المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الرسالة السادسة الردّ على حسن الضَّالعي - الرد على حسن الضالعي - ضمن «آثار المعلمي» - جـ ٦

[عبد الرحمن المعلمي اليماني]

فهرس الكتاب

الرسالة السادسة

الردّ على حسن الضَّالعي

ص: 179

بسم الله الرحمن الرحيم

[ص 3]

(1)

[الحمد لله الذي لم يتَّخذ ولدًا، ولم يكن] له شريكٌ في الملك، ولم يكن له وليٌّ من الذُّلِّ وكبِّره تكبيرًا، [وصلَّى الله على نبينا محمِّد،] الذي أنزلت عليه: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي [مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ] وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا} [الإسراء: 80]، وعلى آله وأصحابه، [ومن تبعهم بإحسان، وسلَّم] تسليمًا كثيرًا، أمَّا بعد.

فإنِّي عند وجودي بعَدَن، أواخر سنة 1341 هـ[بلغني عن رجلٍ يُدعَى] السيِّد حسن باهارون كان مقيمًا بالضَّالع ثم بيافع، يدعو الناس [إلى بعض العقائد الباطنية الحلوليَّة]، سيأتي ذكر شيءٍ منها إن شاء الله. وإنَّه قد اتَّبعه خَلْقٌ كثيرٌ، وألَّف جماعةٌ من العلماء في الإنكار [على أقواله وضلاله].

[ومنهم] شيخنا، إمام الشريعة والحقيقة في وقته، الشيخ العلَّامة سالم بن عبد الرحمن باصهي، ثم السَّيِّد [

]، ثمَّ السيِّد [

(2)

].

وسألني بعض الإخوان أن أحذو حذوهم، بكتابة رسالةٍ في هذه القضيَّة، فاعتذرت بقصوري، ثمَّ تذكَّرتُ قول صاحب الهمزيَّة

(3)

:

(1)

الترقيم من أصل مصوَّرة الرسالة في مكتبة الحرم المكِّي الشريف، وما حصل من تقديم وتأخير في أوراقها عند إعدادها للطبع والتحقيق من تصرُّفي حسب ما يقتضيه ترتيبها الصحيح.

(2)

بيَّض المؤلف له وللذي قبله في الأصل.

(3)

هو البوصيري، والبيت في "ديوانه"(ص 27)، والهمزيَّة قصيدة مَدَح بها النَّبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 181

وائْتِ بالمُسْتَطاعِ مِن عَمَلِ الْبِرْ

ـرِ فقد تُسقِطُ الثِّمارَ الإتاءُ

مع أنِّي تصفَّحتُ بعض تلك الرسائل، فرأيتها منسوجةً بالحِدَّة والغضب، وذلك وإن كان محمودًا في الشَّرع لكن الأَولى في خطاب الجُهَّال الرِّفق واللِّين، والسَّعي في إيضاح الحقائق باللُّطف والحِكمة، لأنَّ الجهل داءٌ عَيَاءٌ، لا يتيسَّر له دواءٌ إلَّا إذا وُجِد طبيبٌ حاذقٌ.

وليس القصد من التَّأليف في هذه القضيَّة مجرَّد إقامة الحُجَّة والخروج من عهدة السُّكوت، بل القصد مع ذلك إنقاذ هؤلاء المساكين من تخبُّطات الشياطين.

وقد عزمتُ ــ مستعينًا بالله تعالى ــ على كتابة أوراق في هذا الصَّدد، تنحصر في مقدِّمة وفصول.

المقدِّمة: فيما بلغني عن هذا الرجل وأصحابه، بأسانيدها.

[ص 5] الفصل الأوَّل: في وحدة الوجود التي يلهج بها المتصوِّفة، وبيان عقائد أئمَّة الصوفيَّة.

الفصل الثاني: في معنى الوحدة عند المتطرِّفين، وما يشبه ذلك من مقالات الفرق، والأدلَّة المناقضة لذلك من العقل والنقل.

الفصل الثالث: في حكم من دعا إلى ذلك، أو اعتقد، أو شكَّ، أو سكت.

الخاتمة ــ ختم الله لنا بخير الدنيا والآخرة ــ: في أحاديث واردة في التَّحذير من الدَّجاجلة، أعاذنا الله والمسلمين من شرِّهم.

ص: 182

المقدِّمة

سمعتُ شيخنا إمام الحقِّ والحقيقة، السيِّد محمد بن علي بن إدريس قدَّس الله سِرَّه مرارًا يخبر عن هذا الرجل المدعو السَّيِّد حسن الضَّالعي أنَّه كان في صَبْيَا يتظاهر بالحلول والاتِّحاد، بحيث يرى الشيء كالرجل والبقرة والشاة والدَّابة، فيشير إليه قائلًا:"هذا الله"!

وقال شيخنا ــ قُدِّس سرُّه ـ: وألَّف شيخنا الإمام سالم بن عبد الرحمن باصهي رحمه الله رسالةً في الردِّ عليه سمَّاها "كشف الغطا".

وقد ذكر سيِّدنا ــ قُدِّس سرُّه ــ هذا الرجل في مؤلَّفٍ له، وحكى عنه نحو ما مرَّ، إلى أن قال: "والعجب أنَّ هذا الرجل كان يظنُّ أنَّ شيخنا ــ قُدِّس سرُّه ــ لا يعرف شيئًا من علوم القوم، ولم يَدْرِ أنَّه إمام التوحيد الخاص في زمانه.

وفي أوائل 1338 هـ وصل إلى جِيزان سيِّدٌ من أهل الضَّالع، قافلًا من الحج، وأخبرني عن هذا الرجل بمثل ما مرَّ سابقًا، وأنَّه يتَّخذ له تلاميذ ويسوسهم، حتى إذا وثق بأحدهم أخذ عليه المواثيق المغلَّظة، ثم يقول له: اعبد نفسك". وحكى عنه غير ذلك.

وأخبرت شيخنا ــ قُدِّس سِرُّه ــ حينئذٍ، فذكر لي مثل ما مرَّ سابقًا، وزاد أنَّه وصل إليه كتابٌ من الرجل المذكور قائلًا:"إنَّ والدكم هو شيخ فتحي، يريد والد شيخنا الإمام علي بن محمد بن أحمد بن إدريس رضي الله عنهم". وأنكر شيخنا ــ قُدِّس سِرُّه ــ ذلك.

ص: 183

[ص 8] وأخبرني السَّيِّد العلَّامة محمد بن حيدر النُّعمي

(1)

، والشيخ الفاضل محمد إبراهيم صديق [

] وغيرهما أنَّ الرجل المذكور عند وجوده بصَبْيَا كان يشير إلى أي شيءٍ يراه قائلًا: "هذا الله"!

وههنا في عَدَن وقفتُ على كرَّاسةٍ منسوبةٍ إلى رجلٍ يُدعَى صالح الطيَّار، ذكر فيها سنده عن هذا الرجل عن الشيخ حسَّان عن الفاسي، إلى آخر ما ذكر.

فذكرت ما مرَّ من كتابته إلى شيخنا ــ قُدِّس سِرُّه ــ أنَّ والده هو شيخُ فتْحِهِ، وما بينه وبين هذا من التنافي، فكأنَّه اعتمد قول عمران بن حِطَّان

(2)

:

يومًا يمانٍ إذا لاقَيْتُ ذا يمَنٍ

وإن لقِيتُ معدِّيًّا فعَدْناني

كأنَّه عندما كتب إلى شيخنا ــ قُدِّس سِرُّه ــ أراد التقرُّب إليه بمشيخة والده، ولمَّا كان بهذه الجهة القريبة من جهة الشيخ حسَّان المعتقدَة فيه= تقرَّبَ إليهم بذلك.

وقد لقيتُ هنا بعدن بعض المعتقدين فيه وأخبر أنه يذكر أنَّ شيخنا الإمام ــ قُدِّس سِرُّه ــ من تلامذته، وهذا عجيب؛ فإنِّي بحمد الله تعالى

(1)

في "الأعلام" للزركلي (6/ 112): "محمَّد بن حيدر النُّعمي التِّهامي الحسني، مؤرِّخ، من قضاة الزَّيديَّة باليمن، ولي القضاء بالحُدَيدة في عهد محمد بن علي الإدريسي، ثم ولَّاه الإمام يحيى حميد الدين قضاء اللحية. ونشبت فتنة في جازان وما جاورها، فاتُّهِم بالاشتراك فيها، فقُتِل في مدينة صَبْيَا".

(2)

البيت منسوبٌ إليه مع غيره في: "الكامل" للمبرّد (3/ 1086)، وغيره. ويُنظَر:"شعر الخوارج" لإحسان عباس (ص 162).

ص: 184

لازمت شيخنا نحو ست سنين لا يكاد يخلو قومٌ منها [أن أذاكره] في العلوم النافعة، وهو ينكر هذا [

].

ومع هذا فقد ذكر لي بعض الإخوان أنَّ هذا السَّند الذي حكاه الطيَّار لا يطابق سند الشيخ حسَّان. وقد تصفَّحتُ الكرَّاسة المذكورة فوجدتُه بناها على تأويل بعض آيات وأحاديث، يشوِّه وجوهها ويغيِّر ألفاظها!

منها قوله: "وقال صلى الله عليه وسلم لسيِّدنا جبريل عليه السلام: "يا أخي جبريل، أتدري كم لك في العمر"؟ قال: لا أعلم، ولكن يا سيِّدي إنِّي أشوف نجم غرار، كان يظهر بعد كلِّ سبعين ألف سنة مرَّةً واحدةً، وقد شُفْتُهُ سبعين ألف مرَّةٍ. قال له صلى الله عليه وسلم:"أنا ذلك النجم الغرار". قال: صدقت، وبالحق نطقت"

(1)

!

فأنت ترى هذا الحديث ــ على علَّاته ــ كيف مسَخَه وشوَّهه.

وقال: "وقال صلى الله عليه وسلم: "علماء أمَّتي كأنبياء بني إسرائيل"

(2)

. قال: إذْ اسْمُ النبوَّة ممنوعٌ بعده صلى الله عليه وسلم. ويُفهم من هذا أنَّه لم يمنع إلَّا الاسم فقط!

وقال: "وكذلك أهل السلسلة المباركة اتَّصلوا بسِرِّه، من شيخ في شيخ،

(1)

لم أقف عليه، وهو مشهور في كتب متأخري الصوفية، ويوردونه تتمَّة لحديث النور المحمدي، وهو:"أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر"!

وقد حكم عبد الله بن الصِّدِّيق الغُمَاري في كتابه "مرشد الحائر لبيان وضع حديث جابر" عليها بالوضع، وقال إنَّها موجودة في بعض كتب المولد، وقال:"هذا كذبٌ قبيح، قبَّح الله من وضعه وافتراه".

(2)

نقل السخاوي في "المقاصد الحسنة"(ص 459) عن ابن حجر والدّميري والزَّركشي أنَّه لا أصل له، ثم قال:"وزاد بعضهم: ولا يُعرَف في كتابٍ معتبرٍ". ويُنظَر: "الضعيفة" للألباني (466).

ص: 185

إلى عصرنا هذا، في معرفة العلوم الإلهيَّة، الذي قال فيها صلى الله عليه وسلم:"كلُّكم هلكى إلَّا أنا، أنا وما هؤلاء عليه"

(1)

. يعني: كبار الصحابة.

وقال صلى الله عليه وسلم[ص 7]: "ما فضلكم أبو بكرٍ بكثرة الصلاة والعبادة، وإنَّما لشيءٍ وضعه الله في صدره"

(2)

. وهي المعرفة الحقيقيَّة بالله الواحد الأحد، حتى عرف نفسه أنَّه هو عين الحقِّ المبين؛ لصِحَّة الحديث عن النَّبي صلى الله عليه وسلم:"مَن عرف نفسَه عرف ربَّه"

(3)

.

أي: معرفة النفس بانتفاء البشريَّة وظهور الأحديَّة تُعْدِمُنا الأسماء والصفات و .. و .. و .. ؛ لأنَّ الأحديَّة جمع، وجمع الجمع، ولا تقبل أسماء ولا صفات.

أو هي ذات [صرفة] مجرَّدة، ما تقبل إلَّا اسم الله، وإلَّا فحكمها حكم العموم، وعموم العموم، ولا تقبل كم، ولا كيف، ولا أين، ولا متى، ولا تقبل ضرب المثل، ولا المساحة، ولا تقبل الماضي، ولا المستقبل، ولا

(1)

لم أقف عليه!

(2)

لا أصل له مرفوعًا كما قال العراقي في "المغني عن حمل الأسفار"(1/ 23)، وعنه السَّخاوي في "المقاصد الحسنة"(ص 584)، ونسبه إلى بكر بن عبد الله المزني من كلامه ممَّا أسنده إليه الحكيم الترمذي، وهو في "نوادر الأصول"(1/ 90).

ونسبه ابن القيم في "المنار المنيف"(ص 109) إلى أبي بكر بن عيَّاش.

(3)

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى"(16/ 349): "ليس هذا من كلام النبيِّ صلى الله عليه وسلم ولا هو في شيءٍ من كتب الحديث، ولا يعرف له إسناد، ولكن يُروَى في بعض الكتب المتقدِّمة إن صح: يا إنسان اعرف نفسك تعرف ربك .. ".

ويُنظَر أيضًا: "مدارج السَّالكين" لابن القيِّم (1/ 427)، و"المصنوع" لملَّا علي القاري (ص 189).

ص: 186

الحال، بل كل الشؤون والمظاهر، و .. و .. ".

وذكر الصفات وأنواع الوجود في الحيوانات والجمادات ثم قال: "فكلُّ هؤلاء داخل تحت حيطة الأحديَّة، وهي العارف الكامل، الواصل الشَّاهد، لذاته بذاته، الله ولا شيء معه".

إلى أن قال: "قُلْ ما شئتَ في هذا المقام فأنت مكانك أحديٌّ، وبعضهم لمَّا عرف نفسه بنفسه ــ سبحانه وتعالى ــ نظر إلى الفوق والتحت، والأمام والوراء، واليمين والشمال، فلم يجد محلًّا يستند إليه، ولا مكان يأويه، ولا شيء يسند إليه، [فأمير] نفسه، فعرف نفسه بنفسه سبحانه وتعالى"، وقال:

رأيتُ ربِّي بعين ربِّي

فقال: من أنت؟ فقلتُ: أنتَ

(1)

فهو سبحانه وتعالى الشَّاهد والمشهود، الشَّاهد في مقام الأحديَّة التي أنت أنت، هي هي أنت، فاعرف! في هذا الكلام العجيب، الذي لا يفهمه إلَّا [ .. و .. ] ولا [تخطئ في ذاتك]، وإن [تلوت] خذ الكتاب بقوَّة، وأْمُر أهلك يأخذوا بأحسنها، فيصفو لنا حسنها، ونتعطَّر بعطر أهلها، حتى إنَّ المحبَّ يصل بالمحبوب، و [

] المحبُّ المحبوب، وأنت الحي القيُّوم:

ولا تلتفت في السَّيْر غير فكلُّ ما

سوى اللهِ غيرٌ فاتخذْ ذِكْرَهُ حِصْنَا

وقُلْ ليسَ لي في غير ذاتيَ مَطْلَبٌ

فلا صورةٌ تُجْلَى ولا طُرْفةٌ تُجْنَى

(2)

إلخ.

(1)

البيت للحلّاج في "ديوانه"(ص 31)، وفيه:"بعين قلبي".

(2)

البيتان في قصيدة لأبي الحسن الششتري، كما في "ديوانه"(ص 73)، وعنده في البيت الأول:"في السير غيرًا".

ص: 187

أقول: لستُ الآن في صدد الرَّدِّ، وإنَّما الحديث الذي ساقه:"ما فضلكم أبو بكر .. الخ" على علَّاته من الواضح أنَّ المراد به غير ما ذكر، وإنَّما الشيء الذي وَقَر في صدره هو معرفة نفسه بالعجز والضعف، [ص 10] كما رُوِيَ عنه صلى الله عليه وسلم في الدُّعاء:"اللَّهم لا تَكِلْني إلى نفسي، فإنَّك إن تَكِلْني إلى نفسي تَكِلْني إلى ضعفٍ وعَورةٍ وذَنْب". أو كما قال

(1)

.

فلمَّا عرف سيِّدنا أبو بكر نفسه حق المعرفة بالضَّعف والعجز ونحوهما من الأوصاف انتقل من ذلك إلى حقيقة الإيمان بالله تعالى، صفات الجلال والجمال والكمال؛ فإنَّ الإنسان إذا عرف نفسه بالعبودية فقد عرف ربَّه بالربوبيَّة، وكلما ازدادت معرفته لنفسه بحقيقتها، من الضعف والعبودية والعجز في الصورة= ازدادت معرفته وإيمانه بربوبية الله تعالى وقوَّته وقدرته وجلاله.

وهذا معنى الحديث الآخر الذي ذكره، أعني:"مَن عرف نفسه فقد عرف ربَّه" كما هو واضح.

إلى أن قال بعد كلام طويل: "وتحتاج هذه إلى الكتم والخمول حتى يريد الله بالظهور". وهذا يدلُّ على أنَّ قصد هؤلاء القوم بثُّ دعوتهم، ثم إظهارها وإثارة فتنة، عكس مقاصد أهل الله، الذين إنَّما قصدهم إصلاح

(1)

أخرجه أحمد (5/ 191)، والحاكم في "المستدرك"(1/ 697)، وغيرهما، من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه بنحوه. قال الحاكم عقبه:"صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، وقال الهيثمي في "المجمع" (10/ 113):"رواه أحمد والطبراني وأحد إسنادي الطبراني رجاله وُثِّقوا، وفي بقية الأسانيد أبو بكر بن أبي مريم، وهو ضعيف".

ص: 188

القلوب ما تيسَّر.

إلى أن قال: "ولقد اغترُّوا كثيرًا، وتكبَّروا على المشايخ، وأُوقِعُوا في الجحيم، كمثل الفقهاء الزَّنادقة الوهَّابيَّة، الذين يتكبَّرون على أهل الباطن"!

إلى أن قال: "ولقد رأينا أناسًا في النَّار كثيرًا، وأكثرهم الفقهاء، والعلماء، وأهل الرأي، وأهل الرِّئاسة في الدُّنيا"!

إلى أن قال: "وأمَّا الألوهيَّة فهي تقبُّل الأحكام، و .. ، و .. ، ومنها السَّعادة والشقاوة، و .. ، و .. ، وإقامة نظام العالَم، مِن عابد ومعبود، ورازق ومرزوق، وتفاضل الأعلى على الأدنى".

إلى أن قال: "لأن برزخها أوسع البرازخ ومن أسماء كثيرة يُسمَّى العرش، وأمَّا الكتاب، والوجود المطلق، والذات الساذج، والزلال الأبيض، و .. ، و .. ، فسبحان من تفضَّل على ذاته بذاته .. الخ"!

إلى أن قال: "فصلٌ: اعْلَمْ أنَّ الله واجب الوجود، فوجوده مطلقٌ، ووجود ثان له مقيَّد مطلق، من عند الأسماء مقيَّد ومن عند الذَّات مطلق.

والصفات متعدِّدة، والذات واحدة، والكُلُّ مربوط بالكُلِّ، كما قال بعض المشايخ: الكلُّ بالكل مربوط، فليس له عنه انفكاك، خذوا ما قلته عنِّي، [لأنَّ] أصل الشيء كُلّه البرنامج، ولا شيء معه، ولا ذكر للشيء، ولا غير، ولا ذكر للغير، وأنت البرنامج، علمتَ أم لم تعلم، ولكن أنت من العارفين، وغيرك محجوبون

(1)

بك، ولم يعلموا، ولكن الغطا والغين الذي

(1)

في الأصل: "محجوبين".

ص: 189

[ص 11] على العين، والران الذي على القلب، قال الله تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ

(1)

} [المطففين: 14]، أَلَا ترى إلى قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10]، وهي يد رسول الله، ورسول الله هو البرنامج الكامل، والأنموذج الشامل، و [

] الواصل الموصل.

ولهذا حقِّق توحيد ذاتك بذاتك في ذاتك لذاتك، في قوله تعالى:{وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21] أي: هو أنفسكم أفلا تبصرون!

وقوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17]، والرامي هو رسول الله يوم بدر.

فافهم المعنى فقد دان المنى، وادخل الدار واقصد نحونا، واستمع لما يوحى إليك من قولنا، الذي قولك لك، المنزل على قلب نبيك:{وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: 1 - 3]، وأدنى؛ لكلام ابن عباس:"إنَّ محمدًا رأى ربَّه بعين الرأس"

(2)

.

(1)

في الأصل: ( .. على قلوبهم فهم لا يفقهون)!

(2)

تُنظَر الروايات المنقولة عن ابن عباس رضي الله عنه وغيره في هذا الشأن في "الدر المنثور" للسيوطي (14/ 19 - 24).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في "درء التعارض"(8/ 42): "وأمَّا تقييد الرُّؤية بالعين فلم يثبت لا عن ابن عباس ولا عن أحمد".

وقال الإمام ابن القيِّم رحمه الله في "زاد المعاد"(3/ 36 - 38): "صحَّ عن ابن عباس أنَّه رأى ربَّه، وصحَّ عنه أنَّه قال: رآه بفؤاده. وصحَّ عن عائشة وابن مسعود إنكار ذلك .. وقد حكى عثمان بن سعيد الدارمي اتِّفاق الصحابة على أنَّه لم يره. قال شيخ الإسلام ابن تيمية قدَّس الله روحه: وليس قول ابن عباس: "إنَّه رآه" مناقضًا لهذا، ولا قوله: "رآه بفؤاده"، وقد صحَّ عنه أنه قال: "رأيت ربي تبارك وتعالى"، ولكن لم يكن هذا في الإسراء، ولكن كان في المدينة لمَّا احتبس عنهم في صلاة الصبح، ثم أخبرهم عن رؤية ربه تبارك وتعالى تلك اللَّيلة في منامه .. وأما قول ابن عباس إنَّه رآه بفؤاده مرتين فإن كان استناده إلى قوله تعالى: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم: 11]، ثم قال: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم: 13]. والظاهر أنَّه مستنده؛ فقد صحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أنَّ هذا المرئيَّ جبريل، رآه مرتين في صورته التي خلق عليها".

ص: 190

إلى أن قال: "وأمَّا حضرة الأحديَّة وهي الحضرة المباركة، وهي حضرة الطمس وبحر الغمس، وبرزخ جمع الجمع".

إلى أن قال يخاطب صاحب هذا المقام: "فتارة يكون ظاهرك خَلَقًا هاويًا، وباطنك حقًّا، وتارة يكون ظاهرك حقًّا وباطنك خَلَقًا".

إلى أن قال: "حتى تنظر إلى [

] صاحب هذا المقام: "يسمَّى بخطِّ الاستواء، ولا أظنُّ أحدًا يقدر يقف عليه [

] الكمال".

قال: "وهذا المقام من المحال؛ لأنَّه ما وقع لسيِّد المرسلين؛ لصحَّة قوله: "إنَّه لَيُغَان على قلبي، فأستغفر الله في اليوم واللَّيلة سبعين مرَّة"

(1)

؛ لأنَّ اجتماع الحضور والغيبة، والصِّحَّة والسقم في بدن واحد محالٌ، واجتماع الموت والحياة في هيكل واحد محالٌ، ولا جَمَعَ هذا الشيء إلَّا ذو الجلال

(1)

لم أره بهذا السِّياق، لكن أخرجه مسلم (2702) وغيره، من حديث الأغر المزني رضي الله عنه، وفيه:"مائة مرة". والمشهور في تتمَّته ما أخرجه البخاري (6307) وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: "والله إنِّي لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرَّة".

ص: 191

والإكرام، فهو الفرد الجامع .. " الخ.

إلى أن قال: "وقد قال في الكرامة: إنَّ العارفين لا [كرامة

] النظر إلى وجه الله الكريم في كل صورة، وفي كل سورة، وفي كل أخضر ويابس، وفي كل حال ومقال، وخصام وجدال، وجلال وجمال، وفعل واعتقاد".

إلى أن قال بعد كلام طويل في التَّحريض على كثرة الذِّكر: "فلا أحد بَلَغَ مبلغ عالي

(1)

يسقط عنه التَّكليف، فسقوط التَّكليف يوجب عليه التكليف، ولا يسعه إلَّا الاتِّباع لسيِّد البشر، سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ".

[ص 14] إلى أن قال: " [في دعاء: أن يبارك بغير تعب،

في كل شيء به له

]، لكن تفضل على ذاتك بذاتك .. إلخ".

انتهى ما أردنا حكايته من تلك الكرَّاسة، وهي كبيرة، وهي من جنس ما حكيناه، وأستغفر الله العظيم أولًا وآخرًا.

وقال السَّيِّد العلَّامة علوي ما نصُّه: "وهذا هو رجل اسمه حسن بن إبراهيم، ويدَّعي أنه من آل با [معروف] آل باعلوي، وحاشاهم أن يكون هذا الدَّجَّال منهم، وقد كتب كتبًا متعدِّدة إلى السادة العلويين، ففتشوا فلم يجدوا له حسبًا ولا نسبًا.

ومن أخلاق هذا الرجل أنَّه يتفاخر ويتظاهر أنَّه أخذ عن شيوخٍ في مصر والشام والعراق والحجاز والمغرب واليمن، وأنَّه وقع على العلم المكنون".

إلى أن قال: "وقد سار داعي من دعاته إلى الحبشة، واسمه السَّيِّد صالح ــ بزعمه ــ وحاشا لله أنَّه سيِّد، بل هو السيئ الطالح، القرمطي، فعلَّم أناسًا

(1)

كذا في الأصل.

ص: 192

منهم أن يكونوا مثل فرعون إذ قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 24]. و [رتَّب] عليهم أورادًا من قولهم: أنا الله! ".

إلى أن قال بعد ذكر بعض [من]

(1)

تبعه هذا الرجل: "عقيدتهم أنَّ الذوات كلّها متساوية؛ لأنَّها الله بذاته، (تعالى الله)، فذات أعظم نبيٍّ أو وليٍّ هي وذات الخنزير سواء؛ لأنَّ النبيَّ اللهُ، وقع نبيًّا وذهب يطلب مركزه، والخنزير كذلك [

]

(2)

.

ويقولون: إنَّ فرعون أعرف من موسى؛ لأنَّه قال: "أنا ربُّكم"، وموسى جاهلٌ، وهكذا محمد صلى الله عليه وسلم وأبو جهل لعنه الله بمنزلةٍ واحدةٍ.

وهذه العقائد من أسرارهم التي لا تُفشَى، ولا يعلِّمونها إلَّا من خرج من مزالق التوحيد، وهم خصوص الخصوص. وهم في الحقيقة الذين بلغوا الرتبة الفرعونيَّة.

وهذا الضَّالعي يقول: إنَّ الحياة هي نفس الوجود، وإنَّ الوجود هو جميع المخلوقات، وينكر علم الغيب لله، ويجعل جميع التطوُّرات في الوجود اللهَ بذاته، يتطوَّر ويطلب مركزه، وعنده أنّ قول الله [

]

(3)

كلام باطل، كما سنحكي ألفاظه إن شاء الله تعالى.

ومذهبهم أنَّ قول القائل: "لعنك الله" مثل قولك: "رحمك الله"، ولا يتحاشون عن جماع الحائض، يتسارُّون بهذا الأمر بينهم.

(1)

زيادة يقتضيها السياق.

(2)

طمس في الأصل.

(3)

طمس في الأصل.

ص: 193

[ص 13] إلى أن قال: "وينكرون حقيقة الأرواح، ويقولون: هي تطوُّرات الذَّات الإلهيَّة، تطلب مركزها لا غير".

ولهم خزعبلات كثيرة تشابه ما تقدَّم، نتحاشى عن حكايتها، مثل قولهم في المجامعة والغائط. نعوذ بالله.

فعندهم أنَّ الرجل والمرأة ليسا مخلوقين من مخلوقات الله، بل هما الله، ويقولون في المجامعة كلمات كفريَّة تقشعرُّ منها الجلود ــ والعياذ بالله ــ لا نقدر على حكايتها.

إلى أن قال: "وحسن الضَّالعي هذا قد اجتمع بالشيخ الصالح العلَّامة سالم بن عبد الرحمن بن عوض باصهي، فلمَّا رآه الشيخ المذكور ضالًّا في اعتقاده ألَّف رسالةً سمَّاها "كشف الغطا عمَّا يحصل لبعض السَّالكين من الخَطَا"، يظنُّ أنَّه سيرجع بها.

وحيث إنَّ ضلاله بسبب عدم فهمه كلام الصوفية، ولم يعلم أنَّه ليس من الصوفيَّة، بل هو ملحدٌ أصليٌّ، متمكِّنٌ من إلحاده، وإنَّما يتظاهر بحكاية كلام الصوفيَّة ليستجلب الناس؛ لعِلمه أنَّ الناس يعتقدون [في

(1)

] المتصوِّفة والمتنسِّكة.

فلمَّا ظهر بدعوته الخبيثة إلى دينه الجديد الخبيث المخبث في جبل يافع ألَّف الشيخ المذكور رسالةً أخرى [تذييلًا]

(2)

لتلك الرسالة، قال فيها ما نصُّه: "وبعد، فقد بلغني أنَّه ظهر رجلٌ في جبل يافع يسمَّى السَّيِّد حسن

(1)

زيادة يقتضيها السياق.

(2)

في الأصل: "تذييل".

ص: 194

الضَّالعي، يدعو الناس إلى وحدة الوجود، وهي: اعتقاد أنَّ هذه الموجودات كلَّها عين الحقِّ، وأن لا خَلْقَ أصلًا، فتعجَّبتُ لذلك غاية العجب؛ حيث إنَّ هذا الرجل المسمَّى السيِّد حسن الضَّالعي قد اتَّفقت به منذ سبع سنوات في صَبْيَا، قرية من قرى اليمن، مشهورة، وأخبرني أنَّه طاف البلاد، ولا مصر إلَّا ودخله، واتفق بعلمائه وصلحائه، واجتمعنا في صَبْيَا نحو ثلاثة أشهر.

وفي تلك المدَّة كلِّها ونحن نتذاكر العلوم، حتى بيَّن لنا طريقته التي هو عليها كتب الشيخ محيي الدِّين بن عربي، وكتب عبد الكريم الكيلاني، مؤلِّف كتاب "الإنسان الكامل"

(1)

.

وأنَّه معتقدٌ معتقداتهم، في أنَّ هذا الوجود وما فيه من المخلوقات كلّها عين الحقِّ متنوّع بزعمه، وأن لا خلق أصلًا، وأنَّ هذه المخلوقات كلَّها عين الحق تنوّع ذاته، فتارة يجعلها جبالًا، وتارةً يجعلها ريحًا، وتارةً يجعلها بحارًا، وهكذا، فما هناك خلقٌ أصلًا".

فانْبَهَرتُ من هذا الاعتقاد الخبيث، فقلت: يا سيِّد حسن، هذه وحدة الوجود، التي أجمعت الأمَّة كلُّها على كفر أهلها ومنتحليها [ص 16] ومعتقديها.

بل معتقد ذلك كافرٌ بالقرآن من أوَّله إلى آخره؛ لأنَّ القرآن مصرِّحٌ بأنَّ العالَم وما فيه خَلْقُ الله، قال الله جلَّ ذكرُه:{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر: 62]، وقال تعالى:{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [الأنعام: 1]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ

(1)

يقصد كتاب "الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل" لعبد الكريم الجيلي.

ص: 195

خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} [الأعراف: 11]، وقال تعالى: {الَّذِي

(1)

خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [الفرقان: 59]، وقال تعالى:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} الآية [المؤمنون: 12]، وقال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]. إلى آخر ما قال الله من أول القرآن إلى آخره، في أنَّ العالَم وما فيه خلق الله، هو الذي خلقهم.

وأنت تقول: إنَّهم عينُ الله، لا خلقُ الله، وتنكر الخلق رأسًا، والقرآن أثبت الخلق صريحًا، فكلامك هذا إنكار لما في القرآن صريحًا، وتكذيب

(2)

لنصوص القرآن كله من أوله إلى آخره.

فعند ذلك توقَّف، وبقي يُغالط بكلام القوم الدقيق، وشطحاتهم، وسائر ألفاظهم التي توهم هذا القول، وأنا أقول له: لم يريدوا بهذا الكلام ما تعتقده أصلًا، وحاشاهم من ذلك.

وطالت المراجعة فيما بيني وبينه في ذلك، حتى قال لي: صوِّر لي ما عرفته من كلامهم، وما مرادهم بتلك الألفاظ، فجعلنا له نبذةً، وسمَّيناها "كشف الغطا عمَّا يحصل لبعض السَّالكين من الخطا عند مقدمات حال الفنا والفتح والمواهب والعطا"، وبيَّنَّا في ذلك الصواب من الخطا؛ لأنَّ الغلط يدخل على الإنسان في الطريق من محلَّين:

الأول: من مطالعة كتب القوم الدقيقة المعقَّدة، خصوصًا كتب محيي

(1)

في الأصل: "وهو الذي".

(2)

في الأصل: "وتكذيبًا".

ص: 196

الدين والكيلاني عبد الكريم، وما جرى مجرى ذلك؛ فيفهم المطالع من ذلك غير المراد لدقَّة الكلام

(1)

. ولهذا المعنى حرَّموا قراءة كتب هذين الشيخين، وما جرى مجراها.

والمحلُّ الثاني الذي يحصل الغلط على السَّالك فيه: عند مقدِّمات الفتح، وقد بيَّنَّا هذا كلَّه في النُّبذة المذكورة غاية البيان والإيضاح، وميَّزنا فيها بمعونة الله الخطأ من الصواب.

فلمَّا أُوقِف على تلك النُّبذة سكت وانقبض، وأخذ نحو شهرٍ كالمضطرب في أمره.

ثمَّ إن الله تكرَّم عليه، فرأى رؤيا بعد مُضِيِّ هذه المدَّة، فجاء إليَّ وقال: إنِّي رأيت سيِّدنا أبا بكر الصِّديق في المنام، فقلتُ له: مرادي أن تريني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: قُم، وأخذ بيدي، [فلم يزل] يمشي معي حتى وصلنا مسجدكم هذا، فوجدناك في المسجد وحدك [ص 9]، فقال لي أبو بكر: هذا النبيُّ، يعنيكَ.

فقلتُ له: هذا صاحبي فلان! قال: هذا النبيُّ.

قال: فعرفتُ عند ذلك أنَّك على الحقِّ، وعلى الهدي المحمَّدي، وكل

(1)

هذه من الاعتذارات التي حملها بعض المدافعين عنهما وأمثالهما.

وقد قال الذهبي في "السِّيَر"(23/ 48) عن محيي الدين ابن عربي: "ومن أردأ تواليفه كتاب "الفُصُوص"، فإن كان لا كفر فيه فما في الدنيا كفرٌ".

وقال الشوكاني في "الصوارم الحداد"(ص 41): "الإنسان الكامل لعبد الكريم الجيلي اتِّحادٌ محْضٌ"، وقال (ص 57):"لا تجد في كتب القوم مثله في التصريح بالاتحاد والإلحاد".

ص: 197

ما قلتَه حقٌّ وصِدقٌ.

حكى لي هذه الرؤيا بالمجمع من الخلق، [وظننتُ]

(1)

أنَّه قد رجع عن هذه النِّحلة؛ لأنَّها ظهرت لي منه أشاير القبول، ولم يذكر لي شيئًا مخالفًا ذلك، وغلب على ظنِّي أنَّه رجع عن ذلك الاعتقاد الخبيث، وبقي عندنا بعد ذلك نحو شهر، وسار وهو على حاله المحمود.

واتَّفقت به مرَّةً في عَدَن، بعد سنةٍ أو نحوها، وحصل بيني وبينه من البِشْر والفرح والمحبَّة، حتى قال لي: أشهدُ بالله أنَّك واصلٌ، وأنا أعلم أنِّي لستُ بهذه المثابة. إنَّما فرحت منه واستدلَّيت

(2)

بذلك الكلام".

[ص 15] وقال أخوه السيِّد عبد الله بن طاهر في جوابٍ كتبه إلى الشيخ عبد الله بن علي [الفوري] بعد ذكر الرجل المسمَّى بالسيِّد صالح ما لفظه: "فاعْلم أيَّها الوالد ــ نفعنا الله بصالح دعواتك ــ أنَّا اطَّلَعْنا وتحقَّقنا من الرجل المذكور تحقُّقًا كان عندنا كالشمس في الظُّهور، أنَّه ليس من أهل النُّور، بل من أهل الكذب والزُّور، بل لنا على ما بلغنا عنه من سوء الاعتقاد، وأنَّه من أهل الكفر والإلحاد، ينتحل مذهب القائلين ــ والعياذ بالله ــ بالحلول والاتحاد".

إلى أن قال: "ولعلَّه لا يخفى عليكم ما حاصلٌ في جبل يافِع من دجَّال الضَّالع، الكاذب المفتون، الذي سمَّى نفسه أبا هارون، والسادةُ الكرام آل باهارون ــ بل جميع أهل البيت الطَّاهر ــ منه بريئون، قال صلى الله عليه وسلم: "من

(1)

في الأصل بالضاد.

(2)

كذا في الأصل.

ص: 198

انتسب إلى غير أبيه أو انتمى إلى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفًا ولا عدلًا"

(1)

.

وأنساب آل با هارون وشجرتهم محفوظة ومضبوطة، وسيرهم محمودة ومغبوطة، ما فيهم كذَّابٌ ولا دجَّالٌ، ولا داعٍ إلى ضلال، ولا يعرف لهذا الفاجر بهم انتساب ولا اتِّصال .. الخ".

وقال با [شيخ] في أوائل رسالته: "قد وصل إلينا سؤالٌ من محبٍّ صادق، وخِلٍّ موافق، وهو الشيخ الفاضل محسن بن قاسم بن حسين الجهوري اليافعي محتدًا، والموسط بلدًا، قد ملأ الله قلبه بالإيمان، فأنكر الباطل وعزم على إزالته بلسانه ويده والجنان، وفَّقنا الله وإيَّاه لمرضاته، وسلك بنا وبه سبيل نجاته، آمين.

مضمونه بعد البسملة والحمدلة: ما قول ساداتي العلماء الأعلام ــ نفع الله بهم الخاص والعام ــ في هذا الرجل الذي خرج إلى جبل يافع، بلاد برية، وأرض بادية، يُقال له: حسن بن هارون أظهر أمورًا بطَّالة، كفرٌ صريحٌ في الشريعة الغراء، وقد قرأنا عنده، وقال: إنَّ العقيدة التي تؤخذ عليها العهد والمواثيق من الطالب، ونأمره بكتمها هي علم التوحيد، وهو علم الباطن، ويقول: إنَّ الوجود والموجودات كلها الله، الظاهرة والباطنة، وكل رطب ويابس، وطاهر ونجس، وكافر ومسلم، وحق وباطل، وحلال وحرام= كل ذلك الله لا غير، تعالى الله عمَّا يقول هذا الجاحد الكافر علوًّا كبيرًا.

وقال برفع التكاليف عن الناس، لا صلاة، ولا صيام، ولا زكاة عليهم،

(1)

أخرجه مسلم (1370) بنحو هذا السياق، من حديث عليٍّ رضي الله عنه.

ص: 199

ولا حج، وإنَّما الحج عبادة جدار!

وقال: إنَّ القرآن إنَّما هو حديث الرسل والفراعنة، والمذكور فيه من جبال وأحجار وأشجار، وجنَّة ونار، وحشر ونشر، ومشرق ومغرب= فهي فيك أيها الإنسان جميعا .. الخ.

[ص 19] وخلاصة تخبُّطات المخذول ــ والعياذ بالله ــ أنَّه ينكر محمَّدًا صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن. فاضْبطوا هذا:

س: بأيِّ شيءٍ ثبَت عندك الإنجيل؟

ج: بثبات التوراة.

س: بأيِّ شيءٍ ثبتت التوراة؟

ج: بإقرار القرآن.

س: القرآن في زعمك ليس بشيءٍ، فكيف تتَّخذه حجَّةً في دينك؟

ج: أثبتُ التوراة [بالتواريخ] الأجنبيَّة.

س: التواريخ الأجنبيَّة ــ كما بينَّا سابقًا ــ لا تقوم بها حُجَّةٌ؛ لأنَّ مصدرها عن أحبار اليهود، وكم في التواريخ من كذبٍ مناقض للعقل.

ج: أثبتُ التوراة بنقل الكواف لها.

س: قد بينَّا لك عدم اتِّصال النَّقل كافَّة عن كافَّةٍ، وما جرى على التوراة من الغربة والإحراق [وغير ذلك].

ج: ثبت الإنجيل بنقل الكواف.

س: ليس بأيدي النَّصارى إنجيل منزَّلٌ على عيسى، وإنَّما هي تواريخ لفَّقَهَا "مَتَّى"[وإخوانه].

ص: 200

ج: اتَّصلت الكوافُّ بـ"مَتَّى" وإخوانه، وظهرت لهم معجزات.

س: هل كانوا أنبياء مع قول المسيح عليه السلام؟

ج: إن لم يكونوا أنبياء فأصحاب المسيح نقلوا عنه، كما نقل أصحاب محمَّدٍ عنه.

س: أصحاب محمَّد كانوا [من الثِّقة التي] تقوم بهم الحُجَّة في إثبات القرآن وغيره من المعتقدات، ثم لم يزل الأمر كذلك إلى الآن. [ولا كذلك أصحاب متَّى] كما أشرنا إليه سابقًا عن "الملل والنِّحَل"، وهو شيءٌ واضحٌ يعلمه النَّصارى وغيرهم.

وقد نقل الإمام رحمةُ الله في [كتابه "إظهار] الحق"

(1)

عن أكابر أهل الكتاب الاتِّفاق على وقوع التَّحريف والتَّبديل الذي لا يُحْصَى في العَهْدَين العتيق والجديد مرارًا عمدًا وسهوًا، وذكروا أسباب ذلك، و [حرَّروها] بأوضح بيان، وأنَّ علماء [هم] الكبار لم يكونوا يتحاشون عن ذلك، بل يعدُّونه قربة، ولا يخفونه عن أمثالهم، وها نحن نرى كثيرًا ممَّا نقله علماء المسلمين قديمًا عن كتب العهدين لا يوجد بعضه في كتبهما الموجودة اليوم.

ج: أثبتُّ التوراة بما فيها من التَّبشير بعيسى ورفعه وصفته .. الخ؛ لأنَّه من الإخبار بالغيب، ولا داعي لليهود إلى تزوير ذلك، وهو ضدُّهم، وبثبوتها أثبت ما تضمَّنته تلك البشارة .. إلخ.

(1)

في مواضع كثيرة منه كـ (1/ 38، 67، 80، 105، 116، 117 - 119، 146، 150) وغيرها.

ص: 201

س: في هذا احتمالان:

الأول: ما تقوله اليهود، أنَّهم دسُّوا على النَّصارى أولئك النَّفر ليشوِّشوا دينهم، وذكرنا لك بعض شواهد ذلك، والشواهد عليه كثيرةٌ، أقلها أنَّه باعتراف النصارى أنَّ أولئك النَّفر كانوا يظهرون اليهوديَّة .. الخ، فلعلَّهم رأوا أنَّ أقرب ما يستهوون به أتباع النصرانية أن يزوِّروا لهم بشارةً في التَّوراة، مشوبةً بأوهام التَّثليث! فهذا الوجه يفسخ الشُّبهة التي ظننتَها مثبِتَةً للتوراة و [

] عليها.

ولو سلَّمنا ثبوت التوراة فقد ذكرنا سابقًا وجهين في تلك البشارة:

أحدهما: أنَّ الذين تلاعبوا بالتوراة من المرتدِّين والزنادقة وعبدة الأوثان وجدوا البشارة بعيسى في التوراة، فزادوا فيها مثل ما زادوا في غيرها، من ذكر الأبوَّة والبنوَّة وغيرهما.

الثاني: أنَّ أولئك النَّفر الذين دسَّهم اليهود لتشويش دين النَّصارى هم الذين زادوا تلك الأشياء، لاستهواء النَّصارى، ومع ذلك فقد احترس اليهود لأنفسهم بتأخير تاريخ [

].

وأيضًا احترسوا بذكر فصول في الإنجيل، أنَّ عيسى دعا بالمغفرة

(1)

للذين صلبوه، وعفا عنهم، وأنَّه لم يجيء لنقص حرفٍ واحدٍ من التوراة، إلى آخر ما شرحناه سابقًا. نسأل الله العافية.

ولعل هنالك احتمالات غير ما ذكرنا.

والقصد أنَّ مثل تلك الشُّبهة لا يقتنع بها العاقل حُجَّة في دينه، وهل

(1)

في الأصل: "في المغفرة".

ص: 202

رأيت هذه الشبهة الضعيفة أقوى شيءٍ يتبعه العاقل ويتَّخذه دينًا، حتى وجدتها أقوى من القرآن وما معه!

ليتك راجعت التوراة والإنجيل هذه المزيَّفِين المبدَّلين، لنقف على ما أعمى الله عنه أولئك الأنذال، في الفصول التي ترجَّح أن تكون بشارة بمحمَّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم، فإنَّها كثيرة. ومع هذا فقد عرفت ما في هذه الكتب من الكذب والمناقضات، وأنَّ مؤلِّفي الأناجيل كذَّابون، لا يصحُّ [أخذ] دينٍ منهم، ولا يصحُّ إطلاق الحواريين عليهم، وإن لم نعلم أسماءهم الآن.

سبحان من وسع كل شيءٍ علمًا، ونعوذ به من الخذلان، ونبتهل إلى الله تعالى أن يثبِّت قلوبنا على الإيمان، ويختم لنا بالإحسان.

[ص 17] ثم أخذ هذا المخذول يتخبَّط في خيالات واهية، إلى أن قال:"فلِمَ لَمْ يكذِّب القرآنُ التوراة والإنجيل"؟

فنقول: يا مخذول، أي شيء مسمَّى التوراة والإنجيل في الحقيقة؟ أليس هو الكتابَيْن المنزَّلَين من الله تعالى؟ لا شكَّ في ذلك.

وقد بيَّنَّا لك بما سبق أنَّ ما بأيدي القوم من قبل بعثة النَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم مبدَّلٌ مغيَّرٌ، قد اختلط فيه الحق بالباطل.

وأمَّا قوله تعالى: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا} [آل عمران: 93]؛ فسمَّى ما بأيديهم "التوراة" لاشتماله على شيءٍ منها، من جملته الشيء المسوقةُ الآيةُ لبيانِهِ، مع أنَّهم كانوا يسمُّون ذلك السِّفْر بالتَّوراة ويزعمون أنَّه التَّوراة.

إلى أن قال: {يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ} [آل عمران: 45]، لِمَ كانت البشارة خلاف [المعتاد]؟

ص: 203

نقول لك: كما بُشِّر إبراهيم بإسحاق، ومن وراء إسحاق يعقوب، وزكريا بيحيى، فإنَّ إبراهيم وزكريا كانا قد كبرا، فلذلك بُشِّرا؛ لأنَّ مجيء الولد للكبير خلاف المعتاد، فبُشِّرا بخلاف المعتاد.

وكذلك مريم عليها السلام، لمَّا كان الولد من غير أبٍ كان خلاف المعتاد= بُشِّرت على خلاف المعتاد.

قال المخذول: لم سُمِّي المسيح؟ أقوال، في الجملة أنَّه مسح بدهن كان يمسح به الأنبياء، ما حكمة التخصيص بالتسمية، وقد حصل لكلِّهم واحيرتاه!

أقول: أيها المخذول، نعوذ بالله من الخذلان الذي أصبح يريك الهباء في أجرام الجبال، ما منعك أن تقول: المَسْح في اللُّغة يطلق على أن يخلق الله الشيء مباركًا، ومنه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في جرير بن عبد الله البجلي:"يطلع عليكم رجل عليه مَسْحَة ملَك، هو خير ذي يَمَن"

(1)

.

فإن قلتَ: فليس الأنبياء جميعهم مباركين؟

قلتُ: بلى! أفليسوا كلهم عبيد الله، فلِمَ خُصِّصَ يعقوبُ بإسرائيل

(2)

.

(1)

أخرجه أحمد (4/ 359) وابن خزيمة (1797) وابن حبَّان (7199) والحاكم (1/ 285)، وغيرهم، من حديث المغيرة بن شبل عن جرير رضي الله عنه.

قال الحاكم: "حديث صحيح على شرط الشيخين"، ووافقه الذهبي. وقال الهيثمي في "المجمع" (9/ 372):"رجاله رجال الصحيح".

(2)

أي: لأنَّ معنى "إسرائيل" في العبرانية: عبد الله، فإنَّ "إسرا" معناه: عبد، و"إيل": الله، كما هو مأثور عن ابن عباس وغيره. يُنظَر:"تفسير الطبري"(1/ 593)، و"تفسير القرطبي"(2/ 6)، و"الدُّر المنثور" للسيوطي (1/ 337 - 338).

ص: 204

وهذا من الأسئلة الواهية.

قال المخذول: ما حكمة ولادته من عذراء بدون أبٍ بعد استقرار ناموس التناسل؟

نقول له: كما قال تعالى: {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ} [مريم: 21]. يا مخذول هذه خارقةٌ من جملة الخوارق، كإحيائه للموتى، وإبرائه للأَكْمَهِ والأبرص، وكما وقع لغيره من الأنبياء الإحياء والإبراء ونحوهما، وكرمي أصحاب الفيل وغيرها.

وهَبْ أنَّ لذلك حكمة أخرى هل هنالك أدنى شبهة على ألوهيَّته؟ !

وقد قيل: إنَّ الحِكمة هو أن يكمل أقسام الخلق، خلق آدم من غير حيٍّ، وحواء من حيٍّ ذكر فقط، وبقيَّة الناس من حيَّيْن، ذكر وأنثى، فخلق المسيح تكملة للأقسام، من حيٍّ أنثى فقط؛ للدلالة على [أنَّ] قدرة الله تعالى شاملة لخلق أضداد، يعني: لكلِّ قِسمٍ من الأقسام.

[ص 20] قال المخذول: وما الحكمة في خلقه كهيئة الطير طيرًا، وإحياء الموتى، وهذا من وظائف

(1)

الله الخاصَّة؟

نقول: يا مخذول! أمَّا إحياء الموتى فقد وقع لغيره أكثر منه، وأمَّا خلقه كهيئة الطَّير فليست بأغرب من الإحياء؛ لأنَّ كلًّا منهما حياة واردة على موات.

ودعنا من هذا، هل كان الإحياء بإذن الله أو بدون إذن الله؟

(1)

في الأصل: "وضائف".

ص: 205

إن كان بإذن الله ــ كما هو الواقع ــ والذي نقرُّ به فقد تبيَّن أنَّه ليس للمسيح إلَّا السَّبب؛ إذْ افْتَقَرَ إلى إذن غيره.

وإن قلتَ: إنَّه بلا إذن من الله تعالى فهذا كذبٌ بحتٌ، وتكذيبٌ لكتب الله تعالى.

ثمَّ ذكر حديث مسلم

(1)

: "ما من مولودٍ إلَّا والشيطان ينخسه إلَّا عيسى ابن مريم وأمَّه"، وسأل عن عِلَّة التَّخصيص؟

فيُقال له: يا مخذول ما من نبيٍّ من الأنبياء إلَّا وله مزايا، فلو كان كل من له مزيَّةٌ يستدلُّ بها على إلهيَّته لامتلأت الدنيا آلهةً!

ثم عاد المخذول في إنكار التَّحريف، وزعم أنَّه لا حامل لليهود على زيادة ذلك في توراتهم؛ لأنَّه ينادي عليهم بالكفر.

أقول: لم أقف على هذا الفصل من التوراة، حتى أتأمله على صحَّته، ولكن الجواب ــ وبالله الثِّقة ــ من وجهين:

الأول: أنَّه كان في التوراة المنزَّلة ذكر عيسى عليه السلام وزمنه وصفته .. الخ، فلمَّا تلاعبت الأيدي بالتوراة ودسَّت ذلك جعله هذا المخذول دليلًا على التثليث. قد ذكر [

] في التوراة كثيرًا من الناس باسم ابن الله، وأبناء، وزوجة، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا، فلمَّا بُعِث المسيح كانت التوراة قد انتشرت قليلًا، فلم يمكنهم إزالة ذلك.

الثاني: أن يكون اليهود بعد وفاة المسيح علموا أنَّه إذا ثبت دينُه كانت

(1)

حديث (2366).

ص: 206

القاضية على دينهم المبدَّل المغيَّر، فدسُّوا

(1)

هؤلاء القوم، أصحاب الأناجيل، لتبديل دين المسيح، واليهود تدَّعي هذا، كما في "الملل"

(2)

وغيرها، فتوسَّل هؤلاء الشياطين إلى تبديل دين المسيح، بذكر تلك الزيادة في التوراة.

في التوراة ذكر المسيح، وبتعيين السَنَة، والبلد، والصِّفة، ومدَّة مكثه، وارتفاعه، وأنَّهم سيكفرون به، ويعاملونه بكذا وكذا؛ حتى يعر [ف] من عرف [المسيح] أو شا [هده]، فيقولوا:[إن] نعته في [التوراة

] وقد حكم [بذلك] التوراة وعلى هذا التوراة [ .... ] النصرانية.

وعلى كلا القولين فقد رأيتُ في التَّواريخ أنَّ الزِّيادة التي أسقطها اليهود من تاريخ الدنيا إنَّما أسقطوها معارضة للمسيح؛ لأنَّه موصوفٌ في توراتهم بزمانه فأخَّروا التاريخ، وقالوا: إنَّ المسيح لم يجئ بعد.

ولم أطَّلع في الحال على ذكر المسيح في التوراة حتى أحقِّق النَّظر في التاريخ، ولكن قد علمت الحامل لليهود على الزيادة في هذه التوراة.

فكأنَّ اليهود قصدوا تضليل النَّصارى بترك تلك الصفة في التوراة، ودفعوا الكفر عن أنفسهم بتأخير التاريخ.

ويدلُّ على هذا عِدَّة فصول في الإنجيل، منها ما في "إنجيل لوقا" [

] قال: "فلمَّا بلغوا إلى الموضع الذي يدعى "الأجرد"

(3)

صلبوه فيه، وصلبوا

(1)

كذا في الأصل.

(2)

"الفِصَل في الملل والأهواء والنِحَل" لابن حزم (2/ 204).

(3)

في الكتاب المقدَّس عندهم (ص 274) من "إنجيل لوقا"، إصحاح 23 فقرة 33:"المكان المعروف بالجمجمة".

وكذا في "إنجيل متَّى" إصحاح 27 فقرة 33، (ص 115):"المكان الذي يقال له جُلجُثة، أي: مكان الجمجمة". وفي "مرقس" إصحاح 15 فقرة 22 (ص 175)، وفي "يوحنَّا" إصحاح 19 فقرة 17 (ص 354). وكذلك هو في "إظهار الحق" لرحمة الله الهندي (1/ 218).

وتسميته بـ"الأجرد" موافق لابن حزمٍ في "الفِصَل"(2/ 155).

ص: 207

معه السارقين والعابثين، عن يمينه وشماله، فقال يسوع: يا أبتاه اغفر لهم؛ لأنَّهم يجهلون ما يصنعون، ولا يدرون فعلهم". فدسَّ ذلك اليهودي هذه الكلمة ليتخلَّص اليهود من ملامة النَّصارى، مع ما يلزمها من التَّضليل شأن [عيسى].

ولا يعزب عنك أنَّ هوى اليهود تضليل النصارى والتلاعب بهم، بالمحالات والمتناقضات، ومع هذا فمَن وقف على تاريخ التوراة والإنجيل، على ما شرحه ابن حزمٍ ورحمة الله الهندي باعتراف أهل الكتاب لم يُعِرْ هذه الشبهة أدنى نظرٍ؛ لأنَّه يرى أنَّ سوق التلاعبات فيها لا تزال قائمة، وأنَّها في بعض الأزمان تفقد ثم تخرج من مصدر واحدٍ، وأنَّ القوم يرون التبديل والتغيير دينًا.

ولقد صرت بسبب اطِّلاعي على ما ذكره ابن حزمٍ ورحمة الله على شكٍّ من هذه التوراة المطبوعة وحُقَّ لي أن أشك، هل ثَمَّ نسخة في الكون يوافقها؟ وهل [تلك] النسخة نُقِلَت عن نسخةٍ أم لا؟

ولا سبيل لأَن يجد أحد ما أجد إلَّا باطِّلاعه على ما اطَّلعت!

ص: 208

ثم أخذ يخاطب القرآن، بأنَّه قد ثبت لديه نزول التوراة من عند الله تعالى، وعدم تغييرها، وثبوتها يثبت الإنجيل، والقرآن يشهد بذلك، وأخذ يطالب القرآن بالدليل.

فنقول له: يا سخيف، أنت لا تجد على التوراة والإنجيل دليلًا إلَّا القرآن، فأمَّا نقل اليهود والنصارى فليس بحُجَّةٍ؛ لانقطاعه في مبدئه، كما بيَّنه الإمام ابن حزمٍ، بشهادة كتب هؤلاء القوم وتواريخهم.

وأمَّا التَّواريخ التي ذكرت فإنَّها ممَّا لا يقوم بها دليلٌ كهذا. وهذه تواريخ المجوس فيها من الكذب والبهت ما يستحي العاقل أن يصدِّق به.

على أنَّ المؤرِّخ يكتفي بالسَّماع، فما يؤمِّنك أنَّ المؤرِّخين المذكورين سمعوا من اليهود أنفسهم أخبارًا [فدوَّنوها] كما سمعوها، فهل يكون التَّدوين المذكور حُجَّة دينيَّة؟!

إذا تقرَّر هذا فكيف تُطالب القرآن بالدَّليل وهو دليلك على التَّوراة التي دلَّتك على الإنجيل؛ فإن سقط القرآن سقَطَت التَّوراة، فسقط الإنجيل يا مخذول.

فإن قلت: فإنَّ إقرارنا بالتَّوراة والإنجيل كافٍ.

قلنا: نحن لا نقرُّ بتوراة وإنجيل مخالفة لما وصَفَه الله تعالى في كتابه القرآن، ولا نؤمن بنبيٍّ ليس كما وصفه الله، لا عيسى ولا موسى ولا غيرهما.

[ص 23] ثم أخذ المخذول ينازع في إعجاز القرآن.

فيُقال له: هذا شيءٌ مفروغٌ منه؛ فإنَّه لا ينكر أحدٌ أنَّ العرب كانوا في زمانه صلى الله عليه وآله وسلم بأعلى طبقات الفصاحة والبلاغة، وقد نقلت

ص: 209

الكواف العظمى أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم تحدَّاهم بالقرآن، وبأقل جزءٍ منه، فوجموا وأحجموا وخرسوا عن ذلك، واعترفوا بعجزهم، وقال داهيتهم الوليد بن المغيرة لمَّا سمع آيات منه:"والله لقد سمعتُ من محمد آنفًا كلامًا ما هو من كلام الإنس، ولا هو من كلام الجن، وإنَّ له لحلاوة، وإنَّ عليه لطلاوة، وإن أعلاه [لمثمر وإنَّ] أسفله لمغدق، وإنَّه يعلو ولا يُعْلَى عليه"

(1)

.

حتى آل بهم الأمر إلى القتال.

وبعدُ، فوجوه إعجاز القرآن كثيرة، ليست البلاغة فقط؛ فإنَّ فيه الإخبار بالغيب، كالإخبار عن غلب الروم، وأنَّهم بعد غَلَبِهم سيغلبون في بضع سنين

(2)

، والإخبار عن أهل الكتاب أنَّهم لا يتمنَّون الموت

(3)

، والوعد

(1)

أخرجه الحاكم في "المستدرك"(2/ 507) ومن طريقه البيهقي في "الشُّعب"(1/ 157) وغيرِه، عن عكرمة عن ابن عباسٍ رضي الله عنه بنحوه.

قال الحاكم: "صحيح الإسناد على شرط البخاري". وقال العراقي في "المغني عن حمل الأسفار"(1/ 223): "بسند جيد".

(2)

يعني: قوله تعالى: {غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ} [الروم: 2 - 4].

(3)

يعني: قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [البقرة: 94 - 95]، وقوله تعالى:{قُلْ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [الجمعة: 6 - 7].

ص: 210

بإحدى الطَّائفتين

(1)

، والبشرى بالفتح

(2)

.

وزِدْ على ذلك أخبار الأنبياء وأممهم، مع أنَّ محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم كان رجلًا أُمِّيًّا لا يكتب ولا يحسب، وكان مشهورًا بالصدق والأمانة، لا يخون ولا يكذب.

أمَّا قولك: إنَّ كثيرًا من الخطباء والشُّعراء السَّابقين واللَّاحقين تحدَّوا معاصريهم، فلم يعارضوهم، وأقرُّوا لهم بالسَّبق= فأقول: اللَّهم يا مقلِّب القلوب ثبِّت قلبي على دينك.

أولًا لا يسلَّم وقوع ذلك؛ فلا بد أن يكون موجودًا في الكون ــ سابقًا أو لاحقًا ــ من ساواه أو زاد عليه، سواء قصد المعارضة أم لا. فأمَّا القرآن فهات كلامًا متقدِّمًا أو متأخِّرًا يشبهه، أو عارِضْه أنتَ، ليتمَّ عليك الخذلان. ولو سلَّمنا فقل لي: أَلَا تُبصر فرقًا بين تحدِّي شاعرٍ لبضعة شعراء أو خطيب لبضعة خطباء، بقصيدةٍ لا تجاوز الخمسين أو السبعين بيتًا، وخطبة في [

] ولا يلزم من عدم معارضتهم شيء سوى قول: هو أفصحهم= وبين تحدِّي رجل أُمِّيٍّ لأمَّةٍ كبرى، هي أُمَّة اللسان والبيان، في أقل جزء من كتابٍ كبير، وقد ضلَّلهم وضلَّل آباءهم وسبَّ آلهتهم! ويلزم من عدم معارضتهم انقلابٌ دينيٌّ عظيم، وترك مألوفات عديدة، إلى غير ذلك حتى عادوا إلى القتال! العياذ بالله من الضلال المبين.

ص: 211

وها هو القرآن بين يديك، اختر منه بضع آيات، واقرنها بأي كلامٍ شئت من كلام المتقدِّمين والمتأخِّرين، أو من كلام محمَّد صلى الله عليه وآله وسلم نفسه، أو من كلام بعض أصحابه. وانظر الفرق إن كان بقي لعقلك أثر، وإلَّا فراجع الكتب المؤلَّفة في إعجاز القرآن، كتأليف الباقلَّاني

(1)

وغيره.

والله لا يسمع القرآن رجلٌ ذو مسكةٍ بكلام العرب إلَّا تيقَّن أنَّه ليس من كلام البشر.

على أنَّ بعض الزَّنادقة قد حاول معارضة القرآن، فلو نظرتَ بين كلام ذلك المعارِض في المعارضة وكلامه في غير المعارضة لظهر لك الفرق الجليُّ الواضحُ. وذلك أنَّ كلامه في المعارضة كلامٌ غثٌّ ركيكٌ إلى حدٍّ لا يخفى على أحدٍ.

وبالله العظيم لو لم يكن لمحمَّد صلَّى الله وسلَّم عليه وآله آيةٌ إلَّا القرآن، ولم يكن في القرآن وجهٌ من وجوه الإعجاز إلَّا سلامته من المناقضة والكذب الذي عمَّ ما بأيدي أهل الكتاب من الكتب، وصدق الله تعالى إذ قال:{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82].

بل لو لم يكن فيه إلَّا حفظُه من التغيير والتبديل، لاستمرار نقل الكواف العظمى عن الكواف العظمى، بخلاف التوراة والإنجيل التي كانت مبادئها [

] متقطعة= لكان ذلك كافيًا أيضًا.

(1)

يقصد "إعجاز القرآن" للباقلَّاني.

ص: 212

[ص 24]

(1)

.

[ص 25] أيُّها المخذول: إنَّ كلامك يبرهن عليك أنَّك لا تعرف القواعد العربيَّة ولا القوانين الجدليَّة، وإنَّما عندك نوعٌ من الذكاء الفاسد المحترق، قادك الشيطان، وأسلمك الخذلان إلى أن تستعمـ[ـله] في المهم الأعظم، وهو الدين، فأخذت ترسف في قيود الحرمان، وتتعثَّر [بذيول الخسران]، فنعوذ بالله من تخبُّط الشيطان.

ثم ذكر معاصي الأنبياء، وأنَّ في القرآن [إتيانهم المعاصي].

ونعم، في القرآن عن آدم أنَّ الله عاهده فنسي، وأنَّه عصى ربَّه فغوى، وأنَّ [الشيطان أغواه ووسوس إليه]؛ وذلك أنَّ الله تعالى بيَّن لآدم أنَّ إبليس عدوُّه، ثمَّ نهاه عن الأكل من الشجرة، فجاءه إبليس [وإلى زوجه]، وقاسمهما إنِّي لكما لمن النَّاصحين، ودلَّاهما بغرور؛ إذ قال لهما:{مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} [الأعراف: 20]، فنسي آدم ما أعلمه الله تعالى من عداوة إبليس، وحسَّن الظنَّ به، وظنَّ أنَّ الأكل من الشَّجرة إنَّما يزيده قربًا من الله تعالى، فوقع فيما وقع فيه. فالأكل معصية، ولكن لم يباشرها إلَّا متأوِّلًا، ولم يتعمَّد معصية الله تعالى.

وأمَّا قوله تعالى: {لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا} الآية [الأعراف: 189] فلم تنزل في آدم وحوَّاء، وإنَّما نزلت في المشركين، رغمًا عن الوضَّاعين الكذَّابين

(2)

.

(1)

هنا صفحة في أكثر من ثلثيها الأيمن عاموديًّا خرمٌ، وضرب الشيخ على نصفها الباقي، ومضمون بعض كلماتها الظاهرة عن إعجاز القرآن وصدق نسبته لله تعالى.

(2)

ساق الحافظ ابن كثير رحمه الله (3/ 525 - 528) جملةً من الآثار الواردة في هذه الآية، ثم قال: "وقد تلقَّى هذا الأثر عن ابن عباس جماعة من أصحابه، كمجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة، ومن الطبقة الثانية قتادة والسدي وغير واحد من السلف وجماعة من الخلف، ومن المفسِّرين من المتأخِّرين جماعات لا يحصون كثرة.

وكأنَّه والله أعلم أصله مأخوذ من أهل الكتاب، فإنَّ ابن عباس رواه عن أُبَي بن كعب رضي الله عنه .. وقد صحَّ الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا حدَّثكم أهل الكتاب فلا تصدِّقوهم ولا تكذِّبوهم ..

وأمَّا نحن فعلى مذهب الحسن البصري، رحمه الله في هذا، وأنَّه ليس المراد من هذا السِّياق آدم وحواء، وإنَّما المراد من ذلك المشركون من ذريَّته؛ ولهذا قال الله:{فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} ".

ص: 213

وأمَّا نوح عليه السلام، وقوله:{إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} [هود: 45] فإنَّه تأوَّل، ولم يتعمَّد، كما هو واضحٌ.

وأمَّا إبراهيم عليه السلام فكلماته في المعاريض، وإنَّما يُقال لها كذب بحسب المتبادر منها فقط، كما هو واضح

(1)

.

وقوله في الكوكب والقمر والشمس: {هَذَا رَبِّي} [الأنعام: 76] استهزاء وسخرية بقومه؛ توصُّلًا لإقامة الحُجَّة عليهم، ومعنى ذلك قوله تعالى بعد ذلك:{وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} [الأنعام: 83].

(1)

يشير إلى ما أخرجه البخاري (3358) ومسلم (2371) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لم يكذب إبراهيم عليه السلام إلَّا ثلاث كذبات، ثنتين منهنَّ في ذات الله عز وجل، قوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} وقوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا}، وقال: بينا هو ذات يوم وسارة إذ أتى على جبَّار من الجبابرة، فقيل له: إنَّ ههنا رجلًا معه امرأة من أحسن الناس، فأرسل إليه فسأله عنها، فقال: من هذه؟ قال: أختي .. " الحديث.

ص: 214

وقوله تعالى: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260] ليس على أدنى شكٍّ، وإنَّما أراد أن يرى الكيفيَّة، كما أنَّنا الآن لا نشكُّ في وجود مصر، ولكن نحبُّ رؤيتها.

وأمَّا لوطٌ عليه السلام فقوله: {أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود: 80] يعني: ركن عادي من غيره وقبيله؛ ليدفعهم، كما قال تعالى:{وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} الآية [الحج: 40].

وقوله: {هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} [هود: 78] أراد التَّزويج والوَطْء المباح، وإلَّا فلا معنى لتغيير المنكر [ودعوتهم إلى منكر آخر]!

وأمَّا إخوة يوسف فكثيرٌ من الأمَّة على أنَّهم ليسوا بأنبياء.

وأمَّا يوسف عليه السلام [

] فأهمُّ ما ذكر عنه الهَمُّ، وهو الهمُّ بضرب المرأة، كما قال تعالى:{وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ} [غافر: 5].

وأمَّا موسى عليه السلام فأخذْهُ رأس أخيه ظنًّا منه أنَّه يستحقُّ ذلك [لعدم إنكاره على قومه].

وأمَّا داود عليه السلام فقصَّة الخصم على ظاهرها، لا على تأويل الباطنيَّة، والاستغفار والسُّجود والإنابة مطلوبة على كل حالٍ، وظن الفتنة إنَّما هو في سعة الملك

(1)

.

ص: 215

وأمَّا سليمان عليه السلام فالفتنة الاختبار، والجسد لم يوجد تفسير له موثوق به، فهو كما أنَّ [

] مع تيقننا براءة سليمان عليه السلام من كل ما يقدح في منصب النبوَّة

(1)

.

وأمَّا [مَن ذكره الله في قوله: ]{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا} [الأعراف: 175] فلم يصحَّ دليلٌ على أنَّه كان نبيًّا؛ وقد يكون [أُوتِيَ بعض الآيات] بواسطة بعض الأنبياء، فانسلخ منها، وأخلد إلى الأرض، كما فعل سالم المخذول.

[ص 28] وأمَّا محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقوله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2] المراد بالذَّنب ما فعله ناسيًا، أو قاصدًا وجه الله فحصل خطأٌ.

فإنَّما تكون ذنوب الأنبياء من جنس هذا، ومع ذلك ينبِّههم الله تعالى فورًا، والدليل على أنَّهم مؤاخذون بالنِّسيان، ما ورَد في حديث [طواف سليمان] عليه السلام على زوجاته

(2)

؛ فإنَّ فيه أنَّه إنَّما ترك "إن شاء الله" ناسيًا.

وكذلك مؤاخذة [نبيِّنا] عليه السلام بالنسيان، ولذلك قوله تعالى:{وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: 24].

(1)

يعني: في قوله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ} [ص: 34].

(2)

أخرجه البخاري (2819) ومسلم (1654) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 216

وقوله تعالى: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} الآية [الأنفال: 69]، الخطاب للصحابة [

] في غنائم بدر، والخبر المخالف لما قلناه لم يصح.

وقوله تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى (1)} الآيات، قصد صلى الله عليه وآله وسلم ما يظنُّ أنَّه خيرٌ، من استقبال بعض عظماء قريش، رجاء إسلامه، مع أنَّ ذلك السائل عن بعض أمور الدين لا يفوته، فعاتبه الله عز وجل، وبيَّن له أنَّ الأَولى الإقبال على ذلك الأعمى المؤمن.

وما حُكِيَ من الثناء على اللَّات والعزَّى فلم يصحَّ، وقوله تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى} الآية [الحج: 52]

(1)

، فالمراد بالأماني: الأماني فيما يقصد به إلى ما يظنُّه خيرًا، ممَّا لا يوافق مراد الله تعالى منه.

وأمَّا اختلاف المسلمين في العِصْمَة فنحن لا ننكر أنَّ في أقوال بعض المسلمين ما يخالف الحقَّ، ولكنَّه يكون هناك فريقٌ آخر قائل بالحقِّ، فلا يُجْمِع المسلمون على ضلالةٍ أبدًا ولله الحمد، والحقُّ ما شهد به كتاب الله تعالى وسُنَّة رسوله، والعقل السَّليم

(2)

.

(1)

يُنظَر في تفصيل ذلك كتاب: "نصب المجانيق لنسف قصَّة الغرانيق" للشيخ الألباني رحمه الله.

(2)

الظاهر ممَّا سبق من سياق كلام المؤلِّف رحمه الله قوله بالعصمة المطلقة للأنبياء من جميع الذنوب حتى من صغائرها، وهو أحد قولين للناس في المسألة.

وقد حكى غير واحدٍ من الأئمَّة ــ كالنَّووي والآمدي وابن تيمية وغيرهم سلفًا وخلفًا ــ القول عن أكثر علماء الإسلام من السَّلَف والخلف بجواز وقوع الأنبياء في صغائر الذنوب التي لا تتنافى مع الأمانة في تبليغ الرسالة، ومع عدم إقرارهم عليها.

يُنظَر في ذلك: "الإحكام" للآمدي (1/ 227 - 230)، و"شرح صحيح مسلم" للنَّووي (3/ 53 - 54)، و"مجموع الفتاوى" لابن تيمية (4/ 319 - 321)، و (10/ 309)، و (15/ 51 - 57)، و (35/ 100 - 104) وغيرها، وأطال النفس في مناقشة الأدلَّة في "منهاج السُّنَّة"(2/ 393 - 435).

ص: 217

ثمَّ ذكر المخذول مسألة التَّثليث، وتشكَّك فيها، ثم بَرْهَن عليها ــ في نظَرِه ــ بأنَّ الإنسان مركَّبٌ من ثلاث حقائق، الجسم والروح والعقل.

فنسأل الله تعالى العافية، ونعوذ به من الخذلان وسوء العاقبة، يا مقلِّب القلوب ثبِّت قلبي على دينك.

انظروا يا معشر العقلاء هذا البرهان، ولِمَ خصَّ هذه الثلاث بالذِّكْر، أليس للإنسان أيضًا فكرٌ ووهم وعلم ونحوه، وهي غير العقل ضرورة؛ لوجودها في المجنون.

وعلى تخصيص الثلاث وشبَهِ الله تعالى بخلقه فلعلَّه يقول: إنَّ الأب هو الجسد، والابن: العقل، وروح القدس: الروح. وحينئذٍ فقد فارق الله تعالى عقله مدَّة حياة عيسى، وبقي ــ وأستغفر الله تعالى ــ بلا عقل، أو فارقه روحه وبقي ــ وأستغفر الله تعالى ــ ميتًا.

وإمَّا أن يقول: إنَّ المفارق هو الجسد، فيبقى الروح والعقل مجرَّدين، أستغفر الله تعالى من حكاية هذه التُّرَّهات.

[ص 26] وما ذكرت أنَّك انتقدته على القرآن، فلو ذكرتَه [لأجبتُ عنه] بمعونة الله تعالى، وإن كان لا يحتاج اعتراضك إلى جواب، لسقوطه ضرورةً.

ص: 218

ولعلَّنا إن شاء الله يتيسَّر لنا [شرح] الآيات المتعلِّقة بأهل الكتاب جميعها [

بتفسيرها]، ولكني الآن في شغل. ومع ذلك فقد أجاب ابن حزمٍ، ورحمة الله، والنَّبهاني

(1)

عن آيات كثيرة وأحاديث، و [هوَّن عليَّ الأمر

] ظنِّي. كيف والآيات التي أيَّد الله بها رسوله محمَّدًا صلى الله عليه وآله وسلم لا تحصى، وفيها مؤلَّفات خاصَّة، كـ"دلائل النبوَّة" للبيهقي، وغيره.

ويكفيك من هذا أنَّ يتيمًا من قريش نشأ بين أظهرهم بمكَّة، لم يشارك في شيءٍ من شؤونهم، وإنَّما رعى الغنم وشارك في التجارة ونحو ذلك، وكان بين قريش من صغره معروفًا بالصِّدق والأمانة، فلمَّا بلغ أربعين سنة بايَنَ قومَه كلَّ المباينة، وسفَّه أحلامهم وسبَّ آلهتهم وضلَّلهم وآباءهم، وعرَّض نفسه للإهانة والأذى، حتى بلغوا منه كلَّ مبلغٍ من الأذى، فلم يؤثِّر فيه ذلك.

ثم عادوا إلى استمالته وبذلوا له الأموال، وبذلوا له الملك، فلم يستخفَّه ذلك، ولا حادَ عن سبيله قِيد شعرةٍ، حتى ترامت به الأيَّام إلى هجر وطنه ومسقط رأسه، ولم يزل مجاهدًا في سبيل الله تعالى حتى أتمَّ الله تعالى دينَه.

ولم يُؤْثَر عنه شيءٌ ممَّا لا تخلو الملوك عنه من الجبروت والظلم والفساد في الأرض، بل كان نورًا كلُّه من أوَّله إلى آخره.

(1)

لعلَّه يقصد كتاب النبهاني: "حُجَّة الله على العالمين في معجزات سيِّد المرسلين".

ص: 219

ويا ترى [نظريتك] هذه كيف فاتت أحبار اليهود الذين أسلموا، كعبد الله بن سلام، وكعب الأحبار، ومن أسلم من النصارى أو قارب، كالنجاشي وأصحابه، وهرقل وغيرهم. كلَّا والله، لم يفُتْهُم، وإنَّما كانوا ينظرون ببصائر سليمة.

ومع هذا فأقول مستعينًا بالله تعالى، مستمدًّا من كلام الإمام ابن حزم رحمه الله

(1)

.

وأمَّا إيرادك لقوله تعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ} [الإسراء: 59]، وقوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ

(2)

(50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} الآية [العنكبوت: 50 - 51] = مستدلًّا بهما على أنَّها لم تكن لمحمَّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم آيةٌ غير القرآن، فهذا نظرٌ غير صحيح.

فإنَّ قوله تعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ} لا يقتضي أنَّه لم يرسل آية أصلًا؛ فإنَّ "أل" في الآيات عهديَّةٌ

(3)

، أي: الآيات التي سألها أهل مكَّة، من قلب الصفا ذهبًا ونحوه، كما فسَّره ابن عباس وغيره

(4)

.

(1)

تصرَّف المؤلِّف رحمه الله في الاستمداد من كلام ابن حزم كما أشار ههنا، وسأكتفي بالإحالة لمواضع كلامه من "الفِصَل".

(2)

في الأصل: (وإذا لم تأتهم آية قالوا لولا أنزل عليه آية).

(3)

يُنظَر: "الفِصَل" لابن حزم (1/ 193).

(4)

يُنظَر في ذلك: "الدُّر المنثور" للسيوطي (9/ 385 - 388).

ص: 220

وإلَّا فقد أيَّد الله محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم بعدة آيات، نقلتها الكواف، بل في القرآن نفسه الإخبار بالغيب، والمنع من المعارضة وغيره، فكيف تحمل الآيات على الاستغراق حتى يستدل بها على أنَّه لم يُمَدَّ بآية

(1)

؟!

وأمَّا قوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ

(2)

} [العنكبوت: 50]، فكذلك، بل بالعكس، يفهم أنَّ هنالك آيات غير القرآن، وإنَّما المشركون يريدون آية ممَّا طلبوه، كأن يكون معه ملَك، أو نحو ذلك، فأجابهم الله تعالى أنَّ القرآن آيةٌ دائمة مستمرَّة، هي أعظم من كلِّ آية

(3)

.

وقول المخذول: لِمَ لمْ يقُل: (إنا أنزلنا عليك الكتاب آية)؟

فقل له: يا مخذول، إنَّ الكلام يدلُّ عليها أتمَّ دلالة، وإلَّا فما معنى:{أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ} في مقابلة طلبهم آية؟!

ويا ترى إذا قلنا لك: إنَّ فلانًا مجنون، فقلتَ: وما الدليل على جنونه؟ فقلنا: أولم يكفك أنَّ أقواله وأفعاله مشوَّشة غير منتظمة= هل يحتاج مع ذلك إلى أن نقول: وذلك دليل على الجنون.

[ص 42] لا خلاف بين جميع الأمم أنَّ بني إسرائيل كانوا بمصر في أشدِّ العذاب؛ لذبح أولادهم، واستحياء نسائهم، وتسخيرهم، فأتاهم موسى عليه السلام يدعوهم إلى الخلاص من هذه المشاق، وكانوا أهل عسكر واحدٍ،

(1)

يُنظَر: "الفِصَل" لابن حزم (1/ 185 - 187).

(2)

في الأصل: (وإذا لم تأتهم آية قالوا لولا أنزل عليه آية).

(3)

يُنظَر: "الفِصَل" لابن حزم (1/ 194).

ص: 221

وبني عمٍّ وأهل بلد صغير واحد، فاتَّبعوه.

ثم لم يزالوا يتهافتون على الخلاف، تارةً يسألونه أن يجعل لهم إلهًا، وتارةً يجعلون لأنفسهم، وتارةً [

]، وتارةً يقولون:{اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24]. إلى غير ذلك من الأوابد والفظائع، [واعتادوا] على الارتدادات وعبادة الأوثان وقتل الأنبياء.

ثمَّ إنَّ عيسى عليه السلام جاء بالبيِّنات وعظام المعجزات، أولها ولادته من غير أبٍ، ثم تكلُّمه [بالمهد صبيًّا]، وإبراء المرضى بإذن الله، مع أنَّ لديهم التبشير به، وهو يناديهم أنَّه إنَّما جاء مقرِّرًا للتوراة، لا ينقض حرفًا واحدًا [منها].

فلم يؤمن به في نصِّ الإنجيل إلَّا نحو اثني عشر رجلًا معروفين، ونساءٌ قليل، وعدد لا يبلغ جميعهم وفي جملتهم الإثنا عشر [

]، وكانوا مشرَّدين مُسْتَخْفِين، وارتدَّ جماعةٌ منهم بنصِّ الإنجيل.

وأمَّا محمد عليه السلام فلا خلاف بين جميع الأمم أنَّه نشأ في مكَّة يتيمًا، لا مال له، أميًّا، رعى غنم قومه بأجرة و [

]، ولم يفارق مكَّة فراقًا يتمكَّن به من معرفة أحوال الأمم، فنشأ محفوظًا من قبيح العادات، [حتى لُقِّب: ] الأمين، فاختاره الله لنبوَّته، واصطفاه لرسالته، فعلَّمه ما لم يعلم، وألزمه بما ألزم.

فقابله معظم قومه بالتَّكذيب والأذى والشتيمة، وقاطعوه مع عشيرته، فلم يزده ذلك إلَّا جدًّا في أمر الله، فعدلوا عن الأذى إلى الاستمالة، فبذلوا له الأموال الكثيرة والتَّمليك عليهم، فأبى وقال: "والله لو وضعوا الشمس في

ص: 222

يميني، والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه، ما تركته"

(1)

.

واستمرُّوا على أذاه وأذى من اتَّبعه، حتى عذَّبوهم، وقتلوا بعضهم، وهاجر بعضهم إلى الحبشة، وفيهم بنته وخَتَنُه، وتآمروا عليه مرارًا بالقتل، وهمُّوا به لولا عصمة الله له.

ولم يزل يدعو إلى الله سِرًّا وجهرًا، ويعرض نفسه على القبائل، حتى جاءه الجماعة من الأنصار ووعدوه النُّصرة، فخرج من بين ظهراني قومه مهاجرًا إلى المدينة، وتَبِعَه مَن تَبِعَه من قومه، فأعماهم الله تعالى وصدَّهم. فلمَّا وصل المدينة ثابر على الدَّعوة إلى الله، ودخلت الناس في دين الله أفواجًا، جُلُّهم استسلامًا للحقِّ وانجذابًا إلى الهدى، وخضوعًا للحُجَّة، ولم يدخل بالحرب إلَّا القليل.

وكانت العرب قومًا لقاحًا لا يملكهم أحدٌ، ولهم ديانة مضى عليها

(1)

أخرجه ابن إسحاق في"السيرة"(1/ 329) ، وأبو نعيم في "الدلائل"(ص 197)، والبيهقي في "الدلائل"(2/ 187) ، وغيرهم، من طريق يعقوب بن الأخنس به، بإسناد معضل، وبه ضعَّفه الألباني في "الضعيفة"(909).

وأخرجه البخاري في "تاريخه"(7/ 50)، والبزَّار (6/ 115)، وأبو يعلى (12/ 176) والطبراني في "الكبير"(17/ 191)، وغيرهم، من طريق يونس بن بكير حدثنا طلحة بن يحيى عن موسى بن طلحة حدثنا عقيل ابن أبي طالب، بلفظ:"ما أنا بأقدر على أن أدع لكم ذلك على أن تشعلوا لي منها شعلة". يعني: الشمس.

قال الهيثمي في "المجمع"(6/ 15): "رجال أبي يعلى رجال الصحيح"، وحسَّنه الألباني في "الصحيحة"(92).

ص: 223

أسلافهم، كمضر وربيعة وإياد وقضاعة؛ أو ملوكًا في بلادهم، كاليمن وعمان والبحرين قد ملؤوا الجزيرة، وهي نحو شهرين في شهرين.

فقام وحده ــ كما شرحنا ــ يضلِّل دينهم ويسفِّه أحلامهم ويسبُّ آلهتهم، فانقادوا كلهم لظهور الحق، وآمنوا به طوعًا، ونسوا ما كان بينهم من البغضاء والشحناء والتِّرات والذُّحول والاختلاف [الذي] لا يمكن بحسب العادة إزالته، فألَّف الله بينهم حتى صاروا إخوانًا كبني أب وأم، كما قال:{لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [الأنفال: 63].

[وترك كل] منهم ملكه، مع ما لهم من القوَّة وكثرة الجيوش، ولم يكن بيده ما يرغب فيه من المال، بل دعاهم أن ينحطُّوا إلى غرم الزكاة وجري الأحكام عليهم وإقامة الحدود والأخذ للضعفاء من الأقوياء بكل فتيل ونقير.

فيا للعقلاء! أتنقاد هذه الأمم العظمى على هذه الكيفيَّة لغير برهان وبغير سلطان، ثم يستمر ذلك إلى آخر الزمان؟!

[ص 39][ومع ذلك] كله فلم يُؤْثَر عنه صلى الله عليه وآله وسلم كذبٌ ولا زورٌ؛ بل لمَّا كسفت الشمس وكان ذلك يوم موت ولده إبراهيم [وقال الناس:]"إنَّما كسفت الشَّمس لموت إبراهيم" فخرج مسرعًا، وخطبهم قائلًا:"إنَّ الشَّمس والقمر آيتان من آيات الله، وإنَّهما لا ينكسفان [لموت] أحدٍ ولا حياته"

(1)

. فلو كان فيه أدنى شائبةٍ للهوى لترك الناس على

(1)

أخرجه البخاري (1040) ومسلم (901)، من حديث عدَّة من الصحابة رضي الله عنهم.

ص: 224

اعتقادهم، بل لأكَّد لهم ذلك وعظَّمه [لهم، ولكنَّه] صلى الله عليه وآله وسلم منزَّهٌ عن كلِّ نقصٍ.

ومع ما كان له من التَّمكين لم يتوسَّع في شيءٍ من المآكل [والمشارب، والملذَّات، وغير] ها، بل كان أكثر ما يأكل خبز الشَّعير، أو التَّمر والماء، وينام على حصير يؤثِّر في جنبه.

[وكانت ابنته] فاطمة تخدم في بيتها حتى ورمت يدها، وسَأَلَته خادمًا من السبي، فمنعها [وعلَّمها ذكرًا تقوله]

(1)

.

وقام هو بالعبادة حتى ورمت قدماه

(2)

.

وكم من أموالٍ تمكَّن منها، من الغنائم والزَّكوات وغيرها، أنفقها كلَّها في سبيل الله، وقسمها على مستحقيها، ولم يتَّخذ لنفسه ولا لأهل بيته منها شيئًا.

وكان له [في] حياته أملاكٌ ينفق منها على أهله مقتصدًا، ثم ينفق الباقي في مصالح المسلمين، وأوصى أن يكون [ميراثه بعده] صدقة

(3)

.

وخلَّف عمّه العبَّاس وبنيه، وابن عمِّه علي بن أبي طالب زوج ابنته فاطمة، وأبا سبطيه الحسن والحسين، وكانوا من أطوع الناس لله وله، أحب الناس لله وله، وأحب الناس إلى الله وإليه= فلم يحمله ذلك أن يخصَّهم بشيءٍ في حياته، أو يجعل الأمر فيهم بعد وفاته.

(1)

أخرجه البخاري (3113) من حديث علي رضي الله عنه.

(2)

أخرجه البخاري (1130) من حديث المغيرة رضي الله عنه.

(3)

أخرجه البخاري (3090) ومسلم (1758) من حديث عائشة رضي الله عنها.

ص: 225

ثمَّ إنَّ شريعته الغرَّاء الحنيفيَّة أعدل شاهدٍ لمن كان له قلبٌ أو ألقى السَّمع وهو شهيد على أنَّه رسوله الله، وأنَّ هذا نورٌ من الله، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد؛ لما اشتملت عليه الشَّريعة من الأسرار، والحكم والمحاسن، والنطق بالحق والعدل والإنصاف، والاستقامة التي ليس بعدها غايةٌ ولا وراءها نهايةٌ.

مع ما اشتملت عليه من دقائق السياسات، وحفظ [النطاقات]، وموجبات الرُّقِيِّ، وغير ذلك ممَّا لا يُحصى ولا يحصر، ولا ينكره إلَّا أعمى القلب والبصر.

ومع هذا كلِّه فإنَّ آياته ومعجزاته أكثر من أن تحصَى، كالإخبار بعدم تمنِّي اليهود للموت

(1)

، ونبعان عين تبوك فهي كذلك إلى اليوم

(2)

، ونبعان الماء بين أصابعه بحضرة العسكر

(3)

، وإطعامه النَّفر الكثير من طعامٍ يسير مرارًا جمَّة بحضرة الجموع

(4)

، وإخباره بأكل الأرَضَة كل ما في الصَّحيفة المكتوبة حاشا أسماء الله تعالى

(5)

، وإنذاره بمصارع أهل بدرٍ موضعًا

(1)

أخرجه البيهقي في "دلائل النبوَّة"(6/ 274) عن ابن عباس رضي الله عنه. ويُنظَر أيضًا: "الدُّر المنثور" للسيوطي (1/ 471 - 473).

(2)

أخرجه مسلم (706) من حديث معاذ بن جبلٍ رضي الله عنه.

(3)

أخرجه البخاري (3576) من حديث جابر رضي الله عنه، ومسلم (1807) من حديث سلمة ابن الأكوع رضي الله عنه.

(4)

منها ببيت أبي طلحة الأنصاري رضي الله عنه، كما أخرجه البخاري (3578) ومسلم (2040) من حديث أنس رضي الله عنه.

(5)

أخرجه ابن سعد في "الطبقات"(1/ 189، 210) وأبو نعيم في "الدلائل"(ص 199) والبيهقي في "الدلائل"(2/ 312) بأخبار منقطعة الأسانيد.

ص: 226

موضعًا بحضرة الجيش

(1)

، وانشقاق القمر

(2)

، إلى ما لا يُحصى ممَّا ثبت بعضه بنقل الجمع عن الجمع، وبعضه بالسَّند المتَّصل بالثِّقات العدول الصدوقين، الجاعلين نصب أعينهم قوله صلى الله عليه وآله وسلم:"من كذب عليَّ متعمِّدًا فلْيتبوَّأ مقعده من النَّار"

(3)

.

نسأل الله تعالى العصمة والهداية والتوفيق بفضله وكرمه.

[ص 27] وقوله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ [الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ] بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا [بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [آل عمران: 78 - 79] .... ].

وبعد فإنَّ في القرآن مواضع [ ......................................... ]

أنَّ الكتب التي عناها [ ................................................ ]

كما شرحه أبو محمَّد [ابن حزمٍ رضي الله عنه فقال: "أول ذلك أنَّ بأيدي السامريَّة توراة غير التوراة التي بأيدي] سائر اليهود، يزعمون [أنَّها المنزلة، ويقطعون أنَّ التي بأيدي] اليهود محرَّفةٌ مبدَّلة، وسائر [اليهود يقولون] إنَّ التي بأيدي [السامرية محرَّفة مبدلَّة"]

(4)

.

(1)

أخرجه مسلم (2873) من حديث عمر رضي الله عنه.

(2)

أخرجه البخاري (3636) ومسلم (2800) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.

(3)

أخرجه البخاري (110) ومسلم في المقدِّمة (3) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وغيرِه.

(4)

"الفِصل"(1/ 202).

ص: 227

[قال أبو محمد رضي الله عنه]: "في التوراة: أنَّ بنيامين لم يولد ليعقوب إلَّا [بأقراشا] بقرب بيت لحم، [على أربعة أميال من بيت المقدس بعد] رحيله من فدان أرام بدهر"

(1)

.

ثم ذكر بنيامين في ذكر الذين ولدوا [ليعقوب] بفدان أرام، وفيها قال ابن حزمٍ:"فصلٌ: وبعد ذلك قال: "وكان مسكن بني إسرائيل بمصر أربع مائة وثلاثين سنة، فلما انقضت هذه السنون خرج ذلك اليوم معسكر السيد من أرض مصر.

قال أبو محمد رضي الله عنه: هذه فضيحة الدَّهر، وشهرة الأبد، وقاصمة الظهر! يقول ههنا إنَّ مسكن بني إسرائيل بمصر أربع مائة سنة وثلاثون سنة! وقد ذكر قبل أنَّ فاهاث بن لاوي دخل مصر مع جدِّه [يعقوب] ومع أبيه لاوي، ومع سائر أعمامه وبني أعمامه، وأنَّ عُمْر [فاهاث] بن لاوي المذكور كان مائة سنة [وثلاثة] وثلاثين سنة، وأنَّ عمران بن فاهاث بن لاوي المذكور كان عمره مائة سنة وسبعًا وثلاثين [سنة، وأنَّ موسى بن عمران] بن فاهاث بن لاوي المذكور كان إذ خرج ببني إسرائيل من مصر مع نفسه ابن ثمانين سنة.

هذا كلُّه [منصوصٌ كما نذكره] في الكتاب الذي يزعمون أنَّه التوراة.

فهَبْكَ أنَّ فاهاث دخل مصر ابن شهرٍ أو أقل، وأنَّ عمران ابنَه وُلِد بعد موته، وأنَّ موسى بن عمران وُلِد بعد موت أبيه، ليس يجتمع من كل ذلك إلَّا ثلاثمائة عام وخمسون عامًا فقط، فأين الثمانون عامًا الباقية من جملة

(1)

"الفِصل"(1/ 235).

ص: 228

أربعمائة سنة وثلاثين سنة؟ !

فإن قالوا: نضيف إلى ذلك مُدَّة بقاء يوسف بمصر قبل دخول أبيه وإخوته.

قلنا: قد بيَّن في التوراة أنَّه كان إذ دخله ابنَ سبع عشرة سنة، وأنَّه كان إذ دخلها أبوه وإخوته ابنَ تسعٍ وثلاثين سنةٍ، فإمَّا

(1)

كان مقامه بمصر قبل أبيه وإخوته اثنين

(2)

وعشرين سنة ضمَّها إلى ثلثمائة سنة وخمسين سنة= يقوم من الجميع بلا شكٍّ ثلاثمائة واثنان

(3)

وسبعون سنة، أين الثماني والخمسون الباقية من أربعمائة سنة!

هذه شهرة لا نظير لها، وكذبٌ لا يخفى على أحد، وباطلٌ يقطع بأنَّه لا يمكن ألبتَّة أن يعتقده [أحدٌ في رأسه شيءٌ] من دماغٍ صحيحٍ؛ لأنَّه لا يمكن أن يكذب اللهُ تعالى في دقيقةٍ، ولا أن يكذب [رسولُه]صلى الله عليه وسلم[عامدًا ولا] مخطئًا في دقيقةٍ فيقرُّه الله تعالى على ذلك= فكيف ولابد أن يسقط [من هذه المُدَّة] سِنُّ [فاهاث إذ وُلِد له عمران]، وسِنُّ عمران إذ ولد له موسى عليه السلام.

والصَّحيح [الذي] يخرج على [نصوص كتبهم] أنَّ مُدَّة [بني إسرائيل مذ دخل يعقوب] وبنوه مصر إلى أن خرجوا منها مع موسى عليه [السلام لم تكن إلَّا مائتي عام وسبعة عشر عامًا، فهذه كذبة في مائتي] عام وثلاثة عشر

(1)

في "الفِصَل"(1/ 253): "فإذن". وأشاروا في الهامش أنه "فإما" في نسخة.

(2)

كذا في الأصل و"الفِصَل"(1/ 253).

(3)

كذا في الأصل و"الفِصَل"(1/ 253).

ص: 229

[عام، ولو لم يكن في [توراتهم إلَّا هذه الكذبة وحدها لَكَفَت في أنَّها موضوعة مبدَّلة من حمارٍ في] جهله أو مستخفٍّ [سَخِر بهم ولابد"]

(1)

.

وقال الإمام المذكور: "والخامسة: قوله في "سفر يوشع"

(2)

إنَّه وقع لبني هارون ثلاث عشرة مدينة، والعازار بن هارون حيٌّ قائمٌ.

فيا للناس! أفي المحال أكثر من أن يدخل في عقل أحدٍ أنَّ نسل هارون بعد موته بسنةٍ وأشهر يبلغ عددًا لا يَسَعُه للسُّكنى إلَّا ثلاث عشرة مدينة؟! هل لهذا الحمق دواءٌ إلَّا الغل والقَيد والمجمعة وما يتبع ذلك من الكَيِّ والسَّوط! والعياذ بالله من الخذلان.

وكذبة سادسةٌ ظريفة جدًّا، وهي أنَّه ذكر في توراتهم أنَّ عدد ذكور بني جرشون بن لاوي من ابن شهر فصاعدًا كانوا ستة آلاف وخمسمائة، وأنَّ عدد ذكور بني قهاث بن لاوي من ابن شهر فصاعدًا كانوا [ثمانية آلاف وستمائة، وأنَّ عدد ذكور بني مراري بن لاوي من ابن شهر فصاعدًا كانوا ستة آلاف ومائتين.

ثم قال: فجميع الذكور من بني لاوي من ابن شهر فصاعدًا اثنان وعشرون ألفًا! فكان هذا ظريفًا جدًّا، أو شيئًا تندى منه الآباط!

وهل يجهل أحدٌ أنَّ الأعداد المذكورة إنَّما هي يجتمع منها واحدٌ وعشرون ألفًا وثلاثمائة؟! هذا أمرٌ لا ندري كيف وقع؟! أتُرَاه بلغ المسَخَّم الوجه الذي كتب لهم هذا الكتاب الأحمق من الجهل بالحساب هذا

(1)

"الفِصل"(1/ 252 - 253).

(2)

الكتاب المقدس (ص 454) سفر يشوع، إصحاح (21) فقرة (4).

ص: 230

المبلغ، إنَّ هذا لعجبٌ! ولقد كان الثور أهدى منه والحمار أنْبَه منه بلا شكٍّ، أتُرَى لم يأت بعده من اليهود مذ أزيد من ألف عام وخمسمائة عام من تبيَّن له أنَّ هذا خطأ وباطل؟!

ولا يمكن أن يُدَّعَى هنا غلطٌ من الكُتَّاب، ولا وَهمٌ من النَّاسخ في بعض النُّسخ؛ لأنَّه لم يدعنا في لبسٍ من ذلك .. "

(1)

]

(2)

.

[ص 30][ثم قال الإمام ابن حزم رحمه الله: "فصل: ثم قال آخر توراتهم: فتوفِّي] موسى عبد الله بذلك الموضع في أرض "مواب"، [مقابل بيت "فغور"، ولم يَعْرِف آدميٌّ موضع قبره إلى اليوم، وكان] موسى يوم توفِّي ابنَ مائةٍ وعشرين سنةً، لم ينقص بصره، [ولا تحرَّكت أسنانه، فنعاه بنو إسرائيل في موطنه "مواب" ثلاثين يومًا، وأكملوا] نَعْيَه، ثم إنَّ يوشع بن نون امتلأ [من روح الله، إذ جعل موسى يديه عليه، وسمع له بنو إسرائيل، وفعلوا ما أمر] الله به موسى، ولم يخلِّف موسى [في بني] إسرائيل نبيًّا مثله، ولا من [يكلِّمه الله مواجهة، في جميع عجائبه التي فعل على يديه] بأرض مصر، في فرعون مع عبيده، وجميع أهل مملكته، ولا من صنع [ما صنع موسى في جماعة بني إسرائيل].

قال أبو محمد رضي الله عنه: هذا آخر توراتهم [وتمامها، وهذا الفصل شاهد عدل]، وبرهانٌ تام، ودليلٌ قاطعٌ، وحُجَّةٌ صادقةٌ في أنَّ توراتهم

(1)

من قوله: "ثمانية آلاف وستمائة" إلى هذا الموضع استدركته من الفصل، سقط لخرمٍ في الأصل.

(2)

"الفِصَل" لابن حزم (1/ 275 - 276).

ص: 231

[مبدَّلة، وأنَّها تاريخٌ مؤلَّفٌ، كتبه لهم من تخرَّص] بجهله، أو تعمَّد بفكره، وأنَّها غير منزَّلة من عند الله تعالى؛ إذ لا يمكن أن يكون هذا الفصل منزَّلًا على موسى في حياته، فكان يكون إخبارًا عمَّا لم يكن بمساق ما قد كان، وهذا هو محض الكذب، تعالى الله عن ذلك.

وقوله: "لم يَعْرِف قبرَه آدميٌّ إلى اليوم" بيانٌ لما ذكرنا كاف، وأنَّه تاريخٌ أُلِّف بعد دهرٍ طويلٍ ولابد" انتهى

(1)

.

[قلتُ]: قد راجعتُ التَّوراة المطبوعة، فإذا المعنى واحدٌ، وإن اختلفت الألفاظ.

[ثم عقد] أبو محمد رضي الله عنه فصلًا مشبعًا في تاريخ بني إسرائيل، وارتداداتهم المتعدِّدة، وحال التوراة وغربتها، وكونها كانت من يد واحد إلى يد واحد، ثم ما طرأ عليها من النَّهب والإحراق مرات، وفقدهما من أيديهم مدَّة طويلة، إلى أن جاء "عزرا الورَّاق" ــ كما يذكرون ــ فأملاها من حفظه.

إلى آخر ما شرح بما يقطع معه أنَّ التي بأيديهم الآن ليس هو الذي أنزله الله تعالى

(2)

.

وأول الجزء الثاني من "الملل والنِّحَل" للإمام المذكور ذكر حال الإنجيل، وأنَّ النَّصارى عن بكرة أبيهم مقرُّون أنَّه ليس بأيدهم كتابٌ منزَّلٌ

(1)

"الفِصَل" لابن حزم (1/ 284 - 285). وما بين الأقواس المعقوفة وقع فيه خرم بالأصل، استدركته من "الفِصَل".

(2)

"الفِصَل" لابن حزم (1/ 288 - 329).

ص: 232

من عند الله تعالى، وإنَّما بأيديهم تواريخ كُتِبت بعد وفاة المسيح بزمان، وبيَّن ضعف الرِّواية لتلك التواريخ؛ لضعف من كان متديِّنًا بدين المسيح، واستخفائهم تحت الذُّلِّ والخوف والقتل، ثم ما عارضهم من اختلاط المنانية بهم. إلى آخر ما شرح، بما معه يبطل دعوى النَّصارى من أصلها

(1)

.

ثم ذكر دعوى النَّصارى أنَّهم مصدِّقون للتوراة التي بأيدي اليهود، و [عقد] فصلًا فيما يثبته النصارى [

]

(2)

.

[ثم] شرح فصلًا في التواريخ، قال آخرَه:"فتولَّد [من الاختلاف المذكور] بين الطائفتين [زيادة عن ألف عام] وثلاثمائة عام وخمسين عامًا عند النَّصارى [في تاريخ الدنيا على ما هو] عند اليهود .. "

(3)

.

[ص 45] إلى أن قال: "ولا بد للنصارى ضرورةً من أحد خمسة أوجهٍ، لا مخرج لهم عن أحدها.

إمَّا أن يصدِّقوا [نقل اليهود] للتَّوراة، وأنَّها صحيحة عن موسى عن الله تعالى، ولكتبهم. وهذه طريقتهم في الحِجاج والمنا [ظرة].

فإن فعلوا فقد أقرُّوا على أنفسهم وعلى أسلافهم الذين نقلوا عنهم دينهم بالكذب؛ [إذ خالفوا قول الله تعالى] وقول موسى عليه السلام.

أو يكذِّبوا موسى عليه السلام فيما نقل عن الله عزَّ [وجل، وهم لا يفعلون هذا].

(1)

"الفِصَل" لابن حزم (2/ 13 - 19).

(2)

"الفِصَل" لابن حزم (2/ 21).

(3)

"الفِصَل" لابن حزم (2/ 21 - 23).

ص: 233

أو يكذِّبوا نقل اليهود للتَّوراة ولكتبهم، فيبطل تعلُّقهم بما في تلك الكتب، ممَّا [يقولون إنَّه إنذارٌ] بالمسيح عليه السلام؛ إذ لا يجوز لأحدٍ أن يحتجَّ بما لا يصح نقله.

أو يقولوا كما قال بعضهم: إنَّهم [إنَّما عوَّلوا] فيما عندهم على ترجمة السبعين شيخًا، الذين ترجموا التوراة وكتب الأنبياء عليهم السلام لبطليموس. فإن قالوا هذا فإنَّهم لا يخلون ضرورةً من أحد وجهين؛ إمَّا أن يكونوا صادقين في ذلك، أو يكونوا [كاذبين في ذلك].

فإن كانوا كاذبين في ذلك فقد سقط أمرهم، والحمد لله رب العالمين؛ إذ لم يرجعوا إلَّا [إلى المجاهرة] بالكذب.

وإن كانوا صادقين في ذلك فقد حَصَلَت توراتان متخالفتان متكاذبتان متعارضتان، توراة السبعين شيخًا، و"توراة عزرا". ومن الباطل الممتنع كونهما جميعًا حقًّا من عند الله.

واليهود والنَّصارى كلُّهم مصدِّقٌ مؤمنٌ بهاتين التوراتين معًا، سوى توراة السامرية، ولا بد ضرورةً من أن تكون إحداهما حقًّا، والأخرى مكذوبة، فأيُّهما كانت المكذوبة فقد حصَلَت الطَّائفتان على الإيمان بالباطل ضرورةً، ولا خير في أمَّةٍ تؤمن بيقين الباطل.

وإن كانت توراة السبعين شيخًا هي المكذوبة فلقد كانوا شيوخ سوءٍ كذَّابين ملعونين؛ إذ حرَّفوا كلام الله تعالى وبدَّلوه. ومن هذه صفته فلا [يحلُّ] أخذُ الدِّين عنه، ولا قبول نقله.

وإن كانت "توراة عزرا" هي المكذوبة فقد كان كذَّابًا؛ إذ [حرَّف كلام

ص: 234

الله تعالى]، ولا يحلُّ أخذ شيءٍ من الدِّين عن كذَّابٍ.

ولا بد من أحد الأمرين، أو يكون كلاهما كذِبًا، وهذا [هو الحق] اليقين الذي لا شكَّ فيه؛ لِمَا قدَّمْنا ممَّا فيها من الكذب الفاضح، الموجب للقطع بأنَّها مبدَّلَة [محرَّفةٌ، وسقطت] الطائفتان معًا، وبطل دينهم الذي إنَّما مَرْجِعُه إلى تلك الكتب المكذوبة، ونعوذ بالله من الخذلان"

(1)

.

ثم ذكر شيئًا

(2)

عن الأناجيل، أولها في أول "إنجيل متَّى" في نسب المسيح [أنَّه يذكر نسب المسيح] أنَّه ابن يوسف النجَّار، وبيان ما في ذلك الفصل من الكذب، ثمَّ ما بين "إنجيل متَّى" و"إنجيل [لوقا] " من التكاذب في هذا النَّسب

(3)

.

ثم قال: "فصلٌ: وفي الباب الثالث من "إنجيل متَّى"

(4)

: فلحق يسوع ــ يعني: المسيح ــ بالمفاز، وساقه الروح إلى هنالك". ثم ذكر ما في هذا الفصل من الأوابد

(5)

.

[ص 48][ثم] قال: "فصلٌ: وفي الباب الرَّابع من "إنجيل متَّى": أنَّ المسيح قال لتلاميذه: لا تحسبوا أنِّي جئتُ لنقض التوراة وكتب الأنبياء، إنَّما أتيتُ لإتمامها، امين، أقول لكم إلى أن تبيد السماء والأرض لا تبيد باءٌ

(1)

"الفِصَل" لابن حزم (2/ 24 - 25).

(2)

في الأصل: "شيء".

(3)

"الفِصَل" لابن حزم (2/ 27 - 34).

(4)

"إنجيل متَّى" من "الكتاب المقدَّس"(ص 43)، إصحاح 5 فقرة 1 وما بعدها.

(5)

"الفِصَل" لابن حزم (2/ 35 - 37).

ص: 235

واحدة، ولا حرف واحد من التوراة حتى يتمَّ الجميع .. الخ

(1)

"

(2)

.

ثم قال: "قال أبو محمد رضي الله عنه: وهذه نصوصٌ تقتضي التأييد، وتمنع من النسخ جملة". ثم ذكر ما يناقض ذلك [

] النسخ.

إلى أن قال: "ثم ذكر في الباب الثامن عشر من "إنجيل متَّى" أنَّ المسيح قال للحواريين الاثنا عشر بأجمعهم ــ ومن جملتهم يهوذا الأشكريوطا، الذي دلَّ عليه اليهود برشوة ثلاثين درهمًا ــ: "كلُّ ما حرَّمْتُمُوه في الأرض يكون محرَّمًا في السماء وكل ما حلَّلْتُمُوه في الأرض يكون محلَّلًا في السماء"

(3)

.

وفي الباب السادس عشر من "إنجيل متَّى" أنَّه قال هذا القول لباطرة وحده

(4)

.

قال أبو محمد رضي الله عنه: وهذا تناقضٌ عظيمٌ، كيف يكون التَّحليل

(1)

لفظ الترجمة المعاصرة من "إنجيل متَّى" من "الكتاب المقدَّس"، (ص 47 - 48)، إصحاح 5 فقرة 17 - 18:"لا تظنوا أنِّي جئت لأبطل الشريعة أو الأنبياء، ما جئت لأبطل، بل لأكمل، الحق أقول لكم: لن يزول حرفٌ أو نقطةٌ من الشريعة حتى يتم كل شيء، أو تزول السماء والأرض".

(2)

"الفِصَل" لابن حزم (2/ 45).

(3)

لفظ الترجمة المعاصرة من "إنجيل متَّى" من "الكتاب المقدَّس"(ص 88)، إصحاح 18 فقرة 18:"ما ربطتم في الأرض رُبِط في السماء، وما حللتم في الأرض حُلَّ في السماء".

(4)

"إنجيل متَّى" من "الكتاب المقدَّس"(ص 83) إصحاح 16 فقرة 19، بنحو ما قبله.

و"باطرة" في اصطلاحهم هو "بُطْرُس".

ص: 236

والتَّحريم للحواريين أو لباطرة مع قوله: إنَّه لم يأت لتبديل التوراة لكن لإتمامها؟! وإنَّه من نَقَضَ من عهودها عهدًا صغيرًا دُعِيَ في ملكوت السموات صغيرًا، وإنَّ السماوات والأرض تبيدان قبل أن تبيد من التوراة باءٌ واحدةٌ أو حرفٌ واحدٌ!

ولئن كان صَدَق في هذا فإنَّ في نصِّ التوراة أنَّ الله تعالى قد لعن من صُلِبَ في خشبةٍ

(1)

! وهم يقولون: إنِّه صُلِب في خشبةٍ! ولا شك في أنَّ باطرة وشمعون أخوا يوسف، وأندرياش أخو

(2)

باطرة، وفليش، وبولس= صُلِبوا في الخشب فَعَلى قول المسيح لا يبيد شيءٌ من التوراة حتى يتمَّ جميعها= فكُلُّ هؤلاء ملعونون بلعنة الله تعالى! فاعْجَبُوا لضلال هذه الفرقة المخذولة، فما سُمِع بأطمَّ من هذه الفضائح أبدًا"

(3)

.

أقول: يتعيَّن علينا أن ننقل هنا فصلًا مشبعًا ذكره الإمام المذكور أواخر الجزء الأول، وهو شاف كاف في جواب هذا المخذول.

قال الإمام أبو محمد رضي الله عنه: "فإن قيل: فإنَّكم تقرُّون بالتوراة والإنجيل

(4)

، وتستشهدون على اليهود والنَّصارى بما فيها من ذكر صفات

(1)

في "سفر التثنية"(ص 390) من "الكتاب المقدَّس" إصحاح 21 فقرة 23: " .. لأنَّ المعلَّق لعنة من الله"، وفي "رسالة القديس بولس إلى أهل أغلاطية" (ص 577) 3/ 13:"إنَّ المسيح افتدانا من لعنة الشريعة إذ صار لعنةً لأجلنا؛ فقد ورد في الكتاب: ملعون من عُلِّق على الخشبة".

(2)

كذا في "الفِصَل"(2/ 47).

(3)

"الفِصَل" لابن حزم (2/ 45 - 47).

(4)

تكرَّرت عبارة "فإن قيل .. والإنجيل" في الأصل.

ص: 237

نبيِّكم، وقد استشهد نبيُّكم عليهم بنصِّها في قِصَّة الرَّجم

(1)

للزَّاني المُحْصَن، ورُوِيَ أنَّ عبد الله بن سلام ضَرَب يد عبد الله بن صُوريا، ووضعها على آية الرجم

(2)

.

ورُوِيَ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أخذ التَّوراة وقال: "آمنتُ بما فيك"

(3)

.

وفي كتابكم: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [المائدة: 68]، وفيه أيضًا:{قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران: 93]، وفيه أيضًا:{إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا [ص 43] لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ} [المائدة: 44]، وفيه: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ

(1)

في الأصل: "الراجم".

(2)

أخرجه البخاري (3635) ومسلم (1699) من حديث ابن عمر رضي الله عنه، وليس فيهما ولا في غيرهما ضرب يده، بل الوارد الأمر برفع يده.

وتسمية ابن صوريا وقع في غيرهما، عند ابن حبان (4435) وغيره.

(3)

أخرجه أبو داود (4449) من حديث ابن عمر قال: أتى نفر من اليهود فدعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القف فأتاهم في بيت المدارس فقالوا: يا أبا القاسم إنَّ رجلا منا زنى بامرأة فاحكم، قال: ووضعوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وسادة فجلس عليها، ثم قال:"ائتوني بالتوراة"، فأتي بها، فنزع الوسادة من تحته، ووضع التوراة عليها، وقال:"آمنت بك وبمن أنزلك .. " الحديث.

وقد حسَّن إسناده الألباني في "الإرواء" ضمن الحديث (1253)، وسيأتي بعد قليل حكم ابن حزمٍ عليه بالوضع!

ص: 238

هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47]، وفيه:{وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} [المائدة: 66]، وفيه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ} [النساء: 47].

قلنا ــ وبالله التوفيق ـ: كل هذا حقٌّ، حاشا قوله عليه السلام:"آمنتُ بما فيك"؛ فإنَّه باطلٌ، [لم يصحَّ] قطُّ. وكلُّه موافقٌ لقولنا في التوراة والإنجيل بتبديلهما، وليس شيءٌ منه حُجَّة لمن ادَّعى [أنَّهما بأيدي] اليهود والنصارى كما أُنزِلا، على ما نبيِّن الآن إن شاء الله تعالى بالبرهان الواضح.

قال أبو محمد رحمه الله: أمَّا إقرارنا بالتوراة والإنجيل فنعم، وأي معنى [لتمويهكم بهذا؟ ! ] ونحن لم ننكرهما قطُّ، بل نكفِّر من أنكرهما، إنَّما قلنا: إنَّ الله تعالى أنزل التوراة على موسى [عليه السلام] حقًّا، وأنزل الزبور على داود عليه السلام حقًّا، وأنزل الإنجيل على عيسى عليه السلام حقًّا، [وأنزل] الصُّحُف على إبراهيم وموسى عليهما السلام حقًّا، وأنزل كتبًا لم يُسَمِّ لنا، على أنبياء لم يُسَمَّوا لنا حقًّا، نؤمن بكل ذلك، قال تعالى:{صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى: 19]، وقال تعالى:{وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} [الشعراء: 197].

وقلنا ونقول: إنَّ كفَّار بني إسرائيل بدَّلُوا التوراة والزَّبور، فزادوا ونقصوا، وأبقى الله تعالى بعضها حُجَّةً عليهم كما شاء، {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23]، {لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} [الرعد: 41].

وبدَّل كفَّار النَّصارى الإنجيل كذلك، فزادوا ونقصوا، وأبقى الله تعالى بعضها حُجَّةً عليهم كما شاء، {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23].

ص: 239

فدَرَس ما بدَّلوا من الكتب المذكورة، ورفعه الله تعالى، كما دَرَسَت الصُّحف وكتب سائر الأنبياء جملةً. فهذا هو الذي قلنا، وقد أوضحنا البرهان على صِحَّة ما أوردنا من التَّبديل والكذب في التَّوراة والزَّبور، ونورد إن شاء الله تعالى في الإنجيل وبالله تعالى نتأيَّد. فظهر فساد تمويهِهِم بأنَّنا نُقِرُّ بالتَّوراة والإنجيل والزَّبور، ولم ينتفعوا بذلك في تصحيح ما بأيديهم من الكتب المكذوبة المبدَّلة. والحمد لله رب العالمين.

وأمَّا استشهادنا على اليهود والنصارى بما فيهما من الإنذار بنبينا صلى الله عليه وسلم فحَقٌّ، وقد قلنا آنفًا إنَّ الله تعالى أطْلَعَهم على تبديل ما شاء رفعه من ذينك الكتابين، كما أطلق أيديهم على قتل من أراد كرامته بذلك من الأنبياء الذين قتلوهم بأنواع المُثُل، وكفَّ أيديهم عمَّا شاء إبقاءه من ذينك الكتابين حُجَّةً عليهم، كما كفَّ أيديهم اللهُ تعالى عمَّن أراد كرامته بالنَّصر من أنبيائه الذين حال بين الناس وبين أذاهم.

وقد أغرق الله قوم نوح عليه السلام وقوم فرعون نكالًا لهم، وأغرق آخرين شهادةً لهم، وأملى لقومٍ ليزدادوا إثمًا، وأملى لقومٍ آخرين ليزدادوا فضلًا، [ص 46] هذا ما لا ينكره أحد من أهل الأديان جملةً.

وكان ما ذكرنا زيادة في أعلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم الواضحة وبراهينه اللَّائحة، والحمد لله رب العالمين. فبطل اعتراضهم علينا باستشهادنا عليهم بما في كتبهم المحرَّفة من ذكر نبينا صلى الله عليه وآله وسلم.

وأمَّا استشهاد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالتوراة في أمر رجم الزاني المُحْصَن، وضرب ابن سلام رضي الله عنه يد ابن صوريا إذ جعلها

ص: 240

على آية الرَّجم= فحقٌّ، وهو ممَّا قلنا آنفًا أنَّ الله تعالى أبقاه خِزيًا لهم، وحُجَّةً عليهم، وإنَّما يحتج عليهم بهذا كلِّه بعد إثبات رسالته صلى الله عليه وآله وسلم بالبراهين الواضحة الباهرة، بالنقل القاطع للعذر، على ما قد بيَّنَّا ونبيِّن إن شاء الله تعالى.

ثم نورد ما أبقاه الله تعالى في كتبهم المحرَّفة [من] ذِكْرِه عليه السلام إخزاءً لهم وتَبْكِيتًا وفضيحة لضلالهم، لا لحاجةٍ منَّا إلى ذلك أصلًا، والحمد لله رب العالمين.

[وأمَّا] الخبر بأنَّ النبيَّ عليه السلام أخذ التوراة وقال: "آمنت بما فيك" فخبرٌ موضوعٌ، لم يأت قطُّ من طُرُقٍ فيها خير، [ولسنا نَسْتَحِلُّ] الكلام في الباطل لو صحَّ، فهو من التكلُّف الذي نُهِيْنَا عنه، كما لا يحلُّ توهين الحق ولا الاعتراض فيه.

وأمَّا قول الله عز وجل: {[يَاأَهْلَ] الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [المائدة: 68] = فحقٌّ لا مرية فيه، وهكذا نقول، ولا سبيل لهم [إلى إقامتها] أبدًا لرفع ما أسقطوا منها. فليسوا على شيءٍ إلَّا بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، فيكونون حينئذٍ مقيمين للتوراة والإنجيل، [كلهم يؤمنون] حينئذٍ بما أنزل الله منهما، وُجِد أو عدم، ويكذِّبون بما بُدِّل فيهما ممَّا لم ينزله الله تعالى فيهما، وهذه هي إقامتهما [حقًّا

(1)

]، فلاح [صِدْق] قولنا موافقًا لنصِّ الآية بلا تأويل، والحمد لله رب العالمين.

(1)

زيادة من "الفِصَل".

ص: 241

وأمَّا قوله تعالى: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران: 93] فنعم، إنَّما هو كذبٌ كذبوه ونسبوه إلى التوراة على جاري عادتهم، زائد على الكذب الذي وضعه أسلافهم في توراتهم، فبَكَّتَهم عليه السلام في ذلك الكذب المُحْدَث بإحضار التوراة إن كانوا صادقين، فظهر كذبهم.

وكم عَرَض لنا هذا مع علمائهم، في مناظراتنا لهم قبل أن نقف على نصوص التوراة، فالقوم لا مؤنة عليهم من الكذب حتى الآن، إذا طمعوا بالتخلُّص من مجلسهم لا يكون ذلك إلَّا بالكذب، وهذا خُلُق خسيس، وعارٌ لا يرضى به مصحح، ونعوذ بالله من مثل هذا.

وأمَّا قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ} [المائدة: 44] = فنعم، هذا حقٌّ على ظاهره كما هو، وقد قلنا إنَّ الله تعالى أنزل التوراة وحكم بها النبيُّون الذين أسلموا، كموسى وهارون وداود وسليمان ومن كان بينهم من الأنبياء عليهم السلام، ومن كان في أزمانهم من الرَّبَّانبين والأحبار، الذين لم يكونوا أنبياء، بل كانوا حُكَّامًا من قبل الأنبياء عليهم السلام، ومن كان في أزمانهم من الرَّبَّانيين والأحبار قبل حدوث التَّبديل. هذا نصُّ قولنا.

وليس في هذه الآية أنَّها لم تبدَّل بعد ذلك أصلًا، لا بنصٍّ ولا بدليل.

وأمَّا مَن ظنَّ لجهله من المسلمين أنَّ هذه الآية نزلت في رجم النبي صلى الله عليه وسلم لليهوديَّيْن اللَّذَين زَنَيَا وهما محصنان فقد ظنَّ الباطل، وقال بالكذب، وتأوَّل

ص: 242

المحال، وخالف القرآن؛ لأنَّ الله تعالى قد نهى نبيَّنا عليه السلام عن ذلك نصًّا، بقوله تعالى:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [المائدة: 48]، وقال تعالى:{وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [المائدة: 49].

قال أبو محمد رضي الله عنه: فهذا نصُّ كلام الله عز وجل، الذي ما خالفه فهو باطل.

وأمَّا قوله تعالى: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ} [المائدة: 47] فحَقٌّ على ظاهره؛ لأنَّ الله تعالى أنزل فيه الإيمان بمحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم واتِّباع دينه، ولا يكونون أبدًا حاكمين بما أنزل الله تعالى فيه إلَّا باتِّباعهم دين محمد صلى الله عليه وسلم؛ فإنَّما أمرهم الله تعالى بالحكم بما أنزل في الإنجيل الذي ينتمون إليه، فهم أهله.

ولم يأمرهم قطُّ تعالى بما يُسَمَّى إنجيلًا، وليس بإنجيل ولا أنزله الله تعالى كما هو قط، والآية موافقة لقولنا، وليس فيها أنَّ الإنجيل لم يبدَّل، لا بنصٍّ ولا بدليلٍ، إنَّما فيه إلزام النَّصارى الذين يَتَسَمّون بأهل الإنجيل أن يحكموا بما أنزل الله فيه، وهم على خلاف ذلك.

وأمَّا قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} [المائدة: 66] فحقٌّ كما ذكرناه قبلُ، ولا سبيل لهم إلى إقامة التوراة والإنجيل المنزَّلَين بعد تبديلهما إلَّا بالإيمان

ص: 243

بمحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، فيكونون حينئذٍ مقيمين للتوراة والإنجيل حقًّا؛ لإيمانهم بالمنزَّل فيهما، وجحدهم ما لم ينزَّل فيهما، وهذه هي إقامتهما حقًّا.

وأمَّا قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ} [النساء: 47] فنعم، هذا عمومٌ قام البرهان أنَّه مخصوصٌ، وأنَّه تعالى إنَّما أراد مصدِّقًا لما معكم من الحقِّ، لا يمكن غير هذا؛ لأنَّنا بالضَّرورة ندري أنَّ معهم حقًّا وباطلًا، ولا يجوز تصديق الباطل ألبتَّة، فصحَّ أنَّه إنَّما أنزله تعالى مصدِّقًا لما معهم من الحق، وقد قلنا إنَّ الله تعالى أبقى في التوراة والإنجيل حقًّا؛ ليكون حُجَّةً عليهم وزائدًا في خزيهم. وبالله تعالى التوفيق. فبطل تعلُّقهم بشيءٍ ممَّا ذكرنا، والحمد لله رب العالمين"

(1)

.

[ص 37] الحمد لله، [نُسَخ] التوراة:

أولًا للسامرة توراة، ولسائر اليهود توراة، [وكلتا] الطائفتين تزعم أنَّ توراتها الصادقة، والأخرى مبدَّلة. ثم توراة اليهود نسختان، نسخة عزرا، ونسخة السبعين شيخًا، وهما متناقضتان، واليهود يؤمنون بكلتيهما!

يقول عن الله تعالى: اصنع بناء آدم كصورتنا يشبهنا! ولمَّا أكل آدم من الشجرة قال الله: هذا آدم قد صار كواحد منَّا في معرفة الخير والشر!

[ويقول عن المسيح عليه السلام مرَّة إنَّه] إله، ومرَّةً هو الله، ومرَّةً ابن الله، ومرَّةً هو وأصحابه أبناء الله، وتارةً أرواح الله، ومرَّةً ابن يوسف النجَّار، وابن داود، وابن الإنسان!

(1)

"الفِصَل"(1/ 313 - 317).

ص: 244

ومرَّةً [يقول: ] أنا رجلٌ أدَّيت إليكم الحقَّ الذي سمعته من الله، ومرَّةً إلهٌ يخلق ويرزق، خروف الله، له آيات، يقول الأكثرون: آية إلَّا آية [

]، في الله والله فيه، هو في تلاميذه وهم فيه، هو عِلم الله وقدرته، مرَّةً هو كلمة الله، "في البدء كانت الكلمة، والكلمة كانت عند الله، والله كان الكلمة، بها خُلِقت الأشياء، ومن دونها لم يخلق شيءٌ، فالذي خلق فهو حياة فيها".

أولئك المؤمنون به الذين لم يتوالدوا من دمٍ ولا من شهوة اللَّحم، ولاباه رجل، لكن توالدوا من الله، فالتحمت الكلمة، والكلمة كانت بشرًا وسكنت فيهم فرأوا عظمتها كعظمة ولد الله.

ومرَّةً هو روح القدس، ومرَّة هو محشيٌّ من روح القدس، لا يحكم على أحد، ولا تنفذ إرادته، نبي وغلام الله، [

]، أسلمه الله إلى أعدائه، انعزل الله له عن الملك، وتولَّاه هو، وصار يشرف الله تعالى، ويعطي مفاتيح السموات لباطرة، وهو مخالف معارض جاهل بمرضاة الله، ويولِّي أصحابه، أو باطرة وحده خطَّة التَّحريم والتَّحليل في السموات والأرض.

يقول: أنا أُميت نفسي وأنا أحييها، يجوع ويطلب ما يأكل، ويعطش ويشرب، ويعرق من الخوف، ويلعن الشجرة إذا لم يجد فيها تينًا يأكله، ويفشل فيركب حماره، ويؤخذ فيُلْطَم وجهُه، ويُضرَب رأسُه بالقَصَبَة، ويُبْزَق في وجهه، ويُضرَب ظهرُه بالسِّياط، ويُمِيتُه الشُّرَط ويتهكَّمون به، ويُسقَى الخلَّ في الحنظل، ويُصلَب بين سارِقَين، وتسمَّر يداه، ومات في الساعة ثم أحيا نفسه بعد الموت، ولم يكن له همٌّ بعد أن حيِيَ إلَّا طلب ما يأكله، فأطعموه الخبز والحوت المشوي، وسقوه العسل، ثم انطلق إلى شغله

(1)

.

(1)

كل ما تقدَّم بنحوه في "الفِصَل" لابن حزم (2/ 200).

ص: 245

وقالوا في يحيى مرَّةً: إنَّه منتهى النبوَّات، ومرَّةً إنَّه فوق النَّبي، ومرَّةً إنَّه نبيٌّ، ومرَّةً آخر الأنبياء، ومرَّةً أنَّه بُعِث بعده أنبياء، ومرَّةً محشيٌّ من روح القدس في بطن أمِّه، وكذلك أمُّه أيضًا، ومرَّة ليس بنبيٍّ، ولم يولد في الآدميين أشرف منه، ولكن من كان صغيرًا في ملكوت السماء فهو أكبر منه، ومرَّةً لا يأكل ولا يشرب، ومرَّةً طعامه الجراد والعسل

(1)

!

قال أبو محمد بن حزم: "إن قالوا: قال الله عز وجل في كتابكم حكايةً عن المسيح عليه السلام أنَّه قال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} [الصف: 14]، وقال تعالى أيضًا مخاطبًا للمسيح عليه السلام:{إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 55].

قلنا: نعم، هذا خبر حق ووعد صدق، وإنَّما أخبر تعالى عن المؤمنين ولم يسمِّهم. ولا شكَّ في أنَّ من ثبت عليه الكذب من "باطرة" و"يوحنا" و"متَّى" و"يهوذا" و"يعقوب" ليسوا منهم، لكنَّهم من الكفار المدَّعين له الربوبية كذبًا وكفرًا.

وأمَّا الموعودون بالنصر إلى يوم القيامة، المؤمنون بالمسيح عليه السلام فهم نحن المسلمون، المؤمنون به حقًّا، وبنبوَّته ورسالته، لا من كفر

(1)

بنحوه في "الفِصَل" لابن حزم (2/ 69 - 73).

ص: 246

به، وقال: إنَّه كذَّاب، وقال: إنَّه إلهٌ وابن إلهٍ، تعالى الله عن ذلك"

(1)

.

أقول: وقضيَّة التَّحريف والتبديل في التَّوراة والإنجيل كالشمس رابعةَ النهار. ومن أراد علم اليقين فيها فعليه بمراجعة "الملل والنِّحَل"، ومراجعة "إظهار الحق" لرحمة الله الهندي؛ فإنَّه رحمه الله فَحَص القضيَّة فحصًا تامًّا، حتى تحصَّل على كثيرٍ من الكتب المؤلَّفات على كتب العهدين، ونقل عن أساطين علمائهم الاعتراف بالتحريف والتبديل المجْحِف في تلك الكتب.

وذكر بعضهم أنّ هذه الأناجيل ليست للنَّفر الذين تنسب إليهم، وإنَّما هي لرجلٍ متأخر عنهم، لا يُعرَف اسمه، جمعها وخشي أن لا يصدَّق فنسبها إلى أولئك النَّفر، [وحذف] اسمه.

أقول: فرقٌ [ ...... ] صحب الحواريين، على غربتهم وتشتُّتهم واستخفائهم، مظهرًا لهم التنصُّر، فلمَّا قتلوا وذهبوا وضع هذه الأناجيل [ ..... ] إلى الحواريين، وهذا أقرب إلى العقل؛ لأنَّ المسيح رفع ولم يكتب الإنجيل، باعتراف النصارى [

] بأيديهم إنجيل منزَّلٌ، والواقع كذلك ولو ادّعوا [خلافه] افتُضحوا؛ لأنَّ دلالة هذه الأناجيل واضحة أنَّها مجرَّد تواريخ.

[ثم] تبعه الحواريون، مع خوفهم واستخفائهم، فلم يؤلِّفوا شيئًا حتى جاء ذلك اليهودي فزوَّر عليهم كتبًا أخذها تبَعُهُم وتصرَّفوا فيها تصرُّف اليهود في التوراة

(2)

.

(1)

"الفِصَل"(1/ 208 - 209).

(2)

هنا ينتهي ما وُجِدَ من هذه الرسالة.

ص: 247