، فلكل طريقته في حصر المتشابه، وفي مجموع هذه الكتب خير.

ص: 156

‌ما حكم الطهارة لتلاوة القرآن؟

ينبغي على المسلم أن يكون طاهرًا حال تلاوته للقرآن، وأن يراعي هذا الأدب.

ويختلف حال المسلم عند قراءة القرآن بين أن يكون على حدث أصغر، أو حدث أكبر.

1 -

صاحب الحدث الأصغر:

يجوز للمحدث حدثًا أصغر أن يقرأ القرآن، وإن كان الأولى أن يكون على طهارة، فالطهارة لتلاوة القرآن أدب يحسن أن يراعيه المسلم.

2 -

صاحب الحدث الأكبر:

لا يجوز للمحدث حدثًا أكبر مس المصحف في قول جماهير أهل العلم من الصحابة والتابعين، وأئمة المذاهب الأربعة.

أما القراءة: فقد ذهب عامة الفقهاء من المذاهب الأربعة وغيرهم إلى تحريم قراءة القرآن على الجنب، ولو من غير مسٍّ للمصحف.

أما الحائض والنفساء، فذهب جمهور الفقهاء إلى حرمة قراءة الحائض للقرآن حال الحيض حتى تطهر.

ص: 159

‌ما حكم الطهارة لمس المصحف؟

يحرم مسُّ المصحف على غير وضوء، وتحريم مس المصحف على غير وضوء يشمل تحريم مس ورقه، ومسِّ جلده المتصل به (على الصحيح؛ لأنه كالجزء منه، ولهذا يتبعه في البيع).

وأما تقليب ورقه باستعمال آلة من غير اضطرار إلى مس فلا بأس فيه ولا حرج، بخلاف حمل المصحف باستعمال قماش أو كيس ونحوه، فهذا لا يجوز وإن لم يشتمل على مسِّ للمصحف، لأن الحمل أبلغ من المس.

يُستثنى من ذلك ما إذا خشي المسلم غير المتوضئ على المصحف الشريف من التعرض للأذى والامتهان.

ص: 161

‌هل تأخذ المصاحف الإلكترونية حكم المصاحف المطبوعة؟

يجوز مسُّ الهاتف الموجود عليه تطبيق المصحف، سواءٌ أكان المصحف ظاهرًا على الشاشة أم لا، وسواءٌ أكان المس لجدار الجهاز أو للشاشة الظاهر عليها الكتابة، وسواءٌ أكان المس بالأصبع أو بالقلم المعروف في بعض الأجهزة.

وبالتالي: فإنَّ القراءة جائزة من الهاتف أو نحوه مما يقبل تنزيل القرآن عبر الوسائط المختلفة، وهذا للمحدث حدثًا أصغر، أما الجنب والحائض فلا يجوز لهما القراءة أصلًا كما قدمنا.

ص: 162

‌سابعًا: كتب الدراسات القرآنية

ص: 163

‌ما الكتب التي تصلح للمبتدئين في التفسير؟

1 -

المختصر في تفسير القرآن، إعداد مركز تفسير، ويمتاز بسهولة العبارة، وكونه تطبيقًا يسهل تنزيله على الهواتف، وهو متوفر بصيغة صوتية.

2 -

التفسير الميسر، إعداد مجمع الملك فهد، وهو متين العبارة، وعبارته أصح من المختصر، ولكن كثيرًا من الناس لا يستسيغونها.

3 -

المعين على تدبر الكتاب المبين، للأستاذ مجد مكي، وهو أوسع من سابِقَيْه عبارة، ومفيد كذلك.

4 -

تفسير السعدي، ويمتاز بسهولة عبارته، وغزارة فوائده.

ولا ينبغي الحيرة بين الكتب، فليختر من يريد القراءة كتابًا من هذه الكتب، ولن يفوته شيء كبير.

ص: 165

‌أريد تفسيرًا صوتيًا للقرآن الكريم

1 -

دورة الأترجة، لعدد من المتخصصين في التفسير وعلوم القرآن.

2 -

برنامج بينات، ويعرض على قناة المجد.

3 -

برنامج التفسير المباشر، وقد بثته قناة دليل.

4 -

تفسير الشيخ الشعراوي رحمه الله.

ص: 166

‌أريد أن أتعلم علوم القرآن، كيف أبدأ؟

يبدأ من يريد تعلم علوم القرآن بمطالعة الكتب التالية:

1 -

مدخل إلى التعريف بالمصحف الشريف، د. حازم حيدر سعيد، ط. معهد الإمام الشاطبي.

2 -

القرآن الكريم .. مقدمة أساسية، عمرو الشرقاوي، مركز تراث.

3 -

علم التفسير .. مقدمة أساسية، عمرو الشرقاوي، مركز تراث.

وبعد ذلك، يقوم بقراءة الكتب التالية:

1 -

المقدمات الأساسية في علوم القرآن، د. عبد الله الجديع، ط. الريان.

2 -

التحرير في أصول التفسير، د. مساعد الطيار، ط. معهد الشاطبي.

3 -

المحرر في علوم القرآن، د. مساعد الطيار، ط. معهد الشاطبي.

ويستعين - مع ما سبق - بالسلاسل الصوتية، ومن أهمها:

1 -

مدخل إلى المصحف الشريف، وعلم القراءات، د. حازم حيدر.

2 -

علوم القرآن، د. محمد الخضيري.

3 -

المهمات في علوم القرآن، د. خالد السبت.

4 -

الطريق إلى صناعة المفسر، د. مساعد الطيار.

ص: 167

5 -

دورة بداية المفسر.

6 -

برنامج أضواء القرآن، وهو من البرامج المهمة.

وفي كتاب (المشوق إلى القرآن - الإصدار الثاني) لعمرو لشرقاوي، منهجٌ موسعٌ مفصل لدراسة علوم القرآن، وأصول التفسير.

ص: 168

‌أريد كتبًا عن تدبر القرآن

1 -

القرآن تدبر وعمل، مركز منهاج، وهو كتاب حافل ومهم.

2 -

الطريق إلى القرآن، إبراهيم السكران.

3 -

هذه رسالات القرآن، د. فريد الأنصاري.

4 -

المشوق إلى القرآن، عمرو الشرقاوي.

5 -

الخلاصة في تدبر القرآن، د. خالد السبت.

6 -

ليدبروا آياته .. حصاد سبع سنوات من التدبر، دار الحضارة.

7 -

أول تدبر، د. نايف الزهراني.

8 -

أول مرة أتدبر القرآن، عادل محمد خليل.

9 -

القواعد والأصول وتطبيقات التدبر، د. خالد السبت.

10 -

تدبر القرآن الكريم، د. عبد اللطيف التويجري.

ص: 169

‌أريد كتابًا ميسرًا في أسباب النزول

1 -

التسهيل في أسباب التنزيل، عمرو الشرقاوي.

2 -

الصحيح المسند من أسباب النزول، مقبل الوادعي.

3 -

الصحيح من أسباب النزول، د. عصام بن عبد المحسن الحميدان.

ص: 170

‌ما أفضل الكتب في قصص الأنبياء؟

1 -

دعوة الرسل للشيخ محمد أحمد العدوي، عناية عمرو الشرقاوي، وهو من أفضل الكتب التي طالعتها في قصص الأنبياء.

2 -

قصص الأنبياء في القرآن الكريم وما فيها من العبر، للعلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي.

3 -

قصص القرآن، لمجموعة من الشيوخ، منهم: محمد أبو الفضل إبراهيم، وعلي البجاوي.

4 -

قصص القرآن الكريم، للدكتور فضل حسن عباس.

5 -

القصص القرآني، د. صلاح الخالدي.

ص: 171

‌أريد بعض الكتب المعينة على إدراك بلاغة القرآن وجمال أسلوبه ولطائفه

إنَّ إدراك بلاغة القرآن وجمال أسلوبه من الموضوعات المهمة، والتي يحصل بإدراكها إدراك جانب من عظمة هذا الكتاب المبين، ومن الكتب في معرفة هذا الجانب ما يلي:

1 -

التحرير والتنوير، للإمام الطاهر ابن عاشور، وهو تفسير قيم من مفاخر التأليف في الجانب البلاغي في القرآن، والتفسير عامَّة.

2 -

كتب الدكتور فاضل صالح السامرائي، وتطبعها دار ابن كثير، وكثير منها متوفر على الشبكة العالمية، وكذلك برامجه المرئية، ومنها:

- لمسات بيانية.

- أسئلة بيانية في القرآن الكريم.

- التعبير القرآني.

- على طريق التفسير البياني.

- بلاغة الكلمة في التعبير القرآني.

3 -

بلاغة تصريف القول في القرآن الكريم، د. عبد الله النقراط، دار قتيبة.

ص: 172

4 -

كتب مركز تدبر، وهي كتب مفيدة، ومهمة، ومنها:

- حصاد سبع سنوات من التدبر.

- الأسرار البلاغية في الفرائد القرآنية، د. عبد الله سرحان.

- بدائع المعاني (آيات الصيام: تدبر وتحليل)، د. عبد المحسن العسكر.

5 -

مجالس القرآن، د. فريد الأنصاري، دار السلام.

ص: 173

‌طبعات الكتب التالية: (تفسير ابن كثير - تفسير ابن جزي)

‌1 - تفسير ابن كثير.

طبعاته متقاربة، وأفضلها - فيما اختبرته -: دار طيبة الطبعة الثانية، ودار ابن الجوزي، ودار عالم الكتب، ولا ينبغي التوقف كثيرًا في التفضيل بين طبعاته، فقد كثرت جدًّا، وصعب التفضيل بينها.

وأما مختصراته، فمن أجودها:

- اليسير في اختصار ابن كثير، إشراف د. صالح بن حميد، وهو أفضلها - في رأيي -.

- عمدة التفسير، للعلامة أحمد شاكر.

- المصباح المنير، للمباركفوري، وعليه شرح للشيخ خالد السبت.

ولا ينبغي الاستغراق في التفضيل بينها.

‌2 - تفسير ابن جزي.

صدرت طبعة دار طيبة بتحقيق ا/ علي الصالحي، وهي طبعة جيدة، أمثل من طبعاته السابقة، وهي أفضل من طبعة دار الضياء المنتشرة، فإن لم توجد

ص: 174

فطبعة المنتدى الإسلامي بتحقيق د. أبو بكر سعداوي، وهي مصورة ومتوفرة على الشبكة.

ص: 175

‌ما رأيك في كتاب (في ظلال القرآن)؟

كتاب (في ظلال القرآن)، لمؤلفه الأستاذ/ سيد قطب رحمه الله، ليس تفسيرًا بالمعنى الاصطلاحي، وأغلب مادته التفسيرية من تفسير الإمام ابن كثير.

وهو كتاب ممتع، يقرأ فيه المسلم فيجد فيه روحًا صادقة، وتأمَّلًا لمعاني كلام الله سبحانه وتعالى لا يجدها عند غيره.

غير أن الكتاب لا يصلح لطالب مبتدئ، فالأفضل أن يُقرأ مع أحد مختصرات التفسير، ليُضبط المعنى، ويُستفاد مما قرره الأستاذ رحمه الله.

وعلى الكتاب مآخذ ذكرها عددٌ من أهل العلم، لكنها لا تنفي قدره، وأهميته.

ويمكن الوقوف على مميزات الكتاب، وأبرز المآخذ عليه من كتاب:(في ظلال القرآن في الميزان)، للدكتور صلاح الخالدي.

ص: 176

‌أريد أسماء كتب لتكوين نواة مكتبة في الدراسات القرآنية

رتبت هذه الكتب بحسب الأهمية - غالبًا -، والدراسة - ثانيًا - إلا ما ندر، وسأجعل قائمة رئيسة بإذن الله تعالى بعد هذه المقدمة.

‌أولًا: كتب التفسير

1 -

المختصر في تفسير القرآن، مركز تفسير.

2 -

اليسير في اختصار ابن كثير، د. صالح بن حميد، كرسي القرآن وعلومه.

3 -

التسهيل لعلوم التنزيل (تفسير ابن جزي)، دار طيبة، أو: المنتدى الإسلامي.

4 -

تفسير ابن كثير، ابن الجوزي، أو: طيبة الثانية، أو: عالم الكتب.

5 -

التحرير والتنوير، للطاهر بن عاشور، دار سحنون.

6 -

زاد المسير، لابن الجوزي، المكتب الإسلامي.

7 -

المحرر الوجيز، لابن عطية، قطر (2015 م)، أو: دار الكتاب العربي.

ص: 177

8 -

فتوح الغيب في الكشف عن قناع الريب، للطيبي، جائزة دبي.

9 -

موسوعة التفسير المأثور، معهد الإمام الشاطبي.

10 -

تفسير الإمام الطبري، عالم الكتب.

11 -

تفسير شيخ الإسلام ابن تيمية، دار ابن الجوزي.

12 -

التفصيل في إعراب التنزيل، د. سعد مصلوح، د. الخطيب، دار العروبة.

‌ثانيًا: كتب علوم القرآن، وأصول التفسير

1 -

هذه رسالات القرآن، د. فريد الأنصاري، دار السلام.

2 -

مدخل إلى التعريف بالمصحف الشريف، د. حازم حيدر، معهد الإمام الشاطبي.

3 -

المشوق إلى القرآن، عمرو الشرقاوي، الإصدار الثاني.

4 -

القرآن الكريم .. مقدمة أساسية، عمرو الشرقاوي، مركز تراث.

5 -

علم التفسير .. مقدمة أساسية، عمرو الشرقاوي، مركز تراث.

6 -

المقدمات الأساسية في علوم القرآن، د. عبد الله الجديع، الريان.

7 -

المحرر في علوم القرآن، د. مساعد الطيار، معهد الإمام الشاطبي.

8 -

التحرير في أصول التفسير، د. مساعد الطيار، معهد الإمام الشاطبي.

9 -

الميسر في علم رسم المصحف، د. غانم قدوري الحمد، معهد الإمام الشاطبي.

10 -

الميسر في علم عد الآي، د. أحمد خالد شكري، معهد الإمام الشاطبي.

ص: 178

11 -

مقدمات في علم القراءات، د. أحمد خالد شكري، دار عمار.

12 -

الأساس في علم القراءات، د. علي الجعفري، أروقة.

13 -

علوم القرآن في الأحاديث النبوية، د. عمر الدهيشي، كرسي القرآن الكريم.

14 -

علوم القرآن عند الصحابة والتابعين، د. بريك القرني، دار التدمرية.

15 -

إمتاع ذوي العرفان بما اشتملت عليه كتب شيخ الإسلام ابن تيمية في علوم القرآن، مجموعة، دار الإمام البخاري.

16 -

علوم القرآن بين البرهان والإتقان، د. حازم حيدر، دار الزمان.

17 -

الإتقان في علوم القرآن، الإمام السيوطي، مجمع الملك فهد.

18 -

البرهان في علوم القرآن، للإمام الزركشي، دار المعرفة، أو دار الحضارة.

19 -

المحرر في أسباب النزول، د. خالد المزيني، دار ابن الجوزي.

20 -

الاستدلال على المعاني في تفسير الطبري، د. نايف الزهراني، مركز تفسير.

21 -

التفسير اللغوي، د. مساعد الطيار، دار ابن الجوزي.

22 -

اختلاف السلف في التفسير، د. محمد صالح، مركز تفسير.

23 -

المفسرون من الصحابة، عبد الرحمن المشد، مركز تفسير.

24 -

دعوة الرسل، الشيخ محمد العدوي، مركز تفكر.

25 -

النبأ العظيم، د. محمد دراز، كتبكم.

26 -

تعريف الدارسين بمناهج المفسرين، د. صلاح الخالدي، دار القلم.

ص: 179

27 -

رسم المصحف، د. غانم الحمد، دار عمار.

28 -

العقائدية، وأثرها في تفسير النص، د. ياسر المطرفي، مركز نماء.

29 -

تفسير آل حاميم، د. محمد أبي موسى، مكتبة وهبة.

30 -

آيات العقيدة المتوهم إشكالها، زياد العامر، دار المنهاج.

31 -

مقالا في علوم القرآن وأصول التفسير، د. مساعد الطيار، مركز تفسير.

32 -

بحوث محكمة في علوم القرآن، د. مساعد الطيار، مركز تفسير.

33 -

من إعجاز القرآن في أعجمي القرآن، د. رؤوف أبو سعدة، دار الميمان.

34 -

الشاهد الشعري، د. عبد الرحمن الشهري، دار المنهاج.

وعامة إصدارات: «مركز تفسير للدراسات القرآنية» ، «كرسي القرآن الكريم وعلومه بجامعة الملك سعود» ، «معهد الإمام الشاطبي بجدة» ، «مؤسسة مبدع بالمغرب» ، «مركز منهاج» ، «مركز تدبر» ، «الجمعية السعودية للقرآن وعلومه» ، «جمعية المحافظة على القرآن بالأردن» ، «كراسي القرآن في الجامعات» ، «مجمع الملك فهد» ، «دار التفسير» ، وغيرها مما يحرص على معرفة إنتاجهم، ومتابعة المهم فيه.

ويمكنك الاطلاع على المنتقى من كتب الدراسات القرآنية (100 كتاب)، لأستاذنا الدكتور عبد الرحمن بن معاضة الشهري.

ص: 180

‌أريد قائمة مختصرة في الدراسات القرآنية

1 -

المختصر في تفسير القرآن، مركز تفسير.

2 -

اليسير في اختصار ابن كثير، د. صالح بن حميد، كرسي القرآن وعلومه.

3 -

التسهيل لعلوم التنزيل (تفسير ابن جزي)، دار طيبة، أو المنتدى الإسلامي.

4 -

هذه رسالات القرآن، د. فريد الأنصاري، دار السلام.

5 -

مدخل إلى التعريف بالمصحف الشريف، د. حازم حيدر، معهد الإمام الشاطبي.

6 -

المشوق إلى القرآن، عمرو الشرقاوي، الإصدار الثاني.

7 -

القرآن الكريم .. مقدمة أساسية، عمرو الشرقاوي، مركز تراث.

8 -

علم التفسير .. مقدمة أساسية، عمرو الشرقاوي، مركز تراث.

9 -

المقدمات الأساسية في علوم القرآن، د. عبد الله الجديع، الريان.

10 -

المحرر في علوم القرآن، د. مساعد الطيار، معهد الإمام الشاطبي.

11 -

التحرير في أصول التفسير، د. مساعد الطيار، معهد الإمام الشاطبي.

ص: 181

12 -

الأساس في علم القراءات، د. علي الجعفري، أروقة.

13 -

دعوة الرسل، الشيخ محمد العدوي، مركز تفكر.

14 -

النبأ العظيم، د. محمد دراز، كتبكم.

15 -

تنزيه القرآن الكريم عن دعاوى المبطلين، منقذ السقار، مركز تكوين.

ص: 182

‌لمن أتوجه بالسؤال عما يشكل علي فيما يتعلق بالقرآن؟

يمكن الرجوع في السؤال عن القرآن وما يتعلق به للمواقع الآتية:

1 -

مركز تفسير للدراسات القرآنية، وحسابهم: الاستشارات القرآنية.

3 -

موقع «الإسلام سؤال وجواب» قسم القرآن وعلومه.

ص: 183

‌ثامنًا: ملحقات الكتاب

أفياء .. منشورات قرآنية

ص: 185

(1)

أفياء

‌سورة البقرة

(1)

{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124].

منزلةُ الرجل من ربه تكون بمقدار قيامه بما أوجبه الله عليه، وعنايته بالتكاليف.

(2)

من كثُرت معرفتُه بالقرآن = تفجَّرت الحكمة في قلبه وعلى لسانه، قال الله:{يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [البقرة: 269]، قال أهل التفسير: الحكمة، هي المعرفة بالقرآن.

ص: 187

‌سورة آل عمران

صَرَّح القرآن باسم محمد صلى الله عليه وسلم في أربعة مواضع:

ثلاثة منها في وصفه بالرسالة، {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل} [آل عمران: 144]، {ما كان محمد أبا أحد من رجالكم، ولكن رسول الله} [الأحزاب: 40]، {محمد رسول الله} [الفتح: 29].

والرابعة في ذكر إنزال القرآن عليه، {وآمنوا بما نزل على محمد} [محمد: 2]!

‌سورة النساء

(1)

{وإنَّ منكم لمن ليبطئن} [النساء: 72].

لا تكن بطيئًا في العبادة، أقبل على الله وطاعته، قبل أن تندم على انصرام الأيام، وتقول حين ينتهي العمر، {يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما} [النساء: 73].

لا تزال فرص الفوز بيدك، فاستمسك بها.

(2)

{كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا} [النساء: 94]، هذه قاعدةٌ عظيمةٌ في رحمةِ خلق الله.

(3)

يقول الله سبحانه: {وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112)} [النساء: 111 - 112].

ص: 188

فليتَّق الله من يرمي الناس بما هم منه براء، والمنصف العاقل من أنصف في كل حال!

‌سورة المائدة

(1)

أولى العقود بالوفاء؛ العقد الذي عقده الإنسان مع ربه، أن يعمل الصالحات فيدخل الجنة، فمن وَفَّى وُفِّيَ له!

{يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} [المائدة: 1].

(2)

{ولا تتبع أهوائهم عما جاءك من الحق} [المائدة: 48]!

من عرف الحق كان عليه أن يلزمه، وألا يتركه لقول أحد كائنًا من كان، وعلى الحق نور يدركه من نُوِّرت بصيرته، والله يهدي الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه.

اللهم إنَّا نسألك أن ترينا الحق حقًّا، وأن ترزقنا اتباعه.

(3)

في ختام سورة المائدة (العقود) مشهدٌ عظيم مهيب ينبغي أن يستحضره كل متصدر، ومريد للإصلاح.

يبدأ المشهد بجمع أفضل البشر، وأئمَّة الخلق، رسل الله، ليسألهم الرب العظيم {فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ} [المائدة: 109]، ماذا صنعت أممكم في دعوتكم إياهم؟

ليذهل الرسل عن الجواب خوفًا وفرقًا فإنَّ الرب غضب غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله.

ص: 189

لقد ذهل الرسل عن الجواب الذي علموه، لقد نسي المرسلون كل تكذيب وقع لهم، وكل إيمان حصل بهم من شدة الهول والخطب.

هذا في قول بعض السلف.

وقال آخرون: لا علم لنا فوق ما تعلمه ربنا، وفيه الأدب التام مع الرب العظيم الذي يسألهم في هذا الموقف العظيم.

وفيه: أنهم إنما علموا الظواهر دون البواطن، فتأدَّبوا في خطابهم لربهم، وردُّوا العلم له، وهو العليم الخبير الذي علم كل شيء.

ثم يتحول المشهد لنبي ضلَّت أمة كثيرة في شأنه، ليوجز مشاهد حياته، وما أنعم الرب عليه، وليذكر (المائدة)، وشأنها، ثم يخاطبه الله تعالى قائلًا له - حين رفعه أو يوم القيامة -:

{أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة: 116].

فيكون الجواب الموجز أولًا:

{سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} [المائدة: 116].

ثم يأتي التفصيل:

{إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [المائدة: 116].

ويستطرد أنه مُبَلغٌ ما أمره الله به، لا يزيد ولا ينقص.

ترى أنه يدفع عن نفسه بكل سبيل وهو صادق، أنه لم يتعد حدوده، وهكذا ينبغي لكل مصلح أن يعلم حده، وألا يتكلم إلا فيما يحسن، فإنه مسؤول.

لتُختم السورة بأعظم ختام في هذا الموضع.

ص: 190

{قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [المائدة: 119].

هذه الحقيقة التي لا ينبغي أن تغفل عنها يا من وضعت نفسك موضع التصدر، والسيادة، لا ينجيك يومئذٍ إلا صدقك.

فاجعلنا اللهم من الصادقين.

‌سورة الأنعام

(1)

مما تعلمنا المحن؛ إدراك حقائق الوحي التي تمر علينا أوقات الصَّفاء فلا تقع منا موقعها لانشغال قلوبنا عنها.

الله العظيم يقول عن نفسه:

{وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 18]، وقال:{وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} [الأنعام: 61].

فبقهره خضع له كل شيء، وبحكمته وخبرته تطمئن أنَّ كل شيء في موضعه ومكانه.

وبقهره تدرك أن لا ملجأ منه إلا إليه، وأن الموت إن قُدِّر عليك، فلن تفر منه، لأن رسل الله لن تفرِّط.

وإن لم يأت أجلك، فاطمئن، فإنَّ نفسًا لن تموت حتى تستوعب رزقها، وتستوفي أجلها!

ص: 191

إنَّ الحقيقة التي يُعلمنا القرآن إياها، أن تعمل صالحًا، وأن تستعد للقاء الله!

هذه فرصة جيدة لتتعرف مرة أخرى على المعاني التي بثها القرآن لأهل الإيمان، وتأمَّل إن شئت قوله سبحانه:

{قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} [الأحزاب: 16 - 17].

(2)

{فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 43].

نزول البأس = مَوْقِدُ التضرع!

بعض النفوس لا يزيدها التخويف من الله إلا طغيانًا كبيرًا، تلك قلوب ماتت، لم تعد تشعر بالحياة، أما القلوب الحية فربما أصابها الظلام، وطائف الشيطان، بانعدام للرؤية، فإذا ذُكِّروا تذكَّروا فأبصروا، فعاشوا بالإبصار في نعيم.

(3)

قال سبحانه: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام: 54].

«وصفهم بالإِيمان بالقرآن واتباع الحجج، بعد ما وصفهم بالمواظبة على العبادة، وأمره بأن يبدأ بالتسليم أو يبلغ سلام الله تعالى إليهم، ويبشرهم بسعة رحمة الله تعالى وفضله، بعد النهي عن طردهم.

إيذانًا بأنهم الجامعون لفضيلتي العلم والعمل.

ص: 192

ومن كان كذلك ينبغي أن يقرَّب ولا يطرد، ويُعَز ولا يذل، ويبشَّر من الله بالسلامة في الدنيا والرحمة في الآخرة»، [أنوار التنزيل وأسرار التأويل:(2/ 164)].

‌سورة الأعراف

(1)

قال تعالى: {كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 2].

وفي الآية أنَّ «كتاب الأحباب تحفة الوقت، وشفاء لمقاساة ألم البعد، وهو لداء الضنى مزيل، ولشفاء الشكِّ مقيل» ، [لطائف الإشارات = تفسير القشيري:(1/ 518)، الضنى: المرض. مقيل: مكان الراحة].

(2)

قال الطبري (ت: 310): «إنه لا حالة من أحوال المؤمن يغفل عدوُّه الموكل به عن دعائه إلى سبيله، والقعود له رصدًا بطرق ربِّه المستقيمة، صادًّا له عنها، كما قال لربه، عز ذكره، إذ جعله من المنظرين:{قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 16 - 17] طمعًا منه في تصديق ظنه عليه إذ قال لربه: {لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 62].

فحقٌ على كل ذي حجى أن يُجهد نفسه في تكذيب ظنِّه، وتخييبه منه أمله وسعيه فيما أرغمه، ولا شيء من فعل العبد أبلغ في مكروهه من طاعته ربه، وعصيانه أمره، ولا شيء أسر إليه من عصيانه ربه، واتباعه أمره»، [نقله الذهبي (ت: 748) في سير أعلام النبلاء: (14/ 278)].

ص: 193

(3)

يا هذا: لا تأخذنَّ بقول كل ناصح، فإنَّ الشيطان قال لأبويك:{إني لكما لمن الناصحين} [الأعراف: 21]، ولم يكتف بذلك بل أقسم عليه!

فكان ما كان .. فلا تغتر.

(4)

ولا يزال الشَّيطان يزين لك أنها السَّعادة الأبدية؛ فإذا واقَعْتَها رأيت حقارة الأمر ووضاعته!

فلا تفعل فإنه فخ قديم وقع فيه أبواك ..

فكن على حذر.

(5)

وقال الكليم موسى لقومه، وهم مستضعفون في الأرض، يخافون أن يتخطفهم فرعون وجنوده، {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف: 128].

كن من أهل التقوى، تكن لك العاقبة!

(6)

أشدُّ ما يَصُدُّ عن الانتفاع بالقرآن، ويفسد العالم وطالب العلم:

أولًا: التعلق بالدنيا، وإيثارها على الآخرة.

ثانيًا: واتباع الهوى.

فأمَّا الدنيا فمهلكة أي مهلكة، والتعلق بها له صور خفية وأخرى جلية، فمن صوره الخفية: تقديم أهلها ومحبتهم والركون إليهم ومحاولة مزاحمتهم فيها.

وأما اتباع الهوى، فكمحاولة البحث عن الآراء الشاذة لتجويز المحرم، أو الاستهانة به، أو التهوين من شعائر الله.

وينتج عن هذا انسلاخ من الآيات وإعراض عنها، وتبرؤ منها، بحجة أنه قديم، والإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره.

ص: 194

وقد قص الله علينا قصة (بلعام) فقال: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ * سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ * مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ)[الأعراف: 175 - 178].

‌سورة الأنفال

(1)

إذا فتح الله للإنسان بابًا لفهم الكتاب، والعمل به، فليستمسك به، فإنه علامة خير وبركة، ألا ترى أن الله تعالى قال عن قومٍ:

{ولو علم الله فيهم خيرًا لأسمعهم} [الأنفال: 23]، أي: سمع انتفاع وعمل.

(2)

مهما اجتهد الطُّغاة في إسكات الحق، فإنَّه لا محالة ظاهر، والله يتم نوره ولو كره المجرمون!

{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30].

(3)

ربُّنا الودود، يجعل في قلوب عباده وُدًّا لأناس، وبغضًا لآخرين ..

{لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم، ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم} [الأنفال: 63].

ص: 195

‌سورة التوبة

(1)

{فلا تظلموا فيهن أنفسكم} [التوبة: 36].

هذا هو شعار المؤمن في الأشهر الحرم،

لا تظلم نفسك، ولا تظلم غيرك، ولا تساعد أحدًا على الظلم!

(2)

عن عمرو بن الحارث، عن أبيه: أن أبا بكر الصديق، رحمة الله تعالى عليه حين خطب قال:«أيكم يقرأ سورة التوبة؟» قال رجل: أنا، قال: اقرأ، فلما بلغ:{إذ يقول لصاحبه لا تحزن} [التوبة: 40] بكى أبو بكر وقال: «أنا والله صاحبه» ! [جامع البيان: (11/ 466)].

من صفة الصاحب حقًّا = نفي الحزن عن صاحبه، وبث السكينة والطمأنينة في قلبه، ألا ترى إلى أعظم الأصحاب، وهو محاط به مع صاحبه، لما رأى الحزن داخل قلبه، قال له:{لا تحزن إن الله معنا} [التوبة: 40]!

(3)

«لا بد من أذى لكل من كان في الدنيا، فإن لم يصبر على الأذى في طاعة الله بل اختار المعصية؛ كان ما يحصل له من الشر أعظم مما فر منه بكثير.

{ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا} [التوبة: 49]!

ومن احتمل الهوانَ والأذى في طاعة الله على الكرامةِ والعزِّ في معصية الله - كما فعل يوسف عليه السلام وغيره من الأنبياء والصالحين - كانت العاقبة له في الدنيا والآخرة، وكان ما حصل له من الأذى قد انقلب نعيمًا وسرورًا.

كما أن ما يحصل لأرباب الذنوب من التنعم بالذنوب ينقلب حزنًا وثبورًا»، [مجموع الفتاوى، ابن تيمية: (15/ 132)]

(4)

المنافِقُونَ والحاكمونَ بغير ما أنزل الله يبحثون عن حلول الأزمات، والمخرج منها.

ص: 196

لكنَّ بحثهم للدنيا لا لمراعاة الآخرة وشؤونها، وكذلك كان سلفهم من المنافقين.

وقد أظهر الله سريرتهم في أكثر من سورة من أجلِّها السورة الفاضحة (سورة التوبة).

إنهم ينفقون أموالهم، لكنها رِئَاءَ الناس.

إنهم لا يقيمون للدين وزنًا، ولو كان عرضًا قريبًا وسفرًا قاصدًا لاتبعوه.

إنهم يبنون المساجد، لكنَّها مساجد الضرار، ما التقوى أرادوا ببنائها.

وليحلفنَّ إن أردنا إلا الحسنى!

إنَّ اقتصادهم يحركهم، يخافون من انهياره، {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [التوبة: 93]!

لكنهم لا يقيمون لانهيار دين الناس وزنًا.

ومع ذلك يتبجحون قائلين: {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة: 11]!

{أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 12].

‌سورة يونس

(1)

{يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم} [يونس: 23]!

ما من ذنب أجدر أن يعجِّل الله عقوبته في الدنيا، مع ما يدخر الله لصاحبه في الآخرة، من البغي.

ص: 197

(2)

{قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} [يونس: 69 - 70]، {إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النحل: 116 - 117].

الافتراءُ على الله تعالى وطمس الحق عادة الطغاة والذين يشرعون لهم، والله يُذْهِبُهُ ويمحقُه، متاعٌ قليلٌ، ويذيقُهم الله العذاب الشديد المؤلم.

‌سورة هود

(1)

قال هود لقومه: {إنِّي أُشْهِدُ الله واشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ ممَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ} [هود: 54 - 55].

إنَّ هذه آية من آيات الله في أنصار الحق، وعبرةٌ من العبر، من آيات الله فيهم أن يزيل من قلوبهم هيبة الظالمين، وخشية المفسدين؛ «لأنَّ قلوبهم امتلأت بالخشية من الله والخوف منه، ولأنَّهم واثقون بضعف كيد الشيطان، وأنصار الباطل، وقد أرانا الله - تعالى - أنَّ الباطل لَجْلَج، وأنَّ الحق واضح أَبْلَج، وأنَّ العاقبة لأوليائه، والخذلان لأعدائه، وقدوتنا الحسنة في ذلك أئمة الهدى، وهداة البشر، مَنْ اختارهم الله - تعالى - لقيادة الناس، وسعادة الإنسانية، فهم الذين يرسمون لنا طريق الدعوة، ويعرفوننا الاستهانة بالباطل، وإكبار الحق، ومن أجل ذلك كانوا أشجعَ الناس قلوبًا، وأوثقهم عقيدة، وأربطهم جأشًا، تضطرب الأرض ومن عليها بفساد المفسدين وهم لا يضطربون، وتضجُّ من هول الجبابرة

ص: 198

والمستكبرين، وهم على دينهم دائبون، وبدعوتهم معتصمون، وعلى ربهم متوكلون»، [دعوة الرسل، محمد أحمد العدوي].

(2)

بعد سردٍ تاريخي موسع لقصص الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم في سورة (هود)، وذكر لعناد أقوامهم، واستعراض لمسيرة الدعوة الإسلامية في التاريخ البشري كله، وبيان أصولها، ذكرت السورة انقسام الناس في الآخرة إلى سعداءَ وأشقياء.

وذكرت السور أوصاف السعداء ليأتي في مقدمها: عدم السير في ركاب الظلمة.

إنَّ من أهم الصفات التي يتحلى بها أتباع الأنبياء من الدعاة والمصلحين ألا يناصروا ظالمًا قط، وألا يمضي أحدهم في ركابه، وألا يبيع أحدهم دينه ليرضي ظالمًا، ومن أعان ظالمًا بُلي به.

انتقم الله من الظالمين، وحشرنا في زمرة المصلحين، وبصَّرنا بالحق، وجعلنا من أهله.

‌سورة يوسف

(1)

قال إخوة يوسف: {اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ} [يوسف: 9].

«قديمًا قيل: من طلب الكل فاته الكل فلما أرادوا أن يكون إقبال يعقوب عليه السلام بالكلية عليهم قال تعالى: {وَتَوَلَّى عَنْهُمْ} [يوسف: 84]» ، [لطائف الإشارات = تفسير القشيري:(2/ 170)].

ص: 199

(2)

«البلاء إذا هجم هجم مرة، وإذا زال زال بالتدريج!

حلَّ البلاء بيعقوب مرة واحدة حيث قالوا: {فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ} [يوسف: 17]، ولما زال البلاء .. فأولًا وجد ريح يوسف عليه السلام، ثم قميص يوسف، ثم يوم الوصول بين يدى يوسف، ثم رؤية يوسف»، [لطائف الإشارات = تفسير القشيري:(2/ 205)].

(3)

صبر يوسف عن لقاء الملك، فأبدله الله عزًّا وملكًا، فمن قول الملك:{ائتوني به} [يوسف: 50]، إلى قوله:{ائتوني به أستخلصه لنفسي} [يوسف: 54]!

فكيف لو صبرت عن شهواتك المحرمة؟! صبر ساعة، ونجاة الدهر.

(4)

«قال بعض أهل التأويل: في هذه الآية، أي قوله: {اجعلني على خزائن الأرض} [يوسف: 55] = ما يبيح للرجل الفاضل أن يعمل للرجل الفاجر، بشرط أن يعلم أنه يفوض إليه في فصل ما لا يعارض فيه، فيصلح منه ما شاء وأما إن كان عمله بحسب اختيار الفاجر وشهواته وفجوره، فلا يجوز له ذلك» ، [المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز:(3/ 256)].

(5)

بعض التهم تحتاج إلى سكوت منك وتغافل، لا ترد عليها، وثق أنهم يومًا ما سيعرفون الحقيقة!

{قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم} [يوسف: 77]!

(6)

لا ينفكُّ المحب عن ذكر حبيبه وإن طال الزمن!

{قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين} [يوسف: 85].

ص: 200

(7)

طال انتظار يعقوب غير أنه لم ييأس، وابيضت عيناه من الحزن غير أنه لم يقنط.

ونصح قائلًا: {لا تيأسوا من روح الله، إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون} [يوسف: 87] .. اللهم رحمتك.

(8)

قال الكريم لرسول الملك: {ارجع إلى ربك فسأله ما بال النسوة} [يوسف: 50]، «فنكب عن ذكر امرأة العزيز حسن عشرة، ورعاية لزمام الملك العزيز له» ، ابن عطية.

قلت: وفي قوله سبحانه عن الكريم سليل الكرام: {وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن} [يوسف: 100]!

تنبيهٌ على خلق عظيمٍ جدًّا.

فإنَّ يوسف لم يذكر خروجه من الجب = مع كونه أشد، وأعظم، إذ كان غلامًا صغيرًا وحيدًا في جُبٍّ مظلم متروك للأهوال والمخاوف.

لم يَذْكر الجب، وذكر السجن = لئلا يؤذي مشاعر إخوته [وهم الذين رموه في الجب]، وقد عفا عنهم قبل قليل.

اللهم صل على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم!

(9)

قد يطُول الطريق حتى تبصر لطف الله بك، فلا تأخذك العجلة، {إن ربي لطيف لما يشاء} [يوسف: 100].

(10)

حين يعاين المؤمن نعم الله التي تتوالى عليه تترى؛ يتشوَّف للنعيم الخالد فينطلق لسانه داعيًا {توفني مسلمًا وألحقني بالصالحين} [يوسف: 101].

(11)

في ختام السورة العظيمة، ابتداء تنبيه من الله تعالى على الطريق الحق، {إن هو إلا ذكر للعالمين} [يوسف: 104]، «ابتدأ الله تعالى الإخبار عن

ص: 201

كتابه العزيز أنه ذكر وموعظة لجميع العالم - نفعنا الله به وَوَفَر حظَّنا منه بعزته -»، [المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز:(3/ 285)].

(12)

{ولدار الآخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون} [يوسف: 109]؟!

لم يكن الكريم يوسف حين قصَّ الرؤيا على أبيه يعلم ما تحمله له الأيام في طياتها، ولم يكن أبوه يعلم حين أخذ ولده منه إلى ما يصير.

لم يكن يوسف على علمٍ لم هذه البلاءات المتتالية، لم الجبُّ، والنِّسوة، والسجن؟

لم فارق أباه؟

لم حسده إخوته؟

لم ظُلِم ووضِعَ في السجن؟

لكنه أدرك كل هذا، وكانت الحكمة العظيمة:{إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم} [يوسف: 100]!

فكم لله من لُطفٍ خفي

يَدقُّ خفاه عن فهمِ الذَّكي

وكم يسرٍ أتى من بعد عسرٍ

ففرَّج كربةَ القلبِ الشَّجي

وكم أمرٍ تُسَاءُ به صباحًا

فتأتيك المسرة بالعشي

(13)

في سورة الكريم سليل الكرماء، يوسف عبر عظيمة وآلاء جسيمة، تأمَّل كيف أنجاه الله من حسد إخوته، بوضعه في الجب، ثم أنجاه من الجب، إلى بيت العزيز.

وأنجاه من كيد النسوة، بوضعه في السجن، ثم أنجاه من السجن، ليكون العزيز.

ص: 202

خفضٌ ورفعٌ، ومحنة فمنحة= هذه هي الدنيا، ومع ذلك أعلنها حقيقة مدوية:

{توفني مسلمًا، وألحقني بالصالحين} [يوسف: 101]!

(14)

قميصُ يوسف: دل على كذب إخوته، ودل على براءته من الفاحشة، ورد الله بصر يعقوب به، فسبحان من يتصرف في الكون بالتدبير واللطف.

(15)

بعض المحبة بلاء، وفي قصة الكريم يوسف النبأ = أحبته عمته، وأحبه أبوه، وأحبته امرأة العزيز، فابتُلِيَ من جرَّاء تلك المحبة بما لا يخفى!

(16)

مهما امتلأت حياتُك بالأحداث فلا بد أن تكون غايتك كغاية يوسف عليه السلام، فإنَّ حياته المليئة بالأحداث بين محنة ومنحة، وبيع ومُلْك، وفراق واجتماع، ووحشة وأُنْس.

إلا أنه ختم قصته بقوله: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف: 101].

وقال جدُّه الخليل: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ} [الشعراء: 83 - 85].

وقال حفيده سليمان: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل: 19].

(17)

«أطول الناس حزنًا من لاقى الناس عن مرارة، وأراد تأخير من قدَّمه الله، أو تقديم من أخَّره الله فإخوة يوسف عليه السلام أرادوا أن يجعلوه في أسفل الجبِّ فرفعه الله فوق السرير!» ، [لطائف الإشارات = تفسير القشيري:(2/ 170)].

ص: 203

‌سورة الحجر

(1)

بعضُ الناس إذا ابتلي بذنب ومعصية أدركه اليأس والقُنوط، فيدفعه إلى الاستمرار بالذنب والمجاهرة به، والإصرار عليه.

وهذا كفعل إبليس، إذ قال لربه:(فأنظرني إلى يوم يبعثون)[الحجر: 66]، فسَأَل تأخير عذابه زيادة في بلائه كفعل الآيس من السلامة، نسأل الله العافية.

أمَّا آدم عليه السلام فإنه تاب فتاب الله عليه، {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23].

(2)

جاء قوله تعالى: {لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم} [الحجر: 88] بعد قوله سبحانه: {{وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [الحجر: 87].

والمعنى: «قد أغنيتك بالقرآن عمَّا في أيدي النَّاس، فإنَّه ليس منَّا من لم يتغن بالقرآن، أي ليس منَّا من رأى أنَّه ليس يغنى بما عنده من القرآن حتى يطمح بصره إلى زخارِفِ الدنيا وعندَه معارِفُ المولى» ، [الجامع لأحكام القرآن:(10/ 56)].

‌سورة الكهف

الكليم موسى، والخضِرُ المعلَّم يستطعمان أهل قرية فيقابلوا بالرفْضِ والإِبَاء!

فأيُّ قيمة للدنيا إذًا؟!

ص: 204

قال سبحانه: {فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما} [الكهف: 77]، «وهذه عبارةٌ مصرحةٌ بهوَان الدنيا على الله» ، [المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز:(3/ 533)].

‌سورة مريم

{ذكرُ رحمت ربك عبده زكريا} [مريم: 2] .. الذي أَعْلَن رحمة الله به، وأنه لم يخيب له دعاءً {ولم أكن بدعائك رب شقيًا} [مريم: 4].

يقول: ولم أشْقَ يا رب بدُعَائِك، لأنَّك لم تخيب دعائي قبلُ إذْ كنت أدعوك في حاجتي إليك، بل كنت تجيب وتقضي حاجتي قِبَلَك.

وخافت الشريفة البتول مريم على عرضها، فاستعاذت بالرحمن، ليَقِيَها شرَّ من ظنَّت أنه يتهجم عليها، فأجابها أنَّه رسول ربها {ليهب لك غلامًا زكيًا} [مريم: 19].

في ساعات الضيق = تكون الرحمة، ومع الشدَّة يأتي الفرج، إنَّنا نتعامل مع الله الرحمن .. الكريم .. اللطيف.

وحينها نطق عيسى في المهد، ليعلن براءة أمه، وليخبر الناس - كل الناس - أنَّه عبد لله .. الله هو الحق، وهو الذي يظهر الحق، وهو الذي يقضي الحق، وهو خير الفاصلين.

ص: 205

‌سورة الأنبياء

لم تكن دعوةُ الأَنبياء مقصورة على بيان الحق وإيضَاحِه فحسْب، بل جمعوا إلى ذلك هدم الباطل، وتقويض صروحه، وإعلانِ البراءة منه، ومن أتباعه، وبيان وجهه القبيح.

لقد قال الخليل لقومه: {أفٍ لكم ولما تعبدون من دون الله} [الأنبياء: 67]، وقال موسى:{رب بما أنعمت عليَّ فلن أكون ظهيرًا للمجرمين} [القصص: 17].

ومن أصول الدين العظيمة الحبُّ في الله، والبغض في الله.

‌سورة الشعراء

إياك أن تهون من الوعظ، وترقيق القلوب:

فإنَّ قومًا بلغت بهم الحال إلى أن صارت مواعظ الله، التي تذيب الجبال الصُّم الصلاب، وتتصدع لها أفئدة أولي الألباب، وجودها وعدمها - عندهم - على حد سواء = لقوم انتهى ظلمهم، واشتد شقاؤهم، وانقطع الرجاءُ من هدايتهم.

ولهذا قالوا: {سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين} [الشعراء: 136]!

نسأل الله العافية.

ص: 206

‌سورة القصص

(1)

العجيب أنَّ سورة القصص لا تحوي إلا قصة موسى عليه السلام، وقصة قارون لعنه الله!

لكنها في حقيقتها قصص فريدة تمتزج امتزاجًا عجبًا.

تبدأ بذكر تمكين المستضعفين.

فقصة الطاغية.

فقصة وزير الطاغية.

فقصة جنود الطاغية.

فقصة أم موسى.

فامرأة فرعون.

فأخت موسى.

فنشأة موسى.

فمعصية موسى، وتوبته.

فصاحب سوء لا يأمر إلا بالشر، ولا يأتي منه إلا شر.

فرجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه، نصَّاح لموسى، خائفٌ عليه وعلى دعوته.

فهرب موسى من مصر، وخوفه.

فمشهد مدين، وامرأتان تذودان لأن أباهما شيخ كبير.

فشهامة موسى ومساعدته لهما على فاقته وجوعه.

فقصة الشيخ الكبير الذي آوى موسى وهدَّأ روعه.

ص: 207

فنعمة الله على الخائف الطَّريد بتزويجه وتعدُّد الإنعام عليه.

فقصة النور الذي آتاه الله لموسى.

فقصة سؤال موسى ربه أن ينعم على أخيه بالنبوة، لنعلم أنَّ الوظائف الدينية لا تتزاحم.

فقصص مجملة، تحوي مصير أمم أهلكها الله، قرى طغت وتجبرت.

ثم قصَّة الطغيان الاقتصادي بذكر مثال له، وهو قارون.

فقصَّة الجهلة الذين فرحوا به وتمنوا حاله.

فدورُ أهل العلم في إصلاح رؤية الجهلة، لأنهم أبصَروا الحقيقة التي جهلها هؤلاء.

{تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83].

فقصة خروج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة، ووعد الله له بالرجوع إليها في موعد يعلمه الله.

سبحانك .. سبحانك كل شيء هالك إلا وجهك، لك الحكم، وإليك المرجع.

(2)

{ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون} [القصص: 5 - 6]!

تأمَّلوا هذه العظمة والإحاطة في الحديث عن المن، وجعل المؤمنين أئمة ورثة، والتمكين، والمكر بالظالمين!

ص: 208

إنَّ المُؤمن يأوي إلى ركن شديد، فاللهم هيئ لنا من أمرنا رشدًا، وعليك بالظالمين ومن عاونهم.

(3)

أرسل الله تعالى موسى لفرعون (الذي يمثل سلطة الحكم)، وهامان (الذي يمثل سلطة الدين)، وجمع الله بينهما مع قارون (الاقتصاد)، فقال:

{إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين} [القصص: 8].

{ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين إلى فرعون وهامان وقارون} [غافر: 23]، وغيرها.

فتأمَّل كيف جمع بينهما، ونسب الجنود لهما جميعًا!

فلكل فرعون هامان يخاف على سلطته ونفوذه، ويقلب الحق باطلًا والباطل حقًّا.

والله تعالى ينتقم منهم جميعًا ويأذن بهلاكهم ليكونوا لمن خلفهم آية.

(4)

من شِيَم الكرام مساعدة من يحتاج المساعدة، عرفه أو لم يعرفه، طلب منه أو لم يطلب، ذكرًا كان أو أنثى!

ألا ترى إلى الكليم، كيف حَمَله نبلُ أخلاقه وجميل صفاته، حين رأى ابنتي الرجل الصالح تذودان، وسألهما: فأخبراه الخبر،

{فسقى لهما} [القصص: 24]، بلا عوض طلبه، إلا الأجر من الكريم.

فأكرمه الله، وأمَّنَه، وزوَّجه، وصار من المرسلين.

(5)

{ولا تنس نصيبك من الدنيا} [القصص: 77]!

هكذا أهل العلم حين ينصحون، يوجزُون في اللفظ، ويبدعُون في المعنى.

(6)

العالم بالله وأمره إن أبصَرَ الحق = بصَّر الناس به، وحثَّهم عليه!

ص: 209

{وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحًا} [القصص: 80]!

(7)

العلماءُ حقًّا لا يميلون لأهل الدنيا، ولا يلهثون وراءهم طلبًا لأموالهم، بل لهم عزة ومنعة، ونصحٌ لمن مَال:{وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحًا} [القصص: 80]!

وكم من عالم مَالَ لأهل الدنيا - بتأويل وبغير تأويل - فأفسدوا عليه دنياه وآخرته، وشانُوه واحتقروه.

ولو أنَّ أهل العلمِ صَانوه صانهم

ولو عظَّموه في النفوسِ لعظما!

‌سورة العنكبوت

(1)

في سورة العنكبوت تثبيتٌ لأهل الإيمان أمام طواغيت الأرض، فيها ثباتٌ وصبر على المحن، فيها نصر لأهل الإيمان، فيها أن العاقبة لهم.

في سورة العنكبوت بيان أنَّ الأرض لله، وأنَّ فيها متسعًا لمن ضيق عليه في دينه.

فيها أمر ببلاغ القرآن .. بلاغ القرآن .. بلاغ القرآن، ووصف لحملته.

ذكر الله في سورة (العنكبوت) وَهَنَ الطواغيتِ وأتباعهم، وكيف أن الله أهلكهم وما كانوا سابقين.

فيها بيان لأهل الإيمان ألا يتخذوا من دون الله أولياء!

ص: 210

فيها بيان الجزاء الأخروي، وأنَّ الغُرَفَ للذين آمنوا وعملوا الصالحات، العاملين بأمر الله، الصابرين على نعمائه وبلائه.

فيها أن الرزق بيد الله لا بيد غيره.

فيها وفيها، فاملؤوا أَنْفُسَكُمْ من الوحي، عظِّموه، أزيلوا به رانًا على هاتيك القلوب، وظلمة في تلك النفوس!

{أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون} [العنكبوت: 51].

{وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون!} [العنكبوت: 64].

{والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين} [العنكبوت: 69].

إنه وحي فتعرضوا له!

(2)

إذا كان المقصدُ الله؛ ستجد المعِين الذي يأخذ بيدك إلى الآخرة، فيصير لك وليًا حميمًا شافعًا.

وإذا كان المقصد غير الله؛ سيجد المعين كذلك، والمجامل، ومن لا يعتقد اعتقاده لكنه يريد دنياه.

لكن: سيكفر يوم القيامة بعضهم ببعض ويلعن بعضهم بعضًا!

قال الخليل: {وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [العنكبوت: 25].

هؤلاء قومٌ أحب بعضهم بعضًا، بحيث لا يخالف أحدهم محبوبه وإن لاح له أنه على ضلال.

ص: 211

والعاقل من علم أنَّ اللذات العاجلة لا عِبرة بها إن كانت تَعقِبها ندامة آجلة.

«ويدخل في هذا كل من وافق أصحابه من أهل المعاصي أو البطالة على الرذائل ليعدوه حسن العشرة مهذب الأخلاق لطيف الذات، أو خوفًا من أن يصفوه بكثافة الطبع وسوء الصحبة.

ولقد عم هذا لعمري أهل الزمان ليوصفوا بموافاة الإخوان، ومصافاة الخلان، معرضين عن رضى الملك الديان»، [نظم الدرر في تناسب الآيات والسور:(14/ 424)].

(3)

عملية الإصلاح شاقة لا تُنَال بالراحة، بل يُرحَل إليها على جسر من التعب، وفي آخر سورة العنكبوت، بعد الحديث عن الفتنة في الدين والدنيا، وَضَعَ العلاج فقال سبحانه الكريم:

{والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين} [العنكبوت: 69]!

فاصبروا، وصابروا، ورابطوا، واتقوا الله،

= لعلكم تفلحون.

‌سورة فصلت

(1)

أتدري ما الأهوال؟!

أنَّ الإنسان قد يستخفي عن كل أحد، لكنه لن يستخفي عن جلده، ولا عن سمعه وبصره، وكيف يفعل وبهذه الآلات يستمتع؟!

ص: 212

وهذه الآلات نفسها هي التي تشهد عليه يوم القيامة، فتأمل هذا الحوار الذي أخبرنا الله عنه، بعد أن يختم الله على لسان العبد، ثم يأمر الجوارح فتتكلم، فيشهد على العبد ما لا يمكن أن يستتر عنه فقالوا:

{لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم} [فصلت: 21 - 22]،

لكن المصيبة حقًّا هي الغفلة عن نظر الذي لا تخفى عليه خافية،

{ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين فإن يصبروا فالنار مثوى لهم وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين} [فصلت: 22 - 24]!

فاللهم استرنا!

(2)

من استعْمَلَه الله تعالى لدعوةِ الناس، والأَخذ بأيديهم إلى طريق الله= فإنه على خير عظيم، امتدحه الله، وأثنى على أهله،

{ومن أحسن قولًا ممن دعا إلى الله وعمل صالحًا، وقال إنني من المسلمين} [فصلت: 33].

فلله درهم كم من عاصٍ تاب بسببهم، وكم من ضالٍ رجع بجميل خطابهم، هم الأَدِلَّاءُ على الله، وقد حازوا شرف التبليغ عن رسول الله.

والرجل منهم، إن وقف على ما يحسن، ولم يتكلم إلا فيما يتقن، فقد فاز والله بخيري الدنيا والآخرة.

وكثيرٌ من العلماء والأئمة هداهم الله وسلك بهم طريق العلم بسبب داعية موفق، فكان العالم وما عمل في ميزان هذا الداعية.

ص: 213

(3)

القواعد العشر في الدعوة إلى الله:

قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)} [فصلت: 30 - 36].

القاعدة الأولى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا الله).

أعلن تدينك ولا تخفيه، أشهر سلوكك الإسلامي، وانتماءك الحضاري، وصبغتك الربانية، وكونك من أمة محمد صلى الله عليه وسلم! عش بهذا المنطق، فاعرف ربك وعرف به.

القاعدة الثانية: (ثُمَّ اسْتَقَامُوا).

الاستقامة على قولك ربنا الله، فاستقم عليه عقيدةً وسلوكًا، ظاهرًا وباطنًا، خوفًا ورجاء؛ تكن من الصادقين.

القاعدة الثالثة: (تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا)، إلى قوله تعالى:(نُزُلًا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ).

التبشير وعدم التنفير، وذلك ببناء الكلام في الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ على قصد تحبيب العباد في رب العباد، وقلما ذكر

ص: 214

الترغيب في القرآن إلا وذكر معه الترهيب، فهما حقيقتان متلازمتان، إلا أن ضابط ذلك وجماعهما هو التحبيب.

القاعدة الرابعة: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى الله).

الدعوة إلى الله لا إلى ذات الهيآت والمنظمات، اجعل الله غايتك على كل حال، واتخذه هدفًا لدعوتك: تتعرف عليه وتعرف به؛ تكن أحسن القائلين في الدين.

القاعدة الخامسة: (وَعَمِلَ صَالِحًا).

العمل الصالح أساس الدعوة إلى الله، وعلى رأسه الصلاة، فاجعل عملك صالحًا حتى تكون به مصلحًا؛ ويأجرك الله مرتين.

القاعدة السادسة: (وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ).

إعلان الانتماء لكل المسلمين، والحرص على عدم تفريق وحدتهم العامة.

القاعدة السابعة: (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ).

مبدأ ثابت من مبادئ القرآن، فاثبت عليه، لا يستوي الخير والشر، لا يستوي الحق والباطل، لا يستوي المعروف والمنكر، لا يستوي الكلام الطيب والكلام الخبيث.

القاعدة الثامنة: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ).

دفع الشر بالخير، وهي تفسير للقاعدة السابقة، وبيان لها، وتحقيق خاص لمناطها العام.

القاعدة التاسعة: (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ).

ص: 215

في الصبر على الأخذ بالمنهج القرآني، ذلك أنه يحمل النفس في معاشرة الناس على ما تكره، من تحمل الأذى في الله، ودفع الشر بالخير، ودفع الجَهَلَةِ بالحكمة والموعظة الحسنة، ودفع العداء بالتي هي أحسن، كل ذلك شديد على النفس؛ لأنها جبلت على محبة ذاتها، والانتقام لها؛ ولذلك قال في القاعدة التالية:{وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: 35]، فدرب نفسك على الصبر حيث يجب الصبر، وعلمها كيف تكبح جماحها؛ حتى لا ترد الجهل بالجهل، والشر بالشر؛ فتزيغ عن الصراط المستقيم.

القاعدة العاشرة: (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).

الحذر من الشيطان، يجب أن تعرف الشيطان وحيله الخبيثة، اعرف عدوك تنتصر عليه!

اعرف الشيطان؛ حتى تعرف طبيعة العلاقة بينه وبين المسلم عمومًا، وبينه وبين الداعية إلى الله خصوصًا، إنك إذ تدعو إلى الله تقوم بهدم ما بناه إبليس اللعين؛ فتزداد عداوته لك أضعافًا مضاعفة، ولكنك إن اعتصمت بالله واستعذت به لن يصل إليك، فلا سلطان له على عباد الله الصالحين.

ملخصٌ من كتاب [بلاغ الرسالة القرآنية: (131 - 144)].

(4)

الأمن كلُّ الأمن، أمن من {يأتي آمنا يوم القيامة} [فصلت: 40]، والخوف كل الخوف: خوف {من يلقى في النار} [فصلت: 40].

فاعملوا ما شئتم، إن الله بما تعملون بصير!

ص: 216

‌سورة الأحزاب

من أعظم موارد السلوكِ الحق = معرفة أحوال رسول الله، وإدمان مطالعتها مرة تلو الأخرى، وهي الحياة لمن أحسن التأمل ورزقه الله الفهم.

وربنا يقول: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} [الأحزاب: 21].

‌سورة سبأ

{وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي} [سبأ: 50]!

في الوحي هدايتك، فلا تطلبنَّها من غيره.

‌سورة فاطر، أو سورة الملائكة!

(1)

هذه السورة تحتوي من شريف المعاني ما يبهر الألباب، ويستنطق القلوب بخشية الملك الجليل والإذعان له وحده لا شريك له.

في هذه السورة طمأنينة لأهل الإيمان، أن يثقوا بالله وحده، فما من نعمة إلا هي منه، فإن أمسكها فلا مرسل لها من بعده.

وفيها أنه لا يحيق المكر السيء إلا بأهله!

وفيها أمرٌ لأهل الإيمان بالعزة، وعدم الاستكانة والضعف.

وفيها تحذير من اتخاذ الشيطان وليًا، والأمر بإبداء العداوة له.

وفيها الآية الكاشفة:

ص: 217

{أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنًا .. } [فاطر: 8]!

وبعد ذكر الآلاء والنعم، يقرر الله للإنسان حقيقة أمره، ويعلن له حقيقة نفسه وفقره:

{يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله .. } [فاطر: 15].

وفيها أن العلماء حقًّا هم أهل الخشية.

وفي السورة تنبيه عظيم على جلالة الكتاب، وفضل ورثته وحملته، وما أعد لهم من الخير، وما رفع عنهم من شر.

وفي الختام تقريع وتوبيخ للمشركين، إذ كيف يشركوا بالله الذي يمسك السماوات والأرض أن تزولا؟!

كيف يشركوا وقد طالعوا ما حل بالأمم قبلهم؟!

فالحمد لله فاطر السماوات والأرض، جاعل الملائكة رسلًا!

(2)

{أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنًا} [فاطر: 8].

«يعني: كالكفار والفجار، يعملون أعمالًا سيئة، وهم في ذلك يعتقدون ويحسبون أنهم يحسنون صنعًا، أي: أفمن كان هكذا قد أضله الله، ألك فيه حيلة؟

لا حيلة لك فيه»، ابن كثير.

قلت: وممن يدخل تحت الآية من زَيَّن الشيطان لهم موالاة الظلمة والسعي في ركابهم، والصد عن أهل الخير، والسعي في إذايتهم.

ألا في الفتنة سقطوا، وفي الوحل ولغوا، ولتعرفنهم في لحن القول، والله يعلم إسرارهم.

ص: 218

وكم ممن زين له سوء عمله، فقُلبت عنده الحقائق، فصارت الشمس مظلمة، والعذب ملحًا أجاجًا، وصرت عندما تخاطبه كأنك تنفخ في غير فحم، وكأنك تقدح بزند مُصْلَد، وهذا لعمري هو الداء العَيَاء، نسأل الله العافية!.

(3)

{وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن} [فاطر: 34].

عبَّروا عن كل ما دون الجنة بالحزن، إذ كل سعادة قبل الجنة عابرة.

المؤمن في المنظور القرآني لا ينتظر البلاء، ولا تتوقف حياته على الخوف منه، لأن غاية الدنيا إلى انقضاء، وانقضاء الحياة للمؤمن حَسَن الظن بربه = نهاية التعب والآلام، وبداية النعيم الأبدي، والراحة السرمدية.

ولذلك عبر أهل الجنة عما دونها بقولهم: {وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن} [فاطر: 34].

المؤمن يعلم أنَّ الله جعل البلاء من سنن الدنيا، والبلاء في الدنيا له صور وأشكال متعددة:

فقد يُبتَلى الإنسان بالخير كما يُبتَلى بالشر.

{وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 35].

والمطلوب منه حال نزول البلاء، أن يذكِّر نفسه بأنه راجعٌ إلى الله، حينئذٍ يهون عليه المصاب:{إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 156].

وإذا نزل البلاء بالمؤمن كان نظره للآخرة، وللجزاء الذي أعده الله للصابرين، {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10].

والبلاء ينزل ومعه اللطف الذي يشاهده أهل البصيرة {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [يوسف: 100].

ص: 219

وقد ابتلى الله صفوة خلقه من أنبيائه ورسله بأنواع مختلفة من البلاءات فصبروا، فمنهم من ابتلي بأبيه، ومنهم من ابتلي بزوجته، ومنهم من ابتلي بابنه، ومنهم من ابتلي بقومه، ومنهم من ابتلي بمرض، ومنهم من ابتلي بمُلْك، ومنهم من ابتلي بسجن، ومنهم من ابتلي بتغريب، ومنهم من ابتلي بذنب!

والله تعالى إنما قص علينا قصصهم لنعتبر بحالهم، ولنعمل بعملهم، {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف: 111].

فاعتبروا يا أولي الأبصار!

‌سورة يس

{إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون} [يس: 55].

لا تنشغل بشغل الدنيا عن شغل الآخرة، فإن فعلت فأنت مغبون، فإن كل نعيم هنا لا محالة زائلٌ، أما هناك فلك ما تدعي!

ولو علم أهل الجنة عمن شغلوا ما هَمَّهُم ما شُغِلوا به!

ص: 220

‌سورة الصافات

لا يُشَان الإنسان ولا يُحمد إلا بعمله، فلا يُشان بعمل فرع ولا أصل!

يقول ربنا سبحانه عن الأنبياء بعد ذكر فضائلهم ومحاسنهم: {ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين} [الصافات: 113]!

‌سورة ص

العاقل لا يلتفت إلى كلِّ قول، ولا يشغل باله بكل أحد، فكثير مما يقال لا يلتفت له، ولا ينبغي أن ينشغل به!

ذكر الله عن قوم: {وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب} [ص: 16]،

فلم يكن الجواب إلا الإعراض:

{اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داوود ذا الأيد إنه أواب} [ص: 17].

‌سورة غافر

بيع الوهم!

عملية يجيدها الطَّاغية، {قال فرعون: ما أريكم إلا ما أرى، وما أهديكم إلا سبيل الرشاد} [غافر: 29].

ص: 221

ويصدِّقها الدهماء، {أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض، ويذرك وآلهتك قال سنقتل أبنائهم ونستحيي نسائهم وإنا فوقهم قاهرون} [الأعراف: 127]!

‌سورة الزخرف

المؤمن لا ينبغي أن يُحجب بإِلْف العادة عن رؤية النعم، وشكر المنعم، وهي التي تقوده لتذكر الآخرة، والعمل لها.

{وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} [الزخرف: 12 - 14].

‌سورة الأحقاف

إذا لم تنتفع بالحق، ولم تعمل به، فلا تكن مسوِّغًا للباطل، ولا داعيًا إليه، فإنَّ هذا داء قديم حذر الله منه.

وقد يُسبق الإنسان في طريق الحق، فتأبى نفسه أن يكون تابعًا، ولا ينبغي أن يكون ذلك حاجزًا عن اتباع الحق، فقد يَسبِقُ المتأخر.

قال الحق: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ} [الأحقاف: 11].

ص: 222

‌سورة محمد صلى الله عليه وسلم

-

في سورة القتال، سورة نبينا ومولانا وسيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم منهاج عظيم في الحياة.

ومن فوائدها الجليلة: النهي عن طاعة من كره ما نزل الله، والتي سماها الله ردة عن الحق بعد ما تبين، وكيف أنَّ الله يُمْلي لأناس ليخرج أضغانهم، وعن فائدة البلاء في التمحيص، وعن الحذر من الوعيد الشديد= آيات فيها معتبر لمعتبر، فاعتبروا يا أولي الأبصار، وأقبلوا على تأملها، وتنزيلها على قلوبنا!

{فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها فأنى لهم إذا جائتهم ذكراهم} [محمد: 18]؟!!

‌سورة الممتحنة

في سورة الامتحان، دعا الخليل ربه سبحانه قائلًا:(ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا)[الممتحنة: 5]، وما أعظمها من فتنة.

إنَّ الباطل إذا رأى نفسه منتصرًا، ورأى الغلبة له؛ زهد الناس في الحق، وزُلزل أهله، وبلغت قلوبهم الحناجر، وظنَّ بعضهم بالله الظنونا.

لكن الخليل نبه على أصول العلاج بعدها مباشرة {وَاغْفِرْ لَنَا} [الممتحنة: 5] لأنك ربنا اغفر لنا ذنوبنا، واستر عيوبنا، وارفع ما بنا، {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ} [الممتحنة: 5]، فلو شئت أظهرتنا عليهم، {الْحَكِيمُ} [الممتحنة: 5] تفعل بحكمة،

ص: 223

ومن حكمته: تمييز أهل الإيمان الصادق، ذلك لتعلموا أن الله على كل شيء قدير، وأن الله قد أحاط بكل شيء علمًا.

‌سورة التحريم

الاستقصَاءُ في العتاب عادة غير المحب، وما استقصى كريمٌ قط!

ألم تر أنَّ الله ذكر عتاب نبيه لبعضِ أزْوَاجِه، فقال:{عرَّف بعضه وأعرض عن بعض} [التحريم: 3].

‌سورة نوح

(1)

في قصة نبي الله ورسوله نوح عبر كثيرة، وإحدى هذه العبر، تلك النفس العظيمة التي كان يحملها نوح صلوات الله وسلامه عليه.

لقد ابتُلي نوح في محيطه الداخلي بامرأة كافرة، وولد غير مطيع كافر هو الآخر!

نبي تكفر امرأته وولده، لك أن تتصور ما يعانيه، وهو أعظم موحد في الأرض وقتئذٍ.

ومع هذا الصراع ظل يدعو قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا، ليلًا ونهارًا، سرًّا وجهارًا، لم يفتر عن دعوته قط، لم يتعلل بمشاكله الخاصة، بل ظل ساعيًا نحو الهدف الذي بعث لتحقيقه.

ص: 224

صل اللهم وسلم على عبدك ورسولك نوح، وعلى نبينا محمد وسائر الأنبياء والمرسلين.

(2)

وقال نوح النَّبي صلى الله عليه وسلم في الدعاء: {رب اغفر لي، ولوالدي، ولمن دخل بيتي مؤمنًا، وللمؤمنين والمؤمنات} [نوح: 28]!

قال بعض العلماء: «إنَّ الإله الذي استجاب لنوح عليه السلام فأغرق بدعوته جميع أهل الأرض الكفار = حقيق أن يستجيب له فيرحم بدعوته جميع المؤمنين والمؤمنات» .

‌سورة المعارج

تأمَّل في القرآن المجيد وصف اللطيف الخبير للإنسان، وما يعتريه من هَلَعٍ!

تأمل هذه الكلمة جيدًا، وما احتوت عليه حروفها من وصف بليغ عجيب ابتداءً من (الهاء)، وانتهاءً بالعين.

إنه جزوع إذا نزل به البلاء.

تريد العلاج؛

{إِلَّا الْمُصَلِّينَ} [المعارج: 22]!

ص: 225

‌سورة النازعات

{كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها} [النازعات: 46]!

«تنطوي هذه الحياة الدنيا التي يتقاتل عليها أهلها ويتطاحنون، والتي يؤثرونها ويدعون في سبيلها نصيبهم في الآخرة، والتي يرتكبون من أجلها ما يرتكبون من الجريمة والمعصية والطغيان، والتي يجرفهم الهوى فيعيشون له فيها

فإذا هي عندهم عشية أو ضحاها!

أفمن أجل عشية أو ضحاها يضحون بالآخرة؟!

ومن أجل شهوة زائلة يدعون الجنة مثابة ومأوى!

ألا إنها الحماقة الكبرى التي لا يرتكبها إنسان يسمع ويرى!»، سيد قطب.

‌سورة عبس

{قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ 17 مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ 18 مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ 19 ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ 20 ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ 21 ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ 22 كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ 23} [عبس: 17 - 23]

هذه حياة الإنسان، باختصار موجز، وتفصيل عميق، لله ما أعظم هذا الكلام! وسبحان من هذا كلامه.

ص: 226

تجد الواحد منهم يستفرغ مجهوده في إيراد ما يمكن إيراده، ويستدرك المتأخر ما أغفله المتقدم.

ولا يزال الناس يأخذون منه، ويتمتعون بما فيه، لا حرمَنَا الله لذَّة فهمِه، وجعله لقلوبنا ربيعًا.

3 -

من أخبار أهل القرآن:

* «كان ابن القَلَّال لا يُجيز أحدًا ممن يقرأ عليه إلا بتعنت، وقد رحل إليه شخص من بلاد بعيدة، فلما أكمل عليه القراءات سأله الإجازة، فتعنت عليه، فشقَّ ذلك عليه وتوجه مكسور الخاطر وبات تلك الليلة، فرأى النَّبي صلى الله عليه وسلم في النوم، فكأنه سأله عن حاله، فأخبره، وشكا إليه من قول الشيخ.

فقال له صلى الله عليه وسلم: (لا عليك! ارجع إليه غدًا، وقل له: بأمارة زمرًا زمرًا).

فلما أصبح غدا إلى الشيخ وأخبره الخبر.

فقال: صدقت يا بني، وبكى، واستغفر الله مما مضى، وعاهد ألا يأخذ شيئًا ممن يقرأ عليه، وأجازه.

فسئل عن ذلك فقال: كنت ليلة أقرأ فوصلت إلى قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر: 32] الآية .. حتى قرأت {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} [فاطر: 33]، فقلت في نفسي أيدخلون الجنة كلهم جملة واحدة، أو كيف؟!

ثم نمت، فرأيته وهو يقول:(زمرًا زمرًا)[غاية النهاية في طبقات القراء: (1/ 552)].

ص: 230

* صحبة نادرة، وفعل الوشاة:

ذكر الإمام ابن الجزري في جامع أسانيده صحبة نادرة بين الإمامين العالمين المقرئين:

محمد بن أحمد بن جابر الهواري، وأحمد بن يوسف بن مالك.

وذكر أنهما ولدا سنة ثمان وسبعمئة.

وأنهما اتحدا في المحبة والصفاء حتى صارا كنفسٍ واحدة!

لا يمتاز أحدهما عن الآخر في ملبس، ولا مطعم، حتى إنَّ أحدهما لو لبس ثوبًا يلبس الآخر مثله وشكله، ويجلسان للإفادة معًا.

قال أبو الخير: «ورأيت منهما في ذلك ما لم أره ولا سمعته» .

وقال السخاوي: «وأخوة هذين الشيخين واتحادهما واتفاقهما في الأخلاق والأقوال والأفعال لم أر مثلها، ولم أسمع بذلك.

ولا يملك أحدهما دون أخيه شيئًا، ولا يتخصص عنه بشيء من أمور الدنيا قل أو جل.

ولا يلبس أحدهما غير ملبس الآخر، لكل واحد منهما مثل ما لصاحبه، إن فصَّلا ثيابًا فمن نوع واحد، ولون واحد، لا يمكن أن يغير أحدهما لباسًا دون الآخر، ويأكلان جميعًا، ويرقدان جميعًا في بيت واحد.

وأعرضا معًا عن التزوج والتسري رغبة في دوام الصحبة، وخوفًا من أسباب الفرقة، وكان معهما مملوك لهما يخدمهما»!

وقد نظم الأول قصيدة بديعة مطلعها:

ص: 231

بطيبة انزل ويمم سيد الأمم .. وانشر له المدح وانثر أطيب الكلم

وابذل دموعَكَ واعذِل كلَّ مصطبرٍ .. والحق بمن سار والْحظْ ما على العلم

وقد شرحها صاحبه الآخر!

حصول الفرقة:

قال ابن الجزري: «وقد بلغنا وفاة الشيخين المذكورين بعد أن فرَّق الوشاة بينهما فافترقا:

وكل أخ مفارقه أخوه .. لعمر أبيك حتى الفرقدان

رحمهما الله فقد كانا من محاسن الدهر»، [التحفة اللطيفة في تاريخ المدينة الشريفة:(2/ 423)].

4 -

بشاعة الكفر، وسوء حال الكافرين.

ينبغي أن نركز على بشاعة الكفر، وأن نوصل للناس مدى السوء الذي يصل إليه الكافر برب العالمين.

إنَّ من أسئلة القرآن المجيد: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: 28]؟.

لقد أصبح كثير من أهل الإسلام لا يعي حقيقة الكفر، ولا بشاعته، ولذلك يقع استغراب كثير منهم لمعاني ذم الكفر، وعاقبته التي وردت في الآيات والأحاديث، إنَّ بشاعة الكفران برب العالمين لا تعدلها بشاعة.

وإن ابن جدعان لن يدخل الجنة، لأنه لم يقل يومًا:«رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين!» .

5 -

يا بني:

ص: 232

* وقال يومًا:

يا بني: تعوذ بالله من علم لا ينفع، فإنَّ العلم يكون وبالًا على صاحبه إن هو لم يعمل به ..

يا بني: تعوذ بالله أن تكون ممن ركن إلى الذين ظلموا ..

يا بني: إنَّ مثل العالم الذي يمشي في ركاب الظالمين، كمن عمد إلى ثوب أبيض نقي، فوضعه في أنتن ما يكون في الدنيا ..

يا بني: لا تأمنن الفتنة على نفسك، فإنهم أمنوا!

يا بني: خف عذاب الله، ويوم العرض عليه ..

يا بني: إن لم تنطق بحق، فاسكت عن الترويج للباطل ..

يا بني: إياك أن تمدح ظالمًا، وأن تعينه، فإنَّ من أعان ظالمًا بلي به، وسلطه الله عليه!.

* وقال لي الشيخ يومًا:

واعلم يا بني أنه بقدر نقص وردك من القرآن، تذهب البركة عنك.

فإن رمت البركة فتعرض للكتاب، فإنه كلام الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم.

* وسألته: ما الخسران؟

قال: اعلم أنه مراتب؛

أولاها: أن يخسر الإنسان نفسه.

وثانيها: أن يخسر أهله.

ذلك هو الخسران المبين!

ص: 233

فقلت له: وكيف يخسر الإنسان نفسه؟

فقال: يا بني إنَّ العبد إذا كان لله = كان الله له،

وإذا لم يكن لله = لم يكن الله له.

فكيف تكون نفسه له؟.

* وقرأت عليه ذات مرة من سير الصالحين، وجعلت أعجب من طول صلاتهم، وحسن عبادتهم!

فنظر إلي متبسما، وقال: أراك تتعجب؟!

ثم أردف قائلًا: يا بني لا تنظر إلى كمال النِّهاية، ولاحظ نقصَ البداية، ادْرج كما درجوا تصل كما وصلوا!.

* وسألته: أين المنتهى؟!

قال: إلى الله!.

* وسألته أين الأمل؟!

قال: في الباقيات الصالحات.

* وبادرني مرةً بلا سؤال قائلًا: لا ترض رتبة الواصفين، واسلك مع السالكين!

فقلت يا سيدي: أخبرني عنهم؟!

قال: إنَّ مثل الواصف كمثل رجل قرأ في الكتب القديمة وصفهم للطريق إلى ديار الأفراح، فأيقن بها وآمن، وعرف الطريق ومسالكه، فجعل يصفه للناس، وهم يظنون من حلاوة وصفه أنه يعرفه معرفة من سلك، فجعلوا يذهبون إليها واحدًا تلو الآخر، والواصف لم يبرح بلاد الأتراح!

ص: 234

وبذلك، قد عرفت السالك، فبضدها تتميز الأشياء!.

* وسألته: ما المؤثر؟!

قال: القرآن.

قلت: وما المحل القابل؟!

قال: القلب الحي.

قلت: وما الشرط؟!

قال: الإصغاء.

قلت: وما المانع؟!

قال: اشتغال القلب وذهوله عن معنى الخطاب، وانصرافه عنه إلى شيء آخر.

قلت: وما الأثر؟!

قال: التذكر.

قلت: من أين سيدي؟!

قال: من قوله سبحانه: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37]!.

* وسألته: ما الغاية الكبرى؟!

فأجاب: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 72].

* وسألته: ما مكابدة القرآن؟!

ص: 235

فقال يا بني: معاناة معانيه إدراكًا لحقائقه لهيبًا يحرق باطن الإثم من نفسك، لأخذ حظك من النور!

قلت: وما الطريق إليه؟!

قال: تكَلَّفْه حتى يصير التكلف طبعًا، فالنفس معتادة متحملة لما تتكلف، هي النفس ما عودتها تتعود!.

* وسألته عن سبب إتقانه للقرآن!

فقال: يا بني دع عنك كل شيء، ما حفظنا القرآن إلا في جَوْفِ الليل.

6 -

كثير مما كتب، ويكتب عن تدبر القرآن = مكرورٌ لا إبداع فيه!

الإبداع: أن تخوض التجربة!.

7 -

«انظر إلى موسى - صلوات الله وسلامه عليه - رمى الألواح التي فيها كلام الله الذي كتبه بيده فكسرها، وجر بلحية نبي مثله، وهو هارون، ولطم عين ملك الموت ففقأها، وعاتب ربه ليلة الإسراء في محمد صلى الله عليه وسلم ورفعه عليه = وربه تعالى يحتمل له ذلك كله، ويحبه ويكرمه، لأنَّه قام لله تلك المقامات العظيمة في مقابلة أعدى عدو له، وصدع بأمره، وعالجَ أمتي القبط وبني إسرائيل أشد المعالجة، فكانت هذه الأمور كالشعرة في البحر.

وانظر إلى يونس بن متى حيث لم يكن له هذه المقامات التي لموسى، غاضب ربه مرة، فأخذه وسجنه في بطن الحوت، ولم يحتمل له ما احتمل لموسى، وفرق بين من إذا أتى بذنب واحد، ولم يكن له من الإحسان والمحاسن ما يشفع له، وبين من إذا أتى بذنب جاءت محاسنه بكل شفيع، كما قيل:

وإذا الحبيب أتى بذنب واحد

جاءت محاسنه بألف شفيع

ص: 236

فالأعمال تشفع لصاحبها عند الله، وتذكر به إذا وقع في الشدائد» .. ابن القيم (ت: 751) ناقلًا عن الشيخ الإمام (ت: 728)، [مدارج السالكين:(1/ 506).

8 -

فريدريك ديني - كاتب غير مسلم -.

تذَكَّر (التجربة الرائعة المقلقة) التي يمارسها الإنسان أحيانًا وهو يقرأ القرآن .. عندما يبدأ القارئ في الشعور (بحضور غامض، ومخيف أحيانًا) .. فبدلًا من قراءة القرآن، يبدأ القارئ يشعر أن (القرآن هو الذي يقرأ القارئ).

وصدق والله في قوله: (يقرأ القارئ)، ويكشف أغوار نفسه!.

9 -

«كلما ازداد [الإنسان] بصيرة بأسرار اللغة، وإحسانًا في تصريف القول، وامتلاكًا لناصية البيان، ازداد بقدر ذلك هضمًا لنفسه، وإنكارًا لقوته، وخضوعًا بكليته أمام أسلوب القرآن» ، [النبأ العظيم:(110)].

10 -

من لم يكابد حقائق القرآن لهيبًا = يحرِّق باطن الإثم من نفسه، فلا حظ له من نوره!.

11 -

«يرحم الله السلف الصالح، فلقد بالغوا في وصية كل ذي عقل راجح، فقالوا:

مهما كنت لاعبًا بشيء فإياك أن تلعب بدينك»!، [المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم:(6/ 208)، الجامع لأحكام القرآن:(11/ 28)].

12 -

«ليس كل ما يتعسفه بعض المعربين، أو يتكلفه بعض القراء، أو يتأوله بعض أهل الأهواء مما يقتضي وقفًا وابتداءً ينبغي أن يتعمد الوقف عليه.

بل ينبغي تحري المعنى الأتم والوقف الأوجه.

ص: 237

وذلك نحو الوقف على {وَارْحَمْنَا أَنْتَ} [البقرة: 286]، والابتداء {مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا} [البقرة: 286] على معنى النداء!»، [النشر:(1/ 231)].

13 -

السور التي كان النَّبي صلوات الله وسلامه عليه يكررها (كالسجدة والإنسان والأعلى والغاشية)، وكذلك التي ثبت عن كثير من السلف تكرارها = من أعظم ما ينبغي على المسلم أن يعرف معانيها، ويحسن تأملها.

ولو أحسن المؤمن تأمل هذه السور، لوجدها تعالج شيئًا كثيرًا كثيرًا مما يعاني منه في هذه الحياة.

وتأمل - مثلًا - أن سورة الكهف فيها خارطة النجاة من فتن تحدق بالمرء إن انفك من واحدة وقع في الأخرى، وهي:

1 -

الفتنة في الدين.

2 -

فتنة المال.

3 -

فتنة العلم.

4 -

فتنة الرياسة ومنها: الشهرة.

فتأملوا يا عباد الله، فإنه من رجا لقاء ربه فعليه أن يعمل عملًا صالحًا ينجيه مع سلامة قلبه من الشرك.

14 -

أن تُثوِّر القرآن = فهذا من أعظم درجات السالكين، والطريق إلى علم الأولين والآخرين.

أن تَثُورَ عليه، فتترك ثوابته وراءك ظهريًا = فهذا أكبر الخزي والعار.

15 -

أحبُّوا القرآن فإنَّ محبته طريق إلى الجنة!

ص: 238

عن أنس بن مالك رضي الله عنه، كان رجل من الأنصار يؤمهم في مسجد قباء، وكان كلما افتتح سورة يقرأ بها لهم في الصلاة مما يقرأ به افتتح: ب {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ 1} [الإخلاص: 1] حتى يفرغ منها، ثم يقرأ سورة أخرى معها، وكان يصنع ذلك في كل ركعة، فكلمه أصحابه، فقالوا: إنك تفتتح بهذه السورة، ثم لا ترى أنها تجزئك حتى تقرأ بأخرى، فإما تقرأ بها وإما أن تدعها، وتقرأ بأخرى فقال: ما أنا بتاركها، إن أحببتم أن أؤمكم بذلك فعلت، وإن كرهتم تركتكم، وكانوا يرون أنه من أفضلهم، وكرهوا أن يؤمهم غيره، فلما أتاهم النَّبي صلى الله عليه وسلم أخبروه الخبر، فقال:«يا فلان، ما يمنعك أن تفعل ما يأمرك به أصحابك، وما يحملك على لزوم هذه السورة في كل ركعة» فقال: إني أحبها، فقال:«حبك إياها أدخلك الجنة» [رواه أحمد: (12432)].

16 -

«من ادَّعى فهم أسرارِ القرآن، ولم يحكم التفسير الظاهر = فهو كمن ادعى البلوغ إلى صدر البيت قبل تجاوز الباب!» ، [إحياء علوم الدين:(1/ 291)].

17 -

كل قلب يحتاج إلى تثبيت، ومن أعظم الطرق التي يثبت بها القلب:

أولًا: تلاوة الكتاب، فهمًا وتدبرًا:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} [الفرقان: 32]، {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 102].

ثانيًا: مطالعة القصص، وقصصِ القرآن خاصة، قال سبحانه:{وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود: 120].

ص: 239

18 -

من أراد أن يتذكر بالقرآن حقًّا، فالطريق الواضح في قوله سبحانه:

إنَّ في ذلك لذكرى:

- لمن كان له قلب.

- أو ألقى السمع.

- وهو شهيد.

فإذا قرأت القرآن بقلبك الحي، مع الإصغاء التام، وترك الانشغال، حصلت النعمة الكبرى، والنعيم المقيم، وكتبت في الذاكرين!.

19 -

القرآن .. والعبادة الموسمية

بعض الناس يتعامل مع الكتاب العزيز تعاملًا موسميًا، فلا يقترب منه إلا في مواسم الطاعة خاصة (رمضان).

وهؤلاء لن يُحرموا نور الكتاب - بإذن الله الكريم -، لكنهم لن يحصِّلوا من هذا النور إلا بمقدار القرب من الكتاب.

وصاحب الهمة، طالب النور، لا بد أن يزداد قربه من الكتاب يومًا بعد يوم، وهو بهذا آخذ في الاهتداء بنور الكتاب، دافعٌ للران الموجود على القلب.

وتذكروا قول ربنا عن الكتاب: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ 41} [فصلت: 41].

فبقدر قُربك = يكون أَخْذُكَ!.

20 -

قال الإمام أبو سعيد المصري المقرئ عثمان بن سعيد الملقب بورش:

«خرجتُ من مصر، لأقرأ على نافع، فلما وصلت إلى المدينة، صرت إلى مسجد نافع، فإذا هو لا يطاق القراءة عليه من كثرتهم، وإنما يقرئ ثلاثين.

ص: 240

فجلست خلف الحلقة، وقلت لإنسان: من أكبر الناس عند نافع؟ فقال لي: كبير الجعفريين، فقلت: فكيف به؟ قال: أنا أجيء معك إلى منزله.

وجئنا إلى منزله، فخرج شيخ فقلت: أنا من مصر، جئت لأقرأ على نافع، فلم أصل إليه، وأخبرت أنك من أصدق الناس له، وأنا أريد أن تكون الوسيلة إليه، فقال: نعم وكرامة.

وأخذ طَيلسَانه ومضى معنا إلى نافع، وكان لنافع كنيتان، أبو رويم وأبو عبد الله فبأيهما نودي أجاب، فقال له الجعفري: هذا وسيلتي إليك، جاء من مصر ليس معه تجارة، ولا جاء لحج، إنَّما جاء للقراءة خاصة.

فقال: ترى ما ألقى من أبناء المهاجرين والأنصار، فقال صديقه: تحتال له، فقال لي نافع: أيمكنك، أن تبيت في المسجد؟ قلت: نعم، فبتُّ في المسجد فلما أن كان الفجر جاء نافع.

فقال ما فعل الغريب؟ فقلت: ها أنا رحمك الله، قال: أنت أولى بالقراءة، قال: وكنت مع ذلك حَسَنَ الصوت، مدَّادًا به، فاستفتحت فملأ صوتي مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فقرأت ثلاثين آية فأشار بيده أن اسكت فسكت، فقام إليه شاب من الحلقة، فقال: يا معلم أعزك الله، نحن معك وهذا رجل غريب.

وإنَّما رحل للقراءة عليك، وقد جعلت له عشرًا وأقتصر على عشرين فقال: نعم وكرامة، فقرأت عشرًا فقام فتى آخر، فقال كقول صاحبه فقرأت عشرًا وقعدت واقتصرت على عشرين، حتى لم يبق له أحد ممن له قراءة.

فقال لي: اقرأ فأقرأني خمسين آية فما زلت أقرأ عليه خمسين في خمسين حتى قرأت عليه ختمات قبل أن أخرج من المدينة.

ص: 241

ترى كيف كان صوت ورش وهو يقرأ بين يدي نافع، وهو في مسجد سيدنا رسول الله؟!!

اللهم ارض عن عبدك عثمان بن سعيد، وارزقنا تلاوة غضة طرية»، [معرفة القراء الكبار على الطبقات والأعصار:(92)].

21 -

زيت القرآن براقٌ قابل للاشتعال، فإن اشتعل= فالخير لك! فقط: افرك الحجر، أو اقدح الكبريت.

22 -

من الأعمال التي تجعلك أقرب للقرآن:

حفظ المفصَّل، مع حرص على تفقه في معانيه، وتقليب وتثوير لما تحمله سور هذا الجزء وآياته، وقيام لليل بها، فإنَّ ذلك والله خير عظيم.

23 -

«ليس التجويد بتمضيغ اللسان، ولا بتقعير الفم، ولا بتعويج الفك، ولا بترعيد الصوت، ولا بتمطيط الشد، ولا بتقطيع المد، ولا بتطنين الغُنَّات، ولا بحَصْرمة الراءات، قراءة تنفرُ عنها الطباع، وتمجُّها القلوب والأسماع.

بل القراءة السهلة العذبة الحلوة اللطيفة، التي لا مَضْغ فيها ولا لَوْك، ولا تعسُّف ولا تكلف، ولا تصنع ولا تنطع، لا تخرج عن طباع العرب وكلام الفصحاء بوجه من وجوه القراءات والأداء»، [أبو الخير ابن الجزري (ت: 833) في النشر: (1/ 231)].

24 -

هناك عدة ختمات يمكن للمرء أن ينجزها في شهر رمضان وغيره، وهي لا تحتاج إلى وقت طويل ومنها:

أولًا: ختمة الغريب، بأن يمر القارئ على القرآن كاملًا مع ملاحظة الكلمات الغريبة ومراجعتها في كتاب من كتب غريب القرآن، ككتاب د. محمد الخضيري:(السراج في بيان غريب القرآن).

ص: 242

ثانيًا: ختمة التعرف على سور المصحف الشريف، بأن يعرف القارئ أسماء السورة، وفضلها، وموضوعاتها، ومقاصدها، وأقترح كتاب الشيخ محمد نصيف:(بطاقات التعريف بسور المصحف الشريف)، أو كتاب الدكتورة منيرة الدوسري:(أسماء سور القرآن وفضائلها)، أو كتاب الشيخ أحمد الطويل:(محتويات سور القرآن).

ثالثًا: ختمة هدايات الأجزاء، وتهدف للتعرف على هدايات الأجزاء المتلوة في صلاة القيام.

رابعًا: ختمة المعنى الإجمالي للسور التي تكرر قراءتها: (الفاتحة - الكهف - السجدة - الإنسان - ق - القمر - الملك - الأعلى - الغاشية - الكافرون - الإخلاص - المعوذتين).

خامسًا: ختمة المعنى الإجمالي للسور التي وردت في شأنها فضائل خاصة، ويمكن معرفتها من كتاب:(الصحيح في فضائل القرآن وسوره وآياته)، د. فاروق حمادة.

25 -

تأويل كلام الله تعالى لا يكون بالظنون ولا بالتخرصات.

بل للتفسير آلة كغيره من العلوم، من لم يحصلها يحرم عليه أن يُقدِم على كتاب الله بالتأويل والبيان.

وقد وضع لَبِنة هذه الأصول الرسول صلى الله عليه وسلم، فأصل تفسير القرآن باللغة، وحجيتها، وحجية كلام الصحابة وفهمهم، وكون التفسير النبوي أحد المصادر، وأنه صلوات الله وسلامه عليه المفسر الأول .... إلى غير ذلك = يمكننا أن

ص: 243

نأخذه من حديث واحد، وهو: استشكال الصحابة لقوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82].

ودَرَجَ الصحابة على هذه الأصول، وخطَّأوا من تأول القرآن بغير أصل كما في تخطئتهم الخوارج، والرافضة، والقدرية، وسائرِ أهل الضلالات في عصرهم.

وبعد ذلك اتخذ أهلُ التفسير من الأئمة المجتهدين الناقدين هذه الأصول واستبطنوها في كتبهم، وتوالى العلماء على نقد كل تفسير يخرج عن الأصول المقررة، ولو كان من إمام، كما فعلوا مع بعض تأويلات مجاهد مع إمامته وفضله.

26 -

للقرآن المجيد أثرٌ عظيم في تثبيت القلب أيام المحن، وأوقات نزول البلايا والفتن!

بل إنَّ هذا من مقاصده، كما قال سبحانه:{قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 102]، وقال سبحانه:{وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود: 120].

ولا يظننَّ ظان أن العودة إلى القرآن، وتربية النفس على تلقي آياته نوع من الهروب من الواقع!

= بل إنَّ كثيرًا من الضَّعف والوَهَنِ الذي يدب في النفوس سببه الرئيس ضعف الإيمان!

ص: 244

ووصل الحال ببعض الناس إلى التشكيك في القدر، وظنِّ الظنون بالرب تعالى، ولو أنهم أقبلوا على كتاب ربهم لكان شفاءً لنفوسهم، وطُهْرَة لقلوبهم!

ولعلك تتأمل سورة الأحزاب - مثلًا -، واجتماع الكفار على رسول الله وأصحابه، حتى وصفهم الله بألفاظ جليلة تبعث في النفس ما كان عليه الأصحاب من زلزلة ووهن، ثم تأمل في تخذيل المنافقين لإخوانهم من أهل الإيمان، ثم تأمل في الذين آمنوا، وبم اتصفوا لينصرهم الله على الأحزاب!

= إنك إن فعلت فستجد خيرًا كثيرًا!.

27 -

والله تعالى يبتلي العبد ليلجَأَ إليه، ويتمسَّك بحباله، فأيُّ عبدٍ ذلك الذي لا يرى لطفه في بلائه، وحكمته في مصابه، والدنيا مطبوعة على الكبد، وليس فيها مستراح لمؤمن، والحزن كل الحزن يذهب في الجنة، والله غفور شكور!

وكلما ازداد (العبد) علمًا وإيمانًا = ظهر له من حكمة الله ورحمته ما يبهر عقله، ويبين له تصديق ما أخبر الله به في كتابه.

28 -

الترياقُ المجرب!

كان صالح المري إذا قص [أي: وعظ] قال: «هات جونة المسك والترياق المجرب - يعني القرآن -!

فلا يزال يَقرأُ ويدعو ويبكي حتى ينصرف»، [الترياق: الدواء].

29 -

يبعث القرآنُ في النفوس ما يعجز الإنسان عن الإحاطة به، وما ذلك إلا أنه روح يغذي الأرواح وتلك لغة قد يعجز البيان عن إدراك أسرارها!

أحيانًا يستوقفك قارئ ما، في آية قد تمر عليها وتكر، لكنها تصادف منك محلًا خاليًا فتدهشك، وتحدث في نفسك وجدًا، وأحوالًا.

ص: 245

{وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85]!.

30 -

يشكو كثير من الناس في شهر رمضان من عدم استطاعته الإقبال على القرآن، وما ذلك إلا من هجران طويل سبقه، والقرآنُ كتاب عزيز، يحتاج إلى طول مصاحبة، وحسن مِراس!

وهو أشد تفصِّيًا من الإبل في عقلها.

فأقبل على القرآن تصالحًا، ودرسًا، عسى أن يفتح الكريم أبوابه للطالبين.

31 -

«من أدرك علم أحكام الله في كتابه نصًّا واستدلالًا، ووفقه الله للقول والعمل بما علِم منه: فاز بالفضيلة في دينه ودنياه، وانتفت عنه الرِّيَب، ونَوَّرت في قلبه الحكمة، واستوجب في الدين موضع الإمامة.

فنسأل اللهَ المبتدئَ لنا بنعمه قبل استحقاقها، المديمَها علينا مع تقصيرنا في الإتيان إلى ما أوجب به من شكره بها، الجاعِلَنَا في خير أمة أخرجت للناس: أن يرزقنا فهمًا في كتابه، ثم سنة نبيه، وقولًا وعملًا يؤدي به عنا حقه، ويوجب لنا نافلة مزيدة.

فليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليلُ على سبيل الهدى فيها»، الإمام الشافعي رضي الله عنه (ت: 204) في [الرسالة].

32 -

قصَّ الله علينا قصة الإنسان الأول عليه السلام، وهي قصة كل إنسان من ذريته، فينبغي أن تُخصَّ بمزيد تأمل.

وآية ذلك:

ص: 246

أن الله قص علينا - مثلًا - وقوع المعصية منه عليه السلام، ثم اجتباه ربه فتاب عليه، وهدى.

لقد وقع آدم وزوجه عليهما السلام في فخِّ إبليس عليه اللعنة، ووسوسته، ومقاسمته لهما إنه لمن الناصحين!

الشيطان ينصح، لكنَّها النصيحة التي تؤدي إلى النار والعياذ بالله.

ومع أن آدم وقع في الذنب إلا أنه سرعان ما تاب وأناب، ولم تكن توبته لتمنعه من وقوع العقوبة، فاستقبلها راضيًا، لكنَّ الله أثابه واجتباه وهداه، وأدخله الجنة خالدًا مخلدًا فيها.

وهكذا كان الصالحون من أبنائه، فهذا موسى ظلم نفسه، وقال:{ظلمت نفسي فاغفر لي} {فغفر له} [القصص: 16]!

وَجَدُّ موسى يوسف اعترف بضعفه، وقال لربه:{وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن} [يوسف: 33]، {فاستجاب له فصرف عنه كيدهن} [يوسف: 34].

ورحم الله الحسن حين قال: «إنَّ الله لم يقصص عليكم ذنوب الأنبياء تعييرًا منه لهم، ولكنه قصَّها عليكم لئلَّا تقنطوا من رحمته، وتيأَسوا من فضله» .

33 -

كان العلامة الكبير محمد دراز يقرأ يوميًّا ستة أجزاء من القرآن، ولم يتركه حتى أثناء الحرب العالمية التي عاصرها وقت وجوده بفرنسا!

وحكى من رافقه في سفره أنه كان لا يُرى إذا اختلى بنفسه الا مصليًا، أو تاليًا للقرآن.

واشتهر عنه أنه كان مُعَظمًا للقرآن.

ص: 247

رحم الله مؤلف (النبأ العظيم)، وشفَّع القرآن فيه.

34 -

وفي الحديث: (أن تجعل القرآن ربيع قلبي).

يقول الطيبي: «كما أنَّ الربيع زمان إظهار آثار رحمة الله تعالي، وإحياء الأرض بعد موتها، كذلك القرآن يظهر منه تباشير لطف الله من الإيمان والمعارف، وتزول به ظلمات الكفر والجهالة والهموم» ، [الكاشف عن حقائق السنن:(6/ 1910)].

35 -

إن القرآن عظيم في كل تفاصيله، جليل في كل مفرداته، يحتاج إلى إقبال وفهم، مع إيمان وحسن تلقٍ، فإذا حصل ذلك أثمرت شجرة الإيمان في القلب، وآتت أكلها بإذن ربها، وصار أصلها ثابتًا وفرعها في السماء.

36 -

قال الوزير ابن هبيرة (ت: 560): «من مكايد الشيطان: تنفيره عباد الله من تدبر القرآن لعلمه أن الهدى واقع عند التدبر، فيقول: هذه مخاطرة، حتى يقول الإنسان: أنا لا أتكلم في القرآن تورعًا» ، [ذيل طبقات الحنابلة:(2/ 156)].

37 -

الإيمان بالله، والانقياد لدينه، والاستسلام لشرعه = طريق هدوء القلب، وسكينة النفس، وفي القراءة غير المتواترة:(ومن يؤمن بالله يهدأ قلبه).

«قرأ عكرمة (يهدأ قلبه) بهمزة ساكنة ورفع الباء، أي يسكن ويطمئن.

وقرأ مثله مالك بن دينار، إلا أنه ليَّن الهمزة»، [تفسير القرطبي:(18/ 140)].

ص: 248

38 -

ذكر الإمام ابن العربي (ت: 543) في كتابه [سراج المريدين: (2/ 38)] أحوال بعض أهل العبادة من السلف، كختم القرآن كل يوم ثلاث مرات، وأعداد كبيرة جدًّا من الأذكار.

ثم عقَّب عليه قائلًا بنقدٍ عظيم من إمام جليل القدر:

«وهذا أمرٌ رويناه وما رأيناه، ولو حاولناه ما استطعناه، ولعلَّ الله يؤيد أولياءه على طاعته، ولكنَّ الذي يغبِّر في وجه هذه الأقوال أن أحدًا من الصحابة لم يكن على هذه الحال، وإنما هذه رهبانية حدثت» .

وذكر أنَّه رأى من أصحابه من كان يختم القرآن مرة في الليل، ومرة في النهار، سفرًا وحضرًا، وعلل ذلك بقوله:«لرطوبة لسانه، واطِّراد عمله بذلك وعادته، وهذا هو الذي يرعى طريق الذكر دون الاعتبار به» ، ويقصد بالاعتبار: التذكر والتفكر والتدبر، ثم قال:«فأمَّا الاعتبار به فقد يكون بالآية الواحدة في الليلة الواحدة» ، [سراج المريدين:(2/ 97)].

39 -

ذكر الإمام ابن العربي المالكي الأندلسي رحمه الله (ت: 543) في تفسير قول الله تعالى: (إنا سنلقي عليك قولًا ثقيلًا)، ستة أقوال، والسادس منها قوله:

«ثقله: أنَّه لا يبوء بعبئه إلا من أُيِّد بقوة سماوية، وكذلك هو.

ما أعلم من حصله بعد الصحابة والتابعين إلَّا محمد بن جرير الطبري»، [سراج المريدين:(2/ 431)].

40 -

لما حضرت «الإمام الجنيد» الوفاة جعل يتلو القرآن فقيل له: لو رفقت بنفسك!

ص: 249