المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

السنة قبل التدوين   الدكتور محمد عجاج الخطيب   - عدد الأجزاء: 1. - عدد - السنة قبل التدوين - مقدمة

[محمد عجاج الخطيب]

فهرس الكتاب

السنة قبل التدوين

الدكتور محمد عجاج الخطيب

- عدد الأجزاء: 1.

- عدد الصفحات: 652.

أعده للمكتبة الشاملة / توفيق بن محمد القريشي، غفر الله له ولوالديه.

[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي].

ص: -1

السنة قبل التدوين

الدكتور محمد عجاج الخطيب

رئيس قسم علوم القرآن والسنة بجامعة دمشق

أستاذ الحديث وعلومه في كلية الشريعة

الطبعة الثانية: رمضان 1408 - أبريل 1988 م

نشر مكتبة وهبة - مصر

ص: -1

بسم الله الرحمن الرحيم

ص: -1

السُنَّةُ قَبْلَ التَدْوِينِ:

تَقْدِيمٌ:

بِقَلَمِ فَضِيلَةِ الأُسْتَاذِ عَلِي حَسَبَ الله

أستاذ الشريعة الإسلامية بكلية دار العلوم - جامعة القاهرة.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليُظهره على الدين كله، وأنزل عليه كتابه الكريم تبياناً للحق وهدى إلى الصراط المستقيم، وأمره ببيانه وتنفيذ أحكامه بأقواله وأعماله ليكون للأمَّة من ذلك دستور كامل، لا يغادر من أمور معاشهم ومعادهم صغيرة ولا كبيرة إلَاّ وضع قواعدها، وقرَّر أصولها، وأضاء الوصول إلى الحق فيها.

فله الحمد والشكر على ما منح عباده من أسباب الهداية، وما ضمن لهم من حفظ كتابه، وما وَفَّقَهُم إليه من العناية به، والاستشهاد في تفسيره وتطبيقه بقول رسوله صلى الله عليه وسلم وعمله.

أما بعد فقد اصطنع الله محمداً صلى الله عليه وسلم لنفسه، ورباه فأحسن تربيته، وكمل خُلُقه حتى قال فيه - وهو أصدق القائلين -:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (1)، ثم بعثه إلى الناس بشيراً ونذيراً:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} (2).

[أ]

(1)[سورة القلم، الآية: 4].

(2)

[سورة الأحزاب، الآيتان: 45، 46].

ص: -1

[ب]

ولقد افترض عليه ما افترض على الناس من طاعته والعمل بكتابه، فقال سبحانه:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا، وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} (1)، وقال تعالى:{اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} (2)، وقال:{ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (3).

وأمره أن يُبلِّغَ ما أنزل إليه فقال: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} (4)، فبلَّغَ صلى الله عليه وسلم ما أمره الله بتبليغه، وشهد الله تعالى له بذلك في قوله:{وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى، مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى، عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} (5)، وقوله:{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} (6)، ولو أنه قصَّر في تبليغ رسالته، أو بلَّغ ما لم يؤمر بتبليغه - لحَلَّتْ به عقوبة ربه:{وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ، لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ، فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} (7).

كما أمره أن يبيِّن للناس ما خفي عليهم من مقاصده، ويشرح لهم طرق تنفيذه فقال:{بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (8)، وقال سبحانه:{وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (9).

(1)[سورة الأحزاب، الآيتان: 1 - 2].

(2)

[سورة الأنعام، الآية: 106].

(3)

[سورة الجاثية، الآية: 18].

(4)

[سورة المائدة، الآية: 67].

(5)

[سورة النجم، الآيات: 1 - 5].

(6)

[سورة الشورى، الآيتان: 52، 53].

(7)

[سورة الحاقة، الآيات: 44 - 47].

(8)

[سورة النحل، الآية: 44].

(9)

[سورة النحل، الآية: 64].

ص: -1

[جـ]

هكذا أعد الله رسوله للقيام بأعباد رسالته، ثم أمر الناس بطاعته:

أمرهم بطاعته مقترنة بطاعته سبحانه فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ} (1)، وقال تعالى:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} (2)، وقال سبحانه:{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} (3).

وأمرهم بطاعته استقلالاً فقال سبحانه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (4). وقال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (5)، وقال سبحانه:{لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (6).

ثم قرَّر سبحانه أنَّ طاعة رسوله طاعة له، فقال:{إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} (7)، وقال سبحانه:{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} (8).

ولا خفاء بعد هذا في أنَّ كتاب الله هو أصل دينه، وأنَّ سُنَّة نبيِّهِ -

(1)[سورة الأنفال، الآية: 20].

(2)

[سورة الأحزاب، الآية: 36].

(3)

[سورة النساء، الآية: 69].

(4)

[سورة الحشر، الآية: 7].

(5)

[سورة النساء، الآية: 65].

(6)

[سورة النور، الآية: 63].

(7)

[سورة الفتح، الآية: 10].

(8)

[سورة النساء، الآية: 80].

ص: -1

[د]

قولية كانت أو فعلية - هي الموضحة لأحكامه، والمفصِّلة لإجماله، والهادية إلى طرق تطبيقه، فهما صنوان لا يفترقان، ومنبعان للتشريع متعاضدان، ولا شبهة في أنَّ طاعة الرسول طاعة لله، ومخالفة أمره معصية لله تعالى، ومن عمل بالقرآن على غير المنهج الذي انتهجه الرسول صلى الله عليه وسلم لا يكون عاملاً بالقرآن.

وقد جرت سُنَّة الله تعالى في خلقه أنْ يختلف الناس في تقبُّل دعوات الرسل، والأخذ بأسباب الهداية والصلاح مهما قامت الدلائل ووضحت البينات؛ {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} (1)، فمنهم من يستجيب لداعي الخير مسرعاً مطمئناً، ويتجنَّب مزالق الجهل والخسران، ومنهم من يركب رأسه ويتبع هواه ويضل عن سواء السبيل:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ} (2). {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} (3)، {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} (4).

وقد ابتلي المسلمون في كل العصور بمن يحاول صرفهم عن الإسلام، تارة بالطعن في كتابه، وأخرى بمحاولة انتقاصه من أطرافه، بالطعن في السُنَّة التي تُفَصِّلُ ما أجمل منه، وتُوضِّحُ ما خفي، وكأنهم حين وقفوا من القرآن أمام جبل شامخ لا يلين، ورجعوا بعد العناء بخُفي حُنين - ظنوا أنهم قادرون على

(1)[سورة هود، الآيتان: 118، 119].

(2)

[سورة هود، الآية: 36].

(3)

[سورة الأنعام، الآية: 112].

(4)

[سورة يس، الآية: 30].

ص: -1

[هـ]

النيل منه بتوهين السُنَّة التي هي عماد بيانه، فسلكوا لذلك طرقاً، وتكلفوا شططاً، فمنهم من تجنَّى على الرُواة وطعن في عدالتهم وصدقهم، ومنهم من طعن في متن الحديث فأنكر منه ما لم يوافق هوه، ومنهم من ادعى انقطاع الصلة بين الرسول وما يُروى عنه وتعذَّر تمييز الصحيح منه من السقيم، لإهمال تدوينه نحو قرنين من الزمان، وانتشار وضع الحديث انتصاراً لرأي أو إبطالاً لمذهب، فدعا إلى إهمال الحديث جملة والاكتفاء بالقرآن الكريم، ومن المؤسف حقاً أنْ يقول بهذا الرأي من يزعم أنه من المسلمين.

ولكن العلي القدير الذي تكفَّلَ بحفظ كتابه وأصول دينه بقوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (1) كان يمنح معونته وتوفيقه دائماً للمتقين المخلصين، ويخذل أعداءه المعاندين:{وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} (2)، {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَاّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (3)، {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ، وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} (4).

فلهذا هيأ لدينه في كل العصور من يَرُدُّ كيد الطاعنين في نحورهم، وهيَّأ لسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم من السلف الصالح ومن تبعهم بإحسان مَنْ عُنِيَ بالدفاع عنها بعد البحث في سندها ومتنها، يتعرف أحوال رُواتها، وتمييز صحيحها من سقيمها، ثم حفظها تارة في الصدور، وأخرى في السطور.

لقد كان المسلمون بين أنْ يدفعهم الحرص على سُنَّة نبيِّّهم إلى تَقَبُّل كل

(1)[سورة الحجر، الآية: 9].

(2)

[سورة الأنعام، الآية: 10].

(3)

[سورة الحج، الآية: 52].

(4)

[الصافات: 171 - 173].

ص: -1

[و]

ما يروى حتى لا يفوتهم ما صح منها، وأنْ يتأثَّروا بشُبَه المُضَلِّلِينَ فيرفضوه كله حذراً من الأخذ بالموضوع والوقوع في الباطل، ولكن الله جنَّبهم الخطتين وعصمهم من الوقوع في الورطتين، ووفَّقهُم إلى الطريقة الوسطى، طريقة الاعتدال البعيدة عن التعصب الأعمى والتحامل الذميم، طريقة الفحص والتمحيص للسند والمتن، ووضع القواعد العلمية الصحيحة لمعرفة من يقبل ومن لا يقبل من الرُواة، وما يقبل وما يُرَدُّ من الأحاديث، وبهذا ميَّزُوا الخبيث من الطيب، ونالت السُنَّة بجهودهم ما لم يعهد في شريعة من الشرائع، ولا في نص من النصوص غير الكتاب الكريم.

وكان مما أثلج صدورنا، وفتح باب الأمل في شباب عصرنا - أنَّ الطالب المؤمن بربه، والغيور على دينه، والمُحبّ لسُنَّة الرسول صلى الله عليه وسلم السيد «محمد عجاج الخطيب» - سار على توفيق من الله، وهُدى من السلف الصالح، فاختار لنيل درجة الماجستير في العلوم الإسلامية من كلية دار العلوم بجامعة القاهرة - موضوع «السنة قبل التدوين» ، ليدفع ببحثه ما أثاره المُضَلِّلُونَ من انقطاع الصلة بين الرسول وما بين أيدينا من سُنَّته في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وبعضها في عهد الصحابة والتابعين، قبل أنْ تُدوَّنَ التدوين الرسمي المعروف.

وقد رَجَّحَ أنَّ التدوين الرسمي بدأ في منتصف العقد الهجري الثامن من القرن الأول حين طلب أمير مصر: عبد العزيز بن مروان بن الحكم من كثير بن مُرَّة الحضرمي - الذي أدرك سبعين بدرياً من الصحابة في حمص - أنْ يكتب إليه بما سمع من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلَاّ حديث أبي هريرة فإنه كان عنده. ولا يظن بكثير إلَاّ أنْ يستجيب لطلب الأمير، فيجتمع له بهذا ما كان عنده من حديث أبي هريرة وما كان عند كثير، وحسبك هذا تدوينًا

ص: -1

[ز]

رسميًا لقسط كبير من سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك العصر، ويكون ما فعله عمر بن عبد العزيز بعد هذا - من العناية بالحديث ومطالبة العلماء في الأقطار المختلفة بكتابته والجلوس لمدارسته - ليس إلَاّ امتداداً لما شرع فيه أبوه من قبل. وهو رأي يُرَجِّحُهُ ما عرف عن السلف من الحرص على حفظ السُنَّة والعمل بها.

وقد اقتضاه البحث أن يتكلم عن الوضع وأسبابه، وجهود الصحابة والتابعين ومن بعدهم في مقاومته وتطهير السُنّة من أوضاره، وأن يتحدَّث عن آراء بعض المستشرقين ومن انخدع بهم من المسلمين، فَفَنَّدَ مزاعمهم، ورَدَّ الحق إلى نصابه في مفترياتهم، وبيَّنَ فضل الصحابة وعدالتهم، وحرصهم على العمل بالسُنَّة وحفظها، وتثبُّتهم في روايتها، واقتداء من جاء بعدهم بهم في ذلك، كما تعرَّض لما أثر حول بعضهم من شبهات فنفاها عنهم.

ولا نعدو الحقيقة إذا قلنا: إنَّ الطالب كان أصيلاً في بحثه، لم يُعْوِزْهُ توجيه وإرشاد؛ بل جمع بجده كل ما استطاع الوصول إليه من مراجع، وتناول منها كل ما يلائم بحثه، ثم عرض ذلك على مقاييس صحيحة في نزاهة وصدق وإيمان، وبهذا نَطَمَ نفسه في سلك المُحبِّين للسُنَّة، الذين بشَّرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنة فيما روى الترمذي عن أنس رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ أحبَّ سُنَّتي فقد أحبَّني، ومَنْ أحبَّني كان معي في الجنة» .

والله المسؤول أنْ ينفع الإسلام والمسلمين برسالته، وأنْ يجعل من شبابنا شباباً صالحاً لا تخدعه مظاهر المدنية الكاذبة، فيعكف على دراسة الدين القويم، والتراث المجيد، ويدفع عنهما تُهَمَ المبطلين، وضلال المُضِلِّين، وهو الهادي إلى الصراط المستقيم.

المحرم 1383 هـ - يونية 1963 م

علي حسب الله

ص: -1