الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(مختصر في الرد على النصارى)
الزبد المليح
من كتاب الجواب الصحيح
لمن بدل دين المسيح
لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله
اختصره ونسقه
عبد الإله بن عبد الله بن علي جابر
1445 هـ
مقدمة
الحمد لله والصلاة والسلام على جميع رسل الله وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم أما بعد:
فإن الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والخلوص من الشرك؛ هو دين الأنبياء جميعاً، وجاءت شريعة خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم مؤكدة لتوحيد الله ومتممة وناسخة لشرائع من قبله من الأنبياء، وقد قال صلى الله عليه وسلم:(أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، في الأُولَى وَالآخِرَةِ) قالوا: كيفَ؟ يا رَسُولَ اللهِ، قالَ:(الأنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ مِنْ عَلَّاتٍ، وَأُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى، وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ، فليسَ بيْنَنَا نَبِيٌّ). [رواه مسلم 2365]. وقد أُنزل الإنجيلُ على المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام لثلاث عشرة ليلة مضت من رمضان، مصدقاً ومتمماً لما في التوراة وناسخاً لبعض شرائعها، وجاء المسيح بالبشارة برسول الله محمد صلى الله عليه وسلم كما قال الله تعالى في القرآن:{وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف: 6]. قال ابن عبَّاس رضي الله عنهما: "ما بعَثَ اللهُ نبيًّا إلَّا أخَذَ عليه الميثاقَ: لَئِنْ بُعِثَ محمَّدٌ، وهو حَيٌّ؛ لَيُومِنَنَّ بِهِ وَلَيَنْصُرَنَّهُ، وأمَرَهُ أنْ يأخُذَ على أُمَّتِهِ المِيثَاقَ: لَئِنْ بُعِثَ محمَّدٌ، وهم أحياءٌ؛ لَيُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَيَنْصُرُنَّهُ"
(1)
، كما قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ
(1)
روي بمعناه عن علي ابن أبي طالب وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهم، انظر جامع البيان لابن جرير الطبري 3/ 332، تفسير البغوي على حاشية تفسير الخازن 1/ 314، تفسير القرآن العظيم لابن كثير 2/ 65، الدر المنثور للسيوطي 2/ 252 - 253. وعزاه الحافظ في "فتح الباري" (6/ 434) للبخاري.
النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ} [آل عمران: 81]. وجاء في الإنجيل صفة محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه كما أخبر الله في القرآن بقوله تعالى: {وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح: 29]. وقال صلى الله عليه وسلم: (والذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بيَدِهِ، لا يَسْمَعُ بي أحَدٌ مِنْ هذِه الأُمَّةِ يَهُودِيٌّ، ولا نَصْرانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ ولَمْ يُؤْمِنْ بالَّذِي أُرْسِلْتُ به، إلَّا كانَ مِنْ أصْحابِ النَّارِ). [رواه مسلم 153]. فلا يقبل الله ديناً بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم إلا الإسلام.
وما عليه النصارى اليوم هو دين منسوخ مبدل، اشتمل على معتقدات فاسدة، بعد أنْ بدّل كبراء النصارى شريعة المسيح عليه السلام وحرفوا الإنجيل ووضعوا شرائع محدثة مبتدعة ليست من هدي المسيح عليه السلام، ولا غيره من الأنبياء، وليست من الإنجيل الذي أنزله الله، ولا نقلها الحواريون. مع أنه كان من النصارى طائفة باقية على شريعة المسيح كالآريوسيين متمسكين بالتوحيد وإنجيل المسيح دون غيره من الكتب المسماة بالأناجيل، حتى بعث الله محمداً بشريعة الإسلام الناسخة، وبالقرآن الناسخ لما قبله من الكتب، فآمن به من آمن من اليهود والنصارى ومن علمائهم وأحبارهم، واستكبر من استكبر منهم؛ فكفروا به فكانوا من الضالين الذين لا يقبل الله منهم ديناً غير الإسلام والتصديق بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من القرآن والسنة.
نبذة موجزة عن تاريخ النصرانية
ومن المهم في هذه المقدمة معرفة أصل موقف اليهود النصارى
(1)
من المسيح وشريعته، وأوجز هنا كلاماً لبعض المؤرخين عن ذلك -وأغلبه من كلام الإمام ابن كثير رحمه الله حيث ذكروا: أنَّ اليهود كذّبوا المسيح عليه السلام، ورفضوا أن ينسخ شيئاً من أحكام التوراة، وكانوا يزعمون أن المسيح ساحر كذاب، بل يقولون: إنه ولد غَيّة (زنا)، وقالوا على أمه بهتاناً عظيماً، وحرّضوا عليه وسعوا في قتله، وقالوا: إن النصارى ليسوا على شيء من الدين الصحيح. واستمر المسيح عليه السلام في دعوته مراغماً لليهود الذين أرادوا قتله، جرياً على عادتهم في قتل الأنبياء. واستعانت اليهود -قبحهم الله -على معاداة عيسى عليه السلام، بملوك اليونان، ووَشَوا عندهم، وأوحَوا إليهم أن هذا يفسد عليكم الرعايا، فبعثوا من يقبض عليه. ولَمَّا أراد اليهود قتل المسيح عِيسَى بن مريم عليه السلام وأراد الله أن يرفعه إلى السماء، خرج المسيح إلى أصحابه - وهم اثنا عشر رجلاً - من عينٍ في البيت، ورأسه يقطُر ماءً، فقال لهم: أما إنّ منكم من سيكفر بي اثنتي عشرة مرةً بعد أن آمن بي، ثم قال: أيّكم سيُلقَى عليه شَبَهي فيُقتل مكاني، ويكون معي في درجتي؟، فقام شاب من أحدثهم سناً، فقال: أنا، فقال عيسى: اجلس، ثم أعاد عليهم، فقام الشاب فقال: أنا، فقال: نعم،
(1)
مما يذكره بعض المؤرخين أن النصارى نسبوا للناصرة، لأن عيسى من قرية الناصرة، واليوم يغضبون من وصفهم بالنصارى، ويريدون أن يوصفوا بالمسيحيين. في حين أن اليهود يصفون النصارى ب (Nazorean) يعني النصارى، والنصارى لا يعترضون عليهم. وتسمية النصارى ب (المسيحيين) هي في أصلها مسبة للنصارى، حيث إن أهل أنطاكية أعداء النصارى كان يشتمون النصارى بأنهم (مسيحيين) أي: عبّاد المسيح.
أنت ذاك. فأُلقي عليه شَبَهُ عيسى، ورفع عيسى عليه السلام من رَوْزَنَةٍ (نافذة في السقف) كانت في البيت إلى السماء. وسيعود عليه السلام وينزل من السماء قبيل قيام الساعة حاكماً بالإسلام.
وبعد رفع عيسى عليه السلام إلى السماء جاء الطلب من اليهود، فأخذوا الشبيه فقتلوه، ثم صلبوه، ثم زعم اليهود أنهم قتلوا عيسى وصلبوه وقالوا:{إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} ، وحقيقة الأمر أنهم كما قال الله تعالى:{وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا 157 بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا 158} [النساء: 157 - 158].
ثم كان الخراب الثاني لبيت المقدس، فبعث الله إليهم ملكا من ملوك بابل يقال له: خردوس، فسار إليهم بأهل بابل وظهر عليهم بالشأم، وقد قيل: هذا تأويل قوله: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [المائدة: 78]. وبعد الخراب الثاني تفرقوا في الأرض، ومن حينئذ زال ملكهم وقطعهم الله في الأرض أمماً، وكانوا تحت حكم الروم والفرس ولم يبق لهم ملك.
وجاء بولس (شاؤول اليهودي)
(1)
وهو أول من حرف الديانة النصرانية، ولم يكن من تلاميذ المسيح، ولم تثبت له رؤية المسيح عليه
(1)
كان بولس من اليهود الفريسيين، وهم: مجموعة يهودية تقول بأن الإله أوحى شريعة مكتوبة وأخرى شفهية لموسى عليه السلام. ويخالفهم اليهود الصدوقيين وهم: مجموعة يهودية ترفض وجود الشريعة الشفوية، وتنسب إلى الكاهن صدّوق. وهناك أيضاً اليهود السامريون. وقد كتب بولس رسائله قبل كتابة الأناجيل الأربعة، والأناجيل الأربعة استوحت دينهاالمحرف من رسائل بولس، لكن محرري العهد الجديد دلسوا على الناس، فجعلوا الأناجيل الأربعة في الترتيب قبل رسائل بولس، لإيهام أتباعهم من النصارى أن بولس استوحى رسائله من الأناجيل وليس العكس؛ فبولس هو صانع النصرانية اليوم. ويقول بولس: إذا كان كذبي من أجل تمجيد الرب، فلماذا أسمى خطّاءً؟! ويقول:"ليس هناك شيء طيب فيّ، ما لا أريد أن أفعله أفعله". ومرة يقول: "أنا مع اليهود يهودي، ومع الوثنيين وثني، ومع من هم تحت الشريعة، ومع من هم فوق الشريعة وخارج القانون". ومع ذلك جعلوه القديس المبجل سانت بول St Paul وهو الذي غير اسمه من (شاؤول) إلى (بولس) ليخفي تاريخ قتله للنصارى، وادعى أن المسيح جعل نفسه لعنة ليحرر الناس من لعنة الناموس (شريعة التوراة) فكان بولس يحرض على ترك التوراة. ومن العجيب أن النصارى ورد لديهم في النبوءات في إنجيلهم:"من قال كلمة على الشريعة أو حث الناس على تركها، سوف يجعل الأصغر في هذه الدنيا". ومعنى كلمة باولوس في اللغة اليونانية القديمة: الأصغر. فأوقع شاؤول نفسه في ذلك بتغيير اسمه إلى بولس وهو لا يدري؛ لجهله وكذبه. وقد أراد الحواريان بطرس (بيتر) وجيمس (ابن يوسف النجار) قتله، لكنه هرب منهما إلى اليونان، وبشر بدينه في اليونان وقال: أنا للأغيار.
السلام في حياته، وكان بولس عارفاً بالفلسفة الإغريقية ومدرسة الإسكندرية
(1)
متأثراً بالفلسفة الأفلاطونية والرواقية التي تنبذ المادة والجسم وتعتبرهما شرّاً وخبثاً، وبالطقوس الوثنية في التضحية الفدائية للتكفير عن خطايا الناس، حسب عقيدة بلاد اليونان التي تؤمن بالآلهة التي ماتت لتفتدي بموتها بني الإنسان.
وكان بولس من أشدّ الناس اضطهاداً وتعذيباً لأتباع المسيح عليه السلام، ثم تظاهر بالنصرانية وادعى أنه التقى مع المسيح وأن المسيح ظهر له فجأة في الطريق، وتحول بولس من عدو لأتباع المسيح إلى مغيّر لرسالة المسيح، واختلق عقيدة التثليث للنصارى، ودعا إلى تأليه المسيح وأنه ابن الله، وزعم أن المسيح صلب تكفيراً عن خطيئة آدم وفداء عن البشرية وإثمها الذي تحملته بعد ذلك، لكي يجد مبرراً لصلب المسيح حسب ما
(1)
كانت الإسكندرية المركز الإشعاعي للفكر اليوناني، ونسبت لليونان لأنهم احتلوا الاسكندرية وقضوا على الفراعنة.
توهمه، وكتب كتاباً يحوي أربع عشرة رسالة ادعى أتباعه أنه كتبها بالإلهام، وهي التي تشكلت منها الديانة النصرانية المحرفة، ونَسَخَ الختان، واستبدل السبت بالأحد، إلى غير ذلك من تحريفاته، كما زعم بولس أن المسيح سيحاسب الناس يوم القيامة.
وعقيدة التثليث التي ابتدعها بولس لم يأت بها نبي من الأنبياء، ولا نزلت في كتاب من الكتب السماوية، ولم ترد في التوراة، وعلماء اليهود من عهد موسى عليه السلام إلى هذا الزمان لا يعترفون بعقيدة التثليث، ولا يرضون بنسبتها إلى كتبهم.
وأدت انحرافات بولس إلى افتراق برنابا الحواري عنه في رحلاته، وكتابته لإنجيل برنابا
(1)
الذي صرح فيه بتوحيد الله تعالى وبالبشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم وقال ببشرية عيسى عليه السلام وأنكر صلبه، وذكر أنه ألقي الشبه على يهوذا الإسخريوطي؛ كما ذكر أن الذبيح هو إسماعيل وليس إسحاق.
(1)
أقدم خبر عن إنجيل برنابا كان قريباً من عام 492 م، حين أصدر البابا جلاسيوس الأول أمراً يحرم فيه مطالعة عدد من الكتب، كان منها كتاب يسمى إنجيل برنابا، وهذا كان قبل مبعث النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ثم لم يظهر له خبر بعد ذلك إلا في أواخر القرن السادس عشر الميلادي؛ حيث عثر الراهب اللاتيني فرامرينو على رسائل لإريانوس يندد فيها ببولس، وأسند إريانوس تنديده هذا إلى إنجيل برنابا، فحرص هذا الراهب على الاطِّلاع على هذا الإنجيل وبحث عنه إلى أن وجده في مكتبة البابا سكتس الخامس، وطالعه بشغف شديد ثم أسلم. كما عثر كريمر أحد مستشاري ملك بروسيا على نسخة لإنجيل برنابا باللغة الايطالية عند أحد وجهاء مدينة أمستردام، وأهداها كريمر إلى الأمير إيوجين سافوي ثم انتقلت إلى مكتبة البلاط الملكي في فيينا، حيث هي موجودة الآن، وقد ترجمت إلى الإنجليزية وغيرها.
وكان الإنجيل كتاباً موجوداً ومعروفاً لدى النصارى الأوائل
(1)
بأنه (إنجيل الله) أو (إنجيل المسيح)، وقد ذكره بولس في رسائله، لكن النصارى لا يعرفون شيئاً عن مصير ذلك الإنجيل، ولا أين ذهب، وقد صار عند النصارى -بدل ذلك الإنجيل الواحد- أناجيل كثيرة مختلفة ومتناقضة، أشهرها أربعة أناجيل من طريق مرقس ولوقا ومتى ويوحنا، وليس لها سند متصل، وهي أشد اختلافاً وتحريفاً وأكثر زيادةً ونقصاً وأفحش تفاوتاً من التوراة المحرفة.
وأصبح لدى اليهود التوراة التي لم تسلم من التحريف والتبديل والتي يؤمن بها اليهود والنصارى وتتكون من الأسفار الخمسة المنسوبة لموسى، وأضافوا معها الأسفار التاريخية المنسوبة لعدد من الأنبياء، وأسفار الشعر والحكمة وتنسب في غالبها إلى داود وسليمان، ومن المزامير ما ينسب إلى آخرين مجهولين، والأسفار النبوية وتتكون من سبع عشرة سفراً، وأسفار الأبوكريفا السبعة وبعض الكنائس المسيحية تزيد أسفاراً أخرى.
ولدى النصارى مجموعة الأناجيل الأربعة والرسائل الملحقة بها، وتنسب إلى ثمانية من المحررين ينتمون إلى الجيل الأول والثاني من
(1)
النصرانية الحقيقية التي كانت في القرون الأولى بعد ميلاد المسيح انقرضت، وأصحابها هم (الأريسيون) وقد يسمّون الأبونايت أو الأبنويين، وهم موحدون. وعاد ذكرهم مؤخراً في ضجة إعلامية من خلال لفائف مخطوطات البحر الميت التي عثر عليها سنة 1947 م، ووضعت في دير الكاثوليك ونسخة منها لبعثة CIA في دمشق، ودرسوا تاريخها بإشعاع الجلد (كاربون 14) Radiocarbon dating حيث وجدوا أن عمرها من القرن الأول، ومكتوبة بحروف عبرية، وهي أقدم مخطوطاتهم. فلما بدؤوا ترجمتها؛ أخفوا هذه المخطوطات؛ لأنهم وجدوها من أتباع المسيح الموحدين الذين هربوا من القتل في القدس ولجؤوا إلى قرية قُمران على شاطئ البحر الميت، ووجدوا فيها أن الموحدين يقولون إن المسيح نبي، وأنه معلِّم، وأنه لم يصلب، وأنه قال:"لدي أشياء لا تحتملوها لكن عندما يأتي محمد سيعطيكم كل ما تحتاجونه إلى آخر يوم في حياتكم".
النصرانية، وهم متى ومرقس ولوقا ويوحنا أصحاب الأناجيل، ثم بولس صاحب الأربع عشرة رسالة، ثم بطرس ويعقوب ويهوذا، تلاميذ المسيح الذين تنسب إليهم القليل من الرسائل.
وقد أخبر الله جل وعلا عن تحريف اليهود والنصارى للتوراة والإنجيل، وجاء في القرآن الكريم قول الله تعالى:{وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ 78} [آل عمران: 78]، وقوله جل وعلا:{فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ 79} [البقرة: 79]، وقال الله تعالى:{مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [النساء: 46]، ودل على تحريف كتبهم التي بين أيديهم: انقطاع سندها، والتناقض الواضح بين نصوصها، واختلاف نُسخها وعدد أسفارها، وشهادة بعض علماء اليهود والنصارى على وقوع التحريف في كتبهم؛ وخاصة من رجع منهم إلى الحق واتبع شريعة محمد صلى الله عليه وسلم.
ثم إن النصارى -بعد فتنة بولس وتحريفه لدين المسيح عليه السلام تفرقوا واختلفوا ثلاث فرق، فقالت فرقة: كان فينا الله ما شاء، ثم صعد إلى السماء، وهؤلاء اليعقوبية أصحاب يعقوب البرادعي (الأرثدوكس)، وقالت فرقة: كان فينا ابن الله ما شاء، ثم رفعه الله إليه، وهؤلاء النَسطُورية أصحاب نَسْطُورَس (الكاثوليك)، وقالت فرقة: كان فينا عبد الله ورسوله ما شاء الله، ثم رفعه الله إليه،
وهؤلاء هم المسلمون المتبعون للمسيح عليه السلام، ومنهم الأريوسيّة أصحاب عبد الله بن أَرْيُوس.
فأما النسطورية والعقوبية وما تفرع عنهم من فرق كافرة؛ فكل فرقة من هؤلاء تكفر الأخرى وتعتقد تخليدهم في نار جهنم ولا ترى مجامعتهم في المعابد والكنائس، وكلهم يقول بالتثليث، ولكن بينهم اختلاف في الحلول والاتحاد فيما بين اللاهوت والناسوت هل تدرعه؟ أو حل فيه؟ أو اتحد به؟، واختلافهم في ذلك شديد وكفرهم بسببه غليظ
(1)
.
وبعد رفع المسيح عليه السلام بثلاثمائة سنة اختلف البتاركة الأربعة وجميع الأساقفة والقساوسة والشمامسة والرهابين في المسيح على أقوال متعددة لا تنحصر ولا تنضبط واجتمعوا وتحاكموا إلى الملك قسطنطين -باني القسطنطينة- فلجؤوا للتصويت وقرروا عقيدة التثليث في مجمع نيقية سنة 325 م
(2)
، وصار الملك إلى قول أكثر فرقة اتفقت على
(1)
في القرن الثاني الميلادي حصل انقسام بين النصارى في المرجعية؛ فصار هناك مرجعان: مرجع في القسطنطينية للأرثدوكس، ومرجع في الفاتيكان للكاثوليك. أما الكاثوليك في روما فقد تأثروا بالفلسفات الإغريقية التي لديها أن زيوس هو «أب الآلهة والبشر» . يتزوج إنسيات وينجب منهن نصف إله ونصف بشر. وأما الأرثدوكس فيقولون إنه إله دائم، ويصفونه أنه عطشان، جائع، خائف، هارب، أخطأ، وقُتل. ثم إن الأرثدوكس في بيزنطة انشقوا عن الكاثوليك بعد مجمع خلقدونيا (من المجامع المسكونية 451 م) بسبب الإتاوات المالية ونهبها من الناس. وفي إنجلترا لما أراد هنري الثامن أن يطلق زوجته (آن) ورفض البابا، فانشق عن الكنيسة وأنشأ الكنيسة الإنجليكانية.
(2)
مجمع نيقية أول مجمع للكنيسة العالمية، و (نيقية) قريبة من إزمير بتركيا، وكانت المركز الصيفي للإمبراطور البيزنطي. ومما يروى في قصة مجمع نيقية أنه كان في القرن الرابع الميلادي اثنان من أكبر بطارقة النصارى؛ الأول: آريوس وهو مطران ليبيا، وكان يقول: إن عيسى إنسان ونبي. والثاني: أثناسيوس، كان مقرباً من الرومان ويلتمس ود الإمبراطور الروماني، وفي الديانة الرومانية عقيدة الثالثوث، وابن الإله، فقال: إن عيسى ابن الله. وقامت صراعات بين أتباعهما في عهد قسطنطين الوثني، الذي جمع القساوسة، في نيقية، وقال لهم: كل واحد يحضر إنجيله، ولكي نعرف الحق منها؛ ضعوها تحت الطاولة، ونسأل الرب أن يرينا الحق غداً، فوُضعت الأناجيل الكثيرة تحت الطاولة، ومنها: أناجيل متى ومرقص ولوقا، وهذه الثلاثة تسمى (كانونيكال canonical) وتشبه بعضها؛ لأنهم كان ينقلون من بعضهم البعض. ووضع أيضاً منها إنجيل يوحنا، هو الوحيد الذي كتبها بعدهم بحوالي خمسين سنة وكان أكثر تطرفاً. وفي الليل استدعى قسطنطين البطريق أثناسيوس وطلب منه أن يختار الأناجيل التي يريدها؛ فاختار الأناجيل الأربعة من بين جميع النسخ، ووضعها على الطاولة. وفي اليوم التالي أعلن الملك أن الرب اختار لهم هذه الأناجيل وأن عليهم أن يتبعوها ويحرقوا ما خالفها.
قول من تلك المقالات، فسُمّوا: الملائكة، وسموا أيضاً: الملكية نسبة إلى الملك، فنصرهم وبنى لهم آلاف الكنائس ذات التصاوير والتماثيل ودحض من عداهم.
وخالف أغلب النصارى أحكام التوراة والإنجيل في أشياء كثيرة شرعوها لأنفسهم، فمن ذلك صلاتهم إلى الشرق وليست منصوصاً عليها ولا مأموراً بها في شيء من الأناجيل الأربعة، وعمدوا في بناء كنائسهم إلى ما كان من بناء اليونان وحولوا محاريبها إلى الشرق لأنها مطلع الكواكب النيرة وقد كانت تلك الأبنية إلى الشمال إلى الجدي، وصلوا إلى الشرق ولم يكن المسيح صلى إلا إلى صخرة بيت المقدس، وهكذا تصويرهم الصور والأصنام في كنائسهم ولم تكن مصورة قبل ذلك، وتركهم الختان، ونقلهم صيامهم إلى زمن الربيع، وزيادته إلى خمسين يوماً، وأحلوا أشياء هي حرام بنص التوراة ومن ذلك أكل الخنزير، ووضعهم عقيدة التثليث المتناقضة التي يحفظها أطفالهم ونساؤهم ورجالهم التي يسمّونها ب (الأمانة)
(1)
(1)
يعني عقيدة (الأمانة) التي فيها التثليث والحلول والاتحاد وغيره مما قرره كبراؤهم مع الملك قسطنطين في مجمع نيقية سنة 325 م، وسيأتي ذكرها في فصل (عقيدة الأمانة الموضوعة في مجمع نيقية 325 م).
ويختلفون في تفسيرها وهي في الحقيقة أكبر الكفر والخيانة، وابتدعوا (الرهبانية) وهي ترك التزويج لمن أراد التعبد وتحريمه عليه، وكتبوا القوانين التي وضعتها لهم الأساقفة الثلاثمائة والثمانية عشر، فكل هذه الأشياء ابتدعوها ووضعوها في أيام قسطنطين بن قُسطن باني القسطنطينية باتفاق معه، فاتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله؛ يحرمون لهم ما أحل الله، ويحلون لهم ما حرم الله؛ فيتبعونهم.
ثم تظاهرت الفرق الكافرة (الملكية والنسطورية واليعقوبية) على المسلمة (الأريوسية)، فقاتلوها وحرضوا عليها الملك. وكان في الأريوسيين النصارى مؤمنون موحدون يقرءون التوراة، فقيل للملك قسطنطين: ما نجد شتماً أشد من شتم هؤلاء، إنهم يقرءون:{ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} وهؤلاء الآيات يعيبون بها أعمالنا في قراءتهم، فادعهم فليقرؤوا كما نقرأ، وليؤمنوا كما آمنا، فدعاهم فجمعهم، وعرض عليهم القتل، أو يتركوا قراءة التوراة والإنجيل إلا ما بدلوا منها، فقالوا: ما تريدون إلى ذلك؟، دعونا. فقالت طائفة منهم: ابنوا لنا أسطوانة، ثم ارفعونا إليها، ثم أعطونا شيئاً نرفع به طعامنا وشرابنا، فلا نرد عليكم. وقالت طائفة منهم: دعونا نسيح في الأرض ونهيم، ونشرب كما يشرب الوحش، فإن قدرتم علينا في أرضكم فاقتلونا. وقالت طائفة: منهم ابنوا لنا دوراً في الفَيافي ونحتفر الآبار، ونحترث البقول، فلا نرد عليكم ولا نمرّ بكم، -وليس أحد من القبائل إلا وله حميم فيهم- ففعلوا ذلك، وتفرق أصحابها فسكنوا البراري والبوادي وبنوا الصوامع والديارات والقلايات وقنعوا بالعيش الزهيد، وقد قال الله فيهم:{وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد: 27] والآخِرون قالوا: نتعبد كما تعبد فلان، ونسيح كما ساح
فلان، ونتخذ دورا كما اتخذ فلان، وهم على شركهم، لا علم لهم بإيمان الذين اقتدوا به. فلم يزل الإسلام طامسا حتى بعث الله النبي محمد صلى الله عليه وسلم ولم يبق منهم إلا قليل؛ انحط رجل من صومعته، وجاء سائح من سياحته، وصاحب الدير من ديره، فآمنوا به وصدقوه، فأنزل الله عليه:{فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ} يعني: الطائفة التي آمنت في زمن عيسى {وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ} يعني: الطائفة التي كفرت في زمن عيسى، {فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا} وهم الموحدون من النصارى {عَلَى عَدُوِّهِمْ} بإظهار محمد صلى الله عليه وسلم بدين التوحيد على دين المشركين من أهل الكتاب وغيرهم {فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} [الصف: 14].
نبذة عن كتاب (الجواب الصحيح)
وقد ألّفَ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كتابه: "الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح" وهو من أنفس الكتب التي وضحت فساد معتقد النصارى وتحريفاتهم، وكان كتاباً واسعاً مليئاً بالبيان والردود والأدلة والحجج والبراهين والمناقشات والفرائد والفوائد؛ إلا أنه تشعب في أمور كثيرة لغزارة علم مؤلفه، وكثر فيه التكرار مع الزيادات في مواضيع عديدة؛ وذلك أن سبب تأليف كتابه هو الرد على كتاب راهب نصراني حوى دعاوى باطلة حول الإسلام والنصرانية؛ فكتب شيخ الإسلام ابن تيمية رده الواسع المفصل على كل دعوى من هذه الدعاوى في ذلك الكتاب، وهو ما استدعى الكثير من التكرار لتعلق البيان في كل دعوى بتوضيح أمور متعلقة بغيرها، ويكون في التكرار غالباً زيادة مفيدة، لكنها ضخمت الكتاب، وكثرت فيه الاستطرادات في مواضيع كثيرة توسعت عن صلب الموضوع، مما يدلل على غزارة علم شيخ
الإسلام ابن تيمية حتى كأنه يغرف من بحر، وقد لا يمنعه من الاستطراد والتوسع والبيان والتفصيل إلا نفاد المداد والورق. فرحمه الله وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيراً.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في سبب تأليف كتابه: "وكان من أسباب نصر الدين وظهوره؛ أن كتاباً ورد من قبرص فيه الاحتجاج لدين النصارى بما يحتج به علماء دينهم، وفضلاء ملتهم قديماً وحديثاً، من الحجج السمعية والعقلية، فاقتضى ذلك أن نذكر من الجواب ما يحصل به فصل الخطاب، وبيان الخطأ من الصواب؛ لينتفع بذلك أولو الألباب، ويظهر ما بعث الله به رسله من الميزان والكتاب
…
وما ذكروه في هذا الكتاب هو عمدتهم التي يعتمد عليها علماؤهم في مثل هذا الزمان، وقبل هذا الزمان، وإن كان قد يزيد بعضهم على بعض بحسب الأحوال. فإن هذه الرسالة وجدناهم يعتمدون عليها قبل ذلك، ويتناقلها علماؤهم بينهم والنسخ بها موجودة قديمة، وهي مضافة إلى بولس الراهب أسقف صيدا الأنطاكي، كتبها إلى بعض أصدقائه، وله مصنفات في نصر النصرانية. وذكر أنه سافر إلى بلاد الروم والقسطنطينية، وبلاد الملافطة، وبعض أعمال الإفرنج ورومية، واجتمع بأجلاء أهل تلك الناحية، وفاوض أفاضلهم وعلماءهم، وقد عظم هذه الرسالة وسماها (الكتاب المنطيقي الدولة خاني المبرهن عن الاعتقاد الصحيح والرأي المستقيم) "، انتهى كلامه.
فأصل الكتاب كان مصنفاً للرد المتسلسل على ما ورد في كتاب الراهب النصراني، وكانت الموضوعات تتبع ذلك الأسلوب بذكر الشبهة أو الدعوى وردها والاستطراد فيها، ثم يتكرر ذلك مع تكرر ما له علاقة بها حسبما يرِد في
كتاب النصراني، حيث قال شيخ الإسلام في مقدمة كتابه:"وأنا أذكر ما ذكروه بألفاظهم بأعيانها فصلاً فصلاً، وأتبع كل فصل بما يناسبه من الجواب فرعاً وأصلًا، وعقداً وحلًا".
سبب اختصار كتاب (الجواب الصحيح)
ولما استصعب على كثير من الناس بل وطلاب العلم قراءة هذا الكتاب لطوله وتشعبه مع رغبتهم الاستفادة مما فيه من نفيس العلم والحجة؛ كان إعداد هذا المختصر المليح الذي يسهل على القارئ إدراك خلاصة هذا الكتاب، وذلك بالتركيز على أهم ما يتعلق بالنصرانية وانحرافها عن الدين الحق وما يستدعي ذكره لبيان حالها دون بقية الاستطرادات، مع جمع كلام المؤلف من المواضع المختلفة بزياداته في مكان واحد، ثم اختصاره وتركيزه، والتصرف اليسير الذي تستدعيه الحاجة من الاختصار وجمع المتفرق والزوائد، مع الحرص على إبقاء عبارات المؤلف وأسلوبه بقدر ما يمكن، ثم إعادة ترتيب الموضوعات بصورة متناسقة توجز بصورة ميسرة للقارئ فهم دين النصارى الذي بدّلوه وأسباب ضلالهم وانحرافهم والرد عليهم.
وقد ذكر شيخ الإسلام في آخر كتابه رسالة نفيسة للحسن بن أيوب -وهو أحد من أسلم من علماء النصارى- كان قد كتبها لأخيه علي بن أيوب يبين فيها سبب إسلامه، وكتب فيها رده على النصارى، وبيّن بطلان مقالتهم، وقد أثنى شيخ الإسلام ابن تيمية على هذه الرسالة وزكاها. وأتبعها بذكر رسالة لسعيد بن البطريق النصراني في بيان تاريخ النصارى، فتم الإشارة لأهم ما فيها مما يتعلق ببيان انحراف النصارى.
فهذا المختصر الموجز لا يغني عن الكتاب الأصل الواسع لشيخ الإسلام ابن تيمية المطبوع في مجلدات، والذي يعد من أفضل ما صنف في مجاله، وإنما هذا التلخيص زبدة مليحة تيسر للقارئ فهماً مجملاً لأبرز موضوعات هذا
الكتاب، والتي تبين انحراف النصارى عن الدين الحق، وتعرف القارئ بهذا الكتاب النفيس، ليدرك نخبة فوائده ودرره بصورة ميسرة إن شاء الله تعالى.
وقد أضفت في الحاشية بعض التوضيحات والنقولات المتممة للفائدة، فما كان من الصواب فمن الله، وما كان من خطأ فمن نفسي القاصرة، وأسأل الله أن يجعل فيه النفع والبركة وأن يكتب له القبول، أنه جواد كريم.
عبد الإله بن عبد الله بن علي جابر
7 شعبان 1445 هـ
مقدمة شيخ الإسلام ابن تيمية
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى-:
لا إله إلا الله، محمد رسول الله، {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ 2 الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 3 مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ 4} ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق؛ ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيداً.
محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين
جعل الله تبارك وتعالى محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، وأكمل له ولأمته الدين، وبعثه على حين فترة من الرسل، وظهور الكفر، وانطماس السبل، فأحيا به ما درس من معالم الإيمان، وقمع به أهل الشرك: من عباد الأوثان والنيران والصلبان، وأذل به كفار أهل الكتاب؛ أهل الشك والارتياب. وأقام به منار دينه الذي ارتضاه، وشاد به ذكر من اجتباه من عباده واصطفاه، وأظهر به ما كان مخفياً عند أهل الكتاب، وأبان به ما عدلوا فيه عن منهج الصواب، وحقق به صدق التوراة والزبور والإنجيل، وأماط به عنها ما ليس بحقها من باطل التحريف والتبديل؛ فلا يكون مؤمناً به إلا من عبده بطاعة رسله، ولا يكون مؤمناً به ولا عابداً له إلا من آمن بجميع رسله. وقد خص الله تبارك وتعالى محمداً صلى الله عليه وسلم بخصائص ميزه بها على جميع الأنبياء والمرسلين، وجعل له شرعة ومنهاجاً؛ أفضل شرعة، وأكمل منهاج
(1)
.
(1)
يقول عن نفسه عليه الصلاة والسلام: "أُعطيتُ مفاتيح الكَلِم، ونُصرت على العدو بالرعب مسيرة شهر يقذفه الله في قلوب أعدائي، وأُحلت لي الغنائم، ولم تحل لأحد قبلي، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأينما أدركتني الصلاة تمسحت وصليت،
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وكان من قبلي يعظمون ذلك، إنما كانوا يصلون في كنائسهم وبِيَعهم، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة، وختم بي النبيون، والخامسة هي ما هي، قيل لي: سل، فإن كل نبي قد سأل، فأخرت مسألتي إلى يوم القيامة شفاعة لأمتي، وهي نائلة منكم إن شاء الله من لقي الله عز وجل لا يشرك به شيئا، وبينما أنا نائم البارحة، أتيت بمفاتيح خزائن الأرض، فوضعت في يدي".
وكان جميل الوجه صلى الله عليه وسلم حتى وصفوه بالبدر، وعرقه من أطيب الطيب، تنام عيناه ولا ينام قلبه، ويأخذ الهدية ولا يأكل الصدقة، ويرى المصلين في الصلاة خلفه، ويواصل الصيام يبيت يطعمه ربه ويسقيه، عرفه أهل الكتاب في كتبهم باسمه ووصفه ومخرجه ومبعثه، وحاجهم مراراً ونكسوا عن مباهلته، وصارع ركانة -وكان من أشد الناس- فصرعه النبي صلى الله عليه وسلم، وأمر جبل أحد أن يثبت لما اهتز، وخنق إبليس حتى أحس ببرد لعابه بين إصبعيه، وأعانه الله على شيطانه فأسلم، ومن رآه في المنام فقد رآه حقا فإن الشيطان لا يتمثل به.
وشهد الله له أنه على خلق عظيم، وكان خلقه القرآن، وما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً قط بيده، ولا امرأة، ولا خادماً، إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من لعنة تذكر، وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه في شيء يؤتى إليه، وما نِيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه، إلا أن ينتهك شيء من محارم الله عز وجل فينتقم لله، وما خُيّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثماً، فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه، وسابق رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه على الأقدام، وخصف نعله بيده، ورقع ثوبه بيده، ورقع دلوه، وحلب شاته، وفلى ثوبه، وخدم أهله ونفسه، وحمل مع أصحابه اللبِن في بناء المسجد، وربط على بطنه الحجر من الجوع تارة وشبع تارة، وأضاف وأضيف، واحتجم في وسط رأسه وعلى ظهر قدمه، واحتجم في الأخدعين (عِرقان في جانبي العُنُق) والكاهِل (ما بين الكتفين)، وتداوى وكوى سعد بن معاذ، ولم يكتو، ورقى ولم يسترْقِ، وحمى المريض مما يؤذيه.
وجعل الله بعثته رحمة للعالمين، وما خاطبه في كتابه إلا بالكناية التي هي النبوة والرسالة التي لا أجل منها فخراً، ونهى الناس أن يخاطبوه باسمه، وندبهم إلى تكنيته، ودافع الله عنه فبرأه في كتابه من كل ما رماه به الكفار من السحر والكهانة والجنون، وزكاه بأنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وأمر الناس بالتأسي به، وفرض طاعته، وجعله أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وجعل أزواجه أمهات للمؤمنين؛ لا ينكحهن أحد بعده، وقرن الله اسمه باسمه تعالى عند ذكر طاعته وأحكامه، وأقسم الله بحياته، وأفرده بسيادة ولد آدم في القيامة، وحفظه من التدين بدين الجاهلية، ومن تعريهم، ومن لهوهم، وحرست السماء من استراق السمع لثبوت بعثته وعلو دعوته، وأسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وعرج به إلى السماء، ورأى من آيات ربه الكبرى، وما زاغ بصره وما طغى، وعاد متواضعاً حريصاً على أمته مشفقاً عليها، بالمؤمنين رؤوف رحيم.
وانشق القمر بدعائه فلقتين، وصبر على أذى المشركين وعنادهم بعدما رأوا الآيات والمعجزات، واستمع له نفر من الجن فآمنوا به، وعرض نفسه على القبائل ليبلغ دين الله، وأخبر بالمعجزات الغيبية وانتصار الروم على الفرس في بضع سنين، ولما تآمر الكفار على قتله حجبه الله عنهم فلم يروه وأنجاه الله، وهاجر إلى المدينة، فبوركت غنم مر بها في طريقه، ونصره الله في الغار وحماه من المشركين وأنزل عليه سكينته وأيده بجنود من عنده، وصد عنه لحاق سراقة بن مالك، وصبر على مشقة الدعوة وجاهد المشركين، وشكت إليه بعض البهائم فنصرها وأوصى بها أصحابها، وتسابقت إليه الإبل يوم النحر أيها ينحر أولاً بيده الشريفة، وسلم عليه الحجر والشجر قبيل بعثته، وحن إليه الجذع الذي كان يستند إليه في مسجده قبل أن يصنعوا له المنبر، وتبارك الطعام والماء بدعائه وبيده أو نفثه أو مجِّه، وأهدت له يهودية بخيبر شاةً مصليةً (مشويةً) سمّتها فأخبرته الشاة أنها مسمومة، وتكلم الذئب شاهداً بنبوته، وسبح الحصى في يده، وقَدِم الشَّجَرُ إلَيْه إذ دعاه، ونبع الماء من بين أصابعه، وشفى الله على يده جراحاً وأعيناً ومرضى، وأخبر بأشراط الساعة وما يكون إلى قيامها.
وما ترك خيراً إلا دل أمته عليه، ولا شرّاً إلا حذرها منه، وجعلها الله خير الأمم، معصومة لا تجتمع على ضلالة، ولن تضل ما تمسكت بسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وهديه، وشريعتها ناسخة لما قبلها، أمة شاهدة على الأمم يوم القيامة بتبليغ الرسل، وصفوفها كصفوف الملائكة، ونبيها هو أول شافع ومشفَّع، وصاحب الشفاعة العظمى، وأول من تنشق الأرض عنه يوم القيامة، وأول من يقرع باب الجنة، وأول من يدخلها، وأكثر الأنبياء أتباعاً، أوتي جوامع الكلم، وأُنزل عليه القرآن معجزة خالدة إلى قيام الساعة محفوظاً من التحريف والتبديل، تحدى الناس أن يأتوا بسورة من مثله، وهو صاحب المقام المحمود والحوض المورود.
مزايا أمة محمد صلى الله عليه وسلم
-
كما جعل أمته خير أمة أخرجت للناس، فهم يوفون أي: يكملون. سبعين أمة، هم خيرها وأكرمها على الله من جميع الأجناس، هداهم الله بكتابه ورسوله لما اختلفوا فيه من الحق قبلهم، وجعلهم وسطاً عدولاً خياراً، فهم وسط في توحيد الله وأسمائه وصفاته، وفي الإيمان برسله وكتبه وشرائع دينه: من الأمر والنهي، والحلال والحرام. فأَمَرَهم بالمعروف، ونهاهم عن المنكر، وأحل لهم الطيبات، وحرم عليهم الخبائث.
وسطية شريعة الإسلام بين اليهود والنصارى
ولم يحرم الله على أمة محمد صلى الله عليه وسلم شيئاً من الطيبات، كما حرم على اليهود. ولم يحل لهم شيئاً من الخبائث، كما استحلتها النصارى. ولم يضيق عليهم باب الطهارة والنجاسة، كما ضيق على اليهود الذين يبالغون في اجتناب النجاسات. ولم يرفع عنهم طهارة الحدث والخبث، كما رفعته النصارى؛ فلا يوجبون الطهارة من الجنابة، ولا الوضوء للصلاة، ولا اجتناب النجاسة في الصلاة؛ بل يَعُدُّ كثيرٌ من عُبَّادهم مباشرة النجاسات من أنواع القرب والطاعات!! حتى يقال في فضائل الراهب: له أربعين سنة ما مس الماء!! ولهذا تركوا الختان مع أنه شرع إبراهيم الخليل وأتباعه.
واليهود إذا حاضت عندهم المرأة لا يؤاكلونها ولا يشاربونها ولا يقعدون معها في بيت واحد، والنصارى لا يحرمون وطء الحائض. وكان اليهود لا يرون إزالة النجاسة؛ بل إذا أصاب ثوب أحدهم قرضه بالمقراض ويستخرجون الدم من العروق
(1)
، إلى غير ذلك من الآصار والأغلال التي كانت عليهم. والنصارى ليس عندهم شيء نجس يحرم أكله، أو تحرم الصلاة معه؛ إلا ما كرهه الإنسان بطبعه، فيصلون مع الجنابة والحدث وحمل النجاسات، ويأكلون الخبائث كالدم والميتة ولحم الخنزير، إلا من كره منهم شيئاً فتركه.
(1)
يعني: في ذبائحهم.
واليهود يبالغون في طهارة أبدانهم، مع خبث قلوبهم. والنصارى يدّعون أنهم يطهرون قلوبهم، مع نجاسة أبدانهم. والمسلمون يطهرون أبدانهم وقلوبهم جميعاً.
والنصارى لهم عبادات وأخلاق بلا علم ومعرفة ولا ذكاء. واليهود لهم ذكاء وعلم ومعرفة بلا عبادات ولا أخلاق حسنة. والمسلمون جمعوا بين العلم النافع والعمل الصالح، بين الزكاء والذكاء.
واليهود شبهوا الخالق بالمخلوق فيما يختص بالمخلوق، وهو صفات النقص المختصة بالمخلوق التي يجب تنزيه الرب سبحانه عنها؛ كقول من قال منهم: إنه فقير، وإنه بخيل، وإنه تعب لما خلق السماوات والأرض. فقال من قال من اليهود:{إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران: 181]. وقالوا: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة: 64]، وقالوا: إنه خلق العالم فتعب فاستراح، وحكي عن بعضهم أنه قال: بكى على الطوفان حتى رمد وعادته الملائكة، وأنه ناح على بعض من أهلكه من عباده كما ينوح المصاب على ميته، وأمثال ذلك مما يتعالى الله عنه ويتقدس سبحانه وتعالى، وأيضاً فهم يستكبرون عن عبادة الله وطاعة رسله، ويعصون أمره ويتعدون حدوده، ولا يجوّزون له أن ينسخ ما شرعه، بل يحجرون عليه.
والنصارى يشبهون المخلوق بالخالق في صفات الكمال المختصة بالخالق التي لا يستحقها إلا الله تبارك تعالى مثل كقولهم: إن المسيح هو الله، وابن الله. وكل من القولين يستلزم الآخر؛ فيجعلونه رب العالمين، خالق كل شيء ومليكه، الذي هو بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير. والنصارى أيضاً يصفون اللاهوت بصفات النقص التي يجب تنزيه الرب
عنها، ويسبّون الله سباً ما سبّه إياه أحد من البشر. واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله، واتخذوا المسيحَ ابن مريم رباً، وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون، واتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً، وصوروا تماثيل المخلوقات، واتخذوهم شفعاء يشفعون لهم عند الله؛ كما فعل عباد الأوثان، كما قال الله تعالى:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} [يونس: 18].
واليهود تزعم أن الله يمتنع منه أن ينسخ ما شرعه، كما يمتنع ما لا يدخل في القدرة، أو ينافي العلم والحكمة. والنصارى يجوزون لأكابرهم أن ينسخوا شرع الله الذي بعث به رسله، فيحللوا ما حرم، كما حلّلوا الخنزير، وغيره من الخبائث، بل لم يحرموا شيئاً، ويحرمون ما حلّل، كما في رهبانيتهم التي ابتدعوها وحرموا فيها من الطيبات ما أحله الله، ويسقطون ما أوجب؛ كما أسقطوا الختان وغيره، وأسقطوا أنواع الطهارة من الغسل، وإزالة النجاسة، وغير ذلك، ويوجبون ما أسقط؛ كما أوجبوا من القوانين ما لم يوجبه الله وأنبياؤه. والمسلمون وصفوا الرب بما يستحقه من صفات الكمال، ونزهوه عن النقص، وأن يكون له مثل، فوصفوه بما وصف به نفسه، وبما وصفته به رسله، من غير تحريف، ولا تعطيل، ومن غير تكييف، ولا تمثيل، مع علمهم أنه ليس كمثله شيء، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، وقالوا:{أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف: 54] فكما لا يخلق غيره؛ لا يأمر غيره، بل الدين كله له، هو المعبود المطاع الذي لا يستحق العبادة إلا هو، ولا طاعة لأحد إلا طاعته، وهو ينسخ ما ينسخه من شرعه، وليس لغيره أن ينسخ شرعه.
وكذلك اختلف اليهود والنصارى في المسيح؛ فالنصارى يقولون: هو الله، ويقولون أيضاً: هو ابن الله، وهو إله تام، وإنسان تام. واليهود يقولون: هو ولد زنا، وهو ابن يوسف النجار، ويقولون عن مريم: إنها بغي بعيسى، كما قال تعالى:{وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا 156} [النساء: 156]. ويقولون: هو ساحر كذاب.
وأما المسلمون فيقولون: هو عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول، وروح منه، وهو وجيه في الدنيا والآخرة، ومن المقربين، ويصفونه بما وصفه الله به في كتابه، لا يغلون فيه غلو النصارى، ولا يقصرون في حقه تقصير اليهود.
وكذلك اختلف اليهود والنصارى في قولهم في سائر الأنبياء والمرسلين، وفي أولياء الله؛ فاليهود قتلوا النبيين والذين يأمرون بالقسط من الناس، والنصارى اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله، والمسيح ابن مريم، وما أمروا إلا لعبدوا إلهاً واحداً، لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون، ومع هذا فقد شارك النصارى اليهود في نقص حق كثير من الأنبياء، فيقولون: إن سليمان لم يكن نبياً
(1)
، ويقولون: إن الحواريين مثل موسى وإبراهيم (في النبوة والرسالة)، ويقولون: إن من عمل بوصايا الله من غير الأنبياء صار مثل الأنبياء، وكان له أن يشرع شريعة!! وبعض اليهود غلوا في العُزَيْرِ حتى قالوا: إنه ابن الله! ولهذا قال نبينا في
(1)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: والسامرة (من اليهود) تقول: إن يوشع كان نبياً، ومن بعده كداوود، وسليمان، والمسيح لم يكونوا أنبياء.
الحديث الصحيح: «لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، فإنما أنا عبد الله فقولوا عبد الله ورسوله»
(1)
.
والمسلمون اعتدلوا، فآمنوا بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، ولم يفرقوا بين أحد من رسله، وآمنوا بجميع النبيين، وبكل كتاب أنزله الله، فلم يكذّبوا الأنبياء، ولا سبّوهم، ولا غلوا فيهم، ولا عبدوهم. وكذلك أهل العلم والدين؛ لا يبخسونهم حقهم، ولا غلوا فيهم.
وقد وصف الله اليهود بأعمال، والنصارى بأعمال؛ فوصف اليهود بالكبْر والبخل والجبن والقسوة وكتمان العلم وسلوك سبيل الغي -وهو سبيل الشهوات والعدوان-؛ فإن اليهود فيهم من البغض والحسد والعداوة ما ليس في النصارى، وفي النصارى من الرحمة والمودة ما ليس في اليهود. والعداوة أصلها البغض؛ فاليهود كانوا يبغضون أنبياءهم؛ فكيف ببغضهم للمؤمنين!! وأما النصارى فليس في الدين الذي يدينون به عداوة ولا بغض لأعداء الله الذين حاربوا الله ورسوله وسعوا في الأرض فساداً!! فكيف بعداوتهم وبغضهم للمؤمنين المعتدلين -أهل ملة إبراهيم- المؤمنين بجميع الكتب والرسل؟!
واليهود يغضبون لأنفسهم وينتقمون، والنصارى لا يغضبون لربهم ولا ينتقمون. والمسلمون المعتدلون -المتبعون لنبيهم- يغضبون لربهم، ويعفون عن حظوظهم، كما في «الصحيحين» عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده خادماً له، ولا امرأة ولا
(1)
رواه البخاري (3445) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
شيئاً قط، إلا أن يجاهد في سبيل الله، ولا نيل منه شيء قط فانتقم لنفسه، إلا أن تنتهك محارم الله؛ فينتقم لله»
(1)
.
وبدّل النصارى شرائع دينهم فزادوا في الصيام وجعلوه خمسين يوماً، ونقلوه إلى الربيع، وتركوا حج بيت المقدس، وحجوا لكنيسة القمامة، وبيت لحم، وكنيسة صيدنايا، وليس شيء من ذلك منقولًا عن المسيح. وابتدعوا عيد القلندس، وعيد الميلاد، وعيد الغطاس وهو القداس، وعيد الخميس والجمعة والسبت التي في آخر صومهم، وغيرها من الأعياد جعلوها بأسماء كبرائهم، وعيد الصليب الذي جعلوه في وقت ظهور الصليب لما أظهرته هيلانة الحرانية الفندقانية أم قسطنطين بعد المسيح بمائتين من السنين، وعظموا الصليب لأن الملك قسطنطين رأى صورة صليب كواكب
(2)
، ومعلوم أن هذا لا يصلح أن ينبني عليه شريعة، وبنوا على أسماء كبرائهم أو قبورهم الكنائس، وجعلوا فيها أصناماً على صورهم، يدعونهم من دون الله، وتركوا قبلة بيت المقدس، وصلوا إلى الشرق.
والنصارى لا يقرّبون القرابين بالسميد، كما كان بنو إسرائيل من قبل، ولا يحجّون في كل شهر، ومن سنة إلى سنة إلى بيت المقدس -بيت الله- ويقرّبون لله ربهم فيه قرابين نقية زكية.
(1)
روي بألفاظ متقاربة في مسند الإمام أحمد (43/ 92 ط الرسالة): «25923» ، وقال المحقق:"إسناده صحيح على شرط الشيخين". وفي «الطبقات الكبرى - ط العلمية» (8/ 164): «باب ذكر ضرب النساء» .
(2)
من ضلال النصارى أنهم جعلوا أداة عدوهم (الصليب) رمزاً لهم!! فهل يحتفي أحد بأداة عدوه؟! ويذكر بعض المؤرخين أن رمز بعض النصارى في القرون الأولى كان (السمكة) نسبة إلى قصة بحيرة طبرية والسمك الذي باركه المسيح كما يذكرون.
وابتدعوا الكفر في صلاتهم؛ حتى قالوا في صلاتهم السَحَرية: «تعالوا بنا نسجد للمسيح إلهنا» . وفي الصلاة الثانية والثالثة: «يا والدة الإله مريم العذراء! افتحي لنا أبواب الرحمة» .
وابتدعوا أن لله ثلاثة أقانيم، ولفظ الأقانيم لم ينطق به أحد من الأنبياء، ولا أحد من الحواريين باتفاقهم، بل هو مما ابتدعوه، قيل: إنه لفظ رومي، معناه: الأصل. ولهذا يضطربون في تفسير الأقانيم، تارة يقولون: أشخاص، وتارة خواص، وتارة صفات، وتارة جواهر، وتارة يجعلون الأقنوم اسماً للذات والصفة معاً.
فكثير من شرائعهم لم يأخذوها عن المسيح عليه السلام ولا الحواريين، ولم يتبعوا خاتم الرسل محمد صلى الله عليه وسلم الذي بشر به المسيح.
والنصارى بعد النسخ
(1)
والتبديل
(2)
هم من الضالين الذين يعملون ويعبدون ويزهدون بلا علم، لا من المنعم عليهم. وعُبّاد الأصنام أيضاً من الضالين المغضوب عليهم. وقد قال النّبي صلى الله عليه وسلم:«اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضالون» رواه الإمام أحمد والترمذي
(3)
؛ وسبب ذلك أن اليهود يعرفون الحق ولا يعملون به، والنصارى يعبدون بلا علم.
(1)
النسخ: هو رفع وإزالة أحكام شريعة سابقة بشريعة لاحقة، فلما كانت شريعة الإسلام آخر الشرائع، وصالحة لكل زمان ومكان؛ إذ لا شريعة بعدها، فقد نسخ الله بها ما شاء من الشرائع الماضية وجعلها مهيمنة عليها، فلا يقبل من أي يهودي أو نصراني بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وبعد العلم به أن يتمسك بدين غير دين الإسلام. والله تعالى يشرع لكل أمة ما يناسبها وأحوالها وزمانها، والشريعة المتأخرة قد تنسخ بعض أحكام الشريعة المتقدمة، دون قواعد العقائد وحفظ الكليات الخمس.
(2)
التبديل: التحريف والتغيير في الدين والشرائع وفي نصوص الكتب المنزلة أو تأويل معانيها إلى معانٍ أخرى غير المقصودة.
(3)
الترمذي (2953)، وأخرجه أحمد (19381)، وأبو داود الطيالسي (1135)، وابن حبان «الإحسان» (7206، 6246)، وفي «الثقات»:(5/ 142)، والطبراني في «الكبير»:(17/ رقم 236). والحديث صححه ابن حبان، والمصنف في «الفتاوى»:(3/ 369) وغير موضع، وابن القيم في «مفتاح دار السعادة»:(1/ 188). وله شاهد من حديث أبي ذر، قال الحافظ في «الفتح»:(8/ 9): «وأخرجه ابن مردويه بإسناد حسن عن أبي ذر» .
ومن تدبر حال اليهود والنصارى مع المسلمين، وجد اليهود والنصارى متقابلين على طرفي نقيض، هؤلاء ينحرفون إلى جهة وهؤلاء إلى الجهة التي تقابلها، هؤلاء في طرف ضلال، وهؤلاء في طرف يقابله.
والمسلمون هم الوسط، وذلك في التوحيد، والأنبياء، والشرائع، والحلال والحرام، والأخلاق، وغير ذلك؛ فلم يجحدوا شرع الله الناسخ لأجل شرعه المنسوخ كما فعلت اليهود، ولا غيروا شيئاً من شرعه المحكم، ولا ابتدعوا شرعاً لم يأذن به الله كما فعلت النصارى. ولا غلوا في الأنبياء والصالحين كغلو النصارى، ولا بخسوهم حقوقهم كفعل اليهود. ولا جعلوا الخالق سبحانه متصفاً بخصائص المخلوق ونقائصه ومعايبه من الفقر والبخل والعجز كفعل اليهود. ولا المخلوق متصفاً بخصائص الخالق سبحانه -التي ليس كمثله فيها شيء- كفعل النصارى. ولم يستكبروا عن عبادته كفعل اليهود، ولا أشركوا بعبادته أحداً كفعل النصارى
(1)
. وأحل الله للمسلمين الطيبات خلافاً لليهود، وحرم عليهم الخبائث خلافاً للنصارى.
والله أرسل رسوله محمد صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق، فالهدى يتضمن العلم النافع، ودين الحق يتضمن العمل الصالح؛ ليظهره على الدين كله، والظهور يكون بالعلم واللسان؛ ليبين أنه حق وهدى، ويكون باليد
(1)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: لما كان أصل دين اليهود الكبر عاقبهم بالذلة {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا} [آل عمران: 112]، ولما كان أصل دين النصارى الإشراك لتعديد الطرق إلى الله أضلهم عنه. فعوقب كل من الأمتين على ما اجترمه بنقيض قصده، {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46]. وقد وصف بعض اليهود بالشرك في قوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ [التوبة: 30]. ففي اليهود من عبد الأصنام وعبد البشر؛ وذلك أن المستكبر عن الحق يبتلى بالانقياد للباطل، فيكون المستكبر مشركاً.
والسلاح؛ ليكون منصوراً مؤيداً، والله أظهره هذا الظهور، فهم أهل الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
تواتر الأخبار ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم إلى جميع الإنس والجن
ثم إنه من المعلوم بالضرورة لكل من عَلِم أحواله صلى الله عليه وسلم بالنقل المتواتر الذي هو أعظم تواتراً مما يُنقل عن موسى وعيسى وغيرهما، وبالقرآن المتواتر عنه، وسنته المتواترة عنه، وسنة خلفائه الراشدين من بعده: أنه صلى الله عليه وسلم ذكر أنه أُرسِل إلى أهل الكتاب: اليهود والنصارى، كما ذكر أنه أرسل إلى الأميين، بل ذكر أنه أرسل إلى جميع بني آدم، عربهم وعجمهم، من الروم والفرس والترك والهند والبربر والحبشة وسائر الأمم، بل أنه أرسل إلى الثقلين الجن والإنس جميعاً. وهذا كله من الأمور الظاهرة المتواترة عنه التي اتفق على نقلها عنه أصحابه مع كثرتهم وتفرق ديارهم وأحوالهم، وقد صحبه عشرات ألوف، لا يحصي عددهم على الحقيقة إلا الله تعالى، ونقل ذلك عنهم التابعون وهم أضعاف الصحابة عدداً، ثم ذلك منقول قرناً بعد قرن إلى زمننا، مع كثرة المسلمين وانتشارهم في مشارق الأرض ومغاربها. والمقصود أن محمداً صلى الله عليه وسلم هو نفسه دعا أهل الكتاب من اليهود والنصارى إلى الإيمان به وبما جاء به، كما دعا من لا كتاب له من العرب وسائر الأمم. وهو الذي أخبر عن الله تبارك وتعالى بكفر من لم يؤمن به من أهل الكتاب وغيرهم.
البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم في الكتب المتقدمة
والبشارات بمحمد صلى الله عليه وسلم في الكتب المتقدمة أعظم من البشارة بالمسيح
(1)
.
(1)
البشارات بمحمد صلى الله عليه وسلم في كتبهم كثيرة، ومن أبرزها أن عندهم في سفر التثنية من كتابهم المقدس (33 - 2) ينسبون لموسى في مباركته الأخيرة (خطبته) أنه قال: أقبل الرب من سيناء (يعني الوحي لموسى ورسالته) وأشرق عليهم من ساعير (جبل في القدس)، وتألق في جبل فاران (مكة). قال ابن تيمية:"فإن إشراقه من ساعير هو ظهور نوره بالمسيح، كما أن مجيئه من طور سيناء هو ظهور نوره بموسى، واستعلانه من جبال فاران هو ظهور نوره بمحمد. وبهذه الأماكن الثلاثة أقسم الله في القرآن بقوله: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ 1 وَطُورِ سِينِينَ 2 وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ 3} [التين: 1 - 3]. فبلد التين والزيتون هي الأرض المقدسة التي بعث منها المسيح، وكان بها أنبياء بني إسرائيل، وأسري بمحمد صلى الله عليه وسلم إليها، وظهرت بها نبوته، و (طور سينين) المكان الذي كلم الله فيه موسى ابن عمران، (وهذا البلد الأمين) هو بلد مكة التي بعث الله منه محمداً، وأنزل عليه القرآن".
وفي سفر حبقوق (3 - 3) يأتي من تيمان (المدينة) القدوس، من جبل فاران (جبال مكة، وتشير للهجرة من مكة للمدينة) سلا مجده يغطي السماء والأرض، ممتلئة بترانيم التسبيح له (إشارة إلى الناس يكثرون من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي سفر أشعيا 21 من 14 إلى 17: أحضروا ماء للقاء العطشان (يعني: محمدًا صلى الله عليه وسلم المهاجر) يا سكان تيماء (المدينة) أحضروا خبزاً لإطعام الهاربين (هجرة محمد صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبي بكر رضي الله عنه، هربوا من السيوف المسلولة للقتل، ومن الأقواس المشدودة الجاهزة للإطلاق، ومن وجه الحرب الشديدة، لأنه هكذا قال لي الرب في سنة واحدة فقط وفقاً لعدد أيام سنة العام كسنة الأجير سيزول مجد قيدار (كفار قريش)، أما الناجون من حملة الأقواس ومحاربي قيدار؛ فسيكونون قليلين جداً (إشارة لقلة عدد المسلمين في غزوة بدر).
وفي سفر التثنية 18 - 18: خطاب الرب لموسى: أقيم لهم نبياً من وسط إخوتهم -يعني من بني إسماعيل- مثلك، وأجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به (وما ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم. وهذه البشارة مشهورة عندهم، ومن مفسري النصارى من قالوا: هذه نبوؤة عن المسيح، فلو صدقوا فقد نفوا ألوهية المسيح، لأنهم يزعمون ألوهية المسيح، وهنا يقولون هو مثل موسى، والمثيل يجب أن يكون مثله فيولد من أبوين، ولا يكون إلهاً، ولا ابن الإله، وإنما نبي، وأنه يموت ولا يقتل.
وفي سفر أشعيا 29 - 12: " أو يدفع الكتاب لمن لا يعرف الكتابة، ويقال له: اقرأ هذا، فيقول: لا أعرف القراءة". والذي لا يعرف القراءة هو محمد صلى الله عليه وسلم النبي الأمي.
مع أنه ليس من شرط النبي أن يبشر به من تقدمه، كما أن موسى كان رسولاً إلى فرعون، ولم يتقدم لفرعون به بشارة، وكذلك الخليل أرسل إلى نمرود، ولم يتقدم به بشارة نبي إليه، وكذلك نوح، وهود، وصالح، وشعيب، ولوط، لم يتقدم هؤلاء بشارة إلى قومهم بهم مع كونهم أنبياء صادقين.
وفي سفر الملوك الأول 20 - 4 باللغة العبرية مكتوب: مُحَمَّد (. .) والواجب في جميع اللغات أن الأسماء لا تترجم، لكنهم حرفوا اسمه بالترجمة إلى بلازينت pleasant (الجذّاب). حتى تتماشى مع السياق الذي يريدونه للكلام.
وفي سفر الأيام الثاني 36 - 19 بالعبرية مكتوب: مُحَمَّد (. .) وكذلك حرفوه بالترجمة إلى: قودلي goodly (الجيّد).
وفي سفر حزقيل 24 - 16 بالعبرية مكتوب: مُحَمَّد (. .) وكذلك حرفوه بالترجمة إلى: ديزايرد desired (المرغوب).
وكذلك أيضاً في سفر حزقيل 24 - 21 بالعبرية مكتوب: مُحَمَّد (. .) وكذلك حرفوه بالترجمة إلى: ديزايرد desired (المرغوب).
وفي سفر يوشع 5 - 6 بالعبرية مكتوب: مُحَمَّد (. .) وكذلك حرفوه بالترجمة إلى: بلازينت pleasant (الجذّاب). وكذلك التحريف في سفر يوحنا 16 - 7 إلى المعزي Comforter.
وفي سفر المراثي LAMENTATIONS 1 - 7 وكذلك 1 - 10، 11 بالعبرية مكتوب: مُحَمَّدِيِه (. .) بصفة التعظيم أي: المبجل، والياء والهاء (يه) للتفخيم، فحرفوها بالترجمة إلى: بلازينت pleasant (الجذّاب).
وعندهم في كتبهم أن عيسى قال: يجب أن أذهب، لأني إن لم أذهب لن يرسل الله لكم محمد أو أحمد لكل الأمم. وفي موضع آخر ذكر أن (هاجر) لما نفد الماء من جرتها، وضعت الجرة، ووضعت إسماعيل تحت شجرة، وأخذت تبحث عن الماء، ولما رجعت وجدت الماء (زمزم) ينبع عند ولدها. وعندهم أنه:"سوف يعلوا اسم الله على جبل سلا"، وهو جبل (سلع) في المدينة، وسوف يغطي الأرض على مدار الساعة (إشارة إلى الأذان للصلاة). وفي الترجمات اليونانية القديمة للأناجيل جاء التعبير في البشارات عن اسم النبي بكلمة (البارقليط) واللفظ اليونانية (بيركلي طوس) وباللاتينية Parakletos ولكنه لما ترجم إلى العربية فسّرها بعضهم بالمُخَلِّص، وفسرها آخرون بالمُعَزِّي، وأصل معنى البارقليط في اليونانية القديمة: الذي له حمدٌ كثير، قال الألوسي: إنه لفظ يؤذِن بالحمد.
وقد أخبر محمد صلى الله عليه وسلم أنه رسول الله إلى النصارى وغيرهم من أهل الكتاب، وأنه دعاهم وجاهدهم، وأُمر بدعوتهم وجهادهم، وليس هذا مما فعلته أمته بعده بدعة ابتدعوها، كما فعلت النصارى بعد المسيح
(1)
.
إيمان المهاجرين والأنصار بمحمد صلى الله عليه وسلم من غير سيف وكذلك من اليهود والنصارى
ولما بعث الله محمداً أمره أن ينذر عشيرته الأقربين أولاً، ثم ينذر العرب الأميين، ثم أهل الكتاب والمجوس وغيرهم. وقد آمن به المهاجرون والأنصار كلهم من غير سيف ولا قتال، بل لما ظهر لهم من براهين نبوته ودلائل صدقه آمنوا به. وقد حصل من الأذى في الله لمن آمن بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم ما هو معروف في السيرة، وقد آمن به في حياته صلى الله عليه وسلم كثير من اليهود والنصارى، بعضهم بمكة، وبعضهم بالمدينة، وكثير منهم كانوا بغير مكة والمدينة.
وكان أول ما أنزل الله تعالى عليه الوحي عرضت خديجة -امرأته- أمره على عالم كبير من علماء النصارى يقال له: ورقة بن نوفل، وكان من العرب المتنصرة، فقال:«هذا هو الناموس الذي كان يأتي موسى بن عمران، يا ليتني أكون فيها جذعاً حين يخرجك قومك» . وقدم إليه بمكة طائفة من
(1)
المسيح عليه السلام لم يرسل إلى الناس عامة، وإنما إلى بني إسرائيل، وجاء في كتب النصارى أن المسيح يوصي الحواريين الاثني عشر: لا تذهبوا إلى قرى الكنعانيين ولا إلى قرى اليبوسيين، ولكن اذهبوا لقرى خراف بني إسرائيل الضائعة. وأن المسيح يقول: أنا لم أرسل إلا إلى خراف بني إسرائيل الضائعة. (في ثلاث مواضع) فالمسيح لم يرسل للناس جميعاً. قال ابن تيمية: قال الله تعالى: (وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ)[الحديد: 25]. فذكر سبحانه أنه أنزل الحديد أيضا؛ ليتبين من يجاهد في سبيل الله بالحديد، والنصارى يزعمون أن الحواريين والنصارى لم يؤمروا بقتال أحد بالحديد.
أهل الكتاب من النصارى، فآمنوا به، فآذاهم المشركون، فصبروا واحتملوا أذاهم، فأنزل الله فيهم:{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ 52 وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ 53 أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ 54 وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ 55} .
والقرآن فيه التصريح بدعوة أهل الكتاب في غير موضع، كقوله تعالى:{قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ 64} [آل عمران: 64]. وقد كتب النّبي صلى الله عليه وسلم بهذه الآية إلى قيصر ملك النصارى بالشام الذي اسمه هرقل.
وأهل نجران التي باليمن كانوا نصارى، فقدم عليه وفدهم ستون راكباً، وناظرهم في مسجده، وأنزل الله فيهم صدر سورة آل عمران. ولما ظهرت حجته عليهم، وتبين لهم أنه رسول الله إليهم، أمره الله إن لم يجيبوه أن يدعوهم إلى المباهلة، فاستعفوا من المباهلة، فصالحوه وأقروا له بالجزية عن يد وهم صاغرون، لما خافوا من دعائه عليهم؛ لعلمهم أنه نبي، فدخلوا تحت حكمه. ولم يلبث السيد والعاقب إلا يسيراً حتى رجعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلما، وأنزلهما دار أبي أيوب الأنصاري.
وكان قبل قصة نجران قد آمن به كثير من اليهود والنصارى، رؤساؤهم وغير رؤسائهم، لما تبين لهم أنه رسول الله إليهم، كما آمن به
النجاشي ملك الحبشة، وكان نصرانياً هو وقومه. والنجاشي لما سمع القرآن قال:«إنّ هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة» . وبعث ابنه وطائفة من أصحابه إلى النبي صلى الله عليه وسلم مع جعفر بن أبي طالب، وقدم جعفر على النبي صلى الله عليه وسلم عام خيبر.
عقلاء اليهود والنصارى يعظمون محمداً صلى الله عليه وسلم وإن لم يؤمنوا برسالته
وكثيرٌ من عقلاء أهل الكتاب يعظمون محمداً صلى الله عليه وسلم؛ لما دعا إليه من توحيد الله تعالى، ولما نهى عنه من عبادة الأوثان، ولما صدّق التوراة والإنجيل والمرسلين قبله، ولما ظهر من عظمة القرآن الذي جاء به، ومحاسن الشريعة التي جاء بها، وفضائل أمته التي آمنت به، ولما ظهر عنه وعنهم من الآيات والبراهين والمعجزات والكرامات. لكنهم يقولون مع ذلك: إنه بعث لغيرنا، وإنه ملك عادل له سياسة عادلة، وإنه مع ذلك حَصّل علوماً من علوم أهل الكتاب وغيرهم، وأنه وضع لهم ناموساً بعلمه، ورتّبه؛ كما وضع أكابرهم لهم القوانين والنواميس التي بأيديهم. ومهما قالوه من هذا؛ فإنهم لا يصيرون به مؤمنين به.
ومن جهلاء أهل الكتاب - الذين يقولون: إنه كان ملكاً مسلّطاً عليهم، وأنه رسول غضب، أرسله الله إرسالاً كونياً؛ لينتقم به منهم، كما أرسل بختنصر وسنحاريب على بني إسرائيل، وكما أرسل جنکس خان
(1)
وغيره من الملوك الكافرين والظالمين -مما ينتقم به ممن عصاه -. فهؤلاء
(1)
جنكيز خان Genghis Khan.
أعظم تكذيباً له وكفراً به من أولئك؛ فإن هؤلاء
الملوك لم يقل أحد منهم إن الله أنزل عليه كتاباً، ولا أن الله أمركم أن تصدقوني فيما أخبرتكم به.
المسلمون أعظم الناس إيماناً بالمسيح عليه السلام
والمسلمون -مع شهادتهم للمسيح عليه السلام بأنه عبد الله ورسوله- يقولون: إنه مؤيد منصور، عصمه الله من أعدائه، وطهره منهم، ولم يسلطهم عليه. والمسلمون أشد تعظيماً للمسيح عليه السلام واتباعاً له بالحق ممن بدل دينه وخالفه من النصارى؛ فإن المسلمين يصدقونه في كل ما أخبر به عن نفسه، ولا يحرفون ما قاله عن مواضعه، ولا يفسرون كلامه بغير مراده وكلام غيره من الأنبياء -كما فعلت النصارى-.
والمسلمون وأهل الكتاب متفقون على إثبات مسيحين: مسيح هدى من ولد داود، ومسيح ضلال، يقول أهل الكتاب: إنه من ولد يوسف. ومتفقون على أن مسيح الهدى سوف يأتي كما يأتي مسيح الضلالة (الدجّال)؛ لكن المسلمون والنصارى يقولون: إن مسيح الهدى هو عيسى ابن مريم، وإن الله أرسله، ثم يأتي مرة ثانية، لكن المسلمون يقولون: إنه ينزل قبل يوم القيامة، فيقتل مسيح الضلالة، ويكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ولا يبقى دين إلا دين الإسلام، ويؤمن به أهل الكتاب: اليهود والنصارى، كما قال تعالى:{وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء: 159].
واليهود تعترف بمجيء مسيح هدى يأتي؛ لكن يزعمون أن عيسى عليه السلام لم يكن مسيح هدى؛ لظنهم أنه جاء بدين النصارى المبدل،
ومن جاء به فهو كاذب، وهم ينتظرون المسيحين، وإنما ينتظرون مسيح الضلالة الدجال
(1)
.
ويشهد النصارى والمسلمون على اليهود بتحريف كثير من معاني التوراة وتبديل أحكامها
(2)
، كما بدلوا شريعة الرجم بغيرها، وهي مكتوبة في التوراة. وأنّ اليهود كفروا بالمسيح عليه السلام؛ إذ كانوا يزعمون أن المسيح ساحر كذاب، بل يقولون: إنه ولد غية (زنية)، وأنهم حرّضوا عليه، وادّعوا أنهم قتلوه وصلبوه.
والنصارى متفقون على أن المسلمين خير من اليهود، وكذلك اليهود متفقون على أن المسلمين خير من النصارى، بل جميع الأمم المخالفين للمسلمين يشهدون أن المسلمين خير من سائر الأمم والطوائف
(1)
يعني أن اليهود عندهم بشارات وأخبار بنبي مسيح يبعث وهو عيسى ابن مريم عليه السلام، وعندهم خبر عن مسيح آخَر يكون له ملك في آخر الزمان، فلما بعث المسيح عيسى ابن مريم كذبوه، وما زالوا ينتظرون أن يأتي النبي المسيح حتى الآن، والواقع أنه لن يأتي نبي بوصف المسيح لأنه قد أتي وكذبوه، وجاء بعده محمد صلى الله عليه وسلم وكذبوه أيضاً، فلم يبق مسيح ينتظرونه إلا مسيح الضلالة (الدجال).
(2)
اليهود كتبوا التلمود وزعموا أنه تدوين للشريعة اليهودية الشفوية (غير التوراة المكتوبة)، وجعلوا فيه عقيدة البداءة، وهي في زعمهم أن الرب يغير رأيه ويتعلم، ويصحح خطأه ويبكي ويندم، وقالوا:"إنه خلق الحيوانات ولم تكفِ لخدمة بني إسرائيل، فخلق بقية البشر أدنى من الحيوانات". فاليهودي إذا قتل بهيمة دفع ديتها، لكن لو قتل بشراً من غير بني إسرائيل؛ لا يدفع ديته.
والتلمود مقسوم قسمان: المشناة (قيل أن كاتبها هو يهوذا هنسيء 210 م)، والتلقوم (وقد رفض اليهود ترجمة هذا القسم إلى غير العبرية)، ثم بعد أيام النازيين ترجم للفرنسية والإنجليزية، بدون ترجمة الفقرات التي تتحدث عن المسيح وأمه لأنهم يصفونه بأقذر الأوصاف وأنه ابن زنا من جندي يوناني .. إلخ. ولا يعتبر النصارى أن التلمود "موحى به من الله".
إلا أنفسهم، وشهادتهم لأنفسهم لا تقبل، فصار هذا اتفاق أهل الأرض على تفضيل دين الإسلام
(1)
.
(1)
ومن المهم أن يعرف المسلم كيف اجتمع اليهود والنصارى على حرب المسلمين مع أن اليهود والنصارى كانوا يعادون بعضهم البعض؟!
فاليهود ملعونون في الإنجيل عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ، وعند النصارى فإن أعظم جرائم اليهود ليست مجرد الكفر بالله وشتم المسيح واتهامه بالسحر والكذب وشتم أمه واتهامها في عرضها وقتل الأنبياء وإنكار التثليث وتضليل النصارى والوعد بقتلهم فقط؛ بل يرون أعظمها: قتل ربهم المسيح (كما يزعمون)!!! (وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ).
وعلى مر التاريخ ظلت العداوة لا تنطفئ بين اليهود والنصارى، واستمرت الكنيسة البابوية التي مقرها روما في لعن وعداوة اليهود، وقامت حملات عارمة تزعمها البابا لتنظيف المجتمعات الأوروبية من اليهود، وفي القرن الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر استمرت حملات التنظيف؛ فنظفت بريطانيا وألمانيا وفرنسا وكثير من دول أوروبا من اليهود؛ لأنهم يرونهم أخطر خلق الله وأكثرهم شرّاً -وهم كذلك-.
ومن جحيم أوروبا في عصور ظلماتها لجأ اليهود إلى كنف الأندلس وآواهم المسلمون، وبعدما احتل النصارى مدريد الإسلامية وشنوا حربهم الإبادية الشاملة على المسلمين في الأندلس شمل ذلك اليهود معهم؛ فلجئوا إلى الولايات التركية وخاصة اليونان.
ثم لما ظهرت الحركة البروتستانتية النصرانية ابتهج اليهود بهذه الحركة ووجدوا فيها متنفساً لهم وفرصة للانتقام من البابا وأتباعه وضرب النصارى بعضهم ببعض؛ فسخروا مكرهم ودهاءهم وأموالهم لنشرها، والبروتستانت: هي الطائفة النصرانية التي تحتج على البابا - زعيم الكاثوليك - وتخرج عليه، وتؤمن بأن البشر لا يتوسطون بين الناس وبين الله، وقالوا: إن على كل إنسان أن يقرأ الكتاب المقدس مباشرة ويطبقه مباشرة، وترفض احتكار رجال الكهنوت لتعليم الدين وتفسير الإنجيل، وقد تأثروا في ذلك بالمسلمين إبان الحروب الصليبية؛ إذ رأوا أن المسلمين يتعاملون مع كتاب الله مباشرة، ولا يتوسط أحد بينهم وبين الله سبحانه وتعالى.
والذي حدث في أوروبا أنه بعد ظهور هذه العقيدة بدأ الناس يرجعون إلى الأصول التوراتية اليهودية المحرفة، وقام مارتن لوثر صاحب حركة البروتستانت بترجمة التوراة المحرفة إلى اللغة الألمانية، وكذلك الإنجليزية، وقد انتشرت الحركة البروتستانتية أكثر ما انتشرت في ألمانيا وبريطانيا وآمن هؤلاء بحرفية الكتاب المقدس وعصمة التوراة المحرفة، وأن كل حرف في التوراة المحرفة هو حق من عند الله، فآمنوا به وبضرورة تحقيقه، وأعرضوا عن تفسيرات البابا بشأن اليهود.
وقد خرج النصارى البروتوستانت من أوروبا بروح التدين التوراتي المحرف، فلما دخلوا أمريكا تفاءلوا بأن هذا خروج كخروج بني إسرائيل من التيه ودخولهم إلى الأرض المقدسة، وأخذوا يسمون المدن والمناطق في أمريكا بأسماء من التوراة المحرفة،
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
واعتقدوا أن هذه الأرض البكر بشرى بشرهم الله بها في الدنيا، وتأسس المجتمع الأمريكي على أساس بروتستانتي توراتي، وكان ذلك من آثار استغلال اليهود الكتاب المحرف الذي يؤمن به اليهود والنصارى معاً، وهو القسم الأول من الكتاب المقدس الذي يتكون من قسمين يسمون كلا منهما عهداً، فالأول هو العهد القديم وهو التوراة التي تشتمل على النصوص المحرفة التي تمجد اليهود والمتناقضة مع ما في الإنجيل من لعن اليهود وعداوتهم، والآخر هو العهد الجديد وهو الأناجيل والرسائل المحرفة.
ولذلك يتعاون اليهود والنصارى على حرب الإسلام والمسلمين، ومن الناحية السياسية يتفقون على أهمية إقامة دولة موالية للغرب في قلب العالم الإسلامي بعد سقوط الخلافة تقوم بإثارة المشاكل وإشغال دول المسلمين وإضعافهم دينياً وفكرياً واقتصادياً وتفصل مشرقهم عن مغربهم وتعمل على عدم اتحادهم حتى لا تعود الخلافة الإسلامية من جديد.
وقد تعهد اليهود أن يقوموا بهذه المهام مقابل دعم النصارى لهم لتحقيق المصلحة للطرفين. كما يتفق اليهود والنصارى أيضاً من الناحية العقدية على أن قيام دولة إسرائيل وتجمّع بنى إسرائيل في فلسطين هو تمهيد لنزول المسيح المنتظر الذي يحالفه النصر ويحكم العالم ويقضي على أعدائه، كما يفسره كل منهما، وأنه ستكون هناك حرب لا هوادة فيها ببلاد الشام وهي (معركة هرمجدّون Armageddon).
لكنهم يختلفون في من هو هذا المسيح المنتظر؟؛ هل هو عيسى ابن مريم كما يؤمن النصارى وأنه سيقتل اليهود والمسلمين؟ أم هو ملك يهودي (المسيح الدجال) كما يزعم اليهود وأنه سيقتل النصارى والمسلمين؟!
ويعتقد كل من الطائفتين أنه سينتصر بقيادة المسيح الذي ينتظره ويفني الآخرين تماماً!!.
واليهود كتبت عليهم الذلة إلا بحبل من الله وحبل من الناس، فهم بحاجة إلى من يساندهم من الناس، ولذا ابتدع حاخامات صهيون حيلة أقرهم عليها قادة الإنجيليين النصارى وهي تأجيل الخوض في نتيجة (معركة هرمجدون) التي ينتظرها كل منهما ليهلك الآخر، وأن تظل هذه المسالة معلقة تماماً ولا يتم التطرق لها، وأن يكون التعاون بينهما على مبدأ التهيئة لنزول المسيح المنتظر بإقامة دولة تجمع بنى إسرائيل في فلسطين، فإذا نزل المسيح فعندها يُرى؛ أهو مسيح اليهود أم مسيح النصارى. لأن الخوض في نتيجة المعركة حالياً ليس من مصلحة الطائفتين معاً!! لكن المصلحة المحققة لهما تكون بأن يعملا سوياً للقضاء على العدو المشترك لهما وهو (المسلمون)!!
وصهاينة اليهود والنصارى يسعون بجهود حثيثة سياسياً وعسكرياً إلى إخضاع بلاد العرب والمسلمين للرهبة اليهودية العسكرية، وفرض الحماية الغربية على المنطقة، والتضييق على الدعوة الإسلامية وتغيير المناهج الإعلامية والتعليمية لمحو كل ما يثير العداء نحو اليهود، وفرض السيطرة المالية الاقتصادية ونشر الثقافة اليهودية والنصرانية ونهب ثروات المنطقة النفطية والمائية وإفساد المنطقة أخلاقياً عن طريق السياحة والآثار والترفيه، وفتح الباب لغزو الجاسوسية لأماكن ما كانت تحلم بها من قبل.
أبرز أسباب ضلال النصارى
ومما ينبغي أن يُعلم أن سبب ضلال النصارى، وأمثالهم من الغالية -كغالية العباد والشيعة وغيرهم- ثلاثة أشياء:
أحدها: ألفاظ متشابهة مجملة مشكلة ينسبونها إلى الأنبياء، وعدلوا بها عن الألفاظ الصريحة المحكمة. فما ينقلونه عن أنبياء بني إسرائيل وغيرهم ممن أرسل بغير اللغة العربية؛ لابد فيه من أن تثبت نبوة المنقول عنه، ويعلم اللفظ الذي قاله، ويعلم ترجمته، ويعلم مراده بذلك اللفظ، ثم يعلم أن ما ذكروه من كلام الأنبياء دليل على ما يحتجون به.
والثاني: خوارق ظنوها آيات، وهي من أحوال الشياطين.
والثالث: أخبار منقولة إليهم ظنوها صدقاً، وهي كذب.
ولذلك اختلفوا حتى في الصلب، فمنهم من يقول: المصلوب لم يكن المسيح؛ بل الشبيه، كما يقوله المسلمون. ومنهم من يقر بعبوديته لله، وينكر الحلول، والاتحاد، كالأريوسية، ومنهم من ينكر الاتحاد، وإن أقر بالحلول، كالنسطورية. وابتدعوا (الأمانة) التي هي عقيدة إيمانهم، واستندوا في ذلك إلى ألفاظ متشابهة في الكتب، وفي الكتب ألفاظ محكمة تناقض ما ذكروه.
ادعاء النصارى أن المسيح هو الله
والنصارى يحتجون في قولهم أن المسيح: «هو الله» بأنه كان يحيي الموتى، ويبرئ الأسقام، ويخبر بالغيوب، ويخلق من الطين كهيئة الطير، ثم ينفخ فيه فيكون طائراً، وذلك كله بأمر الله، وليجعله آية للناس. والله لم
يذكر عن المسيح أنه يخلق خلقاً مطلقاً، ولا خلقاً عامًا، كما ذكر عن نفسه تبارك وتعالى. والمسيح لم يذكر إلا خلق شيء معين خاص بإذن الله. وما يخلق من الطين كهيئة الطير؛ المراد به تصويره بصورة الطير، وهذا الخلق والتصوير محرم، بخلاف تصوير المسيح، فإن الله أذن له فيه، وجعل المعجزة بأنه: ينفخ فيه الروح فيصير طيراً بإذن الله، وليس المعجزة مجرد خلقه (تصويره) من الطين، فإن هذا مشترك يقدر عليه عامة الناس. والله أخبر أن المسيح إنما فعل التصوير والنفخ بإذنه تعالى، وهذا كله صريح في أنه ليس هو الله، وإنما هو عبد الله. والله أخبر في القرآن أن المسيح خَلَق من الطين كهيئة الطير بإذن الله، ففرّق بين المسيح وبين الله، وبيّن أن الله هو الآذن للمسيح.
وما شاهدوه من معجزات المسيح عليه الصلاة والسلام، فقد شاهدوا من غيره ما هو مثلها، وأعظم منها، وقد أحيا غيرُه من الأنبياء الموتى بإذن الله، وأخبر بالغيوب أكثر منه، ومعجزات موسى عليه السلام أعظم من معجزات المسيح عليه السلام؛ خشبة تصير حيواناً، ثم تعود خشبة مرة بعد مرة، وتبتلع الحبال والعصي، فهذا أعجب من حياة الميت، وأحيا الله من الموتى على يد موسى وغيره من أنبياء بني إسرائيل أعظم ممّن أحياهم على يد المسيح، وبياض اليد من غير برص ثم عودها عند موسى؛ أعظم من إبراء أثر البرص الذي فعله المسيح عليه السلام. وموسى فلق الله له البحر، وكان الله يطعمهم على يده المن والسلوى، مع كثرة بني إسرائيل، ويفجر لهم بضربه للحجر كل يوم اثني عشر عيناً يكفيهم، وهذا أعظم من إنزال المسيح عليه السلام للمائدة، ومن قلب الماء خمراً، ونحو ذلك مما يحكى عنه صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. وكان لموسى
في عدوه من القُمّل، والضفادع، والدم، وسائر الآيات ما لم يكن مثله للمسيح وكون المسيح عليه السلام تكلم في المهد؛ فقد شاركه غيره من بني إسرائيل في ذلك؛ كما ثبت في الصحيحين أنه تحدث في المهد الرضيع من بني إسرائيل حين مر رجل راكب ذو شارة فقالت أم الرضيع: اللهم اجعل ابني مثله، فترك ثديها وأقبل على الراكب، فقال:"اللهم لا تجعلني مثله"، ثم أقبل على ثديها يمصه. (صحيح البخاري برقم 3466). وكذلك الرضيع صاحب جُرَيج الذي نسبوه للعابد جريج من الزنا، وكان من بني إسرائيل فتوضأ وسأله: من أبوك؟ فقال الرضيع: "الراعي". (صحيح البخاري برقم 2482). .
وكون المسيح لم يكن له أبٌ؛ فآدم لم يكن له أب ولا أم، وكذلك حواء، وكان خلق آدم وحواء أعجب من خلق المسيح، فإن حواء خلقت من ضلع آدم، وهذا أعجب من خلق المسيح في بطن مريم، وخلق آدم من تراب أعجب من هذا، ولم يكن آدم بما نفخ الله فيه من روحه إلهاً!
معنى وصف المسيح بأنه (كلمة الله)
ومعنى أن المسيح (كلمة الله) هو أنه مخلوق بكلمة من كلام الله؛ حيث قال له: كن؛ فكان.
فكلمات الله كثيرة لا نهاية لها، وكلام الله الذي سمعه منه موسى عليه السلام ليس هو المسيح، فعلم أن المسيح ليس هو كلام الله.
لكن النصارى ظنوا أن المسيح هو كلام الله، وأنه خالق. وهذا باطل؛ فإن القرآن كلام الله، وليس بخالق، والتوراة كلام الله وليست بخالقة، وكلمات الله كثيرة، وليس منها شي خالق، فلو كان المسيح نفس الكلام لم يجز أن يكون خالقاً، فكيف وليس هو الكلام؟! وإنما خُلق بالكلمة،
وخُص باسم الكلمة؛ فإنه لم يُخلق على الوجه المعتاد الذي خُلق عليه غيره، بل خرج عن العادة، فخُلق بالكلمة من غير السُّنَّة المعروفة في البشر.
معنى وصف المسيح بأنه (روح الله)
والإنسان مركب من روح وبدن، والله تبارك وتعالى بإجماع المسلمين، واليهود، والنصارى ليس هو روحًا وبدناً كالإنسان، بل هو سبحانه أحد صمد، لا جوف له، ولا يدخل فيه شيء، ولا يخرج منه شيء.
وأما لفظة (رُوح الله) فيراد بها: الروح التي خلقها واصطفاها فأحبها. ولم يعبر أحد من الأنبياء عن حياة الله بأنها روح الله. وقد أخبر الله أنه أرسل إلى مريم روحه، فتمثل لها بشراً سوياً، وتبين أنه رسوله (جبريل)، فعلم أن المراد بالروح: مَلَك، وهو روح اصطفاها، فأضافها إليه، كما يضاف إليه الأعيان التي خصها بخصائص يحبها، كقوله:{نَاقَةَ اللَّهِ} [الشمس: 13]، وقوله:{وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج: 26]، وقوله:{عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} [الإنسان: 6]. فسمى المسيح روحه؛ لأنه خلقه من نفخ روح القدس في أمه، فحبلت به أمه بنفخ الروح الذي نُفخ فيها، لم تحبل به من ذَكَر كغيره من الآدميين، ولم يخلقه كما خَلق غيرَه من أب آدمي. فلمّا خُلق من نفخ الروح ومن مريم؛ سُمي روحاً، بخلاف سائر الآدميين؛ فإن أحدهم يخلق من ذكر وأنثى، ثم ينفخ فيه الروح بعد مضي أربعة أشهر
(1)
.
(1)
ومَثَلُ عيسى كَمَثَل آدم، فإن الله خلق آدم من نفخ الروح وليس له أب، والمسلمون واليهود والنصارى متفقون على خلق آدم من نفخ الروح ومن غير أب.
معنى لفظة (روح القدس)
و (روح القدس) الذي هو الوحي وهو روح الحكمة والفهم والعلم، ويسمى به أيضاً: المَلَك الذي ينزل بالوحي والتأييد لأنبياء الله وأوليائه، فسماه روح القدس، وسماه الروح الأمين، وسماه جبريل.
لكن النصارى سموا روح القدس: حياة الله. واعتقدوا أنه إله يخلق ويرزق ويعبد!!
مع أن لفظة (روح القدس) موجودة في مواضع كثيرة في كتبهم، وليس المراد بها حياة الله باتفاقهم، بل (روح القدس) عندهم تحل في إبراهيم، وموسى، وداود، وغيرهم من الأنبياء الصالحين. ولم يصبحوا بذلك آلهة! وأهل الكتاب يقرّون بذلك، وأن غير المسيح من الأنبياء كان مؤيداً بروح القدس، كداود وغيره، بل يقولون: إن الحواريين كانت فيهم روح القدس. وهذا التأييد بروح القدس لمن ينصر الرسل عام في كل من نصرهم على من خالفهم من المشركين. وهكذا خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم كان يقول لحسان بن ثابت: «إن روح القدس معك ما دمت تدافع عن نبيه» ، ويقول:«اللهم أيده بروح القدس» . فهذا حسان بن ثابت واحد من المؤمنين، والله أيده بروح القدس، فلا يقتضي اتحاد اللاهوت بالناسوت، فعلم أن التأييد بروح القدس ليس من خصائص المسيح عليه السلام.
إطلاق كلمة (الأب) و (الابن) في اللغة العبرية القديمة
والنصارى سموا كلام الله الذي هو صفته: ابناً. والأنبياء لم يطلقوا لفظ (الابن) إلا على مخلوق. وأهل الكتاب يذكرون أن الله قال في التوراة ليعقوب «إسرائيل» : «أنت ابني بكري» . والمراد في تلك اللغة أنه
مصطفى محبوب الله
(1)
، وقال لداود في الزبور:«أنت ابني وحبيبي» وفي الإنجيل في غير موضع يقول المسيح: «أبي وأبيكم» فسماه أباً للجميع كقوله: «إني أذهب إلى أبي وأبيكم، وإلهي وإلهكم» فيسميه أباً لهم، كما يسميهم أبناء له، فإن كان هذا صحيحاً؛ فالمراد بذلك أنه الرب المربي الرحيم، فإن الله أرحم بعباده من الوالدة بولدها، والأب في لغتهم هو:(الرَّبُّ) الذي يربي عبده، أعظم مما يربي الأب ابنه. والابن هو:(المربَّىَ) المرحوم، فإن تربية الله لعبده أكمل من تربية الوالدة لولدها، فيكون المراد بالأب: الرب، والمراد بالابن عنده: المسيحَ الذي رباه.
لغة الأناجيل واختلافها وعدم تواترها
والمسيح كان لسانه عبرياً ولم يكن يتكلم إلا بالعبرية، كسائر أنبياء بني إسرائيل، وكذلك ألسنة الحواريين الذين اتبعوه أولاً، ثم إنه أرسلهم إلى الأمم يخاطبونهم، ويترجمون لهم ما قاله المسيح. ومن قال: إن لسانه كان سريانياً -كما يظنه بعض الناس- فهو غالط، فالكلام المنقول عنه في الأناجيل إنّما تكلم به عبرياً، ثم ترجم من تلك اللغة إلى غيرها
(2)
.
(1)
في لغة اليهود العبرية القديمة؛ كل متمسك بالدين يسمونه: من عيال الله؛ بمعنى: الاصطفاء والمحبة والتربية. لكن المحرّفين من النصارى ترجموها حرفياً إلى: ابن الله، وحملوها على البنوة الطبيعية.
(2)
وقد غلط كذلك من ادعى أن لغة المسيح هي الآرامية، فقد كانت هناك حركة للترجمة من العبرية إلى الآرامية خاصة بعد التهجير البابلي، و (الترجوم) كلمة آرامية من الأصل الأكادي «تورجومانو» وهي تعني «مترجم» إلى اللغة الآرامية خاصةً، ويُطلَق هذا المصطلح على الترجمات الآرامية للكتاب المقدَّس، وأشهرها الترجوم المنسوب إلى أونكيلوس 200 م.
وادعى النصارى أربع دعاوى باطلة في أناجيلهم: أنها موجودة باثنين وسبعين لساناً، وأنها متفقة، وأنها كلها منقولة عن الحواريين، وأن الحواريين معصومون
(1)
.
(1)
في أول الأناجيل جاء قولهم: قال المعلم. وعند يوحنا على لسان عيسى وهم يحاكمونه: "إلهكم وإلهي" و"ربي وربكم" و"أبي وأبيكم". فدل على بشريته وأن له رباً وإلهاً. وأقدم مخطوطات أناجيل النصارى المعلنة لديهم ثلاث غير متفقة، وهي:
1 -
النسخة السينائية CODEX SINAITICUS التي وجدت في سيناء (يعتبرونها المرجع).
2 -
النسخة الأسكندرية CODEX ALEXANDRINUS التي وجدت في الإسكندرية.
3 -
النسخة الفاتيكانية Codex Vaticanus.
وكلها يذكر أنها موجودة في الفاتيكان، وبعضها في روسيا، وأنها من القرن الخامس بعد الميلاد، فبين أقدم مخطوطة وبين المسيح: خمسة قرون ليس فيها أي علم إسناد أو علم رجال أو سند متصل، وهي في الواقع صناعة رومانية، وإن بدأت كصناعة إغريقية.
فزوروا وأضافوا نصوصاً على هذه المخطوطات، وتلاعبوا في ترجمتها؛ ففي المخطوطات القديمة لإنجيل مرقص ينتهي النص إلى 16 - 9. لكن في الأناجيل الحديثة ينتهي النص إلى 16 - 20، فأضافوا أحد عشر كذبة لأهميتها في عقديتهم المحرفة التي لم يأت بها المسيح؛ وذلك أنهم زعموا أن المسيح لما صلب وقام من الموت؛ لم يره أحد من أتباعه، فكيف يبررون علمهم بقيامه من قبره؟ فأضافوا هذه الزيادات، وقالوا: رآه خمسة آلاف شخص، وذهب إلى طبرية، وهناك أحضر لهم قليلاً من السمك والعسل، وباركها، فأكلوا منها جميعاً، ثم رفع للسماء.
وورد ذكر مكة وزمزم في كتبهم (في وادي غير ذي زرع في بكة) هكذا وردت عندهم بالباء؛ كما في القرآن، لكنهم في الترجمات العربية حرفوها بحسب مكان طباعة الترجمة، وحسب وجود العرب في منطقة الترجمة؛ للكذب والتعمية على العرب، ففي لبنان ترجمت إلى (وادي البكاء)، لكن في الترجمة الفرنسية الكاثوليكية المطبوعة في لبنان كتبت (وادي الدموع). وفي الترجمة الفرنسية المطبوعة في فرنسا تركت كما هي (في بكة)، وفي الترجمة الإسبانية في جنوب أمريكا تركت كما هي (في بكة)، لكن الترجمة الإسبانية المطبوعة في إسبانيا لوجود العرب والخلفية الأندليسية ترجمت إلى (وادي الدموع). والأناجيل كتبت باللغة الإغريقية القديمة الكونيجريك قصداً من الكنيسة حتى لا يقرأ النصارى حرفاً من كتابهم، وأول من ترجم الكتاب المقدس بشقيه للغة حية مقروءة ومكتوبة وهي الألمانية هو مارتن لوثر Martin Luther، وحكموا عليه بالهرطقة، قيل: لأنه قرأ كتاب التوحيد لابي حيان الأندلسي وكتب بعده 90 سؤالاً ودقها على باب رئيس الدير وطلب الإجابة منه، وقال:"وإلا سأعترض"(آي بروتست i protest) فسموهم: البروتوستانت (الإعتراضيين). وكانت الكنيسة في روما مستمرة في لعن وعداوة اليهود، وقامت حملات عارمة تزعمها البابا لتنظيف المجتمعات الأوروبية من اليهود، فلما ظهرت الحركة البروتستانتية النصرانية ابتهج اليهود بهذه الحركة ووجدوا فيها متنفساً لهم وفرصة للانتقام من البابا وأتباعه وضرب النصارى بعضهم ببعض؛ فسخروا مكرهم ودهاءهم وأموالهم لنشرها وإشعال الحرب بين النصارى. وبعدها قتل مارتن لوثر في حرب ألمانيا (حرب الثلاثين سنة) التي قُتل خلالها عشر ملايين شخص من البروتوستانت، قتلهم شارلمان، وبقاياهم هربوا إلى أمريكا وسموا نفسهم الحجاج. وانشق البروتوستات عن الكاثوليك، فأول من بدأ النقد النصي والتعديل في الأناجيل textual هم البروتوستانت، وأما الكثالوليك والأرثودوكس فرفضوا في بداية الأمر إلى نهاية القرن التاسع عشر بداية القرن العشرين. ثم انشق البروتستانت إلى المعمدانيين والمشيخيين، وتكونت فرق المورمن والبابتست والميثاديست وسفن دي أدفاندس والسبتيين وغيرهم. ويوجد اليوم أيضاً من فرق النصارى: الآشوريين في شمال سوريا ومناطق العراق، والكلدانيين، والنساطرة، واليعاقبة. كلهم موجودون اليوم، واختلافهم في طبيعة المسيح، يقولون انبثق من الأب فقط، أو من الأب والروح القدس، أو له طبيعتان لاهوتية وناسوتية. وكل واحد يكفر الآخر.
فلما بدؤوا يقرؤون كتابهم بعد الترجمات إلى اللغات الحيّة؛ لم يجدوا عقيدتهم وكل تحريفاتها في كتابهم، لذلك اخترع الفاتيكان قانوناً كنسياً سموه (كانونيكان) يعني القانون الإلهي، ويعنون أن النص (الكتاب) ليس فقط هو المشرِّع، (مثل حق الفيتو)؛ أي أن كلام البابا في الفاتيكان أهم من كلام الكتاب المقدس، وأكبر عالم أمريكي نصراني في علم (النقد النصي -الذي بدأ في عام 1725 م في ألمانيا-) بروفيسور بارت إيرمان Bart D.Ehrman وهو اليوم عميد كلية اللاهوت في جامعة نورث كارولاينا بأمريكا University of North Carolina؛ كتب كتابه:(قصة من حرّف الكتاب المقدس ولماذا Misquoting Jesus: The Story Behind Who Changed the Bible and Why) ومن بعده ألّف كتاباً آخر سماه: (المنحول Forged) يعني أن الكتاب المقدس كله ليس فيه شيء ولا كلمة من النصرانية ولا كلام المسيح عليه السلام. ولا تتعجب حين تسمع بعض مؤرخي النصارى المعاصرين يقول: "إنّ المخطوطات الأصلية للكتاب المقدس إما أنها فقدت أو مخبأة أو لم تعد موجودة، وتأريخ الأناجيل وكتب العهد الجديد الأخرى هو في أحسن الأحوال: (تخمين) ".
والتوراة التي عند السامرة تُخالف توراة اليهود والنصارى حتى في العشر الكلمات، فذَكر السامرة فيها من أمر استقبال الطور ما لا يوجد في نسخ اليهود والنصارى، وكذلك بين نسخ اليهود والنصارى اختلاف معروف، ونسخ الإنجيل مختلفة، ونسخ الزبور مختلفة اختلافاً أكثر من ذلك.
فإذا قالت النصارى: نسخنا هي الصحيحة. لم يكن هذا أولى من قول اليهود: نسخنا هي الصحيحة. بل معلوم أن اعتناء اليهود بالتوراة أعظم من اعتناء النصارى.
وبين توراة اليهود والنصارى والسامرة: اختلاف، وبين نسخ الزبور اختلاف أكثر من ذلك، وكذلك بين الأناجيل، فكيف بنُسَخِ النبوات؟!
(1)
والأناجيل التي بأيدي أهل الكتاب فيها ذكر صلب المسيح، وعندهم أنها مأخوذة عن الأربعة: مرقس، ولوقا، ويوحنا، ومتى؛ مع أنه لم يكن في هؤلاء الأربعة من شهد صلب المسيح، ولا من الحواريين، بل ولا في أتباعه من شهد صلبه، بل كان الحواريون خائفين غائبين، فلم يشهد أحد منهم الصلب، وإنما شهده اليهود وهم الذين أخبروا الناس أنهم صلبوا المسيح، والذين نقلوا أن المسيح صُلب من النصارى وغيرهم إنما نقلوه عن أولئك اليهود، وهم شُرَط من أعوان الظلمة، لم يكونوا خلقاً كثيراً يمتنع تواطؤهم على الكذب.
وكاتبوا الأناجيل عندهم أربعة، وهم يدعون أن كل واحد كتبها بلسان، كتبت باللسان العبري، والرومي، واليوناني، مع أن في بعض الأناجيل ما ليس في بعض، وإذا كان كل واحد من الأربعة كتب إنجيلاً بلسانه؛ لم يكن هناك إنجيل واحد أصلي ترجع إليه الأناجيل كلها.
وليس مع النصارى نقل متواتر عن المسيح بألفاظ هذه الأناجيل. ولا نقلٌ لا متواترٌ ولا آحادٌ بأكثر ما هم عليه من الشرائع. ولا عندهم ولا عند اليهود نقلٌ متواترٌ بألفاظ التوراة ونبوات الأنبياء كما عند المسلمين
(1)
المراد بالنبوات: ما يروونه عن أنبياء بني إسرائيل من كتب ورسائل أضافوها إلى كتابهم المقدس غير التوراة والإنجيل والزبور.
نقلٌ متواترٌ بالقرآن وبالشرائع الظاهرة المعروفة للعامة والخاصة، ومن الألفاظ التي بأيديهم ما لا تناقض ما أخبر به محمد صلى الله عليه وسلم بل تدل على صدق محمد صلى الله عليه وسلم.
وأما الإنجيل الذي بأيديهم فهم معترفون بأنه لم يكتبه المسيح عليه السلام ولا أملاه على من كتبه، وإنما أملوه بعد رفع المسيح: متى ويوحنّا، وكانا قد صحبا المسيح، ولم يحفظه خلق كثير يبلغون عدد التواتر، والحواريون كلهم اثنا عشر رجلًا. ومرقس ولوقا لم يريا المسيح عليه السلام، وقد ذكر هؤلاء أنهم ذكروا بعض ما قاله المسيح، وبعض أخباره، وأنّهم لم يستوعبوا ذكر أقواله وأفعاله. ونقل اثنين وثلاثة وأربعة يجوز عليه الغلط، لا سيما وقد غلطوا في المسيح نفسه حتى اشتبه عليهم بالمصلوب.
والنصارى متفقون على أن هذه المقالات الأربعة التي يسمونها الإنجيل -وقد يسمون كل واحد منها إنجيلاً- إنما كتبها هؤلاء بعد أن رُفع المسيح، فلم يذكروا فيها أنها كلام الله، ولا أن المسيح بلّغها عن الله، بل نقلوا فيها أشياء من كلام المسيح، وأشياء من أفعاله، ومعجزاته، وذكروا أنهم لم ينقلوا كل ما سمعوه منه ورأوه، فكانت من جنس ما يرويه أهل الحديث، والسير، والمغازي عن النبي صلى الله عليه وسلم من أقواله، وأفعاله التي ليست قرآناً.
ابتداع النصارى عقيدة حبس إبليس وعقيدة الصلب والفداء
ويزعم النصارى أن آدم لما أكل من الشجرة غضب الرب عليه وعاقبه، وأن تلك العقوبة بقيت في ذريته إلى أن جاء المسيح، وصلب، وأنه كانت الذرية في حبس إبليس، فمن مات منهم ذهبت روحه إلى جهنم
في حبس إبليس، حتى قالوا ذلك في الأنبياء: نوح، وإبراهيم، وموسى، وداود، وسليمان، وغيرهم.
ومعلوم أن إبراهيم كان أبوه كافراً، ولم يؤاخذه الله بذنب أبيه، فكيف يؤاخذه بذنب آدم، وهو أبوه الأبعد؟ هذا لو قدر أن آدم لم يتب، فكيف وقد أخبر الله عنه بالتوبة؟! وقد تاب الله عليه، واجتباه وهداه، وسواء تاب آدم، أو لم يتب، فكيف يجوز أن يكون رسل الله الذين هم أفضل منه محبوسين في حبس الشيطان في جهنم بذنبه؟! وإبراهيم خليل الرحمن كان أبوه كافراً، ولم يؤاخذه الله بذنبه! فكيف يجعله في جهنم في حبس الشيطان بسبب ذنب أبيه الأقصى آدم، مع أنه كان نبياً؟!
ثم يزعمون أن الصلب -الذي هو من أعظم الذنوب والخطايا- به خلص الله آدم وذريته من عذاب الجحيم، وبه عاقب إبليس، مع أن إبليس ما زال عاصياً لله مستحقاً للعقاب من حين امتنع من السجود لآدم، ووسوس لآدم إلى حين مبعث المسيح، والرب قادر على عقوبته.
فأي مناسبة بين الصلب -الذي هو من أعظم الذنوب- وبين تخليص هؤلاء من الشيطان؟! إن قالوا: الرب جل وعلا ما كان يقدر على تخليصهم من الشيطان -مع علمه بأنه ظالم معتد عليهم بعد الموت- إلا بأن يحتال عليه بإخفاء نفسه ليتمكن الشيطان منه كما يزعمون؛ فهذا مع ما فيه من الكفر العظيم وجعل الرب سبحانه عاجزاً كما جعلوه أولاً ظالماً؛ فيه من التناقض ما يقتضي عظيم جهلهم الذي جعلوا به الرب جاهلاً؛ فإنّهم يقولون: إنه احتال على الشيطان؛ ليأخذه بعدل، كما احتال الشيطان على آدم بالحية؛ فاختفى منه. فلما أراد الشيطان أخذ روحه؛ ليحبسه في جهنم كسائر من مضى، وهو لم يعمل خطيئة استحق
الشيطان أن يأخذه الرب، ويخلص الذرية من حبسه، وهذا تجهيل منهم للرب -سبحانه وتعالى عما يقولون- مع تعجيزه وتظليمه.
والنصارى يقولون: إن المسيح -الذي هو عندهم إله وبشر- إنما مكّن الكفار من صلبه ليحتال بذلك على عقوبة إبليس. قالوا: فأخفى نفسه عن إبليس لئلا يُعلم، ومكن أعداءه من أخذه، وضربه، والبصاق في وجهه، ووضع الشوك على رأسه، وصلبه، وأظهر الجزع من الموت، وصار يقول:"يا إلهي! لم سلّطت أعدائي عليّ"؛ ليختفي بذلك عن إبليس، فلا يعرف إبليس أنه الله، أو ابن الله، ويريد إبليس أن يأخذ روحه إلى الجحيم، كما أخذ أرواح نوح، وإبراهيم، وموسى، وغيرهم من الأنبياء والمؤمنين، فيحتج عليه الرب حينئذ، ويقول: بماذا استحللت يا إبليس أن تأخذ روحي؟ فيقول له إبليس: بخطيئتك. فيقول ناسوتي: لا خطيئة له كنواسيت الأنبياء؛ فإنه كان لهم خطايا استحقوا بها أن تؤخذ أرواحهم إلى جهنم، وأنا لا خطيئة لي. وقالوا: فلما أقام الله الحجة على إبليس؛ جاز للرب حينئذ أن يأخذ إبليس ويعاقبه، ويخلص ذرية آدم من إذهابهم إلى الجحيم.
فكيف جاز تمكين إبليس من عقوبة الأنبياء المتقدمين، ولم يمكّن من عقوبة الكفار والجبابرة الذين كانوا بعد المسيح؟!
وأَخْذُ إبليس لذرية آدم وإدخالهم جهنم؛ إما أن يكون ظلماً من إبليس، وإما أن يكون عدلًا، فإن كان عدلاً فلا لوم على إبليس، ولا يجوز أن يحتال عليه ليمتنع من العدل الذي يستحقه، بل يجب تمكينه من المتأخرين والمتقدمين. وإن كان ظلماً؛ فلِمَ لا يمنعه الرب منه قبل مجيء المسيح؟!
فإن قيل: لم يقدر؛ فقد نسبوه إلى العجز. وإن قيل: قدر على دفع ظلم إبليس، ولم يفعله؛ فلا فرق بين دفعه في زمان دون زمان، إن جاز ذلك؛ جاز في كل زمان، وإن امتنع؛ امتنع في كل زمان.
فهل يقول عاقل: إن إبليس له أن يغوي بني آدم بتزيينه لهم، ثم له أن يعاقبهم جميعاً بغير إذن من الله في ذلك؟!
ثم يقال: إبليس عاقب بني آدم، وأدخلهم جهنم بإذن الله، أو بغير إذنه؟ إن قالوا: بإذنه؛ فلا ذنب له، ولا يستحق أن يحتال عليه؛ ليعاقب ويمتنع.
وإن كان بغير إذنه؛ فهل جاز في عدل الله أن يمكنه من ذلك، أم لم يجز؟ فإن جاز ذلك في زمان؛ جاز في جميع الأزمنة، وإن لم يجز في زمان؛ لم يجز في جميع الأزمنة، فلا فرق بين ما قبل المسيح، وما بعده.
ويقال لهم: هل كان الله قادراً على منع إبليس وعقوبته بدون هذه الحيلة، وكان ذلك عدلًا منه لو فعله، أم لا؟! فإن كان ذلك مقدوراً له، وهو عدل منه، لم يحتج أن يحتال على إبليس. وإن قيل: لم يكن قادراً على منع إبليس، فهو تعجيز للرب عن منع إبليس.
وهل هذا القول إلا من قول المجوس الثنوية الذين يقولون: إن كل ما في العالم من الشر من الذنوب والعقاب وغير ذلك هو من فعل إبليس، لم يفعل الله شيئاً من ذلك، ولا عاقب الله أحداً على ذنب؟!.
ولا ريب أن هذا القول سرى إلى النصارى من المجوس، لهذا لا ينقلون هذا القول في كتاب منزل، ولا عن أحد من الحواريين، ولهذا كان
المانوية دينهم مركباً من دين النصارى والمجوس، وكان رأسهم ماني نصرانياً مجوسياً، فالنسب بين النصارى والمجوس، بل وسائر المشركين نسب معروف
(1)
.
وما فعله به الكفار اليهود الذين صلبوه طاعة لله؟ أو معصية؟ فإن كان طاعة لله؛ استحق اليهود الذين صلبوه أن يثيبهم ويكرمهم على طاعته كما يثيب سائر المطيعين له. والنصارى متفقون على أن أولئك من أعظم الناس إثماً، وهم من شر الخلق.
وإن كان أولئك اليهود عصاة لله، فهل كان قادراً على منعهم من هذه المعصية، أم لا؟! فإن لم يكن قادراً؛ لم يكن قادراً على منع إبليس من ظلم الذرية في الزمن المستقبل. وإن كان قادراً على منعهم من المعاصي ولم يمنعهم؛ كان قادراً على منع إبليس بدون هذه الحيلة. وإذا كان حسناً منه تمكينهم من هذه المعصية؛ كان حسنًا منه تمكين إبليس من ظلم الذرية في الماضي والمستقبل، فلا حاجة إلى الحيلة عليه.
وزعمهم أن جميع بني آدم: من الأنبياء، والرسل، وغيرهم كانوا في الجحيم، في حبس الشيطان؛ لأجل أن أباهم آدم أكل من الشجرة، وأنهم إنما تخلصوا من ذلك لما صلب المسيح؛ فإن هذا الكلام لو نقله ناقل عن
(1)
المانوية أو المنانية Manichaeism ديانة تنسب إلى مؤسسها "ماني بن فاتك الحكيم" وهو شخص عاش بعد عيسى عليه السلام في بلاد فارس، ونشأ نصرانياً، ثم تأثر بالديانات الوثنية المنتشرة في بلاد فارس والهند والصين، فأحدث ديناً بين المجوسية والنصرانية دعا الناس إليه، وكان يقول بنبوة المسيح عليه السلام، ولا يقول بنبوة موسى عليه السلام، وكانت ديانته قائمة على الاعتقاد بوجود إلهين، النور والظلمة، وأن الروح لا تنال السعادة وتنجو من قوة الظلام إلا بانفصالها عن الجسد، فكان يدعو إلى التسريع بفناء البشر، عن طريق ترك الزواج والزهد فيه، وغير ذلك من ضلالاته.
بعض الأنبياء لقطعنا بكذبه عليهم، فكيف وهذا الكلام ليس منقولاً عندهم عن أحد من الأنبياء، وإنّما ينقلونه عمن ليس قوله حجة لازمة.
عقيدة الأمانة الموضوعة في مجمع نيقية 325 م
والنصارى يبطنون خلاف ما يظهرون، ويفهم جمهور الناس من مقالاتهم خلاف ما يزعم بعضهم أنه مرادهم. وتضع لهم عقائدهم وشرائعهم أكابرهم بعد المسيح، كما وضع لهم الثلاث مائة وثمانية عشر -الذين كانوا في زمن قسطنطين الملك- (الأمانة) التي اتفقوا عليها، ولعنوا من خالفها من الأريوسية وغيرهم، وفيها أمور لم ينزل الله بها كتاباً، بل تخالف ما أنزله الله من الكتب، مع مخالفتها للعقل الصريح.
قالوا فيها: «نؤمن بآله واحد، أب ضابط الكل، خالق السموات والأرض، كل ما يُرى وما لا يرى، وبربّ واحد: يسوع المسيح، ابن الله الوحيد، المولود من الأب قبل كل الدهور، نور من نور، إله حق من إله حق، مولود غير مخلوق، مساوٍ للأب في الجوهر الذي به كان كل شيء، الذي من أجلنا نحن البشر، ومن أجل خلاصنا نزل من السماء، وتجسد من روح القدس، ومن مريم العذراء وتأنس، وصلب على عهد بيلاطس البنطي، وتألم، وقُبر، وقام في اليوم الثالث كما في الكتب، وصعد إلى السماء، وجلس عن يمين الأب، وأيضاً فسيأتي بمجده ليَدِين الأحياءَ والأموات، الذي لا فناء لملكه، وبروح القدس الرب المحيي المنبثق من الأب، مع الأب والابن مسجودٌ له، وبمجد الناطق في الأنبياء، وبكنيسة
واحدة جامعة مقدسة رسولية، ونعترف بمعمودية واحدة لمغفرة الخطايا، ونترجى قيامة الموتى، وحياة الدهر الآتي، آمين»
(1)
.
فوضع لهم كبراؤهم ما لم يوجد في كتب الأنبياء، كما قال تعالى:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} .
جملة من تناقضات عقيدة النصارى
والنصارى يدّعون في كتابهم أن المسيح عليه السلام إله تام، وإنسان تام، وهذا يمتنع شرعاً وعقلاً، ثم يصفونه بالصفات المتناقضة، ويصفونه بأن طائفة من أشرار اليهود وضعوا الشوك على رأسه، وبصقوا في وجهه، وأهانوه، وصلبوه، وفعلوا به ما لا يفعل بأخس الناس، ويقولون مع ذلك إنه رب السماوات والأرض وما بينهما.
ومن تناقضهم أنهم يقولون أن المسيح خالق آدم وداود ومريم وأنه ابن لهم!!
وقالوا: «إنه كلمته وروحه» ، وهذا تناقض منهم؛ لأنه عندهم:(الكلمة) فقط، لا أقنوم الحياة؛ حيث إنهم يعتقدون أن روح القدس التي خلق المسيح منها ومن مريم هي حياة الله. ويلزم من ذلك أيضاً أن يكون المسيح فيه لاهوتان: الكلمة، وروح القدس.
ويقولون: هو الله، وهو ابن الله -كما حكى الله عنهم- ولا يقولون: هو الأب والابن!! والأب عندهم هو الله، وهذا من تناقضهم!!
(1)
هذا نص عقيدة (الأمانة) التي نقل شيخ الإسلام ابن تيمية أنهم اتفقوا عليها في مجمع نيقية عام 325 م، ورواها بأكثر من لفظ، ورواها غيره بألفاظ متقاربة، ثم زادوا عليها في مجامع أخرى، ولا يزالون في التبديل والتغيير حتى وقتنا هذا. ولمزيد عن تجمّع هذا القانون العقدي لديهم عبر المجامع المسكونية الكنسية: الاطلاع على كتاب «مناظرة بين الإسلام والنصرانية» ص (204 - 215).
وقالوا: «وأما تجسيم كلمة الله الخالقة» ثم قالوا: «فكلمة الله التي بها خلقت اللطائف» . فتارة يجعلونها خالقة، وتارة يجعلونها مخلوقاً بها، ومعلوم أن الخالق ليس هو المخلوق به!!
ومعنى ما ينقلوه من عبارات تفيد ظهور الرب في عيسى: هو نظير ما في التوراة من قوله: «جاء الله من طور سيناء، وأشرق من ساعير، واستعلن من جبال فاران» ، ومعلوم أنه ليس في هذا ما يدل على أن الله حال في موسى بن عمران، ومتحد به. وإنما يراد به حلول الإيمان به، ومعرفته، ومحبته، وذكره، وعبادته، ونوره، وهداه، كما ظهر في إبراهيم، وموسى، ومحمد صلوات الله عليهم وسلامه، وكما يظهر في بيوته التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، وذلك بظهور نوره ومعرفته، وذكر أسمائه وعبادته فيها.
وكقوله تعالى في القرآن: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} [الفتح: 10] وقوله: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80]. وليس ذلك لأن الرسول هو الله، ولا لأن نفسه حال في الرسول، بل لأن الرسول يأمر بما أمر الله به، وينهى عما ينهى الله عنه، ويحب ما يحبه الله. وإذا قال القائل: أنت والله في قلبي، أو في سويداء قلبي. أو قال له: والله ما زلت في قلبي، وما زلت في عيني، ونحو ذلك؛ علم جميع الناس أنه لم يرد ذاته. وكما يقول أحدهم لمن مات والده: أنا والدك. أي: قائم مقامه. ويقولون للولد القائم مقام أبيه: من خلّف مثلك ما مات. ومن تصور هذه الأمور تبين له أن لفظ الحلول قد يعبر به عن معنى صحيح، وقد يعبر به عن معنى فاسد. ومن هذا الباب ما يذكر عن المسيح السلام أنه قال:«أنا وأبي واحد، من رآني فقد رأى أبي» . فينبغي أن يعرف هذا النوع من الكلام، فإنه تنحل به إشكالات كثيرة؛ فإن هذا موجود في كلام
الله ورسله، وكلام المخلوقين في عامة الطوائف، مع ظهور المعنى، ومعرفة المتكلم والمخاطب أنه ليس المراد أن ذات أحدهما اتحدت بذات الآخر.
وقول الله جل وعلا: «إنا نحن» هو لفظ يقع في جميع اللغات على من كان له شركاء وأمثال، وعلى الواحد المطاع العظيم، الذي له أعوان يطيعونه، وإن لم يكونوا شركاء ولا نظراء. وليس معناه أن معه آلهة أخرى.
فلو كان الرب بذاته متحداً بناسوت بشري لكان الأنبياء يخبرون بذلك إخباراً صريحاً بيناً، لا يحتمل التأويلات. ولو جاز أن يتحد الرب سبحانه بحي من الأحياء، ويحل فيه، لكان حلوله في ملك من الملائكة واتحاده به؛ أولى من حلوله واتحاده بواحد من البشر.
بل قد قام الدليل على أن غير عيسى عليه السلام أفضل منه، مثل إبراهيم، ومحمد صلى الله عليهما وسلم، وهذان اتخذهما الله خليلين، وليس فوق الخلة مرتبة، فلو كان يحلّ في أجل ما خلقه الله من الإنسان -لكونه أجلّ مخلوقاته- لحلّ في أجلّ هذا النوع، وهو الخليل ومحمد صلى الله عليهما وسلم.
وإذا قالوا: «إنه لم يعمل خطيئة» فيحيى بن زكريا لم يعمل خطيئة، ومن عمل خطيئة وتاب منها فقد يصير بالتوبة أفضل مما كان قبل الخطيئة، وأفضل ممّن لم يعمل تلك الخطيئة، والخليل وموسى أفضل من يحيى الذي يسمونه «يوحنا المعمداني» .
وقال المسيح لتلاميذه: «آمنوا بالله، وآمنوا بي» وقال أيضاً: «من يؤمن بي فليس يؤمن بي فقط، بل وبالذي أرسلني» . وهم يذكرون أن المسيح عليه السلام استصرخ الله قائلًا: «إلهي! إلهي! انظر لماذا تركتني، وتباعدت عن خلاصي؟» .
والمسيح عليه السلام لما سئل عن علم الساعة قال: «لا يعلمها إنسان، ولا الملائكة الذين في السماء، ولا الابن، إلا الأب فقط» . فنفى عن نفسه علم الساعة، وهذا يدل على شيئين: على أن اسم الابن إنما يقع على الناسوت دون اللاهوت، فإن اللاهوت لا يجوز أن ينفى عنه علم الساعة، ويدل على أن الابن لم يكن يعلم ما يعلمه الله، وهذا يبطل قولهم بالاتحاد.
وهؤلاء الضلال لم يكفهم أن جعلوا إله السماوات والأرض متحداً ببشر في جوف امرأة، وجعلوه له سكناً، ثم جعلوا أخابث خلق الله أمسكوه، وبصقوا في وجهه، ووضعوا الشوك على رأسه، وصلبوه بين لصين، وهو في ذلك يستغيث بالله، ويقول:«إلهي إلهي! لم تركتني» وهم يقولون: «الذي كان يسمع الناس كلامه هو اللاهوت، كما سمع موسى كلام الله من الشجرة» ، ويقولون:«هما شخص واحد» .
واللهُ باتفاق الأمم كلها لم يحل في باطن الوادي المقدس، أو البقعة المباركة، أو الجانب الأيمن، ولا اتحد بشيء من ذلك، ولا صار هو وشيء من ذلك جوهراً واحداً، ولا شخصاً واحداً، ولم يكن في باطن الشجرة، ولم يحل في الشجرة، ولم يتحد بها، مع أنه كلم موسى منها، وناداه منها. لكن النصارى يزعمون أنه حل بالمسيح واتحد به، فإنه عندهم حل بباطن المسيح، بل وبظاهره، واتحد به باطناً وظاهراً.
وقولهم إنه: «لا يتبعض، ولا يتجزأ» مناقض لما ذكروه في أمانتهم، ولما يمثلونه به؛ فإنه يمثلونه بشعاع الشمس، والشعاع يتبعض، ويتجزأ!! والتبعيض والتجزئة لازمة لقولهم؛ فإن القول بالولادة الطبيعية مستلزم لأن يكون خرج منه جزء.
ويقولون أيضاً: «إنه اتحد بالمسيح، وأنه صعد إلى السماء، وجلس عن يمين الأب» ، وعندهم أن اللاهوت منذ اتحد بالناسوت لم يفارقه، بل لما صعد إلى السماء وجلس عن يمين الأب، كان الصاعد عندهم هو المسيح الذي هو ناسوت ولاهوت، إله تام، وإنسان تام، فهم لا يقولون: إن الجالس عن يمين الأب هو الناسوت فقط، بل اللاهوت المتحد بالناسوت جلس عن يمين اللاهوت، فأي تبعيض وتجزئة أبلغ من هذا؟!
ومن أنكر الحلول والاتحاد منهم كالأريوسية يقول: إن المسيح عبد مرسل كسائر الرسل صلوات الله عليهم وسلامه، فوافقهم على لفظ الأب، والابن، وروح القدس، ولا يفسر ذلك بما يقوله منازعوه من الحلول والاتحاد
(1)
.
رسالة الحسن بن أيوب عن سبب إسلامه
والحسن بن أيوب - وهو من علماء النصارى- كتب رسالة بديعة لأخيه علي بن أيوب يبيّن فيها سبب إسلامه، ومما قال فيها:
وجدت أن «الأريوسية» من النصارى يجردون توحيد الله، ويعترفون بعبودية المسيح عليه السلام، ولا يقولون فيه شيئاً مما يقوله النصارى من ربوبية، ولا بنوة خاصة، ولا غيرهما، وهم متمسكون بإنجيل المسيح، مقرّون بما جاء به تلاميذه، والحاملون عنه، فكانت هذه الطبقة
(1)
فَهْمُ الأريوسيين منذ ذلك الزمان المعنى الصحيح المراد من ألفاظ: الأب والابن وروح القدس وغيرها من الألفاظ التي وردت في كتب الأنبياء باللغة العبرية القديمة واحتج بها مشركوا النصارى على شركهم وأوّلوها على غير مرادها؛ هو دليل على أن فَهْمَ الأريوسيين أصيل قديم، وهو الفهم الذي يتوافق مع بقية نصوص الكتب السماوية ولا يتعارض معها، ويوافق مراد الأنبياء وعقيدة التوحيد التي دعا إليها جميع الأنبياء، الذين لم يدّع أحدٌ منهم اعتقاد حلول الله أو اتحاده بشيء من خلقه أو أنه يلد أو يولد، تعالى الله عما يقول الظالمون.
قريبة من الحق، مخالفة لبعضه في جحود نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ودفع ما جاء به من الكتاب والسنة.
وأن اليعقوبية يقولون: وهو إله كله، وإنسان كله، وهو شخص واحد، وطبيعة واحدة من طبيعتين. وقالوا: إن مريم ولدت الله تعالى الله عما يقولون وإن الله مات، وتألم، وصلب متجسداً، ودفن، وقام من بين الأموات، وصعد إلى السماء.
و «الملكانية» وهم الروم -وهم أكثر النصارى- يقولون: هو شخص واحد لم يزد عدده وطبيعتان، ولكل واحدة من الطبيعتين مشيئة كاملة، فله بلاهوته مشيئة؛ مثل الأب والروح، وله بناسوته مشيئة؛ مثل مشيئة إبراهيم وداود.
وقالوا: إن مريم ولدت إلهاً، وأن المسيح -وهو اسم يجمع اللاهوت والناسوت- مات.
وقالوا: إن الله لم يمت، والذي ولدت مريم قد مات بجوهر ناسوته، فهو إله تام بجوهر لاهوته، وإنسان تام بجوهر ناسوته، وله مشيئة اللاهوت، ومشيئة الناسوت، وهو شخص واحد، لا نقول شخصان، لئلا يلزمنا القول بأربعة أقانيم.
فكيف يكون ميتاً لم يمت؟!!
و «النسطورية» وجدتهم قالوا: إن المسيح شخصان وطبيعتان، لهما مشيئة واحدة. وقالوا: إن مريم ولدت المسيح بناسوته، وأن اللاهوت لم يفارقه قط منذ اتحد بناسوته.
وقال: فوجدنا اليعقوبية قد صرحوا بأن مريم ولدت الله تعالى عما يصفه المبطلون. وأنه تألم، وصلب، ومات، وقام بعد ثلاثة أيام من بين الموتى. وهذا الكفر الذي تشهد به عليهم سائر ملل النصارى وغيرهم.
ووجدنا الملكانية قد حادوا عن هذا التصريح إلى ما هو دونه في الظاهر! فهل وقعت الولادة والموت وسائر الأفعال التي تحكي النصارى أنها فعلت بالمسيح إلا عليهما؟! فكيف يصح -لذي عقل- عبادة مولود من امرأة بشرية قد مات ونالته العلل والآفات؟!
وأما قولهم: إن مريم ولدت المسيح بناسوته. فهذه أغلوطة، وإلا فكيف يولد ولد متحد بشيء آخر مجامع له دون ذلك الشيء؟ وكيف يكون ذاك وهم يقولون: إنه لم يفارقه قط؟ وهل يصح هذا عند أهل النظر؟!!
أوليس الحكم عند كل ناظر، ومن كل ذي عقل يوجب أن تكون الولادة واقعة على اللاهوت والناسوت معا؟! بمعنى الاتحاد وبمعنى الاسم الجامع للاهوت والناسوت وهو المسيح. وكذلك الحمل بهما جميعاً! وأن يكون البطن قد حواهما!!
وشريعة إيمانهم (الأمانة) -التي ألفها لهم رؤساؤهم من البطاركة، والمطارنة، والأساقفة، والأحبار ويصفون أنهم نطقوا بها بروح القدس، وأنه لا يتم لهم قربان إلا بها- قد اعترفوا فيها جميعاً بأن الرب المسيح الإله الحق من الإله الحق نزل من السماء، وتجسد من روح القدس، وصار إنساناً، وحُبِل به، وَوُلد من مريم البتول، وتألم، وصُلب!!
فإنكم إن قلتم: إن المقتول المصلوب هو الله، فمريم على قولكم ولدت الله، سبحانه وتعالى عما يقولون!!
وإن قلتم: إنه إنسان؛ فمريم ولدت إنسانًا.
وفي ذلك أجمع بطلان شريعة إيمانكم، فاختاروا أي القولين شئتم، فإن فيه نقض الدين.
وإن كان المسيح من روح القدس، كما قال جبريل الملك لأمه مريم، فلم سميتموه كلمة الله وابنه، ولم تسموه روحه؟
ووجدناكم تذكرون في التسبيحة التي تقرأ بعقب كل قربان وفي الأخرى التي تقال في يوم الجمعة الثانية من «الفصح» : أن المسيح نزل من السماء، فأبطل بنزوله الموت والآثام. فأي خطيئة بطلت؟ وأي فتنة للشيطان انطفأت؟
فإن قلتم: إنكم استدللتم على ربوبيته بأنه أحيا الموتى، وأبرأ الأكمه والأبرص، ومشى على الماء، وصعد إلى السماء، وصير الماء خمراً، وكثر القليل؛ فيجب الآن أن ينظر إلى كل من فعل من هذه الأمور فعلاً؛ فنجعله رباً وإلهاً، وإلا فما الفرق؟!
فمن ذلك أن كتاب «سفر الملوك» يخبر أن إلياس أحيا ابن الأرملة، وأن اليسع أحيا ابن الإسرائيلية، وأن حزقيال أحيا بشراً كثيراً، ولم يكن أحد ممن ذكرنا بإحيائه الموتى إلهاً.
وأما إبراء الأكمه فهذه التوراة تخبر أن يوسف أبرأ عين أبيه يعقوب بعد أن ذهبت، وهذا موسى طرح العصا فصارت حية لها عينان تبصر بهما، وضرب بها الرمل فصار قملًا، لكل واحدة منها عينان تبصر بهما، ولم يكن واحد منهم بذلك إلهاً.
وأما إبراء الأبرص فإن كتاب «سفر الملوك» يخبر بأن اليسع قد أبرأ أبرصاً، وأبرصَ صحيحاً
(1)
، وهو أعظم مما فعل المسيح عليه السلام، فلم يكن في فعله ذلك إلهاً.
وأما قولكم: إنه مشى على الماء؛ فإن كتاب «سفر الملوك» يخبر بأن إلياس؛ صار إلى الأردن ومعه اليسع تلميذه، فأخذ عمامته فضرب بها الأردن، فاستيبس له الماء حتى مشى عليه هو واليسع، ثم صعد إلى السماء على فرس من نور، واليسع يراه، ودفع عمامته إلى اليسع، فلما رجع اليسع إلى الأردن ضرب بها الماء فاستيبس له حتى مشى عليه راجعاً.
ولم يكن واحد منهما بمشيه على الماء إلهاً، ولا كان إلياس بصعوده إلى السماء إلهاً.
وأما قولكم أنه صير الماء خمراً. فهذا كتاب «سفر الملوك» يخبر بأن اليسع نزل بامرأة إسرائيلية، فأضافته، وأحسنت إليه، فلما أراد الانصراف قال لها: هل لك من حاجة؟ فقالت المرأة: يا نبي الله! إن على زوجي ديناً قد فدحه، فإن رأيت أن تدعو الله لنا بقضاء ديننا فافعل.
فقال لها اليسع: اجمعي كل ما عندك من الآنية، واستعيري من جيرانك جميع ما قدرت عليه من آنيتهم، ففعلت، ثم أمرها فملأت الآنية كلها ماء، فقال: اتركيه ليلتك هذه، ومضى من عندها، فأصبحت المرأة وقد صار ذلك الماء كله زيتاً، فباعوه، فقضوا دينهم. وتحويل الماء زيتاً أبدع من تحويله خمراً، ولم يكن اليسع بذلك إلهاً.
وأما قولكم: أن المسيح عليه السلام كثر القليل حتى أكل خلق كثير من أرغفة يسيرة. فإن كتاب «سفر الملوك» يخبر بأن إلياس نزل
(1)
يعني شفى أبرصاً من البرص، وأصاب إنساناً سليماً بمرض البرص بإذن الله.
بامرأة أرملة، وكان القحط قد عم الناس، وأجدبت البلاد، ومات الخلق ضراً وهُزلاً، وكان الناس في ضيق، فقال للأرملة: هل عندك طعام؟ فقالت: والله ما عندي إلا كف من دقيق في قلة أردت أن أخبزه لطفل لي، وقد أيقنا بالهلاك لما الناس فيه من القحط.
فقال لها: أحضريه، فلا عليك.
فأتته به، فبارك عليه، فمكث عندها ثلاث سنين وستة أشهر تأكل هي وأهلها وجيرانها منه حتى فرج الله عن الناس.
فقد فعل إلياس في ذلك أكثر مما فعل المسيح عليه السلام لأن إلياس كثر القليل وأدامه، والمسيح كثر القليل في وقت واحد، ولم يكن إلياس بفعله هذا إلهاً.
فإن قلتم: إن هؤلاء الأنبياء ليس لهم صنع في هذه الأفعال، وإن الصنع فيها والقدرة لله جل وعلا؛ إذ كان هو الذي أجراها على أيديهم. فقد صدقتم، ونقول لكم أيضاً: كذلك المسيح ليس له صنع فيما ظهر على يديه من هذه الأعاجيب؛ إذ كان الله هو الذي أظهرها على يديه، فما الفرق بين المسيح وسائر الأنبياء؟! وما الحجة في ذلك؟!
وإن قلتم: إن الأنبياء كانت إذا أرادت أن يظهر الله على أيديهم آية تضرعت إلى الله، ودعته، وأقرت له بالربوبية، وشهدت على أنفسها بالعبودية. قيل لكم: وكذلك سبيل المسيح سبيل سائر الأنبياء، قد كان يدعو، ويتضرع، ويعترف بربوبية الله، ويقر له بالعبودية، فمن ذلك أن الإنجيل يخبر بأن المسيح أراد أن يحيي رجلاً يقال له العازر، فقال:«يا أبي! أدعوك كما كنت أدعوك من قبل فتجيبني، وتستجيب لي، وأنا أدعوك من أجل هؤلاء القيام ليعلموا» .
وقال بزعمكم وهو على الخشبة: «إلهي إلهي! لم تركتني» .
وقال: «يا أبي! اغفر لليهود ما يعملون، فإنهم لا يدرون ما يصنعون» .
وقال في إنجيل «متى» : «يا أبي! أحمدك» .
وقال: «يا أبي! إن كان بد أن يتعداني هذا الكأس، ولكن ليس كما أريد أنا، فلتكن مشيئتك» .
وقال أيضاً: «أنا أذهب إلى إلهي الذي هو أعظم مني» .
وقال: «لا أستطيع أن أصنع شيئًا، ولا أتفكر فيه إلا باسم إلهي» .
وقال يعني نفسه: «لا ينبغي للعبد أن يكون أعظم من سيده، ولا للرسول أن يكون أعظم ممن أرسله» .
وقال: «إن الله لم يلد ولم يولد، ولم يأكل ولم يشرب، ولم ينم، ولم يره أحد من خلقه، ولا يراه أحد إلا مات» .
والمسيح قد أكل وشرب، وولد، ورآه الناس، فما ماتوا من رؤيته، ولا مات أحد منهم، وقد لبث فيهم ثلاثاً وثلاثين سنة.
وقال في إنجيل «يوحنا» : «إنكم متى رفعتم ابن البشر، فحينئذ تعلمون أني أنا هو، وشيء من قبل نفسي لا أفعل، ولكن كل شيء كالذي علمني أبي» .
وقال في موضع آخر: «من عند الله أرسلت معلماً» .
وقال لأصحابه: «اخرجوا بنا من هذه المدينة، فإن النبي لا يبجل في مدينته» .
وأخبر الإنجيل: «أن امرأة رأت المسيح فقالت: إنك لذلك النبي الذي كنا ننتظر مجيئه. فقال لها المسيح: صدقت، طوبى لك» .
وقال لتلامذته: «كما بعثني أبي، كذلك أبعث بكم» . فاعترف بأنه نبي، وأنه مألوه، ومربوب، ومبعوث.
وقال لتلامذته: «إنّ مَنْ قَبِلكم وآواكم فقد قبلني، ومن قبلني فإنما يقبل من أرسلني، ومن قبل نبياً باسم نبي، فإنما يفوز بأجر من قَبِل النبي» . فبين ها هنا في غير موضع أنه نبي مرسل، وأن سبيله مع الله سبيلهم معه.
وقال «متّى» التلميذ في إنجيله -يستشهد على المسيح بنبوة أشعيا عن الله-: «هذا عبدي الذي اصطفيته، وحبيبي الذي ارتاحت إليه نفسي، أنا واضع روحي عليه، ويدعو الأمم إلى الحق» . فلن يحتاج إلى حجة أوضح من هذا القول الذي جعلتموه حجة لكم، فقد أوضح الله أمره، وسماه عبداً، وأَعلَمَ أنه يضع عليه روحه، ويؤيده بها، كما أيد سائر الأنبياء بالروح، فأظهروا الآيات المذكورة عنهم، وهذا القول يوافق ما بشر به جبريل -المَلَك- مريم حين ظهر لها، وقال القول الذي سقناه في صدر كتابنا.
وقال «يوحنا» التلميذ في الإنجيل عن المسيح عليه السلام: «إن كلامي الذي تسمعون هو كلام من أرسلني» .
وقال في موضع آخر: «إن أبي أجلُّ، وأعظم مني» . و «يشهد لي أبي الذي أرسلني» .
وقال المسيح لبني إسرائيل: «تريدون قتلي وأنا رجل قلتُ لكم الحق الذي سمعت الله يقوله» .
وقال في الرجل الذي أقامه من الموتى: «يا أبي أشكرك على استجابتك دعائي، وأعترف لك بذلك، وأعلم أنك كل وقت تجيب دعوتي، لكن أسألك من أجل هذه الجماعة؛ ليؤمنوا بأنك أنت أرسلتني» .
وقال شمعون الصفا رئيس الحواريين في الفصل الثاني من قصصهم: «يا رجال بني إسرائيل! اسمعوا مقالتي، إن يسوع الناصري رجل ظهير لكم من عند الله بالقوة، والأيدي، والعجائب التي أجراها على يديه» .
قال أبو نصر: وإنما سمى «ناصري» ؛ لأن أمه كانت من قرية يقال لها: «ناصرة» في الأردن، وبها سميت النصرانية.
فإذا كانت الشهادات منه على نفسه، ومن الأنبياء عليه، ومن تلاميذه بمثل ما قد بيناه؛ فإن اللغة قد أجازت أن يسمى الولي ابناً، وقد سماكم الله جميعاً بنيه، وأنتم لستم في مثل حاله.
وقد أقر بأن له إلهاً هو الله، ومن كان له إله فليس بإله، كما تقولون.
فإن قلتم: إن إسرائيل وداود ونظراءهم إنما سُمّوا أبناء الله على جهة الرحمة من الله لهم، والمسيح ابن الله على الحقيقة. -تعالى الله عن ذلك-.
قلنا: يجوز لمعارض أن يعارضكم، فيقول لكم ما تنكرون أن يكون إسرائيل وداود ابني الله على الحقيقة، والمسيح ابن رحمة، وما الفرق؟
هذا «إلياس» أمر السماء أن تمطر فأمطرت، ولم يدع الله في ذلك الوقت، وقد قال الله في السفر الخامس من التوراة لموسى:«أخرج أنت وشعبك الذي أخرجت من مصر، وأنا أجعل معكم ملكاً يغفر ذنوبكم» .
فإن زعمتم أن المسيح إله؛ لأنه غفر ذنوب المقعد، فالملك إذاً إله؛ لأنه يغفر ذنوب بني إسرائيل، وإلا فما الفرق؟
وقوله: «أنا وأبي واحد» إنما يريد به أن قبولكم لأمري هو قبولكم لأمر الله، كما يقول رسول الرجل:«أنا ومن أرسلني واحد» . ويقول الوكيل: «أنا ومن وكلني واحد» ؛ لأنه يقوم فيما يؤديه مقامه، ويؤدي عنه ما أرسله به، ويتكلم بحجته، ويطالب له بحقوقه.
وكذلك قول المسيح: «أنا قبل الدنيا» متأول؛ لأنه من ولد إبراهيم، ولا يجوز أن يكون قبل إبراهيم! وهذا سليمان بن داود يقول في حكمته:«أنا قبل الدنيا، وكنت مع الله حيث بدأ الأرض» . فما الفرق بينهما؟ وقد قال داود أيضاً في الزبور: «ذكرتك يا رب من البدء، وهديت بكل أعمالك» . فإن تأولتم تأولنا، وإن تعلقتم بظاهر الخبر في المسيح؛ تعلقنا بظاهر الخبر في سليمان وداود، وإلا فما الفرق؟ ومعناه أنه أخبر عن نفسه بأن إلهنا معنا، يعني: أن الله معه، ومع شعبه معيناً وناصرًا.
فإن قلتم: إن الخشبة التي صلب عليها المسيح على زعمكم ألصقت بميت فعاش؛ فإن هذا دليل على أنه إله؛ قلنا لكم: فما الفرق بينكم وبين من قال: «إن اليسع إله» واحتج في ذلك بأن کتاب «سفر الملوك» يخبر بأن رجلاً مات، فحمله أهله إلى المقبرة، فلما كانوا بين القبور رأوا عدواً لهم يريد أنفسهم، فطرحوا الميت عن رقابهم، وبادروا إلى المدينة، وكان الموضع الذي ألقوا عليه الميت قبر اليسع، فلما أصاب ذلك الميت تراب قبر اليسع عاش، وأقبل يمشي إلى المدينة. فإن زعمتم أن المسيح إله؛ لأن الخشبة التي ذكروا أنه صلب عليها ألصقت بميت فعاش؛ فاليسع إله؛ لأن تراب قبره لصق بميت فعاش.
وقد قال السيد المسيح في الإنجيل لتلاميذه لما سألوه عن الساعة والقيامة: «إن ذلك اليوم، وتلك الساعة لا يعرفه أحد، ولا الملائكة الذين في السماء، ولا الابن أيضاً، ولكن الأب وحده يعرفه» . فهذا إقرار منه بأنه
منقوص العلم، وأن الله تبارك وتعالى أعز وأعلم منه، وأنه خلافه وأعلا منه، وقد بين بقوله:«أحد» عمومه بذلك الخلق جميعاً، ثم قال:«ولا الملائكة» وعندهم من علم الله ما ليس عند أهل الأرض!!
وهل بنيتم أمركم في ذلك إلا على قول «متّى» التلميذ على المسيح عليه السلام أنه قال لتلاميذه حيث أراد أن يفارقهم: «اذهبوا، فعمدوا الناس باسم الأب، والابن، وروح القدس» ؟ وهذا كلام يحتمل معناه - إن كان صحيحاً - أن يكون ذهب فيه بأن يجمع هذه الألفاظ إلى أن تجتمع لهم بركات الله، وبركة نبيه المسيح، وروح القدس التي يؤيد بها الأنبياء والرسل.
فَلِم حكمتم بأنه ذهب إلى أن هذه الأسماء لما أضافها إلى الله جل وعلا صارت آلهة، وجعلتم لها أقانيم، لكل اسم أقنوم يخصه بعينه، وهو شخص واحد؟! وكيف استجزتم ما أشركتموه مع الله جل وعلا بالتأويل الذي لا يصح؟!
وهذا كلام له مذهب في اللغة القديمة التي جاءت بها الكتب، وليست بموجبة الإلهية؛ إذ كان قد شاركه في هذا الاسم غيره، فلم لا جعلتموه كما جعل نفسه؟!
ثم إن المسيح قال للرجل الذي أتاه فقال له: أيها العالم الصالح، أي الأعمال خير لي، الذي تكون لي حياة إلى يوم الدين؟ فقال له: لم تقول لي: صالحاً. ليس الصالح إلا الله وحده». فاعترف لله بأنه واحد لا شريك له، ونفى عن نفسه فلم يجعلها ولا أحد من الخلق أهلًا لذلك.
وقوله للمرأة التي جاءته فقالت: أنت ذلك النبي الذي كنا ننتظر مجيئه؟ فقال لها المسيح: «صدقت، طوبى لك» .
ثم قال للشيطان حين اختبره، فسامه أن يلقي نفسه من رأس الهيكل فقال:«أمرنا أن لا نجرب الرب» .
ثم سامه أن يسجد له فقال: «أمرنا أن لا نسجد إلا الله وحده، ولا نعبد سواه» .
ثم صلاته في غير وقت لله، وآخرها الليلة التي أخذته اليهود فيها. فإذا كان إلهاً -كما زعمتم - فلمن كان يصلي ويسجد؟!!
ثم قول الجموع الذين كانوا معه حين دخل أورشليم
(1)
وهي مدينة بيت المقدس على الأتان لمن كان يسأله عن أمره، لما راجت المدينة به:«هذا هو يسوع الناصري النبي الذي من الناصرة» .
ثم قوله في بعض الإنجيل: «اخرجوا بنا من هذه المدينة، فإن النبي لا يبجل في مدينته» .
وفي موضع آخر أنه قال: «لا يهان نبي إلا في مدينته، وفي بيته وأقاربه» .
ما رضيتم بقوله في نفسه، ولا بقول تلامذته فيه، ولا بقول من تنبأ عليه من الأنبياء، ولا قول جموعه الذين تولوه لمن سألهم من مخالفيهم عنه، وتركتم ذلك كله، وأخذتم بآراء قوم تأولوا لكم؟!!
ونجدكم تقولون في المسيح عليه السلام: «إنه مولود من أبيه، أزلي» !!
إن كان هذا الابن أزلياً على ما في شريعة إيمانكم، فليس هذا بمولود. وإن كان مولوداً، فليس بأزلي.
(1)
معنى (أور شليم): أرض سليم، وهو اسم كنعاني، حيث كان سكان بيت المقدس (القدس) قبل أن يسكنها بنو إسرائيل الذين كانوا في تيه سيناء.
وإن كان وجب للأب اسم الأبوة لقدم، فالابن أيضاً يستحق هذا الاسم بعينه؛ إذ كان قديماً مثله، وإن كان الأب عالماً عزيزاً، فهو أيضاً عالم عزيز، تشهد شريعة الإيمان له بذلك. وإن كان الأب والابن متكافئين في القدم والقدرة، فبأي فضل وسلطان للأب عليه أمره ونهاه؟!
و «متّى» التلميذ حين بنى كتابه الإنجيل أول ما ابتدأ به أن قال: «كتاب مولد يسوع المسيح ابن داود بن إبراهيم» .
فنسبه إلى من كان منه على الصحة، ولم يقل: إنه ابن الله، ولا إنه إله من إله، كما يقولون.
وقول جبريل -الملك- لمريم عند مخاطبته إياها: «إنه ابن داود» على ما ثبت من ذلك في الإنجيل.
ووجدناكم قد ذكرتم في شريعة الإيمان: «أن يسوع المسيح بِكر الخلائق» . وبِكر الخلائق لا يكون إلا من الخلائق!
وقد قال الله تعالى في التوراة: «يا ابني بكري» أي: إسرائيل.
وقال في موضع آخر: «إنه نظر بنو الله إلى بنات الناس، فشغفوا بهن» . فهل يوجب لآل إسرائيل إلهية بهذا القول؟!
ومما يبين قولنا في خلق المسيح أن هذا الاسم إنما وقع له، لأنه مسح للنبوة والخير، وماسحه الله تبارك وتعالى. وقد قال داود في زبوره قولاً يشهد على ذلك بعينه:«من أجل هذا البِر مسحك الله إلهك أكثر مما مسح به نظراءك» . فأبان داود بهذه الآية معنى المسح بإنجيله، وأن ماسحه الله إلهه، وأنه مصطفى مكرم بزيادة على نظرائه
(1)
.
(1)
فائدة عزيزة في سبب تسمية المسيح عليه السلام بهذا الاسم.
وإذا نظر في الإنجيل، وكتب بولس، وغيره ممن يحتج به النصارى، وجد نحواً من عشرين ألف آية مما فيه اسم المسيح، وكلها تنطق بعبودية المسيح، وأنه مبعوث مربوب، وأن الله اختصه بالكرامات، ما خلا آيات يسيرة مشكلات، قد تأولها كل فريق من أولئك الذين وضعوا الشريعة باختيارهم على هواهم، فأخذوا بذلك التأويل الفاسد، وتركوا المعظم الذي ينطق بعبوديته.
فلو كانوا قصدوا الحق لردوا تلك المشكلات الشاذة اليسيرة -التي يوجد لها من التأويل خلاف ما يتأولونه- على الواضحات الكثيرة التي قد بانت بغير تأويل.
ومن أعجب العجب أن تكون أمة كتابها، ودعوتها، ومعبودها واحداً يتمسكون بأمر المسيح عليه السلام، وتلامذته، وإنجيله، وسنته، وشرائعه، وهم مع ذلك مختلفون فيه أشد الاختلاف:
فمنهم من يقول: إنه عبد.
ومنهم من يقول: إنه إله.
ومنهم من يقول: إنه ولد.
ومنهم من يقول: إنه أقنوم وطبيعة.
ومنهم من يقول: إنه أقنومان وطبيعتان.
وكل منهم يكفر صاحبه، ويقول: إن الحق في يده.
ووجدنا قوماً منكم إذا نوظروا في ذلك قالوا: قد وجدنا أكثر الأديان يختلف أهلها فيها، ويتفرقون على مقالات شتّى هم عليها، وكل منهم يدعي أن الصواب في يده.
فَلَم يختلف أهل دين من الأديان في عقد معبودهم، ولا شكّوا فيه، ولا تفرقوا القول فيما اختاروه إلا أهل ملل النصرانية فقط.
وسائر من سواهم إنما اختلفوا في فروع من فروع الدين وشرائعه، مثل اختلاف اليهود في أعيادهم، وسنن لهم، ومثل اختلاف المسلمين في القدَر، فمنهم من قال به ومنهم من دفعه، وفي تفضيل قوم من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم على نظرائهم، بعد اتفاق جماعتهم على إلههم، ومعبودهم، وخالقهم، وأن الله إله الخلق كلهم، واحد لا شريك له، ولا ولد.
ثم اتفاقهم بعد ذلك على نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم لا يشكون فيه، وعلى القرآن، وأنه کتاب الله المنزل على محمد المرسل، لا يختلفون فيه.
فإذا صح اتفاقهم على هذه الأصول كان ما سواها خللاً لا يقع معه كفر، ولا يبطل به دين.
مما ذكره سعيد بن البطريق النصراني في تاريخه
ومن أهم ما ذكره ابن البطريق النصراني-وهو من أكابر علماء النصارى- في تاريخه «نظم الجوهر» عن النصارى: أن المسيح صلوات الله عليه ولد في عهد ملك الروم قيصر المسمى «أغسطس» لثنتين وأربعين سنة من ملكه
(1)
.
وذكر أيضاً عدد من حضر مجمع نيقية من البطارقة والأساقفة مع اختلافهم في الآراء والأديان، وأن «قسطنطين» الملك بعث إلى جميع
(1)
لاحظ أن هذا من أكبر علماء النصارى ولم يحدد يوماً محدداً لميلاد المسيح عليه السلام، فتاريخ يوم ميلاده غير معروف على وجه اليقين، ومختلف فيه لدى النصارى حتى يومنا.
البلدان، فجمع البطاركة والأساقفة، فاجتمع في مدينة «نيقية» بعد سنة وشهرين ألفان وثمانية وأربعون أسقفاً.
فمنهم من يقول: المسيح ومريم إلهان من دون الله. وهم «المريمانية» ، ويسمون «المريميين» .
ومنهم من كان يقول: إن المسيح من الأب بمنزلة شعلة نار تعلقت من شعلة نار، فلم تنقص الأولى لإيقاد الثانية منها. وهي مقالة «سبارينون» وأشياعه.
ومنهم من كان يقول: لم تحبل مريم لتسعة أشهر، وإنما مر نور في بطن مريم، كما يمر الماء في الميزاب؛ لأن كلمة الله دخلت من أذنها، وخرجت من حيث يخرج الولد من ساعتها. وهي مقالة «ألبان» وأشياعه.
ومنهم من كان يقول: إن المسيح إنسان خلق من اللاهوت كواحد منا في جوهره، وأن ابتداء الابن من مريم، وأنه اصطفي ليكون مخلصاً للجوهر الإنسي، صحبته النعمة الإلهية، فحلت فيه المحبة والمشيئة، فلذلك سمي «ابن الله» ، ويقولون: إن الله جوهر واحد، وأقنوم واحد، يسمونه بثلاثة أسماء، ولا يؤمنون بالكلمة، ولا بروح القدس.
وقال سعيد بن البطريق: فمن ميلاد سيدنا المسيح إلى أن وجد الصليب ثلاثمائة وثمانية وعشرون سنة.
وقال عن مخالفيه من أئمة فرق النصارى: نسطوريوس، وأرطيوس، وديسقورس، وسورس، ويعقوب البرادعي، وأشياعهم؛ أنهم أئمة الضلالة.
قصة استحلال النصارى أكل لحم الخنزير
وذكر ابن البطريق في تاريخه قصة استحلال النصارى أكل لحم الخنزير، وفيها قول الملك قسطنطين ل «بولس» البترك: إذا كان الخنزير في التوراة حراماً، فكيف يجوز لنا أن نأكل لحم الخنزير، ونطعمه للناس؟! فقال له «بولس» البترك: إن سيدنا المسيح قد أبطل كل ما في التوراة، وجاء بناموس آخر، وبتوراة جديدة، وهو الإنجيل، وفي إنجيله المقدس:«إن كل ما يدخل البطن ليس بحرام، ولا ينجس، وإنما ينجس الإنسان الذي يخرج من فيه» .
وقال «بولس الرسول» في رسالته إلى أهل مدينة «فورينيوس» الأولى: «الطعام للبطن آلته لها، والبطن للطعام، وله يلعن» .
ومكتوب في «الإبركسس» يعني أخبار الحواريين: أن «بطرس» رئيس الحواريين كان في مدينة «يافا» في منزل رجل دباغ يقال له: «سيمون» ، وأنه صعد إلى المنزل ليصلي وقت ست ساعات من النهار، فوقع عليه سبات، فنظر إلى السماء قد تفتحت، وإذا إزار قد نزل من السماء حتى بلغ الأرض، وفيه:«كل ذي أربع قوائم على الأرض من السباع، والذئاب، وغير ذلك من طير السماء» وسمع صوتا يقول له: يا بطرس، قم فاذبح وكل.
فقال بطرس: يا رب، ما أكلت شيئاً نجساً قط، ولا وسخاً قط، فجاء صوتُ ثان: كل ما طهره الله فليس بنجس وفي نسخة أخرى: ما طهره الله فلا تنجسه أنت ثم جاء الصوت بهذا ثلاث مرات، ثم إن الإزار ارتفع إلى السماء، فعجب بطرس وتحير فيما بينه وبين نفسه. فبهذا المنظر،
وبما قال سيدنا المسيح في إنجيله المقدس أمر بطرس وبولس أن نأكل كل ذي أربع قوائم من الخنزير وغيره من جميع الحيوان حلالاً لنا
(1)
.
فأمر الملك أن تذبح الخنازير، وتطبخ لحومها، وتقطع صغاراً صغاراً، وتصير على أبواب الكنائس في كل مملكته يوم أحد الفصح، وكل من خرج من الكنيسة يلقم لقمة من لحم الخنزير، فمن لم يأكل منه يقتل، فقتل لأجل ذلك خلق كثير. وأطلق بطرك الإسكندرية للبطاركة، والأساقفة، والرهبان أكل اللحم من أجل المنانية؛ ليعرف المناني منهم؛ لأن المنانية لا يرون أكل اللحم، ولا شيئاً من الحيوان البتة، ولا يرون الغسل بالماء. والمنانية صنفان: السماعون، والصديقون: فالسماعون: يصومون في كل شهر أياماً معلومة. والصديقون: يصومون الدهر كله، ولا يأكلون إلا ما نبت من الأرض.
(1)
ومعلوم أن مثل هذه الأمور لا يصلح أن تنبني عليه شريعة، مع مخالفتها لكتب الله ودعوة الأنبياء.
خاتمة
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وكلما تدبر العاقل كلامهم في (الأمانة)
(1)
وغيرها وجد فيه من التناقض والفساد ما لا يخفى إلا على أجهل العباد، ووجد فيه من مناقضته التوراة، والإنجيل، وسائر كتب الله ما لا يخفى. ولهذا قال طائفة من العقلاء: إن عامة مقالات الناس يمكن تصورها إلا مقالة النصارى، وذلك أن الذين وضعوها لم يتصوروا ما قالوا، بل تكلموا بجهل، وجمعوا في كلامهم بين النقيضين، ولهذا قال بعضهم: لو اجتمع عشرة نصارى لتفرقوا عن أحد عشر قولًا، وقال آخر: لو سألت بعض النصارى، وامرأته، وابنه عن توحيدهم، لقال الرجل قولاً، وامرأته قولاً آخر، وابنه قولاً ثالثاً.
انتهى.
والله الهادي إلى سواء السبيل.
(1)
يعني عقيدة (الأمانة) التي فيها التثليث والحلول والاتحاد وغيره مما قرره كبراؤهم مع الملك قسطنطين في مجمع نيقية سنة 325 م.