المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌مقدمة التحقيق بسم الله الرحمن الرحيم الحمدُ للهِ الَّذي أيَّدَ مذهبَ الإمامِ - الذخر الحرير بشرح مختصر التحرير

[أحمد بن عبد الله البعلي]

فهرس الكتاب

‌مقدمة التحقيق

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدُ للهِ الَّذي أيَّدَ مذهبَ الإمامِ أحمدَ، بمَن أَتَى فيه بما عليه مِن مُؤَلَّفٍ يُحمَدُ، مِن فروعٍ فيه لها الأصولُ تَشهَدُ، بلفظٍ مُوجَزٍ مُنَقَّحٍ مُهَذَّبٍ، بَلَغَ فيه مِن الكفايةِ والمَطلبِ، ووَشَّحَ مسائلَه براجحِ المَذهبِ، معَ احتوائِه على ما يَحتاجُ إليه الأمرُ ويَطلُبُ.

وأَشهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، شهادةً تَرفَعُ قائلَها أعلى الدَّرجاتِ، وتُبَلِّغُه أقصى الغاياتِ مِن جميعِ الخيراتِ، وأُصلِّي وأُسلِّم على سيِّدنا مُحمَّدٍ خيرِ البَريَّات.

وبعدُ؛ فإنَّ عِلمَ أصولِ الفقهِ علمٌ عظيمٌ مِن أعظمِ علومِ الشَّريعةِ الإسلاميَّةِ وأجلِّها قَدْرًا وأكثرِها فائدةً، فهو عِلْمٌ يُتَعَرَّفُ منه تقريرُ مطالبِ الأحكامِ الشَّرعيَّةِ العلميَّةِ، وطُرُقُ استنباطِها، وموادُّ حُجَجِها، واستخراجُها بالنَّظَرِ، كما قالَ المُناويُّ رحمه الله.

قالَ الإمامُ الغَزَّاليُّ في «المُستصفى» (ص 4): وأشرفُ العُلومِ ما ازدُوجَ فيه العقلُ والسَّمْعُ، واصْطُحِبَ فيه الرَّأيُ والشَّرعُ، وعِلْمُ الفقهِ وأصولُه مِن هذا القَبيلِ؛ فإنَّه يَأخُذُ مِن صَفْوِ الشَّرعِ والعقلِ سواءَ السَّبيلِ، فلا هو تَصَرُّفٌ بمَحْضِ العقولِ بحيثُ لا يَتَلَقَّاه الشَّرعُ بالقبولِ، ولا هو مبنيٌّ على مَحضِ التَّقليدِ الَّذي لا يَشْهَدُ له العقلُ بالتَّأييدِ والتَّسديدِ. اهـ

هذا، وقد كانَ ظَهَرَ في زمانِنا هذا بعضُ مَن لا يَرَوْنَ حاجةً إلى تَعَلُّمِ أصولِ الفقهِ، ويُنْكِرُونه، ويَنْتَقِدونَ على مَن يُعَلِّمُه ويَتَعَلَّمُه، مُتَمَسِّكِينَ بالأخذِ بالكتابِ والسُّنَّةِ مُباشرةً.

ص: 11

أقولُ: وهو فهمٌ خاطئٌ، فهذه العلومُ الشَّرعيَّةُ ما هي إلَّا تقريبٌ وتيسيرٌ وتنظيمٌ لِما جاءَ في الكتابِ والسُّنَّةِ النَّبويَّةِ المُطَهَّرةِ، كيف وهذا العِلمُ الشَّريفُ نالَ عنايةً بالغةً مِن أهلِ العِلمِ مِن المذاهبِ الفقهيَّةِ، وتَنَافَسُوا فيه، مِن القديمِ للحديثِ وإلى زمانِنا هذا، حتَّى سُمِّيَ مَن يَشتغلونَ به بالأُصُوليِّين.

قالَ الرَّازيُّ في «تفسيرِه» (2/ 348): وعِلْمُ الفقهِ كلُّه مأخوذٌ مِن القرآنِ، وكذا علمُ أصولِ الفقهِ .. إلخ.

وقالَ الزَّرْكَشِيُّ في «البحر المحيط» (1/ 457): وقد تَكَلَّمَ المُفَسِّرون هنا في حقيقةِ النَّسخِ الشَّرعيِّ وأقسامِه، وما اتُّفِقَ عليه منه، وما اختُلِف فيه، وفي جوازِه عقلًا، ووقوعِه شرعًا، وبماذا يُنْسَخُ، وغيرِ ذلك من أحكامِ النَّسخِ ودلائلِ تلك الأحكامِ، وطَوَّلُوا في ذلك، وهذا كلُّه موضوعُه علمُ أصولِ الفقهِ، فيُبْحَثُ في ذلك كلِّه فيه.

وقالَ ابنُ حَمدانَ الحنبليُّ في «صفة المُفتي» (ص: 151): فأمَّا الفقيهُ على الحقيقةِ فهو: مَن له أهليَّةٌ تامَّةٌ، يُمْكِنُه أنْ يَعرِفَ الحُكْمَ بها إذا شاءَ، معَ معرفتِه جملةً كثيرةً عُرفًا مِن أُمَّهاتِ مسائلِ الأحكامِ الشَّرعيَّةِ الفروعيَّةِ العمليَّةِ، بالاجتهادِ والتَّأمُّلِ، وحُضُورِها عندَه .. فلهذا كانَ علمُ أصولِ الفقهِ فَرْضًا على الفقهاءِ.

وقد ذَكَرَ ابنُ عَقِيلٍ: أنَّه فرضُ عينٍ، والمذهبُ: أنَّه فرضُ كفايةٍ، كالفقهِ. اهـ

وقالَ البَزْدَوِيُّ الحنفيُّ في مُقدِّمَةِ «كشف الأسرارِ» (1/ 3): .. لا سِيَّمَا عِلمُ أصولِ الفقهِ الَّذي هو أَصعَبُها مداركَ، وأدقُّها مسالكَ، وأعمُّها عوائدَ، وأتمُّها فوائدَ، لولاه لبَقِيَتْ لطائفُ علومِ الدِّينِ كامنةَ الآثارِ، ونجومُ سماءِ الفقهِ والحِكمةِ مَطمُوسةَ الأنوارِ، لا تَدخُلُ ميامنُه تحتَ الإحصاءِ، ولا تُدرَكُ محاسنُه بالاستقصاءِ. اهـ

ص: 12

وها هو ابنُ خلدونَ يُوضِحُ الأمرَ أيَّما إيضاحٍ، فقالَ في «تاريخِه» (1/ 575): واعلمْ أنَّ هذا الفنَّ مِن الفنونِ المُستحدَثَةِ في المِلَّةِ، وكانَ السَّلفُ في غُنيَةٍ عنه بما أنَّ استفادةَ المعاني مِن الألفاظِ لا يُحتاجُ فيها إلى أزيدَ ممَّا عندَهم مِن المَلَكَةِ اللِّسانيَّةِ، وأمَّا القوانين الّتي يُحتاج إليها في استفادة الأحكام خصوصًا فمنهم أُخذ معظمها، وأمَّا الأسانيدُ فلم يَكونُوا يَحتاجونَ إلى النَّظرِ فيها؛ لقُربِ العصرِ وممارسةِ النَّقَلَةِ وخِبرَتِهم بهم، فلمَّا انْقَرَضَ السَّلَفُ وذَهَبَ الصَّدرُ الأوَّلُ وانقلبَتِ العلومُ كلُّها صناعةً كما قَرَّرْناه مِن قبلُ؛ احتاجَ الفقهاءُ والمجتهدونَ إلى تحصيلِ هذه القوانينِ والقواعدِ لاستفادةِ الأحكامِ مِن الأدلَّةِ؛ فكَتَبُوها فنًّا قائمًا برأسِه سَمَّوْه «أصولَ الفقهِ» . اهـ

وقالَ شيخُ شيوخِنا العلَّامةُ العُثيمينُ رحمه الله في «شرحِ الأصولِ» : عِلْمُ أصولِ الفقهِ عِلْمٌ مهمٌّ، لا يَنبغي لطالبِ العِلمِ أن يُفرِّطَ فيه، ومعَ كونِه ثمرةَ الفقهِ فهو أصولٌ أيضًا لغيرِ الفقهِ؛ إذْ يُمكِنُ أنْ تَستخدِمَه في بابِ التَّوحيدِ .. إلخ.

وقالَ شيخي الحبيبُ العَلَّامةُ المُحدِّثُ أبو إسحاقَ الحُوينيُّ حَفِظَه اللهُ ورَعَاه وشفاه وعافاه في مُقدِّمَةِ كتابِه «تنبيه الهاجدِ» (1/ 13) وهو يَحكي تَجْرِبَتَه العلميَّةَ وحضورَه مجالسَ شيخِه العلَّامةِ محمَّد نجيب المطيعيِّ رحمه الله، وكان يَشرَحُ أربعةَ كتبٍ، وهي «صحيحُ البخاريِّ» و «المجموعُ» للنَّوويِّ، و «الأشباهُ والنَّظائرُ» للسُّيُوطِيِّ، و «إحياءُ علومِ الدِّينِ» للغزَّاليِّ، قالَ حَفِظَه اللهُ: أَتاحَتْ لي هذه المجالسُ دراسةَ نُبَذٍ كثيرةٍ مِن علميْ أُصُولِ الحديثِ وأصولِ الفقهِ، وواللهِ لا أَشْتَطُّ إذا قُلْتُ: إنَّني أبْصَرْتُ بعدَ العَمى

ص: 13

لمَّا دَرَسْتُ هذينِ العِلْمينِ الجليلينِ، وأُقَرِّرُ هنا أنَّ الجاهلَ بهذينِ العِلْمَينِ لا يَكونُ عالمًا مهما حَفِظَ مِن كُتُبِ الفروعِ؛ لأنَّ تقريرَ الحقِّ في مَواردِ النِّزاعِ لا يَكونُ إلَّا بِهِما، فعِلْمُ الحديثِ يُصَحِّحُ لك الدَّليلَ، وعِلمُ أُصولِ الفقهِ يُسَدِّدُ لك الفهمَ، فهما كجَناحيِ الطَّائرِ. اهـ

أوَّلُ مَن صَنَّفَ في أُصولِ الفقهِ

ومشهورٌ أنَّ إمامَنا الشَّافعيَّ رضي الله عنه هو أوَّلُ مَن ألَّفَ وجَمَعَ في هذا العِلْمِ الشَّريفِ، وقالَ البعضُ بأنَّ الحنفيَّةَ هم أوَّلُ مَن وَضَعَ قواعدَ هذا العِلْمِ.

قالَ الزَّرْكَشِيُّ في «البرهان» (1/ 18): الشَّافعيُّ رضي الله عنه أوَّلُ مَن صَنَّفَ في أُصولِ الفقهِ، صَنَّفَ فيه كتابَ «الرِّسالة» ، وكتابَ «أَحكام القرآنِ» ، و «اختلاف الحديثِ» ، و «إبطال الاستحسانِ» ، وكتابَ «جماع العِلمِ» ، وكتابَ «القياس» الَّذي ذَكَرَ فيه تضليلَ المُعتزلةِ ورُجوعَه عن قَبولِ شهادتِهم، ثمَّ تَبِعَه المُصَنِّفون في الأُصولِ.

قالَ الإمامُ أحمدُ ابنُ حنبلٍ: لم نَكُنْ نَعرِفُ الخُصوصَ والعمومَ حتَّى وَرَدَ الشَّافعيُّ.

وقالَ الجُوينيُّ في «شرح الرِّسالةِ» : لم يَسبِقِ الشَّافعيَّ أحدٌ في تصانيفِ الأصولِ ومعرفتِها. اهـ

وقالَ ابنُ خلدونَ في «تاريخِه» (1/ 576): كانَ أوَّلَ مَن كَتَبَ فيه -أي: علْمِ أُصولِ الفقهِ- الشَّافعيُّ رضي الله عنه، أَمْلَى فيه رسالتَه المشهورةَ، تَكَلَّمَ فيها على الأوامرِ والنَّواهي، والبيانِ، والخبرِ، والنَّسخِ، وحُكْمِ العِلَّةِ المَنصوصةِ مِن القياسِ. اهـ

ص: 14

قالَ الشَّنشُوريُّ: وكذا تَبِعَهم على ذلك مِن المُعاصرينَ الشَّيخُ العلَّامةُ عبدُ الوَهَّابِ خلَّاف رحمه الله في «علم أُصولِ الفقهِ» (ص: 18)، والشَّيخُ العلَّامةُ الدُّكتورُ مُحمَّد سليمان الأشقر رحمه الله في «الواضح في أُصولِ الفقهِ» (ص: 15)، والشَّيخُ العلَّامةُ الدُّكتورُ عبدُ الكريمِ زيدان رحمه الله في «الوجيز في أُصولِ الفقهِ» (ص: 16)، والشَّيخُ العَلَّامةُ الدُّكتورُ وهبةُ الزُّحيليُّ رحمه الله في «الوجيز في أصولِ الفقهِ» ، وغيرُهم.

وقد صَنَّفَ العلماءُ في هذا العِلمِ وغيرِه مُؤلَّفاتٍ صغيرةً تَنفَعُ المُبتدِئينَ وتَأخُذُ بأيديهم للدُّخولِ في رَوضةِ هذا العِلمِ المباركِ، ومُؤَلَّفاتٍ أُخرى للمُتَوسِّطينَ ممَّن تَجاوَزُوا الكتبَ السَّابقةَ، وأُخرى للمُنتهينَ المُتْقِنينَ.

ومِن المُؤلَّفاتِ الصَّغيرةِ التي أُلِّفَتْ في هذا العِلْمِ المختصرُ المشهورُ في أصولِ الفقهِ: «مُختصَر التَّحريرِ» للإمامِ الفُتُوحيِّ رحمه الله، الَّذي اختَصَرَه مِن كتابِ المَرْدَاوِيِّ «تحريرُ المنقولِ وتهذيبُ عِلْمِ الأصولِ» ، وكلاهما مطبوعٌ.

و «مختصرُ التَّحريرِ» مُختصرٌ مهمٌّ نافعٌ مُفيدٌ مِن أفضلِ المختصراتِ في هذا العِلمِ، أهمِّيَّتُه ومكانتُه مُستقِرَّةٌ عندَ أهلِ العلمِ.

قالَ العلَّامةُ العثيمينُ رحمه الله في «شرح الأصولِ مِن علْمِ الوُصولِ» (ص 40): إنَّ مِن أحسنِ ما أُلِّفَ في أصولِ الفقهِ بلْ مِن أجمعِه كتابًا صغيرًا يُسَمَّى «مُختصَرُ التَّحريرِ» للفُتُوحِيِّ، وهذا المُختصَرُ في الحقيقةِ خلاصةُ ما قالَه الأُصُولِيُّونَ في أصولِ الفقهِ، ويُمكِنُ للإنسانِ أنْ يَحفَظَه عن ظَهرِ قلبٍ، إلَّا أنَّه يَحتاجُ إلى عالمٍ يُبَيِّنُ مَعناه للطَّالبِ، فالَّذي يَحفَظُه عن ظهرِ قلبٍ

ص: 15

ويَعرِفُ مَعناه سيَكُونُ أُصُوليًّا بالمَعنى الحقيقيِّ، فهذا مِن أجمعِ ما رَأَيْتُ على اختصارِه. اهـ

ولمَّا كانَ هذا المختصَرُ يَحتاجُ إلى شرحٍ كما سَبَقَ، ولمَّا كانَ عادَةُ أهلِ العلمِ أنْ يَشرَحُوا هذه المختصراتِ؛ فقد وَضَعَ الإمامُ البَعْلِيُّ رحمه الله شرحًا نفيسًا مُتَوَسِّطًا يَأخُذُ بيدِ مَن أرادَ أن يَرتقيَ في هذا العِلْمِ، وهو شرحٌ عظيمُ النَّفعِ، وهو كتابُنا هذا «الذُّخرُ الحريرُ» .

قالَ عنه ابنُ بدرانَ في «المدخل إلى مَذهبِ الإمامِ أحمدَ» (ص: 461): ثمَّ إنَّ مُصنِّفَه شَرَحَه في مجلَّدٍ وسمَّاه: «الكوكبُ المنيرُ في شرحِ مختصرِ التَّحريرِ» ، ثمَّ شَرَحَه الشَّيخُ أحمدُ البَعليُّ وسمَّاه:«الذُّخرُ الحريرُ شرحُ مختصرِ التَّحريرِ» ، وهذانِ الشَّرحانِ يُفيدانِ المتوسِّطَ في هذا الفنِّ. اهـ

قالَ الشَّنشُورِيُّ: وشَرَحَه جماعةٌ مِن أهلِ العِلمِ في زمانِنا للطَّلبةِ:

- شَرَحَه شيخُ شيوخِنا العلَّامةُ الفقيهُ الأصوليُّ محمَّدُ ابنُ العثيمينِ رحمه الله في دروسٍ علميَّةٍ، ثمَّ طُبِعَ الشَّرحُ في مجلَّدٍ مِن إصداراتِ مُؤسَّسةِ الشَّيخِ محمَّدِ بنِ صالِحٍ العثيمينِ الخيريَّةِ.

- وشَرَحَه الشَّيخُ العلَّامةُ عياضٌ السُّلَمِيُّ، والشَّيخُ العلَّامةُ عبدُ المُحسنِ الزَّاملُ، والشَّيخُ العلَّامةُ سعدٌ الشِّثْرِيُّ، والشَّيخُ الدُّكتورُ مُطلِقٌ الجاسرُ، والشَّيخُ الدُّكتورُ حَسَن بُخارِيّ، وغيرُهم، حَفِظَهم اللهُ وبارَكَ فيهم في دروسٍ علميَّةٍ ماتعةٍ.

- ولشيخِ شيوخِنا العلَّامةِ عبدِ الرَّحمنِ بنِ ناصرٍ السَّعديِّ رحمه الله-

ص: 16

تعليقاتٌ على «مختصر التَّحريرِ» كما ذَكَرَ ذلك الشَّيخُ العلَّامةُ سعدٌ الشِّثريُّ في بحثٍ له بعنوانِ: «العلماءُ الَّذينَ لهم إسهامٌ في علمِ الأُصولِ مِن عامِ 1300 - 1375 هـ» .

- وله رسالةٌ بعنوانِ: «صفوةُ أصولِ الفقهِ المُنتخبةُ مِن مختصرِ التَّحريرِ» وَقَفْتُ على نسخةٍ خطِّيَّةٍ لها بخطِّ شيخِ شيوخِنا الشَّيخِ العلَّامةِ ابنِ عَقِيلٍ رحمه الله، وقد شَرَحَ هذه الرِّسالةَ الشَّيخُ العلَّامةُ عبدُ اللهِ بنُ صالحٍ الفوزانُ حَفِظَه اللهُ في دروسٍ علميَّةٍ.

- ونَظَمَ «مختصر التَّحريرِ» الشَّيخُ العلَّامةُ عامِر بهجَتْ حَفِظَه اللهُ، وسَمَّاه:«النَّظم الصَّغير مِن مُختصَرِ التَّحريرِ» ، ووَضَعَ عليه تَشجيرًا سَمَّاه:«التَّشجير لمسائلِ النَّظمِ الصَّغيرِ» .

وقد بَذَلْتُ ما أَستطيعُ في ضبْطِ نصِّ الكتابِ وإخراجِه في أفضلِ صورةٍ، فاللَّهُمَّ تَقَبَّلْ وبارِكْ وانفَعْ به يا رَبَّ العالمينَ.

وكتب

أبو حبيبة

وائل محمد بكر زهران الشنشوري

قرية شنشور، أشمون، محافظة المنوفية، مصر الحبيبة

في السَّابِعِ مِن صفرٍ، لعامِ 1441 هـ، 6/ 10/ 2019 م

[email protected]

ص: 17

التَّعريف بالإمام البَعْلِيِّ

(1)

صاحب الشَّرح «الرَّوض النَّدي»

هو الإمام الفقيه العلَّامة الزَّاهد: شهاب الدِّين أحمد بن عبد الله بن أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن مصطفى الحَلَبِيُّ الأصل، البَعْليُّ، الدِّمَشْقِيُّ المولد والسَّكن والوفاة، الحَنْبَلِيُّ.

الشَّهير بالخطيب الحنبلي، كما جاء في نهاية النسخة الخطية (س) من هذا الكتاب المبارك.

‌مولده:

ولد رحمه الله في ثامن رمضان، وقيل: ثامن عشر، سنة ثمان ومائة وألف بدمشق، ونشأ فيها في بيت علمٍ في كنف والده جمال الدين وكان من أهل العلم، وتلا القرآن العظيم، ثمَّ شرع في طلب العلم.

‌شيوخه وطلبه للعلم

اشتغل رحمه الله بطلب العلم، فأخذ عن والده التفسير والحديث والفقه، وأيضًا عن جدِّه الشيخ أحمد كما ذكر في إجازته للشيخ محمد شاكر العمري، وقرأ على جماعة وأخذ عنهم الحديث والتفسيره وغيره منهم:

(1)

ترجمته في: «سلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر» للحسيني (1/ 132)، و «السحب الوابلة على ضرائح الحنابلة» لابن حميد النجدي (1/ 173 ترجمة 85)، و «عقود اللآلي» لابن عابدين (ص 22)، و «مختصر ذيل طبقات الحنابلة» لابن شطي (ص 144)، و «النعت الأكمل» (ص 308)، و «الورد الأنسي في مناقب الشيخ عبد الغني النابلسي» (ورقة 84) كلاهما للغزي، و «هدية العارفين» (1/ 178)، و «إيضاح المكنون» (3/ 590)، و «الأعلام» للزركلي (1/ 162)، و «تسهيل السابلة لمريد معرفة الحنابلة» (2/ 183).

ص: 18

خاتمة المُسندين الشيخ أبو المَواهب الحنبليُّ مفتي الحنابلة بدمشق، وعن حفيده الشيخ محمد بن عبد الجليل المَوَاهِبِيِّ، والشيخ عبد القادر بن عمر التَّغْلبِيِّ وانتفع به ولازمه، ومنهم الشيخ الشهاب أحمد بن عبد الكريم الغَزِّي العَامِرِيُّ الدِّمشقيُّ مفتي الشافعية بدمشق، ومنهم الشيخ مصطفى بن عبد الحق اللّبدي، والشيخ محمد بن علي الكاملي وولده العز عبد السلام، والشيخ محمد العَجْلُونِي نزيل دمشق، والمنلا إلياس الكُردي نزيل دمشق أيضًا، والشيخ عواد بن عبيد الله الكوري الحنبلي الدمشقي، والمُحدِّث الشيخ إسماعيل العَجْلُونِي، والشيخ محمد بن عيسى الكناني الصالحي، والشمس محمد بن عبد الرحمن الغَزِّي العامري.

وأخذ طريق الخلوتية عن الأستاذ الشيخ محمد بن عيسى الكناني الصالحي الدمشقي، والشيخ محمد عقيلة المكي سمع منه حديث الأولية وأجاز له بما تجوز له روايته، والشيخ عبد الله الخليلي نزيل طرابلس الشام.

وحجَّ سنة 1165 فأخذ بالمدينة المنورة عن الشيخ الإمام جعفر بن حسن بن عبد الكريم البَرْزَنْجِيِّ.

وكان يأكل من كسب يمينه في حياكة الإلاجة وهي صناعة نسيج لأثواب الرجال معروفة في دمشق، فرضي بما يرزقه الله منها حلالًا، وفي آخر عمره ترك ذلك لعَجزه وحجَّ ودرَّس بالمدينة المنورة، ولازمه جماعة من أهلها، وتولى إفتاء الحنابلة بعد الشيخ إبراهيم المواهبي سنة ثمان وثمانين ومائة وألف.

قال ابن عابدين: وكان يخطب في الجامع المَنْجَكِّيِّ بمحلة الأقصاب بأرض العنابة

(1)

.

(1)

قاله في «عقود اللآلي» (ص 23) طبعة دار العمري.

ص: 19

‌تلامذته

درَّس رحمه الله بالجامع الأموي، فأفاد وأجاد، وانتفع به الناس طبقة بعد طبقة، وحجَّ ودرَّس بالمدينة المنورة، ولازمه جماعة من أهلها، ومن تلامذته:

* الشيخ إبراهيم بن ناصر بن جَديد الزُّبيري الحَنبليُّ.

قال البكري: أخذ عن البَعْلِيِّ الحديث والتفسير وغير ذلك

(1)

.

*والشيخ محمد شاكر قرأ عليه شرح الرَّحبيَّة للشَّنْشُورِيِّ

(2)

، كما ذكر ابن عابدين.

* الشيخ مصطفى بن سعد بن عَبْدُه.

قال البَكْرِيُّ: لازم علَّامة المَذهبِ إذ ذاك بدمشق الورع الشيخ أحمد البَعْلِيَّ

(3)

.

‌ثناء العلماء عليه

قال الحسيني في «سلك الدرر» : الإمام الورع الزاهد الفقيه، كان عالمًا فاضلًا عاملًا بعِلمه، ناسكًا، خاشعًا، متواضعًا، بقيَّة العلماء العاملين، عابدًا، فَرَضِيًّا، أُصوليًّا، لم يكن على طريقته أحدٌ ممَّن أدركناه، مع الفضل

(1)

«فيض الملك الوهاب المتعالي» للبكري (ص 287).

(2)

هي «الفوائد الشنشورية» للإمام عبد الله الشنشوري، أنهيت تحقيقها على نسخ خطية منها نسختان بخطِّ المؤلِّف وثالثة مقروءة عليه، وهي قيد الطباعة بدار «الذخائر» ، وحقَّقت له من قبل «خلاصة الفكر في مصطلح الحديث» وطبع في مجلدٍ بمؤسسة عِلم لإحياء التُّراث بالقاهرة.

والشنشوري نسبة لقرية شنشور التي أعيش فيها، خرج منها أيضًا: الشيخ العلامة عبد الرزاق عفيفي النوبي، والشيخ مناع القطان -رحمهما الله-.

(3)

«فيض الملك الوهاب المتعالي» (ص 1445).

ص: 20

الذي لا يُنكر، وتفوَّق وحاز فضلًا سيِّما بالفقه والفرائض، ودرَّس بالجامع الأموي، وأفاد وانتفع به النَّاس سلفًا وخلفًا.

وأثنى عليه البَكْرِيُّ في ترجمة أحد تلامذته فقال: شيخ المذهب، العلَّامة الورع الزَّاهد الفقيه الأُصوليُّ، أخذ عنه التَّفسير، والقِراءات، والحديث، والفقه، والنَّحو، والأصلين وغيرها، ثمَّ أجازه وغالب علماء دمشق المحروسة من أهل المذاهب

(1)

.

وقال الغَزِّي في «النَّعت الأكمل» : الشيخ الإمام العالم العامل الفقيه الفَرَضِيُّ الحَيسُوب الصُّوفِي الخَلوتي الخاشع النَّاسك العابد الزَّاهد الصَّالح الكامل المُتقشِّف الأوحد النَّحرير، شيخُنا وأستاذُنا.

عالمٌ ضربَ من الفضل بنصيبٍ وافرٍ، وأحيى من مُندرس العِلم عالي المَآثر، بزُهدٍ يحكي زُهدَ ابن أدهم، وتقشُّفٍ كان لبرده الطّراظ المُعلم، وقوَّة دينٍ كالجبال الرَّواسي، وبديعِ يقينٍ بحلله الشَّريفة كاسي.

وقال ابن عابدين في «عقود اللآلئ» : الشَّيخ الإمام، والحبر الهُمام، النَّاسك العابد، والورع الزَّاهد، الصُّوفِي الفقيه النَّحرير، والعالم العامل الكبير، بقيَّة السَّلف، وقُدوة الخَلف، الأمَّار بالمَعروف والنَّهاء عن المُنكر، المُثابر على العبادات والطَّاعات، مُفتي السَّادة الحنابلة بدمشق

(2)

.

وقال ابن شطي في «مختصر ذيل طبقات الحنابلة» : شيخنا وأستاذنا الشيخ الإمام العلَّامة العامل الفقيه الفَرَضِيُّ الصُّوفِي الخَلوتي الخاشع النَّاسك النَّحرير الأوحد.

(1)

«فيض الملك الوهاب المتعالي بأنباء أوائل القرن الثالث عشر والتوالي» (1/ 287)، و «هدية العارفين» (1/ 178).

(2)

«عقود اللآلي» (ص 22).

ص: 21

وقال أيضًا: إليه ينتهي سندُ الفقهِ في ديارنا الشَّاميَّة الآن، بروايته عن الشيخ أبي المواهب، عن والده الشيخ عبد الباقي الحنبلي صاحب الثَّبت المَشهور جزاهم الله عنَّا خيرًا.

وقال أثناء ذكر شيوخه: وجميع من ذُكر كَتبوا له إجازاتٍ بخُطوطهم وقفتُ عليها فرأيتها مشحونةً بالثَّناء عليه.

وقال ابن حميد في «السُّحب الوابلة» : وذكره الغَزِّي أيضًا في كتابه «معجم الشيوخ» المسمى بـ «إتحاف ذوي الرسوخ» وأثنى عليه ثناءً بليغًا.

قال: وقال تلميذه إبراهيم بن جديد: وكان كثيرَ الخَشية، سريعَ الدَّمعة، عليه أنوارٌ، ينتفع الشَّخص برُؤيته قبل أن يسمع كلامه.

وقال ابن بدران 1346 هـ: الورع الفقيه الأصولي الفَرَضِيُّ

(1)

.

وقال البغدادي في «هدية العارفين» : كان فقيهًا فَرَضِيًّا.

وقال الزِّرِكْلِيُّ: رياضيٌّ عالمٌ بالفَرائضِ، حنبلي.

‌ورعه وزهده

قال ابن عابدين: كان البَعْلِيُّ رحمه الله في الزُّهد والوَرع على جانبٍ عظيمٍ، أخبرني سيدي يعني الشيخ محمد شاكر تلميذ البَعْلِيِّ أنه مرَّة وقع وظيفة تدريس، فأراد مفتي دمشق أن يوجهها عليه وألحَّ عليه بذلك، فأبى وقال له: يا سيدي أنا تكفيني طاسة الشوربة، وترضى مني أم محمد بذلك، ثمَّ لمَّا أيس منه ألحَّ عليه أن يوجّهها على ولده الشيخ محمد فقال: هذا أنا لنفسي لم أقبلها، فكيف أرضى بها لغير مُستحقِّها.

ص: 22

وقال أيضًا: كان البَعْلِيُّ رحمه الله لا يأكلُ من مال ولده المذكور؛ لشدَّة ورعِه وعِفَّته، وكان يكتسبُ من عمل يده في حياكة الإلاجة، ولمَّا كبرت سنُّه ترك ذلك ولزم حجرته بالخانقاه الشميصاتية.

‌مؤلفاته:

«الذُّخر الحَرير بشرح مختصر التَّحرير» .

وهو كتابنا هذا ويأتي الكلام عليه بإذن الله تعالى.

* «الروض الندي بشرح كافي المبتدي» . وقد حققته بحمد الله تعالى على عدة نسخ خطية، وطُبع في مجلدين بمكتبة أهل الأثر بالكويت، وعليه حاشية «إرشاد المقتدي» لشيخنا العلامة أحمد القُعيمي حفظه الله.

* «منية الرائض لشرح عمدة كل فارض»

(1)

.

له نسخة خطية بمكتبة برنستون برقم الحفظ: 3050، 3799.

ونسخة أخرى بمكتبة زهير جاويش ببيروت، وحقق في رسالة جامعية.

قال الحسيني: وغير ذلك من التَّعليقات في الحساب والفرائض والفقه.

* * *

(1)

ينظر «سلك الدرر» للحسيني (1/ 287)، «الأعلام» للزركلي (1/ 162)، و «إيضاح المكنون» (4/ 596)، والغزي في «النعت الأكمل» (ص 310)، و «مختصر ذيل طبقات الحنابلة» لابن شطي (ص 145).

وقد حُقق في رسالة جامعية بالمملكة.

ص: 23

‌وفاته

قال ابن شَطِّي: وما زال على أحسن حال وأبدع منوال إلى أن توفي رحمه الله في محرم سنة تسع وثمانين ومائة وألف، ودُفن بمَقْبَرة باب الصَّغير.

قال ابن عابدين: وكانت وفاته رحمه الله تعالى ونفعنا به وهو ساجدٌ في سُنَّة الفجر نهار السبت سادس عشر محرم الحرام سنة 1189، وصُلِّي عليه بعد صلاة الظُّهر يوم السَّبت المذكور بالجامع الأموي المعمور، ودُفن بتُربة الباب الصَّغير.

* * *

ص: 24

‌التعريف بكتاب الذخر الحرير

هو تصنيفٌ رائقٌ بديعٌ، وَضَعَه مُؤَلِّفُه رحمه الله على كتابِ «مُختصر التَّحريرِ» بعباراتٍ متوسِّطةٍ لا طويلةٍ ولا قصيرةٍ، وأسلوبٍ سهلٍ بسيطٍ يَصِلُ إلى الطَّالبِ بيُسْرٍ، ظَهَرَتْ فيه مكانةُ الإمامِ البعليِّ رحمه الله ورُسوخُ قَدَمِه في هذا الفنِّ البديعِ.

وقد أبانَ رحمه الله في مُقَدِّمَةِ كتابِه «الذُّخرُ الحريرُ» عن منهجِه، فقالَ: لَمَّا رَأَيْتُ الكتابَ الموسومَ بـ «مُختصَر التَّحريرِ» -للشَّيخِ الإمامِ العالمِ تقيِّ الدِّينِ محمَّدِ بنِ أحمدَ بنِ النَّجَّارِ الفُتُوحِيِّ، اختَصَرَه مِن «تحريرُ المنقولِ وتَهذيبُ عِلْمِ الأصولِ» للشَّيخِ الإمامِ المُنقِّحِ علاءِ الدِّينِ المَرْدَاوِيِّ رَحِمَهما اللهُ تَعالى- مُشتملًا على قواعدَ كثيرةٍ، وفوائدَ عظيمةٍ، ومعَ ذلك شَرَحَه مُصَنِّفُه شرحًا عظيمًا، لكنَّه أطالَ في بعضِ المواضعِ، وتَرَكَ أُخْرى بلا حلٍّ لمَعانيها رَغِبْتُ أنْ أَشْرَحَه شرحًا مختصَرًا تَسْهُلُ قِراءتُه، لكونِ بعضِ أسيادي سَأَلَني ذلك، ولا يَسَعُني مُخالفتُه؛ فأَجَبْتُه لذلك مُسْتَثنيًا؛ لقولِه تَعالى:{وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}

(1)

معَ عَجزي واعتِرافِي بالقُصورِ مِن رُتبةِ الخوضِ في تلك المسالكِ، واسْتَخَرْتُ اللهَ تعالى وطَلَبْتُ منه المعونةَ والتَّدبيرَ، وسَمَّيْتُه:«الذُّخْرُ الحَرِيرُ بِشَرْحِ مُخْتَصَرِ التَّحريرِ» ، وأَسْأَلُ اللهَ النَّفعَ به، كما نَفَعَ بأصْلِه، إنَّه على ما يَشاءُ قديرٌ. اهـ

(1)

الكهف: 23 - 24.

ص: 25

قُلْتُ: وقد استفادَ رحمه الله مِن كتبِ أهلِ العِلمِ ممَّن سَبَقُوه في شرحِ «مختصر التَّحريرِ» أو ألَّفوا وكَتَبُوا وأَبْدَعُوا عامَّةً في عِلمِ الأصولِ، وممَّن استفادَ منهم:

المَردَاوِيُّ صاحبُ المختصرِ نفسِه في شرحِه «التَّحبيرُ في شرحِ التَّحريرِ» وهو العمدة في كتابه، وابنُ مفلحٍ في «أصولِه» ، وابنُ حمدانَ في «مُقنعِه» ، والآمِدِيُّ في «الإحكامُ في أصولِ الأحكامِ» ، والطُّوفِيُّ في «شرحُ مُختصَرِ الرَّوضةِ» ، وابنُ قاضي الجبلِ في مصنَّفِه في الأصولِ، والقَرافيُّ في «شرحُ التَّنقيحِ» ، والشَّمسُ البِرْمَاوِيُّ في «الفوائدُ السَّنِيَّةُ في شرحِ الألفيَّةِ» ، والغَزَّالِيُّ، والكُورانِيُّ، والأرمويُّ، وغيرُهم مِن أهلِ العِلمِ، كما ستَجِدُه فيه بإذنِ اللهِ تَعالى.

وبعضُ هذه المواردِ الَّتي نَقَلَ عنه الإمامُ البَعْلِيُّ رحمه الله واستفادَ مِنها لم يَصِلْنا ولم نَقِفْ عليه، وهو مِن ميزاتِ كتابِه.

والكتابُ مُهمٌّ مفيدٌ لكلِّ طالبِ عِلمٍ، جَزَى اللهُ مُؤلِّفَه خيرَ الجزاءِ، ونَفَعَنا جميعًا به.

أثنى عليه ابنُ بدرانَ في «المدخلُ إلى مذهبِ الإمامِ أَحمد» (ص: 461) فقالَ: ثمَّ إنَّ مُصنِّفَه (يَعني مصنفَ مختصرِ التَّحريرِ) شَرَحَه في مجلَّدٍ، وسَمَّاه «الكوكبُ المنيرُ في شرحِ مختصرِ التَّحريرِ» ، ثمَّ شَرَحَه الشَّيخُ أحمدُ البَعليُّ وسَمَّاه «الذُّخرُ الحريرُ شرحُ مختصرِ التَّحريرِ» ، وهذانِ الشَّرحانِ يُفيدانِ المُتوسِّطَ في هذا الفنِّ. اهـ

وقالَ العلَّامةُ ابنُ شطِّيٍّ رحمه الله في «مختصر طبقات الحنابلة» (ص: 145): وقد ألَّف شيخُنا مُؤلَّفاتٍ نافعةً؛ مِنها «ذُخرُ الحريرِ بشرحِ مختصرِ التَّحريرِ» .

وكذا قال الغزِّيُّ في «النَّعتُ الأكملُ» (ص: 310).

ص: 26

‌منهج العمل في التحقيق

اعتمدت في تحقيق هذا الكتاب على نسختين خطيتين لم أظفر بغيرهما بعد البحث الشديد، وكان عملنا في تحقيق الكتاب ملخَّصًا فيما يلي:

* نسخت الكتابَ من النسخة الخطية «د» بمساعدة الباحث بكر رزق.

* جعلت آيات كتاب الله تعالى بالرَّسم العُثماني المعروف مع تخريجها.

* قابلت الكتاب على النُّسختين الخطِّيتين مقابلة مُتقنة بمساعدة الباحث: محمد فاروق رشاد.

* قابلت متن «مختصر التحرير» على طبعة فضيلة الشيخ الدكتور عبد الرحمن المطيري، ووضعت فروق المقابلة بالهامش، إذ طبعته تعد أفضل طبعات الكتاب، لما تتميز من ضبط النص وتفقيره وعنونته، وقد استفدت منه في ذلك وراسلته فقال:«العلم رحم بين أهله» جزاه الله خيرًا، ونفع به، وللكتاب أيضًا طبعة جيدة بتحقيق الشيخ مبارك الحثلان حفظه الله، إلا أني اعتمدت الأولى؛ لما تميزت به من تفقير وعنونة.

* نسَّقت فقرات الكتاب، ووضعت علامات التَّرقيم المناسبة، وميَّزت متن «مختصر التحرير» بين قوسين () وجعلته باللَّون الأحمر؛ ليتميَّز عن شرحه «الذخر الحرير» .

* ضبطت الكتاب كاملًا بمساعدة الباحثين محمد علي شعراوي، ومحمد طه العطار، فضبطنا متنَ «مختصر التحرير» ضبطًا كاملًا، وشرحه «الذخر الحرير» ضبط إعراب وما أشكل منها.

ص: 27

* ضبطت الأبيات الشعرية الواردة في الكتاب مع بيان بحرها وتخريجها، وكانت قليلة جدًّا.

* خرَّجت الأحاديث والآثار التي ذكرها المؤلف أو أشار إليها تخريجًا موجزًا، مع بيان حكمها من كلام أهل العلم.

* عزوت الأقول الواردة في الكتاب التي نقلها المؤلف من كتب المذهب لقائليها، وهذا ساعدني في ضبط النَّصِّ.

* وضعت مقدمة علميَّة يسيرة للكتاب.

* وضعت فهارس علمية للكتاب اشتملت على:

- فهرس الآيات.

- فهرس الأحاديث والآثار.

- فهرس الأعلام.

- فهرس الكتب الواردة.

- فهرس الأشعار.

- فهرس الأماكن والبلدان.

- فهرس الموضوعات.

نسأل الله تعالى أن يجعله في ميزان حسنات

كل من ساهم فيه، وأن يرزقنا الإخلاص،

وأن يغفر لنا ما قصرنا فيه.

* * *

ص: 28

‌توثيق نسبة الكتاب لمؤلفه

* نُسِبَ له على طُرَّةِ النُّسختينِ الخَطِّيَّتَينِ، وفي مقدِّمةِ الكتابِ.

* كما نَسَبَه له:

(1)

الحسينيُّ في «سلك الدُّرَرِ» (1/ 287).

(2)

والغَزِّيُّ في «النَّعت الأكمل» (ص: 310).

(3)

وابنُ شَطِّيٍّ في «مختصر ذيلِ طبقاتِ الحنابلةِ» (ص: 145).

(4)

والبغداديُّ في «هديَّة العارفينَ» (1/ 178).

(5)

وابنُ حُمَيْدٍ في «السُّحُب الوابلة» (1/ 174).

(6)

والعلَّامةُ ابنُ بدرانَ في «المدخل إلى مذهبِ الإمامِ أحمدَ» (ص: 461).

(7)

والعلَّامةُ بَكرُ بنُ عبدِ اللهِ أبو زيدٍ في «المَدخل المُفَصَّل لمذهبِ الإمامِ أحمدَ» (2/ 799).

* نَقَلَ عنه أخوه عبدُ الرَّحمنِ البعليُّ في كتابِه «الرِّياض النَّضرات شرح أخصرِ المختصراتِ» في مُقدِّمَتِه أثناءَ شرحِه (للصَّلاةِ)، فقالَ: وهي مِن اللهِ تَعالى الرَّحمةُ، ومِن الملائكةِ الاستغفارُ، ومِن غيرِهم التَّضرُّعُ والدُّعاءُ. وتَجوزُ على غيرِ الأنبياءِ مُنفرِدًا على الصَّحيحِ عندَنا، نصَّ عليه. قالَه في «شَرحِ مُختَصرِ التَّحريرِ» . وهو بتمامِه في مقدِّمَةِ «الذُّخر الحرير» (ص 47).

ص: 29

وكتابُ «الرِّياضُ النَّضِرَاتُ» قيدَ الطِّباعةِ بتحقيقي، وعليه حاشيةُ العلَّامةِ القُعيميِّ حَفِظَه اللهُ، وطُبِعَ مِن قبلُ بتحقيقِ الشَّيخِ العلامة ناصر العجميِّ حَفِظَه اللهُ باسمِ «كَشْف المُخَدَّراتِ» (1/ 36).

ص: 30

‌توصيف النسخ الخطية

المعتمدة

اعتمدْتُ في تحقيقي لهذا الكتابِ المُبارَكِ على نسختينِ خَطِّيَّتينِ، لم أَظفَرْ بغيرِهما بعدَ البحثِ الشَّديدِ في فهارسِ المخطوطاتِ وقواعدِ البياناتِ الخاصَّةِ بذلك:

النُّسخةُ (د)

وهي مصوَّرةٌ عن النُّسخةِ الخَطِّيَّةِ المحفوظةِ بمكتبةِ الرِّياضِ، برقْمِ حِفظِ (341/ 86)، أَهْدَاني إيَّاها فضيلةُ الشَّيخِ الحبيبِ الكريمِ: عادلِ بنِ عبدِ الرَّحيمِ العوضيِّ الإماراتِيِّ حَفِظَه اللهُ ورَعَاه، وبارَكَ فيه، فكم له مِن أيادٍ عليَّ وعلى كثيرٍ مِن المُشتغلينَ بالتَّحقيقِ، فما طَلَبْتُ منه مخطوطاتٍ إلَّا وسارَعَ في البحثِ عنها وإرسالِها، دونَ مللٍ أو تغيُّرِ حالٍ، بل قد يَتَكَلَّفُ في تصويرِها مِن مركزِ جمعةَ الماجدِ أو غيرِه إن لم تَكُنْ لديه، ولم أرَ هذا لغيرِه في زمانِنا، بل رَأَيْنا مَن يَبْخَلُ ويَضنُّ بما عندَه لا لشيءٍ إلَّا الضّنُّ بها، فجَعَلَه اللهُ في ميزانِ حَسَناتِه وتَقَبَّلَ منه!

وهي نُسخةٌ متوسطة، وَقَعَ بها بعضُ الأخطاءِ والتحريف والسقط، والخَرْمُ كما وَقَعَ بعدَ (ص 2)، لم أعلق على كثير منه خشية الإثقال.

وهي نسخةٌ مُرَقَّمَةٌ ترقيمًا داخليًّا بالصَّفحاتِ في (190 صفحةً).

في كلِّ صفحةٍ 35 سطرًا.

ص: 31

وهي بخطِّ نسخٍ واضحٍ مقروءٍ، كُتِبَ نصُّ متنِ «مُختصرُ التَّحريرِ» باللَّونِ الأحمرِ.

ناسِخُها هو: الفقيرُ فرَّاجُ بنُ سابقٍ الأثريُّ الحنبليُّ

(1)

، كما جاءَ في نهايةِ النُّسخةِ.

وكانَ الفراغُ مِن نَسخِها تاسعَ صفرٍ سَنَةَ 1245 هـ، كما جاءَ في نهايةِ النُّسخةِ الخَطِّيَّةِ.

النُّسخةُ عليها عناوينُ في الحواشي مثلُ ما جاءَ في (ص: 9): المجازُ، وفي (ص: 13): الاشتقاقُ.

النُّسخةُ مقابلةٌ، وعليها بلاغاتُ مُقابلةٍ وتصحيحاتٌ، كما في (ص: 9، 13).

وبها نظامُ التَّعقيبةِ.

النُّسخةُ على طُرَّتِها تعريفٌ موجزٌ بالمؤلِّفِ، وخَتْمُ مكتبةِ المَلِكِ فهدٍ الوطنيَّةِ، وخَتْمُ مكتبةِ الرِّياضِ، وكُتِبَ عليها: واردٌ مِن مكتبةِ الشَّيخِ محمَّدِ بنِ إبراهيمَ رحمه الله.

(1)

هو فرَّاجُ بنُ سابقٍ الزُّبيريُّ وُلِدَ في الزُّبيرِ، وقَرَأَ على عالِمِه الشَّيخِ إبراهيمَ بنِ ناصرِ بنِ جديدٍ وغيرِه، ثمَّ حجَّ، وجاوَرَ بمَكَّةَ، فقَرَأَ على زاهِدِها الشَّيخِ عمرَ الحنفيِّ التّفسيرَ والحديثَ، وكذا على مُحَدِّثِها السَّيِّدِ يوسفَ البَطَّاحِ الزُّبيديِّ، وعلمَ القراءاتِ والعربيَّةِ على الشّيخِ أحمدَ المرزوقيِّ الضَّريرِ، وأجازَه، وخطُّه حَسَنٌ، وغالبُ كلامِه بسَجْعٍ، وله نظمٌ. تُوُفِّي سنةَ 1246 ظنًّا. ترجمتُه في «السُّحبُ الوابلةِ على ضرائحِ الحنابلةِ» (2/ 813)، و «فيضُ المَلِكِ الوَهَّابِ المُتعالي بأنباءِ أوائلِ القرنِ الثَّالثَ عَشَرَ والتَّوالي» (ص: 1282).

قُلْتُ: وَقَفْتُ له على إجازةٍ بخطِّه لمحمَّدِ بنِ حمدٍ الهُدَيْبيِّ من مخطوطاتِ وزارةِ الأوقافِ والشُّؤونِ الإسلاميَّةِ.

ص: 32

وعلى طُرَّتِها تَمَلُّكٌ للنَّاسخِ رحمه الله نَصُّه: قد وَقَفَ هذا الكتابَ وحَبَسَه وسَبَّلَه حالَ كتابتِه الفقيرُ إلى رحمةِ ربِّه وعفوِه عبدُه وابنُ عبدِه: فرَّاجُ بنُ سابقٍ الأثريُّ الحنبليُّ، عامَلَه اللهُ ووالدَيْه ومشايخَه بلُطفِه الخفيِّ والجليِّ، وجَعَلَ النَّظرَ فيه مُدَّةَ حياتِه لمَن شاءَه اللهُ ثمَّ شاءَه هو مِن بعدِه، فمَن بَدَّله بعدَ ما سَمِعَه فإنَّما إثمُه على الَّذين يُبَدِّلُونه إنَّ اللهَ سميعٌ عليمٌ، لَعَنَ اللهُ مَن بَدَّلَه أو غَيَّرَه، جَعَلَه اللهُ خالصًا لوجهِه الكريمِ، وسببًا للفوزِ بجنَّاتِ النَّعيمِ لنا ولوالِدِينا ومشايخِنا والمسلمينَ، وصَلَّى اللهُ على سيِّدِنا محمَّدٍ وعلى آلِه وصَحبِه وسَلَّمَ.

وكَتَبَ على طُرَّتِها أيضًا: هذا الكتابُ الوقفُ في يدِ الفقيرِ إلى اللهِ تَعالى محمَّدِ بنِ ناصرِ الدِّينِ مِن أوقافِ المسلمينَ، مِن تَرِكَةِ المرحومِ الشَّيخِ أحمدَ .. في شهرِ رجبٍ سنةَ 1275 هـ لا يُباعُ ولا يُوهَبُ ولا يُورَّثُ ولا يُمنَعُ مِن تَفهيمِه ..

وخَتَمَها النَّاسخُ رحمه الله بشعرٍ جميلٍ له [من الطَّويلِ]:

فَمَا سَهِرَتْ عَيْنِي وَلَا تَعِبَتْ يَدِي

لِغَيْرِ دُعَاءٍ فِي الْبَرِيَّةِ مِنْ بَعْدِي

فَيَا قَارِئًا خَطِّي سَأَلْتُكَ دَعْوَةً

لِيَرْحَمَنِي رَبِّي إِذَا صِرْتُ فِي لَحْدِي

* * *

ص: 33

النُّسخةُ (ع)

وهي مُصوَّرةٌ عن النُّسخةِ الخطِّيَّةِ المحفوظةِ بمكتبةِ شيخِ شيوخِنا العلَّامةِ ابنِ عقيلٍ الحنبليِّ رحمه الله وعليها ختمُ مكتبتِه مُؤَرَّخًا بعامِ 1354 هـ.

أَهْدَاني إيَّاها تلميذُه فضيلةُ الشَّيخِ العلَّامةِ المُحَقِّقِ: فيصلِ بنِ يوسُفَ العَلِيِّ الكويتيِّ حَفِظَه اللهُ ونَفَعَ به وبارَك فيه.

وهي نسخةٌ جيِّدةٌ، ومقابَلَةٌ، ناقصةُ الآخِرِ، وبها نظامُ التَّعقيبةِ، وهي أفضل من سابقتها، فيندر فيها السقط والتحريف والخطأ.

وهي نسخةٌ مُرَقَّمةٌ ترقيمًا داخليًّا بالصَّفحاتِ في (497 صفحةً).

في كلِّ صفحةٍ 23 سطرًا.

وهي بخطِّ نسخٍ واضحٍ مقروءٍ، كُتِبَ نصُّ متنِ «مُختصرُ التَّحريرِ» باللَّونِ الأحمرِ.

ناسِخُها غيرُ معروفٍ فلم يُذْكَرْ في نهايتِها؛ إذ هي ناقصةُ الآخِرِ، وتمَّ استكمالُ آخِرِها بخطٍّ حديثٍ بقلمٍ جافٍّ أزرقَ مِن النُّسخةِ السَّابقةِ (د)، ثمَّ كُتِبَ في نهايتِها: بَلَغَ 28/ 1/ 1422 بقراءةِ محمَّد الصَّالح بسَّام، وكُتِبَ أيضًا: بلغ في 9/ 3/ 1423 بقراءةِ صالحِ بنِ عبدِ اللهِ آلِ طالبٍ.

وعليها بلاغاتُ مقابلةٍ سَنَةَ 1413 هـ، 1421، 1422، 1423 هـ بخطٍّ حديثٍ.

* * *

ص: 34

‌نماذج من النسخ الخطية

طرة النسخة الخطية (د)

ص: 35

الورقة الأولى من النسخة الخطية (د)

ص: 36

الورقة الأخيرة من النسخة الخطية (د)

ص: 37

طرة النسخة الخطية (ع)

ص: 38

الورقة الأولى من النسخة الخطية (ع)

ص: 39

الورقة الأخيرة من النسخة الخطية (ع)

ص: 40

بسم الله الرحمن الرحيم

وبه نَستعينُ

الحمدُ للهِ الَّذِي شَرَحَ صُدورَنا لحكمتِه، ونَوَّرَ قُلوبَنا بالإسلامِ، وهَدَانا لمعرفتِه، سُبحانَه مِن إلهٍ مَنَحَ مَنِ اختارَه لتمهيدِ قواعدِ الشَّريعةِ أصولًا وفروعًا

(1)

بقُدرتِه، أَحمَدُه على نِعَمٍ لا تُعَدُّ، وأَشْكُرُه على مِنَنٍ لا تُحَدُّ، وأَتُوبُ إليه وأَستغفرُه، وأَسْأَلُه حُسْنَ الخاتمةِ، والفوزَ برؤيتِه، وأَشهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وَحدَه لا شريكَ له، إلَهٌ تَنَزَّهَ عن شَبَهٍ ومِثْلٍ في وحدانيَّتِه، وأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا عبدُه ورسولُه وحبيبُه وصفيُّه وخليلُه، نَبِيٌّ أَظْهَرَ اللهُ به الوُجودَ وفضَّلَه على بَرِيَّتِه، [صَلَّى اللهُ عليه وعلى آلِه وصَحْبِهِ وأُمَّتِه]

(2)

.

وبعدُ؛ فيَقُولُ العبدُ الفقيرُ الحقيرُ أحمدُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ أحمدَ البَعْلِيُّ الحنبليُّ الخَلْوَتِيُّ غَفَرَ اللهُ له ولوالدَيْه وللمسلمينَ: لَمَّا رَأَيْتُ الكتابَ الموسومَ بـ «مُختصَرِ التَّحريرِ» -للشَّيخِ الإمامِ العالمِ تقيِّ الدِّينِ محمَّدِ بنِ أحمدَ بنِ النَّجَّارِ الفُتُوحِيِّ، اختَصَرَه مِن «تحريرِ المنقولِ وتَهذيبِ عِلْمِ الأصولِ» للشَّيخِ الإمامِ المُنقِّحِ علاءِ الدِّينِ المَرْدَاوِيِّ رَحِمَهما اللهُ تَعالى- مُشتملًا على قواعدَ كثيرةٍ، وفوائدَ عظيمةٍ، ومعَ ذلك شَرَحَه مُصَنِّفُه شرحًا عظيمًا، لكنَّه أطالَ في بعضِ المواضعِ، وتَرَكَ أُخْرى بلا حلٍّ لمَعانيها؛ رَغِبْتُ أنْ أَشْرَحَه شرحًا مختصَرًا تَسْهُلُ قِراءتُه؛ لكونِ بعضِ أسيادي سَأَلَني ذلك، وَلَا يَسَعُني مُخالفتُه؛ فأَجَبْتُه لذلك مُسْتَثنيًا؛ لقولِه تَعالى: {وَلَا تَقُولَنَّ

(1)

في (ع): فروعًا وأصولًا.

(2)

ليست في (د).

ص: 43

لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}

(1)

مَعَ عَجزي واعتِرافِي بالقُصورِ مِن رُتبةِ الخوضِ في تلك المسالكِ، واسْتَخَرْتُ اللهَ تَعالى وطَلَبْتُ منه المعونةَ والتَّدبيرَ، وسَمَّيْتُه:«الذُّخْرَ الحَرِيرَ بِشَرْحِ مُخْتَصَرِ التَّحريرِ» ، وأَسْأَلُ اللهَ النَّفعَ به، كما نَفَعَ بأصْلِه، إنَّه على ما يَشاءُ قديرٌ.

(1)

الكهف: 23 - 24.

ص: 44

قالَ المُؤَلِّفُ

(1)

رَحِمَه اللهُ تَعالى:

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) والباءُ فيهِ للاستعانةِ أو للمُصاحَبةِ، مُتَعَلِّقٌ بمحذوفٍ: اسمٍ أو فعلٍ، مُقَدَّمًا كلٌّ مِنهما أو مُؤَخَّرًا، كقولِك: ابتدائي أو أَبْتَدِئُ، وتقديرُه مُؤَخَّرًا أو فِعلًا أَوْلى؛ لأنَّ الأصلَ في العملِ للأفعالِ، وتقديمُ المَعمولِ يُفيدُ الحَصرَ. وَقِيلَ: الأَوْلَى تَقديرُه اسمًا مُقَدَّمًا.

و «الله» عَلَمٌ على الذَّاتِ الواجبِ الوُجودِ، المُستحقِّ لجميعِ المَحامِدِ، وهو مُختَصٌّ به تَعالى فيَعُمُّ جميعَ أسمائِه الحُسنى.

فائدةٌ

قالَ البَنْدَنِيجِيُّ

(2)

: أكثرُ أهلِ العِلمِ على أنَّ الاسمَ الأعظمَ هو اللهُ

(3)

، واختارَ النَّوويُّ

(4)

-تَبَعًا لجماعةٍ- أنَّه الحيُّ القيُّومُ.

و «الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» صِفَتَانِ بُنِيَتَا للمبالغةِ مِن «رَحِمَ» ، وقُدِّمَ «اللهُ» ؛ لأنَّه اسمُ ذاتٍ، وقُدِّمَ «الرَّحمنُ» على «الرَّحيمِ» ؛ لأنَّه خاصٌّ به تَعالى بخلافِ «الرَّحيمِ» .

(الحَمْدُ للهِ) الحمدُ لغةً: الثَّناءُ باللِّسانِ على الجَميلِ الاختياريِّ على

(1)

ليست في (ع).

(2)

هو القاضي الحسنُ بنُ عبدِ اللهِ أبو عليٍّ البَنْدَنِيجِيُّ، صاحبُ «الذَّخيرةِ» ، وأحدُ العظماءِ مِن أصحابِ الشَّيخ أبي حامدٍ، وله عنه تعليقةٌ مشهورةٌ. يُنظرُ:«طبقات الشَّافعيَّة الكبرى» للسُّبْكِيِّ (4/ 305).

(3)

يُنظرُ: «كفاية النَّبيهِ في شرحِ التَّنبيهِ» لابنِ الرِّفعةِ (14/ 416)، و «النَّجم الوَهَّاج في شرحِ المنهاجِ» للدَّميريِّ (10/ 11)، و «عُجالة المحتاجِ إلى توجيهِ المنهاجِ» لابنِ الملقِّنِ (ص 58)، و «أسنى المطالبِ» لزكريَّا الأنصاريِّ (4/ 203).

(4)

«فتاوى النَّوويِّ» (ص 277).

ص: 45

جهةِ التَّبجيلِ والتَّعظيمِ، سواءٌ تَعَلَّقَ بنعمةٍ أم

(1)

لا.

وعُرفًا: فِعلٌ يُنْبِئُ عن تعظيمِ المُنْعِمِ بسببِ كَوْنِه مُنْعِمًا على الحامدِ أو غيرِه، سواءٌ كانَ باللِّسانِ، أم بالجِنانِ، أم بالأركانِ، و «الـ» في «الحمدِ» للاستغراقِ، كما عليه الجمهورُ

(2)

.

وقولُه: (الَّذِي هُوَ كَمَا أَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ) اعتِرافٌ بالعَجزِ عنِ الثَّناءِ، ورَدٌّ إلى المُحيطِ عِلْمُه بكلِّ شيءٍ جُملةً وتفصيلًا.

(فَالعَبْدُ لَا يُحْصي ثَنَاءً عَلَى رَبِّهِ) أي: لا يُطِيقُه، وَلَا يَبْلُغُه، وَلَا يَنتهي غايتَه؛ لقولِه تَعالى:{عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ}

(3)

أي: تُطِيقُوه، ولأنَّ وَصْفَ الواصفِ بحَسَبِ ما يُمْكِنُه إدراكُه مِن الموصوفِ، واللهُ تَعالى أكبَرُ مِن أنْ تُدرَكَ حقائقُ صفاتِه كما هي، عز وجل:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}

(4)

.

وابْتَدَأَ كتابَه بالبَسملةِ، ثمَّ بالحَمدلةِ؛ تَبَرُّكًا وتأسِّيًا بكتابِ اللهِ، وعملًا بالأخبارِ الواردةِ في ذلك

(5)

، وأَعْقَبَ الحمدَ بالصَّلاةِ بقولِه:

(1)

في (ع): أو.

(2)

قال علاءُ الدِّينِ في «كشف الأسرارِ شرح أصولِ البَزْدَوِيِّ» (1/ 4): لاستغراقِ الجنسِ عندَ أهلِ السُّنَّةِ على ما عُرِفَ، أي: الحمدُ كلُّه للهِ. وفي (2/ 14): قال أهلُ السُّنَّةِ بأجمعِهم: إنَّ اللَّامَ في قولِه تَعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} لاستغراقِ الجنسِ، فقالوا: معناه جميعُ المحامدِ للهِ تَعالى. اهـ

قُلْتُ: وفيه إشارةٌ إلى ما عندَ المعتزلةِ مِن أنَّ الحمْدَ بعضُه للعبدِ وَليس كلُّه للهِ تَعالى، بناءً على أنَّ العبدَ مُوجِدٌ لأفعالِه بالاستقلالِ.

(3)

المُزَّمِّلُ: 20.

(4)

الشُّورى: 11.

(5)

أمَّا البسملةُ، فالخبرُ فيها ضعيفٌ، رواه الخَطيبُ في «الجامع لأخلاقِ الرَّاوي وآدابِ السَّامعِ» (1210) من حديث أبي هُرَيْرَةَ. وضعَّفَه ابنُ حَجَرٍ في «فتح الباري» (8/ 220).

وأمَّا الحمدلةُ فرواه أبو داودَ (4840)، والنَّسائيُّ (10255)، وابنُ ماجه (1894)، وحسَّنَه الحافظُ ابنُ حجرٍ في «نتائج الأفكارِ» (3/ 277).

ص: 46

(وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى أَفْضَلِ خَلْقِهِ مُحَمَّدٍ) امتثالًا لقولِه تَعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}

(1)

وإظهارًا لشرفِه صلى الله عليه وسلم.

والصَّلاةُ مِن اللهِ: الرَّحمةُ والمغفرةُ، والثَّناءُ على نبيِّه عندَ الملائكةِ، ومِن الملائكةِ: الاستغفارُ، ومِن الآدَميِّ والجِنِّيِّ: التَّضرُّعُ والدُّعاءُ.

والسَّلامُ

(2)

: هو تسليمُ اللهِ، مَعناه: اسمُ اللهِ عليكَ.

وَقِيلَ: مَعناه سلامُ اللهِ عليك تسليمًا وسلامًا، ومَن سَلَّمَ اللهُ عليه سَلِمَ مِن الآفاتِ كُلِّها.

وقد وَرَدَ في فَضلِه على جميعِ خَلْقِه أحاديثُ دالَّةٌ، منها قولُه عليه الصلاة والسلام:«أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ»

(3)

.

و «مُحَمَّدٍ» عَلَمٌ مُشتَقٌّ مِنَ الحمدِ، مَعناه

(4)

منقولٌ مِنَ التَّحميدِ الَّذِي هو فَوْقَ الحمدِ، سُمِّيَ به لكثرةِ خصالِه المحمودةِ.

(وَ) الصَّلاة والسَّلامُ على (آلِهِ) والآلُ: اسمُ جمعٍ لا واحِدَ له مِن لَفْظِه،

(1)

الأحزاب: 56.

(2)

قال القاضي عِياضٌ في «الشِّفا» (2/ 138): وفي معنى السَّلامِ عليه ثلاثةُ وجوهٍ:

أحدُهما: السَّلامةُ لك ومعك، ويكونُ السَّلامُ مصدرًا كاللَّذاذِ واللَّذاذةِ.

الثَّاني: أي السَّلامُ على حِفظِك ورعايتِك مُتَوَلٍّ له وكفيلٌ به، ويكون هنا السَّلامُ اسمَ اللهِ.

الثَّالثُ: أنَّ السَّلامَ بمعنى المُسالمةِ له والانقيادِ، كما قال:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} .

(3)

رواه مسلمٌ (2278) من حديثِ أبي هُرَيْرَةَ دونَ قولِه: «وَلَا فَخْرَ» ، وهي في روايةِ التِّرمذيِّ (3418) من حديثِ أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنهما، وقال: حديثٌ حَسنٌ.

(4)

ليست في (ع).

ص: 47

وهم أَتباعُه على دينِه

(1)

على الصَّحيحِ مِن المذهبِ، نَصَّ عليه أحمدُ رَحِمَه اللهُ تَعالى، وجَوَّزَ الأكثرُ إضافتَه للضَّميرِ

(2)

.

(وَ) الصَّلاةُ والسَّلامُ على (صَحْبِهِ)

(3)

اسمُ جمعٍ لصاحبٍ، بمَعنى الصَّحابيِّ: وهو مَنِ اجتمعَ بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، أو رآه بعدَ البعثةِ مُؤمِنًا به وماتَ مُؤمِنًا

(4)

، وعَطْفُه على الآلِ مِن عَطْفِ الخاصِّ على العامِّ، وجَمَعَ بينَهما رَدًّا على الشِّيعةِ حَيْثُ يُوالونَ الآلَ دونَ الصَّحبِ

(5)

.

فائدةٌ: تَجوزُ الصَّلاةُ على غيرِ الأنبياءِ صَلَوَاتُ اللهِ عليهم أجمعينَ مُنْفَرِدًا مِن غيرِ ذِكْرِ الرَّسولِ مَعَه، على الصَّحيحِ مِن المذهبِ، نَصَّ عليه في روايةِ أبي داودَ وغيرِه

(6)

.

(1)

قال المَرْدَاوِيُّ في «الإنصافُ» (2/ 79): آلُه: أَتباعُه على دينِه صَلَوَاتُ اللهِ وسلامُه عليه، على الصَّحيحِ مِن المذهبِ، اختارَه القاضي وغيرُه من الأصحابِ، قالَه المجدُ، وقدَّمه في «المغني» ، والشَّرحِ، وشرحِ المجدِ، ومجمعِ البحرينِ، وابنُ تميمٍ، وابنُ رزينٍ في شرحِه، والرِّعايةِ الكبرى، والمُطْلِعِ، وابنُ عبيدانِ، وابنُ مُنَجًّى في شَرحَيْهما.

وقيلَ: آلُه: أزواجُه وعشيرتُه ممَّن آمَنَ به، قَيَّدَه به ابنُ تميمٍ.

وقيلَ: بنو هاشمٍ المؤمنونَ، وأَطْلَقَهُنَّ في الفروعِ. وقيل: آلُه: بنو هاشمٍ، وبنو المُطَّلِبِ، ذَكَرَه في «المُطْلِعِ». وقيلَ: أهلُه.

وقالَ الشَّيخُ تقيُّ الدِّينِ: آلُه: أهلُ بيتِه، وقال: هو نصُّ أحمدَ، واختيارُ الشَّريفِ أبي جعفرٍ وغيرِهم.

(2)

قال البُهُوتِيُّ في «كشَّافُ القِناعِ» (1/ 16): والصَّوابُ جوازُ إضافتِه للضَّميرِ، خلافًا للكسائيِّ والنَّحَّاسِ والزَّبيديِّ؛ فمَنَعُوها لتَوَغُّلِه في الإبهامِ.

(3)

من هنا بداية سقط في النسخة (د).

(4)

يُنظَرُ: «نزهة النَّظِر» لابنِ حَجَرٍ (ص 140).

(5)

والأمرُ عندَ الشِّيعةِ هداهم اللهُ أعظمُ مِن ذلك، مِن تكفيرٍ للصَّحابةِ وسبِّهم ولَعنِهم، عياذًا باللهِ تَعالى، وقد حَدَّثَني أحدُ الأفاضل رجلٌ ثقةٌ مِن أهلِ السُّنَّةِ أنَّه رأى وسَمِعَ هذا في زيارتِه لإيرانَ مِن قريبٍ.

(6)

يُنظَرُ: «الإنصاف» للمَرْدَاوِيِّ (2/ 80).

وقالَ ابنُ كثيرٍ في «تفسيرِه» (6/ 477): وأمَّا الصَّلاةُ على غيرِ الأنبياءِ، فإنْ كانَتْ على سبيلِ التَّبَعِيَّةِ كما تَقَدَّمَ في الحديثِ:«اللَّهُمَّ، صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ» ، فهذا جائزٌ بالإجماعِ، وإنَّما وَقَعَ النِّزاعُ فيما إذا أُفْرِدَ غيرُ الأنبياءِ بالصَّلاةِ عليهم: فقالَ قائلونَ: يَجوزُ ذلك، واحتجُّوا بقولِه:{هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ} [الأحزاب: 43]، وبقولِه:{أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 157]، وبقولِه تَعالى:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة: 103]، وبحديثِ عبدِ اللهِ بنِ أبي أَوْفَى قال: كانَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قومٌ بصَدَقتِهم قال: «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِمْ» . وبحديثِ جابرٍ: أنَّ امرأتَه قالَتْ: يا رسولَ اللهِ! صَلِّ عليَّ وعلى زوجي. فقَالَ: «صَلَّى اللهُ عَلَيْكِ وَعَلَى زَوْجِكِ» . رواه أبو داودَ.

وقالَ الجمهورُ مِن العلماءِ: لا يَجوزُ إفرادُ غيرِ الأنبياءِ بالصَّلاةِ؛ لأنَّ هذا قد صارَ شعارًا للأنبياءِ إذا ذُكِرُوا، فلا يُلْحَقُ بهم غيرُهم، فلا يُقالُ:«قالَ أبو بكرٍ صَلَّى اللهُ عليه» . أو: «قالَ عليٌّ صلَّى اللهُ عليه» . وإنْ كانَ المعنى صحيحًا، كما لا يُقالُ:«قالَ مُحَمَّدٌ عز وجل» ، وإنْ كانَ عزيزًا جليلًا؛ لأنَّ هذا مِن شعارِ ذِكْرِ اللهِ عز وجل. وحَمَلُوا ما وَرَدَ في ذلك مِن الكتابِ والسُّنَّةِ على الدُّعاءِ لهم؛ ولهذا لم يَثْبُتْ شعارًا لآلِ أبي أَوْفَى، ولا لجابرٍ وامرأتِه. وهذا مَسلَكٌ حَسَنٌ.

ص: 48

(أَمَّا) حرفُ تفصيلٍ، وأصلُ وَضْعِها أنْ تُذكَرَ لتفصيلِ شيئينِ فأكثرَ، فيَكُونُ بعدَها «أَمَّا» أُخرى، تَقولُ -إذا أردتَ تفصيلَ أحوالِ جماعةٍ: أمَّا زيدٌ فكريمٌ، وأمَّا عمرُ ففاضلٌ، وقد تُذْكَرُ وَحدَها؛ كقولِه تَعالى:{فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ} الآيةَ

(1)

وهي مُتَضَمِّنَةٌ مَعنى الشَّرطِ، لارتباطِ الحُكْمِ بَعدَها بالمَحكومِ عليه ولُزومِه له، وقد قَالَ سِيبَوَيْه

(2)

: «مَعْنَاهَا مَهْمَا يَكُنْ مِنْ شَيْءٍ» .

و (بَعْدُ) مِن الظُّروفِ المَبنيَّةِ المُنقطعةِ عن الإضافةِ، والعاملُ فيها «أمَّا» لنيابتِها عن الفعلِ، والأصلُ: مَهما يَكُنْ مِن شيءٍ بعدَ الحمدِ والثَّناءِ والصَّلاةِ والسَّلامِ.

ويُستحبُّ الإتيانُ بها في الخُطَبِ، والمُكاتباتِ؛ اقتداءً برسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فإنَّه كانَ يَقولُها في خُطَبِه وشِبْهِها.

(1)

آل عمران: 7.

(2)

«الكتاب» لسِيبَوَيْه (3/ 137).

ص: 49

وحيثُ تَضَمَّنَتْ «أمَّا» مَعنى الابتداءِ والشَّرطِ، لَزِمَتْها الفاءُ، ولصوقُ الاسمِ إقامةَ اللَّازمِ مَقامَ المَلزومِ، وإبقاءً لأثرِه في الجملةِ، فلأجلِ ذلك قَالَ:

(فَهَذَا) قَالَ القاضي علاءُ الدِّينِ في «شرحِ الأصلِ» : إشارةٌ مِنَّا إلى ما تَصَوَّرْناه في الذِّهنِ، وأَقَمْناه مُقامَ المكتوبِ المقروءِ والموجودِ بالعِيانِ

(1)

.

(مُخْتَصَرٌ) أي: قليلٌ لفظُه كثيرٌ مَعانيه، والاختصارُ: إيجازُ اللَّفظِ مَعَ استيفاءِ المعنى.

وَقِيلَ: ردُّ الكلامِ الكثيرِ إلى قليلٍ فيه مَعنى الكثيرِ.

والاختصارُ في الكلامِ محمودٌ لقولِه عليه الصلاة والسلام: «أُوتِيتُ جَوَامِعَ الكَلِمِ، وَاخْتُصِرَ لِي الكَلَامُ اخْتِصَارًا»

(2)

.

وقالَ عليٌّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَه

(3)

: «خَيْرُ الكَلَامِ مَا قَلَّ وَدَلَّ وَلَمْ يَطُلْ فَيُمِلَّ»

(4)

.

(1)

«التحبير شرح التحرير في أصولِ الفقهِ» (1/ 23).

(2)

رواه أبو يعلى كما في «المقصد العلي في زوائد أبي يعلى الموصلي» للهيثمي (59) من حديث عمر رضي الله عنه، وضعَّفه ابن حجر في «فتح الباري» (13/ 525).

ورواه البخاري (2977)، ومسلم (523) مختصرًا، ضمن حديث أبي هريرة رضي الله عنه:«وَأُوتِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ» .

(3)

كرم الله وجهه ووجه الصحابة الكرام رضي الله عنهم.

قال ابن كثير في «تفسيره» (6/ 478): وقد غلب هذا في عبارة كثير من النُّساخ للكتب، أن يفرد علي رضي الله عنه، بأن يقال:«عليه السلام» ، من دون سائر الصحابة، أو:«كرم الله وجهه» وهذا وإن كان معناه صحيحًا، لكن ينبغي أن يساوى بين الصحابة في ذلك. اهـ

قال الشنشوري: وقد قيل في سبب ذلك أشياء، ذكر بعضها العلامة عطية صقر رحمه الله وردَّها فقال في «فتاوى الأزهر» (10/ 101): لا يوجد سند صحيح لما يقال.

وكذا العلامة بكر أبو زيد رحمه الله في «معجم المناهي اللفظية» (ص 440) فقال: أما وقد اتخذته الرافضة أعداء علي رضي الله عنه والعترة الطاهرة= فلا؛ منعًا لمجاراة أهل البدع. والله أعلم. ولهم في ذلك تعليلات لا يصح منها شيء.

(4)

لم أقف عليه.

ص: 50

(مُحْتَوٍ) أي: مُشتملٌ، أو مُحيطٌ (عَلَى مَسَائِلِ) الكِتَابِ المُسَمَّى بـ (تَحْرِيرِ المَنْقُولِ وَتَهْذِيبِ عِلْمِ الأُصُولِ) اسمٌ عَلَمٌ لأصلِ ذلك المُختصَرِ، سُمِّي بذلك لتحريرِ نُقولِه؛ أي: تقويمِها، وتهذيبِ أصولِه؛ أي: تلخيصِها وتسهيلِها، بعباراتٍ واضحةٍ مُقرِّبةٍ إلى الفهمِ، مَعَ الإتيانِ بالمعنى الجليِّ الواضحِ، (فِي أُصُولِ الفِقْهِ) الآتي تعريفُه؛ أي: لا في عِلْمٍ غيرِه.

(جَمْعِ الشَّيْخِ) الإمامِ (العَلَّامَةِ) أبي الحسنِ القاضي (عَلَاءِ الدِّينِ المَرْدَاوِيِّ الحَنْبَلِيِّ تَغَمَّدَهُ اللهُ تَعَالَى بِرَحْمَتِهِ، وَأَسْكَنَهُ فَسِيحَ جَنَّتِهِ) مُنْتَقًى هذا المختصَرُ (مِمَّا قَدَّمَهُ) القاضي علاءُ الدِّينِ مِن الأقوالِ الَّتي في المسألةِ (أَوْ كَانَ) القولُ (عَلَيْهِ الأَكْثَرُ مِنْ أَصْحَابِنَا) يَذْكُرُه في هذا المختصَرِ (دُونَ) ذِكْرِ بَقِيَّةِ (الأَقْوَالِ) المرجوحةِ.

(خَالٍ) هذا المختصرُ (مِنْ قَوْلٍ ثَانٍ) يَذْكُرُهُ فِيهِ (إِلَّا) مِن قولٍ ذَكَرَه (لِفَائِدَةٍ تَزِيدُ) أي: زائدةٍ (عَلَى مَعْرِفَةِ الخِلَافِ) لَا ليُعلَمَ أنَّ في المسألةِ خلافًا فقط.

(وَ) خالٍ أيضًا (مِنْ عَزْوِ مَقَالٍ إِلَى مَنْ إِيَّاهُ قَالَ) أي: خالٍ هذا المُختصرُ، مِن أنْ أَعزُوَ قولًا منه إلى قائلِه.

(وَمَتَى قُلْتُ) في هذا المُختصَرِ: هو كذا، كقولِه: العِلمُ لا يُحَدُّ (فِي وَجْهٍ) ويَنْدُرُ ذلك، سواءٌ كانَ بعدَ ذِكرِ حُكْمِ مسألةٍ كما في المثالِ، أو قَبْلَهُ؛ (فَالمُقَدَّمُ) أي: المُعتَمَدُ (غَيْرُهُ) أي: غيرُ ما قَالَ: إنَّه كذا في وجهٍ، أو في وجهٍ هو كذا.

(وَ) متى ما قُلْتُ: هو كذا، أو: لَيْسَ بكذا، كقولِه في المجازِ، و (فِي) قولِه:«ولا يُشتقُّ منه» ، وَيَكْثُرُ ذلك، (أَوْ) كقولِه في الحروفِ:«في» لظرفٍ، وهي بمَعناه (عَلَى قَوْلٍ) في:{وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ}

(1)

.

(1)

طه: 71.

ص: 51

(فَإِذَا قَوِيَ الخِلَافُ، أَوِ اخْتَلَفَ التَّرْجِيحُ) في المسألةِ (أَوْ مَعَ إِطْلَاقِ القَوْلَيْنِ، أَوِ الأَقْوَالِ) أي: فإذا قَوِيَ الخلافُ إلى آخِرِه، قُلْتُ: في قَوْلٍ، أو: على قولٍ؛ (إِذْ) أي: لأجلِ أَنِّي (لَمْ أَطَّلِعْ عَلَى) قولٍ (مُصَرَّحٍ) أو قائلٍ مُصَرِّحٍ (بِالتَّصْحِيحِ) لأحدِ القَولينِ، أو الأقوالِ؛ أي: لعدمِ اطِّلاعي على ذلك قُلْتُ: «في قولٍ» ، أو:«على قولٍ» .

(وَأَرْجُو) مِن اللهِ تَعالى، والرَّجاءُ: ضِدُّ اليأسِ، وهو تجويزُ وُقوعِ مَحبوبٍ على قُرْبٍ (أَنْ يَكُونَ) هذا المختصَرُ (مُغْنِيًا لِحَافِظِهِ

(1)

وقارِئِه (عَنْ غَيْرِه) مِن أُصُولِ الفقهِ، (عَلَى وَجَازَةِ أَلْفَاظِهِ) أي: اختَصَرَه لتسهيلِ حِفظِه، وكثرةِ عِلْمِه مَعَ قِلَّةِ حَجمِه.

(وَأَسْأَلُ اللهَ سبحانه وتعالى أَنْ يَعْصِمَنِي) أي: يَمْنَعَني (وَ) يَمنَعَ (مَنْ قَرَأَهُ) وحَفِظَه (مِنَ الزَّلَلِ): السَّقطِ في المنطقِ والخطِّ، (وَ) أَسأَلُ اللهَ تَعالى (أَنْ يُوَفِّقَنَا) والتَّوفيقُ

(2)

: «خلْقُ قُدرةِ الطَّاعةِ في العبدِ والدِّعايةِ إليها»

(3)

؛ أي: يُوَفِّقَني ومَنْ قَرَأَه (وَالمُسْلِمِينَ لِمَا يُرْضِيهِ مِنَ القَوْلِ وَالعَمَلِ) إنَّه على ما يَشاءُ قديرٌ.

ورَتَّبْتُه كأصلِه على مُقدِّمَةٍ، وثمانيةَ عَشَرَ بابًا، مشتملةٍ على فصولٍ وفوائدَ وتَنَابِيهَ ونحوِ ذلك، ثمَّ خاتمةٍ.

(1)

في (ع): «لحافظه» ، وضُرِبَ عليها وكُتِبَ في الحاشيةِ: لحُفَّاظِه. وكذا هي في «مختصر التحرير» (ص 20).

(2)

قال ابن القيم في «مدارج السالكين» (1/ 415): وقد أجمع العارفون بالله أن التوفيق: هو أن لا يكلك الله إلى نفسك، وأن الخذلان: هو أن يخلي بينك وبين نفسك، فالعبيد متقلبون بين توفيقه وخذلانه.

(3)

هذا التعريف بناء على قول الأشاعرة في أفعال العباد وعلاقته بالقدر، قال عبد الرحمن شيخ زاده في «نظم الفرائد وجمع الفوائد» (ص 25): وذهب الشيخ الأشعري ومن تابعه من مشايخ الأشاعرة إلى أن التوفيق هو خلق القدرة على الطاعة كما في «المواقف» و «شرحه» .

ص: 52

(مُقَدِّمَةٌ)

تَشْتَمِلُ على تعريفِ هذا العِلْمِ، وفائدتِه، واستمدادِه، وما يَتَّصِلُ بذلك مِن مُقدِّماتٍ ولواحقَ؛ كالدَّليلِ، والنَّظرِ، والإدراكِ، والعِلمِ، والعَقلِ، والحدِّ، واللُّغةِ ومَسائِلِها، وأحكامِها، وأحكامِ خِطابِ الشَّرعِ، وخطابِ الوضعِ، وما يَتَعَلَّقُ بهما، وغيرِ ذلك.

ومُقدِّمةُ العِلْمِ لِما تَتَوَقَّفُ عليه مسائلُه؛ كمعرفةِ حدودِه، وغايتِه، وموضوعِه، ومقدِّمةُ الكتابِ لطائفةٍ مِن كلامِه، قُدِّمَتْ أمامَ المقصودِ لارتباطٍ له بها، وانتفاعٍ بها فيه، سواءٌ تَوَقَّفَ عليها أم لا.

وهي بكسرِ الدَّالِ على المشهورِ، كلامٌ مُقَدَّمٌ أمامَ المقصودِ لتَوَقُّفِه عليه، أو انتفاعِه به بوجهٍ، كمُقدِّمةِ الجيشِ، وهي طائفةٌ تَتَقَدَّمُه، وهي مِن قَدَّمَ بمَعنى تَقَدَّمَ؛ كقولِه تَعالى {لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}

(1)

أي: لا تَتَقَدَّموا.

وقد تُفتَحُ الدَّالُ؛ لأنَّ صاحبَ الكتابِ، أو أميرَ الجيشِ قَدَّمَها، واقتصَرَ جماعةٌ على الكسرِ، والحقُّ جوازُ الوجهينِ بالاعتبارينِ، وهذه المادَّةُ تَرجِعُ تراكيبُها إلى مَعنى الأوَّليَّةِ، فمُقدِّمةُ الكتابِ: أَوَّلُه.

وهي في الأصلِ صفةٌ، ثمَّ اسمٌ لكلِّ ما وُجِد فيه التَّقدُّمُ، كمُقدِّمةِ الجيشِ والكتابِ، ومُقدِّمةِ الدَّليلِ والقياسِ: وهي القضيَّةُ الَّتي تُنْتِجُ ذلك مَعَ قضيَّةٍ أُخرى، نحوُ:«كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ»

(2)

ونحوُ: كلُّ وضوءٍ عبادةٌ، وكلُّ عبادةٍ تُشتَرَطُ لها النِّيَّةُ، ونحوُه.

(1)

الحجرات: 1.

(2)

رواه مسلمٌ (2003) من حديثِ ابنِ عمرَ رضي الله عنهما.

ص: 53

واعلَمْ أنَّ العِلمَ لا يَتَمَيَّزُ عندَ العَقلِ إلَّا بعدَ العِلمِ بموضوعِه، فكلُّ عِلمٍ يَتَمَيَّزُ عن غيرِه بموضوعه كما يَتَمَيَّزُ برسمِه.

ولمَّا كانَ موضوعُ أصولِ الفقهِ أخصَّ مِن مُطلقِ الموضوعِ، والعلمُ بالخاصِّ مسبوقًا بالعِلمِ بالعامِّ؛ وَجَبَ أوَّلًا تعريفُ موضوعِ العِلمِ حَتَّى تَحصُلَ معرفةُ موضوعِ أصولِ الفقهِ، وكلُّ عِلمٍ له موضوعٌ ومَسائلُ.

فـ (مَوْضُوعُ كُلِّ عِلْمٍ: مَا) أي: الشَّيءُ الَّذِي (يُبْحَثُ فِيهِ) أي: في ذلك العِلمِ (عَنْ عَوَارِضِهِ) أي: عن الأحوالِ العارضةِ له (الذَّاتِيَّةِ) دونَ العَوارضِ اللَّاحقةِ لأمرٍ خارجٍ عن الذَّاتِ، ومسائلُه هي معرفةُ تلك الأحوالِ.

(فَمَوْضُوُعُ ذَا) الأصولُ: الكتابُ، والسُّنَّةُ، والإجماعُ، والقياسُ، ونحوُها، وهي (الأَدِلَّةُ المُوَصِّلَةُ إِلَى الفِقْهِ)؛ لأنَّه يُبحَثُ فيها عنِ العَوارضِ اللَّاحقةِ لها مِن كونِها عامَّةً، أو خاصَّةً، أو مُطلقةً، أو مُقَيَّدَةً، ونحوِ ذلك، وهذه الأشياءُ هي مَسائلُه.

و‌

‌موضوعُ الفقهِ:

أفعالُ العِبادِ من حَيْثُ تَعلُّقُ الأحكامِ الشَّرعيَّةِ بها، ومَسائلُه: ما يُذكَرُ في كلِّ بابٍ.

و‌

‌موضوعُ عِلمِ الطِّبِّ:

بدنُ الإنسانِ؛ لأنَّه يَبحَثُ فيه عن الأمراضِ اللَّاحقةِ له، ومَسائلُه: هي معرفةُ تلك الأمراضِ.

و‌

‌موضوعُ عِلْمِ النَّحوِ:

الكلماتُ، فإنَّه يَبحَثُ عن أحوالِها مِن الإعرابِ والبناءِ، ومَسائلُه: هي معرفةُ الإعرابِ والبناءِ.

و‌

‌موضوعُ عِلْمِ الفرائضِ:

التَّرِكَاتُ، فإنَّه يَبحَثُ فيها مِن حَيْثُ قِسْمَتُها، ومسائلُه: هي معرفةُ حُكْمِ قِسمَتِها.

ص: 54

إذا عَلِمْتَ ذلك، فلا يُبحَثُ في العلومِ إلَّا عن الأعراضِ الذَّاتيَّةِ لموضوعاتِها؛ أي: الَّتي مَنْشَؤُها الذَّاتُ، بأنْ لَحِقَتْه لذاتِه.

- والعوارضُ الذَّاتيَّةُ: هي الَّتي تَلْحَقُ الشَّيْءَ لِما هُو هُو؛ أي: لذاتِه، كالتَّعجُّبِ اللَّاحقِ لذاتِ الإنسانِ،

- أو تَلْحَقُ الشَّيْءَ لجُزئِه، كالحركةِ بالإرادةِ اللَّاحقةِ للإنسانِ بواسطةِ أنَّه حيوانٌ،

- أو تَلْحَقُه لأمرٍ خارجٍ عنه مُساوٍ له، كالضَّحِكِ العارضِ للإنسانِ بواسطةِ التَّعجُّبِ.

- وأمَّا العوارضُ الَّتي تَلْحَقُ الشَّيْءَ لأمرٍ خارجٍ أعمَّ مِن المَعروضِ، كالحركةِ اللَّاحقةِ للأبيضِ بواسطةِ أنَّه جسمٌ.

- أو أخصَّ، كالضَّحكِ العارضِ للحيوانِ بواسطةِ أنَّه إنسانٌ.

- أو مُبايِنٍ، كالحرارةِ العارضةِ للماءِ بواسطةِ النَّار؛ تُسَمَّى أعراضًا غَريبةً؛ لِما فيها مِن الغَرابةِ بالقياسِ إلى ذاتِ المعروضِ.

(وَلَا بُدَّ لِمَنْ طَلَبَ) أي: حاوَلَ (عِلْمًا) مِن العلومِ، وطَلَبَ مَعرفتَه أنْ يَعرِفَ ثلاثةَ أمورٍ:

(1)

(أَنْ يَتَصَوَّرَهُ بِوَجْهٍ مَا) أي: بوجهٍ مِن الإجمالِ؛ لأنَّ طلبَ الإنسانِ ما لا يَعرِفُه مُحالٌ ببديهةِ العَقلِ، وذلك الوجهُ الَّذِي يَعرِفُه به هو المعنى الَّذِي يُحيطُ بكثرتِه، ثمَّ يَطلُبُه مِن جهةِ تَفصيلِه، فإنْ عَرَفَه مِن جهةِ التَّفصيلِ كانَ طلبُه له مُحالًا؛ لأنَّه تحصيلُ الحاصلِ.

(وَ) الثَّاني: أنْ (يَعْرِفَ: غَايَتَهُ) لِئلَّا يَكُونَ سعيُه عَبَثًا، فيَضِيعَ عُمُرُه فيما لا يَعلَمُ له فائدةً.

ص: 55

(وَ) الثَّالثُ: أنْ يَعرِفَ (مَادَّتَهُ) أي: ما يُستَمَدُّ منه، ليَرجِعَ في تلك الجُزئيَّةِ إلى مَحَلِّها منه.

واعلَمْ أنَّ أصلَ هذه القاعدةِ: أنَّ كُلَّ معدومٍ يُوجَدُ يَتَوَقَّفُ وجودُه على أربعِ عِلَلٍ: صوريَّةٍ، وغائيَّةٍ، ومادِّيَّةٍ، وفاعِليَّةٍ.

فالأُولى: هي الَّتي تَقُومُ صورتُه وتَتَمَيَّزُ بها عن غيرِه، فتَصَوُّرُ المُرَكَّبِ يَتَوَقَّفُ على تَصَوُّرِ أركانِه، وانتظامِها على الوجهِ المقصودِ.

الثَّانيةُ: هي الباعثةُ على إيجادِه، والأُولى في الفِكرِ مُقدَّمةٌ على سائرِ العللِ، وإنْ كانَتْ آخِرًا في الوجودِ الخارجيِّ، ولهذا يُقالُ: مَبدَأُ العِلْمِ مُنتهى العملِ، ويُقالُ أيضًا: هي علَّةٌ في الذِّهنِ معلولةٌ في الخارجِ.

الثَّالثةُ: الَّتي تُستَمَدُّ منها المُرَكَّباتُ، أو ما في حُكمِها.

الرَّابعةُ: هي المُؤثِّرةُ في إيجادِ ذلك وإخراجِه مِن العدمِ إلى الوجودِ.

(فَأُصُولٌ: جَمْعُ أَصْلٍ، وَهُوَ) أي: الأصلُ:

(لُغَةً) أي: في اللُّغةِ (مَا يُبْنَى عَلَيْهِ) أي: على الأصلِ (غَيْرُهُ).

(وَ) مَعنى الأصلِ (اصْطِلَاحًا: مَا لَهُ فَرْعٌ)؛ لأنَّ الفَرعَ إِنَّمَا يَنْشَأُ عن أصلٍ، والأصلُ لا يُطلَقُ غالبًا إلَّا على ما له فرعٌ.

(و) اعلَمْ أنَّ للأصلِ أربعَ إطلاقاتٍ:

أحدُها: أنَّه (يُطْلَقُ عَلَى الدَّلِيلِ غَالِبًا) كقولِك: أصلُ هذه المسألةِ الكتابُ أو السُّنَّةُ؛ أي: دليلُها. (وَ) هذا الإطلاقُ (هُوَ المُرَادُ هُنَا) أي: في أُصولِ الفقهِ.

(وَ) الثَّاني: يُطلَقُ (عَلَى الرُّجْحَانِ) أي: على الرَّاجحِ مِنَ الأمرينِ،

ص: 56

كقولِك: الأصلُ في الكلامِ الحقيقةُ لا المجازُ، و: الأصلُ براءةُ الذِّمَّةِ، وبقاءُ ما كانَ على ما كانَ.

(وَ) الثَّالثُ: (القَاعِدَةُ المُسْتَمِرَّةُ) أو الأمرُ المُستمرُّ، كقولِك: أكلُ المَيْتَةِ على خلافِ الأصلِ؛ أي: خلافِ القاعدةِ المُستمرَّةِ في الحُكمِ.

(وَ) الرَّابِعُ: (المَقِيسُ عَلَيْهِ) وهو ما يُقابِلُ الفرعَ في بابِ القياسِ على ما يَأتي إنْ شاءَ اللهُ تَعالى.

(وَالفِقْهُ لُغَةً: الفَهْمُ) لأنَّ العِلمَ يَكُونُ عنه، قَالَ اللهُ تَعالى:{وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ}

(1)

، و {مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ}

(2)

أي: ولكنْ لا تَفهَمون، وما نَفْهَمُ كثيرًا مِمَّا تَقُولُ، ونحوُه.

(وَهُوَ) أي: الفَهمُ (إِدْرَاكُ مَعْنَى الكَلَامِ) و‌

‌المُرادُ بالفَهمِ:

الإدراكُ، لا جَودةُ الذِّهنِ مِن جهةِ تَهيُّئهِ لاقتباسِ مَا يَرِدُ عليه مِن المَطالبِ، والذِّهنُ: قُوَّةُ النَّفْسِ المُستعِدَّةِ لاكتسابِ الحُدودِ والآراءِ.

(وَ) الفقهُ (شَرْعًا) أي: في اصطلاحِ فقهاءِ الشَّرعِ: (مَعْرِفَةُ الأَحْكَامِ) لا الذَّواتِ والصِّفاتِ والأفعالِ.

والحُكْمُ: هو النِّسبةُ بينَ الأفعالِ والذَّواتِ.

(الشَّرْعِيَّةِ) لا العَقليَّةِ، (الفَرْعِيَّةِ) لا الأُصُولِيَّةِ، والحُكمُ الشَّرعيُّ الفَرعيُّ لا يَتَعَلَّقُ بالخَطأِ في اعتقادِ مُقتضاه، وَلَا في العَملِ به قَدحٌ في الدِّينِ، وَلَا وعيدٌ في الآخرةِ، كالنِّيَّةِ في الوُضوءِ، والنِّكاحِ بلا وَلِيٍّ، ونحوِهما.

(1)

الإسراء: 44.

(2)

هود: 91.

ص: 57

وقولُه: (بِالفِعْلِ) أي: بالاستدلالِ (أَوْ) بـ (القُوَّةِ القَرِيبَةِ) مِن الفِعلِ بالتَّهيُّؤِ لمعرفتِها عن أدلَّتِها التَّفصيليَّةِ بالاستدلالِ.

(وَالفَقِيهُ: مَنْ عَرَفَ جُمْلَةً غَالِبَةً) أي: كثيرًا (مِنْهَا) أي: الأحكامِ الشَّرعيَّةِ الفَرعيَّةِ (كَذَلِكَ) أي: بالفِعلِ والقوَّةِ القَريبةِ مِن الفِعلِ، فلا يَكُونُ فقيهًا حَتَّى يَعرِفَها على هذه الصِّفةِ، وإلَّا كانَ مُقَلِّدًا.

ولا يُطلَقُ الفقيهُ على مُحَدِّثٍ، وَلَا مُفَسِّرٍ، وَلَا مُتكلِّمٍ، ونحوِهم.

ولَمَّا تَقَدَّمَ الكلامُ على تعريفِ أُصولِ الفقهِ مِن حَيْثُ معناه الإضافِيُّ شَرَعَ في تعريفِه مِن حَيْثُ كونُه عِلْمًا، فقَالَ:

(وَأُصُولُ الفِقْهِ عَلَمًا) أي: مِن حَيْثُ كونُها صارَتْ لَقَبًا على هذا العِلْمِ: (القَوَاعِدُ) جَمْعُ قاعدةٍ، وهي الأمرُ الكُلِّيُّ الَّتي تَنطَبِقُ عليه جُزئيَّاتٌ كثيرةٌ تُفهَمُ أحكامُها منها:

- فمنها ما لا يَختَصُّ ببابٍ، كقولِنا: اليقينُ لا يُرفَعُ بالشَّكِّ.

- ومنها ما يختص، كقولِنا: كفَّارَةٌ سَبَبُها معصيةٌ فهي على الفورِ، والغالبُ فيما يَختَصُّ ببابٍ، وقُصِدَ به نَظْمُ صورٍ مُتشابهةٍ يُسَمَّى ضابطًا.

- ومنها القواعدُ الأُصُوليَّةُ، وهي المقصودةُ هنا، كقَولِنا: الأمرُ للوجوبِ، و: دليلُ الخطابِ حُجَّةٌ، و: قياسُ الشَّبَهِ دليلٌ صحيحٌ، و: الحديثُ المُرسَلُ يُحتَجُّ به، ونحوِ ذلك مِن مسائلِ أصولِ الفقهِ.

إذا عَلِمْتَ ذلك: فالقاعدةُ هنا: عبارةٌ عن صورٍ كُلِّيَّةٍ تَنطبِقُ كلُّ واحدةٍ منها على جُزئيَّاتِها الَّتي تَحتَها، ولذلك لم يُحتَجْ إلى تقييدِها بالكُلِّيَّةِ؛ لأنَّها لا تَكُونُ إلَّا كذلك، وذلك كقولِنا مثلًا: «حقوقُ العقدِ تَتَعَلَّقُ بالموكِّلِ دونَ

ص: 58

الوكيلِ»، وقولِنا:«الحِيَلُ في الشَّرعِ باطلةٌ» ، فكلُّ واحدةٍ مِن هاتينِ القضيَّتينِ يُعرَفُ بالنَّظرِ فيها قضايا مُتَعَدِّدَةٌ، كقولِنا: عُهدَةُ المُشتَري على المُوكِّلِ، ولو حَلَفَ لا يَفعَلُ شيئًا فوَكَّلَ في فِعلِه: حَنَثَ، ولو وَكَّلَ مسلمٌ ذِمِّيًّا في شراءِ خمرٍ، أو خنزيرٍ: لم يَصِحَّ؛ لأنَّ أحكامَ العَقدِ تَتَعَلَّقُ بالمُوكِّلِ، وقولِنا: لا يَصِحُّ نكاحُ المُحَلِّلِ، وَلَا تَخليلُ الخمرِ علاجًا، وَلَا بيعُ العِينَةِ، وَلَا الحيلةُ على إبطالِ الشُّفعةِ؛ لأنَّ الحِيَلَ باطلةٌ، وهكذا قولُنا: الأمرُ للوجوبِ وللفَورِ، ونحوُه على ما تَقَدَّمَ، وذلك كلُّه مسائلُ للقواعدِ الفقهيَّةِ.

وقولُه: (الَّتِي يُتَوَصَّلُ) أي: يُقصَدُ الوصولُ (بِهَا إِلَى اسْتِنْبَاطِ الأَحْكَامِ) الخمسةِ؛ أي: لا القواعدِ الَّتي لا يُتَوَصَّلُ بها إلى استنباطِ شيءٍ، كقواعدِ البيتِ، أو يُستنبَطُ منها غيرُ الأحكامِ مِنَ الصَّنائعِ، والعِلمِ بالهَيئاتِ، والصِّفاتِ (الشَّرْعِيَّةِ) لا الاصطلاحيَّةِ، والعَقليَّةِ، كقَواعِدِ عِلمِ الحِسابِ والهَندسةِ (الفَرْعِيَّةِ) لا الأحكام الَّتي تكون مِن جِنسِ الأُصولِ، كمَعرفةِ التَّوحيدِ مِنْ أمرِه تَعالى لِنَبِيِّه عليه السلام في قولِه تَعالى:{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ}

(1)

.

(وَالأُصُولِيُّ) مَن قامَ به عِلْمُ الأصولِ: وهو (مَنَ عَرَفَهَا) أي: القواعدَ المذكورةَ، فهو منسوبٌ إلى الأُصولِ، كالأنصاريِّ نسبةً إلى الأنصارِ، ولا بدَّ أن يَكُونَ قد عَرَفَها، وحَرَّرَها، وأَتْقَنَها، فبذلك يُسَمَّى أُصُوليًّا، كما أنَّ مَن أَتْقَنَ الفقهَ وحَرَّرَه يُسَمَّى فقيهًا، ومَن أَتْقَنَ الطِّبَّ يُسَمَّى طبيبًا.

(وَغَايَتُهَا) أي: غايةُ معرفةِ هذه الأصولِ لمَن صارَ قادرًا على استنباطِ الأحكامِ الشَّرعيَّةِ مِن أَدِلَّتِها.

(1)

محمَّد: 19.

ص: 59

(مَعْرِفَةُ أَحْكَامِ اللهِ تَعَالَى، وَالعَمَلُ بِهَا) فهي فائدتُه؛ لأنَّ ذلك مُوصِلٌ للعِلمِ، وبالعِلمِ يَتَمَكَّنُ المُتَّصِفُ به من العَملِ المُوصِلِ إلى خَيريِ الدُّنْيَا والآخرةِ.

(وَمَعْرِفَتُهَا) أي: أُصولِ الفِقهِ (فَرْضُ كِفَايَةٍ، كَالفِقْهِ) على الصَّحيحِ.

وَقِيلَ: فرضُ عينٍ، حَكاه ابنُ عَقِيلٍ وغيرُه، والمرادُ للاجتهادِ.

(وَالأَوْلَى) بل أَوْجَبَ ابنُ البَنَّا وابنُ عَقِيلٍ وغيرُهما (تَقْدِيمَهَا عَلَيْهِ) ليَتَمَكَّنَ بمعرفتِها إلى استفادةِ معرفةِ الفُروعِ.

(وَيُسْتَمَدُّ) أصولُ الفقهِ مِن ثلاثةِ أشياءَ:

(1)

(مِنْ أُصُولِ الدِّينِ)؛ لتَوَقُّفِ معرفةِ كَوْنِ الأَدِلَّة الكُلِّيَّةِ حُجَّةً شرعًا على معرفةِ اللهِ تَعالى بصفاتِه، وصِدقِ رسولِه عليه السلام فيما جاءَ به عنه، ويَتَوَقَّفُ صدقُه على دَلالةِ المُعجزةِ عليه.

(وَ) الشَّيْءُ الثَّاني: مِن (العَرَبِيَّةِ) بأنواعِها؛ لتَوَقُّفِ فَهْمِ ما يَتَعَلَّقُ بأُصولِ الفقهِ مِنَ الكتابِ والسُّنَّةِ وغيرِهما، فإنْ كانَ مِن حَيْثُ المدلولُ فهو عِلمُ اللُّغةِ، أو مِن أحكامِ تَركيبِها فعِلمُ النَّحوِ، أو مِن أحكامِ أفرادِها فعِلمُ التَّصريفِ، أو مِن جهةِ مُطابقتِه لمُقتضى الحالِ وسلامتِه مِنَ التَّعقيدِ، ووجوهِ الحُسْنِ فعِلْمُ البيانِ بأنواعِه الثَّلاثةِ.

(وَ) الشَّيْءُ الثَّالثُ مِن (تَصَوُّرِ الأَحْكَامِ) أي: أحكامِ التَّكْلِيف؛ لتَوَقُّفِ كيفيَّةِ معرفةِ الاستنباطِ عليه، دون إثباتِ الأحكامِ في آحادِ المسائلِ، فإنَّه مِنَ الفِقهِ، وهو يَتَوَقَّفُ على الأُصولِ، فيَدورُ.

ص: 60

(فَصْلٌ)

الفصلُ لغةً: الحجزُ بينَ الشَّيئينِ، ومنه فصلُ الرَّبيعِ؛ لأنَّه يَحجِزُ بينَ الشِّتاءِ والصَّيفِ، وهو في كُتبِ العِلْمِ كذلك؛ لأنَّه يَحجِزُ بينَ أجناسِ المسائلِ وأنواعِها.

(الدَّالُّ): هو اللهُ تَعالى، (النَّاصِبُ لِلدَّلِيلِ) وهو القُرآنُ.

وَقِيلَ: إنَّ الدَّالَّ هو الدَّليلُ، «فعيلٌ» بمَعنى «فاعلٍ» كعَليمٍ، وعالمٍ، وعليه أكثرُ المُتَأَخِّرينَ، فالدَّليل بمعنى الدَّالِّ، فهما بمَعنًى واحدٍ مِن دَلَّ دَلَالَةً، بفتحِ الدَّالِ على الأفصحِ، ومعنى الدَّلالةِ: الإرشادُ إلى الشَّيءِ.

(وَهُوَ) أي: الدَّليلُ (لُغَةً):

(1)

إمَّا (المُرْشِدُ) حقيقةً،

(2)

(وَ) إمَّا (مَا) يَحصُلُ (بِهِ الإِرْشَادُ) مَجازًا، والمُرشِدُ: النَّاصبُ للدَّليلِ، والذَّاكرُ له، وما به الإرشادُ: هو العَلَامةُ الَّتي نُصِبَتْ للتَّعْرِيفِ.

(وَ) الدَّليلُ (شَرْعًا: مَا) أي: الشَّيْءُ الَّذِي (يُمْكِنُ التَّوَصُّلُ بِصَحِيحِ النَّظَرِ) أي: النَّظرِ الصَّحيحِ مِن إضافةِ الصِّفةِ إلى الموصوفِ، فالهاءُ مِن (فِيهِ) عائدةٌ على «ما» (إِلَى مَطْلُوبٍ خَبَرِيٍّ) أي: تصديقيٍّ.

وخرجَ بقولِه: «ما يُمكِنُ» : ما لا يُمكِنُ التَّوَصُّلُ به إلى المطلوبِ كالمطلوبِ نَفسِه، فإنَّه لا يُمكِنُ التَّوصُّلُ به إليه، أو يُمكِنُ التَّوصُّلُ إلى المطلوبِ، لكنْ لا بالنَّظرِ؛ كسلوكِ طريقٍ يُمكِنُ أن يُتَوَصَّلَ بها اتِّفاقًا، أو يُمكِنُ

ص: 61

لا بصحيحِ النَّظرِ، بل بفاسدِه، ككاذبِ المَادَّةِ في اعتقادِ النَّاظرِ، أو يُمكِنُ التَّوصُّلُ بصحيحِه، لكنْ بمطلوبٍ تصويريٍّ لا تصديقيٍّ خَبَريٍّ، وهو الحدُّ والرَّسمُ، فلا يُسَمَّى شيءٌ مِن ذلك دليلًا، لكنْ يَدخُلُ في المطلوبِ الخَبَريِّ ما يُفيدُ القَطعَ والظَّنَّ، وهو مذهبُ أصحابِنا وأكثرِ الفقهاءِ والأُصوليِّينَ.

(وَيَحْصُلُ المَطلُوبُ المُكْتَسَبُ:

(1)

عَقِبَهُ) أي: عَقِبَ النَّظرِ الصَّحيحِ في الدَّليلِ (عَادَةً) لا ضرورةً على الأصحِّ؛ لأنَّ العادةَ جَرَتْ بأنْ يَفِيضَ على المُستدِلِّ بعدَ النَّظرِ الصَّحيحِ مادةُ مطلوبِه، وصورةُ مطلوبِه الَّذِي تَوَجَّه إلى تَحصيلِه.

والقولُ الثَّاني: أنَّ المطلوبَ يَحصُلُ عَقِيبَه ضرورةً؛ لأنَّه لا يُمْكِنُه تَركُه.

(وَالمُسْتَدِلُّ: الطَّالبُ لَهُ) أي: للدَّليلِ (مِنْ سَائِلٍ وَمَسْؤُولٍ، فـ) ـقد قَالَ الإمامُ أحمدُ رحمه الله:

(1)

(الدَّالُّ: اللهُ تَعَالَى،

(2)

وَالدَّلِيلُ: القُرْآنُ،

(3)

وَالمُبَيِّنُ: الرَّسُولُ،

(4)

وَالمُسْتَدِلُّ: أُولُو العِلْمِ. هَذِهِ قَوَاعِدُ الإِسْلَامِ).

وقولُه: «هذه قواعدُ الإسلامِ» الَّذِي يَظهَرُ أنَّ

(1)

قواعدَ الإسلامِ تَرجِعُ إلى اللهِ تَعالى، وإلى قولِه: وهو القرآنُ، وإلى رسولِه صلى الله عليه وسلم، وإلى عُلماءِ الأُمَّةِ، لم يَخرُجْ شيءٌ مِن أحكامِ المسلمينَ والإسلامِ عنها. قالَه في «شرحِ الأصلِ»

(2)

.

ص: 62

(وَالمُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ): هو (الحُكْمُ) على الشَّيْءِ بكَوْنِه حلالًا، أو حرامًا، أو واجبًا ونحوِه.

(وَ) المُستدَلُّ (بِهِ: مَا يُوجِبُهُ) أي: العِلَّةُ المُوجِبَةُ للحُكمِ.

(وَ) المُستدَلُّ (لَهُ) أي: لخلافِه وقطعِ جدالِه (الخَصْمُ).

(وَالنَّظَرُ) يُطلَقُ لغةً: على الانتظارِ، وعلى رُؤيةِ العَينِ المُعَيَّنَ

(1)

، وعلى الإحسانِ، وعلى مَعانٍ غيرِ ذلك.

وقوله: (هُنَا) أي: في اصطلاحِ أهلِ الشَّرعِ: (فِكْرٌ يُطْلَبُ بِهِ) أي: بالفِكرِ (عِلْمٌ أَوْ ظَنٌّ).

وقالَ ابنُ حَمْدَانَ في «المُقنعِ»

(2)

: النَّظَرُ: تَفَكُّرٌ وَتَأَمُّلٌ وَاعْتِبَارُ تَرْتِيبٍ، يُعْرَفُ بِهِ المَطْلُوبُ مِنْ: تَصَوُّرٍ، وَتَصْدِيقٍ، وَحُدُودٍ، وَأَمَارَةٍ.

(وَالفِكْرُ) كالجنسِ، ويُطلق على ثلاثةِ مَعانٍ:

أحدُها: حركةُ النَّفْسِ آلتَها مُقَدَّمَ البَطنِ الأوسطِ مِنَ الدِّماغِ، إذا كانَتِ الحركةُ في المعقولاتِ.

الثَّاني: وهو أخصُّ مِن الأول وهو المُرادُ بالحدِّ (هُنَا: حَرَكَةُ النَّفْسِ مِنَ المَطَالِبِ إِلَى المَبَادِئِ، وَرُجُوعُهَا) أي: رجوعُ حَرَكَةِ النَّفْسِ (مِنْهَا) أي: مِنَ المَبادئِ (إِلَيْهَا) أي: إلى المَطالبِ في المَعقولاتِ، وفي المَحسوساتِ تُسَمَّى حَرَكَتُها تَخَيُّلًا، تَخييلًا، لا فِكْرًا، ويُوسَمُ الفِكْرُ بهذا المعنى بتَرتيبِ أمورٍ حاصلةٍ في الذِّهنِ ليُتَوَصَّلَ بها إلى تحصيلِ غيرِ الحاصلِ.

(1)

أي: الشيء المُعيَّن.

(2)

لم أقف عليه مخطوطًا.

ص: 63

الثَّالثُ: إطلاقُه على جُزءِ الثَّاني، وهو الحركةُ مِنَ المَطالبِ إلى المَبادئِ، وإن كانَ الغرضُ منها الرُّجوعَ، وهو الَّذِي يُستعمَلُ بإزالةِ الحَدْسِ، وهو سرعةُ الانتقالِ مِن المَبادئِ إلى المَطالبِ.

(وَالإِدْرَاكُ) أي: إدراكُ الماهيَّةِ:

(1)

(بِلا حُكْمٍ) عليها بنفيٍ، أو إيجابٍ:(تَصَوُّرٌ) سُمِّيَ بذلك لأخذِه مِن الصُّورةِ، وهو حاصلُ صورةِ الشَّيْءِ في الذِّهنِ فهو ساذَجٌ؛ أي: مشروطٌ فيه عدمُ الحُكْمِ.

(2)

(وَبِهِ) أي: تصوُّرُ الماهيَّةِ مَعَ الحُكْمِ عليها بإيجابٍ أو سلبٍ: (تَصْدِيقٌ) وهو مشروطٌ فيه الحُكْمُ، ومَعنى الحُكْمِ في التَّصديقِ: إسنادُ أمرٍ إلى آخَرَ إثباتًا أو نفيًا، نحوُ كونِ زيدٍ قائمًا، أو لَيْسَ بقائمٍ، وإنَّما سُمِّيَ تَصديقًا لأنَّ فيه حُكمًا يُصَدُّقُ فيه، أو يُكَذَّبُ، سُمِّيَ بأشرفِ لازِمَيِ الحُكمِ في النِّسبةِ.

ص: 64

(فَصْلٌ)

(العِلْمُ لَا يُحَدُّ فِي وَجْهٍ) قَالَ أبو المَعَالي

(1)

وتلميذُه الغَزَّاليُّ

(2)

: لعُسْرِه، ويَتَمَيَّزُ ببحثٍ، وتقسيمٍ، ومثالٍ.

وقالَ الرَّازيُّ: لِأَنَّهُ ضَرُورِيٌّ

(3)

.

والصَّحيحُ أنَّه يُحَدُّ عندَ أصحابِنا والأكثرِ، ولهم فيه حدودٌ كثيرةٌ.

(وَ) الأَوْلَى منها قولُ ابنِ حمدانَ في «مُقنِعِه» : (هُوَ صِفَةٌ يُمَيِّزُ) الإنسانُ (المُتَّصِفُ بِهَا) بينَ الجَواهرِ والأجسامِ، والأعراضِ، والواجبِ، والمُمكِنِ، والمُمتنعِ (تَمْيِيزًا جَازِمًا مُطَابِقًا) لِما في نفسِ الأمرِ، فالتَّمييزُ المطابِقُ: هو الَّذِي لا يَحتملُ النَّقيضَ.

(فَلَا يَدْخُلُ إِدْرَاكُ الحَوَاسِّ) فيما لا يَحتملُ النَّقيضَ على الصَّحيحِ؛ لأنَّ الحِسَّ قد يُدرِكُ الشَّيْءَ لا على ما هو عليه، كالمُستديرِ مُستويًا، والمُتحرِّكِ ساكنًا ونحوِهما، وَقِيلَ: إنَّ إدراكَ الحَوَاسِّ نوعٌ مِن العِلْمِ.

(وَيَتَفَاوَتُ) العِلْمُ على أصحِّ الرِّوايتينِ، وعليه الأكثرُ، (كَـ) ـما يَتَفَاوَتُ (المَعْلُومُ) قَالَ الأُرْمَوِيُّ: الحقُّ أنَّ المعلوماتِ تَتَفاوَتُ

(4)

.

قالَ ابنُ قاضي الجَبلِ

(5)

: وهي مسألةُ خلافٍ، وعن أحمدَ فيها روايتانِ

(1)

«البرهان» (1/ 30).

(2)

«المستصفى» (ص 21).

(3)

«المحصول» (1/ 85).

(4)

«التحصيل من المحصول» (2/ 96).

(5)

هو: أحمدُ بنُ الحسنِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ الشَّيخِ أبي عمرَ المقدسيِّ، شرفُ الدِّينِ ابنُ شرفِ الدِّينِ قاضي الجبلِ.

قالَ ابنُ مُفلِحٍ: وكتابٌ في الأصولِ في مُجلَّدٍ كبيرٍ لم يَتِمَّ، وَصَلَ فيه أوائلَ القياسِ. يُنظَرُ «السُّحُبُ الوابلةُ على ضرائحِ الحنابلةِ» لابنِ حُمَيْدٍ (1/ 135).

قُلْتُ: نَقَلَ عنه كثيرٌ مِن الحنابلةِ، ولم أقفْ عليه مخطوطًا.

ص: 65

الأصحُّ التَّفاوُتُ، فإنَّا نَجِدُ بالضَّرورةِ الفرقَ بينَ كونِ الواحدِ نصفَ الاثنينِ، وبينَ ما عَلِمْناه مِن جهةِ التَّواتُرِ مَعَ كونِ اليقينِ حاصلًا فيهما. قالَه في «شرحِ الأصلِ»

(1)

.

(وَ) كما يَتَفَاوَتُ (الإِيمَانُ) قَالَ ابنُ مُفْلِحٍ في الكلامِ على الواجبِ: والصَّوابُ أنَّ جميعَ الصِّفاتِ المَشروطةِ بالحياةِ تَقبَلُ التَّزايُدَ.

وعن أحمدَ في المعرفةِ الحاصلةِ في القلبِ في الإيمانِ: هل تَقبَلُ التَّزايُدَ والنَّقصَ؟ روايتانِ، والصَّحيحُ في مذهبِنا ومذهبِ أهلِ السُّنَّةِ: إمكانُ الزِّيادةِ في جميعِ ذلك

(2)

. انتهى.

وعُلِمَ أنَّ للعِلمِ إطلاقاتٍ لغةً وعرفًا:

أحدُها: اليقينُ: وهو الَّذِي لا يَحتملُ النَّقيضَ، وهو المُرادُ بالحَدِّ الأَوَّلِ وهو الأصلُ.

(وَ) الإطلاقُ الثَّاني: (يُرَادُ بِهِ) أي: بالعِلمِ (مُجَرَّدُ الإِدْرَاكِ) فيَشمَلُ الأربعةَ قولُه تَعالى: {مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ}

(3)

والمُرادُ نفيُ كلِّ إدراكٍ؛ أي: سواءٌ كانَ:

(1)

(جَازِمًا،

(2)

أَوْ مَعَ احْتِمَالٍ رَاجِحٍ،

(3)

أَوْ مَرْجُوحٍ،

(4)

أَوْ مُسَاوٍ) مَجازًا.

(1)

«التحبير شرح التحرير» (1/ 233).

(2)

«أصولُ الفقهِ» (1/ 190).

(3)

يوسف: 51.

ص: 66

(وَ) الإطلاقُ الثَّالثُ: (التَّصديقُ) لا التَّصوُّرُ:

(1)

(قَطْعِيًّا) كانَ التَّصديقُ، وإطلاقُه عليه حقيقةً، وأمثلتُه كثيرةٌ.

(2)

(أَوْ ظَنِّيًّا) وإطلاقُه عليه مَجازًا، ومثالُه قولُه تَعالى:{فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ}

(1)

أي: ظَنَنْتُموهُنَّ مؤمناتٍ.

(وَ) الرَّابعُ: (مَعْنَى المَعْرِفَةِ) ومثالُه قولُه تَعالى: {لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ}

(2)

أي: لا تَعرِفُهم نَحنُ نَعرِفُهم.

(وَ) عكسُه (يُرَادُ بِهَا) أي: بالمَعرفةِ العِلمُ.

قالَ في «المِصباح»

(3)

: عَلِمْتُهُ أَعْلَمُه عَرَفْتُه، هَكَذَا يُفَسِّرون العِلمَ بالمعرفةِ، وبالعكسِ لتقاربِ المَعنَيينِ.

وفي التَّنزيلِ: {مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ}

(4)

أي: عَلِموا.

(وَ) يُرادُ (بِظَنٍّ) العِلْمُ، ومثالُه قولُه تَعالى في فُصِّلَتْ:{وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ}

(5)

، بخلافِ قولِه تَعالى:{الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ}

(6)

فإنَّه على بابِه.

(وَهِيَ) أي: المَعرفةُ أخصُّ مِن العِلمِ مِن وجهٍ، وأعمُّ مِن آخَرَ،

(1)

فـ: (مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا عِلْمٌ مُسْتَحْدَثٌ) أَخَصُّ مِنَ العِلمِ (أَوِ انْكِشَافٌ)

(1)

الممتحنة: 10.

(2)

التَّوبة: 101.

(3)

«المصباحُ المنيرُ في غريبِ الشَّرحِ الكبيرِ» (2/ 648).

(4)

المائدة: 83.

(5)

فُصِّلَتْ: 48.

(6)

البقرة: 46.

ص: 67

لشيءٍ (بَعْدَ لَبْسٍ) فهو قريبٌ مِنَ الأوَّلِ، إلَّا أنَّ الأوَّلَ لم يَكُنْ حَصَلَ فيه لَبْسٌ، بل استُحدِثَ مِن غيرِ لَبْسٍ، فهي:(أَخَصُّ مِنْهُ) أيضًا؛ لكونِ العِلمِ يَكُونُ مُستحدَثًا وهو عِلْمُ العبادِ، وغيرَ مُستحدَثٍ وهو‌

‌ عِلمُ اللهِ تَعالى

.

(2)

(وَمِنْ حَيْثُ إِنَّهَا) أي: المعرفةَ (يَقِينٌ وَظَنٌّ) أي: تَشمَلُ اليقينيَّ والظَّنِّيَّ، والعِلْمُ يَقينيٌّ، فهي:(أَعَمُّ) منه.

(3)

(وتُطْلَقُ المَعْرِفَةُ عَلَى مُجَرَّدِ التَّصَوُّرِ) الَّذِي لا حُكمَ معه، (فَتُقَابِلُهُ) أي: تُقابِلُ العِلْمَ، فعلى هذا تَكُونُ المعرفةُ قَسيمَ العِلْمِ.

ومَعنى المُقابَلةِ: أنَّك تَقولُ: إمَّا علمٌ، وإمَّا معرفةٌ، كما تَقولُ: إمَّا تصديقٌ، وإما تَصوُّرٌ.

(وَعِلْمُ اللهِ) تَبارَكَ و (تَعَالَى قَدِيمٌ، لَيْسَ ضَرُوريًّا وَلَا نظريًّا) وفاقًا لأبي حنيفةَ، ومالكٍ والشَّافعيِّ رَضِيَ اللهُ تَعالى عنهم. وهو واحدٌ لَيْسَ بعَرَضٍ، ويَتَعَلَّقُ بجميعِ المعلوماتِ إجمالًا وتفصيلًا على ما هي به.

قالَ في «المقنعُ» : عِلْمُ اللهِ تَعالى صفةٌ ذاتيَّةٌ وجوديَّةٌ واحدةٌ، أحاطَ اللهُ بها، لم تَزَلْ، وَلَا تَزَالُ بكلِّ كُلِّيٍّ، وجزءٍ موجودٍ ومعدومٍ على ما هو عليه، وَلَيْسَ ضروريًّا، وَلَا نظريًّا.

(وَلَا يُوصَفُ) سبحانه وتعالى (بِأَنَّهُ عَارِفٌ) لأنَّ المعرفةَ قد تَكُونُ عِلمًا مُستحدَثًا، واللهُ تَعالى مُحيطٌ علْمُه بجميعِ الأشياءِ على حقائقِها على ما هي عليه، وهو صفةٌ مِن صفاتِه قديمٌ.

(وَعِلْمُ المَخْلُوقَاتِ مُحْدَثٌ) وِفاقًا أيضًا، (وَ) هو قسمانِ:

ص: 68

(1)

(ضَرُورِيٌّ) وهو ما يَلزَمُ العِلمُ به ضرورةً؛ أي: (يُعْلَمُ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ) ولا يُمكِنُه دَفعُه عن نَفسِه بحالٍ، ولا يُمكِنُه إدخالُ الشَّكِّ فيه، كتَصوُّرِنا مَعنى النَّارِ وأنَّها حارَّةٌ.

(وَ) الثَّاني: (نَظَرِيٌّ عَكْسُهُ) أي: عكسُ الضَّروريِّ، وهو ما لا يُعلَمُ إلَّا بالنَّظرِ ويُسَمَّى المطلوبَ؛ أي: يُطلَبُ بالدَّليلِ.

ص: 69

(فَصْلٌ)

في ذِكْرِ جملةٍ مِن أحوالِ المَعلومِ

(المَعْلُومَانِ) لا يَخلُوَانِ مِن أربعِ صورٍ:

(1)

(إِمَّا نَقِيضَانِ) كالوُجودِ والعَدمِ المُضافَينِ إلى مُعَيَّنٍ واحدٍ (لَا يَجْتَمِعَانِ وَلَا يَرْتَفِعَانِ).

(2)

(أَوْ خِلَافَانِ) كالحَركةِ، والبَياضِ، (يَجْتَمِعَانِ) في الجسمِ الواحدِ (وَيَرْتَفِعَانِ) لكنْ قد يَتَعَذَّرُ ارتفاعُهما لخُصوصِ حقيقةٍ غيرِ كونِهما خِلافَينِ، كذاتِ واجبِ الوجودِ سبحانه وتعالى مَعَ صفاتِه، وقد يَتَعَذَّرُ افتِراقُهما كالعَشَرَةِ مَعَ الزَّوجيَّةِ خلافانِ، ويَتَعَذَّرُ ويَستحيلُ افتِراقُهما، والخمسةِ مَعَ الفرديَّةِ، والجَوهرِ مَعَ الألوانِ وهو كثيرٌ، ولا تَنافِيَ بينَ إمكانِ الافتِراقِ والارتفاعِ بالنِّسبةِ إلى الذَّاتِ، وتَعَذُّرِ الارتفاعِ بالنِّسبةِ إلى أمرٍ خارجيٍّ عنهما.

(3)

(أَوْ ضِدَّانِ) كالسَّوادِ والبياضِ (لَا يَجْتَمِعَانِ) لأنَّ الشَّيْءَ لا يَكُونُ أسودَ وأبيضَ في زمنٍ واحدٍ، (وَيَرْتَفِعَانِ) مَعَ بقاء المَحَلِّ لا أسودَ وَلَا أبيضَ (لِاخْتِلَافِ الحَقِيقَةِ).

(4)

(أَوْ مِثْلَانِ) كبياضٍ وبياضٍ (لَا يَجْتَمِعَانِ، وَيَرْتَفِعَانِ؛ لِتَسَاوِي الحَقِيقَةِ) لا يَخرُجُ فَرْضُ وُجودِ مَعلُومَينِ عن هذه الأربعِ صورٍ.

ودليلُ الحَصْرِ أنَّ المَعلُومَينِ: إمَّا أنْ يُمكِنَ اجتماعُهما أو لا، فإنْ أَمْكَنَ اجتماعُهما:

فالخلافانِ، وإن لم يُمكِنِ اجتماعُهما، فإمَّا أن يُمكِنَ ارتفاعُهما أو لا.

ص: 70

الثَّاني: النَّقيضانِ، كوُجودِ الحركةِ مَعَ السُّكونِ، والأوَّلُ إمَّا أنْ يَختلِفَا في الحقيقةِ أو لا، الأوَّلُ الضِّدَّانِ، والثَّاني المِثْلانِ.

فائدةٌ: حَصْرُ المعلوماتِ في هذه الأربعةِ كلِّها حَتَّى لا يَخرُجَ منها شيءٌ إلَّا ما تَوَحَّدَ اللهُ به وتَفَرَّدَ، فإنَّه لَيْسَ ضِدَّ الشَّيءِ، وَلَا نقيضًا، وَلَا مِثْلًا، وَلَا خِلافًا؛ لتَعَذُّرِ الرَّفعِ، وهذا حُكمٌ عامٌّ في صفاتِه العُلَى وذاتِه؛ لتَعذُّرِ رَفعِها بسببِ وجوبِ وجودِها.

(وَكُلُّ شَيْئَيْنِ حَقِيقَتاهُمَا):

(1)

(إمَّا مُتَسَاوِيَتَانِ) كالإنسانِ والضَّاحكِ بالقُوَّةِ، فإنَّه (يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِ كُلِّ) حقيقةٍ (وُجُودُ) الحقيقةِ (الأُخْرَى وَعَكْسُهُ) أي: ويَلْزَمُ مِن عدمِ كلِّ واحدٍ مِنهما عدمُ الأُخرى، فلا إنسانَ إلَّا وهو ضاحكٌ بالقُوَّةِ، وَلَا ضاحكَ بالقُوَّةِ إلَّا وهو إنسانٌ، ونَعني بالقُوَّةِ: كَوْنَه قابلًا ولو لم يَقَعْ، ويُقابِلُه الضَّاحكُ بالفعلِ وهو المُباشِرُ للضَّحِكِ.

(2)

(أَوْ مُتَبَايِنَتَانِ) كالإنسانِ والفَرَسِ، (لَا يَجْتَمِعَانِ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ) فما هو إنسانٌ لَيْسَ بفَرسٍ، وما هو فرسٌ فليسَ بإنسانٍ، فيَلْزَمُ مِن صِدقِ أَحدِهما على مَحَلٍّ عدمُ صِدقِ الآخَرِ.

(3)

(أَوْ إِحْدَاهُمَا أَعَمُّ مُطْلَقًا، وَالأُخْرَى أَخَصُّ مُطْلَقًا) كالحيوانِ والإنسانِ (تُوجَدُ إِحْدَاهُمَا مَعَ وُجُودِ كُلِّ أَفْرَادِ الأُخْرَى) فالحيوانُ أَعَمُّ مُطلقًا؛ لصِدقِه على جميعِ أفرادِ الإنسانِ، فلا يُوجَدُ إنسانٌ بدونِ حيوانيَّةٍ البَتَّةَ، فيَلْزَمُ مِن وجودِ الإنسانِ الَّذِي هو أخصُّ مطلقًا وجودُ الحيوانِ الَّذِي هو أعمُّ (بِلَا عَكْسٍ) أي: فلا يَلْزَمُ مِن عدمِ الإنسانِ عدمُ الحيوانِ؛ لأنَّ الحيوانَ قد يَبْقى موجودًا في الفَرسِ وغيرِه، فهو أعمُّ مِن الإنسانِ.

ص: 71

(4)

(أَوْ إِحْدَاهُمَا أَعَمُّ) منَ الحقيقةِ الأُخرى (مِنْ وَجْهٍ، وَالأُخْرَى أَخَصُّ) منها (مِنْ وَجْهٍ) آخَرَ، كالحيوانِ والأبيضِ، (تُوجَدُ كُلُّ) واحدةٍ مِن الحقيقتَينِ (مَعَ) الحقيقةِ (الأُخْرَى، وَبِدُونِهَا) أي: يَجتمعانِ في صورةٍ، وتَنفردُ كلُّ واحدةٍ مِنهما عنِ الأُخرى بصورةٍ، فإنَّ الحيوانَ يُوجَدُ بدونِ الأبيضِ في السُّودانِ، ويُوجَدُ الأبيضُ في الثَّلجِ وغيرِه مِمَّا لَيْسَ بحيوانٍ، ويَجتمعانِ في الحيواناتِ البِيضِ، فلا يَلْزَمُ مِن وجودِ الأبيضِ وجودُ الحيوانِ، وَلَا مِن وجودِ الحيوانِ وجودُ الأبيضِ، وَلَا مِن عدمِ أحدِهما عدمُ الآخَرِ، فلا جَرَمَ لا دَلَالةَ فيهما مُطلقًا لا في وجودِه، وَلَا في عَدَمِه، بخلافِ الأعمِّ مُطلقًا، يَلْزَمُ مِن عَدَمِ الحيوانِ عدمُ الإنسانِ، ومِن وجودِ الإنسانِ الَّذِي هو أخصُّ وجودُ الحيوانِ، وَلَا يَلْزَمُ مِن عدمِ الأخصِّ عَدَمُ الأعمِّ؛ لأنَّ الحيوانَ قد يَبْقى موجودًا في الفَرَسِ وغيرِه مِن الأنواعِ.

وفائدةُ هذه القاعدةِ: الاستدلالُ ببعضِ الحقائقِ على بعضٍ، والتَّمثيلُ في المُتساوِيَينِ بالرَّجمِ وزنا المُحصَنِ، بناءً على أنَّ اللَّائطَ لا يُرجَمُ، أمَّا لو فَرَّعْنا على أنَّه يُرجَمُ، كانَ الرَّجمُ أعمَّ مِنَ الزِّنا عمومًا مطلقًا، كالغُسْلِ، والإنزالِ المُعتبَرِ، فإنَّ الغُسْلَ أعمُّ مُطلقًا لوجودِه بدونِ الإنزالِ في انقطاعِ دمِ الحيضِ، والتقاءِ الختانَينِ، وغيرِ ذلك مِن أسبابِ الغُسلِ.

قالَ في «شرحِ الأصلِ» : الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِنَا أَنَّ حَدَّ اللُّوطِيِّ كَحَدِّ الزِّنَا

(1)

سَوَاءٌ، فَيَحْتَاجُ إِلَى مِثَالٍ غَيْرِ ذَلِكَ

(2)

.

ص: 72

(فَصْلٌ)

الذِّكْرُ الحُكْمِيُّ: هو الكلامُ الخَبَريُّ تَخَيَّلَه، أو لَفَظَ به، فإذا قُلْتَ: زيدٌ قائمٌ، أو لَيْسَ بقائمٍ، فقد ذَكَرْتَ حُكْمًا، وهو الذِّكْرُ الحُكمِيُّ.

و (مَا عَنْهُ الذِّكْرُ الحُكْمِيُّ) هو مفهومُ الكلامِ الخَبَريِّ:

- (إِمَّا أَنْ يَحْتَمِلَ مُتَعَلَّقُهُ): وهو النِّسبةُ الواقعةُ بينَ طَرَفَيِ الخبَرِ في الذِّهنِ، فإنَّ الحُكْمَ يَتَعَلَّقُ بها (النَّقِيضَ بِوَجْهٍ) منَ الوجوهِ، سواءٌ كانَ في الخارجِ، أو عندَ الذَّاكرِ، إمَّا بتقديرِه في نَفْسِه، أو بتشكيكِ مُشَكِّكٍ إيَّاه،

- (أَوْ لَا) يَحتمِلُ أصلًا.

(وَالثَّانِي) أي: الَّذِي لا يَحتمِلُ النَّقيضَ أصلًا: (العِلْمُ) وقسيمُه الاعتقادُ الصَّحيحُ والفاسدُ،

وحَدُّه: ما عنه ذِكْرٌ حُكمِيٌّ لا يَحتمِلُ مُتَعَلَّقُه النَّقيضَ بوجهٍ لا في الواقعِ، ولا عندَ الذَّاكرِ، ولا بتشكيكٍ.

(وَالأَوَّلُ) أي: الَّذِي يَحتَمِلُ مُتَعَلَّقُه النَّقيضَ: (إِمَّا أَنْ يَحْتَمِلَهُ عِنْدَ الذَّاكِرِ لَوْ قَدَّرَهُ) أي: بتقديرِ الذَّاكِرِ النَّقيضَ في نَفْسِه، (أَوْ لَا) يَحتمِلُه.

(وَالثَّانِي) أي: الَّذِي لا يَحتمِلُ النَّقيضَ عندَ الذَّاكِرِ هُوَ (الِاعْتِقَادُ:

فَإِنْ طَابَقَ) لِما في نَفْسِ الأمْرِ (فَصَحِيحٌ)، وحَدُّه: ما عنه ذِكْرٌ حُكْمِيٌّ لا يَحتملُ مُتَعَلَّقُه النَّقيضَ عندَ الذَّاكرِ بتشكيكِ مُشَكِّكٍ إيَّاه.

(وَإِلَّا) بأنْ لم يُطابِقْ لِما في نَفْسِ الأمرِ (فَفَاسِدٌ)، وحَدُّه: ما عنه ذِكْرٌ

ص: 73

حُكْمِيٌّ لا يَحتمِلُ مُتَعَلَّقُه النَّقيضَ عندَ الذَّاكِرِ بتشكيكِ مُشَكِّكٍ إيَّاه، ويَكُونُ غيرَ مطابقٍ للواقعِ.

قالَ في «شرحِ الأصلِ» : الاعتقادُ الصَّحيحُ: ما عنه ذِكْرٌ حُكْمِيٌّ

(1)

يَحتمِلُ مُتَعَلَّقُه النَّقيضَ عندَ الذَاكرِ بتشكيكِ مُشَكِّكٍ إيَّاه فقط، والفاسدُ: ما عنه ذِكْرٌ حُكمِيٌّ يَحتمِلُ مُتَعَلَّقُه النَّقيضَ عندَ الذَّاكرِ بتشكيكِ مُشَكِّكٍ، وَلَا يَحتمِلُ النَّقيضَ بتقديرِه، ويَكونُ غيرَ مطابقٍ للواقعِ

(2)

. ولَعَلَّ هذا الحَدَّ غيرُ مَرْضِيٍّ، فتَأَمَّلْ.

(وَالأَوَّلُ) أي: الَّذِي يَحتملُ النَّقيضَ عندَ الذَّاكِرِ، إمَّا أن يَكُونَ المُتَعَلَّقُ راجحًا عندَ الذَّاكِرِ على احتمالِ النَّقيضِ أو لا، وحينئذٍ إمَّا أن يَكُونَ مَرجوحًا أو لا.

فَـ (الرَّاجِحُ مِنْهُ ظَنٌّ) وقسيمُه الشَّكُّ والوَهمُ، وحَدُّه: ما عنه ذِكْرٌ حُكْمِيٌّ يَحتمِلُ مُتَعَلَّقُه النَّقيضَ عندَ الذَّاكرِ مَعَ كونِه راجحًا.

(وَالمَرْجُوحُ) منه (وَهْمٌ)، وحَدُّه: ما عنه ذِكْرٌ حُكْمِيٌّ يَحتمِلُ مُتَعَلَّقُه النَّقيضَ بتقديرِ الذَّاكِرِ مَعَ كونِه مَرجوحًا.

(وَالمُسَاوِي) منه (شَكٌّ)، وحَدُّه: ما عنه ذِكْرٌ حُكمِيٌّ يَحتمِلُ مُتَعَلَّقُه النَّقيضَ مَعَ تَساوي طَرَفَيْه عندَ الذَّاكِرِ.

(وَقَدْ عَلِمْتَ) بذلك (حُدُودَهَا)، وذلك لَمَّا ذَكَرَ المُشتَركَ الَّذِي هو كالجنسِ، وهو ما عنه الذِّكْرُ الحُكمِيُّ، وقَيَّدَ كلَّ قِسمٍ بما يُمَيِّزُه عمَّا عَدَاه؛

(1)

زاد في (ع): لا. وليست هي في «التَّحبير شرح التَّحريرِ» .

(2)

«التحبير شرح التحرير» (1/ 251).

ص: 74

كانَ ذلك حدًّا لكُلِّ واحدٍ مِن الأقسامِ؛ لأنَّ الحدَّ عندَ الأصوليِّينَ: كلُّ لفظٍ مُرَكَّبٍ يُمَيِّزُ الماهيَّةَ عن أغيارِها، سواءٌ كانَ بالذَّاتيَّاتِ أو بالعَرَضِيَّاتِ.

(وَالِاعْتِقَادُ الفَاسِدُ: تَصَوُّرُ الشَّيْءِ عَلَى غَيْرِ هَيْئَتِهِ) وذلك أنَّ حُكمَ العَقلِ بأمرٍ على أمرٍ جازمٍ غيرِ مطابقٍ في الخارجِ هو الاعتقادُ الفاسدُ، (وَ) هذا (هُوَ الجَهْلُ المُرَكَّبُ) لتَرَكُّبِه مِن عدمِ العِلمِ بالشَّيءِ، واعتقادٍ غيرِ مُطابقٍ.

(وَ) الجهلُ (البَسِيطُ: عَدَمُ العِلْمِ).

وقالَ ابنُ مُفْلِحٍ: عدمُ معرفةِ المُمكِنِ بالفِعلِ لا بالقُوَّةِ

(1)

. انتهى.

فإذا قِيلَ لشخصٍ: هل تَجوزُ الصَّلاةُ بالتَّيمُّمِ عندَ عدمِ الماءِ؟ فإنْ قَالَ: لا أَعلَمُ، كانَ جهلًا بسيطًا. وإن قَالَ: لا يَجوزُ، كانَ جهلًا مُركَّبا مِن عدمِ العِلْمِ بالحُكمِ الصَّحيحِ، ومِن الفُتيا بالحُكمِ الباطلِ.

(وَمِنْهُ) أي: مِن الجهلِ البسيطِ: (سَهْوٌ، وَغَفْلَةٌ، وَنِسْيَانٌ) والكُلُّ (بِمَعْنًى وَاحِدٍ) عندَ كثيرٍ مِن العلماءِ.

(وَهُوَ) أي: مَعنى الثَّلاثةِ: (ذُهُولُ القَلْبِ عَنْ مَعْلُومٍ) قَالَ في «القاموسُ» : سَهَا في الأمْرِ: نَسِيَهُ، وغَفَلَ عنه، وذَهَبَ قَلْبُه إلى غَيْرِهِ، فهو ساهٍ وسَهْوانُ

(2)

.

(1)

«أصولُ الفقهِ» (1/ 35).

(2)

«القاموسُ المحيطُ» (ص 1298).

ص: 75

(فَصْلٌ)

في ذِكْرِ بعضِ تعريفِ العقلِ

(العَقْلُ: مَا يَحْصُلُ بِهِ المَيْزُ) وعنِ الشَّافعيِّ رحمه الله أنَّه قَالَ: آلةُ التَّمييزِ

(1)

.

(وَهُوَ) أي: العَقلُ (غَرِيزَةٌ) نَصًّا، يَتَأَتَّى بها دَرْكُ العُلومِ.

قالَ في «نهاية المُبتدئينَ» : العَقلُ غريزةٌ، لَيْسَ مُكْتَسَبًا، خَلَقَه اللهُ تَعالى يُفارِقُ به الإنسانُ البهيمةَ، ويَستَعِدُّ به لقبولِ العِلْمِ، وتدبيرِ الصَّنائعِ الفِكريَّةِ، فكأنَّه نورٌ يُقذَفُ في القلبِ، كالعلمِ الضَّروريِّ

(2)

، والصِّبا ونحوُه حجابٌ له

(3)

. انتهى.

واختلَفوا في‌

‌ ماهيَّةِ العقلِ

اختلافًا كثيرًا، بحَيثُ إنَّه لا يَنحصِرُ، (وَ) قد ذَهَبَ بعضُ أصحابِنا والأكثرُ إلى أنَّه:(بَعْضُ العُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ) يُستَعدُّ بها لفَهمِ دقيقِ العُلومِ، وتدبيرِ الصَّنائعِ الفِكريَّةِ، فخَرَجَتِ العلومُ الكَسْبِيَّةُ، وممَّا يَدُلُّ على أنَّه لَيْسَ بجميعِ العلومِ؛ لأنَّا نَقولُ: العِلْمُ يَشتملُ على ضروريٍّ ومكتسبٍ، ومعلومٌ أنَّ الإنسانَ إذا لم يَكتَسِبْ ولم يُفَكِّرْ في الدَّلائلِ يُسَمَّى عاقلًا، فإذا خَرَجَ منه العِلمُ المُكتَسَبُ لم يَبْقَ إلَّا أنَّه عِلمٌ ضروريٌّ، وَلَيْسَ بجميعِ العلومِ الضَّروريَّةِ؛ لأنَّ الإنسانَ لو عَدِمَ الحَوَاسَّ الخمسَ مَعَ أنَّها يَحصُلُ بها عِلمٌ ضروريٌّ، ولو عُدِمَتْ يُسَمَّى عاقلًا، ولهذا لو قِيلَ له ما

(1)

قال الزَّركشِيُّ في «البحر المحيط» (1/ 116): وهذا موجود في «الرسالة» حيث قال: دلهم على جواز الاجتهاد بالعقول التي ركبت فيهم، المميزة بين الأشياء وأضدادها .. إلخ. اهـ

قلت: وهو في الرسالة (ص 21). وينظر: «قواطع الأدلة» للسمعاني (1/ 27)، و «الأشباه والنظائر» للسبكي (2/ 17).

(2)

زاد في «نهاية المُبتدئينَ» : بالواجبِ والممكنِ والممتنعِ.

(3)

«نهايةُ المبتدئينَ» لابنِ حمدانَ (مخطوط، المتحفِ البريطانيِّ، ق 25 ب).

ص: 76

يَضُرُّه وما يَنفَعُه اختارَ ما يَنْفَعُه، وعَكسُ هذا: الصَّبيُّ، والبهيمةُ، فإنَّه يَحصُلُ لهم عِلمٌ ضروريٌّ، مِثْلُ حِسِّهم بالألمِ وغيرِ ذلك، ومعَ هذا لا يَكونونَ عُقلاءَ، فثَبَتَ أيضًا أنَّه لَيْسَ بجميعِ العلومِ الضَّروريَّةِ، وإنَّما هو بعضُها، مثلُ أنْ يَعلَمَ الإنسانُ استحالةَ الضِّدَّينِ، وكونَ الجِسمِ الواحدِ لَيْسَ في مكانَينِ.

(وَمَحَلُّهُ) أي: العَقلِ (القَلْبُ) قَالَ ابنُ الأعرابيِّ وغيرُه: العَقلُ القلبُ، والقلبُ العقلُ، واسْتَدَلَّ لذلك بقولِه تَعالى:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ}

(1)

أي: عقلٌ، فعَبَّرَ بالقلبِ عنِ العَقلِ لأنَّه مَحَلُّه، وأيضًا العلومُ الضَّروريَّةُ لا تَكُونُ إلَّا في القلبِ وهو بَعضُها.

(وَلَهُ اتِّصَالٌ بِالدِّمَاغِ) وقَطَعَ أَكثَرُ الأصحابِ عن أحمدَ: أنَّه في الدِّماغِ، ولم يَحكُوا عنه فيه خِلافًا.

(وَيَخْتَلِفُ مَا يُدْرَكُ بِهِ) أي: العَقلِ، وهو الفِكرُ والتَّمييزُ، فعقلُ بعضِ النَّاسِ أكثرُ مِن بعضٍ؛ لحديثِ أبي سعيدٍ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ للنِّساءِ:«أَلَيْسَ شَهَادَةُ إِحْدَاكُنَّ مِثْلَ نِصْفِ شَهَادَةِ الرَّجُلِ؟» قُلْنَ: بلى. قَالَ: «فَذَلِكِ مِنْ نُقْصَانِ عَقْلِهَا»

(2)

.

ولأنَّ كمالَ الشَّيْءِ ونقصَه يُعرَفُ بكمالِ آثارِه وأفعالِه ونَقْصِها، ونحن نُشاهِدُ قَطْعًا تفاوتَ آثارِ العُقولِ في الآراءِ والحِكمِ والحِيَلِ وغيرِها، وذلك يَدُلُّ على‌

‌ تفاوُتِ العُقولِ

في نَفسِها، وأجمعَ العُقلاءُ على صِحَّةِ قولِ القائلِ: فلانٌ أعقلُ مِن فلانٍ، أو أكملُ عقلًا، وذلك يَدُلُّ على ما قُلْنا.

و (لَا) يَختلِفُ ما يُدرَكُ (بِالحَوَاسِّ، وَلَا) ما يُدرَكُ بـ (ـالإِحْسَاسِ) بخلافِ العَقلِ، فإنَّه يَختلِفُ ما يُدرَكُ به، وتَقَدَّمَ.

(1)

ق: 37.

(2)

رواه البخاريُّ (304)، ومسلمٌ (80).

ص: 77

(فَصْلٌ)

(الحَدُّ) له معنيانِ: مَعنًى في اللُّغةِ، ومعنًى في الاصطلاحِ، فمَعناه:

(لُغَةً: المَنْعُ)، ولذلك يُسَمَّى البَوَّابُ حَدَّادًا؛ لأنَّه يَمنَعُ مِن دُخُولِ الدَّارِ، ويُسَمَّى التَّعريفُ حدًّا لمَنعِه الدَّاخلَ مِنَ الخُروجِ، والخارجَ مِنَ الدُّخولِ.

(وَ) مَعنى الحدِّ (اصْطِلَاحًا: الوَصْفُ المُحِيطُ بِمَوْصُوفِهِ) أي: بالمحدودِ (المُمَيِّزُ لَهُ) أي: للمحدودِ (عَنْ غَيْرِهِ،

وَهُوَ) أي: الحدُّ على الحقيقةِ (أَصْلُ كُلِّ عِلْمٍ) فمَنْ لا يُحيطُ به عِلْمًا، لا يَثِقُ بما عندَه.

(وَشَرْطُهُ) أي: الحدِّ:

(1)

(أَنْ يَكُونُ مُطَّرِدًا، وَ) المُطَّرِدُ: (هُوَ المَانِعُ) مِن دُخولِ غيرِه فيه، والمانعُ: هو الَّذِي (كُلَّمَا وُجِدَ الحَدُّ وُجِدَ المَحْدُودُ).

(2)

وأنْ يَكُونَ أيضًا (مُنْعَكِسًا، وَهُوَ) أي: المُنعَكِسُ هو (الجَامِعُ) الَّذِي (كُلَّمَا وُجِدَ المَحْدُودُ وُجِدَ الحَدُّ)، عَكْسُ الاطِّرادِ الَّذِي هو كُلَّمَا وُجِدَ الحدُّ وُجِدَ المحدودُ.

(وَيَلْزَمُ) من ذلك أنَّه (كُلَّمَا انْتَفَى الحَدُّ انْتَفَى المَحْدُودُ). قَالَ في «شرحِ التَّحريرِ» : وفسَّرَه ابنُ الحاجبِ

(1)

وغيرُه بلازِمِه، فقَالَ:«المنعكسُ كُلَّما انْتَفَى الحدُّ انتفى المحدودُ» . والتَّحقيقُ الأَوَّلُ

(2)

.

(1)

«منتهى الوصول» (ص 6).

(2)

«التحبير شرح التحرير» (1/ 272).

ص: 78

وكَوْنُ المانعِ تفسيرًا للمُطَّرِدِ والجامعِ تفسيرًا للمُنعكسِ هو الصَّحيحُ الَّذِي عليه الأكثرُ، وعَكَسَ القَرَافِيُّ وأبو عليٍّ التَّميميُّ في «التَّذكِرَة في أُصُولِ الدِّينِ»

(1)

، والطُّوفِيُّ في «شَرحِه»

(2)

فقالوا: كَوْنُه مُطَّرِدًا هو الجامعُ، وكونُه مُنعكسًا هو المانعُ، ويَجِبُ مساواةُ الحدِّ للمحدودِ؛ لأنَّه إنْ كانَ أعمَّ فلا دَلالةَ له على الأخصِّ، ولا يُفيدُ التَّمييزَ

(3)

، وإن كانَ أخصَّ فلأنَّه أَخْفَى لأنَّه أقلُّ وُجودًا منه، ويَجِبُ أيضًا ألَّا يَكُونَ في لَفظِه مجازٌ وَلَا مُشتَركٌ؛ لأنَّ الحدَّ مُميِّزٌ للمَحدودِ، ولا يَحصُلُ المُميِّزُ مع واحدٍ مِنهما.

(وَهُوَ) أي: الحدُّ خمسةُ أقسامٍ:

الأَوَّلُ: (حَقِيقِيٌّ تَامٌّ) وهو الأصلُ، وإنَّما يَكُونُ حقيقيًّا تامًّا (إِنْ أَنْبَأَ عَنْ ذَاتِيَّاتِ المَحْدُودِ الكُلِّيَّةِ المُرَكَّبَةِ) كقولِك: ما الإنسانُ؟ فيُقالُ: حيوانٌ ناطقٌ، (وَلِذَا) أي: ولهذا القِسْمِ (حَدٌّ وَاحِدٌ) لأنَّ ذاتَ الشَّيْءِ لا يَكُونُ له حَدَّانِ.

فَإِنْ قِيلَ: جميعُ ذاتيَّاتِ الشَّيْءِ عينُ الشَّيءِ، والشَّيءُ لا يُفسِّرُ نَفْسَه.

فالجوابُ: أنَّ دَلالةَ المحدودِ مِن حَيْثُ الإجمالُ، ودَلالةَ الحدِّ مِن

(1)

لم أقف عليه، وذكره الزركشي في «تشنيف المسامع بجمع الجوامع» (1/ 212) فقال: وكنت أظن أن هذا الخلاف حادث بين المتأخرين حتى وقفت على كتاب (التذكرة في أصول الدين) لأبي علي التميمي .. إلخ. وقال في موضع آخر (4/ 641): وذكر أبو علي التميمي تلميذ الغزالي في (التذكرة).

وكذا الولي العراقي في «الغيث الهامع» (ص 62) فقال: وسبقه إليه أبو علي التميمي في التذكرة في أصول الدين.

(2)

«شرحُ مُختصَرِ الرَّوضةِ» (1/ 178).

(3)

أي: لا نستفيد التمييز إن كان الحدُّ أعم من المحدود.

ص: 79

حَيْثُ التَّفصيلُ، فليسَ عينَه مِن كلِّ وجهٍ، فصَحَّ تعريفُه به، ولذلك لم يُجعَلِ اللَّفظانِ مُترادِفَينِ إلَّا إذا كانَ الحَدُّ لفظيًّا على ما يَأتي.

(وَ) القِسْمُ الثَّاني: حقيقيٌّ (نَاقِصٌ) وله صورتانِ:

- أُشيرَ إلى الأُولى منهما بقولِه: (إِنْ كَانَ بِفَصْلٍ قَرِيبٍ فَقَطْ) كقولِنا: ما الإنسانُ؟ فيُقالُ: النَّاطقُ.

- وأُشيرَ إلى الثَّانيةِ بقولِه: (أَوْ مَعَ جِنْسٍ بَعِيدٍ) أي: إنْ كانَ الحدُّ بفصلٍ قريبٍ مِن جنسٍ بعيدٍ كقولِنا: ما الإنسانُ؟ فيُقالُ: جسمٌ ناطقٌ، فالجنسُ البعيدُ هو الجسمُ، والفصلُ القريبُ هو النَّاطقُ.

(وَ) القِسْمُ الثَّالثُ: (رَسْمِيٌّ) أي: لَيْسَ بحقيقيٍّ، وهو (تَامٌّ إِنْ كَانَ بِخَاصَّةٍ مَعَ جِنْسٍ قَرِيبٍ) كقولِنا: ما الإنسانُ؟ فيُقالُ: حيوانٌ ضاحكٌ. فالجنسُ القريبُ هو الحيوانُ، والخاصَّةُ هو الضَّاحكُ.

(وَ) القِسْمُ الرَّابعُ: رسميٌّ (نَاقِصٌ) وله صورتانِ:

- أُشيرَ إلى الأُولى منهما بقولِه: (إنْ كَانَ بِهَا) أي: بالخاصَّةِ (فَقَطْ) كـ: الإنسانُ ضاحكٌ.

- وأُشيرَ إلى الصُّورةِ الثَّانيةِ مِنَ الرَّسميِّ النَّاقصِ بقولِه: (أَوْ مَعَ جِنْسٍ بَعِيدٍ) أي: إنْ كانَ الحدُّ بالخاصَّةِ مَعَ جنسٍ بعيدٍ كـ: الإنسانُ جسمٌ ضاحكٌ.

(وَ) القِسْمُ الخامسُ مِن أقسامِ الحَدِّ: (لَفْظِيٌّ إِنْ كَانَ) الحدُّ (بِـ) لفظٍ (مُرَادِفٍ أَظْهَرَ) أي: هو أشهرُ عندَ السَّائِلِ مِنَ المسؤولِ عنه كما لو قَالَ قائلٌ: ما الخَنْدَرِيسُ؟ فيُقالُ: هو الخمرُ، ونحوُ ذلك.

ص: 80

(وَيَرِدُ عَلَيْهِ) أي: على الحدِّ في فنِّ الجَدَلِ: (النَّقْضُ، وَالمُعَارَضَةُ) قَالَ في «شرحِ التَّحريرِ» : عندَ الأكثرِ

(1)

.

قالَ القَرَافِيُّ في «شرحِ التَّنقيحِ» : فإنْ قُلْتَ: إذا لم يُطالَبْ على صِحَّةِ الحدِّ بدليلٍ ونحن نَعتقِدُ بُطلانَه فكيف الحيلةُ في ذلك؟

قُلْتُ: الطَّريقُ في ذلك أمرانِ:

أحدُهما: النَّقضُ، كما لو قال: الإنسانُ عبارةٌ عن الحيوانِ. فيُقالُ: يُنْتَقَضُ عليك بالفَرَسِ، فإنَّه حيوانٌ مع أنَّه لَيْسَ بإنسانٍ.

وثانيهما: المُعارضةُ، كما لو قال: الغاصبُ مِنَ الغاصبِ يَضمَنُ لأنَّه غاصبٌ، أو وَلَدُ المغصوبِ مضمونٌ لأنَّه مغصوبٌ؛ لأنَّ حدَّ الغاصبِ: مَن وَضَعَ يَدَه بغيرِ حقٍّ، وهذا وَضَعَ يَدَه بغيرِ حقٍّ، فيَكُونُ غاصبًا، فيَقُولُ الخَصمُ: أُعارِضُ هذا الحدَّ بحدٍّ آخَرَ وهو: أنَّ حَدَّ الغاصبِ مَن رَفَعَ اليدَ المُحِقَّةَ ووَضَعَ اليدَ المُبطِلَةَ، وهذا لم يَرفَعِ اليدَ المُحِقَّةَ، فلا يَكونُ غاصبًا

(2)

.

(لَا المَنْعُ) يَعني أنَّه لا يَرِدُ المنعُ على الحدِّ، قَالَ في «التَّحرير»: في الأصحِّ

(3)

، ثمَّ قال في «الشَّرحِ»: وما قِيلَ بالجوازِ فخطأٌ؛ لعدمِ الفائدةِ غالبًا، ولهذا لا يَجوزُ مَنْعُ النَّقلِ لتكذيبِ النَّاقلِ

(4)

، ولأنَّه لا يُمكِنُ إثباتُه إلَّا

(1)

«التحبير شرح التحرير» (1/ 277).

(2)

«شرحُ تنقيحِ الفصولِ» (1/ 7 - 8).

(3)

«تحريرُ المنقولِ» للمَرداويِّ (ص 69).

(4)

زادَ في «التَّحبير شرح التَّحريرِ» : وبُعده من الفائدةِ.

ص: 81

بالبُرهانِ، وهما مُقدِّمتانِ

(1)

، فطالِبُ الحَدِّ يَطلُبُ تَصَوُّرَ كلِّ مفردٍ، فإذا أَتَى المسؤولُ بحَدِّه ومُنِعَ؛ احتاجَ في إثباتِه إلى

(2)

مِثْلِ الأوَّلِ، وتَسَلْسَلَ

(3)

، ثمَّ الجدلُ اصطلاحٌ يَجِبُ الرُّجُوعُ إلى أربابِه

(4)

.

(1)

زادَ في «التَّحبير شرح التَّحريرِ» : كلٌّ منهما مُفردتانِ.

(2)

ليست في (د)، (ع). ومُثبَتةٌ مِن «التَّحبير شرح التَّحريرِ» .

(3)

قال الشَّيخُ عبد الرحمن الجبرين في هامشِ تحقيقِ «التَّحبير شرح التَّحريرِ» (1/ 279): بيَّن الزَّركشيُّ في «البحر المحيط» (1/ 238) هذا التَّسلسلَ بصورةٍ أوضحَ فقَالَ: «إقامةُ الدَّليلِ عليه يَحتاجُ يَفتَقِرُ إلى إثباتِ مُقدِّمَتينِ، ثمَّ في إثباتِ كلِّ واحدةٍ مِنهما يَفتقِرُ إلى إثباتِ مُقدِّمتينِ أُخرَيَينِ، وهكذا إلى غيرِ نهايةٍ، فيَلْزَمُ إمَّا الدَّورُ أو التَّسلسُلُ، وهما باطلانِ» . وهذا مِن الوجوهِ الَّتي ردَّ بها شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميَّةَ على المنطقيِّينَ كما في «مجموع الفتاوى» (9/ 49)، و «الرَّدّ على المنطقيِّين» (ص 8).

(4)

«التحبير شرح التحرير» (1/ 279).

ص: 82

(فَصْلٌ)

في اللُّغةِ

وأصلُها لُغْوَةٌ على وزنِ «فُعْلَةٍ» ، مِن لَغَوْتَ إذا تَكَلَّمْتَ.

وهو توقيفٌ ووحيٌ لا اصطلاحٌ وتَواطُؤٌ على الأشهرِ، وذلك لِما رَوَى وكيعٌ في «تفسيرِه» بسندِه إلى ابنِ عبَّاسٍ في قولِه تَعالى:{وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا}

(1)

قَالَ: علَّمه اسمَ كلِّ شيءٍ، حَتَّى علَّمَه القَصْعَةَ والقُصَيْعَةَ، والفَسْوَةَ والفُسَيَّةَ

(2)

.

ولِما رَوَى ابنُ جَريرٍ في «تفسيرِه» مِن طريقِ الضَّحَّاكِ إلى ابنِ عبَّاسٍ في قولِه تَعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا}

(3)

قال: هيَ هذه الأسماءُ الَّتي تَتَعارَفُ بها النَّاسُ الآنَ: إنسانٌ، دابَّةٌ، أرضٌ، سَهلٌ، جبلٌ، حمارٌ، وأشباهُ ذلك مِن الأُمَمِ وغيرِها

(4)

.

ثمَّ إنَّ ألفاظَ اللُّغةِ تَنقسمُ إلى: مُتواردةٍ، وإلى مُترادفةٍ:

- فالمُتواردةُ: كما تُسَمَّى الخَمرُ عُقَارًا تُسَمَّى صَهْبَاءَ وقهوةً، والسَّبُعُ ليثًا وأسدًا وضِرْغامًا،

- والمُترادفةُ: هي الَّتي يُقامُ لفظٌ مُقامَ لفظٍ لمَعانٍ متقاربةٍ يَجمَعُها مَعنًى واحدٌ، كما يُقالُ: أَصلَحَ الفاسدَ، ولَمَّ الشَّعَثَ، ورَتَقَ الفَتْقَ، وشَعَبَ الصَّدْعَ.

(1)

البقرة: 31.

(2)

رواه الطبري في «تفسيره» (1/ 515) من طريقه، بسند ضعيف.

(3)

البقرة: 31.

(4)

رواه الطبري في «تفسيره» (1/ 514) بسند ضعيف.

ص: 83

وهذا يَحتاجُ إليه البليغُ في بلاغتِه، فبِحُسْنِ الألفاظِ واختلافِها على المعنَى الواحدِ تُرَصَّعُ المعاني في القُلوبِ وتَلتصِقُ بالصُّدورِ، ويَزيدُ حُسنُه وحلاوتُه بضَربِ الأمثلةِ والتَّشبيهاتِ المَجازيَّةِ.

ثمَّ تَنقسِمُ الألفاظُ أيضًا إلى: مشتَرَكةٍ، وإلى عامَّةٍ مُطلقةٍ، وتُسَمَّى مُستغرِقةً، وإلى ما هو مُفردٌ بإزاءِ مُفردٍ، وسيَأتي بيانُ ذلك.

والدَّاعي إلى ذِكرِ اللُّغةِ هنا لكونِها مِن الأمورِ المُستمَدِّ منها هذا العلمُ؛ وذلك أنَّه لمَّا كانَ الاستدلالُ مِن الكتابِ والسُّنَّةِ اللَّذينِ هما أصلُ الإجماعِ والقياسِ، وكانَا أفصحَ الكلامِ العربيِّ؛ احتيجَ إلى معرفةِ لغةِ العربِ؛ لتوقُّفِ الاستدلالِ منهما عليها.

فَإِنْ قِيلَ: مَن سَبَقَ نبيَّنا محمَّدًا صلى الله عليه وسلم مِن الأنبياء إِنَّمَا كانَ مبعوثًا لقومِه خاصَّةً، فهو مبعوثٌ بلسانِهم، ونبيُّنا محمَّدٌ صلى الله عليه وسلم مبعوثٌ لجميعِ الخلْقِ، فلِمَ لمْ يُبعَثْ بجميعِ الألسنةِ، ولم يُبعَثْ إلَّا بلسانِ بعضِهم، وهم العربُ؟

فالجوابُ: أنَّه لو بُعِثَ بلسانِ جميعِهم لكانَ كلامُهم خارجًا عن المعهودِ، ويَبعُدُ -بل يَستحيلُ- أن تَرِدَ كلُّ كلمةٍ مِن القرآنِ مُكَرَّرَةً بكلِّ الألسنةِ، فيَتَعَيَّنُ البعضُ، وكانَ لسانُ العربِ أحقَّ؛ لأنَّه أوسعُ وأفصحُ، ولأنَّه لسانُ المُخاطَبينَ، وإنْ كانَ الحُكمُ عليهم وعلى غيرِهم، ولَمَّا خَلَقَ اللهُ تَعالى النَّوعَ الإنسانِيَّ وجَعَلَه مُحتاجًا لأمورٍ لا يَستقلُّ بها بل يَحتاجُ فيها إلى المُعاونةِ؛ كانَ لا بدَّ للمُعاوِنِ مِن الاطِّلاعِ على ما في نَفْسِ المُحتاجِ بشيءٍ يَدُلُّ عليه من لفظٍ، أو إشارةٍ، أو كتابةٍ، أو مثالٍ، أو نحوِه.

ص: 84

إذا تَقَرَّرَ هذا فـ (اللُّغَةُ) في الدَّلالةِ على ذلك (أَفْيَدُ) أي: أكثرُ فائدةً (مِنْ غَيْرِهَا)؛ لأنَّ اللَّفظَ يَقَعُ على المَعدومِ، والموجودِ، والحاضرِ الحِسِّيِّ، والمعنويِّ، (وَأَيْسَرُ لِخِفَّتِهَا) لأنَّ الحروفَ كيفيَّاتٌ تَعرِضُ للنَّفَسِ الضَّروريِّ، فلا يُتَكَلَّفُ لها ما يُتَكَلَّفُ لغيرِها.

(وَسَبَبُهَا) أي: سببُ وَضعِها (حَاجَةُ النَّاسِ) إليها ليَعرِفَ بعضُهم مُرادَ بعضٍ للتَّساعُدِ، والتَّعاضُدِ، بلا مُؤنةٍ فيه ولا مَحذورٍ، وهذا مِن تمامِ نِعَمِ اللهِ علينا أنْ جَعَلَ ذلك بالمنطقِ دونَ غيرِه.

(وَهِيَ) أي: اللُّغةُ (أَلْفَاظٌ) وتَشمَلُ: الموضوعَ، والمُهْمَلَ.

وقولُه: (وُضِعَتْ لِمَعَانٍ) ليُخرِجَ المُهمَلَ؛ لأنَّه لم يُوضَعْ لمَعنًى.

(فَمَا الحَاجَةُ إِلَيْهِ) أي: فالمعنى الَّذِي يَحتاجُ الإنسانُ إلى الاطِّلاعِ عليه مِن نَفْسِه دائمًا كطلبِ ما يَدفَعُ به عن نَفْسِه

(1)

مِن ألمِ جوعٍ وغيرِه

(2)

لم تَخْلُ اللُّغةُ مِن وضعِ لفظٍ له، (وَالظَّاهِرُ) مِن استعمالِ العَربِ (أَوْ كَثُرَتْ) حاجةُ الإنسانِ إليه كالمُعاملاتِ (لَمْ تَخْلُ) اللُّغةُ (مِنْ) وَضعِ (لَفْظٍ لَهُ) أي: لذلك المعنى، بل هو كالمقطوعِ به، لا سِيَّمَا وهي أوسعُ اللُّغاتِ وأَفصَحُها.

(وَيَجُوزُ خُلُوُّهَا) أي: اللُّغةِ (مِنْ لَفْظٍ) كَثُرَتِ الحاجةُ إليه (كَعَكْسِهِمَا

(3)

أي: ما لا يُحتاجُ إليه البَتَّةَ، يَجوزُ خُلُوُّ اللُّغةِ عمَّا يَدُلُّ عليه، وخُلُوُّها واللهُ أعلمُ أَكثَرُ، وما قلَّتِ الحاجةُ إليه يَجوزُ خُلُوُّها منه وليسَ بمُمتنعٍ.

(1)

هنا انتهى السَّقْطُ من (د).

(2)

في (ع): أو غيره.

(3)

كذا في (د)، (ع)، إحدى نسخ «مختصر التحرير». وفي بقية نسخ «مختصر التحرير»: لعكسهما.

ص: 85

(وَالصَّوْتُ) رَسْمُهُ: (عَرَضٌ) يَشمَلُ جميعَ الأعراضِ، كالحركاتِ والألوانِ، وقولُه:(مَسْمُوعٌ) خَرَجَ جميعُها إلَّا ما يُدرَكُ بالسَّمْعِ، وهو الصَّوتُ يَحصُلُ عندَ اصْطِكاكِ الأجرامِ، وسَبَبُه: انضغاطُ الهواءِ بينَ الجِرمَينِ فيَتَمَوَّجُ تَمَوُّجًا شديدًا، فيَخْرُجُ فيَقْرَعُ صِماخَ الأُذنِ، فتُدْرِكُه قُوَّةُ السَّمْعِ، ولهذا تَختلفُ الأصواتُ في الظُّهورِ والخفاءِ لاختلافِ الأجسامِ المُتَصَاكِكةِ في الصَّلابةِ والرَّخاوةِ.

(قُلْتُ: بَلِ) الأخلصُ في العِبارةِ أن تَقُولَ: الصَّوتُ (صِفَةٌ مَسْمُوعَةٌ، وَاللهُ أَعْلَمُ).

(وَاللَّفْظُ) بمَعنى الملفوظِ، فإطلاقُ اللَّفظِ عليه مِن بابِ تسميةِ المفعولِ باسمِ المصدرِ، كقولِهم: هذا

(1)

الدِّرهمُ ضَرْبُ الأميرِ؛ أي: مَضروبُه، وهو لغةً: الرَّمْيُ. يُقالُ: لَفَظْتَ النُّخامَةَ إذا نَفَثْتَها مِن فِيكَ.

واصطلاحًا: (صَوْتٌ مُعْتَمِدٌ عَلَى بَعْضِ مَخَارِجِ الحُرُوفِ) لأنَّ الصَّوتَ بخُروجِه مِن الفَمِ صارَ كالجوهرِ الملفوظِ المُلْقَى، فهو ملفوظٌ حقيقةً، أو مجازًا، فاللَّفظُ الاصطلاحيُّ نوعٌ للصَّوتِ؛ لأنَّه صوتٌ مخصوصٌ.

(وَالقَوْلُ) أخصُّ مِنَ اللَّفظِ،

وهو لُغةً: مُجَرَّدُ النُّطقِ.

واصطلاحًا: (لَفْظٌ وُضِعَ لِمَعْنًى) خَرَجَ المُهمَلُ، وقولُه:(ذِهْنِيٌّ) وهو ما يَتَصَوَّرُه العقلُ، سواءٌ طابَقَ ما في الخارجِ أو لا، لدَوَرانِ الألفاظِ مَعَ المعاني الذِّهنيَّةِ وُجودًا وعدمًا، فإنَّ الإنسانَ إذا رأى شخصًا مِن بعيدٍ تَخَيَّلَه طَلَلًا

(1)

في (د): هذه.

ص: 86

سَمَّاه بذلك، فإذا قَرُبَ منه وظَنَّه شَجَرًا سَمَّاه به، فإذا دَنَا منه ورآه رَجُلًا سَمَّاه به.

(وَالوَضْعُ) له إطلاقانِ:

أحدُهما: (خَاصٌّ: وَهُوَ جَعْلُ اللَّفْظِ دَلِيلًا) أي: مُتَهَيِّئًا (عَلَى) أنْ يُفيدَ ذلك (المَعْنَى) الموضوعَ له عندَ استعمالِ المُتكلِّمِ له على وجهٍ مخصوصٍ.

وقولُه: (وَلَوْ مَجَازًا) يَشمَلُ المنقولَ مِن شرعيٍّ وعُرفِيٍّ، يَعني أنَّ المجازَ مَوضوعٌ.

(وَ) الثَّاني (عَامٌّ: وَهُوَ تَخْصِيصُ شَيْءٍ بِشَيْءٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ، كَـ) جَعْلِ (المَقَادِيرِ) دَالَّةً على مُقَدَّراتِها مِن مَكيلٍ ومَوزونٍ ومعدودٍ، وغيرِها.

وفي كِلا القِسمَينِ الوضعُ أمرٌ مُتعلِّقٌ بالواضعِ.

(وَالِاسْتِعْمَالُ: إِطْلَاقُ اللَّفْظِ وَإِرَادَةُ المَعْنَى) يَعني إرادةَ مُسَمَّى اللَّفظِ بالحُكمِ، وهو الحقيقةُ، أو غيرَ مُسَمَّى اللَّفظِ لعَلاقةٍ بينَهما، وهو المجازُ، وهو مِن صفاتِ المُتكلِّمِ.

(وَالحَمْلُ: اعْتِقَادُ السَّامِعِ مُرَادَ المُتَكَلِّمِ مِنْ لَفْظِهِ) أو ما اشْتَمَلَ على مُرادِه، فالمُرادُ كاعتقادِ الحنبليِّ والحنفيِّ أنَّ اللهَ تَعالى أرادَ بلفظِ القُرءِ الحيضَ، والمالكيِّ والشَّافعيِّ أنَّ اللهَ تَعالى أرادَ به الطُّهرَ، وهذا مِن صفاتِ السَّامعِ.

فالوضعُ سابقٌ، والاستعمالُ مُتوسِّطٌ، والحملُ لاحقٌ.

(وَهِيَ) أي: اللُّغةُ:

(1)

(مُفْرَدٌ) لا نزاعَ في وضعِ العَربِ له، وهو عندَ النُّحاةِ: كلمةٌ واحدةٌ،

ص: 87

(كَزَيْدٍ) وعندَ المَناطقةِ والأُصوليِّينَ: لفظٌ وُضِعَ لمعنًى وَلَا جُزءَ لذلك

(1)

اللَّفظُ يَدُلُّ على

(2)

المَعنى الموضوعِ له، أو له جزءٌ ولا يَدُلُّ فيه

(3)

، فشَمِلَ أربعةَ أقسامٍ:

الأوَّلُ: ما لا جُزءَ له البتَّةَ كباءِ الجرِّ.

الثَّاني: ما له جزءٌ، ولكنْ لا يَدُلُّ مُطلقًا، كزاءِ زيدٍ، فإنَّ الزَّايَ منه لا تدُلُّ على شيءٍ منه.

الثَّالثُ: ما له جزءٌ، ويَدُلُّ لكنْ لا على جزءِ المعنى، كإنسانٍ فإنَّ «إِنْ» في أوَّلِه لا تَدُلُّ على بعضِ الإنسانِ، وإنْ كانَتْ بانفرادِها تَدُلُّ على الشَّرطِ أو النَّفيِ.

الرَّابعُ: ما له جزءٌ يَدُلُّ على جزءِ المعنى، لكنْ في وضعٍ آخَرَ لا في ذلك الوضعِ، كقولِنا: حيوانٌ ناطقٌ، عَلَمًا على شخصٍ.

(2)

(وَمُرَكَّبٌ) عندَ الأكثرِ أنَّه في اللُّغةِ، ويُرادِفُ المُؤلَّفَ على الصَّحيحِ، وهو عندَ النُّحاةِ: ما كانَ أكثرَ مِن كلمةٍ: فشَمِلَ التَّركيبَ

(4)

المَزجيَّ، كبَعلَبَكَّ، وسيبويْه، وخمسةَ عَشَرَ، والمُضافَ ولو عَلَمًا (كَـ عَبْدِ اللهِ) وغلامِ زيدٍ.

وعندَ المَناطقةِ والأُصوليِّينَ المُرَكَّبُ: ما دَلَّ جُزؤُه على جزءِ مَعناه الَّذِي وُضِعَ له، سواءٌ كانَ إسناديًّا: كـ قامَ زيدٌ، أو إضافيًّا: كـ غلامِ زيدٍ، أو تَقْيِيديًّا: كـ زيدٍ العالمِ، فـ «عبدُ اللهِ» عَلَمًا مُرَكَّبٌ على الأوَّلِ لا على الثَّاني

(5)

، و «يَضرِبُ» عَكْسُه؛ لأنَّ الياءَ منه يَدُلُّ على جُزءِ مَعناه وهو المُضارعةُ.

(1)

في (د): له، ولذلك.

(2)

زاد في (ع): جزء.

(3)

زاد في (د): لمعنًى.

(4)

في (ع): تركيب.

(5)

يقصد بالأول: ما عند النحاة. ويقصد بالثاني: ما عند المناطقة وأصوليين.

ص: 88

(وَالمُفْرَدُ) قِسمانِ:

(1)

(مُهْمَلٌ) كأسماءِ حروفِ الهجاءِ؛ أي: لمَدلولاتِها، فإنَّ مَدلولَ الألفِ (أ)، ومدلولَ الباءِ

(1)

(ب) إلى آخِرِها.

وهذه المدلولاتُ لم تُوضَعْ بإزاءِ شيءٍ، ألا تَرى أنَّ الضَّادَ موضوعٌ لهذا الحرفِ، فهو مُهمَلٌ لا مَعنى له، وإنَّما يَتَعَلَّمُه الصِّغارُ في الابتداءِ للتَّوصُّلِ به إلى معرفةِ غيرِه.

(وَ) الثَّاني: (مُسْتَعْمَلٌ) ويَنقسمُ إلى: اسمٍ، وفعلٍ، وحرفٍ.

ووجهُ الحَصرِ في ذلك أنْ يُقالَ: (إِنِ اسْتَقَلَّ) المُفردُ (بِمَعْنَاهُ وَدَلَّ

(2)

بِهَيْئَتِهِ عَلَى زَمَنٍ مِنَ) الأزمنةِ (الثَّلَاثَةِ) وهي الماضي، والحالُ، والمُستقبلُ، (فَـ) هو (الفِعْلُ، وَهُوَ) ثلاثةُ أنواعٍ:

(1)

(مَاضٍ): كـ قامَ، فأصلُ وَضْعِه للماضي، (وَ) قد (يَعْرِضُ لَهُ الِاسْتِقْبَالُ بِالشَّرْطِ) أي: يَخرُجُ عن أصلِه لعارضٍ نحوُ: إنْ قامَ زيدٌ قُمْتُ.

(وَ) الثَّاني: (مُضَارِعٌ) عكسُ الماضي، كـ: يَقومُ، فأصلُ وضعِه للحالِ والاستقبالِ، (وَ) قد (يَعْرِضُ لَهُ المُضِيُّ بِـ) دُخُولِ حرفِ (لَمْ) أي: يَخرُجُ عن أصلِه، ويَبقى للماضي.

(وَ) الثَّالثُ: (أَمْرٌ) كـ: قُمْ، وهو واضحٌ، وأمَّا «لِيَقُمْ» فإنَّه مضارعٌ، ودَخَلَتْ عليه لامُ الأمرِ.

(1)

ليست في (د).

(2)

كذا في (د)، (ع). وفي «مختصر التحرير»: فإن دل.

ص: 89

(وَتَجَرُّدُهُ) أي: تجرُّدُ الفِعلِ (عَنِ الزَّمَانِ) الماضي والحالِ والمستقبلِ (لِلْإِنْشَاءِ) بوضعِ العُرفِ، كـ: زَوَّجْتُ، وقَبِلْتُ، (عَارِضٌ،

وَقَدْ يَلْزَمُهُ) التَّجرُّدُ عن الزَّمانِ، (كَـ: عَسَى) فإنَّه وُضِعَ أوَّلًا للماضي، ولم يُستَعمَلْ فيه قطُّ، بل في الإنشاءِ.

(وَقَدْ لَا) يَلْزَمُ الفعلَ التَّجرُّدُ عنِ الزَّمانِ، فيُستعمَلُ في الأصلِ وهو الماضي، ويَتَجَرَّدُ عن الزَّمانِ أيضًا للإنشاءِ، (كَـ: نِعْمَ) وبِئْسَ، فيُقالُ: نِعمَ زيدٌ أمسِ، وبئسَ زيدٌ أمسِ، ونِعمَ زيدٌ، وبئسَ زيدٌ، مِن غيرِ نظرٍ إلى زمانٍ

(1)

.

(وَإِلَّا) أي: وإنِ اسْتَقَلَّ المُفردُ بمَعناه ولم يَدُلَّ بهيئتِه على أحدِ الأزمنةِ الثَّلاثةِ (فَـ) هو (الِاسْمُ) فصبوحٌ، أمسِ، وضاربُ اليومِ، وغَبُوقٌ، غدٌ

(2)

، ونحوُه، يَدُلُّ بنَفْسِه، لكنْ لم يَدُلَّ وَضعًا بل لعارضٍ، كاللَّفظِ بالاسمِ ومَدلولِه، فإنَّه لازمٌ كالمكانِ

(3)

، ونحوُ: صَهْ، دَلَّ على «اسْكُتْ» وبواسطتِه على سكوتٍ مُقتَرنٍ بالاستقبالِ.

والمُضارعُ إنْ قِيلَ مشتَركٌ بينَ الحالِ والاستقبالِ فوَضعُه لأحدِهما، واللَّبْسُ عندَ السَّامعِ.

(وَإِنْ لَمْ يَسْتَقِلَّ) المُفردُ بنَفْسِه بالمعنى كـ: عن (فَـ) هو (الحرفُ، وَهُوَ) أي: حَدُّه: (مَا دَلَّ عَلَى مَعْنًى فِي غَيْرِهِ) ليَخرُجَ الاسمُ والفعلُ.

(1)

في (ع): الزَّمان.

(2)

قوله: فصبوحٌ، أمسِ، وضاربُ اليومِ، وغَبُوقٌ، غدٌ. كذا في (د)، (ع). وفي «التحبير شرح التحرير» (1/ 297)، و «أصول الفقه» لابن مفاح (1/ 128)، و «شرح مختصر أصول الفقه» للجراعي (1/ 135): فصبوح أمس، وغبوق غد، وضارب أمس. وفي «شرح الكوكب المنير» (1/ 113): فصبوح، وغبوق، وأمس، وغد، وضارب أمس.

(3)

في (ع): للمكانِ.

ص: 90

(وَالمُرَكَّبُ) قِسمانِ:

(1)

(مُهْمَلٌ مَوْجُودٌ) ومَثَّلَه بعضُهم بالهَذَيَانِ، فإنَّه لفظٌ مدلولُه لفظٌ مُرَكَّبٌ مُهمَلٌ، (لَمْ تَضَعْهُ العَرَبُ قَطْعًا) ولا يَجوزُ نِسبتُه إليها لا حقيقةً وَلَا مجازًا، وهذا لا خلافَ فيه.

(وَ) الثَّاني: (مُسْتَعْمَلٌ وَضَعَتْهُ) العربُ على الصَّحيحِ، بدليلِ أنَّ له قوانينَ في العربيَّةِ لا يَجوزُ تَغييرُها، ومتى غُيِّرَتْ حُكِمَ عليها بأنَّها ليسَتْ عربيَّةً، كتقديمِ المُضافِ إليه على المُضافِ، وإنْ قُدِّمَ في غيرِ لغةِ العربِ، وكتقديمِ الصِّلةِ أو مَعمولِها على الموصولِ، وغيرِ ذلك مِمَّا لا يَنحَصِرُ، فحَجَرُوا في التَّركيبِ كما في المُفرداتِ.

(وَهُوَ) أي: المُرَكَّبُ الَّذِي وَضَعَتْه العربُ نوعانِ:

(1)

(غَيْرُ جُمْلَةٍ كَمُثَنًّى) لتَركيبِه

(1)

مِن مفردِه ومِن علامةِ التَّثنيةِ، (وَ) كـ (جَمْعٍ) لتَركيبِه

(2)

منَ المُفردِ وعلامةِ الجَمعِ.

(وَ) الثَّاني: (جُمْلَةٌ، وَ) هي (تَنْقَسِمُ إِلَى:

(1)

مَا) أي: لفظٍ (وُضِعَ لِإِفَادَةِ نِسْبَةٍ) أي: إسنادِ إحدى الكلمتينِ إلى الأُخرى لإفادةِ المخاطَبِ مَعنًى يَصِحُّ سُكُوتُه عليه، (وَ) اللَّفظُ الَّذِي وُضِعَ لإفادةِ نِسبةٍ (هُوَ الكَلَامُ).

(وَلَا يَتَأَلَّفُ) الكلامُ (إِلَّا مِنِ اسْمَيْنِ) مثلُ: زيدٌ قائمٌ، (أَو) مِن (اسْمٍ وَفِعْلٍ) مثلُ: قامَ زيدٌ، فيَخرُجُ المُرَكَّبُ الإضافِيُّ، كغلامِ زيدٍ ونحوِه؛

(1)

في (ع): لتَرَكُّبِه.

(2)

في (ع): لتَرَكُّبِه.

ص: 91

لأنَّه لم يُفِدِ المُخاطَبَ مَعنًى يَصِحُّ السُّكُوتُ عليه، ولأنَّ الكلامَ يَتَضَمَّنُ الإسنادَ، والإسنادُ يَقتضي مُسنَدًا ومُسنَدًا إليه، والاسمُ يَصلُحُ لهما، والفعلُ يَصلُحُ أن يَكُونَ مُسندًا ولا يَصلُحُ أن يَكُونَ مُسنَدًا إليه، والحرفُ لا يَصلُحُ لشيءٍ منهما.

والتَّركيبُ [العقليُّ مِن كلمتينِ يَشمَلُ سِتَّ صورٍ:

- اسمٌ مَعَ اسمٍ،

- واسمٌ معَ]

(1)

فعلٍ،

- واسمٌ مَعَ حرفٍ،

- وفعلٌ مَعَ فعلٍ،

- وفعلٌ مَعَ حرفٍ،

- وحرفٌ مَعَ حرفٍ،

فالأربعةُ الأخيرةُ لا يَتَأَتَّى منها الكلامُ إمَّا: لعدمِ

(2)

المُسندِ، أو لعدمِ المُسندِ إليه، أو لعَدَمِهما.

ويُعتَبَرُ أنْ يَكُونَ تَأليفُ الكلامِ (مِنْ) شخصٍ (وَاحِدٍ) لأنَّه لا بدَّ مِن مسندٍ ومسندٍ إليه.

(وَحَيَوَانٌ نَاطِقٌ، وَكَاتِبٌ فِي) قولِك: (زَيْدٌ كَاتِبٌ؛ لَمْ يُفِدْ نِسْبَةً) هذا جوابٌ عن سؤالٍ مُقَدَّرٍ تَقديرُه: إنَّ الحدَّ المذكورَ للجملةِ غيرُ مُطَّرِدٍ ضرورةَ صِدقِه على المُرَكَّبِ التَّقييديِّ، وعلى نحوِ كاتبٍ في قولِك: زيدٌ كاتبٌ.

(1)

ليس في (ع).

(2)

في (ع): بعدم.

ص: 92

والمُرادُ بالمُرَكَّبِ التَّقييديِّ: المُرَكَّبُ مِن اسمينِ، أو مِن اسمٍ وفعلٍ، يَكونُ

(1)

الثَّاني قَيْدًا في الأوَّلِ، ويَقومُ مَقامَهما لفظٌ مفردٌ، مثلُ:«حَيَوانٌ نَاطِقٌ» ، و «الَّذي يَكْتُبُ» فإنَّه يَقومُ مَقامَ الأوَّلِ

(2)

: الإنسانُ، ومقامَ الثَّاني

(3)

: الكاتبُ، وإنَّما قُلْنا:«الحدُّ يَصْدُقُ عليهما» ؛ لأنَّ الأوَّلَ وُضِعَ لإفادةِ نسبةٍ تقييديَّةٍ، والثَّاني وُضِعَ لإفادةِ اسمِ الفاعلِ إلى الضَّميرِ الَّذِي هو فاعلُه.

والجوابُ: أن يُقالَ: لا نُسَلِّمُ أنَّ الحدَّ يَصْدُقُ عليهما؛ لأنَّ المُرادَ بإفادةِ النِّسبةِ: إفادةُ نسبةٍ يَحسُنُ سُكُوتُ المُتكَلِّمِ عليها، وهما لم يُوضَعَا لإفادةِ نِسبةٍ كذلك. قالَه في «شرحِ الأصلِ»

(4)

.

(2)

(وَإِلَى غَيْرِهِ) أي: تَنقسِمُ الجملةُ إلى ما وُضِعَ لإفادةِ نسبةٍ، وتَقَدَّمَ.

وإلى غيرِ ما وُضِعَ لإفادةِ نسبةٍ، (كَجُمْلَةِ الشَّرْطِ) بدونِ جزاءٍ (أَو) جملةِ

(5)

(الجَزَاءِ) بدونِ شرطٍ، (وَنَحْوِهِمَا) فيَندَرِجُ فيه المُرَكَّباتُ التَّقييديَّةُ، وكاتبٌ في «زيدٌ كاتبٌ» ، وكـ غلامِ زيدٍ.

(وَيُرَادُ بِمُفْرَدٍ) في بعضِ إطلاقاتِه:

(1)

(مُقَابِلُهَا) أي: مقابلُ الجملةِ،

(2)

(وَ) يُرادُ به (مُقَابِلُ مُثَنًّى وَجَمْعٍ،

(3)

وَمُقَابِلُ مُرَكَّبٍ) فيُقالُ: مفردٌ وجملةٌ، ومفردٌ ومُثَنًّى ومجموعٌ، ومفردٌ ومُرَكَّبٌ، ويَكُونُ إطلاقًا مُتعارفًا.

(1)

في (ع): بكون.

(2)

يعني المثال الأول: «حيوان ناطق» .

(3)

يعني المثال الثاني: «الذي يكتب» .

(4)

«التَّحبيرُ شرحُ التَّحريرِ» (1/ 307 - 308).

(5)

ليست في (ع).

ص: 93

(وَ) يُرادُ (بِكَلِمَةٍ: الكَلَامُ) قَالَ اللهُ تَعالى: {قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا}

(1)

فسَمَّى ذلك كُلَّه

(2)

كلمةً.

(وَ) يُرادُ (بِهِ) أي: بالكلامِ: (الكَلِمَةُ) عكسُ الأوَّلِ؛ «تَكَلَّمَ بكلامٍ» ، ومرادُهم بكلمةٍ.

(وَ) يُراد بالكلامِ: (الكَلِمُ الَّذِي لَمْ يُفِدْ)، فلو أفادَ: سُمِّي كلامًا وكَلِمًا،

ومِن إطلاقِ الكلامِ على مُطلَقِ اللَّفظِ: حديثُ البَراءِ بنِ عازبٍ رضي الله عنه: «أُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ، وَنُهِينَا عَنِ الكَلَامِ»

(3)

فشَمِلَ الكلمةَ الواحدةَ.

(وَتَنَاوُلُ

(4)

الكَلَامِ وَالقَوْلِ عِنْدَ الإِطْلَاقِ: لِلَّفْظِ وَالمَعْنَى جَمِيعًا، كَـ) تَنَاوُلِ لَفْظِ (الإِنْسَانِ لِلرُّوحِ وَالبَدَنِ) جميعًا عندَ السَّلَفِ والفقهاءِ والأكثرِ.

(1)

المؤمنون: 100.

(2)

ليس في «د» .

(3)

رواه البخاريُّ (1200)، ومسلمٌ (539) واللَّفظُ له، مِن حديثِ زيدِ بنِ أَرْقَمَ قال: قال: كُنَّا نَتَكَلَّمُ فِي الصَّلَاةِ يُكَلِّمُ الرَّجُلُ صَاحِبَهُ

(4)

في (د): ويتأول.

ص: 94

(فَصْلٌ)

(الدَّلَالَةُ: مَصْدَرُ دَلَّ) يَدُلُّ دَلالةً بفتحِ الدَّالِ على الأفصحِ، وتَقَدَّمَ معناها في الدَّليلِ.

(وَ) الدَّلالةُ هنا: (هِيَ مَا) قال في «شرحِه»

(1)

: يَعني الَّتي (يَلْزَمُ مِنْ فَهْمِ شَيْءٍ) أيِّ شيءٍ كانَ (فَهْمُ) شيءٍ (آخَرَ)، فالشَّيءُ الأوَّلُ هو الدَّالُّ، والشَّيءُ الثَّاني هو المَدلولُ.

وقال بعضُهم: هي كونُ الشَّيْءِ بحالتَيْه يَلْزَمُ مِن العِلْمِ به العلمُ بشيءٍ آخَرَ، وسواءٌ

(2)

كانَ ذلك بلفظٍ أو غيرِه؛ لأنَّ الدَّلالةَ تارةً تكُونُ غيرَ لفظيَّةٍ، وتارةً تَكُونُ لفظيَّةً.

والدَّلالةُ المُطلقةُ ثلاثةُ أنواعٍ:

الأوَّلُ: ما دَلالتُه غيرُ لفظيَّةٍ (وَهِيَ وَضْعِيَّةٌ): كدَلالةِ الأقدارِ على مُقَدَّرَاتِها، ومنه

(3)

دَلالةُ السَّببِ على المُسَبَّبِ كالدُّلُوكِ على وُجوبِ الصَّلاةِ، وكدَلالةِ المَشروطِ على وجودِ الشَّرطِ، كالصَّلاةِ

(4)

على الطَّهارةِ، وإلَّا لَما صَحَّتْ.

(وَ) الثَّاني: ما دَلالتُه غيرُ لفظيَّةٍ أيضًا وهي (عَقْلِيَّةٌ) كدَلالةِ

(5)

الأثرِ على المُؤَثِّرِ، ومنه دَلالةُ العالَمِ على مُوجِدِه، وهو اللهُ تَعالى، ونحوُ ذلك.

(وَ) الثَّالثُ: ما دَلالتُه

(6)

(لَفْظِيَّةٌ) أي: دَلالةُ اللَّفظِ، وتَأتي الدَّلالةُ باللَّفظِ، (وَاللَّفْظِيَّةُ): هي المُسنَدَةُ لوجودِ اللَّفظِ، إذا ذُكِرَ وُجِدَتْ، وتَنْقَسِمُ ثلاثةَ أقسامٍ:

(1)

«التحبير شرح التحرير» (1/ 316).

(2)

في (ع): سواء.

(3)

في (ع): ومنها.

(4)

في (ع): كصلاة.

(5)

ليست في (ع).

(6)

في (ع): دل دلالة.

ص: 95

(1)

(طَبِيعِيَّةٌ) كدَلالةِ «أَحْ أَحْ» على وَجَعِ الصَّدرِ.

(وَ) الثَّاني: (عَقْلِيَّةٌ) كدَلَالةِ الصَّوتِ على حياةِ صاحبِه.

(وَ) الثَّالثُ: (وَضْعِيَّةٌ) وهي هنا منَ الدَّلالاتِ اللَّفظيَّةِ، وهي المُرادةُ، (وَهَذِهِ) الدَّلالةُ الوضعيَّةُ (كَوْنُ اللَّفْظِ إِذَا أُطْلِقَ فُهِمَ) مِن إطلاقِه (مَا وُضِعَ لَهُ) أي: فُهِمَ المعنى الَّذِي هو له بالوضعِ، سواءٌ كانَ بوضعِ اللُّغةِ، أو الشَّرعِ، أو العُرفِ لذلك اللَّفظِ، فهي غيرُ الوضعيَّةِ الَّتي هي مِن قَسيم

(1)

اللَّفظيَّةِ.

(وَهِيَ) أي: دَلالةُ اللَّفظِ الوَضعيَّةُ ثلاثةُ أقسامٍ:

(1)

فـ (عَلَى مُسَمَّاهُ) أي: مُسَمَّى ذلك اللَّفظِ (مُطَابَقَةٌ) أي: دَلالةُ مُطابَقةٍ، كدَلالةِ الإنسانِ على الحيوانِ النَّاطقِ، وإنَّما سُمِّيَتْ بذلك لأنَّ اللَّفظَ موافِقٌ لتمامِ ما وُضِعَ له مِن قولِهم: طابَقَ النَّعلُ النَّعلَ إذا تَوَافَقَتَا، فاللَّفظُ موافِقٌ للمعنى لكونِه مَوضوعًا بإزائِه.

(وَ) الثَّاني: دَلالة اللَّفظِ الوضعيَّةِ على (جُزْئِهِ) أي: جزءِ مُسَمَّاه، فهي (تَضَمُّنٌ) كدَلالةِ البيتِ على الجِدارِ، سُمِّيَ بذلك لتَضَمُّنِه إيَّاه؛ لأنَّه يَدُلُّ على الجزءِ الَّذِي في ضِمْنِه.

(وَ) الثَّالثُ: غيرُ لفظيَّةٍ، وهي دَلالةُ اللَّفظِ على (لَازِمِهِ الخَارِجِ) كدَلالةِ البيتِ على الباني، فهي (التِزَامٌ)؛ لأنَّها دَلَّتْ على ما هو خارجٌ عنِ المُسَمَّى، لكونِه لازمًا له كما مَثَّلْنا؛ لأنَّ اللَّفظَ لا يَدُلُّ على كلِّ أمرٍ خارجٍ عنه، بل على الأمرِ الخارجِ اللَّازمِ له

(2)

.

(1)

في (د): قسيمي.

(2)

ليست في (ع).

ص: 96

(وَهِيَ) أي: دَلالةُ اللَّفظِ (عَلَيْهِ) أي: على لازمِ مُسَمَّى اللَّفظِ الخارجِ عنه، (عَقْلِيَّةٌ) وَقِيلَ: لفظيَّةٌ أيضًا، حَكاه الأكثرُ.

(وَالمُطَابَقَةُ) أي: دَلالتُها (أَعَمُّ) مِن دَلالةِ التَّضمُّنِ والالتزامِ على الصَّحيحِ، لجوازِ كونِ المُطابقةِ بسيطةً لا تَضَمُّنَ فيها وَلَا لازمَ لها

(1)

ذهنيٌّ، (وَ) قد (يُوجَدُ مَعَهَا) أي: مَعَ دَلالةِ المُطابقةِ:

- (تَضَمُّنٌ) أي: دَلالةُ تَضمُّنٍ (بِلَا) دَلالةِ (التِزَامٍ) بأنْ يَكُونَ اللَّفظُ موضوعًا لمعنًى مُركَّبٍ وَلَا يَكُونَ له لازمٌ خارجيٌّ.

- (وَعَكْسُهُ) وهو وجودُ التزامٍ مَعَ المُطابقةِ وَلَا يُوجَدُ تَضمُّنٌ، بأنْ يَكُونَ اللَّفظُ موضوعًا لمعنًى بسيطٍ وله لازمٌ خارجيٌّ.

(وَالتَّضَمُّنُ) أي: دَلالتُه (أَخَصُّ) مِن دَلالةِ المُطابَقةِ والالتزامِ، وهما أعمُّ مِن التَّضمُّنِ، لجوازِ كَونِ المدلولِ واللَّازمِ بسيطًا لا جُزءَ له.

(وَالدَّلَالَةُ) تَنقسِمُ إلى قسمينِ:

أحدُهما: دَلالةُ اللَّفظِ المُتقدِّمِ ذِكْرُها.

الثَّاني: الدَّلالةُ (بِاللَّفْظِ) وهي (اسْتِعْمَالُهُ) أي: استعمالُ اللَّفظِ (فِي الحَقِيقَةِ وَالمَجَازِ) والباءُ في قولِه: «باللَّفظِ» للاستعانةِ والسَّببيَّةِ؛ لأنَّ الإنسانَ يَدُلُّنا على ما في نَفْسِه بإطلاقِ لفظِه، فإطلاقُ اللَّفظِ آلةٌ

(2)

للدَّلالةِ؛ كالقَلمِ للكتابةِ.

(1)

زاد في (ع): خارجي.

(2)

ليست في (د).

ص: 97

و‌

‌الفرقُ بينَ دَلالةِ اللَّفظ والدَّلالةِ باللَّفظِ

مِن وجوهٍ:

أحدُها: مِن المَحَلِّ: فمَحَلُّ الأُولى القلبُ، والثَّانيةِ: اللِّسانُ وغيرُه مِن المَخارجِ.

الثَّاني: مِن جهةِ الموصوفِ، فالأُولى: صفةُ السَّامعِ، والثَّانيةُ: صفةُ المُتكلِّمِ.

الثَّالثُ: مِن جهةِ السَّببِ، فالأُولى مُسَبَّبٌ عنها، والثَّانيةُ: سببٌ.

الرَّابعُ: مِن جهةِ الوجودِ، فكُلَّما وُجِدَتِ الأوُلى وُجِدَتِ الثَّانيةُ بلا عكسٍ.

الخامسُ: مِن جهةِ الأنواعِ، فالأُولى ثلاثةُ أنواعٍ: مطابَقةٌ، وتَضَمُّنٌ، والتزامٌ، والثَّانيةُ: نوعانِ: حقيقةٌ، ومجازٌ.

قالَ القَرَافِيُّ: والفرقُ واقعٌ بينَهما مِن خمسةَ عَشَرَ وجهًا، وذَكَرَها

(1)

.

(وَالمُلَازَمَةُ) الكائنةُ بينَ مدلولِ اللَّفظِ ولازمِه الخارجِ

(2)

أنواعٌ:

(1)

(عَقْلِيَّةٌ): كالزَّوجيَّةِ للاثنينِ.

(2)

(وَشَرْعِيَّةٌ): كالوُجوبِ للمُكَلَّفِ.

(3)

(وَعَادِيَّةٌ): كالسَّريرِ للارتفاعِ.

(وَ) قد (تَكُونُ) المُلازمةُ:

- (قَطْعِيَّةً) كالزَّوجيَّةِ للاثنينِ أيضًا،

- (وَضَعِيفَةً جدًّا) ككَونِ عادةِ زيدٍ إذا أَتَى يَحجُبُه عمرٌو،

- (وَكُلِّيَّةً) كالزَّوجيَّةِ الملازمةِ لكلِّ عددٍ له نصفٌ صحيحٌ،

- (وَجُزْئِيَّةً) كمُلازمةِ المُؤثِّرِ للأثرِ حالَ حدوثِه.

ص: 98

(فَصْلٌ)

الاسمُ المُفرَدُ ومدلولُه يَتَّحِدُ كلٌّ مِنهما ويَتَعَدَّدُ، فـ (إِذَا اتَّحَدَ اللَّفْظُ وَمَعْنَاهُ) أي: مدلولُ اللَّفظِ (وَاشْتَرَكَ فِي مَفْهُومِهِ) أي: مَفهومِ لَفظِه (كَثِيرٌ) يُحمَلُ اللَّفظُ عليهم إيجابًا لا سلبًا؛ لأنَّ الجُزئيَّ يَشتَركُ بينَ كثيرين بسلْبِه عنها، فالمُعتبَرُ الإيجابُ.

(وَلَوْ) كانَ الاشتِراكُ (بِالقُوَّةِ) دونَ الحقيقةِ (فَـ) هو (كُلِّيٌّ) وله تقسيماتٌ سِتَّةٌ: لأنَّه إمَّا أن يُوجَدَ منه

(1)

في الخارجِ، أو لا يُوجَدُ، فإنْ وُجِدَ: فإمَّا أن يُوجَدَ منه واحدٌ فقطْ أو كثيرٌ، وما وُجِدَ منه واحدٌ إمَّا أنْ يَكونَ غيرُه مُمتنِعًا وجودُه، أو جائزًا، وما وُجِدَ منه كثيرٌ، فإمَّا أن يَكُونَ مُتناهيًا أو غيرَ مُتناهٍ، والَّذي لم يُوجَدْ منه شيءٌ إمَّا أن يُمكِنَ وجودُه، أو يَستحيلَ.

مثالُ ما وُجِدَ منه واحدٌ وامتنعَ غيرُه: «إلهٌ» ؛ فإنَّ اللهَ لا إلهَ غيرُه، ولا يُمكِنُ وجودُ إلهٍ غيرِه، ومَعنى دخولِ «إلهٍ» في الكُلِّيِّ أنَّه لا يَمتنعُ تَصوُّرُ مَعناه مِن الشَّركةِ في مَعناه باعتبارِ التَّصوُّرِ في الذِّهنِ، لا باعتبارِ المُمكنِ في الخارجِ، فلهذا ضَلَّ مَن ضَلَّ بالاشتِراكِ.

ومثالُ ما وُجِدَ فيه واحدٌ، ولا يُمنَعُ وجودُ غيرِه:«الشَّمسُ» .

ومثالُ ما وُجِدَ فيه كثيرٌ في الخارجِ وهو مُتناهٍ: إنسانٌ.

وغيرُ المُتناهي: مُتَعَذِّرٌ على قولِ أهلِ السُّنَّةِ؛ إذ لا يُوجَدُ في العالَمِ شيءٌ مِن الموجوداتِ إلَّا وهو مُتناهٍ.

ومثالُ ما لا يُوجَدُ منه شيءٌ أصلًا، ويُمكِنُ وجودُه: بحرٌ مِن زِئبَقٍ،

(1)

في (د): معه.

ص: 99

ومثالُ ما يَستحيلُ: شريكُ الباري تبارك وتعالى، ولا يَخفى ما في التَّمثيلِ به وبما قَبْلَه مِن إساءةِ الأدبِ، وهذا مِن اصطلاحاتِ المناطقةِ.

(وَهُوَ) أي: الكُلِّيُّ قسمانِ:

(1)

(ذَاتِيٌّ): وهو الَّذِي لم يَخرُجْ عن حقيقةِ الشَّيءِ، مثلُ: الحيوانِ بالنِّسبةِ إلى الإنسانِ.

(وَ) الثَّاني: (عَرَضِيٌّ) وهو الَّذِي يَخرُجُ عن حقيقةِ الشَّيءِ، مثلُ: الضَّاحكِ.

(فَإِنْ تَفَاوَتَتْ) أفرادُ الكُلِّيِّ في مَدلولِه [بأَوْلَوِيَّةٍ وعَدَمِها]

(1)

أو شِدَّةٍ أو

(2)

ضعفٍ، أو تَقدُّمٍ أو

(3)

تأخُّرٍ، كالوجودِ

(4)

للخالقِ والمخلوقِ، فإنَّه يَتَفَاوَتُ فيهما بالاعتباراتِ الثَّلاثِ، فإنَّه في الخالقِ أشدُّ وأقدمُ.

(فَمُشَكِّكٌ) فأفرادُ الكُلِّيِّ تَتَفَاوَتُ باعتبارِ الوجوبِ والإمكانِ، كالوجودِ

(5)

للقديمِ والحادثِ كما مَثَّلْنا، وباعتبارِ الاستغناءِ والافتقارِ، كالوجودِ الممكِنِ للجوهرِ المُستغني عن مَحَلٍّ، والعَرَضِ المُفتقِرِ إلى مَحَلٍّ يَقُومُ به، وباعتبارِ الشِّدَّةِ والضَّعفِ، كبياضِ الثَّلجِ، وبياضِ العاجِ، وسُمِّيَ مُشَكِّكًا لشَكِّ النَّاظرِ في مَعناه هل هو مِن المُتواطئِ لوجودِ الكُلِّيِّ في أفرادِه، أو المُشتَركِ لتغايُرِ أفرادِه، فهو اسمُ فاعلٍ مِن شَكَّكَ المُضاعَفِ مِن «شَكَّ» إذا تَرَدَّدَ.

(وَإِلَّا) بأنْ لم تَتَفَاوَتِ الأفرادُ بشيءٍ مِمَّا تَقَدَّمَ (فَـ) اللَّفظُ (مُتَوَاطِئٌ) سُمِّيَ بذلك مِن التَّواطُؤِ وهو التَّوافُقُ؛ لأنَّه الَّذِي تَتَسَاوَى أفرادُه باعتبارِ

(1)

في (ع): بأولية أو عدمها.

(2)

في (ع): و.

(3)

في (ع): و.

(4)

في (ع): كالموجود.

(5)

في (ع): كالموجود.

ص: 100

ذلك الكُلِّيِّ الَّذِي تَشَارَكَتْ فيه، كالإنسانِ بالنِّسبةِ إلى أفرادِه، فإنَّ الكُلِّيَّ فيها وهو الحيوانيَّةُ والنَّاطقيَّةُ لا تَتَفَاوَتُ

(1)

فيها بزيادةٍ وَلَا نقصٍ.

قالَ ابنُ مُفْلِحٍ: فإطلاقُ لفظِ «المبدأِ» على النُّقطةِ أوَّلَ خَطٍّ، وعلى «آنٍ» أوَّلَ زمانٍ؛ مُتواطئٌ، وَقِيلَ: مشتركٌ، والمرادُ إنْ أُضيفتْ إلى الخطِّ، وكذا لفظُ الخَمْرِ على التَّمْرِ

(2)

والعِنبِ والدَّواءِ؛ لعمومِ النِّسبةِ إلى الخمرِ: متواطئٌ، وباختلافِ النِّسَبِ: مُشتَركٌ، ولفظُ «أسودَ» لقارٍ وزنجيٍّ: متواطئٌ، ولرجلٍ مُسَمًّى بأسودَ وقارٍ: مشتَركٌ

(3)

. انتهى.

تنبيهٌ: المتواطئُ أعمُّ مِمَّا تساوَتْ أفرادُه، أو تَفَاوَتَتْ، إلَّا أنَّه إذا كانَ فيه تفاوتٌ فهو مُشَكِّكٌ.

(وَإِنِ) اتَّحَدَ اللَّفظُ ومَعناه و (لَمْ يَشْتَرِكْ) في مَفهومِه كثيرٌ، مثلُ: زيدٍ، وعمرٍو، وهذا الإنسانُ، و (كَمُضْمَرٍ) في الأصحِّ؛ (فَجُزْئِيٌّ) والجُزئيُّ يُقالُ على المُنْدَرِجِ تحتَ الكُلِّيِّ.

(وَيُسَمَّى النَّوعُ) المُنْدَرِجُ تَحْتَ الجِنْسِ مثلُ الإنسانِ: (جُزْئِيًّا إِضَافِيًّا)؛ لأنَّه مُندرجٌ تحتَ كُلِّيٍّ وهو الحيوانُ، فكلُّ جنسٍ عالٍ، أو وسطٍ

(4)

أو سافلٍ كُلِّيٌّ لِما تَحتَه جُزئيٌّ لِما فوقَه، لكنْ لا بدَّ في الجُزئيِّ مِن ملاحظةِ قيدِ الشَّخصِ والتَّعيينِ في التَّصوُّرِ، وإلَّا لصَدَقَ أنَّه لم يَمنَعْ تَصوُّرُه مِن وقوعِ الشَّركةِ فيه؛ إذْ لا بدَّ مِن اشتراكٍ ولو في أخصِّ صفاتِ النَّفْسِ.

(1)

في (ع): تفاوت.

(2)

في «أصولُ الفقهِ» لابنِ مُفلحٍ (1/ 59): اللَّون. وعَلَّقَ المُحَقِّقُ في الهامشِ فقَالَ: في هامش (ب): اللَّوْنُ هو: ضربٌ مِن التَّمرِ، وهو الدَّقْلُ مِن النَّخْلِ.

(3)

«أصولُ الفقهِ» (1/ 59).

(4)

في (ع): أوسط.

ص: 101

(وَمُتَعَدِّدُ اللَّفْظِ فَقَطْ) يَعني إذا تَعَدَّدَ اللَّفظُ واتَّحَدَ مَعناه، كالأسدِ واللَّيثِ المُسَمَّى به الحيوانُ المُفتَرِسُ، فهو (مُتَرَادِفٌ) لتَرادُفِ اللَّفظينِ بتوارُدِهما على مَحَلٍّ واحِدٍ.

(وَالمَعْنَى فَقَطْ) يَعني إذا تَعَدَّدَ المعنى واتَّحَدَ اللَّفظُ فهو (مُشْتَرَكٌ) لكنْ (إِنْ كَانَ) اللَّفظُ وُضِعَ (حَقِيقَةً لِلْمُتَعَدِّدِ) سواءٌ تَبايَنَتِ المُسَمَّياتُ كالعَينِ، أو

(1)

كالشَّفَقِ وكالجَوْنِ للسَّوادِ والبياضِ، أو لا كأسودَ على أسودَ، عَلَمًا وصِفةً، فمَدلولُه عَلَمًا: الذَّاتُ، ومُشْتَقًّا: الذَّاتُ مَعَ الصِّفةِ، فمَدلولُه عَلَمًا: جزءٌ، ومَدلولُه مُشْتَقًّا: صفةٌ لمدلولِه عَلَمًا.

(وَإِلَّا) يَكُنِ اللَّفظُ وُضِعَ حقيقةً للمُتعدِّدِ، بل كانَ موضوعًا لأحدِهما، ثمَّ نُقِلَ إلى الثَّاني لمناسبةٍ، (فَـ) هو (حَقِيقَةٌ) بالنِّسبةِ إلى الموضوعِ له (وَمَجَازٌ) بالنِّسبةِ إلى المنقولِ إليه، كـ الأسدِ فإنَّه بالنِّسبةِ إلى الحيوانِ المُفتَرسِ: حقيقةٌ، وبالنِّسبةِ إلى الرَّجُلِ الشُّجاعِ: مَجازٌ.

(وَهُمَا) يَعني إذا تَعَدَّدَ اللَّفظُ والمعنى، فأسماءٌ (مُتَبَايِنَةٌ) لتَبايُنِها لِكَونِ كلِّ واحدٍ منها مُبايِنًا للآخَرِ في مَعناه، سواءٌ (تَفَاصَلَتْ) أي: لَيْسَ لأحدِها

(2)

ارتباطٌ بالآخَرِ، كإنسانٍ، وفرسٍ، وضَرَبَ زيدٌ عَمرًا، (أَوْ تَوَاصَلَتْ) بأنْ كانَ بعضُ المعاني صفةً للبعضِ الآخَرِ، كالسَّيفِ، والصَّارمِ، فإنَّ السَّيفَ اسمٌ للحديدةِ المعروفةِ ولو مع كَوْنِها كالَّةً، والصَّارمُ اسمٌ للقاطعةِ، وكالنَّاطقِ والبليغِ.

(وَ) الأقسامُ (كُلُّهَا مُشْتَقٌّ) إنْ دَلَّ على صفةٍ مُعيَّنةٍ، كضاربٍ (وَغَيْرُهُ) أي: غيرُ مُشتقٍّ إن لم يَكُنْ كذلك، كالجسمِ.

(1)

في (ع): و.

(2)

في (ع): لأحدِهما.

ص: 102

(وَ) أيضًا كلُّ واحدٍ منها (صِفَةٌ): إنْ دَلَّ على مَعنًى قائمٍ بذاتٍ

(1)

، كالضَّحِكِ، والعلمِ، والكتابةِ (وَغَيْرُهَا) أي: غيرُ صفةٍ، كالجسمِ والإنسانِ والرَّجُلِ.

(وَيَكُونُ اللَّفْظُ الوَاحِدُ مُتَوَاطِئًا مُشْتَرَكًا) باعتبارينِ، كإطلاقِ لفظِ الخمرِ على التَّمْرِ والعنبِ المُتقدِّمِ في كلامِ ابنِ مُفْلِحٍ

(2)

.

(وَ) يَكُونُ (اللَّفْظَانِ مُتَبَايِنَيْنِ مُتَرَادِفَيْنِ بِاعْتِبَارَيْنِ) كلفظيْ: مُهَنَّدٍ، وصارمٍ، فأمَّا مهندٌ -نسبةٌ إلى الهندِ- وصارمٌ: فمُتَرادفانِ على الذَّاتِ كالسَّيفِ، ومُتباينانِ صفةً، وناطقٌ وفصيحٌ مُترادفانِ على مَوصُوفَيْهِما مِن لسانٍ أو إنسانٍ، مُتباينانِ لاختلافِهما معنًى.

(وَ) اللَّفظُ (المُشْتَرَكُ) فيه (وَاقِعٌ لُغَةً) على الصَّحيحِ في الأسماءِ: كالقُرءِ للحيضِ والطُّهْرِ، وفي الأفعالِ: كـ «عسى» للتَّرَجِّي والإشفاقِ، وفي الحروفِ: كالباءِ للتَّبعيضِ

(3)

وبيانِ الجنسِ وغيرِ ذلك، وإذا كانَ واقعًا في اللُّغةِ لَزِمَ وقوعُه (جَوَازًا) واستُدِلَّ للجوازِ: بأنَّه لا يَمتنِعُ وضعُ لفظٍ واحدٍ لمعنيينِ مُختلفينِ على البدلِ مِن واضعٍ أو أكثرَ، ويَشتهرُ

(4)

الوضعُ، ولا فرقَ بينَ كَونِ مَفهومَيْه.

(تَبَايَنَا) أي: لم يَصْدُقُ أحدُهما على الآخَرِ، فإن لم يَصِحَّ اجتماعُهما كالقُرءِ الموضوعِ للحيضِ والطُّهرِ، فهُما مُتَضادَّانِ، وإنْ صَحَّ اجتماعُهما -ولم يَظْفَرِ الإسْنَوِيُّ لهما بمثالٍ- فهما مُتخالِفانِ.

(1)

في (ع): بالذَّاتِ.

(2)

«أصولُ الفقهِ» (1/ 59).

(3)

في (ع): لتبعيض.

(4)

في (ع): ويشهر.

ص: 103

(أَوْ) بَيْنَ كَوْنِ مَفهومَيهِ (تَوَاصَلَا) بصدقِ أَحَدِهما على الآخَرِ (بِكَوْنِهِ جُزْءَ) المفهومِ (الآخَرِ) كلفظِ المُمكِنِ، فإنَّه موضوعٌ للمُمكنِ بالإمكانِ العامِّ، وبالمُمكنِ بالإمكانِ الخاصِّ، (أَو) بكَونِه (لَازِمَهُ) أي: لازمَ المفهومِ الآخرِ، كالشَّمْسِ فهو تمثيلٌ للمُشتَركِ ولازمِه، فإنَّها تُطلَقُ على الكوكبِ المُضيءِ نهارًا، تَقولُ: طَلَعَتِ الشَّمسُ، وعلى ضوئِه تَقولُ: جَلَسْنا في الشَّمسِ، مَعَ أنَّ الضَّوءَ لازمٌ له.

(وَكَذَا) أي: وكالمُشتَركِ (مُتَرَادِفٌ وُقَوعًا) أي: واقعٌ لغةً على الصَّحيحِ في الأسماءِ: كصَلْهَبٍ وسَلْهَبٍ للطَّويلِ، وفي الأفعالِ: كجَلَسَ وقَعَدَ، وفي الحروفِ: كـ إلى وحتَّى؛ لانتهاءِ الغايةِ.

(وَلَا تَرَادُفَ فِي:

(1)

حَدٍّ غَيْرِ لَفْظِيٍّ وَمَحْدُودٍ) على الصَّحيحِ، كـ: الإنسانُ حيوانٌ ناطقٌ، ويُشْبِهُ المترادفَ وَلَيْسَ منه؛ لأنَّ التَّرادُفَ مِن عوارضِ المفرداتِ؛ لأنَّها الموضوعةُ، والحدُّ مُرَكَّبٌ.

وأمَّا الحدُّ اللَّفظيُّ فمرادفٌ بلا نزاعٍ، وتَقَدَّمَ في أقسامِ الحدِّ.

(2)

(وَلَا) ترادُفَ أيضًا في التَّابعِ الَّذِي على زِنَةِ مَتْبُوعِه، (نَحوُ شَذَرَ مَذَرَ) لأنَّ التَّابعَ وَحدَه لا يُفيدُ شيئًا غيرَ التَّقويةِ، ولو كانَ مُترادفًا وأُفرِدَ التَّابعُ لأفادَ، وهو لا يُفيدُ مَعَ الإفرادِ.

(3)

(وَ) لا ترادُفَ أيضًا في (تَأْكِيدٍ) لعدمِ استقلالِه، كما قُلْنا في الَّذِي قَبْلَه.

(وَأَفَادَ التَّابِعُ) اللَّفظيُّ (التَّقْوِيَةَ) لأنَّه لم يُوضَعْ عَبَثًا.

ص: 104

(وَهُوَ) أي: التَّابعُ اللَّفظيُّ (عَلَى زِنَةِ مَتْبُوعِهِ) وهذا معروفٌ بالاستقراءِ، حَتَّى لو وُجِدَ ما لَيْسَ على زِنَتِه لم يُحكَمْ بأنَّه مِن هذا البابِ.

قالَ ابنُ مُفْلِحٍ: وقد لا يُفيدُ معنًى

(1)

.

(وَ) اللَّفظُ (المُؤَكِّدُ) بكسرِ الكافِ (يُقَوِّي) مَتبوعَه؛ لأنَّ التَّوكيدَ هو التَّقويةُ باللَّفظِ، وأمَّا اللَّفظُ فهو المُؤَكِّدُ، (وَ) يَزيدُ على ذلك بكونِه (يَنْفِي احْتِمَالَ المَجَازِ) فإنَّ قولَك: قامَ القومُ، أو جاءَ زيدٌ، احتمَلَ أنَّ بَعضَهم قامَ، أو

(2)

أكثرَهم، أو جاءَ خبَرُ زيدٍ، أو كتابُه، فإذا قُلْتَ: قامَ القومُ كلُّهم، أو جاءَ زيدٌ نَفْسُه: انْتَفَى ذلك الاحتمالُ.

(وَيَقُومُ كُلُّ مُتَرَادِفٍ) مِن مترادفينِ (مَقَامَ الآخَرِ فِي التَّرْكِيبِ) لأنَّ مَعنى كلِّ واحدٍ مِن الرَّديفينِ مَعنى الآخَرِ، والمقصودُ مِن التَّركيبِ المعنى دونَ اللَّفظِ، فإذا صَحَّ المعنى مع أحدِ اللَّفظينِ: وَجَبَ أنْ يَصِحَّ مَعَ الآخَرِ؛ لاتِّحادِ مَعناهما.

(فَائِدَةٌ)

وهي في الأصلِ الزِّيادةُ تَحصُلُ للإنسانِ.

(العَلَمُ) بفتحِ اللَّامِ والعينِ، وقولُه:(اسْمٌ) جِنْسٌ مُخرِجٌ لِما سِواه مِن الأفعالِ والحروفِ، وقولُه:(يُعَيِّنُ مُسَمَّاهُ) فَصْلٌ مُخْرِجٌ للنَّكِراتِ، وقولُه:(مُطْلَقًا) مُخْرِجٌ لِما سِوى العَلَمِ مِن المعارفِ، فإنَّه لا يُعَيِّنُه إلَّا بقرينةٍ لفظيَّةٍ كـ «الـ» أو معنويَّةٍ كالحضورِ والغَيبةِ في «أنتَ» و «هو» ونحوِ ذلك.

(1)

«أصولُ الفقهِ» (1/ 68).

(2)

ليست في (ع).

ص: 105

والعَلَمُ قسمانِ:

(1)

(فَإِنْ كَانَ التَّعْيِينُ) فيه (خَارِجِيًّا) أي: موضوعًا للحقيقةِ بقيدِ التَّشَخُّصِ

(1)

الخارجيِّ (فَعَلَمُ شَخْصٍ) كزيدٍ.

(2)

(وَإِلَّا) أي: والثَّاني: إن لمْ يَكُنِ التَّعيينُ خارجيًّا، بأنْ وُضِعَ للماهيَّةِ بقيدِ التَّشَخُّصِ

(2)

الذِّهنيِّ (فَـ) عَلَمُ (جِنْسٍ) كـ أسامةَ عَلَمٌ على الأسدٍ.

والفرقُ بينَهما أنَّ التَّعيينَ في الشَّخصِ خارجيٌّ، وفي الجنسِ ذهنيٌّ.

وعَلَمُ الجنسِ يُساوي عَلَمَ الشَّخصِ في أحكامِه اللَّفظيَّةِ؛ فإنَّه:

- لا يُضافُ،

- ولا يَدخُلُ عليه حرفُ التَّعريفِ،

- ولا يُنعَتُ بنكرةٍ،

- ولا يَقبُحُ مَجيئُه مبتدأً،

- ولا انتصابُ النَّكرةِ بعدَه على الحالِ،

- ولا يُصرَفُ منه ما فيه سببٌ زائدٌ على العَلَمِيَّةِ، كأسامةَ،

ويُفارِقُه مِن جهةِ المعنى لعُمومِه؛ إذ لَيْسَ بعضُ الأشخاصِ أَوْلى به من بعضٍ، ألا ترى أنَّ أُسامةَ صالحٌ لكلِّ أسدٍ بخلافِ العَلَمِ الشَّخصيِّ.

(وَ) الاسمُ (المَوْضُوعُ لِلْمَاهِيَّةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ) أي: مِن غيرِ قيدِ تَشَخُّصِها في الذِّهنِ، ولا عدمِ تَشَخُّصِها فهو (اسْمُ جِنْسٍ) كأسدٍ.

(1)

في (ع): الشَّخص.

(2)

في (ع): الشَّخص.

ص: 106

والفرقُ بينَ عَلَمِ الجِنْسِ كأسامةَ، واسمِ الجنسِ كأسدٍ: قَالَ المُرادِيُّ في «شَرحِ ألفيَّتِه» : وأقولُ: تفرقةُ الواضعِ بينَ «أسامةَ» و «أسدٍ» في الأحكامِ اللَّفظيَّةِ تُؤْذِنُ بفرقٍ مِن جهةِ المعنى، وممَّا قِيلَ في ذلك: إنَّ «أسدًا»

(1)

وُضِعَ ليَدُلَّ على شخصٍ مُعَيَّنٍ، وذلك الشَّخصُ لا يَمتنِعُ أن يُوجَدَ منه أمثالُه، فوُضِعَ على الشِّياعِ في جُملتِها، ووُضِعَ «أسامةُ» لا بالنَّظرِ إلى شخصٍ بل على مَعنى الأسديَّةِ المعقولةِ، الَّتي لا يُمكِنُ أن تُوجَدَ خارجَ الذِّهنِ، بل هي موجودةٌ في النَّفْسِ، وَلَا يُمكِنُ أن يُوجَدَ منها اثنانِ أصلًا في الذِّهنِ، ثمَّ صارَ «أسامةُ» يَقَعُ على الأشخاصِ، [لوجودِ ماهيَّةِ المعنى المفردِ الكُلِّيِّ في الأشخاصِ]

(2)

.

والتَّحقيقُ في ذلك أن نَقُولَ: اسمُ الجنسِ هو الموضوعُ للحقيقةِ الذِّهنيَّةِ من حَيْثُ هي هي، فاسمُ أسدٍ موضوعٌ للحقيقةِ [مِن غيرِ اعتبارِ قيدٍ معها أصلًا، وعَلمُ الجِنسِ كـ أسامة موضوع للحقيقة]

(3)

باعتبارِ حضورِها الذِّهنيِّ الَّذِي هو نوعُ تشخيصٍ لها مع قطعِ النَّظرِ عن أفرادِها، ونظيرُه المُعَرَّفُ باللَّامِ الَّتي للحقيقةِ والماهيَّةِ

(4)

.

(1)

في (ع): أسدًا.

(2)

ليس في (ع). ومثبت من (د)، و «توضيح المقاصد والمسالك بشرح ألفية ابن مالك» .

(3)

ما بين المعكوفين ليس في (ع)، و (د). ومثبت من «توضيح المقاصد والمسالك بشرح ألفية ابن مالك» .

(4)

«توضيح المقاصد والمسالك بشرح ألفية ابن مالك» للمرادي (1/ 401 - 402).

ص: 107

(فَصْلٌ)

(الحَقِيقَةُ) فَعِيلَةٌ مِن الحَقِّ، بمَعنى فاعلٍ كعليمٍ، فالتَّاءُ للتَّأنيثِ؛ أي: الثَّابتةُ، أو بمَعنى مفعولٍ، كجريحٍ، فالتَّاءُ لنقلِ اللَّفظ مِنَ الوصفيَّةِ إلى الاسميَّةِ؛ أي: المُثبَتةِ، ثمَّ نُقِلَتْ إلى الاعتقادِ المُطابقِ لكَوْنِه ثابتًا، أو مُثْبِتًا، ثمَّ منه إلى القولِ المطابِقِ، ثمَّ منه إلى المرادِ هنا، وهي ثلاثةُ أنواعٍ:

(1)

(لُغَوِيَّةٌ وَهِيَ) الأصلُ؛ أي: والحقيقةُ اللُّغويَّةُ: (قَوْلٌ مُسْتَعْمَلٌ) خرجَ اللَّفظُ قَبْلَ الاستعمالِ، فإنَّه لا حقيقةٌ وَلَا مجازٌ؛ إذِ المجازُ يُعتبَرُ له الاستعمالُ أيضًا.

وقولُه: (فِي وَضْعٍ أَوَّلَ) خَرَجَ المجازُ، فإنَّه بوضعٍ ثانٍ، ودَخَلَ فيه أسماءُ الأجناسِ وأَعلامُها (كَأَسَدٍ) وكأُسامةَ.

(وَ) النَّوعُ الثَّاني: حقيقةٌ (عُرْفِيَّةٌ) وحَدُّها: (مَا) أي: قولٌ (خُصَّ عُرْفًا بِبَعْضِ مُسَمَّيَاتِهِ) يَعني أنَّ أهلَ العُرفِ خَصُّوا أشياءَ كثيرةً ببعضِ مُسَمَّيَاتِها، وإنْ كانَ وَضْعُها للجميعِ حقيقةً.

والحقيقةُ العُرفيَّةُ قِسمانِ:

(1)

(عَامَّةٌ) وهي ما انتقلَتْ مِن مُسَمَّاها اللُّغويِّ إلى غيرِه، للاستعمالِ العامِّ، بحَيثُ هُجِرَ الأوَّلُ، وذلك:

- إمَّا بتخصيصِ الاسمِ ببعضِ مُسَمَّياتِه، (كدابَّةٍ) بالنِّسبةِ لذاتِ

(1)

الحافرِ، فإنَّ الدَّابَّةَ وُضِعَتْ في أصلِ اللُّغةِ لكلِّ ما يَدِبُّ على وجهِ الأرضِ، وخُصِّصَ في العُرْفِ (لِلْفَرَسِ) والبغلِ، والحمارِ.

(1)

في (ع): إلى ذات.

ص: 108

- وإمَّا باشتهارِ المَجازِ، كإِضافتِهم الحُرمَةَ إلى الخَمْرِ، وإنَّما المُحَرَّمُ الشُّرْبُ، وكذلك ما يَشِيعُ استعمالُه في غيرِ مَوضُوعِه

(1)

اللُّغويِّ، كالغائطِ، والعَذِرَةِ، والرَّاويةِ، وحَقيقتُها

(2)

: المُطْمَئِنُّ مِن الأرضِ، وفناءِ الدَّارِ، والجَمَلِ الَّذِي يُسْتَقَى عليه الماءُ.

(2)

(أَو) أي: والقسمُ الثَّاني: حقيقةٌ (خَاصَّةٌ): وهي ما لكُلِّ

(3)

طائفةٍ مِن العلماءِ مِنَ الاصطلاحاتِ الَّتي تَخُصُّهم، كاصطلاحِ النُّحاةِ والأُصوليِّينَ وغيرِهم على أسماءٍ خَصُّوها بشيءٍ مِن مُصطلحاتِهم (كَـ مُبْتَدَأٍ) وخبَرٍ، وفاعلٍ، وكـ نقضٍ، وكسرٍ، وقلْبٍ، وغيرِ ذلك مِمَّا اصطلحَ عليه أربابُ كلِّ فنٍّ.

(وَ) النَّوعُ الثَّالث: حقيقةٌ (شَرْعِيَّةٌ وَاقِعَةٌ مَنْقُولَةٌ) يَعني أنَّ اللَّفظ إذا وُضِعَ لمعنًى ثمَّ نُقِلَ في الشَّرعِ إلى مَعنًى ثانٍ لمُناسبةٍ بينَهما، وغَلَبَ استعمالُه في المعنى الثَّاني يُسَمَّى مَنقولًا شرعيًّا.

والحقيقةُ الشَّرعيَّةُ: (مَا اسْتَعْمَلَهُ الشَّرْعُ

(4)

كَصَلَاةٍ: لِلْأَقْوَالِ، وَالأَفْعَالِ، وَ) اسْتِعْمَال (إِيمَانٍ لِعَقْدٍ بِالجَنَانِ) أي: اعتقادٍ بالقلبِ (وَنُطْقٍ بِاللِّسَانِ، وَعَمَلٍ بِالأَرْكَانِ؛ فَدَخَلَ

(5)

كُلُّ الطَّاعَاتِ).

قالَ ابنُ رجبٍ: «وأَنْكَرَ السَّلَفُ على مَن أَخْرَجَ الأعمالَ عنِ الإيمانِ إنكارًا شديدًا»

(6)

.

(1)

في (ع): موضعه.

(2)

في (ع): وحقيقتهما.

(3)

في (ع): خصته كل.

(4)

في (د): الشارع.

(5)

في (د): فيدخل.

(6)

«جامعُ العلومِ والحِكَمِ» (1/ 107).

ص: 109

(وَهُمَا لُغَةً: الدُّعَاءُ وَ‌

‌التَّصْدِيقُ)

يَعني أنَّ الصَّلَاةَ في اللُّغةِ: الدُّعاءُ، والإيمانَ في اللُّغةِ: التَّصْدِيقُ (بِمَا غَابَ) قَوْلًا كانَ، أو فِعلًا، قَالَ اللهُ تَعالى:{وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ}

(1)

.

فائدةٌ: مَذهَبُ السَّلفِ قَاطِبَةً: أنَّ الإيمانَ يَزيدُ ويَنْقُصُ، قَالَ النَّوويُّ:«والأظهرُ المُختارُ: أنَّ الإيمانَ يَزيدُ ويَنْقُصُ بكثرةِ النَّظَرِ ووضوحِ الأَدِلَّةِ، ولهذا كانَ إيمانُ الصِّدِّيقينَ أَقْوَى مِن إيمانِ غيرِهم، بحَيثُ لا يَعتَريه شُبهةٌ»

(2)

.

ويُؤَيِّدُه أنَّ كلَّ أحدٍ يَعلَمُ أنَّ ما في قَلْبِه يَتَفَاضَلُ، حَتَّى إنَّه يَكُونُ في بعضِ الأحيانِ أعظمَ يَقينًا وإخلاصًا وتَوَكُّلًا منه في بَعضِها، وكذلك في التَّصديقِ والمعرفةِ، بحَسَبِ ظُهورِ البَراهينِ وكَثْرَتِها.

(وَيَجُوزُ الِاسْتِثْنَاءُ فِيهِ) نصًّا، بأنْ يَقولَ:«أنا مُؤمنٌ إنْ شاءَ اللهُ» ؛ للتَّبَرُّكِ بذِكْرِ اللهِ تَعالى، والتَّأدُّبِ بإحالةِ الأمورِ إلى مشيئةِ اللهِ تَعالى، والتَّبَرُّءِ مِن تزكيةِ النَّفْسِ والإعجابِ بحالِها، والتَّرَدُّدِ في العاقبةِ والمآلِ.

وأيضًا التَّصديقُ: الإيمانُ المَنُوطُ به النَّجاةُ، أمْرٌ قلبيٌّ خَفيٌّ، له مُعارِضاتٌ خَفِيَّةٌ كثيرةٌ مِن الهَوَى، والشَّيطانِ، والخِذلان، فالمرءُ وإنْ كانَ جازمًا بحصولِه، لكنْ لا يُؤْمَنُ أنْ يَشُوبَه شيءٌ مِن مُنافِيَاتِ النَّجاةِ، وَلَا سِيَّمَا عندَ تفاصيلِ الأوامرِ والنَّواهي الصَّعبةِ المُخالفةِ للهَوَى، والمُسْتَلَذَّاتِ مِن غيرِ عِلْمٍ له بذلك، فلذلك نُفَوِّضُ حُصولَه إلى مشيئةِ اللهِ تَعالى.

ص: 110

وأيضًا: الإيمانُ ثابتٌ في الحالِ قطعًا مِن غيرِ شَكٍّ، لكنَّ الإيمانَ الَّذِي هو عَلَمُ الفوزِ وآيَةُ النَّجاةِ إيمانُ المُوافاةِ، فاعتنى السَّلَفُ به وقرنوه بالمشيئةِ ولم يَقْصدوا الشَّكَّ في الإيمانِ النَّاجزِ.

وأمَّا الإسلامُ، فلا يَجوزُ الاستثناءُ فيه بل يُجْزَمُ

(1)

به.

تنبيهٌ: الإيمانُ: هل هو مرادفٌ للإسلامِ، أو مباينٌ له، أو بينَهما عمومٌ وخصوصٌ مِن وجهٍ؟

فيه خلافٌ مشهورٌ، والصَّحيحُ -الَّذي عليه أكثرُ السَّلَفِ وغيرُهم- أنَّ بينَهما فرقًا، وليسَا بمُتَّحِدَيْنِ، ومِنَ الدَّليل على أنَّ الإسلامَ غيرُ الإيمانِ: سؤالُ جبْريلَ

(2)

عليه السلام للنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عنِ الإيمانِ والإسلامِ والإحسانِ، وتفسيرُ كلِّ واحدٍ بغيرِ ما فُسِّرَ به الآخَرُ، وقد قَالَ: النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ»

(3)

هذا إذا جَمَعْنا بينَهما.

وأمَّا إذا أُفْرِدَ الإيمانُ فإنَّه يَتَضَمَّنُ الإسلامَ، وإذا أُفْرِدَ الإسلامُ فيَكونُ مع الإسلامِ مُؤْمِنًا بلا نزاعٍ، وهل يَكونُ مُسْلِمًا، وَلَا يُقالُ له: مُؤمنٌ؟

قالَ في: «نهاية المُبتدئينَ»

(4)

: كلُّ مُؤمِنٍ مُسلِمٌ، وَلَيْسَ كلُّ مُسلمٍ مُؤمِنًا.

قالَ الإمامُ أحمدُ رحمه الله: الإيمانُ غيرُ الإسلامِ.

(1)

في (د): يحرم.

(2)

في الحديثِ المشهورِ الَّذي رواه مسلمٌ (8)، وفيه:«وقال: يَا مُحَمَّدُ! أَخْبِرنِي عَنِ الإِسْلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «الإِسْلَامُ .. » . قال: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الإِيمَانِ .. الحَدِيثَ.

(3)

رواه البخاريُّ (1120)، ومسلمٌ (769) من حديثِ ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما.

(4)

«نهايةُ المُبتدئينَ» لابنِ حمدانَ (مخطوطُ، المتحفِ البريطانِيِّ، ق 14 ب).

ص: 111

وقالَ ابنُ حامدٍ: عِندي أيضًا الإسلامُ شَرْطُه القولُ

(1)

والعملُ والنِّيَّةُ، وَلَا يَكُونُ بالقولِ دونَ العملِ مُسْلِمًا، فيَكونُ كلُّ مسلمٍ مُؤمنًا عندَه، وأقلُّ العملِ كَوْنُه مُصَلِّيًا». انتهى منِ «شرحِ الأصلِ»

(2)

.

(وَقَدْ تَصِيرُ الحَقِيقَةُ) اللُّغويَّةُ كالدَّابَّةِ لمُطلَقِ ما دَبَّ (مَجَازًا) عُرْفًا، وهي في الأصلِ حقيقةٌ (وَبِالعَكْسِ) يَعني: وقد يَصيرُ المَجازُ كالدَّابَّةِ لذواتِ الأربعِ حقيقةً عُرفيَّةً، وهي مجازٌ لُغَوِيٌّ.

(1)

في (ع): شرط للقولِ.

(2)

«التحبير شرح التحرير» (2/ 534).

ص: 112

(فَصْلٌ

(1)

(وَالمَجَازُ) لَفْظُه حقيقةٌ عُرْفًا، مجازٌ لُغَةً، كالحقيقةِ، ويَأتي آخِرَ الفصلِ؛ لأنَّه مَفْعَلٌ للمَصْدَرِ أو للمكانِ مِن الجوازِ، وهو العُبورُ، ثمَّ نُقِلَ إلى المرادِ هنا، فهو مَجازٌ في الدَّرجةِ الأُولى؛ لأنَّ العُبورَ: انتقالُ الجِسمِ، ومَفْعَلٌ هنا بمَعنى فاعلٍ؛ لأنَّ اللَّفظ يَنتقلُ فيَكونُ مجازًا.

وقولُه في حَدِّه: (قَوْلٌ) جنسٌ قريبٌ، وقولُه:(مُسْتَعْمَلٌ) احتِرازٌ مِن المُهْمَلِ، ومِن اللَّفظ قبْلَ الاستعمالِ؛ فإنَّه لا حقيقةٌ وَلَا مجازٌ.

واحتُرزَ بقولِه: (بِوَضْعٍ ثَانٍ) مِن الحقيقةِ، فإنَّها بوضعٍ أوَّلَ.

وخَرَجَ بقولِه: (لِعَلَاقَةٍ) الأعلامُ المنقولةُ، كبَكْرٍ ونَحوِه، فليسَ بمجازٍ، وإن كانَ منقولًا؛ لكَوْنِه لم يُنْقَلْ لعَلاقةِ مُشابَهَةٍ حاصلةٍ بينَ المعنى الأوَّلِ والمعنى الثَّاني، بحَيثُ يَنتقِلُ الذِّهنُ بواسِطتِها عن مَحَلِّ المجازِ إلى الحقيقةِ.

(وَلَا يُعْتَبَرُ لُزُومٌ ذِهْنِيٌّ بَيْنَ المَعْنَيَيْنِ) أي: بينَ المَعنى الحقيقيِّ والمَجازيِّ؛ لأنَّ أكثرَ المجازاتِ المعتبَرةِ عارِيَةٌ عن اللُّزومِ الذِّهنيِّ.

(وَ) إِنَّمَا (صِيرَ إِلَيْهِ) أي: عُدِلَ عنِ الحقيقةِ إلى المجازِ لفوائدَ كثيرةٍ حَسَنةٍ:

- منها (لِبَلَاغَتِهِ) لصلاحِيَتِه للسَّجْعِ والتَّجْنِيسِ، وسائرِ أنواعِ البديعِ،

- (أَوْ ثِقَلِهَا) أي: ثِقَلِ لفظِ الحقيقةِ على اللِّسانِ كالخَنْفَقِيقِ -بفتحِ الخاءِ المُعجَمةِ وسكونِ النُّونِ، وفتحِ الفاءِ، وكسرِ القافِ، وسكونِ الياءِ المُثَنَّاةِ تحتُ، وآخِرُه قافٌ- اسمٌ للدَّاهِيَةِ يُعدَلُ عنه إلى النَّائبةِ، أو الحادثةِ.

(1)

قوله: فصل. زيادة من «مختصر التَّحريرِ» (ص 44).

ص: 113

- (وَنَحْوِهِمَا) كبَشاعةِ اللَّفظِ، كالتَّعبيرِ بالغائطِ عنِ الخارجِ، وجَهْلِ المُتكلِّمِ أو المخاطَبِ لَفْظَ الحقيقةِ، وكَوْنِ المجازِ أَشْهَرَ مِن الحقيقةِ، وأنْ يَكُونَ مَعلومًا عندَ المُتخاطِبَينِ، ويَقصِدانِ إخفاءَه عن غيرِهما.

- ومنها عِظَمُ مَعناه، كقولِه:«سَلَامُ اللهِ عَلَى المَجْلِسِ العَالِي» فهو أرفعُ في المعنى مِن قولِه: «سَلَامٌ عَلَيْكَ» ،

- ومنها كونُه أَدْخَلَ في التَّحقيرِ،

- ومنها ألَّا

(1)

يَكُونَ للمعنى الَّذِي عُبِّرَ عنه بالمَجازِ

(2)

لفظٌ حقيقيٌّ.

(وَيُتَجَوَّزُ) أي:‌

‌ يُصارُ إلى المَجازِ في خمسةٍ وعشرينَ نَوْعًا

مِن أنواعِ العَلاقةِ، بناءً على الاستقراءِ:

الأوَّلُ: ما أشارَ إليه بقولِه: (بِسَبَبٍ) أي: إطلاقِ السَّببِ عنِ المُسبَّبِ، وهو أربعةُ أقسامٍ:

- أحدُها: (قَابِلِيٌّ) كتسميةِ الشَّيْء باسمِ قَابِلِه، كقولِهم: سالَ الوادي، والأصلُ: سالَ الماءُ في الوادي، لكنْ لَمَّا كانَ الوادي سببًا قابلًا لسَيَلانِ الماءِ فيه؛ صارَ الماءُ -مِن حَيْثُ القابليَّةُ- كالمُسبَّبِ له، فوُضِعَ لفظُ الوادي له.

(1)

في (د)، (ع): أن. والمثبت الموافق لما في: «تشنيف المسامع» للزَّركشي (1/ 453)، و «الإبهاج في شرح المنهاج» للسبكي (1/ 317)، و «الفوائد السنية» للبِرماوي (2/ 371)، و «التحبير شرح التحرير» (1/ 437).

(2)

في (د)، (ع): المجاز. ينظر: الهامش السابق

ص: 114

-[(وَ) القِسمُ الثَّاني: (صُورِيٌّ) كقولِهم: هذه صورةُ الأمرِ والحالِ؛ أي: حقيقته]

(1)

.

- (وَ) الثَّالث: (فَاعِلِيٌّ) كقَوْلِهِم: نزلَ السَّحابُ؛ أي: المطرُ، لكنَّ فاعليَّتَه باعتبارِ العادةِ كما تَقولُ

(2)

: أَحْرَقَتِ النَّارُ.

- (وَ) الرَّابعُ: (غَائِيٌّ؛ عَنْ مُسَبَّبٍ) كتَسميتِهم العَصيرَ خمرًا؛ لأنَّه غايتُه.

(وَ) النَّوعُ الثَّاني: إطلاقُ ما (بِعِلَّةٍ) أي: عنْ معلولٍ -كما يَأتي في المتنِ- كقَوْلِهم: «رَأَيْتُ اللهَ في كلِّ شيءٍ» ؛ لأنَّه سبحانَه مُوجِدُ كلِّ شيءٍ وعِلَّتُه، فأُطْلِقَ لفظُه عليه، ومعناه: رَأَيْتُ كُلَّ شيءٍ، فاسْتَدْلَلْتُ به على اللهِ تَعالى.

(وَ) الثَّالثُ: إطلاقُ (لَازِمٍ) عن ملزومٍ

(3)

، كتسميةِ السَّقْفِ جِدَارًا.

(وَ) الرَّابعُ: إطلاقُ (أَثَرٍ) عن مُؤَثِّرٍ، كتسميةِ مَلَكِ المَوْتِ مَوْتًا.

(وَ) الخامسُ: إطلاقُ (مَحَلٍّ) عن حَالٍّ، كتسميةِ العصيرِ كأسًا.

(وَ) السَّادسُ: إطلاقُ (كُلٍّ) عنْ بَعضٍ، كقولِه تَعالى:{يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ}

(4)

أي: أنامِلَهم.

(وَ) السَّابعُ: إطلاقُ (مُتَعلِّقٍ) بكسرِ اللَّامِ، عن مُتَعَلَّقٍ بفتحها، والمرادُ التَّعلُّقُ الحاصلُ بينَ: المصدرِ، واسمِ الفاعلِ، واسمِ المفعولِ، فشَمِلَ سِتَّةَ أقسامٍ:

- أحدُها: إطلاقُ المصدرِ على اسمِ المفعولِ، كقولِه تَعالى:{هَذَا خَلْقُ اللَّهِ}

(5)

أي: مخلوقُه.

(1)

ليست في (د).

(2)

ليست في (د).

(3)

في (د): ملزم.

(4)

البقرة: 19.

(5)

لقمان: 11.

ص: 115

الثَّاني: إطلاقُ اسمِ المفعولِ على المصدرِ، عكسُ الأوَّلِ؛ كقولِه تَعالى:{بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ}

(1)

أي: الفتنةُ.

- الثَّالثُ: إطلاقُ المصدرِ على اسمِ الفاعلِ، كقولِهم: رجلٌ عَدْلٌ؛ أي: عادلٌ.

- الرَّابعُ: إطلاقُ اسمِ الفاعلِ على المصدرِ، عَكْسُ الثَّالثِ؛ كقولِهم

(2)

: قُمْ قائمًا؛ أي: قِيامًا.

- الخامسُ: إطلاقُ اسمِ الفاعلِ على المفعولِ، كقولِه تَعالى:{مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ}

(3)

أي: مَدفوقٍ.

- السَّادسُ: إطلاقُ اسمِ المفعولِ على الفاعلِ، عَكْسُ الخامسِ؛ كقولِه تَعالى:{حِجَابًا مَسْتُورًا}

(4)

أي: ساترًا.

إذا عَلِمْتَ ذلك ففي العبارةِ

(5)

: لَفٌّ ونَشْرٌ مُرَتَّبٌ، وتقديرُه: ويُتَجَوَّزُ بعِلَّةٍ (عَنْ مَعْلُولٍ، وَ) لازمٍ عن (مَلْزُومٍ، وَ) أثرٍ عن (مُؤَثِّرٍ، وَ) مَحَلٍّ عن (حَالٍّ، وَ) كلٍّ عن (بَعْضٍ، وَ) مُتَعَلِّقٍ عن (مُتَعَلَّقٍ).

(وَ) النَّوعُ الثَّامنُ: (بِمَا) أي: إطلاقِ ما (بِالقُوَّةِ عَلَى مَا

(6)

بِالفِعْلِ) كتسميَةِ الخمرِ في الدَّنِّ مُسْكِرًا؛ لأنَّ فيه قوَّةَ الإسكارِ.

(وَ) قولُه: (بِالعَكْسِ فِي الكُلِّ) يَدخُلُ فيه النَّوعُ التَّاسعُ: وهو إطلاقُ المُسَبَّبِ على السَّبَبِ، كإطلاقِ الموتِ على المرضِ الشَّديدِ.

(1)

القلم: 6.

(2)

في (د): كقولك.

(3)

الطَّارق: 6.

(4)

الإسراء: 45.

(5)

وهي قوله: «ويتجوز بسبب قابلي

إلى قوله: وكل متعلق.

(6)

قولُه: على ما. في «مختصر التَّحريرِ» (ص 45): عما.

ص: 116

والنَّوعُ العاشرُ: وهو إطلاقُ المعلولِ على العِلَّةِ، كقولِه تَعالى:{إِذَا قَضَى أَمْرًا}

(1)

أي: إذا أرادَ أنْ يَقضِيَ أمرًا، فالقضاءُ معلولُ الإرادةِ.

والحاديَ عَشَرَ: وهو إطلاقُ المَلزومِ على اللَّازمِ، كتسميةِ العِلْمِ حياةً، ومنه:{أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ}

(2)

أي: بُرهانًا، فهو يَدُلُّهم، سُمِّيَتِ الدَّلالةُ كلامًا لأنَّها مِن لَوازِمِه.

والثَّانيَ عَشَرَ: وهو إطلاقُ المُؤثِّرِ على الأثرِ، كقولِهم في الأُمورِ المُهِمَّةِ: هذه إرادةُ اللهِ؛ أي: مرادُه النَّاشئُ عن إرادتِه.

والثَّالثَ عَشَرَ: وهو إطلاقُ الحالِّ على المَحلِّ، ومنه:{وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}

(3)

أي: في الجنَّةِ؛ لأنَّها مَحَلُّ الرَّحمةِ.

والرَّابِعَ عَشَرَ: وهو إطلاقُ البعضِ على الكُلِّ، كقولِه تَعالى:{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ}

(4)

والعتقُ إِنَّمَا هو للكلِّ لا للرَّقبةِ.

والخامِسَ عَشَرَ: وهو إطلاقُ المُتَعلَّقِ، بفتحِ اللَّامِ، على المُتعلِّقِ، بكسرِها؛ كقولِه عليه السلام:«تَحَيَّضِي فِي عِلْمِ اللهِ سِتًّا، أَوْ سَبْعًا»

(5)

فإنَّ التَّقديرَ: تَحَيَّضِي سِتًّا أو سَبْعًا، وهو معلومُ اللهِ.

والسَّادسَ عَشَرَ: إطلاقُ ما بالفِعلِ على ما بالقُوَّةِ، كتسميةِ الإنسانِ الحقيقيِّ نُطْفَةً. انتهى ما دَخَلَ تحتَ قولِه:«وَبِالعَكْسِ فِي الكُلِّ» .

(1)

مريم: 35.

(2)

الرُّوم: 35.

(3)

آل عمران: 107.

(4)

النِّساء: 92.

(5)

رواه أبو داودَ (287)، والتِّرمذيُّ (128) وقال: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ، وسَأَلْتُ مُحَمَّدًا عن هذا الحديثِ، فقَالَ: هو حديثٌ حَسَنٌ. وهكذا قال أحمدُ ابنُ حَنبلٍ: هو حديثٌ حَسَنٌ صحيحٌ.

ص: 117

(وَ) النَّوعُ السَّابعَ عَشَرَ: يُصارُ إلى المجازِ (بِاعْتِبَارِ وَصْفٍ زَائِلٍ) كإطلاقِ العبدِ على العتيقِ، إذا (لَمْ يَلْتَبِسِ) الوصفُ الزَّائلُ (حَالَ الإِطْلَاقِ بِضِدِّهِ) فلا يُقالُ لمَنْ أَسْلَمَ: كافرٌ، باعتبارِ ما كانَ.

قال البِرْمَاوِيُّ: وكأَنَّهم يُريدونَ بذلك ألَّا يَطْرَأَ وَصْفٌ وجوديٌّ محسوسٌ قائمٌ به، وإلَّا فما الفرقُ بينَ ذلك وبينَ تسميةِ العَتيقِ عبدًا باعتبارِ ما كانَ؟ وبالجملةِ فلا يَخلو مِن نظرٍ

(1)

.

(أَو) أي: والثَّامِنَ عَشَرَ: يَجوزُ باعتبارِ وصفٍ (آيِلٍ) أي: يَؤُولُ بنَفْسِه؛ ليُخْرِجَ أنَّ العبدَ لا يُطلَقُ عليه حُرٌّ باعتبارِ ما يَؤُولُ إليه.

وقولُه: (قَطْعًا، أَوْ ظَنًّا) إشارةٌ إلى اعتبارِ كَوْنِ المآلِ: مَقطوعًا بوجودِه، نحوُ:{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ}

(2)

، أو: غالبًا، كتسميةِ العَصيرِ خمرًا، فإنَّ الغالبَ إذا بَقِيَ أن يَنْقَلِبَ خمرًا، لا إنْ كانَ نادرًا أو مُحتملًا على السَّواءِ.

وقولُه: (بِفِعْلٍ، أَوْ قُوَّةٍ) كإطلاقِ الخمرِ على العِنبِ، باعتبارِ أَيْلُولَتِهِ لعصرِ العصَّارِ، وكإطلاقِ المُسْكِرِ على الخمرِ باعتبارِ أَيْلُولَةِ الخمْرِ إلى الإسكارِ.

(وَ) التَّاسِعَ عَشَرَ: باعتبارِ (زِيَادَةٍ) في الكلامِ، كقولِه تَعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}

(3)

فـ «الكافُ» زائدةٌ؛ أي: لَيْسَ مِثْلَه شيءٌ.

وَقِيلَ: الزَّائدُ «مِثْل» ؛ أي: «ليسَ كَهُوَ شيءٌ» ، وإنَّما حُكِمَ بزيادةِ أَحَدِهما؛ لِئلَّا يَلْزَمَ أن يَكونَ للهِ تَعالى مِثْلٌ، وهو مُنَزَّهٌ عن ذلك؛ لأنَّ نفيَ مِثْلِ المِثْلِ يَقتضي ثُبُوتَ مِثْلٍ، وهو مُحالٌ، أو يَلْزَمُ نَفْيَ الذَّاتِ؛ لأنَّ مِثْلَ مِثْلِ الشَّيْءِ هو

(1)

«الفوائد السَّنِيَّة في شَرحِ الألفيَّةِ» (2/ 383 - 384).

(2)

الزُّمر: 30.

(3)

الشُّورى: 11.

ص: 118

ذلك الشَّيءُ، وثُبوتُه واجبٌ، فتَعَيَّنَ ألَّا يُرادَ نفيٌ، وذلك إمَّا بزيادةِ «الكافِ» ، أو «مِثْل» .

(وَ) العشرونَ: باعتبارِ (نَقْصٍ) بأنْ تُنْقِصَ لَفْظًا مِن المُركَّبِ، ويَكُونَ كالموجودِ للافتقارِ إليه، كقولِه تَعالى:{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ}

(1)

أي: عبادَ اللهِ وأهلَ دِينِه.

(وَ) الحادي والعشرونَ: باعتبارِ عَلاقةِ مُشابَهَةٍ بِـ (شَكْلٍ) كالأسدِ على ما هو بشَكْلِه مِن مُجَسَّدٍ، أو مَنقوشٍ، وربَّما وُجِدَتِ العَلاقَتانِ، كقولِه تَعالى:{فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ}

(2)

.

(وَ) الثَّاني والعشرونَ: باعتبارِ عَلاقةِ مشابهةٍ في مَعنًى، كالأسدِ للشُّجاعِ، بشرطِ أنْ يكونَ (صِفَةً ظَاهِرَةً) لا خَفِيَّةً؛ ليَخرجَ إطلاقُ الأسدِ على الأَبْخَرِ؛ لأنَّ البَخَرَ فيه خَفِيٌّ.

(وَ) الثَّالثُ والعشرونَ: إطلاقُ تسميةِ البدلِ بِـ (اسْمِ) المُبْدَلِ، كتَسميةِ الدِّيَةِ دَمًا، كقولِه عليه السلام: «أَتَحْلِفُونَ

(3)

وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ»

(4)

أنَّه مِن مَجازِ الحَذْفِ؛ أي: بَدَلَ دَمِه.

(وَ) الرَّابعُ والعشرونَ: باعتبارِ اسمٍ مُقَيَّدٍ على مُطْلَقِ، كقولِ الشَّاعرِ

(5)

:

إِذَا مِتُّ كَانَ النَّاسُ نِصْفَانِ: شَامِتٌ

وَآخَرُ مُثْنٍ بِالَّذِي كُنْتُ أَفْعَلُ

(1)

المائدة: 33.

(2)

طه: 88.

(3)

في (ع): تحلفون.

(4)

رواه البخاريُّ (3173)، ومسلمٌ (1669) مِن حديثِ سهلِ بنِ أبي حَثْمَةَ قال: انْطَلَقَ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَهْلٍ، وَمُحَيِّصَةُ بْنُ مَسْعُودِ بْنِ زَيْدٍ، إِلَى خَيْبَرَ وَهِيَ يَوْمَئِذٍ صُلْحٌ .. الحديثَ.

(5)

مِن الطَّويلِ، للعُجَيْرِ بنِ عبدِ اللهِ السَّلوليِّ، شاعرٌ إسلاميٌّ مُقِلٌّ، والبيتُ من شواهدِ سِيبَوَيْه في الكتابِ (1/ 71)، ورُوِيَ البيتُ «نِصفانِ» مكانَ «صنفانِ» . ورُوِيَ كذلك بنصبِ «نِصْفَيْنِ» أو «صِنْفَيْنِ» كما في أغاني الأصفهانيِّ، وعليه فلا شاهدَ.

ص: 119

المُرادُ: مُطلَقُ البعضِ، لا خصوصُ النِّصْفِ، بدليلِ الرِّوايةِ الأُخرى:«كَانَ النَّاسُ صِنْفَانِ» بتقديمِ الصَّادِ.

و باعتبارِ

(1)

(ضِدٍّ) بأنْ يُطلَقَ اسمُ الضِّدِّ على ضِدِّه، كإطلاقِ البصيرِ على الأعمى.

(وَ) الخامسُ والعشرونَ: (مُجَاوَرَةٍ) وعَلاقةُ المُجاوَرَةِ: تسميةُ الشَّيْء باسمِ مُجاوِرِه، كإطلاقِ لفظِ الرَّاويةِ على ظَرْفِ الماءِ، وإنَّما هي في الأصلِ للبعيرِ.

(وَنَحْوِهِ) أي: نحوِ ما ذُكِرَ مِن العَلاقةِ؛ كإطلاقِ المُنَكَّرِ وإرادةِ المُعرَّفِ، كقولِه تَعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً}

(2)

إنْ كانَ المُرادُ بها مُعَيَّنَةً، وقد يُقالُ: المُعرَّفُ جُزئيٌّ للمُنَكَّرِ

(3)

، وإطلاقُ الكُلِّيِّ على الجُزْئِيِّ حقيقةٌ لا مجازٌ.

وعَكْسُه، وهو إطلاقُ المُعرَّفِ وإرادةُ المُنكَّرِ؛ كقولِه تَعالى:{ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا}

(4)

إنْ قُلْنا: المأمورُ دُخُولُ أيِّ بابٍ كانَ، وقد يُقالُ: إذا كانَتِ «اللَّامُ» فيه للجنسِ؛ كانَ المرادُ ذلك، وكَوْنُ اللَّامِ للجِنسِ حقيقةً.

فائدةٌ: قالَ ابنُ مُفْلِحٍ: العَلاقةُ المُشابهةُ: إمَّا في الشَّكلِ: كإنسانٍ للصُّورةِ المنقوشةِ، أو صفةٍ ظاهرةٍ: كأسدٍ للشُّجاعِ، لا خفيَّةٍ كالبَخَرِ، أو لِمَا كانَ: كعبدٍ على عتيقٍ، أو لِما يَكونُ: كخمرٍ على عصيرٍ، أو للمجاورةِ: كجَرْيِ النَّهرِ والمِيزابِ

(5)

.

(1)

في (د): أو باعتبار.

(2)

البقرة: 67.

(3)

في (ع): من المنكر.

(4)

النِّساء: 154.

(5)

«أصولُ الفقهِ» لابنُ مُفْلِحٍ (1/ 73).

ص: 120

قالَ الآمِدِيُّ: كلُّ جهاتِ التَّجوُّزِ

(1)

لا تَخرُجُ عنْ هذا

(2)

.

تنبيهٌ: يَتَفَاوَتُ المجازُ قُوَّةً وضَعفًا، بحَسَبِ تَفاوُتِ رَبْطِ العَلاقةِ بينَ مَحَلِّ المَجازِ والحقيقةِ.

(وَشُرِطَ) لصِحَّةِ استعمالِ المجازِ: (نَقْلٌ) عنِ العَربِ، بأنْ تُسْتَعْمَلَ جِنْسُ

(3)

العَلاقةِ في المجازِ (فِي) كُلِّ (نَوْعٍ) مِن أنواعِ المجازِ المذكورةِ؛ لأنَّ الأسدَ له صفاتٌ، وهي: الشَّجاعةُ، والبَخَرُ، والحِمَى، والجُذَامُ، ومعَ ذلك لا يَجوزُ إطلاقُه لغيرِ الشَّجاعةِ، ولو كانَتِ المُشابهةُ كافيةً مِن غيرِ نَقْلٍ؛ لَمَا امتنَعَ.

و (لَا) يشتَرط في (آحَادِ) المجازِ؛ أي: في كُلِّ واحدةٍ مِن الصُّورِ الَّتي يُوجَدُ فيها أحدُ أنواعِ العَلاقةِ المُعتبَرةِ -النَّقلُ عنْ أهلِ اللُّغةِ، باستعمالِهم فيها على الأصحِّ، بل يَكفي في استعمالِ اللَّفظ في كلِّ صُورةٍ: ظهورُ نوعٍ مِن العَلاقةِ المعتبَرةِ.

(وَهُوَ) أي: المجازُ، يَنقسِمُ بحَسَبِ جهةِ وَضعِه إلى ثلاثةِ أقسامٍ كالحقيقةِ:

(1)

قِسْمٌ (لُغَوِيٌّ: كَأَسَدٍ لِشُجَاعٍ) لعَلاقةِ الوصفِ الَّذِي هو الجُرْأَة، فكأنَّ أهلَ اللُّغةِ -باعتبارِهم النَّقلَ لهذه المناسبةِ- وَضَعوا الاسمَ ثانيًا للمجازِ.

(1)

في (ع): التَّجويز.

(2)

«الإحكامُ في أُصولِ الأحكامِ» (1/ 29).

(3)

كتب بحاشية (د): قولُه: «جنس العلاقة» فُهِمَ منه أنَّه لا يُشتَرَطُ أن تَستعمِلَ العربُ شخصَ العلاقةِ بينَ الحقيقيِّ والمجازيِّ. اهـ.

ص: 121

(2)

(وَ) الثَّاني: (عُرْفِيٌّ) وهو نوعانِ:

- (عَامٌّ؛ كَدَابَّةٍ لِـ) مُطلَقِ (مَا دَبَّ) فهو حقيقةٌ لُغةً، مجازٌ عُرفًا؛ لأنَّ حقيقةَ الدَّابَّةِ في العُرفِ لذاتِ الحافرِ، ولمُطلَقِ ما دَبَّ مجازٌ عندَهم؛ انتقالًا في العُرْفِ مِن ذاتِ الحافرِ للمَعنى المُضَمَّنِ لها مِنَ الدَّبِّ في الأرضِ.

- (وَ) النَّوعُ الثَّاني: (خَاصٌّ: كَـ) إطلاقِ (جَوْهَرٍ لِـ) كُلِّ (نَفِيسٍ) انتقالًا في العُرفِ مِنَ النَّفاسةِ للمَعنى المُضَمَّنِ للشَّيءِ النَّفيسِ، مِن علوِّ القيمةِ الَّتي في الجوهرِ الحقيقيِّ.

(3)

(وَ) القسمُ الثَّالثُ: (شَرْعِيٌّ: كَصَلَاةٍ لِـ) مُطلقِ (دُعَاءٍ) انتقالًا مِن ذاتِ الأركانِ للمَعنى المُضَمَّنِ لها مِن الخضوعِ، والسُّؤالُ بالفعلِ أو القُوَّةِ، فكأنَّ الشَّارعَ -بهذا الاعتبارِ- وَضَعَ الاسمَ ثانيًا لَمَّا كانَ بَينَه وبينَ اللُّغويِّ هذه المناسبةُ، فكلُّ مَعنى حقيقيٍّ في وَضعٍ، هو مجازٌ بالنِّسبةِ إلى وضعٍ آخَرَ.

(ويُعْرَفُ) المَجازُ:

(1)

(بِصِحَّةِ نَفْيِهِ) كقولِك للبَليدِ: «ليسَ بحمارٍ» ، بخلافِ الحقيقةِ، فإنَّها لا تُنفى، فلا يُقالُ للحمارِ:«ليسَ بحمارٍ» .

(2)

(وَ) يُعرَفُ المجازُ أيضًا بـ (تَبَادُرِ غَيْرِهِ) إلى ذهنِ السَّامعِ (لَوْلَا القَرِينَةُ) الحاضرةُ هناك، بخلافِ الحقيقةِ، فإنَّها المتبادرةُ إذا كانَتْ وَاحدَةً.

(3)

(وَ) يُعرَفُ أيضًا بـ (عَدَمِ وُجُوبِ اطِّرَادِهِ) أي: اطِّرادِ عَلاقتِه، بل قد يَطَّرِدُ تارةً، كالأسدِ للشُّجاعِ، وَلَا يَطَّرِدُ تارةً أُخرى، نحوُ:{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ}

(1)

(1)

يوسف: 82.

ص: 122

أي: أَهْلَها، فلا يُقالُ: اسألِ البِساطَ؛ أي: أَهْلَه، بخلافِ الحقيقةِ، فإنَّها واجبةُ الاطِّرادِ.

(4)

(وَ) يُعرَفُ أيضًا بـ (التِزَامِ تَقْيِيدِهِ) كنارِ الحَربِ، فإنَّ النَّار تُستعمَلُ في مَدلولِها الحقيقيِّ مِن غيرِ قيدٍ.

(5)

(وَ) يُعرَفُ أيضًا بـ (تَوَقُّفِهِ عَلَى مُقَابِلِهِ) كفهمِ مُسَمَّى المَكرِ بالنِّسبةِ إلى اللهِ تَعالى، مُتَوَقِّفٌ على فَهْمِه بالنِّسبةِ إلينا، لا على إطلاقِه، سواءٌ كانَ مَلفوظًا به، أو مُقَدَّرًا، كقولِه تَعالى:{وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ}

(1)

فلا يُقالُ: مَكَرَ اللهُ ابتداءً، وكقولِه تَعالى:{قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا}

(2)

، ولم يَتَقَدَّمْ لمَكْرِهم ذِكْرٌ في اللَّفظ، لكنْ تَضَمَّنَه المعنى والعَلاقةُ

(3)

المُصاحِبةُ في الذِّكْرِ.

(6)

(وَ) يُعرَفُ أيضًا بـ (إِضَافَتِهِ إِلَى غَيْرِ قَابِلٍ) نحوُ: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ}

(4)

؛ لأنَّ الاستحالةَ تَقتضي أنَّه غيرُ موضوعٍ له فيَكُونُ مَجازًا، ولهذا عَبَّرَ بعضُهم عنه بالإطلاقِ على المُستحيلِ.

(7)

(وَ) يُعرَفُ أيضًا بـ (كَوْنِهِ لَا يُؤَكَّدُ) لأنَّ التَّوكيدَ يُقَوِّي ويَنفي المجازَ

(5)

.

(وَفِي قَوْلٍ: وَلَا يُشْتَقُّ مِنْهُ) أي: المجازِ (بِلَا مَنْعٍ

(6)

قَالَ الغَزَّالِيُّ في قولِه تَعالى: {وَمَا أَمْرُ فِرْعُوْنَ بِرَشِيدٍ}

(7)

بمَعنى الشَّأنِ مَجازًا، وَلَا يُشتَقُّ منه آمِرٌ، وَلَا مأمورٌ، وَلَا غيرُهما

(8)

.

(1)

آل عمران: 54.

(2)

يونس: 21.

(3)

ليست في (د).

(4)

يوسف: 82.

(5)

كذا العبارة في (ع)، (د).

(6)

في (ع): مانع.

(7)

هود: 97.

(8)

«المستصفى» (ص 186).

ص: 123

وقالَ أكثرُ العلماءِ: يَجوزُ الاشتقاقُ مِنَ المجازِ.

قالَ الكُورَانِيُّ: والدَّليل على الاشتقاقِ مِنَ المجازِ قَولُهم: «نَطَقَتِ الحَالُ بِكَذَا» ؛ أي: دَلَّتْ؛ لأنَّ النُّطقَ مُستعملٌ في الدَّلالةِ أوَّلًا، ثمَّ اشْتُقَّ مِنه اسمُ الفاعلِ على ما هو القاعدةُ في الاستعارةِ والتَّبعيَّةِ في المُشتقَّاتِ

(1)

.

وذَكَرَ بَعضُهم أنَّ المجازَ لا يُجمَعُ، (وَ) أَبْطَلَه الآمِدِيُّ

(2)

بأنَّ لفظَ «الحمارَ» للبَليدِ (يُثَنَّى وَيُجْمَعُ) إجماعًا.

(وَيَكُونُ) المجازُ:

(1)

(فِي مُفْرَدٍ) بلا نزاعٍ عندَ القائلِ بالمجازِ، كإطلاقِ لفظِ البحرِ على الجَوَادِ.

(2)

(وَ) يَكونُ أيضًا فِي (إِسْنَادٍ) على الصَّحيحِ، فيَجري فيه، وإن لم يكنْ في لَفْظَيِ المُسنَدِ والمسنَدِ إليه تَجَوُّزٌ، وذلك بأنْ يُسْنَدَ الشَّيْء إلى غيرِ مَن هو له بضربٍ مِن التَّأويلِ بلا واسطةِ وَضْعٍ، كقولِ الشَّاعرِ

(3)

:

أَشَابَ الصَّغِيرَ وَأَفْنَى الكَبِيـ

ـرَ كَرُّ الغَدَاةِ وَمَرُّ العَشِي

فلفظُ «الإشابةِ» حقيقةٌ في مَدلولِه، وهو تَبْيِيضُ الشَّعرِ، ولفظُ «الزَّمانِ» -الَّذي هو مُرورُ اللَّيلِ والنَّهارِ- حقيقةٌ في مَدلولِه أيضًا

(4)

لكنَّ إسنادَ الإشابةِ إلى الزَّمانِ مَجازٌ في التَّركيبِ؛ أي: في إسنادِ الأفعالِ بعضِها إلى بعضٍ، لا في نفسِ مَدلولاتِ الألفاظِ.

(1)

«الدُّرَرُ اللَّوامِعُ في شَرحِ جمْعِ الجوامعِ» للكورانيِّ (2/ 31).

(2)

«الإحكامُ في أُصُولِ الأحكامِ» (1/ 32).

(3)

مِن المتقاربِ، والبيتُ للصَّلتانِ العبديِّ -أو السَّعديِّ- ينظر:«الحيوان» للجاحظِ (3/ 477).

(4)

زادَ في (ع): مجازٌ في مَدلولِه أيضًا، لكنَّ إسنادَ الإشابةِ إلى الزَّمانِ.

ص: 124

(3)

(وَ) يكونُ المَجازُ (فِيهِمَا) أي: في المفرداتِ والإسنادِ (مَعًا) كقولِهم: أَحْيَانِي اكْتِحَالِي بِطَلْعَتِك؛ إذْ حقيقتُه: سَرَّتْني رُؤيتُك، لكنَّ إطلاقَ لفظِ الإحياءِ على السُّرورِ مجازٌ إفراديٌّ؛ [لأنَّ الحياةَ شرطُ صِحَّةِ السُّرورِ وهو مِن آثارِها، وكذا لفظُ الاكتحالِ على الرُّؤيةِ مجازٌ إفرادي]

(1)

لأنَّ الاكتحالَ جَعْلُ العَينِ مُشتملةً على الكحلِ، كما أنَّ الرُّؤيةَ جَعْلُ العَينِ مُشتملةً على صورةِ المرئيِّ، فلفظُ الإحياءِ والاكتحالِ حقيقةٌ في مَدلولِهما وهو سلوكُ الرُّوحِ في الجسدِ، ووضعُ الكحلِ في العَينِ واستعمالُه -أي: لفظِ الإحياءِ والاكتحالِ- في السُّرورِ والرُّؤيةِ مجازٌ إفراديٌّ، وإسنادُ الإحياءِ إلى الاكتحالِ مجازٌ تركيبيٌّ؛ لأنَّ لفظَ الإحياءِ لم يُوضَعْ ليُسْنَدَ إلى الاكتحالِ، بل إلى اللهِ تَعالى.

(4)

(وَ) يَجري المجازُ في (فِعْلٍ) على الصَّحيحِ:

تارةً بطريقِ التَّبعيَّةِ، كـ «صَلَّى» بمَعنى «دَعَا» تَبَعًا لإطلاقِ الصَّلاةِ مجازًا على الدُّعاءِ.

وتارةً بدونِها، كإطلاقِ الفعلِ الماضي بمَعنى الاستقبالِ، والمضارعِ بمَعنى الماضي، والتَّعبيرِ بالخبَرِ عنِ الأمرِ وعَكْسِه، وبالخبَرِ عنِ النَّهيِ، نحوُ:{أَتَى أَمْرُ اللَّهِ}

(2)

أي: يَأتي، ونحوُ:{فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ}

(3)

أي: فلِمَ قَتَلْتُموهم، ونحوُ:{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ}

(4)

، ونحوُ:{فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا}

(5)

، ونحوُ:{لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ}

(6)

.

(1)

ليس في (د).

(2)

النَّحل: 1.

(3)

البقرة: 91.

(4)

البقرة: 232.

(5)

مريم: 75.

(6)

الواقعة: 79.

ص: 125

(5)

(وَ) يَجري أيضًا في (مُشْتَقٍّ) على الصَّحيحِ، كإطلاقِ اسمِ الفاعلِ، واسمِ المفعولِ، والصِّفةِ المُشَبَّهةِ، ونَحوِها مِمَّا يُشتَقُّ مِن المصدرِ، كإطلاقِ «مُصَلٍّ» في الشَّرعِ على «الدَّاعي» .

(6)

(وَ) يَجري أيضًا في (حَرْفٍ) على الصَّحيحِ، كما في «هل» تَجَوَّزوا بها عنِ الأمرِ، والنَّفيِ

(1)

والتَّقريرِ، كقولِه تَعالى:{فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ}

(2)

أي: فانتهوا، وكقولِه تَعالى:{فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ}

(3)

أي: ما تَرى لهم مِن باقيةٍ، وكقولِه تَعالى:{هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ}

(4)

.

(وَ) حَكَى بَعضُهم أنَّ المجازَ (يُحْتَجُّ بِهِ) إجماعًا

(5)

؛ لأنَّه يُفيدُ مَعنًى مِن طريقِ الوضعِ، كما أنَّ الحقيقةَ تُفيدُ مَعنى مِن طريقِ الوضعِ، ألا تَرى إلى قولِه تَعالى:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}

(6)

فإنَّه يُفيدُ المعنى وإنْ كانَ مَجازًا، وأنَّ مِن المعلومِ أنَّ المرادَ أَعْيُنُ الوجوهِ نَاظرةٌ؛ لأنَّ الوجوهَ لا تَنْظُرُ.

(وَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ) أي: المجازِ؛ لأنَّه نُصَّ على وَضْعِه، فلا يُقالُ: سَلِ البساطَ والسَّريرَ؛ لأنَّه مُستعارٌ مِن حقيقةٍ، فلو قِيسَ عليه كانَ استعارةً مِنه، فيَتَسَلْسَلُ، ولهذا مَنعوا مِن تصغيرِ المُصَغَّرِ.

(وَ) المجازُ (يَسْتَلْزِمُ الحَقِيقَةَ) لأنَّه ما تُجُوِّزَ به عن مَوضوعِه، فاحتَجُّوا بمُجرَّدِ الوَضْعِ، (وَ) الحقيقةُ (لَا تَسْتَلْزِمُهُ) فتُوجَدُ حقيقة

(7)

وَلَا يُوجدُ لها مجازٌ.

(1)

ليست في د.

(2)

المائدة: 91.

(3)

الحاقة: 8.

(4)

الرُّوم: 28.

(5)

ليست في د.

(6)

القيامة: 22 - 23.

(7)

في (ع): الحقيقة.

ص: 126

(وَلَفْظَاهُمَا) أي:‌

‌ لفظا الحقيقةِ والمجازِ

(حَقِيقَتَانِ عُرْفًا) لأنَّ استعمالَهما في ذلك باصطلاحِ أهلِ العُرفِ، لا مِن وَضْعِ اللُّغةِ، وهما (مَجَازَانِ لُغَةً) لأنَّ الحقيقةَ العُرفيَّةَ مَجازٌ لُغةً.

(وَهُمَا) يَعني تقسيمَ اللَّفظ إلى حقيقةٍ ومجازٍ (مِنْ عَوَارِضِ الأَلْفَاظِ) قَالَ الشَّيخُ

(1)

: وهذا التَّقسيمُ اصطلاحٌ حادثٌ بعدَ القرونِ الثَّلاثةِ.

(وَلَيْسَ مِنْهُمَا:

(1)

لَفْظٌ قَبْلَ اسْتِعْمَالٍ) يَعني: إذا وُضِعَ اللَّفظ لمَعنًى ولم يَتَّفِقِ اسْتعمالُه لا فيما وُضِعَ له أولًا

(2)

، ولا في غيرِه؛ لم يَكُنْ حقيقةً وَلَا مجازًا؛ لعدمِ رُكْنِ تَعريفِهما وهو الاستعمالُ؛ لأنَّ الاستعمالَ جزءٌ مِن مفهومِ كُلٍّ مِنهما، وانتفاءُ الجزءِ يُوجِبُ انتفاءَ الكُلِّ، وعندَ أبي الحسينِ البصريِّ

(3)

: لو قَالَ الواضعُ: سَمَّيْتُ هذا «حائطًا» ، أو قَالَ: سَمُّوا هذا «حائطًا» ، لا يَكونُ قولُه في تلك الحالِ حقيقةً وَلَا مجازًا؛ لأنَّه لم يَتَقَدَّمْ ذلك مُوَاضَعَةٌ واصطلاح

(4)

.

قالَ في «التَّمهيدِ» : وهذا خطأٌ؛ لأنَّ الكلامَ، إذا خَلا عنْ حقيقةٍ ومجازٍ: مُهْمَلٌ، وهذا كلامٌ مفهومٌ غيرُ مُهمَلٍ

(5)

.

(1)

«مجموعُ الفتاوى» (7/ 88).

(2)

يعني: الحقيقة.

(3)

«المعتمد في أصول الفقه» (1/ 11).

(4)

في (د)، (ع): واصطلاحًا. وهو في «المعتمد في أصول الفقه» بمعناه. والمثبت من «التحبير شرح التحرير» (1/ 432)، و «أصول الفقه» لابن مفلح (1/ 70) فقد نقلاه بنصه.

(5)

«التَّمهيدُ في أُصولِ الفقهِ» للكَلْوَذاني (7/ 88).

ص: 127

(2)

(وَلَا) مِنَ الحقيقةِ والمجازِ: (عَلَمٌ مُتَجَدِّدٌ) على الأصحِّ، لا بالأصالةِ ولا بالتَّبعيَّةِ؛ لأنَّ الأعلامَ وُضِعَتْ للفَرقِ بينَ ذاتٍ وذاتٍ، ولأنَّ شرطَ المجازِ العَلاقةُ.

وقالَ ابن عَقِيل

(1)

: أسماءُ الأعلامِ حقيقةٌ لا مجازَ فيها، وُضِعَتْ للفَرقِ بينَ الأشخاصِ لا في الصِّفاتِ، وإفادةِ المَعنى في المُسَمَّى، حَتَّى إذا جَرَى على مَن ليسَتْ له تلك الصِّفةُ؛ قيلَ: مجازٌ.

ص: 128

(فَصْلٌ)

(المَجَازُ وَاقِعٌ) في اللُّغةِ على الصَّحيحِ، وكُتُبُ اللُّغةِ مملوءةٌ.

قالَ الآمِدِيُّ

(1)

: لم تَزَلْ أهلُ الأعصارِ تَنقُلُ عن أهلِ الوَضْعِ تَسْمِيَةَ هذا حقيقةً، وهذا مجازًا

(2)

.

(وَلَيْسَ) المجازُ (بِأَغْلَبَ) مِنَ الحقيقةِ في الأصحِّ، بل الحقيقةُ أَوْلَى منه في الجملةِ؛ لأنَّها الأصلُ، ما لم يَتَرَجَّحِ المجازُ على ما يَأتي.

(وَهُوَ) أي: المجازُ (فِي الحَدِيثِ) أي: في قولِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، (وَ) في (القُرْآنِ) العظيمِ على الصَّحيحِ.

قالَ أحمدُ في قولِه تَعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ}

(3)

و {نَعْلَمُ} ، و {مُنْتَقِمُونَ}: هذا مِن

(4)

مجازِ اللُّغةِ، يَقولُ الرَّجلُ: إنَّا سنُجْرِي عليك رِزْقَك

(5)

.

واحتجَّ للقائلينَ بوقوعِه بقولِه تَعالى: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}

(6)

، {الْحَجُّ

(1)

«الإحكامُ في أُصولِ الأحكامِ» (1/ 29).

(2)

قال العلَّامةُ عبدُ الرَّزَّاقِ النُّوبيُّ الشَّنْشُورِيُّ في تعليقِه على كتاب «الإحكام في أُصولِ الأحكامِ» : لم يَثْبُتْ نَقلٌ عمَّن وَضَعوا اللُّغةَ العربيَّةَ، ومَن يُحتَجُّ بكلامِه مِن العربِ أنَّهم قسَّموا اللَّفظَ إلى حقيقةٍ ومجازٍ، وإنَّما هو اصطلاحٌ حادثٌ بَدَأَ في القرنِ الثَّالثِ واشتهرَ في القرنِ الرَّابعِ.

(3)

ق: 43.

(4)

في (ع): في.

(5)

ينظر: «المسودة في أصول الفقه» (ص 164)، و «التحبير ضرح التحرير» (2/ 462)، و «أصول الفقه» لابن مفلح (1/ 103).

(6)

البقرة: 25.

ص: 129

أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ}

(1)

، {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ}

(2)

، وغيرُ ذلك كثيرٌ.

(وَلَيْسَ فِيهِ) أي: القرآنِ لفظٌ (غَيْرُ عَلَمٍ إِلَّا عَرَبِيٌّ) على الصَّحيحِ، اختارَه الأكثرُ.

وذَهَبَ بعضُهم إلى أنَّ فيه ألفاظًا بغيرِ العربيَّةِ.

قالَ أبو عُبَيْدٍ: والصَّوابُ عندي مذهبٌ فيه تصديقُ القولينِ جميعًا؛ وذلك أنَّ هذه أُصولُها أعجميَّةٌ كما قَالَ الفقهاءُ، لكنَّها وَقَعَتْ للعربِ فعُرِّبَتْ بألسَنَتِها وحَوَّلَتْها عن ألفاظِ العَجَمِ إلى ألفاظِها، فصَارَتْ عربيَّةً، ثمَّ نَزَلَ القرآنُ وقد اختَلَطَتْ هذه الحروفُ بكلامِ العربِ، فمن قَالَ: إنَّها عربيَّةٌ فهو صادقٌ.

تنبيهٌ: اتَّفَقَ العلماءُ على أنَّه لَيْسَ في القرآنِ كلامٌ مركبٌ على أساليبِ غيرِ العربيَّةِ، وأنَّ فيه أعلامًا بغيرِ العربيَّةِ، وإنَّما مَحَلُّ الخلافِ في ألفاظٍ مفردةٍ غيرِ أعلامٍ، وهي أسماءُ الأجناسِ: كالياقوتِ، والإبريقِ، والطَّستِ، ونحوِه.

(وَمَجَازٌ رَاجِحٌ) أي: والعملُ به (أَوْلَى) بالعملِ (مِنْ حَقِيقَةٍ مَرْجُوحَةٍ) مماتةٍ لا تُرادُ في العُرْفِ؛ لأنَّ المجازَ إمَّا حقيقةٌ شرعيَّةٌ: كالصَّلاةِ، أو عُرفيَّةٌ: كالدَّابَّةِ، ولا خلافَ في تقديمِها على الحقيقةِ اللُّغويَّةِ،

مثالُه: لو حَلَفَ لا يَأْكُلُ مِن هذه النَّخلةِ، فأَكَلَ مِن ثَمَرِها: حَنِثَ، وإنْ أكلَ مِن خَشَبِها: لم يَحنَثُ، وكذا عندَ الأكثرِ إنْ كانَ المجازُ راجحًا والحقيقةُ تُتَعاهَدُ في بعضِ الأوقاتِ، كما لو حَلَفَ ليَشْرَبَنَّ مِن هذا النَّهرِ، فهو حقيقةٌ

(1)

البقرة: 197.

(2)

الإسراء: 24.

ص: 130

في الكَرْعِ مِنه بفِيه، ولو اغترفَ بكوزٍ وشَرِبَ منه: فهو مجازٌ؛ لأنَّه شَرِبَ مِن الكوزِ لا مِن النَّهرِ، لكنَّه مجازٌ راجحٌ مُتبادِرٌ إلى الفَهمِ، والحقيقةُ قد تُرادُ؛ لأنَّ كثيرًا مِن الرِّعاءِ وغيرِهم يَكْرَعُ بفِيهِ، وأمَّا إنْ كانَ المجازُ مَرجوحًا لا يُفهَمُ إلَّا بقرينةٍ، كالأسدِ للشُّجاعِ: فتُقَدَّمُ الحقيقةُ، وكذا إنْ غَلَبَ استعمالُه حَتَّى ساوى الحقيقةَ على الصَّحيحِ.

(وَلَوْ لَمْ يَنْتَظِمْ) أي: لو لم يَصِحَّ (كَلَامٌ إِلَّا بِارْتِكَابِ مَجَازِ زِيَادَةٍ، أَوْ) بارتكابِ مجازِ (نَقْصٍ؛ فَنَقْصٌ أَوْلَى) مِنِ ارتكابِ مجازِ الزِّيادةِ؛ لأنَّ الحذفَ في كلامِ العربِ أكثرُ مِن الزِّيادةِ، ويَتَفَرَّعُ على ذلك إذا قَالَ لزوجتَيْه: إن حِضْتُما حيضةً فأنتما طالقتانِ؛ إذْ لا شَكَّ في استحالةِ اشتِراكِهما في حيضةٍ، [وتصحيحُ الكلامِ:

إمَّا بدَعوى الزِّيادةِ، وهو قولُه:«حيضةً» ، يَعني إنْ حِضْتُما فأنتما]

(1)

طالقتانِ، فإذا طَعَنَتا في الحيضِ طَلَقَتا، وهذا هو المشهورُ في المذهبِ،

وإمَّا بدَعوى الإضمارِ، وتَقديرُه: إنْ حاضَتْ كلُّ واحدةٍ مِنكما حيضةً، فأنتُما طالقتانِ، ونظيرُه قولُه تَعالى:{فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً}

(2)

أي: اجلِدُوا كلَّ واحدٍ منهم ثمانينَ جلدةً، وهو موافقٌ للقاعدةِ.

(1)

ليس في (ع).

(2)

النُّور: 4.

ص: 131

(فَصْلٌ)

تَنقسمُ الكنايةُ إلى: حقيقةٍ، ومجازٍ،

فـ (الكِنَايَةُ:

(1)

حَقِيقَةٌ) وذلك (إِنِ اسْتُعْمِلَ اللَّفْظُ فِي مَعْنَاهُ) أي: مَعنى ذلك اللَّفظِ الموضوعِ له حقيقةً، (وَ) لكنْ (أُرِيدَ) بإطلاقِه (لَازِمُ المَعْنَى) الموضوعِ له، كقولِهم:«كثيرُ الرَّمادِ» يُكَنُّونَ عن كَرَمِه، فكثرةُ الرَّمادِ مُستعمَلٌ في مَعناه الحقيقيِّ، ولكنْ أُريدَ به لازمُه وهو الكَرَمُ، وإنْ كانَ بواسطةِ لازمٍ آخَرَ؛ لأنَّ لازمَ كثرةِ الرَّمادِ كثرةُ الطَّبخِ

(1)

ولازمَ كثرةِ الطَّبخِ

(2)

كثرةُ الضِّيفانِ، ولازمَ كثرةِ الضِّيفانِ الكرمُ، وكلُّ ذلك عادةٌ، فالدَّلالةُ على المعنى الأصليِّ بالوضعِ، وعلى اللَّازمِ بانتقالِ الذِّهنِ مِن الملزومِ إليه.

(2)

(وَ) الكنايةُ (مَجَازٌ) وذلك (إِنِ) اسْتُعْمِلَ اللَّفظُ في غيرِ مَعناه، و (لَمْ يُرِدِ المَعْنَى) الحقيقيَّ، (وَ) إِنَّمَا (عُبِّرَ بِالمَلْزُومِ عَنِ اللَّازِمِ) بأنْ يُطلِقَ المُتكلِّمُ كثرةَ الرَّمادِ على اللَّازمِ وهو الكَرَمُ مِن غيرِ ملاحظةِ الحقيقةِ أصلًا، والعلاقةُ فيه إطلاقُ الملزومِ على اللَّازمِ، والأصحُّ أنَّ لفظَ الكنايةِ حقيقةٌ مطلقًا.

(وَالتَّعْرِيضُ حَقِيقَةٌ وَهُوَ) أي: التَّعريضُ: (لَفْظٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَاهُ) أي: مَعنى ذلك اللَّفظِ (مَعَ التَّلْوِيحِ بِغَيْرِهِ) أي: بغيرِ ذلك المعنى المستعمَلِ فيه، كقولِ إبراهيمَ عليه السلام:{بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا}

(3)

غَضِبَ أنْ عُبِدَتْ

(1)

في (ع): الطَّبيخ.

(2)

في (ع): الطَّبيخ.

(3)

الأنبياء: 63.

ص: 132

هذه الأصنامُ معَه فكَسَرَها، وإنَّما القصدُ

(1)

: التَّلويحُ بأنَّ اللهَ تَعالى يَغضَبُ لعبادةِ غيرِه ممَّنْ لَيْسَ بإلهٍ مِن طريقِ الأَوْلى مِمَّا ذُكِرَ.

تنبيهٌ: الفرقُ بينَ التَّعريضِ

(2)

وأحدِ قِسمَيِ الكنايةِ: أنَّ المُلازمةَ هناك واضحةٌ بانتقالِ الذِّهنِ إليها سريعًا.

(1)

في (ع): لقصد.

(2)

في (د): التَّلويحِ.

ص: 133

(فَصْلٌ)

قالَ عُلماءُ هذا الشَّأنِ: (الِاشْتِقَاقُ) مِن أشرفِ علومِ العربيَّةِ، وأَدَقِّهَا وأَنْفَعِها، وأكثرِها ردًّا إلى أبوابِها، ألا تَرى أنَّ مدارَ عِلمِ التَّصريفِ في معرفةِ الزَّائدِ مِن الأصليِّ عليه.

مأخوذٌ مِنَ الشَّقِّ وهو القطعُ، وهو افتعالٌ مِن قولِك: اشْتَقَقْتُ كذا مِن كذا؛ أي: اقْتَطَعْتُه منه.

ويَنقسمُ اللَّفظُ إلى: جامدٍ، ومشتقٍّ، على الصَّحيحِ.

والاشتقاقُ ثلاثةُ أنواعٍ: أصغرُ، وأوسطُ، وأكبَرُ.

فالأصغرُ: (رَدُّ لَفْظٍ

(1)

إِلَى آخَرَ) دَخَلَ فيه الاسمُ والفعلُ (لِمُوَافَقَتِهِ لَهُ) أي: لمُوافقةِ

(2)

المَردودِ للمردودِ إليه (فِي الحُرُوفِ الأَصْلِيَّةِ) سواءٌ كانَتِ الأصولُ موجودةً لفظًا، أو تقديرًا، ليَدْخُلَ نَحْوُ:«خَفْ» و «كُلْ» ، مِن الخوفِ والأكلِ، (وَ) لِـ (مُنَاسَبَتِهِ) أي: المُشتقِّ للمُشتقِّ منه (فِي المَعْنَى) احتِرازًا

(3)

عن مثلِ اللَّحمِ، والِملحِ، والحلمِ، فإن كلًّا منها

(4)

يُوافِقُ الآخَرَ في حروفِه الأصليَّةِ، ومعَ ذلك فلا اشتقاقَ بينَها، لانتفاءِ المُناسبةِ في المعنى لقياسِ مدلولاتِها.

والمُرادُ بالتَّناسُبِ -يَعني في المعنى والتَّركيبِ، كما قَيَّدَه بعضُهم-

(1)

في (د): اللفظ.

(2)

في (ع): لموافقته.

(3)

في (د): احتراز.

(4)

في (د): منهما.

ص: 134

المُوافقةُ في الحروفِ الأصليَّةِ، احتِرازًا مِن الزوائدِ، فإنَّ التَّخالُفَ فيها

(1)

لا يَضُرُّ، كـ نَصَرَ، ونَاصَرَ، وخَرَجَ بهذا القَيدِ اللَّفظانِ المُتَرادفانِ أحدُهما وإنْ وافَقَ الآخَرَ في المعنى، لكنَّه لم يُوافِقْه في الحروفِ الأصليَّةِ كالبُرِّ والقمحِ.

و‌

‌أركانُ الاشتقاقِ

أربعةٌ: مُشتَقٌّ، ومُشتَقٌّ منه، وموافقةُ المُشتَقِّ للمُشتَقِّ منه في حُروفِه

(2)

الأصليَّةِ، والرَّابعُ يُؤخَذُ مِن التَّناسُبِ ومِن المُشتقِّ منه، ولهذا قال:

(وَلَا بُدَّ مِنْ تَغْيِيرٍ) فيَكُونُ هو المناسبةَ في المعنى مع التَّغييرِ؛ لأنَّه لو لم يَكُنْ تغييرٌ، (وَلَوْ تَقْدِيرًا) لم يَصْدُقْ كَوْنُ المُشتقِّ غيرَ المُشتقِّ منه.

والتَّغييرُ الظَّاهرُ خَمْسَةَ عَشَرَ نوعًا، وذلك: إمَّا بزيادةِ حرفٍ، أو حركةٍ، أو هما معًا، أو نقصانِ حرفٍ أو حركةٍ، أو هُما معًا، أو زيادةِ حرفٍ ونقصانِه، أو زيادةِ حركةٍ ونقصانِها، أو زيادةِ حرفٍ ونقصانِ حركةٍ، أو زيادةِ حركةٍ ونقصانِ حرفٍ، عَكْسُ الَّذِي قَبْلَه، أو زيادةِ حرفٍ مع زيادةِ حركةٍ ونقصانِها، أو زيادةِ حركةٍ مع زيادةِ حرفٍ ونقصانِه، عكسُ الَّذِي قبلَه، أو نقصانِ حرفٍ مَعَ زيادةِ حركةٍ ونقصانِها، أو نقصانِ حركةٍ مَعَ زيادةِ حرفٍ ونقصانِه، أو زيادةِ حرفٍ ونقصانِه وزيادةِ الحركةِ ونقصانِها؛ لأنَّ التَّغييرَ إمَّا تغييرٌ واحدٌ، أو تغييرانِ، أو ثلاثةٌ، أو أربعةٌ فلا نُطِيلُ بذِكْرِها.

و‌

‌التَّغييرُ المُقَدَّرُ:

كفُلْكٍ

(3)

فإذا أُريدَ فيه الواحدُ يُذَكَّرُ، كقولِه تَعالى: {إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ

(1)

في (د): فيهما.

(2)

في (د): حرفه.

(3)

ليست في (د).

ص: 135

الْمَشْحُونِ}

(1)

وإذا أُريدَ به الجمعُ يُؤَنَّثُ، كقولِه تَعالى:{وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ}

(2)

وطَلَبَ طلبًا ونحوِه، فالتَّغييرُ حاصلٌ، ولكنَّه تقديرًا، فيُقَدَّرُ حذفُ الفتحةِ الَّتي في آخِرِ المصدرِ، والإتيانُ بفتحةٍ أُخرى في آخِرِ الفعلِ، والفتحةُ غيرُ الفتحةِ، ويَدُلُّ على التَّغايُرِ أنَّ إحداهما

(3)

: لعاملٍ، والأُخرى

(4)

: لغيرِ عاملٍ.

(وَالمُشْتَقُّ) يَدُلُّ على الاشتقاقِ، وهو:(فَرْعٌ وَافَقَ أَصْلًا) وَالأصلُ هنا اللَّفظُ المشتقُّ منه ذلك الفرعُ.

وقولُه: (بِحُرُوفِهِ الأُصُولِ) يُخرِجُ ما وَافَقَه بمَعناه لا بحُروفِه كحبسٍ ومنعٍ

(5)

.

وقولُه: (وَمَعْنَاهُ) يُخرِجُ ما وَافَقَه «بِحُرُوفِهِ الأُصُولِ» لا بمعناه كذهبٍ وذهابٍ، ويُخرِجُ أيضًا نحوَ لحمٍ، ومِلحٍ، وحلمٍ، وتَقَدَّمَ، فليسَ بعضُها مُشتقًّا مِن بعضٍ أصلًا.

(1)

(فَفِي) الاشتقاقِ (الأَصْغَرِ وَهُوَ المَحْدُودُ) يَعني حَيْثُ أَطلَقُوا الاشتقاقَ في الغالبِ كانَ المرادُ به الأصغرَ، وإذا أرادوا غيرَه قَيَّدُوه

(6)

بالأوسطِ، أو غيرِه على ما اصطَلَحُوا عليه.

(يَتَّفِقَانِ) أي: يُشتَرطُ أنْ يَتَّفِقَ اللَّفظُ المُشتقُّ والمُشتقُّ منه، (فِي الحُرُوفِ وَالتَّرْتِيبِ) مَعَ وجودِ المعنى كما تَقَدَّمَ، (كَنَصَرَ مِنَ النَّصْرِ).

(1)

الصَّافَّات: 140.

(2)

البقرة: 164.

(3)

في (ع): أحدهما.

(4)

في (ع): والآخر.

(5)

قوله: وقولُه: (بحروفِه الأُصولِ) يُخرِجُ ما وَافَقَه بمَعناه لا بحُروفِه كحبسٍ ومنعٍ. ليس في (د).

(6)

في (ع): قيده.

ص: 136

(2)

(وَ) يُشتَرَطُ (فِي)

‌ الاشتقاقِ (الأَوْسَطِ)

اتِّفاقُهما (فِي الحُرُوفِ) مع وجودِ المعنى أيضًا، لا في التَّرتيبِ (كَـ جَبَذَ مِنَ الجَذْبِ) فإنَّ الباءَ مُقدَّمَةٌ على الذَّالِ في الأوَّلِ، والذَّالَ مُقدَّمَةٌ على الباءِ في الثَّاني.

(3)

(وَفِي)

‌ الاشتقاقِ (الأَكْبَرِ)

اتِّفاقُ اللَّفظينِ في المَخرَجِ لا في التَّرتيبِ بل في النَّوعِ، كاتِّفاقِهما، (فِي مَخْرَجِ حُرُوفِ الحَلْقِ، أَوْ) حُرُوفِ (الشَّفَةِ، كَـ نَعَقَ، وَثَلَمَ، مِنَ النَّهِيقِ، وَالثَّلْبِ) فإنَّ الهاءَ والعينَ مِن حروفِ الحَلْقِ، والباءَ والميمَ مِن حروفِ الشَّفةِ، والصَّحيحُ أنَّ الاشتقاقَ الأكبَر غيرُ مُعَوَّلٍ عليه؛ لعدمِ اطِّرادِه.

(وَ) المُشتقُّ قد (يَطَّرِدُ) إطلاقُه كثيرًا على جميعِ مَدلولاتِه (كَاسْمِ فَاعِلٍ) نحوُ ضاربٍ، يُطلَقُ على كلِّ مَن ثَبَتَ له الضَّربُ (وَنَحْوِهِ) كاسمِ مفعولٍ: كمضروبٍ، والصِّفةِ المُشَبَّهةِ: كالحَسَنِ الوَجهِ، وأفعلِ التَّفضيلِ: كأكبَر، واسمِ المكانِ: كمَلعَبٍ، واسمِ الزَّمانِ: كالمَوْسِمِ، واسمِ الآلةِ: كالميزانِ.

(وَقَدْ) لا يَطَّرِدُ بل (يَخْتَصُّ كَالقَارُورَةِ) فإنَّها مُختَصَّةٌ بالزُّجاجةِ، وإن كانَتْ مأخوذةً مِن القَرِّ في الشَّيْءِ ولم يَعُدُّوها إلى كلِّ ما يَقَرُّ فيه الشَّيءُ، مِن خشبٍ، أو خَزَفٍ، أو غيرِ ذلك.

(وَإِطْلَاقُهُ) أي: إطلاقُ الاسمِ المُشتقِّ على الشَّيْءِ (قَبْلَ وُجُودِ الصِّفَةِ المُشْتَقِّ مِنْهَا) ذلك الشَّيءُ، كقولِنا مثلًا: زيدٌ ضاربٌ، قبلَ وُجودِ الضَّربِ:

(1)

(مَجَازٌ) وحُكِيَ إجماعًا، ولَعَلَّ المُرادَ (إِنْ أُرِيدَ الفِعْلُ). قالَه ابنُ مُفْلِحٍ

(1)

.

(1)

«أُصولُ الفقهِ» (1/ 116).

ص: 137

(2)

وإطلاقُ المُشتَقِّ قبلَ وُجودِ الصِّفةِ المُشتقِّ منها: (حَقِيقَةٌ، إِنْ أُرِيدَتِ الصِّفَةُ) المُشَبَّهةُ باسمِ الفاعلِ (كَـ) قولِهم: (سَيْفٌ قَطُوعٌ، وَنَحْوِهُ) كخُبزٍ مُشبِعٍ، وخمرٍ مُسكِرٍ؛ لعدمِ صِحَّةِ النَّفيِ.

(فَأَمَّا صِفَاتُ اللهِ سبحانه وتعالى فَقَدِيمَةٌ، وَ) هي (حَقِيقَةٌ) عندَ أحمدَ وأصحابِه وجُمهورِ أهلِ السُّنَّةِ.

وقالَ آخرونَ: هي حادثةٌ؛ لِئلَّا يَلْزَمَ أن يَكُونَ المخلوقُ قديمًا.

وأُجيبَ عن الأوَّلِ: بأنَّه يُوجَدُ في الأزلِ صفةُ الخلْقِ ولا مخلوقَ.

فأجابَ الأشعريُّ: بأنَّه لا يَكُونُ خلْقٌ وَلَا مخلوقٌ، كما لا يكُونُ ضاربٌ ولا مضروبَ.

فأَلْزَموه بحدوثِ صِفاتِه، فيَلْزَمُ حلولُ الحوادثِ باللهِ.

فأجابَ: بأنَّ هذه الصِّفاتِ لا تُحدِثُ في الذَّاتِ شيئًا جديدًا.

فتُعُقِّبَ بأنَّه يَلْزَمُ ألَّا يُسَمَّى في الأزلِ خالقًا وَلَا رازقًا، وكلامُ اللهِ تَعالى قديمٌ، وقد ثَبَتَ فيه أنَّه الخالقُ الرَّازقُ.

(وَ) اللَّفظُ (المُشْتَقُّ حَالَ وُجُودِ) أي: حالَ قيامِ (الصِّفَةِ) بالموصوفِ، كقولِنا لمن يَضرِبُ في تلك الحالِ: ضاربٌ، فهذا (حَقِيقَةٌ

(1)

إجماعًا.

(وَ) المُشتَقُّ (بَعْدَ انْقِضَائِهَا) أي: انقضاءِ الصِّفَةِ (مَجَازٌ) باعتبارِ ما كانَ، ويُعَبَّرُ عنه باشتِراطِ بقاءِ المُشتقِّ منه في صِدقِ المُشتقِّ منه حقيقةً، سواءٌ

(1)

في (ع): حقيقته.

ص: 138

كانَ المُشتقُّ مِمَّا يُمكِنُ حصولُه بتمامِه وقتَ الإطلاقِ، كالقيامِ والقعودِ ونحوِهما، فيُقالُ: قائمٌ قاعدٌ، أو لا يُمكِنُ كما لو كانَ مِنَ الأعراضِ السَّيَّالةِ، كالكلامِ، والتَّحرُّكِ، ونحوِهما، فيُقالُ: مُتكلِّمٌ مُتحَرِّكٌ مِمَّا لا يَكُونُ ويُوجَدُ دفعةً واحدةً، وإنَّما يَأتي شيئًا فشيئًا.

وحُكِيَ عنِ الأكثرِ: أنَّه حقيقةٌ، لكنْ عَقِبَ الفِعلِ، فلو تَأَخَّرَ كثيرًا لم يَكُنْ حقيقةً.

(وَشَرْطُهُ) أي: المُشتقِّ، سواءٌ كانَ اسمًا أو فعلًا (صِدْقُ أَصْلِهِ) وهو المُشتقُّ منه، فلا يَصْدُقُ ضاربٌ مثلًا على ذاتٍ إلَّا إذا صَدَقَ الضَّربُ على تلك الذَّاتِ، وسواءٌ كانَ الصِّدقُ

(1)

في الماضي، أو في الحالِ، أو في الاستقبالِ، كقولِه تَعالى في الاستقبالِ:{إِنَّكَ مَيِّتٌ}

(2)

، وذَكَرَ الأُصوليُّون هذه المسألةَ، ليَرُدُّوا على المُعتزلةِ، لإطلاقِهم العالِمَ على اللهِ وإنكارِ حصولِ العِلْمِ له، وقالوا: إنَّ العالِميَّةَ بعِلْمٍ، لكنَّ عِلْمَ اللهِ عينُ ذاتِه، لا أنَّه عالِمٌ بدونِ عِلمٍ، وكذا القولُ في بقيَّةِ الصِّفاتِ.

وأمَّا أهلُ السُّنَّةِ فيُعَلِّلون العالِمَ بوُجودِ علمٍ قديمٍ قائمٍ بذاتِه وكذا في الباقي.

(وَكُلُّ اسْمِ مَعْنًى قَائِمٍ بِمَحَلٍّ: يَجِبُ أَنْ يُشَتَقَّ لِمَحَلِّهِ مِنْهُ) أي: مِن ذلك المعنى (اسْمُ فَاعِلٍ) لا لغيرِه منه، يَعني لا يُشتَقُّ اسمُ فاعلٍ لشيءٍ، والفعلُ قائمٌ بغيرِه، فإذا قامَ العِلْمُ بمَحَلٍّ كانَ هو العالِمَ

(3)

لا غيرُه، وكذلك إذا قامَتِ

(1)

في (ع): صدقه.

(2)

الزُّمر: 30.

(3)

في (ع): للعالم.

ص: 139

القُدرةُ، أو الحركةُ، أو الحياةُ، أو غيرُ ذلك منَ الصِّفاتِ بمَحَلٍّ، كان لذلك المَحَلِّ، كالقديرِ، والمُتحرِّكِ، والحيِّ، وسائرِ الصِّفاتِ. وهو مُتَّفَقٌ عليه بينَ أهلِ السُّنَّةِ.

ودَلَّهم على ذلك: استقراءُ لغةِ العربِ على أنَّ اسمَ الفاعلِ لا يُطلَقُ على شيءٍ إلَّا ويَكُونُ المعنى المُشتَقُّ منه قائمًا به، وهو يُفيدُ القطعَ بذلك.

(وَأَبْيَضُ وَنَحْوُهُ) مِن المُشتقَّاتِ، كأسودَ، وضاربٍ، ومضروبٍ، (يَدُلُّ) كلٌّ منها (عَلَى ذَاتٍ) ما، (مُتَّصِفَةٍ بِبَيَاضٍ) أو سَوادٍ، ووجودِ ضَربٍ، (لَا) على (خُصُوصِيَّتِهَا) أي: لا يَدُلُّ المُشتقُّ على خصوصِ تلك الذَّاتِ (بِهِ) أي: بذلك الوصفِ، فالأسودُ مثلًا ذاتٌ لها سوادٌ، ولا يَدُلُّ على حيوانٍ ولا غيرِه، والحيوانُ ذاتٌ لها حياةٌ، لا خصوصُ إنسانٍ ولا غيرِه.

(وَالخَلْقُ غَيْرُ المَخْلُوقِ) عندَ الأكثرِ (وَهُوَ) أي: الخَلْقُ (فِعْلُ الرَّبِّ) تَعالى، (قَائِمٌ بِهِ) مع قِدَمِه، (مُغَايِرٌ لِصِفَةِ القُدْرَةِ) والمخلوقُ: هو المخلوقاتُ المُنفصِلةُ عنه.

ص: 140

(فَائِدَةٌ

(1)

)

(تَثْبُتُ اللُّغَةُ قِيَاسًا فِيمَا) أي: في لفظٍ (وُضِعَ) لمُسَمًّى مُستلزمٍ (لِمَعْنًى دَارَ) ذلك المعنى (مَعَهُ) أي: مَعَ ذلك اللَّفظِ (وُجُودًا وَعَدَمًا، كَخَمْرٍ لِنَبِيذٍ)؛ لتَخميرِ العقلِ (وَنَحْوِهِ) كالسَّارقِ للنَّبَّاشِ؛ للأخذِ خُفيَةً، والزَّاني للَّائطِ؛ للوَطءِ المُحرَّمِ عندَ الأكثرِ.

والقولُ الثَّاني: لا تَثْبُتُ قياسًا مُطلقًا، وللنُّحاةِ قَولانِ: اجتهادًا فلا حُجَّةَ؛ أي: فلا يَحسُنُ أن يُقالَ: قولُ مَن أثبتَ مُقَدَّمٌ على مَن نَفَى.

قالَ البِرْمَاوِيُّ

(2)

وغيرُه: ما قِيسَ على كلامِهم فمِن كلامِهم.

وتَظهَرُ فائدةُ الخلافِ: أنَّ المُثبِتَ للقِياسِ في اللُّغةِ يَستغني عنِ القِياسِ الشَّرعيِّ، وإيجابِ الحَدِّ على شاربِ النَّبيذِ، والقطعِ على النَّبَّاشِ

(3)

بالنَّصِّ، ومَن أَنْكَرَ القياسَ في اللُّغةِ جَعَلَ ثُبوتَ ذلك بالشَّرعِ.

فَائِدَةٌ: لا شَكَّ أنَّ مَحَلَّ الخلافِ إذا اشْتَمَلَ الاسمُ على وصفٍ، واعتَقَدْنا أنَّ التَّسميةَ لذلك الوصفِ، فهل يَجوزُ تَعديةُ الاسمِ إلى محلٍّ آخَرَ مسكوتٍ عنه كالخمرِ؟ إذا اعتَقَدْنا أنَّ تَسمِيَتَها بذلك باعتبارِ تخميرِ العقلِ، فعَدَّيْناه إلى النَّبيذِ ونَحوِه، ولهذا قَالَ:

(1)

في «مختصر التحرير» : فصل.

(2)

في «التَّحبير شرح التحرير» (2/ 591)، و «أصول الفقه» (1/ 125): نسبة هذا القول للمبرد.

ولم أجد هذا النقل في «الفوائد السنية» للبِرماوي.

(3)

في (ع): النابش.

ص: 141

(وَالإِجْمَاعُ عَلَى مَنْعِهِ) أي: مَنْعِ القياسِ (فِي:

(1)

عَلَمٍ،

(2)

وَلَقَبٍ) لوَضعِهما لغيرِ مَعنًى جامعٍ، والقياسُ فرعُه،

(3)

(وَ) الإجماعُ على مَنعِ القياسِ في (صِفَةٍ) لأنَّ العالِمَ لمَن قامَ به العِلْمُ، فيَجِبُ طَردُه، فإطلاقُه بوضعِ اللُّغةِ،

(4)

(وَكَذَا مِثْلُ إِنْسَانٍ، وَرَجُلٍ، وَرَفْعِ فَاعِلٍ) فلا وجهَ لجَعلِه دليلًا.

ص: 142

(الحُرُوفُ)

والمُرادُ بها هنا: ما يَحتاجُ الفقيهُ إلى مَعرفتِها، لا قسيمُ الاسمِ والفعلِ والحرفِ بخصوصِه؛ لأنَّه قد ذَكَرَ مَعها اسمًا كـ «إذ» وأطلقَ عليها حروفًا تغليبًا.

(الوُاوُ العَاطِفَةُ)

تَأتي (لِمُطْلَقِ الجَمْعِ) أي: للقَدْرِ المُشتَركِ بينَ التَّرتيبِ والمَعيَّةِ، وهي تارةً تَعطِفُ الشَّيْءَ على سابقِه، كقولِه تَعالى:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ}

(1)

.

وعلى مُصاحبِه: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ}

(2)

.

وعلى لاحقِه: {كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ}

(3)

.

فإذا قِيلَ: قامَ زيدٌ وعمرٌو، احتملَ ثلاثةَ معانٍ: المعيَّةَ، والتَّرتيبَ، وعدمَه. وكونُها للمعيَّةِ راجحٌ، وللتَّرتيبِ كثيرٌ، ولعكسِه قليلٌ.

(وَتَأْتِي) الواوُ لمعانٍ أُخَرَ:

أحدُها: (بِمَعْنَى مَعَ) كقولِهم: جاءَ البَردُ والطَّيَالِسَةُ.

(وَ) الثَّاني: بمَعنى (أَوْ)؛ كقولِه تَعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ}

(4)

.

(وَ) الثَّالثُ: بمَعنى (رُبَّ) كقولِ الشَّاعِرِ

(5)

:

وَنَارٍ لَوْ نَفَخْتَ بِهَا أَضَاءَتْ

وَلَكِنْ أَنْتَ تَنْفُخُ فِي رَمَادِ

(1)

الحديد: 26.

(2)

العنكبوت: 15.

(3)

الشُّورى: 3.

(4)

النِّساء: 3.

(5)

مِن الوافرِ، وهو لعَمْرِو بنِ مَعْدِي كربَ. انظرْ شِعْرَه (ص: 113) مِن مَطبوعاتِ مَجمَعِ اللُّغةِ العربيَّةِ بدِمشْقَ، وفيه: وَلَوْ نَارٌ.

ص: 143

أي: ورُبَّ نارٍ.

[(وَ) الرَّابعُ: (لِقَسَمٍ) كقولِه تَعالى: {وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ}

(1)

(2)

.

(وَ) الخامسُ لـ (اسْتِئْنَافٍ) وهو كثيرٌ.

(وَ) السَّادسُ: لـ (حَالٍ) نحوُ: جاءَ زيدٌ والشَّمسُ طالعةٌ.

(الفَاءُ العَاطِفَةُ)

(لِتَرْتِيبٍ) وهو قسمانِ:

(1)

معنويٌّ: كـ قامَ زيدٌ فعَمرٌو.

الثَّاني: ذِكْريٌّ، وهو عطفُ مُفَصَّلٍ على مُجمَلٍ هو هو في المعنى، كقولِه تَعالى:{فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}

(3)

.

(وَ) تأتي لـ (تَعْقِيبٍ) ومَعناه كونُ الثَّاني آخذًا بعَقِبِ الأوَّلِ في الجملةِ.

وقالَ المُحَقِّقونَ: تعقيبُ (كُلِّ) شيءٍ (بِحَسَبِهِ عُرْفًا) فيُقالُ: تَزَوَّجَ فلانٌ فوُلد له إذا لم يَكُنْ بينَهما إلَّا مُدَّةُ الحملِ وإن طالَتْ.

وقالَ الفَرَّاءُ: إنَّها لا تَدُلُّ على التَّرتيبِ، بل تُستعمَلُ في انتفائِه؛ كقولِه تَعالى:{وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا}

(4)

[معَ أنَّ مَجيءَ البأسِ مُتَقَدِّمٌ على الهلاكِ.

وأُجيبَ: بأنَّها للتَّرتيبِ الذِّكريِّ، أو فيه حذفٌ تَقديرُه: أَرَدْنا إهلاكَها، فجاءَها بأسُنا]

(5)

.

(1)

الفجر: 1 - 4.

(2)

ليست في (د).

(3)

البقرة: 54.

(4)

الأعراف: 4.

(5)

ليست في (د).

ص: 144

(وَتَأْتِي) أيضًا (سَبَبِيَّةً) وذلك كثيرٌ في العاطفةِ جملةً، أو صفةً، كقولِه تَعالى:{فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ}

(1)

.

وقولِه

(2)

تَعالى: {لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54)}

(3)

.

(وَ) تَأتي أيضًا (رَابِطَةً) للجوابِ في سِتِّ مسائلَ:

إحداها: أنْ يَكُونَ الجوابُ جملةً اسميَّةً؛ كقولِه تَعالى: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)}

(4)

.

الثَّانيةُ: أنْ تَكُونَ فِعليَّةً، وهي الَّتي يَكُونُ فِعلُها جامدًا، نَحوُ:{وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ}

(5)

.

الثَّالثةُ: أنْ يَكُونَ فِعْلُها إنشاءً، نحوُ:{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30)}

(6)

فيه أمرانِ: الاسميَّةُ، والإنشاءُ.

الرَّابعةُ: أنْ يَكُونَ فِعلُها ماضيًا لفظًا ومعنًى، إمَّا حقيقةً، نحوُ:{إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ} الآية

(7)

، وإمَّا مجازًا، نحوُ:{وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ}

(8)

نُزِّلَ هذا الفعلُ لتَحَقُّقِ وقوعِه منزلةَ ما قد وَقَعَ.

الخامسةُ: أنْ يَقتَرِنَ [بِاستقبالٍ، نحوُ:{وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ}

(9)

.

(1)

القصص: 15.

(2)

في (ع): وكقوله.

(3)

الواقعة.

(4)

المائدة.

(5)

آل عمران: 28.

(6)

الملك: 30.

(7)

يوسف: 26.

(8)

النَّمل: 90.

(9)

آل عمران: 115.

ص: 145

السَّادسةُ: أنْ يَقتَرِنَ]

(1)

بحرفٍ له الصَّدرُ، كقولِه

(2)

:

فَإِنْ أَهْلِكْ فَذِي لَهَبٍ لَظَاهُ

(3)

عَلَيَّ تَكَادُ تَلْتَهِبُ التِهَابَا

لِما عُرِفَ مِن أنَّ «رُبَّ» مُقَدَّرَةٌ، وأنَّ لها الصَّدرَ.

(ثُمَّ)

حرفُ عطفٍ تَكُونُ (لِتَشْرِيكٍ) بينَ ما قبلَها وما بعدَها في الحُكمِ.

(وَ) لـ (تَرْتِيبٍ بِمُهْلَةٍ) على الصَّحيحِ، لكنَّه في المُفرداتِ معنويٌّ وفي الجُملِ ذِكريٌّ، نحوُ

(4)

:

إِنَّ مَنْ سَادَ ثُمَّ سَادَ أَبُوهُ

ثُمَّ قَدْ

(5)

سَادَ قَبْلَ ذَلِكَ جَدُّهُ

فهو ترتيبٌ في الإخبارِ، لا في الوجودِ.

(حَتَّى العَاطِفَةُ)

تَأتي (لِلْغَايَةِ) فلا يَكُونُ المعطوفُ بها إلَّا غايةً لِما قَبْلَها، مِن زيادةٍ أو نقصٍ، نحوُ: ماتَ النَّاسُ حَتَّى الملوكُ، وقَدِمَ الحُجَّاجُ

(6)

حَتَّى المُشَاةُ، (لَا تَرْتِيبَ فِيهَا) تَقولُ: حَفِظْتُ القُرآنَ حَتَّى سورةَ البقرةِ، وإنْ كانَتْ أوَّلَ ما حَفِظْتَ.

(1)

ليس في (د).

(2)

من الوافر، وهو لربيعةَ بنِ مَقْرُومٍ الضَّبِّيِّ. راجعْ خزانةَ الأدبِ (10/ 26).

(3)

في (ع): لظاها. وكتب في حاشية (د): لظاها.

(4)

مِن الخفيفِ، والبيتُ لأبي نواسٍ في ديوانِه (1/ 315)، ولفظُه فيه:

قُلْ لِمَنْ سَادَ ثُمَّ سَادَ أَبُوهُ

قَبْلَهُ، ثُمَّ قَبْلَ ذَلِكَ جَدُّهْ

(5)

ليست في (ع).

(6)

في (ع): الحاج.

ص: 146

(وَيُشْتَرَطُ كَوْنُ

(1)

مَعْطُوفِهَا جُزْءًا مِنْ مَتْبُوعِهِ) نحوُ: قَدِمَ الحُجَّاجُ

(2)

حَتَّى المُشاةُ، لا يَصِحُّ العكسُ، (أَوْ كَجُزْئِهِ) نحوُ: أَعجَبَتْني الجاريةُ حَتَّى حديثُها؛ لأنَّ حديثَها مَعنًى من معانيها فهو كالبعضِ، وقد يَكُونُ المعطوفُ بِـ حتَّى مُباينًا، فيُقَدَّرُ بعضيَّتُه، كقولِه

(3)

:

أَلْقَى الصَّحِيفَةَ كَيْ يُخَفِّفَ رَحْلَهُ

وَالزَّادَ حَتَّى نَعْلَهُ أَلْقَاهَا

لأنَّ المعنى: أَلقى ما يُثْقِلُه حَتَّى نعلَه.

(وَتَأْتِي) حَتَّى:

(1)

(لِتَعْلِيلٍ

(4)

كقولِه: كَلَّمْتُه حَتَّى يَأمُرَ لي بشيءٍ، وعلامَتُها أن يَصْلُحَ مَوضِعَها:«كيْ» .

(2)

(وَقَلَّ) أنْ تَأتيَ (لِاسْتِثْنَاءٍ مُنْقَطِعٍ) كقولِه

(5)

:

لَيْسَ العَطَاءُ مِنَ الفُضُولِ سَمَاحَةً

حَتَّى تَجُودَ وَمَا لَدَيْكَ قَلِيلُ

(مِنْ)

الجَارَّةُ (لِابْتِدَاءِ الغَايَةِ) في المكانِ اتِّفاقًا، وفي الزَّمانِ عندَ الكُوفِيِّينَ، والمُبَرِّدِ، وابنِ درسْتَوَيْه.

(1)

في (ع): أن يكون.

(2)

في (ع): الحاج.

(3)

من الكاملِ، أَنْشَدَه سيبويه في كتابِه (1/ 97)، ونَسَبَه إلى مَرْوانَ النحويِّ. ويُروى بالجرِّ والرَّفعِ على المعهودِ مِن عملِ «حتى» .

(4)

في (ع): للتَّعليل.

(5)

مِن الكاملِ، وهو للمُقَنَّعِ الكِنْدِيِّ. ينظرْ «شرحَ الشَّواهدِ الكُبرى» لبدرِ الدِّينِ العينيِّ (4/ 1898).

ص: 147

وتَأتي (حَقِيقَةً) في ابتداءِ الغايةِ، ومَجازًا في غيرِه مِنَ المعاني الآتيةِ، (وَلَهَا مَعَانٍ) كثيرةٌ:

أحدُها: لابتداءِ الغايةِ مَكانًا، كقولِه:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}

(1)

، وزمانًا كقولِه تَعالى:{لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ}

(2)

.

الثَّاني: انتهاؤُها مِثْلُ «إلى» ، فتَكونُ لابتداءِ الغايةِ مِنَ الفاعلِ، ولانتهاءِ غايةِ الفعلِ مِن المفعولِ، نحوُ: رَأَيْتُ الهلالَ مِن داري من

(3)

خَلَلِ السَّحابِ؛ أي: مِن مكاني إلى خَلَلِ السَّحابِ، فابتداءُ الرُّؤيةِ وَقَعَ مِن الدَّارِ وانتهاؤُها في خَلَلِ السَّحابِ.

الثَّالثُ: التَّبعيضُ، وعلامتُها صِحَّةُ وَضْعِ «بعضٍ» في مَحَلِّها، نحوُ قولِه تَعالى:{مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ}

(4)

.

الرَّابعُ: التَّبيينُ؛ أي: بيانُ الجِنسِ، وعلامتُها أنْ يَصِحَّ وَضعُ «الَّذي» مَوْضِعَها، نحوُ:{فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ}

(5)

أي: الَّذِي هو الأوثانُ.

الخامسُ: التَّعليلُ، نحوُ:{يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ}

(6)

[أي: لأجلِ الصَّواعقِ]

(7)

.

السَّادسُ: البدلُ، نحوُ:{وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً}

(8)

أي: بَدَلَكم.

(1)

الإسراء: 1.

(2)

الرُّوم: 4.

(3)

في (د): حَتَّى.

(4)

البقرة: 253.

(5)

الحج: 30.

(6)

البقرة: 19.

(7)

ليس في (د).

(8)

الزُّخرف: 60.

ص: 148

السَّابعُ: تنصيصُ العُمومِ، وهي الدَّاخلةُ على نكرةٍ لا تَختَصُّ بالنَّفيِ، نحوُ:«ما جاءَني مِن رجلٍ» ، فإنَّه كانَ قَبْلَ دُخولِها مُحتَمِلًا لنفيِ الجِنسِ ولنفيِ الوَحدةِ، ولهذا يَصِحُّ أن يَقُولَ

(1)

: بل رجلانِ، ويَمتنعُ ذلك بعدَ دخولِ «مِن» .

الثَّامنُ: الفصلُ، كقولِه تَعالى:{وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ}

(2)

وتُعرَفُ بدُخولِها على ثاني المُتضادَّينِ.

التَّاسعُ: مَجيئُها بمَعنى الباءِ، نحوُ:{يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ}

(3)

أي: بطرفٍ.

العاشرُ: بمَعنى «في» ، كقولِه تَعالى:{فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ}

(4)

بدليلِ قولِه تَعالى: {وَهُوَ مُؤْمِنٌ}

(5)

.

الحاديَ عَشَرَ: بمَعنى «عندَ» ، كقولِه تَعالى:{لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا}

(6)

.

الثَّانيَ عَشَرَ: بمعنى «على» ، كقولِه تَعالى:{وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا}

(7)

أي: على القومِ.

الثَّالثَ عَشَرَ: بمَعنى «عن» ، كقولِه تَعالى:{فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ}

(8)

.

(إِلَى)

(لِانْتِهَائِهَا) أي: لانتهاءِ الغايةِ عندَ الأكثرِ، (وَ) تأتي (بِمَعْنَى مَعَ) كقولِه تَعالى:{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ}

(9)

أي: مع أموالِكم.

(1)

في (ع): يقال.

(2)

البقرة: 220.

(3)

الشُّورى: 45.

(4)

النِّساء: 92.

(5)

النِّساء: 92.

(6)

المجادلة: 17.

(7)

الأنبياء: 77.

(8)

الزُّمر: 22.

(9)

النِّساء: 2.

ص: 149

(وَابْتِدَاؤُهَا) أي: ابتداءُ الغايةِ (دَاخِلٌ) فِي المُغَيَّا، [و (لَا) يَدخُلُ (انْتِهَاؤُهَا)]

(1)

فيه على الأصحِّ، فلو قال: له مِن درهمٍ إلى عشرةٍ، لَزِمَه تسعةٌ.

(عَلى)

(لِلِاسْتِعْلَاءِ) هذا أشهرُ مَعانيها، ذاتيًّا كانَ أو مَعنويًّا، نحوُ:{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ}

(2)

، ونحوُ:{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ}

(3)

.

(وَهِيَ) أي: على (لِلْإِيجَابِ) عندَ الأصحابِ وغيرِهم، (وَلَها مَعَانٍ):

أحدُها: الاستعلاءُ، وتَقَدَّمَ.

الثَّاني: التَّفويضُ [في قولِه تَعالى]

(4)

: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ}

(5)

: إذا عَقَدْتَ قلبَك على أمرٍ بعدَ الاستشارةِ، فاجعلْ تَفويضَك فيه إلى اللهِ.

الثَّالثُ: المصاحبةُ، كقولِه تَعالى:{وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ}

(6)

.

الرَّابعُ: المجاوزةُ بمَعنى «عن» ، كقولِ الشَّاعرِ

(7)

:

إِذَا رَضِيَتْ عَلَيَّ بَنُو قُشَيْرٍ

لَعَمْرُ اللهِ أَعْجَبَنِي رِضَاهَا

أي: إذا رَضِيَتْ عنِّي.

الخامسُ: التَّعليلُ، كقولِه تَعالى:{وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ}

(8)

أي: لهدايتِكم.

(1)

في (ع): لا انتهاء فيها.

(2)

الرَّحمن: 26.

(3)

المائدة: 45.

(4)

في (ع): نحو.

(5)

آل عمران: 159.

(6)

البقرة: 177.

(7)

من الوافرِ، وهو للقُحَيْفِ العُقَيْلِيِّ. ينظرْ:«أدب الكاتبِ» لابنِ قُتَيْبَةَ (ص: 506)، و «خزانة الأدبِ» (10/ 132).

(8)

البقرة: 185.

ص: 150

السَّادسُ: الظَّرفيَّةُ، كقولِه تَعالى:{وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ}

(1)

أي: في مُلْكِ سُليمانَ.

السَّابعُ: الاستدراكُ، كقولِك: فلانٌ لا يَدخُلُ الجنَّةَ لسوءِ صُنْعِه، على أنَّه لا يَيأَسُ مِن رحمةِ اللهِ؛ أي: لكنْ لا يَيْأَسُ.

الثَّامنُ: الزِّيادةُ، كقولِه عليه السلام:«مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ»

(2)

أي: يمينًا.

(فِي)

ولها معانٍ:

أَحَدُها: تَكُونُ (لِظَرْفٍ) زمانًا ومكانًا، ومثالُهما قولُه تَعالى:{الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ}

(3)

فالأُولى للمكانِ، والثَّانيةُ للزَّمان.

(وَهِيَ) أي: «في» (بِمَعْنَاهُ) أي: للظَّرفِ على بابِها، (عَلَى قَوْلِ) أكثرِ البصريِّينَ وغيرِهم (فِي) قولِه تَعالى: ({وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ}

(4)

.

وقالَ أكثرُ أصحابِنا: هي بمَعنى «على» كقولِ الكوفيِّينَ، كقولِه تَعالى:{أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ}

(5)

أي: عليه.

(وَ) المعنى الثَّاني: تأتي (لِاسْتِعْلَاءٍ) أي: بمَعنى «على» كما تَقَدَّمَ تمثيلُه.

(وَ) الثَّالثُ: لـ (ـتَعْلِيلٍ) كقولِه تَعالى: {فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ}

(6)

أي: لأجلِه.

(1)

البقرة: 102.

(2)

رواه مسلم (1650) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(3)

الرُّوم.

(4)

طه: 71.

(5)

الطُّور: 38.

(6)

يوسف: 32.

ص: 151

(وَ) الرَّابعُ: (سَبَبِيَّةٌ

(1)

كقولِه: «دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النَّار فِي هِرَّةٍ»

(2)

أي: بسبب هرة.

(وَ) الخامسُ: لـ (مُصَاحَبَةٍ) كقولِه تَعالى: {ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ}

(3)

أي: مَعَهم مصاحبينَ لهم.

(وَ) السَّادسُ: لـ (ـتَوْكِيدٍ) كقولِه تَعالى: {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا}

(4)

إذِ الرُّكوبُ يُستعمَلُ بدونِ «في» فهي مَزيدةٌ توكيدًا.

(وَ) السَّابعُ: لـ (ـتَعْوِيضٍ) وهي الزَّائدةُ عِوَضًا عن أُخرى محذوفةٍ، كقولِه:«رَغِبْتُ فيمَن رَغِبْتَ» ؛ أي: فيه.

(وَ) الثَّامنُ: (بِمَعْنَى البَاءِ) كقولِه تَعالى: {يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ}

(5)

أي: يُكثِّركُم

(6)

به.

(وَ) التَّاسعُ: بمَعنى (إِلَى) كقولِه تَعالى: {فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ}

(7)

أي: إليها غيظًا.

(وَ) العاشرُ: بمَعنى (مِنْ) كقولِ امْرِئِ القيسِ

(8)

:

وَهَلْ يَعِمَنْ مَنْ كَانَ أَحْدَثُ عَهْدِهِ

ثَلَاثِينَ شَهْرًا فِي ثَلَاثَةِ أَحْوَالِ

أي: مِن ثلاثةِ أحوالٍ.

(1)

في (ع): السَّببية.

(2)

رواه البخاريُّ (3318)، ومسلمٌ (2242) مِن حديثِ ابنِ عمرَ رضي الله عنهما.

(3)

الأعراف: 38.

(4)

هود: 41.

(5)

الشُّورى: 11.

(6)

في (د): يَذْرَؤُكم.

(7)

إبراهيم: 9.

(8)

من الطَّويلِ، «ديوانَه» (ص 27).

ص: 152

(اللَّامُ) الجَارَّةُ

تَأتي (لِلْمِلْكِ) نحوُ: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}

(1)

.

قالَ في «التَّمهيدُ»

(2)

: هِيَ

(3)

(حَقِيقَةٌ) في المِلْكِ (لَا يُعْدَلُ عَنْهُ إِلَّا بِدَلِيلٍ) انتهى.

(وَلَهَا) أي: اللَّامُ (مَعَانٍ) كثيرةٌ، ومَجيئُها لها مذهبٌ كوفِيٌّ، وأمَّا حُذَّاقُ البصريِّين فهي عندَهم على بابِها، ثمَّ يُضَمِّنُون الفعلَ ما يَصلُح مَعَها ويَرَوْنَ التَّجوُّزَ في الفعلِ أسهلَ مِنَ التَّجوُّزِ في الحَرفِ، إذا عَلِمْتَ ذلك فهاكَ المهمَّ مِن مَعانيها لتَعرِفَ:

أحدُها: التَّمليكُ، ومنه:{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ}

(4)

.

الثَّاني: شِبْهُ المِلْكِ، نحوُ:{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا}

(5)

.

الثَّالثُ: التَّعليلُ، ومنه قولُه تَعالى:{لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ}

(6)

.

الرَّابعُ: الاستحقاقُ، نحوُ: النَّارُ للكافرينَ.

الخامسُ: الاختصاصُ، نحوُ: الجنَّةُ للمُؤمنينَ.

والفرقُ بينَ الاستحقاقِ والاختصاصِ: أنَّ الاختصاصَ أخصُّ؛ فإنَّ ضابطَه ما شَهِدَتْ به العادةُ، كما شَهِدَتْ للفَرَسِ بالسَّرجِ.

(1)

آل عمران: 189.

(2)

«التمهيد في أصول الفقه» (1/ 114).

(3)

ليست في (ع).

(4)

التَّوبة: 60.

(5)

النَّحل: 72.

(6)

النِّساء: 105.

ص: 153

السَّادسُ: لامُ العاقبةِ، ويُعَبَّرُ عنها بلامِ الصَّيرورةِ، وبلامِ المآلِ، نحوُ:{فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا}

(1)

.

السَّابعُ: توكيدُ النَّفيِ أيَّ نفيٍ كانَ، نحوُ:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ}

(2)

ويُعَبَّرُ عنها بلامِ الجُحودِ، لمَجيئِها بعدَ نفيٍ.

الثَّامنُ: لمُطلَقِ التَّوكيدِ، وهي الدَّاخلةُ لتقويةِ عاملٍ ضعيفٍ بالتَّأخيرِ، نحوُ:{إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ}

(3)

الأصلُ: تَعْبُرُونَ الرُّؤْيَا، أو لكونِه فرعًا في العملِ، نحوُ:{فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ}

(4)

وهذانِ مَقيسانِ.

التَّاسعُ: أنْ تَكُونَ بمَعنى «إلى» ، نحوُ:{بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا}

(5)

.

العاشرُ: التَّعديةُ، نحوُ: ما أَضْرَبَ زيدًا لعمرٍو.

الحاديَ عَشَرَ: بمَعنى «على» نحوُ: {يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ}

(6)

.

الثَّانيَ عَشَرَ: بمَعنى «في» ، كقولِه تَعالى:{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ}

(7)

.

الثَّالثَ عَشَرَ: بمَعنى «عندَ» أي: الوقتيَّةِ وما يَجرِي مَجراها، كقولِه عليه الصلاة والسلام:«صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ»

(8)

.

الرَّابعَ عَشَرَ: بمَعنى «مِن»

(9)

نحوُ: سَمِعْتُ له صُراخًا؛ أي: منه.

(1)

القصص: 8.

(2)

الأنفال: 33.

(3)

يوسف: 43.

(4)

البروج: 16.

(5)

الزَّلزلة: 5.

(6)

الإسراء: 107.

(7)

الأنبياء: 47.

(8)

رواه البخاري (1909)، ومسلم (1081) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(9)

زاد في (د): كقولِه تَعالى.

ص: 154

الخامسَ عَشَرَ: بمَعنى «عن» كقولِه تَعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ}

(1)

أي: قالوا عنهم ذلك، وضابطُها: أنَّها تَجُرُّ اسمَ مَن غابَ حقيقةً، أو حُكمًا عن قولِ قائلٍ يَتَعَلَّقُ به.

(بَلْ)

(1)

تَأتي (لِعَطْفٍ، وَإِضْرَابٍ، إِنْ وَلِيَهَا مُفْرَدٌ) وتَسْلُبُ الحُكْمَ قَطعًا (فِي إِثْبَاتٍ، فَتُعْطِي حُكْمَ مَا قَبْلَهَا لِمَا بَعْدَهَا) أي: يَصِيرُ الأوَّلُ كالمسكوتِ عنه ويَثبُتُ الحُكْمُ للثَّاني، نحوُ: جاءَ زيدٌ بلْ عَمرٌو.

(وَ) إنْ وَلِيَها مُفردٌ في (نَفْيٍ فَـ) ـإنَّها (تُقَرِّرُ) حُكْمَ (مَا قَبْلَهَا، وَ) تُقَرِّرُ (ضِدَّهُ) أي: ضِدَّ حُكْمِ ما قَبْلَها (لِمَا بَعْدَهَا) في الأصحِّ، نحوُ: ما قامَ زيدٌ بل عمرٌو [فتُقَرِّرُ نَفيَ القيامِ لزيدٍ وضِدَّه لعمرٍو.

(2)

أمَّا إنْ وَقَعَتْ «بل» (قَبْلَ جُمْلَةٍ) نحوُ: قَامَ زيدٌ بل عَمرٌو]

(2)

قائمٌ؛ فلا تَكونُ عاطفةً بلْ حرفًا، (لِابْتِدَاءٍ، وَإِضْرَابٍ) وهو ضربانِ:

- إضرابٌ (لِإِبْطَالٍ) للحُكْمِ السَّابِقِ، كقولِه تَعالى:{أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ}

(3)

.

- (أَو) أي: والثَّاني إضرابٌ (لِانْتِقَالٍ) مِن حُكْمٍ إلى حُكْمٍ مِن غيرِ إبطالِ الأوَّلِ، كقولِه تَعالى:{بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ}

(4)

لم يُبْطِلْ شيئًا مِمَّا سَبَقَ، وإنَّما فيه انتقالٌ مِن خبَرٍ عنهم

(5)

إلى خبَرٍ آخَرَ، فالحاصلُ أنَّ الإضرابَ الانتقاليَّ قطعٌ للخَبَرِ لا للمُخبَرِ عنه.

(1)

الأحقاف: 11.

(2)

ليس في (د).

(3)

المؤمنون: 70.

(4)

النَّمل: 66.

(5)

في (د): عنهم من خبر.

ص: 155

(أَوْ)

حرفُ عطفٍ، وتأتي:

(1)

(لِشَكٍّ) نحوُ: قامَ زيدٌ أو عمرٌو، إذا لم يُعلَمْ أيُّهما قامَ.

والفرقُ بينَها وبينَ «إمَّا» الَّتي للشَّكِّ: أنَّ الكلامَ مع «إمَّا» لا يَكُونُ إلَّا مَبنيًّا على الشَّكِّ، بخلافِ «أو» فقد يَبْنِي المُتكلِّمُ كلامَه على اليقينِ، ثمَّ يُدرِكُه الشَّكُّ فيَأتي بها.

(2)

(وَ) تأتي لـ (إِبْهَامٍ) ويُعَبَّرُ عنها بالتَّشكيكِ

(1)

نحوُ: قامَ زيدٌ أو عمرٌو، إذا عَلِمْتَ القائمَ مِنهما، ولكنْ قَصَدْتَ الإبهامَ على المُخاطَبِ، فالشَّكُّ مِن جهةِ المُتكلِّمِ، والإبهامُ على السَّامعِ.

(3)

(وَ) تأتي أيضًا لـ (إِبَاحَةٍ،

(4)

وَتَخْيِيرٍ) نحوُ: جالسِ الحَسَنَ أو ابنَ سِيرينَ، ونحوُ: تَزَوَّجْ هندًا أو أختَها.

والفرقُ بينَهما: جوازُ الجمْعِ في الإباحةِ، وامتناعُه في التَّخييرِ.

(5)

(وَ) تَأتي أيضًا لـ (مُطْلَقِ جَمْعٍ) كالواوِ، كقولِه تَعالى:{وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ}

(2)

.

(6)

(وَ) لـ (تَقْسِيمٍ) نحوُ: الكلمةُ: اسمٌ، أو فعلٌ، أو حرفٌ.

(7)

(وَبِمَعْنَى إِلَى) نحو: لأَلْزَمَنَّك أوْ تَقْضِني

(3)

حَقِّي.

(1)

في (ع): لتشكيك.

(2)

الصَّافَّات: 147.

(3)

في (د): تقضيني.

ص: 156

(8)

(وَ) بمَعنى (إِلَّا) نحوُ: لأَقْتُلَنَّ الكافرَ أو يُسْلِمَ؛ أي: إلَّا أنْ يُسلِمَ [فلا أَقتُلُه]

(1)

.

(9)

(وَ) بمَعنى (إِضْرَابٍ، كَـ «بَلْ») كقولِه تَعالى: {أَوْ يَزِيدُونَ}

(2)

على قولِ مَن لا يَجعَلُها لمُطلَقِ الجمعِ في الآيةِ.

وَقِيلَ: إنَّها تَأتي للتَّقريبِ أيضًا، وجُعِلَ منه قولُه تَعالى:{وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ}

(3)

.

(لَكِنْ)

تَأتي:

(1)

(لِعَطْفٍ وَاسْتِدْرَاكٍ) بشرطينِ:

أحدُهما: (إِنْ وَلِيَهَا) أي: وَقَعَ بَعدَها: (مُفْرَدٌ فِي نَفْيٍ، وَنَهْيٍ

(4)

أي: تَقَدَّمَها نفيٌ

(5)

، نحوُ: ما قامَ زيدٌ لكن عمرٌو، أو نهيٌ، نحوُ: لا يَقُمْ زيدٌ لكنْ عمرٌو، وفُهِمَ منه أنَّها لا تَقَعُ إذًا

(6)

في الإيجابِ.

الشَّرطُ الثَّاني: ألَّا تَقتَرِنَ بالواوِ.

(2)

(وَ) أمَّا إذا وَقَعَتْ (قَبْلَ جُمْلَةٍ) فتَكُونُ حينئذٍ بعدَ إيجابٍ، أو نفيٍ، أو نهيٍ، أو أمرٍ، لا استفهامٍ، وهي بعدَ الجملةِ (لِابْتِدَاءٍ) لا حرفُ عطفٍ.

فائدةٌ: مَعنى الاستدراكِ أنْ تَنسُبَ لِما بَعدَها حُكمًا مُخالفًا لحُكْمِ ما قَبْلَها، ولذلك لا بدَّ أنْ يَتَقَدَّمَها كلامٌ مُناقضٌ لِما بَعدَها.

(1)

ليس في (ع).

(2)

الصَّافَّات: 147.

(3)

النَّحل: 77.

(4)

في (ع): أو نهي.

(5)

ليست في (د).

(6)

ضرب عليها في (ع).

ص: 157

(البَاءُ)

أَصلُ مَعانيها أنْ تكُونَ (لِإِلْصَاقٍ) لا تَنْفَكُّ عنه، لكنْ قد تَتَجَرَّدُ له، وقد يَدخُلُها مع ذلك مَعنًى آخَرُ.

والإلصاقُ: أنْ يُضافَ الفعلُ إلى الاسمِ، فيُلْصَقَ به بعدما كانَ لا يُضافُ إليه، لولا دُخولُها، نحوُ: خُضْتُ الماءَ برِجلي، ومَسَحْتُ برَأسي.

ثمَّ قد تكُونُ (حَقِيقَةً) نحوُ: أَمْسَكْتُ الحبلَ بيَدِي، (وَ) قد تَكُونُ (مَجَازًا) نحوُ: مَرَرْتُ بزيدٍ، فإنَّ المرورَ لم يُلصَقْ بزيدٍ، وإنَّما أُلصِقَ

(1)

بمكانٍ يَقْرُبُ منه.

(وَلَهَا) أي: للباءِ (مَعَانٍ) كثيرةٌ:

أحدُها: التَّعديةُ، وتُسَمَّى باءَ النَّقلِ، وهي القائمةُ مَقامَ الهمزةِ في تَصيِيرِ الفاعلِ مَفعولًا، كقولِه تَعالى:{ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ}

(2)

وأصلُه: ذَهَبَ نورُهم.

الثَّاني: الاستعانةُ، وهي الدَّاخلةُ على آلةِ الفِعلِ ونَحوِها، نحوُ: كَتَبْتُ بالقلمِ.

الثَّالثةُ: السَّببيَّةُ، كقولِه تَعالى:{فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ}

(3)

.

الرَّابعُ: التَّعلِيليَّةُ، كقولِه تَعالى:{فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا}

(4)

.

والفرقُ بينَهما: أنَّ العِلَّةَ مُوجِبةٌ لمعلولِها، بخلافِ السَّببِ لمُسَبِّبِه، فهو كالأمارةِ عليها.

(1)

في (ع): لصق.

(2)

البقرة: 17.

(3)

العنكبوت: 40.

(4)

النِّساء: 160.

ص: 158

الخامسُ: المُصاحبةُ، وهو الَّذِي يَصْلُحُ في موضعِها «مَعَ» ، أو يُغني عنها وعن مَصحوبِها: الحالُ، كقولِه تَعالى:{قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ}

(1)

أي: مع الحقِّ، أو مُحِقًّا.

السَّادسُ: الظَّرفيَّةُ بمَعنى «في» للزَّمانِ، كقولِه:{وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ}

(2)

، وللمكانِ كقولِه تَعالى:{وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ}

(3)

وربَّما كانَتِ الظَّرفيَّةُ مجازيَّةً، نحوُ: بكلامِك بهجةٌ.

السَّابعُ: البَدليَّةُ، بأنْ يَجِيءَ موضعَها بدلٌ، كقولِه في الحديثِ

(4)

: «مَا

(5)

يَسُرُّنِي بِهَا حُمْرُ النَّعَمِ»

(6)

أي: بَدلُها.

الثَّامنُ: المُقابلةُ، وهي الدَّاخلةُ على الأثمانِ والأعواضِ، نحوُ: اشتريْتُ الفرسَ بألفٍ، ودُخولُها غالبًا على الثَّمنِ، وربَّما دَخَلَتْ على المُثَمَّنِ، كقولِه تَعالى:{وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا}

(7)

.

التَّاسعُ: المُجاوزةُ، بمَعنى «عَنْ» وتَكْثُرُ بعدَ السُّؤالِ، نحوُ:{فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا}

(8)

، وتَقِلُّ بعدَ غيرِه، نحوُ:{وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ}

(9)

وهو مذهبٌ كوفِيٌّ، وتَأَوَّلَه الشَّلَوْبِينُ على أنَّها باءُ السَّببيَّةِ.

العاشرُ: الاستعلاءُ، كقولِه تَعالى:{وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ}

(10)

أي: على دينارٍ.

(1)

النِّساء: 170.

(2)

الصَّافَّات.

(3)

آل عمران: 123.

(4)

زاد في (ع): الصَّحيح.

(5)

في (د): وما.

(6)

رواه البخاري (923).

(7)

المائدة: 44.

(8)

الفرقان: 59.

(9)

الفرقان: 25.

(10)

آل عمران: 175.

ص: 159

الحاديَ عَشَرَ: القَسَمُ، وهو

(1)

أصلُ حُروفِه، نحوُ: باللهِ! لأَفْعَلَنَّ كذا.

الثَّانيَ عَشَرَ: الغايةُ، نحوُ

(2)

: {وَقَدْ أَحْسَنَ بِي}

(3)

أي: أَحسَنَ

(4)

إليَّ.

الثَّالثَ عَشَرَ: التَّوكيدُ، وهي الزَّائدةُ، نحوُ: بِحَسْبِكَ درهمٌ.

الرَّابعَ عَشَرَ: التَّبعيضُ، قَالَ به الكُوفيُّونَ وغيرُهم، نحوُ:{عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ}

(5)

أي: منها.

(إِذَا)

تَأتي:

(1)

(لِمُفَاجَأَةٍ حَرْفًا) ويَقَعُ بعدَها المُبتدأُ، كقولِه تَعالى:{فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى}

(6)

وَلَا تحتاجُ إلى جوابٍ، ومَعناها الحالُ فَرْقًا بينَها وبينَ الشَّرطيَّةِ، فإنَّ الواقعَ بعدَها الفعلُ، وقد اجْتَمَعَتا في قولِه تَعالى:{ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ}

(7)

ومَعنى المُفاجأةِ: حُضورُ الشَّيْءِ مَعَكَ في وصفٍ مِن أوصافِك الفِعليَّةِ، كقولِك: خَرجْتُ فإذا الأسدُ، فحُضورُ الأسدِ مَعَك في زمنِ وَصفِك بالخروجِ، أو في مكانِ خروجِك [وحضورُه مَعَك في مكانِ خروجِك]

(8)

أَلْصَقُ بك مِن حضورِه في زمنِ خروجِك، وكُلَّما كانَ ألصقَ كانَتِ المُفاجأةُ فيه أقوى.

(2)

(وَتَأتي)«إذا» (ظَرْفًا لِـ) زمنٍ (مُسْتَقْبَلٍ) نحوُ: إذا جاءَ زيدٌ فقُم إليه، فهي باقيةٌ على ظرفِيَّتِها، و (لَا) تَجِيءُ ظرفًا لزمنٍ (مَاضٍ وَحَالٍ) في

(1)

في (ع): وهي.

(2)

في (ع): كقولِه تَعالى.

(3)

يوسف: 100.

(4)

ليست في (د).

(5)

الإنسان: 6.

(6)

طه: 20.

(7)

الرُّوم: 25.

(8)

ليس في (د).

ص: 160

قولِ الأكثرِ، بل لمُستقبلٍ (مُتَضَمِّنَةً مَعْنَى الشَّرْطِ غَالِبًا) ولذلك تُجابُ بما يُجابُ به أدواتُ الشَّرطِ، ولم يَثْبُتْ لها سائرُ أحكامِ الشَّرطِ، فلم يُجزَمْ بها المضارعُ، ولا تَكُونُ إلَّا في المُحقَّقِ، ومنه {إذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ}

(1)

لأنَّ مسَّ الضُّرِّ في البحرِ مُحَقَّقٌ.

(إِذْ)

بإسكانِ المُعجَمَةِ (اسْمٌ) بالإجماعِ إلَّا إذا وقعَتْ للتَّعليلِ، أو المُفاجأةِ كما يَأتي، ولها معانٍ:

أحدُها: وهو الأغلبُ عليها أن تَكُونَ ظرفًا (لِـ) ـزمنٍ (مَاضٍ) كقولِه تَعالى: {فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا}

(2)

.

والثَّاني: أنْ يُضافَ إليها اسمُ زمانٍ، نحوُ: يومئذٍ، {بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا}

(3)

.

(وَ) الثَّالثُ: (فِي قَوْلٍ: وَلِـ) زمنٍ (مُسْتَقْبَلٍ

(4)

مثلُ «إذا» ، كقولِه تَعالى:{فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ}

(5)

ومَنَعَ الأكثرُ ذلك

(6)

، وأجابوا عن الآيةِ ونحوِها: بأنَّ ذلك نُزِّلَ منزلةَ الماضي؛ لتَحَقُّقِ وُقوعِه، مِثلُ:{أَتَى أَمْرُ اللَّهِ}

(7)

.

(وَ) الرَّابعُ: أنْ تَكُونَ (مَفْعُولًا بِهِ) نحو

(8)

: {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ}

(9)

.

(1)

الإسراء: 67.

(2)

التَّوبة: 40.

(3)

آل عمران: 8.

(4)

زاد في «مختصر التحرير» (ص 58): ظرفًا.

(5)

غافر.

(6)

ليست في (د).

(7)

النَّحل: 1.

(8)

في (ع): كقولِه تَعالى.

(9)

الأعراف: 86.

ص: 161

(وَ) الخامسُ: أنْ تَكُونَ (بَدَلًا مِنْهُ) أي: مِنَ المفعولِ بهِ، نحوُ:{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ}

(1)

فـ «إذ» بدلُ اشتمالٍ مِن مريمَ.

(وَ) السَّادسُ: أنْ تَكُونَ (لِتَعْلِيلٍ) حرفًا، كقولِه تَعالى:{وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ}

(2)

.

(وَ) السَّابعُ: أنْ تَكُونَ لـ (مُفَاجَأَةٍ حَرْفًا) وهي الواقعةُ بعدَ «بينَ» ، و «بينَما» ، نحوُ قولِك: بينما

(3)

أنا كذا إذ جاءَ زيدٌ.

(لَوْ)

(حَرْفٌ) يَدُلُّ على (امْتِنَاعِ) الثَّاني (لِامْتِنَاعِ) الأوَّلِ عندَ الأكثرِ، فقولُك: لو جِئْتَني لأَكْرمْتُك، يَدُلُّ على انتفاءِ المجيءِ والإكرامِ.

فَإِنْ قِيلَ: قد لا يَكُونُ جوابُها مُمتنعًا بل يَثْبُتُ، كقولِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في سالمٍ مَولى أبي حُذيفةَ:«إِنَّهُ شَدِيدُ الحُبِّ للهِ، لَوْ كَانَ لَا يَخَافُ اللهَ مَا عَصَاهُ»

(4)

.

والجوابُ عنه: أنَّ لانتفاءِ المعصيةِ شيئينِ: المَحبَّةُ، والخوفُ، فلو انْتَفَى الخوفُ لم تُوجَدِ المعصيةُ؛ لوجودِ الآخَرِ وهو المحبَّةُ.

(وَ) لها معانٍ: (تَأْتِي:

(1)

شَرْطًا) في الأصحِ (لِـ) ـفعلٍ (مَاضٍ؛ فَتَصْرِفُ المُضَارِعَ إِلَيْهِ) أي: إلى المُضِيِّ، كما مَثَّلْنا، عكسَ «إِنْ» الشَّرطيَّةِ، فإنَّها تَصرِفُ الماضيَ إلى الاستقبالِ.

(1)

مريم: 16.

(2)

الزُّخرف: 39.

(3)

في (ع): بينا.

(4)

رواه أبو نُعيمٍ في «حِلية الأولياءِ» (1/ 177). وضعَّفَه السَّخاويُّ في «الأجوبةُ المَرْضِيَّةُ» (1/ 100).

ص: 162

(وَ) الثَّاني: (لِمُسْتَقْبَلٍ قَلِيلًا، فَتَصْرِفُ المَاضِيَ إِلَيْهِ) أي: إلى الاستقبالِ، مثلُ «إنْ» ، كقولِه تَعالى:{وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ}

(1)

.

(وَ) الثَّالثُ: (لِتَمَنٍّ) نحوُ: {فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً}

(2)

أي: فليتَ لنا كَرَّةً.

(وَ) الرَّابعُ: لـ (عَرْضٍ) وهو طلبٌ بِلِينٍ، نحوُ: لو تَنزِلُ عندَنا، فتُصيبَ خيرًا.

(وَ) الخامسُ: لـ (ـــتَحْضِيضٍ) وهو طلبٌ بحَثٍّ، نحو: لو فَعَلْت كذا؛ أي: افعلْ كذا.

(وَ) السَّادسُ: لـ (تَقْلِيلٍ) كقولِه عليه السلام: «رُدُّوا السَّائِلَ وَلَوْ بِظِلْفٍ مُحْرَقٍ»

(3)

، و «التَمِسْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ»

(4)

.

(وَ) السَّابعُ: لمَعنًى (مَصْدَرِيٍّ) وعلامتُها أن يَصلُحَ في مَوْضِعِها «أَنْ» وأكثرُ وُقوعِها بعدَ ما يَدُلُّ على تمنٍّ، كقولِه تَعالى:{يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ}

(5)

.

وأَنْكَرَها الأكثرُ، وتَأَوَّلُوا الآيةَ ونَحوَها على حذفِ مفعولِ {يَوَدُّ} ، وجوابُ {لَوْ}؛ أي: يَوَدُّ أحدُهم طولَ العُمرِ؛ أي: لو يُعَمَّرُ ألفَ سنةٍ لسُرَّ بذلك.

(1)

يوسف: 17.

(2)

الشُّعراء: 102.

(3)

رواه أبو داودَ (1667)، والتِّرمذيُّ (665)، والنَّسائيُّ (2565)، وابنُ حِبَّانَ (3374) من حديثِ ابْنِ بُجَيْدٍ الأَنْصَارِيِّ، عن جَدَّتِه.

وقالَ التِّرمذيُّ: حَسَنٌ صحيحٌ.

(4)

رواه البخاريُّ (5029)، ومسلمٌ (1425) من حديثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، قال: أَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم امْرَأَةٌ، فَقَالَتْ: إِنَّهَا قَدْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا للهِ وَلِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم .. الحديثَ.

(5)

البقرة: 96.

ص: 163

(لَوْلَا)

لها معانٍ وأحوالٌ:

أحدُها: ما أشارَ إليه بقولِه: (حَرْفٌ يَقْتَضِي فِي جُمْلَةٍ اسْمِيَّةٍ امْتِنَاعَ جَوَابِهِ لِوُجُودِ شَرْطِهِ) نحوُ: «لولا زيدٌ لأَكْرَمْتُك» ؛ أي: لولا زيدٌ موجودٌ، فامتناعُ الإكرامِ لوجودِ زيدٍ.

(وَ) الثَّاني: يَقتضي (فِي) جملةٍ (مُضَارِعَةٍ) يَعني مُصَدَّرةً بفعلٍ مضارعٍ (تَحْضِيضًا) نحوُ: {لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ}

(1)

فهي للتَّحضيضِ.

(وَ) الثَّالثُ: يَقتضي في جملةٍ (مَاضِيَةٍ) يعني مُصَدَّرَةً بفعلٍ ماضٍ (تَوْبيخًا) نحوُ قولِه تَعالى: {لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ}

(2)

.

(وَ) الخامسُ

(3)

: يَقتضي في جملةٍ ماضيةٍ أيضًا (عَرَضًا) نحوُ قوله تَعالى: {لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ}

(4)

، وذَكَرَ الهَرَوِيُّ أنَّها تَرِدُ للنَّفيِ، مِثلُ:«لم» ، وجَعَلَ منه قولَه تَعالى:{فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ}

(5)

.

وقالَ الأكثرُ: هي هنا للتَّوبيخِ؛ أي: فهل كانَتْ قريةٌ مِن القُرى المُهلَكَةِ آمَنَتْ قبلَ حُلولِ العذابِ فنَفَعَها ذلك.

(1)

النمل: 46.

(2)

النُّور: 13.

(3)

كذا.

(4)

المنافقون: 10.

(5)

يونس: 98.

ص: 164

(فَصْلٌ)

(مَبْدَأُ اللُّغَاتِ تَوْقِيفٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى، بِإِلْهَامٍ، أَوْ وَحْيٍ، أَوْ كَلَامٍ) واستدلَّ بقولِه تَعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ}

(1)

أي: إنَّ اللهَ تَعالى أَلْهَمَه وَضعَها، فعَبَّروا عنْ وَضْعِه بالتَّوقيفِ لإدراكِ الوضعِ، والأصلُ: اتِّحادُ العِلْمِ وعدمُ اصطلاحٍ سابقٍ، وحقيقةُ اللَّفظِ، وقد أكَّدَه بـ «كُلَّها» .

(وَيَجُوزُ تَسْمِيَةُ الشَّيْءِ بِغَيْرِ تَوْقِيفٍ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللهُ تَعَالَى، فَيَبْقَى لَهُ اسْمَانِ): توقيفيٌّ، واصطلاحيٌّ.

قالَ القاضي أبو يَعلى: يَجُوزُ أن تُسَمَّى الأشياءُ بغيرِ الأسماءِ الَّتي وَضَعَها اللهُ تَعالى عَلَمًا لها إذا لم يَقَعْ حَظْرٌ

(2)

.

(وَأَسْمَاؤُهُ) الحُسنى سُبحانَه و (تَعَالَى تَوْقِيفِيَّةٌ) بمعنى أنَّه لا يَجُوزُ لأحدٍ أنْ يَشْتَقَّ مِن الأفعالِ الثَّابتةِ للهِ تَعالى أسماءً، إلَّا إذا وَرَدَ نصٌّ في الكتابِ أوِ السُّنَّةِ، و (لَا تَثْبُتُ) أسماءُ اللهِ تَعالى ولا شيءٌ مِنها (بِقِيَاسٍ).

قالَ القاضي أبو بكرٍ والغَزَّالِيُّ: الأسماءُ توقيفيَّةٌ دونَ الصِّفاتِ.

قال الحافظُ ابنُ حجرٍ: وهذا المُختارُ

(3)

.

واحتجَّ الغَزَّاليُّ بالاتِّفاقِ على أنَّه لا يَجُوزُ أنْ يُسَمَّى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم باسمٍ لم يُسَمِّه به أبوه، ولا يُسَمِّي به نَفْسَه، وكذا كلُّ كبيرٍ مِن الخلْقِ.

قال: فإذا امْتَنَعَ في حقِّ المخلوقينَ فامتناعُه في حقِّ اللهِ تَعالى أَوْلى.

(1)

البقرة: 31.

(2)

«العدة في أصول الفقه» (1/ 191).

(3)

«فتح الباري» (11/ 223) نقلًا عن الباقلاني.

ص: 165

واتَّفقوا على أنَّه لا يَجوزُ أن يُطلَقَ عليه اسمٌ وَلَا صفةٌ تُوجِبُ نَقْصًا، ولو وَرَدَ ذلك نصًّا، فلا يُقالُ: ماهدٌ، وَلَا زارعٌ، وَلَا فالقٌ، وإنْ ثَبَتَ في قولِه:{فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ}

(1)

، {أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ}

(2)

، {فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى}

(3)

ونحوِها.

(وَطَرِيقُ مَعْرِفَةِ اللُّغَةِ) قسمانِ:

أحدُهما: (النَّقْلُ) وهو نوعانِ:

(1)

(تَوَاتُرًا فِيمَا لَا يَقْبَلُ تَشْكِيكًا) كالسَّماءِ، والأرضِ، والجبالِ، ونحوِها.

ولغاتُ القُرآنِ والأحاديثِ مِن هذا النَّوعِ.

(وَ) الثَّاني: النَّقلُ (آحَادًا فِي غَيْرِهِ) أي: غيرِ ما لا يَقبَلُ تشكيكًا، وهو أكثرُ اللُّغةِ، فيُتَمَسَّكُ به في المسائلِ الظَّنِّيَّةِ دونَ القطعيَّةِ.

(وَ) القِسْمُ الثَّاني: (المُرَكَّبُ مِنْهُ) أي: مِن النَّقلِ (وَمِنَ العَقْلِ) وهو استنباطُ العَقلِ مِن النَّقلِ.

مثالُه: كَوْنُ الجمعِ المُعَرَّفِ بـ «أل» للعمومِ، فإنَّه مُستفادٌ مِن مُقدِّمَتينِ نَقليَّتَينِ حَكَمَ العقلُ بواسطتِهما:

إحداهما: أنَّه يَدخُلُه الاستثناءُ.

والثَّانيةُ: أنَّ الاستثناءَ: إخراجُ ما تَناوَلَه اللَّفظُ.

فحُكْمُ العَقلِ عندَ وجودِ هاتينِ المُقدِّمتَينِ بأنَّه للعمومِ، ولا اعتبارَ بما يُخالِفُ ذلك ممَّن يَقُولُ: إذا كانَتِ المُقدِّمتانِ نَقليَّتَينِ كانَتِ النَّتيجةُ أيضًا نقليَّةً، وإنَّما العَقلُ تَفَطَّنَ لنتيجتِها؛ لأنَّا نَقُولُ: لَيْسَ هذا الدَّليلُ مركبًا مِن

(1)

الذَّاريات: 48.

(2)

الواقعة: 64.

(3)

الأنعام: 95.

ص: 166

نقليَّتَينِ لعدمِ تَكرارِ الحدِّ الأوسطِ فيهما، وإنَّما هو مُرَكَّبٌ مِن مقدِّمةٍ نقليَّةٍ وهي الاستثناءُ، وهو إخراجُ بعضِ ما تَنَاوَلَه اللَّفظُ، ومُقَدِّمَةٍ عقليَّةٍ لازمةٍ لمُقدِّمةٍ أُخرى نقليَّةٍ، وهي أنَّ كلَّ ما دَخَلَه الاستثناءُ عامٌّ؛ لأنَّه لو لم يَكُنْ عامًّا لم يَدخُلِ الاستثناءُ فيه، ثمَّ جُعِلَتْ هذه القضيَّةُ كبْرى للمُقدِّمةِ الأُخرى النَّقليَّةِ، فصارَ صورةُ الدَّليلِ هكذا: الجمعُ المُحَلَّى بـ «الـ» يَدخُلُه الاستثناءُ، وكلُّ ما يَدخُلُه الاستثناءُ عامٌّ، يَنْتُجُ: أنَّ المُحَلَّى بـ «الـ» عامٌّ.

(وَزِيدَ) لمعرفةِ اللُّغةِ طريقٌ ثالثٌ: (وَ) هو (القَرَائِنُ) فإنَّ الرَّجلَ إذا سَمِعَ وُحْدانًا في قولِ الشَّاعرِ

(1)

:

قَوْمٌ إِذَا الشَّرُّ أَبْدَى نَاجِذَيْهِ لَهُمْ

طَارُوا إِلَيْهِ زَرَافَاتٍ وَوُحْدَانَا

عَلِمَ أنَّ «زَرافاتٍ» بمَعنى: جماعاتٍ.

(وَ‌

‌الأَدِلَّةُ النَّقْلِيَّةُ قَدْ تُفِيدُ اليَقِينَ)

فتُفيدُ القطعَ بالمُرادِ، واختارَ الآمِدِيُّ والرَّازيُّ: أنَّها قد تُفيدُ إذا انْضَمَّ إليها تواترٌ أو غيرُه مِن القَرائنِ الحاليَّةِ، ولا عِبْرةَ بالاحتمالِ، فإنَّه إذا لم يَنْشَأْ عن دليلٍ لم يُعتَبَرْ، وإلَّا لم يُوثَقْ بمحسوسٍ.

قالَ الكُورَانِيُّ: الأَدِلَّةُ اللَّفظيَّةُ النَّقليَّةُ بدونِ

(2)

قرينةٍ لا تُفيدُ القطعَ بالحُكْمِ، لاحتمالِ مجازٍ أو اشتِراكٍ وغيرِ ذلك مِمَّا يُخِلُّ بالتَّفاهُمِ، وأمَّا مع انضمامِ قرينةٍ قطعيَّةٍ كالتَّواتُرِ، على أنَّ المُرادَ

(3)

ذلك قطعًا، ولذلك لا

(1)

من البسيطِ، وهو لقُرَيْطِ بنِ أُنَيْفٍ من شعراءِ الحماسةِ. ينظر:«شرح الشَّواهدِ الكُبرى» لبدرِ الدِّينِ العينيِّ (3/ 1059).

(2)

في (د): بغير. والمثبت من (ع)، و «الدُّرَر اللَّوامِع» .

(3)

زادَ في «الدُّرَر اللَّوامِع» : باللَّفظِ الفلانِيِّ في الموردِ الفلانِيِّ كذا، أو انعقدَ الإجماعُ على ذلك، فإنَّه يُفيدُ كَوْنَ المرادِ.

ص: 167

يَجُوزُ للمُجتهدِ أن يُخالِفَ ما أُجمِعَ عليه؛ لأنَّ المُجمَعَ عليه لا يُمكِنُ أن يَكُونَ خلافَ حُكْمِ اللهِ، فإفادةُ اليقينِ بمِثْلِ هذه القَرينةِ مُسَلَّمٌ، ولكنَّ المَتنَ القَطعيَّ إذا خلا عن هذه القَرينةِ لا

(1)

يُفيدُ قطعًا، ويَظهَرُ ذلك في:{أَقِيمُوا الصَّلَاةَ}

(2)

، وفي:{ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ}

(3)

، فإنَّ المتنَ في الكلِّ سواءٌ، مَعَ أنَّ المُرادَ مِن الأوَّلِ قطعيٌّ دونَ الثَّاني

(4)

.

(وَ) قَالَ الشَّيخُ: عندَ السَّلَفِ (لَا يُعَارِضُ القُرْآنَ غَيْرُهُ بِحَالٍ، وَحَدَثَ مَا قِيلَ: أُمُورٌ قَطْعِيَّةٌ عَقْلِيَّةٌ تُخَالِفُ القُرْآنَ)

(5)

انتهى.

(وَ) ذَهَبَ أهلُ العِلمِ مِن الأئمَّةِ الأربعةِ وغيرِهم إلى أنَّه (لَا مُنَاسَبَةَ ذَاتِيَّةً) أي: طبعيَّةً (بَيْنَ لَفْظٍ وَمَدْلُولِهِ)؛ لِما تَقَدَّمَ مِن المُشتَركِ للشَّيءِ وضِدِّه، كالقُرءِ، والجَوْنِ، ونحوِهما، وللشَّيءِ ونقيضِه، ولاختلافِ الاسمِ، لاختلافِ الأُمَمِ مع اتِّحادِ المُسَمَّى، وإنَّما اختصَّ كلُّ اسمٍ بمَعنًى بإرادةِ الفاعلِ المختارِ.

(وَيَجِبُ حَمْلُ اللَّفْظِ) إذا أَتَى له مَعنيانِ أو أكثرُ، ولكنَّ الأصلَ فيه مَعنًى، والمعنى الآخَرُ طارئٌ، فيُقَدَّمُ ما كانَ هو الأصلَ عندَ احتمالِ التَّعارُضِ، فإنِ احتَفَّتْ قرائنُ بإرادةِ غيرِ ذلك اتُّبعَ، فمن ذلك: إذا دارَ اللَّفظُ بينَ كونِه حقيقةً أو مجازًا مَعَ الاحتمالِ: كالأسدِ مَثلًا للحيوانِ المُفتَرسِ حقيقةً، وللرَّجلُ الشُّجاعِ مَجازًا، حُمِلَ (عَلَى:

(1)

حَقِيقَتِهِ) لأنَّها الأصلُ، والمجازُ خِلافُ الأصلِ، وتَقَدَّمَ حُكْمُ المجازِ الرَّاجحِ، والحقيقةِ المرجوحةِ.

(1)

ليست في (د).

(2)

الأنعام: 72.

(3)

البقرة: 228.

(4)

«الدُّرَرُ اللَّوامِعُ في شَرحِ جَمْعِ الجَوَامِعِ» (1/ 428 - 429).

(5)

ينظر: «التحبير شرح التحرير» (2/ 711)، و «أصول الفقه» (1/ 147).

ص: 168

(2)

(وَ) كذلك إذا دارَ الأمرُ في اللَّفظِ بينَ جَرَيانِه على عمومِه وتخصيصِه: حُمِلَ على (عُمُومِهِ) كقولِه تَعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ}

(1)

لأنَّ الأصلَ بقاءُ العُمومِ فيُدْخِلُ فيه الحُرَّتَينِ والأَمَتَينِ، وإذا كانَتْ إحداهما أَمَةً والأُخرى حُرَّةً وَلَا تخصيصَ بالحُرَّتَينِ.

(3)

(وَ) كذلك إذا دارَ اللَّفظُ بينَ كونِه مُشتَركًا أو مُفردًا: حُمِلَ على (إِفْرَادِهِ) كالنِّكاحِ على الوَطءِ، دونَ العقدِ، أو على العقدِ دونَ الوطءِ، لا على الاشتِراكِ بينَهما.

(4)

(وَ) كذلك إذا دارَ الأمرُ بينَ كونِه مُضمَرًا أو مُستقِلًّا: حُمِلَ على (اسْتِقْلَالِهِ) كقولِه تَعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ}

(2)

، فبعضُ العلماءِ يُقَدِّرُ {أَنْ يُقَتَّلُوا}: إنْ قَتَلُوا، {أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ} إنْ سَرَقوا، والأصلُ عدمُ التَّقديرِ.

(5)

(وَ) كذلك إذا دارَ اللَّفظُ بينَ كونِه مُقَيَّدًا، أو مُطلقًا: حُمِلَ على (إِطْلَاقِهِ) كقولِه تَعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ}

(3)

فبَعضُهم يُقَيِّدُه بالموتِ على الشِّركِ، والأصلُ الإطلاقُ، فيَكُونُ مُجَرَّدُ الشِّركِ مُحبِطًا لِمَا سَبَقَه منَ الأعمالِ.

(6)

(وَ) كذلك إذا دارَ اللَّفظُ بينَ كونِه زائدًا أو مُتَأَصِّلًا: حُمِلَ على (تَأْصِيلِهِ) كقولِه تَعالى: {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ}

(4)

فبعضُهم يَقُولُ: «لا» زائدةٌ، وأصلُ الكلامِ:«أُقْسِمُ بهذا البلدِ» ، والأصلُ في الكلامِ التَّأصيلُ، ويَكُونُ

(1)

النِّساء: 23.

(2)

المائدة: 33.

(3)

الزُّمر: 65.

(4)

البلد: 1.

ص: 169

المعنى: لا أُقسِمُ بهذا البلدِ وأنْتَ لسْتَ فيه، بل لا يُعَظَّمُ ولا يَصْلُحُ للقَسَمِ إلَّا إذا كُنْتَ فيه.

(7)

(وَ) كذلك إذا دارَ الأمرُ بينَ كونِ اللَّفظِ مُؤَخَّرًا أو مُقَدَّمًا: حُمِلَ على (تَقْدِيمِهِ) كقولِه تَعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا}

(1)

فبعضُهم يَقُولُ: إنَّ في الآيةِ تقديمًا وتأخيرًا، تقديرُه: والَّذين يُظاهِرون مِن نسائِهم فتحريرُ رقبةٍ ثمَّ يَعودون لِما كانوا قبلَ الظِّهارِ سَالِمينَ مِن الإثمِ بسببِ الكفَّارةِ، والأصلُ التَّرتيبُ، فلا تَجِبُ الكفَّارةُ إلَّا بالظِّهارِ والعَوْدِ.

(8)

(وَ) كذلك إذا دارَ اللَّفظُ بينَ كونِه مُؤَكِّدًا أو مُؤَسِّسًا، حُمِلَ على (تَأْسِيسِهِ) كقولِه تَعالى:{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} مِن سورةِ الرَّحمنِ إلى آخِرها، فإنْ جُعِلَ تَوكيدًا لَزِمَ التَّكرارُ، والتَّوكيدُ أكثرُ مِن ثلاثِ مرَّاتٍ، والعَربُ لا تَزيدُ في التَّوكيدِ على ثلاثٍ، فيَحصُلُ في كلِّ مَحَلٍّ على ما تَقَدَّمَ على ذلك التَّكذيبِ، فيَكُونُ الجميعُ

(2)

تأسيسًا لا توكيدًا.

(9)

(وَ) كذلك إذا دارَ اللَّفظُ بينَ كونِه مُتَرادفًا أو مُتباينًا: حُمِلَ على (تَبَايُنِهِ) كقولِه صلى الله عليه وسلم: «لِيَلِيَنِي مِنْكُمْ أُولُو الأَحْلَامِ وَالنُّهَى»

(3)

فالنُّهى: جمعُ نُهْيَةٍ بالضَّمِّ وهي العقلُ، فبَعضُهم فَسَّرَ «أولو الأحلامِ» بالعقلاءِ، فيَكُونُ اللَّفظانِ مُتَرادِفَينِ، وبعضُهم فَسَّرَه بالبالغينَ وهو الأصلُ، فيَكُونُ

(1)

المجادلة: 3.

(2)

في (د): الجمع.

(3)

رواه التِّرمذيُّ (228) مِن حديثِ ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه وقال: حَسَنٌ غريبٌ.

وقالَ في «العِلل الكبير» (94): سَأَلْتُ محمَّدًا عن هذا الحديثِ، فقال: أرجو أن يَكُونَ محفوظًا.

ص: 170

اللَّفظانِ مُتَبايِنَينِ، وفي العبارةِ

(1)

لَفٌّ ونَشْرٌ مُرَتَّبٌ، وتقديرُه: يَجِبُ حَمْلُ اللَّفظِ مع الاحتمالِ على حقيقتِه.

(دُونَ: مَجَازِهِ، وَ) على عُمومِه دونَ (تَخْصِيصِهِ، وَ) على إفرادِه دونَ (اشْتِرَاكِهِ، وَ) على استقلالِه دونَ (إِضْمَارِهِ، وَ) على إطلاقِه دونَ (تَقْيِيدِهِ، وَ) على تأصيلِه دونَ (زِيَادَتِهِ، وَ) على تقديمِه دونَ (تَأْخِيرِهِ، وَ) على تأسيسِه دونَ (تَوْكِيدِهِ، وَ) على تبايُنِه دونَ (تَرَادُفِهِ).

(10)

(وَ) كذا يَجِبُ حمْلُ اللَّفظِ إذا دارَ بينَ نسخِ الحكمِ وبقائِه على (بَقَائِهِ دُونَ نَسْخِهِ) كقولِه تَعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ}

(2)

، فحَصْرُ المُحَرَّمِ في هذه الأربعةِ يَقتضي إباحةَ ما عداها ومِن جُملَتِه السِّباعُ، وقد وَرَدَ نهيُه صلى الله عليه وسلم عن أكلِ كلِّ ذي نابٍ مِن السِّباعِ

(3)

، وعن كلِّ ذي مخلبٍ من الطَّيرِ

(4)

، فبعضُهم يَقُولُ: إنَّ ذلك ناسخٌ للإباحةِ، وبعضُهم يَقُولُ: لَيْسَ بناسخٍ، والأكلُ مصدرٌ مُضافٌ إلى الفاعلِ، وهو الأصلُ في إضافةِ المصدرِ بنصِّ النُّحاةِ، فيَكُونُ مِثْلَ قولِه تَعالى:{وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ}

(5)

[فيَكُونُ حُكْمُها واحدًا]

(6)

.

(1)

يعني عبارة المختصر: ويجب حمل اللفظ على حقيقته .. إلى قوله: وتباينه.

(2)

الأنعام: 145.

(3)

رواه البخاري (5530)، ومسلم (1932) من حديث أبي ثَعلبةَ الخُشَني رضي الله عنه.

(4)

رواه مسلم (1934) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

(5)

المائدة: 3.

(6)

ليس في (د).

ص: 171

(إِلَّا لِدَلِيلٍ رَاجِحٍ) يَدُلُّ على خلافِ ما ذُكِرَ أن اللَّفظَ يُحمَلُ عليه، فيُعمَلُ به ويُترَكُ ما ذُكِرَ.

(و) يُحْمَلُ اللَّفظُ إذا احتملَ مَعنيينِ فأكثرَ (عَلَى عُرْفِ مُتَكَلِّمٍ) إذا كانَ له بذلك عُرفٌ، ويُترَكُ الأصلُ لوجودِ القَرينةِ والدَّليلِ الرَّاجحِ، كالفقيهِ مَثلًا يُرجَعُ إلى عُرفِه مَثلًا

(1)

في كلامِه ومُصطلحاتِه، وكذلك الأصوليُّ، والمُحدِّثُ، والمُفَسِّرُ، ونحوُهم مِن أربابِ العلومِ.

وكذلك إذا سَمِعَ مِنَ الشَّارعِ شَيئًا

(2)

حَمَلَه على عُرفِه مِن مدلولِ اللَّفظِ، كقولِه عليه السلام:«لَا يَقْبَلُ اللهُ صَلَاةً بِغَيْرِ طُهُورٍ»

(3)

فيَجِبُ حَمْلُه على الصَّلَاةِ المعهودةِ في الشَّرعِ، ولو حُمِلَ على الدُّعاءِ لَزِمَ ألَّا يَقبَلَ اللهُ دُعاءً بغيرِ طهورٍ، ولم يَقُلْ به أحدٌ.

(1)

ليست في (ع).

(2)

في (ع): شيء.

(3)

رواه مسلمٌ (244) مِن حديثِ ابنِ عمرَ رضي الله عنهما.

ص: 172

(الأَحْكَامُ)

لَمَّا فَرَغَ مِن ذِكْرِ ما يُستَمَدُّ منه منَ اللُّغةِ، شَرَعَ في ذِكْرِ ما يُستَمَدُّ مِنه مِن الأحكامِ؛ إذْ لا بدَّ مِن حاكمٍ وحُكْمٍ ومحكومٍ فيه ومحكومٍ عليه، والكلامُ الآنَ في الحُكمِ: (الحُسْنِ وَالقُبْحِ

(1)

ويُطلَقُ لثلاثةِ اعتباراتٍ:

أحدُها: (بِمَعْنَى مُلَاءَمَةِ الطَّبْعِ وَمُنَافَرَتِهِ) عقليٌّ، كقولِنا: الصَّوتُ الطَّيِّبُ حَسَنٌ بهذا المعنى، والصوتُ الكريهُ قبيحٌ.

(وَ) أي: والثَّاني: بِمَعْنَى (صِفَةِ كَمَالٍ وَنَقْصٍ) كقولِنا: العِلْمُ حَسَنٌ، والجهلُ قبيحٌ:(عَقْلِيٌّ) بلا نزاعٍ، يَعني يَستقِلُّ العَقلُ بإِدراكِهما مِن غيرِ توقُّفٍ على الشَّرعِ.

(وَ) الثَّالثُ: (بِمَعْنَى المَدْحِ وَالثَّوَابِ، وَ) بمَعنى (الذَّمِّ وَالعِقَابِ: شَرْعِيٌّ، فَلَا حَاكِمَ إِلَّا اللهُ تَعَالَى).

(وَالعَقْلُ لَا يُحَسِّنُ وَلَا يُقَبِّحُ، وَلَا يُوجِبُ، وَلَا يُحَرِّمُ) عندَ أكثرِ أصحابِنا، قالَه ابنُ عَقِيلٍ وغيرُه، وذَكَرَه مذهبَ أحمدَ، وأهلِ السُّنَّة، والفقهاءِ، والقاضي

(2)

، وتَعَلَّقَ بقولِ أحمدَ: لَيْسَ في السُّنَّةِ قياسٌ، وَلَا تُضرَبُ لها الأمثالُ، وَلَا تُدرَكُ بالعقلِ، وإنَّما هو الاتِّباعُ.

(وَلَا يَرِدُ الشَّرْعُ بِمَا يُخَالِفُ) العَقلَ اتِّفاقًا، إلَّا بشرطِ منفعةٍ تَزيدُ في العَقلِ على ذلك الحُكْمِ، كذبحِ الحيوانِ، والبطِّ

(3)

، والفَصدِ

(4)

.

(1)

في (د): والقبيح.

(2)

«العدة في أصول الفقه» (4/ 1218).

(3)

بَطَّ الجُرْحَ والصُّرَّةَ: شَقَّه. ينظر القاموس المحيط (ص 659).

(4)

فَصَدَ يَفْصِدُ فَصْدًا: شَقَّ العِرْقَ. ينظر: القاموس المحيط (ص 306).

ص: 173

قالَ القاضي

(1)

والحلوانيُّ وغيرُهما: (مَا يُعْرَفُ بِبَدَائهِ العُقُولِ وَضَرُورَاتِهَا) كالتَّوحيدِ، وشُكْرِ المُنعِمِ، وقُبحِ الظُّلْمِ، لا يَجُوزُ أن يَرِدَ الشَّرعُ بخلافِه، وما يُعرَفُ بتوليدِ العقلِ استنباطًا أو استدلالًا، فلا يَمتنِعُ أن يَرِدَ بخِلافِه. انتهى.

مثلُ الأعيانِ المنتفعِ بها الَّتي فيها الخلافُ، فيَصِحُّ أن يَرتفِعَ الدَّليلُ والعِلَّةُ، فيرتفعُ ذلك الحُكْمُ، وهذا غيرُ ممتنعٍ، كفروعِ الدِّينِ كلِّها تثبت

(2)

بأدلَّةٍ، ثمَّ تُنسَخُ الأَدِلَّةُ فيرتفعُ الحُكمُ.

(وَالحَسَنُ وَالقَبِيحُ:

شَرْعًا) أي: يَنقسِمُ الفعلُ الَّذِي هو مُتَعَلَّقُ الحُكمِ إلى:

- حسنٍ باعتبارِ إِذْنِ الشَّارعِ: وهو (مَا أَمَرَ) اللهُ تَعالى (بِهِ) فشَمِلَ الواجبَ والمُستحبَّ،

- وإلى قبيحٍ باعتبارِ إِذنِ الشَّارعِ، (وَ) هو:(مَا نَهَى) اللهُ تَعالى (عَنْهُ) فيَشْمَلُ الحرامَ، وظاهرُه أنَّه يَشمَلُ المَكروهَ؛ لأنَّ المكروهَ منهيٌّ عنه نهي

(3)

تنزيه وهذا هو الصَّحيحُ.

(وَ) الحَسَنُ (عُرْفًا) أي: في عُرفِ الشَّرعِ: (مَا لِفَاعِلِهِ فِعْلُهُ،

وَ) القَبيحُ (عَكْسُهُ): وهو ما لَيْسَ لفاعلِه فِعلُه.

(1)

«العدة في أصول الفقه» (4/ 1249).

(2)

في (د): ثبتت.

(3)

ليست في د، ع. ومثبتة من التحبير شرح التحرير 2/ 759.

ص: 174

(وَلَا يُوصَفُ فِعْلُ غَيْرِ مُكَلَّفٍ بِحُسْنٍ وَلَا قُبْحٍ

(1)

قالَه في «المقنعُ» وغيرِه، وقَطَعُوا به؛ لأنَّ‌

‌ فِعلَ غيرِ المُكَلَّفِ

لا يَتَعَلَّقُ به حُكمٌ؛ لأنَّ الأحكامَ إِنَّمَا تَتَعَلَّقُ بأفعالِ المُكَلَّفِينَ، فلا يَدخُلُ تحتَ أحدِ قِسْمَيه وهو الحَسَنُ، وأيضًا فِعْلُه لم يُؤذَنْ فيه شرعًا، فلا يَندَرِجُ تحتَ المأذونِ.

(وَشُكْرُ المُنْعِمِ) مُبتدأٌ ومضافٌ إليه، خبرُه قولُه:«واجبانِ» ، والمُنعِمُ: هو اللهُ سبحانه وتعالى، عبارةٌ عنِ استعمالِ جميعِ ما أَنعَمَ اللهُ به على العبدِ مِن القُوى، والأعضاءِ الظَّاهرةِ والباطنةِ، المُدرِكةِ، والمُحرِّكةِ، فيما خَلَقَه اللهُ تَعالى لأجلِه، كاستعمالِ النَّظرِ في مشاهدةِ مَصنوعاتِه، وآثارِ رحمتِه، ليُستَدَلَّ على صانِعِها، وكذا السَّمعُ وغيرُه.

(وَمَعْرِفَتُهُ) سبحانَه و (تَعَالَى، وَهِيَ أَوَّلُ وَاجِبٍ لِنَفْسِهِ) -جل وعلا- بالنَّظَرِ في الوجودِ والموجودِ على كلِّ مُكلَّفٍ قادرٍ، والمُرادُ معرفةُ وجودِ ذاتِه بصفاتِ الكمالِ فيما لم يَزَلْ ولا يَزالُ، دونَ معرفةِ حقيقةِ ذاتِه وصفاتِه، لاستحالةِ ذلك عقلًا عندَ الأكثرينَ.

إذا عَلِمْتَ ذلك فشُكْرُ المُنعِمِ ومَعرفتُه (وَاجِبَانِ شَرْعًا) لا عقلًا؛ لأنَّ العقلَ لا يُوجِبُ وَلَا يُحَرِّمُ كما تَقَدَّمَ.

تنبيهٌ: قولُه: «وهي أوَّلُ واجبٍ لنَفْسِه» :

قالَ القاضي، وابنُ حَمْدَانَ، وابنُ مُفْلِحٍ

(2)

، وجمعٌ: يَجِبُ قَبْلَها النَّظرُ، يَعني في الدَّليلِ، فهو أوَّلُ واجبٍ لغيرِه. انتهى.

(1)

في (د، ع): قبيح. والمثبت من «مختصر التحرير» (ص 63).

(2)

«أصول الفقه» (1/ 168).

ص: 175

فلا يَقَعُ النَّظَرُ ولا المعرفةُ ضرورةً على الصَّحيحِ.

(وَفِي قَوْلٍ) للرَّازيِّ

(1)

: (لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا) أي: بينَ الشُّكْرِ ومعرفةِ اللهِ تَعالى (عَقْلًا) فمَن أَوْجَبَ الشُّكْرَ عَقلًا أَوْجَبَ المعرفةَ، ومَن لا فلا.

قالَ الأُرْمَوِيُّ: هما مُتلازمانِ.

والقولُ الثَّاني: أنَّ الشُّكرَ فرعُ المعرفةِ.

(وَفِعْلُهُ) سبحانَه و (تَعَالَى وَأَمْرُهُ لَا لِعِلَّةٍ، وَ) لا (حِكْمَةٍ فِي قَوْلٍ) اختارَه كثيرٌ من أصحابِنا.

(وَعَلَيْهِ) أي: على القولِ بإنكارِ فِعلِه تَعالى وأمْرِه لعِلَّةٍ وحكمةٍ (مُجَرَّدُ مَشِيئَتِهِ) تَقَدَّسَ (مُرَجِّحٌ) لإيجادِه فِعلَ ما شاءَه، فإذا شاءَ سُبحانَه شيئًا مِن الأشياءِ تَرَجَّحَ بمُجَرَّدِ تلك الإشاءةِ. ويقولُ القائلُ بهذا عِلَلُ الشَرعِ أماراتٌ

(2)

محضةٌ، واحتجَّ بأنَّ العِلةَّ إنْ كانَتْ قديمةً لَزِمَ مِن قِدَمِها قِدَمُ الفِعلِ، وهو مُحالٌ، وإنْ كانَتْ مُحدَثَةً افْتَقَرَتْ إلى عِلَّةٍ أُخرى، ولَزِمَ التَّسلسُلُ، وهو مرادُ المشايخِ بقَولِهم: كلُّ شيءٍ صَنَعَه، ولا عِلَّةَ لصُنْعِه.

وأُجيبَ: بأنَّ قَولَه: «لو كانَتْ قديمةً لَزِمَ قِدَمُ الفعلِ» ، غيرُ مُسَلَّمٍ؛ لأنَّه لا

(3)

يَلْزَمُ مِن قِدَمِها قِدَمُ المعلولِ، كـ: الإرادةُ قديمةٌ ومُتَعَلَّقُها حادثٌ، ولو كانَتْ حادثةً لم تَفتَقِرْ إلى عِلَّةٍ أُخرى، وإنَّما يَلْزَمُ لو قَالَ: كلُّ حادثٍ مُفْتَقِرٌ إلى عِلَّةٍ، وهم لم يَقولوا ذلك، بل قالوا: يَفعَلُ لحكمةٍ، فإنَّه لا يَلْزَمُ مِن كَوْنِ الأوَّلِ مُرادًا لغيرِه كَوْنُ الثَّاني كذلك، وإذا كانَ الثَّاني مَحبوبًا لم يَجِبْ كَوْنُ

(1)

«المحصول» (1/ 201).

(2)

في (ع): أمارة.

(3)

ليست في (ع).

ص: 176

الأوَّلِ كذلك، فلا يَتَسَلْسَلُ.

وأيضًا المُنازعونَ يَقولون: كلُّ مخلوقٍ مُرادٌ لنَفْسِه، فلأَنْ يَجُوزَ في بعضِها أنْ يَكُونَ مُرادًا أَوْلى، والتَّسلسُلُ إِنَّمَا يَكُونُ للاستقباليِّ

(1)

فإنَّ الحكمةَ قد تكُونُ حاصلةً بعدَه، وهي مستلزمةٌ لحِكمةٍ أُخرى وهلمَّ جرًّا، فعلى هذا يَكُونُ فِعلُه وأمْرُه تَعالى لعِلَّةٍ وحِكمةٍ، وحُكِيَ إجماعُ السَّلفِ.

وقال الشَّيخُ: أكثرُ أهلِ السُّنَّةِ على إثباتِ الحِكمةِ والتَّعليلِ. انتهى.

كقولِه تَعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ}

(2)

، وقولِه تَعالى:{كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ}

(3)

، وقولِه تَعالى:{وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ}

(4)

ونظائرِها، ولأنَّه سُبحانَه حكيمٌ شَرَعَ الأحكامَ لحِكمةٍ ومصلحةٍ؛ لقولِه تَعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}

(5)

.

(وَهِيَ) أي: مشيئةُ اللهِ (وَإِرَادَتُهُ) تَعالى، (لَيْسَتَا بِمَعْنَى مَحَبَّتِهِ، وَرِضَاهُ، وَسَخَطِهِ، وَبُغْضِهِ).

وذَهَبَ بعضُهم إلى أنَّ الكُلَّ بمَعنًى واحدٍ، والَّذي عليه السَّلفُ وعامَّةُ الأئمَّةِ مِن الفقهاءِ، ومِن أصحابِ الأئمَّةِ، كالحنفيَّةِ والمالكيَّةِ والشَّافعيَّةِ وأصحابِنا، والمُحَدِّثينَ والصُّوفيَّةِ، والنُّظَّارِ وغيرِهم: الفَرْقُ.

(1)

في (ع): للاستقبال.

(2)

المائدة: 32.

(3)

الحشر: 7.

(4)

البقرة: 143.

(5)

الأنبياء: 107.

ص: 177

(فَيُحِبُّ) سُبحانَه: الإيمانَ، والعملَ الصَّالحَ، (وَيَرْضَى: مَا أَمَرَ بِهِ فَقَطْ) وَلَا يَرضى بالكُفرِ والفسوقِ والعصيانِ ولا يُحِبُّه، كما لا يَأْمُرُ به، وإنْ كانَ قد شاءَه، (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) لِحكمةٍ

(1)

(بِمَشِيئَتِهِ) فيَكُونُ ما شاءَ لمشيئتِه، فيُحِبُّ تلك الحكمةَ، وإنْ كانَ لا يُحِبُّه، فلم يَفعَلْ قبيحًا مُطلقًا، ولهذا كانَ حَمَلَةُ الشَّرعِ مِن السَّلفِ والخَلَفِ مُتَّفِقِينَ على أنَّه لو حَلَفَ ليَفْعَلَنَّ واجبًا أو مُستحبًّا كقضاءِ دينٍ يَضِيقُ وقتُه، أو عبادةٍ يَضِيقُ وَقتُها، وقال:«إنْ شاءَ اللهُ» ، ثمَّ لم يَفْعَلْ؛ لم يَحنَثْ.

(فَائِدَةٌ)

(الأَعْيَانُ) والمُعاملاتُ (وَالعُقُودُ المُنْتَفَعُ بِهَا قَبْلَ) وُرودِ (الشَّرْعِ) بحُكْمِها مباحةٌ؛ لأنَّ خَلْقَها لا لِحِكمةٍ عَبَثٌ، ولا حِكْمَةَ إلَّا انتفاعُنا بها؛ إذ هو خالٍ عن مفسدةٍ كالشَّاهدِ، وقد قَالَ اللهُ تَعالى:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا}

(2)

، وقالَ تَعالى:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ}

(3)

، وقالَ صلى الله عليه وسلم:«مَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عَفَا عَنْهُ»

(4)

، وغيرُ ذلك مِن

(1)

في (ع): لحكمته.

(2)

البقرة: 29.

(3)

الأعراف: 32.

(4)

رواه أبو داودَ (3800) مِن حديثِ ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما.

ورواه التِّرمذيُّ (1726)، وابنُ ماجه (3367) مِن حديثِ سلمانَ رضي الله عنه قال: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ السَّمْنِ وَالجُبْنِ وَالفِرَاءِ، فقَالَ:«الحَلَالُ مَا أَحَلَّ اللهُ فِي كِتَابِهِ، وَالحَرَامُ مَا حَرَّمَ اللهُ فِي كِتَابِهِ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عَفَا عَنْهُ» .

قالَ التِّرمذيُّ: حَسَنٌ غريبٌ، ورجَّحَ وَقْفَه على سلمانَ رضي الله عنه، وقالَ في «العِلل الكبير» (513): سَأَلْتُ محمَّدًا عن هذا الحديثِ فقَالَ: ما أراه محفوظًا.

وضعَّفه شيخي العلَّامةُ الحوينيُّ في «الفتاوى الحديثيَّة» (3).

ص: 178

الأَدِلَّةِ الشَّرعيَّةِ، وأَوْمَأ إليه أحمدُ حَيْثُ سُئل عن قَطعِ النَّخلِ، قال: لا بأسَ به، لم أسمعْ في قَطعِه شيئًا.

وقيل: لا حُكْمَ لها قبلَ السَّمعِ، قَالَ المجدُ: هذا هو الصَّحيحُ الَّذِي لا يَجُوزُ على المذهبِ غيرُه. انتهى.

فعلى هذا لا إثمَ بالتَّناوُلِ كفعلِ البهيمةِ، لكنْ لا يُفتى به في الأصحِّ، هذا (إِنْ) فُرِضَ أنَّه (خَلَا وَقْتٌ عَنْهُ) أي: عن الشَّرعِ.

والصَّحيحُ أنَّه لم يَخلُ وقتٌ مِن شرعٍ؛ لأنَّه أوَّلَ ما خَلَقَ آدمَ قَالَ له: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ}

(1)

أَمَرَهما ونَهَاهما عَقِبَ خَلْقِهما، فكذلك كلُّ زمانٍ.

(أَوْ) أي: والأعيانُ، والمُعاملاتُ، والعُقودُ المنتفعُ بها، (بَعْدَهُ) أي: بعدَ وُرودِ الشَّرعِ، (وخَلَا) الشَّرعُ (عَنْ حُكْمِهَا) إنْ فُرِضَ ذلك كما تَقَدَّمَ.

قالَ الخَرَزِيُّ

(2)

: لم تَخلُ الأممُ مِن حُجَّةٍ

(3)

، واحتجَّ بقولِه تَعالى:{أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى}

(4)

والسُّدَى: الَّذِي لا يُؤمَرُ وَلَا يُنْهَى، وقولِه تَعالى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا}

(5)

، وقوله تَعالى:{وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ}

(6)

.

(1)

البقرة: 35.

(2)

في (ع): الجزري. والمثبت من (د)، وهو الموافق لما قيده به ابن السمعاني في «الأنساب» (5/ 87)، وهو أحمد بن نصر بن مُحَمَّد أبو الحسن الزهري، يعرف بالخرزي. ترجمته في «تاريخ بغداد» (6/ 412)، و «طبقات الحنابلة» (2/ 267).

(3)

ينظر: «التحبير شرح التحرير» (2/ 776)، و «شرح الكوكب المنير» (1/ 323).

(4)

القيامة: 36.

(5)

النَّحل: 36.

(6)

فاطر: 24.

ص: 179

قالَ القاضي: هذا ظاهرُ روايةِ عبدِ اللهِ فيما خَرَّجَه في محبسه

(1)

: الحمدُ للهِ الَّذِي جَعَلَ في كلِّ زمانِ فترةٍ مِن الرُّسلِ، بقايا مِن أهلِ العِلمِ. فأخبَر أنَّ كلَّ زمانٍ فيه قومٌ مِن أهلِ العِلْمِ

(2)

.

(أَوْ لَا) أي: أو لم يَخلُ الشَّرعُ عَن حُكمِ الأعيانِ والمعاملاتِ والعقودِ (وَجُهِلَ) حُكمُها، ويُتَصَوَّرُ ذلك فيمن خُلِقَ ببَرِّيَّةٍ ولم يَعرِفْ شرعًا وعندَه فواكهُ وأطعمةٌ.

إذا عَلِمْت ذلك: فالأعيانُ، والمعاملاتُ، والعقودُ (مُبَاحَةٌ بِإِلْهَامٍ، وَ) الإلهامُ: (هُوَ مَا يُحَرِّكُ القَلْبَ بِعِلْمٍ) بعدَ النَّظرِ في الدَّليلِ، (ويَطْمَئِنُّ) القلبُ (بِهِ) أي: بذلك العِلْمِ، حَتَّى (يَدْعُوَ) القَلبُ (إِلَى العَمَلِ بِهِ) أي: بالعِلمِ الَّذِي اطمأنَّ القلبُ به، وليس المرادُ الإيقاعُ في القلبِ بلا دليلٍ، بل الهدايةُ إلى الحقِّ بالدَّليلِ، كما قَالَ عليٌّ رضي الله عنه:«إِلَّا أَنْ يُعْطِيَ اللَّهُ عَبْدًا فَهْمًا فِي كِتَابِهِ»

(3)

.

وكانَ شيخُ الإسلامِ البُلْقينيُّ يَقولُ: الفُتوحاتُ الَّتي يُفتَحُ بها على العلماءِ في الاهتداءِ إلى استنباطِ المسائلِ المُشكِلاتِ مِن الأَدِلَّةِ؛ أعظمُ نفعًا وأكثرُ فائدةً مِمَّا يُفتَحُ به على الأولياءِ مِن الاطِّلاعِ على بعضِ الغُيُوبِ، فإنَّ ذلك لا يَحصُلُ به من النَّفعِ مِثْلُ ما يَحصُلُ بهذا، وأيضًا هذا موثوقٌ به لرجوعِه إلى أصلٍ شرعيٍّ، وذلك قد يَضطرِبُ

(4)

.

(1)

في (ع)، (د): مجلسه. والمثبت من «العدة» ، وكذا هو في «المسودة في أصول الفقه» (ص 486).

(2)

«العدة في أصول الفقه» (4/ 1250).

(3)

رواه النَّسائيُّ (4744) سَأَلْنا عَلِيًّا: هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَيْءٌ سِوَى القُرْآنِ؟

(4)

ينظر: «الغيث الهامع» (ص 656).

ص: 180

(وَهُوَ) أي: الإلهام

(1)

علمٌ يَحدُثُ في النَّفْسِ المُطمئنَّةِ الزَّكيَّةِ، قالَه السَّهْرَوَرْدِيُّ في «أماليه»

(2)

.

وَ (فِي قَوْلٍ:) هو

(3)

(طَرِيقٌ شَرْعِيٌّ) وهو إلهامٌ مِن اللهِ تَعالى لعبادِه، بحَظرِه وإباحتِه، كما أَلْهَمَ أبا بكرٍ وعمرَ رضي الله عنهما أشياءَ وَرَدَ الشَّرعُ بمُوافَقَتِها، كما أَلْهَمَ أبا بكرٍ أنَّ في بطنِ أمِّ عبدٍ جاريةً

(4)

.

قالَ أبو زيدٍ: الإلهامُ: ما حَرَّكَ القلبَ بعِلمٍ يَدعُوكَ إلى العملِ به، مِن غيرِ استدلالٍ به

(5)

، وَلَا نظرٍ في حُجَّةٍ.

وقالَ: الَّذِي عليه جمهورُ العلماءِ: أنَّه خيالٌ لا يَجُوزُ العملُ به إلَّا عندَ فَقْدِ الحُجَجِ كلِّها، مِن بابِ ما أُبِيحَ عَمَلُه

(6)

بغيرِ عِلْمٍ

(7)

.

(1)

قوله: أي الإلهام. ليس في د.

(2)

ينظر: «التحبير شرح التحرير» (2/ 787).

(3)

ليست في (د).

(4)

رواه مالك (2189) من حديث عائشة رضي الله عنها.

(5)

في «تقويم الأدلَّةِ» للدَّبُوسِيِّ. بآية:

(6)

في (ع): علمه. والمثبت من (د)، و «تقويم الأدلَّةِ» للدَّبُوسِيِّ.

(7)

«تقويمُ الأدلَّةِ» للدَّبُوسِيِّ (1/ 392).

ص: 181

(فَصْلٌ)

(الحُكْمُ الشَّرْعِيُّ) نَصَّ أحمدُ أنَّه خطابُ الشَّرعِ وقولُه، والمرادُ ما وَقَعَ به الخطابُ؛ أي:(مَدْلُولُ خِطَابِ الشَّرْعِ) وهو الإيجابُ والتَّحريمُ والإحلالُ، وهو صفةٌ للحاكمِ، فشَمِلَ الأحكامَ الخمسةَ وغيرَها.

تنبيهٌ: الحُكمُ نفسُ خطابِ اللهِ، فالإيجابُ مَثَلًا هو: نَفْسُ قولِ اللهِ تَعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ}

(1)

وَلَيْسَ الفعلُ صفةً مِن القولِ؛ إذِ القولُ يَتَعَلَّقُ بالمعدومِ، وهو فعلُ الصَّلاةِ في المثالِ المذكورِ، وإذا كانَ الفعلُ معدومًا فصِفَتُه المتأخِّرةُ عنه أَوْلَى بالعدمِ، فالحُكْمُ وهو الإيجابُ مثلًا له تَعَلُّقٌ بفعلِ المُكَلَّفِ وإنْ كانَ مَعدومًا، فبالنَّظرِ إلى نَفْسِه الَّتي هي صفةٌ للهِ تَعالى يُسَمَّى إيجابًا، وبالنَّظرِ إلى ما تَعَلَّقَ به يُسَمَّى وجوبًا، فهما مُتَّحِدانِ بالذَّاتِ مُختلفانِ بالاعتبارِ، ولهذا نَرى المُحقِّقينَ تارةً يُعرِّفونَ الإيجابَ

(2)

وتارةً يُعَرِّفون الوجوبَ

(3)

نظرًا إلى الاعتبارينِ.

(وَالخِطَابُ قَوْلٌ) احتُرِزَ به عن الإشاراتِ والحركاتِ المُفهِمةِ.

وقولُه: (يَفْهَمُ مِنْهُ) أي: مِن ذلك القولِ خَرَجَ مَن لا يَفهَمُ، كالصَّغيرِ والمجنونِ؛ إذْ لا يَتَوَجَّهُ إليه قولٌ.

وقولُه: (مَنْ سَمِعَهُ) ليَعُمَّ المُواجهةَ بالخطابِ وغيرَه، وليُخرِجَ النَّائمَ والمُغمى عليه ونحوَهما.

(1)

الإسراء: 78.

(2)

في (ع): بالإيجاب.

(3)

في (ع): بالوجوب.

ص: 182

وقولُه: (شَيْئًا مُفِيدًا) أَخرَجَ

(1)

المُهمَلَ.

وقولُه: (مُطْلَقًا) لِيُعَمَّ حالةَ قصدِ إفهامِ السَّامعِ وعَدَمِها.

(وَيُسَمَّى بِهِ) أي: بالخطابِ (الكَلَامُ فِي الأَزَلِ) يَعني يُسَمَّى الكلامُ في الأزلِ خِطابًا (فِي قَوْلٍ).

قالَ ابنُ مُفْلِحٍ: ولقائلٍ أنْ يَقُولَ: إِنَّمَا يَصِحُّ هذا على قِدَمِ الكلامِ الَّذِي هو القولُ

(2)

. انتهى.

والقولُ الثَّاني: لا يُسَمَّى خطابًا لعدمِ المُخاطَبِ حينئذٍ، بخلافِ تَسميَتِه في الأزلِ أمرًا ونهيًا ونحوَهما؛ لأنَّ مِثْلَه يَقُومُ بذاتِ المُتكلِّمِ بدونِ مَن يَتَعَلَّقُ به، كما يُقالُ في الوَصِيِّ: أَمَرَ في وَصِيَّتِه ونَهَى، ولا يُقالُ: خاطَبَ.

(ثُمَّ) اعلمْ أنَّ خطابَ الشَّرعِ إمَّا أنْ يَرِدَ: باقتضاءِ الفِعلِ، أو باقتضاءِ التَّركِ، أو بالتَّخييرِ بينَ الفِعلِ والتَّركِ، فـ (إِنْ وَرَدَ:

(1)

بِطَلَبِ فِعْلٍ مَعَ جَزْمٍ) وهوُ القطعُ المُقتضِي الوعيدَ على التَّركِ، نحوُ:{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}

(3)

(فَإِيجَابٌ).

(2)

(أَوْ) أي: وإنْ وَرَدَ بطلبِ فِعلٍ، و (لَا) جَزْمَ (مَعَهُ) أي: مَعَ الطَّلبِ يَقتضي الوعيدَ على التَّركِ، نحوُ:{وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ}

(4)

(فَنَدْبٌ).

(1)

في (ع): خرج.

(2)

«أصولُ الفقهِ» (1/ 183).

(3)

البقرة: 43، 84، 110، النِّساء: 77، النُّور:56.

(4)

البقرة: 282.

ص: 183

(3)

(أَوْ) أي: إنْ وَرَدَ خطابُ الشَّرعِ (بِطَلَبِ تَرْكٍ) و (مَعَهُ) جزمٌ يَقتضي الوعيدَ على الفعلِ، نحوُ:{لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا}

(1)

، و {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا}

(2)

(فَتَحْرِيمٌ).

(4)

(أَوْ) أي: وإنْ وَرَدَ بطلبِ تركٍ، و (لَا) جَزْمَ (مَعَهُ) يَقتضي الوعيدَ على التَّركِ، كقولِه عليه الصلاة والسلام:«إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ، فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ، ثمَّ خَرَجَ عَامِدًا إِلَى المَسْجِدِ، فَلَا يُشَبِّكْ بَيْنَ أَصَابِعِه»

(3)

(فَكَرَاهَةٌ).

(5)

(أَوْ) أي: وإنْ وَرَدَ خطابُ الشَّرعِ (بِتَخْيِيرٍ) بينَ الفعلِ والتَّركِ، كقولِه صلى الله عليه وسلم حينَ سُئِلَ عنِ الوُضوءِ مِن لُحومِ الغنمِ:«إِنْ شِئْتَ فَتَوَضَّأْ، وَإِنْ شِئْتَ فَلَا تَوَضَّأْ»

(4)

.

(فَإِبَاحَةٌ)، ولا تَتَقَيَّدُ استفادةُ أدلَّةِ الأحكامِ مِن صريحِ الأمرِ والنَّهيِ، بل تكُونُ بنصٍّ، أو إجماعٍ

(5)

أو قياسٍ.

والنَّصُّ: إمَّا أنْ يَكُونَ أمرًا، أو نهيًا، أو إذنًا، أو خبَرًا بمَعناها، أو إخبارًا بالحُكْمِ، نحوُ:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}

(6)

، {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى

(1)

آل عمران: 130.

(2)

الإسراء: 32.

(3)

رواه أبو داودَ (562)، والتِّرمذيُّ (386)، وابنُ ماجه (967)، وابنُ حِبَّانَ (2036) مِن حديثِ كعبِ بنِ عُجْرَةَ رضي الله عنه.

(4)

رواه مسلمٌ (360) من حديثِ جابرِ بنِ سَمُرَةَ.

(5)

في د: وإجماع.

(6)

البقرة: 183.

ص: 184

أَهْلِهَا}

(1)

، «إِنَّ اللهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ»

(2)

، {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ}

(3)

.

(وَإِلَّا) بأنْ لمْ يَرِدِ الخطابُ مِثْلَ هذه الصِّيَغِ المُتقدِّمةِ في الأحكامِ الخمسةِ، كالصِّحَّةِ والفسادِ، ونَصبِ الشَّيْءِ سَببًا، أو مانعًا، أو شرطًا، وكونِ

(4)

الفعلِ أداءً، أو قضاءً، ورخصةً أو عزيمةً، (فَوَضْعِيٌّ) أي: يَكُونُ مِن خطابِ الوضعِ، لا مِن خطابِ التَّكْلِيفِ المُتقدِّمِ ذِكْرُه.

وقد يَجتمِعُ خطابُ الشَّرعِ وخطابُ الوضعِ في شيءٍ واحدٍ، كالزِّنا، فإنَّه حرامٌ وسببٌ للحدِّ، وقد يَنفرِدُ خطابُ الوضعِ، كأوقاتِ الصَّلاةِ سببُ وُجُوبِ الصَّلاةِ، وقد يَنفَرِدُ خطابُ التَّكْلِيفِ، [كصلاةِ الظُّهرِ مثلًا.

وقالَ في «شرحِ التَّنقيحِ» : ولا يُتَصَوَّرُ انفرادُ خطابِ التَّكْلِيفِ]

(5)

عن خطابِ الوضعِ؛ إذ لا تكليفَ إلَّا له سببٌ، أو شرطٌ، أو مانعٌ

(6)

.

(وَالمَشْكُوكُ) قِيلَ: (لَيْسَ بِحُكْمٍ) وهو الصَّحيحُ، والشَّاكُّ لا مذهبَ له، والوقفُ قِيلَ: مذهبٌ، وهو أصحُّ؛ لأنَّه يُفتي به ويَدعو إليه.

(1)

النِّساء: 58.

(2)

رواه البخاري (6108)، ومسلم (1646) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

(3)

المائدة: 96.

(4)

في (ع): أو كون.

(5)

ليس في (د).

(6)

«شرح تنقيح الفصول» (ص 81).

ص: 185

(فَصْلٌ)

الفعلُ الواجبُ: ما اقْتَضَى الشَّرعُ فِعْلَه اقتضاءً جازمًا، والمندوبُ: ما اقْتَضَى فِعلَه اقتضاءً غيرَ جازمٍ، والحرامُ: ما اقتضى الشَّرعُ تَرْكَه اقتضاءً جازمًا، والمكروهُ: ما اقْتَضَى تَرْكَه اقتضاءً غيرَ جازمٍ، والمباحُ: ما اقْتَضَى الشَّرعُ التَّخييرَ فيه.

وهذه الأشياءُ هي مجالُ الأحكامِ ومُتَعَلَّقَاتُها، وأمَّا الأحكامُ نَفْسُها فهي: الإيجابُ، والتَّحريمُ، والنَّدبُ، والكراهةُ، والإباحةُ.

إذا تَقَرَّرَ ذلك فـ (الوَاجِبُ لُغَةً: السَّاقِطُ وَالثَّابِتُ).

قالَ في «المصباحُ» : وَجَبَ البَيْعُ وَالحَقُّ يَجِبُ وُجُوبًا وَجِبَةً: لَزِمَ وَثَبَتَ، وَوَجَبَتْ الشَّمْسُ وُجُوبًا: غَرَبَتْ، وَوَجَبَ الحَائِطُ وَنَحْوُهُ: سَقَطَ

(1)

.

(وَ) أمَّا الواجبُ (شَرْعًا) فلهم فيه حدودٌ كثيرةٌ، قلَّ أنْ تَسْلَمَ مِن خَدْشٍ:

أَولاها: (مَا ذُمَّ) شرعًا (تَارِكُهُ قَصْدًا مُطْلَقًا).

فقولُه: «ما ذُمَّ» هو خيرٌ مِن قولِ مَن قَالَ: «ما يُعاقَبُ تارِكُه» ؛ لجوازِ العفوِ، واحتُرِزَ به عنِ: المندوبِ، والمكروهِ، والمباحِ؛ لأنَّه لا ذَمَّ فيها، والمرادُ بذمِّ تاركِه: أن يَرِدَ في كتابِ اللهِ تَعالى، أو سُنَّةِ رسولِه صلى الله عليه وسلم، أو إجماعِ الأُمَّةِ ما يَدُلُّ على الذَّمِّ.

وقولُه: «شرعًا» ؛ لأنَّ الذَّمَّ لا يَثْبُتُ إلَّا بالشَّرعِ

(2)

، بخلافِ قولِ المعتزلةِ.

ص: 186

وقولُه: «تاركُه» احتُرِزَ به عنِ الحرامِ، فإنَّه يُذَمُّ شرعًا فاعلُه.

وقولُه: «قَصْدًا» فيه تقريرانِ مَوقوفانِ على مُقَدِّمةٍ: وهو أنَّ هذا التَّعريفَ إِنَّمَا هو بالحيثيَّةِ؛ أي: الَّذِي بحَيثُ لو تُرِكَ لذُمَّ تاركُه؛ إذْ لو لم يَكُنْ بالحيثيَّةِ لاقْتَضَى أنَّ كلَّ واجبٍ لا بدَّ مِن حُصولِ الذَّمِّ على تَركِه، وهو باطلٌ.

إذا عُلِمَ ذلك فأحدُ التَّقريرينِ إِنَّمَا يَأتي بالقصدِ؛ لأنَّه شرطٌ لصِحَّةِ هذه الحيثيَّةِ؛ إذِ التَّاركُ لا على سبيلِ القصدِ لا يُذَمُّ.

والثَّاني: أنَّه احتُرِزَ به عمَّا إذا مَضَى مِن الوقتِ قَدْرُ فِعلِ الصَّلاةِ، ثمَّ تَرَكَها بنومٍ، أو نسيانٍ، وقد تَمَكَّنَ، ومعَ ذلك لا يُذَمُّ شرعًا تاركُها؛ لأنَّه ما تَرَكَها قصدًا.

وقولُه: «مُطلقًا» فيه تقريرانِ أيضًا موقوفانِ على مُقدِّمةٍ: وهو أنَّ الإيجابَ باعتبارِ الفاعلِ قد يكُونُ على الكفايةِ، وقد يكُونُ على العينِ، وباعتبارِ المفعولِ قد يكُونُ مُخَيَّرًا، كخصالِ الكفَّارةِ، وقد يكُونُ مُضَيَّقًا، كالصَّومِ، فإذا تَرَكَ الصَّلاةَ في أوَّلِ وَقتِها صَدَقَ أنَّه تَرَكَ واجبًا؛ إذِ الصَّلاةُ تَجِبُ بأوَّلِ الوقتِ، ومعَ ذلك لا يُذَمُّ عليها إذا أَتَى بها في أثناءِ الوقتِ، ويُذَمُّ إذا أَخرَجَها عن جميعِه، وإذا تَرَكَ إحدى خصالِ الكفَّارةِ، فقد تَرَكَ ما يَصدُقُ عليه أنَّه واجبٌ مَعَ أنَّه لا ذَمَّ فيه إذا أَتَى بغيرِه، وإذا تَرَكَ صلاةَ جنازةٍ فقد تَرَكَ ما صَدَقَ عليه أنَّه واجبٌ، ولا يُذَمُّ عليه إذا فَعَلَه غيرُه.

إذا عُلِمَ ذلك فأحدُ التَّقريرينِ أنَّ قولَه: «مُطلقًا» عائدٌ إلى الذَّمِّ، وذلك لأنَّه قد تَلَخَّصَ أنَّ الذَّمَّ على الواجبِ المُوَسَّعِ والمُخيَّرِ وعلى الكفايةِ مِن وجهٍ دونَ وجهٍ، وأنَّ الذَّمَّ على الواجبِ المُضيَّقِ والمُحَتَّمِ والواجبِ على

ص: 187

العين

(1)

مِن كلِّ وجهٍ، فلذلك قال:«مُطلقًا» ؛ ليَشمَلَ ذلك كلَّه بشرطِه، ولو لم يَذْكُرْ ذلك لَوَرَدَ عليه مَن تَرَكَ شيئًا مِن ذلك.

والتَّقريرُ الثَّاني: أنَّ «مطلقًا» عائدٌ إلى التَّركِ، والتَّقديرُ: تَركًا مُطلقًا، ليَدخُلَ: المُخيَّرُ، والمُوَسَّعُ، وفرضُ الكفايةِ، فإنَّه إذا تَرَكَ فرضَ الكفايةِ لا يَأثَمُ، وإنْ صَدَقَ أنَّه تاركٌ واجبًا، وكذلك الآتي به آتٍ بالواجبِ، مَعَ أنَّه لو تَرَكَه لم يَأْثَمْ، وإنَّما يَأثَمُ إذا حَصَلَ التَّركُ المُطلَقُ منه ومِن غيرِه، وهكذا في الواجبِ المُخيَّرِ والمُوسَّعِ.

ودَخَلَ فيه أيضًا: الواجبُ المُحَتَّمُ والمُضَيَّقُ [وفرضُ العينِ]

(2)

؛ لأنَّ كلَّ ما ذُمَّ الشَّخصُ عليه إذا تَرَكَه وَحْدَه ذُمَّ عليه أيضًا إذا تَرَكَه هو وغيرُه.

(وَمِنْهُ) أي: ومِن الواجبِ (مَا) أي: واجبٌ (لَا يُثَابُ) فاعلُه (عَلَى فِعْلِهِ) بمُجرَّدِ الفعلِ، (كَنَفَقَةٍ وَاجِبَةٍ، وَرَدِّ وَدِيعَةٍ، وَ) ردِّ (غَصْبٍ، ونَحْوِهِ) كرَدِّ عاريَّةٍ (إِذَا فُعِلَ) ذلك (مَعَ غَفْلَةٍ).

قالَ الطُّوفِيُّ: الواجبُ: هو المأمورُ به جزمًا، وشرطُه ترتُّب

(3)

الثَّوابِ على نيَّةِ التَّقَرُّبِ بفِعلِه

(4)

.

(وَمِنَ المُحَرَّمِ: مَا) أي: مُحَرَّمٌ

(5)

(لَا يُثَابُ) تَارِكُهُ (عَلَى تَرْكِهِ) بمُجَرَّدِ التَّركِ، (كَتَرْكِهِ) مُحَرَّمًا (غَافِلًا)

(6)

عن كَوْنِ تَرْكِه طاعةً، بامتثالِ الأمرِ بالتَّركِ.

(1)

في (د): المُعَيَّنِ.

(2)

ليس في (د).

(3)

في (د): ترتب. والمثبت من (ع)، و «شرح مُختصَرِ الرَّوضةِ» .

(4)

«شرحُ مختصَرِ الرَّوضةِ» (1/ 351).

(5)

في (ع): حرام.

(6)

قوله: كتركه غافلًا. في «مختصر التحرير» (ص 65): كمحرم يخرج من عهدته بمجرد الترك. وفي بعض نسخه الخطية كما هو مثبت عندنا.

ص: 188

قالَ الطُّوفِيُّ

(1)

: الحرامُ: المَنْهِيُّ عنه جزمًا، وشَرطُ ترتيبِ الثَّوابِ على تَرْكِه نِيَّةُ التَّقرُّبِ به، فتَرتيبُ الثَّوابِ وعَدَمُه في فعلِ الواجبِ وتَركِ المُحَرَّمِ وعَدمِهما راجعٌ إلى وجودِ شرطِ الثَّوابِ وهو النِّيَّةُ، لا إلى انقسامِ الواجبِ والحرامِ في نَفسِهما

(2)

.

فَائِدَةٌ: قالَ ابنُ قاضي الجبلِ: تنبيهٌ: التَّصرُّفاتُ ثلاثةُ أقسامٍ:

- منها ما لا يُمكِنُ إلَّا أنْ يُقصَدَ به التَّقرُّبُ إلى اللهِ تَعالى، كالعبادةِ المَحضةِ.

- ومنها: ما لا يُمكِنُ التَّقرُّبُ به إلى اللهِ تَعالى، وهو النَّظَرُ الأوَّلُ المُفضي إلى إثباتِ العِلمِ بالصَّانعِ.

- ومنها: ما يُمكِنُ التَّقرُّبُ به، كرَدِّ الوديعةِ ونحوِه، وكذا المُباحاتُ، كقولِ معاذٍ: أَحْتَسِبُ

(3)

نَوْمَتي كما أَحْتَسِبُ (3) قَوْمتي

(4)

.

(وَ‌

‌الفَرْضُ لُغَةً:

(1)

التَّقْدِيرُ) ومنه قولُه تَعالى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ}

(5)

أي: قَدَّرْتم،

(2)

(وَالتَّأْثِيرُ) قَالَ في «المِصباح»

(6)

: فُرْضَةُ القَوْسِ: مَوْضِعُ حَزِّهَا لِلْوَتَرِ.

(1)

«شرحُ مختصَرِ الرَّوضةِ» (1/ 351).

(2)

في (د): أنفسهما. والمثبت من (ع)، و «شرح مختصَرِ الرَّوضةِ»

(3)

في (د): احتسبت.

(4)

رواه البخاري (4341).

(5)

البقرة: 237.

(6)

«المصباحُ المنيرُ في غريبِ الشَّرحِ الكبيرِ» (2/ 648).

ص: 189

(3)

(وَالإِلْزَامُ) والإيجابُ {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ}

(1)

أي: أَوْجَبَ على نَفْسِه فيهن الإحرامَ.

(4)

(وَالعَطِيَّةُ) قَالَ في «الصِّحاحُ» : فَرَضْتُ له وافْتَرَضْتُ؛ أي: أَعطَيْتُه، وفَرَضْتُ له في الدِّيوانِ

(2)

.

(5)

(وَالإِنْزَالُ){إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ}

(3)

أي: أَنْزَلَ عليك القرآنَ.

(6)

(وَالإِبَاحَةُ): {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ}

(4)

أي: فيما أباحَ اللهُ له.

ويَجِيءُ لمعَنى البيانِ: {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا}

(5)

بالتَّخفيفِ.

(وَ) الفرضُ (يُرَادِفُ الوَاجِبَ شَرْعًا) أي: مُتَّحِدانِ مَفهومًا؛ إذِ الاتِّحادُ مَفهومًا هو مَعنى التَّرادُفِ، لا المُتَّحِدانِ ذاتًا، كالإنسانِ والنَّاطقِ، فإنَّهما مُتَّحِدانِ ذاتًا مَعَ عدمِ التَّرادُفِ، فبينَهما عمومٌ وخصوصٌ مُطلَقٌ، فكلُّ مُتَّحِدَينِ مفهومًا مُتَّحِدانِ ذاتًا، ولا عكسُ لغويًّا.

إذا عُلِمَ ذلك: فالصَّحيحُ أنَّهما مُتَرادفانِ؛ لقولِه تَعالى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ}

(6)

أي: أَوْجَبَه، والأصلُ تَنَاوُلُه

(7)

حقيقةً، وعدُمُ غيرِه نفيًا للمجازِ والاشتراكِ.

(1)

البقرة: 197.

(2)

«الصِّحاحُ تاجُ اللُّغةِ» للجَوهرِيِّ (3/ 1097).

(3)

القصص: 85.

(4)

الأحزاب: 38.

(5)

النُّور: 1.

(6)

البقرة: 97.

(7)

ليست في (د).

ص: 190

(وَ) على هذا (ثَوَابُهُمَا) أي: ثوابُ الفرضِ والواجبِ (سَوَاءٌ) مِن غيرِ تَفاوُتٍ.

وَقِيلَ: الفرضُ آكَدُ، وعليه يَجُوزُ أنْ يُقالَ: بعضُ الواجباتِ أَوْجَبُ مِن بعضٍ.

وفائدتُه: أنَّه يُثابُ على أَحَدِهما أكثرَ، وأنَّ طريقَ أحدِهما مقطوعٌ به، والآخَرُ ظَنٌّ.

(1)

(وَصِيغَتُهُمَا) أي: صيغةُ الفرضِ، والواجبِ

(1)

نصٌّ في الوجوبِ على الصَّحيحِ.

قالَ ابنُ عَقِيلٍ: «أَوْجَبْتُ» صريحةٌ في الوُجوبِ بإجماعِ النَّاسِ.

قالَ الشَّيخُ في «المُسَوَّدة»

(2)

: والأظهرُ أنَّ الفرضَ نَصٌّ، وقولُهم: فَرَضَ القاضي النَّفَقَةَ وفَرَضَ الصَّداقَ، لا يَخرُجُ عن مَعنى الوُجوبِ، وإنِ انْضَمَّ إليه التَّقديرُ.

(2 - 3)(وَحَتْمٌ، وَلَازِمٌ) كواجبٍ، فالمحتومُ مِن حَتَمْتُ الشَّيْءَ أَحْتِمُهُ حَتْمًا، إذا قَضَيْتُه وأَحكَمْتُه، وحَتَمْتُه أيضًا: أَوْجَبْتُه، قاله الجَوْهَرِيُّ

(3)

.

قَالَ تَعالى: {كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا}

(4)

أي: واجبَ الوقوعِ بأمْرِه الصَّادقِ، وإلَّا فهو سبحانه وتعالى لا يَجِبُ عليه شيءٌ، واللَّازمُ بمَعنى الواجبِ، ولا يَقبَلُ التَّأويلَ عندَ الأكثرِ، وهو مِنَ اللُّزُومِ، [وهو لغةً: عدمُ]

(5)

الانفكاكِ

(1)

في (د): والوجوب.

(2)

«المسودة» (ص 30).

(3)

«الصِّحاح» (5/ 1892).

(4)

مريم: 71.

(5)

في (ع): وعدم.

ص: 191

عن الشَّيءِ، فيُقالُ للواجبِ: لازمٌ ومَلْزومٌ به، ونحوُ ذلك، كما في حديثِ الصَّدَقَةِ:«وَمَنْ لَزِمَتْهُ بِنْتُ مَخَاضٍ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ، أُخِذَ مِنْهُ ابْنُ لَبُونٍ»

(1)

أي: وَجَبَ عليه ذلك.

(4)

(وَ) كذا (إِطْلَاقُ الوَعِيدِ) يَقتضي الوجوبَ لفعلِ ما تُوُعِّدَ عليه، وهو الصَّحيحُ، فلا يُقبَلُ تأويلُه؛ لأنَّه خاصَّةُ الواجبِ، ولا تُوجَدُ خاصَّةُ الشَّيْءِ بدونِه.

[وقالَ القاضي

(2)

: ألفاظُ الوعيدِ تَرِدُ، والمرادُ به الوجوبُ والنَّدبُ]

(3)

قَالَ اللهُ تَعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)}

(4)

وذلك مندوبٌ إليه، ومعَ ذلك يَقتضي الوجوبَ.

(5)

(وَ {كُتِبَ عَلَيْكُمُ}: نَصٌّ فِي الوُجُوبِ) أيضًا، مأخوذٌ مِن كَتَبَ الشَّيْءَ إذا حَتَمَه وأَلْزَمَ به، ومنه قولُه تَعالى:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}

(5)

، {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ}

(6)

، أمَّا قولُه تَعالى:{كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ}

(7)

الآيةَ. فقيلَ: المُرادُ: وَجَبَ، وكانَتِ الوصيَّةُ فرضًا ثم نسخت

(8)

.

(1)

رواه البخاريُّ (1448) من حديثِ أنسٍ رضي الله عنه أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه كَتَبَ لَهُ الَّتي أَمَرَ اللهُ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم: «وَمَنْ بَلَغَتْ صَدَقَتُهُ بِنْتَ مَخَاضٍ وَليستْ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُ بِنْتُ لَبُونٍ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ

(2)

«العدة في أصول الفقه» (1/ 242).

(3)

ليست في (د).

(4)

الماعون.

(5)

البقرة: 183.

(6)

البقرة: 216.

(7)

البقرة: 180.

(8)

في د: ونسخت.

ص: 192

وَقِيلَ: المُرادُ بالوَصِيَّةِ: ما كانَ عليه مِن الدَّينِ والوديعةِ ونَحوِهما. وَقِيلَ: المرادُ في اللَّوحِ المحفوظِ، فلا يَكُونُ مِمَّا نَحنُ فيه.

(وَإِنْ كَنَّى الشَّارِعُ عَنْ عِبَادَةٍ بِبَعْضِ مَا فِيهَا) دَلَّ ذلك على فَرضِه، (نَحْوُ) تَسْمِيَةِ الصَّلاةِ قُرآنًا بقولِه: ({وَقُرْآنَ الْفَجْرِ}

(1)

وتَسْبِيحًا بقولِه: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ}

(2)

، وكالتَّعبيرِ عنِ الإحرامِ والنُّسُكِ بأخْذِ الشَّعرِ بقولِه:({مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ) وَمُقَصِّرِينَ}

(3)

؛ (دَلَّ عَلَى فَرْضِهِ) أي: فَرضِ المُكَنَّى به، فدَلَّ قولُه:{وَقُرْآنَ الْفَجْرِ}

(4)

على فريضةِ القراءةِ في الصَّلاةِ، [ودَلَّ قولُه:]

(5)

{فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ}

(6)

الآيةُ على وُجُوبِ التَّسبيحِ فيها، ودَلَّ قولُه:{مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ}

(7)

على فريضةِ الحلْقِ في الحَجِّ؛ لأنَّ العَربَ لا تُكَنِّي إلَّا بالأخصِّ بالشَّيءِ.

(وَمَا لَا يَتِمُّ الوُجُوبُ إِلَّا بِهِ: لَيْسَ بِوَاجِبٍ مُطْلقًا) إجماعًا، قَدَرَ عليه المُكَلَّفُ كاكتسابِ المالِ للكفَّاراتِ ونَحوِها، أو لم يَقْدِرْ عليه كحُضُورِ العَددِ المُشتَرَطِ في الجُمُعةِ، فإنَّه لا صُنْعَ للمُكَلَّفِ فيه.

(وَمَا لَا يَتِمُّ الوَاجِبُ المُطْلَقُ إِلَّا بِهِ) لا يَخلُو:

- إمَّا أن يَكُونَ جُزءًا للواجبِ المُطلَقِ فواجبٌ اتِّفاقًا؛ لأنَّ الأمرَ بالماهيَّةِ المُرَكَّبةِ أمْرٌ بكُلِّ واحدةٍ مِن أجزائِها ضِمنًا، كالسُّجودِ في الصَّلاةِ، فالأمْرُ بالصَّلاةِ مَثَلًا أمرٌ بما فيها مِن ركوعٍ وسجودٍ وتَشَهُّدٍ، وغيرِ ذلك.

(1)

الإسراء: 78.

(2)

ق: 39.

(3)

الفتح: 27.

(4)

الإسراء: 78.

(5)

في (ع): وقوله.

(6)

النَّصر: 3، الحجر:99.

(7)

الفتح: 27.

ص: 193

- وإمَّا أنْ يَكُونَ خارجًا عنه، كالسَّبَبِ، والشَّرطِ، (وَهُوَ مَقْدُورٌ لِمُكَلَّفٍ) إذْ غيرُ المقدورِ مِن المُحالِ؛ لأنَّه فردٌ مِن أفرادِه، كالقُدرةِ واليدِ في الكتابةِ؛ لأنَّهما مخلوقانِ للهِ تَعالى، فليسَ ذلك في وُسعِ المُكلَّفِ وطاعتِه؛ (فَوَاجِبٌ) على الصَّحيحِ.

فائدةٌ: قالَ القَرَافِيُّ: فمَعنى قَوْلِنا: «مُطلقًا» ؛ أي: أَطْلَقَ الوجوبَ فيه، فيَصِيرُ مَعنى الكلامِ الواجبَ المُطلقَ إيجابُه، ففَرْقٌ بينَ قولِ السَّيِّدِ لعبدِه

(1)

: اصعَدِ السَّطحَ، وبينَ قولِه إذا نَصَبَ السُّلَّمَ:«اصعَدِ السَّطحَ» ، فالأوَّلُ: مُطلَقٌ في إيجابِه، فهو موضعُ الخلافِ، والثَّاني مُقَيَّدٌ في إيجابِه بالشَّرطِ، فلا يَجِبُ تحصيلُ الشَّرطِ فيه إجماعًا

(2)

. انتهى.

تنبيهٌ: ظاهرُ مَن أَوْجَبَه (يُعَاقَبُ) المُكَلَّفُ (بِتَرْكِهِ، وَيُثَابُ بِفِعْلِهِ) لأنَّ الواجبَ هو الَّذِي يُعاقَبُ على تَركِه، كما يُثَابُ على فِعلِه.

(1)

في (ع): لعبد. والمثبت من (د)، و «شرحُ تنقيحِ الفُصولِ» .

(2)

«شرحُ تنقيحِ الفصولِ» (1/ 161).

ص: 194

(فَصْلٌ)

(العِبَادَةُ: إِنْ لَمْ) يَكُنْ لها وقتٌ مُعَيَّنٌ، بأنْ لم (يُعَيَّنْ وَقْتُهَا) مِن قِبَلِ الشَّارعِ، (لَمْ تُوصَفْ بِأَدَاءٍ، وَلَا قَضَاءٍ، وَلَا إِعَادَةٍ) كالنَّوافِلِ المُطلَقَةِ مِن صلاةٍ، وصومٍ، وصدقةٍ، وحَجٍّ، ونَحوِها، وسواءٌ كانَ لها سببٌ، كتَحيَّةِ المسجدِ، أو لا.

وقد يُوصَفُ ما له سببٌ بالإعادةِ، كمَن أتى بذاتِ السَّببِ مَثلًا مُخْتَلَّةً فتَدَارَكَها حَيْثُ يُمْكِنُه.

(وَإِنْ) عُيِّنَ وَقتُها، و (لَمْ يُحَدَّ كَحَجٍّ) واجبٍ، (وَكَفَّارَةٍ) وزكاةِ مالٍ، (تُوصَفْ بِأَدَاءٍ) عُيِّنَ (فَقَطْ) أي: دونَ قضاءٍ، ولو أُخِّرَ عن وَقتِه شرعًا، لعَدمِ تَعيِينِ وقتِ الزَّكاةِ ونحوِها، لوُجوبِها عندَ تمامِ الحَوْلِ على الفَورِ، وهو وقتُ وُجوبِها، فلو أُخِّرَتْ عنه لغيرِ عُذرٍ، ثمَّ فُعِلَتْ، لم تُسَمَّ قضاءً لوجهينِ:

أحدُهما: أنَّ وقتَها غيرُ محدودِ الطَّرفَينِ، ونحنُ قُلْنا: القضاءُ هو فِعلُ الواجبِ خارجَ الوقتِ المُقَدَّرِ له شرعًا.

والثَّاني: أنَّ كلَّ وقتٍ مِن الأوقاتِ الَّتي يُؤَخَّرُ أداؤُها فيها هو مخاطَبٌ بإخراجِها فيه، وذلك واجبٌ عليه، فلو قُلْنا: إنَّ أداءَها في الوقتِ الثَّاني بعدَ تأخيرِها قضاءٌ؛ لَزِمَ مِثْلُ ذلك في الثَّالثِ والرَّابعِ وما بَعدَه، وكذلك الكفَّارةُ، والحجُّ فكأداءٍ على كلِّ حالٍ.

تنبيهٌ: فإنْ قُلْتَ: أنتُم قُلْتُم: الحجُّ لا يُوصَفُ بالقضاءِ، وقد وَصَفْتُموه هنا.

(وَ) الجوابُ: (إِطْلَاقُ القَضَاءِ فِي حَجٍّ فَاسِدٍ؛ لِشَبَهِهِ بِمَقْضِيٍّ) في

ص: 195

استدراكِه، وذلك أنَّه لَمَّا شَرَعَ وتَلَبَّسَ بأفعالِه تَضَيَّقَ الوقتُ عليه، وذلك كما لو تَلَبَّسَ بأفعالِ الصَّلاةِ مع أنَّ الصَّلاةَ واجبٌ مُوَسَّعٌ.

(وَفِعْلُ صَلَاةٍ بَعْدَ تَأْخِيرِ قَضَائِهَا لَا يُسَمَّى قَضَاءَ القَضَاءِ) لِامتناعِه وتَسلسُلِه.

(وَإِنْ حُدَّ) وقتُ العِبادةِ مِن الطَّرفينِ، كالصَّلواتِ الخَمسِ وسُنَنِها، (وُصِفَتْ بِالثَّلَاثَةِ) فإنْ فُعِلَتْ في وَقتِها المحدودِ مَرَّةً كانَتْ أداءً، وإلَّا كانَتْ قَضاءً، وإنْ فُعِلَتْ ثانيًا كانَتْ إعادةً (سِوَى جُمُعَةٍ) فإنَّها لو فاتَتْ لا تُوصَفُ بالقضاءِ، وإنَّما تُصَلَّى ظهرًا، وتُوصَفُ بالأداءِ وبالإعادةِ إنْ حَصَلَ فيها خللٌ وأَمْكَنَ تَدارُكُها في وقتِها.

إذا عَلِمْتَ ذلك:

(فَالأَدَاءُ: مَا فُعِلَ فِي وَقْتِهِ المُقَدَّرِ لَهُ أَوَّلًا شَرْعًا).

فقولُه: «ما فُعِلَ» : جنسٌ للأداءِ وغيرِه.

وقولُه: «فِي وَقتِه المُقَدَّرِ» : يُخرِجُ القضاءَ، وما لم يُقَدَّرْ له وقتٌ، كإنكارِ المُنكَرِ إذا ظَهَرَ، وإنقاذِ الغريقِ إذا وُجِدَ، والنَّوافلِ المُطلَقَةِ.

وقولُه: «أوَّلًا» : ليُخرِجَ ما فُعِلَ في وَقتِه المُقَدَّرِ له شرعًا، لكنَّه في غيرِ الوقتِ الَّذِي قُدِّرَ له أوَّلًا شرًعا، كالصَّلاةِ إذا ذَكَرَها، أو استيقظَ بعدَ خروجِ الوقتِ، فإذا فَعَلَها بعدَ ذلك، فهو وقتٌ ثانٍ

(1)

لا أوَّلَ، فلم تَكُنْ أداءً لقولِه عليه الصلاة والسلام:«مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا، فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا؛ فَإِنَّ ذَلِكَ وَقْتُهَا»

(2)

، ويُخرِجَ

(1)

في (ع): ثاني.

(2)

رواه مسلمٌ (684) من حديثِ أنسٍ رضي الله عنه قال: قال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا رَقَدَ أَحَدُكُمْ عَنِ الصَّلَاةِ، أَوْ غَفَلَ عَنْهَا، فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا» ، فَإِنَّ اللهَ يَقُولُ:{أَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} .

ص: 196

به أيضًا قضاءُ الصَّومِ، فإنَّ الشَّارعَ جَعَلَ له وقتًا مُقَدَّرًا لا يَجُوزُ تأخيرُه عنه، وهو: مِن حينِ الفَواتِ إلى رمضانَ السَّنَةِ الآتيةِ، فإذا فَعَلَه كانَ قضاءً؛ لأنَّه فَعَلَه في وقتِه المُقَدَّرِ له ثانيًا لا أوَّلًا.

وقولُه: «شرعًا» : ليُخرِجَ ما قُدِّرَ له وقتٌ لا بأصلِ الشَّرعِ، كمَن ضَيَّقَ عليه الموتُ -لعارضٍ ظَنَّه- الفواتَ إنْ لم يُبادِرْ.

(وَ‌

‌القَضَاءُ:

مَا فُعِلَ بَعْدَ وَقْتِ الأَدَاءِ) اسْتِدراكًا، وذلك كفعلِ الصَّلواتِ الخمسِ وسُنَنِها، والصَّومِ بعدَ خروجِ وَقتِها، (وَلَوْ) كانَ التَّأخيرُ (لِعُذْرٍ) سواءٌ (تَمَكَّنَ مِنْهُ) أي: مِن فِعلِه في وَقتِه (كَـ) صومِ (مُسَافِرٍ) ومريضٍ، (أَوْ لَا) يَتَمَكَّنُ مِن فِعلِه في وقتِه:

- إمَّا (لِمَانِعٍ شَرْعِيٍّ، كَحَيْضٍ) ونفاسٍ،

- (أَوْ) لمانعٍ (عَقْلِيٍّ، كَنَوْمٍ) وإغماءٍ، وسُكْرٍ، ونَحوِها.

وعلى كلِّ حالٍ، فالصَّحيحُ الَّذِي عليه الجمهورُ: أنَّه بعدَ ذلك إذا زالَ العُذرُ وفُعِلَ كانَ قضاءً، وذلك (لِوُجُوبِهِ عَلَيْهِمْ) حالةَ وجودِ العُذرِ، وحيثُ كانَ واجبًا عليهم حالةَ [وجودِ العُذرِ]

(1)

كانَ فِعلُه بَعدَ زوالِه قضاءً؛ لخروجِ وقتِ الأداءِ، وكَوْنُه قضاءً مبنيٌّ على وُجوبِه عليهم حالَ العُذرِ.

(وَعِبَادَةُ صَغِيرٍ) لم يَبْلُغْ (لَا تُسَمَّى قَضَاءً) إجماعًا لا حقيقةً وَلَا مجازًا، كما لو صَلَّى الصَّلواتِ الفائتةَ في حالةِ الصِّبَا؛ لأنَّه لَيْسَ مأمورًا بذلك شرعًا حَتَّى يَقضِيَ

(2)

فثوابُ الصَّبِيِّ على عبادتِه مِن خطابِ الوضعِ، (وَلَا) تُسَمَّى عبادةً

(3)

(أَدَاءً) على الصَّحيحِ، لعَدمِ وجوبِها عليه.

(1)

في (ع): وجوده.

(2)

في (ع): يسمى قضاء.

(3)

ليست في (ع).

ص: 197

قالَ ابنُ مُفْلِحٍ في «فُروعِه» : تَصِحُّ الصَّلاةُ مِن مُمَيِّزٍ نَفلًا، ويُقالُ لِما فَعَلَه: صلاةُ كذا، وفي التَّعليقِ: مَجازًا

(1)

.

(وَ‌

‌الإِعَادَةُ:

مَا فُعِلَ) مِن العِبادةِ (فِي وَقْتِهِ المُقَدَّرِ) أي: المحدودِ الطَّرفَينِ (ثَانِيًا) أي: بعدَ فِعلِه أوَّلًا (مُطْلَقًا) أي: سواءٌ كانَ لخَللٍ في الأوَّلِ، أو لا، لعُذرٍ، أو لا، فيَدخُلُ فيه لو صَلَّى الصَّلاةَ لوقتِها صحيحةً، ثمَّ أُقِيمَتِ الصَّلاةُ

(2)

وهو في المسجدِ وصَلَّى، فإنَّ هذه الصَّلاةَ تُسَمَّى مُعادةً.

(وَالوَقْتُ) المُقَدَّرُ لفعلِ العبادةِ:

(1)

(إِمَّا) أنْ يَكُونَ (بِقَدْرِ الفِعْلِ) فقط، (كَصَوْمِ) رمضانَ؛ (فَـ) هو الوقتُ (المُضَيَّقُ).

(2)

(أَو) إمَّا أنْ يَكُونَ الوقتُ للعبادةِ (أَقَلَّ) مِن فِعلِها، مِثْلُ أنْ يُوجَبَ عليه أربعُ ركعاتٍ كاملاتٍ في وقتٍ لا يَسَعُها؛ كطرفةِ عينِ ونحوِه، (فَـ) التَّكْلِيفُ به (مُحَالٌ).

(3)

(أَوْ) إمَّا أنْ يَكُونَ الوقتُ للعبادةِ (أَكْثَرَ) مِن وقتِ فِعلِها، (فَـ) هو الوقتُ (المُوَسَّعُ، كَصَلَاةٍ مُؤَقَّتَةٍ، فَتَتَعَلَّقُ) أي: وجوبُها (بِجَمِيعِهِ) أي: الوقتِ (مُوَسَّعًا أَدَاءً) عندَ أصحابِنا والأكثرِ؛ لقولِه تَعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ}

(3)

الآيةَ، فهو قيدٌ بجميعِ وَقتِها، وصَلَّى عليه السلام أوَّلَه وآخِرَه، وقَالَ:«الوقتُ ما بَينَهما»

(4)

.

(1)

«الفروعُ مع تصحيحِ الفروعِ» (1/ 111).

(2)

ليست في (ع).

(3)

الإسراء: 78.

(4)

رواه مسلم (613) من حديث بُريدة، وفيه:«وَقْتُ صَلَاتِكُمْ بَيْنَ مَا رَأَيْتُمْ» .

ص: 198

وقالَه له جبْريلُ أيضًا عليه السلام

(1)

، ولأنَّه لو تَعَيَّنَ جزءٌ لم يَصِحَّ قَبْلَه، وبعدَه قضاءً فيَعصِي، وهو خلافُ الإجماعِ.

(وَ) على هذا (يَجِبُ العَزْمُ) على الفِعلِ أوَّلَ الوقتِ (إِذَا أَخَّرَ) ـهُ، (وَيَتَعَيَّنُ) فِعْلُ العبادةِ (آخِرَهُ) أي: آخِرَ وَقتِها.

(وَيَسْتَقِرُّ وُجُوبُ) فِعلِ العِبادةِ (بِأَوَّلِهِ) أي: بأوَّلِ وَقتِها المُقَدَّرِ على الصَّحيحِ، وإن دَخَلَ الوقتُ بقَدرِ تكبيرةٍ؛ لأنَّ دُخولَ الوقتِ سببٌ للوجوبِ، فتَرَتَّبَ عليه حُكمُه عندَ وجودِه، ولأنَّها صلاةٌ وَجَبَتْ عليه فوَجَبَ قضاؤُها إذا فَاتَتْه، كالَّتي أَمْكَنَ أداؤُها، فعلى هذا لو طَرَأَ مانعٌ على المُكَلَّفِ بعدَ دخولِ الوقتِ بقدرِ تكبيرةٍ: لَزِمَ القضاءُ عندَ زوالِه.

(وَمَنْ أَخَّرَ) الواجبَ المُوَسَّعَ (مَعَ ظَنِّ مَانِعٍ) منه، (كَعَدَمِ البَقَاءِ) بأنْ ظَنَّ أنَّه يَمُوتُ قبلَ أنْ يَبقى مِن الوقتِ زمنٌ يَتَّسِعُ للفعلِ فيه:(أَثِمَ) إجماعًا، لتَضيِيقه عليه بظَنِّه، ومِثْلُه إذا ظَنَّتْ حيضًا في أثناءِ الوقتِ وكانَ لها عادةٌ بذلك، أو أُعِيرَ سُتْرةً أوَّلَ الوقتِ فقط، أو مُتوضِّئٌ عَدِمَ الماءَ في السَّفرِ وطهارتُه لا تَبقى إلى آخِرِ الوقتِ، ولا يَرجو وُجودَه، ومستحاضةٌ لها عادةٌ بانقطاعِ دَمِها في وقتٍ يَتَّسِعُ لِفِعلِها، فيَتَعَيَّنُ فِعلُ الصَّلاةِ في ذلك الوقتِ في هذه الصُّورِ، ولا يَجوزُ له التَّأخيرُ.

(ثُمَّ إِنْ بَقِيَ) مَن ظَنَّ عَدَمَ البقاءِ (فَفَعَلَهَا) أي: العبادةَ (فِي وَقْتِهَا فَـ) الصَّحيحُ عندَ جماهيرِ العلماءِ أنَّها (أَدَاءٌ) لبقاءِ الوقتِ، ولا عِبْرةَ بالظَّنِّ البَيِّنِ خَطَؤُه.

(1)

رواه أبو داود (393)، والترمذي (149) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وفيه:«وَالوَقْتُ فِيمَا بَيْنَ هَذَيْنِ الوَقْتَيْنِ» .

ص: 199

(وَمَنْ لَهُ تَأْخِيرُ) ـها وماتَ قَبْلَ الفعلِ، فإنَّها (تَسْقُطُ بِمَوْتِهِ) عندَ الأئمَّةِ الأربعةِ؛ لأنَّها لا تَدخُلُها النِّيابةُ، فلا فائدةَ في بقائِها في الذِّمَّةِ بخلافِ الزَّكاةِ والحجِّ، (وَلَمْ يَعْصِ) بالتَّأخيرِ في الأصحِّ؛ لأنَّه فَعَلَ ما له فِعلُه، واعتبارُ سلامةِ العاقبةِ ممنوعٌ؛ لأنَّه غيبٌ فليسَ إلينا.

(وَمَتَى: طُلِبَتِ) العِبادةُ؛ أي: طُلِبَ فِعلُها (مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ) مِن المُكَلَّفِينَ (بِالذَّاتِ أَوْ) طُلِبَ فِعلُها (مِنْ) واحدٍ (مُعَيَّنٍ، كَالخَصَائِصِ) [فإنَّه صلى الله عليه وسلم خُصَّ: بواجباتٍ، ومحظوراتٍ، ومباحاتٍ، وكراماتٍ،

- (فـ)]

(1)

إنْ كانَ الطَّلبُ (مَعَ جَزْمٍ) كالصَّلواتِ الخمسِ، فالمطلوبُ (فَرْضُ عَيْنٍ): وهو ما تَكَرَّرَتْ مَصلَحَتُه بتَكَرُّرِه، فإنَّ مصلحةَ الصَّلواتِ الخمسِ وغيرِها: الخُضوعُ للهِ تَعالى، وتعظيمُه، ومناجاتُه، والتَّذلُّلُ له (1)، والمُثولُ بينَ يَدَيْه، وهذه الآدابُ تَكْثُرُ كُلَّما كُرِّرَتِ الصَّلاةُ

(2)

.

- (وَ) إنْ كانَ الطَّلَبُ (بِدُونِهِ) أي: بدونِ جزمٍ، كالرَّواتبِ، فالمطلوبُ (سُنَّةُ عَيْنٍ).

(وَإِنْ طُلِبَ الفِعْلُ) أي: طُلِبَ حُصُولُه (فَقَطْ:

- فَـ) إنْ كانَ طَلَبُه (مَعَ جَزْمٍ) كإنقاذِ

(3)

الغريقِ، وغَسلِ الميِّتِ، ودَفنِه، ونَحوِها: فالمطلوبُ (فَرْضُ كِفَايَةٍ) وهو ما لا تَتكَرَّرُ مَصلَحَتُه بتكَرُّرِه، ف‌

‌فرضُ العَينِ وفرضُ الكفايةِ

مُتبايِنانِ بتبايُنِ

(4)

النَّوعينِ.

(1)

ليست في «د» .

(2)

في (ع): الصَّلوات.

(3)

في (ع): كإنجاء.

(4)

في (ع): تباين.

ص: 200

- (وَ) إنْ طُلِبَ حُصولُ الفِعلِ (بِدُونِهِ) أي: بدونِ جزمٍ، كابتداءِ السَّلامِ، فالمطلوبُ (سُنَّةُ كِفَايَةٍ).

(وَهُمَا) أي: فرضُ الكفايةِ، و‌

‌سُنَّةُ الكفايةِ

، أمْرٌ (مُهِمٌّ) أي: يُهْتَمُّ به، (يُقْصَدُ حُصُولُهُ) مِن قِبَلِ الشَّارعِ، فدَخَلَ نحوُ: الحِرَفِ والصِّناعاتِ، (مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ بِالذَّاتِ إِلَى فَاعِلِهِ) لأنَّ ما مِن فِعلٍ يَتَعَلَّقُ به الحُكمُ إلَّا ويَنظُرُ فيه الفاعلُ حَتَّى يُثابَ على واجبِه، ومَندوبِه، ويُعاقَبَ على تركِ الواجبِ.

وإنَّما يَفتَرقانِ في كَوْنِ المطلوبِ عَينًا يُختَبَرُ فيه الفاعلُ، ويُمتَحَنُ؛ ليُثابَ أو يُعاقَبَ، والمطلوبُ كفايةً يُقصَدُ حُصُولُه قصدًا ذاتيًّا، وقصدُ الفاعلِ فيه تَبَعٌ لا ذاتِيٌّ.

(وَفَرْضُ الكِفَايَةِ) وَاجبٌ (عَلَى الجَمِيعِ) عندَ الأربعةِ وغيرِهم على الصَّحيحِ.

تنبيهٌ: إذا قُلْنا إنَّه يَتَعَلَّقُ بالجميعِ فهل مَعناه أنَّه يَتَعَلَّقُ بكلِّ واحدٍ أو بالجميعِ مِن حَيْثُ هو جميعٌ؟

مُقتضى كلامِ البَاقِلَّانِيِّ الأوَّلُ، وظاهرُ كلامِ الأكثرينَ الثَّاني، فمَعنى الأوَّلِ أنَّ كُلَّ مُكَلَّفٍ مُخاطَبٌ به، فإذا قامَ به بعضُهم سَقَطَ عن غيرِهم رخصةً وتخفيفًا؛ لحصولِ المقصودِ.

ومَعنى الثَّاني: أنَّ الجميعَ مُخاطَبون بإيقاعِه منهم مِن أيِّ فاعلٍ فَعَلَه، ولا يَلْزَمُ على هذا أن يَكُونَ الشَّخصُ مُخاطَبًا بفعلِ غَيرِه؛ لأنَّا نَقولُ: كُلِّفُوا بما هو أَعَمُّ مِن فِعلِهم وفِعلِ غَيرِهم، وذلك مقدورٌ بتحصيلِه منهم؛ لأنَّ كلًّا قادرٌ عليه، ولو لم يَفعَلْه غيرُه.

ص: 201

وفرضُ العَينِ المقصودُ مِنه: امتحانُ كلِّ واحدٍ بما خُوطِبَ به لحصولِ الفِعلِ منه بنَفْسِه.

(وَيَسْقُطُ الطَّلَبُ الجَازِمُ) بفعلِ مَن يَكفي، (وَ) يَسقُطُ (الإِثْمُ: بِفِعْلِ مَنْ يَكْفِي) في فَرضِ الكفايةِ إجماعًا؛ لأنَّ المقصودَ مِنه الفعلُ، وقد وُجِدَ، ويَكفي في سُقُوطِه: غَلَبَةُ الظَّنِّ، فإذا غَلَبَ على ظَنِّ طائفةٍ أنَّ غيرَها قامَ به: سَقَطَ عنها.

(وَيَجِبُ) فَرضُ الكفايةِ عَيْنًا (عَلَى مَنْ ظَنَّ أَنَّ غَيْرَهُ لَا يَقُومُ بِهِ) لأنَّ الظَّنَّ مَناطُ التَّعبُّدِ.

(وَإِنْ فَعَلَهَ) أي: فَعَلَ فَرضَ الكفايةِ (الجَمِيعُ مَعًا) أي: غيرَ مُرَتَّبٍ، (كَانَ فَرْضًا) في حقِّ الجميعِ لعدمِ التَّمييزِ.

(وَفَرْضُ العَيْنِ أَفْضَلُ) مِن فرضِ الكفايةِ على الصَّحيحِ؛ لأنَّ فرضَ العَينِ أهمُّ، ولذلك وَجَبَ على الأعيانِ.

(وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا) أي: فرضِ الكفايةِ وفرضِ العَينِ (ابْتِدَاءً) يَعني على القولِ بأنَّ فرضَ الكفايةِ واجبٌ على الجميعِ، وإنَّما يَفتَرقانِ في ثاني الحالِ، وهو فرقٌ حُكْمِيٌّ.

(وَيَلْزَمَانِ) أي: فرضُ الكفايةِ، وفرضُ العَينِ، ولو كانَ وقتُهما مُوَسَّعًا، (بِشُرُوعٍ) فيهما في الأظهرِ (مُطْلَقًا) أي: سواءٌ كانَ فرضُ الكفايةِ: جِهادًا، أو صلاةً على جنازةٍ، أو غيرَهما، ويُؤخَذُ لُزومُه بالشُّروعِ مِن مسألةِ حِفظِ القُرآنِ، فإنَّه فرضُ كفايةٍ إجماعًا.

قالَ الإمامُ أحمدُ: ما أشدَّ ما جاءَ فيمَنْ حَفَظِه ثمَّ نَسِيَه.

ص: 202

وَقِيلَ: لا يَلْزَمُ فرضُ الكفايةِ بالشُّروعِ إلَّا في الجهادِ، وصلاةِ الجنازةِ، واختارَ ابنُ الرِّفْعَةِ أنَّه لا يَلزَمُ.

(وَإِنْ طُلِبَ) شيءٌ (وَاحِدٌ مِنْ أَشْيَاءَ، كَخِصَالِ كَفَّارَةِ) يَمِينٍ في قولِه تَعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ}

(1)

.

(وَنَحْوِهَا) كفِديةِ الأَذَى في قولِه تَعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ}

(2)

، ومثلِ الواجبِ في المئتين مِن الإبلِ أربعُ حِقاقٍ، أو خمسُ بناتِ لَبُونٍ؛ (فَالوَاجِبُ) مِن ذلك (وَاحِدٌ لَا بِعَيْنِهِ) عندَ أكثرِ العلماءِ.

(وَيَتَعَيَّنُ) ذلك الواحدُ (بِالفِعْلِ) على الصَّحيحِ؛ لأنَّه يَجُوزُ التَّكْلِيفُ به عَقلًا، كتكليفِ السَّيِّدِ عَبْدَه بفعلِ هذا الشَّيْءِ أو ذاكَ، على أن يُثِيبَه على أيِّهما فَعَلَ، ويُعاقِبَه بتَرْكِ الجميعِ، ولو أُطلِقَ: لم يُفهَمْ وُجوبُهما، والنَّصُّ دَلَّ عليه؛ لأنَّه لم يُرِدِ الجميعَ، ولا واحدًا بعينِه لأنَّه خَيَّرَه، ولو أَوْجَبَ التَّخييرُ الجميعَ لوَجَبَ [عِتْقُ الجميعِ]

(3)

إذا وَكَّلَه في إعتاقِ أحدِ عَبْدَيْه.

تنبيهٌ: قَالَ ابنُ الحاجبِ

(4)

: مُتَعَلَّقُ الوجوبِ هو القَدْرُ المُشتَرَكُ بينَ الخصالِ، وَلَا تخييرَ فيه؛ لأنَّه واحدٌ، وَلَا يَجُوزُ تَركُه، ومُتَعَلَّقُ التَّخييرِ خُصُوصِيَّاتُ الخصالِ الَّتي فيها التَّعدُّدُ، وَلَا وُجوبَ فيها.

(1)

المائدة: 89.

(2)

البقرة: 196.

(3)

ليس في (د).

(4)

«منتهى الوصول» (ص 35).

ص: 203

فائدةٌ: تَخيِيرُ المُستنْجِي بينَ: الماءِ، والحَجَرِ، والنَّاسِكِ بينَ: الإفرادِ، والتَّمتُّعِ، والقِرانِ، ونحوِ ذلك؛ لَيْسَ مِمَّا نحنُ فيه؛ لأنَّه لم يَرِدْ تَخْيِيرٌ بلفظٍ وَلَا بمَعناه.

(وَإِنْ كَفَّرَ) المُخَيَّرُ (بِهَا) أي: بالأشياءِ المُخَيَّرِ بها كُلِّها، أو بأكثرَ مِن واحدٍ:

- (مُرَتَّبَةً) أي: شيئًا بعدَ شيءٍ، (فَالوَاجِبُ الأَوَّلُ) أي: المُخرَجُ أوَّلًا؛ لأنَّه الَّذِي أَسْقَطَ الفرضَ، والَّذي بَعدَه لم يُصادِفْ وُجوبًا في الذِّمَّةِ، ولا يَجِبُ أكثرُ مِن واحدةٍ إجماعًا.

- (وَ) إذا كَفَّرَ بها (مَعًا) في وقتٍ واحدٍ، ويُتَصَوَّرُ ذلك بأنْ يَكُونَ قد بَقِيَ عليه مِن الصَّومِ يومٌ، ووَكَّلَ في الإطعامِ والعتقِ.

قالَ في «شرحِ الأصلِ»

(1)

: قُلْتُ: وأَوْلَى مِنها في

(2)

كفَّارةِ اليمينِ بأنْ يُوَكِّلَ شخصًا يُطعِمُ ويَكْسُو ويُعتِقُ هو في آنٍ واحدٍ، أو يُوَكَّلَ في الكُلِّ ويَفعَلَ في وقتٍ واحدٍ

(3)

(أُثِيبَ ثَوَابَ وَاجِبٍ عَلَى أَعْلَاهَا) وهو العِتقُ (فَقَطْ) وتَرجيحُ الأعلى لكَوْنِ الزِّيادةِ فيه لا يَليقُ بِكَرَمِ اللهِ تَعالى تَضْيِيعُها على الفاعلِ مع الإمكانِ، وقَصْدُها بالوجوبِ وإنِ اقْتَرَنَ به آخَرُ، ولا يَنْقُصُه ما انْضَمَّ إليه، ولا يُثابُ ثوابَ الواجبِ على كلِّ واحدٍ إجماعًا.

(كَمَا لَا يَأْثَمُ) على الكُلِّ (إِذَا

(4)

تَرَكَهَا) كُلَّها؛ لأنَّ الكلَّ لَيْسَ بواجبٍ حَتَّى يَأْثَمَ عليه إذا تَرَكَه، (سِوَى) يَعني يَأْثَمُ (بِقَدْرِ) عقابِ أَدنَاها إذا تَرَكَها كُلَّها، (لَا) أنَّه (نَفْسُ عِقَابِ أَدْنَاهَا فِي قَوْلٍ) للقاضيَينِ أبي يَعلى وأبي الطَّيِّبِ، وقالَ غيرُهما: يُعاقَبُ على الأدنى؛ لأنَّ الوجوبَ يَسقُطُ به.

(1)

«التحبير شرح التحرير» (2/ 898).

(2)

في «التَّحبير شرح التَّحريرِ» : من.

(3)

ليست في د، ع. ومثبتة من «التحبير» .

(4)

في «مختصر التحرير» (ص 70): لو.

ص: 204

وقالَ أبو الخَطَّابِ، وابنُ عَقِيلٍ: يُثابُ على واحدٍ ويَأْثَمُ به.

(تنبيهٌ: العِبَادَةُ) هي (الطَّاعَةُ) قَالَ القاضي: العِبَادَةُ كُلُّ ما كَانَ طَاعَةً للهِ، أَوْ قُرْبَةً إِلَيْهِ، أَوِ امْتِثَالًا لِأَمْرِهِ، ولا فرقَ بينَ أنْ يَكُونَ فِعلًا، أو تَركًا،

فالفعلُ: كالوُضوءِ، والغُسلِ، والزَّكاةِ، وقضاءِ الدَّينِ.

والتَّركُ: كتَركِ الزِّنا، والرِّبا، وتَركِ أكلِ المُحَرَّماتِ، وشُربِها، فأمَّا التَّركُ فلا يَحتَاجُ إلى نِيَّةٍ، بمَنْزِلَةِ ردِّ المغصوبِ وإطلاقِ المُحرِمِ الصَّيْدَ

(1)

وغسلِ الطِّيبِ عن بدنِه وثَوْبِه؛ لأنَّ ذلك كُلَّه طريقُه التَّركُ، فإنَّ العبادةَ في تَجنُّبِه فإذا أصابَتْه، لم يُمْكِنْ تَركُه إلَّا بالفعلِ كانَ طريقُه التَّركَ، فيُخالِفُ الوضوءَ لأنَّه فِعلٌ مُجَرَّدٌ لَيْسَ فيه تركٌ

(2)

.

(وَالطَّاعَةُ): هي (مُوَافَقَةُ الأَمْرِ) أي: فِعلُ المأمورِ به على وِفاقِ الأمرِ به.

قالَ القاضي: حَدُّ الأمرِ ما كانَ المأمورُ به مُمْتَثِلًا، وَلَيْسَ حَدُّه ما كانَ طاعةً؛ لأنَّ الفِعلَ يَكُونُ طاعةً بالتَّرغيبِ في الفِعلِ وإنْ لم يَأمُرْ به، كقولِه: مَن صَلَّى غَفَرْتُ له، ومَن صامَ فقد أَطاعَني، وَلَا يَكُونُ ذلك أَمْرًا

(3)

.

(وَالمَعْصِيَةُ: مُخَالَفَتُهُ) أي: مُخالفةُ الأمرِ بارتكابِ ضِدِّ ما كُلِّفَ به.

(وَكُلُّ قُرْبَةٍ طَاعَةٌ) فهي أخصُّ مِن الطَّاعةِ؛ لاشتِراطِ قَصدِ التَّقرُّبِ فيها إلى اللهِ تَعالى على وَفْقِ أمْرِه أو نَهْيِه، (وَلَا عَكْسَ) أي: وليسَ كلُّ طاعةٍ قُربةً؛ لعَدمِ اشتِراطِ قَصدِ القُربةِ فيها.

(1)

ليست في (د).

(2)

«العدة في أصول الفقه» (1/ 163).

(3)

ينظر: «المسودة في أصول الفقه» (ص 44).

ص: 205

(فَصْلٌ)

(الحَرَامُ: ضِدُّ الوَاجِبِ) باعتبارِ تَقسيمِ أحكامِ التَّكْلِيفِ، وإلَّا، فالحرامُ في الحقيقةِ: ضِدُّ الحلالِ، قَالَ اللهُ تَعالى:{فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا}

(1)

، وقالَ تَعالى:{وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ}

(2)

.

(وَهُوَ) أي:‌

‌ حَدُّ الحرامِ:

(مَا ذُمَّ فَاعِلُهُ) احْتُرزَ بالذَّمِّ عنِ: المكروهِ، والمندوبِ، والمباحِ؛ إذ لا ذَمَّ فيها، وبقولِه:«فاعلُه» : عنِ الواجبِ؛ فإنَّه يُذَمُّ تاركُه لا فاعلُه، والمُرادُ الَّذِي مِن شأنِه أن يُذَمَّ فاعلُه ولو تَخَلَّفَ، كمَن وَطِئَ أجنبيَّةً يَظُنُّها زوجتَه، (وَلَوْ قَوْلًا) كالغيبةِ والنَّميمةِ ونحوِهما، (وَ) لو (عَمَلَ قَلْبٍ) كالحسدِ، والحقدِ، والنِّفاقِ، ونحوِها.

وقولُه: (شَرْعًا): مُتَعَلِّقٌ بـ «ذُمَّ» .

(وَيُسَمَّى) الحرامُ: (مَحْظُورًا، وَمَمْنُوعًا، وَمَزْجُورًا، وَمَعْصِيَةً، وَذَنْبًا، وَقَبِيحًا وَسَيِّئَةً، وَفَاحِشَةً، وَإِثْمًا) فهذه عشرةُ أسماءٍ للحرامِ، وزِيدَ عليها زَجْرًا ومُحَرَّمًا، لكنْ يَشْمَلُها لفظُ الحرامِ والمزجورِ؛ لأنَّهما مِن مادَّتِهما وزِيدَ أيضًا: حَرَجًا، وتَحرِيجًا، وعُقُوبةً، وإنَّما سُمِّيَتْ بذلك لأنَّها تَتَرَتَّبُ على فِعلِه، فلهذا التَّقريرِ تَصِحُّ تسميتُه بذلك، فيُسَمَّى مَحظورًا مِن الحَظْرِ وهو المنعُ، فسُمِّيَ الفعلُ بالحُكمِ المُتَعَلِّقِ به.

قالَ ابنُ قاضي الجبلِ: والمعصيةُ فعلُ ما نَهَى اللهُ تَعالى عنه

(3)

. انتهى.

وسُمِّيَ معصيةً؛ لنَهْيِه تَعالى عنه، وسُمِّي ذنبًا؛ لتَوَقُّعِ المؤاخَذةِ عليه.

(1)

يونس: 59.

(2)

النَّحل: 116.

(3)

ينظر: «التحبير شرح التحرير» (2/ 948).

ص: 206

(وَيَجُوزُ النَّهْيُ عَنْ وَاحِدٍ لَا بِعَيْنِهِ، كَمِلْكِهِ أُخْتَيْنِ وَوَطْئِهِمَا) يَعني كوَطْئِه واحدةً بعدَ واحدةٍ قبْلَ تحريمِ الأُولى، فإنَّه يَحرُمُ وطءُ إحداهما قبلَ تحريمِ الأُخرى، فهو ممنوعٌ مِن إحداهما لا بعينِها، وكما لو أَسْلَمَ على أكثرَ مِن أربعِ نسوةٍ وأَسْلَمْنَ معَه، أو كُنَّ كتابيَّاتٍ، فإنَّه ممنوعٌ مِن الزَّائدِ عنِ الأربعِ لا بعَينِه، فيَكُونُ النَّهيُ عنْ واحدٍ على التَّخييرِ.

(وَلَهُ فِعْلُ أَحَدِهِمَا) على التَّخييرِ؛ لأنَّ هذه المسألةَ كمسألةِ الواجبِ المُخَيَّرِ، إلَّا أنَّ التَّخييرَ هنا في التَّركِ، وهناك في الفِعلِ، فكما أنَّ للمُكَلَّفِ أنْ يَأتيَ بالجميعِ، وأنْ يَأتيَ بالبعضِ ويَتْرُكَ البعضَ الباقيَ في الواجبِ المُخَيَّرِ، له أنْ يَتْرُكَ الجميعَ، وأن يَتْرُكَ البعضَ دونَ البعضِ هنا عندَ أصحابِنا والأكثرِ، وكما لا يَجُوزُ له الإخلالُ بجميعِها، بل عليه فعلُ شيءٍ منها في الواجبِ المُخَيَّرِ، لا يَجُوزُ له الإخلالُ بالتَّركِ جميعًا هنا، بل يَجِبُ عليه تركُ شيءٍ منها، ولأنَّه اليقينُ والأصلُ.

(وَلَوِ اشْتَبَهَ مُحَرَّمٌ بِمُبَاحٍ) كمَيْتَةٍ بمُذَكَّاةٍ: (وَجَبَ الكَفُّ) عنهما، إحداهما بالأصالةِ، والأُخرى بعارضِ الاشتباهِ، (وَلَا يَحْرُمُ المُبَاحُ) أكثرُ ما فيه أنَّه اشْتَبَه، فمَنَعْناه لأجلِ الاشتباهِ، لا أنَّه مُحَرَّمٌ، فإذا تَبَيَّنَ زالَ ذلك، فوُجُوبُ الكفِّ ظاهرًا، لا يَدُلُّ على شُمولِ التَّحريمِ، ولهذا لو أَكَلَهما

(1)

لم يُعاقَبْ، إلَّا على أكلِ مَيتةٍ واحدةٍ.

فَرْعٌ: لَوْ طَلَّقَ إحدى امْرأَتَيْه مُبْهَمَةً أو مُعَيَّنَةً وأُنْسِيَها: وَجَبَ الكفُّ إلى القُرعةِ نصًّا.

(وَفِي الشَّخْصِ الوَاحِدِ: ثَوَابٌ، وَعِقَابٌ) كنوعِ الآدميِّ؛ لأنَّه يَعمَلُ

(1)

يعني الميتة والمزكاة.

ص: 207

الحَسَناتِ والسِّيِّئاتِ، فتُكتَبُ له الحسناتُ، وأمَّا السَّيِّئاتُ فإنْ تابَ منها غُفِرَتْ، وكذا إنْ اجْتَنَبَ

(1)

الكبائرَ على الصَّحيحِ، وإلَّا فهو تحتَ المشيئةِ.

(وَالفِعْلُ الوَاحِدُ:

(1)

بِالنَّوْعِ) كالسُّجودِ مَثَلًا (مِنْهُ وَاجِبٌ، وَ) منه (حَرَامٌ) باعتبارِ أشخاصِه، (كَسُجُودِ) ـه (للهِ) تَعالى (وَلِغَيْرِهِ) لِتَغايُرِهما بالشَّخصيَّةِ، فلا استلزامَ بينَهما، فإنَّ السُّجودَ نوعٌ مِن الأفعالِ ذُو أشخاصٍ كثيرةٍ، فيَجُوزُ أن يَنقَسِمَ إلى واجبٍ وحرامٍ، فيَكُونُ بعضُ أفرادِه واجبًا، كالسُّجودِ للهِ، وبعضُها حرامًا كالسُّجودِ للصَّنَمِ، وَلَا امتناعَ مِن ذلك.

(2)

(وَ) الفعلُ الواحدُ (بِالشَّخْصِ) فيه تفصيلٌ: تارةً يَكُونُ له جهةٌ واحدةٌ، وتارةً يَكُون له جِهتانِ.

- (فَمِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ: يَسْتَحِيلُ كَوْنُهُ وَاجِبًا حَرَامًا) لتَنَافِيهِما.

قالَ عَضُدُ الدِّينِ: فلوِ اتَّحَدَ الواحدُ بالشَّخصِ، بأنْ يَكُونَ الشَّيْءُ الواحدُ مِن الجهةِ الواحدةِ واجبًا حرامًا معًا، فذلك مستحيلٌ

(2)

قطعًا، إلَّا عندَ مَن يُجَوِّزُ تكليفَ المُحالِ، وقد مَنَعَه بعضُ مَن يُجَوِّزُ ذلك نَظَرًا إلى أنَّ الوُجوبَ يَتَضَمَّنُ جوازَ الفِعلِ، وهو يُناقِضُ التَّحريمَ

(3)

.

- (وَ) الفعلُ الواحدُ بالشَّخصِ (مِنْ جِهَتَيْنِ، كَصَلَاةٍ فِي مَغْصُوبٍ) مِن سُتْرَةٍ، أو بُقْعَةٍ، (لَا) يَستحيلُ كَوْنُه واجبًا حرامًا، (وَلَا تَصِحُّ) الصَّلاةُ فيه،

(1)

في (ع): اجتنبت.

(2)

في (ع): مستحيلًا.

(3)

«شرح مختصر ابن الحاجب» (2/ 204).

ص: 208

(وَلَا يَسْقُطُ الطَّلَبُ بِهَا، وَلَا عِنْدَهَا) أي: عندَ فِعلِها؛ لأنَّ تعلُّقَ الوجوبِ والحُرمةِ بفِعلِ المُكَلَّفِ، وهما مُتلازمانِ في هذه الصَّلاةِ، فالواجبُ مُتَوَقِّفٌ على الحرامِ، وما لا يَتِمُّ الواجبُ إلَّا به واجبٌ.

فالحرامُ واجبٌ، وهو تكليفٌ بالمُحالِ، وأيضًا متى أَخَلَّ مُرتكبُ النَّهيِ بشرطِ العبادةِ أَفْسَدَها، ونِيَّةُ التَّقرُّبِ بالصَّلاةِ شرطٌ، والتَّقرُّبُ بالمعصيةِ مُحالٌ، ولأنَّ مِن شرطِ العبادةِ: إباحةُ الموضعِ، وهو مُحَرَّمٌ؛ فهو كالنَّجسِ.

وقالَ القاضي أبو بكرٍ ابنُ البَاقِلَّانِيِّ، والفخرُ الرَّازيُّ: يَسقُطُ الفرضُ عِندَها لا بها

(1)

.

قالَ في «المحصولُ» : لأنَّ السَّلَفَ أَجمَعُوا على أنَّ الظَّلَمَةَ لا يُؤمَرُونِ بقضاءِ الصَّلاةِ المُؤَدَّاةِ في الدَّارِ المغصوبةِ، ولا طريقَ إلى التَّوفيقِ بينَهما إلَّا بما ذَكَرْناه

(2)

. انتهى.

قالَ الصَّفِيُّ الهِنْدِيُّ: الصَّحيحُ أنَّ القاضيَ إِنَّمَا يَقُولُ بذلك لو ثَبَتَ القولُ بصِحَّةِ الإجماعِ على سُقُوطِ القضاءِ، فإذا لم يَثْبُتْ ذلك فلا يَقُولُ بسُقُوطِ الطَّلَبِ بها ولا عندَها

(3)

. انتهى.

ولا إجماعَ في ذلك لعدمِ ذِكْرِه ونَقْلِه، كيف وقد خالفَ الإمامُ أحمدُ

(4)

رَحِمَهُ اللهُ تَعالى ومَن مَعَه، وهو إمامُ النَّقلِ وأعلمُ بأحوالِ السَّلفِ.

(1)

ينظر: «التحبير شرح التحرير» (2/ 955).

(2)

«المحصولُ» للرَّازيِّ (2/ 485).

(3)

«نهايةُ الوُصولِ في دِرايةِ الأصولِ» (2/ 605).

(4)

ليست في (د).

ص: 209

قالَ ابنُ قاضي الجبلِ: قولُ ابنِ البَاقِلَّانِيِّ: «يَسقُطُ الفَرضُ عندَها لا بها» باطلٌ؛ لأنَّ مُسْقِطاتِ الفرضِ محصورةٌ: مِن نَسخٍ، أو عَجزٍ، أو فِعلِ غيرِه

(1)

كالكفايةِ، وليس هذا منها

(2)

. انتهى.

وعنِ الإمامِ أحمدَ روايةٌ: يَحْرُمُ فِعْلُها، وتَصِحُّ، وعليه: لا ثوابَ فيها.

وعنه: إنْ كانَ عالمًا ذاكرًا للغَصْبِ وقتَ العبادةِ: لم تَصِحَّ، وإلَّا: صَحَّتْ.

قُلْتُ: وهذا هو المُفتَى به في المذهبِ، فإنْ كانَ جاهلًا، أو ناسيًا: صَحَّتْ، ذَكَرَه المجدُ إجماعًا.

(وَتَصِحُّ تَوْبَةُ خَارِجٍ) أي: غاصبٍ لمكانِ مَن غَصَبَهُ حالَ خُروجِه (مِنْهُ) وهو (فِيهِ) قَبْلَ إتمامِ خُروجِه، (وَلَمْ يَعْصِ بِخُرُوجِهِ).

قالَ ابنُ عَقِيلٍ: لم يَختلفوا أنَّه لا يُعَدُّ واطئًا بنَزْعِه في الإثمِ، بل في التَّكفيرِ، وكإزالةِ مُحْرِمٍ طِيبًا بيَدِه، أو غَصَبَ عَينًا ثمَّ نَدِمَ وشَرَعَ في حَمْلِها على رأسِه إلى صاحِبِها، أو أَرسَلَ صيدًا صادَه مُحْرِمٌ، أو في حَرَمٍ مِن شَرَكٍ، والرَّامي بالسَّهمِ إذا خَرَجَ السَّهمُ عن مَحَلِّ قُدرتِه، وإذا جَرَحَ ثمَّ تابَ والجرحُ ما زالَ إلى

(3)

السِّرَايَةِ، ففي هذه المواضعِ ارتفعَ الإثمُ بالتَّوبةِ، والضَّمانُ باقٍ، بخلافِ ما لو كانَ ابتداءُ الفِعلِ غيرَ مُحَرَّمٍ، كخروجِ مُستعيرٍ مِن دارٍ انْتَقَلَتْ عنِ المُعِيرِ، وخروجِ مَن أَجْنَبَ بمسجدٍ، فإنَّه غيرُ آثمٍ اتِّفاقًا.

(1)

ليست في (د).

(2)

ينظر: «التحبير شرح التحرير» (2/ 957).

(3)

في (ع): في.

ص: 210

فائدةٌ: قالَ الشَّيخُ: التَّحقيقُ أنَّ هذه الأفعالَ يَتَعَلَّقُ بها حقٌّ للهِ، وحقٌّ للآدميِّ، فأمَّا حقُّ اللهِ فيَزولُ بمُجَرَّدِ النَّدَمِ، وأمَّا حُقوقُ العِبادِ فلا تَسقُطُ إلَّا بعدَ أدائِها إليهم، وعَجزُه عن إيفائِها بعدَ التَّوبةِ لا يُسْقِطُها، بل له أن يَأخُذَ مِن حسناتِ هذا الظَّالمِ في الآخِرَةِ إلى حينِ زوالِ الظُّلمِ وأَثَرِه.

(وَالسَّاقِطُ عَلَى جَرِيحٍ) ونَحوِه، كمَن نامَ على سَطحِه فهَوَى سَقفُه مِن تَحتِه على قومٍ، فـ (إِنْ بَقِيَ) السَّاقطُ على الجريحِ ونَحوِه

(1)

(قَتَلَهُ، وَ) قُتِلَ (مِثْلُهُ) أي: كُفُؤُ الَّذِي سَقَطَ عليه (إِنِ انْتَقَلَ) عمَّنْ سَقَطَ عليه لَزِمَه المُكْثُ؛ لأنَّ الضَّرَرَ لا يُزالُ بالضَّررِ، وَلَا يَضْمَنُ ما تَلِفَ بسُقُوطِه؛ لأنَّه مُلْجَأٌ لم يَتَسَبَّبْ بل:

(1)

(يَضْمَنُ) ما تَلِفَ بدوامِ مُكْثِه، أو بانتقالِه.

(2)

(وَتَصِحُّ تَوْبَتُهُ إِذَنْ) أي: حالَ سُقوطِه على الجريحِ، وَلَا تَقِفُ صِحَّتُها على المُفارقةِ، بل هو مَعَ العزمِ والنَّدمِ تاركٌ مُقْلِعٌ، كما تَقَدَّمَ عن ابنِ عَقِيلٍ.

(3)

(وَيَحْرُمُ انْتِقَالُهُ) عنه إلى آخَرَ، قال ابنُ عَقِيلٍ

(2)

: قولًا واحدًا، لأنّه

(3)

يَحْصُلُ مبتدئًا بالجنايةِ، كما لو سَقَطَ مِن غيرِ اختيارِه، فحَصَلَ سقوطُه على واحدٍ، لم يَجُزْ له عندَنا جميعًا أن يَنتَقِلَ، فيَقِفَ مُتَنَدِّمًا مُتَمَنِّيًا أن يُخلَقَ له جناحانِ يَطِيرُ بهما، أو يَتَدَلَّى إليه حبلٌ يَتَشَبَّثُ

(4)

به، فإذا عَلِمَ الله تَعالى ذلك

(1)

ليست في (د).

(2)

«الواضح في أُصولِ الفقهِ» (5/ 433).

(3)

في د، ع: إلا أنه لا. والمثبت من «الواضح» لابن عقيل.

(4)

في (ع): يتثبت.

ص: 211

منه كانَ ذلك غايةَ جُهدِه، وصارَ بعدَ جهدِه كحَجَرٍ أَوْقَعَه اللهُ تَعالى على ذلك الجريحِ.

تنبيهٌ: فَرَّقَ ابنُ عبدِ السَّلامِ، فقالَ بعدَ فَرضِها في صَغِيرَينِ: الأظهرُ عِندي لزومُ الانتقالِ فيما إذا كانَ الَّذِي سَقَطَ عليه مُسْلِمًا والمنتقَلُ إليه كافرًا [لكنَّه مَعصومٌ لصِغَرٍ]

(1)

أو أمانٍ؛ لأنَّه أخفُّ مَفسَدَةً.

قالَ: لأنَّ قتلَ أولادِ الكُفَّارِ جائزٌ عندَ التَّتَرُّسِ بهم، حَيْثُ لا يَجُوزُ ذلك في أطفالِ المسلمينَ

(2)

.

أمَّا الكافرُ غيرُ المعصومِ فيُنْتَقَلُ إليه قطعًا أو يَلْزَمُه، وهو قولُه: (وَيَلْزَمُ

(3)

الأَدْنَى قَطْعًا) إنْ كانَ هو الواقعَ عليه: لَزِمَه الاستمرارُ عليه، وإنْ كانَ الآخَرَ: لَزِمَ الانتقالُ إليه قطعًا، وهذا مِمَّا لا خلافَ فيه، وعلى قياسِه الزَّاني المُحصَنُ، واللهُ أعلمُ.

(1)

في (د): معصومًا لصِغَرٍ.

(2)

«قواعد الأحكام في مصالح الأنام» (1/ 96).

(3)

في (ع): ويلزمه.

ص: 212

(فَصْلٌ)

(المَنْدُوبُ لُغَةً: المَدْعُوُّ لِمُهِمٍّ، مِنَ النَّدْبِ وَهُوَ الدُّعَاءُ) لأمْرٍ مُهِمٍّ، ومنه الحديثُ:«انْتَدَبَ اللَّهُ لِمَنْ يَخْرُجُ فِي سَبِيلِهِ»

(1)

أي: أجابَ له طلبَ مغفرةِ ذُنوبِه، يُقالُ: نَدَبْتُه فانْتَدَبَ.

ويُطلَقُ أيضًا على التَّأثيرِ، ومنه حديثُ مُوسى عليه السلام:«وَإِنَّ بِالحَجَرِ نَدَبًا -بفتحِ المُهمَلةِ- سِتَّةً، أَوْ سَبْعَةً، ضَرْبُ مُوسَى»

(2)

وأصلُه الجرحُ.

وقال الطُّوفِيُّ: النَّدْبُ في الأصلِ مَصدرُ نَدَبْتُه

(3)

نَدْبًا، والمفعولُ مندوبٌ، وهو المرادُ؛ لأنَّه المقابلُ للواجبِ، ويقالُ له:«نَدْبٌ» إطلاقًا للمصدرِ على المفعولِ مَجازًا

(4)

.

وقالَ في «القاموسُ» : نَدَبَهُ

(5)

إلى الأَمْرِ، كَنَصَرَهُ: دَعاه، وحَثَّهُ

(6)

.

(وَ) المندوبُ (شَرْعًا: مَا أُثِيبَ فَاعِلُهُ) كسننِ الأفعالِ في الصَّلاةِ، والحَجِّ، وغيرِهما، فخَرَجَ

(7)

الحرامُ، والمكروهُ، وخلافُ الأَوْلَى، والمباحُ، (وَلَوْ) كانَ (قَوْلًا) كسُنَنِ الأقوالِ في الصَّلاةِ، والصَّومِ والحَجِّ، وغيرِها، (وَ) لو كانَ (عَمَلَ قَلْبٍ) كالخُشوعِ في الصَّلاةِ، والنِّيَّةِ لفِعلِ الخيرِ، والذِّكرِ.

(1)

رواه النَّسائيُّ (3123).

(2)

رواه مسلمٌ (339).

(3)

في «شرح مختصَرِ الرَّوضةِ» : ندبه يندبه.

(4)

«شرحُ مختصَرِ الرَّوضةِ» (1/ 253).

(5)

في (د): الندبة. والمثبت من (ع)، و «القاموسُ المُحيطُ» .

(6)

«القاموسُ المحيطُ» (ص: 137).

(7)

في (د): خرج.

ص: 213

وخَرَجَ بقولِه: (وَلَمْ يُعَاقَبْ تَارِكُهُ): الصَّلاةُ المكتوبةُ.

وبقولِه: (مُطْلَقًا) الواجبُ المُخيَّرُ وفرضُ الكفايةِ، كصلاةِ الجنازةِ.

(وَيُسَمَّى) المَندُوبُ: (سُنَّةً، وَمُسْتَحَبًّا) فَهُوَ مُرَادِفٌ لهما أي: يُساوِيهما في الحدِّ، والحقيقةِ، وإنَّما اختلفَتِ الألفاظُ والمعنى واحدٌ.

قالَ ابنُ حَمْدَانَ: (وَ) يُسَمَّى النَّدبُ (تَطَوُّعًا، وَطَاعَةً، وَنَفْلًا، وَقُرْبَةً) إجماعًا. انتهى.

(وَ) يُسَمَّى (مُرَغَّبًا فِيهِ، وَ) يُسَمَّى أيضًا (إِحْسَانًا).

قالَ في «شرحِ الأصلِ» : ورَأَيْتُ بعضَهم قَيَّدَ قولَه: «إِحْسَانًا» إنْ كانَ نَفْعًا للغيرِ مقصودًا، ورَأَيْتُ في كلامِ الشَّافعيَّةِ أنَّ مِن أسمائِه: الأَوْلَى

(1)

. انتهى.

فائدةٌ: قالَ الشَّيخُ أبو طالبٍ مُدَرِّسُ المُسْتَنْصِرِيَّةِ مِن أئمَّةِ أصحابِنا في «حاوِيه الكبيرِ» : أنَّ المندوبَ يَنقسِمُ ثلاثةَ أقسامٍ:

أَحدُها: ما يَعظُمُ أجرُه يُسَمَّى سُنَّةً.

والثَّاني: ما يَقِلُّ أجرُه يُسَمَّى نافلةً.

والثَّالثُ: ما يَتَوَسَّطُ في الأجْرِ بينَ هذينِ، فيُسَمَّى فضيلةً ورغيبةً

(2)

.

وهو المرادُ بقولِه: (وَأَعْلَاهُ) أي: أعلى‌

‌ أسماءِ المندوبِ:

(سُنَّةٌ، ثُمَّ فَضِيلَةٌ، ثُمَّ نَافِلَةٌ).

(1)

«التحبير شرح التحرير» (2/ 980).

(2)

«الحاوي في الفقه» لأبي طالب العبدلياني (1/ 62 - 63).

ص: 214

ثمَّ قَالَ: وما واظَبَ على فِعلِه غيرَ مُظهِرٍ له؛ ففيه وجهانِ:

أحدُهما: تسميتُه سُنَّةً، نظرًا إلى المواظبةِ.

والثَّاني: تسميتُه فضيلةً، نظرًا إلى تَركِ إظهاره، وهذا كرَكْعتَيِ الفجرِ

(1)

.

(وَهُوَ) أي: المندوبُ:

(1)

(تَكْلِيفٌ) إذ مَعناه: طلبُ ما فيه كُلفةٌ، وقد يَكُونُ أشقَّ مِن الواجبِ، وليسَتِ المشقَّةُ مُنحَصِرةً في الممنوعِ عن نقيضِه حَتَّى يَلْزَمَ أن يكون منه.

(2)

(وَ) المندوبُ (مَأْمُورٌ بِهِ حَقِيقَةً) عندَ أكثرِ أصحابِنا، لدُخُولِه في حدِّ الأمرِ، وانقسامِ الأمرِ إلى: حقيقةٍ، ومجازٍ، وهو مُسْتَدْعًى ومطلوبٌ، قال اللهُ تَعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ}

(2)

، وإطلاقُ الأمرِ عليه في الكتابِ والسُّنَّةِ، والأصلُ الحقيقةُ، ولأنَّه طاعةٌ لامتثالِ الأمرِ، (فَـ) على هذا (يَكُونُ لِلْفَوْرِ) قياسًا على الواجبِ.

قالَ في «شرحِ الأصلِ» : لكنْ لو لم يَفعَلْه على الفورِ، ماذا يَكُونُ؟ يَحتملُ: ما أَتَى به على وجهِه

(3)

.

(3)

(وَ) ذَهَبَ الأكثرُ أنَّ المندوبَ (لَا يَلْزَمُ بِشُرُوعٍ) فيه، بل هو مُخَيَّرٌ فيه بينَ إتمامِه وقطعِه، والأفضلُ إتمامُه بلا نزاعٍ؛ وذلك لأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كانَ يَنوي صومَ التَّطوُّعِ ثمَّ يُفطِرُ. رواه مسلمٌ

(4)

وغيرُه.

(1)

«الحاوي في الفقه» لأبي طالب العبدلياني (1/ 63).

(2)

النَّحل: 90.

(3)

«التحبير شرح التحرير» (2/ 989).

(4)

«صحيح مسلم» (1154) عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنها، قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ذَاتَ يَوْمٍ «يَا عَائِشَةُ، هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ؟» .. الحديث، وفيه:«قَدْ كُنْتُ أَصْبَحْتُ صَائِمًا» .

ص: 215

وأمَّا قولُه تَعالى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ}

(1)

يحملُ على التَّنزيهِ جمعًا بينَ الدَّليلينِ، هذا إنْ لم يُفسَّرْ بُطلانُها بالرِّدَّةِ، بدليلِ الآيةِ الَّتي قَبْلَها، أو أنَّ المُرادَ: فلا تُبْطِلوها بالرِّياءِ، ولا فرقَ بينَ الصَّلاةِ، والصَّومِ، والاعتكافِ، وغيرِها على المذهبِ، (غَيْرُ حَجٍّ وَعُمْرَةٍ) فيَلْزَمُ إتمامُها لمن شَرَعَ فيهما لوَجهينِ:

أحدُهما: (لِوُجُوبِ مُضِيٍّ فِي فَاسِدِهِمَا) أي: فاسدِ التَّطوُّعِ مِنهما كواجبِه، فإتمامُ صحيحِ التَّطوُّعِ أَوْلَى؛ لأنَّ نَفْلَ الحجِّ كواجبِه في الكفَّارةِ، وتقريرُ المَهْرِ بالخَلوةِ معه، بخلافِ الصَّومِ.

(وَ) الثَّاني: (لِمُسَاوَاةِ

(2)

نَفْلِهِمَا فَرْضَهُمَا، نِيَّةً وَكَفَّارَةً وَغَيْرَهُمَا) كانعقادِ الإحرامِ لازمًا في فَرضِهما ونَفلِهما، فوَجَبَ أنْ يَتَساوَيَا في الإتمامِ واللُّزومِ.

(فَرْعٌ)

(الزَّائِدُ عَلَى قَدْرٍ وَاجِبٍ فِي) قيامٍ، و (رُكُوعٍ) وسُجُودٍ، (وَنَحْوِهِ) كقعودٍ:(نَفْلٌ)؛ لجوازِ تَرْكِه مُطلقًا، وهذا شأنُ النَّفلِ.

واسْتَظهرَ القاضي مِن كلامِ أحمدَ الوجوبَ، وأَخَذَه مِن نَصِّه على أنَّ الإمامَ إذا أطالَ الرُّكوعَ، فأَدْرَكَه فيه مسبوقٌ: أَدرَكَ الرَّكعةَ، ولو لم يَكُنِ الكلُّ واجبًا لَمَا صَحَّ ذلك؛ لأنَّه يَكُونُ اقتداءَ مُفتَرضٍ بمُتَنَفِّلٍ.

وقالَ ابنُ عَقِيلٍ

(3)

: نصُّ أحمدَ لا يَدُلُّ عندي على هذا المذهبِ، بل يُعطي أحدَ أَمرَينِ: إمَّا جوازُ ائتمامِ مُفتَرضٍ بمُتَنَفِّلٍ، ويَحتمِلُ أن يَجْرِيَ

(1)

محمَّد: 33.

(2)

في (ع): مساواة.

(3)

«الواضح في أصول الفقه» (3/ 207).

ص: 216

مَجْرَى الواجبِ في بابِ الاتِّباعِ خاصَّةً؛ إذِ الاتباعُ قد يُسْقِطُ الواجبَ، كما في المسبوقِ، ومُصَلِّي الجُمُعةِ مِنِ امرأةٍ وعبدٍ، ومسافرٍ، وقد يُوجِبُ ما لَيْسَ بواجبٍ، كالمسافرِ المُؤْتَمِّ بمُقيمٍ. وقياسُ الزِّيادةِ المُنْفَصِلَةِ -وهو فِعلُ المِثْلِ- على الزِّيادةِ المُتَّصِلةِ.

(وَمَنْ أَدْرَكَ رُكُوعَ إِمَامٍ) ولو بعدَ طُمأنينةٍ

(1)

منه: (أَدْرَكَ الرَّكْعَةَ)؛ لِما تَقَدَّمَ.

(1)

في (ع): طمأنينته.

ص: 217

(فَصْلٌ)

(المَكْرُوهُ ضِدُّ المَنْدُوبِ) قالَ ابنُ قاضي الجبلِ: المَكْرُوهُ لغةً ضدُّ المَحبُوبِ، أخذًا من الكراهةِ، وَقِيلَ: مِن الكريهةِ، وهي الشِّدَّةُ في الحربِ

(1)

. انتهى.

وأصلُ الكراهةِ لُغَةً خلافُ الإرادةِ، فمَعنى كراهةِ الشَّرعِ لشيءٍ: إمَّا عدمُ إرادتِه، أو إرادةُ ضِدِّه، كما في قولِه تَعالى:{وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ}

(2)

.

(وَ) المَكروهُ شرعًا: (هُوَ مَا مُدِحَ تَارِكُهُ) فخَرَجَ بما مُدِحَ: المباحُ، فإنَّه لا مَدْحَ فيه وَلَا ذَمَّ، وبقولِه:«تاركُه» : الواجبُ والمندوبُ؛ فإنَّ فاعلَهما يُمدَحُ لا تارِكُهما.

وخرجَ بقولِه: (وَلَمْ يُذَمَّ فَاعِلُهُ): الحرامُ، فإنَّه يُذَمُّ فاعلُه، فإنَّه وإنْ شارَك المكروهَ في المدحِ بالتَّركِ، فإنَّه يُفارِقُه في ذمِّ فاعلِه.

(وَ) المكروهُ (لَا ثَوَابَ فِي فِعْلِهِ) إذا قُلْنا إنَّه لا يُثابُ على فعلِ عبادةٍ على وجهٍ مُحَرَّمٍ، وهو الأصحُّ، وأمَّا إذا قُلْنا: إنَّه يُثابُ عليها؛ فيُثابُ هنا قطعًا.

(وَهُوَ) أي: المكروهُ:

(1)

(تَكْلِيفٌ،

(2)

وَمَنْهِيٌّ عَنْهُ حَقِيقَةً) لا مجازًا على الصَّحيحِ، كما أنَّ المندوبَ مأمورٌ به على الصَّحيحِ؛ لأنَّه يُقابِلُه، فهو على وِزانِه.

(1)

«التحبير شرح التحرير» (3/ 1004).

(2)

التَّوبة: 46.

ص: 218

(وَمُطْلَقُ الأَمْرِ لَا يَتَنَاوَلُهُ) أي: لا يَتناوَلُ المكروهَ؛ لأنَّ المكروهَ مَطلوبُ التَّركِ، والمأمورُ مطلوبُ الفِعلِ، فيَتنافيانِ.

ولا يَصِحُّ الاستدلالُ لصِحَّةِ طوافِ المُحْدِثِ بقولِه تَعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}

(1)

، ولا لعَدمِ التَّرتيبِ والمُوالاةِ بقولِه تَعالى في آيةِ الوُضوءِ:{إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ}

(2)

.

(وَهُوَ) أي: المكروهُ (فِي عُرْفِ) أي: في اصطلاحِ (المُتَأَخِّرِينَ: لِلتَّنْزِيهِ) لا للتَّحريمِ، وإنْ كانَ عندَهم لا يَمتنِعُ أن يُطلَقَ على الحرامِ، لكنْ قد جَرَتْ عادتُهم وعُرفُهم أنَّهم إذا أَطلَقُوه أرادوا التَّنزيهَ، وهذا اصطلاحٌ لا مُشَاحَّةَ فيه.

(وَيُطْلَقُ) المكروهُ (عَلَى:

(1)

الحَرَامِ) وهو كثيرٌ في كلامِ الإمامِ أحمدَ وغيرِه مِنَ المُتَقدِّمينَ، لكنْ لو وَرَدَ عنه الكراهةُ في شيءٍ مِن غيرِ أنْ يَدُلَّ دليلٌ مِن

(3)

خارجٍ على التَّحريمِ، ولا على التَّنزيهِ، فللأصحابِ فيه وجهانِ:

أحدُهما: المرادُ: التَّحريمُ.

قال الخِرَقِيُّ: «ويُكْرَهُ أنْ يُتَوَضَّأَ في آنيةِ الذَّهبِ والفِضَّةِ»

(4)

. وهو مُحَرَّمٌ، لكنْ قالوا عن كلامِه: إِنَّمَا كانَ مُحَرَّمًا بدليلٍ، وهو قولُه:«وَالمُتَّخِذُ آنِيَةَ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ عَاصٍ وَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ»

(5)

. فهذه قرينةٌ تَدُلُّ على التَّحريمِ.

(1)

الحج: 29.

(2)

المائدة: 6.

(3)

ليست في (د).

(4)

«مختصر الخرقي» (ص 16).

(5)

«مختصر الخرقي» (ص 47).

ص: 219

والوجهُ الثَّاني: المُرادُ التَّنزيهُ.

وفيه وجهٌ ثالثٌ: يَرجعُ إلى القرائنِ، وهو أظهرُ الأوجهِ.

وقد قَالَ الإمامُ أحمدُ رحمه الله: أَكرَهُ النَّفخَ في الطَّعامِ، وإدمانَ اللَّحمِ، والخُبزَ الكبارَ

(1)

. ومرادُه: كراهةُ التَّنزيهِ هنا.

(2)

(وَ) يُطلَقُ المكروهُ على (تَرْكِ الأَوْلَى،

وَ) تَرْكُ الأَوْلَى: (هُوَ تَرْكُ مَا فِعْلُهُ رَاجِحٌ) على تَرْكِهِ (أَوْ عَكْسُهُ) أي: فِعلُ ما تَركُه راجحٌ على فِعلِه، (وَلَوْ لَمْ يُنْهَ عَنْهُ) أي: عن تركِه، (كَتَرْكِ مَنْدُوبٍ) ومنه قولُ الخِرَقِيِّ:«ومَن صَلَّى بلا أذانٍ وَلَا إقامةٍ كَرِهْنا له ذلك وَلَا يُعيدُ»

(2)

. أي: الأَوْلَى أن يُصَلِّيَ بأذانٍ وإقامةٍ أو بأحدِهما، وإنْ أَخَلَّ بهما: تَرَكَ الأَوْلَى، فتَرْكُ الأَوْلَى مُشارِكٌ للمَكروهِ في حَدِّه، إلَّا أنَّه مَنهيٌّ عنه غيرُ مقصودٍ، والمكروهُ بنَهيٍ مقصودٌ، والمنعُ مِن المكروهِ أَقوى مِن المنعِ مِن خلافِ الأَوْلَى.

(وَيُقَالُ لِفَاعِلِهِ) أي: لفاعلِ المكروهِ: (مُخَالِفٌ، وَمُسِيءٌ، وَغَيْرُ مُمْتَثِلٍ) مع أنَّه لا يَأثَمُ فاعلُه على الأصحِّ.

قالَ الإمامُ أحمدُ فيمَن زادَ على التَّشهُّدِ: أساءَ.

وقالَ ابنُ عَقِيلٍ فيمَن أُمِرَ بحَجَّةٍ أو عمرةٍ في شهرٍ، ففَعَلَه في غيرِه: أساءَ لمُخالفتِه

(3)

.

(1)

قال في المغني 9/ 432: قَالَ الْمَرُّوذِيُّ: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، قُلْت: تَكْرَهُ الْخُبْزَ الْكِبَارَ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَكْرَهَهُ، لَيْسَ فِيهِ بَرَكَةٌ، إنَّمَا الْبَرَكَةُ فِي الصِّغَارِ ..

(2)

«مختصر الخرقي» (ص 24).

(3)

ينظر: «التحبير شرح التحرير» (3/ 1012)، و «أصول الفقه» (1/ 237).

ص: 220

(فَصْلٌ)

قالَ ابنُ قاضي الجَبلِ: (المُبَاحُ لُغَةً: المُعْلَنُ، وَالمَأْذُونُ) أخذًا مِنَ الإباحةِ وهي: الإظهارُ، والإعلانُ، ومنه باحَ بِسِرِّه

(1)

. انتهى، ومنه: أَبَحْتُ له الشَّيءَ؛ أي: أَحْلَلْتُه له.

(وَ) المُباحُ (شَرْعًا): هو (مَا) أي: كلُّ فعلٍ مأذونٍ فيه مِنَ الشَّارع

(2)

(خَلَا مِنْ مَدْحٍ وَذَمٍّ) يَعني لا ثوابَ له على فِعلِه، ولا عقابَ في تَركِه، أَخْرَجَ به الواجبَ، والمندوبَ، والحرامَ، والمكروهَ؛ لأنَّ كلًّا مِنَ الأربعةِ لا يَخلو مِن مدحٍ أو ذمٍّ، إمَّا في الفعلِ وإمَّا في التَّركِ.

وقولُه: (لِذَاتِهِ) ليَخرُجَ ما تَرَكَ به حرامًا، فإنَّه يُثابُ عليه مِن تلك الجِهَةِ، ويَخْرُجَ أيضًا ما تَرَكَ به واجبًا، فإنَّه يُذَمُّ مِن تلك الجهةِ.

تنبيهٌ: المُرادُ بالمَدحِ والذَّمِّ: أن يَرِدَ ما يَدُلُّ على ذلك بطريقٍ مِن الطُّرقِ، كمدحِ الفاعلِ، أو ذَمِّه، أو وَعدِه، أو وعيدِه، أو غيرِ ذلك.

(وَ) لَيْسَ المُباحُ جِنسًا للواجبِ في الأصحِّ، بل (هُوَ، وَوَاجِبٌ: نَوْعَانِ لِلْحُكْمِ) أي: نوعانِ مُنْدَرِجانِ تحتَ جنسٍ، وهو فِعلُ المُكَلَّفِ الَّذِي تَعَلَّقَ به الحُكمُ الشَّرعيُّ، وتسميتُه بالحُكمِ مجازًا، ودليلُه أنَّه لو كانَ المُباحُ جِنسًا للواجبِ لَاسْتلْزَمَ النَّوعُ -أعني الواجبَ- التَّخييرَ بينَ فِعلِه وتَركِه، والثَّاني ظاهرُ الفسادِ، فالمُقَدَّمُ مِثْلُه.

(وَلَيْسَ) المُباحُ (مَأْمُورًا بِهِ) لأنَّ الأمْرَ يَستلزِمُ ترجيحَ الفعلِ، ولا ترجيحَ في المُباحِ، ولأنَّ في الشَّريعةِ مُباحًا غيرَ مأمورٍ به إجماعًا.

(1)

ينظر: «التحبير شرح التحرير» (3/ 1019).

(2)

في (د): الشارح.

ص: 221

(وَلَا مِنْهُ) أي: وليسَ مِنَ المُباحِ (فِعْلُ غَيْرِ مُكَلَّفٍ) قَالَ القاضي: هو كلُّ فعلٍ مأذونٍ فيه لفاعلِه، لا ثوابَ له على فِعلِه، ولا عقابَ في تَركِه

(1)

.

قالَ الشَّيخُ: فيه احتِرازٌ مِن فعلِ الصِّبيانِ، والمجانينِ، والبهائمِ.

(وَيُسَمَّى) المُباحُ (طِلْقًا، وَحَلَالًا).

قالَ في «القاموس» : الطِّلْقُ: الحَلالُ

(2)

.

(وَيُطْلَقُ) مُباحٌ على: واجبٍ، ومندوبٍ، ومكروهٍ.

(وَ) يُطلَقُ (حَلَالٌ عَلَى غَيْرِ الحَرَامِ) فيَعُمُّ الأحكامَ الأربعةَ، وهي: الواجبُ، والمندوبُ، والمكروهُ، والمباحُ، فيُقالُ للواجبِ، والمندوبِ، والمكروهِ: مباحٌ، ويُقالُ لهذه الثَّلاثةِ وللمُباحِ: حلالٌ، لكنَّ إطلاقَ المُباحِ على ما اسْتَوَى طَرَفاه هو الأصلُ، قال اللهُ تَعالى:{فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا}

(3)

.

(وَالإِبَاحَةُ): شرعيَّةٌ، وعقليَّةٌ،

(1)

فـ (ـإِنْ أُرِيدَ بِهَا خِطَابُ) الشَّرعِ؛ أي: الخطابُ الواردُ مِنَ الشَّرعِ بانتفاءِ الحرجِ مِن الطَّرفينِ؛ (فَـ) هي (شَرْعِيَّةٌ،

(2)

وَإِلَّا) بأنْ أُريدَ بها عدمُ الحرجِ عن الفعلِ؛ فهي (عَقْلِيَّةٌ)؛ لأنَّ الفعلَ قبلَ الشَّرعِ مُتَحَقِّقٌ وَلَا حُكْمَ قَبْلَه.

(وَتُسَمَّى) الإباحةُ (شَرْعِيَّةً بِمَعْنَى:

- التَّقْرِيرِ،

(1)

«العدة في أصول الفقه» (1/ 167).

(2)

«القاموسُ المحيطُ» (ص 904).

(3)

يونس: 59.

ص: 222

- أَوْ) بمَعْنى (الإِذْنِ) وليسَتِ الإباحةُ بتكليفٍ، لكنْ قَالَ المجدُ في «المُسَوَّدَةُ»: والتَّحقيقُ في ذلك عِندي أنَّ المباحَ مِن أحكامِ التَّكْلِيفِ، بمَعنى أنَّه يَختَصُّ بالمُكَلَّفين؛ أي: إنَّ الإباحةَ والتخييرَ لا يَصِحُّ إلَّا لمَن يَصِحُّ إلزامُه الفعلَ أو التَّركَ، فأمَّا النَّاسي والنَّائمُ والمجنونُ، فلا إباحةَ في حَقِّهم، كما لا حَظْرَ ولا إيجابَ، فهذا مَعنى جَعْلِها مِن أحكامِ التَّكْلِيفِ، لا بمَعنى أنَّ المباحَ مُكَلَّفٌ به

(1)

.

(وَالجَائِزُ لُغَةً: العَابِرُ) يُقالُ: جازَ المكانَ يَجُوزُه جَوزًا وجَوَازًا: سَارَ فيه، وأجازَه بالألِفِ: قَطَعَه، وأَجَازَه: أَنْفَذَه.

(وَ) الجائزُ (اصْطِلَاحًا): يَعني (يُطْلَقُ) الجائزُ في اصطلاحِ الفقهاءِ

(1)

(عَلَى: مَا لَا يَمْتَنِعُ:

- شَرْعًا) مُباحًا كانَ، أو واجبًا، أو مَندوبًا، أو مَكْروهًا، (فَيَعُمُّ غَيْرَ الحَرَامِ) مِن الأحكامِ،

- (وَ) يُطلَقُ الجائزُ في اصطلاحِ المَنطقيِّينَ: على ما لا يَمتنِعُ (عَقْلًا) واجبًا كانَ، أو راجحًا، أو مُتساويَ الطَّرفَينِ، أو مَرجوحًا، وهو المُسَمَّى بالمُمكِنِ العَامِّ، (فَيَعُمُّ كُلَّ مُمْكِنٍ، و) المُمكِنُ: (هُوَ مَا جَازَ وُقُوعُهُ، حِسًّا أَوْ وَهْمًا، أَوْ شَرْعًا) إذا قُلْتَ: «هذا مُمكِنٌ» صَحَّ حَيْثُ أَمْكَنَ وقوعُه في الحسِّ، أو الوَهْمِ، أو في الشَّرعِ، فمتى أَمْكَنَ وُقوعُه في الوجودِ قِيلَ له: مُمكِنٌ.

(2)

(وَ) يُطلَقُ الجائزُ أيضًا (عَلَى: مَا اسْتَوَى فِيهِ الأَمْرَانِ:

- شَرْعًا؛ كَمُبَاحٍ،

- وَ) يُطلَقُ على ما اسْتَوى فيه الأمرانِ (عَقْلًا؛ كَفِعْلِ صَغِيرٍ).

ص: 223

(3)

(وَ) يُطلَقُ (عَلَى مَشْكُوكٍ فِيهِ فِيهِمَا) أي: في الشَّرعِ والعَقلِ (بِالِاعْتِبَارَيْنِ) وهو استواءُ الطَّرَفَينِ وعدمُ الامتناعِ، يَعني أنَّه كما يُقالُ: المشكوكُ فيه في الشَّرعِ، أو العقلِ لِما يَستوي طَرَفاه في النَّفْسِ، يُقالُ لِما لا يَمتنِعُ في النَّفسِ؛ أي: لا يُجزَمُ بِعَدَمِه، كما يُقالُ في النَّقلياتِ، وإنْ غَلَبَتْ على الظَّنِّ بَعدُ: فيه شكٌّ؛ أي: احتمالٌ، ولا يُرادُ به تساوي الطَّرفَينِ، لذلك يُقالُ: هو جائزٌ، والمُرادُ أَحدُهما.

فائدةٌ: الأحكامُ الشَّرعيَّةُ الخمسةُ لها نظائرُ مِنَ الأحكامِ العَقليَّةِ، فنظيرُ الواجبِ الشَّرعيِّ: ضروريُّ الوجودِ، وهو الواجبُ عَقلًا، ونظيرُ المُحَرَّمِ: المُمتنعُ، ونظيرُ المَندوبِ: المُمكِنُ الأكثريُّ، ونظيرُ المكروهِ: المُمكِنُ الأَقَلِّيُّ، ونظيرُ المُباحِ: المُمكنُ المُتساوي الطَّرفَينِ.

(وَلَوْ نُسِخَ وُجُوبُ) فِعْلٍ: (بَقِيَ الجَوَازُ) في الجُملةِ، فيَبْقَى الفعلُ (مُشْتَرَكًا بَيْنَ نَدْبٍ وَإِبَاحَةٍ) لأنَّ الماهيَّةَ الحاصلةَ بعدَ النَّسخِ مُرَكَّبَةٌ مِن قَيدَينِ:

أحدُهما: زوالُ الحَرجِ عنِ الفِعلِ، وهو مُستفادٌ مِنَ الأمرِ.

والثَّاني: زَوالُ الحَرَجِ عنِ التَّركِ، وهو مستفادٌ مِنَ النَّسخِ، وهذه الماهيَّةُ صادقةٌ على المَندوبِ والمُباحِ، فلا يَتَعَيَّنُ أحدُهما بخصوصِه.

(وَلَوْ صُرِفَ نَهْيٌ عَنْ تَحْرِيمِ) شيءٍ: (بَقِيَتِ الكَرَاهَةُ) فيه (حَقِيقَةً) لا مجازًا؛ لأنَّ النَّهيَ لم يَنتقلْ عن جميعِ مُوجِبِه، وإنَّما انتقلَ عن بعضِ مُوجِبِه، كالعُمومِ الَّذِي خَرَجَ بعضُه بَقِيَ حقيقةً فيما بَقِيَ.

ولَمَّا فَرَغَ من أحكامِ خطابِ التَّكْلِيفِ، وَيُعَبَّرُ عنه أيضًا بخطابِ الشَّرعِ، وبخطابِ اللَّفظِ: شَرَعَ في الكلامِ على خِطابِ الوضعِ والإخبارِ، فقال:

ص: 224

(فَصْلٌ)

(خِطَابُ الوَضْعِ) أي: حَدُّه في اصطلاحِ الأُصُولِيِّينَ (خَبَرٌ) لا إنشاءٌ، بخلافِ خِطابِ الشَّرعِ، (اسْتُفِيدَ) ذلك الخبرُ بواسطةٍ (مِنْ نَصْبِ الشَّارِعِ عَلَمًا مُعَرِّفًا لِحُكْمِهِ) وإنَّما قِيلَ ذلك لتَعَذُّرِ معرفةِ خِطابِه في كلِّ حالٍ، وفي كلِّ واقعةٍ بعدَ انقطاعِ الوحيِ؛ حذرًا مِن تعطيلِ أكثرِ الوقائعِ مِن

(1)

الأحكامِ الشَّرعيَّةِ، وسُمِّيَ هذا النَّوعُ خطابَ الوَضعِ والإخبارِ.

أمَّا مَعنى الوضعِ فهو أنَّ الشَّرعَ وَضَعَ؛ أي: شَرَعَ أُمورًا سُمِّيَتْ: أسبابًا، وشروطًا، وموانعَ، يُعرَفُ عندَ وُجودِها أحكامُ الشَّرعِ، مِن: إثباتٍ، أو نفيٍ، فالأحكامُ تُوجَدُ بوجودِ الأسبابِ والشُّروطِ، وتَنتفي بوجودِ الموانعِ

(2)

وانتفاءِ الأسبابِ والشُّروطِ.

وأمَّا مَعنى الإخبارِ: فهو أنَّ الشَّرعَ -بوِضْعِ هذه الأمورِ- أَخبَرَنا بوجوبِ أحكامِه وانتفائِها عندَ وجودِ تلك الأمورِ أو انتفائِها، كأنَّه قَالَ مثلًا: إذا وُجِدَ النِّصابُ الَّذِي هو سببُ وجوبِ الزَّكاةِ، والحَوْلُ الَّذِي هو شَرطُه، فاعلَمُوا أنِّي قد أَوْجَبْتُ عليكم أداءَ الزَّكاةِ، وإنْ وُجِدَ الدَّينُ الَّذِي هو مانعٌ مِن وُجُوبِها، أو انتفى السَّوْمُ الَّذِي هو شَرطٌ لوُجُوبها في السَّائمةِ، فاعلموا أَنِّي لم أُوجِبْ عليكم الزَّكاةَ، وكذا الكلامُ في القِصاصِ والسَّرقةِ والزِّنا وغيرِها بالنَّظرِ إلى وجودِ أسبابِها وشروطِها وانتفاءِ موانِعِها، وعكسِه.

تنبيهٌ: الفرقُ بينَ خطابِ الوَضعِ، وخطابِ التَّكْلِيفِ، مِن حَيْثُ الحقيقةُ: أنَّ الحُكمَ في خطابِ الوضعِ هو قضاءُ الشَّرعِ على الوصفِ بكَوْنِه سببًا، أو

(1)

في (د): عن.

(2)

في (ع): المانع.

ص: 225

شرطًا، أو مانعًا، وخطابُ التَّكْلِيفِ، لِطلَبِ ما تَقَرَّرَ بالأسبابِ والشُّروطِ والموانعِ.

والفرقُ بينَهما من حَيْثُ الحُكمُ: أنَّ خطابَ الشَّرعِ يُشتَرطُ فيه عِلْمُ المُكَلَّفِ وقدرتُه على الفِعلِ، وكونُه مِن كَسْبِه، كالصَّلاةِ، والحَجِّ، والصَّومِ، ونَحوِها.

(وَ) أَمَّا خطابُ الوضعِ فـ (لَا يُشْتَرَطُ لَهُ) شيءٌ مِن ذلك؛ أي: لا (تَكْلِيفٌ، وَلَا كَسْبٌ، وَلَا عِلْمٌ، وَلَا قُدْرَةٌ) إلَّا ما اسْتَثْنى. أمَّا عدمُ اشتِراط العِلْمِ، فكالنَّائِمِ يُتْلِفُ شيئًا حالَ نَوْمِه، والرَّامي إلى صيدٍ في ظُلْمَةٍ، أو مِن وراءِ حائلٍ، فيَقتُلُ إنسانًا، فإنَّهما يَضْمَنانِ، وإنْ لم يَعْلَمَا.

وأمَّا عدمُ اشتِراطِ القُدرةِ والكَسبِ فكالدَّابَّةِ تُتلِفُ شيئًا، والصَّبيِّ أو البالغِ يَقتُلُ خَطَأً، فيَضمَنُ صاحبُ الدَّابَّةِ والعاقلةِ وإن لم يَكُنِ القتلُ والإتلافُ مَقدورًا ولا مُكتسبًا لهم.

وأمَّا المُستثنى مِن عَدَمِ اشتِراطِ العِلْمِ والقُدرةِ فقاعدتانِ، أشارَ إلى الأُولى بقولِه:

(1)

(إِلَّا سَبَبَ عُقُوبَةٍ) كحَدِّ الزِّنا، فلا يَجِبُ على مَن وَطِئَ أجنبيَّةً يَظُنُّها زوجتَه لعدمِ العِلْمِ، ولا على مَن أُكْرِهَتْ على الزِّنا لعدمِ القُدرةِ على الامتناعِ؛ إذِ العُقوباتُ تَستدعي وُجودَ الجناياتِ الَّتي يُنتَهَكُ بها حُرمَةُ الشَّرعِ زجرًا عنها ورَدعًا. والانتهاكُ إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ مع العِلْمِ والقُدرةِ والاختيارِ، والمُختارُ هو الَّذِي إنْ شاءَ فَعَلَ وإنْ شاءَ تَرَكَ، والجاهِلُ والمُكرَهُ قد انتفى ذلك فيه، وهو شرطُ تَحَقُّقِ الانتهاكِ لانتفاءِ شَرطِه، فتَنتفي العقوبةُ لانتفاءِ سَبَبِها.

ص: 226

(2)

وأشارَ إلى الثَّانيةِ بقولِه: (أَوْ) إلَّا (نَقْلَ مِلْكٍ) كالبيعِ، والهبةِ، والوصيَّةِ، ونحوِها، فيُشتَرَطُ فيها العِلْمُ والقدرةُ، فلو تَلَفَّظَ بلفظٍ ناقلٍ للمِلْكِ وهو لا يَعلَمُ مُقتضاه لكونِه أعجميًّا بينَ العَربِ، أو عربيًّا بينَ العجمِ، أو أُكْرِهَ على ذلك لَم يَلْزَمْه مُقتضاه، والحِكمَةُ في استثناءِ هاتينِ القَاعِدتَينِ: التزامُ الشَّرعِ قانونَ العدلِ في الخَلْقِ والرِّفقِ بهم، وإعفائِهم عن تكليفِ المَشَاقِّ، أو التَّكْلِيفِ بما لا يُطاقُ، وهو حليمٌ.

(وَأَقْسَامُهُ) أي: أقسامُ خطابِ الوَضْعِ: (عِلَّةٌ) في قولِ المُوَفَّقِ

(1)

وغيرِه، (وَسَبَبٌ، وَشَرْطٌ، وَمَانِعٌ) وكذا صِحَّةٌ وفسادٌ على الصَّحيحِ. وقيل: وعزيمةٌ ورُخصةٌ.

(وَالعِلَّةُ أَصْلًا) أي: في أصلِ الوضعِ اللُّغويِّ أو الاصطلاحيِّ: مَرَضٌ، وهو (عَرَضٌ) والعَرَضُ في اللُّغةِ: الظَّاهِرُ بعدَ أنْ لم يَكُنْ.

وفي اصطلاحِ المُتَكَلِّمينَ: ما لا يَقُومُ بنَفْسِه، كالألوانِ، والطُّعومِ، والحَرَكَاتِ، والأصواتِ، وهو كذلك عندَ الأطبَّاءِ؛ لأنَّه عندَهم عبارةٌ عن حادثٍ ما إذا قَامَ بالبدنِ أَخرَجَه عنِ الاعتدالِ.

وقولُه: (مُوجِبٌ لِخُرُوجِ البَدَنِ) هو إيجابٌ حِسِّيٌّ كإيجابِ الكسرِ للانكسارِ، والتَّسويدِ للِاسْوِدادِ، فكذلك الأمراضُ البَدنيَّةُ، مُوجِبَةٌ لاضطِرابِ البدنِ إيجابًا مَحسوسًا.

وقولُه: (الحَيَوَانِيِّ عَنِ الِاعْتِدَالِ) احتِرازٌ عَنِ النَّباتِيِّ والجَماديِّ، فإنَّ الأعراضَ المُخرِجَةَ لها عن حالِ الاعتدالِ ما مِن شأنِه الاعتدالُ منها، لا يُسَمَّى في الاصطلاحِ عليلًا.

(1)

«رَوضةُ النَّاظرِ» (1/ 176).

ص: 227

وقولُه: (الطَّبيعيُّ) هو إشارةٌ إلى حقيقةِ المزاجِ، وهو الحالُ المُتوَسِّطَةُ الحاصلةُ عن تفاعُلِ كيفيَّاتِ العناصرِ

(1)

بعضِها في بعضٍ، فتلك الحالُ هي الاعتدالُ الطَّبيعيُّ، فإذا انْحَرَفَتْ عنِ التَّوسُّطِ لغَلبةِ

(2)

المرارةِ أو غيرِها، كانَ ذلك هو انحرافَ المزاجِ وهو العِلَّةُ، والمرضُ، والسُّقْمُ.

(ثُمَّ اسْتُعِيرَتِ) العِلَّةُ (عَقْلًا) أي: مِنَ الوضعِ اللُّغويِّ، فجُعِلَتْ في التَّصرُّفاتِ العقليَّةِ (لِمَا أَوْجَبَ حُكْمًا عَقْلِيًّا لِذَاتِهِ، كَكَسْرٍ لِانْكِسَارٍ) أي: لكونِه كَسرًا لا لأمرٍ خارجٍ مِن وضعيٍّ، أو اصطلاحيٍّ، وهكذا العِلَلُ العقليَّةُ هي مُؤثِّرةٌ لذواتِها بهذا المعنى، كالتَّحرُّكِ المُوجِبِ للحَرَكَةِ، والتَّسكينِ المُوجِبِ للسُّكونِ.

(ثُمَّ) اسْتُعِيرَتِ العلَّةُ (شَرْعًا) أي: مِن التَّصرُّفِ العَقليِّ إلى التَّصرُّفِ الشَّرعيِّ، فجُعِلَتْ فيه لثلاثةِ معانٍ:

أحدُها: استعارتُها (لِمَا أَوْجَبَ حُكْمًا شَرْعِيًّا لَا مَحَالَةَ) أي: ما وُجِدَ عندَه الحُكمُ قطعًا، (وَ) المُوجِبُ لا مَحالَةَ:(هُوَ) المجموعُ (المُرَكَّبُ مِنْ: مُقْتَضِيهِ) أي: مُقتضي الحُكْمِ، (وَشَرْطِهِ، وَمَحَلِّهِ، وَأَهْلِهِ).

مِثالُه: وجوبُ الصَّلاةِ حُكمٌ شرعيٌّ، ومُقتَضِيه: أمرُ الشَّارعِ بالصَّلاةِ، وشرطُه: أَهلِيَّةُ المُصَلِّي لتَوَجُّهِ الخطابِ إليه، بأنْ يَكُونَ: عاقلًا، بالغًا، ومَحَلُّه: الصَّلاةُ، وأَهلُه: المُصَلِّي.

وكذلك حُصُولُ المِلْكِ في البيعِ والنِّكاحِ، حُكْمٌ شرعيٌّ، ومُقتَضِيه: حُكْمُ الحاجةِ إليهما، والإيجابُ والقَبولُ فيهما، وشَرطُه: ما ذُكِرَ مِن شُروطِ

(1)

ليست في (د).

(2)

في (د): لعلِّيَّةِ.

ص: 228

صِحَّةِ البيعِ والنِّكاحِ في كُتُبِ الفقهِ، ومَحَلُّه: هو العينُ المَبيعةُ، والمَرأَةُ المَعقودُ عليها، وأهلُه: كَوْنُ العاقدِ صحيحَ العِبادةِ والتَّصرُّفِ، وافرضْ ذلك في غيرِه، وهذا تَشبيهًا بالعِلَّةِ العقليَّةِ؛ لأنَّ المُتَكَلِّمينَ وغيرَهم قالُوا: كلُّ حادثٍ لا بدَّ له مِن عِلَّةٍ، لكنَّ العِلَّةَ:

إمَّا ماديَّةٌ كالفِضَّةِ للخَاتَمِ، أو صُوريَّةٌ كاستدارتِه، أو فاعليَّةٌ كالصَّانِعِ له، أو غائيَّةٌ: كالتَّحَلِّي به.

فهذه أجزاءُ العلَّةِ العَقليَّةِ، ومَجمُوعُها المُرَكَّبُ مِن أجزائِها هو العِلَّةُ التَّامَّةُ، فلذلك استعملَ الفقهاءُ لفظَ

(1)

العِلَّةِ بإزاءِ المُوجِبِ للحُكْمِ الشَّرعيِّ.

(و) المَعنى الثَّاني: استعارةُ العلَّةِ (لِمُقْتَضِيهِ) أي: مُقتضِي الحُكْمِ الشَّرعيِّ وهو المعنى الطَّالبُ له.

مثالُه: اليمينُ هي المُقتضِيَةُ لوجوبِ الكفَّارةِ، فتُسَمَّى عِلَّةً للحُكْمِ، وإنْ كانَ وجوبُ الكفَّارةِ إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ بوجودِ أَمرَينِ: الحلِفُ الَّذِي هو اليمينُ، والحِنثُ فيها، لكنَّ الحِنْثَ شرطٌ في الوُجُوبِ، والحَلِفُ هو السَّببُ المُقتضي له، فقالوا: إنَّه عِلَّةٌ، فإذا حَلَفَ الإنسانُ على فِعلِ شيءٍ أو تَرْكِه قيلَ: قد وُجِدَتْ منه عِلَّةُ وجوبِ الكفَّارةِ، وإنْ كانَ الوُجوبُ لا يُوجَدُ حَتَّى يَحنَثَ، وإنَّما هو بمُجرَّدِ الحنثِ انعقدَ سَبَبُه، وكذلك الكلامُ في مُجَرَّدِ مِلكِ النِّصابِ ونَحوِه، ولهذا لمَّا انْعَقَدَتْ أسبابُ الوجوبِ بمُجَرَّدِ هذه المُقتضِياتِ: جازَ فِعلُ الواجبِ بعدَ وُجودِها، [وقبلَ وُجودِ]

(2)

شَرْطُها عندَنا، كالتَّكفيرِ قبلَ الحنثِ، وإخراجِ الزَّكاةِ قبلَ الحَوْلِ، (وَإِنْ تَخَلَّفَ)

(1)

في (ع): لفظة.

(2)

في (د): وقيل: وجودُها.

ص: 229

الحُكْمُ عنْ مُقتضيه (لِـ) وجودِ (مَانِعٍ) مِن الحُكمِ، كالقتلِ العمْدِ العدوانِ، يُسَمَّى عِلَّةً لوُجُوبِ القصاصِ، وإنْ تَخَلَّفَ وُجوبُه لمانعٍ، مِثلُ: أن يَكُونَ القاتلُ أبًا، فإنَّ الإيلادَ مانعٌ مِن وُجُوبِ القصاصِ، (أَوْ) تَخَلَّفَ الحُكْمُ لـ (فَوَاتِ شَرْطِهِ

(1)

كأنْ يَكُونَ المقتولُ عَبدًا، أو كافرًا، والقاتلُ حُرًّا، أو مُسلمًا، لفواتِ المُكافأةِ، وهي شرطٌ له.

(وَ) المَعنى الثَّالثُ: استعارةُ العِلَّةِ (لِلْحِكْمَةِ) أي: حِكْمَةِ الحُكْمِ، (وَ) الحِكْمَةُ:(هِيَ المَعْنَى المُنَاسِبُ الَّذِي يَنْشَأُ عَنْهُ الحُكْمُ، كَمَشَقَّةِ سَفَرٍ لِقَصْرٍ وَفِطْرٍ) وبيانُ المُناسبةِ: أنَّ حُصولَ المَشَقَّةِ على المُسَافِرِ مَعنًى مُناسبٌ لتخفيفِ الصَّلاةِ عنه بقَصْرِها، والتَّخفيفُ عنه بالفطرِ، (وَكَـ) ـوُجودِ (دَيْنٍ) على مالكِ النِّصابِ، (وَ) وجودِ (أُبُوَّةٍ) لقاتلٍ عَمْدًا، وبيانُ المُناسبةِ: أنَّ انْقِهارَ مالكِ النِّصابِ بالدَّيْنِ الَّذِي عليه مَعنًى مناسبٌ (لِمَنْعِ وُجُوبِ زَكَاةٍ) عنه، (وَ) كَوْنُ الأبِ سببًا لوجودِ الابنِ مَعنًى مناسبٌ لسُقوطِ (قَصَاصٍ) عنه؛ لأنَّه لمَّا كانَ سببًا لإيجادِه لم تَقتضِ الحِكْمَةُ أنْ يَكُونَ الولدُ سببًا لإعدامِه وهلاكِه لمحضِ

(2)

حَقِّه، واحتُرِزَ بقيدِ القصاصِ عنْ وُجُوبِ رجْمِه إذا زَنى بابنتِه، فهي إذًا سببُ إعدامِه مَعَ كونِه سببَ إيجادِها، لكنَّ ذلك لمحضِ حقِّ اللهِ تَعالى، حَتَّى لو قَتَلَها لم يَجِبْ قَتلُه بها؛ لأنَّ الحُكْمَ لها.

(وَالسَّبَبُ لُغَةً: مَا) يَعني يُطلَقُ السَّببُ في اللُّغةِ على كلِّ شيءٍ (تُوُصِّلَ بِهِ إِلَى غَيْرِهِ) كالطَّريقِ ونَحوِها.

قالَ في «المصباح» : السَّببُ: الحَبْلُ، وهو ما يُتَوَصَّلُ به إلى الاستعلاءِ،

(1)

في «مختصر التحرير» (ص 79): شرط.

(2)

في (د): ولمحض.

ص: 230

ثمَّ استُعِيرَ لكلِّ شيءٍ يُتَوَصَّلُ به إلى أمْرٍ مِنَ الأمورِ، فقيلَ: هذا سببٌ، وهذا مُسَبَّبٌ عن هذا

(1)

.

(وَ) السَّببُ (شَرْعًا: مَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ الوُجُودُ) وهذا احتِرازٌ مِن الشَّرطِ؛ لأنَّه لا يَلْزَمُ مِن وجودِه الوجودُ.

وقولُه: (وَ) يَلْزَمُ (مِنْ عَدَمِهِ العَدَمُ) احتِرازٌ مِنَ المانعِ؛ لأنَّه لا يَلْزَمُ مِن عدمِه وجودٌ وَلَا عدمٌ.

وقولُه: (لِذَاتِهِ): احتِرازٌ مِمَّا لو قارَنَ السَّببَ فقدانُ الشَّرطِ، أو وجودُ المانعِ، كالنِّصابِ قبلَ تمامِ الحَولِ، أو مع وجودِ الدَّينِ، فإنَّه لا يَلْزَمُ مِن وُجُودِهِ الوجودُ، لكنْ لا لذاتِه بل لأمرٍ خارجٍ منه وهو انتفاءُ الشَّرطِ ووجودُ المانعِ، فالتَّقييدُ بكَوْنِ ذلك لذاتِه للاستظهارِ على ما لو تَخَلَّفَ وجودُ المُسبَّبِ مع وُجدانِ السَّببِ لفقدِ شرطٍ، أو مانعٍ، كالنِّصابِ قبلَ الحَوْلِ كما تَقَدَّمَ، وعلى ما لو وُجِدَ المُسبَّبُ مع فُقدانِ السَّبَبِ، لكنْ لوجودِ سببٍ آخَرَ، كالرِّدَّةِ المُقتضيَةِ للقتلِ إذا فُقِدَتْ ووُجِدَ قتلٌ يُوجِبُ القصاصَ، فتَخَلَّفَ هذا التَّرتيبُ عنِ السَّببِ

(2)

لا لذاتِه، بل لمعنًى خارجٍ كما تَقَدَّمَ.

إذا عَلِمْتَ ذلك، فالسَّببُ: هو الَّذِي يُضافُ إليه الحُكْمُ، (فَيُوجَدُ الحُكْمُ عِنْدَهُ لَا بِهِ) كقولِه تَعالى:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ}

(3)

إذ للهِ تَعالى في الزَّاني حُكمانِ:

أحدُهما: وجوبُ الرَّجمِ.

(1)

«المصباحُ المُنيرُ في غريبِ الشَّرحِ الكبيرِ» (1/ 262).

(2)

في (د): المسبب.

(3)

النُّور: 2.

ص: 231

والثَّاني: كونُ الزِّنا سببًا.

ولا شَكَّ أنَّ الأسبابَ مُعَرَّفاتٌ؛ إذِ المُمكِناتُ مُسنَدةٌ

(1)

إلى اللهِ تَعالى ابتداءً عندَ أهلِ الحقِّ، وبينَ المُعَرِّفِ الَّذِي هو السَّببُ، والحُكمِ الَّذِي نِيطَ به ارتباطٌ ظاهرٌ، فالإضافةُ إليه واضحةٌ.

(وَيُرَادُ بِهِ) يَعني أنَّ السَّبَبَ استُعيرَ لمعانٍ:

أحدُها: (مَا يُقَابِلُ المُبَاشَرَةَ، كَحَفْرِ بِئْرٍ مَعَ تَرْدِيَةٍ) فيها، فإذا حَفَرَ شخصٌ بئرًا ودَفَعَ آخَرُ إنسانًا فتَرَدَّى فيها فهَلَكَ، (فَأَوَّلُ) وهو الحافرُ (سَبَبٌ) أي: مُتَسَبِّبٌ إلى هلاكِه

(2)

(وَثَانٍ) وهو الدَّافعُ مُباشِرٌ فهو (عِلَّةٌ) فأَطْلَقَ الفقهاءُ السَّبَبَ على ما يُقابِلُ المباشرةَ، [فقالوا: إذا اجتمعَ المُتَسَبِّبُ والمُباشرُ غَلَبَتِ المُباشرةُ ووَجَبَ]

(3)

ووَجَبَ الضَّمَانُ على المُباشِر وانقطعَ حُكمُ التَّسَبُّبِ.

(وَ) المعنى الثَّاني: (عِلَّةُ العِلَّةِ، كَرَمْيٍ هُوَ سَبَبٌ لِقَتْلٍ، و) هي (عِلَّةٌ لِلْإِصَابَةِ الَّتي هِيَ عِلَّةُ الزُّهُوقِ) أي: زهوقِ النَّفسِ الَّذِي هو القتلُ، فالرَّميُ هو عِلَّةُ عِلَّةِ القتلِ، وقد سَمَّوْه سببًا له.

(وَ) المعنى الثَّالثُ: (العِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ بِدُونِ شَرْطِهَا، كَنِصَابٍ بِدُونِ) حَوَلَانِ (حَوْلٍ) سُمِّي سببًا لوجوبِ الزَّكاةِ كما تَقَدَّمَ في تسميةِ السَّببِ عِلَّةً، فاسْتُعِيرَتِ العلَّةُ وسُمِّيَتْ سببًا.

(وَ) المعنى الرَّابعُ: العِلَّةُ الشَّرعيَّةُ (كَامِلَةً) كَالكَسْرِ للانكسارِ، والعِلَّةُ

(1)

في (ع): مستندة.

(2)

في (ع): الهلاك.

(3)

ليست في (ع).

ص: 232

الشَّرعيَّةُ الكاملةُ: هي المجموعُ المُرَكَّبُ مِن مُقتَضى الحُكمِ، وشرطِه، وانتفاءِ المانعِ، ووجودِ الأهلِ، والمَحَلِّ، سُمِّيَ ذلك سببًا

(1)

استعارةً؛ لأنَّه لم يَتَخَلَّفْ عنه في حالٍ مِن الأحوالِ، وسُمِّيَتْ هي سببًا؛ لأنَّ عِلِّيَّتَها ليسَتْ لذاتِها، بل بنصبِ الشَّارعِ لها أمارةً على الحُكْمِ به، بدليلِ وُجُودِها دونَه، كالإسكارِ قَبْلَ التَّحريمِ، ولو كانَ الإسكارُ عِلَّةً للتَّحريمِ لذاتِه لم يَتَخَلَّفْ عنه في حالٍ، كالكسرِ للانكسارِ في العَقليَّةِ، والحالُ أنَّ التَّحريمَ ووُجوبَ الحدِّ مَوجودانِ بدونِ ما لا يُسْكِرُ، فأَشْبَهَتْ لذلك السَّبَبَ، وهو ما يَحْصُلُ الحُكمُ عندَه لا به، فهو مُعرِّفٌ للحُكْمِ لا مُوجِبٌ له، وإلَّا لوَجَبَ قبْلَ الشَّرعِ.

(وَهُوَ) أي:‌

‌ السَّبَبُ قِسمانِ:

(1)

(وَقْتِيٌّ): وهو ما لا يَسْتَلْزِمُ في تعريفِه للحُكْمِ حِكمةً باعِثَةً، (كَزَوَالِ) الشَّمْسِ (لـ) معرفةِ وقتِ وجوبِ (ظُهْرٍ)، وَلَا يَكُونُ مُستلْزِمًا لحِكمةٍ باعثةٍ.

(وَ) الثَّاني: (مَعْنَوِيٌّ): وهو ما (يَسْتَلْزِمُ حِكْمَةً بَاعِثَةً) في تعريفِه للحُكْمِ الشَّرعيِّ، (كَإِسْكَارٍ) فإنَّه أمرٌ معنويٌّ جُعِلَ عِلَّةً (لِتَحْرِيمِ) كُلِّ مُسْكِرٍ، وكالعُقوباتِ، فإنَّها جُعِلَتْ لوُجُوبِ القصاصِ أو الدِّيَةِ.

(وَ‌

‌الشَّرْطُ لُغَةً:

العَلَامَةُ) لأنَّها علامةٌ على المَشْرُوطِ، ومنه قولُه تَعالى:{فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا}

(2)

أي: عَلاماتُها، قال في «المُطْلِعُ»: الشَّرْطُ بسُكُونِ الرَّاءِ: يُجمَعُ على شُرُوطٍ وعلى شَرَائِطَ، والأشراطُ: واحدُها شَرَطٌ بِفتحِ الرَّاءِ والشِّينِ

(3)

. انتهى.

(1)

ليست في (ع).

(2)

محمَّد: 18.

(3)

«المطلع على ألفاظ المقنع» (ص 73).

ص: 233

فائدةٌ: للشَّرطِ ثلاثُ إطلاقاتٍ:

الأوَّلُ: ما يُذْكَرُ في الأُصولِ هنا مُقابلًا للسَّبَبِ والمانعِ، وفي نحوِ قولِ المُتَكَلِّمينَ: شرطُ العِلْمِ الحياةُ، وقولِ الفقهاءِ: شرطُ الصَّلاةِ الطَّهارةُ، ونحوِ ذلك.

الثَّاني: الشَّرطُ اللُّغويُّ، والمرادُ صِيَغُ التَّعليقِ بـ «إنْ» ونَحوِها مِن أدواتِ الشَّرطِ، وهو ما يُذكَرُ في أصولِ الفقهِ في المُخَصِّصاتِ للعُمومِ، نحوُ:{وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ}

(1)

، ومنه قولُهم في الفقهِ: الطَّلاقُ والعتقُ المُعلَّقُ بشرطٍ ونَحوُهما، نحوُ: إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فأنتِ طالقٌ أو حُرَّةٌ، فإنَّ دُخولَ الدَّارِ لَيْسَ شرطًا لوقوعِ الطَّلاقِ شرعًا ولا عقلًا، بل مِن الشُّروطِ الَّتي وَضَعَها أهلُ اللُّغةِ.

الثَّالث: جَعلُ شيءٍ قيدًا في شيءٍ، كشراءِ الدَّابَّةِ بشرطِ كَونِها حاملًا، وهذا يَحتملُ أنْ يُعادَ إلى الأَوَّلِ بسببِ مُواضَعَةِ المُتعاقدَينِ، كأنَّهما قالا: جَعَلْناه مُعتَبَرًا في عَقدِنا يُعدَمُ بعَدَمِه، وإنْ أَلْغاه الشَّرعُ: لُغِيَ العقدُ، وإنِ اعتَبَرَه لا يُلغى العقدُ، بل يَثْبُتُ الخيارُ إنْ أُخلِفَ كما فُصِّلَ ذلك في الفقهِ، ويُحتَمَلُ أنْ يُعادَ إلى الثَّاني، كأنَّهما قالا: إنْ كانَ كذا فالعقدُ صحيحٌ، وإلَّا فلا.

إذا عَلِمْتَ ذلك فالمقصودُ هنا هو القِسْمُ الأوَّلُ، وهو المُرادُ بقولِه:

(وَشَرْعًا: مَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِهِ الْعَدَمُ) وهذا احتِرازٌ مِنَ المانِعِ؛ لأنَّه لا يَلْزَمُ مِن عَدَمِه وجودٌ ولا عَدَمٌ.

وقولُه: (وَلَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ وُجُودٌ وَلَا عَدَمٌ): احتِرازٌ مِنَ السَّببِ، وتَقَدَّمَ حَدُّه، ومِن المانعِ أيضًا؛ لأنَّه يَلْزَمُ مِن وُجودِه العدمُ.

(1)

الطَّلاق: 6.

ص: 234

وقولُه: (لِذَاتِهِ) احتِرازٌ مِن مُقارَنةِ الشَّرطِ وجودَ السَّببِ، فيَلْزَمُ الوجودُ، أو قيامَ المانعِ، فيَلْزَمُ العَدَمُ، لكنْ لا لذاتِه، وهو كونُه شرطًا، بل لأمْرٍ خارجٍ وهو مقارنةُ السَّببِ أو قيامُ المانعِ.

إذا عَرَفْت ذلك، فالشَّرطُ المذكورُ على ضَربَينِ:

(1)

(فَإِنْ أَخَلَّ عَدَمُهُ) يَعني إنْ كانَ عدمُ الشَّرطِ مُخِلًّا (بِحِكْمَةِ السَّبَبِ: فَـ) هو (شَرْطُ السَّبَبِ)، وذلك (كَقُدْرَةٍ عَلَى تَسْلِيمِ مَبِيعٍ) فإنَّها شرطُ البيعِ الَّذِي هو سببُ ثُبُوتِ المِلْكِ المُشتمِلِ على المَصلحةِ، وهي حاجةُ الانتفاعِ بالمَبيعِ، وهي مُتوَقِّفةٌ على التَّسليمِ، فكانَ عَدَمُه مُخِلًّا بحكمةِ المصلحةِ الَّتي شُرِعَ لها البيعُ.

(وَ) الثَّاني: (إِنِ اسْتَلْزَمَ عَدَمُهُ حِكْمَةً تَقْتَضِي نَقِيضَ الْحُكْمِ) يَعني إنِ اشتملَ عَدَمُ الشَّرطِ على حُكمٍ يَقتضي نقيضَ حِكمةِ السَّببِ مَعَ بقاءِ حِكمةِ السَّببِ؛ (فَـ) ذلك (شَرْطُ الْحُكْمِ) وذلك كالطَّهارةِ في بابِ الصَّلاةِ، فإنَّ عَدَمَ الطَّهارةِ حالَ القُدرةِ عليها مع الإتيانِ بالصَّلاةِ، يَقتضي نقيضَ حِكمةِ الصَّلاةِ، وهو العقابُ، فإنَّه نقيضُ وصولِ الثَّوابِ.

(وَهُوَ) أي: مُطلَقُ الشَّرطِ تَقَدَّمَ في الفائدةِ أنَّ له إطلاقاتٍ:

(1)

منها (عَقْلِيٌّ) وهو للمُتَكَلِّمينَ: (كَحَيَاةٍ لِعِلْمٍ)؛ لأنَّ مِن شرطِ العِلْمِ الحياةَ، فإذا انْتَفَتِ الحياةُ انْتَفَى العِلْمُ، ولا يَلْزَمُ مِن وُجودِ الحياةِ وُجودُ العِلْمِ.

(2)

(وَ) مِنها (شَرْعِيٌّ: كَطَهَارَةٍ لِصَلَاةٍ).

(3)

(وَ) مِنها (لُغَوِيٌّ: كَأَنْتِ طَالِقٌ إِنْ قُمْتِ، وَهَذَا) الشَّرطُ اللُّغويُّ، (كَالسَّبَبِ) أي: يَرجِعُ إلى كَوْنِه سَببًا يُوضَعُ للمُعَلَّقِ حَتَّى يَلْزَمَ مِن وُجودِه

ص: 235

الوجودُ ومِن عَدَمِه العدمُ لذاتِه، وَوَهِمَ مَن فَسَّرَه بتفسيرِ الشَّرطِ المُقابِلِ للسَّببِ والمانعِ، فإنَّ وجودَ القيامِ لَيْسَ شرطًا لوقوعِ الطَّلاقِ شرعًا ولا عقلًا، بل مِن الشُّروطِ الَّتي وَضَعَها أهلُ اللُّغةِ كما تَقَدَّمَ.

(4)

وزادوا رابعًا (وَ) هو: (عَادِيٌّ، كَغِذَاءِ الحَيَوَانِ) إذِ الغالبُ فيه أنَّه يَلْزَمُ مِنِ انتفاءِ الغِذاءِ انتفاءُ الحياةِ، ومِن وجودِه وجودُها؛ إذْ لا يَتَغَذَّى إلَّا حيٌّ، وكالسُّلَّمِ للصُّعودِ، فعلى هذا يكُونُ الشَّرطُ العاديُّ كالشَّرطِ اللُّغويِّ في أنَّه مُطَّرِدٌ مُنعَكِسٌ، ويَكُونان مِن قَبيلِ الأسبابِ، لا مِن قبيلِ الشُّروطِ.

(وَ) أَمَّا (مَا جُعِلَ قَيْدًا فِي شَيْءٍ لِمَعْنًى) في ذلك الشَّيءِ، (كَشَرْطِ) كَوْنِ الدَّابَّةِ حاملًا (فِي عَقْدِ) بيعٍ، (فَـ) هو (كَـ) شرطٍ (شَرْعِيٍّ) لا لُغَوِيٍّ في الأصحِّ، وتَقَدَّمَ الكلامُ عليه في الفائدةِ.

(وَ) الشَّرطُ (اللُّغَوِيُّ أَغْلَبُ اسْتِعْمَالِهِ فِي) أُمورٍ:

- (سَبَبِيَّةٍ عَقْلِيَّةٍ) نحوُ: إذا طَلَعَتِ الشَّمسُ فالعالَمُ مُضِيءٌ، فإنَّ طُلُوعَ الشَّمسِ سببٌ لضَوءِ العالَمِ عقلًا،

- (وَ) في سببيَّةٍ (شَرْعِيَّةٍ) كقولِه تَعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا}

(1)

فإنَّ الجَنَابَةَ سببٌ لوُجُوبِ التَّطهيرِ شَرعًا.

(وَاسْتُعْمِلَ) الشَّرطُ اللُّغوِيُّ (لُغَةً فِي شَرْطٍ لَمْ يَبْقَ لِمُسَبَّبٍ شَرْطٌ سِوَاهُ) كقولِك: إنْ تَأْتِني أُكْرِمْك، فإنَّ الإتيانَ شرطٌ لم يَبْقَ للإكرامِ

(2)

سِواهُ؛ لأنَّه إذا دخل الشَّرطُ اللُّغويُّ عليه عُلِمَ أنَّ أسبابَ الإكرامِ حاصلةٌ، لكنْ مُتَوَقِّفةٌ على حُصولِ الإتيانِ.

(1)

المائدة: 6.

(2)

في (د): للإتيان.

ص: 236

(وَالمَانِعُ) اسمُ فاعلٍ مِن المنعِ، وهو في الاصطلاحِ:(مَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ العَدَمُ) وهذا احتِرازٌ مِن السَّببِ، وتَقَدَّمَ.

وقولُه: (وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِهِ وُجُودٌ وَلَا عَدَمٌ) احتِرازٌ مِن الشَّرطِ، وتَقَدَّمَ أيضًا.

وقولُه: (لِذَاتِهِ) احتِرازٌ مِن مقارنةِ المانعِ وُجودَ سببٍ آخَرَ، فإنَّه يَلْزَمُ الوجودُ لا لعدمِ المانعِ، بل لوجودِ السَّببِ الآخَرِ، كالمُرتدِّ القاتلِ لوَلَدِه، فإنَّه يُقتَلُ بالرِّدَّةِ، وإن لم يُقتَلْ قصاصًا؛ لأنَّ المانعَ إِنَّمَا هو لأحدِ السَّببينِ.

(وَهُوَ) أي: المنْعُ المدلولُ عليه بالمانِعِ (إِمَّا) أن يكُونَ:

- (لِحُكْمٍ) فهو وصفٌ وجوديٌّ ظاهرٌ مُنضبطٌ مُستلزمٌ لِحكمةٍ تَقتضي نقيضَ حُكْمِ السَّبَبِ مع بقاءِ حُكْمِ المُسَبَّبِ، (كَأُبُوَّةٍ فِي قِصَاصٍ) مع القتلِ العَمدِ العُدوانِ، وهو كونُ الأبِ سَبَبًا لوجودِ الوَلَدِ، فلا يَحسُنُ كونُه سببًا لعدمِه، فيَنتفي الحُكمُ مع وجودِ مُقتضاه وهو القتلُ، وسُمِّيَ مانعَ الحُكْمِ لأنَّ سَبَبَه مع بقاءِ حِكمتِه لم يُؤَثِّرْ.

- (أَوْ) أي: وإمَّا أنْ يَكُونَ المنعُ (لِسَبَبِهِ) أي: سببِ الحُكمِ، فهو وصفٌ يُخِلُّ وُجودُه بحِكمةِ السَّببِ، (كَدَيْنٍ) في زكاةٍ (مَعَ مِلْكِ نِصَابٍ)، ووجه ذلك: أنَّ حكمةَ وُجوبِ الزَّكاةِ في النِّصابِ الَّذِي هو السَّببُ: كثرتُه كثرةً تَحتمِلُ المُواساةُ مِنه شُكرًا على نعمةِ ذلك، لكنْ لمَّا كانَ المَدينُ مُطالَبًا بصرفِ الَّذِي يَملِكُه بالدَّينِ صارَ كالعَدمِ، وسُمِّيَ مانعَ السَّببِ؛ لأنَّ حِكمتَه فُقِدَتْ مع وجودِ صُورتِه فقطْ، فالمانعُ يَنتفي الحُكمُ لوجودِه، والشَّرطُ يَنتفي الحُكمُ لانتفائِه.

ص: 237

(وَنَصْبُ هَذِهِ) الأشياءِ وهي: العِلَّةُ، والسَّببُ، والشَّرطُ، والمانعُ، حالَ كونِها (مُفِيدَةً مُقْتَضِيَاتِهَا) أي: لتُفِيدَ ما اقْتَضَتْه مِن الأحكامِ (حُكْمًا شَرْعِيًّا)،

ومُقتضِيَاتُها أيضًا: حُكْمٌ شَرعِيٌّ؛ أي: قضاءٌ مِن الشَّارعِ بذلك، فجَعلُ الزِّنا سببًا لوُجُوبِ الحدِّ حُكمٌ شرعيٌّ، ووُجُوبُ الحدِّ حُكْمٌ آخَرُ؛ وذلك أنَّ للهِ تَعالى في الزَّاني حُكمَينِ: وجوبُ الحدِّ وهو حُكْمٌ لفظيٌّ، وسببُه الزِّنا أي: كونُ الزِّنا سببًا لوجوبِ الحدِّ حُكمٌ آخَرُ، وكذلك وجوبُ حَدِّ القذفِ، مع جَعلِ القَذفِ سببًا له، ونظائرُه كثيرةٌ.

(وَمِنْهُ) أي: مِن خطابِ الوَضْعِ: (فَسَادٌ، وَصِحَّةٌ) اختَارَه أصحابُنا وغيرُهم؛ لأنَّهما مِن الأحكامِ، وليسا داخلَينِ في الاقتضاءِ والتَّخييرِ؛ لأنَّ الحُكمَ بصِحَّةِ العِبادةِ وبطلانِها لا يُفهَمُ مِنه اقتضاءٌ ولا تخييرٌ، فكانا مِن خطابِ الوَضعِ.

(وَهِيَ) أي: الصِّحَّةُ (فِي عِبَادَةٍ: سُقُوطُ القَضَاءِ) للعِبادةِ (بِالفِعْلِ) أي: بفِعلِها عندَ الفقهاءِ؛ لأنَّ وجوبَ القضاءِ إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ بعدَ خروجِ الوقتِ، لا سِيَّمَا إذا قُلْنَا بأمرٍ جديدٍ لا بالأمرِ الأوَّلِ، وإذا لم يَجِبْ فكيف يَسقُطُ؟!

والصِّحَّةُ عندَ المُتكلِّمِينَ وغيرِهم: موافقةُ الأمرِ، وَجَبَ القضاءُ أم لا، ورُدَّ ذلك بما تَقَدَّمَ.

قال في «شرحِ الأصلِ» : ثمَّ إنَّ هذا قامَ

(1)

على مُؤَقَّتٍ يَدخُلُه القضاءُ، والبحثُ في صِحَّةِ العبادةِ مُطلقًا

(2)

.

(1)

في «التَّحبير شرح التَّحريرِ» ، و «الفوائد السنية» (1/ 266): قاصر.

(2)

«التحبير شرح التحرير» (3/ 1038).

ص: 238

فصلاةُ مَن ظَنَّ الطَّهارةَ صحيحةٌ على قولِ الُمتكلِّمينَ فقطْ. فكأنَّهم نَظَرُوا لظنِّ المُكلَّفِ، والفقهاءُ لِما في نَفْسِ الأمرِ، والقضاءُ واجبٌ على القولينِ، وهو الصَّحيحُ، والخلافُ بينَ الفريقينِ لفظيٌّ.

(وَ) الصِّحَّةُ (فِي مُعَامَلَةٍ: تَرَتُّبُ أَحْكَامِهَا) أي: أحكامِ المُعاملةِ (المَقْصُودَةِ بِهَا) أي: بالمُعاملةِ (عَلَيْهَا) لأنَّ العقدَ لم يُوضَعْ إلَّا لإفادةِ مقصودِ كمالِ النَّفعِ في البيعِ، ومِلْكِ البُضعِ في النِّكاحِ، فإذا أفادَ مقصودًا فهو صحيحٌ، وحصولُ مَقصودِه هو تَرَتُّبُ حُكمِه عليه؛ لأنَّ العقدَ مُؤثِّرٌ لحُكمِه، ومُوجِبٌ له.

تنبيهٌ: أكثرُ الأُصُوليِّينَ يُفرِدُ كلَّ واحدٍ مِن الصِّحَّةِ في العباداتِ، والصِّحَّةِ في المُعاملاتِ بحَدٍّ؛ لأنَّ جَمْعَ الحقائقِ المختلفةِ في حدٍّ واحدٍ لا يُمكِنُ، لكنَّ ذلك مخصوصٌ بما إذا أُريدَ تَمييزُ الحقيقةِ عنِ الأُخرى بالذَّاتيَّاتِ، وأمَّا غيرُه فيَجُوزُ، فلذلك جَمَعَ بينَهما في تعريفٍ واحدٍ لصِدقِه عليهما، فقال:

(وَيَجْمَعُهُمَا: تَرَتُّبُ أَثَرٍ مَطْلُوبٍ) يَعني يَجمَعُ العِبادةَ والمُعاملةَ في الحدِّ: تَرتُّبُ الأثرِ المطلوبِ (مِنْ فِعْلِ) العِبادةِ والمعاملةِ (عَلَيْهِ) أي: على ذلك الفِعلِ.

قالَ الكُورَانِيُّ: لو قِيلَ: الصِّحَّةُ مُطلقًا عبارةٌ عن تَرَتُّبِ الأثرِ المطلوبِ مِن الفعلِ عليه، لِشَمْلِ العباداتِ مِن غيرِ تطويلٍ؛ لكانَ أَوْلَى، غايتُه: أنَّ ذلك الأثرَ عندَ المُتكلِّمينَ: موافقةُ الشَّرعِ، وعندَ الفقهاءِ: إسقاطُ القضاءِ

(1)

. انتهى.

ص: 239

فصورةُ الصَّلاةِ، والصَّومِ، والبيعِ، والإجارةِ، ونحوِها تَقَعُ على وجهينِ: ما اجتمعتْ فيه الشُّروطُ وانْتَفَتْ عنه الموانعُ يَكُونُ صحيحًا، وما اختلَّ فيه شيءٌ مِن ذلك يَكُونُ فاسدًا

(1)

.

تنبيهٌ: إِنَّمَا قُلْنا: صورةُ الصَّلاةِ إلى آخِرِه؛ لأنَّ الإطلاقَ الشَّرعيَّ على المُختلِّ برُكنٍ أو شرطٍ مَنفيٌّ بالحقيقةِ؛ لأنَّ المُرَكَّبَ يَنتفي بانتفاءِ جُزئِه، ولذلك قال عليه السلام للمُسيءِ في صلاتِه:«ارْجِعْ فَصَلِّ، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ»

(2)

.

(فَبِصِحَّةِ: عَقْدٍ يَتَرَتَّبُ أَثَرُهُ) أي: أثرُ العَقدِ، وهو التَّمكُّنُ مِن التَّصرُّفِ فيما هو له، كالبيعِ إذا صَحَّ العقدُ تَرَتَّبَ أثرُه مِن مِلكٍ وجوازِ التَّصرُّفِ فيه، وكذلك إذا صَحَّ عقدُ النِّكاحِ، والإجارةِ، والوقفِ، وغيرُها مِن العقودِ، تَرَتَّبَ عليها أثَرُها مِمَّا أباحَه الشَّارعُ له به، فيَنشَأُ ذلك عنِ العَقدِ، وأمَّا الكتابةُ، والمُضاربةُ، والوكالةُ الفاسدةُ، وإنْ تَرَتَّبَ عليها أثَرُها مِنَ العِتقِ وصِحَّةِ التَّصرُّفِ فإنَّ تَرَتُّبَ الأثرِ عليها لَيْسَ مِن جهةِ العَقدِ، بل للتَّعليقِ، وهو صحيحٌ لا خَلَلَ فيه، ولوجودِ الإذنِ في التَّصرُّفِ، وإن لم يَصِحَّ العقدُ.

(وَ) بصِحَّةِ (عِبَادَةٍ) يَتَرَتَّبُ (إِجْزَاؤُهَا) أي: يَنْشَأُ إجزاءُ العِبادةِ عنْ صِحَّتِها، فيُقالُ: صَحَّتِ العبادةُ، فأَجْزَأَتْ.

(وَ) قد قِيلَ في مَعنى الإجزاءِ، فقيلَ:(هُوَ: كِفَايَتُهَا) أي: العِبادةِ (فِي إِسْقَاطِ التَّعَبُّدِ) وهو الأظهرُ، فإذا صَحَّتِ العِبادةُ تَرَتَّبَ الإجزاءُ، وهو إسقاطُ التَّعبُّدِ، ويُنقَلُ عنِ المتكلِّمينَ، فعليه فِعلُ المأمورِ به بشروطِه يَستلزمُ الإجزاءَ إجماعًا.

(1)

في (د): فاسد.

(2)

رواه البخاريُّ (757)، ومسلمٌ (397) مِن حديثِ أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه.

ص: 240

وقد قيلَ: الإجزاءُ: هو الكفايةُ في إسقاطِ القضاءِ، ويُنقَلُ عنِ الفُقهاءِ، وعليه يَستلزمُ الإجزاءَ أيضًا عندَ الأكثرِ، والفرقُ بينَهما مِن وجهينِ:

أحدُهما: أنَّ مَحَلَّ الصِّحَّةِ أعمُّ مِن مَحَلِّ الإجزاءِ، فإنَّ الصِّحَّةَ مَوْرِدُها: العِبادةُ وغيرُها، ومَورِدُ الإجزاءِ: العبادةُ فقط.

الثَّاني: أنَّ مَعنى الإجزاءِ عَدَمِيٌّ، ومَعنى الصِّحَّةِ وُجوديٌّ؛ وذلك أنَّ العِبادةَ المأتيَّ بها على وجهِ الشَّرعِ لازِمُها وصفانِ:

- وُجوديٌّ: وهو موافقةُ الشَّرعِ، وهذا هو الصِّحَّةُ.

- والآخَرُ عَدَمِيٌّ: وهو سُقُوطُ التَّعبُّدِ به، أو سُقوطُ القضاءِ على الخلافِ فيه، وهذا هو الإجزاءُ.

(وَ) الإجزاءُ (يَخْتَصُّ بِهَا) أي: بالعِبادةِ، سواءٌ كانَتْ واجبةً، أو مُستَحَبَّةً، وهذا هو الصَّحيحُ، فيُقالُ: قراءةُ الفاتحةِ فقطْ تُجزِئُ في النَّافلةِ، كما يُقالُ ذلك في الواجبِ، ولا يُقالُ لغيرِ العِبادةِ، فلا يُقالُ في المُعاملاتِ: تُجزِئُ، بل مَوْرِدُها العِبادةُ فقط، بخلافِ الصِّحَّةِ.

(وَكَصِحَّةٍ: قَبُولٌ) فهما مُتلازمانِ، فإذا انْتَفَى أحدُهما انتفى الآخَرُ، وإذا وُجِدَ أحدُهما وُجِدَ الآخَرُ، وَقِيلَ: إنَّ الصِّحَّةَ تَنْفَكُّ عنِ القَبولِ؛ لأنَّ القَبولَ أخصُّ مِنَ الصِّحَّةِ؛ إذ كُلُّ مقبولٍ صحيحٌ، وليس كلُّ صحيحٍ مقبولًا، لكنْ قد أتى نفيُ القبولِ في الشَّرعِ تارةً بمَعنى نفيِ الصِّحَّةِ، كما في حديثِ:«لَا يَقْبَلُ اللهُ صَلَاةً بِغَيْرِ طَهُورٍ، وَلَا صَدَقةً مِنْ غُلُولٍ»

(1)

، وتارةً بمَعنى نفيِ

(1)

رواه مسلمٌ (244) مِن حديثِ ابنِ عمرَ رضي الله عنهما.

ص: 241

القبولِ، كما في حديثِ:«مَنْ أَتَى عَرَّافًا لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ»

(1)

ونحوِ ذلك.

فعلى الثَّاني يَكُونُ القَبولُ هو الَّذِي يَحصُلُ به الثَّوابُ، والصِّحَّةُ قد تُوجَدُ في الفعلِ ولا ثوابَ فيه، فأثرُ القَبولِ: الثَّوابُ، وأثرُ الصِّحَّةِ: عَدَمُ القضاءِ.

قالَ في «شرحِ الأصلِ» : وقد حَكى القولينِ ابنُ عَقِيلٍ في «الوَاضح»

(2)

، ورَجَّحَ أنَّ الصَّحيحَ لا يَكُونُ إلَّا مقبولًا، ولا يَكُونُ مَردودًا إلَّا وهو باطلٌ. ويَرِدُ عليه مَجِيءُ الأمرينِ مِن الشَّارعِ

(3)

.

(وَنَفْيُهُ) أي: نفيُ القبولِ فيما ذُكِرَ (كَنَفْيِ إِجْزَاءٍ) فكلُّ ما لا يُجزِئُ يُقالُ فيه: لا يُقبَلُ، وكلُّ ما يُقالُ فيه: يُجزِئُ، يُقالُ فيه: يُقبَلُ.

مثالُ نفيِ الإجزاءِ: قولُه صلى الله عليه وسلم: «لَا تُجْزِئُ صَلَاةٌ لَا يُقْرَأُ فِيهَا بِأُمِّ القُرْآنِ» رَوَاه الدَّارَقُطْنِيُّ

(4)

.

وَقِيلَ: نفيُ الصِّحَّةِ أَوْلَى بالفسادِ؛ لأنَّ الصِّحَّةَ قد تُوجَدُ حَيْثُ لا قبولَ، بخلافِ الإجزاءِ مع الصِّحَّةِ، وسَبَقَ الفرقُ بينَ الصِّحَّةِ والإجزاءِ بما يَخدِشُ ما هنا.

(وَالصِّحَّةُ) لها ثلاثةُ معانٍ:

أحدُها: (شَرْعِيَّةٌ كَمَا) أي: كالمذكورةِ (هُنَا) وهي الإذنُ الشَّرعيُّ في

(1)

رواه مسلمٌ (2230) مِن حديثِ صفيَّةَ رضي الله عنها: «مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ، لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً» .

(2)

«الواضح في أُصولِ الفقهِ» (3/ 245).

(3)

«التحبير شرح التحرير» (3/ 1103).

(4)

«سُننُ الدَّارقطنيِّ» (1225) مِن حديثِ عُبادةَ بنِ الصَّامتِ، وقَالَ: إسنادٌ صحيحٌ. ورواه التِّرمذيُّ عنه (247) ولفظُه: «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ» . وقَالَ: حديثٌ حَسَنٌ صحيحٌ.

ص: 242

جوازِ الإقدامِ على الفعلِ، وهو يَشمَلُ الأحكامَ الشَّرعيَّةَ، إلَّا التَّحريمَ، فلا إذنَ فيه.

(وَ) الثَّاني: صِحَّةٌ (عَقْلِيَّةٌ، كَإِمْكَانِ الشَّيْءِ وُجُودًا وَعَدَمًا) يَعني إمكانَ الشَّيءِ، وقبولَه للوُجودِ والعَدمِ.

(وَ) الثَّالثُ: صِحَّةٌ (عَادِيَّةٌ: كَمَشْيٍ) يمينًا وشمالًا وأمامًا وخلفًا، دونَ الصُّعودِ في الهواءِ (وَنَحْوِه) كالجلوسِ، وقدِ اتَّفَقَ النَّاسُ على أنَّه لَيْسَ في الشَّريعةِ منهيٌّ عنه، ولا مأمورٌ به، ولا مشروعٌ على الإطلاقِ، إلَّا وفيه الصِّحَّةُ العاديَّةُ، ولذلك حَصَلَ الاتِّفاقُ أيضًا على أنَّ اللُّغةَ لم يَقَعْ فيها طلبُ وجودٍ ولا عدمٍ، إلَّا فيما يَصِحُّ عادةً، وإنْ جَوَّزْنا تكليفَ ما لا يُطاقُ بذلك، بحَسَبِ ما يَجُوزُ على اللهِ، لا بحَسَبِ ما يَجوزُ في اللُّغاتِ، فاللُّغاتُ موضعُ إجماعٍ.

(وَبُطْلَانٌ، وَفَسَادٌ) لفظانِ (مُتَرَادِفَانِ، يُقَابِلَانِ الصِّحَّةَ الشَّرْعِيَّةَ) سواءٌ كانَ في العباداتِ، أو في المعاملاتِ،

- فهُما في العبادةِ عبارةٌ عن: عدمِ تَرَتُّبِ الأثرِ عليها، أو عدمِ سُقُوطِ القَضاءِ، أو عدمِ موافقةِ الأمرِ.

- وفي المعاملاتِ: عبارةٌ عن عَدَمِ تَرَتُّبِ الأثرِ عليها.

وفَرَّقَ أصحابُنا بينَ الفاسدِ والباطلِ في الفقهِ في مسائلَ كثيرةٍ، قال بعضُهم: الفاسدُ مِن النِّكاحِ ما يَسُوغُ فيه الاجتهادُ، والباطلُ: ما كانَ مُجمَعًا على بطلانِه.

وَذَكَرَ أصحابِنا مسائلَ الفاسدِ غيرَ مسائلِ الباطلِ في أبوابٍ: مِنها بابُ الكتابةِ، والنِّكاحِ، والحجِّ، وغيرِها.

ص: 243

(فَوَائِدُ)

الأُولى: (النُّفُوذُ: تَصَرُّفٌ لَا يَقْدِرُ فَاعِلُهُ عَلَى رَفْعِهِ) كالعُقودِ اللَّازمةِ مِنَ البيعِ والوقفِ والنِّكاحِ ونحوِها، إذا اجتمعَتْ شُروطُها وانتفَتْ موانعُها، وكذلك العِتقُ، والطَّلاقُ، والفَسخُ، ونَحوُها.

قالَ في «البدر المُنير» : نَفَذَ السَّهمُ نُفُوذًا كقَعَدَ، ونَفَاذًا: خَرَقَ الرَّمِيَّةَ وخَرَجَ منها، وأَنْفَذْتُهُ بالألفِ، ونَفَذَ في الأمرِ يَنْفُذُ نَفَاذًا: مَهَرَ فيه، ونَفَذَ -قولًا- نُفوذًا، قيلَ: ومَضَى، ونَفَذَ العتقُ، كأنَّه مستعارٌ مِن نُفوذِ السَّهمِ، فإنَّه لا مَرَدَّ له، ونَفَذَ المنزلُ إلى الطَّريقِ: اتَّصَلَ به، ونَفَذَ الطَّريقُ: عمَّ مَسْلَكُهُ لكلِّ أحدٍ، فهو نافذٌ؛ أي: عامٌّ، والمَنْفِذُ مثلُ مَسْجِدٍ: مَوْضِعُ النُّفُوذِ، والجمعُ مَنَافِذُ

(1)

. انتهى.

فقولُه: «نَفَذَ العتقُ، كأنَّه مستعارٌ مِن نفوذِ السَّهمِ» هي مَسألَتُنا، فكأنَّ العُقودَ اللَّازمةَ المُتقدِّمةَ مُستعارٌ لها النُّفوذُ، مِن نفوذِ السَّهمِ، كما قالَ.

وَقِيلَ: النُّفوذُ، كالصِّحَّةِ، فعليه يُقالُ في صحيحِ الشَّركةِ وغيرِها

(2)

: نَفُذَ؛ أي: صَحَّ.

(وَ) الفائدةُ الثَّانيةُ: (العَزِيمَةُ) وهي (لُغَةً): مِن العَزمِ، وهو (القَصْدُ المُؤَكَّدُ){أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ}

(3)

.

قالَ في «المصباحُ» : عَزَمَ على الشَّيْءِ وَعَزَمَهُ عَزْمًا مِن بابِ ضَرَبَ: عَقَدَ ضَمِيرَهُ عَلَى فِعْلِهِ، وَعَزَمَ عَزِيمَةً

(4)

وَعَزْمَةً: اجْتَهَدَ وَجَدَّ فِي أَمْرٍ، وعزيمةُ اللهِ:

(1)

ينظر: «المصباح المنير» للفيومي (2/ 616).

(2)

في (ع): ونحوها.

(3)

الأحقاف: 38.

(4)

في (ع): وعزيمة.

ص: 244

فريضتُه الَّتي افْتَرَضَهَا، والجمعُ عزائمُ، وعزائمُ السُّجودِ: ما أُمِرَ بالسُّجودِ فيها

(1)

. انتهى.

وأولو العَزمِ مِن الرُّسُلِ: الَّذين عَزَموا على أمْرِ اللهِ فيما عَهِدَ إليهم، وهم: نوحٌ، وإبراهيمُ، وموسى، وعيسى، ومحمَّدٌ صَلَوَاتُ اللهِ وسلامُه عليهم أجمعينَ. والعِزمُ: الجِدُّ والثَّباتُ والصَّبْرُ.

(وَ) العزيمةُ (شَرْعًا: حُكْمٌ ثَابِتٌ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ) لا بدليلٍ عقليٍّ، فإنَّ ذلك لا يُستعمَلُ فيه العَزيمةُ والرُّخصةُ، (خَالٍ) ذلك الدَّليلُ (عَنْ مُعَارِضٍ

(2)

، فَشَمِلَ) الأحكامَ (الخَمْسَةَ) فالعَزيمةُ على هذا القولِ واقعةٌ في جميعِ الأحكامِ؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ مِنها حُكْمٌ ثابتٌ بدليلٍ شرعيٍّ، فيَكُونُ في الحرامِ والمكروهِ على مَعنى التَّركِ، فيَعودُ المَعنى في تركِ الحرامِ إلى الوجوبِ.

تنبيهٌ: قولُه: «خالٍ عن مُعارض» : احتِرازٌ ممَّا

(3)

ثَبَتَ بدليلٍ، لكنْ لذلك الدَّليلِ معارضٌ مُساوٍ أو راجحٌ؛ لأنَّه إذا كانَ المُعارِضُ مُساويًا: لَزِمَ الوقفُ وانتفَتِ العَزيمةُ، ووَجَبَ طلبُ المُرَجِّحِ الخارجيِّ، وإنْ كانَ راجحًا: لَزِمَ العملُ بمُقتضاه وانتَفَتِ العَزيمةُ، وثَبَتَتِ الرُّخصةُ، كتحريمِ المَيتةِ عندَ عدمِ المَخْمَصَةِ، فالتَّحريمُ فيها عزيمةٌ؛ لأنَّه حُكْمٌ ثابتٌ بدليلٍ شرعيٍّ خالٍ عن معارِضٍ، فإذا وُجِدَتِ المخمصةُ حَصَلَ المُعارضُ لدليلِ التَّحريمِ، وهو راجحٌ عليه حِفظًا للنَّفْسِ، فجازَ الأكلُ، وحَصَلَتِ الرُّخصةُ.

(وَ) الفائدةُ الثَّالثةُ: (الرُّخْصَةُ) وهي (لُغَةً: السُّهُولَةُ) والتَّيسيرُ؛ أي:

(1)

«المصباحُ المنيرُ في غريبِ الشَّرحِ الكبيرِ» (2/ 408).

(2)

في «مختصر التحرير» (ص 83): معارض راجح.

(3)

في (د): احترازًا عما.

ص: 245

خلافُ التَّشديدِ، ومنه رَخُصَ السِّعْرُ إذا سَهُلَ، والرَّخْصُ: النَّاعمُ، وهو راجعٌ إلى مَعنى اليُسْرِ والسُّهولةِ.

قال في «القاموس»

(1)

: الرُّخْصُ بالضَّمِّ: ضِدُّ الغَلاءِ، وقد رَخُصَ، ككَرُمَ، وبالفَتحِ: الشَّيْءُ النَّاعمُ، والرُّخْصَةُ، بضمَّةٍ وبضمَّتينِ: تَرْخيصُ اللهِ للعَبْدِ فيما يُخَفِّفُهُ عليه، والتَّرخِيصُ بالتَّسْهيلِ.

(وَ) الرُّخْصَةُ (شَرْعًا: مَا ثَبَتَ عَلَى خِلَافِ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ) وأمَّا ما ثَبَتَ على وَفْقِ الدَّليلِ الشَّرعيِّ فإنَّه لا يَكُونُ رخصةً بل عزيمةً، كالصَّومِ في الحَضَرِ.

وقولُه: (لِمُعَارِضٍ رَاجِحٍ) احتِرازًا

(2)

مِمَّا كانَ لمُعارِضٍ غيرِ راجحٍ، بل: إمَّا مساوٍ؛ فيَلْزَمُ الوقفُ على حصولِ المُرَجِّحِ، أو: قاصرٌ عن مساواةِ الدَّليلِ الشَّرعيِّ؛ فلا يُؤَثِّرُ وتَبقى العَزيمةُ بحالِها.

وقيلَ: الرُّخصةُ: هي استباحةُ المَحظورِ مع قيامِ السَّببِ الحاضرِ، وهو قريبٌ مِن الأوَّلِ، غيرَ أنَّ الاستباحةَ قد يكُونُ مُستنَدُها الشَّرعَ، فيَلْزَمُ أن تكُونَ لمُعارضةِ دليلٍ راجحٍ، كأكلِ الميتةِ في المَخمَصَةِ فإنَّه استباحةٌ للمَيْتَةِ المُحَرَّمَةِ شرعًا مع قيامِ السَّببِ المُحَرِّمِ، وهو قوله تَعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ}

(3)

لدليلٍ راجحٍ على هذا السَّببِ، وهو قولُه تَعالى:{فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}

(4)

فإنَّ هذا خاصٌّ، وسببُ التَّحريمِ عامٌّ، والخاصُّ مُقَدَّمٌ، هذا مع النُّصوصِ والإجماعِ الخاصِّ على حِفظِ النُّفوسِ واستبقائِها، وقد لا تكُونُ الاستباحةُ مُستنِدَةً إلى الشَّرعِ، فتَكُونُ معصيةً محضةً لا رُخصةً.

(1)

«القاموسُ المحيطُ» (ص 904).

(2)

في (د): احتراز.

(3)

المائدة: 3.

(4)

المائدة: 3.

ص: 246

(وَ) الرُّخصةُ (مِنْهَا:

(1)

وَاجِبٌ) كأكلِ مُضطَرٍّ مَيْتَةً، فإنَّه واجبٌ لأنَّه سببٌ لإحياءِ النَّفسِ، وما كانَ كذلك فهو واجبٌ، وذلك لأنَّ النُّفوسَ حقٌّ للهِ، وهي أمانةٌ عندَ المُكلَّفِينَ، فيَجِبُ حِفظُها ليَستوفيَ اللهُ حَقَّه منها بالعِباداتِ والتَّكاليفِ، وقد قال اللهُ تَعالى:{وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}

(1)

.

فائدةٌ: قالَ في «شرحِ الأصلِ» : وممَّا يَجِبُ مِنَ الرُّخصةِ: إساغةُ اللُّقمةِ بالخَمْرِ لمن غُصَّ بها، فهي كالميتةِ للمُضطرِّ.

قالَ ابنُ حَمْدَانَ: ويَجِبُ فطرُ المريضِ في رمضانَ إذا خافَ الموتَ بعَدَمِه

(2)

.

(2)

(وَ) الرُّخصةُ: منها ما هو (مَنْدُوبٌ) كقَصرِ الصَّلاةِ للمُسافرِ إذا اجتَمَعَتِ الشُّروطُ وانتفَتِ الموانعُ.

(3)

(وَ) منها ما هو (مُبَاحٌ) كالجمعِ بينَ الصَّلاتينِ في غيرِ عَرَفَةَ ومُزدلفةَ.

والحاصلُ مِن تقريرِ مُجامعةِ الرُّخصةِ للوُجوبِ ونحوِه: أنَّ الرُّخصةَ في الحقيقةِ إحلالُ الشَّيءِ؛ لأنَّها التَّيسيرُ والتَّسهيلُ، ثمَّ قد يَعرِضُ له وصفٌ آخرُ من الأحكامِ غيرُ الحِلِّ لدليلٍ، كحِلِّ أكلِ الميتةِ، نَشَأَ وُجوبُه مِن وجوبِ حفظِ النَّفسِ، فلذلك انْقَسَمَتْ هذه الرُّخصةُ إلى هذه الأقسامِ، والصَّحيحُ أنَّ أكلَها واجبٌ، فتَغَيَّرَ حُكمُها مِن صعوبةِ التَّحريمِ إلى سهولةِ الوجوبِ؛ لمُوافقتِه لغرضِ النَّفسِ لعُذرِ الاضطرارِ مع قيامِ سببِ التَّحريمِ حالَ الحِلِّ وهو الخَبَثُ.

(1)

البقرة: 195.

(2)

«التحبير شرح التحرير» (3/ 1121).

ص: 247

وفُهِمَ مِن المتنِ: أنَّ ما لم يُخالِفْ دليلًا، كاستباحةِ المُباحاتِ، وعدمِ وجوبِ صومِ شوَّالٍ، لا يُسَمَّى رخصةً، وفُهِمَ منه أيضًا: أنَّ الرُّخصةَ لا تكُونُ مُحَرَّمَةً وَلَا مكروهةً، وهو ظاهرُ قولِه عليه الصلاة والسلام:«إِنَّ اللهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ»

(1)

.

(وَالِاثْنَتَانِ) وهما العَزيمةُ والرُّخصةُ قال جَمْعٌ: (وَصْفَانِ لِلْحُكْمِ الوَضْعِيِّ) لا للفِعليِّ على الصَّحيحِ، فتَكُونُ الرُّخصةُ بمَعنى التَّرخيصِ، والعَزيمةُ بمعنى التَّأكيدِ في طَلَبِ الشَّيءِ، ومنه قولُ أمِّ عطيَّةَ:«نُهِينا عن اتِّباعِ الجنائزِ ولم يُعزَمْ علينا»

(2)

.

وقال جمعٌ: وَصفٌ للحُكْمِ التَّكْلِيفيِّ، لِما فيهما مِن مَعنى الاقتضاءِ، ولذلك قَسَّموهما إلى: واجبةٍ، ومندوبةٍ، ونحوِهما، ولكنَّ ذلك لأمرٍ خارجيٍّ عنْ أصلِ التَّرخيصِ.

(1)

رواه أحمدُ (6004)، وابنُ خُزَيْمَةَ (1027)، وابنُ حبَّانَ (2742) مِن حديثِ ابنِ عمرَ رضي الله عنهما.

وصَحَّحَه الألبانيُّ في «إرواء الغليل» (564).

(2)

البخاري (1278)، ومسلم (938).

ص: 248

(فَصْلٌ)

قالَ في «شرحِ الأصلِ» : ما تَقَدَّمَ مِن الأحكامِ هو المحكومُ به، وما يُذكَرُ هنا هو المحكومُ فيه وهي الأفعالُ

(1)

.

فـ (التَّكْلِيفُ) له معنيانِ: مَعنًى في اللُّغةِ، ومعنًى في الاصطلاحِ،

- فمَعناه (لُغَةً: إِلْزَامُ مَا) أي: شيءٍ (فِيهِ مَشَقَّةٌ) فإلزامُ الشَّيْءِ والإلزامُ به: هو تَصْيِيرُه لازمًا لغيرِه لا يَنْفَكُّ عنه مُطلقًا، أو وقتًا ما.

قَالَ الجَوْهَرِيُّ

(2)

: والكُلْفَةُ ما يُتَكَلَّفُ مِن نائبةٍ أو حقٍّ، وكَلَّفَه تكليفًا إذا أَمَرَه بما يَشُقُّ، والمَشَقَّةُ: لُحُوقُ ما يُستصعَبُ، قال اللهُ تَعالى:{لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ}

(3)

.

- (وَ) مَعنى التَّكْلِيفِ (شَرْعًا: إِلْزَامُ مُقْتَضَى خِطَابِ الشَّرْعِ) فيَتَنَاوَلُ الأحكامَ الخمسةَ: الوجوبَ، والنَّدبَ الحاصلَينِ عن الأمرِ، والحظرَ، والكراهةَ الحاصلَينِ عن النَّهيِ، والإباحةَ الحاصلةَ عنِ التَّخييرِ إذا قُلْنَا إنَّها مِن خطابِ الشَّرعِ، ويَكُونُ مَعنى التَّكْلِيفِ في المباحِ: اعتقادَ كونِه مباحًا، أو اختصاصَ فعلِ المُكَلَّفِ بها دونَ فعلِ الصَّبيِّ والمجنونِ.

(وَالمَحْكُومُ بِهِ) على المُكَلَّفِ: (فِعْلٌ بِشَرْطِ إِمْكَانِهِ) أي: إمكانِ ذلك الفعلِ في الجملةِ، وقبلَ الشُّروعِ في المقصودِ، ونَذكُرُ شيئًا مِمَّا يَتَعَلَّقُ به.

قالَ ابنُ قاضى الجبلِ

(4)

: اختلَفَ النَّاسُ في تكليفِ ما لا يُطاقُ، للمسألةِ تَعلُّقٌ بالأصلينِ:

(1)

«التحبير شرح التحرير» (3/ 1129).

(2)

«الصِّحاح» (4/ 1423).

(3)

النَّحل: 7.

(4)

ينظر: «التحبير شرح التحرير» (3/ 1130).

ص: 249

أمَّا أُصولُ الدِّينِ: فلأنَّ المُحقِّقينَ إذا حَقَّقوا وجوبَ إسنادِ جميعِ المُمكِناتِ إلى اللهِ تَعالى خَلقًا وتدبيرًا: لَزِمَهم التَّكلُّفُ بما لا يُطاقُ.

وأمَّا أصولُ الفقهِ: فلأنَّ البحثَ في الحُكمِ الشَّرعيِّ يَتَعَلَّقُ بالنَّظرِ في الحاكمِ وهو اللهُ تَعالى، والنَّظرِ في المحكومِ عليه وهو العبدُ، والنَّظرِ في المحكومِ به وهو الفعلُ والتَّركُ، وشرطُه: أنْ يَكُونَ فعلًا ممكنًا، ويَستدعي ذلك: أنَّ الفعلَ الغيرَ مقدورٍ عليه هل يَصِحُّ التَّكْلِيفُ به أم لا؟

ويُسَمَّى أيضًا التَّكْلِيفَ بالمُحالِ، وهو أقسامٌ:

أحدُها: أن يَكُونَ مُمتنِعًا لذاتِه، كجمعِ الضِّدَينِ ونحوِه مِمَّا يَمتنِعُ تَصوُّرُه، فإنَّه لا يَتَعَلَّقُ به قدرةٌ مطلقًا.

الثَّاني: ما يَكُونُ مَقدورًا للهِ تَعالى فقطْ، كخلقِ الأجسامِ.

الثَّالثُ: ما لم تَجرِ عادةٌ بخلْقِ القُدرةِ على مِثلِه للعبدِ مع جوازِه، كالمشيِ على الماءِ.

الرَّابعُ: ما لا قُدرةَ للعبدِ عليه بحالِ توجُّهِ الأمرِ، وله قُدرةٌ عليه عندَ الامتثالِ، كبعضِ الحركاتِ.

الخامسُ: ما في امتثالِه مَشَقَّةٌ عظيمةٌ، كالتَّوبةِ بقتلِ النَّفسِ. انتهى مُلَخَّصًا.

ثمَّ ما لا يُطاقُ قد يَكُونُ:

- عاديًّا فقطْ: كالطَّيرانِ.

- أو عقليًّا فقطْ: كإيمانِ الكافرِ الَّذِي عَلِمَ اللهُ أنَّه لا يُؤمِنُ.

- أو عاديًّا وعقليًّا: كالجمعِ بينَ الضِّدَّينِ.

ص: 250

إذا عَلِمْتَ ذلك (فَيَصِحُّ) التَّكْلِيفُ (بِمُحَالٍ لِغَيْرِهِ) إجماعًا، كإيمانِ مَن عَلِمَ اللهُ أنَّه لا يُؤمِنُ، وذلك لأنَّ اللهَ تَعالى أَنْزَلَ الكتبَ

(1)

وبَعَثَ الرُّسُلَ بطلبِ الإيمانِ والإسلامِ مِن كلِّ واحدٍ وكَلَّفَهم بذلك، وعَلِمَ أنَّ بعضَهم لا يُؤمِنُ.

(1)

و (لَا) يَصِحُّ عندَ الأكثرِ التَّكْلِيفُ بالمُحالِ (لِذَاتِهِ) كجمعٍ بينَ

(2)

ضِدَّينِ وهو المُستحيلُ العَقليُّ.

(وَ) لا بالمُحالِ (عَادَةً) كالطَّيرانِ، وصعودِ السَّماءِ عندَ الأكثرِ؛ لقولِه تَعالى:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}

(3)

.

(إِلَّا) المُحالَ (عَقْلًا) يَعني لذاتِه، فيَجوزُ التَّكْلِيفُ به (فِي وَجْهٍ) وعليه لم يَصِحَّ عندَ الأكثرِ.

(2)

(وَلَا) يَصِحُّ التَّكْلِيفُ (بِغَيْرِ فِعْلٍ) فإذا كُلِّفَ بغيرِ نهيٍ كالأمرِ كانَ مُكَلَّفًا بفعلٍ بلا نزاعٍ بينَ العلماءِ، وإنَّما تَرَكُوه لوضوحِه وعدمِ الخلافِ فيه؛ لأنَّ مُقتضاه إيجادُ فعلٍ مأمورٍ به، كالصَّلاةِ ونَحوِها، وذَكَروا ما هو مَحَلُّ الخلافِ وهو النَّهيُ الآتي ذِكرُه.

(وَشُرِطَ) لصِحَّةِ التَّكْلِيفِ بالفعلِ: (عِلْمُ مُكَلَّفٍ:

(1)

حَقِيقَتَهُ) بأنْ يَكُونَ الفعلُ معلومَ الحقيقةِ للمُكَلَّفِ فيَعلَمُ حقيقتَه، وإلَّا لم يَتَوَجَّهْ قصدُه إليه؛ لعَدمِ تَصوُّرِ قصدِ ما لا يُعلَمُ حقيقتُه، وإذا لم يَتَوَجَّهْ قصدُه إليه: لم يَصِحَّ وجودُه منه؛ لأنَّ تَوجُّهَ القصدِ إلى الفعلِ مِن لوازمِ إيجادِه، فإذا انْتَفَى اللَّازمُ وهو القصدُ، انتفى المَلزومُ وهو الإيجادُ.

(1)

في (ع): الكتاب.

(2)

ليست في (ع).

(3)

البقرة: 286.

ص: 251

(2)

(وَ) شُرِطَ أيضًا عِلْمُ مُكَلَّفٍ (أَنَّهُ) أي: الفعلَ، (مَأْمُورٌ بِهِ،

(3)

وَ) أنَّه (مِنَ اللهِ تَعَالَى) وإلَّا لم يُتَصَوَّرْ منه قصدُ الطَّاعةِ والامتثالِ بفِعلِه.

(فَـ) لهذا (لَا يَكْفِي مُجَرَّدُهُ) أي: مُجَرَّدُ الفعلِ، لقولِه عليه السلام: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ

(1)

»

(2)

.

(وَمُتَعَلَّقُهُ) أي: مُتَعَلَّقُ الفعلِ المأمورِ به (فِي نَهْيٍ) نحوُ: {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا}

(3)

: (كَفُّ النَّفْسِ) عن ذلك عندَ الأكثرِ؛ لأنَّه لو كُلِّفَ بنفيِ الفعلِ لكانَ مُسْتَدْعًى حُصُولُه منه ولا يُتَصَوَّرُ؛ لأنَّه غيرُ مقدورٍ له؛ لأنَّه نفيٌ محضٌ.

(وَيَصِحُّ) التَّكْلِيفُ (بِهِ) أي: بالفعلِ، (حَقِيقَةً) عندَ الأكثرِ (قَبْلَ حُدُوثِهِ) قال ابنُ عَقِيلٍ: إذا تَقَدَّمَ الأمرُ على الفعلِ كانَ أمرًا عندَنا على الحقيقةِ أيضًا، وإنْ كانَ في طيِّه إيذانٌ وإعلامٌ

(4)

.

قالَ المُحَقِّقونَ: الإجماعُ على أنَّ أمرَ الرَّسولِ صلى الله عليه وسلم يَتَنَاوَلُنا وهو مُقَدَّمٌ، وهي أوامرُ، فالقولُ بالإعلامِ باطلٌ، ولم يَفْتَقِرْ إلى أمرٍ آخَرَ

(5)

.

وقيل: إعلامٌ وأمرُ إيذانٍ لا حقيقةٌ.

(و) يَستمرُّ التَّكْلِيفُ حالَ حدوثِ الفعلِ فـ (لَا يَنْقَطِعُ بِهِ) عندَ الأكثرِ؛ لأنَّ الفعلَ في هذه الحالةِ مَقدورٌ، وكلُّ مقدورٍ يَجوزُ التَّكْلِيفُ به:

(1)

في (ع): بالنِّيَّات.

(2)

رواه البخاري (1) من حديث عمر رضي الله عنه.

(3)

آل عمران: 130.

(4)

«الواضح في أصول الفقه» (3/ 226).

(5)

ينظر: «التحبير شرح التحرير» (3/ 1168).

ص: 252

أمَّا الأُولى فلأنَّ القدرةَ: إمَّا حالَ الفعلِ، أو قَبْلَه مستمرةٌ إلى حينِ صُدُورِ الفعلِ، وعلى التَّقديرينِ فالقدرةُ عندَ الفعلِ حاصلةٌ، فيَصِحُّ به.

وأمَّا الثَّانيةُ: فلأنَّ المقدورَ يَصِحُّ إيجادُه، والتَّكْلِيفُ إِنَّمَا هو الأمرُ بالإيجادِ، والتَّكْلِيفُ هنا تَعَلَّقَ بمَجموعِ الفعلِ مِن حَيْثُ هو مجموعٌ، لا بأوَّلِ جزءٍ منه، فلا يَنقطِعُ التَّكْلِيفُ إلَّا بتمامِ الفعلِ، ويَكُونُ التَّكْلِيفُ بإيجادِ ما لم يُوجَدْ منه، لا بإيجادِ ما قد وُجِدَ، فلا تكليفَ بإيجادِ موجودٍ، فلا مُحالَ.

(وَ) يَصِحُّ التَّكْلِيفُ (بِغَيْرِ مَا عَلِمَ آمِرٌ وَمَأْمُورٌ انْتِفَاءَ شَرْطِ وُقُوعِهِ) في وقتِه عندَ الأكثرِ.

واعلمْ أنَّ الآمِرَ تارةً يَعلَمُ انتفاءَ شرطِ وقوعِ المأمورِ به في وقتِه، وتارةً يَجهَلُ هو والمأمورُ ذلك، وتارةً يَعلَمُ الآمِرُ والمأمورُ ذلك، وتارةً يَجهَلُ الآمرُ ويَعلَمُ المأمورُ.

إذا عَلِمْتَ ذلك: فيَصِحُّ التَّكْلِيفُ بما عَلِمَ الآمرُ وَحدَه انتفاءَ شرطِ وقوعِه في وقتِه:

مثالُه: لو أَمَرَ اللهُ رجلًا بصومِ يومٍ وقد عَلِمَ اللهُ سُبحانَه مَوتَه قَبْلَه، وشَرطُ الصَّومِ: الحياةُ، فلا يُمكِنُ وقوعُه؛ لانتفاءِ شَرطِه.

ويَصِحُّ أيضًا مَعَ جهلِ الآمِرِ والمأمورِ اتِّفاقًا، كأمْرِ السَّيِّدِ عبدَه بخياطةِ ثوبٍ غدًا، وإن عَلِمَ الآمرُ والمأمورُ ذلك، فهذا لا يَصِحُّ. قَطَعَ به الأصوليُّونَ؛ لامتناعِ امتثالِه فلا يُعزَمُ، فلا يُطِيعُ ولا يَعصي ولا ابتلاءَ، بخلافِ المسألةِ الَّتي قَبْلَها.

ص: 253

وأمَّا إذا جَهِلَ الآمِرُ ذلك، وعَلِمَه المأمورُ: فلم أرَ مَن صَرَّحَ به، لكنْ يُفهَمُ مِن كلامِهم أنَّه لا يَصِحُّ كالَّتي قبْلَها، كما لو أَمَرَه سيِّدُه بخياطةِ ثوبٍ غدًا، وقد أَخبَرَه الصَّادقُ أنَّه سيَمرَضُ، أو يَموتُ فيه.

(وَيَصِحُّ تَعْلِيقُ أَمْرٍ بِاخْتِيَارِ مُكَلَّفٍ فِي وُجُوبٍ وَعَدَمِهِ) قال ابنُ عَقِيلٍ: يَجوزُ أنْ يَرِدَ الأمرُ مِن اللهِ تَعالى مُعَلَّقًا على اختيارِ المُكَلَّفِ، بفعلٍ أو تركٍ مُفَوَّضًا إلى اختيارِه، بناءً على أنَّ المندوبَ مأمورٌ به، مَعَ كونِه مُخَيَّرًا بينَ فِعلِه وتركِه. وبناءً على أنَّ المندوبَ مأمورٌ به

(1)

.

قالَ الشَّيخُ: يُشْبِهُ أنْ يُقالَ للمُجتهدِ: احْكُمْ بما شِئْتَ

(2)

.

و (لَا) يَصِحُّ (أَمْرٌ بِمَوْجُودٍ) عندَ أصحابِنا والجمهورِ، فالأمرُ بالموجودِ باطلٌ؛ لأنَّه تحصيلُ الحاصلِ.

ولَمَّا فَرَغَ مِن أحكامِ المحكومِ به، وأحكامِ المحكومِ فيه وهي الأفعالُ، شَرَعَ في أحكامِ المحكومِ عليه وهو الآدميُّ، فقال:

(وَشُرِطَ فِي مَحْكُومٍ عَلَيْهِ: عَقْلٌ، وَفَهْمُ خِطَابٍ) فلا بدَّ مِنهما جميعًا؛ إذ لا يَلْزَمُ مِن العقلِ الفهمُ، لجوازِ أنْ يَكُونَ عاقلًا لا يَفهَمُ، كالصَّبيِّ، والنَّاسي.

وأمَّا السَّكرانُ والمُغمَى عليه، فإنَّهما في حُكمِ العُقلاءِ مُطلقًا، أو مِن بعضِ الوجوهِ، وهما لا يَفهَمانِ، وذلك لأنَّ التَّكْلِيفَ خطابٌ، وخطابُ مَن لا عَقلَ له ولا فَهمَ محالٌ، كالجَمادِ والبهيمةِ، وأنَّ المُكلَّفَ به مطلوبٌ حُصُولُه مِن المُكَلَّفِ طاعةً وامتثالًا؛ لأنَّه مأمورٌ، والمأمورُ يَجِبُ أنْ يَقصِدَ

ص: 254

إيقاعَ المأمورِ به على سبيلِ الطَّاعةِ والامتثالِ. والقصدُ إلى ذلك إِنَّمَا يُتَصَوَّرُ بعدَ الفهمِ؛ لأنَّ مَن لا يَفهَمُ لا يُقالُ له: افهمْ، فلا يُكَلَّفُ مراهقٌ على الصَّحيحِ؛ لأنَّه لم يَكْمُلْ فَهمُه فيما يَتَعَلَّقُ بالمقصودِ، فنَصَبَ الشَّارعُ له علامةً ظاهرةً وهو البلوغُ، فجُعِلَ أمارةً لظهورِ العقلِ وكمالِه.

و (لَا) يُشتَرَطُ في مَحكومٍ عليه (حُصُولُ شَرْطٍ شَرْعِيٍّ) لصحَّةِ الفعلِ، كاشتِراطِ الإسلامِ لصِحَّةِ العباداتِ.

إذا عَلِمْتَ ذلك: (فَالكُفَّارُ مُخَاطَبُونَ بِالفُرُوعِ) عندَ أكثرِ الأصحابِ، لوُرودِ الآياتِ الشَّاملةِ لهم، مثلُ:{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}

(1)

، {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}

(2)

، {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ}

(3)

، {يَابَنِي آدَمَ}

(4)

، {يَاأُولِي الْأَلْبَابِ}

(5)

، وغيرِ ذلك مِمَّا لا يُحصَى، (كـ) ما أنَّهم مُخاطَبون بـ (الإِيمَانِ) وَالإِسْلَامِ إجماعًا، والكفرُ غيرُ مانعٍ لإمكانِ إزالتِه، كالآمِرِ بالكتابةِ والقلمُ حاضرٌ يُمكِنُه تناولُه.

وأيضًا فقد وَرَدَ الوعيدُ على ذلك، أو ما يَتَضَمَّنُه، نحوُ:{مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} الآيةَ

(6)

، وأَوْضَحُ منه قولُه تَعالى:{الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ}

(7)

أي: فوقَ عذابِ الكُفرِ.

(1)

البقرة: 43، 84، 110، النِّساء: 77، النُّور:56.

(2)

البقرة: 183.

(3)

آل عمران: 97.

(4)

الأعراف: 26، 27، 31، 35، ويس:61.

(5)

البقرة: 179، 197، والمائدة: 100، والطَّلاق:10.

(6)

المدثر: 42.

(7)

النَّحل: 88.

ص: 255

واحتجَّ في «العدة»

(1)

و «التَّمهيد»

(2)

بأنَّه مُخاطَبٌ بالإيمانِ، وهو شرطُ العبادةِ، كالطَّهارةِ للصَّلاةِ.

والمرادُ بالإيمانِ: العقائدُ الأوائلُ، الَّتي لا تَتَوَقَّفُ على سَبْقِ شيءٍ، ويُلْحَقُ بها: تصديقُ الرُّسُلِ، والكَفُّ عن أذاهم بقتلٍ، أو قتالٍ، أو غيرِ ذلك، وإنْ كانَ ذلك مِن الفروعِ.

(وَالفَائِدَةُ) في خطابِ الكُفَّارِ بفروعِ الإسلامِ: (كَثْرَةُ عِقَابِهِمْ فِي الآخِرَةِ) لا المُطالبةُ بفِعلِها في الدُّنيا، ولا قضاءُ ما فاتَ مِنها [في الآخرةِ]

(3)

، لكنْ قَالَ الأستاذُ أبو إسحاقَ الإسفرايينيُّ في «أصولِه»: لا خلافَ بينَ المسلمينَ أنَّ خطابَ الزَّواجرِ مِن الزِّنا والقذفِ مُتَوَجِّهَةٌ عليهم كالمسلمينَ

(4)

. انتهى.

لأنَّ الكفَّ ممكنٌ حالَ

(5)

الكفرِ، بخلافِ فِعلِ الطَّاعاتِ، وأيضًا: فإنَّهم يُعاقَبون على تَركِ الإيمانِ بالقتلِ، والسَّبْيِ، وأخذِ الجزيةِ، والحدِّ في الزِّنا، والقذفِ، وقطعِ السَّرقةِ، ولا يُؤمَرون بقضاءِ شيءٍ مِن العباداتِ.

(وَمُلْتَزِمُهُمْ) أي: والملتزمُ مِنهم أحكامَ المسلمينَ (فِي إِتْلَافٍ) لمالِ غيرِه، (وَ) في (جِنَايَةٍ) على نحوِ بهيمةٍ، (وَ) في (تَرَتُّبِ أَثَرِ عَقْدِ) مُعَاوَضَةٍ وغيرِه (كَمُسْلِمٍ) إجماعًا، فهُم مُؤاخَذون بالإتلافاتِ والجناياتِ، وما يَتَرَتَّبُ على العقدِ مِن الآثارِ مِن غيرِ نزاعٍ، لكنَّ هذه الأحكامَ مِن خطابِ

(1)

في (ع)، (د): العمدة. ينظر: «العدة في أصول الفقه» (2/ 364).

(2)

«التمهيد في أصول الفقه» (1/ 309).

(3)

ضرب عليها في (ع).

(4)

ينظر: «البحر المحيط» (2/ 131)، و «الفوائد السنة» للبِرماوي (1/ 200).

(5)

في (ع): حالة.

ص: 256

الوضعِ، لا مِن خطابِ التَّكْلِيفِ، فلا مَدخَلَ لهذه المسألةِ فيما تَقَدَّمَ حَتَّى يَخرُجَ، بل هم أَوْلَى مِن الصَّبيِّ والمجنونِ في الضَّمانِ بالإتلافِ والجنايةِ، ولا بدَّ مِن وجودِ الشُّروطِ في مُعاملاتِهم وانتفاءِ الموانعِ، والحُكْمِ بصِحَّتِها وفسادِها، وتَرَتُّبِ آثارِ كلٍّ عليه مِن: بيعٍ، ونكاحٍ، وطلاقٍ، وغيرِها.

(وَيُكَلَّفُ) سَكرانُ (مَعَ سُكْرٍ لَمْ يُعْذَرْ بِهِ) بأنِ اسْتَعْمَلَ ما يُسْكِرُه مُختارًا عالمًا بأنَّه يُسكِرُ، إنْ مَيَّزَ قَطعًا، وكذا مَن لم يُمَيِّزْ عندَ أحمدَ وأكثرِ أصحابِه، نَصَّ عليه في راويةِ حنبلٍ: لَيْسَ السَّكرانُ بمَنزلةِ المجنونِ المرفوعِ عنه القلمُ، هذا جنايتُه مِن نفسِه.

وحَدُّ السَّكرانِ الَّذِي وَقَعَ فيه الخلافُ: هو الَّذِي يَخلِطُ في كلامِه، وقراءتِه، وسَقَطَ تَمْيِيزُه بينَ الأعيانِ، ولا يُشتَرطُ فيه أنْ يَكُونَ بحَيثُ لا يُمَيِّزُ بينَ السَّماءِ والأرضِ، وبينَ الذَّكرِ والأُنثى، وأَوْمَأَ إليه أحمدُ في روايةِ حنبلٍ، قال: هو إذا وُضِعَ ثيابُه في ثيابِ غيرِه فلم يَعرِفْها، أو وُضِعَ نَعلُه في نِعالِهم فلم يَعرِفْه، وإذا هَذَى أكثرَ في كلامِه، وكانَ معروفًا بغيرِ ذلك.

(وَ) يُكَلَّفُ العاقلُ مَعَ (إِكْرَاهٍ) بحقٍّ، كإكراهِ الحربيِّ والمُرتدِّ على الإسلامِ، فإنَّه يَصِحُ مِنهما وهما مُكَلَّفانِ بذلك، وإكراهِ الحاكمِ المديونَ بالوفاءِ مع القدرةِ.

(وَيُبِيحُ) الإكراهُ: (مَا قَبُحَ) فِعلُه (ابْتِدَاءً) واستدلَّ الجماعةُ لذلك بإباحةِ كلمةِ الكفرِ بالإكراهِ: بقولِه تَعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ}

(1)

وبالإجماعِ، وفيهما كفايةٌ.

(1)

النَّحل: 106.

ص: 257

ويُكَلَّفُ العاقلُ (بِضَرْبٍ، أَوْ تَهْدِيدٍ) عندَنا وعندَ الأكثرِ، سواءٌ كانَ الإكراهُ (بِحَقٍّ) كما تَقَدَّمَ، (أَوْ غَيْرِهِ) أي: بغيرِ حقٍ، لصِحَّةِ الفعلِ منه، وتَركِه، ونسبةُ الفعلِ إليه حقيقةٌ، ولهذا يَأْثَمُ المُكرَهُ بالقتلِ.

تنبيهٌ: ضابطُ المذهبِ أنَّ الإكراهَ لا يُبِيحُ الأفعالَ، وإنَّما يُبِيحُ الأقوالَ، وإنِ اختلفَ في بعضِ الأفعالِ، واختلفَ التَّرجيحُ.

و (لَا) يُكَلَّفُ:

(1)

(مَنِ) انْتَهى الإكراهُ إلى سَلْبِ قُدرتِه واختيارِه، حَتَّى صَارَ (كَآلَةٍ تُحْمَلُ

(1)

.

قال البِرْمَاوِيُّ: المُكْرَهُ كالآلةِ يَمتنعُ تَكليفُه، قِيلَ: باتِّفاقٍ، لكن

(2)

الآمِدِيّ أشارَ إلى أنَّ تَطَرُّقَه الخلافُ مِن التَّكْلِيفِ بالمُحالِ، لتَصوُّرِ الابتلاءِ منه، بخلافِ الغافلِ

(3)

.

(2)

(أَوْ) أي: ولا يُكَلَّفُ مِن (عُذِرَ بِسُكْرٍ) على الصَّحيحِ، فمَن أُكْرِهَ على شربِ مُسكِرٍ فهو غيرُ مُكَلَّفٍ في حالِ سُكْرِه المعذورِ به، فحُكمُه حُكْمُ المُغمى عليه والمجنونِ في تكليفِه وعدمِه.

(3)

(وَ) لا يُكَلَّفُ أيضًا مَن (أَكَلَ بَنْجًا) على الصَّحيحِ، ولو لغيرِ حاجةٍ إذا زالَ العقلُ، ولا يَقَعُ طلاقُ مَن تَنَاوَلَه؛ لأنَّه لا لَذَّةَ فيه، وفَرَّقَ الإمامُ أحمدُ بينَ آكلِه وبينَ شاربِ الخمرِ، فأَلْحَقَه بالمجنونِ.

(1)

في «مختصر التحرير» (ص 86): بحملٍ.

(2)

زاد في (ع): قال. وهي مقحمة.

(3)

«الفوائدُ السَّنيَّةُ في شرحِ الألفيَّةِ» (1/ 191).

ص: 258

(4)

(وَ) لا يُكَلَّفُ أيضًا (مُغْمًى عَلَيْهِ) فهو غيرُ مُكَلَّفٍ حالَ إغمائِه على الصَّحيحِ، بل هو أَوْلَى مِن السَّكرانِ المُكْرَهِ في عدمِ التَّكْلِيفِ نصًّا.

(5)

(وَ) لا يُكَلَّفُ أيضًا (نَائِمٌ،

(6)

وَنَاسٍ) حالَ النَّومِ والنِّسيانِ على الصَّحيحِ؛ لقولِه

(1)

عليه الصلاة والسلام: «رُفِعَ القَلَمُ عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ»

(2)

، و «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأُ، وَالنِّسْيَانُ»

(3)

.

(7)

(وَ) وَلَا يُكلَّفُ أيضًا (مُخْطِئٌ) بما هو مُخطِئٌ فيه؛ لقولِه تَعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ

(4)

فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ}

(5)

.

(8)

(وَ) لا يُكَلَّفُ أيضًا (مَجْنُونٌ،

(9)

وَغَيْرُ بَالِغٍ) لقولِه عليه السلام: «رُفِعَ القَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ: النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَكْبُرَ» ، وفي روايةٍ:«حَتَّى يَحْتَلِمَ» ، وفي روايةٍ:«حَتَّى يَبْلُغَ، وَعَنِ المَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ»

(6)

، ولأنَّ غيرَ البالغِ ضعيفُ العَقلِ والبُنيةِ، ولا بدَّ مِن ضابطٍ يَضبِطُ الحدَّ الَّذِي يَتكامَلُ فيه بُنيتُه وعقلُه، فإنَّه يَتَزايَدُ تَزايُدًا خفيَّ التَّدريجِ، فلا يَعلَمُ بنَفْسِه، والبلوغُ ضابطٌ لذلك، ولهذا يَتَعَلَّقُ به أكثرُ الأحكامِ، فكذلك الصَّلَاةُ.

(1)

في (ع): قال.

(2)

رواه أبو داودَ (4398)، والنَّسائيُّ (3432)، وابنُ ماجه (2041)، وابنُ حِبَّانَ (142) من حديثِ عائشةَ رضي الله عنها.

(3)

رواه ابنُ ماجه (2045)، وابنُ حبَّانَ (7219) مِن حديثِ ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما.

(4)

في (د)، و (ع): ولا جناح عليكم.

(5)

الأحزاب: 5.

(6)

سَبَقَ تخريجُه قريبًا.

ص: 259

(وَوُجُوبُ زَكَاةٍ) على غيرِ مُكَلَّفٍ، (وَ) وجوبُ (نَفَقَةٍ) على قريبِه، (وَ) وُجوبُ (ضَمَانٍ) بإِتلافٍ (مِنْ رَبْطِ الحُكْمِ بِالسَّبَبِ) لتَعَلُّقِ هذه الأشياءِ بمَالِه، أو ذِمَّتِه الإنسانيَّةِ الَّتي يَستعِدُّ بها لقُوَّةِ الفهمِ في ثاني الحالِ كالمجنونِ، بخلافِ البهيمةِ: فيكُونُ ربطُ الحُكمِ بالأسبابِ مِن خطابِ الوضعِ.

(10)

(وَلَا) يُكَلَّفُ (مَعْدُومٌ حَالَ عَدَمِهِ) إجماعًا.

(وَيَعُمُّهُ) أي: يَعُمُّ (الخِطَابُ) المعدومَ، (إِذَا) وُجِدَ و (كُلِّفَ كَغَيْرِهِ) مِن صغيرٍ ومجنونٍ على الصَّحيحِ، ولا يَحتاجُ خطابًا آخَرَ؛ لقولِه تَعالى:{وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ}

(1)

، إلى قولِه تعالى

(2)

: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ}

(3)

، قَالَ السَّلفُ: مَن بَلَغَه القُرآنُ فقد أُنْذِرَ بإنذارِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم

(4)

.

وحُكْمُ الصَّبيِّ والمجنونِ في التَّناوُلِ بشرطٍ كالمعدومِ، بل أَوْلَى.

(وَلَا يَجِبُ عَلَى اللهِ) سُبحانَه و (تَعَالَى شَيْءٌ) قالَه الإمامُ أحمدُ وغيرُه مِن الأئمَّةِ وأتباعِهم، بل يُثيبُ المُطيعَ بفَضلِه وكرمِه ورَحمتِه، حَتَّى قَالَ ابنُ عَقِيلٍ وغيرُه مِن العلماءِ: لَا (عَقْلًا وَلَا شَرْعًا).

قال الشَّيخُ بعدَ ذِكْرِ الخلافِ: وعندَنا وعندَ الأكثرِ لا يَقِفُ الأمرُ على المصلحةِ، بل يَجُوزُ أنْ يَأمُرَ بما لا مَصلَحَةَ فيه للمأمورِ، ولكنَّ التَّكْلِيفَ إِنَّمَا وَقَعَ على وجهِ المصلحةِ، بناءً على أنَّه قد يَأمُرُ بما لا يُريدُ كَوْنَه، وأنَّه لا يَجِبُ عليه رعايةُ الصَّلاحِ والأصلحِ، وأنَّه سُبحانَه لا يَقبُحُ منه شيءٌ، بل يَفعَلُ ما يَشاءُ.

(1)

الأنعام: 19.

(2)

في (د): وقوله.

(3)

الأنعام: 153.

(4)

ينظر: «التحبير شرح التحرير» (2/ 1217).

ص: 260

(تنبيهٌ): لمَّا فَرَغَ مِن أحكامِ المُقدِّمةِ، ومَسائِلِها، وما يَتَعَلَّقُ بها، شَرَعَ في بيانِ موضوعِ علمِ أصولِ الفقهِ، وهو «أدلَّةُ الفقهِ» .

و (الأَدِلَّةُ) المُتَّفَقُ عليها في الجملةِ أربعةٌ:

(1)

(الكِتَابُ): وهو القرآنُ (وَهُوَ الأَصْلُ) أي: أصلُ الأَدِلَّةِ كلِّها، قال اللهُ تَعالى:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ}

(1)

ففيه البيانُ لجميعِ الأحكامِ.

(وَ) الثَّاني: (السُّنَّةُ: وَهِيَ مُخْبِرَةٌ

(2)

عَنْ حُكْمِ اللهِ) سُبحانَه و (تَعَالَى) لقولِه تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)}

(3)

.

(وَ) الثَّالثُ: (الإِجْمَاعُ، وَهُوَ مُسْتَنِدٌ إِلَيْهِمَا) أي: إلى الكتابِ والسُّنَّةِ.

قالَ في «شرحِ الأصلِ» : وإلى القياسِ؛ لأنَّ أصلَه: إمَّا الكتابُ، أو السُّنَّةُ، ويَأتي: أنَّ الإجماعَ لا يكُونُ إلَّا عن مستنَدٍ، وأنَّه يَكُونُ عن قياسٍ واجتهادٍ

(4)

.

فائدةٌ: المُرادُ بالإجماعِ: اتِّفاقُ الأئمَّةِ الأربعةِ، ومَن نَحَا نَحوَهم، ولا اعتبارَ بخلافِ مَن لا يُعتَدُّ بقولِه، كالنَّظَّامِ

(5)

في مخالفتِه في الإجماعِ على اختلافِ النَّقلِ عنه هل مَذهبُه: أنَّ الإجماعَ لا يُتَصَوَّرُ، أو يُتَصَوَّرُ ولكنْ يَتَعَذَّرُ نَقلُه على وجهِه، أو لا يَتَعَذَّرُ ولكنْ لا حُجَّةَ فيه، وهذا الثَّالثُ هو المُحَقَّقُ عنه.

(1)

النَّحل: 89.

(2)

في (ع): المخبرة.

(3)

النَّجم.

(4)

«التحبير شرح التحرير» (3/ 1233).

(5)

هو: إبراهيمُ بنُ سَيَّارٍ أبو إسحاقَ النَّظَّامُ البَصْرِيُّ المُتكلِّم المُعْتزليُّ. ترجمتُه في «تاريخُ الإسلامِ» (5/ 735).

ص: 261

(وَ) الرَّابعُ: (القِيَاسُ): فهو مِن جملةِ أصولِ الفقهِ على الصَّحيحِ، خلافًا لأبي المعالي وجَمْعٍ، وتَعَلَّقُوا بأنَّه لا يُفيدُ إلَّا الظَّنَّ، والحقُّ هو الأوَّلُ، والثَّاني ضعيفٌ جدًّا، فإنَّ القياسَ قد يُفِيدُ القطعَ كما سيَأتي، وإنْ قُلْنا إنَّه لا يُفيدُ إلَّا الظَّنَّ، فخبَرُ الواحدِ ونَحوُه لا يُفيدُ إلَّا الظَّنَّ.

(وَهُوَ) أي: القياسُ (مُسْتَنْبَطٌ مِنَ) الكتابِ، والسُّنَّةِ، والإجماعِ؛ لأنَّ القياسَ يَنْشَأُ عن هذه (الثَّلَاثَةِ).

فائدةٌ: الأصولُ الَّتي اشتهرَ الخلافُ فيها خمسةٌ: الاستصحابُ، وشَرْعُ مَن قَبْلَنا، والاستقراءُ، ومَذهَبُ الصَّحابيِّ، والاستحسانُ.

ص: 262

(بَابٌ)

(الكِتَابِ) في الأصلِ: جِنْسٌ، وهو في عُرْفِ أهلِ الشَّرعِ:(القُرْآنُ) بدليلِ قولِه تَعالى: {إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى}

(1)

، بعدَ قولِه:{يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ}

(2)

، والمسموعُ واحدٌ، والإجماعُ مُنعقِدٌ على اتِّحادِ اللَّفظينِ، فلا عِبْرةَ بمَن خالَفَ، فإنَّه خطأٌ.

(وَهُوَ) أي: القرآنُ: (كَلَامٌ) وهو أَوْلَى مِن اللَّفظِ؛ لأنَّ الكلامَ أَخَصُّ مِن اللَّفظِ، فهو جنسٌ قريبٌ، وأَوْلَى مِن القولِ، لمُوافقتِه القُرآنَ في قولِه:{فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ}

(3)

، ولم يَقُلِ:«الكلامَ» بالألفِ واللَّامِ؛ لأنَّ الحقيقةَ لا يُؤتَى فيها بِدَالٍّ

(4)

على كَمِّيَّةٍ، وما بَعدَه الفصلُ المُخرِجُ لغيرِه، فخَرَجَ بقولِه:(مُنَزَّلٌ) ما يُقالُ مِن الكلامِ النَّفسيِّ.

وخَرَجَ بقولِه: (عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ما نَزَلَ على غيرِه مِن الأنبياءِ، كصُحُفِ إبراهيمَ وشِيثٍ، وفي الحديثِ:«إِنَّ اللهَ تَعالى أَنْزَلَ مِئَةً وَأَرْبَعَةَ كُتُبٍ»

(5)

.

وخَرَجَ بقولِه: (مُعْجِزٌ بِنَفْسِهِ) السُّنَّةُ؛ فإنَّها وإنْ كانَتْ مُنَزَّلَةً وربَّما كانَتْ مُعجِزَةً أيضًا لكنْ لم يُقصَدْ بإنزالِها الإعجازُ، وإنَّما كانَتِ السُّنَّةُ مُنَزَّلَةً لقولِه تَعالى:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)}

(6)

.

(1)

الأحقاف: 30.

(2)

الأحقاف: 29.

(3)

التَّوبة: 6.

(4)

في (ع): بـ (ال).

(5)

رواه ابنُ حبَّانَ (361) ضمنَ حديثٍ طويلٍ مِن حديثِ أبي ذرٍّ رضي الله عنه، بسندٍ ضعيفٍ.

(6)

النَّجم.

ص: 263

والمُرادُ بالإعجازِ: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أُمِرَ أن يَتَحَدَّاهم بما جاءَ به فيَقولُ: هل تَقْدِرون أنْ تَأتوا بمِثْلِ ما قُلْتُه؟ فيَعجِزوا عن ذلك، فقد أَعْجَزَهم ذلك القولُ فهو مُعجِزٌ، فالسُّنَّةُ مُعجِزَةٌ بالقُوَّةِ، لكنَّه لم يُطْلَبْ منهم أن يَأْتُوا بمِثْلِها، والقُرآنُ مُعجِزٌ بالفعلِ لكَوْنِه تَحَدَّاهم أنْ يَأْتُوا بمِثْلِه بأمْرِ اللهِ له بالتَّحدِّي به، ولم يَأمُرْه أنْ يَتَحَدَّى بالسُّنَّةِ، فهذا الفرقُ بينَ الإعجازينِ.

قال الإمامُ أحمدُ: مَن قَالَ القرآنُ مَقْدورٌ على مِثْلِه ولكنْ مَنَعَ اللهُ قُدرَتَهم كَفَرَ، بل هو مُعجِزٌ بنَفْسِه، والعجزُ يَشْمَلُ الخَلْقَ

(1)

.

وزادَ بَعضُهم: (مُتَعَبَّدٌ بِتِلَاوَتِهِ) ليُخرِجَ الآياتِ المنسوخةَ لَفْظُها، سواءٌ بَقِيَ الحُكْمُ أم لا؛ لأنَّها بعدَ النَّسخِ صارَتْ غيرَ قرآنٍ؛ لسُقُوطِ التَّعبُّدِ بتلاوتِها، ولذلك لا تُعطَى حُكْمَ القُرآنِ.

(وَالكَلَامُ: حَقِيقَةً) عندَ أحمدَ، والبخاريِّ، وابنِ المُباركِ، وأهلِ السُّنَّةِ وجمهورِ العلماءِ لَيْسَ مشتَركًا بينَ العبارةِ ومَدلولِها، بل الكلامُ هو:(الأَصْوَاتُ وَالحُرُوفُ) المسموعةُ، فيَكُونُ الكلامُ حقيقةً في العبارةِ، مجازًا في مَدلولِها.

قالَ الشَّيخُ: وَلَيْسَ مِن طوائفِ المسلمينَ مَن أَنْكَرَ أنَّ اللهَ تَعالى يَتَكَلَّمُ بصوتٍ إلَّا ابنُ كُلَّابٍ ومَنِ اتَّبَعَه، كما أنَّ لَيْسَ في طوائفِ المسلمينَ مَن قال: إنَّ الكلامَ مَعنًى واحدٌ قائمٌ بالمُتَكَلِّمِ، إلَّا هو ومَنِ اتَّبَعَه

(2)

. انتهى.

قالَ المُوَفَّقُ: أَجمَعْنا على أنَّ القرآنَ كلامُ اللهِ تَعالى، وقد أَخْبَرَ اللهُ تَعالى

(1)

ينظر: «التحبير شرح التحرير» (3/ 1354)، و «شرح الكوكب المنير» (2/ 115).

(2)

«مجموعُ الفتاوى» (6/ 528).

ص: 264

بذلك بقولِه: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ}

(1)

، وقولِه تَعالى:{وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ}

(2)

، وقالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:«فَإِنَّ قُرَيْشًا مَنَعُونِي أَنْ أُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي»

(3)

.

وقالَ أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه: ما هذا كَلَامِي ولا كَلَامُ صَاحِبِي، وَلَكِنْ كَلَامُ اللهِ تعالى

(4)

.

والكلامُ: هو الحروفُ المنظومةُ، والكلماتُ المفهومةُ، والأصواتُ المفهومةُ.

(وَإِنْ سُمِّيَ بِهِ) أي: سُمِّيَ بالكلامِ (المَعْنَى النَّفْسِيُّ) فمَجازٌ.

(وَ) المعنى النَّفسيُّ: (هُوَ نِسْبَةٌ بَيْنَ مُفْرَدَيْنِ) أي: بينَ المَعنيينِ المُفردينِ، تَعَلَّقُ أحدِهما بالآخَرِ، وإضافتُه إليه على وجهِ الإسنادِ الإفاديِّ؛ أي: بحَيثُ إذا عُبِّرَ عن تلك النِّسبةِ [بلفظٍ يُطابِقُها ويُؤَدِّي مَعناها كانَ ذلك اللَّفظُ إسنادًا إفاديًّا (قَائِمَةٌ) تلك النِّسبةُ]

(5)

(بِالمُتَكَلِّمِ) ومعنى قيامِها به ما قالَه الفخرُ الرَّازيُّ

(6)

: وهو أنَّ الشَّخصَ إذا قَالَ لغيرِه: اسْقِني ماءً، فَقَبْلَ أن يَتَلَفَّظَ بهذه الصِّيغةِ قامَ بنَفْسِه تصوُّرُ حقيقةِ السَّقْيِ، وحقيقةِ الماءِ، والنِّسبةُ الطَّلبيَّةُ

(1)

التَّوبة: 6.

(2)

البقرة: 75.

(3)

رواه أبو داودَ (4734)، والتِّرمذيُّ (2925)، والنَّسائيُّ في «الكبرى» (7680)، وابنُ ماجه (201) مِن حديثِ جابرِ بنِ عبدِ اللهِ رضي الله عنه.

قالَ التِّرمذيُّ: حديثٌ حَسَنٌ صحيحٌ.

(4)

رواه البيهقيُّ في «الأسماءُ والصِّفاتُ» (510) وصحَّحَه.

(5)

ليس في (د).

(6)

«الأربعين في أصول الدين» (ص 174).

ص: 265

بينَهما، فهذا هو الكلامُ النَّفسيُّ، والمعنى القائمُ بالنَّفْسِ، وصيغةُ قولِه:«اسْقِني ماءً» ، عبارةٌ عنه ودليلٌ عليه.

إذا عَلِمْتَ ذلك (فَـ) إطلاقُ المعنى النَّفسيِّ على الكلامِ (مَجَازٌ) لا حقيقةٌ.

تنبيهٌ: هذه المسألةُ مِن أعظمِ مسائلِ أصولِ الدِّينِ، وهي مسألةٌ طويلةُ الذَّيلِ، حَتَّى قِيلَ: إنَّه لم يُسَمَّ علمُ الكلامِ إلَّا لأجلِها، ولذلك اختلفَ أئمَّةُ الإسلامِ فيها اختلافًا كثيرًا مُتباينًا.

قال الطُّوفِيُّ

(1)

: إِنَّمَا كانَ حقيقةً في العبارةِ مجازًا في مَدلولِها لوجهينِ:

أحدُهما: أنَّ المُتبادِرَ إلى فهمِ أهلِ اللُّغةِ مِن إطلاقِ الكلامِ إِنَّمَا هو العباراتُ، والمُبادرَة دليلُ الحقيقةِ.

الثَّاني: أنَّ الكلامَ مُشتَقٌّ مِن الكَلْمِ، لتَأْثِيرِه في نفسِ السَّامِعِ، وَالمُؤَثِّرُ في نفسِ السَّامعِ إِنَّمَا هو العباراتُ لا المعاني النَّفسيَّةُ بالفِعلِ، نعمْ، هي مُؤثِّرةٌ للفائدةِ بالقُوَّةِ، والعبارةُ مُؤثِّرةٌ بالفعلِ؛ فكانَتْ أَوْلَى بأنْ تَكُونَ حقيقةً، وما يَكُونُ مُؤَثِّرًا بالقوَّةِ: مجازٌ.

قولُهم: استعملَ لغةً وعُرفًا فيهما.

قُلْنا: نعمْ، بالاشتِراكِ، أو بالحقيقةِ فيما ذَكَرْنَاه، والمجازُ فيما ذَكَرْتُموه، والأوَّلُ ممنوعٌ.

قولُهم: الأصلُ في الإطلاقِ الحقيقةُ.

ص: 266

قُلْنا: والأصلُ عدمُ الاشتِراكِ، ثمَّ قد تَعارَضَ المجازُ والاشتِراكُ المُجَرَّدُ، والمجازُ أَوْلَى، ثمَّ إنَّ لفظَ الكلامِ أكثرُ ما اسْتُعمِلَ في العباراتِ، وكثرةُ مواردِ الاستعمالِ تَدُلُّ على الحقيقةِ، فأمَّا قولُه تَعالى:{وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ}

(1)

فمجازٌ؛ لأنَّه إِنَّمَا دَلَّ على المعنى النَّفسيِّ بالقَرينةِ، وهي قولُه:{فِي أَنْفُسِهِمْ}

(2)

ولو أُطلِقَ لَمَا فُهِمَ إلَّا العبارةُ، وكذلك كلُّ ما جاءَ مِن هذا البابِ إِنَّمَا يُفيدُ مع القَرينةِ، ومنه قولُ عمرَ رضي الله عنه:«زَوَّرْتُ فِي نَفْسِي كلامًا» إِنَّمَا أفادَ ذلك بقَرينةِ قولِه: «فِي نَفْسِي» ، وأمَّا قولُه تَعالى:{وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ}

(3)

فلا حُجَّةَ فيه؛ لأنَّ الإسرارَ نَقيضُ الجهرِ، وكلاهما عبارةٌ إحداهما أرفعُ صوتًا من الأُخرى.

وأمَّا الشِّعرُ يَعني قَولَ الشَّاعرِ

(4)

:

إِنَّ الكَلَامَ لَفِي الفُؤَادِ وَإِنَّمَا

جُعِلَ اللِّسَانُ عَلَى الفُؤَادِ دَلِيلَا

فهو للأخطلِ، ويُقالُ: إنَّ المشهورَ فيه: «إِنَّ البَيَانَ لَفِي الفُؤَادِ» ، وبتقديرِ أنْ يَكُونَ كما ذَكَرْتُم فهو مجازٌ عن مادَّةِ الكلامِ، وهو التَّصوُّراتُ المُصَحِّحَةُ له؛ إذ مَن لا يَتَصَوَّرُ مَعنى ما يَقولُ لا يُوجدُ منه

(5)

كلامٌ، ثمَّ هو مبالغةٌ مِن هذا الشَّاعرِ في ترجيحِ الفُؤادِ على اللِّسانِ

(6)

. انتهى.

(1)

المجادلة: 8.

(2)

المجادلة: 8.

(3)

الملك: 13.

(4)

من الكاملِ، ويُنسَبُ للأخطلِ، ولا يَثبُتُ له في ديوانِه. انظرِ التَّذييلَ والتَّكميلَ لأبي حيَّانَ الأندلسيِّ (1/ 23) دار القلمِ.

(5)

في (د)، (ع): فيه. والمثبت من «شرح مُختَصَرِ الرَّوضةِ» : منه.

(6)

في (د)، (ع): اللِّسانِ على الفؤادِ. والمثبت من «شرح مُختَصَرِ الرَّوضةِ» .

ص: 267

(وَالكِتَابَةُ: كَلَامٌ حَقِيقَةً) قالَتْ عائشةُ رضي الله عنها: ما بينَ دَفَّتَيِ المصحفِ كلامُ اللهِ.

وأجمعَ السَّلَفُ على أنَّ الَّذِي بينَ الدَّفتَينِ كلامُ اللهِ.

وقالَ ابنُ قُتَيْبَةَ: لسْنا نَشُكُّ أنَّ القُرآنَ في المُصحفِ على الحقيقةِ لا على المجازِ، كما يَقولُه بعضُ أهلِ الكلامِ: أنَّ الَّذِي في المُصحفِ دليلٌ على القُرآنِ

(1)

.

وَقِيلَ: إنَّ الكتابةَ لا تكُونُ كلامًا حقيقةً.

قالَ صاحبُ «الأصلِ» : وهو أظهرُ وأصحُّ

(2)

.

(وَ) قَالَ الإمامُ أحمدُ، وعبدُ اللهِ بنُ المباركِ، والبُخاريُّ وأئمةُ الحديثِ:(لَمْ يَزَلِ اللهُ تَعَالَى مُتَكَلِّمًا كَيْفَ شَاءَ وَإِذَا شَاءَ بِلَا كَيْفٍ).

قالَ القاضي: إذا أرادَ أنْ يُسمِعَنا

(3)

.

وقالَ الإمامُ أحمدُ أيضًا: لم يَزَلِ اللهُ (يَأْمُرُ بِمَا شَاءَ

(4)

وَيَحْكُمُ).

قالَ السَّلفُ والأئمَّةُ: إنَّ اللهَ تَعالى يَتَكَلَّمُ بمشيئتِه وقدرتِه، وإنْ كانَ مع ذلك قديمَ النَّوعِ، بمَعنى أنَّه لم يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذا شاءَ، فإنَّ الكلامَ صفةُ كمالٍ، [ومَن يَتَكَلَّمُ أكملُ ممَّن لا يَتَكَلَّمُ]

(5)

، ومَن يَتَكَلَّمُ بمشيئتِه وقدرتِه أكملُ

(1)

«تأويل مختلف الحديث» (ص 291).

(2)

«التحبير شرح التحرير» (5/ 2165).

(3)

ينظر: «التحبير شرح التحرير» (3/ 1246)، و «أصول الفقه» (1/ 296).

(4)

في «مختصر التحرير» (ص 89): يشاء.

(5)

ليست في (ع).

ص: 268

ممَّن لا يَكُونُ مُتكَلِّمًا بمشيئتِه وقدرتِه، ومَن لا يَزالُ مُتَكَلِّمًا بمشيئتِه وقدرتِه أكملُ ممَّن يَكُونُ الكلامُ مُمْكِنًا له بعدَ أنْ يَكُونَ مُمتنِعًا منه، أو قُدِّرَ أنَّ ذلك ممكنٌ، فكيف إذا كانَ مُمتنِعًا لامتناعِ أن يَصِيرَ الرَّبُّ قادرًا بعدَ أنْ لم يَكُنْ، وأنْ يَكُونَ التَّكلُّمُ والفعلُ مُمْكِنًا بعدَ أنْ كانَ غيرَ ممكنٍ.

قالَ ابنُ قاضي الجبلِ

(1)

: احتجَّ الجمهورُ بالكتابِ، والسُّنَّةِ، واللُّغةِ، والعُرفِ، أمَّا الكتابُ فقولُه تَعالى:{آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11)}

(2)

، فلم يُسَمِّ الإشارةَ كلامًا، وقالَ لمريمَ:{فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا}

(3)

.

وفي الصَّحيحِ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ اللهَ تَعالى عَفَا لِأُمَّتِي عَنِ الخَطَأِ وَالنِّسْيَانَ وَمَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ أَوْ تَعْمَلْ»

(4)

.

وقَسَّمَ أهلُ اللِّسانِ الكلامَ إلى: اسمٍ، وفعلٍ، وحرفٍ.

واتَّفَقَ الفقهاءُ كافَّةً على أنَّ مَن حَلَفَ لا يَتكَلَّمُ لا يَحنَثُ بدونِ النُّطقِ وإنْ حَدَّثَتْه نَفْسُه.

فَإِنْ قِيلَ: الأيمانُ مَبناها على العُرفِ.

(1)

ينظر: «التحبير شرح التحرير» (3/ 1274).

(2)

مريم.

(3)

مريم: 26.

(4)

رواه البخاريُّ (5269)، ومسلمٌ (127) مِن حديثِ أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه:«إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا، مَا لَمْ تَعْمَلْ أَوْ تَتَكَلَّمْ» .

ص: 269

قيلَ: الأصلُ عدمُ التَّغييرِ، وأهلُ العُرفِ يُسَمُّون النَّاطقَ مُتَكَلِّمًا، ومَن عَدَاه ساكتًا أو أَخرَسَ.

قالُوا: قولُه تَعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ}

(1)

أَكْذَبَهم اللهُ في شهادَتِهم، ومعلومٌ صِدقُهم في النُّطقِ اللِّسانيِّ، فلا بدَّ مِن إثباتِ كلامٍ في النَّفْسِ لكونِ الكذبِ عائدًا إليه.

قالَ ابنُ قاضي الجبلِ: الشَّهادةُ: الإخبارُ

(2)

عن الشَّيْءِ مع اعتقادِه، فلَمَّا لم يَكُونوا مُعتقِدينَ أَكْذَبَهم اللهُ تَعالى

(3)

.

وذَكَرَ أبو نصرٍ السِّجِسْتَانِيُّ في كتابِه «الرَّدّ على مَن أَنْكَرَ الحرفَ

(4)

والصَّوتَ»

(5)

: عن الزُّهْرِيِّ، عن أبي بكرِ بنِ عبدِ الرَّحمنِ بنِ الحارثِ، عن جريرِ بنِ جابرٍ، عن كعبٍ أنَّه قَالَ:«لَمَّا كَلَّمَ اللهُ مُوسَى عليه الصلاة والسلام كَلَّمَهُ بِالأَلْسِنَةِ كُلِّهَا قَبْلَ لِسَانِهِ، فَطَفِقَ مُوسَى يَقُولُ: وَاللهِ يَا رَبِّ! مَا أَفْقَهُ هَذَا، حَتَّى كَلَّمَهُ بِلِسَانِهِ آخِرَ الأَلْسِنَةِ بِمِثْلِ صَوْتِهِ» .

قال: وهو محفوظٌ عنِ الزُّهريِّ، رَوَاه عنه

(6)

ابنُ أبي عتيقٍ، والزّبيديُّ، ومَعمَرٌ، ويونُسُ بنُ يزيدَ، وشُعيبُ بنُ أبي حمزةَ، وهم كلُّهم أئمَّةٌ، ولم

يُنْكِرْه أحدٌ

(7)

منهم.

(1)

المنافقون: 1.

(2)

في (د): بالإخبار.

(3)

ينظر: «التحبير شرح التحرير» (3/ 1276).

(4)

في (ع): الحروف.

(5)

«رسالة السجزي إلى أهل زبيد في الرد على من أنكر الحرف والصوت» (ص 245).

(6)

ليست في (ع).

(7)

في (ع): واحد.

ص: 270

وقولُه: «بمِثلِ صوتِه» معناه أنَّ موسى عليه الصلاة والسلام حَسِبَه مِثْلَ صوتِه في تَمَكُّنِه مِن سماعِه وبيانِه عندَه، ويُوضِّحُه قولُه تَعالى:«لَوْلَا كَلَّمْتُكَ بِكَلَامِي لَمْ تَكُ شَيْئًا وَلَمْ تَسْتَقِمْ لَهُ» . انتهى.

ونَقَلَ الطُّوفِيُّ عن الحافظِ ابنِ شُكْرٍ

(1)

أنَّه قَالَ: صَحَّ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أربعةَ عَشَرَ حديثًا في الصَّوتِ

(2)

.

وقد ذَكَرَ البخاريُّ في «صحيحِه» وفي «خلقُ أَفْعَالِ العِبَادِ» جملةً مِن ذلك، وجَمَعَ الحافظُ الضِّياءُ المَقدِسِيُّ جزءًا، وذَكَرَ مِن ذلك في «شرحِ الأصلِ»

(3)

خمسةَ عَشَرَ حديثًا حَتَّى قَالَ: الحديثُ الخامسَ عَشَرَ ما رَوَاه أبو

(4)

شُرَيْحٍ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فقَالَ: «أَبْشِرُوا أَبْشِرُوا أَلَيْسَ تَشْهَدُونَ ألَّا إلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ؟» قَالُوا: بَلَى. قَالَ: «فَإِنَّ هَذَا القُرْآنَ سَبَبٌ طَرَفُهُ بِيَدِ اللهِ وَطَرَفُهُ بِأَيْدِيكُمْ فَتَمَسَّكُوا بِهِ، فَإِنَّكُمْ لَنْ تَضِلُّوا وَلَنْ تَهْلِكُوا بَعْدَهُ أَبَدًا» رَوَاه ابنُ أبي شَيبةَ

(5)

، وروى معناه أبو داودَ الطَّيَالِسِيُّ

(6)

.

(1)

أَظُنُّه واللهُ أعلَمُ يَقصِدُ عبدَ اللهِ بنَ عليِّ بنِ الحسينِ بنِ عبدِ الخالِقِ الصَّاحبَ الوزيرَ الكبيرَ صفيَّ الدِّينِ المِصْريَّ المالكيَّ، المعروفَ بابنِ شُكْرٍ، ترجمتُه في «تاريخُ الإسلامِ» (13/ 706) ولم يَذكُرِ الذَّهبيُّ له تصانيفَ.

وذَكَرَ ابنُ حَجَرٍ في «المعجم المفهرس» (80)«جزءٌ فيه الجوابُ عن الأحاديثِ الواردةِ في الصَّوتِ لابنِ المفضَّلِ» ، أَنْبَأَنا به محمَّدُ بنُ عبدِ الرَّحيمِ الجزريُّ ثمَّ الإسكندرانيُّ مُشافَهَةً .. إلخ.

(2)

«شرحُ مُختَصَرِ الرَّوضةِ» (2/ 18).

(3)

«التحبير شرح التحرير» (3/ 1243).

(4)

في (ع)، (د): ابن. والمثبَتُ من «التحبير شرح التحرير» ، و «مُصَنَّف ابنِ أبي شَيْبَةَ» وهو أبو شُرَيْحٍ الخُزاعيُّ.

(5)

«مُصَنَّفُ ابنِ أبي شَيْبَةَ» (30628)، وصَحَّحَه ابنُ حِبَّانَ (122).

(6)

لم أقفْ عليه.

ص: 271

وفي «الصحيح» : «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ»

(1)

.

هذا آخِرُ الأحاديثِ الَّتي نَقَلْناها مِن جزءِ الحافظِ ضياءِ الدِّينِ وغيرِه المشتملِ على الأحاديثِ الواردةِ في الحرفِ والصَّوتِ، وهي قريبٌ مِن ثلاثينَ حديثًا، بعضُها صحاحٌ وبعضها حِسَانٌ مُحتَجٌّ بها، وقد أَخْرَجَ غالبَها الحافظُ ابنُ حجرٍ في «شرحِ البخاريِّ» ، وغالبُها احتجَّ بها الإمامُ أحمدُ، والإمامُ محمَّدُ بنُ إسماعيلَ البخاريُّ، وغيرُهما مِن أئمَّةِ الحديثِ

(2)

على أنَّ اللهَ تَعالى تَكَلَّمَ بصوتٍ، وهُم أئمَّةُ هذا الشَّأنِ، والمُقْتَدَى بهم فيه، والمرجعُ إليهم، وقد صَحَّحُوا هذه الأحاديثَ واعتَمَدُوا عليها، واعتقدوا ما فيها، مُنَزِّهِينَ للهِ تَعالى عمَّا لا يَلِيقُ بجلالِه مِن سماتِ الحُدوثِ وغيرِها، كما قالوا في سائرِ الصِّفاتِ، فإذا رَأَيْنا أحدًا مِن النَّاسِ ما يَقْدِرُ عُشْرَ مِعشارِ أحدِ هؤلاءِ، يَقُولُ: لم يَصِحَّ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم حديثٌ واحدٌ أنَّه تَكَلَّمَ بصوتٍ، ورَأَيْنا هؤلاءِ الأئمَّةَ أئمةَ الإسلامِ، الَّذين اعتمدَ أهلُ الإسلامِ على أقوالِهم، وعَمِلُوا بها، ودَوَّنُوها، ودانو لله تعالى بها، صَرَّحُوا بأنَّ اللهَ تَعالى تَكَلَّمَ بصوتٍ لا يُشبِهُ صوتَ مخلوقٍ بوجهٍ من الوجوهِ البتَّةَ، مُعتَمِدِينَ على ما صَحَّ عندَهم عن

(3)

صاحبِ الشَّريعةِ المعصومِ في أقوالِه وأفعالِه، الَّذِي لا يَنطِقُ عنِ الهوى، إنْ هو إلَّا وحيٌ يُوحَى، مع اعتقادِهم -الجازمينَ به، الَّذِي لا يَعتَريه شَكٌّ ولا وَهْمٌ ولا خيالٌ- نَفْيَ التَّشبيهِ والتَّمثيلِ والتَّكييفِ، وأنَّهم قائلونَ في صفةِ الكلامِ كما يَقُولون في جميعِ صفاتِ اللهِ تَعالى، مِن

(1)

رواه البخاريُّ (7443)، ومسلمٌ (1016) مِن حديثِ عَدِيِّ بنِ حاتمٍ رضي الله عنه.

(2)

في (ع): الأحاديث.

(3)

في (د): من.

ص: 272

النُّزولِ، والمجيءِ، والاستواءِ، والسَّمْعِ، والبصرِ، واليدِ وغيرِها، كما قالَه سَلَفُ هذه الأُمَّةِ الصَّالحُ مع إثباتِهم لها:{فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ}

(1)

، {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ}

(2)

.

قالَ المُوَفَّقُ: فإذا كانَ حقيقةُ التَّكلُّمِ والمُناداةِ شيئًا واحدًا، وتَواتَرَتِ الأخبارُ والآثارُ به، فما إنكارُه إلَّا عنادٌ واتباعٌ للهوى المُجرَّدِ، وصروفٌ عنِ الحقِّ، وتركُ الصِّراطِ المستقيمِ. انتهى.

و‌

‌حدُّ الصَّوتِ:

ما يُتَحَقَّقُ سماعُه، فكلُّ مُتَحَقَّقٍ سَمَاعُه صوتٌ، وكلُّ ما لا يَتَأَتَّى سماعُه البتَّةَ لَيْسَ بصوتٍ، وحُجَّةُ الحدِّ كونُه مُطَّرِدًا مُنعكسًا.

وقولُ مَن قال: إنَّ الصَّوتَ هو الخارجُ مِن هواء بينَ جِرمينِ: فغيرُ صحيحٍ؛ لأنَّه يُوجَدُ سماعُ الصَّوتِ مِن غيرِ ذلك، كتسليمِ الأحجارِ، وتسبيحِ الطَّعامِ والجبالِ، وشهادةِ الأيدي والأرجُلِ، وحنينِ الجذعِ، وقد قَالَ اللهُ تَعالى:{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ}

(3)

، وقالَ تَعالى:{يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ}

(4)

، وما لشيءٍ مِن ذلك منخرقٌ بينَ جِرمينِ.

وقد أَقَرَّ الأشعريُّ

(5)

أنَّ السَّمواتِ والأرضَ {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}

(6)

حقيقةً لا مجازًا، واللهُ أعلمُ.

وقالَ الشَّيخُ: ولا نزاعَ بينَ العلماءِ أنَّ كلامَ اللهِ لا يُفارِقُ ذاتَ اللهِ سبحانَه، وأنَّه لا يُبايِنُه كلامُه وَلَا شيءٌ مِن صفاتِه، بل لَيْسَ شيءٌ مِن صفةِ موصوفٍ

(1)

يونس: 32.

(2)

النُّور: 40.

(3)

الإسراء: 44.

(4)

ق: 30.

(5)

«اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع» (ص 36).

(6)

فُصِّلَتْ: 11.

ص: 273

تُبايِنُ مَوصوفَها وتَنتقِلُ إلى غيرِه، فكيف يَتَوَهَّمُ عاقلٌ أنَّ كلامَ اللهِ يُبايِنُه ويَنتقِلُ إلى غيرِه

(1)

.

(وَفِي بَعْضِ آيَةٍ) مِن القرآنِ (إِعْجَازٌ) ذَكَرَه القاضي؛ لقولِه تَعالى: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ}

(2)

، والظَّاهرُ: أنَّه أرادَ ما فيه الإعجازُ، وإلَّا فلا يَقُولُ في مِثلِ قولِه تَعالى:{ثُمَّ نَظَرَ}

(3)

أنَّ في بعضِها إعجازًا، أو فيها أيضًا، وهو واضحٌ.

وقالَ أبو المعالي: إِنَّمَا يُتَحَدَّى بالآيةِ إذا كانَتْ مُشتمِلةً على ما به التَّعجيزُ، لا في نحوِ:{ثُمَّ نَظَرَ}

(4)

فيَكُونُ المعنى في قولِه تَعالى: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ}

(5)

أي: مِثْلِه في الاشتمالِ على ما به يَقَعُ الإعجازُ لا مُطلقًا.

(وَيَتَفَاضَلُ) القُرآنُ؛ لقولِه عليه الصلاة والسلام: «يس قَلْبُ القُرْآنِ»

(6)

، و «فَاتِحَةُ الكِتَابِ أَفْضَلُ سُورَةٍ فِي القُرْآنِ»

(7)

، و «آيَةُ الكُرْسِيِّ سَيِّدَةُ آيِ القُرْآنِ»

(8)

، و «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ تَعْدِلُ ثُلُثَ القُرْآنِ»

(9)

.

(1)

«مجموع الفتاوى» (12/ 390).

(2)

الطُّور: 34.

(3)

المُدَّثِّر: 21.

(4)

المُدَّثِّر: 21.

(5)

الطُّور: 34.

(6)

رواه النَّسائيُّ في «الكبرى» (10847).

ونَقَلَ ابنُ الملقِّنِ في «البدر المنير» (5/ 194) تضعيفَه عن الدَّارقطنيِّ وابنِ القَطَّانِ وغيرِهما.

(7)

رواه البخاريُّ (5006) من حديثِ أَبِي سَعِيدِ بنِ المُعَلَّى.

(8)

رواه التِّرمذيُّ (2878) مِن حديثِ أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لِكُلِّ شَيْءٍ سَنَامٌ، وَإِنَّ سَنَامَ الْقُرْآنِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ، وَفِيهَا آيَةٌ هِيَ سَيِّدَةُ آيِ الْقُرْآنِ، هِيَ آيَةُ الْكُرْسِيِّ» .

قالَ التِّرمذيُّ: غريبٌ لا نَعرِفُه إلَّا مِن حديثِ حكيمِ بنِ جُبَيرٍ، وقد تَكَلَّمَ شُعبَةُ في حكيمِ بنِ جبيرٍ وضَعَّفَه.

(9)

رواه البخاريُّ (5013) من حديثِ أبي سعيدٍ الخُدريِّ، ومسلمٌ (811، 812) من حديثِ أبي الدَّرداءِ وأبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنهم.

ص: 274

(و) يَتَفَاضَلُ أيضًا (ثَوَابُهُ) للخبَرِ، والأخبارُ الواردةُ في فضائلِ القرآنِ وتَخصيصِ بعضِ السُّورِ والآياتِ بالفضلِ، وكثرةِ الثَّوابِ في تلاوتِها: لا يُحصى.

وقالَ الشَّيخُ عزُّ الدِّينِ بنُ عبدِ السَّلامِ: كلامُ اللهِ في اللهِ أفضلُ مِن كلامِه في غيرِه. فـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}

(1)

أفضلُ مِن {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ}

(2)

.

(وَيَتَفَاوَتُ إِعْجَازُهُ) يَعني أنَّ في بعضِه إعجازًا أكثرَ مِن بعضٍ.

(وَالبَسْمَلَةُ:

(1)

مِنْهُ) أي: مِن القُرآنِ، لإجماعِ الصَّحابةِ ألَّا يَكُونَ في المصحفِ غيرُ قرآنٍ، وأنَّ ما بينَ دَفَّتَيِ المصحفِ كلامُ اللهِ، فإنَّ في ذلك دليلًا واضحًا على ثبوتِها، وهذا قولُ أكثرِ العلماءِ،

(2)

و (لَا) تَكُونُ (مِنَ الفَاتِحَةِ) على أصحِّ الرِّوايتَينِ عنِ الإمامِ أحمدَ، وعليها مُعظَمُ أصحابِه.

والرِّوايةُ الثَّانيةُ: أنَّها مِن الفاتحةِ، ورُوِيَ عن أحمدَ أنَّها ليسَتْ بقرآنٍ بالكُلِّيَّةِ، فعليها تَكُونُ ذِكْرًا كالاستعاذةِ.

(3)

(وَلَا تَكْفِيرَ بِاخْتِلَافٍ فِيهَا) أي: البسملةِ مِن الجانبينِ، وذلك أنَّها ليسَتْ مِن القُرآنِ القطعيِّ، بل مِن الحُكْمِيِّ، بناءً على أنَّها هل هي قرآنٌ على سبيلِ القطعِ، كسائرِ القُرآنِ، أو على سبيلِ الحُكْمِ، لاختلافِ العلماءِ فيها.

(1)

الإخلاص: 1.

(2)

المسد: 1.

ص: 275

وقد حَكَى النَّوويُّ

(1)

أنَّه لا يُكَفَّرُ النَّافي بأنَّها قرآنٌ إجماعًا.

(4)

(وَهِيَ) أي: البسملةُ، (آيَةٌ فَاصِلَةٌ بَيْنَ كُلِّ سُورَتَيْنِ).

قالَ أبو بكرٍ الرَّازيُّ الحنفيُّ: هي آيةٌ مُفرَدَةٌ، أُنْزِلَتْ للفَصلِ بينَ السُّورِ

(2)

. انتهى، وهي منصوصُ الإمامِ أحمدَ، وعليه أصحابُه.

(سِوَى) يَعني ليسَتِ البسملةُ في أوَّلِ (بَرَاءَةَ) لكَوْنِها أمانًا، وهذه السُّورةُ نَزَلَتْ بالسَّيفِ، وقد كَشَفَتْ أسرارَ المنافقينَ، ولذلك تُسَمَّى الفاضحةَ، أو لأنَّها مُتَّصِلَةٌ بالأنفالِ سورةً واحدةً، أو لغيرِ ذلك على أقوالٍ.

(5)

(وَ) البسملةُ (بَعْضُهَا) أي: بعضُ آيةٍ في قولِه تَعالى: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}

(3)

(مِنْ) سُورَةِ (النَّمْلِ) إجماعًا، فهي فيها قرآنٌ قطعًا.

(وَ) القِراءاتُ (السَّبْعُ: مُتَوَاتِرَةٌ) عندَ العلماءِ إذا تَواتَرَتْ عن قارئِها.

قالَ في «شرحِ الأصلِ» : لا يَشُكُّ أحدٌ أنَّ القِراءاتِ السَّبعَ متواترةٌ مِن الصَّحابةِ إليهم، وإنْ لم يَكُنْ مذكورًا منها إلَّا طريقينِ أو ثلاثةً، لكنْ لو سُئِلَ كلُّ واحدٍ مِن القُرَّاءِ السَّبعةِ لبَيَّنَ له طُرُقًا تَبلُغُ التَّواتُرَ.

وأيضًا فالَّذي نَتَحَقَّقُه وَلَا نَشُكُّ فيه: أنَّ الجمَّ الغفيرَ أخذَتِ القُرآنَ عنِ الصَّحابةِ، بحَيثُ إنَّه لا يُمكِنُ حصرُ مَن أَخَذَ منهم ولا عنهم، وكذلك

(1)

«المجموع شرح المهذب» (3/ 333).

(2)

«أحكام القرآن» (1/ 14).

(3)

النَّمل: 30.

ص: 276

مَن بعدهم، وما أَحسَنَ ما قال بعضُهم: انحصارُ الأسانيدِ في طائفةٍ لا يَمنَعُ انحصارَ القُرآنِ

(1)

عن غيرِهم، فقد كانَ يَتَلَقَّاه مِن كلِّ أهلِ بلدٍ بقراءةِ إمامِهم الجمُّ الغفيرُ عن مِثلِهم، وكذلك دائمًا، فالتَّواتُر حاصلٌ لهم، ولكنَّ الأئمَّةَ الَّذين قَصَدوا ضبطَ الحروفِ، وحَفِظوا شيوخَهم فيها، جاءَ السَّنَدُ مِن جِهَتِهم

(2)

.

تنبيهٌ: إطلاقُ الجمهورِ مِن تواترِ القراءاتِ السَّبعِ لَيْسَ على إطلاقِه، بل يُستثنى منه ما قالَه ابنُ الحاجبِ

(3)

وغيرُه: وهو ما كانَ مِن قَبِيلِ صفةِ الأداءِ كالمدِّ، والإمالةِ، وتخفيفِ الهمزةِ، ونحوِه، ومرادُه بالتَّمثيلِ بالإمالةِ والمدِّ: مقاديرُ المدِّ، وكيفيَّةُ الإمالةِ، لا أصلُ المدِّ والإمالةِ، فإنَّ ذلك متواترٌ قطعًا، فالمقاديرُ كمدِّ حمزةَ ووَرَشٍ، فإنَّه قَدْرُ سِتِّ أَلِفَاتٍ، وقيلِ: خمسٌ، وقيلَ: أربعٌ، ورَجَّحُوه، ومدُّ عاصمٍ قَدْرُ ثلاثِ أَلِفَاتٍ، والكسائيِّ قدرُ أَلِفَيْنِ ونصفٌ، وقالونَ: قدرُ أَلِفَين، والسُّوسِيِّ قَدْرُ ألِفٍ ونصفٍ، ونحوِ ذلك.

وكذلك الإمالةُ تَنقَسِمُ إلى:

- محضةٍ، وهي: أنْ يُنْحَى بالألفِ إلى الياءِ، وبالفتحةِ إلى الكسرةِ،

- وإلى بينَ بينَ، وهي كذلك، إلَّا أنَّها تَكُونُ إلى الألفِ والفتحةِ أقربَ، وهي المختارةُ عندَ الأئمَّةِ.

أمَّا أصلُ الإمالةِ فمتواترٌ قطعًا، وكذلك التَّخفيفُ في الهمزِ، والتَّسهيلُ منه: منهم مَن يُسَهِّلُ، ومنهم مَن يُبْدِلُه، ونحوُ ذلك.

ص: 277

فهذه الكيفيَّةُ هي الَّتي ليسَتْ متواترةً، ولهذا كَرِهَ الإمامُ أحمدُ وجماعةٌ مِن السَّلفِ قراءةَ حمزةَ؛ لِما فيها مِن طولِ المدِّ، والكسرِ، والإدغامِ، ونحوِ ذلك؛ لأنَّ الأُمَّةَ إذا أجمعَتْ على فِعلِ شيءٍ لم يُكْرَهْ فِعلُه، وهل يُظَنُّ على أنَّ الصِّفةَ الَّتي فَعَلَها النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وتواتَرَتْ إلينا يَكْرَهُها أحدٌ مِن العلماءِ، أو مِن المسلمينَ؛ فعَلِمْنا بهذا أنَّ هذه الصِّفاتِ ليسَتْ مُتواتِرَةً، وهو واضحٌ.

وكذلك قراءةُ الكسائيِّ لأنَّها كقراءةِ حمزةَ في الإمالةِ والإدغامِ، كما نَقلَه السَّرْخَسِيُّ مِن أصحابِ الشَّافعيِّ في «شرح الغايةِ» .

(وَمُصْحَفُ عُثْمَانَ) بنِ عفَّانَ رضي الله عنه الَّذِي كَتَبَه وأَرسَلَه إلى الآفاقِ (أَحَدُ الحُرُوفِ السَّبْعَةِ) والشَّاذُّ: ما خالَفَه على الصَّحيحِ، فالقراءةُ الَّتي بأيدي النَّاسِ مِن السَّبعةِ، والعشرةِ، وغيرِهم: هي حرفٌ مِن قولِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «أُنْزِلَ القُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ»

(1)

.

إذا عَلِمْتَ ذلك: (فَتَصِحُّ الصَّلَاةُ:

- بِـ) قِراءةِ (مَا وَافَقَهُ) أي: وافَقَ مصحفَ عثمانَ ولو احتمالًا، ووافَقَ العَربيَّةَ ولو بوجهٍ واحدٍ

- (وَصَحَّ) سندُه، (وإنْ لَمْ يَكُنْ) ما قَرَأَ به (مِنَ) القِراءاتِ (العَشَرَةِ) نصًّا.

ومتى اختلَّ ركنٌ مِن هذه الأركانِ الثَّلاثةِ، أُطلِقَ على القِراءةِ ضعيفةٌ، أو شاذَّةٌ، أو باطلةٌ، سواءٌ كانَتْ عنِ السَّبعةِ، أو عمَّن هو أكبَرُ منهم، هذا هو الصَّحيحُ عن أئمَّةِ التَّحقيقِ مِنَ السَّلفِ والخَلَفِ.

(1)

رواه البخاريُّ (2419)، ومسلمٌ (818) مِن حديثِ هشامِ بنِ حكيمٍ رضي الله عنه.

ص: 278

(وَ) ما وَرَدَ (غَيْرُ مُتَوَاتِرٍ) كقولِه تَعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3)}

(1)

.

(وَهُوَ) أي: وغيرَ المُتواترِ: (مَا خَالَفَهُ) أي: خالَفَ مصحفَ عثمانَ بنِ عفَّانَ رَضِيَ اللهُ تَعالى عنه:

(1)

(لَيْسَ بِقُرْآنٍ) لأنَّ القُرآنَ لا يكُونُ إلَّا مُتَواترًا، وما خالَفَ مصحفَ عثمانَ غيرُ مُتواترٍ، فلا يَكُونُ قُرآنًا، (فَلَا تَصِحُّ) الصَّلاةُ (بِهِ) عندَ الأئمَّةِ الأربعةِ وغيرِهم.

(2)

(وَمَا صَحَّ مِنْهُ) أي: مِن غيرِ المُتواتِر (حُجَّةٌ) عندَ الأكثرِ، واحتجُّوا على قطعِ يُمْنى

(2)

السَّارقِ بقِراءةِ ابنِ مسعودٍ: «وَالسَّارِقُونَ وَالسَّارِقَاتُ فَاقْطَعُوا أَيْمَانَهُمْ»

(3)

، واحتَجُّوا أيضًا بما نُقِلَ عن مصحفِ ابنِ مسعودٍ:«فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ»

(4)

، وقالوا: لأنَّه إمَّا قرآنٌ أو خبَرٌ، وكلاهما مُوجِبٌ للعملِ.

(3)

(وَ) ما صَحَّ مِن غيرِ المُتواتِرِ (تُكْرَهُ قِرَاءَتُهُ) نصًّا.

(وَمَا اتَّضَحَ مَعْنَاهُ) مِن الكتابِ، كالنُّصوصِ والظَّواهِرِ فهو (مُحْكَمٌ)؛ لأنَّه مِن البيانِ في غايةِ الإحكامِ والإتقانِ.

واختلفَ العلماءُ رَحِمَهم اللهُ تَعالى في المُحكَمِ والمُتشابِه في قولِه تَعالى: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ}

(5)

على أقوالٍ كثيرةٍ.

(1)

اللَّيل.

(2)

في (ع): يمين.

(3)

رواه الطبري (8/ 407).

(4)

رواه عبد الرزاق (16102، 16103).

(5)

آل عمران: 7.

ص: 279

ولفظُ المُحكَمِ مُفعَلٌ مِن أَحكَمْتُ الشَّيْءَ أُحْكِمُه إحكامًا فهو مُحْكَمٌ، إذا أَتْقَنْتَه فكانَ في غايةِ ما يَنبغي مِن الحكمةِ، ومنه: بناءٌ مُحكَمٌ؛ أي: ثابتٌ مُتقَنٌ يَبْعُدُ انهدامُه.

(وَعَكْسُهُ مُتَشَابِهٌ) مُتَفَاعِلٌ مِن الشَّبَهِ، والشِّبْهِ، والشَّبيهِ

(1)

: وهو ما بَينَه وبينَ غيرِه أمرٌ مُشتَرَكٌ يَشتَبِهُ ويَلْتَبِسُ به، فهو غيرُ مُتَّضِحِ المَعنى فيَشتَبِهُ بعضُ مُحتملاتِه ببعضٍ:

(1)

(لِاشْتِرَاكٍ) كالعَينِ والقُرءِ [ونَحوِهما مِنَ المُشتَركاتِ]

(2)

.

(2)

(أَو) يَشتبهُ لـ (إِجْمَالٍ) كإطلاقِ اللَّفظِ بدونِ بيانِ المرادِ منه، كالمُتواطِئِ، كقولِه تَعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً}

(3)

، وكقولِه تَعالى:{وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ}

(4)

ولم يُبَيِّنْ مِقدارَ الحقِّ.

(3)

(أَو) يَشتبِهُ لـ (ظُهُورِ تَشْبِيهٍ، كَصِفَاتِ اللهِ تَعَالَى) أي: كآياتِ الصِّفاتِ وأخبارِها، فاشْتَبهَ المرادُ مِنه على النَّاسِ، فلذلك قال قومٌ بظاهِرِه؛ فشَبَّهُوا وجَسَّمُوا، وفَرَّ قومٌ مِن التَّشبيهِ؛ فتَأَوَّلُوا وحَرَّفُوا فعَطَّلُوا.

وتَوَسَّطَ قومٌ فسَلَّمُوا: فأَمَرُّوه كما جاءَ مع اعتقادِ التَّنزيهِ، فسَلِموا، وهم أهلُ السُّنَّةِ وأئمَّةُ السَّلفِ الصَّالحِ.

وقيل: المُحكَمُ: ما عُرِفَ المرادُ به: إمَّا بالظُّهورِ، وإمَّا بالتَّأويلِ، والمُتشابِهُ: ما اسْتَأْثَرَ اللهُ بعِلمِه، كقيامِ السَّاعةِ، وخروجِ الدَّجَّالِ، والدَّابَّةِ، والحروفِ المُقَطَّعَةِ في أوائلِ السُّورِ.

(1)

في (ع): والتَّشبيه.

(2)

ليست في «د» .

(3)

البقرة: 67.

(4)

الأنعام: 141.

ص: 280

وقيل: المُحكَمُ: ما لا يَحتمِلُ مِن التَّأويلِ إلَّا وجهًا واحدًا، والمُتشابِهُ: ما احتملَ أوجهًا، وقيلَ غيرُ ذلك.

تنبيهٌ: الحِكمةُ في إنزالِ المُتشابِهِ: ابتلاءُ العقلاءِ.

(وَلَيْسَ فِيهِ) أي: الكتابِ:

(1)

(مَا لَا مَعْنَى لَهُ).

قالَ في «شرحِ الأصلِ» : وهذا مِمَّا يَقطَعُ به كلُّ عاقلٍ، ممَّن شَمَّ رائحةَ العِلْمِ، ولا يُخالِفُ في ذلك إلَّا جاهلٌ أو مُعانِدٌ؛ لأنَّ ما لا مَعنى له: هذيانٌ، ولا يَلِيقُ النُّطقُ به مِن عاقلٍ، فكيف بالباري سبحانه وتعالى

(1)

. انتهى.

وقال الرَّازِيُّ في «المحصول» : لا يَجُوزُ أن يَتَكَلَّمَ اللهُ ورسولُه بشيءٍ ولا يَعني به شيئًا

(2)

.

(2)

(وَلَا) أي: وليسَ في القرآنِ شيءٌ (مَعْنِيٌّ بِهِ غَيْرُ ظَاهِرِهِ)؛ لأنَّه يَرجِعُ في ذلك إلى مَدلولِ اللُّغةِ فيما اقْتَضَاه نظامُ الكلامِ، ولأنَّ اللَّفظَ بالنِّسبةِ إلى غيرِ الظَّاهرِ كالمُهمَلِ.

وقولُه: (إِلَّا بِدَلِيلٍ): احتِرازٌ

(3)

مِن وُرُودِ العامِّ وتأخُّرِ المُخَصِّصِ له، وهذا قولُ أئمَّةِ المذاهبِ وأتباعِهم وغيرِهم.

(وَفِيهِ) أي: القُرآنِ (مَا لَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ

(4)

إِلَّا اللهُ تَعَالَى) وتأويلُه بما يُوجِبُ

(1)

«التحبير شرح التحرير» (3/ 1399).

(2)

«المحصول في عِلمِ الأصولِ» (1/ 539).

(3)

في (ع): احترازًا.

(4)

زاد في (ع): وفي نسخة معناه. وهو كذلك في «مختصر التحرير» (ص 91).

ص: 281

تناقضًا، أو تشبيهًا زيغٌ، وليسَ يَندفِعُ أنْ يَكُونَ فيه ما يَتَشَابَهُ؛ لنُؤمِنَ بمُتشابِهِه ونَقِفَ عندَه، فيَكُونُ التَّكْلِيفُ به هو الإيمانَ به جملةً، وتَرْكَ البحثِ عن تفصيلِه، كما كَتَمَ الرُّوحَ، والسَّاعةَ، والآجالَ، وغيرَ ذلك مِن الغُيُوبِ، وكَلَّفَنا التَّصديقَ به دونَ أنْ يُطْلِعَنا على عِلْمِه، قالَه ابنُ عَقِيلٍ

(1)

.

وهذا مذهبُ سلفِ هذه الأُمَّةِ، واختارَه في «المحصول»

(2)

بناءً على تكليفِ ما لا يُطاقُ.

(وَيَمْتَنِعُ دَوَامُ إِجْمَالِ مَا فِيهِ تَكْلِيفٌ) قال البِرْمَاوِيُّ: وحَكَى ابنُ برهانٍ وجهينِ في أنَّ كلامَ اللهِ هل يَشتمِلُ على ما لا يُفهَمُ مَعناه؟ ثمَّ قال: والحقُّ التَّفصيلُ بينَ الخطابِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ به تكليفٌ، فلا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ غيرَ مفهومِ المعنى، أو لا يَتَعَلَّقُ به، فيَجُوزُ

(3)

.

(وَيُوقَفُ

(4)

في الأصحِّ (عَلَى) قولِه تَعالى: ({إِلَّا اللهُ}) و (لَا) يُوقَفُ على ({وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ}

(5)

وهو المُختارُ، واستُدلَّ له بسياقِ الآيةِ مِن ذمِّ مُبتغي التَّأويلِ، وقولِه:{آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} (5)، ولأنَّ واوَ {وَالرَّاسِخُونَ} للابتداءِ، و {يَقُولُونَ} (5) خبَرُه؛ لأنَّها لو كانَتْ عاطفةً عادَ ضميرُ {يَقُولُونَ} إلى المجموعِ، ويَستحيلُ على اللهِ تَعالى، وكانَ موضعُ {يَقُولُونَ} نَصْبًا حالًا، ففيه اختصاصُ المعطوفِ بالحالِ.

(1)

«الواضح في أصول الفقه» (1/ 172).

(2)

«المحصول» (1/ 394).

(3)

«الفوائد السَّنيَّة في شرحِ الألفيَّةِ» (1/ 407).

(4)

في «مختصر التحرير» (ص 91): (والوقف).

(5)

آل عمران: 7.

ص: 282

وقولُ مَن قال: مَعناه: والرَّاسخون في العلمِ يَعلَمُونه قائلينَ: آمَنَّا به، وزَعْمُ: أنَّ موضعَ {يَقُولُونَ} نصبٌ على الحالِ، فعامَّةُ أهلِ اللُّغةِ يُنكِرُونه ويَسْتَبْعِدُونه؛ لأنَّ العربَ لا تُضمِرُ الفعلَ والمفعولَ معًا، وتَذكُرُ حالًا إلَّا مع ظهورِ الفعلِ، فإذا لم يَظهَرْ فعلٌ: فلا يَكُونُ حالًا.

(وَيَحْرُمُ تَفْسِيرُهُ) أي: القُرآنِ:

- (بِرَأْيٍ)؛ لقولِه عليه الصلاة والسلام: «مَنْ قَالَ فِي القُرْآنِ بِرَأْيِهِ، وَبِمَا لَا يَعْلَمُ، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» رَوَاه أبو داودَ

(1)

، والتِّرمذيُّ

(2)

، والنَّسائيُّ

(3)

عنِ ابنِ عبَّاسٍ.

- (وَ) يَحرُمُ أيضًا تفسيرُ القُرآنِ بـ (اجْتِهَادٍ بِلَا أَصْلٍ) أي: بلا مُستنَدٍ؛ للآثارِ الواردةِ في ذلك، واحتجَّ القاضي

(4)

بقولِه تَعالى: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}

(5)

، وبقولِه تَعالى:{لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}

(6)

، فأضافَ التَّبْيِينَ إليه.

و (لَا) يَحرُمُ تفسيرُه (بمُقْتَضَى اللُّغَةِ) عندَ الإمامِ أحمدَ وأكثرِ أصحابِه؛ لأنَّ القُرآنَ عربيٌّ، والمنقولُ عنِ ابنِ عبَّاسٍ: الاحتجاجُ في التَّفسيرِ بمُقتضى اللُّغةِ كثيرٌ

(7)

.

(1)

«سننُ أبي داودَ» (3652).

(2)

«جامعُ التِّرمذيِّ» (2951).

(3)

«سُننُ النَّسائيِّ الكبرى» (8031).

(4)

«العُدة في أصول الفقه» (3/ 710).

(5)

الأعراف: 33.

(6)

النَّحل: 44.

(7)

ينظر: «التحبير شرح التحرير» (3/ 1471)، و «شرح الكوكب المنير» (2/ 158).

ص: 283

فائدةٌ: قالَ الإمامُ أحمدُ: ثلاثةُ كُتُبٍ لَيْسَ فيها أصولٌ: المغازي، والملاحمُ، والتَّفسيرُ. يَعني لَيْسَ غالبُها الصِّحَّةَ

(1)

، واللهُ أعلمُ.

(1)

ينظر: «أصول الفقه» (1/ 321)، و «التحبير شرح التحرير» (3/ 1418).

ص: 284

(بَابٌ)

(السُّنَّةُ لُغَةً: الطَّرِيقَةُ) والعادةُ، قال اللهُ تعالى:{قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ}

(1)

أي: طُرُقٌ.

(وَ) تُطلَقُ السُّنَّةُ (شَرْعًا) على ما يُقابِلُ الفَرضَ ونحوِه مِن الأحكامِ، وربَّما لا يُرادُ بها إلَّا ما يُقابِلُ الفَرضَ، كفُروضِ الوُضوءِ وسُنَنِه، وتُطلَقُ على ما يُقابِلُ البدعةَ، فيُقالُ: أهلُ السُّنَّةِ، وأهلُ البدعةِ.

وتُطلَقُ على ما يُقابِلُ القُرآنَ (اصْطِلَاحًا) كما هنا، ومنه أحاديثُ وَرَدَتْ كثيرةٌ: منها ما في «صحيحِ مسلمٍ»

(2)

: «يَؤُمُّ القَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللهِ، فَإِنْ كَانُوا فِي القِرَاءَةِ سَوَاءً، فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ» الحديثَ.

إذا عَلِمْتَ ذلك: فالسُّنَّةُ في اصطلاحِ علماءِ الأُصولِ مَحصورةٌ عندَ أكثرِهم في ثلاثةِ أشياءَ:

أحدُها: (قَوْلُ النَّبِيِّ) محمَّدٍ

(3)

صلى الله عليه وسلم غَيْرُ الوَحْيِ) كالقُرآنِ، والأحاديثِ الإلهيَّةِ، فإنَّه لا يُقالُ فيه إنَّه مِن السُّنَّةِ، (وَلَوْ) كانَ قولُه أمرًا (بِكِتَابَةٍ) كما أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عليًّا بالكِتابةِ يومَ الحُدَيْبِيَةِ، وأَمَرَ بالكِتابةِ إلى الملوكِ، وقال عليه السلام:«اكْتُبُوا لِأَبِي شَاةٍ»

(4)

يَعني الخُطبةَ الَّتي خَطَبَها، وغيرِ ذلك.

(وَ) الثَّاني: (فِعْلُهُ) صلى الله عليه وسلم، (وَلَوْ) كانَ الفِعلُ (بِإِشَارَةٍ) على

(1)

آل عمران: 137.

(2)

«صحيح مسلم» (673) عن أبي مسعودٍ الأنصاريِّ رضي الله عنه.

(3)

ليست في (ع).

(4)

رواه البخاريُّ (2434)، ومسلم (1355) من حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 285

الصَّحيحِ، كإشارتِه صلى الله عليه وسلم لِأَبِي بَكْرٍ أَنْ يَتَقَدَّمَ فِي الصَّلَاةِ. مُتَّفقٌ عليه

(1)

.

وأشارَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بيدِه نحوَ اليَمَنِ، وقال:«الإِيمَانُ هَا هُنَا»

(2)

الحديثَ.

تنبيهٌ: القولُ وإنْ كانَ فعلًا لأنَّه عملٌ بجارحةِ اللِّسانِ، لكنَّ الغالبَ استعمالُه في مقابلةِ الفعلِ كما هنا.

تنبيهٌ آخَرُ: مِن الفِعلِ أيضًا: عَمَلُ القلبِ، والتَّركُ،؛ فإنَّه كَفُّ النَّفْسِ، ولا تكليفَ إلَّا بفِعلٍ كما تَقَدَّمَ:

- فإذا نُقِلَ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه أرادَ ذلك: فهو مِنَ السُّنَّةِ الفعليَّةِ، كما في حديثِ أنسٍ: أَرَادَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَكْتُبَ إِلَى رَهْطٍ وَأُنَاسٍ مِنَ العَجَمِ، فقيل: إِنَّهُمْ لَا يَقْبَلُونَ كِتَابًا إِلَّا بِخَاتَمٍ، فَاتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ. مُتَّفَقٌ عليه

(3)

.

- وإذا نُقِلَ عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه تَرَكَ كذا: كانَ أيضًا مِن السُّنَّةِ الفعليَّةِ، كما وَرَدَ أنَّه صلى الله عليه وسلم لمَّا قُدِّمَ إليه الضَّبُّ فأَمْسَكَ عنه وتَرَكَ أَكْلَه؛ أَمْسَكَ الصَّحابةُ رضي الله عنهم وتَرَكُوه، حَتَّى بيَّن لهم أنَّه حلالٌ، ولكنْ يَعَافُه

(4)

.

(وَ) الثَّالثُ: (إِقْرَارُهُ) صلى الله عليه وسلم على الشَّيءِ: يُقالُ، أو يُفعَلُ بحضرتِه، أو زَمَنِه؛ فهو مِن السُّنَّةِ قَطعًا، إذا كانَ عالمًا به، وكانَ مِن غيرِ كافرٍ، كما يَأتي آخِرَ الفصْلِ الآتي.

(1)

رواه البخاريُّ (681)، ومسلم (419) من حديثِ أنسٍ رضي الله عنه.

(2)

رواه البخاريُّ (4387) من حديثِ أبي مسعودٍ الأنصاريِّ رضي الله عنه.

(3)

رواه البخاريُّ (65)، ومسلمٌ (2092).

(4)

رواه البخاريُّ (5391)، ومسلمٌ (1945) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

ص: 286

(4)

(وَزِيدَ) على الثَّلاثةِ: (الهَمُّ) بفعلٍ، ومثَّلَه الشَّافعيَّةُ بما إذا همَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بفعلٍ وعاقَه عنه عائِقٌ، وكانَ ذلك الفعلُ مَطلوبًا شرعًا؛ لأنَّه لا يَهُمُّ إلَّا بحقٍّ محبوبٍ مطلوبٍ شرعًا؛ لأنَّه مبعوثٌ لبيانِ الشَّرعيَّاتِ، وذلك كما في حديثِ عبدِ اللهِ بنِ زيدِ بنِ عاصمٍ: استسقى

(1)

رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وعليه خَمِيصَةٌ سوداءُ، فأرادَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أنْ يَأْخُذَ بأسفلِها فيَجعَلَه أعلاها، فلَمَّا ثَقُلَتْ قَلَبَها على عاتِقِه

(2)

.

فالمرادُ: لولا ثِقَلُ الخَميصةِ، فاسْتَحَبَّ الشَّافعيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى لأجلِ هذا الحديثِ للخطيبِ في الاستسقاءِ مع تحويلِ الرِّداءِ: تَنْكِيسَه بجَعْلِ أعلاه أَسْفَلَه.

قالَ في «شرحِ الأصلِ» : مذهبُ أحمدَ وأصحابِه لا يَزيدُ على التَّحويلِ

(3)

.

(وَهِيَ) أي: أنواعُ السُّنَّةِ كُلِّها (حُجَّةٌ) على ثُبُوتِ الأحكامِ الشَّرعيَّةِ (لِـ) ثبوتِ (العِصْمَةِ) لأنَّه صلى الله عليه وسلم معصومٌ، والعِصمةُ ثابتةٌ له ولسائرِ الأنبياءِ صلواتُ اللهِ تعالى وسلامُه عليهم أجمعينَ:(الَّتِي هِيَ: سَلْبُ القُدْرَةِ) مِن المعصومِ (عَلَى المَعْصِيَةِ) فلا يُمْكِنُه فِعْلُها؛ لأنَّ الله تعالى سَلَبَه القُدرةَ عليها كما سَلَبَه معرفةَ الكتابةِ والشِّعرِ وغَيرِهما.

قالَ في «القاموسُ» : العِصْمَةُ، بالكسرِ: المَنْعُ، واعْتَصَمَ باللهِ: امْتَنَعَ بلُطْفِهِ من المَعْصِيَةِ

(4)

.

(1)

في (ع): استقى.

(2)

رواه أبو داود (1164)، والنسائي (1507)، وابن خُزيمة (1415)، وابن حبان (2867).

(3)

«التحبير شرح التحرير» (3/ 1434).

(4)

«القاموسُ المحيطُ» (ص 1138).

ص: 287

قالَ ابنُ البَاقِلَّانِيِّ: لا تُطلَقُ العصمةُ في غيرِ الأنبياءِ والملائكةِ إلَّا بقرينةِ إرادةِ معناها اللُّغويِّ، وهو السَّلامةُ مِنَ الشَّيءِ

(1)

.

فامتناعُ المعصيَةِ مِنه صلى الله عليه وسلم قَبْلَ البعثةِ عَقلًا مبنيٌّ على التَّقبيحِ العقليِّ، فمَن أَثْبَتَه كالرَّوافضِ مَنَعَها للتَّنفيرِ، فتُنافي الحكمةَ، وقاله

(2)

المُعتَزلةُ في الكبائرِ، ومَن نَفَى التَّقبيحَ العَقليَّ لم يَمْنَعْها.

قالَ في «شرحِ الأصلِ» : إِنَّمَا قَدَّمْنا هذه المسألةَ لأجلِ ما بَعدَها؛ لأنَّ الاستدلالَ بأقوالِهم وأفعالِهم مُتَوَقِّفٌ

(3)

على عِصمَتِهم

(4)

.

(وَ) قد ذَهَبَ أكثرُ العلماءِ إلى أنَّه (لَا يَمْتَنِعُ عَقْلًا) مِن الأنبياءِ (مَعْصِيَةٌ) أي: صدورُ معصيةٍ مِنهم صغيرةٍ، أو كبيرةٍ (قَبْلَ البَعْثَةِ،

و) كلُّ نبيٍّ مُرسَلٍ فهو (مَعْصُومٌ بَعْدَهَا) أي: بعدَ البعثةِ:

(1)

(مِنْ تَعَمُّدِ مَا) أي: كذبِ قولٍ أو فعلٍ (يُخِلُّ بِصِدْقِهِ فِيمَا) أي: في حُكْمٍ وما يَتَعَلَّقُ به، (دَلَّتِ المُعْجِزَةُ عَلَى صِدْقِهِ) فيه (مِنْ رِسَالَةٍ وَتَبْلِيغٍ) إجماعًا، فالإجماعُ مُنعقِدٌ على عِصمةِ المُرسَلِينَ مِن تَعمُّدِ الكذبِ في الأحكامِ، وما يَتَعَلَّقُ بها؛ لأنَّ المُعجزةَ قد دَلَّتْ على صِدقِهم فيها، فلو جازَ كذبُهم فيها لبَطَلَتْ دَلالةُ المُعجزةِ.

(وَلَا يَقَعُ) منهم ما يُخِلُّ بصِدْقِهم لا (غَلَطًا، وَ) لا (سَهْوًا) عندَ الأكثرِ؛ لِما مَرَّ مِن دَلالةِ المُعجزةِ على الصِّدقِ.

(1)

ينظر: «الفوائد السنية في شرح الألفية» (1/ 384)، و «التحبير شرح التحرير» (3/ 1438).

(2)

في (د): وقالت.

(3)

في (ع)، (د): متفق. والمثبت من «التحبير شرح التحرير» .

(4)

«التحبير شرح التحرير» (3/ 1439).

ص: 288

وتَأَوَّلَ مَن مَنَعَ الوقوعَ الأحاديثَ الواردةَ في سَهْوِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بأنَّه قَصَدَ بذلك التَّشريعَ، كما في حديثِ:«أُنَسَّى»

(1)

بالبناءِ للمفعولِ.

ومِنهم مَن يُعَبِّرُ في هذا بأنَّه تَعَمَّدَ ذلك ليقعَ النِّسيانُ فيه بالفعلِ، وهو خطأٌ؛ لتصريحِه صلى الله عليه وسلم بالنِّسيانِ في قوله:«إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ، فَإِذَا نَسِيتُ فَذَكِّرُونِي»

(2)

، ولأنَّ الأفعالَ العَمْدِيَّةَ تُبْطِلُ الصَّلاةَ، والبيانُ كافٍ بالقولِ؛ فلا ضرورةَ إلى الفعلِ.

وذَكَرَ القاضي عِياضٌ

(3)

وغيرُه الخلافَ في الأفعالِ، وأنَّه لا يَجُوزُ في الأقوالِ البلاغيَّةِ إجماعًا، ومَعناه لابنِ عَقِيلٍ في «الإرشاد» ، فإنَّه قال: الأنبياءُ لم يُعصَمُوا مِن الأفعالِ، بل في نفسِ الأداءِ، فلا يَجُوزُ عليهم الكذبُ في الأقوالِ فيما يُؤَدُّونَه عنِ اللهِ، ولا فيما شَرَعَه مِن الأحكامِ، عمدًا ولا سهوًا ولا نسيانًا

(4)

. انتهى.

ثمَّ إذا قُلْنا: يَقَعُ ذلك مِنهم غلطًا ونسيانًا، فإذا وَقَعَ لم يُقَرَّ عليه إجماعًا، بل يُعْلَمُ به، قال الأكثرُ: على الفورِ.

(2)

(وَ) أمَّا (مَا لَا يُخِلُّ) بصِدقِه فيما دَلَّتِ المُعجزةُ على صِدقِه فيه:

- (فَـ) هو معصومٌ (مِنْ) وُقوعِ (كَبِيرَةٍ) عمدًا، إجماعًا،

- (وَ) كذا هو معصومٌ مِن فِعلِ (مَا يُوجِبُ خِسَّةً، أَوْ إِسْقَاطَ مُرُوءَةٍ عَمْدًا).

قالَ جماعةٌ: إجماعًا.

(1)

رواه البخاريُّ (401)، ومسلمٌ (572) من حديثِ ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه.

(2)

رواه البخاريُّ (401)، ومسلمٌ (572) من حديثِ ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه.

(3)

«الشِّفا بتعريف حقوق المصطفى» (1/ 150).

(4)

ينظر: «التحبير شرح التحرير» (3/ 1445).

ص: 289

وقد قَطَعَ بعضُ أصحابِنا بأنَّ ما يُسقِطُ العَدالةَ لا يَجُوزُ عليه.

(وَفِي وَجْهٍ) لابنِ أبي موسى:

- (وَ) معصومٌ أيضًا مِن وُقُوعِ ذلك (سَهْوًا)، وعند القاضي والأكثرِ: يَجُوزُ ذلك.

- (وَ) معصومٌ (مِنْ) وُقوعِ (صَغِيرَةٍ) عَمْدًا على قولٍ.

وأمَّا سَهوًا: فذَهَبَ الأكثرُ إلى الجوازِ، ومَنَعَ الأستاذُ أبو إسحاقَ الإسفرايينيُّ وجماعةٌ مِن أصحابِنا وغيرِهم مِن الذَّنبِ (مُطْلَقًا) يَعني سواءٌ كانَ صغيرًا أو كبيرًا، عمدًا، أو

(1)

سهوًا، ما يُخِلُّ بصِدقِه أو لا.

قالَ القاضي حسينٌ: هو الصَّحيحُ مِن مذهبِ أصحابِنا

(2)

.

فالعصمةُ ثابتةٌ له ولسائرِ الأنبياءِ عليهم السلام مِن كلِّ ذنبٍ صغيرًا كانَ أو كبيرًا، عمدًا كانَ أو سهوًا في الأحكامِ وغيرِها، مُبَرَّؤُونَ مِن جميعِ ذلك لقيامِ الحُجَّةِ على ذلك، ولأنَّا أُمِرْنا باتِّباعِهم في أفعالِهم وآثارِهم وسِيَرِهم على الإطلاقِ مِن غيرِ التزامِ قرينةٍ، وسواءٌ في ذلك قَبْلَ النُّبُوَّةِ وبعدَها، تَعاضَدَتِ الأخبارُ بتَنْزِيهِهم عن هذه النَّقيصةِ مُنذ وُلِدوا، ونَشْأَتُهم على كمالِ أوصافِهم في تَوحيدِهم وإيمانِهم عقلًا وشرعًا على الخلافِ في ذلك، ولا سِيَّمَا فيما بعدَ البَعثةِ فيما يُنافي المعجزةَ

(3)

.

(1)

في (ع): و.

(2)

ينظر: «روضة الطالبين» للنووي (10/ 24).

(3)

ينظر: «الفوائد السنية في شرح الألفية» (1/ 382)، و «التحبير شرح التحرير» (3/ 1453).

ص: 290

(فَصْلٌ)

(1)

(مَا اخْتَصَّ) أي: ما كانَ (مِنْ أَفْعَالِهِ صلى الله عليه وسلم مُخْتَصًّا (بِهِ) من: واجبٍ، ومحظورٍ، ومباحٍ، وكراهةٍ

(1)

مخصوصٌ

(2)

به (وَاضِحٌ) لأنَّ له صلى الله عليه وسلم خصائصَ كثيرةً أُفْرِدَتْ بالتَّصنيفِ

(3)

.

(2)

(وَمَا كَانَ) مِن أفعالِه صلى الله عليه وسلم (جِبِلِّيًّا) واضحًا، (كَنَوْمٍ) وأكلٍ، وذهابٍ، ونحوِها، فمباحٌ؛ لأنَّه لَيْسَ مقصودًا به التَّشريعُ، ولا تَعَبَّدَنا به، ولذلك نُسِبَ إلى الجِبِلَّةِ: وهي الخِلْقَةُ، لكنْ لو تَأَسَّى به مُتأسٍّ فلا بأسَ، كما فَعَلَ ابنُ عمرَ رَضِيَ اللهُ تعالى عنهما: فإنَّه كانَ إذا حَجَّ يَجُرُّ بخطامِ ناقتِه حَتَّى إنَّه بَرَّكَها حَيْثُ بَرَكَتْ نَاقتُه صلى الله عليه وسلم تَبَرُّكًا بآثارِه، وإنْ تَرَكَه لا رغبةً عنه، ولا استكبارًا: فلا بأسَ.

(3)

(أَوْ) أي: وما كانَ مِن أفعالِه صلى الله عليه وسلم (يَحْتَمِلُهُ) أي: يَحتملُ الجِبلِّيَّ وغيرَه، من حَيْثُ إنَّه واظَبَ عليه:(كَجِلْسَةِ الِاسْتِرَاحَةِ) وركوبِه في الحجِّ، ودُخولِه في مكَّةَ مِن كَدَاءٍ، (وَلُبْسِهِ) النَّعلَ (السِّبْتِيَّ) والخاتَمَ،

(فَمُبَاحٌ) عندَ الأكثرِ، وقيل: مندوبٌ، وهو أظهرُ وأصحُّ، وهو ظاهرُ فِعلِ الإمامِ أحمدَ، فإنَّه تَسَرَّى واختفى في الغارِ ثلاثةَ أيَّامٍ، ثمَّ انتقلَ إلى موضعٍ آخرَ اقتداءً بفِعلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وقال: ما بَلَغَني حديثٌ إلَّا عَمِلْتُ به، حَتَّى أَعطى الحَجَّامَ دينارًا.

(1)

في (ع)، (د). والمثبت من نسخة على حاشية (ع).

(2)

في (ع): فخصوصه.

(3)

على رأسها: كتاب «الشمائل» للترمذي، و «الشفا» للقاضي عياض، و «الخصائص» للسيوطي.

ص: 291

ومَنْشَأُ الخلافِ في ذلك: تَعارُضُ الأصلِ والظَّاهرِ، فإنَّ الأصلَ عدمُ التَّشريعِ، والظَّاهرُ في أفعالِه التَّشريعُ؛ لأنَّه مبعوثٌ لبيانِ الشَّرعيَّاتِ.

قالَ في «شرحِ الأصلِ» : أكثرُ ما حَكَيْناه منَ الأمثلةِ مندوبٌ، نَصَّ عليه إمامُنا وأصحابُه: كذهابِه من طريقٍ، ورجوعِه في أُخرى في العيدِ

(1)

، حَتَّى نَصَّ عليه الإمامُ أحمدُ في الجمعةِ أيضًا، ودخولِه مَكَّةَ من كَدَاءٍ، وتَطْيِيبِه عندَ الإحرامِ، وغسلِه بذي طُوًى، واضطجاعٍ بعدَ سُنَّةِ الفجرِ، واختلفَتِ الرِّوايةُ عن الإمامِ أحمدَ في جَلسةِ الاستراحةِ هل هي مُستحَبَّةٌ أو لا؟

والمذهبُ أنَّها ليسَتْ مُستحَبَّةً، قالَ

(2)

: أكثرُ الأحاديثِ على هذا

(3)

.

(4)

(وَبَيَانُهُ) أي: وما كانَ بيانًا:

- (بِقَوْلِـ) ـه صلى الله عليه وسلم: («كَـ: صَلُّوا

(4)

كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي»

(5)

و «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ»

(6)

فواجبٌ عليه.

- (أَو) كانَ بيانًا بـ (فِعْلِـ) ـه (عِنْدَ حَاجَةٍ) مِثْلُ أنْ يَقَعَ الفعلُ بعدَ إجمالٍ، (كَقَطْعِ) يَدِ السَّارِقِ (مِنْ كُوعِـ) ـه دونَ المِرفقِ والعَضدِ بعدَما نَزَلَ قولُه تعالى:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}

(7)

.

(1)

روى البخاري (986) عن جابرٍ رضي الله عنهما، قال:«كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا كَانَ يَوْمُ عِيدٍ خَالَفَ الطَّرِيقَ» .

(2)

أي: الإمامُ أحمدُ، كما في «التحبير شرح التحرير» .

(3)

«التحبير شرح التحرير» (3/ 1460).

(4)

في (د): صلوا.

(5)

رواه البخاريُّ (631) من حديثِ مالكِ بنِ الحُويرثِ رضي الله عنه.

(6)

رواه مسلمٌ (1297) من حديثِ جابرٍ رضي الله عنه.

(7)

المائدة: 38.

ص: 292

(وَ) كإدخالِ (غَسْلِ مِرْفَقٍ) في وضوءٍ، بعدما نَزَلَتْ:{فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ}

(1)

.

: (فَوَاجِبٌ عَلَيْهِ) صلى الله عليه وسلم الإعلامُ به؛ لوجوبِ التَّبليغِ عليه.

(5)

(وَ) أَمَّا (غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِ) صلى الله عليه وسلم يَعني لا مُختصًّا به، ولا جِبِلِّيًّا، ولا مُتَرَدِّدًا، ولا بيانًا فهو قسمانِ؛ لأنَّه (إِنْ عُلِمَتْ صِفَتُهُ مِنْ وُجُوبٍ، أَوْ نَدْبٍ، أَوْ إِبَاحَةٍ) فأُمَّتُه مِثْلُه.

والثَّاني: ما لم نَعلَمْ صفةَ فِعلِه، وهو نوعانِ:

(1)

ما يُقصَدُ به القُربةُ.

والثَّاني: ما لم يُقصَدْ به القُربةُ، كما يَأتي توضيحُه.

وتُعرَفُ صفةُ فِعلِه صلى الله عليه وسلم هل هو واجبٌ، أو مندوبٌ، أو مباحٌ:

- إمَّا (بِنَصِّهِ) على ذلك، بأنْ يَقولَ: هذا واجبٌ، أو مُستحبٌّ، أو مباحٌ، أو مَعنى ذلك بذِكْرِ خاصَّةٍ مِن خَوَاصِّه، أو نحوِ ذلك.

- (أَوْ) أي: وإمَّا بـ (تَسْوِيَتِهِ) الفعلَ الَّذِي لم تُعلَمْ صِفةُ حُكمِه (بِمَعْلُومِهَا) أي: بفِعلٍ معلومٍ صفةُ حُكمِه، بأنْ يَقولَ: هذا مِثْلُه، أو مساوٍ له، ونحوُه.

- (أَوْ) أي: وإمَّا (بِقَرِينَةٍ تُبَيِّنُ) تلك القَرينةَ (أَحَدَهَا

(2)

أي: صِفَةَ أحدِ

(3)

الثَّلاثةِ،

- أمَّا الوجوبُ: فكالأذانِ للصَّلاةِ، فقد تَقَرَّرَ في الشَّرعِ أنَّ الأذانَ والإقامةَ

(1)

المائدة: 6.

(2)

في (ع): إحداها.

(3)

في (ع): إحدى.

ص: 293

مِن أماراتِ الوجوبِ، ولهذا لا يُطلَبَانِ في صلاةِ عيدٍ وكسوفٍ واستسقاءٍ، فيَدُلَّانِ على وجوبِ الصَّلاةِ؛ لأنَّها شعارٌ مُختَصٌّ بالفرائضِ.

- وأمَّا النَّدبُ: فكقصدِ القُربةِ مُجَرَّدًا عن دليلِ وجوبٍ وقرينتِه، والدَّليلُ على ذلك كثيرٌ. وزادَ البيضاويُّ: أنْ يُعلَمَ كونُه قضاءً لفعلٍ مندوبٍ؛ لأنَّ القضاءَ يَحكي الأداءَ

(1)

.

- وأمَّا الإباحةُ: فكالفعلِ الَّذِي ظَهَرَ بالقَرينةِ أنَّه لم يَقصِدْ به القُربةَ.

- (أَوْ) أي: وإمَّا أن تُعرَفَ صفةُ فِعلِه صلى الله عليه وسلم (بِوُقُوعِهِ) أي: الفعلِ، (بَيَانًا لِمُجْمَلٍ) كالصَّلاةِ بيانًا بعدَ قولِه:{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ}

(2)

، وكالقطعِ مِن الكُوعِ بيانًا لآيةِ السَّرقةِ، ونحوِ ذلك.

(أَوْ) بوقوعِ الفِعلِ (امْتِثَالًا لِنَصٍّ يَدُلُّ عَلَى حُكْمٍ) يَعني امْتثالًا لأمْرٍ عُلِمَ أنَّه أمرُ إيجابٍ، أو ندبٍ، فيَكُونُ هذا الفعلُ تابعًا لأصلِه في حُكمِه، فكلُّ فعلٍ مِن ذلك عُلِمَتْ صفةُ حُكمِه في حَقِّه صلى الله عليه وسلم،

(فَـ) قالَ أصحابُنا وأكثرُ العلماءِ: (أُمَّتُهُ مِثْلُهُ) في ذلك؛ لأنَّ الأصلَ مشاركةُ أُمَّتِه له حَتَّى يَدُلَّ دليلٌ على غيرِ ذلك، نعمْ، في الواردِ بيانًا لفعلِ أمْرٍ آخَرَ، وهو: أنَّه صلى الله عليه وسلم يَجِبُ عليه بيانُ الشَّرعِ للأُمَّةِ بقولِه أو فِعلِه، فإذا أتى بالفعلِ بيانًا أتى بواجبٍ، وإنْ كانَ الفعلُ بيانًا لأمْرِ ندبٍ أو إباحةٍ بالنِّسبةِ للأُمَّةِ فللفعلِ حينئذٍ جهتانِ: جهةُ التَّشريعِ وصفتُه الوجوبُ، وجهةُ ما يَتَعَلَّقُ بفعلِ الأُمَّةِ تابعٌ لأصلِه مِن ندبٍ، أو إباحةٍ.

(1)

ينظر: «الغيث الهامع شرح جمع الجوامع» للولي العراقي (ص 391).

(2)

البقرة: 43.

ص: 294

(وَإِلَّا) أي: والقسمُ الثَّاني مِن فِعلِه صلى الله عليه وسلم: ما لم يَكُنْ مُختَصًّا به، ولا جِبليًّا، ولا مُتَرَدِّدًا، ولا بيانًا، ولم تُعلَمْ صفةُ حُكْمِ فِعلِه، وهو نوعانِ:

(1)

(فَإِنْ تَقَرَّبَ) أي: قَصَدَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم (بِهِ) أي: بالفعلِ القُربةَ؛ (فَـ) هو (وَاجِبٌ عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ) عندَ أحمدَ وأكثرِ أصحابِه؛ لقولِه تعالى: {فَاتَّبِعُوهُ}

(1)

، وقولِه:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ}

(2)

، والفعلُ أمرٌ، وقولِه تعالى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ}

(3)

، وقولِه تعالى:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}

(4)

أي: تَأَسَّوْا به، وقولِه تعالى:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}

(5)

، ومَحَبَّتُه واجبةٌ، فيَجِبُ لازمُها، وهو اتِّباعُه، ولَمَّا خَلَعَ صلى الله عليه وسلم نَعلَه في الصَّلاةِ خَلَعُوا نِعالَهم

(6)

، ولَمَّا أَمَرَهم بالتَّحلُّلِ في صُلْحِ الحُدَيْبيةِ تَمَسَّكوا

(7)

.

(2)

(وَإِلَّا) أي: والنَّوعُ الثَّاني مِمَّا لم تُعلَمْ صِفتُه إن لم يَقصِدْ به القُربَةَ (فَـ) هو (مُبَاحٌ) اختارَه الأكثرُ.

(وَلَمْ يَفْعَلِ) النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الفعلَ (المَكْرُوهَ لِيُبَيِّنَ بِهِ الجَوَازَ، بَلْ) إذا فَعَلَ صلى الله عليه وسلم فعلًا، فـ (فِعْلُهُ يَنْفِي) به (الكَرَاهَةَ) لأنَّه يَحصُلُ فيه التَّأسِّي، والمُرادُ (حَيْثُ لَا مُعَارِضَ لَهُ) أي: لذلك الفعلِ، وإلَّا فقد يَفعَلُ غالبًا شيئًا ثمَّ يَفعَلُ خلافَه؛ لبيانِ الجوازِ، وهو كثيرٌ، كقولِهم في تركِ الوضوءِ مع الجنابةِ لنومٍ، أو أكلٍ، أو معاودةِ وطءٍ:«تَرَكَه لبيانِ الجوازِ، وفَعلَه غالبًا للفضيلةِ» .

(1)

الأنعام: 153.

(2)

النُّور: 33.

(3)

الحشر: 7.

(4)

الأحزاب: 21.

(5)

آل عمران: 31.

(6)

رواه أبو داود (650)، وابن خزيمة (786) من حديث أبي سعيد الخُدري رضي الله عنه.

(7)

رواه البخاري (2731) من حديث المِسْوَرِ بن مَخْرَمَةَ، ومروان رضي الله عنهما.

ص: 295

(وَتَشْبِيكُهُ) صلى الله عليه وسلم بينَ أصابعِه في حديثِ ذي اليدينِ في المسجدِ

(1)

(بَعْدَ سَهْوِهِ لَا يَنْفِيهَا) أي: الكراهةَ، (لِأَنَّهُ نَادِرٌ) ثمَّ التَّأسِّي والوجوبُ بالسَّمعِ لا بالعقلِ.

وقالَ البِرْمَاوِيُّ، وغيرُه: لا يَقَعُ المكروهُ مِن الأنبياءِ عليهم السلام؛ لأنَّ التَّأسِّيَ

(2)

مطلوبٌ، فيَلْزَمُ أنْ يُتَأَسَّى بهم فيه، فيَكُونَ جائزًا، وأيضًا فإنَّهم أكملُ الخلْقِ، ولهم أعلى الدَّرجاتِ، فلا يُلائِمُ ما يَقَعُ منهم ما نَهَى اللهُ عنه ولو نَهْيَ تَنزيهٍ، فإنَّ الشَّيْءَ الحَقيرَ مِن الكبيرِ أمرٌ عظيمٌ، ويُقَرَّرُ ذلك بأمرٍ آخَرَ، وهو: أنَّه لا يُتَصَوَّرُ أن يَقَعَ منهم مع كونِه مَكروهًا

(3)

.

قالَ ابنُ الرِّفْعَةِ: الشَّيْءُ قد يَكُونُ مَكروهًا ويَفعَلُه النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لبيانِ الجوازِ، ويَكُونُ أفضلَ في حَقِّه

(4)

.

تنبيهٌ: تَلَخَّصَ مِمَّا تَقَدَّمَ أنَّ أفعالَه صلى الله عليه وسلم محصورةٌ في: الواجبِ، والمندوبِ، والمُباحِ، وأمَّا المُحَرَّمُ فلا يَفعَلُه البتَّةَ، واختُلِفَ في المكروهِ، والصَّحيحُ أنَّه لا يَفعَلُه، أو يَفعَلُه لبيانِ الجوازِ، أو يَفعَلُه نادرًا كما تَقَدَّمَ ذلك كلُّه.

(وَإِذَا سَكَتَ) النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم (عَنْ إِنْكَارِ

(5)

فعلٍ، أو قولٍ يُفعَلُ، أو يُقالُ (بِحَضْرَتِهِ، أَوْ) في (زَمَنِهِ مِنْ غَيْرِ كَافِرٍ) وكانَ صلى الله عليه وسلم (عَالِمًا بِهِ)

(1)

رواه البخاري (482)، ومسلم (573) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

في «الفوائد السَّنيَّة» : التَّأسِّي بهم.

(3)

«الفوائد السنيّة في شرح الألفيّة» (1/ 385).

(4)

ينظر: «الفوائد السنيّة في شرح الألفيّة» (1/ 385).

(5)

زاد في «مختصر التحرير» (ص 95): أمر.

ص: 296

أي: بذلك الفعلِ، (دَلَّ) سُكوتُه (عَلَى جَوَازِهِ) حَتَّى لغيرِ الفاعلِ، أو القائلِ في الأصحِّ؛ لأنَّ الأصلَ استواءُ المُكلَّفِينَ في الأحكامِ، وأمَّا إذا صَدَرَ مِن الكافرِ فِعلٌ يَعتقدُه كذَهابِه إلى كنيسةٍ ونَحوِها، فلا أَثَرَ له اتِّفاقًا ولم تَتَقَيَّدِ المسألةُ بكونِه قادرًا عليه؛ لأنَّ مِن خصائصِه صلى الله عليه وسلم أنَّ وجوبَ إنكارِه المُنكَرَ لا يَسقُطُ عنه بالخوفِ على نَفسِه، وإن كانَ ذلك إِنَّمَا هو لعَدمِ تَحَقُّقِ خوفِه بعدَ إخبارِ اللهِ عنه بعِصمَتِه مِن النَّاسِ.

(وَإِنْ) كانَ ذلك الفعلُ، أو القولُ الواقعُ بحَضْرَتِه، أو زَمَنِه، مِن غيرِ كافرٍ، قد (سَبَقَ تَحْرِيمُهُ؛ فَـ) سُكُوتُه صلى الله عليه وسلم عن إنكارِه (نَسْخٌ) لذلك التَّحريمِ السَّابقِ؛ لِئلَّا يَكُونَ سُكُوتُه مُحَرَّمًا، ولأنَّ فيه تأخيرَ البيانِ عن وقتِ الحاجةِ، لا سِيَّمَا إنِ اسْتَبْشَرَ به.

(فَائِدَةٌ)

(التَّأَسِّي: فِعْلُكَ كَمَا فَعَلَ) النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، (لِأَجْلِ أَنَّهُ فَعَلَ) والتَّأسِّي في التَّرْكِ: تَرْكُك له كما تَرَكَ؛ لأجلِ أنَّه تَرَكَ، هذا في الفِعْلِ وتَركِه.

(وَ) أمَّا التَّأسِّي (فِي القَوْلِ) فهو (امْتِثَالُهُ) أي: امتثالُ القولِ (عَلَى الوَجْهِ الَّذِي اقْتَضَاهُ) قولُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

(وَإِلَّا) بأنْ لم يَكُنْ كذلك في الكلِّ؛ (فَـ) هو (مُوَافَقَةٌ لَا مُتَابَعَةٌ) إذِ المُوافقةُ: المُشارَكَةُ

(1)

في الأمرِ وإن لم يَكُنْ لأجلِه، فالمُوافقةُ أعمُّ مِن التَّأسِّي، فكلُّ تأسٍّ موافقةٌ، وليس كلُّ موافقةٍ تَأَسِّيًا، فقد يُوافِقُ ولا يَتَأَسَّى، فلا بدَّ مِن اجتماعِهما لحصولِ المقصودِ، وهو المتابعةُ.

(1)

في (د): المتابعة.

ص: 297

(فَصْلٌ)

الصَّادرُ منه صلى الله عليه وسلم: إمَّا قولٌ، أو فعلٌ، أو هما، فإذا انْفَرَدَ أحدُهما فلا كلامَ.

وربَّما تعارَضَ دليلانِ مِن ذلك: إمَّا قولانِ، أو فعلانِ، أو قولٌ وفعلٌ.

أمَّا القولانِ فسيَأتي إنْ شاءَ اللهُ تعالى حُكْمُ تَعارُضِهما في بابِ ترتيبِ الأَدِلَّةِ آخِرَ الكتابِ.

وأمَّا تعارُضُ الفعلينِ، أو الفعلِ والقولِ، فمَذكورانِ هنا.

إذا تَقَرَّرَ ذلك فـ ‌

‌(لَا تَعَارُضَ: فِي فِعْلَيْهِ

(1)

صلى الله عليه وسلم

- إنْ تَمَاثَلا: كفعلِ صلاةٍ، ثمَّ فِعْلِها مَرَّةً أُخرى في وقتٍ آخَرَ.

- (وَ) كذا (لَوِ اخْتَلَفَا) وأَمْكَنَ اجتماعُهما: كفعلِ صومٍ وفعلِ صلاةٍ.

- (أَوْ لَمْ يُمْكِنِ اجْتِمَاعُهُمَا لَكِنْ لَا يَتَنَاقَضُ حُكْمَاهُمَا) فلا تعارُضَ بينَهما؛ لإمكانِ الجمعِ، وحيثُ أَمْكَنَ الجمعُ امْتَنَعَ التَّعارضُ.

- (وَكَذَا إِنْ تَنَاقَضَ) حُكماهما: (كَصَوْمِـ) ـه صلى الله عليه وسلم في (وَقْتٍ) بعَينِه، و (فِطْرِ) ـه في (مِثْلِهِ) فلا تعارضَ أيضًا، لإمكانِ كَوْنِه واجبًا، أو مندوبًا، أو مباحًا في ذلك الوقتِ، وفي الوقتِ الآخَرِ بخلافِه مِن غيرِ أنْ يَكُونَ أحدُهما رافعًا، أو مُبطلًا لحُكمِ الآخَرِ؛ إذْ لا عُمومَ للفعلِ، (لَكِنْ إِنْ دَلَّ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ تَكَرُّرِ) صومِه (الأَوَّلِ لَهُ) أي: عليه، (أَوْ) دَلَّ دليلٌ (لِأُمَّتِهِ) على وجوبِ التَّأسِّي به في مِثلِ ذلك الوقتِ، (فَتَلَبَّسَ بِضِدِّهِ) كالأكلِ مع قدرتِه على الصَّومِ، دَلَّ أكلُه على نسخِ تَكرارِ الصَّومِ في حَقِّه، لا نسخِ

(1)

في (د): فعله.

ص: 298

حُكْمِ الصَّومِ السَّابقِ؛ لعدمِ اقتضائِه للتَّكرارِ، ورَفْعُ حُكْمٍ وُجِدَ مُحالٌ، أو (أَقَرَّ آكِلًا) مِنَ الأُمَّةِ (فِي مِثْلِهِ) أي: مِثْلِ ذلك الوقتِ (فَـ) إقرارُه (نَسْخٌ) لدليلِ تعميمِ الصَّومِ على الأُمَّةِ في حقِّ ذلك الشَّخصِ، أو تخصيصِه.

وقد يُطلَقُ النَّسخُ والتَّخصيصُ على الفعلِ بمَعنى زوالِ التَّعبُّدِ مجازًا.

وإذا صَدَرَ منه صلى الله عليه وسلم قولٌ وفعلٌ [كلٌّ مِنهما]

(1)

يَقتضي خلافَ ما يَقتضيه الآخَرُ، ففيه اثنانِ وسبعونَ مسألةً.

ووجهُ الحصرِ في ذلك: أنَّه لا يَخلو إمَّا: ألَّا يَدُلَّ دليلٌ على التَّكرارِ والتَّأسِّي، أو يَدُلَّ على كلٍّ منهما، أو يَدُلَّ على التَّكرارِ دونَ التَّأسِّي، أو بالعكسِ: بأن يَدُلَّ على التَّأسِّي دونَ التَّكرارِ.

وكلُّ واحدٍ مِن هذه الأقسامِ الأربعةِ لا يَخلُو: إمَّا أن يَكُونَ القولُ خاصًّا به، أو بنا، أو عامًّا له ولنا.

وعلى كلِّ تقديرٍ مِن هذه الأنواعِ الثَّلاثةِ، لا يَخلُو: إمَّا أن يَكُونَ القولُ مُقَدَّمًا على الفعلِ، أو مُتَأَخِّرًا عنه، أو مجهولَ التَّاريخِ، فهذه تسعةُ أنواعٍ مِن ضربِ ثلاثةٍ في ثلاثةٍ.

وعلى كلِّ تقديرٍ منها لا يَخلُو: إمَّا أن يَظهَرَ أثرُه في حَقِّه، أو في حقِّنا، صارَتْ ثمانيةَ عَشَرَ، مضروبةً في الأربعةِ الأقسامِ.

القسمُ الأوَّلُ: الَّذِي لا يَدُلُّ على التَّكرارِ والتَّأسِّي المُشارِ إليه بقولِه: (وَلَا) تعارُضَ (فِي فِعْلِهِ وَقَوْلِهِ) صلى الله عليه وسلم (حَيْثُ لَا دَلِيلَ عَلَى تَكَرُّرٍ

(2)

في حقِّه، (وَلَا) على (تَأَسٍّ) به.

(1)

ليس في «د» .

(2)

في (ع): تكرار.

ص: 299

- (وَالقَوْلُ) أي: والحالُ أنَّ القولَ (خَاصٌّ بِهِ، وَتَأَخَّرَ) عنِ الفعلِ، كفِعلِه شيئًا في وقتٍ، ثمَّ يَقُولُ بعدَ ذلك: لا يَجُوزُ لي مِثْلُ هذا الفعلِ في مِثْلِ هذا الوقتِ، فلا تعارُضَ بينَهما أصلًا في حَقِّه، ولا في حقِّ أُمَّتِه، لإمكانِ الجمعِ لعَدمِ تَكرارِ الفعلِ، ولم يَكُنْ رافعًا لحُكْمٍ في الماضي ولا المستقبلِ.

أمَّا في حقِّه: فلأنَّ القولَ لم يَتناوَلِ الزَّمانَ الَّذِي وَقَعَ فيه الفعلُ، والفعلُ أيضًا لم يَتَناوَلِ الزَّمانَ الَّذِي تَعَلَّقَ به القولُ، فلا يَكُونُ أَحدُهما رافعًا لحُكمِ الآخَرِ، وأمَّا في حقِّ الأُمَّةِ فظاهرٌ؛ لأنَّه لَيْسَ لواحدٍ مِن الفعلِ والقولِ تَعَلُّقٌ بالأُمَّةِ.

(لَكِنْ إِنْ تَقَدَّمَ) القولُ على الفعلِ كقولِه صلى الله عليه وسلم: يَجِبُ عليَّ كذا، ويَتَلَبَّسُ بضِدِّه فيه، (فَالفِعْلُ) الَّذِي تَلَبَّسَ به (نَاسِخٌ) لحُكْمِ قولِه السَّابقِ؛ لجوازِ النَّسخِ قَبْلَ التَّمكُّنِ مِن الفعلِ على الصَّحيحِ.

(وَإِنْ جُهِلَ) هل تَقَدَّمَ القولُ على الفعلِ، أو عَكْسُه فلا تعارُضَ في حَقِّنا؛ لأنَّ القولَ لم يَعُمَّنا، وفي حَقِّه:(وَجَبَ العَمَلُ بِالقَوْلِ) لأنَّ الفعلَ يَحتاجُ إلى القولِ في بيانِ وجهِ وُقوعِه، قدَّمَه في «شرحِ الأصلِ»

(1)

.

- (وَلَا) تعارُضَ أيضًا في قولِه وفعلِه (إِنِ اخْتَصَّ القَوْلُ بِنَا) لعدمِ اجتماعِ القولِ والفعلِ في مَحَلٍّ واحدٍ؛ لأنَّ الفعلَ خاصٌّ به؛ إذْ لا دليلَ على وُجوبِ التَّأسِّي به، والقولُ خاصٌّ بنا فلم يتَّحِدْ مَحَلُّهما.

وقولُه: (مُطْلَقًا) سواءٌ تَقَدَّمَ الفعلُ، أو تَأَخَّرَ، أو جُهِلَ السَّابقُ.

- (أَوْ) أي: ولا تعارُضَ أيضًا إنْ (عَمَّ) القولُ لنا وله، (وَتَقَدَّمَ الفِعْلُ) على

ص: 300

القولِ، فلا تَعارُضَ في حَقِّه؛ لِمَا سَبَقَ، ولا في حَقِّنا؛ لأنَّ فِعلَه لم يَتَعَلَّقْ بنا.

(وَلَا) تعارُضَ في (حَقِّنَا إِنْ تَقَدَّمَ القَوْلُ) على الفعلِ؛ لأنَّهما لم يَتَوارَدَا علينا، (وَهُوَ) أي: وحُكْمُ ذلك (كَـ) قولٍ (خَاصٍّ بِهِ) كما سَبَقَ في المسألةِ الثَّانيةِ، فيَكُونُ الفعلُ ناسخًا في حَقِّه؛ لجوازِ النَّسخِ قَبْلَ التَّمكُّنِ مِن الفعلِ كما هو الصَّحيحُ، (لَكِنْ إِنْ كَانَ العَامُّ) أي: العُمومُ، (ظَاهِرًا فِيهِ) أي: بأنْ يَكُونَ العُمومُ يَتَناوَلُ القولَ ظاهرًا، (فَالفِعْلُ) المُتأخِّرُ (تَخْصِيصٌ) للقولِ في حقِّه وفي حقِّ الأُمَّةِ، إنْ كانَ الدَّليلُ على وُجوبِ التَّأسِّي مَخصوصًا بذلك الفعلِ فنَسخٌ، وإلَّا فتخصيصٌ.

والقسمُ الثَّاني مِن الأربعةِ: وهو الَّذِي يَدُلُّ على التَّكرارِ والتَّأسِّي عَكسُ الأوَّلِ المُشارِ إليه بقولِه: (وَلَا) تعارُضَ (فِينَا) أي: في حقِّ الأُمَّةِ (مُطْلَقًا) أي: سواءٌ تَقَدَّمَ القولُ أو الفعلُ، (مَعَ دَلِيلٍ عَلَيْهِمَا) أي: على التَّكرارِ والتَّأسِّي، (وَالقَوْلُ) أي: والحالُ أنَّ القولَ (خَاصٌّ بِهِ)؛ لأنَّ القولَ لم يَتناوَلِ الأُمَّةَ.

(وَ) أمَّا (فِيهِ) أي: في حقِّه صلى الله عليه وسلم، فـ (المُتَأَخِّرُ) مِن القولِ أو

(1)

الفعلِ (نَاسِخٌ) للمُتَقَدِّمِ مع علمِ التَّاريخِ، (وَمَعَ جَهْلٍ) به (يُعمَلُ بِالقَوْلِ) وُجوبًا؛ لأنَّه أقوى دَلالةً مِن الفعلِ؛ لأنَّ القولَ دَلالتُه على الوجوبِ، وغيرِه بلا واسطةٍ، ويُقبَلُ التَّأكيدُ بالقولِ؛ لأنَّ القولَ وُضِعَ لذلك

(2)

، بخلافِ الفِعلِ فإنَّه لم يُوضَعْ لذلك.

(وَلَا) تعارُضَ (فِي حَقِّهِ) صلى الله عليه وسلم (مَعَهُ) أي: مع الدَّليلِ (عَلَيْهِمَا) أي: على التَّكرارِ والتَّأسِّي.

(1)

في (ع): و.

(2)

من هنا بياض في (د) بمقدار ورقتين.

ص: 301

(وَالقَوْلُ) أي: والحالُ أنَّ القولَ (مُخْتَصٌّ بِنَا) مطلقًا؛ لعدمِ تناوُلِ القولِ له.

(وَ) أمَّا (فِينَا) أي: في حقِّنا، إنْ عُلِمَ (المُتَأَخِّرُ) مِن القولِ والفعلِ، فهو (نَاسِخٌ) للمُتَقدِّمِ منهما، سواءٌ كانَ القولُ مُتَقَدِّمًا والفعلُ مُتأخِّرًا، أو بالعكسِ، إلَّا أنْ يَتَقَدَّمَ القولُ على الفعلِ بعدَ التَّمكُّنِ مِن مُقتضى القولِ، والقولُ لم يَقتضِ التَّكرارَ، فإنَّه حينئذٍ لا مُعارَضَةَ في حقِّنا أيضًا.

(وَمَعَ جَهْلٍ) بالتَّاريخِ (يُعْمَلُ بِالقَوْلِ) وجوبًا؛ لأنَّ الفعلَ مخصوصٌ بالمحسوسِ؛ لأنَّه لا يُنْبِئُ عنِ المعقولِ، والقولُ يَدُلُّ على المعقولِ والمحسوسِ، فيَكُونُ أعمَّ فائدةً؛ فهو أَوْلَى، وإنْ عَمَّ القولُ: فالمُتأخِّرُ ناسخٌ في حقِّه وحقِّنا؛ لوجوبِ تَكرارِ الفعلِ في حقِّه، ولوجوبِ التَّأسِّي في حقِّنا، فإنْ جُهِلَ التَّاريخُ: عُمِلَ بالقولِ، على المُختارِ؛ لأنَّ القولَ لم يَختلِفْ في كونِه دالًّا، والفعلُ اختُلِفَ فيه، والمتَّفَقُ عليه أَوْلَى مِن المُختَلَفِ فيه.

والقِسْمُ الثَّالثُ: وهو الَّذِي يَدُلُّ على التَّكرارِ دونَ التَّأسِّي به المُشارُ إليه بقولِه: (وَلَا) تعارُضَ (فِينَا) أي: في حقِّ الأُمَّةِ (مَعَ) دَلالةِ (دَلِيلٍ عَلَى تَكَرُّرٍ) فقط في حقِّه صلى الله عليه وسلم؛ أي: (لَا) مع دَلالةِ دليلٍ على (تأسٍّ) في حَقِّ الأُمَّةِ (إِنِ اخْتَصَّ القَوْلُ بِهِ) صلى الله عليه وسلم، (أَوْ عَمَّهُ) وعَمَّ الأُمَّةَ، فلا مُعارضَ في الأُمَّةِ، سواءٌ تَقَدَّمَ الفعلُ، أو القولُ، لعدمِ تناوُلِ الفعلِ لهم.

(وَ) أمَّا (فِيهِ) أي: في حقِّه صلى الله عليه وسلم: فـ (المُتَأخِّرُ نَاسِخٌ) للمُتقدِّمِ إنْ عُلِمَ التَّأخيرُ، (فَإِنْ جُهِلَ: عُمِلَ بِالقَوْلِ)؛ لأنَّ العملَ بالفعلِ يُبْطِلُ القولَ بالكُلِّيَّةِ، أمَّا في حقِّه عليه السلام: فلعدمِ تناوُلِ القولِ له، وأمَّا في حقِّ الأُمَّةِ: فلوجوبِ العملِ بالفعلِ حينئذٍ، والعملُ بالقولِ لا يُبطِلُ الفعلَ بالكُلِّيَّةِ؛ لأنَّه يَنفي العملَ بالفعلِ بالنِّسبةِ إلى الرَّسولِ صلى الله عليه وسلم، فلو عَمِلْنا بالقولِ

ص: 302

أَمْكَن الجمعُ بينَهما مِن وجهٍ، ولو عَمِلْنا بالفعلِ لم يُمكِنْ، والجمعُ بينَ الدَّليلين مِن وجهٍ أَوْلى.

(وَإِنِ اخْتَصَّ) القولُ (بِنَا: فَلَا) مُعارضةَ (مُطْلَقًا) أي: لا في حَقِّه، ولا في حقِّ الأُمَّةِ، سواءٌ تَقَدَّمَ القولُ، أو الفعلُ؛ لعدمِ تَوارُدِهما على مَحَلٍّ واحدٍ، كما تَقَدَّمَ نظيرُه.

والقِسمُ الرَّابعُ: وهو الَّذِي يَدُلُّ على التَّأسِّي به دونَ تَكرارِ الفعلِ في حقِّه، عكسُ الثَّالثِ المشارِ إليه بقولِه:(وَلَا) تعارُضَ (مَعَهُ) أي: مع الدَّليلِ (عَلَى تَأَسٍّ) به (فَقَطْ) أي: دونَ التَّكرُّرِ في حقِّه صلى الله عليه وسلم.

(وَالقَوْلُ) أي: والحالُ أنَّ القولَ (خَاصٌّ بِهِ، وَتَأَخَّرَ) عنِ الفعلِ (مُطْلَقًا) أمَّا في حقِّه: فلعدمِ تَكَرُّرِ وجوبِ الفعلِ، وأمَّا في حقِّ الأُمَّةِ: فلعدمِ تَوارُدِ القولِ والفعلِ على مَحَلٍّ واحدٍ.

(وَإِنْ تَقَدَّمَ) القولُ على الفعلِ (فَالفِعْلُ نَاسِخٌ) للقولِ (فِي حَقِّهِ) صلى الله عليه وسلم.

(فَإِنْ جُهِلَ: عُمِلَ بِالقَولِ)؛ لِما سَبَقَ.

و (إِنْ اخْتَصَّ) القولُ (بِنَا: فَفِيهِ) أي: في حقِّه صلى الله عليه وسلم (لَا) تعارُضَ، تَقَدَّمَ القولُ أو تَأَخَّرَ؛ لعدمِ توارُدِهما على مَحَلٍّ واحدٍ، (وَ) أمَّا (فِينَا) أي: في حقِّ الأُمَّةِ فـ (المُتَأَخِّرُ ناسِخٌ) للمُتَقَدِّمِ، سواءٌ كانَ قولًا، أو فعلًا، فإنْ جُهِلَ: عُمِلَ بالقولِ.

(وَإِنْ عَمَّ) القولُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وعَمَّ الأُمَّةَ، (فَإِنْ) تَقَدَّمَ الفعلُ على القولِ، و (تَأَخَّرَ) القولُ عنه (فَفِيهِ) أي: في حَقِّه صلى الله عليه وسلم (لَا) مُعارَضَةَ؛ لعدمِ وجوبِ تَكرُّرِ الفعلِ، (وَ) أمَّا (فِينَا) أي: في حقِّ الأُمَّةِ، فـ (القَوْلُ) المُتأخِّرُ

ص: 303

(نَاسِخٌ) للفعلِ قبلَ وُقوعِ التَّأسِّي به، وبعدَه ناسخٌ للتَّكرارِ في حقِّهم، إنْ دلَّ دليلٌ على وجوبِ التَّكرارِ في حقِّه.

(وَإِنْ تَقَدَّمَ) القولُ على الفعلِ (فَالفِعْلُ) المُتأخِّرُ (نَاسِخٌ) للقولِ في حقِّه قبلَ التَّمكُّنِ مِن الإتيانِ بمُقتضى القولِ، إلَّا أنْ يَتناوَلَ العُمومُ له ظاهرًا، فإنَّه يَكُونُ الفعلُ تخصيصًا للقولِ، وفي حقِّ الأُمَّةِ إنْ كانَ الدَّليلُ على وجوبِ التَّأسِّي مَخصوصًا بذلك الفعلِ: فنسخٌ، وإلَّا فتخصيصٌ.

(وَ) إنْ كانَ ذلك (بَعْدَ تَمَكُّنٍ مِنَ العَمَلِ) بمُقتضى القولِ فـ (لَا تَعَارُضَ) في حقِّه ولا في حقِّ الأُمَّةِّ، (إِلَّا أَنْ يَقْتَضِيَ القَوْلُ التَّكْرَارَ) في حقِّه، فإنْ جُهِلَ (فَالفِعْلُ) المُتأخِّرُ (نَاسِخٌ لَهُ) أي: للقولِ، وهي مِن تَتِمَّةِ الَّتي قَبْلَها.

(فَإِنْ جُهِلَ) التَّاريخُ في هذه المسائلِ (عُمِلَ بِالقَوْلِ فِيهِنَّ) لِما سَبَقَ.

(فَائِدَةٌ)

لهذه الفائدةِ تَعَلُّقٌ بما قَبْلَها مِن الأفعالِ.

(فِعْلُ صَحَابِيٍّ) أي: إذا فَعَلَ الصَّحابِيُّ فعلًا، فهو (مَذْهَبٌ لَهُ) في الأصحِّ.

وقالَ القاضي: فعلُ الصَّحابيِّ إذا خَرَجَ مَخْرَجَ القُربةِ يَقتضي الوُجوبَ، كفِعلِه عليه الصلاة والسلام

(1)

.

وقد قال قومٌ: لو تُصُوِّرَ اتِّفاقُ أهلِ الإجماعِ على عملٍ لا قولَ منهم فيه، كانَ كفِعلِ الرَّسولِ صلى الله عليه وسلم لثبوتِ العصمةِ.

(1)

ينظر: «أصول الفقه» (1/ 364)، و «التحبير شرح التحرير» (3/ 1515).

ص: 304

(بَابٌ)

(الإِجْمَاعُ لُغَةً: العَزْمُ وَالِاتِّفَاقُ) قال اللهُ تعالى: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ}

(1)

أي: اعزِمُوه.

ويَصِحُّ إطلاقُه على الواحدِ، يُقالُ: أَجمَعَ فلانٌ على كذا؛ أي: عَزَمَ عليه، ويُقالُ: أَجمَعَ القومُ على كذا؛ أي: اتَّفَقُوا عليه، فكلُّ أمْرٍ من الأمورِ اتَّفَقَتْ عليه طائفةٌ فهو إجماعٌ لُغَةً.

(وَ) الإجماعُ (اصْطِلاحًا: اتِّفَاقُ مُجْتَهِدِي) هذه (الأُمَّةِ).

فقولُه: «اتِّفاقُ» احتِرازٌ مِن الاختلافِ، فلا يَكُونُ إجماعًا مع الاختلافِ، والمرادُ بالاتِّفاقِ: اتِّحادُ الاعتقادِ، فيَعُمُّ الأقوالَ، والأفعالَ، والسُّكوتَ، والتَّقريرَ.

وقولُه: «مُجتهدي الأُمَّةِ» احتِرازٌ مِن غيرِ أُمَّةِ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّ إطلاقَ لفظِ الأمَّةِ يَنصرفُ إليها دونَ سائرِ الأُممِ.

وقولُه: (فِي عَصْرٍ) يَشمَلُ أيَّ عصرٍ كانَ، احتِرازٌ عن قولِ مَن قال: إنَّ الإجماعَ مخصوصٌ بالصَّحابةِ.

وقولُه: (عَلَى أَمْرٍ) يَعُمُّ جميعَ الأمورِ مِن: الفعلِ، والأمرِ الدُّنيويِّ، واللُّغويِّ، وغيرِهما، وإنَّما أُبْرِزَ قولُه:(وَلَوْ فِعْلًا) مع دُخولِه في قولِه: «على أمرٍ» ؛ للإيضاحِ والبيانِ والتَّأكيدِ، والاجتهادُ إِنَّمَا يَكُونُ (بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ لقولِه تعالى:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}

(2)

، والمشروطُ عُدِمَ عندَ عدمِ شَرطِه، فاتِّفاقُهم كافٍ.

(1)

يونس: 71.

(2)

النِّساء: 59.

ص: 305

وقد اختلفَ العلماءُ فيما إذا اتَّفقوا على فِعلٍ فَعَلوه، أو فَعَلَ البعضُ وسَكَتَ البعضُ مع عِلمِهم: هل يَكونُ إجماعًا أم لا؟ والأرجحُ أنَّه يَنعقِدُ به الإجماعُ؛ لعصمةِ الأُمَّةِ، فيَكُونُ كالقولِ المُجمَعِ عليه، وكفعلِ الرَّسولِ صلى الله عليه وسلم.

قال بعضُ أصحابِنا: هذا قولُ الجمهورِ، حَتَّى أحالوا الخطأَ مِنهم إذا لم يَشتَرطوا انقراضَ العصرِ.

ويَتَفَرَّعُ على هذه المسألةِ: إذا فَعَلُوا فِعلًا قُربَةً، ولكنْ لا يُعلَمُ هل فَعَلُوه واجبًا، أو مندوبًا، فمُقتضى القياسِ: أنَّه كفعلِ الرَّسولِ صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّا أُمِرْنا باتِّباعِهم كما أُمِرْنا باتِّباعِه صلى الله عليه وسلم.

(وَهُوَ) أي: الإجماعُ (حُجَّةٌ قَاطِعَةٌ) عندَ الأئمَّةِ الأربعةِ وغيرِهم، ودَلالَةُ كَوْنِ الإجماعِ حُجَّةً قاطعةً (بِالشَّرْعِ) فقطْ عندَ أكثرِ العلماءِ، وذلك للأدِلَّةِ الواردةِ مِن الكتابِ والسُّنَّةِ في ذلك:

منها: قولُه تعالى: {وَلَا تَفَرَّقُوا}

(1)

، وخلافُ الإجماعِ تَفَرُّقٌ، والنَّهيُ عنِ التَّفرُّقِ لَيْسَ في الاعتصامِ؛ للتَّأكيدِ ومخالفةِ الظَّاهرِ، وتخصيصُه بها قبلَ الإجماعِ لا يَمنَعُ الاحتجاجَ به، ولا يَختَصُّ الخطابُ بالموجودينَ زَمَنَه صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّ التَّكْلِيفَ لكلِّ مَن وُجِدَ مُكَلَّفًا كما سَبَقَ.

ومنها: قولُه تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}

(2)

، فلو اجتمعوا على باطلٍ، كانوا قد اجتمعوا على مُنكَرٍ لم يَنْهَوا عنه، ومعروفٍ لم يَأْمُروا به، وهو خلافُ ما وَصَفَهم اللهُ تعالى به، ولأنَّه جَعَلَهم أُمَّةً وسطًا؛ أي: عُدولًا ورَضِيَ

بشهادتِهم مطلقًا

(1)

آل عمران: 103.

(2)

آل عمران: 110.

ص: 306

ومنها: قولُه صلى الله عليه وسلم: «عَلَيْكُمْ بِالجَمَاعَةِ فَإِنَّ اللهَ تعالى لَمْ يَجْمَعَ أُمَّتِي إِلاَّ عَلَى هُدًى» رَوَاه أحمدُ عنْ أبي ذَرٍّ

(1)

.

وعن أبي مالكٍ الأَشْعَرِيِّ مرفوعًا: «إِنَّ اللَّهَ تعالى أَجَارَكُمْ مِنْ ثَلَاثِ خِلَالٍ: ألَّا يَدْعُوَ عَلَيْكُمْ نَبِيُّكُمْ فَتَهْلِكُوا جَمِيعًا، وَألَّا يَظْهَرَ أَهْلُ البَاطِلِ عَلَى أَهْلِ الحَقِّ، وَألَّا تَجْتَمِعُوا عَلَى ضَلَالَةٍ» رَوَاه أبو داود

(2)

.

وروى التِّرمذيُّ عن ابنِ عُمَرَ مرفوعًا: «لَا تَجْتَمِعُ هَذِهِ الأُمَّةُ عَلَى ضَلَالَةٍ أَبَدًا»

(3)

.

وعن أبي هُرَيْرَةَ مرفوعًا: «مَنْ خَرَجَ مِنَ الطَّاعَةِ، وَفَارَقَ الجَمَاعَةَ فَمَاتَ، مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً» مُتَّفقٌ عليه

(4)

.

وأَجمَعُوا على القَطعِ بتَخطئةِ المُخالِفِ، والعادةُ تُحِيلُ إجماعَ عددٍ كثيرٍ مِن المُحقِّقينَ على قطعٍ في شرعيٍّ مِن غيرِ قاطعٍ، فوَجَبَ تقديرُ نصٍّ فيه.

وأجمعوا أيضًا على تَقديمِه على الدَّليلِ القاطعِ، فكانَ قاطعًا، وإلَّا تَعارَضَ الإجماعانِ لتقديمِ القاطعِ على غيرِه إجماعًا.

وهذانِ الإجماعانِ لا يَلْزَمُ أنَّ عَدَدَهما عددُ التَّواتُرِ، وإنْ لَزِمَ فيهما فلا يَلْزَمُ في كلِّ إجماعٍ.

(1)

«مسند أحمد» (21688)، وضعَّفَه ابنُ المُلقِّنِ في «تذكرةُ المحتاجِ إلى أحاديثِ المنهاجِ» (1/ 52).

(2)

«سُنن أبي داود» (4253).

(3)

«جامعُ التِّرمذيِّ» (2167) وقال: حديثٌ غريبٌ.

(4)

إنَّما رواه مسلمٌ (1848) من حديثِ أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، واتَّفَقَا عليه مِن حديثِ ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما، رواه البخاريُّ (7054)، ومسلمٌ (1849).

ص: 307

(وَيَثْبُتُ) الإجماعُ (بِخَبَرِ الوَاحِدِ) عندَ أكثرِ العلماءِ؛ لأنَّ نَقْلَ الواحدِ للخبَرِ الظَّنِّيِّ مُوجِبٌ للعملِ به قطعًا، فنقلُ الواحدِ للدَّليلِ القَطعيِّ الَّذِي هو الإجماعُ أَوْلَى بوجوبِ العملِ؛ لأنَّ احتمالَ الضَّررِ في مخالفةِ المقطوعِ أكثرُ مِن احتمالِه في مخالفةِ المَظنونِ، واحتمالُ الغلطِ لا يَقدَحُ في وجوبِ العملِ قطعًا، كخبَرِ الواحدِ.

(وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ) أي: في انعقادِ الإجماعِ عندَ العلماءِ (وِفَاقُ:

(1)

العَامَّةِ) للمُجتهدينَ على الصَّحيحِ، سواءٌ كانَتْ مَسائلُه مشهورةً أو خَفِيَّةً، وإنَّما يُعتبَرُ قولُ المُجتهدينَ فقطْ؛ لقولِه تعالى:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}

(1)

، فرَدَّ العَوَامَّ إلى قولِ المُجتهدينَ.

(2)

(وَلَا) يُعتبَرُ أيضًا في انعقادِ الإجماعِ وِفاقُ (مَنْ عَرَفَ الحَدِيثَ) فقطْ، (أَوِ اللُّغَةَ، أَوْ) عِلْمَ (الكَلَامِ، وَنَحْوَهِ) كالعَربيَّةِ، والمعاني، والبيانِ، والتَّصريفِ؛ لأنَّه مِن جُملَةِ المُقلِّدينَ، فلا يُعتبَرُ مُخالَفَتُهم.

(أَوْ) أي: ولا يُعتبَرُ وِفاقُ مَن عَرَفَ (الفِقْهَ) فقطْ في مسألةٍ في أُصولِه (أَوْ) عَرَفَ (أُصُولَهُ) أي: أصولَ الفقهِ في مسألةٍ في الفقهِ على الصَّحيحِ؛ لأنَّ مِن شرطِ الإجماعِ اتِّفاقَ المُجتهدينَ، فمَن لم يَكُنْ مِن المُجتهدينَ فهو مِن المُقلِّدِينَ؛ لأنَّه لا واسطةَ بينَهما، فعلى هذا لا يُعتَدُّ بقولِه ولا بخلافِه.

(3)

(أَوْ) أي: وكذا مَن (فاتَه بَعْضُ شُرُوطِهِ) أي: شروطِ الاجتهادِ يَعني لا اعتبارَ بقولِه في الإجماعِ؛ لأنَّه لَيْسَ مِن المُجتهدينَ.

(1)

النَّحل: 43.

ص: 308

قالَ المجدُ

(1)

: مَن أَحكَمَ أَكْثَرَ أَدواتِ الاجتهادِ، ولم يَبْقَ له إلَّا خَصْلةٌ، أو خَصْلتانِ، اتَّفَقَ الفقهاءُ والمُتكلِّمونَ على أنَّه لا يُعتَدُّ بخلافِه، خلافًا للبِاقِلَّانِيِّ.

(4)

(وَلَا) يُعتبَرُ أيضًا في الإجماعِ: قولُ (كَافِرٍ) مُطلقًا، سواءٌ كانَ مُتَأَوِّلًا: وهو المُخطِئُ في الأصولِ، أو غيرَه: كالمُرتدِّ؛ لخروجِ الكلِّ عنِ المِلَّةِ، فلا يَتَنَاوَلُهم مُسَمَّى الأُمَّةِ المشهودِ لهم بالعِصمةِ.

أمَّا الكافرُ الأصليُّ والمُرتدُّ: فلا نِزاعَ بينَ الأُمَّةِ أنَّ قولَهم لا يُعتبَرُ في الإجماعِ، ولوِ انتهى إلى رُتبَةِ الاجتهادِ؛ لِما عُلِمَ مِن اختصاصِ الأُمَّةِ بأُمَّةِ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.

ومَحَلُّ الخلافِ في المُبتدِعِ إذا كَفَّرْناه (بِبِدْعَتِـ) ـه، وتحريرُ القولِ في ذلك: أنَّ عندَ مَن كَفَّرَه ببدعةٍ لا يُعتَدُّ بقولِه في الإجماعِ (عِنْدَ مُكَفِّرِهِ) بارتكابِ تلك البدعةِ، ومَن لا يُكَفِّرُه فهو عندَه مِن المُبتدعةِ الَّذين يُحكَمُ بفِسقِهم، وهمُ القِسْمُ الآتي بعدَ هذه المسألةِ.

قالَ المُوَفَّقُ

(2)

في «الرَّوضةِ» : لا يُعتَدُّ بقولِ كافرٍ، سواءٌ كانَ بتأويلٍ أو بغيرِ تأويلٍ

(3)

.

وقالَه الطُّوفِيُّ في «مُختَصَرِه» وزادَ: وقيلَ: المُتَأَوِّلُ كالكافرِ عندَ المُكَفِّرِ دونَ غيرِه

(4)

.

(1)

«المسودة في أصول الفقه» (ص 331).

(2)

هنا نهايةُ السَّقطِ في (د).

(3)

«روضة النَّاظرِ» (1/ 395).

(4)

«شرح مختصر الرَّوضة» (3/ 37).

ص: 309

قالَ في «شرحِ الأصلِ» : ولا فائدةَ في هذا القولِ، ولا ثمرةَ؛ إذْ مَحَلُّ الخلافِ

(1)

في المَحكومِ بكُفْرِه

(2)

.

(5)

(وَلَا) يُعتبَرُ فيه أيضًا: قولُ مجتهدٍ (فَاسِقٍ مُطْلَقًا) أي: سواءٌ كانَ فِسقُه مِن جهةِ الاعتقادِ: كالرَّفضِ والاعتزالِ، أو مِن جهةِ الأفعالِ: كشُربِ الخمرِ، والزِّنا، والرِّبا، ونَحوِها، وهذا هو الصَّحيحُ.

قالَ الأستاذُ أبو منصورٍ: قال أهلُ السُّنَّةِ: لا يُعتبَرُ في الإجماعِ وفاقُ القَدَرِيَّةِ والخَوارجِ والرَّافضةِ

(3)

. انتهى.

وذلك لأنَّه لا يُقبَلُ قولُه، ولا يُقَلَّدُ في فتوى، كالكافرِ والصَّبِيِّ، لكنْ قال ابنُ السَّمْعَانِيِّ: هذا في الفاسقِ بلا تأويلٍ، أمَّا الفاسقُ بتأويلٍ فمُعتبَرٌ في الإجماعِ كالعدلِ.

(وَلَا يَنْعَقِدُ) الإجماعُ عندَ الإمامِ أحمدَ والأكثرِ (مَعَ مُخَالِفَةِ) مجتهدٍ (وَاحِدٍ)؛ لأنَّه لا يُسَمَّى إجماعًا مع المُخالفةِ؛ لأنَّ الدَّليلَ لم ينهضْ إلَّا في كلِّ الأمَّةِ

(4)

لأنَّ المُؤمنَ لفظٌ عامٌّ، والأُمَّةُ موضوعةٌ للكُلِّ.

قالوا: يُطلَقُ الكلُّ على الأكثرِ.

قُلْنا: معارَضٌ بما دَلَّ على قلَّةِ أهلِ الحقِّ، مِن نحوِ:{كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً}

(5)

، {وَقَلِيلٌ مَا هُمْ}

(6)

، {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}

(7)

(1)

في «التحبير شرح التَّحريرِ» : المسألة.

(2)

«التحبير شرح التَّحريرِ» (4/ 1559).

(3)

ينظر: «الفوائد السَّنية في شرح الألفية» (1/ 419)، و «التحبير شرح التحرير» (4/ 1559).

(4)

في (ع): الأُمَّة.

(5)

البقرة: 249.

(6)

ص: 24.

(7)

سبأ: 13.

ص: 310

وعكسُه كثرةُ أهلِ الباطلِ، نَحوُ:{أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ}

(1)

، {لَا يَعْلَمُونَ}

(2)

، {لَا يَشْكُرُونَ}

(3)

، {لَا يُؤْمِنُونَ}

(4)

، وإذًا: مِن الجائزِ إصابةُ الأقلِّ وخطأُ الأكثرِ، كما كَشَفَ الوحيُ عن إصابةِ عمرَ في

(5)

أَسرى بدرٍ

(6)

.

فائدةٌ: فُهم مِمَّا تَقَدَّمَ وممَّا يَأتي: أنَّ الإجماعَ لا يَختَصُّ بالصَّحابةِ، وهذا عندَ جماهيرِ العلماءِ؛ للأدلَّةِ الواردةِ في قَبولِ الإجماعِ مِن غيرِ تفريقٍ بينَ عصرٍ وعصرٍ، فشَمِلَتْهم الأدِلَّةُ، ولأنَّ معقولَ السَّمعيِّ إثباتُ الحُجَّةِ الإجماعيَّةِ مُدَّةَ التَّكْلِيفِ وليسَ مُختصًّا بعصرِ الصَّحابةِ.

(وَتُعْتبَرُ) لارتفاعِ الإجماعِ: (مُخَالَفَةُ مَنْ) أي: مجتهدٍ (صَارَ أَهْلًا) للاجتهادِ، (قَبْلَ انْقِرَاضِ العَصْرِ) يَعني: إذا اجتمعَ أهلُ العصرِ على حُكْمٍ، فنَشَأَ مجتهدٌ قبْلَ انقراضِهم، فخالَفَهُمْ: ارتفعَ الإجماعُ على الأصحِّ، (وَلَوْ) كانَ المُخالِفُ لهم (تَابِعِيًّا مَعَ) إجماعِ (الصَّحَابَةِ) لِما يَأتي مِن أنَّ انقراضَ العصرِ مُعتبَرٌ لانعقادِ الإجماعِ، فلا إجماعَ للصَّحابةِ مع مخالفةِ تابعيٍّ مجتهدٍ عندَ أحمدَ والأكثرِ؛ لأنَّه مجتهدٌ مِن الأُمَّةِ، فلا يَنهَضُ الدَّليلُ بدونِه، ولأنَّ الصَّحابةَ سَوَّغُوا اجتهادَهم وفتواهم مَعَهم في الوقائعِ الحادثةِ في زمانِهم، وإذا اعتُبِرَ قولُهم في الاجتهادِ فلْيُعتبَرْ في الإجماعِ؛ إذ لا يَجُوزُ مع تسويغِ الاجتهادِ تركُ الاعتدادِ بقولِهم وِفاقًا، واختصاصُ الصَّحابةِ

(1)

العنكبوت: 63، الحجرات:4.

(2)

البقرة: 13، وآيات كثيرة.

(3)

البقرة: 243، وآيات أخرى.

(4)

البقرة: 6، وآيات كثيرة.

(5)

زاد في (د)، (ع): إصابةِ.

(6)

رواه مسلم (1763).

ص: 311

بالأوصافِ الشَّريفةِ لا يَمنَعُ مِن الاعتدادِ بذلك، وإلَّا لَزِمَ ألَّا تُقبَلَ الأنصارُ مع خلافِ المهاجرينَ، والمهاجرون مع العَشَرةِ، ولا قولُهم مع الخلفاءِ الأربعةِ وهَلُمَّ جَرًّا؛ لظهورِ التَّفاوُتِ والتَّفاضُلِ، ولم يَقُلْ به أحدٌ.

إذا عَلِمْتَ ذلك: فلا فرقَ بينَ أن يَكُونَ المُخالِفُ للمُجتهدِ تابعيًّا مع الصَّحابةِ، (أَوْ) يَكُونَ (تَابِعُهُ) أي: تابعُ التَّابعيِّ (مَعَ التَّابِعِينَ) كما سبقَ.

تنبيهٌ: إذا انعقدَ الإجماعُ، ثمَّ حَدَثَ مجتهدٌ

(1)

، فإنْ وافَقَهم: فلا كلامَ، وإنْ سَكَتَ: لم يَقدَحْ في الإجماعِ؛ لأنَّ سُكوتَه لا يَدُلُّ على المُخالفةِ، فـ (لَا) تُعتبَرُ (مُوَافَقَتُهُ) لِما أجمعوا عليه، بل يُعتبَرُ عدمُ خلافِه على الأصحِّ.

(وَلَيْسَ إِجْمَاعُ الأُمَمِ الخَالِيَةِ) حُجَّةً عندَ المَجدِ والأكثرِ.

وقالَ بعضُهم: إنْ كانَ سَنَدُهم قطعيًّا: فحُجَّةٌ، أو ظَنِّيًّا: فالوقفُ.

(وَلَا) إجماعُ (أَهْلِ المَدِينَةِ حُجَّةً) عندَ جماهيرِ العلماءِ؛ لأنَّ العصمةَ مِن الخطأِ إِنَّمَا تُنسَبُ للأُمَّةِ كلِّها، وهم بعضُ الأُمَّةِ لا كلُّها، ولا مَدخَلَ للمكانِ في الإجماعِ؛ إذْ لا أثرَ لفضيلتِه

(2)

في عصمةِ أهلِه بدليلِ مَكَّةَ المُشرَّفةِ.

(وَلَا) أي: وليسَ (قَوْلُ الخُلَفَاءِ الأَرْبَعَةِ) وهم: أبو بكرٍ، وعمرُ، وعثمانُ، وعليٌّ، رضي الله عنهم بإجماعٍ، ولا حُجَّةَ مع مخالفةِ مجتهدٍ، وهو الصَّحيحُ عندَ الأئمَّةِ؛ لأنَّهم ليسوا كلَّ الأمَّةِ الَّذين جُعِلَتِ الحُجَّةُ في قَولِهم، ولأنَّ ابنَ عبَّاسٍ خالَفَ جميعَ الصَّحابةِ في خمسِ مسائلَ في الفرائضِ انْفَرَدَ بها، وابنَ مسعودٍ في أربعٍ، وغيرَهما في غيرِ ذلك، ولم يَحتَجَّ عليهم أحدٌ بإجماعِ

(1)

من التابعين. كما في «التحبير شرح التحرير» (4/ 1578).

(2)

في (ع): لفضيلة.

ص: 312

الخلفاءِ الأربعةِ، وأمَّا حديثُ:«عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ المَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي، تَمَسَّكُوا بِهَا، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ»

(1)

فسياقُه فيما يَكُونُ حُجَّةً مِن حُجَجِ الشَّرعِ، وإنَّما الجوابُ: أنَّ المُرادَ ألَّا يَبتدِعَ الإنسانُ بما لم يَكُنْ في السُّنَّةِ ولا فيما عليه الصَّحابةُ في زَمَنِ الخلفاءِ الأربعةِ؛ لقُربِ عهدِهم بتَلَقِّي الشَّرعِ.

فَرْعٌ: لا يَلْزَمُ الأَخْذُ بِقَوْلِ أَفْضَلِهِمْ (وَلَا) يَعني: وليسَ قَوْلُ (أَهْلِ البَيْتِ) بإجماعٍ ولا حُجَّةٍ عندَ الأربعةِ وغيرِهم؛ للأدلَّةِ السَّابقةِ العامَّةِ في ذلك وغيرِه.

(وَ) أهلُ البيتِ (هُمْ: عَلِيٌّ، وَ) زوجتُه (فَاطِمَةُ) بنتُ رسولِ صلى الله عليه وسلم (وَنَجْلَاهَا

(2)

-بنونٍ وجيمٍ- وهما: حسنٌ وحُسَيْنٌ، في الأصحِّ؛ لقولِه تعالى:{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ}

(3)

لروايةِ شَهْرِ بنِ حَوْشَبٍ، عن أُمِّ سَلَمَةَ: أنَّ هذه الآيةَ لمَّا نزلتْ جَلَّلَ عَليهمْ بِكِسَاءٍ وقَالَ: «اللَّهُمَّ هَؤُلَاءِ أَهْلُ بَيْتِي وَخَاصَّتِي فَأَذْهِبْ عَنْهُمُ الرِّجْسَ وَطَهِّرْهُمْ تَطْهِيرًا» ، فقالت أُمُّ سَلَمَةَ: وَأَنَا مَعَكُمْ. فقَالَ: «إِنَّكِ إِلَى خَيْرٍ» . رَوَاه أحمدُ والتِّرمذيُّ وصحَّحَه

(4)

.

(1)

رواه أبو داودَ (4607)، والتِّرمذيُّ (2676)، وابنُ ماجه (42) مِن حديثِ العِرْبَاضِ بنِ ساريةَ رضي الله عنه.

قالَ التِّرمذيُّ: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.

(2)

في (ع): ونجلاهما.

(3)

الأحزاب: 33.

(4)

رواه أحمدُ (27240)، والتِّرمذيُّ (3871) وقال: حسنٌ صحيحٌ.

ص: 313

وقيلَ: أهلُ البيتِ: أزواجُه، وقيلَ: أهلُه وأزواجُه.

وعلى الصَّحيحِ: ليسَ قولُهم (بِإِجْمَاعٍ، وَلَا حُجَّةٍ، مَعَ مُخَالَفَةِ مُجْتَهِدٍ) واحدٍ؛ لِما تَقَدَّمَ.

(وَمَا عَقَدَهُ أَحَدُ) الخلفاءِ (الأَرْبَعَةِ) رَضِيَ اللهُ تعالى عنهم أجمعينَ (مِنْ صُلْحٍ) كعقدِ عمرَ صُلحَ بني تَغْلِبَ

(1)

، (وَ) عقدِ (خَرَاجِ) السَّوادِ

(2)

، (وَ) مِن (جِزْيَةٍ) وما جَرى مَجْرى ذلك:(لَا يَجُوزُ نَقْضُهُ) عندَ أكثرِ أصحابِنا.

وقيلَ: يَجُوزُ نَقضُه إذا رأى الإمامُ ذلك، فيَكُونُ حُكْمُه

(3)

حُكْمَ رأيِه في جميعِ المَسائلِ؛ لأنَّ المصالحَ تَختلِفُ باختلافِ الأزمنةِ، قال في «شرحِه»: وهذا الصَّحيحُ عندَ أصحابِنا المُتأخِّرينَ

(4)

، واللهُ أعلمُ.

(1)

رواه البيهقي (9/ 365).

(2)

يعني: أرض السواد بالعراق.

(3)

ليست في (د).

(4)

«شرح الكوكب المنير» (2/ 245).

ص: 314

(فَصْلٌ)

(يُعْتَبَرُ) لصِحَّةِ انعقادِ الإجماعِ عندَ الإمامِ أحمدَ وأكثرِ أصحابِه: (انْقِرَاضُ العَصْرِ)، وظاهرُه: لا فرقَ بينَ إجماعِ الصَّحابةِ وغيرِهم على الصَّحيحِ، ولا بينَ الإجماعِ السُّكوتِيِّ وغيرِه، خلافًا للآمِدِيِّ وغيرِه، ولا بينَ القياسِ وغيرِه، خلافًا لإمامِ الحرمينِ، وسواءٌ كانَ فيه مهلةٌ، أو لا مُهلَةَ فيه، مِمَّا لا يُمكِنُ استدراكُه: مِن قتلِ نفسٍ، أو استباحةِ فَرجٍ، خلافًا لبعضِ أصحابِ الشَّافعيِّ، وسواءٌ بَقِيَ منهم عددُ التَّواتُرِ ورَجَعوا، أو أقلُّ، خلافًا للبَاقِلَّانِيِّ وغيرِه، والَّذي عليه الأكثرُ: لا يُشتَرَطُ الانقراضُ.

واستُدِلَّ لأحمدَ ومَن تابَعَه بقولِه تعالى: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}

(1)

، ومَنْعُهم مِنَ الرُّجوعِ مُفضٍ

(2)

كونَهم شهداءَ على أنفُسِهم.

(وَهُوَ) أي: الانقراضُ: (مَوْتُ مَنِ اعْتُبِرَ فِيهِ) أي: في الإجماعِ، مِن المُجتهدينَ لا غيرِهم على الصَّحيحِ.

(فَيَسُوغُ لَهُمْ) أي: لمُجتهدي العصرِ كلِّهم، (وَلِبَعْضِهِمْ الرُّجُوعُ) عن إجماعِهم (لِدَلِيلٍ) يَقتضيه، (وَلَوْ) كانَ رُجُوعُهم (عَقِبَهُ) أي: عَقِبَ إجماعِهم على الحُكْمِ؛ لأنَّ الإجماعَ لم يَستقرَّ؛ لأنَّه إِنَّمَا يَستقرُّ بعدَ موتِ مَنِ اعتُبِرَ فيه.

تنبيهٌ: المُشتَرطونَ للانقراضِ لا يَمنَعُون كَوْنَ الإجماعِ حُجَّةً قبلَ الانقِراضِ، بل يَقولون: يُحتَجُّ به، لكن لو رَجَعَ راجعٌ: قَدَحَ، أو حَدَثَ مُخالِفٌ: قَدَحَ.

(1)

البقرة: 143.

(2)

في (د): بعض.

ص: 315

ونظيرُه أنَّ ما يَقولُه الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم، أو يَفعَلُه: حُجَّةٌ في حياتِه، وإنِ احتُملَ أن يَتَبَدَّلَ بنسخٍ؛ عملًا بالأصلِ في الموضعَينِ، فإذا رَجَعَ تَبَيَّنَ أنَّهم كانوا على خطأٍ لا يُقرُّون عليه، بخلافِه صلى الله عليه وسلم، فإنَّ قولَه وفعلَه حقٌّ في الحالَينِ.

و (لَا) يُعتبَرُ (عَدَدُ تَوَاتُرٍ

(1)

في الإجماعِ عندَ أصحابِنا والأكثرِ، كدليلِ السَّمعِ؛ لأنَّ المقصودَ اتِّفاقُ مُجتهدي الأمَّةِ وقد حَصَلَ، (فَـ) على هذا (لَوْ لَمْ يَكُنْ) أي: لم يُوجَدْ في ذلك العصرِ (إِلَّا) مجتهدٌ (وَاحِدٌ) ولم يَصِرْ مُخالِفٌ أهلًا

(2)

حَتَّى ماتَ ذلك الواحدُ، أو قلَّ عددُ الاجتهادِ، فلم يَبْقَ إلَّا الواحدُ والاثنانِ لفتنةٍ أو غيرِها اسْتَوْعَبَتْهم والعياذُ باللهِ، كما قلَّ القرَّاءُ في قتالِ أهلِ الرِّدَّةِ بكثرةِ مَن قُتِلَ مِن المسلمينَ:(فَإِجْمَاعٌ) يَعني كانَ مَن بَقِيَ مِن المسلمينَ مُستَقِلًّا بالإجماعِ ولم يَنْخَرِمِ الإجماعُ لعدمِ الكثرةِ.

تنبيهٌ: قال ابنُ عَقِيلٍ: إذا كانَ هذا العددُ القليلُ يَصلُحُ لإثباتِ أصلِ الإجماعِ المقطوعِ به، فأَوْلَى أن يَصلُحَ لفكِّ الإجماعِ واختلالِه بمخالفتِه

(3)

.

(وَقَوْلُ مُجْتَهِدٍ) واحدٍ: إجماعٌ ظَنِّيٌّ، وحيثُ قُلْنا: إنَّه إجماعٌ أو حُجَّةٌ، يُشتَرَطُ له شروطٌ:

أحدُها: أنْ يَكُونَ قولُه: (فِي) مسألةٍ (اجْتِهَادِيَّةٍ تَكْلِيفِيَّةٍ) فخَرَجَ ما ليسَ مِن مسائلِ التَّكْلِيفِ، كقولِ القائلِ مَثَلًا: عمَّار

(4)

أفضلُ مِن حُذيفةَ، وبالعكسِ.

(1)

في «مختصر التحرير» (ص 102): التواتر.

(2)

ليست في «د» .

(3)

«الواضح في أصول الفقه» (5/ 137).

(4)

في (د)، (عباد). والمثبت من نسخة بحاشية (ع).

ص: 316

والثَّاني: أنْ يَكُونَ في مَحَلِّ الاجتهادِ لا في غيرِه.

والثَّالثُ: أنْ يَطَّلِعوا عليه، وهو المُرادُ بقولِه:(إِنِ انْتَشَرَ) فخَرَجَ ما لم يَطَّلِعْ عليه السَّاكتون، فإنَّه لا يَكُونُ حُجَّةً قطعًا، وهل المُرادُ القطعُ باطِّلاعِهم، أو غلبةُ الظَّنِّ؟

قُلْتُ: ظاهرُ قواعدِ المذهبِ أنَّه يَكفي غلبةُ الظَّنِّ بذلك لانتشارِه وشهرتِه؛ لأنَّ ذلك الإجماعَ ظَنِّيٌّ.

(وَ) الرَّابعُ: إنْ (مَضَتْ مُدَّةٌ يُنْظَرُ فِيهَا) ذلك القولُ عادةً في تلك الحالةِ، فخَرَجَ ما إذا لم يَمْضِ مُدَّةُ النَّظرِ، لاحتمالِ أنْ يَكُونَ السَّاكتُ في مهلةِ النَّظرِ.

(وَ) الخامسُ: إنْ (تَجَرَّدَ) قولُ المُجتهدِ (عَنْ قَرِينَةِ رِضًا وَسَخَطٍ) وإنْ لم يُصَرِّحوا به، فخَرَجَ ما كانَ هناك أمارةُ سخطٍ، فإنَّه ليسَ بحُجَّةٍ بلا خلافٍ، كما أنَّه إذا كانَ معه أمارةُ رِضًا يَكُونُ إجماعًا بلا خلافٍ، كما

(1)

قال بعضُهم.

(وَ) السَّادسُ: إنْ (لَمْ يُنْكَرْ) ذلك مع طولِ الزَّمانِ.

والسَّابعُ: أنْ يَكُونَ (قَبْلَ اسْتِقْرَارِ المَذَاهِبِ) فأمَّا بعدَ استقرارِها فلا أَثَرَ للسُّكُوتِ قطعًا، كإفتاءِ مُقَلِّدٍ سَكَتَ عنه المُخالفونَ للعِلْمِ بمَذهَبِهم ومذهبِه، كحنبليٍّ يُفتي بنقضِ الوضوءِ بمسِّ الذَّكَرِ، فلا يَدُلُّ سُكُوتُ مَن يُخالِفُه كالحَنفيَّةِ على موافقتِه، وحيثُ تَوَفَّرَتْ هذه الشُّروطُ للمُجتهدِ، فقولُه:(إِجْمَاعٌ ظَنِّيٌّ)؛ لأنَّ الظَّاهرَ المُوافقةُ، لبُعدِ سُكُوتِهم عادةً.

و (لَا) يَكُونُ (الأخْذُ بِأَقَلِّ مَا قِيلَ) إجماعًا (كَدِيَةِ الكِتَابِيِّ) كاليهوديِّ (الثُّلُثُ) مِثْلُ قولِ الشَّافعيِّ رحمه الله: إنَّ دِيَةَ اليهوديِّ ثُلُثُ دِيَةِ المسلمِ، فإنَّه لا

(1)

ليست في (د).

ص: 317

يَصِحُّ أنْ يَتَمَسَّكَ في إثباتِه بالإجماعِ، ويَقولَ: إنَّ الأمَّةَ لا تَخرُجُ عنِ القائلِ بالكلِّ وبالنِّصفِ وبالثُّلُثِ، والكلُّ قائلون بالثُّلُثِ، وهذا ليسَ بصحيحٍ؛ لأنَّ قولَه يَشتملُ على وجوبِ الثُّلُثِ ونَفيِ الزَّائدِ. والإجماعُ لم يَدُلَّ على نفيِ الزَّائدِ، بل على وجوبِ الثُّلُثِ فقطْ، وهو بعضُ المُدَّعَى، فالثُّلُثُ وإنْ كانَ مُجمَعًا عليه لكنَّ نَفيَ الزِّيادةِ لم يَكُنْ مُجمَعًا عليه، فالمجموعُ لا يَكُونُ مُجمَعًا عليه، والقائلُ بالثُّلُثِ مطلوبُه مُرَكَّبٌ مِن أمرينِ: الثُّلُثُ، ونفيُ الزِّيادةِ، فلا يَكُونُ مَذهبُه مُتَّفَقًا عليه، فإنْ أَبْدَى نفيَ الزِّيادةِ بوجودِ المانعِ مِن الزِّيادةِ، أو بنفيِ شَرطِ الزِّيادةِ، أو أَبْدَى نَفْيَ الزِّيادةِ بالاستصحابِ: لم يَكُنْ حينئذٍ نفيُ الزِّيادةِ ثابتًا بالإجماعِ، وتَمَسُّكُ الشَّافعيِّ وأتباعِه بذلك إِنَّمَا هو للبَراءةِ الأصليَّةِ، ولذلك كانَ فَرضُ المسألةِ فيما إذا كانَ فيه الأصلُ براءةَ الذِّمَّةِ، فإنَّ الأصلَ في مسألةِ الدِّيةِ مثلًا براءةُ ذِمَّةِ القاتلِ مِن الزَّائدِ على الأقلِّ.

(وَلَا يُضَادُّ إِجْمَاعٌ) إجماعًا (آخَرَ) عندَ الجمهورِ، يَعني إذا انعقدَ الإجماعُ في مسألةٍ على حكمٍ لا يَجوزُ أنْ يَنعَقِدَ بعدَه إجماعٌ يُضَادُّه؛ لاستلزامِه تعارضَ دَليلينِ قَطعيَّينِ.

(وَلَا) إجماعَ عندَ الأئمَّةِ الأربعةِ وغيرِهم (عَنْ غَيْرِ دَلِيلٍ)؛ لأنَّ الإجماعَ لا يَكُونُ إلَّا مِن المُجتهدينَ، والمُجتهدُ لا يَقولُ في الدِّينِ بغيرِ دليلٍ، فإنَّ القولَ بغيرِ دليلٍ خطأٌ، وأيضًا فكانَ يَقتضي إثباتَ شرعٍ مُستأْنَفٍ بعدَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وهو باطلٌ، ولأنَّه مُحالٌ عادَةً، وكالواحدِ مِن الأُمَّةِ، والدَّليلُ:

إمَّا كتابٌ: كإجماعِهم على حدِّ الزِّنا، والسَّرقةِ، وغيرِهما مِمَّا لا يَنحَصِرُ.

أو سُنَّةٌ: كإجماعِهم على توريثِ كلٍّ مِن الجدَّاتِ السُّدُسَ ونحوِه، ويَأتي القياسُ بعدَ ذلك،

ص: 318

وفائدتُه: سقوطُ البحثِ عنَّا عن دليلِه.

(وَيَجُوزُ) أنْ يَكُونَ الإجماعُ (عَنِ اجْتِهَادٍ وَقِيَاسٍ) عندَ جماهيرِ العُلَمَاءِ، (وَوَقَعَ) الإجماعُ عنِ اجتهادٍ وقياسٍ، كإجماعِ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ تعالى عنهم أجمعينَ على خلافةِ أبي بكرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ تعالى عنه، وعلى قتالِ مانعي الزَّكاةِ، وتحريمِ شَحمِ الخِنزيرِ، والأصلُ عدمُ النَّصِّ، ثمَّ لو كانَ لظَهَرَ واحتُجَّ به.

(وتَحْرُمُ مُخَالَفَتُهُ) أي: مُخالفةُ الإجماعِ الواقعِ عن اجتهادٍ وقياسٍ عندَ الأربعةِ وغيرِهم.

(وَفِي قَوْلٍ) لابنِ حامِدٍ

(1)

وجمعٍ: (يَكْفُرُ مُنْكِرُ حُكْمِ) إجماعٍ (قَطْعِيٍّ).

قالَ في «شرحِ الأصلِ»

(2)

: والحقُّ أنَّ مُنكِرَ المُجمَعِ عليه الضَّروريِّ والمشهورِ المنصوصِ عليه: كافرٌ قطعًا، وكذا المشهورُ فقط، لا الخفيُّ في الأصحِّ فيهما، فهنا أربعةُ أقسامٍ:

الأوَّلُ: المُجمَعُ عليه الضَّروريُّ، ولا شكَّ في تكفيرِ مُنكِرِ ذلك، وقد قالَ

(3)

الإمامُ أحمدُ والأصحابُ بكفرِ جاحدِ الصَّلاةِ، وكذا لو أَنْكَرَ رُكنًا مِن أركانِ الإسلامِ، لكنْ ليسَ كغيرِه مِن حَيْثُ كَوْنُ ما جَحَدَه مُجمَعًا عليه فقط، بل مع كونِه مِمَّا اشتَركَ النَّاسُ في معرفتِه، فإنَّه يَصِيرُ بذلك كأنَّه جاحِدٌ لصِدقِ الرَّسولِ صلى الله عليه وسلم.

ص: 319

ومَعنى كونِه مَعلومًا بالضَّرورةِ: أنْ

(1)

يَستوِيَ خاصَّةُ أهلِ الدِّينِ وعامَّتُه في معرفتِه، حَتَّى يَصِيرَ كالمعلومِ بالعِلمِ الضَّروريِّ في عدمِ تَطَرُّقِ الشَّكِّ إليه، لا أنَّه يَستقِلُّ إدراكُ العقلِ به فيَكُونُ عِلمًا ضروريًّا، كأعدادِ الصَّلواتِ ورَكعاتِها، والزَّكاةِ، والصِّيامِ، والحَجِّ، وزمانِها، وتحريمِ الزِّنى، والخمرِ، والسَّرقةِ، ونَحوِها.

وإنْ لم يَكُنْ مَعلومًا مِن الدِّينِ بالضَّرورةِ، ولكنَّه منصوصٌ عليه مشهورٌ عندَ الخاصَّةِ والعامَّةِ، فيُشارِكُ القِسْمَ الَّذِي قَبْلَه في كَوْنِه مَنصوصًا ومشهورًا، ويُخالِفُه مِن حَيْثُ إنَّه لم يَنْتَهِ إلى كونِه ضروريًّا في الدِّينِ؛ فيَكْفُرُ به جاحِدُه أيضًا.

وإنْ لم يَكُنْ مَنصوصًا عليه، لكنَّه بَلَغَ مع كَوْنِه مُجمَعًا عليه في الشُّهرةِ مَبْلَغَ المنصوصِ بحَيثُ يَعرِفُه الخاصَّةُ والعامَّةُ، فهذا أيضًا يَكفُرُ مُنكِرُه في أصحِّ قوليِ العلماءِ؛ لأنَّه يَتَضَمَّنُ تكذيبُهم تكذيبَ الصَّادقِ.

وقيلَ: لا يَكفُرُ لعدمِ التَّصريحِ بالتَّكذيبِ.

وإنْ لم يَكُنْ مَنصوصًا عليه، ولا بَلَغَ في الشُّهرةِ مَبلَغَ المنصوصِ، بل هو خَفِيٌّ لا يَعرِفُه إلَّا الخَوَاصُّ، كإنكارِ استحقاقِ بنتِ الابنِ السُّدُسَ مع البنتِ، وإفسادِ الحجِّ بالوطءِ قبلَ الوقوفِ بعَرفةَ: فهذا لا يَكفُرُ جاحِدُه، ولا مُنكِرُه؛ لعُذرِ الخفاءِ، خلافًا لبعضِ الفقهاءِ في قولِه:«إنَّه يَكفُرُ» ؛ لتكذيبِه الأُمَّةَ.

وَرُدَّ: بأنَّه لم يُكَذِّبْهم صريحًا، إذا فُرِضَ أنَّه لم يَكُنْ مَشهورًا، فهو مِمَّا يَخفى عليه مِثْلُه، فهذا تحقيقُ هذه المسألةِ وتحريرُها.

(1)

في (ع): أي.

ص: 320

(وَإِذَا اخْتَلَفُوا) أي: مجتهدو العصرِ في مسألةٍ (عَلَى قَوْلَيْنِ: حَرُمَ إِحْدَاثُ) قولٍ (ثَالِثٍ) عندَ الجمهورِ، كما لو أَجمَعُوا على قولٍ واحدٍ، فإنَّه يَحرُمُ إحداثُ قولٍ ثانٍ.

وقالَ جمعٌ: إنْ رَفَعَ القولُ الثَّالثُ المُجمَعَ عليه: حَرُمَ إحداثُه، وإن لم يَرفَعِ المُجمَعَ عليه: جازَ، فالَّذي يَرفَعُ المُجمَعَ عليه إذا رَدَّ بِكرًا بعَيبٍ بعدَ وَطْئِها مَجَّانًا، فهذا القولُ يَحرُمُ إحداثُه، فإنَّهم اختلفوا في البِكرِ إذا وَطِئَها المُشتَري ثمَّ وَجَدَ بها عَيبًا، قيلَ: تُرَدُّ مع الأرْشِ. وقيلَ: لا تُرَدُّ بوجهٍ، فالقولُ بأنَّها تُرَدُّ مجَّانًا رافعٌ لإجماعِ القولينِ على مَنعِ الرَّدِّ قهرًا مَجَّانًا.

والصَّحيحُ مِن مَذهبِنا: أنَّ المُشتَريَ مُخَيَّرٌ بينَ الإمساكِ وأخذِ الأرشِ، وبينَ الرَّدِّ وإعطاءِ الأرشِ، إن لم يَكُنْ دَلَّسَ البائعُ، فإنْ دَلَّسَ لم يَلْزَمِ المُشتَريَ أرشٌ.

وكذا إخوةٌ مع جدٍّ، قِيلَ: بالمُقاسمةِ، وقيلَ: يُسقِطُهم، فالقولُ بأنَّهم يُسقِطُونه رافعٌ المُجمَعَ عليه.

ومثالُ ما لا يَرفَعُ مُجمَعًا: الفسخُ في النِّكاحِ بالعيوبِ الخمسةِ: الجنونُ، والجُذامُ، والبَرَصُ، والجَبُّ، والعُنَّةُ ونحوُها إن كانَ في الزَّوجِ، والرَّتقُ، والفتقُ، ونحوُهما إنْ كانَ في الزَّوجةِ، فقيلَ: لكلٍّ مِنهما أن يَفسَخَ بها، وقيلَ: لا، فما نُقِلَ عن أبي حَنيفةَ أنَّه يُفْسَخُ ببعضٍ دونَ بعضٍ.

وعن الحسنِ البصريِّ قولٌ ثالثٌ: أنَّ المرأةَ تَفسَخُ دونَ الرَّجلِ، لتَمَكُّنِه مِن الخلاصِ بالطَّلاقِ، لكنَّ هذا القولَ لم يَرفَعْ مُجمَعًا عليه، بل وافَقَ في كلِّ مسألةٍ قولًا، وإنْ خالَفَه في أُخرى، واختارَه كثيرٌ مِن العلماءِ وصَحَّحُوه.

ص: 321

و (لَا) يَحرُمُ على مَن بَعدَ مُجتهدي العصرِ: إحداثُ (تَفْصِيلٍ إِذَا اخْتَلَفُوا فِي مَسْأَلَتَيْنِ عَلَى قَوْلَيْنِ) حالَ كَوْنِ أحدِهما (إِثْبَاتًا، و) الآخَرِ (نَفْيًا) وحُكِيَ عن الأكثرِ.

وقالَ أبو الخَطَّابِ

(1)

: إنْ صَرَّحوا بالتَّسويةِ: لم يَجُزْ؛ لاشتِراكِهما في المُقتضِي للحُكْمِ ظاهرًا، وإن لم يُصَرِّحوا فإنِ اختلفَ طريقُ الحكمِ فيهما كالنِّيَّةِ في الوضوءِ، والصَّومِ في الاعتكافِ: جازَ، وإلَّا: لَزِمَ مَن وافَقَ إمامًا في مسألةٍ موافقتُه في جميعِ مَذهبِه، وإجماعُ الأُمَّةِ خلافُه، وإنِ اتَّفَقَ الطَّريقُ كزوجٍ وأَبَوَينِ، وامرأةٍ وأَبَوَينِ، وكإيجابِ نِيَّةٍ في وضوءٍ وتَيَمُّمٍ، وعكسُه: لم يَجُزْ، وهو ظاهرُ كلامِ أحمدَ.

وقالَ ابنُ العِرَاقِيِّ الشَّافِعِيِّ: إذا لم يَفْصِلْ أهلُ العصرِ بينَ مَسألتَينِ، بل أجابوا فيهما بجوابٍ واحدٍ، فليسَ لمَن بَعدَهم التَّفصيلُ بينَهما، وجَعْلُ حُكْمِهما مُختلِفًا إنْ لَزِمَ منه خَرْقُ الإجماعِ، وذلك في صُورتَينِ:

الأُولى: أنْ يُصَرِّحُوا بعدمِ الفرقِ بينَهما.

الثَّانيةُ: أنْ يَتَّحِدَ الجامعُ بينَهما، كتوريثِ العمَّةِ والخالةِ، فإنَّ العلماءَ بينَ مُورِّثٍ لهما ومانعٍ، والجامعُ بينَهما عندَ الطَّائفتينِ كونُهما مِن ذوي الأرحامِ؛ فلا يَجوزُ مَنْعُ واحدةٍ وتوريثُ أُخرى، فإنَّ التَّفصيلَ بينَهما خارقٌ لإجماعِهم في الأُولى: نصًّا، وفي الثَّانيةِ: تَضَمُّنًا، ويَجُوزُ التَّفصيلُ فيما عدا هاتينِ الصُّورتينِ

(2)

.

ص: 322

(وَلَا) يَحرُمُ إحداثُ (دَلِيلٍ، أَوْ عِلَّةٍ آخَرَيْنِ) فيَجوزُ إحداثُ دليلٍ آخَرَ عندَ أصحابِنا والأكثرِ، زادَ القاضي: مِن غيرِ أنْ يَقصِدَ بيانَ الحُكمِ به بعدَ ثُبوتِه

(1)

؛ لأنَّه قولٌ عنِ اجتهادٍ غيرِ مخالِفٍ إجماعًا؛ لأنَّهم لم يَنُصُّوا على فسادِ غيرِ ما ذَكَروه، وأيضًا وَقَعَ كثيرًا ولم يُنْكَرْ، ولأن الشَّيْءَ قد يَكُونُ عليه أدلَّةٌ كثيرةٌ.

ويَجوزُ إحداثُ علَّةٍ أُخرى عندَ الأكثرِ، بِناءً على جوازِ تعليلِ الحُكْمِ الواحدِ بعِلَّتَينِ على ما يَأتي، وهو الصَّحيحُ في بابِ القياسِ.

(أَوْ) أي: ولا يَحرُمُ إحداثُ (تَأْوِيلٍ) آخَرَ (لَا يُبْطِلُ) التَّأْويلَ (الأَوَّلَ) ذَكَرَه بعضُهم عنِ الجمهورِ، وقيلَ: لا يَجُوزُ إحداثُه، واختارَه القاضي عبدُ الوَهَّابِ المالكيُّ، قال: لأنَّ الآيةَ مَثَلًا إذا احتملَتْ معانيَ، وأجمعوا على تأويلِها بأحدِها: صارَ كالإفتاءِ في حادثةٍ تَحتمِلُ أحكامًا بحُكْمٍ، فلا يَجُوزُ أن يُؤَوَّلَ بغيرِه، كما لا يُفتَى بغيرِ ما أَفْتَوْا به

(2)

.

(وَاتِّفَاقُ) مُجتهدي (عَصْرٍ ثَانٍ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْ) أهلِ العَصْرِ (الأَوَّلِ، وَقَدِ اسْتَقَرَّ الخِلَافُ) في العصرِ الأوَّلِ (لَا يَرفَعُهُ) أي: لا يَرفَعُ خلافَ أهلِ العصرِ الأوَّلِ عندَ أحمدَ وأكثرِ أصحابِه، ولا يَكُونُ إجماعًا؛ لأنَّ موتَ المُخالِفِ في العصرِ الأوَّلِ لا يَكُونُ مُسْقِطًا لقولِه، فيَبْقى، ولا يَكُونُ حُجَّةً؛ لأنَّه لو كانَ حُجَّةً لتَعارَضَ الإجماعانِ.

وأيضًا: لم يَحصُلِ اتِّفاقُ الأُمَّةِ؛ لأنَّ فيه قولًا مخالفًا؛ لأنَّ القولَ لا يَمُوتُ بموتِ صاحبِه.

ص: 323

(وَإِلَّا) بأنْ لم يَكُنِ اسْتَقَرَّ الخلافُ في العصرِ الأوَّلِ (فَإِجْمَاعٌ) قطعًا، فإذا وَقَعَ الاتِّفاقُ بعدَ الاختلافِ وكانَ اتِّفاقُ أهلِ عصرٍ بعدَه على أحدِ القولَينِ، وكانَ قبلَ استقرارِ خِلافِ الأوَّلين؛ أي: قَبْلَ مُضِيِّ مُدَّةٍ على ذلك الخلافِ يُعلَمُ بها أنَّ كلَّ قائلٍ مُصمِّمٌ على قولِه لا يَنْثَني عنه، فهذا اتَّفقوا على جوازِه، وذلك كخلافِ الصَّحابةِ لأبي بكرٍ رَضِيَ اللهُ تعالى عنهم في قتالِ مانعي الزَّكاةِ، وإجماعِهم بعدَ ذلك على قتالِهم، وإجماعِ العصرِ الثَّاني عليه أيضًا؛ إذِ الخلافُ لم يَكُنِ استقرَّ.

(وَلَوْ مَاتَ) أربابُ أحدِ القولَينِ (أَوِ ارْتَدَّ أَرْبَابُ أَحَدِ القَوْلَيْنِ: لَمْ يَصِرْ قَوْلُ البَاقِي) منهم (إِجْمَاعًا)؛ لأنَّ حُكْمَ الميِّتِ في حُكمِ الباقي الموجودِ، وهو قولُ الأكثرِ.

تنبيهٌ: لو ماتَ أربابُ أحدِ القولينِ، ورَجَعَ مَن بَقِيَ مِنهم إلى قولِ الآخَرِينَ.

قالَ ابنُ كَجٍّ

(1)

: فيها وجهانِ:

أحدُهما: أنَّه إجماعٌ؛ لأنَّهم أهلُ العصرِ.

والثَّاني: المنعُ؛ لأنَّ الصِّدِّيقَ جَلَدَ في حدِّ الخمرِ أربعينَ

(2)

، وقد أَجمَعَ الصَّحابةُ على ثمانينَ في زمنِ عمرَ، فلم يَجعلوا المسألةَ إجماعًا؛ لأنَّ الخلافَ كانَ قد تَقَدَّمَ، وقد ماتَ ممَّن قال بذلك بعضٌ

(3)

ورَجَعَ بعضٌ إلى قولِ عمرَ.

(1)

ينظر: «الفوائد السَّنية شرح الألفية» (1/ 452)، و «التحبير شرح التحرير» (4/ 1660).

(2)

رواه البخاري (6773)، ومسلم (1706) من حديث أنسٍ رضي الله عنه.

(3)

ليست في (د).

ص: 324

(وَ‌

‌اتِّفَاقُ مُجْتَهِدِي عَصْرٍ بَعْدَ اخْتِلَافِهِمْ)

وقبلَ استقرارِ الخلافِ: إجماعٌ، وكذا هو حُجَّةٌ في الأصحِّ، ويُمَثَّلُ له بما وَقَعَ لأبي بكرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه في قتالِ أهلِ الرِّدَّةِ، وفي اختلافِهم في أيِّ موضعٍ يُدفَنُ صلى الله عليه وسلم، ثمَّ اتِّفاقِهم سريعًا فيهما.

(وَ) كذا إنْ كانَ (قَدِ

(1)

اسْتَقَرَّ) اختلافُهم، فاتِّفاقُهم بعدَ ذلك:(إِجْمَاعٌ) عندَنا، وعندَ الأكثرِ، وكلُّ مَنِ اشتَرطَ انقراضَ العصرِ قال: إجماعٌ.

(وَلَا يَصِحُّ تَمَسُّكٌ بِإِجْمَاعٍ فِيمَا تَتَوَقَّفُ صِحَّتُهُ) أي: صِحَّةُ الإجماعِ (عَلَيْهِ) اتِّفاقًا، (كَوُجُودِهِ) تَبارَكَ و (تعالى، وَصِحَّةِ الرِّسَالَةِ) ودَلالةِ المُعجزةِ، فيَتَوَقَّفُ الإجماعُ على ذلك، فلا يَصِحُّ التَّمسُّكُ به؛ لاستلزامِه عليه لُزومَ الدَّوْرِ، ولعَدمِ إمكانِ تَأخُّرِ معرفتِها عنِ الإجماعِ.

(وَيَصِحُّ) التَّمسُّكُ بالإجماعِ (فِي غَيْرِهِ) وهو ما لا تَتوَقَّفُ صِحَّةُ الإجماعِ عليه، مِن أمْرٍ:

(1)

(دِينِيٍّ، كَنَفْيِ الشَّريكِ)، ووجوبِ العباداتِ، ونَحوِها، فإنَّ الإجماعَ لا يَتَوَقَّفُ على ذلك؛ لإمكانِ تأخُّرِ مَعرِفَتِها عنِ الإجماعِ، وسواءٌ كانَ الدِّينيُّ: عقليًّا: كرُؤيةِ الباري، ونفيِ الشَّريكِ، أو شرعيًّا: كوجوبِ الصَّلاةِ، والزَّكاةِ، والصِّيامِ، وغيرِها.

(2)

(أَو) مِن أمْرٍ (عَقْلِيٍّ: كَحُدُوثِ

(2)

العَالَمِ) فيُمكِنُ إثباتُه؛ لأنَّه يُمْكِنُنا إثباتُ الصَّانعِ بحدوثِ الأعراضِ، ثمَّ نَعرِفُ صِحَّةَ النُّبُوَّةِ، ثمَّ يُعرَفُ به الإجماعُ، ثمَّ يُعرَفُ به حُدوثُ الأجسامِ، وهذا الصَّحيحُ الَّذِي عليه الأكثرُ.

(1)

في «مختصر التحرير» (ص 104): لو.

(2)

في «مختصر التحرير» (ص 104): كحدث.

ص: 325

(3)

(أَوْ) مِن أمرٍ (دُنْيَوِيٍّ: كَرَأْيٍ فِي حَرْبٍ) وتدبيرِ أمرِ الجيوشِ والرَّعِيَّةِ.

قالَ البِرْمَاوِيُّ: فيه مذهبانِ مشهورانِ، المُرَجَّحُ منهما: وجوبُ العملِ فيه بالإجماعِ

(1)

.

قالَ في «شرحِ الأصلِ» : وهو أظهرُ؛ لأنَّ الدَّليلَ السَّمعيَّ دَلَّ على التَّمسُّكِ به مطلقًا مِن غيرِ تقييدٍ، فوَجَبَ المَصيرُ إليه؛ لأنَّ الأصلَ عدمُ التَّقييدِ

(2)

.

(4)

(أَو) مِن أمرٍ (لُغَوِيٍّ) فيُعتَدُّ بالإجماعِ في أمرٍ لُغوِيٍّ، ككونِ الفاءِ للتَّعقيبِ، قَطَعَ به البِرْمَاوِيُّ

(3)

.

وقيلَ: يُعتَدُّ بالإجماعِ فيه إنْ تَعَلَّقَ بالدِّينِ، وإلَّا فلا.

ص: 326

(فَصْلٌ)

(ارْتِدَادُ الأُمَّةِ) الإسلاميَّةِ في بعضِ الأعصارِ (جَائِزٌ عَقْلًا) أي: في تَصَوُّرِ العقلِ قطعًا؛ لأنَّه ليسَ بمُحالٍ، ولا يَلْزَمُ منه مُحالٌ، و (لَا) يَجُوزُ ارتدادُها (سَمْعًا) في الأصحِّ، لأدلَّةِ الإجماعِ، وقولِه عليه الصلاة والسلام:«أُمَّتِي لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ»

(1)

، وانعقاد

(2)

الإجماعِ.

(وَيَجُوزُ اتِّفَاقُهَا على جَهْلِ مَا) أي: شيءٍ (لَمْ تُكَلَّفْ بِهِ) في الأصحِّ، لعدمِ الخطأِ بعدمِ التَّكْلِيفِ: كتفضيلِ عمَّارٍ على حذيفةَ، وعكسِه، ولأنَّ ذلك لا يَقدَحُ في أصلٍ منَ الأصولِ، أمَّا ما كُلِّفوا به: فيَمتَنِعُ جهلُ جميعِهم، ككونِ الوترِ واجبًا أم لا، ونحوِه.

و (لَا) يَجوزُ (انْقِسَامُهَا) أي: الأُمَّةِ (فِرْقَتَيْنِ كُلُّ فِرْقَةٍ) منها (مُخْطِئَةٌ فِي مَسْأَلَةٍ مُخَالِفَةٍ) للمَسألةِ (الأُخْرَى) مِثْلُ أن يَقولَ البعضُ بأنَّ العبدَ يَرِث، ويَقولُ الباقي بأنَّ القاتلَ يَرِثُ؛ [فلا يَجُوزُ]

(3)

لأنَّه إجماعٌ على الخطأِ.

ومَثَّلُوا أيضًا باتِّفاقِ شَطرِ الأُمَّةِ على أنَّ التَّرتيبَ في الوضوءِ واجبٌ، وفي الصَّلاةِ الفائتةِ غيرُ واجبٍ، والفرقةُ الأُخرى على عكسِ ذلك في الصُّورتَينِ، فذَهَبَ الأكثرُ إلى المنعِ؛ لأنَّ خَطَأَهم في المسألتينِ لا يُخرِجُهم عن أنْ يَكُونوا قدِ اتَّفقوا على الخطأِ ولو في المسألتينِ، وهو منفيٌّ عنهم، أمَّا إنْ أَخطَأَ كلُّ فريقٍ في مسألةٍ أجنبيَّةٍ عنِ المسألةِ الأخرى: جازَ، فإنَّا نَقطَعُ أنَّ كلَّ مجتهدٍ يَجُوزُ أنْ يُخطِئَ، وما مِن مذهبٍ مِن المذاهبِ إلَّا وقد وَقَعَ فيه ما يُنْكَرُ ولو قَلَّ، فهذا لا بدَّ للبشرِ منه.

(1)

سبق تخريجُه.

(2)

في (د): وانعقد.

(3)

ليست في (ع).

ص: 327

(وَلَا) يَجُوزُ أيضًا: (عَدَمُ عِلْمِهَا) أيِ: الأُمَّةِ (بِدَلِيلٍ) إذا (اقْتَضَى) ذلك الدَّليلُ (حُكْمًا) على المُكَلَّفِينَ (لَا دَلِيلَ لَهُ) أي: لذلك الحُكْمِ (غَيْرُهُ) أي: غيرُ ذلك الدَّليلِ؛ لأنَّه إنْ عُمِلَ بذلك الحُكْمِ كانَ عملًا به عن

(1)

غيرِ دليلٍ، بل عن تَشَهٍّ، والعملُ بالحُكْمِ عنِ التَّشَهِّي لا يَجُوزُ، وإنْ لم يُعمَلْ به كانَ تركًا للحُكْمِ المُتَّجِهِ على المُكَلَّفِ، أما إذا كانَ في الواقعةِ دليلٌ، أو خبَرٌ راجحٌ؛ أي: بلا مُعارِضٍ قد عُمِلَ على وَفْقِ ذلك الدَّليلِ، أو الخبَرِ بدليلٍ آخَرَ: جازَ عدمُ عِلْمِ الأُمَّةِ به، وهذا ظاهرُ كلامِ أصحابِنا؛ لأنَّ عَدَمَ العِلمِ ليسَ مِن فِعلِهم، وخطؤُهم مِن أوصافِ عدمِ العِلمِ، فلا يَكُونُ خطأً، فلا إجماعَ منهم، ولأنَّ اشتِراكَ جَميعِهم في عدمِ العِلْمِ بذلك الخبَرِ أو الدَّليلِ الرَّاجحِ لم يُوجِبْ مَحذورًا؛ إذْ ليسَ اشتِراكُ جميعِهم في عدمِ العِلْمِ إجماعًا حَتَّى يَجِبَ مُتابَعَتُهم فيه، بل عدمُ عِلمِهم بذلك الدَّليلِ، أو الخبَرِ كعَدمِ حُكْمِهم في واقعةٍ لم يَحكُموا فيها بشيءٍ، فجازَ لغيرِهم أنْ يَسعى في طلبِ ذلك الدَّليلِ أو الخبَرِ ليَعلَمَ.

(1)

في (د): من.

ص: 328

(فَصْلٌ)

لَمَّا فَرَغَ منَ الأبحاثِ المخصوصةِ بكلِّ واحدٍ منَ الأَدِلَّةِ الثَّلاثةِ، وهي: الكتابُ، والسُّنَّةُ والإجماعُ، شَرَعَ في الأبحاثِ المُشتَركةِ بينَ الثَّلاثةِ.

واعلَمْ أنَّ الكلامَ في الشَّيْءِ إِنَّمَا يَكُونُ بعدَ ثُبُوتِه، ثمَّ يَتْلُوه ما يَتَوَقَّفُ عليه مِن حَيْثُ دَلالةُ الألفاظِ؛ لأنَّه بعدَ الصِّحَّةِ يَتَوَجَّهُ النَّظرُ إلى ما دلَّ عليه

(1)

ذلك الثَّابتُ، ثمَّ يَتْلُوه: ما يَتَوَقَّفُ عليه مِن حَيْثُ استمرارُ الحُكمِ وبقاؤُه فلم يُنْسَخْ، ثمَّ يَتلوه: ما يَتَوَقَّفُ عليه الدَّليلُ الرَّابعُ وهو القياسُ مِن بيانِ أركانِه وشروطِه وأحكامِه؛ لأنَّه مُفَرَّعٌ على الثَّلاثةِ الأُوَلِ.

قالَ العَضُدُ: لا شَكَّ أنَّ الطَّريقَ إلى الشَّيْءِ مُقَدَّمٌ عليه طبعًا، فقُدِّمَ عليه وَضعًا

(2)

.

وقولُه: (يَشْتَرِكُ الكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالإِجْمَاعُ فِي:

(1)

سَنَدٍ) إشارةٌ إلى أنَّ المرادَ بالثُّبُوتِ صِحَّةُ وُصولِها إلينا لا ثُبُوتُها في نَفْسِها، وكونُها حقًّا، (وَيُسَمَّى) السَّنَدُ (إِسْنَادًا).

وأصلُ السَّنَدِ في اللُّغةِ: ما يُستنَدُ

(3)

إليه، أو: ما ارتفعَ مِن الأرضِ.

(وَ) اصطلاحًا (هُوَ: إِخْبَارٌ عَنْ طَرِيقِ المَتْنِ) قولًا أو فعلًا، تواترًا أو آحادًا، ولو كانَ الإخبارُ بواسطةِ مُخبِرٍ آخَرَ فأكثرَ، عمَّن يُنسَبُ المتنُ إليه، وأَخْذُ المعنى الاصطلاحيِّ مِن الارتفاعِ أكثرُ مُناسَبَةً، فلذلك قال ابنُ

(1)

في (ع): على.

(2)

«شرح العضد على مختصر ابن الحاجب» (2/ 376).

(3)

في (د): يسند.

ص: 329

طريفٍ

(1)

: أَسْنَدْتُ الحديثَ رَفَعْتُه إلى المُحَدِّثِ، فيَحتملُ أنَّه اسمُ مصدرٍ مِن أَسْنَدَ يُسْنِدُ، أُطلِقَ على المُسْنَدِ إليه، وأن يَكُونَ مَوضوعًا لِما يُسنَدُ إليه.

والمُسنِدُ بكسْرِ النُّونِ: مَن يَروي الحديثَ بإسنادِه، سواءٌ كانَ عندَه عِلْمٌ به، أو ليسَ له إلَّا مُجَرَّدُ روايتِه.

(2)

(وَ) يَشتَرِكُ الكتابُ والسُّنَّةُ والإجماعُ في (مَتْنٍ، وَ) المتنُ: (هُوَ المُخْبَرُ بِهِ) ومادَّةُ المتنِ في الأصلِ راجعةٌ إلى مَعنى الصَّلابةِ، ويُقالُ لِما صَلُبَ مِن الأرضِ: متنٌ، والجمعُ مِتَانٌ، ويُسَمَّى أسفلُ الظَّهْر مِن الإنسانِ والبهيمةِ مَتنًا، والجمعُ: مُتُونٌ، فالمَتنُ ما تَضَمَّنَه الثَّلاثةُ المذكورةُ مِن أمرٍ ونهيٍ، وعامٍّ وخاصٍّ، ونحوِها.

(وَالخَبَرُ) يُحَدُّ عندَ أصحابِنا والأكثرِ، ولهم فيه حدودٌ كثيرةٌ، قلَّ أنْ يَسلَمَ منها حدٌّ مِن خدشٍ.

قالَ في «شَرحِه» : وأَسْلَمُها قَولُهم: (مَا) يَعني أنَّه في اللُّغةِ كلامٌ (يَدْخُلُهُ صِدْقٌ وَكَذِبٌ)

(2)

. ونُقِضَ بمِثلِ: مُحَمَّدٌ، ومُسَيْلِمَةُ صادقانِ، وبقولِ مَن يَكذِبُ دائمًا:«كُلُّ أخباري كَذِبٌ» ، فخبَرُ هذا لا يَدخُلُه صدقٌ، وإلَّا كُذِّبَتْ أخبارُه وهو منها، ولا كَذِبَ، وإلَّا كُذِّبَتْ أخبارُه مع هذا، وصَدَقَ في قولِه:«كُلُّ أَخباري كَذِبٌ» فيَتنَاقَضُ، ويَلْزَمُ الدَّوْرُ؛ لتَوَقُّفِ مَعرفتِهما على معرفةِ الخبَرِ؛ لأنَّ الصِّدقَ: الخبَرُ المطابِقُ، والكذبَ: ضِدُّه. وبأنَّهما مُتقابِلانِ، فلا يَجتمعانِ في خبَرٍ واحدٍ، فيَلْزَمُ امتناعُ الخبَرِ، أو وُجودُه مع عدمِ صِدقِ الحدِّ، وبخبَرِ الباري.

(1)

ينظر: «الفوائد السنية» للبِرماوي (2/ 6)، و «التحبير شرح التحرير» (4/ 1694).

(2)

«شرح الكوكب المنير» (2/ 289).

ص: 330

وأُجيبَ عنِ الأوَّلِ: أنَّه في مَعنى خبرينِ لإفادتِه حُكمًا لشخصينِ، ولا يُوصَفان بهما، بل يُوصَفُ بهما الخبَرُ الواحدُ مِن حَيْثُ هو خبَرٌ.

ورُدَّ: لا يَمنَعُ ذلك مِن وصفِه بهما، بدليلِ الكذبِ في قولِ القائلِ:«كُلُّ موجودٍ حادثٌ» ، وإنْ أفادَ حُكمًا لأشخاصٍ.

وأُجِيبَ: بأنَّه كذبٌ؛ لأنَّه أضافَ الكذبَ إليهما معًا، وهو لأحدِهما.

وسَلَّمَه بعضُهم، ولكنْ لم يَدخُلْه الصِّدقُ.

وأُجِيبَ: بأنَّ مَعنى الحدِّ بأنَّ اللُّغةَ لا تَمنَعُ القولَ للمُتكلِّمِ به صَدَقْتَ أو كَذَبْتَ.

ورُدَّ: برجوعِه إلى التَّصديقِ والتَّكذيبِ، وهو غيرُ الصِّدقِ والكذبِ في الخبَرِ، وقولُه:«كلُّ أخباري كَذِبٌ» إنْ طابَقَ: فصِدقٌ، وإلَّا: فكَذِبٌ، ولا يَخلو عنهما.

وقالَ بعضُ أصحابِنا: يَتَناوَلُ قولُه ما سِوى هذا الخبَرِ؛ إذِ الخبَرُ لا يَكُونُ بعضَ المُخبَرِ.

قالَ: ونَصَّ أحمدُ على مِثْلِه، ولا جوابَ عنِ الدَّوْرِ، وقد قيلَ: لا تَتوَقَّفُ معرفةُ الصِّدقِ والكذبِ على الخبَرِ لعِلمِهما ضرورةً.

وأُجيبَ عن الأخيرِ وما قَبْلَه: بأنَّ المحدودَ جنسُ الخبَرِ، وهو قابلٌ لهما، كالسَّوادِ والبياضِ في جِنسِ اللَّونِ.

ورُدَّ: لا بدَّ مِن وجودِ الحدِّ في كلِّ خبَرٍ، وإلَّا لَزِمَ وجودُ الخبَرِ دونَ حَدِّه.

وأُجيبَ: بأنَّ الواوَ وإنْ كانَتْ للجمعِ لكنَّ المُرادَ التَّرديدُ بينَ القِسمَينِ تَجوُّزًا، لكنْ يُصانُ الحدُّ عن مِثلِه.

ص: 331

(وَ) الخبَرُ (يُطْلَقُ:

(1)

مَجَازًا) مِن جهةِ اللُّغةِ (عَلَى دَلَالَةٍ مَعْنَوِيَّةٍ، وَإِشَارَةٍ حَالِيَّةٍ) كقولِهم: عيناك تُخبِرُني بكذا، والغُرابُ يُخبِرُ بكذا،

(2)

(وَ) يُطلَقُ (حَقِيقَةً على الصِّيغَةِ) وهي: قولٌ مخصوصٌ لتَبادُرِ الفهمِ عندَ الإطلاقِ إلى ذلك.

(وَ) الصِّيغةُ (تَدُلُّ بِمُجَرَّدِهَا) أي: بلا قرينةٍ (عَلَيْهِ) أي: على كونِه خبَرًا عندَ القاضي أبي يَعلى

(1)

وغيرِه، واختارَه كثيرٌ مِن أصحابِنا، وقالوا: لأنَّ الخبَرَ هو اللَّفظُ والمعنى، لا اللَّفظُ فقط، فتقديرُه لهذا المُرَكَّبِ جزءٌ يَدُلُّ بنفسِه على المُرَكَّبِ.

وإذا قِيلَ: الخبَرُ: الصِّيغةُ فقطْ؛ بَقِيَ الدَّليلُ هو المدلولُ عليه، وعندَ ابنِ عَقِيلٍ: الصِّيغةُ: هي الخبَرُ، فلا يُقالُ له صيغةٌ، ولا هي دالَّةٌ عليه.

(وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ) أي: الخبَرِ (إِرَادَةُ) الإخبارِ، فهو ما يُفيدُ بذاتِه احتِرازًا عمَّا يُفيدُ باللَّازمِ أو بالقرينةِ، نحوُ: أنا أَطلُبُ مِنك أنْ تُخبِرَني بكذا، أو أن تَسْقِيَني ماءً، أو تَتْركَ الأذى ونحوَه، فإنَّه وإنْ كانَ دالًّا على الطَّلبِ لكنْ لا بذاتِه، بل هذه إخباراتٌ لازِمُها الطَّلَبُ، ولا يُسَمَّى الأوَّلُ اسْتِفْهامًا، ولا الثَّاني أمرًا، ولا الثَّالثُ نهيًا، وكذا قولُه: أنا عطشانُ، كأنَّه قال: اسْقِني، فإنَّ هذا طلبٌ بالقَرينةِ لا بذاتِه، وربَّما عُبِّرَ عن هذا القيدِ بكونِه بالوضعِ، وربَّما عُبِّرَ عنه بما يُفِيدُه إفادةً أوَّلِيَّةً، والكلُّ صحيحٌ.

إذا عَرَفْت ذلك (فَإِتْيَانُهُ) أي: مجيءُ الخبَرِ:

ص: 332

(1)

(دُعَاءً) نحوُ: غَفَرَ اللهُ له ورَحِمَه،

(2)

(وَتَهْدِيدًا) نحوُ قولِ السَّيِّدِ لعبدِه: قد عَلِمْتُ أنَّك لا تَنْتَهي عن سوءِ فِعلِك بدونِ المعاقبةِ.

(3)

(وَأَمْرًا) نَحوُ قولِه تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ}

(1)

.

: (مَجَازٌ)؛ لأنَّ ذلك لا يَدخُلُه صِدقٌ ولا كَذِبٌ.

فائدتانِ:

إحداهما: الخبَرُ مُشتمِلٌ على مَحكُومٍ عليه، ومحكومٍ به، ويُعَبَّرُ عنه البيانيُّونَ: بمُسنَدٍ إليه، ومُسنَدٍ، ويَعُدُّونه إلى مطلقِ الكلامِ، والمناطقة يُسَمُّونَ الخبَرَ: قضيَّةً؛ لِما فيها منَ القضاءِ بشيءٍ على شيءٍ، ويُسَمُّون المقضيَّ عليه: موضوعًا، والمقضيَّ به مَحمولًا؛ لأنَّك تَضَعُ الشَّيْءَ وتَحمِلُ عليه حُكمًا.

ويُقَسِّمون القضيَّةَ إلى:

(1)

طبيعيَّةٍ: وهي ما حُكِمَ فيها بأحدِ أمرينِ مِن حَيْثُ هو على الآخَرِ من حَيْثُ هو، لا بالنَّظرِ إلى أفرادِه، نحوُ: الرَّجُلُ خيرٌ مِن المرأةِ،

(2)

وغيرِ الطَّبيعيَّةِ: وهي الَّتي قُصِدَ الحُكْمُ فيها على مُشَخَّصٍ في الخارجِ لا على الحقيقةِ من حَيْثُ هي، ثمَّ يُنْظَرُ:

فإنْ حُكِمَ فيها على جزءٍ مُعَيَّنٍ: سُمِّيَتْ «شخصيَّةً» ، نحوُ

(2)

: زيدٌ قائمٌ، أو لا على مُعَيَّنٍ،

(1)

البقرة: 288.

(2)

ليس في (د).

ص: 333

فإنْ ذُكِرَ فيها سورُ الكلِّ أو البعضِ في نفيٍ أو إثباتٍ، سُمِّيَتْ «مَحصورةً» ، نحوُ: كلُّ إنسانٍ كاتبٌ بالقوَّةِ، وبعضُ الإنسانِ كاتبٌ بالفعلِ، ونحوُ: لا شيءَ، أو لا واحدَ مِن الإنسانِ بجمادٍ، وليسَ بعضُ الإنسانِ بكاتبٍ بالفعلِ، أو بعضُ الإنسانِ ليسَ كذلك.

وإن لم يَكُنْ للقضيَّةِ سورٌ، والمرادُ الحُكْمُ فيها على الأفرادِ لا على الحقيقةِ مِن حَيْثُ هي، سُمِّيَتْ «مُهملةً» ، نحوُ: الإنسانُ في خُسْرٍ، والحكمُ فيها على بعضٍ ضروريٌّ فهو المُتَحَقِّقُ، ولا يَصدُقُ عليها كُلِّيَّةً، لكنْ إذا كانَ فيها «الـ» كما في:«الإنسانُ كاتبٌ» يُطلِقُ عليها ابنُ الحاجبِ

(1)

وغيرُه كثيرًا أنَّها «كُلِّيَّةٌ» ، نظرًا إلى إفادةِ «الـ» العمومَ، فهي مثلُ «كلٍّ» وإن لم يَكُنْ ذلك من اصطلاحِ المناطقةِ.

الفائدةُ الثَّانيةُ: سَأَلَ بعضُهم: إنَّ سُنَّةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فيها الأمرُ والنَّهيُ والاستفهامُ وأنواعُ التَّنبيهِ، وغيرُ ذلك، فلِمَ

(2)

كلُّها تُسَمَّى أخبارًا، فيُقالُ: أخبارُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟

وأجابَ البَاقِلَّانِيُّ

(3)

بجوابينِ:

أحدُهما: أنَّ الكلَّ أخبَر به النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عن حُكْمِ اللهِ تعالى.

الثَّاني: أنَّها إنَّما

(4)

سُمِّيَتْ أخبارًا لنقلِ المُتَوَسِّطِينَ، فهم يُخبِرون

(5)

به

(1)

«منتهى السول» (ص 10).

(2)

في (د)، (ع): فلزم. ولعله سبق قلم. ينظر: «الفوائد السَّنية» للبِرماوي (2/ 439).

(3)

ينظر: «التحبير شرح التحرير» (4/ 1723).

(4)

ليست في (ع).

(5)

في (د): مخبرون.

ص: 334

عمَّن أَخبَرَهم، إلى أنْ يَنتهيَ إلى مَن أَمَرَه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أو نَهاه، فإنَّ ذلك يَقولُ: أُمِرْنا ونُهِينا، والَّذي بعدَه يَقُولُ: أَخبَرَنا فلانٌ عن فلانٍ بأنَّه صلى الله عليه وسلم أَمَرَ ونَهَى

(1)

.

تنبيهٌ: قد عُلِمَ أنَّ للكلامِ أنواعًا فلا بدَّ مِن بيانِها، والفرقِ بينَها ليَحصُلَ الاستدلالُ بها على المرادِ، وللنَّاسِ في تقسيمِه طُرُقٌ: فمنهم مَن يُقسِّمُه إلى: خبَرٍ، وإنشاءٍ، وهو الَّذِي مَشَى عليه المُصَنِّفُ؛ لأنَّه إن احتملَ الصِّدقَ والكذبَ فهو الخبَرُ.

(وَغَيْرُهُ) وهو ما لا يَحتملُ الصِّدقَ والكذبَ: (إِنْشَاءٌ، وَتَنْبِيهٌ، وَمِنْهُ:

(1)

أَمْرٌ،

(2)

وَنَهْيٌ،

(3)

وَاسْتِفْهَامٌ) وذلك الإنشاءُ: إمَّا طلبٌ أو غيرُه، وهو المشهورُ باسمِ الإنشاءِ. والطَّلبُ: إمَّا أمرٌ، أو نهيٌّ، أو استفهامٌ، نحوُ: قُمْ ولا تَقعُدْ، وهل عندَكَ أحدٌ؟ وقد ذُكِرَ مِن الإنشاءِ مع ذلك: التَّمنِّيَ، والتَّرَجِّيَ، والقَسَمَ، والنِّداءَ، فظاهرُه أنَّ الإنشاءَ: هو التَّنبيهُ.

وقالَ بعضُهم: الكلامُ الَّذِي لا يَحتمِلُ الصِّدقَ والكذبَ يُسَمَّى: إنشاءً، فإنْ دَلَّ بالوضعِ على طلبِ الفعلِ يُسَمَّى: أمرًا، وإنْ دَلَّ على طلبِ الكفِّ يُسَمَّى: نهيًا، وإنْ دلَّ على طلبِ الإفهامِ يُسَمَّى: استفهامًا، وإنْ لم يَدُلَّ بالوضعِ على طلبٍ يُسَمَّى: تنبيهًا.

(4)

(وَ) يَندَرِجُ فيه (تَمَنٍّ،

(1)

في (د): أو.

ص: 335

(5)

وَتَرَجٍّ) والفرقُ بينَ التَّمنِّي والتَّرجِّي: أنَّ التَّرجِّيَ لا يُستعمَلُ إلَّا في المُمكِنِ، بخلافِ التَّمَنِّي، فإنَّه يُستعمَلُ في المُمكنِ والمُستحيلِ، تَقولُ: لَيْتَ الشَّبابَ يَعُودُ يومًا.

واسْتُغْنِي بذكرِ التَّرجِّي عنِ الإشفاقِ، وهو ما يَكُونُ في المكروهِ، وربَّما تُوُسِّعَ بإطلاقِ التَّرجِّي على الأعمِّ، وقد اجْتَمَعَا في قولِه تعالى:{وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ}

(1)

،

(6)

[(وَ) يَندَرِجُ في الإنشاءِ أيضًا: (قَسَمٌ)، نحوُ:{وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ}

(2)

،

(7)

(وَنِدَاءٌ) نحو: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ}

(3)

(4)

.

(وَ) مِن الإنشاءِ (صِيغَةُ عَقْدٍ وَفَسْخٍ) ونحوِها: وهو الَّذِي يَقتَرِنُ مَعناه بوجودِ لفظِه، نحوُ: بِعْتُ، واشتَريْتُ، وأعتقْتُ، وطَلَّقْتُ، وفَسَخْتُ، ونحوِها مِمَّا يُشابِهُ ذلك، مِمَّا يُستَحْدَثُ به الأحكامُ، فهي أخبارٌ في الأصلِ بلا شكٍّ، ولكنْ لَمَّا اسْتُعمِلَتْ في الشَّرعِ في مَعنى الإنشاءِ اختُلِفَ فيها هل هي باقيةٌ على أصلِها من الإخبارِ أو نُقِلَتْ؟ فأصحابُنا والأكثرُ على الثَّاني؛ لأنَّه لو كانَ خبَرًا لكانَ إمَّا: عن ماضٍ، أو حالٍ، أو مستقبلٍ، والأوَّلانِ باطلانِ؛ لِئلَّا يَلْزَمَ ألَّا يَقبَلَ الطَّلاقُ ونحوُه التَّعليقَ؛ لأنَّه يَقتضي تَوَقُّفَ شيءٍ لم يُوجَدْ على ما لم يُوجَدْ، والماضي والحالُ قد وُجِدَا، لكنَّ قَبولَه التَّعليقَ إجماعٌ، والمُستقبلُ يَلْزَمُ منه ألَّا يَقَعَ به شيءٌ؛ لأنَّه بمَنزلةِ: سأُطَلِّقُ، والغرضُ خلافُه إلى غيرِ ذلك مِن أدِلَّتِه.

(1)

البقرة: 216.

(2)

الأنبياء: 57.

(3)

البقرة: 21.

(4)

ليس في (د).

ص: 336

وأيضًا: لا خارجَ لها، ولا تَقبَلُ صدقًا، ولا كذبًا، ولو كانَتْ خبَرًا لَمَا قَبِلَتْ تعليقًا لكونِه ماضيًا، ولأنَّ العِلْمَ الضَّروريَّ قاطعٌ بالفرقِ بينَ: طَلَّقْتُ إذا قَصَدَ به الوقوعَ، وطَلَّقْتُ إذا قَصَدَ به الإخبارَ.

تنبيهٌ: قالَ الشَّيخُ: هذه الصِّيَغُ إنشاءٌ مِن حَيْثُ إنَّها أَثْبَتَتِ الحُكْمَ، وبها تَمَّ، وهي إخبارٌ لدَلالتها على المَعنى الَّذِي في النَّفسِ

(1)

.

(وَلَوْ قَالَ لِرَجْعِيَّةٍ: طَلَّقْتُكِ؛ طَلَقَتْ) في الأصحِّ؛ أي: على القولِ الَّذِي عليه الأكثرُ؛ لأنَّه إنشاءٌ للطَّلاقِ، فعلى هذا لا يُقبَلُ قولُه أنَّه أرادَ الإخبارَ.

(وَفِي وَجْهٍ) لنا: أنَّها تَطْلُقُ أيضًا (وَإِنِ

(2)

ادَّعَى) طلاقًا (مَاضِيًا).

قُلْتُ: قالَ في «شرحِ الأصلِ» : الظَّاهرُ أنَّه إنشاءٌ، وهو المُتعارفُ بينَ النَّاسِ، وهذا المَشهورُ في المذهبِ

(3)

.

لكنَّ ظاهرَ صنيعِ المُصنِّفِ يُخالِفُه؛ لِمَا تَقَدَّمَ في خطبتِه أنَّه قال: «متى قُلْتُ: في وجهٍ؛ فالمُقَدَّمُ غيره» ، فظاهرُه أنَّ المُعتمَدَ أنَّه لو قال لها: طَلَّقْتُك، وادَّعى طلاقًا ماضيًا فلا تَطلُقُ، فإنَّ قولَه:«طَلَّقْتُكِ» ، يَحتمِلُ أنَّه إخبارٌ عنِ الطَّلاقِ الماضي

(4)

الَّذِي كانَ أَوْقَعَه، فلم يَقَعْ عليها غيرُه، فلْيُتَأَمَّلْ.

(وَ) قولُ الشَّاهدِ (أَشْهَدُ) قيلَ: إخبارٌ، وقيلَ: إنشاءٌ، والمُختارُ أنَّه (إِنْشَاءٌ تَضَمَّنَ إِخْبَارًا) عمَّا في نَفْسِه، وإنَّما اختيرَ هذا القولُ؛ لاضطرابِ النَّاسِ في

(1)

ينظر: «التحبير شرح التحرير» (4/ 1715).

(2)

في «مختصر التحرير» (ص 108): ولو.

(3)

«التحبير شرح التحرير» (4/ 1715 - 1716).

(4)

ليست في (د).

ص: 337

ذلك، فقائلٌ بأنَّها إخبارٌ كما في كُتُبِ اللُّغةِ، وقائلٌ بأنَّها إنشاءٌ؛ لأنَّه لا يَدخُلُه تكذيبٌ شرعًا، فالقائلُ بالثَّالثِ: رَأَى كُلًّا مِن القولينِ له وجهٌ، فجَمَعَ بينَهما بأنْ قال: هو إنشاءٌ تَضَمَّنَ إخبارًا.

تنبيهانِ: ذَكَرَ القَرَافِيُّ فروقًا بين الخبَرِ والإنشاءِ:

أحدُها: قبولُ الخبَرِ

(1)

الصِّدقَ والكذبَ، بخلافِ الإنشاءِ.

الثَّاني: الخبَرُ تابعٌ لمُخبِرِه في أيِّ زمانٍ كانَ، ماضيًا كانَ، أو حالًا، أو مستقبلًا، والإنشاءُ مَتبوعٌ لمُتَعَلَّقِه، فيَتَرَتَّبُ عليه بعدَه.

الثَّالثُ: أنَّ الإنشاءَ سببٌ لوجودِ مُتَعَلَّقِه، فيَعقبُ آخِرَ حرفٍ منه على الخلافِ في ذلك، إلَّا أنْ يَمنَعَ مانعٌ، وليسَ الخبَرُ سببًا، ولا مُعَلَّقًا عليه، بل مُظْهِرٌ فقط

(2)

. انتهى.

إذا عَلِمْتَ ذلك: فهذه الفروقُ راجعةٌ إلى أنَّ الخبَرَ له خارجٌ يَصدُقُ أو يَكْذِبُ.

التَّنبيهُ الثَّاني: مِمَّا يَنبني على الفرقِ بينَهما أنَّ‌

‌ الظِّهارَ هل هو خبَرٌ أو إنشاءٌ

؟

قالَ القَرَافِيُّ: قد يُتَوَهَّمُ أنَّه إنشاءٌ، وليسَ كذلك؛ لأنَّ اللهَ تعالى أشارَ إلى تكذيبِ المُظاهِرِ ثلاثَ مَرَّاتٍ بقولِه تعالى:{مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا}

(3)

قال: ولأنَّه حرامٌ ولا سببَ لتحريمِه إلَّا كونُه كذبًا.

(1)

ليست في (د).

(2)

«نفائس الأصول في شرح المحصول» (2/ 845).

(3)

المجادلة: 2.

ص: 338

وأجابَ عمَّن قال: سببُ التَّحريمِ أنَّه قائمٌ مَقامَ الطَّلاقِ الثَّلاثِ، وذلك حرامٌ على رأيٍ، وأطالَ في ذلك.

لكنْ قال البِرْمَاوِيُّ: الظَّاهرُ أنَّه إنشاءٌ، خلافًا له، أعني: القَرَافِيَّ؛ لأنَّ مقصودَ النَّاطقِ به تحقيقُ معناه الخبَريِّ بإنشاءِ التَّحريمِ، فالتَّكذيبُ وَرَدَ على معناه الخبَريِّ، لا ما قَصَدَه مِن إنشاءِ التَّحريمِ، وهذا مِثْلُ قولِه:«أنتِ عليَّ حرامٌ» ، فإنَّ قَصْدَه إنشاءَ التَّحريمِ، فلذلك وَجَبَتِ الكفَّارةُ حَيْثُ لم يَقصِدْ به طلاقًا، ولا ظهارًا، إلَّا من حَيْثُ الإخبارُ.

ف‌

‌الإنشاءُ ضربانِ:

(1)

ضربٌ أَذِنَ الشَّارعُ فيه، كما أَرادَه المُنشِئُ، كالطَّلاقِ.

(2)

وضربٌ لم يَأْذَنْ فيه الشَّرعُ، ولكنْ رَتَّبَ عليه حُكمًا، وهو الظِّهارُ، رَتَّبَ فيه تحريمَ المرأةِ إذا عادَ حَتَّى يُكَفِّرَ.

وقولُه: «إنَّها حرامٌ» لا بقصدِ طلاقٍ أو ظهارٍ رَتَّبَ فيه التَّحريمَ حَتَّى يُكفِّرَ

(1)

.

(وَ‌

‌يَتَعَلَّقُ بِمَعْدُومٍ مُسْتَقْبَلٍ) اثْنَتَا عَشْرَةَ حقيقةً:

(أَمْرٌ، وَنَهْيٌ، وَدُعَاءٌ، وَتَرَجٍّ، وَتَمَنٍّ) ووجهُ اختصاصِها بالمُستقبلِ: أنَّ هذه الخمسةَ طَلَبٌ، وطلَبُ الماضي مُتَعَذِّرٌ، والحالُ موجودٌ، وطلبُ تحصيلِ الحاصلِ مُحالٌ، فتَعَيَّنَ المُستقبلُ.

(وَشَرْطٌ، وَجَزَاءٌ) لأنَّهما رَبْطُ أمرٍ، وتوقيفُ دخولِه في الوجودِ على وجودِ أمْرٍ آخَرَ، والتَّوقُّفُ في الوجودِ إِنَّمَا يَكُونُ في المستقبلِ.

ص: 339

(وَوَعْدٌ، وَوَعِيدٌ) لأنَّه حَثٌّ على مستقبلٍ، أو زجرٌ عن مستقبلٍ بما تَتَوَقَّعُه النَّفْسُ مِن خيرٍ في الوعدِ وشرٍّ في الوعيدِ، والتَّوقُّعُ لا يَكُونُ إلَّا في المستقبلِ.

(وَإِبَاحَةٌ) لأنَّها تخييرٌ بينَ الفعلِ والتَّركِ، والتَّخييرُ إِنَّمَا يَكُونُ في معدومٍ مستقبلٍ.

(وَعَرْضٌ وَتَحْضِيضٌ) لأنَّهما مُختَصَّانِ بالمُستقبلِ، فإنَّ قولَ القائلِ:«ألَا تَنْزِلُ عندَنا فنُكْرِمَكَ» ، لمُستقبلٍ معدومٍ، وكذا قولُه:«هلَّا تَنزِلُ عندَنا فنُكْرِمَك» ، لكنَّ هذا أشدُّ مِنَ العرضِ وأبلغُ.

ص: 340

(فَصْلٌ)

(الخَبَرُ) محصورٌ في قِسمَينِ لا يَخرُجُ عنهما مِن غيرِ واسطةٍ بينَهما على الصَّحيحِ: صدقٌ، وكذبٌ، وعليه الأكثرُ؛ لأنَّ الحُكمَ الَّذِي هو مدلولُ الخبَرِ: إمَّا مطابقٌ للخارجِ الواقعِ، أو غيرُ مطابقٍ،

(1)

فـ (إِنْ طَابَقَ) ما في الخارجِ: (فَـ) هو (صِدْقٌ) سواءٌ كانَ مع اعتقادِ مطابقةٍ أو لا.

(2)

(وَإِلَّا) بأنْ لم يَكُنْ مُطابِقًا: (فَـ) هو (كَذِبٌ).

قال الكُورَانِيُّ: الإنشاءُ: كلامٌ يَحصُلُ مَدلولُه من اللَّفظِ في الخارجِ، مثلُ: اضْرِبْ، ولا تَضْرِبْ؛ إذْ مَدلولُهما إِنَّمَا يَحصُلُ مِن لفظِهما، والخبَرُ بخلافِه؛ أي: ما له مَدلولٌ ربَّما طَابَقَتْه النِّسبةُ الذِّهنيَّةُ، وربَّما لا تُطابِقُه، فإذا تَصَوَّرتَ قيامَ زيدٍ، وحَكَمْتَ على زيدٍ بأنَّه قائمٌ، فإنْ كانَ قائمًا فقد طابَقَ حُكمُك لِما في الخارجِ، وهو قيامُ زيدٍ فكلامُك صِدقٌ، وإن لم يُطابِقْ فكَذِبٌ، فتَحَرَّرَ أنَّ صِدقَ الخبَرِ: مُطابقةُ حُكمِ المُتَكَلِّمِ للواقعِ، وكذبُه: عَدَمُها

(1)

.

(وَ) الصِّدقُ والكَذِبُ (يَكُونَانِ فِي) زَمَنٍ (مُسْتَقْبَلٍ كَـ) ـما يكونانِ في (مَاضٍ).

قالَ الإمامُ أحمدُ رَحِمَهُ اللهُ تعالى فيمَن قال: «لا آكُلُ» ، فأَكَلَ: هذا كذبٌ، لا يَنبغي أنْ يُفعَلَ

(2)

.

ص: 341

ولقولِه تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ}

(1)

، وقولِه تعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ}

(2)

إلى آخِرِ الآيةِ، فقالَ تعالى:{وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ}

(3)

فأَكْذَبَهم اللهُ تعالى.

وفي الأحاديثِ ما يَدُلُّ على ذلك

(4)

.

ورَدَّ أبو جعفرٍ النَّحَّاسُ على مَن أَنْكَرَ ذلك بقولِه تعالى: {خم سج سح سخ سم صح}

(5)

.

(وَمَوْرِدُهُمَا) أي: الصِّدقِ والكذبِ (النِّسْبَةُ الَّتِي تَضَمَّنَهَا) الخبَرُ.

قالَ في «شرحِ الأصلِ» : هذه قاعدةٌ مُهِمَّةٌ

(6)

أَهْمَلَها الأُصُوليُّونَ، وأُخِذَتْ مِن البَيانِيِّينَ كالسَّكَّاكِيِّ وغيرِه، وتقريرُها: أنَّ مَوْرِدَ الصِّدقِ والكذبِ: النِّسبةُ الَّتي تَضَمَّنَها الخبَرُ، لا واحدَ مِن طَرَفَيْها، وهو المسنَدُ والمسنَدُ

(7)

إليه، فإذا قِيلَ: زيدُ بنُ عمرٍو قائمٌ، فقيل: صَدَقْتَ أو كَذَبْتَ، فالصِّدقُ والكذبُ

(1)

النَّحل: 38.

(2)

الحشر: 11.

(3)

المنافقون: 1.

(4)

منها: ما رواه البخاري (4280) وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: «كَذَبَ سَعْدٌ، وَلَكِنْ هَذَا يَوْمٌ يُعَظِّمُ اللَّهُ فِيهِ الكَعْبَةَ» .

وما رواه مسلم (2495) عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ عَبْدًا لِحَاطِبٍ جَاءَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَشْكُو حَاطِبًا فقال: يَا رَسُولَ اللهِ لَيَدْخُلَنَّ حَاطِبٌ النَّارَ، فقال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«كَذَبْتَ لَا يَدْخُلُهَا، فَإِنَّهُ شَهِدَ بَدْرًا وَالْحُدَيْبِيَةَ»

(5)

الأنعام: 27.

(6)

في (ع)، (د): مهملة. والمثبت من «التحبير شرح التحرير» .

(7)

في (د): والمستند.

ص: 342

راجعانِ إلى القيامِ، لا إلى البُنُوَّةِ الواقعةِ في المسنَدِ إليه، ولهذا قال مالكٌ وبعضُ الشَّافعيَّةِ: إذا شَهِدَ شاهدانِ أنَّ فلانَ بنَ فلانٍ وَكَّلَ فلانًا فهي شهادةٌ بالوكالةِ فقط، ولا تُنسَبُ إليهما الشَّهادةُ بالنَّسَبِ البتَّةَ.

قُلْتُ: وقواعدُ مَذهبِنا تَقتضي ذلك

(1)

. انتهى.

قالَ الكُورَانِيُّ: لكنْ جَعَلَ الفقهاءُ هنا المقصودَ تَبَعًا كالمقصودِ أصالةً؛ لأنَّ تلك النِّسبةَ الإضافيَّةَ في قُوَّةِ الخبَريَّةِ

(2)

.

(وَمِنْهُ) أي: ومِن الخبَرِ ما هُوَ:

(مَعْلُومٌ صِدْقُهُ، و) ما هو معلومٌ (كَذِبُهُ، وَ) ما هو (مُحْتَمِلٌ) للصِّدقِ والكذبِ، وقد تَقَدَّمَ أنَّه مُحتمِلٌ لهما؛ أي: مِن حَيْثُ ذاتُه، لكنْ قد يَعرِضُ له ما يَقتضي القطعَ بصِدقِه أو كذبِه.

(فَالأَوَّلُ) وهو الَّذِي يَقتضي القطعَ بصِدقِه أنواعٌ:

أحدُها: ما هو (ضَرُورِيٌّ بِنَفْسِهِ) أي: بنَفْسِ الخبَرِ، بتَكَرُّرِ الخبَرِ مِن غيرِ نظرٍ (كَمُتَوَاتِرٍ): وهو الَّذِي بَلَغَتْ رُواتُه حدَّ التَّواتُرِ سواءٌ كان لفظيًّا، أو معنويًّا، على ما يَأتي تفسيرُهما.

(وَ) الثَّاني: مَا هُوَ ضَرُورِيٌّ (بِغَيْرِهِ) أي: بغيرِ نَفْسِ الخَبَرِ، (كَمُوَافِقٍ لِضَرُورِيٍّ) ويَعني به: ما يَكُونُ مُتَعَلَّقُه مَعلومًا لكلِّ أحدٍ مِن غيرِ كسبٍ وتَكَرَّرَ، نحوُ: الواحدُ نِصفُ الاثنينِ.

(وَ) الثَّالثُ: ما يَكُونُ غيرَ ضروريٍّ وهو (نَظَرِيٌّ كَخَبَرِ اللهِ تعالى، وَ) خبَرِ

ص: 343

(رَسُولِهِ) صلى الله عليه وسلم، (وَ) خبَرِ كلِّ الأُمَّةِ؛ أي:(الإِجْمَاعِ) لأنَّه حُجَّةٌ، فكلُّ واحدٍ مِن هذه الثَّلاثةِ عِلْمٌ بالنَّظرِ والاستدلالِ.

والرَّابعُ: ما يَكُونُ غيرَ ضروريٍ وغيرَ نظريٍ، وهو: خبَرٌ مُوافِقٌ للنَّظَرِيِّ، (وَ) هو خبَرُ (مَنْ وَافَقَ أَحَدَهَا) أي: أحدَ الثَّلاثةِ وهي خبَرُ اللهِ، وخبَرُ رسولِه، وخبَرُ الإجماعِ، كقولِنا: العالمُ حَادِثٌ، (أَوْ ثَبَتَ بِهِ) أي: بخبَرِ أحدِ هذه الثَّلاثةِ (صِدْقُهُ) يَعني إذا صَدَّقَه اللهُ أو

(1)

رسولُه أو

(2)

الإجماعُ وثَبَتَ ذلك.

(وَ) القِسْمُ (الثَّانِي) مِن الخبَرِ الَّذِي يَقتضي القطعَ بكَذِبِه: هو (مَا خَالَفَ مَا عُلِمَ صِدْقُهُ) وهو أنواعٌ أيضًا:

أحدُها: ما عُلِمَ خلافُه بالضَّرورةِ، كقولِ القائلِ: النَّارُ باردةٌ.

الثَّاني: ما عُلِمَ خلافُه بالاستدلالِ، كقولِ الفيلسوفِ: العالَمُ قديمٌ.

الثَّالثُ: أن يُوهِمَ أمرًا باطلًا مِن غيرِ أن يَقبَلَ التَّأويلَ لمُعارضتِه للدَّليلِ العقليِّ، كما لو اختلقَ بعضُ الزَّنادقةِ حَديثًا كذبًا على اللهِ، أو على رسولِه، يَتَحَقَّقُ أنَّه كذبٌ.

الرَّابعُ: أن يَدَّعِيَ شخصٌ الرِّسالةَ بغيرِ مُعجِزَةٍ.

(وَ) القِسْمُ (الثَّالثُ) مِن الخبَرِ: الَّذِي لا يُعلَمُ صدقُه ولا كَذِبُه ثلاثةُ أنواعٍ:

أحدُها: (مَا ظُنَّ صِدْقُهُ، كَـ) خبَرِ (عَدْلٍ) لرُجْحانِ صِدقِه على كذبِه، وخبَرُ العدلِ يَتفاوَتُ في الظَّنِّ.

(1)

في (د): و.

(2)

في (د): و.

ص: 344

(وَ) الثَّاني: ما ظُنَّ (كَذِبُه، كَـ) خبَرِ (كَذَّابٍ) لرُجْحَانِ كَذِبِه على صِدقِه، وهو مُتفاوِتٌ أيضًا.

(وَ) الثَّالثُ: (مَا شُكَّ فِيهِ) فيَستوي فيه الأمرانِ لعدمِ المُرَجِّحِ، (كَـ) خبرِ (مَجْهُولِ) الحالِ، (وَلَيْسَ كُلُّ خَبَرٍ لَمْ يُعْلَمْ صِدْقُهُ كَذِبًا).

وقالَ قومٌ: كلُّ خبَرٍ لم يُعلَمْ صِدقُه: كذبٌ، وقولُهم ذلك باطلٌ، واستدلُّوا لقولِهم بأنَّه لو كانَ صدقًا لنُصِبَ عليه دليلٌ، كخبَرِ مُدَّعِي الرِّسالةِ، فإنَّه إذا كانَ صدقًا دلَّ عليه بالمُعجزةِ، وهذا الاستدلالُ فاسدٌ لجَرَيانِ مِثْلِه في نقيضِ ما أَخْبَرَ به إذا أَخْبَرَ به آخَرُ، فيَلْزَمُ اجتماعُ النَّقيضينِ، ويُعلَمُ بالضَّرورةِ وقوعُ الخبَرِ بهما؛ أي: بالإخبارِ بشيءٍ وبنقيضِه؛ أي: ليسَ هذا مُحالًا أن يَقَعَ، بل هو معلومُ الوقوعِ.

وأيضًا فإنَّه يَلزَمُ العلمُ بكذبِ كلِّ شاهدٍ؛ إذْ لا يُعلَمُ صدقُه بدليلٍ، والعِلمُ بكَذِبِ كلِّ مسلمٍ في دَعوى إسلامِه؛ إذْ لا دليلَ على ما في باطنِه، وذلك باطلٌ بالإجماعِ والضَّرورةِ.

وأمَّا القياسُ على خبَرِ مُدَّعي الرِّسالةِ فلا يَصِحُّ؛ لأنَّه لا يُكَذَّبُ لعدمِ العِلمِ بصِدقِه بل للعِلمِ بكذبِه؛ لأنَّه بخلافِ العادةِ، فإنَّ العادةَ فيما يُخالِفُها أن يُصدَّقَ بالمُعجزةِ.

(وَمَدْلُولُهُ) أي: الخبَرِ: (الحُكْمُ بِـ) ثُبوتِ (النِّسْبَةِ، لَا ثُبُوتُهَا) أي: لا نَفْسُ الثُّبوتِ، فإذا قُلْتَ: زيدٌ قائمٌ، فمَدلولُه: الحُكْمُ بقيامِه، لا نفسُ ثُبُوتِ قيامِه؛ إذْ لو كانَ الثَّاني لَزِمَ منه ألَّا يَكُونَ شيءٌ مِن الخبَرِ كَذِبًا، بل يَكُونُ كُلُّه صدقًا، قالَه الرَّازيُّ

(1)

وجمعٌ.

(1)

«المحصول» (2/ 317).

ص: 345

(وَمِنْهُ) أي: الخبَرِ: (تَوَاتُرٌ) وآحَادٌ، وهذا التَّقسيمُ للسَّنَدِ وهو الأكثرُ، وربَّما أُطلِقَ على المتنِ ذلك، فيُقالُ: حديثٌ متواترٌ وآحادٌ، على مَعنى تواترِ أو آحادِ سَنَدِه.

(وَهُوَ) أي: التَّواتُرُ (لُغَةً: تَتَابُعُ) شيئينِ فأكثرَ، (بِمُهْلَةٍ) أي: شيءٍ بعدَ شيءٍ، ومنه قولُه تعالى:{ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى}

(1)

أصلُها: وِترًا، أُبْدِلَتِ التَّاءُ مِن الواوِ، وهو تَفاعُلٌ مِن الوترِ، وهو العَوْدُ.

قال في: «البدر المنير» : التَّواتُرُ: التَّتابُعُ، يُقالُ: تَوَاتَرَتِ الخَيْلُ إذا جاءَتْ تَتْبَعُ بَعْضُهَا بَعْضًا، ومنه: جاؤُوا تَتْرَى؛ أي: مُتَتَابِعِينَ وِترًا بعدَ وترٍ، والوِتْرُ: الفَرْدُ

(2)

.

(وَ) التَّواتُرُ (اصْطِلَاحًا: خَبَرُ عَدَدٍ) فالخبَرُ: كالجنسِ يَشمَلُ المُتواترَ وغيرَه، وبإضافتِه إلى عددٍ يَخرُجُ عنه خبَرُ الواحدِ.

وقولُه: (يَمْتَنِعُ مَعَهُ) أي: مع ذلك العددِ (لِـ) أجلِ (كَثْرَتِهِ: تَوَاطُؤٌ) فاعلُ «يَمْتَنِعُ» (عَلَى كَذِبٍ) مُتَعَلِّقٌ بـ: «تَوَاطُؤٌ» ، يَخرُجُ بهذا القيدِ خبَرُ عددٍ لم يَتَّصِفْ بالوصفِ المذكورِ.

وقولُه: (عَنْ مَحْسُوسٍ) أي: معلومٍ بأحدِ الحواسِّ الخمسِ، كمشاهدةٍ، أو سماعٍ مُتَعَلِّقٍ بـ:«خَبَرُ» فخَرَجَ ما كانَ عن معلومٍ بدليلٍ عقليٍّ: كإخبارِ أهلِ السُّنَّةِ دَهْرِيًّا بحدوثِ العالَمِ، فإنَّه لا يُوجِبُ له عِلْمًا لتَجْوِيزِه غَلَطَهم في الاعتقادِ، بل هو مُعتَقِدٌ ذلك، وأيضًا فعِلْمُ المُخبِرينَ به نظريٌّ.

(1)

المؤمنون: 44.

(2)

ينظر: «المصباح المنير» (2/ 647).

ص: 346

(أَوْ) خَبَرُ عَدَدٍ (عَنْ عَدَدٍ كَذَلِكَ) أي: يَمتَنِعُ معَه لكثرتِه تَواطُؤٌ على كذبٍ (إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى مَحْسُوسٍ).

والمُتواترُ (مُفِيدٌ لِلْعِلْمِ) فخرجَ خبَرُ عددٍ لا يُفِيدُ العِلمَ، بَلِ الظَّنَّ، وإنَّما قِيلَ:(بِنَفْسِهِ) ليَخرُجَ الخبَرُ الَّذِي صِدْقُ المُخبِرينَ فيه بسببِ القرائنِ الزَّائدةِ على ما لا يَنْفَكُّ عنِ المُتواترِ عادةً وغيرِها، وما لا يَنْفَكُّ عنِ المُتواترِ الشَّرائطُ المُعتَبَرَةُ في المُتواترِ:

- منها: بلوغُهم عَدَدًا يَمتنِعُ معَه التَّواطُؤُ على الكذبِ لكَثْرَتِهم،

- وأنْ يَكُونوا مُسْتَنِدِينَ في أخبارِهم إلى الحسِّ، لا إلى دليلٍ عقليٍّ كما تَقَدَّمَ،

- وأنْ يَكُونُوا مُسْتَوِينَ في طَرَفَيِ الخَبَرِ ووَسَطِه إنْ وُجِدَ.

والقرائنُ الزَّائدةُ المُفيدةُ للعِلْمِ:

- قد تَكُونُ عاديَّةً، كالقرائنِ الَّتي تَكُونُ على مَن يُخبِرُ بموتِ وَلَدِه مِن شقِّ الجيوبِ، والتَّفَجُّعِ.

- وقد تَكُونُ عقليَّةً: كخبَرِ جماعةٍ تَقتضي البديهةُ والاستدلالُ صِدقَه.

- وقد تَكُونُ حِسِّيَّةً: كالقرائنِ الَّتي تكُونُ على مَن يُخبِرُ عن عَطَشِه.

(وَ) العِلْمُ (الحَاصِلُ) بخبَرِ التَّواتُرِ (ضَرُورِيٌّ) عندَ أصحابِنا والأكثرِ؛ إذ لو كانَ نَظَريًّا لافْتَقَرَ إلى تَوَسُّطِ المُقَدِّمَتَينِ، ولمَا حَصَلَ لِمن ليسَ مِن أهلِ النَّظرِ، كالنِّساءِ، والصِّبيانِ، ولأنَّ الضَّروريَّ ما اضْطُرَّ العقلُ إلى التَّصديقِ به، وهذا كذلك، ولسَاغَ الخلافُ فيه عقلًا كسائرِ النَّظريَّاتِ.

ص: 347

(فَائِدَةٌ)

خبَرُ التَّواتُرِ لا يُولِّدُ العِلْمَ، بلِ العِلْمُ (يَقَعُ عِنْدَهُ بِفِعْلِ اللهِ تعالى) عندَ الفقهاءِ وغيرِهم؛ لأنَّ ما ثَبَتَ منَ الأصولِ أنَّه لا مُوجِدَ إلَّا اللهُ، وهو بمَنزِلَةِ إجراءِ العادةِ بخلْقِ الولَدِ مِن المَنِيِّ، وهو قادرٌ على خلْقِه بدونِ ذلك.

(وَهُوَ) أي: المُتواترُ قِسمانِ:

(1)

(لَفْظِيٌّ) وهو اشتِراكُهم في لفظٍ بعَينِه، ويَكُونُ في الكتابِ، والسُّنَّةِ، والإجماعِ.

فأمَّا الكتابُ: فقد تَقَدَّمَ أنَّ القِراءاتِ السَّبعَ متواترةٌ، وكذلك العشرُ على الأصحِّ.

وأمَّا الإجماعُ: فالمُتواترُ فيه كثيرٌ.

وأمَّا السُّنَّةُ: فالمُتواترُ فيها قليلٌ جدًّا، حَتَّى إنَّ بَعضَهم نَفاه إذا كانَ لفظيًّا، (كَحَدِيثِ:«مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ) مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»

(1)

.

قال الأكثرُ: إنَّه متواترٌ، فإنَّه قد نَقَلَه مِن الصَّحابةِ الجَمُّ الغفيرُ، رُوِيَ عن ثلاثينَ صحابيًّا بأسانيدَ صِحَاحٍ وحِسَانٍ، وعن خمسينَ صحابيًّا غيرِهم بأسانيدَ ضِعافٍ، وعن نحوِ عشرينَ آخرينَ بأسانيدَ ساقطةٍ، وقد اعتنى جماعةٌ بجَمعِ طُرُقِه

(2)

.

(2)

(وَ) قسمٌ (مَعْنَوِيٌّ: وَهُوَ تَغَايُرُ الأَلْفَاظِ مَعَ الِاشْتِرَاكِ فِي مَعْنًى كُلِّيٍّ) ولو كانَ المَعنى المُشتَركُ فيه بطريقِ اللُّزُومِ (كَحَدِيثِ الحَوْضِ) أي: حوضِ

(1)

رواه البخاريُّ (110)، ومسلمٌ (3) مِن حديثِ أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه.

(2)

منهم الطبراني في جزء مطبوع، وابن القيسراني.

ص: 348

النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَوْرَدَه البيهقيُّ في كتابِ «البعث والنُّشور»

(1)

، روايتُه عن أزيدَ مِن ثلاثينَ صحابيًّا، وأَفْرَدَه المَقْدِسيُّ

(2)

بالجمعِ، فإنَّه متواترٌ مَعنًى؛ لفُقدانِ شرطِ التَّواتُرِ في بعضِ طبقاتِه، وكالعِلْمِ بشجاعةِ عليٍّ (وَسَخَاءِ حَاتِمٍ) مع اختلافِ المُخبِرِينَ في الوقائعِ الدَّالَّةِ على ذلك، لاشتِراكِها في المدلولِ، وإنْ كانَتْ جِهةُ دَلالتِها: تارةً بالتَّضمُّنِ، وتارةً بالالتزامِ، وكثيرٌ مِن الوقائعِ على هذا الوجهِ، كقضايا

(3)

عليٍّ رَضِيَ اللهُ تعالى عنه في حُروبِه مِن أنَّه هَزَمَ في خيبَرَ كذا، وفَعَلَ في أُحُدٍ كذا، إلى غيرِ ذلك، فإنَّه يَدُلُّ بالالتزامِ على شجاعتِه، وقد تَوَاتَرَ ذلك منه، وإنْ كانَ شيءٌ مِن تلك الجُزئيَّاتِ لم يَبْلُغْ درجةَ القطعِ، وكوقائعِ حاتِمٍ فيما يُحكى مِن عطاياه مِن فَرَسٍ وإبلٍ وعينٍ وثوبٍ ونحوِها، فإنَّها تَتضَمَّنُ جُودَه، فيُعلَمُ، وإنْ لم يُعلَمْ شيءٌ مِن تلك القضايا بعَينِه.

(وَلَا يَنْحَصِرُ) عددُ التَّواتُرِ عندَ أصحابِنا والمُحقِّقينَ (فِي عَدَدٍ، وَ) الضَّابطُ حُصُولُ العِلْمِ في الخبَرِ، فـ (يُعْلَمُ) حُصُولُ العددِ (إِذَا حَصَلَ العِلْمُ) بالخبَرِ، (وَلَا دَوْرَ) إذْ حُصُولُ العِلْمِ معلولُ الإخبارِ، ودليلُه -كالشِّبَعِ، والرِّيِّ- معلولُ المُشْبَعِ والمَرْوِيِّ ودليلُهما، وإنْ لم يُعلَمْ ابتداءً ذلك القدرُ الكافي مِنهما، وما ذُكِرَ مِن التَّقديراتِ تَحَكُّمٌ لا دليلَ عليه.

نعمْ، لو أَمْكَنَ الوقوفُ على حقيقةِ اللَّحظةِ الَّتي يَحصُلُ بها

(4)

لنا العِلْمُ بالمُخبَرِ عنه فيها، أَمْكَنَ معرفةُ أقلِّ عددٍ يَحصُلُ العِلْمُ بخبَرِه، لكنَّ ذلك

(1)

«البعث والنُّشور» (ص 469، بَابُ ما جاء في حَوْضِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم.

(2)

ذكره الذهبي في ترجمته في «سير أعلام النبلاء» (23/ 128) وسماه: «ذكر الحوض» .

(3)

في (د): كقضاء.

(4)

ليست في (د).

ص: 349

مُتَعَذِّرٌ؛ إذِ الظَّنُّ يَتَزَايَدُ بتزايُدِ المُخبِرِينَ تَزايُدًا خَفِيًّا تدريجًا، كتزايُدِ النَّباتِ، وعقلِ الصَّبِيِّ، ونموِّ بدنِه، وضوءِ الصُّبْحِ، وحَرَكَةِ الفَيْءِ، فلا يُدرَكُ.

قالَ ابنُ مُفْلِحٍ: وضابطُه: ما حَصَلَ العِلْمُ عندَه للقَطعِ به مِن غيرِ عِلمٍ بعددٍ خاصٍّ، والعادةُ تَقطَعُ بأنَّه لا سبيلَ إلى وِجدانِه لحصولِه بتزايُدِ الظُّنُونِ على تَدريجِ خَفِيٍّ، كحصولِ

(1)

كمالِ العقلِ به ولا دليلَ للحصرِ

(2)

.

(وَ) العددُ الَّذِي يَحصُلُ العِلمُ بصِدقِ الخبَرِ عندَه (يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ القَرَائِنِ) أي: قرائنِ التَّعريفِ، مثلُ: الهيئاتِ المُقارِنةِ للخبَرِ المُوجِبَةِ لتعريفِ مُتَعَلَّقِه، ولاختلافِ أحوالِ المُخبِرينَ في اطِّلاعِهم على قرائنِ التَّعريفِ، ولاختلافِ إدراكِ المُسْتَمِعِينَ لتفاوُتِ الأذهانِ والقرائحِ، ولاختلافِ الوقائعِ على عِظَمِها وحقارَتِها.

(وَيَتَفاوَتُ المَعْلُومُ) على الأصحِّ عندَ أحمدَ والمُحقِّقينَ، فإنَّا نَجِدُ بالضَّرورةِ الفرقَ بينَ كونِ الواحدِ نِصفَ الاثنينِ، وبينَ ما عَلِمْناه مِن جهةِ التَّواتُرِ مع كونِ اليقينِ حاصلًا فيهما، وكيف يُنفَى التَّفاوُتُ مع قولِه عليه السلام:«ليسَ المُخْبَرُ كَالمُعَايِنِ»

(3)

.

(وَيَمْتَنِعُ:

اسْتِدْلَالٌ بِهِ) أي: بالتَّواتُرِ (عَلَى مَنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ بِهِ عِلْمٌ) أي: لو حَصَلَ التَّواتُرُ عندَ جماعةٍ، ولم يَحصُلْ عندَ آخرينَ، امْتَنَعَ الاستدلالُ به عندَ مَن

(1)

في (د): بحصول.

(2)

«أصول الفقه» (2/ 482 - 483).

(3)

رواه أحمدُ (1867)، وابنُ حبَّانَ (6213)، والحاكمُ (2/ 351) وصحَّحَه، مِن حديثِ ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«ليس الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ» .

ص: 350

حَصَلَ له على مَن لم يَحصُلْ له العِلْمُ به؛ لأنَّه يَقُولُ: ما تَدَّعِيه مِنَ التَّواتُرِ غيرُ مُسَلَّمٍ، فلا أَسمَعُه؛ لأنَّه ليسَ بمُتواترٍ عندي.

(وَ) يَمتنِعُ (كِتْمَانُ أَهْلِهِ) أي: أهلِ التَّواتُرِ (مَا) أي: شيئًا (يُحْتَاجُ إِلَى نَقْلِهِ) خلافًا للرَّافضةِ، حَيْثُ قالوا: لا يَمتنِعُ ذلك؛ لاعتقادِهم كتمانَ النَّصِّ على إمامةِ عليٍّ رضي الله عنه، واسْتَدَلُّوا بأنَّ النَّصارى وهم أكثرُ أُمَّةٍ تَرَكوا نقلَ كلامِ المسيحِ عليه السلام في المهدِ، مع أنَّه مِن أعجبِ حادثٍ حَدَثَ في الأرضِ.

قُلْنا: لأنَّه كانَ قبلَ نُبُوَّتِه، واتِّباعِهم له، وظهورِ أمْرِه، ولم يُعْنَ بذلك أحدٌ، والدَّواعي إِنَّمَا تَتَوَفَّرُ على نقلِ كلامِ النُّبُوَّةِ، وقد نُقِلَ أنَّ حاضري كلامِه لم يَكُونوا كثيرينَ، فاختلَّ شرطُ التَّواتُرِ في الطَّرفِ الأوَّلِ، (كَـ) امتناعِ (كَذِبٍ عَلَى عَدَدِهِمْ عَادَةً) يَعني أنَّ الكذبَ ممنوعٌ على عددِ التَّواتُرِ في العادةِ على الأصحِّ، وإنْ كانَ لا يُحيلُه العقلُ، لا لذاتِه، ولا يَلْزَمُ مِن فرضِ وقوعِه محالٌ، وهذا مأخذُ المسألةِ المُتقدِّمةِ في جوازِ ما يُحتاجُ إلى نَقلِه؛ لأنَّه إذا جازَ الكذبُ، فالكتمانُ أَوْلَى.

(وَلَا يُشْتَرَطُ:

(1)

إِسْلَامُهُمْ) أي: إسلامُ أهلِ التَّواتُرِ، واشْتَرَطَ بعضُ العلماءِ: الإسلامَ، والعدالةَ أيضًا، وإلَّا فقدَ أَخْبَرَ النَّصارى مع كَثْرَتِهم بقتلِ عيسى عليه الصلاة والسلام، ولم يَصِحَّ ذلك لكفرِهم، وأَخْبَرَ الإماميَّةُ بالنَّصِّ على إمامةِ عليٍّ كَرَّمَ اللهُ وَجهَه ولم تُقبَلْ أخبارُهم.

وجوابُه فيهما: أنَّ عددَ التَّواتُرِ فيما ذُكِرَ ليسَ في كلِّ طبقةٍ، فقد قَتَلَ بُخْتُ نَصَّرُ النَّصارى ولم يَبْقَ منهم إلَّا دونَ عددِ التَّواتُرِ.

ص: 351

إذا عَرَفْتَ ذلك، فلا يُشتَرَطُ الإسلامُ ولا العدالةُ، (وَلَوْ طَالَ الزَّمَنُ) بينَ وُقُوعِ المُخبَرِ به وبينَ الخبَرِ.

(2)

(وَلَا) يُشتَرَطُ أيضًا (ألَّا يَحْوِيَهُمْ) أي: أهلَ التَّواتُرِ (بَلَدٌ، وَلَا) ألَّا (يُحْصِيَهُمْ عَدَدٌ)؛ لأنَّ أهلَ الجامعِ لو أَخبَرُوا عن سقوطِ المُؤَذِّنِ عنِ المَنارةِ، أو الخطيبِ عنِ المِنْبَرِ، لكانَ إخبارُهم مُفيدًا للعِلْمِ فضلًا عن أهلِ بلدٍ.

(3)

(وَلَا) يُشتَرَطُ أيضًا في عددِ التَّواتُرِ (اخْتِلَافُ: نَسَبٍ، وَدِينٍ، وَوَطَنٍ) وشَرَطَ قومٌ الاختلافَ في ذلك؛ لتَنْدَفِعَ التُّهمةُ وهو باطلٌ؛ لأنَّ التُّهمةَ لو حَصَلَتْ لم يَحصُلِ العِلمُ سواءٌ كانوا على دينٍ واحدٍ، ومِن نَسَبٍ واحدٍ، في وطنٍ واحدٍ، أو لم يَكُونوا كذلك، وإنِ ارتَفَعَتْ حَصَلَ العلمُ كيف كانوا.

(4)

(وَلَا) يُشتَرَطُ أيضًا في أهلِ التَّواتُرِ (إِخْبَارُهُمْ طَوْعًا) فإنَّ الصِّدقَ لا يَمتنِعُ حصولُ العِلمِ به، وإلَّا فاتَ الشَّرطُ.

(5)

(وَلَا) يُشتَرَطُ أيضًا (ألَّا يَعْتَقِدَ) المُخبِرُ (خِلَافَهُ) أي: خلافَ ما أَخْبَرَ به، بل يَحصُلُ العِلمُ سواءٌ كانَ السَّامعُ يَعتقِدُ نقيضَ المُخبَرِ به، أم لا، فلا يَتَوَقَّفُ العلمُ على ذلك.

(وَمَنَ حَصَلَ بِخَبَرِهِ عِلْمٌ بِوَاقِعَةٍ لِشَخْصٍ: حَصَلَ) العِلْمُ (بِمِثْلِهِ) أي: بمِثْلِ ذلك الخبَرِ (بِغَيْرِهَا) أي: بغيرِ تلك الواقعةِ (لِـ) شخصٍ (آخَرَ).

قالَ ابنُ قاضي الجبلِ: كلُّ عددٍ أفادَ العِلمَ لشخصٍ في واقعةٍ مفيدٌ للعِلمِ لغيرِه في غيرِها، وإطلاقُه باطلٌ؛ إذ قد يَمْتَازُ الشَّخصُ بفَرْطِ ذكائِه في تلك الواقعةِ دونَ غيرِها، لكنْ هو صحيحٌ (مَعَ تَسَاوٍ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ) وهو بعيدٌ عادةً

(1)

.

ص: 352

(فَصْلٌ)

لَمَّا فَرَغَ مِن أحكامِ الخبَرِ المُتواتِرِ شَرَعَ يُبَيِّنُ أحكامَ الآحادِ، فقال:

(وَمِنَ الخَبَرِ: آحَادٌ) فالآحادُ: جمْعُ أحدٍ، كبَطَلٍ وأبطالٍ، وهمزةُ أَحَدٍ مُبْدَلَةٌ مِن الواحدِ، وأصلُ آحادٍ أَأْحَادٍ بهَمْزَتَينِ أُبْدِلَتِ الثَّانيةُ أَلِفًا كآدمَ.

(وَهُوَ) أي: خبَرُ الآحادِ: (مَا عَدَا التَّوَاتُرَ) فالأخبارُ قِسمانِ: تواترٌ، وآحادٌ، لا غيرُ، فلا واسطةَ بينَهما، فالآحادُ قسيمُ التَّواتُرِ، فخبَرُ الواحدِ ما لم يَنْتَهِ إلى رُتبةِ التَّواتُرِ: إمَّا بأنْ يَروِيَه مَن هو دونَ العددِ الَّذِي لا بدَّ مِنه في التَّواتُرِ على الخلافِ فيه، أو يَروِيَه عددُ التَّواتُرِ، ولكنْ لم يَنْتَهوا إلى إفادةِ العِلْمِ باستحالةِ تَواطُئِهم على الكذبِ، أو لم يَكُنْ ذلك في كلِّ الطَّبقاتِ، أو كانَ ولكنْ لم يُخبِروا عن محسوسٍ على القولِ باشتِراطِه في المُتواترِ، أو غيرِ ذلك مِمَّا يُعتبَرُ في المُتواترِ.

فالآحادُ: هو الَّذِي لا يُفِيدُ العِلْمَ واليقينَ، يَعني أنَّه لا يُفيدُ العلمَ الضَّروريَّ، فلا يَقْصُرُونَ اسمَ الآحادِ على ما يَرويه الواحدُ كما هو حقيقةٌ فيه، بل يُريدُون به ما لا يُفيدُ العِلْمَ ولو كانَ مِن عددٍ كثيرٍ، ولو أفادَ خبَرُ الواحدِ العِلمَ بانضمامِ قرائنَ، أو بالمُعجزةِ، فليسَ منه اصطلاحًا، فاصطلاحُهم مُخالِفٌ للُّغةِ طردًا وعكسًا.

(فَدَخَلَ) في الآحادِ مِن الأحاديثِ: خبَرٌ (مُسْتَفِيضٌ مَشْهُورٌ).

قالَ البِرْمَاوِيُّ: أرجحُ الأقوالِ وأقواها أنَّ المشهورَ قِسْمٌ مِن الآحادِ، ويُسَمَّى أيضًا: المُستفيضَ

(1)

.

ص: 353

(وَهُوَ) أي: المُستفيضُ: الأصحُّ أنَّه (مَا زَادَ نَقَلَتُهُ عَلَى ثَلَاثَةٍ) عدولٍ، فلا بدَّ أنْ يَكُونوا أربعةً فصاعدًا، ما لم يَتَوَاتَرْ.

(وَيُفِيدُ) الحديثُ المُستفيضُ المشهورُ (عِلْمًا نَظَرِيًّا)، وقالَ ابنُ فُورَكَ:«المُسْتَفِيضُ يُفِيدُ القَطْعَ»

(1)

فجَعَلَه مِن أقسامِ المتواترِ.

(وَغَيْرُهُ) أي: غيرُ المُستفيضِ مِن الأحاديثِ كخبَرِ الواحدِ العَدلِ (يُفِيدُ الظَّنَّ فَقَطْ) هذا هو الصَّحيحُ عندَ الإمامِ أحمدَ، والأكثرِ؛ لاحتمالِ السَّهْوِ والغلطِ ونَحوِهما، نَصَّ عليه الإمامُ أحمدُ في روايةِ الأَثرمِ، وأنَّه يُعمَلُ به، ولا يُشْهَدُ أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قالَه. وأَطلَقَ ابنُ عبدِ البَرِّ

(2)

وجماعةٌ أنَّه قولُ جمهورِ أهلِ الفقهِ والأثرِ والنَّصِّ؛ لأنَّه لو أَفادَ العِلْمَ لتَنَاقَضَ معلومانِ عندَ إخبارِ عَدلَينِ بمُتناقِضَينِ، فلا يَتَعَارَضُ خَبَرانِ، ولَثَبَتَتْ نُبُوَّةُ

(3)

مُدَّعِي النُّبُوَّةِ بقولِه بلا مُعجزةٍ، ولكانَ كالمُتواترِ فيُعارَضُ به المُتواترُ، ويَمتنِعُ التَّشكيكُ بما يُعارِضُه، وكَذِبُهُ وسَهْوُه وغَلَطُه، ولا يَتَزايَدُ بخبَرٍ ثانٍ وثالثٍ، ويُخطِئُ مَن خالَفَه باجتهادٍ، وذلك خلافُ الإجماعِ، فظاهِرُه أنَّه لا يُفيدُ العِلْمَ (وَلَوْ مَعَ قَرِينَةٍ) تَدُلُّ على صِدقِه.

وقيلَ: يُفيدُ العِلمَ بالقرائنِ.

قالَ في «شرحِ الأصلِ» : وهذا أظهرُ وأصحُّ، لكنْ قال المَاوَرْدِيُّ

(4)

: القرائنُ

(1)

ينظر: «تشنيف المسامع» للزَّركشي (2/ 958)، و «الغيث الهامع» لابن العراقي (ص 416).

(2)

«التمهيد» (1/ 7).

(3)

ليست في (د).

(4)

كذا في (د)، (ع)، و «التحبير شرح التحرير» ، و «شرح الكوكب المنير» (2/ 349). وفي:«الفوائد السَّنية» (2/ 47) عزاه للمازري، ولعله الصواب، فالنص في كتاب المازري:«إيضاح المحصول من برهان الأصول» (ص 424).

ص: 354

لا يُمكِنُ أنْ تُضبَطَ بعبارةٍ. وقالَ غيرُه: يُمكِنُ أنْ تُضبَطَ بما تَسْكُنُ إليه النَّفسُ، كسُكُونِها إلى المتواترِ، أو قريبٍ منه، بحَيثُ لا يَبقى فيه احتمالٌ عندَه.

ومِن القرائنِ المُفيدةِ للقَطعِ: الإخبارُ بحَضْرَتِه صلى الله عليه وسلم ولا يُنْكِرُه، أو بحَضرَةِ جَمْعٍ يَستحيلُ تَواطُؤُهم على الكذبِ ونَحْوِه

(1)

. انتهى.

(إِلَّا إِذَا نَقَلَهُ) أي: نَقَلَ غيرَ المستفيضِ (آحَادُ الأَئِمَّةِ المُتَّفَقِ عَلَيْهِمْ) أي: على عَدَالَتِهِمْ ودِينِهم، (مِنْ طُرُقٍ مُتَسَاوِيَةٍ، وَتُلُقِّيَ) المنقولُ (بَالقَبُولِ؛ فَـ) ـإنَّه يُفِيدُ (العِلْمَ فِي قَوْلِ) المُحَقِّقينَ مِن أصحابِنا وغيرِهم.

قالَ القاضي مِنهم: هذا المذهبُ.

وقالَ أبو الخَطَّابِ

(2)

: هذا ظاهرُ كلامِ أصحابِنا. ولم يَحْكِ فيه خلافًا.

قالَ ابنُ الصَّلَاحِ: ما أَسْنَدَه البخاريُّ ومسلمٌ

(3)

العِلْمُ اليقينيُّ النَّظريُّ واقعٌ به، خلافًا لمَن نَفَى ذلك مُحتَجًّا بأنَّه لا يُفيدُ في أصلِه إلَّا الظَّنَّ، وإنَّما تَلَقَّتْه الأُمَّةُ بالقَبولِ؛ لأنَّه يَجِبُ عليهم العملُ بالظَّنِّ، والظَّنُّ قد يُخطِئُ.

قالَ: وقد كُنْتُ أَمِيلُ إلى هذا وأَحْسَبُه قويًّا، ثمَّ ظَهَرَ لي أنَّ المذهبَ الَّذِي اختَرْناه أوَّلًا هو الصَّحيحُ؛ لأنَّ ظَنَّ مَنْ هو معصومٌ مِنَ الخطأِ لا يُخطِئُ، والأُمَّةُ في إجماعِها معصومةٌ مِن الخطأِ

(4)

.

قالَ النَّوويُّ: وخالفَ ابنَ الصَّلاحِ المُحَقِّقُونَ وَالأَكْثَرُونَ، وقَالُوا: يُفِيدُ الظَّنَّ مَا لَمْ يَتَوَاتَرْ

(5)

.

(1)

«التحبير شرح التحرير» (4/ 1812 - 1813).

(2)

«التمهيد في أصول الفقه» (3/ 83).

(3)

ليست في (ع).

(4)

«مَعرِفَةُ عُلومِ الحديثِ» (1/ 97).

(5)

«التَّقريبُ والتَّيسيرُ» (ص: 28).

ص: 355

(وَيُعْمَلُ بِآحَادِ) الأحاديثِ عندَ الإمامِ أحمدَ وأكثرِ أصحابِه وغيرِهم، وحُكِيَ إجماعًا (فِي أُصُولِ) الدِّينِ.

قالَ الإمامُ أحمدُ: لا نَتَعَدَّى القرآنَ والحديثَ

(1)

.

وقالَ القاضي: يُعمَلُ به فيها فيما تَلَقَّتْه الأُمَّةُ بالقبولِ

(2)

.

وقالَ أبو الخَطَّابِ

(3)

، وابنُ عَقِيلٍ

(4)

، وغيرُهما: لا يُعمَلُ به فيها.

قالَ في «شرحِ الأصلِ» : وقد تَقَدَّمَ قريبًا أنَّه لا يُفيدُ العِلْمَ، وإنَّما يُفيدُ الظَّنَّ، ولأنَّ طريقَها العِلْمُ ولا يُفيدُها خبَرُ الآحادِ. وبنى البِرْمَاوِيُّ

(5)

المسألةَ على أنَّه يُفيدُ العِلْمَ أو لا؟ إنْ قُلْنا: يُفيدُ العِلْمَ: عُمِلَ به فيها، وإلَّا: فلا

(6)

.

فائدةٌ: لنا في تكفيرِ مُنْكِرِ خَبَرِ الآحادِ وجهانِ، (وَ) الأصحُّ:(لَا يُكَفَّرُ مُنْكِرُهُ) والخلافُ مَبنيٌّ على القولينِ بأنَّه يُفيدُ العِلْمَ، أو لا؟ فإنْ قُلْنا: إنَّه يُفيدُ العِلْمَ: كَفَرَ مُنكِرُه، وإلَّا: فلا.

قالَ في «شرحِ الأصلِ» : وهو الظَّاهِرُ، لكنَّ التَّكفيرَ بمُخالفةِ المُجمَعِ عليه لا بدَّ أنْ يَكُونَ مَعلومًا مِن الدِّينِ بالضَّرورةِ كما سَبَقَ آخِرَ الإجماعِ، فهذا أَوْلَى؛ إذ لا يَلْزَمُ مِن القطعِ أنْ يُكَفَّرَ مُنْكِرُه

(7)

.

ص: 356

(وَمَنْ أَخْبَرَ) عن شيءٍ (بِحَضْرَتِهِ) أي: حضرةِ الرَّسولِ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يُنْكِرْ) ـه النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، دَلَّ على صِدقِه ظنًّا لا قطعًا، في ظاهرِ كلامِ أصحابِنا وغيرِهم، لتَطَرُّقِ الاحتمالِ؛ لاحتمالِ أنَّه ما سَمِعَه، أو ما فَهِمَه، أو أخَّرَه لأمرٍ يَعلَمُه، أو بَيَّنَه قبلَ ذلك الوقتِ ونحوِه، وظاهرُه: سواءٌ كانَ الأمرُ دينيًّا أو دُنيويًّا.

وقيلَ: يَدُلُّ على صِدقِه قطعًا؛ لأنَّه صلى الله عليه وسلم لا يُقَرِّرُ

(1)

الباطلَ، وتَقَدَّمَ قريبًا كلامُ صاحبِ «الأصلِ» في الشَّرحِ.

(أَو) أَخْبَرَ عن شيءٍ بحضرةِ (جَمْعٍ عَظِيمٍ وَلَمْ يُكَذِّبُوهُ) فيما أَخْبَرَ به؛ (دَلَّ عَلَى صِدْقِهِ ظَنًّا) لا قطعًا، اختارَه الآمِدِيُّ

(2)

والرَّازِيُّ

(3)

؛ إذْ ربَّما خَفِيَ عليهم حالُ ذلك الخبَرِ، والقولُ بأنَّه يَبعُدُ خفاؤُه لا يُفيدُ القطعَ وهو ظاهرٌ، وقَدَّمَه ابنُ مُفْلِحٍ

(4)

ونَصَرَه.

(وَكَذَا) في‌

‌ الدَّلالةِ على صدقِ الخبَرِ ظنًّا:

(مَا) أي: خبَرٌ (تَلَقَّاهُ) الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم بِالقَبُولِ، كَإِخْبَارِهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ) في قِصَّةِ الجَسَّاسَةِ وهو في «صحيحِ مسلمٍ»

(5)

، فإنَّه صَدَّقَه ووافَقَ ما كانَ يُخبِرُ به صلى الله عليه وسلم عنِ الدَّجَّالِ.

(وَ) مِمَّا يَدُلُّ على صِدْقِ الخبَرِ ظنًّا: (إِخْبَارُ شَخْصَيْنِ عَنْ قَضِيَّةٍ يَتَعَذَّرُ عَادَةً تَوَاطُؤُهُمَا عَلَيْهَا) يَعني على الكذبِ فيها، (أَوْ عَلَى كَذِبٍ وَخَطَأٍ) قالَه ابنُ مُفْلِحٍ في «أصولِه»

(6)

مُقتَصِرًا عليه مِن غيرِ خلافٍ.

(1)

في (ع): يقر.

(2)

«الإحكام» (2/ 62).

(3)

«المحصول» (2/ 407).

(4)

«أُصول الفقه» (2/ 496).

(5)

«صحيح مسلمٍ» (2942).

(6)

«أصول الفقه» (2/ 497).

ص: 357

(وَلَوِ انْفَرَدَ مُخْبِرٌ فِيمَا) أي: خبَرٍ (تَتَوَفَّرُ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ) أي: نَقْلِ ذلك الخبَرِ، (وَقَدْ شَارَكَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ، فَكَاذِبٌ قَطْعًا).

مثالُ ذلك: أنْ يَنْفَرِدَ مُخبِرٌ بأنَّ مَلِكَ المدينةِ قُتِلَ عقبِ الجُمُعةِ في وَسَطِ الجامعِ، أو قُتِلَ خطيبُها على المِنبَرِ، فإنَّه يُقطَعُ بكذبِه عندَ الجميعِ مِن العلماءِ المُعتبرينَ، وخالَفَ في ذلك الشِّيعةُ.

لنا: الكذبُ بمِثْلِ هذا عادةٌ، فإنَّ العادةَ تُحِيلُ السُّكوتَ عنه، ولو جازَ كِتمانُه لجازَ الإخبارُ بالكذبِ، وكتمانُ مِثْلِ مَكَّةَ وبغدادَ، وبمِثْلِه نَقطَعُ بكَذِبِ مُدَّعِي مُعارضةِ القُرآنِ، والنَّصِّ على إمامةِ عليٍّ رضي الله عنه[كما تَدَّعِيه الشِّيعةُ]

(1)

.

(وَيُعْمَلُ بِخَبَرِ الوَاحِدِ فِي:

فَتْوَى،

وَ) في (حُكْمٍ)؛ لأنَّه في المَعنى فَتوى، وزيادةُ التَّنفيذِ بشُروطِه المعروفةِ،

(وَ) في (شَهَادَةٍ) إجماعًا، سواءٌ شُرِطَ العددُ أو لا؛ لأنَّه لم يَخرُجْ عنِ الآحادِ،

(وَ) في (أُمُورٍ دُنْيَوِيَّةٍ

(2)

على الصَّحيحِ؛ أي: في الرِّوايةِ في الأُمورِ الدُّنيويَّةِ، كالمُعاملاتِ ونَحوِها، لكنْ قالَ في «التَّمهيدُ»: مَذهَبُ كثيرٍ ممَّن قال: لا يُقبَلُ خبَرُ الواحدِ، لا يَلْزَمُ قبولُ قولِ مُفْتٍ واحدٍ

(3)

.

(1)

ليس في «د» .

(2)

في «مختصر التحرير» (ص 114): دنيوية ودينية.

(3)

«التمهيد في أصول الفقه» (3/ 38).

ص: 358

(وَالعَمَلُ بِهِ) أي: بخبَرِ الواحدِ (جَائِزٌ عَقْلًا) عندَ جماهيرِ العلماءِ؛ لأنَّه لا يَلْزَمُ منه مُحالٌ، وليسَ احتمالُ الكذبِ والخطأِ بمانعٍ، وإلَّا لمُنِعَ في الشَّاهدِ والمُفتي، ولا يَلْزَمُ الوصولُ لِما سَبَقَ في إفادتِهِ العِلْمَ، ولا نُقِلَ القُرآنُ لقضاءِ العادةِ فيه بالتَّواتُرِ، ولا التَّعبُّدُ في الإخبارِ عنِ اللهِ تعالى بلا مُعجزةٍ؛ لأنَّ العادةَ تُحِيلُ صِدقَه بدونِها، ولا التَّناقُضُ بالتَّعارُضِ؛ لأنَّه يَندفِعُ بالتَّرجيحِ، أو التَّمييزِ، أو الوقفِ، ثمَّ قُولُوا بالتَّعبُّدِ ولا تَعارُضَ.

إذا تَقَرَّرَ ذلك، فلا يَجِبُ العملُ بخبَرِ الواحدِ عقلًا على الصَّحيحِ، بل هو (وَاجِبٌ سَمْعًا) في الأمورِ الدِّينيَّةِ عندَ أكثرِ العلماءِ.

قالَ ابنُ القاصِّ

(1)

: لا خلافَ بينَ أهلِ الفقهِ في قَبولِ

(2)

خبَرِ الآحادِ

(3)

.

فأصحابُ هذا القولِ اتَّفقوا على أنَّ الدَّليلَ السَّمعيَّ دَلَّ عليه مِن الكتابِ والسُّنَّةِ وعَمَلِ الصَّحابةِ، ورجوعِهم، كما ثَبَتَ ذلك بالتَّواتُرِ.

واسْتَدَلُّوا: بأنَّه قد كَثُرَ جدًّا قبولُه والعملُ به في الصَّحابةِ والتَّابعينَ، شائعًا مِن غيرِ نكيرٍ، يَحصُلُ به إجماعُهم عليه عادةً قطعًا.

- فمنه: قول أبي بكر الصديق رَضِيَ اللهُ تعالى عنه لمَّا جاءتهُ الجَدَّةُ تطلبُ مِيرَاثَها: مَا لَكِ فِي كِتَابِ اللَّهِ شَيْءٌ، وَمَا عَلِمْتُ لَكِ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا، فَارْجِعِي حَتَّى أَسْأَلَ النَّاسَ، فَسَأَلَ النَّاسَ، فَقَالَ المُغِيرَةُ: حَضَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَعْطَاهَا السُّدُسَ، فقَالَ: هَلْ مَعَكَ غَيْرُكَ؟

(1)

هو: الشَّيْخ الإمام أحمد بن أبى أحمد الطبرى أبو العباس ابن القاص، إمام عصره وصاحب التصانيف المشهورة، وله مُصنَّفٌ فى أصول الفقه. ينظر:«طبقات الشافعية» للسبكي (3/ 59).

(2)

ليست في (د).

(3)

ينظر: «الفوائد السَّنية» للبِرماوي (2/ 42).

ص: 359

فَقَالَ مُحَمَّدُ بنُ مَسْلَمَةَ مِثْلَهُ، فَأَنْفَذَهُ لَهَا أَبُو بَكْرٍ. رَوَاه أحمد والأربعة

(1)

، وقالَ التِّرمذيُّ: حسنٌ صحيحٌ.

- واستشار عمر رضي الله عنه النَّاسَ فِي الجَنِينِ، فقال المُغيرةُ: قَضَى فيهِ رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالغُرَّةِ، عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ، فقَالَ: لَتَأْتِيَنَّ بِمَنْ يَشْهَدُ مَعَكَ، فَشَهِدَ لهُ مُحمَّدُ بنُ مَسْلَمَةَ. مُتَّفقٌ عليه

(2)

.

- وأخذ عُمرُ بَخَبَرِ

(3)

عبدِ الرَّحمنِ بنِ عَوْفٍ فِي أَخْذِ الجِزْيَةِ مِنَ المَجُوسِ. رَوَاه البُخارِيُّ

(4)

.

وفيه عنِ ابنِ عمرَ: أنَّ سعدًا حدَّثهُ أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَسَحَ عَلَى الخُفَّيْنِ، فَسَأَلَ ابنُ عُمرَ أباهُ عنهُ، فقَالَ: نَعَمْ، إِذَا حَدَّثَكَ سَعْدٌ عَنْ رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَلَا تَسْأَلْ عَنْهُ غَيْرَهُ

(5)

.

وتَحَوَّلَ أهلُ قُباءَ إلى القِبلةِ بِخَبَرِ واحدٍ. رَوَاه أحمدُ، ومسلمٌ، وأبو داودَ مِن حديثِ أبي هُرَيْرَةَ

(6)

، ومعناه في الصَّحيحينِ

(7)

مِن حديثِ ابنِ عمرَ.

وغيرُ ذلك مِمَّا يَطُولُ.

(1)

رواه أحمدُ (18263)، وأبو داودَ (2894)، والتِّرمذيُّ (2101)، والنَّسائيُّ في «الكبرى» (6305)، وابنُ ماجه (2724).

(2)

رواه البخاريُّ (6905)، ومسلمٌ (1689).

(3)

في (ع): بقول.

(4)

«صحيح البخاري» (3157) وفيه: وَلَمْ يَكُنْ عُمَرُ أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنَ الْمَجُوسِ، حَتَّى شَهِدَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَخَذَهَا مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ.

(5)

«صحيح البخاري» (202).

(6)

إنَّما رواه أحمدُ (14250)، ومسلمٌ (526)، وأبو داودَ (1045) مِن حديثِ أنسٍ رضي الله عنه.

(7)

«صحيح البخاري» (403)، و «صحيح مسلم» (526).

ص: 360

لا يُقالُ أخبارُ آحادٍ، فيَلْزَمُ الدَّورُ؛ لأنَّها مُتواترةٌ كما سَبَقَ في أخبارِ الإجماعِ.

ولا يُقالُ: يُحتَمَلُ أنَّ عملهم بغيرِها؛ لأنَّه محالٌ عادةً، ولم يُنْقَلْ، بل المنقولُ خلافُه، كما سَبَقَ، والسِّياقُ يَدُلُّ عليه.

ولا يُقالُ: أَنْكَرَ عمرُ خبَرَ أبي موسى في الاستئذانِ حَتَّى رَوَاه أبو سعيدٍ، مُتَّفَقٌ عليه

(1)

؛ وكانَ عمرُ يَفعَلُ ذلك سياسةً، ولهذا قال لأبي موسى:«لَمْ أَتَّهِمْكَ، وَخَشِيتُ أَنْ يَتَقَوَّلَ النَّاسُ، أَوْ لِلرِّيبَةِ»

(2)

.

تنبيهٌ: إِنَّمَا يُعمَلُ بخبَرِ الآحادِ حَيْثُ لا طريقَ إلى العِلْمِ، فأمَّا إذا كانَ للعِلْمِ طريقٌ: فاختُلِفَ في ذلك.

قالَ ابنُ مُفْلِحٍ: وذَكَرَ بعضُ أصحابِنا عن أبي الخَطَّابِ

(3)

: إنْ أَمْكَنَه سؤالُه صلى الله عليه وسلم: فكاجتهادِه، واختيارُه

(4)

: لا يَجُوزُ، وأنَّ بقيَّةَ أصحابِنا القاضي

(5)

وابنِ عَقِيلٍ

(6)

: يَجُوزُ إنْ أَمْكَنَه سؤالُه، أو الرُّجُوعُ إلى التَّواتُرِ مُحْتَجِّينَ به في المسألةِ

(7)

.

(1)

رواه البخاريُّ (6245)، ومسلمٌ (2153).

(2)

هو في روايةِ مالكٍ (2768)، وأبي داودَ (5183) بنحوِه.

(3)

«التمهيد في أصول الفقه» (3/ 188).

(4)

أي: اختيارِ أبي الخَطَّابِ.

(5)

«العُدة في أصول الفقه» (3/ 986).

(6)

ينظر: «المسودة في أصول الفقه» (ص 239).

(7)

«أصول الفقه» (2/ 515).

ص: 361

(فَصْلٌ)

(الرِّوَايَةُ): هي (إِخْبَارٌ) لا إنشاءٌ (عَنْ) أمْرٍ (عَامٍّ) لا خاصٍّ: مِن قولٍ، أو فعلٍ (لَا يَخْتَصُّ) واحدٌ مِنهما (بِـ) شخصٍ (مُعَيَّنٍ، وَلَا تَرَافُعَ فِيهِ) أي: في هذه الأخبارِ (مُمْكِنٌ عِنْدَ الحُكَّامِ.

وعَكْسُهُ) أي: عكسُ ما ذُكِرَ: (الشَّهَادَةُ) وقد خاضَ جماعةٌ غَمرَه، وأكثرُ ما يُفَرِّقُون بينَ الرِّوايةِ والشَّهادةِ باختلافِهما في الأحكامِ، كاشتِراطِ العَددِ في الشَّهادةِ، والحُرِّيَّةِ على قولٍ، والذُّكوريَّةِ في صورٍ، ولا يَخْفَى أنَّ هذه أحكامٌ مُتَرَتِّبَةٌ على معرفةِ الحقيقةِ، فلو عُرِّفَتِ

(1)

الحقيقةُ بها لَزِمَ الدَّوْرُ.

قالَ القَرَافِيُّ

(2)

: أَقَمْتُ مُدَّةً أَتَطَلَّبُ الفرقَ بينَهما حَتَّى ظَفِرْتُ في «شَرحِ البُرهانِ» للمَازِرِيِّ، فذَكَرَ ما حاصلُه: أنَّ الخبَرَ إنْ كانَ عن عامٍّ لا يَختَصُّ بمُعيَّنٍ ولا تَرافُعَ فيه مُمكِنٌ عندَ الحُكَّامِ فهو الرِّوايةُ، وإنْ كان خاصًّا وفيه تَرافُعٌ مُمكِنٌ فهو الشَّهادةُ.

وعُلِمَ مِن هذا الفرقِ المعنى فيما اختَصَّتْ به الشَّهادةُ مِن العددِ، والذُّكوريَّةِ، والحُرِّيَّةِ ونَحوِها، واحتُرِزَ:«بإمكانِ التَّرافُعِ» عنِ «الرِّوايةِ عن خاصٍّ مُعَيَّنٍ» ، فإنَّه لا تَرافُعَ فيه مُمكِنٌ. انتهى مُلَخَّصًا، قالَه في «شرحِ الأصلِ»

(3)

.

وفَصَّلَ بعضُهم المَعنى فيما اعتُبِرَ في الشَّهادةِ، أمَّا العددُ فإنَّها لَمَّا تَعَلَّقَتْ بمَعنًى تَطَرَّقَتْ إليها التُّهمةُ باحتمالِ العداوةِ؛ فاحْتِيطَ بإبعادِ التُّهمةِ بالعددِ

(1)

في «التحبير شرح التحرير» : ثبتت. وفي «الفوائد السَّنية» (2/ 106): عرفت. كما في (د)، (ع).

(2)

«الفروق» (1/ 5).

(3)

«التحبير شرح التحرير» (4/ 1961).

ص: 362

بخلافِ الرِّوايةِ، وأمَّا الذُّكُورَةُ حَيْثُ اشْتُرِطَتْ، فإنَّ إلزامَ المُعَيَّنِ فيه نوعُ سَلْطَنَةٍ وقَهْرٍ، والنُّفُوسُ تَأْبَاه، ولا سِيَّما مِنَ النِّساءِ؛ لنَقْصِ عَقْلِهِنَّ ودِينِهِنَّ، بخلافِ الرِّوايةِ؛ لأنَّها عامَّةٌ تَتَأَسَّى فيها النُّفوسُ فيَخِفُّ الألمُ، وأيضًا فلِنَقْصِ النِّساءِ بكثرةِ غَلَطِهِنَّ، ولا يَنْكَشِفُ ذلك غالبًا في الشَّهادةِ لانْقِضائِها بانقضاءِ زَمانِها

(1)

بخلافِ الرِّوايةِ، فإنَّ مُتَعَلَّقَها بالعُمومِ يَقَعُ الكشفُ عنها، فيَتَبيَّنُ ما عَساه وَقَعَ مِن البَراءةِ مِن غلطٍ ونَحوِه.

(وَمِنْ شُرُوطِ رَاوٍ:

(1)

عَقْلٌ) إجماعًا؛ إذ لا وَازِعَ لغيرِ عاقلٍ يَمْنَعُه مِن الكذبِ، ولا عبادةَ أيضًا، كالطِّفلِ.

(2)

(وَ) مِنها (إِسْلَامٌ) إجماعًا؛ لتُهمةِ عداوةِ الكافرِ للرَّسولِ صلى الله عليه وسلم ولشَرعِه.

(3)

(وَ) مِنها (بُلُوغٌ) عندَ الأربعةِ وغيرِهم؛ لاحتمالِ كَذِبِ مَن لم يَبْلُغْ، كالفاسقِ بل أَوْلَى؛ لأنَّه غيرُ مُكَلَّفٍ فلا يَخافُ العقابَ، ولا يُقبَلُ إقرارُه على نَفْسِه، فهنا أَوْلى.

(4)

(وَ) مِنها (ضَبْطٌ) لِئلَّا يُغَيِّرَ اللَّفظَ والمعنى، فلا يُوثَقُ به، والشَّرطُ: غَلَبَةُ ضَبْطِه، وذِكْرُه على سَهْوِه لحصولِ الظَّنِّ إذًا، وفي «الواضح»

(2)

لابنِ عَقِيلٍ قولُ أحمدَ وقيلَ له: متى يُتْرَكُ حديثُ الرَّجُلِ؟ قال: إذا غَلَبَ عليه الخطأُ، فإنْ جُهِلَ حالُ الرَّاوي لم تُقْبَلْ روايتُه، ذَكَرَه المُوَفَّقُ

(3)

وغيرُه؛ لأنَّه لا غالبَ لحالِ الرُّواةِ.

(1)

في (ع): زمنها.

(2)

ينظر: «أصول الفقه» (2/ 528).

(3)

«شرح مختصر الرَّوضة» (1/ 334).

ص: 363

(5)

(وَ) مِنها (عَدَالَةٌ) إجماعًا؛ لِما سَبَقَ مِن الأدلَّةِ، وهو كافٍ (ظَاهِرًا وَبَاطِنًا) كالشَّهادةِ.

قالَ في «شرحِ الأصلِ» : وهذا المذهبُ، وعليه أكثرُ العلماءِ

(1)

.

(وَمَنْ رَوَى) حَالَ كَوْنِه (بَالِغًا مُسْلِمًا عَدْلًا، وَقَدْ تَحَمَّلَ) حالَ كونِه (صَغِيرًا) عاقلًا (ضَابِطًا): قُبِلَ عندَ الإمامِ أحمدَ، وأكثرِ العلماءِ؛ لإجماعِ الصَّحابةِ ومَن بَعدَهم على قبولِ مِثْلِ ابنِ عبَّاسٍ، وابنِ الزُّبيرِ وأشباهِهما، ولإسماعِ

(2)

الصَّغيرِ.

(أَوْ) تَحَمَّلَ حالَ كَونِه (كَافِرًا) ضابطًا، (أَوْ فَاسِقًا) ضابطًا، وأَدَّى مُسلمًا عدلًا:(قُبِلَ) ما أَدَّاه لاجتماعِ الشُّروطِ فيه حالَ أدائِه.

والعدالةُ لغةً: التَّوسُّطُ في الأمرِ مِن غيرِ زيادةٍ ولا نقصانٍ.

(وَ) العدالةُ اصْطِلاحًا: (هِيَ صِفَةٌ رَاسِخَةٌ) والصِّفةُ: هي المَلَكَةُ؛ لأنَّهم فَسَّرُوها بها، فالمَلَكَةُ: هي الصِّفَةُ الرَّاسخةُ (فِي النَّفْسِ) أمَّا الكَيفيَّةُ النَّفسانيَّةُ في أوَّلِ حُدوثِها قَبْلَ أنْ تَرْسَخَ، فتُسَمَّى: حالًا، وهذه الصِّفةُ الرَّاسخةُ في النَّفْسِ (تَحْمِلُ) صاحِبَها (عَلَى:

(1)

مُلَازَمَةِ التَّقْوَى) ومُلازمةِ (المُرُوءَةِ،

(2)

وَ) على (تَرْكِ الكَبَائِرِ)، فلا يَأتي كبيرةً؛ للآيةِ الكريمةِ في القاذفِ، وقِسْ عليه الباقيَ مِن الكبائرِ، ويَأتي حَدُّ الكبيرةِ.

(1)

«التحبير شرح التحرير» (4/ 1857).

(2)

في (د): ولا بسماع.

قال ابن المُلقِّن في «المقنع في علوم الحديث» (1/ 289): ولم يزالوا قديمًا وحديثًا يحضرون الصبيان مجالس الحديث والسماع، ويعتدون برواياتهم لذلك.

ص: 364

(وَمِنْهَا) أي: الكبائرِ: (غِيبَةٌ، ونَمِيمَةٌ) على الأصحِّ، (وَ) تَحمِلُه على تَرْكِ (الرَّذَائِلِ) المُباحةِ؛ أي: تَرْكِ ما فيه دناءةٌ، وتَركِه مروءةً، كأَكلِه في السُّوقِ بينَ النَّاسِ الكثيرِ، ومَدِّ رِجلَيْه، وكشفِ رأسِه بينَهم، واللَّعِبِ بالحَمَّامِ، وصُحبَةِ الأراذلِ، والإفراطِ في المَزحِ؛ لحديثِ ابنِ مَسعودٍ: «إِذَا لَمْ تَسْتَحِي

(1)

فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ» رَوَاه البخاريُّ

(2)

أي: اصنَعْ ما تَشاءُ، فلا يُوثَقُ به، لكنْ يُعتَبَرُ تكرارُ ذلك كالصَّغائرِ.

(3)

ويُشتَرَطُ مع ذلك كَوْنُه (بِلَا بِدْعَةٍ مُغَلَّظَةٍ) كالتَّجهُّمِ.

(وَيُقْبَلُ قَاذِفٌ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ) أي: تُقبَلُ روايتُه؛ لأنَّ نقصَ العددِ ليسَ مِن جِهَتِه، واتَّفقَ النَّاسُ على الرِّوايةِ عن أبي بَكْرَةَ، (وَ) المذهبُ عندَهم (يُحَدُّ) القاذفُ بلَفْظِ الشَّهادةِ مع قبولِ روايتِه.

قالَ الشِّيرَازِيُّ في «اللُّمعُ» : وأبو بَكْرَةَ ومَن شَهِدَ مَعَه تُقْبَلُ روايتُهم؛ لأنَّهم أَخرَجُوا ألفاظَهم مُخرَجَ الإخبارِ، لا مُخرَجَ القذفِ، وجَلَدَهم عمرُ باجتهادِه

(3)

.

(وَ) أمَّا (الصَّغَائِرُ) فإنَّها لم تَدخُلْ في حدِّ العَدالةِ؛ لِما فيها مِن التَّفصيلِ، فلذلك ذَكرها

(4)

على حِدَةٍ، (وَهُنَّ) أي: الصَّغائرُ مع كثرةِ صُورِهِنَّ (سَوَاءٌ حُكْمًا) ولم يُفَرِّقْ أصحابُنا وغيرُهم فيها، بل أَطلَقُوا، فظاهرُه أنَّه لا فَرقَ، بل ذَكَرَ أبو الخَطَّابِ في «التَّمهيد»

(5)

التَّطْفِيفَ مِنها واعتبَرَ التَّكرارَ، والأصحُّ

(1)

(إذا لم تَسْتَحْيِ): بإسكانِ الحاءِ وكسرِ الياء مخفَّفة، وعلامة جزمه حذفُ الياء التي هي لامُ الفعل، يُقال: استحيا يَسْتَحْيِي، ويُروى:(إذا لم تَسْتَحِ) بحاءٍ ليس بعدَها ياء؛ مِنِ "استَحَى يستَحِي" ..

(2)

«صحيح البخاري» (3484).

(3)

«اللُّمع في أصول الفقه» (ص 77).

(4)

في (د): ذكروها.

(5)

«التمهيد في أصول الفقه» (3/ 109).

ص: 365

أنَّ الذُّنوبَ تَنقَسِمُ إلى: كبائرَ، وصغائرَ؛ لقولِه تعالى:{إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ}

(1)

.

ولقولِه عليه الصلاة والسلام في تكفيرِ الصَّلواتِ الخمسِ والجُمُعَةِ ما بينهما

(2)

إذا اجْتُنِبَتِ الكبائرُ

(3)

؛ إذْ لو كانَ الكلُّ كبائرَ

(4)

لم يَبْقَ بعدَ ذلك ما يُكفَّرُ، وفي الحديثِ:«الكَبَائِرُ سَبْعٌ»

(5)

، وفي روايةٍ:«تِسْعٌ»

(6)

وعدَّها، فلو كانَتِ الذُّنوبُ كلُّها كبائرَ لَمَا سَاغَ ذلك.

وقالَ الأستاذُ والبَاقِلَّانِيُّ وجمْعٌ: إنَّ جميعَ الذُّنوبِ كبائرُ، واختارَه ابنُ فُورَكَ نظرًا إلى مَن عُصي اللهُ عز وجل

(7)

.

قالَ القَرَافِيُّ

(8)

: كأنَّهم كَرِهُوا تسميةَ مَعصيةِ اللهِ صغيرةً؛ إجلالًا له مع مُوافَقَتِهم في الجرحِ أنَّه ليسَ بمُطلَقِ المعصيةِ، بل منه ما يَقدَحُ ومنه ما لا يَقدَحُ، وإنَّما الخلافُ في التَّسميةِ فقطْ.

وما أحسنَ ما قال الكُورَانِيُّ في «شرحِ جَمْعِ الجوامعِ» : إنْ أَرادُوا إسقاطَ

(1)

النِّساء: 31.

(2)

في (د): بينها.

(3)

رواه مسلم (233) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «الصَّلَاةُ الْخَمْسُ، وَالْجُمْعَةُ إِلَى الْجُمْعَةِ، كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ، مَا لَمْ تُغْشَ الْكَبَائِرُ» .

(4)

ليس في (د).

(5)

رواه الطَّبرانيُّ في «الأوسط» (5709) مِن حديثِ أبي سعيدٍ الخُدريِّ.

قالَ الهيثميُّ في «مَجمَعُ الزَّوائدِ» (1/ 104): رواه الطَّبرانيُّ في الأوسطِ، وفيه أبو بلالٍ الأشعريُّ، وهو ضعيفٌ.

(6)

رواه أبو داودَ (2875)، والنَّسائيُّ (4012)، والبيهقيُّ (10/ 186) مِن حديثِ عُمَيْرٍ اللَّيثيِّ رضي الله عنه.

(7)

ينظر: «الفوائد السَّنية» للبِرماوي (2/ 67)، و «تشنيف المسامع» للزَّركشي (2/ 1002).

(8)

«الفروق» (1/ 121).

ص: 366

العَدالةِ: فقد خالفوا الإجماعَ، وإنْ أرادوا قُبْحَ المعصيةِ نظرًا

(1)

إلى كبْريائِه تعالى، وأنَّ مُخالَفَتَه لا تُعَدُّ أمرًا صغيرًا: فنِعْمَ القولُ

(2)

. انتهى.

إذا عَلِمْتَ ذلك، فإذا تَكَرَّرَتِ الصَّغائرُ تَكَرُّرًا يُخِلُّ الثِّقَةَ بصِدْقِه: قَدَحَتْ، ومُنِعَتِ الرِّوايةُ عن صاحِبِها على الصَّحيحِ؛ لِما روى التِّرمذيُّ مَرفوعًا:«لَا صَغِيرَةَ مع إِصْرَارٍ، ولا كَبِيرَةَ مع اسْتِغْفَارٍ»

(3)

.

قالَ في: «التَّرغيب» وغيرِه: يَقدَحُ: كثرةُ الصَّغائرِ، وإدمانُ واحدةٍ

(4)

. انتهى.

فالإدمانُ هنا: أنْ يَتَكَرَّرَ منه تَكرارًا

(5)

يُخِلُّ الثِّقةَ بصِدقِه؛ كمُلابَسَةِ الكبيرةِ.

فـ (إِنْ لَمْ تَتَكَرَّرِ) الصَّغائرُ مِن الرَّاوي (تَكَرُّرًا يُخِلُّ الثِّقَةَ بِصِدْقِهِ: لَمْ يَقْدَحْ) فِعْلُها في العدالةِ، ولا في الرِّوايةِ؛ (لِتَكْفِيرِهَا بِاجْتِنَابِ الكَبَائِرِ وَبِمَصَائِبِ الدُّنْيَا) في الأصحِّ، وهو ظاهرُ الآيةِ، ودَلَّ على ذلك السُّنَّةُ.

قالَ الشَّيخُ في «الرَّدّ على الرَّافضيِّ» : ولو لم يَتُبْ مِنه فالصَّغائرُ تُكَفَّرُ باجتنابِ الكبائرِ عندَ جماهيرِ أهلِ السُّنَّةِ، بل وعندَ الأكثرينَ: أنَّ الكبائرَ

(1)

في (د): نظروا. والمثبت من (ع)، و «الدُّرر اللَّوامع» .

(2)

«الدُّرر اللَّوامع في شرح جمع الجوامع» (3/ 80).

(3)

لم أَقِفْ عليه في التِّرمذيِّ، والحديثُ رواه ابنُ أبي الدُّنيا في «التَّوبة» (173)، والقُضاعيُّ في «مسند الشِّهابِ» (853) مِن حديثِ ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما.

قالَ العلَّامةُ المُحَدِّثُ محمَّد عمرو عبد اللَّطيفِ رحمه الله في «تَبْيِيض الصَّحيفةِ» (1/ 141): مُنْكَرٌ، رُوِي مِن حديثِ ابنِ عبَّاسٍ وأنسٍ وأبى هُرَيْرَةَ وعائشةَ.

(4)

ينظر: «أصول الفقه» (2/ 535)، و «شرح الكوكب المنير» (2/ 293).

(5)

في (د): تكررًا.

ص: 367

تُمْحَى بالحَسَنَاتِ الَّتي هي أعظمُ، وبالمصائبِ المُكَفِّرَةِ، وغيرِ ذلك

(1)

.

(وَيُرَدُّ كَاذِبٌ) أي: تُرَدُّ روايتُه بالكذبِ، ولو في غيرِ حديثِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى (وَلَوْ تَدَيَّنَ) أي: تَحَرَّزَ عنِ الكَذِبِ (فِي الحَدِيثِ) عندَ أكثرِ العلماءِ؛ لأنَّه لا يُؤمَنُ عليه أنْ يَكْذِبَ فيه، ولا تقدحُ الكَذْبَةُ الواحدةُ على الصَّحيحِ؛ للمَشَقَّةِ، وعدمِ دليلِه.

(وَتَقْدَحُ كَذْبَةٌ) واحدةٌ (فِيهِ) أي: في الحديثِ، فلا تُقبَلُ روايتُه حَتَّى (وَلَوْ تَابَ) منها نصًّا.

قالَ القاضي: لأنَّه زنديقٌ، فتُخَرَّجُ توبتُه على توبتِه، وفارقَ الشَّهادةَ؛ لأنَّه قد يَكْذِبُ فيها لرِشوةٍ، أو يَتَقَرَّبُ إلى أربابِ الدُّنيا

(2)

.

وقالَ ابنُ عَقِيلٍ: هذا فرقٌ بعيدٌ؛ لأنَّ الرَّغبةَ إليهم بأخبارِ الرَّجاءِ أو الوعيدِ غايتُه الفِسقُ

(3)

.

وظاهرُ كلامِ جماعةٍ مِن أصحابِنا أنَّ توبتَه تُقبَلُ، وقالَ كثيرٌ مِن العلماءِ: لكنْ في غيرِ ما كَذَبَ فيه، كتوبتِه فيما أَقَرَّ بتزويرِه.

(وَالكَبِيرَةُ) ضابطُها معروفٌ عندَ الأكثرينَ، قال الإمامُ أحمدُ: الكبيرةُ: (مَا فِيهِ حَدٌّ فِي الدُّنْيَا، أَوْ وَعِيدٌ

(4)

فِي الآخِرَةِ) لوعدِ اللهِ مُجْتَنِبَها بتكفيرِ الصَّغائرِ.

(وَزِيدَ) أي: وزادَ الشَّيخُ وأتباعُه، (أَوْ) ما فيه (لَعْنَةٌ، أَوْ غَضَبٌ، أَوْ نَفْيُ إِيمَانٍ) قال: ولا يَجُوزُ أن يَقَعَ نفيُ الإيمانِ لأمرٍ مُستَحَبٍّ، بل لكمالٍ واجبٍ.

(1)

«منهاج السنة النبوية» (4/ 310).

(2)

«العُدة في أصول الفقه» (3/ 929).

(3)

ينظر: «أصول الفقه» (2/ 539)، و «شرح الكوكب المنير» (2/ 396).

(4)

في «مختصر التحرير» (ص 117): وعيد خاص.

ص: 368

قال: وليسَ لأحدٍ أنْ يَحمِلَ كلامَ أحمدَ، إلَّا على مَعنًى يَتبَيَّنُ مِن كلامِه ما يَدُلُّ على أنَّه مُرادُه، لا على ما يَحتمِلُه اللَّفظُ مِن كلامِ كلِّ أحدٍ

(1)

.

وقيلَ: لا يُعرَفُ ضابطُ الكبيرةِ.

قال القاضي في «المعتمد» : مَعنى الكبيرةِ أنَّ عقابَها أكثرُ، والصَّغيرةُ أقلُّ، ولا يُعلَمانِ إلَّا بتوقيفٍ

(2)

.

قال الواحِدِيُّ: الصَّحيحُ أنَّ الكبائرَ ليسَ لها حَدٌّ تُعرَفُ به، وإلَّا لاقْتَحَمَ النَّاسُ الصَّغائرَ واسْتَبَاحُوها، ولكنَّ اللهَ تعالى أَخْفَى ذلك على العبادِ ليَجْتَهِدوا في اجتنابِ المَنهيِّ عنه رجاءَ أن تُجْتَنَبَ الكبائرُ، نظيرَ إخفاءِ الصَّلَاةِ الوُسطى، وليلةِ القدرِ، وساعةِ الإجابةِ في الجمعةِ، ونحوِ ذلك

(3)

.

قالَ العَلائيُّ في «قواعدِه» : المَنصوصُ عليه في الكبائرِ في مجموعِ أحاديثَ كثيرةٍ، وأنَّه كَتَبَها في مُصنَّفٍ مُفرَدٍ: الشِّركُ باللهِ، وقتلُ النَّفسِ بغيرِ حَقٍّ، والزِّنا، وأفحشُه في حَلِيلَةِ الجارِ، والفِرارُ مِن الزَّحْفِ، والسِّحرُ، وأكلُ الرِّبا، وأكلُ مالِ اليتيمِ، وقذفُ المُحصَنَاتِ، والاستطالةُ في عِرضِ المُسلِمِ بغيرِ حَقٍّ، وشهادةُ الزُّورِ، واليمينُ الغَمُوسُ، والنَّميمةُ، والسَّرقةُ، وشُربُ الخمرِ، واستحلالُ بيتِ اللهِ الحرامِ، ونَكْثُ الصَّفقةِ، وتَركُ السُّنَّةِ، وَالتَّعَرُّبُ

(4)

بعدَ الهجرةِ، واليأسُ مِن رَوْحِ اللهِ، والأمنُ مِن مَكْرِ اللهِ، ومَنْعُ

(1)

في (د): واحد.

(2)

ينظر: «شرح الكوكب المنير» (2/ 398)، و «التحبير شرح التحرير» (4/ 1879).

(3)

«التفسير البسيط» (6/ 474).

(4)

قال في «لسان العرب» (1/ 587): هو أن يعود إلى البادية ويقيم مع الأعراب، بعد أن كان مهاجرًا. وكان من رجع بعد الهجرة إلى موضعه من غير عذر، يعدونه كالمرتد.

ص: 369

ابنِ السَّبيلِ مِن فضلِ الماءِ، وعدمُ التَّنزُّهِ مِن البولِ، وعقوقُ الوالدَينِ، والتَّسبُّبُ إلى شَتْمِهما، والإضرارُ في الوَصِيَّةِ.

(وَيُرَدُّ: مُبْتَدِعٌ دَاعِيَةٌ) أي: تُرَدُّ روايةُ مُبتدِعٍ يَدعو النَّاسَ إلى بِدعتِه، كالقولِ بتفضيلِ عليٍّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَه على سائرِ الصَّحابةِ، وعَلَّلوا ذلك بخوفِ الكذبِ لمُوافقتِه هواه، سواءٌ كانَتْ بِدعتُه غيرَ مُكَفِّرةٍ كما مَرَّ، (أَوْ مَعَ مُكَفِّرَةٍ) كقولِ أبي الخَطَّابِ بإلهيَّةِ جعفرٍ الصَّادقِ، وهو مِن مشايخِ الرَّافضةِ، ثمَّ ادَّعى الإلهيَّةَ لنَفْسِه، عليه لعائنُ اللهِ والملائكةِ والنَّاسِ أجمعينَ، وهو وأتباعُه يَسْتَحِلُّون الكَذِبَ لنصرةِ مَذهَبِهم، فيَرَوْنَ الشَّهادةَ بالزُّورِ لمُوافِقِهم على مُخالِفِهم.

وقالَ الشَّيخُ: كلامُ أحمدَ يُفَرِّقُ بينَ أنواعِ البدعِ وبينَ الحاجةِ إلى الرِّوايةِ عنهم وعَدَمِها

(1)

.

قالَ الإمامُ أحمدُ: احمِلُوا عنِ المُرجئةِ الحديثَ، ويُكتَبُ عنِ القَدَرِيِّ إذا لم يَكُنْ داعِيَةً، واستعظمَ الرِّوايةَ عن رجلٍ وهو سعدٌ العَوْفِيُّ، وقَالَ: ذلك جهميٌّ امْتُحِنَ فأجابَ

(2)

، وأرادَ: بلا إكراهٍ.

وقالَ القاضي علاءُ الدِّينِ البَعْلِيُّ: إنْ كانَتْ بِدعةُ أحدِهم مُغَلَّظَةً، كالتَّجَهُّمِ: رُدَّتْ روايتُه، وإنْ كانَتْ مُتوسِّطَةً، كالقَدَرِ: رُدَّتْ إنْ كانَ

(3)

داعيةً، وإنْ كانَتْ خفيفةً كالإرجاءِ، فهل تُقبَلُ معها مُطلقًا أم تُرَدُّ غيرُ

(4)

الدَّاعيةِ؟

(1)

«المسودة في أصول الفقه» (ص 264).

(2)

ينظر: «تاريخ بغداد» (10/ 183).

(3)

في ع، د: كانت. والمثبت من «المختصر في أصول الفقه» .

(4)

قوله: ترد غير. في «المختصر في أصول الفقه» : أو ترو.

ص: 370

روايتانِ، هذا تحقيقُ مذهبِنا

(1)

. انتهى.

فائدةٌ: إذا أَطْلَقَ

(2)

العلماءُ لفظةَ «المُبتدعةِ» فالمُرادُ به: أهلُ الأهواءِ مِن: الجَهميَّةِ، والقَدَريَّةِ، والمُعتزلةِ، والخَوارجِ، والرَّوافضِ، ومَن نَحَا نَحوَهم، (وَلَيْسَ الفُقَهَاءُ) المُختلِفُونَ في الفروعِ (مِنْهُمْ) على الصَّحيحِ، وعليه الأكثرُ.

(فَـ) على هذا: (مَنْ شَرِبَ نَبِيذًا مُخْتَلَفًا فِيهِ: حُدَّ) عندَنا على الأشهرِ، ولا يُفَسَّقُ.

قالَ ابنُ مُفْلِحٍ: وفيه نظرٌ؛ لأنَّ الحدَّ أَضيقُ، ورَدُّ الشَّهادةِ أوسعُ؛ لأنَّه يَلْزَمُ مِن الحدِّ التَّحريمُ فيُفَسَّقُ به، أو إنْ تَكَرَّرَ

(3)

.

فلهذا قال: (وَيُفَسَّقُ، غَيْرُ مُجْتَهِدٍ) أدَّاه اجتهادُه إلى إباحتِه، (أَوْ) غيرُ (مُقَلِّدٍ) لذلك المُجتهدِ، وأمَّا الحدُّ فمَفهومُه أنَّه يُحَدُّ ولو كانَ مجتهدًا، أو مُقلِّدًا.

(وَحَرُمَ إِجْمَاعًا: إِقْدَامُ) مُكَلَّفٍ (عَلَى مَا) أي: شيءٍ (لَمْ يَعْلَمْ جَوَازَهُ) مِن قولٍ، أو فعلٍ؛ لأنَّ إقدامَه على ما لم يَعلَمْ جوازَه

(4)

جرأةٌ على اللهِ تعالى وعلى رسولِه وعلى العلماءِ؛ لكونِه لم يَسْأَلْ، وفَسَّقَه البَاقِلَّانِيُّ، وقال: ضَمَّ جَهْلًا إلى فِسقٍ

(5)

.

وفسَّقَ ابنُ عَقِيلٍ

(6)

عامِّيًّا شَرِبَ نبيذًا.

(1)

«المختصر في أصول الفقه» لابن اللحام البعلي (ص 85).

(2)

في (ع): أطلقت.

(3)

«أصول الفقه» (2/ 524).

(4)

في (ع): هل يَجُوزُ فِعلُه.

(5)

ينظر: «الإحكام» للآمدي (2/ 83).

(6)

ينظر: «أصول الفقه» (2/ 526)، و «التحبير شرح التحرير» (4/ 1893).

ص: 371

(وَيُرَدُّ) ما رواه:

(1)

(مُتَسَاهِلٌ فِي رِوَايَةٍ) سماعًا وإسماعًا: كالنَّومِ وقتَ السَّماعِ، وقبولِ التَّلقينِ، أو يُحَدِّثُ لا مِن أصلٍ مُصَحَّحٍ، ونحوِه في قياسِ قولِ أصحابِنا، وغيرِهم

(1)

: يَحرُمُ التَّساهلُ في الفُتيا، واستفتاءُ معروفٍ به. وقبولُ الحديثِ ممَّن هو على هذه الصِّفةِ أَوْلَى بالتَّحريمِ.

(2)

(وَ) يُرَدُّ ما رَوَاه (مَجْهُولُ عَيْنٍ) عندَ الأكثرِ مِنَ المُحدِّثينَ وغيرِهم، وتَزُولُ الجهالةُ بواحدٍ في الأصحِّ، ويَأتي، وعَزَاه بعضُ الشَّافعيَّةِ إلى صاحبيِ الصَّحيحِ؛ لأنَّ فيهما مِن ذلك جماعةً.

قالَ ابنُ رجبٍ في «شرح التِّرمذيِّ» : والنُّصوصُ عنْ أحمدَ تَدُلُّ أنَّه إنْ عُرِفَ مِنه أنَّه لا يَروي إلَّا عنْ ثقةٍ، فرِوايتُه عنْ إنسانٍ تَعديلٌ له، ومَن لم يُعرَفْ منه ذلك فليسَ بتعديلٍ.

(أَوْ) مَجْهُولُ (عَدَالَةٍ) أي: تُرَدُّ روايتُه عندَ الإمامِ أحمدَ وأصحابِه والأكثرِ، وإنَّما عُمِلَ بخبَرِ الواحدِ للإجماعِ، ولا إجماعَ ولا دليلَ على العملِ، ولأنَّ الفِسقَ مانعٌ كجهالةِ الصَّبيِّ، والكُفرِ.

قالوا: الفسقُ سببُ التَّثبُّتِ، فإذا انْتَفَى يَنْتفي، وعملًا بالظَّاهرِ وقبولِ الصَّحابةِ.

رُدَّ: يَنتفي بالخبْرةِ، والتَّزكيةِ، وبمنعِ الظَّاهرِ والقبولِ، ويُقبَلُ الخبَرُ بالمِلْكِ والزَّكاةِ، ولو مِن فاسقٍ وكافرٍ للنُّصوصِ وللحاجةِ.

(1)

في (ع): أو غيرهم.

ص: 372

والأشهرُ لنا: في المجهولِ، وأنَّه مُتَطَهِّرٌ، فيَصِحُّ الائتمامُ به، لا أنَّ الماءَ طاهرٌ أو نجسٌ في ظاهِرِ مَذهبِنا.

(أَوْ) مجهولُ (ضَبْطٍ) أي: تُرَدُّ روايتُه أيضًا، وتَقَدَّمَ في شروطِ الرَّاوي، ولأنَّ أئمَّةَ الحديثِ ترَكوا روايةَ كثيرٍ ممَّن ضَعُفَ ضبطُه ممَّن سَمِعَ كبيرًا ضابطًا.

و (لَا) يُرَدُّ ما رَوَاه:

(1)

(رَقِيقٌ) لظاهرِ الأَدِلَّةِ، فإنَّها تَشمَلُه.

(2)

(وَأُنْثَى) أي: فلا تُرَدُّ روايتُها؛ لقَبولِهم خبَرَ عائشةَ، وأسماءَ، وأمِّ سَلَمَةَ، وأمِّ سُلَيْمٍ، وغيرِهن رَضِيَ اللهُ تعالى عنهنَّ أجمعينَ، سواءٌ كنَّ أحرارًا أو أرِقَّاءَ.

(3)

(وَ) لا ما رَوَاه (قَرِيبٌ) عن قريبِه،

(4)

(وَ) لا (ضَرِيرٌ،

(5)

وَ) لا (عَدُوٌّ) عن عَدُوِّه؛ لأنَّ حُكْمَ الرِّوايةِ عامٌّ للمُخبِرِ والمُخبَرِ، [ولا يَختَصُّ بشخصٍ، فلا تُهمةَ في ذلك، بخلافِ الشَّهادةِ، وهذا واضحٌ جَلِيٌّ]

(1)

.

(6)

(وَ) لا يُرَدُّ ما رَوَاه (قَلِيلُ سَمَاعِ الحَدِيثِ) فلا يُعتَبَرُ كثرةُ سماعِه، بل متى سَمِعَ ولو حديثًا واحدًا: صَحَّتْ روايتُه؛ لأنَّ الصَّحابةَ رضي الله عنهم كانَتْ تَقبَلُ روايةَ الأعرابيِّ بحديثٍ واحدٍ، وعلى ذلك عَمَلُ المُحدِّثِينَ.

(7)

(وَ) لا يُرَدُّ ما رَوَاه (جَاهِلٌ بِمَعْنَاهُ) أي: بمَعنى الحديثِ الَّذِي يَرويه.

(1)

ليست في «د» .

ص: 373

(وَ) لا ما رَوَاه جاهلٌ بـ (فِقْهٍ وَعَرَبِيَّةٍ) فلا يُعتَبَرُ علمُ الرَّاوي بمعنى الحديثِ والفقهِ والعربيَّةِ على الصَّحيحِ الَّذِي عليه أكثرُ العلماءِ؛ لحديثِ زيدِ بنِ ثابتٍ أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَحَفِظَهُ حَتَّى بَلَّغَهُ غَيْرَهُ، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ وليسَ بِفَقِيهٍ» رَوَاه الشَّافعيُّ

(1)

وأحمدُ

(2)

بإسنادٍ جيِّدٍ، وحسَّنَهُ التِّرمذيُّ

(3)

.

وقولُه صلى الله عليه وسلم: «نَضَّرَ اللهُ» رَوَاه الأَصْمَعِيُّ بتشديدِ الضَّادِ المُعجَمَةِ، وأبو عُبيدٍ بتخفيفِه؛ أي: نَعَّمَ

(4)

اللهُ، وفي حديثِ ابنِ مسعودٍ:«فَرُبَّ مُبَلِّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ» صَحَّحَه التِّرمذيُّ

(5)

.

تنبيهٌ: إِنَّمَا تُعتَبَرُ روايةُ الفقيهِ إذا رَوى باللَّفظِ والمعنى المُطابِقِ، وكانَ يَعرِفُ مُقتَضياتِ الألفاظِ، والعدالةُ تَمنَعُه مِن تحريفٍ لا يَجُوزُ.

(8)

(وَ) لا يُرَدُّ ما رَوَاه (عَدِيمُ نَسَبٍ وَمَجْهُولُهُ) فلا يُعتَبَرُ معرفةُ نَسَبِ الرَّاوي، كالعبدِ وغيرِه ممَّن لا يُعرَفُ نَسَبُه، وإنْ كانَ في الأصلِ له نَسَبٌ كعَدمِ نَسَبِه بالكُلِّيَّةِ، كوَلَدِ الزِّنا، والمَنْفِيِّ بلِعانٍ إذا كانوا عدولًا، ولأنَّهم داخلون في عُمومِ الأَدِلَّةِ، فصَحَّتْ روايتُهم كغيرِهم.

(1)

«مُسنَدُ الشَّافعيِّ» (ص: 240).

(2)

«مسندُ أحمدَ» (21991).

(3)

«جامعُ التِّرمذيِّ» (2656).

(4)

في (د): نعمه.

(5)

«جامعُ التِّرمذيِّ» (2657).

ص: 374

(فَصْلٌ)

(شُرِطَ) في جارحٍ (ذِكْرُ سَبَبِ:

(1)

جَرْحٍ) على الصَّحيحِ، فلا يُقبَلُ الجرحُ المُطلَقُ، بل لا بدَّ مِن ذِكْرِ السَّببِ المُطلَقِ، فيَقولُ مَثَلًا: هذا فاسقٌ؛ لأنَّه يَشرَبُ الخمرَ، ونَحوَه؛ لاختلافِ النَّاسِ في سببِ الجَرحِ، واعتقادِ بَعضِهم ما لا يَصلُحُ أنْ يَكُونَ سببًا للجَرحِ جارحًا، كشُربِ النَّبيذِ مُتَأَوِّلًا، فإنَّه يَقدَحُ في العَدالةِ عندَ مالكٍ دونَ غيرِه، وكمَن رأى إنسانًا يَبُولُ قائمًا فيُبادِرُ بجَرحِه لذلك، ولم يَنظُرْ في أنَّه مُتَأَوِّلٌ مُخطِئٌ، أو معذورٌ، كما رُوِيَ عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه بالَ قائمًا لعُذرٍ كانَ به

(1)

، فلهذا وشِبْهِه يَنبغي بيانُ سببِ الجَرحِ؛ ليَكُونَ على ثقةٍ واحتِرازٍ مِن الخطأِ والغُلُوِّ فيه.

قالَ الطُّوفِيُّ في «شرحِه» : ولقد رَأَيْتُ بعضَ العامَّةِ يَضرِبُ يدًا على يدٍ، ويُشِيرُ إلى رجلٍ، ويَقُولُ: ما هذا إلَّا زِنْدِيقٌ، ليتني قَدَرْتُ عليه، فأفعلَ به وأفعلَ، فقُلْتُ: ما رأيْتَ منه؟ فقال: رَأَيْتُه وهو يَجهَرُ بالبسملةِ في الصَّلَاةِ

(2)

. انتهى.

(1)

روى في ذلك الحاكم (1/ 290)، والبيهقي (1/ 164) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم «بَالَ قَائِمًا مِنْ جُرْحٍ كَانَ بِمَأْبِضِهِ» .

قال البيهقي: وقد روي في العلة في بوله قائمًا حديثٌ لا يثبت مثله. اهـ، فذكره.

قال ابن حجر في «فتح الباري» (1/ 330): لو صح هذا الحديث لكان فيه غنى عن جميع ما تقدم، لكن ضعَّفه الدارقطني والبيهقي، والأظهر أنه فعل ذلك لبيان الجواز، وكان أكثر أحواله البول عن قعود، والله أعلم.

قلت: الذي صح عنه مرفوعًا في البول قائمًا ليس فيه ذكر العلة، رواه البخاري (225)، ومسلم (273) عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ:«كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَانْتَهَى إِلَى سُبَاطَةِ قَوْمٍ، فَبَالَ قَائِمًا» .

(2)

«شرح مختصر الرَّوضة» (2/ 165).

ص: 375

وللنَّاسِ في هذا حكاياتٌ غريبةٌ عجيبةٌ.

(2)

(وَ) شُرِطَ أيضًا ذِكْرُ سببِ (تَضْعِيفٍ) على الصَّحيحِ، فيُقبَلُ الحديثُ إذا قال المُحَدِّثُ: هذا الحديثُ ضعيفٌ، مِن غيرِ أنْ يَعْزُوَه إلى مُستنَدٍ يُرجَعُ إليه؛ لأنَّه قد يُضَعِّفُه بشيءٍ لو ذَكَرَه لم يَكُنْ قادحًا.

(وَ) إذا لم يُقبَلِ الجرحُ المُطلَقُ ولا التَّضعيفُ المُطلَقُ فـ (لَا يَلْزَمُ تَوَقُّفٌ) عنِ

(1)

العملِ بذلك الحديثِ (إِلَى تَبْيِينِ) سببِ الجَرحِ، أو التَّضعيفِ، بخلافِ الشَّهادةِ؛ لأنَّ الخبَرَ يَلْزَمُ العملُ به ما لم يَثبُتِ القدحُ، والشَّهادةُ آكَدُ، فإذا انْتَفَى القدحُ: عُمِلَ به.

وقيلَ: يَلْزَمُ التَّوقُّفُ حَتَّى يُبَيِّنَ سَبَبَ الجَرحِ الَّذِي أَطْلَقَه.

قالَ ابنُ مُفْلِحٍ: ويَتَوَجَّهُ التَّوقُّفُ؛ لأنَّه أوجبَ رِيبَةً، وإلَّا لَانْسَدَّ بابُ الجرحِ غالبًا

(2)

.

قالَ في «شرحِ الأصلِ» : وهو الأحوطُ

(3)

.

و (لَا) يُشتَرَطُ ذِكْرُ سببِ:

(1)

(تَعْدِيلٍ) عندَ الإمامِ أحمدَ والأكثرِ، بأنْ يَقُولَ مَثَلًا: هذا عَدْلٌ؛ لأنَّه يُواظِبُ على فِعلِ العِباداتِ، وتَرْكِ المُحَرَّماتِ، بل يَكفي قَوْلُه: هو عَدْلٌ، أو مَأْمونٌ، أو رَوَوْا عنه، ونحوَ ذلك، استصحابًا لحالِ العدالةِ.

(1)

في (د): على.

(2)

«أصول الفقه» (2/ 551).

(3)

«التحبير شرح التحرير» (4/ 1919).

ص: 376

(2)

(وَ) لا يُشتَرَطُ أيضًا ذِكْرُ سَبَبِ (تَصْحِيحٍ) فإذا أَطْلَقَ تصحيحَ الخبَرِ بأنْ يَقُولَ: هذا الخبَرُ صحيحٌ، فهو كالتَّعديلِ المُطلَقِ، فإنَّ إطلاقَ تصحيحِه يَستلزمُ تعديلَ رُواتِه، فتَلَخَّصَ أنَّ الجَرحَ والتَّضعيفَ لا بدَّ فيهما مِن ذِكْرِ السَّببِ، وأمَّا التَّعديلُ والتَّصحيحُ فلا يُشتَرَطُ ذِكْرُ سَبَبِهما، بل يَكْفي إطلاقُهما.

(وَيَكْفِي فِيهِنَّ) أي: في مَسائِلِ الجَرحِ والتَّعديلِ والتَّضعيفِ والتَّصحيحِ واحدٌ عندَ الأكثرِ، فيَكفي جَرحُ واحدٍ وتعديلُه، كما يَكفي تصحيحُه وتضعيفُه؛ لأنَّ الشَّرطَ لا يَزيدُ على مَشروطِه، فتَعديلُ الرَّاوي تَبَعٌ للرِّوايةِ وفَرعٌ لها؛ لأنَّه إِنَّمَا يُراد لأجلِها، والرِّوايةُ لا يُعتبَرُ فيها العددُ، بل يَكفي فيها راوٍ واحدٌ وتعديلُه، فكذا ما هو تَبَعٌ وفرعٌ لها، فلو قُلْنا:«تكفي روايةُ الواحدِ، ولا يَكفي في تعديلِه إلَّا اثنانِ» لزادَ الفرعُ على أصلِه، وزيادةُ الفُروعِ على أُصُولِها غيرُ معهودةٍ عقلًا ولا شرعًا.

(وَ) يَكفي في (تَعْرِيفِ) مَجهولٍ: (وَاحِدٌ) عدلٌ في الأصحِّ، وتَقَدَّمَ، ويُشتَرَطُ في ذلك الواحدِ أنْ يَكُونَ (ليسَ مِنْ عَادَتِهِ تَسَاهُلٌ) في التَّعديلِ، (أَوْ مُبَالَغَةٌ) في الجَرحِ، فلا أثَرَ لمَن عادتُه التَّساهُلُ في التَّعديلِ، أو المُبالغةُ: فيَجرَحُ بلا سببٍ شرعيٍّ، أو يُعطِيه فوقَ حقِّه، وهذا غيرُ جائزٍ.

(وَمَنِ اشْتَبَهَ اسْمُهُ) مِنَ الثِّقاتِ (بـ) اسمِ (مَجْرُوحٍ: وُقِفَ خَبَرُهُ) الَّذِي وَقَعَ فيه الاشتباهُ حَتَّى يُتَحَقَّقَ أَمْرُه، وذلك لاحتمالِ أنْ يَكُونَ الرَّاوي ذلك المجروحُ؛ فلا تُقبَلُ روايتُه، بل يُتَوَقَّفُ حَتَّى يُعلَمَ هل هو المجروحُ أو غيرُه، وكثيرٌ ما يَفعلُ المُدلِّسونَ مِثْلَ هذا؛ يَذكُرون الرَّاويَ الضَّعيفَ باسمٍ يُشارِكُه فيه راوٍ عدلٌ؛ ليُظَنَّ أنَّه ذلك العدلُ تَرويجًا لروايتِهم.

ص: 377

(وَلَا شَيْءَ لِجَرْحٍ: بِاسْتِقْرَاءٍ) يَعني بأنْ يَقُولَ تَتَبَّعْنا كذا، فوَجَدْناه كذا مِرارًا كثيرةً لم يَنْخَرِمْ، فلو قيلَ: مَن وَجَدْناه يَفعَلُ كذا فهو مجروحٌ، واسْتَقْرَيْنا ذلك في أشخاصٍ كثيرةٍ، فوَجَدْناه كذلك، فهذا ليسَ بجَرحٍ، وليسَ مِن طُرُقِ الجَرحِ حَتَّى يُحكَمَ به.

(وَلَهُ) أي: للجَارِحِ (جَرْحُ) الرَّاوي (بِاسْتِفَاضَةٍ) على الصَّحيحِ، فإذا شَاعَ عن مُحَدِّثٍ أنَّ فيه صِفةً تُوجِبُ رَدَّ الحديثِ، وجَرَحَه

(1)

بها: جازَ الجَرحُ بها، كما تَجُوزُ الشَّهادةُ بالاستفاضةِ في مسائلَ مخصوصةٍ معلومةٍ ذَكرَها الفقهاءُ في كُتُبِهم، فكذلك هذا.

و (لَا) تَجُوزُ (تَزْكِيَةُ) مَن شاعَتْ عَدالَتُه بمُجَرَّدِ الاستفاضةِ، قَدَّمَه ابنُ مُفْلِحٍ

(2)

وغيرُه.

(وقيلَ: بَلَى).

قالَ بعضُ أصحابِنا: تَجُوزُ التَّزكيةُ بالاستفاضةِ. واحتجَّ لذلك كثيرٌ مِن العلماءِ: (إِذَا شَاعَتْ عَدَالَتُهُ)، وأمانَتُه، (كَأَحَدِ الأَئِمَّةِ) فإنَّه يُزَكَّى بالاستفاضةِ بلا نِزاعٍ (وَجَعَلَهُ) أي: جَعَلَ هذا القولَ الثَّانيَ

(3)

القاضي علاءُ الدِّينِ المَرْدَاوِيُّ (المَذْهَبَ فِي أَصْلِهِ) أي: أصلِ هذا الكتابِ وهو «التَّحريرُ» ، قال فيه: قُلْتُ: وهذا المذهبُ وهو مَعنى قولِ الإمامِ أحمدَ وجماعةٍ مِن العلماءِ

(4)

. انتهى.

(1)

في (د): ورجحه.

(2)

«أصول الفقه» (2/ 551).

(3)

ليست في «د» .

(4)

«تحرير المنقول وتهذيب علم الأصول» (ص 172).

ص: 378

كما لو سُئِلَ عنِ الإمامِ مالكٍ، والأوزاعيِّ، والثَّوريِّ، ونَحوِهم.

وقد سُئِلَ ابنُ مَعِينٍ عن أبي عُبَيْدٍ، فقال: مِثلي يُسأَلُ عن أبي عُبَيْدٍ! أبو عُبَيْدٍ يُسأَلُ عنِ النَّاسِ.

وسُئِلَ أحمدُ عن إسحاقَ بنِ رَاهَوَيْه، فقال: مِثْلُ إسحاقَ يُسْأَلُ عنه!

(وَ‌

‌يُقَدَّمُ جَرْحٌ) على تعديلٍ

على الصَّحيحِ عندَ الأكثرِ، سواءٌ كَثُرَ الجارحُ، أو قلَّ، أو ساوى؛ لأنَّ معَه زيادةَ عِلمٍ لم يَطَّلِعْ عليها المُعدِّلُ، فهو موافقٌ له على أنَّ ظاهرَه كذلك، وهو مُخبِرٌ بما خَفِيَ عنِ المُعَدِّلِ، فلذلك قُدِّمَ.

تنبيهٌ: يَحصُلُ التَّعديلُ بأربعةِ أشياءَ: الحُكمُ، والقولُ، والعملُ، والرِّوايةُ.

(وَأَقْوَى) أي: أَعلَى مراتبِ (تَعْدِيلٍ) مِن هذه الأربعةِ:

(1)

(حُكْمُ مُشْتَرِطِ العَدَالَةِ بِهَا) أي: بالعَدالةِ؛ أي: حاكمٌ يَشتَرِطُ العدالةَ: وهو تَعديلٌ مُتَّفَقٌ عليه، وإلَّا كانَ الحاكمُ فاسقًا لقبولِه شهادةَ مَن ليسَ عدلًا عندَه، وهو أقوى مِن القوليِّ بالسَّببِ

(1)

الآتي ذِكْرُه؛ لأنَّ ذلك قولٌ مُجَرَّدٌ، والحُكمُ برِوايَتِه فعلٌ تَضَمَّنَ القَولَ، أوِ اسْتَلْزَمَه؛ إذْ تعديلُه القوليُّ تقديرًا مِن لوازمِ الحُكمِ بروايتِه، وإلَّا كانَ هذا الحاكمُ حاكمًا بالباطلِ، وهذا اختيارُ المُوَفَّقِ

(2)

وغيرِه.

(2)

(فَقَوْلٌ) وهذا الثَّاني مِن الأربعةِ الَّتي يَحصُلُ بها التَّعديلُ، واختارَ الآمِدِيُّ وغيرُه التَّسويةَ بينَهما.

(1)

في (د): على السَّبب.

(2)

«روضة الناظر» (1/ 334).

ص: 379

والقولُ في الرَّاوي له صِفتانِ:

أحدُهما: (وَ) هي (أَعْلَاهُ) أي: أعلى مراتبِ التَّعديلِ بالقولِ قولُ المُعَدِّلِ: هو (عَدْلٌ رَضِيٌّ، مَعَ ذِكْرِ سَبَبِهِ) أي: يُبَيِّنُ سببَ التَّعديلِ مع هذا القولِ، بأنْ يُثنِيَ عليه بذِكْرِ محاسنِ عَمَلِه مِمَّا يُعلَمُ مِنه مِمَّا يَنبغي شرعًا مِن أداءِ الواجباتِ واجتنابِ المُحرَّماتِ، واستعمالِ وظائفِ المُروءةِ، وهو أعلى مراتبِ التَّعديلِ للاتِّفاقِ عليه

(1)

.

(2)

(فَـ) يَلِي هذه المرتبةَ قولُه: هو عدلٌ رَضِيٌّ، (بِدُونِهِ) أي: بدونِ بيانِ سببِ التَّعديلِ، وهذه الصِّفةُ الثَّانيةُ، فهي أَدنَى مِن الَّتي قَبْلَها.

وقد ذَكَرَ أربابُ فنِّ الجَرحِ والتَّعديلِ أنَّ مراتبَ التَّعديلِ أربعةٌ:

الأُولى: العُليا مِنها تَكرارُ اللَّفظِ، بأنْ يقولَ: ثِقَةٌ ثِقَةٌ، أو ثقةٌ عدلٌ، أو ثقةٌ مُتقِنٌ، ونحوَ ذلك.

الثَّانيةُ: ذِكرُ

(2)

ذلك مِن غيرِ تَكرارٍ، كقولِه: ثقةٌ، أو عدلٌ، أو مُتقنٌ، أو ثَبْتٌ، أو حُجَّةٌ، أو حافظٌ، أو ضابطٌ.

الثَّالثةُ: قَولُهم: لا بأسَ به، أو صدوقٌ، أو مأمونٌ، أو خِيَارٌ.

الرَّابعةُ: قولُهم: مَحَلُّه الصِّدقُ، أو رَوَوْا عنه، أو صالحُ الحديثِ، أو مُقارِبُ الحديثِ، أو حَسَنُ الحديثِ، أو صُوَيْلِحٌ، أو صَدوقٌ إنْ شاءَ اللهُ، أو أرجو أنَّه ليسَ به بأسٌ، ونحوُ ذلك.

(1)

ليست في (ع).

(2)

في (د): فعل.

ص: 380

(3)

(فَعَمَلُ) الرَّاوي (بِرِوَايَتِهِ) أي: بروايةِ المُعَدَّلِ (إِنِ) اعتُدَّ بتعديلِه، و (عُلِمَ) بالبناءِ للمجهولِ (أَنَّهُ لَا مُسْتَنَدَ لَهُ) أي: للعاملِ برِوايَتِه [في عَمَلِه]

(1)

(غَيْرُهَا) أي: غيرُ هذه الرِّوايةِ، وهذا الثَّالثُ مِمَّا يَحصُلُ به التَّعديلُ، فإنْ لم يُعلَمْ ذلك منه لم يَكُنْ تعديلًا؛ لاحتمالِ

(2)

أن يَكُونَ عَمِلَ بدليلٍ آخَرَ وافَقَ رِوايَتَه، قالَه المُوَفَّقُ وأبو المَعالي

(3)

إلَّا فيما العملُ به احتياطًا لفِسْقِه لو عَمِلَ بفاسقٍ، وهذا عندَ الأكثرِ.

(وَلَيْسَ تَرْكُ عَمَلٍ بِهَا) أي: بروايةِ راوٍ، (وَ) لا تَرْكُ عملٍ (بِشَهَادَةِ) شاهِدٍ (جَرْحًا) لذلك الرَّاوي والشَّاهدِ، لاحتمالِ سببٍ سِوى تركِ العملِ، فلا يُحكَمُ على الرَّاوي والشَّاهدِ إذا تُرِكَ العملُ بهما بجَرحِهما عندَ الجمهورِ؛ لأنَّ تركَ العملِ قد يَكُونُ لمعنًى فيهما مِن تُهمةِ قرابةٍ، أو عداوةٍ، أو غيرِ ذلك، وقد يَكُونُ لغيرِ ذلك، فإذا احتمل واحتملَ فلا نَحكُمُ عليه بالجرحِ بذلك مع الاحتمالِ؛ لأنَّ الأصلَ عَدَمُه، وليسَ تَرْكُ الحُكْمِ بها مُنحَصِرًا في الفسقِ، ولأنَّ عَمَلَه قد يَكُونُ مُتَوَقِّفًا على أمْرٍ آخَرَ زائدٍ على العدالةِ، فيَكُونُ التَّركُ لعدمِ ذلك، لا لانتفاءِ العدالةِ.

(4)

(ثُمَّ) الرَّابعُ مِمَّا يَحصُلُ به التَّعديلُ: (رِوَايَةُ عَدْلٍ عَادَتُهُ) أي: إنْ

(4)

عُرِفَ مِن مَذهَبِه، أو عادتِه، أو صريحِ قَوْلِه، أنَّه لا يَرى

(5)

الرِّوايةَ، و (لَا يَرْوِي إِلَّا عَنْ عَدْلٍ): كانَ تعديلًا عندَ الإمامِ أحمدَ والمُوَفَّقِ

(6)

والشَّيخِ وغيرِهم، وإنْ لم يُعرَفْ منه ذلك: فليسَ بتعديلٍ؛ إذ قد يَروي الشَّخصُ عمَّن لو سُئِلَ عنه لسَكَتَ.

(1)

ليس في (د).

(2)

في (ع): للاحتمال.

(3)

«البرهان في أصول الفقه» (1/ 624).

(4)

في «ع» : إن من.

(5)

في (د): يروي.

(6)

«روضة الناظر» (1/ 344).

ص: 381

قالَ أحمدُ في روايةِ أبي زُرْعَةَ: مالكُ بنُ أنسٍ إذا رَوَى عن رجلٍ لا يُعرَفُ فهو حُجَّةٌ.

(وَلَا يُقْبَلُ تَعْدِيلُ) مُعَدِّلٍ لراوٍ (مُبْهَمٍ، كَـ) قوله: (حَدَّثَنِي ثِقَةٌ، أَوْ) رَجُلٌ (عَدْلٌ) أو الثِّقةُ، أو العَدلُ (أَوْ مَنْ لَا أَتَّهِمُـ) ـه؛ لاحتمالِ كَوْنِه مَجروحًا عندَ غيرِه، وقَبِلَه المجدُ وغيرُه، وإنْ رُدَّ المُرسَلُ والمجهولُ، قال: لأنَّ ذلك تعديلٌ صريحٌ عندَنا. انتهى.

قالَ في «شرحِ الأصلِ» : وقيلَ: وهو الظَّاهرُ الَّذِي قَطَعَ به إمامُ الحَرَمَينِ

(1)

، ونَقَلَه ابنُ الصَّلاحِ

(2)

عنِ اختيارِ بعضِ المُحقِّقينَ أنَّه إذا كانَ القائلُ لذلك مِن أئمَّةِ الشَّأنِ العارفينَ بما يَشتَرِطُه هو وخصومُه في العدلِ، وقد ذَكَرَه في مَقامِ الاحتجاجِ، [فيُقبَلُ؛ لأنَّ مِثلَ هؤلاءِ لا يُطلِقُ في مَقامِ الاحتجاجِ]

(3)

إلَّا في موضعٍ يَأمَنُ أنْ يُخالَفَ فيمَن أَطْلَقَ أنَّه ثقةٌ

(4)

.

فائدةٌ: إذا قال الشَّافعيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: «حَدَّثَني الثِّقةُ، فتارةً يُريدُ به أحمدَ، وتارةً يُريدُ به يَحيى بنَ حسَّانَ، وتارةً يُريدُ به سعيدَ بنَ سالمٍ القَدَّاحَ، وتارةً يُريدُ به إبراهيمَ بنَ إسماعيلَ، واشتُهِرَ عنه ذلك فيه، وتارةً يُريدُ به مالكًا، وقيلَ: مُسلمَ بنَ خالدٍ الزَّنْجِيَّ، إلَّا أنَّه كانَ يَرى القَدَرَ، واحتَرَزَ عنِ التَّصريحِ باسمِه لهذا المَعنى.

(1)

«البرهان في أصول الفقه» (1/ 638).

(2)

«علوم الحديث» (ص 244).

(3)

ليس في (د)، (ع). ومُثبَتٌ من «التحبير شرح التحرير» .

(4)

«التحبير شرح التحرير» (4/ 1957).

ص: 382

(وَالجَرْحُ) أي: حَدُّه: (أَنْ يُنْسَبَ) بالبناءِ للمفعولِ (إِلَى قَائِلٍ مَا) أي: شيءٌ (يُرَدُّ لِأَجْلِهِ) أي: لأجلِ ذلك الشَّيْءِ (قَوْلُهُ) أي: قولُ ذلك القائلِ مِن خَبَرٍ، أو شهادةٍ مِن فِعلِ معصيةٍ، أو ارتكابِ ذنبٍ، أو ما يُخِلُّ بالعدالةِ.

(وَالتَّعْدِيلُ) بخلافِ الجَرحِ، فهو (ضِدُّهُ) وهو أن يُنْسَبَ إلى القائلِ ما يُقبَلُ لأجلِه قولُه مِن: فعلِ الخيرِ، والعِفَّةِ، والمُروءةِ، والدِّينِ بفعلِ الواجباتِ، وتَرْكِ المُحَرَّماتِ، ونحوِه.

ص: 383

فَصْلٌ

التَّدليسُ له مَعنيانِ: مَعنًى في اللُّغةِ، ومعنًى في الاصطلاحِ.

فمَعناه في اللُّغةِ: كِتمانُ العَيبِ في مَبيعٍ أو غيرِه، ويُقالُ: دَالَسَه: خَادَعَه، كأنَّه مِن الدَّلَسِ، وهو الظُّلْمَةُ؛ لأنَّه إذا غَطَّى عليه الأمْرَ أَظْلَمَه عليه.

وأمَّا في الاصطلاحِ فهو قِسمانِ: قِسْمٌ مُضِرٌّ يَمنَعُ القبولَ، وقِسْمٌ غيرُ مُضِرٍّ.

(وَ) الأوَّلُ: هو (تَدْلِيسُ المَتْنِ) ويُسَمَّى المُدْرَجَ، اسمُ فاعلٍ، فالرَّاوي للحديثِ إذا أَدْخَلَ فيه شيئًا مِن كلامِه أوَّلًا أو آخِرًا على وجهٍ يُوهِمُ أنَّه مِن جُملَةِ الحديثِ الَّذِي رَوَاه، وفَعَلَه (عَمْدًا: مُحَرَّمٌ، وَجَرْحٌ) لِمُتَعَمِّدِه؛ لِما فيه مِن الغشِّ، أمَّا لو اتَّفَقَ ذلك مِن غيرِ قصدٍ مِن صحابيٍّ أو غيرِه، فلا يَكُونُ ذلك مُحَرَّمًا، ومِن ذلك كثيرٌ أَفْرَدَه الخطيبُ البغداديُّ بالتَّصنيفِ

(1)

.

ومِن أمثلتِه حديثُ ابنِ مَسعودٍ في التَّشَهُّدِ، قال في آخِرِه: وإذا قُلْتُ هذا، فإنْ شِئْتَ أن تَقُومَ فقُمْ، وإنْ شِئْتَ أنْ تَقْعُدَ فاقْعُدْ. وهو مِن كلامِه لا مِن الحديثِ المرفوعِ

(2)

.

وهذا مِن المُدْرَجِ أخيرًا.

ومثالُ المُدرَجِ وَسَطًا: ما رَوَاه الدَّارَقُطْنِيُّ

(3)

: عن بُسْرَةَ بنتِ صَفْوَانَ رضي الله عنها قالَتْ: سَمِعْتُ رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ، أَوْ أُنْثَيَيْهِ، أَوْ رُفْغَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ»

(4)

.

(1)

وهو كتاب: «الفصل للوصل المدرج في النقل» . مطبوع.

(2)

ينظر: «الفصل للوصل المدرج في النقل» (1/ 24).

(3)

«سنن الدارقطني» (536).

(4)

ينظر: «الفصل للوصل المدرج في النقل» (1/ 344).

ص: 384

قالَ: فذِكْرُ الأُنْثَيَيْنِ والرُّفْغِ مُدْرَجٌ، إِنَّمَا هو مِن قولِ عُرْوَةَ الرَّاوي عن بُسْرَةَ.

ومِثالُ المُدرَجِ الأوَّلِ: ما رَوَاه الخَطيبُ

(1)

بسندِه، عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه:«أَسْبِغُوا الوُضُوءَ، وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ» فإنَّ «أَسْبِغُوا الوُضُوءِ» من كلامِ أبي هُرَيْرَةَ، ومَرجِعُ ذلك إلى المُحَدِّثينَ.

ويُعرَفُ ذلك: بأنْ يَرِدَ مِن طريقٍ أُخرى التَّصريحُ بأنَّ ذلك مِن كلامِ الرَّاوي، وهو طريقٌ ظَنِّيٌّ قد يَقْوَى، وقد يَضعُفُ، وعلى كلِّ حالٍ حَيْثُ فَعَلَ ذلك المُحَدِّثُ عَمْدًا، بأنْ قَصَدَ إدراجَ كلامٍ في حديثِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مِن غيرِ تَبْيِينٍ، بل دَلَّسَ ذلك: كانَ فِعلُه حرامًا، وهو مجروحٌ عندَ العلماءِ غيرُ مقبولِ الحديثِ.

(وَ) القِسْمُ الثَّاني: (غَيْرُهُ) أي: غيرُ تدليسِ المتنِ المُضِرِّ، وله صورٌ:

إحداها: أنْ يُسَمِّيَ شيخَه في روايتِه باسمٍ له غيرِ مشهورٍ؛ مِن: كُنيةٍ، أو لقبٍ، أو اسمٍ، أو نحوِه، كقولِ أبي بكرِ بنِ مجاهدٍ المُقْرِئِ: حَدَّثَنَا عبدُ اللهِ بنُ أبي أَوْفَى، يُريدُ به عبدَ اللهِ بنَ أبي داودَ السِّجِسْتَانِيَّ، ويُسَمَّى هذا تدليسَ الشُّيوخِ.

وأمَّا تدليسُ الإسنادِ: وهو أنْ يَروِيَ عمَّن لَقِيَه، أو عاصَرَه، ما لم يَسْمَعْه منه، مُوهِمًا سماعَه منه، قائلًا: قال فلانٌ، أو: عن فلانٍ، ونحوَه، وربَّما لم يُسقِطْ شيخَه وأَسْقَطَ غيرَه.

ومَثَّلَه بعضُهم بما في التِّرمذيِّ: عن ابنِ شهابٍ، عن أبي سَلَمَةَ، عن عائشةَ رضي الله عنها مرفوعًا:«لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ، وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ»

(2)

، ثمَّ قال:

(1)

«الفصل للوصل المدرج في النقل» (ص 158).

(2)

رواه أبو داود (3290)، والتِّرمذيُّ (1525) وضَعَّفَه، والنَّسائيُّ (3834)، وابن ماجه (2125) مِن حديثِ أمِّ المُؤمنينَ عائشةَ رضي الله عنها.

قالَ النَّوويُّ في «روضة الطَّالبين» (3/ 300): ضعيفٌ باتِّفاقِ المُحَدِّثينَ.

ص: 385

هذا حديثٌ لا يَصِحُّ؛ لأنَّ الزُّهريَّ لم يَسمَعْه مِن أبي سَلَمَةَ، ثمَّ ذَكَرَ أنَّ بينَهما سليمانَ بنَ أَرقَمَ، عن يحيى بنِ كثيرٍ، وأنَّ هذا وجهُ الحديثِ.

الصُّورةُ الثَّانيةُ: أنْ يُسَمِّيَ شيخَه باسمِ شيخٍ آخَرَ لا يُمكِنُ أنْ يَكُونَ رَوَاه عنه، كما يَقُولُ تلامذةُ

(1)

الحافظِ أبي عبدِ اللهِ الذَّهبيِّ: «حدثنا أبو عبدِ اللهِ الحافظُ» تَشبيهًا بقولِ البيهقيِّ فيما يَرويه عن شيخِه أبي عبدِ اللهِ الحاكمِ: «حدثنا أبو عبدِ اللهِ الحافظُ» ، وهذا لا يَقدَحُ؛ لظهورِ المقصودِ.

الثَّالثةُ: أن يَأتِيَ في التَّحديثِ بلفظٍ يُوهِمُ أمرًا لا قَدحَ

(2)

في إيهامِه، كقولِه:«حَدَّثَنَا وراءَ النهر» ، مُوهِمًا نهرَ جَيْحُونَ، وهو نهرُ عيسى ببغدادَ، والحِيرةِ ونحوِها بمِصرَ، فلا قَدحَ في ذلك؛ لأنَّه مِن بابِ الإغرابِ، وإنْ كانَ فيه إيهامُ الرِّحلةِ، إلَّا أنَّه صِدقٌ في نَفْسِه.

إذا عُلِمَ ذلك فالمُرادُ بذلك الأوَّلِ، وأكثرُ العلماءِ على أنَّ ذلك كلَّه (مَكْرُوهٌ).

وقولُه: (مُطْلَقًا

(3)

ظاهرُه: سواءٌ تَعَمَّدَ التَّدليسَ، أو لا.

وقالَ في «الأصلِ وشرحِه» : ومَن فَعَلَه مُتَأَوِّلًا قُبِلَ عندَ الأكثرِ، ولم يُفَسَّقْ؛ لأنَّه صَدَرَ مِن الأعيانِ المُقتَدَى بهم، وقلَّ مَن سَلِمَ منه، قِيلَ للإمامِ أحمدَ: شُعبَةُ يَقولُ: التَّدليسُ كَذِبٌ، قال: لا، قد دَلَّسَ قومٌ، ونَحنُ نَروي عنهم

(4)

.

(1)

في (د): تلاميذ.

(2)

في (ع): يقدح.

(3)

زاد في «مختصر التحرير» (ص 122): ومن فعله متأولًا قُبل.

(4)

«شرح الكوكب المنير» (2/ 451).

ص: 386

(وَمَنْ عُرِفَ بِهِ) أي: بالتَّدليسِ (عَنِ الضُّعَفَاءِ) مُوهِمًا أنَّ سماعَه عنْ غيرِهم، (لَمْ تُقْبَلْ رِوَايَتُهُ) عندَ المُحدِّثينَ وغيرِهم، (حَتَّى يُبَيِّنَ السَّمَاعَ) بأنْ يُفْصِحَ بتَعيِينِ الَّذِي سَمِعَ منه، وسَألَ مُهَنَّا أحمدَ عن هُشَيْمٍ، قال: ثقةٌ، إذا لم يُدَلِّسْ. قُلْتُ: التَّدليسُ عيبٌ؟ قال: نعمْ.

(وَ) قال المجدُ ابنُ تَيميَّةَ: (مَنْ كَثُرَ مِنْهُ) التَّدليسُ: (لَمْ تُقْبَلْ عَنْعَنَتُهُ)

(1)

وما في البُخاريِّ ومسلمٍ مِن ذلك محمولٌ على السَّماعِ مِن طريقٍ أُخرى.

قالَ ابنُ مُفْلِحٍ: كذا قيلَ، وقد قِيلَ لأحمدَ في روايةِ أبي داودَ

(2)

: الرَّجلُ يُعرَفُ بالتَّدليسِ يُحتَجُّ بما لم يَقُلْ فيه: حَدَّثَني، أو سَمِعْتُ؟ قال: لا أدري، قُلْتُ: الأَعمشُ متى تُصَابُ

(3)

له

(4)

؟ قال: يَضِيقُ هذا إن لم

(5)

يُحتَجَّ به

(6)

.

(وَ) الإسنادُ (المُعَنْعَنُ بِلَا تَدْلِيسٍ بِأَيِّ لَفْظٍ كَانَ) فيَشمَلُ: «عنْ» ، و «أنَّ» ، و «قالَ» ، و «أَقَرَّ» ، ونَحوَه:(مُتَّصِلٌ) عندَ الجمهورِ، عملًا بالظَّاهرِ، والأصلُ عدمُ التَّدليسِ، وحَكَاه ابنُ عبدِ البَرِّ

(7)

وغيرُه إجماعًا، وشَرَطَ ثلاثةَ شروطٍ: العدالةُ، واللِّقاءُ، وعَدَمُ التَّدليسِ.

(1)

«المسودة في أصول الفقه» (ص 278).

(2)

«سُؤَالات أبي داود لأحمد» (138).

(3)

كذا في (د)، (ع)، و «أصول الفقه» لابنِ مفلحٍ. وفي «سُؤَالات أبي داود لأحمد»: تصاد.

(4)

في «أصول الفقه» : له الألفاظ.

(5)

ليست في (د)، (ع). ومثبتةٌ من «أصول الفقه». وَالَّذِي في «سُؤالاتُ أبي داودَ لأحمدَ» (138): قَالَ: يضيق هذا، أي: أنَّك تَحتَجُ به.

(6)

«أصول الفقه» (2/ 573).

(7)

«التمهيد» (1/ 28).

ص: 387

قالَ الإمامُ أحمدُ: ما رواه الأعمشُ عن إبراهيمَ عن عَلْقَمَةَ عن عبدِ اللهِ عنِ

(1)

النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أو رَوَاه الزُّهْرِيُّ عن سالمٍ عن أبيه، وداودَ عنِ الشَّعبيِّ، عن عَلْقَمَةَ عن عبدِ اللهِ عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، كلُّ ذلك ثابتٌ.

(وَيَكْفِي) في الإسنادِ: (إِمْكَانُ لُقِيٍّ فِي قَوْلِ) كثيرٍ مِنَ المُتأخِّرينَ، وذَكَرَ مُسلمٌ

(2)

أنَّه الَّذِي عليه أهلُ العِلمِ بالأخبارِ قديمًا وحديثًا.

(وَظَاهِرُهُ) أي: ظاهرُ هذا القولِ أنَّ الثِّقةَ (لَوْ رَوَى عَمَّنْ) أي: عن شخصٍ (لَمْ يُعْرَفُ بِصُحْبَتِهِ، وَ) لا بـ (رِوَايَتِهِ عَنْهُ) أنَّه (يُقْبَلُ) ما رَوَاه عنه (مُطْلَقًا) يَعني ولو أَجمَعَ أصحابُ الشَّيخِ على أنَّه ليسَ منهم؛ لأنَّه ثقةٌ، ويَدُلُّ على هذا القولِ كلامُ الإمامِ أحمدَ في اعتذارِه لجابرٍ الجُعفِيِّ في قِصَّةِ هشامِ بنِ عروةَ مع زوجتِه

(3)

.

والقولُ الثَّاني: وهو ظاهرُ كلامِ الإمامِ أيضًا في مواضعَ، وعليه جمهورُ المُتقدِّمينَ: أنَّه يُشتَرَطُ العِلْمُ باللُّقِيِّ.

قالَ في «شرحِ الأصلِ»

(4)

: وهو أظهرُ، بل كلامُ الإمامِ أحمدَ، وأبي زُرْعَةَ، وأبي حاتمٍ، وغيرِهم مِن أعيانِ الحُفَّاظِ، يَدُلُّ على اشتِراط ثبوتِ السَّماعِ، قال أحمدُ في يَحيى بنِ كثيرٍ: قد رأى أنسًا، فلا أدري أَسَمِعَ منه أو لا؟ وكذلك كثيرٌ مِن

(5)

الصَّحابةِ رَأَوُا النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم ولم يَصِحَّ لهم سماعٌ منه، فرِوايَاتُهم عنه مُرسَلَةٌ، كطارقِ بنِ شهابٍ وغيرِه، وكذلك مَن

(1)

في (د): أن.

(2)

«صحيح مسلم» (المقدمة 1/ 29).

(3)

ينظر: «المسودة في أصول الفقه» (ص 305).

(4)

«التحبير شرح التحرير» (4/ 1982 - 1983).

(5)

في «التحبير شرح التحرير» : من صبيان.

ص: 388

عُلِمَ منه أنَّه مع اللُّقِيِّ لم يَسمَعْ ممَّن لَقِيَه إلَّا شيئًا يسيرًا، فروايتُه عنه زيادةً على ذلك مُرسَلةٌ، كسَماعِ الحَسنِ مِن عثمانَ، وهو على المِنبَرِ يَأْمُرُ

(1)

بقتلِ الكلابِ وذبْحِ الحمامِ

(2)

، ورواياتُه عنه غيرَ ذلك مُرسلةٌ.

قالَ أحمدُ: أبانُ بنُ عثمانَ لم يَسمَعْ مِن أبيه، مِن أين سَمِعَ منه؟!

ومُرادُه: مِن

(3)

أين صَحَّتِ الرِّوايةُ بسَماعه منه، وإلَّا فإمكانُ ذلك واحتمالُه غيرُ مُستَبْعَدٍ.

فدَلَّ كلامُ الإمامِ أحمدَ وغيرِه على أنَّ الاتِّصالَ لا يَثْبُتُ إلَّا بثبوتِ التَّصريحِ بالسَّماعِ، وهذا أضيقُ مِن قولِ ابنِ المَدينيِّ، والبخاريِّ، فإنَّ المَحكِيَّ عنهما أنَّه يُعتبَرُ أحدُ أمرينِ: إمَّا السَّماعُ، وإمَّا اللُّقِيُّ. وأحمدُ ومَن مَعَه

(4)

عندَهم لا بدَّ مِن ثُبُوتِ السَّماعِ، ويَدُلُّ على أنَّ هذا مُرادُهم أنَّ أحمدَ قال: ابنُ سيرينَ لم يَجِئْ عنه سماعٌ مِن ابنِ عبَّاسٍ.

وقالَ أبو حاتمٍ

(5)

: الزُّهرِيُّ أَدرَكَ أبانَ بنَ عثمانَ ومَن هو أكبَرُ منه، ولكنْ لا يَثْبُتُ له السَّماعُ، كما أنَّ حَبيبَ بنَ أبي

(6)

ثابتٍ لا يَثْبُتُ له السَّماعُ مِن عُروةَ، وقد سَمِعَ ممَّن هو أكبَرُ منه، غيرَ أنَّ أهلَ هذا الحديثِ قدِ اتَّفَقُوا على ذلك، واتِّفاقُهم على شيءٍ يَكُونُ حُجَّةً. انتهى مِن «شرحِ الأصل»

(7)

مُلَخَّصًا.

(1)

ليست في (د)، و (ع)، «التحبير شرح التحرير» . والمثبتُ مِن التَّخريجِ.

(2)

رواه أحمد (521)، وعبد الرزاق (19733).

(3)

ليست في (د).

(4)

في «التَّحبير شَرح التَّحريرِ» : تبعه.

(5)

«المراسيل» (ص 192).

(6)

ليست في (د)، (ع). ومثبتة من «المراسيل» (ص 192).

(7)

«التحبير شرح التحرير» (4/ 1982 - 1983).

ص: 389

(وَلَا يُشْتَرَطُ فِي قَبُولِ خَبَرِ) الثِّقَةِ: (ألَّا يُنْكَرَ) فلو رَوَى الثِّقةُ حديثًا، وأَنْكَرَه غيرُه: لم يُرَدَّ عندَنا، وأَوْمَأَ إليه الإمامُ أحمدُ.

قالَ ابنُ عَقِيلٍ: جوابُ من قال: «رَدَّه السَّلَفُ» أنَّ الثِّقَةَ لا يُرَدُّ حديثُه بإنكارِ غيرِه؛ لأنَّ معَه زيادةً

(1)

.

(1)

ينظر: «أصول الفقه» (2/ 577)، و «التحبير شرح التحرير» (4/ 1989).

ص: 390

(فَصْلٌ)

في ذِكْرِ بيانِ الصَّحابيِّ، وما الطَّريقُ في معرفةِ كونِه صحابيًّا

وقد اختُلِفَ في تفسيرِه على أقوالٍ مُنتشرةٍ، المُختارُ منها ما ذَهَبَ إليه الإمامُ أحمدُ وأصحابُه وغيرُهم، وهو قولُه:

(الصَّحَابِيُّ: مَنْ لَقِيَهُ صلى الله عليه وسلم مِن صغيرٍ، أو كبيرٍ، ذكرٍ أو أُنثى.

فدَخَلَ: مَن جِيءَ به إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وهو غيرُ مُميِّزٍ، فحَنَّكَه النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، كعبدِ اللهِ بنِ الحارثِ بنِ نَوْفَلٍ

(1)

، أو تَفَلَ في فيه كمحمودِ بنِ الرَّبيعِ، بل مَجَّه بالماءِ، كما في البُخاريِّ

(2)

وهو ابنُ خمسِ سِنينَ، أو أربعٍ، أو مَسَحَ وجهَه

(3)

كعَبدِ اللهِ بنِ ثَعْلَبَةَ بنِ صُعَيرٍ، بالصَّادِ وفتحِ العينِ المُهمَلَتينِ،

(4)

ونحوِ ذلك، فهؤلاءِ صحابةٌ

(5)

.

وقولُه: (أَوْ رَآهُ يَقَظَةً) احتِرازٌ ممَّن رَآهُ مَنامًا، فإنَّه لا يُسَمَّى صحابيًّا إجماعًا.

وقولُه: (حَيًّا) احتِرازٌ ممَّن رآه بعدَ مَوْتِه، كأبي ذُؤَيْبٍ الشَّاعرِ خالدِ بنِ خُوَيْلِدٍ الهُذَلِيِّ؛ لأنَّه لَمَّا أَسْلَمَ وأُخبِرَ بمرضِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سافَرَ ليَراه، فوَجَدَه مَيِّتًا مُسَجًّى، فحَضَرَ الصَّلَاةَ عليه والدَّفنَ، فلم يُعَدَّ صحابيًّا.

(1)

ينظر: «الإصابة في تمييز الصحابة» لابن حجر (8/ 13).

(2)

«صحيح البخاري» (77).

(3)

«صحيح البخاري» (4300).

(4)

ليست في «د» .

(5)

في (د): أصحابه.

ص: 391

وقالَ البُلْقِينِيُّ: الظَّاهرُ أنَّه يُعَدُّ صحابيًّا، ولكنَّ مُرادَهم كلِّهم؛ أي: مَن عَدَّه صحابيًّا، الصُّحبَةُ الحُكْمِيَّةُ لا حقيقةُ الصُّحبةِ. ذَكَرَه في «شرحِ الأصلِ»

(1)

.

وقولُه: (مُسْلِمًا) ليَخرُجَ: مَن رآه وهو كافرٌ، ثمَّ أَسْلَمَ بعدَ موتِه، ويَخرُجَ أيضًا: مَن رآه واجتمعَ به قبلَ النُّبُوَّةِ ولم يَرَه بعدَ ذلك، كما في زيدِ بنِ عمرِو بنِ نُفَيْلٍ، فإنَّه ماتَ قبلَ المَبعثِ، وقالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:«إِنَّهُ يُبْعَثُ أُمَّةً وَحْدَهُ» كما

(2)

رَوَاه النَّسائيُّ

(3)

.

وقولُه: (وَلَوِ ارْتَدَّ، ثُمَّ أَسْلَمَ، وَلَمْ يَرَهُ) أي: بعدَ إسلامِه، (وَمَاتَ مُسْلِمًا) له مفهومٌ، ومنطوقٌ:

فمَفهومُه: أنَّه إذا ارتدَّ في زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أو بعدَ مَوْتِه، وقُتِلَ على الرِّدَّةِ، كابنِ خَطَلٍ وغيرِه؛ فإنَّه لا يُعَدُّ مِن الصَّحابةِ قطعًا.

ومَنطوقُه: لوِ ارتَدَّ، ثمَّ رَجَعَ إلى الإسلامِ، كالأَشعثِ بنِ قيسٍ، فقد تَبَيَّنَ أنَّه لم يَزَلْ مُؤمِنًا، فإنْ كانَ قد رآه مُؤمنًا، ثمَّ ارتدَّ، ثمَّ رآه ثانيًا مُؤمنًا: فأَوْلَى وأوضَحُ أنْ يَكُونَ صحابيًّا، فإنَّ الصُّحبةَ قد صَحَّتْ بالاجتماعِ الثَّاني قطعًا.

وخَرَجَ: مَنِ اجتمعَ به قبلَ النُّبُوَّةِ، ثمَّ أَسلمَ بعدَ المَبْعَثِ ولم يَلْقَه، فإنَّ الظَّاهرَ أنَّه لا يَكُونُ صحابيًّا بذلك الاجتماعِ؛ لأنَّه لا يَكُونُ حينئذٍ مؤمنًا، كما رَوَاه أبو داودَ عن

(4)

عبدِ اللهِ بنِ أبي الحَمْسَاءِ

(5)

قال: بايَعْتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم

(1)

«التحبير شرح التحرير» (4/ 1997 - 1997).

(2)

ليست في «ع» .

(3)

«سنن النَّسائي» (8131).

(4)

في (د)، (ع): عن ابن. والمثبت من «سنن أبي داود» .

(5)

في (د): أوفى.

ص: 392

قبلَ أنْ يُبْعَثَ، فوَعَدْتُه أنْ آتِيَه في مكانِه، فقال: يا فتى! لقد شَقَقْتَ عليَّ، أنا في انتظارِك منذُ ثلاثٍ

(1)

. ثمَّ لم يُنقَلْ أنَّه اجتمعَ به بعدَ المبعثِ.

تنبيهٌ: قولُه: «مَنْ لَقِيَهُ» يَعُمُّ البصيرَ، والأعمى، فهو أحسنُ مِن قولِ مَن رَآه.

(قَالَ) القاضي علاءُ الدِّينِ المَرْدَاوِيُّ (فِي الأَصْلِ) الَّذِي هو «التَّحريرُ» : (وَلَوْ جِنِّيًّا فِي الأَظْهَرِ)

(2)

لاختلافِ العلماءِ في الجنِّ الَّذين قَدِمُوا على النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِن نَصِيبِينَ، وهم ثمانيةٌ مِن اليهودِ، أو سبعةٌ، ولهذا قال تعالى:{أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى}

(3)

، وذَكَرَ في أسمائِهم شاصَ، وماصَ، وناشي، ومنشي، والأحقبَ، وزوبعةَ، وسُرَّقَ، وعمرَو بنَ جابِرٍ.

قالَ في «شرحِ الأصلِ» : والأَوْلَى أنَّهم مِن الصَّحابةِ، وأنَّهم لَقُوُا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وآمَنوا به، وأَسْلَموا، وذَهَبوا إلى قومِهم مُنْذِرِين

(4)

.

تنبيهٌ: قال بعضُ العلماءِ: خَرَجَ مِن الصَّحابةِ: مَن رآهم النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم حينَ كُشِفَ له عنهم ليلةَ الإسراءِ، أو غيرِها، ومَن رَآه في غيرِ عالَمِ الشَّهادةِ كالمنامِ، وكذا مَنِ اجتمعَ به من الأنبياءِ، والملائكةِ في السَّمواتِ؛ لأنَّ مَقامَهم أجلُّ مِن رتبةِ الصُّحبةِ، وكذا مَنِ اجتمعَ به في الأرضِ: كعيسى، والخَضِرِ

(1)

«سنن أبي داود» (4996) ولفظه: بَايَعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِبَيْعٍ قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ وَبَقِيَتْ لَهُ بَقِيَّةٌ فَوَعَدْتُهُ أَنْ آتِيَهُ بِهَا فِي مَكَانِهِ، فَنَسِيتُ، ثُمَّ ذَكَرْتُ بَعْدَ ثَلَاثٍ، فَجِئْتُ فَإِذَا هُوَ فِي مَكَانِهِ، فقال:«يَا فَتًى، لَقَدْ شَقَقْتَ عَلَيَّ، أَنَا هَاهُنَا مُنْذُ ثَلَاثٍ أَنْتَظِرُكَ» .

وضعَّفه ابن الجوزي في «العلل المتناهية» (2/ 239).

(2)

«تحرير المنقول» (ص 177).

(3)

الأحقاف: 30.

(4)

«التحبير شرح التحرير» (4/ 2003).

ص: 393

عليهما مِن اللهِ الصَّلَاةُ والسَّلامُ، إن صَحَّ، فإنَّ المُرادَ اللِّقاءُ المعروفُ على الوجهِ المُعتادِ، لا خوارقُ العاداتِ، واللهُ أعلمُ.

(وَالصَّحَابَةُ) جميعُهم (عُدُولٌ) بتعديلِ اللهِ تعالى لهم عندَ أصحابِنا والمُعْظَمِ، ولا يُعتَدُّ بخلافِ مَن خالَفَهم. قال اللهُ تعالى:{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ}

(1)

، وقالَ تعالى:{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ}

(2)

الآيةَ. وقد تَوَاتَرَ امْتِثالُهم للأوامرِ والنَّواهي.

وقالَ صلى الله عليه وسلم: «خَيْرُ القُرُونِ قَرْنِي» . مُتَّفَقٌ عليه

(3)

.

وقالَ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ اخْتَارَنِي، وَاخْتَارَ لِي أَصْحَابًا وَأَنْصَارًا»

(4)

، «لَا تُؤْذُونِي فِي أَصْحَابِي»

(5)

.

فأيُّ تعديلٍ أصحُّ مِن تعديلِ عَلَّامِ الغيوبِ وتعديلِ رسولِه صلى الله عليه وسلم.

وإذا كانَ التَّعديلُ يَثْبُتُ بقولِ اثنينِ مِن النَّاسِ، قُلْتُ: بل يَثْبُتُ بواحدٍ في الرِّوايةِ كما تَقَدَّمَ، فكيف لا تَثْبُتُ العَدالةُ بهذا الثَّناءِ العظيمِ مِن اللهِ تعالى ورسولِه صلى الله عليه وسلم.

(1)

التَّوبة: 100.

(2)

الفتح: 29.

(3)

رواه البخاريُّ (2652)، ومسلمٌ (2533) مِن حديثِ ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه.

(4)

رواه الحاكمُ (3/ 732) مِن حديثِ عُوَيْمِ بنِ سَاعِدَةَ رضي الله عنه.

(5)

رواه التِّرمذيُّ (3862)، وابنُ حبَّانَ (7256) مِن حديثِ عبدِ اللهِ بنِ مغفَّلٍ رضي الله عنه «اللهَ اللهَ فِي أَصْحَابِي» وقَالَ: غريبٌ.

ص: 394

(وَالمُرَادُ) أي: مرادُ العلماءِ بتعديلِ الصَّحابةِ رضي الله عنهم: (مَنْ) جُهِلَ حالُه منهم فـ (لَمْ يُعْرَفْ بِقَدْحٍ) وليسَ المُرادُ بكونِهم عدولًا: العِصمةَ لهم واستحالةَ المعصيةِ عليهم، وإنَّما المُرادُ: ألَّا يُتَكَلَّفَ البحثُ عن عدالتِهم، ولا طَلَبُ التَّزكيةِ فيهم، وأمَّا ما وَقَعَ بينَهم رَضِيَ اللهُ تعالى عنهم، فمَحمولٌ على الاجتهادِ، ولا قَدْحَ على مجتهدٍ عندَ المُصَوِّبةِ وغيرِهم، وهذا مُتَأَوِّلٌ.

ومِن الفوائدِ ما قالَه الحافظُ المِزِّيُّ: أنَّه لم يُوجَدْ قطُّ روايةٌ عمَّن لُمِزَ بالنِّفاقِ مِن الصَّحابةِ رضي الله عنهم

(1)

.

ومِن فوائدِ القولِ بعدالتِهم مطلقًا: إذا قِيلَ: عن رجلٍ مِن الصَّحابةِ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: كذا؛ كانَ ذلك كتَصريحِه باسمِه؛ لاستواءِ الكلِّ في العدالةِ.

(وَتَابِعِيٌّ مَعَ صَحَابِيٍّ كَهُوَ) أي: كالصَّحابيِّ (مَعَهُ صلى الله عليه وسلم قياسًا على الصَّحابةِ، واشْتَرَطَ جماعةٌ في التَّابعيِّ الصُّحبةَ، فلا يُكتَفَى بمُجرَّدِ الرِّوايةِ ولا اللُّقِيِّ، بخلافِ الصَّحابةِ، فإنَّ لهم مَزِيَّةً على سائرِ النَّاسِ، وشرفًا برُؤيتِه صلى الله عليه وسلم.

(وَلَا يُعْتَبَرُ: عِلْمٌ بِثُبُوتِ الصُّحْبَةِ) عندَ الأربعةِ وغيرِهم، وطريقُ معرفةِ الصَّحابةِ: تارةً تَكُونُ ظاهرةً، وتارةً تَكُونُ خَفِيَّةً.

فالظَّاهرةُ معلومةٌ: فمِنها التَّواتُرُ، ومنها الاستفاضةُ بكونِه صحابيًّا، أو بكونِه مِن المُهاجرينَ، أو مِن الأنصارِ، وقولُ الصَّحابيِّ ثابتِ الصُّحبةِ: هذا

(1)

ينظر: «الفوائد السَّنية» (2/ 87)، و «التحبير شرح التحرير» (4/ 1995).

ص: 395

صحابيٌّ، أو ذِكْرُ ما يَلْزَمُ مِنه أنْ يَكُونَ صحابيًّا، نحوُ: كُنْتُ أنا وفلانٌ عندَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أو: دَخَلْنا عليه، ونحوِه، لكنْ بشرطِ أنْ يُعرَفَ إسلامُه في تلك الحالِ، واستمرارُه عليه.

وأمَّا الخَفيَّةُ (فَـ) كما (لَوْ قَالَ مُعِاصِرٌ) للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه صحابيٌّ، فلو قال وهو (عَدْلٌ:«أَنَا صَحَابِيٌّ» ؛ قُبِلَ) عندَ أصحابِنا والجمهورِ.

و (لَا) يُقبَلُ في الأصحِّ، لو قال (تَابِعِيٌّ عَدْلٌ: فُلَانٌ صَحَابِيٌّ) في ظاهرِ كلامِهم؛ لأنَّهم خَصُّوا ذلك بالصَّحابيِّ.

(وَ) لو قال: (أَنَا تَابِعِيٌّ) أَدرَكْتُ الصَّحابةَ، (قَالَ فِي «الأَصْلِ») أي:«التَّحريرِ» : (فَالظَّاهِرُ) أنَّه (كَصَحَابِيٍّ

(1)

في قولِه: أنا صحابيٌّ؛ لأنَّه ثقةٌ مقبولُ القولِ، فقُبِلَ كالصَّحابيِّ.

(1)

«تحرير المنقول» (ص 177).

ص: 396

(فَصْلٌ)

في مُستَنَدِ الصَّحابيِّ المُختَلِفِ

اعلَمْ أنَّ مُستَنَدَ الصَّحابيِّ عنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم نوعانِ:

أحدُهما: لا خلافَ فيه؛ إذْ هو صريحٌ في ذلك لا يَحتمِلُ شيئًا، وهو قولُه:

(أَعْلَى مُسْتَنَدِ صَحَابِيٍّ) قولُه: سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ، أو يَفعَلُ كذا، أو:(حَدَّثَنِي) رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بكذا، وأَخبَرَني بكذا، (وَ) كذا (رَأَيْتُهُ) يَقولُ، أو (يَفْعَلُ) كذا، (وَنَحْوُهُمَا) كـ: شَافَهْتُه، أو: حَضَرْتُه يَقولُ، أو يَفعَلُ كذا، وهذا أرفعُ الدَّرجاتِ؛ لكونِه يَدُلُّ على عدمِ الواسطةِ بينَهما قطعًا.

النَّوعُ الثَّاني: ما هو مُختَلَفٌ فيه لكونِه غيرَ صريحٍ، بل مُحتملَ الواسطةِ (وَ) الصَّحيحُ أنَّه (يُحْمَلُ) على الاتِّصالِ قولُ الصَّحابيِّ:(قَالَ) رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم كذا، (وَفَعَلَ) صلى الله عليه وسلم كذا (وَنَحْوُهُمَا) كـ: أَقَرَّ صلى الله عليه وسلم على كذا، وأنَّه لا واسطةَ بينَهما، (وَ) كذا قولُ الصَّحابيِّ: أقولُ ذلك (عَنْهُ) صلى الله عليه وسلم، (وَأَنَّهُ) صلى الله عليه وسلم قال أو فَعَلَ كذا، فيُحمَلُ ذلك كلُّه (عَلَى الِاتِّصَالِ) ويَكُونُ ذلك حُكمًا شَرعيًّا يَجِبُ العملُ به؛ لأنَّه الظَّاهرُ مِن حالِ الصَّحابيِّ القائلِ ذلك.

(وَ) قولُ الصَّحابِيِّ: (أَمَرَ) الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم بكذا، (وَنَهَى) عن كذا، (وَأَمَرَنَا) صلى الله عليه وسلم بكذا، (وَنَهَانَا) عن كذا، فحُكْمُه حُكْمُ: قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، لكنْ في الدَّلالةِ دونَ ذلك؛ لاحتمالِ الواسطةِ واعتقادِ ما ليسَ بأمرٍ ولا نهيٍ أمرًا أو نهيًا، لكنَّ الظَّاهرَ أنَّه لم يُصَرِّحْ بنقلِ الأمرِ إلَّا بعدَ جَزمِه بوجودِ حقيقتِه. ومعرفةُ الأمرِ مستفادةٌ مِن اللُّغةِ وهم أهلُها، فلا يَخفَى

ص: 397

عليهم. ثمَّ إنَّهم لم يَكُنْ بينَهم في صيغةِ الأمرِ ونحوِها خلافٌ، وخلافُنا فيه لا يَستلْزِمُه، فعلى هذا يَكُونُ حُجَّةً، ورَجَعَتْ إليه الصَّحابةُ وهو الصَّحيحُ.

وقولُ الصَّحابيِّ: أُبِيحَ لنا كذا، (وأُمِرْنَا) بكذا، (وَنُهِينَا) عن كذا، (وَرُخِّصَ لَنا) في كذا، (وَحُرِّمَ) بالبناءِ للمفعولِ فيهنَّ (عَلَيْنَا) كذا: حُجَّةٌ عندَ الأكثرِ، ونُقِلَ عن أهلِ الحديثِ؛ إذْ مرادُ الصَّحابيِّ الاحتجاجُ به، فيُحمَلُ على صُدورِه ممَّن يُحتَجُّ بقولِه، وهو الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم، هو الَّذِي أباحَ لهم، وأَمَرَهم ونَهَاهم، ورَخَّصَ لهم، وحَرَّمَ عليهم تبليغًا عنِ اللهِ تعالى، وإنْ كانَ يُحتَمَلُ أنَّه مِن بعضِ الخلفاءِ، لكنَّه بعيدٌ، فإنَّ المُشَرِّعَ لذلك هو صاحبُ الشَّرعِ.

(وَ) مِثْلُه قولُه: (مِنَ السُّنَّةِ) كذا على الصَّحيحِ.

وقد يَكُونُ قولُه

(1)

: مِن السُّنَّةِ مُسْتَحَبًّا، كقولِ عليٍّ رضي الله عنه: مِن السُّنَّةِ وَضْعُ الكفِّ على الكفِّ في الصَّلَاةِ تحتَ السُّرَّةِ

(2)

.

وقد يَكُونُ واجبًا كقولِ أنسٍ: مِنَ السُّنَّةِ إذا تَزَوَّجَ البِكْرُ على الثَّيِّبِ أقامَ عندَها سَبْعًا

(3)

. فليسَ في الصِّيغةِ تَعيينُ حُكْمٍ مِن

(4)

وجوبٍ أو غيرِه.

(وَ) قَوْلُ الصَّحابيِّ: (كُنَّا نَفْعَلُ) كذا، أو نَقُولُ، أو نَرَى كذا على عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: كلُّ ذلك حُجَّةٌ؛ لأنَّه في مَعرضِ

(5)

الحُجِّيَّةِ، فالظَّاهرُ بُلُوغُه وتقريرُه.

(1)

في (ع): قولًا.

(2)

رواه أبو داود (756). وضعَّفه النووي في «خلاصة الأحكام» (1097).

(3)

رواه البخاري (5213)، ومسلم (1461).

(4)

ليست في (ع).

(5)

في ع، د: معظم. والمثبت موافق لما في أصول الفقه 2/ 232.

ص: 398

فَائِدَتَانِ:

الأُولى: قولُ الصَّحابيِّ: «كُنَّا نَفعَلُ» لم يَذْكُرِ الأُصوليُّونَ وغيرُهم أنَّه حُجَّةٌ لتقريرِ اللهِ تعالى، وذَكَرَه الشَّيخُ مُحتجًّا بقولِ جابرِ بنِ عبدِ اللهِ رضي الله عنهما: كُنَّا نَعزِلُ والقرآنُ يَنزِلُ، ولو كانَ شيءٌ يُنهى عنه، لَنَهانا عنه القرآنُ، مُتَّفَقٌ عليه

(1)

. وهو ظاهرُ الأدِلَّةِ.

الثَّانيةُ: لو قال الصَّحابيُّ: «نَزَلَتْ هذه الآيةُ في كذا» ، هل هو مِن بابِ الرِّوايةِ، أو الاجتهادِ؟ وطريقةُ البخاريِّ في «صحيحِه» تَقتضي أنَّه مِن بابِ المرفوعِ، ولم يَذكُرْ أحمدُ في «المسندُ» مِثْلَ هذا.

(وَ) قولُ الصَّحابيِّ: (كَانُوا يَفْعَلُونَ كَذَا عَلَى عَهْدِهِ صلى الله عليه وسلم، وَنَحْوُ ذَلِكَ) كقولِه: كانَ الأمرُ على ذلك في زَمَنِه صلى الله عليه وسلم: (حُجَّةٌ) عندَ الأكثرِ، لقولِ عائشةَ رضي الله عنها: كانُوا لا يَقطَعُون في الشَّيْءِ التَّافهِ

(2)

.

(وَقَوْلُ غَيْرِ صَحَابِيٍّ

(3)

مِن تابعيٍّ وغيرِه إذا رَوَى حديثًا (عَنْهُ) أي: عنِ الصَّحابيِّ (يَرْفَعُهُ) إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، كمرفوعٍ صريحًا، كقولِ سعيدِ بنِ جُبيرٍ، عن ابنِ عبَّاسٍ: الشِّفاءُ في ثلاثٍ: شربةُ عَسَلٍ، وشَرْطَةُ مِحْجَمٍ، وَكَيَّةٌ بنارٍ. ثمَّ قال: رُفِعَ الحديثُ. رَوَاه البخاريُّ

(4)

.

(أَوْ) قال غيرُ الصَّحابيِّ حديثًا عنِ الصَّحابيِّ (يَنْمِيهِ) إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، كروايةِ مالكٍ، عن أبي حازمٍ، عن سَهلِ بنِ سعدٍ: كانَ النَّاسُ يُؤمَرُونَ أنْ يَضَعَ الرَّجُلُ يَدَه اليُمنَى على ذِراعِه اليُسرَى في الصَّلَاةِ

(5)

.

(1)

رواه البخاري (5208)، ومسلم (1440).

(2)

رواه ابن أبي شيبة (28697).

(3)

في (د): الصحابي.

(4)

«صحيح البخاري» (5680).

(5)

«الموطأ» (437).

ص: 399

قال أبو حازمٍ: لا أَعلَمُ إلَّا أنَّه يَنْمِي ذلك. قال مالكٌ: يَرْفَعُ ذلك. هذا لفظُ روايةِ عبدِ اللهِ بنِ يوسفَ، ورَوَاه البخاريُّ

(1)

مِن طريقِ القَعْنَبِيِّ عن مالكٍ، فقال: يَنْمِي ذلك إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فصَرَّحَ برَفْعِه.

(أَو) قال غيرُ الصَّحابيِّ حديثًا عن الصَّحابيِّ (يَبْلُغُ بِهِ) النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، كحديثِ أبي الزِّنادِ، عنِ الأَعْرَجِ، عن أبي هُرَيْرَةَ يَبْلُغُ به قال:«النَّاسُ تَبَعٌ لِقُرَيْشٍ»

(2)

، وغيرُه كثيرٌ.

(أَوْ) قال (رِوَايَةً) عنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كما في الصَّحيحينِ عن أبي هُرَيْرَةَ روايةً: «تُقَاتِلُونَ قَوْمًا»

(3)

الحديثَ، كلُّ ذلك حُكْمُه:(كَمَرْفُوعٍ صَرِيحًا) عندَ أهلِ العِلمِ.

(وَ) قَوْلُ (تَابِعِيٍّ: أُمِرْنَا) بكذا، (وَنُهِينَا) عن كذا، كقولِ صحابيٍّ ذلك عندَ أصحابِنا، (وَ) كذا قولُه:(مِنَ السُّنَّةِ) كذا، وأَوْمَأَ إليه أحمدُ.

قالَ الطُّوفِيُّ

(4)

: وقولُ التَّابعيِّ والصَّحابيِّ في حياةِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وبعدَ مماتِه سواءٌ

(5)

، إلَّا أنَّ الحُجَّةَ في قولِ الصَّحابيِّ أظهرُ

(6)

.

(1)

«صحيح البخاري» (740).

(2)

رواه البخاريُّ (3495)، ومسلمٌ (1818).

(3)

رواه البخاريُّ (3591)، ومسلمٌ (2912).

(4)

«شرح مختصر الروضة» (2/ 196).

(5)

قَالَ الطُّوفِيُّ في «شرح مُختصَرِ الرَّوضةِ» : أي: قولُ الرَّاوي: مِن السُّنَّةِ، سواءٌ كانَ تابعيًّا أو صحابيًّا، في حياةِ الرَّسولِ صلى الله عليه وسلم، وبعدَ مَوْتِه، سواء في أنَّه حُجَّةٌ؛ لأنَّ كُلًّا منهما أضافَ السُّنَّةَ إلى مَن تَقُومُ الحُجَّةُ بإضافتِها إليه، وهو الرَّسولُ، صلى الله عليه وسلم.

(6)

قَالَ الطُّوفِيُّ في «شرح مختصر الرَّوضة» : لعدمِ الواسطةِ، وكونِه شاهَدَ ما لم يُشاهِدْ، وكونِه عَدلًا بالنَّصِّ، بخلافِ التَّابعيِّ في ذلك كُلِّه.

ص: 400

(وَ) قولُ تابعيٍّ: (كَانُوا يَفْعَلُونَ) كذا (كَـ) قولِ (صَحَابِيٍّ) ذلك (حُجَّةٌ) أي: في الاحتجاجِ به، لا في الاتِّصالِ، فهو كالمُرسَلِ. وقالَ الشَّيخُ: ليسَ بحُجَّةٍ؛ لأنَّه قد يَعني مَن أَدرَكَه، كقولِ إبراهيمَ النَّخَعِيِّ: كانوا يَفعلون، يُريدُ به أصحابَ عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ.

فَائِدَةٌ: مُسْتَنَدُ غيرِ الصَّحابيِّ في الرِّوايةِ له مَرَاتِبُ، وإنْ كانَ بعضُها يَكُونُ في الصَّحابيِّ مِثْلُه كعَكْسِه، وهو أنَّ ألفاظَ الصَّحابيِّ قد يَكُونُ منها ما هو في غيرِ الصَّحابيِّ، لكنَّ الضَّرورةَ داعيةٌ إلى بيانِ

(1)

مُستنَدِ غيرِ الصَّحابيِّ والاصطلاحِ في ذلك، ولو كانَ الحُكْمُ فيها سواءً، فلهذا قال:

(وَأَعْلَى مُسْتَنَدِ غَيْرِ صَحَابِيٍّ: قِرَاءَةُ الشَّيْخِ) والرَّاوي عنه يَسمَعُ، سواءٌ كانَ إملاءً أو تحديثًا مِن حِفظِه، أو مِن كتابِه.

(فَإِنْ قَصَدَ) الشَّيخُ بقراءتِه على الرَّاوي (إِسْمَاعَهُ وَحْدَهُ، أَوْ) قَصَدَ إسماعَه (وَ) إسماعَ (غَيْرِهِ، قَالَ) الرَّاوي: (أَسْمَعَنَا، وَحَدَّثَنَا، وَأَخْبَرَنَا) وقالَ فلانٌ، وسَمِعْتُ فلانًا يَقُولُ.

(وَقَلَّ) عندَهم قولُ الرِّاوي في مِثلِ هذا: (أَنْبَأَنَا، وَنَبَّأَنَا) فلانٌ؛ لأنَّ استعمالَهما اشتهرَ في الإجازةِ.

(وَهِيَ) أي: هذه العبارةُ (رُتْبَةً) أي: في الرُّتبةِ (كَمَا ذُكِرتْ) يَعني أَرْفَعُها: سَمِعْتُ، فحَدَّثَنا، وحَدَّثَني؛ إذْ في ذلك احتِرازٌ مِن الإجازةِ، فأَخْبَرَنا، وهو كثيرٌ في الاستعمالِ، فأَنْبَأَنَا، ونَبَّأَنَا، وهو قليلٌ في الاستعمالِ.

(وَلَهُ) أي: للرَّاوي إذا سَمِعَ مع غيرِه (إِفْرَادُ الضَّمِيرِ) فيَقُولُ: سَمِعْتُ،

(1)

ليس في (د).

ص: 401

حَتَّى (وَ) لو سَمِعَ (مَعَهُ غَيْرُهُ) على الصَّحيحِ، (وَ) كذا يَجُوزُ للرَّاوي (جَمْعُهُ) أي: الضَّميرِ إذا سَمِعَ وَحدَه، فيَقُولُ: حَدَّثَنَا ولو كانَ (مُنْفَرِدًا) بالتَّحديثِ.

قالَ في «شرحِ الأصلِ» : ولم أرَ فيه خِلافًا

(1)

.

(وَإِلَّا) أي: وإن لم يَقصِدِ الشَّيخُ الإسماعَ (قَالَ) الرَّاوي عنه: (سَمِعْتُـ) ـه (وَحَدَّثَ، وَأَخْبَرَ، وَأَنْبَأَ، وَنَبَّأَ).

(ثُمَّ) المرتبةُ الثَّانيةُ: (قِرَاءَتُهُ) أي: قراءةُ الرَّاوي على الشَّيخِ وهو يَسمَعُ هذا الصَّحيحَ عندَ أكثرِ العُلَمَاءِ؛ لأنَّ تجويزَ الخطأِ والنِّسيانِ في هذه الصُّورةِ أقربُ مِن تَجويزِه في صورةِ قراءةِ الشَّيخِ والرَّاوي عنه يَسْمَعُ.

(أَوْ) أي: والمرتبةُ الثَّالثةُ: قراءةُ (غَيْرِهِ) أي: غيرِ الرَّاوي، وهو أنْ يَقْرَأَ أحدٌ (عَلَى الشَّيْخِ) وغيرُ القارئِ يَسمَعُ، ويُسَمَّى هذا عَرْضًا، كالَّذي قَبْلَه وإنْ كانَ أنزلَ، وفي الرِّوايةِ به خلافٌ، والَّذي عليه أكثرُ أهلِ العِلمِ أنَّه صحيحٌ، وعليه العملُ.

(وَيَقُولُ) الرَّاوي (فِيهِمَا) أي: في قراءتِه على الشَّيخِ، وفي سماعِه منه بقراءةِ غيرِه:(حَدَّثَنَا، وَأَخْبَرَنَا) فلانٌ (قِرَاءَةً عَلَيْهِ) بلا نزاعٍ؛ لأنَّه الأصلُ.

(وَيَجُوزُ الإِطْلَاقُ

(2)

فيَقُولُ: حَدَّثَنا، وأَخْبَرَنا، مِن غيرِ ذكرِ قراءةٍ عليه، عندَ الإمامِ أحمدَ وأبي حنيفةَ ومالكٍ وغيرِهم؛ لأنَّه مَعناه.

(وَسُكُوتُ الشَّيْخِ عِنْدَ قِرَاءَةِ) الرَّاوي (عَلَيْهِ بِلَا مُوجِبٍ) يَعني إنْ عُدِمَ إنكارُه ولا حاملَ له على ذلك مِن إكراهٍ، أو نومٍ، أو غفلةٍ، أو نحوِ ذلك

(1)

«التحبير شرح التحرير» (5/ 2036).

(2)

زاد في «مختصر التَّحريرِ» (ص 125): لا سمعت.

ص: 402

(كَإِقْرَارِهِ) على الصَّحيحِ؛ لأنَّ العُرفَ قاضٍ بأنَّ السُّكوتَ تقريرٌ في مِثْلِ هذا، وإلَّا لكانَ سُكُوتُه لو كانَ غيرَ صحيحٍ قادحًا.

(وَيَحْرُمُ) على الرَّاوي: (إِبْدَالُ قَوْلِ الشَّيْخِ: حَدَّثَنَا بـ) قولِ: (أَخْبَرَنَا) لاحتمالِ أنْ يَكُونَ الشَّيخُ لا يَرى التَّسويةَ، فيَكُونُ كَذِبًا عليه، (وَ) كذا (عَكْسُهُ) وهو: إبدالُ قولِ الشَّيخِ: أَخبَرَنا بحَدَّثَنا؛ لِما تَقَدَّمَ، وعنه: لا يَحرُمُ، وبناه الخلَّالُ على الرِّوايةِ بالمَعنى.

قالَ في «شرحِ الأصلِ» : وبناؤُه ظاهرٌ

(1)

.

(وَ) يَحرُمُ على الرَّاوي (رِوَايَةُ مَا) أي: حديثٍ (شَكَّ فِي سَمَاعِهِ) مع الشَّكِّ؛ لأنَّ الأصلَ عدمُ السَّماعِ، ولأنَّ ذلك شهادةٌ على شيخِه.

(وَ) يَحرُمُ [على الرَّاوي]

(2)

أيضًا روايةُ حديثٍ (مُشْتَبِهٍ بِـ) حديثِ (غَيْرِهِ) فلا يَروي شيئًا مِمَّا اشْتَبَه به؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ منها

(3)

يَحتمِلُ أنْ يَكُونَ غيرَ المسموعِ.

(وَ) تَحرُمُ أيضًا روايةُ حَدِيثٍ (مُسْتَفْهِمٍ مِنْ غَيْرِ الشَّيْخِ) فلا يَروي إلَّا ما سَمِعَه منه، فلا يَستفْهِمُه ممَّن سَمِعَه معَه ثمَّ يَرويه، وهو ظاهرُ ما سَبَقَ، وقالَه جماعةٌ.

قال خلفُ بنُ تَميمٍ: سَمِعْتُ مِن الثَّوريِّ عشرةَ آلافِ حديثٍ أو نحوَها، فكُنْتُ أَستفهِمُ مِن جليسي، فقُلْتُ لزائدةَ، فقال: لا تُحَدِّثْ بها إلَّا ما تَحفَظُ بقَلْبِكَ، وتَسْمَعُ أُذُنُك، قال: فأَلْقَيْتُها

(4)

.

(1)

«التحبير شرح التحرير» (5/ 2040).

(2)

ليس في (ع).

(3)

في (ع): منهما.

(4)

رواه الخطيب في «الكفاية في علم الرواية» (ص 70).

ص: 403

و (لَا) يَحْرُمُ على الرَّاوي روايةُ:

- (مَا) أي: حديثٍ (ظَنَّهُ مَسْمُوعَهُ) مِن غيرِ اشتباهٍ،

- (أَو) ظَنَّه أنَّه واحدٌ (مِنْ مُشْتَبِهٍ بِعَيْنِهِ) فيُعمَلُ به عندَ الأكثرِ عَمَلًا بالظَّنِّ.

قال صالحٌ: قُلْتُ لأبي: الشَّيخُ يُدغِمُ الحرفَ يُعرَفُ أنَّه كذا وكذا، ولا يُفهَمُ عنه، تَرى أنْ يُروى ذلك عنه؟ قال الإمامُ أحمدُ: أرجو ألَّا يَضِيقَ هذا

(1)

.

(وَ) ظاهرُ ما سَبَقَ أيضًا، أنَّه (لَا يُؤَثِّرُ) في صِحَّةِ الرِّوايةِ عنِ الشَّيخِ:(مَنْعُ الشَّيْخِ) للرَّاوي (مِنْ رِوَايَتِهِ عَنْهُ) أي: عنِ الشَّيخِ (بِلَا قَادِحٍ) كأنْ يُسنِدَ الشَّيخُ ذلك إلى خطأٍ أو شَكٍّ.

(ثُمَّ) المرتبةُ‌

‌ الرَّابعةُ: الإجازةُ

، فتَجُوزُ الرِّوايةُ بها عندَ الأكثرِ؛ لأنَّه إذا جازَ أنْ يَروِيَ عنه مَرويَّاتِه فقد أَخْبَرَه بها جُملةً، فهو كما لو أَخبَرَه تفصيلًا، وإخبارُه بها غيرُ مُتَوَقِّفٍ على التَّصريحِ نُطقًا، كما في القِراءةِ على الشَّيخِ، قالَه ابنُ الصَّلاحِ

(2)

.

فيَجِبُ العملُ بها كالحديثِ المُرسَلِ، و‌

‌أعلى الرِّوايةِ بها المُناولةُ

، ويُسَمَّى هذا عَرْضَ المُناولةِ، كما أنَّ سَمَاعَ الشَّيخِ يُسَمَّى عَرْضَ القِراءةِ، وهي نوعانِ:

أحدهما

(3)

: (مُنَاوَلَةُ) الشَّيخِ كتابًا للرَّاوي (مَعَ إِجَازَتِـ) ـه (أَوْ إِذْنِـ) ـه له في روايتِه عنه، وصفتُه: أنْ يُجِيزَه بشيءٍ نَاوَله إيَّاه بأنْ يَدفَعَ الشَّيخُ إلى الطَّالبِ

(1)

رواه الخطيب في «الكفاية في علم الرواية» (ص 68).

(2)

«معرفة أنواع علوم الحديث» (ص 267).

(3)

ليست في (د).

ص: 404

أصلَ مرويِّه، أو فرعًا مُقابَلًا به، ويَقولَ: هذا سَمَاعِي، أو مَرْوِيِّي بطريقِ كذا، فَارْوِهِ عنِّي، أو: أَجَزْتُه لك أنْ تَرْوِيَه عنِّي، ثمَّ يُمَلِّكَه إيَّاه بطريقٍ، أو يُعِيرَه له يَنْقُلُه ويُقابِلُه به. وفي مَعناه أنْ يَجِيءَ الطَّالبُ بذلك إلى الشَّيخِ ابتداءً ويَعْرِضَه عليه فيَتَأَمَّلَه الشَّيخُ العارفُ اليَقِظُ، ويَقولَ: نعمْ، هذا مَسْمُوعي، أو روايتي بطريقِ كذا، فَارْوِهِ عنِّي، أو: أَجَزْتُه لك، أو يُعْطِيَه شيئًا مِن تَصانيفِه فيَقُولَ: ارْوِهِ عنِّي، والرِّوايةُ بذلك جائزةٌ على الصَّحيحِ، وليسَ كالسَّماعِ، بل مُنْحَطٌّ عنه.

إذا عَرَفْت ذلك: فالرِّوايةُ بهذا النَّوع أعلى مِن الإجازةِ المُجرَّدةِ في الأصحِّ عندَ المُحدِّثينَ، وإنْ كانَ الأُصُوليُّون خالَفُوهم في ذلك.

(وَ) النَّوعُ الثَّاني: مُجَرَّدُ المُناولةِ، فـ (لَا تَجُوزُ) الرِّوايةُ (بِمُجَرَّدِهَا) مِن غيرِ إجازةٍ ولا إذنٍ عندَ الأكثرِ.

وأصلُ المُناولةِ لُغَةً: الإعطاءُ باليدِ، ثمَّ اسْتُعمِلَتْ عندَ المُحَدِّثينَ وغيرِهم في إعطاءِ كتابٍ أو ورقةٍ مكتوبةٍ، ونحوِ ذلك، ويَقُولُ المُناولُ: هذا سَمَاعِي مِن قِبَلِ فُلانٍ، أو مَرْوِيِّي عنه بطريقِ كذا، وسواءٌ قال مع ذلك:«خُذْه» ، أو نَاوَلَه ساكتًا، فإذا لم يَنْضَمَّ إليها إذنٌ ولا إجازةٌ يُسَمَّى المُناولةَ المُجَرَّدَةَ.

(وَ) لا يُشتَرَطُ في المُناولةِ فِعْلُها، بل (يَكْفِي اللَّفْظُ) بِلا مُنَاوَلَةٍ، فلو كانَ الكتابُ بيدِ الُمجَازِ له، أو على الأرضِ ونَحوِه، جازَ؛ لأنَّه لا تأثيرَ للفِعْلِ.

(وَمِثْلُهَا) أي: ومِثلُ المُناولةِ:‌

‌ المُكَاتَبَةُ

، بأنْ يَكْتُبَ الشَّيخُ إلى غيرِه شيئًا مِن حَديثِه بخَطِّه، أو يَأْمُرَ غيرَه فيَكْتُبَ عنه بإذنِه، سواءٌ كَتَبَه أو كَتَبَ عنه إلى غائبٍ عنه، أو حاضِرٍ عندَه، وهي نوعانِ:

ص: 405

أحدُهما: (مُكَاتَبَةٌ مَعَ إِجَازَةٍ، أَوْ إِذْنٍ) فتَجُوزُ الرِّوايةُ بذلك في

(1)

الأصحِّ، إذا عَلِمَ خَطَّه أو ظَنَّه بإخبارِ عدلٍ، أو خَطِّه، أو غيرِ ذلك؛ لأنَّ الكتابةَ أحدُ اللِّسانَينِ.

النَّوعُ الثَّاني: المُكاتبةُ بدونِ الإجازةِ، ويَأتي قريبًا.

(ثُمَّ) يَلي المُناولةَ والمُكاتبةَ: الإجازةُ بدونِهما، وهي أقسامٌ:

أحدُها: (إِجَازَةُ خَاصٍّ لِخَاصٍّ) كقولِه: «أَجَزْتُ هذا الكتابَ لفلانٍ» ، وهي أصَحُّها، حَتَّى ذَهَبَ بَعضُهم إلى أنَّه لا خلافَ فيها.

(فَـ) الثَّاني: إجازةُ (عَامٍّ لِخَاصٍّ) كقولِه: «أَجَزْتُ لفلانٍ جميعَ مَرْوِيَّاتي» ، فيَجُوزُ ذلك عندَ الجمهورِ، وهو أَدْنى رُتْبَةً مِن الَّذِي قَبْلَه.

(فَـ) الثَّالثُ: (عَكْسُهُ) وهو: إجازةُ خاصٍّ لعامٍّ، كقولِه:«أَجَزْتُ للمُسلمينَ» ، أو لمَن أَدْرَكَ حياتي كتابِي الفُلانِيَّ.

(فَـ) الرَّابعُ: إجازةُ (عَامٍّ لِعَامٍّ) وهو عكسُ الأوَّلِ، كقولِه:«أَجَزْتُ جميعَ مَرْوِيَّاتي لكلِّ أحدٍ» ، وهذا الأخيرُ دونَ الَّذِي قَبْلَه، وجَوَّزَه الخطيبُ وغيرُه، وفَعَلَه ابنُ مَنْدَه وغيرُه، فقال: أَجَزْتُ لمَن قال: لا إلهَ إلَّا اللهُ.

(ثُمَّ) يَلي ما تَقَدَّمَ في المرتبةِ (مُكَاتَبَتُـ) ـه أي: مُكاتبَةُ الشَّيخِ، بأنْ يَكْتُبَ إلى غيرِه: سَمِعْتُ مِن فلانٍ كذا (بِدُونِهَا) أي: بدونِ الإجازةِ، بل كَتَبَ إليه يُخبِرُه بذلك فقط، وهو النَّوعُ الثَّاني مِن نَوعَيِ المُكاتبةِ، وتَجُوزُ الرِّوايةُ بها في ظاهرِ كلامِ الإمامِ أحمدَ والخلَّالِ، فإنَّ أبَا مُسْهِرٍ وأبا تَوْبَةَ كَتَبَا إليه بأحاديثَ وحَدَّثَ بها، وهو الأشهرُ للمُحَدِّثينَ، (وَ) على هذا (يَكْفِي مَعْرِفَةُ خَطِّهِ) بأنْ

(1)

في (ع): على.

ص: 406

يَعلَمَ أو يَظُنَّ المكتوبُ إليه خَطَّ الكاتبِ، سواءٌ كَتَبَه الشَّيخُ أو كَتَبَ عنه، كما تَقَدَّمَ، وهذا هو الصَّحيحُ.

(وَتَجُوزُ إِجَازَةٌ:

بِمُجَازٍ بِهِ) في الأصحِّ، كـ: أَجَزْتُ لك مُجازَاتي، أو: أَجَزْتُ لك ما أُجِيزَ لي روايتُه، وكانَ نصرٌ المَقْدِسيُّ يَروي بالإجازةِ عنِ الإجازةِ.

(وَ) تَجُوزُ إجازةٌ (لِطِفْلٍ) ليَرْوِيَ ما أُجِيزَ به بعدَ بلوغِه.

(وَ) تَجُوزُ أيضًا لـ (مَجْنُونٍ) في أصحِّ قوليِ العلماءِ، فيَروي بها إذا عَقَلَ؛ لأنَّها إباحةٌ للرِّوايةِ.

(وَ) تَجُوزُ أيضًا لـ (غَائِبٍ) وتَقَدَّمَ أنَّه يَكفي معرفةُ خطِّه بعِلْمٍ، أو ظَنٍّ، أو إخبارِ ثقةٍ.

(وَ) تَجُوزُ إجازةٌ لـ (كَافِرٍ) وقد صَحَّحُوا تَحَمُّلَه إذا أَدَّاه بعدَ الإسلامِ، فالقياسُ جوازُ الإجازةِ له، ثمَّ إذا أَسْلَمَ يَرويه بالإجازةِ، وقد وَقَعَتْ هذه المسألةُ في زَمَنِ الحافظِ أبي الحَجَّاجِ المِزِّيِّ بدمشقَ، وكانَ طبيبًا يُسَمَّى مُحَمَّدَ بنَ عبدِ السَّيِّدِ يَسمَعُ الحديثَ وهو يَهودِيٌّ، على أبي عبدِ اللهِ محمَّدِ بنِ عبدِ اللهِ الصُّوريِّ، وكَتَبَ اسمَه في طبقاتِ السَّماعِ مع النَّاسِ، وأجازَ عبدُ المؤمِنِ لمَن سَمِعَه، وهو مِن جُملَتِهم، وكانَ السَّماعُ والإجازةُ بحضرةِ المِزِّيِّ الحافظِ، وبعضُ السَّماعِ بقراءتِه ولم يُنْكِرْه، ثمَّ هَدَى اللهُ اليهوديَّ للإسلامِ، وحَدَّثَ بما أُجِيزَ له وتَحَمَّلَ الطُّلَّابُ عنه.

و (لَا) تَصِحُّ إجازةٌ لـ:

- (مِعْدُومٍ مُطْلَقًا) أي: لا أصلًا ولا تَبَعًا لموجودٍ، فالأُولى نَحوُ: أَجَزْتُ

ص: 407

لمَن يُولَدُ لفلانٍ، فلا تَصِحُّ على الصَّحيحِ؛ لأنَّ الإجازةَ في حُكْمِ الإخبارِ جُملةً بالمجازِ، فكما لا يَصِحُّ الإخبارُ للمعدومِ، لا تَصِحُّ إجازتُه.

والثَّانيةُ: كـ: أَجَزْتُ لفلانٍ ولمَن يُولَدُ له، في ظاهرِ كلامِ جماعةٍ مِن أصحابِنا، وقالَه غيرُهم؛ لأنَّها مُحادَثَةٌ، أو إذنٌ في الرِّوايةِ بخلافِ الوَقْفِ، وأَجَازَهَا أبو بكرٍ ابنُ أبي داودَ مِن أصحابِنا، وجماعةٌ.

وأمَّا الإجازةُ للمعدومِ على العُمومِ، كـ: أَجَزْتُ لمن يولدُ

(1)

بعدَ ذلك، فقال البِرْمَاوِيُّ: لا تَصِحُّ، وكأنَّها إجازةٌ مِن معدومٍ لمعدومٍ

(2)

.

- (وَ) لا تَصِحُّ أيضًا إجازةٌ لـ (مَجْهُولٍ) على الصَّحيحِ، كـ: أَجَزْتُ لبعضِ النَّاسِ أو لرَجُلٍ منهم.

- (وَ) لا تَصِحُّ أيضًا (بِمَجْهُولٍ) مِن مَروِيَّاتِه، كـ: أَجَزْتُ لك أن تَرْوِيَ عنِّي شيئًا، أو بعضَ مَرويَّاتِي، أو بعضَ الكتابِ الفُلانِيِّ على الصَّحيحِ؛ لِما فيه مِن الجهالةِ والتَّعليقِ، وليسَ مِن هذه

(3)

الإجازةُ لمُسَمَّيْنَ مُعَيَّنِينَ بأنْسابِهم، والمُجيزُ جاهلٌ بأعيانِهم، فلا يَقْدَحُ، كما لا يَقْدَحُ عدمُ معرفتِه

(4)

بمَن هو حاضرٌ يَسمَعُ بشَخصِه، وكذا لو أجازَ للمسلمينَ في الاستجازةِ ولم يَعرِفْهم بأعيانِهم، ولا بأسمائِهم ولا تَصَفَّحَهم واحدًا واحدًا.

- (وَ) لا تَصِحُّ أيضًا بـ (مَا لَمْ يَتَحَمَّلْهُ) المُجيزُ، بأنْ يُجِيزَ قَبْلَ أن يَتَحَمَّلَ ما أَجَازَ به (لِيَرْوِيَهُ) أي: ليَرْوِيَ المُجازُ له (عَنْهُ) أي: عنِ المُجيزِ (إِذَا تَحَمَّلَهُ) المُجيزُ في الأصحِّ؛ لِما فيه مِن التَّعليقِ.

(1)

في (د): يوجد.

(2)

«الفوائد السنيّة في شرح الألفيّة» (2/ 229).

(3)

في (د): هذا.

(4)

في (ع): معرفة.

ص: 408

نُكْتَةٌ: قال عبدُ الملكِ الطُّبُنِيُّ: كُنْتُ عندَ القاضي أبي الوليدِ يُونُسَ بقرطبةَ، فسَألَه إنسانٌ الإجازةَ بما رَوَاه وما لم يَروِه بعدُ فلم يُجِبْه وغَضِبَ، فقُلْتُ: يا هذا! يُعطيكَ

(1)

ما لم يَأْخُذْ؟ فقال أبو الوليدِ: هذا جوابي

(2)

.

(وَيَقُولُ) مُجازٌ له حَيْثُ صَحَّتِ الإجازةُ: (أَجَازَ لِي) أو: أجازَ لنا فلانٌ باتِّفاقٍ على جوازِ ذلك، قالَه في «شرحِه»

(3)

؛ لأنَّه إخبارٌ بالحالِ على وَجهِه.

(وَيَجُوزُ) أنْ يَقُولَ مُجازٌ له: (حَدَّثَنِي، وَأَخْبَرَنِي) وحَدَّثَنا، وأَخْبَرَنَا (إِجَازَةً) عندَ الأكثرِ، و (لَا) يَجُوزُ في حَدَّثَني وأَخْبَرني (إِطْلَاقُهُمَا) ولا إطلاقُ حَدَّثَنَا وأَخْبَرَنا، بل يَقُولُ: كَتَبَ إليَّ، أو أَخْبَرني إجازةً، أو كتابةً (فِيهِنَّ) أي: في جميعِ صورِ الرِّوايةِ بالإجازةِ المُتَقَدِّمِ ذِكْرُها، وهو المختارُ الَّذِي عليه الأكثرُ؛ لِما في ذلك من الإيهامِ بالتَّحديثِ على الحقيقةِ المتبادِرِ الفهمُ إليها.

(وَلَا تَجُوزُ رِوَايَةٌ:

- بِوَصِيَّةٍ بِكُتُبِهِ) في الأصحِّ، مِثْلُ أن يُوصِيَ قَبْلَ مَوْتِه، أو عندَ سَفَرِه بشيءٍ مِن مرويَّاتِه لشخصٍ.

- (وَ) لا تَجُوزُ روايةٌ (بِوِجَادَةٍ، وَهِيَ) أي: الوِجَادَةُ بكسْرِ الواوِ: مصدرٌ مُؤَّكِّدٌ لـ وَجَدَ.

قالَ المُعافَى بنُ زَكريَّا النَّهْرَوَانِيُّ: إنَّ المُوَلَّدِينَ وَلَّدُوه وليسَ عربيًّا جَعَلُوه مُبايِنًا لمصادرِ «وَجَدَ» المختلفةِ المعنى، وكما مَيَّزَتِ العربُ بينَ

(1)

في (ع): أيعطيك.

(2)

ينظر: «الفوائد السَّنية» (2/ 232)، و «التحبير شرح التحرير» (5/ 2057).

(3)

«شرح الكوكب المنير» (2/ 522).

ص: 409

مَعَانِيها، فَرَّقَ هؤلاءِ بينَ ما قَصَدُوه مِن هذا النَّوعِ وبينَ تلك، فمادَّةُ «وَجَدَ» مُتَّحِدَةُ الماضي والمضارعِ، مُختلفةُ المصادرِ بحَسَبِ اختلافِ المعاني، فيُقالُ في الغَضَبِ: مَوْجِدَةٌ، وفي المطلوبِ: وُجُودًا، وفي الضَّالَّةِ: وِجدانًا، وفي الحُبِّ: وَجْدًا بالفتحِ، وفي المالِ: وُجدانًا بالضَّمِّ، وفي الغِنَى: جِدَةٌ بكسْرِ الجيمِ وتخفيفِ الدَّالِ المفتوحةِ على الأشهرِ في جميعِ ذلك، وقالوا أيضًا في المكتوبِ: وِجادةٌ، وهي مُوَلَّدَةٌ، وزِيدَ في الغضبِ أيضًا: جِدَةٌ، وفي الغِنى: إجدانًا

(1)

.

و‌

‌الوِجادةُ

اصطلاحًا: (وِجْدُانُهُ) أي: الرَّاوي (شَيْئًا) حديثًا أو نحوَه، مكتوبًا (بِخَطِّ الشَّيْخِ) الَّذِي يَعرِفُه ويَثِقُ بأنَّه خَطُّه، حيًّا كانَ الشَّيخُ أو مَيِّتًا، (وَ) أمَّا الرِّوايةُ به فـ (يَقُولُ: وَجَدْتُ بِخَطِّ فُلَانٍ) كذا، وإذا لم يَثِقْ بذلك يَقُولُ: ذَكَرَ أنَّه خَطُّ فلانٍ، ولا يَقُولُ حَدَّثَنَا وأَخْبَرَنا على الصَّحيحِ.

- (وَلَا) تَجُوزُ الرِّوَايَةُ (بِمُجَرَّدِ قَوْلِ الشَّيْخِ: سَمِعْتُ كَذَا، و) لا بمُجَرَّدِ قَوْلِه: (هذا سَمَاعِي، أَوْ) هذا (رِوَايَتِي، أَوْ) قولِه: (هَذَا خَطِّي) وهو الصَّحيحُ، وأمَّا أن يَقُولَ:«عن فلانٍ» ، فتَدليسٌ قبيحٌ إذا كانَ يُوهِمُ سَمَاعَه منه، قالَه ابنُ الصَّلاحِ

(2)

.

(وَيَعْمَلُ) وُجوبًا (بِمَا) أي: بحديثٍ (ظَنَّ) الرَّاوي (صِحَّتَهُ مِنْ ذَلِكَ) المُتَقَدِّمِ الَّذِي لا تَجُوزُ له روايتُه، فلا يَتَوَقَّفُ وجوبُ العملِ على جوازِ روايتِه عندَ أصحابِنا وغيرِهم، لعملِ الصَّحابةِ على كُتُبِ النِّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

وقيلَ: لا يَعمَلُ به.

ص: 410

ومَحَلُّ الخلافِ إذا لم يَكُنْ له بما وَجَدَه روايةٌ، أمَّا إذا كانَ له روايةٌ بما وَجَدَه؛ فالاعتمادُ على الرِّوايةِ لا على الوِجادةِ.

(وَ‌

‌مَنْ رَأَى سَمَاعَهُ) بخَطِّه (وَلَمْ يَذْكُرْهُ)

أي: السَّماعَ (فَلَهُ رِوَايَتُهُ وَعَمَلٌ بِهِ) أي: بالَّذي رآه إذا عَرَفَ الخَطَّ، على الصَّحيحِ، فيَعمَلُ به (إِذَا ظَنَّهُ خَطَّهُ) ويَكفي الظَّنُّ لِما سَبَقَ. ولهذا قِيلَ لأحمدَ: فإنْ أَعارَه مَن لم يَثِقْ به، قال: كلُّ ذلك أرجو

(1)

، فإنَّ الزِّيادةَ في الحديثِ لا تَكادُ تَخْفَى؛ لأنَّ الأخبارَ مَبْنِيَّةٌ على حُسْنِ الظَّنِّ وغَلَبَتِه.

ص: 411

(فَصْلٌ)

يَجُوزُ عندَ الأكثرِ (لِعَارِفٍ) بما يُحِيلُ المَعنى (نَقْلُ الحَدِيثِ بِالمَعْنَى) وظاهرُه سواءٌ نَسِيَ اللَّفظَ أم لا، وسواءٌ نَقَلَه الصَّحابيُّ أو غيرُه، وسواءٌ كانَ ذلك في الأحاديثِ الطِّوالِ أو القِصارِ، وسواءٌ كانَ مُوجَبُها عِلْمًا أو عَمَلًا، وسواءٌ كانَ بلفظٍ مرادفٍ أو غيرِ مرادفٍ، وسواءٌ كانَ أظهرَ منه مَعنًى أو أخفى، وقد رَوَى ابنُ مَنده في «معرفة الصَّحابةِ» مِن حديثِ عبدِ اللهِ بنِ سليمانَ بنِ أُكَيْمَةَ اللَّيْثِيِّ قال: قلت: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي أَسْمَعُ مِنْكَ الحَدِيثَ لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَرْوِيَهُ كَمَا سَمِعْتُهُ مِنْكَ، يَزِيدُ حَرْفًا أَوْ يَنْقُصُ حَرْفًا، قال:«إِذَا لَمْ تُحِلُّوا حَرَامًا، ولا تُحَرِّمُوا حَلَالًا، وَأَصَبْتُمُ المَعْنَى، فَلَا بَأْسَ» . فذُكِرَ ذلك للحَسَنِ فقال: لولا هذا ما حَدَّثْنا

(1)

.

ولأحمدَ بإسنادٍ حسنٍ عن وَاثِلَةَ: إذا حَدَّثْنَاكم بالحديثِ على مَعناه فحَسْبُكم

(2)

.

ولم يَزَلِ الحُفَّاظُ يُحَدِّثون بالمعنى، وكذلك الصَّحابةُ.

وكانَ أنسٌ إذا حَدَّثَ عنه عليه السلام قال: أو كما قالَ

(3)

. إسنادُه صحيحٌ.

وكذلك نُقِلَتْ وقائعُ مُتَّحِدةٌ بألفاظٍ مختلفةٍ، ولأنَّه يَجُوزُ تفسيرُه بعجميَّةٍ إجماعًا، فبِعربيَّةٍ أَوْلى، ولحصولِ المقصودِ وهو المعنى، ولهذا لا تَجِبُ

(1)

«معرفةُ الصَّحابةِ» (4211). قَالَ السَّخاويُّ في «فتحُ المغيثِ» (2/ 247): وهو حديثٌ مُضطرِبٌ لا يَصِحُّ.

(2)

«العلل ومعرفة الرجال» (1/ 157).

(3)

رواه ابن ماجه (24).

ص: 412

تلاوةُ اللَّفظِ ولا ترتيبُه بخلافِ القُرآنِ، والأذانِ ونَحوِه، لكنْ إذا قُلْنا تَجُوزُ روايته بالمعنى، فلها شروطٌ:

أَحدُها: كَوْنُ الرَّاوي عارفًا بدَلالاتِ الألفاظِ واختلافِ مَوَاقِعِها.

والثَّاني: ألَّا يَكُونَ مُتَعَبَّدًا بلَفظِه، كالقُرآنِ قطعًا، وكالتَّشهُّدِ، فلا يَجُوزُ نقلُ ألفاظِه بالمعنى اتِّفاقًا.

والثَّالثُ: ألَّا يَكُونَ مِن جوامعِ الكَلِمِ، كقولِه صلى الله عليه وسلم:«الخَرَاجُ بِالضَّمَانِ»

(1)

، و «البَيِّنَةُ عَلَى المُدَّعِي»

(2)

، و «لَا ضَرَرَ ولا ضِرَارَ»

(3)

ونحوِه مِمَّا لا يَنْحَصِرُ.

(فَـ) ـعلى هذا (ليسَ) الحديثُ (بِكَلَامِ اللهِ تعالى، وَهُوَ) أي: الحديثُ (وَحْيٌ) وإن لم يَجُزْ نَقْلُه بالمعنى فهو كلامُه، هذا (إِنْ رُوِيَ مُطْلَقًا) أي: مِن غيرِ تَبْيِينٍ أنَّ الله تعالى أَمَرَ، أو نَهَى، أو كانَ خبَرًا عنِ اللهِ تعالى.

(وَإِنْ بَيَّنَ) النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم في الحديثِ (أَنَّ اللهَ تعالى أَمَرَ) به

(1)

رواه أبو داود (3508)، والترمذي (1285)، والنسائي (4490)، وابن ماجه (2243) من حديث عائشة رضي الله عنها.

وقال الترمذي: حسن صحيح.

(2)

رواه الترمذي (1341) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وضعّفه.

وروى البخاري (4552)، ومسلم (1711) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ، لَادَّعَى نَاسٌ دِمَاءَ رِجَالٍ وَأَمْوَالَهُمْ، وَلَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ.

(3)

رواه ابن ماجه (2340، 2341) من حديث عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ وابن عباس رضي الله عنهم.

وحسَّنه النووي في «الأذكار» (ص 351)، وقال ابن الملقن في «خلاصة البدر المنير» (2897): وقال ابن الصلاح: حسن. قال أبو داود: وهو أحد الأحاديث التي يدور عليها الفقه، وصححه إمامنا في حرملة.

ص: 413

(أَوْ نَهَى) عنه، (أَوْ كَانَ خَبَرًا عَنِ اللهِ تعالى أَنَّهُ) سبحانه وتعالى (قَالَهُ، فَـ) ـحُكْمُه (كَالقُرْآنِ) لا يَجُوزُ تَغييرُ لَفظِه.

(وَجَائِزٌ) عندَ الإمامِ أحمدَ وغيرِه (إِبْدَالُ لَفْظِ الرَّسُولِ بِـ) ـلفظِ (النَّبِيِّ وَعَكْسُهُ) وهو إبدالُ لفظِ النَّبِيِّ بلفظِ الرَّسولِ.

قالَ صالحٌ: قُلْتُ لأبي: يَكُونُ في الحديثِ: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فيَجْعَلُ الإنسانُ: قال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم. قال أحمدُ: أرجو ألَّا يَكُونَ به بأسٌ.

وأمَّا حديثُ البَراءِ بنِ عازبٍ لَمَّا عَلَّمَه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عندَ النَّومِ: «آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ، وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ» ، قال: وَرَسُولِكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ، قال:«لَا، وَنَبِيِّكَ» . مُتَّفَقٌ عليه

(1)

.

فالجوابُ عنه: قالَ الشَّيخُ: مِن ثلاثةِ أوجهٍ:

أحدُها: أنَّ الرَّسولَ كما يَكُونُ مِن الأنبياءِ يَكُونُ مِن الملائكةِ.

الثَّاني: أنَّ تَضَمُّنَ قولِه: «ورسولِك» للنُّبُوَّةِ بطريقِ الالتزامِ، فأرادَ عليه السلام أنْ يُصَرِّحَ بذِكْرِ النُّبُوَّةِ.

الثَّالثُ: الجمعُ بينَ لَفْظَيِ

(2)

النُّبُوَّةِ والرِّسالةِ.

تنبيهٌ: (لَا) يَجُوزُ (تَغْيِيرُ) لفظِ شيءٍ مِن (الكُتُبِ المُصَنَّفَةِ) ويُثْبَتُ فيها بدله شيءٌ آخَرُ بمَعناه، فإنَّ الرِّوايةَ بالمعنى رَخَّصَ فيها مَنْ رَخَّصَ؛ لِما كانَ عليهم في ضَبطِ الألفاظِ والجمودِ عليها مِن الحرجِ والنَّصَبِ، وذلك غيرُ

(1)

رواه البخاري (247)، ومسلم (2710).

(2)

في (ع): لفظ.

ص: 414

موجودٍ فيما اشْتَمَلَتْ عليه بطونُ الأوراقِ والكتبِ، ولأنَّه إنْ مَلَكَ تغييرَ اللَّفظِ فليسَ يَمْلِكُ تغييرَ تصنيفِ غيرِه، وتَعَقَّبَه ابنُ دقيقِ العيدِ بأنَّه ضعيفٌ، وأقلُّ ما فيه: أنَّه يَقتضي تجويزَ هذا فيما يُنْقَلُ مِن المُصنَّفاتِ في أجزائِنا وتَخارِيجِنا، وأنَّه ليسَ فيه تغييرُ المُصَنَّفِ.

وقال: ليسَ هذا جاريًا على الاصطلاحِ، فإنَّ الاصطلاحَ على ألَّا تُغَيَّرَ الألفاظُ بعدَ الانتهاءِ إلى الكتبِ المُصَنَّفَةِ، سواءٌ رُوِّيناها فيها، أو نَقَلْناها منها

(1)

.

(وَلَوْ كَذَّبَ) أصلٌ فرعًا فيما رواه عنه: لم يُعمَلْ به، (أَوْ غَلَّطَ أَصْلٌ فَرْعًا) في حديثٍ:(لَمْ يُعْمَلْ بِهِ) عندَ الأكثرِ؛ لكذبِ أَحدِهما، (وَ) مع ذلك (هُمَا) أي: الأصلُ وفرعُه الرَّاوي عنه (عَلَى عَدَالَتِهِمَا) فلا تَبْطُلُ بالشَّكِّ، فلو شَهِدَا عندَ حاكمٍ في واقعةٍ: قُبِلَا؛ لأنَّ قولَه لا يَقدَحُ في عدالتِه؛ لأنَّه عدلٌ، وتكذيبُه قد يَكُونُ لظَنٍّ منه أو غيرِه.

(وَإِنْ) كانَ الأصلُ (أَنْكَرَهُ) أي: أَنْكَرَ الفرعَ بأنْ قال: ما أَعرِفُ هذا الحديثَ (وَلَمْ يُكَذِّبْهُ) في روايتِه عنه (عُمِلَ بِهِ) أي: بذلك الحديثِ الَّذِي أَنْكَرَه الأصلُ عندَ الأكثرِ؛ لأنَّ الفرعَ عَدلٌ جازمٌ غيرُ مُكَذَّبٍ، كمَوْتِ الأصلِ، أو جنونِه.

ورَوَى سعيدٌ، عنِ الدَّرَاوَرْدِيِّ، عن ربيعةَ، عن سُهَيْلِ بنِ أبي صالحٍ، عن أبيه، عن أبي هُرَيْرَةَ أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَضَى باليمينِ والشَّاهِدِ. ونَسِيَه سُهَيْلٌ، وقَالَ: حَدَّثَني ربيعةُ عَنِّي، ورَوَاه الشَّافعيُّ عنِ الدَّرَاوَرْدِيِّ فذَكَر ذلك لسُهَيْلٍ، فقال: أَخْبَرَني ربيعةُ وهو عندي ثقةٌ، أنِّي حَدَّثْتُه إيَّاه ولا

ص: 415

أَحْفَظُه، وكانَ سُهَيْلٌ يُحَدِّثُه بعدُ عن ربيعةَ عنه عن أبيه، رَوَاه أبو داودَ

(1)

، وإسنادُه جيِّدٌ، ولم يُنْكِرْ ذلك.

(وَتُقْبَلُ زِيَادَةُ ثِقَةٍ ضَابِطٍ) في الحديثِ (لَفْظًا أَوْ مَعْنًى، إِنْ:

(1)

تَعَدَّدَ المَجْلِسُ،

(2)

أَوِ اتَّحَدَ وَتُصُوِّرَتْ غَفْلَةُ مَنْ فِيهِ عَادَةً،

(3)

أَوْ جُهِلَ الحَالُ).

اعلمْ أنَّه ذُكِرَ فيما إذا زادَ في الحديثِ ثقةٌ ضابطٌ ثلاثُ مسائلَ، سواءٌ كانَتِ الزِّيادةُ في لفظِ الحديثِ أو في مَعناه:

إحداها: إذا

(2)

تَعَدَّدَ المجلسُ: فتُقْبَلُ، قال ابنُ مُفْلِحٍ: إجماعًا

(3)

.

الثَّانيةُ: إذا اتَّحَدَ المجلسُ، وفيه جماعةٌ تُتَصَوَّرُ غَفْلَتُهم عادةً: فتُقبَلُ على الصَّحيحِ.

الثَّالثةُ: إذا جُهِلَ المجلسُ، يَعني هل فيه مَن تُتَصَوَّرُ غفلتُه، أو لا، وهلِ الزِّيادةُ في مجلسٍ أو مجالسَ، وعلى كلِّ حالٍ فالصَّحيحُ القبولُ، هذا إن لم تُخالِفِ الزِّيادةُ المَزيدَ، وكانَتْ مِن راوٍ آخَرَ، وسَكَتَ عنها بقيَّةُ الثِّقاتِ.

مِثالُ ذلك: حديثُ أبي هُرَيْرَةَ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في قولِه: «قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، فَإِذَا قال العَبْدُ: الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، يَقُولُ اللهُ تعالى: حَمِدَنِي عَبْدِي» . حديثٌ صحيحٌ

(4)

.

(1)

«سنن أبي داود» (3610).

(2)

في (ع): إن.

(3)

«أصول الفقه» (2/ 611).

(4)

رواه مسلم (395) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 416

ثُمَّ رَوَى عبدُ اللهِ بنُ زيادِ بنِ سَمْعَانَ، عنِ العلاءِ بنِ عبدِ الرَّحمنِ، عنْ أبيه، عن أبي هُرَيْرَةَ الخَبَرَ، وذَكَرَ فيه:«فَإِذَا قال العَبْدُ: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، قال اللهُ تعالى: ذَكَرَنِي عَبْدِي»

(1)

. تَفَرَّدَ بالزِّيادةِ عبدُ اللهِ بنُ زيادٍ، وفيه مَقالٌ.

وحديثُ ابنِ عُمَرَ في صَدَقَةِ الفِطْرِ: أَمَرَنا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنْ نُخرِجَ صَدَقَةَ الفطرِ صاعًا مِن شعيرٍ، أو صاعًا من تَمرٍ

(2)

.

انْفَرَدَ سعيدُ بنُ عبدِ الرَّحمنِ الجُمَحِيُّ، عن عبدِ اللهِ بنِ عمرَ، عن نافعٍ، عنِ ابنِ عمرَ بزيادةِ:«أَوْ صَاع مِنْ قَمْحٍ» .

وحديثُ ابنِ عمرَ أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ شَرِبَ مِنْ إِنَاءِ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، فَإِنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي جَوْفِهِ نَارَ جَهَنَّمَ» .

زادَ فيه يَحيى بنُ محمَّدٍ الجاري

(3)

، عن زكريَّا بنِ إبراهيمَ بنِ عبدِ اللهِ بنِ مُطيعٍ، عن أبيه، عن جدِّه

(4)

، عنِ ابنِ عمرَ:«أَوْ إِنَاءٍ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ»

(5)

.

تنبيهٌ: فُهِمَ مِن المَتنِ أنَّ زيادةَ الثِّقةَ لا تُقبَلُ إذا اتَّحَدَ المجلسُ، وكانَ فيه جماعةٌ لا تُتَصَوَّرُ غفلَتُهم عادةً، وعليه الأكثرُ.

(1)

رواه الدارقطني (1189) وقال: ابْنُ سَمْعَانَ، متروك الحديث، وروى هذا الحديث جماعة من الثقات، عن العلاء بن عبد الرحمن، فلم يذكر أحد منهم في حديثه:{بسم الله الرحمن الرحيم} ، واتفاقهم على خلاف ما رواه ابن سَمْعَانَ أولى بالصواب.

(2)

رواه البخاري (1503)، ومسلم (984).

(3)

في (ع)، (د): الحارثي. والمثبت من «سنن الدارقطني» . وهو يحيى بن محمد بن عبد الله الجاري، ترجمته في «تهذيب الكمال» (31/ 522).

(4)

قوله: عن جده. ليس في «سنن الدارقطني» ، و «السنن الكبير» .

(5)

رواه الدارقطني (96)، والبيهقي (1/ 45).

ص: 417

(وَإِنْ خَالَفَتْ) زيادةُ الثِّقةِ (المَزِيدَ) عليه في مسألةٍ مِن الثَّلاثِ: (تَعَارَضَا) أي: الزِّيادةُ والمزيدُ، وظاهرُه: سواءٌ غَيَّرَتِ الزيادةُ إعرابَ الكلامِ، أو مَعناه، أو هُما.

مثالُه: لو رَوى راوٍ: «فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ» ، ورَوى آخَرُ: نصفُ شاةٍ، فيَتَعارَضَانِ.

ومِثْلُ أنْ يَروِيَ أحدُهما صدقةَ الفطرِ «أَوْ صَاعًا مِنْ بُرٍّ» ، والآخرُ: نِصْفَ صاعٍ مِن بُرٍّ، وكقولِ الآخَرِ: صاعًا مِن بُرٍّ بينَ الاثنينِ.

إذا عَلِمْتَ ذلك (فَيُطْلَبُ المُرَجِّحُ) لأحدِهما، (وَإِنْ) كَانَ الرَّاوي للزِّيادةِ (رَوَاهَا مَرَّةً وَتَرَكَهَا) مَرَّةً (أُخْرَى: فَـ) ـالحُكْمُ فيها يَجري (كَتَعَدُّدِ رُوَاةٍ) على ما سَبَقَ حَتَّى يُفْصَلَ فيه بينَ اتِّحادِ سَماعِها مِن الَّذِي رَوَى عنه وتَعَدُّدِه. والمُرادُ: ما أَمْكَنَ جَرَيَانُه مِن الشُّروطِ، لا ما لا يُمكِنُ.

مثالُ ذلك: حديثُ سُفيانَ بنِ عُيَيْنَةَ، عن طلحةَ بنِ يَحيى بنِ طلحةَ بنِ عبيدِ اللهِ بسندِه إلى عائشةَ رَضِيَ اللهُ تعالى عنها قَالَتْ: دَخَلَ عليَّ

(1)

رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقُلْتُ: إنَّا خَبَّأْنا لك حيسًا. فقال: «أَمَا إِنِّي كُنْتُ أُرِيدُ الصَّوْمَ، وَلَكِنْ قَرِّبِيهِ»

(2)

.

وأَسْنَدَه الشَّافعيُّ

(3)

عن سُفيانَ هكذا، ورَوَاه عن سُفيانَ شيخٌ باهليٌّ، وزادَ فيه:«وَأَصُومُ يَوْمًا مَكَانَهُ» ، ثمَّ عَرَضْتُه عليه قَبْلَ مَوْتِه بسنةٍ، فذَكَرَ هذه

(4)

الزِّيادةَ.

(1)

ليست في (د).

(2)

رواه مسلم (1154) بنحوه.

(3)

«السنن المأثورة» (296).

(4)

ليست في (د).

ص: 418

(وَإِنْ أَسْنَدَ) الرَّاوي، (أَوْ وَصَلَ، أَوْ رَفَعَ مَا) أي: حديثًا بأنْ أَسْنَدَه تارةً و (أَرْسَلَهُ) أُخرى، (أَوْ) وَصَلَه تارةً و (قَطَعَهُ) أُخرى، (أَو) رَفَعَه تارةً و (وَقَفَهُ) أُخرى:(قُبِلَ) إسنادُه ووَصْلُه ورَفْعُه؛ لأنَّ الرَّاويَ إذا صَحَّ عندَه الخبَرُ أَفْتى به تارةً، ورَوَاه عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أُخرى.

(وَ) قولُه: (مُطْلَقًا) سواءٌ كانَ الرَّاوي واحدًا أو مُتَعَدِّدًا، وسواءٌ كانَ مِن شأنِه إرسالُ الأخبارِ وأَسْنَدَه، أو قَطَعَهَا ووَصَلَه، أو وَقَفَها ورَفَعَه، أو لا، وقد يَكُونُ تَرْكُ الرَّاوي لنِسيانٍ، أو لإيثارِ الاختصارِ.

(وَإِنْ كَانَ) الرَّاوي أَرْسَلَ الحديثَ وأَسْنَدَه (غَيْرُهُ) أو وَصَلَه وقَطَعَه غيرُه، أو وَقَفَه ورَفَعَه غيرُه:(فَكَزِيَادَةٍ) في الحديثِ على ما مَرَّ؛ لأنَّه زيادةٌ، فلم يُمْنَعْ مِن قَبُولِه.

مثالُ ما إذا أَسْنَدَ وأَرْسَلَه غيرُه: إسنادُ إسرائيلَ بنِ يُونُسَ، عن جَدِّه أبي إسحاقَ السَّبِيعِيِّ، عن أبي بُرْدَةَ، عن أبيه، عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:«لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ»

(1)

. ورَوَاه الثَّوْرِيُّ

(2)

وشُعبةُ عن أبي إسحاقَ عن أبي بُرْدَةَ عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُرْسَلًا، فقَضَى البخاريُّ لِمن وَصَلَه، وقَالَ: زيادةُ الثِّقةِ مقبولةٌ.

ومثالُ مَن رَفَعَ، ووَقَفَ غيرُه: حديثُ مالكٍ في «المُوَطَّأُ» عن أبي النَّضْرِ، عن بُسْرِ بنِ سعيدٍ، عن زيدِ بنِ ثابتٍ موقوفًا عليه: «أَفْضَلُ صَلَاةِ المَرْءِ فِي

(1)

رواه أبو داود (2085)، والترمذي (1101)، وابن ماجه (1881)، وابن حبان (4077) من حديث أبي موسى الأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه.

(2)

في (د)، (ع): الترمذي. والمثبت من «جامع الترمذي» (عقب حديث 1102).

ص: 419

بَيْتِهِ إِلَّا المَكْتُوبَةَ». وخالَفَه موسى بنُ عُقْبَةَ، وعبدُ اللهِ بنُ سعيدِ بنِ أبي هندٍ وغيرُهما، فرَوَوْه عن أبي النَّضْرِ مَرفوعًا

(1)

.

(وَحَرُمَ) على الرَّاوي: (نَقْصٌ) أي: أن يَنْقُصَ مِن الحديثِ (مَا) أي: شيئًا (تَعَلَّقَ بِبَاقِيـ) ـه، فإذا تَعَلَّقَ الباقي منه بما قَبْلَه: لم يَجُزْ تَركُه؛ لبطلانِ المقصودِ منه، نحوُ الغايةِ، والاستثناءِ، والصِّفةِ، كنَهْيِه صلى الله عليه وسلم عن بيعِ الثَّمَرَةِ

(2)

حَتَّى تَزْهُوَ

(3)

. فيَتْرُكُ «حَتَّى تَزْهُوَ» .

وكقولِه صلى الله عليه وسلم: «لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ ولا الفِضَّةَ بِالفِضَّةِ إِلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ»

(4)

فيَتْرُكُ: «إِلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ» .

ونحوُ: «فِي الغَنَمِ السَّائِمَةِ الزَّكَاةُ»

(5)

. فيَتْرُكُ «السَّائِمَةِ» .

وكذا ما فيه تغييرٌ معنويٌّ كما في النَّسْخِ، نحوُ:«كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ القُبُورِ فَزُورُوهَا»

(6)

. فيَتْرُكُ «فَزُورُوهَا» .

وكذا تَرْكُ بيانِ المُجمَلِ فيه، أو تخصيصُ العامِّ، أو تقييدُ المُطلَقِ، ونحوُ ذلك؛ فلا يَجُوزُ تَرْكُه إجماعًا.

(وَيُسَنُّ) للرَّاوي (ألَّا يَنْقُصَ) مِن الحديثِ (غَيْرَه) أي: غيرَ ما تَعَلَّقَ

(1)

«الموطأ» (34).

(2)

في (د): الثمر.

(3)

رواه البخاري (2195)، ومسلم (1555) من حديث أنسٍ رضي الله عنه.

(4)

رواه البخاري (2177)، ومسلم (1584) من حديث أبي سعيد الخُدري رضي الله عنه.

(5)

رواه البخاري (1454) ضمن حديث أنس الطويل في الزكاة ولفظه: وَفِي صَدَقَةِ الغَنَمِ فِي سَائِمَتِهَا إِذَا كَانَتْ أَرْبَعِينَ إِلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ شَاةٌ .. الحديث.

(6)

رواه مسلم (977) من حديث بُريدة رضي الله عنه.

ص: 420

بباقيه، بأنْ يَنْقُلَه بكمالِه بلا نزاعٍ بينَ العلماءِ، فإنْ تَرَكَ بَعضَه ولم يَتَعَلَّقْ بالباقي: جازَ عندَ الأكثرِ.

(وَيَجِبُ عَمَلٌ بِحَمْلِ صَحَابِيٍّ مَا رَوَاهُ) يَعني إذا رَوى الصَّحابيُّ حديثًا مُحتملًا لمَعنيينِ، وحَمَلَه (عَلَى أَحَدِ مَحْمَلَيْهِ) كالقُرءِ، ويَحمِلُه الرَّاوي على الأطهارِ مثلًا وَجَبَ الرُّجُوعُ إلى حَمْلِه عندَ الأكثرِ عملًا بالظَّاهرِ، (تَنَافَيَا) أي: سواءٌ كانَ بينَ المحملينِ تنافٍ كما في المثالِ (أَوْ لَا) فعلى هذا لا يُعمَلُ بالاجتهادِ؛ لأنَّ الظَّاهرِ أنَّه لم يَحمِلْه عليه إلَّا بقَرينةٍ.

تنبيهٌ: هذه المسألةُ تُعرَفُ بما إذا قال راوي الحديثِ فيه شيئًا هل يَقبَلُ أو يَعمَلُ بالحديثِ؟

ولها أحوالٌ: مِنها أنْ يَكُونَ الخبَرُ عامًّا، فيَحمِلَه الرَّاوي على بعضِ أفرادِه، ويَأتي ذلك في تخصيصِ العامِّ في المتنِ، أو يَدَّعِيَ تقييدًا في مُطلقٍ فكالعامِّ يُخَصِّصُه، أو يَدَّعِيَ نَسخًا، ويَأْتِيَ في النَّسخِ في المتنِ أيضًا، أو يُخالِفَه بتَركِ نصِّ الحديثِ كروايةِ أبي هُرَيْرَةَ في الوُلُوغِ سَبْعًا، وقولِه: يُغْسَلُ ثلاثًا.

ومِنها مسألةُ الكتابِ، وهي: أنْ يَروِيَ الصَّحابيُّ خبَرًا مُحتملًا لمعنيينِ، ويَحمِلَه على أحدِهما؛ فيَجِبُ الرُّجُوعُ إلى حَمْلِه، ولذلك رُجِعَ إلى تفسيرِ ابنِ عمرَ رضي الله عنهما حَبَلَ الحبلةَ يَبِيعُه إلى نِتاجِ النِّتاجِ، وقولُ عمرَ في:«هَا وَهَا» أنَّه التَّقابُضُ في مجلسِ العقدِ، فيُرجَعُ إلى تفسيرِه.

(كَمَا لَوْ أُجْمِعَ) بالبناءِ للمفعولِ (عَلَى جَوَازِهِمَا) أي: جوازِ كلٍّ مِن المَحمَلَينِ، (وَ) على (إِرَادَةِ أَحَدِهِمَا) كما في حديثِ ابنِ عمرَ في التَّفرُّقِ في خيارِ المجلسِ، هل هو التَّفرُّقُ بالأبدانِ أو بالأقوالِ؟

ص: 421

فقد أَجمَعُوا أنَّ المرادَ أحدُهما، فكانَ ما صارَ إليه الرَّاوي يَعني التَّفرُّقَ بالأبدانِ أَوْلى، ولولا أنَّ الإجماعَ مُنعقِدٌ على أن المُرادَ

(1)

أَحَدُهما؛ لصَحَّ حَمْلُه عليهما معًا، فيُجعَلُ لهما الخيارُ في الحالينِ بالخبَرِ.

(أَوْ قَالَهُ) أي: وكما لو قال الصَّحابيُّ أحدَ مَعْنيَيِ

(2)

الحديثِ (تَفْسِيرًا) لِلفْظِه، فتَفسيرُه أَوْلَى بلا خلافٍ.

تنبيهٌ: مَحَلُّ وجوبِ العملِ بحَملِ الصَّحابيِّ أو تفسيرِه لأحدِ المَحمَلَينِ فيما إذا اسْتَوَيا أو حَمَلَه على الرَّاجحِ، أمَّا إذا حَمَلَه الصَّحابيُّ بتفسيرِه أو عَمَلِه على المرجوحِ، كما إذا حَمَلَ ما ظاهرُه الوجوبُ على النَّدبِ، أو بالعكسِ، أو ما هو حقيقةٌ عَلَى المجازِ، ونحوِ ذلك؛ فـ (لَا) يُقبَلُ حَمْلُه، أو تفسيرٌ (عَلَى غَيْرِ ظَاهِرِهِ، وَعُمِلَ بِالظَّاهِرِ) في الأصحِّ، حَتَّى (وَلَوْ كَانَ قَوْلُهُ حُجَّةً) في غيرِ هذه الصُّورةِ، ولهذا قال الشَّافعيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: كيف أَترُكُ الخبَرَ لأقوالِ أقوامٍ لو عاصَرْتُهم لحَجَجْتُهم

(3)

؟!

(وَ) إنْ كانَ الخبَرُ نصًّا لا يَحتمِلُ تأويلًا، وخالَفَه الصَّحابيُّ؛ فالأصحُّ (لَا يُرَدُّ خَبَرُهُ بِمُخَالَفَةِ مَا) أي: بسببِ مُخالَفَتِه نصًّا (لَا يَحْتَمِلُ تَأْوِيلًا وَلَا يُنْسَخُ) النَّصُّ لاحتمالِ نِسيانِه، ثمَّ لو عُرِفَ ناسخُه لذَكَرَه ورَوَاه ولو مَرَّةً؛ لِئلَّا يَكُونَ كاتمًا للعِلمِ، كروايةِ أبي هُرَيْرَةَ في غسلِ الولوغِ سبعًا، وقولِه: يُغسَلُ ثلاثًا، كما تَقَدَّمَ.

(1)

في (د): إرادة.

(2)

في (ع): معنيين.

(3)

ينظر: «تشنيف المسامع» (2/ 984)، و «الفوائد السَّنية» (2/ 273).

ص: 422

(وَخَبَرُ الوَاحِدِ وَإِنْ

(1)

خَالَفَ عَمَلَ أَكْثَرِ الأُمَّةِ) مُقَدَّمٌ، يَعني يُعمَلُ بالخبَرِ وإنْ كانَ

(2)

عَمَلُ أكثرِ الأُمَّةِ بخلافِ الخبَرِ، وحُكِيَ إجماعًا؛ لأنَّ الخبَرَ أقوى في غَلَبَةِ الظَّنِّ؛ لأنَّه يَجتَهِدُ فيه في العدالةِ والدَّلالةِ، (أَوِ القِياسَ) أي: وخبَرُ الواحدِ وإنْ خالَفَ القياسَ (مِنْ كُلِّ وَجْهٍ) فهو (مُقَدَّمٌ) على القياسِ، واسْتُدِلَّ له بقولِ عَمر: لولا هذا لقَضَيْنا فيه برأيِنا. ورُجوعِه إلى توريثِ المرأةِ مِن دِيَةِ زَوجِها، وعملِ جماعةٍ مِن الصَّحابةِ.

قالَ الإمامُ أحمدُ: أَكثَرُهم يَنهى الرَّجُلَ عنِ الوضوءِ بفضلِ طَهورِ المرأةِ، والقُرعةِ في عتقِ جماعةٍ في مرضِ موتِه، وغيرِ ذلك، وشاعَ ولم يُنْكَرْ

(3)

. انتهى.

ولأنَّ الخطأَ إلى القياسِ أقربُ مِن الخطأِ إلى الخبَرِ؛ لأنَّ الخبَرَ مُستنِدٌ إلى المعصومِ، ويَصِيرُ ضَروريًّا بضمِّ أخبارٍ إليه ولا يَفتَقِرُ إلى قياسٍ ولا إجماعٍ في لبنِ المُصَرَّاةِ وهو أصلٌ بنَفْسِه، أو مُسْتَثْنًى للمصلحةِ وقطعِ النِّزاعِ لاختلاطِه.

والقياسُ يُجتَهَدُ فيه في ثُبُوتِ حُكْمِ الأصلِ، وكونِه مُعَلَّلًا، وصلاحيةِ الوصفِ للتَّعليلِ، ووجودِه في الفرعِ، ونَفْيِ المعارِضِ في الأصلِ والفرعِ.

(وَيُعْمَلُ بـ) الحديثِ (الضَّعِيفِ فِي): ما ليسَ فيه تحليلٌ ولا تحريمٌ كـ (ـالفَضَائِلِ) عندَ الأكثرِ.

قال الإمامُ أحمدُ: إذا رَوَيْنا عنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم في الحلالِ والحرامِ شَدَّدْنا في الأسانيدِ، وإذا رَوَيْنا عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم في فضائلِ الأعمالِ وما لا يُضَيِّعُ حُكْمًا ولا يَرْفَعُه، تَسَاهَلْنا في الأسانيدِ

(4)

.

(1)

في (ع): ولو.

(2)

ليست في (د).

(3)

ينظر: «أصول الفقه» (2/ 630)، و «التحبير شرح التحرير» (5/ 2130).

(4)

رواه الخطيب في «الكفاية» (ص 134).

ص: 423

تنبيهٌ: قالَ الشَّيخُ عن قولِ أحمدَ وقولِ العلماءِ في العملِ بالحديثِ الضَّعيفِ في فضائلِ الأعمالِ، قال: العملُ به بمَعنى أنَّ النَّفْسَ تَرجُو ذلك الثَّوابَ، أو تَخافُ ذلك العقابَ.

ومثالُ ذلك: التَّرغيبُ والتَّرهيبُ بالإسرائيليَّاتِ والمناماتِ، وكلماتِ السَّلَفِ والعلماءِ، ووقائعِ العالمِ، ونحوِ ذلك مِمَّا لا يَجُوزُ بمُجَرَّدِه إثباتُ حُكْمٍ شرعيٍّ لا استحبابٍ، ولا غيرِه، لكنْ يَجُوزُ أن يَدخُلَ في التَّرغيبِ والتَّرهيبِ فيما عُلِمَ حُسْنُه أو قُبْحُه بأدلَّةِ الشَّرعِ، فإنَّ ذلك يَنفَعُ ولا يَضُرُّ، وسواءٌ كانَ في نَفْسِ الأمرِ حقًّا أو باطلًا .. إلى أنْ قال: والحاصلُ أنَّ هذا البابَ يُروى ويُعمَلُ به في التَّرغيبِ والتَّرهيبِ لا في الاستحبابِ، ثمَّ اعتقادُ موجبِه وهو مقاديرُ الثَّوابِ والعقابِ يَتَوَقَّفُ على الدَّليلِ الشَّرعيِّ

(1)

.

(1)

«مجموع الفتاوى» (18/ 66).

ص: 424

(فَصْلٌ)

(المُرْسَلُ) عندَ الأُصُوليِّينَ

والفُقهاءِ: (قَوْلُ غَيْرِ صَحَابِيٍّ فِي كُلِّ عَصْرٍ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وهو ظاهرُ قولِ

(1)

الإمامِ أحمدَ، وخَصَّه أكثرُ المُحَدِّثينَ وكثيرٌ مِنَ الأُصوليِّينَ بالتَّابعيِّ، سواءٌ كانَ مِن كبارِهم أو مِن صغارِهم.

ويَتَفَرَّعُ عليه لو قال تابعُ التَّابعيِّ: «قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم» ، أو سَقَطَ بينَ الرَّاويَينِ أكثرُ مِن واحدٍ؛ سُمِّيَ مُعْضَلًا في اصطلاحِ أكثرِ المُحَدِّثينَ، والمنقطعُ: سُقُوطُ راوٍ فأكثرَ ممَّن هو دونَ الصَّحابيِّ.

(وَهُوَ) أيِ: المُرسَلُ (حُجَّةٌ) في الأصحِّ عن أحمدَ، وعليه الجمهورُ، قال أبو الوليدِ الباجيُّ: إنكارُ كونِه حُجَّةً بدعةٌ حَدَثَتْ بعدَ المئتينِ

(2)

. انتهى.

وذلك لقَبُولِهم مراسيلَ الأئمَّةِ مِن غيرِ نَكيرٍ، فمُرسَلُهم (كَمُرْسَلِ الصَّحَابَةِ

(3)

رَضِيَ اللهُ تعالى عنهم، يَعني في الاحتجاجِ، لا مِن كلِّ وجهٍ، حَتَّى قالوا: إنَّ مراسيلَ صِغارِ الصَّحابةِ، كمحمَّدِ بنِ أبي بكرٍ ونحوِه، كمراسيلِ التَّابعينَ، وهذا بلا شكٍّ، فإنَّ أُمَّه أسماءُ بنتُ عُمَيْسٍ وَلَدَتْه في حَجَّةِ الوداعِ قَبْلَ أنْ يَدخُلُوا مَكَّةَ، وذلك في أواخِرِ ذي الحِجَّةِ

(4)

سنةَ عَشْرٍ مِن الهجرةِ.

(1)

في (د): كلام.

(2)

«إحكام الفصول في أحكام الأصول» (ص 355).

قال الشَّنشُوري: وراجعت شيخي العلامة الحُويني حفظه الله في كلامه هذا (ليلة الثامن من ربيع الأول 1441 هـ) فقال لي: أبو الوليد مالكي وهم يحتجُّون بالمرسل، وأول من تكلَّم في المرسل: الشافعي على رأس المئتين، وتابعه أهل الحديث، وهم القدوة في هذا الباب.

(3)

زاد في «مختصر التحرير» (ص 132): ومرسل صغارهم كمرسل التابعين.

(4)

كتب بحاشية في (ع): قوله: «وآخر ذي الحجَّة» بل هو في أواخِرِ ذي القعدةِ كما في البخاريِّ: «لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقِعْدَةِ» .

ص: 425

والَّذي استقرَّ عليه رأيُ أهلِ الحديثِ ونُقَّادُ الأَثرِ: أنَّ‌

‌ مُرسَلَ غيرِ الصَّحابيِّ ليسَ بحُجَّةٍ

، وهو روايةٌ عن الإمامِ أحمدَ، واحتَجُّوا بأنَّ فيه جهلًا بعَينِ الرَّاوي وصفتِه، وأمَّا مُرسَلُ الصَّحابةِ فحُجَّةٌ عندَ مُعظَمِ العلماءِ.

(وَيَشْمَلُ) اسمُ المُرسَلِ ما سَمَّوْه: (مُعْضَلًا

(1)

، وَمُنْقَطِعًا) وتَقَدَّمَ تعريفُهما.

تنبيهٌ: مَن رَوى عمَّن لم يَلْقَه ووَقَفَه عليه فمُرسَلٌ، ويُسَمَّى موقوفًا.

والمُنقطعُ: إمَّا في الحديثِ أو الإسنادِ، على ما يُوجَدُ في كلامِهم من الإطلاقينِ؛ إذ مرَّةً يَقولون في الحديثِ: مُنقطعٌ، ومرَّةً في الإسنادِ: مُنقطعٌ، فالمُنقطعُ بهذا الاعتبارِ أخصُّ مِن مُطلَقِ المُنقطعِ المُقابِلِ للمُتَّصِلِ الَّذِي هو مَوْرِدُ التَّقسيمِ، فإنْ كانَ السَّاقطُ أكثرَ مِن واحدٍ باعتبارِ طَبَقَتَينِ فصاعدًا: إنْ كانَ في موضعٍ واحدٍ يُسَمَّى مُعضَلًا، وإنْ كانَ في مَوضِعَينِ يُسَمَّى مُنقطعًا مِن موضعينِ.

إذا عَرَفْت ذلك، فإذا رَوى عمَّن لم يَلْقَه فهو مَرسَلٌ مِن حَيْثُ كونُه انقطَعَ بينَه وبينَ مَن رَوى عنه، ومنقطعٌ على رأيِ المُحَدِّثينَ، وموقوفٌ لكونِه وَقَفَه على شخصٍ، فهو بهذه الاعتباراتِ له ثلاثُ صفاتٍ: يُسَمَّى مُرسلًا باعتبارٍ، ومنقطعًا على رأيِ المُحدِّثينَ، وموقوفًا باعتبارِ كونِه وَقَفَه على شخصٍ.

ولَمَّا فَرَغَ مِن السَّنَدِ شَرَعَ في المتنِ مِمَّا يَشتَركُ فيه الكتابُ والسُّنَّةُ والإجماعُ، فمِنه: أمرٌ، ونهيٌ، وعامٌّ، وخاصٌّ، ومُطلَقٌ، ومُقَيَّدٌ، ومُجمَلٌ، ومُبَيَّنٌ، وظاهرٌ، ومُؤَوَّلٌ، ومَنطوقٌ، ومفهومٌ.

فبَدَأَ بالأمرِ، ثمَّ بالنَّهيِ، لانقسامِ الكلامِ إليها بالذَّاتِ، لا باعتبارِ الدَّلالةِ والمدلولِ، فقولُه:

(1)

زاد في «مختصر التحرير» (ص 132): وموقوفًا.

ص: 426

(بَابٌ)

(الأَمْرُ:

(1)

حَقِيقَةٌ فِي القَوْلِ المَخْصُوصِ) اتِّفاقًا، الأمْرُ لا يُعنَى به مُسَمَّاه كما هو المُتعارَفُ في الإخبارِ عنِ الألفاظِ إنْ تُلُفِّظَ بها، والمُرادُ مُسَمَّياتُها، بل لفظةُ الأمرِ وهو «أمَرَ» كما يُقالُ: زيدٌ مبتدأٌ، وضَرَبَ فعلٌ ماضٍ

(1)

، و «في» حرفُ جرٍّ حقيقةٌ في القولِ المخصوصِ، ولهذا قال:

(وَ) هو (نَوْعٌ مِنْ) أنواعِ (الكَلَامِ)؛ لأنَّ الكلامَ يَكُونُ مِن الأسماءِ فقطْ، ومن الأسماءِ والأفعالِ، ويَكُونُ مِن الفعلِ الماضي وفاعلِه، ومِن الفعلِ المضارعِ وفاعلِه، ومن الفعلِ الأمرِ وفاعلِه.

فالكلامُ: الألفاظُ المُتَضَمِّنَةُ لمَعانِيها.

تنبيهٌ: اعلمْ أنَّ لَفظَ «الأمرِ» يُطلَقُ بإزاءِ معانٍ لُغَةً وغَيْرَه، منها المعنى الاصطلاحيُّ المُتَقَدِّمُ تعريفُه، وهو المقصودُ في هذا البابِ؛ لأنَّ القولَ يَسبِقُ إلى الفهمِ عندَ الإطلاقِ، ولو كانَ مُتواطِئًا لم يُفهَمْ منه الأخصُّ؛ لأنَّ الأعمَّ لا يَدُلُّ على الأخصِّ، وهو قولُ أهلِ اللُّغةِ.

(2)

(وَ) منها أنَّه (مَجَازٌ فِي الفِعْلِ) يُقالُ: زيدٌ في أمْرٍ عظيمٍ مِن سفرٍ أو غيرِه، ومنه قولُه تعالى:{وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}

(2)

[أي في الفِعْلِ]

(3)

، واسْتُدِلَّ: لو كانَ حقيقةً في الفعلِ لَزِمَ الاشتِراكُ، ولاطَّردَ؛ لأنَّه مِن لَوَازِمِها، ولا يُقالُ

(1)

في (ع): ماضي.

(2)

آل عمران: 159.

(3)

ليس في (د).

ص: 427

للأكلِ: أمرٌ، ولا يُشتَقُّ له منه «أَمَرَ» ولا مانعَ، ولاتَّحَدَ جَمعاهُما، ولوُصِفَ بكونِه مُطاعًا ومُخالفًا، ولَمَا صَحَّ نفيُه.

ومنها الشَّأنُ، كقولِه تعالى:{وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ}

(1)

أي: ما شأنُه، والمعنى الَّذِي هو مُباشِرٌ له.

ومنها الصِّفةُ، كقولِ الشَّاعرِ:

.......................

لِأَمْرٍ مَا يُسَوَّدُ مَنْ يَسُودُ

(2)

أي: بصفةٍ مِن صفاتِ الكمالِ.

ومِنها الشَّيْءُ، كقولِهم: تَحَرَّكَ الجسمُ لأمْرٍ؛ أي: لشيءٍ.

ومنها: الطَّريقُ، وقالَ بعضُهم: الطَّريقُ والشَّأنُ بمَعنًى واحدٍ.

إذا عُلِمَ ذلك فإطلاقُه على المعنى الاصطلاحيِّ: حقيقةٌ بلا نِزاعٍ، وفي غيرِه: الأصحُّ عندَ العلماءِ أنَّه مجازٌ فيه، وإلَّا لَزِمَ الاشتراكُ. والمجازُ عندَهم خيرٌ مِن الاشتِراكِ؛ لأنَّا إذا حَكَمْنا بأنَّه حقيقةٌ في كلِّ واحدٍ مِن هذه المعاني كانَ مشتَركًا، والمجازُ خيرٌ منه.

(وَ) أمَّا (حَدُّهُ): فهو (اقْتِضَاءُ) أي: طلبُ مُسْتَعْلٍ، (أَوِ اسْتِدْعَاءُ مُسْتعْلٍ) أي: بجهةِ الاستِعلاءِ (مِمَّنْ) أي: مِن شخصٍ هو (دُونَهُ) أي: دونَ المُسْتعلي (فِعْلًا بِقَوْلٍ).

(1)

هود: 97.

(2)

عَجُزُ بيتٍ مِن الوافرِ، وصدرُه: عَزَمْتُ عَلَى إِقَامَةِ ذِي صَبَاحٍ.

وهو لأنسِ بنِ مُدركٍ الخثعميِّ. انظر: كتاب سيبويه (1/ 227 - هارون)، وروايته: لشيءٍ ما. وعَجُزُه صارَ مِن أمثالِ العربِ.

ص: 428

وقالَ ابنُ حَمْدَانَ وغيرُه: قولٌ يَطلُبُ به الأعلى مِن الأدنى فِعلًا أو غيرَه

(1)

.

قالَ ابنُ مُفْلِحٍ: كذا قالوا، قال: والأَوْلى على أَصلِنا: قولٌ مع اقتضاءٍ بجهةِ الاستعلاءِ

(2)

.

واعتبَرَ بعضُ أصحابِنا الاستعلاءَ، وصَحَّحَه ابنُ الحاجبِ

(3)

، واعتبَرَ أكثرُهم العُلوَّ، ونَسَبَه ابنُ عَقِيلٍ إلى المُحقِّقينَ، فأمْرُ المُسَاوِي لغيرِه يُسَمَّى التماسًا، والأدونِ سُؤالًا.

قال المجدُ في «المُسَوَّدَة» : الآمِرُ لا بدَّ أنْ يَكُونَ أعلى رُتبَةً مِن المأمورِ مِن حَيْثُ هو آمِرٌ، وإلَّا كانَ سؤالًا وتَضَرُّعًا، ويُسَمَّى أمرًا: مَجازًا، هذا قولُ أصحابِنا والجمهورِ

(4)

.

وقالَ ابنُ قاضي الجبلِ: مِن النَّاسِ مَن يَشتَرِطُ العلوَّ والاستعلاءَ، كقولِ أصحابِنا وغيرِهم

(5)

. انتهى.

ولم يَعتبِرْهما -ولا واحدًا منهما- أكثرُ الشَّافعيَّةِ.

فتَلَخَّصَ في المسألةِ أربعةُ أقوالٍ:

أحدُها: اعتبارُ العلوِّ والاستعلاءِ، والثَّاني: عكسُه، والثَّالثُ: اعتبارُ الاستعلاءِ فقطْ، والرَّابعُ: اعتبارُ العلوِّ فقطْ.

(1)

ينظر: «التحبير شرح التحرير» (5/ 2166).

(2)

«أصول الفقه» (2/ 649).

(3)

«منتهى الوصول» (ص 89).

(4)

«المسودة في أصول الفقه» (ص 41).

(5)

ينظر: «التحبير شرح التحرير» (5/ 2174).

ص: 429

(وَتُعْتَبَرُ إِرَادَةُ النُّطْقِ بِالصِّيغَةِ) أي: صيغةِ الأمرِ بلا خلافٍ؛ حَتَّى لا يَرِدَ نحوُ: نائمٌ وساهٍ.

قال ابن عَقِيلٍ

(1)

وغيرُه: اتَّفَقْنا على أنَّ إرادةَ النُّطقِ مُعتبَرةٌ، وإلَّا فليسَ طلبًا واقتضاءً واستدعاءً

(2)

.

(وَ) للأمرِ صيغةٌ (تَدُلُّ بِمُجَرَّدِهَا عَلَيْهِ لُغَةً) عندَ الأئمَّةِ الأربعةِ وغيرهم، قال بعضُ أصحابِنا: قولُهم: «للأمرِ صيغةٌ» صحيحٌ؛ لأنَّ الأمرَ: اللَّفظُ والمعنى، فاللَّفظُ دَلَّ على التَّركيبِ، وليسَ هو عينَ المدلولِ، ولأنَّ اللَّفظَ دَلَّ على صيغتِه الَّتي هي الأمرُ به، كما يُقالُ: يَدُلُّ على كونِه أمرًا، ولم يُقلْ: على الأمرِ.

وقال القاضي: الأمرُ يَدُلُّ على طلبِ الفعلِ واستدعائِه

(3)

. فجَعَلَه مدلولَ، الأمرِ لا عينَ الأمرِ.

و (لَا) يُعتَبَرُ في الأمرِ ولا في الخبَرِ: (إِرَادَةُ الفِعْلِ)؛ لإجماعِ أهلِ اللُّغةِ على عَدَمِ اشتِراطِها، ولأنَّ اللهَ تعالى أَمَرَ إبراهيمَ بذبحِ ولدِه، ولم يُرِدْه منه، ولو أَرادَه لَوَقَعَ؛ لأنَّه فَعَّالٌ لِما يُريدُ، ولأنَّ اللهَ تعالى أَمَرَ بردِّ الأماناتِ إلى أهلِها، ثمَّ إنَّه لو قال:«واللهِ لأُؤَدِّيَنَّ أمانَتَك إليك غدًا إنْ شاءَ اللهُ» ، ولم يفعلْ: لم يَحنَثْ، ولو كانَ مرادُ اللهِ؛ لوَجَبَ أن يَحنَثَ، ولا حنثَ بالإجماعِ.

واستعمالُ الصِّيغةِ في غيرِ الأمرِ: مجازٌ، فهي بإطلاقِها له، والأمرُ والإرادةُ يَتَفَاكَّانِ، كمَن يَأمُرُ ولا يُريدُ، أو يُريدُ ولا يَأمُرُ، فلا يَتَلازَمَانِ، وإلَّا اجتمعَ النَّقيضانِ.

(1)

«الواضح في أصول الفقه» (2/ 479).

(2)

في (ع): واستعلاء.

(3)

«العدة في أصول الفقه» (2/ 479).

ص: 430

(وَالِاسْتِعْلَاءُ: طَلَبٌ بِغِلْظَةٍ) والمُرادُ بالاستعلاءِ: أنْ يَجعَلَ الآمِرُ نَفْسَه عاليًا بكبْريائِه، أو غيرِ ذلك، سواءٌ كانَ في نفسِ الأمرِ كذلك أو لا.

(وَالعُلُوُّ: كَوْنُ الطَّالِبِ

(1)

في نَفْسِه (أَعْلَى رُتْبَةً) مِن المطلوبِ، فالاستعلاءُ مِن صفةِ صيغةِ الآمِرِ وهيئةِ نُطْقِه مثلًا، والعُلوُّ منَ الصِّفاتِ العارضةِ للأمرِ.

إذا عَلِمْتَ ذلك فالاستعلاءُ: صفةٌ للكلامِ، والعُلوُّ: صفةٌ للمُتكلِّمِ.

(وَتَرِدُ صِيغَةُ افْعِلْ) لمعانٍ كثيرةٍ، اختارَ منها صاحبُ الأصلِ ثمانيةً وعشرينَ، وتَبِعَه المُصَنِّفُ، وذَكَرَ جماعةٌ مِنَ العلماءِ غيرُهما مِمَّا فيه نَظَرٌ:

أحدُها: أنَّها تَرِدُ (لِوُجُوبٍ) كقولِه صلى الله عليه وسلم: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي»

(2)

.

ومنه أيضًا: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ}

(3)

، {وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ}

(4)

.

(وَ) الثَّاني: لـ (نَدْبٍ) كقولِه صلى الله عليه وسلم: «اسْتَاكُوا»

(5)

.

(وَ) الثَّالثُ: لـ (إِبَاحَةٍ) كقولِه تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا}

(6)

.

تنبيهٌ: إِنَّمَا تُستفادُ الإباحةُ مِن خارجٍ، فلهذه القَرينةِ يُحمَلُ الأمرُ عليها مجازًا بعلاقةِ المُشابهةِ المعنويَّةِ؛ لأنَّ كلًّا مِنهما مأذونٌ فيه.

(1)

في «مختصر التحرير» (ص 133): طالب.

(2)

رواه البخاريُّ (631) من حديثِ مالكِ بنِ الحُويرثِ رضي الله عنه.

(3)

الطَّلاق: 7.

(4)

البقرة: 282، 283.

(5)

رواه أحمد (1835) من حديث العباس رضي الله عنه، وضعَّفه النووي في «خلاصة الأحكام» (103).

(6)

المائدة: 2.

ص: 431

(وَ) الرَّابعُ: لـ (إِرْشَادٍ) كقولِه تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ}

(1)

، والضَّابطُ فيه أنْ يُرجَعَ لمصلحةِ الدُّنْيَا بخلافِ النَّدبِ، وأيضًا الإرشادُ لا ثوابَ فيه بخلافِ النَّدبِ.

(وَ) الخامسُ: لـ (إِذْنٍ) كقولِك لمُستأذنٍ عليك: «ادخلْ» ، ومنهم مَن يُدخِلُ هذا في قِسمِ الإباحةِ، وقد يُقالُ: الإباحةُ إِنَّمَا تَكُونُ مِن صيغِ الشَّرعِ الَّذِي له الإباحةُ والتَّحريمُ، وإنَّما الإذنُ يُعلَمُ بأنَّ الشَّرعَ أَباحَ دُخولَ مِلْكِ ذلك الآذِنِ مثلًا، فتَغَايَرا.

(وَ) السَّادسُ: لـ (تَأْدِيبٍ) كقولِه صلى الله عليه وسلم لعُمرَ بنِ أبي سَلَمَةَ: «يَا غُلَامُ! سَمِّ اللهَ، وَكُلْ بِيَمِينِكَ، وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ» . مُتَّفقٌ عليه

(2)

.

ومنهم مَن يُدخِلُ هذا في قسمِ النَّدبِ، ومنهم مَن قال: يَقْرُبُ مِن النَّدبِ، وهو يَدُلُّ على المُغايرةِ؛ لأنَّ الأدبَ مُتعلِّقٌ بمحاسنِ الأخلاقِ، وعمرُ كانَ صغيرًا، والنَّدبُ يَختَصُّ بالمُكَلَّفينِ.

(وَ) السَّابعُ: لـ (امْتِنَانٍ) كقولِه تعالى: {كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ}

(3)

، وسَمَّاه أبو المَعالي الإنعامَ، والفرقُ بينَه وبينَ الإباحةِ: أنَّها مُجَرَّدُ إذنٍ، والامتنانُ لا بدَّ فيه مِن اقتِرانِ حاجةِ الخلْقِ لذلك، وعدمِ قُدرتِهم عليه.

(وَ) الثَّامنُ: لـ (إِكْرَامٍ) كقولِه تعالى: {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ}

(4)

فإنَّ قَرينةَ {بِسَلَامٍ آمِنِينَ} يَدُلُّ على الإكرامِ.

(1)

البقرة: 282.

(2)

رواه البخاري (5376)، ومسلم (2022).

(3)

الأنعام: 142.

(4)

الحجر: 46.

ص: 432

(وَ) التَّاسعُ: لـ (جَزَاءٍ) كقولِه تعالى: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}

(1)

.

(وَ) العاشرُ: لـ (وَعْدٍ) كقولِه تعالى: {وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ}

(2)

، وقد يُقالُ بدُخُولِ ذلك في الامتنانِ، فإنَّ بُشرى العَبدِ مِنَّةٌ عليه.

(وَ) الحَادِيَ عَشَرَ: لـ (تَهْدِيدٍ) كقولِه تعالى: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ}

(3)

الآيةَ.

(وَ) الثَّانِيَ عَشَرَ: لـ (إِنْذَارٍ) كقولِه تعالى: {قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30)}

(4)

، وقد جَعَلَه قومٌ قسمًا مِن التَّهديدِ، والصَّوابُ: المغايرةُ، والفرقُ أنَّ التَّهديدَ: هو التَّخويفُ، والإنذارَ: إبلاغُ المخوفِ، كما فَسَّرَه الجَوْهَرِيُّ

(5)

بهما.

(وَ) الثَّالثَ عَشَرَ: لـ (تَحْسِيرٍ) وتلهيفٍ، كقولِه تعالى:{اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ}

(6)

.

(وَ) الرَّابعَ عَشَرَ: لـ (تَسْخِيرٍ) كقولِه تعالى: {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ}

(7)

، قال بعضُهم: المُرادُ بالتَّسخيرِ هنا: السُّخريَّةُ بالمُخاطَبِ به، لا بمَعنى التَّكوينِ.

(وَ) الخامسَ عَشَرَ: لـ (تَعْجِيزٍ) كقولِه تعالى: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ}

(8)

، والعلاقةُ بينَه وبينَ الوجوبِ: المُضادَّةُ؛ لأنَّ التَّعجيزَ إِنَّمَا هو في المُمتنعاتِ، والإيجابَ في المُمكناتِ، والفرقُ بينَ التَّعجيزِ والتَّسخيرِ: أنَّ التَّسخيرَ نوعٌ مِن التَّكوينِ، فمَعنى {كُونُوا قِرَدَةً}

(9)

انْقَلِبوا إليها، وأمَّا التَّعجيزُ: فإلزامُهم أنْ يَنْقَلِبُوا وهم لا يَقدِرون أنْ يَنْقَلِبوا.

(1)

النَّحل: 82.

(2)

فُصِّلَتْ: 30.

(3)

الإسراء: 64.

(4)

إبراهيم.

(5)

«الصِّحاح» (2/ 556، 825).

(6)

المؤمنون: 108.

(7)

البقرة: 65.

(8)

الطُّور: 34.

(9)

البقرة: 65.

ص: 433

(وَ) السَّادسَ عَشَرَ: لـ (إِهَانَةٍ) كقولِه تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ}

(1)

، ومِنهم مَن يُسَمِّيه التَّهكُّمَ، وضابطُه: أنْ يُؤتى بلفظٍ

(2)

ظاهرُه الخيرُ والكرامةُ والمُرادُ ضِدُّه، والعلاقةُ أيضًا المُضَادَّةُ.

(وَ) السَّابعَ عَشَرَ: لـ (احْتِقَارٍ) كقولِه تعالى في قصَّةِ مُوسى عليه السلام[يُخاطِبُ السَّحَرَةَ]

(3)

: {أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ}

(4)

إذْ أمرُهم في مُقابلةِ المُعجزةِ حقيرٌ، والفرقُ بينَه وبينَ الإهانةِ: أنَّها إمَّا بقولٍ أو فعلٍ أو تقريرٍ، كتَركِ إجابتِه ونحوِ ذلك، لا بمُجَرَّدِ اعتقادٍ، والاحتقارُ قد يَكُونُ مُجَرَّدَ الاعتقادِ.

والثَّامِنَ عَشَرَ: لـ (تَسْوِيَةٍ) كقولِه: {فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا}

(5)

بعدَ قولِه: {اصْلَوْهَا}

(6)

أي: هذه التَّصليةُ لكم، سواءٌ صَبَرْتُم أو لا، فالحالتانِ سواءٌ، والعلاقةُ المُضادَّةُ؛ لأنَّ التَّسويةَ بينَ الفعلِ مضادَّةٌ لوجوبِ الفعلِ.

(وَ) التَّاسِعَ عَشَرَ: لـ (دُعَاءٍ) كقولِه تعالى: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ}

(7)

وذلك طَلَبٌ أَنْ يُعطِيَهم ذلك على وجهِ التَّفضُّلِ والإحسانِ، والعلاقةُ بينَه وبينَ الإيجابِ: طلبُ أنْ يَقَعَ ذلك لا مَحالةَ.

(وَ) العشرون: لـ (تَمَنٍّ) كقولِ امْرِئِ القيسِ

(8)

:

أَلَا أَيُّهَا اللَّيْلُ الطَّوِيلُ أَلَا انْجَلِي

..........................

وإنَّما حُمِلَ على التَّمَنِّي دونَ التَّرجِّي؛ لأنَّه أبلغُ؛ لأنَّه نَزَّلَ لَيْلَه لطُولِه منزلةَ المُستحيلِ انجلاؤُه، وكقولِك لشخصٍ تراه: كُنْ فلانًا.

(1)

الدُّخَان: 49.

(2)

في (ع): بلفظة.

(3)

ليس في (ع).

(4)

يونس: 80.

(5)

الطُّور: 16.

(6)

الطُّور: 16.

(7)

نوح: 28.

(8)

من الطَّويلِ، وهو صدرُ بيتٍ مِن مُعَلَّقَتِه المشهورة، وعَجُزُه:«بِصُبْحٍ وَمَا الْإِصْبَاحُ مِنْكَ بِأَمْثَلِ» . ينظر «ديوانَه» (ص: 18).

ص: 434

وفي الحديثِ قولُ النَّبِيِ صلى الله عليه وسلم وهو على تَبُوكَ ورأى شخصًا: «كُنْ أَبَا ذَرٍّ»

(1)

، ورأى آخَرَ، فقال:«كُنْ أَبَا خَيْثَمَةَ»

(2)

.

(وَ) الحادي والعشرون: لـ (كَمَالِ القُدْرَةِ) كقولِه تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}

(3)

، وبعضُهم عَبَّرَ عنه بالتَّكوينِ، وسَمَّاه أبو المعالي وغيرُه التَّسخيرَ، فهو تفعيلٌ مِن «كانَ» بمَعنى «وَجَدَ» فتكوينُ الشَّيْءِ: إيجادُه مِنَ العَدمِ.

(وَ) الثَّاني والعشرون: [أنْ يَكُونَ الأمرُ]

(4)

بمعنى (خَبَرٍ) كقولِه تعالى: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا}

(5)

.

فائدةٌ: كما جاءَ الأمرُ بمَعنى الخبَرِ، جاءَ الخبَرُ بمَعنى الأمرِ، كقولِه تعالى:{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ}

(6)

.

وكذا يَجيءُ بمعنى النَّهي، كما في حديثٍ رَوَاه ابنُ ماجه بسندٍ جيِّدٍ: أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «لَا تُزَوِّجُ المَرْأَةُ المَرْأَةَ، ولا تُزَوِّجُ المَرْأَةُ نَفْسَهَا»

(7)

بالرَّفعِ؛ إذْ لو كانَ نهيًا لجُزِمَ، فيُكْسَرُ لالتقاءِ السَّاكنَينِ، وهو أبلغُ مِن صريحِ الأمرِ والنَّهيِ، كما قال أربابُ المعاني؛ لأنَّ المُتَكَلِّمَ لشِدَّةِ طَلَبِه نَزَّلَ المطلوبَ بمنزلةِ الواقعِ لا مَحالَةَ، ومِن هنا تُعرَفُ العَلاقةُ في إطلاقِ الخبَرِ بمعنى الأمرِ والنَّهيِ.

(1)

رواه الحاكم (4373) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وضعَّفه الحافظ في «الإصابة» (12/ 221).

(2)

رواه مسلم (2769) ضمن حديث كعب بن مالك رضي الله عنه.

(3)

النَّحل: 40.

(4)

ليس في (د).

(5)

التَّوبة: 82.

(6)

البقرة: 233.

(7)

رواه ابن ماجه (1882)، والدارقطني (3535) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

قال ابن حجر في «بلوغ المرام» (986): رواه ابن ماجه والدارقطني، ورجاله ثقات.

ص: 435

(وَ) الثَّالثُ والعشرونَ: أنَّ صيغةَ الأمْرِ تَرِدُ لـ (تَفْوِيضٍ) كقولِه تعالى: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ}

(1)

، ويُسَمَّى أيضًا: التَّحَكُمَ، وسَمَّاه بعضُهم: التَّسليمَ، وسَمَّاه نصرُ بنُ محمَّدٍ

(2)

المَرْوَزِيُّ: الاستبسالَ. قال: أَعْلَمُوه أنَّهم اسْتَعَدُّوا له بالصَّبْرِ، وأنَّهم غيرُ تاركينَ لدِينِهم، وأنَّهم يَستقِلُّون

(3)

ما هو فاعلٌ في جَنْبِ ما يَتَوَقَّعُونَه مِن ثوابِ اللهِ تعالى.

(وَ) الرَّابعُ والعشرونَ: لـ (تَكْذِيبٍ) كقولِه تعالى: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}

(4)

.

(وَ) الخامسُ والعشرونَ: لـ (مَشُورَةٍ) كقولِه تعالى: {فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى}

(5)

في قولِ إبراهيمَ لابنِه إسماعيلَ عليهما السلام إشارةٌ إلى مُشاوَرَتِه في قولِه: {يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى}

(6)

.

(وَ) السَّادسُ والعشرونَ: لـ (اعْتِبَارٍ) كقولِه تعالى: {انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ}

(7)

، فإنَّ في ذلك عبْرةً لمن يَعتَبِرُ.

(1)

طه: 72.

(2)

كذا في (د)، (ع)، و «التحبير شرح التحرير» (5/ 1196)، و «شرح الكوكب المنير» (3/ 33): نصر بن محمَّدٍ. وترجم له محقِّقا الكتابين فقالا: هو نصر بن محمَّدٍ أبو الليث السمرقندي. لكني رجعت لكتب أبي الليث كالتفسير وغيره؛ فلم أجد النقل فيها.

ووجدت النقل في «تعظيم قدر الصلاة» (2/ 561) لمحمد بن نصر المروزي، وكذا سماه الزَّركشي في «البحر المحيط» (3/ 282)، والبِرماوي في «الفوائد السَّنية» (3/ 201)، وأظنه الصواب، والله أعلم.

(3)

في (ع): يستقبلون.

(4)

آل عمران: 93.

(5)

الصَّافَّات: 102.

(6)

الصَّافَّات: 102.

(7)

الأنعام: 99.

ص: 436

(وَ) السَّابعُ والعِشرون: لـ (تَعَجُّبٍ) كقولِه تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا}

(1)

.

(وَ) الثَّامنُ والعشرونَ: لـ (إِرَادَةِ امْتِثَالِ أَمْرٍ آخَرَ) كقولِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: «كُنْ عَبْدَ اللهِ المَقْتُولَ، ولا تَكُنْ عَبْدَ اللهِ القَاتِلَ»

(2)

. فإنَّما المقصودُ: الاستسلامُ، والكفُّ عنِ الفِتنِ.

والتَّاسعُ والعشرونَ: لتخييرٍ، كقولِه تعالى:{فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ}

(3)

، وقد يُقالُ: نَفْسُ صيغةِ «افعلْ» ليسَ فيها تخييرٌ بانضمامِ أمْرٍ آخَرَ بضِدِّه، لكنَّ مِثْلَ ذلك يَأتي في التَّسويةِ.

والثَّلاثونَ: لاحتياطٍ، كقولِه صلى الله عليه وسلم:«فَلَا يَغْمِسْ يَدَهُ فِي الإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا» ، بدليلِ:«فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ»

(4)

، وليسَ في هذا صيغةُ أمرٍ، إِنَّمَا هو صيغةُ نهيٍ كما تَرى.

والحادي والثَّلاثون: لالتماسٍ، كقولِك لنظيرِك:«افعلْ» ، وهذا وشِبْهُه مِمَّا يَقِلُّ جَدواه في دَلائلِ الأحكامِ.

والثَّاني والثَّلاثونَ: لوعيدٍ، كقولِه تعالى:{وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ}

(5)

الآيةَ، ولكنَّ هذا مِن التَّهديدِ، [وقالَ بعضُهم: إنَّه أبلغُ مِنَ الوَعيدِ]

(6)

.

(1)

الإسراء: 48.

(2)

رواه أحمد (21064) من حديث خَبَّاب بن الأرتّ.

(3)

المائدة: 42.

(4)

رواه البخاري (162)، ومسلم (278) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(5)

الكهف: 29.

(6)

ليس في (د).

ص: 437

والثَّالثُ والثَّلاثونَ: لتَصَبُّرٍ، كقولِه تعالى:{لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}

(1)

.

والرَّابعُ والثَّلاثونَ: لقُرْبِ المَنزلةِ، كقولِه تعالى:{ادْخُلُوا الْجَنَّةَ}

(2)

.

والخامسُ والثَّلاثونَ: لتحذيرٍ وإخبارٍ بما

(3)

يَؤُولُ الأمرُ إليه، كقولِه تعالى:{فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ}

(4)

.

تنبيهٌ: لَمَّا كانَ بعضٌ مِن أبعاضِ «افْعَلْ» ما يَدُلُّ على الكفِّ عنِ الفعلِ: احتيجَ إلى التَّنبيهِ على إخراجِها، فلهذا قال:(وَكَنَهْيٍ: دَعْ، وَاتْرُكْ) ونحوُهما، فإنَّهما أمرانِ اقْتَضَيَا فعلًا هو كَفٌّ، و «لَا تَدَعْ» ، «لا تَتْرُكْ» نهيانِ اقْتَضَيَا فعلًا غيرَ كفٍّ بجهةِ الاستعلاءِ، فلهذا قَيَّدَ جماعةٌ الفعلَ في حدِّ الأمرِ بغيرِ كفٍّ؛ ليَخرُجَ النَّهيُ.

قالَ في «جمْع الجوامعِ» : اقتضاءُ فِعلٍ غيرِ كفٍّ مدلولٍ عليه بغيرِ: «كُفَّ»

(5)

.

[فقولُه: «اقتضاءُ فِعلٍ»؛ أي: طلبُ فعلٍ، وهو جنسٌ يَشمَلُ الأمرَ والنَّهيَ، ويُخرِجُ الإباحةَ وغيرَها مِمَّا يُستَعمَلُ منه صيغةُ الأمرِ، وليسَ]

(6)

أمرًا.

وقولُه: «غيرِ كفٍّ» فَصْلٌ خَرَجَ به النَّهيُ، فإنَّه طَلَبُ فعلٍ هو

(7)

كفٌّ.

(1)

التَّوبة: 40.

(2)

النَّحل: 32.

(3)

في (ع): عما.

(4)

هود: 65.

(5)

«تشنيف المسامع بجمع الجوامع» (2/ 575).

(6)

ليس في (د).

(7)

في (ع): وهو.

ص: 438

وقولُه: «مدلولٌ عليه بغيرِ: كُفَّ» صفةٌ لقولِه: «كفٍّ» ، وهو قيدٌ زادَه على ابنِ الحاجبِ لإدخالِ قولِنا: كُفَّ نَفْسَك عن كذا، أو أَمْسِكْ عن كذا، فإنَّه أمرٌ مع أنَّه يَخرُجُ بقولِنا:«غيرِ كفٍّ» ، فبَيَّنَ أنَّ الكفَّ الَّذِي أُريدَ إخراجُه ما دَلَّ عليه غيرُ كفٍّ إمَّا طلبُ فعلٍ هو كُفّ، دَلَّ عليه كفٌّ، فإنَّه ليسَ نهيًا

(1)

بل أمرٌ. انتهى.

تنبيهٌ: قولُه: «كَفٍّ» الأُولى مصدرٌ مجرورٌ بالإضافةِ، والأخيرةُ فعلُ أمرٍ، وهذا التَّعريفُ على الكلامِ النَّفسيِّ، وأمَّا مَن نَفَاه عَرَّفَ الأمرَ: بأنَّه القولُ الطَّالبُ للفعلِ.

(1)

في (ع): نهي.

ص: 439

(فَصْلٌ)

إذا وَرَدَ (الأَمْرُ مُجَرَّدًا عَنْ قَرِينَةٍ) تَصْرِفُه لمَعنًى، كالنَّدبِ، والإباحةِ، والإرشادِ، وغيرِهما؛ فهو:

(1)

(حَقِيقَةٌ فِي الوُجُوبِ) عندَ الإمامِ أحمدَ وأصحابِه والأكثرِ، ثمَّ اختَلَفَ القائلونَ بهذا المذهبِ، هل اقتضاءُ الوُجوبِ بالشَّرعِ أم باللُّغةِ أم بالعقلِ؟ ثلاثةُ مذاهبَ، اختارَ ابنُ حَمدانَ وغيرُه أنَّه اقتضاه (شَرْعًا) واستدلَّ للجمهورِ بقولِه تعالى:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ}

(1)

، وبقولِه تعالى:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ}

(2)

ذَمَّهم وذَمَّ إبليسَ على مُخالفةِ‌

‌ الأمرِ المُجَرَّدِ

، ودعوى قرينةِ الوجوبِ واقتضاءِ تلك اللُّغةِ لغةً له دونَ هذه غيرُ مسموعةٍ، ولأنَّ السَّيِّدَ لا يُلامُ على عقابِ عَبدِه على مُخالفةِ مُجَرَّدِ أمْرِه باتِّفاقِ العُقلاءِ.

(2)

(وَ) الأمرُ المُطلَقُ الَّذِي ليسَ مُقَيَّدًا بمرَّةٍ ولا تَكرارٍ يَكُونُ (لِتَكْرَارٍ حَسَبَ الإِمْكَانِ) عندَ الإمامِ أحمدَ وأكثرِ أصحابِه، فعلى هذا يَجِبُ استيعابُ العُمرِ به دونَ أزمنةِ قضاءِ الحاجةِ والنَّومِ وضروريَّاتِ الإنسانِ، واحتجَّ له بأنَّ النَّهيَ يَقتضي تَكرارَ التَّركِ، والأمرَ نقيضُه فيَقتضي تَكرارَ

(3)

الفعلِ. والأمرُ بالشَّيءِ نهيٌ عن ضِدِّه، فيَقتضي تَكرارَ تَرْكِ الضِّدِّ.

وعنه روايةٌ ثانيةٌ: لا يَقتضي التَّكرارَ إلَّا بقَرينةٍ، وبلا قرينةٍ لا يَقتضيه، فعلى هذا يُفيدُ الأمرُ طَلَبَ الماهيَّةِ مِن غيرِ إشعارٍ بوحدةٍ ولا بكثرةٍ، إلَّا أنَّه لا يُمْكِنُ الماهيَّةُ في الوجودِ بأقلَّ مِن مَرَّةٍ.

(1)

النُّور: 63.

(2)

المرسلات: 48.

(3)

زاد في ع: ترك.

ص: 440

(3)

(وَ) صارَ (فِعْلُ المَرَّةِ) الواحدةِ مِن ضرورةِ الإتيانِ بالمأمورِ به، لا أنَّ الأمرَ يَدُلُّ عليها بذاتِه بل (بِـ) طريقِ (الِالتِزَامِ.

وَ) أمْرٌ (مُعَلَّقٌ:

- بِـ) فعلٍ (مُسْتَحِيلٍ: ليسَ أَمْرًا) نحوُ: صلِّ، إذا كانَ زيدٌ مُتَحَرِّكًا ساكنًا فهو كقولِه: كُنِ الآنَ مُتَحرِّكًا ساكنًا،

- (وَ) لو عُلِّقَ أمرٌ (بِشَرْطٍ، أَوْ صِفَةٍ) فإنْ كانَ علَّةً ثابتةً: تَكَرَّرَ بتَكَرُّرِها اتِّفاقًا؛ لاتِّباعِ العِلَّةِ، لا للأمْرِ، فمعنى هذا التَّكرارِ: أنَّه كُلَّما وُجِدَتِ العلَّةُ وُجِدَ الحُكْمُ، لا أنَّه إذا وُجِدَتِ العلَّةِ يَتكَرَّرُ الفعلُ.

مثالُ ذلك: قولُه تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا}

(1)

، {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا}

(2)

، {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا}

(3)

، ونحوُها، فالجنابةُ عِلَّةٌ للطُّهْرِ

(4)

والسَّرِقَةُ علَّةٌ للقطعِ، والزِّنا علَّةٌ للجلْدِ، وإنْ كانَ الشَّرطُ أو الصِّفَةُ (لَيْسَا بِعِلَّةٍ) للمأمورِ به بأنْ عُلِّقَ الأمرُ على غيرِ عِلَّةٍ؛ أي: على أمْرٍ لم تَثْبُتْ عِلَّتُه، مثلُ أنْ يَقولَ: إذا دَخَلَ الشَّهرُ فأعتقْ عبدًا مِن عبيدي (لَمْ يَتَكَرَّرِ) الأمرُ (بتَكَرُّرِهِ) ويُمتَثلُ بمَرَّةٍ.

(4)

(وَ) مَن قال: الأمرُ للتَّكرارِ قال: هو (لِلْفَوْرِ) أيضًا، وكذا إنْ كانَ الأمرُ لا يَقتضي التَّكرارَ، فيَقتضي الفورَ أيضًا عندَ أحمدَ والأكثرِ؛ لأنَّا نَقطَعُ بالفَورِ إذا قال: اسْقِني، رُدَّ ذلك لقَرينةِ حاجةِ طالبِ الماءِ سريعًا عادةً، وأيضًا كلُّ مُخبِرٍ أو مُنْشِئٍ، فالظَّاهرُ قَصدُ الزَّمَنِ الحاضرِ، كـ: قامَ زيدٌ، و: أنتِ طالقٌ أو حُرَّةٌ، رُدَّ ذلك بأنَّه قياسٌ في اللُّغةِ، ويَتبَيَّنُ بذلك أنَّ اللَّفظَ

(1)

المائدة: 6.

(2)

المائدة: 38.

(3)

النُّور: 2.

(4)

في (ع): للتطهر.

ص: 441

وُضِعَ للتَّعجيلِ، وأيضًا الأمرُ نهيٌ عن ضِدِّه، والأمرُ طلبٌ كالنَّهيِ، وأيضًا:{مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ}

(1)

ذَمَّه إذْ لم يُبادِرْ، رُدَّ بقولِه:{فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ}

(2)

، وأيضًا مُستلزِمٌ للأمرِ لاستلزامِ الوجوبِ إيَّاه؛ لأنَّ وجوبَ الفعلِ مستلزِمٌ لوجوبِ اعتقادِه على الفورِ، ولأنَّه أحوطُ لخُروجِه عنِ العُهدةِ إجماعًا ولإثمِه بموتِه، رُدَّ: لو صُرِّحَ بالتَّأخيرِ، وَجَبَ تعجيلُ الاعتقادِ لا تعجيلُ الفعلِ، فلا ملازمةَ.

(وَفِعْلُ عِبَادَةٍ:

(1)

لَمْ يُقَيَّدْ) فِعلُها (بِوَقْتٍ)، وقُلْنا بالفَوريَّةِ حالَ كونِ الفعلِ (مُتَرَاخِيًا) عنها: قضاءٌ بالأمرِ الأوَّلِ عندَ أصحابِنا والجمهورِ، وإنْ قُلْنا: الأمرُ للتَّراخي فليسَ بقضاءٍ قطعًا.

(2)

(أَوْ) أي: وفعلُ عبادةٍ (مُقَيَّدٌ) فِعلُها (بِهِ) أي: بالوقتِ (بَعْدَهُ) أي: إذا فَعَلَهَا بعدَ الوقتِ؛ فهو (قَضَاءٌ بِالأَمْرِ الأَوَّلِ) فيَمنَعُ الحيضُ الصَّومَ إجماعًا، وتَقضيه إجماعًا هي وكلُّ معذورٍ بالأمرِ السَّابقِ، لا بأمرٍ جديدٍ في الأشهَرِ، اختارَه الأكثرُ.

(وَالأَمْرُ بِـ) شيءٍ (مُعَيَّنٍ: نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ مَعْنًى) لا لفظًا، فالحركةُ نهيٌ عن نفسِ السُّكونِ الَّذِي هو ضِدٌّ لها، بناءً على أصلِنا أنَّ مُطلَقَ الأمرِ للفَورِ؛ لأنَّ أمرَ الإيجابِ: طلبُ فعلٍ يُذَمُّ تاركُه إجماعًا، ولا ذَمَّ إلَّا على فعلٍ، وهو الكفُّ عنه، أو الضِّدُّ، فيَستلزمُ النَّهيَ عن ضِدِّه أوِ النَّهيَ عنِ الكفِّ عنه، ولأنَّه لا يَتِمُّ الواجبُ إلَّا بتَركِ ضدِّه، فيَكُونُ مطلوبًا وهو مَعنى النَّهيِ،

(1)

الأعراف: 12.

(2)

الحجر: 29.

ص: 442

(وَكَذَا العَكْسُ) وهو أنَّ النَّهيَ عن شيءٍ مُعَيَّنٍ أمْرٌ بضِدِّه مِن جهةِ المعنى لا اللَّفظِ، كالنَّهي عن صومِ يومِ العيدِ أمْرٌ بفِطرِه.

تنبيهٌ: النَّهيُ إنْ كانَ له ضدٌّ واحدٌ فمأمورٌ به قطعًا، كالنَّهيِ عنِ الكُفرِ، فإنَّه أمرٌ بالإيمانِ، وإنْ كانَ له أضدادٌ كالنَّهيِ عنِ القيامِ، فإنَّ له أضدادًا مِن ركوعٍ وسجودٍ وقعودٍ ونَحوِها، ففي الأمْرِ بها إذا قُلْنَا أمرٌ بأضدادِه، أو يَستلْزِمُه، هل المُرادُ جميعُ الأضدادِ أو واحدٌ منها لا بعينِه؟

فيه خلافٌ، الصَّحيحُ أنَّه أمرٌ بجميعِ الأضدادِ، كما يَظْهَرُ مِن عباراتهم، ولهذا قال:(وَلَوْ تَعَدَّدَ ضِدٌّ) لكنْ قالوا في تمثيلِهم: كالأمرِ

(1)

بالقيامِ فإنَّ له أضدادًا، [إلى آخِرِه]

(2)

، وقاسُوا النَّهيَ عليه.

(وَنَدْبٌ) أي: وأمْرُ نَدْبٍ، (كَـ) أمْرِ (إِيجَابٍ) عندَ الأكثرِ إنْ قيلَ: مأمورٌ به حقيقةً.

(وَالأَمْرُ بَعْدَ:

(1)

حَظْرٍ) للإباحةِ على الصَّحيحِ الَّذِي عليه الجُمهورُ، ومنه قولُه تعالى:{وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا}

(3)

، وقولُه عليه الصلاة والسلام:«كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنِ ادِّخَارِ لُحُومِ الأَضَاحِيِّ؛ فَادَّخِرُوهَا»

(4)

.

تنبيهٌ: مَحَلُّ ذلك إذا فَرَّعْنا على أنَّ اقتضاءَ الأمرِ: الوجوبُ، فوَرَدَ بعدَ حظرٍ، ففيه هذا الخلافُ، والصَّحيحُ أنَّه للإباحةِ حقيقةً؛ لتَبادُرِها إلى الذِّهنِ في ذلك، لغلبةِ استعمالِه فيها حينئذٍ، والتَّبادُرُ علامةُ الحقيقةِ، وأيضًا

(1)

في (ع): كأمر.

(2)

ليست في (د).

(3)

المائدة: 2.

(4)

رواه الترمذي (1510)، والنسائي (4430) من حديث بُريدة رضي الله عنه، وقال الترمذي: حسن صحيح.

ص: 443

فإنَّ النَّهيَ يَدُلُّ على التَّحريمِ، فوُرودُ الأمرِ بعدَه يَكُونُ لرفعِ التَّحريمِ وهو المُتبادرُ، فالوجوبُ أو النَّدبُ زيادةٌ لا بدَّ لها مِن دليلٍ، والأصلُ عدمُ دليلٍ سِوى الحظرِ، والإجماعُ حادثٌ بعدَه صلى الله عليه وسلم، وأمَّا عندَ وجودِ القَرينةِ فيُحمَلُ على ما يُناسِبُ المقامَ بلا خلافٍ.

(2)

(أَوْ) أي: وكذا الحُكْمُ فيما إذا فَرَّعْنا على أنَّ الأمرَ المُجرَّدَ للوجوبِ، فوُجِدَ أمْرٌ بعدَ (اسْتِئْذَانٍ) فإنَّه لا يَقتضي الوُجوبَ، بلِ الإباحةَ، ذَكَرَه القاضي

(1)

مَحَلَّ وفاقٍ، وكذا ابنُ عَقِيلٍ

(2)

.

قالَ ابنُ قاضي الجبلِ: لا فرقَ بينَ الأمرِ بعدَ الحظرِ وبينَ الأمرِ بعدَ الاستئذانِ

(3)

.

وقالَ في «القواعد الأصوليَّة»

(4)

: وإطلاقُ جماعةٍ ظاهِرُه الوجوبُ مِنهم الرَّازيُّ في «المحصول»

(5)

فإنَّه جَعَلَ الأمرَ بعدَ الحظرِ والاستئذانِ، الحُكْمُ فيهما واحدٌ، واختارَ أنَّ الأمرَ بعدَ الحظرِ للوجوبِ، فكذا بعدَ الاستئذانِ عندَه. انتهى.

إذا عَلِمْتَ ذلك، فلا يَستقيمُ قولُ القاضي وابنِ عَقِيل لِما اسْتَدَلَّا على نقضِ الوضوءِ بلحمِ الإبلِ بالحديثِ الَّذِي في «صحيح

(6)

مسلمٍ» لمَّا سُئِلَ عن التَّوَضُّؤِ مِن لحومِ الإبلِ، فقال:«نَعَمْ؛ تَوَضَّؤُوا مِنْ لُحُومِ الإِبِلِ»

(7)

.

(1)

«العُدة في أصول الفقه» (1/ 258).

(2)

«الواضح في أصول الفقه» (2/ 535).

(3)

ينظر: «شرح الكوكب المنير» (3/ 61)، و «التحبير شرح التحرير» (2/ 2252).

(4)

«القواعد والفوائد الأصولية» لابن اللحام (ص 233).

(5)

«المحصول» (1/ 159).

(6)

في (د)، (ع): شرح. ولعله سبق قلم.

(7)

رواه مسلم (360) من حديث جابر بن سَمُرَةَ رضي الله عنه.

ص: 444

وممَّا يُقَوِّي الإشكالَ أنَّ في الحديثِ الأمرَ بالصَّلاةِ في مرابضِ الغَنَمِ، وهو بعدَ سؤالٍ، ولا يَجِبُ بلا خلافٍ، بل ولا يُستَحَبُّ.

فإنْ قُلْتَ: فإذا كانَ كذلك فلِم يَسْتَحِبُّون الوضوءَ منه، والاستحبابُ حُكْمٌ شرعيٌّ يَفتقرُ إلى دليلٍ، وعندَهم هذا الأمرُ يَقتضي الإباحةَ؟

قُلْتُ: إذا قِيلَ باستحبابِه؛ فلدليلٍ غيرِ هذا، وهو أنَّ أكلَ لحمِ الإبلِ يُورِثُ قُوَّةً ناريَّةً يُناسِبُ أنْ تُطْفَأَ بالماءِ، كالوضوءِ عندَ الغضبِ، ولو كانَ الوضوءُ مِن أكلِ لحمِ الإبلِ واجبًا على الأُمَّةِ -وكلُّهم كانوا يَأكلُونَ لحمَ الإبلِ- لم يُؤَخِّرْ بيانَ وقتِ وجوبِه حَتَّى يَسْأَلَه سائلٌ فيُجيبَه، فعُلِمَ أنَّ مَقصودَه أنَّ الوضوءَ مِن لحومِها مشروعٌ، وهو حقُّ اللهِ، واللهُ أعلمُ.

وقد يُقالُ: الحديثُ إِنَّمَا ذُكِرَ فيه بيانُ وجوبِ ما يُتَوَضَّأُ منه بدليلِ أنَّه لَمَّا سُئِلَ عنِ الوضوءِ مِن لحومِ الغنمِ، قال:«إِنْ شِئْتَ تَوَضَّأْ، وَإِنْ شِئْتَ فَلَا تَتَوَضَّأْ»

(1)

مع أنَّ التَّوَضُّؤَ مِن لحومِ الغَنمِ مباحٌ، فلَمَّا خَيَّرَ في لحمِ الغَنمِ وأَمَرَ بالوضوءِ مِن لحمِ الإبلِ، دَلَّ على أنَّ الأمرَ ليسَ هو لمُجرَّدِ الإذنِ، بل للطَّلبِ الجازمِ.

(3)

(أَوْ) أي: ومثلُ ما تَقَدَّمَ: الأمرُ (بِمَاهِيَّةٍ مَخْصُوصَةٍ بَعْدَ سُؤَالِ تَعْلِيمٍ)؛ فيَكُونُ (لِلْإِبَاحَةِ) كالأمْرِ بعدَ الاستئذانِ في الأحكامِ والمَعنَى، وحينئذٍ فلا يَستقيمُ استدلالُ الأصحابِ على وجوبِ الصَّلاةِ على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في التَّشهُّدِ الأخيرِ بما ثَبَتَ عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه قِيلَ له: يا رسولَ اللهِ! قد عَلِمْنا كيف نُسَلِّمُ عليك، فكيف نُصَلِّي عليك؟ قال: «قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ

(1)

رواه مسلم (360) من حديث جابر بن سَمُرَةَ رضي الله عنه.

ص: 445

عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ

»

(1)

الحديثَ، نعمْ، إنْ ثَبَتَ الوجوبُ مِن خارجٍ، فيَكُونُ هذا الأمرُ للوجوبِ؛ لأنَّه بيانٌ لكيفيَّةٍ واجبةٍ، واللهُ أعلمُ.

(وَنَهْيٌ) عن شيءٍ (بَعْدَ أَمْرٍ) به: (للتَّحْرِيمِ)؛ لأنَّه آكَدُ، وهو قولُ الأكثرِ، وفُرِّقَ بينَه وبينَ الأمرِ بأوجهٍ:

أحدُها: أنَّ مُقتضى النَّهيِ -وهو التُّركُ- موافِقٌ للأصلِ، بخلافِ مُقتضى الأمرِ، وهو الفعلُ.

الثَّاني: أنَّ النَّهيَ: لدفعِ مَفسدَةِ المَنهيِّ عنه، والأمرَ: لتحصيلِ مصلحةِ المأمورِ به، واعتناءُ الشَّارعِ بدَفعِ المفاسدِ أشدُّ مِن جلبِ المصالحِ.

الثَّالثُ: أنَّ القولَ بالإباحةِ في الأمرِ بعدَ التَّحريمِ سَبَبُه وُرُودُه [في القُرآنِ]

(2)

والسُّنَّةِ كثيرًا للإباحةِ، وهذا غيرُ موجودٍ في النَّهيِ بعدَ وجوبٍ.

(وَكَأَمْرٍ: خَبَرٌ بِمَعْنَاهُ) قالَ الشَّيخُ

(3)

وغيرُه: الخبَرُ بمَعنى الأمرِ كالأمرِ، وكذا الأمرُ بمَعنى النَّهيِ، فهو كالنَّهيِ، نحوُ:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ}

(4)

، ونحوُ:{لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ}

(5)

، ومِن الدَّليلِ على أنَّ ذلك مَعناه، وأنَّ ذلك كالأمرِ والنَّهيِ: دُخولُ النَّسخِ فيه؛ إذِ الأخبارُ المَحضَةُ لا يَدخُلُها النَّسخُ، ولأنَّه لو كانَ خبَرًا لم يُوجَدْ خلافُه، واستندَ بعضُهم في ذلك لقولِ البيانِيِّينَ وغيرِهم إنَّ ذلك أبلغُ مِن صريحِ الأمرِ والنَّهيِ.

(1)

رواه البخاري (6357) من حديث كعب بن عُجْرة رضي الله عنه.

(2)

ليس في (د).

(3)

ينظر: «التحبير شرح التحرير» (5/ 2255).

(4)

البقرة: 228.

(5)

الواقعة: 29.

ص: 446

(وَأَمْرٌ بِأَمْرٍ) لآخَرَ (بِشَيْءٍ: ليسَ أَمْرًا بِهِ) عندَ الأكثرِ، كقولِه تعالى:{وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ}

(1)

، وقولِه عليه الصلاة والسلام:«مُرُوهُمْ بِهَا لِسَبْعٍ»

(2)

لأنَّه لو كانَ أمرًا لكانَ قولُ القائلِ: «مُرْ عبدَك» تَعَدِّيًا وتناقضًا لقولِه للعبدِ: لا تَفعَلْ، والرَّسولُ مُبَلِّغٌ لا آمِرٌ.

(و) ممَّا يَلْحَقُ بهذه المسألةِ ويُشْبِهُها: قولُه تعالى: ({خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً}

(3)

فإنَّ الأمرَ بالأخذِ يَتَوَقَّفُ على إعطائِهم ذلك، إذا تَقَرَّرَ ذلك فـ (ليسَ) ذلك (أَمْرًا لَهُمْ بِإِعْطَاءٍ) على الصَّحيحِ.

وقالَ أبو بكرٍ البَاقِلَّانِيُّ: يَجِبُ الإعطاءُ لا بهذا الطَّريقِ بل بالإجماعِ؛ لأنَّه إذا وَجَبَ عليه الأخذُ قِيلَ له: مُرْ بالإعطاءِ، وامتثالُ أمْرِه واجبٌ

(4)

.

(وَ) إذا وَرَدَ (أَمْرٌ بِصِفَةٍ) أو هيئةٍ لفِعلٍ، ودَلَّ الدَّليلُ على استحبابِها: ساغَ التَّمسُّكُ به على وجوبِ أصلِ الفعلِ، لتَضَمُّنِه الأمرَ به؛ لأنَّ مُقتضاه وجوبُهما، فإذا خُولِفَ في الصَّريحِ: بَقِيَ المُتضمَّنُ على أصلِ الاقتضاءِ، ذَكَرَه أصحابُنا.

قال أبو إسحاقَ الشِّيرازيُّ: الأمرُ بالصِّفةِ (أَمْرٌ بِالمَوْصُوفِ) كالأمرِ

(5)

بالطُّمأنينةِ في الرُّكوعِ والسُّجودِ يَكُونُ أمرًا بهما

(6)

. انتهى.

(1)

طه: 132.

(2)

رواه أبو داود (494)، والترمذي (407) من حديث سَبْرَةَ بْنِ مَعْبَدٍ رضي الله عنه.

وقال الترمذي: حديث حسن.

(3)

التَّوبة: 103.

(4)

ينظر: «التحبير شرح التحرير» (5/ 2265).

(5)

في (ع): كأمر.

(6)

«اللمع في أصول الفقه» (ص 18).

ص: 447

ونَصَّ عليه الإمامُ أحمدُ، حَيْثُ تَمَسَّكَ على وجوبِ الاستنشاقِ بالأمْرِ بالمُبالغةِ.

(وَأَمْرٌ مُطْلَقٌ بِبَيْعٍ) أي: غيرِ مُقَيَّدٍ بثَمنِ مِثْلٍ أو غيرِه، كقولِه لوكيلِه:«بِعْ كذا» ، فعندَ أصحابِنا (يَتَنَاوَلُهُ) أي: يَتَنَاوَلُ البيعَ حَتَّى (وَلَوْ) وَقَعَ (بِغَبْنٍ فَاحِشٍ، وَيَصِحُّ) العَقدُ معَه (وَيَضْمَنُ) الوكيلُ (النَّقْصَ) قال بعضُ أصحابِنا: الأمرُ بالماهيَّةِ الكُلِّيَّةِ إذا أَتَى بمُسَمَّاها: امْتُثِلَ، ولم يَتَنَاوَلِ اللَّفظُ للجُزئيَّاتِ، ولم يَنْفِها، فهي مِمَّا لا يَتِمُّ الواجبُ إلَّا به.

(وَ‌

‌الأَمْرَانِ المُتَعَاقِبَانِ

(1)

:

(1)

بِلَا عَطْفٍ

- إِنِ اخْتَلَفَا: عُمِلَ بِهِمَا) إجماعًا كقولِك: صُمْ، صلِّ، زكِّ، حُجَّ، ونحوَها.

- (وَإِلَّا) أي: وإن لم يَختلِفِ الأمرانِ، بل تَمَاثَلَا (وَلَمْ يَقْبَلِ) الأمرُ (التَّكْرَارَ) كـ: صُمْ يومَ الجمعةِ، صُمْ يومَ الجُمعةِ، (أَوْ قَبِلَ) الأمرُ التَّكرارَ (وَمَنَعَتْهُ

(2)

العَادَةُ) كـ: اسْقِني ماءً، اسْقِني ماءً، (أَوْ) قَبِلَ الأمرُ التَّكرارَ و (عُرِّفَ ثَانِـ) ـي الأمرينِ بالألِفِ واللَّامِ، كـ: صلِّ ركعتينِ، صلِّ الرَّكعتينِ، (أَو) قَبِلَ الأمرُ التَّكرارَ، ولكنْ (بَيْنَ آمِرٍ وَمَأْمُورٍ عَهْدٌ ذِهْنِيٌّ) يَمنَعُ التَّكرارَ، كمَن له على آخَرَ درهمٌ، فقالَ له

(3)

: أحضرْ لي درهمًا، أحضرْ لي درهمًا؛ (فَـ) الثَّاني (تَأْكِيدٌ) للأوَّلِ إجماعًا في الصُّورِ الأربعِ، (وَإِلَّا) أي: وإن لم تَمْنَعِ العادةُ التَّكرارَ، ولم يُعَرَّفْ ثاني الأمرين، ولا كانَ بينَ الآمِرِ والمأمورِ عهدٌ ذهنيٌّ،

(1)

في (د): المتعاقبين.

(2)

في «مختصر التحرير» (ص 138): ومنعت.

(3)

ليست في (د).

ص: 448

كـ: صُمْ صُمْ، صلِّ صلِّ، أعطِ زيدًا درهمًا، أعط زيدًا درهمًا، ونحوِ ذلك؛ (فَـ) الثَّاني (تَأْسِيسٌ) أي: تَكْرِيرٌ لا تأكيدٌ (كَبَعْدَ امْتِثَالِ) الأمرِ الأوَّلِ، كقولِنا فيمَن قال لزوجتِه:«أنتِ طالقٌ أنتِ طالقٌ» : يَلْزَمُه طلقتانِ، الأصلُ التَّأسيسُ.

(2)

(وَ) الأمرانِ المُتعاقبانِ (بِهِ) أي: بالعَطفِ بأنْ كانَ الثَّاني معطوفًا على الأوَّلِ،

- فـ (إِنِ اخْتَلَفَا: عُمِلَ بِهِمَا) كـ: أقيموا الصَّلاةَ، وآتوا الزَّكاةَ،

- (وَإِلَّا) بأنْ تَمَاثَلَا، فتارةً يَقبَلُ العَطفُ التَّكرارَ (وَ) تارةً لا يَقبَلُ، فإنْ (لَمْ يَقْبَلِ التَّكْرَارَ) فتارةً لا يَقبَلُه حِسًّا، كـ: اقتلْ زيدًا، واقتلْ زيدًا، وتارةً لا يَقبَلُه حُكمًا، كـ: أعتقْ سالمًا، وأعتقْ سالمًا؛ (فَـ) الثَّاني (تَأْكِيدٌ) بلا خلافٍ.

(وَإِنْ قَبِلَ) التَّكرارَ مع كونِه معطوفًا على الأوَّلِ، (وَلَمْ تَمْنَعْ عَادَةٌ) مِن التَّكرارِ، (ولا عُرِّف ثَانِـ) ـي الأمرينِ بـ:«الـ» ؛ (فَـ) الثَّاني (تَأْسِيسٌ) كـ: صُمْ يومًا وصُمْ يومًا.

(وَإِنْ مَنَعَتْ عَادَةٌ) مِن التَّكرارِ (تَعَارَضَا

(1)

أي: العَطفُ ومَنْعُ العادةِ، كـ: اسْقِني ماءً، واسْقِني ماءً، وجَزَمَ الشَّيخُ هنا بالتَّكرارِ.

(وَإِلَّا) أي: وإن لم تَمنَعِ العادةُ مِن التَّكرارِ، (وَعُرِّفَ ثَانِـ) ـي الأمرينِ؛ (فَـ) الثَّاني (تَأْكِيدٌ) كـ: صلِّ ركعتينِ، وصلِّ الصَّلاةَ، واختارَ الآمِدِيُّ

(2)

وغيرُه الوقفَ لتعارُضِ العَطفِ والتَّأسيسِ مع منْعِ العادةِ والتَّعريفِ.

(1)

زاد في «مختصر التحرير» (ص 139): وإلا رُجح في قول: التأسيس.

(2)

«الإحكام» (2/ 186).

ص: 449

(بَابٌ)

(النَّهْيُ: مُقَابِلٌ لِلْأَمْرِ فِي كُلِّ حَالِهِ) يَعني فكلُّ ما قِيلَ في حدِّ الأمرِ، مِن كونِه مِن المَتنِ الَّذِي يَشتَرِكُ فيه الكتابُ والسُّنَّةُ والإجماعُ، وكونِه نوعًا مِن الكلامِ، وأنَّ له صيغةً، وما في مسائلِه مِن مُختارٍ ومُزَيَّفٍ؛ يَكُونُ مِثْلُه في النَّهيِ.

(وَصِيغَتُهُ: «لَا تَفْعَلْ»، وَتَرِدُ) لمَعانٍ، قال في «شرحِ الأصلِ»

(1)

: ذَكَرْنا هنا غالِبَها:

أحدُها: وُرودُها (لِتَحْرِيمٍ) كقولِه تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ}

(2)

فهي حقيقةٌ فيه، وما عَدَاه مجازٌ.

(وَ) الثَّاني: لـ (كَرَاهَةٍ) كقولِه صلى الله عليه وسلم: «لَا يَمَسَّنَّ

(3)

أَحَدٌ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ

(4)

وَهُوَ يَبُولُ»

(5)

.

(وَ) الثَّالثُ: لـ (تَحْقِيرٍ

(6)

كقولِه تعالى: {لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ}

(7)

.

(وَ) الرَّابعُ: لـ (بَيَانِ العَاقِبَةِ) كقولِه تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ}

(8)

.

(1)

«التحبير شرح التحرير» (5/ 2279 - 2280).

(2)

البقرة: 188.

(3)

في (ع): يمس.

(4)

ليست في (د)، و «التحبير» .

(5)

رواه مسلم (267) من حديث أبي قَتادة رضي الله عنه.

(6)

في (ع): لتحقيق. والمثبت من (د)، «التَّحبير» .

(7)

الحجر: 88.

(8)

إبراهيم: 42.

ص: 450

(وَ) الخامسُ: لـ (دُعَاءٍ) كقولِه تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا}

(1)

الآيةَ.

(وَ) السَّادسُ: لـ (يَأْسٍ) كقولِه تعالى: {لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}

(2)

.

(وَ) السَّابعُ: لـ (إِرْشَادٍ) كقولِه تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}

(3)

، والمُرادُ أنَّ الدَّلالةَ على الأحوطِ تَرْكُ ذلك.

(وَ) الثَّامنُ: لـ (أَدَبٍ) كقولِه تعالى: {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ}

(4)

، ولكنَّ هذا راجعٌ للكراهةِ؛ إذِ المُرادُ لا تتعاطوا أسبابَ النِّسيانِ، فإنَّ نَفْسَ النِّسيانِ لا يَدخُلُ تحتَ القُدرةِ حَتَّى يُنهى عنه.

(وَ) التَّاسعُ: لـ (تَهْدِيدٍ) كقولِ السَّيِّدِ لعبدِه وقد أَمَرَه بفعلِ شيءٍ، فلَمْ يَفعَلْه: لا تَفعَلْه؛ فإنَّ عادتَك ألَّا تَفعَلَه بدونِ المُعاقبةِ.

(وَ) العاشرُ: لـ (إِبَاحَةِ التَّركِ) كالنَّهيِ بعدَ الإيجابِ، كقولِه صلى الله عليه وسلم:«ولا تَتَوَضَّؤُوا مِنْ لُحُومِ الغَنَمِ»

(5)

، وهذا على قولِ أنَّ النَّهيَ بعدَ الإيجابِ للإباحةِ، والصَّحيحُ خلافُه.

(وَ) الحاديَ عَشَرَ: لـ (التِمَاسٍ) كقولِك لنَظيرِك: «لا تفعلْ» عندَ مَن يَقُولُ: إنَّ صيغةَ الأمرِ لها ثلاثُ صفاتٍ: أعلى، ونظيرٌ، وأدوَنُ، وكذلك النَّهيُ.

(1)

البقرة: 286.

(2)

التَّوبة: 66.

(3)

المائدة: 101.

(4)

البقرة: 237.

(5)

رواه ابن ماجه (497) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

ص: 451

(وَ) الثَّانيَ عَشَرَ: لـ (تَصَبُّرٍ) كقولِه تعالى: {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}

(1)

.

(وَ) الثَّالثَ عَشَرَ: لـ (إِيقَاعِ أَمْنٍ) كقولِه تعالى: {وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ}

(2)

.

(وَ) الرَّابعَ عَشَرَ: لـ (تَسْوِيَةٍ) كقولِه تعالى: {فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا}

(3)

.

(وَ) الخامسَ عَشَرَ: لـ (تَحْذِيرٍ) كقولِه تعالى: {وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}

(4)

.

(فَإِنْ تَجَرَّدَتْ) صيغةُ النَّهيِ عنِ المعاني المذكورةِ والقَرائنِ: (فَـ) هِيَ (لِتَحْرِيمٍ) يعني اقْتَضَتِ التَّحريمَ، على الصَّحيحِ عندَ العلماءِ مِن المذاهبِ الأربعةِ وغيرِهم.

تنبيهٌ: المنهيُّ عنه أقسامٌ:

أحدُها: أنْ يَكُونَ النَّهيُ عنه لذاتِه، كالكفرِ، والكذبِ، والجَورِ.

الثَّاني: أنْ يَكُونَ النَّهيُ عنه لخارجٍ عنه، لكنَّه لوصفِه اللَّازمِ، كالنَّهيِ عن نكاحِ الكافرِ للمُسلمةِ، وعن بيعِ العبدِ المسلمِ للكافرِ، فإنَّ ذلك يَلْزَمُ منه إثباتُ القيامِ والاستيلاءِ، والسَّبيلِ للكافرِ على المسلمِ.

الثَّالثُ: أنْ يَكُونَ النَّهيُ عنه لأمرٍ خارجٍ غيرِ لازمٍ، كبيعٍ بعدَ نداءِ الجمعةِ.

(وَ) إذا عَرَفْتَ ذلك، فورودُ صيغةِ النَّهيِ (مُطْلَقَةً) أي: مِن غيرِ أن يَقتَرنَ بها ما يَدُلُّ على الفسادِ أوِ الصِّحَّةِ (عَنْ شَيْءٍ:

(1)

التَّوبة: 40.

(2)

القصص: 31.

(3)

الطُّور: 16.

(4)

آل عمران: 102.

ص: 452

(1)

لِعَيْنِهِ) أي: لذاتِ ذلك الشَّيْءِ كالظُّلمِ ونحوِه منَ المُستَقبحِ لذاتِه عقلًا يَقتضي فسادَه مِن جهةِ الشَّرعِ على الصَّحيحِ، وعليه الأكثرُ، واحتُجَّ لذلك: بالكتابِ، والسُّنَّةِ، والاعتبارِ، ومُناقضةِ الخصومِ.

أمَّا الأوَّلُ فلم يَزَلِ العلماءُ يَستدلُّون على الفسادِ بالنَّهيِ، كاحتجاجِ ابنِ عمرَ بقولِه تعالى:{وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ}

(1)

وشاعَ وذاعَ مِن غيرِ نكيرٍ.

فإنْ قُلْتَ: احتجاجُهم إِنَّمَا هو على التَّحريمِ لا على الفسادِ.

قُلْتُ: بل على كِلَيْهِما، ألا تَرى إلى حديثِ بيعِ الصَّاعينِ بالصَّاعِ، وقولِه صلى الله عليه وسلم:«أَوَّهْ! عَيْنُ الرِّبَا»

(2)

وذلك بعدَ القَبضِ، فأَمَرَ برَدِّه.

وأمَّا الثَّاني ففي «صحيحِ مسلمٍ» أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا ليسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ»

(3)

، والرَّدُّ إذا أُضيفَ إلى العِباداتِ اقْتَضَى عدمَ الاعتدادِ بها، وإنْ أُضِيفَ إلى العُقودِ اقتضى الفسادَ.

فَإِنْ قِيلَ: مَعناه ليسَ بمقبولٍ ولا طاعةٍ.

قُلْنا: الحديثُ يَقتضي رَدَّ ذاتِه، فإنْ لم يُمْكِنِ: اقْتضى رَدَّ مُتَعَلَّقِه.

وأمَّا الثَّالثُ وهو الاعتبارُ، فلأنَّ النَّهيَ يَدُلُّ على تَعَلُّقِ مفسدةٍ بالمَنهيِّ عنه أو بما يُلازِمُه؛ لأنَّ الشَّارعَ حكيمٌ لا يَنهى عنِ المصالحِ، وفي القضاءِ بإفسادِها إعدامٌ لها بأبلغِ الطَّريقِ، ولأنَّ النَّهيَ عنها مع ربطِ الحُكْمِ بها

(1)

البقرة: 221.

(2)

رواه البخاري (2312)، ومسلم (1594) من حديث أبي سعيد الخُدري رضي الله عنه.

(3)

«صحيح مسلم» (1718) من حديث عائشة رضي الله عنه.

ص: 453

مُفضٍ إلى التَّناقُضِ في الحِكمةِ؛ لأنَّ نَصْبَها سببًا يُمَكِّنٌ

(1)

مِن التَّوسُّلِ، والنَّهيُ مَنعٌ

(2)

مِن التَّوسُّلِ، ولأنَّ حُكمَها مقصودُ الآدميِّ ومُتَعَلَّقُ غرضِه، فتَمكينُه منه حَثٌّ على تعاطيه، والنَّهيُ مَنْعٌ مِن التَّعاطي، ولأنَّه لو لم يَفْسُدِ المنهيُّ عنه لَزِمَ مِن نَفيِه؛ لكونِه مَطلوبَ التَّركِ بالنَّهيِ حكمةٌ للنَّهيِ، ومِن ثُبوتِه لكونِ الغَرضِ جوازَ التَّصرُّفِ وصِحَّتَه حِكمةٌ للصِّحَّةِ، واللَّازمُ باطلٌ؛ لأنَّ الصِّحَّةَ والنَّهيَ إنْ تَسَاويا أو رَجَحَتْ حكمةُ الصِّحَّةِ: امتنعَ النَّهيُ؛ لخُلُوِّه عنِ الحكمةِ، وإلَّا امتنعَتِ الصِّحَّةُ لعدمِ حِكْمَتِها.

وأمَّا المُناقضةُ، وهو الرَّابعُ: فلأنَّ المُخالفينَ أَبْطَلُوا النِّكاحَ في العِدَّةِ، ونكاحَ المُحْرِمِ، والمُحاقلةَ، والمُزابنةَ، والمُنابذةَ، والمُلامسةَ، والعقدَ على منكوحةِ الأبِ؛ لقولِه تعالى:{وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ}

(3)

الآيةَ، {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ}

(4)

، والصلاةَ في المكانِ النَّجِسِ والثَّوبِ النَّجِسِ، وحالةَ كشفِ العَورةِ إلى غيرِ ذلك، ولا مُستندَ إلَّا النَّهيُ.

(2)

(أَوْ) أي: وهذا القِسْمُ الثَّاني المَنهيُّ عنه لـ (وَصْفِهِ) اللَّازمِ له كالنَّهيِ عن صومِ يومِ العيدِ

(5)

، وأيَّامِ التَّشريقِ

(6)

؛ فإنَّ ذلك (يَقْتَضِي فَسَادَهُ شَرْعًا)؛ لكونِ العيدِ وأيَّامِ التَّشريقِ أيَّامَ ضيافةِ اللهِ عز وجل، وهذا مَعنًى لازمٌ لها، ومِثْلُه النَّهيُ عنِ الرِّبا لوصفِ الزِّيادةِ المُقارِنِ للعقدِ اللَّازمِ،

(1)

في (د): تمكن.

(2)

في (ع): يمنع.

(3)

النِّساء: 22.

(4)

البقرة: 221.

(5)

روى البخاري (1197)، مسلم (1138) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه:«أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ صِيَامِ يَوْمَيْنِ، يَوْمِ الْفِطْرِ، وَيَوْمِ النَّحْرِ» .

(6)

روى البخاري (1997) عَن عائشة وابن عُمَرَ رضي الله عنهم، قَالَا:«لَمْ يُرَخَّصْ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ أَنْ يُصَمْنَ، إِلَّا لِمَنْ لَمْ يَجِدِ الهَدْيَ» .

ص: 454

(3)

(وَكَذَا) لو كانَ النَّهيُ عن عقدٍ (لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ) وهو القسمُ الثَّالثُ؛ أي: لأمرٍ خارجٍ غيرِ لازمٍ، (كَـ) النَّهيِ عن (بَيْعٍ بَعْدَ نِدَاءِ جُمُعَةٍ

(1)

فالصَّحيحُ أنَّه يَقتضي فسادَه، كالوضوءِ بماءٍ مغصوبٍ، فإنَّ النَّهيَ عنه لأمرٍ خارجٍ عنه، وهو الغصبُ، يَنْفَكُّ بالإذنِ مِن صاحبِه، أو المِلكِ، ونَحوِه.

و (لَا) يَقتضي النَّهيُ فسادَ المنهيِّ عنه إنْ كانَ النَّهيُ (عَنْ غَيْرِهِ) أي: إنْ كانَ النَّهيُ عن غيرِ عقدٍ (لِحَقِّ آدَمِيٍّ) فحيثُ قال أصحابُنا باقتضاءِ

(2)

النَّهيِ الفسادَ، فمُرادُهم: ما لم يَكُنْ لحقِّ آدميٍّ يُمكِنُ استدراكُه، فإنْ كانَ ولا مانعَ (كَتَلَقِّـ) ـي الرُّكبانِ، وكـ (نَجْشٍ): وهو أنْ يَزيدَ في السِّلعةِ مَن لا يُريدُ شراءَها، (وَ) كـ:(سَوْمٍ) على سومِ مسلمٍ (وَخِطْبَةٍ) على خِطبتِه (وَتَدْلِيسٍ) لِمَبِيعٍ: (فيَصِحُّ) العقدُ عندَ الأكثرِ؛ لإثباتِ الشَّرعِ الخيارَ في التَّلقِّي.

(وَ‌

‌النَّهْيُ يَقْتَضِي:

(1)

الفَوْرَ،

(2)

وَالدَّوَامَ)

عندَ أصحابِنا وعامَّةِ العلماءِ، لأنَّ مَن نهى عن فِعلٍ بلا قرينةٍ، عُدَّ مخالفًا لغةً وعرفًا؛ أي: وقتَ فِعلِه، ولهذا لم تَزلِ العلماءُ تَستدلُّ به مِن غيرِ نكيرٍ، والنَّهيُ يَقتضي قُبحَ المَنهيِّ عنه،

والفرقُ بينَه وبينَ الأمْرِ: أنَّ الأمرَ له حَدٌّ يَنتهي إليه، فيَقَعُ الامتثالُ فيه بالمرَّةِ، وأمَّا الانتهاءُ عنِ المَنهيِّ عنه فلا يَتَحَقَّقُ إلَّا باستيعابِه في العُمرِ، فلا يُتَصَوَّرُ فيه تكرارٌ، بل الاستمرارُ به يَتَحَقَّقُ الكفُّ،

ص: 455

(و) قولُ النَّاهي عن شيءٍ: (لَا تَفْعَلْهُ مَرَّةً، يَقْتَضِي تَكْرَارَ التَّرْكِ) فلا يَسقُطُ النَّهيُ بتَركِه مَرَّةً، وعندَ القاضي

(1)

والأكثرِ: يَسقُطُ بمرَّةٍ ولا يَعُمُّ؛ لقُبحِ المَنهيِّ عنه في وقتٍ وحُسْنِه في آخَرَ.

(وَيَكُونُ) النَّهيُ:

(1)

(عَنْ وَاحِدٍ) وهو كثيرٌ واضحٌ،

(2)

(و) قد يَكُونُ عن (مُتَعَدِّدٍ) أي: عن شيئينِ فصاعدًا، وهو ثلاثةُ أنواعٍ:

الأوَّلُ: أنْ يَكُونَ نهيًا عنِ المُتعدِّدِ (جَمْعًا) أي: عن الهيئةِ الاجتماعيَّةِ، فله فِعلُ أيِّها شاءَ على انفرادِه، كالجمعِ بينَ الأختينِ، فيَجُوزُ النَّهيُ عن واحدةٍ لا بعَينِها.

الثَّاني: عَكْسُ الأوَّلِ (وَ) هو أنْ يَكُونَ النَّهيُ (فَرْقًا) وهو النَّهيُ عن الافتِراقِ دونَ الجمعِ، كالنَّهيِ عنِ الاقتصارِ على أحدِ الشَّيئينِ، كقولِه صلى الله عليه وسلم:«لَا تَمْشِ فِي نَعْلٍ وَاحِدةٍ» فإنَّه منهيٌّ عنه، لا عن لُبْسِهما ولا عن نَزعِهما، ولذلك قال:«وَلْيُلْبِسْهُمَا جَمِيعًا، أَوْ لِيُحْفِهِمَا جَمِيعًا»

(2)

.

(وَ) الثَّالثُ: أنْ يَكُونَ نهيًا

(3)

عن مُتَعَدِّدٍ (جَمِيعًا) أي: عن كلِّ واحدٍ، سواءٌ

(4)

أتى به مُنفردًا، أو مع الآخَرِ، كالنَّهيِ عنِ الزِّنا، والرِّبا، والسَّرقةِ، وغيرِها.

(1)

«العدة في أصول الفقه» (1/ 268).

(2)

رواه البخاري (5856)، ومسلم (2097) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(3)

في (ع): عن.

(4)

ليست في (د).

ص: 456

تنبيهٌ: إذا تَعَلَّقَ النَّهيُ بأشياءَ: فإمَّا على الجميعِ، كالميتةِ والدَّمِ ولحمِ الخنزيرِ، وإمَّا على الجمعِ، كالجمعِ بينَ الأختينِ، أو على البدلِ، كجعلِ الصَّلاةِ بدلًا عنِ الصَّومِ، ونظيرُه:«لا تَأكلِ السَّمكَ وتَشْرَبِ اللَّبَنَ»

(1)

، إنْ جَزَمْتَ الفِعلينِ كانَ كلٌّ مِنهما مُتَعَلَّقَ النَّهيِ، وإنْ نَصَبْتَ الثَّانيَ مع جزمِ الأوَّلِ كانَ مُتَعَلَّقُ النَّهيِ الجمعَ بينَهما، وكانَ واحدٌ منهما غيرَ منهيٍّ عنه بانفرادِه، وإنْ جَزَمْتَ الأوَّلَ ورَفَعْتَ الثَّانيَ كانَ الأوَّلُ مُتَعَلَّقَ النَّهيِ فقطْ، مع مُلابَسَةِ الثَّاني.

(1)

ينظر: «تمهيد القواعد بشرح تسهيل الفوائد» لناظر الجيش (1/ 231)، (4/ 2082).

ص: 457

(بَابٌ)

(العَامُّ) والخاصُّ يَتَعَلَّقانِ بمدلولِ الخِطابِ، باعتبارِ المُخاطَبِ به، ولهذا أَخَّرَهما عنِ الأمرِ والنَّهيِ؛ لتَعَلُّقِهما بنفسِ الخِطابِ الشَّرعيِّ.

وذَكَرَ الطُّوفِيُّ للعامِّ حُدودًا كلُّها مُعتَرَضَةٌ

(1)

، وقالَ بعدَها: وقيلَ: اللَّفظُ إنْ دَلَّ على الماهيَّةِ من حَيْثُ هيَ هِيَ؛ فهو المُطلَقُ كالإنسانِ، أو على وَحدةٍ مُعيَّنةٍ، كزيدٍ؛ فهو العَلَمُ، أو غيرَ مُعَيَّنةٍ، كرجلٍ؛ فهو النَّكرةُ، أو على وَحداتٍ مُتعدِّدةٍ، فهي: إمَّا بعضُ وحداتِ الماهيَّةِ، فهو اسمُ العددِ كعشرينَ رجلًا، أو جميعُها فهو العامُّ

(2)

.

فإذنْ هو: (لَفْظٌ دَالٌّ عَلَى جَمِيعِ أَجْزَاءِ مَاهِيَّةِ مَدْلُولِهِ) أي: مدلولِ اللَّفظِ وهو أجودُ الحدودِ، فهو مستفادٌ مِن التَّقسيمِ المذكورِ؛ لأنَّ التَّقسيمَ الصَّحيحَ يَرِدُ على جنسِ الأقسامِ، ثمَّ يُمَيِّزُ بعضَها عن بعضٍ بذِكْرِ خواصِّها الَّتي تَتَمَيَّزُ بها، فيَتَرَكَّبُ كلُّ واحدٍ مِن أقسامِه مِن جنسِه المُشتَركِ، ويُمَيَّزُ الخاصَّ وهو الفصلُ، ولا مَعنى للحدِّ إلَّا اللَّفظُ المُركَّبُ مِن الجنسِ والفصلِ.

(وَ) قد (يَكُونُ) العامُّ (مَجَازًا) في الأصحِّ كقولِه: «رَأَيْتُ الأُسُودَ على الخيولِ» ، فالمجازُ هنا كالحقيقةِ في أنَّه يَكُونُ عامًّا، واسْتُدِلَّ على أنَّ العامَّ قد يَكُونُ مجازًا بقولِه صلى الله عليه وسلم:«الطَّوَافُ بِالبَيْتِ صَلَاةٌ، إِلَّا أَنَّ اللهَ أَبَاحَ فِيهِ الكَلَامَ»

(3)

فإنَّ الاستثناءَ معيارُ العُمومِ، فدَلَّ على تعميمِ كَونِ الطَّوافِ صلاةً، وكونُ الطَّوافِ صلاةً مجازٌ.

(1)

في (ع): متعرضة.

(2)

«شرح مختصر الرَّوضة» (2/ 448).

(3)

رواه الترمذي (960)، وابن خزيمة (2739) من حديث ابن عباس رضي الله عنه.

ص: 458

(وَالخَاصُّ) بخلافِ العامِّ؛ أي: (مَا دَلَّ وَلَيْسَ بِعَامٍ) فلا يَرِدُ المُهمَلُ.

تنبيهٌ: المُرادُ مِن الخلافِ: أنَّ الخاصَّ هو ما دَلَّ لا على مُسَمَّياتٍ

(1)

على الوجهِ المذكورِ، وليسَ المُرادُ مِنه أنَّ الخاصَّ ما ليسَ بعامٍّ على ما يُوهِمُ،

وأُورِدَ عليه: أنَّه لا يَطَّرِدُ لدخولِ اللَّفظِ المهمَلِ فيه؛ لأنَّه ليسَ بعامٍّ لعدمِ دَلالتِه، وأنَّ فيه تعريفَ الخاصِّ بسَلْبِ العامِّ وهو ضعيفٌ؛ لأنَّه إنْ كانَ بينَهما واسطةٌ، فلا يَلْزَمُ مِن سلبِ العامِّ تَعيينُ الخاصِّ، وإلَّا فليسَ تعريفُ أحدِهما بسلبِ حقيقةِ الآخَرِ عنه أَوْلَى مِنَ العكسِ، وأيضًا فإنَّ اللَّفظَ قد يَكُونُ خاصًّا كالإنسانِ بالنِّسبةِ إلى الحيوانِ، ولا يَخرُجُ عن كونِه عامًّا بالنِّسبةِ إلى ما تَحتَه، والأوَّلُ والثَّاني إِنَّمَا يَرِدُ على ما تُوُهِّمَ أنَّه مرادُه، لا على ما هو مرادُه، وأمَّا الثَّالثُ فلا يَرِدُ على ما تُوُهِّمَ أيضًا؛ لأنَّ الإنسانَ ليسَ خاصًّا بالمعنى المُقابلِ للعامِّ بل باعتبارٍ آخَرَ؛ لأنَّ الخاصَّ كما يُطلَقُ على مقابِلِ العامِّ كزيدٍ مثلًا، كذلك يُطلَقُ على ما خُصوصيَّتِه بالنِّسبةِ إلى ما هو أعمُّ منه كالإنسانِ

(2)

بالنِّسبةِ إلى الحيوانِ، ويُحَدُّ بأنَّه اللَّفظُ الَّذِي يُقالُ على مدلولِه وعلى غيرِ مدلولِه لفظٌ آخَرُ مِن جهةٍ واحدةٍ، قالَه القُطبُ الشِّيرازيُّ

(3)

.

(وَلَا) شيءَ:

(1)

(أَعَمُّ: مِنْ مُتَصَوَّرٍ) في الذِّهنِ لتناوُلِه الموجودَ والمعلومَ والمسلوبَ وضِدَّها، ولهذا قال صاحبُ «الأصلِ»

(4)

عن قولِ ابنِ حَمْدانَ: ولا أعمَّ

(1)

في (ع): منتميات.

(2)

في (ع): كإنسان.

(3)

ينظر: «التحبير شرح التحرير» (5/ 2319).

(4)

يعني كتاب: «تحرير المنقول» أصل كتاب «مختصر التحرير» .

ص: 459

مِن معلومٍ ومُسَمًّى ومذكورٍ: «هذا القولُ ضَرَبْنا عليه؛ لأنَّه إِنَّمَا حُكِيَ بعدَ قولِهم: لا أعمَّ مِن المعلومِ، فوَرَدَ المجهولُ، أو الشَّيْءُ، فوَرَدَ المعدومُ»

(1)

.

(2)

(وَلَا) شيءَ (أَخَصُّ: مِنْ عَلَمِ الشَّخْصِ) كزيدٍ مثلًا وهذا الرَّجلُ؛ إذْ لا أخصَّ مِنِ اسمِ رجلٍ يُعرَفُ به،

(3)

(وَكَحَيَوَانٍ) وإنسانٍ (عَامٌّ) نِسْبِيٌّ (خَاصٌّ: نِسْبِيٌّ)، ومِثْلُه الموجودُ والجوهرُ والجسمُ والنَّامي، فكلُّ واحدٍ مِن هذه الألفاظِ عامٌّ بالنِّسبةِ إلى ما تحتَه، خاصٌّ بالنِّسبةِ إلى ما فوقَه؛ لأنَّ المعلومَ أحدُ مَدلولَيْه الموجودُ، والثَّاني المجهولُ، فهو بالنِّسبةِ إلى الموجودِ عامٌّ، وبالنِّسبةِ إلى المجهولِ خاصٌّ، وكالموجودِ أحدُ مدلولَيْه: الجوهرُ، والآخَرُ العَرَضُ، وكالجوهرِ أحدُ مدلولَيْه: الجسمُ وهو المُرَكَّبُ، والآخَرُ الفردُ الَّذِي لا تَركيبَ فيه، وكالجسمِ أحدُ مَدلوليه: النَّامي، والآخَرُ الجمادُ، وكالنَّامي أحدُ مَدلُولَيْه: الحيوانُ، والآخَرُ النَّباتُ، وكالحيوانِ أحدُ مَدلُولَيه: الإنسانُ، والآخَرُ ما دَبُّ غيرَ النَّاطقِ، وكالإنسانِ أحدُ مدلوليْه: المؤمنُ، والآخَرُ الكافرُ، ولهذا قال: عامٌّ خاصٌّ نسبيٌّ؛ أي: بالنِّسبةِ إلى ما فَوقَه خاصٌّ، وبالنِّسبةِ إلى ما دُونَه عامٌّ.

(وَيُقَالُ لِلَّفْظِ: عَامٌّ، وَخَاصٌّ،

وَ) يُقالُ (لِلْمَعْنَى: أَعَمُّ، وَأَخَصُّ) وهذا مُجرَّدُ اصطلاحٍ لا يُدرَكُ له وجهٌ سوى التَّمييزِ بينَ صفةِ اللَّفظِ وصفةِ المَعنى، وما وَقَعَ مِن أنَّ صيغةَ التَّفضيلِ اختصَّتْ بالمعنى لكونِه أعمَّ مِن اللَّفظِ: فسهوٌ؛ إذِ الأعمُّ لم يُرَدْ به مَعنى

ص: 460

التَّفضيلِ بلِ الشُّمولِ مُطلقًا، ولو كانَ الأمرُ على ما تُوُهِّمَ لكانَ اعتبارُه في الألفاظِ أيضًا واجبًا، حَيْثُ كانَتِ الزِّيادةُ مقصودةً. قالَه الكُورَانِيُّ

(1)

.

وقالَ القَرَافِيُّ: وجهُ المناسبةِ: أنَّ صيغةَ «أفعل» تَدُلُّ على الزِّيادةِ والرُّجحانِ، والمعاني أعمُّ مِن الألفاظِ، فخُصَّتْ بصيغةِ «أفعل» التَّفضيلِ، ومنهم مَن يَقُولُ في المعاني: عامٌّ وخاصٌّ أيضًا، واعتمدَه في «شرحِ الأصلِ»

(2)

.

(وَالعُمُومُ بِمَعْنَى الشَّرِكَةِ فِي المَفْهُومِ) لا بمَعنى الشَّركةِ في اللَّفظِ، بمعنى أنَّ كلَّ لفظٍ عامٍّ

(3)

يَصِحُّ شركةُ الكثيرين في مَعناه، لا أنَّه يُسَمَّى عامًّا حقيقةً؛ إذْ لو كانَتِ الشَّركةُ في مُجَرَّدِ الاسمِ لا في مفهومِه لكانَ مُشتَركًا لا عامًّا، فيَكُونُ العُمومُ (مِنْ عَوَارِضِ الأَلْفَاظِ حَقِيقَةً) إجماعًا، (وَكَذَا) يَكُونُ مِن عوارضِ (المَعَانِي) حقيقةً (فِي قَوْلٍ) للقاضي ومَن وافَقَه، فعلى هذا يَكُونُ العُمومُ موضوعًا للقَدرِ المُشتَركِ بينَهما بالتَّواطؤِ على الأصحِّ، قالَه في «شرحِ الأصلِ»

(4)

؛ لأنَّ حقيقةَ العامِّ لغةً: شمولُ أمرٍ لمتعدِّدٍ، وهو في المعاني كـ: عَمَّ المطرُ والخصبُ، وفي المعنى الكُلِّيِّ؛ لشمولِه لمعاني الجُزئيَّاتِ.

وعندَ المُوَفَّقِ

(5)

والأكثرِ: العُمومُ مِن عوارضِ المعاني مجازًا لا حقيقةً، وفي المسألةِ أقوالٌ أُخَرُ: أنَّه موضوعٌ لكلٍّ مِنهما حقيقةً، فهو مشتَركٌ لفظيٌّ، أو

ص: 461

لا يَكُونُ في المعاني لا حقيقةً ولا مجازًا، فيَكونُ مِن عوارضِ المَعنى الذِّهنيِّ، أو غيرَ ذلك، وليسَ المُرادُ المعانيَ التَّابعةَ للألفاظِ، فإنَّه لا خلافَ في عمومِها؛ لأنَّ لفظَها عامٌّ، وإنَّما المُرادُ المعاني المُستقلَّةُ كالمقتَضَى والمفهومِ.

(وَلِلْعُمُومِ صِيغَةٌ تَخُصُّهُ) أي: موضوعةٌ له خاصَّةً به عندَ الأئمَّةِ الأربعةِ وغيرِهم وهو الصَّحيحُ، فعلى هذا هي:

(حَقِيقَةٌ فِيهِ) أي: في العُمومِ،

(مَجَازٌ فِي الخُصُوصِ) على الأصحِّ؛ لأنَّ العُمومَ أحوطُ، فكانَ أَوْلى، واستُدِلَّ لذلك بقولِ الإنسانِ:«لا تَضرِبْ أحدًا، وكلُّ مَن قال: كذا، فقلْ له: كذا» عامٌّ قطعًا، ولأحمدَ

(1)

وأبي داودَ

(2)

على شرطِ الشَّيخينِ: أنَّ عمرَو بنَ العاصي أَجْنَبَ في غزوةِ ذاتِ السَّلاسلِ، فصَلَّى بأصحابِه ولم يَغتسِلْ لخَوفِه، وتَأَوَّلَ قولَه تعالى:{وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}

(3)

، فذُكِرَ ذلك للنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فضَحِكَ ولم يَقُلْ شيئًا.

ولأنَّ إبراهيمَ فَهِمَ العُمومَ مِن {أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ}

(4)

، فقالَ للملائكةِ:{إِنَّ فِيهَا لُوطًا}

(5)

، وأجابُوه {لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ}

(6)

.

(وَمَدْلُولُهُ) أي: العُمومِ (كُلِّيَّةٌ؛ أَيْ: مَحْكُومٌ فِيهِ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ) فَرْدٍ، بحَيثُ لا يَبْقَى فردُ (مُطَابَقَةٍ) أي: دَلالةِ مطابقةٍ (إِثْبَاتًا وَسَلْبًا).

إذا عَلِمْتَ ذلك، فقولُه تعالى:{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ}

(7)

بمَنزلةِ قولِه: اقتلْ

(1)

«مسند أحمد» (17812).

(2)

«سنن أبي داود» (334).

(3)

النِّساء: 29.

(4)

العنكبوت: 31.

(5)

العنكبوت: 32.

(6)

العنكبوت: 32.

(7)

التَّوبة: 5.

ص: 462

زيدًا المُشركَ وعَمرًا المُشركَ إلى آخِره، وهو مِثْلُ قولِنا: كلُّ رجلٍ يُشْبِعُه رغيفان؛ أي: كلُّ واحدٍ على انفرادِه.

(لَا كُلِّيٌّ) يَعني أنَّ دلالةَ العُمومِ ليسَتْ

(1)

مِن بابِ الكُلِّيِّ، وهو: ما اشتَركَ في مفهومِه كثيرون، كالحيوانِ والإنسانِ، فإنَّه صادقٌ على جميعِ أفرادِه.

(وَلَا كُلٌّ) أي: ولا مِن بابِ الكلِّ، فهو الحُكمُ على المجموعِ مِن حَيْثُ هو كأسماءِ العددِ، ومنه: كلُّ رجلٍ يَحمِلُ الصَّخرةَ؛ أي: المجموعُ لا كلُّ واحدٍ.

فائدةٌ: يُقالُ: الكُلِّيَّةُ والجُزئيَّةُ، والكُلِّيُّ والجُزئيُّ، والكلُّ والجزءُ، فصيغةُ العُمومِ للكُلِّيَّةِ، وبعضُ العددِ زوجٌ للجُزئيَّةِ، والنَّكراتُ للكُلِّيِّ، والأعلامُ للجُزْئِيِّ، وأسماءُ الأعدادِ للكلِّ، وما تَرَكَّبَ مِن الزَّوجِ والفردِ كالخمسةِ للجزءِ، و‌

‌الفرقُ بينَ الكُلِّيِّ والكلِّ

مِن أوجهٍ:

منها: الكُلِّيُّ مُتَقَوِّمٌ بجُزئيَّاتِه والكلُّ بأجزائِه، ومنها: الكُلِّيُّ في الذِّهنِ، والكلُّ في الخارجِ، ومنها: الجُزئيَّاتُ غيرُ متناهيةٍ، والأجزاءُ متناهيةٌ، ومنها: الكُلِّيُّ مَحمولٌ على جزئيَّاتِه، والكلُّ على أجزائِه.

فائدةٌ أُخرى: اعلمْ أنَّ لفظَ العامِّ له دَلالتانِ:

- دَلالةٌ على أصلِ المعنى الَّذِي اشتَركَتْ في أفرادِه، وهي الَّتي بَيَّنَّا أنَّ الحُكْمَ فيها على الكُلِّيِّ، وليسَ للعامِّ بها اختصاصٌ، فإنَّها تَتَعَلَّقُ بالكُلِّيِّ، سواءٌ كانَ فيه عمومٌ أو لا.

- والثَّانيةُ دَلالتُه على كلِّ فردٍ مِن أفرادِه مِن خصوصٍ، وهي الَّتي لها خصوصيَّةٌ بالعامِّ، ويُعَبَّرُ عنها بالكُلِّيَّةِ.

(1)

ليست في (د).

ص: 463

(وَ) إذا تَقَرَّرَ ذلك فـ (دَلَالَتُهُ عَلَى أَصْلِ المَعْنَى) دَلَالةٌ (قَطْعِيَّةٌ) وهو مَحَلُّ وفاقٍ، ومعنى القطعِ فيه دَلالةُ النُّصوصيَّةِ؛ أي: هو نصٌّ، فالقطعُ فيه مِن هذه الحَيثيَّةِ، فيَكُونُ كدَلالةِ الخاصِّ.

(وَ)

‌ دَلالةُ العُمومِ

(عَلَى كُلِّ فَرْدٍ بِخُصُوصِهِ بِلَا قَرِينَةٍ) دَلالةٌ (ظَنِّيَّةٌ) عندَ الأكثرِ؛ لأنَّ التَّخصيصَ بالمُتَراخي لا يَكُونُ نسخًا، ولو كانَ العامُّ نصًّا على أفرادِه لكانَ نسخًا، وذلك أنَّ صِيَغَ العُمومِ تَرِدُ تارةً باقيةً على عمومِها وتارةً يُرادُ بها بعضُ الأفرادِ، وتارةً يَقَعُ فيها التَّخصيصُ، ومعَ الاحتمالِ لا قطعَ، بل لمَّا كانَ الأصلُ بقاءَ العُمومِ فيها كانَ هو الظَّاهرَ المُعتمدَ للظَّنِّ، ويَخرُجُ بذلك عن الإجمالِ.

تنبيهٌ: قولُه: «بلا قرينةٍ»

(1)

تَقتضي كلَّ فردٍ فردٍ كالعُموماتِ الَّتي يُقطَعُ بعمومِها، ولا يَدخُلُها تخصيصٌ، كقولِه تعالى:{وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}

(2)

، {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا}

(3)

، وإنِ اقترنَ به ما يَدُلُّ على أنَّ المَحلَّ غيرُ قابلٍ للتَّعميمِ، فهو كالمُجمَلِ يَجِبُ التَّوقُّفُ فيه إلى ظهورِ المُرادِ منه، كقولِه تعالى:{لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ}

(4)

.

(وَعُمُومُ الأَشْخَاصِ يَسْتَلْزِمُ: عُمُومَ الأَحْوَالِ، وَالأَزْمِنَةِ، وَالبِقَاعِ، وَالمُتَعَلِّقَاتِ) عندَ الأكثرِ، قال الإمامُ أحمدُ في قولِه تعالى:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ}

(5)

ظاهرُها على العُمومِ أنَّ مَن وَقَعَ عليه اسمُ ولدِه فله ما فَرَضَ اللهُ تعالى، وكانَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم هو المُعبِّرَ عنِ الكتابِ، أنَّ الآيةَ إِنَّمَا قُصِدَتْ للمسلمِ لا للكافرِ.

(1)

زاد في (د): أي: قرينةٍ.

(2)

النَّجم: 31.

(3)

هود: 6.

(4)

الحشر: 20.

(5)

النِّساء: 11.

ص: 464

وخالفَ الشَّيْخُ وَجَمْعٌ في ذلك، قال ابنُ قاضي الجبلِ تَبعًا للقَرَافِيِّ

(1)

: صِيَغُ العمومِ وإنْ كانَتْ عامَّةً في الأشخاصِ، فهي مطلقةٌ في الأزمنةِ والبقاعِ والأحوالِ والمُتعلِّقاتِ، فهذه الأربعُ لا عمومَ فيها مِن جهةِ ثبوتِ العُمومِ في غيرها حَتَّى يُوجَدُ لفظٌ يَقتضي العمومَ، نحوُ: لأَصُومَنَّ الأيَّامَ، ولأُصَلِّيَنَّ في جميعِ البقاعِ، ولا عَصَيْتُ اللهَ في جميعِ الأحوالِ، ولأَشْتَغِلَنَّ بتحصيلِ جميعِ المعلوماتِ، فإذا قال اللهُ تعالى:{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ}

(2)

فهو عامٌّ في جميعِ أفرادِ المشركينَ، مُطْلَقٌ في الأزمنةِ والبقاعِ والأحوالِ والمُتعلِّقاتِ

(3)

؛ فيَقتضي النَّصُّ قتلَ كلِّ مشركٍ في زمنٍ ما، في مكانٍ ما، في حالةٍ ما، وقد أَشركَ بشيءٍ ما، ولا يَدُلُّ اللَّفظُ على خصوصِ يومِ السَّبتِ، ولا مدينةٍ مُعَيَّنةٍ مِن مدائنِ المُشركين، ولا أنَّ ذلك المُشْرِكَ طويلٌ أو قصيرٌ، ولا أنَّ شِركَه وَقَعَ بالصَّنمِ أو بالكوكبِ، بل اللَّفظُ مُطلَقٌ في هذه الأربعِ

(4)

.

ورَدَّه ابنُ دقيقِ العِيدِ وقَالَ: بلِ الواجبُ [أنَّ ما دلَّ على العمومِ]

(5)

في الذَّواتِ مثلًا يَكُونُ دالًّا على ثبوتِ الحُكمِ في كلِّ ذاتٍ تَناوَلَها اللَّفظُ، ولا تَخرُجُ عنها ذاتٌ إلَّا بدليلٍ يَخُصُّها، فمَن أَخرَجَ شيئًا مِن تلك الذَّواتِ فقد خالَفَ مُقتضى العُمومِ

(6)

.

(1)

«شرح تنقيح الفصول» (ص 200).

(2)

التَّوبة: 5.

(3)

ليست في (ع).

(4)

ينظر: «التحبير شرح التحرير» (5/ 2342).

(5)

ليس في (د).

(6)

«إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام» (1/ 98).

ص: 465

(وَصِيغَتُهُ

(1)

أي: صيغةُ العُمومِ عندَ القائلِ بها:

(1)

(اسْمُ شَرْطٍ، وَاسْتِفْهَامٍ كَـ

- «مَنْ» فِي عَاقِلٍ) تَقُولُ في الشَّرطِ: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ}

(2)

ونحوِه، وفي الاستفهامِ: مَن عندك؟

- (وَ «مَا» فِي غَيْرِهِ) أي: غيرِ العاقلِ، كقولِك في الشَّرطِ:{مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا}

(3)

الآيةَ، وفي الاستفهامِ: ما عندَك؟ وهذا هو الصَّحيحُ، وهو استعمالٌ كثيرٌ شائعٌ، وقد وَرَدَ في الكتابِ والسُّنَّةِ وكلامِ العربِ.

وقالَ البِرْمَاوِيُّ: كلٌّ مِن: «مَن» ، و «ما» قد يُستعمَلُ في الآخَرِ كثيرًا في مواضعَ مشهورةٍ في النَّحوِ، والعُمومُ موجودٌ؛ فلا حاجةَ لذِكْرِ اختصاصٍ ولا غيرِه فيهما

(4)

.

- (وَ «أَيْنَ»، وَ «أَنَّى»، وَ «حَيْثُ») كلٌّ مِنها صيغةُ عمومٍ (لِلْمَكَانِ) تَقولُ في الجزاءِ: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ}

(5)

، وفي الاستفهامِ: أين زيدٌ؟

- (وَ «مَتَى»، لِزَمَانٍ مُبْهَمٍ) تَقولُ في الجزاءِ

(6)

:

مَتَى تَأْتِهِ تَعْشُو إِلَى ضَوْءِ نَارِهِ

تَجِدْ خَيْرَ نارٍ عِنْدَهَا خَيْرُ مُوقِدِ

(1)

في «مختصر التحرير» (ص 145): وصيغه.

(2)

الحجر: 56.

(3)

فاطر: 2.

(4)

«الفوائد السنيّة في شرح الألفيّة» (3/ 354).

(5)

الحديد: 4.

(6)

من الطَّويلِ، وهو للحُطيئةِ. انظر شرحَ الكافيةِ الشَّافيةِ لابنِ مالكٍ (3/ 1608) جامعة أمِّ القُرى.

ص: 466

أي: أيَّ وقتٍ أَتَيْتَه، ولا تَقُولُ: متى طَلَعَتِ الشَّمسُ؟ بل تَقولُ: إذا طَلَعَتِ الشَّمسُ، وتَقولُ مُستفهِمًا: متى جاءَ زيدٌ؟

(وَ «أَيُّ») المُضافةُ (لِلْكُلِّ) أي: للعاقلِ وغيرِه، كقولِه تعالى:{لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا}

(1)

، وكقولِه تعالى:{أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ}

(2)

في الجزاءِ، وفي الاستفهامِ: أيَّ وقتٍ تَخرُجُ؟

(وَتَعُمُّ «مَنْ» وَ «أَيٌّ» المُضَافَةُ إِلَى الشَّخْصِ ضَمِيرَهُمَا، فَاعِلًا كَانَ أَوْ مَفْعُولًا) فلو قال: مَن قامَ مِنكم -أو: أيُّكم قام- فهو حُرٌّ، فقاموا: عَتَقُوا، ومِثْلُه: أيُّ عبيدي ضَربْتُه، أو مَن ضَرَبْتُه مِن عبيدي فهو حرٌّ، فضَرَبَهم: عَتَقُوا.

ويَنبغي تقييدُ أيٍّ بالاستفهاميَّةِ أو الشَّرطيَّةِ أو الموصولةِ لتَخرُجَ الصِّفةُ كمررت برجلٍ؛ أيْ: رجلٍ، والحالُ نحوُ: مَرَرْتُ بزيدٍ أي: رجلٍ. ذَكَرَه ابنُ العِرَاقِيِّ

(3)

.

(2)

(وَ) يَعُمُّ (مَوْصُولُ) الاسميِّ، سواءٌ كانَ مُفردًا أو مُثَنًّى أو مجموعًا، كـ الَّذي، والَّتي {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ}

(4)

، {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى}

(5)

، {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ}

(6)

، {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ}

(7)

، والرَّاجحُ عمومُ الموصولاتِ كلِّها، إلَّا «أيٌّ» فلا عمومَ فيها في قولٍ، نحوُ: يُعجبني أيُّهم قائمٌ، بخلافِ الشَّرطيَّةِ، نحوُ:{أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}

(8)

، والاستفهاميَّةِ، نحوُ:{أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا}

(9)

.

(1)

الكهف: 12.

(2)

القصص: 28.

(3)

«الغيث الهامع شرح جمع الجوامع» (ص 276).

(4)

النِّساء: 16.

(5)

الأنبياء: 101.

(6)

النِّساء: 34.

(7)

الطَّلاق: 4.

(8)

الإسراء: 110.

(9)

النَّمل: 38.

ص: 467

(3)

(وَ) أقوى صِيَغِ العُمومِ (كُلٌّ) فتُفيدُ مُبتدَأَةً، نحوُ: كلُّ النَّاسِ على وجلٍ إلَّا مَن أمَّنَه اللهُ، وتابعةٌ لتأكيدِ العامِّ، نحوُ: جاءَ القومُ كلُّهم

(1)

.

ولها بالنِّسبةِ إلى إضافتِها معانٍ:

منها: أنَّها إذا أُضيفَتْ إلى نكرةٍ؛ فهي لشمولِ أفرادِه، نحوُ:{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ}

(2)

.

ومِنها: إذا أُضيفَتْ إلى مَعرفةٍ، وهي جمعٌ أو ما في مَعناه؛ فهي لاستغراقِ أفرادِه أيضًا، نحوُ:«كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو، فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا»

(3)

.

ومِنها: إذا أُضِيفَتْ إلى معرفةٍ مُفرَدٍ، فهي لاستغراقِ أجزائِه أيضًا، نحوُ: كلُّ الجاريةِ حسنٌ، أو: كلُّ زيدٍ جميلٌ.

إذا عَلِمْتَ ذلك فمادَّتُها تَقتضي الاستغراقَ والشُّمولَ، كالإكليلِ لإحاطتِه بالرَّأسِ، والكلالةِ لإحاطتِها بالوالدِ والولدِ، فلهذا كانَتْ أصرحَ صيغِ العُمومِ لشُمولِها العاقلَ وغيرَه، المُذكَّرَ والمُؤنَّثَ، المُفردَ والمُثنَّى والجمعَ، وسواءٌ بَقِيَتْ على إضافتِها كما في الأمثلةِ، أو حُذِفَ

(4)

، نحوُ:{كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ}

(5)

.

(4)

(وَ) مثلُ كلٍّ: (جَمِيعٌ) إلَّا أنَّها لا تُضافُ إلَّا إلى معرفةٍ، فلا تقولُ: جميعُ رجلٍ، وتقولُ: جميعُ النَّاسِ وجميعُ العبيدِ، ودَلالتُها على كلِّ فردٍ فردٍ بطريقِ الظُّهورِ بخلافِ «كلٍّ» ؛ فإنَّها بطريقِ النُّصوصيَّةِ.

(1)

في (د): كلها.

(2)

العنكبوت: 57.

(3)

رواه مسلم (223) من حديث أبي مالك الْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه.

(4)

المضافُ إليه.

(5)

الرُّوم: 26.

ص: 468

فائدةٌ: قال بعضُهم: إذا كانَتْ «جميعُ» إِنَّمَا تُضافُ لمعرفةٍ، فهو إمَّا باللَّامِ أو بكونِه مُضافًا لمعرفةٍ، وكلٌّ مِنهما يُفيدُ العُمومَ، فلم تُفِدْه «جميعٌ» .

وجوابُه: أنَّ ما فيه الألفُ واللَّامُ يُقَدَّرُ حينئذٍ للجنسِ، والعُمومُ مستفادٌ مِن «جميعٍ» ، وأمَّا المُضافُ نحوُ: جميعُ

(1)

غلامِ زيدٍ، فليسَتْ فيه لعُمومِ كلِّ فردٍ، بل لعُمومِ الأجزاءِ.

- (وَ) مِن مادَّة «كلٍّ» و «جميعٍ» : (نَحْوُهُمَا) كـ «أجمعَ» و «أجمعينَ» ، قال اللهُ:{حم خج}

(2)

.

واختُلِفَ في «أجمعَ» ونَحوِها إذا وَقَعَ بعدَ «كلٍّ» ، هل التَّأكيدُ بالأوَّلِ والثَّاني زيادةٌ فيه، أو بكلٍّ منهما، أو بهما معًا؟ الأرجحُ الأوَّلُ كما في سائرِ التَّوابعِ، ومِن مادَّة «جميعٍ» أيضًا: جاءَ القومُ بأجمُعِهم، وهو بضمِّ الميمِ: جَمْعُ «جَمعٍ» بفتحِ الجيمِ، وسكونِ ثانيه كعبْدٍ وأَعبُدٍ، ولا يُقالُ بفتحِ الميمِ؛ لِئلَّا يُتَوَهَّمَ أنَّه «أجمَعُ» الَّذِي يُؤَكَّدُ به؛ لأنَّ ذلك لا يُضافُ إلى الضَّميرِ، ولا يَدخُلُ عليه حرفُ الجرِّ.

- (وَ) مِن صيغِ العُمومِ أيضًا (مَعْشَرٌ) نحوُ: {يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ}

(3)

.

- (وَمَعَاشِرُ) نحوُ: «إِنَّا مَعَاشِرَ الأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ»

(4)

.

- (وَعَامَّةٌ، وَكَافَّةٌ، وَقَاطِبَةٌ) نحوُ: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً}

(5)

.

(1)

ليس في (ع).

(2)

ص: 82.

(3)

الرَّحمن: 33.

(4)

رواه البخاري (3093)، ومسلم (1759).

(5)

التَّوبة: 36.

ص: 469

وقالَتْ عائشةُ رضي الله عنها: لَمَّا ماتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ارتدَّتِ العربُ قاطبةً

(1)

أي: جميعُهم، لكنَّ «معشرَ» و «معاشرَ» لا يَكُونانِ إلَّا مُضافَينِ، بخلافِ «عامَّةً» ، و «كافَّةً» ، و «قاطبةً» ، فإنَّها تُضافُ وتُفْرَدُ.

(5)

ومِن صيغِ العُمومِ (جَمْعٌ مُطْلَقًا) ويُوصَفُ ذلك الجمعُ بأنَّه (مُعَرَّفٌ) تعريفَ جنسٍ (بِلَامٍ، أَوْ إِضَافَةٍ) سواءٌ كانَ لمُذكَّرٍ أو مؤنَّثٍ سالمٍ أو مُكَسَّرٍ جمْعِ قلَّةٍ أو كثرةٍ، فلهذا قال:«وجمعٌ مطلقًا» ؛ ليَشمَلَ هذا كلَّه.

فمِن أمثلةِ السَّالمِ المُعرَّفُ باللَّامِ مِن المذكَّرِ: «المسلمونَ» ، والمُؤنَّثِ «المُسلماتُ» ، ومِن المُكَسَّرَ المجموعِ جمعَ كثرةٍ:«الرِّجالُ» و «الصَّواحبُ» ، والقِلَّةُ:«الأفلُسُ» و «الأكبادُ» ، وهي مِن ثلاثةٍ إلى أحدَ

(2)

عَشَرَ، ومِن بعدِها للكثرةِ، ومِن أمثلةِ الجمعِ المُعرَّفِ بالإضافةِ:«عبيدي أحرارٌ» ، وقولُه تعالى:{ي يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ}

(3)

، وهذا هو الصَّحيحُ عندَ أكثرِ العلماءِ، ولم يَزالوا يَستدلُّون بآيةِ الأمرِ بقتالِ المشركينَ ونحوِها، وأصرحُها قولُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم في التَّشَهُّدِ في:«السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللهِ الصَّالِحِينَ، فَإِنَّكُمْ إِذَا قُلْتُمْ ذَلِكَ فَقَدْ سَلَّمْتُمْ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ للهِ صَالِحٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ» رَوَاه البخاريُّ ومسلمٌ

(4)

.

فائدةٌ: الأصحُّ أنَّ أفرادَ العُمومِ آحادٌ في الإثباتِ وغيره لا جموعٌ،

(1)

لم أجده بلفظه، ورواه النسائي (3094) ولفظه:«ارْتَدَّتْ الْعَرَبُ» والحديث رواه البخاري (1399)، ومسلم (20) من حديث أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه، وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنَ العَرَبِ

(2)

في (ع): إحدى.

(3)

النِّساء: 11.

(4)

رواه البخاري (831)، ومسلم (402) من حديث ابن مسعود رضي الله عنهما.

ص: 470

فقولُه تعالى: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}

(1)

أي: كلُّ محسنٍ، {فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ}

(2)

أي: كلًّا منهم بأنْ يُعاقِبَهم، ويُؤَيِّدُه: صِحَّةُ استثناءِ الواحدِ مِنه نحو: جاءَ الرِّجالُ إلَّا زيدًا، ولو كانَ معناه كلُّ جمعٍ مِن جموعِ الرِّجالِ: لم يَصِحَّ، إلَّا أنْ يَكُونَ مُنقطعًا.

(6)

(وَ) يَعُمُّ أيضًا (اسْمُ جِنْسٍ مُعَرَّفٌ تَعْرِيفَ جِنْسٍ) وهو ما لا واحدَ له مِن لفظِه كالحيوانِ والماءِ والتُّرابِ، حمْلًا للتَّعريفِ على فائدةٍ لم تَكُنْ، وهو تعريفُ جميعِ الجنسِ؛ لأنَّه الظَّاهرُ، كالجمعِ والاستثناءِ منه

(3)

، كقولِه تعالى:{إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا}

(4)

.

و (لَا) يَعُمُّ اسمُ الجنسِ المُعَرَّفُ تعريفَ جنسٍ (مَعَ قَرِينَةِ عَهْدٍ) اتِّفاقًا؛ أي: إذا عُرِفَ إرادةُ العهدِ، كسَبْقِ تنكيرٍ؛ لأنَّه يَصرِفُه إلى العهدِ كقولِه تعالى:{كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ}

(5)

.

(وَيَعُمُّ) اسمُ الجنسِ المذكورُ (مَعَ جَهْلِهَا) أي: جهلِ القَرينةِ عندَ الأكثرِ؛ لأنَّ تقييدَ العُمومِ [عندَ الأكثرِ]

(6)

بانتفاءِ العهدِ يَقتضي أنَّ الأصلَ فيه الاستغراقُ، ولهذا احتاجَ العهدُ إلى قرينةٍ، فما احتملَ العهدَ والاستغراقَ لانتفاءِ القَرينةِ محمولٌ على الأصلِ، وهو الاستغراقُ؛ لعُمومِ فائدتِه.

(وَإِنْ عَارَضَ الِاسْتِغْرَاقَ: عُرْفٌ، أَوِ احْتِمَالُ تَعْرِيفِ جِنْسٍ) كقولِه: عليَّ الطَّلاقُ، أو

(7)

الطَّلاقُ يَلْزَمُني؛ (لَمْ يَعُمَّ) على الأصحِّ، فلا تُطَلَّقُ إلَّا واحدةً؛ لأنَّه يَحتملُ أنْ تَعُودَ الألِفُ واللَّامُ إلى معهودٍ يُريدُ الطَّلاقَ الَّذِي أَوْقَعْتُه، ولأنَّ الألفَ واللَّامَ في أسماءِ الأجناسِ تُستعمَلُ لغيرِ الاستغراقِ كثيرًا

(1)

آل عمران: 134.

(2)

آل عمران: 32.

(3)

ليس في (د).

(4)

العصر.

(5)

المُزَّمِل.

(6)

ليس في (د).

(7)

في (د): و.

ص: 471

كقولِه: ومَن أُكْرِهَ على الطَّلاقِ، وإذا عَقَلَ الصَّبيُّ الطلاقَ، وأشباهِ هذا مِمَّا يُرادُ به ذلك الجنسُ، ولا يُفهَمُ منه الاستغراقُ، فعندَ ذلك لا يُحمَلُ على التَّعميمِ إلَّا بنِيَّةٍ صارفةٍ إليه، فالأشبهُ في هذا جميعِه أنَّه يَكُونُ واحدةً في حالِ الإطلاقِ؛ لأنَّ أهلَ العُرفِ لا يَعتقدونه

(1)

ثلاثًا ولا يَعلَمون أنَّ الألفَ واللَّامَ للاستغراقِ. ولهذا يُنْكِرُ أحدُهم أنْ يَكُونَ طَلَّقَ ثلاثًا، ولا يَعتقدُ أنَّه طَلَّقَ إلَّا واحدةً، فمُقتضى اللَّفظِ في ظنِّهم واحدةٌ، فلا يُريدونَ إلَّا ما يَعتقدونه مُقتَضى لفظِهم، فيَصيرُ كأنَّهم نَوَوْا واحدةً.

(7)

ويَعُمُّ اسمٌ (مُفْرَدٌ مُحَلًّى بِلَامٍ غَيْرِ عَهْدِيَّةٍ لَفْظًا) بأنْ دَخَلَه آلةُ التَّعريفِ، ولم يَسبِقْ تنكيرُه عند الأكثرِ، كالرَّجلِ

(2)

والسَّارقِ والمُؤمنِ والفاجرِ؛ لأنَّ الأصلَ فيه الاستغراقُ، ولم تَزَلِ العلماءُ تَستدلُّ بآيةِ السَّرقةِ وآيةِ الزِّنا من غيرِ نكيرٍ، ولوقوعِ الاستثناءِ منه، نحوُ:{لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}

(3)

الآيةَ، وأيضًا فيُوصَفُ بصيغةِ العُمومِ، كما قال تعالى:{أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ}

(4)

، فعلى هذا يَكُونُ عمومُه مِن جهةِ اللَّفظِ على الأصحِّ لا مِن جهةِ المعنى؛ لأنَّ عمومَ المُفردِ الَّذِي دَخَلَتْ عليه «الـ» غيرُ عمومِ الجمعِ الَّذِي دَخَلَتْ عليه «الـ» ، فالأوَّلُ يَعُمُّ المُفرداتِ والثَّاني يَعُمُّ الجموعَ؛ لأنَّ «الـ» تَعُمُّ أفرادَ ما دَخَلَتْ عليه، وقد دَخَلَتْ على جمعٍ.

(8)

ويَعُمُّ أيضًا (مُفْرَدٌ مُضَافٌ لِمَعْرِفَةٍ) عندَ أحمدَ وأصحابِه، وحُكِيَ عن الأكثرِ، ومنه قولُه تعالى:{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا}

(5)

.

(1)

حاشية في (ع): نسخة يعتمد.

(2)

في (د): كرجل.

(3)

التِّين: 4.

(4)

النُّور: 31.

(5)

النَّحل: 18.

ص: 472

(9)

(وَ) مِن صيغِ العُمومِ: (نَكِرَةٌ فِي) سِيَاقِ:

- (نَفْيٍ) سواءٌ باشَرَها النَّافي، وهو: ما، ولا، ولات، وليسَ، ولم، وإن، والفعلُ فيه أم لا، والمرادُ النَّكرةُ المعنويَّةُ ليَدخُلَ في ذلك المُطلَقُ، وليسَ المُرادُ النَّكرةَ الصِّناعيَّةَ المقابِلةَ للمَعرفةِ، ودَخَلَ في هذه العبارةِ ما باشَرَها النَّفيُ، نحوُ: ما أحدٌ قائمًا، وما باشَرَ عامِلَه، نحوُ: ما قامَ أحدٌ، وهذا هو المشهورُ عندَ العلماءِ.

- (وَ) كذا تَعُمُّ نكرةٌ في سياقِ (نَهْيٍ) قَطَعَ به ابنُ مُفْلِحٍ

(1)

وغيرُه؛ لأنَّه في مَعنى النَّفي، كقولِه تعالى:{وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}

(2)

، ويَدخُلُ الفعلُ المنهيُّ عنه، نحوُ:{وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ}

(3)

، {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا}

(4)

.

فعلى هذا تَعُمُّ النَّكرةُ في سياقِ النَّفيِ والنَّهيِ (وَضْعًا) بمَعنى أنَّ اللَّفظَ وُضِعَ لسلْبِ كلِّ فردٍ مِن الأفرادِ بالمطابقةِ.

وقيلَ: تَعُمُّ بطريقِ اللُّزومِ بمعنى أنَّ نفيَ كلِّ فردٍ مُبهَمٍ يَقتضي نفيَ جميعِ الأفرادِ ضرورةً.

إذا عَلِمْتَ ذلك، فيُؤثِّرُ التَّخصيصُ بالنِّيَّةِ على الأوَّلِ دونَ الثَّاني، ويُؤَيِّدُه

(5)

صِحَّةُ الاستثناءِ في هذه الصِّيغةِ بالاتِّفاقِ، فدَلَّ على تناولِها لكلِّ فردٍ.

فائدةٌ: دلالةُ النَّكرةِ في سياقِ النَّفيِ على العُمومِ قسمانِ:

(1)

«أصول الفقه» (2/ 773).

(2)

الكهف.

(3)

طه: 81.

(4)

الإسراء: 32.

(5)

في (د): ويؤيد.

ص: 473

أحدُهما: يَكُونُ (نَصًّا) في ذلك، وهي: ما إذا بُنِيَتْ على الفتحِ لتَرَكُّبِها مع «لا» ، نحوُ: لا إلهَ إلَّا اللهُ.

- (وَ) الثَّاني: يَكُونُ (ظَاهِرًا) في ذلك، وهي ما إذا لم تُبْنَ مع «لا» ، بل أُعرِبَتْ، نحوُ: لا في الدَّارِ رجلٌ بالرفعِ؛ لأنَّه يَصِحُّ أن يُقالَ بعدَه: «بل رجلانِ» ، فدَلَّ على أنَّها ليسَتْ نصًّا، فإنْ زِيدَ فيها «مِن» كانت نصًّا أيضًا، ويكونُ تنصيصُ العمومِ النَّفيَ على الأرجحِ، لا «مِن» ؛ لأنَّها كانَتْ للعمومِ فيه ظاهرًا فلم تُفِدْ إلَّا جَعْلَه نصًّا.

- (وَ) مِن صيغِ العمومِ أيضًا: نكرةٌ (فِي) سياقِ (إِثْبَاتٍ لِامْتِنَانٍ) مأخوذٌ ذلك مِن استدلالِ أصحابِنا إذا حَلَفَ لا يَأْكُلُ فاكهةً، يَحنَثُ بأكلِ التَّمرِ والرُّمَّانِ؛ لقولِه تعالى:{فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ}

(1)

.

- (وَ) مثلُه: النَّكرةُ (فِي) سياقِ (اسْتِفْهَامٍ إِنْكَارِيٍّ)؛ لأنَّه في مَعنى النَّفيِ، نحوُ: هل قائمٌ زيدٌ. قال تعالى: {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا}

(2)

فإنَّ المرادَ نفيُ ذلك كلِّه؛ لأنَّ الإنكارَ هو حقيقةُ النَّفيِ.

- قالَ الشَّيخُ وأبو المَعالي

(3)

وغيرُهما: (وَشَرْطٍ) نحوُ: {وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ}

(4)

الآيةَ، و:«مَن يَأتْنِي بأسيرٍ فله دينارٌ» ، يَعُمُّ كلَّ أسيرٍ؛ لأنَّه في مَعنى النَّفيِ؛ لكونِه تعليقَ أمرٍ لم يُوجَدْ على أمرٍ لم يُوجَدْ.

(وَلَا يَعُمُّ جَمْعٌ مُنَكَّرٌ غَيْرُ مُضَافٍ) عندَ الأكثرِ؛ لأنَّه لو قال: له عندي عبيدٌ، قُبِلَ تفسيرُه بأقلِّ الجمعِ؛ وذلك لأنَّ أهلَ اللُّغةِ يُسَمُّونَه نكرةً، ولو

(1)

الرَّحمن: 68.

(2)

مريم: 98.

(3)

«البرهان في أصول الفقه» (1/ 119).

(4)

الأنفال: 13.

ص: 474

كانَ عامًّا لم يَكُنْ نكرةً؛ لمغايرةِ مَعنى النَّكرةِ لمعنى العمومِ، كما سَبَقَ في تعريفِ العامِّ، ولأنَّه يَصدُقُ على أقلِّ الجمعِ، وما زادَ مرتبةً بعدَ أُخرى إلى ما لا يَتَناهى.

وإذا كانَ مَدلولُ النَّكرةِ أعمَّ مِن هذا ومنَ الصُّورِ السَّابقةِ، فالأعمُّ لا يَدُلُّ على الأخصِّ، وعمومُه في هذه الصُّورِ إِنَّمَا هو مِن عمومِ بدلٍ لا شمولٍ.

(وَ) على هذا (يُحْمَلُ) الجمعُ (عَلَى أَقَلِّ جَمْعٍ) لا على مجموعِ الأفرادِ على الصَّحيحِ، (وَهُوَ) أي: أقلُّ الجمعِ (ثَلَاثَةٌ حَقِيقَةً) عندَ الأئمَّةِ الأربعةِ وغيرِهم لسَبْقِ الثَّلاثةِ عندَ الإطلاقِ، ولا يَصِحُّ نفيُ الصِّيغةِ عنها، وهما دليلُ الحقيقةِ، وأمَّا قولُه صلى الله عليه وسلم:«الِاثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ»

(1)

فهو خبَرٌ ضعيفٌ، ثمَّ المرادُ في الفضيلةِ لتعريفِه، لا اللُّغةِ، ولو كانَ جمعًا لغةً لَمَا بَيَّنَه للتَّسويةِ فيها.

قالَ أصحابُنا: يَصِحُّ إطلاقُ الجمعِ في الاثنينِ والواحدِ مَجازًا لقولِه تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ}

(2)

.

(وَالمُرَادُ) بالجمعِ المذكورِ أَبْنِيَتُه، نحوُ: الزَّيدين، والرِّجالِ، ولهذا قال: (غَيْرُ:

(1)

لَفْظِ جَمْعٍ) أي: غيرُ لفظِ: «جيمٌ، ميمٌ، عينٌ» لُغةً؛ لأنَّه ضَمُّ شيءٍ إلى شيءٍ، وهو مُتَحَقِّقٌ في الاثنينِ اتِّفاقًا، وغيرُ ضميرِ المتكلِّم، نحوُ: فَعَلْنا،

(1)

رواه ابن ماجه (972) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.

قال النووي في «خلاصة الأحكام» (2336): ضعيف جدًّا

(2)

آل عمران: 173.

ص: 475

(2)

(وَنَحْنُ،

وَقُلْنَا، و) غيرُ، (نحوِ

(1)

قولِه تعالى: {فَقَدْ صَغَتْ (قُلُوبُكُمَا}

(2)

مِمَّا فِي الإِنْسَانِ مِنْهُ) شيءٌ (وَاحِدٌ) قالَ ابنُ قاضي الجبلِ: لاستثنائِه لغةً. انتهى. ولأنَّ قاعدةَ اللُّغةِ أنَّ كلَّ اثنينِ أُضِيفا إلى مُتَضَمَّنِهما يَجُوزُ فيه ثلاثةُ أوجهٍ:

(1)

الجمعُ على الأفصحِ، نحوُ: قَطَعْتُ رُؤُوسَ الكبشينِ،

(2)

ثمَّ الإفرادُ، كرأسِ الكبشينِ،

(3)

ثمَّ التَّثنيةِ، كرأسيِ الكبشينِ،

وإنَّما رَجَحَ الجمعُ استثقالًا لتوالي دَالَّينِ على شيءٍ واحدٍ وهو التَّثنية، وتَضَمُّنِ الجمعِ العددَ، بخلافِ ما لو أُفْرِدَ.

(وَأَقَلُّ جَمَاعَةٍ

(3)

فِي غَيْرِ صَلَاةٍ: ثَلَاثَةٌ) عندَ أصحابِنا وأقلُّها في الصلاةِ اثنانِ.

(وَمِعْيَارُ العُمُومِ: صِحَّةُ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ غَيْرِ عَدَدٍ) فيُستَدَلُّ على عمومِ اللَّفظِ بقولِه: «الاستثناء» فإنَّه إخراجُ ما لَوْلاه لوَجَبَ دُخولُه في المُستثْنَى منه، فوَجَبَ أنْ تَكُونَ كلُّ الأفرادِ واجبةَ الاندراجِ، وهذا مَعنى العُمومِ.

تنبيهٌ: بَقِيَ معَنا مسائلُ مِمَّا يَدُلُّ على العُمومِ:

منها: أنْ يكونَ اللَّفظُ عامًّا: إمَّا بالعُرفِ، أو بالعَقلِ،

فعمومُه بالعُرفِ في ثلاثةِ أمورٍ:

أحدُها: فَحوَى الخِطَابِ.

(1)

في «مختصر التحرير» (ص 148): ونحن ونحو قلنا.

(2)

التَّحريم: 4.

(3)

في «مختصر التحرير» (ص 148): الجماعة.

ص: 476

والثَّاني: لحنُ الخطابِ، نحوُ:{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا}

(1)

فيَعُمُّ إحراقَه، ونحوُ:{فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ}

(2)

فيَعُمُّ الأذى بلسانِه ويدِه.

والثَّالثُ: ما نُسِبَ الحُكْمُ فيه لذاتِه، وإنَّما تَعَلَّقَ في المعنى بفعلٍ اقتضاه الكلامُ، نحوُ:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ}

(3)

فإنَّ العُرفَ نَقَلَه إلى تحريمِ الأكلِ على العُمومِ.

وعمومُه بالعقلِ في ثلاثةِ أمورٍ:

أحدُها: ترتيبُ الحُكمِ على الوصفِ، نحوُ: حُرِّمَتِ الخمرُ للإسكارِ؛ فإنَّ ذلك يَقتضي أنْ يَكُونَ عِلَّةً له، والعقلُ يَحكُمُ بأنَّه كُلَّما وُجِدَتِ العلَّةُ وُجِدَ المعلولُ، وكُلَّما انتفتْ يَنتفي.

والثَّاني: مفهومُ المُخالفةِ عندَ القائلِ به، كقولِه صلى الله عليه وسلم:«مَطْلُ الغَنِيِّ ظُلْمٌ»

(4)

فإنَّه بمفهومه يَدُلُّ على أنَّ مطلَ غيرِ الغنيِّ عُمومًا لا يَكُونُ ظلمًا.

والثَّالثُ: إذا وَقَعَ جوابًا لسؤالٍ، كما لو سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عمَّن أفطرَ، فقال: عليه الكفَّارةُ. فيُعلَمُ أنَّه يَعُمُّ كلَّ مفطرٍ.

(فائدةٌ: سَائِرُ الشَّيْءِ بِمَعْنَى بَاقِيهِ) عندَ الأكثرِ، وعليه الاستعمالُ؛ فإنَّ «سائرَ» بمعنى «أَسْأَرَ»؛ أي: أَبْقَى، فهو مِن السُّؤْرِ، وهو البقيَّةُ، فلا يَعُمُّ.

(1)

النِّساء: 10.

(2)

الإسراء: 23.

(3)

المائدة: 3.

(4)

رواه البخاري (2287)، ومسلم (1564) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 477

(فَصْلٌ)

قالَ الأكثرُ: (العَامُّ بَعْدَ تَخْصِيصِهِ حَقِيقَةٌ) لا مجازٌ؛ لأنَّ العامَّ في تقديرِ الألفاظِ مطابقةٌ لأفرادِ مدلولِه، فسَقَطَ منها بالتَّخصيصِ طِبْقُ ما خُصِصَّ به من المعنى، فالباقي منها ومنَ المدلولِ مُتطابقانِ تقديرًا، فلا استعمالَ في غيرِ الموضوعِ له، فلا مجازَ، فالتَّناوُلُ باقٍ، وكانَ حقيقةً قبْلَه، فكذا بعدَه.

(وَهُوَ) أي: العامُّ المخصوصُ (حُجَّةٌ) عندَ الأكثرِ؛ لأنَّ الصَّحابةَ لم تَزَلْ تَستدلُّ بالعُموماتِ مع وجودِ التَّخصيصِ فيها، ولأنَّه كانَ حُجَّةً، والأصلُ بقاؤُه، ولأنَّ دَلالتَه على بعضٍ لا يَتَوَقَّفُ على بعضٍ آخَرَ

(1)

للدَّوْرِ.

قال الدَّبُوسِيُّ: لكنَّه غيرُ مُوجِبٍ للعلمِ قطعًا، بخلافِ ما قَبْلَ التَّخصيصِ

(2)

. انتهى. وفي المسألةِ أقوالٌ أُخَرُ أَضْرَبْنا عنها خوفَ الإطالةِ.

قالَ ابنُ العِرَاقِيِّ وغيرُه: الخلافُ في هذه المسألةِ مُفَرَّعٌ على القولِ بأنَّ العامَّ بعدَ التَّخصيصِ مجازٌ، فأمَّا إنْ قُلْنا: إنَّه حقيقةٌ؛ فهو حُجَّةٌ قطعًا

(3)

.

قالَ في «شرحِ الأصلِ» : وهو ظاهرُ صَنيعِ ابنُ مُفْلِحٍ

(4)

.

والمُرادُ في هذه المسألةِ (إِنْ خُصَّ) العامُّ (بِمُبَيَّنٍ) يَعني بمعلومٍ، أو خُصَّ باستثناءٍ بمعلومٍ، كـ: أَكْرِمْ بني تميمٍ ولا تُكْرِمْ فلانًا، وكقولِنا: له عليَّ عشرةٌ إلَّا واحدًا، فإنْ خُصَّ بمجهولٍ، كـ:«اقتلوا المشركينَ إلَّا بعضَهم» ، لم يَكُنْ حُجَّةً اتفاقًا؛ لأنَّ الآيةَ لا يُستدَلُّ بها على الأمرِ بقتلِ فردٍ مِن الأفرادِ؛ إذْ ما مِن

(1)

ليس في (د).

(2)

«تقويم الأدلة» (ص 105).

(3)

«الغيث الهامع» (ص: 306).

(4)

«التحبير شرح التحرير» (5/ 2374).

ص: 478

فردٍ إلَّا ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ هو المُخرَجَ، ولأنَّ إخراجَ المجهولِ مِن المعلومِ يُصَيِّرُ المعلومَ مَجهولًا.

فائدةٌ: قالَ في «شرحِ الأصلِ» : لم يَتَعَرَّضْ كثيرٌ مِن العلماءِ بل أكثرُهم للفرقِ بينَ العامِّ المخصوصِ والعامِ الَّذِي أُريدَ به الخصوصُ، وهو مِن مهمَّاتِ هذا البابِ، وهو عزيزُ الوجودِ

(1)

.

وقالَ ابنُ دقيقِ العيدِ: يَجِبُ أنْ يُتَنَبَّهَ للفرقِ بينهما؛ فالعامُّ المخصوصُ أعمُّ مِن العامِّ الَّذِي أُرِيدَ به الخصوصُ، ألا تَرى أنَّ المُتَكَلِّمَ إذا أَرادَ باللَّفظِ أوَّلًا ما دَلَّ عليه ظاهرُه منَ العُموم، ثمَّ أَخْرَج بعدَ ذلك بعضَ ما دَلَّ عليه اللَّفظُ كانَ عامًّا مخصوصًا، ولم يَكُنْ عامًّا أُريدَ به الخصوصُ

(2)

، فلهذا قال المصنِّفُ:

(وَعُمُومُهُ مُرَادٌ تَنَاوُلًا) فإنَّ المرادَ به هو الأكثرُ، وما ليسَ بمرادٍ هو الأقلُّ، ويُقالُ: إنَّه منسوخٌ بالنِّسبةِ إلى البعضِ الَّذِي أُخرِجَ، و (لَا) يَكُونُ عمومُه مرادًا (حُكْمًا) فيَصِحُّ التَّعلُّقُ بظاهرِه اعتبارًا بالأكثرِ.

(وَقَرِينَتُهُ لَفْظِيَّةٌ) لا عقليَّةٌ، و (قَدْ تَنْفَكُّ) عنه يَعني أنَّه يَحتاجُ إلى دليلٍ لفظيٍّ غالبًا كالشَّرطِ والغايةِ والاستثناءِ.

(وَ) أمَّا (العَامُّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الخُصُوصُ) فليسَ بمرادٍ لا تناولًا ولا حُكمًا، بل (كُلِّيٌّ اسْتُعْمِلَ فِي جُزْئِيٍّ) يَعني أنَّه ما كانَ المرادُ به أقلَّ، وما ليسَ بمرادٍ هو الأكثرُ، ولا يَصِحُّ الاحتجاجُ بظاهرِه.

ص: 479

(وَمِنْ ثَمَّ كَانَ مَجَازًا

(1)

قَطعًا، ليُنقَلَ اللَّفظُ عن موضوعِه الأصليِّ بخلافِ العامِّ المخصوصِ، (وَقَرِينَتُهُ عَقْلِيَّةٌ لَا تَنْفَكُّ) عنه يَعني أنَّه يَحتاجُ لدليلٍ معنويٍّ يَمنَعُ إرادةَ الجميعِ، فتَعَيَّنَ له البعضُ.

تنبيهٌ: قال البِرْمَاوِيُّ: وحاصلُ ما قَرَّرَه أنَّ العامَّ إذا قُصِرَ على بعضِه له ثلاثُ حالاتٍ:

الأُولى: أنْ يُرادَ به في الابتداءِ خاصٌّ، فهذا هو المرادُ به خاصٌّ.

والثَّانيةُ: أنْ يُرادَ به عامٌّ، ثمَّ يُخرَجَ منه بعضُه، فهذا نَسخٌ.

والثَّالثةُ: ألَّا يُقصَدَ به خاصٌّ ولا عامٌّ في الابتداءِ، ثمَّ يُخرَجَ مِنه أمرٌ يَتَبَيَّنُ بذلك أنَّه لم يُرَدْ به في الابتداءِ عمومُه، فهذا هو العامُّ المخصوصُ.

ولهذا كانَ التَّخصيصُ عندَنا بيانًا لا نسخًا، إلَّا إنْ أُخْرِج بعدَ دخولِ وقتِ العملِ على العامِّ فيَكُونُ نَسخًا؛ لأنَّه قد تَبَيَّنَ أنَّ العُمومَ أُرِيدَ في الابتداءِ

(2)

.

(وَالجَوَابُ) مِن الشَّارعِ:

(1)

(لَا المُسْتَقِلِّ) وهو الَّذِي لو وَرَدَ ابتداءً لم يُفِدِ العُمومَ (تَابِعٌ لِلسُّؤَالِ

(3)

في عُمُومِهِ) اتِّفاقًا، كجوابِه لمن سَأَلَه عن بيعِ الرُّطَبِ بالتَّمْرِ:«أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إِذَا يَبِسَ؟» قيلَ: نعمْ. قال: «فَلَا إذًا»

(4)

.

(1)

زاد في «مختصر التحرير» (ص 149): وأخص وعمومه غير مراد.

(2)

«الفوائد السنيّة في شرح الألفيّة» (4/ 27).

(3)

في «مختصر التحرير» (ص 149): لسؤال.

(4)

رواه أبو داود (3359)، والترمذي (1225)، والنسائي (4545)، وابن ماجه (2264) من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.

وقال الترمذي: حسن صحيح.

ص: 480

(وَ) الجوابُ لا المُستقِلُّ تابعٌ للسُّؤالِ (فِي قَوْلٍ) للقاضي

(1)

وأبي الخطَّابِ

(2)

والآمِدِيِّ

(3)

وغيرِهم: (وَخُصُوصِهِ) أيضًا، كقولِه تعالى:{فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ}

(4)

، وكقولِه عليه السلام لأبي بُردةَ:«تُجْزِئُكَ ولا تُجْزِئُ أَحَدًا بَعْدَكَ»

(5)

أي: في الأُضحيَّةِ.

فهذا وأمثالُه وإنْ تُرِكَ فيه الاستفصالُ مع تعارُضِ الأحوالِ لا يَدُلُّ على التَّعميمِ في حقِّ غيرِه؛ إذِ اللَّفظُ لا عمومَ له، ولَعَلَّ الحُكْمَ على ذلك الشَّخصِ لمَعنًى يَختَصُّ به كتخصيصِ أبي بُردةَ بقولِه:«ولا تُجْزِئُ أَحَدًا بَعْدَكَ» (5)، ثمَّ بتقديرِ تعميمِ المعنى فبالعلَّةِ لا بالنَّصِ؛ لاحتمالِ معرفةِ حالِه، فأجابَ على ما عَرَف، وعلى هذا يَجرِي أكثرُ الفتاوى مِن المُفتينَ

(6)

.

والقولُ الثَّاني: أنَّه لا يَتْبَعُ السُّؤالَ في خصوصِه.

قالَ ابنُ مُفْلِحٍ: والَّذي عليه أصحابُنا التَّعميمُ، قالوا: لو اختَصَّ به لَما احتِيجَ إلى تخصيصِه، وهذا ظاهرُ كلامِ الإمامِ أحمدَ؛ لأنَّه احتجَّ في مواضعَ كثيرةٍ بمِثلِ ذلك، وكذلك أصحابُنا

(7)

.

قالَ المَجدُ: ما سَبَقَ إِنَّمَا يَمنَعُ قوَّةَ العُمومِ، لا ظُهورَه؛ لأنَّ الأصلَ عدمُ المعرفةِ لِما لم يُذكَرْ، ومَثَّلَه الشَّافعيُّ بقولِه لغَيلانَ وقد أَسْلَمَ على عشرِ نسوةٍ:«أَمْسِكْ عَلَيْكَ أَرْبَعًا»

(8)

ولم يَسأَلْه هل وَرَدَ العقدُ عليهنَّ معًا أو مُرَتَّبًا، فدَلَّ على عدمِ الفرقِ.

(1)

«العدة في أصول الفقه» (2/ 596).

(2)

«التمهيد في أصول الفقه» (2/ 165).

(3)

«الإحكام» (2/ 345).

(4)

الأعراف: 44.

(5)

رواه البخاري (955)، ومسلم (1961).

(6)

في (د): المفتيين.

(7)

«أصول الفقه» (2/ 800 - 801).

(8)

رواه الترمذي (1128)، وابن ماجه (1953)، وابن حبان (4156) من حديث ابن عمر رضي الله عنه.

ص: 481

(2)

(وَ) الجوابُ (المُسْتَقِلُّ) أي: بحَيثُ لو وَرَدَ ابتداءً لأفادَ العُمومَ: إما أنْ يُسَاوِيَ السُّؤالَ في عمومِه وخصوصِه، أو يَكُونَ أخصَّ مِن السُّؤالِ، أو أعمَّ منه،

- فـ (إِنْ سَاوَى السُّؤَالَ) في خصوصِه وعمومِه، (تَابَعَهُ) أي: تابَعَ الجوابُ السُّؤالَ (فِيمَا) أي: في جوابٍ (فِيهِ) أي: في السُّؤالِ (مِنْهُمَا) أي: مِن الخصوصِ والعُمومِ عندَ كونِ السُّؤالِ خاصًّا أو عامًّا، كما لو لم يَسْتَقِلَّ بالخصوصِ، كسؤالِ الأعرابيِّ عن وطئِه في نهارِ رمضانَ، فقال:«أَعْتِقْ رَقَبَةً»

(1)

، والعُمومِ كسُؤالِه عن الوضوءِ بماءِ البحرِ، فقال:«هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الحِلُّ مَيْتَتُهُ»

(2)

.

- (وَإِنْ كَانَ) الجوابُ (أَخَصَّ) مِن السُّؤالِ (اخْتَصَّ بِهِ) أي: بالجوابِ (السُّؤَالُ) كسُؤالِه عن قتلِ النِّساءِ الكوافرِ، فيَقولُ: اقتلوا المُرتدَّاتِ، فيَختَصُّ بالجوابِ وهو قتلُ المُرتدَّاتِ مِنهنَّ.

- (وَإِنْ كَانَ) الجوابُ (أَعَمَّ) مِن السُّؤالِ اعتُبِرَ عمومُ الجوابِ، كسؤالِه عليه السلام عن ماءِ بئرِ بُضَاعةَ، فقال:«المَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ»

(3)

، وهذا مندرجٌ في قولِه:(أَوْ وَرَدَ عَامٌّ عَلَى سَبَبٍ خَاصٍّ بِلَا سُؤَالٍ) كما رُوِيَ

(1)

رواه البخاري (1936)، ومسلم (1111) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

رواه أبو داود (84)، والترمذي (69)، والنسائي (59)، وابن ماجه (386، 3246)، وابن الجارود (43)، وابن خزيمة (111)، وابن حبان (243)، والحاكم (1/ 237)، وقال الترمذي: حسن صحيح

(3)

رواه أبو داود (66، 67)، والترمذي (66)، والنسائي (327) من حديث أبي سعيد الخُدري. وقال الترمذي: حديث حسن

ص: 482

أنَّه صلى الله عليه وسلم مَرَّ بشاةٍ مَيِّتةٍ

(1)

لمَيمُونةَ فقال: «أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ»

(2)

، فـ (اعْتُبِرَ عُمُومُهُ) أي: عمومُ اللَّفظِ الواردِ على سببٍ خاصٍّ، ولم يَقتَصِرْ على سببِه على الصَّحيحِ؛ لأنَّ السَّبَبَ قد يَكُونُ سؤالًا وقد يَكُونُ غيرَه، فالسَّببُ لا يُخَصَّصُ والعمومُ باقٍ على عمومِه؛ لأنَّ عدولَ المُجيبِ عمَّا سُئِلَ عنه أو عمَّا اقْتَضاَه حالَ السَّببِ الَّذِي وَرَدَ العامُّ عليه عن ذِكْرِه بخصوصِه إلى العُمومِ: دليلٌ على إرادتِه؛ لأنَّ الحُجَّةَ في اللَّفظِ، وهو يَقتضي العُمومَ، والسَّببُ لا يَصلُحُ مُعارضًا لجوازِ أن يَكُونَ المقصودُ عندَ وُرُودِ السَّببِ بيانَ القاعدةِ العامَّةِ لهذه الصُّورةِ وغيرِها، واسْتُدِلَّ لذلك بأنَّ الصَّحابةَ ومَن بَعدَهم اسْتَدَلُّوا على التَّعميمِ مع السَّببِ الخاصِّ، ولم يُنْكَرْ، كآيةِ اللِّعانِ، ونَزَلَتْ في هلالِ بنِ أُمَيَّةَ، ولأنَّ اللَّفظَ عامٌّ بوضعِه والاعتبارِ به، بدليلِ لو كانَ أخصَّ، والأصلُ عدمُ مانعٍ، وقاسَ ذلك أصحابُنا وغيرُهم على الزَّمانِ والمكانِ مع أنَّ المصلحةَ قد تَختلِفُ بهما.

(وَصُورَةُ السَّببِ: قَطْعِيَّةُ الدُّخُولِ) أي: مقصودةٌ بالعمومِ قطعًا عندَ الأكثرِ، (فَلَا يَخْتَصُّ) السَّببُ (بِاجْتِهَادٍ) والخلافُ إِنَّمَا هو فيما عداها، فيَطرُقُ التَّخصيصُ ذلك العامَّ إلَّا تلك الصُّورةَ، فإنَّه لا يَجُوزُ إخراجُها، فلو سَأَلَتْه امرأةٌ مِن نِسائِه طلاقَها فقال:«نسائي طوالقُ» ، طُلِّقَتْ، ذَكَرَه ابنُ عَقِيل

(3)

إجماعًا، وأنَّه لا يَجُوزُ تخصيصُه، والأشهرُ عندَنا ولو اسْتَثْناها بقلبِه، لكنْ يُدَيَّنُ، ولو اسْتَثْنى غيرَها: لم تُطَلَّقْ.

(1)

ليس في (د).

(2)

رواه مسلم (366) من حديث ابن عباس رضي الله عنه.

(3)

«الواضح في أصول الفقه» (3/ 414).

ص: 483

(فَائِدَةٌ: قِيلَ: ليسَ فِي القُرْآنِ عَامٌّ لَمْ يُخَصَّ

(1)

إِلَّا) قولُه تعالى: ({وَمَا مِنْ دَابَّةٍ) فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا}

(2)

.

قال البِرْمَاوِيُّ: اعتَرَضَ ابنُ داودَ على الشَّافعيِّ في جَعلِه {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا}

(3)

مِن العامِّ الَّذِي لم يُخصَّ بأنَّ منَ الدَّوابِّ مَن أَفْنَاه اللهُ تعالى قبْلَ أن يَرزُقَه، ورَدَّه الصَّيْرَفِيُّ بأنَّ ذلك خطأٌ؛ لأنَّه لا بدَّ له مِن رزقٍ يَقُومُ به ولو بتَنَفُّسٍ يَأتيه به، وقد جَعَلَ اللهُ تعالى غذاءَ طائفةٍ مِن الطَّيرِ التَّنفُّسَ إلى مُدَّةٍ يَصلُحُ فيها للأكلِ

(4)

والشُّربِ

(5)

.

وقالَ الطُّوفِيُّ في «الإشاراتُ»

(6)

: قولُه تعالى ({وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}

(7)

هذا عامٌّ لم يُخصَّ بشيءٍ أصلًا؛ لتعلُّقِ علمِهِ عز وجل بالموادِّ الثَّلاثِ: مادَّةُ الواجبِ، والمُمكنِ، والمُمتنعِ، بخلافِ قولِه عز وجل:{إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}

(8)

فإنَّه عامٌّ مَخصوصٌ بالمُحالات، والواجباتِ الَّتي لا تدخلُ تحت المَقدُوريَّة؛ كالجَمع بين الضدَّيْنِ، وكخَلْقِ ذاتِه وصِفاتِهِ وأَشباهِ ذلك. انتهى.

(1)

في (د): يختص.

(2)

هود: 6.

(3)

هود: 6.

(4)

في (د): الأكل.

(5)

«الفوائد السنيّة في شرح الألفيّة» (4/ 142 - 143).

(6)

«الإشارات الإلهيَّة» بتحقيقي (1/ 139 - 140).

(7)

البقرة: 29.

(8)

النَّحل: 77، وآيات أخرى.

ص: 484

(فَصْلٌ)

جمْعُ المُشتَركِ باعتبارِ مَعانيه مَبنيٌّ على جوازِ استعمالِ المفرَدِ في مَعانيه، ووجهُ البناءِ أنَّ التَّثنيةَ والجمعَ تابعانِ لِما يَسُوغُ المفردُ فيه، فحيثُ جازَ استعمالُ المفردِ في مَعنَيَيْه أو معانيه، جازَ تثنيةُ المُشتَركِ وجَمْعُه، وحيثُ لا، فلا، تَقُولُ: عيونُ زيدٍ، وتُريدُ به العينَ الباصرةَ، والعينَ الجاريةَ، وعينَ الميزانِ والذَّهبِ، وغيرَها، فعندَ الأكثرِ (يَصِحُّ إِطْلَاقُ جَمْعِ المُشْتَرَكِ) على معانيه، (وَ) إطلاقُ (مُثَنَّاهُ) على مَعنَيَيْه بأنْ يُريدَ المُتكلِّمُ بالمُشتَركِ مَعنَيَيْه أو معانيَه معًا

(1)

فيَصِحُّ (كَـ) ـما يَصِحُّ إطلاقُ (مُفْرَدٍ

(2)

عَلَى كُلِّ مَا لَهُ) أي: ما للمفردِ مِن المعاني (مَعًا) فاستعمالُ المُشتَركِ في أحدِ مَعنَيَيْه أو معانيه جائزٌ قطعًا وهو حقيقةٌ؛ لأنَّه فيما وُضِعَ له، وأمَّا إطلاقُه على الكلِّ معًا في حالةٍ واحدةٍ ففيه مذاهبُ: أصحُّها أنَّه يَصِحُّ كقولِنا: العينُ مخلوقةٌ، ونريدُ جميعَ معانيها، وكقولِه تعالى:{إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ}

(3)

فإنَّ الصَّلاةَ مِن اللهِ: الرَّحمةُ، ومِن الملائكةِ: دعاءٌ، ويَكُونُ إطلاقُه على جميعِها مجازًا لا حقيقةً، وقيلَ: حقيقةٌ لأنَّه يُوجِبُ حُكْمَه على الجمعِ، وفُهِمَ مِن الشَّرحِ أنَّ اللَّفظَ المُشتَركَ إذا لم يُستعمَلْ في وقتٍ واحدٍ بل في وقتينِ مثلًا؛ فإنَّ ذلك جائزٌ قطعًا.

(وَ) يَصِحُّ إطلاقُ (اللَّفْظِ) الواحدِ (عَلَى حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ الرَّاجِحِ) ويُحمَلُ عليهما (مَعًا مَجَازًا) كالمسألةِ الَّتي قَبْلَها لاتِّحادِهما، فيَكُونُ

(1)

ليس في (د).

(2)

في «مختصر التحرير» (ص 151): كمفرده.

(3)

الأحزاب: 56.

ص: 485

حَمْلُ اللَّفظِ على الحقيقةِ والمجازِ معًا إذا رَجَحَ بمُرَجِّحٍ مِن الخارجِ، وإلَّا فالحقيقةُ مُقَدَّمَةٌ قطعًا.

مثالُ ذلك: إطلاقُ النِّكاحِ للعقدِ والوطءِ معًا، إذا قُلْنَا: حقيقةٌ في أحدِهما مجازٌ في الآخَرِ، ولذلك حُمِلَ قولُه تعالى:{أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ}

(1)

على المسِّ باليدِ، وهو حقيقةٌ، وعلى الوقاعِ وهو مجازٌ.

ومِثْلُه قولُه تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}

(2)

فإنَّه حقيقةٌ في وَلَدِ الصُّلْبِ، مجازٌ في وَلَدِ الابنِ.

(وَهُوَ) أي: اللَّفظُ إذا صَحَّ إطلاقُه على الحقيقةِ والمجازِ فهو (ظَاهِرٌ فِيهِمَا) جميعًا؛ أي: غيرُ مُجمَلٍ؛ (إِذْ لَا قَرِينَةَ) تَخُصُّ أَحَدَهما، فاللَّمْسُ قُلْنُا حقيقةٌ في اللَّمسِ باليدِ، مجازٌ في الجماعِ (فَيُحْمَلُ عَلَيْهِمَا) وجوبًا على الصَّحيحِ، ويَجِبُ الوضوءُ مِنهما جميعًا؛ لأنَّه لا تَدافُعَ بينَهما، فعلى هذا يَكُونُ حَمْلُ اللَّفظِ على الحقيقةِ والمجازِ (كَعَامٍّ) أي: لكونِه مِن بابِ العمومِ.

وتوجيهُ ذلك: أنَّ نِسبةَ المُشتَركِ إلى مَعانيه كنسبةِ العامِّ إلى أفرادِه، وعندَ التَّجرُّدِ يَعُمُّ الأفرادَ، فكذا المُشتَركُ، والجامِعُ صِدقُ اللَّفظِ بالوضعِ على كلِّ فردٍ كما يَصدُقُ العامُّ على كلِّ فردٍ مِن أفرادِه وإنِ افْتَرَقا من حَيْثُ إنَّ العامَّ صِدْقُه بواسطةِ أمرٍ اشْتَرَكَتْ فيه، والمُشتَركُ صِدْقُه بواسطةِ الاشتِراكِ في أنَّ اللَّفظَ وُضِعَ لكلِّ واحدٍ.

(1)

النِّساء: 43.

(2)

النِّساء: 11.

ص: 486

ومَحَلُّ صِحَّةِ الإطلاقِ والحملِ على المعنيينِ أو المعاني عندَ القائلِ به حَيْثُ لا يَكُونُ بينَهما أو بينَهم تنافٍ، (فَإِنْ تَنَافَيَا كَـ) استعمالِ لفظِ (افْعَلْ، أَمْرًا وَتَهْدِيدًا: امْتَنَعَ) الإطلاقُ والحملُ.

(وَأُلْحِقَ بِذَلِكَ: المَجَازَانِ المُتَسَاوِيَانِ

(1)

أي: أَلْحَقَ جمعٌ مِن العلماءِ المَجازَينِ المُتساوِيَينِ بالحقيقةِ والمجازِ، فعلى هذا إذا تَعَذَّرَ حمْلُ اللَّفظِ على مَعناه الحقيقيِّ أو قامَ دليلٌ على أنَّه غيرُ مرادٍ، وعُدِلَ إلى المعنى المجازيِّ إطلاقًا أو حملًا، وكانَ المجازُ مُتَعَدِّدًا جازَ إرادةُ الكلِّ، وساغَ للسَّامِعِ الحملُ على الكلِّ بشرطِ كَوْنِ المجازَينِ مُتساوِيَينِ.

مثالُ ذلك: لو حَلَفَ لا يَشتَري دارَ زيدٍ، وقامَتْ قرينةٌ على أنَّ المرادَ لا يَعقِدُ بنَفْسِه، وتَرَدَّدَ الحالُ بينَ السَّوْمِ وشراءِ الوكيلِ؛ فيُحمَلُ عليهما، ويَحنَثُ بكلٍّ منهما.

(وَدَلَالَةُ الِاقْتِضَاءِ وَالإِضْمَارِ عَامَّةٌ) أي: غيرُ مُجملَةٍ، ولا لنفيِ الإثمِ على الصَّحيحِ، واستُدلَّ له بما رَوى الطَّبَرانِيُّ

(2)

وغيرُه بإسنادٍ جيِّدٍ عنِ ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما مرفوعًا: «إِنَّ اللهَ تَجَاوَزَ لِي عَنْ أُمَّتِي الخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» ، ورَوَاه ابنُ ماجه ولفظُه:«إِنَّ اللهَ وَضَعَ»

(3)

، ورَوَى ابنُ عَدِيٍّ:«رَفَعَ اللهُ عَنْ هَذِهِ الأُمَّةِ ثَلَاثًا: الخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَالأَمْرَ يُكْرَهُونَ عَلَيْهِ»

(4)

.

فمِثْلُ هذا يُقالُ فيه مُقتضى الإضمارِ، ومُقتضاه الإضمارُ، ودَلالتُه على المضمَرِ دَلالةُ إضمارٍ واقتضاءٍ، فالمُضمَرُ عامٌّ.

(1)

في (ع): المستويان.

(2)

«المعجم الكبير» (11/ 133).

(3)

رواه ابن ماجه (2045)، وابن حبان (7219) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما

(4)

«الكامل في ضعفاء الرجال» (2/ 390). وضعَّفه ابن الملقن في «البدر المنير» (4/ 182).

ص: 487

قالَ البِرْمَاوِيُّ

(1)

: المُقتَضِي بالكسرِ: الكلامُ المحتاجُ للإضمارِ

(2)

، وبالفتحِ: هو ذاك المحذوفُ، ويُعَبَّرُ عنه أيضًا بِـ «المُضمَرِ» ، فالمُختلَفُ في عمومِه على الصَّحيحِ:«المُقتضَى» بالفتحِ؛ بدليلِ استدلالِ مَن نَفَى عمومَه بكونِ العمومِ مِن عوارضِ الألفاظِ، فلا يَجُوزُ دعواه في المعاني، ويُحتمَلُ أنْ يَكُونَ في المُقتِضي بالكسرِ: وهو المنطوقُ به المحتاجُ في دَلالتِه للإضمارِ.

وبالجملةِ فحاصلُ

(3)

المسألةِ أنَّ المُحتاجَ إلى تقديرٍ [في نحوِ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ}

(4)

وغيرِها من الأمثلةِ إنْ دَلَّ دليلٌ على تقديرِ]

(5)

شيءٍ مِن المُحتملاتِ بعَينِه فذاك، سواءٌ كانَ المُقدَّرُ عامًّا في أمورٍ كثيرةٍ أو خاصًّا بفَردٍ، وإن لم يَدُلَّ دليلٌ على تعيينِ شيءٍ لا عامٍّ ولا خاصٍّ مع احتمالِ أمورٍ مُتعدِّدةٍ؛ لم يَتَرَجَّحْ بعضُها، فهل تُقَدَّر المُحتملاتُ كلُّها، وهو المُرادُ بالعُمومِ في هذه المسألةِ أو لا؟

فيه مذاهبُ، ووجهُه أنَّه لم يَرِدْ رفعُ الفعلِ الواقعِ بل ما تَعَلَّقَ به، فاللَّفظُ محمولٌ عليه بنفسِه لا بدليلِه.

(وَ) الفعلُ المُتَعَدِّي إن لم يُذْكَرْ له مفعولٌ بِه (مِثْلُ: لَا آكُلُ) أو: لا أَضرِبُ، أو: لا أقومُ، أو: ما أَكَلْتُ، (أَوْ «إِنْ أَكَلْتُ فَعَبْدِي حُرٌّ» يَعُمُّ مَفْعُولَاتِهِ) على الأصحِّ، (فَيُقْبَلُ) منه (تَخْصِيصُهُ) ببعضِ المفاعيلِ به إذا نَوَاه لعُمومِه.

(1)

«الفوائد السنيّة في شرح الألفيّة» (3/ 435 - 436).

(2)

في (د): لإضمار.

(3)

في (ع)، (د): في أصل. والمثبتُ مِن «الفوائدُ السَّنيَّةُ» للبِرماويِّ.

(4)

المائدة: 3.

(5)

ليس في (ع). ومثبتٌ من (د)، و «الفوائدُ السَّنيَّةِ» للبِرماويِّ.

ص: 488

تنبيهٌ: قُلْتُ: يُفهَمُ منه أنَّ الفعلَ إذا كانَ لازمًا كقولِه: واللهِ! لا أقولُ، أنَّه يَحنَثُ بكلِّ قولٍ ولا يُقبَلُ تخصيصُه.

(فَلَوْ نَوَى) بقولِه: «لا آكلُ» مأكولًا (مُعَيَّنًا: قُبِلَ) منه تخصيصُه ولم يَحنَثْ بغيرِه (بَاطِنًا

(1)

عندَ أصحابِنا وغيرِهم؛ لصِحَّةِ الاستثناءِ فيه، فكذا تخصيصُه، وهل يُقبَلُ حُكمًا أم لا؟ فيه عن أحمدَ روايتانِ.

(فَلَوْ

(2)

زَادَ) ذِكْرُ المفعولِ به، كـ: لا أَكَلْتُ (لَحْمًا) أو تمرًا مَثلًا (وَنَوَى) لحمًا أو تمرًا (مُعَيَّنًا: قُبِلَ) منه تعيينُه (مُطْلَقًا) أي: باطنًا وظاهرًا مِن غيرِ خلافٍ عندَ بعضِهم.

فائدةٌ: هذه المسألةُ مسألةُ‌

‌ تخصيصِ العُمومِ بالنِّيَّةِ

ولا يَختَصُّ جوازُ التَّخصيصِ بالنِّيَّةِ بالعامِّ، بل يَجري في تقييدِ المُطلَقِ بالنِّيَّةِ، ولذلك اعتُرِضَ على الحنفيَّةِ في:«لا أَكَلْتُ» أنَّه لا عمومَ فيه

(3)

بل مطلقٌ، والتَّخصيصُ فرعُ العُمومِ بأنْ يَصِيرَ بالنِّيَّةِ تقييدًا للمُطلقِ، فلم يَمنَعُوه.

(وَالعَامُّ فِي شَيْءٍ: عَامٌّ فِي مُتَعَلَّقَاتِهِ) وتَقَدَّمَ أنَّ عمومَ الأشخاصِ يستلزمُ عمومَ المُتعلَّقاتِ، وكلامُ الإمامِ أحمدَ في قولِه تعالى:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ}

(4)

ظاهرُها على العُمومِ: أنَّ مَن وَقَعَ عليه اسمُ ولدٍ؛ فله ما فَرَضَ اللهُ، فكانَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم هو المُعبِّرُ عنِ الكتابِ أنَّ الآيةَ إِنَّمَا قَصَدَتْ للمسلمِ لا للكافرِ.

(1)

زاد في «مختصر التحرير» (ص 151): ويعم الزمان والمكان.

(2)

ليست في «د» .

(3)

ليست في «د» .

(4)

النِّساء: 11.

ص: 489

(وَنَفْيُ المُسَاوَاةِ: لِلْعُمُومِ) عندَ أصحابِنا، نحوُ قولِه تعالى:{لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ}

(1)

، وقولِه تعالى:{أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ}

(2)

، فمَن نَفَى العُمومَ في الآيتينِ لا يَمنَعُ قصاصَ المُؤمنِ بالذِّمِّيِّ، ولا ولايةَ الفاسقِ عقدَ النِّكاحِ، ولو قُتِلَ المسلمُ بالذِّمِّيِّ لثَبَتَ استواؤُهما، أو قُلْنا: إنَّ الفاسقَ يَلِي عقدَ النِّكاحِ؛ لاستوى مع المؤمنِ الكاملِ، وهو العدلُ.

تنبيهٌ: نفيُ المُساواةِ وما في مَعناها مِن الاستواءِ والتَّساوي والتَّماثُلِ والمُماثلةِ ونحوِ ذلك، سواءٌ فيه نفيُه في فعلٍ، نحوُ: لا يَستوي كذا وكذا، أو في اسمٍ، نحوُ

(3)

: لا مساواةَ بينَ كذا وكذا.

(وَالمَفْهُومُ مُطْلَقًا) أي: سواءٌ كانَ مفهومَ موافقةٍ أو مخالفةٍ: (عَامٌّ فِيمَا سِوَى المَنْطُوقِ، يُخَصَّصُ) أي: يَجُوزُ تخصيصُ المفهومِ (بِمَا يُخَصَّصُ بِهِ العَامُّ) عندَ أكثرِ أصحابِنا وغيرِهم.

فَإِنْ قِيلَ: لو كانَ المفهومُ حُجَّةً لَما خُصَّ؛ لأنَّه مُستنْبَطٌ من اللَّفظِ كالعِلَّةِ، وأُجِيبَ بالمنعِ، وأنَّ اللَّفظَ بنَفسِه دَلَّ عليه بمُقتضى اللُّغةِ، فخُصَّ كالنُّطقِ.

قالَ الآمِدِيُّ: الخلافُ في أنَّ المفهومَ له عمومٌ لفظيٌّ؛ لأنَّ مَفهومَيِ المُوافقةِ والمُخالفةِ عامٌّ فيما سِوى المنطوقِ به بلا خلافٍ، فقولُه صلى الله عليه وسلم:«فِي سَائِمَةِ الغَنَمِ الزَّكَاةُ»

(4)

يَقتضي مفهومُه سلبَ الحُكمِ

(1)

الحشر: 20.

(2)

السَّجدة: 18.

(3)

في (ع): مثل.

(4)

رواه البخاري (1454) ضمن حديث أنس الطويل في الزكاة ولفظه: وَفِي صَدَقَةِ الغَنَمِ فِي سَائِمَتِهَا إِذَا كَانَتْ أَرْبَعِينَ إِلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ شَاةٌ .. الحديث.

ص: 490

عن معلوفةِ الغنمِ دونَ غيرِها، على الصَّحيحِ، فمَتى جَعَلْناه حُجَّةً لَزِمَ انتفاءُ الحُكمِ عن جملةِ صورِ المُخالفةِ، وإلَّا لم يَكُنْ للتَّخصيصِ فائدةٌ، وتَأَوَّلُوا ذلك على أنَّ المُخالفينَ أرادوا أنَّه لم يَثْبُتْ بالمنطوقِ ولا يَختلفون فيه.

قيلَ: قولُهم: «المفهومُ لا عُمومَ له؛ لأنَّه ليسَ بلفظٍ حَتَّى يَعُمَّ» لا يُريدون به سَلْبَ الحُكْمِ عن جميعِ المعلوفةِ؛ لأنَّه خلافُ مذهبِ القائلينَ بالمفهومِ، ولكنَّهم قد يَذكُرُونه في مَعرِضِ البحثِ، فقد قالوا: دَلالةُ الاقتضاءِ تُجوِّزُ رَفْعُ الخطأِ؛ أي: حُكْمُه لا يَعُمُّ حكمَ الإثمِ والغُرْمِ مثلًا؛ تقليلًا للإضمارِ، فلذلك يُقالُ في المفهومِ: هو حُجَّةٌ؛ لضرورةِ ظُهورِ فائدةِ التَّقييدِ بالصِّفةِ، ويَكفي في الفائدةِ انتفاءُ الحُكمِ عن صورةٍ واحدةٍ؛ لتَوقُّفِ بيانِها على دليلٍ آخَرَ، وإن لم يَقُلْ بذلك أهلُ المفهومِ، لكنَّه بحثٌ مُتَّجِهٌ.

(وَرَفْعُ كُلِّهِ) أي: كلِّ المفهومِ، بحَيثُ لا يَبقى سوى المنطوقِ (تَخْصِيصٌ) له (أيضًا) لإفرادِه اللَّفظَ في منطوقِه ومفهومِه، فهو كبعضِ العامِّ.

ص: 491

(فَصْلٌ)

(فِعْلُهُ) أي: فعلُ الرَّسولِ صلى الله عليه وسلم الواقعُ (لَا يَعُمُّ أَقْسَامَهُ وَجِهَاتِهِ) كصلاتِه عليه السلام داخلَ الكعبةِ، لا يَعُمُّ الفَرضَ والنَّفلَ، فلا يُحتَجُّ به على جوازِهما فيها؛ لأنَّ الواقعَ لا يَكُونُ إلَّا بعضَ هذه الأقسامِ، فلا يُتَصَوَّرُ أنَّها فرضٌ ونفلٌ معًا.

(وَ) قولُ الرَّاوي: (كَانَ) مِن فِعلِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه (يَجْمَعُ بَيْنَ الصَّلاتَيْنِ في السَّفَرِ،

(1)

لَا يَعُمُّ وَقْتَيْهِمَا) لأنَّه يَحتملُ وقوعَ الصَّلاتينِ في وقتِ الأُولى ويَحتملُ وُقوعَهما في وقتِ الثَّانيةِ، والتَّعيينُ مَوقوفٌ على الدَّليلِ، فلا يَعُمُّ الوقتينِ؛ إذ ليسَ في نفسِ وقوعِ الفعلِ المرويِّ ما يَدُلُّ على وقوعِه في وَقتَيْهما.

(2)

(وَلَا) يَعُمُّ أيضًا (كُلَّ سَفَرٍ) كسفرِ النُّسُكِ وغيرِه؛ لأنَّه لا يَدُلُّ عليه الفعلُ.

(وَ) لفظُ («كَانَ»: لِدَوَامِ الفِعْلِ وَتَكْرَارِهِ) اختارَه البَاقِلَّانِيُّ وغيرُه؛ لأنَّه العُرفُ، كقولِ القائلِ: كانَ فلانٌ يُكرِمُ الضِّيفانَ، وقد قال الله تعالى عن إسماعيلَ:{وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ}

(1)

أي: كانَ يُداوِمُ على ذلك.

إذا عَلِمْتَ ذلك (فَتُفِيدُ)«كانَ» (تَكْرَارَهُ

(2)

أي: تَكَرُّرَ الفعلِ (مِنْهُ) أي: مِن الدَّوامِ، ولهذا قال بعضُهم إنها تَقتضي التَّكرارَ عُرفًا لا لغةً.

(1)

مريم: 55.

(2)

في «مختصر التحرير» (ص 153): تكرره.

ص: 492

قالَ في «شرحِ الأصلِ» : وهو قويٌّ جدًّا

(1)

.

قال البِرْمَاوِيُّ: والتَّحقيقُ ما قالَه ابنُ دقيقِ العيدِ

(2)

أنَّها تَدُلُّ على التَّكرار كثيرًا، كما يُقالُ: كانَ فلانٌ يَقْرِي الضَّيفَ، ومنه: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدَ النَّاسِ .. الحديثَ

(3)

.

ولمُجرَّدِ الفعلِ قليلًا من غيرِ تكرارٍ

(4)

نحوُ: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقِفُ بِعَرَفَاتٍ عِنْدَ الصَّخَرَاتِ»

(5)

، وقولِ عائشةَ:«كُنْتُ أُطَيِّبُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لِحِلِّهِ وَحُرْمِهِ»

(6)

. ولم يَقَعْ وُقوفُه بعرفةَ وإحرامُه وعائشةُ معَه إلَّا مرَّةً واحدةً

(7)

.

تنبيهٌ: لا يَلْزَمُ مِن التَّكرارِ عدمُ الانقطاعِ، فقد يَتَكَرَّرُ الشَّيْءُ ثمَّ يَنقطِعُ، نعمْ يَلْزَمُ بالضَّرورةِ مِن عدمِ الانقطاعِ التَّكرارُ، لكنْ لا قائلَ به.

(وَلَمْ تَدْخُلِ الأُمَّةُ بِفِعْلِهِ صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّ فِعلَه لا يَعُمُّ أقسامَه، فكذلك لا يَعُمُّ أُمَّتَه، فهو خاصٌّ به، سواءٌ كانَ واجبًا أو جائزًا، (بَلْ) تَدخُلُ الأُمَّةُ (بِدَلِيلٍ) خارجيٍّ:

(1)

«التحبير شرح التحرير» (5/ 2439).

(2)

«إحكام الأحكام» (1/ 230).

(3)

رواه البخاريُّ (6)، ومسلمٌ (2308) مِن حديثِ ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدَ النَّاسِ بِالْخَيْرِ، وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ

(4)

في (ع)، (د): نكير. والمثبتُ مِن «الفوائد السنيّة في شرح الألفيّة» .

(5)

رواه مسلمٌ (1218) ضمنَ حديثِ جابرٍ رضي الله عنه في الحجِّ.

(6)

رواه البخاريُّ (1539)، ومسلمٌ (1189).

(7)

«الفوائد السنيّة في شرح الألفيّة» (3/ 434).

ص: 493

(1)

مِن (قَوْلٍ) نحوُ: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي»

(1)

،

(2)

(أَوْ) مِن (قَرِينَةِ تَأَسٍّ) كوُقوعِ فِعلِه بعدَ خطابٍ مُجمَلٍ، كالقطعِ بعدَ آيةِ السَّرقةِ، أو وُقوعِه بعدَ إطلاقٍ أو عمومٍ قُصِدَ بيانُه.

(3)

(أَوْ) مِن (قِيَاسٍ عَلَى فِعْلِهِ) وأمَّا نحوُ: «سَهَا فسَجَدَ» فالفاءُ للسَّببيَّةِ.

(وَالخِطَابُ:

(1)

الخَاصُّ به) صلى الله عليه وسلم، نحوُ قولِه تعالى:{يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ}

(2)

عامُّ للأُمَّةِ، إلَّا بدليلٍ يَخُصُّه، وهذا عندَ الإمامِ أحمدَ وأكثرِ أصحابِه وغيرِهم، ومنه {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ}

(3)

، فعلى هذا إذا قالوا: يا أيُّها النَّبيُّ للأُمَّةِ، لا يَقولون أنَّه باللُّغةِ، بل للعُرْفِ في مِثْلِه، حَتَّى لو قامَ دليلٌ على خروجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِن ذلك كانَ مِن بابِ العامِّ المخصوصِ، ولا يُقالُ: إنَّهم داخلونَ بدليلٍ آخرَ؛ لأنَّه حينئذٍ ليسَ محلًّا للنِّزاعِ، فيَتَّحِدُ القولانِ، واسْتُدِلَّ له بقولِه تعالى:{فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ}

(4)

، فعَلَّلَ الإباحةَ بنفيِ الحَرجِ عن أُمَّتِه، ولو اختُصَّ به لَما كانَ عِلَّةً لذلك، وأيضًا:{خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}

(5)

، ولو كانَ اللَّفظُ مختصًّا لم يَحتجْ إلى التَّخصيصِ، هذا إنْ أَمْكَنَ إرادةُ الأُمَّةِ معَه فيه،

[وأمَّا ما لا يُمكِنُ إرادةُ الأُمَّةِ معَه فيه]

(6)

مِثْلُ: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ}

(7)

ونحوِه، فلا تَدخُلُ الأُمَّةُ فيه قطعًا،

(1)

رواه البخاريُّ (631) من حديثِ مالكِ بنِ الحُويرثِ رضي الله عنه.

(2)

المُزَّمِّل: 1.

(3)

التَّحريم: 1.

(4)

الأحزاب: 37.

(5)

الأحزاب: 50.

(6)

ليس في «د» .

(7)

المائدة: 67.

ص: 494

وأمَّا ما لا يُمكِنُ فيه إرادةُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بذلك الحُكْمِ المُقتَرنِ بخطابِه، بل يَكُونُ الخطابُ له والمرادُ به الأُمَّةُ، فليسَ ذلك مِن مَحَلِّ النِّزاع أيضًا، وذلك مِثْلُ قولِه تعالى:{لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ}

(1)

، فخطابُه بذلك مِن مجازِ التَّركيبِ: وهو ما أُسْنِدَ فيه الحُكْمُ لغيرِ مَن هو له، نحوُ: أنبتَ الرَّبيعُ البقلَ، وإن وُجِدَتْ قرينةٌ تَدُلُّ على إرادةِ الأُمَّةِ مَعَه دَخَلوا بلا خلافٍ، وذلك مِثْلُ قولِه تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ}

(2)

الآيةَ، فإنَّ ضميرَ الجمعِ في {طَلَّقْتُمُ} ، و {طَلَّقْتُمُوهُنَّ}

(3)

قرينةٌ لفظيَّةٌ تَدُلُّ على أنَّ الأُمَّةَ مقصودةٌ معَه بالحُكمِ وأنَّ تخصيصَه بالنِّداءِ تشريفًا له صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّه إمامُهم وقدوتُهم وسيِّدُهم الَّذِي يَصْدُرُ فِعلُهم عن رأيِه وإرشادِه، فتَلَخَّصَ أنَّ‌

‌ خطابَه ثلاثةُ أنواعٍ:

أحدُها: يَكُونُ مُختصًّا به بلا نزاعٍ.

والثَّاني: دخولُ أُمَّتِه معَه بلا نزاعٍ.

والثَّالثُ: مَحَلُّ الخلافِ.

(2)

(أَوْ) أي: والخطابُ الخاصُّ (بِالأُمَّةِ) كخطابِه تعالى للصَّحابةِ: (لَا يَخْتَصُّ بِالمُخَاطَبِ) وهو الصَّحابةُ (إِلَّا بِدَلِيلٍ) يَخُصُّهم، فيَعُمَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم على الصَّحيحِ؛ لأنَّه مُخبِرٌ بأمرِ اللهِ تعالى، وتَبِعَ في «شرحِ الأصلِ»

(4)

القاضيَ عبدَ الوَهَّابِ المالكيَّ والهنديَّ

(5)

في نحوِ: «يَا أيُّها الأُمَّةُ» أنَّه لا يَدخُلُ قطعًا.

(1)

الزُّمر: 65.

(2)

الطَّلاق: 1.

(3)

البقرة: 227.

(4)

«التحبير شرح التحرير» (5/ 2465).

(5)

«نهاية الوصول في دراية الأصول» (4/ 1381).

ص: 495

(3)

(وَكَذَا خِطَابُهُ صلى الله عليه وسلم لِوَاحِدٍ مِنَ الأُمَّةِ) فإنَّه عامٌّ مطلقًا على الصَّحيحِ، فيَتَناوَلُ المُخاطَبَ وغيرَه، ولو اختصَّ به المُخاطَبُ لم يَكُنْ صلى الله عليه وسلم مَبعوثًا إلى الجميعِ، واسْتُدلَّ له برجوعِ الصَّحابةِ إلى التَّمسُّكِ بقضايا الأعيانِ، كقصَّةِ ماعزٍ

(1)

، ودِيَةِ الجَنينِ

(2)

، والمُفوِّضةِ

(3)

، وغيرِ ذلك، وأيضًا قولُه صلى الله عليه وسلم لأبي بُرْدَةَ:«تُجْزِئُكَ ولا تُجْزِئُ أَحَدًا بَعْدَكَ»

(4)

، فلولا أنَّ الإطلاقَ يَقتضي المُشاركةَ لم يَخُصَّ.

وقالَ أبو الخطَّابِ

(5)

: إنْ وَقَعَ جوابًا لسؤالٍ، كقولِ الأعرابيِّ: واقَعْتُ أهلي. فقال: «أَعْتِقْ»

(6)

، كانَ عامًّا، وإلَّا فلا، كقولِه صلى الله عليه وسلم:«مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ»

(7)

فلا يَدخُلُ فيه غيرُه.

تنبيهٌ: مَحَلُّ ذلك إذا لم يُخَصَّ ذلك الواحدُ فلا يَكُونُ غيرُه مِثْلَه في الحُكمِ، كحديثِ أبي بُردةَ بقولِه:«اذْبَحْهَا، وَلَنْ تُجْزِئَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ»

(8)

.

(1)

رواه البخاري (6824)، ومسلم (1693) من حديث ابن عباس رضي الله عنه.

(2)

رواه البخاري (5758)، ومسلم (1681) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(3)

رواه أبو داود (2114)، والترمذي (1145)، والنسائي (3354)، وابن ماجه (1891) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قصة بِرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ.

قال الترمذي: حسن صحيح.

قال في «المُطلع» (ص 398): التفويض في النكاح: التزويج بلا مهر، فالمفوَّضة بفتح الواو أي: المفوض مهرها، ثم حذف المضاف، وأقيم الضمير المضاف إليه مقامه، فارتفع واستتر. والمفوِّضة بكسرها: التي ردت أمر مهرها إلى وليها.

(4)

رواه البخاري (955)، ومسلم (1961).

(5)

«التمهيد في أصول الفقه» (1/ 276).

(6)

رواه البخاري (1936)، ومسلم (1111) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(7)

رواه البخاري (664)، ومسلم (418) من حديث عائشة رضي الله عنها.

(8)

رواه البخاري (955)، ومسلم (1961).

ص: 496

(وَفِعْلُهُ) أي: وحُكْمُ فِعلِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في تَعَدِّيهِ) أي: تَعَدِّي الفعلِ الواقعِ منه (إِلَيْهَا) أي: إلى أُمَّتِه (كَخِطَابٍ خَاصٍّ بِهِ) وتَقَدَّمَ أنَّ الخطابَ الخاصَّ به يَعُمُّ الأُمَّةَ على الصَّحيحِ، ولا يَختَصُّ به إلَّا بدليلٍ، وهذا مُخَرَّجٌ على الخلافِ في الخِطابِ المُتَوَجِّه إليه عندَ الأكثرِ.

(فَائِدَةٌ: نَحْوُ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ: نَهَى عَنْ بَيْعِ الغَرَرِ

(1)

والمُخابرةِ

(2)

(يَعُمُّ كُلَّ غَرَرٍ) ومُخابرةٍ على الصَّحيحِ؛ لإجماعِ الصَّحابةِ والتَّابعينَ في رجوعِهم إليه وعملِهم به، ولأنَّ الرَّاويَ مِن الصَّحابةِ عدلٌ عارفٌ باللُّغةِ والمعنى، فالظَّاهرُ أنَّه لم يَنقُلِ العُمومَ إلَّا بعدَ ظهورِه، وظَنُّ صِدقِه مُوجِبٌ لاتِّباعِه.

(1)

رواه مسلم (1513) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

رواه البخاري (2381)، ومسلم (1536) من حديث جابر رضي الله عنه.

ص: 497

(فَصْلٌ)

(لَفْظُ الرِّجَالِ، وَ) لفظُ (الرَّهْطِ: لَا يَعُمُّ النِّسَاءَ، وَلَا العَكْسُ) يَعني أنَّ لفظَ النِّساءِ لا يَعُمُّ الرِّجالَ ولا الرَّهطَ قطعًا، والرَّهطُ: ما دُونَ العشرةِ خاصَّةً لغةً، ولا واحِدَ له مِن لفظِه، وجمعُه: أَرْهُطٌ وَأَرْهَاطٌ وَأَرَاهِطُ.

(وَيَعُمُّ نَحْوُ) لفظِ (النَّاسِ) والإنسِ والآدميِّينَ: الرِّجالَ، والنِّساءَ، إجماعًا، (وَ) لفظُ (القَوْمِ) للرِّجالِ، في الأصحِّ، قال اللهُ تعالى:{لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ}

(1)

الآية، والَّذي يَظهَرُ أنَّ القومَ قد يَعُمُّ (الكُلَّ) أي: الرِّجالَ والنِّساءَ، ويُستأْنَسُ له بقولِه تعالى:{يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ}

(2)

فيَدخُلُ النِّساءُ في ذلك، ويُذَكَّرُ القومُ ويُؤَنَّثُ، وكذا كلُّ اسمِ جمعٍ لا واحدَ له مِن لفظِه، كرهطٍ ونَفَرٍ ونحوِهما.

(وَكَالمُسْلِمِينَ) والمُؤمنينَ والمُصَلِّينَ، (وَ «فَعَلُوا») ويَفعلون وفَعَلْتُم ونحوِه، بل ولا يَختصُّ بالضَّمائرِ، بلِ اللَّواحقِ كذلك، نحوُ: ذلكم، وإيَّاكم، مِمَّا يَغلِبُ فيه المُذَكَّرُ، (يَعُمُّ النِّسَاءَ تَبَعًا) عندَ أكثرِ أصحابِنا وغيرِهم، واسْتُدِلَّ له بمشاركةِ الذُّكُورِ في الأحكامِ لظاهرِ اللَّفظِ.

فائدةٌ: مِمَّا يُخَرَّجُ على هذه القاعدةِ مسألةُ الواعظِ المشهورةِ، وهو قولُه للحاضرين عندَه:«طَلَّقْتُكم ثلاثًا» ، وامرأتُه فيهم وهو لا يَدري، فأفتى أبو المَعالي بالوقوعِ.

قالَ في «شرحِ الأصلِ» : الصَّوابُ عدمُ الوقوعِ

(3)

.

(1)

الحجرات: 11.

(2)

الأحقاف: 31.

(3)

«التحبير شرح التحرير» (5/ 2481).

ص: 498

وقَطَعَ بالوقوعِ في «المنتهى» فيما إذا قال لمن ظَنَّها أجنبيَّةً: أنتِ طالقٌ، كعَكْسِه؛ لأنَّه واجَهَها به.

تنبيهٌ: لو جاءَ المُذَكَّرُ بلفظِ الواحدِ كقولِه: إنْ جاءَ مسلمٌ فأَعطِه دِرهمًا، فذَكَرَ الحلوانيُّ وغيرُه احتمالينِ: اختصاصُ المذكَّرِ، والثَّاني: المشاركةُ.

تنبيهٌ آخَرُ: سَكَتَ الأُصوليُّون عنِ الخَنَاثَى، هل يَدخُلُون في خطابِ المُذَكَّرِ، أمَّا إنْ قُلْنا بدخولِ النِّساءِ؛ فالخَنَاثَى بطريقٍ أَوْلى، وأمَّا إذا قُلْنا لا يَدخُلُون؛ فالظَّاهرُ مِن تَصرُّفِ الفقهاءِ دُخولُهم في خطابِ النِّساءِ في التَّغليظِ والرِّجالِ في التَّخفيفِ، وربَّما أُخرِجوا منَ القسمينِ، وللقاضي وغيرِه مِن أصحابِنا تصنيفٌ في أحكامِ الخَناثى، واللهُ أعلمُ.

(وَإِخُوَّةٌ، وَعُمُومَةٌ) أي: لفظُ الأُخُوَّةِ والعُمومةِ عامٌّ (لِذَكَرٍ وَأُنْثَى) على المذهبِ.

(وَتَعُمُّ «مَنِ» الشَّرْطِيَّةُ المُؤَنَّثَ)؛ لقولِه تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى}

(1)

فالتَّفسيرُ بالذَّكَرِ والأنثى دالٌّ على تناوُلِ القِسمينِ، ولو قال:«مَن دَخَلَ داري فهو حُرٌّ» ، فدَخَلَه الإماءُ: عَتَقْنَ بالإجماعِ، وقولُه صلى الله عليه وسلم:«مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ»

(2)

يَتناوَلُ المُرتدَّةَ، وتُقتَلُ على الصَّحيحِ؛ لدُخولِها في الحديثِ.

تنبيهٌ: تَقْيِيدُه «مَنْ» بالشَّرطيَّةِ يُخرِجُ «مَنِ» الموصولةَ و «مَنِ» الاستفهاميَّةَ.

(1)

النِّساء: 124.

(2)

رواه البخاري (3017) من حديث عليٍّ رضي الله عنه.

ص: 499

وقالَ ابنُ العِرَاقِيِّ: الحقُّ أنَّ الاستفهاميَّةَ مِن صيغِ العُمومِ دُونَ الموصولةِ، نحوُ:«مَرَرْتُ بمَنْ قَامَ» ؛ فلا عمومَ لها

(1)

.

(وَيَعُمُّ «النَّاسُ» وَ «المُؤْمِنُونَ» وَنَحْوُهُمَا) كـ الَّذين آمنوا (عَبْدًا) عندَ الأكثرِ؛ لأنَّهم يَدخُلُون في الخبَرِ فكذا في الأمرِ، وباستثناءِ الشَّارعِ لهم في الجمعةِ، (وَ) يَعُمُّ (مُبَعَّضًا) بطريقٍ أَوْلى إذا قُلْنا بدخولِ العَبيدِ.

(وَ) يَدخُلُ (كُفَّارٌ فِي) لفظِ (النَّاسِ، وَنَحْوِهِ) كأولي الألبابِ في الأصحِّ؛ إذ لا مانِعَ مِن دُخُولِهم إلَّا مع قرينةٍ تَقتضي عدمَ دُخولِهم، أو أنَّهم هم المُرادُ، لا المؤمنون فيُعمَلُ بها، نحوُ:{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ}

(2)

لأنَّ الأوَّلَ للمؤمنينَ فقطْ، إمَّا نُعَيْمُ بنُ مسعودٍ الأشجعيُّ، وهو الَّذِي نَقَلَه المُفسِّرون، أو أربعةٌ كما نَصَّ عليه الإمامُ الشَّافعيُّ في «الرِّسالة»

(3)

، والثَّاني لكفَّارِ مَكَّةَ.

لكنْ قد يُقالُ بأنَّ اللَّامَ في ذلك للعَهدِ الذِّهنيِّ والكلامُ في الاستغراقيَّةِ.

(وَ) قولُه تعالى: ({يَاأَهْلَ الْكِتَابِ}

(4)

لَا يَشْمَلُ الأُمَّةَ) أي: أُمَّةَ نبيِّنا محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، قَطَعَ به أكثرُ العلماءِ، كقولِه تعالى:{يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ}

(5)

، {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا}

(6)

فلا يَدخُلُ فيه أُمَّةُ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، إلَّا أنْ يَدُلَّ دليلٌ على مُشاركتِهم لهم فيما خُوطبوا به؛ وذلك لأنَّ اللَّفظَ قاصرٌ عليهم، فلا يَتَعَدَّاهم، والمرادُ اليهودُ والنَّصارى.

(1)

«الغيث الهامع» (ص: 296).

(2)

آل عمران: 173.

(3)

«الرسالة» (ص 58).

(4)

آل عمران: 131، وغيرها.

(5)

النِّساء: 171.

(6)

المائدة: 59.

ص: 500

(وَيَعُمُّهُ) أي: يَعُمُّ الرَّسولَ صلى الله عليه وسلم: نحوُ قوله تعالى: ({يَاأَيُّهَا النَّاسُ) اعْبُدُوا رَبَّكُمُ}

(1)

، (و {يَاعِبَادِ) لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ}

(2)

، و {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ}

(3)

عندَ الأكثرِ؛ لصِدقِ ذلك عليه، فلا يَخرُجُ إلَّا بدليلٍ، ومَحَلُّه (حَيْثُ لَا قَرِينَةَ) تَنفي دخولَه، نحوُ: يا أيُّها الأُمَّةُ، فلا يَدخُلُ بلا خلافٍ، ومِثْلُه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}

(4)

؛ لأنَّا مأمورونَ بالاستجابةِ.

(وَيَعُمُّ) نحوُ

(5)

: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ} موجودًا (غَائِبًا) وقتَ تبليغِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (وَمَعْدُومًا) حالةَ الخِطابِ (إِذَا وُجِدَ وَكُلِّفَ لُغَةً) أي: باللُّغةِ عندَ أصحابِنا وغيرِهم، فإذا بَلَغَ الغائبَ والمعدومَ بعدَ وجودِه تَعَلَّقَ به الحكمُ باللُّغةِ، ولأنَّا مأمورونَ بأمرِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فحَصَلَ ذلك إخبارًا عن أمْرِ اللهِ تعالى عندَ وجودِنا مُقتضى التَّصديقِ والتَّكذيبِ، وقيلَ: ليسَ خطابًا لمَن بعدَ المُواجهينَ، وإنَّما ثَبَتَ الحكمُ بدليلٍ آخَرَ منِ إجماعٍ أو نصٍّ أو قياسٍ. واسْتَدَلُّوا بأنَّه لا يُقالُ للمعدومينَ: يا أيُّها النَّاسُ.

وأجابوا عمَّا استدلَّ به الخَصمُ بأنَّه لو لم يَكُنِ المعدومونَ مُخاطَبين بذلك لم يَكُنِ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم مُرسَلًا إليهم بأنَّه لا يَتَعَيَّنُ الخطابُ الشِّفاهيُّ في الإرسالِ، بل مطلقُ الخطابِ كافٍ.

(1)

البقرة: 22.

(2)

الزُّخرف: 68.

(3)

البقرة: 278.

(4)

الأنفال: 24.

(5)

ليست في «د» .

ص: 501

(وَالمُتَكَلِّمُ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ كَلَامِهِ) أي: كلامِ نَفْسِه عندَ أكثرِ أصحابِنا وغيرِهم، نحوُ:{وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}

(1)

إذا قُلْنا بصحةِ إطلاقِ شيءٍ عليه، ولأنَّ اللَّفظَ عامٌّ، ولا مانعَ مِن الدُّخولِ، والأصلُ عدمُه.

وقولُه: (مُطْلَقًا) يَشْمَلُ الخبَرَ والإنشاءَ والأمرَ والنَّهيَ، وقولُه:(إِنْ صَلَحَ) يعني: إنْ كانَ اللَّفظُ صالحًا لدُخولِه فيه، فخَرَجَ ما إذا كانَ بلفظِ المُخاطَبَة، نحوُ:«إِنَّ اللهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ»

(2)

، ومن المسائلِ المُتعلِّقةِ بهذا الوقفُ على الفقراءِ، ثمَّ صارَ فقيرًا، فالصَّحيحُ جوازُ الأخذِ.

فائدةٌ: اختارَ أبو الخَطَّابِ

(3)

والأكثرُ أنَّ المتكلِّمَ لا يَدخُلُ في الأمرِ والنَّهيِ، ويَدخُلُ في غيرِهما.

قالَ في «شرحِ الأصلِ» : وهو أظهرُ

(4)

.

والفرقُ بينَهما أنَّ

(5)

الأمرَ استدعاءُ الفعلِ على جهةِ الاستعلاءِ، فلو دَخَلَ المُتكلِّمُ تحتَ ما يَأمُرُ به غيرَه؛ لكانَ مُستدعيًا مِن نَفْسِه ومُستعليًا، وهو محالٌ، ومِن فروعِ هذه المسألةِ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كانَ له أنْ يَتَزَوَّجَ بلا وليٍّ ولا شهودٍ وزمنَ حرامٍ

(6)

، على المشهورِ في المذهبِ.

(1)

البقرة: 282.

(2)

رواه البخاري (6108)، ومسلم (1646) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

(3)

«التمهيد في أصول الفقه» (1/ 271).

(4)

«التحبير شرح التحرير» (4/ 2498).

(5)

في (ع): بأن.

(6)

ليست في «د» .

ص: 502

قُلْتُ: يَصِحُّ هذا التَّفريعُ إنْ قُلْنا بعَدمِ الخُصوصيَّةِ، وإلَّا، فلا إشكالَ في جوازِ ذلك.

(وَتَضَمُّنُ) لفظُ (عَامٍّ) أي: إذا تَضَمَّنَ العامُّ (مَدْحًا أَوْ ذَمًّا، كَالأَبْرَارِ) في قولِه تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ}

(1)

، (وَالفُجَّارِ){وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ}

(2)

، (لَمْ

(3)

يَمْنَعْ) أي: لم يُغَيِّرْ (عُمَومَهُ) أي: عمومَ اللَّفظِ المُتَضَمِّنِ مدحًا أو ذمًّا على الصَّحيحِ؛ إذْ لا تنافيَ بينَ قصدِ العُمومِ وبينَ المدحِ أو الذَّمِّ، ومنه قولُه تعالى:{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}

(4)

فيُحمَلُ الذَّهَبُ والفضَّةُ وغيرُهما على العُمومِ؛ إذْ لا صارفَ له عنه.

(وَمِثْلُ) قولِه تعالى: ({خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً}

(5)

عامٌّ فـ (يَقْتَضِي أَخْذَهَا) أي: الصَّدقةِ (مِنْ كُلِّ نَوْعٍ مِنَ المَالِ) الَّذِي بأيديهم، لا مِن نوعٍ واحدٍ عندَ الأكثرِ؛ لأنَّ أموالَهم جمعٌ مضافٌ، فكانَ عامًّا في كلِّ نوعٍ نوعٍ وفردٍ فردٍ، إلَّا ما خَرَجَ بالسُّنَّةِ، ولأنَّ المُرادَ عن كلِّ نصابٍ نصابٍ كما بَيَّنَتْه السُّنَّةُ.

(1)

الانفطار: 13.

(2)

الانفطار: 14.

(3)

في «مختصر التحرير» (ص 155): لا.

(4)

التَّوبة: 34.

(5)

التَّوبة: 103.

ص: 503

(فَصْلٌ)

(القِرَان) مِن جهةِ الشَّارِعِ (بَيْنَ شَيْئَيْنِ لَفْظًا لَا يَقْتَضِي) ذلك القِرانُ (تَسْوِيَةً بَيْنَهُمَا) أي: بينَ الشَّيئينِ المَذكورينِ (حُكْمًا فِي غَيْرِ) الحُكْمِ (المَذْكُورِ، إِلَّا بِدَلِيلٍ) مِن خارجٍ عندَ أكثرِ أصحابِنا وغيرِهم، وذلك مِثْلُ قولِه صلى الله عليه وسلم:«لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي المَاءِ الدَّائِمِ ولا يَغْتَسِلْ فِيهِ مِنَ جَنَابَةٍ»

(1)

، فلا يَلْزَمُ مِن تنجيسِه بالبولِ تَنجيسُه بالاغتسالِ، ومِن الدَّليل أيضًا: قولُه تعالى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ}

(2)

، فعَطَفَ واجبًا على مباحٍ؛ لأنَّ الأصلَ عدمُ الشَّرِكَةِ ودليلِها

(3)

، وقد أَجمَعُوا على أنَّ اللَّفظينِ العامَّينِ إذا عُطِفَ أحدُهما على الآخَرِ وخُصَّ أحدُهما لا يَقتضي تخصيصَ الآخَرِ.

(وَلَا يَلْزَمُ مِنْ إِضْمَارِ شَيْءٍ فِي مَعْطُوفٍ) على شيءٍ (أَنْ يُضْمَرَ) ذلك الشَّيْءُ (فِي مَعْطُوفٍ عَلَيْهِ).

مثالُه: قولُه صلى الله عليه وسلم: «لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ، ولا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ»

(4)

فأصحابُنا وغيرُهم يُقَدِّرون في الجملةِ الثَّانيةِ خاصًّا، فيَقولون: ولا ذو عهدٍ [في عهدِه]

(5)

بحَربيٍّ؛ لأنَّ التَّقديرَ إِنَّمَا هو بما تَنْدَفِعُ به الحاجةُ بلا زيادةٍ، وفي التَّقديرِ بحَربيٍّ كفايةٌ، ولا يَضُرُّ تخالُفُه مع المعطوفِ عليه في ذلك؛ إذْ لا يُشتَرَطُ إلَّا اشتِراكُهما في أصلِ الحُكْمِ، وهو هنا مَنْعُ القتلِ بما يُذكَرُ، أو

(1)

رواه البخاري (239)، ومسلم (282) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

أي: وعدم دليلها.

(3)

في (د): بعهده.

(4)

رواه أبو داود (4530)، والنسائي (4734) من حديث عليٍّ رضي الله عنه، وصححه الألباني في «إرواء الغليل» (2209).

والحديث رواه البخاري (111) مختصرًا: «ولا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ» .

(5)

في (د): بعهده.

ص: 504

بما يَقُومُ الدَّليلُ عليه، لا في كلِّ الأحوالِ، وهو قولُه تعالى:{وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ}

(1)

فإنَّه مُختَصٌّ بالرَّجعيَّاتِ، وإنْ تَقَدَّمَ المُطلَّقاتُ بالعُمومِ.

وأمَّا الحنفيَّةُ ومَن تابَعَهم، والقاضي أبو يَعلى فيُقَدِّرُون تَتْمِيمًا للجملةِ الثَّانيةِ لفظًا عامًّا تسويةً بينَ المعطوفِ والمعطوفِ عليه في مُتَعَلَّقِه فيَكُونُ على حدِّ قولِه تعالى:{آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ}

(2)

فيُقَدَّرُ: ولا ذو عهدٍ في عهدِه بكافرٍ؛ إذْ لو قُدِّرَ خاصًّا وهو: ولا ذو عهدٍ في عهدِه بحربيٍّ؛ لَزِمَ التَّخالُفُ بينَ المُتعاطفَينِ، وأنْ يَكُونَ تقديرًا بلا دليلٍ، بخلافِ ما لو قُدِّرَ عامًّا، فإنَّ الدَّليلَ عليه مِن المُصَرَّحِ به في الجملةِ الَّتي قَبْلَها، وحينئذٍ فيُخَصَّصُ العُمومُ في الثَّانيةِ بالحَربيِّ، بدليلٍ آخَرَ [وهو الاتِّفاقُ على أنَّ المُعاهَدَ لا يُقتَلُ بالحَربيِّ]

(3)

ويُقتَلُ بالمُعاهَدِ والذِّمِّيِّ.

قالوا: وإذا تَقَرَّرَ هذا وَجَبَ أنْ يُخَصَّصَ العامُّ المذكورُ أوَّلًا ليَتَسَاوَيَا، فيَصيرُ لا يُقتَلُ مسلمٌ بكافرٍ ولا ذو عهدٍ في عهدِه بكافرٍ حربيٍّ.

تنبيهٌ: ترجمةُ هذه المسألةِ

(4)

الَّتي في المَتنِ تَبِعَ فيها صاحبَ «الأصلِ» ، وأبا الخَطَّابِ

(5)

، وتَرجَمَها ابنُ قاضي الجبلِ

(6)

وغيرُه بقولِه: عَطفُ الخاصِّ على العامِّ لا يَقتضي تخصيصَ المعطوفِ عليه، ومَثَّلَ الفريقانِ بالحديثِ المتقدِّمِ، والخلافُ في هذه المسألةِ مشهورٌ بينَ العلماءِ مع الاتِّفاقِ على أنَّ النَّكرةَ في سياقِ النَّفيِ للعُمومِ.

ولَمَّا أَنْهى الكلامَ في العُمومِ وصِيَغِه شَرَعَ في مقابِلِه، وهو الخصوصُ، فقال:

(1)

البقرة: 228.

(2)

البقرة: 285.

(3)

ليس في «د» .

(4)

ليست في «د» .

(5)

«التمهيد في أصول الفقه» (2/ 172).

(6)

ينظر: «التحبير شرح التحرير» (5/ 2451).

ص: 505

(بَابُ التَّخْصِيصِ)

فالخاصُّ في الابتداءِ أمْرُه ظاهرٌ

(1)

، وإنَّما النَّظَرُ فيما إذا كانَ عامًّا ثمَّ صارَ خاصًّا بدليلٍ، فهذا تَتَوَقَّفُ مَعرفتُه على بيانِ التَّخصيصِ والمُخصَّصِ بالفتحِ والمُخصِّصِ بالكسرِ.

فأمَّا التَّخصيصُ فرَسْمُه: (قَصْرُ العَامِّ) أي: قَصْرُ الشَّارِعِ العامَّ (عَلَى بَعْضِ أَجْزَائِهِ) والَّذي يَظْهَرُ أنَّه موافقٌ لِما قالَه بعضُهم مِن أنَّه قَصْرُ العامِّ على بعضِ مُسَمَّياتِه؛ فإنَّ مُسَمَّى العامِّ: جميعُ ما يَصْلُحُ له اللَّفظُ لا بعضُه.

وقالَ بعضُهم: على بعضِ أفرادِه، فخَرَجَ تقييدُ المُطلَقِ؛ لأنَّه قَصْرٌ مطلقٌ لا عامٌّ كرَقَبَةٍ مُؤمنةٍ، وكذا الإخراجُ مِن العَددِ كعَشْرةٍ إلَّا ثلاثةً، ونحوِ ذلك.

ودَخَلَ ما عُمومُه باللَّفظِ، وما عمومُه بالمعنى، فالأوَّلُ: كـ {اقتلوا الْمُشْرِكِينَ}

(2)

قَصْرٌ بالدَّليلِ على غيرِ الذِّمِّيِّ وغيرِه ممَّن عُصِمَ بأمانٍ، والثَّاني: كقَصْرِ عِلَّةِ الرِّبا في بيعِ الرُّطَبِ بالتَّمْرِ مَثلًا بأنَّه يَنْقُصُ إذا جَفَّ على غيرِ العَرايا، فيَكُونُ مَعنى هذه الحدودِ واحدًا.

إذا عَرَفْتَ ذلك فالمُرادُ مِن قَصرِ العامِّ قَصرُ حُكْمِه، وإنْ كانَ لفظُ العامِّ باقيًا على عمومِه كـ {اقتلوا الْمُشْرِكِينَ}

(3)

، لكنْ لفظًا لا حُكمًا، فبذلك يَخرُجُ إطلاقُ العامِّ وإرادةُ الخاصِّ، فإنَّ ذلك قَصْرُ إرادةِ لفظِ العامِّ لا قَصرُ حُكْمِه.

(وَيُطْلَقُ) التَّخصيصُ لغةً (عَلَى: قَصْرِ لَفْظٍ غَيْرِ عَامٍّ) اصطلاحًا (عَلَى

(1)

في (د): ظاهرًا.

(2)

التَّوبة: 5.

(3)

التَّوبة: 5.

ص: 506

بَعْضِ مُسَمَّاهُ) أي: مُسَمَّى ذلك اللَّفظِ، كإطلاقِ العشرةِ على بعضِ آحادِها، يُقالُ له: عامٌّ، باعتبارِ آحادِه، وإنْ لم يَكُنْ عامًّا اصطلاحًا، فإذا قُصِرَ على خمسةٍ بالاستثناءِ منه قِيلَ: قد خُصِّصَ (كَعَامٍّ) أي: كما يُطلَقُ عامٌّ (عَلَى غَيْرِ لَفْظٍ عَامٍّ) كمسلمينَ للمَعهُودِينَ، نحوُ: جاءَني مُسلمونَ إلَّا زيدًا، فإنَّهم يُسَمُّون المُسلمينَ عامًّا والاستثناءَ منه تخصيصًا.

(وَيَجُوزُ) التَّخصيصُ:

(1)

(مُطْلَقًا) أي: سواءٌ كانَ العامُّ أمرًا أو نهيًا أو خبَرًا عندَ الجمهورِ، واسْتُدِلَّ له بأنَّه استُعمِلَ في الكتابِ والسُّنَّةِ، نحوُ:{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}

(1)

، {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا}

(2)

، وفي الأمْرِ:{اقتلوا الْمُشْرِكِينَ}

(3)

، وفي النَّهيِ:{لا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ}

(4)

، فيَجوزُ التَّخصيصُ

(2)

(وَلَوْ لِـ) عامٍ (مُؤَكَّدٍ) فالعامُّ المُؤَكَّدُ إذا أُكِّدَ لا يُمنَعُ تَخصيصُه على الأصحِّ، بدليلِ:{فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ}

(5)

إذا قُدِّرَ متصلًا، وفي الحديثِ:«فَأَحْرَمُوا كُلُّهُمْ إِلَّا أَبَا قَتَادَةَ»

(6)

.

(3)

إذا عَلِمْتَ ذلك فيُخَصَّصُ العامُّ (إِلَى أَنْ يَبْقَى) مِن أفرادِه (وَاحِدٌ) فقطْ على الصَّحيحِ، وحَكَى الجُوَيْنِيُّ

(7)

إجماعَ أهلِ السُّنَّةِ على ذلك في: «مَن» و «ما» ونحوِهما، واستُدِلَّ لهذا القولِ لو امتنعَ ذلك لكانَ الامتناعُ: إمَّا لأنَّه مجازٌ، أو لاستعمالِه في غيرِ موضوعِه، فيَمتنِعُ تخصيصُه مُطلقًا.

(1)

الرَّعد: 16.

(2)

الأحقاف: 25.

(3)

التَّوبة: 5.

(4)

البقرة: 222.

(5)

الحجر.

(6)

رواه البخاري (1824)، ومسلم (1196) من حديث أَبِي قَتَادَةَ رضي الله عنه، قال: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَاجًّا، وَخَرَجْنَا مَعَهُ .. الحديث.

(7)

ينظر: «التحبير شرح التحرير» (6/ 2520)، و «شرح الكوكب المنير» (3/ 273).

ص: 507

(وَلَا تَخْصِيصَ) أي: لا يَستقيمُ التَّخصيصُ (إِلَّا فِيمَا) يَصِحُّ تَوكيدُه بـ «كُلّ» ليَكُونَ إذا أَجْزَأَ يَصِحُّ افتِراقُها، وهو ما (لَهُ شُمُولٌ):

(1)

إمَّا (حِسًّا) كـ {اقتلوا الْمُشْرِكِينَ}

(1)

،

(2)

(أَوْ حُكْمًا) كـ: اشْتَرَيْتُ الجاريةَ كُلَّها؛ لإمكانِ افتِراقِ أجزائِها.

(وَ) لَمَّا فَرَغَ مِن بيانِ التَّخصيصِ شَرَعَ في المُخصِّصِ بكسرِ الصَّادِ، فـ (المُخَصِّصُ): هو (المُخْرِجُ، وَ) المُخرِجُ: (هُوَ إِرَادَةُ المُتَكَلِّمِ) إخراجَ بعضِ ما تَنَاوَلَه الخطابُ.

(وَيُطْلَقُ) المُخَصِّصُ (مَجَازًا عَلَى الدَّلِيلِ) الدَّالِّ على إرادةِ بعضِ ما يَتَناوَلُه الخِطابُ، (وَهُوَ) أي: الدَّليلُ (المُرَادُ هُنَا) في الأصولِ حَتَّى صَارَ حَقِيقَةً عُرفِيَّةً.

ورُبَّما أُطلِقَ المُخصِّصُ على المُظْهِرِ كإرادةِ مُريدِ التَّخصيصِ مِن مُجتهدٍ أو غيرِه.

إذا عُلِمَ ذلك ف‌

‌المُخَصِّصُ قِسمانِ: مُنفصِلٌ، ومُتَّصِلٌ

، وقَطَعُوا به، فلذلك قال:

(وَهُوَ:

(1)

مُنْفَصِلٌ) وهو ما يَستَقِلُّ بنَفْسِه بأنْ لم يَكُنْ مُتَعَلِّقًا باللَّفظِ الَّذِي فيه العامُّ، وقَدَّمَه على المُتَّصِلِ لطولِ الكلامِ عليه.

(وَمِنْهُ) أي: مِن التَّخصيصِ بالمُنفِصِل:

(1)

التَّوبة: 5.

ص: 508

- (الحِسُّ) أي: المُشاهَدَةُ، كقولِه تعالى:{وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ}

(1)

، فنحنُ نُشاهِدُ أشياءَ كثيرةً لم تُؤْتَها بلقيسَ، كمُلْكِ سليمانَ، وغيرِه.

تنبيهاتٌ:

الأوَّل: أنَّ هذا المثالَ لا يَتَعَيَّنُ أنْ يَكُونَ مِن العامِّ المَخصوصِ بالحِسِّ، فقد

(2)

يُدَّعَى أنَّه مِن العامِّ الَّذِي أُريدَ به الخُصوصُ.

الثَّاني: أنَّ ما كانَ خارجًا بالحسِّ قد يُدَّعَى أنَّه لم يَدخُلْ حَتَّى يَخْرُجَ كما يَأتي نظيرُه في التَّخصيصِ بالعَقلِ فلْيَكُنْ هذا على الخلافِ الَّذِي هناك.

الثَّالثُ: يؤولُ التَّخصيصُ بالحِسِّ إلى أنَّ العقلَ يَحكُمُ بخروجِ بعضِ الأفرادِ بواسطةِ الحسِّ ولم يَخرُجْ عن كَوْنِه خارجًا بالعقلِ، فلْيَكُونَا قِسمًا واحدًا، وإنِ اختَلَفَ طريقُ الحصولِ.

- (وَ) مِن المُخَصِّصاتِ المُنفصِلةِ (العَقْلُ) أيضًا ضَروريًّا كانَ أو نَظريًّا؛ فالضَّروريُّ، كقولِه تعالى:{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}

(3)

فإنَّ العَقلَ قاضٍ بالضَّرورةِ أنَّه لم يَخلُقْ نَفْسَه الكريمةَ ولا صفاتِه، والنَّظريُّ، كتَخصيصِ قولِه تعالى:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}

(4)

فإنَّ العَقلَ بنَظَرِه اقْتَضَى عدمَ دُخولِ الطِّفلِ والمجنونِ بالتَّكْلِيفِ بالحَجِّ؛ لعدمِ فَهمِهما، بل هما مِن جُملةِ الغافِلِينَ الَّذينَ هم غيرُ مُخاطَبِينَ بخطابِ التَّكْلِيفِ.

تنبيهٌ: قال البِرْمَاوِيُّ

(5)

: مَنَعَ كثيرٌ مِن العلماءِ أنَّ ما خَرَجَ مِن الأفرادِ بالعَقلِ مِن بابِ «التَّخصيصِ» ، وإنَّما العَقلُ اقْتَضَى عدمَ دُخولِه في لفظِ العامِّ، وفَرْقٌ

(1)

النَّمل: 23.

(2)

في (د): وقد.

(3)

الزُّمر: 62.

(4)

آل عمران: 97.

(5)

«الفوائد السنيّة في شرح الألفيّة» (4/ 139).

ص: 509

بينَ عدمِ دُخولِه في لفظِ العامِّ وبينَ خروجِه بعدَ أنْ دَخَلَ، والخلافُ لفظيٌّ على الأصحِّ، ويَشهَدُ له قولُ الأستاذِ أبي منصورٍ: أَجمَعُوا على صِحَّةِ دَلالةِ العقلِ على خُرُوجِ شيءٍ عن حُكْمِ العُمومِ

(1)

.

(2)

(وَ) القِسْمُ الثَّاني مِن المُخصِّصِ: (مُتَّصِلٌ) وهو ما لا يَستَقِلُّ بنَفْسِه بل مُرتَبِطٌ بكلامٍ آخَرَ.

(وَهُوَ أَقْسَامٌ) أربعةٌ، أو خمسةٌ:

- (اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ) وشرطٌ، وصفةٌ، وغايةٌ، زادَ الآمِدِيُّ ومَن تَبِعَه: بدلُ البعضِ، فالاستثناءُ مأخوذٌ مِن الثَّنْيِ وهو العَطفُ. تَقولُ: ثَنَيْتُ الحَبْلَ أَثْنِيه إذا عَطَفْتَ بَعضَه على بعضٍ، وقيلَ: مِن ثَنَيْتُه عنِ الشَّيْءِ إذا صَرَفْتُه عنه

(2)

.

(وَهُوَ) شيئانِ: استثناءٌ مُتَّصِلٌ، واستثناءٌ مُنقطِعٌ، والمرادُ هنا المُتَّصِلُ، أمَّا المُنفصِلُ فالرَّاجحُ أنَّه لا يُعَدُّ مِن المُخصِّصاتِ، وفي تعريفِ كلٍّ مِنهما عباراتٌ ذَكَرَ منها في المُتَّصِلِ ما قالَه الأصحابُ والأكثرونَ:

(إِخْرَاجُ مَا) أي: إخراجُ شيءٍ (لَوْلَاهُ) أي: لولا الاستثناءُ (لَوَجَبَ دُخُولُهُ) أي: دخولُ ذلك الشَّيْءِ في الكلامِ (لُغَةً) فلا يُقَدَّرُ إخراجُ ما لَولاه لجازَ دُخولُه على الصَّحيحِ.

إذا عَرَفْتَ ذلك فالإخراجُ يَكُونُ (بِـ «إِلَّا»، أَوْ إِحْدَى أَخَوَاتِهَا) وهي الثَّمانيةُ المشهورةُ الَّتي مِنها ما هو حرفٌ اتِّفاقًا كـ: «إلَّا» ، أو على الصَّحيحِ كـ:«حاشا» ، ويُقالُ فيها: حاشَ وحَشَا، ومنها ما هو فعلٌ كـ:«لا يَكُونُ» ،

(1)

ينظر: «تشنيف المسامع» للزَّركشي (2/ 771)، و «الفوائد السَّنية» للبِرماوي (4/ 140).

(2)

«الإحكام في أصول الأحكام» (2/ 292).

ص: 510

أو على الرَّاجحِ كـ: «ليسَ» ، ومنها ما هو مُتَرَدِّدٌ بينَ الحَرفيَّةِ والفِعليَّةِ، فإنْ نُصِبَ ما بعدَه كانَ فعلًا، أو جُرَّ كانَ حرفًا وهو «خلا» باتِّفاقٍ، و «عدا» عندَ غيرِ سِيبَويْه، ومنها ما هو اسمٌ وهو «غيرُ» و «سِوَى» ، سواءٌ قلنا:[هو ظرفٌ، وإنَّما اسْتثْنِي به، أو قُلْنا: يَتَصَرَّفُ تَصرُّفَ الأسماءِ، ويُقالُ فيه: سُوى بضمِّ السِّينِ]

(1)

و «سَواءٌ» بفتحِها والمدِّ، وبكسْرِها والمدِّ.

إذا عَلِمْتَ ذلك، فالصَّحيحُ أنَّ مِن شَرطِ الاستثناءِ كَوْنَه (مِنْ مُتَكَلِّمٍ وَاحِدٍ) ليَخْرُجَ ما لو قال اللهُ تعالى:{اقتلوا الْمُشْرِكِينَ}

(2)

، فقالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:«إِلَّا أَهلَ الذِّمَّةِ»

(3)

فإنَّ ذلك استثناءٌ مُنفصِلٌ لا مُتَّصِلٌ، ولهذا قال الرَّافعيُّ

(4)

: لو قال: لي عليك مئةٌ، فقال: إلَّا درهمًا، لم يَكُنْ مُقِرًّا بما عدا المُستثنى على الأصحِّ. واحتِيجَ في قولِ العبَّاسِ رضي الله عنه بعدَ قولِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم:«ولا يُخْتَلَى خَلَاؤُهُ» : يا رسولَ اللهِ! إلَّا الإذخرَ. فقال: «إِلَّا الإِذْخِرَ»

(5)

إلى تأويلِه بأنَّ العبَّاسَ أرادَ أن يُذَكِّرَه صلى الله عليه وسلم بالاستثناءِ خَشيَةَ أنْ يَسْكُتَ عنه اتِّكالًا على فَهمِ السَّامعِ ذلك بقَرينةٍ، وفُهِمَ منه أنَّه يُريدُ استثناءَه، ولذلك أعادَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم فقال:«إِلَّا الإِذْخِرَ» ولم يَكتَفِ باستثناءِ العبَّاسِ.

[تنبيهٌ: لو قَدَّرْنا أنَّ الاستثناءَ إخراجُ ما لَوْلاه لجازَ دُخولُه كـ: أَكْرِمْ رجلًا إلَّا زيدًا وعَمرًا، وصلِّ إلَّا عندَ الزَّوالِ، و {لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ}

(6)

؛ صَحَّ الاستثناءُ مِن نكرةٍ كالاستثناءِ مِن المَحَالِّ والأزمانِ والأحوالِ، وسَلَّمَه بعضُهم.

(1)

ليس في «د» .

(2)

التَّوبة: 5.

(3)

لم أقف عليه.

(4)

«الشرح الكبير» (11/ 177).

(5)

رواه البخاري (1349)، ومسلم (1353).

(6)

يوسف: 66.

ص: 511

وأمَّا إذا قَدَّرْنا لوَجَبَ دخولُه]

(1)

(فَلَا يَصِحُّ) الاستثناءُ:

- (مِنْ نَكِرَةٍ) فلا يُقالُ: «جاءَني رجالٌ إلَّا زيدًا» ؛ لاحتمالِ ألَّا يُريدَ المُتكلِّمُ دُخولَه حَتَّى يُخرِجَه، أمَّا إذا أفادَ الاستثناءُ مِن النَّكرةِ كاستثناءِ جزءٍ مِن مُرَكَّبٍ، فيَجوزُ نحوُ: اشتَرَيْتُ العبدَ إلَّا رُبُعَه ودارًا إلَّا سَقْفَها.

- (وَلَا) يَصِحُّ الاستثناءُ (مِنْ غَيْرِ الجِنْسِ) على الصَّحيحِ، كـ: قامَ القومُ إلَّا حمارًا، فلا يَدخُلُ الحمارُ في العُمومِ؛ لسَبْقِ المُتَّصِلِ إلى الفَهْمِ وهو دليلُ الحقيقةِ، ولأنَّ الاستثناءَ صرفُ اللَّفظِ بحَرفِه عمَّا يَقتَضِيه لولاه، أو إخراجٌ لأنَّه مأخوذٌ مِن الثَّنْيِ كما تَقَدَّمَ، ولأنَّ الاستثناءَ إِنَّمَا يَصِحُّ لتَعَلُّقِه بالأوَّلِ لعدمِ استقلالِه، وإلَّا لصَحَّ كلُّ شيءٍ مِن كُلِّ شيءٍ لاشتِراكِهما في مَعنًى عامٍّ، ولأنَّه لو قال: جاءَ النَّاسُ إلَّا الكلابَ وإلَّا الحميرَ، عُدَّ قبيحًا لُغةً وعُرفًا.

وقيلَ: يَصِحُّ الاستثناءُ مِن غيرِ الجنسِ، وجِهةُ وُقوعِه كقولِه تعالى:{إِلَّا رَمْزًا}

(2)

، {مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ}

(3)

،

ورُدَّ بأنْ «إلَّا» في ذلك بمعنَى «لكنْ» عندَ النُّحاةِ، وهو استدراكٌ، ولهذا لم يَأتِ إلَّا بعدَ نفيٍ أو بعدَ إثباتٍ بعدَه جملةٌ.

(وَالمُرَادُ) مِن مذهبِنا ومذهبِ الأكثرِ (بِـ «عَشْرَةٍ إِلَّا ثَلَاثَةً» سَبْعَةٌ، وَ «إِلَّا») الَّتي هي أداةُ الاستثناءِ في هذا المثالِ (قَرِينَةٌ مُخَصِّصَةٌ) أي: بَيَّنَتْ أنَّ الكلَّ استُعمِلَ وأُريدَ به الجُزءُ مَجازًا، فعلى هذا

(4)

الاستثناءُ مُبَيِّنٌ لغَرضِ المُتكلِّمِ به، بالمُستثنى منه، فإذا قال:«له عليَّ عشرةٌ» كانَ ظاهرًا في الجميعِ، ويَحتملُ إرادةَ بعضِها مَجازًا، فإذا قال:«إلَّا ثلاثةً» ، فقد بَيَّنَ أنَّ مُرادَه بالعَشرةِ سبعةٌ

(1)

ليست في «د» .

(2)

آل عمران: 41.

(3)

إبراهيم: 22.

(4)

زاد في (د): أن.

ص: 512

فقطْ، كما في سائرِ التَّخصيصاتِ، ولو أُريدَ عشرةٌ كاملةٌ امْتَنَعَ، مِثلُ:{فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا}

(1)

لأنَّه يَلْزَمُ كَذِبُ أحدِهما، ولم يَقطَعْ بأنَّه إِنَّمَا أَقَرَّ بسبعةٍ، وقد وَقَعَ الاستثناءُ في القُرآنِ الَّذِي لا يَأتيه الباطلُ مِن بينِ يَديْه ولا مِن خلْفِه.

(وَشَرْطُهُ) أي: الاستثناءِ:

(1)

(اتِّصَالٌ مُعْتَادٌ) بالمُستثنى منه:

- إمَّا (لَفْظًا) بأنْ يُذْكَرَ المُستثنى منه

(2)

عَقِبَ المُستثنى منه مِن غيرِ فاصلٍ.

- (أَوْ حُكْمًا) كانقطاعِه عنه بتَنَفُّسٍ أو عُطاسٍ، فيُشتَرَطُ أنْ يَأتيَ به عَقِبَ ذلك على الصَّحيحِ (كَبَقِيَّةِ التَّوَابِعِ) لقولِه صلى الله عليه وسلم:«مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ، فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ، وَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ»

(3)

، ولم يَقُلْ:«أو يَسْتَثْنِ» ، ولذلك لمَّا أرشدَ اللهُ تعالى أيُّوبَ صلى الله عليه وسلم بقولِه:{وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ}

(4)

جَعَلَ طريقَ برِّه ذلك، ولو كانَ الاستثناءُ المُتَراخي يَحصُلُ به البِرُّ لَمَا جَعَلَ اللهُ تعالى الوسيلةَ إلى البِرِّ ذلك.

(2)

(وَ) شَرطُ الاستثناءِ أيضًا (نِيَّتُهُ) بأنْ يَنوِيَ المُستثني الاستثناءَ في الكلامِ (قَبْلَ تَمَامِ مُسْتَثْنًى مِنْهُ) على الصَّحيحِ، فلو لم تَعرِضْ له نِيَّةُ الاستثناءِ إلَّا بعدَ فراغِ المُستثنَى منه: لم يُعتَدَّ به، ولا يُعتَبَرُ وُجودُها في أوَّلِ الكلامِ، بل يُكتَفَى به قبلَ فراغِه على الصَّحيحِ.

(1)

العنكبوت: 14.

(2)

ليست في «د» .

(3)

رواه مسلم (1650) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(4)

ص: 44.

ص: 513

(3)

(وَ) شرطُ الاستثناءِ أيضًا (نُطْقٌ بِهِ) أي: بالمُستثنى عندَ الأربعةِ وغيرِهم (إِلَّا فِي يَمِينِ خَائِفٍ بِنُطْقِهِ) أي: فيَتَعَيَّنُ نُطقُه إلَّا مِن مظلومٍ خائفٍ نصًّا؛ لأنَّ يمينَه غيرُ مُنعقدةٍ، أو لأنَّه بمَنزلةِ المُتَأَوِّلِ.

و (لَا) يُشتَرطُ في الاستثناءِ (تَأْخِيرُهُ) عنِ المُستثنى منه، فيَجوزُ تقديمُه عليه، كقولِه صلى الله عليه وسلم فيما رَوَاه الشَّيخانِ:«وَاللهِ! إِنْ شَاءَ اللهُ، لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ .. » الحديثَ

(1)

، وقولِ الكُمَيتِ

(2)

:

وَمَا لِي إِلَّا آلَ أَحْمَدَ شِيعَةٌ

وَمَا لِي إِلَّا مَذْهَبَ الحَقِّ مَذْهَبُ

(وَيَصِحُّ: اسْتِثْنَاءُ النِّصْفِ) فأقلَّ مِن الكلِّ، في الأصحِّ، لا استثناءُ الكلِّ، حَكَاه بعضُهم إجماعًا، و (لَا الأَكْثَرُ) أي: أكثرُ مِنَ النَّصفِ مِن عددٍ مُسَمًّى على المذهبِ، نحوُ:«له عليَّ خمسةٌ إلَّا ثلاثةً» ، وجهُه: أنَّه لغةٌ، فمَنِ ادَّعاه فعليه البيانُ.

فَإِنْ قِيلَ: جَوَّزَه أكثرُ الكُوفِيِّينَ.

قيلَ: يَمتنِعُ ثبوتُه عنهم في الأعدادِ، ثمَّ عليهم الدَّليلُ، والبَصرِيُّونَ أَثبَتُ منهم في اللُّغةِ وقد مَنَعوه، وأيضًا الاستثناءُ وُضِعَ للاستدراكِ والاختصارِ، فمَن أَقَرَّ بألفٍ إلَّا تسعَ مئةٍ وتسعةً وتسعينَ فهو خلافُ الوضعِ، ولهذا يُعَدُّ قبيحًا عُرفًا.

قالوا: وَقَعَ استثناءُ الأكثرِ في قولِه تعالى: {إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ}

(3)

،

(1)

رواه البخاري (3133)، ومسلم (1649) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.

(2)

من الطَّويلِ، وهو للكُمَيْتِ الأسديِّ شاعرِ أهلِ البيتِ. ينظرْ:«شرح الشَّواهدِ الكُبرى» لبدرِ الدِّينِ العينيِّ (3/ 1089).

(3)

الحجر: 42.

ص: 514

وقولِه: {خم سج سح سخ}

(1)

، وأيُّهما كانَ أكثرَ فقد استثناه، أو أنَّ الغاوينَ أكثرُ؛ لقولِه:{بخ بم بى بي تج تح}

(2)

.

رُدَّ ذلك: بأنَّ مَحَلَّ الخلافِ إِنَّمَا هو في الاستثناءِ مِن عددٍ، وأمَّا هذا فتخصيصٌ بصفةٍ، وفَرْقٌ بينَهما لأنَّه كما يَأتي قريبًا يُستثنَى بصفةِ مجهولٍ مِن معلومٍ، ومِن مجهولٍ، والجميعِ أيضًا، فلهذا قال:

(إِلَّا إِذَا كَانَتِ الكَثْرَةُ مِنْ دَلِيلٍ خَارِجٍ عَنِ اللَّفْظِ) أي: فيَجوزُ استثناءُ الأكثرِ حينئذٍ كالكلِّ، فلو قال:«اقتلْ مَن في الدَّارِ إلَّا بني تميمٍ» ، أو

(3)

«إلَّا البِيضَ» ، فكانوا كلُّهم بني تميمٍ أو

(4)

بِيضًا؛ لم يَجُزْ قتلُهم بخلافِ العددِ.

ثمَّ الجنسُ ظاهرٌ، والعددُ صريحٌ، فلهذا فَرَّقَتِ اللُّغةُ بينَهما، ثمَّ هو استثناءٌ منقطعٌ؛ أي: لكنَّ قولَه: {خم سج سح}

(5)

يَعني وَلَدَ آدمَ، وفي الآيةِ الأُخرى أضافَ العبادَ إليه، والملائكةُ منهم، فاسْتَثْنَى الأقلَّ فيهما، واعتمدَ القاضي وغيرُه على الجوابِ الأوَّلِ، وبه يُجابُ عن قولِه تعالى:«كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ» رَوَاه مسلمٌ

(6)

مِن حديثِ أبي ذرٍّ.

واتَّفقوا أنَّه لو أَقَرَّ بهذه الدَّارِ إلَّا هذا البيتَ: صَحَّ، ولو كانَ أكثرَها، بخلافِ:«إلا ثُلُثَيها» ، فلا يَصِحُّ على المذهبِ.

إذا عَلِمْتَ ذلك فالكَثرةُ في ذلك كلِّه مِن دليلٍ خارجٍ لا مِن اللَّفظِ.

(وَحَيْثُ) قُلْنا: إنَّ الاستثناءَ (بَطَلَ وَاسْتُثْنِيَ مِنْهُ) أي: مِن المُستثنى (رَجَعَ) الاستثناءُ (إِلَى مَا قَبْلَهُ) وهو المُستثنَى منه أوَّلًا، ويَتَفَرَّعُ عليه لو قال:

(1)

ص: 83.

(2)

يوسف: 103.

(3)

في (د): و.

(4)

في (د): و.

(5)

ص: 83.

(6)

«صحيح مسلم» (2577).

ص: 515

«له عليَّ عشرةٌ إِلَّا عشرةً إلَّا ثلاثةً» ؛ لَزِمَه سبعةٌ، والاستثناءُ الأوَّلُ لا يَصِحُّ، فيَسقُطُ فيَبقى كأنَّه اسْتثْنَى ثلاثةً مِن عشرةٍ.

(وَيُسْتَثْنَى بِصِفَةِ مَجْهُولٍ: مِنْ مَعْلُومٍ، وَ) مجهولٍ (مِنْ مَجْهُولٍ) كقولِه تعالى: {إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ}

(1)

، وقولِه:{خم سج سح سخ}

(2)

، وتَقَدَّمَ آنفًا، (وَ) يُستثْنَى بصفةٍ أيضًا (الجَمِيعُ) أي: جميعُ المُستَثْنى منه (كَـ: «اقْتُلْ مَنْ فِي الدَّارِ إِلَّا البِيضَ»، فَكَانُوا كُلُّهُمْ بِيضًا؛ لَمْ يُقْتَلُوا)؛ لجوازِ الاستثناءِ بالصِّفةِ.

(وَإِذَا تَعَقَّبَ) الاستثناءُ (جُمَلًا) مَذكوراتٍ:

(1)

(بِوَاوِ عَطْفٍ، أَوْ) مُتَعاطِفاتٍ بِـ (مَا فِي مَعْنَاهَا) أي: مَعنى الواوِ (كَالفَاءِ وَ «ثُمَّ») فإنْ لم يَصلُحْ عَوْدُ الاستثناءِ إلى كلِّ واحدةٍ مِن الجُمَلِ لدليلٍ اقْتَضَى عَوْدَه إلى الأُولى فقطْ، أو إلى الأخيرةِ فقطْ، أو كانَ عائدًا إلى كلٍّ منها بالدَّليلِ، فلا خلافَ في العَوْدِ إلى ما قامَ به الدَّليلُ،

مثالُ ما دَلَّ دليلٌ على عَوْدِه إلى الأُولى، فيَعُودُ إليها قَطعًا: قولُه تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ}

(3)

، فالاستثناءُ {مَنِ اغْتَرَفَ} إِنَّمَا يَعُودُ إلى {مِنْهُ} لا إلى {مَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ} .

ومثالُ العائدِ إلى الأخيرةِ جَزمًا للدَّليلِ لا إلى غيرِه: قولُه تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ}

(4)

الآيةَ، فـ {إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} إِنَّمَا

(1)

الحجر: 42.

(2)

ص: 83.

(3)

البقرة: 249.

(4)

النِّساء: 92.

ص: 516

يَعودُ للدِّيَةِ لا للكفَّارةِ، أو يَعودُ للأخيرةِ جَزمًا، وإنْ كانَ في غيرِه مُحتَمَلًا، فيَجري فيه الخلافُ، كقولِه تعالى:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ}

(1)

الآيةَ، فـ {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا}

(2)

عائدٌ إلى الإخبارِ بأنَّهم فاسقون قطعًا حَتَّى يَزُولَ عنهم بالتَّوبةِ اسمُ الفسقِ، ولا يَعودُ في هذه الآيةِ للجَلْدِ المأمورِ به قطعًا؛ لأنَّ حدَّ القذفِ حقٌّ لآدميٍّ، فلا يَسقُطُ بالتَّوبةِ.

ومثالُ العائدِ للجميعِ قطعًا بالدَّليلِ: قولُه تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}

(3)

الآيةَ، فـ {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا}

(4)

عائدٌ إلى الكلِّ بالإجماعِ.

(2)

(وَ) إنْ (صَلَحَ عَوْدُهُ) أي: الاستثناءِ (إِلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ) مِن الجُملِ بأنْ تَجَرَّدَ عن قرينةِ شيءٍ مِن ذلك،

(3)

(وَلَا مَانِعَ) يَمنَعُ مِن عَوْدِه للجميعِ؛ (فَـ) يَعودُ (لِلْجَمِيعِ) على المُرَجَّحِ، ونَقَلَه الأصحابُ عن نصِّ أحمدَ، حَيْثُ قال في حديثِ:«لَا يُؤَمَّنَّ الرَّجُلُ فِي سُلْطَانِهِ ولا يُجْلَسُ عَلَى تَكْرِمَتِهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ»

(5)

: أرجو أنْ يَكُونَ الاستثناءُ على كلِّه

(6)

. ووجهُه أنَّ العطفَ يَجعَلُ الجميعَ كواحدٍ، (كَبَعْدِ مُفْرَدَاتٍ) أي: فالواردُ مِن الاستثناءِ بعدَ مفرداتٍ، نحوُ: تَصَدَّقَ على الفقراءِ والمساكينِ وأبناءِ السَّبيلِ، إلَّا الفَسَقَةَ منهم أَوْلَى بعَوْدِه للكلِّ مِن الواردِ بعدَ جُملٍ؛ لعَدمِ استقلالِ المُفرداتِ، والمرادُ بلفظِ الجُملِ هنا ما فيه شمولٌ لا الجُملُ النَّحويَّةُ.

(1)

النُّور: 4.

(2)

النُّور: 5.

(3)

المائدة: 33.

(4)

المائدة: 34.

(5)

رواه مسلم (673) من حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه.

(6)

«مسائل الإمام أحمد» (2/ 598).

ص: 517

(وَمِثْلُ: بَنِي تَمِيمٍ وَرَبِيعَةَ أَكْرِمْهُمْ إِلَّا الطِّوَالَ) يَعُودُ الاستثناءُ (لِلْكُلِّ) مِن الفريقينِ.

(وَ) لو قال: (أَدْخِلْ بَنِي تَمِيمٍ، ثمَّ بَنِي المُطَّلِبِ، ثُمَّ سَائِرَ قُرَيْشٍ، فَأَكْرِمْهُمْ) فـ (الضَّمِيرُ) في «أكْرِمْهم» يَرجِعُ (لِلْكُلِّ)؛ لأنَّه موضوعٌ لِما تَقَدَّمَ ذِكْرُه، وهو صالحٌ للعُمومِ على سبيلِ الجمعِ، فإذا كانَ كذلك وَجَبَ حَمْلُه على العُمومِ إذا لم يَقُمْ مُخَصِّصٌ، وعلى هذا، فحَمْلُ الضَّميرِ على العُمومِ حقيقةٌ، وحمْلُه على الخُصوصِ مِثلُ تخصيصِ اللَّفظِ العامِّ.

(وَهُوَ) أي: الاستثناءُ (مِنْ

(1)

نَفْيٍ إِثْبَاتٌ) للمُسْتَثنَى عندَ الجمهورِ، فقولُ القائلِ: ليسَ له عليَّ شيءٌ إلَّا درهمًا إقرارٌ بدرهمٍ، واستُدلَّ لهذا القولِ باللُّغةِ، وأنَّ قولَ القائلِ: لا إلهَ إلَّا اللهُ توحيدٌ، وتبادَرَ فهمُ كلِّ مَن سَمِعَ قولَ القائلِ: لا عالمَ إلَّا زيدٌ، وليسَ لك عليَّ شيءٌ إلَّا درهمٌ: إلى عِلْمِه وإقرارِه، ولو لم يَكُنِ الْمُستَثْنى مِن لا إلهَ إلَّا اللهُ مُثبتًا لم يَكُنْ كافيًا في الدُّخولِ في الإيمان، ولكنَّه كافٍ باتِّفاقٍ، وقد قال صلى الله عليه وسلم:«أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاس حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ»

(2)

، فجَعَلَ ذلك غايةَ المُقاتلةِ.

(3)

، وهو ظاهرٌ.

(وَبِالْعَكْسِ) أي: والاستثناءُ مِن إثباتٍ نفيٌ [للمُستَثْنَى على الصَّحيحِ، وحكى الرَّازيُّ وغيرُه الاتِّفاقَ على أنَّ الاستثناءَ مِن الإثباتِ نفيٌ]

(4)

، فلو قال: له عليَّ عشرةٌ إلَّا درهمًا، كانَ إقرارُه بتسعةٍ، ومَحَلُّ الخلافِ في

(1)

في «د» : عن.

(2)

رواه البخاري (25)، ومسلم (22) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

(3)

النبأ: 30.

(4)

ليس في «د» .

ص: 518

الاستثناءِ المُتَّصِلِ؛ لأنَّه فيه إخراجٌ، أمَّا المُنقطعُ فالظَّاهرُ أنَّ ما بعدَ «إلَّا» فيه محكومٌ عليه بضدِّ الحُكْمِ السَّابقِ، فإنَّ مَساقَه هو الحُكمْ بذلك؛ فنحوُ:{مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ}

(1)

المُرادُ أنَّ لهم به اتِّباعَ الظَّنِّ لا العِلمَ، وإنْ لم يَكُنِ الظَّنُّ داخلًا في العِلْمِ.

تنبيهٌ: إذا عُلِمَ الأمرُ أنَّ الاستثناءَ مِن النَّفيِ إثباتٌ، ومِن الإثباتِ نفيٌ، تَرَتَّبَ عليهما تعدُّدُ الاستثناءاتِ، نحوُ: له عشرةٌ إلَّا تسعةً، إلَّا ثمانيةً، إلَّا سبعةً، إلَّا سِتَّةً، إلَّا خمسةً، إلَّا أربعةً، إلَّا ثلاثةً، إلَّا اثنينِ، إلَّا واحدًا.

واعلَمْ أنَّ للمسألةِ أحوالًا:

الأوَّلُ: ما ذَكَرْنا مِن المثالِ، ولاستخراجِ الحُكْمِ من ذلك طرقٌ للنُّحاةِ وغيرِهم:

منها: طريقةُ الإخراجِ، وجَبْرُ الباقي بالاستثناءِ، والثَّاني

(2)

وهكذا إلى آخرِه، فإذا قال: له عليَّ عشرةٌ إلَّا تسعةً إلى آخِره، فتَقُولُ: لَمَّا خَرَجَ تسعةٌ بالاستثناءِ الأوَّلِ جُبِرَ ما بَقِيَ، وهو واحدٌ، بالاستثناءِ الثَّانيِ، وهو ثمانيةٌ، فصارَ تسعةً، ثمَّ خَرَجَ بالاستثناءِ الثَّالثِ سبعةٌ، بَقِيَ اثنانِ، فجَبَرَه بالرَّابعِ وهو سِتَّةٌ، فصارَ ثمانيةً، ثمَّ خرجَ بالخامسِ خمسةٌ فبَقِيَ

(3)

ثلاثةٌ، فجُبِرَ بالسَّادسِ وهو أربعةٌ، فصارَ سبعةً، ثمَّ خَرَجَ بالسَّابعِ ثلاثةٌ فبَقِيَ أربعةٌ، فجُبِرَ بالثَّامنِ وهو اثنانِ، فصارَ الباقي سِتَّةً، وأُخرِجَ منه بالاستثناءِ التَّاسعِ واحدٌ، فصارَ المُقَرُّ به خمسةً.

(1)

النساء: 157.

(2)

في «د» : الثاني.

(3)

في «ع» : فيبقى.

ص: 519

ومنها: طريقةُ الحطِّ.

ومنها: أنْ يُجعَلَ كلُّ وترٍ مِن الاستثناءِ خارجًا، وكلُّ شفعٍ مع الأصلِ داخلًا في الحكمِ، فما اجتمعَ فهو الحاصلُ، وأمثلتُهما مع طرقٍ غيرِ هذه مذكورةٌ في كتُبِهم.

فائدةٌ: الاستثناءُ يَقَعُ في الأحكامِ، نحوُ:«قَامَ القومُ إلَّا زيدًا» ، ومِن الموانعِ، نحوُ:«لا تَسقُطُ الصَّلَاةُ عنِ المرأةِ إلَّا بالحيضِ» ، ومِن الشُّروطِ، نحوُ:«لا صلاةَ إلَّا بطهورٍ» .

قالَ القَرَافِيُّ: الاستثناءُ مِن الشُّروطِ مُسْتَثْنًى من كلامِ العلماءِ، فإِنَّه لا يَلْزَمُ مِن القضاءِ بالنَّفيِ لأجلِ عدمِ الشَّرطِ أنْ يُقضَى بالوجودِ لأجلِ وجودِ الشَّرطِ؛ لِما عُلِمَ مِن أنَّ الشَّرطَ لا يَلْزَمُ مِن وجودِه الوجودُ ولا العدمُ، فقولُهم:«الاستثناءُ مِن النَّفيِ إثباتٌ» يَختَصُّ بما عدا الشَّرطِ؛ لأنَّه لم يَقُلْ أحدٌ منَ العلماءِ أنَّه يَلْزَمُ مِن وجودِ الشَّرطِ وجودُ المشروطِ

(1)

.

(وَإِذَا عُطِفَ) استثناءٌ (عَلَى) استثناءٍ (مِثْلِهِ: أُضِيفَ) الاستثناءُ الثَّاني (إِلَيْهِ) أي: إلى الأوَّلِ، فعشرةٌ إلَّا ثلاثةً وإلَّا اثنينِ، كعشرةٍ إلَّا خمسةً، فيَرجِعُ الكلُّ المُتعاطفُ إلى المُسْتَثْنى منه حملًا للكلامِ على الصِّحَّةِ ما أمكنَ، فإنَّ عَوْدَ كلٍّ لِما يَليه قد تَعَذَّرَ بانفصالِه بأداةِ العَطفِ، هذا إذا لم يَلْزَمْ مِن عَوْدِ الكلِّ الاستغراقُ لِما قَدَّمْنا مِن أنَّ استثناءَ الكلِّ باطلٌ، وكذا الأكثرُ على الصَّحيحِ، فأنتِ طالقٌ ثلاثًا إلَّا واحدةً وإلَّا واحدةً، يلغو الثَّاني إنْ بَطَلَ استثناءُ الأكثرِ، وإلَّا وَقَعَ واحدةً.

ص: 520

(وَإِلَّا

(1)

أي: وإن لم يَكُنْ مُتعاطفةً، (فَـ) ـهو (اسْتِثْنَاءٌ مِنِ اسْتِثْنَاءٍ، وَيَصِحُّ

(2)

على الصَّحيحِ، واستُدلَّ له بقولِه تَعالى:{إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا}

(3)

الآيةَ، والاستثناءُ الثَّاني وهو {إِلَّا امْرَأَتَهُ} مُسْتَثْنًى مِن قولِه:{أَجْمَعِينَ} . ولو قال: له عليَّ عشرة إلَّا ثلاثةً إلَّا درهمًا؛ يَلْزَمُه ثمانيةٌ؛ لأنَّه مِن الإثباتِ نفيٌ، ومن النَّفيِ إثباتٌ، وأنتِ طالقٌ ثلاثًا إلَّا واحدةً إلَّا واحدةً؛ وَقَعَ اثنانِ على الصَّحيحِ، ويَلْغُو الاستثناءُ الثَّاني.

(1)

ليس في «ع» .

(2)

زاد في «مختصر التحرير» (ص 160): إجماعًا.

(3)

الحجر: 59 - 60.

ص: 521

(فَصْلٌ)

القِسْمُ ‌

(الثَّانِي) مِن المُخَصِّصِ

(1)

المُتَّصِلِ: (الشَّرْطُ)

وتَقَدَّمَ حدُّه وأقسامُه، وما يَتَعَلَّقُ به في خِطابِ الوضعِ.

(وَيَخْتَصُّ) الشَّرطُ (اللُّغَوِيُّ مِنْهُ) عُرفًا (بِكَوْنِهِ) أي: بكونِ الشَّرطِ اللُّغويِّ (مُخَصِّصًا) والمُرادُ به صيغُ التَّعليقِ بـ «إنْ» ونحوِها، نحوُ:{وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ}

(2)

، ومنه قولُهم في الفقهِ: العتقُ المُعَلَّقُ على شرطٍ، وهذا

(3)

كما قال بعضُهم: يَرجِعُ إلى كونِه سببًا حَتَّى يَلْزَمَ مِن وجودِه الوجودُ، ومِن عدمِه العدمُ لذاتِه، وممَّا يَدُلُّ على أنَّ المُرادَ الشَّرطُ اللُّغويُّ تمثيلُهم بذلك.

قالَ القَرَافِيُّ

(4)

: ووَهِمَ مَن فَسَّرَه هناك بالشَّرطِ المقابلِ للسَّببِ والمانعِ، كما وَقَعَ لكثيرٍ من الأُصُولِيِّينَ.

(وَهُوَ) أي: الشَّرطُ (مُخْرِجُ مَا) أي: مُخْرِجُ شَيْءٍ (لَوْلَاهُ) أي: لَوْلَا الشَّرطُ (لَدَخَلَ) ذلك الشَّيءُ، كقولِك: أَكرِمْ بني تميمٍ إنْ دَخَلوا، فيَقْصُرُه الشَّرطُ على مَن دَخَلَ.

(وَ) قد (يَتَّحِدُ) الشَّرطُ، مثلُ: إنْ دَخَلَ زيدٌ الدَّارَ.

(وَ) قد (يَتَعَدَّدُ):

- إمَّا (عَلَى) سبيلِ (الْجَمْعِ)، مثلُ: إنْ دَخَلَ زيدٌ الدَّارَ والسُّوقَ.

(1)

في «ع» : المخصوص.

(2)

الطلاق: 6.

(3)

في «د» : وكذا.

(4)

«شرح تنقيح الفصول» (ص 85).

ص: 522

- (وَ) إمَّا على سبيلِ (الْبَدَلِ) نحوُ: إنْ دَخَلَ زيدٌ الدَّارَ أو السُّوقَ، فيَكُونُ (ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ، كُلٌّ مِنْهَا مَعَ الْجَزَاءِ كَذَلِكَ) أي: إمَّا أنْ يَكُونَ جزاؤُه مُتَّحِدًا، مِثْلُ: أَكْرِمِه، أو مُتَعَدِّدًا: إمَّا على سبيلِ الجمعِ، مثلُ: أَكْرِمْه وأَعطِه، أو على سبيلِ البدلِ، مِثلُ: أَكْرِمْه أو أَعطِه، فتَكُونُ الأقسامُ تسعةً مِن ضربِ ثلاثةٍ في ثلاثةٍ.

(وَ) للشَّرطِ صدرُ الكلامِ فـ (يَتَقَدَّمُ عَلَى الْجَزَاءِ لَفْظًا؛ لِتَقَدُّمِهِ) أي: الشَّرطِ على الجزاءِ (فِي الْوُجُودِ طَبْعًا)؛ لأنَّ الجزاءَ إِنَّمَا يَكُونَ بعدَ شيءٍ يُجازَى عليه.

(وَمَا ظَاهِرُهُ) قال في «شرحه»

(1)

أي: «وأيُّ تركيبٍ ظاهرُه» (أَنَّهُ) أي: أنَّ الشَّرطَ (مُؤَخَّرٌ) فيه عنِ الجزاءِ، فأكثرُ النُّحاةِ أنَّ ما تَقَدَّمَ ليسَ بجَزاءٍ، بلِ (الْجَزَاءُ فِيهِ) أي: في الشَّرطِ (مَحْذُوفٌ قَامَ مَقَامَهُ) أي: مقامَ الجزاءِ ما تَقَدَّمَ، (وَدَلَّ عَلَيْهِ) أي: على الجزاءِ (مَا تَقَدَّمَ) فقولُهم: «أَكْرَمْتُك إنْ دَخَلْتَ الدَّارَ» خبَرٌ، والجزاءُ محذوفٌ مُراعَاةً لتَقَدُّمِ الشَّرطِ كتقدُّمِ الاستفهامِ والقَسَمِ؛ لأنَّ الإكرامَ يَتَوَقَّفُ على الدُّخُولِ، فيَتَأَخَّرُ عنه مِن حيثُ المعنى، فيَكُونُ جزاءً له معنًى.

(وَيَصِحُّ إِخْرَاجُ الْأَكْثَرِ) مِن الباقي (بِهِ) أي: بالشَّرطِ، فلو قال: أَكْرِمْ بني تميمٍ إنْ كانوا علماءَ، وكانَ الجُهَّالُ أكثرَ: صَحَّ، بل ولو كانَ الكلُّ جُهَّالًا خَرَجُوا بالشَّرطِ.

ص: 523

(وَهُوَ) أي: الشَّرطُ (فِي اتِّصَالٍ بِمَشْرُوطٍ) أي: يُشتَرَطُ اتِّصالُ الشَّرطِ بالمشروطِ كاستثناءٍ بلا خلافٍ، لكنَّ قولَه:«إنْ شاءَ اللهُ» يُسَمَّى استثناءً، وإنَّه كالاستثناءِ في الاتِّصالِ.

(وَ) الشَّرطُ في (تَعَقُّبِ جُمَلٍ مُتَعَاطِفَةٍ: كَاسْتِثْنَاءٍ) أي: يَعُودُ للكلِّ عندَ الأربعةِ وغيرِهم، مثالُه: أَكْرِمْ بني تَميمٍ، وأعطِ قُريشًا إنْ نَزَلُوا بَلَدَك.

(وَيَحْصُلُ: مُعَلَّقٌ عَلَيْهِ) أي: على شرطٍ (عَقِبَهُ)، فلو عَلَّقَ عِتْقَ قِنِّه على شرطٍ، حَصَلَ العتقُ عَقِبَ الشَّرطِ على الصَّحيحِ، لا معَه.

(وَ) يَحصُلُ (عَقْدٌ) مِن بيعٍ، أو

(1)

هبةٍ، ونحوِهما (عَقِبَ صِيغَةٍ) لذلك العَقدِ أي: بعدَ قبولِ على الصَّحيحِ.

(1)

في «د» : و.

ص: 524

(فَصْلٌ)

(الثَّالِثُ) مِن المُخَصِّصِ المُتَّصِلِ: (الصِّفَةُ)

نحوُ: أَكْرِمْ بني تميمٍ الدَّاخلينَ، فيَقْصُرُ الإكرامَ عليهم، والمرادُ بالوصفِ ما أَشْعَرَ بمَعنًى يَتَّصِفُ به أفرادُ العامِّ، سواءٌ كانَ نعتًا أو عطفَ بيانٍ، أو حالًا، وسواءٌ كانَ ذلك مفردًا أو جملةً أو شِبْهَها، وهو الظَّرفُ والجارُ والمجرورُ، ولو كانَ جامدًا مُؤَوَّلًا بمُشْتَقٍّ، فلو وَقَفَ على ولدِه أبي محمَّدٍ عبدِ اللهِ، وفي أولادِه مَن كُنيتُه «أبو محمَّدٍ» غيرُه؛ اختصَّ به عبدُ اللهِ، كما لو قال: على أنَّه، وبشرطِ أنَّه، ونحوَه.

تنبيهٌ: يَخرُجُ ممَّا تَقَدَّمَ مِن الصِّفَةِ أنْ يَكُونَ الوصفُ خرج مَخرَجَ الغالبِ، فيُطرَحُ مفهومُه كما يَأْتي في مفهومِ المخالفةِ، أو سياقُ الوصفِ لمدحٍ، أو ذمٍّ، أو ترحُّمٍ، أو توكيدٍ، أو تفصيلٍ؛ فلَيْسَ شيءٌ مِن ذلك مُخَصِّصًا للعمومِ.

(وَهِيَ) أي: الصِّفَةُ إذا تَعَقَّبَتْ جُملًا أو مفرداتٍ بواوِ عطفٍ أو بما في معناها، (كَاسْتِثْنَاءٍ فِي عَوْدِ) ـها للكلِّ إنْ صَلُحَ، ولا مانعَ كما تَقَدَّمَ حَتَّى (وَلَوْ تَقَدَّمَتِ) الصِّفَةُ على الموصوفِ، نحوُ:«وَقَفْتُ على مُحتاجي أولادي وأولادِهم» ، فتُشتَرَطُ الحاجةُ في الجميعِ على الصَّحيحِ.

وأمَّا إذا كانَتِ الصِّفَةُ مُتوسِّطةً، فالمختارُ رُجوعُها إلى ما وَلِيَتْه، نحوُ:«وَقَفْتُ على أولادي المحتاجينَ وأولادِهم» .

(الرَّابِعُ) مِن المُخَصِّصِ المُتَّصِلِ: (الغَايَةُ)

، والمرادُ بها أنْ يَأْتيَ بعدَ العامِّ حرفٌ مِن أَحرُفِ الغايةِ، كـ:«إلى» و «حتَّى» و «اللَّامِ» ،

مثالُ «إلى» و «حتَّى» : أكرِم بني تميمٍ إلى، أو حتَّى، أنْ يَدخُلوا. فيُقصَرُ على غيرِهم.

ص: 525

ومثالُ اللَّامِ: قولُه تَعالى: {سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ}

(1)

أي: إلى.

وكـ: «أو» في قولِه

(2)

:

لَأَسْتَسْهِلَنَّ الصَّعْبَ أَوْ أُدْرِكَ

(3)

المُنَى

أي: إلى.

(وَهِيَ كَاسْتِثْنَاءٍ فِي اتِّصَالٍ) أي: يُشْتَرَطُ في الغايةِ اتِّصالٌ مُعتادٌ كما تَقَدَّمَ في الاستثناءِ.

(وَ) في (عَوْدٍ) أي: إذا وَلِيَتِ الغايةُ مُتَعَدِّدًا يَعُودُ إلى الكلِّ، نحوُ: وَقَفْتُ على أولادي وأولادِ أولادي إلى أنْ يَستغنوا.

(وَيَخْرُجُ الأَكْثَرُ بِهَا) يَعني: يَجُوزُ إخراجُ الأكثرِ مِن الباقي بالغايةِ، بأنْ يَكُونَ المُخرَجُ أكثرَ مِن غيرِ المُخرَجِ.

(وَ) مِن أحكامِ الغايةِ أنَّ (مَا بَعْدَهَا: مُخَالِفٌ) لِما قَبْلَها عندَ الأكثرِ، أي: محكومٌ عليه بنقيضِ حُكمِه؛ لأنَّ ما بعدها لو لم يَكُنْ مخالفًا لِما قَبْلَها لم يَكُنْ غايةً، بل وسطًا بلا فائدةٍ، قال اللهُ تَعالى:{ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}

(4)

فلَيْسَ شيءٌ مِن اللَّيلِ داخلًا قطعًا.

فائدةٌ: غايةُ الشَّيءِ: طَرَفُه ومُنتهاه، ثمَّ يُطلَقُ تارةً على الحرفِ، كقولِه تَعالى:{حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}

(5)

، {إِلَى الْمَرَافِقِ}

(6)

.

(1)

الأعراف: 57.

(2)

صدر بيت من الطويل، وعَجُزُه: فَمَا انْقَادَتِ الآمَالُ إِلَّا لِصَابِرِ. ينظر: «تمهيد القواعد بشرح تسهيل الفوائد» لناظر الجيش (8/ 4179)، و «شرح الشواهد الكبرى» لبدر الدين العَيني (4/ 1865).

(3)

في «ع» : أبلغ.

(4)

البقرة: 187.

(5)

القدر: 5.

(6)

المائدة: 6.

ص: 526

فإذا قِيلَ: الغايةُ هل تَدخُلُ في المُغَيَّا أو لا تَدخُلُ؟

فيُقالُ: إنْ أُرِيدَ بالمعنى الأوَّلِ وهو طرفُ الشَّيءِ ومُنتهاه؛ فداخلةٌ قطعًا، وإنْ أُريدَ ما بعدَ الَّذِي دَخَلَ عليه الحرفُ؛ فلا خلافَ في عدمِ دُخُولِه، وإنْ أُرِيدَ نَفْسُ ما دَخَلَ عليه حرفُ الغايةِ؛ فهو مَحَلُّ الخلافِ، ومَحَلُّ كونِ الغايةِ مِن المُخصِّصاتِ إِنَّمَا هو في غايةٍ تَقَدَّمها عمومٌ يَشْمَلُها لو لم يُؤتَ بها، كقولِه تَعالى:{حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ}

(1)

، فلولا الغايةُ لقاتَلْنا الكفَّارَ أَعطَوُا الجزيةَ أو لم يُعطوا، بخلافِ نحوِ:{حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}

(2)

، فالغايةُ خارجةٌ قطعًا، فلهذا قال:(إِلَّا فِي: قُطِعَتْ أَصَابِعُهُ كُلُّهَا مِنَ الخِنْصَرِ إِلَى الإِبْهَامِ، وَنَحْوِهِ؛ فَلَا) يَكُونُ ما بَعدَها مُخالِفًا لِما قَبْلَها، وتَكُونُ الغايةُ -وهي الإبهامُ- داخلًا قطعًا، فأمَّا نحوُ:«رُفعَ القَلَمُ عَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ، وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ المَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ»

(3)

، ولو سَكَتَ عن ذِكْرِ الغايةِ لم يَكُنِ الصَّبيُّ شاملًا للبالغِ، ولا النَّائمُ للمستيقظِ، ولا المجنونُ للمُفيقِ، فذِكْرُ الغايةِ في ذلك: إمَّا تأكيدٌ لتقريرِ أنَّ أزمنةَ الصِّبا وأزمنةَ النَّومِ وأزمنةَ الجُنونِ لا يُستثنى منها شيءٌ، وإمَّا للإشعارِ بأنَّ ما بعدَ الغايةِ مُخالِفٌ لِما قَبْلَه، ولولا الغايةُ لكانَ مَسكوتًا عن ذِكْرِ الحُكمِ محتملًا.

(وَغَايَةٌ، و) مُغَيَّا؛ أي: (مُقَيَّدٌ بِهَا) أي: بالغايةِ (يَتَّحِدَانِ، وَيَتَعَدَّدَانِ) أي: يَتَّحِدُ كلٌّ مِنهما ويَتَعَدَّدُ على سبيلِ الجمعِ والبدلِ، ثلاثةَ أقسامٍ كلٌّ منها معَ الآخَرِ كذلك يُكْمِلُ (تِسْعَةَ أَقْسَامٍ) كالشَّرطِ.

(1)

التوبة: 29.

(2)

القدر: 5.

(3)

رواه أبو داود (4398)، والنسائي (3432)، وابن ماجه (2041)، وابن حبان (142) من حديث عائشة رضي الله عنها. وصححه ابن الملقن في البدر المنير (3/ 226).

ص: 527

مثالُ اتِّحادِ المُغَيَّا: أَكْرِمْ بني تميمٍ، ومثالُ تَعدُّدِه: إمَّا على سبيلِ الجمعِ، مثلُ: أَكْرِمْهم وأَعطِهم، وإمَّا على سبيلِ البدلِ، مثلُ: أَكْرِمْهم أو أَعْطِهم، وكلٌّ مِن هذه الثَّلاثةِ إمَّا أن تَكُونَ الغايةُ مُتَّحِدَةً، مثلُ: إلى أنْ يدخلوا، أو مُتَعَدِّدَةً: إمَّا على سبيلِ الجمعِ، مثلُ: إلى أنْ يَدخُلوا ويَقُوموا

(1)

، أو على سبيلِ البدلِ، مثلُ: إلى أن يَدخُلوا أو يَقُومُوا.

(الخَامِسُ) مِن المُخَصِّصاتِ: (بَدَلُ البَعْضِ) مِن الكلِّ، مثلُ:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}

(2)

، {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ}

(3)

.

تنبيهٌ: الأربعةُ الأُوَلُ لا خِلافَ في كَوْنِها مِن المُخصِّصاتِ، وأمَّا بدلُ البعضِ، فذَكَرَه الآمِدِيُّ ومَن تَبِعَه مِن المُخَصِّصاتِ؛ لأنَّه إخراجُ بعضِ ما تَنَاوَلَه اللَّفظُ، قال الأَصْفَهَانِيُّ: وفيه نظرٌ؛ فإنَّ المبدلَ في حُكْمِ المُطَرَحِ، والبدلُ قد أُقيمَ مُقامَه؛ فلا يَكُونُ مُخَصِّصًا له

(4)

. انتهى.

ومَن خَصَّ بدلَ البعضِ بكونِه مُخَصِّصًا دونَ الأبدالِ الباقيةِ؛ لكونِها غيرَ متناهيةٍ.

(وَ‌

‌التَّوَابِعُ المُخَصِّصَةُ)

للأسماءِ المُتقدِّمةِ (كَبَدَلٍ، وَعَطْفِ بَيَانٍ، وَتَوْكِيدٍ، وَنَحْوِهِ، كَاسْتِثْنَاءٍ) في المعنى.

(وَشَرْطٌ مَعْنَوِيٌّ

(5)

بِحَرْفِ جَرٍّ، أَوْ) بحرفِ (عَطْفٍ) كقولِه:«على أنَّه» ، أو «بشرطِ أنَّه» ، وكقولِه:«ومِن شَرطِه كذا» ، فهذا (كَـ) ـشرطٍ (لُغَوِيٍّ) فـ:

(1)

في «د» : ويقيموا.

(2)

آل عمران: 97.

(3)

المزمل: 2 - 3.

(4)

«بيان المختصر» لأبي الثناء الأصفهاني (2/ 248).

(5)

كذا في «ع» ، وكتب في الحاشية:«مقترن، وفي نسخة: معنون، والتصويب منا بحسب المعنى. اهـ. من شرح الأصل» .

ص: 528

أَكْرِمْ بني تميمٍ، وبني أسدٍ، وبني بكرٍ المؤمنينَ، أَمْكَنَ كَوْنُه تمامًا لـ «بكرٍ» فقط، وبشرطِ كونِهم مُؤمنينَ، أو على أنَّهم مُتَعَلَّقٌ بالإكرامِ وهو للجميعِ معًا كقولِهم: إنْ كانُوا مُؤمنينَ.

(وَ) كذا (يَتَعَلَّقُ حَرْفُ جَرٍّ مُتَأَخِّرٌ بِالفِعْلِ المُتَقَدِّمِ) وهو قولُه: «أَكْرِمْ» ، وهو الكلامُ والجملةُ، فيَجِبُ الفرقُ بينَ ما تَعَلَّقَ بالاسمِ وما تَعَلَّقَ بالكلامِ.

تنبيهٌ: قال الشَّيخُ

(1)

: والوقفُ على جملٍ أَجنبِيَّاتٍ: كالوقفِ على أولادِه، ثمَّ أولادِ فلانٍ، ثمَّ المساكينِ، على أنَّه لا يُعطَى منهم إلَّا صاحبُ عيالٍ؛ يُقَوِّي اختصاصَ الشَّرطِ بالجملةِ الأخيرةِ؛ لأنَّها أجنبيَّةٌ مِن الأُولى.

(وَإِشَارَةٌ بِـ «ذَلِكَ») بعدَ جُملٍ (وَتَمْيِيزٌ بَعْدَ جُمَلٍ: يَعُودَانِ) أي: الإشارةُ بذلك والتَّمييزُ (إِلَى الكُلِّ) أي

(2)

: كلِّ الجملِ المُتقدِّمةِ،

مثالُ الإشارةِ بذلك: قولُه تَعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا}

(3)

يَجِبُ عَوْدُه إلى جميعِ ما تَقَدَّمَ، وعَوْدُه إلى بعضِه لَيْسَ بلغةِ العربِ، ولهذا لو قال:«مَن دَخَلَ وخَدَمَني وأَكْرَمَني فله درهمٌ» ؛ لم يَعُدْ إلى الدُّخولِ فقط، وإذا عادَ إلى الجميعِ؛ فالمؤاخذةُ بكلٍّ مِن الجملِ، فالخُلُودُ للكفرِ، والمضاعفةُ في قدرِ العذابِ لِما ذَكَرَه مِن الذُّنوبِ، قاله ابنُ عَقِيلٍ

(4)

.

ومثالُ التَّمييزِ: لو قال: «له عليَّ ألفٌ وخمسون درهمًا» ؛ فالجميعُ دراهمُ على الصَّحيحِ.

(1)

«مجموع الفتاوى» (31/ 157).

(2)

في «د» : أي إلى.

(3)

الفرقان: 68.

(4)

«الواضح في أصول الفقه» (3/ 137).

ص: 529

(فَصْلٌ)

(يُخَصَّصُ الكِتَابُ:

(1)

بِبَعْضِهِ) عندَ العلماءِ، وهو مِن تخصيصِ قطعيِّ المَتنِ بقطعيِّه،

مثالُه: قولُه تَعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ}

(1)

الآيةَ، خُصَّ بقولِه تَعالى:{وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}

(2)

،

ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ التَّخصيصُ في هذا المثالِ بالسُّنَّةِ، كما في حديثِ أبي السَّنَابِلِ بن بَعْكَكٍ معَ سُبَيْعَةَ الأَسْلَمِيَّةِ حينَ قال: مَا أَنْتِ بِنَاكِحٍ حَتَّى تَمُرَّ عَلَيْكِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا

(3)

. فجاءَتْ إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فأَفْتَاها بأنَّها قد حلَّتْ بوضعِ حَمْلِها

(4)

.

وأُجِيبَ بأنَّه لا يَخرُجُ عن كَوْنِه مُبَيَّنًا إذا بُيِّنَ ما أُنزِلَ بآيةٍ أُخرى مُنَزَّلَةٍ كما بُيِّنَ ما أُنْزِلَ عليه مِن السُّنَّةِ، فإنَّ الكلَّ مُنَزَّلٌ.

(2)

(وَ) يُخَصَّصُ (بِالسُّنَّةِ مُطْلَقًا) أي: سواءٌ كانَتْ مُتواترةً أو آحادًا، أمَّا المتواترةُ فإجماعًا، وأمَّا [خبَرُ الواحدِ]

(5)

فعلى الصَّحيحِ، وخَصَّ

(1)

البقرة: 234.

(2)

الطلاق: 4.

(3)

الَّذِي في رواية البخاري، ومسلم:«وعشرٌ» بالرفع، وفي رواية النسائي وغيره بالنصب كما هنا.

قال الشيخ محمد الأثيوبي في «البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج» (26/ 284): برفع «أربعةُ» على الفاعليَّة لـ «تَمُرُّ» ، ووقع عند النسائيِّ بلفظ:«أربعةَ أشهر وعشرًا» بالنصب، ويمكن أن يوجَّه بأن يكون النصب على الظرفية، والعامل فاعل «تمرُّ» مُقدَّرًا؛ أي: تمرُّ عليك العدُّة أربعة أشهر وعشرًا، ويَحْتَمِلُ أن يكون على حكاية لفظ القرآن، والله تعالى أعلم.

(4)

رواه البخاري (3991)، ومسلم (1484).

(5)

في «د» : المتواترة.

ص: 530

السَّمْعَانِيُّ

(1)

مَحَلَّ الخلافِ بخبَرٍ لم يُجمَعْ على العملِ به، فإنْ أُجمِعَ على العملِ به فلَيْسَ فيه خلافٌ في أنَّه يَجُوزُ التَّخصيصُ عندَه، ومَثَّلُه بتخصيصِ آيةِ المواريثِ بحديثِ:«لَا مِيرَاثَ لِقَاتِلٍ»

(2)

، و «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ»

(3)

، ونهيِه عنِ الجمعِ بينَ المرأةِ وعَمَّتِها

(4)

، فيَجُوزُ التَّخصيصُ به بلا خلافٍ؛ لأنَّ هذه الأخبارَ بمَنزلةِ المتواترِ؛ لانعقادِ الإجماعِ على حُكْمِها، وإن لم يَنعقِدْ على رِوايتِها، ومِثْلُه تخصيصُ متواترةٍ بآحادٍ.

(وَ) تخصيصُ (السُّنَّةِ:

(1)

بِهِ) أي: بالكتابِ عندَ الجمهورِ، وهذا قليلٌ جدًّا،

مثالُه: قولُه صلى الله عليه وسلم: «مَا أُبِينَ مِنْ حَيٍّ فَهُوَ مَيِّتٌ» . رَوَاه ابنُ ماجه

(5)

، خُصَّ بقولِه تَعالى:{وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ}

(6)

.

(2)

(وَ) تُخَصَّصُ

(7)

السُّنَّةُ (بِبَعْضِهَا) على الصَّحيحِ (مُطْلَقًا) أي: سواءٌ كانَتْ مُتواتِرةً أو آحادًا، واستدلَّ لذلك بقولِه صلى الله عليه وسلم: «فِيمَا سَقَتِ

(1)

«قواطع الأدلة» (1/ 304).

(2)

رواه الترمذي (2109)، والنسائي في «الكبرى» (6335)، وابن ماجه (2645) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ولفظه:«القاتل لا يرث» . وضعفه الترمذي والنسائي.

(3)

رواه الترمذي (2121)، والنسائي (3641)، وابن ماجه (2712) من حديث عمرو بن خارجة رضي الله عنه. وقال الترمذي: حسن صحيح.

(4)

رواه البخاري (5109)، ومسلم (1408) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(5)

«سنن ابن ماجه» (3216) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

ورواه أبو داود (2858)، والترمذي (1480) من حديث أبي واقدِ اللَّيْثِيِّ:«مَا قُطِعَ مِنْ البَهِيمَةِ وَهِيَ حَيَّةٌ، فَمَا قُطِعَ مِنْهَا فَهُوَ مَيْتَةٌ» . وقال الترمذي: حسن غريب.

(6)

النحل: 80.

(7)

في «د» : وتخصيص.

ص: 531

السَّمَاءُ العُشْرُ»

(1)

، خُصَّ بقولِه صلى الله عليه وسلم:«لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ»

(2)

، وهو كثيرٌ.

فائدةٌ: الخاصُّ معَ العامِّ يُخَصَّصُ، سواءٌ تَقَدَّمَ أو تَأَخَّرَ أو جُهِلَ أو قارَنَ، فهو تخصيصٌ لا نسخٌ، على الصَّحيحِ.

(وَ) يُخَصَّصُ لفظٌ (عَامٌّ

(1)

بِمَفْهُومٍ مُطْلَقًا) أي: سواءٌ كانَ مفهومَ موافقةٍ أو مخالفةٍ، فيُخَصَّصُ العامُّ بمفهومِ الموافقةِ اتِّفاقًا، وهو مِن المخصِّصاتِ المُنفصلةِ،

مثالُه: قولُه صلى الله عليه وسلم: «لَيُّ الوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ»

(3)

خُصَّ بمفهوم قولِه

(4)

تَعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ}

(5)

فمفهومُه: أنَّه لا يُؤذيهما بحبسٍ ولا غيرِه، فلذلك لا يُحبَسُ الوالدُ بدَينِ وَلَدِه، بل ولا له مُطالبتُه على الصَّحيحِ، ومَحَلُّ هذا حيثُ لم يُجعَلْ مِن بابِ القياسِ، فإنْ قُلْنا إنَّه مِن بابِ القياسِ؛ فيَكُونُ مُخَصَّصًا بالقياسِ.

تنبيهٌ: المرادُ باللَّيِّ: المطلُ، وبحِلِّ عِرضِه: أنْ يَقُولَ: ظَلَمَني، وبعقوبتِه: الحبسُ.

وتخصيصُ العامِّ بمَفهومِ المخالفةِ عندَ القائلِ به على الصَّحيحِ،

(1)

رواه البخاري (1483) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

(2)

رواه البخاري (1447)، ومسلم (979) من حديث أبي سعيد الخُدري رضي الله عنه.

(3)

رواه أبو داود (3628)، والنسائي (4689، 4690)، وابن حبان (5089) من حديث الشَّريد رضي الله عنه.

(4)

قوله: بمفهوم قوله. في (د): بقوله.

(5)

الإسراء: 23.

ص: 532

مثالُه: قولُه صلى الله عليه وسلم: «إِذَا بَلَغَ المَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمَلِ الخَبَثَ»

(1)

خُصَّ بمفهومِه وهو ما لم يَبْلُغْ قُلَّتَينِ: عمومُ قولِه صلى الله عليه وسلم: «المَاءُ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ، إِلَّا مَا غَلَبَ عَلَى رِيحِهِ أَوْ طَعْمِهِ أَوْ لَوْنِهِ»

(2)

فإِنَّه أعمُّ مِن القُلَّتَينِ أو دُونَهما، فتَصيرُ القُلَّتانِ في الحديثِ الأوَّلِ تَنجيسُهما مخصوصٌ بالتَّغييرِ بالنَّجاسةِ، ويَبقى ما دُونَهما يَنْجُسُ

(3)

بمُجَرَّدِ المُلاقاةِ في غيرِ المواضعِ المُستثناةِ بدليلٍ آخَرَ، واستدلَّ له بأنَّه خاصٌّ، وفيه جمعٌ بينَهما، فكانَ أَوْلى.

(2)

(وَ) يُخَصَّصُ عامٌّ أيضًا (بِإِجْمَاعٍ) عندَ الجمهورِ، (وَالمُرَادُ) بالإجماعِ (دَلِيلُهُ)؛ لأنَّ الإجماعَ في نَفْسِه مُخَصِّصٌ؛ لأنَّه لا يُعتَبَرُ زَمَنَ الوحيِ؛ إذِ الإجماعُ لا بُدَّ له مِن دليلٍ يَستندُ إليه وإن لم نَعرِفْه، فالدَّليلُ الَّذِي تَضَمَّنَه الإجماعُ هو المُخصِّصُ، والإجماعُ دليلٌ عليه،

مثالُه: قولُه تَعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ}

(4)

خُصَّ بالإجماعِ على أنَّ العبدَ القاذفَ يُجلَدُ على النِّصفِ مِن الحُرِّ.

(1)

رواه أبو داود (63، 64)، والترمذي (67)، والنسائي (52)، وابن ماجه (517)، وابن خزيمة (92)، وابن حبان (1249) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

قال ابن الملقن في «خلاصة البدر المنير» (1/ 8 رقم 3): وصححه ابن منده، والطحاوي، والبيهقي، والخطابي.

(2)

رواه ابن ماجه (521) من حديث أبي أُمامة الباهلي رضي الله عنه.

وضعَّفه ابن حجر في «الدراية في تخريج أحاديث الهداية» (40).

ورواه أبو داود (66، 67)، والترمذي (66)، والنسائي (327) حديث بئر بُضاعة من حديث أبي سعيد الخُدري وفيه:«إِنَّ المَاءَ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ» . وقال الترمذي: حديث حسن.

(3)

في «ع» : يتنجس.

(4)

النور: 4.

ص: 533

(وَلَوْ عَمِلَ أَهْلُهُ) أي: أهلُ الإجماعِ (بِخِلَافِ نَصٍّ خَاصٍّ) في مسألةٍ (تَضَمَّنَ) إجماعُهم على ذلك العملِ دليلًا (نَاسِخًا) أي: لا يَكُونُ إجماعُهم ناسخًا لذلك النَّصِّ، بلِ النَّاسخُ هو الدَّليلُ الَّذِي تَضَمَّنَه الإجماعُ، وهو مستندُ الإجماعِ، والإجماعُ دليلٌ عليه كالَّتي قَبْلَها.

(3)

(وَ) يُخَصَّصُ العامُّ (بِفِعْلِهِ) أي: بفعلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عندَ الأئمَّةِ الأربعةِ (إِنْ شَمِلَهُ العُمُومُ) أي: إنْ كانَ العمومُ شاملًا له صلى الله عليه وسلم وللأُمَّةِ، كما لو قال:«كَشْفُ الفَخِذِ حرامٌ على كلِّ مسلمٍ» ، ثمَّ فَعَلَه؛ لأنَّ فعلَه كقولِه في الدَّلالةِ سواءٌ؛ فاستويا في التَّخصيصِ، والظَّاهرُ أنَّه وأُمَّتَه سواءٌ فيه، وقد خَصَّ الإمامُ أحمدُ قولَه تَعالى:{وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ}

(1)

بفعلِه صلى الله عليه وسلم، وقالَ: دَلَّ على أنَّه أرادَ الجِماعَ.

(وَ) أمَّا (إِنْ ثَبَتَ وُجُوبُ اتِّبَاعِهِ) أي: اتِّباعِ الأُمَّةِ له صلى الله عليه وسلم (فِيهِ) أي: في الفعلِ العامِّ له وللأُمَّةِ (بِدَلِيلٍ خَاصٍّ؛ فَالدَّلِيلُ نَاسِخٌ لِلْعَامِّ)؛ لأنَّ مَحَلَّ كَوْنِ فِعلِه مُخصِّصًا ما إذا كانَ العمومُ شاملًا له وللأمَّةِ بتحريمِ شيءٍ مثلًا، ثمَّ يَفْعَلُ الفِعلَ المنهيَّ عنه، وهو ممَّا لا يَجِبُ اتِّباعُه فيه، إمَّا لكونِه مِن خصائصِه، أو غيرِ ذلك، أمَّا إذا أَوْجَبْنا التَّأسِّيَ به فيه فيَرتفعُ الحُكمُ عنِ الكلِّ، وذلك نسخٌ لا تخصيصٌ، وأمَّا إذا كانَ العمومُ للأُمَّةِ دُونَه، فَفِعْلُه لَيْسَ بتخصيصٍ؛ لعدمِ دُخُولِه في العُمومِ، وقد مَثَّلَ لذلك بالنَّهيِ عنِ استقبالِ القِبلةِ واستدبارِها

(2)

، ثمَّ جَلَسَ في بيتِ حَفْصَةَ مُستقبِلَ بيتِ المقدسِ

(3)

.

(1)

البقرة: 222.

(2)

رواه البخاري (144)، ومسلم (264) من حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه.

(3)

رواه البخاري (149)، ومسلم (266) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

ص: 534

فعلى القولِ بأنَّ النَّهيَ شاملٌ للصَّحراءِ والبنيانِ، فيَحرُمُ فيهما، وبه قال جمعٌ، ويَكُونُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خُصَّ بذلك وخَرَجَ مِن عُمومِ النَّهيِ، وإنْ قُلْنا إنَّه صلى الله عليه وسلم لَيْسَ مختصًّا بذلك فالتَّخصيصُ لِلْبُنْيَانِ مِن العُمومِ، سواءٌ هو والأُمَّةُ في ذلك.

(4)

(وَ) يُخَصَّصُ العامُّ أيضًا (بِإِقْرَارِهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى فِعْلٍ) أي: تقريرُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ما فَعَلَ واحدٌ مِن أُمَّتِه بحضرتِه، مُخالِفًا لعمومٍ ولم يُنكِرْه معَ عِلمِه: مُخصِّصٌ على الصَّحيحِ.

(وَهُوَ) أي: التَّخصيصُ للحُكْمِ (أَقْرَبُ مِنْ نَسْخِهِ) الَّذِي دَلَّ عليه العامُّ نَسخًا (مُطْلَقًا أَوْ) نَسْخًا (عَنْ فَاعِلِهِ) واسْتُدِلَّ لذلك بأنَّ سُكوتَه عن ذلك معَ عِلمِه دليلُ جوازِه، وإلَّا لوَجَبَ إنكارُه.

تنبيهٌ: هل يَكُونُ التَّخصيصُ بنفسِ تقريرِه عليه السلام، أو بما تَضَمَّنَه مِن سَبْقِ قَولٍ به، فيَكُونُ مُستدلًّا بتقريرِه على أنَّه خُصَّ بقولٍ سابقٍ؛ إذ لا يَجُوزُ لهم أن يَفعلوا ما فيه مخالفةٌ للعامِّ، إلَّا بإذنٍ صريحٍ، فتَقريرُه دليلُ ذلك؟ ظاهرُ كلامِ أَصحابِنا وغيرِهم الأوَّلُ.

(5)

(وَ) يُخَصَّصُ العامُّ أيضًا (بِمَذْهَبِ صَحَابِيٍّ) على الصَّحيحِ إنْ قِيلَ هو حُجَّةٌ، وإلَّا فلا،

مثالُه: قولُه صلى الله عليه وسلم: «لَا يَحْتَكِرُ إِلَّا خَاطِئٌ» . رَوَاه مسلمٌ

(1)

من حديثِ سعيدِ بنِ المُسَيِّبِ، عن مَعْمَرِ بنِ عبدِ اللهِ، عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وكانَ سعيدٌ يَحتكِرُ الزَّيتَ، فقِيلَ له، فقالَ: إنَّ مَعمَرًا راوي الحديثِ كانَ يَحتكرُ.

(1)

«صحيح مسلم» (1605).

ص: 535

(6)

(وَ) يُخَصَّصُ العامُّ أيضًا (بِقَضَايَا الأَعْيَانِ) ومَعنى ذلك أنْ يَرِدَ مَعنا حُكْمٌ عامٌّ، ثمَّ تَرِدَ مَعَنا قضيَّةُ عينٍ مخالفةٌ لذلك العامِّ، فهل يُخَصُّ العامُّ ذلك؟

مثالُه: أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عن لُبْسِ الحريرِ للرِّجالِ

(1)

، ثمَّ أَذِنَ في لُبْسِه لعبدِ الرَّحمنِ بنِ عوفٍ والزُّبيرِ بنِ العَوَّامِ لقَملٍ كانَ بهما

(2)

. وإذنُه لهما في ذلك قضيَّةُ عينٍ، فهل ذلك مُخَصِّصٌ لعمومِ النَّهيِ أم لا؟

(7)

(وَ) يُخَصَّصُ العامُّ أيضًا (بِالقِيَاسِ) وهو نوعانِ:

أحدُهما: أنْ يَكُونَ قطعيًّا، وذلك فيما إذا كانَ حُكْمُ الأصلِ الَّذِي يَستندُ إليه الفرعُ مَقطوعًا به وعِلَّتُه منصوصةً أو مُجمعًا عليه، وهي موجودةٌ في الفرعِ قطعًا ولا فارقَ قطعًا، فهذا النَّوعُ مِن القياسِ يَجوزُ التَّخصيصُ به بلا خلافٍ.

والثَّاني: أن يَكُونَ ظَنِّيًّا، فيَجوزُ التَّخصيصُ به عندَ الأكثرِ، واسْتُدِلَّ لذلك بأنَّ القياسَ خاصٌّ لا يَحتملُ التَّخصيصَ، وفيه جمعٌ بينَهما، فقُدِّمَ التَّخصيصُ به.

(1)

رواه البخاري (5635)، ومسلم (2066) من حديث البراء رضي الله عنه.

ورواه البخاري (5837) من حديث حذيفة رضي الله عنه.

ورواه الترمذي (1720) عن أبي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«حُرِّمَ لِبَاسُ الحَرِيرِ وَالذَّهَبِ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي وَأُحِلَّ لِإِنَاثِهِمْ» . وقال: حسن صحيح، وفي الباب عن عمر، وعلي، وعقبة بن عامر، وأنس، وحذيفة، وأم هانئ، وعبد الله بن عمرو، وعمران بن حصين، وعبد الله بن الزبير، وجابر، وأبي ريحانة، وابن عمر، والبراء.

(2)

رواه البخاري (2920)، ومسلم (2076) من حديث أنسٍ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، وَالزُّبَيْرَ بْنَ العَوَّامِ شَكَوَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم القَمْلَ، «فَرَخَّصَ لَهُمَا فِي قُمُصِ الحَرِيرِ فِي غَزَاةٍ لَهُمَا» .

ص: 536

فائدةٌ: في

(1)

مأخذِ المسألةِ مِن كلامِ الإمامِ أحمدَ، قال في روايةِ الحسنِ بنِ ثوابٍ: حديثُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم[لا يَرُدُّه]

(2)

إلَّا مثلُه

(3)

، وظاهرُه أنَّ القياسَ لا يَرُدُّ الظَّاهرَ.

قالَ ابنُ عَقِيلٍ: هذا مِن كلامِه لا يَمنَعُ؛ لأنَّ التَّخصيصَ لَيْسَ بردٍّ، وإنَّما هو بيانٌ

(4)

.

وتَمَسَّكوا للتَّخصيصِ بروايةِ بكرِ بنِ محمَّدٍ: إذا قَذَفَ زوجتَه بعدَ الثَّلاثِ، وله منها ولدٌ يُريدُ نَفيَه يُلاعِنُ. فقِيلَ له: أليسَ يَقُولُ اللهُ تَعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ}

(5)

، وهذه ليسَتْ زوجةً. فاحتجَّ بأنَّ الرَّجلَ يُطَلِّقُ ثلاثًا وهو مريضٌ تَرِثُه؛ لأنَّه فَرَّ مِنَ الميراثِ، وهذا فارٌّ مِن الولدِ.

قال القاضي: فقد عارَضَ الظَّاهرَ بضربٍ مِن القياسِ

(6)

.

ونَقَلَ المَيْمُونِيُّ في الرَّجُلِ يُزَوِّجُ ابنتَه وهي كبيرةٌ أَحَبُّ إليَّ أن يَستأْمِرَها، فإنْ زَوَّجَها مِن غيرِ أنْ يَستأْمِرَها جازَ النِّكاحُ. وهذا للأبِ خاصَّةً

(7)

.

قالَ ابنُ قاضي الجبلِ

(8)

: قُلْتُ: كأنَّه خَصَّ قولَه: «لَا تُنْكَحُ البِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ»

(9)

.

(وَيُصْرَفُ بِهِ) أي: بالقياسِ: مَعنًى (ظَاهِرٌ غَيْرُ عَامٍّ إِلَى احْتِمَالٍ مَرْجُوحٍ)،

(1)

ليست في «د» .

(2)

في «ع» ، ألا ترده.

(3)

ينظر: «المسودة في أصول الفقه» (ص 120).

(4)

«الواضح في أصول الفقه» (3/ 386).

(5)

النور: 6.

(6)

«العدة في أصول الفقه» (2/ 560).

(7)

ينظر: «المسودة في أصول الفقه» (ص 122)، و «التحبير شرح التحرير» (6/ 2685).

(8)

ينظر: «التحبير شرح التحرير» (6/ 2686).

(9)

رواه البخاري (5136)، ومسلم (1419) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 537

ومَعنى هذا الكلامِ: أنْ يَكُونَ مَعنى اللَّفظِ مُحتملًا

(1)

لشيئينِ هو ظاهرٌ في أحدِهما ومرجوحٌ في الآخرِ، لكنْ هو موافقٌ للقياسِ، فينصرفُ عنِ الظَّاهرِ إلى الاحتمالِ المرجوحِ لأجلِ موافقةِ القياسِ على الأرجحِ.

(وَهَذِهِ المَسْأَلَةُ وَنَحْوُهَا: ظَنِّيَّةٌ) لا قطعيَّةٌ؛ لأنَّ أدلَّتَها ظنِّيَّةٌ، فتَكُونُ مِن بابِ الظُّنونِ.

(وَفِعْلُ الفَرِيقَيْنِ) منَ الصَّحابةِ رضي الله عنهم (إِذْ قَالَ) لهُم النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لمَّا فَرَغَ منَ الأحزابِ، وأَمَرَه جبْريلُ عليه السلام بالمَسيرِ إلى بني قُرَيْظَةَ:(لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمُ العَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ)، ثمَّ ذُكِرَ له صلى الله عليه وسلم أنَّ طائفةً صَلَّتْ في الطَّريقِ في الوقتِ، وطائفةً صَلَّتْ في بني قُرَيْظَةَ بعدَ الوقتِ، فلم يَعِبْ واحدةً منهما

(يَرْجِعُ) أي: فعلُ الفريقينِ منَ الصَّحابةِ (إِلَى تَخْصِيصِ العُمُومِ بِالقِيَاسِ وَعَدَمِهِ)، فمَن صَلَّى في الوقتِ قبلَ أنْ يَصِلَ إلى بني قُرَيْظَةَ أَخَذَ بقولِه:«لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمُ العَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ»

(2)

للتَّأكيدِ في سرعةِ المَسيرِ إليه لا في تأخيرِ الصَّلَاةِ عن وَقتِها، ومَن أخَّرَ الصَّلَاةَ حَتَّى وَصَلَ أَخَذَ بعمومِ قولِه ذلك.

(وَالمُصِيبُ) في فِعلِه مِن الطَّائفتينِ: (المُصَلِّي فِي الوَقْتِ فِي قَوْلِ) الشَّيخِ، ولأنَّ المرادَ مِن ذلك التَّأهُّبُ وسرعةُ المَسيرِ، لا تأخيرُ الصَّلَاةِ.

وقالَ ابنُ حَزمٍ: التَّمسُّكُ بالعُمومِ هنا أرجحُ، وأنَّ المُؤخِّرَ للصَّلاةِ حَتَّى وَصَلَ بني قُريظةَ هو المُصيبُ في فِعلِه، وكلا الطَّائفتينِ مُجتهدٌ، فلذلك لم يُعَنِّفْ واحدةً منهما.

(1)

في «ع» : متحملًا.

(2)

رواه البخاري (946)، ومسلم (1770) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

ص: 538

(فَصْلٌ)

(إِذَا وَرَدَ) مِنَ الشَّارِعِ لفظٌ (عَامٌّ، وَ) لفظٌ (خَاصٌّ) فتارةً يَكونانِ مُقتَرنَينِ، وتارةً لا يَكونانِ مُقتَرنينِ، فإنْ كانَا مُقتَرنينِ، مثلَ لو قال في كلامٍ مُتواصلٍ: زَكُّوا البقرَ ولا تُزَكُّوا العَواملَ، (قُدِّمَ الخَاصُّ) عندَ الأكثرِ، أَعني: عدمَ زكاةِ العَواملِ، وإنْ لم يَقتَرنا قُدِّمَ الخاصُّ (مُطْلَقًا) أي: سواءٌ كانَ الخاصُّ مُتَقَدِّمًا أو مُتَأَخِّرًا على الصَّحيحِ؛ لأنَّ في تقديمِ الخاصِّ عملًا بكليهما بخلافِ العكسِ، فكانَ أَوْلى، ووَجهُه قولُه تَعالى:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ}

(1)

خَصَّ قولَه تَعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ}

(2)

، وأيضًا الخاصُّ قاطعٌ أو أشدُّ تصريحًا، وأقلُّ احتمالًا؛ ولأنَّه لا فرقَ لغةً بينَ تقديمِ الخاصِّ وتأخيرِه.

(وَإِنْ كانَ كُلٌّ مِنْهُمَا) أي: مِن اللَّفظينِ الواردينِ (عَامًّا مِنْ وَجْهٍ

(3)

، خَاصًّا مِنْ وَجْهٍ) آخَرَ (تَعَارَضَا) لعدمِ أولويَّةِ أحدِهما بالعملِ به دونَ الآخرِ،

مثالُه: قولُه عليه السلام: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ»

(4)

، معَ قولِه عليه السلام:«نُهِيتُ عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ»

(5)

، فالأوَّلُ: عامٌّ في الرِّجالِ والنِّساءِ، خاصٌّ في المُرتدِّين، والثَّاني: خاصٌّ في النِّساءِ، عامٌّ في الحَربيَّاتِ والمُرتدَّاتِ، إذا عُلِمَ ذلك فالصَّحيحُ أنَّهما يَتعادلانِ.

(وَطُلِبَ المُرَجِّحُ) مِن خارجٍ، وقد تَرَجَّحَ الأوَّلُ بقيامِ القَرينةِ على اختصاصِ الثَّاني بسببِه، وهو الحَربيَّاتُ.

(1)

المائدة: 5.

(2)

البقرة: 221.

(3)

ليست في «د» .

(4)

رواه البخاري (3017) من حديث عليٍّ رضي الله عنه.

(5)

رواه البخاري (3015)، ومسلم (1744) من حديث ابن عمر رضي الله عنه.

ص: 539

(وَإِذَا وَافَقَ خَاصٌّ عَامًّا: لَمْ يُخَصِّصْهُ) عندَ الأربعةِ وغيرِهم، ومَعناه أنْ يَأْتيَ معنَى لفظٍ عامٍّ ويَأتيَ لفظٌ خاصٌّ هو بعضُ ذلك العامِّ، وداخلٌ فيه، كقولِه تَعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى}

(1)

، فالإحسانُ بلامِ التَّعريفِ عامٌّ في جميعِ أنواعِ الإنسانِ، فيَندرجُ فيه إيتاءُ ذي القُربى، فذِكْرُه بعدَه لَيْسَ تخصيصًا للأوَّلِ بإيتاءِ ذي القُربى لمُوافقتِه له، بل يَكُونُ اهتمامًا بهذا النَّوعِ، فإنَّ عادةَ العربِ أنَّها إذا اهتمَّتْ ببعضِ أنواعِ العامِّ خَصَّصَتْه بالذِّكرِ إبعادًا له عنِ المجازِ والتَّخصيصِ بذلك النَّوعِ، واستُدلَّ له بأنَّه لا تعارضَ بينَهما، فيُعمَلُ بهما، وليسَ من هذا البابِ قولُه تَعالى:{فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ}

(2)

؛ لأنَّ {فَاكِهَةٌ} مطلقٌ.

(وَلَا تَخُصُّ عَادَةٌ) أي: فعليَّةٌ (عُمُومًا، وَلَا تُقَيِّدُ) العادةُ (مُطْلَقًا) عندَ الجمهورِ، نحوُ:«حُرِّمَتِ الرِّبا في الطَّعامِ» ، وعادتُهم البُرُّ، ووجهُه: العُمومُ لغةً وعُرفًا، والأصلُ عدمُ مُخَصِّصٍ.

قالَ المُعتَرضُ: المرادُ ظاهرٌ له عُرفًا؛ فيُخَصَّصُ به كالدَّابَّةِ.

رُدَّ بما سَبَقَ، فلم يَتَخَصَّصِ الاسمُ، فلو تَخَصَّصَ كالدَّابَّةِ: اختصَّ، فهو تخصيصٌ بالنِّسبةِ إلى اللُّغةِ بعُرفٍ قَوليٍّ، والأوَّلُ بعُرفٍ فعليٍّ.

ومنه مسألةُ: مَن حَلَفَ لا يَأكُلُ رأسًا وبيضًا وكذا لحمًا، هل يَحنَثُ بمُحَرَّمٍ غيرِ معتادٍ؟ على وجهينِ، والمعروفُ حنثُه.

تنبيهٌ: المرادُ بالعادةِ الَّتي لا تُخَصِّصُ العُمومَ العادةُ الفعليَّةُ، كما سَبَقَتِ الإشارةُ إلى ذلك، وأمَّا القوليَّةُ فتُخَصِّصُ العُمومَ، كما إذا كانَتْ عادتُهم إطلاقَ

(1)

النحل: 90.

(2)

الرحمن: 68.

ص: 540

الطَّعامِ على المُقتاتِ خاصَّةً، ثمَّ وَرَدَ النَّهيُ عن بيعِ الطَّعامِ بجنسِه مُتَفاضلًا، فإنَّ النَّهيَ يَكُونُ خاصًّا بالمُقتاتِ؛ لأنَّ الحقيقةَ العُرفيَّةَ مُقَدَّمةٌ على اللُّغويَّةِ.

(وَلَا يُخَصُّ عَامٌّ:

(1)

بِمَقْصُودِهِ) عندَ الجمهورِ لِما سَبَقَ، وقالَ صاحبُ «المحرَّر»: المُتبادرُ إلى الفهمِ مِن لَمسِ النِّساءِ: ما يُقصَدُ مِنهنَّ غالبًا منَ الشَّهوةِ، ثمَّ لو عَمَّتْ خُصَّتْ به، وخَصَّه حفيدُه أيضًا بالمقصودِ، وكذا قاله في آيةِ المواريثِ

(1)

: مقصودُها بيانُ مقدارِ أنصباءِ المذكورينَ إذا كانوا ورثةً.

وقولُه: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ}

(2)

قصدُه الفرقُ بينَه وبينَ الرِّبا، «وَفِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ العُشْرُ»

(3)

قصدُه ما يَجِبُ فيه العشرُ ونِصفُه، فلا يُحتَجُّ بعمومِ ذلك، قاله ابنُ مُفْلِحٍ

(4)

.

(2)

(وَلَا) يُخَصُّ عامٌ (بِرُجُوعِ ضَمِيرٍ إِلَى بَعْضِهِ) أي: بعضِ العامِّ على الصَّحيحِ؛ لأنَّ المَظهرَ عامٌّ، والأصلُ بقاؤُه، فلا يَلْزَمُ مِن تخصيصِ المُضمَرِ تخصيصُه،

مثالُ ذلك: قولُه تَعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ}

(5)

ثمَّ قال: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ}

(6)

؛ فإنَّ «المطلَّقات» يَعُمُّ البَوَائِنَ والرَّجعيَّاتِ، والضَّميرُ في قولِه تَعالى:{وَبُعُولَتُهُنَّ} عائدٌ إلى الرَّجعيَّاتِ فقطْ؛ لأنَّ البائنَ لا يَملِكُ الزَّوجُ رَدَّها، ولو وَرَدَ بعدَ العامِّ حُكْمٌ لا يَأْتي إلَّا في بعضِ أفرادِه كانَ حُكمُه كحُكْمِ المُضمَرِ.

(1)

النساء: 11 - 12.

(2)

البقرة: 275.

(3)

رواه البخاري (1483) من حديث ابن عمر رضي الله عنه.

(4)

«أصول الفقه» (3/ 976).

(5)

البقرة: 228.

(6)

البقرة: 228.

ص: 541

(بَابٌ)

لمَّا كانَ مَعنى المُطلَقِ والمُقيَّدِ قريبًا مِن مَعنى العامِّ والخاصِّ ذُكِرَ عَقِبَهما، بل جَعَلَه البَيْضَاوِيُّ

(1)

تَذنيبًا داخلًا في بابِ الخاصِّ والعامِّ أي: ذَنابةً وتَتِمَّةً له.

و (المُطْلَقُ) مأخوذٌ مِن مادَّةٍ تَدُورُ على مَعنى الانفكاكِ مِنَ القَيدِ، فلذلك

(2)

اختارَ هذا الحدَّ على غيرِه، فقالَ: هو (مَا تَنَاوَلَ وَاحِدًا) خَرَجَ: ألفاظُ الأعدادِ المُتناولةُ لأكثرَ مِن واحدٍ، وقولُه:(غَيْرَ مُعَيَّنٍ) خَرَجَ: المعارفُ؛ كزيدٍ ونحوِه، وقولُه:(بِاعْتِبَارِ حَقِيقَةٍ شَامِلَةٍ لِجِنْسِهِ) خَرَجَ: المُشتَركُ والواجبُ المُخيَّرُ، فإنَّ كلًّا مِنهما يَتناوَلُ واحدًا لا بعَينِه لا باعتبارِ حقائقَ مختلفةٍ، وذلك مثلُ قولهِ تَعالى:{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ}

(3)

فلفظُ الرَّقبةِ قد يَتناوَلُ واحدًا غيرَ مُعَيَّنٍ مِن جنسِ الرِّقابِ.

(وَالمُقَيَّدُ: مَا تَنَاوَلَ مُعَيَّنًا) كزيدٍ (أَوْ) تَناوَلَ (مَوْصُوفًا بِـ) ـوصفٍ (زَائِدٍ عَلَى حَقِيقَةِ جِنْسِهِ) نحوُ: {شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ}

(4)

، وتَتَفاوَتُ مراتبُه في تقييدِه باعتبارِ قِلَّةِ القيودِ وكَثرَتِها، فما كَثُرَتْ فيه قيودُه كقولِه تَعالى:{عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ}

(5)

الآيةَ، أعلى رتبةً ممَّا قيودُه أقلُّ.

(1)

«منهاج الوصول» (ص 118).

(2)

في «د» : فلذا.

(3)

النساء: 92، والمجادلة:3.

(4)

النساء: 92، والمجادلة:4.

(5)

التحريم: 5.

ص: 542

تنبيهٌ: الإطلاقُ والتَّقييدُ يَكُونانِ: تارةً في الأمرِ، كـ:«أعتقْ رقبةً» ، و «أعتقْ رقبةً مُؤمنةً» ، وتارةً في الخبَرِ، كـ: «لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْنِ

(1)

»

(2)

، و «لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِىٍّ مُرْشِدٍ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ

(3)

»

(4)

.

(وَقَدْ يَجْتَمِعَانِ) أي: الإطلاقُ والتَّقييدُ (فِي لَفْظٍ) واحدٍ اعتبارًا (بِالجِهَتَيْنِ) بأنْ يَكُونَ اللَّفظُ مُقَيَّدًا من وجهٍ مُطلقًا من آخَرَ، كـ «رقبةٍ مؤمنةٍ» ، قُيِّدَتِ الرَّقبةُ مِن حيثُ الدِّينُ، فتَتَعَيَّنُ المؤمنةُ للكفَّارةِ، وأُطلِقَتْ مِن حيثُ ما سواه مِن الأوصافِ، كالصِّحَّةِ وضِدِّها، فالآيةُ مُطلقةٌ في كلِّ رقبةٍ مؤمنةٍ وفي كلِّ كفَّارةٍ مُجْزِيَةٍ، ومُقَيَّدَةٌ بالنِّسبةِ إلى مُطلَقِ الرِّقابِ ومُطلَقِ الكفَّاراتِ، وذلك إِنَّمَا يَكُونُ باعتباريٍّ لا حقيقيٍّ؛ لأنَّ الإطلاقَ والتَّقييدَ مِن عوارضِ الألفاظِ، باعتبارِ مَعانِيها اصطلاحًا، وإنْ أُطلِقَ على المعاني عُرفًا، فلا مُشاحَّةَ في الاصطلاحِ.

قالَ الطُّوفِيُّ

(5)

: هما في الألفاظِ مُستعارَانِ منهما في الأشخاصِ، يُقالُ: رجلٌ أو حيوانٌ مُطلَقٌ إذا خلا عن قيدٍ أو عِقالٍ، ومُقَيَّدٌ إنْ كانَ في رِجلِه قيدٌ أو عِقالٌ أو شِكالٌ ونحوُه مِن موانعِ الحيوانِ مِن الحركةِ الطَّبيعيَّةِ

(6)

الاختياريَّةِ.

(1)

في «ع» : وشاهدي عدل.

(2)

رواه أبو داود (2085)، والترمذي (1126)، وابن ماجه (1881)، وابن حبان (4077) من حديث أبي موسى الأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه:«لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ» .

ورواه ابن حبان (4075)، والبيهقي (7/ 125) بلفظه من حديث عائشة رضي الله عنها.

(3)

في «ع» : وشاهدين.

(4)

رواه الشافعي (ص 220)، وابن المنذر في «الأوسط» (8/ 264) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

(5)

«شرح مختصر الروضة» (2/ 632).

(6)

في «ع» : الطبيعة.

ص: 543

فإذا قُلْنا: «أعتقْ رقبةً» ، فهذه الرَّقبةُ شائعةٌ في جِنسِها شيوعَ الحيوانِ المطلَقِ بحَرَكَتِه

(1)

الاختياريَّةِ بينَ جنسِه.

وإذا قُلْنا: «أعتقْ رقبةً مؤمنةً» ، كانَتْ هذه الصِّفَةُ لها كالقَيدِ المميِّزِ للحيوانِ المقيَّدِ مِن بينِ أفرادِ جِنسِه، ومانعةً لها من الشُّيُوعِ كالقيدِ المانعِ للحيوانِ مِن الشُّيُوعِ بالحركةِ في جِنسِه، وهما أمرانِ نِسبيَّانِ باعتبارِ الطَّرفينِ، فمُطلقٌ لا مُطلَقَ بعدَه؛ كمعلومٍ، ومُقيَّدٌ لا مُقَيَّدَ بعدَه؛ كزيدٍ، وبينَهما وسائطُ تَكُونُ مِن المقيَّدِ باعتبارِ ما قَبْلُ، ومن المطلقِ باعتبارِ ما بعدُ؛ كجسمٍ، وحيوانٍ، وإنسانٍ.

(وَهُمَا) أي: المُطلَقُ والمُقَيَّدُ (كَعَامٍّ وَخَاصٍّ) فما ذُكِرَ مِن تخصيصِ العمومِ: مِن مُتَّفَقٍ عليه، ومُختلَفٍ فيه، ومختارٍ جارٍ في تقييدِ المطلقِ؛ فيَجُوزُ تقييدُ الكتابِ بالكتابِ وبالسُّنَّةِ، والسُّنَّةِ بالسُّنَّةِ وبالكتابِ، وتقييدُهما بالقياسِ والمفهومينِ ونحوِهما، على الأصحِّ في الجميعِ.

(لَكِنْ) لا يُقالُ: كانَ يَنبغي إذا كانَ المُطلقُ والمقيَّدُ كالعامِّ والخاصِّ ألَّا يُفرَدَا بالذِّكْرِ؛ لأنَّا نَقولُ: تَحصُلُ المخالفةُ بينَهما مِن وجوهٍ، وهي أنَّ لنا هنا مَن يَرى ويَقولُ:«يُحمَلُ المُطلَقُ على المُقيَّدِ» ، ولا قائلَ هنا بحملِ الخاصِّ على العامِّ، وأيضًا فالحملُ هناك للعامِّ على غيرِ المُخرَجِ بالتَّخصيصِ، وهنا بالعكسِ، فالحملُ هنا للمُطلقِ على نفسِ المقيَّدِ، وأيضًا فمِن أقسامِ وُرودِ المُطلقِ والمُقيَّدِ ما قد يَكُونُ فيه تخصيصٌ، وما يَكُونُ حملًا لا تخصيصًا، وأيضًا فالحملُ هنا بطريقِ القياسِ على رأيٍ، وغيرُ ذلك مِن الأحكامِ الآتي بيانُها، فاحتيجَ إلى الإفرادِ بالذِّكرِ.

إذا عَلِمْتَ ذلك، فنَقولُ: إذا وَرَدَ مُطلقٌ فقطْ أو مُقَيَّدٌ فقطْ، فحُكمُه

(1)

في «ع» : بحركة.

ص: 544

واضحٌ، أو مُطلقٌ في مَوْضِعٍ ومُقَيَّدٌ في آخَرَ، فقَصْرُ المُقيَّدِ على قيدِه يَطرُقُه الخلافُ الَّذِي في المفاهيمِ.

وأمَّا تقييدُ المُطلَقِ بقيدِ المُقيَّدِ فهو المرادُ هنا، لكنْ قال بعضُ العلماءِ: بشرطِ أنْ يَكُونَ المُقيَّدُ مَعمولًا به، نحوُ:{وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ}

(1)

الآيةَ، والمرضُ والسَّفرُ شرطٌ في إباحةِ التَّيمُّمِ، فأمَّا إذا لم يَكُنْ معمولًا به؛ فلا يُحمَلُ عليه المُطلَقُ قطعًا، كقولِه تَعالى:{فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ}

(2)

فلَيْسَ الخوفُ شرطًا في القصرِ، وإهمالُ الأُصُولِيِّينَ هذا بالشَّرطِ إِنَّمَا هو لوضوحِه.

إذا عُلِمَ ذلك، ف‌

‌للمُطلَقِ والمُقيَّدِ أحوالٌ:

الحالةُ الأُولى: (إِنْ وَرَدَا وَاخْتَلَفَ حُكْمُهُمَا: فَلَا حَمْلَ) اتِّفاقًا؛ لأنَّ القياسَ شرطُه اتِّحادُ الحُكمِ (مُطْلَقًا) أي: سواءٌ اتَّفَقَ السَّببُ أو اختلفَ،

مثالُ الأوَّلِ: التَّتابُعُ في صيامِ كفَّارةِ اليمينِ في قراءةِ ابنِ مسعودٍ، وإطلاقُ الإطعامِ فيها.

ومثالُ الثَّاني: الأمرُ بالتَّتابُعِ في كفَّارةِ اليمينِ وإطلاقُ الإطعامِ في كفَّارةِ الظِّهارِ، ولهذا عن أحمدَ روايةٌ: لا يَحرُمُ وطءُ مَن ظاهَرَ منها قبلَ تكفيرِه بالإطعامِ، والصَّحيحُ: يَحرُمُ، وقاسوه على العتقِ والصَّومِ.

(2)

(وَإِلَّا) بأنْ لم يَختلِفْ حُكْمُ المُطلَقِ والمُقيَّدِ، فتارةً يَتَّحِدُ سببُهما، وتارةً لا يَتَّحِدُ، (فَإِنِ اتَّحَدَ سَبَبُهُمَا) فتارةً يَكونانِ مُثبتَينِ، وتارةً يَكُونانِ نَهيَينِ، وتارةً يَكونُ أحدُهما أمرًا والآخَرُ نهيًا، فإن لم يَختلِفِ الحُكْمُ واتَّحَدَ

(1)

النساء: 43، والمائدة:6.

(2)

النساء: 101.

ص: 545

السَّببُ (وَكَانَا مُثْبَتَيْنِ) أو في مَعنى المثبَتِ كالأمرِ، (كَـ) قولِه:(«أَعْتِقْ فِي الظِّهَارِ رَقَبَةً»، ثُمَّ قال: «أَعْتِقْ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً»؛ حُمِلَ) منهما (مُطْلَقٌ وَلَوْ) كانَ (تَوَاتُرًا، عَلَى مُقَيَّدٍ وَلَوْ) كانَ (آحَادًا) عندَ الأئمَّةِ الأربعةِ وغيرِهم؛ لأنَّه عَمَلٌ بالصَّريحِ واليقينِ معَ الجمعِ بينَهما، وقِيلَ للقاضي أبي يَعلى في التَّحالُفِ لاختلافِ المتبايِعَينِ المرادُ: والسِّلعةُ قائمةٌ، لقولِه: والسِّلعةُ قائمةٌ، فقالَ:«لا يُحمَلُ على وجهٍ لنا» . انتهى. وإنْ سَلَّمْنا على روايةٍ، فإذا لم يُمكِنِ التَّأويلُ.

(وَ) لفظٌ (مُقَيَّدٌ وَلَوْ) وَرَدَ (مُتَأَخِّرًا) عنِ المُطلقِ فهو: (بَيَانٌ لِلْمُطْلَقِ) على الأصحِّ كتخصيصِ العامِّ، فتَلَخَّصَ منَ المسألةِ أنَّ المُطلقَ يُحمَلُ على المُقيَّدِ على الصَّحيحِ، وإذا قُلْنا يُحمَلُ فهو بيانٌ للمُطلقِ لا نسخٌ، ولو تَأَخَّرَ المُقيَّدُ عنه على الصَّحيحِ.

(وَإِنْ) لم يختلفْ حُكمُ المُطلَقِ والمُقيَّدِ، و (كَانَا نَهْيَيْنِ) نحوُ: لا تَعتِقْ مُكاتبًا، لا تَعتِقْ مكاتبًا كافرًا:(قُيِّدَ) اللَّفظُ (المُطْلَقُ بِمَفْهُومِ) اللَّفظِ (المُقَيَّدِ) فالقائلُ أنَّ المفهومَ حُجَّةٌ يُقَيِّدُ قولَه: «لا تَعتِقْ مُكاتبًا» بمفهومِ قولِه: «لا تَعتِقْ مكاتبًا كافرًا» ، فيَجُوزُ إعتاقُ المُكاتبِ المسلمِ. ومَن لا يَقُولُ بالمفهومِ يَعمَلُ بالإطلاقِ ويَمنَعُ إعتاقَ المُكاتبِ مطلقًا، والصَّحيحُ هو الأوَّلُ.

(وَكَنَهْيٍ:

- نَفْيٌ) نحوُ: «لِا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ»

(1)

، «لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ مُرْشِدٍ»

(2)

، فالمُقيَّدُ دَلَّ بالمفهومِ على الصَّحيحِ كالَّتي قَبْلَها.

(1)

رواه أبو داود (2085)، والترمذي (1126)، وابن ماجه (1881)، وابن حبان (4077) من حديث أبي موسى الأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه:«لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ» .

(2)

رواه الشافعي (ص 220)، وابن المنذر في «الأوسط» (8/ 264) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

ص: 546

- (وَ) كنهيٍ أيضًا (إِبَاحَةٌ، وَكَرَاهَةٌ، وَفِي نَدْبٍ نَظَرٌ)، وإنْ كانَ المُطلَقُ والمُقيَّدُ خَبَريْنِ عن حُكمٍ شرعيٍّ؛ فيُنظَرُ في ذلك الحُكْمِ، قاله الشَّيخُ

(1)

.

(وَإِنْ كَانَا) أي: المُطلقُ والمُقيَّدُ، أي: كانَ أحدُهما (أَمْرًا، وَ) الآخَرُ (نَهْيًا: فَالمُطْلَقُ) مِنهما (مُقَيَّدٌ بِضِدِّ الصِّفَةِ) فأحدُهما في مَعنى النَّفيِ والآخرُ في مَعنى الإثباتِ، مثلُ:«إنْ ظَاهَرْتَ فأعتقْ رقبةً» ، وتَقولُ:«لا تَمْلِكْ رقبةً كافرةً» ، فلا بدَّ مِنَ التَّقييدِ بنفيِ الكفرِ؛ لاستحالةِ إعتاقِ الرَّقبةِ الكافرةِ، فالحملُ في ذلك ضروريٌّ لا من حيثُ إنَّ المُطلَقَ حُمِلَ على المُقيَّدِ.

(وَإِنِ) اتَّحَدَ حُكْمُ المُطلَقِ والمُقيَّدِ و (اخْتَلَفَ سَبَبُهُمَا) كإعتاقِ الرَّقبةِ في القتلِ وفي الظِّهارِ واليمينِ، أمَّا في الظِّهارِ فإنَّها وَرَدَتْ فيه مطلقةً في قولِه تَعالى:{وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا}

(2)

، وقالَ في اليمينِ:{فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} إلى قولِه: {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ}

(3)

، وأمَّا في القتلِ فإنَّها وَرَدَتْ فيه مُقَيَّدَةً بالإيمانِ في قولِه:{وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ}

(4)

حُمِلَ المُطلقُ على المُقيَّدِ قياسًا بجامعٍ بينَهما على الصَّحيحِ، كتخصيصِ العُمومِ بالقياسِ، ولا يُحمَلُ عليه لغةً عندَ

(5)

أحمدَ وغيرِه على الأرجحِ.

(أَوِ) اخْتَلَفَ (سَبَبُ مُقَيَّدَيْنِ مُتَنَافِيَيْنِ وَمُطْلَقٌ) يَعني: إذا وَرَدَ مَعَنا مُقيَّدَانِ مُتَنافِيانِ ومُطلقٌ، فلا يَخلو: إمَّا أن يَختلِفَ السَّببُ، أو يَتَّفِقَ، فإنِ اختلفَ السَّببُ لكنَّ جنسَ الجميعِ واحدٌ، كتتابُعِ صومِ الظِّهارِ، فإنَّ النَّصَّ قد وَرَدَ

(1)

«المسودة في أصول الفقه» (ص 147).

(2)

المجادلة: 3.

(3)

المائدة: 89.

(4)

النساء: 92.

(5)

في «ع» : عن.

ص: 547

بتتابُعِه، لقولِه تَعالى:{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ}

(1)

، وتفريقِ صومِ المُتعةِ، فإِنَّه وَرَدَ

(2)

النَّصُّ بتفريقِه؛ لقولِه تَعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ}

(3)

،

ووَرَدَ قضاءُ رمضانَ مطلقًا لم يَرِدْ به تتابُعٌ ولا تفريقٌ، قال تَعالى:{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}

(4)

، فأَطلَقَ القضاءَ، فعلى القولِ بعدمِ التَّتابُعِ هو دائرٌ بينَ قيدينِ: التَّتابُعُ في صومِ الظِّهارِ، والتَّفريقُ في صومِ التَّمتُّعِ في الحجِّ، وليسَ أحدُهما أَوْلَى مِن الآخَرِ، ولكنَّ الأشبهَ به

(5)

أرجحُ في الحملِ، فلذلك (حُمِلَ المُطْلَقُ) على أشبهِ المُقَيَّدَينِ به وهو عدمُ التَّتابُعِ في القضاءِ (قِيَاسًا بِجَامِعٍ) بينَ المُطلقِ وأحدِ المُقيَّدَينِ في الأصحِّ.

قال المجدُ: وأمَّا إلحاقُه بأحدِهما قياسًا إذا وُجِدَتْ علَّةٌ تَقتضي الإلحاقَ فإِنَّه على الخلافِ المذكورِ

(6)

.

تنبيهٌ: قال في «القواعد الأصوليَّة» : إذا كانَ مَعَنا نَصَّانِ مُقَيَّدان في جنسٍ واحدٍ، والسَّببُ مُختلِفٌ، وهناك نصٌّ ثالثٌ مُطلَقٌ من الجنسِ؛ فلا خلافَ أنَّه لا يُلحَقُ بواحدٍ مِنهما لغةً

(7)

. انتهى. إذْ لا مدخلَ للُّغةِ في الأحكامِ الشَّرعيَّةِ.

(وَإِلَّا) بأنِ اتَّحَدَ الحُكمُ واختلفَ السَّببُ، فإنْ كانَ حَمْلُ المُطلقِ على أحدِ المقيدينِ أرجحَ مِن الآخرِ بأنْ كانَ القياسُ فيه أظهرَ: قُيِّدَ به؛ لأنَّ العملَ بالقياسِ الجَليِّ أَوْلى.

(1)

المجادلة: 4.

(2)

زاد في «د» : في.

(3)

البقرة: 196.

(4)

البقرة: 184.

(5)

ليست في (د).

(6)

«المسودة في أصول الفقه» (ص 146).

(7)

«القواعد والفوائد الأصولية» لابن اللحام (ص 364).

ص: 548

فإنْ (تَسَاوَيَا) أي: القيدانِ

(1)

فلم يُمكِنْ حملُ المُطلَقِ على أحدِهما قياسًا بجامعِ عملٍ بالمُطلقِ (وَسَقَطَا) كالبَيِّنَتَينِ إذا تَعارَضَتَا؛ فإنَّ الأرجحَ فيهما التَّساقُطُ وكانَ كمَن لا بيِّنةَ هناك.

مثالُه: قولُه صلى الله عليه وسلم: «إِذَا وَلَغَ الكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ»

(2)

، ووَرَدَ في روايةٍ:«إِحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ»

(3)

، وفي روايةٍ:«أُولَاهُنَّ»

(4)

، وفي أُخرى:«السَّابِعَةُ بِالتُّرَابِ» رَوَاها أبو داودَ

(5)

، وهي معنى:«وَعَفِّرُوهُ الثَّامِنَةَ بِالتُّرَابِ»

(6)

، قِيلَ: إِنَّمَا سُمِّيَتْ ثامنةً؛ لأجلِ استعمالِ التُّرابِ معَها، فلَمَّا كانَ القَيدانِ -أعني: أولاهنَّ، والسَّابعةَ- مُتَنافِيَينِ تَسَاقَطَا ورَجَعْنا إلى الإطلاقِ في إحداهنَّ، ففي أيِّ غسلةٍ جُعِلَ: جازَ، إذا أَتَى عليه مِن الماءِ ما يُزيلُه ليَحصُلَ المقصودُ منه.

(وَأَصْلٌ كَوَصْفٍ فِي حَمْلٍ) قال في «شرح الأصل»

(7)

: حملُ المُطلقِ على المُقيَّدِ بالنِّسبةِ إلى الوصفِ مُتَّفَقٌ عليه، كوصفِ الرَّقبةِ في القتلِ ونَحوِه بالإيمانِ، وأمَّا بالنِّسبةِ إلى الأصلِ -أي: المحذوفِ بالكُلِّيَّةِ كالإطعامِ- فإِنَّه مذكورٌ في كفَّارةِ الظِّهارِ دونَ كفَّارةِ القتلِ.

قالَ في «القواعد الأصوليَّة» : فظاهرُ كلامِ أصحابِنا يُحمَلُ المُطلقُ على المُقيَّدِ في الأصلِ، كما حُمِلَ عليه في الوصفِ؛ لأنَّهم حَكَوْا في كفَّارةِ القتلِ

(1)

في «د» : المقيدان.

(2)

رواه مسلم (279) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(3)

«سنن النسائي الكبرى» (69).

(4)

«صحيح مسلم» (279).

(5)

«سنن أبي داود» (73).

(6)

رواه النسائي (67)، وابن ماجه (365)، وابن حبان (1298) من حديث عبد الله بن المُغفَّل.

(7)

«التحبير شرح التحرير» (6/ 2739).

ص: 549

في وجوبِ الإطعامِ روايتينِ: الوجوبُ إلحاقًا

(1)

بكفَّارةِ الظِّهارِ، كما حَكَوْا روايتينِ في اشتِراطِ وصفِ الإيمانِ في كفَّارةِ الظِّهارِ، والاشتِراطُ إلحاقًا

(2)

بكفَّارة القتلِ

(3)

.

قُلْتُ: هذا مبنيٌّ على الرِّوايةِ الثَّانيةِ عن أحمدَ أنَّه يَجِبُ الإطعامُ في كفَّارةِ القتلِ، واختارَها كثيرٌ مِن الأصحابِ. والصَّحيحُ: لا يَجِبُ، ولنا روايةٌ ضعيفةٌ بإجزاءِ الرَّقَبَةِ الكافرةِ في الظِّهارِ، والوطءِ في رمضانَ، وفي اليمينِ، والصَّحيحُ اشتِراطُ الإيمانِ في الكلِّ، وهذه هي المسألةُ المُتقدِّمةُ، وهما ما إذا اتَّحَدَ الحُكمُ واختلفَ السَّببُ، فقياسُ صاحبِ «القواعدِ» المسألةَ الأُولى على هذه فيه نظرٌ، بلِ الحُكمُ مُختلَفٌ فيهما على الصَّحيحِ.

(وَمَحَلُّ حَمْلِ) المُطلقِ على المُقيَّدِ (إِذَا لَمْ يَسْتَلْزِمِ) الحملُ (تَأْخِيرَ بَيَانٍ عَنْ وَقْتِ حَاجَةٍ، فَإِنِ اسْتَلْزَمَهُ) أي: استلزمَ الحَملُ تأخيرَ البيانِ عن وقتِ الحاجةِ: حُمِلَ اللَّفظُ المُطلقُ على إطلاقِه في قولِ بعضِ أصحابِنا المُحقِّقينَ، وقَدَّمَه صاحبُ «الأصلِ» .

مثالُ ذلك: لَمَّا أَطلقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لُبْسَ الخُفَّيْنِ بعَرفاتٍ

(4)

وكانَ مَعَه الخلْقُ العظيمُ مِن أهلِ مَكَّةَ والبوادي واليمنِ مِمَّن لم يَشهَدْ خُطبتَه بالمدينةِ، فإِنَّه لا يُقَيَّدُ بما قاله في المدينةِ وهو قطعُ الخُفَّينِ

(5)

.

(1)

زاد في «القواعد والفوائد الأصولية» : لكفارة الظهار.

(2)

زاد في «القواعد والفوائد الأصولية» : لكفارة الظهار.

(3)

«القواعد والفوائد الأصولية» لابن اللحام (ص 364).

(4)

رواه البخاري (1841)، ومسلم (1178) عنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ بِعَرَفَاتٍ: «مَنْ لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسِ الخُفَّيْنِ» .

(5)

رواه البخاري (134)، ومسلم (1177) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

ص: 550

وقالَ بعضُ مُحقِّقي أصحابِنا أيضًا وغيرُهم: المُطلقُ مِن الأسماءِ يَتناولُ الكاملَ مِن المُسَمَّياتِ، يَعني: إذا استلزمَ الحملُ تأخيرَ البيانِ عن وقتِ الحاجةِ؛ (حُمِلَ المُسَمَّى فِي إِثْبَاتٍ) لا نفيٍ (عَلَى الكَامِلِ الصَّحِيحِ

(1)

منَ المُسَمَّياتِ (لَا عَلَى إِطْلَاقِهِ فِي قَوْلِ) بعضِ مُحَقِّقي أصحابِنا وغيرِهم، كالماءِ والرَّقبةِ وعقدِ النِّكاحِ الخالي عن

(2)

وطءٍ يَدخُلُ في قولِه: {وَلَا تَنْكِحُوا}

(3)

لا حَتَّى تُنكحَ، ولو حَلَفَ لا يَتزوَّجُ: حَنِثَ بمُجرَّدِ العقدِ عندَ الأئمَّةِ الأربعةِ، ولو حَلَفَ لَيَتَزَوَّجَنَّ: لم يَحنَثْ بمُجَرَّدِه عندَ أحمدَ ومالكٍ، وكذا قال بعضُ أصحابِنا: الواجباتُ المُطلقةُ تَقتضي السَّلامةَ مِن العَيبِ في عُرف الشَّارِعِ بدليلِ الإطعامِ في الكَفَّارةِ والزَّكاةِ، (وَالمُطْلَقُ: ظَاهِرُ الدَّلَالَةِ عَلَى المَاهِيَّةِ) فهو (كَالعَامِّ) وهو يُشْبِهُه لاستِرسالِه على كلِّ فردٍ، وأَطلَقُوا عليه العُمومَ، (لَكِنَّـ) ـهُ (عَلَى سَبِيلِ البَدَلِ) ولهذا قِيلَ: عامٌّ عمومَ بدلٍ، وقِيلَ للقاضي وقد احتجَّ على القضاءِ في المسجدِ بقولِه:{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ}

(4)

لا يَدُلُّ على المكانِ، فقال: هو أمرٌ بالحُكمِ في عمومِ الأمكنةِ والأزمنةِ، إلَّا ما خَصَّه الدَّليلُ، وعندَ الحَنفيَّة: المُطلقُ قطعيُّ الدَّلالةِ على الماهيَّةِ.

(1)

في «مختصر التحرير» (ص 170): السليم.

(2)

في «د» : من.

(3)

البقرة: 221، والنساء:22.

(4)

المائدة: 49.

ص: 551

(بَابٌ)

(المُجْمَلُ لُغَةً) مِن الجَمْلِ، ومنه قولُه صلى الله عليه وسلم عنِ اليهودِ:«جَمَلُوهَا»

(1)

أي: خَلَطُوها، ومنه العَلمُ الإجماليُّ لاختلاطِ المعلومِ بالمجهولِ، وهنا سُمِّيَ مُجملًا؛ لاختلاطِ المُرادِ بغيرِه.

ومِن معاني المُجملِ اللُّغويَّةِ (المَجْمُوعُ) مِن أَجْمَلْتُ الحسابَ جَمَعْتُه، وقِيلَ:(أَوِ المُبْهَمُ) من أَجْمَلَ الأمرَ أي: أبْهَمَه، (أَوِ المُحَصَّلُ) مِن أَجْمَلَ الشَّيءَ: حَصَّلَه.

(وَ) المُجمَلُ (اصْطِلَاحًا) أي: عندَ علماءِ هذا الفنِّ: هو (مَا) أي: قولٌ أو فعلٌ (تَرَدَّدَ بَيْنَ مُحْتَمَلَيْنِ فَأَكْثَرَ)، احتُرزَ به عمَّا له مَحمَلٌ واحدٌ كالنَّصِّ، وقولُه:(عَلَى السَّوَاءِ) احتِرازٌ عنِ الظَّاهرِ وعنِ الحقيقةِ الَّتي لها مجازٌ، فإنَّ المُجملَ يَتناوَلُ القولَ والفعلَ والمُشتَركَ والمُتواطئَ.

(وَحُكْمُهُ) أي: المُجملِ (التَّوَقُّفُ عَلَى البَيَانِ الخَارِجِيِّ) أي: لا يَجُوزُ العملُ بأحدِ مُتحمَّلَاتِه إلَّا بدليلٍ خارجٍ عن لفظِه؛ لعدمِ دَلالةِ لفظِه على المُرادِ به وامتناعِ التَّكليفِ بما لا دليلَ عليه.

(وَهُوَ) أي: الإجمالُ (فِي الكِتَابِ) العَزِيزِ (وَالسُّنَّةِ) أي: كلامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم في الأصحِّ، والمُخالفُ في ذلك داودُ الظَّاهرِيُّ، والحُجَّةُ عليه مِن الكتابِ والسُّنَّةِ بما لا يُحصى ولا يُعَدّ، وإنكارُه مكابرةٌ. قال

(2)

:

(1)

رواه البخاري (2223)، ومسلم (1582) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال صلى الله عليه وسلم:«قَاتَلَ اللَّهُ اليَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ، فَجَمَلُوهَا فَبَاعُوهَا» .

(2)

أي: داود الظاهري. ينظر: «التحبير شرح التحرير» (2753).

ص: 552

الإجمالُ بدونِ البيانِ لا يُفِيدُ ومعَه تطويلٌ، ولا يَقَعُ في كلامِ البُلَغَاءِ، فضلًا عن اللهِ تَعَالَى ورسولِه سيِّدِ الأنبياءِ.

والجوابُ: أنَّ الكلامَ إذا وَرَدَ مُجمَلًا، ثمَّ بُيِّنَ: أَوْقَعُ عندَ النَّفسِ مِن ذِكْرِه مُبَيَّنًا ابتداءً.

(وَيَكُونُ) الإجمالُ (فِي:

(1)

حَرْفٍ) كالواوِ في قولِه تَعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ}

(1)

يَحتملُ أن تَكُونَ عاطفةً، ويكونَ الرَّاسخونَ في العلمِ يَعلمون تأويلَه، ويَحتملُ أنْ تَكُونَ مُستأنفةً، فتَكُونُ للاستئنافِ ويَكُونُ الوقفُ على:{إِلَّا اللَّهُ} ، وقد تَرَجَّحَ أنَّها للاستئنافِ كما تَقَدَّمَ في أواخرِ الكلامِ على الكتابِ العزيزِ، وأمَّا «مِنْ» فتأتي في بعضِ الأماكنِ مُحتمِلةً لمَعانٍ، فتَكُونُ مجملةً، فإنَّها تَصلُحُ للتَّبعيضِ وابتداءِ الغايةِ والجنسِ، ونَحوِها.

(2)

ويَكُونُ الإجمالُ أيضًا في (اسْمٍ) مفردٍ

(3)

(وَمُرَكَّبٍ)، فالمُفردُ كالقُرءِ المُتَرَدِّدِ بينَ الحَيضِ والطُّهرِ، والمختارُ أصلُه «مُخْتَير» فإنْ فَتَحْتَ الياءَ كانَ اسمَ مفعولٍ، وإنْ كَسَرْتها كانَ اسمَ فاعلٍ، وعلى كِلا التَّقديرينِ الياءُ حرفُ علَّةٍ مُتحرِّكٌ، وما قَبْلَه مفتوحٌ، فيُقْلَبُ ألفًا، فلَمَّا قُلِبَتْ ألفًا حَصَلَ الإجمالُ لاحتمالِ أنْ يَكونَ اسمَ فاعلٍ واسمَ مفعولٍ، وكذا حُكمُ مُغْتَالٍ

(2)

ونحوِه، فقِسْه على ذلك.

(1)

آل عمران: 7.

(2)

في (د): مختار.

ص: 553

قال العَسْكَرِيُّ: ويَتَمَيَّزُ بحرفِ الجرِّ، تَقولُ: هذا مختارٌ لكذا في الفاعلِ، ومختارٌ مِن كذا في المفعولِ

(1)

.

والفرقُ بينَ هذا وبينَ القرءِ أنَّ الإجمالَ طرديٌّ على هذا باعتبارِ الإعلالِ والعملِ التَّصرُّفِيِّ، والقُرءُ مُجمَلٌ من حيثُ وضعُه، معَ أنَّ كلًّا مِنهما إجمالُه مِن حيثُ هو مفردٌ، وأمَّا المُرَكَّبُ فكثيرٌ، فمنه قولُه تَعالى:{أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ}

(2)

فيُحتمَلُ أنْ يَكُونَ الوليَّ؛ لأنَّه الَّذِي يَعقِدُ نكاحَ المرأةِ؛ لأنَّها لا تُزَوِّجُ نَفْسَها، ويُحتمَلُ أنْ يَكُونَ الزَّوجَ؛ لأنَّه الَّذِي بيدِه دوامُ العقدِ والعِصمةِ، فوَقَعَ الاختلافُ في بيانِه، والرَّاجحُ أنَّه الزَّوجُ.

(4)

(وَ) يَكُونُ الإجمالُ أيضًا فِي (مَرْجِعِ ضَمِيرٍ) نحوُ الضَّميرِ في قولِه صلى الله عليه وسلم في الصَّحيحين: «لَا يَمْنَعَنَّ جَارٌ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَةً فِي جِدَارِهِ»

(3)

، يُحتملُ عودُه إلى الغارزِ وهو أقربُ مذكورٍ؛ أي: لا يَمنَعُه جارُه أنْ يَفعَلَ ذلك في جدارِ نَفْسِه، وعلى هذا فلا دَلالةَ فيه على القولِ أنَّه إذا طَلَبَ جارُه منه أن يَضَعَ خشبةً على جدارِ المطلوبِ منه وَجَبَ عليه التَّمكُّنُ، ويُحتملُ أنْ يَعُودَ إلى الجارِ الآخَرِ، فيَكُونُ فيه دَلالةٌ على ذلك، والَّذي عليه الإمامُ أحمدُ أنَّ الضَّميرَ إِنَّمَا يَعُودُ إلى الجارِ لا إلى الغارزِ، وفي الحديثِ ما يَدُلُّ على ذلك لقولِ أبي هُرَيْرَةَ: ما لي أراكم عنها مُعرِضينَ! واللهِ لأَرْمِيَنَّ بها بينَ أَظهُرِكم

(4)

. ولو كانَ ذلك عائدًا إلى الغارزِ لَمَا قال ذلك.

(1)

ينظر: «تشنيف المسامع» (2/ 838)، و «الغيث الهامع» (ص 356).

(2)

البقرة: 237.

(3)

رواه البخاري (2463)، ومسلم (1609) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(4)

رواه البخاري (2463)، ومسلم (1609).

ص: 554

(5)

(وَ) يَكُونُ الإجمالُ أيضًا في مرجعِ (صِفَةٍ) كقولِك: زيدٌ طبيبٌ ماهرٌ، فيحتملُ أنْ يَعُودَ «ماهرٌ» إلى ذاتِ زيدٍ [أي: زيدٌ ماهرٌ]

(1)

، ويحتملُ أنْ يَعُودَ إلى وصفِه المذكورِ يَعني طبيبًا ماهرًا في طِبِّه، ولا شكَّ أنَّ المعنى متفاوتٌ باعتبارِ الاحتمالينِ، وإنْ كانَ بينَهما فرقٌ، فإنْ أَعَدْنا «ماهرٌ» إلى «طبيب» فيَكُونُ ماهرًا في طِبِّه، وإنْ أعدْناه إلى زيدٍ؛ فتَكُونُ مهارتُه في غيرِ الطِّبِّ، وهو مِن المجملِ

(2)

باعتبارِ التَّركيبِ.

وقالَ الكُورَانِيُّ: إذِ المُستكنُّ في «ماهر» يُمكِنُ عَودُه إلى «زيدٌ» وإلى «طبيب» ، فعلى ما اختارَه الشَّافعيُّ يَعودُ إلى «طبيبٌ» ، فتَنحصرُ مهارةُ زيدٍ في الطِّبِّ

(3)

.

(6)

(وَ) يَكُونُ الإجمالُ أيضًا في (تَعَدُّدِ مَجَازٍ عِنْدَ تَعَذُّرِ الحَقِيقَةِ) أي: إذا كانَتِ المجازاتُ مُتكافئةً، ولم يَتَّضِحْ أحدُها بقرنيةٍ، ولا بشهادةِ عُرفٍ، ومَنَعَ مانعٌ مِن الحملِ على الحقيقةِ: فيُقَدَّرُ الجميعُ؛ لأنَّه الأقربُ إلى الحقيقةِ؛ كقولِه صلى الله عليه وسلم: «لَعَنَ اللهُ اليَهُودَ! حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ، فَجَمَلُوهَا، وَبَاعُوهَا، فَأَكَلُوا ثَمَنَهَا»

(4)

، فلو لم يَعُمَّ جميعَ التَّصرُّفاتِ لَمَا اتَّجَهَ اللَّعنُ في البيعِ، فيُضمر

(5)

الجميعُ؛ لأنَّ الإضمارَ واقعٌ إجماعًا، وهو أكثرُ وقوعًا مِن الإجمالِ.

(1)

ليس في «د» .

(2)

في «ع» : الجمل.

(3)

«الدرر اللوامع في شرح جمع الجوامع» (2/ 441).

(4)

رواه البخاري (2223)، ومسلم (1582) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

(5)

في «د» : فتضمن.

ص: 555

(7)

(وَ) يَكُونُ الإجمالُ أيضًا في (عَامٍّ خُصَّ بِمَجْهُولٍ) فإذا خُصَّ العامُّ بمجهولٍ صارَ الباقي مُحتمَلًا، فكانَ مُجمَلًا

(1)

كـ: اقتلوا المشركينَ إلَّا بَعضَهم.

(وَ) في عامٍّ خُصَّ بـ (مُسْتَثْنًى وَصِفَةٍ مَجْهُولَيْنِ).

مثالُ المُستثنَى المجهولِ: نحوُ: {إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} في قولِه تَعالى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ}

(2)

؛ فإِنَّه قد استثنى مِن المعلومِ ما لم يُعلمْ، فصارَ الباقي محتملًا فكانَ مُجملًا.

ومثالُ الصِّفَةِ المجهولةِ؛ نحوُ: {مُحْصِنِينَ} موجبٌ للإجمالِ في قولِه تَعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ} إلى قولِه: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ}

(3)

، والإحصانُ غيرُ موجبٍ مُبينٍ؛ لأنَّه صفةٌ مجهولةٌ.

(وَلَا إِجْمَالَ فِي:

(1)

إِضَافَةِ تَحْرِيمٍ إِلَى عَيْنٍ

(4)

على الصَّحيحِ كـ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ}

(5)

و {أُمَّهَاتُكُمْ}

(6)

، واستدلَّ له بأنَّ تحريمَ العينِ غيرُ مرادٍ؛ لأنَّ التَّحريمَ إِنَّمَا يَتَعَيَّنُ بفعلِ المُكَلَّفِ، فإذا أُضِيفَ إلى عينٍ مِن الأعيانِ يُقَدَّرُ الفعلُ المقصودُ منه، ففي المأكولاتِ يُقَدَّرُ الأكلُ، وفي المشروباتِ الشُّربُ، وفي الملبوساتِ اللُّبسُ، وفي الموطوءاتِ الوَطءُ، فإذا أَطلَقَ أحدٌ هذه الألفاظَ سَبَقَ المعنى المرادُ إلى الفَهمِ مِن غيرِ تَوقُّفٍ، فتلك الدَّلالةُ مُتَّضحةٌ لا إجمالَ فيها.

(1)

في «د» : عامًّا.

(2)

المائدة: 1.

(3)

النساء: 24.

(4)

في «مختصر التحرير» (ص 172): العين.

(5)

المائدة: 3.

(6)

النساء: 23.

ص: 556

(وَهُوَ) أي: التَّحريمُ المضافُ إلى العينِ (عَامٌّ) فنحوُ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ}

(1)

، ونحوُه مِن الأمثلةِ إنْ دَلَّ دليلٌ على تقديرِ شيءٍ مِن المحتملاتِ بعينِه: فذاك، سواءٌ كانَ المقدَّرُ عامًّا في أمورٍ كثيرةٍ أو خاصًّا بفردٍ، وإن لم يَدُلَّ دليلٌ على تعيينِ شيءٍ لا عامٍّ ولا خاصٍّ معَ احتمالِ أمورٍ مُتَعَدِّدَةٍ: لم يَتَرَجَّحْ بعضُها، فتُقَدَّرُ المحتملاتُ كُلُّها، وهو المُرادُ بالعُمومِ في هذه المسألةِ، فلا إجمالَ في ذلك؛ لأنَّ العُرفَ دَلَّ على التَّعميمِ، فيَتناوَلُ الوطءَ ومُقدِّماتِه.

تنبيهٌ: العينُ تُوصَفُ بالحِلِّ والحظرِ حقيقةً لا مجازًا على الصَّحيحِ، فهي محظورةٌ علينا ومباحةٌ، كوصفِها بطهارةٍ ونجاسةٍ، وطِيبٍ وخبثٍ.

(2)

(وَلَا) إجمالَ (فِي) قولِه تَعالى: ({وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ}

(2)

على الصَّحيحِ؛ لأنَّ عدمَ الإجمالِ بوضعِ حُكمِ اللُّغةِ ظاهرٌ في مسحِ جميعِ الرَّأسِ عندَ الجمهورِ؛ لأنَّ الباءَ حقيقةٌ في الإلصاقِ، وقد أَلْصَقَتِ المسحَ بالرَّأسِ، وهو اسمٌّ لكلِّه لا لبعضِه؛ لأنَّه لا يُقالُ لبعضِ الرَّأسِ: رأسٌ، فيَكُونُ ذلك مُقتضيًا مسحَ جميعِه كآيةِ التَّيمُّمِ في قولِه تَعالى:{فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ}

(3)

.

(3)

(وَلَا) إجمالَ أيضًا (فِي) قولِه صلى الله عليه وسلم: («رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ»)

(4)

عندَ الجمهورِ؛ لأنَّ نفيَ صورةِ الخطأِ والنِّسيانِ لا يُمكِنُ أنْ يَكُونَ مُرادًا؛ لِما فيه مِن نِسبةِ كلامِه صلى الله عليه وسلم إلى الكذبِ والخُلْفِ، فتَعَيَّنَ أنَّ المرادَ نفيُ

(5)

الحُكمِ.

(1)

النساء: 23.

(2)

المائدة: 6.

(3)

المائدة: 6.

(4)

رواه ابن ماجه (2045)، وابن حبان (7219) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

(5)

في (د): رفع.

ص: 557

(4)

(وَلَا) إجمالَ أيضًا (فِي آيَةِ السَّرِقَةِ) وهي قولُه تَعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}

(1)

أي: لا إجمالَ في القطعِ، ولا في اليدِ على الصَّحيحِ؛ لأنَّ اليدَ حقيقةٌ إلى المَنكبِ، لصِحَّةِ إطلاقِ بعضِ اليدِ لِما دُونَه، والقطعُ حقيقةٌ في إبانةِ المفصلِ ولا إجمالَ في شيءٍ منهما، فإطلاقُها إلى الكوعِ مجازٌ قَامَ الدَّليلُ على إرادتِه في الآيةِ، وهو: فعلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، والإجماعُ، ولهذا لَمَّا نَزَلَتْ آيةُ التَّيمُّمِ تَيَمَّمَتِ الصَّحابةُ مَعَه صلى الله عليه وسلم إلى المناكبِ.

وأيضًا: لو كانَ مُشتَركًا في الكوعِ والمرفقِ والمنكبِ لَزِمَ الإجمالُ، والمجازُ أَوْلَى مِنه على ما سَبَقَ.

(5)

(وَلَا) إجمالَ أيضًا (فِي) قولِه تَعالى: ({وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ}

(2)

وهو مِن العامِّ المخصوصِ على الصَّحيحِ، فإِنَّه عامٌّ في البيوعِ الجائزةِ وغيرِها، ثمَّ خُصِّصَ المُحرَّمُ منها وبَقِيَ ما عداه ثابتًا بالعُمومِ الأوَّلِ.

وأمَّا قولُه تَعالى: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} فمُجمَلٌ، وبَيَّنَتْه السُّنَّةُ على الصَّحيحِ.

فإنْ قُلْتَ: اللَّفظُ في كلٍّ مِن الآيتينِ مفردٌ مُعَرَّفٌ، فإنْ عَمَّ مِن حيثُ اللَّفظُ فلْيَعُمَّ فيهما، أو المعنى فلْيَعُمَّ فيهما أيضًا، وإن لم يَعُمَّ لا من حيثُ اللَّفظُ ولا المعنى فهُما مُستويانِ معَ أنَّ الصَّحيحَ في آيةِ البيعِ: العُمومُ، وفي آيةِ الزَّكاةِ: الإجمالُ.

قُلْنا: في ذلك سِرٌّ، وهو أنَّ حِلَّ البيعِ على وَفْقِ الأصلِ مِن حيثُ إنَّ الأصلَ في المنافعِ: الحِلُّ، والمضارِّ: الحُرمةُ، بأدلَّةٍ شرعيَّةٍ، فمَهما حَرُمَ

(1)

المائدة: 38.

(2)

البقرة: 275.

ص: 558

البيعُ فهو خلافُ الأصلِ، وأمَّا الزَّكاةُ فهي خلافُ الأصلِ؛ لتَضَمُّنِها أخذَ مالِ الغيرِ بغيرِ إرادتِه، فوُجوبُها على خلافِ الأصلِ، والأخبارُ الواردةُ في البابِ مُشعِرةٌ بهذا المعنى، فلذلك اعتنى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ببيانِ المبيعاتِ الفاسدةِ: كالنَّهيِ عن بيعِ حَبَلِ الحَبَلَةِ، والمُنابذةِ، والمُلامسةِ، وغيرِ ذلك، بخلافِ الزَّكاةِ، فإِنَّه لم يَعتَنِ فيها ببيانِ ما لا زكاةَ فيه، فمَنِ ادَّعى وجوبَها في مختلَفٍ فيه كالرَّقيقِ والخيلِ، فقد ادَّعَى حُكمًا على خلافِ الدَّليلِ.

(6)

(وَلَا) إجمالَ أيضًا (فِي) قولِه صلى الله عليه وسلم: («لَا صَلَاةَ إِلَّا بِطُهُورٍ»

(1)

، وَنَحْوِهِ) ممَّا فيه نفيُ ذواتِ واقعةٍ تَتَوَقَّفُ الصِّحَّةُ فيها على إضمارِ شيءٍ كـ:«لِا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ»

(2)

، «لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتِ النِّيَّةَ مِنَ اللَّيْلِ»

(3)

، فهذه الأحاديثُ ونحوُها ليْسَتْ مُجملةً عندَ الجمهورِ بناءً على القولِ بثبوتِ الحقائقِ الشَّرعيَّةِ، فإِنَّه إذا اختلَّ منها شرطٌ أو ركنٌ صَحَّ نفيُه حقيقةً؛ لأنَّ الشَّرعيَّ الَّذِي هو تامُّ الأركانِ مُتَوَفِّرُ الشُّروطِ، ولهذا قال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم

(1)

رواه مسلم (224).

(2)

رواه أبو داود (2085)، والترمذي (1126)، وابن ماجه (1881)، وابن حبان (4077) من حديث أبي موسى الأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه:«لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ» .

(3)

رواه أبو داود (2454)، والترمذي (730)، والنسائي (2331) واللفظ له، وابن ماجه (1700)، وابن خزيمة (1933) من حديث حفصة رضي الله عنها.

قال الترمذي: «حديث حفصة حديث لا نعرفه مرفوعًا إلا من هذا الوجه» ، وقد روي عن نافع، عن ابن عمر قوله، وهو أصح.

ونقل عن البخاري في «العلل» (202) أنه قال: هو حديث فيه اضطراب، والصحيح عن ابن عمر موقوف.

وقال النسائي في «الكبرى» (2661): والصواب عندنا موقوف، ولم يَصِح رفعه، والله أعلم.

ص: 559

للمسيءِ في صلاتِه: «ارْجِعْ فَصَلِّ، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ»

(1)

، وإذا كانَتِ الحقيقةُ هي المرادَ نفيُها فلا يَحتاجُ نفيَها إلى إضمارِ شيءٍ، فلا إجمالَ.

(وَيَقْتَضِي ذَلِكَ) أي: يَقتضي عدمُ الإجمالِ (نَفْيَ الصِّحَّةِ) في عُرفِ الشَّارِعِ، وهو عامٌّ على الصَّحيحِ أي: لا عَمَلَ شرعيٌّ، وإن لم يَثبُتْ عُرفُ الشَّارِعِ فعُرفُ اللُّغةِ نفيُ الفائدةِ، نحوُ: لا علمَ إلَّا ما نَفَعَ، ولو قُدِّرَ عدمُ اللُّغةِ وأنَّه لا بُدَّ مِن إضمارٍ، فنفيُ الصِّحَّةِ أَوْلى مِن نفيِ الكمالِ؛ لأنَّ نفيَ الصِّحَّةِ يَصيرُ كالعَدمِ، فهو أقربُ إلى نفيِ الحقيقةِ المُتعذِّرةِ، وليسَ هذا إثباتًا للُّغةِ بالتَّرجيحِ، بل إثباتًا لأولويَّةِ أحدِ المجازاتِ، كالصِّحَّةِ والكمالِ والإجزاءِ بعُرفِ استعمالِه، وإذا اقتضى عدمُ الإجمالِ في الحديثِ نفيَ الصِّحَّةِ فهو عامٌّ على الصَّحيحِ.

(وَعُمُومُهُ مِنَ الإِضْمَارِ) أي: مبنيٌّ على دَلالةِ الاقتضاءِ والإضمارِ، وتَقَدَّمَ في أثناءِ العامِّ أنَّها عامَّةٌ على الصَّحيحِ.

(وَمِثْلُهُ

(2)

أي: مِثلُ الحديثِ السَّابقِ قولُه صلى الله عليه وسلم: («إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ»

(3)

، لا عملَ إلَّا بنيَّةٍ، فهو مِن هذا البابِ، و «الأعمالُ» مبتدأٌ خَبَرُه محذوفٌ، وتقديرُه: صحيحةٌ أو كاملةٌ، والأظهرُ إضمارُ الصِّحَّةِ؛ لأنَّه أَوْلَى المجازاتِ، لكونِه أقربَ إلى نفيِ الحقيقةِ لانتفاءِ فائدةِ الفعلِ وجدواه.

(وَمَا اسْتُعْمِلَ) مِن اللَّفظِ (لِمَعْنًى) واحدٍ (تَارَةً، وَ) استُعمِلَ (لِ) ـمعنيينِ

(1)

رواه البخاري (757)، ومسلم (397) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

في «مختصر التحرير» (ص 172): ومثلها.

(3)

رواه البخاري (1) من حديث عمر رضي الله عنه.

ص: 560

(آخَرَيْنِ) تارةً (أُخْرَى، وَلَا ظُهُورَ) في ذلك؛ فهو (مُجْمَلٌ) على المختارِ، لتَردُّدِه بينَ المعنى والمعنيينِ، ومَحَلُّه إذا لم تَقُمْ قرينةٌ على المرادِ،

مِثالُه: حديثُ مسلمٍ: «لَا يَنْكِحُ المُحْرِمُ، وَلَا يُنْكَحُ»

(1)

بناءً على أنَّ النِّكاحَ مشتَركٌ بينَ العقدِ والوطءِ، فإِنَّه إنْ حُمِلَ على الوطءِ: استُفيدَ منه معنًى واحدٌ، وهو أنَّ المُحْرِمَ لا يَطَأُ ولا يُوطَأُ؛ أي: لا يُمَكِّنُ غيرَه مِن وَطئِه، وإنْ حُمِلَ على العقدِ: استفيدَ منه معنيانِ بينَهما قَدْرٌ مشتَركٌ، وهو: أنَّ المُحرِمَ لا يَعقِدُ لنفسِه ولا يَعقِدُ لغيرِه.

(وَمَا) مِن اللَّفظِ (لَهُ مَحْمَلٌ) في اللُّغةِ ويُمكِنُ حَملُه على حُكمٍ شرعيٍّ فللشَّرعيِّ، كقولِه صلى الله عليه وسلم:«الطَّوَافُ بِالبَيْتِ صَلَاةٌ»

(2)

، فيَحتملُ أنَّه كالصَّلَاةِ في الأحكامِ، ويَحتملُ أنَّه صلاةٌ لغةً للدُّعاءِ فيه، كقولِه:«الِاثْنَانِ جَمَاعَةٌ»

(3)

فلا إجمالَ فيه عندَ الأكثرِ؛ لأنَّه صلى الله عليه وسلم بُعِثَ لتعريفِ الأحكامِ لا اللُّغةِ، وفائدةُ التَّأسيسِ أَوْلى، وأيضًا لَيْسَ في الطَّوافِ حقيقةُ الصَّلَاة الشَّرعيَّةِ، فكانَ مجازًا، والمرادُ أنَّ حُكمَه حُكمُ الصَّلَاةِ في الطَّهارةِ والنِّيَّةِ وستْرِ العورةِ وغيرِه، ويَدُلُّ على ذلك قولُه في بقيَّةِ الحديثِ:«إِلَّا أَنَّ اللهَ أَحَلَّ فِيهِ الكَلَامَ» ، فدَلَّ على أنَّ المرادَ كونُه صلاةً في الحُكمِ إلَّا ما اسْتُثْنِيَ.

(أَوْ) أي: وما مِن اللَّفظِ له (حَقِيقَةٌ لُغَةً وَشَرْعًا) كخطابِ الشَّرعِ بلفظٍ يَجِبُ حَمْلُه على عُرفِ الشَّرعِ، كالصَّلَاةِ والزَّكاةِ والصَّومِ وغيرِها،

(1)

رواه مسلم (1409) من حديث عثمان رضي الله عنه.

(2)

رواه الترمذي (960)، وابن خزيمة (2739) من حديث ابن عباس رضي الله عنه.

(3)

رواه ابن ماجه (972) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه ولفظه: «اثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ» .

قال النووي في «خلاصة الأحكام» (2336): ضعيف جدًّا.

ص: 561

(فَلِلشَّرْعِيِّ) على الصَّحيحِ؛ لأنَّ خطابَ الشَّرعِ بلفظٍ يَجِبُ حَمْلُه على عُرفِ الشَّرعِ؛ لأنَّه صلى الله عليه وسلم مبعوثٌ لبيانِ الشَّرعيَّاتِ، ولأنَّه كالنَّاسخِ المُتأخِّرِ، فيَجِبُ حَملُه عليه.

(فَـ) على هذا (إِنْ تَعَذَّرَ) حَملُ اللَّفظِ على الشَّرعيِّ (فَـ) يُحمَلُ على (العُرْفِيِّ)؛ لأنَّه المتبادِرُ إلى الفهمِ، ولهذا اعتَبَرَ الشَّارِعُ العباداتِ في مواضعَ كثيرةٍ.

فإذا تَعَذَّرَ حَملُه على العُرفِيِّ أيضًا؛ (فَـ) يُحمَلُ على (اللُّغَوِيِّ) كقولِه صلى الله عليه وسلم: «مَنْ دُعِيَ إِلَى وَلِيمَةٍ فَلْيُجِبْ، فَإِنْ كانَ مُفْطِرًا فَلْيَأْكُلْ، وَإِنْ كانَ صَائِمًا فَلْيُصِلِّ»

(1)

. حَمَلَه ابنُ حِبَّانَ في «صحيحه» على معنى: «فليدْعُ»

(2)

.

فإنْ تَعَذَّرَ الحملُ على اللُّغةِ (فَـ) يُحمَلُ على (المَجَازِ)؛ لأنَّ الكلامَ: إمَّا حقيقةٌ، وإمَّا مجازٌ.

وإذا تَعَذَّرَ حَملُه على أحدِ الحقائقِ الثَّلاثِ فما بَقِيَ إلَّا المجازُ؛ فيُحمَلُ عليه إذا كانَ مشهورًا والحقيقةُ لغويَّةٌ، وإن لم يَكُنِ المجازُ مشهورًا: عُمِلَ بالحقيقةِ.

(1)

رواه مسلم (1431) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

«صحيح ابن حبان» عقب حديث (5306).

ص: 562

(بَابٌ)

(المُبَيَّنُ): اسمُ مفعولٍ (يُقَابِلُ المُجْمَلَ) في تعريفِه، فإذا قُلْتَ: المجملُ: ما تَرَدَّدَ بينَ مُحتمَلَينِ فأكثرَ على السَّواءِ، فخُذْ ضِدَّه في المُبيَّنِ وقلِ: المُبَيَّنُ

(1)

: ما نَصَّ على معنًى مُعَيَّنٍ مِن غيرِ إبهامٍ.

(وَيَكُونُ) المُبَيَّنُ (فِي:

(1)

مُفْرَدٍ،

(2)

وَمُرَكَّبٍ)،

(3)

وقولٍ (وَفِعْلٍ) كالمُجْمَلِ، سَواءٌ (سَبَقَهُ إِجْمَالٌ أَوْ لَا) كمن يَقُول ابتداءً: اللهُ بكلِّ شيءٍ عليمٌ.

(وَالبَيَانُ) مَصدَرُ بَيَّنَ، يُقالُ: بيَّنَ تَبْيِينًا وبَيَانًا، كما يُقالُ: كَلَّمَ تَكليمًا وكَلامًا، وهو عبارةٌ عنِ الدَّليلِ، و (يُطْلَقُ) تارةً:

(1)

(عَلَى التَّبْيِينِ، وَ) التَّبيينُ (هُوَ فِعْلُ المُبَيِّنِ) اسمُ فاعلٍ، والبيانُ والتَّبيينُ كالسَّلامِ بمَعنى التَّسليمِ فهو اسمُ مصدرٍ، لا مصدرٌ؛ لعدمِ جَرَيَانِه على الفعلِ.

(2)

(وَ) يُطلَقُ تارةً (عَلَى مَا حَصَلَ بِهِ التَّبْيِينُ وَهُوَ الدَّلِيلُ،

(3)

وَ) يُطلَقُ تارةً (عَلَى مُتَعَلَّقِهِ) أي: مُتَعَلَّقِ التَّبيينِ، ومَحَلِّه (وَهُوَ المَدْلُولُ) وهو المُبيَّنُ اسمُ مفعولٍ.

(1)

ليس في «د» .

ص: 563

إذا تَقَرَّرَ ذلك (فَـ) البيانُ (بِنَظَرٍ إِلَى) الإطلاقِ (الأَوَّلِ) الَّذِي هو التَّبيينُ (إِظْهَارُ المَعْنَى) أي: معنى المُبيَّنِ (لِلْمُخَاطَبِ) وإيضاحُه له.

(وَ) البيانُ بنظرٍ (إِلَى) الإطلاقِ على (ثَانٍ) أي: ما حَصَلَ به التَّبيينُ هو (الدَّلِيلُ) لصِحَّةِ إطلاقِه عليه لُغةً وعُرفًا معَ عدمِ ما سَبَقَ، والأصلُ الحقيقةُ.

(وَ) البيانُ بنظرٍ (إِلَى) الإطلاقِ على (ثَالِثٍ) أي: مُتَعَلَّقِ التَّبيينِ، ومَحَلُّه هو (العِلْمُ) الحاصلُ (عَنْ دَلِيلٍ).

إذا عَرَفْتَ ذلك، فالبيانُ أنواعٌ مختلفةُ المراتبِ بَعضُها أَجْلَى مِن بعضٍ: فمنه ما لا يَحتاجُ لتَدبُّرٍ، ومنه ما يَحتاجُ له، وقد قال صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ مِنَ البَيَانِ لَسِحْرًا»

(1)

، فبيَّنَ أنَّ بعضَ البيانِ أظهرُ مِن بعضٍ، ويَدُلُّ عليه أنَّ اللهَ تعالى خاطَبَنا بالنَّصِّ والظَّاهرِ وبالمنطوقِ والمفهومِ، والعُمومِ وغيرِ ذلك، ولذلك عندَ الشَّافعيِّ

(2)

لكلٍّ مِن الأنواعِ بابٌ، فقالَ: بابُ البيانِ الأوَّلِ، بابُ البيانِ الثَّاني، وهكذا.

فائدةٌ: قال في «شرح الأصل» : لنا مِن المُجمَلِ قِسمٌ يَستمِرُّ بلا بيانٍ إلى آخِرِ الدَّهرِ، وذلك عندَ عدمِ الحاجةِ إلى بيانِه بألَّا يَكُونَ مِن دلائلِ الأحكامِ المُكَلَّفِ بها

(3)

.

(وَ) أمَّا إن كانَ مِن دلائلِ الأحكامِ المُكَلَّفِ بها وأُريدَ بالخطابِ إفهامُ المُخاطَبِ ليَعمَلَ به؛ فـ (يَجِبُ لِمَا أُرِيدَ فَهْمُهُ) اتِّفاقًا بأنْ يُبَيَّنَ له ذلك على

(1)

رواه البخاري (5146) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

(2)

«الرسالة» (ص 26، 28).

(3)

«التحبير شرح التحرير» (6/ 2804).

ص: 564

حَسَبِ ما يُرادُ بذلك الخطابِ؛ لأنَّ الفهمَ شرطٌ للتَّكليفِ، فأمَّا مَن لا يُرادُ إفهامُه ذلك، فلا يَجِبُ البيانُ له بالاتِّفاقِ.

(وَيَحْصُلُ) البيانُ:

(1)

(بِقَوْلٍ) بلا نزاعٍ، كقولِه صلى الله عليه وسلم فيما رَوَاه البخاريُّ

(1)

وغيرُه مرفوعًا: «فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ، أَوْ كانَ عَثَرِيًّا العُشْرُ، وَمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ نِصْفُ العُشْرِ» ، وهو مُبَيِّنٌ لقولِه تَعالى:{وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ}

(2)

.

(2)

(وَ) يَحصُلُ البيانُ أيضًا بـ (فِعْلِ) النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم على الصَّحيحِ، ودليلُه أنَّه صلى الله عليه وسلم بيَّنَ الصَّلَاةَ بالفعلِ، وقالَ:«صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» رَوَاه البخاريُّ

(3)

من حديثِ مالكِ بنِ الحُوَيْرِثِ.

لا يُقالُ: إنَّ الَّذِي وَقَعَ به البيانُ قولٌ، وهو قولُه:«صَلُّوا» ؛ لأنَّا نَقولُ: إِنَّمَا دَلَّ القولُ على أنَّ فِعلَه بيانٌ، لا أنَّ نفسَ القولِ وَقَعَ بيانًا، وأيضًا فالفعلُ مُشاهَدٌ، والمشاهَدةُ أَدَلُّ مِن القولِ بالبيانِ.

(وَلَوْ) كانَ الفعلُ: (كِتَابَةً) كالكُتُبِ الَّتي كُتِبَتْ وبُيِّنَ

(4)

فيها الزَّكواتُ وأُرسِلَتْ معَ عُمَّالِه صلى الله عليه وسلم، (أَوْ) كانَ الفعلُ (إِشَارَةً) كقولِه صلى الله عليه وسلم:«الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا»

(5)

وأشارَ بأصابعِه العشرةِ وقَبَضَ الإبهامَ في الثَّالثةِ، يَعني تسعةً وعشرينَ.

(1)

رواه البخاري (1483) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

(2)

الأنعام: 141.

(3)

رواه البخاري (631).

(4)

في «د» : وبينت.

(5)

رواه البخاري (1908)، ومسلم (1080) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

ص: 565

(وَ) البيانُ (الفِعْلِيُّ أَقْوَى) مِن البيانِ القوليِّ؛ لأنَّ المُشاهَدَةَ أدلُّ على المقصودِ مِن القولِ، وأسرعُ إلى الفهمِ، وأَثْبَتُ في الذِّهنِ، وأعونُ على التَّصوُّرِ، وفي الحديثِ:«لَيْسَ الخَبَرُ كَالمُعَايَنَةِ» رَوَاه أحمدُ

(1)

بسندٍ صحيحٍ عن ابنِ عبَّاسٍ مرفوعًا، وزادَ فيه الطَّبَرَانِيُّ:«فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى أَخْبَرَ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ عليه السلام عمَّا صَنَعَ قَوْمُهُ مِنْ بَعْدِهِ، فَلَمْ يُلْقِ الأَلْوَاحَ، فَلَمَّا عَايَنَ ذَلِكَ أَلْقَى الأَلْوَاحَ»

(2)

.

(3)

(وَ) يَحصُلُ البيانُ أيضًا (بِإِقْرَارِ) ـه صلى الله عليه وسلم (عَلَى فِعْلِ) بعضِ أُمَّتِه؛ لأنَّه دليلٌ مُستقِلٌّ، فصَحَّ أنْ يَكُونَ بيانًا لغيرِه كغيرِه مِن الأدلَّةِ المُبيِّنِ لها.

فائدةٌ: ذَكَرَ الطُّوفِيُّ

(3)

قاعدةً كُلِّيَّةً فيما يَحصُلُ به البيانُ تَتَناوَلُ ما سَبَقَ وما يَأْتي بعدُ.

(وَ) هي: ‌

(كُلُّ مُقَيَّدٍ مِنْ) جِهَةِ (الشَّرْعِ بَيَانٌ)

وذلك من وُجوهٍ:

منها: التَّركُ، مثلُ: أنْ يَتْرُكَ فِعلًا قد أَمَرَ به، أو قد سَبَقَ مِنه فِعلُه، فيَكُونُ تَركُه له مُبَيِّنًا لعدمِ وجوبِه، وذلك كما أنَّه قيلَ له:{وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ}

(4)

ثمَّ إنَّه كانَ يُبايِعُ ولا يُشهِدُ، بدليلِ الفرسِ الَّذِي اشتَراه مِن الأعرابيِّ ثمَّ أَنْكَرَ البيعَ

(5)

، فعُلِمَ أنَّ الإشهادَ في البيعِ غيرُ واجبٍ، وصَلَّى عليه الصلاة والسلام

(1)

رواه أحمد (1867)، وابن حبان (6213)، والحاكم (2/ 351) وصحَّحه، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

(2)

«المعجم الأوسط» (25).

(3)

«شرح مختصر الروضة» (2/ 681).

(4)

البقرة: 282.

(5)

رواه أبو داود (3607)، والنسائي (4647)، والحاكم (2/ 21) وصحَّحه، من حديث خُزيمة بن ثابت رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ابْتَاعَ فَرَسًا مِنْ أَعْرَابِيٍّ .. الحديث.

ص: 566

التَّراويحَ في رمضانَ، ثمَّ تَرَكَها خشيةَ أنْ تُفرَضَ عليهم

(1)

، فدَلَّ على عدمِ الوجوبِ؛ إذْ يَمتنعُ تَركُ الواجبِ.

ومِنها: السُّكوتُ بعدَ السُّؤالِ عن حُكمِ الواقعةِ، فيُعلَمُ أنَّه لا حُكمَ للشَّرعِ فيها، كما أنَّ زوجةَ سعدِ بنِ الرَّبيعِ جاءَتْ بابنتَيْها إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فقالَتْ: يا رسولَ اللهِ! هاتانِ ابنتا سعدٍ، قُتِلَ أبوهما مَعَك يومَ أُحُدٍ، وقد أَخَذَ عَمُّهما

(2)

مالَهما ولا يُنكحانِ إلَّا بمالٍ. فقالَ: «اذْهَبِي حَتَّى يَقْضِيَ اللهُ فِيكِ» ، فذَهَبَتْ، ثمَّ نَزَلَتْ آيةُ الميراثِ:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ}

(3)

، فبَعَثَ خَلْفَ المرأةِ وابنتَيْها وعَمِّهما فقَضَى فيهم بحُكمِ الآيةِ

(4)

.

فدَلَّ ذلك على أنَّ قبلَ نزولِ الآيةِ لم يَكُنْ في المسألةِ حُكْمٌ، وإلَّا لَمَا جازَ تأخيرُ البيانِ عن وقتِ الحاجةِ إليه.

ومِنها: أنْ يَستدلَّ الشَّارِعُ استدلالًا عقليًّا فتُبَيَّنُ به العِلَّةُ، أو مأخذُ الحُكمِ، أو فائدةٌ ما؛ إذِ الكلامُ حُكمٌ في بيانِ المُجمَلِ، ومُحتملاتُه بالفَرضِ مُتساويةٌ، فأدنى مُرَجِّحٍ يَحصُلُ بيانًا؛ محافظةً على المبادرةِ إلى الامتثالِ وعدمِ الإهمالِ للدَّليلِ.

(1)

رواه البخاري (924)، ومسلم (761) من حديث عائشة رضي الله عنها وفيه:«لَكِنِّي خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ، فَتَعْجِزُوا عَنْهَ» .

(2)

في «ع» : عمها.

(3)

النساء: 11.

(4)

رواه أبو داود (2892)، والترمذي (2092)، وابن ماجه (2720) من حديث جابر رضي الله عنه. وقال الترمذي: حسن صحيح.

ص: 567

(وَالفِعْلُ وَالقَوْلُ) إذا أَتَيَا (بَعْدَ مُجْمَلٍ إِنْ

(1)

صَلَحَا) بيانًا للمُجمَلِ:

(1)

(وَاتَّفَقَا) في غرضِ البيانِ بألَّا يَكُونَ بينَهما تنافٍ؛ (فَالأَسْبَقُ) منهما (إِنْ عُرِفَ: بَيَانٌ) للمُجمَلِ، قولًا كانَ السَّابقُ أو فعلًا بلا نزاعٍ؛ لأنَّه قد حَصَلَ البيانُ بالأسبقِ، (وَالثَّانِي) منهما حَصَلَ به (تَأْكِيدٌ) للأسبقِ، (وَإِنْ جُهِلَ) الأسبقُ مِن الفعلِ أو القولِ (فَـ) ـالمُبيِّنُ (أَحَدُهُمَا) فقطْ، وهو الأوَّلُ في نفسِ الأمرِ، والثَّاني تأكيدٌ، وهذا هو الصَّحيحُ، ولا يَتَعَيَّنُ تقديمُ غيرِ الأرجحِ؛ لأنَّ المُؤكِّدَ المُستقِلَّ لا يَلْزَمُ فيه الرُّجحانُ، كالجُمَلِ الَّتي يُذكَرُ بعضُها بعدَ بعضٍ للتَّأكيدِ، والتَّأكيدُ يَحصُلُ بالثَّانيةِ، وإنْ كانَتْ أضعفَ بانضمامِها إلى الأُولى، وإنَّما يَلزَمُ كونُ المُؤكِّدِ أقوى في المُفرداتِ، نحوُ: جاءَني القومُ كُلُّهم.

(2)

(وَإِنْ لَمْ يَتَّفِقَا) أي: الفعلُ والقولُ في غرضِ البيانِ بأنْ كانَ بينَهما تنافٍ (كَمَا لَوْ طَافَ) النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ آيَةِ الحَجِّ قَارِنًا) طوافينِ (مَرَّتَيْنِ، وَأَمَرَ) مَن حَجَّ (قَارِنًا بِ) طوافٍ (مَرَّةٍ:

- فَقَوْلُهُ) أي: أمْره بطوافٍ واحدٍ (بَيَانٌ) لفعلِه، سواءٌ كانَ قبلَ الفعلِ أو بعدَه،

- (وَفِعْلُهُ) أي: طوافُه مرَّتَينِ (نَدْبٌ، أَوْ وَاجِبٌ مُخْتَصٌّ بِهِ)؛ وذلك لأنَّ القولَ يَدُلُّ على البيانِ بنَفسِه بخلافِ الفعلِ، فإِنَّه لا يَدُلُّ

(2)

إلَّا بواسطةِ انضمامِ القولِ إليه، والدَّالُّ بنفسِه أقوى مِن الدَّالِّ بغيرِه.

لا يُقالُ: قد سَبَقَ أنَّ الفعلَ أقوى في البيانِ؛ لأنَّا نَقولُ: التَّحقيقُ أنَّ القولَ

(1)

ليس في «د» .

(2)

زاد في (د): على البيانِ.

ص: 568

أقوى في الدَّلالةِ على الحُكمِ، والفعلَ أدلُّ على الكيفيَّةِ، ففعلُ الصَّلَاةِ أدلُّ مِن وصفِها بالقولِ؛ لأنَّ فيه المُشاهدةَ، وأمَّا استفادةُ وجوبِها أو ندبِها أو غيرِهما؛ فالقولُ أقوى وأوضحُ لصراحتِه.

(وَيَجُوزُ) على الصَّحيحِ (كَوْنُ البَيَانِ أَضْعَفَ دَلَالَةً) مِن المُجمَلِ، ودليلُه تبيينُ السُّنَّةِ لمُجملِ القرآنِ، وتَقَدَّمَ مثالُ ذلك في حديثِ البخاريِّ، وهو كثيرٌ جدًّا.

قال في «شرح الأصل» : لنا أنَّ البيانَ كالتَّخصيصِ، وكما يَجُوزُ تخصيصُ القطعيِّ بالظَّنِّيِّ كخبَرِ الواحدِ والقياسِ، فكذلك يَجُوزُ بيانُ المعلومِ؛ أي: ما كانَ مَتنُه معلومًا بالمظنونِ؛ لأنَّ البيانَ يَتَوَقَّفُ على وضوحِ الدَّلالةِ على

(1)

قطعيَّةِ المتنِ، هذا ظاهرُ كلامِه في «المحصول» ، والتَّحقيقُ في هذا المقامِ أنَّ المُبيَّنَ إنْ كانَ عامًّا أو مُطلقًا اشتُرِطَ أنْ يَكُونَ بيانُه أقوى؛ لأنَّه يَدفَعُ العُمومَ الظَّاهرَ والإطلاقَ، وشَرطُ الدَّافعِ أنْ يَكُونَ أقوى، وأمَّا المُجمَلُ فلا يُشتَرَطُ أنْ يَكُونَ بيانُه أقوى بل يَحصُلُ بأدنى دَلالةٍ؛ لأنَّ المُجمَلَ لَمَّا كانَ مُحتمِلًا لمعنيينِ على السَّواءِ، فإذا انْضَمَّ إلى أحدِ

(2)

الاحتمالينِ أدنى مُرَجِّحٍ، كَفَاه

(3)

.

(وَلَا تُعْتَبَرُ مُسَاوَاتُهُ) أي: مساواةُ البيانِ (لِلْمُبَيَّنِ فِي الحُكْمِ) على الصَّحيحِ؛ لتَضَمُّنِه صِفَتَه، والزَّائدُ بدليلٍ.

(1)

كذا في «ع» ، و «د» ، و «التحبير شرح التحرير». وفي «الدرر اللوامع» للكوراني (2/ 451): لا على. وهو الصواب.

(2)

ليس في «ع» .

(3)

«التحبير شرح التحرير» (6/ 2816).

ص: 569

واعلَمْ أنَّ هذه المسألةَ غيرُ المسألةِ الَّتي قَبْلَها؛ لأنَّ الأُولى في تبيينِ الأقوى بالأضعفِ من جهةِ الدَّلالةِ، وهذه في مساواةِ البيانِ للمُبَيَّنِ في الحُكْمِ وعدمِه، وهي مُمَثَّلَةٌ في تبيينِ القرآنِ لخبَرِ الواحدِ، وذلك أضعفُ في الرُّتبةِ لا في الدَّلالةِ، ولا يَلزَمُ مِن ضعفِ الرُّتبةِ ضعفُ الدَّلالةِ؛ لجوازِ أنْ يَكُونَ الأضعفُ رُتبةً أقوى دَلالةً، كتخصيصِ عمومِ القرآنِ لخبَرِ الواحدِ؛ لأنَّه أخصُّ، فيَكُونُ أدلَّ، فحاصلُ هذا أنَّ الضَّعفَ إنْ كانَ في الدَّلالةِ لم يَجُزْ تَبيينُ القويِّ بالضَّعيفِ؛ لِما سَبَقَ، وإنْ كانَ في الرُّتبةِ: جازَ إذا كانَ أقوى دَلالةً، وهذا البحثُ للطُّوفِيِّ في «شرحه»

(1)

على مختصرِه، وهو في قُوَّةِ الرُّتبةِ وضعفِها، والمسألةُ الأُولى في قوَّةِ الدَّلالةِ وضعفِها، وقوَّةُ الرُّتبةِ وضعفُها قد يَكُونُ موجودًا لكنَّ دَلالتَها قويَّةٌ وقد بَيَّنَ ذلك، لكنَّ مسألةَ صاحبِ «التَّمهيد» إِنَّمَا هي في الحُكمِ، فلْيُعلَمْ ذلك.

(وَلَا يُؤَخَّرُ) البيانُ (عَنْ وَقْتِ الحَاجَةِ) على الرَّاجحِ إلَّا على تكليفِ المُحالِ، فمَن أجازَ تكليفَ المُحالِ أجازَ تأخيرَ البيانِ عن وقتِ الحاجةِ، ومَن مَنَعَه مَنَعَه.

وصورتُه أنْ يَقُولَ: «آتُوا الزَّكَاةَ عِنْدَ رَأْسِ الحَوْلِ» ثمَّ لا يُبَيِّنُ لهم عندَ رأسِ الحولِ كم يُؤَدُّون، ولا لمن يُؤَدُّون، ونحوَ ذلك؛ لأنَّه تكليفُ ما لا يُطاقُ ولم يَقَعْ.

(وَ) أمَّا تأخيرُ البيانِ (لِمَصْلَحَةٍ) فـ (هُوَ البَيَانُ الوَاجِبُ أَوِ

(2)

المُسْتَحَبُّ؛ كَتَأْخِيرِهِ) صلى الله عليه وسلم البيانَ للأعرابيِّ (المُسِيءِ فِي صَلَاتِهِ إِلَى ثَالِثِ مَرَّةٍ)،

(1)

«شرح مختصر الروضة» (2/ 686).

(2)

في «ع» : و.

ص: 570

ولأنَّه إِنَّمَا يَجِبُ لخوفِ فَوْتِ الواجبِ المُؤَقَّتِ [في وقتِه]

(1)

.

وتَرَدَّدُوا في المرادِ بوقتِ الحاجةِ هل هو وقتُ الفعلِ أو وقتُ تضييقِه

(2)

بحيثُ لا يُمكِنُ معاودتُه للفعلِ كالظُّهرِ مثلًا، هل يَجِبُ بيانُها بمُجَرَّدِ دخولِ الوقتِ أو لا يَجِبُ إلَّا إذا ضاقَ وَقتُها؟ صَرَّحَ أبو الحسينِ البصريُّ

(3)

بالثَّاني، والبَاقِلَّانِيُّ

(4)

بالأوَّلِ.

(وَيَجُوزُ تَأْخِيرُهُ) أي: تأخيرُ البيانِ إلى وقتِ الحاجةِ على الصَّحيحِ، واستُدِلَّ له بقولِه تَعالى:{فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى}

(5)

، ثمَّ بيَّن صلى الله عليه وسلم في الصَّحيحين:«أَنَّ السَّلَبَ لِلْقَاتِلِ»

(6)

، وكذا الحُجَّةُ مِن إطلاقِ الأمرِ بالصَّلَاةِ والزَّكاةِ والحجِّ والجهادِ، ثمَّ بَيَّنَ ذلك، وكذا بيعٌ ونكاحٌ وميراثٌ وسرقةٌ، وكلُّ عمومِ قرآنٍ وسُنَّةٍ.

وفي الصَّحيحين

(7)

مِن حديثِ عائشةَ: «أَنَّ جِبْرِيلَ قال لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: اقْرَأْ. قال: مَا أَنَا بِقَارِئٍ. وَكَرَّرَهُ ثَلَاثًا، ثُمَّ قال:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}

(8)

.

تنبيهٌ: لم يُنقَلْ بيانُ إجمالٍ مقارنٍ، ولو كانَ لنُقِلَ، والأصلُ عَدَمُه.

(وَ) يَجُوزُ (تَأْخِيرُ تَبْلِيغِهِ صلى الله عليه وسلم الحُكْمَ إِلَى وَقْتِهَا) أي: وقتِ

(1)

ليس في «ع» .

(2)

في «ع» : تضيقه.

(3)

«المعتمد في أصول الفقه» (1/ 340).

(4)

التقريب والإرشاد للباقلاني (3/ 389).

(5)

الأنفال: 41.

(6)

رواه البخاري (3142)، ومسلم (1752) من حديث عَبْدِ الرَّحْمَنِ بن عَوْفٍ رضي الله عنه.

(7)

رواه البخاري (3)، ومسلم (160).

(8)

العلق: 1.

ص: 571

الحاجةِ عندَ الأكثرِ؛ لأنَّ وجوبَ معرفتِه إِنَّمَا هو للعملِ، فلا حاجةَ له قبلَ وقتِ العملِ؛ ولأنَّه لا يَلزَمُ منه محالٌ، والأصلُ

(1)

الجوازُ عقلًا، والأمرُ بالتَّبليغِ بعدَ تسليمِ أنَّه للوُجوبِ والفورِ المرادُ به القرآنُ؛ لأنَّه المفهومُ مِن لفظِ المُنَزَّلِ، قاله ابنُ مُفْلِحٍ

(2)

.

(وَ) يَجُوزُ (التَّدْرِيجُ بِالبَيَانِ) عندَ المُحقِّقينَ بأنْ يُبَيِّنَ تخصيصًا بعدَ تخصيصٍ، كأنْ يُقالَ:«اقتلوا المشركين» ، ثمَّ يُقال:«سَلْخَ الشَّهرِ» ، ثمَّ يُقالَ:«الحَربيِّينَ» ، ثمَّ يُقالَ:«إذا كانوا رجالًا» ، واستدلَّ له بوقوعِه، والأصلُ عدمُ مانعٍ.

(وَيَجُوزُ تَأْخِيرُ إِسْمَاعِ مُخَصِّصٍ مَوْجُودٍ) على الصَّحيحِ؛ لأنَّه يُحتملُ سماعُه بخلافِ المعدومِ، وسَمِعَ الصَّحابةُ الأمرَ بقتلِ الكفَّارِ إلى الجِزيةِ، ولم يَأخُذِ الإمامُ عمرُ الجزيةَ من المجوسِ حَتَّى شَهِدَ عبدُ الرَّحمنِ بنُ عوفٍ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عنهما:«أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَخَذَهَا مِنْهُمْ» ، رَوَاه البخاريُّ

(3)

.

(وَيَجِبُ: اعْتِقَادُ العُمُومِ، وَالعَمَلُ بِهِ فِي الحَالِ) أي: قبلَ البحثِ عن مُخَصِّصٍ عندَ أكثرِ أصحابِنا وغيرِهم؛ لأنَّ المُوجِبَ للاستغراقِ لفظُ العُمومِ، والمُخصِّصُ معارضٌ، والأصلُ عَدَمُه، وعن أحمدَ روايةٌ ثانيةٌ: لا يَجِبُ اعتقادُ العُمومِ، ويَمتنعُ العملُ به قبلَ بَحثِه عن مُخَصِّصٍ، ويَكفي بحثٌ يُظَنٌّ مَعَه انتفاءُ التَّخصيصِ، قاله الأكثرُ؛ لأنَّه لا طريقَ إلى القطعِ، فشَرطُه يُبطِلُ العملَ بالعُمومِ.

(1)

في «ع» : والحاصل.

(2)

«أصول الفقه» (3/ 1036).

(3)

«صحيح البخاري» (3157).

ص: 572

(وَكَذَا كُلُّ دَلِيلٍ معَ مُعَارِضِهِ) فيَجِبُ العملُ بكلِّ دليلٍ سَمِعَه قبلَ البحثِ عن مُعارضِه في ظاهرِ كلامِ الإمامِ أحمدَ.

قال بعضُ أصحابِنا: يَجِبُ أنْ نَقولَ: جميعُ الظَّواهرِ كالعُمومِ، وكلامُ أحمدَ في مطلقِ الظَّاهرِ مِن غيرِ فرقٍ.

قالَ في «التمهيد»

(1)

: جميعُ ذلك كمسألتِنا، وإنْ سَلَّمْنا أسماءَ الحقائقِ فقطْ، فإنَّ لفظَ العُمومِ حقيقةٌ فيه ما لم نَجِدْ مُخَصِّصًا، وحقيقةٌ فيه وفي الخصوصِ، وأيضًا لا يَلْزَمُه طلبُ ما لا يَعلَمُه كطلبِ هل بَعَثَ اللهُ رسولًا.

(1)

«التمهيد في أصول الفقه» للكَلْوَذاني (2/ 68).

ص: 573

(بَابٌ)

(الظَّاهِرُ لُغَةً) خلافُ الباطنِ، وهو:(الوَاضِحُ) المنكشفُ، ومنه ظهورُ الأمرِ إذا اتَّضَحَ وانكشفَ، ويُطلَقُ على الشَّيءِ الشَّاخصِ المُرتفعِ، كما أنَّ الظَّاهرَ منَ الأشخاصِ: هو المرتفعُ الَّذِي تُبادِرُ إليه الأبصارُ، كذلك في المعاني.

(وَ) أمَّا الظَّاهرُ (اصْطِلَاحًا) أي: عندَ الأُصُولِيِّينَ: (مَا) أي: لفظٌ (دَلَّ دَلَالَةً) لفظيَّةً (ظَنِّيَّةً وَضْعًا) كأسدٍ، (أَوْ) ظَنِّيَّةً (عُرْفًا) كغائطٍ، فالظَّاهرُ الَّذِي يُفيدُ معنًى معَ احتمالِ غيرِه، لكنَّه ضعيفٌ فبسببِ ضعفِه خفيٌّ، فلذلك سُمِّيَ اللَّفظُ لدَلالتِه على مقابلِه -وهو القويُّ- ظاهرًا كالأسدِ، فإِنَّه ظاهرٌ في الحيوانِ المُفتَرسِ في دَلالةِ اللَّفظِ الواحدِ معَ احتمالِ إرادةِ الرَّجُلِ الشُّجاعِ مجازًا، وقولي:«في دَلالةِ اللَّفظِ الواحدِ» ليَخرُجَ المُجملُ معَ المُبيَّنِ، فإِنَّه وإنْ أفادَ مَعنًى لا يَحتملُ غيرَه فإِنَّه لا يُسَمَّى مِثلُه نصًّا.

(وَ‌

‌التَّأْوِيلُ لُغَةً

(1)

مَصدَرُ أَوَّلْتُ الشَّيءَ إذا فَسَّرْتُه، وهو لغةً:(الرُّجُوعُ) مِن آلَ إذا رَجَعَ؛ لأنَّه رجوعٌ مِن الظَّاهرِ إلى الَّذِي آلَ إليه في دَلالته، قال اللهُ تَعالى:{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ}

(2)

أي: ما يَؤُولُ إليه بَعثُهم ونُشورُهم، ومنه قولُه تَعالى:{ابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ}

(3)

أي: طلبَ ما يَؤُولِ إليه مَعناه.

فائدةٌ: فَرَّقَ بعضُهم بينَ التَّأويلِ والتَّفسيرِ: أنَّ التَّأويلَ أكثرَ ما يُستعمَلُ في المعاني، وأكثرُه في الجملِ، والتَّفسيرُ في الألفاظِ، وأكثرُه في مفرداتِ الألفاظِ.

(1)

ليس في «ع» .

(2)

الأعراف: 53.

(3)

آل عمران: 7.

ص: 574

(وَ)

‌ التَّأويلُ (اصْطِلَاحًا)

أي: في اصطلاحِ الأُصُولِيِّينَ: (حَمْلُ) مَعْنًى (ظَاهِرِ) اللَّفظِ (عَلَى) معنًى (مُحْتَمَلٍ

(1)

مَرْجُوحٍ) يَعني يَكُونُ للَّفْظِ دَلالتانِ: راجحةٌ، ومرجوحةٌ، فيُحمَلُ على المرجوحةِ، وهذا الحدُّ يَشمَلُ التَّأويلَ الصَّحيحَ والفاسدَ.

(وَ) إنْ أَرَدْتَ أنْ تَحُدَّ التَّأويلَ الصَّحيحَ فـ (زِدْ) في الحدِّ (لِصَحِيحِهِ) على قولِه: «حملُ ظاهرٍ على مُحتمَلٍ مرجوحٍ» قولَك: (بِدَلِيلٍ يُصَيِّرُهُ رَاجِحًا) أي: حملُ ظاهرٍ بدليلٍ يُصَيِّرُ الحملَ راجحًا على مَدلولِه الظَّاهرِ، فيُسَمَّى تأويلًا صحيحًا، فإنْ تُرِكَ الظَّاهرُ لا لدليلٍ مُحَقَّقٍ بل لشُبَهٍ تَخَيَّلَ للسَّامعِ أنَّها دليلٌ، وعندَ التَّحقيقِ تَضمَحِلُّ: سُمِّيَ تأويلًا فاسدًا، ورُبَّما قِيلَ: تأويلًا بعيدًا

(2)

، وقد يَكُونُ التَّأويلُ لا لشيءٍ مِن ذلك، فهذا لعبٌ لا يُعبَأُ به.

إذا عُلم ذلك، فحَملُ اللَّفظِ على ظاهرِه لَيْسَ تأويلًا، وكذا حملُ المُشتَركِ ونَحوِه مِن المُتساوي على أحدِ مَحمَلَيْه أو محاملِه لدليلٍ لا يُسَمَّى تأويلًا، وحملُه على المجموعِ لا يُسَمَّى تأويلًا أيضًا.

(1)

(فَإِنْ قَرُبَ) التَّأويلُ: (كَفَى) في ترجيحِ الطَّرفِ المرجوحِ (أَدْنَى مُرَجِّحٍ) لقُربِه، مثلُ قولهِ تَعالى:{إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ}

(3)

أي: إذا عَزَمْتُم.

(2)

(وَإِنْ بَعُدَ) التَّأويلُ بأنْ كانَ الاحتمالُ المرجوحُ بعيدًا منَ الإرادةِ لعدمِ قرينةٍ تَدُلُّ عليه عقليَّةٍ أو حالِيَّةٍ أو مقاليَّةٍ، (افْتَقَرَ) في حَملِ اللَّفظِ عليه وصَرفِه عنِ الظَّاهرِ (إِلَى أَقْوَى) مُرَجِّحٍ.

(1)

في «ع» : محتملًا.

(2)

في «د» : بعيد.

(3)

المائدة: 5.

ص: 575

(3)

(وَإِنْ تَعَذَّرَ) التَّأويلُ بأنْ لم يَحتمِلْه اللَّفظُ: (رُدَّ) وجوبًا، وحُكِمَ ببطلانِه؛ لعدمِ الدَّليلِ.

إذا تَقَرَّرَ ذلك، (فَمِنَ) التَّأويلِ (البَعِيدِ: تَأْوِيلُ الحَنَفِيَّةِ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم لِمَنْ أَسْلَمَ عَلَى عَشْرِ

(1)

نِسْوَةٍ) وهو غَيلانُ بنُ سَلَمَةَ: («اخْتَرْ) مِنْهُنَّ أَرْبَعًا»، (وَفِي لَفْظٍ) آخَرَ: («أَمْسِكْ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا وَفَارِقْ سَائِرَهُنَّ»

(2)

أوَّلَتْه الحنفيَّةُ (عَلَى ابْتِدَاءِ النِّكَاحِ) لأربعٍ مِنهنُّ إنْ كانَ عَقَدَ عليهنَّ معًا، (أَوْ) على (إِمْسَاكِ) الأربعِ (الأَوَائِلِ) إنْ كانَ تَزَوَّجَهُنَّ مُتفرِّقاتٍ، وهو تأويلٌ بعيدٌ ومردودٌ، ووجهُ بُعدِه ورَدِّه بأنَّ الفُرقةَ لو وَقَعَتْ بالإسلامِ لم يُخَيِّرْه، وقد خَيَّرَه، والمُتبادِرُ عندَ السَّماعِ منَ الإمساكِ الاستدامةُ، والسُّؤالُ وَقَعَ عنه، وخصَّ التَّزويجَ فيهنَّ، ولم يُبَيِّنْ له شُروطَ النِّكاحِ معَ مسيسِ الحاجةِ إليه؛ لقُربِ إسلامِه، وأيضًا لم يُنقَلْ عنه ولا عن غيرِه مِمَّن أَسْلَمَ على أكثرَ مِن أربعٍ أنَّه جَدَّدَ النِّكاحَ، وأيضًا فالابتداءُ يَحتاجُ إلى رِضى مَن يَبْتدئها، ويَصيرُ التَّقديرُ: فارقِ الكُلَّ وابتدئْ بعدَ ذلك مَن شِئتَ، فيَضِيعُ قولُه:«اخْتَرْ أَرْبَعًا» ؛ لأنَّه قد لا يَرضَيْنَ أو بَعضُهنَّ.

(وَأَبْعَدُ مِنْهُ) أي: مِن هذا التَّأويلِ تأويلُهم (قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم لِمَنْ أَسْلَمَ عَلَى أُخْتَيْنِ) وهو فيروزُ الدَّيْلَمِيُّ: («اخْتَرْ أَيَّتَهُمَا شِئْتَ»

(3)

أوَّلَتْه الحنفيَّةُ (عَلَى أَحَدِ الأَمْرَيْنِ) إمَّا الابتداءِ، أو إمساكِ الأُولى كما سَبَقَ، وإنَّما كانَ أبعدَ مِن الَّذِي قَبْلَه؛ لأنَّ النَّافِيَ للتَّأويلِ المذكورِ في الأوَّلِ هو الأمرُ الخارجُ

(1)

في «ع» : عشرة.

(2)

رواه الترمذي (1128)، وابن ماجه (1953)، وابن حبان (4156) من حديث ابن عمر رضي الله عنه.

(3)

رواه أبو داود (2243)، والترمذي (1129، 1130)، وابن حبان (4155) وقال الترمذي: حديث حسن.

ص: 576

عنِ اللَّفظِ، وهو شهادةُ الحالِ، وهنا قد انْضَمَّ إلى شهادةِ الحالِ مانعٌ لفظًا، وهو قولُه صلى الله عليه وسلم:«أَيَّتَهُمَا شِئْتَ» ، فإنَّ بتقديرِ نِكاحِهما على التَّرتيبَ تعيينَ الأُولى للاختيارِ ولفظُ:«أَيَّتَهُمَا شِئْتَ» يَأباه.

(وَ) منه تأويلُهم قولَه تَعالى: ({فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا}

(1)

عَلَى إِطْعَامِ طَعَامِ سِتِّينَ) مسكينًا، فجَعَلُوا المعدومَ وهو «طعام» مذكورًا مفعولًا به، والمذكورَ وهو قولُه:«سِتِّينَ» مَعدومًا لم يَجْعَلوه مفعولًا به، وعَلَّلُوا ذلك بأنَّ المقصودَ دَفعُ الحاجةِ، ودفعُ حاجةِ سِتِّين كحاجةِ واحدٍ في سِتِّين يومًا معَ ظهورِ قصدِ العددِ لفضلِ الجماعةِ وبركتِهم وتضافرِهم على الدُّعاءِ للمُحسِنِ، وهذا لا يُوجَدُ في الواحدِ، وأيضًا حَملُه على ذلك تعطيلٌ للنَّصِّ ولهذه الحكمةِ شُرِعَتِ الجماعةُ في الصَّلَاةِ وغيرِها.

(وَأَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ) التَّأويلِ السَّابقِ تَأويلُهم ما في روايةِ أبي داودَ والتِّرمذيِّ

(2)

مِن حديثِ ابنِ عمرَ في الغَنمِ: («فِي أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ» عَلَى قِيمَتِهَا) أي: أنَّ المرادَ في أربعينَ شاةً قيمةُ شاةٍ؛ لأنَّ اندفاعَ الحاجةِ كما يَكُونُ بالشَّاةِ يَكُونُ بقيمتِها، ووجهُ كَوْنِه أبعدَ ممَّا قبْلَه: لأنَّه يَلْزَمُ ألَّا تَجِبَ الشَّاةُ، فعادَ هذا الاستنباطُ على النَّصِّ بالإبطالِ وذلك غيرُ جائزٍ، وكلُّ فرعٍ اسْتُنبِطَ من أصلٍ يَبطُلُ ببطلانِه.

(وَ) منه تأويلُهم قولَه صلى الله عليه وسلم: («أَيُّمَا امْرَأَة نَكَحَتْ

(3)

نَفْسَهَا بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ) وفي روايةٍ: بَاطِلٌ (بَاطِلٌ بَاطِلٌ)، فَإِنْ أَصَابَهَا

(1)

المجادلة: 4.

(2)

رواه أبو داود (1568)، والترمذي (621) وقال الترمذي: حديث حسن.

(3)

في «ع» : أنكحت.

ص: 577

فَلَهَا المَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا»

(1)

أوَّلَتْه الحنفيَّةُ: (عَلَى الصَّغِيرَةِ وَالأَمَةِ وَالمُكَاتَبَةِ)، ووجهُ بُعدِه أنَّ الصَّغيرةَ لَيسَتْ بامرأةٍ في لسانِ العربِ، فحَمْلُه على الصَّغيرةِ والأَمَةِ والمُكاتَبَةِ باطلٌ؛ لمصيرِه إليه غالبًا لاعتِراضِ الوليِّ إنْ تَزَوَّجَتْ بغيرِ كفؤٍ؛ لأنَّها مالكةٌ بُضْعَها، فكانَ كبيعِ مَالِها، فالصَّغيرةُ لا تُسَمَّى امرأةً، ونكاحُها موقوفٌ عندَهم، وقولُه صلى الله عليه وسلم:«فَلَهَا المَهْرُ» إِنَّمَا مهرُ الأَمَةِ للسَّيِّدِ والمُكاتَبةُ نادرةٌ، فأبطلوا ظهورَ قصدِ التَّعميمِ لظهورِ «أيّ» مُؤكَّدَةً

(2)

بـ: «ما» وتكريرِ لفظِ البُطلانِ على الرِّوايةِ الثَّانيةِ، وحَمْلُه على نادرٍ بعيدٍ كاللُّغزِ، وليسَ مثلُ هذا مِن كلامِ العربِ، ولا يَجُوزُ ولا يَصِحُّ الاستثناءُ بحيثُ لا يَبقى إلَّا النَّادرُ معَ إمكانِ قصدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَنْعَ

(3)

استقلالِ المرأةِ فيما يَلِيقُ بمحاسنِ العباداتِ، وهو النِّكاحُ.

(وَ) أقربُ مِن هذا التَّأويلِ -معَ بُعدِه- تأويلُهم قولَه صلى الله عليه وسلم: («لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ»

(4)

عَلَى) صَوْمِ (القَضَاءِ وَالنَّذْرِ

(1)

رواه أبو داود (2083)، والترمذي (1102)، والنسائي في «الكبرى» (5373)، وابن ماجه (1879)، وابن حبان (4074) من حديث عائشة رضي الله عنها.

وقال الترمذي: حديث حسن.

(2)

في «د» : مؤكد.

(3)

في «د» : مع.

(4)

رواه أبو داود (2454)، والترمذي (730)، والنسائي (2331) واللفظ له، وابن ماجه (1700)، وابن خزيمة (1933) من حديث حفصة رضي الله عنها.

قال الترمذي: «حديث حفصة حديث لا نعرفه مرفوعًا إلا من هذا الوجه» ، وقد روي عن نافع، عن ابن عمر قوله، وهو أصح.

ونقل عن البخاري في «العلل» (202) أنه قال: هو حديث فيه اضطراب، والصحيح عن ابن عمر موقوف.

وقال النسائي في «الكبرى» (2661): والصواب عندنا موقوف، ولم يَصِح رفعه، والله أعلم.

ص: 578

المُطْلَقِ)، فجَعَلوه كاللُّغزِ -أي: في حَمْلِهم العامَّ على صورةٍ نادرةٍ- وادَّعَوْا صِحَّةَ الصَّومِ بنِيَّةٍ مِنَ النَّهارِ، فإنْ ثَبَتَ ما ادَّعَوْه مِن الحُكْمِ بدليلٍ، فلْيُطلَبْ لهذا الحديثِ تأويلٌ قريبٌ عن هذا مِثلُ نفيِ الكمالِ.

(وَ) مِن تأويلِهم أيضًا قولُه صلى الله عليه وسلم: («ذَكَاةُ الجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ»

(1)

فيَروُونَ

(2)

الحديثَ بنصبِ «ذَكَاةَ أُمِّهِ» ، ويَحمِلُونَه (عَلَى التَّشْبِيهِ) ويُوجِبون ذكاةَ الجَنينِ كذكاةِ أُمِّه، وقالَ الجمهورُ: المحفوظُ الرَّفعُ، ووهَّموا روايةَ النَّصبِ، إمَّا لأنَّ «ذكاة» الأُولى خبَرٌ مُقدَّمٌ، و «ذكاة» الثَّاني هو المبتدأُ

(3)

؛ أي: ذكاةُ أمِّ الجنينِ ذكاةٌ له، وإلَّا لم يَكُنْ للجنينِ مَزِيَّةٌ، وحقيقةُ الجنينِ: ما كانَ في البطنِ، فعُلِمَ أنَّه لَيْسَ المرادُ أنَّه يُذَكَّى كذكاةِ أُمِّه، بل إنَّ ذكاةَ أُمِّه ذكاةٌ له كافيةٌ عن تَذكيتِه.

(وَ) منه تأويلُهم قولَه تَعالى: ({وَلِذِي الْقُرْبَى}

(4)

في آيتيِ الفيءِ والغنيمةِ (عَلَى الفُقَرَاءِ مِنْهُمَا) أي: مِن ذوي القُربى دونَ الأغنياءِ؛ لأنَّ المقصودَ سدُّ الخَلَّةِ، ولا خَلَّةَ معَ الغِنى، فأَبْطَلُوا العُمومَ معَ ظهورِ أنَّ القَرابةَ هي العِلَّةُ لتَعظيمِها وتشريفِها معَ إضافتِه بلامِ التَّمليكِ، ولا يَلْزَمُنا ذلك في اليُتمِ للخلافِ فيه، ثمَّ لفظُ اليتيمِ معَ قرينةِ دفعِ المالِ مُشعِرٌ بالحاجةِ ولا يَصلُحُ مُجَرَّدُه عِلَّةً، بخلافِ القَرابةِ، فإنَّها مناسبةٌ للإكرامِ باستحقاقِ خُمسِ الخمسِ.

(1)

رواه أبو داود (2828)، ورواه الترمذي (1476)، وابن ماجه (3199) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وقال الترمذي: حديث حسن.

(2)

في «د» : فيرون.

(3)

في «ع» : الابتداء.

(4)

الأنفال: 41، والحشر:7.

ص: 579

(وَ) مِن التَّأويلِ البعيدِ تأويلُ (المَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ) قولَه عليه السلام: («مَنْ مَلَكَ ذَا مَحْرَمٍ فَهُوَ حُرٌّ»

(1)

حَمَلُوه (عَلَى عَمُودَيْ نَسَبِهِ) وهمُ الأصولُ والفروعُ؛ لأنَّ مَذهبَهم اختصاصُ العتقِ بذلك، لا مُطلقُ الرَّحمِ، وإنَّما كانَ بعيدًا لصرفِه اللَّفظَ العامَّ على بعضِ مَدلولاتِه مِن غيرِ دليلٍ، ولظهورِ قصدِه للتَّنبيهِ على حُرمةِ المَحرمِ وصِلَتِه.

فائدةٌ: قال ابنُ مُفْلِحٍ: وعدَّ الآمِدِيُّ

(2)

من التَّأويلِ البعيدِ قولَ القائلينَ بوجوبِ غَسلِ الرِّجلينِ أنَّه المرادُ مِن آيةِ الوضوءِ؛ لتَركِ ظاهرِ التَّشريكِ في المسحِ بلا ضرورةٍ، فقِيلَ له: لا يُوجِبُ العطفُ الاشتِراكَ في تفاصيلِ حُكمِ المعطوفِ عليه؟

فقالَ: هذا الأصلُ.

وجوابُه: المنعُ، وسَبَقَتْ في العُمومِ، ثمَّ قراءةُ نصبِ الأرجلِ صريحةٌ أو ظاهرةٌ، وقراءةُ الجرِّ مُحتمِلةٌ، ثمَّ إنْ سُلِّمَ ظُهورُها تَعَيَّنَ الغسلُ بالسُّنَّةِ المُتواترةِ وإجماعِ الصَّحابةِ

(3)

.

(1)

رواه أبو داود (3949)، والترمذي (1416)، والنسائي في «الكبرى» (4878 - 4882)، وابن ماجه (2524) من حديث سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ رضي الله عنه.

(2)

«الإحكام في أصول الأحكام» (3/ 63).

(3)

«أصول الفقه» (3/ 1055).

ص: 580

(بَابُ المَنْطُوقِ وَالمَفْهُومِ)

(الدَّلَالَةُ) مصدرُ دَلَّ وهي كونُ الشَّيءِ يَلْزَمُ مِن فَهمِه فهمُ شيءٍ آخَرَ، وتَقَدَّمَ أوَّلَ الكتابِ.

و (تَنْقَسِمُ إِلَى: مَنْطُوقٍ) وإلى مفهومٍ، أي: ما يُفهَمُ مِن الدَّلالةِ قد يَكُونُ مِن بابِ النُّطقِ، وقد يَكُونُ مِن بابٍ غيرِ النُّطقِ؛ لأنَّ المعنى المُستفادَ مِن اللَّفظِ إنِ اسْتُفيدَ مِن حيثُ النُّطقُ به: سُمِّيَ منطوقًا، أو من حيثُ السُّكُوتُ اللَّازمُ للَّفظِ: سُمِّيَ مفهومًا.

(وَ) المنطوقُ: (هُوَ مَا) أي: معنًى (دَلَّ عَلَيْهِ لَفْظٌ فِي مَحَلِّ نُطْقٍ) وهو نوعانِ: صريحٌ، وغيرُ صريحٍ.

(فَإِنْ وُضِعَ) اللَّفظُ (لَهُ) أي: لذلك المعنى (فَـ) المنطوقُ (صَرِيحٌ) فيَدُلُّ اللَّفظُ على المعنى بالمُطابقةِ أو التَّضمُّنِ حقيقةً ومجازًا.

(وَ) النَّوعُ الثَّاني (إِنْ لَزِمَ) المعنى (عَنْهُ) أي: عنِ اللَّفظِ بأن يَدُلَّ على المعنى في غيرِ ما وُضِعَ له، وإنَّما يَدُلُّ من حيثُ إنَّه لازمٌ له، فهو دالٌّ عليه بالالتزامِ، (فَغَيْرُهُ) أي: فهذا المنطوقُ غيرُ صريحٍ وهو ثلاثةُ أقسامٍ: اقتضاءٌ، وإشارةٌ، وإيماءٌ؛ لأنَّ المعنى إمَّا أنْ يَكُونَ مقصودًا للمُتَكَلِّمِ ولكنْ يَتَوَقَّفُ على ما يُصَحِّحُه أو لا يَتَوَقَّفُ، أو يَكُونَ غيرَ مقصودٍ للمُتَكَلِّمِ، وجهاتُ التَّوقُّفِ ثلاثٌ: ما يَتَوَقَّفُ فيه صِدقُ اللَّفظِ، وما يَتَوَقَّفُ فيه صِحَّةُ الحُكمِ عقلًا، وما يَتَوَقَّفُ فيه صِحَّةُ الحُكمِ شرعًا.

الأوَّلُ مِنها: (وَ) هو (إِنْ قُصِدَ) أي: قَصَدَ المُتَكَلِّمُ المَعنى (وَتَوَقَّفَ الصِّدْقُ) أي: صدقُ اللَّفظِ (عَلَيْهِ) أي: على المعنى (كَـ) قولِه صلى الله عليه وسلم:

ص: 581

(«رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأُ) وَالنِّسْيَانُ»

(1)

، فإنَّ ذاتَ الخطأِ والنِّسيانِ لم يَرتفعا، فيَتَضَمَّنُ ما يَتَوَقَّفُ عليه الصِّدقُ مِن لفظِ الإثمِ والمؤاخذةِ ونحوِ ذلك.

(أَوْ) أي: والثَّاني مِن جهاتِ التَّوقُّفِ: ما يُتَوَقَّفُ فيه (الصِّحَّةُ) أي: صِحَّةُ الحُكْمِ (عَقْلًا، كَـ) ـقولِه تَعالى: ({وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ}

(2)

أي: أهلَ القريةِ؛ إذْ لو لم يُقَدَّرْ ذلك لم يَصِحَّ ذلك عقلًا؛ إذِ القريةُ لا تُسأَلُ.

(أَوْ) أي: والثَّالثُ مِن جهاتِ التَّوقُّفِ: ما يُتَوَقَّفُ فيه صِحَّةُ الحُكْمِ (شَرْعًا، كَـ) ـقولِ القائلِ: (أَعْتِقْ عَبْدَكَ عَنِّي) على مئةٍ، فإِنَّه يُقَدَّرُ وقوعُ بيعٍ ضمنيٍّ؛ لاستدعاءِ سَبْقِ المِلكِ لتوقُّفِ العتقِ عليه.

إذا عَرَفْتَ ذلك، (فَـ) دَلالةُ اللَّفظِ في الجهاتِ الثَّلاثِ (دَلَالَةُ اقْتِضَاءٍ) لاقتضائِها شيئًا زائدًا على اللَّفظِ.

(وَ) القِسمُ الثَّاني: (إِنْ لَمْ يُقْصَدْ) أي: لم يَقصِدِ المُتكلِّمُ المَعنى مِن اللَّفظِ، كقولِه صلى الله عليه وسلم:«النِّسَاءُ نَاقِصَاتُ عَقْلٍ وَدِينٍ» ، قِيلَ: وما نُقصانُ دِينِهِنَّ؟ قال: «تَمْكُثُ إِحْدَاهُنَّ شَطْرَ عُمْرِهَا لَا تُصَلِّي»

(3)

. (فَـ) ـهذا (دَلَالَةُ إِشَارَةٍ) لأنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لم

(4)

يَقصِدْ بيانَ أكثرِ الحيضِ وأقلِّ الطُّهرِ، لكنْ لَزِمَ مِنِ اقتضاءِ المبالغةِ ذِكْرُ ذلك.

(وَ) القِسْمُ الثَّالثُ: (إِنْ لَمْ يَتَوَقَّفِ) المعنى على ما يُصَحِّحُه (وَاقْتَرَنَ) الملفوظُ به (بِحُكْمٍ لَوْ لَمْ يَكُنْ لِتَعْلِيلِهِ) أي: لتعليلِ ذلك الحُكْمِ (كانَ) ذلك

(1)

رواه ابن ماجه (2045)، وابن حبان (7219) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

(2)

يوسف: 82.

(3)

رواه البخاري (304)، ومسلم (79) من حديث أبي سعيد الخُدري رضي الله عنه.

(4)

ليس في «ع» .

ص: 582

الاقتِرانُ (بَعِيدًا) يَعني لاستُبعِدَ مِن لفظِ الشَّارِعِ مِثْلُه؛ لتَنَزُّهِ كلامِه عمَّا لا فائدةَ فيه، كقولِه عليه السلام:«مَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ»

(1)

، (فَـ) ـدَلالةُ هذا دَلالةُ (تَنْبِيهٍ، وَيُسَمَّى) التَّنبيهُ: (إِيمَاءً)، وسيَأتي في الثَّاني مِن مسالكِ العِلَّةِ بأقسامٍ مُفَصَّلَةٍ.

فائدةٌ: جَعَلَ دَلالةَ الاقتضاءِ والإشارةِ مِن أقسامِ المنطوقِ، وكذلك دَلالةَ التَّنبيهِ والإيماءِ، وهي طريقةُ ابنِ الحاجبِ

(2)

وابنِ مُفْلِحٍ

(3)

وجماعةٍ، وجَعَلَها الغَزَّالِيُّ

(4)

أقسامًا للمفهومِ، وانتصرَ الأصفهانِيُّ

(5)

لابنِ الحاجبِ.

قالَ البِرْمَاوِيُّ: وهو الظَّاهرُ؛ لأنَّ للَّفظِ دَلالةً عليها مِن حيثُ هو منطوقٌ، بخلافِ المفهومِ، فإِنَّه إِنَّمَا يَدُلُّ من حيثُ هو قضيَّةٌ عقليَّةٌ خارجةٌ عنِ اللَّفظِ

(6)

.

قالَ في «شرح الأصل» : قال بعضُ شيوخِنا: ويُمكِنُ أنْ يُجعَلَ ذلك واسطةً بينَ المنطوقِ والمفهومِ، ولهذا اعتَرفَ بها مَن يُنكِرُ المفهومَ

(7)

.

(وَالنَّصُّ): هو (الصَّرِيحُ) من اللَّفظِ لا يُعدَلُ عنه إلَّا بنسخٍ، زادَ القاضي: وإنِ احتملَ غيرَه

(8)

، (وَإِنْ لَمْ يَحْتَمِلِ) النَّصُّ (تَأْوِيلًا؛ فَـ) هو (مَقْطُوعٌ بِهِ) أي: بدَلالتِه.

(1)

رواه أبو داود (181)، والترمذي (82)، والنسائي (447)، وابن ماجه (479)، وابن حبان (1116) من حديث بُسْرَةَ بِنْتِ صَفْوَانَ رضي الله عنها.

قال الترمذي: حديث حسن صحيح.

(2)

«منتهى الوصول» (ص 147).

(3)

«أصول الفقه» (3/ 608).

(4)

«المستصفى» (2/ 188).

(5)

«بيان المختصر» لأبي الثناء الأصفهاني (2/ 433).

(6)

«الفوائد السنية في شرح الألفية» (3/ 19).

(7)

«التحبير شرح التحرير» (6/ 2872).

(8)

«العُدة في أصول الفقه» (1/ 138).

ص: 583

قالَ القَرَافِيُّ: للنَّصِّ ثلاثةُ اصطلاحاتٍ:

أحدُها: ما لا يَحتملُ التَّأويلَ.

الثَّاني: ما احتملَه احتمالًا مرجوحًا؛ كالظَّاهرِ، وهو الغالبُ في إطلاقِ الفقهاءِ.

الثَّالثُ: ما دَلَّ على معنًى كيف كانَ

(1)

. انتهى.

ويُطلَقُ النَّصُّ على الظَّاهرِ، فالنَّصُّ لغةً: الكشفُ والظُّهورُ، ومنه نَصَّتِ الظَّبْيَةُ رَأْسَها؛ أي: رَفَعَتْه وأَظْهَرَتْه، ومنه مِنَصَّةُ العروسِ.

وقالَ أبو الفَرجِ المَقْدِسِيُّ

(2)

: حَدُّ النَّصِّ في الشَّرعِ ما عُرِّيَ لفظُه عنِ الشَّرِكَةِ، ومَعناه عنِ الشَّكِّ

(3)

.

تنبيهٌ: تَقَدَّمَ أنَّ الدَّلالةَ تَنقسمُ إلى: منطوقٍ، (وَإِلَى مَفْهُومٍ)، وتَقَدَّمَ الكلامُ على المنطوقِ، (وَ) أمَّا المفهومُ فـ (ـهُوَ) في الأصلِ لكلِّ ما فُهِمَ مِن نُطقٍ أو غيرِه؛ لأنَّه اسمُ مفعولٍ، فهو يُفهَمُ، لكنِ اصطلحوا على اختصاصِه بأنَّه:(مَا دَلَّ عَلَيْهِ) لفظٌ (لَا فِي مَحَلِّ نُطْقٍ) وهو المفهومُ المُجرَّدُ الَّذِي لا يَستندُ إلى النُّطقِ لكنْ فُهِمَ مِن غيرِ تصريحٍ بالتَّعبيرِ عنه، بل له استنادٌ إلى طريقٍ عقليٍّ، ولا خلافَ أنَّ دَلالةَ المفهومِ ليسَتْ وضعيَّةً إِنَّمَا هي إشاراتٌ ذهنيَّةٌ مِن بابِ التَّنبيهِ على شيءٍ بشيءٍ.

وهو نوعانِ: مفهومُ مُوافقةٍ، ومفهومُ مُخالفةٍ.

(1)

«نفائس الأصول» (5/ 2185).

(2)

لعله أَبُو الفرج عبد الواحد بْن مُحَمَّد الشيرازي المعروف بالمقدسي. «طبقات الحنابلة» (2/ 248).

(3)

ينظر: «التحبير شرح التحرير» (6/ 2874)، و «شرح الكوكب المنير» (3/ 479).

ص: 584

(فَـ) الأوَّلُ منهما (إِنْ وَافَقَ) المسكوتُ عنه المنطوقَ في الحُكمِ (فَـ) هو (مَفْهُومُ مُوَافَقَةٍ، وَيُسَمَّى)

‌ مفهومُ المُوافقةِ

(«فَحْوَى الخِطَابِ» وَ «لَحْنَهُ») أي: لحنَ الخطابِ، (وَ) زادَ القاضي

(1)

وغيرُه في تسميتِه: (مَفْهُومَهُ) أي: مفهومَ الخطابِ، وسَمَّى جماعةٌ الأَولى فَحوَى الخطابِ، والمُساويَ لحنَ الخطابِ.

مثالُ فحوى الخطابِ: ما يُفهَمُ منه بطريقِ القطعِ، كدَلالةِ تحريمِ التَّأفيفُ على تحريمِ الضَّربِ، فهو أَوْلى مِنه بالتَّحريمِ؛ لأنَّه أشدُّ منه،

ولحنُ الخطابِ أي: مَعناه، وهو ما لاحَ في أثناءِ اللَّفظِ، مأخوذٌ مِن قولِه تَعالى:{وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ}

(2)

أي: في مَعناه،

مثالُه: إحراقُ مالِ اليتيمِ الدَّالُّ عليه نظرًا في المعنى في قولِه تَعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا}

(3)

، فالإحراقُ مُساوٍ لأكلِ مالِهم بواسطةِ الإتلافِ في الصُّورتَينِ، وحَكَى الماورديُّ في الفرقِ بينَ فَحوى الخطابِ ولحنِه وجهينِ:

أحدُهما: ما سَبَقَ.

والثَّاني: أنَّ الفَحوى ما نَبَّهَ عليه اللَّفظُ، واللَّحنَ ما يَكُونُ مُحالًا على غيرِ المرادِ في الأصلِ والوضعِ، والمفهومُ ما يَكُونُ المرادُ به المظهرَ والمسقطَ. انتهى.

إذا عُرف ذلك، فتحريمُ الضَّربِ مِن قولِه تَعالى:{فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ}

(4)

مِن بابِ التَّنبيهِ بالأدنى وهو التَّأفيفُ على الأعلى وهو الضَّربُ.

(1)

«العدة في أصول الفقه» (2/ 480).

(2)

محمد: 30.

(3)

النساء: 10.

(4)

الإسراء: 23.

ص: 585

(وَشَرْطُهُ) أي: شرطُ مفهومِ المُوافقةِ (فَهْمُ المَعْنَى) مِن اللَّفظِ (فِي مَحَلِّ النُّطْقِ، وَأَنَّهُ) أي: المفهومَ (أَوْلَى) بالحُكمِ مِن المنطوقِ (أَوْ مُسَاوٍ لَهُ) في الحُكمِ، وتَقَدَّمَ مِثالُهما.

(وَهُوَ) أي: مفهومُ المُوافقةِ (حُجَّةٌ) لتَبادُرِ فَهمِ العُقلاءِ.

(وَدَلَالَتُهُ: لَفْظِيَّةٌ) على الصَّحيحِ لفهمِه لغةً قبْلَ شرعِ القياسِ، ولاندراجِ أصلِه في فرعِه، نحوُ: لا تُعطِه ذَرَّةً، ولأنَّه لا يَحسُنُ الاستفهامُ، ويَشتَركُ في فَهمِه اللُّغويُّ وغيرُه بلا قرينةٍ، فعلى كَوْنِ دَلالةِ مفهومِ المُوافقةِ لفظيَّةً (فُهِمَتْ مِنَ السِّيَاقِ وَالقَرَائِنِ) لأنَّ اللَّفظَ للدَّلالةِ عُرفًا، فهي لفظيَّةٌ حقيقةً، نُقِلَ اللَّفظُ في العُرفِ مِن وضعِه الأصليِّ لثبوتِ الحُكمِ في المذكورِ خاصَّةً، إلى ثبوتِ الحُكمِ في المذكورِ والمسكوتِ معًا.

والمُرادُ بالقرائنِ هنا: المُفيدةُ للدَّلالةِ، لا المانعةُ مِن إرادةِ المعنى الحقيقيِّ، ولا شكَّ أنَّ قولَه تَعالى:{فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ}

(1)

مُستعمَلٌ في مَعناه الحقيقيِّ، غايتُه أنَّه عُلِمَ منه حُرمةُ الضَّربِ بقرائنِ الأحوالِ وسياقِ الكلامِ، واللَّفظُ لا يَصيرُ بذلك مجازًا.

(وَهُوَ) أي: مفهومُ المُوافقةِ نوعانِ:

أحدُهما: (قَطْعِيٌّ، كَـ) احتجاجِ أحمدَ في (رَهْنِ مُصْحَفٍ عِنْدَ ذِمِّيٍّ) بنَهيِه عليه السلام عنِ السَّفرِ بالقُرآنِ إلى أرضِ العدوِّ مَخافَةَ أنْ تنالَه

(2)

أيديهم، فهذا قاطعٌ، والقطعيُّ كونُ التَّعليلِ بالمعنى، وكونُه أشدَّ مناسبةً للفرعِ وكونُهما قَطعيَّينِ، فإنْ كانَ أحدُهما ظَنِّيًّا فظَنِّيٌّ.

(1)

الإسراء: 23.

(2)

في «ع» : تناوله.

ص: 586

(وَ) النَّوعُ الثَّاني: (ظَنِّيٌّ، كَـ) قولِهم: (إِذَا رُدَّتْ شَهَادَةُ فَاسِقٍ، فَكَافِرٌ أَوْلَى) بردِّ شهادتِه؛ إذِ الكفرُ فسقٌ وزيادةٌ، فهذا ظَنِّيٌّ على الصَّحيحِ؛ لأنَّه واقعٌ في مَحَلِّ الاجتهادِ؛ إذْ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ الكافرُ عدلًا في دينِه، فيَتَحَرَّى الصِّدقَ والأمانةَ، ولهذا قُلْنا: إنَّ الكافرَ العدلَ في دينِه يَلي مالَ ولدِه على الصَّحيحِ بخلافِ المسلمِ الفاسقِ، فإنَّ مُستنَدَ قَبولِ شهادتِه العدالةُ، وهي مفقودةٌ، فهو في مَظِنَّةِ الكذبِ؛ إذْ لا وازعَ له عنه، فهذا ظَنِّيٌّ غيرُ قاطعٍ.

إذا عُلِمَ

(1)

ذلك، فمفهومُ المُوافقةِ: إمَّا قاطعٌ كآيةِ التَّأفيفِ، وإمَّا ظنِّيٌّ، ثمَّ الظَّنِّيُّ: إمَّا صحيحٌ واقعٌ في مَحَلِّ الاجتهادِ كردِّ الشَّهادةِ كما ذُكِرَ، وإمَّا فاسدٌ.

(وَ) مِن الفاسدِ (مِثْلُ) قولِك: (إِذَا جَازَ سَلَمٌ مُؤَجَّلًا، فَـ) هو (حَالٌّ) أَجْوزُ أي: (أَوْلَى) بالجوازِ؛ (لِبُعْدِ) ـه مِن (غَرَرٍ)؛ إذِ المُؤجَّلُ على غررٍ هل يَحصُلُ أو لا يَحصُلُ، والحالُّ مُتَّفقُ الحصولِ في الحالِّ فهو أَولى بالصِّحَّةِ، (وَ) هذا (هُوَ المَانِعُ) لكنَّه (فَاسِدٌ) مردودٌ بأنَّ الغَرَرَ في العقودِ مانعٌ مِن الصِّحَّةِ لا مُقتضٍ لها؛ (إِذْ لَا يَثْبُتُ حُكْمٌ لِانْتِفَاءِ مَانِعِهِ، بَلْ) يَثْبُتُ الحُكْمُ (لِوُجُودِ مُقْتَضِيهِ) أي: مُقتضِي الحُكْمِ؛ إذ قد سَبَقَ أنَّ المانعَ يَلْزَمُ مِن وجودِه العدمُ، ولا يَلْزَمُ مِن عَدمِه وجودٌ ولا عدمٌ لذاتِه

(2)

، (وَ) المُقتضِي لصِحَّةِ السَّلَمِ (هُوَ: الِارْتِفَاعُ بِالأَجَلِ) كالأجلِ في الكتابةِ، وهو منتفٍ في الحالِّ، والغَرَرُ مانعٌ، لكنَّه احتُمِلَ في المُؤجَّلِ رُخصةً وتخفيفًا للمقتضى، وهو الارتفاقُ.

(وَإِنْ خَالَفَ) المسكوتُ المنطوقَ في الحُكْمِ (فَـ) هو (مَفْهُومُ مُخَالَفَةٍ) وهذا النَّوعُ الثَّاني مِن نوعيِ المفهومِ (وَيُسَمَّى

(3)

هذا النَّوعُ (دَلِيلَ الخِطَابِ)

(1)

في «ع» : علمت.

(2)

ليس في «د» .

(3)

في «ع» : سمي.

ص: 587

لأنَّ دَلالتَه مِن جنسِ دَلالاتِ الخطابِ، أو لأنَّ الخطابَ دالٌّ عليه أو

(1)

لمُخالفتِه منظومَ الخطابِ.

(وَشَرْطُهُ) أي: يُشتَرَطُ في العملِ بمفهومِ المُخالفةِ، وهو إثباتُ خلافِ المذكورِ للمسكوتِ شروطٌ، بعضُها راجعٌ للمسكوتِ وبعضُها للمذكورِ.

(1)

فمِنَ الأوَّلِ: (ألَّا تَظْهَرَ) فيه (أَوْلَوِيَّةٌ) بالحُكمِ مِن المذكورِ (وَلَا مُسَاوَاةٌ فِي مَسْكُوتٍ عَنْهُ)، فلو كانَ كذلك كانَ حينئذٍ مفهومَ المُوافقةِ كما سبق.

(2)

(وَ) مِن الثَّاني: أن (لَا) يَكُونَ (خَرَجَ مَخْرَجَ الغَالِبِ) أي: ألَّا يَكُونَ ذُكِرَ لكونِه الغالبَ عادةً، وأمَّا إنْ جَرَى على الغالِبِ فإِنَّه لا يُعتبَرُ مفهومُه؛ كقولِه تَعالى:{وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ}

(2)

، فتَقييدُ تحريمِ الرَّبيبةِ بكَوْنِها في حجْرِه لكونِه الغالبَ، فلا يَدُلُّ على حِلِّ الرَّبيبةِ الَّتي ليسَتْ في حجرِه عندَ الأكثرِ، (فَـ) على هذا، وهو القولُ بأنَّ مِن شرطِه ألَّا يَكُونَ خَرَجَ مَخرَجَ الغالبِ (لَا يَعُمُّ) ولهذا احتجَّ العُلَمَاءُ عن

(3)

اختصاصِ تحريمِ الرَّبيبةِ بالحجرِ للآيةِ، وأجابوا بأنَّه لا حُجَّةَ فيها لخروجِها على

(4)

الغالبِ، وقِيلَ: إنَّه شرطٌ في تحريمِ الرَّبيبةِ.

قالَ أبو المَعَالي

(5)

: له مفهومٌ؛ يعني إنْ جرى على الغالبِ ترجيحًا لِمَا أَشْعَرَ به اللَّفظُ على القَرينةِ العُرفيَّةِ، وقالَ: المفهومُ مِن مُقتضياتِ اللَّفظِ فلا يُسقِطُه موافقةُ الغالبِ.

(1)

في «د» : و.

(2)

النساء: 23.

(3)

في «ع» : من.

(4)

في «ع» : عن.

(5)

«البرهان في أصول الفقه» (1/ 177).

ص: 588

وقد قال مالكٌ باعتبارِه فلم تَحرُمِ الرَّبيبةُ الكبيرةُ في قولٍ له؛ لأنَّها ليسَتْ في حجرِه.

(3)

(وَ) مِن شرطِ العملِ بمفهومِ المُخالفةِ أن (لَا) يَكُونَ خَرَجَ (مَخْرَجَ تَفْخِيمٍ) وتأكيدٍ، كحديثِ:«لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ»

(1)

الحديثَ، فقيدُ الإيمانِ للتَّفخيمِ في الأمرِ، وأنَّ هذا لا يَليقُ بمَن كانَ مؤمنًا.

(4)

(وَ) مِن شرطِه أيضًا أن (لَا) يَكُونَ اللَّفظُ خَرَجَ (جَوَابًا لِسُؤَالٍ)، فإنْ خَرَجَ جوابًا لسؤالٍ

(2)

فلا مفهومَ له، مثلُ أنْ يُسألَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: هل في الغنمِ السَّائمةِ زكاةٌ؟ فلا يَلْزَمُ من جوابِ السُّؤالِ عن إحدى

(3)

الصِّفتينِ أن يَكُونَ الحُكمُ على الضِّدِّ في الأُخرى؛ لظهورِ فائدةٍ في الذِّكرِ غيرِ الحُكمِ بالضِّدِّ.

وزادَ الشَّيخُ

(4)

: «أو حاجةٍ إلى بيانٍ» ، قال: إنْ تَقَدَّمَ ما يَقتضي التَّخصيصُ مِن سؤالٍ أو حاجةٍ إلى بيانٍ؛ كقولِه صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ»

(5)

فلا مفهومَ له.

(5)

(وَ) مِن شرطِه أيضًا أن (لَا) يَكُونَ المذكورُ خَرَجَ (لِزِيَادَةِ امْتِنَانٍ) على المسكوتِ، كقولِه تَعالى:{لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا}

(6)

فلا يَدُلُّ على منعِ القَديدِ.

(1)

رواه مسلم (1491) من حديث عائشة رضي الله عنها.

(2)

في «ع» : للسؤال.

(3)

في «ع» : أحد.

(4)

«المسودة في أصول الفقه» (ص 323).

(5)

رواه الترمذي (2121)، والنسائي (3641)، وابن ماجه (2712) من حديث عمرو بن خارجة رضي الله عنه. وقال الترمذي: حسن صحيح.

(6)

النحل: 14.

ص: 589

(6)

(وَ) مِن شرطِه أيضًا أن (لَا) يَكُونَ المذكورُ خَرَجَ (لِـ) بيانِ حُكْمِ (حَادِثَةٍ) اقتضَتْ بيانَ الحكمِ فيه، كما لو قيلَ بحضرةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: لزيدٍ غنمٌ سائمةٌ، فقالَ: في السَّائمةِ الزَّكاةُ؛ إذِ القصدُ الحُكمُ

(1)

على تلك الحادثةِ لا النَّفيُ عمَّا عداها.

(7)

(وَ) شرطُه أيضًا أن (لَا) يَكُونَ المذكورُ (لِتَقْدِيرِ جَهْلِ المُخَاطَبِ) به دونَ المسكوتِ عنه، بأن عَلِمَ المخاطَبُ وُجوبَ زكاةِ المعلوفةِ، ويَجهَلُ حُكمَ السَّائمةِ، فيَذكُرُ له حُكمَها.

(8)

(وَ) شرطُ العملِ بالمفهومِ أيضًا أن (لَا) يَكُونَ المذكورُ (لِرَفْعِ خَوْفٍ، وَنَحْوِهِ

(2)

بأنْ يَتْرُكَ ذِكْرَ حُكمِ المسكوتِ لخوفٍ على المخاطَبِ أمرًا ما، فإنَّ الظَّاهرَ أنَّ هذا فائدةُ التَّخصيصِ للمذكورِ بالذِّكرِ، أو يَكُونَ المُتكلِّمُ يَخافُ مِن التَّصريحِ بحُكمِ المسكوتِ أمرًا مِن ذلك، وهذا في المُتكلِّمِ إذا كانَ غيرَ الشَّارِعِ، وذلك كقولِك لمَن يَخافُ مِن تركِ الصَّلَاة المُوَسَّعةِ:«تركُها في أوَّلِ الوقتِ جائزٌ» ، لَيْسَ مفهومُه عدمَ الجوازِ في باقي الوقتِ، وهكذا إلى أن يَتَضَيَّقَ.

(9)

(وَ) من الشُّروطِ أيضًا أن (لَا) يَكُونَ المذكورُ (عُلِّقَ حُكْمُهُ عَلَى صِفَةٍ غَيْرِ مَقْصُودَةٍ) فلا مفهومَ له حينئذٍ؛ كقولِه تَعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ}

(3)

الآيةَ، أرادَ نفيَ الحرجِ عمَّن طَلَّقَ ولم يَمَسَّ وإيجابَ المُتعةِ تبعًا.

(1)

ليس في «ع» .

(2)

زاد في «مختصر التحرير» (ص 182): مما يقتضي تخصيصه بذكر، ولا لحاجة إلى بيان.

(3)

البقرة: 236.

ص: 590

فوائدُ:

إحداها: مِن الشُّروطِ أيضًا ألَّا يَكُونَ عهدٌ، فإنْ كانَ فهو بمنزلةِ الاسمِ اللَّقبِ الَّذِي يُحتاجُ إليه في التَّعريفِ، فلا يَدُلُّ على نفيِ الحُكمِ عمَّا عداه، وقد ذُكِرَتْ شروطٌ أُخرى غيرُ ما ذُكِرَ لا حاجةَ إلى ذِكرِها.

الثَّانيةُ: ما تَقَدَّمَ منَ الشُّروطِ يَقتضي تخصيصَ المذكورِ بالذِّكرِ لا نفيَ الحُكمِ عن غيرِه.

الثَّالثةُ: الضَّابطُ لهذه الشُّروطِ وما في مَعناها أن

(1)

لا يَظهَرَ لتخصيصِ المنطوقِ فائدةٌ غيرُ نفيِ الحُكمِ عن المسكوتِ عنه.

الرَّابعةُ: ممَّا احتجَّ به للمفهومِ: قولُه عليه الصلاة والسلام: «يَقْطَعُ الصَّلَاةَ الكَلْبُ الأَسْوَدُ» ، فسَأَلَه أبو ذرٍّ: ما بالُ الأسودِ مِن الأحمرِ مِن الأصفرِ! فقالَ: «شَيْطَانٌ»

(2)

.

وقد قال أحمدُ عن قولِه عليه السلام: «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ»

(3)

: يَدُلُّ على أنَّ الوصيَّةَ لمن لا يَرِثُ، واللهُ أعلمُ.

(وَيَنْقَسِمُ) مفهومُ المُخالفةِ (إِلَى) سِتَّةِ أقسامٍ: (مَفْهُومِ صِفَةٍ، وَتَقْسِيمٍ، وَشَرْطٍ، وَغَايَةٍ، وَعَدَدٍ لِغَيْرِ مُبَالَغَةٍ، وَلَقَبٍ).

(فَالأَوَّلُ): وهو مفهومُ الصِّفَةِ رأسُ المفاهيمِ، ولهذا بَدَأَ به، قال أبو المَعالي: لو عَبَّرَ مُعبِّرٌ عن جميعِ المفاهيمِ بالصِّفَةِ كانَ ذلك مُتَّجِهًا؛ لأنَّ

(1)

في «ع» : أي.

(2)

رواه مسلم (510).

(3)

رواه الترمذي (2121)، والنسائي (3641)، وابن ماجه (2712) من حديث عمرو بن خارجة رضي الله عنه. وقال الترمذي: حسن صحيح.

ص: 591

المعدودَ والمحدودَ موصوفانِ بعددِها وحدِّها، وكذا سائرُ المفاهيمِ

(1)

. انتهى.

ومرادُه: أنَّ معنى الوصفيَّةِ يَدَّعِي رجوعَ الكلِّ إليه باعتبارٍ، وإنْ كانَ المقصودُ هنا نوعًا من ذلك خاصًّا باعتبارِ الآتي بيانُه.

إذا تَقَرَّرَ ذلك فمفهومُ الصِّفَةِ: (أَنْ يَقْتَرِنَ بِعَامٍّ صِفَةٌ خَاصَّةٌ) قال الطُّوفِيُّ وغيرُه: هي تعقيبُ ذِكْرِ الاسمِ بصفةٍ خاصَّةٍ في معرضِ الاستدلالِ

(2)

، (كَـ) قولِه:(فِي الغَنَمِ السَّائِمَةِ الزَّكَاةُ)، ونحوِ:«فِي سَائِمَةِ الغَنَمِ الزَّكَاةُ»

(3)

وهذا لفظُ الحديثِ، ولذلك قال كثيرٌ مِن العلماءِ: هو تعليقُ الحكمِ بإحدى صِفتيِ الذَّاتِ، فشَمِلَ المثالينِ، وبينَ الصِّيغتَينِ فرقٌ في المعنى.

وقالَ ابنُ العِراقيِّ: الحقُّ عِندي أنَّه لا فرقَ بينَهما، فإنْ قُلْنا:«سائمةُ الغنمِ» مِن إضافةِ الصِّفَةِ إلى موصوفِها، فهي في المعنى كالأُولى، والغنمُ موصوفةٌ والسَّائمةُ صفةٌ على كلِّ حالٍ، وقد عُلِمَ أنَّه لَيْسَ المرادُ بالصِّفَة هنا النَّعتَ، ولهذا مَثَّلُوا بقولِه صلى الله عليه وسلم:«مَطْلُ الغَنِيِّ ظُلْمٌ»

(4)

، والتَّقييدُ فيه بالإضافةِ لكنَّه في معنى الصِّفَةِ، فإنَّ المرادَ به المطلُ الكائنُ مِن الغنيِّ لا مِن الفقيرِ.

(وَهُوَ) أي: مفهومُ الصِّفَة بأنواعِه الآتيةِ (حُجَّةٌ) مَعمولٌ به عندَ الأكثرِ (لُغَةً) أي: من حيثُ دَلالةُ اللُّغةِ ووضعُ اللِّسانِ على الصَّحيحِ، ووجهُه: لو

(1)

«البرهان في أصول الفقه» (1/ 168).

(2)

«شرح مختصر الروضة» (2/ 764).

(3)

رواه البخاري (1454) ضمن حديث أنس الطويل في الزكاة ولفظه: وَفِي صَدَقَةِ الغَنَمِ فِي سَائِمَتِهَا إِذَا كَانَتْ أَرْبَعِينَ إِلَى عِشْرِينَ وَمِئَةٍ شَاةٌ .. الحديث.

(4)

رواه البخاري (2287)، ومسلم (1564) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 592

لم يَدُلَّ عليه لغةٌ لَمَا فَهِمَه أهلُها، «لَيُّ

(1)

الوَاجِدِ يُحِلُّ عُقُوبَتَهُ وَعِرْضَهُ» رَوَاه أحمدُ

(2)

وغيرُه؛ أي: مطلُ الغنيِّ.

وفي الصَّحيحين: «مَطْلُ الغَنِيِّ ظُلْمٌ»

(3)

.

وفيهما: «لَأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ أَحَدِكُمْ قَيْحًا خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا»

(4)

.

قالَ أبو عُبيدٍ

(5)

: في الأوَّلِ يَدُلُّ على أنَّ لَيَّ مَن لَيْسَ بواجدٍ لا يُحِلُّ عُقوبتَه وعِرضَه، وفي الثَّاني مثلُه، وقِيلَ له في الثَّالثِ: المرادُ الهجاءُ، وهجاءُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. فقالَ: لو كانَ كذلك لم يَكُنْ لذِكرِ الامتلاءِ مَعنًى؛ لأنَّ قلبَه كذلك، فأَلْزَمَ أبو عُبيد من تقديرِ الصِّفَةِ المفهومَ قدرَ الامتلاءِ صفةً للهجاءِ، وهو مِن أئمَّةِ اللُّغةِ.

وذكر ابن مُفْلِحٍ

(6)

قولَ المُخالفِ: لو دَلَّ مفهومُ الصِّفَةِ لم يَحسُنِ الاستفهامُ،

رُدَّ: ذَكَرَ أصحابُنا منعًا كصريحٍ وتسليمًا لرفعِ الاحتمالِ، وجَزَمَ به ابنُ عَقِيلٍ؛ لأنَّ معنى الخطابِ مُقَدَّمٌ

(7)

عليه عندَ جمهورِ العلماءِ.

(وَيَحْسُنُ الِاسْتِفْهَامُ فِيهِ) نحوُ: لا تَشرَبِ الخمرَ؛ فإنَّه

(8)

يُوقِعُ العَداوةَ، فيقول: هل

(9)

أشربُ النَّبيذَ؟ ولا يُنكِرُ أحدٌ استفهامَه هذا.

(1)

في «ع» : في.

(2)

رواه أحمد (17946)، أبو داود (3628)، والنسائي (4689، 4690)، وابن حبان (5089) من حديث الشَّريد رضي الله عنه.

(3)

رواه البخاري (2287)، ومسلم (1564) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(4)

رواه البخاري (6155)، ومسلم (2257) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(5)

«غريب الحديث» (2/ 174).

(6)

«أصول الفقه» (3/ 1087).

(7)

في «ع» : متقدم.

(8)

في «ع» : لأنه.

(9)

في «ع» : فهل.

ص: 593

(وَمَفْهُومُهُ) عندَ المُعظمِ، أي مفهومُ قولِه:«فِي الغَنَمِ السَّائِمَةُ الزَّكَاةُ» ، و «فِي سَائِمَةِ الغَنَمِ الزَّكَاةُ»

(1)

(لَا زَكَاةَ فِي مَعْلُوفَةِ الغَنَمِ، فَالغَنَمُ وَالسَّوْمُ: عِلَّةٌ) لتَعَلُّقِ الحُكْمِ بهما.

والقولُ الثَّاني: أنَّ قولَه: «فِي سَائِمَةِ الغَنَمِ الزَّكَاةُ» يَدُلُّ على نفيِها عن كلِّ معلوفةٍ مِن الإبلِ والبقرِ والغنمِ، وصَحَّحَه أبو حامدٍ وغيرُه، فعليه السَّومُ وحَدُّه علَّةٌ، ووجهُه: أنَّ المفهومَ نقيضُ المنطوقِ سائمةُ الغنمِ دونَ غيرِها.

(وَهُوَ) أي: مفهومُ الصِّفَةِ (فِي بَحْثٍ عَمَّا يُعَارِضُهُ كَـ) لفظٍ (عَامٍّ) فيُفهَمُ منه أنَّه يَجِبُ اعتقادُه والعملُ به قَبْلَ البحثِ عمَّا يُعارِضُه كبقيَّةِ الدَّلائلِ.

(وَمِنْهَا) أي: مِن مفهومِ الصِّفَةِ (عِلَّةٌ، وَظَرْفٌ، وَحَالٌ)، فمفهومُ العِلَّةِ: تعليقُ الحُكمِ بعلَّةٍ، كـ: حُرِّمَتِ الخمرُ لشِدَّتِها والسُّكْرُ لحلاوتِه، فيَدُلُّ على أنَّ غيرَ الشَّديدِ وغيرَ الحلوِ لا يَحرُمُ، وهو أخصُّ مِن مفهومِ الصِّفَةِ؛ لأنَّ الوصفَ قد يَكُونُ تَتميمًا للعلَّةِ كالسَّومِ، فإِنَّه تتميمٌ للمعنى الَّذِي هو علَّةٌ.

ومفهومُ الظَّرفِ: إمَّا لزمانٍ

(2)

، نحوُ:{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ}

(3)

وإمَّا لمكانٍ، نحوُ:{اذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ}

(4)

، وكلاهما حُجَّةٌ.

ومفهومُ الحالِ؛ كقولِه تَعالى: {لَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}

(5)

وهو كالصِّفَةِ؛ لأنَّه صفةٌ في المعنى قُيِّدَ بها.

(وَكَـ) الصِّفَةِ (الأُولَى) وهي المُقتَرنةُ بالعامِّ، كـ: «فِي الغَنَمِ السَّائِمَةِ

(1)

رواه البخاري (1454) ضمن حديث أنس الطويل في الزكاة ولفظه: وَفِي صَدَقَةِ الغَنَمِ فِي سَائِمَتِهَا إِذَا كَانَتْ أَرْبَعِينَ إِلَى عِشْرِينَ وَمِئَةٍ شَاةٌ .. الحديث.

(2)

في «ع» : الزمان.

(3)

البقرة: 197.

(4)

البقرة: 198.

(5)

البقرة: 187.

ص: 594

الزَّكَاةُ»، (صِفَةٌ) عارضةٌ (مُجَرَّدَةٌ، كَـ) قولِهم: (فِي السَّائِمَةِ الزَّكَاةُ) عندَ أصحابِنا وغيرِهم؛ لأنَّ غايتَه أنَّ الموصوفَ في الثَّانيةِ محذوفٌ، (وَالأُولَى) وهي المُقَيَّدَةُ بالعامِّ (أَقْوَى دَلَالَةً) في المفهومِ؛ لأنَّها كالنَّصِّ، بخلافِ هذه.

(وَ) القِسْمُ (الثَّانِي) مِن السِّتَّةِ: التَّقسيمُ (كَـ: «الثِّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا، وَالبِكْرُ تُسْتَأْذَنُ) وهو (كَـ) القِسْمِ (الأَوَّلِ قُوَّةً) أي: في القوَّةِ؛ لأنَّ تقسيمَ هذا إلى قسمينِ وتَخصيصَ كلِّ واحدٍ بحُكْمٍ يَدُلُّ على انتفاءِ ذلك الحُكْمِ عنِ القسمِ الآخَرِ؛ إذْ لو عمَّهما

(1)

لم يَكُنْ للتَّقسيمِ فائدةٌ، فهو من جملةِ مفهومِ الصِّفَةِ.

(وَ) القِسمُ (الثَّالِثُ) مفهومُ الشَّرطِ، والمرادُ به ما عُلِّقَ مِن الحُكْمِ على شيءٍ بأداةِ الشَّرطِ، كـ:«إن» و «إذا» ونحوِهما

(2)

، وهو المُسَمَّى بالشَّرطِ اللُّغويِّ لا الشَّرطِ الَّذِي هو قسيمُ

(3)

السَّببِ والمانعِ، والشَّرطُ اللُّغويُّ، كقولِه تَعالى:({وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ) فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}

(4)

، دَلَّ بمنطوقِه على وجوبِ النَّفَقَةِ على أُولاتِ الحملِ، وكذا دَلَّ بالمفهومِ على منعِ وجوبِ النَّفَقَةِ للمُعتدَّةِ غيرِ الحاملِ عندَ الأكثرِ.

(وَ) كلُّ مَن قال بمفهومَيِ الصِّفَةِ والتَّقسيمِ يَقُولُ بمفهومِ الشَّرطِ، فـ (هُوَ أَقْوَى مِنْهُمَا) دَلالةً؛ لأنَّه يَلْزَمُ مِن عدمِ الشَّرطِ عدمُ المشروطِ.

(وَيَرِدُ) أي: يُستعمَلُ الشَّرطُ (لِتَعْلِيلٍ

(5)

، كَـ) قَولِه لولِدِه: (أَطِعْنِي

(6)

إِنْ كُنْتَ ابْنِي) أي: لأنَّك ابني.

(1)

في «ع» : عمها.

(2)

في «ع» : ونحوها.

(3)

في «د» : قسم.

(4)

الطلاق: 6.

(5)

قوله: ويرد لتعليل. في «مختصر التحرير» (ص 184): ويستعمل شرط لتعليل.

(6)

في «ع» : أطعمني.

ص: 595

تنبيهٌ: إِنَّمَا يُعتبَرُ مفهومُ الشَّرطِ وغيرِه حيثُ لم يَظهَرْ للتَّخصيصِ فائدةٌ كما سَبَقَ في الشَّرحِ، فقولُ القائلِ لابنِه: أَطِعْني

(1)

إنْ كُنْتَ ابني، المرادُ به التَّنبيهُ على السَّببِ الباعثِ للحُكْمِ لا تقييدُ الحُكْمِ به.

(وَ) القِسْمُ (الرَّابِعُ) مفهومُ الغايةِ، وهو مَدُّ الحُكمِ بأداةِ الغايةِ (كَـ) قولِه تَعالى:{فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ}

(2)

، {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}

(3)

.

(وَهُوَ) حُجَّةٌ عندَ الجمهورِ، و (أَقْوَى) دَلالةً (مِنَ) القِسْمِ (الثَّالِثِ)، وقد اعتَرفَ به مَن أنْكَرَ مفهومَ الشَّرطِ، ولهذا أجمعوا على تسميتِها حروفَ الغايةِ، وغايةُ الشَّيءِ نهايتُه، فلو ثَبَتَ الحُكمُ بعدَها لم يُفِدْ تسميتُها غايةً، وقِيلَ: لا مفهومَ للغايةِ.

قالَ الباقِلَّانِيُّ: واقعُ الاتِّفاقِ على تقديرِ ضدِّ الحُكمِ بعدَها، ففي:{وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ}

(4)

يُقدَّرُ: فاقْرَبُوهنَّ، ثمَّ قال: ولا شكَّ أنَّ المُضمَرَ كالملفوظِ به؛ لأنَّه إِنَّمَا أُضمِرَ لسَبْقِه إلى فهمِ العارفِ باللِّسانِ

(5)

.

فكأنَّه نَصَّ أهلُ اللُّغةِ على أنَّه منطوقٌ.

(وَ) القِسمُ (الخَامِسُ) مفهومُ العددِ لغيرِ مبالغةٍ: وهو تعليقُ الحُكمِ بعددٍ مخصوصٍ (كَـ) قولِه تَعالى: {فَاجْلِدُوهُمْ (ثَمَانِينَ جَلْدَةً}

(6)

وهو كالصِّفَةِ؛ لأنَّ قدرَ الشَّيءِ صِفتُه.

(1)

في «ع» : أطعمني.

(2)

البقرة: 230.

(3)

البقرة: 187.

(4)

البقرة: 222.

(5)

ينظر: «تشنيف المسامع» (1/ 370)، و «الغيث الهامع» (ص 134).

(6)

النور: 4.

ص: 596

قال ابنُ الرِّفعةِ: القولُ بمفهومِ العددِ هو العُمدةُ عندَنا في تنقيصِ الحجارةِ في الاستنجاءِ مِن الثَّلاثةِ

(1)

. انتهى.

وأمَّا العددُ الَّذِي قُصِدَ به التَّكثيرُ كالألفِ

(2)

والسَّبعينَ ونَحوِهما ممَّا يُستعمَلُ في لغةِ العربِ للمبالغةِ؛ فلا مفهومَ له، فإنَّ قولَهم: العددُ نصوص، إِنَّمَا هو حيثُ لا قرينةَ تَدُلُّ على إرادةِ المبالغةِ، نحوُ: جِئْتُك ألفَ مرَّةٍ فلم أَجِدْك.

(وَ) القِسمُ (السَّادِسُ): مفهومُ اللَّقبِ، وهو (تَخْصِيصُ اسْمٍ بِحُكْمٍ، وَهُوَ) أي: مفهومُ اللَّقبِ (حُجَّةٌ) عندَ الإمامِ أحمدَ وأكثرِ أصحابِه؛ لأنَّ الحُكمَ لو تَعَلَّقَ بالعامِّ لم يَتَعَلَّقْ بالخاصِّ؛ لأنَّه أخصُّ وأعمُّ، ولأنَّه يُمَيِّزُ مُسمَّاه كالصِّفَةِ.

وقالَ المجدُ

(3)

وغيرُه: إنَّه حُجَّةٌ بعدَ سابقةِ ما يَعُمُّه، كما لو قِيلَ: يا رسولَ اللهِ أفي بهيمةِ الأنعامِ زكاةٌ؟ فقالَ: في الإبلِ زكاةٌ. أو: هل نَبيعُ الطَّعامَ بالطَّعامِ؟ فقالَ: لا تبيعوا البُرَّ بالبُرِّ، تقويةً للخاصِّ بالعامِّ كالصِّفَةِ بالموصوفِ.

(1)

ينظر: «شرح الكوكب المنير» (3/ 508).

(2)

في «ع» : كألف.

(3)

«المسودة في أصول الفقه» (ص 352).

ص: 597

(فَصْلٌ)

(إِذَا خُصَّ نَوْعٌ) مِن جنسٍ (بِالذِّكْرِ بِـ) حُكْمِ (مَدْحٍ، أَوْ ذَمٍّ، أَوْ غَيْرِهِمَا) أي: بشيءٍ غيرِ المدحِ والذَّمِّ (مِمَّا لَا يَصْلُحُ لِمَسْكُوتٍ عَنْهُ؛ فَلَهُ) أي: لذلك المذكورِ (مَفْهُومٌ) كقولِه تَعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ}

(1)

، فالحجابُ عذابٌ، فلا يُحجَبُ مَن لا يُعَذَّبُ، ولو حُجِبَ الجميعُ لم يَكُنْ عذابًا.

قال الإمامُ الشَّافعيُّ: لَمَّا حَجَبَ قومًا بالسَّخطِ دَلَّ على أنَّ قومًا يَرَوْنَه بالرِّضى

(2)

.

وقالَ أيضًا: في الآيةِ دَلالةٌ على أنَّ أولياءَه يَرونه يومَ القيامةِ بأبصارِ وجوهِهم. واحتجَّ بها الإمامُ أحمدُ وغيرُه في الرُّؤيةِ.

(وَإِذَا اقْتَضَى حَالٌ) عمومَ الحُكمِ (أَوِ) اقتضى (لَفْظٌ عُمُومَ الحُكْمِ لَوْ عَمَّ) الحكمَ ذلك الحالُ أو اللَّفظُ، (فَتَخْصِيصُ بَعْضِ) ذلك (بِالذِّكْرِ

(3)

لَهُ مَفْهُومٌ) كقولِه تَعالى: {وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ}

(4)

، وقولِه تَعالى:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ} إلى قولِه: {وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ}

(5)

.

(وَفِعْلُهُ) أي: فعلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَهُ دَلِيلٌ كَدَلِيلِ الخِطَابِ) أَخَذَه أكثرُ أصحابِنا مِن قولِ الإمامِ أحمدَ: لا يُصَلَّى على مَيِّتٍ بعدَ شهرٍ لحديثِ

(1)

المطففين: 15.

(2)

«أحكام القرآن» (1/ 40).

(3)

في «مختصر التحرير» (ص 185): بذكر.

(4)

الإسراء: 7.

(5)

الحج: 18.

ص: 598

أمِّ سعدٍ، رَوَاه التِّرمذيُّ عن سعيدِ بنِ المُسَيِّبِ: أنَّ أمَّ سعدٍ ماتَتْ والنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم غائبٌ، فلَمَّا قَدِمَ صَلَّى عليها وقد مَضى لذلك شهرٌ

(1)

.

وقالَ ابنُ عَقِيلٍ: لَيْسَ للفعلِ صيغةٌ تَخُصُّ ولا تَعُمُّ، فضلًا عن أنْ نجعَلَ لها دليلَ خطابٍ، وجَوَّزَ أنَّ المستندَ استصحابُ الحالِ.

(وَدَلَالَةُ المَفْهُومِ كُلُّهَا بِالِالتِزَامِ) بمَعنى أنَّ النَّفيَ في المسكوتِ لازمٌ للثُّبُوتِ في المنطوقِ ملازمةً ظَنِّيَّةً لا قطعيَّةً.

(1)

رواه الترمذي (1038). وضعَّفه الألباني في «إرواء الغليل» (737).

ص: 599

(فَصْلٌ)

(1)

كلمةُ (إِنَّمَا بِكَسْرِ) الهمزةِ، (وَ) كذا بـ (فَتْحِـ) ـها، (تُفِيدُ الحَصْرَ) عندَ أكثرِ العلماءِ، قالوا: إنَّ

(1)

«إِنَّمَا» تُفيدُ الحصرَ، وهو إثباتُ الحُكمِ في المذكورِ ونفيُه عمَّا عَدَاه، قال بعضُ أصحابِنا وغيرُهم: تُفيدُه (نُطْقًا) وقالَ بعضُهم وأكثرُ العلماءِ: تُفيدُه فَهْمًا، ولهم طرقٌ في إفادتِها الحصرَ، أقواها نقلُ أهلِ اللُّغةِ، واستقراءُ استعمالاتِ العربِ إيَّاها في ذلك، ولجوازِ «إِنَّمَا المَرْءُ بِأَصْغَرَيْهِ»

(2)

يَعني قلبَه ولسانَه؛ أي: كمالُه بهذينِ العُضوينِ لا بهيئتِه ومنظرِه.

(وَقَدْ تَرِدُ)«إِنَّمَا» (لِتَحْقِيقِ مَنْصُوصٍ لَا لِنَفْيِ غَيْرِهِ) أي: غيرِ المنصوصِ، نحوُ:«إِنَّمَا الكَرِيمُ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ»

(3)

.

(2)

(وَ) مِن صيغِ الحصرِ المعتبَرِ مفهومُه حصرُ المبتدأِ في الخبَرِ، فلفظُ: («تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ»

(4)

،

(3)

وَ) قولُ القائلِ: (صَدِيقِي) زيدٌ، (أَوِ:«العَالِمُ» زَيْدٌ، وَنَحْوُ ذَلِكَ) كالقائمِ زيدٌ، (وَلَا قَرِينَةَ عَهْدٍ؛ يُفِيدُ الحَصْرَ نُطْقًا) على الصَّحيحِ، وقِيلَ: يُفيدُه فهمًا، ولحصرِ المبتدأِ في الخبَرِ صيغتانِ:

إحداهما: نحوُ: صديقي زيدٌ، قاله المُحقِّقون مُستدِلِّينَ بأنَّ «صديقي» عامٌّ، فإذا أُخبِرَ عنه بخاصٍّ وهو زيدٌ، كانَ حصرًا لذلك العامِّ، وهو

(1)

ليست في «د» .

(2)

من أمثال العرب، ينظر «أمثال العرب» للضبي (ص 29).

(3)

رواه البخاري (3390) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

(4)

رواه أبو داود (61)، والترمذي (3)، وابن ماجه (275) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وقال الترمذي: هذا الحديث أصح شيء في هذا الباب وأحسن.

ص: 600

الأصدقاءُ كلُّهم في الخبَرِ وهو زيدٌ؛ إذْ لو بَقِيَ من أفرادِ العُمومِ ما لم يَدخُلْ في الخبَرِ، لَزِمَ أنْ يَكُونَ المبتدأُ أعمَّ مِن الخبَرِ، وذلك لا يَجُوزُ لا لغةً ولا عقلًا، فلا تَقولُ: الحيوانُ إنسانٌ، ولا الزَّوجُ عشرةٌ، بل أنْ يَكُونَ المبتدأُ أخصَّ أو مساويًا.

والصِّيغةُ الثَّانيةُ: قولُه: «العالِمُ زيدٌ» ، إذا جُعِلَتِ اللَّامُ للحقيقةِ أو الاستغراقِ لا للعهدِ، والحُكمُ فيهما كالصِّيغِ الَّتي قَبْلَها، وكذا قولُه:«تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ»

(1)

؛ لأنَّه مضافٌ إلى ضميرٍ عائدٍ إلى الصَّلَاةِ، وفيها اللَّامُ، وبه احتجَّ أصحابُنا وغيرُهم على تعيينِ لفظيِ التَّكبيرِ والتَّسليمِ بقولِه صلى الله عليه وسلم:«تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ»

(2)

، والتَّعيينُ مستفادٌ مِن الحصرِ المدلولِ عليه بالمبتدأِ والخبرِ، فإنَّ التَّحريمَ مُنحصِرٌ في التَّكبيرِ كانحصارِ زيدٍ في صداقتِك إذا قُلْتَ: «صديقي

(3)

زيدٌ»، أمَّا إذا كانَ الخبَرُ نكرةً، نحوُ:«زيدٌ قائمٌ» ، فالأصحُّ أنَّها لا تُفيدُ الحصرَ كما في الحديثِ:«الصِّيَامُ جُنَّةٌ»

(4)

، [فإنَّه لا يَمنَعُ أنَّ غيرَه أيضًا جُنَّةٌ]

(5)

، ولهذا جاءَ:«فَلْيَتَّقِ النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ»

(6)

.

(1)

رواه أبو داود (61)، والترمذي (3)، وابن ماجه (275) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وقال الترمذي: هذا الحديث أصح شيء في هذا الباب وأحسن.

(2)

رواه أبو داود (61)، والترمذي (3)، وابن ماجه (275) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وقال الترمذي: هذا الحديث أصح شيء في هذا الباب وأحسن.

(3)

ليس في «ع» .

(4)

رواه البخاري (1894)، ومسلم (1151) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(5)

ليس في «د» .

(6)

رواه البخاري (1413)، ومسلم (1016) من حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه.

ص: 601

(وَيَحْصُلُ حَصْرٌ:

(1)

بِنَفْيٍ) نحوُ: «لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ»

(1)

(وَنَحْوِهِ) كالاستفهامِ، وسواءٌ كانَ النَّفيُ بـ «ما» أو «لا» أو «لَيْسَ» أو «إن» أو «ما»

(2)

، وهو في معنى النَّفيِ كقولِه تَعالى:{هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ}

(3)

، {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ}

(4)

.

(2)

(وَ) يَحصُلُ حصرٌ أيضًا بـ (اسْتِثْنَاءٍ تَامٍّ) سواءٌ كانَتْ أداةُ الاستثناءِ «إلَّا» أو غيرَها، نحوُ: لا إلهَ إلَّا اللهُ.

(وَ) باستثناءٍ (مُفَرَّغٍ) نحوُ: ما لي سِوى اللهِ، والدَّلالةُ هنا بالمنطوقِ على الصَّحيحِ لا بالمفهومِ.

(3)

(وَ) بِـ (فَصْلِ مُبْتَدَأٍ مِنْ خَبَرٍ بِضَمِيرِ الفَصْلِ) كقولِه تَعالى: {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ}

(5)

فإِنَّه لم يُسَقْ إلَّا للإعلامِ بأنَّهم الغالبونَ [دونَ غيرِهم، ولأنَّه لم يُوضَعْ إلَّا للإفادةِ، ولا فائدةَ في مثلِ قولهِ تعالى]

(6)

: {وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ}

(7)

سوى الحصرِ.

(وَيُفِيدُ الِاخْتِصَاصَ وَهُوَ الحَصْرُ تَقْدِيمُ المَعْمُولِ) يَعني أنَّ تقديمَ المعمولِ على عاملِه يُفِيدُ الاختصاصَ، والاختصاصُ: هو الحصرُ عندَ الجمهورِ، فيَحصُلُ الحصرُ بتقديمِ المعمولِ، ومنه قولُه تَعالى:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}

(8)

أي: نَخُصُّك بالعبادةِ والاستعانةِ، وهذا معنى الحصرِ، وسواءٌ في المعمولِ المفعولُ والحالُ والظَّرفُ والخبَرُ بالنِّسبةِ إلى المبتدأِ، نحوُ: تميميٌّ أنا.

(1)

رواه أبو داود (2085)، والترمذي (1126)، وابن ماجه (1881)، وابن حبان (4077) من حديث أبي موسى الأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه:«لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ» .

(2)

في «د» : إما.

(3)

الأحقاف: 35.

(4)

التوبة: 32.

(5)

الصافات: 173.

(6)

ليس في «ع» .

(7)

الزخرف: 76.

(8)

الفاتحة: 5.

ص: 602

فائدةٌ: المفهومُ أقسامٌ كما تَقَدَّمَ، وهي مُرَتَّبَةٌ باعتبارِ القوَّةِ والضَّعفِ، وتَظهَرُ فائدتُه في التَّراجيحِ.

(وَأَقْوَاهَا) أي: المفاهيمِ (اسْتِثْنَاءٌ) إنْ قيلَ إنَّه بالمفهومِ،

- (فَـ) يَلِيه (حَصْرٌ بِنَفْيٍ) ونحوِه كما تَقَدَّمَ،

- (فَـ) يَليه (مَا قِيلَ: إِنَّهُ مَنْطُوقٌ) وإنْ كانَ القولُ بذلك ضعيفًا؛ إذْ لولا قُوَّتُه لَمَا جُعِلَ منطوقًا [على قولٍ]

(1)

وذلك كالغايةِ والحصرِ بـ «إنَّما» ، فهما سواءٌ،

- (فَـ) يَليه (حَصْرُ مُبْتَدَأٍ) في خبَرٍ،

- (فَـ) يَليه (شَرْطٌ،

- فَصِفَةٌ) أي: مفهومُ الشَّرطِ، فمفهومُ الصِّفَةِ، والصِّفَةُ لها مَراتبُ أعلاها صفةٌ (مُنَاسِبَةٌ) للحُكْمِ، وهي الصِّفَةُ المُقتَرنةُ بالعامِّ، كـ:«فِي الغَنَمِ السَّائِمَةِ الزَّكَاةُ» ، ثمَّ الصِّفَةُ غيرُ المُناسِبةِ، سوى العددِ، (فَـ) دَخَلَتْ (عِلَّةٌ) وظرفٌ وحالٌ، لكنَّ أقوى الثَّلاثةِ العِلَّةُ، (فَـ) يليها صفةٌ (غَيْرُهَا) وهي الظَّرفُ والحالُ فهما في مرتبةٍ واحدةٍ،

- (فَـ) يَليها (عَدَدٌ) أي: مفهومُ العددِ،

- (فَتَقْدِيمُ مَعْمُولٍ) وتَقَدَّمَتْ أمثلةُ ذلك، واللهُ أعلمُ.

(1)

ليس في «د» .

ص: 603

(بَابٌ)

الاستدلالُ بالكتابِ والسُّنَّةِ مُتوقِّفٌ على معرفةِ بقاءِ الحُكْمِ أو ارتفاعِه، وهو بيانُ النَّسخِ وأحكامِه.

و (النَّسْخُ) له معنيانِ: مَعنًى في اللُّغةِ ومَعنًى في الشَّرعِ،

فمَعناه (لُغَةً): الرَّفعُ و (الإِزَالَةُ حَقِيقَةً) عندَ الأكثرِ كـ «نَسَخَتِ الشَّمسُ الظِّلَّ» ؛ أي: رَفَعَتْه وأزالَتْه.

(وَ) يُطلَقُ النَّسخُ أيضًا ويُرادُ به (النَّقْلُ مَجَازًا) عندَ الأكثرِ، وهو نوعانِ:

أحدُهما: النَّقلُ معَ عدمِ بقاءِ الأوَّلِ كالمناسخاتِ في المواريثِ، فإنَّها تَنتقلُ مِن قومٍ إلى قومٍ معَ بقاءِ المواريثِ في نَفْسِها.

والنَّوعُ الثَّاني: النَّقلُ معَ بقاءِ الأوَّلِ، فيَكُونُ المرادُ مُماثلتَه كنسخِ الكتابِ، ومنه قولُه تَعالى:{إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}

(1)

.

تنبيهٌ: وجهُ كَوْنِ النَّسخِ حقيقةً في الرَّفعِ مَجازًا في النَّقلِ أنَّ الرَّفعَ أخصُّ مِن النَّقلِ، فيَكُونُ أَوْلَى بحقيقةِ النَّسخِ، أمَّا أنَّ الرَّفعَ أخصُّ [مِن النَّقلِ]

(2)

فلأنَّ الرَّفعَ يَستلزمُ النَّقلَ، والنَّقلُ لا يَستلزمُ الرَّفعَ

(3)

فيَكُونُ أخصَّ، فهو أَوْلى بحقيقةِ اللَّفظِ؛ لأنَّ الأخصَّ أدلُّ وأبينُ وأوضحُ، فيَكُونُ بالحقيقةِ أَوْلَى.

(وَ) مَعنى النَّسخِ (شَرْعًا: رَفْعُ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ مُتَرَاخٍ) عنِ الحُكمِ، ومَعنى الرَّفعِ: إزالةُ الشَّيءِ على وجهٍ لَولاه لبَقِيَ ثابتًا على مثالِ

(1)

الجاثية: 29.

(2)

ليس في «د» .

(3)

في «د» : النقل.

ص: 604

رَفْعِ حُكْمِ الإجارةِ بالفسخِ، فإنَّ ذلك يُفارِقُ زوالَ حُكْمِها بانقضاءِ مُدَّتِها، والمرادُ بالحُكمِ: ما تَعَلَّقَ بالمُكَلَّفِ بعدَ وُجودِه أهلًا، فالتَّكليفُ المشروطُ بالعقلِ عدمٌ عندَ عدمِه، فلا يَرِدُ: الحُكْمُ قديمٌ، فلا يَرتفعُ ولا يَنتقضُ عَكْسُه بتخصيصٍ مُتأخِّرٍ؛ لأنَّه بيانٌ لا رفعٌ عندَ أصحابِنا وغيرِهم، ويَدخُلُ في قولِه:«بدليلٍ شرعيٍ» قولُ الشَّارِعِ وفِعلُه، ويَخرُجُ المباحُ بحُكمِ الأصلِ عندَ القائلِ به، فإنَّ ذلك بحُكمٍ عقليٍّ لا شرعيٍّ، فإنْ خَرَجَ فردٌ مِن تلك الأفرادِ فلا يُسَمَّى نَسخًا، ويَخرُجُ الرَّفعُ لعدمِ الفهمِ، وبنحوِ: صلِّ إلى آخرِ الشَّهرِ، ويَخرُجُ بقولِه:«متَراخٍ» المُخَصِّصاتُ المُتَّصِلةُ كلُّها، فإنَّها إخراجٌ بدليلٍ شرعيٍّ مقارنٍ لا مُتأخِّرٍ.

فائدةٌ: مِن النَّسخِ بالفعلِ نسخُ الوضوءِ ممَّا مَسَّتِ النَّارُ بأَكلِه مِن الشَّاةِ ولم يَتَوَضَّأْ صلى الله عليه وسلم.

(وَالنَّاسِخُ: هُوَ اللهُ تَعَالَى حَقِيقَةً) عندَ الجمهورِ؛ قال اللهُ تَعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا

(1)

(2)

، ويُطلَقُ على الطَّريقِ الْمُعَرِّفَةِ -مجازًا عندَ الجمهورِ- لارتفاعِ الحُكمِ مِن الآيةِ، وخبَرِ الرَّسولِ صلى الله عليه وسلم وفعلِه وتقريرِه، والإجماعِ على الحُكمِ، كقَوْلِنا: وجوبُ صومِ رمضانَ نَسَخَ صومَ يومِ عاشوراءَ، وعلى مَن يَعتقدُ نَسخَ الحُكمِ، كقولِهم

(3)

: فلانٌ يَنسَخُ القرآنَ بالسُّنَّةِ؛ أي: يَعتقدُ ذلك، فهو ناسخٌ.

(وَالمَنْسُوخُ: الحُكْمُ المُرْتَفِعُ بِنَاسِخٍ) كالمرتفعِ مِن وجوبِ تقديمِ الصَّدَقَةِ بينَ يديْ مُناجاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

(1)

في «د» : ننسأها.

(2)

البقرة: 106.

(3)

ليست في «د» .

ص: 605

(وَلَا يَكُونُ النَّاسِخُ)[أي: دليلُه]

(1)

(أَضْعَفَ) بل يُعتبَرُ عندَ الأكثرِ فيه أنْ يَكُونَ أقوى مِن المنسوخِ أو مُساويًا له.

(وَلَا نَسْخَ) إلَّا معَ التَّعَارُضِ بينَ الدَّليلَينِ، فأمَّا (معَ إِمْكَانِ الجَمْعِ) بينَهما فلا يَتَحَقَّقُ النَّسخُ؛ لأنَّا إِنَّمَا نَحكُمُ بأنَّ الأوَّلَ منسوخٌ إذا تَعَذَّرَ علينا الجمعُ بينَهما، فإذا لم يَتَعَذَّرْ وجَمَعْنا بينَهما بمقبولٍ فلا نَسخَ، وقولُ مَن قال: نُسِخَ صومُ يومِ

(2)

عاشوراءَ برمضانَ، أو: نَسَخَتِ الزَّكاةُ كلَّ صدقةٍ سِواها؛ فلَيْسَ يَصِحُّ إذا حُمِلَ على ظاهرِه

(3)

؛ لأنَّ الجمعَ بينَهما لا مُنافاةَ فيه، وإنَّما وَافَقَ نسخَ عاشوراءَ صومُ فرضِ رمضانَ، ونسخَ سائرِ الصَّدقاتِ فرضُ الزَّكاةِ، فحَصَلَ النَّسخُ معه لا به.

(وَلَا) يَجُوزُ النَّسخُ (قَبْلَ عِلْمِ مُكَلَّفٍ) بالمأمورِ (بِهِ) لعدمِ الفائدةِ باعتقادِ الوجوبِ والعزمِ على الفعلِ.

(وَيَجُوزُ) النَّسخُ (فِي السَّمَاءِ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هُنَاكَ) كنسخِ الخمسينَ صلاةً بخمسٍ، فإِنَّه قد عَلِمَه واعتقدَ وجوبَه، فهو نسخٌ بالنِّسبةِ إليه صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّه مُكَلَّفٌ بذلك قطعًا، ثمَّ نُسخَ قبلَ أنْ يبلغَه.

ويَجُوزُ النَّسخُ أيضًا قبلَ الفعلِ بعدَ دخولِ الوقتِ إجماعًا، قال في «التَّمهيد»: ولا فرقَ عقلًا بينَ أن يَعصِيَ أو يُطيعَ

(4)

.

(وَ) كذا يَجُوزُ (قَبْلَ) دُخُولِ (وَقْتِ الفِعْلِ) على الصَّحيحِ، واستدلَّ له بما تَواتَرَ في الصَّحيحين وغيرِهما مِن نسخِ فَرضِ خمسين صلاةً في السَّماءِ

(1)

ليس في «د» .

(2)

ليس في «ع» .

(3)

في «ع» : ظهره.

(4)

«التمهيد في أصول الفقه» للكَلْوَذاني (2/ 354).

ص: 606

ليلةَ الإسراءِ لخمسٍ قَبْلَ تَمَكُّنِه صلى الله عليه وسلم مِن الفعلِ، ولأحمدَ: أنَّه صلى الله عليه وسلم بَعَثَ أبا بكرٍ يُبَلِّغُ براءةَ، فسَارَ ثلاثًا، ثمَّ قال لعليٍّ:«الحَقْهُ، وَبَلِّغْهَا أَنْتَ»

(1)

.

(وَ) يَجُوزُ النَّسخُ (عَقْلًا) وسَمْعًا.

(وَوَقَعَ شَرْعًا) باتِّفاقِ أهلِ الشَّرائعِ للقطعِ بعدمِ استحالةِ تكليفٍ في وقتٍ ورَفعِه، وخالَفَ أكثرُ اليهودِ في الجوازِ، وبَعضُهم في الوقوعِ، والكلُّ باطلٌ، والحقُّ الَّذِي لا مَحيدَ عنه ولا شكَّ فيه جوازُه عقلًا وشرعًا.

وأمَّا الوقوعُ فواقعٌ لا مَحالةَ، ووردَ في الكتابِ والسُّنَّةِ قطعًا، ونُسِخَ التَّوجُّهُ إلى بيتِ المقدسِ وتقديمُ الصَّدقةِ بمُناجاتِه صلى الله عليه وسلم، وصومُ عاشوراءَ وغيرُه.

(وَلَا يَجُوزُ البَدَاءُ عَلَى اللهِ تَعَالَى) عز وجل، (وَ) البَدَاءُ (هُوَ تَجَدُّدُ العِلْمِ)، وقالَ ابنُ الزَّاغونِيِّ: هو أنْ يُريدَ الشَّيءَ دائمًا ثمَّ يَنتقلَ عنِ الدَّوامِ لأمرٍ حادثٍ لا بعلمٍ سابقٍ، قال: أو يَكُونَ سَبَبُه دالًّا على فسادِ الواجبِ لصِحَّةِ الأمرِ الأوَّلِ بأنْ يَأمُرَه لمصلحةٍ لم تَحصُلْ فيَبْدُوَ له ما يُوجِبُ رُجوعَه عنه

(2)

.

(وَهُوَ) أي: القولُ بهذا (كُفْرٌ) بإجماعِ أئمَّةِ المسلمينَ المعتبرينَ لا يَشُكُّ فيه مُسلمٌ.

قال الإمامُ أحمدُ: مَن قال: إنَّ اللهَ تَعَالَى لم يَكُنْ عالمًا حَتَّى خَلَقَ لنَفْسِه عِلْمًا فعَلِمَ به فهو كافرٌ.

(1)

«مسند أحمد» (4). قال الجوزقاني في «الأباطيل والمناكير» (124): منكر.

(2)

ينظر: «التحبير شرح التحرير» (6/ 2988)، و «شرح الكوكب المنير» (3/ 536).

ص: 607

(وَبَيَانُ غَايَةٍ مَجْهُولَةٍ) كقولِه تَعالى: {حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا}

(1)

(لَيْسَ) ذلك البيانُ (بِنَسْخٍ) في الأظهرِ؛ لأنَّ الحبسَ في الآيةِ لم يُنسَخْ؛ لأنَّ النَّسخَ أنْ يَرِدَ لفظٌ عامٌّ يُتَوَهَّمُ دوامُه ثمَّ يَرِدَ ما يَرفَعُ بعضَه، والآيةُ لم تَرِدْ بالحبسِ على التَّأبيدِ، وإنَّما وَرَدَتْ به إلى غايةٍ هي أنْ يَجعَلَ اللهُ لهنَّ سبيلًا، فأثبتَ الغايةَ فوَجَبَ الحدُّ بعدَ الغايةِ بالخبَرِ، ذَكَرَه القاضي

(2)

في مسألةِ نسخِ القرآنِ بالسُّنَّةِ.

فائدتانِ:

إحداهما: في ذِكْرِ‌

‌ شُروطِ النَّسخِ:

منها: كونُ المنسوخِ حُكمًا شرعيًّا لا عقليًّا، وأنْ يَكُونَ مُنفصلًا مُتأخِّرًا عنِ المنسوخِ، وأنْ يَكُونَ النَّسخُ بخطابٍ شرعيٍّ، وألَّا يَكُونَ المنسوخُ مُقَيَّدًا بوقتٍ يَنتهي بانتهائِه في الأظهرِ كما سَبَقَ.

ومِنها: أنْ يَكُونَ النَّاسخُ أقوى مِن المنسوخِ أو مِثلَه عندَ الأكثرِ، كما سَبَقَ أيضًا.

ومِنها: أنْ يَكُونَ المنسوخُ ممَّا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ مشروعًا، وألَّا يَكُونَ اعتقادًا، فلا يَدخُلُ النَّسخُ أصلَ التَّوحيدِ بحالٍ؛ لأنَّ اللهَ تَعَالَى بأسمائِه وصفاتِه لم يَزَلْ ولا يَزالُ.

ومِنها: ما عُلِمَ بالدَّليلِ أنَّه مُتَأَبِّدٌ كشريعةِ نبيِّنا صلى الله عليه وسلم.

(1)

النساء: 15.

(2)

«العدة في أصول الفقه» (3/ 800).

ص: 608

ومِنها: ألَّا يَكُونَ على صفةٍ واحدةٍ لا يَتَغَيَّرُ، كمعرفةِ اللهِ تَعَالَى ممَّا يَجِبُ له ويَستحيلُ عليه ويَجُوزُ له، ولهذا يَمتنعُ نسخُ الأخبارِ كما سيَأتي.

ومِنها: أنْ يَكُونَ بينَ النَّاسخِ والمنسوخِ تعارُضٌ؛ لأنَّه إذا أَمْكَنَ الجمعُ فلا تعارُضَ، كما تَقَدَّمَ.

الفائدةُ الثَّانيةُ: أنَّ التَّخصيصَ والنَّسخَ يَشتَركانِ في كونِ كلٍّ منهما يُوجِبُ اختصاصَ بعضٍ مُتناوِلًا للَّفظِ، ويَفتَرقانِ مِن أَوجُهٍ:

مِنها: أنَّ النَّاسخَ يُشتَرطُ تراخيه، والتَّخصيصَ يَجوزُ اقتِرانُه.

ومِنها: أنَّ النَّسخَ يَدخُلُ في الأمرِ بمأمورٍ بخلافِ التَّخصيصِ.

ومِنها: أنَّ النَّسخَ [لا يَكُونُ إلَّا بدليلٍ خطابيٍّ أو مُقتضاه، والتَّخصيصُ يَجُوزُ بأدِلَّةِ العقلِ وقرائنِه.

ومِنها: أنَّ النَّسخَ]

(1)

لا يَدخُلُ في الأخبارِ، والتَّخصيصُ بخلافِه.

[ومِنها: أنَّ النَّسخَ لا يَبقى معه دَلالةُ اللَّفظِ على ما تَحتَه، والتَّخصيصُ يَبقى معه ذلك]

(2)

.

ومِنها: أنَّ النَّسخَ المقطوعَ لا يَجُوزُ إلَّا بمِثلِه، والتَّخصيصُ جائزٌ فيه بخبَرِ الواحدِ والقياسِ، قاله ابنُ قاضي الجبلِ

(3)

.

(وَيُنْسَخُ إِنْشَاءٌ، وَلَوْ) كانَ (بِلَفْظِ قَضَاءٍ، أَوْ) كانَ (خَبَرًا، أَوْ قُيِّدَ بِـ) لفظِ (تَأْبِيدٍ، أَوْ) بلفظِ (حَتْمٍ) قال في «شرح الأصل»

(4)

: لا شكَّ في جوازِ نسخِ

(1)

ليس في «ع» .

(2)

ليس في «ع» .

(3)

ينظر: «التحبير شرح التحرير» (6/ 2996).

(4)

«التحبير شرح التحرير» (6/ 3005).

ص: 609

الإنشاءِ إذا كانَ بلفظِ الإنشاءِ، وقد تَقَدَّمَ له صورٌ، وهذا إجماعٌ في الجملةِ، أمَّا إذا كانَ الإنشاءُ بلفظِ الخبَرِ؛ أي: بكونِ صورةِ اللَّفظِ خبَرًا ومعناه إنشاءً، وذلك في صورٍ:

إحداها: أنْ يَكُونَ بلفظِ القضاءِ، كقولِك: قَضَى بكذا أو كذا، قال اللهُ تَعالى:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ}

(1)

أي: أَمَرَ، وهذا يَجُوزُ نَسخُه عندَ الجمهورِ.

الصُّورةُ الثَّانيةُ: أنْ يَكُونَ بلفظِ الخبَرِ، سواءٌ كانَ بمعنى الأمرِ، نحوُ:{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ}

(2)

، أو النَّهيِ، نحوُ:{لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا}

(3)

فقالَ الجمهورُ: يَجُوزُ نسخُه باعتبارِ مَعناه، فإنَّ مَعناه الإنشاءُ.

الصُّورةُ الثَّالثةُ: إذا قُيِّدَ الحُكمُ بلفظِ التَّأبيدِ ونحوِه بجملةٍ فِعليَّةٍ، مثلُ: صُوموا يومَ عاشوراءَ أبدًا، أو حتمًا، أو غيرِه ممَّا في مَعناه، وكذا دائمًا أو مستمرًّا، فيَجوزُ بعدَ ذلك نسخُه عندَ الجمهورِ.

وخالَفَ في ذلك بعضُ المُتكلِّمين وغيرُهم قالوا: لمُناقضةِ الأبديَّةِ، فيُؤدِّي ذلك إلى البَدَاءِ.

وجوابُه: أنَّ ذلك إِنَّمَا يُقصَدُ به المبالغةُ لا الدَّوامُ، كما تَقولُ:«لازِمْ غريمَك أبدًا» ، وإنَّما تُريدُ لازمْه إلى وقتِ القضاءِ، فيَكُونُ المرادُ هنا لا تُخِلَّ به إلى أن يُقضى وقتُه.

الصُّورةُ الرَّابعةُ: أنْ يُقَيَّدَ بالتَّأبيدِ بجملةٍ اسميَّةٍ كـ: «الصَّومُ واجبٌ مُستمرٌّ أبدًا» إذا قاله على مسألةِ الإنشاءِ، فالجمهورُ على جوازِ نَسخِه؛ لأنَّ الخبَرَ عنِ الحُكمِ كالإنشاءِ في جوازِ النَّسخِ به.

(1)

الإسراء: 23.

(2)

البقرة: 233.

(3)

البقرة: 233.

ص: 610

(وَيَجُوزُ نَسْخُ إِيقَاعِ الخَبَرِ) الَّذِي أُمِرَ المُكلَّفُ بالإخبارِ به بأنْ يُكَلِّفَ الشَّارِعُ أحدًا بأنْ يُخبِرَ بشيءٍ مِن عقليٍّ أو عاديٍّ كوجودِ الباري وإحراقِ النَّارِ، ثمَّ يَنسَخَه، فهذا جائزٌ اتِّفاقًا، وهل يَجُوزُ نَسخُه بنقيضِه؟ أي: بأنْ يُكَلِّفَه الإخبارَ بنقيضِه المختارُ جوازُه (حَتَّى بِنَقِيضِهِ) بأنْ يُرادَ معَ نسخِه التَّكليفُ بالإخبارِ بضدِّ الأوَّلِ؛ كالإخبارِ بأنَّ السَّماءَ فوقَ الأرضِ يُنسَخُ بالإخبارِ بأنَّ السَّماءَ تحتَ الأرضِ.

وخالَفَ المُعتزلةُ فيه، ومَبناه أصلُهم في حُكمِ العقلِ؛ لأنَّ أحدَهما كذبٌ، فالتَّكليفُ به قبيحٌ، وقد عَلِمْتَ فسادَه.

و (لَا) يَجُوزُ نَسخُ (مَدْلُولِ خَبَرٍ) إذا كانَ الحُكْمُ ممَّا (لَا يَتَغَيَّرُ، كَصِفَاتِ اللهِ) تبارَكَ و (تَعَالَى، وَخَبَرِ مَا كانَ وَمَا يَكُونُ) وأخبارِ الأنبياءِ عليهم السلام، ونحوِ ذلك إجماعًا.

(أَوْ) أي: ولا مدلولِ خبَرٍ (يَتَغَيَّرُ كَإِيمَانِ زَيْدٍ) مثلًا (وَكُفْرِهِ) فلا يَجُوزُ نَسخُه أيضًا عندَ الأكثرِ، وجَوَّزَه قومٌ، ويُخَرَّجُ عليه نسخُ المُحاسبةِ بما في النُّفوسِ في قولِه تَعالى:{إِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ}

(1)

كقولِ جماعةٍ مِن الصَّحابةِ والتَّابعينَ، فهو في البخاريِّ

(2)

عن ابنِ عمرَ، وفي مسلمٍ

(3)

عن أبي هُرَيْرَةَ، (إِلَّا خَبَرٌ

(4)

عَنْ حُكْمٍ) فيَجُوزُ نَسخُه قطعًا، نحوُ: هذا الفعلُ جائزٌ أو حرامٌ؛ لأنَّه في الحقيقةِ إنشاءٌ، ولو قَيَّدْنا الخبَرَ بالتَّأبيدِ لم يَجُزْ نَسخُه، قَدَّمَه

(1)

البقرة: 284.

(2)

«صحيح البخاري» (4546).

(3)

«صحيح مسلم» (125).

(4)

في «مختصر التحرير» (ص 189): خبرًا.

ص: 611

ابنُ مُفْلِحٍ

(1)

، لكنْ إنْ كانَ التَّأبيدُ على بابِه، وأمَّا إذا كانَ على مسألةِ الإنشاءِ، فهو الصُّورةُ الرَّابعةُ المُتقدِّمةُ.

(وَيَجُوزُ نَسْخٌ بِلَا بَدَلٍ) عنِ المنسوخِ عندَ الجمهورِ، واستدلُّوا بما اعتُمِدَ عليه في إثباتِ النَّسخِ (وَوَقَعَ) عندَ الأكثرِ؛ لأنَّه نُسِخَ فرضُ تقديمِ الصَّدقةِ أمامَ المناجاةِ، وتحريمُ ادِّخارِ لُحومِ الأَضَاحِيِّ.

قال الباقِلَّانِيُّ: كما يَجُوزُ أن يُرفَعَ التَّكاليفُ كلُّها يَجُوزُ أن يُرفَعُ بَعضُها بلا بدلٍ مِن بابٍ أَوْلَى

(2)

.

فإنْ قالوا: نَأْتِ بخيرٍ مِنها أو مِثْلِها.

رُدَّ: الخلافُ في الحُكمِ لا في اللَّفظِ، ثمَّ: لَيْسَ عامًّا في كلِّ حُكْمٍ، ثمَّ: مخصوصٌ بما سَبَقَ، ثمَّ: يَكُونُ نَسخُه بغيرِ بدلٍ خيرًا لمصلحةٍ عَلِمَها، ثمَّ: إِنَّمَا تَدُلُّ الآيةُ أنَّه لم يَقَعْ، لا أنَّه لا يَجُوزُ، وأيضًا: المصلحةُ قد تَكُونُ فيما نُسِخَ، ثمَّ تَصِيرُ المصلحةُ في عَدَمِه، وأمَّا مَن لا يَعتبِرُ المصالحَ فلا إشكالَ فيه، وبالجملةِ: فاللهُ يَفعَلُ ما يَشاءُ.

تنبيهٌ: قد تَقَرَّرَ أنَّ النَّسخَ جائزٌ وواقعٌ ببدلٍ وبغيرِ بدلٍ، فإذا كانَ ببدلٍ فالبدلُ إمَّا مُساوٍ أو أخفُّ، أو أثقلُ، والأوَّلانِ جائزانِ باتِّفاقٍ.

مثالُ المساوي: نسخُ استقبالِ بيتِ المقدسِ بالكعبةِ، ومثالُ الأخفِّ: وجوبُ مُصابَرَةِ العشرينَ مِن المسلمينَ مئتينِ مِن الكفَّارِ، والمئةِ ألفًا كما

(1)

«أصول الفقه» (3/ 1133).

(2)

ينظر: «الفوائد السنية في شرح الألفية» (4/ 374).

ص: 612

في الآيةِ؛ نُسِخَ بقولِه تَعالى: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ}

(1)

الآيةَ، فأَوْجَبَ مُصابرةَ الضِّعفِ، وهو أخفُّ مِن الأوَّلِ.

(وَ) أمَّا النَّسخُ (بِأَثْقَلَ) فهو مَحَلُّ الخلافِ والجمهورُ على جوازِه، ودليلُ وقوعِه أنَّ الكفَّ عنِ الكفَّارِ كانَ واجبًا بقولِه تَعالى:{وَدَعْ أَذَاهُمْ}

(2)

نُسِخَ بإيجابِ القتالِ

(3)

، وهو أثقلُ؛ أي: أكثرُ مَشَقَّةً.

(وَ) يَجُوزُ (تَأْبِيدُ تَكْلِيفٍ بِلَا

(4)

غَايَةٍ) وهو مبنيٌّ على وجوبِ الجزاءِ، وجَوَّزَه ابنُ عقيلٍ وغيرُه، وهو الصَّحيحُ.

قال المَجدُ، وتَبِعَه مَن بَعدَه: يَجُوزُ أنْ يَرِدَ الأمرُ والنَّهيُ دائمًا إلى غيرِ غايةٍ، فيَقُولُ: صَلُّوا ما بَقِيتُم أبدًا، وصُومُوا رمضانَ ما حَيِيتُم أيضًا، فيَقتضي الدَّوامَ معَ بقاءِ التَّكليفِ

(5)

.

(تنبيهٌ:) قال بعضُ أصحابِنا: (لَمْ تُنْسَخْ إِبَاحَةٌ إِلَى إِيجَابٍ، وَلَا إِلَى كَرَاهَةٍ) واللهُ أعلمُ.

(1)

الأنفال: 66.

(2)

الأحزاب: 48.

(3)

في «ع» : القتل.

(4)

في «د» : على.

(5)

«المسودة في أصول الفقه» (ص 55).

ص: 613

(فَصْلٌ)

‌يَمتنعُ نسخُ جميعِ القُرآنِ

إجماعًا؛ لأنَّه مُعجزةُ نبيِّنا صلى الله عليه وسلم المستمرَّةُ على الَّتأبيدِ؛ {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}

(1)

أي: لا يَأْتي ما يُبطِلُه، وأمَّا نسخُ بعضِه فهو جائزٌ عندَ الأربعةِ وغيرِهم، وفي كيفيَّةِ وقوعِه ثلاثةُ أنواعٍ: ما نُسِخَ تلاوتُه وحُكمُه باقٍ، وما نُسِخَ حُكمُه فقطْ وتلاوتُه باقيةٌ، وما جُمِعَ فيه نَسخُ التِّلاوةِ والحُكمِ.

إذا عَلِمْتَ ذلك، فـ (يَجُوزُ نَسْخُ التِّلَاوَةِ) لكلماتِ القرآنِ (دُونَ الحُكْمِ) الَّذِي دلَّتْ عليه الكلماتُ المنسوخةُ.

مثالُه: ما رَوَاه مالكٌ

(2)

وغيرُه عن عمرَ أنَّه قال: إيَّاكم أن تَهلِكُوا عن آيةِ الرَّجمِ، أو يَقُولَ قائلٌ: لا نَجِدُ حَدَّينِ في كتابِ اللهِ؛ فلقد رَجَمَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، والَّذي نفسي بيدِه! لولا أن يَقُولَ النَّاسُ: زادَ عمرُ في كتابِ اللهِ لأَثْبَتُّها: «الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا البَتَّةَ» فإنَّا قد قَرَأْناها.

قالَ في «الواضح» : في قولِه: الشَّيخُ والشَّيخةُ عَلَّقَه على الشَّيخينِ لإحصانِهما غالبًا

(3)

.

فالمرادُ بالشَّيخِ والشَّيخةِ المُحصنانِ، حَدُّهما الرَّجمُ بالإجماعِ، والمرادُ بما قَضَيَا مِن اللَّذةِ، فهذا الحُكمُ فيه باقٍ واللَّفظُ مرتفعٌ؛ لرجمِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ماعزًا والغامِديَّةَ واليهوديَّينِ، وفي روايةِ أحمدَ

(4)

وابنِ حبَّانَ

(5)

: أنَّها كانَتْ في سورةِ الأحزابِ.

(1)

فصلت: 42.

(2)

«الموطأ» (631).

(3)

«الواضح في أصول الفقه» (1/ 247).

(4)

«مسند أحمد» (21207).

(5)

«صحيح ابن حبان» (4428).

ص: 614

(وَ) يَجُوزُ (عَكْسُهُ) أي: عكسُ الَّذِي قَبْلَه، وهو نسخُ الحُكمِ دونَ التِّلاوةِ.

مثالُه: آيةُ المناجاةِ والصَّدقةِ بينَ يَديْها، ففي التِّرمذيِّ

(1)

عن عليٍّ كَرَّمَ اللهُ وَجهَه: أنَّها لَمَّا نَزَلَتْ قال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَا تَرَى، دِينَارًا؟» ، قال: لا يُطِيقونه، قال:«نِصْفُ دِينَارٍ» . قال: لا يُطيقُونَه، قال:«مَا تَرَى؟» قال: شَعِيرَةٌ. قال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّكَ لَزَهِيدٌ» . قال عليٌّ: حَتَّى خَفَّفَ اللهُ عن هذه الأُمَّةِ بتركِ الصَّدقةِ.

ومَعنى قولِه: «شَعِيرَةٌ» ، أيْ: مِن ذَهَبٍ.

قالَ عليٌّ: ما عَمِلَ بها أحدٌ غيري حَتَّى نُسِخَتْ. قال مجاهدٌ: وأَحسَبُه قال: وما كانَتْ إلَّا ساعةً مِن نهارٍ.

(وَ) يَجُوزُ نسخُـ (ـهُمَا) أي: التِّلاوةِ والحُكمِ معًا.

مثالُه: ما رَوَاه مسلمٌ

(2)

عن عائشةَ: كانَ ممَّا نَزَلَ «عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ» فنُسِخَتْ

(3)

بـ «خَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ» .

فلم يَبْقَ لهذا اللَّفظِ حُكمُ القرآنِ لا في الاستدلالِ ولا في غيرِه، فلذلك كانَ الصَّحيحُ عندَنا

(4)

جوازَ مَسِّ المُحدِثِ ما نُسِخَ لفظُه، سواءٌ نُسِخَ حُكمُه أو لا، واستُدِلَّ لجوازِ النَّسخِ ما سَبَقَ، ولأنَّ التِّلاوةَ حُكمٌ، وما تَعَلَّقَ به مِن الأحكامِ حُكمٌ آخَرُ، فجازَ نَسخُهما، ونَسخُ أحدِهما كغيرِهما.

(و) يَجوزُ نسخُ (قُرْآنٍ وَسُنَّةٍ مُتَوَاتِرَةٍ بِمِثْلِهِمَا).

(1)

«جامع الترمذي» (3300) وقال: حسن غريب، والنسائي في «الكبرى» (8484)، وابن حبان (6941، 6942).

(2)

«صحيح مسلم» (1452).

(3)

في «د» : فنسخن.

(4)

ليس في «د» .

ص: 615

مثالُ نسخِ القرآنِ بمِثلِه: نسخُ الاعتدادِ بالحولِ في الوفاةِ في قولِه تَعالى: {مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ}

(1)

نُسِخَ بقولِه تَعالى: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا}

(2)

.

وأمَّا نسخُ متواترِ السُّنَّةِ بمتواترِها فجائزٌ عقلًا وشرعًا

(3)

، ولكنَّ وُقوعَهما مُتَعَذِّرٌ في هذه الأزمنةِ وهي قليلةٌ جدًّا، بل كلُّ هذه الأحاديثِ آحادٌ، إمَّا في أوَّلِها، وإمَّا في آخِرِها، وإمَّا من

(4)

أوَّلِ إسنادِها إلى آخِرِه.

(وَ) يَجُوزُ نسخُ (سُنَّةٍ بِقُرْآنٍ) على الصَّحيحِ.

مثالُه: ما كانَ من

(5)

جوازِ تأخيرِ صلاةِ الخوفِ، نُسِخَ بقولِه تَعالى:{فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا}

(6)

، واستُدِلَّ له بأنَّه لا يَمتنعُ لذاتِه ولا لغيرِه؛ إذْ تحريمُ المباشرةِ لياليَ رمضانَ وتأخيرُ صلاةِ الخوفِ وغيرُ ذلك ثَبَتَ بالسُّنَّةِ ونُسِخَ بالقرآنِ بالإجماعِ.

(وَ) يَجُوزُ نَسخُ (آحَادٍ) مِن السُّنَّةِ وهو ما عدا المُتواترَ (بِـ) حديثٍ (مِثْلِهِ) أي: غيرِ متواترٍ.

مثالُه: ما في «صحيحِ مسلمٍ»

(7)

عن بُرَيْدَةَ أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ القُبُورِ، فَزُورُوهَا» رَوَاه التِّرمذيُّ

(8)

بزيادةِ: «تُذَكِّرُكُمُ الآخِرَةَ» ، ووجهُ الشَّاهدِ في الخبَرِ أنَّه صلى الله عليه وسلم قال:«كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ» ، فصَرَّحَ بأنَّ النَّهيَ مِنَ السُّنَّةِ.

(1)

البقرة: 240.

(2)

البقرة: 234.

(3)

ليس في «د» .

(4)

في «ع» : في.

(5)

في «ع» : في.

(6)

البقرة: 239.

(7)

«صحيح مسلم» (977).

(8)

«جامع الترمذي» (1054).

ص: 616

(وَ) يَجُوزُ نسخُ آحادٍ مِن السُّنَّةِ (بِمُتَوَاتِرٍ

(1)

، ولم يَقَعْ.

(وَ) يَجُوزُ نسخُ متواترِ السُّنَّةِ بآحادِها (عَقْلًا) اتِّفاقًا، ذَكَرَه الآمِدِيُّ

(2)

.

و (لَا) يَجُوزُ (شَرْعًا) نسخُ سُنَّةٍ (مُتَوَاتِرَةٍ بِآحَادٍ) عندَ الجماهيرِ، وحَكَاه أبو المَعالي

(3)

وغيرُه إجماعًا، (وَ) يَجُوزُ عقلًا نَسْخُ (قُرْآنٍ بِـ) خبَرٍ (مُتَوَاتِرٍ) وكذا بآحادٍ على المشهورِ، ولا يَجُوزُ نَسخُه بذلك شرعًا في الأشهرِ عندَ

(4)

أحمدَ وأكثرِ أصحابِه وغيرِهم، وجَوَّزَه القاضي

(5)

وقالَ: نصَّ أحمدُ عليه.

قالَ: ويَجِبُ العملُ به، واستشهدَ لذلك بقصَّةِ قُباءَ في الاستدارةِ في الصَّلَاةِ

(6)

، وخبَرِ الخمرِ؛ لقولِ أبي طَلْحَةَ لَمَّا سَمِعَ مُجَرَّدَ الخبَرِ: أَهْرِيقُوها

(7)

. ولم يَنْظُروا غيرَه، قال: واحتجَّ بقصَّةِ قُباءَ، وأنَّ الصَّحابةَ أَخَذَتْ بالخبَرِ، وإنْ كانَ فيه نسخٌ.

(وَيُعْتَبَرُ) لصِحَّةِ النَّسخِ: (تَأْخُّرُ نَاسِخٍ) عن منسوخٍ، وتَقَدَّمَ في شروطِ النَّسخِ في الفائدتينِ.

تنبيهٌ: إذا تَقَرَّرَ أنَّ حُكمَ النَّسخِ لا يَتَعَلَّقُ بالمُكلَّفِ حَتَّى يَعرفَه فلا بدَّ مِن بيانِ الطَّريقِ إلى معرفتِه.

(1)

في «ع» : بمتواترها.

(2)

«الإحكام في أصول الأحكام» (3/ 146).

(3)

«البرهان في أصول الفقه» (2/ 255).

(4)

في «د» : عن.

(5)

«العدة في أصول الفقه» (2/ 555).

(6)

رواه البخاري (403)، ومسلم (526) من حديث ابْنِ عُمَرَ، قال: بَيْنَا النَّاسُ بِقُبَاءٍ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ، إِذْ جَاءَهُمْ آتٍ .. الحديث.

(7)

رواه البخاري (2464)، ومسلم (1980) من حديث أنسٍ رضي الله عنه قال: كُنْتُ سَاقِيَ القَوْمِ فِي مَنْزِلِ أَبِي طَلْحَةَ .. الحديث.

ص: 617

(وَطَرِيقُ مَعْرِفَتِهِ) بأنْ يُعلَمَ أو يُظَنَّ أنَّه مُتأخِّرٌ عن دليلِ الحُكمِ المُقرَّرِ الَّذِي هو ضِدُّه، وذلك الطَّريقُ من وُجوهٍ:

أحدُها: (الإِجْمَاعُ) بأنْ يُعرَفَ بالإجماعِ على أنَّ هذا ناسخٌ لهذا، كالنَّسخِ بوجوبِ الزَّكاةِ سائرَ الحقوقِ الماليَّةِ.

(وَ) الوجهُ الثَّاني مِن طريقِ معرفةِ تأخُّرِ النَّاسخِ: (قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: هذا ناسخٌ لذلك، أو هذا بعدَه، أو ما في معنى ذلك كقولِه صلى الله عليه وسلم:«كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ القُبُورِ، فَزُورُوهَا»

(1)

.

والوجهُ الثَّالثُ: أن يَنُصَّ الشَّارِعُ على خلافِ ما كانَ مُقَرَّرًا بدليلٍ، بحيثُ لا يُمكِنُ الجمعُ بينَ الدَّليلَينِ على تأخُّرِ أَحَدِهما، فيَكُونُ ناسخًا للمُتَقَدِّمِ، وهو كثيرٌ، وهو قريبٌ مِن الثَّاني.

(وَ) الوجهُ الرَّابعُ: (فِعْلُهُ) صلى الله عليه وسلم في ظاهرِ كلامِ الإمامِ أحمدَ، وقد جَعَلَ العلماءُ مِن ذلك: نسخُ الوضوءِ ممَّا مَسَّتِ النَّارُ بأكلِه مِن الشَّاةِ، ولم يَتَوَضَّأْ صلى الله عليه وسلم.

(وَ) الوجهُ الخامسُ: (قَوْلُ الرَّاوِي)، بأنْ يَقُولَ:(«كانَ كَذَا وَنُسِخَ»، أَوْ) يَقُولَ: (رَخَّصَ) لنا (فِي كَذَا) كقولِه: «رُخِّصَ لَنَا فِي المُتْعَةِ (ثُمَّ نُهِيَ عَنْهُ، وَنَحْوُهُمَا) كأنْ يَقُولَ: هذا مُتأخِّرُ الورودِ عنِ الأوَّلِ، فيَكُونُ ناسخًا له كقولِ عليٍّ رضي الله عنه: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالقِيَامِ لِلْجَنَازَةِ ثمَّ قَعَدَ»

(2)

، وفي مَعنى ذلك كثيرٌ.

(1)

رواه مسلم (977).

(2)

رواه مسلم (962) بنحوه.

ص: 618

و (لَا) يُقبَلُ قولُ الرَّاوي: (هَذِهِ الآيَةُ) مَنسوخةٌ (أَوْ «هذا الخَبَرُ مَنْسُوخٌ» حَتَّى يُبَيِّنَ النَّاسِخَ). فإنْ قال صحابيٌّ: هذه الآيةُ منسوخةٌ، لم يُقبَلْ حَتَّى يُخبِرَ بماذا نُسِختْ، أَوْمَأَ إليه الإمامُ أحمدُ، وقَدَّمَه صاحبُ «الأصلِ» ؛ لأنَّه قد يَكُونُ عنِ اجتهادٍ، فلا يُقبَلُ، وعنه:«بلى» ، كقولِه:«نَزَلَتْ هذه بعدَ هذه» .

(وَلَا نَسْخَ) أي: لا يُثْبُتُ النَّسخُ:

(1)

(بِقَبْلِيَّةٍ فِي المُصْحَفِ)؛ لأنَّ العِبْرةَ بالنُّزولِ لا بالتَّرتيبِ في الوضعِ؛ لأنَّ النُّزولَ بحَسَبِ الحُكمِ، والتَّرتيبُ للتِّلاوةِ.

(2)

(وَلَا) يَثْبُتُ أيضًا (بِصِغَرِ صَحَابِيٍّ) على الأرجحِ؛ لأنَّ صِغَرَه لا يُؤَثِّرُ في ذلك، (أَوْ) أي: ولا بـ (تَأَخُّرِ إِسْلَامِهِ)؛ لأنَّ تأخُّرَ راوي أحدِ الدَّليلَينِ لا يَدُلُّ على أنَّ ما رَوَاه ناسخٌ للآخَرِ؛ لجوازِ تَحمُّلِه قبلَ الإسلامِ،

(3)

(وَلَا بِمُوَافَقَةِ أَصْلٍ) بأنْ يَرِدَ نَصَّانِ في حُكمٍ مُتَضادَّانِ ولم يُمكِنِ الجمعُ بينَهما، لكنَّ أحدَهما موافقٌ للبَراءةِ الأصليَّةِ، والآخَرَ مُخالِفٌ، فلا يَثبُتُ النَّسخُ بموافقةِ الأصلِ.

(4)

(وَلَا) يَثْبُتُ أيضًا (بِعَقْلٍ، و) لا بـ (قِيَاسٍ)؛ لأنَّه لا يَكُونُ ناسخًا إلَّا بتأخُّرِه عن زمانِ المنسوخِ، ولا مَدخَلَ للعقلِ [ولا للقياسِ]

(1)

في معرفةِ المُتقدِّمِ مِن المُتأخِّرِ، بل إِنَّمَا يُعرَفُ بالنَّقلِ المُجرَّدِ لا غيرُ.

(وَلَا يُنْسَخُ) بالبناءِ للمفعولِ (إِجْمَاعٌ) عندَ الأكثرِ؛ لأنَّه إنْ نُسِخَ بنصٍّ أو إجماعٍ قاطعينِ؛ فالأوَّلُ خطأٌ، وهو باطلٌ، وإلَّا فالقاطعُ مُقَدَّمٌ.

(1)

ليس في «ع» .

ص: 619

(وَلَا يُنْسَخُ) حُكمٌ (بِهِ) أي: بالإجماعِ عندَ الأكثرِ؛ لأنَّ الإجماعَ إنْ كانَ عن نصٍّ فهو النَّاسخُ، وإنْ كانَ عن قياسٍ، فالمنسوخُ إنْ كانَ قطعيًّا فالإجماعُ خطأٌ لانعقادِه بخلافِه، وإنْ كانَ ظَنِّيًّا زالَ شرطُ العملِ به، وهو رُجحانُه على معارضِه الَّذِي هو سندُ الإجماعِ، وإلَّا يَكُونُ الإجماعُ خطأً ومَعَ زوالِه فلا ثبوتَ له، فلا نسخَ.

(وَكَذَا) أي: كالإجماعِ عندَ الجمهورِ (القِيَاسُ) في كَوْنِه لا يَنسَخُ ولا يُنسَخُ به، أمَّا كَوْنُه لا يُنسَخُ به؛ لأنَّ القياسَ يُستعَمُل معَ عدمِ النَّصِّ فلا يَنسَخُ النَّصَّ، ولأنَّه دليلٌ يَحتمِلُ، والنَّسخُ إِنَّمَا يَكُونُ بغيرِ مُحتمِلٍ، وأيضًا فشرطُ صِحَّةِ القياسِ ألَّا يُخالِفَ الأصولَ، فإذا خالَفَ فَسَدَ، وأمَّا كَوْنُه لا يَنسَخُ لبقائِه ببقاءِ أصلِه.

وقالَ ابنُ البَاقِلَّانِيِّ: لا يَنسَخُ قياسًا آخَرَ؛ لأنَّ التَّعَارُضَ إنْ كانَ بينَ أصلَيِ القياسينِ فهو نسخُ نصٍّ بنصٍّ، وإنْ كانَ بينَ العِلَّتَينِ فهو مِن بابِ المُعارضةِ في الأصلِ والفرعِ لا مِن بابِ القياسِ

(1)

.

وجَوَّزَ قومٌ نَسخَ القياسِ الموجودِ زَمَنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بنَصِّه على العِلَّة أو تنبيهِه عليها، فيَجُوزُ نَسخُه بنصِّه أيضًا.

مثالُه: أنْ يَنُصَّ على تحريمِ الرِّبا في البُرِّ، ويَنُصَّ على أنَّ عِلَّةَ تحريمِه الكيلُ، ثمَّ يَنُصَّ بعدَ ذلك على

(2)

إباحتِه في الأَرُزِّ ويُمنَعَ مِن قياسِه على البُرِّ فيَكُونَ ذلك نسخًا.

(1)

ينظر: «الفوائد السنية في شرح الألفية» (4/ 356).

(2)

ليس في «د» .

ص: 620

وأمَّا قياسٌ مستفادٌ بعدَ وفاتِه عليه الصلاة والسلام فلا يَصِحُّ نَسخُه؛ لأنَّه لا يَصِحُّ أن يَتَجَدَّدَ بعدَ وفاتِه نصٌّ مِن كتابٍ أو سُنَّةٍ.

(وَإِنْ نُسِخَ حُكْمُ أَصْلِ) القياسِ: (تَبِعَهُ حُكْمُ فَرْعِهِ) وهو القياسُ لخروجِ العِلَّةِ عنِ اعتبارِها فلا فرعَ، وإلَّا وُجِدَ المعلولُ بلا عِلَّةٍ، وخالَفَ في ذلك القاضي والحنفيَّةُ، قال القاضي في إثباتِ القياسِ عقلًا: لا يَمتنِعُ عندَنا بقاءُ حُكمِ الفرعِ معَ نسخِ حُكمِ الأصلِ

(1)

.

ومَثَّلَه أصحابُنا، وذَكَرَه ابنُ عَقِيلٍ

(2)

عنِ المُخالِفِ ببقاءِ حُكمِ النَّبيذِ المطبوخِ في الوضوءِ بعدَ نسخِ النِّيءِ، وبصومِ رمضانَ بنِيَّةٍ مِن النَّهارِ بعدَ نسخِ عاشوراءَ عندَهم.

وقالَ الشَّيخُ: المنسوخُ عندَهم تجويزُ شُربِه فتَتْبَعُه الطُّهُوريَّةُ، فإنَّها نفسُ المسألةِ

(3)

.

وقالَ: جازَ الوضوءُ بهما ثمَّ حَرُمَ الأصلُ، فالمعنى النَّاسخُ اختصَّ به

(4)

.

(وَيَجُوزُ النَّسْخُ بِالفَحْوَى) قد سَبَقَ في بابِ المفهومِ أنَّ مفهومَ الموافقةِ، وهو ما يَكُونُ المسكوتُ عنه مُوافقًا للمنطوقِ في الحُكْمِ، وفي طريقِ دَلالةِ الفَحوى أقوالٌ:

أحدُها: بطريقِ المفهومِ، وهو المرادُ هنا في نَسخِه والنَّسخُ به لا على أنَّه بالقياسِ؛ لأنَّ ذلك داخلٌ في قاعدةِ النَّسخِ للقياسِ، ولا على أنَّ اللَّفظَ الدَّالَّ

ص: 621

على الأخصِّ نُقِلَ عرفًا إلى الأعمِّ، فنُقِلَ {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ}

(1)

إلى معنى: «ولا تُؤْذِيهما» ، ولا على أنَّه أُطلِقَ على الأعمِّ إطلاقًا مجازيًّا مِن إطلاقِ الأخصِّ على الأعمِّ.

إذا عُلِمَ ذلك، فالنَّسخُ إمَّا أن يَتَوَجَّهَ على الفَحوى أو على أصلِه، وكلٌّ مِنهما إمَّا معَ التَّعرُّضِ لبقاءِ الآخَرِ أو معَ عدمِ التَّعرُّضِ لذلك، وإمَّا أن يُنسَخَا معًا، وإمَّا أن يَكُونَ النَّسخُ بالفَحوى، فهذه ستُّ مسائلَ، فكلامُه هنا هو في نسخِ الفَحوى من غيرِ تَعرُّضٍ لبقاءِ الأصلِ أو رفعِه والنَّسخِ به، فقالَ ابنُ مُفلحٍ: الفَحوى يُنسَخُ ويُنسَخُ به؛ لأنَّه كالنَّصِّ، وإنْ قيلَ: قياسٌ، فقطعيٌّ

(2)

.

ويَجُوزُ (نَسْخُ أَصْلِ الفَحْوَى) عندَ الأكثرِ كالتَّأْفِيفِ (دُونَهُ) أي: دونَ الفَحوى، وهو بقيَّةُ أنواعِ الأذى، كما لو قال: رَفَعْتُ عنك تحريمَ التَّأفيفِ دون بقيَّةِ أنواعِ الإيذاءِ؛ لأنَّه لا يَلْزَمُ مِن إباحةِ الخفيفِ إباحةُ الشَّديدِ.

(وَ) يَجُوزُ (عَكْسُهُ) وهو نسخُ الفَحوى، وهو مثلًا الضَّربُ دونَ أصلِه، وهو التَّأفيفُ، كما لو قال: رَفَعْتُ عنك كلَّ إيذاءٍ غيرَ التَّأفيفِ، فيَجُوزُ في ظاهرِ كلامِ أصحابِنا وغيرِهم؛ لأنَّ الفَحوى وأصلَه مَدلولانِ مُتغايِرانِ؛ فجازَ نَسخُ كلٍّ مِنهما.

(وَ) يَجُوزُ نسخُ (حُكْمِ مَفْهُومِ المُخَالَفَةِ إِنْ ثَبَتَ) حُكْمُهُ وإلَّا فلا، فيَجُوزُ نَسخُ حُكمِ المسكوتِ الَّذِي هو مخالفٌ للمنطوقِ معَ نَسخِ الأصلِ ودُونَه؛ لأنَّه لا يَنقُصُ الغرضُ به، وقد قالَ

(3)

الصَّحابة رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عنهم: إنَّ

(1)

الإسراء: 23.

(2)

«أصول الفقه» (3/ 1167).

(3)

في «د» : قالت.

ص: 622

قولَه صلى الله عليه وسلم: «المَاءُ مِنَ المَاءِ»

(1)

منسوخٌ بقولِه صلى الله عليه وسلم: «إِذَا التَقَى الخِتَانَانِ فَقَدْ وَجَبَ الغُسْلُ»

(2)

، معَ أنَّ الأصلَ باقٍ، وهو وجوبُ الغسلِ بالإنزالِ.

(وَيَبْطُلُ) حُكْمُ المفهومِ (بِنَسْخِ أَصْلِهِ) الَّذِي هو المنطوقُ على الصَّحيحِ؛ لأنَّ فرعَه وعدمَه كالخِطابَينِ

(3)

.

(وَلَا يُنْسَخُ بِهِ) أي: بمفهومِ المُخالفةِ على الصَّحيحِ؛ لضَعفِه عن مقاومةِ النَّصِّ.

(وَلَا حُكْمَ لِلنَّاسِخِ معَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ) الصَّلَاةُ و (السَّلَامُ) يَعني: أنَّ الحُكمَ قبلَ نزولِ النَّسخِ وقبلَ تبليغِه للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لا يَثبُتُ له حُكمُه في الجملةِ، وتحتَه ثلاثُ صورٍ:

إحداها: أنْ يَبْلُغَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم في السَّماءِ قبلَ نزولِ الأرضِ، وقد تَقَدَّمَ حُكمُ ذلك.

الثَّانيةُ: أنْ يُوحِيَه اللهُ تَعَالَى إلى جبْريلَ ولم يَنزِلْ به إلى الأرضِ بعدُ.

الثَّالثةُ: أنْ يَكُونَ ذلك بعدَ النُّزولِ مِن السَّماءِ وقبلَ أنْ يُبَلِّغَه جبريلُ إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

(1)

رواه مسلم (343) من حديث أبي سعيد الخُدري رضي الله عنه.

(2)

رواه الترمذي (108، 109)، والنسائي في «الكبرى» (194)، وابن ماجه (608) من حديث عائشة رضي الله عنها.

قال الترمذي: حسن صحيح.

(3)

في «ع» : الخطابين.

ص: 623

وهاتانِ الصُّورتانِ لا يَتَعَلَّقُ

(1)

بهما حُكمٌ (اتِّفَاقًا، فَإِذَا بَلَّغَهُ) جبريلُ للنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (لَمْ يَثْبُتْ حُكْمُهُ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ) عندَ الأكثرِ؛ لأنَّه لو ثَبَتَ لَزِمَ وجوبُ الشَّيءِ وتحريمُه في وقتٍ واحدٍ؛ لأنَّه لو نُسِخَ واجبٌ بمُحَرَّمٍ أَثِمَ بتَركِ الواجبِ اتِّفاقًا، وأيضًا يَأثَمُ بعِلمِه بالمُحرَّمِ اتِّفاقًا.

(وَلَيْسَتْ زِيَادَةُ جُزْءٍ مُشْتَرَطٍ) في الماهيَّةِ نَسخًا عندَ أصحابِنا وغيرِهم، كزيادةِ ركعةٍ على ركعتي الفجرِ؛ لعدمِ رفعِ حُكمٍ شرعيٍّ، بل ضُمَّ إليه حُكمٌ، وعندَ الآمِدِيِّ

(2)

نُسِخَ لرفعِ وجوبِ التَّشهُّدِ عَقِبَ الرَّكعتَينِ، رُدَّ: التَّشهُّدُ آخِرَ الصَّلَاةِ للخروجِ منها فلا نَسخَ، ثمَّ يَلْزَمُ زيادةُ التَّغريبِ على الحدِّ.

(أَوْ) أي: وليسَتْ زيادةُ (شَرْطٍ) في الماهيَّةِ نسخًا عندَ الأكثرِ، كاشتِراطِ الوضوءِ للصَّلاةِ والطَّوافِ والنِّيَّةِ فيه؛ لأنَّه لم يَرفَعْ شيئًا.

(أَوْ) أي: وليسَتْ (زِيَادَةٌ تَرْفَعُ مَفْهُومَ المُخَالَفَةِ) نَسخًا عندَ الجمهورِ، وقِيلَ: إنْ كانَتِ الزِّيادةُ قد أفادَتْ خلافَ ما استندَ مِن مفهومِ المُخالفةِ كانَت نَسخًا؛ كإيجابِ الزَّكاةِ في معلوفةِ الغنمِ، فإِنَّه يُفيدُ خلافَ مفهومِ:«فِي السَّائِمَةِ الزَّكَاةُ» ، وإلَّا فلا.

(أَوْ) أي: وليسَتْ (زِيَادَةُ عِبَادَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ) نسخًا، فإنْ كانَتِ الزِّيادةُ (مِنَ الجِنْسِ) أي: جنسِ ما سَبَقَ كزيادةِ صلاةٍ على الخمسِ؛ فالجمهورُ أنَّها ليسَتْ بنسخٍ، وقِيلَ: تَكُونُ نسخًا بزيادةِ صلاةٍ سادسةٍ لتغيُّرِ الوسطِ مِن الخمسِ.

(1)

في «ع» : تعلق.

(2)

«الإحكام» (3/ 172).

ص: 624

(أَوْ) كانَتِ الزِّيادةُ مِن (غَيْرِهِ) أي: من

(1)

غيرِ الجنسِ المزيدِ، فإنَّها لا تَكُونُ (نَسْخًا) إجماعًا كزيادةِ وجوبِ الزَّكاةِ على وجوبِ الصَّلَاةِ، وكذا الصَّومُ والحجُّ وغيرُها، وأمَّا زيادةُ العبادةِ غيرِ المستقلَّةِ كزيادةِ الجزءِ المُشتَرطِ والشَّرطِ فقد تَقَدَّمَ آنفًا.

(وَنَسْخُ جُزْءِ) عبادةٍ (أَوْ) نسخُ (شَرْطِ عِبَادَةٍ) نَسخٌ (لَهُ) أي: لذلك الجزءِ أو الشَّرطِ (فَقَطْ) أي: دونَ نسخِ جميعِ تلك العبادةِ على الصَّحيحِ، وقِيلَ: نسخٌ للكُلِّ.

وقالَ المجدُ: مَحَلُّ الخلافِ في شرطٍ مُتَّصِلٍ كالتَّوجُّهِ، ومُنفصلٍ كوضوءٍ، لَيْسَ نسخًا لها إجماعًا

(2)

.

واستُدلَّ للمذهبِ الأوَّلِ بأنَّ وجوبَ العبادةِ باقٍ، ولا يَفتقرُ إلى دليلٍ ثانٍ إجماعًا، ولم يَتَجَدَّدْ وجوبٌ.

(1)

ليس في «د» .

(2)

«المسودة في أصول الفقه» (ص 213).

ص: 625

(فَصْلٌ)

(يَسْتَحِيلُ تَحْرِيمُ مَعْرِفَةِ اللهِ) تَبَارَكَ و (تَعَالَى) إلَّا على القولِ بتكليفِ المُحالِ، وذلك لتَوَقُّفِه على معرفتِه، وهو دَوْرٌ، وقد تَقَدَّمَ مِن شرطِ المنسوخِ أنْ يَكُونَ ممَّا يَجُوزُ أن يَكُونَ مشروعًا، وألَّا يَكُونَ اعتقادًا، فلا يَدخُلُ النَّسخُ التَّوحيدَ بحالٍ؛ لأنَّ الله تَعَالَى بأسمائِه وصفاتِه لم يَزَلْ ولا يَزالُ، وكذلك ما عُلِمَ أنَّه مُتَأَبِّدٌ، ونحوُ ذلك تَقَدَّمَ.

(وَ) أمَّا (مَا حَسُنَ) لذاتِه ك‌

‌معرفةِ اللهِ تَعَالَى

(أَوْ قَبُحَ لِذَاتِهِ) كالظُّلْمِ والقَبائحِ العَقليَّةِ، فـ (يَجُوزُ نَسْخُ وُجُوبِهِ) أي: وجوبِ ما حَسُنَ لذاتِه (وَ) نَسْخُ (تَحْرِيمِهِ) أي: تحريمِ ما قَبُحَ لذاتِه عندَ مَن نَفَى الحُسنَ والقُبحَ ورعايةَ الحِكمةِ في أفعالِه؛ لقولِه تَعالى: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ}

(1)

، وقولِه تَعالى:{وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ}

(2)

، ومَن أَثْبَتَ الحُسنَ والقُبحَ ورعايةَ الحِكمةِ في أفعالِه مَنَعَ النَّسخَ.

(وَكَذَا يَجُوزُ نَسْخُ جَمِيعِ التَّكَالِيفِ) لأنَّها أحكامٌ، فإذا جازَ نسخُ بعضِها جازَ نَسخُ جميعِها، (سِوَى مَعْرِفَتِهِ

(3)

تَعَالَى) فيَستحيلُ نَسخُها كما تَقَدَّمَ. وقِيلَ للقاضي: لو جازَ النَّسخُ لجازَ في اعتقادِ التَّوحيدِ، فقالَ: اعتقادُ التَّوحيدِ مصلحةٌ لجميعِ المُكَلَّفينَ في جميعِ الأوقاتِ، ولهذا لا يَجُوزُ الجمعُ بينَ إيجابِه والنَّهيِ عن مِثلِه في المستقبلِ بخلافِ الفعلِ الشَّرعيِّ

(4)

.

(وَلَمْ يَقَعَا) أي: لم يَقَعْ نسخُ وجوبِ ما حَسُنَ لذاتِه أو تحريمِ ما قَبُحَ لذاتِه، ولا نَسخُ جميعِ التَّكاليفِ (إِجْمَاعًا) وإنَّما الخلافُ في الجوازِ العقليِّ، واتَّفَقُوا على عدمِ الوقوعِ.

(1)

الرعد: 39.

(2)

إبراهيم: 27.

(3)

في «مختصر التحرير» (ص 194): معرفة الله.

(4)

«العدة في أصول الفقه» (3/ 776).

ص: 626

(بَابٌ)

لمَّا فَرَغَ منَ المباحثِ المُتعلِّقةِ بالكتابِ والسُّنَّةِ والإجماعِ، شَرَعَ في القياسِ ومباحثِه، وهو ميزانُ العُقولِ، قال اللهُ تَعالى:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}

(1)

.

و (القِيَاسُ لُغَةً: التَّقْدِيرُ وَالمُسَاوَاةُ) يُقالُ: قاسَ الفعلَ بالفعلِ؛ أي: حَاذَاه وسَاوَاه، وتَقُولُ: قِسْتُ الثَّوبَ بالذِّراعِ؛ أي: قَدَّرْتُه به، وقِسْتُ الجراحةَ بالمِسْبَارِ، وهو شيءٌ يُشبِهُ الميلَ يُعرَفُ به عمقُ الجرحِ، وتَقولُ: قِسْتُ الشَّيءَ بغيرِه وعلى غيرِه.

(وَ) أمَّا القِيَاسُ (شَرْعًا) فهو: (تَسْوِيَةُ فَرْعٍ بِأَصْلٍ فِي حُكْمٍ) أي: يَدُلُّ على تسويةٍ خاصَّةٍ بينَ الأصلِ والفرعِ فَهُوَ (مِنْ بَابِ تَخْصِيصِ الشَّيْءِ بِبَعْضِ مُسَمَّيَاتِهِ) كتخصيصِ لفظِ الدَّابَّةِ ببعضِ مُسَمَّياتِها

(2)

فهو حقيقةٌ عُرفيَّةٌ مجازٌ لغويٌّ.

(وَ) القِيَاسُ (اصْطِلَاحًا) أي: في اصطلاحِ علماءِ الشَّريعةِ اختلفَ العلماءُ في تعريفِه اختلافًا كثيرًا جدًّا، وقلَّ أنْ يَسلَمَ منها تعريفٌ، وحاصِلُه

(3)

يَرجِعُ إلى اعتبارِ الفرعِ بالأصلِ في حُكْمِه، فقالَ القاضي

(4)

وغيرُه: هو (رَدُّ فَرْعٍ إِلَى أَصْلِـ) ـه (بِعِلَّةٍ جَامِعَةٍ) كردِّ النَّبيذِ إلى الخمرِ في التَّحريمِ بعِلَّةِ الإسكارِ، ونَعني بالرَّدِّ: الإلحاقَ والتَّسويَةَ بينَهما في الحُكمِ، وقريبٌ منه ما قال

(1)

الحديد: 25.

(2)

ليس في «د» .

(3)

في «د» : وحاصلها.

(4)

«العدة في أصول الفقه» (1/ 174).

ص: 627

المُوَفَّقُ

(1)

وغيرُه: «حَمْلُ فرعٍ على أصلٍ في حُكمٍ جامعٍ» ، فالجامعُ بينَهما هو عِلَّةُ حُكمِ الأصلِ، وهو التَّحريمُ بجامعٍ وهو الوصفُ المناسِبُ؛ لأنَّه يَتَرَتَّبُ عليه الحُكمُ في نظرِ الشَّارِعِ، وهو هنا الإسكارُ الَّذِي هو عِلَّةُ تحريمِ الخمرِ.

فائدةٌ: لا يُقالُ: الأصلُ والفرعُ لا يُعرَفانِ إلَّا بعدَ معرفةِ حقيقةِ القِيَاسِ وأَخذُهما في تعريفِه دَوْرٌ؛ لأنَّا نَقُولُ: إِنَّمَا نَعني بالفرعِ صورةً أُريدَ إلحاقُها بالأُخرى في الحُكمِ لوجودِ العِلَّةِ المُوجِبةِ للحُكْمِ فيهما، وبالأصلِ الصُّورةَ الملحقَ بها، فلا يَلْزَمُ دَوْرٌ مِن كونِ لفظِ الفرعِ والأصلِ يُشعِرُ ألَّا يَكُونَ هذا فرعٌ، وذلك أصلٌ إلَّا أنْ يَكُونَ هذا مَقِيسًا على ذلك.

(وَلَمْ يُرَدْ) بالبناءِ للمفعولِ (بِالحَدِّ) المذكورِ (قِيَاسُ الدَّلَالَةِ، وَ) قياسُ الدَّلالةِ (هُوَ الجَمْعُ بَيْنَ أَصْلٍ وَفَرْعٍ بِدَلِيلِ العِلَّةِ) كالجمعِ بينَ الخمرِ والنَّبيذِ بالرَّائحةِ الدَّالَّةِ على الشِّدَّةِ المُطرِبةِ.

(وَلَا) أي: ولم يُرَدْ بالحدِّ أيضًا (قِيَاسُ العَكْسِ) على الأصحِّ، (وَ) قياسُ العكسِ (هُوَ: تَحْصِيلُ نَقِيضِ حُكْمِ المَعْلُومِ فِي غَيْرِهِ) أي: غيرِ ذلك الحُكمِ (لِافْتِرَاقِهِمَا) أي: افتِراقِ قياسِ الطَّردِ وقياسِ العكسِ (في عِلَّةِ الحُكْمِ) مثلُ: لَمَّا وَجَبَ الصَّومُ في الاعتكافِ بالنَّذرِ وَجَبَ بغيرِ نذرٍ، عَكْسُه الصَّلَاةُ: لمَّا لم تَجِبْ فيه بالنَّذرِ لم تَجِبْ بغيرِ نذرٍ، وقِيلَ: قياسُ العكسِ داخلٌ في حدِّ القِيَاسِ؛ لأنَّ القصدَ مساواةُ الاعتكافِ بغيرِ نذرِ الصَّومِ في اشتِراطِ الصَّومِ له بنذرِ الصَّومِ بمَعنًى لا فارقَ بينَهما، أو بالسَّببِ، فيُقالُ: الموجِبُ للصَّومِ الاعتكافُ لا نذرُه، بدليلِ الصَّلَاةِ، فالصَّلَاةُ ذُكِرَتْ لبيانِ إلغاءِ النَّذرِ، فالأصلُ

(1)

«روضة الناظر» (2/ 141).

ص: 628

اعتكافٌ بنذرِ صومٍ والفرعُ بغيرِ نذرِه، والحكمُ اشتِراطُه، والعِلَّةُ الاعتكافُ، أو أنَّ القصدَ قياسُ الصَّومِ بنذرٍ على الصَّلَاةِ بنذرٍ، فيُقالُ بتقديرِ عدمِ وجوبِ الصَّومِ في الاعتكافِ لا يَجِبُ فيه بنذرٍ كصلاةٍ، والعِلَّةُ: أنَّهما عبادتانِ، فعلى هذا يَصِحُّ الاستدلالُ به، ويَدُلُّ عليه أنَّه واقعٌ في القُرآنِ والسُّنَّةِ:

فأمَّا القرآنُ فنحوُ قولِه تَعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا}

(1)

، ولا اختلافَ فيه، فدَلَّ على أنَّ القُرآنَ مِن عندِ اللهِ بمُقتضى قياسِ العكسِ،

وأمَّا السُّنَّةُ فكحديثِ: يَأْتي أحدُنا شَهوَتَه ويُؤجَرُ؟ قال: «أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ؟» يعني: أكانَ يُعاقَبُ؟ قالُوا: نعمْ، قال:«فَمَهْ؟»

(2)

.

فقاسَ «وَضعَها في حلالٍ، فيُؤجَرُ» على «وَضعِها في حرامٍ، فيُؤزَرُ» بنقيضِ العِلَّةِ، فظَهَرَ بذلك أنَّ قياسَ العكسِ حُجَّةٌ، لكنَّه يُسَمَّى قياسًا مجازًا على الأرجحِ.

(وَأَرْكَانُهُ) أي:‌

‌ أركانُ القِيَاسِ أربعةٌ

وهي:

(أَصْلٌ، وَفَرْعٌ، وَعِلَّةٌ) جامعةٌ (وَحُكْمٌ) وأركانُ الشَّيءِ: هو ما يَتَأَلَّفُ ذلك الشَّيءُ منه، فإطلاقُ الأركانِ على هذه الأمورِ مجازٌ، إلَّا أنْ يَعنيَ بالقِيَاس مجموعَ هذه الأمورِ معَ الحملِ تغليبًا، فيَصِيرُ كلٌّ مِن الأربعةِ شطرًا لا شَرطًا.

ص: 629

ونظيرُه في الفقهِ: إطلاقُ أنَّ البيعَ أركانُه ثلاثةٌ: عاقدٌ، ومعقودٌ، وصيغةٌ، والمرادُ ما لا بُدَّ منه، فإذا قِسْنا النَّبيذَ على الخمرِ بعِلَّةِ الإسكارِ.

(فَالأَصْلُ) الخمرُ، وهو (مَحَلُّ الحُكْمِ المُشَبَّهِ بِهِ) على الأرجحِ؛ لافتقارِ الحُكمِ والنَّصِّ إليه.

(وَالفَرْعُ) النَّبيذُ وهو (المَحَلُّ المُشَبَّهُ) على الأرجحِ.

(وَالعِلَّةُ) وهي الجامعُ (فَرْعٌ لِلْأَصْلِ) لأخذِه منه (وَ) هي (أَصْلٌ لِلْفَرْعِ) اتِّفاقًا لبناءِ حُكمِه عليه.

(وَالحُكْمُ) المُستفادُ مِن القِيَاسِ هو (المُعَلَّلُ) أي: المعلولُ؛ لأنَّ المعلولَ هو المحكومُ فيه، ويُقالُ: بم تُعَلِّلُ الحكمَ، واعتلَّ فلانٌ لحُكمِه بكذا، وعِلَّةُ المريضِ تَقومُ به وتُؤَثِّرُ فيه، فلهذا كانَ الجسمُ معلولًا، فهذه أركانُ القِيَاسِ.

(وَ) أمَّا شروطُه فـ (شَرْطُ حُكْمِ الأَصْلِ:

(1)

كَوْنُهُ شَرْعِيًّا) أي: تفريعًا على أنَّ القِيَاسَ لا يَجري في اللُّغاتِ والعَقليَّاتِ (إِنِ اسْتَلْحَقَ شَرْعِيًّا)؛ وذلك لأنَّه القصدُ مِن القِيَاسِ الشَّرعيِّ، معَ أنَّ القِيَاسَ في اللُّغويِّ والعقليِّ صحيحٌ يُتَوَصَّلُ به إلى الحُكمِ الشَّرعيِّ، كقياسِ تسميةِ اللَّائط زانيًا والنَّبَّاشِ سَارقًا ليَثْبُتَ الحدُّ والقطعُ.

فإذا قِيلَ بأنَّ ذلك إِنَّمَا هو في استلحاقِ نَفسِ الحُكمِ الشَّرعيِّ فلا بُدَّ مِن اشتِراطِ كونِه شرعيًّا.

(2)

(وَ) شَرطُ حُكمِ الأصلِ أيضًا كَوْنُه (غَيْرَ مَنْسُوخٍ) لأنَّه زالَ اعتبارُ الجامعِ.

ص: 630

(3)

(وَ) شرطُه أيضًا أن (لَا) يَكُونَ (شَامِلًا لِحُكْمِ الفَرْعِ) إذْ لو كانَ شاملًا لحُكمِ الفرعِ لم يَكُنْ جَعلُ أحدِهما أصلًا والآخَرِ فرعًا أَوْلَى مِن العكسِ، ولكانَ القِيَاسُ ضائعًا وتطويلًا بلا طائلٍ.

مِثالُه: في الذُّرةِ مطعومٌ، فلا يَجُوزُ بيعُه بجنسِه مُتفاضِلًا قياسًا على البُرِّ، فيَمتنعُ

(1)

في البُرِّ فنَقُولُ: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَبِيعُوا الطَّعَامَ بِالطَّعَامِ، إِلَّا يَدًا بِيَدٍ سَوَاءً بِسَوَاءٍ»

(2)

فإنَّ الطَّعامَ يَتناوَلُ الذُّرةَ كما يَتناوَلُ البُرَّ.

(4)

(وَ) شرطُه أيضًا: أن (لَا) يَكُونَ (مَعْدُولًا بِهِ عَنْ سَنَنِ) أي: عن طريقِ (القِيَاسِ) المُعتبَرِ فيه، وذلك على ضَربينِ:

أحدُهما: (لكونِه) لم يُعقَلْ مَعناه إمَّا لكونِه لم يُستثْنَ مِن قاعدةٍ عامَّةٍ (كَعَدَدِ الرَّكَعَاتِ

(3)

، أو استُثنِيَ كالعملِ بشهادةِ خُزَيْمَةَ

(4)

وَحدَه فيما لا يُقبَلُ شهادةُ الواحدِ فيه.

(1)

ليس في «ع» .

(2)

قال ابن كثير في «تحفة الطالب بمعرفة أحاديث مختصر ابن الحاجب» (ص 445): ليس هو في شيء من الكتب بهذه الصيغة.

وروى مسلم (1592) عَنْ مَعْمَرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، أَنَّهُ أَرْسَلَ غُلَامَهُ بِصَاعِ قَمْحٍ، فَقَالَ: بِعْهُ، ثُمَّ اشْتَرِ بِهِ شَعِيرًا، فَذَهَبَ الغُلَامُ، فَأَخَذَ صَاعًا وَزِيَادَةَ بَعْضِ صَاعٍ، فَلَمَّا جَاءَ مَعْمَرًا أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ، فقَالَ لَهُ مَعْمَرٌ: لِمَ فَعَلْتَ ذَلِكَ؟ انْطَلِقْ فَرُدَّهُ، وَلَا تَأْخُذَنَّ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، فَإِنِّي كُنْتُ أَسْمَعُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ:«الطَّعَامُ بِالطَّعَامِ مِثْلًا بِمِثْلٍ» .

(3)

قوله: كعدد الركعات. في «مختصر التحرير» (ص 196): غير معقول المعنى.

(4)

رواه أبو داود (3607)، والنسائي (4647)، والحاكم (2/ 21) وصحَّحه، من حديث خُزيمة بن ثابت رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ابْتَاعَ فَرَسًا مِنْ أَعْرَابِيٍّ .. الحديث.

ص: 631

والضَّربُ الثَّاني: ما عُقِلَ مَعناه، وأشارَ إليه بقولِه:(أَوْ لَا نَظِيرَ لَهُ) أي: لم يُوجَدْ ما يُساويه في العِلَّةِ، سواءٌ كانَ (لَهُ مَعْنًى ظَاهِرٌ) كرُخَصِ السَّفرِ للمَشَقَّةِ، (أَوْ لَا) مَعنًى له ظاهرٌ، كالدِّيةِ على العاقلةِ، فلا يَجري القِيَاسُ في ذلك؛ لتَعذُّرِ التَّعديةِ حينئذٍ.

(وَمَا خُصَّ مِنَ القِيَاسِ يَجُوزُ القِيَاسُ عَلَيْهِ) كقولِ أحمدَ فيمَن نَذَرَ ذبْحَ نفسِه: يَفدي نفسَه بكبشٍ. فقاسَ مَن نَذَرَ ذبْحَ نَفسِه على مَن نَذَرَ ذبْحَ وَلَدِه.

(وَ) ما خُصَّ مِن القِيَاسِ يَجُوزُ (قِيَاسُهُ عَلَى غَيْرِهِ) كتجويزِ الإمامِ أحمدَ شراءَ أرضِ السَّوادِ لا بيعَها، قال: استحسانٌ. واحتجَّ بتجويزِ

(1)

الصَّحابةِ شراءَ المصاحفِ لا بيعَها، وهو قولُ أصحابِنا وغيرِهم؛ لأنَّ الظَّنَّ الخاصَّ أرجحُ، ولهذا قُدِّمَ لأصلِه.

(5)

(وَ) مِن شرطِ حُكمِ الأصلِ أيضًا (كَوْنُهُ غَيْرَ فَرْعٍ) في ظاهرِ كلامِ الإمامِ أحمدَ، وقد قيلَ له: يَقِيسُ الرَّجُلُ بالرَّأيِ؟ فقالَ: لا، هو أن يَسمَعَ الحديثَ فيَقيسَ عليه، اختارَه القاضي وغيرُه، ثمَّ ذَكَرَ أنَّه يَجُوزُ أن يُستنْبَطَ مِن الفرعِ المُتوسِّطِ عِلَّةٌ ليسَتْ في الأصلِ، ويُقاسُ عليه.

وذَكَرَ أيضًا في مسألةِ القِيَاسِ جوازَ كونِ الشَّيءِ أصلًا لغيرِه في حُكمٍ، وفرعًا لغيرِه في حُكمٍ آخَرَ، لا في حُكمٍ واحدٍ.

قال أبو محمَّدٍ البغداديُّ: لأنَّه لا

(2)

يُخِلُّ بنَظمِ القِيَاسِ وحقيقتِه

(3)

.

(1)

زاد في «ع» : الإمام.

(2)

ليست في (د).

(3)

ينظر: «أصول الفقه» (3/ 1196)، و «شرح الكوكب المنير» (4/ 25).

ص: 632

وأمَّا وجهُ المنعِ فلأنَّ العِلَّةَ إنِ اتَّحَدَتْ فالوَسَطُ لغوٌ، كقولِ شافعيٍّ: السَّفَرْجَلُ مطعومٌ فيَكُونُ رِبَويًّا كالتُّفَّاحِ. ثمَّ يَقِيسُ التُّفَّاحَ على البُرِّ. وإنْ لم تَتَّحِدْ: فَسَدَ القِيَاسُ؛ لأنَّ الجامعَ بينَ الفرعِ الأخيرِ والمتوسِّطِ لم يَثْبُتْ اعتبارُه لثبوتِ الحكمِ في الأصلِ الأوَّلِ

(1)

بدونِه، والجامعُ بينَ المتوسِّطِ وأصلِه لَيْسَ في فرعِه كقولِ شافعيٍّ في الجُذامِ: عيبٌ يُفسَخُ به البيعُ، فكذا النِّكاحُ كالرَّتَقِ. ثمَّ يَقِيسُ الرَّتَقَ على الجَبِّ بفواتِ الاستمتاعِ.

(6)

(وَ) مِن شرطِ حُكمِ الأصلِ أيضًا كَونُه (مُتَّفَقًا عَلَيْهِ بَيْنَ الخَصْمَيْنِ) فإنْ كانَ أحدُهما يَمنَعُ حُكْمَ الأصلِ، فلا يُستَدَلُّ عليه بالقِيَاسِ فيه، وإنَّما شُرِطَ ذلك لئَلَّا يَحتاجُ القِيَاسُ عندَ المنعِ إلى إثباتِه، فيَكُونُ انتقالًا مِن مسألةٍ إلى أُخرى.

و (لَا) يُشتَرطُ اتِّفاقُ (الأُمَّةِ) على حُكمِ الأصلِ بل يَكفي اتِّفاقُ الخصمينِ عليه لحصولِ المقصودِ بذلك على الصَّحيحِ، (وَلَا) يُشتَرطُ (معَ) اتِّفاقِ الخصمينِ (اخْتِلَافُهُمَا) أي: اختلافُ الأُمَّةِ، وقِيلَ: يُشتَرطُ اتِّفاقُ الخصمينِ واختلافُ الأُمَّةِ، حَتَّى لا يَكُونَ مُجمَعًا عليه.

(وَلَوْ لَمْ يَتَّفِقَا) أي: الخصمانِ على حُكمِ الأصلِ، ولم يَكُنْ مُجمَعًا عليه (فَأَثْبَتَ المُسْتَدِلُّ حُكْمَهُ) أي: حُكمَ الأصلِ (بِنَصٍّ، ثُمَّ أَثْبَتَ العِلَّةَ) بأحدِ طُرُقِها الآتيةِ، (قُبِلَ) منه استدلالُه في الأصحِّ، ونَهَضَ دليلُه على الخصمِ على الصَّحيحِ؛ لأنَّه لو لم يُقبَلْ مِن المُستدلِّ لم يُقبَلْ منه مُقدِّمَةٌ يُثبِتُها بعدَ مَنعِ خصمِه، فلا يُقَبَلُ إلَّا البديهيُّ.

(1)

ليست في «د» .

ص: 633

مثالُه: أن يَقُولَ في المُتبايعَينِ إذا كانَتِ السِّلعةُ تالفةً: مُتبايعانِ تَخَالَفَا، فيَتَحَالفانِ ويَتَرَادَّانِ، كما لو كانَتِ السِّلعةُ قائمةً؛ لقولِه صلى الله عليه وسلم:«إِذَا اخْتَلَفَ المُتَبَايِعَانِ فَلْيَتَحَالَفَا وَلْيَتَرَادَّا»

(1)

فيَثْبُتُ الحُكمُ بالنَّصِّ، وعِلَّتُه: التَّحالفُ بالإيماءِ.

(وَإِنْ) كانَ حُكمُ الأصلِ فرعًا، و (لَمْ يَقُلْ بِحُكْمِ أَصْلِهِ) أي: أصلِ ذلك الفرعِ (المُسْتَدِلُّ) وقالَ به المُعتَرضُ، كقولِ حنفيٍّ في صومِ رمضانَ بنيَّةِ نفلٍ: أَتَى بما أُمِرَ به، فصَحَّ كفريضةِ حجٍّ بنيَّةِ نفلٍ. وهو لا يَقُولُ بصِحَّةِ فريضةِ الحجِّ بنيَّةِ النَّفلِ، بل خصمُه هو القائلُ به، (فَـ) هذا قياسٌ (فَاسِدٌ) لفسادِ أصلِه عندَه؛ لأنَّه اعترفَ ضِمنًا بخطئِه في الأصلِ، وهو إثباتُ الصِّحَّةِ في فريضةِ الحجِّ، والاعتِرافُ ببُطلانِ إحدى مُقدِّماتِ دليلِه اعتِرافٌ ببطلانِ دَليلِه، ولا يُسمَعُ مِن المُدعِّي ما هو معتَرفٌ ببطلانِه، ولا يُمَكَّنُ مِن دَعواه.

مثالٌ آخَرُ: أن يَقُولَ حنبليٌّ في قتلِ المُسلِمِ بالذِّمِّيِّ: تَمَكَّنَتِ الشُّبهةُ؛ فلا يُوجِبُ القصاصَ كالمُثقَلِ، فإِنَّه فرعٌ يُخالِفُ المُستدلَّ وهو على مذهبِ المُعتَرضِ، وفرعٌ مِن فروعِه، فلا يُمَكَّنُ المُستدلُّ مِن تقريرِ مذهبِه معَ اعتِرافِه ببطلانِه.

(وَمَا) مبتدأٌ خَبَرُه قولُه: لَيْسَ بحُجَّةٍ (اتَّفَقَا عَلَيْهِ) أي: إذا اتَّفَقَ الخَصمانِ على حُكمِ الأصلِ:

(1)

قال ابن الملقن في «البدر المنير» (6/ 597): وهذه رواية غريبة لم أجدها في شيء من كتب الحديث بعد البحث التام، وأفاد الرافعي في كتابه «التذنيب» أن هذه الرواية لا ذكر لها في كتب الحديث، وإنما توجد في كتب الفقه.

ص: 634

- فإنْ كانَ (لِعِلَّتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ) أو لعِلَّةٍ يَمنَعُ الخصمُ وُجودَها في الأصلِ، سُمِّيَ قياسًا مُرَكَّبًا، (وَيُسَمَّى) الأوَّلُ:(مُرَكَّبَ الأَصْلِ).

مثالُه: قياسُ حُلِيِّ البالغةِ على حُلِيِّ الصَّبِيَّةِ في أنَّه لا زكاةَ فيه، فإنَّ ذلك مُتَّفَقٌ عليه في حُلِيِّ الصِّبيةِ، لكنْ لعِلَّتَينِ مختلفتَينِ، فعندنا لكونِه حُلِيًّا مُباحًا، وعندَ الحنفيَّةِ لكونِه مالَ صَبِيَّةٍ.

- (أَوْ) أي: وإن كان اتفاق الخَصمين على حكم الأصل (لِعِلَّةٍ يَمْنَعُ الخَصْمُ وُجُودَهَا) أي: وجود تلك العِلَّة (فِي الأَصْلِ) سُمِّيَ قياسًا مركبًا أيضًا.

ووجهُ تسميةِ الأوَّلِ مُركَّبَ الأصلِ لاختلافِ الخَصمينِ في تركيبِ الحُكمِ، فالمُستدلُّ يركبُ العِلَّة على الحُكمِ والخَصمُ بخلافه.

(وَيُسَمَّى) الثَّاني: (مُرَكَّبَ الوَصْفِ) لاختلافِ الخصمينِ في نفسِ الوصفِ الجامعِ؛ لأنَّ الخصمَ يُوافِقُ المُستدلَّ على العِلَّةِ [ولكنَّه يَمنَعُ]

(1)

وُجودَها في حُكمِ الأصلِ.

مثالُه: أن يُقالَ في مسألةِ تعليقِ الطَّلاقِ بالنِّكاحِ: تعليقٌ، فلا يَصِحُّ قبلَ النِّكاحِ، كما لو قال:«زينبُ الَّتي أَتَزَوَّجُها طالقٌ» . فيَقولُ الحنفيُّ: العِلَّةُ هي كونُه تعليقًا مفقودةٌ في الأصلِ، فإنَّ قولَه:«زينبُ الَّتي أَتَزَوَّجُها طالقٌ» تَنجيزٌ لا تعليقٌ، فإنْ صَحَّ هذا بَطَلَ قياسُك الَّذِي هو إلحاقُ تعليقِ الطَّلاقِ به؛ لعَدمِ الجامعِ، وإنْ بَطَلَ مَنَعْتَ حُكمَ الأصلِ، وهو عدمُ الوقوعِ في قولِه:«زينبُ الَّتي أَتَزَوَّجُها طالقٌ» ؛ لأنِّي إِنَّمَا مَنَعْتُ الوقوعَ؛ لأنَّه تنجيزٌ، فلو كانَ تعليقًا لقُلْتُ به.

(1)

في «د» : ولكن يمنعه.

ص: 635

وهذا القِيَاسُ المُرَكَّبُ (لَيْسَ بِحُجَّةٍ) عندَ الأكثرِ: أمَّا الأوَّلُ: فلأنَّ الخَصمَ لا يَنفَكُّ عنْ مَنعِ العِلَّةِ في الفرعِ أو منعِ الحُكمِ في الأصلِ، وعلى التَّقديرينِ فلا يَتِمُّ القِيَاس. وأمَّا الثَّاني: فلأنَّه لا يَنفَكُّ عن منعِ الأصلِ، كما لو لم يَكُنِ التَّعليقُ ثابتًا فيه، أو مَنْعِ حُكْمَ الأصلِ، كما إذا كانَ ثابتًا، وعلى التَّقديرينِ لا يَتِمُّ القِيَاسُ.

(وَ) أمَّا (لَوْ سَلَّمَهَا) أي: سَلَّمَ الخصمُ العِلَّةَ للمُستدلِّ (فَأَثْبَتَ المُسْتَدِلُّ وُجُودَهَا) أي: وجودَ العِلَّةِ حيثُ اختلفوا فيه، انتهضَ الدَّليلُ على الخصمِ لقيامِ الدَّليلِ عليه، (أَوْ سَلَّمَهُ الخَصْمُ) أي: سَلَّمَ وجودَ العِلَّةِ للمُستدِلِّ، (انْتَهَضَ الدَّلِيلُ) عليه، فيَصِحُّ القِيَاسُ لاعتِرافِ الخَصمِ بالمُقتضى لصِحَّتِه، كما لو كانَ مجتهدًا أو غَلَبَ على ظنِّه صِحَّةُ القِيَاسِ، فإِنَّه لا يُكابِرُ نَفْسَه فيما أَوْجَبَه عليه.

(وَيُقَاسُ) أي: ويَجُوزُ القِيَاسُ (عَلَى عَامٍّ خُصَّ، كَلَائِطٍ، وَآتٍ بِهِيمَةً، عَلَى زَانٍ) في الأصحِّ.

تنبيهٌ: لَيْسَ مِن شرطِ حُكْمِ الأصلِ أنْ يَكُونَ فيه نصٌّ، ذَكَرَه ابنُ مُفلحٍ

(1)

، وذَكَرَ ابنُ بَرْهَانَ عن بعضِ أصحابِهم: يُشتَرَطُ حَتَّى لو اجتمعَتِ الأُمَّةُ عليه، لم

يَجُزِ القِيَاسُ عليه.

(1)

«أصول الفقه» (3/ 1207).

ص: 636

(فَصْلٌ)

(العِلَّةُ) مِن أركانِ القِيَاسِ كما تَقَدَّمَ، وتَقَدَّمَتْ أحكامُها في خطابِ الوضعِ.

وأمَّا تعريفُها: فهي وصفٌ ظاهرٌ مُنضبِطٌ مُعَرِّفٌ للحُكْمِ، فخَرَجَ بقيدِ الظُّهورِ: الخفيُّ؛ كالبَخرِ في الأسدِ، وبالانضباطِ -والمرادُ به تمييزُ الشَّيءِ عن غيرِه: ما هو منتشرٌ لا ضابطَ له؛ كالمَشَقَّةِ، فلذلك لا يُعَلَّلُ إلَّا بوصفٍ مُنضبِطٍ يَشتمِلُ عليها، وبقولِنا:«مُعرِّفٌ للحُكمِ» ما يُعرِّفُ نقيضَه، وهو المانعُ، أو ما يَتَوَقَّفُ عليه المُعرَّفُ وهو الشَّرطُ، فتقييدُ الوصفِ الظَّاهرِ المُنضبطِ بكونِه مُعَرِّفًا، فقد اختلفَ العلماءُ فيه:

فأصحابُنا والأكثرُ أنَّ العِلَّةَ (مُجَرَّدُ أَمَارَةٍ وَعَلَامَةٍ نَصَبَهَا الشَّارِعُ دَلِيلًا) ليستدلَّ بها المُجتهدُ (عَلَى) وجدانِ (الحُكْمِ) إذا لم يَكُنْ عارفًا به.

لا مُؤَثِّرةٍ؛ لأنَّ الحُكمَ قديمٌ فلا مُؤثِّرَ له، فإنْ أُريدَ تَعَلُّقُ الحُكمِ بالمُكَلَّفِ فهو بإرادةِ اللهِ تَعَالَى لا بتأثيرِ شيءٍ مِن العالَمِ.

ويَجُوزُ أن يَتَخَلَّفَ ذلك الدَّليلُ، كالغيمِ الرَّطبِ أمارةٌ على المَطرِ، وقد يَتَخَلَّفُ، وهذا لا يُخرِجُ الأمارةَ عن كَوْنِها أمارةً.

(زِيدَ) أي: وزادَ ابنُ عَقِيلٍ

(1)

وغيرُه في الحدِّ (معَ أَنَّها) أي: العِلَّةَ (مُوجِبَةٌ لِمَصَالِحَ) و (دَافِعَةٌ لِمَفَاسِدَ) ليسَتْ مِن جنسِ الأمارةِ السَّاذَجةِ.

ص: 637

واختارَ الآمِدِيُّ

(1)

وغيرُه الأوَّلَ؛ لأنَّه لا فائدةَ في الأمارةِ سوى تعريفِ الحُكمِ، وقد عُرِفَ بالخطابِ، ولأنَّها مُعرِّفَةٌ لحُكمِ الأصلِ، فهو فَرعُها وهي مستنبطةٌ منه فهي فرعُه، فيَلْزَمُ الدَّورُ، وفيه نظرٌ؛ لجوازِ كَوْنِ فائدتِها تعريفَ حُكْمِ الفرعِ، وبَنى أصحابُنا على قولِهم:«العِلَّةُ مُجَرَّدُ أمارةٍ وعلامةٍ» صِحَّةَ التَّعليلِ باللَّقبِ، نصَّ عليه أحمدُ

(2)

.

(فَيَصِحُّ تَعْلِيلٌ بِلَقَبٍ) مثالُه: تعليلُ الرِّبَا في النَّقدينِ بكونِهما ذهبًا وفِضَّةً، وتعليلُ ما يُتَيَمَّمُ به بكونِه ترابًا، وما يُتَوَضَّأُ به بكونِه ماءً.

والمرادُ باللَّقبِ: ما لَيْسَ بمُشتَقٍّ، لا الَّذِي هو أحدُ أقسامِ العِلْمِ فقطْ، قاله البِرْمَاوِيُّ

(3)

.

فيَصِحُّ التَّعليلُ به عندَ الأكثرِ (كَـ) ما يَصِحُّ (بِمُشْتَقٍّ) اتِّفاقًا، وذلك كاسمِ الفاعلِ والمفعولِ والصِّفَةِ المُشَبَّهةِ، ونحوِ ذلك، فهو جائزٌ على مَعنى أنَّ المَعنى المُشتقَّ ذلك منه هو عِلَّةُ الحُكْمِ، نحوُ:{اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ}

(4)

، {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}

(5)

، «مَطْلُ الغَنِيِّ ظُلْمٌ»

(6)

، وغيرِ ذلك ممَّا لا يَنحصِرُ.

(1)

«الإحكام» (3/ 202).

(2)

ينظر: «التحبير شرخ التحرير» (7/ 3187)، و «شرح الكوكب المنير» (4/ 42).

(3)

«الفوائد السنية في شرح الألفية» (4/ 451).

(4)

التوبة: 5.

(5)

المائدة: 38.

(6)

رواه البخاري (2287)، ومسلم (1564) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 638

(وَلَا يُشْتَرَطُ) في عِلَّةِ الأصلِ عندَ أكثرِ أصحابِنا: (اشْتِمَالُهَا عَلَى حِكْمَةٍ مَقْصُودَةٍ لِلشَّارِعِ)، ونَعني بالأصلِ:«ما يُعَلَّلُ به الحُكمُ في الأصلِ» ، واشْتَرَطَ الأكثرُ أنْ تَكُونَ مُشتملةً على حِكمةٍ مقصودةٍ للشَّارعِ مِن شرعِ الحُكمِ مِن: تحصيلِ مصلحةٍ، أو تَكميلِها، أو دفعِ مَفسدةٍ، أو تَقليلِها، ومِن أجلِ كَوْنِ العِلَّةِ لا بُدَّ مِن اشتمالِها على حِكمةٍ تَدعو إلى الامتثالِ، كانَ مَانِعُها وصفًا وجوديًّا يُخِلُّ بحِكْمَتِها، ويُسَمَّى «مانِعَ السَّببِ» ، كالدَّينِ إذا قُلْنا أنَّه مانعٌ لوجوبِ الزَّكاةِ، ولأنَّ حِكمةَ السَّببِ وهو مِلكُ النِّصابِ غِنَى مالِكِه، فإذا كانَ مُحتاجًا إليه لوفاءِ الدَّينِ، فلا غِنَى، فاختَلَّتْ

(1)

حِكمةُ السَّببِ بهذا المانعِ، فإنْ لم يُخِلَّ بحِكمَتِها بل بالحُكمِ فقطْ، والحِكمةُ باقيةٌ، سُمِّيَ «مانعَ الحُكمِ» كالأُبوَّةِ

(2)

في القصاصِ، وتَقَدَّمَ ذلك في آخِرِ أقسامِ خِطابِ الوضعِ.

فائدةٌ:‌

‌ الوصفُ المجعولُ عِلَّةً ثلاثةُ أقسامٍ:

فإِنَّه تارةً يَكُونُ رافعًا لا دافعًا، ويَكُونُ دافعًا لا رافعًا، ويَكُونُ رافعًا دافعًا، وإليه أشارَ بقولِه:

(ثُمَّ قَدْ تَكُونُ) العِلَّةُ:

(1)

(رَافِعَةً) ومنه الطَّلاقُ، فإِنَّه يَرفَعُ حِلَّ الاستمتاعِ ولا يَدفَعُه؛ لأنَّ الطَّلاقَ إلى استمرارِه لا يَمنَعُ وقوعَ نكاحٍ جديدٍ بشرطِه.

(2)

(أَوْ دَافِعَةً) ومنه العِدَّةُ، فإنَّها دافعةٌ للنِّكاحِ إذا وُجِدَتْ في ابتدائِه، لا رافعةٌ له إذا طَرَأَتْ في أثناءِ النِّكاحِ، [فإنَّ المَوطوءةَ بشُبهةٍ تَعتَدُّ وهي باقيةٌ على الزَّوجيَّةِ.

(1)

في «د» : فاختلف.

(2)

في «ع» : كأبوة.

ص: 639

(3)

(أَوْ فَاعِلَتَهُمَا) أي: فاعلةً للأمرينِ: الرَّفعِ والدَّفعِ، ومنه الرَّضاعُ، فإِنَّه يَمنَعُ مِن ابتداءِ النِّكاحِ]

(1)

، وإذا طَرَأَ في أثناءِ العِصمةِ رَفَعَها.

وتَكُونُ العِلَّةُ أيضًا (وَصْفًا:

(1)

حَقِيقِيًّا) وهو ما يُعقَلُ باعتبارِ نَفْسِه، ولا يَتَوَقَّفُ على وضعٍ، كقَوْلِنا: مطعومٌ، فيَكُونُ ربويًّا، فالطَّعمُ مُدرَكٌ بالحسِّ، وهو أمرٌ حقيقيٌّ؛ أي: لا تَتَوَقَّفُ مَعقوليَّتُه على معقوليَّةِ غيرِه، ويُعتبَرُ فيه أمرانِ:

أحدُهما: أنْ يَكُونَ (ظَاهِرًا) لا خفيًّا.

الثَّاني: أنْ يَكُونَ (مُنْضَبِطًا) أي: يَتَمَيَّزُ عن غيرِه، ولا خلافَ في التَّعليلِ به.

(2)

(أَوْ) أي: وتَكُونُ العِلَّةُ أيضًا وصفًا (عُرْفِيًّا) وشرطُه أنْ يَكُونَ (مُطَّرِدًا) لا يَختلِفُ بحَسَبِ الأوقاتِ، وإلَّا لجازَ أنْ يَكُونَ ذلك العُرفُ في زمنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم دونَ غيرِه، فلا يُعَلَّلُ به.

مثالُه: الشَّرفُ والخِسَّةُ في الكَفَّارةِ وعَدَمِها، فإنَّ الشَّرَفَ يُناسِبُ التَّعظيمَ والإكرامَ، والخِسَّةَ تُناسبُ ضِدَّ ذلك؛ فيُعلَّلُ به بالشَّرطِ المُتَقَدِّمِ.

(3)

(أَوْ) أي: وتَكُونُ العِلَّةُ أيضًا وصفًا (لُغَوِيًّا) في الأصحِّ.

مثالُه: تعليلُ تحريمِ النَّبيذِ؛ لأنَّه يُسَمَّى خمرًا، فحَرُمَ؛ كعَصيرِ العِنبِ.

تنبيهٌ: ما سَبَقَ هو الوصفُ المشتملُ على الحكمةِ، أمَّا نفسُ الحِكمةِ (فَـ) قال الأكثرُ:(لَا يُعَلَّلُ) الحكمُ الشَّرعيُّ (بِحِكْمَةٍ مُجَرَّدَةٍ عَنْ وَصْفٍ ضَابطٍ

(1)

ليس في «ع» .

ص: 640

لَهَا) لخفائِها، كالرِّضى في البيعِ، ولذلك أُنِيطَتْ صِحَّةُ البيعِ بالصِّيغِ

(1)

الدَّالَّةِ عليه، ولعدمِ انضباطِها كالمَشقَّةِ، ولذلك أُنِيطَتْ بالسَّفرِ، ووجهه ردُّ الشَّارِعِ في ذلك إلى المَضارِّ الظَّاهرةِ دفعًا للعُسرِ واختلافِ الأحكامِ، ولهذا لم يُرَخَّصْ للحَمَّالِ ونحوِه للمَشَقَّةِ؛ ولأنَّه يَكُونُ الوصفُ الظَّاهرُ المُنضبطُ عديمَ التَّأثيرِ استغناءً بأصلِ الحِكمةِ، ولأنَّ فيه حرجًا بالبحثِ عنها، فتَنْتَفِي بقولِه تَعالى:{مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}

(2)

.

(وَيُعَلَّلُ ثُبُوتِيٌّ) أي: يَصِحُّ تعليلُ حُكمٍ ثُبُوتِيٍّ (بِعَدَمٍ) على الصَّحيحِ، واستُدلَّ له بأنَّه كنصِّ الشَّارِعِ عليه، وكالأحكامِ يَكُونُ نفيًا، وكالعلَّةِ اللَّفظيَّةِ معَ أنَّها مُوجبةٌ، وكتعليلِ العَدمِ به، نحوُ:«لم أُسَلِّمْ على فلانٍ لعدمِ رُؤيتِه» ؛ لأنَّ نفيَ الحُكمِ لنفيِ مُقتضيه أكثرُ مِن نفيِه لوجودِ مُنافيِه؛ ولأنَّه يَصِحُّ تعليلُ ضربِه لعبدِه بعدمِ امتثالِه، ولأنَّ العِلَّةَ أمارةٌ، فالعَدميَّةُ تُعرِّفُ الحُكمَ كالوجوديَّةِ.

(1)

في «د» : بالصيغة.

(2)

الحج: 78.

ص: 641

(فَصْلٌ)

في ذِكْرِ شُروطِ العِلَّةِ

(مِنْ شُرُوطِهَا:

(1)

ألَّا تَكُونَ مَحَلَّ الحُكْمِ) كقَوْلِنا: الخمرُ حرامٌ؛ لأنَّه مُسكِرٌ مُعتَصَرٌ مِن العِنبِ، (وَلَا جُزْءَهُ) أي: جزءَ مَحَلِّ الحُكْمِ (الخَاصَّ) كالتَّعليلِ باعتصارِه مِن العِنبِ فقطْ، وهو الصَّحيحُ، واستُدلَّ له بأنَّ العِلَّةَ لو كانَتْ للمَحَلِّ كانَتْ قاصرةً؛ لأنَّه لو تَحَقَّقَ بخصوصِه في الفرعِ: اتَّحَدَ، وكذا جزؤُه.

تنبيهٌ: تقييدُ الجزءِ بالخاصِّ تَحَرُّزٌ مِن المُشتَركِ بينَ المَحَلِّ وغيرِه، فإنَّ ذلك لا يَكُونُ إلَّا في العِلَّةِ المُتعدِّيةِ؛ كتعليلِ إباحةِ البيعِ بكونِه عقدَ مُعاوَضَةٍ، فإنَّ جزءَه المُشتَركَ وهو عقدُه الَّذِي هو شاملٌ للمُعاوَضَةِ وغيرِها لا يُعَلَّلُ به.

(2)

(وَ) منها: أن (لَا) تَكُونَ (قَاصِرَةً)، فإنْ كانَتْ مُتعدِّيَةً: عُمِلَ بها، وإنْ كانَتْ قاصرَةً وثَبَتَتْ عِلَّتُها بنصٍّ أو إجماعٍ: جازَ العملُ بها اتِّفاقًا، وإنْ كانَتْ قَاصِرَةً (مُسْتَنْبَطَةً) فاختلفَ العلماءُ فيها على قولينِ، هما روايتانِ عنِ الإمامِ أحمدَ:

إحداهما: لا يُعَلَّلُ بها، وعليه أكثرُ أصحابِه.

والقولُ الثَّاني: يُعَلَّلُ بها، وعليه الأكثرُ.

قال المَجدُ: ثَبَتَ مذهبًا لأحمدَ حيثُ عَلَّل الرِّبَا في النَّقدينِ بالثَّمَنِيَّةِ

(1)

.

واستدلَّ له بحصولِ الظَّنِّ بأنَّ الحُكمَ لأجلِها ولا مَعنى للصِّحَّةِ سوى ذلك، وكالثَّابتةِ بنصٍّ أو إجماعٍ.

ص: 642

(وَفَائِدَةُ ثُبُوتِ) عِلَّةٍ (قَاصِرَةٍ بِنَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ: مَعْرِفَةُ المُنَاسَبَةِ) خبَرٌ لـ «فائدةُ» ، يَعني أنَّ فائدةَ العِلَّةِ القاصرةِ الثَّابتةِ بنصٍّ أو إجماعٍ معرفةُ مناسبةِ الحُكمِ للحِكمةِ؛ إذْ بالتَّعليلِ تُعرَفُ الحكمةُ، وأنَّ الحُكْمَ على وَفْقِ الحِكمةِ والمصلحةِ، فيَكُونُ أَدعى إلى القبولِ والانقيادِ ممَّا لم تُعلَمْ مُناسَبَتُه.

(وَ) فائدتُها أيضًا (مَنْعُ الإِلْحَاقِ) أي: المنعُ لإلحاقِ فرعٍ بذلك لعدمِ حصولِ الجامعِ الَّذِي هو عِلَّةٌ في الأصلِ، حَتَّى لو وُجِدَ وصفٌ آخَرُ مُتَعَدٍّ لا يُمكِنُ الإلحاقُ حَتَّى يَقُومَ دليلٌ على أنَّه أرجحُ مِن تلك العِلَّةِ القاصرةِ، بخلافِ ما لو لم يَكُنْ سوى العِلَّةِ المُتعدِّيةِ، فإِنَّه لا يَفتقِرُ الإلحاقُ لها إلى دليلٍ على ترجيحٍ.

(وَ) فائدتُها أيضًا: (تَقْوِيَةُ النَّصِّ) فيَزدادُ تقويةً بها، فيَصيرانِ كدَليلَينِ يَتَقَوَّى كلٌّ مِنهما بالآخَرِ، وهو مَخصوصٌ بما يَكُونُ دليلُ الحُكمِ فيه ظَنِّيًّا، أمَّا القَطعيُّ فلا يَحتاجُ لتقويةٍ.

(وَزِيدَ) في فائدتِها على ما تَقَدَّمَ: (وَزِيَادَةُ الأَجْرِ عِنْدَ قَصْدِ الِامْتِثَالِ لِأَجْلِهَا) أي: لأجلِ تلك العِلَّةِ، فيَزدادُ المُكَلَّفُ أَجرًا بانقيادِه للحُكمِ بسببِ تلك العِلَّةِ المقصودةِ للشَّارعِ مِن شَرعِه، فيَكُونُ له أجرانِ: أجرٌ في امتثالِ النَّصِّ، وأجرٌ بامتثالِ المَعنى فيه.

تنبيهٌ: إِنَّمَا ذَكَرْتُ هذه الفوائدَ في العِلَّةِ المذكورةِ؛ لأنَّ المانعَ احتجَّ بأنَّه لا فائدةَ في التَّعليلِ بها؛ لأنَّ الحُكمَ مُقَرَّرٌ بالنَّصِّ، وغيرُ النَّصِّ لا تُوجَدُ فيه تلك العِلَّةُ، فأيُّ فائدةٍ لها؟

فقِيلَ في الجوابِ: إنَّ القاصرةَ المنصوصةَ أو المُجمَعَ عليها مُتَّفَقٌ عليها،

ص: 643

وما قالوه موجودٌ فيها، فلو صَحَّ ما قالُوه لكانَ النَّصُّ عليها عَبَثًا والإجماعُ عليها خطأً، ونفيُ الفائدةِ أو قَصْرُها فيما نَفَوْه ممنوعٌ.

(وَالنَّقْضُ) وجودُ العِلَّةِ بلا حُكْمٍ (وَيُسَمَّى) أي: سَمَّاه الحنفيَّةُ: (تَخْصِيصَ العِلَّةِ)، وقد يُعَدُّ مِن شروطِ العِلَّةِ أنْ تَكُونَ مُطَّرِدةً؛ أي: كُلَّما وُجِدَتْ وُجِدَ الحُكْمُ، و (عَدَمُ اطِّرَادِهَا) ويُسَمَّى نقضًا هو (بِأَنْ تُوجَدَ) العِلَّةُ (بِلَا حُكْمٍ) أي: يُوجَدُ الوصفُ الَّذِي يُدَّعَى أنَّه عِلَّةٌ في مَحَلٍّ مانعٍ عدمَ الحُكمِ فيه، وتَختلفُ عنها، كأنْ يُقالَ في تعليلِ وجوبِ تَبْيِيتِ النِّيَّةِ في الصَّومِ الواجبِ: صومٌ عَرِيَ أوَّلُه عنِ النِّيَّةِ، فلا يَصِحُّ كالصَّلَاةِ، فتُنتَقَضُ العِلَّةُ وهي العُرْيُ في أوَّلِه بصومِ التَّطوُّعِ، فإِنَّه يَصِحُّ مِن غيرِ تبييتٍ، ثمَّ تَخَلَّفَ الحُكمُ عنِ الوصفِ، إمَّا في وصفٍ ثَبَتَتْ عِلِّيَّتُه بنصٍّ قطعيٍّ أو ظَنِّيٍّ أو باستنباطٍ، والتَّخلُّفُ إمَّا لمانعٍ أو فقدِ شرطٍ أو غيرِهما فهي تسعةٌ مِن ضربِ ثلاثةٍ في ثلاثةٍ.

(وَ) قد اختلفَ العلماءُ في بقاءِ العِلَّةِ حُجَّةً بعدَ النَّقضِ على عشرةِ أقوالٍ: أَصَحُّها: أنَّ النَّقضَ (لَا يَقْدَحُ) في العِلَّةِ (مُطْلَقًا) سواءٌ ثَبَتَتْ

(1)

بنصٍّ قطعيٍّ أو ظَنِّيٍّ أو باستنباطٍ، (وَتَكُونُ) العِلَّةُ (حُجَّةً فِي غَيْرِ مَا خُصَّ) كالعامِّ إذا خُصَّ به، واستُدلَّ له بأنَّ النَّقضَ يَلْزَمُ فيه مانعٌ أو عدمُ شرطٍ، وإلَّا فلا علَّةَ، ونقيضُ أحدِهما جزءٌ مِن العِلَّةِ؛ لتوقُّفِ الحُكمِ عليه، والكُلُّ وهو العِلَّةُ يَنتفي بعدمِ جُزئِه

(2)

.

(وَالتَّعْلِيلُ لِجَوَازِ الحُكْمِ: لَا يَنْتَقِضُ بِأَعْيَانِ المَسَائِلِ) كقَوْلِنا في الزَّكاةِ في مالِ الصَّبيِّ بأنَّه حُرٌّ مُسلِمٌ، فجازَ أنْ تَجِبَ الزَّكاةُ في مالِه كالبالغِ، فقالَ

(1)

في «د» : ثبت.

(2)

في «ع» : جزئيه.

ص: 644

المُعتَرضُ: يَنتقضُ إذا كانَ له معلوفةٌ أو عواملُ أو مالُه دونَ نصابٍ، فإنَّ ذلك لَيْسَ بنقضٍ؛ لأنَّ المُعلِّلَ أثبتَ بالجوازِ حالةً واحدةُ، وانتفاءُ الزَّكاةِ في حالةٍ لا يَمنَعُ وُجوبَها في حالةٍ أُخرى.

(وَ) التَّعليلُ (بِنَوْعِهِ) أي: نوعِ الحُكمِ (لَا يَنْتَقِضُ

(1)

بِعَيْنِ مَسْأَلَةٍ) كما قال أصحابُنا في أكلِ لَحمِ الجَزُورِ أنَّه يَنقُضُ الوُضوءَ؛ لأنَّه عبادةٌ [تَفْسُدُ بالحَدَثِ]

(2)

ففَسَدَتْ بالأكلِ كالصَّلَاةِ، فيَقُولُ المُعتَرضُ: فيَنتقِضُ بالطَّوافِ، فإِنَّه يَفسُدُ بالحَدَثِ ولا يَفْسُدُ بالأكلِ. فقالوا: عَلَّلْنا نوعَ هذه

(3)

العبادةِ الَّتي تَفسُدُ بالحدثِ، فلا ينتقضُ بأعيانِ المسائلِ؛ لأنَّ الطَّوافَ بعضُ نَوعِها، فإذا لم يُوجَدِ الحُكمُ فيه وُجِدَ في بقيَّةِ الفرعِ.

(وَالكَسْرُ: وُجُودُ الحِكْمَةِ بِلَا حُكْمٍ) فإذا وُجِدَتْ في مَحَلٍّ بدونِ العِلَّةِ، ولم يُوجِدِ الحُكمُ فيه: سُمِّيَ كسرًا.

مثالُه: أن يَقُولَ الحنفيُّ في المسافِرِ العاصي بسَفَرِه: مسافرٌ، فيَتَرَخَّصُ بسفرِه كغيرِ العاصي، فيُعتَرَضُ بمَن صَنعتُه شاقَّةٌ حَضَرًا لا يَتَرَخَّصُ إجماعًا، وقد سَبَقَ قُبَيْلَ الفصلِ عدمُ التَّعليلِ بالحُكْميَّةِ، فالعِلَّةُ السَّفرُ ولا نقضَ عليه.

(وَالنَّقْضُ المَكْسُورُ) بينَ النَّقضِ والكسرِ، فإذا نقضَ المُعتَرضُ العِلَّةَ بتَركِ بعضِ الصِّفاتِ سُمِّيَ نقضًا مكسورًا، وهو بالحقيقةِ (نَقْضُ بَعْضِ الأَوْصَافِ) كأنَّه قال: الحِكمةُ المُعتبَرَةُ تَحصُلُ باعتبارِ هذا البعضِ، وقد وُجِدَ في المحلِّ ولم يُوجَدِ الحُكمُ فيه فهو نقضٌ لِما ادَّعاه عِلَّةً باعتبارِ الحكمةِ، وذلك كقَوْلِنا في بيعِ الغائبِ: بيعٌ مجهولُ الصِّفَةِ عندَ العاقدِ، فلا

(1)

في «د» : يُنْقَضُ.

(2)

ليس في «د» .

(3)

في «ع» : ذلك.

ص: 645

يَصِحُّ، كقولِه:«بِعتُك عبدًا» ، فيَقولُ المُعتَرضُ: يَنكسِرُ بما لو تَزَوَّجَ امرأةً لم يَرَها، فإِنَّه يَصِحُّ معَ كونِها مجهولةَ الصِّفَةِ عندَ العاقدِ، فهذا كسرٌ؛ لأنَّه نقضٌ مِن جهةِ المعنى؛ إذِ النِّكاحُ في الجهالةِ كالبيعِ، بدليلِ أنَّ الجهلَ بالعَينِ في كلٍّ مِنهما يُوجِبُ الفسادَ، ووصفُ كونِه مَبيعًا مُلْغًى بدليلِ أنَّ الرَّهنَ ونحوَه كذلك، ويَبقى عدمُ الرُّؤيةِ فيَنتقضُ بنكاحِ مَن لم يَرَها.

(وَلَا يُبْطِلَانِهَا) يَعني أنَّ الكسرَ والنَّقضَ المكسورَ لا يُبطِلانِ العِلَّةَ عندَ الأكثرِ؛ لأنَّها مجموعُ الأوصافِ ولم يَنقُضْها المُعتَرضُ، فإنْ بَيَّنَ بأنَّه لا أَثَرَ

(1)

لكونِه مَبيعًا، فإنْ أَصَرَّ المُستدلُّ على التَّعليلِ بالوصفينِ: بَطَلَ ما عَلَّلَ به لعدمِ تأثيرِه لا بالنَّقضِ، وإنِ اقتصرَ على الوصفِ المنقوضِ: بَطَلَ بالنَّقضِ؛ لأنَّه وَرَدَ على كلِّ العِلَّةِ، وإنْ أتَى بوصفٍ لا أثَرَ له في الأصولِ ليَحتَرِزَ به مِن النَّقضِ: لم يَجُزْ.

(وَالعَكْسُ) عندَ الفقهاء والأُصُولِيِّينَ له اعتبارانِ:

أحدُهما: مثلُ قَولِ الحنفيِّ: لَمَّا لم يَجِبِ القصاصُ بصغيرِ المُثقلِ لم يَجِبْ بكبيرِه، بدليلِ عَكسِه في المُحدَّدِ لَمَّا وَجَبَ بكبيرِه وَجَبَ بصغيرِه.

ثانيهما: (وَهُوَ) المقصودُ هنا: (عَدَمُ الحُكْمِ لِعَدَمِ العِلَّةِ) وقد أَثْبَتَه قومٌ ونفاه أصحابُنا والجمهورُ، والحقُّ أنَّ العكسَ (شَرْطٌ) في العِلَّةِ (إِنْ كانَ التَّعْلِيلُ لِجِنْسِ الحُكْمِ) كقَوْلِنا: الرِّدَّةُ عِلَّةٌ لجنسِ إباحةِ الدَّمِ، فلَيْسَ بصحيحٍ لفَواتِ العكسِ، و (لَا) يَكُونُ العكسُ شرطًا في العِلَّةِ (إِنْ كانَ) التَّعليلُ (لِنَوْعِهِ) أي: نوعِ الحُكمِ، كقَوْلِنا: الرِّدَّةُ عِلَّةٌ لإباحةِ الدَّمِ، فهو صحيحٌ، وليسَ يَنعكِسُ.

(1)

في «ع» : أكثر.

ص: 646

(وَيَجُوزُ تَعْلِيلُ حُكْمٍ) واحدٍ (بِعِلَلٍ) مُتَعَدِّدَةٍ (كُلُّ صُورَةٍ بِعِلَّةٍ)، فالمُعَلَّلُ بالعِللِ المُتَعَدِّدَةِ لا يَخلو إمَّا أنْ يَكُونَ واحدًا بالنَّوعِ أو واحدًا بالشَّخصِ، فالواحدُ بالنَّوعِ يَجُوزُ تعدُّدُ عِلَلِه بحَسَبِ تعدُّدِ أشخاصِه بلا خلافٍ؛ كتعليلِ قتلِ زيدٍ برِدَّتِه وقتلِ عمرٍو بالقصاصِ، وقتلِ بَكرٍ بالزِّنا، وأمَّا الواحدُ بالشَّخصِ، فلا خلافَ في امتناعِ تعدُّدِ العِللِ العَقليَّةِ؛ لأنَّه بمَعنى تأثيرِ كلِّ واحدٍ، والمُؤثِّراتُ على أثرٍ واحدٍ مُحالٌ، فالقتلُ في صورةٍ واحدةٍ مُحالٌ تَعَدُّدُه؛ إذْ هو إزهاقُ الرُّوحِ، وكذلك أسبابُ الحَدَثِ إِنَّمَا هي أحداثٌ في مَحَلٍّ، لا حَدَثٌ واحدٌ، وأمَّا العللُ الشَّرعيَّةُ فهي مَحَلُّ الخلافِ.

(وَ) الصَّحيحُ أنَّه يَجُوزُ تعليلُ (صُورَةٍ) واحدةٍ (بِعِلَّتَيْنِ وَبِعَلَلٍ مُسْتَقِلَّةٍ) كتحريمِ وطءِ الحائضِ المُعتدَّةِ المُحرِمةِ، وكالحَدَثِ لخروجٍ مِن فرجٍ، وزوالِ عقلٍ، ومسِّ فرجٍ، ولمسِ أُنثى، فإنَّ كلَّ واحدٍ مِن المُتعدِّدين المَذكورينَ يُثبِتُ الحُكمَ مُستِقلًّا، وإنَّما كانَ كذلك لأنَّ العِلَّةَ الشَّرعيَّةَ بمَعنى المُعرِّفِ

(1)

ولا يَمتنعُ تعدُّدُ المُعرِّفِ؛ لأنَّ مِن شأنِ كلِّ واحدٍ أنْ يُعرِّفَ لا الَّذِي وُجِدَ به التَّعريفُ حَتَّى تَكُونَ الواحدةُ إذا عُرِّفَتْ فلا تُعَرِّفِ الأُخرى؛ لأنَّه تحصيلُ الحاصلِ واستُدِلَّ له بأنَّ وقوعَه دليلُ جوازِه، وقد وَقَعَ فللحَدَثِ عِللٌ مُستقلَّةٌ؛ كالبولِ، والغائطِ، والمَذيِ، وكذا للقتلِ وغيرِه كما تَقَدَّمَ.

(وَ) على هذا فـ (كُلُّ وَاحِدَةٍ) مِن العللِ (عِلَّةٌ) مُستقِلَّةٌ (لَا جُزْءُ عِلَّةٍ) وعليه الأكثرُ؛ لأنَّه ثَبَتَ استقلالُ كلٍّ منهما مُنفردةً، وأيضًا لو لم تَكُنْ كلُّ واحدةٍ عِلَّةً لامتنعَ اجتماعُ الأدلَّةِ؛ لأنَّ العللَ أدلَّةٌ، وقد ثَبَتَ التَّعليلُ بكلِّ واحدةٍ كأدلَّةٍ عقليَّةٍ وسمعيَّةٍ يَثبُتُ المدلولُ بكلٍّ مِنهما.

(1)

في «ع» : العرف.

ص: 647

(وَ) يَجُوزُ تعليلُ (حُكْمَيْنِ) مختلفينِ (بِعِلَّةٍ) واحدةٍ بمَعنى الأمارةِ اتِّفاقًا، ولا يَمتنعُ عقلًا ولا شرعًا نصبُ أمارةٍ واحدةٍ على حُكمينِ مُختلفينِ كغروبِ الشَّمسِ للفطرِ والصَّلَاةِ، وبمَعنى الباعثِ على الأظهرِ؛ لأنَّه لا مانعَ كالإسكارِ للتَّحريمِ والحدِّ، وهذه المسألةُ مُقابِلةٌ للمسألةِ الَّتي قَبْلَها، وهي أنْ تَتَّحِدَ العِلَّةُ ويَتَعَدَّدَ المعلولُ، فيَكُونُ أحكامًا مختلفةً، فيَجُوزُ تعليلُها بعِلَّةٍ واحدةٍ (إِثْبَاتًا وَنَفْيًا)، فمِن الإثباتِ السَّرقةُ فإنَّها عِلَّةٌ في القَطعِ لمُناسبةِ زَجرِ السَّارقِ حَتَّى لا يَعُودَ، وفي غرامةِ المالِ المسروقِ لصاحبِه لمناسبتِه لجبْرِه، ومن العِلَّةِ في المنفيِّ الحيضُ، فإِنَّه عِلَّةٌ لمنعِ الصَّلَاةِ ومسِّ المصحفِ والوطءِ وغيرِ ذلك، لمناسبتِه للمنعِ مِن كُلٍّ مِن ذلك، ولا يُعَدُّ في مناسبتِه وصفٌ واحدٌ لعددٍ مِن الأحكامِ.

(3)

(وَ) مِن جملةِ شروطِ العِلَّةِ: (ألَّا تَتَأَخَّرَ عِلَّةُ الأَصْلِ عَنْ حُكْمِهِ) بألَّا يَكُونَ ثُبُوتُها مُتَأَخِّرًا عن ثبوتِ حُكمِ الأصلِ في الأصحِّ، كما لو قِيلَ فيمَن أصابَه عَرَقُ الكلبِ: أصابَه عرقُ حيوانٍ نَجِسٍ، فكانَ نجسًا كلُعابِه، فيمنعُ السَّائلَ كونُ عرقِ الكلبِ نَجسًا، فيَقُولُ

(1)

المُستدلُّ: لأنَّه مُستَقذَرٌ شرعًا، أي أَمَرَ الشَّارِعُ بالتَّنزُّهِ عنه، فكانَ نجسًا كالبولِ فيَقُولُ المُعتَرضُ: هذه العِلَّةُ ثُبوتُها مُتأخِّرٌ عن حُكمِ الأصلِ، فتَكُونُ فاسدةً؛ لأنَّ حُكمَ الأصلِ وهو نجاستُه يَجِبُ أنْ تَكُونَ سابقةً على حُكمِ استقذارِه؛ لأنَّ الحُكمَ باستقذارِه إِنَّمَا هو مُرَتَّبٌ على ثُبوتِ نجاستِه، وإنَّما كانَتْ هذه العِلَّةُ فاسدةً لتَأخُّرِها عن حُكمِ الأصلِ لِما يَلْزَمُ مِن ثبوتِ الحُكمِ بغيرِ باعثٍ على تقديرِ تفسيرِ العِلَّةِ

(2)

بالباعثِ، وقد فُرِضَ تَأخُّرُها عنِ الحُكمِ وهو محالٌ؛ لأنَّ الفرضَ أنَّ الحُكمَ قد عُرِفَ قبلَ ثبوتِ عِلَّتِه.

(1)

في «ع» : كالبول.

(2)

زاد في «ع» : بغير.

ص: 648

(4)

(وَ) منها (ألَّا تَرْجِعَ) العِلَّةُ (عَلَيْهِ) أي: على حُكْمِ الأصلِ الَّذِي استُنْبِطَتْ [منه (بِإِبْطالٍ) حَتَّى لو استُنْبِطَتْ]

(1)

مِن نصٍّ، وكانَتْ تُؤَدِّي إلى ذلك كانَ ذلك فاسدًا، وذلك لأنَّ الأصلَ مَنشؤُها، فإبطالُها له إبطالٌ لها؛ لأنَّها فرعُه، والفرعُ لا يُبطِلُ أصلَه؛ إذْ لو أَبْطَلَ أصلَه لأبطلَ نَفْسَه، كتعليلِ الحنفيَّةِ وجوبَ الشَّاةِ في الزَّكاةِ بدفعِ حاجةِ الفقيرِ، فإِنَّه مُجَوِّزٌ لإخراجِ قيمةِ الشَّاةِ مُفْضٍ إلى عَدَمِ وُجوبِها بالتَّخييرِ بينَها وبينَ قيمتِها، وأمَّا إذا عادَتِ العِلَّةُ على حُكمِ الأصلِ بتخصيصِ النَّصِّ فللعلماءِ فيه قولانِ مُستَنْبَطَانِ مِن قولِهم في نقضِ الوضوءِ بمسِّ المحارمِ، ففي قولٍ:«يَنْقُضُ» نظرًا إلى كونِ الملموسِ مَظِنَّةَ الاستمتاعِ، فعادَتِ العِلَّةُ على عُمومِ النِّساءِ بالتَّخصيصِ بغيرِ المحارمِ، (وَفِي قَوْلٍ) آخَرَ (وَ) هو أنَّ

(2)

مِن شرطِها أن (لَا) تَعُودَ عليه (بِتَخْصِيصٍ) ومِثلُه حديثُ النَّهيِ عنْ بيعِ اللَّحمِ بالحيوانِ

(3)

شاملٌ للمأكولِ وغيرِه.

قالَ في «شرح الأصل» : والصَّحيحُ النَّقضُ بمسِّ المحارمِ، وصحَّةُ البيعِ في بيعِ اللَّحمِ بالحيوانِ مُطلقًا، وأمَّا عَوْدُها بالتَّعميمِ كقولِه صلى الله عليه وسلم: «لَا يَقْضِي

(4)

القَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ»

(5)

فلا خلافَ في جوازِه؛ لأنَّ العِلَّةَ تشويشُ الفكرِ، فتَتَعَدَّى إلى كلِّ مشوِّشٍ

(6)

.

(1)

ليس في «ع» .

(2)

ليس في «ع» .

(3)

رواه مالك (64)، والدارقطني (3057)، والبيهقي (5/ 484) عن سعيد بن المسيب مرسلًا، وروي موصولًا، لكن رجَّح البيهقي المرسل.

(4)

في «ع» : يقضِ.

(5)

رواه البخاري (7158)، ومسلم (1717) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه:«لَا يَقْضِيَنَّ حَكَمٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ» .

(6)

«التحبير شرح التحرير» (7/ 3267 - 3268).

ص: 649

(5)

(وَ) مِن شرطِها (ألَّا يَكُونَ لِلْمُسْتَنْبَطَةِ مُعَارِضٌ فِي الأَصْلِ) فإذا كانَتِ العِلَّةُ مُستَنْبَطَةً شُرِطَ فيها ألَّا تَكُونَ معارَضةً بمعارِضٍ مُنافٍ موجودٍ في الأصلِ صالحٍ للعِلِّيَّةِ وليسَ موجودًا في الفرعِ؛ لأنَّه متى كانَ في الأصلِ وصفانِ مُتنافيانِ يَقتضي كلُّ واحدٍ مِنهما نقيضَ الآخرِ؛ لم يَصِحَّ أن يُجعَلَ أحدُهما عِلَّةً إلَّا بمُرجِّحٍ.

مثالُ ذلك: أن يَقُولَ الحنفيُّ في صومِ الفرضِ: «صومُ عينٍ» فيَتَأَدَّى بالنِّيَّةِ قبْلَ الزَّوالِ كالنَّفلِ، فيُقالُ له:«صومُ فرضٍ» فيُحتاطُ فيه، ولا يُبنى على السُّهولةِ.

(6)

(وَ) مِن شرطِ العِلَّةِ (ألَّا تُخَالِفَ نَصًّا) مِن كتابٍ أو سُنَّةٍ (وَلَا إِجْمَاعًا) لأنَّ النَّصَّ والإجماعَ لا يُقاوِمُهما القِيَاسُ

(1)

بل يَكُونُ إذا خالَفَهما باطلًا.

مثالُ مخالفةِ النَّصِّ: أنْ يَقُولَ حنفيٌّ

(2)

: امرأةٌ مالكةٌ لبُضعِها فصَحَّ نِكاحُها بغيرِ إذنِ وَلِيِّها، قياسًا على بيعِها سِلْعَتَها، فيُقالُ له: هذه عِلَّةٌ مُخالِفةٌ لقولِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ نَفْسَها

(3)

بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا؛ فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ»

(4)

.

ومثالُ مخالفةِ الإجماعِ: أنْ يُقالَ: مسافرٌ، فلا تَجِبُ عليه الصَّلَاةُ في السَّفرِ، قياسًا على صومِه في عدمِ الوجوبِ في السَّفرِ بجامعِ المَشَقَّةِ، فيُقالُ:

(1)

ليس في «د» .

(2)

ليست في «ع» .

(3)

ليست في (د).

(4)

رواه أبو داود (2083)، والترمذي (1102)، والنسائي في «الكبرى» (5373)، وابن ماجه (1879)، وابن حبان (4074) من حديث عائشة رضي الله عنها.

وقال الترمذي: حديث حسن.

ص: 650

هذه العِلَّةُ مُخالفةٌ للإجماعِ على

(1)

عدمِ اعتبارِها في الصَّلَاةِ، وأنَّ الصَّلَاةَ واجبةٌ على المُسافرِ معَ وجودِ مَشَقَّةِ السَّفرِ.

(7)

(وَ) مِن شروطِ العِلَّةِ المُستَنْبَطةِ أيضًا: (ألَّا تَتَضَمَّنَ زِيَادَةً عَلَى النَّصِّ) أي: حُكمًا في الأصلِ غيرَ ما أَثْبَتَه النَّصُّ؛ لأنَّها إِنَّمَا تُعلَمُ ممَّا أُثْبِتَ فيه.

مثالُه: «لَا تَبِيعُوا الطَّعَامَ بِالطَّعَامِ إِلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ»

(2)

، فتُعَلَّلُ الحرمةُ بأنَّه رِبًا فيما يُوزَنُ كالنَّقدينِ، فيَلْزَمُ التَّقابُضُ، معَ أنَّ النَّصَّ لم يَتَعَرَّضْ له، وقِيلَ: إنَّ الزِّيادةَ إذا لم تُنافِ النَّصَّ لم يَضُرَّ وجودُها.

(8)

(وَ) مِن شَرطِها (أَنْ يَكُونَ دَلْيلُهَا شَرْعِيًّا) وذلك لأنَّ دَليلَها لو كانَ غيرَ شرعيٍّ لَلَزِمَ ألَّا يَكُونَ القِيَاسُ شرعيًّا.

(9)

(وَ) مِن شرطِ صِحَّتِها أيضًا: أنْ (لَا يَعُمَّ دَلِيلُهَا حُكْمَ الفَرْعِ [بِعُمُومِهِ أَوْ بِخُصُوصِهِ]

(3)

كقولِ الشَّافعيِّ: الفواكهُ مَطعومةٌ، فجَرَى الرِّبَا فيها كالبُرِّ، ثمَّ أَثْبَتَ الطُّعمَ عِلَّةً بقولِه:«لَا تَبِيعُوا الطَّعَامَ بِالطَّعَامِ» (2)، فالفرعُ داخلٌ في الطَّعامِ.

(1)

في «ع» : مع.

(2)

قال ابن كثير في «تحفة الطالب بمعرفة أحاديث مختصر ابن الحاجب» (ص 445): ليس هو في شيء من الكتب بهذه الصيغة.

وروى مسلم (1592) عَنْ مَعْمَرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، أَنَّهُ أَرْسَلَ غُلَامَهُ بِصَاعِ قَمْحٍ، فَقَالَ: بِعْهُ، ثُمَّ اشْتَرِ بِهِ شَعِيرًا، فَذَهَبَ الغُلَامُ، فَأَخَذَ صَاعًا وَزِيَادَةَ بَعْضِ صَاعٍ، فَلَمَّا جَاءَ مَعْمَرًا أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ، فقَالَ لَهُ مَعْمَرٌ: لِمَ فَعَلْتَ ذَلِكَ؟ انْطَلِقْ فَرُدَّهُ، وَلَا تَأْخُذَنَّ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، فَإِنِّي كُنْتُ أَسْمَعُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ:«الطَّعَامُ بِالطَّعَامِ مِثْلًا بِمِثْلٍ» .

(3)

ليس في «د» .

ص: 651

وكقولِ حنفيٍّ في نجاسةِ غيرِ السَّبيلِ: خارجٌ نجسٌ، فنَقَضَ كالسَّبيلِ، ثمَّ أَثْبَتَ العِلَّةَ بما يُروى مِن قولِه:«مَنْ قَاءَ أَوْ رَعَفَ فَلْيَتَوَضَّأْ»

(1)

لأنَّه تطويلٌ بلا فائدةٍ، ورجوعٌ عن القِيَاسِ لثبوتِ الحُكمِ بدليلِها لا بنَفْسِها، فلم يَثْبُتِ الحُكمُ بالقِيَاس.

قال العَضُدُ

(2)

: لنا أنَّه يُمكِنُ إثباتُ الفرعِ بالنَّصِّ كما يُمكِنُ إثباتُ الأصلِ به، فالعدولُ عنه إلى إثباتِ الأصلِ، ثمَّ العِلَّةِ، ثمَّ بيانِ وجودِها في الفرعِ، ثمَّ بيانِ ثبوتِ الحكمِ تطويلٌ بلا فائدةٍ.

(10)

(وَ) مِن شُروطِها: (أَنْ تَتَعَيَّنَ) في الأصحِّ، خلافًا لمنِ اكتفى بشيوعِها مُتَعَلِّقًا بقولِ عمرَ رضي الله عنه:«اعرفِ الأشباهَ والنَّظائرَ، وقِسِ الأمورَ برأيِك»

(3)

. فعلى هذا يَكفي كونُ الشَّيءِ مُشْبِهًا للشَّيءِ شَبَهًا ما، لكنْ أطبقَ الجماهيرُ على فسادِه، وأجمعَ السَّلَفُ على أنَّه لا بُدَّ في الإلحاقِ منَ الاشتِراكِ بوصفٍ خاصٍّ، أما التَّعليلُ بأحدِ أمرينِ أو ثلاثةٍ ونحوِ ذلك مِن المحصورِ؛ فلا يَمتنِعُ، كما لو مَسَّ الرَّجُلُ مِن الخُنثى فرجَ الرَّجلِ، أو المرأةُ مِن الخُنثى فرجَ النِّساءِ، فإِنَّه يَنتقضُ وُضوءِ الماسَّينِ؛ لأنَّه

(4)

إمَّا مسُّ فرجٍ أو مَسٌّ لشهوةٍ.

(11)

(وَ) مِن شروطِ العِلَّةِ (ألَّا تَكُونَ وَصْفًا مُقَدَّرًا) أي: مفروضًا، لا حقيقةَ له، كتعليلِ جوازِ التَّصرُّفِ بالبيعِ ونحوِه بالمِلكِ، فلا يَجُوزُ التَّعليلُ

(1)

رواه ابن ماجه (1221) من حديث عائشة رضي الله عنها، ورواه الدارقطني (567) مرسلًا، وقال: وأصحاب ابن جريج الحفاظ عنه يروونه عن ابن جريج، عن أبيه، مرسلًا.

والرعاف: دم يخرج من الأنف.

(2)

«بيان المختصر» (3/ 405).

(3)

رواه الدارقطني (4471)، والبيهقي (10/ 252) في كتاب عمر لأبي موسى الأشعري رضي الله عنهما.

(4)

ليس في «د» .

ص: 652

بالصِّفاتِ المُقدَّرةِ خلافًا للفقهاءِ، فإنَّ الفروعَ الفقهيَّةَ كثيرةٌ بالتَّعليلِ بالأمورِ التَّقديريَّةِ لا يَكادُ أنْ يَكُونَ عندَهم في ذلك خلافٌ، وكأنَّها عندَهم بمَنزلةِ التَّحقيقاتِ، أَلَا تَرى أنَّ الحَدَثَ عندَهم وصفٌ وجوديٌّ مُقدَّرٌ قيامُه بالأعضاءِ يَرفَعُه الوُضوءُ والغُسلُ ولا يَرفَعُه التَّيمُّمُ ونحوُ ذلك.

(وَقَدْ تَكُونُ) العِلَّةُ (حُكْمًا شَرْعِيًّا) كقَوْلِنا: مَن صَحَّ طلاقُه صَحَّ ظِهارُه، فجَوَّزَ الأكثرُ التَّعليلَ به كتعليلِ مَنعِ بيعِ الكلبِ بنجاستِه؛ لأنَّ العِلَّةَ هي المُعَرِّفُ، فلا امتناعَ أنْ يُجعَلَ حُكمٌ شرعيٌّ مُعَرِّفًا لحكمٍ شرعيٍّ، والعِلَّةُ الَّتي يَحتاجُ إلى إثباتِها في الأصلِ المُتعدِّيةِ إلى الفرعِ، وأيضًا قد يَدُورُ حُكمٌ معَ حكمٍ، والدَّوَرانُ عِلَّةٌ لِما يَأْتي في مسالكِ العِلَّةِ.

(وَتَكُونُ صِفَةُ الِاتِّفَاقِ، وَ) صفةُ (الِاخْتِلَافِ: عِلَّةً) أي: يَجُوزُ جَعلُها عِلَّةً عندَ الأكثرِ كالإجماعِ: حادثٌ وهو دليلٌ، والاختلافُ يَتَضَمَّنُ خِفَّةَ حُكمِه، وعكسُه الاتِّفاقُ، كقَوْلِنا في المُتولِّدِ بينَ الظِّباءِ والغنمِ: مُتَوَلِّدٌ بينَ أصلينِ يُزَكَّى أحدُهما إجماعًا، فوَجَبَ فيه كمُتولِّدٍ بينَ سائمةٍ ومعلوفةٍ.

(وَيَتَعَدَّدُ الوَصْفُ) أي: يَجُوزُ التَّعليلُ بالوصفِ المُتعدِّدِ، (وَيَقَعُ) عندَ الأكثرِ؛ كتعليلِ القصاصِ بالقتلِ العَمدِ العُدوانِ؛ لأنَّ طريقَ إثباتِ الواحدِ يَثبُتُ به غيرُه، ولأنَّ الَّذِي يُستدَلُّ به على العِلَّةِ المُفردةِ يُستَدَلُّ به على المُركّبةِ فهُما سواءٌ، وهذا يُسَمَّى الوصفَ المُرَكَّبَ؛ لأنَّ العِلَّةَ تَنقسِمُ إلى:«بسيطةٍ» : وهي ما لا جُزءَ لها كالإسكارِ

(1)

، وإلى «مركَّبةٍ» وهي الَّتي لها جزءٌ، وهي مَسألتُنا.

(1)

ليس في «د» .

ص: 653

(وَمَا حَكَمَ بِهِ الشَّارِعُ مُطْلَقًا، أَوْ) حَكَمَ به (فِي عَيْنٍ) مِن أعيانٍ (أَوْ فَعَلَهُ) الشَّارِعُ (أَوْ أَقَرَّ) غيرَ (ـهُ) على فِعلِه؛ (لَا يُعَلَّلُ) أي: لا يَجُوزُ تعليلُه (بِـ) عِلَّةٍ (مُخْتَصَّةٍ بِذَلِكَ الوَقْتِ بِحَيْثُ يَزُولُ الحُكْمُ مُطْلقًا) بزَوَالِها، وجَوَّزَه الحَنفيَّةُ والمالكيَّةُ، ذَكَرَه الشَّيخُ في مسألةِ التَّحليلِ، وذَكَرَه المالكيَّةُ في حُكمِه بتضعيفِ الغُرمِ على سارقِ الثَّمرِ المُعلَّقِ، والضَّالَّةِ المكتومةِ، ومانعِ الزَّكاةِ، وتحريقِ متاعِ الغالِّ، وهو شُبهتُهم أنَّ حُكمَ المُؤَلَّفَةِ انْقَطَعَ.

(وَ) قال الشَّيخُ: (قَدْ تَزُولُ العِلَّةُ وَيَبْقَى الحُكْمُ كَالرَّمَلِ) أي: في طَوَافِ القُدومِ، وقالَ بعضُ أصحابِنا: النُّطقُ حُكمٌ مُطلَقٌ، وإنْ

(1)

كانَ سَبَبُه خاصًّا فقد ثَبَتَتِ العِلَّةُ مُطلقًا، واحتَجَّ: بأنَّ هذا رأيٌ مُجَرَّدٌ، وبتَمَسُّكِ الصَّحابةِ بنهيِه عنِ ادِّخارِ لُحومِ الأضاحيِّ في العامِ القابلِ

(2)

، ومُرادُه أنَّه صَحَّ عنِ ابنِ عمرَ وأبي سعيدٍ وقتادةَ بنِ النُّعمانِ، وقولِ جابرٍ: كُنَّا لا نَأكُلُ فَأَرْخَصَ لَنَا

(3)

.

(وَ) أمَّا (تَعْلِيلُهُ) أي: الحُكمِ (بِعِلَّةٍ زَالَتْ، وَإِذَا عَادَتِ) العِلَّةُ (عَادَ) الحُكمُ فـ (فِيهِ نَظَرٌ).

قالَ في «شرح الأصل» : قُلْتُ: نظيرُه قولُ مَن يَقُولُ بانقطاعِ نصيبِ المُؤَلَّفَةِ عندَ عدمِ الاحتياجِ إليه، فإنْ وُجِدَتِ الحاجةُ إلى التَّأليفِ عادَ جوازُ الدَّفعِ لعَوْدِ العِلَّةِ

(4)

.

(1)

في «د» : و.

(2)

رواه البخاري (5569)، ومسلم (1947) من حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه.

(3)

رواه البخاري (1719)، ومسلم (1972).

(4)

«التحبير شرح التحرير» (7/ 3275).

ص: 654

(وَعَكْسُهُ) أي: عكسُ تعليلِ الحُكْمِ بعِلَّةٍ زالَتْ، وإذا عادَتْ عادَ (تَعْلِيلُ) حُكْمٍ (نَاسِخٍ بِـ) عِلَّةٍ (مُخْتَصَّةٍ بِذَلِكَ الزَّمَنِ بِحَيْثُ إِذَا زَالَتِ) العِلَّةُ (زَالَ) الحُكْمُ، (وَيَقَعُ الفُقَهَاءُ فِيهِ كَثِيرًا،

وَوُقُوعُهُ) أي: وقوعُ هذا التَّعليلِ (فِي خِطَابٍ عَامٍّ: فِيهِ نَظَرٌ) وأَلْحَقَ الحنفيَّةُ النَّسخَ بزوالِ العِلَّةِ؛ كالخمرِ حُرِّمَتْ أوَّلًا وأَلِفُوا شُربَها، فنُهِيَ

(1)

عن تَخليلِها

(2)

تغليظًا، وزالَتْ باعتيادِ التَّركِ [فزَالَ الحُكمُ]

(3)

، وأَبْطَلَه ابنُ عَقِيلٍ

(4)

بأنَّه نُسِخَ بالاحتمالِ كمَنعِه في حدٍّ وفسقٍ ونَجاسَتِها.

(1)

رواه مسلم (1983) من حديث أنس رضي الله عنه.

(2)

في «ع» : تحيلها.

(3)

ليس في «د» .

(4)

«الواضح في أصول الفقه» (2/ 164).

ص: 655

(فَصْلٌ)

(لَا يُشْتَرَطُ) في العِلَّةِ:

(1)

(القَطْعُ بِحُكْمِ الأَصْلِ) ولو كانَتْ مُستنْبَطَةً، فلا يُشتَرطُ أنْ تَكُونَ مِن أصلٍ مقطوعٍ بحُكمِه عندَ الجمهورِ، فيَجُوزُ القِيَاسُ على ما ثَبَتَ حُكمُه بدليلٍ ظنِّيٍّ كخبَرِ الواحدِ والعُمومِ والمفهومِ وغيرِها؛ لأنَّه

(1)

غايةُ الاجتهادِ فيما يُقصَدُ به العملُ.

(وَ) الصَّحيحُ أيضًا أنَّه (لَا) يُشتَرطُ القطعُ (بِوُجُودِهَا) أي: العِلَّةِ (فِي الفَرْعِ)؛ لأنَّ القِيَاسَ إذا كانَ ظَنِّيًّا فلا يَضُرُّ كَوْنُ مُقدِّماتِه أو شيءٍ منها ظَنِّيًّا.

(2)

(وَلَا) يُشتَرَطُ في العِلَّةِ أيضًا: (انْتِفَاءُ مُخَالَفَةِ مَذْهَبِ صَحَابِيٍّ إِنْ لَمْ يَكُنْ) مذهبُه (حُجَّةً) على الصَّحيحِ، وإنْ قُلْنا هو حُجَّةٌ، فيَتَقَدَّمُ على القِيَاسِ على ما يَأْتي بيانُه في مذهبِه.

(3)

(وَلَا) يُشتَرطُ (النَّصُّ عَلَيْهَا) أي: العِلَّةِ أي: لا يُشتَرطُ أنْ يَرِدَ نَصٌّ دالٌّ على عينِ تلك العِلَّةِ (أَوِ الإِجْمَاعُ عَلَى تَعْلِيلِهِ) أي: لا يُشتَرطُ الاتِّفاقُ على أنَّ حُكمَ الأصلِ مُعَلَّلٌ على الصَّحيحِ فيهما

(2)

اكتفاءً بإثباتِ التَّعليلِ بدليلٍ.

(وَإِذَا كَانَتْ عِلَّةُ انْتِفَاءِ الحُكْمِ: وُجُودَ مَانِعٍ، أَوْ عَدَمَ شَرْطٍ) يَعني

(1)

في «د» : لأنها.

(2)

ليس في «د» .

ص: 656

إذا عُلِّلَ حُكمٌ عدميٌّ بوجودِ مانعٍ أو انتفاءِ شرطٍ كما يُقالُ: عدمُ شرطِ صِحَّةِ البيعِ، وهو الرُّؤيةُ، أو وُجِدَ المانعُ وهو الجهلُ بالمبيعِ، فلا يَصِحُّ؛ (لَزِمَ وُجُودُ المُقْتَضِي) مِثلُ بيعٍ مِن أَهلِه في مَحَلِّه، وكذا يُقالُ: عدمُ الشَّرطِ كعَدمِ الرَّجمِ لعدمِ الإحصانِ، أو وُجِدَ المانعُ لعدمِ القصاصِ كعدمِ القصاصِ على الأبِ لمانعٍ وهو الأبوَّةُ، وهذا قولُ الجمهورِ؛ لأنَّ الحُكمَ شُرِعَ لمصلحةِ الخلْقِ، فما لا فائدةَ فيه لم يُشرَعْ، فانْتَفَى لنفيِ فائدتِه، ونفيُ الشَّارِعِ للحُكمِ دليلُ وجودِ المُقتضِي حملانُه

(1)

على التَّأسيسِ.

(وَ) قال ابنُ عَقِيلٍ

(2)

: هَلْ (يَصِحُّ كَوْنُ العِلَّةِ صُورَةَ المَسْأَلَةِ؟) نحوُ: يَصِحُّ رَهنُ مشاعٍ كرَهْنِه مِن شريكِه، مَنَعَه بعضُهم لإفضائِه إلى تعليلِ المسألةِ وعدمِه، وصَحَّحَه بعضُهم، وهو أصحُّ، قال بعضُهم: يُستدَلُّ بوجودِ العِلَّةِ على الحُكمِ لا بعِلِّيَّتِها لتَوَقُّفِها عليه؛ لأنَّها نسبةٌ.

(وَحُكْمُ الأَصْلِ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ) عندَ أصحابِنا وغيرِهم، (لَا بِهَا) أي: لا بالعِلَّةِ؛ لأنَّ حُكمَ الأصلِ قد يَثْبُتُ تَعَبُّدًا فلو ثَبَتَ بالعلَّةِ لم يَثبُتْ معَ عَدَمِها؛ ولأنَّها مظنونةٌ وفرعٌ عليه.

ولَمَّا فَرَغَ مِن تعريفِ حُكمِ الأصلِ وشروطِه، وتعريفِ الفرعِ وتعريفِ العِلَّةِ وشروطِها، شَرَعَ يذكرُ

(3)

شروطَ الفرعِ، فقالَ:

(1)

في «د» : حملان.

(2)

«الواضح في أصول الفقه» (2/ 86).

(3)

في «د» : بذكر.

ص: 657

(فَصْلٌ)

(شَرْطُ فَرْعٍ:

(1)

أَنْ تُوجَدَ) العِلَّةُ (فِيهِ) أي: في الفرعِ بأنْ يَشتمِلَ على عِلَّةِ حُكمِ الأصلِ (بِتَمَامِهَا) حَتَّى لو كانَتْ ذاتَ أجزاءٍ، فلا بدَّ مِن اجتماعِ الكلِّ في الفرعِ (فِيمَا يُقْصَدُ مِنْ عَيْنِهَا) أي: العِلَّةِ؛ كقياسِ النَّبيذِ على الخمرِ بجامعِ الشِّدَّةِ المُطربةِ، وهي بعينِها موجودةٌ في النَّبيذِ، (وَجِنْسِهَا

(1)

كقياسِ الأطرافِ على القتلِ في القصاصِ بجامعِ الجنايةِ المُشتَركةِ بينَهما، فإنَّ جنسَ الجنايةِ هو جنسٌ لإتلافِ النَّفسِ والأطرافِ وهو قصدُ الاتِّحادِ فيه، وهذه العبارةُ شاملةٌ لقياسِ الأَوْلَى والمُساوي والأَدْوَنِ.

إذا عُلِمَ ذلك، (فَإِنْ كَانَتِ) العِلَّةُ (قَطْعِيَّةً) بأنْ وُجِدَتْ بتمامِها في الفرعِ قطعًا؛ كقياسِ الضَّربِ للوالدينِ على قولِ:«أُفٍّ» ، بجامِعِ أنَّه إيذاءٌ، وكالنَّبيذِ يُقاسُ على الخمرِ بجامعِ الإسكارِ، (فَـ) القِيَاسُ فيهما (قَطْعِيٌّ، وَ)، الأوَّلُ (هُوَ قِيَاسُ الأَوْلَى)؛ لأنَّ الإيذاءَ بالضَّربِ أَوْلى مِن الإيذاءِ بقولِ:«أُفٍّ» .

(وَ) يُسَمَّى الثَّاني قياسَ (المُسَاوَاةِ) وكلٌّ منهما قطعيٌّ.

(أَوْ) أي: وإنْ كانَتِ العِلَّةُ (ظَنِّيَّةً) بأنْ كانَ وُجودُها بتمامِها في الفرعِ ظَنِّيًّا، (فَـ) القِيَاسُ (ظَنِّيٌّ) كقياسِ التُّفَّاحِ على البُرِّ في أنَّه لا يُباعُ إلَّا يدًا بيدٍ بجامعِ الطُّعمِ، فالمعنى المُعتبَرُ وهو الطُّعمُ موجودٌ في الفرعِ بتَمامِه، (وَ) هذا (هُوَ قِيَاسُ الأَدْوَنِ) وإنَّما سُمِّيَ بذلك لأنَّه لَيْسَ مُلحقًا بالأصلِ، إلَّا على تقديرِ أنَّ العِلَّةَ فيه الطُّعمُ، فإنْ كانَتْ فيه تُرَكَّبُ مِن الطُّعمِ معَ التَّقديرِ بالكيلِ، أو

(1)

في «مختصر التحرير» (ص 205): أو جنسها.

ص: 658

كانَتِ العِلَّةُ القوتَ، أو غيرَ ذلك لم يُلحَقْ به التُّفَّاحُ، وظَهَرَ بذلك أنَّه لَيْسَ المرادَ بالأَدْوَنِ أَلَّا يُوجَدَ فيه المَعنى بتمامِه، بل أنْ تَكُونَ العِلَّةُ في الأصلِ ظَنِّيَّةً ولا يَكفي مُجَرَّدُ الشَّبَهِ بينَ الأصلِ والفرعِ؛ لأنَّ الصَّحابةَ اعتبَروا المعنى المُؤثِّرَ في الحُكْمِ ولاشتِراكِ العامِّيِّ والعالِمِ فيه؛ ولأنَّه لَيْسَ هذا الشَّبَهُ بأَولى مِن عَكسِه، وكالقِيَاسِ العَقليِّ.

(2)

(وَ) شَرطُ الفَرعِ (أَنْ تُؤَثِّرَ) عِلَّتُهُ (فِي أَصْلِهَا المَقِيسِ عَلَيْهِ) عندَ أصحابِنا وغيرِهم، واشتَرطَ بعضُهم في أَصلِها، وفي بقيَّةِ المواضعِ كقولِ المالكيَّةِ في الكلبِ: حيوانٌ فكانَ طاهرًا كالشَّاةِ، تأثيرُه في الحيوانِ إذا ماتَ ولا تأثيرَ له في الجمادِ، فالحياةُ تُؤَثِّرُ في مَحَلٍّ دونَ مَحَلٍّ.

(3)

(وَ) مِن شروطِ الفرعِ (أَنْ يُسَاوِيَ حُكْمُهُ حُكْمَ الأَصْلِ فِيمَا يُقْصَدُ كَوْنُهُ وَسِيلَةً لِلْحِكْمَةِ مِنْ عَيْنِ الحُكْمِ) كالقصاصِ في النَّفسِ بالمُثقَلِ على المُحَدَّدِ

(1)

، فالحُكمُ في الفرعِ هو الحُكمُ في الأصلِ بعَينِه وهو القتلُ، (أَوْ) مِن (جِنْسِهِ) أي: جنسِ الحُكمِ كالولايةِ في نكاحِ الصَّغيرةِ على الولايةِ في مالِها، فإنَّ ولايةَ النِّكاحِ مُساويةٌ لولايةِ المالِ في جنسِ الولايةِ لا في عينِ تلك الولايةِ، فإنَّها سببٌ لنفاذِ التَّصرُّفِ، وليسَتْ عينَها

(2)

لاختلافِ النَّصِّ.

(4)

(وَ) مِن شُروطِ الفرعِ (ألَّا يَكُونَ مَنْصُوصًا عَلَى حُكْمِهِ بِـ) نَصٍّ (مُوَافِقٍ) للحُكْمِ الَّذِي يُرادُ إثباتُه بالقِيَاسِ عندَ الأكثرِ؛ لأنَّ وجودَ النَّصِّ يُغني عنِ القِيَاسِ لتَقَدُّمِه عليه

(3)

.

(1)

في «د» : المحدود.

(2)

في «ع» : عنها.

(3)

ليس في «ع» .

ص: 659

فائدةٌ: إنْ كانَ النَّصُّ الدَّالُّ على حُكمِ الأصلِ هو الدَّالَّ على حُكمِ الفرعِ بعينِه، فهذا قياسٌ باطلٌ؛ إذْ ليسَ ما ادُّعِيَ أنَّه أصلٌ وأنَّ الآخَرَ فرعٌ بالأَولى مِن عكسِه كما لو قِيسَ السَّفَرْجَلُ على العِنَبِ في جَرَيَان الرِّبَا فيه بعِلَّةِ الطَّعمِ، فيُقالُ: النَّهيُ عن بيعِ الطَّعامِ بالطَّعامِ شاملٌ للأمرينِ، فجَعلُ أحدِهما أصلًا والآخَرِ فَرعًا: تَحكُّمٌ، وأمَّا إذا كانَ النَّصُّ في الفرعِ على خلافِ الحُكمِ المرادِ إثباتُه بالقِيَاسِ، فالقِيَاسُ حينئذٍ باطلٌ أيضًا؛ لأنَّ النَّصَّ حينئذٍ مُقَدَّمٌ عليه.

(5)

(وَ) مِن شرطِ الفرعِ أنْ (لَا) يَكُونَ (مُتَقَدِّمًا عَلَى حُكْمِ الأَصْلِ)؛ لأنَّ المُستفادَ لا بُدَّ مِن تأخُّرِه على المُستفادِ منه، وإلَّا لتَنَاقَضَ فرضٌ معَ تَأَخُّرِه، فلا يُقاسُ الوضوءُ على التَّيمُّمِ في وجوبِ النِّيَّةِ؛ لأنَّ وُرودَ التَّيمُّمِ بعدَ الهجرةِ، والوضوءُ قَبْلَها، فلو ثَبَتَ به ثَبَتَ حُكمٌ شرعيٌّ بلا دليلٍ؛ إذِ الغرضُ أنَّه لا دليلَ عليه سِوى القِيَاسِ، ووجوبُ النِّيَّةِ فيهما إِنَّمَا ثَبَتَ بقولِه صلى الله عليه وسلم:«إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ»

(1)

.

وقالَ المُوَفَّقُ وغيرُه: الصَّحيحُ يُشتَرطُ لقياسِ العِلَّةِ لا لقياسِ الدَّلالةِ، فيُقاسُ الوُضوءُ على التَّيمُّمِ لجوازِ تأخُّرِ الدَّليلِ على المدلولِ؛ كحدوثِ العالمِ دليلٌ على القديمِ والأثرِ على المُؤَثِّرِ.

و (لَا) يُشتَرطُ (ثُبُوتُ حُكْمِه بِنَصِّ جُمْلَةٍ) أي: لا يُشتَرطُ أنْ يَدُلَّ النَّصُّ على حُكْمِ

(2)

الفرعِ في الجملةِ لا بالتَّفصيلِ

(3)

، وقالَ بعضُهم: يُشتَرطُ، وأنَّ التَّفصيلَ يُطلَقُ بالقِيَاسِ.

(1)

رواه البخاري (1) من حديث عمر رضي الله عنه.

(2)

في «ع» : كل.

(3)

في «ع» : بتفصيل.

ص: 660

مثالُ ذلك: إذا قُلْنا في اجتماعِ الجدِّ معَ الإخوةِ: «يَرِثُ مَعَهم» قياسًا على أَحدِهم؛ لأنَّ كلًّا مِن الجدِّ والأخِ يُدْلِي بالأبِ، فلولا دَلَّ الدَّليلُ على إرثِ

(1)

الجدِّ في الجملةِ لَمَا سَاغَ القِيَاسُ في هذه الصُّورةِ، ورُدَّ عليهم بأنَّ العلماءَ قاسُوا «أنتِ عليَّ حرامٌ» إمَّا على الطَّلاقِ لا في تحريمِها، أو على الظِّهارِ في وجوبِ الكَفَّارةِ، أو على اليمينِ في كونِه إيلاءً، ولم يُوجَدْ في ذلك نصٌّ يَدُلُّ على الحُكمِ

لا جملةً ولا تفصيلًا.

(1)

في «د» : أن.

ص: 661

(مَسَالِكُ) إِثْبَاتِ (العِلَّةِ)

لَمَّا فَرَغَ مِن أركانِ القِيَاسِ وما يَتْبَعُها شَرَعَ في بيانِ الطُّرُقِ الَّتي تَدُلُّ على كَوْنِ الوصفِ عِلَّةً ويُعَبَّرُ عنها بمسالكِ العِلَّةِ، وذلك: إمَّا إجماعٌ، أو نصٌّ، أو استنباطٌ، أو غيرُها، والنَّصُّ: إمَّا صريحٌ، أو ظاهرٌ، أو إيماءٌ.

فأمَّا الأوَّلُ وهو (الإِجْمَاعُ) فإِنَّما قُدِّمَ لأنَّه أقوى، قطعيًّا كانَ أو ظَنِّيًّا، ولأنَّ النَّصَّ تفاصيلُه كثيرةٌ، والمرادُ ثُبوتُ العِلَّةِ بالإجماعِ: أنْ تُجمِعَ الأُمَّةُ على أنَّ هذا الحُكمَ عِلَّتُه كذا، كإجماعِهم على تعليلِ تقديمِ الأخِ مِن الأبوينِ في الإرثِ على الأخِ للأبِ بامتزاجِ النَّسَبَينِ أي: وجودِهما فيه، فيُقاسُ عليه تقديمُه في ولايةِ النِّكاحِ وصلاةِ الجنازةِ، وتحمُّلِ العقلِ والوصيَّةِ لأقربِ الأقاربِ والوقفِ عليه، ونَحوِه.

المسلكُ (الثَّانِي: النَّصُّ) أي: مِن الكتابِ العزيزِ، أو السُّنَّةِ النَّبويَّةِ على صاحبِها أفضلُ الصَّلَاةِ وأتمُّ التَّسليمِ.

(1)

(وَمِنْهُ) أي: مِن النَّصِّ ما هو (صَرِيحٌ) وما هو ظاهرٌ، وما هو إيماءٌ وتنبيهٌ، فالأوَّلُ ما وُضِعَ لإفادةِ التَّعليلِ بحيثُ لا يَحتملُ غيرَ العِلِّيَّةِ (كَـ) أنْ يُقالَ:(لِعِلَّةِ) كذا، (أَوْ) لـ (سَبَبِ) كذا، (أَوْ) لـ (أَجْلِ) كذا، (أَوْ «مِنْ أَجْلِ» كَذَا) كقولِه تَعالى:{مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ}

(1)

.

(أَوْ) يُقالَ: (كَيْ) يَكُونَ كذا، سواءٌ كانَتْ مُجَرَّدَةً عن «لا» ، كقولِه تَعالى:{كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ}

(2)

، أو مَقرونةً بها، كقولِه تَعالى: {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ

(1)

المائدة: 32.

(2)

طه: 40، والقصص:13.

ص: 662

الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ}

(1)

أي: إِنَّمَا وَجَبَ تَحبيسُه لئَلَّا يَتَنَاوَلَه الأغنياءُ مِنكم فلا يَحصُلُ للفقراءِ شيءٌ.

(أَوْ) يُقالَ: (إِذَنْ) كقولِه صلى الله عليه وسلم لأُبَيِّ بنِ كَعبٍ: «إِذَنْ يَغْفِرُ اللهُ لَكَ ذَنْبَكَ كُلَّهُ»

(2)

لمَّا قال له

(3)

: أجعلُ لك صلاتي كُلَّها.

وكقولِه تَعالى: {إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ}

(4)

.

(وَكَذَا) يَكُونُ مِن الصَّريحِ (إِنَّ) المُشدَّدةُ المكسورةُ، كقولِه صلى الله عليه وسلم في الهِرَّةِ:«إِنَّها مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ وَالطَّوَّافَاتِ»

(5)

، مُعَلِّلًا طَهارَتَها بذلك.

(وَهِيَ) أي: «إنَّ» حالَ كَوْنِها (مُلْحَقَةً بِالفَاءِ آكَدُ) في التَّعليلِ، كقولِه صلى الله عليه وسلم في المُحرِمِ الَّذِي وَقَصَتْه راحلتُه:«فَإِنَّهُ يُبَعْثُ يَوْمَ القِيَامَةِ مُلَبِّيًا»

(6)

، فهذا كلُّه صريحٌ في التَّعليلِ، خصوصًا فيما لَحِقَتْه الفاءُ، فإنَّها يُزادُ بها تأكيدًا لدَلالتِها على أنَّ ما بَعدَها سببٌ للحُكمِ قَبْلَها، وهذا القولُ قَدَّمَه في الأصلِ، لكنَّه ذَكَرَه في قِسمِ الظَّاهرِ.

(وَزِيدَ) أي: وزادَ الطُّوفِيُّ من قِسمِ الصَّريحِ: (المَفْعُولُ لَهُ) ومنه قولُه تَعالى: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ}

(7)

؛ لأنَّ هذا مِن بابِ المفعولِ له وهو عِلَّةُ الفِعلِ.

(1)

الحشر: 7.

(2)

رواه الترمذي (2457) وقال: حديث حسن.

(3)

زاد في «ع» : أجعل له.

(4)

الإسراء: 100.

(5)

رواه أبو داود (75)، والترمذي (92)، والنسائي (68)، وابن ماجه (367)، وابن حبان (1299) من حديث أبي قتادة رضي الله عنه، وقال الترمذي: حسن صحيح.

(6)

رواه البخاري (1265)، ومسلم (1206) من حديث ابن عباس رضي الله عنه.

(7)

البقرة: 19.

ص: 663

(2)

(وَ) الثَّاني مِن النَّصِّ: (ظَاهِرٌ) وهو الَّذِي يَحتملُ غيرَ العِلِّيَّةِ احتمالًا مَرجوحًا:

(كَاللَّامِ) فلهذا لم تُجعَلْ هي وما بَعدَها مِن الصَّريحِ؛ لأنَّ كلًّا منها له معانٍ غيرُ التَّعليلِ.

ثمَّ اللَّامُ تارةً تَكُونُ (ظَاهِرَةً) أي: ملفوظًا بها، كقولِه تَعالى:{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}

(1)

{لِنَعْلَمَ}

(2)

، {إِلَّا لِنَعْلَمَ}

(3)

، ونحوُه كثيرٌ.

(وَ) تارةً تَكُونُ (مُقَدَّرَةً) كقولِه تَعالى: {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ}

(4)

أي؛ لأنَّ كانَ

(5)

، فالتَّعليلُ مُستفادٌ مِن اللَّامِ المُقدَّرةِ، لا مِن «أنْ» .

(وَالبَاءِ) عطفٌ على اللَّامِ، كقولِه:{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ}

(6)

، أي بسببِ الرَّحمةِ، فهي وإنْ كانَ أصلُ مَعناها الإلصاقَ ولها معانٍ أُخَرُ، لكنْ كَثُرَ استعمالُها في التَّعليلِ، ككَوْنِ اللَّامِ للملْكِ وللاختصاصِ أو لبيانِ العاقبةِ، أو نحوُ

(7)

:

لِدُوا لِلْمَوْتِ وَابْنُوا لِلْخَرَابِ

(1)

إبراهيم: 1.

(2)

الكهف: 12.

(3)

البقرة: 143، سبأ:21.

(4)

القلم: 13 - 14.

(5)

قال في «التحبير شرح التحرير» (7/ 3315): وكما يقال في الكلام أن كان كذا.

(6)

آل عمران: 159.

(7)

صدرُ بيتٍ مِن الوافرِ، وعَجُزُه: فَكُلُّكُمْ يَصِيرُ إِلَى ذَهَابِ. وينسب لكثيرٍ، منهم: عليٌّ رضي الله عنه، وأبو العتاهية، والصَّفيُّ الحِلِّي مع تغيير في ألفاظه. ينظر:«القواعد بشرح تسهيل الفوائد» (6/ 3015) لناظر الجيش.

ص: 664

ونحوُ ذلك، وسَبَقَ في الكلامِ على الحروفِ بعضُ حروفِ التَّعليلِ، كـ:«حَتَّى» و «على» و «إذ»

(1)

، وغيرها.

(وَ) اعلمْ أنَّ الفعلَ بحُكمِ الأصلِ في وضعِ اللُّغةِ أو استعمالِها إِنَّمَا يُضافُ إلى عِلَّتِه وسببِه، فـ (إِنْ) أُضيفَ إلى ما لا يَصِحُّ عِلَّةً بأنْ (قَامَ دَلِيلٌ أَنَّهُ) أي: المُتكلِّمَ (لَمْ يَقْصِدْ) بكلامِه (التَّعْلِيلَ، فَـ) استعمالُ أداةِ التَّعليلِ حينئذٍ (مَجَازٌ)، ويُعرَفُ ذلك بعدمِ الدَّليلِ على عدمِ صلاحيَّتِه عِلَّةً، (كَـ) أنْ يُقالَ للفاعلِ:(«لِمَ فَعَلْتَ؟» فَيَقُولُ: لِأَنِّي أَرَدْتُ) فإنَّ هذا لا يَصلُحُ

(2)

أنْ يَكُونَ عِلَّةً للفعلِ، فهو استعمالٌ للَّفظِ في غيرِ مَحَلِّه؛ لأنَّ الإرادةَ هي المُوجبةُ لوجودِه أو المُصَحِّحةُ له وليسَتْ عِلَّةً له؛ لأنَّ العِلَّةَ في الاصطلاحِ

(3)

هو المُقتضى الخارجيُّ؛ أي المُقتضي له مِن خارجٍ، والإرادةُ ليسَتْ مَعنًى خارجًا عنِ الفاعلِ.

(3)

(وَ) الثَّالثُ مِن النَّصِّ: (إِيمَاءٌ وَتَنْبِيهٌ) وهو غيرُ الصَّريحِ وغيرُ الظَّاهرِ، والإيماءُ هو اقتِرانُ الوصفِ بحُكمٍ لو لم يَكُنِ الوصفُ أو نظيرُه عِلَّةً للحُكمِ لكانَ اقتِرانُه بعيدًا مِن فصاحةِ كلامِ الشَّارِعِ، وكانَ إتيانُه بالألفاظِ في غيرِ مواضعِها، وكلامُه مُنَزَّهٌ عنِ الحشوِ الَّذِي لا فائدةَ فيه.

(وَ) الإيماءُ أنواعٌ، فـ (مِنْ أَنْوَاعِهِ:

(1)

تَرَتُّبُ حُكْمٍ عَقِبَ وَصْفٍ بِالفَاءِ مِنْ كَلَامِ الشَّارِعِ وَغَيْرِهِ) والفاءُ لها ثلاثةُ أحوالٍ مُرَتَّبةٍ:

(1)

في «د» : وإن.

(2)

في «د» : يصح.

(3)

في «ع» : الإصلاح.

ص: 665

الأُولى: أنْ تَكُونَ في كلامِ الشَّارِعِ داخلةً على العِلَّةِ، والحُكْمُ مُقَدَّمٌ

(1)

، كقولِه صلى الله عليه وسلم في المحرِمِ الَّذِي وَقَصَتْه راحلتُه:«فَإِنَّهُ يُبْعَثُ»

(2)

.

الثَّانيةُ: أنْ يَدخُلَ في كلامِ الشَّارِعِ على الحُكْمِ، نحوُ:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا}

(3)

.

فائدةٌ: قال الإمامُ الرَّازيُّ

(4)

: تقديمُ العِلَّةِ ثمَّ مجيءُ الحكمِ بالفاءِ أقوى مِن عكسِه؛ لأنَّ إشعارَ العِلَّةِ بالمعلولِ أقوى مِن إشعارِ المعلولِ بالعِلَّةِ؛ لأنَّ الطَّردَ واجبٌ في العللِ دونَ العكسِ.

الثَّالثةُ: أنْ تَكُونَ الفاءُ مِن كلامِ الرَّاوي، ولا تَكُونَ إلَّا داخلةً على الحُكمِ، والعِلَّةُ ما قَبْلَها، نحوُ:«سَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَجَدَ» ، فإذا رَتَّبَ الشَّارِعُ حُكمًا عَقِبَ وصفٍ بالفاءِ كما تَقَدَّمَ، (فَإِنَّهَا) تُفِيدُ تعقيبَ

(5)

الحكمِ الوصفَ، فهي (لِلتَّعْقِيبِ ظَاهِرًا، وَيَلْزَمُ مِنْهُ) أي: من التَّعقيبِ (السَّبَبِيَّةُ) إذِ السَّببُ ما ثَبَتَ الحكمُ عَقِبَه، ولهذا تُفهَمُ السَّبَبيَّةُ معَ عدمِ المناسبةِ، كـ «مَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ»

(6)

، فهذا يُفيدُ العِلَّةَ بالإيماءِ على الصَّحيحِ، وسواءٌ كانَ الرَّاوي صحابيًّا أو فقيهًا أو لا، لكنَّه إذا كانَ كذلك كانَ أقوى.

(1)

في «د» : متقدم.

(2)

رواه البخاري (1265)، ومسلم (1206) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

(3)

النور: 2.

(4)

«المحصول» (2/ 302).

(5)

في «ع» : تعقب.

(6)

رواه أبو داود (181)، والترمذي (82)، والنسائي (447)، وابن ماجه (479)، وابن حبان (1116) من حديث بُسْرَةَ بِنْتِ صَفْوَانَ رضي الله عنها.

قال الترمذي: حديث حسن صحيح.

ص: 666

(2)

(وَ) مِن أنواعِ الإيماءِ: (تَرَتُّبُ حُكْمٍ عَلَى وَصْفٍ بِصِيغَةِ الجَزَاءِ) يَدُلُّ على التَّعليلِ به كقولِه تَعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا}

(1)

أي: لتَقْوَاه، وقولِه تَعالى:{وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ}

(2)

، فإنَّ الجزاءَ يَتَعَقَّبُ شرطَه ويُلازِمُه، ولا مَعنى للسَّببِ إلَّا ما يَسْتَعْقِبُ الحُكمَ ويُوجَدُ بوجودِه.

(3)

(وَ) مِن أنواعِه: (ذِكْرُ حُكْمٍ) مِنَ الشَّارِعِ (جَوَابًا لِسُؤَالٍ، لَوْ لَمْ يَكُنِ) السُّؤالُ (عِلَّتَهُ) أي: عِلَّةَ الحُكمِ لـ (كَانَ اقْتِرَانُهُ بِهِ) أي: اقتِرانُ السُّؤالِ بالحُكمِ (بَعِيدًا شَرْعًا وَلُغَةً، وَلَتَأَخَّرَ البَيَانُ عَنْ وَقْتِ الحَاجَةِ كَقَوْلِ الأَعْرَابِيِّ) له عليه السلام فيما أَخرَجَه السِّتَّةُ

(3)

ولفظُ ابنِ ماجه: (وَاقَعْتُ أَهْلِي

(4)

فِي رَمَضَانَ، فَقَالَ) له عليه السلام:(«أَعْتِقْ رَقَبَةً») فكأنَّه قِيلَ: إذا وَاقَعْتَ في رمضانَ فكفِّرْ؛ لأنَّ الظَّاهرَ كونُه جوابًا، والسُّؤالُ مُعادٌ فيه فيَكُونُ موجودًا تقديرًا، وأيضًا لو كانَ المُرادُ غيرَ ذلك كانَ يَلْزَمُ خُلُوُّ السُّؤالِ عنِ الجوابِ وتأخيرُ البيانِ عن وقتِ الحاجةِ.

(وَيُسَمَّى) هذا النَّوعُ (إِنْ حُذِفَ) منه (بَعْضُ الأَوْصَافِ: تَنْقِيحَ المَنَاطِ) يعني: إنْ حُذِفَ شيءٌ مِن الأوصافِ المُرَتَّبِ عليها الجوابُ لكَوْنِه لا مدخلَ له في العِلَّةِ كـ ذلك الشَّهرِ، أو كونِه أعرابيًّا أو زيدًا، وكَوْنِ المُجامَعةِ زوجةً وغيرَها، سُمِّيَ إخراجُ ذلك عنِ الاعتبارِ تنقيحَ المناطِ، أي: تنقيحَ ما نَاطَ به حُكْمُ الشَّارِعِ، فالتَّنقيحُ لغةً: التَّخليصُ والتَّهذيبُ، والمناطُ: مَفْعَلٌ

(1)

الطلاق: 2.

(2)

الأحزاب: 31.

(3)

رواه البخاري (1936)، ومسلم (1111)، وأبو داود (2390)، والترمذي (733)، والنسائي في «الكبرى» (3101)، وابن ماجه (1671) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(4)

قوله: واقعت أهلي. في «مختصر التحرير» (ص 207): وقعت على.

ص: 667

مِن نَاطَ نِيَاطًا؛ أي: عَلَّقَ، والمرادُ أنَّ الحُكمَ تَعَلَّقَ بذلك الوصفِ، فمعنى تنقيحِ المَناطِ الاجتهادُ في المَناطِ الَّذِي رَبَطَ به الشَّارِعُ الحُكمَ، فيَبْقَى مِن الأوصافِ ما يَصلُحُ ويُلْغَى ما لا يَصْلُحُ.

(4)

(وَمِنْهَا) أي: مِن أنواعِ الإيماءِ: (تَقْدِيرُ الشَّارِعِ وَصْفًا لَوْ لَمْ يَكُنْ) ذلك الوصفُ (لِـ) أجلِ (التَّعْلِيلِ) لـ (كانَ) تَقديرُه (بَعِيدًا) لأنَّ التَّقديرَ حينئذٍ (لَا فَائِدَةَ فِيهِ)، والتَّقديرُ يَكُونُ (إِمَّا فِي السُّؤَالِ كَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا سُئِلَ عَنْ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ:«أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إِذَا يَبِسَ؟» . قَالُوا: نَعَمْ)، قال عليه السلام:«فَلَا إِذَنْ»

(1)

، (فَنَهَى عَنْهُ) فلو لم يَكُنْ تقديرُ نقصانِ الرُّطبِ بالجفافِ لأجلِ التَّعليلِ، لكَانَ تقديرُه بعيدًا؛ إذْ لا فائدةَ فيه، والجوابُ يَتِمُّ بدونِه

(2)

.

(أَوْ) يَكُونَ التَّقديرُ (فِي نَظِيرِ مَحَلِّهِ) أي: مَحَلِّ السُّؤالِ (كَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لِلسَّائِلَةِ) وهي امرأةٌ مِن جُهَيْنَةَ جاءَتْه وقالَتْ له: إنَّ أُمِّي نَذَرَتْ أنْ تَحُجَّ فلم تَحُجَّ حَتَّى ماتَتْ، أفأَحُجُّ عنها؟ قال:«حُجِّي عَنْهَا، (أَرَأَيْتِ لَوْ كانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ أُكُنْتِ قَاضِيَتِهِ؟» . قَالَتْ: نَعَمْ. قال) عليه السلام: («اقْضُوا اللهَ، فَاللهُ أَحَقُّ بِالوَفَاءِ») مُتَّفَقٌ عليه

(3)

.

فنظيرُه في المسؤولِ عنه كذلك، وفيه تنبيهٌ على الأصلِ الَّذِي هو دَينُ الآدميِّ، والفرعِ وهو الحجُّ الواجبُ، والعِلَّةِ وهي قضاءُ الدَّينِ عنِ الميَّتِ؛ فقد جَمَعَ فيه صلى الله عليه وسلم أركانَ القِيَاسِ كلَّها.

(1)

رواه أبو داود (3359)، والترمذي (1225)، والنسائي (4545)، وابن ماجه (2264)، وابن حبان (5003) من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.

وقال الترمذي: حسن صحيح.

(2)

في «ع» : دونه.

(3)

رواه البخاري (1852)، ومسلم (1148) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

ص: 668

(5)

(وَمِنْهَا) أي: ومِن أنواعِ الإيماءِ: (تَفْرِيقُهُ) أي: أنْ يُفَرِّقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ حُكْمَيْنِ:

بِصِفَةٍ معَ ذِكْرِهِمَا) أي: الحُكمَينِ، (كَـ) قولِه صلى الله عليه وسلم:(«لِلرَّاجِلِ سَهْمٌ وَلِلْفَارِسِ سَهْمَانِ»، أو) بصفةٍ معَ (ذِكْرِ أَحَدِهِمَا) أي: أحدِ الحُكمَينِ دونَ الآخَرِ، (كَـ) قولِه عليه السلام: («القَاتِلُ لَا يَرِثُ»

(1)

، فإنَّ مُقابِلَه وهو: مَن لَيْسَ بقاتلٍ مِن الورثةِ، يَكُونُ مَحكومًا عليه بضِدِّ هذا الحُكْمِ، فيَكُونُ وارثًا، وفي معنى التَّفريق بينَ الحُكمَينِ بصفة

(2)

المشارِ إليه بقولِه:

(أَوْ بِشَرْطٍ وَجَزَاءٍ، نَحْوُ) قولِه عليه السلام: («فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الأَوْصَافُ فَبِيعُوا) كَيْفَ شِئْتُمْ إِذَا كانَ يَدًا بِيَدٍ»

(3)

.

(أَوِ) التَّفريقُ بينَ الحُكمينِ (بِغَايَةٍ) كقولِه تَعالى: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ (حَتَّى يَطْهُرْنَ}

(4)

فَرَّقَ في الحُكمِ بينَ الحيضِ والطُّهرِ.

(أَوِ) التَّفريقُ بينَهما (بِاسْتِثْنَاءٍ) كقولِه تَعالى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ}

(5)

.

(أَوْ) التَّفريقُ بينَهما (بِـ) لفظٍ دالٍّ على (اسْتِدْرَاكٍ) كقولِه تَعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ (وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ) بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ}

(6)

، ووجهُ استفادةِ العِلَّةِ مِن ذلك كلِّه أنَّ التَّفرقةَ لا بُدَّ لها مِن فائدةٍ، والأصلُ عدمُ غيرِ المُدَّعَى وهو إفادةُ كَوْنِ ذلك عِلَّةً.

(1)

رواه الترمذي (2109)، والنسائي في «الكبرى» (6335)، وابن ماجه (2645) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وضعفه الترمذي والنسائي.

(2)

في «ع» : بضد.

(3)

رواه مسلم (1587) من حديث عُبادة بن الصَّامت رضي الله عنه.

(4)

البقرة: 222.

(5)

البقرة: 237.

(6)

المائدة: 89.

ص: 669

(6)

(وَمِنْهَا) أي: مِن أنواعِ الإيماءِ: (تَعْقِيبُ الكَلَامِ) الَّذِي أَنْشَأَه الشَّارِعُ لبيانِ حُكْمٍ (أَوْ تَضْمِينُهُ) له (مَا) أي: بأنْ يَذكُرَ في سياقِ الكلامِ شيئًا (لَوْ لَمْ يُعَلَّلْ بِهِ) أي: لو لم يَكُنْ عِلَّةً لذلك الحُكْمِ المقصودِ (لَمْ يَنْتَظِمِ) الكلامُ.

فالأوَّلُ: (نَحْوُ) نَهْيِه عنِ البيعِ وقتَ الجمعةِ في قولِه تَعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ (فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ}

(1)

فإِنَّه عِلَّةٌ للمَنعِ عندَ السَّعيِ إلى الجمعةِ، لا مُطلقًا؛ لجوازِ البيعِ في غيرِ وقتِ النِّداءِ، فلو لم يُعَلَّلِ النَّهيُ عنِ البيعِ حينئذٍ بكَوْنِه شاغلًا عنِ السَّعيِ، لكَانَ ذِكْرُه لاغيًا؛ لكَوْنِه غيرَ مرتبطٍ بأحكامِ الجُمُعةِ، فلا بدَّ إذنْ مِن مانعٍ، وليسَ إلَّا ما فُهِمَ مِن سياقِ النَّصِّ مِن شغلِ البيعِ عنِ السَّعيِ إلى الجُمُعةِ فتَفُوتُ.

ومثالُ الثَّاني وهو الَّذِي تَضَمَّنَه الكلامُ، نحوُ نهيِه عنِ القضاءِ عندَ الغضبِ في قولِه صلى الله عليه وسلم: («لَا يَقْضِي القَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ»

(2)

فإِنَّه عِلَّةٌ للمنعِ عندَ الغضبِ لا مُطلقًا؛ لجوازِ القضاءِ معَ عدمِ الغضبِ أو معَ يَسيرِه، فلا بدَّ إذنْ مِن مانعٍ، وليسَ إلَّا ما فُهِمَ مِن مضمونِ النَّصِّ مِن اضطرابِ الفكرةِ لأجلِ الغضبِ، فيَقَعُ الخطأُ، فوَجَبَ إضافةُ النَّهيِ إليه، فلو لم يُعَلَّلِ النَّهيُ عنِ القضاءِ عندَ الغضبِ بكَوْنِه يَتَضَمَّنُ اضطرابَ المَزاجِ، المُقتضي تشويشَ الفكرِ، المُفضِي

(3)

إلى الخطأِ في الحُكمِ غالبًا: لكانَ ذِكْرُه لاغيًا.

(7)

(وَمِنْهَا) أي: مِن أنواعِ الإيماءِ: (اقْتِرَانُ الحُكْمِ بِوَصْفٍ مُنَاسِبٍ)

(1)

الجمعة: 9.

(2)

رواه البخاري (7158)، ومسلم (1717) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه:«لَا يَقْضِيَنَّ حَكَمٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ» .

(3)

في «ع» : المقتضي.

ص: 670

للحُكْمِ (كَـ: أَكْرِمِ العُلَمَاءَ، وَأَهِنِ الجُهَّالَ) فهو وصفٌ مناسبٌ، ومنه:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا}

(1)

، فالإكرامُ مناسبٌ للعِلمِ، والإهانةُ للجهلِ، والقطعُ للسَّرقةِ، ونحوُ ذلك؛ لأنَّ المعلومَ مِن تصرُّفاتِ العُقلاءِ ترتيبُ الأحكامِ على الأمورِ المناسبةِ، والشَّرعُ لا يَخرُجُ عن تصرُّفاتِ العقلاءِ؛ ولأنَّه قد أُلِفَ مِنَ الشَّارِعِ اعتبارُ المناسباتِ دونَ إلغائِها، فإذا قُرِنَ بالحُكمِ في لَفظِه وصفًا مناسبًا غَلَبَ على الظَّنِّ اعتبارُه، وجَعَلَ ابنُ مُفْلِحٍ

(2)

وغيرُه الحديثَ السَّابقَ ونَحوَه مِن هذا النَّوعِ، ورُدَّ؛ لأنَّ قولَه عليه السلام:«لَا يَقْضِي القَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ»

(3)

فيه تنبيهٌ على أنَّ عِلَّةَ ذلك ما فيه

(4)

تشويشُ الفكرِ، فيَطَّرِدُ ذلك في كلِّ مُشَوِّشٍ؛ لأنَّ خصوصَ كونِه غضبانًا لَيْسَ هو المناسبَ للحُكمِ، فيُلحَقُ به الجائعُ والحاقنُ ونحوُه.

(فَإِنْ صُرِّحَ بِالوَصْفِ وَالحُكْمُ مُسْتَنْبَطُ مِنْهُ) أي: بأنْ ذُكِرَ الوصفُ المُقتَرنُ بالحُكْمِ صريحًا والحالُ أنَّ الحُكمَ مُستنبَطٌ مِن الوصفِ (كَـ) قولِه تَعالى: ({وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ}

(5)

أي: (صِحَّتُهُ مُسْتَنْبَطَةٌ مِنْ حِلِّهِ) فإنَّ الوصفَ الَّذِي هو حِلُّ البيعِ مُصَرَّحٌ به، والحكمُ وهو الصِّحَّةُ مُستنبَطٌ مِن الحِلِّ، (فَـ) هو (مُومًى إِلَيْهِ) في الأصحِّ للزومِ الصِّحَّةِ

(6)

للحِلِّ لذكره؛ لأنَّ التَّلفُّظَ

(7)

بالوصفِ إيماءٌ إلى تعليلِ الحكمِ المُصَرَّحِ به.

(وَعَكْسُهُ) وهو كَوْنُ الحُكْمِ مَذكورًا والوصفِ مُستنبطًا (بِعَكْسِهِ) فلا

(1)

المائدة: 38.

(2)

«أصول الفقه» (3/ 1265).

(3)

رواه البخاري (7158)، ومسلم (1717) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه:«لَا يَقْضِيَنَّ حَكَمٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ» .

(4)

في (د): فيه مِن.

(5)

البقرة: 275.

(6)

ليس في «ع» .

(7)

في «ع» : اللفظ.

ص: 671

يَكُونُ مِن الإيماءِ على الصَّحيحِ؛ لأنَّه يَقتضي أنْ تَكُونَ العِلَّةُ والإيماءُ مُتلازمَينِ لا يَنفَكُّ أحدُهما عنِ الآخَرِ (كَـ) قولِه: (حُرِّمَتِ الخَمْرُ) فإنَّ الحُكمَ وهو التَّحريمُ مُصَرَّحٌ به، و (الوَصْفَ) وهو الإسكارُ (مُسْتَنْبَطٌ مِنَ التَّحْرِيمِ) الَّذِي هو الحُكمُ.

ولنا قولٌ آخَرُ: أنَّه مِن الإيماءِ؛ لحصولِ اقتِرانِ الوصفِ بالحُكمِ.

(وَلَا يُشْتَرَطُ مُنَاسَبَةُ الوَصْفِ المُومَى إِلَيْهِ) عندَ الأكثرِ بناءً على أنَّ العِلَّةَ المُعَرِّفُ؛ لأنَّه لو اشترطَ لم يُفهَمُ التَّعليلُ مِن ترتيبِ الحُكْمِ على وصفٍ غيرِ مناسبٍ، كـ: أَهِنِ العالمَ، وأَكرِمِ الجاهلَ. ولم يُلَمْ عليه. واختارَ الآمِدِيُّ وغيرُه: إنْ فُهِمَ التَّعليلُ مِن المناسبةِ اشْتُرِطَ؛ لأنَّ المناسبةَ فيه مَنشَأٌ للإيماءِ، مثلُ:«لَا يَقْضِي القَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ»

(1)

، وإلَّا فلا؛ لأنَّه بمَعنى الأمارةِ.

(3)

المسلكُ (الثَّالِثُ) مِن الطُّرُقِ الدَّالَّةِ على العِلِّيَّةِ: (السَّبْرُ وَالتَّقْسِيمُ،

وَهُوَ) أي: السَّبْرُ والتَّقسيمُ (حَصْرُ الأَوْصَافِ) في الأصلِ المَقيسِ عليه، (وَإِبْطَالُ) بعضِها من (مَا لَا يَصْلُحُ) بدليلٍ

(2)

(فَيَتَعَيَّنُ البَاقِي) وهو الَّذِي يَصْلُحُ للعِلِّيَّةِ (عِلَّةً) للحُكْمِ؛ سُمِّيَ بذلك لأنَّ المُناظِرَ يُقَسِّمُ الصِّفاتِ ويَختَبِرُ صلاحيَّةَ كلِّ واحدٍ منها للعِلِّيَّةِ، فيَبطُلُ ما لا يَصلُحُ ويَبقى ما يَصلُحُ، والسَّبْرُ في اللُّغةِ هو الاختبارُ، فالتَّسميةُ بمجموعِ الاسمينِ واضحةٌ، وقد يَقتصِرُ على السَّبْرِ فقطْ، والتَّقسيمُ مُقَدَّمٌ في الوجودِ عليه؛ لأنَّه تَعدادُ الأوصافِ الَّتي يُتَوَهَّمُ صلاحيَّتُها للتَّعليلِ ثمَّ يَسْبُرُها؛ أي: يَختَبِرُها ليَمِيزَ

(1)

رواه البخاري (7158)، ومسلم (1717) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه:«لَا يَقْضِيَنَّ حَكَمٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ» .

(2)

كتب فوقها في «د» : متعلق بإبطال.

ص: 672

الصَّالحَ للتَّعليلِ مِن غيرِه، وإنَّما قُدِّمَ السَّبْرُ عليه؛ لأنَّ المُؤَثِّرَ في علمِ العِلِّيَّةِ هو السَّبْرُ، وأمَّا التَّقسيمُ فإِنَّما هو لاحتياجِ السَّبْرِ إلى شيءٍ يُسْبَرُ، فرُبَّما سُمِّيَ بالتَّقسيمِ الخاصِّ.

(وَيَكْفِي المُنَاظِرَ) في بيانِ الحصرِ إذا مُنِعَ أنْ يَقُولَ: (بَحَثْتُ) عنِ الأوصافِ (فَلَمْ أَجِدْ غَيْرَهُ) أي: غيرَ ذلك الوصفِ، فيُقبَلُ قولُه؛ لأنَّه ثقةٌ أهلٌ للنَّظرِ، فالحُكمُ بنفيِ ما سِوى هذا مُستنَدٌ إلى الظَّنِّ وعَدمِه

(1)

لا إلى عدمِ العلمِ بوصفٍ آخَرَ؛ لأنَّ الأوصافَ العقليَّةَ والشَّرعيَّةَ لو كانَتْ لَمَا خَفِيَتْ على الباحثِ عنها.

مثالُه: أنْ يَقُولَ في قياسِ الذُّرةِ على البُرِّ في الرِّبويَّةِ: بَحَثْتُ عن أوصافِ البُرِّ فما وَجَدْتُ ما يَصلُحُ عِلَّةً للرِّبويَّةِ في بادي الرَّأيِ إلَّا الطُّعمَ أو القوتَ أو الكَيْلَ، لكنَّ الطُّعمَ والقُوتَ لا يَصلُحُ لذلك، فيَتَعَيَّنُ الكيلُ، (أَوْ) يَقُولُ:(الأَصْلُ عَدَمُهُ) أي: عَدَمُ

(2)

هذا الوصفِ، فإنَّ بذلك يَحصُلُ الظَّنُّ المقصودُ.

(فَإِنْ بَيَّنَ المُعْتَرِضُ) بعدَ إتمامِ المُستدلِّ السَّبْرَ والتَّقسيمَ (وَصْفًا آخَرَ) زائدًا على الأوصافِ الَّذِي ذَكَرَ المُستدلُّ، مِثْلَ أنْ يَقُولَ: هنا وصفٌ آخَرُ، وهو كونُه خبزَ قوتٍ، فله ذلك، و (لَزِمَ) المُستدلَّ (إِبْطَالُهُ) إذْ لا يَثْبُتُ الحصرُ الَّذِي قدِ ادَّعاه بدونِه.

(وَلَا يَلْزَمُ المُعْتَرِضَ بَيَانُ صَلَاحِيَّتِهِ) أي: أنْ

(3)

يُبَيِّنَ أنَّ الوصفَ المذكورَ صالحٌ (لِلتَّعْلِيلِ) بل إبطالُ صلاحيَّتِه لذلك وظيفةُ المستدلِّ لا يَتِمُّ دليلُه إلَّا بذلك.

(1)

في «ع» : عدمه.

(2)

زاد في «ع» : غير.

(3)

ليس في «ع» .

ص: 673

(وَلَا يَنْقَطِعُ المُسْتَدِلُّ) في الأصحِّ بمُجرَّدِ إبداءِ المُعتَرِضِ الوصفَ، فلا يَظهَرُ بُطلانُ الحصرِ (إِلَّا بِعَجْزِهِ عَنْ إِبْطَالِهِ) وإلَّا كانَ كلُّ منعٍ قَطعًا، والاتِّفاقُ على خلافِه، فإذا أَبْطَلَه فقد سَلِمَ حَصْرُه وكانَ له أنْ يَقُولَ: هذا ممَّا عَلِمْت أنَّه لا يَصْلُحُ فلمْ أُدخِلْه في حصري، ولأنَّه لم يَدَّعِ الحصرَ قَطعًا، بل قال: إنِّي ما وَجَدْتُ، أو ظنَّ العَدَمَ، وهو فيه صادقٌ.

(وَ) النَّاظرُ (المُجْتَهِدُ يَعْمَلُ بِظَنِّهِ) وُجوبًا فيَرجِعُ إليه، فإذا حَصَلَ له الظَّنُّ عَمِلَ بذلك، ولا يُكابِرُ نَفْسَه، وكانَ مُؤَاخَذًا بما اقتضاه ظنُّه، ولَزِمَه الأخذُ به.

(وَمَتَى كانَ الحَصْرُ) للأوصافِ مِن المُستدلِّ (وَالإِبْطَالُ) لها مِن المُعتَرِضِ (قَطْعِيًّا؛ فَالتَّعْلِيلُ) بذلك (قَطْعِيٌّ) بلا خلافٍ، ولكنَّ هذا قليلٌ في الشَّرعيَّاتِ، (وَإِلَّا) بأنْ كانَ حصرُ الأوصافِ ظنيًّا، أو الإبطالُ ظَنِّيًّا، أو كِلاهما، وهو الأغلبُ، (فَـ) التَّعليلُ (ظَنِّيٌّ) ويُعمَلُ به فيما لا يُتَعَبَّدُ به بالقطعِ مِن العقائدِ ونحوِها.

(وَمِنْ طُرُقِ الحَذْفِ:

(1)

الإِلْغَاءُ) أي: إلغاءُ الفارقِ بينَ الأصلِ والفرعِ، يَعني أنَّ إبطالَ المُستدلِّ بعضَ الأوصافِ الَّتي يَدَّعِيها المُعتَرضُ له طُرُقٌ يُعرَفُ بها:

أحدُها: أنْ يَدُلَّ بدليلٍ شرعيٍّ على إلغائِه، كما تَقَدَّمَ في قياسِ الذُّرةِ على البُرِّ.

(وَ) الإلغاءُ: (هُوَ إِثْبَاتُ الحُكْمِ) أي: بيانُ المُستدلِّ إثباتَ الحُكمِ (بِالبَاقِي) مِن الأوصافِ (فَقَطْ فِي صُورَةٍ، وَلَمْ يَثْبُتِ) الوصفُ

(1)

(دُونَهُ)

(1)

في «ع» : الف.

ص: 674

أي: دونَ الباقي منها، (فَـ) حينئذٍ (يَظْهَرُ اسْتِقْلَالُهُ) أي: استقلالُ الباقي مِن الأوصافِ وحدَه، ويَعلَمُ أنَّ المحذوفَ لا أَثَرَ له.

(وَنَفْيُ العَكْسِ) الَّذِي لا يُقْبَلُ (كَالإِلْغَاءِ) أي: يُشْبِهُه؛ لأنَّ كلًّا منهما إثباتُ الحُكمِ بدونِ الوصفِ (لَا عَيْنُهُ) أي: لا يَكُونُ نفيُ العكسِ عينَ الإلغاءِ؛ لأنَّه لم يُقصَدْ في الإلغاءِ لو كانَ المحذوفُ عِلَّةً، لانتفى عندَ انتفائِه، بل قُصِدَ لو أنَّ الباقيَ جُزءُ عِلَّةٍ لَمَا اسْتَقَلَّ.

(2)

(وَمِنْهَا) أي: من طُرُقِ الحذفِ: (طَرْدُ المَحْذُوفِ مُطْلَقًا) أي: أَلِفنَا عدمَ اعتبارِ المحذوفِ شرعًا (كَطُولٍ وَقِصَرٍ) فإنَّهما لم يُعتَبَرا في الإرثِ ولا الكَفَّارةِ ولا التَّقديمِ في الصَّلَاةِ، ولا غيرِها، فلا يُعَلَّلُ بهما حُكْمٌ أصلًا (أَوْ) أَلِفْنا عَدَمَ اعتبارِ المحذوفِ (بالنِّسبةِ إِلَى ذَلِكَ الحُكْمِ كَالذُّكُورِيَّةِ فِي) أحكامِ (العِتْقِ) فإنَّها مُلغاةٌ فيه فلا يُعَلَّلُ بها شيءٌ مِن أحكامِ العتقِ، وإنِ اعتُبِرَتْ في غيرِه، كالقضاءِ والنِّكاحِ والإرثِ.

(3)

(وَمِنْهَا) أي: مِن طُرُقِ الحذفِ عندَ بعضِ العلماءِ: (عَدَمُ ظُهُورِ مُنَاسَبَةٍ) بأنْ يَقُولَ المُستدلُّ: لم يَظهَرْ لي وجهُ مناسبةٍ بينَ الحُكمِ والوصفِ المحذوفِ.

(وَيَكْفِي المُنَاظِرَ) في عدمِ ظهورِ المناسبةِ أنْ يَقُولَ: (بَحَثْتُ) فلم أَجِدْ بينَ الوصفِ والحكمِ مناسبةً.

(فَلَوْ قال المُعْتَرِضُ) في سَبْرِه الوصفَ (البَاقِيَ) أي: الَّذِي اسْتَدَلَّ به المُستدِلُّ (كَذَلِكَ) أي: لَيْسَ بينَه

(1)

وبينَ الحُكمِ مُناسبةٌ، فسَبْرُه قاصرٌ، ثمَّ

(1)

ليس في «ع» .

ص: 675

إنْ كانَ قولُه ذلك (بَعْدَ تَسْلِيمِ مُنَاسَبَتِهِ) أي: مناسبةِ الوصفِ الَّذِي ذَكَرَه المُستدلُّ (لَمْ يُقْبَلْ) قولُه للمُناقضةِ، (وَ) إنْ كانَ (قَبْلَهُ) أي: قَبْلَ تسليمِ ما ذَكَرَه المُستدِلُّ فـ (سَبْرُ المُسْتَدِلِّ أَرْجَحُ) لأنَّه موافقٌ لتعديةِ الحُكمِ، والعِلَّةُ المُتعدِّيةُ أَرجَحُ من القاصرةِ.

(وَلَيْسَ لَهُ) أي: للمُستدِلِّ (بَيَانُ المُنَاسَبَةِ) بينَ الحُكمِ والوصفِ الباقي؛ لأنَّه انتقالٌ مِن السَّبْرِ إلى طريقٍ آخَرَ وهو المُناسبةُ.

(وَالسَّبْرُ الظَّنِّيُّ: حُجَّةٌ مُطْلَقًا) وقِيلَ: لا يُقبَلُ سبْرٌ في ظِنِّيٍّ.

(وَ) أمَّا (لَوْ أَفْسَدَ حَنْبَلِيٌّ عِلَّةَ شَافِعِيٍّ) في الرِّبَا (لَمْ يَدُلَّ) إفسادُه لها (عَلَى صِحَّةِ عِلَّتِهِ) أي: عِلَّةِ الحنبليِّ، كتعليلِ بعضِ الفقهاءِ بغيرِ عِلَّتَيِ الحنبليِّ والشَّافعيِّ، وليسَ إجماعُهما دليلًا على مَن خالَفَهما (لَكِنَّهُ) أي: لكنَّ إفسادَ الحنبليِّ عِلَّةَ الشَّافعيِّ (طَرِيقٌ لِإِبْطَالِ مَذْهَبِ خَصْمِهِ) الشَّافعيِّ (وَإِلْزَامٌ) مِن الحنبليِّ (لَهُ) أي: لخصمِه الشَّافعيِّ (صِحَّةَ عِلَّتِهِ) أي: عِلَّةِ الحنبليِّ، وهذا الَّذِي قَدَّمَه ابنُ مُفلِحٍ

(1)

وغيرُه.

(وَلِكُلِّ حُكْمٍ: عِلَّةٌ) عندَ الفقهاءِ (تَفْصِيلًا) وعندَ المُعتزلةِ وجوبًا.

قالَ القاضي

(2)

: التَّعليلُ الأصلُ تُرِكَ نادرًا؛ لأنَّ تَعَقُّلَ العِلَّةِ أقربُ إلى القبولِ مِن التَّعبُّدِ، ولأنَّه المألوفُ عُرفًا، والأصلُ موافقةُ الشَّرعِ له، فيُحمَلُ ما نحن فيه على الغالبِ.

وقالَ الآمِدِيُّ

(3)

: لا بُدَّ للحُكمِ مِن عِلَّةٍ؛ للإجماعِ على أنَّ أحكامَ الله

(1)

«أصول الفقه» (3/ 1272).

(2)

ينظر: «أصول الفقه» (3/ 1275).

(3)

«الإحكام في أصول الأحكام» (3/ 286).

ص: 676

ِ تَعَالَى مُقتَرنةٌ بالعِلَّةِ، وإن اختلفوا في اقتِرانِها بطريقِ الوجوبِ أو بطريقِ اللُّطفِ، واحتَجَّ بقولِه تَعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}

(1)

، وظاهرُه جميعُ ما جاءَ به، فلو خَلا حُكمٌ عن عِلَّةٍ لم يَكُنْ رحمةً؛ لأنَّ التَّكليفَ به بلا حكمةٍ وفائدةٍ مَشَقَّةٌ.

(وَيَجِبُ العَمَلُ بِالظَّنِّ فِيهَا) أي: في عللِ الأحكامِ (إِجْمَاعًا)، وقِيلَ: الأصلُ عدمُ التَّعليلِ؛ لأنَّ المُوجِبَ الصِّيغةُ، وبالتَّعليلِ يَنتقلُ حُكمُه إلى مَعناه فهو كالمجازِ من الحقيقةِ؛ لأنَّ التَّعليلَ لا يَجِبُ للنَّصِّ دائمًا، فيُعتَبَرُ لدعواه دليلٌ، وفي «واضحِ ابنِ عَقِيلٍ»

(2)

في مسألةِ القِيَاسِ: أكثرُ الأحكامِ غيرُ مُعَلَّلَةٍ، وقالَ في «فنونِه» لمن قاسَ الزَّكاةَ في مالِ الصَّبيِّ على العُشرِ وبَيَّنَ العِلَّةَ، فأَبْطَلَها ابنُ عَقِيلٍ، فقالَ له: ما العِلَّةُ إذن؟ فقالَ: لا يَلْزَمُ. ونَتَبَرَّعُ، فنَقُولُ: سُؤالُك عنِ العِلَّةِ قولُ مَن يُوجِبُ لكلِّ حُكمٍ علَّةً، وليسَ كذلك؛ لأنَّ مِن النَّاسِ مَن يَقُولُ: الأصولُ مُعَلَّلةٌ، وبعضُهم يَقُولُ: غيرُ مُعلَّلةٍ، وبعضُهم يَقولُ: بعضُها مُعَلَّلٌ وبَعضُها غيرُ مُعلَّلٍ، فيَجُوزُ أنَّ هذا لا عِلَّةَ له

(3)

، أو له عِلَّةٌ خافيةٌ عنَّا.

المسلكُ (الرَّابِعُ) مِن الطُّرُقِ الدَّالَّةِ على العِلِّيَّةِ: (المُنَاسَبَةُ، وَ) يُقالُ: (الإِخَالَةُ) بكسرِ الهمزةِ وبالخاءِ المعجمةِ، مِن خَالَ إذا ظَنَّ؛ لأنَّه بالنَّظرِ إليه يَخَالُ أنَّه عِلَّةٌ.

(وَاسْتِخْرَاجُهَا) أي: استخراجُ العِلَّةِ بذلك (يُسَمَّى: ‌

«تَخْرِيجَ المَنَاطِ» )

لِما فيه مِن ابتداءِ ما نِيطَ به الحُكمُ أي: عُلِّقَ عليه.

(1)

الأنبياء: 107.

(2)

«الواصح في أصول الفقه» (5/ 304).

(3)

ليس في «ع» .

ص: 677

(وَ) تخريجُ المناطِ (هُوَ تَعْيِينُ عِلَّةِ الأَصْلِ بِإِبْدَاءِ المُنَاسَبَةِ مِنْ ذَاتِ الوَصْفِ) لا بنصٍّ وغيرِه، وهو أنْ يَكُونَ الأصلُ مُشتملًا على وصفٍ مناسبٍ للحُكمِ، فيَحكُمُ العقلُ بوجودِ تلك العِلَّةِ المناسبةِ أنَّ ذلك الوصفَ هو عِلَّةُ الحُكمِ، كالإسكارِ

(1)

للتَّحريمِ، والقتلِ العمدِ العدوانِ للقصاصِ.

(وَالمُنَاسَبَةُ لُغَوِيَّةٌ) أي: المرادُ به هنا اللُّغويَّةُ، بخلافِ المُعرَّفِ وهو المناسبةُ، فإنَّها بالمعنى الاصطلاحيِّ حَتَّى لا يَكُونَ تَعريفًا للشَّيءِ بنَفْسِه.

(وَالمُنَاسِبُ: مَا تَقَعُ المَصْلَحَةُ عَقِبَهُ) أي: بأنْ يَكُونَ في إثباتِ الحُكمِ عَقِبَه مصلحةٌ أي: إذا وُجِدَ أو إذا سُمِعَ أدركَ العقلُ السَّليمُ كَوْنَ ذلك الوصفِ سببًا مُفضيًا إلى مصلحةٍ مِن المصالحِ.

(وَزِيدَ) أي: زادَ الطُّوفِيُّ

(2)

في الحدِّ: (لِرَابِطٍ) ما (عَقْلِيٍّ) أي: لرابطٍ مِن الرَّوابطِ العقليَّةِ بينَ تلك المصلحةِ وذلك الوصفِ.

مثالُه: إذا قِيلَ: المُسكِرُ حرامٌ، أَدرَكَ العقلُ أنَّ تَحريمَ المسكرِ

(3)

مُفضٍ إلى مصلحةٍ، وهي حفظُ العقلِ مِن الاضطرابِ، وإذا قيلَ: القصاصُ مشروعٌ، أَدرَكَ العقلُ أنَّ مشروعيَّةَ القصاصِ سببٌ مُفضٍ إلى مصلحةٍ وهي حفظُ النُّفوسِ.

تنبيهٌ: قولُه: «لرابطٍ عقليٍّ» أخذًا مِنَ النَّسبِ الَّذِي هو القَرابةُ، فإنَّ المناسِبَ هنا مستعارٌ ومُشتَقٌّ مِن ذلك، ولا شكَّ أنَّ المُتناسِبَينِ في بابِ النَّسبِ كالأخوَينِ وابنَيِ العمِّ، ونحوِه، إِنَّمَا كانا مُتَنَاسِبَينِ لمعنًى رابطٍ

(1)

في «ع» : كإسكار.

(2)

«شرح مختصر الروضة» (3/ 382).

(3)

في «د» : السكر.

ص: 678

بينَهما، وهو القَرابةُ، فكذلك الوصفُ المناسبُ هنا لا بُدَّ وأنْ يَكُونَ بينَه وبينَ ما يُناسِبُه مِن المصلحةِ رابطٌ عقليٌّ، وهو كونُ الوصفِ صالحًا للإفضاءِ إلى تلك المصلحةِ عقلًا.

فائدةٌ: أنواعُ المناسبةِ تَتفاوَتُ في العمومِ والخصوصِ والخفاءِ والظُّهورِ، فما خَفِيَتْ عنَّا مُناسبتُه سُمِّيَ تَعَبُّدًا، وما ظَهَرَتْ مناسبتُه سُمِّيَ مُعَلَّلًا، وقَالَه الطُّوفِيُّ

(1)

.

(وَيَتَحَقَّقُ الِاسْتِقْلَالُ) على أنَّ الوصفَ الَّذِي أَبْدَاه المُستدِلُّ هو العِلَّةُ (بِعَدَمِ مَا سِوَاهُ) أي: سِوى ذلك الوصفِ (بِـ) طريقِ (السَّبْرِ) ولا يَكفي قولُه: «بَحَثْتُ فلم أجِدْ غيرَه» ، وإلَّا يَلزَمُ الاكتفاءُ به ولا قائلَ به، وأمَّا ما سَبَقَ في

(2)

طريقِ السَّبْرِ والتَّقسيمِ فيكتفى بذلك؛ لأنَّ المدارَ هناك على الحصرِ، فاكتفى فيه ببحثِه فلم يَجِدْ، وهنا على أنَّه ظَفِرَ بوصفٍ في الأصلِ مناسبٍ، فافْتَرَقَا.

(وَ) المعنى (المَقْصُودُ مِنْ شَرْعِ الحُكْمِ:

(1)

قَدْ يُعْلَمُ حُصُولُهُ) يَعني أنَّ حصولَ الحُكمِ في الوصفِ المناسبِ قد يَكُونُ يَقينًا (كَبِيعٍ) فإِنَّه إذا كانَ صحيحًا حَصَلَ منه المِلكُ الَّذِي هو المقصودُ.

(2)

(أَوْ) قد (يُظَنُّ) حُصولُ الحُكْمِ (كَقِصَاصٍ) فإنَّ حُصولَ الانْزِجَارِ عنِ القتلِ لَيْسَ قطعيًّا، بدليلِ وجودِ الإقدامِ معَ عِلمِهم بأنَّ القصاصَ مشروعٌ.

(1)

«شرح مختصر الروضة» (3/ 382).

(2)

في «ع» : من.

ص: 679

(3)

(أَوْ) قد (يُشَكَّكُ فِيهِ) بأنْ يَتَساوى حُصُولُ الحكمِ المقصودِ وعدمُ حصولِه، فلا يُوجَدُ يقينٌ ولا ظنٌّ بل يَكُونانِ مُتَساوِيَينِ، (كَحَدِّ) شاربِ (خَمْرٍ) لحفظِ العقلِ، فإنَّ المُقْدِمِينَ كثيرٌ والمُجْتَنِبِينَ كثيرٌ، فتَساوَى المقصودُ وعَدَمُه فيه.

(4)

(أَوْ) قد (يُتَوَهَّمُ) بأنْ يَكُونَ عدمُ حصولِ المقصودِ أرجحَ مِن حصولِه (كَنِكَاحِ آيِسَةٍ) مِن الحيضِ (لِـ) ـمصلحةِ (التَّوَالُدِ) لأنَّه معَ إمكانِه عقلًا بعيدٌ عادةً.

(وَلَوْ فَاتَ) المقصودُ مِن الحُكمِ (يَقِينًا، كَلُحُوقِ نَسَبِ مَشْرِقِيٍّ) بأنْ تَزَوَّجَ بطريقِ التَّوكيلِ مشرقيٌّ (بِمَغْرِبِيَّةٍ) فأَتَتْ بولدٍ معَ القطعِ بانتفاءِ اجتماعِهما، (وَنَحْوِهِ) كاستبْراءِ جاريةٍ يَشتَريها بائعُها في المجلسِ معَ القطعِ بانتفاءِ شَغْلِ رَحِمِها من الثَّاني:(لَمْ يُعَلَّلْ بِهِ) ولم يُلحَقْ به الولدُ عندَ الجمهورِ، خلافًا للحنفيَّةِ، فيُلحَقُ عندَهم الولدُ حفظًا للنَّسَبِ معَ أنَّ مَذهَبَهم عدمُ استبْراءِ الجاريةِ.

تنبيهٌ: فإنْ قِيلَ: قدِ اعتَبَرَ أكثرُ أصحابِنا فأَوْجَبُوا الاستبْراءَ.

والجوابُ: أنَّ ذلك تَعبُّدٌ غيرُ معقولِ المعنى، وليسَ مُعَلَّلًا باحتمالِ الشَّغلِ، وكذا يُلحَقُ الولدُ، واللهُ أعلمُ.

(وَ‌

‌المُنَاسِبُ) ثلاثةُ أَضرُبٍ:

(دُنْيَوِيٌّ) وأُخرَوِيٌّ، وإقناعيٌّ،

فالدُّنيويُّ ثلاثةُ أقسامٍ:

(1)

(ضَرُورِيٌّ أَصْلًا) وحاجيٌّ، وتحسينيٌّ، والضَّروريُّ: ما كانَتْ مَصلَحَتُه في مَحَلِّ ضرورةِ العبادِ، (وَهُوَ أَعْلَى رُتَبِ المُنَاسَبَاتِ) في إفادةِ

ص: 680

ظنِّ الاعتبارِ، وذلك خمسةُ أنواعٍ، وهي المقاصدُ الَّذِي اتَّفَقَ أهلُ المللِ في حِفْظِها وهي:

- (حِفْظُ: الدِّينِ) وهو بقتالِ الكفَّارِ، قال اللهُ تَعالى:{قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}

(1)

الآيةَ،

- (فَـ) حفظُ (النَّفْسِ) وهو بمشروعيَّةِ القصاصِ، قال اللهُ تَعالى:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ}

(2)

،

- (فَـ) حفظُ (العَقْلِ) وهو بتحريمِ المُسكِراتِ ونَحوِها، قال اللهُ تَعالى:{إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ}

(3)

،

- (فَـ) حفظُ (النَّسْلِ) وهو بوجوبِ حدِّ الزَّاني، وقد جَلَدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ورَجَمَ،

- (فَـ) حفظُ (المَالِ، وَالعِرْضِ) قال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ»

(4)

، وجُعِلَ العِرضُ في رُتبَةِ المالِ تَبَعًا لِما في «جمع الجوامع»

(5)

وغيرِه، حيثُ عَطَفَه بالواوِ، فيَكُونُ مِن أدنى الكُلِّيَّاتِ، لكنَّ الأعراضَ تَتفَاوَتُ، فمنها ما هو مِن الكُلِّيَّاتِ، وهو الأنسابُ، وهي أرفعُ مِن الأموالِ، فإنَّ حِفظَ النَّسَبِ بتحريمِ الزِّنا تارةً، وبتحريمِ القذفِ المُؤدِّي إلى الشَّكِّ في أنسابِ الخلْقِ ونِسْبَتِهم إلى غيرِ آبائِهم تارةً، وتحريمُ الأنسابِ مُقَدَّمٌ على الأموالِ، ولذلك عَطَفَه بالفاءِ، ومنها ما هو دُونَها، وهو ما يَكُونُ مِن الأعراضِ غيرُ الأنسابِ.

(1)

التوبة: 29.

(2)

البقرة: 179.

(3)

المائدة: 91.

(4)

رواه البخاري (4406)، ومسلم (1679) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه.

(5)

«الغيث الهامع شرح جمع الجوامع» (ص 575).

ص: 681

(وَ) ما هو مُلْحَقٌ بالضَّروريِّ (مُكَمِّلٌ لَهُ) في حُكمِه، ومَعنى كونِه مُكَمِّلًا له: أنَّه لا يَستقِلُّ ضروريًّا بنَفْسِه، بل بطريقِ الانضمامِ، فله تأثيرٌ فيه لا بنفسِه، فيَكُونُ في حُكمِ الضَّرورةِ مبالغةً في مُراعاتِه، (كَـ) المُبالغةِ فِي (حِفْظِ العَقْلِ بِالحَدِّ بـ) تحريمِ شُربِ (قَلِيلٍ مُسْكِرٍ) والمبالغةِ في حِفظِ الدِّينِ بتحريمِ البدعةِ وعقوبةِ المُبتدعِ الدَّاعي إليها، والمبالغةِ في حِفظِ النَّفسِ بإجراءِ قصاصٍ في الجِراحاتِ ونحوِ ذلك؛ لأنَّ الكثيرَ المُسكِرَ مُفسِدٌ للعقلِ، ولا يَحصُلُ إلَّا بإفسادِ كلِّ واحدٍ مِن أجزائِه فحدُّ شاربِ القليلِ؛ لأنَّ القليلَ مُتلِفٌ لجزءٍ مِن العقلِ وإنْ قَلَّ، والمبالغةِ في حِفظِ النَّسبِ بتحريمِ النَّظرِ

(1)

واللَّمْسِ والتَّعزيرِ عليه، وكذلك المبالغةِ في حِفظِ المالِ والعِرضِ وغيرِها بتعزيرِ الغاصبِ ونحوِه وتعزيرِ السَّابِّ بغيرِ اِلقذف، ونحوِ ذلك، وقد نَبَّهَ الشَّارِعُ على إلحاقِ ذلك بقولِه صلى الله عليه وسلم:«كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ» ، ثمَّ قال:«أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ»

(2)

.

تنبيهٌ: كَوْنُ حفظِ العقلِ ضروريًّا في كلِّ مِلَّةٍ نظرٌ؛ فإنَّ الكِتابيَّ لا يُحَدُّ على الأصحِّ لاعتقادِه إباحتَه.

(2)

(وَ) القِسمُ الثَّاني مِن الدُّنيويِّ (حَاجِيٌّ) وهو ما كانَتْ مَصلَحَتُه في مَحَلِّ الحاجةِ لا في مَحَلِّ الضَّرورةِ، ويُقالُ له: المصلحيُّ (كَبَيْعٍ، وَنَحْوِهِ) كإجارةٍ ومساقاةٍ؛ لأنَّ مالكَ الشَّيءِ قد لا يُعيرُه

(3)

ولا يَهَبُه، وليسَ كلُّ أحدٍ يَعرِفُ عملَ الأشجارِ ولا التِّجارةَ، وقد يَعرِفُ ذلك، ولكنَّه مشغولٌ

(1)

ليس في «ع» .

(2)

رواه البخاري (2051)، ومسلم (1599) من حديث النُّعمان بن بشير رضي الله عنه.

(3)

في «د» : يعير.

ص: 682

بأهَمَّ من ذلك، فهذه الأشياءُ وما أَشْبَهَها لا يَلْزَمُ مِن فَوَاتِها فواتُ شيءٍ مِن الضَّروريَّاتِ الخمسةِ.

(وَ) على هذا (بَعْضُهَا) أي: بعضُ صورِ الحاجيِّ (أَبْلَغُ) مِنْ بَعْضٍ.

(وَقَدْ يَكُونُ) الحاجيُّ: (ضَرُورِيًّا) في بعضِ الصُّورِ (كَشِرَاءِ وَلِيِّ) طفلٍ (مَا) أي: شيئًا

(1)

(يَحْتَاجُهُ طِفْلٌ) مِن مطعومٍ حيثُ كانَ في مَعرِضِ التَّلَفِ مِن الجوعِ (وَنَحْوِهِ) كالإجارةِ لتَربيةِ الطِّفلِ.

(وَ) ما هو مُلحَقٌ بالحاجيِّ (مُكَمِّلٌ لَهُ، كَرِعَايَةِ كَفَاءَةٍ) في نكاحٍ، (وَ) رعايةِ (مَهْرِ مِثْلٍ فِي تَزْوِيجِ صَغِيرَةٍ)؛ لأنَّه أَفْضَى إلى دوامِ النِّكاحِ وتكميلِ مقاصدِه، وإنْ حَصَلَ أصلُ الحاجةِ بدونِ ذلك.

(3)

(وَ) القسمُ الثَّالثُ مِن الدُّنيويِّ: (تَحْسِينِيٌّ) وهو ما كانَتْ مَصلحتُه مُسْتَحسَنَةً في العاداتِ، وليسَ ضروريًّا ولا حاجيًّا، وذلك ضربانِ:

أحدُهما: ما لَيْسَ فيه منافاةٌ، أي:(غَيْرُ مُعَارِضٍ لِلْقَوَاعِدِ) أي: قواعدِ الشَّرعِ (كَتَحْرِيمِ) القاذوراتِ مِن (النَّجَاسَةِ) والبُزَاقِ؛ فإنَّ نفرةَ الطِّباعِ مَعنًى يُناسِبُ تحريمَها حَتَّى يَحرُمَ التَّضَمُّخُ بالنَّجاسةِ بلا عُذرٍ.

(وَ) كـ (سَلْبِ المَرْأَةِ عِبَارَةَ عَقْدِ النِّكَاحِ) واعتبارِ الوليِّ فيه لاستحياءِ النِّساءِ مِن مباشرةِ العقودِ على فُرُوجِهِنَّ لإشعارِه بتَوَقَانِ نُفوسِهِنَّ إلى الرِّجالِ وهو غيرُ لائقِ بالمروءةِ

(2)

، (لَا) سَلْبِ (العَبْدِ أَهْلِيَّةَ الشَّهَادَةِ) أي: فلا يَتَمَشَّى ذلك (عَلَى أَصْلِنَا) فإنَّ عندَنا شهادةَ العبدِ مقبولةٌ في كلِّ شيءٍ على الأصحِّ، نعمْ، سَلْبُ الولايةِ عنه من الحاجِيِّ؛ لأنَّها تَستدعي فراغًا،

(1)

في «د» : شيء.

(2)

في «ع» : بالمرأة.

ص: 683

والرَّقيقُ مُستغرِقٌ في خدمةِ سيِّدِه، وأمَّا روايتُه وفتواه فإِنَّما جازا منه لعدمِ الضَّرَرِ بما يَتَرَتَّبُ عليها، فلذلك فارَقَا القضاءَ ونَحوَه.

(أَوْ) أي: والضَّربُ الثَّاني مِنَ التَّحسينيِّ: ما يُنافي قواعدَ الشَّرعِ أي: (مُعَارِضٌ) لها (كَالكِتَابَةِ) فإنَّها من حيثُ كونُها مَكْرُمَةً في القاعدةِ مُستحسَنَةً احتملَ الشَّرعُ فيها خَرمَ قاعدةٍ مُمهِّدةٍ وهي امتناعُ بيعِ الإنسانِ مالَ نَفْسِه بمالِ نفسِه ومعاملةِ عبدِه، ومِن ثمَّ لم تَجِبِ الكتابةُ عندَ المُعظَمِ.

(وَلَيْسَتْ هَذِهِ المَصْلَحَةُ) الدُّنيويَّةُ الواقعةُ عَقِبَ المناسبِ لرابطٍ عقليٍّ (بِحُجَّةٍ) على الصَّحيحِ، وتُسَمَّى المصلحةَ المُرسَلَةَ، واحتجَّ له بأنَّا لم نَعلَمْ محافظةَ الشَّرعِ عليها، ولذلك لم يُشْرَعْ في زَوَاجِرِها أبلغُ ممَّا شُرِعَ كالمُثْلَةِ في القصاصِ، فإنَّها أبلغُ في الزَّجرِ [عن القتلِ، وكذا القتلُ في السَّرقةِ وشربِ الخمرِ، فإِنَّه أبلغُ في الزَّجرِ]

(1)

عنهما، ولم يُشرَعْ شيءٌ مِن ذلك، فلو كانَتْ هذه المسألةُ حُجَّةً لحافَظَ الشَّرعُ على تحصيلِها بأبلغِ الطُّرُقِ، لكنَّه لم يُعلَمْ

(2)

بفعلِ ذلك، فلا يَكُونُ حُجَّةً، فإثباتُها حُجَّةً وضعٌ للشَّرعِ بالرَّأيِ، كما يُحكَى أنَّ مَالِكًا أجازَ قَتْلَ ثُلُثِ الخلْقِ لإصلاحِ الثُّلُثَينِ، ومحافظةُ الشَّرعِ على مصلحتِهم بهذا الطَّريقِ غيرُ معلومٍ.

(وَ) الضَّربُ الثَّاني مِن «المناسِبِ» : (أُخْرَوِيٌّ، كَتَزْكِيَةِ النَّفْسِ) عنِ الرَّذائلِ (وَرِيَاضَتِهَا) وتهذيبِ الأخلاقِ، فإنَّ تأثيرَ منفعةِ ذلك في سعادةِ الآخرةِ.

(وَقَدْ يَتَعَلَّقُ) المناسبُ (بِهِمَا) أي: بالدُّنيويِّ والأُخرويِّ (كَإِيجَاِب الكَفَّارَةِ) بالمالِ، فتَعَلُّقُه بالدُّنيويِّ ما يَعودُ على الفقراءِ مِن المصلحةِ

(1)

ليس في «ع» .

(2)

زاد في «ع» : بذلك.

ص: 684

بانتفاعِهم بالمالِ، [وتَعَلُّقُه بالأُخرويِّ]

(1)

ما يَحصُلُ للمُكَفِّرِ مِن الثَّوابِ.

(وَ) الضَّربُ الثَّالثُ مِن «المناسِبِ» : (إِقْنَاعِيٌّ) وهو ما (يَنْتَفِي ظَنُّ مُنَاسَبَتِهِ بِتَأَمُّلِهِ) وذلك بأنْ يُظنَّ في بادي الرَّأيِ أنَّه مُناسِبٌ، ثمَّ يَزولَ ذلك الظَّنُّ بالتَّأمُّلِ وإمعانِ النَّظرِ فيه، كتعليلِ الشَّافعيَّةِ تحريمَ بيعِ المَيْتةِ، وقياسِ الكلبِ عليه.

(وَإِذَا اشْتَمَلَ وَصْفٌ عَلَى مَصْلَحَةٍ وَمَفْسَدَةٍ رَاجِحَةٍ)[على المصلحةِ]

(2)

(أَوْ مُسَاوِيَةٍ) لها (لَمْ تَنْخَرِمْ مُنَاسَبَتُهُ) أي: مناسبةُ ذلك الوصفِ للحُكمِ على الأرجحِ؛ لأنَّها أمرٌ حقيقيٌّ، فلا يَبْطُلُ بمُعارِضٍ، والقولُ الثَّاني تَنْخَرِمُ، ووجهُه حُكمُ العقلِ بألَّا مناسبةَ معَ مفسدةٍ مساويةٍ، ولهذا يَنسُبُ العقلاءُ السَّاعيَ في تحصيلِ مِثْلِ هذه المصلحةِ

(3)

إلى السَّفَهِ، قال بعضُهم: لا يُعدَمُ نَفعُه لقِلَّتِه، لكنْ يَندفعُ مُقتضاه. قالُوا: لو لم يَكُنْ لَمَا حَسُنَ قولُ العاقلِ

(4)

الدَّاعي إلى إثباتِ الحُكمِ حاصلٌ لولا المانعُ.

رُدَّ: المرادُ به: المصلحةُ الَّتي في المناسبةِ، لا مصلحةٌ مستقلَّةٌ بتَحقيقِها، فالمانعُ أخلَّ بمناسبةِ المصلحةِ، فلَيْسَ الانتفاءُ مُحالًا على المفسدةِ معَ المناسبةِ لفواتِ شَرطِها.

قالوا: تَصِحُّ الصَّلَاةُ في الدَّارِ المغصوبةِ، فإنْ غَلَبَ الحرامُ زادَتْ مَفسدَتُها وإلَّا تَسَاوَتَا.

رُدَّ: لم تَنْشَأْ مفسدةُ الغصبِ عنِ الصَّلَاةِ، ومصلحةُ الصَّلَاةِ عنِ الغصبِ، ولو نَشَأَتا مِن الصَّلَاةِ: لم تَصِحَّ

(1)

في «ع» : وتعلق الأخروي.

(2)

ليس في «د» .

(3)

في «د» : المسألة.

(4)

في «د» : القائل.

ص: 685

(وَلِلْمُعَلِّلِ تَرْجِيحُ وَصْفِهِ:

(1)

بِطَرِيقٍ تَفْصِيلِيٍّ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ المَسَائِلِ،

(2)

وَ) له ترجيحُ وصفِه بطريقٍ (إِجْمَالِيٍّ وَهُوَ لَوْ لَمْ يُقَدَّرْ رُجْحَانُ المَصْلَحَةِ ثَبَتَ الحُكْمُ تَعَبُّدًا) على خلافِ الأصلِ؛ لأنَّ التَّعليلَ هو الأصلُ تُرك نادرًا، وتَعَقُّلُ العِلَّةِ أقربُ إلى القبولِ مِن التَّعبُّدِ؛ ولأنَّه المألوفُ عُرفًا، والأصلُ موافقةُ الشَّرعِ له، فيُحتَمَلُ التَّعليلُ على الغالبِ، وذَكَرَ الآمِدِيُّ

(1)

أنَّ لقائلٍ أنْ يُعارِضَه -يَعني المُعَلِّلَ- بعدمِ الاطِّلاعِ على ما يَكُونُ راجحًا معَ البحثِ عنه.

فإنْ قِيلَ: بَحَثْنا عن وصفٍ صالحٍ للتَّعليلِ لا يَتَعَدَّى مَحَلَّ الحُكْمِ فهو أَوْلى.

قِيلَ: إنْ خَرَجَ ما به التَّرجيحُ عن مَحَلِّ الحُكمِ لم يَتَحَقَّقْ به ترجيحٌ فيه، وإلَّا اتَّحَدَ مَحَلُّهما، فلا ترجيحَ، وإنْ سَلِمَ اتِّحادُ مَحَلِّ بحثِ المُستدِلِّ فقطْ، فإِنَّما يَتَرَجَّحُ بحثُه بتقديرِ كَوْنِ ظَنِّه راجحًا لا العكسِ، ولا مُساويًا، ووُقُوعُ احتمالٍ مِن اثنينِ أقربُ.

قالَ: واشتِراطُ التَّرجيحِ في تحقيقِ المناسبةِ إِنَّمَا هو عندَ مَن لا يُخَصِّصُ العِلَّةَ، وإلَّا فلا

(2)

.

(وَالمُنَاسِبُ) هو الوصفُ المُعَلَّلُ به.

وأقسامُه أربعةٌ: مُؤَثِّرٌ، ومُلائِمٌ، وغَريبٌ، ومُرسَلٌ.

ص: 686

ولا بُدَّ أنْ يُعلَمَ من الشَّارِعِ التفاتٌ إلى ذلك الوصفِ. ويَظهَرُ ذلك بتقسيمِ المناسبِ؛ لأنَّه إمَّا أن يُعلَمَ أنَّ الشَّرعَ اعتَبَرَه كالقسمِ الأوَّلِ، أو لا يُعلَمَ أنَّه اعتَبَرَه، ولا أَلْغَاه كالمُرسَلِ الملائِمِ، أو يُعلَمَ أنَّه أَلْغاه كالمُرسَلِ المُلْغَى.

والمُعتَبَرُ بنصٍّ أو إجماعٍ يُسَمَّى «مُؤَثِّرًا» ؛ لظهورِ التَّأثيرِ فيه عينًا وجنسًا، فظَهَرَ تأثيرُه في الحُكْمِ، والمُعتَبَرُ بتَرتيبِ الحُكمِ على الوصفِ فقطْ إنْ ثَبَتَ بنصٍّ أو إجماعٍ اعتبارُ عينِه في جنسِ الحُكمِ أو بالعكسِ أو جنسِه في جنسِ الحُكمِ، يُسَمَّى «ملائمًا» لكونِه موافقًا لِما اعْتَبَرَه الشَّارِعُ، وإلَّا سُمِّيَ «غريبًا» ؛ لأنَّه لم يَشهَدْ له غيرُ أصلِه بالاعتبارِ، وغيرُ المُعتَبَرِ يُسَمَّى «مُرسَلًا» ، فإنِ اعتبَرَ الشَّارِعُ جنسَه البعيدَ في جنسِ الحُكْمِ سُمِّيَ «ملائمًا مُرسلًا» ، وإلَّا «غريبًا مُرسلًا» ، أو «مُرسَلًا ثَبَتَ إلغاؤُه» ، والمرادُ باعتبارِ الشَّرعِ: أنْ تُورَدَ الفروعُ على وَفْقِه، لا أنْ يَنُصَّ على العِلَّةِ أو يُومِئَ إليها، وإلَّا لم تَكُنِ العِلِّيَّةُ مُستفادةً بالمناسبةِ.

إذا تَقَرَّرَ هذا، فالقسمُ الأوَّلُ مِن المُعتَبَرِ («مُؤَثِّرٌ» إِنِ اعْتُبِرَ) مِن قِبَلِ الشَّارِعِ (بِنَصٍّ) كتعليلِ الحَدَثِ

(1)

بمَسِّ الذَّكَرِ، اعتُبِرَ عينُه في عينِ الحُكمِ وهو الحَدَثُ، لحديثِ:«مَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ»

(2)

، ومِثْلُه نَفْسُ السُّكرِ عِلَّةُ التَّحريمِ في الخمرِ، اعتُبِرَ عينُه في عينِ الحُكمِ، وهو التَّحريمُ حيثُ حُرِّمَ الخمرُ فلْيَلْحَقْ به النَّبيذُ، (أَوِ) اعْتُبِرَ بـ (إِجْمَاعٍ) كتعليلِ ولايةِ المالِ بالصِّغَرِ، فإِنَّه اعتبِرَ عينُ الصِّغَرِ في عينِ الولايةِ في المالِ بالإجماعِ، والمرادُ بالعينِ: النَّوعُ، لا الشَّخصُ مِن النَّوِع.

(1)

في «د» : الحديث.

(2)

رواه أبو داود (181)، والترمذي (82)، والنسائي (447)، وابن ماجه (479)، وابن حبان (1116) من حديث بُسْرَةَ بِنْتِ صَفْوَانَ رضي الله عنها.

قال الترمذي: حديث حسن صحيح.

ص: 687

(وَ) القسمُ الثَّاني مِن المُعتَبَرِ: («مُلَائِمٌ» إِنِ اعْتُبِرَ بِتَرَتُّبِ

(1)

الحُكْمِ عَلَى الوَصْفِ فَقَطْ، إِنْ ثَبَتَ بِنَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ:

(1)

اعْتِبَارُ عَيْنِهِ) أي: الوصفِ (فِي جِنْسِ الحُكْمِ،

(2)

أَوْ بِالعَكْسِ) بأنْ ثَبَتَ بنصٍّ، أو إجماعٍ اعتبارُ جنسِ الوصفِ في عينِ الحُكمِ،

(3)

(أَوْ) ثَبَتَ بنصٍّ، أو إجماعٍ اعتبارُ (جِنْسِهِ فِي جِنْسِ الحُكْمِ)، فهذه ثلاثةُ أنواعٍ.

مثالُ الأوَّلِ: امتزاجُ النَّسَبينِ في الأخِ مِن الأبوينِ، اعتُبِرَ تقديمُه على الأخِ مِن الأبِ في الإرثِ، وقِسْنا عليه تقديمَه في ولايةِ النِّكاحِ وغيرِها مِن الأحكامِ الَّذِي قُدِّمَ عليه فيها، فإِنَّه وإنْ لم يَعتَبِرْه الشَّارِعُ في عينِ هذه الأحكامِ لكنَّه اعتَبَرَه في جِنسِها وهو التَّقدُّمُ في الجملةِ، وكالتَّعليلِ بالصِّغَرِ في قياسِ النِّكاحِ على المالِ في الولايةِ، فإنَّ الشَّرعَ اعتبَرَ عينَ الصِّغَرِ في [عينِ ولايةِ المالِ به مُنَبِّهًا على الصِّغَرِ، وثَبَتَ اعتبارُ عينِ الصِّغَرِ في]

(2)

جنسِ حُكْمِ الولايةِ إجماعًا.

ومثالُ الثَّاني: المَشَقَّةُ المُشتَركةُ بينَ الحائضِ والمسافرِ في سقوطِ القضاءِ، [فإنَّ الشَّارِعَ اعتَبَرَها في عينِ سقوطِ القضاءِ]

(3)

في الرَّكعتَينِ [مِن الرُّباعيَّةِ]

(4)

فسَقَطَ بها القضاءُ في صلاةِ الحائضِ قياسًا، وكالتَّعليلِ بعُذرِ الحَرَجِ في قياسِ الحَضَرِ بعذرِ المطرِ على السَّفَرِ في الجمعِ، فجِنسُ الحرجِ مُعتَبَرٌ في عينِ رُخصَةِ الجمعِ إجماعًا.

(1)

في «د» : بترتيب.

(2)

ليس في «د» .

(3)

ليس في «د» .

(4)

ليس في «د» .

ص: 688

ومثالُ الثَّالثِ: ما رُوِيَ عن عليٍّ رضي الله عنه في شاربِ الخمرِ أنَّه إذا شَرَبَ هَذَى وإذا هَذَى افْتَرَى

(1)

، فيَكُونُ عليه حدُّ المُفتَري أي: القاذفِ، ووافَقَه الصَّحابةُ عليه، فأَوْجَبوا حَدَّ القذفِ على الشَّاربِ، لا لكونِه شَرِبَ، بل لكَوْنِ الشُّربِ مَظِنَّةَ القذفِ، فأَقاموه مُقامَ القذفِ قياسًا على إقامةِ الخلوةِ بالأجنبيَّةِ مُقامَ الوطءِ في التَّحريمِ، لكَوْنِ الخلوةِ مَظِنَّةً له، فظَهَرَ أنَّ الشَّارِعَ إِنَّمَا اعتَبَرَ المَظِنَّةَ الَّتي هي جنسٌ لمظنَّةِ الوطءِ، ومَظِنَّةَ القذفِ في الحُكْمِ الَّذِي هو جنسٌ لإيجابِ حَدِّ القذفِ وحُرمةِ الوطءِ، وكالتَّعليلِ بجنايةِ القتلِ العمدِ العدوانِ في قياسِ المُثقَلِ على المُحدَّدِ في القصاصِ فجنسُ الجنايةِ مُعتبَرَةٌ في جنسِ قصاصِ النَّفسِ لاشتمالِه على قصاصِ النَّفسِ وغيرِها كالأطرافِ.

(وَالقِسْمُ الثَّالِثُ) المُشارُ إليه بقولِه: (وَإِلَّا) بأن لم يَشهَدْ له غيرُ أصلِه بالاعتبارِ (فَـ «غَرِيبٌ») كالتَّعليلِ بالإسكارِ في قياسِ النَّبيذِ على الخمرِ بتقديرِ عدمِ نَصٍّ بعِلِّيَّةِ الإسكارِ، فعينُ الإسكارِ مُعتَبَرٌ في عينِ التَّحريمِ بتَرتيبِ الحُكمِ عليه فقطْ، كاعتبارِ جنسِ المَشقَّةِ المُشتَركةِ بينَ الحائضِ والمسافرِ في جنسِ التَّخفيفِ.

(وَكُلُّ) قِسمٍ (مِنَ الثَّلَاثَةِ) وهي: المُؤثِّرُ، والمُلائِمُ بأنواعِه السَّابقةِ، والغَريبُ (حُجَّةٌ) ولم يَذكُرْ صاحبُ «الأصلِ» خلافًا في حُجِّيَّةِ القِسمِ الأوَّلِ.

(1)

رواه مالك (2)، والشافعي (ص 286).

ص: 689

(وَإِنِ اعْتَبَرَ الشَّارِعُ جِنْسَهُ) أي: جنسَ الوصفِ المناسبِ (البَعِيدَ فِي جِنْسِ الحُكْمِ؛ فَمُرْسَلٌ مُلَائِمٌ) وهو القسمُ الرَّابعُ مِن أقسامِ

(1)

المُناسبِ المُعَلَّلِ به كتعليلِ قليلِ الخمرِ، بأنْ يَدعُوَ إلى كثيرِها، فجنسُه البعيدُ مُعتَبَرٌ في جنسِ الحُكْمِ، كتحريمِ الخَلْوَةِ بتحريمِ الزِّنا.

(وَلَيْسَ) المُرسلُ الملائمُ (بِحُجَّةٍ) عندَ الأكثرِ؛ لأنَّه لم يَشهَدِ الشَّارِعُ باعتبارِه وإلغائِه، فلا بدَّ مِن شاهدٍ قريبٍ بالاعتبارِ،

(وَإِلَّا) بأنْ لم يَعتَبِرِ الشَّارِعُ جنسَ الوصفِ البعيدِ في جنسِ الحُكمِ، (فَـ) نوعانِ:(مُرْسَلٌ غَرِيبٌ، أَوْ مُرْسَلٌ ثَبَتَ) أي: عُلِمَ مِن الشَّارِعِ (إِلْغَاؤُهُ) معَ أنَّه مُستحيلُ المُناسبةِ، ولا يَجُوزُ التَّعليلُ به.

مثالُ الغريبِ المرسلِ: التَّعليلُ بالفعلِ المُحَرَّمِ لغرضٍ فاسدٍ في قياسِ الباتِّ في مَرَضِه على القاتلِ في الحُكمِ بالمُعارضةِ بنقيضِ مَقصودِه، وصارَ توريثُ المبتوتةِ كحِرمانِ القاتلِ، وإنَّما كانَ غريبًا مُرسلًا لأنَّه لم يَعتبَرِ الشَّارِعُ عينَ الفعلِ المُحَرَّمِ لغرضٍ فاسدٍ في عينِ المُعارضةِ بنقيضِ المقصودِ بترتيبِ الحُكْمِ عليه، ولم يَثبُتْ بنصٍّ أو إجماعٍ اعتبارُ عينِه في جنسِ المُعارضةِ بنقيضِ المقصودِ، ولا جنسٍ في عينِها، ولا جنسٍ في جِنسِها.

ومثالُ المُلغى: إيجابُ صومِ شهرينِ ابتداءً في الظِّهارِ أو الوطءِ في رمضانَ على مَن يَسهُلُ عليه العتقُ، كما أَفْتى به بعضُ العلماءِ.

(وَهُمَا) أي: المُرسلُ الغريبُ والَّذي ثَبَتَ إلغاؤُه (مَرْدُودَانِ) الأوَّلُ عندَ الأكثرِ والثَّاني بالإجماعِ.

(1)

ليس في «د» .

ص: 690

(فائدةٌ)

اعلمْ أنَّ كلًّا مِنَ الوصفِ والحُكمِ نوعٌ، وما هو أعمُّ منه جنسٌ، وله مراتبُ: عالٍ، وسافلٌ، ومُتَوَسِّطٌ، والعبْرةُ دائمًا بالأسفلِ القريبِ مِن المُعَيَّنِ في الوصفِ وفي الحُكمِ.

(أَعَمُّ الجِنْسِيَّةِ فِي الوَصْفِ

(1)

أي: أعمُّ مراتبِ جنسِ الوصفِ:

(1)

(كَوْنُهُ وَصْفًا) لأنَّه أعمُّ مِن أنْ يَكُونَ مَناطًا للحُكْمِ أو لا يَكُونَ؛ إذ بتقديرِ أنْ يَكُونَ طَرديًّا غيرَ مناسبٍ لا يَصلُحُ أنْ يُناطَ به حُكْمٌ، فكلُّ مناطٍ وصفٌ، وليسَ كلُّ وصفٍ مَناطًا.

(2)

(فَمَنَاطًا) أَعَمُّ مِن أن يَكُونَ مصلحةً أو لا، فكلُّ مصلحةٍ مناطُ الحكمِ، وليسَ كلُّ مناطٍ مصلحةً؛ لجوازِ أنْ يُناطَ الحكمُ بوصفٍ تَعبُّديٍّ لا يَظهَرُ وجهُ المصلحةِ فيه.

(3)

(فَمَصْلَحَةً خَاصَّةً) لأنَّها قد تَكُونُ عامَّةً، بمَعنى أنَّها مُتَضَمِّنَةٌ لمُطلَقِ النَّفعِ، وقد تَكُونُ خاصَّةً بمَعنى كَوْنِها مِن بابِ الضَّروراتِ والحاجاتِ والتَّكْملاتِ.

(وَفِي حُكْمٍ) أي: أعمُّ مراتبِ جِنْسِ الحُكْمِ:

(1)

(كَوْنُهُ حُكْمًا) لأنَّه أعمُّ مِن أنْ يَكُونَ وجوبًا، أو تحريمًا، أو صِحَّةً، أو فسادًا،

(2)

(فَوَاجِبًا وَنَحْوَهُ) مِن الحرامِ والمندوبِ والمكروهِ والمباحِ، وما

(1)

في «مختصر التحرير» (ص 216): وصف.

ص: 691

يُلْحَقُ بذلك مِن الأحكامِ الوَضعيَّةِ؛ إذِ الواجبُ أعمُّ مِن أنْ يَكُونَ عبادةً اصطلاحيَّةً أو غيرَها،

(3)

(فَعِبَادَةً) لأنَّ جنسَ العبادةِ أعمُّ مِن الصَّلَاةِ والزَّكاةِ وغيرِهما مِن العباداتِ،

(4)

(فَصَلَاةً) إذْ كلُّ صلاةٍ عبادةٌ، وليسَ كلُّ عبادةٍ صلاةً،

(5)

(فَظُهْرًا) لأنَّ الصَّلَاةَ أعمُّ مِن الظُّهرِ؛ إذ كلُّ ظُهْرٍ صلاةٌ، وليسَ كلُّ صلاةٍ ظُهرًا.

إذا عَلِمْتَ الأعمَّ والأخصَّ مِن الأوصافِ والأحكامِ، فاعلَمْ أنَّ تأثيرَ بعضِها في بعضٍ يَتَفَاوَتُ في القوَّةِ والضَّعفِ.

(وَتَأْثِيرُ:

(1)

الأَخَصِّ فِي الأَخَصِّ: أَقْوَى) أنواعُ التَّأثيرِ، كمَشَقَّةِ التَّكرارِ في سُقوطِ الصَّلَاةِ، والصِّغَرِ في ولايةِ النِّكاحِ،

(2)

(وَ) تَأثيرُ (الأَعَمِّ فِي الأَعَمِّ يُقَابِلُهُ) فهو أضعفُ أنواعِ التَّأثيرِ،

(3)

(وَ) تأثيرُ (الأَخَصِّ فِي الأَعَمِّ وَعَكْسُهُ) وهو تأثيرُ الأعمِّ في الأخصِّ (وَاسِطَتَانِ) أي: بينَ ذَيْنِكَ الطَّرفَينِ؛ إذ في كلِّ واحدٍ منهما قوَّةٌ مِن جهةِ الأخصِّيَّةِ، وضعفٌ مِن جهةِ الأعمِّيَّةِ بخلافِ الطَّرفَينِ؛ إذِ الأوَّلُ تَمَحَّضَتْ فيه الأخصِّيَّةُ فتَمَحَّضَتْ له القُوَّةُ، والثَّاني تَمَحَّضَتْ فيه الأعمِيَّةُ فتَمَحَّضَ له الضَّعفُ، فما ظَهَرَ تأثيرُه في الصَّلَاةِ الواجبةِ أخصُّ ممَّا ظَهرَ في العبادةِ، وما ظَهَرَ في العبادةِ أخصُّ ممَّا ظَهَرَ في الواجبِ، وما ظَهَرَ في الواجبِ أخصُّ ممَّا

ص: 692

ظَهَرَ في الأحكامِ، فلأجلِ تَفاوُتِ درجاتِ الجِنسيَّةِ في القُربِ والبُعدِ تَتَفاوَتُ درجاتُ الظَّنِّ، والأعلى مُقَدَّمٌ على ما دُونَه.

المَسلَكُ (الخَامِسُ) مِنَ الطُّرُقِ الدَّالَّةِ على العِلِّيَّةِ: (إِثْبَاتُهَا بِـ الشَّبَهِ) بفتحِ الشِّينِ والباءِ المُوحَّدةِ أصلٌ مَعناه الشَّبَهُ، يُقالُ: هذا شَبَهُ هذا وشِبْهُه بكسرِ الشِّينِ وسُكُونِ الباءِ، وشَبِيهُه كما تَقولُ: مَثَلُه ومِثْلُه ومَثِيلُه، وهو بهذا المعنى يُطلَقُ على كلِّ قياسٍ؛ لأنَّ الفرعَ لا بُدَّ أنْ يُشْبِهَ الأصلَ، لكنْ غَلَبَ إطلاقُه في الاصطلاحِ الأصوليِّ على هذا المسلكِ.

(وَ) اختُلِفَ في تعريفِ الشَّبَهِ، فقالَ القاضي

(1)

وغيرُه: (هُوَ تَرَدُّدُ فَرْعٍ بَيْنَ أَصْلَيْنِ) فيه مناطُ كلٍّ مِنهما إلَّا أنَّه (شَبَهَهُ بِأَحَدِهِمَا) أي: شَبَهَ الفرعِ بأحدِ الأصلينِ (فِي الأَوْصَافِ) المُعتبَرةِ في الشَّرعِ (أَكْثَرُ) مِن شَبَهِه بالآخرِ، فإلحاقُه به هو الشَّبَهُ كالعبدِ هل يَملِكُ، وهل يَضمَنُه قاتلُه بأكثرَ مِن ديةِ الحُرِّ؟ فإِنَّه مُتَرَدِّدٌ بينَ الحُرِّ والبهيمةِ، وتَظهَرُ فائدتُه في التَّمليكِ له:

فمَن قال: يَملِكُ بالتَّمليكِ، قال: هو إنسانٌ يُثابُ ويُعاقَبُ ويَنكِحُ ويُطَلِّقُ ويُكَلَّفُ بأنواعٍ مِن العباداتِ، ويَفهَمُ ويَعقِلُ وهو ذو نفسٍ ناطقةٍ، فأَشْبَهَ الحُرَّ،

ومَن قال: لا يَملِكُ، قال: هو حيوانٌ يَجُوزُ بَيعُه ورَهنُه، وهِبَتُه وإجارتُه، وإرثُه ونحوُها، أَشْبَهَ الدَّابَّةَ.

(وَيُعْتَبَرُ الشَّبَهُ) أي: شَبَهُ الفرعِ بأحدِ الأصلينِ (حُكْمًا لَا حَقِيقَةً)، ومَحَلُّ ذلك إذا قُلْنا: إنَّ الشَّبَهَ حُجَّةٌ كما يَأْتي قريبًا، وهو قولُ الأكثرِ، ولهذا أَلْحَقُوا العبدَ المقتولَ بسائرِ الأموالِ المملوكةِ في لُزومِ قيمتِه على القاتلِ بجامعِ

ص: 693

أنَّ كلَّ واحدٍ مِنهما يُباعُ ويُشترى، وأَلْحَقَ أحمدُ وجوبَ الجلوسِ للتَّشهُّدِ الأوَّلِ بالتَّشهُّدِ الثَّاني؛ لأنَّه أحدُ الجلوسَينِ في تشهُّدِ الصَّلَاةِ.

(وَ) حيثُ كانَ هناك وصفٌ مناسبٌ يَعَلَّلُ به، فـ (لَا يُصَارُ إِلَيْهِ) أي: إلى قياسِ الشَّبَهِ (معَ) إمكانِ (قِيَاسِ العِلَّةِ) إجماعًا، (فَإِنْ عُدِمَ) إمكانُ قياسِ العِلَّةِ (فَـ) قياسُ الشَّبَهِ (حُجَّةٌ) ويُعَلَّلُ به على الصَّحيحِ.

المَسلَكُ (السَّادِسُ) مِنَ الطُّرُقِ الدَّالَّةِ على العِلِّيَّةِ: الطَّردُ والعكسُ، وهو (الدَّوَرَانُ) قاله ابنُ مُفلِحٍ

(1)

.

(وَهُوَ) أي: الدَّورانُ: (تَرَتُّبُ حُكْمٍ عَلَى وَصْفٍ وُجُودًا وَعَدَمًا) بأنْ يُوجَدَ الحكمُ، أي: تعلُّقُه عندَ وجودِ وصفٍ، ويَنعدِمُ عندَ عَدَمِه، ويُسَمَّى ذلك الوصفُ حينئذٍ مدارًا والحكمُ دائرًا، ثمَّ الدَّوَرَانُ إمَّا في مَحَلٍّ واحدٍ كالإسكارِ في العصيرِ، فإنَّ العصيرَ في الإسكارِ قَبْلَ أن يُوجَدَ الإسكارُ كانَ حلالًا، فلَمَّا حَدَثَ الإسكارُ حَرُمَ، فلمَّا زالَ الإسكارُ وصارَ خَلًّا صارَ حلالًا، فدَارَ التَّحريمُ معَ الإسكارِ وُجودًا وعدمًا.

وإمَّا في مَحَلَّينِ كالكيلِ معَ تحريمِ الرِّبا، فإِنَّه لَمَّا وُجِدَ الكيلُ في البُرِّ كانَ رِبويًّا، ولَمَّا لم يُوجِدْ في التُّفَّاحِ مثلًا لم يَكُنْ رِبويًّا، فدارَ جَرَيَانُ الرِّبَا معَ الكيلِ، لكنَّ الدَّورانَ في صورةٍ أَقوى منه في صورتينِ على ما هو مُدرَكٌ ضرورةً، أو نظرًا ظاهرًا.

(وَ) الدَّوَرَانُ (يُفِيدُ العِلَّةَ

(2)

ظَنًّا) فقطْ على الصَّحيحِ. وَجهُه: لو دُعِيَ رجلٌ باسمٍ، فغَضِبَ، وبغيرِه لم يَغضَبْ، وتَكَرَّرَ ولا مانعَ؛ دَلَّ أنَّه سببُ الغضبِ.

(1)

«أصول الفقه» (3/ 1297).

(2)

في «مختصر التحرير» (ص 217): العلية.

ص: 694

(وَ) إذا ثَبَتَ أنَّ الدَّوَرَانَ يُفيدُ الظَّنَّ فـ (لَا يَلْزَمُ المُسْتَدِلَّ نَفْيُ مَا هُوَ أَوْلَى) بالعِلِّيَّةِ (مِنْهُ) أي: ممَّا أَبْدَاه عِلَّةً على المختارِ؛ لأنَّه لو لَزِمَه ذلك لَلَزِمَ نَفيُ سائرِ القوادحِ، ويَنتشِرُ البحثُ ويَخرُجُ الكلامُ عنِ الضَّبطِ، ومَنِ ادَّعى وصفًا آخَرَ فعليه إبداؤُه.

(فَإِنْ أَبْدَى المُعْتَرِضُ وَصْفًا آخَرَ) أي: غيرَ الَّذِي أَبْدَاه المُستدِلُّ، فإنْ كانَ قاصِرًا والَّذي أَبْدَاه المُستدِلُّ مُتَعَدِّيًا (تَرَجَّحَ جَانِبُ المُسْتَدِلِّ بِالتَّعْدِيَةِ) أي: تَرَجَّحَ الوصفُ الَّذِي أَبْدَاه المُستدِلُّ بأنَّه مُتَعَدٍّ، بناءً على ترجيحِ المُتعدِّيةِ على القاصرةِ، وإنْ كانَ الَّذِي أَبْداه المُعتَرضُ مُتَعَدِّيًا (فَإِنْ تَعَدَّى إِلَى الفَرْعِ المُتَنَازَعِ فِيهِ) بُنِيَ على جوازِ التَّعليلِ بعِلَّتَينِ، فإنْ مَنَعْنَاه ضَرَّ، وإلَّا (لَمْ يَضُرَّ)؛ لجوازِ اجتماعِ مُعَرِّفينِ على مُعَرِّفٍ واحدٍ، (وَإِنْ تَعَدَّى) الَّذِي أَبْداه المُعتَرضُ (إِلَى فَرْعٍ آخَرَ) غيرِ المتنازعِ فيه (طُلِبَ التَّرْجِيحُ) لأحدِ الوَصفينِ على الآخَرِ بدليلٍ خارجيٍّ، فلو كانَ وصفُ المُستدِلِّ غيرَ مناسبٍ ووصفُ المُعتَرضِ مناسبًا؛ قُدِّمَ المناسبُ قطعًا.

(وَالطَّرْدُ: مُقَارَنَةُ الحُكْمِ لِلْوَصْفِ بِلَا مُنَاسَبَةٍ) بينَهما لا بالذَّاتِ ولا بالتَّبَعِ.

مثالُه: قولُ بعضِهم في إزالةِ النَّجاسةِ بنحوِ الخلِّ: مائعٌ لا يُبنى على جنسهِ القناطرُ، ولا يُصادُ منه السَّمكُ، ولا تَجري فيه السُّفُنُ، ولا يَنبُتُ فيه القصبُ، أو لا تَقُومُ فيه الجواميسُ، أو لا يُزرَعُ عليه الزَّرعُ، ونحوُ ذلك، فلا تَزولُ به النَّجاسةُ كالدُّهنِ.

وهل تَكُونُ المُقارنةُ في جميعِ الصُّورِ، أو فيما سِوى صورةِ النِّزاعِ، أو في صورةٍ واحدةٍ؟ الأوَّلُ قَدَّمَه في «شرح الأصل»

(1)

وجَرى عليه جَمعٌ.

ص: 695

(وَ) الطَّردُ (لَيْسَ دَلِيلًا وَحْدَهُ) عندَ الجمهورِ؛ لأنَّه لا يُفِيدُ عِلمًا ولا ظنًّا.

(وَتَنْقَسِمُ العِلَّةُ عَقْلِيَّةً) كَانَتْ (أَوْ شَرْعِيَّةً:

(1)

إِلَى مَا تُؤَثِّرُ فِي مَعْلُولِهَا، كَوُجُودِ عِلَّةِ الأَصْلِ فِي الفَرْعِ) مُؤَثِّرٌ في نَقلِ حُكمِه،

(2)

(وَإِلَى مَا يُؤَثِّرُ فِيهَا مَعْلُولُهَا كَـ الدَّوَرَانِ).

(فَوَائِدُ)

الأُولى: في تعريفِ المناطِ، أشارَ بها إلى أنواعِ الاجتهادِ في العِلَّةِ الشَّرعيَّةِ المتعلِّقةِ بالأقيسةِ، وهو إمَّا تحقيقُ المناطِ أو تنقيحُه أو تخريجُه، وقد جَرَتْ عادةُ أهلِ الأصولِ والجدلِ إذا ذَكَرُوا تنقيحَ المناطِ أن يَتَعَرَّضوا لتفسيرِ ما يُسَمَّى تحقيقَ المناطِ أو تخريجَه، وقد تَقَدَّمَ تنقيحُ المناطِ في الإيماءِ وتخريجُه في المناسبةِ، فلم يَبْقَ إلَّا تحقيقُه.

إذا تَقَرَّرَ ذلك فـ (المَنَاطُ مُتَعَلَّقُ الحُكْمِ) وهو مَفْعَلٌ مِن نَاطَ نِيَاطًا؛ أي: عَلَّقَ، فهو ما نِيطَ به الحُكْمُ؛ أي: عُلِّقَ به، وهو العِلَّةُ الَّتي رُتِّبَ عليها الحُكْمُ في الأصلِ. يُقالُ: نِطْتُ الحَبْلَ

(1)

بالوَتَدِ أَنُوطُه إذا عَلَّقْتُه.

(وَ) أمَّا (تَحْقِيقُهُ) أي: تحقيقُ المناطِ فهو (إِثْبَاتُ العِلَّةِ) بالنَّظَرِ وهو الاجتهادُ في معرفةِ وجودِها (فِي آحَادِ صُوَرِهَا) بعدَ مَعرفتِها في نَفسِها، بأنْ تَجِيءَ إلى وصفٍ دَلَّ على عِلِّيَّتِه نصٌّ أو إجماعٌ أو غيرُهما مِن الطُّرقِ، ولكنْ يَقَعُ الاختلافُ في وجودِه في صورةِ النِّزاعِ، فيَتَحَقَّقُ وجودُها فيه.

(1)

في «ع» : الحمل.

ص: 696

إذا تَقَرَّرَ ذلك، (فَإِنْ عُلِمَتِ العِلَّةُ) في الوصفِ (بِنَصٍّ) عليها كجهةِ القِبلةِ الَّتي هي مناطُ وجوبِ استقبالِها المشارُ إليه بقولِه تَعالى:{وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}

(1)

، ومعرفتُها عندَ الاشتباهِ مظنونٌ، (أَوْ) عُلِمَتْ بـ (إِجْمَاعٍ) كتحقيقِ المِثلِ [في قوله]

(2)

تَعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ}

(3)

، أو عُلِمَتْ باستنباطٍ كالشِّدَّةِ المُطربةِ الَّتي هي مَناطُ تحريمِ شُربِ الخمرِ، (احْتُجَّ بِهِ) أي: بتحقيقِ المناطِ المعلومةِ عِلَّتُه بأحدِ هذه الثَّلاثةِ، فالنَّظرُ في كَوْنِ هذه الجهةِ جِهةَ القِبلَةِ في حالِ الاشتباهِ، وكونِ النَّبيذِ خَمرًا للشِّدَّةِ المُطربةِ المَظنونةِ بالاجتهادِ، وكذا تحقيقُ المِثلِ في قولِه تَعالى:{فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ}

(4)

.

لكنْ قال بعضُ أصحابِنا: لا نَعرِفُ خلافًا في صِحَّةِ الاحتجاجِ به إذا كانَتِ العِلَّةُ معلومةً بالنَّصِّ أو الإجماعِ، إِنَّمَا الخلافُ إذا كانَ مَدرَكُ معرفتِها الاستنباطَ. انتهى.

تنبيهانِ:

أحدُهما: أنَّ مناسبةَ التَّسميةِ في تخريجِ المناطِ وتنقيحِه وتحقيقِه ظاهرةٌ؛ لأنَّ المجتهدَ أوَّلًا استخرجَ العِلَّةَ مِن منصوصٍ في حكمٍ مِن غيرِ نصٍّ على عِلَّتِه، ثمَّ جاءَ في أوصافٍ قد ذُكِرَتْ في التَّعليلِ، فنَقَّحَ النَّصَّ ونحوَه في ذلك وأَخَذَ منه ما يَصلُحُ عِلَّةً وأَلْغَى غيرَه، ثمَّ لَمَّا نُوزِعَ في كَوْنِ العِلَّةِ ليسَتْ في المحلِّ المتنازَعِ فيه بَيَّنَ أنَّها فيه وحَقَّقَ ذلك، واللهُ أعلمُ.

(1)

البقرة: 144، 150.

(2)

في «د» : بقوله.

(3)

المائدة: 95.

(4)

المائدة: 95.

ص: 697

التَّنبيهُ الثَّاني: ذَكَرَ المُصَنِّفُ -تَبَعًا لصاحبِ «الأصلِ» وابنِ مُفْلِحِ وغيرِهما- مسالكَ العِلَّةِ ستَّةً، وذَكَرَها في «جمع الجوامع» وغيرِه عشرةً، فزادَ تنقيحَ المناطِ والإيماءَ، وهما مذكورانِ في المسلكِ الثَّاني ضِمنًا، وإلغاءَ الفارقِ بينَ الأصلِ والفرعِ وطردَ المحذوفِ، وهما مذكورانِ أيضًا في المسلكِ

(1)

الثَّالثِ ضِمنًا كما تَقَدَّمَ.

(وَ) الفائدةُ الثَّانيةُ: (مَدَارُ الحُكْمِ: مُوجِبُهُ، أَوْ مُتَعَلِّقُهُ) يُقال: مَدارُ الحُكْمِ على كذا، أي: يُوقَفُ

(2)

الحُكمُ على كذا،

(وَلَازِمُهُ: مَا لَا يَثْبُتُ الحُكْمُ معَ عَدَمِهِ) فيَدخُلُ في لازمِ الحكمِ: الشَّرطُ، والعِلَّةُ، والسَّببُ وجزؤُه، ومَحَلُّ الحُكمِ، فيَكُونُ أعمَّ مِن الشَّرطِ،

(وَمَلْزُومُهُ) أي: الحُكمِ (مَا يَسْتَلْزِمُ وُجُودُهُ) أي: وجودُ الملزومِ (وُجُودَ الحُكْمِ).

(1)

ليس في «د» .

(2)

في «د» : يوافق.

ص: 698

(فَصْلٌ)

الفائدةُ الثَّالثةُ: القِيَاسُ له اعتباراتٌ، فتارةً يَكُونُ باعتبارِ قُوَّتِه وضعفِه، وتارةً باعتبارِ عِلَّتِه، وكلٌّ مِنهما له أقسامٌ.

فالقِيَاسُ يَنقسِمُ باعتبارِ قُوَّتِه وضعفِه إلى: جليٍّ، وخفيٍّ،

(1)

فـ (مَا قُطِعَ فِيهِ) من القِيَاسِ (بِنَفْيِ الفَارِقِ) كقياسِ الأَمَةِ على العبدِ في سرايةِ العتقِ في قولِه صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ وَكَانَ لَهُ مَالٌ يَبْلُغُ ثُمُنَ العَبْدِ قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيمَةَ عَدْلٍ

» الحديثَ

(1)

، فإنَّا نَقطَعُ بعدمِ اعتبارِ الشَّارِعِ الذُّكورةَ والأنوثةَ فيه، (أَوْ نُصَّ) على عِلَّتِه، (أَوْ أُجْمِعَ) بالبناءِ للمفعولِ فيهما (عَلَى عِلَّتِهِ)، وتَقَدَّمَتْ أمثلتُهما أوَّلَ المسالكِ، (فَـ) هو (قِيَاسٌ جَلِيٌّ)؛ لأنَّ عِلَّتَه منصوصةٌ أو مُجمَعٌ عليها.

(2)

(وَإِلَّا) بأنْ لم يُقْطَعْ في القِيَاسِ بنفيِ الفارقِ، أو لم يُنَصَّ، أو يَجمَعْ على عِلَّتِه (فَـ) قياسٌ (خَفِيٌّ) لقوَّةِ احتمالِ تأثيرِ الفارقِ فيه، كقياسِ القتلِ بمُثقَلٍ على القتلِ بمُحَدَّدٍ في وجوبِ القصاصِ، ولم يُوجِبْه أبو حنيفةَ في المُثْقَلِ.

(وَ) أمَّا تقسيمُ القِيَاسِ (بِاعْتِبَارِ عِلَّتِهِ) فقياسُ علَّةٍ، وقياسُ دَلالةٍ، وقياسٌ في مَعنى الأصلِ، وذلك لأنَّه إمَّا أنْ يَكُونَ بذِكْرِ الجامعِ أو بنفيِ الفارقِ، فإنْ كانَ بذِكْرِ الجامعِ، فالجامعُ إنْ كانَ هو العِلَّةَ يَعني:

(1)

(إِنْ صُرِّحَ فِيهِ) أي: في القِيَاسِ (بِهَا) أي: بالعلَّةِ (فَـ) هو (قِيَاسُ عِلَّةٍ) كقَوْلِنا في المُثْقَلِ: قَتلٌ عمدٌ عدوانٌ، فيَجِبُ فيه القصاصُ كالجارحِ،

(1)

رواه البخاري (2491)، ومسلم (1501) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

ص: 699

(2)

(وَإِنْ) كانَ الجامعُ وصفًا لازمًا مِن لوازمِ العِلَّة، أو أثرًا مِن آثارِها، أو حُكمًا مِن أحكامِها بأنْ (جُمِعَ فِيهِ) أي: في القِيَاسِ (بِمَا يُلَازِمُهَا) أي: العِلَّةَ (أَوْ) جُمِعَ فيه (بِأَحَدِ مُوجِبَيْهَا فِي الأَصْلِ) المَقِيسِ عليه (لِمُلَازَمَةِ الآخَرِ) ليُستدَلَّ به عليه (فَـ) هو (قِيَاسُ دَلَالَةٍ) لأنَّ المذكورَ لَيْسَ عينَ العِلَّةِ بل شيءٌ يَدُلُّ عليها.

مِثالُ الأوَّلِ: قياسُ النَّبيذِ على الخمرِ بجامعِ الرَّائحةِ الفائحةِ الملازمةِ للشِّدَّةِ المُطرِبةِ، وليسَتْ نَفسَ العِلَّة، وإنَّما هي لازمةٌ لها.

ومثالُ الثَّاني: قَوْلُنا في المُثْقَلِ: قَتلٌ أَثِمَ به فاعلُه مِن حيثُ إنَّه قتلٌ، فوَجَبَ فيه القصاصُ كالجارحِ، فالإثمُ به ليسَ نفسَ العِلَّة بل أثرٌ مِن آثارِها.

ومثالُ الثَّالثِ: قياسُ قطعِ جماعةٍ بواحدٍ على قَتْلِها بواحدٍ بواسطةِ الاشتِراكِ في وجوبِ الدِّيَةِ عليهم بتقديرِ إيجابِها، فوُجوبُ الدِّيَةِ عليهم إِنَّمَا هو أحدُ مُوجَبَيِ العِلَّةِ الَّذِي هو وجوبُ الدِّيَةِ ليُستَدَلَّ به على مُوجَبها الآخَرِ، وهو وجوبُ القصاصِ عليهم، وليسَ عينَ عِلَّةِ القصاصِ بل حُكمٌ مِن أحكامِها، وثبوتُ حُكمِ الفرعِ بعِلَّةِ الأصلِ أَوْلَى لتَعَدِّيها واطِّرادِها وانعكاسِها.

(3)

(وَ) إنْ كانَ (مَا جُمِعَ) مِن القِيَاسِ (بِنَفْيِ الفَارِقِ؛ فَـ) هو (قِيَاسٌ فِي مَعْنَى الأَصْلِ) كإلحاقِ البولِ في إناءٍ، وصَبِّه في الماءِ الدَّائمِ بالبولِ فيه.

(وَيَجُوزُ التَّعَبُّدُ بِالقِيَاسِ) في الشَّرعيَّاتِ (عَقْلًا) عندَ الأربعةِ وغيرِهم؛ لأنَّه لا يَمتنعُ عقلًا، نحوُ قولِ الشَّارِعِ: حَرَّمْتُ الخمرَ لإِسكارِه فقِيسوا عليه ما في مَعناه، ولأنَّه يَتَضَمَّنُ دَفعَ ضررٍ مظنونٍ وهو واجبٌ عقلًا، فالقِيَاسُ واجبٌ عقلًا، والوجوبُ يَستلزمُ الجوازَ، (وَ) لأنَّه (وَقَعَ شَرْعًا) عندَ

ص: 700

المُعظَمِ. ومَعنى التَّعبُّدِ به عقلًا: أنَّه يَجُوزُ أنْ يَقُولَ الشَّارِعُ: إذا ثَبَتَ حُكمٌ في صورةٍ ووُجِدَ صورةٌ أُخرى مشاركةٌ للصُّورةِ الأُولى في وصفٍ، وغَلَبَ على ظَنِّكم أنَّ هذا الحكمَ في الصُّورةِ الأُولى مُعَلَّلٌ بذلك الوصفِ، فقِيسوا الصُّورةَ الثَّانيةَ على الأُولى.

وقيلَ: لا يَجُوزُ التَّعبُّدُ بالقِيَاسِ شرعًا، وحَمَلَه القاضي وابنُ عقيلٍ على قياسٍ خَالَفَ نصًّا، وابنُ رجبٍ على مَن لم يَبحَثْ عنِ الدَّليلِ، أو لم يُحَصِّلْ شُروطَه.

قالَ ابنُ مُفْلِحٍ في القائلِ بجوازِه عقلًا قال: وَقَعَ شرعًا

(1)

.

وقالَ أكثرُ أصحابِنا وغيرِهم: وَقَعَ التَّعبُّدُ به سَمْعًا، وقِيلَ: وعقلًا.

(وَوُقُوعُهُ) أي: التَّعبُّدِ بالقِيَاسِ (بِدَلِيلِ السَّمْعِ) لا العقلِ (قَطْعِيٌّ) لا ظَنِّيٌّ في الأصحِّ، والقائلون بحُجِّيَّتِه اختلفوا هل ذلك بالشَّرعِ أو بالعقلِ؟ قال الأكثرُ بالأوَّلِ، واستدلَّ له بقولِه تَعالى:{فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ}

(2)

والاعتبارُ: اختبارُ شيءٍ بغيرِه، وانتقالٌ مِن شيءٍ إلى غيرِه، والنَّظرُ في شيءٍ ليُعرَفَ به آخَرُ مِن جنسِه. وسياقُ الآيةِ مطلقٌ، والدَّالُّ على الكُلِّيِّ دالٌّ على الجزئيِّ، ثمَّ مرادُ الشَّارِعِ القِيَاسُ الشَّرعيُّ؛ لأنَّ خطابَه غالبًا بالأمرِ الشَّرعيِّ، واحتجَّ أصحابُنا وغيرُهم بإجماعِ الصَّحابةِ. قال بعضُهم: هو أقوى الحُجَجِ، فمِنه اختلافُهم الكثيرُ الشَّائعُ المتبايِنُ في ميراثِ الجدِّ معَ الإخوةِ، وفي الأكدريَّةِ والخرقاءِ ولا نَصَّ عندَهم.

(1)

«أصول الفقه» (3/ 1310).

(2)

الحشر: 2.

ص: 701

وسُئِلَ عَبِيدَةُ عن مسألةٍ فيها جدٌّ، فقالَ: حَفِظْتُ عن عمرَ فيه مئةَ قِصَّةٍ مختلفةٍ

(1)

.

ومنه اختلافُهم في قولِه لزوجتِه: أنتِ عليَّ حرامٌ، وكَتَبَ عمرُ إلى أبي موسى: ما لم يَبْلُغْك في الكتابِ والسُّنَّةِ اعرفِ الأمثالَ والأشباهَ

(2)

، ثمَّ قِسِ الأمورَ عندَ ذلك، فاعمَدْ إلى أَحَبِّها إلى اللهِ تَعَالَى وأَشْبَهِها بالحقِّ. رَوَاه الدَّارقطنيُّ

(3)

والخَلَّالُ.

وذَكَرَ بعضُ أصحابِنا أنَّ القِيَاسَ لَيْسَ بحُجَّةٍ؛ [لقولِ أحمدَ في روايةِ المَيْمُونِيِّ: يَجتنبُ المُتكلِّمُ هذين الأصلينِ: المُجمَلَ، والقِيَاسَ]

(4)

.

قالَ ابنُ مُفْلِحٍ: والمرادُ مِن الإنكارِ القِيَاسُ الباطلُ، بأنْ صَدَرَ عن غيرِ مجتهدٍ، أو في مقابلةِ نصٍّ، أو فيما اعتُبِرَ فيه العِلمُ أو أصلُه فاسدٌ، أو على مَن غَلَبَ ولم يَعرِفِ الأخبارَ، أوِ احتجَّ به قَبْلَ طلبِ نصٍّ لا يَعرِفُه معَ رجائِه لو طَلَبَه، فإِنَّه لا يَجُوزُ عندَ أحمدَ والشَّافعيِّ وفقهاءِ الحديثِ، ولهذا جَعَلُوه بمنزلةِ التَّيمُّمِ

(5)

.

(وَهُوَ) أي: القِيَاسُ (حُجَّةٌ فِي الأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ) اتِّفاقًا.

قال في «المحصول» ما مَعناه: إذا كانَ تعليلُ الأصلِ قطعيًّا، ووجودُ العِلَّةِ في الأصلِ قطعيًّا؛ كانَ القِيَاسُ قطعيًّا مُتَّفَقًا عليه، وأنَّ القِيَاسَ الظَّنِّيَّ

(1)

رواه عبد الرزاق (19043)، وابن أبي شيبة (31915) وفيهما:«قضية» ، بدلًا من «قصة» .

(2)

في «د» : والإشارة.

(3)

رواه الدارقطني (4471)، والبيهقي (10/ 252) في كتاب عمر لأبي موسى الأشعري رضي الله عنهما.

(4)

ليس في «د» .

(5)

«أصول الفقه» (3/ 1336).

ص: 702

حُجَّةٌ في الأمورِ الدُّنيويَّةِ اتِّفاقًا؛ كمداواةِ الأمراضِ، والأغذيةِ، والأسفارِ، والمتاجرِ، وغيرِ ذلك، إِنَّمَا النِّزاعُ في كونِه حُجَّةً في الشَّرعيَّاتِ ومستنداتِ المُجتهدينَ

(1)

.

(وَ) القِيَاسُ حُجَّةٌ في (غَيْرِهَا) أي: غيرِ الأمورِ الدُّنيويَّةِ، كالشَّرعيَّاتِ وغيرِها عندَ أكثرِ القائلِ به؛ للأدلَّةِ المتقدِّمةِ.

والقِيَاسُ: قياسُ التَّأصيلِ والتَّعليلِ والتَّمثيلِ، يَجري في كلِّ شيءٍ، وعمدةُ الطِّبِّ مَبناها على القِيَاسِ، وكذلك عامَّةُ أمورِ النَّاسِ مَبناها على القِيَاسِ في الأعيانِ والصِّفاتِ والأفعالِ، ومتى ثَبَتَ أنَّ الأمرَ الفُلانِيَّ مُعلَّلٌ بكذا، ثَبَتَ وُجودُه حيثُ وُجِدَتِ العِلَّةُ، سواءٌ كان عينًا أو صفةً أو حُكمًا أو فِعلًا، ولذلك إذا ثَبَتَ ألَّا فارقَ بينَ هذينِ إلَّا كذا، ولا تأثيرَ له في الأمرِ الفُلانِيِّ.

ثمَّ هو مُنقسمٌ إلى: مقطوعٍ، ومظنونٍ، كالقِيَاسِ في الأحكامِ، ثمَّ أيُّ فرقٍ بينَ القِيَاسِ في خلْقِ اللهِ أو في أمْرِه

(2)

، نعمْ، قد يُمنَعُ مِن القِيَاسِ الظَّنِّيِّ حيثُ لا يُحتاجُ إليه في الحقائقِ.

ومِن العُمدةِ في القِيَاسِ: قولُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم للَّذي أرادَ الانتفاءَ مِن ولدِه لمُخالفةِ لَوْنِه: «لَعَلَّهُ نَزَعَهُ عِرْقٌ»

(3)

، وهذا قياسٌ لجوازِ مخالفةِ لونِ الولدِ للوالدِ في إحدى نَوعَيِ الحيوانِ على النَّوعِ الآخَرِ، وقياسٌ في الطَّبيعيَّاتِ؛ لأنَّ الأصلَ لَيْسَ فيه نَسَبٌ حَتَّى يُقاسَ في الأنسابِ.

(1)

«المحصول» (4/ 560).

(2)

في «د» : أمر الله.

(3)

رواه البخاري (5305)، ومسلم (1500) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 703

(وَالنَّصُّ عَلَى عِلَّةِ حُكْمِ الأَصْلِ يَكْفِي فِي التَّعَدِّي) إلى الفرعِ عندَ الأكثرِ، أشارَ الإمامُ أحمدُ إليه: لا يَجُوزُ بيعُ رطبٍ بيابسٍ، واحتجَّ بنهيِه عليه السلام عن بيعِ الرُّطَبِ بالتَّمرِ.

(وَالحُكْمُ المُتَعَدِّي إِلَى فَرْعٍ بِعِلَّةٍ مَنْصُوصَةٍ: مُرَادٌ بالنَّصِّ، كَعِلَّةِ مُجْتَهِدٍ فِيهَا: فَرْعُهَا مُرَادٌ بِالِاجْتِهَادِ)؛ لأنَّ الأصلَ مُستتبِعٌ لفرعِه.

(وَيَجُوزُ ثُبُوتُ كُلِّ الأَحْكَامِ بِنَصٍّ مِنَ

(1)

الشَّارِعِ) عندَ الجمهورِ؛ لأنَّ الحوادثَ مُتناهيةٌ لتناهي التَّكليفِ بالعلَّةِ

(2)

.

قال ابنُ قاضي الجبلِ: لأنَّ الحوادثَ المفتقرةَ إلى الأحكامِ هي الواقعةُ في دارِ التَّكليفِ، والأفعالُ فيها متناهيةٌ ضرورةَ تَناهيها، أمَّا الجنَّةُ فدارُ جزاءٍ لا دارُ تكليفٍ

(3)

.

و (لَا) يَجُوزُ ثُبُوتُ كلِّ الأحكامِ (بِالقِيَاسِ) عندَ الأكثرِ؛ لأنَّ فيها ما تَختَلِفُ أحكامُه فلا يَجري فيه، ولأنَّ فيها ما لا يُعقَلُ مَعناه كضربِ الدِّيَةِ على العاقلةِ. والقِيَاسُ لا بُدَّ له من أصلٍ، فإجراؤُه في مِثلِ هذا مُتَعَذِّرٌ؛ لِما عُلِمَ أنَّه فرعُ تَعَقُّلِ المَعنى المُعلَّلِ به الحُكمُ في الأصلِ.

(وَمَعْرِفَتُهُ) أي: القِيَاسِ (فَرْضُ كِفَايَةٍ) عندَ تعدُّدِ المجتهدِ على الصَّوابِ، (وَيَكُونُ) القِيَاسُ (فَرْضَ عَيْنٍ) بأنِ احتاجَ المُجتهدُ إلى القِيَاسِ، وكان واحدًا فقطْ معَ ضِيقِ الوقتِ، فيَصيرُ فرضَ عينٍ (عَلَى بَعْضِ المُجْتَهِدِينَ،

وَهُوَ) أي: القِيَاسُ (مِنَ الدِّينِ) عندَ الجمهورِ.

(1)

ليس في «د» .

(2)

في «د» : بالعلية.

(3)

«التحبير شرح التحرير» (7/ 3539).

ص: 704

قالَ في «التمهيد» : هل يُسَمَّى دِينًا ومأمورًا به أم لا؟

أمَّا كونُه مأمورًا به فصحيحٌ، وأمَّا كونُه مأمورًا به بصيغةِ «افعلْ» فصحيحٌ أيضًا، مِن قولِه تَعالى:{فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ}

(1)

، وأمَّا مَنْ وَصَفَه بأنَّه دِينٌ فلا شُبْهَةَ فيه؛ لأنَّ مَا تَعَبَّدَنا اللهُ به فهو دِينٌ، والدَّليلُ عليه أنَّا مُتَعَبَّدونَ بما دَلَّ عليه الدَّليلُ، ولأنَّ مَن نَزَلَتْ به حادثةٌ، وكانَ فيها قاضٍ أو مُفْتٍ أو مجتهدٌ لنَفْسِه وضاقَ عليه الوقتُ: وَجَبَ عليه أنْ يَقِيسَ

(2)

.

(وَ‌

‌النَّفْيُ) ضربانِ:

(1)

(أَصْلِيٌّ) وطارئٌ، فالأوَّلُ: هو البَقاءُ على ما كانَ قبلَ وُرودِ الشَّرعِ كانتفاءِ صلاةٍ سادسةٍ، فهو مُبْقًى باستصحابِ مُوجَبِ العقلِ (يَجْرِي فِيهِ) أي: في النَّفيِ الأصليِّ (قِيَاسُ الدَّلَالَةِ) وهو أنْ يُستَدَلَّ بانتفاءِ حُكْمِ شيءٍ على انتفائِه عن مِثلِه، ويَكُونَ ضَمَّ دليلٍ إلى دليلٍ (فَيُؤَكَّدُ بِهِ) أي: بالنَّفيِ الأصليِّ (الاِسْتِصْحَابُ) أي: استصحابُ الحالِ، ولا يَجري فيه قياسُ العِلَّةِ على الصَّحيحِ؛ لأنَّه لا مُوجِبَ له قبلَ وُرودِ السَّمعِ، فلَيْسَ بحكمٍ شرعيٍّ حَتَّى يُطلَبَ له عِلَّةٌ شرعيَّةٌ، بل هي نفيُ حكمِ الشَّرعِ ولا علَّةَ، إِنَّمَا العِلَّةُ لِما يِتَجَدَّدُ.

(وَ) الثَّاني (طَارِئٌ، كَبَرَاءَةِ الذِّمَّةِ) مِن الدَّينِ ونَحوِه حُكمٌ شرعيٌّ (يَجْرِي فِيهِ هُوَ) أي: يَجْرِي في النَّفيِ الطَّارئِ قياسُ الدَّلالةِ (وَقِيَاسُ العِلَّةِ) اتِّفاقًا؛ لأنَّه حُكْمٌ شرعيٌّ حادثٌ، فهو كسائرِ الأحكامِ الوُجوديَّةِ.

(1)

الحشر: 2.

(2)

«التمهيد في أصول الفقه» للكَلْوَذاني (2/ 466).

ص: 705

مَعَكُمْ

(فَصْلٌ)

و (القَوَادِحُ) ما يَقدَحُ في الدَّليلِ بجُملتِه، سواءٌ العِلَّةُ وغيرُها؛ لأنَّه قد يَطرَأُ على مَن يَثْبُتُ عليه الحُكمُ اعتِراضٌ يَقدَحُ في عِلِّيَّةِ ما ادَّعاه عِلَّةً، وذلك مِن أحدِ وُجوهٍ يُعَبَّرُ عنها بالقوادحِ، ورُبَّما كانَتْ قادحةً لا في خُصوصِ العِلَّةِ، فلذلك تَرجَمَها بعضُهم بالاعتِراضاتِ على القِيَاسِ، وبعضُهم بقوادحِ العِلَّةِ.

و (تَرجِعُ) إمَّا (إِلَى المَنْعِ فِي) مُقدِّمَةٍ مِن (المُقَدِّمَاتِ، أَوْ) معارضةٍ مِن (المُعَارَضَاتِ فِي الحُكْمِ) عندَ المُعظَمِ، فمتى حَصَلَ الجوابُ عنها فقد تَمَّ الدَّليلُ ولم يَبْقَ للمُعتَرِضِ مجالٌ، فيَكُونُ ما سِوى ذلك مِن الأسئلةِ باطلًا فلا يُسمَعُ. وقيل: إنَّها كُلَّها تَرجِعُ إلى المنعِ وَحدَه؛ لأنَّ المُعارضَةَ منعٌ للعلَّةِ عنِ الجريانِ؛ لأنَّ الكلامَ إذا كانَ مُجمَلًا لا يَحصُلُ غرضُ المستدلِّ بتفسيرِه، فالمطالبةُ بتفسيرِه

(1)

تَستلزِمُ منعَ تحقُّقِ الوصفِ، ومَنْعَ لزومِ الحُكْمِ عنه، وقد ذَكَرَها تَبَعًا لأصلِه، وغيرُه أربعةً وعشرين

(2)

قادحًا.

(1)

(وَمُقَدَّمُهَا) أي: القوادحِ (الِاسْتِفْسَارُ) أي: هو طَلِيعَةٌ لها كطليعةِ الجيشِ؛ لأنَّه المقدَّمُ على كلِّ اعتِراضٍ، وغايتُه استفهامٌ لا اعتِراضٌ، وهو مِن الفَسْرِ، وهو لغةً: طَلَبُ الكشفِ والإظهارِ، ومنه التَّفسيرُ، وإنَّما كانَ مُقَدَّمَ الاعتِراضاتِ لأنَّه إذا لم يُعرَفْ مدلولُ اللَّفظِ استحالَ تَوجُّهُ المنعِ أو المعارضةِ، وهما مرادُ الاعتِراضاتِ كلِّها.

(وَ) الاستفسارُ (هُوَ طَلَبُ) المُعتَرِضِ (مَعْنَى لَفْظِ المُسْتَدِلِّ) أي: مَعنى اللَّفظِ الَّذِي قاله المُستدلُّ إمَّا (لِإِجْمَالِهِ) أي: إجمالِ اللَّفظِ (أَوْ غَرَابَتِهِ)، وإنَّما

(1)

في «د» : بتفسير.

(2)

حاشية في «ع» : لعله: خمسة وعشرين.

ص: 706

يُسمَعُ ذلك مِن المُعتَرِضِ إذا كانَ في لفظِ المُستدلِّ إجمالٌ أو غرابةٌ، وإلَّا فهو تَعَنُّتٌ مُفَوِّتٌ لفائدةِ المُناظرةِ؛ إذ يَأْتي في كلِّ لفظٍ يُفَسَّرُ به لفظٌ وَيَتَسَلْسَلُ،

(وَعَلَى المُعْتَرِضِ بَيَانُ) الإجمالِ أو الغرابةِ بـ (احْتِمَالِهِ) أي: احتمالِ لفظِ المُستدلِّ لمعنيينِ فأكثرَ، حَتَّى يَكُونَ مُجملًا، كما لو قال المُستدلُّ: المُطلَّقةُ تعتدُّ بالأقراءِ، فلفظُ الأقراءِ مُجمَلٌ، فيَقولُ المُعتَرضُ: ما مُرادُك بالأقراءِ؟ فإذا قال: الحيضُ، أو: الأطهارُ، أجابَ بحَسَبِ ذلك مِن تسليمٍ أو منعٍ.

(أَوْ) بِـ (جِهَةِ الغَرَابَةِ) إما مِن حيثُ الوضعُ، كقَوْلِنا: لا يَحِلُّ السِّبْدُ؛ أي: الذِّئبُ، وكما لو قال في الكلبِ الَّذِي لم يُعَلَّمْ: خِرَاشٌ لم يُبْلَ، فلا يُطلِقُ فريستَه كالسِّبْدِ، ومَعنى «لم يُبْلَ»: لم يُختَبَرْ.

قالَ الجَوْهَرِيُّ: بَلَاهُ اللهُ وَأَبْلَاهُ بَلَاءً حَسَنًا وَابْتَلَاهُ اخْتَبَرهُ

(1)

، وَالفريسةُ: الصَّيدُ، مِن فَرَسَ الأسدُ فريستَه إذا دَقَّ عُنُقَها، ثمَّ كَثُرَ حَتَّى أُطلِقَ على كلِّ قتيلٍ فريسًا

(2)

، والسِّبْدُ: الذِّئْبُ بكسرِ السِّينِ وسُكُونِ الباءِ المُوَحَّدَةِ، والخِرَاشُ: الكلبُ، وهو بكسرِ الخاءِ وقبلَ الألفِ راءٌ وبَعدَها شينٌ مُعجَمةٌ.

وأمَّا مِن حيثُ الاصطلاحُ، أي: مِن حيثُ الغرابةُ، أي: خلْطُ اصطلاحٍ باصطلاحٍ، كما يُقالُ في القِيَاساتِ الفقهيَّةِ لفظُ الدَّوْرِ، أو

(3)

التَّسلسُلِ، أو الهَيُولة

(4)

، أو المادَّةِ، أو المبدأِ، أو الغايةِ، نحوُ أنْ يُقالَ في شهودِ القتلِ إذا رَجَعوا: لا يَجِبُ القصاصُ؛ لأنَّ وُجوبَ القصاصِ تَجَرَّدَ مَبْدَؤُه عن غايةِ مقصودِه، فوَجَبَ ألَّا يَثْبُتَ، وكذا ما أَشْبَه ذلك مِن اصطلاحِ المُتَكَلِّمينَ، إلَّا أنْ يَعرِفَ مِن حالِ خصمِه أنَّه يَعرِفُ ذلك، فلا غرابةَ حينئذٍ.

(1)

«الصحاح» (6/ 2285).

(2)

«الصحاح» (3/ 958).

(3)

في «د» : و.

(4)

في «د» : الهيولا.

ص: 707

إذا عُلِمَ ذلك، فبيانُ كَوْنِ اللَّفظِ مُجمَلًا أو غريبًا حَتَّى يَحتاجَ إلى تفسيرٍ على المُعتَرضِ على الأصحِّ (بِطَرِيقِهِ) إلَّا أنَّ الأصلَ عدمُ الإجمالِ، وعدمُ الغرابةِ، فيُبَيّنُ أنَّ اللَّفظَ مجملٌ لكونِه مُتَعَدِّدًا.

و (لَا) يَلْزَمُهُ (بَيَانُ تَسَاوِي الِاحْتِمَالَاتِ) إذا بَيَّنَ كَوْنَ اللَّفظِ مُحتملًا لعُسرِه.

(وَلَوْ قال) المُعتَرضُ: (الأَصْلُ عَدَمُ مُرَجِّحٍ) لبعضِ الاحتمالاتِ على بعضٍ؛ (صَحَّ) ويَكُونُ ذلك تَبَرُّعًا منه على الصَّحيحِ.

(وَجَوَابُهُ) أي: جوابُ المُستدلِّ للمُعتَرضِ عنِ الاستفسارِ

(1)

(بِمَنْعِ احْتِمَالِهِ) أي: منعِ إجمالِ لفظِ المُستدلِّ (أَوْ) بـ (بَيَانِ ظُهُورِ) لفظِـ (ـهِ فِي مَقْصُودِهِ) أي: فيما قَصَدَه المُستدلُّ، ولا يُعتَدُّ بتفسيرِه بما لا يَحتمِلُه لغةً: بيانُ أنَّه لَيْسَ بمُجمَلٍ ولا غريبٍ عليه؛ لأنَّ شرطَ الدَّلالةِ على المرادِ عدمُ إجمالِ اللَّفظِ وغرابتِه، فيَقولُ المُستدلُّ في جوابِه: هذا ظاهرٌ في مقصودي.

ويُبَيِّنُ ذلك إمَّا:

- (بِنَقْلٍ) مِن لغةٍ، كما لو اعتُرضَ عليه في قولِه: «الوضوءُ

(2)

قُربَةٌ، فتَجِبُ له النِّيَّةُ»، فيَقُولُ: الوُضوءُ

(3)

يُطلَقُ على النَّظافةِ وعلى الأفعالِ المخصوصةِ، فما الَّذِي تُريدُ بالَّذي تَجِبُ له النِّيَّةُ؟ فيَقولُ: حقيقتَه الشَّرعيَّةَ، وهي الأفعالُ المخصوصةُ.

- (أَوْ) يُبَيِّنُ ظهورَ لفظِه مِن (عُرْفٍ) كإطلاقِ الدَّابَّةِ على ذواتِ الأربعِ،

(1)

في «ع» : الاستسفار.

(2)

في «ع» : الوصف.

(3)

في «ع» : الوصف.

ص: 708

- (أَوْ) يَقُولُ: لفظي ظاهرٌ لـ (قَرِينَةٍ) مَعَه، مثلُ قولهِ: قرءٌ تَحرُمُ فيه الصَّلَاةُ، فيَحرُمُ الصَّومُ، فقرينةُ تحريمِ الصَّلَاةِ فيه تدُلُّ على أنَّ المرادَ به الحيضُ، وفي الغرابةِ مثلُ قولهِ:«طَلَّةٌ زَوَّجَتْ نَفْسَها فلا يَصِحُّ» ، فالطَّلَّةُ: المرأةُ، بدليلِ قولِه:«زَوَّجَتْ نَفْسَها» ، لا صفةُ الخمرِ.

- (أَوْ) يُبَيِّنُ غرابةَ لفظِه بـ (تَفْسِيرِهِ إِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ إِبْطَالُ غَرَابَتِهِ) بأنْ يَقُولَ: مُرادي المعنى الفلانِيُّ، لكنْ لا بُدَّ أنْ يُفَسِّرَه بما يَحتمِلُه اللَّفظُ وإنْ بَعُدَ، كما يَقُولُ: يُخرَجُ في الفِطْرَةِ الثَّوْرُ

(1)

، ويُفَسِّرُه بالقِطعةِ مِن الأَقِطِ.

(وَلَوْ قال) المُستدلُّ: (يَلْزَمُ ظُهُورُهُ في أَحَدِهما) أي: ظهورُ لفظي في أحدِ المَعنيَينِ

(2)

(دَفْعًا لِلْإِجْمَالِ، وَفِيمَا

(3)

قَصَدْتُهُ

(4)

لِعَدَمِ ظُهُورِهِ فِي) المعنى (الآخَرِ) الَّذِي لم أَقصِدْه (اتِّفَاقًا) مِنِّي ومنك، فيَكُونُ ظاهرًا في مُرادي؛ (كَفَى) ذلك في الأصحِّ (بِنَاءً عَلَى أَنَّ المَجَازَ أَوْلَى).

قالَ في «شرح الأصل» : فلو قال المُستدلُّ: هو غيرُ ظاهرٍ في غيرِ مُرادي باتِّفاقٍ مِنِّي ومنك، فيَكُونُ ظاهرًا في مُرادي؛ لئلَّا يَلْزَمَ الإجمالُ.

فمِنهم مَن رَدَّه برجوعِه إلى قولِه: «إنَّ الأصلَ عدمُ الإجمالِ» ، والفرضُ أنَّ المُعتَرضَ بَيَّنَ أنَّه مُجمَلٌ، وأيضًا فلا يَلْزَمُ مِن عدمِ ظُهورِه

(5)

في الآخَرِ ظهورُه في مقصودِه؛ لجوازِ عدمِ الظُّهورِ فيهما جميعًا.

(1)

الثَّوْرُ من معانيه: القِطْعَةُ العَظِيمَةُ من الأقِطِ. ينظر: «المحكم» لابن سيده (10/ 206).

(2)

زاد في «ع» : ولو قال المستدل.

(3)

في «مختصر التحرير» (ص 222): أو فيما.

(4)

في «مختصر التحرير» (ص 222): قصد به.

(5)

في «ع» : ظهور.

ص: 709

وصَوَّبَه بعضُهم دَفعًا لمحذورِ الإجمالِ، وذلك حيثُ لا يَجُوزُ

(1)

اللَّفظُ مشهورًا بالإجمالِ، أمَّا إذا اشتهرَ بالإجمالِ كالعَينِ والقُرءِ والجَونِ ونحوِها؛ فلا يَصِحُّ فيه دَعوى الظُّهورِ أصلًا.

وأمَّا إذا فَسَّرَه بما لا يحتملُ: فلعبٌ، فلا يُسمَعُ؛ لأنَّ غايتَه أنَّه نطقٌ بلغةٍ غيرِ معروفةٍ.

قالَ الحواريُّ

(2)

: وهذا الحقُّ، وقالَ العَبيديُّ

(3)

: لا يَلزَمُه التَّفسيرُ أصلًا

(4)

.

هذا كُلُّه إذا لم يَكُنِ اللَّفظُ مشهورًا، فإنْ كانَ مَشهورًا فالجزمُ تَبْكِيتُ المُعتَرضِ، ويُقالُ:«مُرْ فتَعَلَّمْ، ثمَّ ارجعْ فتَكَلَّمْ» ، وهذا مَعنى قولِه:(وَلَا يُعْتَدُّ بِتَفْسِيرِهِ بِمَا لَا يَحْتَمِلُهُ لُغَةً).

الثَّاني مِن القوادحِ: (فَسَادُ الِاعْتِبَارِ) وهو (مُخَالَفَةُ القِيَاسِ نَصًّا) للقرآنِ أو السُّنَّةِ (أَوْ) مخالفتُه (إِجْمَاعًا) فإنَّ ذلك يَدُلُّ على فسادِه.

مثالُ مخالفتِه نصَّ القُرآنِ: أنْ يَقُولَ المُستدلُّ في تَبْيِيتِ الصَّومِ: صَومٌ مفروضٌ، فلا يَصِحُّ بنيَّةٍ مِن النَّهارِ كالقضاءِ. فيَقُولُ المُعتَرضُ: هذا فاسدُ الاعتبارِ؛ لمخالفةِ قولِه تَعالى: {وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ}

(5)

فإِنَّه يَدُلُّ على أنَّ

(1)

كذا في «ع» ، «د» . وفي «التحبير» ، و «الفوائد السنية في شرح الألفية» (5/ 130): يكون.

(2)

هو عبد الرحمن بن رزين بن عبد العزيز الغساني، الحواري. ترجمته في «ذيل طبقات الحنابلة» (4/ 39).

(3)

كذا في «ع» ، «د» ، و «التحبير» ، وفي «الفوائد السنية في شرح الألفية» (5/ 131)، و «البحر المحيط» (4/ 279): العَميدي. وهو الصواب، وهو العلامة ركن الدين أبو حامد محمد بن محمد العميدي الحنفي، كان مبرزًا في الخلاف والنظر. ترجمته في «سير أعلام النبلاء» (22/ 76).

(4)

«التحبير شرح التحرير» (7/ 3551).

(5)

الأحزاب: 35.

ص: 710

كلَّ صائمٍ يَحصُلُ له أجرٌ عظيمٌ، وذلك يَستلزمُ الصِّحَّةَ، ويَأتي جوابُه معَ ما بَعدَه.

ومثالُ مخالفةِ نصِّ السُّنَّةِ أنْ يَقُولَ: لا يَصِحُّ السَّلَمُ في الحيوانِ؛ لأنَّه يَشتمِلُ على غَرَرٍ، فلا يَصِحُّ كالسَّلَمِ في المختلطِ. فيُقالُ: هذا فاسدُ الاعتبارِ؛ لمخالفةِ سُنَّةِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنَّه رَخَّصَ في السَّلَمِ.

ومثالُ مخالفةِ الإجماعِ: قولُ حنفيٍّ: لا يَجُوزُ للرَّجُلِ أنْ يُغَسِّلَ امرأتَه؛ لأنَّه يَحرُمُ النَّظَرُ إليها كالأجنبيَّةِ، فيُقال: هذا فاسدُ الاعتبارِ؛ لمخالفةِ الإجماعِ السُّكُوتِيِّ، وهو أنَّ عليًّا غَسَّلَ فاطمةَ

(1)

، وسُمِّيَ هذا النوعُ بذلك؛ لأنَّ الفسادَ لَيْسَ في وضعِ القِيَاسِ وتركيبِه، بل لأمرٍ مِن

(2)

خارجٍ، وهو عدمُ صِحَّةِ الاحتجاجِ به معَ وجودِ النَّصِّ المخالِفِ له؛ لحديثِ معاذٍ

(3)

حيثُ أَخَّرَ العملَ بالقِيَاسِ عنِ النَّصِّ، وصَوَّبَه صلى الله عليه وسلم، فدَلَّ على أنَّ رُتبةَ القِيَاسِ بعدَ النَّصِّ، ولأنَّ الظَّنَّ المستفادَ مِن النَّصِّ أقوى رُتبةً مِن الظَّنِّ المستفادِ مِنَ القِيَاسِ، وكذا الصَّحابةُ لم يَقِيسوا إلَّا معَ عدمِ النَّصِّ؛ ولأنَّه لا يَجُوزُ الحُكمُ بالقِيَاسِ إلَّا بعدَ طَلَبِه مِن النُّصوصِ.

(وَجَوَابُهُ) أي: جوابُ هذا القَدحِ يَحصُلُ بأوجهٍ:

(1)

رواه الحاكم (3/ 179)، والبيهقي (3/ 556) عن أَسْمَاءَ بنت عُمَيْسٍ قَالَتْ: غَسَّلْتُ أنا وَعَلِيٌّ، فَاطِمَةَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

(2)

ليس في «ع» .

(3)

يشير إلى ما رواه أبو داود (3592)، والترمذي (1327) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى اليَمَنِ، فَقَالَ:«كَيْفَ تَقْضِي؟» ، فَقَالَ: أَقْضِي بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ .. الحديث.

قال الترمذي: وليس إسناده عندي بمتصل.

وضعَّفه البخاري أيضًا في «التاريخ الكبير» (2/ 277).

ص: 711

- منها: (بِضَعْفِهِ) أي: بالطَّعنِ في سندِ النَّصِّ، فيَمنَعُ دَلالتَه أو يَمنَعُ صِحَّتَه،

مثالُ الأوَّلِ: أنْ يَقُولَ المُستدلُّ في الصَّومِ: لا نُسَلِّمُ أنَّ الآيةَ تَدُلُّ على صِحَّةِ الصَّومِ بدونِ تَبْيِيتِ النِّيَّةِ؛ لأنَّها مُطلَقَةٌ، وقيَّدْناها بحديثِ:«لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ»

(1)

.

ومثالُ الثَّاني: أن يَقُولَ في مسألةِ السَّلَمِ: لا نُسَلِّمُ صِحَّةَ التَّرخيصِ في السَّلَمِ، وإنْ سَلَّمْنا فلا نُسَلِّمُ أنَّ اللَّامَ فيه للاستغراقِ، فلا يَتناوَلُ الحيوانَ، وإنْ صَحَّ السَّلَمُ في غيرِه.

وأمَّا مسألةُ غَسلِ الزَّوجةِ: فبأنْ يَمنعَ صِحَّةَ ذلك عن عليٍّ، وإنْ سُلِّمَ فلا نُسِلِّمُ أنَّ ذلك اشتهرَ، وإنْ سُلِّمَ فلا نُسَلِّمُ أنَّ الإجماعَ السُّكوتِيَّ حُجَّةٌ، وإنْ سُلِّمَ فالفرقُ بينَ عليٍّ وغيرِه أنَّ فاطمةَ زوجتُه في الدُّنيا والآخرةِ، فالموتُ لم يَقطَعِ النِّكاحَ بينَهما بإخبارِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بخلافِ غيرِهما، فإنَّ الموتَ يَقطَعُ نِكاحَهما.

- (أَوْ) أي: وجوابُه: إمَّا بالطَّعنِ في سندِ النَّصِّ، أو بـ (مَنْعِ ظُهُورِ) دَلالتـ (ـهِ) على ما يَلْزَمُ منه فسادُ القِيَاسِ، بأن يَقُولَ في مسألةِ الصَّومِ: لا نُسَلِّمُ أنَّ الآيةَ تَدُلُّ على صِحَّةِ الصَّومِ بدونِ تبييتِ النِّيَّةِ؛ لأنَّها مُطلقةٌ، وقَيَّدْناها بحديثِ:

(1)

رواه أبو داود (2454)، والترمذي (730)، والنسائي (2331) واللفظ له، وابن ماجه (1700)، وابن خزيمة (1933) من حديث حفصة رضي الله عنها.

قال الترمذي: «حديث حفصة حديث لا نعرفه مرفوعًا إلا من هذا الوجه» ، وقد روي عن نافع، عن ابن عمر قوله، وهو أصح.

ونقل عن البخاري في «العلل» (202) أنه قال: هو حديث فيه اضطراب، والصحيح عن ابن عمر موقوف.

وقال النسائي في «الكبرى» (2661): والصواب عندنا موقوف، ولم يَصِح رفعه، والله أعلم.

ص: 712

«لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ» (1).

- (أَوْ) بِـ (تَأْوِيلِهِ) بأن يَدَّعِيَ أنَّ النَّصَّ المُعارَضَ به مُؤَوَّلٌ بدليلٍ يُرَجِّحُه على الظَّاهرِ، كأنْ يَقُولَ في مسألةِ الصَّومِ: إنَّ الآيةَ دَلَّتْ على ثوابِ الصَّائمِ، وإنَّا لا نُسَلِّمُ أنَّ المُمسِكَ بدونِ تبييتِ النِّيَّةِ صائمٌ.

- (أَوْ) بِـ (القَوْلِ بِمُوجَبِهِ) على ظاهرِه ويَدَّعِيَ أنَّ مَدلولَه لا يُنافي القِيَاسَ، كأنْ يَقُولَ: إنَّ الآيةَ دَلَّتْ على أنَّ الصَّائمَ يُثابُ بدونِ تبييتِ النِّيَّةِ، وأنا أَقولُ بمُوجَبِه، لكنَّها لا تَدُلُّ على أنَّه لا يَلْزَمُه القضاءُ، والنِّزاعُ فيه.

- (أَوْ) بِـ (مُعَارَضَتِهِ) أي: معارضةِ النَّصِّ (بِـ) نصٍّ (مِثْلِهِ) فَيُسَلَّمُ القِيَاسُ حينئذٍ لقوَّتِه بموافقةِ النَّصِّ.

‌القادحُ الثَّالثُ: (فَسَادُ الوَضْعِ

وَهُوَ أَخَصُّ مِمَّا تَلَاه) أي: مِن فسادِ الاعتبارِ.

فإنْ قِيلَ: فسادُ الاعتبارِ يَؤُولُ إلى فسادِ الوضعِ؛ لأنَّ كلًّا مِنهما اجتهادٌ في مقابلةِ النَّصِّ فما وجهُ تَمييزِه عنه؟

والجوابُ: أنَّ مِن أنواعِ فسادِ الاعتبارِ كَوْنَ تَركيبِه مُشعِرًا بنقيضِ الحُكمِ المطلوبِ، فهو أَعَمُّ مِن فسادِ الوضعِ ومُقَدَّمٌ عليه؛ لأنَّ فسادَ الاعتبارِ نَظَرٌ في فسادِ القِيَاسِ [مِن حيثُ الحُكمُ، وفسادُ الوضعِ أخصُّ باعتبارٍ؛ لأنَّه يَستلزمُ عَدَمَ اعتبارِ القِيَاسِ]

(1)

؛ لأنَّه قد يَكُونُ بالنَّظَرِ إلى أمرٍ خارجٍ عنه وهو: (كَوْنُ الجَامِعِ) بينَ الأصلِ والفرعِ (ثَبَتَ اعْتِبَارُهُ بِنَصٍّ) في نقيضِ الحُكمِ، كقولِ حنفيٍّ: الهِرَّةُ سَبُعٌ ذو نابٍ، فيَكُونُ سُؤرُه نَجِسًا كالكلبِ.

(1)

ليس في «ع» .

ص: 713

فيُقال: السَّبُعِيَّةُ اعتَبَرها الشَّارِعُ عِلَّةً للطَّهارةِ حيثُ دُعِيَ إلى دارٍ فيها كلبٌ، فامتنعَ، ودارٍ أُخرى فيها سِنَّوْرٌ فأجابَ، فقِيلَ له، فقالَ:«السِّنَّوْرُ سَبُعٌ»

(1)

، رَوَاه أحمدُ وغيرُه.

(أَوْ) ثَبَتَ اعتبارُه بـ (إِجْمَاعٍ

(2)

، كَقَوْلِ شَافِعِيٍّ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ) في الوُضوءِ:(مَسْحٌ، فَسُنَّ تَكْرَارُهُ كَاسْتِجْمَارٍ) حيثُ استُحِبَّ الإتيانُ فيه.

(فيُعتَرَضُ) على الشَّافعيِّ (بكراهةِ تَكْرَارِ مَسْحِ الخُفِّ) فيُقالُ: المسحُ على الخُفِّ لا يُستَحَبُّ تَكرارُه إجماعًا، وجوابُ المُستدِلِّ ببيانِ المانعِ لتَعَرُّضِه لتلفِ الخُفِّ، وسُؤالُ فسادِ الوضعِ نقضٌ خاصٌّ لإثباتِه نقيضَ الحُكْمِ، فإنْ ذَكَرَ المُعتَرضُ نقيضَ الحكمِ معَ أصلِه، فقالَ: لا يُستَحَبُّ تَكرارُ مسحِ الرَّأسِ كالخُفِّ: فهو القلبُ، لكنِ اختلَفَ أصلُهما، وإنْ بَيَّنَ المُعتَرضُ مُناسبةَ الجامعِ للنَّقيضِ ولم يَذكُرْ أصلَه، فإنْ بَيَّنَها

(3)

مِن جهةِ دَعوى المُستدلِّ: فهو القدحُ في المناسبةِ، وإلَّا لم يَقدَحْ؛ لجوازِ أنَّ للوصفِ جهتينِ كمَحَلٍّ مُشْتَهًى: يُناسِبُ حِلَّه لإراحةِ القلبِ، وتحريمَه لكفِّ النَّفسِ.

(وَمِنْهُ) أي: مِن فسادِ الوضعِ (كَوْنُ الدَّلِيلِ عَلَى هَيْئَةٍ غَيْرِ صَالِحَةٍ لِاعْتِبَارِهِ) أي: بألَّا يَكُونَ الدَّليلُ على الهيئةِ الصَّالحةِ لاعتبارِه (فِي تَرْتِيبِ الحُكْمِ) كأنْ يَكُونَ صالحًا لضِدِّ ذلك الحُكْمِ أو نقيضِه، فدَلَّ أنَّهما نوعانِ لخطابِ الوضعِ:

(1)

«مسند أحمد» (8457).

(2)

زاد في «مختصر التحرير» (ص 223): في نقيض حكم.

(3)

في «د» : بينهما.

ص: 714

فالأوَّلُ (كَتَلَقِّي:

(1)

تَخْفِيفٍ مِنْ تَغْلِيظٍ، كَقَوْلِ حَنَفِيٍّ: القَتْلُ جِنَايَةٌ عَظِيمَةٌ، فَلَا يَجِبُ فِيهَا كَفَّارَةٌ كَبَقِيَّةِ الكَبَائِرِ، فَـ) قَوْلُهُ

(1)

أي: المُستدلِّ: (جِنَايَةٌ عَظِيمَةٌ تُناسِبُ التَّغليظَ).

(أَوْ) تَلَقِّي (تَوْسِيعٍ مِنْ تَضْيِيقٍ، كـ) قولِه: (الزَّكَاةُ مَالٌ وَاجِبٌ إِرْفَاقًا لِدَفْعِ الحَاجَةِ، فَكَانَ عَلَى التَّرَاخِي، كَالدِّيَةِ عَلَى العَاقِلَةِ، فَـ) قَوْلُهُ: (لِدَفْعِ

(2)

الحَاجَةِ

(3)

يَقْتَضِي الفَوْرَ).

(2)

(أَوْ) أي: والنَّوعُ الثَّاني: كتَلَقِّي (إِثْبَاتٍ مِنْ نَفْيٍ، كَـ) قولِه: (المُعَاطَاةُ فِي اليَسِيرِ بَيْعٌ لَمْ يُوجَدْ فِيهِ سِوَى الرِّضَا، فَوَجَبَ أَنْ يَبْطُلَ كَغَيْرِهِ، فَـ) قولُه: (الرِّضَى يُنَاسِبُ الِانْعِقَادَ).

وإنَّما سُمِّيَ هذا فسادَ الوضعِ؛ لأنَّ وضعَ القِيَاسِ جَعَلَه في مَحَلٍّ على هيئةٍ أو كيفيَّةٍ صالحةٍ لأنْ يَتَرَتَّبَ على ذلك الحُكمِ المطلوبِ، فإذا كانَ ذلك المحلُّ أو تلك الهيئةُ لا تُناسِبُ: فَسَدَ وضعُه، فإذا اقتضَتِ العِلَّةُ نقيضَ الحُكمِ المُدَّعَى أو خلافَه: كانَ ذلك مُخالفًا للحِكمةِ؛ إذْ مِن شأنِ العِلَّةِ أنْ تُناسِبَ مَعلُولَها؛ لأنَّها تُخالِفُه، فكانَ ذلك فاسدَ الوضعِ بهذا الاعتبارِ.

(وَجَوَابُهُمَا) أي: جوابُ نَوْعَيْ فسادِ الوضعِ (بِتَقْرِيرِ

(4)

كَوْنِهِمَا كَذَلِكَ) فيُقَدَّرُ كَوْنُ الدَّليلِ صالحًا لاعتبارِه في ترتيبِ الحُكمِ عليه، كأنْ يَكُونَ له جهتانِ يَنظُرُ المُستدلُّ مِن إحداهما والمُعتَرضُ مِن الأُخرى، كالارتفاقِ ودفعِ الحاجةِ في مسألةِ الزَّكاةِ، ويُجابُ عنِ الكَفَّارةِ في القتلِ بأنَّه غُلِّظَ فيه

(1)

في «ع» : فقول.

(2)

في «ع» : دفع.

(3)

ليس في «د» .

(4)

في «د» : تقرير.

ص: 715

بالقصاصِ فلا يُغَلَّظُ فيه بالكَفَّارةِ، وعنِ المُعاطاةِ بأنَّ عَدَمَ الانعقادِ بها مُرَتَّبٌ على عَدَمِ الصِّيغةِ لا على الرِّضى، ويُقَرِّرُ النَّوعَ الأوَّلَ كَوْنُ الجامعِ مُعتَبَرًا في ذلك الحُكمِ، ويَكُونُ تَخَلُّفُه عنه بأنْ وُجِدَ معَ نقيضِه لمانعٍ، كما في مسحِ الخُفِّ، فإنَّ تَكرارَه يُفسِدُه بغسلِه.

القادحُ الرَّابعُ: (مَنْعُ) المُعتَرضِ مِن (حُكْمِ الأَصْلِ) أي: أصلِ المُستدلِّ، كأنْ يَقُولَ حنبليٌّ: الخلُّ مائعٌ لا يَرفَعُ الحَدَثَ، فلا يُزيلُ النَّجاسةَ كالدُّهنِ. فيقولُ حنفيٌّ: لا أُسَلِّمُ الحُكمَ في الأصلِ، فإنَّ الدُّهنَ عندي يُزيلُ النَّجاسةَ؛ فـ (يُسْمَعُ) منه منعُ حُكمُ الأصلِ في الأصحِّ.

(وَلَا يَنْقَطِعُ) المُستدلُّ (بِمُجَرَّدِ) مَنْعِـ (ـهِ) منه

(1)

عندَ الأكثرِ؛ لأنَّه منعُ مُقدِّمةٍ مِن مُقدِّماتِ القِيَاسِ، فله إثباتُه

(2)

كسائرِ المُقدِّماتِ، أي:(فَيَدُلُّ) المُستدلُّ (عَلَيْهِ) أي: على أصلٍ مَقِيسٍ عليه، و (كَـ) ـما لو اعتُرِضَ عليه بـ (مَنْعِ العِلَّةِ، أَوْ وُجُودِهَا) فإِنَّه لا يَنقَطِعُ المُستدلُّ بذلك، وله إقامةُ الدَّليلِ على حُكمِ الأصلِ.

(فَإِنْ دَلَّ) أي: أقامَ الدَّليلَ على إثباتِ حُكمِ الأصلِ (لَمْ يَنْقَطِعِ المُعْتَرِضُ) بمُجرَّدِ دَلالةِ المُستدلِّ على الأصحِّ (فَلَهُ الِاعْتِرَاضُ) على ذلك الدَّليلِ بطريقِه؛ إذْ لا يَلْزَمُ مِن وجودِ صورةِ الدَّليلِ صِحَّتُه.

(وَلَيْسَ) ذلك الاعتِراضُ (بِخَارِجٍ عَنِ المَقْصُودِ) الأصليِّ (فَيَتَوَجَّهُ لَهُ) أي: للمُعتَرضِ (سَبْعُ مُنُوعٍ) أي: سبعُ اعتِراضاتٍ (مُرَتَّبَةٍ) ثلاثةٌ تَتَعَلَّقُ بالأصلِ، وثلاثةٌ بالعلَّةِ، وواحدٌ بالفرعِ:

(1)

ليس في «د» .

(2)

زاد في «ع» : العلة أو وجودها.

ص: 716

فيُقَدَّمُ منها ما يَتَعَلَّقُ بالأصلِ: مِن منعِ حُكمِه، أو كَوْنِه ممَّا لا يُقاسُ عليه، أو كَوْنِه غيرَ مُعَلَّلٍ،

ثمَّ ما يَتَعَلَّقُ بالعِلَّةِ؛ لأنَّها فَرعُه لاستنباطِها منه مِن مَنْعِ كَوْنِ ذلك الوصفِ عِلَّةً، أو مَنْعِ وجودِه في الأصلِ، أو مَنْعِ كَوْنِهِ مُتَعَدِّيًا،

ثمَّ ما يَتَعَلَّقُ بالفرعِ؛ لابتنائِه عليهما، كمنعِ وجودِ الوصفِ المُدَّعَى عِلِّيَّتُه في الفرعِ، فيُقالُ في الإثباتِ بمُنُوعٍ مُرَتَّبَةٍ: لا نُسَلِّمُ حُكْمَ الأصلِ، سَلَّمْنا ذلك، ولا نُسَلِّمُ أنَّه ممَّا يُقاسُ فيه، لِمَ لا يَكُونُ ممَّا اختُلِفَ في جوازِ القِيَاسِ فيه؟ سَلَّمْنا ذلك، ولا نُسَلِّمُ أنَّه مُعَلَّلٌ، لِمَ لا يُقالُ: إنَّه تَعبُّدِيٌّ؟ سَلَّمْنا ذلك، ولا نُسَلِّمُ أنَّ هذا الوصفَ عِلَّتُه. لِم لا يُقالُ: العِلَّةُ غيرُه؟ سَلَّمْنا ذلك، ولا نُسَلِّمُ وُجودَ الوصفِ في الأصلِ، سَلَّمْنا ذلك، ولا نُسَلِّمُ:«الوصفُ مُتعدٍّ» لِمَ لا يُقالُ: إنَّه قاصرٌ؟ سَلَّمْنا ذلك، ولا نُسَلِّمُ وجودَه في الفرعِ.

وظاهرُ إيرادِها على هذا التَّرتيبِ وجوبُه

(1)

لمُناسبةِ ذلك التَّرتيبِ الطَّبيعيِّ، وجوابُ هذه الاعتِراضاتِ بدَفعِ ما يُرادُ دَفعُه منها بطريقِه المفهومةِ.

(وَإِنِ اعْتَرَضَ) المُعتَرضُ (عَلَى حُكْمِ الأَصْلِ بـ) أنْ قال للمُستدلِّ: (إِنِّي [لَا أَعْرِفُ]

(2)

مَذْهَبِي فِيهِ) أي: فيما قِسْتَ عليه، (فَإِنْ أَمْكَنَ المُسْتَدِلَّ بَيَانُهُ) أي: بيانُ حُكْمِ الأصلِ بيَّنَه (وَإِلَّا) يُمْكِنْه بيانُه (دَلَّ) المُعتَرضُ (عَلَى إِثْبَاتِهِ) أي: إثباتِ أصلِه ولمْ يَنقطِعْ بذلك

(3)

.

(وَلِلْمُسْتَدِلِّ) عندَ أصحابِنا وغيرِهم (أَنْ يَسْتَدِلَّ) يَعني: يَحتَجَّ (بِدَلِيلٍ عِنْدَهُ فَقَطْ) أي: دونَ المُعتَرضِ (كَمَفْهُومٍ وَقِيَاسٍ، فَإِنْ) مَنَعَه خصمُه بأنِ

(1)

في «د» : وجوابه.

(2)

في «ع» : لأعرف.

(3)

ليس في «د» .

ص: 717

(اعْتَرَضَ) عليه (دَلَّ) المُستدلُّ (عَلَيْهِ) أي: على ذلك الدَّليلِ (وَلَمْ يَنْقَطِعْ) بذلك.

(وَلَيْسَ لِلْمُعْتَرِضِ أَنْ يُلْزِمَهُ) أي: يُلْزِمَ المُستدلَّ (مَا يَعْتَقِدُهُ هُوَ) فقطْ (وَلَا) للمُعتَرضِ (أَنْ يَقُولَ) للمُستدلِّ: (إِنْ سَلَّمْتَ) ما أَعتقِدُه (وَإِلَّا دَلَّلْتُ عَلَيْهِ).

قالَ الشَّيخُ: لا يَنقطِعُ واحدٌ مِنهما، فيَكُونُ الاستدلالُ في مهلةِ النَّظرِ في المُعارضِ

(1)

.

‌القادحُ الخامسُ: (التَّقْسِيمُ)

وهو (احْتِمَالُ لَفْظِ المُسْتَدِلِّ لِأَمْرَيْنِ فَأَكْثَرَ عَلَى السَّوَاءِ) أي: بأن يَكُونَ اللَّفظُ مُتَرَدِّدًا بينَ احتمالينِ متساويينِ؛ لأنَّه لو كانَ ظاهرًا في أحدِهما لوَجَبَ تنزيلُه عليه.

(بَعْضُهَا) أي: بعضُ الاحتمالاتِ مُسَلَّمٌ لا يُحَصِّلُ المقصودَ، والبعضُ الآخَرُ (مَمْنُوعٌ) وهو الَّذِي يُحَصِّلُ المقصودَ، ولا بدَّ مِن زيادةِ هذا القيدِ الأخيرِ؛ لأنَّهما لو كانا مُسلمَينِ يُحَصِّلانِ المقصودَ أو لا يُحَصِّلان: لم يَكُنْ للتَّقسيمِ مَعنًى؛ لأنَّ المقصودَ حاصلٌ أو غيرُ حاصلٍ على التَّقديرَينِ معًا وَقَعَ زيادتُه، فيَرِدُ عليه ما لو حَصَّلَا المقصودَ، ووَرَدَ على أَحدِهما مِن القوادحِ ما لا يَرِدُ على الآخَرِ، فإِنَّه مِن التَّقسيمِ أيضًا لحُصُولِ غرضِ المُستدلِّ به.

(وَهُوَ) أي: التَّقسيمُ (وَارِدٌ) على المُستدلِّ عندَ الأكثرِ (وَبَيَانُهُ) أي: بيانُ احتمالِ لفظِ المُستدلِّ (عَلَى المُعْتَرِضِ) كالاستفسارِ وذلك (كَـ) قولِ المُستدلِّ: (الصَّحِيحُ فِي الحَضَرِ وَجَدَ السَّبَبَ بِتَعَذُّرِ المَاءِ) عليه (فَجَازَ)

ص: 718

لَهُ (أَنْ يَتَيَمَّمَ، فَيَقُولُ) المُعتَرضُ: (السَّبَبُ) المبيحُ للتَّيمُّمِ (تَعَذُّرُهُ) أي: تَعذُّرُ الماءِ (مُطْلَقًا) أي: مِن غيرِ قيدِ سفرٍ أو حضرٍ أو غيرِه، (أَوْ) تَعَذُّرُه (فِي سَفَرٍ، أَوْ مَرَضٍ) فَـ (الأَوَّلُ) وهو تَعَذُّرُه مُطلقًا (مَمْنُوعٌ، فَهُوَ مَنْعٌ بَعْدَ تَقْسِيمٍ) والصَّحيحُ قَبولُ هذا السُّؤالِ بَعدَما يُبَيِّنُ المعترضُ مَحَلَّ التَّردُّدِ.

(وَجَوَابُهُ) أي: جوابُ هذا الاعتراضِ (كَالِاسْتِفْسَارِ) بأنْ يَقُولَ المستدلُّ: لفظي الَّذِي ذَكَرْتُه مَحمولٌ

(1)

على المعنى الَّذِي يُؤَدِّي للدَّلالةِ، والدَّالُّ على حَمْلِه على ذلك اللُّغةُ، أو العُرفُ الشَّرعيُّ، أو العُرفُ العامُّ، أو كونُه مَجازًا راجحًا بعُرفِ الاستعمالِ أو بكَوْنِ أحدِ الاحتمالاتِ ظاهرًا بسببِ ما انْضَمَّ إليه مِن القرينةِ مِن لفظِ المستدلِّ، إنْ كانَ هناك قرينةٌ لفظيَّةٌ أو حاليَّةٌ أو عقليَّةٌ، بحيثُ لا يحتاجُ إلى إثباتِه لغةً وعرفًا.

‌القادحُ السَّادسُ: (مَنْعُ وُجُودِ المُدَّعَى)

أي: ما ادَّعاه المستدلُّ (عِلَّةً فِي الأَصْلِ) مُتَعَلِّقٌ بـ «وجودِ» (كَـ) قولِه: (الكَلْبُ حَيَوَانٌ يُغْسَلُ مِنْ وُلُوغِهِ سَبْعًا فَلَا يَطْهُرُ) جِلْدُهُ (بِدَبْغٍ كَخِنْزِيرٍ؛ فَيَمْنَعُ) المُعتَرضُ بأنْ يَقولَ: لا نُسَلِّمُ أنَّ الخنزيرَ يُغسَلُ مِن وُلُوغِه سَبْعًا.

(وَجَوَابُهُ) أي: جوابُ المُستدلِّ عن هذا الاعتِراضِ (بِبَيَانِهِ) أي: بإثباتِ وجودِ الوصفِ في الأصلِ (بِدَلِيلٍ) أي: بما هو طريقُ ثبوتِ مِثْلِه (مِنْ عَقْلٍ، أَوْ حِسٍّ، أَوْ شَرْعٍ بحَسَبِ حالِ الوصفِ)؛ [لأنَّ الوصفَ]

(2)

قد يَكُونُ عقليًّا فبالعقلِ، أو حِسِّيًّا فبالحسِّ، أو شرعيًّا فبالشَّرعِ.

مِثالٌ يَجمَعُ الثَّلاثةَ: إذا قال في القتلِ بالمُثْقَلِ: قتلٌ عمدٌ عدوانٌ، فلو قال:

(1)

في «د» : معنى.

(2)

ليس في «ع» .

ص: 719

لا نُسَلِّمُ أنَّه قتلٌ، قال بالحِسِّ. ولو قِيلَ: لا نُسَلِّمُ أنَّه عمدٌ قال: معلومٌ عقلًا بأمارتِه، ولو قِيلَ: لا نُسَلِّمُ أنَّه عدوانٌ، قال: لأنَّ الشَّرعَ حَرَّمَه.

(وَلَهُ) أي: للمُستدلِّ (تَفْسِيرُ لَفْظِهِ بـ) مَعنًى (مُحْتَمَلٍ).

القادحُ السَّابعُ: (مَنْعُ كَوْنِهِ) أي: الوصفِ (عِلَّهً

(1)

أي: منعُ العِلَّةِ في الوصفِ الَّذِي عَلَّلَ به المُستدلُّ والمُطالبةُ بتصحيحِ ذلك وهو (أَعْظَمُ الأَسْئِلَةِ) لعمومِ وُرُودِه وتَشَعُّبِ مَسَالِكِه.

(وَيُقْبَلُ) هذا القدحُ مِن المُعتَرضِ عندَ الأكثرِ؛ لأنَّ الأصلَ عدمُ دليلِ القِيَاسِ، ولو لم يُقبَلْ لأَدَّى الحالُ إلى اللَّعِبِ في التَّمسُّكِ بكلِّ طردٍ مِن الأوصافِ كالطُّولِ والقِصَرِ، فإنَّ المُستدلَّ يَأْمَنُ المنعَ، ويَتَعَلَّقُ بما شاءَ مِن الأوصافِ.

(وَجَوَابُهُ) أي: جوابُ هذا السُّؤالِ (بِبَيَانِهِ) أي: بأن يُثْبِتَ المُستدلُّ عِلِّيَّةَ الوصفِ (بِأَحَدِ مَسَالِكِهَا) أي: أحدِ مَسالكِ العِلَّةِ السَّابقةِ مِن إجماعٍ، أو نصٍّ، أو سبْرٍ، أو غيرِ ذلك مِن مَسَالِكِها.

‌القادحُ الثَّامنُ: (عَدَمُ التَّأْثِيرِ

بِـ) أنْ يَدَّعِيَ المُعتَرضُ (أَنَّ الوَصْفَ لَا مُنَاسَبَةَ لَهُ) بينَ الأصلِ والفرعِ، كأنْ يَقُولَ: هذا الَّذِي عَلَّلَ به غيرُ مناسبٍ للتَّعليلِ لكَوْنِه طرديًّا، أو لاختلالِ شرطٍ مِن شروطِ العِلَّةِ فيه، فلا يَكْتَفي به في التَّعليلِ.

و (لَا يَرِدُ) عَدَمُ التَّأثيرِ:

- (عَلَى قِيَاسِ الدَّلَالَةِ) المتقدِّمِ ذِكْرُه قُبَيْلَ القوادحِ على الصَّحيحِ؛ لأنَّه لا يَلْزَمُ مِن عدمِ الدَّليلِ عدمُ المدلولِ،

- (وَلَا) يَرِدُ عَدَمُ التَّأثيرِ أيضًا (عَلَى قِيَاسٍ نَافٍ لِلْحُكْمِ) لتعدُّدِ سببِ انتفائِه

(1)

في «د» : علته.

ص: 720

لعدمِ العِلَّة أو جزئِها، أو وجودِ مانعٍ، أو فَوَاتِ شرطٍ، بخلافِ سببِ ثُبوتِه؛ لأنَّ عَدَمَ التَّأثيرِ إِنَّمَا يَصِحُّ إذا لم تَخْلُفِ العِلَّةُ عِلَّةً أُخرى؛ ولأنَّه يَرجِعُ إلى قياسِ الدَّلالةِ.

(وَأَقْسَامُهُ أَرْبَعَةٌ) أي: قَسَّمَ الجدليُّونَ عَدَمَ التَّأثيرِ أربعةَ أقسامٍ: ما لا تأثيرَ له أصلًا، وما لا تأثيرَ له في حُكْمِ ذلك الأصلِ، وما اشتملَ على قيدٍ لا تأثيرَ له، وما لا يَظهَرُ فيه شيءٌ مِن ذلك، ولكنْ لا يَطَّرِدُ في مَحَلِّ النِّزاعِ فيُعلَمُ مِن ذلك عَدَمُ تأثيرِه.

ولكلِّ قسمٍ اسمٌ يُعرَفُ به:

فالأوَّلُ: (عَدَمُهُ فِي) ذلك (الوَصْفِ) أي: لا تأثيرَ له أصلًا لكونِه طرديًّا (كَـ) قولِ المستدلِّ: (صَلَاةُ) الصُّبحِ صلاةٌ

(1)

(لَا تُقْصَرُ، فَلَا يُقَدَّمُ أَذَانُهَا عَلَى وَقْتِهَا كَالمَغْرِبِ، فَعَدَمُ القَصْرِ هُنَا) بالنِّسبةِ لعدمِ التَّقديمِ (طَرْدِيٌّ) كأنَّه قالَ: لا يُقَدَّمُ الأذانُ على الفجرِ؛ لأنَّها لا تُقصَرُ، واطَّرَدَ ذلك في المغربِ، لكنَّه لم يَنعكِسْ في بقيَّةِ الصَّلواتِ؛ إذ مُقتضى هذا القِيَاسِ أنَّ ما يُقصَرُ مِن الصَّلواتِ يَجُوزُ تقديمُ أذانِه على وقتِه من حيثُ انعكاسُ العِلَّةِ (فَيَرْجِعُ) حاصلُه (إِلَى سُؤَالِ المُطَالَبَةِ) قَبْلَه.

(وَ) الثَّاني: (عَدَمُهُ) أي: عدمُ التَّأثيرِ (فِي الأَصْلِ) بأنْ يَستغنيَ عنه بوصفٍ آخَرَ لثبوتِ حُكمِه بدونِه (كَـ) قولِ المستدلِّ في بيعِ الغائبِ: (مَبِيعٌ غَيْرُ مَرْئِيٍّ، فبَطَلَ كَالطَّيْرِ فِي الهَوَاءِ) فيُعارَضُ بأنَّ العِلَّةَ العجزُ عن التَّسليمِ وهو كافٍ في البطلانِ، وعدمُ التَّأثيرِ هنا جهةُ العكسِ؛ لأنَّ عَدَمَ تعليلِ صِحَّةِ بيعِ الغائبِ بكَوْنِه غيرَ مرئيٍّ يَقتضي أنَّ كلَّ مرئيٍّ يَجُوزُ بَيعُه، وقد بَطَلَ بيعُ

(1)

ليس في «ع» .

ص: 721

الطَّيرِ في الهواءِ، وحاصلُه: مُعارَضةٌ في الأصلِ؛ أي بإبداءِ عِلَّةٍ أُخرى، وهي العجزُ عن التَّسليمِ،

(فَالعَجْزُ عَنِ التَّسْلِيمِ) وصفٌ (مُسْتَقِلٌّ) يَصلُحُ وَحدَه أنْ يَكُونَ عِلَّةً لعدمِ صِحَّةِ البيعِ، ولذلك بَنَاه البَيْضَاوِيُّ

(1)

وغيرُه على جوازِ التَّعليلِ بعِلَّتَينِ.

فإنْ قُلْنا بجوازِه: لم يَقدَحْ، يَعني: فلا يُقبَلُ القدحُ بعدمِ التَّأثيرِ، وهو القولُ المُقَدَّمُ.

(وَيُقْبَلُ) القدحُ بعدمِ التَّأثيرِ (فِي وَجْهٍ) وهو قولُ المُوَفَّقِ وغيرِه (وَهُوَ مُعَارَضَتُهُ

(2)

فِي الأَصْلِ).

والثَّالثُ: (عَدَمُهُ) أي: عدمُ التَّأثيرِ (فِي الحُكْمِ) وهو ثلاثةُ أنواعٍ:

(1)

(إِمَّا لَا فَائِدَةَ لِذِكْرِهِ) أو له فائدةٌ ضروريَّةٌ أو غيرُ ضروريَّةٍ، فالأوَّلُ (كـ) قولِ المُستدلِّ:(المُرْتَدُّ مُشْرِكٌ أَتْلَفَ مَالًا) مُحْتَرَمًا (فِي دَارِ حَرْبٍ، فَلَا ضَمَانَ) عليه (كَحَرْبِيٍّ، فَـ) لا فائدةَ في قولِه: (دَارِ الحَرْبِ)؛ لأنَّه (طَرْدِيٌّ؛ إِذْ مَنْ أَوْجَبَهُ) أي: الضَّمانَ (أَوْ نَفَاهُ أَطْلَقَ) فلم يُقَيَّدْ بدارِ حربٍ، فيَرجِعُ إلى ما رَجَعَ إليه القسمُ الأوَّلُ وهو المُطالبةُ بتأثيرِ كَوْنِه في دارِ الحربِ.

(2)

والثَّاني المشارُ إليه بقولِه: (أَوْ لَهُ) أي: لذِكْرِ عدمِ التَّأثيرِ (فَائِدَةٌ ضَرُورِيَّةٌ) في القِيَاسِ (كَقَوْلِ مُعْتَبِرِ) بكسرِ الباءِ (عَدَدِ الأَحْجَارِ فِي الِاسْتِجْمَارِ) أنَّها (عِبَادَةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِالأَحْجَارِ لَمْ يَتَقَدَّمْهَا مَعْصِيَةٌ، فَاعْتُبِرَ فِيهَا العَدَدُ، كـ) رميِ (الجِمارِ) في الحجِّ، (فَقَوْلُهُ) أي: المُستدلِّ: («لَمْ يَتَقَدَّمْهَا

(1)

«نهاية السول شرح منهاج الوصول» (ص 341).

(2)

في «مختصر التحرير» (ص 227): معارضة.

ص: 722

مَعْصِيَةٌ» لَا أَثَرَ لَهُ) في الاستدلالِ (لَكِنَّهُ مُضَطَرٌّ إِلَى ذِكْرِهِ؛ لَئَلَّا يَنْتَقِضَ) استدلالُه (بِالرَّجْمِ)، وهذا أيضًا راجعٌ إلى الأوَّلِ كالَّذي قَبْلَه.

(3)

والثَّالثُ المُشارُ إليه بقولِه: (أَوْ) لذِكرِ عَدَمِ التَّأثيرِ فائدةٌ (غَيْرُ ضَرُورِيَّةٍ) في القِيَاسِ، بأنْ لم يَضطَرَّ إليها المُعلِّلُ، ولذلك يُسَمَّى الحشوَ، (كـ) ما لو قِيلَ:(الجُمُعَةُ صَلَاةٌ مَفْرُوضَةٌ، فَلَمْ تَفْتَقِرْ) إقامتُها (إِلَى إِذْنِ) الإمامِ (كـ) الظُّهرِ و (غيرِها، فَـ) قولُه: (مَفُروضَةٌ: حَشْوٌ) لا فائدةَ فيه؛ (إِذْ لَوْ حُذِفَتْ)«مفروضةٌ» (لَمْ يَنْتَقِضْ) قياسُه؛ لأنَّ النَّفلَ كذلك، وإنَّما ذُكِرَ لتقريبِ الفرعِ مِن الأصلِ وتقويةِ الشَّبَهِ بينَهما؛ إذ الفرضُ بالفرضِ أشبهُ مِن غيرِه.

(4)

(وَ) القسمُ الرَّابعُ: (عَدَمُهُ) أي: عدمُ التَّأثيرِ (فِي الفَرْعِ) لكنْ له تأثيرٌ، ولا يُطرَدُ في ذلك الفرعِ ونحوِه مِن مَحَالِّ النِّزاعِ، وإنْ كانَ الوصفُ له تأثيرٌ في الجملةِ، (كَـ) ما لو قيلَ في ولايةِ المرأةِ: امرأةٌ (زَوَّجَتْ نَفْسَهَا، فَلَا يَصِحُّ) نِكاحُها (كَمَا لَوْ زُوِّجَتْ) مِن وليِّها (بِغَيْرٍ كُفْءٍ) فالتَّزويجُ مِن غيرٍ كفؤٍ وإنْ ناسَبَ البطلانَ، إلَّا أنَّه لا اطِّرَادَ له في صورةِ النِّزاعِ الَّتي هي تزويجُها نفسَها مُطلقًا، فبانَ أنَّ الوصفَ لا أَثَرَ له في الفرعِ المُتنازَعِ فيه.

(وَهُوَ) أي: عدمُ التَّأثيرِ في الفرعِ (كَـ) القِسْمِ (الثَّانِي) الَّذِي هو عَدَمُ التَّأثيرِ في الأصلِ، من حيثُ إنَّ حُكمَ الفرعِ هنا مُضافٌ إلى غيرِ الوصفِ المذكورِ.

واعلَمْ أنَّ هذا القسمَ الرَّابعَ كيف كانَ مَبنيٌّ على قَبولِ الفرضِ، (وَ) الصَّحيحُ أَنَّهُ (يَجُوزُ الفَرْضُ فِي بَعْضِ صُوَرِ المَسْأَلَةِ) كما لو قالَ المسؤولُ عن نفوذِ عتقِ الرَّاهنِ: افرضِ الكلامَ في المُعسِرِ أو عمَّن زَوَّجَتْ نَفْسَها أو افرضْ فيمَنْ زُوِّجَتْ بغيرِ كفؤٍ، فإذا خَصَّ المُستدلُّ تزويجَها نَفْسَها مِن غيرِ الكفؤِ بالدَّليلِ، فقد فَرَضَ دليلَه في بعضِ صورِ النِّزاعِ، وعِلَّتُه الاصطلاحُ

ص: 723

لإرفاقِ المُستدلِّ وتقريبِ الفائدةِ، واستدلَّ له بأنَّه قد لا يُساعِدُه الدَّليلُ على الكلِّ، أو يُساعِدُه غيرَ أنَّه لا يُعَلِّلُ على دَفعِ الخصمِ بأنْ يَكُونَ كلامُه في بعضِ الصُّوَرِ أَشْكَلَ، فيستفيدُ بالفرضِ غرضًا صحيحًا، ولا يَفْسُدُ بذلك جوابُه؛ لأنَّ مِن سُئِلَ عن الكلِّ، فقد سُئِلَ عنِ البعضِ.

(وَ) على هذا (يَكْفِي) المُستدلَّ (قَوْلُهُ: ثَبَتَ الحُكْمُ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ، فَلَزِمَ ثُبُوتُهُ فِي البَاقِي) منها ضرورةَ ألَّا قَائِلَ بالفرقِ.

(وَإِنْ أَتَى) المُستدلُّ (بِمَا لَا أَثَرَ لَهُ فِي الأَصْلِ، لـ) قصدِ (دَفْعِ النَّقْضِ: لَمْ يَجُزْ) عندَ الجمهورِ ويَحتمِلُ أنْ يَجُوزَ؛ لأنَّه محتاجٌ إليه لتَعَلُّقِ الحُكمِ بالوصفِ المُؤَثِّرِ.

وقال في «التمهيد»

(1)

: إنْ أَتَى في العِلَّةِ بما لا أَثَرَ له، نحوُ: الجمعةُ صلاةٌ مفروضةٌ، فلم تَفتقِرْ إلى إِذْنٍ كغيرِها، قِيلَ: يَضُرُّ دُخولُه؛ لأنَّه بعضُ العِلَّةِ، وقِيلَ: لا فارقَ فيه تَنبيهًا على أنَّ غيرَ الفرضِ أَوْلى ألَّا يَفتقرَ؛ ولأنَّه يُريدُ تَقريبَه من الأصلِ، فالأَوْلَى ذِكْرُه، وإنْ أَتَى به تأكيدًا، فكلامُه يَقتضي مَنْعَه بخلافِه لزيادةِ بيانٍ.

القادحُ التَّاسِعُ والعاشرُ والحاديَ عَشَرَ والثَّانيَ عَشَرَ: ما اشتهرَ باسمِ القَدحِ، فالمذكورُ أربعةُ أنواعٍ، وهذه الأربعةُ المخصوصةُ بالمناسبةِ:

أحدُها: (القَدْحُ فِي مُنَاسَبَةِ الوَصْفِ) للحُكْمِ المُستَدَلِّ عليه (بِمَا يَلْزَمُ فِيهِ مِنْ مَفْسَدَةٍ رَاجِحَةٍ) على المصلحةِ الَّتي مِن أجلها قُضِيَ عليه بالمناسبةِ، (أَوْ مُسَاوِيَةٍ) لها وذلك لِما سَبَقَ مِن أنَّ المناسبةَ تَنخَرِمُ بالمعارضةِ، وإنَّما

(1)

«التمهيد في أصول الفقه» للكَلْوَذاني (4/ 135).

ص: 724

أُعِيدَتْ لأجلِ التَّقسيمِ، وبيانِ أنَّ ذلك مِن جملةِ القوادحِ الواردةِ على المستدلِّ حَتَّى يَحتاجَ إلى الجوابِ عنها.

(وَجَوَابُهُ) عنها (بِالتَّرْجِيحِ) أي: ببيانِ ترجيحِ تلك المصلحةِ الَّتي هي في العِلَّةِ على تلك المفسدةِ الَّتي يُعتَرَضُ بها تفصيلًا وإجمالًا، أمَّا تفصيلًا فبخصوصِ المسألةِ بأنَّ هذا ضروريٌّ، وذلك حاجيٌّ، أو بأنَّ هذا إفضاءٌ قطعيٌّ أو أكثريٌّ، وذلك ظنِّيٌّ أو أقلِّيٌّ، أو أنَّ هذا اعتُبِرَ نوعُه في نوعِ الحُكمِ، وذلك اعتُبِرَ نوعُه في جنسِ الحُكْمِ إلى غير ذلك ممَّا تَنَبَّهْتَ له، وأمَّا إجمالًا فبلزومِ التَّعبُّدِ لولا اعتبارُ المصلحةِ، وقد أَبْطَلْناه، كأنْ يَقُولَ المستدلُّ في الفسخِ في المجلسِ: وُجِدَ سببُ الفسخِ فيُوجَدُ الفسخُ، وذلك دَفعُ ضررِ المحتاجِ إليه مِن المتعاقدَينِ، فيَقولُ المُعتَرضُ: هذا مُعارَضٌ بضررِ الآخَرِ، فيَقُولُ المُستدلُّ: الآخَرُ يَجلِبُ نفعًا، وهذا يَدفَعُ ضررًا، ودَفعُ الضَّرَرِ أهمُّ عندَ العُقلاءِ، ولذلك يُدفَعُ كلُّ ضررٍ ولا يُجلَبُ كلُّ نفعٍ.

الثَّاني مِن الأربعةِ: (القَدْحُ فِي) صلاحيَّةِ (إِفْضَاءِ الحُكْمِ إِلَى المَقْصُودِ) وهو المصلحةُ مِن شرعِ الحُكمِ (كَتَعْلِيلِ) المستدلِّ (حُرْمَةَ المَصَاهَرَةِ أَبَدًا) في حقِّ المحارمِ (بِالحَاجَةِ إِلَى رَفْعِ الحِجَابِ) من الرِّجالِ والنِّساءِ المُؤدِّي إلى الفجورِ، (فَإِذَا تَأَبَّدَ) التَّحريمُ (انْسَدَّ بَابُ الطَّمَعِ) في النِّكاحِ المُفضي إلى مُقدِّماتِ التُّهمةِ والنَّظرِ المُفضي إلى ذلك، (فَيَعْتَرِضُ) المُعتَرِضُ (بِأَنَّ سَدَّهُ) بالتَّحريمِ المُؤَبَّدِ (يُفْضِي إِلَى الفُجُورِ) لأنَّ النَّفسَ تَميلُ إلى الممنوعِ، كما قالَ الشاعر

(1)

:

وَالقَلْبُ يَطْلُبُ مَنْ يَجُورُ وَيَعْتَدِي

وَالنَّفْسُ مَائِلَةٌ إِلَى المَمْنُوعِ

وَلِكُلِّ شَيْءٍ يَشْتَهِيهِ طَلَاوَةٌ

مَدْفُوعَةٌ إِلَّا عَنِ المَدْفُوعِ

(1)

من الكامل، ولم أهتد إلى قائله.

ص: 725

(وَجَوَابُهُ) أي: جوابُ المستدلِّ عن ذلك بتَبْيينِ (أَنَّ التَّأْبِيدَ يَمْنَعُ عَادَةً) مِن ذلك بانسدادِ بابِ الطَّمَعِ، (فَيَصِيرُ) بتَطاوُلِ الأمرِ وتَمَادِيه (طَبْعًا) بحيثُ لا يَبْقى المَحَلُّ مُشتَهًى (كَرَحِمِ مَحْرَمٍ).

الثَّالثُ مِن الأربعةِ: (كَوْنُ الوَصْفِ) المُعَلَّلِ به (خَفِيًّا) أي: غيرَ ظاهرٍ (كَتَعْلِيلِهِ) أي: المستدلِّ (صِحَّةَ النِّكَاحِ بِالرِّضَى) ووجوبِ

(1)

القَوَدِ بالقصدِ (فَيَعْتَرِضُ) المُعتَرضُ عليه (بِأَنَّهُ) أي: الرِّضى (خَفِيٌّ وَالخَفِيُّ لَا يُعَرِّفُ الخَفِيَّ، وَجَوَابُهُ) أي: المُستدلِّ (ضَبْطُهُ) أي: الرِّضى بأنْ يُبَيِّنَ ظُهورَه بصفةٍ ظاهرةٍ (بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ: صِيغَةٍ كَإِيجَابٍ وَقَبُولٍ، أَوْ) ضبطِ العَمْدِ بما يَدُلُّ عليه عادةً مِن (فِعْلٍ) كاستعمالِ الجارحِ والمُثَقَّلِ، أو غيرِ ذلك ممَّا هو مبسوطٌ

(2)

في الفقهِ.

الرَّابعُ

(3)

من الأربعةِ: (كَوْنُهُ) أي: الوصفِ [مُضطرِبًا، أي]

(4)

: (غَيْرَ مُنْضَبِطٍ كَتَعْلِيلِهِ) أي: المستدلِّ (بِالحِكَمِ) واحدُها حِكْمَةٌ (وَالمَقَاصِدِ) جمعُ مَقْصِدٍ، وهي المصالحُ (كَـ) تعليلِ (رُخَصِ السَّفَرِ) مِن القصرِ والجمعِ والمسحِ وغيرِها (بِالمَشَقَّةِ) وقطعِ السَّارقِ بالزَّجرِ، (فَيَعْتَرِضُ) المُعتَرضُ على المُستدلِّ (بِاخْتِلَافِهَا) أي: المَشَقَّةِ، فإنَّها لا تَتَمَيَّزُ وتختلفُ (بِـ) اختلافِ (الأَشْخَاصِ وَالأَزْمَانِ وَالأَحْوَالِ) فلا يُمكِنُ تعيينُ المقصودِ منها.

(وَجَوَابُهُ) أي: المُستدلِّ (بـ) بيانِ (أَنَّهُ) أي: الوصفَ (مُنْضَبِطٌ):

- إمَّا (بِنَفْسِهِ) كما تَقُولُ في المَشقَّةِ والمَضَرَّةِ أنَّه مُنضبطٌ عُرفًا، بناءً على الجوازِ للتَّعليلِ بالحكمةِ إذا انْضَبَطَتْ،

(1)

في «ع» : ووجود.

(2)

في «د» : مضبوط.

(3)

ليس في «ع» .

(4)

ليس في «د» .

ص: 726

- (أَوْ بِضَابِطٍ لِلْحِكْمَةِ) بأنْ تَكُونَ العِلَّةُ هي الوصفَ المنضبطَ المشتملَ على الحِكمةِ كالمَشَقَّةِ في السَّفرِ والزَّجرِ بالحدِّ، ونحوِ ذلك.

‌القادحُ الثَّالثَ عَشَرَ: (النَّقْضُ)

وهو وجودُ العِلَّةِ بلا حُكمٍ، وتَقَدَّمَ في شروطِ العِلَّةِ، وأنَّه لا يَقدَحُ فيها مطلقًا (كَـ) قولِ المُستدلِّ:(الحُلِيُّ مَالٌ غَيْرُ نَامٍ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ، كَثِيَابِ البِذْلَةِ. فيَعْتَرِضُ) المُعترِضُ على المُستدِلِّ (بِالحُلِيِّ المُحَرَّمِ) بأنَّه مالٌ غيرُ نامٍ، وفيه الزَّكاةُ.

(وَجَوَابُهُ) أي: المُستدلِّ عن هذا الاعتِراضِ مِن وُجوهٍ:

- إمَّا (بِمَنْعِ وُجُودِ العِلَّةِ فِي صُورَةِ النَّقْضِ) لأنَّ النَّقضَ إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ بوجودِ العِلَّةِ وتَخَلُّفِ الحُكمِ عنها، فإذا مُنِعَ وُجُودُ العِلَّةِ لم يَتَحَقَّقِ النَّقضُ، وإنَّما تَخَلَّفَ الحُكمُ في الصُّورةِ المذكورةِ لعَدَمِ عِلَّتِه، فهو يَدُلُّ على صِحَّةِ عِلَّتِه عَكسًا، وهو انتفاءُ الحُكمِ لانتفائِها، مثالُه: أنْ يَقُولَ الحنفيُّ في قتلِ المسلمِّ بالذِّمِّيِّ: قتلٌ عمدٌ عدوانٌ، فيَجِبُ به

(1)

القصاصُ كما في المُسلِمِ بالمسلمِ، فيُقالُ له: يَنتقضُ بقتلِ المعاهَدِ، فإِنَّه قتلٌ عمدٌ عدوانٌ، ولا يُقتَلُ به المسلمُ. فيَقولُ: لا أُسَلِّمُ أنَّه عدوانٌ. فيَندفعُ النَّقضُ بذلك إنْ ثَبَتَ له، [مثالُه في الصُّورةِ المذكورةِ أنْ يَقُولَ: لا أُسَلِّمُ الحُكمَ في المعاهَدِ، فإِنَّه عِندي يَجِبُ القصاصُ بقتلِه]

(2)

.

- (أَوْ) بـ (مَنْعِ) وجودِ (الحُكْمِ فِيهَا) أي: في صُورةِ النَّقضِ، وهذا هو الوجهُ الثَّاني.

(وَ) إذا مَنَعَ المُستدلُّ وجودَ العِلَّةِ في صورةِ النَّقضِ فـ (لَيْسَ لِلْمُعْتَرِضِ

(1)

في «د» : فيه.

(2)

جاءت في «د» بعد قوله الآتي: وهذا هو الوجه الثاني.

ص: 727

الدَّلَالَةُ عَلَى وُجُودِ العِلَّةِ فِيهَا) أي: في صورةِ النَّقضِ على الصَّحيحِ؛ لأنَّه انتقالٌ عن مَحَلِّ النَّظَرِ وغصبٌ لمنصبِ المُستدلِّ، ويَلْزَمُ منه أنْ يَكُونَ المعترضُ مُستدِلًّا، فهو قلبٌ لقاعدةِ المصطلحِ لكَوْنِه يَبقى مستدلًّا، والمستدلُّ مُعتَرضًا، كما لو قالَ المُعتَرضُ في الصُّورةِ المذكورةِ على أنَّ قتلَ المعاهَدِ عدوانٌ أنَّه قتلٌ مُخفِرٌ لذِمَّةِ الإسلامِ، وكلُّ ما كانَ مُخفِرًا لذِمَّةِ الإسلامِ فيُفضي إلى ما ذَكَرْنا.

والوجهُ الثَّالثُ: أنْ يُبَيِّنَ المُستدلُّ في صورةِ النَّقضِ وجودَ مانعٍ أو انتفاءَ شرطٍ مُختَلٍّ تَخَلَّفَ الحُكمُ فيها عليه، كما إذا أَوْرَدَ المُعتَرضُ قَتْلَ الوالدِ وَلَدَه على عِلَّةِ القتلِ العمدِ العدوانِ، فقالَ المُستدلُّ: تَخَلَّفَ لمانعِ الأُبُوَّةِ، وكما إذا قالَ المُستدلُّ: سَرَقَ نصابًا كاملًا ولا شُبهةَ له فيه، فقُطِعَ، فأَوْرَدَ المُعتَرضُ السَّرِقَةَ مِن غيرِ حِرزٍ، فقالَ المُستدلُّ: لانتفاءِ شرطٍ وهو الحرزُ.

الوجهُ الرَّابعُ: أنْ يُبَيِّنَ المُستدلُّ أنَّ صورةَ النَّقضِ واردةٌ على مذهبِه ومذهبِ خصمِه، كما إذا قِيلَ: مَكيلٌ، فحَرُمُ فيه التَّفاضُلُ، فأَوْرَدَ المُعتَرضُ العرايا؛ إذ هي مكيلٌ، وقد جازَ فيه التَّفاضُلُ بينَه وبينَ التَّمرِ المَبيعِ به على وجهِ الأرضِ، فيَقُولُ المُستدلُّ: هذا واردٌ عليَّ وعليك جميعًا، فلَيْسَ بُطلانُ مَذهبي فيه أَوْلى مِن بُطلانِ مَذهبِك.

الوجهُ الخامسُ: أنْ يَقُولَ: هذه العِلَّةُ منصوصةٌ، فهي مُؤَثِّرةٌ بالنَّصِّ فلا يَرِدُ عليها كقولِه تَعالى:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}

(1)

إذا عَلَّلَ بالسَّرقةِ في مسألةِ النَّبَّاشِ وغيرِه، فأُورِدَ عليه بعضُ النُّقوضِ المذكورةِ، وكذلك عِلَّةُ العرايا منصوصةٌ، فلا يُؤَثِّرُ فيها النَّقضُ بالعرايا.

(1)

المائدة: 8.

ص: 728

(وَلَوْ دَلَّ المُسْتَدِلُّ) بأحدِ الأجوبةِ المُتقدِّمةِ (عَلَى وُجُودِهَا) أي: العِلَّةِ في مَحَلِّ التَّعليلِ (بِدَلِيلٍ مَوْجُودٍ فِي صُورَةِ النَّقْضِ، فَـ) نَقَضَ المُعتَرضُ العِلَّةَ، فمَنَعَ المستدلُّ وُجودَها في مَحَلِّ النَّقضِ بأنْ (قالَ المُعْتَرِضُ) للمُستدلِّ:(يَنْتَقِضُ دَلِيلُكَ) حينئذٍ؛ لأنَّه موجودٌ في مَحَلِّ النَّقضِ، والعِلَّةُ غيرُ موجودةٍ فيه على زَعمِك، (فَـ) لا يُسمَعُ قولُه؛ لأنَّه (قَدِ انْتَقَلَ مِنْ نَقْضِهَا) أي: العِلَّةِ (إِلَى نَقْضِ دَلِيلِهَا، فَلَا يُقْبَلُ).

مثالُه: أنْ يَقُولَ الحنفيُّ في قتلِ المسلمِ بالذِّمِّيِّ: قتلٌ عمدٌ عدوانٌ، فأَوْجَبَ القصاصَ كقتلِ المسلمِ. فيَقُولُ الحنبليُّ: لا أُسَلِّمُ أنَّ قتلَ الذِّمِّيِّ عدوانٌ. فيَقُولُ الحنفيُّ: الدَّليلُ على أنَّ قتلَ الذِّمِّيِّ عدوانٌ أنَّه معصومٌ بعهدِ الإسلامِ، وكلُّ مَن كانَ مَعصومًا بعصمةِ الإسلامِ فقَتْلُه عدوانٌ. فيَقُولُ المُعتَرضُ: دليلُ العدوانيَّةِ في قتلِ الذِّمِّيِّ موجودٌ في قتلِ المُعاهَدِ، فلْيَكُنْ عدوانًا يَجِبُ به القصاصُ على المسلمِ. فهذا نقضٌ لدليلِ العِلَّةِ لا لنَفْسِها، فلا يُسمَعُ؛ لأنَّه انتقالٌ.

وبيانُه: أنَّ الكلامَ أوَّلًا كانَ في نقضِ وُجوبِ قتلِ المسلمِ بالذِّمِّيِّ بعدمِ وجوبِ قَتْلِه بالمعاهَدِ، معَ اشتراكِهما في العِلَّةِ، وهو نقضُ الحُكمِ، والكلامُ الآنَ في كونِه إِخْفَارَ ذِمَّةِ الإسلامِ بقتلِ الذِّمِّيِّ عدوانًا عليه، بكونِ الإخفارِ المذكورِ بقتلِ المعاهَدِ لَيْسَ عدوانًا عليه، وهو نقضٌ لدليلِ العِلَّةِ كما ذُكِرَ، فقدِ انتقلَ مِن النَّقضِ لعِلَّةِ الحُكمِ إلى النَّقضِ لدليلِ عِلَّةِ الحُكمِ.

(وَيَكْفِي المُسْتَدِلَّ) في ردِّ هذا النَّقضِ (دَلِيلٌ) أي: أدنى دليلٍ (يَلِيقُ بِأَصْلِهِ) أي: يُوافِقُه ويُطابِقُه، مِثلُ أنْ يَقولَ: إِنَّمَا لم أَحكُمْ بالعدوانيَّةِ في صورةِ قتلِ المسلمِ بالحربيِّ لمُعارِضٍ لي

(1)

في مَذهبي، وهو أنَّ الحربيَّ المعاهَدَ مُفَوِّتٌ

(1)

ليس في «د» .

ص: 729

للعهدِ، فالمُقتضى لانتفاءِ القصاصِ فيه قويٌّ موافقٌ للأصلِ، والمقتضى لإثباتِه ضعيفٌ بخلافِ الذِّمِّيِّ فإنَّ المقتضى لقتلِ المُسلمِ به قويٌّ لنابِذِ عهدِه وذِمَّتِه، فصارَ كالمسلمِ.

(وَ) أمَّا (لَوْ قَاَل) المُعْتَرِضُ للمُستدلِّ (ابْتِدَاءً: يَلْزَمُكَ) إمَّا (انْتِقَاضُ عِلَّتِكِ، أَوِ) انتقاضُ (دَلِيلِهَا) لأنَّك إنِ اعتقدْتَ وجودَ العِلَّةِ في مَحَلِّ النَّقضِ انْتقضَتْ عِلَّتُك، وإنِ اعتقدْتَ عدمَ العِلَّةِ في مَحَلِّ النَّقضِ انْتقضَ دليلُك؛ (قُبِلَ) منه ذلك؛ لأنَّ هذا دَعوى أحدِ أمرينِ، وكيفَ كانَ فلا تَثْبُتُ العِلَّةُ.

(وَلَوْ مَنَعَ المُسْتَدِلُّ تَخَلُّفَ الحُكْمِ فِي صُورَةِ النَّقْضِ؛ لَمْ يُمْكِنِ المُعْتَرِضُ أَنْ يَدُلَّ عَلَيْهِ) أي: على ثبوتِ الحكمِ الَّذِي مَنَعَه المُستدلُّ على الأصحِّ. مثالُه: قولُ الشَّافعيِّ في مسألةِ الثَّيِّبِّ الصَّغيرةِ: ثَيِّبٌ فلا تُجبَرُ كالثَّيِّبِ الكبيرةِ، فيَقولُ المُعتَرضُ: يُنتقَضُ بالثَّيِّبِ المجنونةِ، فيَقُولُ المُستدلُّ: لا نُسَلِّمُ إجبارَ الثَّيِّبِ المجنونةِ.

تنبيهٌ: لو قالَ: وليسَ للمُعتَرضِ أنْ يَدُلَّ على ثُبُوتِ العِلَّةِ أو الحُكمِ في صورةِ النَّقضِ لكانَ أَخْصَرَ، لكنَّه تَبِعَ صاحبَ الأصلِ، فلْيُتَأَمَّلْ.

(وَيَكْفِي المُسْتَدِلَّ) إذا نَقَضَ المعترضُ عليه بصورةٍ أنْ يُجِيبَ عن النَّقضِ بالتَّصريحِ بقولِه: (لَا أَعْرِفُ الرِّوَايَةَ فِيهَا) كقولِه: لا أُسَلِّمُ أنَّ المسلمَ لا يُقتَلُ بالمعاهَدِ؛ لأنَّ دليلَه على العِلَّةِ صحيحٌ، وهو قولُه: قتلٌ عمدٌ عدوانٌ، فلا يَبْطُلُ بأمرٍ مشكوكٍ فيه، وذلك لأنَّ المُستدلَّ إذا لم يَعرِفِ الرِّوايةَ في صورةِ النَّقضِ احتملَ أنْ يَكُونَ الحُكمُ فيها على وَفْقِ العِلَّةِ، فلا يَرِدُ النَّقضُ، واحتملَ أنْ يَكُونَ على خلافِه فيُرَدُّ، ومَعَ الاحتمالِ فلا يَبطُلُ دليلُه بأمرٍ مُتَرَدَّدٍ فيه.

ص: 730

(وَإِنْ قالَ) المستدلُّ: (أَنَا أَحْمِلُهَا) أي: صورةَ النَّقضِ (عَلَى مُقْتَضَى القِيَاسِ وَأَقُولُ فِيهَا كَمَسْأَلَةِ الخِلَافِ؛ مُنِعَ) في الأظهرِ لإثباتِ مذهبِه بالقِيَاسِ، (إِلَّا إِنْ نَقَلَ) المستدلُّ (عَنْ إِمَامِهِ أَنَّهُ عَلَّلَ بِهَا) أي: بصورةِ النَّقضِ (فَيُجْرِيهَا) على حُكمِ تعليلِ إمامِه.

(وَإِنْ فَسَّرَ المُسْتَدِلُّ لَفْظَهُ بـ) معنًى (دَافِعٍ لِلنَّقْضِ غَيْرِ ظَاهِرِهِ) أي: هو خلافُ ظاهرِ لَفظِه (كَـ) تفسيرِ لفظٍ (عَامٍّ بِـ) مَعنًى (خَاصٍّ) ونحوِه ممَّا هو بعيدٌ عن اللَّفظِ، لكنَّه مُحتملٌ؛ (لَمْ يُقْبَلْ) في الأصحِّ؛ لأنَّه يَزيدُ وَصفًا لم يَكُنْ، وذِكْرُه للعلَّةِ وقتَ حاجتِه، فلا يُؤَخَّرُ عنه بخلافِ تأخيرِ الشَّارِعِ البيانَ عن وقتِ خطابِه.

(وَلَوْ أَجَابَ) المُستدلُّ (بِتَسْوِيَةٍ بَيْنَ أَصْلٍ وَفَرْعٍ لـ) أجلِ (دَفْعِهِ) أي: النَّقضِ (قُبِلَ) عندَ أكثرِ أصحابِنا؛ لأنَّ الطَّردَ لَيْسَ شرطًا للعلَّةِ إذنْ.

مِثالُه: في المسحِ على العمامةِ عضوٌ يَسقُطُ في التَّيمُّمِ فمَسَحَ حائلَه كالقَدَمِ، فيَنتقضُ بالرَّأسِ في الطَّهارةِ الكُبْرى، فيُجِيبُه: يَستوي فيها الأصلُ والفرعُ.

(وَلَا يُلْزَمُ) المُستدلُّ (بِمَا) أي: لَيْسَ للمعترضِ أنْ يُلْزِمَ المُستدلَّ بشيءٍ (لَا يَقُولُ بِهِ) أي: لا يَعتقِدُ صِحَّتَه (المُعْتَرِضُ؛ كَمَفْهُومٍ وَقِيَاسٍ وَقَوْلِ صَحَابِيٍّ) لأنَّ المُعتَرضَ احتجَّ وأَثْبَتَ الحُكمَ بلا دليلٍ، ولاتِّفاقِهما على تَركِه؛ لأنَّ أَحَدَهما لا يَراه دليلًا والآخَرَ لَمَّا خالَفَه دَلَّ على دليلٍ أقوى منه.

(إِلَّا النَّقْضَ وَالكَسْرَ عَلَى قَوْلِ مَنِ التَزَمَهُمَا) لأنَّ النَّاقضَ لم يَحتجَّ بالنَّقضِ، ولا أَثْبَتَ الحُكمَ به، ولاتِّفاقهما على فسادِ العِلَّةِ على أصلِ المُستدلِّ بصورةِ الإلزامِ وعلى أصلِ المُعتَرضِ بمَحَلِّ النِّزاعِ، ذَكَرَه أصحابُنا وغيرُهم.

ص: 731

(وَإِنْ نَقَضَ أَحَدُهُمَا) أي: المُعتَرضُ أو المُستدلُّ (عِلَّةَ الآخَرِ بِأَصْلِ نَفْسِهِ) لم يَجُزْ عندَ أصحابِنا وغيرِهم.

قالَ ابنُ البَاقِلَّانِيِّ: له وجهٌ، فإنْ سَلَّمَه خصمُه، وإلَّا دَلَّ عليه (أَوْ زَادَ المُسْتَدِلُّ وَصْفًا مَعْهُودًا مَعْرُوفًا في العِلَّةِ؛ لَمْ يَجُزْ) ويَتَوَجَّهُ احتمالٌ وفاقًا لبعضِ الجَدَلِيِّينَ؛ لأنَّه تَرَكَه سهوًا أو سَبَقَ لسانُه، فعُذِرَ.

(وَإِنْ نَقَضَ) المُعتَرضُ دليلًا لمُستدلٍّ (بِمَنْسُوخٍ، أَوْ بِـ) حُكمٍ (خَاصٍّ بِهِ صلى الله عليه وسلم رُدَّ نَقْضُه في الأصحِّ، (أَوْ) نَقَضَه (بِرُخْصَةٍ ثَابِتَةٍ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ) رُدَّ، (أَوْ) نَقَضَه (بِمَوْضِعِ اسْتِحْسَانٍ: رُدَّ) نقضُه عندَ أصحابِنا، ومثَّل

(1)

أبو الخطَّابِ بما إذا سَوَّى بينَ العَمْدِ والسَّهوِ فيما يُبْطِلُ العبادةَ، فينتقضُ بأكلِ الصَّائِمِ.

وقال ابنُ عَقِيلٍ: يَقُولُ المُعتَرضُ: النَّصُّ دَلَّ على انتقاضِه فيَكُونُ آكَدَ للنَّقضِ

(2)

.

(وَيَجِبُ أَنْ يَحْتَرِزَ المُسْتَدِلُّ فِي دَلِيلِهِ عَنْ) صورةِ (النَّقْضِ) على الصَّحيحِ.

مثالُه: أنْ يُقالَ في مسألةِ النَّبَّاشِ: سَرَقَ نصابًا كاملًا مِن حِرزِ مِثْلِه، وليسَ أبًا ولا مَديونًا للمسروقِ منه، فيَلْزَمُه القطعُ، ويُقالُ: قتلٌ عمدٌ عدوانٌ خالٍ عن مانعِ الإيلاءِ والمِلكِ والتَّفاوُتِ في الدِّينِ، فأَوْجَبَ القصاصَ.

قالَ الطُّوفِيُّ: ولا نِزاعَ في استحبابِ هذا الاحتِرازِ، وإنَّما النِّزاعُ في وجوبِه، فمن لم يُوجِبْه يَقُولُ: إنَّ النَّقضَ سؤالٌ خارجٌ عن القِيَاسِ، فلا

(1)

في «د» : ومثله.

(2)

«الواضح في أصول الفقه» (2/ 258).

ص: 732

يَجِبُ إدخالُه في صُلبِ القِيَاسِ، بل إذا أَوْرَدَه المُعتَرضُ لَزِمَ جوابُه بما يَدفَعُه كسائرِ الأسئلةِ، ولأنَّ فيه تنبيهًا للمُعتَرضِ على موضعِ النَّقضِ، وفي ذلك نشرُ الكلامِ وتَبَدُّدُه، وهو خلافُ المطلوبِ مِن المناظرةِ. ومَن أَوْجَبَه قالَ: لأنَّ فيه حَسْمَ مادَّةِ الشَّغَبِ وانتشارَ الكلامِ، وسدًّا لبَابِه، فكانَ واجبًا لِما فيه مِن صيانةِ الكلامِ عن التَّبديلِ

(1)

.

(وَإِنِ احْتَرَزَ) المستدلُّ (عَنْهُ) أي: عن نقضِ العِلَّةِ (بِشَرْطٍ ذَكَرَهُ فِي الحُكْمِ) بأنْ قَيَّدَه بشرطٍ أو وَصفٍ (صَحَّ) ذلك، وانْدَفَعَ النَّقضُ في الأصحِّ.

مثالُه: أن يَقُولَ المُعلِّلُ: حُرَّانِ مُكَلَّفانِ مَحْقُونَا الدَّمِ، فجَرَى بينَهما القصاصُ في العمدِ كالمُسلِميْنِ، فمَن زَعَمَ اندفاعَ النَّقضِ بذلك قالَ: الشَّرطُ المتأخِّرُ وهو العمدُ الَّذِي قُيِّدَ به الحكمُ هو أحدُ أوصافِ العِلَّة حُكمًا، وإنْ تَأَخَّرَ في اللَّفظِ حَتَّى كأنَّه قالَ في هذا المثالِ: حُرَّانِ مُكَلَّفانِ مَحْقُونا الدَّمِ قَتَلَ أحدُهما الآخَرَ عمدًا، فجَرَى بينَهما القصاصُ كالمُسلِمين، وإذا كانَ التَّقديرُ في المعنى هذا المثالُ وَجَبَ اعتبارُه؛ لأنَّ العبرةَ نحوَ الأصلِ إِنَّمَا هي بالأحكامِ لا بالألفاظِ.

(وَإِنِ احْتَرَزَ) المستدلُّ (بِحَذْفِ الحُكْمِ: لَمْ يَصِحَّ) كقولِ حنفيٍّ في الإحدادِ على المُطلَّقَةِ: بائنٌ كالمُتَوَفَّى عنها زوجُها، فينتقضُ بصغيرةٍ وذِمِّيَّةٍ فيَقُولُ: قَصَدْتُ التَّسويَةَ بينَهما، فيُقالُ: التَّسويَةُ بينَهما حكمٌ، فيحتاجُ إلى أصلٍ يُقاسُ عليه.

‌القادحُ الرَّابِعَ عَشَرَ: (الكَسْرُ)

وهو إبداءُ الحكمةِ بدونِ الحكمِ، وحُكمُه أنَّه غيرُ واردٍ على العِلَّة على الصَّحيحِ (كَالنَّقْضِ) وقد سَبَقَ تعريفُه أيضًا.

ص: 733

قالَ الآمِدِيُّ: الكسرُ نقضٌ على العِلَّةِ دونَ ضابِطِها

(1)

.

قالَ الطُّوفِيُّ: الضَّابطُ هو ما رَتَّبَ الشَّرعُ عليه الحُكمَ؛ لكَوْنِه مَظِنَّةَ حصولِ الحكمةِ، كالقتلِ العمدِ العدوانِ الَّذِي رُتِّبَ عليه القصاصُ؛ لكَوْنِه مَظِنَّةَ حِفظِ النُّفوسِ، وكإيلاجِ الفرجِ في فرجٍ مُحَرَّمٍ رُتِّبَ عليه الحدُّ؛ لكونِه مَظِنَّةَ حِفْظِ الأنسابِ وأشباهِ هذا.

مثالُ ذلك: قولُ الحنفيِّ في العاصي بسَفَرِه: يَتَرَخَّصُ؛ لأنَّه مسافرٌ، فيَتَرَخَّصُ كالمسافرِ سفرًا مباحًا، فإذا قيلَ له: لِمَ قُلْتَ إنَّه يَتَرَخَّصُ؟ قالَ: لأنَّه يَجِدُ مَشَقَّةً في سفرِه، فناسَبَ التَّرخُّصُ وقد شَهِدَ له الأصلُ المذكورُ بالاعتبارِ. فيقولُ الحنبليُّ: هذا يَنكَسِرُ بالمُكاري وَالفَيِّجِ ونحوِهما مِمَّن دَأْبُه السَّفرُ يَجِدُ المَشَقَّةَ ولا يَتَرَخَّصُ

(2)

.

‌القادحُ الخامسَ عَشَرَ: (المُعَارَضَةُ فِي الأَصْلِ

بِمَعْنًى آخَرَ) وهي مُفاعلةٌ مِن عَرَضَ له يَعرِضُ إذا وَقَفَ بينَ يديْه أو عارَضَه في طريقِه ليَمنَعَه النُّفوذَ فيه، فكأنَّ المعترضَ يَقِفُ بينَ يديِ المُستدلِّ أو يُوقِفُ حُجَّتَه بينَ يديْ دليلِه ليَمنَعَه مِن النُّفوذِ في إثباتِ الدَّعوى، ومَعناها أنَّ يُبيِّنَ المُعتَرضُ في الأصلِ الَّذِي قاسَ عليه المُستدلُّ مقتضيًا آخَرَ للحُكمِ غيرَ ما ذَكَرَه المُستدلُّ، وحينئذٍ لا يَتَعَيَّنُ ما ذَكَرَه المُستدلُّ لأنْ يَكُونَ مُقتضيًا -أي: عِلَّةً للحُكمِ- بل يَحتملُ أنْ يَكُونَ عِلَّةُ الحُكمِ هو الوصفَ الَّذِي ذَكَرَه المُستدلُّ، ويَحتملُ أنْ يَكُونَ عِلَّةَ الوصفينِ جميعًا الَّذِي عَلَّلَ به المُستدلُّ، والَّذي بَيَّنَه المُعتَرضُ، وهي:

ص: 734

(1)

إمَّا أنْ تَكُونَ بمَعنًى (مُسْتَقِلٍّ) بثبوتِ الحكمِ، بحيثُ لا يَتَوَقَّفُ ثبوتُه على وصفٍ آخَرَ، كما لو عَلَّلَ الشَّافعيُّ تحريمَ ربا الفضلِ في البُرِّ بالطَّعمِ، فعارَضَه الحنفيُّ بتعليلِ تحريمِه بكيلٍ أو الجنسِ أو القُوتِ،

(2)

(أَوْ) تَكُونَ بمَعنًى (غَيْرِ مُسْتَقِلٍّ) بثبوتِ الحُكمِ لِما عَلَّلَ به المُستدلُّ، أو لِما أَبْداه هو، أو لمجموعِ الوصفينِ كما لو عَلَّلَ الشَّافعيُّ وُجوبَ القصاصِ في القتلِ بالمُثَقَّلِ العمدِ العدوانِ، فعارَضَه الحنفيُّ بتعليلِ وجوبِه بالجارحِ.

(وَ) هذا القِسْمُ (الثَّانِي مَقْبُولٌ) عندَ الأكثرِ؛ لأنَّ وَصْفَ المُستدلِّ لَيْسَ بأَوْلى بكونِه جزءًا أو مُستقِلًّا، فإنْ رَجَّحَ استقلالَه بتوسعةِ الحُكمِ في الأصلِ والفرعِ فتَكثُرُ الفائدةُ، فللمُعتَرِضِ منعُ دَلالةِ الاستقلالِ عليها، ثمَّ له معارضتُه بأنَّ الأصلَ انتفاءُ الأحكامِ، وباعتبارِهما معًا، فهو أَوْلى لجوازِه، كمَن أَعطى قريبًا له فقيرًا احتملَ أنَّه أعطاه لقرابتِه، واحتملَ أنَّه أعطاه لفقرِه، واحتملَ أنَّه أعطاه لقرابتِه وفقرِه جميعًا؛ جَمْعًا بينَ الصَّدقةِ والصِّلةِ، وهذا أظهرُ الاحتمالاتِ لمناسبتِهما جميعًا للعطاءِ، وكونِ المكلَّفِ لا يُخِلُّ ببعضِ المصالحِ الَّتي تَعرِضُ له.

وإذا دارَ الأمرُ بينَ الاحتمالاتِ المذكورةِ كانَ التَّعليلُ بما ذَكَرَه المُستدلُّ ترجيحًا مِن غيرِ مُرَجِّحٍ، بل تعليلًا بالمرجوحِ؛ لأنَّ ما ذَكَرَه يَصِحُّ على تقديرِ واحدٍ مِن ثلاثةِ تقاديرَ، ويَبطُلُ على تقديرينِ منها، ووقوعُ اثنينِ مِن ثلاثةٍ أرجحُ وأظهرُ مِن وقوعِ واحدٍ منها.

ومثالُ ذلك: ما لو عَلَّلَ الحنبليُّ قتلَ المرتدَّةِ بقولِه: بَدَّلَتْ دِينَها فتُقتَلُ كالرَّجُلِ، فيَقولُ المُعتَرضُ: لا يَتَعَيَّنُ تبديلُ الدِّينِ مُقتضِيًا للقتلِ، بل هنا

ص: 735

معنًى آخَرُ في الرَّجُلِ يَقتضيه لَيْسَ في المرأةِ، وهو جنايتُه على المسلمينَ [بتنقيصِ عددِهم وتقويتِه؛ إذْ هو من أهلِ الحربِ والنِّكايةِ، وحينئذٍ جازَ أنَّ العِلَّةَ في قتلِ الرَّجلِ تبديلُ الدِّينِ، أو الجنايةُ على المسلمينَ]

(1)

أو الأمرانِ جميعًا، وحينئذٍ لا يَتَعَيَّنُ التَّبديلُ عِلَّةً للقتلِ.

(وَلَا يَلْزَمُ المُعْتَرِضَ بَيَانُ نَفْيِ وَصْفِ المُعَارَضَةِ عَنِ الفَرْعِ) أي: لا يَلْزَمُه بيانُ أنَّ الوصفَ الَّذِي أَبْداه مُنتفٍ في الفرعِ؛ لأنَّ غَرَضَه عدمُ استقلالِ ما ادَّعَى المُستدلُّ أنَّه مستقلٌّ، فهذا القدرُ يَحصُلُ بمُجَرَّدِ إبدائِه.

وقال العَضُدُ: يَلْزَمُه ليَنفَعَه دَعوى التَّعليلِ به؛ إذ لولاه لم تَثْبُتِ العِلَّةُ في الفرعِ، فيَثبُتُ الحكمُ فيه وحَصَلَ مطلوبُ المُستدلِّ

(2)

.

(وَلَا يَحْتَاجُ وَصْفُهَا) أي: المُعارضةِ (إِلَى أَصْلٍ) بمَعنى أنَّ المُعارِضَ لا يَحتاجُ إلى أصلٍ يُبَيِّنُ تأثيرَ وَصفِه الَّذِي أَبْدَاه في ذلك الأصلِ، بأنْ يَقُولَ: العِلَّةُ الطَّعمُ دُونَ القوتِ كما في المِلحِ،

(وَجَوَابُها) أي: المُعارضةِ من وُجوهٍ:

مِنها: أنْ يَكُونَ (بِمَنْعِ وُجُودِ الوَصْفِ) يَعني وصفَ المُعتَرضِ، مثلُ أنْ يُعاِرَضَ القوتَ بالكيلِ، فيُجيبَه: لا نُسَلِّمُ أنَّه مَكِيلٌ؛ لأنَّ العبْرةَ بعادةِ زَمَنِ الرَّسولِ صلى الله عليه وسلم، وكانَ حينئذٍ موزونًا.

ومِنها: ما أَشَارَ إليه بقولِه: (أَوِ المُطَالَبَةِ بِتَأْثِيرِهِ) أي: مطالبةِ المُستدلِّ بكَوْنِ وصفِ المعارضِ مُؤَثِّرًا، يُقالُ: ولمَ قُلْتَ إنَّ الكيلَ مُؤَثِّرٌ، وهذا

(1)

ليس في «ع» .

(2)

«شرح العضد على المختصر» (3/ 522).

ص: 736

إِنَّمَا يُسمَعُ مِن المُستدلِّ (إِنْ أَثْبَتَ) العِلِّيَّة (بِمُنَاسَبَةٍ أَو بِشَبَهٍ) حَتَّى يَحتاجَ المُعارضُ في معارضتِه إلى بيانِ مناسبةٍ أو شبهةٍ، و (لَا) يُسمَعُ جوابُ المُستدلِّ إنْ أَثْبَتَ عِلِّيَّةً (بَسَبْرٍ) فإنَّ الوصفَ يَدخُلُ في السَّبْرِ بدونِ ثُبوتِ المُناسبةِ بمُجَرَّدِ الاحتمالِ.

ومِنها: ما أَشَارَ إليه بقولِه: (أَوْ بِخَفَائِهِ) أي: بِأَنْ يُبَيِّنَ المُسْتَدِلُّ خَفَاءَ وَصْفِ المُعَارَضَةِ.

أو (لَيْسَ مُنْضَبِطًا) [فإنَّ وصفَ المُعارضِ إذا كانَ خفيًّا أو ظاهرًا غيرَ منضبطٍ لا يُثبِتُ عِلِّيَّةَ وصفِ المعارضِ.

ومِنها: ما أَشَارَ إليهما بقولِه: (أو مَنْعِ ظُهُورِه، أَوِ انْضِبَاطِه)]

(1)

بأنْ يَمنَعَ المُستدلُّ ظهورَ وصفِ المُعارضةِ وانضباطِه؛ لأنَّ الظُّهورَ والانضباطَ شرطٌ في الوصفِ المُعَلَّلِ به، فلا بدَّ في دَعوى صُلُوحِ الوصفِ عِلَّةً مِن بيانِهما وللصَّادِّ عنهما أن يُبَيِّنَ عَدَمَهما وأنْ يُطالَبَ ببيانِ وُجُودِهما.

ومِنها: ما أشارَ إليه بقولِه: (أَوْ بَيَانِ أَنَّهُ) أي: بأنْ يُبَيِّنَ المُستدلُّ أنَّ الوصفَ (عَدَمُ مُعَارَضٍ) أي: غيرُ مانعٍ عن ثُبُوتِ الحُكْمِ (فِي الفَرْعِ) مثالُه: أنْ يَقِيسَ المُكرَهَ على المختارِ في القصاصِ بجامعِ القتلِ، فيقولُ المُعتَرضُ: مُعارَضٌ بالطَّواعِيَةِ، فإنَّ العِلَّةَ هو القتلُ معَ الطَّواعيَةِ، فيُجيبُ المُستدلُّ: بأنَّ الطَّواعِيَةَ عدمُ الإكراهِ المناسِبِ لنقيضِ الحُكْمِ، وهو عدمُ القصاصِ، فحاصلُه عَدَمُ معارِضٍ، وعدمُ المُعارِضِ طَردٌ لا يَصلُحُ للتَّعليلِ؛ لأنَّه لَيْسَ مِن الباعثِ في شيءٍ.

(1)

ليس في «ع» .

ص: 737

ومِنها: المشارُ إليه بقولِه: (أَوْ) بيانِ أنَّ وصفَ المعارضِ (مُلْغًى، أَوْ أَنَّ مَا أَعْدَاهُ) أي: عَدَّى وَصْفَ المُعارضِ (مُسْتَقِلٌّ) بالعِلِّيَّةِ (فِي صُورَةٍ) ما (بِظَاهِرِ نَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ) مثالُه: إذا عارَضَ في الرِّبَا الطَّعمَ بالكيلِ، فيُجيبُ بأنَّ النَّصَّ دَلَّ على اعتبارِ الطَّعمِ في صورةٍ ما، وهو قوله:«لَا تَبِيعُوا الطَّعَامَ بِالطَّعَامِ إِلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ»

(1)

وهذا إذا لم يَتَعَرَّضْ للتَّعميمِ، فلو عَمَّمَ، وقال: فيَثْبُتُ ربويَّةُ كلِّ مطعومٍ للحديثِ؛ لم يُسمَعْ؛ لأنَّ ذلك إثباتٌ للحكمِ بالنَّصِّ دونَ القِيَاسِ، ولا تتميمَ للقياسِ بالإلغاءِ، والمقصودُ ذلك؛ لأنَّه لو ثَبَتَ العمومُ لكانَ القِيَاسُ ضائعًا، ولا يَضُرُّ كونُه عامًّا إذا لم يَتَعَرَّضْ للعمومِ، ولم يستدلَّ به.

(وَيَكْفِي) المُستدلَّ (فِي اسْتِقْلَالِهِ) أي: الوصفِ (إِثْبَاتُ الحُكْمِ فِي صُورَةٍ دُونَهُ) أي: دونَ الوصفِ؛ لأنَّ الأصلَ عدمُ غيرِه، ويَدُلُّ عليه عجزُ المُعارضِ عنه. وقِيلَ: لا يَكفي ذلك في استقلالِ الوصفِ لجوازِ وجودِ عِلَّةٍ أُخرى.

(وَ) لأجلِ هذا (لَوْ أَبْدَى المُعْتَرِضُ) في صورةِ عدمِ وصفِ المُعارضةِ وصفًا (آخَرَ يَقُومُ مَقَامَ)[الوصفِ (المُلْغَى) أي: ما أَلْغَاه المُستدلُّ (بِثُبُوتِ الحُكْمِ دُونَهُ) أي: معَ وجودِ]

(2)

الوصفِ المُلغى (فَسَدَ الإِلْغَاءُ) لابتنائِه على

(1)

قال ابن كثير في «تحفة الطالب بمعرفة أحاديث مختصر ابن الحاجب» (ص 445): ليس هو في شيء من الكتب بهذه الصيغة.

وروى مسلم (1592) عَنْ مَعْمَرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، أَنَّهُ أَرْسَلَ غُلَامَهُ بِصَاعِ قَمْحٍ، فَقَالَ: بِعْهُ، ثُمَّ اشْتَرِ بِهِ شَعِيرًا، فَذَهَبَ الغُلَامُ، فَأَخَذَ صَاعًا وَزِيَادَةَ بَعْضِ صَاعٍ، فَلَمَّا جَاءَ مَعْمَرًا أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ، فقَالَ لَهُ مَعْمَرٌ: لِمَ فَعَلْتَ ذَلِكَ؟ انْطَلِقْ فَرُدَّهُ، وَلَا تَأْخُذَنَّ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، فَإِنِّي كُنْتُ أَسْمَعُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ:«الطَّعَامُ بِالطَّعَامِ مِثْلًا بِمِثْلٍ» .

(2)

ليس في «د» .

ص: 738

استقلالِ الباقي في تلك الصُّورةِ وقد بَطَلَ، (وَيُسَمَّى) هذا الحالُ المذكورُ (تَعَدُّدَ الوَضْعِ لِتَعَدُّدِ أَصْلَيْهِمَا) أي: أصلِ المُستدلِّ وأصلِ المُعتَرضِ، والتَّعليلُ بالباقي على وضعٍ؛ أي: معَ قيدٍ، وفي الآخَرِ على وضعٍ آخَرَ؛ أي: معَ قيدٍ آخَرَ، كقَوْلِنا في أمانِ العبدِ للكافرِ: أمانٌ مِن مسلمٍ عاقلٍ، فصَحَّ، كالحُرِّ؛ لأنَّهما مَظِنَّتانِ لإظهارِ مصالحِ الإيمانِ، فيُعَلَّلُ بهما، فيَعترِضُ بالحُرِّيَّةِ بأنْ يَقُولَ: العِلَّةُ كَوْنُه مسلمًا عاقلًا حرًّا، فإنَّ الحُرِّيَّةَ مَظِنَّةُ الفراغِ للنَّظَرِ في المصلحةِ، فهو أكملُ، فيَقولَ المستدلُّ: الحُرِّيَّةُ مُلغاةٌ بعبدٍ أُذِنَ له في القتالِ. فيَقولَ المُعتَرضُ: [قَامَ الإذنُ مَقامَ الحُرِّيَّةِ، فإِنَّه مَظِنَّةٌ لبذلِ الوسعِ في النَّظرِ أو مَظِنَّةٌ]

(1)

لعِلَّةِ السَّيِّدِ بصلاحيَّةِ العبدِ.

(وَجَوَابُ إِفْسَادِ

(2)

الإِلْغَاءِ) وهو تعدُّدُ الوضعِ: (الإِلْغَاءُ) بأنْ يُلْغِيَ المستدلُّ ذلك الخَلَفَ بإِبداءِ صورةٍ لا يُوجَدُ فيها الخَلَفُ، فإنْ أَبْدَى المُعتَرضُ خَلَفًا آخَرَ، فجوابُه إلغاؤُه، وعلى هذا (إِلَى أَنْ يَقِفَ أَحَدُهُمَا) فَيَكُونُ الدَّبْرَةُ عليه، فإنْ ظَهَرَ صورةٌ لا خَلَفَ فيها تمَّ الإلغاءُ، وبَطَلَ الاعتِراضُ، والأظهرُ عَجزُ المُعتَرضِ.

(وَلَا يُفِيدُ الإِلْغَاءُ لِضَعْفِ المَظِنَّةِ) في صورةٍ (بَعْدَ تَسْلِيمِهَا) يعني: إذا سَلَّمَ المُستدلُّ وجودَ المَظِنَّةِ المُتَضَمِّنةِ لذلك المَعنى، فالحقُّ أنَّه لا يَثبُتُ الإلغاءُ، كقياسِ المُرتدَّةِ على المرتدِّ في حِلِّ القتلِ بجامعِ الرِّدَّةِ، فيُعتَرَضُ بالرُّجُولِيَّةِ، فإنَّها مَظِنَّةُ الإقدامِ على القتالِ، فيُلغِيها المُستدلُّ بالمقطوعِ اليدينِ، فهذا لا يُقبَلُ منه، حيثُ سَلَّمَ أَنَّ الرُّجُولِيَّةَ مَظِنَّةٌ اعتَبَرَها الشَّارِعُ،

(1)

ليس في «ع» .

(2)

في «مختصر التحرير» (ص 233): إفساد.

ص: 739

وذلك كتَرَفُّهِ المَلِكِ في السَّفَرِ لا يَمْنَعُ رُخَصَ السَّفرِ في حقِّه لعِلَّةِ المَشَقَّةِ؛ إذ المُعتبَرُ المَظِنَّةُ، وقد وُجِدَتْ لا مِقدارُ الحكمةِ لعدمِ انضباطِها.

(وَلَا يَكْفِي المُسْتَدِلَّ) في جوابِ المُعارضةِ:

(1)

(رُجْحَانُ وَصْفِهِ) وهو أنْ يَقُولَ: ما عَيَّنْتُه مِن الوصفِ راجحٌ على ما عارَضْتَ أنتَ به، ثمَّ يُظهِرُ وجهًا مِن وجوهِ التَّرجيحِ، وهذا القدرُ غيرُ كافٍ؛ لأنَّه إِنَّمَا يَدُلُّ على أنَّ استقلالَ وصفِه أَوْلى مِن استقلالِ وصفِ المعارضةِ؛ إذ لا يُعَلَّلُ بالمرجوحِ معَ وجودِ الرَّاجحِ، لكنَّ احتمالَ الجُزئيَّةِ باقٍ، ولا بُعدَ في ترجيحِ بعضِ الأجزاءِ على بعضٍ، فيَجِيءُ التَّحكُّمُ.

(أَمَّا إِنِ اتَّفَقَا) أي: المُستدلُّ والمُعتَرضُ (عَلَى كَوْنِ الحُكْمِ مُعَلَّلًا بِأَحَدِهِمَا) أي: الوصفينِ (قُدِّمَ الرَّاجِحُ) مِنهما.

(2)

(وَلَا يَكْفِي) المُستدلَّ (كَوْنُ) ما عَيَّنَـ (ـهُ مُتَعَدِّ) يًا، والآخرِ قاصرًا؛ لاحتمالِ تَرَجُّحِ

(1)

القاصرِ؛ إذ مَرجعُه التَّرجيحُ بذلك، فيَجِيءُ التَّحكُّمُ.

(وَيَجُوزُ: تَعَدُّدُ أُصُولِ المُسْتَدِلِّ) في الأصحِّ؛ لأنَّ التَّعدُّدَ يُقَوِّي الظَّنَّ بكَوْنِ وصفِه عِلَّةً.

(وَ) إذا تَعَدَّدَ الأصلُ، فيجُوزُ للمُعتَرضِ (اقْتِصَارُ) ـه (عَلَى) أصلٍ (وَاحِدٍ فِي مُعَارَضَتِـ) ـه لأنَّ إبطالَ جزءٍ مِن كلامِه يُبْطِلُ كلامَه كُلَّه، (وَ) يَجُوزُ للمُستدلِّ اقتصارُه على أصلٍ واحدٍ في (جَوَابِـ) ـه مِن غيرِ تعرُّضٍ لبقيَّةِ الأصولِ فيه لحصولِ المقصودِ بذلك.

(1)

ليس في «ع» .

ص: 740

(فَوَائِدُ)

تَدُلُّ على معاني ألفاظٍ متداولةٍ بينَ الجَدَلِيِّينَ لا بأسَ بذِكْرِها:

أحدُها: (الفَرْضُ) وذِكْرُها هنا مُخالِفٌ لِما ذَكَرَه صاحبُ الأصلِ، فإِنَّه ذَكَرَها فيما سَبَقَ آخِرَ عدمِ التَّأثيرِ لمُناسبةِ قولِه فيه: ويَجُوزُ الفرضُ في بعضِ صورِ المسألةِ، والتَّقديرُ مقارنٌ له، ومَحَلُّ النِّزاعِ كالمُقارنِ، لكنْ لَمَّا زادَ المُصنِّفُ فائدةً رابعةً، وهي تعريفُ الإلغاءِ نَاسَبَ ذِكْرَها هنا.

إذا عَرَفْتَ ذلك فالفَرْضُ: (أَنْ يَسْأَلَ عَامًّا فَيُجِيبَ خَاصًّا، أَوْ يُفْتِيَ عَامًّا وَيَدُلَّ خَاصًّا).

(وَ) الفائدةُ الثَّانيةُ: (التَّقْدِيرُ) وهو (إِعْطَاءُ المَوْجُودِ حُكْمَ المَعْدُومِ، وَ) المعدومِ حُكْمَ الموجودِ (عَكْسُهُ).

مثالُ الأوَّلِ: الماءُ للمريضِ الَّذِي يَخافُ على نَفْسِه باستعمالِه، فيَتَيَمَّمُ ويَتْرُكُه معَ وجودِه حسًّا.

ومثالُ الثَّاني: المقتولُ

(1)

تُورَثُ عنه الدِّيَةُ، وإنَّما تَجِبُ بمَوْتِه، ولا تُورَثُ عنه إلَّا إذا دَخَلَتْ في مِلْكِه، فيُقَدَّرُ دُخُولُها قبلَ موتِه. والتَّقديرُ مقارنُ الفرضِ، فيُقالُ يُقَدَّرُ الفرضُ في كذا، والفرضُ مُقَدَّرٌ في كذا.

(وَ) الفائدةُ الثَّالثةُ: (مَحَلُّ النِّزَاعِ) وهو (الحُكْمُ المُفْتَى بِهِ فِي المَسْأَلَةِ المُخْتَلَفِ فِيهَا) أي: المتكلِّمُ فيه مِن الجانبينِ بينَ الخصمينِ، وهذا أيضًا كالمقارنِ للفرضِ والتَّقديرِ.

(وَ) الفائدةُ الرَّابعةُ: (الإِلْغَاءُ) وَهُوَ (إِثْبَاتُ الحُكْمِ بِدُونِ الوَصْفِ

(1)

في «ع» : المستقل.

ص: 741

المُعَارَضِ بِهِ) وذلك كلُّه واضحٌ، ولكنْ لَمَّا كانَ له بعضُ تعلُّقٍ بهذا الموضعِ ذَكَرَه هنا، واللهُ أعلمُ.

‌القادحُ السَّادِسَ عَشَرَ: (التَّركِيبُ)

أي: سؤالُ التَّركيبِ، وهو الواردُ على القِيَاسِ المُرَكَّبِ مِن مذهبَيِ المُستدلِّ والمُعتَرضِ المتقدِّمِ في شروطِ حُكمِ الأصلِ، (كَـ) قولِ المُستدلِّ فِي المرأةِ (البَالِغَةِ: أُنْثَى، فَلَا تُزَوِّجُ نَفْسَهَا) بِغَيْرِ وَلِيٍّ (كَبِنْتِ خَمْسَ عَشْرَةَ) سَنَةً، (فَالخَصْمُ) وهو الحنفيُّ (يَعْتَقِدُ) منعَ تزويجِها (لِصِغَرِهَا) لا لأُنُوثِيَّتِها، فاختلَفَتِ العِلَّةُ في الأصلِ، وإنَّما اتَّفَقَ صِحَّةُ هذا القِيَاسِ؛ لاجتماعِ عِلَّةِ الخصمينِ فيه، فيَتَرَكَّبُ

(1)

منهما. وتحقيقُ التَّركيبِ هاهنا هو أنْ يَتَّفِقَ الخصمانِ على حُكمِ الأصلِ، ويَختلفانِ في عِلَّتِه، فإذا أَلْحَقَ أحدُهما بذلك الأصلِ فرعًا بغيرِ عِلَّةِ صاحبِه، فالقِيَاسُ (صَحِيحٌ) لكنْ بناءً على تركيبِ حُكْمِ الأصلِ مِن عِلَّتَينِ.

مِثالُه في هذه الصُّورةِ: أنَّ أحمدَ والشَّافعيَّ رَحِمَهما اللهُ تَعَالَى يَعتقدانِ أنَّ بنتَ [خَمْسَ عَشْرَةَ]

(2)

سَنَةً لا تُزَوِّجُ نَفْسَها لأُنوثَتِها، وأبو حنيفةَ يَعتقِدُ لصِغَرِها؛ إذِ الجاريةُ إِنَّمَا تَبْلُغُ عندَه لتسعَ عَشْرَةَ، أو لثمانِ عَشْرَةَ كالغلامِ، فالعِلَّتَانِ موجودةٌ فيها، والحُكمُ مُتَّفَقٌ عليه بناءً على ذلك، فإذا قالَ الحنبليُّ في البالغةِ: أُنثى، فلا تُزَوِّجُ نَفْسَها كبنتِ خَمْسَ عَشْرَةَ، انتظمَ القِيَاسُ بناءً على تركيبِ حُكْمِ الأصلِ بينَ الخصمينِ مِن العِلَّتَينِ وإسنادِ كلٍّ مِنهما إلى عِلَّتِه، ولهذا جازَ لأحدِهما منعُ صِحَّةِ القِيَاسِ لاختلافِ

(3)

العِلَّةِ في الفرعِ والأصلِ، مثلُ أنْ يَقُولَ الحنفيُّ هاهنا للمُستدلِّ:

أنْتَ عَلَّلْتَ المنعَ في البالغةِ

(1)

في «د» : فتركب.

(2)

في «د» : خمسة عشر.

(3)

ليس في «د» .

ص: 742

بالأنوثةِ، والمنعُ في بنتِ خَمْسَ عَشْرَةَ عندي مُعَلَّلٌ بالصِّغَرِ، فما اتَّفَقَتْ عِلَّةُ الأصلِ والفرعُ فلا يَصِحُّ الإلحاقُ، وفي صِحَّةِ التَّمسُّكِ به خلافٌ، والأصحُّ الإثباتُ؛ لأنَّ حاصلَ سؤالِ التَّركيبِ يَرجِعُ إلى النِّزاعِ في الأصلِ؛ لأنَّ النِّزاعَ في عِلَّتِه كالنِّزاعِ في حُكمِه، والقِيَاسُ يَجوزُ على أصلٍ مختلفٍ فيه، فإذا مَنَعَه المُعترضُ أَثْبَتَه المُستدِلُّ بطريقِه وصَحَّ قياسُه، فها هنا كذلك يُثبِتُ المستدلُّ أنَّ العِلَّةَ في بنتِ خَمْسَ عَشْرَةَ هي الأنوثةُ، ويُحَقِّقُها في الفرعِ، وهي البالغةُ، ويُبْطِلُ مَأخذَ الخصمِ وهو تعليلُه في بنتِ خمسَ عَشْرَةَ بالصِّغرِ، وقد ثَبَتَ مُدَّعَاه وصَحَّ قِياسُه، وهو أنَّ البالغةَ أُنثى فلا تُزَوِّجُ نَفْسَها كبنتِ خمسَ عَشْرَةَ.

‌القادحُ السَّابِعَ عَشَرَ: (التَّعْدِيَةُ)

وهي: (مُعَارَضَةُ وَصْفِ المُسْتَدِلِّ بِوَصْفٍ آخَرَ مُتَعَدٍّ، كَـ) قولِه (فِي بِكْرٍ بَالِغٍ): هي (بِكْرٌ، فأُجْبِرَتْ كَبِكْرٍ صَغِيرَةٍ. فَيُعْتَرَضُ: بِتَعَدِّي الصِّغَرِ) أي: يَقُولُ المعترضُ: هذا مُعارَضٌ بالصِّغَرِ وما ذَكَرْتُه وإنْ تَعَدَّى به الحُكمُ إلى البِكرِ البالغةِ فما ذَكَرْتُه قد تَعَدَّى به الحُكمُ (إِلَى ثَيِّبٍ صَغِيرَةٍ، و) هذا التَّمثيلُ (يَرْجِعُ إِلَى المُعَارَضَةِ فِي الأَصْلِ) بِوَصْفٍ آخَرَ وهو البَكارةُ بالصِّغَرِ معَ زيادةِ تَعرُّضِ التَّساوي في التَّعْدِيَةِ (وَ) على هذا (لَا أَثَرَ لِزِيَادَةِ التَّسويَةِ فِي التَّعْدِيَةِ).

‌القادحُ الثَّامِنَ عَشَرَ: (مَنْعُ وُجُودِ وَصْفِ المُسْتَدِلِّ)

المعلَّلِ به (فِي الفَرْعِ، كـ) أنْ يَقُولَ المُستدلُّ (فِي أَمَانِ عَبْدٍ): هو (أَمَانٌ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ كَـ) العبدِ (المَأْذُونِ) له في القتالِ (فَيَمْنَعُ) المُعتَرضُ (الأَهْلِيَّةَ

(1)

بأنْ يَقُولَ: لا نُسَلِّمُ أنَّ العبدَ أهلٌ للأمانِ (فَيُجِيبُهُ بـ) بيانِ (وُجُودِ مَا عَنَاهُ لِأَهْلِيَّتِهِ

(2)

فِي الفَرْعِ) ثمَّ

(1)

زاد في «مختصر التحرير» (ص 235): في غير المأذون.

(2)

في «ع» : بالأهلية.

ص: 743

ببيانِ وجودِ ما عَنَاه بحسٍّ أو عقلٍ أو شرعٍ (كَـ) ما تَقَدَّمَ فِي (جَوَابِ مَنْعِهِ) أي: منعِ وجودِ الأصلِ المُدَّعَى عِلَّةً (فِي الأَصْلِ) فيَقُولُ: أُريدُ بالأهليَّةِ كَوْنَه مَظِنَّةً لرعايةِ مصلحةِ الأمانِ، وهو بإسلامِه وبلوغِه كذلك عقلًا.

(وَيُمْنَعُ المُعْتَرِضُ مِنْ تَقْرِيرِ نَفْيِ الوَصْفِ عَنِ الفَرْعِ) بمَعنى لو تَعَرَّضَ لتقريرِ مَعنى الأهليَّةِ بيانًا لعدمِه لم يُمَكَّنْ مِنه على الصَّحيحِ؛ لأنَّ تفسيرَها وظيفةُ مَن تَلَفَّظَ بِها؛ لأنَّه العالِمُ بمرادِه وإثباتُها وظيفةُ مَنِ ادَّعَاها، فيَتَوَلَّى تعيينَ ما ادَّعَاه كلُّ ذلك لئلَّا يَنتشرَ الجدلُ.

‌القادحُ التَّاسِعَ عَشَرَ: (المُعَارَضَةُ فِي الفَرْعِ)

وهي (بِمَا يَقْتَضِي نَقِيضَ حُكْمِ المُسْتَدِلِّ بِأَحَدِ طُرُقِ) إثباتِ (العِلَّةِ) وعبَّر الطُّوفِيُّ

(1)

بقولِه: بذِكرِ ما يَمتنعُ مَعَه ثبوتُ الحكمِ فيه، إمَّا بالمعارضةِ بدليلٍ آكَدَ مِن نصٍّ أو إجماعٍ، وإمَّا بإبداءِ وصفٍ في الفرعِ مانعٍ للحُكمِ فيه، أو للسَّببيَّةِ أي المُعارضةِ في الفرعِ تَكُونُ بأمرَينِ:

أحدُهما: ذِكْرُ دليلٍ آكَدَ مِن قياسِ المستدلِّ مِن نصٍّ أو إجماعٍ يَدُلُّ على خلافِ ما دَلَّ عليه قياسُه فيَتَبَيَّنُ أنَّ ما ذَكَرَه المُستدلُّ فاسدُ الاعتبارِ لمخالفتِه النَّصَّ أو الإجماعَ.

مثالُه: لو قالَ الحنفيُّ في رفعِ اليدينِ في الرُّكوعِ والرَّفعِ منه: رُكنٌ مِن أركانِ الصَّلَاةِ فلا يُشرَعُ فيه رفعُ اليدينِ كالسُّجودِ، فيَقولُ له الخصمُ: هذا على خلافِ الحديثِ الصَّحيحِ مِن روايةِ ابنِ عمرَ رضي الله عنهما وغيرِه أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كانَ يَرفَعُ يَديْه في ثلاثةِ مواطنَ: عندَ الإحرامِ، والرُّكوعِ، والرَّفع

ص: 744

ِ منه

(1)

، أو يَقولُ: نُقِلَ عنِ ابنِ عمرَ رضي الله عنهما في جماعةٍ مِن الصَّحابةِ رضي الله عنهم أنَّهم كانوا يَرفعون أيديَهم ولم يُنكِرْه مُنكرٌ، فيَكُونُ إجماعًا سُكوتيًّا، وقياسُك فاسدُ الاعتبارِ لمخالفتِه النَّصَّ أو الإجماعَ.

الأمرُ الثَّاني: أنْ يُبدِيَ المُعتَرضُ في فرعِ قياسِ المُستدلِّ وصفًا يَمنَعُ ثبوتَ الحكمِ فيه أو يمنعُ كونَ وصفِ المُستدلِّ سببًا لثبوتِ الحكمِ، مثالُ مَنعِ الحكمِ: أنْ يَقُولَ المستدلُّ في المثالِ المذكورِ: ركنٌ فلا يُشرَعُ فيه رفعُ اليدِ كالسُّجودِ، فيَقولُ المُعتَرضُ: ركنٌ فيُشرَعُ فيه رفعُ اليدينِ كالإحرامِ، فقد مَنَعَ الحُكمَ وهو عدمُ

(2)

مشروعيَّةِ رفعِ اليدينِ وقاسَه على أصلٍ آخَرَ وهو حقيقةُ القلبِ، وهو نوعُ معارضةٍ.

ومثالُ مَنعِ السَّببيَّةِ: أن يَقُولَ الحنبليُّ في المُرتدَّةِ: بَدَّلَتْ دينَها فتُقتلُ كالرَّجُلِ، فيَقولَ الحنفيُّ: أُنثى فلا تُقتَلُ بكفرِها كالكافرةِ الأصليَّةِ، فيُبَيِّنَ أنَّ تبديلَ الدِّينِ لَيْسَ سببًا لقتلِ المرأةِ

(3)

.

تنبيهٌ: المعنى بالمُعارضةِ إذا أُطلِقَتْ أن يَقُولَ المُعتَرضُ للمُستدلِّ: ما ذَكَرْتَه مِن الوصفِ، فإنِ اقتضى ثبوتَ الحكمِ في الفرعِ فعندي وصفٌ آخَرُ يَقتضي نقيضَه فيَتَوَقَّفُ دليلُك ولا بُدَّ مِن بنائِه على أصلٍ جامعٍ يُثبِتُ عِلِّيَّتَه، وله الاستدلالُ في إثباتِ عِلِّيَّتِه بأيِّ مسلكٍ مِن مسالكِ العِلَّةِ شاءَ على نحوِ طُرقِ إثباتِ المُستدلِّ للعِلِّيَّةِ، فينقلبُ المُعتَرضُ مستدلًّا على إثباتِ المعارضةِ والمُستدلُّ مُعتَرضًا عليها بما أمكنَ مِن الأسئلةِ فتنقلبُ الوظيفتانِ.

(1)

رواه البخاري (735)، ومسلم (390) عن ابن عمر أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ إِذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ، وَإِذَا كَبَّرَ لِلرُّكُوعِ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، رَفَعَهُمَا كَذَلِكَ أَيْضًا.

(2)

من «شرح مختصر الروضة» .

(3)

«شرح مختصر الروضة» (3/ 540).

ص: 745

قالَ الطُّوفِيُّ

(1)

: وذلك لأنَّ المُعارضةَ هي المُقَابَلَةُ على جِهَةٍ

(2)

والممانعانِ كلُّ واحدٍ مِنهما

(3)

مانعٌ لمقصودِ خصمِه مُثبِتٌ لمقصودِه هو، فإذًا للمُعارضةُ جهتانِ:

إحداهما: جهةُ منعِ مقصودِ المُستدلِّ فيَحتاجُ المُعتَرضُ فيها إلى تقديرِ ذلك المنعِ بالدَّليلِ، مثلُ أن يَستدلَّ الحنبليُّ على عدمِ كراهةِ سؤرِ الهرَّةِ بأنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كانَ يُصغي لها الإناءَ فتشربُ، فيَقُولُ الحنفيُّ: ما ذَكَرْتَ من الدَّليلِ وإنْ دَلَّ غيرَ أنَّ عندي مانعًا يُعارِضُه ويَدُلُّ على كراهةِ سُؤرِ الهِرَّةِ وهو قولُه عليه السلام: «الهِرَّةُ سَبُعٌ»

(4)

، فعَمِلْتُ بحديثِ الإصغاءِ في الطَّهارةِ، وبهذا الحديثِ في الكراهةِ جمعًا بينَ الحديثينِ في العملِ، فهو أَوْلَى مِن إلغاءِ أحدِهما.

الجهةُ الثَّانيةُ للمُعارضةِ: إثباتُ مطلوبِ المُعْتَرِضِ كما ذُكِرَ مِن إثباتِ كراهةِ سُؤرِ الهِرَّةِ فهو من الجهةِ الأُولى مانعٌ ومِن هذه الجهةِ مستدلٌّ، فبالضَّرورةِ يَحتاجُ المُستدلُّ إلى أن يَنقلبَ مُعترضًا على استدلالِ المعترضِ ليَسْلَمَ له دليلُه، فيعتَرضُ عليه بما أَمْكَنَ مِن الأسئلةِ الواردةِ على النَّصِّ أو القِيَاسِ، فيَقُولُ هاهنا: لا نُسَلِّمُ صِحَّةَ الحديثِ المذكورِ، سَلَّمْناه، لكنَّ السَّبُعِيَّةَ فيه ليسَتْ حقيقةً بل مجازًا شَبَهِيًّا صُورِيًّا، كما يُقالُ للطَّويلِ:«نخلةٌ» لاشتباهِهما في الطُّولِ، سَلَّمْناه، لكنَّ حديثَنا أصحُّ وأثبتُ، فيُرَجَّحُ، وأشباهُ ذلك مِن الأسئلةِ على النَّصِّ.

(1)

«شرح مختصر الروضة» (3/ 382).

(2)

قوله: هي المُقَابَلَةُ على جِهَةٍ. في (ع)، (د): على وجهه. والمثبت من «شرح مختصر الروضة» .

(3)

في «د» : منها.

(4)

رواه أحمد (8457).

ص: 746

وإنْ كانَتِ المُعارضةُ قياسًا اعتَرضَ المُستدلُّ عليه بأسئلةِ القِيَاسِ المذكورةِ للاستفسارِ وفسادِ الاعتبارِ والوضعِ ونحوِه مِن الأسئلةِ.

و (يُقْبَلُ) سؤالُ المُعارضةِ على الصَّحيحِ؛ لئلَّا تختلَّ فائدةُ المناظرةِ، وهو ثبوتُ الحُكمِ؛ لأنَّه لا يَتَحَقَّقُ بمجرَّدِ الدَّليلِ ما لم يُعلمْ عدمُ المعارضِ.

(وَجَوَابُهُ) أي: جوابُ المُستدلِّ عن سؤالِ المُعارضةِ (بِمَا يَعْتَرِضُ بِهِ المُعْتَرِضُ) أي: بما مَرَّ مِن الاعتراضاتِ مِن قِبَلِ المُعتَرضِ على المُستدلِّ (ابْتِدَاءً) والجوابُ هو الجوابُ لا فرقَ.

قالَ في «شرح الأصل» : وقد يُجابُ بالتَّرجيحِ بوجهٍ مِن وجوهِه الَّتي نَذكُرُها في بابِ التَّراجيحِ

(1)

.

(وَيُقْبَلُ تَرْجِيحٌ) مِن أحدِهما (بِوَجْهٍ مَا) أي: بوجهِ ترجيحٍ مِن التَّراجيحِ على الصَّحيحِ؛ لأنَّه إذا تَرَجَّحَ قياسُ أحدِهما (فَيَتَعَيَّنُ العَمَلُ بِهِ) للإجماعِ على وجوبِ العملِ بالرَّاجحِ (وَ) ذلك (هُوَ المَقْصُوُدُ، وَ) على الصَّحيحِ (لَا يَلْزَمُ المُسْتَدِلَّ الإِيمَاءُ إِلَيْهِ) أي: التَّرجيحِ (فِي) مَتْنِ (دَلِيلِهِ) أي: المستدلِّ بأنْ يَقُولَ في أمانِ العبدِ: أمانٌ مِن مسلمٍ عاقلٍ موافقٍ للبَراءةِ الأصليَّةِ، وذلك لأنَّ التَّرجيحَ على ما يُعارِضُه خارجٌ عن الدَّليلِ وتوقُّفُ العملِ على التَّرجيحِ لَيْسَ جزءًا للدَّليلِ بل شرطٌ له إذا حَصَلَ المُعارضُ، واحتيجَ إلى دفعِه فهو مِن توابِعِ وُرودِ المُعارضةِ لدَفعِه فلا يَجِبُ ذِكْرُه مِن الدَّليلِ.

‌القادحُ العشرونَ: (الفَرْقُ)

وهو إبداءُ المعترضِ مَعنًى يَحصُلُ به الفرقُ بينَ الأصلِ والفرعِ حَتَّى لا يَلْحَقَ به في حُكمِه، فهو (رَاجِعٌ إِلَى المُعَارَضَةِ

ص: 747

فِي أَصْلٍ أَوْ فَرْعٍ)؛ لِأَنَّهُ جَعلُ أمرٍ مخصوصٍ بالأصلِ عِلَّةً أو بالفرعِ مانعًا، فالأوَّلُ أن يَجعَلَ المُعتَرضُ تَعَيُّنَ صورةِ الأصلِ المقيسِ عليها هو العِلَّةَ في الحُكمِ كقولِ حنفيٍّ في التَّبييتِ: صومُ عينٍ، فيَتَأَدَّى بالنِّيَّةِ قبلَ الزَّوالِ كالنَّفلِ. فيُقالُ: صومُ نفلٍ فيَنبَنِي على السُّهولةِ، فجازَ بنِيَّةٍ مُتأخِّرَةٍ، بخلافِ الفرضِ.

وبالجملةِ: فهذا القسمُ راجعٌ إلى معارضةٍ في الأصلِ؛ أي: معارضةِ عِلَّةِ المستدلِّ فيه لعِلَّةٍ أُخرى.

والثَّاني: أنْ يَجعَلَ تَعيُّنَ الفرعِ مانعًا مِن ثبوتِ حُكمِ الأصلِ فيه، كقولِهم: يُقادُ المسلمُ بالذِّمِّيِّ قياسًا على غيرِ المسلمِ بجامعِ القتلِ العمدِ العدوانِ، فيَقولُ المُعتَرضُ: تَعَيُّنُ الفرعِ وهو الإسلامُ مانعٌ مِن وجوبِ القصاصِ عليه والفارقُ قادحٌ في الأصلِ؛ لأنَّه على أيِّ وجهٍ وَرَدَ يُوهِنُ غَرَضَ المُستدلِّ مِن الجمعِ، ويُبطِلُ مقصودَه.

(وَيَحْتَاجُ) الفرقُ (القادحُ فِي الجَمْعِ) بينَ الأصلِ والفرعِ (إِلَى: دَلَالَةٍ وَأَصْلٍ، كَالجَمْعِ) بينَهما، وإلَّا فدَعوى بلا دليلٍ، ومفهومُه أنَّ الفرقَ يَكُونُ قادحًا وغيرَ قادحٍ، ولهذا بَنَى بعضُهم قبولَ القسمِ الأوَّلِ على منعِ التَّعليلِ بعِلَّتَينِ، والثَّاني على جَعلِ النَّقضِ معَ المانعِ قادحًا.

(وَإِنْ أَحَبَّ) المُعتَرضُ (إِسْقَاطَهُ) أي: الفرقِ (عَنْهُ) أي: عن المستدلِّ (طَالَبَ المُسْتَدِلَّ بِصِحَّةِ الجَمْعِ).

مثالُه: الصَّبيُّ غيرُ مُكَلَّفٍ، فلا يُزَكِّي كمن لم تَبْلُغْه الدَّعوى، فيُنتقَضُ بعُشرِ زرعِه والفطرةِ، فسؤالٌ صحيحٌ بخلافِ التَّفرقةِ بالفسقِ بينَ النَّبيذِ والخمرِ؛ لأنَّه لَيْسَ مِن حُكمِ العِلَّة، ثمَّ يَجُوزُ جَلْبُها للتَّحريمِ فقطْ؛ لأنَّه أعمُّ.

ص: 748

القادحُ الحادي والعشرونَ: (اخْتِلَافُ الضَّابِطِ)[في الأصلِ والفرعِ]

(1)

، بأنْ يَقُولَ المُعتَرضُ للمستدلِّ:(فِي) قياسِك اختلافُ الضَّابطِ بينَ (الأَصْلِ وَالفَرْعِ) فلَيْسَ ضابطُ الأصلِ فيه هو ضابطَ الفرعِ، فلا وثوقَ بما ادَّعَيتَ جامعًا بينَهما (كـ) قَوْلِنا في شهادةِ الزُّورِ بالقتلِ:(تَسَبَّبُوا بِالشَّهَادَةِ) إلى القتلِ عمدًا، فعليهم القَوَدُ (فَقِيدُوا؛ كَمُكْرَهٍ) على القتلِ، (فَيُقَالُ: ضَابِطُ الفَرْعِ: الشَّهَادَةُ، وَ) ضابطُ (الأَصْلِ: الإِكْرَاهُ، فَلَمْ يَتَحَقَّقْ تَسَاوٍ) بينَهما، وحاصلُ هذا السُّؤالِ يَرجِعُ إلى منعِ وجودِ الأصلِ في الفرعِ.

(وَجَوَابُهُ) أي: جوابُ هذا القدحِ مِن المُستدلِّ (بَيَانُ أَنَّ الجَامِعَ) بينَ الأصلِ والفرعِ (التَّسَبُّبُ المُشْتَرَكُ بَيْنَهُمَا) وهو الإكراهُ والشَّهادةُ على القتلِ، (وَهُوَ) أي: التَّسبُّبُ المُشتَركُ بينَهما (مَضْبُوطٌ عُرْفًا، أَوْ) يُجيبُ المُستدلُّ (بِأَنَّ إِفْضَاءَهُ فِي الفَرْعِ مِثْلُهُ)[في الأصلِ]

(2)

أي: بأنَّ إفضاءَ ضابطِ الفرعِ إلى المقصودِ مثلُ إفضاءِ ضابطِ الأصلِ (أَوْ أَرْجَحُ) منه، كما لو كانَ أصلُ الفرعِ المُغري للحيوانِ بجامعِ التَّسبُّبِ، فإنَّ انبعاثَ الوليِّ على القتلِ بسببِ الشَّهادةِ للتَّشَفِّي أكثرُ من انبعاثِ الحيوانِ بالإغراءِ لنفرتِه مِن الإنسانِ وعدمِ عِلمِه بجوازِ القتلِ وعدمِه، فاختلافُ أصلِ المُتسبِّبِ لا يَضُرُّ، فإِنَّه اختلافُ أصلٍ وفرعٍ ولا يُفيدُ قولُ المُستدلِّ في جوابِه: التَّفاوتُ في الضَّابطِ مُلْغًى لحفظِ النَّفسِ كما أُلغِيَ التَّفاوُتُ بينَ قطعِ الأُنملةِ وقطعِ الرَّقَبَةِ في قَوَدِ النَّفسِ؛ لأنَّ إلغاءَ التَّفاوُتِ في صورةٍ لا تُوجِبُ عمومَه كإلغاءِ الشَّرفِ وغيرِه دونَ الإسلامِ

والحرِّيَّةِ.

(1)

ليس في «د» .

(2)

ليس في «د» .

ص: 749

(ومِنْهُ) أي: من صورِ القدحِ باختلافِ الضَّابطِ: اختلافُ جنسِ المصلحةِ (كَـ) قولِ المُستدلِّ لوجوبِ الحدِّ على اللَّائِطِ: (أَوْلَجَ فَرْجًا فِي فَرْجٍ مُشْتَهًى طَبْعًا مُحَرَّمٍ شَرْعًا، فَحُدَّ كَزَانٍ. فَيُقَالُ) أي: فيَقُولُ المُعتَرضُ: (حِكْمَةُ الفَرْعِ: الصِّيَانَةُ عَنْ رَذِيلَةِ اللِّوَاطِ، وَ) حكمةُ (الأَصْلِ دَفْعُ مَحْذُورِ اشْتِبَاهِ الأَنْسَابِ، وَقَدْ يَتَفَاوَتَانِ) أي: قد يَتَفَاوَتُ حُكمُ الفرعِ وحُكمُ الأصلِ (فِي نَظَرِ الشَّرْعِ، وَحَاصِلُهُ: مُعَارَضَتُـ) ـه (فِي الأَصْلِ).

تنبيهٌ: لم يَذكُرْ ما ذَكَرَه ابنُ مُفلحٍ وغيرُه اختلافَ جنسِ المصلحةِ اكتفاءً باختلافِ الضَّابطِ؛ لأنَّ تَعدُّدَ اختلافِ الضَّابطِ في الأصلِ والفرعِ تارةً يَكُونُ معَ اتِّحادِ المصلحةِ، وتارةً يَكُونُ معَ اختلافِها، فإذا قَدَحَ معَ الاتِّحادِ فلأنْ يَقْدَحَ معَ اختلافِ الجنسِ في التَّأثيرِ أَوْلَى، فإِنَّه يُحَصِّلُ جهتينِ في التَّفاوُتِ: جهةً في كمِّيَّةِ المصلحةِ ومقدارِها، وجهةً في إفضاءِ ضابطِها إليها، فالتَّساوي يَكُونُ أبعدَ.

(وَجَوَابُهُ) أي: جوابُ قادحِ اختلافِ جنسِ المصلحةِ (بِحَذْفِهِ عَنِ الِاعْتِبَارِ) أي: إلقاءِ عدمِ اعتبارِه شرعًا كالطُّولِ، وسَبَقَ في السَّبْرِ.

‌القادحُ الثَّاني والعشرونَ: (مُخَالَفَةُ حُكْمِ الفَرْعِ لِحُكْمِ الأَصْلِ)

لأنَّ القِيَاسَ تعديةُ حُكمِ الأصلِ إليه بالجامعِ. يَقُولُ المُعتَرضُ: الحُكمُ في الفرعِ مخالفٌ للحكمِ في الأصلِ حقيقةً، وإنْ ساواه بدليلِك صورةً والمطلوبُ مساواتُه له حقيقةً فما هو مطلوبُك غيرَ ما أفادَه دليلُك إذا نُصِبَ في غيرِ مَحَلِّ النِّزاعِ كانَ فاسدًا؛ لأنَّ المقصودَ منه إثباتُ مَحَلِّ النِّزاعِ.

مثالُه: أنْ يُقاسَ النِّكاحُ على البيعِ، أو البيعُ على النِّكاحِ في عدمِ الصِّحَّةِ لجامعٍ في صورةٍ، فيَقُولُ المُعتَرضُ: الحُكمُ مُختلفٌ، فإنَّ عدمَ الصِّحَّةِ [في البيعِ]

(1)

حرمةُ الانتفاعِ، وفي النِّكاحِ حُرمةُ المباشرةِ.

(1)

ليس في «د» .

ص: 750

(وَجَوَابُهُ) أي: جوابُ المستدلِّ (بِبَيَانِ اتِّحَادِ الحُكْمِ:

- عَيْنًا) أي: إنَّ البطلانَ شيءٌ واحدٌ، وهو عدمُ تَرتُّبِ المقصودِ مِن العقدِ عليه (كَصِحَّةِ البَيْعِ عَلَى النِّكَاحِ، وَالِاخْتِلَافُ عَائِدٌ إِلَى المَحَلِّ) بكونِه بيعًا ونكاحًا، وهو لا يُوجِبُ اختلافَ ما حَلَّ فيه.

(وَاخْتِلَافُهُ شَرْطٌ فِيهِ) أي: اختلافُ المحلِّ شرطٌ في القِيَاسِ ضرورةً، فكيف يُجعَلُ شرطُه مانعًا عنه فيَلزَمُ امتناعُه أبدًا.

- (أَوْ جِنْسًا) معطوفًا على قولِه: «عينًا» (كَقَطْعِ الأَيْدِي بِاليَدِ كَـ) قَتْلِ (الأَنْفُسِ بِالنَّفْسِ) أي: بقياسِ

(1)

قطعِ الأيدي باليدِ الواحدةِ على قتلِ الأنفُسِ بالنَّفسِ الواحدةِ بعدَ تسليمِ عِلَّةِ الأصلِ في الفرعِ.

(وَتُعْتَبَرُ مُمَاثَلَةُ التَّعْدِيَةِ) بينَ الأصلِ والفرعِ، ذَكَرَه المُوَفَّقُ وغيرُه، ومَثَّلَه القاضي

(2)

بقولِ الحنفيَّةِ في ضمِّ الذَّهبِ إلى الفِضَّةِ في الزَّكاةِ كصِحاحٍ ومُكَسَّرَةٍ، فالضَّمُّ في الأصلِ بالأجزاءِ وفي الفرعِ بالقيمةِ عندَهم.

(وَإِنِ اخْتَلَفَ) الحُكْمُ (جِنْسًا وَنَوْعًا كَـ) قياسِ (وُجُوبٍ عَلَى تَحْرِيمٍ، وَ) كقياسِ (نَفْيٍ عَلَى إِثْبَاتٍ) أو بالعكسِ (فَـ) قياسٌ (بَاطِلٌ) وذلك لأنَّ الحُكمَ إِنَّمَا شُرِعَ لإفضائِه إلى مقصودِ العبدِ واختلافُه مُوجِبٌ للمخالفةِ بينَهما في الإفضاءِ إلى الحكمِ، فإنْ كانَ بزيادةٍ في إفضاءِ حُكمِ الأصلِ إليها لم يَلْزَمْ مِن شرعِه شرعُ الحُكمِ في الفرعِ؛ لأنَّ زيادةَ الإفضاءِ مقصودةٌ، ويَمتنعُ كونُ حُكمِ الفرعِ أَفْضى إلى المقصودِ، وإلَّا كانَ تنصيصُ الشَّارِعِ عليه أَوْلى.

(1)

في «د» : قياس.

(2)

«العدة في أصول الفقه» (5/ 1511).

ص: 751

‌القادحُ الثَّالثُ والعشرونَ: (القَلْبُ)

وهو (تَعْلِيقُ نَقِيضِ الحُكْمِ أَوْ لَازِمِهِ عَلَى العِلَّةِ؛ إِلْحَاقًا بِالأَصْلِ) مَعنى القلبِ: أنَّ المعترضَ يَقلِبُ دليلَ المستدلِّ أو يُبَيِّنُ أنَّه يَدُلُّ عليه لا له، أو يَدُلُّ عليه وله مِن وجهينِ، (فَهُوَ نَوْعُ مُعَارَضَةٍ) عندَ أصحابِنا وأكثرِ العلماءِ، بل أَوْلَى بالقبولِ؛ لأنَّه اشتَركَ في الأصلِ والجامعِ، وإنْ نَشَأَ مِن نفسِ دليلِ المستدلِّ، لكنْ لَمَّا التزمَ في دليلِه وجودَ الوصفِ لم يَمنَعْه، فالقلبُ لا يَحتاجُ إلى أصلٍ ولا إلى إثباتِ الوصفِ، فكلُّ قلبٍ معارضةٌ، وليسَ كلُّ معارضةٍ قلبًا، وإذا ثَبَتَ أنَّه معارضةٌ، فجوابُه جوابُ المعارضةِ على ما ذُكِرَ فيها، مِثلُ أن يَقُولَ في مسألةِ مَسحِ الرَّأسِ: لا نُسَلِّمُ أنَّ الخفَّ لا يَتَقَدَّرُ بالرُّبعِ، فيمنَعُ حُكمَ الأصلِ في قلبِ المعترضِ إلَّا منعَ الوصفِ، فإِنَّه يَجوزُ في المعارضةِ دونَ القلبِ مثلُ أنْ يَقُولَ: لا نُسَلِّمُ أنَّ الاعتكافَ والوقوفَ لُبْثٌ محضٌ، أو لا نُسَلِّمُ أنَّ مسحَ الرَّأسِ والخفِّ مسحٌ، أو لا نُسَلِّمُ أنَّ البيعَ والنِّكاحَ عقدُ معاوضةٍ، والفرقُ بينَ المعارضةِ والقلبُ في ذلك أنَّ المُستدلَّ في المُعارضةِ لم يُعَلِّلْ بوصفِ المعترضِ، ولا التَزَمَه واعتمدَ عليه في قياسِه، فجازَ له مَنعُه بخلافِ القلبِ، فإنَّ المُستدلَّ التزمَ في قياسِه صِحَّةَ ما عَلَّلَ به المُعتَرضُ، وهو اللُّبْثُ والمسحُ وعقدُ المعاوضةِ، فلَيْسَ له في جوابِ القلبِ منعُه؛ لأنَّه هدمٌ لِما بَنَى، ورجوعٌ عمَّا التَزَمَه واعتَرفَ بصِحَّتِه فلا يُقبَلُ منه.

(ثُمَّ) تارةً يَكُونُ المقصودُ (مِنْهُ) أي: مِن قلبِ الدَّليلِ تصحيحَ مذهبِ نفسِ المُعتَرضِ وإبطالَ مذهبِ نفسِ المُستدلِّ، وذلك إمَّا أنْ يَكُونَ صريحًا أو غيرَه، وتارةً يَتَعَرَّضُ فيه لبطلانِ مذهبِ خصمِه دونَ تصحيحِ مذهبِ نَفسِه، وذلك إمَّا أنْ يَكُونَ صريحًا أو لزومًا، فالأوَّلُ الَّذِي هو (قَلْبٌ

ص: 752

لِتَصْحِيحِ مَذْهَبِ) نفسِـ (ـه، معَ إِبْطَالِ مَذْهَبِ المُسْتَدِلِّ صَرِيحًا، كـ) قولِ المُستدلِّ فِي (بَيْعِ فُضُولِيٍّ) هو (عَقْدٌ فِي حَقِّ الغَيْرِ بِلَا وِلَايَةٍ؛ فَلَا يَصِحُّ كَالشِّرَاءِ) له فيَقُولُ المُعتَرضُ: تَصرُّفٌ في مالِ الغيرِ، فيَصِحُّ كالشِّراءِ للغيرِ، فإِنَّه يَصِحُّ للمُشتَري وإنْ لم يَصِحَّ لمن اشتَرى له،

(أَوْ غَيْرِهِ) أي: غيرِ صريحٍ (كَـ) قولِ الحنفيِّ في الصَّومِ في (الِاعْتِكَافِ: لُبْثٌ مَحْضٌ) فِي مَحَلٍّ مَخْصُوصٍ (فَلَا يَكُونُ قُرْبَةً بِنَفْسِهِ؛ كَالوُقُوفِ بِعَرَفَةَ) فلا يَكُونُ بمُجَرَّدِه قُربةً، بل لا بُدَّ أنْ يَقتَرِنَ به الإحرامُ والنِّيَّةُ، فكذلك الاعتكافُ لا يَكُونُ بمُجَرَّدِه قُربةً حَتَّى يَقتَرِنَ به غيرُه مِن العباداتِ، وذلك هو الصَّومُ، ولم يَتَمَكَّنِ المُستدلُّ مِن التَّصريحِ به؛ لأنَّه لا أصلَ له يَقِيسُه عليه.

(فَيُقَالُ) مِن المُعتَرضِ الحنبليِّ أو الشَّافعيِّ في قلبِ الدَّليلِ المذكورِ: الاعتكافُ لُبثٌ مخصوصٌ (فَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الصَّوْمُ) أي: لا يُشتَرَطُ له في كونِه قُربةً (كَالوُقُوفِ) بعرفةَ لا يُشتَرَطُ لصِحَّتِه الصَّومُ، فكذلك لا يُشتَرَطُ للاعتكافِ؛ عملًا بالوصفِ المذكورِ، وهو كونُ الوقوفِ والاعتكافِ لُبثًا مَحضًا، وإذا تَبَيَّنَ أنَّ وصفَ المُستدلِّ يُناسِبُ دَعواه وعَدَمَها، لم يَكُنْ بإثباتِ أحدِ الأمرينِ أَوْلى مِن إثباتِ الآخَرِ، فيَسقُطُ الاستدلالُ به؛ لأنَّه حينئذٍ يَصِيرُ ترجيحًا مِن غيرِ مُرَجِّحٍ.

(وَ) الثَّاني الَّذِي هو (قَلْبٌ لِإِبْطَالِ مَذْهَبِ المُسْتَدِلِّ فَقَطْ) أي: مِن غيرِ تعرُّضٍ لتصحيحِ مذهبِ نَفْسِه (صَرِيحًا، كَـ) قولِ الحنفيِّ في عدمِ وجوبِ استيعابِ (الرَّأْسِ) بالمسحِ (مَمْسُوحٌ، فَلَا يَجِبُ اسْتِيعَابُهُ) بالمسحِ (كَالخُفِّ. فَ) يَقُولُ المُعتَرضُ: هذا يَنقلِبُ عليك بأنْ (يُقَالَ): مَمْسُوحٌ (فَلَا يَتَقَدَّرُ بِالرُّبُعِ كَالخُفِّ) ففيه نفيُ مذهبِ المُستدلِّ صريحًا، ولا يَلْزَمُ مِن ذلك صِحَّةُ مذهبِ

ص: 753

المُعتَرضِ لجوازِ أنْ يَكُونَ الصَّوابُ في الاستيعابِ كما هو مذهبُ أحمدَ ومالكٍ، أو إجزاءَ ما يُسَمَّى مَسْحًا كما هو مذهبُ الشَّافعيِّ رضي الله عنهم.

(أَوْ لُزُومًا) بأنْ يُبْطِلَه بطريقِ الالتزامِ (كَـ) قولِ الحنفيِّ في (بَيْعِ غَائِبٍ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ، فَيَصِحُّ معَ جَهْلِ العِوَضِ

(1)

كَالنِّكَاحِ) فإِنَّه يَصِحُّ معَ جهلِ الزَّوجِ بصورةِ الزَّوجةِ، وكونِه لم يَرَها، فكذلك في البيعِ بجامعِ كَوْنِهما عقدَ معاوضةٍ، (فَيُقَالُ) مِن المُعتَرضِ: هذا الدَّليلُ يَنقلِبُ بأنَّه عقدُ معاوضةٍ (فَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ

(2)

كَالنِّكَاحِ) فإنَّ الزَّوجَ إذا رأى الزَّوجةَ لم تُعجِبْه لم يَجُزْ له فسخُ النِّكاحِ، فكذلك المشتري لا يَكونُ له خيارٌ إذا رأى المبيعَ في بيعِ الغائبِ بمُقتضى الجامعِ المذكورِ. والخصمُ لم يُصَرِّحْ ببطلانِ مذهبِ المستدلِّ، لكنَّه دَلَّ على بطلانِه ببطلانِ لازمِه عندَ الخصمِ وهو خيارُ الرُّؤيةِ.

(فَإِذَا انْتَفَى اللَّازِمُ انْتَفَى المَلْزُومُ) فإنَّ أبا حنيفةَ يُجِيزُ بيعَ الغائبِ بشرطِ ثُبوتِ الخيارِ للمُشتَري إذا رآه، وإذا بَطَلَ هذا الشَّرطُ بمُوجبِ قياسِه على النِّكاحِ بَطَلَ مشروطُه، وهو صِحَّةُ البيعِ.

(وَ) يلْحَقُ بذلك (قَلْبُ المُسَاوَاةِ، كَـ) ـما لو قالَ الحنفيُّ في (الخَلِّ: مَائِعٌ طَاهِرٌ مُزِيلٌ) للعينِ والأثرِ، فتَحصُلُ به الطَّهارةُ (كَالمَاءِ، فَيُقَالُ) مِن المُعتَرضِ: فـ (يَسْتَوِي فِيهِ الحَدَثُ وَالخَبَثُ، كَالمَاءِ) إذ يَلْزَمُ مِن التَّسويَةِ في الخلِّ بينَ طهارةِ الحدثِ والخبثِ أنَّه لا يُزيلُ النَّجاسةَ كما أنَّه لا يَرفَعُ الحدثَ تسويةً بينَهما فيه.

(وَمِنْهُ) أي: مِن القلبِ: (جَعْلُ مَعْلُولٍ عِلَّةً وَعْكَسُهُ) أي: جعلُ عِلَّةٍ

(1)

في «مختصر التحرير» (ص 239): المعوض.

(2)

في «مختصر التحرير» (ص 239): رؤية.

ص: 754

معلولًا، قالَ في «شرح الأصل»: وهو نوعٌ ثالثٌ مِن القلبِ

(1)

.

(وَلَا يُفْسِدُهَا) أي: العِلَّةَ عندَ أصحابِنا وغيرِهم يَعني أنَّه لا يَمنَعُ الاحتجاجَ بها (كَـ) قولِنا في ظِهارِ الذِّمِّيِّ: (مَنْ صَحَّ طَلَاقُهُ صَحَّ ظِهَارُهُ) كالمسلمِ (وَعَكْسُهُ): مَن صَحَّ ظِهارُه صَحَّ طلاقُه، فيَقولُ الحنفيُّ: أجْعَلُ

(2)

المعلولَ عِلَّةً والعِلَّةَ معلولًا.

قالَ في «التمهيد» : وأقولُ: المسلمُ إِنَّمَا صَحَّ طلاقُه؛ لأنَّه صَحَّ ظِهارُه، ومتى كانَ الظِّهارُ عِلَّةً للطَّلاقِ لم يَثبُتْ ظهارُ الذِّمِّيِّ بثبوتِ طلاقِه. قالَ أصحابُنا: هذا لا يَمنَعُ الاحتجاجَ بالعلَّةِ

(3)

.

(فَالسَّابِقُ) منهما في الثُّبوتِ (عِلَّةٌ لِلثَّانِي

(4)

والدَّلالةُ على صِحَّةِ ذلك أنَّ عِلَلَ الشَّرعِ أماراتٌ على الأحكامِ بجَعلِ جاعلٍ ونَصبِ ناصبٍ وهو صاحبُ الشَّرعِ عليه الصلاة والسلام، وغيرُ ممتنعٍ أنْ يَقُولَ صاحبُ الشَّرعِ: مَن صَحَّ طلاقُه فاعلَمُوا أنَّه يَصِحُّ ظهارُه، فأيُّهما ثَبَتَ منه صِحَّةُ أحدِهما حَكَمْنا بصِحَّةِ الآخَرِ منه.

(وَزِيدَ) في أنواعِ القلبِ: (قَلْبُ الدَّعْوَى معَ إِضْمَارِ الدَّلِيلِ فِيهَا) أي: في الدَّعوى، (كَـ) قوله:(كُلُّ مَوْجُودٍ مَرْئِيٌّ، فَيُقَالُ: كُلُّ ما لَيْسَ فِي جِهَةٍ لَيْسَ مَرْئِيًّا، فَدَلِيلُ الرُّؤْيَةِ الوُجُودُ وَكَوْنُهُ لَا فِي جِهَةٍ دَلِيلُ مَنْعِهَا) أي: مَنعِ الرُّؤيةِ (أَوْ معَ عَدَمِهِ) أي: عدمِ إضمارِ الدَّليلِ (كَـ: شُكْرُ المُنْعِمِ وَاجِبٌ لِذَاتِهِ فَيَقْلِبُهُ) فيَقولُ: شُكرُ المنعِمِ

لَيْسَ بواجبٍ لذاتِه.

(1)

«التحبير شرح التحرير» (7/ 3669).

(2)

في «د» : جعل.

(3)

«التمهيد في أصول الفقه» للكَلْوَذاني (4/ 211).

(4)

في «مختصر التحرير» (ص 239): التالي. وفي بعض نسخه الخطية: للتالي.

ص: 755

(وَ) زِيدَ في أنواعِه أيضًا: (قَلْبُ الِاسْتِبْعَادِ) في الدَّعوى (كَـ) قولِنا في مسألةِ (الإِلْحَاقِ) للنَّسبِ: لو ادَّعَى اللَّقيطَ اثنانِ فأكثرُ بلا حُجَّةٍ ولم يُوجَدْ قَافَةٌ وقُلْنا إنَّه يُتْرَكُ حَتَّى يَبْلُغَ، فيَنتسِبُ إلى مَن شاءَ مِنهما، فيُقالُ:(تَحْكِيمُ الوَلَدِ فِيهِ) أي: في إلحاقِ النَّسَبِ (تَحَكُّمٌ بِلَا دَلِيلٍ. فَيُقَالُ) في الجوابِ: (تَحْكِيمُ القَائِفِ) أيضًا (تَحَكُّمٌ بِلَا دَلِيلٍ).

(وَقَلْبُ الدَّلِيلِ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ مَا) أي: الدَّليلُ الَّذِي (ذَكَرَهُ المُسْتَدِلُّ يَدُلُّ عَلَيْهِ) أي: على المُستدلِّ (لَا لَهُ) وهذا النَّوعُ لا يَتَّجِهُ في قبولِه خلافٌ. قالَ النِّيليُّ: هو مِن قبيلِ الاعتِراضاتِ

(1)

. انتهى.

وقلَّ ما يَتَّفِقُ له مثالٌ في المشروعيَّاتِ، ومثالُه مِن النُّصوصِ: استدلالُ مَن يُوَرِّثُ ذوي الأرحامِ (كـ

(2)

ـقولِه صلى الله عليه وسلم: («الخَالُ وَارِثُ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ»

(3)

فأثبتَ إرثَه عندَ عدمِ الوارثِ غيرَه. (فَيُقَالُ) اعتِراضًا للمُستدلِّ: هذا يَدُلُّ عليك لا لك؛ إذ مَعناه (يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَرِثُ بِطَرِيقٍ أَبْلَغَ؛ لِأَنَّهُ نَفْيٌ عَامٌّ) أي: الخالُ لا يَرِثُ (كَـ) ما يُقالُ: (الجُوعُ زَادُ مَنْ لَا زَادَ لَهُ) والصَّبْرُ حيلةُ مَن لا حيلةَ له، أي لَيْسَ الجوعُ زادًا ولا الصَّبْرُ حيلةً.

‌القادحُ الرَّابعُ والعشرونَ: (القَوْلُ بِالمُوجَبِ)

بفتحِ الجيمِ؛ أي: القولُ بما أَوْجَبَه دليلُ المُستدلِّ واقتضاه، أمَّا الموجِبُ بكسرِها فهو الدَّليلُ المُقتضي للحُكْمِ وهو غيرُ مختصٍّ بالقِيَاسِ وحدَه.

والقولُ بالموجَبِ (تَسْلِيمُ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ معَ) دَعوى (بَقَاءِ النِّزَاعِ). مثالُ

(1)

ينظر: «البحر المحيط» (3/ 525).

(2)

ليس في «د» .

(3)

رواه الترمذي (2103)، والنسائي في «الكبرى» (6317)، وابن ماجه (2737) وقال الترمذي: حديث حسن.

ص: 756

ذلك ما إذا قالَ الشَّافعيُّ فيمن أتى حدًّا خارجَ الحرمِ ثمَّ لَجَأَ إلى الحرمِ: يُستوفى منه الحدُّ؛ لأنَّه وُجِدَ بسببِ الاستيفاءِ منه، فكان جائزًا. فيَقولُ الحنبليُّ أو الحنفيُّ: أنا قائلٌ بمُوجَبِ دليلِك وأنَّ استيفاءَ الحدِّ جائزٌ، وإنَّما أُنازِعُ في هَتْكِ حُرمةِ الحرمِ، [وليسَ في دليلِك ما يَقتضي جوازَه، فهذا قد سَلَّمَ للمُستدلِّ مُقتضى دليلِه، وهو جوازُ استيفاءِ الحدِّ، وادَّعَى بقاءَ الخلافِ في شيءٍ آخَرَ، وهو هتكُ حُرمةِ الحرمِ]

(1)

.

(وَأَنْوَاعُهُ) أي:‌

‌ أنواعُ القولِ بالموجبِ

ثلاثةٌ:

أحدُها: (أَنْ يَسْتَنْتِجَ مُسْتَدِلٌّ) مِن دليلِه (مَا يَتَوَهَّمُهُ مَحَلَّ النِّزَاعِ، أَوْ لَازِمَهُ) أي: لازمَ مَحَلِّ النِّزاعِ، (كـ) أنْ يَقُولَ في (القَتْلِ بِمُثَقَّلٍ: قَتْلٌ بِمَا يَقْتُلُ غَالِبًا، فَلَا يُنَافِي القَوَدَ كَمُحَدَّدٍ، فَيُقَالُ) مِن المُعتَرضِ:(عَدَمُ المُنَافَاةِ لَيْسَ مَحَلَّ النِّزَاعِ وَلَا لَازِمَه) فلا يَلزَمُ مِن عدمِ مُنافاةٍ بينَ شيئينِ ملازمةٌ.

(أَوْ) أي: والنَّوعُ الثَّاني: أنْ يَستنتجَ مُستدلٌّ (إِبْطَالَ مَأْخَذٍ

(2)

يَتَوَهَّمُهُ مَأْخَذَ) أي: مذهبَ (الخَصْمِ كَـ) قولِ الحنبليِّ أيضًا في وجوبِ القصاصِ بالقتلِ بالمُثَقَّلِ: (التَّفَاوُتُ

(3)

فِي الوَسِيلَةِ) أي: في الآلةِ (لَا يَمْنَعُ) وُجوبَ (القَوَدِ، كَـ) التَّفاوتِ في (مُتَوَسَّلٍ إِلَيْهِ) أي: إلى القتلِ، فإِنَّه إذا ذَبَحَه، أو ضَرَبَ عُنقَه، أو طَعَنَه برمحٍ، أو رماه بسهمٍ، أو غيرَ ذلك مِن صورِ القتلِ لم يَمنَعِ القصاصَ، [فكذلك إذا كانَ التَّفاوُتُ في الآلةِ لا يَمنعُ القصاصَ]

(4)

مُحَدَّدَةً كانَتْ أو مُثَقَّلَةً؛ إذِ الحنفيُّ يَرى أنَّ التَّفاوتَ في الآلةِ يَمنَعُ القصاصَ؛ لأنَّ المُثَقَّلَ لَمَّا تقاصَرَ تأثيرُه عنِ المحدَّدِ أَوْرَثَ ذلك شبهةً، والقصاصُ

(1)

ليس في «د» .

(2)

في «مختصر التحرير» (ص 241): ما.

(3)

في «ع» : التفات.

(4)

ليس في «ع» .

ص: 757

حدٌّ يُدْرَأُ بالشُّبهةِ. (فَيُقَالُ) أي: فيقولُ الحنفيُّ: سَلَّمْتُ أنَّ التَّفاوُتَ في الآلةِ لا يَمنَعُ القصاصَ، ولكنْ (لَا يَلْزَمُ مِنْ إِبْطَالِ المَانِعِ) للقصاصِ (عَدَمُ كُلِّ مَانِعٍ) أي: لا يَلزَمُ مِن ذلك وجوبُ القصاصِ الَّذِي هو مَحَلُّ النِّزاعِ، فيَجوزُ ألَّا يَجِبَ لمانعٍ آخَرَ، (وَ) لا يَلزَمُ مِن إبطالِ المانعِ أيضًا (وُجُودُ الشَّرْطِ

(1)

للقصاصِ (وَ) لا وجودُ (المُقْتَضِي) لَهُ بل إِنَّمَا يَلْزَمُ ثبوتُ القصاصِ مِن وجودِ مُقتضيه، وهو السَّببُ الصَّالحُ لإثباتِه، ولهذا يَجِبُ القصاصُ عندي بالقتلِ بالسَّيفِ أو السِّكِّينِ أو نحوِهما من الآلاتِ معَ تَفاوُتِها، لكنْ لَمَّا كانَتْ صالحةً للإزهاقِ بالسَّرَيَانِ في البدنِ بخلافِ المُثَقَّلِ.

تنبيهٌ: أكثرُ القولِ بالموجبِ مِن غلطِ المآخِذِ لخفائِها وقِلَّةِ المُطَّلِعِينَ على أسرارِها، وقِلَّةِ العارفينَ بهذا النَّوعِ، بخلافِ الحُكمِ المختلفِ فيه، فإِنَّه مشهورٌ، فكم مَن يَعرِفُ مَحَلَّ الخلافِ، ولكنْ لا يَعرِفُ المأخذَ.

(وَيُصَدَّقُ مُعْتَرِضٌ) على الصَّحيحِ (إِنْ قالَ: لَيْسَ ذَا) أي: ما ذَهَبَ إليه المُستدلُّ (مَأْخَذِي) أي: مأخذَ إمامي، فالمُعتَرضُ أَعرَفُ بمذهبِه ومذهبِ إمامِه، ثمَّ لو لَزِمَه إبداءُ المأخذِ، فإنْ مَكَّنَّا المُستدلَّ مِن إبطالِه، صارَ معتَرضًا، وإلَّا فلا فائدةَ.

(أَوْ) أي: والنَّوعُ الثَّالثُ: (أَنْ يَسْكُتَ) المُستدلُّ (فِي دَلِيلِهِ عَنْ صُغْرَى قِيَاسِهِ) بأنْ يَكُونَ دليلُه مقتصرًا على المقدِّمةِ الكُبْرى مسكوتًا عنِ الصُّغرى، فيَرُدَّ القولَ بالموجبِ مِن أجلِ حَذفِها.

(وَ) يُشترَطُ في الصُّغرى المسكوتِ عنها أنْ تَكُونَ (لَيْسَتْ مَشْهُورَةً) أمَّا لو كانَتْ مشهورةً فإنَّها تَكُونُ كالمذكورةِ، فيُمنَعُ ولا يُؤتَى بالقولِ

(1)

في «مختصر التحرير» (ص 2419): الشروط.

ص: 758

بالموجبِ، وذلك (كَـ) أنْ يَقُولَ الحنبليُّ في وجوبِ نِيَّةِ الوضوءِ:(كُلُّ قُرْبَةٍ شَرْطُهَا النِّيَّةُ) يَعني: كلُّ ما كانَ قُربةً اشتُرِطَ فيه النِّيَّةُ كالصَّلَاةِ (وَيُسْكَتُ عَنْ) قولِه: (وَالوُضُوءُ قُرْبَةٌ، فَيُقَالُ) أي: فإذا اعترضَ بالقولِ بالموجبِ، قالَ: هذا مُسَلَّمٌ (أَقُولُ بِمُوجَبِهِ، وَلَا يُنْتِجُ) ذلك، فمَن أين يَلْزَمُ اشتراطُ النِّيَّةِ في الوضوءِ؟ وإنَّما وَرَدَ هذا لكَوْنِ الصُّغرى محذوفةً. (وَلَوْ ذَكَرَهَا) المستدلُّ (لَمْ) يَتَوَجَّهْ للمُعتَرضِ اعتِراضٌ بالقولِ بالموجَبِ وَلَمْ (يُرِدْ إِلَّا مَنْعَهَا) بأنْ يَقُولَ له: لا أُسَلِّمُ أنَّ الوضوءَ قُربةٌ.

تنبيهٌ: لَيْسَ في هذا النَّوعِ انقطاعٌ لأحدِ المتناظرينِ لاختلافِ مُرادِهما؛ لأنَّ مرادَ المستدلِّ أنَّ الصُّغرى وإنْ كانَتْ محذوفةً لفظًا، فإنَّها مذكورةٌ تقديرًا، والمجموعُ يُفيدُ المطلوبَ، ومرادُ المُعتَرضِ أنَّ المذكورَ لَمَّا كانَتِ الكُبرى وَحدَها وهي لا تُفيدُ المطلوبَ تَوَجَّهَ الاعتِراضُ بخِلافِ النَّوعينِ الأَوَّلَينِ، ففيهما انقطاعٌ لأحدِهما؛ لأنَّ المستدلَّ إنْ أَثْبَتَ ما ادَّعاه انقطعَ المُعتَرضُ.

(وَجَوَابُ) النَّوعِ (الأَوَّلِ: بِأَنَّهُ) أي: المستنتجَ (مَحَلُّ النِّزَاعِ أَوْ لَازِمُهُ) أي: مستلزمٌ لمحلِّ النِّزاعِ، مثلُ أنْ يَقُولَ حنبليٌّ: لا يَجُوزُ قتلُ المسلمِ بالذِّمِّيِّ قياسًا على الحربيِّ، فيُقالُ بمُوجَبِه؛ لأنَّه يَجِبُ قتلُه به، وقولُكم: لا يَجُوزُ نفيٌ للإباحةِ الَّتي مَعناها استواءُ الطَّرفَينِ، ونفيُها لَيْسَ نفيًا للوجوبِ ولا مُستلزمًا له، فيَقُولُ الحنبليُّ: أعني: بـ «لا يَجُوزُ» تحريمُه، ويَلْزَمُ منه عدمُ الوجوبِ.

(و) جوابُ النَّوعِ (الثَّانِي) بأنْ يُبَيِّنَ المستدلُّ في المُستنتَجِ (أَنَّهُ المَأْخَذُ) أي: مأخذُ الخصمِ بالنَّقلِ عن أئمَّةِ المذهبِ (لِشُهْرَتِهِ).

(و) جوابُ النَّوعِ (الثَّالثِ: بِجَوَازِ الحَذْفِ) للمُقدِّمةِ الصُّغرى عندَ العِلمِ بالمحذوفِ والمحذوفُ مرادٌ ومعلومٌ، والدَّليلُ هو المجموعُ لا المذكورُ

ص: 759

وَحدَه، وكتبُ الفقهِ مشحونةٌ بذلك، بل لا يَكادُ يُوجَدُ ذِكرُ المُقدِّمتَينِ في قياسٍ إلَّا نادرًا قصدًا للاختصارِ والاشتهارِ أو للقرينةِ ونحوِها، فلهذا قالَ:(وَيُجَابُ فِي الكُلِّ) أي: الأنواعِ الثَّلاثةِ (بِقَرِينَةٍ، أَوْ عَهْدٍ، وَنَحْوِهِ).

فائدةٌ: ذَكَرَ الطُّوفِيُّ أنَّ مَوْرِدَ القولِ بالموجَبِ أي المحلِّ الَّذِي يَرِدُ فيه مِن الأحكامِ أو مِن الدَّعاوى إمَّا النَّفيُ أو الإثباتُ، ثمَّ قالَ: وأجودُ مِن هذا أنْ يُقالَ: القولُ بالمُوجَبِ إمَّا أن يَرِدَ من المُعْتَرِضِ دَفعًا عن مذهبِه، أو إبطالًا لمذهبِ المستدلِّ باستيفاءِ الخلافِ معَ تسليمِ مُقتضى دليلِه

(1)

.

إذا عَرَفْتَ ذلك، فمثالُ القولِ بالموجَبِ

(2)

في النَّفيِ: التَّفاوُتُ في الآلةِ لا يَمنَعُ القصاصَ كما تَقَدَّمَ، (وَ) مثالُه (فِي الإِثْبَاتِ كَـ) أنْ يَقُولَ الحنفيُّ في وجوبِ الزَّكاةِ فِي (الخَيْلِ: حَيَوَانٌ يُسَابَقُ عَلَيْهِ، فَـ) تَجِبُ (فِيهِ الزَّكَاةُ كَالإِبِلِ

(3)

، فَيُقَالُ) أي: فيَقُولُ المُعتَرضُ: أقولُ (بِمُوجَبِهِ فِي زَكَاةِ التِّجَارَةِ

(4)

يعني تَجِبُ فيها زكاةُ القيمةِ إذا كانَتْ للتِّجارةِ، (فَيُجَابُ) مثلُ هذا (بِلَامِ العَهْدِ) بأن يَقُولَ المُستدلُّ: النِّزاعُ إِنَّمَا كانَ في زكاةِ العينِ، وقد عُرِّفَتِ الزَّكاةُ باللَّامِ فيَنصرِفُ إلى مَحَلِّ النِّزاعِ المعهودِ، وهو زكاةُ العينِ، فالعُدُولُ إلى زكاةِ القيمةِ لا يُسمَعُ؛ لأنَّه تركٌ لمدلولٍ إلى غيرِه، (وَالسُّؤَالُ عَنْ زَكَاةِ السَّوْمِ) فقِيلَ: لا يَصِحُّ هذا المثالُ لوجوبِ استقلالِ العِلَّةِ بلَفظِها، (وَيَصِحُّ فِي قَوْلِ) الموفَّقِ وغيرِه.

قالَ ابنُ مُفلحٍ: أمَّا مثلُ قولهِ في إزالةِ النَّجاسةِ بالخلِّ: «مَائِعٌ كالمرقِ» فيُقالُ بموجَبِه في خلٍّ نجسٍ؛ فلا يَصِحُّ

(5)

.

(1)

«شرح مختصر الروضة» (3/ 558).

(2)

في «ع» : في الموجب.

(3)

في «مختصر التحرير» (ص 242): كإبل.

(4)

ليس في «د» .

(5)

«أصول الفقه» (3/ 1407).

ص: 760

(خَاتِمَةٌ)

في إيرادِ الأسئلةِ وتَعدُّدِها وتَرَتُّبِها:

(تَرِدُ الأَسْئِلَةُ عَلَى قِيَاسِ الدَّلَالَةِ إِلَّا مَا تَعَلَّقَ بِمُنَاسَبَتِهِ الجَامِعُ) بينَ الأصلِ والفرعِ، فلا يَرِدُ على قياسِ الدَّلالةِ؛ لأنَّه لَيْسَ بعِلَّةٍ فيه، وسَبَقَ أنَّ عدمَ التَّأثيرِ لا يَرِدُ على قياسِ الدَّلالةِ؛ لأنَّه لا يَلْزَمُ مِن عدمِ الدَّليلِ عدمُ المدلولِ.

(وَكَذَا) أي: ومثلُه (قِيَاسٌ فِي مَعْنَى الأَصْلِ) وسَبَقَ تعريفُه قُبَيْلَ القوادحِ، (وَلَا يَرِدُ عَلَيْهِ) أيضًا (ما تَعَلَّقَ بِنَفْسِ الجَامِعِ) لعَدمِ ذِكرِه فيه.

فائدةٌ: الاعتِراضاتُ كُلُّها راجعةٌ عندَ التَّحقيقِ إلى منعِ حالِ الدَّليلِ ليَسْلَمَ مَذهبُ المُعتَرضِ مِن إفسادِه له، أو إلى معارضةِ الدَّليلِ بما يُقاوِمُه أو يَتَرَجَّحُ عليه لتَضعُفَ قُوَّتُه عن إفسادِ مذهبِ المُعتَرضِ، وذلك لأنَّ المُعتَرضَ معَ المستدلِّ كسلطانٍ في بلادِه وقِلاعِه وحُصونِه دَهَمَ سُلطانًا آخَرَ يُريدُ أخذَ بلادِه منه، فالملكُ الَّذِي هو صاحبُ تلك البلادِ يَتَوَصَّلُ إلى الاعتصامِ مِن المَلكِ الواردِ عليه، إمَّا بأنْ يَمنَعَه مِن دخولِ أرضِه بمانِعٍ يَجعَلُه بينَ يَديْه مِن إرسالِ ماءٍ، أو نارٍ، أو خندقٍ، أو غيرِ ذلك بأنْ يُعارِضَ جيشَه بجيشٍ مِثلِه أو أقوى منه ليَمنَعَ

(1)

استيلاءَه أو يطرُدَه، فكذا المستدلُّ إذا نَصَبَ الدَّليلَ وقَرَّرَه فهو مُبطِلٌ لمذهبِ المُعتَرضِ، إمَّا تصريحًا أو لزومًا فيَحتاجُ المُعتَرضُ إلى منعِ دليلِه أو إلى معارضتِه، وقد يَجمَعُ بينَهما بأنْ يَقُولَ: لا نُسَلِّمُ أنَّ دليلَك يُفيدُ ما ادَّعَيتَ، ولَئِنْ سَلَّمْناه لكنَّه معارِضٌ بكذا والمعارضةُ أيضًا راجعةٌ إلى المنعِ؛ لأنَّها منعٌ للعلَّةِ عن الجَرَيَانِ.

(1)

في «ع» : لمنع.

ص: 761

إذا عُلِمَ ذلك فالاعتِراضاتُ تَكُونُ

(1)

مِن جنسٍ واحدٍ كالنُّقوضِ والمعارضاتِ في الأصلِ والفرعِ، ومِن أجناسٍ مختلفةٍ كالمنعِ والمطالبةِ والنَّقضِ والمعارضةِ، فإنْ كانَتْ مِن جنسٍ واحدٍ جازَ إيرادُها معًا اتِّفاقًا؛ إذ لا يَلْزَمُ مِنه تناقضٌ [ولا انتقالٌ]

(2)

مِن سؤالٍ إلى آخَرَ.

(وَ) إنْ كانَتْ مِن أجناسٍ فقد (مُنِعَ) عندَ الأكثرِ: (تَعَدُّدُ اعْتِرَاضَاتٍ مُرَتَّبَةٍ)؛ لأنَّ في تَعدُّدِها تسليمَها

(3)

للمُقَدِّمِ؛ لأنَّ المُعتَرضَ إذا طَالَبَه بتأثيرِ الوصفِ بعدَ أنْ مَنَعَ وجودَ الوصفِ، فقد نَزَلَ عنِ المنعِ وسَلَّمَ وجودَ الوصفِ الَّذِي هو المُقَدَّمُ؛ لأنَّه لو أَصَرَّ على وجودِ الوصفِ لَما طالَبَه بتأثيرِ الوصفِ؛ لأنَّ تأثيرَ ما لا وجودَ له محالٌ، فلا يَستحقُّ المُعتَرضُ غيرَ جوابِ الأخيرِ، فيَتَعَيَّنُ الآخَرُ للوُرودِ فقطْ.

و (لَا) يُمنَعُ مِن تعدُّدِ اعتِراضاتٍ (غَيْرِ مُرَتَّبَةٍ) عندَ الجمهورِ (وَلَوْ) كانَتْ (مِنْ أَجْنَاسٍ، وَ) حيثُ جَازَ تعدُّدُ الاعتِراضاتِ فإِنَّه (يَكْفِي) المُستدلَّ (جَوَابُ آخِرِهَا) لكنْ ذَكَرَ ابنُ عقيلٍ في الجدلِ أنَّ الجوابَ إذا زادَ أو نَقَصَ لم يُطابِقِ السُّؤالَ لعُدولِه عن مطلوبِه.

قالَ ابنُ مُفْلِحٍ: والصَّحيحُ خلافُ هذا، وعليه عملُ أكثرِ الجَدلِيِّينَ

(4)

.

تَتِمَّةٌ: ترتيبُ الأسئلةِ وهو جَعلُ كلِّ سؤالٍ في رُتبتِه على وجهٍ لا يُفضي بالتَّعرُّضِ إلى المنعِ بعدَ التَّسليمِ، واتَّفقوا على أنَّ ترتيبَها على هذا الوجهِ أَوْلى.

(1)

ليس في «د» .

(2)

ليس في «ع» .

(3)

في «ع» : تسليمًا.

(4)

«أصول الفقه» (3/ 1411).

ص: 762

إذا عَرَفْتَ ذلك، فبعضُ الأسئلةِ مُقَدَّمٌ طبعًا على بعضٍ فلْيُقَدَّمْ وَضعًا، فيُقَدَّمُ الاستفسارُ ليُعرَفَ ما يَرِدُ على اللَّفظِ، ثمَّ فسادُ الاعتبارِ؛ لأنَّه نظرٌ في فسادِ القِيَاسِ جملةً، وهو قبلَ النَّظرِ في تفصيلِه، ثمَّ فسادُ الوضعِ؛ لأنَّه أخصُّ ممَّا تَلَاه، والنَّظرُ في الأعمِّ مُقَدَّمٌ على النَّظرِ في الأخصِّ، ثمَّ ما يَتَعَلَّقُ بالأصلِ على ما تَعَلَّقَ بالعلَّةِ؛ لأنَّ العِلَّةَ مُستنبطةٌ مِن حُكمِ الأصلِ، ثمَّ ما يَتَعَلَّقُ بالعلَّةِ على ما تَعَلَّقَ بالفرعِ؛ لأنَّ الفرعَ يَتَوَقَّفُ على العِلَّةِ، ثمَّ المطالبةُ بتأثيرِ الوصفِ وسؤالُ عدمِ التَّأثيرِ والقدحِ في المناسبةِ والتَّقسيمِ، وكَوْنُ الوصفِ غيرَ ظاهرٍ ولا يَنضبطُ، وكَوْنُ الحُكمِ غيرَ مُفْضٍ إلى المقصودِ منه لكونِ هذه الأسئلةِ صفةَ وجودِ العِلَّةِ، ويُقَدَّمُ النَّقضُ والكسرُ على المعارضةِ؛ لأنَّ النَّقضَ يُورَدُ لإبطالِ العِلَّةِ، والمعارضةَ تُورَدُ لاستقلالِها، والعِلَّةُ مقدَّمةٌ على استقلالِها، ثمَّ المعارضةُ

(1)

الأصلُ والتَّركيبُ لكَوْنِه معارضًا للعلَّةِ، ثمَّ مَنعُ وجودِ العِلَّةِ في الفرعِ ومخالفةُ حُكمِه لحكمِ الأصلِ، ومخالفتُه للأصلِ في الضَّابطِ أو الحكمةِ، والمعارضةُ في الفرعِ، وسؤالُ القلبِ لكَوْنِه نظرًا فيما يَتَعَلَّقُ بالفرعِ التَّابعِ للأصلِ، ثمَّ القولُ بالموجَبِ لتَضمُّنِه تسليمَ كلِّ ما تَعَلَّقَ بالدَّليلِ المثمِرِ له.

وذَكَرَ الآمِدِيُّ في «المنتهى» أنَّ الأسئلةَ خمسةٌ وعشرونَ سؤالًا، وذَكَرَها في الجدلِ الَّذِي له إحدى وعشرينَ، وذَكَرَها على ضَربينِ: أحدِهما يَرجِعُ إلى تحقيقِ أمورٍ فقهيَّةٍ وإلزاماتٍ أحكاميَّةٍ، والثَّاني يَرجِعُ إلى مناسباتٍ جدليَّةٍ ومُؤاخَذاتٍ لفظيَّةٍ.

(1)

زاد في «ع» : ثم.

ص: 763

فالأوَّلُ وهو أهمُّها يَنحَصِرُ في أسئلةٍ عشرةٍ، وهي: فسادُ الاعتبارِ، فسادُ الوضعِ، منعُ حُكْمِ الأصلِ، سؤالُ الاستفسارِ، منعُ وجودِ الوصفِ في الفرعِ، منعُ عِلِّيَّةِ الوصفِ المذكورِ ويُلقّبُ بسؤالِ المُطالبةِ، النَّقضُ، المعارضةُ في الأصلِ، منعُ وجودِ العِلَّةِ في الفرعِ، القولُ بالموجَبِ.

الضَّربُ الثَّاني وهو أَحَدَ عَشَرَ سؤالًا: عدمُ التَّأثيرِ، الكسرُ، العكسُ، التَّقسيمُ، بيانُ اختلافِ المَظِنَّةِ في الفرعِ والأصلِ معَ اتِّحادِ جنسِ المصلحةِ، بيانُ اختلافِ جنسِ المصلحةِ معَ اتِّحادِ المَظِنَّةِ عَكْسُ الَّذِي قَبْلَه، بيانُ اختلافِ حُكْمِ الأصلِ والفرعِ كقياسِ التَّحريمِ على الوجوبِ أو الوجوبِ على التَّحريمِ، المعارضةُ في الأصلِ، المعارضةُ في الفرعِ، القلبُ، سؤالُ التَّركيبِ، فهذه واحدٌ وعشرون سؤالًا.

قالَ الطُّوفِيُّ: والأشبهُ أنَّ كلَّ ما قَدَحَ في الدَّليلِ اتَّجَهَ إيرادُه، كما أنَّ كلَّ سلاحٍ صَلُحَ للتَّأثيرِ في العدوِّ يَنبغي استصحابُه

(1)

.

ص: 764

(فَصْلٌ)

في أحكامِ الجَدلِ وحدِّه وصِفتِه وآدابِه

(الجَدَلُ) له معنيانِ: مَعنًى في اللُّغةِ، ومَعنًى في الاصطلاحِ.

فاللُّغةُ: جَدَلَه يَجْدُِلُه: أَحْكَمَ فَتْلَه، والجَدَلُ: اللَّدَدُ في الخصومةِ والقدرةُ عليها. جَادَلَه فهو جَدِلٌ، ككَتِفٍ، ومِجْدَلٌ كمِنْبَرٍ، ومِجْدَالٌ كمِحْرَابٍ، والإِجْدَالُ: هو الظَّفَرُ، وجَدَلْتُ الحبلَ [أَجْدُلُه جَدْلًا]

(1)

: فَتَلْتُه فَتْلًا مُحْكَمًا والجَدَالَةُ الأرضُ. يُقالُ: طَعَنَه فجَدَلَه؛ أي: رَمَاه بالأرضِ، فانْجَدَلَ؛ أي: فسَقَطَ، وجَادَلَه؛ أي: خاصَمَه مُجادَلَةً وجِدَالًا.

(وَ) أمَّا حدُّ الجَدلِ اصطلاحًا فـ (هُوَ فَتْلُ الخَصْمِ عَنْ قَصْدِهِ) أي: فتلُ المُجادِلِ للخصمِ عنْ مذهبِه بالمُحَاجَّةِ فيه (لِطَلَبِ صِحَّةِ قَوْلِهِ) أي: المُجادِلِ (وَإِبْطَالُ) قَوْلِ (غَيْرِهِ) ولا يَخلُو إمَّا أنْ يَكُونَ فَتْلًا على طريقةِ السُّؤالِ، أو على طريقةِ الجوابِ، فطريقةُ السُّؤالِ للهدمِ للمذهبِ كما أنَّ طريقةَ الجوابِ البناءُ للمذهبِ؛ لأنَّ على المجيبِ أن يَبنيَ مذهبَه على الأصولِ الصَّحيحةِ وعلى السَّائلِ أنْ يُعجِزَه عن ذلك، أو عن الانفصالِ ممَّا يَلْزَمُ عليه من الأمورِ الفاسدةِ فأحدُهما معجزٌ عن قيامِ الحُجَّةِ على المذهبِ، والآخرُ مُبَيِّنٌ لقيامِ الحُجَّةِ عليه، وذلك ممَّا يَدَّعِيه كلُّ واحدٍ إلى أنْ يَظهَرَ ما يُوجِبُ استقلالَ أَحدِهما على الآخَرِ بالحُجَّةِ.

وكلُّ جدلٍ فإِنَّما يُحتاجُ إليه لأجلِ الخلافِ في المذهبِ، ولو ارتفعَ الخلافُ: لم يَصِحَّ جدلٌ.

(1)

ليس في «د» .

ص: 765

وهو (مَأْمُورٌ بِهِ

(1)

عَلَى وَجْهِ الإِنْصَافِ وَإِظْهَارِ الحَقِّ) لأنَّ الغرضَ بالجدلِ مِن المنصفِ نقلُ المخالفِ عن الباطلِ إلى الحقِّ، وعن الخطأِ إلى الإصابةِ. وما سوى هذا فلَيْسَ بغرضٍ صحيحٍ، مثلُ بيانِ غَلَبَةِ الخصمِ وصناعةِ المجادلةِ، ويَدُلُّ عليه القرآنُ العظيمُ، قالَ اللهُ تَعالى:{وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}

(2)

{وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}

(3)

.

(وَ) قد (فَعَلَهُ الصَّحَابَةُ) رضي الله عنهم كما فَعَلَ ذلك ابنُ عبَّاسٍ لَمَّا جادَلَ الخوارجَ والحَرُورِيَّةَ، ورَجَعَ منهم عن مقالتِه خلقٌ كثيرٌ، وكذلك غيرُه.

(وَ) فَعَلَه (السَّلَفُ) كعمرَ بنِ عبدِ العزيزِ، فإِنَّه أيضًا جادَلَ الخوارجَ ورَجَعَ إليه في بعضِ المسائلِ، وكذلك غيرُهم، وهم السَّادةُ القادةُ المُقتَدَى بهم في أقوالِهم وأفعالِهم، وكلُّهم قَصَدَ بذلك إظهارَ الحقِّ وإعلاءَه وإبطالَ غيرِه وإخمادَه.

(فَأَمَّا) إذا كانَ الجدلُ (عَلَى وَجْهِ الغَلَبَةِ وَالخُصُومَةِ وَالغَضَبِ وَالمِرَاءِ) قالَ بعضُ أصحابِنا: قد

(4)

نُهِينا عن جميعِ هذا، يُقال: مَارَى يُمَارِي مُمَارَاةً وَمِرَاءً؛ أي: جَادَلَ، (وَ) المِراءُ (هُوَ اسْتِخْرَاجُ غَضَبِ المُجَادَلِ) مِن قولِهم: مَرَيْتُ الشَّاةَ إذا اسْتخرَجْتُ لَبَنَها، وذلك يَقدَحُ الشَّكَّ في القلبِ، (فَـ) هو (مُزِيلٌ عَنْ طَرِيقِ الحَقِّ) وإنْ أصابَ صاحبُه السُّنَّةَ والحقَّ (وَإِلَيْهِ انْصَرَفَ النَّهْيُ عَنْ:«قِيلَ وَقَالَ» )، ولم يَبْلُغْنا عن أحدٍ مِن فُقهائِنا وعلمائِنا أنَّه جادَلَ أو ناظَرَ أو خاصَمَ.

(1)

قوله: مأمور به. في «مختصر التحرير» (ص 244): دل القرآن على الأمر به.

(2)

النحل: 125.

(3)

العنكبوت: 46.

(4)

في «د» : وقد.

ص: 766

(وَفِيهِ) أي: المراءِ والجدلِ (غَلْقُ بَابِ الفَائِدَةِ، وَفِي المُجَالَسَةِ لِلْمُنَاصَحَةِ فَتْحُهُ) وفي «فنونِ» ابنِ عقيلٍ: قالَ بعضُ مشايخِنا المُحقِّقينَ: إذا كانَتْ مجالسُ النَّظرِ مَشحونةً بالمُحاباةِ لأربابِ المناصبِ تَقَرُّبًا، وللعَوَامِّ تَخَوُّنًا، وللنُّظراءِ تَعَمُّلًا وتَجَمُّلًا، ثمَّ إذا لاحَ دليلٌ خَوَّنْتُمُ اللَّائِحَ وأَطفَأْتُم مصباحَ الحقِّ، هذا واللهِ الإياسُ مِن الخيرِ مُصيبةٌ عَمَّتِ العقلاءَ في أديانِهم، وتَركُ المحاباةِ في أَموالِهم، ما ذاك إلَّا لأنَّهم لم يَشُمُّوا رِيحَ اليقينِ.

(وَ) أمَّا (مَا يَقَعُ) مِن الجدلِ (بَيْنَ أَرْبَابِ المَذَاهِبِ أَوْفَقُ مَا يُحْمَلُ الأَمْرُ فِيهِ بِأَنْ يَخْرُجَ مَخْرَجَ الإِعَادَةِ وَالدَّرْسِ) قاله ابنُ هُبَيْرَةَ

(1)

.

(فَأَمَّا اجْتِمَاعُ) جَمْعٍ (مُتَجَادِلِينَ) في مسألةٍ (كُلٌّ مِنْهُمْ لَا يَطْمَعُ أَنْ يَرْجِعَ إِنْ ظَهَرَتْ حُجَّةٌ، وَلَا فِيهِ مُؤَانَسَةٌ وَمَوَدَّةٌ وَتَوْطِئَةُ القُلُوبِ لِوَعْيِ حَقٍّ) بل هو على الضِّدِّ فتَكَلَّمَ فيه العلماءُ وهو (مُحْدَثٌ

(2)

مَذْمُومٌ) وعليه يُحمَلُ ما رَوَاه أحمدُ

(3)

والتِّرمذيُّ

(4)

وصَحَّحَه عن أبي غالبٍ وهو مُختلَفٌ فيه عن أبي أُمامَةَ مرفوعًا: «مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إِلَّا أُوتُوا الجَدَلَ -ثُمَّ تَلَا-: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا}

(5)

».

وللتِّرمذيِّ عن ابنِ عبَّاسٍ مرفوعًا: «لَا تُمَارِ أَخَاكَ»

(6)

.

(1)

ينظر: «أصول الفقه» (3/ 1413)، و «شرح الكوكب المنير» (4/ 366).

(2)

في «مختصر التحرير» (ص 244): فمحدث.

(3)

«مسند أحمد» (22594).

(4)

«جامع الترمذي» (3253) وقال: حسن صحيح.

(5)

الزخرف: 58.

(6)

«جامع الترمذي» (1995) وقال: غريب.

ص: 767

قالَ في «الواضح» : وكلُّ جدلٍ لم يَكُنِ الغرضُ فيه نصرةُ الحقِّ، فإِنَّه وبالٌ على صاحبِه، والمَضَرَّةُ فيه أكثرُ مِن المنفعةِ؛ لأنَّ المخالفةَ تُوحِشُ

(1)

.

(وَلَوْلَا مَا يَلْزَمُ مِنْ إِنْكَارِ البَاطِلِ وَاسْتِنْقَاذِ الهَالِكِ بِالِاجْتِهَادِ فِي رَدِّهِ عَنْ ضَلَالَتِهِ لَمَا حَسُنَ) الجدلُ؛ (لِلْإِيحَاشِ) فيه (غَالِبًا، وَلَكِنْ

(2)

فِيهِ أَعْظَمُ المَنْفَعَةِ معَ قَصْدِ نُصْرَةِ الحَقِّ) بِهِ (أَوْ) معَ قَصْدِ (التَّقَوِّي عَلَى الِاجْتِهَادِ)، و (لَا) منفعةَ فيه معَ قَصْدِ (المُغَالَبَةِ وَبَيَانِ الفَرَاهَةِ نَعُوذُ بِاللهِ) تَعَالَى (مِنْهُمَا)، ويَنبغي أنْ يَجْتَنِبَه (فَإِنَّ طَلَبَ الرِّيَاسَةِ فِي التَّقَدُّمِ بِالعِلْمِ يُهْلِكُ).

(وَالمُعَوَّلُ فِيهِ) أي: الجدلِ (عَلَى إِظْهَارِ الحُجَّةِ وَإِبْطَالِ الشُّبْهَةِ فَيُرْشِدُ المُسْتَرْشِدَ وَيُحَذِّرُ المُنَاظِرَ).

قالَ ابنُ الجَوزيِّ في قولِه تَعالى: {فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ}

(3)

أي: في الذَّبائحِ؛ أي: فلا تُنَازِعْهم، ولهذا قالَ:{وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ}

(4)

، وهذا أدبٌ حَسنٌ عَلَّمَه اللهُ تَعَالَى عبادَه ليَرُدُّوا به مَن جادَلَ تَعَنُّتًا ولا يُجِيبُوه

(5)

.

(فَلَوْ بَانَ لَهُ) أي: المجادلِ (سُوءُ قَصْدِ خَصْمِهِ: تَوَجَّهَ تَحْرِيمُ مُجَادَلَتِهِ) وهو الصَّحيحُ مِن المذهبِ كدُخولِ مَن لا جُمُعَةَ عليه في البيعِ معَ مَن تَلْزَمُه.

(وَيَبْدَأُ كُلٌّ مِنْهُمَا)[أي: مِن أَدَبِ الجدلِ أنْ يَبْدَأَ كلُّ واحدٍ مِن المتجادلَينِ]

(6)

(بِحَمْدِ اللهِ تَعَالَى وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ) عز وجل؛ لحديثِ: «كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ

لَمْ يُبْدَأْ فِيهِ

(1)

«الواضح في أصول الفقه» (1/ 517).

(2)

في «مختصر التحرير» (ص 244): لكن.

(3)

الحج: 67.

(4)

الحج: 68.

(5)

«زاد المسير» (3/ 249).

(6)

ليس في «د» .

ص: 768

بِبِسْمِ اللهِ فَهُوَ أَبْتَرُ»

(1)

، ولأنَّ الحمدَ والثَّناءَ عليه تَعَالَى ممَّا يُعينُ على تحصيلِ التَّوفيقِ للحقِّ والإعانةِ على الصَّوابِ.

و‌

‌مِن أدبِ الجدلِ:

أنْ يَجعَلَ السَّائلُ والمسؤولُ قَصدَهما نُصرةَ اللهِ ببيانِ الحُجَّةِ ودحضِ الباطلِ بإبطالِ الشُّبهةِ؛ لتَكُونَ كلمةُ اللهِ هي العُليا، وهذا أعلى المقاصدِ الثَّلاثةِ.

والثَّاني: الإدمانُ للتَّقَوِّي على الاجتهادِ [مِن مراتبِ الدِّينِ، فالأُولى كالجهادِ، والثَّانيةُ كالمناضلةِ الَّتي يُقصَدُ بها التَّقوِّي على الاجتهادِ]

(2)

، ونَعوذُ باللهِ مِن الثَّالثةِ: وهي المغالبةُ وبيانُ الفراهةِ على الخصمِ، والتَّرجيحُ عليه في الطَّريقةِ.

(وَلِلسَّائِلِ إِلْجَاءُ مَسْؤُولٍ إِلَى الجَوَابِ) أي: له مضايقتُه إليه قالَ في «التوضيح»

(3)

: يَنبغي للسَّائلِ أن يَنظُرَ إلى المعنى المطلوبِ في السُّؤالِ، فإنْ عَدَلَ المجيبُ لم يَرضَ منه إلَّا بالرُّجوعِ إلى جوابِ ما سَأَلَه عنه.

مثالُه: أن يَقُولَ السَّائلُ: هل يَحرُمُ النَّبيذُ؟ فيَقولَ المجيبُ: قد حَرَّمَه قومٌ مِن العلماءِ.

هذا عندَ أهلِ الجدلِ لَيْسَ بجوابٍ، وللسَّائلِ أنْ يُضايِقَه في ذلك بأنْ يَقولَ: لم أَسألك عن هذا، ولا بانَ مِن سؤالي إيَّاك جهلي بأنَّ قومًا حَرَّمُوه، ولا سَأَلْتُك عن مذهبِ النَّاسِ فيه، بل سَأَلْتُك: أحرامٌ هو؟ فجوابي أنْ تَقولَ: حرامٌ، أو: لَيْسَ بحرامٍ، أو: لا أَعلَمُ، فإذا ضَايَقَه أَلْجَأَه إلى الجوابِ.

(1)

سبق تخريجه.

(2)

ليس في «د» .

(3)

كذا، والمقصود:«الواضح في أصول الفقه» (4/ 373).

ص: 769

(فَيُجِيبُ، أَوْ يُبَيِّنُ عَجْزَهُ) بتحقيقِ الجوابِ (وَلَا يُجِيبُ) مسؤولٌ سائلًا

(1)

(مُفْصِحًا) بسؤالِه (تَعْرِيضًا) بالجوابِ. فإذا سَأَلَه السَّائلُ بالإفصاحِ لم يَقنَعْ بالجوابِ إلَّا بالإفصاحِ.

قالَ في «الواضح» : ولا يَصِحُّ الجدلُ معَ الموافقةِ في المذهبِ، إلَّا أنْ يَتَكَلَّمَا على طريقِ المُباحثةِ، فيُقَدِّرون الخِلافَ لتَصِحَّ المطالبةُ ويتَمَكَّنُ مِن الزِّيادةِ، وليسَ على المسؤولِ أنْ يُجِيبَ السَّائلَ عن كلِّ ما سَأَلَه عنه

(2)

.

(وَعَلَيْهِ أَنْ يُجِيبَهُ فِيمَا فِيهِ خِلَافٌ بَيْنَهُمَا؛ لِتَظْهَرَ حُجَّتُهُ) فيه وسلامتُه مِن المطاعنِ عليه، وإلَّا خرجَ عن حدِّ السُّؤالِ الجدليِّ، والكلامُ في هذا الشَّأنِ إِنَّمَا يُعَوَّلُ فيه على الحُجَّةِ لتَظهَرَ والشُّبهةِ لتَبْطُلَ، وإلَّا فهدرٌ، وهو الَّذِي رُفِعَتْ بشُؤمِه ليلةُ القدرِ، وإليه انْصَرَفَ النَّهيُ عن قِيلَ وقال.

فائدةٌ: الحُجَّةُ لغةً: القصدُ، ومنه حَجُّ البيتِ، وقد يُقالُ للشُّبَهِ: حُجَّةٌ داحضةٌ، ولا يَجُوزُ إطلاقُه حَتَّى يُبَيِّنَ أنَّه استعارةٌ، وما شَهِدَ -بمَعنى حَكَمَ

(3)

- آخرُ حُجَّةٌ، نحوُ: الجسمُ مُحدَثٌ يَشْهَدُ بأنَّ له مُحْدِثًا، وما لا يَشهَدُ دَلالةٌ، كـ: الجسمُ موجودٌ، إلَّا أنَّه كَثُرَ، فوَقَعَتْ موضِعَ الحُجَّةِ، ومِن الفَرقِ إشارةُ الهادي إلى الطَّريقِ والنَّجمِ والرِّيحِ على القبلةِ دَلالةٌ لا حُجَّةٌ، وإن قالَ المجيبُ: لو جازَ كذا لجازَ كذا فهو كقولِ السَّائلِ: إذا كانَ كذا فلم لا يَكُونُ كذا، إلَّا أنَّه لا يَلْزَمُه أن يَأْتيَ بالعلَّةِ الموافقةِ بينَهما؛ لأنَّه مِن فرضِ المجيبِ، ويَلْزَمُ المجيبَ أنْ يُبَيِّنَ له، ولو كَانَ للمجيبِ

أنْ يَقُولَ له: ومِن

(1)

ليس في «د» .

(2)

«الواضح في أصول الفقه» (1/ 309).

(3)

ليس في «د» .

ص: 770

أين اشْتَبَها لكانَ له أن يَصِيرَ سائلًا، وكانَ على السَّائلِ أن يَصِيرَ مُجيبًا وكانَ له أيضًا أنْ يَقُولَ: ولمَ تُنكِرُ تَشابُهَهما والمجيبُ مُدَّعِيه.

(وَلِلسَّائِلِ أَنْ يَقُولَ) لمن أجابَه عن شيءٍ: (لِمَ ذَاكَ؟ فَإِنْ قالَ) المجيبُ: (لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ، قالَ) له السَّائلُ: (دَعْوَاكَ لِعَدَمِ الفَرْقِ كَدَعْوَاكَ لِلْجَمْعِ، وَنَخَالُفِكَ فِيهِمَا.

فَإِنْ قالَ) المجيبُ: (لَا أَجِدُ فَرْقًا، قالَ) له السَّائلُ: (لَيْسَ كُلُّ مَا لَمْ تَجِدْهُ) فرقًا (يَكُونُ بَاطِلًا).

واعلَمْ أنَّ‌

‌ سؤالَ الجدلِ على خمسةِ أقسامٍ:

سؤالٌ عنِ المذهبِ، وسؤالٌ عنِ الدَّليلِ، وسؤالٌ عن وجهِ الدَّليلِ، وسؤالٌ عن تصحيحِ الدَّعوى في الدَّليلِ، وسؤالٌ عن الإلزامِ. وتحسينُ الجوابِ وتحديدُه يَقْوَى به العملُ والعلمُ.

فأوَّلُ ضروبِ الجوابِ: الإخبارُ عن ماهيَّةِ المذهبِ، ثمَّ الإخبارُ عن ماهيَّةِ برهانِه، ثمَّ وجهِ دَلالةِ البُرهانِ عليه، ثمَّ إجراءُ العِلَّةِ في المعلولِ وحياطتُه مِن الزِّيادةِ فيه والنُّقصانِ منه؛ لئلَّا يَلْحَقَ به ما لَيْسَ منه، ويَخرُجَ عنه ما هو منه. والحُجَّةُ في ترتيبِ الجوابِ كالحُجَّةِ في ترتيبِ السُّؤالِ؛ لأنَّ كلَّ ضربٍ مِن ضُرُوبِه مُقابِلٌ لضربٍ مِن ضروبِ السُّؤالِ.

(وَيُشْتَرَطُ: انْتِمَاءُ سَائِلٍ إِلَى مَذْهَبٍ ذِي مَذْهَبٍ لِلضَّبْطِ) وإنْ كانَ الأليقُ بحالِه التَّجرُّدَ عن المذاهبِ لاستِرشادِه، (وَألَّا يَسْأَلَ عَنْ أَمْرٍ جَلِيٍّ) أي: واضحٍ (فَيَكُونَ) إذ ذاك (مُعَانِدًا.

ص: 771

وَيَجُوزُ طَلَبُ المَذْهَبِ لَا وَضْعُهُ وَطَلَبُ [دَلِيلٍ لَهُ]

(1)

،

وَيُكْرَهُ اصْطِلَاحًا تَأْخِيرُ الجَوَابِ) عن السُّؤالِ تأخيرًا (كَثِيرًا).

قالَ في «الإيضاح»

(2)

: اعلمْ أنَّه لا بُدَّ مِن معرفةِ السَّائلِ، والسُّؤالِ، والمسؤولِ، والجوابِ.

أمَّا السَّائلُ: فهو القائلُ: ما حُكمُ اللهِ في هذه الواقعةِ؟ وبعدَ ذِكرِ الحكمِ: ما الدَّليلُ عليه؟ ويَلْزَمُه الانتماءُ إلى مذهبِ ذي مذهبٍ؛ صيانةً للكلامِ عنِ النَّشرِ الَّذِي لا يُجدي، فإنَّ المُستدلَّ إذا ذَكَرَ مثلًا الإجماعَ دليلًا، فلا فائدةَ في تمكينِ السَّائلِ مِن مُمانَعَةِ كَونِه حُجَّةً بعدَما اتَّفَقَ على التَّمسُّكِ به الأئمةُ الأربعةُ وغيرُهم. ويَتَعَيَّنُ عليه قصدُ الاستفهامِ وتركُ العَنَتِ، ولا يُمَكَّنُ المُداخِلُ مِن إيرادِ أمرٍ خارجٍ عنِ الدَّليلِ بالنَّظَرِ إليه يُفسِدُ

(3)

الدَّليلَ كالقلبِ والمُعارضةِ؛ لأنَّ ذلك وظيفةُ المُعتَرضِ،

وأمَّا السُّؤالُ: فهو قولُ القائلِ: ما الحُكمُ في كذا؟ ما الدَّليلُ عليه؟ ونحوَ ذلك.

وأمَّا المسؤولُ: فهو المُتَصَدِّي للاستدلالِ، ويُستَحَبُّ له أن يَأخُذَ في الدَّليلِ عَقِبَ السُّؤالِ عليه، وإنْ أَخَّرَه لم يَكُنْ مُنقطعًا، إلَّا إنْ عَجَزَ عنه مطلقًا،

وأمَّا الجوابُ: فهو الحُكمُ المُفْتَى به، والأَوْلَى أن يَكُونَ الجوابُ مُطابقًا للسُّؤالِ، وإنْ كانَ أعمَّ منه: جازَ، وإنْ كانَ أخصَّ: فاختارَ في «الإيضاحِ» الجوابَ في الفتوى دونَ الدَّليلِ، واللهُ أعلمُ.

(1)

في «ع» : دليله.

(2)

«الإيضاح لقوانين الاصطلاح» ليوسف ابن الجوزي (ص 139).

(3)

في «ع» : يفيد.

ص: 772

(وَلَا يَكْفِي) المجيبَ (عَزْوُ حَدِيثٍ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ) مِن كتبِ الفقهاءِ؛ لأنَّ المطلوبَ مِنه صنعةُ المحدِّثينَ، بل إلى كتابٍ مِنهم غيرِ مشهورِ بالسَّقَمِ.

(وَيَنْقَطِعُ السَّائِلُ: بِعَجْزِهِ عَنْ بَيَانِ السُّؤَالِ، وَ) بيانِ (طَلَبِ الدَّلِيلِ، وَ) طلبِ (وَجْهِهِ) أي: الدَّليلِ (وَ) بِـ (طَعْنِهِ) أي: السَّائلِ (فِي دَلِيلِ المُسْتَدِلِّ، وَ) بِـ (مُعَارَضَتِهِ) لدليلِ المستدلِّ (وَ) بِـ (انْتِقَالِهِ إِلَى دَلِيلٍ آخَرَ، أَوْ) إلى (مَسْأَلَةٍ أُخْرَى قَبْلَ تَمَامِ) المسألةِ (الأُولَى).

قالَ أبو الخطَّابِ: (وَمِنَ الِانْتِقَالِ مَا لَيْسَ انْقِطَاعًا كَمَنْ سُئِلَ عَنْ رَدِّ اليَمِينِ فَبَنَاهُ عَلَى الحُكْمِ بِالنُّكُولِ، أَوْ) سُئِلَ عن (قَضَاءِ صَوْمِ نَفْلٍ فَبَنَاهُ عَلَى لُزُومِ إِتْمَامِهِ،

وَإِنْ طَالَبَهُ) أي: المسؤولَ (السَّائِلُ بِدَلِيلٍ عَلَى مَا سَأَلَهُ فَانْقِطَاعٌ مِنْهُ) أي: السَّائلِ (لِبِنَاءِ بَعْضِ الأُصُولِ عَلَى بَعْضٍ، وَلَيْسَ لِكُلِّهَا) أي: الأصولِ (دَلِيلٌ يَخُصُّهُ،

وَ) يَنقطعُ (المَسْؤُولُ: بِعَجْزِهِ عَنِ الجَوَابِ، وَ) بعجزِه عن (إِقَامَةِ الدَّلِيلِ، وَ) عن (تَقْوِيَةِ وَجْهِهِ) أي: الدَّليلِ (وَ) عن (دَفْعِ الِاعْتِرَاضِ) الواردِ على المسؤولِ.

(وَ) يَنقطِعُ السَّائلُ والمسؤولُ (كِلَاهُمَا: بِجَحْدِ مَا) أي: إنكارِ

(1)

دليلٍ (عُرِفَ مِنْ مَذْهَبِهِ، أَوْ)[إنكارِ دليلٍ (ثَبَتَ بِنَصٍّ وَلَيْسَ مَذْهَبُهُ خِلَافَهُ) أي: لَيْسَ مذهبُ المنكِرِ خلافَ النَّصِّ (أَوْ)]

(2)

بإنكارِ ما ثَبَتَ بـ (إِجْمَاعٍ، وَ) بـ (عَجْزِهِ عَنْ تَمَامِ مَا) أي: سؤالٍ أو جوابٍ (شَرَعَ فِيهِ، وَ) بِـ (خَلْطِ كَلَامِهِ

(1)

في «ع» : بإنكار.

(2)

ليس في «د» .

ص: 773

عَلَى وَجْهٍ لَا يُفْهَمُ) منه (وَ) بِـ (سُكُوتِهِ حَيْرَةً) أي: سكوتِ حيرةٍ (بِلَا عُذْرٍ، وَ) بِـ (تَشَاغُلِهِ بِمَا) أي: بشيءٍ (لَا يَتَعَلَّقُ بِالنَّظَرِ) أي: بالتَّأمُّلِ فيما هم فيه، (وَ) بِـ (غَضَبِهِ، أَوْ قِيَامِهِ فِي غَيْرِ مَكَانِهِ) الأوَّلِ، (وَ) بِـ (سَفَهِهِ عَلَى خِصْمِهِ).

قالَ ابنُ عَقِيلٍ: اعلمْ أنَّ الانقطاعَ: هو العجزُ عن إقامةِ الحُجَّةِ مِن الوجهِ الَّذِي ابْتُدِئَ للمقالةِ، والانقطاعُ في الأصلِ هو الانتفاءُ للشَّيءِ عنِ الشَّيءِ، وذلك أنَّه لا بُدَّ مِن أنْ يَكُونَ انقطاعُ شيءٍ

(1)

، وهو على ضربينِ:

أحدُهما: تباعُدُ شيءٍ عن شيءٍ، كانقطاعِ طرفِ الحبلِ عن جُمْلَتِه، وانقطاعِ الماءِ عن مَجراه.

والآخرُ: عَدَمُ شيءٍ عن شيءٍ، كانقطاعِ ثاني الكلامِ عن ماضيه.

وتقديرُ الانقطاعِ في الجدلِ على أنَّه: انقطاعُ القوَّةِ عنِ النُّصرةِ للمذهبِ الَّذِي شَرَعَ في نُصرتِه

(2)

.

وقال أيضًا: والانقطاعُ أربعةُ أَضرُبٍ: أحدُها: السُّكُوتُ للعجزِ، والثَّاني: جحدُ الضَّروراتِ، ودَفْعُ المُشاهداتِ والمُكابرةُ والبَهتُ، وهذا الضَّربُ شرٌّ مِن الأوَّلِ، والثَّالثُ: المُناقضةُ، والرَّابعُ: الانتقالُ عنِ الاعتلالِ بشيءٍ إلى الاعتلالِ بغيرِه

(3)

.

(وَ) ظَهَرَ من هذا القطعُ بـ (الشَّغَبِ بِالإِيهَامِ بِلَا شُبْهَةٍ) والانقطاعُ بالمُشاغبةِ عجزٌ عنِ الاسْتِتمامِ لِما تَضَمَّنَ مِن نُصرةِ المقالةِ إلى المُمانعةِ

ص: 774

بالإيهامِ مِن غيرِ حُجَّةٍ ولا شبهةٍ، فإنْ تَمَادَى

(1)

المُشَغِّبُ في غَيِّه أَعرَضَ عنه؛ لأنَّ أهلَ العلمِ إِنَّمَا يَتَكَلَّمون على ما فيه حُجَّةٌ أو شُبهةٌ، فإذا عَرِيَ الجدلُ عنِ الأمرينِ إلى الشَّغَبِ لم يَكُنْ فيه فائدةٌ، وكانَ الأَوْلَى بذي الرَّأيِ والعقلِ أنْ يَصُونَ نَفْسَه ويَرغَبَ بوقتِه عنِ التَّضييعِ مَعَه، ولا سِيَّما إنْ أَوْهَمَ الحاضرينَ أنَّه سالكٌ طريقَ الحُجَّةِ بالاستفسارِ عمَّا لا يُستفْهَمُ عن مِثلِه لعدمِ ترديدِه وغموضِه.

(وَلَا يَنْقَطِعُ مَسْؤُولٌ بِتَرْكِ الدَّلِيلِ: لِعَجْزِ فَهْمِ السَّامِعِ) السُّؤالَ (أَوْ) أي: ولا يَنقطعُ مسؤولٌ بـ (انْتِقَالِهِ) مِن دليلٍ (إِلَى) دليلٍ (أَوْضَحَ مِنْهُ) أي: مِن الدَّليلِ الأوَّلِ؛ (لِقِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ) الخليلِ (عَلَيْهِ) الصَّلَاةُ و (السَّلَامُ) معَ نمرودَ، فإِنَّه لَمَّا قابَلَ قولَ الخليلِ في الحياةِ الحقيقيَّةِ بالحياةِ المجازيَّةِ انتقلَ إلى دليلٍ لا يُمكِنُه يُقابِلُ الحقيقةَ فيه بالمجازِ، ومَنِ انتقلَ مِن دليلٍ غامضٍ إلى واضحٍ فذلك طلبٌ للبيانِ.

قالَ ابنُ الجوزيِّ: رأى ضَعْفَ فهمِه لمعارضةِ اللَّفظِ بمِثْلِه معَ اختلافِ الفعلينِ، فانتقلَ إلى حُجَّةٍ أُخرى قصدًا لقطعِه، لا عَجزًا

(2)

.

قالَ الشَّيخُ: حاصلُه: يَجُوزُ الانتقالُ لمصلحةٍ، وليسَ انقطاعًا

(3)

.

(وَمِنْ آدَابِهِ

(4)

أي: الجدلِ (وَتَرْكُهُ) أي: تركُ أدبِ الجدلِ (شَيْنٌ:

- إِجْمَالُ كُلٍّ مِنْهُمَا) أي: الخَصمينِ (خِطَابَهُ معَ الآخَرِ) فإِنَّه يَجِبُ لكلِّ واحدٍ مِنهما على صاحبِه مثلُ ما يَجِبُ للآخَرِ عليه مِن الإجمالِ في خطابِه.

(1)

في «ع» : تبادى.

(2)

«زاد المسير» (1/ 233).

(3)

«المسودة في أصول الفقه» (ص 445).

(4)

في «مختصر التحرير» (ص 248): أدبه.

ص: 775

- (وَ) يَجِبُ (إِقْبَالُهُ عَلَيْهِ،

- وَتَأَمُّلُهُ لِمَا يَأْتِي بِهِ،

- وَتَرْكُ قَطْعِ كَلَامِهِ،

- وَ) تركُ (الصِّيَاحِ فِي وَجْهِهِ،

- وَالـ) ـتَّجنُّبُ لـ (حِدَّةِ وَالضَّجَرِ عَلَيْهِ) وتركُ الحملِ له على جحدِ الضَّرورةِ، إلَّا مِن حيثُ يُلْزِمُه ذلك بمَذهَبِه

- (وَ) تركُ (الإِخْرَاجِ لَهُ عَمَّا) أي: عن الحدِّ الَّذِي يَنبغي أنْ يَكُونَ (عَلَيْهِ) في السُّؤالِ أو الجوابِ،

- (وَ) تركُ (اسْتِصْغَارِهِ) فإِنَّه يَمنَعُ مِن التَّحفُّظِ ويُثَبِّطُ عن المبالغةِ، وتركُ الاحتقارِ لِما يَأْتي به، إلَّا مِن حيثُ يُلْزِمُه الحُجَّةَ إيَّاه، والتَّنبُّهُ له عن ذلك إن نَدَرَ عنه أو مناقضةٌ إنْ ظَهَرَتْ في كلامِه، وألَّا يُمانِعَه العبارةَ إذا أَدَّتِ المعنى وكانَ الغرضُ إِنَّمَا هو في المعنى دونَ العبارةِ، وألَّا يَخرُجَ في عبارتِه عن العادةِ، وألَّا يُدخِلَ في كلامِه ما لَيْسَ منه، ولا يَستعملَ ما يَقتضي التَّعدِّيَ على خصمِه، والتَّعدِّي خروجُه عمَّا يَقتضي السُّؤالُ والجوابُ، ولا يَمنَعَه البناءَ على أمثلةٍ، ولا يُشَنِّعَ ما لَيْسَ بشنيعٍ في مذهبِه، أو يَعُودَ عليه مِن الشَّناعةِ مِثلُه، ولا يَأخُذَ عليه شَرَفَ المجلسِ للاستظهارِ عليه، ولا يَستعملَ الإبهامَ بما يَخرُجُ عن حدِّ الكلامِ.

(وَمَقَامُ التَّعَلُّمِ

(1)

والتَّأدُّبِ يَكُونُ (تَارَةً بِالعُنْفِ، وَتَارَةً بِاللُّطْفِ) وسلوكُ

(1)

في «مختصر التحرير» (ص 249): التعليم.

ص: 776

أحدِهما يُفَوِّتُ فائدةَ الآخَرِ، قالَ اللهُ تَعالى:{وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ}

(1)

وقِيلَ في التَّفسيرِ: إنَّه

(2)

السَّائلُ في العلومِ، وقِيلَ: هو عامٌّ فيها وفي سؤالِ المالِ.

فائدةٌ: اعلَمْ أنَّ الجدلَ لا يَخلو الخصمُ فيه من أنْ يَكُونَ في طبقةِ خصمِه أو أعلى، أو أدونَ، فإنْ كانَ في طبقتِه كانَ قولُه له: الحقُّ في هذا كذا دونَ كذا مِن قِبَلِ كَيْتَ وكَيْتَ، ولأجلِ كذا وعلى الآخَرِ أنْ يَتَحَرَّى له الموازنةَ في الخطابِ، فذلك أسلمُ للقلوبِ وأنقى لشَغلِها عن ترتيبِ النَّظرِ، فإنَّ التَّطفيفَ في الخطابِ يُعمِي القلبَ عن فهمِ السُّؤالِ والجوابِ.

وإنْ كانَ أعلى فلْيَتَحَرَّ ويَجتنبِ القولَ له: هذا خطأٌ، أو: غلطٌ، أو: لَيْسَ كما تَقُولُ، بل يَكُونُ قولُه له

(3)

: أَرَأَيْتَ إنْ قالَ قائلٌ: يَلْزَمُ على ما ذَكَرْتَ كذا إنِ اعترضَ على ما ذَكَرْتَ معترضٌ بكذا، فإنَّ نفوسَ الكرامِ تَأبى خشونةَ الكلامِ؛ إذ لا عادةَ لهم بذلك، وإذا نَفَرَتِ النُّفوسُ عَمِيَتِ القلوبُ وخَمَدَتِ الخواطرُ، وانْسَدَّتْ أبوابُ الفوائدِ، فحُرِمَ الكلُّ الفوائدَ بسفهِ السَّفيهِ وتقصيرِ الجاهلِ في حقوقِ الصُّدورِ، وقد أَدَّبَ اللهُ تَعَالَى أنبياءَه للرُّؤساءِ مِن أعدائِه، فقالَ لموسى وهارونَ في حقِّ فرعونَ:{فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا}

(4)

والأدبُ معيارُ العقولِ ومعاملةُ الكرامِ، وسوءُ الأدبِ مُقَطِّعَةٌ للخيرِ ومُدْمِغَةٌ للجاهلِ، فلا تَتَأَخَّرُ إهانتُه، ولو لم يَكُنْ إلَّا هجرانُه وحرمانُه.

وأمَّا الأدونُ فيُكَلَّمُ بكلامِ اللُّطفِ والتَّفهيمِ، إلَّا أنَّه يَجُوزُ أنْ يُقالَ له إذا أتى بالخطأِ: هذا خطأٌ، وهذا غلطٌ مِن قِبَلِ كذا؛ ليَذُوقَ مَرارَةَ سُلوكِ الخطأِ، فيَجتَنِبَه، وحلاوةَ الصَّوابِ فيَتَّبِعَه. ورياضةُ هذا واجبةٌ على العلماءِ وتَركُه

(1)

الضحى: 10.

(2)

في «ع» : إن.

(3)

ليس في «د» .

(4)

طه: 44.

ص: 777

سُدًى مَضَرَّةٌ له، فإنْ عُوِّدَ الإكرامَ الَّذِي يَستحِقُّه الأعلى طَبَقَةً أَخْلَدَ إلى خَطَئِه ولم يَزَعْه عن الغلطِ وازعٌ.

(وَيَنْبَغِي) لأحدِ الخصمينِ: (ألَّا يَغْتَرَّ بِخَطَأِ الخَصْمِ) الآخرِ فإذا أخطأَ أحدُهما في الجدلِ في بعضِ المذاهبِ فاحذرِ الاغتِرارَ بذلك؛ فإِنَّه لَيْسَ في خطئِه في مذهبٍ دليلٌ على أنَّه قد أَخطأَ في مذهبٍ آخَرَ، فلا يُلتَفَتُ إلى التَّمويهِ، فإنَّ بعضَ مذاهبِ فلانٍ يَتَعَلَّقُ ببعضٍ، فإنْ فَسَدَ واحدٌ منها فَسَدَ جميعُها، فإنَّ ذلك يَحمِلُك على التَّخطئةِ بغيرِ بصيرةٍ لمن لَعَلَّه أنْ يَكُونَ مُصيبًا فيما أَتَى به، فاعتبرْ ذلك، ولا تَتَّكِلْ على مِثلِ هذا المعنى، ولكنْ إذا كَثُرَ خَطؤُه أَوْجَبَ ذلك تهمةً لمذهبِه وقِلَّةَ سكونٍ إلى اختيارِه مِن غيرِ أن يُحَصِّلَ ذلك دليلًا على فسادِه لا مَحالةَ.

(وَ) يَنبغي (أَنْ يَحْتَرِزَ) في كلِّ جدلٍ (مِنْ حِيلَتِهِ) أي: الخصمِ.

(وَألَّا يَعْتَادَ الخَوْضَ فِي الشَّغَبِ) ومَن خاضَ فيه تَعَوَّدَه (فيُحْرَمَ الإِصَابَةَ، وَيَسْتَرْوِحَ إِلَيْهِ) ومَن عُرِفَ به سَقَطَ سُقوطَ الذَّرَّةِ، وأدبُ الجدلِ يَزينُ صاحبَه وتَركُه يَشِينُه.

ولا يَنبغي أنْ يَنظُرَ لِما اتَّفَقَ لبعضِ مَن تَرَكَه مِن الحظوةِ في الدُنيا، فإِنَّه إنْ كانَ رفيعًا عندَ الجهَّالِ فهو ساقطٌ عندَ ذوي الألبابِ (معَ أَنَّهُ لَا يَسْلَمُ) أحدٌ (مِنَ الِانْقِطَاعِ إِلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللهُ تَعَالَى) مِن الزَّلَلِ.

(وَلَيْسَ حَدُّ العَالِمِ كَوْنَهُ حَاذِقًا فِي الجَدَلِ، فَإِنَّهُ) أي: الجدلَ (صِنَاعَةٌ، وَالعِلْمُ) صناعةٌ إلَّا أنَّه (مَادَّتُهُ) أي: مادَّةُ الجدلِ (فَالمُجَادِلُ يَحْتَاجُ إِلَى

ص: 778

العَالِمِ

(1)

وَلَا عَكْسَ) أي: والعالمُ لا يَحتاجُ في عِلمِه إلى المجادِلِ كما يَحتاجُ المجادِلُ في جَدَلِه إلى العالِمِ، وليسَ حدُّ الجدلِ بالمجادِلِ ألَّا يَنقطِعَ المجادِلُ أبدًا، ولا يَكونَ منه انقطاعٌ كثيرًا إذا كَثُرَتْ مُجادلتُه، ولكنَّ المجادلَ مَن كانَ طريقُه في الجدلِ مَحمودًا، وإن نالَه الانقطاعُ لبعضِ الآفاتِ الَّتي تُعرَفُ.

(وَ) يَنبغي (ألَّا يَتَكَلَّمَ فِي) مجالسِ الخوفِ، فإنَّ الخوفَ يُذهِلُ العقلَ الَّذِي منه يَستمدُّ المناظرُ حُجَّتَه، ويَستقي

(2)

منه الرَّاوي في دَفعِ شُبهاتِ الخصمِ، وإنَّما يُذهِلُه ويَشْغَلُه بطلبِه حراستَه نَفْسَه الَّتي هي أهمُّ مِن مذهبِه ودليلِ مذهبِه. واجتنبْ مُكالمةَ مَن تَخافُ؛ فإنَّها مُميتةٌ للخواطرِ مانعةٌ مِن التَّثبُّتِ، واحذرْ كلامَ مَنِ اشتدَّ بُغضُك إيَّاه؛ فإِنَّه داعيةٌ إلى الضَّجَرِ والغضبِ مِن قِلَّةِ ما يَكُونُ منه، والضَّجَرُ والغضبُ مُضَيِّقٌ للصُّدورِ مُضعِفٌ لقُوى العقولِ.

واحذرِ المحافلَ في (المَجَالِسِ الَّتي لَا إِنْصَافَ فِيهَا) في التَّسويَةِ بينَك وبينَ خصمِك في الإقبالِ والاستماعِ، ولا أدبَ لهم يَمنَعُهم مِن الشَّرعِ إلى الحُكمِ عليك، ومِن إظهارِ العصبيَّةِ لخصمِك. واحذرْ كلامَ مَن عادتُه ظلمُ خصمِه والهُزءُ والتَّشفِّي لعداوتِه، وعليك بالصَّبْرِ

(3)

والحِلمِ، ولا تَنْقُصُ بالحِلمِ إلَّا عندَ جاهلٍ، ولا بالصَّبْرِ على الشَّغَبِ للمسائلِ إلَّا عندَ غبيٍّ، وتَرتفِعُ عندَ العلماءِ وتَنْبُلُ عندَ أهلِ الجدلِ.

فائدةٌ: قالَ ابنُ عقيلٍ في «الواضح»

(4)

: فصلٌ في الغضبِ الَّذِي

يَعتَري في الجدلِ:

(1)

في «ع» : العلم.

(2)

في «د» : ويستسقي.

(3)

في «ع» : الصبر.

(4)

«الواضح في أصول الفقه» (1/ 524).

ص: 779

اعلمْ أنَّه إذا دَخَلَ المجادلُ على تَوطينِ النَّفسِ على الحُكمِ عن بادرةٍ إنْ كانَتْ من الخصمِ سَلِمَ مِن سَوْرَةِ

(1)

الغضبِ، واعلَمْ أنَّ تلك البادرةَ لا يَخلو: إمَّا أن تَكُونَ مِن رئيسٍ تُعرَفُ له فضيلةٌ، أو نظيرٍ يُغفَرُ له زَلَلُه، أو وضيعٍ تُرفَعُ النَّفسُ عن مشاغبتِه ومقابلتِه، فإذا عَرَفْتَ ذلك ووَطَّنْتَ النَّفسَ عليه: سَلِمْتَ مِن سَوْرَةِ الغضبِ.

واعلَمْ أنَّ الغضبَ ظَفَرُ الخصمِ إذا كانَ سفيهًا والغالبُ في السَّفهِ هو الأسفهُ كما أنَّ الغالبَ في العِلْمِ

(2)

هو الأعلمُ، ولو لم يَكُنْ مِن شؤمِ الغضبِ إلَّا أنَّه عُزِلَ به عنِ القضاءِ، فقالَ الشَّارِعُ عليه السلام:«لَا يَقْضِي القَاضِي حِينَ يَقْضِي وَهُوَ غَضْبَانُ»

(3)

، وكما أنَّ القاضيَ يَحتاجُ إلى صَحْوٍ مِن سُكْرِ الغَضَبِ يَحتاجُ المناظرُ إلى ذلك؛ لأنَّهما سواءٌ في الاحتياجِ إلى الاجتهادِ، وأداةُ الاجتهادِ العقلُ ولا رأيَ لغضبانَ، فيَعُودُ الوبالُ عليه عندَ الغضبِ، بإرتاجِ طُرُقِ النَّظَرِ في وجهِه وضلالِ رأيِه عن قصدِه، فمِن أَوْلَى الأشياءِ التَّحفُّظُ مِن الغضبِ في النَّظَرِ والجدلِ؛ لِما فيه مِن العيبِ، ولأنَّه يَقطَعُ عن استيفاءِ الحُجَّةِ والبيانِ عن حَلِّ الشُّبهةِ.

ولا يَقطَعَ عليه كلامَه، فإِنَّه مانعٌ مِن الفهمِ، نَسأَلُ اللهَ أنْ يُوَفِّقَنا للصَّوابِ بمَنِّه وكَرَمِه.

(1)

أي: حدته.

(2)

في «ع» : العالم.

(3)

رواه البخاري (7158)، ومسلم (1717) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه:«لَا يَقْضِيَنَّ حَكَمٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ» .

ص: 780

(بَابٌ)

لمَّا كانَ طلبُ الاستدلالِ مِن جملةِ الطُّرُقِ المفيدةِ للأحكامِ، ذَكَرَه بعدَ الفراغِ مِن الأدلَّةِ الأربعةِ وهو الكتابُ والسُّنَّةُ والإجماعُ والقِيَاسُ، وعَقَدَ هذا البابَ للأدلَّةِ المختلَفِ فيها، وإنَّما عَبَّرَ عنها بالاستدلالِ؛ لأنَّ كلَّ ما ذُكِرَ فيه إِنَّمَا قاله عالمٌ بطريقِ الاستدلالِ والاستنباطِ، وليسَ له دليلٌ قطعيٌّ

(1)

ولا أجمعوا عليه.

و (الِاسْتِدْلَالُ لُغَةً: طَلَبُ الدَّلِيلِ، وَ) الاستدلالُ (اصْطِلَاحًا) يُطلَقُ على معنًى عامٍّ، وهو ذِكْرُ الدَّليلِ نصًّا كانَ أو إجماعًا أو قياسًا أو غيرَه، ويُطلَقُ على معنًى خاصٍّ وهو المقصودُ (هُنَا).

وتعريفُه بهذا الاصطلاحِ (إِقَامَةُ دَلِيلٍ لَيْسَ بِنَصٍّ، وَلَا إِجْمَاعٍ، وَلَا قِيَاسٍ شَرْعِيٍّ، فَدَخَلَ) في هذا التَّعريفِ أمورٌ:

أحدُها: القِيَاسُ (الِاقْتِرَانِيُّ وَهُوَ) قياسٌ (مُؤَلَّفٌ مِنْ قَضِيَّتَيْنِ مَتَى سَلِمَتَا) مِن معارِضٍ (لَزِمَ عَنْهُمَا لِذَاتِهِمَا قَوْلٌ آخَرُ) أي: قضيَّةٌ أُخرى نتيجةً لهما، كما يُقالُ: هذا حُكمٌ دَلَّ عليه القِيَاسُ وكلُّ ما دَلَّ عليه القِيَاسُ فهو حُكمٌ شرعيٌّ، فهذا حُكمٌ شرعيٌّ، فقِسْ

(2)

عليه.

(وَ) الثَّاني: القِيَاسُ (الِاسْتِثْنَائِيُّ) ويَكُونُ في الشَّرطيَّاتِ (وَهُوَ مَا يُذْكَرُ فِيهِ النَّتِيجَةُ أَوْ نَقِيضُهَا) ففي المُتَّصِلاتِ كما يُقالُ: إنْ كانَ هذا إنسانًا فهو حيوانٌ، لكنَّه لَيْسَ بحيوانٍ، يُنْتِجُ: أنَّه لَيْسَ بإنسانٍ، أو أنَّه إنسانٌ، يُنتِجُ: أنَّه

(1)

في «ع» : قطع.

(2)

في «د» : وقس.

ص: 781

حيوانٌ، فاستثناءُ عينِ الأوَّلِ يُنتِجُ عينَ الثَّاني، واستثناءُ نقيضِ الثَّاني يُنْتِجُ نقيضَ المُقَدَّمِ، وعينُ الثَّاني لا يُنْتِجُ عينَ الأوَّلِ؛ لاحتمالِ كونِه عامًّا، ولا يَلْزَمُ مِن إثباتِ العامِّ إثباتُ الخاصِّ، كما في المثالِ الأوَّلِ، فإنَّ الحيوانَ لا يَستلزِمُ وجودَ الإنسانِ، وكذا نقيضُ الإنسانِ لا يَستلزمُ نقيضَ الحيوانِ لوجودِه في الفرسِ وفي المنفصلاتِ العددُ، إمَّا زوجٌ أو فردٌ، لكنَّه زوجٌ، يُنْتِجُ أنَّه لَيْسَ بفردٍ، أو فردٌ، يُنتِجُ أنَّه لَيْسَ بزوجٍ، مثالُه في الشَّرعيَّاتِ صيدُ الحَرَمِ إمَّا حلالٌ أو حرامٌ، لكنَّه حرامٌ؛ لأنَّه نُهِيَ عنه، فلَيْسَ بحلالٍ.

(وَ) الثَّالثُ: (قِيَاسُ العَكْسِ، وَهُوَ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى نَقِيضِ المَطْلُوبِ، ثُمَّ يَبْطُلُ فَيَصِحُّ المَطْلُوبُ) كقولِه تَعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا}

(1)

فإِنَّه استدلَّ على حقيقةِ القرآنِ بإبطالِ نقيضِه، وهو وُجدانُ الاختلافِ فيه.

(وَ) أمَّا إذا اقتصرَ على إحدى المقدِّمَتَينِ اعتمادًا على شهرةِ الأُخرى، (نَحْوُ: وُجِدَ) المقتضى؛ أي: (السَّبَبُ فَثَبَتَ الحُكْمُ)، فإِنَّه يُنتَجُ من مقدِّمةٍ أُخرى مُقَدَّرَةٍ، وهي قولنا: وكلُّ سببٍ إذا وُجِدَ وُجِدَ الحكمُ، فلم تُذكَرْ لظُهُورِها.

(وَ) كقَوْلِنا: إذا

(2)

(وُجِدَ المَانِعُ) فانتفى الحكمُ (أَوْ فَاتَ الشَّرْطُ فَانْتَفَى) الحُكْمُ كما في قولِه تَعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا}

(3)

فإنَّ حُصولَ النَّتيجةِ منه يَتَوَقَّفُ على مُقدِّمَةٍ أُخرى ظاهرةٍ، وهي: وما فَسَدَتا.

(1)

النساء: 82.

(2)

ليس في «د» .

(3)

الأنبياء: 22.

ص: 782

وقد اختُلِفَ في هذا؛ فالجمهورُ على أنَّه (دَعْوَى دَلِيلٍ، لَا نَفْسُهُ) أي: لَيْسَ هذا نفسَ الدَّليلِ، فإذا قُلْنا: وُجِدَ المُقتضى، معناه: الدَّليلُ، ولم يُقِمْ على وُجودِه دليلًا

(1)

.

(وَالِاسْتِصْحَابُ) مبتدأٌ، خَبَرُه قولُه: دليلٌ (وَهُوَ) أي: الاستصحابُ (التَّمَسُّكُ بِدَلِيلٍ عَقْلِيٍّ، أَوْ) دليلٍ (شَرْعِيٍّ لَمْ يَظْهَرْ عَنْهُ) أي: عن الدَّليلِ العقليِّ أو الشَّرعيِّ (نَاقِلٌ مُطْلَقًا) أي: لم يَظهَرْ دليلٌ يَنقُلُه عن حُكمِ الدَّليلِ المُسْتَصْحَبِ، والمعنى: إذ كانَ حكمًا موجودًا وهو محتملٌ أن يَتَغَيَّرَ، فالأصلُ بقاؤُه ونفيٌ ممَّا يُغَيِّرُه.

وحقيقةُ استصحابِ الحالِ التَّمسُّكُ بدليلٍ عقليٍّ تارةً يَكُونُ بحُكْمِ دليلِ العقلِ، كاستصحابِ حالِ البراءةِ الأصليَّةِ، فإنَّ العقلَ دليلٌ على براءَتِها وعدمِ توجُّهِ الحُكمِ إلى المُكَلَّفِ، وتارةً يَكُونُ الاستصحابُ بحُكمِ الدَّليلِ الشَّرعيِّ، كاستصحابِ حُكمِ العمومِ والإجماعِ إلى أن يَظهَرَ دليلٌ ناقلٌ عن حُكمِ الدَّليلِ المُستَصحَبِ، فيَجِبُ المصيرُ إليه، كالبَيِّنَةِ الدَّالَّةِ على شَغلِ الذِّمَّةِ وتخصيصِ العمومِ، ونحوِ ذلك، ومنه استصحابُ العدمِ الأصليِّ وهو الَّذِي عُرِفَ بالعقلِ انتفاؤُه، وأنَّ العدمَ الأصليَّ باقٍ على حالِه، كأصلِ عدمِ وجوبِ صلاةٍ سادسةٍ، وصومِ شهرٍ غيرِ رمضانَ، فلَمَّا لم يَرِدِ السَّمعُ بذلك حَكَمَ العقلُ بانتفائِه لعدمِ المُثبِتِ له.

إذا تَقَرَّرَ ذلك فالاستصحابُ (دليلٌ) عندَ الأكثرِ، وقِيلَ: لا يَكُونُ دليلًا، وعليه يَجوزُ التَّرجيحُ به عندَ بعضِهم، وقِيلَ: يُشتَرَطُ ألَّا يُعارِضَه ظاهرٌ.

(1)

ليس في «د» .

ص: 783

فائدةٌ: قالَ في «شرح الأصل» : لنا مسائلُ كثيرةٌ يُقَدَّمُ فيها الظَّاهرُ على الأصلِ، ومسائلُ فيها خلافُ إطلاقِ الاحتجاجِ بالاستصحابِ شامِلٌ لِما عارَضَه ظاهرٌ أو لا، ولكنْ يَرِدُ علينا في النَّفيِ والإثباتِ مسائلُ كثيرةٌ فيما تَعارَضَ فيه الأصلُ والظَّاهرُ؛ كطينِ الشَّوارعِ، وثيابِ مُدمِنِي

(1)

الخمرِ، وأواني الكفَّارِ المُتَلَبِّسِينَ بالنَّجاسةِ، وثيابِ القَصَّابِينَ وأفواهِ الصِّغارِ، وغيرِ ذلك مِن المسائلِ الَّتي لا تَكادُ تُحصَى

(2)

.

ثمَّ قالَ: لكنْ إذا قَدَّمْنا الظَّاهرَ على الأصلِ، لَيْسَ تقديمُه مِن حيثُ الاستصحابُ، بل لمرجِّحٍ مِن خارجٍ يَنضَمُّ إلى ذلك

(3)

.

(وَلَيْسَ اسْتِصْحَابُ حُكْمِ الإِجْمَاعِ فِي مَحَلِّ الخِلَافِ حُجَّةً) وهو أن يَحصُلَ الإجماعُ على حُكمٍ في حالٍ، فتَتَغَيَّرُ تلك الحالُ ويَقَعُ الخلافُ فلا يُستصحَبُ حالُ الإجماعِ في مَحَلِّ الخلافِ، كقولِ مَن يَقُولُ في

(4)

الخارجِ مِن غيرِ السَّبيلينِ أنَّه لا يَنقُضُ للإجماعِ

(5)

على أنَّه قَبْلَه مُتَطَهِّرٌ، والأصلُ البقاءُ حَتَّى يَثبُتَ تعارُضٌ، والأصلُ عدمُه، فلا يَكُونُ حُجَّةً في الأصحِّ؛ لأنَّه يُؤَدِّي إلى التَّكافُؤِ في الأدلَّةِ؛ لأنَّه ما مِن أحدٍ يَستصحِبُ حالةَ الإجماعِ في موضعِ الخلافِ إلَّا ولخصمِه أنْ يَستصحِبَ حالةَ الإجماعِ في مُقابِلِه.

مثالُه: لو قالَ في مسألةِ التَّيمُّمِ: قِيلَ: أجمعوا على أنَّ رؤيةَ الماءِ في غيرِ الصَّلَاةِ تُبطِلُ تَيمُّمَه، فكذا في الصَّلَاةِ، قِيلَ: أَجمَعُوا على صِحَّةِ تحريمتِه، فمَن أَبْطَلَه لَزِمَه الدَّليلُ. وجوابُه بمنعِ التَّكافُؤِ وإنْ تَعارَضَا.

(1)

في «ع» : مدمن.

(2)

«التحبير شرح التحرير» (8/ 3669).

(3)

«التحبير شرح التحرير» (8/ 3761).

(4)

ليس في «ع» .

(5)

في «ع» : الإجماع.

ص: 784

(وَيَجُوزُ تَعَبُّدُ نَبِيٍّ بِشَرِيعَةِ نَبِيٍّ قَبْلَهُ عَقْلًا) على الصَّحيحِ؛ لأنَّه لَيْسَ بمُحالٍ، ولا يَلْزَمُ منه مُحالٌ، وكانَ صلى الله عليه وسلم:«يَتَحَنَّثُ فِي غَارِ حِرَاءَ» رَوَاه مسلمٌ

(1)

عن عائشةَ، والتَّحنُّثُ: هو التَّعبُّدُ.

(وَلَمْ يَكُنْ نَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم قَبْلَ البَعْثَةِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَوْمُهُ) عندَ أئمَّةِ الإسلامِ كما تَواتَرَ عنه، ومَن زَعَمَه فهو قولُ سوءٍ، ولم يَكُنْ على دينِ قومِه قَطُّ، (بَلْ) وُلِدَ مؤمنًا نبيًّا

(2)

صالحًا على ما كَتبَه اللهُ تَعَالَى وعَلِمَه مِن حالِه وخاتمتِه لا بدايتِه.

و (كَانَ) قَبْلَ البعثةِ (مُتَعَبِّدًا صلى الله عليه وسلم في الفروعِ (بِشَرْعِ مَنْ قَبْلَهُ) مِن الأنبياءِ على الصَّحيحِ؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ منهم قَبْلَه دَعَا إلى شرعِه كلَّ المُكَلَّفِينَ، والنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم واحدٌ منهم، فيَتَنَاوَلُه عمومُ الدَّعوةِ، ثمَّ اختلفوا على هذا القولِ: هل كانَ مُتَعَبِّدًا بشرعٍ معيَّنٍ أو لا.

ثمَّ اختلفَ القائلُ في المُعيَّنِ، فقِيلَ: آدمُ أو نوحٌ، أو إبراهيمُ، أو موسى، أو عيسى صَلَوَاتُ اللهِ عليهم أجمعينَ، والصَّحيحُ أنَّه كانَ مُتَعَبِّدًا بشرعِ مَن قَبْلَه (مُطْلَقًا) أي: مِن غيرِ تعيينِ واحدٍ منهم بعينِه، واسْتُدلَّ له بحديثِ مسلمٍ السَّابقِ، ورَوَاه البخاريُّ أيضًا:«كَانَ يَتَحَنَّثُ بِغَارِ حِرَاءَ» .

تنبيهانِ:

أحدُهما: قولُه: «مُتَعَبِّدًا» ، بكسرِ الباءِ، ولا يَجُوزُ فتحُها، قاله القَرَافِيُّ

(3)

، وكلامُ الآمِدِيِّ مُوهِمٌ بخلافِ ما بعدَ البعثةِ، فإِنَّه كانَ مُتَعَبَّدًا بفتحِ الباءِ.

(1)

رواه البخاري (3)، ومسلم (160).

(2)

في «ع» : نبينا مؤمنًا.

(3)

«شرح تنقيح الفصول» (1/ 296)، و «نفائس الأصول» (6/ 2360).

ص: 785

الثَّاني: قالَ القَرَافِيُّ في «شرح التنقيح» : حكايةُ الخلافِ أنَّه عليه الصلاة والسلام كانَ مُتعبِّدًا بشرعِ مَن قَبْلَه يَجِبُ أنْ يَكُونَ مَخصوصًا بالفروعِ دونَ الأصولِ، فإنَّ قواعدَ العقائدِ كانَ النَّاسُ

(1)

مُكَلَّفِينَ بها إجماعًا، ولذلك كانَ مَوتاهم في النَّارِ إجماعًا، لولا التَّكليفُ ما كانوا في النَّارِ، فهو عليه الصلاة والسلام مُتَعَبَّدٌ

(2)

بشرعِ مَن قبْلَه، فالخلافُ في الفروعِ خاصَّةً، فعمومُ إطلاقِ العلماءِ مخصوصٌ بالإجماعِ.

(وَتَعَبَّدَ) صلى الله عليه وسلم (أَيْضًا بِهِ) أي: بشرعِ مَن قَبْلَه (بَعْدَهَا) أي: بعدَ البعثةِ عندَ الجمهورِ؛ أي: بما لم يُنسَخْ، (فَـ) على هذا شَرْعُ مَن قَبْلَنا (هُوَ شَرْعٌ لَنَا مَا لَمْ يُنْسَخْ) وعليه الأكثرُ، ووجهُه قولُه تَعالى:{فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}

(3)

، والشَّريعةُ مِن الهُدَى.

قالَ القاضي: من حيثُ صارَ شرعًا لنَبِيِّنا لا مِن حيثُ صارَ شرعًا لمَن قَبْلَه

(4)

.

(وَمَعْنَاهُ) أي: مَعنى شرعِ مَن قَبْلَنا شَرعٌ لنا (في قولٍ) للبِرْماوِيِّ (أَنَّهُ) عليه السلام (مُوَافِقٌ) لشرعِ مَن قَبْلَه (لَا مُتَابِعٌ) له.

والقولُ الثَّاني: أنَّه شَرعٌ لم يُنسَخْ، فيَعُمُّنا لفظًا. وقال الشَّيخُ: يَعُمُّنا عقلًا؛ لتساوي الأحكامِ، وهو الاعتبارُ المذكورُ في قصصِهم، فيَعُمُّنا حكمًا

(5)

.

(1)

زاد بعده في «تنقيح الفصول» (1/ 297): في الجاهلية.

(2)

في «ع» : متعبدًا. والمثبت من (د)، و «شرح تنقيح الفصول» وفيه: بفتح الباء بمعنى مكلف.

(3)

الأنعام: 90

(4)

«العدة في أصول الفقه» (3/ 753).

(5)

«المسودة في أصول الفقه» (ص 186).

ص: 786

(وَيُعْتَبَرُ فِي قَوْلٍ) للقاضي وغيرِه (ثُبُوتُهُ) أي: ثبوتُ كَوْنِه شرعًا لهم (قَطْعًا) إمَّا بكتابٍ أو بخبَرِ الصَّادقِ أو بنقلٍ متواترٍ، فأمَّا الرُّجوعُ إليهم أو إلى كُتُبِهم فلا.

(وَ)

‌ مِن أنواعِ الاستدلالِ:

(الِاسْتِقْرَاءُ بِالجُزْئِيِّ عَلَى الكُلِّيِّ)، وهو تَتَبُّعُ أمرٍ كُلِّيٍّ مِن جزئياتٍ ليَثْبُتَ الحُكمُ لذلك الكُلِّيِّ، وهو نوعانِ:

أحدُهما: استقراءٌ تامٌّ، وهو إثباتُ حُكمٍ في جزئيٍّ لثبوتِه في الكُلِّيِّ.

والثَّاني: ناقصٌ،

- فـ (إِنْ كَانَ) الاستقراءُ (تَامًّا؛ أَيْ: بِالكُلِّ إِلَّا صُورَةَ النِّزَاعِ) فهو (قَطْعِيٌّ) نحوُ: كلُّ جسمٍ مُتَحَيِّزٌ، فإنَّا اسْتَقرَأْنا جميعَ جزئيَّاتِ الجسمِ، فوَجَدْناها مُنحصِرَةً في الجمادِ والنَّباتِ والحيوانِ، وكلٌّ مِن ذلك مُتَحَيِّزٌ، فقد أفادَ هذا الاستقراءُ الحُكْمَ يَقينًا في كُلِّيٍّ وهو الجسمُ الَّذِي هو مشتركٌ بينَ الجزئيَّاتِ، فكلُّ جزءٍ مِن الكُلِّيِّ يُحكَمُ عليه بما حُكِمَ به على الكُلِّيِّ، إلَّا صورةَ النِّزاعِ، فيُستَدَلُّ بذلك على صورةِ النِّزاعِ، وهو مُفيدُ القطعِ، فإِنَّه هو

(1)

القِيَاسُ، فإنَّ القِيَاسَ المنطقيَّ مُفيدٌ للقطعِ عندَ الأكثرِ.

- (أَوْ) كانَ الاستقراءُ (نَاقِصًا؛ أَيْ: بِأَكْثَرِ الجُزْئِيَّاتِ) أي: يُتَّبَعُ فيه أكثرُ الجزئيَّاتِ لإثباتِ الحُكْمِ للكُلِّيِّ المُشتَركِ بينَ جميعِ الجزئيَّاتِ بشرطِ ألَّا يُتَبَيَّنَ العِلَّةُ المُؤَثِّرَةُ في الحُكْمِ، (وَيُسَمَّى) هذا عندَ الفقهاءِ (إِلْحَاقَ الفَرْدِ بِالأَعَمِّ الأَغْلَبِ، فَـ) هذا الاستقراءُ (ظَنِّيٌّ) لاحتمالِ أن يَكُونَ الجزئيُّ مُخالِفًا

(1)

ليس في «د» .

ص: 787

لباقي الجزئيَّاتِ المُسْتَقْرَأَةِ، ويَختلفُ فيه الظَّنُّ باختلافِ الجزئيَّاتِ، فكُلَّما كانَ الاستقراءُ في أكثرَ، كانَ أقوى ظنًّا. ومَثَّلَه ابنُ مُفْلِحٍ

(1)

وغيرُه بقولِهم: الوترُ يُفعَلُ راكبًا، فلَيْسَ واجبًا لاستقراءِ الواجباتِ الأداءِ والقضاءِ مِن الصَّلواتِ الخمسِ، فلم نَرَ شيئًا منها يُفعَلُ راكبًا، والدَّليلُ على أنَّه يُفِيدُ الظَّنَّ: أنَّا إذا وَجَدْنا صورًا كثيرةً داخلةً تحتَ فرعٍ، واشْتَرَكَتْ في حُكمٍ أَفادَتْنا تلك الكثرةُ قطعًا ظَنَّ الحُكمِ بعدمِ الأداءِ على الرَّاحلةِ في مِثالِنا هذا مِن صفاتِ ذلك النَّوعِ، وهو الصَّلَاةُ الواجبةُ، وإنْ كانَ مُفيدًا للظَّنِّ كانَ العملُ به واجبًا ومِن شواهدِ وجوبِ العملِ بالظَّنِّ قولُ المَقضِيِّ عليه: قَضَيْتَ عليَّ والحقُّ لي. فقالَ عليه السلام: «إِنَّمَا نَقْضِي بِالظَّاهِرِ وَاللهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ»

(2)

.

(وَكُلٌّ) مِن نَوْعَيِ الاستقراءِ (حُجَّةٌ) الأوَّلُ بالاتِّفاقِ، والثَّاني عندَ الأكثرِ.

تنبيهٌ: قالَ في «شرح الأصل» : يَنْشَأُ ممَّا قَرَّرْناه في الاستقراءِ أنَّ القِيَاساتِ المَنطقيَّةَ تَدُورُ على ذلك، فإنَّا إذا قُلْنا: العالَمُ مُتَغَيِّرٌ، وكلُّ مُتَغَيِّرٌ حادثٌ، فيَكُونُ العالمُ مُتَغَيِّرًا، إِنَّمَا عُلِمَ بالاستقراءِ التَّامِّ، ولذلك أفادَ القطعَ واليقينَ، وإذا قُلْنا: الوضوءُ

(3)

وسيلةٌ للعبادةِ، وكلُّ ما هو وسيلةٌ للعبادةِ عبادةٌ، إِنَّمَا أَثْبَتْنا المُقدِّمَةَ الثَّانيةَ بالاستقراءِ وهو ظَنِّيٌّ؛ لأنَّه مِن أكثرِ الجُزئيَّاتِ

(4)

.

(وَقَوْلُ صَحَابِيٍّ) غيرَ الخلفاءِ (عَلَى) صَحَابِيٍّ (مِثْلِهِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ

(5)

(1)

«أصول الفقه» (4/ 1450).

(2)

قال العراقي في «تخريج أحاديث الإحياء» (3598): لم أجد له أصلًا، وكذا قال المزي لما سئل عنه.

(3)

في «ع» : الوصف.

(4)

«التحبير شرح التحرير» (8/ 3795).

(5)

في «مختصر التحرير» (ص 252): حجة.

ص: 788

اتِّفاقًا، قالَ ابنُ عقيلٍ: ولو كَانَ أعلمَ أو إمامًا أو حاكمًا. وعن أحمدَ روايةٌ: أنَّ قولَ الخلفاءِ الأربعةِ إجماعٌ وحُجَّةٌ.

(وَ) قولُ صحابيٍّ (عَلَى غَيْرِهِ) فإمَّا أن يَنتشِرَ أو لا، (فَإِنِ انْتَشَرَ وَلَمْ يُنْكَرْ، فَسَبَقَ) في الإجماعِ في قولِه: وقولُ مجتهدٍ في اجتهاديَّةٍ تكليفيَّةٍ إنِ انتشرَ ومَضَتْ مُدَّةٌ يُنظَرُ فيها، وتَجَرَّدَ عن قرينةِ رِضا وسَخطٍ ولم يُنكَرْ قبلَ استقرارِ المذاهبِ إجماعٌ ظنِّيٌّ معَ قولِ ابنِ مفلحٍ: لا إجماعَ للصَّحابةِ معَ مخالفةِ تابعيٍّ مجتهدٍ لهم،

(وَإِلَّا) بأنْ لم يَنتشِرْ قولُ الصَّحابيِّ، (فَـ) هو (حُجَّةٌ مُقَدَّمٌ عَلَى القِيَاسِ) عندَ الأكثرِ، ولا يَكُونُ إجماعًا لعدمِ الدَّليلِ.

(فَـ) على هذا (إِذَا

(1)

اخْتَلَفَ صَحَابِيَّانِ: فَكَدَلِيلَيْنِ) تَعارَضَا على ما يَأْتي في بابِ ترتيبِ الأدلَّةِ.

تنبيهٌ: قالَ الشَّيخُ أبو إسحاقَ في «اللُّمَع»

(2)

: إنَّ الصَّحابةَ إذا اختلفوا على قولينِ يَنبني على القولينِ في أنَّه حُجَّةٌ أم لا؟

فإنْ قُلْنا: لَيْسَ بحُجَّةٍ لم يَكُنْ قولُ بعضِهم حُجَّةً على بعضٍ، ولم يَجُزْ تقليدُ واحدٍ مِنهما بل يُرجَعُ إلى الدَّليلِ،

وإنْ قُلْنا: إنَّه حُجَّةٌ فهما دليلانِ تعارَضَا يُرَجَّحُ أحدُهما على الآخَرِ بكثرةِ العددِ مِن أحدِ الجانبينِ، أو يَكُونُ فيه إمامٌ.

(هَذَا إِنْ وَافَقَ) قَولُ الصَّحابيِّ (القِيَاسَ، وَإِلَّا) بأنْ خَالَفَ قولُه القِيَاسَ

(1)

في «مختصر التحرير» (ص 248): إن.

(2)

«اللمع أصول الفقه» (ص 134).

ص: 789

(حُمِلَ عَلَى التَّوْقِيفِ) عندَ الأكثرِ؛ لأنَّه يَصِيرُ في حُكمِ المرفوعِ.

قالَ ابنُ مُفلحٍ: ظاهرًا لوجوبِ حُسْنِ الظَّنِّ به

(1)

. انتهى.

قالَ أبو المَعالي: وبَنَيْنا عليه مسائلَ كتغليظِ الدِّيَةِ بالحُرُماتِ الثَّلاثِ، (فَـ) على هذا (يَكُونُ) قولُ الصَّحابيِّ المخالفِ للقياسِ (حُجَّةً حَتَّى عَلَى صَحَابِيٍّ) عندَنا (وَيُعْمَلُ بِهِ وَإِنْ عَارَضَ خَبَرًا مُتَّصِلًا) مُوافقًا للقِياسِ؛ لأنَّ المحمولَ على التَّوقيفِ لا يَجري عليه أحكامُ القِيَاسِ.

(وَمَذْهَبُ التَّابِعِيِّ) لا يُخَصُّ به العمومُ ولا يُفَسَّرُ به؛ لأنَّه (لَيْسَ بِحُجَّةٍ) عندَ الأربعةِ وغيرِهم للتَّسلسُلِ (مُطْلَقًا) أي: سواءٌ وافقَ القِيَاسَ أو خالَفَه، وهو المذهبُ.

وعن

(2)

أحمدَ روايةٌ أنَّه كتفسيرِ الصَّحابيِّ، وقد ذَكَرَ صاحبُ المُحرَّرِ عن قولِ الحَسَنِ: يَنْجُسُ ما غَمَسَ فيه يدَه

(3)

قائمٌ مِن نَومِ اللَّيلِ. والتَّابعيُّ إذا قالَ مِثْلَ ذلك فإِنَّه حُجَّةٌ؛ لأنَّ الظَّاهرَ أنَّه توقيفٌ عن صحابيٍّ، أو نصٌّ ثَبَتَ عندَه.

(1)

«أصول الفقه» (4/ 1456).

(2)

في «ع» : وعند.

(3)

في «ع» : يد.

ص: 790

(فَصْلٌ)

(الِاسْتِحْسَانُ) استفعالٌ مِن الحُسْنِ، قالَ به الحنفيَّةُ، و (قِيلَ) بالعملِ (بِهِ) عندَ أحمدَ (فِي مَوَاضِعَ)، قالَ في روايةِ المَيْمُونِيِّ: يُستَحسَنُ أنَّه يَتَيَمَّمُ لكلِّ صلاةٍ، والقِيَاسُ: أنَّه بمنزلةِ الماءِ حَتَّى يُحدِثَ أو يَجِدَ الماءَ.

وقال في روايةِ صالحٍ في المُضارِبِ إذا خالَفَ، فاشترى غيرَ ما أَمَرَ به صاحبُ المالِ، فالرِّبحُ لصاحبِ المالِ، ولهذا أجرةُ مِثلِه، إلَّا أنْ يَكُونَ الرِّبحُ يَحُطُّ بأجرةِ مِثلِه، فيَذهَبُ، وكُنْتُ أَذهَبُ إلى أنَّ الرِّبحَ لصاحبِ المالِ، ثمَّ اسْتَحسَنْتُ هذا.

ورُوِيَ عنه أنَّه أَنْكَرَ ما لا دليلَ له. قالَ أبو الخطَّابِ: إِنَّمَا أَنْكَرَ استحسانًا بلا دليلٍ.

(وَهُوَ) أي:‌

‌ الاستحسانُ (لُغَةً)

أي: في اللُّغةِ (اعْتِقَادُ الشَّيْءِ حَسَنًا).

تنبيهٌ: قولُه: «اعتقادُ الشَّيءِ حَسَنًا» ، [ولم يَقُلِ:«العلمُ بكونِ الشَّيءِ حَسَنًا» ]

(1)

؛ لأنَّ الاعتقادَ لا يَلْزَمُ مِنه العلمُ الجازمُ المطابِقُ للواقعِ؛ إذ قد يَكُونُ الاعتقادُ صحيحًا إذا طابَقَ الواقعَ، وقد يَكُونُ فاسدًا إذا لم يُطابِقْ، وحينئذٍ قد يَستحسِنُ الشَّخصُ شيئًا بناءً على اعتقادِه، ولا يَكُونُ حسنًا في نفسِ الأمرِ، وقد يُخالِفُه غيرُه في استحسانِه. فلو قِيلَ: العلمُ بكونِ الشَّيءِ حسنًا، لخَرَجَ ما لَيْسَ حُسْنُه حقًّا في نفسِ الأمرِ، وإذا قالَ: اعتقادُ الشَّيءِ حسنًا، تَناوَلَ ذلك.

(1)

ليس في «د» .

ص: 791

(وَ) الاستحسانُ (عُرْفًا) أي: في عُرفِ الأُصُولِيِّينَ واصطلاحِهم: (العُدُولُ بِحُكْمِ المَسْأَلَةِ عَنْ نَظَائِرِهَا لِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ) خاصٍّ بتلك المسألةِ.

مِثالُه: ما قاله الإمامُ أحمدُ رَحِمَه اللهُ تَعالى: أنَّه يُتَيَمَّمُ لكلِّ صلاةٍ استحسانًا. والقِيَاسُ أنَّه بمنزلةِ الماءِ حَتَّى يُحدِثَ. وقال: يَجُوزُ شراءُ أرضِ السَّوادِ ولا يَجُوزُ بيعُها، فقِيلَ له: فكيف تُشترى مِمَّن لا يَملِكُ البيعَ؟ قالَ: القِيَاسُ هكذا، وإنَّما هو استحسانٌ، وكذلك يُمنَعُ مِن بيعِ المصحفِ، ويُؤمَرُ بشرائِه استحسانًا.

وقالَ أبو الخطَّابِ

(1)

في مسألةِ العِينةِ: وإذا اشْتَرى ما باعَ بأقلَّ ممَّا باعَ قبلَ نقدِ الثَّمَنِ الأوَّلِ، لم يَجُزِ استحسانًا، وجازَ قياسًا، فالحُكمُ في هذه المسألةِ ونَظائِرِها

(2)

مِن الرِّبويَّاتِ [الجوازُ، وهو القِيَاسُ، لكنْ عُدِلَ بها عن نظائِرِها بطريقِ الاستحسانِ فمُنِعَتْ، وحاصلُ هذا يَرجِعُ]

(3)

إلى تخصيصِ الدَّليلِ بدليلٍ أَقوى مِنه في نظرِ المجتهدِ.

(وَ‌

‌المَصَالِحُ المُرْسَلَةُ:

إِثْبَاتُ العِلَّةِ بِالمُنَاسَبَةِ وَسَبَقَتْ) في المسلكِ الرَّابعِ بأقسامِها وتفاريعِها وأحكامِها، وذلك إنْ شَهِدَ الشَّرعُ باعتبارِها كاقتباسِ الحُكمِ مِن معقولِ دليلٍ شرعيٍّ، فقياسٌ، أو ببُطلانِها كتعيينِ صومِ شهرينِ على مَن يَسْهُلُ عليه العتقُ، فلغوٌ. وذَكَرَ أبو الخطَّابِ في تقسيمِ أدلَّةِ الشَّرعِ أنَّ الاستنباطَ قياسٌ

(4)

واستدلالٌ بأمارةٍ أو عِلَّةٍ وبشهادةِ الأصولِ.

(1)

«التمهيد» (4/ 87).

(2)

ليس في «د» .

(3)

ليس في «د» .

(4)

في «د» : قياسي.

ص: 792

قالَ الشَّيخُ: الاستدلالُ بأمارةٍ أو عِلَّةٍ هو المصالحُ

(1)

.

(وَتُسَدُّ الذَّرَائِعُ) عندَ أحمدَ ومالكٍ. الذَّرَائِعُ: (جَمْعُ ذَرِيعَةٍ، و)، الذَّريعَةُ (هِيَ مَا) أي: حُكمٌ (ظَاهِرُهُ مُبَاحٌ، وَيُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى مُحَرَّمٍ)، ومَعنى سَدِّها المنعُ مِن فِعلِها لتحريمِه؛ لأنَّ اللهَ تَعَالَى عَذَّبَ أُمَّةً بحيلةٍ احتالوها، فمَسَخَهم قِرَدَةً وسَمَّاهم مُعْتَدِينَ وجَعَلَ ذلك نَكالًا وموعظةً للمُتَّقينَ ليَتَّعِظوا بهم، ويَمتنعوا مِن مِثلِ أفعالِهم.

قالَ المُوَفَّقُ

(2)

: والحيلُ كُلُّها مُحرَّمَةٌ لا تَجُوزُ في شيءٍ مِن

(3)

الدِّينِ، وهو أن يُظهِرَ عقدًا مباحًا يُريدُ به مُحَرَّمًا، مُخادَعَةً وتَوَسُّلًا إلى فعلِ ما حَرَّمَ اللهُ، واستباحةِ مَحظوراتِه، أو إسقاطِ واجبٍ، أو دفعِ حقٍّ، ونحوِ ذلك.

فمن ذلك: لو كانَ لرجلٍ عشرةٌ صِحاحٌ، ومَعَ آخَرَ خَمْسَةَ عَشَرَ مُكَسَّرَةٌ، فاقتَرضَ كلُّ واحدٍ مِنهما ما معَ صاحبِه ثمَّ تَبَارَيا تَوَصُّلًا إلى بيعِ الصِّحاحِ بالمُكَسَّرَةِ مُتفاضِلًا، أو باعَه الصِّحاحَ بمِثْلها مِن المُكَسَّرَةِ، ثمَّ وَهَبَه الخمسةَ الزَّائدةَ، أو اشتَرى منه بها أُوقِيَّةَ صابونٍ ونحوَها ممَّا يَأخُذُه بأقلَّ مِن قيمتِه، فكلُّ ما كانَ مِن هذا على وجهِ الحيلةِ فهو خبيثٌ مُحرَّمٌ، وأباحَه أبو حنيفةَ والشَّافعيُّ إذا لم يَكُنْ مَشروطًا في العقدِ.

(1)

«المسودة في أصول الفقه» (ص 451).

(2)

«المغني» (4/ 43).

(3)

في (ع): من أمورِ.

ص: 793

(فوائدُ)

تَشتملُ على‌

‌ جملةٍ مِن قواعدِ الفقهِ

تُشبِهُ الأدلَّةَ، وليسَتْ بأدلَّةٍ، لكنْ ثَبَتَ مضمونُها بالدَّليلِ، وصارَتْ يُقضى بها في جزئيَّاتِها كأنَّها دليلٌ على ذلك الجزئيِّ، وهي في الحقيقةِ راجعةٌ إلى قواعدِ وأصولِ الفقهِ:

واعلَمْ أنَّ قواعدَ مذهبِ الإمامِ أحمدَ وأصحابِه كثيرةٌ جدًّا لا تَنحصرُ، وكذلك جميعُ المذاهبِ الأربعةِ لكلِّ أصحابِ مذهبٍ قواعدُ كثيرةٌ جليلةٌ عظيمةٌ.

قالَ الإمامُ أحمدُ

(1)

: أصولُ الإسلامِ ثلاثةُ أحاديثَ: «الأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ»

(2)

، و «الحَلَالُ بَيِّنٌ وَالحَرَامُ بَيِّنٌ»

(3)

، و «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ»

(4)

.

وقالَ أبو داودَ تلميذُ الإمامِ أحمدَ: الفقهُ يَدورُ على خمسةِ أحاديثَ: «الحَلَالُ بَيِّنٌ وَالحَرَامُ بَيِّنٌ»

(5)

، و «الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ»

(6)

، و «مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ»

(7)

، و «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ»

(8)

، و «الدِّينُ النَّصِيحَةُ»

(9)

.

(1)

ليس في «د» .

(2)

رواه البخاري (1) من حديث عمر رضي الله عنه.

(3)

رواه البخاري (2051)، ومسلم (1599) من حديث النُّعمان بن بشير رضي الله عنه.

(4)

رواه مسلم (1718) من حديث عائشة رضي الله عنها.

(5)

رواه البخاري (2051)، ومسلم (1599) من حديث النُّعمان بن بشير رضي الله عنه.

(6)

رواه البخاري (1) من حديث عمر رضي الله عنه.

(7)

رواه البخاري (7288)، ومسلم (1337) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(8)

رواه ابن ماجه (2340، 2341) من حديث عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ وابن عباس رضي الله عنهم.

وحسَّنه النووي في «الأذكار» (ص 351)، وقال ابن الملقن في «خلاصة البدر المنير» (2897): وقال ابن الصلاح: حسن. قال أبو داود: وهو أحد الأحاديث الَّتي يدور عليها الفقه، وصححه إمامنا في حرملة.

(9)

رواه مسلم (55) من حديث تَمِيمٍ الدَّارِيِّ رضي الله عنه.

ص: 794

وقالَ أيضًا: كَتَبْتُ عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خمسَ مئةِ ألفِ حديثٍ، انْتَخَبْتُ منه ما ضَمَّنْته كتابي السُّننَ جَمَعْتُ أربعةَ آلافِ وثمانِ مئة حديثٍ، ذَكَرْتُ الصَّحيحَ وما يُشبِهُه ويُقارِبُه، ويَكفي المسلمَ [لدينِه مِن ذلك]

(1)

أربعةُ أحاديثَ: «الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ»

(2)

، و «مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ المَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ»

(3)

، و «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَرْضَى لِأَخِيهِ مَا يَرْضَى لِنَفْسِهِ»

(4)

، و «الحَلَالُ بَيِّنٌ وَالحَرَامُ بَيِّنٌ»

(5)

.

ورَدَّ ابنُ عبدِ السَّلامِ الفقهَ كُلَّه إلى اعتبارِ المصالحِ ودرءِ المفاسدِ.

قالَ في «شرح الأصل» : وكلُّ هذا تَعسُّفٌ، وفيه إجمالٌ شديدٌ، بل القواعدُ تَزيدُ على المِئينَ، وذَكَرَ هنا بعضَ قواعدَ تَشتملُ على مسائلَ مُهمَّةٍ وهي مُتَّسِعةُ جدًّا

(6)

.

فـ (مِن أَدِلَّةِ الفِقْهِ) في ذلك: (ألَّا يُرفَعَ يَقِينٌ بِشَكٍّ) بمعنى أنَّ الإنسانَ إذا تَحَقَّقَ شيئًا ثمَّ شَكَّ هل زالَ ذلك الشَّيءُ المُحَقَّقُ أم لا؟ الأصلُ بقاءُ المُتحَقَّقِ، فيَبقى الأمرُ على ما كانَ مُتَحَقَّقًا

(7)

؛ لحديثِ عبدِ اللهِ بنِ زيدٍ المازنِيِّ: شُكِيَ إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الرَّجلُ يُخَيَّلُ إليه أنَّه يَجِدُ الشَّيءَ في

(1)

في «د» : لذلك من دينه.

(2)

رواه البخاري (1) من حديث عمر رضي الله عنه.

(3)

رواه الترمذي (2317)، وابن ماجه (3976)، وابن حبان (229) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

وحسَّنه النووي في «الأذكار» (ص 287).

(4)

رواه البخاري (13)، ومسلم (45) من حديث أنسٍ رضي الله عنه.

(5)

رواه البخاري (2051)، ومسلم (1599) من حديث النُّعمان بن بشير رضي الله عنه.

(6)

«التحبير شرح التحرير» (8/ 3842).

(7)

في «ع» : محققًا.

ص: 795

الصَّلَاةِ، قالَ:«لَا يَنْصَرِفْ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا» مُتَّفقٌ عليه

(1)

.

ولا تَختَصُّ هذه القاعدةُ بالفقهِ، بل الأصلُ في كلِّ حادثٍ عَدَمُه حَتَّى يُتَحَقَّقَ كما تَقولُ: الأصلُ في الألفاظِ أنَّها للحقيقةِ، وفي الأوامرِ للوجوبِ، والنَّواهي للتَّحريمِ، والأصلُ بقاءُ

(2)

العمومِ حَتَّى يُتَحَقَّقَ وُرودُ المُخصِّصِ، وبقاءُ حُكمُ النَّصِّ حَتَّى يَرِدَ النَّاسخُ، وغيرُ ذلك ممَّا لا حصرَ له.

وممَّا يُبنى على هذه القاعدةِ أنَّ المانِعَ لا يُطالَبُ بالدَّليلِ؛ لأنَّه مُستنِدٌ إلى الاستصحابِ، كما أنَّ المُدَّعى عليه لا يُطالَبُ بحُجَّةٍ

(3)

بل القولُ في الإنكارِ قولُه بيمينِه كما قالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «البَيِّنَةُ عَلَى المُدَّعِي، وَاليَمِينُ عَلَى [مَنْ أَنْكَرَ]

(4)

»، وفي روايةٍ: «عَلَى [المُدَّعَى عَلَيْهِ]

(5)

»

(6)

.

(وَ) من أدلَّةِ الفقهِ (زَوَالُ الضَّرَرِ بِلَا ضَرَرٍ) أي: الضَّررُ يُزالُ ولا يُزالُ به؛ لأنَّ فيه ارتكابَ ضررٍ وإنْ زالَ ضررٌ آخَرُ، فتَجِبُ إزالةُ الضَّررِ بلا ضررٍ؛ لقولِه عليه الصلاة والسلام:«لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ»

(7)

، وهذه القاعدةُ فيها مِن الفقهِ ما لا حَصرَ له، فإنَّ الأحكامَ إمَّا لجلبِ المنافعِ، أو لدفعِ المضارِّ، فيَدخُلُ

(1)

رواه البخاري (137)، ومسلم (361) من حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه.

(2)

ليس في «د» .

(3)

ليس في «د» .

(4)

في «د» : المدعى عليه.

(5)

في «د» : من أنكر.

(6)

رواه الترمذي (1341) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وضعّفه.

وروى البخاري (4552)، ومسلم (1711) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ، لَادَّعَى نَاسٌ دِمَاءَ رِجَالٍ وَأَمْوَالَهُمْ، وَلَكِنَّ اليَمِينَ عَلَى المُدَّعَى عَلَيْهِ.

(7)

رواه ابن ماجه (2340، 2341) من حديث عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ وابن عباس رضي الله عنهم.

وحسَّنه النووي في «الأذكار» (ص 351)، وقال ابن الملقن في «خلاصة البدر المنير» (2897): وقال ابن الصلاح: حسن. قال أبو داود: وهو أحد الأحاديث الَّتي يدور عليها الفقه، وصححه إمامنا في حرملة.

ص: 796

فيها دفعُ الضَّروراتِ الخمسِ الَّتي هي حفظُ الدِّينِ والنَّفسِ والعقلِ والنَّسبِ والمالِ والعِرضِ، وهذه القاعدةُ تَرجِعُ إلى تحصيلِ المقاصدِ وتقريرِها، بدفعِ المفاسدِ أو تخفيفِها.

(وَ) يَدخُلُ فيها أيضًا (إِبَاحَتُهُ) أي: الضَّررِ (لِلْمَحْظُورِ) أي: الممنوعِ، وهو المُحَرَّمُ وهو مَعنى قولِهم: الضَّروراتُ تُبِيحُ المحظوراتِ، بشرطِ عدمِ نُقصانِ الضَّررِ عن المحظورِ، ومِن ثَمَّ جازَ بل وَجَبَ أكلُ الميتةِ عندَ المخمصةِ، وكذلك إساغةُ اللُّقمةِ بالخمرِ وبالبولِ، وغيرُ ذلك.

(وَ) مِن قواعدِ الفقهِ (المَشَقَّةُ تَجْلِبُ التَّيْسِيرَ) لقولِه تَعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}

(1)

إشارةً إلى ما خَفَّفَ عن هذه الأُمَّةِ مِن التَّشديدِ على غيرِهم مِن الإصرِ ونحوِه؛ دَفعًا للمَشَقَّةِ، وقد قالَ اللهُ تَعالى:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}

(2)

، وقال تَعَالَى في دُعائِهم:{وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا}

(3)

، وقال صلى الله عليه وسلم: «أَحَبُّ الأَدْيَانِ إِلَى اللهِ الحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ

(4)

»

(5)

في أحاديثَ وآثارٍ كثيرةٍ.

ويَدخُلُ تحتَ هذه القاعدةِ أنواعٌ مِن الفقهِ: منها في العباداتِ: القعودُ في الصَّلَاةِ النَّافلةِ مُطلقًا، وفي الفريضةِ عندَ مَشَقَّةِ القيامِ، وقَصرُها في السَّفرِ، والجمعُ بينَ الصَّلاتينِ، ونحوُ ذلك، وهي في المعاملاتِ كثيرةٌ جدًّا، وفي المناكحاتِ والجناياتِ وفي كتابِ القضاءِ.

(1)

الحج: 78.

(2)

البقرة: 185.

(3)

البقرة: 286.

(4)

في «ع» : السمحاء.

(5)

رواه أحمد (2138) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

ص: 797

ومِن التَّخفيفاتِ المطلقةِ: فروضُ الكفايةِ

(1)

، والعملُ بالظُّنونِ لمشقَّةِ الاطِّلاعِ على اليقينِ، إلى غيرِ ذلك.

(وَ) من القواعدِ قولُ الفقهاءِ: (دَرْءُ المَفَاسِدِ أَوْلَى مِنْ جَلْبِ المَصَالِحِ) فإذا دارَ الأمرُ بينَ درءِ مفسدةٍ وجَلْبِ مَصلحةٍ كانَ درءُ المفسدةِ أَوْلَى مِن جلبِ المصلحةِ.

(وَ) إذا دارَ الأمرُ أيضًا بينَ درءِ إحدى المفاسدِ وكانَت إحداها أكثرَ فسادًا مِن غيرِها فـ (دَفْعُ أَعْلَاهَا بِأَدْنَاهَا) يَعني دفعَ أعلاها أَوْلَى مِن غيرِه، وهذا واضحٌ يَقبَلُه كلُّ عاقلٍ، وأجمعَ عليه أهلُ العِلْمِ.

(وَ) مِن القواعدِ (تَحْكِيمُ العَادَةِ) يَعني أنَّ العادةَ مُحَكَّمَةٌ أي: معمولٌ بها شرعًا، ومِن أدلَّةِ هذه القاعدةِ قولُه تَعالى:{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ}

(2)

فالمرادُ ما يَعرِفُه النَّاسُ ويَتَعَارَفُونَه فيما بينَهم ممَّا لا تَرُدُّه الشَّريعةُ، وكلُّ ما تَكَرَّرَ مِن لفظِ المعروفِ في القرآنِ، نحوُ:{وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}

(3)

فالمرادُ ما يَتَعارَفُه النَّاسُ مِن مِثلِ ذلك الأمرِ، ومنه قولُه صلى الله عليه وسلم:«مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ»

(4)

فإِنَّه دليلٌ على اعتبارِ ما المسلمون عليه إمَّا مِن جهةِ الأمرِ الشَّرعيِّ، أو مِن جهةِ العادةِ المستقرَّةِ؛ لشمولِ قولِه:«لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا ذَلِكَ» ، ومنها حديثُ:«المِكْيَالُ مِكْيَالُ أَهْلِ المَدِينَةِ، وَالوَزْنُ وَزْنُ أَهْلِ مَكَّةَ» رَوَاه أبو داودَ

(5)

والنَّسائيُّ

(6)

، وسندُه صحيحٌ.

(1)

في «ع» : الكفايات.

(2)

الأعراف: 199.

(3)

النساء: 19.

(4)

رواه مسلم (1718) من حديث عائشة رضي الله عنها.

(5)

«سنن أبي داود» (3340).

(6)

«سنن النسائي» (2520).

ص: 798

وذلك أنَّ أهلَ المدينةِ لَمَّا كانوا أهلَ نخلٍ وزرعٍ اعتُبِرَتْ عادتُهم في مِقدارِ الكيلِ، وأهلُ مَكَّةَ أهلُ تجارةٍ اعتُبِرَتْ عادتُهم في الوزنِ، والمرادُ اعتبارُ ذلك فيما يَتَقَدَّرُ شرعًا كنُصُبِ الزَّكواتِ، ومقدارِ الدِّياتِ، وزكاةِ الفطرِ، والسَّلَمِ، والرِّبا، وغيرِ ذلك.

ومِن ذلك الرُّجوعُ للعادةِ في تخصيصِ عينٍ أو فعلٍ أو مقدارٍ يُحمَلُ اللَّفظُ عليه كالألفاظِ في الأيمانِ والأوقافِ والوصايا والأقاريرِ والتَّفويضاتِ.

وإطلاقُ الدِّينارِ والدِّرهمِ والصَّاعِ والمُدِّ والوسقِ والقُلَّةِ

(1)

والأوقيَّةِ، وإطلاقُهم النُّقودَ في الحملِ على الغالبِ وصِحَّةِ المعاطاةِ بما يَعُدُّه النَّاسُ بيعًا، وهذا كثيرٌ لا يَنحصِرُ في عَدٍّ.

ومأخذُ هذه القاعدةِ ومَوْضِعُها مِن أصولِ الفقهِ في قولِهم: الوصفُ المُعَلَّلُ به قد يَكُونُ عُرفيًّا أي: مِن مُقتضياتِ العرفِ، وفي بابِ التَّخصيصِ في تخصيصِ العمومِ بالعادةِ.

تنبيهٌ: قِيلَ: تَدخُلُ قاعدةُ إرادةِ الأمورِ في الأحكامِ على قَصدِها في هذه القاعدةِ، فهي مأخوذةٌ مِنها، قالوا: لأنَّ العادةَ حاكمةٌ، فإنَّ غيرَ المَنْوِيِّ مِن غُسلٍ وصلاةٍ وكتابةٍ مَثلًا لا يُسَمَّى في العادةِ غُسلًا ولا قُربَةً ولا عَقدًا. وقِيلَ: مأخوذةٌ مِن قاعدةِ الضَّررُ يُزالُ؛ لأنَّ مَن تَوَجَّه عليه شيءٌ بدليلٍ إذا تَرَكَه أو فَعَلَه لا بقصدِ امتثالِ الأمرِ حَصَلَ له الضَّررُ بما يَتَرَتَّبُ عليه مِن الذَّمِّ، فيُزالُ بالنِّيَّةِ.

وقالَ البِرْمَاوِيُّ: لو أُخِذَتْ مِن قاعدةِ «اليقينُ لا يُرفَعُ بالشَّكِّ» كانَ أقربَ؛

(1)

ليس في «ع» .

ص: 799

لأنَّ الأصلَ عدمُ ذلك الشَّيءِ، فلا يُصارُ إلى جَعلِه مُعتبرًا إلَّا بواسطةِ ترجيحٍ المُتردَّدِ فيه بقصدِ أنْ يُخالِفَ الأصلَ

(1)

.

وقيلَ: هي قاعدةٌ برأسِها، ودليلُها حديثُ عمرَ:«الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ»

(2)

، ورُبَّما أُخِذَتْ مِن قولِه تَعالى:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}

(3)

.

ومِن هذه المادَّةِ أحاديثُ كثيرةٌ ذُكِرَ فيها «تَبتغي وجهَ اللهِ» ، وحديثُ:«الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ»

(4)

أَعَمُّها وأَعظَمُها؛ لأنَّ أفعالَ العقلاءِ إذا كانَتْ معتبرةً فإِنَّما تَكُونُ عن قصدٍ، وأيضًا فقد ذَهَبَ كثيرٌ مِن العلماءِ إلى أنَّ الواجباتِ على المُكَلَّفِ القصدُ إلى النَّظرِ المُوصِلِ إلى مَعرفةِ اللهِ تَعالى، فالقصدُ سابقٌ دائمًا، وسواءٌ في اعتبارِ القصدِ في الأفعالِ المُسلِمُ والكافرُ، إلَّا أنَّ المسلمَ يَختَصُّ بقصدِ التَّقرُّبِ إلى اللهِ تَعالى، فلا تَصِحُّ هذه النِّيَّةُ مِن كافرٍ، بخلافِ نِيَّةِ الاستثناءِ، والنِّيَّةِ في الكناياتِ ونحوِ ذلك.

(وَ) مِن القواعدِ (جَعْلُ المَعْدُومِ كَالمَوْجُودِ احْتِيَاطًا) كالمقتولِ تُورَثُ عنه الدِّيَةُ، وإنَّما تَجِبُ بموتِه ولا تُورَثُ عنه إلَّا إذا دَخَلَتْ في مِلكِه، فيُقَدَّرُ دُخولُها قبلَ موتِه، واللهُ أعلمُ.

وقد نَجَزَ بحمدِ اللهِ سبحانه وتعالى الكلامُ على الأدلَّةِ، وهذا حينُ الشُّروعِ في بيانِ أحكامِ المستدلِّ، وما يَتَعَلَّقُ به مِن بيانِ الاجتهادِ والمجتهدِ، والتَّقليدِ والمقلِّدِ، ومسائلِ ذلك، وذَكَرَ ذلك بقولِه:

(1)

«الفوائد السنية في شرح الألفية» (5/ 223).

(2)

رواه البخاري (1) من حديث عمر رضي الله عنه.

(3)

البينة: 5.

(4)

رواه البخاري (1) من حديث عمر رضي الله عنه.

ص: 800

(بَابٌ)

(الِاجْتِهَادِ)

افتعالٌ مِن الجُهدِ، وهو بضمِّ الجيمِ وفَتحِها الطَّاقةُ، وبفتحِها فقطْ المَشَقَّةُ، وهو (لُغَةً: اسْتِفْرَاغُ الوُسْعِ لِتَحْصِيلِ أَمْرٍ شَاقٍّ)، وإنَّما وُصِفَ الفعلُ بكونِه شاقًّا؛ لأنَّ الاجتهادَ مُختَصٌّ به

(1)

في عُرفِ اللُّغةِ؛ إذ يُقالُ: اجتهدَ الرَّجُلُ في حملِ الرَّحى ونَحوِها مِن الأشياءِ الثَّقيلةِ، ولا يُقالُ: اجتهدَ في حملِ خَرْدَلَةٍ ونَحوِها مِن الأشياءِ الخفيفةِ.

(وَ) مَعنى الاجتهادِ (اصْطِلَاحًا: اسْتِفرَاغُ الفَقِيهِ وُسْعَهُ) في طلبِ الظَّنِّ (لِدَرْكِ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ) على وجهٍ يُحَسُّ مِن النَّفسِ العجزُ عَن المزيدِ عليه. واستفراغُ الوسعِ: أي: بذلُ الوسعِ وهو جنسٌ، وكونُ ذلك من الفقيهِ قيدٌ مُخرِجٌ للمُقلِّدِ.

وقولُه: «لدَرْكِ حكمٍ شرعيٍّ» احتِرازٌ

(2)

من القطعِ

(3)

، فإِنَّه لا اجتهادَ في القطعيَّاتِ. وقولُه:«حُكمٍ شرعيٍّ» قيدٌ

(4)

مُخرِجٌ للحِسِّيَّاتِ والعقليَّاتِ ونحوِ ذلك.

فائدةٌ: الاجتهادُ يَنقسِمُ إلى ناقصٍ وتامٍّ، كما أشارَ إليه الطُّوفِيُّ

(5)

بقولِه: والتَّامُّ منه ما انتهى إلى حالِ العجزِ مِن مزيدِ طلبٍ.

(1)

ليس في «د» .

(2)

في «ع» : احترازًا.

(3)

في «د» : القطعي.

(4)

في «ع» : قيل.

(5)

«شرح مختصر الروضة» (3/ 575).

ص: 801

وقالَ: فالنَّاقصُ هو النَّظَرُ المُطلَقُ في تَعَرُّفِ الحُكْمِ. وتَختلِفُ مَرَاتِبُهُ بحَسَبِ الأحوالِ، والتَّامُّ هو استفراغُ القوَّةِ النَّظريَّةِ حَتَّى يَحُسَّ النَّاظِرُ مِن نَفسِه العجزَ عن مزيدِ طلبٍ،

ومِثالُه: مثالُ مَن ضاعَ منه دِرهمٌ في التُّرابِ فقَلَّبَه برِجلِه، فلم يَجِدْ شيئًا فتَرَكَه وراحَ، وآخَرُ إذا جَرى له ذلك جاءَ بغربالٍ فغَرْبَلَ التُّرابَ حَتَّى يَجِدَ الدِّرهمَ، أو يَغلِبَ على ظَنِّه أنَّه ما عادَ يَلْقَاه، فالأوَّلُ اجتهادٌ قاصرٌ، والثَّاني تامٌّ

(1)

.

(وَشَرْطُ مُجْتَهِدٍ) يَعني المجتهدَ المطلقَ (كَوْنُهُ فَقِيهًا، و) الفقيهُ (هُوَ العَالِمُ

(2)

:

(1)

بِأُصُولِ الفِقْهِ) أي: له قُدرةٌ على استخراجِ أحكامِ الفقهِ مِن أدِلَّتِها، (وَ) العالمُ بـ (مَا يُسْتَمَدُّ مِنْهُ) أصولُ الفقهِ، وهي الكتابُ والسُّنَّةُ والإجماعُ والقِيَاسُ والاستدلالُ والأصولُ المختلَفُ فيها، وما يُعتَبَرُ للحُكمِ في الجملةِ مِن حيثُ يُعتَبَرُ ذلك للحُكمِ، أو مِن حيثُ الكيفيَّةُ؛ كتقديمِ ما يَجِبُ تأخيرُه، وتأخيرِ ما يَجِبُ تقديمُه؛ لأنَّ ذلك كلَّه آلةٌ للمجتهدِ كالقدومِ ونحوِه للنَّجَّارِ والقلمِ للكاتبِ.

(2)

(وَ) العالِمُ (بِالأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ مُفَصَّلَةً، وَ) بـ (اخْتِلَافِ مَرَاتِبِهَا) فيَضمَنُ ذلك أنْ يَكُونَ عندَه سَجِيَّةٌ وقُوَّةٌ يَقتَدِرُ بها على التَّصرُّفِ بالجمعِ والتَّفريقِ والتَّرتيبِ، والتَّصحيحِ والإفسادِ، فإنَّ ذلك مِلاكُ صناعةِ الفقهِ.

قالَ الغزَّالِيُّ: إذا لم يَتَكَلَّمِ الفقيهُ في مسألةٍ لم يَسمَعْها ككلامِه في مسألةٍ سَمِعَها، فلَيْسَ بفقيهٍ

(3)

.

وليسَ المرادُ أنَّ يَعرِفَ سائرَ آياتِ القرآنِ وأحاديثِ السُّنَّةِ، بل (فَـ)

(1)

«شرح مختصر الروضة» (3/ 576).

(2)

قوله: كونه فقيهًا وهو العالم. في «مختصر التحرير» (ص 255): وهو الفقيه: العلم.

(3)

ينظر: «تشنيف المسامع» (4/ 556)، و «الغيث الهامع» (ص 695).

ص: 802

الواجبُ عليه (مِنَ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ) مَعرفةُ (مَا يَتَعَلَّقُ بِالأَحْكَامِ) منهما

(1)

، والصَّحيحُ أنَّها غيرُ منحصرةٍ في قدرِ خَمْسِ مئةِ آيةٍ مِن القرآنِ ولا في بعضِ السُّنَّةِ دونَ بعضٍ، وكأنَّ مَن حَصَرَها في ذلك أرادَ ما هو مقصودٌ به الأحكامُ بدَلالةِ المطابقةِ، أمَّا بدَلالةِ الالتزامِ فغالبُ القرآنِ -بل كلُّه- لا يَخلو شيءٌ مِنه عن حُكمٍ يُستنبَطُ منه، وكذلك السُّنَّةُ.

والمرادُ بمعرفةِ ما يَتَعَلَّقُ بالأحكامِ (بِحَيْثُ يُمْكِنُهُ) أي: المجتهدَ (اسْتِحْضَارُهُ لِلِاحْتِجَاجِ بِهِ)، و (لَا) يُشتَرَطُ (حِفْظُهُ) أي: حفظُ ما يَتَعَلَّقُ بالأحكامِ مِن الكتابِ والسُّنَّةِ، حيثُ أَمْكَنَه ذلك.

(3)

(وَ) شَرطُ المجتهدِ عِلْمُه بـ (النَّاسِخِ وَالمَنْسُوخِ مِنْهُمَا) أي: مِن الكتابِ والسُّنَّةِ؛ لأنَّ المنسوخَ بَطَلَ حُكمُه، وصارَ العملُ على النَّاسخِ، فإن لم يَعرِفْ ذلك أَفْضَى إلى إثباتِ المنفيِّ ونفيِ المُثبَتِ، وقد اشتدَّتْ وصيَّةُ السَّلَفِ واهتمامُهم بمعرفةِ النَّاسخِ والمنسوخِ، حَتَّى رُوِيَ عن عليٍّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَه أنَّه رأى قاصًّا يَقُصُّ في مسجدِ الكوفةِ وهو يَخلِطُ الأمرَ بالنَّهيِ والإباحةَ بالحظرِ، فقالَ له: أَتعرِفُ النَّاسخَ مِن المنسوخِ؟ قالَ: لا، قالَ: هَلَكْتَ وأَهْلَكْتَ، ثمَّ قالَ له: أبو مَن أنت؟! قالَ: أبو يحيى، قالَ: أنت أبو اعْرِفُوني، ثمَّ أَخَذَ أُذُنَه ففَتَلَها، وقال: لا تَقُصَّ في مسجدِنا بعدُ.

ويَكفيه مِن معرفةِ النَّاسخِ والمنسوخِ أنْ يَعرِفَ أنَّ دليلَ هذا الحُكمِ غيرُ منسوخٍ.

(4)

(وَ) شرطُه أيضًا عِلمُه بـ (صِحَّةِ الحَدِيثِ وَضَعْفِهِ) سندًا ومتنًا، بأنْ يَكُونَ له مِن الأهليَّةِ والقوَّةِ في عِلمِ الحديثِ ما يَعرِفُ به صِحَّةَ مَخرجِ

(1)

في «ع» : منها.

ص: 803

الحديثِ ليَطرَحَ الضَّعيفَ، حيثُ لا يَكُونُ في فضائلِ الأعمالِ، ويَطرَحَ الموضوعَ مُطلقًا، وعِلمُه أيضًا بحالِ الرُّواةِ في القوَّةِ والضَّعفِ، ليَعلَمَ ما يَنجَبِرُ مِن الضَّعفِ بطريقٍ آخَرَ.

(وَلَوْ) كانَ عِلمُه بذلك (تَقْلِيدًا) لغيرِه من غيرِ اجتهادٍ (كنَقْلِهِ) ذلك (مِنْ كِتَابٍ صَحِيحٍ) من كتبِ الحديثِ ارتَضَى الأئمَّةُ روايتَه كالصَّحيحينِ و «مسندِ مالكٍ» وأحمدَ وأبي داودَ ونحوِهم؛ لأنَّ ظَنَّ الصِّحَّةِ يَحصُلُ بذلك، وإنْ كانَ معرفةُ ذلك بالاجتهادِ أعلى رُتبةً من التَّقليدِ لتحصيلِه مِن الظَّنِّ أكثرَ.

(وَ) شرطُه أيضًا أنْ يَعرِفَ (مِنَ النَّحْوِ وَاللُّغَةِ مَا) أي: قَدْرًا (يَكْفِيهِ فِي) مَعرفةِ (مَا يَتَعَلَّقُ بِهِمَا) أي: بالكتابِ والسُّنَّةِ (مِنْ نَصٍّ وَظَاهِرٍ، وَمُجْمَلٍ وَمُبَيَّنٍ، وَحَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ، وَأَمْرٍ وَنَهْيٍ، وَعَامٍّ وَخَاصٍّ، وَمُسْتَثْنًى وَمُسْتَثْنًى مِنْهُ، وَمُطْلَقٍ وَمُقَيَّدٍ، وَدَلِيلِ الخِطَابِ، وَنَحْوِهِ) كفحوى الخطابِ ولحنِه ومفهومِه؛ لأنَّ بعضَ الأحكامِ يَتَعَلَّقُ بذلك ويَتَوَقَّفُ عليه تَوَقُّفًا ضروريًّا كقولِه عليه السلام: «لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ»

(1)

الرِّواية بالرَّفعُ، وهو يَقتضي نفيَ الإرثِ عمَّا تَرَكوه للصَّدقةِ، ومفهومُه أنَّهم يُورَثون غيرَه مِن الأموالِ، حَتَّى إنَّهم بناءً على ذلك ظَلَمُوا أبا بكرٍ رضي الله عنه وشَنَّعوا عليه بأنَّه مَنَعَ فاطمةَ حَقَّها.

وكقولِه عليه السلام: «اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ»

(2)

رَوَاه الشِّيعةُ بالنَّصبِ: أبا بكرٍ وعمرَ على النِّداءِ

(3)

؛ أي: يا أبا بكرٍ، فعلى روايةِ الجرِّ هما مُقْتَدًى

(4)

بهما، وعلى روايةِ النَّصبِ: هما مُقتدِيان بغيرِهما،

(1)

رواه البخاري (3093)، ومسلم (1759).

(2)

رواه الترمذي (3662) من حديث حذيفة رضي الله عنه وقال: حديث حسن.

(3)

في «د» : النصب.

(4)

في «ع» : مقتديان.

ص: 804

وقد فَرَّقَ الفقهاءُ بينَ مَن يَعرِفُ العربيَّةَ وغيرِه في مسائلَ كثيرةٍ مِن الطَّلاقِ والإقرارِ على ما تَقَرَّرَ في كتبِ الفقهِ.

(6)

(وَ) شَرطُه أيضًا عِلمُه بـ (المُجْمَعِ عَلَيْهِ وَالمُخْتَلَفِ فِيهِ) بأنْ يَعرِفَ مواقعَ الإجماعِ، مثلُ أنَّ الإجماعَ حُجَّةٌ، وأنَّ المعتبرَ فيه اتِّفاقُ المجتهدينَ، وأنَّه لا يَختَصُّ باتِّفاقِ بلدٍ دونَ بلدٍ، ونحوِ ذلك ممَّا سَبَقَ في بابِه حَتَّى لا يُفتِيَ بخلافِه، فيَكونَ قد خَرَقَ الإجماعَ.

ولا يُشترَطُ أن يَعلَمَ الإجماعَ والخلافَ في جميعِ المسائلِ، بل يَكفيه مَعرفةُ أنَّ هذه المسألةَ مُجمَعٌ عليها أم لا.

(7)

(وَ) شرطُه أيضًا عِلْمُه بـ (أَسْبَابِ النُّزُولِ) في الآياتِ، وأسبابِ قولِه عليه الصلاة والسلام في الأحاديثِ؛ ليَعرِفَ المرادَ مِن ذلك، وما يَتَعَلَّقُ بهما مِن تخصيصٍ أو تعميمٍ.

(8)

(وَ) شَرطُ المجتهدِ أيضًا عِلْمُه بـ (مَعْرِفَةِ اللهِ) بوجودِه سبحانَه و (تَعَالَى بِصِفَاتِهِ الوَاجِبَةِ) له من وحدانيَّتِه وقدرتِه وحكمتِه وتنزيهِه عن صفاتِ المُحدَثينَ وغيرِ ذلك.

(وَ) بـ (مَا يَجُوزُ عَلَيْهِ) سبحانه وتعالى مِن إرسالِ الرُّسُلِ، وأنَّه قد أَرسَلَ رسلًا بأحكامٍ شَرَعَها.

(وَ) ما (يَمْتَنِعُ) عليه عز وجل مِن الشَّريكِ والصَّاحبةِ والوَلَدِ، تَعَالَى اللهُ عن ذلك، وأنْ يَكُونَ مُصَدِّقًا بالرَّسولِ صلى الله عليه وسلم، وبما جاءَ مِن الشَّرعِ المنقولِ كلٌّ بدليلِه مِن جهةِ الجملةِ لا مِن جهةِ التَّفصيلِ.

و (لَا) يُشتَرَطُ في المجتهدِ عِلْمُه بـ:

ص: 805

(1)

(تَفَارِيعِ الفِقْهِ) الَّتي يُعنى بتحقيقِها الفقهاءُ؛ لأنَّ ذلك مِن فروعِ الاجتهادِ الَّتي وَلَّدَها المجتهدونَ بَعدَ حيازةِ منصبِه، فلو اشْتُرِطَتْ مَعرفتُها في الاجتهادِ لَزِمَ الدَّوْرُ لتَوَقُّفِ الأصلِ الَّذِي هو الاجتهادُ على الفرعِ الَّذِي هو تفاريعُ الفقهِ، وكذلك لا يُشتَرَطُ معرفةُ دقائقِ العربيَّةِ والتَّصريفِ حَتَّى يَكُونَ كسِيبَوَيْه ونحوِه؛ لأنَّ المحتاجَ إليه في الفقهِ دونَ ذلك.

(2)

(وَ) لا (عِلْمِ الكَلَامِ) أي: علمِ أصولِ الدِّينِ.

قالَ الغزَّالِيُّ: ليسَ

(1)

معرفةُ الكلامِ بالأدلَّةِ المجرَّدةِ فيه على عادةِ المتكلِّمينَ شرطًا في الاجتهادِ، بل هو مِن ضرورةِ منصبِ الاجتهادِ؛ إذْ لا يَبلُغُ رتبةَ الاجتهادِ إلَّا وقد قَرَعَ سَمعَه أدلَّةُ الكلامِ فيَعرِفُها حَتَّى لو تُصُوِّرَ مُقلِّدٌ محضٌ في تصديقِ الرَّسولِ صلى الله عليه وسلم وأصولِ الإيمانِ لجازَ له الاجتهادُ في الفروعِ بالشُّروطِ المذكورةِ، هذا مَعنى كلامه

(2)

.

قالَ: والقَدْرُ الواجبُ مِن ذلك اعتقادٌ جازمٌ؛ إذ به يَصِيرُ مُسلمًا والإسلامُ شرطُ المفتي لا مَحالَةَ.

(3)

(وَلَا مَعْرِفَةِ أَكْثَرِ الفِقْهِ) في الأشهرِ؛ لأنَّه نتيجتُه.

ولا يُشتَرطُ في المجتهدِ أيضًا كونُه ذَكَرًا ولا حُرًّا ولا عدلًا، لكن لا يُستفتى الفاسقُ ولا يُعمَلُ بقولِه بخلافِ المرأةِ والرَّقيقِ.

واعلَمْ أنَّ هذه الشُّروطَ المذكورةَ كلَّها إِنَّمَا تُشتَرَطُ للمجتهدِ المطلَقِ الَّذِي يُفتي في جميعِ الشَّرعِ؛ كالأئمَّةِ الأربعةِ رضي الله عنهم ونحوِهم، أمَّا مَن أفتى في فنٍّ

(1)

في «ع» : ليست.

(2)

«المستصفى» (ص 344).

ص: 806

واحدٍ أو في مسألةٍ واحدةٍ وجد فيه شروطُ الاجتهادِ بالنِّسبةِ إلى ذلك الفنِّ أو تلك المسألةِ، فلا يُشتَرطُ له ذلك، وجازَ له أن يَجتهِدَ فيما حَصَّلَ شروطَ الاجتهادِ فيه، كمَن عَرَفَ أصولَ الفرائضِ والحسابَ، وهو فقيهُ النَّفسِ فيها عارفًا بمعانيها، جازَ له أن يَجتهدَ في مسألةِ المشركةِ ومسائلِ المناسخاتِ، والجدِّ، والإخوةِ، والمفقودِ، ونحوِ ذلك، وإن لم يَكُنْ له معرفةٌ بمسائلِ البيعِ والنِّكاحِ والأخبارِ الواردةِ فيها، ونحوِها مِن مسائلِ الفروعِ.

(وَ) أمَّا (المُجْتَهِدُ فِي مَذْهَبِ إِمَامِهِ) يَعني مجتهدَ المذهبِ، وهو مَن يَنتحِلُ مَذهبَ إمامٍ مِن الأئمَّةِ فنَظَرُه في بعضِ نصوصِ إمامِه أي:(العَارِفُ بِمَدَارِكِهِ) أي: مَداركِ مذهبِ إمامِه (القَادِرُ عَلَى تَقْرِيرِ قَوَاعِدِهِ، وَ) على (الجَمْعِ) لمسائلِه (وَالفَرْقِ) بينَهما، والتَّصرُّفِ فيها كاجتهادِ إمامِه في نصوصِ الكتابِ والسُّنَّةِ.

وقالَ البِرْمَاوِيُّ وغيرُه: هو أنْ يَعرِفَ قواعدَ ذلك المذهبِ وأصولَه ونصوصَ صاحبِ المذهبِ، بحيثُ لا يَشِذُّ

(1)

عنه شيءٌ من ذلك، فإذا سُئِلَ عن حادثةٍ، فإنْ عَرَفَ نصًّا لصاحبِ المذهبِ فيها أجابَ به، وإلَّا اجتهدَ فيها على مذهبِه وخَرَّجَها على أصولِه.

ثم قالَ: ومرتبةٌ ثالثةٌ دونَ الثَّانيةِ، وهي مرتبةُ مجتهدِ الفُتيا الَّذِي تَسُوغُ له الفُتيا على مذهبِ إمامِه الَّذِي هو مُقَلِّدُه، فلا يُشتَرَطُ فيه ما يُشتَرَطُ في مجتهدِ المذهبِ، بل يُعتَبَرُ أنْ يَكُونَ مُتَبَحِّرًا في المذهبِ مُتَمَكِّنًا مِن ترجيحِ قولٍ على قولٍ، وهذا أدنى المراتبِ، ولم يَبْقَ بعدَه إلَّا العامِّيُّ ومَن في مَعناه

(2)

.

ص: 807

(فَصْلٌ)

(الِاجْتِهَادُ يَتَجَزَّأُ) بمَعنى أنَّه يَجُوزُ أن يَحصُلَ للإنسانِ منصبُ الاجتهادِ في بعضِ المسائلِ دونَ بعضٍ عندَ الأكثرِ؛ إذ لو لم يَتَجَزَّأِ الاجتهادُ لَزِمَ أن يَكُونَ عالمًا بجميعِ الجزئيَّاتِ وهو [محالٌ؛ إذ]

(1)

جميعُها لا يُحِيطُ بها بشرٌ، وقد سُئِلَ الأئمَّةُ الأربعةُ وغيرُهم عن مسائلَ، فأجابَ بأنَّه لا يَدري حَتَّى قاله مالكٌ في سِتٍّ وثلاثينَ مسألةً مِن ثمانٍ وأربعينَ مسألةً، وقد تَوَقَّفَ الشَّافعيُّ وأحمدُ بل الصَّحابةُ والتَّابعون رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عنهم أجمعينَ في الفتاوى كثيرًا، فلو كانَ الاجتهادُ المطلقُ في جميعِ الأحكامِ شرطًا في الاجتهادِ في كلِّ مسألةٍ على حِدَتِها، لَمَا كانَ هؤلاءِ الأئمَّةُ مُجتهدينَ لكنَّه خلافُ الإجماعِ، فدَلَّ على أنَّ ذلك لا يُشتَرَطُ.

(وَيَجُوزُ اجْتِهَادُهُ) أي: اجتهادُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي أَمْرِ الدُّنْيَا وَوَقَعَ) منه إجماعًا، قاله ابنُ مُفلحٍ

(2)

، وذلك كقضيَّتِه

(3)

صلى الله عليه وسلم معَ الأنصارِ لَمَّا رآهم يُلَقِّحون نَخْلَهم، وقولِه لهم:«لَوْ تَرَكْتُمُوهُ» ، فتركوه، فطَلَعَ شيصًا، فقالَ لهم عن ذلك، فأخبروه بما قالَ لهم قبلَ ذلك، فقالَ:«أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِدُنْيَاكُمْ»

(4)

.

(وَ) يَجُوزُ اجتهادُه صلى الله عليه وسلم (فِي أَمْرِ الشَّرْعِ عَقْلًا) عندَ الجمهورِ، (وَ) يَجُوزُ (شَرْعًا) وهو قولُ الأكثرِ، (وَوَقَعَ) اجتهادُه في أمرِ الشَّرعِ على الصَّحيحِ؛ لأنَّه لا يَلْزَمُ منه محالٌ، والأصلُ مشاركتُه لأُمَّتِه، ولقولِه تَعالى:{فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ}

(5)

وهو عامٌّ في الرَّسولِ وغيرِه، فيَتَنَاوَلُه الأمرُ بالاعتبارِ، وهو الاجتهادُ.

(1)

في «ع» : محل.

(2)

«أصول الفقه» (4/ 1470).

(3)

في «د» : لقضيته.

(4)

رواه مسلم (2363) من حديث عائشة وأنس رضي الله عنهما.

(5)

الحشر: 2.

ص: 808

قالَ الطُّوفِيُّ: هذا يَقتضي وجوبَ الاجتهادِ عليه، ولَمَّا قُتِلَ النَّضرُ بنُ الحارثِ ببدرٍ جاءَتْ أُختُه قُتَيْلَةُ بنتُ الحارثِ، فأَنْشَدَتْ به أبياتًا منها

(1)

:

أَمُحَمَّدُ! لَأَنْتَ نَجْلُ كَرِيمَةٍ

مِنْ قَوْمِهَا وَالفَحْلُ فَحْلٌ مُعْرِقُ

مَا كَانَ ضَرَّكَ لَوْ مَنَنْتَ، وَرُبَّمَا

مَنَّ الفَتَى وَهْوَ المَغِيظُ المُحْنَقُ

فقالَ عليه السلام: «لَوْ سَمِعْتُ شِعْرَهَا قَبْلَ قَتْلِهِ مَا قَتَلْتُهُ» ، ولو قَتَلَه بالنَّصِّ لَمَا قالَ ذلك.

ولمَّا أرادَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أنْ يَنزِلَ ببدرٍ دونَ الماءِ قالَ له الحُبَابُ بنُ المنذرِ: إنْ كانَ هذا بوحيٍ، فنعمْ، وإنْ كانَ الرَّأيَ والمكيدةَ، فانْزِلْ بالنَّاس على الماءِ لتَحُولَ بينَه وبينَ العدوِّ، فقالَ لهم:«لَيْسَ بِوَحْيٍ، إِنَّمَا هُوَ رَأْيٌ وَاجْتِهَادٌ رَأَيْتُهُ»

(2)

، ورَجَعَ إلى قولِهم، فدَلَّ على أنَّه مُتَعَبِّدٌ بالاجتهادِ

(3)

.

(وَ) على هذا القولِ (لَا يُقَرُّ) صلى الله عليه وسلم (عَلَى خَطَأٍ) إجماعًا، وإن كانَ الاجتهادُ عُرضَةَ الخطأِ، لكنَّه يُفيدُ الظَّنَّ، والظَّنُّ مُتَّبَعٌ في الشَّرعِ واجتهادُه عليه السلام أقلُّ أحوالِه أنْ يُفِيدَ الظَّنَّ، فيَجِبُ اتِّباعُه كغيرِه وأَوْلَى، وظنُّه عليه السلام لا يُخطِئُ لعصمةِ اللهِ عز وجل له بخلافِ غيرِه مِن النَّاسِ، أو يُخطِئُ لا يُقَرُّ عليه بل يُنَبَّهُ على الخطأِ فيَستدرِكُه.

(وَ) يَجُوزُ (اجْتِهَادُ مَنْ عَاصَرَهُ صلى الله عليه وسلم في زمنِه (عَقْلًا) عندَ الجمهورِ؛ إذ لا فرقَ بينَه وبينَ أُمَّتِه في أنَّه كانَ يَجُوزُ له أن يَجتهِدَ ويَحكُمَ بالقِيَاسِ من

(1)

من بحر الكامل، والبيت تواتر أهل السير والأدب على إيرادهـ وانظر تخريج الأستاذ عبد السلام هارون مُوَسَّعًا في البيان والتبيين (4/ 43) الخانجي.

(2)

رواه الحاكم (3/ 482) وقال الذهبي في «مختصره» : حديث منكر.

(3)

«شرح مختصر الروضة» (3/ 595 - 597).

ص: 809

جهةِ العقلِ، وإذا جازَ أن يَتَعَبَّدَ غيرُه بالنَّصِّ تارةً وبالاجتهادِ أُخرى، جازَ أن يَتَعَبَّدَ هو بذلك، وليسَ في العقلِ ما يُحِيلُه في حقِّه ويُصَحِّحُه في حَقِّنا، ولهذا أَوْجَبَ عليه وعلينا العملَ على

(1)

اجتهادِه في مضارِّ الدُّنيا ومنافعِها.

(وَ) يَجُوزُ اجتهادُ غيرِه صلى الله عليه وسلم في زمنِه (شَرْعًا) عندَ الأكثرِ (وَوَقَعَ) ذلك في زمنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم على الأصحِّ، واستدلَّ لذلك بأنَّ سعدَ بنَ معاذٍ حَكَمَ في قُرَيْظَةَ لَمَّا حَصَرَهم النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ونزلوا على حُكمِ سعدٍ أن تُقتَلُ مُقاتلتُهم وتُسْبَى ذَرَارِيُّهم فصَوَّبَ عليه السلام حُكْمَه، وقال:«لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ المَلِكِ»

(2)

، وفي روايةٍ: «بِحُكْمِ اللهِ مِنْ فَوْقِ سَبْعَةِ

(3)

أَرْقِعَةٍ أَوْ سَمَوَاتٍ»

(4)

.

(وَمَنْ جَهِلَ وُجُودَهُ) أي: وجودَ الرَّبِّ تَبارَكَ و (تَعَالَى) بأنْ يَقُولَ: ما أَعلَمُ هل الرَّبُّ موجودٌ أو معدومٌ، أو ما أعلَمُ رَبًّا بالكُلِّيَّةِ فهو كافرٌ، (أَوْ عَلِمَهُ) بأنْ يَقُولَ: أعلمُ وجودَ الرَّبِّ، (وَفَعَلَ) فعلًا لا يَصدُرُ مثلُه إلَّا مِن كافرٍ، بأنْ يَعبُدَ الأوثانَ ونحوَه، (أَوْ قالَ مَا) أي: قولًا (لَا يَصْدُرُ إِلَّا مِنْ كَافِرٍ إِجْمَاعًا) كقولِه: عيسى ابنُ اللهِ، أو ثالثُ ثلاثةٍ، ونحوِ ذلك، أو اعتقدَ شيئًا مِن ذلك؛ (فَـ) هو (كَافِرٌ) قطعًا بلا تردُّدٍ، وإنْ كانَ صاحبُه مُصَرِّحًا بالإسلامِ.

(وَلَا يَكفُرُ مُبْتَدِعٌ غَيْرُهُ) مُطلقًا في إحدى الرِّوايتينِ عندَ أحمدَ (إِلَّا الدَّاعِيَةَ فِي رِوَايَةٍ) عنه أيضًا وهي المشهورةُ عنه في المذهبِ، وعنه روايةٌ ثالثةٌ:

(1)

في «د» : في.

(2)

رواه البخاري (3043)، ومسلم (1768) من حديث أبي سعيد الخُدْرِيِّ رضي الله عنه.

(3)

في «ع» : سبع.

(4)

عند النسائي في «الكبرى» (5906).

ص: 810

يُكَفَّرُ الدَّاعيةُ وغيرُه، هذا في المبتدعِ المجتهدِ. وأمَّا المقلِّدُ، فقالَ: الصَّحيحُ أنَّ كلَّ بدعةٍ لا تُوجِبُ الكفرَ لا يُفَسَّقُ المقلِّدُ فيها لخِفَّتِها، مثلُ مَن يُفَضِّلُ عليًّا على سائرِ الصَّحابةِ، ويَقِفُ عن تكفيرِ مَن كَفَّرْناه مِن المبتدعةِ.

(وَيَفْسُقُ مُقَلِّدٌ) لمبتدعٍ بما كَفَرَ به الدَّاعيةُ، قالَ صاحبُ «المحرر»: الصَّحيحُ أنَّ كلَّ بدعةٍ كَفَّرْنا فيها الدَّاعيةَ، فإنَّا نُفَسِّقُ المقلِّدَ فيها كمن يَقُولُ بخلقِ القرآنِ، أو بأنَّ ألفاظَنا به مخلوقةٌ، أو أنَّ عِلمَ اللهِ مخلوقٌ، أو أنَّ أسماءَه مخلوقةٌ، أو أنَّه لا يُرى في الآخِرةِ، أو يَسُبُّ الصَّحابةَ تَدَيُّنًا، أو أنَّ الإيمانَ مُجَرَّدُ الاعتقادِ وما أَشْبَهَ ذلك، فمَن كانَ عالمًا في شيءٍ مِن هذه البدعِ يَدعُو إليه ويُناظِرُ عليه فهو محكومٌ بكُفْرِه، نص أحمدُ على ذلك صريحًا في مواضعَ.

و (لَا) يُكَفَّرُ ولا يُفَسَّقُ (مُجْتَهِدٌ) في البدعِ (بِمَا كَفَرَ

(1)

به الدَّاعِيَةُ) وهو مُخطِئٌ غيرُ آثمٍ، يُثابُ على اجتهادِه، واحتجَّ بالخبرِ المتَّفقِ على صِحَّتِه:«إِذَا اجْتَهَدَ الحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ» ، وصَحَّ أنَّ اللهَ تَعَالَى عفا عن النِّسيانِ والخطأِ، فلا نُكَفِّرُ أحدًا مِن أهلِ القبلةِ.

(وَلَا يَفْسُقُ مَنْ لَمْ يُكَفِّرْ مَنْ كَفَّرْنَاهُ)، وقِيلَ: يُكَفَّرُ في إحدى الرِّوايتينِ عن أحمدَ.

(وَالمُصِيبُ فِي) الأُمورِ (العَقْلِيَّاتِ وَاحِدٌ) وهو مَن صادَفَ الحقَّ فيها لتَعَيُّنِه في الواقعِ، كحدثِ العالَمِ وثبوتِ الباري وصفاتِه، وبَعثِه الرُّسُلَ وغيرِ ذلك، فالأمورُ العقليَّةُ المُصيبُ فيها واحدٌ قطعًا كما نَقَلَ الآمِدِيُّ وغيرُه

(1)

في «ع» : كفرنا.

ص: 811

الإجماعَ عليه؛ لأنَّه

(1)

لا سبيلَ إلى أنَّ كلًّا مِن نقيضينِ أو ضِدَّينِ حَقٌّ، بل أحدُهما فقطْ، والآخَرُ باطلٌ، ومَن لم يُصَادِفْ ذلك الواحدَ في الواقعِ فهو ضالٌّ آثِمٌّ، وإنْ بالَغَ في النَّظرِ، وسواءٌ كان مُدرِكَ ذلك عقلًا محضًا كحدثِ العالمِ، أو شَرعًا مُستندًا إلى ثبوتِ أمرٍ عقليٍّ كعذابِ القبرِ.

وقالَ الكُورَانِيُّ: الحقُّ أنَّ الأمرَ مختلفٌ في العقليَّاتِ والشَّرعيَّاتِ

(2)

.

(وَنَافِي الإِسْلَامِ مُخْطِئٌ آثِمٌ كَافِرٌ مُطْلَقًا) أي: سواءٌ قالَ ذلك اجتهادًا أو بغيرِ اجتهادٍ.

إذا عُلِمَ ذلك فالمخطئُ لعدمِ إصابةِ ذلك الواحدِ لا يَخلو إمَّا أنْ يَكُونَ في إنكارِ الإسلامِ كاليهودِ والنَّصارى إذا قالَ: أَدَّاني اجتهادي إلى إنكارِه، فهو

(3)

ضالٌّ كافرٌ

(4)

عاصٍ للهِ ولرسولِه، وإنْ كانَ في غيرِ ذلك مِن العقائدِ الدِّينيَّةِ الزَّائدةِ على أصلِ الإسلامِ فهذا عاصٍ، ومِن هنا انْفَرَقَتِ المبتدعةُ فرقًا مقابلةً لطريقِ السُّنَّةِ، وفيهم قالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«تَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، فَرْقَةٌ نَاجِيَةٌ وَالبَاقِي فِي النَّارِ»

(5)

.

(وَالمَسْأَلَةُ الظَّنِّيَّةُ الحَقُّ فِيهَا وَاحِدٌ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى، وَعَلَيْهِ دَلِيلٌ، وَعَلَى المُجْتَهِدِ طَلَبُهُ) زادَ في «التمهيد»

(6)

: ويَطْلُبُه (حَتَّى) يَعلَمَ، ومرادُه: (يَظُنَّ أَنَّهُ

(1)

ليس في «ع» .

(2)

«الدرر اللوامع في شرح جمع الجوامع» (4/ 124).

(3)

في «د» : فهذا.

(4)

ليس في «د» .

(5)

رواه الترمذي (2640)، وابن ماجه (3991)، وابن حبان (6247) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مختصرًا:«وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً» . وقال الترمذي: حسن صحيح.

رواه الترمذي (2641) من حديث عبد الله بن عمرو، وضعَّفه:«وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً، كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إِلَّا مِلَّةً وَاحِدَةً» ، قَالُوا: وَمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي» .

(6)

«التمهيد في أصول الفقه» للكَلْوَذاني (4/ 310).

ص: 812

وَصَلَهُ، فَمَنْ أَصَابَهُ) أي: أصابَ الحقَّ في اجتهادِه (فَمُصِيبٌ، وَإِلَّا) يُصِبْه

(1)

(فَمُخْطِئٌ) فيه غيرُ آثمٍ (مُثَابٌ) عليه عندَ الأكثرِ.

قالَ بعضُ أصحابِنا: مَن لم يحتجَّ بنصٍّ فمخطئٌ، وإلَّا فلا، (وَ) يَكُونُ (ثَوَابُهُ عَلَى قَصْدِهِ وَاجْتِهَادِهِ لَا عَلَى الخَطَأِ) لِما سَبَقَ في الخبَرِ المُتَّفَقِ على صِحَّتِه.

(وَ) القضيَّةُ (الجُزْئِيَّةُ الَّتِي فِيهَا نَصٌّ قَاطِعٌ المُصِيبُ فِيهَا وَاحِدٌ) اتِّفاقًا، وإنْ دَقَّ مَسْلَكُ ذلك القاطعِ.

(وَلَا يَأْثَمُ: مُجْتَهِدٌ فِي حُكْمٍ شَرْعِيٍّ اجْتِهَادِيٍّ، وَيُثَابُ) عندَ أهلِ الحقِّ وهو الصَّحيحُ، واستدلَّ له بإجماعِ الصَّحابةِ والتَّابعينَ، فإنَّهم اختلفوا في كثيرٍ مِن المسائلِ، وتَكَرَّرَ وشاعَ مِن غيرِ نكيرٍ ولا تأثيمٍ، معَ القطعِ بأنَّه لو خالَفَ أحدٌ في أحدِ أركانِ الإسلامِ الخمسِ، أَنْكَرُوا كمَانِعِي الزَّكاةِ والخوارجِ.

(وَلَا) يَأْثَمُ (مَنْ) أي: مجتهدٌ (بَذَلَ وُسْعَهُ وَلَوْ خَالَفَ) دليلًا (قَاطِعًا)؛ لأنَّه معذورٌ، ولا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَها، وقد أَتَى بما يَقْدِرُ عليه، (وَإِلَّا) يَبْذُلْ وُسعَه (أَثِمَ لِتَقْصِيرِهِ) في بذلِ الوسعِ.

(وَ) يَجُوزُ (لِلْمُجْتَهِدِ) عندَ عامَّةِ العلماءِ (أَنْ يَقُولَ فِي مَسْأَلَةٍ) واحدةٍ (فِي وَقْتَيْنِ) قولينِ مُتضادَّينِ؛ لأنَّ اعتقادَ ذلك في الوقتينِ لَيْسَ بمحالٍ، و (لَا) يَجُوزُ له أن يَقُولَ في مسألةٍ واحدةٍ في وقتٍ (وَاحِدٍ قَوْلَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ)؛ لأنَّه لا يَخلو إمَّا أن يَكُونا فاسدينِ وعَلِمَ ذلك، فالقولُ بهما حرامٌ فلا قولَ أصلًا، أو يَكُونَ أحدُهما فاسدًا، فكذلك، فلا وجودَ للقولينِ، أو يَكُونا صَحيحينِ فإذًا

(1)

في «ع» : يصيبه.

ص: 813

القولُ بهما محالٌ لاستلزامِهما التَّضادَّ الكُلِّيَّ أو الجزئيَّ، وإن لم

(1)

يَعلَمِ الفاسدَ منهما فلَيْسَ عالمًا بحُكْمِ المسألةِ، فلا قولَ له فيها، فيَلْزَمُه التَّوقُّفُ أو التَّخييرُ، وهو قولٌ واحدٌ لا قولانِ.

فائدةٌ: مثالُ التَّضادِّ الكُلِّيِّ والجزئيِّ

(2)

أنَّ عندَ أحمدَ في إخراجِ الزَّكاةِ عن بلدِها إلى مسافةِ القصرِ (2) ثلاثةُ أقوالٍ: النَّفيُ، والإثباتُ، والثَّالثُ يَجُوزُ إلى الثُّغُورِ دونَ غيرِها، فلو فَرَضْنا أنَّه قالَ في هذه المسألةِ:«يجوزُ» ، و:«لا يَجُوزُ» في وقتٍ واحدٍ، لكانَ هذا تضادًّا كُلِّيًّا، بمَعنى أنَّ التَّضادَّ الكُلِّيَّ في جميعِ أفرادِ الزَّكاةِ وأماكنِ أفرادِها قابَلَ المَنْعَ الكُلِّيَّ في ذلك. ولو قالَ:«لا يَجُوزُ» و «يَجُوزُ إلى الثُّغورِ خاصَّةً» لكانَ هذا تضادًّا جُزئيًّا بمَعنى أنَّ المنعَ الكُلِّيَّ في جميعِ أفرادِ الزَّكاةِ قابلَ الجوازَ الجزئيَّ في بعضِ أفرادِ الزَّكاةِ بالإضافةِ إلى بعضِ أماكنِ إخراجِها وهي الثُّغورُ.

ثمَّ إذا أَطلَقَ المجتهدُ قولَينِ في وقتَينِ لا يَخلُو إمَّا أن يُعلَمَ السَّابقُ منهما أو لا، (فَإِنْ عُلِمَ أَسْبَقُهُمَا؛ فَالثَّانِي) أي: المتأخِّرُ منهما (مَذْهَبُهُ) على الصَّحيحِ دونَ الأوَّلِ، فلا يَجُوزُ بعدَ رُجوعِه عنه أنْ يُفتَى به، ولا يُقَلَّدُ فيه ولا يُعَدُّ مِن الشَّريعةِ، (وَهُوَ نَاسِخٌ) لِقَوْلِهِ الأَوَّلِ عندَ الأكثرِ أي كالنَّاسخِ والمنسوخِ في كلامِ الشَّارِعِ، ويَبقى العملُ على النَّاسخِ للأوَّلِ المتأخِّرِ ويُترَكُ المنسوخُ المُتقدِّمُ مِن جهةِ العملِ به؛ لأنَّ نصوصَ الأئمَّةِ بالإضافةِ إلى مُقَلِّدِيهم كنصوصِ الشَّارِعِ بالإضافةِ إلى الأئمَّةِ.

تنبيهٌ: هذا كلُّه إذا لم يُمكِنِ الجمعُ بينَ القولينِ، فإنْ أَمْكَنَ ولو بحملِ

(1)

ليس في «ع» .

(2)

ليس في «د» .

ص: 814

عامٍّ على خاصٍّ أو مطلقٍ على مُقَيَّدٍ على الأصحِّ فالقولانِ مَذهَبُه، ويُحمَلُ كلٌّ مِنهما على ذلك المحملِ.

(وَإِلَّا) بأنْ تَعَذَّرَ الحملُ وجُهِلَ التَّاريخُ (فَمَذْهَبُهُ) أي: مذهبُ ذلك المجتهدِ (أَقْرَبُهُمَا) أي: القولينِ (مِنَ الأَدِلَّةِ، أَوْ) مِن (قَوَاعِدِ) مَذْهَبِـ (ـهِ) على الصَّحيحِ فيُجتهدُ في الأشبهِ بأصولِه

(1)

الأقوى في الحُجَّةِ فيَجعَلُه مَذهَبَه ويُشَكُّ في الآخرِ.

واعلَمْ أنَّ الإمامَ أحمدَ رَحِمَه اللهُ تَعَالَى لم يُؤَلِّفْ كتابًا مستقلًّا في الفقهِ، كما فَعَلَه غيرُه مِن الأئمَّةِ، وإنَّما أَخَذَ أصحابُه مَذهَبَه مِن فُتياه وأجوبتِه وأقوالِه وأفعالِه وبعضِ تآليفِه، فإنَّ ألفاظَه إمَّا صريحةٌ في الحُكمِ بما لا يُحتمَلُ غيرُه، أو ظاهرةٌ فيه معَ احتمالِ غيرِه، أو محتملةٌ لشيئينِ فأكثرَ على السَّواءِ، أو تنبيهٌ كقولِهم: أَوْمَأَ إليه، أو أشارَ إليه، أو دَلَّ كلامُه عليه، أو تَوَقَّفَ فيه، ونحوِ ذلك.

(وَ) إذا فَهِمْتَ ذلك فـ (مَذْهَبُ أَحْمَدَ وَنَحْوِهِ) مِن المجتهدينَ على الإطلاقِ:

(1)

(مَا قَالَهُ) بدليلٍ وماتَ قائلًا به،

(2)

(أَوْ جَرَى مَجْرَاهُ) أي: مَجرى قولِه (مِنْ تَنْبِيهٍ وَغَيْرِهِ) وقد قَسَّمَ أصحابُه دَلالةَ ألفاظِه إلى أنواعٍ كثيرةٍ،

(3)

(وَكَذَا) أي: وكقولِ المجتهدِ (فِعْلُهُ) أي: يَكُونُ مذهبًا له وهو

(1)

في «ع» : بأن أصوله.

ص: 815

الصَّحيحُ، وإلَّا لَمَا كانَ فَعَلَه.

(4)

(وَ) مِثْلُه (مَفْهُومُ كَلَامِهِ) فنَحكُمُ على ذلك المفهومِ بما يُوافِقُ المنطوقَ إنْ كانَ مفهومَ موافقةٍ، أو بما يُخالِفُه إنْ كانَ مَفهومَ مخالفةٍ.

(فَـ) على هذا (لَوْ قالَ) المجتهدُ (فِي مَسْأَلَةٍ بِخِلَافِهِ) أي: بخلافِ مفهومِ كلامِه (بَطَلَ) كونُ ذلك المفهومِ مذهبًا له،

(5)

(فَإِنْ عَلَّلَهُ بعِلَّةٍ فَقَوْلُهُ: مَا وَجَدْتُ فِيهِ) أي: إذا نَصَّ المجتهدُ على حُكْمِ مسألةٍ وبَيَّنَ عِلَّةَ ذلك الحكمِ ما هي، ثمَّ وُجِدَتْ تلك العِلَّةُ في مسائلَ أُخَرَ، فمَذهَبُه في تلك المسائلِ كمذهبِه في المسألةِ المنصوصِ عليها، (وَلَوْ قُلْنَا بِتَخْصِيصِ العِلَّةِ) في الأصحِّ؛ لأنَّ الحُكمَ يَتبَعُ العِلَّةَ فيُوجَدُ

(1)

حيثُ وُجِدَت، ولأنَّ هذا وُجِدَ في كلامِ صاحبِ الشَّرعِ، ففي كلامِ المجتهدينَ كذلك وأَوْلى؛ لأنَّ اللهَ تَعَالَى أَوْجَبَ الكَفَّارةَ في سِياقِ ذَمِّهم بأنَّهم يَقولون مُنكرًا مِن القولِ وزورًا، ففَهِمْنا مِن ذلك تعليلَ وجوبِ الكَفَّارةِ بقولِ المنكَرِ والزُّورِ على جهةِ العقوبةِ، فقُلنا: إذا قالَتِ المرأةُ لزَوجِها: أنتَ عليَّ كظهرِ أبي لَزِمَتْها الكَفَّارةُ؛ لأنَّها قد أَتَتْ بالمنكَرِ مِن القولِ والزُّورِ، وقد رَوَى الإمامُ أحمدُ -أو رُوِيَ له- أنَّ قومًا على ماءٍ لهم مَرَّ بهم قومٌ آخرون فاسْتَسْقُوهم فلم يَسْقُوهم حَتَّى ماتوا عَطَشًا، فضَمَّنَ عمرُ أصحابَ الماءِ دِياتِهم

(2)

، فقِيلَ لأحمدَ: تَقولُ بهذا؟ قالَ: إي واللهِ، يَقولُه

(3)

عمرُ رضي الله عنه ولا آخُذُ به! فلمَّا عَلَّلَ بأنَّ عمرَ رضي الله عنه قاله دَلَّ على أنَّه يَأخُذُ بقولِ عمرَ وغيرِه من الصَّحابةِ رضي الله عنهم في كلِّ حُكمٍ ما لم يَمنَعْه مانعٌ، وأنَّ قولَ

(1)

في (د): فيوجد فيه.

(2)

في «ع» : ديتهم.

(3)

في «د» : يقول.

ص: 816

الصَّحابيِّ عندَه حُجَّةٌ مُطلقًا.

(6)

(وَكَذَا المَقِيسُ عَلَى كَلَامِهِ) أي: المقيسُ على كلامِ المجتهدِ مذهبُه في الأشهرِ.

وقالَ الطُّوفِيُّ

(1)

وغيرُه: إذا نَصَّ المجتهدُ على حُكْمٍ في

(2)

مسألةٍ ولم يُبَيِّنْ عِلَّتَه فلا يُحكَمُ بحُكْمِ تلك المسألةِ في غيرِها مِن المسائلِ وإنْ أَشْبَهَتْها

(3)

؛ لأنَّ ذلك إثباتُ مذهبٍ له بالقِيَاسِ بغيرِ جامعٍ، ولجوازِ ظُهُورِ الفرقِ له (2) لو عُرِضَتْ عليه المسألتانِ الَّتي نَصَّ على حُكمِها وغيرِها.

(فَلَوْ) قُلْنا: ما قِيسَ على كلامِه مذهبُه فـ (أَفْتَى فِي مَسْأَلَتَيْنِ مُتَشَابِهَتَيْنِ بِحُكْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فِي وَقْتٍ) وعبارةُ «التَّحرير» وغيرِه: «فِي وَقْتَيْنِ» (لَمْ يَجُزْ نَقْلُهُ) أي: الحكمِ (مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا) أي: المسألتينِ (إِلَى) المسألةِ (الأُخْرَى) في الأصحِّ؛ أي (2) لم يَجُزْ أنْ يُجعَلَ فيهما روايتانِ بالنَّقلِ والتَّخريجِ، بأنْ نَنقُلَ إحداهما إلى الأُخرى ونُخَرِّجُه قولًا له فيها، كما لو نَصَّ على حُكمٍ في مسألةٍ وسَكَتَ عن أُخرى تُشابِهُها

(4)

وأَوْلى.

قالَ الطُّوفِيُّ: والأَولى جوازُ ذلك يَعني نقلَ الحُكمِ وتَخريجَه مِن كلِّ واحدةٍ مِن المسألتينِ إلى الأُخرى إذا كانَ ذلك بعدَ البحثِ والجدِّ فيه مِن أهلِ النَّظرِ والبحثِ مِمَّن تَدَرَّبَ في النَّظَرِ وعَرَفَ مَداركَ الأحكامِ ومَآخِذَها؛ لأنَّ خفاءَ الفرقِ معَ ذلك مُمتنِعٌ في العادةِ

(5)

.

قالَ في «شرحِ الأصلِ» : لكنْ مِن شروطِ جوازِ التَّخريجِ ألَّا يُفضِيَ إلى

(1)

«شرح مختصر الروضة» (3/ 639).

(2)

ليس في «د» .

(3)

في «د» : اشتبهتا.

(4)

في «د» : تشبهها.

(5)

«شرح مختصر الروضة» (3/ 641).

ص: 817

خرقِ الإجماعِ أو رفعِ حُكمٍ ما اتَّفَقَ عليه الجمُّ الغفيرُ مِن العلماءِ أو عارَضَه نصُّ كتابٍ أو سُنَّةٍ

(1)

.

قالَ الطُّوفِيُّ: وقد وَقَعَ النَّقلُ والتَّخريجُ في مَذهبِنا ونصَّ أحمدُ فيمَن حُبِسَ في موضعٍ نَجِسٍ، فصَلَّى أنَّه لا يُعِيدُ بخلافِ الثَّوبِ النَّجِسِ، فيَتَخَرَّجُ فيهما روايتانِ؛ وذلك لأنَّ طهارةَ الثَّوبِ والبدنِ كِلاهما شرطٌ في الصَّلَاةِ، وهذا وجهُ الشَّبَهِ بينَ المسألتينِ، وقد نَصَّ في الثَّوبِ النَّجِسِ أنَّه يُعِيدُ فيُنقَلُ حُكمُه إلى المكانِ، ويَتَخَرَّجُ فيه مثلُه، ونَصَّ في الموضعِ النَّجِسِ أنَّه لا يُعيدُ فيُنقَلُ إلى الثَّوبِ النَّجِسِ فيَتَخَرَّجُ فيه مثلُه، فلا جَرَمَ صارَ في كلِّ واحدةٍ مِن المسألتينِ روايتانِ: إحداهما بالنَّصِّ، والأُخرى بالنَّقلِ

(2)

.

فائدةٌ: كثيرًا ما يَقَعُ في كلامِ الفقهاءِ في هذه المسألةِ قولانِ بالنَّقلِ والتَّخريجِ، ويَقولونَ أيضًا: يَتَخَرَّجُ أنْ يَكُونَ كذا، وتَتَخَرَّجُ هذه المسألةُ على مسألةِ كذا، أو

(3)

في هذه المسألةِ تَخريجٌ، فيُقالُ: ما الفرقُ بينَ

(4)

النَّقلِ والتَّخريجِ؟

والجوابُ: أنَّ النَّقلَ والتَّخريجَ يَكُونُ مِن نصِّ الإمامِ بأنْ يُنقَلَ عنْ مَحَلٍّ إلى غيرِه بالجامعِ المُشتَركِ، والتَّخريجُ يَكُونُ مِن قواعدِه الكُلِّيَّةِ.

مثالُه: قولُنا: مَن أَتْلَفَ لذِمِّيٍّ خمرًا أو خنزيرًا: لم يَضْمَنْه، ويَتَخَرَّجُ أنْ يَضمَنَ الذِّمِّيُّ خمرًا لذِمِّيٍّ بناءً على أنَّها مالٌ لهم.

واعلَمْ أنَّ التَّخريجَ أعمُّ مِن النَّقلِ؛ لأنَّ التَّخريجَ يَكُونُ مِن القواعدِ الكُلِّيَّةِ

(1)

«التحبير شرح التحرير» (8/ 3969).

(2)

«شرح مختصر الروضة» (3/ 641).

(3)

في «د» : و.

(4)

زاد في «ع» : التخريج و.

ص: 818

للإمامِ أو الشَّرعِ أو العقلِ؛ لأنَّ حاصلَه أنَّه

(1)

بناءُ فرعٍ على أصلٍ بجامعٍ مشتَركٍ، كتَخريجِنا على قاعدةِ تفريقِ الصَّفقةِ فُروعًا كثيرًا، وأمَّا النَّقلُ والتَّخريجُ فهو مُختَصٌّ بنصوصِ الإمامِ.

(وَلَوْ نَصَّ) الإمامُ (عَلَى حُكْمِ مَسْأَلَةٍ، ثُمَّ قالَ: لَوْ قالَ قَائِلٌ بكذا، أَوْ) قالَ قَائِلٌ: لَوْ (ذَهَبَ ذَاهِبٌ إِلَيْهِ) يُريدُ حُكمًا يُخالِفُ ما نَصَّ عليه أكانَ مَذهبًا (لَمْ يَكُنِ) المشكوكُ (مَذْهَبًا لَهُ) أي: للإمامِ أيضًا للشَّكِّ في الأصحِّ، كما لو قالَ: وقد ذَهَبَ قومٌ إلى كذا.

(وَالوَقْفُ مَذْهَبٌ) فإذا سُئِلَ الإمامُ عن مسألةٍ، وتَوَقَّفَ فيها، فمَذهَبُه فيها الوقفُ، وقد تَقَدَّمَ أنَّ المشكوكَ لَيْسَ بحُكمٍ.

(1)

في «د» : أن.

ص: 819

(فَصْلٌ)

[قالَ الأئمَّةُ الأربعةُ وغيرُهم]

(1)

: (لَا يُنْقَضُ حُكْمُ) حاكمٍ (فِي مَسْأَلَةٍ اجْتِهَادِيَّةٍ) للتَّساوي في الحُكمِ بالظَّنِّ، ولأنَّه عملُ الصَّحابةِ، وللتَّسلسلِ، فيَمتنعُ نقضُ حكمِ الاجتهادِ بتغيُّرِه باجتهادٍ آخَرَ، سواءٌ كانَ مِن المجتهدِ الأوَّلِ أو مِن غيرهِ؛ لِما يَلْزَمُ على نقضِه مِن التَّسلسلِ؛ إذ لو جازَ النَّقضُ لجازَ نقضُ النَّقضِ، وهكذا، فتَفُوتُ مصلحةُ حُكمِ الحاكمِ وهو قطعُ المنازعةِ لعدمِ الوثوقِ حينئذٍ بالحُكمِ؛ لأنَّ الصَّحابةَ أَجمَعُوا على عدمِ النَّقضِ، فإنَّ أبا بكرٍ حَكَمَ في مسائلَ باجتهادِه، وخالَفَه عمرُ، فلم يَنقُضْ أحكامَه، وخالفَهما عليٌّ، فلم يَنْقُضْ أحكامَهما، فإنَّ أبا بكرٍ سوَّى بينَ النَّاسِ في العطاءِ، وأعطى العبيدَ وخالَفَه عمرُ، ففاضَلَ بينَ النَّاسِ، وخالَفَهما عليٌّ فسوَّى بينَ النَّاسِ وحَرَمَ العبيدَ، ولم يَنقضْ أحدٌ منهم ما فَعَلَه مِن قبْلِه.

إذا تَقَرَّرَ ذلك فلا يُنقَضُ الاجتهادُ بالاجتهادِ (إِلَّا:

(1)

بِقَتْلِ مُسْلِمٍ بِكَافِرٍ) فيَلْزَمُ نقضُه، نَصَّ عليه الإمامُ أحمدُ،

(2)

(وَ) إلَّا (بِجَعْلِ مَنْ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ عِنْدَ مَنْ حُجِرَ

(2)

عَلَيْهِ أُسْوَةَ الغُرَمَاءِ)؛ لأنَّ ذلك مخالفٌ لنصِّ آحادِ السُّنَّةِ.

(وَيُنْقَضُ) الحُكمُ وجوبًا (بِمُخَالَفَةِ:

(1)

نَصِّ الكِتَابِ) أي: القرآنِ العزيزِ، (أَوْ) مخالفةِ نصِّ (السُّنَّةِ وَلَوْ) كانَتْ (آحَادًا) أي: غيرَ متواترةٍ؛ لأنَّه قضاءٌ لم يُصادِفْ شَرطَه، فوَجَبَ نقضُه

(1)

ليس في «د» .

(2)

ليس في «د» .

ص: 820

وبيانُ مخالفتِه للشَّرطِ أنَّ شرطَ الحكمِ بالاجتهادِ عدمُ النَّصِّ؛ ولأنَّه إذا تَرَكَ الكتابَ والسُّنَّةَ فقد فَرَّطَ، فوَجَبَ نقضُ حُكمِه.

(2)

(أَوْ) أي: ويُنْقَضُ الحكمُ بمخالفتِه (إِجْمَاعًا قَطْعِيًّا) بلا شكٍّ، زادَ مالكٌ: والقواعدَ الشَّرعيَّةَ، و (لَا) يَجُوزُ نقضُه بمخالفةِ إجماعٍ (ظَنِّيٍّ) على الصَّحيحِ (وَلَا) بمخالفةِ (قِيَاسٍ وَلَوْ) كانَ (جَلِيًّا) عندَ الأكثرِ، وحيثُ قُلْنا يَنْقُضُ الحكمَ، فإنْ كانَ في حقِّ اللهِ تَعَالَى كالطَّلاقِ والعتاقِ ونَحوِهما نَقَضَه؛ لأنَّ له النَّظرَ في حقوقِ اللهِ تعالى، وإنْ كانَ يَتَعَلَّقُ بحقِّ آدميٍّ، فالصَّحيحُ أيضًا أنَّه يَنقُضُه.

(وَلَا يُعْتَبَرُ لِنَقْضِه

(1)

: طَلَبُ رَبِّ الحَقِّ) وقال القاضي وغيرُه

(2)

: لا يَنقُضُه إلَّا بمطالبةِ صاحبِه؛ لأنَّ الحاكمَ لا يَستوفي حقًّا لمن لا ولايةَ عليه بغيرِ مطالبتِه.

(وَحُكْمُهُ) أي: الحاكمِ (بِخِلَافِ اجْتِهَادِهِ بَاطِلٌ وَلَوْ قَلَّدَ) في الحُكْمِ مُجتهدًا (غَيْرَهُ) وهو قولُ الأئمَّةِ الأربعةِ وغيرِهم، وقِيلَ: لا يَكُونُ باطلًا للخلافِ في المدلولِ، وَيَأْثَمُ.

(وَمَنْ قَضَى بِرَأْيٍ يُخَالِفُ رَأْيَهُ) يَعني قَضى بخلافِ اجتهادِه (نَاسِيًا لَهُ) أي: ناسيًا اجتهادَه (نَفَذَ) حُكمُه (وَلَا إِثْمَ) عليه، وقِيلَ: يَرجِعُ فيه ويَنقضُه، وبَناه بعضُهم على جوازِ تقليدِ غيرِه.

(وَيَصِحُّ فِي قَوْلٍ حُكْمُ مُقَلِّدٍ)، وهل يَجُوزُ له الحُكُمُ بخلافِ مذهبِ إمامِه أم لا؟

(1)

في «د» : لنقض.

(2)

ليس في «د» .

ص: 821

قالَ في «شرح الأصل» : لَيْسَ للمُقَلِّدِ أنْ يَحكُمَ بخلافِ مذهبِ إمامِه، كما أنَّ المجتهدَ لَيْسَ له أن يَحكُمَ بغيرِ اجتهادِه

(1)

، فعلى هذا لا بُدَّ مِن موافقةِ مذهبِ إمامِه.

(وَيُنْقَضُ فِي قَوْلٍ) لبعضِ أصحابِنا (مَا) أي: حُكمٌ (خَالَفَ فِيهِ) المقلِّدُ (مَذْهَبَ إِمَامِهِ)، فإذا حَكَمَ المُقلِّدُ بخلافِ قولِ إمامِه انْبَنَى على أنَّه يَجوزُ له تقليدُ غيرِه أم لا، فإنْ مَنَعْنا الحكمَ بخلافِ قولِ إمامِه نُقِضَ، وإنْ جَوَّزْناه فلا. وقال الغزَّالِيُّ: إذا مَنَعْنا مَن قَلَّدَ إمامًا أن يُقَلِّدَ غيرَه وفَعَلَ وحَكَمَ بقولِه: فيَنبغي ألَّا يَنفُذَ قضاؤُه، ولأنَّه في ظنِّه أنَّ إمامَه أرجحُ.

(وَ) لهذا (فِي قَوْلٍ) لبعضِ أصحابِنا وهو موافقٌ لظاهرِ ما قاله ابنُ حمدانَ وهو (مُخَالَفَةُ المُفْتِي نَصَّ إِمَامِهِ كَمُخَالَفَةِ نَصِّ الشَّارِعِ) معَ أنَّ ظاهرَه أنَّه غيرُ المقلِّدِ بل هو مفتٍ، فيَكُونُ المقلِّدُ بطريقِ الأَوْلى.

(وَمَنِ اجْتَهَدَ) لنَفسِه (فَتَزَوَّجَ) وأدَّاه اجتهادُه إلى صِحَّةِ النِّكاحِ (بِلَا وَلِيٍّ، ثُمَّ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ) فرأى أنَّه باطلٌ (حَرُمَتْ) عليه زوجتُه مطلقًا في الأصحِّ، وقِيلَ: لا تَحرُمُ مُطلقًا، والقولُ الثَّالثُ وهو الَّذِي عليه عملُ النَّاسِ: أنَّها تَحرُمُ (إِنْ لَمْ يَكُنْ حَكَمَ بِهِ) قبلَ تغيُّرِ اجتهادِه وإن كانَ حَكَمَ به لم تَحرُمْ؛ لئلَّا يَلْزَمَ نقضُ الاجتهادِ بالاجتهادِ، وأيضًا استدامةُ حِلِّها بخلافِ مُعتقَدِه خلافُ الإجماعِ.

(وَلَا تَحْرُمُ) الزَّوجةُ (عَلَى مُقَلِّدٍ بِتَغَيُّرِ اجْتِهَادِ إِمَامِهِ) فإذا أَفْتى مجتهدٌ عامِّيًّا باجتهادٍ ثمَّ تَغَيَّرَ اجتهادُه لم تَحرُمْ عليه على الأصحِّ؛ لأنَّ عَمَلَه بفتواه

(2)

كالحكمِ،

(1)

«التحبير شرح التحرير» (8/ 3978).

(2)

في «ع» : بفتوان.

ص: 822

(وَإِنْ لَمْ يَعْمَلِ) العامِّيُّ (بِفَتْوَاهُ) أي: بفتوى مُفتيه حَتَّى تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ (لَزِمَ المُفْتِيَ إِعْلَامُهُ) أي: لزمَ تعريفُ العامِّيِّ بتغيُّرِ اجتهادِه فيما أَفْتاه به إنْ تَمَكَّنَ منه؛ لأنَّ العامِّيَّ إِنَّمَا يَعمَلُ به لأنَّه قولُ المفتي، ومعلومٌ أنَّه في تلك الحالةِ لَيْسَ قولَه، ومفهومُه أنَّ العامِّيَّ إن كان قد عَمِلَ بقولِه لم يَلزمْه إعلامُه،

(فَلَوْ مَاتَ) المُفْتِي (قَبْلَهُ) أي: قبلَ إعلامِه بتغيُّرِ اجتهادِه (اسْتَمَرَّ) العامِّيُّ على فَتواه في الأصحِّ؛ لأنَّ الظَّاهرَ الجوازُ.

(وَ) يَجُوزُ (لَهُ) أي: للعامِّيِّ (تَقْلِيدُ) مجتهدٍ (مَيِّتٍ) كتقليدِ حيٍّ عندَ الجمهورِ؛ لأنَّ قولَه باقٍ في الإجماعِ، وفيه يَقُولُ الإمامُ الشَّافعيُّ: المذاهبُ لا تَمُوتُ بموتِ أربابِها.

و (كَحَاكِمٍ وَشَاهِدٍ) لا يَبْطُلُ حُكمُه بموتِه ولا شهادتُه بموتِه، وظاهرُه ولو وُجِدَ مُجتهدًا حيًّا، فلو كانَ الحيُّ دونَ الميِّتِ احتملَ أنْ يُقَلَّدَ الميَّتُ لأرجحيَّتِه أو الحيُّ لحياتِه واحتملَ التَّساوي.

(وَإِنْ عَمِلَ) العامِّيُّ (بِفُتْيَاهُ) أي: فُتيا مُفتيه (فِي إِتْلَافِ) نفسٍ أو مالٍ (فَبَانَ خَطَؤُهُ) أي: المفتي (قَطْعًا) أي: خالَفَ دليلًا قاطعًا (ضَمِنَهُ) أي: ضَمِنَ المفتي ما أَتْلَفَه المستفتي بمُقتضى فُتياه، فإنْ لم يُخالِفِ القاطعَ لم يَضمَنْ؛ لأنَّه معذورٌ،

(وَكَذا) يَضمَنُ المفتي على الصَّحيحِ (إِنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلًا) للفُتيا، بل أَوْلى بالضَّمانِ مِمَّن له أهليَّةٌ والَّذي يَنبغي أن يُنظَرَ إن كانَ المستفتي يَعلَم أنَّه لَيْسَ أهلًا للفُتيا واستفتاه لم يَضمَنْ؛ لأنَّه الجاني على نَفْسِه، وإن لم يَعلَمْه ضَمِنَ المفتي.

ص: 823

قالَ في «شرح الأصل»

(1)

لَيْسَ للمُقلِّدِ: (وَيَحْرُمُ تَقْلِيدٌ عَلَى مُجْتَهِدٍ) لمجتهدٍ آخَرَ إجماعًا إِذَا (أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إِلَى حُكْمٍ، أَوْ) أي: وإن (لَمْ يَجْتَهِدْ) فيَحرُمُ عليه التَّقليدُ عندَ الأكثرِ.

(وَلَهُ) أي: للمجتهدِ (أَنْ يَجْتَهِدَ وَيَدَعَ) أي: يتركَ (غَيْرَهُ) مِن المجتهدين إجماعًا.

قُلْتُ: يُفهمُ ممَّا سَبَقَ بل هو صريحٌ أنَّه يَحرُمُ عليه التَّقليدُ ويَجِبُ الاجتهادُ حيثُ أَمْكَنَه؛ لأنَّ إثباتَ التَّقليدِ يُعتبَرُ دليلُه، والأصلُ عدمُه ونفيُه لانتفاءِ دليلِه، وأيضًا اجتهادُه أصلٌ مُتَمَكِّنٌ مِنه فلم يَجُزْ بَدَلُه كغيرِه.

(وَالمُتَوَقِّفُ) مِن المجتهدينَ (فِي مَسْأَلَةٍ نَحْوِيَّةٍ) على سؤالِه النُّحاةَ (أَوْ فِي حَدِيثٍ عَلَى أَهْلِهِ) ما حُكْمُه؟

قالَ أبو الخَطَّابِ: هو (عَامِّيٌّ فِيهِ) والعامِّيُّ يَلْزَمُه التَّقليدُ، وأيضًا ممَّا يَدُلُّ على عدمِ التَّقليدِ قولُه تَعالى:{فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ}

(2)

، {فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}

(3)

، وأمَّا قولُه تَعالى:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ}

(4)

فالمرادُ يَسألُ من لَيْسَ أهلًا أهلَ الذِّكرِ، وكلُّهم أهلٌ فلم يَدخُلوا، ولقولِه تَعالى:{إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}

(5)

.

(1)

«التحبير شرح التحرير» (8/ 3988).

(2)

الحشر: 2.

(3)

النساء: 59.

(4)

النحل: 43، والنساء:7.

(5)

النحل: 43، والنساء:7.

ص: 824

(فَصْلٌ)

اعلمْ أنَّ‌

‌ طريقَ معرفةِ الأحكامِ الشَّرعيَّةِ

إمَّا التَّبليغُ عنِ اللهِ تَعَالَى بإخبارِ رُسُلِه عنه بها، وهو ما سَبَقَ مِن كتابِ الله تَعَالَى وسُنَّةِ رسولِه صلى الله عليه وسلم وما تَفَرَّعَ عن

(1)

ذلك مِن إجماعٍ أو قياسٍ أو غيرِهما مِن الاستدلالاتِ وطُرُقِها بالاجتهادِ، ولو كَانَ مِن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كما سَبَقَ آنفًا، وإمَّا أن يَكُونَ طريقُ معرفةِ الحُكمِ التَّفويضَ إلى رأيِ نَبِيٍّ أو عالمٍ، فـ (يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لِنَبِيٍّ) من الأنبياءِ (وَمُجْتَهِدٍ) غَيرِ نبيٍّ:(احْكُمْ بِمَا شِئْتَ، فَهُوَ صَوَابٌ) عندَ بعضِهم، (وَيَكُونُ) حكمُه (مَدْرَكًا شَرْعِيًّا) أي: مِن المداركِ الشَّرعيَّةِ (وَيُسَمَّى التَّفْوِيضَ) عندَ الأكثرِ، فإذا قالَ: هذا حلالٌ، عَرَفْنا أنَّ اللهَ تَعَالَى في الأزلِ حَكَمَ بحِلِّه، أو هذا حرامٌ أو نحوَ ذلك، لا أنَّه يُنشِئُ الحكمَ؛ لأنَّ ذلك مِن خصائصِ الرُّبوبيَّةِ.

ومَنَعَ الجوازَ بعضُ المعتزلةِ، واختارَه أبو الخطَّابِ وذَكَرَه عن أكثرِ الفقهاءِ، وأنَّه أشبهُ بمذهبِنا؛ لأنَّ الحقَّ عليه أمارةٌ، فكيف يُحكُمُ بغيرِ طلبِها؟

(وَ) اختارَ ابنُ الحاجبِ أنَّه (لَمْ يَقَعْ) يَعني القولَ لنبيٍّ ومجتهدٍ: احكمْ بما شِئْتَ، واستدلَّ لجوازِه بأنَّ اللهَ تَعَالَى قادرٌ عليه فجازَ كالوحيِ ولا مانعَ، والأصلُ عدمُ الوقوعِ، واستدلَّ بتخييرِه في الكَفَّارةِ والعامِّيِّ في المجتهدينَ.

(وَ) يَجُوزُ أنْ يُقالَ (لِعَامِّيٍّ: عَقْلًا) لا شَرعًا: احكُمْ بما شئتَ فهو صوابٌ؛ لأنَّه لَيْسَ بمحالٍ.

(1)

في «د» : من.

ص: 825

(وَ) يَجُوزُ (فِي قَوْلٍ) للقاضي

(1)

وابنِ عَقِيلٍ أنْ يُقالَ له: (وَأَخْبِرْ؛ فَإِنَّكَ لَا تُخْبِرُ إِلَّا بِصَوَابٍ). والقولُ الثَّاني لأبي الخطَّابِ أنَّه لا يَجُوزُ، ولو جازَ، خَرَجَ كَوْنُ الإخبارِ عن الغيوبِ دَالَّةً على ثُبُوتِ الأنبياءِ وكُلِّفَ بتصديقِ

(2)

النَّبِيِّ وغيرِه مِن غيرِ عِلْمٍ بذلك.

(1)

في «د» : القاضي.

(2)

في «د» : تصديق.

ص: 826

(فَصْلٌ)

قالَ جُمهورُ الفقهاءِ والأُصُولِيِّينَ: (نَافِي الحُكْمِ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ) لأنَّه أَثْبَتَ يقينًا أو ظنًّا بنفيِه، فلَزِمَه الدَّليلُ (كَمُثْبِتِهِ) دليلًا يُعبِّرُ كلُّ واحدٍ عن مقصودِه بنفيٍ، فيَقُولُ: بَدَلٌ مُحْدَثٌ لَيْسَ بقديمٍ.

(وَإِذَا حَدَثَتْ مَسْأَلَةٌ لَا قَوْلَ فِيهَا: سَاغَ) أي: جازَ للمجتهدِ (الِاجْتِهَادُ فِيهَا) والفتوى والحكمُ، (وَهُوَ) أي: الاجتهادُ (أَفْضَلُ) مِن التَّوقُّفِ، وقَدَّمَه صاحبُ «الأصلِ» ، قالَ ابنُ القيِّمِ:[بل يُسْتَحَبُّ أو يَجِبُ]

(1)

عندَ الحاجةِ، وأهليَّةُ المفتي والحاكمِ، فإنْ عُدِمَ الأمرانِ: لم يَجُزْ

(2)

.

ولَمَّا فَرَغَ مِن أحكامِ الاجتهادِ ومباحثِه وكانَ التَّقليدُ مُقابِلًا له شَرَعَ في الكلامِ عليه، فقالَ:

(1)

في «د» : ويجب.

(2)

«إعلام الموقعين» (6/ 208).

ص: 827

(بَابٌ)

(التَّقْلِيدُ

لُغَةً) أي: هو في اللُّغةِ: (وَضْعُ الشَّيْءِ فِي العُنُقِ) مِن دابَّةٍ وغيرِها (مُحِيطًا بِهِ)، وهذا احتِرازٌ ممَّا لم يَكُنْ مُحِيطًا بالعنقِ، فلا يُسَمَّى قلادةً في عُرفِ اللُّغةِ ولا غيرِها، وذلك كالعقودِ والمرسلاتِ في حلوقِ النِّساءِ والصِّبيانِ والسُّبَحِ الَّتي في حُلُوقِ المُتَزَهِّدِينَ والقلائدِ في أعناقِ الخيلِ، ومنه قولُه تَعالى:{وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ}

(1)

يَعني ما يُقَلَّدُه الهَدْيُ مِن النِّعالِ وآذانِ القِرَبِ.

(وَ) التَّقليدُ (عُرْفًا) أي: مَعناه في عُرفِ الأُصُولِيِّينَ: (أَخْذُ) أي: اعتقادُ صِحَّةِ (مَذْهَبِ الغَيْرِ) واتِّباعُه عليه (بِلَا مَعْرِفَةِ دَلِيلِهِ)، وقالَ الطُّوفِيُّ: مِن غيرِ حُجَّةٍ استعارةٌ مِن المعنى اللُّغويِّ كأنَّ المقلِّدَ يُطَوِّقُ المجتهدَ إثمَ ما غَشَّه به في دِينِه وكَتَمَه عنه مِن عِلْمِه أي يَجعَلُه طَوقًا في عُنُقِه أخذًا مِن قولِه عز وجل: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ}

(2)

على جهةِ الاستعارةِ يَعني من التَّقليدِ اللُّغويِّ كما سَبَقَ

(3)

.

(فَالرُّجُوعُ إِلَى قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم، وَإِلَى) قَوْلِه: (المُفْتِي، وَ) إلى (الإِجْمَاعِ، وَ) رجوعُ (القَاضِي إِلَى العُدُولِ) في شهادتِهم (لَيْسَ بِتَقْلِيدٍ)، وذلك لقيامِ الحُجَّةِ فيها، فقولُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بالمعجزِ والإجماعِ بما تَقَدَّمَ في حُجِّيَّتِه وقولُ المفتي والشَّاهدِ بالإجماعِ، (وَلَوْ سُمِّيَ) ذلك أو بعضُ ذلك (تَقْلِيدًا، سَاغَ) كما يُسَمَّى في العُرفِ أخذُ المقلِّدِ العامِّيِّ بقولِ المفتي تَقليدًا فلا مُشاحَّةَ في التَّسميةِ والاصطلاحِ.

(1)

المائدة: 97.

(2)

الإسراء: 13.

(3)

«شرح مختصر الروضة» (3/ 641).

ص: 828

(وَيَحْرُمُ) التَّقليدُ (فِي):

(1)

الأحكامِ

(1)

الأُصُوليَّةِ الكُلِّيَّةِ كـ (مَعْرِفَةِ اللهِ) سبحانَه و (تَعَالَى، وَالتَّوْحِيدِ) أي: وحدانيَّةِ اللهِ عز وجل، (وَ) صِحَّةِ (الرِّسَالَةِ) ونَحوِها من القطعيَّاتِ الظَّاهرةِ الأدلَّةِ، فإنَّ العامِّيَّ إذا رأى العالِمَ باختلافِ أجناسِه وأنواعِه وحركاتِه وما فيه مِن الحكمةِ والإتقانِ عَلِمَ بالضَّرورةِ أنَّ له صانعًا، وإنْ قَصُرَتْ عبارتُه عن تقريرِ دليلِ الدَّورِ والتَّسلسلِ الدَّالِّ على وجودِ الصَّانعِ، وإذا رأى العالَمَ جاريًا على نظامِ الحُكمِ عَلِمَ أنَّ صانعَه لا مُنازِعَ له فيه ولا شريكَ كما عُلِمَ في مستقرِّ العادةِ مِن أنَّ الأشياءَ تَفسُدُ بتعدُّدِ المتنازعينَ

(2)

فيها، وإن لم يُمكِنْه تقريرُ الدَّليلِ مِن قولِه تَعالى:{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا}

(3)

، واستدلَّ بأمرِه تَعَالَى بالتَّدبُّرِ والتَّفكُّرِ والنَّظرِ، ولَمَّا نَزَلَ:{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}

(4)

الآياتِ، قالَ عليه السلام:«وَيْلٌ لِمَنْ قَرَأَهُنَّ وَلَمْ يَتَدَبَّرْهُنَّ، وَيْلٌ لَهُ وَيْلٌ لَهُ»

(5)

، والإجماعُ على وُجوبِ معرفةِ اللهِ تَعالى، ولا يَحصُلُ بتقليدٍ لجوازِ كذبِ المُخبرِ واستحالةِ حصولِه.

(2)

(وَ) يَحرُمُ التَّقليدُ فِيما عُلِمَ كونُه مِن الدِّينِ ضَرورةً كـ (أَرْكَانِ الإِسْلَامِ الخَمْسِ) وهي: الشَّهادتانِ والصَّلَاةُ والزَّكاةُ والصِّيامُ والحَجُّ، (وَنَحْوُهَا مِمَّا تَوَاتَرَ وَاشْتَهَرَ) لاشتراكِ العامِّيِّ وغيرِه في العِلْمِ بذلك؛ إذِ التَّقليدُ يَستدعي جَهلَ المقلِّدِ بما قَلَّدَ فيه، وذلك مستحيلٌ فيما عُلِمَ بالضَّرورةِ، والعلمُ بهذه الأركانِ بالضَّرورةِ الحاصلةِ عن التَّواتُرِ والإجماعِ وهُما مُرَكَّبانِ مِن المعقولِ والمنقولِ، وليسَ المرادُ بالضَّرورةِ العقليَّةِ المحضةِ.

(1)

في «ع» : أحكام.

(2)

في «د» : المنازعين.

(3)

الأنبياء: 22.

(4)

البقرة: 164.

(5)

رواه ابن حبان (620) من حديث عائشة رضي الله عنها.

ص: 829

(وَيَلْزَمُ) التَّقليدُ عندَ الأكثرِ (غَيْرَ مُجْتَهِدٍ

(1)

فِي غَيْرِ ذَلِكَ) أي: غيرَ معرفةِ اللهِ تَعَالَى والتَّوحيدِ والرِّسالةِ وأركانِ الإسلامِ ونحوِها ممَّا تَواتَرَ واشتهرَ.

وقالَ الطُّوفِيُّ: يَجُوزُ التَّقليدُ في الفروعِ إجماعًا

(2)

.

استدلَّ له بقولِه تَعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}

(3)

، وهو عامٌّ

(4)

لتَكَرُّرِه بتَكَرُّرِ الشَّرطِ، وعلةُ الأمرِ بالسُّؤالِ الجهلُ، وأيضًا أجمعَ الصَّحابةُ ومَن بَعدَهم ولم يُنكِرُوا على عامِّيٍّ اتَّبَعَ مُفتيًا فيما أَفْتَاه، سواءٌ ذَكَرَ له الدَّليلَ أو لم يَذكُرْه.

(وَلَهُ) أي: لغيرِ المُجتهدِ وهو العامِّيُّ (اسْتِفْتَاءُ مَنْ) أي: مجتهدٍ (عَرَفَهُ عَالِمًا عَدْلًا) بأنْ عَلِمَ أو ظَنَّ أَهلِيَّتَه للاجتهادِ بطريقٍ ما أي بإخبارِ عدلٍ عنه بذلك، أو باشتهارِه بينَ النَّاسِ بالفُتيا وانتصابِه لها وانقيادِ النَّاسِ للأخذِ عنه ونحوِ ذلك، (وَلَوْ) كانَ ذلك المجتهدُ (عَبْدًا، وَأُنْثَى، وَأَخْرَسَ) وعَرَفْنا فُتياه (بِإِشَارَةٍ مَفْهُومَةٍ وَكِتَابَةٍ)؛ لأنَّه إذا عَرَفْنا أنَّه عالمٌ عَدلٌ كفى في جوازِ استفتائِه؛ لأنَّ المقصودَ مِن الاستفتاءِ سؤالُ العالمِ العدلِ، وهو كذلك.

(أَوْ) أي: وللعامِّيِّ

(5)

استفتاءُ مَن (رَآهُ مُنْتَصِبًا) للإفتاءِ والتَّدريسِ (مُعَظَّمًا) عندَ النَّاسِ، فإنَّ ذلك يَدُلُّ على عِلمِه، وأنَّه أهلٌ للاستفتاءِ، وأمَّا مَن عَلِمَ أو ظَنَّ جَهلَه، فلا يَجُوزُ أنْ يَستفتِيَه؛ لأنَّه تَضييعٌ لأحكامِ الشَّريعةِ، فهو كالعالمِ يُفتي بغيرِ دليلٍ.

(1)

في «ع» : المجتهد.

(2)

«شرح مختصر الروضة» (3/ 652).

(3)

النحل: 43، والأنبياء:7.

(4)

في «ع» : علم.

(5)

في «ع» : للعامي.

ص: 830

قالَ ابنُ عَقِيلٍ: يَجِبُ سؤالُ أهلِ الثِّقَةِ والخبرةِ عنه؛ لأنَّه لا يَجُوزُ الرُّجوعُ إلى خبرِه إلَّا بعدَ عِلمِه بأنَّه

(1)

أهلٌ بدليلِ النَّبِيِّ والحاكمِ والمُقَوِّمِ والمخبِرِ بعيبٍ.

(وَيَكْفِيهِ)[في معرفةِ أهليَّتِه]

(2)

(قَوْلُ) واحِدٍ (عَدْلٍ خَبِيرٍ) عندَ الجمهورِ كحُكمٍ شَرعيٍّ.

(وَيَلْزَمُ وَلِيَّ الأَمْرِ: مَنْعُ) مَن لَيْسَ أهلًا للفُتيا مِن الإفتاءِ عندَ الجمهورِ، ويَمنَعُ (مَنْ لَمْ يُعْرَفُ بِعِلْمٍ، أَوْ جُهِلَ حَالُهُ)؛ لأنَّ الأصلَ والظَّاهرَ الجهلُ، فالظَّاهرُ أنَّه منه، ولا يَلزَمُ الجهلُ بالعدالةِ لأنَّا نَمنَعُه ونَقولُ: لا نَقبَلُ مَن جُهِلَتْ عدالتُه، وقال ربيعةُ: بعضُ مَن يُفتي أحقُّ بالسَّجنِ مِن السُّرَّاقِ.

(وَلَا تَصِحُّ) الفتوى ولا تُقبَلُ (مِنْ مَسْتُورِ الحَالِ)، بل لا بُدَّ أن يَكُونَ عدلًا على الصَّحيحِ، وقِيلَ: تَصِحُّ.

قالَ في «شرح الأصل» : وهذا أظهرُ، وعَمَلُ النَّاسِ عليه لا سِيَّمَا في هذه الأزمنةِ

(3)

.

(وَيُفْتِي فَاسِقٌ نَفْسَهُ)

(4)

فقطْ ولا يَتَعَدَّى فُتياه إلى غيرِه على الصَّحيحِ؛ لأنَّه لَيْسَ بأمينٍ على ما يَقولُ.

وقالَ الطُّوفِيُّ: لا يُشترَطُ عدالتُه في اجتهادِه، بل في قَبولِ فُتياه وخَبَرِه

(5)

.

(وَتَصِحُّ) الفُتيا (مِنْ حَاكِمٍ) على الصَّحيحِ كغيرِه وليسَتْ حُكمًا منه على

(1)

في «د» : أنه.

(2)

ليس في «ع» .

(3)

«التحبير شرح التحرير» (8/ 4043).

(4)

زاد في «ع» : على الصحيح.

(5)

«شرح مختصر الروضة» (3/ 588).

ص: 831

الصَّحيحِ، فيَتَفَرَّعُ عليه لو حَكَمَ غيرُه بغيرِ ما أَفْتى لم يَكُنْ نقضًا لحكمِه، ولا هي كالحُكمِ، ولهذا يَجُوزُ أن يُفْتِيَ للحاضرِ والغائبِ، ومَن يَجُوزُ حُكمُه له ومَن لا يَجُوزُ، (و) على هذا تَصِحُّ الفتوى مِن المفتي (عَلَى عَدُوِّ) ـه.

(وَهِيَ) أي: الفتيا ممنوعةٌ (فِي حَالَةٍ) لا يَحكُمُ فيها كـ (غَضَبٍ) أو في شِدَّةِ مرضٍ أو فرحٍ أو خوفٍ

(1)

غالبٍ (وَنَحْوِهِ) فتَحرُمُ وتَنفُذُ (كَقَضَاءٍ) عَلَى الصَّحيحِ، ومرادُهم بالغضبِ الغضبُ الكثيرُ، وكذا غيرُه.

(وَلِمُفْتٍ: أَخْذُ رِزْقٍ مِنْ بَيْتِ المَالِ) وظاهرُه سواءٌ كانَ له كفايةٌ مِن مالِه أو لا، وسواءٌ تَعَيَّنَ لها أو لا؛ لأنَّ له فيه حقًّا على الفُتيا فجازَ له أخذُ حقِّه، (فَإِنْ تَعَذَّرَ) الأَخْذُ مِن بيتِ المالِ (أَخَذَ أُجْرَةَ خَطِّهِ) ولو كَانَ له كفايةٌ.

(وَلِمُتَعَيِّنٍ لَهَا) أي: للفُتيا لعدمِ غيرِه له حالتانِ:

إحداهما: أنْ يَكُونَ له كفايةٌ، فلَيْسَ له الأخذُ مِن مُستفتٍ على الصَّحيحِ إذا لم يَكُنْ له شيءٌ في بيتِ المالِ.

والحالةُ الثَّانيةُ: أنْ يَكُونَ (لَا كِفَايَةَ لَهُ) لا مِن مالِه ولا مِن بيتِ المالِ، فهذا يَجُوزُ له (أَخْذُ رِزْقٍ مِنْ مُسْتَفْتٍ) على الصَّحيحِ؛ لأنَّه إن لم يَأخُذْ أَفْضى إلى ضررٍ يَلْحَقُه في عائلتِه إن كانوا أو حَرَجٍ وهو منتفٍ شرعًا، وإن لم يُفتِ حَصَلَ أيضًا للمُستفتي ضررٌ، فتَعَيَّنَ الجوازُ.

(وَإِنْ جَعَلَ لَهُ) أي: للمُفتي (أَهْلُ بَلَدٍ رِزْقًا لِيَتَفَرَّغَ لَهُمْ: جَازَ) في الأصحِّ، وظاهرُه ولو كَانَ له كفايةٌ، وما يَقُومُ به، وهذا مُشكِلٌ، لكنْ يُفهَمُ مِن قولِه:«ليَتفرَّغَ لهم» أنَّه كان مَشغولًا بالعيالِ وهو الظَّاهرُ.

(1)

في «ع» : خوف أو فرح.

ص: 832

(وَلَهُ) أي: للمُفتي (قَبُولُ هَدِيَّةٍ) عندَ أكثرِ أصحابِنا، والمرادُ لا ليُفْتِيَه بما يُريدُ وإلَّا حَرُمَتْ، وقِيلَ: لا يَقبَلُ الهديَّةَ إلَّا أنْ يُكافِئَ، قالَ الإمامُ أحمدُ: الدُّنيا داءٌ، والسُّلطانُ دواءٌ، والعالِمُ طبيبٌ، فإذا رَأَيْتَ الطَّبيبَ يَجُرُّ الدَّاءَ إلى نَفْسِه فاحذَرْه. وفيه التَّحذيرُ فيمَن يَرغَبُ في مالٍ وشرفٍ بلا حاجةٍ.

(وَ) قالَ أحمدُ: (لَا يَنْبَغِي أَنْ يُفْتِيَ حَتَّى تَكُونَ لَهُ:

(1)

نِيَّةٌ)، فإنْ لم تَكُنْ له نِيَّةٌ لم يَكُنْ على علمِه نورٌ ولا على كلامِه نورٌ،

(2)

(وَكِفَايَةٌ) لئلَّا يَنسُبَه النَّاسُ إلى التَّكسُّبِ بالعلمِ وأخذِ العِوَضِ عليه فيَسقُطَ قولُه،

(3)

(وَوَقَارٌ وَسَكِينَةٌ) ليَرغَبَ المستفتي، وهم وَرَثَةُ الأنبياءِ، فيَجِبُ أنْ يَتَخَلَّقوا بأخلاقِهم،

(4)

(وَقُوَّةٌ عَلَى مَا هُوَ فِيهِ، وَمَعْرِفَةٌ بِهِ) أي: بما هو فيه،

(5)

(وَ) مَعْرِفَتُه (بالنَّاسِ).

قالَ ابنُ عَقِيلٍ: هذه الخصالُ مُستحبَّةٌ فيَقصِدُ الإرشادَ وإظهارَ أحكامِ اللهِ تَعَالَى لا رياءً وسمعةً

(1)

، والتَّنويهَ

(2)

باسمِه. ومعرفةُ النَّاسِ يَحتملُ حالَ الرُّواةِ ويَحتملُ حالَ المُستفتينَ فالفاجرُ لا يَستحقُّ الرُّخصَ، فلا يُفتيه بالخَلوةِ بالمحارمِ معَ علمِه بأنَّه يَسْكَرُ، ولا يُرَخِّصُ السَّفرَ لجندِ وَقتِنا؛ لئلَّا يَضَعَ الفُتيا

(3)

في غيرِ مَحَلِّها لمعرفتِنا لسفرِهم.

قالَ ابنُ مفلحٍ: والخصلةُ الأُولى واجبةٌ

(4)

.

(1)

في «د» : ولا سمعة.

(2)

في «د» : ولا التنويه.

(3)

في «ع» : الأشياءَ.

(4)

«أصول الفقه» (4/ 1548).

ص: 833

(وَمَنْ عَدِمَ مُفْتِيًا) يَسْأَلُه عنِ الفُتيا في بلدِه ولا غيرِه (فَلَهُ حُكْمُ مَا قَبْلَ الشَّرْعِ) مِن إباحةٍ أو حظرٍ أو وقفٍ.

قالَ في «آداب المفتي» : على الخلافِ في الحظرِ والإباحةِ والوقفِ، وهو أقيسُ.

(وَيَلْزَمُ المُفْتِيَ

(1)

: تَكْرِيرُ النَّظَرِ) عندَ تَكرارِ الواقعةِ في الأصحِّ، فإنْ لم يُكَرِّرِ النَّظَرَ كانَ مُقَلِّدًا لنَفْسِه لاحتمالِ تغيُّرِ اجتهادِه إذا كَرَّرَ، وكالقبلةِ يُجتَهَدُ لها ثانيًا.

(وَ) يَلْزَمُ (المُسْتَفْتِيَ

(2)

إذا أفتاه المفتي بحُكْمٍ ثُمَّ تَجَدَّدَتِ الواقعةُ، وقُلْنا إنَّ المجتهدَ يُعيدُ اجتهادَه يَجِبُ على السَّائلِ (تَكْرِيرُ السُّؤَالِ) بأنْ يُعيدَه (عِنْدَ تَكْرَارِ الوَاقِعَةِ) فلا يَكتفي

(3)

السَّائلُ بالجوابِ الأوَّلِ على الصَّحيحِ، كما في تَكَرُّرِ النَّظرِ؛ لأنَّه قد يَتَغَيَّرُ نظرُ المفتي، ومَحَلُّ الخلافِ إذا عَرَفَ المستفتي أنَّ جوابَ المفتي مُستنِدٌ إلى الرَّأيِ كالقِيَاسِ، أو شَكَّ في ذلك، والفرضُ أنَّ المفتيَ المقلِّدَ حيٌّ، فإنْ عَرَفَ استنادَ الجوابِ إلى نصٍّ أو إجماعٍ فلا حاجةَ إلى إعادةِ السُّؤال ثانيًا قطعًا، وكذا لو كانَ المُقلَّدُ مَيِّتًا.

(1)

في «مختصر التحرير» (ص 265): مفت.

(2)

في «مختصر التحرير» (ص 265): مستفت.

(3)

في «ع» : يكفي.

ص: 834

(فَصْلٌ)

(لَا يُفْتِي إِلَّا مُجْتَهِدٌ)

عندَ جماهيرِ أصحابِنا وغيرِهم، قالَ أحمدُ: يَنبغي للمُفتي أن يَكُونَ عالمًا بوجوهِ القُرآنِ والأسانيدِ الصَّحيحةِ والسُّننِ، وقال أكثرُ العلماءِ: يَجُوزُ لغيرِ المجتهدِ أنْ يُفْتِيَ إنْ كانَ مُطَّلِعًا على المآخذِ أهلًا للنَّظرِ، وقال ابنُ هُبَيْرَةَ: مَن لم يُجَوِّزْ إلَّا توليةَ قاضٍ مجتهدٍ إِنَّمَا عَنَى قبلَ استقرارِ هذه المذاهبِ وانحصارِ الحقِّ فيهم، وقال: المجتهدُ اليومَ لا يُتَصَوَّرُ اجتهادُه في هذه المسائلِ الَّتي حُرِّرَتْ في المذاهبِ؛ لأنَّ المجتهدينَ

(1)

المُتقدِّمين فَرَغُوا منها فلا يُؤَدِّيه اجتهادُه إلَّا إلى أحدِهم.

(وَلَا يَجُوزُ خُلُوُّ عَصْرٍ عَنْهُ) أي: عن المجتهدِ عندَ أصحابِنا وغيرِهم؛ لقولِه صلى الله عليه وسلم: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ» . قِيلَ: وأين هم يا رسولَ اللهِ؟ قالَ: «بِبَيْتِ المَقْدِسِ أَوْ أَكْنَافِ بَيْتِ المَقْدِسِ»

(2)

.

واختارَه ابنُ دقيقِ العيدِ ما لم يَتَداعَ الزَّمانُ بنقضِ القواعدِ، لكنَّ كلامَهم مُحتَمَلُ الحملِ على عمارةِ الوجودِ بالعلماءِ لا على خصوصِ المجتهدينَ، واختارَ الآمِدِيُّ جوازَه؛ لأنَّه لو امتنعَ لكانَ لغيرِه، والأصلُ عدمُه.

وفي الصَّحيحينِ: «إِنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ، وَلَكِنْ بِقَبْضِ العُلَمَاءِ حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ عَالِمٌ [وَلَا مُتَعَلِّمٌ]

(3)

، اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُوسًا

(1)

ليس في «د» .

(2)

رواه أحمد (22980) من حديث أبي أمامة رضي الله عنه.

(3)

ليس في «ع» .

ص: 835

جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا»

(1)

، وهذا الخبَرُ أَدَلُّ على المقصودِ مِن الأوَّلِ، ولو تَعارَضَا سَلِمَ هذا الخبَرُ، وأيضًا التَّفقُّهُ فرضُ كفايةٍ، ففي تَركِه اتِّفاقُ الأمرِ على باطلٍ.

رُدَّ: مَنَعَه الآمِدِيُّ إنْ أَمْكَنَ تقليدُ العصرِ السَّابقِ ثمَّ فُرِضَ عندَ إمكانِه، فإذا ماتَ العلماءُ لم يُمكِنْ.

قالَ ابنُ مُفلحٍ

(2)

: ويَتَوَجَّهُ أنَّ هذا مرادُ أصحابِنا وغيرِهم، فلا اختلافَ؛ لقولِه عليه السلام:«لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى لَا يَبْقَى فِي الأَرْضِ مَنْ يَقُولُ: اللهُ اللهُ» رَوَاه مسلمٌ

(3)

.

وقال بعضُ أصحابِنا: مِن زمنٍ طويلٍ عُدِمَ المجتهدُ المطلقُ، معَ أنَّه الآنَ أيسرُ مِنه في الزَّمَنِ الأوَّلِ؛ لأنَّ الحديثَ والفقهَ قد دُوِّنَا، وكذا ما يَتَعَلَّقُ بالاجتهادِ مِن الآياتِ والآثارِ، وأصولِ الفقهِ والعربيَّةِ، وغيرِ ذلك، لكنَّ الهِمَمِ قاصرةٌ، والرَّغباتِ فاترةٌ، ونارَ الجدِّ والحذرِ خامدةٌ، وعينَ الخشيةِ والخوفِ جامدةٌ اكتفاءً بالتَّقليدِ، واستغناءً مِن التَّعبِ الوكيدِ، وهربًا مِن الأثقالِ، وأَرَبًا في تَمشيةِ الحالِ وبلوغِ الآمالِ، ولو بأقلِّ الأعمالِ.

(وَ) على القولِ بأنَّه لا يُفتي إلَّا مجتهدٌ فـ (مَا يُجِيبُ بِهِ المُقَلَّدُ عَنْ حُكْمِ) حادثةٍ (فَـ) هو (إِخْبَارٌ عَنْ مَذْهَبِ إِمَامِهِ لَا فُتْيَا)، قالَ الموفَّقُ: فيَحتاجُ يُخبِرُ عن معيَّنٍ مجتهدٍ. وقال المَاوَرْدِيُّ: لو عَرَفَ حُكمَ حادثةٍ بدليلِها لم يُفتِ في الأصحِّ.

(1)

رواه البخاري (100)، ومسلم (2673) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه.

(2)

«أصول الفقه» (4/ 1554).

(3)

رواه مسلم (148) من حديث أنس رضي الله عنه.

ص: 836

(وَيُعْمَلُ بِخَبَرِهِ) أي: المقلَّدِ (إِنْ كَانَ عَدْلًا) كالرَّاوي.

(وَلِعَامِّيٍّ تَقْلِيدُ مَفْضُولٍ) مِن المجتهدينَ عندَ الأكثرِ؛ لأنَّهم اسْتفْتوْا مِن الصَّحابةِ والسَّلفِ وأفْتوْا وشاعَ ولم يُنْكَرْ، وقال عليه الصلاة والسلام:«أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ»

(1)

وفيهم الأفضلُ مِن غيرِه، وأيضًا العامِّيُّ لا يُمكِنُه التَّرجيحُ لقصورِه.

(وَ) لهذا (يَلْزَمُهُ) أي: العامِّيَّ (إِنْ بَانَ لَهُ الأَرْجَحُ) منهما (تَقْلِيدُهُ، وَيُقَدَّمُ الأَعْلَمُ عَلَى الأَوْرَعِ) في الأصحِّ فيهما؛ لأنَّه لا تَعَلُّقَ لمسائلِ الاجتهادِ بالورعِ والدِّينِ، ولهذا يُقَدَّمُ في الإمامةِ في الصَّلَاةِ، ولأنَّ الظَّنَّ الحاصلَ بقولِه أكثرُ، (وَيُخَيَّرُ) العامِّيُّ في تقليدِ أحدِ مُجتهدينِ (مُسْتَوِيَيْنِ

(2)

فيما يُقَدَّمُ عندَ الأكثرِ لعدمِ التَّرجيحِ.

(وَلَا يَلْزَمُهُ) أي: العامِّيَّ:

(1)

(التَّمَذْهُبُ بِمَذْهَبٍ يَأْخُذُ بِرُخَصِهِ وَعَزَائِمِهِ) في أشهرِ الوجهينِ

(3)

كجمهورِ العلماءِ، فيَتَخَيَّرُ.

قالَ الشَّيخُ: إنْ خالَفَه لقوَّةِ الدَّليلِ أو زيادةِ علمٍ أو تقوى، فقد أَحْسَنَ ولم يُقدَحْ في عدالتِه بلا نزاعٍ، وقال: بل يَجِبُ في هذه الحال وأنَّه نصُّ أحمدَ.

وذَكَرَ ابنُ هُبَيْرَةَ مِن مكائدِ الشَّيطانِ أنْ يُقِيمَ أوثانًا [في المعنى]

(4)

تُعبَدُ مِن دونِ اللهِ مِثْلُ أنْ يَتَبَيَّنَ الحقَّ فيَقُولُ: لَيْسَ هذا مَذهَبَنا، تقليدًا لمعظَّمٍ عندَه قد قدَّمَه على الحقِّ.

(1)

قال ابن الملقن في «البدر المنير» (9/ 584): هذا الحديث غريب لم يروه أحد من أصحاب الكتب المعتمدة، وله طرق

(2)

في «ع» : مستوين.

(3)

في «د» : القولين.

(4)

ليس في «د» .

ص: 837

(2)

(وَلَا) يَلْزَمُ العَامِّيَّ (ألَّا يَنْتَقِلَ عَنْ مَذْهَبٍ عَمِلَ بِهِ) إلى مذهبٍ آخَرَ (فَيَتَخَيَّرُ) عندَ الأكثرِ، واختارَ الآمِدِيُّ منعَ الانتقالِ فيما عَمِلَ به.

(وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ) أي: العامِّيِّ (تَتَبُّعُ الرُّخَصِ) وهو أنَّه كُلَّما وَجَدَ رخصةً في مذهبٍ عَمِلَ بها، ولا يَعمَلُ بغيرِها في ذلك المذهبِ، بل هذه الفَعلةُ زَنْدَقَةٌ مِن فاعِلِها، (وَيَفْسُقُ بِهِ) أي: بتتبُّعِ الرُّخَصِ، فإنَّ القائلَ بهذه الرُّخصةِ في هذا المذهبِ لا يَقُولُ بالرُّخصةِ بتلك الرُّخصةِ الأُخرى.

(وَيَجِبُ أَنْ يَعْمَلَ) مُفتٍ (مُجْتَهِدٌ بِمُوجَبِ اعْتِقَادِهِ فِيمَا لَهُ وَعَلَيْهِ) إجماعًا.

(وَإِنْ عَمِلَ عَامِّيٌّ بِمَا أَفْتَاهُ مُجْتَهِدٌ) في حادثةٍ (لَزِمَهُ) البقاءُ عليه قطعًا وليسَ له الرُّجوعُ عنه إلى فتوى غيرِه في تلك الحادثةِ بعينِها إجماعًا،

(وَإِلَّا) بأنْ لم يَعمَلْ بما أفتاه المجتهدُ (فَـ) الصَّحيحُ أنَّه (لَا) يَلْزَمُه العملُ به (إِلَّا بِالتِزَامِهِ) ذلك، وقِيلَ: يَلْزَمُه إذا وَقَعَ في نَفْسِه صِحَّتُه وحقيقتُه، وقِيلَ: يَلْزَمُه بالشُّروعِ، فإن لم يَشْرَعْ ساغَ سؤالُ غيرِه، وقِيلَ بالإفتاءِ بمُجَرَّدِ ما أَفْتَاه لَزِمَه العملُ به؛ لأنَّه في حَقِّه كالدَّليلِ بالنِّسبةِ إلى المجتهدِ، كما لو لم يُوجَدْ غيرُه أو حَكَمَ به عليه حاكمٌ.

(وَإِنِ اخْتَلَفَ عَلَيْهِ) أي: العامِّيِّ (مُجْتَهِدَانِ) بأنْ أَفْتَاه واحدٌ بحُكمٍ وآخَرُ بآخَرَ، (تَخَيَّرَ) في الأخذِ على الصَّحيحِ، وذَكَرَه أبو الخَطَّابِ ظاهرَ كلامِ أحمدَ، فإِنَّه سُئِلَ عن مسألةٍ في الطَّلاقِ، فقالَ: إنْ فَعَلَ حَنَثَ. فقالَ السَّائلُ: إنْ أَفْتَاني إنسانٌ: لا أَحنَثُ؟ قالَ: تَعرِفُ حلقةَ المَدنيِّينَ؟ قُلْتُ: فإنْ أَفْتَوْنِي، حَلَّ؟ قالَ: نعمْ.

ص: 838

(فَصْلٌ)

يَجُوزُ (لِمُفْتٍ رَدُّهَا) أي: الفتيا، (وَ) مَحَلُّه إذا كانَ (فِي البَلَدِ غَيْرُهُ) مِن المُفتينَ

(1)

وهو (أَهْلٌ لَهَا شَرْعًا) على الصَّحيحِ؛ لأنَّها إذًا في حقِّه سُنَّةٌ، (وَإِلَّا) يَكُنْ في البلدِ غيرُه (لَزِمَه الجَوابُ) قطعًا؛ لأنَّه فرضُ كفايةٍ في حقِّه، (إِلَّا:

(1)

عَمَّا) أي: حُكمٍ (لَمْ يَقَعْ) فلا يَلزَمُ جوابُه، وقد سُئِلَ الإمامُ أحمدُ عن يأجوجَ ومأجوجَ أمسلمون هم؟ فقالَ للسَّائلِ: أَحكَمْتَ العِلْمَ حَتَّى تَسأَلَ عن ذا؟!

(2)

(وَ) لا يَلْزَمُ المفتيَ جوابُ (مَا لَا يَحْتَمِلُهُ السَّائِلُ)، وقد سُئِلَ أحمدُ عن مسألةٍ في اللِّعانِ، فقالَ: سَلْ رَحِمَك اللهُ عَمَّا

(2)

ابتُليتَ به.

(3)

(وَ) لا يَلْزَمُه أن يُجِيبَ عن (مَا لَا يَنْفَعُهُ) أي: ينفعُ السَّائلَ، وقد سَأَلَ مُهَنَّا أحمدَ عن مسألةٍ، فغَضِبَ وقال: خُذْ -وَيْحَكَ- فيما تَنتفعُ به وإيَّاك وهذه المسائلَ المُحدَثَةَ، وخُذْ فيما

(3)

فيه حديثٌ، وفي حديثِ اللِّعانِ:«وَكَرِهَ صلى الله عليه وسلم المَسَائِلَ وَعَابَهَا»

(4)

.

قالَ البَيْهَقِيُّ

(5)

: كُرِهَ السُّؤالُ عنِ المسألةِ قَبْلَ كَوْنِها إذا لم يَكُنْ فيها كتابٌ أو سُنَّةٌ؛ لأنَّ الاجتهادَ إِنَّمَا يُباحُ ضَرورةً.

(1)

في «د» : المفتيين.

(2)

في «ع» : فيما.

(3)

في «د» : ما.

(4)

رواه البخاري (4745)، ومسلم (1492) ضمن حديث سهل بن سعد رضي الله عنه.

(5)

«المدخل إلى السنن» (ص 223).

ص: 839

ثمَّ رَوَى عن معاذٍ: «أَيُّهَا النَّاسُ! لَا تَعَجَّلُوا بِالبَلَاءِ قَبْلَ نُزُولِهِ»

(1)

.

وقال ابنُ عبَّاسٍ لعِكْرِمَةَ: مَن سَأَلَك عمَّا لا يَعنِيه فلا تُفْتِه

(2)

.

وسَأَلَ المَرْوَذِيُّ أحمدَ عن شيءٍ مِن أمرِ العدلِ، فقالَ: لا تَسأَلْ عن هذا؛ فإنَّك لا تُدرِكُه

(3)

.

وذَكَرَ ابنُ عقيلٍ أنَّه يَحرُمُ إلقاءُ عِلْمٍ لا يَحتملُه السَّائلُ.

ولا شكَّ أنَّ أمرَ الفُتيا خَطَرٌ، (وَ) قد (كَانَ السَّلَفُ) الصَّالحُ (يَهَابُونَهَا) كثيرًا (وَيُشَدِّدُونَ فِيَها وَيَتَدَافَعُونَهَا) حَتَّى تَرجِعَ إلى الأوَّلِ؛ لِما فيها من المخاطرةِ، فيَنبغي أنْ يُتَّبَعَ السَّلفُ في ذلك.

(وَيَحْرُمُ تَسَاهُلُ) مُفتٍ (فِيهَا) أي: الفتيا، (وَ) يَحرُمُ (تَقْلِيدُ مَعْرُوفٍ بِهِ) أي: بالتَّساهلِ.

قالَ أحمدُ: لا يَنبغي أنْ يُجِيبَ في كلِّ مَا يُستفتى فيه. وأَنْكَرَ على مَن تَهَجَّمَ في الجوابِ.

(وَلَا بَأْسَ) لِلْمُفْتِي (أَنْ يَدُلَّ) المستفتيَ (عَلَى) رجلٍ (مُتَّبَعٍ) أو مُتَعَيِّنٍ إنْ كانَ المستفتي أهلًا للرُّخصةِ كطالبِ التَّخلُّصِ مِن الرِّبَا فيَدُلُّه على مَن يَرى التَّحيُّلَ للخلاصِ منه، والخُلْعِ بعدمِ وقوعِ الطَّلاقِ.

قالَ في «شرح الأصل» : ولا يَسَعُ النَّاسَ في هذه الأزمنةِ غيرُ هذا

(4)

.

(1)

«المدخل إلى السنن» (ص 226).

(2)

«المدخل إلى السنن» (ص 440).

(3)

ينظر: «أصول الفقه» (4/ 1570).

(4)

«التحبير شرح التحرير» (8/ 4110).

ص: 840

وصَوَّبَه، وجِيءَ بفتوى للإمامِ أحمدَ فلم تَكُنْ عندَه، فقالَ: عليكم بحلْقَةِ المَدنِيِّينَ. ففي هذا دليلٌ على أنَّ المفتيَ إذا جاءَه المستفتي ولم تَكُنْ عندَه رخصةٌ أنَّه يَدُلُّه على مذهبِ مَن له فيه رخصةٌ، وهذه المسائلُ [مُتَعَلِّقَةٌ بالتَّخلُّصِ]

(1)

ممَّا يَقَعُ فيه الإنسانُ كالعامِّيِّ، فإنَّ في ذلك راحةً وخلاصًا ممَّا هو أعظمُ ممَّا وَقَعَ فيه.

وقالَ ابنُ الجوزيِّ: التَّقليدُ للأكابرِ أَفْسَدَ العقائدَ

(2)

.

ولا يَنبغي أنْ يُنَاظَرَ بأسماءِ الرِّجالِ وإنَّما يَنبغي أنْ يُتَّبَعَ الدَّليلُ، فإنَّ أحمدَ أَخَذَ في الجدِّ بقولِ زيدٍ وخالَفَ الصِّدِّيقَ.

وقال ابنُ عَقِيلٍ: مَن صَدَرَ اعتقادُه عن برهانٍ لم يَبْقَ عِندَه تَلوُّنٌ يُراعي به أحوالَ الرِّجالِ {أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ}

(3)

، وكانَ الصِّدِّيقُ مِمَّن ثبتَ معَ اختلافِ الأحوالِ، فلم تَنقلِبْ به الأحوالُ في كلِّ مقامٍ زلَّت به

(4)

الأقدامُ.

(1)

ليس في «د» .

(2)

«تلبيس إبليس» (ص 74).

(3)

آل عمران: 144.

(4)

ليس في «ع» .

ص: 841

(فَصْلٌ)

فيما يَتَعَلَّقُ بآدابِ المُستفتي والمُفتي

و (يَنْبَغِي) لمُستفتٍ (حِفْظُ الأَدَبِ معَ مُفْتٍ وَإِجْلَالُهُ) وتعظيمُه إِيَّاه:

(1)

(فَلَا) يَقُولُ مُستفتٍ لمُفتٍ أو (يَفْعَلُ مَعَهُ مَا جَرَتْ عَادَةُ العَوَامِّ بِهِ، كَإِيمَاءٍ بِيَدِهِ فِي وَجْهِهِ،

(2)

وَلَا يُطَالِبُهُ بِالحُجَّةِ) على ما يُفتي به على الصَّحيحِ،

(3)

(ولا يُقالُ لَه): ما مَذهَبُ إمامِك في كذا؟ أو أفتاني غيرُك أو فلانٌ بكذا، أو كذا قُلْتُ أنا أو وَقَعَ لي، أو (إِنْ كَانَ جَوَابُكَ مُوَافِقًا فَاكْتُبْ، وَإِلَّا فَلَا) تَكْتُبْ، (وَنَحْوُهُ)، ظاهرُه لا فرقَ بينَ أنْ يَكُونَ الدَّليلُ قطعيًّا أو ظنيًّا.

وقالَ ابنُ السَّمعانيِّ: يَلْزَمُه ذِكرُ دليلٍ قاطعٍ، وإلَّا فلا

(1)

.

(لَكِنْ إِنْ عَلِمَ) المفتي (غَرَضَ السَّائلِ) في شيءٍ: (لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكْتُبَ غَيْرَهُ) أو يَسْأَلَه على ضجرٍ، أو هَمٍّ، أو

(2)

قيامٍ ونحوِه.

(وَ) قالَ ابنُ عَقِيلٍ: (لَا يَجُوزُ) للمفتي:

(1)

(إِطْلَاقُ الفُتْيَا فِي اسْمٍ مُشْتَرَكٍ) إجماعًا، فلو سُئِلَ: أيَجُوزُ الأكلُ بعدَ طلوعِ الفجرِ؟ فلا بدَّ أن يَقُولَ: يَجُوزُ بعدَ الفجرِ الأوَّلِ لا الثَّاني.

قالَ ابنُ مُفلِحٍ: ويَتَوَجَّهُ عملُ بعضِ أصحابِنا بظاهرٍ

(3)

.

وقالَ، يَعني ابنَ عَقِيلٍ: حادثةٌ

(4)

نبَّهتْ على التَّحرُّزِ مِن الخديعةِ في الفُتيا: صبيٌّ بَشَرَتُه ظاهرةٌ وجلدتُه مقلَّصةٌ فشَاهَدَه الفقهاءُ وأفتى أقوامٌ: «لا يَجِبُ

(1)

«قواطع الأدلة» (2/ 357).

(2)

ليس في «ع» .

(3)

«أصول الفقه» (4/ 1578).

(4)

ليس في «د» .

ص: 842

خَتْنُه»، فوَقَعَ في نَفْسِ الحنبليِّ أن يَمُدَّ يَدَه ويُحَرِّكَ الجلدةَ، فامتدَّ واستخفَّ بهم حيثُ دَلَّسُوا.

قالَ: وأَوْجَب الشَّرعُ والعقلُ التَّحرُّزَ مِن العوامِّ بالتَّقِيَّةِ كما يَلْزَمُه التَّحرُّزُ مِن مَضَارِّ الآخرةِ، حُكِيَ أنَّ حنفيًّا وَطِئَ رَجعِيَّةً فتَحَدَّثَتْ هي وابنٌ لها مِن غيرِه في قتلِه وإباحةِ مالِه، فعَلِمَ حنبليٌّ فأَعلَمَهم بإباحتِها، وهل يَسوغُ لعاقلٍ أنْ يُهمِلَ هؤلاءِ ولا يَفزَعَ منهم كلَّ الفزعِ، ويَتجاهَلَ كلَّ التَّجاهُلِ في الأخذِ بالاحتياطِ منهم، وإنْ أَهْمَلَهم بعينِ الازدراءِ ضَيَّعَ نَفْسَه، فإِنَّه عندَهم أهونُ وهم أكثرُ وعلى الإضرارِ به أقدرُ، وهل طاحَتْ دماءُ الأنبياءِ والأولياءِ إلَّا بأيدي هؤلاءِ وأمثالِهم، حيثُ رَأَوْا مِن التَّحقيقِ ما يُنكرون، ولا إقالةَ عالمٍ زلَّ في شيءٍ ممَّا يَكرهون

(1)

.

(2)

(وَ) مَن أرادَ كتابةً في فتيا فـ (لَا) يَجُوزُ له (أَنْ يُكَبِّرَ خَطَّهُ، أَوْ يُوَسِّعَ الأَسْطُرَ، أَوْ يُكْثِرَ) من الألفاظِ (إِنْ أَمْكَنَهُ اخْتِصَارٌ فِيهَا) لتَصرُّفِه في مِلكِ غيرِه بلا إذنِه، ولا حاجةَ، كما لو أباحَه قميصَه، فاسْتعمَلَه فيما يَخرُجُ عن العادةِ بلا حاجةٍ، (و) كذلك (لَا) يَجُوزُ لمن أرادَ كتابةً (فِي شَهَادَةٍ) أنْ يُكثِرَ أو يُوَسِّعَ الأسطرَ (بِلَا إِذْنِ مَالِكٍ).

قالَ في «شرح الأصل» : وفيه نظرٌ، لا سِيَّما في الفتاوى؛ فإنَّ العلماءَ

(2)

إذا كَتَبُوا عليها أَطْنَبُوا وزادُوا على المرادِ

(3)

.

ولمَّا انْتَهى الكلامُ في مباحثِ أدلَّةِ الفقهِ المُتَّفَقِ عليها والمختلفِ فيها، وكانَتْ رُبَّما تعارَضَ منها دليلانِ باقتضاءِ حُكمَينِ مُتَضادَّينِ، احتاجَ المجتهدُ إلى ما يُقدَّمُ منها وما يُؤَخَّرُ؛ لئلَّا يَأخُذَ بالأضعفِ منها معَ وجودِ الأقوى، فيَكونَ كالمُتيمِّمِ معَ وجودِ الماءِ، فلذلك أَعقَبَها بقولِه:

(1)

«أصول الفقه» (4/ 1578).

(2)

زاد في «التحبير شرح التحرير» : لم يزالوا.

(3)

«التحبير شرح التحرير» (8/ 4108).

ص: 843

(بَابُ تَرْتِيبِ الأَدِلَّةِ)

الَّتي هي: الكتابُ والسُّنَّةُ والإجماعُ والقِيَاسُ، وغيرُه مِن الأصولِ المختلَفِ فيها،

(وَالتَّعَادُلُ وَالتَّعَارُضُ وَالتَّرْجِيحُ)

وهذا البابُ مِن موضوعِ نظرِ المجتهدِ وضروراتِه؛ لأنَّ الأدلَّةَ الشَّرعيَّةَ متفاوتةٌ في مراتبِ القوَّةِ، وقد يَعرِضُ لها التَّعَارُضُ والتَّكافي فتَصِيرُ بذلك كالمعدومةِ، فيَحتاجُ المجتهدُ إلى إظهارِ بعضِها بالتَّرجيحِ ليَعمَلَ به، وإلَّا تَعَطَّلَتِ الأدلَّةُ والأحكامُ، فهذا البابُ ممَّا يَتَوَقَّفُ عليه الاجتهادُ توقُّفَ الشَّيءِ على جُزئِه أو شرطِه.

ولمَّا كانَ مقصودُ التَّرتيبِ للأدلَّةِ وتعادلِها وتعارُضِها وتَرجيحِها وَجَبَ الكشفُ عن حقيقةِ التَّرتيبِ وغيرِه؛ لأنَّها شروطٌ في الاجتهادِ، والحُكمُ عليها بالشَّرطِيَّةِ يَستدعي سَبْقَ تصوُّرِ مَاهِيَّتِها؛ إذ التَّصديقُ أبدًا مَسبوقٌ بالتَّصوُّرِ، ولمَّا كانَ التَّرتيبُ مَصدَرَ رَتَّبَ يُرَتِّبُ تَرْتِيبًا عَرَّفَه بمصدرٍ مِثْلِه وهو الجَعْلُ، فقالَ:

(التَّرْتِيبُ: جَعْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ شَيْئَيْنِ فَأَكْثَرَ)؛ لأنَّ التَّرتيبَ قد يَكُونُ في شيئينِ وقد يَكُونُ في أشياءَ كثيرةٍ، كجماعةِ رجالٍ مُتفاوتينَ في الأقدارِ، يَجلِسُ كلُّ واحدٍ منهم حيثُ يَستحِقُّ بالنِّسبةِ إلى أصحابِه، وقولُه:(فِي رُتْبَتِهِ) أي: في موضعِه أو منزلتِه (الَّتِي يَسْتَحِقُّهَا) أي: يَستحِقُّ جَعلَها فيها بوجهٍ مِن الوجوهِ؛ لأنَّ أسبابَ التَّرتيبِ والتَّفاوُتِ في المراتبِ مُتَعَدِّدَةٌ، فقد يَستحِقُّ الشَّيءُ التَّقديمَ مِن جهةِ قُوَّتِه أو قُربِه أو حُسنِه أو خاصِّيَّةٍ

(1)

فيه، وقد

(1)

في «ع» : خاصة.

ص: 844

يَستحِقُّ الإنسانُ التَّقديمَ تارةً لشجاعتِه، وتارةً لعِلْمِه، وتارةً لجاهِه، وتارةً لدينِه، وتارةً لجمالِه، وغيرِ ذلك مِن الجهاتِ.

إذا عَرَفْتَ ذلك (فَيُقَدَّمُ) مِن أدلَّةِ الشَّرعِ:

(1)

(إِجْمَاعٌ) على باقيها؛ لوجهين:

أحدُهما: كونُه قاطعًا مَعصومًا من الخطأِ بشهادةِ المعصومِ عليه السلام في قولِه: «إِنَّ اللهَ أَجَارَكُمْ مِنْ ثَلَاثِ خِلَالٍ: ألَّا يَدْعُوَ عَلَيْكُمْ نَبِيُّكُمْ فَتَهْلِكُوا جَمِيعًا، وَألَّا يَظْهَرَ أَهْلُ البَاطِلِ عَلَى أَهْلِ الحَقِّ، وَألَّا تَجْتَمِعُوا عَلَى ضَلَالَةٍ»

(1)

. والأحاديثُ كثيرةٌ في مِثلِ هذا، وإنْ كانَ في بعضِ سندِها ضعفٌ، فهي تُقَوِّي بَعضَها.

والوجهُ الثَّاني: كونُه آمنًا مِن النَّسخِ والتَّأويلِ، بخلافِ باقي

(2)

الأدلَّةِ، فإنَّ النَّسخَ يَلْحَقُها والتَّأويلَ يَتَّجِهُ عليها.

(ثُمَّ) إذا نُقِلَ إجماعانِ مُتضادَّانِ فـ (سَابِقٌ) مِنهما معمولٌ به، ظاهرُه سواءٌ كانَا في عصرٍ واحدٍ أو عصرينِ؛ لأنَّ كلَّ مَنِ اجتهدَ مِن المُتأخِّرينَ فقولُه باطلٌ لمخالفتِه الإجماعَ السَّابقَ.

(وَ) إنْ كانَ أحدُهما مُختلفًا فيه، والآخَرُ مُتَّفقًا عليه فـ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، أَوْ أَقْوَى) بأنْ كانَ الخلافُ في كونِه إجماعًا [أَضعَفَ، فيُقَدَّمُ على ما كانَ الخلافُ في كونِه إجماعًا]

(3)

أقوى.

(1)

رواه أبو داود (4253) من حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه.

قال ابن كثير في «تحفة الطالب» (35): في إسناده نظر.

(2)

ليس في «د» .

(3)

ليس في «د» .

ص: 845

والإجماعُ أربعةُ أنواعٍ: نطقيٌّ متواترٌ، نطقيٌّ ثابتٌ بالآحادِ، سكوتيٌّ متواترٌ، سكوتيٌّ ثابتٌ بالآحادِ.

(وَأَعْلَاهُ):

- إجماعٌ (مُتَوَاتِرٌ نُطْقِيٌّ) فهو مُقَدَّمٌ على غيرِه،

- (فَـ) يَليه: إجماعُ [(آحَادٍ) نُطقيٌّ،

-

(فَـ) يَليه: إجماعٌ]

(1)

(سُكُوتِيٌّ كَذَلِكَ) أي: متواترٌ سُكوتيٌّ فآحادٌ سكوتيٌّ.

فهذه الأنواعُ كلُّها مُقدَّمَةٌ على الكتابِ، وعلى جميعِ أنواعِ السُّنَّةِ مِن متواترةٍ وغيرِها.

(2)

(فَـ) يَلي الإجماعَ بأنواعِه مِن حيثُ التَّقديمُ: (الكِتَابُ وَمُتَوَاتِرُ السُّنَّةِ) فيُقَدَّمان على سائرِ الأدلَّةِ؛ لأنَّهما قاطعانِ مِن جهةِ المتنِ، ولهذا نُسِخَ كلٌّ مِنهما بالآخَرِ على الأصحِّ؛ لأنَّ كلًّا منهما وَحيٌ مِن اللهِ تعالى، وإنِ افْتَرَقا مِن حيثُ إنَّ القُرآنَ نَزَلَ للإعجازِ، فهما في الحقيقةِ سواءٌ.

(3)

(فَـ) يَلي الكتابَ ومتواترَ السُّنَّةِ (آحَادُهَا عَلَى مَرَاتِبِهَا) أي: مراتبِ آحادِ السُّنَّةِ، ومراتبُها: صحيحٌ، ثمَّ حَسَنٌ، ثمَّ ضعيفٌ، وتَتَفَاوَتُ مراتبُها، فيُقَدَّمُ مِن كلٍّ منها

(2)

ما كانَ أقوى ومَحَلُّ تعريفِها وبسطِها كُتُبُ الحديثِ.

(4)

(فَـ) يَلي ضعيفَ السُّنَّةِ (قَوْلُ صَحَابِيٍّ،

(5)

فَقِيَاسٌ) بعدَ ذلك كلِّه، ثمَّ باقي الأدلَّةِ على مراتبِها في نظرِ المجتهدِ.

(1)

ليس في «د» .

(2)

في «د» : منهما.

ص: 846

والغرضُ مِن هذا الكلامِ أنَّ المُجتهدَ له وظائفُ، وهي: ترتيبُ الأدلَّةِ والتَّصرُّفُ فيها وترجيحُ بعضها على بعضٍ عندَ التَّعَارُضِ، والتَّرجيحُ نوعٌ مِن التَّصرُّفِ فيها.

أمَّا التَّرتيبُ: فهو ما بيَّنَه مِن تقديمِ الإجماعِ، ثمَّ الكتابِ، ثمَّ خبرِ الواحدِ، ثمَّ قولِ الصَّحابيِّ، ثمَّ القِيَاسِ، ثمَّ باقي الأدلَّةِ على مَراتِبِها في نظرِ المجتهدِ.

وأمَّا التَّصرُّفُ فيها كحملِ العامِّ على الخاصِّ، والمطلقِ على المقيَّدِ، والمجمَلِ على المبيَّنِ، ونحوِ ذلك، فقد تَقَدَّمَ في أبوابِه.

وسُمِّيَ هذا تَصَرُّفًا؛ لأنَّ التَّصرُّفَ هو التَّنقُّلُ في الأزمنةِ والأحوالِ، وهذا تَنقُّلٌ في أحوالِ الأدلَّةِ مِن حالٍ إلى حالٍ.

وأمَّا التَّرجيحُ فسيَأتي ذِكرُه قريبًا، وإنَّما أخَّرَه عن التَّعَارُضِ؛ لأنَّه فَرعُه فلا يَقَعُ إلَّا معَ وجودِه، فحيثُ انْتَفَى التَّعَارُضُ انتفى التَّرجيحُ، فالتَّرجيحُ مُرَتَّبٌ على وجودِه، فإذا عَرَضَ للأدلَّةِ الشَّرعيَّةِ التَّعَارُضُ والتَّكافي صارَتْ كالمعدومةِ، فتَحتاجُ إلى التَّرجيحِ، وقد أَشرْتُ إلى ذلك أوَّلَ البابِ.

(وَالتَّعَارُضُ: تَقَابُلُ دَلِيلَيْنِ وَلَوْ) بينَ دليلينِ (عامَّيْنِ) فيَجُوزُ تعارضُهما عندَ الأكثرِ (عَلَى سَبِيلِ المُمَانَعَةِ) مُتَعَلِّقٌ بـ «تقابُلُ» ، وذلك إذا كانَ أحدُ الدَّليلَينِ يَدُلُّ على الجوازِ والآخرُ يَدُلُّ على المنعِ، فدليلُ الجوازِ يَمنَعُ التَّحريمَ، ودليلُ التَّحريمِ يَمنَعُ الجوازَ، فكلٌّ مِنهما مقابلٌ للآخَرِ، ومعارضُ له ومانعٌ له، كنَهْيِه عليه السلام عن الصَّلَاة بعدَ الصُّبحِ والعصرِ، معَ قولِه عليه السلام:«مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا»

(1)

؛ لأنَّ كلًّا منهما عامٌّ مِن وجهٍ خاصٌّ مِن وجهٍ.

(1)

رواه مسلم (684) من حديث أنس رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا رَقَدَ أَحَدُكُمْ عَنِ الصَّلَاةِ، أَوْ غَفَلَ عَنْهَا، فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا» .

ص: 847

(وَالتَّعَادُلُ) هو (التَّسَاوِي) بينَ الدَّليلَينِ المتعارضينِ، بحيثُ لا يَكُونُ في أَحَدِهما ما يُرَجِّحُه على الآخَرِ (لَكِنَّ تَعَادُلَ) دَلِيلَيْنِ (قَطْعِيَّيْنِ مُحَالٌ) اتِّفاقًا، (فَلَا تَرْجِيحَ) سواءٌ كانَ الدَّليلانِ عقليَّينِ أو نقليَّينِ أو أحدُهما عقليًّا والآخَرُ نقليًّا؛ إذ لو فُرِضَ ذلك لَزِمَ اجتماعُ النَّقيضينِ أو ارتفاعُهما، وتَرجيحُ أحدِهما على الآخَرِ مُحالٌ، فلا مَدخَلَ للتَّرجيحِ في الأدلَّةِ القطعيَّةِ، (وَالمُتَأَخِّرُ) مِن الدَّليلَينِ (نَاسِخٌ) للمتقدِّمِ إنْ عُلِمَ التَّاريخُ، وكانَ المدلولُ قابلًا للنَّسخِ، (وَلَوْ) كانَ الدليلانِ مَنقولينِ (آحَادًا) فيُعمَلُ بالمُتأخِّرِ على الأصحِّ؛ لأنَّه انضمَّ إلى ذلك أنَّ الأصلَ فيه الدَّوامُ والاستمرارُ.

(وَمِثْلُهُ) أي: مِثْلُ القطعيَّينِ: (قَطْعِيٌّ وَظَنِّيٌّ) أي: لا تعادُلَ بينَهما ولا تعارُضَ لانتفاءِ الظَّنِّ؛ لأنَّه يَستحيلُ وجودُ ظنٍّ في مقابلةِ يقينٍ خلافِه.

(وَيُعْمَلُ بِـ) الدَّليلِ (القَطْعِيِّ) والظَّنِّيُّ لغوٌ؛ ولذلك لا يَتَعارَضُ حُكمٌ مُجمَعٌ عليه معَ حُكمٍ آخَرَ لَيْسَ مُجمَعًا عليه،

(وَكَذَا) دليلانِ (ظَنِّيَّانِ) يَعني: تعادلُهما محالٌ على الصَّحيحِ، وظاهرُه ولو كَانَ أحدُهما سُنَّةً قابَلها كتابٌ، (فَـ) على هذا (يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا) إنْ أَمْكَنَ بأنْ عُلِمَ التَّأريخُ، [ولو كانَ]

(1)

أحدُهما عامًّا والآخَرُ خاصًّا أو مُطلقًا أو مُقَيَّدًا ونحوَ ذلك، فلا يُقَدَّمُ أحدُهما على الآخَرِ على الصَّحيحِ، وقِيلَ: يُقَدَّمُ الكتابُ على السُّنَّةِ، وقِيلَ: يُقَدَّمُ السُّنَّةُ على الكتابِ. وأمَّا قولُه صلى الله عليه وسلم في البحرِ: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الحِلُّ مَيْتَتُهُ»

(2)

، معَ قولِه تَعالى:{قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا}

(1)

في «د» : وكان.

(2)

رواه أبو داود (84)، والترمذي (69)، والنسائي (59)، وابن ماجه (386، 3246)، وابن الجارود (43)، وابن خزيمة (111)، وابن حبان (243)، والحاكم (1/ 237) جميعًا من طريق مالك. قال الترمذي: حسن صحيح.

ونقل الترمذي في «العلل» ص (41) عن البخاري أنه قال: هو حديث صحيح.

ص: 848

إلى قولِه: {أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ}

(1)

فكلٌّ مِن الآيةِ والحديثِ يَتَناوَلُ خنزيرَ البحرِ، فيَتَعارَضُ عمومُ الكتابِ والسُّنَّةِ في خنزيرِ البحرِ، فقَدَّمَ بعضُهم الكتابَ فحَرَّمَه وبعضُهم قَدَّمَ السُّنَّةَ فأَحَلَّه، وهو ظاهرُ كلامِ الإمامِ أحمدَ، وعليه جماهيرُ الأصحابِ.

(فَـ) إنْ لم يُمكِنِ الجمعُ بينَ الدَّليلَينِ بـ (أَنْ تَعَذَّرَ، وَعُلِمَ التَّاريِخُ، فَـ) الدَّليلُ (الثَّاني نَاسِخٌ) لما قَبْلَه (إِنْ قَبِلَهُ) أي: إنْ قَبِلَ الثَّاني النَّسخَ.

(وَإِنِ اقْتَرَنَا) أي: الدَّليلانِ الظَّنِّيَّانِ بأنْ لم يَسبِقْ أحدُهما الآخَرَ، (خُيِّرَ) المجتهدُ في العملِ والإفتاءِ بأيِّهما شاءَ، وحيثُ قُلْنُا بالتَّخييرِ أو التَّعادُلِ فلا يَعمَلُ ولا يُفتي إلَّا بقولٍ واحدٍ في الأصحِّ.

(وَإِنْ جُهِلَ) التَّأريخُ اجتهدَ في الجمعِ إنْ أَمْكَنَ ثمَّ في التَّاريخِ، فإنْ تَعَذَّرَ (وَقَبِلَهُ) أي: قَبِلَ الدَّليلُ النَّسخَ (رَجَعَ إِلَى) العَمَلِ بِـ (غَيْرِهِمَا) أي: غيرِ الدَّليلَينِ إِنْ أَمْكنَ العملُ بغيرِهما (وَإِلَّا) بأنْ تَعَذَّرَ عليه العملُ بغَيرِهما

(2)

(اجْتَهَدَ فِي التَّرْجِيحِ، وَيَقِفُ) عن العملِ بواحدٍ مِنهما (إِلَى أَنْ يَعْلَمَهُ) أي: يَعلَمَ الرَّاجحَ فيَعمَلَ بما تَبَيَّنَ. وقال جماعةٌ مِن أصحابِنا والأكثرُ مِن غيرِهم: يَجُوزُ تعادُلُهما كما في نظرِ المجتهدِ اتِّفاقًا، فعلى هذا هل يُخَيَّرُ المجتهدُ كالكَفَّارةِ وغيرِها أو يَسقُطَانِ ويَجِبُ الرُّجوعُ إلى غيرِهما وهو البراءةُ الأصليَّةُ أو يَقِفُ كتعارضِ البَيِّنَتَينِ أو يَكُونُ كعامِّيٍّ يَجِبُ تَقليدُ غيرِه؟ فيه أقوالٌ، لكنْ فَرَّقَ القائلُ بالأوَّلِ بأنَّه لا تَعارُضَ في الكَفَّارةِ، ولهذا يَجُوزُ وُرودُ الشَّرعِ بإيجابِ الكلِّ، ولا يَجُوزُ في مسألتِنا، ويَكُونُ علامةَ التَّخييرِ،

(1)

الأنعام: 145.

(2)

في «د» : بغيرها.

ص: 849

ومِن هنا جازَ للعامِّيِّ أن يَستفتيَ مَن شاءَ مِن المُفتينَ

(1)

ويَعمَلَ بقولِه، وقِيلَ: إنْ وَقَعَ التَّعادُلُ في الواجباتِ؛ إذ لا يَمتنعُ التَّخييرُ فيها في الشَّرعِ، كمن مَلَكَ مِئتينِ مِن الإبلِ يُخَيَّرُ بينَ إخراجِ أربعِ حِقاقٍ أو خمسِ بناتِ لَبُونٍ، وإنْ وَقَعَ بينَ حُكمَينِ مُتناقضَينِ كإباحةٍ وتحريمٍ، فحُكمه التَّناقضُ والرُّجوعُ إلى البراءةِ الأصليَّةِ، وليسَ للمُفتي تخييرُ المستفتي والخصومِ

(2)

ولا الحُكْمُ في وقتٍ بحُكمٍ، وفي وقتٍ بحُكْمٍ آخَرَ، بل يَلْزَمُ أحدَ القولينِ.

وهل يَتَعَيَّنُ أحدُ الأقوالِ بالشُّروعِ فيه كالكَفَّارةِ أم بالتزامِه كالنَّذرِ؟

قالَ الباقلَّانيُّ: لهم فيه قولانِ.

(وَالتَّرْجِيحُ) فِعْلُ المُرَجِّحِ النَّاظرِ في الدَّليلِ، وهو (تَقْوِيَةُ إِحْدَى أَمَارَتَيْنِ) صالحتينِ

(3)

للإفضاءِ إلى معرفةِ الحُكمِ (عَلَى) الأمارةِ (الأُخْرَى لِدَلِيلٍ) أي: لاختصاصِ تلك الأمارةِ بقوَّةٍ في الدَّلالةِ، كما إذا تَعارَضَ الكتابُ والإجماعُ [في حُكمٍ](2) والعامُّ والخاصُّ، أو قياسُ العِلَّةِ والشَّبَهِ، فكلٌّ مِنهما طريقٌ يَصلُحُ لأنْ

(4)

يُعرَفَ به الحُكمُ، لكنَّ الإجماعَ اختصَّ بقوَّةٍ على الكتابِ مِن حيثُ الدَّلالةُ، وكذا الخاصُّ على العامِّ، وقياسُ العِلَّةِ على الشَّبَهِ مُقَدَّمٌ لذلك، وقد رَجَّحَتِ الصَّحابةُ قَولَ عائشةَ رضي الله عنها في التقاءِ الختانَينِ:«فَعَلْتُهُ أَنَا وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم» على ما رَوَاه الجماعةُ عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا المَاءُ مِنَ المَاءِ»

(5)

؛ لكونِها أعرفَ بذلك منهم، وقد نَصَّ الشَّارِعُ على اعتبارِ التَّرجيحِ، حيثُ قالَ: «يَؤُمُّ القَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ

(1)

في «د» : المفتيين.

(2)

ليس في «د» .

(3)

في (ع): الأمارتين الصالحتين.

(4)

في «ع» : لأنه.

(5)

رواه مسلم (343) من حديث أبي سعيد الخُدري رضي الله عنه.

ص: 850

لِكِتَابِ اللهِ عز وجل»

(1)

، ولمَّا كَثُرَ القَتْلى يومَ أحدٍ أَمَرَ بدفنِ الجماعةِ في القبرِ الواحدِ، وقال:«قَدِّمُوا أَكْثَرَهُمْ قُرْآنًا»

(2)

.

وبالجملةِ، فالتَّرجيحُ دأبُ العقلِ والشَّرعِ حيثُ احتاجَ إليه.

(وَلَا تَرْجِيحَ فِي الشَّهَادَةِ) والفرقُ بينَها وبينَ الأدلَّةِ هو أنَّ بابَ الشَّهادةِ مَشُوبٌ بالتَّعبُّدِ، بدليلِ أنَّ الشَّاهدَ لو أَبْدَلَ لفظَ الشَّهادةِ بلفظِ الإخبارِ أو العِلْمِ، فقالَ: أُخْبِرُ، أو أَعْلَمُ مَكانَ أَشْهَدُ، لم تُقبَلْ، ولا تُقبَلُ شهادةُ جمعٍ مِن النِّساءِ، وإنْ كَثُرْنَ على يسيرٍ مِن المالِ حَتَّى يَكُونَ مَعَهُنَّ رجلٌ معَ أنَّ شهادةَ الجمعِ الكثيرِ من النِّساءِ يَجُوزُ أن يَحصُلَ به العلمُ التَّواتُرِيُّ، وما ذاك إلَّا لثُبُوتِ

(3)

التَّعبُّدِ، فجازَ أن يَكُونَ عدمُ التَّرجيحِ فيها مِن ذلك بخلافِ الأدلَّةِ؛ إذ لا تَعبُّدَ فيها.

قالَ الطُّوفِيُّ: والتَّرجيحُ أمرٌ مُفِيدٌ مَعقولٌ فلا مانِعَ له مِن لُحوقِها، والمُقتضِي مَوجودٌ، وهو وجوبُ الوصولِ إلى الحقِّ بما يُمكِنُ مِن الظَّنِّ أو العلمِ

(4)

.

فائدةٌ: لو عَلِمَ الحاكمُ يقينًا خلافَ ما شَهِدَتْ به البَيِّنَةُ، فيَنبغي أنْ يَتَعَيَّنَ الحكمُ عليه بما عَلِمَه، ويَصيرُ ذلك بمثابةِ مُنكَرٍ اختصَّ بعِلْمِه، وهو قادرٌ على إزالتِه، بل هذا هو عينُ ذاك أو صورةٌ مِن صورِه.

(1)

رواه مسلم (673) من حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه.

(2)

رواه الترمذي (1713)، والنسائي (2010) من حديث هشام بن عامر رضي الله عنه. قال الترمذي: وفي الباب عن خباب، وجابر، وأنس وهذا حديث حسن صحيح.

قلت: وحديث جابر رضي الله عنه رواه البخاري (1343) قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ يَقُولُ:«أَيُّهُمْ أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ» .. الحديث.

(3)

في «ع» : ثبوت.

(4)

«شرح مختصر الروضة» (3/ 682).

ص: 851

(وَلَا) ترجيحَ (فِي المَذَاهِبِ الخَالِيَةِ عَنْ دَلِيلٍ) كأنْ يُقالَ: مذهبُ الشَّافعيِّ أرجحُ مِن مذهبِ أبي حنيفةَ، ونحوُ ذلك؛ لأنَّ المذاهبَ لتَوافُرِ انْهِرَاعِ النَّاسِ إليها وتَعويلِهم عليها صارَتْ كالشَّرائعِ والمللِ المختلفةِ، ولا ترجيحَ في الشَّرائعِ، ولو كَانَ للتَّرجيحِ مدخلٌ في المذاهبِ لاضطربَ النَّاسُ، ولم يَستقرَّ أحدٌ على مذهبٍ، ومَورِدُ التَّرجيحِ إِنَّمَا هو الأدلَّةُ الظَّنِّيَّةُ مِن الألفاظِ المسموعةِ، كنُصوصِ الكتابِ والسُّنَّةِ وظواهرِهما والمعاني المعقولةِ، كأنواعِ الأقيسةِ والشَّبِيهاتِ المستفادةِ مِن النُّصوصِ، فحيثُ اختصَّ التَّرجيحُ بالأدلَّةِ الظَّنِّيَّةِ فلا مَدخَلَ له في المذاهبِ مِن

(1)

غيرِ تمسُّكٍ بدليلٍ.

وقالَ الطُّوفِيُّ: الصَّحيحُ المختارُ أنَّ للتَّرجيحِ مَدخلًا في المذاهبِ مِن حيثُ الإجمالُ والتَّفصيلُ إذا دَلَّ عليه الدَّليلُ

(2)

.

ثمَّ قالَ: التَّرجيحُ في المذاهبِ واقعٌ بالإجماعِ، وهو دليلُ الجوازِ قطعًا

(3)

.

(وَلَا) تَرجيحَ (بَيْنَ عِلَّتَيْنِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ كُلُّ) واحدةٍ (مِنْهُمَا طَرِيقًا لِلْحُكْمِ مُنْفَرِدَةً) لأنَّه لا يَصلُحُ ترجيحُ طريقٍ على ما لَيْسَ بطريقٍ.

(وَرُجْحَانُ الدَّلِيلِ) صفةٌ قائمةٌ بالدَّليلِ أو مضافةٌ إليه، وهي (كَوْنُ الظَّنِّ المُسْتَفَادِ مِنْهُ أَقْوَى) مِن الظَّنِّ المستفادِ مِن غيرِه، كالمستفادِ مِن قياسِ العِلَّةِ بالنِّسبةِ إلى قياسِ الشَّبَهِ أو مِن الخاصِّ بالنِّسبةِ إلى العامِّ، ويَظهَرُ لك الفرقُ بينَ التَّرجيحِ والرُّجحانِ مِن جهةِ التَّصريفِ اللَّفظيِّ، فإنَّك تَقولُ: رَجَّحْتُ الدَّليلَ تَرجْيحًا، فأنا مُرَجِّحٌ، والدَّليلُ مُرَجَّحٌ بفتحِ الجيمِ، وتَقولُ: رَجَحَ

(1)

زاد في «ع» : حيث الإجمال والتفصيل.

(2)

«شرح مختصر الروضة» (3/ 685).

(3)

«شرح مختصر الروضة» (3/ 686).

ص: 852

الدَّليلُ رُجْحَانًا، فهو راجحٌ، أَلَا تَرَى أنَّك أَسْنَدْت التَّرجيحَ إلى نفسِك إسنادَ الفعلِ إلى

(1)

الفاعلِ، وأسندتَ الرُّجحانَ إلى الدَّليلِ، فلذلك كانَ التَّرجيحُ وصفَ المستدلِّ والرُّجحانُ وَصفَ الدَّليلِ، فهذه الطَّريقةُ التَّصريفيَّةُ مُفيدةٌ في معرفةِ رُسُومِ بعضِ الأشياءِ.

(وَيَجِبُ تَقْدِيمُ الرَّاجِحِ) مِن الأدلَّةِ على المرجوحِ منها؛ لأنَّ العملَ بالأرجحِ مُتَعَيِّنٌ عقلًا وشرعًا وقد عَمِلَ الصَّحابةُ به مُجمِعينَ عليه، وهو أمرٌ مُفيدٌ معقولٌ، فلا مانعَ له مِن لُحُوقِ الأدلَّةِ والمقتضى موجودٌ، وهو وجوبُ الوصولِ إلى الحقِّ بما يُمكِنُ مِن الظَّنِّ أو العلمِ، ويَكُونُ التَّرجيحُ بينَ الدَّليلَينِ المتعارضينِ إذا وُجِدَ في أحدِهما مُرَجِّحٌ وإلَّا تَعادَلَا، وسَبَقَ أنَّ تَعادُلَ القطعيَّينِ والقطعيِّ والظَّنِّيِّ محالٌ، فما بَقِيَ إلَّا تعارُضُ الظَّنِّيَّينِ وحينئذٍ يُحتاجُ إلى التَّرجيحِ، قاله في «شرح الأصل» .

وتَرجيحاتُ الأدلَّةِ الظَّنِّيَّةِ مُوصِلَةٌ إلى التَّصديقاتِ الشَّرعيَّةِ، وقد قُسِّمَ ثلاثةَ أقسامِ؛ لأنَّ التَّعَارُض بينَهما.

(وَ) التَّرجيحُ لا يَخلُو مِن أنْ (يَكُونَ بَيْنَ مَنْقُولَيْنِ) كنَصَّينِ (وَمَعْقُولَيْنِ) كقِياسَيْنِ (وَمَنْقُولٍ وَمَعْقُولٍ) كنَصٍّ وقياسٍ.

القِسمُ (الأَوَّلُ) الَّذِي بينَ منقولينِ يَكُونُ (فِي السَّنَدِ) وهو طريقُ ثبوتِ التَّرجيحِ، (وَ) في (المَتْنِ) وهو باعتبارِ مرتبةِ دَلالتِه، (وَ) في (مَدْلُولِ اللَّفْظِ) أي: في الحُكمِ المدلولِ مِن الحرمةِ والإباحةِ ونحوِهما، (وَ) فيما يَنْضَمُّ إليه مِن (أَمْرٍ خَارِجٍ)، فهذه أربعةُ أنواعٍ:

(1)

في «ع» : على.

ص: 853

(فَـ) الأوَّلُ: (السَّنَدُ) ويَقَعُ التَّرجيحُ بحَسَبِه في أربعةِ فصولٍ: في الرَّاوي، وفي الرِّوايةِ، وفي المرويِّ، وفي المرويِّ عنه. فالرَّاوي يَكُونُ في نَفْسِه وفي التَّزكيةِ، فـ (يُرَجَّحُ) في نَفْسِه (بِالأَكْثَرِ رُوَاةً) عندَ الجمهورِ، بأنْ يَكُونَ رواةُ أحدِهما أكثرَ عَددًا مِن رواةِ الآخرِ، فيُقَدَّمُ لقوَّةِ الظَّنِّ؛ لأنَّ العددَ الأكثرَ أبعدُ مِن الخطأِ مِن العددِ الأقلِّ؛ [لأنَّ كلَّ واحدٍ يُفيدُ ظنًّا، فإذا انضمَّ إلى غيرِه قويٌّ]

(1)

حَتَّى يَنتهيَ إلى التَّواترِ المفيدِ لليقينِ، ورَجَّحَ عليه الصلاة والسلام قولَ ذي اليَدَينِ بموافقةِ أبي بكرٍ وعمرَ، وعَمِلَ به الصَّحابةُ والعقلاءُ.

وقياسُ المذهبِ يُرَجَّحُ بالأوثقِ (أَوْ) أي: ويُرَجَّحُ بِالـ (أَكْثَرِ أَدِلَّةً) في الأصحِّ، فإنَّ كَثرَتَها تُفيدُ تقويةَ الظَّنِّ، والظَّنَّانِ أقوى مِن الظَّنِّ الواحدِ؛ لكونِهما أقربَ إلى القطعِ.

(و) يَقَعُ ترجيحُ أحدِ الرَّاويَينِ بكونِه راجحًا على الآخَرِ في وصفٍ يَغلِبُ على الظَّنِّ صِدقُه، فيُرَجَّحُ (بِالأَزْيَدِ ثِقَةً، وَبِفِطْنَةٍ، وَوَرَعٍ، وَعِلْمٍ، وَضَبْطٍ، وَلُغَةٍ (1)، وَنَحْوٍ) فكلُّ وصفٍ مِن هذه الأوصافِ يُرَجَّحُ بها على مَن لم يَبْلُغْها، فيُرَجَّحُ العالمُ بالنَّحوِ تصريفًا وإعرابًا؛ لأنَّ العالمَ بذلك يَتَحَفَّظُ عن موانعِ الزَّلَلِ، فالوثوقُ بروايتِه أقوى مِن غيرِه، وكذلك علمُ اللُّغةِ.

(وَ) يُرَجَّحُ (بِالأَشْهَرِ بِـ) شيءٍ مِن (إحدى

(2)

هذه الصِّفاتِ (السَّبْعَةِ) وإن لم يُعلَمْ رُجحانُه فيها، فإنَّ كَوْنَه أشهرَ إِنَّمَا يَكُونُ في الغالبِ لرُجحانِه.

(وَ) يُرجَّحُ أيضًا أحدُ الرَّاويَينِ (بِالأَحْسَنِ سِيَاقًا) لأنَّ حُسنَ السِّياقِ دليلٌ على رُجحانِه، (وَ) يُرَجَّحُ أيضًا (بِاعْتِمَادِ) الرَّاوي في الرِّوايةِ (عَلَى حِفْظِهِ)

(1)

ليس في «ع» .

(2)

في «مختصر التحرير» (ص 274): أحد.

ص: 854

للحديثِ (أَوْ ذِكْرِهِ) أي: ذِكْرِ سماعِهِ من الشَّيخِ لا على نسخةٍ أو خطِّ نفسِه، فإنَّ الاشتباهَ في الخطِّ والنُّسخةِ يُحتمَلُ دونَ الحفظِ والذِّكرِ.

(وَ) يُرَجَّحُ أيضًا أَحدُهما (بِعَمَلِهِ بِرِوَايَتِهِ) أي: بروايةِ نَفْسِه؛ لأنَّ مَنْ عَمِلَ بموافقتِه أبعدُ مِن الكذبِ مِن خبرِ مَن لم يُوافِقْ عَمَلُه خَبَرَه، ومِثلُ مَن لم يَعمَلْ بروايتِه مَن لم يُعلَمْ أنَّه عَمِلَ بها.

(أَوْ) أي: يُرَجَّحُ أيضًا أحدُ مُرسِلَيْنِ إذا عُلم أنَّه (لَا يُرْسِلُ إِلَّا عَنْ عَدْلٍ) فيُقَدَّمُ لذلك، (أَوْ) كانَ الرَّاوي (مُبَاشِرًا) فيُرجَّحُ على غيرِه، كروايةِ أبي رافعٍ:«تَزَوَّجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَيْمُونَةَ وَهُوَ حَلَالٌ وَكُنْتُ السَّفِيرَ بَيْنَهُمَا»

(1)

، على روايةِ ابنِ عبَّاسٍ أنَّه تَزَوَّجَها وهو مُحرِمٌ

(2)

.

(أَوْ) كانَ (صَاحِبَ القِصَّةِ) كروايةِ ميمونةَ نفْسِها أنَّها قالَتْ: «تَزَوَّجَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ حَلَالَانِ»

(3)

، فإنَّها تُقَدَّمُ على روايةِ ابنِ عبَّاسٍ أيضًا.

(أَوْ) كانَ (مُشَافِهًا) بالرِّوايةِ، كروايةِ القاسمِ عن عائشةَ وهي عَمَّتُه:«أَنَّ بَرِيرَةَ عَتَقَتْ وَزَوْجُهَا عَبْدٌ»

(4)

. فتُرَجَّحُ على روايةِ الأسودِ

(5)

عنها أنَّه كانَ حرًّا؛ لأنَّه كانَ أجنبيًّا.

(أَوْ) كانَ (أَقْرَبَ عِنْدَ سَمَاعِهِ) إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كروايةِ ابنِ عُمَرَ:

(1)

رواه الترمذي (841) وقال: حسن، والنسائي في «الكبرى» (5381).

(2)

رواه البخاري (4258)، ومسلم (1410).

(3)

رواه مسلم (1411) وأبو داود (1843)، والترمذي (860)، والنسائي في «الكبرى» (5383).

(4)

رواه البخاري (2578)، ومسلم (1504)، وأبو داود (2234)، وابن ماجه (2076).

(5)

رواه البخاري (6754).

ص: 855

«أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَفْرَدَ التَّلْبِيَةَ»

(1)

فتُرَجَّحُ على روايةِ مَن رَوَى أنَّه ثَنَّى؛ لأنَّه رُوِيَ أنَّه كانَ تحتَ ناقةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حينَ لَبَّى، والظَّاهرُ أنَّه أَعرَفُ.

(أَوْ) كانَ (مِنْ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ) رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عنهم، فتُرَجَّحُ روايتُه على الأصاغرِ في الأصحِّ لاختصاصِه بمزيدِ خبْرةٍ بأحوالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لمنزلتِه منه ومَكانَتِه

(2)

عندَه وملازمتِه له، والمرادُ بالأكابرِ رؤساءُ الصَّحابةِ لا بالسِّنِّ، والقريبُ أعرفُ بحالِه من البعيدِ، ولقولِه عليه السلام:«لِيَلِيَنِي مِنْكُمْ أُولُو الأَحْلَامِ وَالنُّهَى، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ»

(3)

.

(فَـ) على هذا (يُقَدَّمُ الخُلَفَاءُ الأَرْبَعَةُ

(4)

يعني أبا بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعليًّا رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عنهم على غيرِهم في الرِّوايةِ لزيادةِ فَضيلتِهم وتيقُّظِهم وتَثَبُّتِهم للأحكامِ واحتياجِهم لها.

(أَوْ مُتَقَدِّمُ الإِسْلَامِ) فتُرَجَّحُ روايتُه على المتأخِّر عندَ الآمِدِيِّ وغيرِه.

قالَ الطُّوفِيُّ: نَظَرَ إلى مطلقِ الرُّجحانِ في الفضيلةِ.

ثمَّ قالَ: والتَّوجيهُ المُؤَثِّرُ المناسِبُ لذلك أنَّ مُتَقَدِّمَ الإسلامِ أثبتُ وأرجحُ في الفتوى والورعِ لزيادةِ نَظَرِه في قوارعِ القرآنِ وزواجرِه، وذلك يَقتضي تَوفُّرَ الدَّواعي على العنايةِ بضبطِ الرِّوايةِ والتَّحرِّي في تَحمُّلِها وآدابِها

(5)

.

(1)

رواه البخاري (1549)، ومسلم (1184) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: أَنَّ تَلْبِيَةَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ.

(2)

في «ع» : ومكانه.

(3)

رواه مسلم (432) من حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه.

(4)

زاد في «مختصر التحرير» (ص 275): وأحدهم.

(5)

«شرح مختصر الروضة» (3/ 696).

ص: 856

(أَوْ) كانَ (أَكْثَرَ صُحْبَةً) للرَّسولِ صلى الله عليه وسلم.

(أَوْ قَدُمَتْ هِجْرَتُهُ، أَوْ) كانَ (مَشْهُورَ النَّسَبِ) فيُرَجَّحُ لكثرةِ تَحَرُّزِه عمَّا يُنقِصُ رُتبتَه، وانفردَ الآمِدِيُّ بقولِه: أو غيرَ مُلْتَبِسٍ باسمِ بعضِ الضُّعفاءِ لغَلَبَةِ الظَّنِّ.

(أَوْ سَمِعَ) حالَ كَوْنِه (بَالِغًا) فتُقَدَّمُ روايتُه على مَن سَمِعَ دونَ البلوغِ لكثرةِ ضَبطِه واحتياطِه ولخروجِه مِن الخلافِ فيَكُونُ الظَّنُّ به أقوى.

(وَ) يَكُونُ تَرجيحُ الرَّاوي بتزكيتِه، فيُرَجَّحُ أحدُ الرَّاويَينِ (بِكَثْرَةِ مُزَكِّينَ، وَ) بِـ (أَعْدَلِيَّتِهِمْ وَ) بِـ (أَوْثَقِيَّتِهِمْ) بأنْ يَكُونَ المُزَكِّي لأحدهما أكثرَ مِن المُزَكِّي للآخَرِ أو أعدلَ أو أوثقَ.

(وَ) يُقَدَّمُ حديثٌ (مُسْنَدٌ عَلَى) حديثٍ (مُرْسَلٍ) عندَ الأكثرِ؛ لأنَّ فيه مَزِيَّةً يُقَدَّمُ بها، واتَّفقوا على كَوْنِه حُجَّةً بخلافِ المرسلِ، فإِنَّه مُختلَفٌ في كونِه حُجَّةً، وقد يَكُونُ بينَه وبينَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مجهولٌ، وما ذاك إلَّا لضعفٍ لَحِقَه، وكذلك كلُّ مُختلَفٍ فيه معَ كلِّ مُتَّفقٍ عليه مِن جِنسِه.

تنبيهٌ: يُستثنى مِن تقديمِ المسندِ على المرسلِ مرسلُ الصَّحابيِّ بالنِّسبةِ إلى مُسنَدِ غيرِه، فيَجُوزُ أن يُقَدَّمَ المرسلُ عليه أو يعارِضَه ويُنتظرُ المُرَجِّحُ، وأمَّا إذا تعارَضَ المسندُ والمرسلُ في زمنِ الصَّحابيِّ بأنْ قالَ صحابيٌّ: سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ كذا، وقال صحابيٌّ آخَرُ: حُدِّثْتُ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم كذا، كانَ المسندُ مُتَعَيِّنَ التَّقديمِ.

(وَ) يَقَعُ التَّرجيحُ في الرِّوايةِ، فيُقَدَّمُ (مُرْسَلُ تَابِعِيٍّ عَلَى) مرسلِ (غَيْرِهِ) لأنَّ الظَّاهرَ أنَّه رَوَاه عن صحابيٍّ.

ص: 857

(وَ) يُرَجَّحُ (بِالأَعْلَى إِسْنَادًا) مِن مسندينِ، والمرادُ بعلوِّه قلَّةُ عددِ الطَّبقاتِ إلى منتهاه، فيُرجَّحُ على ما كانَ أكثرَ لقلَّةِ احتمالِ الغلطِ لقلَّةِ الوسائطِ، ولهذا رَغِبَ الحفَّاظُ في السَّندِ العالي.

(وَ) يُرَجَّحُ حديثٌ (مُعَنْعَنٌ عَلَى مَا) أي: حديثٍ (أُسْنِدَ إِلَى كِتَابِ مُحَدِّثٍ) معروفٍ مِن كُتبِ المُحدِّثينَ، والمرادُ بالمُعَنعَنِ: قولُ الرَّاوي: حَدَّثَني فلانٌ عن فلانٍ، إلى أنْ يَبْلُغَ به النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم.

(وَ) يُرَجَّحُ (كِتَابُهُ) أي: ما في كتابِ مُحَدِّثٍ مُسْنِدٍ (عَلَى) كتابِ مُحَدِّثٍ مشهورٍ، لكنَّه غيرُ مُسْنِدٍ (بِلَا نَكِيرٍ).

(وَ) يُرَجَّحُ ما رَوَاه (الشَّيْخَانِ) البخاريُّ ومسلمٌ في كتابَيْهما (عَلَى) ما في (غَيْرِهِمَا) مِن كُتبِ المُحَدِّثينَ؛ لأنَّهما أصحُّ الكُتُبِ بعدِ القرآنِ؛ لأنَّ أوَّلَ ما صُنِّفَ في الصَّحيحِ البخاريُّ، ثمَّ مسلمٌ، ويُقالُ فيما اتَّفَقَا عليه:«مُتَّفَقٌ عليه» ؛ لاتِّفاقِ الأُمَّةِ، إلَّا أنَّ اتِّفاقَ الأُمَّةِ لازمٌ له لاتِّفاقِ الأُمَّةِ على تَلَقِّيهما بالقبولِ،

(فَـ) ما انْفَرَدَ به (البُخَارِيُّ) أي: يُرَجَّحُ على ما بعدَه،

(فَـ) ما انْفَرَدَ به (مُسْلِمٌ)، هذا هو الصَّحيحُ الَّذِي عليه جماهيرُ الحفَّاظِ والمُحدِّثينَ، ثمَّ ما كانَ على شرطِ البخاريِّ ومسلمٍ، ثمَّ ما كانَ على شرطِ البخاريِّ، ثمَّ ما كانَ على شرطِ مسلمٍ.

(فَمَا صُحِّحَ) من الأحاديثِ يُرَجَّحُ على ما لم يُصَحَّحْ،

(فَمَرْفُوعٌ وَمُتَّصِلٌ عَلَى مَوْقُوفٍ وَمُنْقَطِعٍ) أي: يُرَجَّحُ المرفوعُ: وهو المحكيُّ بالسَّنَدِ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، على الموقوفِ: وهو الَّذِي لا

ص: 858

يَتَجَاوَزُ

(1)

الصَّحابيَّ؛ لأنَّ الأصلَ عدمُ رفعِه وثبوتِه عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، والحُجَّةُ في قولِه عليه الصلاة والسلام دونَ غيرِه.

ويُرَجَّحُ المُتَّصِلُ على المنقطعِ؛ لأنَّ الاتِّصالَ صفةُ كمالٍ في الحديثِ تُوجِبُ زيادةَ ظنٍّ، والانقطاعَ صفةُ نقصٍ، وعِلَّةٌ تُوجِبُ نقصَ الظَّنِّ، ولأنَّ المنقطِعَ نوعٌ مِن المرسلِ وهو مُختلفٌ فيه.

(وَ) يُقَدَّمُ حديثٌ (مُتَّفَقٌ) على إسنادِه على مُختلَفٍ في إسنادِه وَمُتَّفَقٌ (عَلَى رَفْعِهِ، أَوْ) على (وَصْلِهِ، عَلَى مُخْتَلَفٍ فِيهِ)؛ لأنَّ الاتِّفاقَ على الشَّيءِ يُوجِبُ له قُوَّةً، ويَدُلُّ على ثُبُوتِه وتَمَكُّنِه في بابِه، والاختلافُ فيه يُوجِبُ له ضعفًا، ويَدُلُّ على تَزَلْزُلِه في بابِه ما لم يَقُمِ البرهانُ القاطعُ على ثبوتِه فيَكُونُ المخالفُ حينئذٍ مُعاندًا كاليهودِ في نُبُوَّةِ عيسى، وهم والنَّصارى في رسالةِ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وأشباهِ ذلك.

(و) تُقَدَّمُ (رِوايةٌ

(2)

مُتَّفِقَةٌ) أي: لم يَختلِفْ لفظُها ولا مَعناها ولا مُضطربةٌ (عَلَى) رِوَايَةٍ (مُخْتَلِفَةٍ، أَوْ مُضْطَرِبَةٍ) على الصَّحيحِ؛ لأنَّ اختلافَ الألفاظِ ضَربٌ مِن الاضطرابِ، واتِّحادُ الألفاظِ أدلُّ على إتقانِ الرَّاوي ووَرَعِه، واضطرابُها تَنافُرُ ألفاظِها، واختلافُها بالزِّيادةِ والنَّقصِ.

(وَ) يَقَعُ التَّرجيحُ في المرويِّ، فيُقَدَّمُ (مَا) أي: حديثٌ (سُمِعَ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم عَلَى مُحْتَمَلٍ) سماعُه وعدمُ سماعِه، فالأوَّلُ كقولِه: سَمِعْتُه، أو أَخْبَرَني ونَحوِهما، والثَّاني كقولِه: قالَ ونحوِه.

(1)

في «ع» : يتجاوزه.

(2)

زاد في «ع» : مختلفة.

ص: 859

(وَ) يُرَجَّحُ حديثٌ سُمِعَ منه صلى الله عليه وسلم (عَلَى) روايةٍ عن (كِتَابِهِ) لبُعد الغلطِ والتَّصحيفِ،

(وَ) يُرَجَّحُ أيضًا حديثٌ سُمِعَ منه صلى الله عليه وسلم (عَلَى مَا) أي: حديثٍ ذُكِرَ أنَّه (سَكَتَ عَنْهُ معَ حُضُورِهِ)؛ لأنَّ سَماعَه منه أعلى مِن تقريرِه لغيرِه على قولٍ أو فعلٍ.

(ثُمَّ) يُقَدَّمُ (ذَا) وهو ما سَكَتَ عنه (معَ حضورِه عَلَى مَا) أي: حديثٍ سَكَتَ عنه (معَ غَيْبَتِهِ) وسَمِعَ به ولم يُنكِرْ، اللَّهمَّ (إِلَّا مَا كَانَ خَطَرُ

(1)

السُّكُوتِ عَنْهُ أَعْظَمَ) وأَتَمَّ وآكَدَ مِن خطرِ (1) ما جَرَى في مَجلِسِه، بحيثُ تَكُونُ الغفلةُ عنه لشِدَّةِ خَطَرِه

(2)

أبعدَ، فإِنَّه يَكُونُ أَوْلَى بالتَّقديمِ.

(وَ) يُقَدَّمُ (قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم عَلَى) ما نُقِلَ وفُهِمَ مِن (فِعْلِهِ) على الصَّحيحِ لصراحةِ القولِ، ولهذا اتُّفِقَ على دَلالتِه بخلافِ دَلالةِ الفِعْلِ؛ لاحتمالِ اختصاصِه به

(3)

.

(وَ) يُقَدَّمُ (هُوَ) أي: فِعْلُه صلى الله عليه وسلم (عَلَى تَقْرِيرِهِ) لأنَّ التَّقريرَ يَطرُقُه مِن الاحتمالِ ما لَيْسَ في الفعلِ الوجوديِّ.

قُلْتُ: يُطْلَبُ الفرقُ بينَ تَقريرِه صلى الله عليه وسلم وبينَ ما سَبَقَ ممَّا سَكَتَ عنه إلَّا أن يَكُونَ أحدُهما أعمَّ مِن حضورٍ وغَيبةٍ وقولٍ وفعلٍ والآخَرُ أخصَّ بواحدٍ.

(وَ) يُقَدَّمُ (مَا) أي: حديثٌ (لَا تَعُمُّ بِهِ البَلْوَى فِي الآحَادِ) بأنِ انْفَرَدَ واحدٌ بحديثٍ لا تَعُمُّ به البَلْوى، وانفردَ آخَرُ بحديثٍ تَعُمُّ به البلوى لتَوَفُّرِ الدَّواعي

(1)

في «د» : حظر.

(2)

في «د» : حظره.

(3)

ليس في «د» .

ص: 860

على نَقْلِهِ، فيُرَجَّحُ ما لا تَعُمُّ به البلوى عَلَى مَا تَعُمُّ بِهِ البَلْوَى لكَوْنِه أبعدَ من الكذبِ ممَّا تَعُمُّ به البلوى؛ لأنَّ تَفَرُّدَ الواحدِ بنقلِ ما تَتَوَفَّرُ الدَّواعي على نَقْلِه يُوهِمُ الكذبَ.

(وَ) يَقَعُ التَّرجيحُ في المرويِّ عنه وهو الفصلُ الرَّابعُ مِن الفصولِ الواقعةِ في السَّنَدِ، فيُرَجَّحُ (مَا) أي: حديثٌ (لَمْ يُنْكِرْهُ المَرْوِيُّ عَنْهُ) على ما أَنْكَرَه، سواءٌ كانَ الإنكارُ إنكارَ جحودٍ أو نسيانٍ (وَمَا أَنْكَرَهُ) المرويُّ عنه (نِسْيَانًا) على ما أَنْكَرَه جحودًا، وذلك مَعنى قولِه:(عَلَى ضِدِّهِمَا).

النَّوع الثَّاني مِن القِسمِ الأوَّلِ الَّذِي يَقَعُ التَّرجيحُ فيه بينَ مَنقولَيْنِ:

(المَتْنُ) وهو مبنيٌّ على تفاوُتِ دَلالاتِ العباراتِ في أَنفُسِها، فيُرَجَّحُ الأدلُّ منها فالأدلُّ؛ أي: إنَّ العباراتِ تَتَفَاوَتُ في الدَّلالةِ على المعاني بالقُوَّةِ والضَّعفِ والبيانِ والإجمالِ والإيضاحِ والإشكالِ، فما كانَ مِنها أقوى دَلالةً قُدِّمَ على غيرِه وهو قاعدةُ هذا النَّوعِ، فالنَّصُّ مُقَدَّمٌ على الظَّاهرِ؛ لأنَّ النَّصَّ أَدَلُّ لعدمِ احتمالِه غيرَ المرادِ، والظَّاهرُ يَحتمِلُ غيرَه، وإنْ كانَ احتمالًا مرجوحًا، لكنَّه يَصلُحُ أنْ يَكُونَ مرادًا بدليلٍ.

إذا عَرَفْتَ ذلك فـ (يُرَجَّحُ) مِن المتنِ خبَرٌ فيه:

(نَهْيٌ عَلَى أَمْرٍ) أي: على خبرٍ فيه أمرٌ لشِدَّةِ الطَّلبِ فيه لاقتضائِه للدَّوامِ ولقلَّةِ مَحامِلِه، ولأنَّ دَفعَ المفسدةِ أهمُّ مِن حصولِ المصلحةِ،

(وَ) يُرَجَّحُ خبَرٌ فيه (أَمْرٌ عَلَى مُبِيحٍ) لاحتمالِ الضَّررِ بتقديمِ المبيحِ بلا عكسٍ،

(وَ) يُرَجَّحُ (خَبَرٌ عَلَى الثَّلَاثَةِ) النَّهيُ والأمرُ والإباحةُ؛ لأنَّ دَلالتَه

ص: 861

على الثُّبوتِ أَقوى مِن دَلالةِ غيرِه مِن الثَّلاثةِ عليه، والمرادُ بالخبَرِ الخبَرُ المحضُ، لا ما صِيغَتُه خبرٌ، ومعناه أمرٌ أو نهيٌ،

(وَ) يُرَجَّحُ لفظٌ (مُتَوَاطِئٌ عَلَى) لفظٍ (مُشْتَرَكٍ) وتَقَدَّمَ تعريفُهما أوائلَ الكتابِ بعدَ ذِكْرِ الدَّلالةِ.

(وَ) إذا اجتمعَ لفظٌ (مُشْتَرَكٌ) ومشتركٌ رُجِّحَ مَا (قَلَّ مَدْلُولُهُ عَلَى مَا كَثُرَ) كالمشتركِ بينَ مَعنيَينِ على المشتركِ بينَ ثلاثةِ معانٍ.

(وَ) يُرَجَّحُ لفظٌ فيه (مَعْنًى ظَهَرَ اسْتِعْمَالُهُ عَلَى عَكْسِهِ) كما ذَكَرُوه في الحُمرةِ، وأنَّها أظهرُ في الشَّفَقِ.

(وَ) يُرَجَّحُ لفظٌ فيه (اشْتِرَاكٌ بَيْنَ عَلَمَينِ عَلَى) لفظٍ فيه اشتراكٌ بينَ (عَلَمٍ وَمَعْنًى) والمرادُ عَلَمُ الشَّخصِ لا عَلَمُ الجنسِ، فإنَّ العَلَمَ يُطلَقُ على شخصٍ مخصوصٍ، والمعنى يَصْدُقُ على أشخاصٍ كثيرةٍ، فكانَ اختلالُ الفهمِ لجَعْلِه مُشتركًا بينَ عَلَمين أقلَّ، فكانَ أَوْلى، مثالُه: أنْ تَقُولَ: رأيتُ أَسوَدَينِ، فحَمْلُه على شخصينِ كلُّ واحدٍ مِنهما اسمُه أسودُ أَوْلَى مِن شخصٍ اسمُه أسودُ والآخَرُ لونُه أسودُ.

(وَ) يُرَجَّحُ لفظٌ فيه اشتراكٌ (بينَ عَلَمٍ وَمَعْنًى عَلَى) لفظٍ فيه اشتراكٌ بينَ (مَعْنَيَيْنِ) لقلَّةِ الإخلالِ فيه، مثالُه: الأَسودَينِ أيضًا، فحَمْلُه على العَلَم والمعنى أَوْلى مِن حَمْلِه على شخصينِ لونُهما أسودُ.

(8)

(وَ) يُرَجَّحُ (مَجَازٌ عَلَى مَجَازٍ) آخَرَ بأسبابٍ مِنها التَّرجيحُ (بِشُهْرَةِ

(1)

عَلَاقَةٍ) بينَه وبينَ الحقيقةِ وبينَ المجازِ الآخَرِ والحقيقةِ، مثلُ أن يَكُونَ

(1)

في «د» : لشهرة.

ص: 862

أحدُهما مِن بابِ المشابهةِ، فيُرَجَّحُ على ما كانَ مِن بابِ النَّقلِ.

(وَ) منها التَّرجيحُ (بِقُوَّتِهَا) أي: العلاقةِ، كأنْ يَكُونَ مُصَحِّحُ إحدى المجازينِ أَقْوى مِن مُصَحِّحِ الآخرِ، كإطلاقِ اسمِ الكلِّ على الجزءِ، فيُرَجَّحُ عليه.

(وَ) منها التَّرجيحُ (بِقُرْبِ جِهَتِهِ

(1)

أي: جهةِ أحدِ

(2)

المجازَيْنِ إلى الحقيقةِ كحمْلِ نفيِ

(3)

الذَّاتِ على الصِّحَّةِ أقربُ مِن حَمْلِه على نفيِ الكمالِ.

(وَ) منها التَّرجيحُ (بِرُجْحَانِ دَلِيلِهِ) على المجازِ الآخَرِ، بأنْ تَكُونَ قرينةُ أحدِ المجازينِ قطعيَّةً والأخرى غيرَ قطعيَّةٍ.

(وَ) منها ترجيحُ أحدِ

(4)

المجازينِ (بِشُهْرَةِ اسْتِعْمَالِهِ) على المجازِ الآخرِ.

(وَ) يُرَجَّحُ (مَجَازٌ عَلَى مُشْتَرَكٍ) بينَ حقيقتينِ؛ لأنَّ الاشتراكَ يُخِلُّ بالتَّفاهُمِ، مِثالُه: النِّكاحُ، فإِنَّه يَحتملُ أنَّه حقيقةٌ في الوطءِ مجازٌ في العقدِ، ويَحتملُ أنَّه مشتركٌ بينَهما، فالمجازُ أقربُ فلْيُحمَلْ عليه، ولأنَّ المشتركَ يَحتَاجُ إلى قرينتينِ بحَسَبِ مَعنَيَيْه على أنَّ استعمالَه في كلِّ واحدٍ من مَعنَيَيْه يَحتاجُ إلى قرينةٍ مُعَيِّنةٍ مُخَصِّصةٍ له؛ إذ لا ترجيحَ لواحدٍ مِن مَعنَيَيْه على الآخرِ، كالعينِ فإنَّها تَحتاجُ عندَ استعمالِها في الباصرةِ إلى قرينةٍ تُخَصِّصُها، وكذا استعمالُها في الجاريةِ، بخلافِ المجازِ، فإِنَّه يَحتاجُ إلى قرينةٍ واحدةٍ عندَ استعمالِه في معناه المجازيِّ، ولا يَحتاجُ إلى قرينةٍ بالنَّظرِ إلى المعنى الحقيقيِّ.

(1)

في «ع» : جهة.

(2)

ليس في «ع» .

(3)

ليس في «ع» .

(4)

في «ع» : إحدى.

ص: 863

(وَ) إذا احتملَ الكلامُ أنْ يَكُونَ فيه تخصيصٌ ومجازٌ قُدِّمَ (تَخْصِيصٌ عَلَى مَجَازٍ) لتَعَيُّنِ الباقي مِن العامِّ بعدَ التَّخصيصِ، بخلافِ المجازِ، فإِنَّه قد لا يَتَعَيَّنُ [بأنْ يَتَعَدَّدَ]

(1)

ولا قرينةَ تُعَيِّنُ، مثالُه: قولُه تَعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ}

(2)

فقالَ الحنفيُّ: ممَّا لم يُتَلَفَّظْ بالتَّسميةِ عندَ ذبحِه وخُصَّ منه النَّاسي لهاـ فتَحِلُّ ذبيحتُه، وقال غيرُه: أي ما لم يُذبَحْ، تَعبيرًا عن الذَّبْحِ بما يُقارِنُه غالبًا مِن التَّسميةِ، فلا تَحِلُّ ذبيحةُ المُتَعَمِّدِ تَركَها على الأوَّلِ دونَ الثَّاني،

(وَهُمَا) أي: يُرَجَّحُ التَّخصيصُ والمجازُ (عَلَى إِضْمَارٍ) لقِلَّتِه.

(وَ) تُرَجَّحُ (الثَّلَاثَةُ) وهي: التَّخصيصُ والمجازُ والإضمارُ (عَلَى نَقْلٍ) أي: منقولٍ مِن اللُّغةِ إلى الشَّرعِ؛ لأنَّه إبطالٌ كالنَّسخِ،

(وَهُوَ) أي: يُرَجَّحُ النَّقلُ (عَلَى) اسمٍ (مُشْتَرَكٍ) لإفرادِه في الحالينِ كزكاةٍ.

تنبيهٌ: اللَّفظُ إذا وُضِعَ لمعنًى، ثمَّ نُقِلَ في الشَّرعِ إلى مَعنًى ثانٍ لمناسبةٍ بينَهما، وعلا استعمالُه في المعنى الثَّاني سُمِّيَ منقولًا شرعيًّا.

(وَ) تُرَجَّحُ (حَقِيقَةٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا) على حقيقةٍ مُختَلَفٍ فيها.

(وَ) يُرَجَّحُ (الأَشْهَرُ مِنْهَا) يَعني تُرَجَّحُ الحقيقةُ بكَوْنِها أشهرَ على الحقيقةِ الَّتي هي في الشُّهرةِ كهي.

(وَ) يُرَجَّحُ الأشهرُ مِن (مَجَازٍ) على غيرِ الأشهرِ منه، وهو المرادُ بقولِه:(عَلَى عَكْسِهِنَّ) سواءٌ كانَتِ الشُّهرةُ في اللُّغةِ أو الشَّرعِ أو العُرفِ، وسَبَقَ أوَّلَ الكتابِ أنَّه يُقَدَّمُ المجازُ الرَّاجحُ على الحقيقةِ المرجوحةِ.

(1)

ليس في «د» .

(2)

الأنعام: 121.

ص: 864

(وَ) يُرَجَّحُ اسمٌ (لُغَوِيٌّ مُسْتَعْمَلٌ شَرْعًا فِي) مَعنًى (لُغَوِيٍّ عَلَى مَنْقُولٍ شَرْعِيٍّ) لأنَّ الأصلَ موافقةُ الشَّرعِ اللُّغةَ،

(وَيُرَجَّحُ) لفظٌ (مُنْفَرِدٌ) لُغويٌّ مُستعملٌ في مَعنًى شرعيٍّ على لفظٍ مُستعمَلٍ في اللُّغةِ لمعنًى؛ لأنَّ المعهودَ مِن الشَّارِعِ إطلاقُ اللَّفظِ في مَعناه الشَّرعيِّ، ولذلك قُدِّمَ.

(وَ) يُرَجَّحُ (مَا) أي: لفظٌ (قَلَّ مَجَازُهُ) على لفظٍ كَثُرَ مَجَازُه؛ لأنَّه بكثرةِ المجازِ يَضعُفُ، ولذلك قُدِّمَ ما قَلَّ مجازُه.

(أَوْ) ما (تَعَدَّدَتْ جِهَةُ دَلَالَتِهِ) فيُرَجَّحُ على ما اتَّحَدَتْ جهةُ دَلالتِه.

(أَوْ تَأَكَّدَتْ) بأنْ كانَتْ أَقوى، فتُرَجَّحُ عَلَى ما كَانَتْ أَضعفَ.

(أَوْ كَانَتْ) دَلالتُه (مُطَابِقَةً) فتُرَجَّحُ على دَلالةِ الالتزامِ.

(وَ) يُرَجَّحُ (فِي) دَلالةِ (اقْتِضَاءٍ بِضَرُورَةٍ) أي: ما يَتَوَقَّفُ عليه ضرورةُ (صِدْقِ المُتَكَلِّمِ عَلَى) لفظٍ يَتَوَقَّفُ عليه (ضَرُورَةُ وُقُوعِهِ) شرعًا أو عقلًا؛ لأنَّ ما يَتَوَقَّفُ عليه صِدقُ المتكلِّمِ أَوْلى ممَّا يَتَوَقَّفُ عليه وُقُوعُه الشَّرعيُّ والعقليُّ، نظرًا إلى أبعدِ الكذبِ في كلامِ الشَّارِعِ.

تنبيهٌ: تَقَدَّمَتِ دَلالةُ الاقتضاءِ ودَلالةُ الإشارةِ ودَلالةُ الإيماءِ معَ أَمْثِلَتِها في بابِ المنطوقِ، وكذلك تنويعُ الإيماءِ والتَّنبيهِ في مسالكِ العِلَّة، فرَاجِعْه هناك.

(وَ) يُرَجَّحُ في دَلالةِ الاقتضاءِ

(1)

(بِضَرُورَةِ وُقُوعِهِ) أي: الاقتضاءِ (عَقْلًا عَلَيْهَا) أي: على ضرورةِ وقوعِه (شَرْعًا) لبُعدِ الخُلفِ شَرعًا وامتناعِ مُخالفةِ معقولٍ لا مشروعٍ.

(1)

في «ع» : اقتضاء.

ص: 865

(وَ) يُرَجَّحُ (فِي) دَلالةِ (إِيمَاءٍ بِمَا) أي: بلفظٍ (لَوْلَاهُ لَكَانَ فِي الكَلَامِ عَبَثٌ أَوْ حَشْوٌ عَلَى غَيْرِهِ) مثل أنْ يَذْكُرَ الشَّارِعُ معَ الحُكْمِ وصفًا لو لم يُعَلَّلِ الحكمُ به لكانَ ذِكْرُه عبثًا أو حشوًا، فإِنَّه يُقَدَّمُ على الإيماءِ بما رُتِّبَ فيه الحُكمُ بفاءِ التَّعقيبِ؛ لأنَّ نفيَ العبثِ والحشوِ مِن كلامِ الشَّارِعِ أَوْلى.

(وَ) يُرَجَّحُ (مَفْهُومُ مُوَافَقَةٍ) أي: ما دَلَّ بمفهومِ موافقةٍ (عَلَى) ما دَلَّ بمفهومِ (مُخَالَفَةٍ) للاتِّفاقِ عليه.

(وَ) يُرَجَّحُ (اقْتِضَاءٌ عَلَى إِشَارَةٍ) لأنَّه مقصودٌ بإيرادِ اللَّفظِ صِدقًا أو حُصولًا، ويَتَوَقَّفُ الأصلُ عليه بخلافِ الإشارةِ، فإنَّها لم تُقصَدْ بإيرادِ اللَّفظِ، وإنْ تَوَقَّفَ الأصلُ عليها،

(وَ) يُرَجَّحُ اقتضاءٌ على (إِيمَاءٍ) لأنَّ الإيماءَ وإنْ كانَ مَقصودًا بإفرادِ اللَّفظِ لكنَّه لم يَتَوَقَّفِ الأصلُ عليه.

(وَ) يُرَجَّحُ اقتضاءٌ (على مَفْهُومٍ) لأنَّ الاقتضاءَ مقطوعٌ بثُبُوتِه والمفهومَ مظنونٌ ثبوتُه.

ويُرَجَّحُ إيماءٌ عَلَى مَفْهُومٍ؛ لقِلَّةِ مُبطِلاتِه.

(وَتَنْبِيهٌ كَنَصٍّ) أَوْ أَقوى (فِي قَوْلٍ) للشَّيخِ تَقِيِّ الدِّينِ، وقال أيضًا في مسألةٍ في الوقفِ كَتَبَ عليها خمسَ كَرارِيسَ في أثنائِها: فإنَّ نَقلَ نَصِيبِ الميِّتِ إلى ذَوي طبقتِه إذا لم يَكُنْ له ولدٌ دونَ سائرِ أهلِ الوقفِ تَنبيهٌ على أنَّه يَنقُلُه لولدِه إنْ كانَ له ولدٌ، والتَّنبيهُ دليلٌ أقوى مِن النَّصِّ حَتَّى في شروطِ الواقفينَ.

(وَ) يُرَجَّحُ (تَخْصِيصُ عَامٍّ عَلَى تَأْوِيلِ خَاصٍّ) لكثرتِه.

ص: 866

(وَ) يُرَجَّحُ (خَاصٌّ وَلَوْ مِنْ وَجْهٍ) وَاحِدٍ (عَلَى عَامٍّ) مُطلقًا لقوَّةِ دَلالتِه، فكذا ما قَرُبَ مِنه ولئلَّا تَتَعَطَّلَ دَلالتُه.

(وَ) يُرَجَّحُ (عَامٌّ لَمْ يُخَصَّصْ) بأنْ تَعارَضَ

(1)

عامَّانِ أحدُهما باقٍ على عمومِه، والآخرُ قد خُصَّ بصورةٍ فأكثرَ، فيُرَجَّحُ الباقي على عمومِه على المخصوصِ؛ لأنَّه مختلفٌ فيه والباقي على عمومِه لا خلافَ في بقائِه حقيقةً وحُجَّةً، فكانَ راجحًا، (أَوْ قَلَّ تَخْصِيصُهُ) فيُرَجَّحُ (عَلَى عَكْسِهِ) وهو الأكثرُ، مِثْلُ أنْ يُخَصَّصَ أحدُهما بصورةٍ والآخرُ بصورتينِ، فالأوَّلُ أَرجَحُ؛ لأنَّه أقربُ إلى الأصلِ، وهو البقاءُ على العمومِ، ومخالفةُ الأصلِ فيه أقلُّ.

(وَمُطْلَقٌ وَمُقَيَّدٌ) أي: حُكمُ المطلقِ معَ المقيَّدِ في التَّرجيحِ (كَـ) حُكْمِ (عَامٍّ وَخَاصٍّ) فيُقَدَّمُ المقيَّدُ ولو مِن وجهٍ على المطلقِ، والمطلقُ الَّذِي لم يُخرَجْ منه شيءٌ على ما أُخْرِجَ منه.

(وَ) إذا تَعَارَضَتْ صيغُ العُمومِ فـ (عَامٌّ شَرْطِيٌّ كَـ «مَنْ» وَ «مَا») وأيٌّ، يُقَدَّمُ (عَلَى غَيْرِهِ) مِن صيغِ العمومِ، كصيغةِ النَّكرةِ الواقعةِ في صيغةِ النَّفيِ وغيرِها، كالجمعِ المُحَلَّى والمضافِ ونَحوِهما؛ لدَلالَةِ الأوَّلِ على كَوْنِ ذلك عِلَّةً للحُكْمِ، وهو أدلُّ على المقصودِ ممَّا لا عِلَّةَ فيه؛ إذ لو أَلْغَيْنا العامَّ الشَّرطيَّ كانَ إلغاءً للعلَّةِ، بخلافِ العامِّ غيرِ الشَّرطيِّ فلا يَلْزَمُ به إلغاءُ العِلَّةِ.

وقالَ الآمِدِيُّ: يُمكِنُ هذا، ويُمكِنُ ترجيحُ النَّكرةِ المنفيَّةِ؛ لأنَّه يُعَدُّ خروجُ واحدٍ منه خُلفًا

(2)

.

(1)

في «ع» : تعارضا.

(2)

«الإحكام في أصول الأحكام» (4/ 255).

ص: 867

قالَ البِرْمَاوِيُّ: وكأنَّ وَجهَه: أنَّ طُرُقَ التَّخصيصِ إليه بعيدٌ؛ لبُعدِ أنْ يُقالَ في: «لَا رَجُلَ في الدَّارِ» إنَّ فيها فلانًا

(1)

.

(وَ) يُرَجَّحُ (جَمْعٌ وَاسْمُهُ) حالَ كَوْنِ الجَمْعِ واسمِ الجَمعِ (مُعَرَّفَينِ بِاللَّامِ) على اسمِ الجنسِ باللَّامِ؛ لأنَّ الجمعَ واسمَه لا يَحتملُ العهدَ، أو يَحتملُه على بُعدٍ، بخلافِ اسمِ الجنسِ المُحَلَّى باللَّامِ، فإِنَّه يَحتملُ العهدَ احتمالًا قريبًا.

(وَ) يُرَجَّحُ («مَنْ» وَ «مَا» عَلَى الجِنْسِ بِاللَّامِ) لأنَّ الجنسَ المُحَلَّى باللَّامِ اختلفَ المُحقِّقون في عمومِه بخلافِ ««مَن» و «ما» .

(وَ) يُرَجَّحُ مَتْنٌ (فَصِيحٌ عَلَى) مَتْنٍ (غَيْرِهِ) ممَّا لم يَستكمِلْ شروطَ الفصاحةِ، قالَ بعضُ العلماءِ: إذا كانَ في اللَّفظِ المرويِّ رَكَاكَةٌ لا يُقبَلُ، والحقُّ أنَّه يُقبَلُ إذا صَحَّ السَّنَدُ، ويَحمَلُ على أنَّ الرَّاويَ رَوَاه بلفظِ نَفْسِه، وأمَّا مَا كانَ زائدًا على الفصاحةِ، فلا يُرَجَّحُ على الفصيحِ، فإنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كانَ يَنطِقُ بالفصيحِ وبالأفصحِ، فلا فرقَ بينَ ثُبوتِهما عنه، والكلامُ فيما سوى ذلك، لا سِيَّما إذا خاطَبَ مَن لا يَعرِفُ تلك اللُّغةَ الَّتي ليسَتْ بأَفْصَحَ لقصدِ إفهامِهم.

فائدةٌ: ذَكَرَ البيانيُّونَ أنَّ الفصاحةَ هي سلامةُ المفردِ مِن تنافُرِ الحروفِ والغرابةِ ومخالفةِ القِيَاسِ، وفي المُرَكَّبِ سلامتُه من ضعفِ التَّأليفِ وتنافُرِ الكلماتِ والتعقيدِ معَ فصاحتِها، ويَنبغي ألَّا يُرَجَّحَ البليغُ على الفصيحِ، والبلاغةُ مطابقةُ الكلامِ لمُقتضى الحالِ.

ص: 868

النَّوعُ الثَّالث مِن القِسمِ الأوَّلِ الَّذِي يَقَعُ التَّرجيحُ فيه بينَ منقولينِ:

(المَدْلُولُ) أي: ما دَلَّ عليه اللَّفظُ مِن الأحكامِ فـ (يُرَجَّحُ:

عَلَى إِبَاحَةِ) حظرٍ على الصَّحيحِ؛ لأنَّ فِعلَ الحظرِ يَستلزِمُ مَفسدةً بخلافِ الإباحةِ؛ لأنَّه لا يَتَعَلَّقُ بفِعلِها ولا بتركِها مصلحةٌ ولا مفسدةٌ، واستدلَّ بتحريمِ مُتَوَلِّدٍ بينَ مأكولٍ وغيرِه، وجاريةٍ مشتركةٍ.

(وَ) يُرَجَّحُ على (كَرَاهَةٍ) حظرٌ لقولِه صلى الله عليه وسلم: «مَا اجْتَمَعَ الحَلَالُ وَالحَرَامُ إِلَّا غَلَبَ الحَرَامُ»

(1)

، ولأنَّه أحوطُ.

(وَ) يُرَجَّحُ على (نَدْبٍ) حظرٌ؛ لأنَّ النَّدبَ لتَحصيلِ المصلحةِ والحظرِ لدفعِ المفسدةِ، ودفعُ المفسدةِ أهمُّ من تحصيلِ المصلحةِ في نظرِ العقلاءِ.

(وَ) يُرَجَّحُ على (وُجُوبٍ: حَظْرٌ) لأنَّ دفعَ المفسدةِ أهمُّ بدليلِ تركِ مصلحةٍ لمفسدةٍ مساويةٍ، وشُرِعَ عقوبتُه أكثرَ كزانٍ مُحصنٍ.

(وَ) يُرَجَّحُ (عَلَى إِبَاحَةٍ: نَدْبٌ) على الصَّحيحِ.

(وَ) يُرَجَّحُ (عَلَيْهِ) أي: على النَّدبِ (وُجُوبٌ وَكَرَاهَةٌ) للاحتياطِ في العملِ بهما.

(وَ) يُرَجَّحُ (عَلَى نَفْيٍ: إِثْبَاتٌ) يَعني يَتَرَجَّحُ الخبرُ الدَّالُّ على ثبوتِ الحُكْمِ على الخبرِ الدَّالِّ على نَفيِه كإثباتِ بلالٍ

(2)

رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عنه

(1)

قال ابن حجر في «الدراية» (2/ 254): هو حديث يجري على الألسنة ولم أجده مرفوعًا إلا أن عند عبد الرزاق: أخبرنا الثوري عن جابر عن الشعبي عن عبد الله قال: ما اجتمع حلال وحرام إلا غلب الحرام الحلال. وهو ضعيف منقطع.

(2)

رواه البخاري (505)، ومسلم (1329) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما جَعَلَ عَمُودًا عَنْ يَسَارِهِ، وَعَمُودًا عَنْ يَمِينِهِ، وَثَلَاثَةَ أَعْمِدَةٍ وَرَاءَهُ، وَكَانَ البَيْتُ يَوْمَئِذٍ عَلَى سِتَّةِ أَعْمِدَةٍ، ثُمَّ صَلَّى.

ص: 869

صلاةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم في الكعبةِ على روايةِ ابنِ عبَّاسٍ

(1)

في نَفيِها؛ لأنَّ عندَ المثبِتِ زيادةَ عِلمٍ ممكنةً، وهو عدلٌ جازمٌ بها.

(وَ) المرادُ ما قاله الفخرُ إسماعيلُ وغيرُه (إِنِ اسْتَنَدَ النَّفْيُ إِلَى عِلْمٍ بِالعَدَمِ؛ فَـ) الإثباتُ والنَّفيُ (سَوَاءٌ)، ومَعنى استنادِ النَّفيِ إلى عِلْمٍ بالعدمِ أن يَقُولَ الرَّاوي: أَعلَمُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لم يُصَلِّ [في البيتِ]

(2)

؛ لأنِّي كُنْتُ مَعَه فيه، ولم يَغِبْ عن نظري طَرفَةَ عينٍ فيه، ولم أَرَه صَلَّى فيه. أو قالَ: أَخبَرَنِي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أنَّه لم يُصَلِّ فيه. فهذا يُقبَلُ لاستنادِه إلى مَدْرَكٍ علميٍّ. ويَستوي هو وإثباتُ المثبِتِ، فيتعارضانِ ويُطلَبُ المُرجِّحُ مِن خارجٍ، وكذا حُكْمُ كلِّ شهادةٍ نافيةٍ أُسنِدَتْ إلى عِلْمٍ بالنَّفيِ لا إلى العِلْمِ، فإنَّها تُعارِضُ المثبتةَ؛ لأنَّها تُساويها؛ إذ هما في الحقيقةِ مُثبِتتانِ؛ لأنَّ إحداهما تُثبِتُ المشهودَ به، والأخرى تُثبِتُ العِلْمَ بعدمِه، وقد ذَكَرَ الأصحابُ في الشَّهادةِ في الإعسارِ أنَّ الشَّهادةَ في النَّفيِ تُقبَلُ مِن غيرِ مُعارِضٍ إذا كانَ النَّفيُ مَحصورًا.

(وَكَذَا العِلَّتَانِ) يَعني تُقدَّمُ المُثبِتةُ على النَّافيةِ، كما ذَكَرَه في شرحِه.

(وَ) يُرَجَّحُ (على مُقَرِّرٍ) للحُكمِ الأصليِّ نصٌّ أو دليلٌ: (نَاقِلٌ) عن حُكمِ الأصلِ، مثالُه: أنَّ الأصلَ في المطعوماتِ الحِلُّ، فلو وَرَدَ بإباحةِ الثَّعلبِ حديثٌ وحديثٌ بتحريمِه فالأوَّلُ مُقَرِّرٌ لإباحتِه الأصليَّةِ والثَّاني ناقلٌ عن أصلِ الإباحةِ، فهو مُفيدٌ فائدةً زائدةً، وهي التَّحريمُ، وعليه الأكثرُ.

وقالَ الطُّوفِيُّ في «شرحه» : الأشبهُ تقديمُ المُقَرِّرِ لاعتضادِه بدليلِ

(1)

رواه البخاري (398)، ومسلم (1330).

(2)

في «د» : بالبيت.

ص: 870

الأصلِ، وعلى هذا تَنْبَنِي بيِّنةُ الدَّاخلِ والخارجِ، وهو ما إذا تَدَاعَيَا عينًا في يدِ أَحَدِهما وأقامَ كُلُّ واحدٍ مِنهما بَيِّنَةً أنَّها له، فالدَّاخلُ مَن في يدِه العينُ، والخارجُ مِن ليسَتْ في يدِه، فمذهبُ أحمدَ تقديمُ بَيِّنَةِ الخارجِ؛ لأنَّها ناقلةٌ عن دَلالةِ اليدِ الَّتي هي كالأصلِ، وعنه تقديمُ بيِّنةِ الدَّاخلِ؛ لأنَّها اعْتَضَدَتْ بيدِه على العينِ، فهما دليلانِ، وهو الأشبهُ بقواعدِه وقواعدِ غيرِه في اعتبارِ التَّرجيحِ بما يَصلُحُ له

(1)

.

(وَ) يُرَجَّحُ (عَلَى مُثْبِتِ حَدٍّ: دَارِئُهُ) على الصَّحيحِ لموافقتِه الأصلَ؛ إذ الأصلُ عدمُ وجوبِ الحدِّ، ولأنَّ الحدودَ تُدرَأُ بالشُّبهاتِ؛ لقولِه صلى الله عليه وسلم:«لَأْن يُخْطِئَ فِي العَفْوِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يُخْطِئَ فِي العُقُوبَةِ»

(2)

.

(وَ) يُرَجَّحُ (عَلى نَافِي عِتْقٍ

(3)

، وَ) نافي (طَلَاقٍ: مُوجِبُهُمَا) لقِلَّةِ سببِ مُبطلِ الحُرِّيَّةِ ولا تَبطُلُ بعدَ ثبوتِها ولموافقةِ النَّفيِ الأصليِّ رفعَ العقدِ، ومِثلُه الطَّلاقُ.

(وَ) يُرَجَّحُ مِن التَّكليفيِّ (عَلَى أَثْقَلَ: أَخَفُّ) على الصَّحيحِ لقولِه تَعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}

(4)

.

(وَ) حُكمٌ (تَكْلِيفِيٌّ) كاقتضاءٍ ونحوِه (وَ) حُكْمٌ (وَضْعِيٌّ) كصِحَّةٍ وفسادٍ (سَوَاءٌ فِي ظَاهِرِ كَلَامِهِمْ) أي: كلامِ أصحابِنا، فإنَّهم لم يَذكُروا ترجيحَ حُكمٍ تكليفيٍّ على وضعيٍّ، فظاهرُه

(5)

سواءٌ، وصَحَّحَ غيرُ أصحابِنا ترجيحَ الحُكمِ التَّكليفيِّ؛ لأنَّه مُحَصِّلٌ للثَّوابِ.

(1)

«شرح مختصر الروضة» (3/ 703).

(2)

رواه الترمذي (1424) وضعَّفه، وكذا ضعفه عبد الحق في «الأحكام الوسطى» (4/ 105).

(3)

في «ع» : عتقًا.

(4)

البقرة: 185.

(5)

في «د» : فظاهر.

ص: 871

وقالَ الآمِدِيُّ: إنْ رَجَّحَ بالثَّوابِ تَوَقَّفَ على أهليَّةِ المخاطَبِ وتَمَكُّنِه.

النَّوعُ الرَّابعُ مِن القسمِ الأوَّلِ الَّذِي يَقَعُ التَّرجيحُ فيه بينَ مَنقولينِ:

الأَمْرُ (الخَارِجُ) وهو ترجيحٌ بأمورٍ لا يَتَوَقَّفُ عليها الدَّليلُ لا في وجودِه ولا في صِحَّتِه ودلالتِه، لكنْ (يُرَجَّحُ) الدَّليلُ:

(بِمُوَافَقَةِ دَلِيلٍ آخَرَ لَهُ) على دليلٍ لا يُوافِقُهُ دليلٌ آخَرُ؛ لأنَّ الظَّنَّينِ أقوى مِن الظَّنِّ الواحدِ، ولهذا قَدَّمْنا حديثَ عائشةَ في صلاةِ الفجرِ بغَلَسٍ على حديثِ نافعٍ في الإسفارِ؛ لموافقةِ قولِه تَعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ [وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى]

(1)

(2)

؛ لأنَّ مِن المحافظةِ الإتيانَ بالمحافَظِ عليه المُوَقَّتِ أوَّلَ وقتِه، (إِلَّا فِي أَقْيِسَةٍ تَعَدَّدَ أَصْلُهَا معَ خَبَرٍ فَيُقَدَّمُ) الخَبَرُ (عَلَيْهَا) وقِيلَ: تُقَدَّمُ الأقيسةُ إنْ تَعَدَّدَ أصلُها، فإن لم يَتَعَدَّدْ أصلُها فمُتَّحِدةٌ.

(فَإِنْ تَعَارَضَ: ظَاهِرُ قُرْآنٍ وَ) ظاهرُ (سُنَّةٍ، وَأَمْكَنَ بِنَاءُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الآخَرِ) كخنزيرِ الماءِ في قوله

(3)

صلى الله عليه وسلم في البحرِ: «الطَّهُورُ مَاؤُهُ، الحِلُّ مَيْتَتُهُ»

(4)

فإِنَّه عامٌّ في ميتةِ البحرِ حَتَّى خنزيرِه معَ قولِه تَعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ}

(5)

فإِنَّه يَتناوَلُ خنزيرَ البحرِ، فيَتَعَارَضُ عمومُ الكتابِ والسُّنَّةِ

(1)

ليس في «د» .

(2)

البقرة: 238.

(3)

في «د» : كقوله.

(4)

رواه أبو داود (84)، والترمذي (69)، والنسائي (59)، وابن ماجه (386، 3246)، وابن الجارود (43)، وابن خزيمة (111)، وابن حبان (243)، والحاكم (1/ 237) جميعًا من طريق مالك. قال الترمذي: حسن صحيح.

ونقل الترمذي في «العلل» ص (41) عن البخاري أنه قال: هو حديث صحيح.

(5)

الأنعام: 145.

ص: 872

في خنزيرِ البحرِ فقَدَّمَ بعضُهم الكتابَ، فحَرَّمَه، وبعضُهم السُّنَّةَ فأَحَلَّه، وهو ظاهرُ كلامِ أحمدَ؛ لقولِه: السُّنَّةُ تُفَسِّرُ القُرآنَ

(1)

.

(أَوْ) تَعارَضَ (خَبَرَانِ معَ أَحَدِهِمَا ظَاهِرُ قُرْآنٍ، وَ) مع الخبَرِ (الآخَرِ ظَاهِرُ سُنَّةٍ: قُدِّمَ ظَاهِرُهَا) أي: ظاهرُ

(2)

السُّنَّةِ بناءً على ما قَبْلَها.

واعلَمْ أنَّ التَّعَارُض إمَّا أنْ يَقَعَ بينَ آيتينِ، أو خبرينِ، أو قياسينِ، أو آيةٍ وخبرٍ، أو آيةٍ وقياسٍ، أو خبرٍ وقياسٍ، وعلى التَّقديراتِ السِّتَّةِ فالمرجَّحُ مِن الطَّرفينِ إمَّا آيتانِ، أو خبرانِ، أو قياسانِ، أو آيةٌ وخبرٌ، أو آيةٌ وقياسٌ، أو خبرٌ وقياسٌ، فهذه سِتَّةٌ وثلاثونَ تَعارُضًا مضروبُ سِتَّةٍ في سِتَّةٍ، فحيثُ اتَّحَدَ نوعُ العاضدِ والمعضودِ مِن الطَّرفينِ كآيتينِ عَضَّدَتْهما آيتانِ، أو خبرينِ عَضَّدَهما خبرانِ، أو قياسينِ عَضَّدَهما قياسانِ رُجِّحَ أحدُ الطرفينِ ببعضِ وجوهِ التَّرجيح ممَّا سَبَقَ أو غيرِه، وحيثُ اختلفَ نوعُهما كآيةٍ وخبرٍ معَ خبرينِ أو آيتينِ، فهل يُقَدَّمُ ما اتَّحَدَ نوعُ دَلالتِه أو ما عَضَّدَتْه السُّنَّةُ سَبَقَ ما فيه.

وقالَ الطُّوفِيُّ: الأضبطُ مِن هذا أنْ يُرَجَّحَ ما تُخِيِّلَ فيه زيادةُ قُوَّةٍ كائنًا مِن ذلك ما كانَ، وقد تُتَخَيَّلُ زيادةُ القوَّةِ معَ اتِّحادِ النَّوعِ واختلافِه

(3)

.

(وَ) يُرَجَّحُ أحدُ

(4)

الدَّليلَينِ (بِـ) موافقةِ

(5)

(عَمَلِ أَهْلِ المَدِينَةِ) النَّبويَّةِ، وبعملِ أهلِ الكوفةِ عندَ أبي الخَطَّابِ وغيرِه، وبما أقامَ به الصَّحابةُ إلى ظهورِ البدعِ؛ لأنَّ إطباقَ الجمِّ الغفيرِ على العملِ على أحدِ

(6)

الخبَرينِ يُفيدُ تقويةً وزيادةَ ظنٍّ، فيُرَجَّحُ به كموافقةِ خبَرٍ آخَرَ، ولأنَّ اتِّفاقَ أهلِ البلدينِ

(1)

في «د» : بالقرآن.

(2)

ليس في «د» .

(3)

«شرح مختصر الروضة» (3/ 708).

(4)

في «ع» : إحدى.

(5)

زاد في «ع» : عدم.

(6)

في «ع» : إحدى.

ص: 873

المذكورينِ قد اختُلِفَ في كونِه إجماعًا، فإنْ كانَ فهو مُرَجِّحٌ لا محالةَ، وإن لم يَكُنْ إجماعًا فأدنى أحوالِه أنْ يَكُونَ مُرَجِّحًا كالظَّاهرِ والقِيَاسِ وخبَرِ الواحدِ، (أَوْ) بعملِ (الخُلَفَاءِ الأَرْبَعَةِ) أي: إذا تَعارَضَ نصَّانِ وقد عَمِلَ بأحدِهما الخلفاءُ الرَّاشدون وهم أبو بكرٍ وعمرُ وعثمانُ وعليٌّ رضي الله عنهم، رُجِّحَ على النَّصِّ الآخَرِ على الصَّحيحِ لورودِ الأمرِ باتِّباعِهم حيثُ قالَ عليه الصلاة والسلام:«عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ»

(1)

، وقِيلَ: يُرَجَّحُ أيضًا بقولِ أبي بكرٍ وعمرَ؛ لقولِه عليه السلام: «اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ»

(2)

.

قالَ في «شرح الأصل» : وهو أقوى، وقِيلَ: يُرَجَّحُ بقولِ الصَّحابيِّ إن كانَ حيثُ مَيَّزَه النَّصُّ من أبوابِ الفقهِ، كزيدٍ في الفرائضِ مُيِّزَ بحديثِ:«أَفْرَضُكُمْ زَيْدٌ»

(3)

، ومعاذٌ بحديثِ:«أَعْلَمُكُمْ بِالحَلَالِ وَالحَرَامِ مُعَاذٌ»

(4)

، وعليٌّ بحديثِ:«أَقْضَاكُمْ عَلِيٌّ»

(5)

. فإذا وُجِدَ نَصَّانِ أحدُهما أعمُّ، أُخِذَ بالأخصِّ فيُرَجَّحُ قولُ

(1)

رواه أبو داود (4607)، والترمذي (2676)، وابن ماجه (42) من حديث العِرباض بن سارية رضي الله عنه.

قال الترمذي: حديث حسن صحيح.

(2)

رواه الترمذي (3662) من حديث حذيفة رضي الله عنه وقال: حديث حسن.

(3)

رواه الترمذي (3791)، وابن ماجه (154)، والنسائي في «الكبرى» (8185)، وابن حبان (7137) من حديث أنس رضي الله عنه، وفيه:«وَأَفْرَضُهُمْ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَعْلَمُهُمْ بِالحَلَالِ وَالحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ» .

وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.

(4)

رواه الترمذي (3791)، وابن ماجه (154)، والنسائي في «الكبرى» (8185)، وابن حبان (7137) من حديث أنس رضي الله عنه.

وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.

(5)

قال القاري في «الأسرار المرفوعة» (52): قال السخاوي ما علمته بهذا اللفظ مرفوعًا. اهـ

وروى البخاري (4481) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: «أَقْرَؤُنَا أُبَيٌّ، وَأَقْضَانَا عَلِيّ.

ص: 874

زيدٍ في الفرائضِ على قولِ معاذٍ، وقولُ معاذٍ في الحلالِ والحرامِ على قولِ عليٍّ، وقولُ عليٍّ في القضاءِ على قولِ غيرِه؛ عملًا بالأخصِّ فالأخصِّ

(1)

.

(أَوْ أَعْلَمَ) أي: إذا كانَ بعضُ مَن عَمِلَ بأحدِ النَّصَّينِ أَعلَمَ رُجِّحَ به عندَ الأكثرِ؛ لأنَّ له مَزِيَّةً لكَوْنِه أحفظَ لمواقعِ الخللِ، وأعرفُ بدقائقِ الدَّلالةِ،

(أَوْ) وَافَقَ عَمَلَ (أَكْثَرِ الأُمَّةِ) لأنَّ الأكثرَ يُوَفَّقُ للصَّوابِ ما لا يُوَفَّقُ له الأقلُّ، ومِن شرطِه ألَّا يَكُونَ المعارِضُ له يَخفَى مِثلُه عليهم.

(ويُقَدَّمُ: مَا) أي: حُكمٌ (عُلِّلَ) بأنْ تَعَرَّضَ الشَّارِعُ لعِلَّةِ أحدِ الحُكمَينِ فيُقَدَّمُ على ما لم يَتَعَرَّضْ لعِلَّتِه؛ لأنَّه أفضى إلى تحصيلِ مقصودِ الشَّارِعِ؛ لأنَّ النَّفسَ له أقبلُ بسببِ تَعَقُّلِ المعنى، (أَوْ) عَلَّلَ الحُكمَينِ و (رُجِّحَتْ عِلَّتـ) أحدِ (ـهـ) ـما على الآخَرِ، فيُرَجَّحُ بذلك.

(وَ) إنْ كانَ الحُكمانِ مُؤَوَّلينِ ودليلُ أحدِهما أرجحَ قُدِّمَ (مِنْ مُؤَوَّلَيْنِ: مَا دَلِيلُ تَأْوِيلِهِ أَرْجَحُ) من دليلِ تأويلِ الآخرِ؛ لأنَّ له مَزِيَّةً بذلك.

(وَ) يُرَجَّحُ (عَامٌّ وَرَدَ مُشَافَهَةً) يَعني إذا عارَضَ الخطابَ العامُّ بالمُشافهةِ [على ما لم يَكُنْ بطريقِ المُشافهةِ رُجِّحَ الخطابُ بالمُشافهةِ]

(2)

فيمن خُوطِبَ شفاهًا.

(أَوْ) وَرَدَ عَامٌّ (عَلَى سَبَبٍ خَاصٍّ فِي مُشَافَهَةٍ، وَ) في (سَبَبٍ) فيُرَجَّحُ على العامِّ المطلقِ في حُكمِ ذلك السَّببِ؛ لأنَّ العامَّ الواردَ على السَّببِ الخاصِّ كالخاصِّ بالنِّسبةِ إلى ذلك السَّببِ، والخاصُّ يُقَدَّمُ على العامِّ؛ لقوَّةِ دَلالتِه.

(1)

«التحبير شرح التحرير» (8/ 5214).

(2)

ليس في «ع» .

ص: 875

(وَ) يُرَجَّحُ العامُّ (المُطْلَقُ عَلَيْهِ) أي: على العامِّ الواردِ على سببٍ خاصٍّ (فِي) حُكمِ (غَيْرِهِ) أي: غيرِ السَّببِ؛ لأنَّه اختُلِفَ في عمومِ العامِّ الواردِ على سببٍ ولم يُختَلَفْ في عمومِ المطلقِ، وإذا تعارَضَ عامٌّ لم يُعمَلْ به في صورةٍ مِن الصُّورِ.

(وَعَامٌّ: عُمِلَ بِهِ) ولو في صورةٍ، رُجِّحَ العامُّ الَّذِي عُمِلَ به؛ لأنَّه شاهِدٌ له بالاعتبارِ لقُوَّتِه بالعملِ، (أَوْ) تَعارَضَ عامَّانِ أحدُهما (أَمَسُّ بِمَقْصُودِهِ) وأقربُ إليه رُجِّحَ على الآخَرِ، مثلُ قولهِ تَعالى:{وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ}

(1)

يُقَدَّمُ في مسألةِ الجمعِ بينَهما في وطءِ النِّكاحِ على قولِه تَعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}

(2)

فإِنَّه أمسُّ بمسألةِ الجمعِ؛ لأنَّ الآيةَ الأُولى قُصِدَ بها بيانُ تحريمِ الجمعِ بينَ الأختينِ في الوطءِ بنكاحٍ ومِلكِ يمينٍ، والثَّانيةَ لم يُقصَدْ بها بيانُ حُرمةِ الجمعِ.

(وَ) يُرَجَّحُ (مَا) أي: دليلٌ (لَا يَقْبَلُ نَسْخًا) على دليلٍ يَقبَلُه؛ لأنَّه أَقوى.

(أَوْ) كانَ الدَّليلُ (أَقْرَبَ إِلَى الِاحْتِيَاطِ) فيُرَجَّحُ على غيرِه.

(أَوْ) كانَ أحدُ الحديثينِ (لَا يَسْتَلْزِمُ نَقْضَ صَحَابِيٍّ خَبْرًا) كقهقهةٍ في صلاةٍ، فيُرَجَّحُ على ما يَستلزمُه.

(أَوْ تَضَمَّنَ إِصَابَتَهُ) أي: إصابةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ظَاهِرًا وَبَاطِنًا) فيُرَجَّحُ على ما تَضَمَّنَ إصابتَه في الظَّاهرِ فقطْ؛ لأنَّه بعيدٌ عن الخطأِ، وهو أَلْيَقُ به وبحالِه صلى الله عليه وسلم، كما وَرَدَ في ضمانِ عليٍّ رضي الله عنه دَيْنَ الميِّتِ،

(1)

النساء: 23.

(2)

النساء: 3.

ص: 876

وقال: هما عَلَيَّ. وأنَّه ابتداءُ ضمانٍ، وأنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم امتنعَ مِن الصَّلَاةِ، وكانَ وقتَ الامتناعِ مُصيبًا في امتناعِه، وكانَ مُقَدَّمًا على حَملِه على الإخبارِ عن ضمانٍ سابقٍ يَكشِفُ عن أنَّه كانَ امْتَنَعَ من الصَّلَاةِ في غيرِ موضعِه باطنًا.

(أَوْ فَسَّرَهُ) أي: فَسَّرَ (رَاوِي) أَحَدِ الحديثينِ

(1)

(بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ) دونَ راوي الآخرِ، قُدِّمَ الأوَّلُ؛ لأنَّه أعرفُ بما رَوَاه، فيَكُونُ ظَنُّ الحُكمِ به أوثقَ، كحديثِ عبدِ اللهِ بنِ عمرَ في خيارِ المجلسِ، وأنَّ المرادَ بالتَّفرُّقِ تفرُّقُ الأبدانِ؛ لأنَّه فَسَّرَه بذلك لأنَّه اشتملَ على فائدةٍ زائدةٍ.

(أَوْ ذَكَرَ) راوي أحدِ الحديثينِ (سَبَبَهُ) أي: سببَ الحديثِ مَعَه، فيُقَدَّمُ على ما لم يَذكُرِ الرَّاوي الآخَرُ سَبَبَه؛ لأنَّ ذِكرَ السَّببِ يَدُلُّ على زيادةِ اهتمامِ الرَّاوي بالرِّوايةِ.

(أَوْ) أي: ويُرَجَّحُ مِن حديثينِ مُتعارضينِ حديثٌ (سِيَاقُهُ أَحْسَنُ) مِن سياقِ الآخَرِ؛ لأنَّه يَدُلُّ على أنَّه أَوْلى مِن غيرِه.

(أَوْ مُؤَرَّخٌ بِـ) تَارِيخٍ (مُضَيَّقٍ) نحوُ أول ذي القعدةِ مِن سنةِ كذا، والآخرُ بتاريخٍ مُوَسَّعٍ، كـ: في سَنَةِ كذا لاحتمالِ كَوْنِ الآخرِ قبلَ ذي القعدةِ.

(أَوْ دَلَّ عَلَى تَأَخُّرِهِ) أي: تأخُّرِ أحدِ الخبَرينِ (قَرِينَةٌ) مِثْلُ تأخُّرِ إسلامِ راويه؛ إذ الآخَرُ يَجُوزُ أن يَكُونَ قد سَمِعَه قَبْلَ إسلامِه، لا سِيَّما إن عُلِمَ موتُ الآخرِ قَبْلَ إسلامِه.

(1)

في «ع» : المحدثين.

ص: 877

(وَ) يُرَجَّحُ (بِتَشْدِيدِهِ) أي: تشديدِ أحدِ

(1)

الحديثينِ؛ لأنَّ التَّشديداتِ مُتأخِّرَةٌ؛ لأنَّها إِنَّمَا جاءَتْ حينَ ظُهورِ الإسلامِ وكَثرتِه، وعَلَتْ شَوْكَتُه. والتَّخفيفُ كانَ في أوَّلِ الإسلامِ، وخبرُ عائشةَ يَدُلُّ على ذلك، وكذا حُكْمُ ما يُشعِرُ بشوكةِ الإسلامِ.

ولمَّا فَرَغَ مِن القِسمِ الأوَّلِ مِن مُرَجِّحَاتِ المنقولينِ بأنواعِه، شَرَعَ في القسمِ الثَّاني وهو: ترجيحُ المعقولينَ بأنواعِه وهو الغرضُ الأعظمُ مِن بابِ التَّراجيحِ، وفيه اتِّساعُ مجالِ الاجتهادِ، فقالَ:

(المَعْقُولَانِ) أي: الدَّليلانِ المتعارضانِ المعقولانِ: (قِيَاسَانِ، أَوِ اسْتِدْلَالَانِ،

فَالأَوَّلُ) منهما وهو القِيَاسانِ (يَعُودُ) التَّرجيحُ فيه (إِلَى أَصْلِهِ) أي: الأصلِ المقيسِ عليه (وَفَرْعِهِ) أي: الفرعِ المقيسِ (وَمَدْلُولِ) لفظـ (ـهِ، وَ) لِما يَنضَمُّ إليه مِن (أَمْرٍ خَارِجٍ).

فهذا القسمُ أربعةُ أنواعٍ أيضًا:

فَالنَّوعُ الأوَّلُ: (الأَصْلُ) وتحتَه صورٌ:

أحدُها: أنْ يَكُونَ حُكمُ الأصلِ قطعيًّا فَيُرَجَّحُ (بِقَطْعِ حُكْمِهِ) على ما دليلُ أصلِه ظَنِّيٌّ، كقَوْلِنا في لِعانِ الأخرسِ: إنَّ ما صَحَّ مِن النَّاطقِ صَحَّ مِن الأخرسِ كاليمينِ، فإِنَّه أَرجَحُ مِن قياسِهم على شهادتِه تعليلًا، بأنَّه يَفتقِرُ إلى لفظِ الشَّهادةِ؛ لأنَّ اليمينَ تَصِحُّ مِن الأخرسِ بالإجماعِ، والإجماعُ قَطعيٌّ بخِلافِ شهادتِه، ففي جوازِها خلافٌ.

(1)

في «ع» : إحدى.

ص: 878

(وَ) الصُّورةُ الثَّانيةُ: تَرجيحُ أحدِ

(1)

الأصلينِ (بِقُوَّةِ دَلِيلِهِ) لأنَّه أغلبُ على الظَّنِّ.

(وَ) الثَّالثةُ: ترجيحُه (بِأَنَّهُ لَمْ يُنْسَخْ) باتِّفاقٍ، فإنَّ ما قيلَ بأنَّه منسوخٌ -وإن كانَ القولُ به ضعيفًا- لَيْسَ كالمتَّفقِ على أنَّه لم يُنسَخْ.

(وَ) الرَّابعةُ: تَرجيحُه بكونِ حُكمِ الأصلِ (عَلَى سَنَنِ القِيَاسِ) قالَ البِرْمَاوِيُّ: والمرادُ بذلك هنا أنْ يَكُونَ فرعُه مِن جنسِ أصلِه كقياسِ ما دُونَ أرشِ المُوضِحةِ في تَحمُّلِ العاقلةِ إيَّاه، فهو أَوْلى من قياسِهم ذلك على غراماتِ الأموالِ في إسقاطِ التَّحمُّلِ؛ لأنَّ المُوضِحةَ مِن جنسِ ما اختُلِفَ فيه فكانَ على سَنَنِه؛ إذ الجنسُ بالجنسِ أشبهُ، كما يُقالُ: قياسُ الطَّهارةِ على الطَّهارةِ أَوْلى مِن قياسِها على سَترِ العورةِ.

قالَ: وقد يُرادُ هنا أن يَكُونَ أحدُهما على سَنَنِ القِيَاسِ باتِّفاقٍ، والآخَرُ على رأيٍ، فيُرَجَّحُ الَّذِي باتِّفاقٍ

(2)

.

كما قالَ العضدُ، وقَدَّمَه في «شرح الأصل»

(3)

، وتَبِعَه المُصنِّفُ.

(وَ) الخامسةُ: ترجيحُه (بِـ) قيامِ (دَلِيلٍ خَاصٍّ بِتَعْلِيلِهِ) أي: على تعليلِه، فإِنَّه أبعدُ مِن التَّعبُّدِ والقصورِ والخلفِ في تعليلِه، ويُرَجَّحُ ما ثَبَتَتْ عِلِّيَّتُه بالإجماعِ على ما ثَبَتَتْ عِلِّيَّتُه بالنَّصِّ لقبولِ النَّصِّ للتَّأويلِ بخلافِ الإجماعِ.

(وَفِي قَوْلِ) الأرمويِّ والبيضاويِّ: يُرَجَّحُ (نَصٌّ فَإِجْمَاعٌ)؛ لأنَّ الإجماعَ فَرعُه.

ص: 879

(وَ) يُرَجَّحُ أحدُ

(1)

القِيَاسينِ:

(بِقَطْعٍ بِعِلَّتِهِ) أي: الأصلِ على الظَّنِّ بها؛ لأنَّ المقطوعَ بعِلَّتِه راجحٌ على ما هو مظنونٌ، (أَوْ) بالقطعِ (بِدَلِيلِهَا) أي: بدليلِ العِلَّةِ على دليلٍ مظنونٍ، فيُرجَّحُ القِيَاسُ الَّذِي يَكُونُ مَسلَكُ عِلَّتِه قطعيًّا على القِيَاسِ الَّذِي لا يَكُونُ كذلك.

(أَوْ بِظَنٍّ غَالِبٍ فِيهِمَا) أي: في العِلَّةِ ودليلُها بأنْ يُرجَّحَ الظَّنُّ الغالبُ في [العِلَّةِ على الظَّنِّ غيرِ الغالبِ، وكذا الظَّنُّ الغالبُ في]

(2)

دليلِ العِلَّةِ.

(وَ) يُرجَّحُ القِيَاسُ الَّذِي اسْتُنبِطَ عِلَّةُ وصفِه بـ (سَبْرِ) ـه على القِيَاسِ الَّذِي اسْتُنبِطَ عِلَّةُ وصفِه بالمناسبةِ؛ لأنَّ في السَّبْرِ بيانَ المقتضى وعدمَ المعارضِ في الأصلِ، بخلافِ المناسبةِ، (فَـ) يَليه ما ثَبَتَ عِلِّيَّتُه بـ (مُنَاسَبَةٍ) فيُرَجَّحُ على الثَّابتةِ بالشَّبَهِ لزيادةِ غَلَبَةِ الظَّنِّ بغلبةِ الوصفِ المناسبِ، (فَـ) يَليه ما ثَبَتَ عِلِّيَّتُه بـ (شَبَهٍ) فيُرَجَّحُ على الثَّابتةِ بالدَّورانِ، (فَـ) يَليه ما ثَبَتَتْ عِلِّيَّتُه بـ (دَوَرَانٍ) وقَدَّمَه بعضُهم على السَّبرِ وغيرِه مِن الطُّرُقِ الباقيةِ؛ لأنَّ الغلبةَ المستفادةَ مِنه مُطَّرِدَةٌ مُنعكِسَةٌ، بخلافِ غيرِه مِن الطُّرُقِ.

والدَّورانُ قد يَكُونُ في محلٍّ واحدٍ، وهو أن يَحدُثُ حُكمٌ في مَحَلِّ الحدوثِ صِفَةً فيه، ويَنعدمَ ذلك الحُكمُ عن ذلك المَحَلِّ بزوالِ ذلك الوصفِ عنه؛ كدَوَرانِ الحُرمةِ معَ الإسكارِ في ماءِ العنبِ وجودًا وعدمًا، وقد يَكُونُ في مَحَلَّين كاستدلالِ الحنفيِّ على وجوبِ الزَّكاةِ في الحُلِيِّ بدَوَرَانِ وجوبِ الزَّكاة في الذَّهبِ وجودًا في المضروبِ وعدمًا في الثِّيابِ، والدَّورانُ

(1)

في «ع» : إحدى.

(2)

ليس في «ع» .

ص: 880

في مَحَلٍّ أرجحُ في العِلِّيَّةِ مِن الدَّورانِ في مَحَلَّينِ؛ لأنَّ احتمالَ الخطأِ فيه أقلُّ، أَلَا تَرى أنْ يُقطَعَ في مِثالِنا بأنَّ ما عَدَّى السُّكْرَ مِن الصِّفاتِ لَيْسَ بعِلَّةٍ، وإلَّا لَزِمَ تَخَلُّفُ المعلولِ عن عِلَّتِه بخلافِ ما ثَبَتَ في مَحَلَّينِ، فإِنَّه لا يُفِيدُ القطعَ بأنَّ غيرَ الذَّهبِ لَيْسَ عِلَّةً للوجوبِ لاحتمالِ أنْ تَكُونَ العِلَّةُ فيه هو المجموعَ المُرَكَّبَ من كونِه ذهبًا وكونِه غيرَ مُعَدٍّ للاستعمالِ.

(وَ) يُرَجَّحُ أحدُ القِيَاسينِ على الآخرِ بـ (قَطْعٍ) فيه (بِنَفْيِ الفَارِقِ) فالقِيَاسُ المقطوعُ فيه بنفيِ الفارقِ فيه بينَ الأصلِ والفرعِ راجحٌ على القِيَاسِ الَّذِي يَكُونُ نفيُ الفارقِ فيه مظنونًا (أَوْ) أي: ومثلُه القِيَاسُ الَّذِي يَكُونُ نفيُ الفارقِ فيه مظنونًا (بِظَنٍّ غَالِبٍ) فيُرَجَّحُ على الَّذِي يَكُونُ نفيُ الفارقِ فيه مظنونًا بظنٍّ غيرِ غالبٍ.

(وَ) يُرَجَّحُ قياسٌ العِلَّةُ فيه (وَصْفٌ حَقِيقِيٌّ) وهو المَظِنَّةُ كالسَّفَرِ على التَّعليلِ بالحكمةِ

(1)

كالمَشَقَّةِ وعلى الوصفِ الاعتباريِّ أو الحُكميِّ كقَوْلِنا في المنيِّ: مَبْدَأُ خلْقِ البشرِ

(2)

فأَشْبَهَ الطِّينَ معَ قولِهم: مائعٌ يُوجِبُ الغسلَ، فأَشْبَهَ الحيضَ.

(وَ) يُرَجَّحُ ما العِلَّةُ فيه وصفٌ (ثُبُوتِيٌّ) على ما العِلَّةُ فيه عدميٌّ.

(وَ) يُرَجَّحُ ما العِلَّةُ فيه وصفٌ (بَاعِثٌ) على ما هي مُجَرَّدُ أمارةٍ لظهورِ

(3)

مناسبةِ الباعثِ.

(وَ) تُرَجَّحُ عِلَّةٌ (ظَاهِرَةٌ، وَ) عِلَّةٌ (مُنْضَبِطَةٌ) على عِلَّةٍ خَفيَّةٍ ومضطربةٍ؛ لأجلِ الخلافِ في مُقابَلَتِها.

(1)

في «د» : بالحكمية.

(2)

في «د» : بشر.

(3)

في «ع» : ظهور.

ص: 881

(وَ) تُرَجَّحُ عِلَّةٌ (مُطَّرِدَةٌ) على عِلَّةٍ منقوضةٍ؛ لأنَّ شرطَ العِلَّة اطِّرادُها، (وَ) تُقَدَّمُ عِلَّةٌ (مُنْعَكِسَةٌ) على غيرِ المنعكسةِ لأنَّها أكملُ؛ لأنَّ الانعكاسَ وإن لم يُفِدِ العِلَّةَ لكنَّه يُقَوِّيها.

(وَ) يُقَدَّمُ عِلَّةٌ (مُتَعَدِّيَةٌ) على قاصرةٍ على الأصحِّ لكثرةِ فوائدِها، كالتَّعليلِ في الذَّهَبِ والفضَّةِ بالوزنِ، فيَتَعَدَّى الحكمُ إلى كلِّ موزونٍ كالصفرِ ونحوِها، بخلافِ التَّعليلِ بالثَّمنيَّةِ والنَّقديةِ، فلا يَتَعَدَّاهما، فكانَ التَّعليلُ بالوزنِ الَّذِي هو وصفٌ مُتَعَدٍّ لمحلِّ النَقدينِ إلى غيرِهما أكثرُ فائدةً مِن الثَّمنيَّةِ القاصرةِ عليها.

(وَ) على هذا القولِ تُرَجَّحُ العِلَّةُ الَّتي هي (أَكْثَرُ تَعْدِيَةً وَأَعَمُّ عَلَى غَيْرِهَا) ممَّا هو أقلُّ فروعًا وأخصُّ، مثالُه لو قَدَّرْنا أنَّ

(1)

أكثرَ علَّلنا في الرِّبَا الكيلُ؛ لأنَّ عِلَّة الكيلِ حينئذٍ تَكُونُ أكثرَ فروعًا، ولو قَدَّرْنا أنَّ المطعوماتِ أكثرُ عَلَّلْنا فيه بالطَّعمِ؛ لأنَّه حينئذٍ أكثرُ فروعًا، وحينئذٍ يَصِيرُ الأقلُّ فروعًا بالإضافةِ إلى الأكثرِ فروعًا كالقاصرةِ بالإضافةِ إلى المُتعدِّيةِ.

(وَإِنْ تَقَابَلَتْ عِلَّتَانِ فِي أَصْلٍ) واحدٍ؛ (فَقَلِيلَةُ أَوْصَافٍ أَوْلَى) فتُرَجَّحُ ذاتُ الوصفِ الواحدِ على ذاتِ الوصفينِ فصاعدًا على الصَّحيحِ للشَّبَهِ بالعلَّةِ العقليَّةِ؛ ولأنَّها أَجرى على الأصولِ وأسهلُ على المجتهدِ وأكثرُ فائدةً وفروعًا كشهادةِ الأصولِ.

قالَ الطُّوفِيُّ: لأنَّ ذاتَ الوصفِ الواحدِ أكثرُ فُروعًا؛ لأنَّ ثُبوتَ الحُكْمِ بها على وصفٍ واحدٍ وما تَوَقَّفَ على وصفٍ واحدٍ

(2)

كانَ أكثرَ فروعًا ممَّا

(1)

زاد في (د): على الكيلِ.

(2)

ليس في «ع» .

ص: 882

تَوَقَّفَ على وصفينِ فأكثرَ، وصارَ هذا كالطَّلاقِ والعتقِ المعلَّقِ على شروطٍ.

وكذلك الأحكامُ الَّتي

(1)

تَثبُتُ بشاهدٍ أقربُ وقوعًا ممَّا ثَبَتَ بشاهدينِ، وما ثَبَتَ بشاهدينِ أقربُ وُقوعًا ممَّا ثَبَتَ بأربعةٍ، فالموقوفُ على الأقلِّ أكثرُ وعلى الأكثرِ أقلُّ؛ ولهذا كانَتِ الزِّيادةُ في الحدِّ نقصًا في المحدودِ، والنَّقصُ في الحدِّ زيادةً في المحدودِ، فالحيوانُ المَشَّاءُ أكثرُ مِن الإنسانِ، والحيوانُ الكاتبُ بالفعلِ أقلُّ مِن الإنسانِ

(2)

.

(وَ) إنْ كانَتِ العلَّتانِ (مِن أَصْلَيْنِ) فأكثرَ (فَكَثِيرَتُهَا) أي: فالعِلَّةُ الكثيرةُ الأوصافِ (أَوْلَى) من قليلتِها (إِذَا كَانَتْ أَوْصَافُ كُلِّ) واحدةٍ (مِنْهُمَا) أي: مِن العِلَّتَينِ (مَوْجُودَةً فِي الفَرْعِ) على الصَّحيحِ لقوَّةِ شَبَهِه بالأكثرِ.

(وَ) تُرَجَّحُ عِلَّةٌ (مُطَّرِدَةٌ فَقَطْ عَلَى) عِلَّةٍ (مُنْعَكِسَةٍ فَقَطْ) إنْ قِيلَ بصِحَّةِ المنعكسةِ؛ لأنَّ اعتبارَ الاطِّرادِ مُتَّفقٌ عليه وضعفُ الثَّانيةِ بعدمِ الاطِّرادِ أشدُّ مِن ضعفِ الأُولى بعدمِ الانعكاسِ.

قالَ الطُّوفِيُّ: وتحقيقُ هذه أنَّ غيرَ المُطردةِ وهي المنتقضةُ بصورةٍ فأكثرَ إن لم نَقُلْ بصِحَّتِها لم تُعارِضِ المُطَّرِدةَ حَتَّى تَحتاجَ إلى التَّرجيحِ، وتَكُونُ كالخبرِ الضَّعيفِ معَ الصَّحيحِ، وإنْ قُلْنا بصِحَّتِها فاجتمعتْ هي والمُطَّردةُ فالمُطَّردةُ راجحةٌ؛ لأنَّ ظنَّ العِلِّيَّةِ فيها أغلبُ، ولأنَّها مُتَّفقٌ عليها، والمنتقضةُ مُختلَفٌ فيها، فهما كالعامَّينِ إذا خُصَّ أحدُهما دونَ الآخرِ كانَ الباقي على عمومِه راجحًا.

وقالَ: قد سَبَقَ أنَّ اطِّرادَ العِلَّةِ هو وجودُ الحُكمِ بوجودِها حيثُ وُجِدَتْ،

(1)

في «د» : الذي.

(2)

«شرح مختصر الروضة» (3/ 722).

ص: 883

وانعكاسُها هو انتفاءُ الحُكمِ لانتفائِها، وسَبَقَ أيضًا أنَّ انعكاسَ العِلَّةِ هل هو شرطٌ في صِحَّتِها أم لا؟ فإنْ لم يُشتَرَطِ العكسُ لم تُرَجَّحِ المنعكسةُ على غيرِ المنعكسةِ؛ لأنَّ المشتركَ بينَهما في شرطِ الصِّحَّةِ هو الاطِّرادُ وهو موجودٌ، والانعكاسُ غيرُ مشتَرَطٍ، فوجودُه كالعدمِ وهو كالإخوةِ مِن الأمِّ معَ الإخوةِ مِن الأبِ في ولايةِ النِّكاحِ.

وإنْ شَرَطْنا انعكاسَ العِلَّةِ رَجَحَتِ المنعكسةُ على غيرِها؛ لأنَّ انتفاءَ الحُكمِ عندَ انتفائِها يَدُلُّ على زيادةِ اختصاصِها بالتَّأثيرِ فتَصيرُ كالحدِّ معَ المحدودِ يُقدَّمُ المنعكسُ فيه على غيرِه وكالعلَّةِ العقليَّةِ معَ المعلولِ، كالتَّسويدِ معَ الاسودادِ.

[(وَمُنَاسَبَةٌ عَلَى شَبَهَيْهِ)]

(1)

فكانَت المُشَبَّهَةُ لها من العللِ الشَّرعيَّةِ أَوْلى، وصارَ انعكاسُها على هذا كإخوةِ الأمِّ معَ إخوةِ الأبِ في بابِ الميراثِ يُرَجَّحُ بها دَلالتُه على أخصِّيَّةِ القرابةِ

(2)

.

(وَ) إذا تعارَضَ أقسامٌ مِن المناسبةِ قُدِّمَتِ (المَقَاصِدُ الضَّرُورِيَّةُ) الخمسةُ الَّتي هي: حفظُ الدِّينِ، والنَّفْسِ، والعقلِ، والنَّسلِ، والمالِ (عَلَى غَيْرِهَا) مِن حاجيٍّ أو تحسينيٍّ، وتَقَدَّمَتْ في المسلكِ الرَّابعِ مِن مسالكِ العِلَّةِ.

(وَ) يُقَدَّمُ (مُكَمِّلُهَا) أي: مُكَمِّلُ الخمسةِ مِن الضَّروريَّةِ (عَلَى) أصلِ (الحَاجِيَّةِ، وَ) تُقَدَّمُ (هِيَ) أي: المصلحةُ الحاجيَّةُ (عَلَى التَّحْسِينِيَّةِ، و) إذا تعارَضَ بعضُ الخمسِ الضَّروريَّةِ قُدِّمَ منها (حِفْظُ الدِّينِ: عَلَى بَاقِي الضَّرُورِيَّةِ) لأنَّه المقصودُ الأعظمُ؛ قالَ اللهُ تَعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ

ص: 884

إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}

(1)

، ولأنَّ ثمرتَه نيلُ السَّعادةِ الأُخرويَّةِ؛ لأنَّها أكملُ الثَّمراتِ، ثمَّ مصلحةُ النَّفسِ؛ لأنَّ البقيَّةَ لأجلِها، وبها مُحَصِّلُ العباداتِ، ثمَّ النَّسَبُ بعدَها لشِدَّةِ تعلُّقِه ببقائِها لبقاءِ الولدِ لا مُرَبِّيَ له فيُؤدِّي إلى هلاكِه، ثمَّ العقلُ بعدَه لفواتِ النَّفسِ بفواتِه، ولأنَّ به التَّكليفَ، ثمَّ المالُ.

(وَ) يُقَدَّمُ (مَا) أي: قياسٌ (مُوجِبُ نَقْضَِ عِلَّتِهِ: مَانِعٌ، أَوْ فَوَاتُ شَرْطٍ) على ما مُوجبِه ضعيفٌ؛ لأنَّ قوَّةَ موجبِ النَّقضِ دليلٌ على قوَّةِ العِلَّةِ المنقوضةِ.

(أَوْ) موجبُ نقضِ عِلَّتِه (مُحَقَّقٌ) أي: يُقَدَّمُ على ما موجبُ نقضِ عِلَّتِه محتملٌ؛ لأنَّ المحقَّقَ أقوى مِن المحتملِ فيُقَدَّمُ القويُّ. والمحقَّقُ (عَلَى مَا) أي: على قياسٍ (مَوجِبُهُ ضَعِيفٌ أَوْ مُحْتَمَلٌ).

(و) يُرَجَّحُ القِيَاسُ (بِانْتِفَاءِ مُزَاحِمِهَا) أي: مزاحِمِ عِلَّتِه (فِي أَصْلِهَا) على ما لم يَنتفِ مزاحمُ عِلَّتِه فيه؛ لأنَّ انتفاءَ مزاحمِ العِلَّةِ يُفيدُ غَلَبَةَ الظَّنِّ بالعِلَّةِ، (وَ) يُرَجَّحُ القِيَاسُ (بِرُجْحَانِهَا) أي: العِلَّةِ (عَلَيْهِ) أي: على مُزاحِمِها على ما لا

(2)

تَكُونُ عِلَّتُه راجحةً على مُزاحِمِها لقُوَّتِه برجحانِ عِلَّتِه.

(وَ) يُرَجَّحُ أحدُ القِيَاسَينِ (بِقُوَّةِ مُنَاسَبَةٍ) عِلَّتُه بأنْ يَكُونَ أَفْضى إلى مَقْصُودها أو لا يُناسِبُ نَقيضَه؛ لأنَّ قوَّةَ المناسبةِ يُفِيدُ قُوَّةَ ظنِّ العِلِّيَّةِ.

(وَ) يُرَجَّحُ أحدُ القِيَاسينِ على الآخَرِ بعِلَّةٍ (مُقْتَضِيَةٍ لِثُبُوتِ) الاحتياطِ؛ لأنَّ المقتضيةَ للثُّبوتِ تُفيدُ حُكمًا شرعيًّا لم يُعلَمْ بالبراءةِ الأصليَّةِ، وما فائدتُه شرعيَّةٌ راجحٌ على غيرِه، وقِيلَ: يُرَجَّحُ بعِلَّةٍ نافيةٍ لتتمَّةِ مُقتضاها

(1)

الذاريات: 56.

(2)

في «ع» : لم.

ص: 885

بتقديرِ رُجحانِها وبتقديرِ مُساواتِها، ولتأبيدِها بالأصلِ والحُكمِ إِنَّمَا يُطلَبُ للحكمةِ، والشَّارِعُ يُحَصِّلُها بالحُكمِ وبنَفْيِه.

(وَ) يُرَجَّحُ القِيَاسُ بعِلَّةٍ (عَامَّةٍ لِلْمُكَلَّفِينَ) أي: الَّذِي تَكُونُ عِلَّتُه [مُتَضَمِّنةً لمصلحةِ عُمومِ المُكَلَّفينَ على القِيَاسِ الَّذِي تَكُونُ عِلَّتُه]

(1)

جامعةً لبعضِ المُكَلَّفينِ لكثرةِ الفائدةِ.

(وَ) تُقَدَّمُ عِلَّةٌ (مُوجِبَةٌ لِحُرِّيَّةٍ) على مُقتضيةٍ لرقٍّ على الأصحِّ.

(وَ) عِلَّةٌ (حَاظِرَةٌ) أي: الَّتي

(2)

تُوجِبُ الحظرَ أَوْلى؛ لأنَّها أحوطُ فهي مُقدَّمةٌ على الَّتي تُوجِبُ الإباحةَ.

(وَ) تُقَدَّمُ عِلَّةٌ (لَمْ يُخَصَّ أَصْلُهَا) وهي عامَّةُ الأصلِ، بأنْ تُوجَدَ في جميعِ جُزئيَّاتِه؛ لأنَّها أكثرُ فائدةً ممَّا لا تَعُمُّ، كالطَّعمِ فيمَن يُعَلِّلُ به في بابِ الرِّبَا، فإِنَّه موجودٌ في البُرِّ مثلًا قليلِه وكثيرِه، بخلافِ القوتِ عندَ الحنفيَّةِ، فلا يُوجَدُ في قليلِه فجَوَّزُوا

(3)

بيعَ الحِفنةِ منه بالحفنتَينِ.

(أَوْ لَمْ يَسْبِقْهَا حُكْمُهَا) بأنْ وُجِدَ حُكْمُها مَعَها، فتُقَدَّمُ على عِلَّةٍ حُكْمُها موجودٌ قَبْلَها؛ لأنَّ وُجودَ الحُكمِ مَعَها يَدُلُّ على تأثيرِها فيه كتعليلِ أصحابِنا في المبتوتةِ: أجنبيَّةٌ فلا نَفَقَةَ لها كالمنقضيةِ العِدَّةِ، ويُعَلِّلُ الخصمُ بأنَّها مُعتَدَّةٌ مِن طلاقٍ أَشْبَهَتِ الرَّجعيَّةَ فعِلَّتُنا أَولى؛ لأنَّ الحُكْمَ وهو سقوطُ النَّفَقَةِ وُجِدَ بوُجودِها، وقَبْلَ أن تصيرَ أجنبيَّةً كانَتِ النَّفَقَةُ واجبةً وعِلَّتُهم غيرُ مؤثِّرةٍ؛ لأنَّ وجوبَ النَّفَقَةِ يَجِبُ للزَّوجةِ قَبْلَ أن تَصِيرَ مُعتَدَّةً عن طلاقٍ، فوَجَبَ لها النَّفَقَةُ.

(1)

ليس في «ع» .

(2)

في «د» : الذي.

(3)

ليس في «د» .

ص: 886

(أَوْ وُصِفَتِ) العِلَّةُ (بِـ) حُكمٍ (مَوْجُودٍ فِي الحَالِ) فيُقَدَّمُ على عِلَّةٍ موصوفةٍ بحُكمٍ يَجُوزُ وجودُه في ثاني الحالِ، كتعليلِ أصحابِنا في رهنِ المشاعِ أنَّه عينٌ يَصِحُّ بيعُها، فصَحَّ رَهنُها كالمفردِ، وتعليلُ الخصمِ بأنَّه قارنَ العقدَ مَعنًى يُوجِبُ استحقاقَ رفعِ يدِه في ثاني

(1)

الحالِ، فعِلَّتُنا مُحَقَّقةُ الوجودِ، وما ذُكِرَ مِن عِلَّتِهم يَجُوزُ أن يُوجَدَ، ويَجُوزُ ألَّا يُوجَدَ، فكانَتْ أَوْلى.

(أَوْ عَمَّتْ) أي: اسْتَوْعَبَتِ العِلَّةُ (مَعْلُولَهَا) فتُقَدَّمُ على عِلَّةٍ لم تَسْتَوْعِبْه، كقياسِنا في جريانِ القِيَاسِ بينَ الرَّجُلِ والمرأةِ في الأطرافِ بأنَّ مَن أَجْرَى القِيَاسَ بينَهما في النَّفسِ أَجْرَاه في الأطرافِ كالحُرَّينِ على قولِ الخصمِ: مُختلفانِ في بدلِ النَّفسِ كمسلمٍ معَ مُستأمَنٍ، فإِنَّه لا تَأثيرَ لقولِه أنَّ العبدينِ ولو تَسَاوَيَا في القيمةِ لا يَجري القِيَاسُ بينَهما في الأطرافِ عندَه.

(وَ) تُقَدَّمُ عِلَّةٌ (مُفَسَّرَةٌ) بفتحِ السِّينِ على عِلَّةٍ مُجمَلَةٍ، كقياسِنا في الأكلِ في رمضانَ أنَّه لا كَفَّارَة فيه؛ لأنَّه إفطارٌ بغيرِ مباشرةٍ، فأشبهَ لو ابتلعَ حصاةً، أَوْلَى مِن قِياسِهم: أَفْطَرَ بمُسَوِّغِ جِنسِه؛ لأنَّ المفسَّرَ في الكتابِ والسُّنَّةِ مُقَدَّمٌ على المُجمَلِ، وكذا في المستنبَطِ فهذه الثَّلاثةُ ذَكَرَها في «التَّمهيد»

(2)

وغيرِه، فتُقَدَّمُ هي وما ذُكِرَ قَبْلَها (عَلَى ضِدِّهِنَّ) كما شَرَحْناه، واللهُ أعلمُ.

النَّوعُ الثَّاني مِن القسمِ الثَّاني الَّذِي يَقَعُ التَّرجيحُ فيه بينَ مَعقولينِ:

(الفَرْعُ) ويَحصُلُ بترجيحِ القِيَاسِ بحَسَبِه مِن وجوهٍ بمشاركةِ الفرعِ الأصلَ في معنًى أخصَّ، ويُرَجَّحُ على ما هو مشاركٌ في معنًى أعمَّ مِن ذلك الأخصِّ.

(1)

في «ع» : ثان.

(2)

«التمهيد في أصول الفقه» للكَلْوَذاني (4/ 245).

ص: 887

(وَيَقْوَى ظَنٌّ بِمُشَارَكَةٍ فِي أَخَصَّ وَيَبْعُدُ

(1)

الفرعُ (عَنِ الخِلَافِ فَيُقَدَّمُ): فرعٌ (مُشَارِكٌ) لأصلِه (فِي عَيْنِ الحُكْمِ، وَ) عينِ (العِلَّةِ) على الثَّلاثةِ، وهي ما يَكُونُ فرعُه مشاركًا لأصلِه في عينِها وجنسِه، وفي عينِه وجنسِها، وفي جِنسِهما؛ لأنَّ التَّعْدِيَةَ باعتبارِ الاشتِراكِ في المعنى الأخصِّ يَكُونُ أَغلَبَ على الظَّنِّ مِن الاشتِراكِ في المعنى الأعمِّ.

(فَـ) يَلي ما تَقَدَّمَ فرعٌ مشاركٌ لأصلِه (فِي عَيْنِهَا) أي: العِلَّةِ (وَجِنْسِهِ) أي: الحُكمِ؛ لأنَّ العِلَّةَ أصلُ الحُكمِ المُتَعَدِّي، فاعتبارُ ما هو معتبرٌ في خصوصِ العِلَّةِ أَوْلَى مِن اعتبارِ ما هو مُعتَبَرٌ في خصوصِ الحُكمِ، (فَـ) يلي ما تَقَدَّمَ فرعٌ مشاركٌ للأصلِ (فِي عَيْنِه) أي: الحُكمِ (وَجِنْسِهَا) أي: العِلَّةِ، فيُقَدَّمُ على مشاركٍ في جنْسِهما

(2)

؛ لأنَّ المشاركَ في عينِ أَحدِهما أَوْلى؛ لأنَّه أخصُّ (فَـ) يَلي ذلك الفرعُ المشاركُ (فِي جِنْسِهِمَا) أي: العِلَّةِ والحُكمِ.

(وَ) يُرَجَّحُ قياسٌ (بِقَطْعِ عِلَّةٍ فِي فَرْعِـ) ـه على قياسٍ عِلَّةُ فرعِه مَظنونةٌ.

(وَ) يُرَجَّحُ فرعٌ (بِتَأَخُّرِهِ) عن الأصلِ في الرُّتبةِ على فرعٍ يُساوي الأصلَ فيها؛ لأنَّ الفرعَ وإنْ كانَ مُتَأَخِّرًا عن زمنِ الأصلِ لا تَمتنعُ مُساواتُه له في الرُّتبةِ والواجبِ لفرعيَّةِ الفرعِ، إِنَّمَا هو التَّأخيرُ عنه باعتبارِ الرُّتبةِ لا مُطلقًا بل بالنِّسبةِ إلى ذلك الحُكمِ الَّذِي أُريدَ تُعدِيَتُه إليه.

(وَ) يُرَجَّحُ حُكمُ الفرعِ (بِثُبُوتِهِ بِنَصٍّ) على ما لم يَثبُتْ حُكمُ الفرعِ فيه بالنَّصِّ، وقولُه:(جُمْلَةً) لأنَّه لو ثَبَتَ حُكمُ الفرعِ بالنَّصِّ على سبيلِ التَّفصيلِ لم يَكُنْ ثابتًا بالقِيَاسِ.

(1)

في «مختصر التحرير» (ص 287): وبعد.

(2)

في «ع» : جنسها.

ص: 888

النَّوعُ الثَّالثُ مِن القسمِ الثَّاني الَّذِي يَقَعُ التَّرجيحُ فيه بينَ معقولينِ:

(المَدْلُولُ) وهو حُكمُ الفرعِ.

(وَ) النَّوعُ الرَّابعُ منه: (أَمْرٌ خَارِجٌ) ويَقَعُ التَّرجيحُ فيهما (كَمَا مَرَّ فِي) الدَّليلَينِ (المَنْقُولَيْنِ) على ما تَقَدَّمَ مُفَصَّلًا.

(وَ) تُرَجَّحُ (عِلَّةٌ وَافَقَهَا: خَبَرٌ ضَعِيفٌ) كحديثِ ابنِ لهيعةَ وجابرٍ الجُعفيِّ، فكانَ أحمدُ رَحِمَه اللهُ تَعَالَى يَكتُبُ حديثَهما، فيُقالُ له في ذلك، فيَقُولُ: أَعرِفُه أَعتبِرُ به، كأنِّي أستدلُّ به معَ غيرِه. يَعني يَصِيرُ حُجَّةً بالانضمامِ لا منفردًا، ويَقُولُ: يُقَوِّي بعضُها بعضًا.

(أَوْ) وافقَ العِلَّةَ (قَوْلُ صَحَابِيٍّ) وإن لم نَجعَلْه حُجَّةً.

(أَوْ) وافَقَها (مُرْسَلُ غَيْرِهِ) أي: غيرِ الصَّحابيِّ؛ لأنَّ المرسلَ يُرَجَّح به أحدُ

(1)

الدَّليلَينِ فكذلك في العِلَّةِ، وهذا كلُّه على الصَّحيحِ.

ولَمَّا فَرَغَ من الدَّليلَينِ المنقولينِ والمعقولينِ شَرَعَ في القسمِ الثَّالثِ وهو ترجيحُ المنقولِ والمعقولِ، فقالَ:

(المَنْقُولُ وَالقِيَاسُ) فإذا وَقَعَ التَّعَارُضُ بينَ القِيَاسِ والمنقولِ الَّذِي هو الكتابُ والسُّنَّةُ، فإِنَّه (يُرَجَّحُ) منقولٌ (خَاصٌّ) إنْ (دَلَّ) على المطلوبِ (بِنُطْقِهِ) لكونِ المنقولِ أصلًا بالنِّسبةِ إلى القِيَاسِ؛ لأنَّ المنقولَ مُقَدِّمَاتُه أقلُّ، فيَكُونُ أقلَّ خَلَلًا،

(وَإِلَّا) بأنْ كانَ المنقولُ خاصًّا ودلَّ على المطلوبِ لا بنُطقِه (فَـ) هو يَقَعُ على درجاتٍ؛ لأنَّ الظَّنَّ الحاصلَ مِن المنقولِ الَّذِي دَلَّ على المطلوبِ لا

(1)

في «ع» : إحدى.

ص: 889

بمنطوقِه (مِنْهُ ضَعِيفٌ، وَ) منه (قَوِيٌّ، وَ) منه (مُتَوَسِّطٌ، فالتَّرجيحُ فيه بحَسَبِ ما يَقَعُ للنَّاظرِ)، فله أنْ يَعتبِرَ الظَّنَّ منه، ومن القِيَاسِ، ويَأْخُذَ بأقوى الظَّنَّينِ وإنْ كانَ المنقولُ عامًّا.

قالَ في «شرح الأصل» : فحُكمُه قد تَقَدَّمَ الكلامُ عليه في بابِ الخبرِ، يَعني في النَّوعِ الثَّاني من القِسمِ الأوَّلِ في التَّرجيحِ بينَ مَنقولينِ

(1)

.

وقالَ الطُّوفِيُّ: إذا تعارَضَ القِيَاسُ والعامُّ المخصوصُ فالتَّرجيحُ مبنيٌّ على ما سَبَقَ مِن أنَّ العامَّ المخصوصَ يَبقى حُجَّةً وحقيقةً في الباقي أم لا؟ إنْ قُلْنا: يَبْقَى حُجَّةً قُدِّمَ على القِيَاسِ، مثالُه: قولُه تَعالى: {أُحِلَّ

(2)

لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ}

(3)

عامٌّ مخصوصٌ بالخمرِ ونَحوِها مِن الطَّيِّباتِ المُحَرَّمةِ، وما بَقِيَ منه يَتَناوَلُ لحمَ الخيلِ، فيَكُونُ حلالًا، وقياسُها على البغالِ بجامعِ الصُّورةِ والولادةِ والاقتِرانِ بها في قولِه تَعالى:{وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا}

(4)

يَقتضي تحريمَها، فأيُّهما يُقَدَّمُ؟ فيه الخلافُ المُتقدِّمُ

(5)

. انتهى كلامُ الطُّوفِيِّ.

(1)

«التحبير شرح التحرير» (8/ 4267).

(2)

في «د» ، «ع»: أحلت.

(3)

المائدة: 4، 5.

(4)

النحل: 8.

(5)

«شرح مختصر الروضة» (3/ 748).

ص: 890

(خَاتِمَةٌ)

قد ذَكَرَ كثيرٌ مِن العلماءِ التَّراجيحَ في الحدودِ، وهي قسمانِ: عقليَّةٌ، وسمعيَّةٌ؛ أي: شرعيَّةٌ، فالعقليَّةُ: هي تعريفُ الماهيَّاتِ، وليسَتْ مقصودةً هنا، إِنَّمَا المقصودُ هنا الحدودُ الشَّرعيَّةُ، وهي حدودُ الأحكامِ الظَّنِّيَّةِ المفيدةِ لمعانٍ مفردةٍ تصوُّريَّةٍ؛ وذلك لأنَّ الأماراتِ المُفضيةَ إلى التَّصديقاتِ كما يَقَعُ التَّعَارُضُ فيها ويُرَجَّحُ بعضُها على بعضٍ [كذلك الحدودُ السَّمعيَّةُ يَقَعُ التَّعَارُضُ فيها ويُرَجَّحُ بعضُها على بعضٍ]

(1)

.

واعلَمْ أنَّ التَّرجيحَ في الحدودِ السَّمعيَّةِ تارةً يَكُونُ باعتبارِ اللَّفظِ، وتارةً يَكُونُ باعتبارِ المعنى، وتارةً يَكُونُ باعتبارِ أمرٍ خارجٍ.

فَـ (يُرَجَّحُ) باعتبارِ اللَّفظِ (مِنْ حُدُودٍ سَمْعِيَّةٍ ظَنِّيَّةٍ مُفِيدَةٍ لِمَعَانٍ مُفْرَدَةٍ تَصَوُّرِيَّةٍ):

لفظٌ (صَرِيحٌ) على حدٍّ فيه تجوُّزٌ، أو استعارةٌ، أو اشتراكٌ، أو غرابةٌ، أو اضطرابٌ، إنْ قُلْنا: إنَّ التَّجوُّزَ والاستعارةَ والاشتِراكَ تَكُونُ في الحدودِ.

(وَ) يُرَجَّحُ باعتبارِ المعنى بكونِ المعرَّفِ مِن أحدِ

(2)

التَّعريفينِ (أَعْرَفَ) مِن الآخرِ.

(وَ) يُرَجَّحُ بكونِ مدلولِ أحدِهما (أَعَمَّ) من

(3)

مدلولِ الآخَرِ، فيُرَجَّحُ الأعمُّ ليَتَناوَلَ الأخصَّ وغيرَه، فتَكثُرُ الفائدةُ.

(1)

ليس في «ع» .

(2)

في «ع» : إحدى.

(3)

في «ع» : منه.

ص: 891

(وَ) يُرجَّحُ تعريفٌ (ذَاتِيٌّ) على عَرَضِي؛ لأنَّ التَّعريفَ به يُفِيدُ كُنْهَ الحقيقةِ بخلافِ العرضيِّ.

(وَ) يُقَدَّمُ (مِنْ هَذَا) التَّعريفِ الذَّاتِيِّ: (حَقِيقِيٌّ تَامٌّ، فَـ) حقيقيٌّ (نَاقِصٌ، فَـ) يلي هذا التَّعريفَ (رَسْمِيٌّ كَذَلِكَ) أي: تامٌّ فناقصٌ، (فَـ) تعريفٌ (لَفْظِيٌّ) على ما تَقَدَّمَ بيانُه في المقدِّمَةِ.

(وَ) يُرَجَّحُ باعتبارِ أمرٍ خارجٍ (بِمُوَافَقَةِ) نقلٍ سمعيٍّ أو لُغَوِيٍّ، (أَوْ) بِـ (مُقَارَبَةِ نَقْلٍ سَمْعِيٍّ) أي: شرعيٍّ (أَوْ لُغَوِيٍّ) على ما لا يَكُونُ كذلك؛ لأنَّ النَّقلَ لو كانَ لمناسبةٍ فالأقربُ أَوْلى،

(أَوْ) أي: ويُرَجَّحُ أحدُ التَّعريفينِ بكونِه مُوافِقًا لـ (عَمَلِ أَهْلِ المَدِينَةِ، أَوْ) عملِ أحدِ (الخُلَفَاءِ) الرَّاشِدِينَ وهم أبو بكرٍ وعمرُ وعثمانُ وعليٌّ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عنهم أجمعينَ، (أَوْ) موافقًا لعملِ (عَالِمٍ) واحدٍ لحصولِ القُوَّةِ بذلك، فيَحصُلُ التَّرجيحُ، ويُرَجَّحُ أحدُ التَّعريفينِ على الآخَرِ برجحانِ طريقِ اكتسابِه بأنْ كانَ طريقُ اكتسابِه قطعيًّا والآخَرُ ظَنِّيًّا أو اكتسابِ أَحدِهما أَرْجَحَ مِن طريقِ اكتسابِ الآخَرِ.

(وَبِكَوْنِ طَرِيقِ تَحْصِيلِهِ أَسْهَلَ أَوْ أَظْهَرَ) مِن طريقِ الآخرِ، فيُقَدَّمُ على غيرِه؛ لأنَّه أَفْضى إلى مقصودِ التَّعريفِ وأغلبُ على الظَّنِّ.

(و) يُرَجَّحُ أحدُ التَّعريفينِ (بِتَقْرِيرٍ) أي: بكونِه مُقَرِّرًا لـ (حُكْمِ حَظْرٍ) على ما كانَ مُقَرِّرًا لحكمِ إباحةٍ (أَوْ نَفْيٍ) أي: يُرَجَّحُ على مُقرِّرٍ لحُكمِ إثباتٍ (أَوْ دَرْءِ حَدٍّ) بأنْ يَلْزَمَ مِن العملِ به دَرءُ الحدِّ دونَ الآخرِ، فيُرَجَّحُ عليه، (أَوْ) يَلْزَمَ مِن العملِ بِه (ثُبُوتُ عِتْقٍ، أَوْ طَلَاقٍ، وَنَحْوِهِ) فيُرَجَّحُ على ما لا يَلْزَمُ مِن العملِ به ذلك.

ص: 892

(وَضَابِطٌ) أي: القاعدةُ الكُلِّيَّةُ في (التَّرْجِيحِ: أَنَّهُ مَتَى اقْتَرَنَ بِأَحَدِ) دليلينِ (مُتَعَارِضَيْنِ أَمْرٌ نَقْلِيٌّ) كآيةٍ أو خبرٍ، (أَوِ) اقْتَرَنَ بأحدِهما أمرٌ (اصْطِلَاحِيٌّ) كعُرفٍ أو عادةٍ (عَامٌّ) ذلك الأمرُ (أَوْ خَاصٌّ، أَوْ) اقترنَ بأحَدِهما (قَرِينَةٌ عَقْلِيَّةٌ، أَوْ) قرينةٌ (لَفْظِيَّةٌ، أَوْ) قرينةٌ (حَالِيَّةٌ، وَأَفَادَ) ذلك (زِيَادَةَ ظَنٍّ؛ رُجِّحَ بِهِ) لأنَّ رُجحانَ الدَّليلِ هو الزِّيادةُ في قوَّتِه، وظنُّ إفادتِه المدلولَ، وذلك أمرٌ حقيقيٌّ لا يَختلِفُ في نَفْسِه، وإنِ اختلَفَتْ مَدارِكُه ومثاراتُ الظُّنونِ الَّتي بها الرُّجحانُ والتَّراجيحُ كثيرةٌ جدًّا.

(وَ) التَّرجيحُ بالظَّنِّ (تَفَاصِيلُهُ لَا تَنْحَصِرُ) لأنَّك إذا اعتَبَرْتَ التَّرجيحاتِ في الدَّلائلِ مِن جهةِ ما يَقَعُ في المركَّباتِ مِن نفسِ الدَّلائلِ ومُقدِّماتها وفي الحدودِ مِن جهةِ ما يَقَعُ في نفسِ الحدودِ مِن مُفرداتِها، ثمَّ رُكِّبَتْ بَعضُها معَ بعضٍ حَصَلَتْ أمورٌ لا تَكادُ تَنْحَصِرُ.

قالَ مُؤَلِّفُه: (وَهَذَا آخِرُ مَا يَسَّرَ اللهُ تَعَالَى بِاخْتِصَارِهِ مِنَ «التَّحْرِيرِ» معَ مَا ضُمَّ إِلَيْهِ وَهُوَ شَيْءٌ يَسِيرٌ، وَلَمْ يَعْرَ بِحَمْدِ اللهِ مِنْ أَبْوَابِ الإِفَادَةِ بِتَعْرِيَتِهِ عَنِ الإِطَالَةِ بِتَقْصِيرِهِ، وَمَعَ اعْتِرَافِي بِالعَجْزِ، فَلَقَدِ انْفَرَدَ بِجَمْعِ مَا لَا يُدْرِكُهُ أَحَدٌ رَامَ تَقْلِيلَ كَثِيرِهِ، جَعَلَنِي اللهُ تَعَالَى وَمَنْ نَظَرَ إِلَيْهِ بِعَيْنِ التَّغَاضِي -إِذْ مَا مِنْ أَحَدٍ غَيْرَ مَنْ عَصَمَهُ اللهُ سَلِمَ- مِنْ صَالِحِي أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم واللهُ سبحانه وتعالى أَعلَمُ، والحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وصَلَّى اللهُ على سَيِّدِنا مُحمَّدٍ خاتَمِ النَّبيِّينَ وإمامِ المُرسَلينَ وعلى آلِه وصحبِه أجمعينَ وأصحابِه، وعلى التَّابعينَ لهم بإحسانٍ إلى يومِ الدِّينِ، وأَسأَلُ اللهَ تَعَالَى أنْ يُوَفِّقَ مَن قَرَأَ هذا الكتابَ، ومَن سَمِعَه، ومَن استفادَ منه، ومَن أفادَ، وإليه الرُّجعى والمعادُ.

ص: 893

كَتَبَه ووَقَفَه وحَبَسَه وسَبَّلَه على طلبةِ العِلمِ، وجَعَلَ النَّظرَ له فيه ثمَّ لمن شاءَه اللهُ مِن بعدِه الفقيرُ فراجُ بنُ سابقٍ الأثريُّ الحنبليُّ غَفَرَ اللهُ ذُنوبَه وسَتَرَ عُيوبَه، وجَعَلَه اللهُ خالصًا لوجهِه الكريمِ، وسببًا للفوزِ بجنَّاتِ النَّعيمِ لنا ولوالدِينا ولمشايخِنا والمسلمينَ أجمعينَ في تاسعِ صفرٍ سَنَةَ ألفٍ ومِئتينِ وخمسٍ وأربعينَ 1245. [الطَّويلِ]

فَمَا سَهِرَتْ عَيْنِي وَلَا تَعِبَتْ يَدِي

لِغَيْرِ دُعَاءٍ فِي البَرِيَّةِ مِنْ بَعْدِي

فَيَا قَارِئًا خَطِّي سَأَلْتُكَ دَعْوَةً

لِيَرْحَمَنِي رَبِّي إِذَا صِرْتُ فِي لَحْدِي

* * *

ص: 894