الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب الرّد على أبي بكر الخطيب البغدادي
تأليف: الإمام الحافظ محبّ الدّين أبي عبد الله محمّد بن محمود ابن الحسن بن هبة الله بن محاسن المعروف بابن النجّار البغدادي المتوفى سنة 643 هـ
[*]
دراسة وتحقيق: مصطفى عبد القادر عطا
دار الكتب العلمية
بيروت - لبنان
[*] تعليق الشاملة:
كذا ورد على الغلاف، وهو غلط، لعل سببه طباعة (ذيل ابن النجار، والرد) جميعا ضمن ملاحق تاريخ بغداد.
ومؤلف الرد هو الملك المعظم عيسى الأيوبي، كما هو مصرح به هنا بآخر الرد ص 148 من هذه الطبعة، وكما هو في ط دار السعادة - مصر (1351 هـ - 1932 م)، وصُرِّح بذلك في مخطوطات الكتاب، والمؤلف مشهور جدا بهذا الكتاب، ذكرته كثير من كتب التراجم.
وهذا نص ما ورد في ط السعادة:
«الرد على أبى بكر الخطيب البغدادى فيما ذكر فى تاريخه فى ترجمة الإمام سراج الأمة أبي حنيفة النعمان بن ثابت رحمة الله عليه
للسلطان الملك المعظم أبي المظفر عيسى ابن الملك العادل سيف الدين أبي بكر بن أيوب الحنفى المولود سنة 578 هـ والمتوفى سنة 624 هـ
وجعل ملحقا للجزء الثالث عشر من تاريخ بغداد لورود ترجمة الإمام الأعظم أبي حنيفة فيه
تنبيه
طبع هذا السفر الجليل عن النسخة الوحيدة المحفوظة بدار الكتب المصرية، فن التاريخ رقم 153 والمخطوطة سنة 623 هجرية في حياة المؤلف رحمه الله تعالى والمشار إليها بعنوان «السهم المصيب في كبد الخطيب»
وجاء بهامش آخر ورقة منها: أنها قوبلت في حياة المؤلف على النسخة المقروءة عليه
وتسهيلا لمراجعة المطالع قد وضعنا رقم الصفحة وعدد السطر من ترجمة الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان الواردة في المجلد الثالث عشر من تاريخ بغداد في آخر عبارة الخطيب التي تعقبها الملك المعظم بالرد عليه فيها. وترجمة الإمام من هذا المجلد (الثالث عشر) من س 22 ص 323 إلى ص 423 س 20 (رقم 7297)» ا. هـ.
سقنا هذا النص بتمامه، لأنه لم يرد في ط العلمية هذه أي شيء عن مؤلف الرد، ولا عن مناسبة إلحاقه بتاريخ بغداد، وهذا كله واضح مما سقناه من مقدمة ط السعادة، وقد نص محقق ط العلمية أنه اعتمد عليها
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الخطيب أبو بكر أحمد بن على بن ثابت البغدادي، صاحب التاريخ في تاريخه: أخبرنا العتيقى أنبأنا محمد بن العباس أنبأنا أبو أيوب سليمان بن إسحاق الجلاب قال: سمعت إبراهيم الحربي يقول: كان أبو حنيفة طلب النحو في أول أمره فذهب يقيس فلم يجيء، وأراد أن يكون فيه أستاذا قال: قلب وقلوب. وكلب وكلوب. فقيل له كلب وكلاب ووقع في الفقه، فكان يقيس ولم يكن له علم بالنحو؟ فسأله رجل بمكة. فقال له: رجل شجّ رجلا بحجر. فقال: هذا خطأ ليس عليه شيء لو أنه حتى يرميه بأبا قبيس لم يكن عليه شيء.
فأقول وبالله التوفيق.
هذا من يكون عالما بالعربية. لأن الشرع مردود إلى ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم. والعربية مردودة إلى العرب. فما جاء عنهم أخذنا به. فإن كان كثيرا جوزناه وإن كان قليلا جدا. قال سيبويه في مثل هذا: سمعنا من العرب من يقول ذاك، فإن كان قد سمعه من فصيح أو موثوق به نبه عليه. فقال سمعناه ممن يوثق بعربيته، وقوله: بأبا قبيس. قد جاء مثله للعرب وهو قولهم:
إن أباها وأبا أباها
…
قد بلغا في المجد غايتاها
فهذا منقول عن العرب. وقد قرئ في قوله تعالى: {إِنْ هذانِ لَساحِرانِ} [طه 63] ولم يقرأ إن هذين غير أبى عمرو. فكان بعض العرب يجعل التثنية مبنية على هذا الوجه. ألا ترى إلى اسم إن لم يتغير بدخول إنّ عليه معما أنهم لم يدخلوا في كلامهم إن إلا للتأكيد. والحروف الستة عند بعض العرب مبنية إذا كانت مضافة تقول: رأيت أباك، ومررت بأباك. وقد جاء في قول الشاعر:
إذا ابن أبى موسى بلالا بلغته
…
وقام بفأس بين وصلاك جازر
وأكثر الرواية فيها على الوجه الأصلى وهو: بين وصليك. قال سيبويه: واعلم
أنهم لا يغيرون كلامهم إلا وهم يحاولون بذلك وجها لعلمه بأن إن مؤكدة لما كانت داخلة على مبتدإ وخبر وفيه معنى لا يحتاج إلى دخولها ألا ترى إلى قولهم زيد منطق أنه كلام تام مبتدأ وخبره. وإنما أدخلوا إن لتؤكد هذا المعنى الذي في المبتدأ والخبر من غير إخلال. ولما كانت إن جامدة جمود الاسم كان عملها فيه- أعنى النصب- بخلاف كان. لأنها منصرفة تقول: كأن يكون كونا فلما دخلت على الماضي والمستقبل والحال أشبهت الأفعال. فكان عملها فيها تقول: كان زيد منطلقا. ترفع الاسم وتنصب الخبر بخلاف إن. فإذا كانت إن مزادة للتأكيد لم تغير إن عن عملها في التثنية. كيف تغيرها الباء الزائدة مع أنها تحذف ولا تعمل. وكونها زائدة يكفى فيما ذكرت.
وأما كلام أبى حنيفة رضي الله عنه في العربية غير مخفي وهو ما حكى عنه محمد ابن الحسن رضي الله عنه وسأذكر بعض ذلك لتقف عليه إن شاء الله تعالى.
مسألة
رجل قال لامرأته: أنت طالق إن دخلت الدار. لا تطلق حتى تدخل الدار ولو فتح «أن» طلقت للوقت. والفرق بينهما أنه إذا كسر إن كانت للشرط وإذا فتحها كانت بتقدير اللام. فكأنه قال لدخولك الدار. فلم يصر هذا الكلام من صفة الطلاق ولا من الشرط. فصار كأنه قال مبتدأ: أنت طالق. فطلقت في الوقت. قال سيبويه في باب من أبواب أن التي تكون والفعل بمنزلة مصدر تقول: أن تأتنى خير لك كأنك قلت الإتيان خير لك. ومثل ذلك قوله تعالى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة 184] يعنى الصوم خير لكم. قال عبد الرحمن بن حسان:
إنّي رأيت من المكارم حسبكم
…
أن تلبسوا خز الثياب وتشبعوا
كأنه قال: رأيت حسبكم لبث الثياب.
واعلم أن اللام ونحوها من حروف الجر قد تحذف من أن، كما حذفت من إن، جعلوها بمنزلة المصدر حين قلت فعلت ذاك حذر الشر، أى لحذر الشر.
ويكون مجرورا على التفسير الآخر. يعنى حين قدرها باللام التي تجر. ومثل ذلك قولك: إنما انقطع إليك أن تكرمه أى لأن تكرمه قال الله تعالى:
{أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ} [البقرة 282] أى لأن تضل: وقال: {أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ} [القلم 14] أى لأن كان ذا مال. قال الأعشى:
أأن رأت رجلا أعشى أضربه
…
ريب المنون ودهر تابل خبل
فإن المخففة هنا حالها في حذف حرف الجر كحال إنّ المثقلة. وتفسيرها كتفسيرها وهي وتفسيرها بمنزلة المصدر. ألا ترى أنك لو قلت: لم يك ولم أبل. لم يتغير عملها بالحذف لأن أصل أك أكن حذفت النون لكثرة الاستعمال. وكذلك أبل أصلها أبالى فلما حذف منها ما حذف لم يتغير عملها كذلك أن لما خففت نفى عملها إلا ان الفرق بين المكسورة والمفتوحة ما ذكرت.
مسألة
رجل قال لامرأته:- وهي غير مدخول بها- إن كلمتك فأنت طالق إن كلمتك فأنت طالق. إن كلمتك فأنت طالق. طلقت واحدة لأنه في المرة الأولى حلف بطلاقها أن لا يكلمها فإذا قال لها في المرة الثانية: إن كلمتك فأنت طالق وجد شرط انحلال اليمين الأولى، ووقعت تطليقة يعنى أنه إذا قال إن كلمتك فقد جاء بالشرط والجزاء والشرط والجزاء كلام تام. لأنه مثل المبتدإ والخبر. ففيه فائدة تامة. فإذا كان كذلك صار كلام تاما فوقع به الطلاق وإن كان قد أوجب شرطا آخر فلما قال في المرة الثالثة وجد منه الكلام ولم يصادف الشرط ما يمكن أن يكون جزاء فلغا ألا ترى إلى قوله: إن كلمتك فأنت طالق يقتضى كلام تاما مفهما للمعنى وإنما يتم بقوله فأنت طالق فوجب أن لا يحنث في الأولى إلا بعد الفراغ من الثانية ولما فرغ من الثانية كانت في ملكه، فصح إدخالها في الجزاء فانعقدت اليمين الثانية فإذا قال في المرة الثالثة حنث في اليمين الثانية لكن لم تصادف الملك فلغا فلا تنعقد اليمين الثالثة لأنها كانت خارجة عن ملكه فإن تزوجها بعد ذلك وكلها لا يحنث، لأن اليمين الثالثة لم تنعقد ولو كانت المرأة مدخولا بها تقع تطبيقات لأن الأولى انحلت بالثانية والثالثة وبقيت الثالثة منعقدة فإذا كلمها وهي في العدة تقع أخرى لوجود الشرط في علقة الملك. ولو قال لامرأته- ولم يدخل بها-: أن حلفت بطلاقك فأنت طالق، قالها ثلاث مرات وقعت تطبيقه واحدة، لأنه في المرة الأولى حلف بطلاقها أن لا يحلف بطلاقها فإذا قال لها في المرة الثانية: أن حلفت بطلاقك فأنت طالق فقد
حلف بطلاقها ووجد الشرط، فانحلت اليمين الأولى وطلقت واحدة، واليمين الثانية منعقدة لأنه إنما حنث في اليمين الأولى بعد الفراغ من اليمين الثانية لأن اليمين إنما تصح بالجزاء وحينما تكلم بالجزاء كانت في ملكه فلما كررها في المرة الثالثة لم تنحل اليمين الثانية، لأن المرأة بانت بلا عدة، فلم يصح في المرة الثالثة إدخالها تحت الجزاء فوجد شرط حنثه وهو الحلف بطلاقها، بخلاف المسألة الأولى ففرق بين قوله:
إن كلمتك وإن حلفت بطلاقك، لأن شرط الحنث هناك هو الكلام، والكلام يصح إن كانت المرأة في ملكه أو لم تكن واليمين بالطلاق لا يصح إلا في ملك، أو في علقة من علائق الملك، أو في مضاف إلى الملك.
الأصل في مسائل الأيمان
إن اليمين على ضربين: يمين يراد بها تعظيم المقسم به وهو الحلف بالله تعالى ويمين هي شرط وجزاء. قال سيبويه: اليمين جملة يؤكد بها الكلام.
قوله جملة، يعنى من فعل وفاعل، أو من مبتدأ وخبر، أو شرط وجزاء: أما المبتدأ والخبر قولك: والله لا كلمت زيدا، والجملة التي من فعل وفاعل: والله خالق السموات لا كلمت زيدا، والشرط والجزاء كقولك: إن دخلت الدار فو الله لا كلمتك وهنا لا يصح إلا في الملك أو مضافا إلى الملك أو في علقة من علائق الملك، وأما الشرط فيصح في الملك وغيره. والمحلوف عليه من دخل تحت الجزاء لا من دخل تحت الشرط لأن الجزاء قوله أنت كذا وكان هو الداخل تحت اليمين وإنما لا يحتاج الشرط أن يكون في الملك لأن ذكر الشرط ليس بتصرف في الملك والجزاء إنما يجازى بما في ملكه فلذلك سمى جزاء لأن المجازاة هي أن يكون منك فعل قبالة فعل غيرك أو فعل غيرك قبالة فعلك إن خيرا فخير وإن شرا فشر قال الله تعالى:{وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها} وقال الشاعر:
جزى الله عنا ذات بعل تصدقت
…
على عزب حتى يكون له أهل
فإنا سنجزيها كما فعلت بنا
…
إذا ما تزوجنا وليس لها بعل
ألا ترى إلى قوله: نجزيها كما فعلت وجزى الله والمعلق بالشرط لا ينزل إلا عند وجوده والنكرة في النفي تعم. تقول: ما رأيت اليوم رجلا تقديره ما رأيت اليوم
أحدا من الرجال، وفي الإثبات تخص، لأنك لو قلت رأيت اليوم رجلا اقتضى كلامك رؤية رجل واحد.
مسألة
وقال: رجل قال لامرأته- ولم يدخل بها- إن حلفت بطلاقك فأنت طالق قالها ثلاث مرات وقعت تطليقة واحدة. لأن في المرة الأولى حلف بطلاقها أن لا يحلف بطلاقها فإذا قال لها في المرة الثانية: إن حلفت بطلاقك فأنت طالق فقد حلف بطلاقها ووجد الشرط فانحلت اليمين الأولى وطلقت واحدة، واليمين الثانية منعقدة لأنه إنما حنث في اليمين الأولى بعد الفراغ من الثانية، لأن اليمين إنما تصح بالجزاء، وحينما تكلم بالجزاء كانت في ملكه، فلما كررها في المرة الثالثة لم تنحل اليمين الثانية: لأن المرأة بانت بلا عدة، فلم يصح في المرة الثالثة إدخالها تحت الجزاء، فوجد شرط حنثه. وهو الحلف بطلاقها، بخلاف المسألة الأولى، لأنه لم تنحل اليمين الثانية، لأن شرط الحنث هناك هو الكلام. والكلام يصح وإن لم تكن امرأته وهاهنا شرط الحنث الحلف بطلاقها وذلك لا يصح إلا في الملك. ثم إذا تزوجها وقال لها إن دخلت الدار فأنت طالق طلقت باليمين الثانية لوجود الشرط، وهو الحلف بطلاقها وإن لم يتزوجها ولكن قال لها إن تزوجتك ودخلت الدار فأنت طالق، حنث في اليمين الثالثة أيضا لأنه أضافها إلى الملك فصحت اليمين وانحلت اليمين الثانية ووقع الطلاق، إلا أنه لم يصادف الملك فلغا. واليمين التي أضافها إلى الملك صحيحة، فلو تزوجها ودخلتالدار وطلقت باليمين الثالثة ولو كانت مدخولا بها يقع تطليقان لأن اليمين الأولى انحلت بالثانية والثانية انحلت بالثالثة لأنها وجدت في علقة من علائق الملك وهي العدة وبقيت الثالثة منعقدة. فإذا قال لها وهي في العدة: إذا دخلت الدار فأنت طالقا انحلت الثالثة أيضا ووقع عليها أخرى.
مسألة
وقال رجل: قال امرأته طالق إن تزوج النساء أو اشترى العبيد، أو كلم الناس.
فتزوج امرأة واحدة، أو اشترى عبدا واحدا، أو كلم رجلا واحدا حنث لأن الألف واللام إنما يدخلان على السابق المعهود. كقوله تعالى: {كَما أَرْسَلْنا إِلَى فِرْعَوْنَ
{رَسُولًا فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} ألا ترى أنه ذلك الرسول الأول. وإنما لما كان تقدم أمره وجرى ذكره ثانيا وقعت الدلالة أن الألف واللام تكون للسابق المعهود، أو للجنس والجنس يقتضى الواحد فصاعدا. قال الله تعالى:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما} وذلك أنه لم يرد سارقا بعينه فكأنه قال: اقطعوا هذا الجنس والأصل فيما ذكرت أن اسم الجنس لا يقتضى عددا محصورا بل الواحد فصاعدا واسم الجمع يقتضى عددا محصورا. كما قال في رجل قال: امرأته طالق أن تزوج نساء أو اشترى عبيدا. فإن لم يتزوج ثلاثا أو يشترى ثلاثا لا تطلق لأنه أخرج الكلام مخرج الجمع. أو قل الجمع الصحيح ثلاثة. وذلك أن العرب فرقت بين الواحد والاثنتين والثلاثة. فالواحد جاء عددا وصفة. أما الواحد العدد كما تقول واحد اثنان.
وأما الصفة فكما تقول جاء زيد وحده. وأما الاثنان فعدد له صيغة يتميز بها عن الآحاد والمجموع. فإذا أرادوا أن يصفوهما قالوا جاء الرجلان كلاهما قال الشاعر:
يا رب حىّ الزائرين كليهما
…
وحىّ دليلا بالفلاة هداهما
ألا ترى أنه لما وصف الزائرين وهما مفعولان قال كليهما فنصب كما نصب الزائرين، وأما فجعلوهم صيغة واحدة لأن أكثر العدد لا يتناهى. فلو جاءوا يعلمون لكل عدد صيغة لطال عليهم، فوحدوا وثنوا وجمعوا. أما التوحيد فكما علمت للفرد. وأما التثنية فلأنه أضاف واحدا إلى واحد وكذلك الجمع. فإنه أضاف واحدا إلى واحد وأما من قال أن التثنية جمع فهو على ما ذكرت من أنه جمع واحد. فهو على الحقيقة جمع بالنسبة إلى الفرد. وعلى هذا جاء قوله تعالى:{فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} وإجماع الناس على أنه إذا كان له أخوان كان لأمه السدس. وقد جاءت التثنية بلفظ الجمع وليس ذلك إلا نظرا للجمع على الحقيقة إذ كان ذلك جمع واحد إلى واحد فعلى هذا ساغ أن تكون التثنية جمعا. قال الله تعالى: {هَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ إِذْ دَخَلُوا عَلَى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلَى بَعْضٍ} قال الله تعالى تسوروا ودخلوا، وهذا لا يكون إلا على الجمع لأنه بين بعد ذلك وقال خصمان قال الخليل: فهذا على إن الاثنين عندهم جمع أيضا وصار بمنزلة قول الاثنين نحن فعلنا. قال الشاعر:
ظهراها مثل ظهور الترسين
وإلا فصيغة كل جزء مما ذكرت مختصة على حدة. وأكثر الجمع عندهم تسعة وأقلهم ثلاثة، لأنه بعد التسعة يكرر لفظ الآحاد والجموع. فلو قال قائل إنكم إنما تجعلون الربع يقوم مقام الكل فلم جعلتم هنا الثلاث أعنى صيغة لفظ الجمع قلنا: إن ربع التسعة اثنان وربع ولما كانت الأعداد من شأنها الصحة لا الكسور وكان الرابع داخلا في الجزء والثلث غير منفصل عنه وليس فصله ممكن، ساغ أن يكون صيغة لفظ الجمع منطلقة على الثلاث إذا لا يمكن أقل من ذلك قال الله تعالى:{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ} وهي شهران وعشرة أيام فلما دخل بعض الثالث في الكلام اقتضى النطق به بلفظ الجمع.
مسألة
رجل قال: والله لا أشرب من الفرات. إن شرب كرعا حنث، وإن شرب بآناء لم يحنث وذلك أنه إذا قال من فمن هنا لابتداء الغاية ولا يكون للتبعيض فلو أنها للتبعيض كان لا يحنث أبدا لأن الفرات اسم للأرض وليست باسم للماء فلو كان الفرات اسم الماء لكان المسمى ذهب وما أتى لم يسم وأنت إذا قلت أتيت الفرات لم ترد أنك أتيت الماء ولكنك تريد أنك أتيت البلاد التي على النهر فالنهر اسمه الفرات لا الماء فكأنك قلت والله لا أشرب منهذا الكوز ولو قلت هكذا لكانت يمينك على الشرب من الكوز لا على ما في الكوز فلو صب ما في الكوز في كوز آخر وشرب منه لم يحنث والنهر كما علمت اسم للحفرة المستطيلة كما قيل سيف منهر لم يرد أن الماء يجرى فيه ولكنه أراد المفقر ومنه سمى سيف النبي صلى الله عليه وسلم ذا الفقار ولو كان قال لا أشرب من ماء الفرات فإن شرب منه أو من إناء نقل من الفرات أو شرب بكفه حنث لأنه أضاف الماء إلى نهر مخصص لأنه لو كان اسما للماء لم يجز إضافته إليه كما تقول ماء الفرات فلو كان الماء اسمه الفرات لما قلت هذا ماء الفرات وإنما كنت تقول الفرات لأن الشيء عندهم لا يضاف إلى نفسه كما لا تقول هذا غلام غلام ولكنك تقول هذا غلام زيد فيضيف الغلام إلى زيد كأنه قال لا أشرب من هذه الماء الذي في هذا الكوز فسواء شرب منه أو من إناء آخر نقل إليه منه حنث ولو قال لا أشرب من هذا البئر يحنث إذا شرب بإناء. الفرق بينهما أن البئر غير مقدور على الشرب منها على الحقيقة فصار كأنه حلف مجازا كما لو قال: والله لا آكل من هذه الشاة فاليمين على لحمها لأنه يقدر على أكلها حقيقة ولو قال لا آكل
من هذه النخلة، فاليمين على ثمرتها لأنه لم يقدر على أكل عينها حقيقة، فحمل على المجاز فكذلك الفرق بين الفرات والبئر.
واعلم أن العرب إذا وجدت الحقيقة في كلامهما لا يعدلون عنه وإذا لم يجدوا الحقيقة حملوا كلامهم على المجاز المتعارف فإذا لم يجدوا حملوا على المجاز فأما الحقيقة إذا قال رجل هذا أسد لا يشكون أنه رأى عرباضا ولو قال زيد الأسد حمل على المجاز إذ كان الحمل على الحقيقة متعذرا قال الله تعالى: {وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ} فلم يرد أنهن أمهاتنا لكنه حمله على المجاز فلما جاء إلى الحقيقة قال: {إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً} وأما المجاز المتعارف فقوله تعالى: {أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ} فإن أحدنا لو جاء الغائط ألف مرة لا ينتقض وضوءه وإنما جعل الغائط كناية عن الحدث وإن كان الحدث أيضا مجازا إلا أننى استقبحت أن أذكر الحقيقة إذ لم أجد له في العربية اسما حقيقيا إلا اسما واحدا وأما المجاز غير المتعارف فقولهم الوطء يكون على الوطء بالقدم على الحقيقة وكناية عن الجماع قال الله تعالى: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها} والمراد منه الجماع لأنه لما قال أرضهم وديارهم كفى في البلاد وأرضا لم تطؤها يعنى النساء.
مسألة
رجل قال: أن خرج فلان من هذه الدار حتى آذن له فعبدي حر. فأذن له مرة ثم خرج بغير أمره لا يحنث لأن حتى تكون للغاية فإذا قال حتى آذن له فكأنه قال غاية ذاك إذني له قال الله تعالى: {فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي} فلو كان أبوه أذن له مرة لم يحتج إلى إذن ثان. ولو كان قال إلا بإذنى احتاج إلى الإذن في كل مرة. ألا ترى إلى قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} فيحتاج إلى الاستئذان في كل مرة.
والفرق بينهما أن المسألة الأولى جعل لها غاية بقوله حتى. فإذا انتهت غايتها سقطت كأنه قال لا أكلمك حتى يدخل رمضان فإذا دخل رمضان جاز له الكلام من غير حنث لأنه جعل رمضان غاية ليمينه. وأما الإذن فقال تعالى: {آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} أى قبل إذنى لكم. فهذا محتاج إلى الإذن كل مرة، كأنه قال: إلا
وقد بين أبو حنيفة رضي الله عنه حكم الحرف الوعائى ما لم يبينه أحد. وذلك في قوله رجل قال لآخر: إن شتمتك في المسجد فعبدي حر وقال إن ضربتك في المسجد فعبدي حر. فأما الشتيمة ونحوها مما يجرى من أحدهما فجعله كون الفاعل في المسجد. وأما ما لم يعم الفاعل بنفسه جعل الفعل أن يقع على المفعول فقال إن شتمتك في المسجد. وأما ما لم يعم الفاعل بنفسه جعل الفعل أن يقع على المفعول فقال إن شتمتك في المسجد يحتاج إلى أن يكون الشاتم في المسجد إلا ترى أن الرائي لو رأى رجلا يشتم رجلا أو يكفر، ويقول: لا تشتم في المسجد أو لا تكفر في المسجد وأما الذي لم يقم بالفعل وحده فلا يحنث ما لم يكن المفعول في المسجد. ألا ترى أن رجلا لو رأى رجلا يذبح شاة والذابح بالمسجد والشاة خارج المسجد يقول لا تذبح عند باب المسجد ولو كانت الشاة بالمسجد والذابح خارج المسجد يقول لا تذبح في المسجد وكذلك لو قال إن قتلتك يوم الجمعة فضربه في غير يوم الجمعة لكنه مات يوم الجمعة حنث، ولو ضربه يوم الجمعة فمات في غير يوم الجمعة لا يحنث، لأن القتل لا يكون إلا بزهوق الروح. وقيل زهوق الروح لا يكون قاتلا. وإنما يكون ضاربا.
مسألة
رجل قال: كل امرأة أتزوجها فهي طالق، إن كلمت فلانا. فتزوج امرأة قبل الكلام وامرأة بعد الكلام. فالتي تزوجها قبل الكلام طلقت ولا تطلق التي تزوجها بعد الكلام. لأنه أوجب الكلام من ساعته وجعل كلام فلان غاية ليمينه واليمين إذا انتهت غايتها سقطت فيكون كلام فلان غاية ليمينه وصار شرطا لانحلال اليمين ولم يكن شرطا لانعقاده لأنه أخر الشرط فصار شرطا لانحلال اليمين فدخلت المزوجة قبل الشرط تحت اليمين، وأما إذا قدم الشرط فقال إن كلمت فلانا فكل امرأة أتزوجها فهي طالق فتزوج امرأة بعد الكلام وامرأة قبل الكلام فالتي تزوجها قبل الكلام لا تطلق، لأنه تزوجها قبل اليمين، والتي تزوجها بعد الكلام تطلق لأنه تزوجها بعد انعقاد اليمين. وهذا لأنه جعل كلام فلان شرط لانعقاد اليمين فصار كأنه قال عند كلام فلان كل امرأة أتزوجها فهي طالق، لأنه إذا علق الطلاق بالشرط يكون شرطا لانعقاد اليمين والداخلة تحت اليمين المزوجة بعد الشرط وإن أخر الشرط يكون شرطا لانحلال اليمين والداخلة تحت اليمين المزوجة قبل الشرط،
أما إذا وسط الشرط فقال: كل امرأة أتزوجها أن كلمت فلانا فهي طالق صار كما إذا قدم الشرط لأن كلمة هي لا تستبد بنفسها، فصار كما إذا قال كل امرأة أتزوجها إن كلمت فلانا فالمرأة التي أتزوجها إن كلمت فلانا فالمرأة التي أتزوجها طالق ولو قال إن كلمت فلانا كل امرأة أتزوجها طالق صار الشرط مقدما كذلك هاهنا. وأما إذا وقت وأخر الشرط فقال كل امرأة أتزوجها فهي طالق إلى ثلاثين سنة إن كلمت فلانا. فتزوج امرأة بعد الكلام وامرأة قبل الكلام طلقتا لأنا إنما جعلنا كلام فلان غاية ليمينه من طريق الدلالة. فإذا وقت صريحا خرجت الدلالة من أن تكون للغاية لأن الصريح أقوى منها. ولو قدم الشرط فقال: إن كلمت فلانا فكل امرأة أتزوجها إلى ثلاثين سنة فهي طالق. فالتي تزوج قبل الكلام لا تطلق، لأن الكلام صار شرطا، لانعقاد اليمين على ما ذكت ومن تزوجها بعد الكلام تطلق. ولو وسط فهو كما لو قدم ثم إذا أخر الشرط يعتبر من وقت اليمين، لأنه أوجب اليمين من ساعته. ولو أخر الشرط يعتبر من وقت الكرم لأن اليمين انعقدت عند الكلام، وكذلك الجواب في الفصول كلها إذا جعل غاية ليمينه وشرطا لحنثه.
وحروف الشرط إن المكسورة الهمزة المخففة تقول إن تأتنى آتك «ومن» يقول من يمرر أمرر به فقولك إن تذهب وما أشبهه من الفعل الذي يلي إن شرط والجزاء قولك اذهب. وجزاء الشرط ثلاثة أشياء: الفعل وقد ذكرته، والآخر الفاء. في نحو إن تأتنى فأنت مكرم قال الله تعالى:{فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلَا رَهَقاً} وإذا، تقول: إذا احمر البسر أعطيتك قال الله تعالى: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} فموضع الفاء وما بعده جزم وكذلك موضع إذا وما بعدها بدلالة أنه لو وقع موضع ذلك فعل لظهر الجزم. وعلى هذا قرأ بعض القراء {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ} فجزم يذرهم لحمله إياه على موضع فلا هادى له.
وقد تقع أسماء موضع إن وتلك الأسماء منها ما هو غير ظرف ومنها ما هي ظرف. فما كان غير ظرف فنحونا ومن، وأيهم، تقول من يكرم أكرم. وأيهم تعط أعط. وما تركب أركب قال الله تعالى:{مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها} وقال تعالى: {أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنَى} فعلامة الجزم في الفعل بعد أى حذف النون التي تثبت علامة للرفع في تفعلون قال الله تعالى: {مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ
{آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} والظروف التي تجازى بها متى، وأنى وأين. وأى حين، وحيثما وإذ ما، ولا يجازى بحيث، ولا بإذ. حتى يلزم كل واحدة منهما ما يقول متى، يأتنى آته، ومتى ما تأتنى آتك. قال:
متى تأته تعشو إلى ضوء ناره
…
تجد خير نار عندها خير موقد
وأنى يقم أقم. وأين تذهب أذهب. وأى حين تركب أركب وهذه الأسماء التي جوزي بها إذا نصبت انتصبت بالفعل الذي هو شرط ولا يجوز: زيدا إن تضرب أضرب، لا يجوز أن تنصبه في قول البصريين بالشرط، ولا بالجزاء. فإن قلت: إن يضرب زيدا أضرب، كان زيد منتصبا بالفعل الذي هو شرط. فإن شغلت الشرط بالضمير قلت: إن زيدا تضربه اضرب عمرا كان زيد منتصبا بفعل مضمر، يفسره هذا الظاهر. كما أن قولك زيداضربته، كذلك وقد يحذف الشرط في مواضع، فلا يؤتى به لدلالة ما ذكر عليه وتلك المواضع: الأمر، والنهى، والاستفهام، والتمني، والعرض. تقول: أكرمنى أكرمك، والتأويل أكرمنى فإنك إن تكرمني أكرمك. والنهى لا تفعل يكن خيرا لك. والاستفهام ألا تأتنى أحدثك؟ وأين بيتك أزرك؟ والتمني ألا ماء باردا أشربه؟ والعرض إلا تنزل تصب خيرا؟ فمعنى ذلك كله إن تفعل أفعل فهو جميعه معنى الشرط ومعنى الجزاء أفعل قال محمد في «الجامع الكبير»: ألا ترى أنه إذا قال إذا جاء غد فكل امرأة أتزوجها فهي طالق فلا تطلق إلا التي تزوجها في الغد، وانما أراد ما أشكل بالأفعال فاعتبره بالأوقات لأنك إذا قدمت الشرط أو وسطته أو أخرته في الأوقات تبين لك في الأفعال. اجعل مجيء الغد بمنزلة كلام فلان. وقد تبين لك ما ذكرت.
مسألة
إذا قال: كل امرأة أتزوجها فهي طالق كلما كلمت فلانا وتزوج امرأة ودخل بها ثم كلم فلانا، ثم تزوج أخرى فالتي تزوجها قبل الكلام تطلق ولا تطلق التي تزوجها بعد الكلام، لأنه جعل كلام فلان غاية ليمينه وشرطا لحنثه، فصار كأنه قال كل امرأة أتزوجها غدا فهي طالق كلما كلمت فلانا ولو قال هكذا لا يشكل لأنه لا يقع الطلاق إلا على التي تزوجها غدا، فذكر المسألة بكلما، وكلما كلمة تكرار بيانها
يجيء بعد إن شاء الله. فصار حكم هذه المسألة وحكم المسائل المتقدمة على السواء، إلا أن هنا ذكرت شرط الحنث مكررا فإن كلم فلانا مرة أخرى طلقت أخرى إذا كانت في العدة، ولا تطلق الثانية لأنه جعل كلام فلان غاية ليمينه والغاية لا تحتمل التكرار، والشرط يحتمل التكرار. فإذا تزوج المرأة الأولى وكلم فلانا فقد انتهت اليمين غايتها وسقطت، لأن في حق الأولى صار الكلام شرطا للحنث وشرط الحنث يحتمل التكرار، ولو قدم الشرط فقال كلما كلمت فلانا فكل امرأة أتزوجها طالق، فتزوج امرأة قبل الكلام وامرأة بعد الكرم فالتي تزوجها قبل الكلام لا تطلق وتطلق التي تزوجها بعد الكلام، لأنه جعل كلام فلان شرطا لانعقاد اليمين فالتي تزوجها قبل الكلام تزوجها قبل انعقاد اليمين فلا يقع الطلاق عليها، فإن تزوج أخرى طلقت أيضا لأن كلمة كل تجمع الأسماء على الانفراد فكل امرأة يتزوجها بعد الكلام تطلق ولو لم يتزوج امرأة أخرى حتى كلم فلانا مرة أخرى لا يقطع الطلاق على المرأة الأولى لأنها بانت بالطلقة الأولى. وكذلك لو كانت في ملكه لا يقع الطلاق أيضا إذا كان التزوج قبل الكلام. ولو كلم فلانا ثم تزوج امرأة تقع تطليقتان، تطليقة بالكلام الأول وتطليقة بالكلام الثاني لأن يمينه انعقدت بحرف متكرر فانعقد في حقه يمينان.
وكذلك لو كلم فلانا ثلاث مرات ثم تزوج امرأة طلقت ثلاثا لأنه انعقدت عند كلام فلان أيمان ثلاثة، كأنه قال كل امرأة أتزوجها فهي طالق، وكذلك في الثانية والثالثة، فإذا تزوجها حنث في الأيمان كلها.
قال في الكتاب: ألا ترى أنه لو قال كلما ضربت فلانا ففلانة طالق إن تزوجتها، فضرب فلانا ثلاث مرات ثم تزوجها طلقت ثلاثا لأنه إذا تكرر الضرب تكرر الانعقاد. فإذا وجد الشرط نزلت كلها وانحلت الأيمان معا. وقال ألا ترى أنه إذا قال لامرأته كلما دخلت الدار اليوم فأنت طالق غدا فدخلت الدار اليوم ثلاث مرات تطلق غدا ثلاثا. وقال ألا ترى أنه لو قال كلما ضربت فلانا فامرأتى طالق إن دخلت الدار، فضرب فلانا ثلاث مرات ثم دخل الدار تطلق ثلاثا، ولو وسط الشرط صار كأنه قدم وقد ذكرت ذلك. ولو قال كل امرأة أتزوجها إن دخلت الدار فهي طالق فالجواب في دخول الدار بمنزلة الجواب في كلام فلان إن كان شرط الدخول متقدما يقع الطلاق على المزوجة بعد الدخول ولا يقع على المزوجة قبل الدخول لكنه لا يدخله التكرار، والفرق بين كل وكلما أن كلا اسم مفرد يقع على الأفراد أبدا فإذا أضيف إلى الجمع أو قرن به اقتضى الجمع أيضا لكن على سبيل الإفراد لأنه مخصص
به قال الله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ} فهذا يقتضى الجمع لكن على سبيل الإفراد لأن من بمعنى الذي لكن لما كان اللفظ يقتضى العموم اقتضت ذلك لكن على أصلها وهي الإفراد، ألا ترى إلى من أنها لا تكون للجمع، وأما ما وصف به الجمع قوله تعالى:{وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ} فجميع ومحضرون جموع، فلما قرنت بها كل اقتضتها لما فيها من الإبهام. قال سيبويه: هذا مال كل مال عندك فأضافه إلى النكرة، إلا ترى أنك تصف بها النكرة وذلك أنك تصف ما بها بما تصف به النكرة ولا تصف بما تصف به المعرفة.
قال سيبويه: حدثنا الخليل عمن يوثق بعربيته من العرب ينشد هذا البيت:
وكل خليل غيرها ضم نفسه
…
لوصل خليل صارم أو معارز
فجعله صفة لكل والبيت للشماخ. فهذا يدل على الإفراد بقوله نفسه فأضاف كلا إلى الإفراد.
قال سيبويه: هذا كل مالك، وقال مررت برجلين مثلك أى كل رجل منهما مثلك، وأما كلما فهي من حروف الشرط وتدخل على الأفعال لأنك تقول كلما قام زيد قمت، فقولك قمت هو جواب لكلما وكل اسم لأنه يضاف ويضاف إليه تقوله كل رجل وصنعته، فتضيف كلا إلى رجل. قال الله تعالى:{كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ} .
مسألة
ولو قال كل امرأة أتزوجها إن دخلت الدار فهي طالق فالجواب في دخول الدار بمنزلة الجواب في كلام فلان إن كان الشرط متقدما يقع على المزوجة بعد الدخول ولا يقع على المزوجة قبل الدخول. ولو قال كل امرأة أملكها فهي طالق إن دخلت الدار فالطلاق يقع على المرأة التي في ملكه لا يكون غير ذلك، سواء قدم الشرط أو وسطه أو آخره لأن لفظ أملك يكون للحال ويصلح للاستقبال فلو أراد أن يخلص اللفظ للاستقبال قال سوف أملك أو سأملك للحال أى وضح أن يكون كذا. وإنما صلح للاستقبال لأن الحال أشبه بالاستقبال من الماضي لأن فعل خلاف سوف يفعل وإنما يفعل إذا نسبناه إلى أحدهما كنسبة المستقبل والملك الذي يكون للحال يكون
للاستقبال لأن أملك اليوم والساعة وغدا سواء، وأملك صالح لكل ما ذكرت فلما كان ملك الحال يكون للاستقبال صلح اللفظ كما كان الفعل في أحواله. فلذلك قلت إن فعل الحال يصلح للاستقبال. فلما صلح اللفظ للأمرين حملناه على الأصل إذا لم يكن له قرين فإن كان له قرين حملنا على ما يصلح له فإذا قال أملك غدا حملناه على الملك المتجدد غدا ولئن قال: أملك حملناه على ملك الحال فصار كأنه قال كل امرأته إذا ملكها، فإنه يقع على من كانت في ملكه كذلك هنا يقع الطلاق على المزوجة في الحال ولا يصدق في صرف الطلاق عن من يملكها في الحال لأنه أراد صرف الكلام عن الظاهر إلى غيره فتجوز نيته على التي عنى ولا تصدق في إبطاله عن التي يملكها في الحال.
ووجه آخر: إنك إذا قلت زيد يضرب عمرا فإن بعض الضرب ماضى وبقيته مستقبل فكأنه وقع حالا وفيه المستقبل لكونه الضرب ما انقضى، فلو انقضى عبر عنه بالماضي ولذلك أشبه الحال الاستقبال في الكلام العرب. ولو قال كل جارية أملكها فهي حرة إذا جاء غد، أو قال كل جارية أملكها إذا جاء غد فهي حرة فإن هذا كله يقع على الموجود دون الحارث، لأنه علق العتق بمجيء الغد وذكر الملك مرسلا والملك المرسل يقع على الموجود دون الحارث، فصار كأنه قال كل جارية أملكها في الحال فهي حرة، ولو قال كذا لا يعتق إلا من كان في ملكه وقت اليمين بشرط حدوث الغد، ولو قال كل جارية أملكها غدا فهي حرة يعتق ما يملك في الغد من أول النهار إلى خره ولا يعتق الموجود والتي يملكها قبل مجيء الغد ولا يعتق التي يملكها بعد الغد، لأنه وصف الملك بمجيء الغد وفي الأخرى جعل شرط حنثه مجيء الغد فلذلك افترقا.
مسألة
إذا قال الرجل لامرأته أنت طالق اليوم وغدا طلقت اليوم ولا تطلق غدا وإذا قال أنت طالق اليوم وإذا جاء غد، طلقت اليوم طلقة وغدا طلقة، والفرق بينهما أن الواو للجمع وما اتصف مرة فلا يتصف ثانيا وهي فقد اتصفت بالطلاق فكل يوم هي موصوفة بالطلاق. قوله أنت طالقة اليوم وقع الطلاق واتصفت به وقوله وغدا فقد عطف اليوم على اليوم فحمل على الصفة. وأما قوله أنت طالق اليوم وإذا جاء غد
فقد عطف المجيء على اليوم فأريد به الحدوث فحمل على الحدوث ولم يحمل على الصفة. فصار كأنه قال أنت طالق، وإذا جاء الغد طالق أيضا، فحمل كلامه على الإضمار إذ لم يكن له بد من ذلك فصار كأنه قال كما قال تعالى:{لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى} .
وقال الفرزدق:
وعض زمان يا ابن مروان لم يدع
…
من المال إلا مسحتا أو مجلف
أى مجلف كذلك.
مسألة
رجل قال لامرأته إن دخلت هذه الدار وهذه الدار فأنت طالق ثلاثا، فطلقها واحدة وهي غير مدخول بها فدخلت إحدى الدارين فتزوجها ثانيا ودخلت الدار الأخرى وهي في ملكه لا يمنع وقوع الطلاق، لأن الحنث يظهر بدخول الدار الثانية فيعتبر وقت اليمين ووقت الحنث ألا ترى أنه لو قال لامرأته أنت طالق رأس الشهر، فبانت منه فيما بين ذلك ثم عادت إلى ملكه قبل رأس الشهر وقع عليها الطلاق رأس الشهر، لأنها في ملكه وقت وجود اليمين والشرط جميعا. ولا يعتبر فراقهما خلال ذلك، ولأنه أضاف الطلاق إلى فعل مخصص ووجد الفعل وهي في ملكه، والأصل أن المعلق بالشرطين لا ينزل إلا عند وجود الآخر منهما لأن الكلام بآخره والواو للجمع ولا يمكن الجمع من دخول الدارين حقيقة فحمل على المعنى وهو الجمع في الفعل وهو دخول الدارين ولا يوجد ذلك إلا بدخول الدار الآخرة منهما. ولو قال إذا دخلت هذه الدار فأنت طالق إذا دخلت هذه الدار الأخرى فبانت منه ثم دخلت إحدى الدارين ثم تزوجها ثم دخلت الدار الأخرى لا يقع عليها شيء لأنه جعل دخول الدار الأولى شرطا لانعقاد اليمين فصار كأنه قال عند دخول الدار الأولى أنت طالق إن دخلت هذه الدار الأخرى ولو قال ذلك لا تطلق لأنها وقت اليمين لم تكن في ملكه لأن اليمين بالطلاق لا يصح إلا بالملك أو مضافا إلى الملك أو في علقة من علائق الملك وهنا لم يوجد شيء من ذلك فصار كأنه قال لأجنبية أنت طالق ثم تزوجها لا تطلق كذا هاهنا. والفرق بينهما أن المسألة الأولى كان الشرط دخول
الدارين وقد وجد واليمين انعقدت لساعته ودخول الدارين جميعا كان شرطا لانحلال اليمين وهنا جعل دخول الدار الأولى شرطا لصحة اليمين ولما دخلت الدار الأولى لم تكن في ملكه فلذلك افترقا.
مسألة
إذا قال الرجل لامرأته أنت طالق غدا أو بعد غد، فجاء غد لم تطلق حتى يجيء بعد غد لأنه أوقع الطلاق في أحد الوقتين فلو قلنا إنها تطلق غدا احتجنا إلى أن نوقع الطلاق بعد غد وذا خلاف ما قال الحالف ولأن أو لأحد ما دخلت عليه فإذا جاء بعد الغد وقع الطلاق يقينا واليوم الأول كان شكا. ولو قال أنت طالق إذا جاء غد يقع الطلاق إذا جاء غد لأنه جعل مجيء الغد شرطا لوقوع الطلاق ثم أدخل كلمة الشك فقال أو بعد غد، وبعد وقوع الطلاق لا يمكن استدراكه فصار كأنه قال أنت طالق إذا جاء فلان أو فلان فأيهما جاء وقع الطلاق. وكذلك هاهنا إلا أن في الشخصين لا نعلم أيهما يجيء أولا وغد مقدم على بعد غد ضرورة فلذلك افترقا.
مسألة
إذا قال الرجل لامرأته إن دخلت هذه الدار وإن دخلت هذه الدار فأنت طالق، فهذه المسألة على ثلاثة أوجه؛ أما إن عطف الشرط على الشرط؛ وأما إن عطف الفعل على الشرط، أو عطف المفعول على الشرط. وكل وجه على ثلاثة أوجه أما إن قدم الطلاق، أو وسط الطلاق، أو أخر الطلاق. أما إذا عطف الشرط على الشرط إن أخر الطلاق كما إذا قال إن دخلت هذه الدار وإن دخلت هذه الدار فأنت طالق فإنها لا تطلق حتى يوجد الدخول لأن جميعا لأنه جمع بين الشرطين قبل إكمال الأول بالجزاء فصار كأنه قال إن دخلت هاتين الدارين فأنت طالق لأنه لو اقتصر على قوله إن دخلت هذه الدار وإن دخلت هذه الدار لم يكن كلاما تاما وإنما يتم بقوله أنت طالق، ولو قدر الطلاق فقال أنت طالق إن دخلت هذه الدار وإن دخلت هذه الدار فأى الدارين دخلت حنث لأنه أكمل الشرط الأول بالجزاء وعطف دخول الدار الأخرى عليها، فصار كأنه ابتداء، ولو وسط فقال إن دخلت هذه الدار فأنت طالق، وان دخلت هذه الدار. فأيهما وجد حنث في يمينه لأن اليمين
تمت بالشرط الأول، فقوله الثاني ان دخلت ابتداء يمين منه على ما ذكرنا هذا عطف الشرط على الشرط، نحو قوله إن دخلت هذه الدار ودخلت هذه الدار فأنت طالق أو قدم الطلاق أو وسط الطلاق فالجواب واحد لا يقع الطلاق ما لم يوجد الطلاق جميعا لأن الواو للجمع ما لم يقم دليل الاستئناف. أما إذا أخر الطلاق فقال إن دخلت هذه الدار ودخلت هذه الدار فأنت طالق لا يقع الطلاق ما لم يوجد الدخولان لأنه جمع بين الفعلين وأجاب بجزاء فصار كأنه قال إن دخلت هاتين الدارين فأنت طالق ولو قدم الطلاق فقال أنت طالق إن دخلت هذه الدار ودخلت هذه الدار فكذلك الجواب أيضا. وإن كانت اليمين تتم بالشرط لأنه لا يجوز حمله على الاستئناف هنا لأن الطلاق لا يكون يمينا إلا بشرط وجزاء ولا يستقيم أن يكون بغير شرط وجزاء فحمل على معنى الجمع بخلاف ما إذا عطف الشرط على الشرط لأن هناك حمله على الاستئناف ممكن، وكذلك لو وسط الطلاق فالجواب هكذا كما إذا قال إن دخلت هذه الدار فأنت طالق ودخلت هذه الدار. ولو عطف المفعول على الشرط قدم الطلاق أو وسط أو أخر فالجواب واحد لأنه لا يقع الطلاق ما لم يوجد الدخولان جميعا كما إذا قال إن دخلت هذه الدار وهذه الدار فأنت طالق أو قال أنت طالق إن دخلت هذه الدار وهذه الدار أو وسط الطلاق فقال إن دخلت هذه الدار فأنت طالق، وهذه الدار. لأن الواو للجمع ما لم يقم دليل الاستئناف ولأنه يمكن أن تستأنف يمين أخرى بقوله هذه الدار من غير شرط ولا جزاء فحمل على الجمع فصار كأنه قال إن دخلت هاتين الدارين فالجواب في الفصول الخمسة واحد وفي فصلين خلاف الخمسة وهو أنه إذا عطف الشرط على الشرط وقدم الطلاق أو وسط لأنه قام هناك دليل الاستئناف وكذلك في هذه الفصول كلها إذا كان الشرط إذا، أو متى ما، أو إذا ما.
مسألة
رجل قال لامرأتيه إن دخلتما هذه الدار فأنتما طالقان فدخلت إحداهما دون الأخرى لا يقع الطلاق، ولو كان قال لهما إن دخلتما هاتين الدارين فدخلت كل واحدة منهما دارا على حدة يقع الطلاق، وذلك لأنه أضاف جماعة الأفعال إلى جماعة
الأشخاص فالمراد فعل كل واحد على حدة قال الله تعالى: {يا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ} فما أراد أن كل واحد يدخل من جميع الأبواب. ومثل ذلك قوله تعالى: {يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ} فكل يخرج من جدثه ألا ترى إلى
ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أتاه رجل فقال: يا رسول الله إنّي جعلت لقومي مالا ليسلموا وقد أسلموا وقد شحت نفسي فيما جعلت لهم؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «إن أسلموا وإلا سيرنا لهم الخيل- أى الخيالة- كلا على فرسه»
فأضاف جماعة الأفعال إلى جماعة الأشخاص وقوله تعالى: {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ} دليل على ما ذكرت من المعنى أى أهل القرية. فالنبي عليه السلام ما أراد إرسال الخيل هدية ولا أراد إلا حربهم. ولو قال إن دخلتما هذه الدار وإن دخلتما هذه الدار فأنتما طالقان، فدخلت كل واحدة منهما دارا يقع حتى يدخلا جميعا الدارين، لأنه جعل لكل يمين شرطا وجزاء على حدة ولم يضف جماعة الأفعال إلى جماعة الأشخاص، ألا ترى أن كل يمين منهما جملة من شرط وجزاء، فما لم يوجد لكل شرط جزاؤه لا يقع فصار كما إذا قال إن كلمت زيدا فعبدي حر وإن كلمت عمرا فامرأتى طالق. ألا ترى أنه لو اقتصر على إحدى الجملتين كانت يمينا تامة، وأ لا ترى أنه قال إن دخلتما هذه الدار فأنتما طالقان اليوم، وإن دخلتما هذه الدار أنتما طالقان غدا. وإن دخلتا الدار الأولى طلقتا اليوم، وإن دخلتا الدار الأخرى طلقتا غدا.
* * *
بسم الله الرحمن الرحيم
لما كان بتاريخ المحرم سنة خمس عشرة وستمائة ورد كتاب من الموصل من الشريف النقيب جمال الدين بن عبيد الله على القاضي شرف الدين بن عنين ونسخته-:
كنت منذ زمن طويل تأملت كتاب «الجامع الكبير» : لمحمد بن الحسن رحمه الله وارتقم على خاطري منه شيء والكتاب في فنه عجيب غريب لم يصنف مثله، وفي هذه الأيام عاودت نظري فيه وتأملته وأحضرت الشرح الذي شرحه الاسبيجابى رحمه الله وهو على كل حال عجمي اللسان لا سيما إذا تكلم في المسائل المتعلقة بالعربية من نحو وغيره فإنه يقصر في بعض المواضع ويخطئ في بعض وأوثر منك- أبقاك الله- إن تسأل عن شبهة أذكرها لك وتحقق القول فيها مع الشيخ جمال الدين
فمن جملة ما ذكره محمد بن الحسن رحمه الله أنه قال في باب العتق: إذا قال الرجل لآخر أى عبيدي ضربك فهو حر، فضربوه جميعا عتقوا. ثم قالفي باب آخر: إذا قال الرجل لعبيده أيكم حمل هذه الخشبة فهو حر، وكانت مما يقدر على حملها رجل واحد فحملوها جميعا لم يعتق واحد منهم. هذا قول محمد رحمه الله، ولا فرق عندي بين المسألتين فإن الضاربين في المسألة الأولى بمنزلة الحاملين الخشبة، والمضروب بمنزلة الخشبة المحمولة، فإن قيل الخشبة يحملونها جملة واحدة قلت كذلك الضاربون والمضروب فإنهم يأخذون عصا واحدة في أيديهم ويضربون بها ضربة واحدة، وكذلك قال محمد رحمه الله في باب من أبواب الكتاب: إذا حلف الرجل أنه لا يصلى صلاة وصلّى بغير وضوء لا يحنث، وإذا حلف أنه ما صلّى وكان قد صلّى بغير وضوء يحنث. ولا فرق عندي أيضا بين الصلاة الماضية والمستقبلة، فلم كان في إحداهما يحنث وفي الأخرى لا يحنث، وقد قال صلى الله عليه وسلم:«لا صلاة إلا بوضوء» وعلى هذا فينبغي أن لا يحنث في الصلاة الماضية والمستقبلة لأنهما بغير وضوء، وأنت يا مولاي حفظك الله إذا تكلمت مع الرجل فينبغي أن تحققه تحقيقا لا يبقى عليه غبار ولا تقنع بالكلام إلا قناعي فعرضت المسألتان على الشيخ جمال الدين الحصرى فأجاب بما صورته.
قال في المسألة الأولى:
لفظة أى تتناول واحدا من الجملة، قال الله تعالى:{أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي} ولم يقل تأتونى بعرشها، ويقال أى الرجال أتاك ولا يقال أتوك إلا أنها تقبل الوصف بالعموم كما في قوله صلى الله عليه وسلم:«أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها» فقبل العموم بالوصف فقد وصفهم بكونهم ضاربين فعمهم والضرب بعموم الوصف فوجد الشرط من كل واحد منهم فعتقوا ولا فرق بين كونهم ضربوا جملة أو متفرقين وأما في مسألة الحمل فإنه أيضا وصفهم بوصف عام وهو الحمل إلا أن الشرط لم يوجد وهو حمل كل واحد منهم لجميع الخشبة بل وجد من كل واحد منهم حمل البعض.
المسألة الثانية:
وهي رجل قال: إن كنت صليت صلاة فعبدي حر، وقد كان صلّى بغير وضوء حنث، ولو قال إن صليت فعبدي حر لا يحنث إذا صلّى بغير وضوء.
والفرق بينهما من وجهين:
أحدهما: أن الماضي موجود والموجود معرف وصفة المعرف لغو لأنه مستغن عن الصفة. اما المستقبل فهو معدوم ولا يعرف إلا بالصفة فاعتبرت الصفة في المستقبل ولم تعتبر في الماضي.
الوجه الثاني: أن الكلام في الماضي وقع خبرا وليس المطلوب من الأخبار الصحة والنفاذ والقبح والحسن، إنما المراد منه إعلام السامع لشيء ما وليس لذلك في المستقبل المطلوب منه وجود الغرض المتعلق بالفعل والإمتاع منه والغرض يتعلق في المستقبل فإن المستقبل بالصحيح لا بالفاسد، والله أعلم.
وقلت أنا: سألت رحمك الله عن قول محمد في «الجامع الكبير» في باب العتق إذا قال الرجل لآخر: أى عبيدي ضربك فهو حر فضربوه جميعا عتقوا، ولو قال لعبيده أيكم حمل هذه الخشبة فهو حر، وكانت مما يقدر على حملها واحد فحملها كلهم جملة واحدة لا يعتق أحد منهم ما الفرق بين المسألتين؟ وسألت وفقك الله عن قوله إذا حلف الرجل أنه لا يصلى صلاة فصلى بغير وضوء لا يحنث، وإذا حلف أنه ما صلّى وقد كان صلّى بغير وضوء حنث، ما الفرق بين المسألتين أيضا وأنا أذكر إن شاء الله ما وقع من الفرق بين هذه المسائل، فإن رأيت خطأ فاعذر وسامح كما قال الحريري:
وإن تجد عيبا فسد الخللا
…
فجل من لا عيب فيه وعلا
أو كما قال أبو على الفارسي: إن الخطأ بعد التحري موضوع عن المخطئ ومثلي من يعذر ولا سيما في مثل هذا الوقت واشتغالي فيه بما تعلم مع قلة المطالعة بل مع عدمها وذلك أن هذا الكتاب وصل إلى وأنا بنابلس في شهر المحرم سنة خمس عشرة وستمائة والفرنج على عثليث وقيسارية يبنونهما فلذلك لم يكن عندي كتاب.
أما الفرق بين ضرب العبيد وحمل الخشبة وذلك لأن أيا اسم معرب يستفهم به، ويجازى فيمن يعقل وفيما لا يعقل. قال أبو على: أيهم في الدار فمكرم محمول، وأيكم يأتينى فله درهم.
وقال الجوهري: تقول أيهم أخواك وأيهم يكرمني أكرمه. وهو معرفة بالإضافة وقد تترك الإضافة لفظا وفيه معناها، وقد تكون بمنزلة الذي فتحتاج إلى صلة، وتقول
أيهم في الدار أخوك وقد يكون نعتا للنكرة تقول مررت برجل أى رجل، وأيما رجل، ومرت بامرأة أى امرأة، وأية امرأة، وأيتما امرأة، وأيما امرأة، فتكون ما زائدة وتنتصب على الحال والتعجب وإذا كان هذا الاسم الذي هو أى لهذه الأقسام فإن وصفت به الجمع كان للعموم وإن وصفت به المفرد كان للخصوص فتكون أى هاهنا بمعنى الذي كما تقول أيهم في الدار أخوك أى الذي في الدار أخوك، فكأنه قال الذي يضربه من عبيدي فهو حر، وإذا كان نعتا للنكرة فالمراد منه بيان الصفة وهو حمل الخشبة التي لا يقدر على حملها الواحد فكأنه أراد بيان صفة الخشبة بالثقل والخفة وإذا كان كذلك اعتبر مراده قال الله تعالى:{أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً} فهذا للعموم. وقال تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} فهذا للخصوص، والعامل في أى ما بعده وقوله أيكم يحمل هذه الخشبة لفظ للعموم والإفراد، فإن كانت الخشبة يطيق حملها الواحد كان كلامه لاختبار القوة، فكأنه قال أيكم أطلق حملها كما يقال في المسابقة أيكم سبق فله الجعل، فيستحق الجزاء السابق. ألا ترى أن عادة الأمراء أن يسابقوا الحلبة فيقولون من سبق فله كذا فلا يأخذ قصب السبق إلا من جاء أول الخيل كلها وإن كان الثاني سبق خيلا كثيرة أيضا لا يستحق أن يذكر، وكذلك الثالث وقوله تعالى:{أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها} إنما تقديره أيكم يأتينى به أولا وإلا فالكل منهم كان قادرا على الإتيان به، وإنما أراد السابق وقد فهم هذا آصف فكان جوابه {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} ولا فرق بين أن تقول من سبق وأيكم سبق وإن كانت الخشبة لا يطيق حملها الواحد كان المراد من اللفظ إزالتها عن مكانها حملا فيستوى فيها الاثنان والجماعة، كما يقال أيكم شرب الماء الذي في هذا الكوز ويقدر على شربه واحد، فإذا شربه أكثر من واحد لا يستحق الجعل. وإن قال أيكم شرب ماء الفرات كان المراد به بيان الصفة وهو الكرع لا استيعاب شربه لاستحالة ذلك، فمن كرع منه استحق الجعل فيختص الصفة ولا يختص لأن العامل في أى ما بعده لصلاحيته للمعنيين، فتبين بالإضافة وليس الضرب كذلك لأن الضرب راجع إلى إيقاع الفعل من غير اختبار القوة والضعف فأيهم وجد منه الضرب كان داخلا تحت الجزاء كالشارب من الفرات والقائل إنما يحمل كلامه على الصحة لا الفساد. ولذلك فرق محمد رحمه الله في قوله أى عبيدي ضربك، وأى عبيدي ضربته. فإذا ضرب أحدهم عتق في قوله ضربته لأن العائد ضمير واحد ولو ضرب الجميع واحدا بعد واحد عتق الأول ولو ضربهم جملة عتق أحدهم والبيان إلى المولى.
لأنه أبهم العتق وأعاد الضمير على واحد كما لو قال أحد عبيدي حر واستشهد بمسألة الطلاق فقال: أى نسائي شاءت الطلاق فهي طالق فشئن جميعا، لأنه أعاد الضمير على الجماعة. ولو قال أى نسائي شاءت طلاقها فهي طالق لا يقع إلا على واحدة فصار الفرق بينهما من حيث اختبار القوة واتحاد الفعل، فإذا لا فرق بين الخشبة التي يقدر على حملها الواحد إذا حملت الخشبة على التفريق بحملها واحدا بعد واحد، هذا إذا لم يكن له نية لأنا نحمله على العرف في مثل هذا لاختبار القوة يكون غالبا وبين مسألة الضرب فاستويا. وأما الخشبة التي لا يقدر على حملها الواحد فتفارقهما من حيث أن المراد إزالتها عن مكانها بالحمل لأن القائل عالم أن الواحد لا يزيلها فكأنه قال إن أزلتموها عن مكانها حملا فأنتم أحرار، وأما مسألة الصلاة وهي قوله إنه إذا حلف الرجل أنه لا يصلى صلاة فصلى بغير وضوء لا يحنث، وإذا حلف أنه ما صلّى وكان قد صلّى بغير وضوء حنث. فالفرق بينهما من وجهين؛ أما قوله لا يصلى صلاة فصلاة مصدر والمصدر لا يكون إلا بعد تمام الكلام ويكون مؤكدا للجملة والتأكيد إنما يكون للحقيقة وإذا تناول الكلام الحقيقة انتفى المجاز فكأنه قال إن صليت صلاة صحيحة أو مقبولة وعلى هذا التأويل الخبر الوارد «لا صلاة إلا بوضوء» تقديره لا صلاة صحيحة أو مقبولة.
والوجه الثاني: أنه حلف على المستقبل واليمين في المستقبل يكون لبيان الأمر وبيانه بالصحة يكون فإذا حلف أنه ما صلّى وقد كان صلّى بغير وضوء كان إخبارا عنه يحتمل الصدق والكذب لفظا وعرفا كما إذا قال إن أخبرتنى أن فلانا قدم فلك كذا فأخبره أنه قدم استحق الجعل، وإن كذب. وكذلك لو قال إن أخبرتنى أن هذا الشهر رمضان وهو شوال فأخبره أنه رمضان استحق وإن كذبا حقيقة. ولو قال إن أخبرتنى بقدوم فلان فله كذا لا يستحق الجعل إلا إذا أخبره بقدومه، وقد قدم لدخول حرف التحقيق وهو الباء كما إذا قال إن أخبرتنى بدخول شهر رمضان لا يكون إلا علىالتحقيق فلذلك افترقا.
مسألة
رجل قال لامرأته: أنت طالق إلا أن يقدم فلان، لا تطلق ما دام يرجى قدوم فلان، فإن مات فلان قبل أن يقدم طلقت لأنه أدخل كلمة إلا أن، فيما لا يتوقف وهو
الطلاق. فكان هنا في معنى الشرط كأنه قال إن لم يقدم فلان، ولو قال هكذا لا يقع الطلاق ما دام يرجى قدومه، فإذا وقع الناس من قدومه بموته وقع الطلاق وهذا لأن كلمة إلا أن حقيقة للغاية فإذا تعذر حملها على الغاية حملت على الشرط ولو قال لها أنت طالق إن كلمت زيدا إلا أن يقدم عمرو، إن كلم زيدا قبل أن يقدم عمرو وطلقت سواء قدم عمرو أو لم يقدم، وإن لم يكلم زيدا حتى قدم عمرو سقطت اليمين لأنه أدخل كلمة إلا أن فيما يتوقف وهو الكلام كأنه يقول كلم فلانا شهرا فكان معناها معنى الغاية، فإن كلم فلانا قبل القدوم حنث لأنه لم توجد غايته، وإن قدم عمرو سقطت اليمين لوجود غايتها فلا يحنث، لأنك إن أدخلت إلا أن فيما يتوقف أردت بها الغاية، وإن أدخلتها فيما لا يتوقف أردت بها الشرط فإن أشكل عليك بالأفعال فاعتبره بالأوقات. ولو قال أنت طالق إلا أن يجيء الليل صار كأنه قال أنت طالق إن لم يجيء الليل، ولو قال هكذا لا تطلق لأن وجود الليل يرجى.
ولو قال أنت طالق إن كلمت فلانا إلا أن يجيء الليل صار الليل غاية ليمينه إن كلمه قبل مجيء الليل حنث وبعده لا يحنث.
الأصل في بيان ما يأتى من المسألة
إن كلمة لا، رجوع. وكلمة بل، تدارك. فإن أدخل كلمة لا قبل إكمال الشرط بالجزاء يصح رجوعه، وإن أدخل بعد إكمال الشرط بالجزاء لا يصح رجوعه. وإنما قلت ذلك لأن الشرط إذا لم يكمل بالجزاء لم يتم اليمين، فصح رجوعه. أما إذا كمل الشرط بالجزاء تمت اليمين، واليمين بعد تمامها لا يصح الرجوع عنها.
وأصل آخر: إنه متى ذكر بعد كلمة لا بل، من هو محل لوقوع الطلاق كان العطف على الطلاق، ويقتضى مشاركة في الطلاق. وإن ذكر بعد كلمة لا بل، من ليس بمحل لوقوع الطلاق كان عطفا على الشرط، ويقتضى مشاركة في الشرط.
أصل آخر: إن كل كلمة تستقيم بنفسها لا تتعلق بما قبلها، وكل كلمة لا تستقل بنفسها تتعلق بما قلبها لأن التعلق بما قبلها للضرورة يكون، فإن كانت تستقيم بنفسها فلا ضرورة بنا إلى التعلق. بيان ذلك.
مسألة
رجل له امرأتان، فقال لإحداهما أنت طالق إن دخلت هذه الدار، لا بل هذه لامرأته الأخرى. فإن دخلت. الأولى الدار طلقتا، وإن دخلت الأخرى لا تطلق واحدة منهما فكلمة الاستدراك دخلت على الطلاق خاصة لأنه لما قال أنت طالق إن دخلت الدار فقد علق الطلاق بالدخول، فإذا قال لا بل هذه فقد رجع عن الأولى وأقام الثانية مقام الأولى، فرجوعه عن الأولى باطل لأن الشرط قد كمل بالجزاء ولا يصح الرجوع عنه وإقامة الثانية مقام الأولى جائز بالعطف فيقع الطلاق عليها أيضا بذلك الفعل. ولو قال أنت طالق إن دخلت الدار، لا بل فلان تكون هذه مشاركة له في الدخول. لأنه ليس بمحل لوقوع الطلاق عليه، فأيهما دخل يقع الطلاق. هذا كما قالوا في رجل قال لامرأته إن نكحتك فعبدي حر، يقع على الوطء، وإن كانت أجنبية يقع على العقد بدلالة الحال. وكذلك لو قال أنت طالق إن شئت لا بل هذه، فإن شاءت الأولى طلاقهما جميعا أو طلاق نفسها أو طلاق صاحبتها طلقتا جميعا. وإن شاءت الثانية لا تطلق واحدة منهما لأن الثانية دخلت في الطلاق لا في المشيئة كما قلنا في دخول الدار.
فإن قيل: إن شاءت الأولى طلاق إحداهما لم يقع الطلاق، ولم لا يكون بمنزلة من قال لامرأته أنت طالق إن دخلت الدار، وعبدى حر إن كلمت فلانا إن شاء فلان.
فشاء فلان أحدهما دون الآخر لا تطلق امرأته ما لم يشأ فلان كليهما؟ قيل له:
الفرق بينهما أن في تلك المسألة عطف الثاني على الأول وعلقهما جميعا بمشيئة فلان فصارت مشيئته لهما جميعا شرطا، فما لم يوجد الشرط كلهلا يقع الطلاق، أما هاهنا لم يعطف الثاني على الأول لكنه رجع عن الأول وأبدل الثاني مكانه، فرجوعه لم يصح فتعلق كل يمين بمشيئتها على حدة فأيهما وجد يقع الطلاق، ولو قال أنت طالق إن دخلت الدار لا بل فلانة طالق طلقت الأخرى من ساعته، وطلاق الأولى معلق بالدخول. وذلك لأنه أخرج الكلام مخرج الابتداء في طلاق الثانية لأن الكلام الثاني مستغن عن غيره فتطلق الثانية من ساعته، كما لو قال أنت طالق ثلاثا لا بل هذه، تطلق كل واحدة منهما ثلاثا لأن قوله لا بل هذه لا تتم بنفسها فكانت معلقة بما قبلها فكأنه طلق الأولى ثلاثا ثم رجع وأنزل الثانية مكانها فإنزاله صحيح، ورجوعه لا يصح.
مسألة
رجل قال لرجل: إن فلان قدم فعبدي حر، فقال له قد قدم ولم يكن قد قدم عتق عبده، لأنه جعل شرط حنثه الإخبار والإخبار قد يكون كذبا لأن الإخبار موضوع لنفس الإنباء ويحتمل الصدق والكذب معا، قال الله تعالى:{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ} ألا ترى أنه قال: {فَتَبَيَّنُوا} وقال: {بِجَهالَةٍ} فلو كان للصدق لم يقل ذاك. ولو قال إن أخبرتنى بقدوم فلان لا يعتق ما لم يقدم فلان لأن الباء للإلصاق وإذا تلتصق لا تدخله الباء الزائدة. لأنك تقول ضربته بالحجر فما لم يقع الحجر في المضروب لا يسمى ضربا، بل حذفا أو رميا. لأنك تقول رماه فضربه، ورماه فأخطأه قال امرؤ القيس:
وتعدو كعدو نجاة الظبا
…
ء أخطأها الحاذف المقتدر
سماه حاذفا مع الخطأ، فأما إلحاق الباء فلا يكون إلا للتحقيق قال الله تعالى:
{فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ} ألا ترى أنه لما أدخل الباء أراد التحقيق والخبر متى كان موصولا بحرف التحقيق يقع على الصدق دون الكذب، ومتى لم يدخله حرف التحقيق يقع على الصدق والكذب جميعا. ولو قال إن أعلمتنى لا يقع العتق إلا أن يكون قد قدم لأن العلم لرفع الجهل. والكذب لا يرفع الجهل. فصار ضد العلم والعلم مشتق من العلم وهو الجبل قالت الخنساء:
وإن صخرا لتأتم الهداة به
…
كأنه علم في رأسه نار
فوصفته بالعلمية، ثم قالت: في رأسه نار لزيادة التأكيد. ومن هنا قال النحاة اسم علم جعلوه بحيث توضع اليد عليه لمعرفته.
وقيل إنه عبر على النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال: «فيكم من يعرفه؟» فقال رجل أنا فقال: «ما اسمه» فقال لا أعرفه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
وذلك لأن الاسم العلم عندهم يعرف به الشخص مع الغيبة ويلحق الغائب بالحاضر فلذلك سمى علما. ومنه العلم أيضا وهي الرواية وسميت راية لرؤية الناس لها عن بعد، وسميت علما لعلم الناس بها أنها لبنى فلان دون بنى فلان وإن لم يرو الأشخاص ولو قدم فلان وعلم به الحالف ثم أعلمه المحلوف له لا يعتق عبده لأنه أراد الإعلام من جهته، وكذلك البشارة ولأن البشارة مشتقة من البشر والبشر مشتق من البشرة وهو ما على الجلد لأن المبشر أولا إذا بشر الرجل بما بشره ظهر من وجهه دم يعرف منه الفرح، وذلك لأن القلب إذا صادفه ما يسره تنتصب منه عروق
لانبساطه وتلقيه ذلك الأمر بسرور فيظهر على الوجه منه ما يعرف الرائي به قد فرح وذلك ضد الحزن، لأن الحزن يقبض القلب فإذا انقبض تجمعت تلك العروق فيمتقع لون الحزين. قال الله عز وجل:{يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ} وذلك لأنهم لم يكونوا متحققيها فسماها بشارة: ولو كان له نية حمل على نيته في ذلك لأن هذه الأسماء منها ما هو حقيقة ومنها ما هو مشتق ومنها ما هو مجاز فإذا عضدت النية شيئا من ذلك تحقق بالنية.
مسألة
رجل قال لامرأته: أنت طالق في دخولك الدار. لا تطلق حتى تدخل الدار لأن الطلاق إذا علق بالموجود نزل من ساعته ومتى علق بالمعدوم ينتظروجوده والأصل في أن تكون وعائية وهي حرف، وحروف الجر يقوم بعضها مقام بعض قال الله تعالى:{فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي} أى مع عبادي. وقال تعالى: {لَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} أى على جذوع النخل. فإذا جاءت في اللفظ على غير معناها الأصلى قامت مقام الحرف الذي يكون بمعناها، وهاهنا هي بمعنى مع فعلمت عملها فإذا قال: أنت طالق في دخولك الدار صار كأنه قال مع دخولك الدار. ومع فهي كلمة صحبة وقران ومن شرط القرآن أن لا يكون فرقة. قال الله تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} أى مقارن وأصل القرآن أن يقرن بين البعيرين لجر الغرب إذا كانت المنساة بعيدة. فلا يقع الطلاق إلا بعد استكمال الدخول حتى تكون لكلمة القرآن أثرا حقيقا. ولو قال: أنت طالق في الدار يقع من ساعته لأنه أوقع الطلاق وخصه بالمكان والطلاق لا يختص بالمكان وإنما يختص بالعقد ولما وصف الطلاق بما لا يوصف به صار ذلك لغوا ووقع الطلاق من ساعته، ولا يتصف بظروف الأمكنة ولا الأزمنة. مثال الأمكنة أنت طالق في الدار، وأما الأزمنة أنت طالق في غد لأن الطلاق لا يوصف بالظروف وإنما يوصف بما يلائمه ويضاف إلى الأفعال ومتى أضيف إلى الأفعال ينزل منزلة الجزاء.
مسألة
رجل قال لامرأتين له: إن ولدتما ولدا فأنتما طالقان، فولدت إحداهما يقع
الطلاق عليهما لأنه علق الطلاق بفعل واحد وأضافه على اثنين وذلك الفعل يستحيل وجوده منهما فوجب وقوع الطلاق بوجوده من واحدة منهما. ولو أنه كان لا يستحيل وجوده منهما لكان يقع فكيف مع الاستحالة وذلك أن الله تعالى قال: {يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ} هذا فلئن قال قائل في ذا نظر قلنا فقد قال تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ} ولم يخرج ذلك إلا من المالح وقال أيضا في قصة موسى وفتاه {نَسِيا حُوتَهُما} ولم ينس إلا يوشع ثبت أن الكلام يضاف إلى اثنين ويراد به أحدهما هذا مع عدم الاستحالة فكيف مع وجودها. والوجه في ذلك أنه لما قال إذا ولدتما ولدا.
لو صرفناه إليهما كان باطلا وإن صرفناه إلى إحداهما يصح، وإنما يحمل الكلام على الصحة دون الفساد فصرفناه إلى ما يصح.
فإن قال قائل: لم أضربت عن الكلام في قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} .
قلت: لأني كتبت هذا الكتاب للاختصار والإيجاز ولئلا يمل الناظر منه لطوله فتركت كثيرا مما جاء عن أبى حنيفة في الفن الذي ذكره الخطيب ونفى علمه عن أبى حنيفة، فلأن اقتصر عن ما لم يكن الغرض أولى لأن القائل كان يقول ليس يمكن الرسالة من الجن لأنه ليس بمحل لهذا الأمر ولأنه لا فائدة في إرساله لإحدى الفئتين فإن الإنس يعتقدون أن الجن يقدرون على الإتيان بما لم يأت به الإنس فلا فائدة في إرساله والجن يعلمون أن الإنس لا يقدرون على الإتيان بمثل هذا. قلنا: محال فإن الجن قد رأوا من معجزات داود وغيره من الأنبياء صلوات الله عليهم ما أعجزهم.
والسبب الموجب للرسالة من الغانس هو مصلحة للفئتين ما لم يكن من الجن وإنما أردت أن أعرف أن الإضافة تجوز فيما يستقيم وفيما يستحيل. ولو قال: إن ولدتما أو قال إن ولدتما ولدين لا يطلقان حتى يوجد من كل واحدة منهما مثل ما يوجد من الأخرى، لأنه أضاف إلى كل منهما فعلا كما قلنا في قصة يوسف {يا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ} .
مسألة
رجل قال لأربع نسوة له: إذا حضتن حيضة فأنتن طوالق فقالت واحدة منهن حضت. إن صدقها يقع على كل واحدة منهن طلقة لما ذكرت وهو أنه علق الطلاق
بما يستحيل وجوده منهن فتعلق وجوده من إحداهن. وإن كذبها يقع عليها خاصة لأنها مصدقة في حق نفسها غير مصدقة في حق الباقين وهي أمينة في هذا فقادتنا الضرورة إلى تصديقها، وكذلك لو قالت كل واحدة منهن حضت فكذبهن أو صدقهن يقع على كل واحدة تطليقة. ولو قال: إذا حضتن فأنتن طوالق لا يطلقن حتى تحيض كل واحدة منهن حيضة هذا إن صدقهن. وإن قالت واحدة منهن حضت لا يقع عليها الطلاق سواء صدقهاأو كذبها لأن الحيض لا يستحيل وجوده منهن. وكذلك إن صدق اثنتين ولو صدق ثلاثا وكذب واحدة يقع عليها خاصة لأنه ظهر حيض الثلاث بالتصديق وهي مصدقة في حق نفسها ولا يقع على المصدقات لأنه لم يظهر حيض المكذبة في حقهن لأنه لا يمكن الحيضة الواحدة منهن جميعا. ولو قال لأربع نسوة له: كلما حضتن حيضة فأنتن طوالق فقلن جميعا حضنا حيضة، أن كذبهن يقع على كل واحدة منهن طلقة لأن كل واحدة منهن مصدقة في حق نفسها والطلاق معلق بوجود حيضة واحدة منهن جميعا وقد ظهرت بأمانتهن. وإن صدقهن يقع على كل واحدة منهن أربع طلقات إلا أنه لا مزيد على الثلاث وتلغ الواحدة. لأن الزوج علق الطلاق بوجود حيضة واحدة منهن بكلمة متكررة فإذا صدقهن فقد ظهر أربع حيض، وإن صدق الواحدة وكذب الثلاث طلقن الثلاث المكذبات كل واحدة تطليقتين والمصدقة تطليقة واحدة لأنه لم يظهر في حق المصدقة إلا حيضة واحدة وهي حيضها وفي حق المكذبات ظهر قولها في حقها وقول المصدقة لما تقدم، ولو صدق اثنتين وكذب اثنتين يقع على كل واحدة من المصدقتين اثنتان وعلى كل واحدة من المكذبتين ثلاث واحدة بقولها واثنتان بقول المصدقتين، ولو صدق الثلاث وكذب الواحدة طلقت المكذبة أربع إلا أنه لا مزيد على ثلاث وطلقت كل واحدة من المصدقات ثلاثا.
مسألة
رجل قال لرجل: إن بعت لك ثوبا فعبدي حر، فدفع المحلوف عليه ثوبه إلى رجل وأمره أن يدفعه إلى الحالف ليبيعه فدفع الرجل الثوب إلى الحالف فباعه فإن قال الرسول للحالف بع هذا الثوب لفلان المحلوف عليه فباعه حنث، وذلك لأنه حلف على فعله وأضافه إلى فلان فمتى عمل عملا مضافا إلى المحلوف عليه حنث لأن يمينه
لمنع نفسه عن التزام الحقوق بينه وبين المحلوف عليه لأن الحقوق هي من الأفعال فما لم يجب الفعل لا يجب الحق بدليل أنه يدفع الثمن إليه لو استحق فله أن يرجع عليه.
وإن قال للرسول: بع هذا الثوب فباعه لا يحنث لأن هذا التفعل للرسول لا للمرسل لأنه نفى الحق للمحلوف عليه وهنا إنما التزم الحق للرسول، ألا ترى أنه لو استحق إنما يرجع على الرسول، ولو باع ثوب غيره بأمر المحلوف عليه حنث لأنه إنما التزم منع الفعل عنه ولم يلتزم الملك ألا ترى أنه لو قال إن خطت لك ثوبا، إنما اليمين على الخياطة وهي الفعل لا على الملك والعمل إذا كان لا يجرى فيه النيابة يقع على الملك، وليس كذلك إن قال إن ضربت عبدا لك فهنا لا يكون العمل للمحلوف عليه فيقع على الملك قال الله تعالى:{اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} . فأضاف فعل النبي صلى الله عليه وسلم إليهم لأن استغفاره لأجلهم وذلك لأنه متى حلف على عمل في المعمول وأضافه إلى إنسان إن أضاف المعمول إليه يقع يمينه على الملك دون الأمر، وإن أضاف العمل إليه فإن كان العمل مما يجرى فيه النيابة يقع على الملك.
مسألة
رجل قال لعبديه: إن ضربتكما إلا يوما فامرأتى طالق، فله أن يضربهما أى يوم شاء لأنه نفى ضربهما في جميع الأوقات إلا يوم الاستثناء. لأن قوله إن ضربتكما إلا يوما نكرة في سياق الإتيان فيخص إلا إذا كانت موصوفة وإنما يقع في يوم واحد فإذا جمع ضربهما في يوم واحد تعين الاستثناء فعند ذلك إذا ضربهما مجتمعا أو متفرقا حنث، فإن ضرب أحدهما يوم الجمعة والآخر يوم السبت لم يحنث ما لم تغرب الشمس وما ضرب الآخر لجواز أنه يعيد الضرب عليه فإن غربت الشمس ولم يضربه حنث لأن الضرب وجد منه إلا أنه في غير يوم واحد حتى يصح الاستثناء.
ولو ضرب أحدهما دفعات في أيام متعددة لم يحنث لأنه إنما حلف على ضربهما جميعا واستثنى يوما واحدا ولم يحلف على ضرب أحدهما فصار كأنه قال إلا يوما واحدا أضربكما فيه: ولو قال: والله لأضربكما إلا يوم أضربكما فيه، أو إلا يوما أضربكما فيه، أو إلا في يوم أضربكما فيه، فأى يوم جمع ضربهما فيه فهو مستثنى.
والفرق بينهما أنه في المسألة الأولى قال: إن ضربتكما إلا يوما ما فخص بالاستثناء يوما واحدا لإيقاع الفعل بهما جميعا. والمسألة الأخرى قال: والله لا أضربكما إلا
يوما أضربكما بقدره لأضربكما إلا يوم أجمع فعلى بكما. كأنه حلف على جميع فعله بهما في يوم مستثنى من غيره من الأيام وهذا اليوم المستثنى نكرة فأى يوم أوقع فيه الفعل اختص فإن جمعه بر، وإن فرقه حنث. لأن تفريقه خلاف يمينه وذلك لأن شرط الحنث وجود المسمى دون المستثنى والنكرة في النفي تعم وفي الإثبات تخص، إلا إذا كانت موصوفة فحينئذ تعم، إلا إذا قرنها بحرف الفرد فحينئذ تخص.
مسألة
إذا كان لرجل ثلاثة أعبد سالم وبزيع ومبارك. فقال: سالم حر، أو سالم وبزيع حران، أو سالم وبزيع ومبارك أحرار. يؤمر بالبيان، لأنه أوقع العتق بأحد الأقوال لأن أو حرف شك وهو أدخلها بين الأقوال الثلاثة لأنه ردد الشك بين أقواله لأنه لما قال سالم حر كان الواجب العتق فلما أدخل حرف الشك بين المرة الأولى والثانية وعطف عليه بزيعا فقال أو سالم وحده، وبين سالم وبزيع معا ثم قال أو سالم وبزيع ومبارك أحرار فجرى مثل الأول فوقع الشك في أقواله فلما وقع الشك كان البيان إليه ما دام حيا فإن أردت القول الأول عتق سالم وحده، وإن قال أردت الكلام الثاني عتق سالم وبزيع، وإن قال أردت الكلام الثالث عتق الكل. وذلك لأن أو لأحد ما دخلت عليه.
قال أبو على: ومنها أو وهي لأحد الشيئين أو الأشياء في الخبر وغيره. تقول كل السمك أو اشرب اللبن، أى افعل أحدهما ولا تجمع بينهما ومن ثم قلت: زيد أو عمرو قام كما تقول أحدهما قام ولا تقول قاما. فأما إذا قلت كل خبزا أو لحما أو تمرا فأردت الإباحة فكأنك قلت كل هذا الضرب فيما ذكرته لأحد الأشياء قائم فيه لأنه لو أكل أحد هذه الأشياء كان مؤتمرا ولو كانت كالوا ولم يكن قد ائتمر حتى يجمع بينها كلها وأما منزلتها في أنها تكون لأحد الأمرين أو الأمور إلا أنها تؤذن أن الكلام على الشك. قال سيبويه: و «أو» قد يجوز فيها أن يكون المبنى وقع على اليقين ثم أدرك الشك كما قلنا سالم حر أو سالم وبزيع فإنه أوقع على اليقين ثم أدركه الشك قال:
فقلنا لهم ثنتان لا بد منهما
…
صدور رماح أشرعت أو سلاسل
كأنه قال أحدهما صدور رماح أو سلاسل. فإن مات المولى قبل البيان عتق سالم كله لأنه لا شك في عتقه لأنه دخل في الثلاث مرات أما بزيع عتق نصفه لأنه يعتق
بالكلام الثاني والثالث لأنه دخل في لفظين ولا يعتق بالكلام الأول فإذا كان يعتق في حالين ولا يعتق في حال فبقى الشك في العتق أولا وحالة العتق حالة واحدة والشك إنما هو هل عتق أم لا فعتق نصفه ويسعى في النصف فكأنه عتق في حال ورق في حال وأما مبارك فيعتق ثلثه لأنه لا يعتق بالكلام الأول والثاني إنما يعتق بالكلام الثالث فيعتق في حال ويرق في حالين ويسعى في ثلثي قيمته لأن أحوال الرق أحوال أحوال العتق واحدة لأن الرق يكون مملوكا ومدبرا ومكاتبا والعتق حالة واحدة هذا إذا كان القول منه في حال الصحة أما إذا كان في حال المرض ولا مال له غير هؤلاء العبيد ولم تجز الورثة فالثلث يقسم بينهم على قدر عتقهم فيصيب سالم جميع رقبته ويصيب بزيع نصف رقبته ويصيب مبارك ثلث الرقبة فهذه وصية كل واحد منهم فيحتاج إلى حساب ليتبين نصيب كل واحد منهم على الحقيقة والحساب يحتاج أن يكون له نصف صحيح وثلث صحيح وأقله ستة فسالم يضرب لجميع الرقبة وهي ستة وبزيع يضرب بنصف الرقبة وهي ثلاثة ومبارك يضرب بثلث الرقبة وهي اثنان فذلك أحد عشر فغالب المسألة بخمسة فاجعل ثلث المال على أحد عشر سهما فإذا صار ثلث المال أحد عشر سهما صار الجميع ثلاثة وثلاثين وماله هؤلاء العبيد كما تقدم تعين أن كل عبد صار أحد عشر سهما فأما سالم فعتق منه ستة ويسعى في خمسة وبزيع عتق منه ثلاثة ويسعى في ثمانية ومبارك عتق منه سهمان ويسعى في تسعة فصارت جملة السعاية اثنين وعشرين وهي ثلاثة وثلاثين بالعول وصارت وصاياهم أحد عشر فاستقام على الثلاثة والثلاثين هذا إذا لم يخرجوا من الثلث ولو خرجوا من الثلث أو لم يخرجوا وأجازت الورثة فالجواب كما خرج. ولو لم يكن له إلا عبدان فقال سالم وبزيع حران يؤمر بالبيان فإن قال عنيت الكلام الأول عتق سالم كله وإن قال عنيت الكلام الثاني عتقا جميعا لما ذكرت ولو مات من غير بيان عتق سالم كله ونصف بزيع لأنه سالما لا شك في عتقه لأنه ذكر عتقه في المرتين وأما بزيع فيعتق بالكلام الثاني ولا يعتق بالكلام الأول فإذا كان يعتق في حال ولا يعتق في حال عتق نصفه ويسعى في نصف قيمته ولو كان القول منه في حال المرض إن خرج من الثلث فكذلك وإن لم يخرج وأجازت الورثة فكذلك، وإن لم تجز الورثة فيقسم الثلث بينهما فيعتق سالم كله ونصف بزيع فالنصف مخرجه من سهمينفسالم يضرب بسهمين وبزيع بسهم صار ثلاثة أجعل هذا ثلث المال كما تقدم وثلثاه مثلا ذلك وذلك ستة فالجميع تسعة وماله لرقبتان وتسعة ليس لها نصف صحيح فضعف
فيصير ثمانية عشر فيعتق من سالم خمسة ويسعى في أربعة ويعتق من بزيع سهمان ويسعى في سبعة فاستقام على الثلاث والثلاثين. ولو قال سالم حر أو سالم وبزيع عتقا لأنه. وضع كلمة الشك في غير الأفعال فلم يفد لأن الشك لا يكون في الإعلام إنما يكون في خبرهم فلما قال سالم حر أو سالم فلم يفد فوقع عليه العتق إذ لم يكن للشك هنا مدخل فعتق وعطف بزيعا فأشركه في الفعل فعتق أيضا فصار كأنه قال سالم حر وبزيع فعتقا.
مسألة
رجل قال لامرأته: إن دخلت الدار فأنت طالق يصير الطلاق معلقا بدخول الدار لأن هذا شرط وجزاء فيكون الطلاق معلقا بدخول الدار ولأن الفاء تكون جوابا للشرط كقوله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ} فإن قال إن دخلت الدار أنت طالق طلقت في ساعته لأنه لم يأت بجواب الشرط وهي الفاء فصار كلامه مبتدأ وخبرا كأنه قال أنت طالق ولو قال إنما عنيت الشرط والجزاء وحذفت الفاء جواب الشرط كما قال تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ} أى فيشرح صدره وكما قيل: «من يفعل الحسنات الله يشكرها» .
قلنا: ندينك فيما بينك وبين الله ولا ندينك في القضاء لأن جواب الشرط بالفاء وقد يجوز حذفها لكن على سبيل الجواز. قال سيبويه: يجوز في الشعر ويقبح في الكلام إلا أنه لما جاز صار فيه شبهة لمن أراد التعلق به فلذلك دين فندينك فيما بينك وبين الله تعالى. وأما الظاهر لنا فهذا طلاق منجز كما تقول أنت طالق لأنا لا نعرف ما في ضميرك ولأن الطلاق مرسل ومضاف وشرط وجزاء فما كان شرطا وجزاء فهو كما ذكرت وما كان مرسلا يقع من ساعته كقوله أنت طالق والمضاف يؤخر إلى وقت ينزل عند وجود وقته.
مسألة
رجل قال لامرأته: أنت طالق يا زانية إن دخلت الدار. لا يقع الطلاق ما لم تدخل الدار لأن قوله يا زانية نداء والنداء لا يفصل بين كلامين كما لو قال أنت
طالق يا عمرة إن دخلت الدار لا يكون هذا النداء فاصلا بين الشرط والجزاء ولا يلزمه حكم القذف من اللعان والحد لأن هذا قذف معلق بالحظر فلا يوجب اللعان ولا الحد، كما إذا قال لرجل إن دخلت الدار فأنت زان لا يحد وإنما قلنا إنه معلق بالشرط لأنه إذا تعلق الأبعد وهو قوله أنت طالق فتعلق الأقرب أولى به وإنما لا يجب الحد بالقذف المعلق لأنه لا يورث تهمة بالمقذوف لأنه لم يعلقه بالشرط قصدا لكنه تعلق به حكما لأن كلامه أوحد فإذا لحق الشرط في آخره انصرف إلى جميع الكلام فإنه لو جعله كلامين يصير فاصلا بين الشرط والجزاء والنداء لا يفصل بينهما ولو قال لامرأته يا زانية أنت طالق إن دخلت الدار يكون قاذفا لها لأن قوله يا زانية قذف منه وليس القذف إلا هذه الصيغة وقوله أنت طالق إن دخلت الدار شرط وجزاء، والشرط والجزاء لا تعلق له بالنداء وإذا لم يتعلق بالنداء حظر صار ذلك صريحا بالقذف ولأنه ليس من ضرورة تعلق الأقرب بالشرط تعلق الأبعد، والفرق بينهما أنه متى خلل النداء لا يصير فاصلا بين الشرط والجزاء ولا يظهر له حكم وليس كذلك إذا قدم لأنه لا تعلق به في الحظر فإن القذف ليس إلا هذه الصيغة أو أن تأتى باسم الإشارة وهو قوله هذا زان، وأما قوله أنت طالق يا زانية إن دخلت الدار فصار قوله يا زانية متعلقا بدخول الدار وإذا كان معلقا بالحظر لا يوجب له حكما لأن المعلقات لا توجب حكما إلا عند وجود المعلق به والقذف ما لم يكن صريحا لا يوجب حكما.
مسألة
رجل قال: إن كان في يدي دراهم إلا ثلاثة دراهم فجميع ما في يدي من الدراهم على المساكين صدقة، فإذا في يده خمسة دراهم لا يجب عليه أن يتصدق بشيء لأن ثلاثة دراهم مستثناة من يمينه وشرط حنثه دراهم سوى ثلاثة دراهم في يده وليس في يده سوى ثلاثة دراهم مستثناة من يمينهو شرط حنثه دراهم سوى ثلاثة دراهم في يده وليس في يده سوى ثلاثة دراهم حاشا درهمين، ودرهمان لا يستحقان اسم الدراهم لأن العرب قالوا درهم ودرهمان وثلاثة دراهم فأفردوا لكل عدد صيغة والاستثناء يعرف جنس المستثنى منه. ولو كان في يده ستة دراهم أو أكثر يجب عليه أن يتصدق بالكل ولو قال إن كان في يدي من الدراهم سوى ثلاثة
دراهم فجميع ما في يدي صدقة فكان في يده خمسة فعليه أن يتصدق بها لأنه نطق بحرف يكون لا بأنه الجنس وهو من لأنه لما قال إن كان في يدي من الدراهم سوى ثلاثة دراهم فقد بين الجنس والجنس يقتضى الواحد فصاعدا ثم ذكر لفظا يقتضى العدد فعرف بصيغته والألف واللام إنما يدخلان للسابق المعهود أولا بأنه الجنس وهنا هي لا بأنه الجنس قال الله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ} ولم يرد به بعضهم وإنما أراد به الاجتناب من الجنس من الجنس وقال تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ} ولم يرد به البعض فإذا ثبت أن كلمة من تستعمل لإبانة الجنس وتستعمل للتبعيض وفي هذه أدخل اللام وهي للتعريف فصارت كلمة من للتجزئة والتبعيض وهناك لم تدخلها اللام فصارت كلمة من لإبانة الجنس دون التجزئة فصار كأنه قال إن كان في يدي أكثر من ثلاثة دراهم فجميع ما في يدي صدقة ولو قال كذا لوجب عليه أن يتصدق بالكل.
مسألة
رجل قال لامرأته: أنت طالق ثلاثا قبل أن أقربك لا يكون مؤليا وتطلق من ساعته لأنه أتى بمبتدإ وخبر ولم يضفه إلى شيء إلا إلى قبل القربان وهذا الوقت قبل القربان فوقع الطلاق وسقطت اليمين وقد يجوز أن يوصف الشيء قبل وجود ذلك الشيء قال الله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها} فوصفها بالطمس ولم يوجد ولو قال أنت طالق ثلاثا قبيل أن أقربك صار مؤليا ولا يقع الطلاق ما لم يقربها لأن قبيل تصغير التقريب لأن التصغير على وجوه تصغير التحقير كما تقول لقيت الرجيل وفعل الصبى وتصغير التعظيم كما قال أنا جديلها المرجب وعذيقها المحكك ألا ترى أنه وصف روحه بالمرجب، ورجب أيضا من التعظيم سمى وهو الشهر فلما وصف روحه بالعظمة ما بقي يمكن أن يحمل على التصغير ولا سيما أن هذا القول كان يوم سقيفة بنى ساعدة وإنما كان يريد الفخار ويطلب الأمر فكيف يكون هذا مع التصغير وتصغير الحنة والشفقة كقوله تعالى:{يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ} ما أراد تصغير ابنه. وتصغير التقريب هذا الذي ذكره أبو حنيفة كما تقول وضعته فويق الحائط فهذا لا يمكن أن يكون للتصغير وإنما أراد التقريب كما تقول: (اقعد إلى جنيبى) إنما تريد القرب قال الشاعر:
وقد علوت قتود الرحل يسفعنى
…
يوم قد يديمه الخوراء مسموم
فلما كان كذلك صار اسما لوقت قريب ليس بينه وبين القربان وقت فلا يطلق، ولو قال كذلك كان إيلاء بلا شك.
قال سيبويه في هذا: باب ما يحقر لدنوه من الشيء وليس مثله وذلك هو أصغر منك إنما أردت أن تقلل الذي بينهما ومن ذلك قولك هو دوين ذاك وهو فويق ذلك ومن ذلك أن يقول أسيد أى قد قارب السواد ومن هنا قولهم كميت لأنه لم يخلص إلى الحمرة ولا إلى السواد فلما قارب اللونين سمى مصغرا.
مسألة
أصل هذه المسألة: تدور على حرف «أو» ، و «أو» تكون على وجهين: أحدهما للشك، وهي لأحد ما تدخل عليه. والآخر أن تكون بمعنى الإباحة، كما تقول:
(جالس الحسن أو ابن سيرين) لا تريد مجالسة أحدهما. قال الشاعر:
إذا ما مات ميت من تميم
…
فسرك أن يعيش فجيء بزاد
بخبز أو بلحم أو بتمر
…
أو الشيء الملفف في البجاد
وقال في الوجه الآخر:
وكنت إذا غمزت قناة قوم
…
كسرت كعوبها أو تستقيما
والطبيب إذا كان يعالج مريضا يقول له: (كل فروجا أو دراجا) - يعنى: كل أحدهما. والمسألة تنقسم على أربعة أوجه: إما أن يضع حرف (أو) بين منع ومنع، أو بين إثبات وإثبات، أو بين منع وإثبات، أو بين إثبات ومنع. رجل قال:(والله لا أدخل هذه الدار أو لا أدخل هذه الدار) فأى الدارين دخل حنث لأنه عطف منعا على منع بحرف التخيير فكان ممنوعا عن دخول كل دار على حدة، فإذا دخل إحداهما فقد وجد شرط الحنث. وأما إذا وضع بين إثبات وإثبات كما لو قال:
والله لأدخلن هذه الدار أو لأدخلن هذه الدار الأخرى. فأيهما دخل بر في يمينه فأو هاهنا للتخيير كما تقول خذ هذا أو هذا كأنك قلت خذ أحدهما، وأما إذا وضع بين منع وإثبات كما إذا قال والله لا أدخل هذه الدار أو أدخل هذه الدار اليوم فإن دخل الدار الأولى حنث وإن دخل الثانية بر لوجود الشرط لأنه جعل حرف أو بين
المنع والإثبات ووقت فقال اليوم. دخل الدار الأولى بعد ذلك أو لم يدخل لأنه كان مخيرا فيه وإن مضى اليوم قبل أن يدخل حنث في اليمين الثانية لأنه أوجب على نفسه الدخول ولم يوجد وأما إذا وضعها بين إثبات ومنع كما إذا قال والله لأدخلن هذه الدار أولا أدخل هذه الدار أبدا إن دخل الدار الأولى بر وسقطت اليمين لأنه كان مخيرا فيه وإن مضى اليوم ولم يدخل حنث في يمينه لأنه أوجب على نفسه الدخول في الدار الأولى في اليوم ولم يوجد وما إذا أدخل كلمة الشك بين منع وإثبات ولم يوقت كما إذا قال: والله لا أدخل هذه الدار أو لأدخلن هذه الدار فإن دخل الدار الأولى حنث لأنه وجد الدخول بعد المنع وإن دخل الثانية بر لأنه عقد على الإثبات وقد وجد. وإن مات ولم يدخل إحداهما بر لأن قوله أو أدخل للغاية وتقديره حتى أدخل. قال الله تعالى: {تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} كأنه قال حتى يسلموا كما
ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس كافة حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها»
فقد جاء في الكتاب بأو، وفي الأثر بحتى لأن المعنى واحد كما لو قال: والله لا أدخل هذه الدار وهذه الدار وهذه الدار. ولو قال والله لا أدخل هذه الدار أو أدخل هذه الدار وهذه الدار صارت هاتين الدارين الآخرتين غاية ليمينه فأيهما دخل بر ولو دخل الأولى أولا حنث لأن اليمين لم ينته غايتها ولو مات قبل أن يدخل الأولى بر لأنه الغاية وحقيقة هذا أنه متى ذكر كلمة أو بعد كلمة النفي وبعده مثبت تكون للغاية.
باب ما جاء من المسائل اللغوية
مسألة
رجل قال لامرأته: أنت طالق إن لم أهدم هذا الحائط اليوم فهدم بعضه ولم يهدم الباقي حتى خرج اليوم طلقت امرأته. وكذلك لو قال إن لم انقض هذا الحائط لأن الهدم عبارة عن إفاتة تأليف أجزاء جميع الحائط. وكذلك النقض لأنه ضد التأليف فما دام التأليف باقيا لا يكون نقضا والهدم ضد البناء فما دام شيء من البناء باقيا لا يكون هدما ولو نوى هدم بعضه فهو على ما نوى قال الله تعالى: {لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ} معناه أنها هدمت إلى أن لا يبقى صوامع وكذلك النقض قال الله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً} في قصة ريطة وكانت امرأة
مجنونة تغزل جميع ليلها وتنقض جميع نهارها حتى لم تبق غزلا.
ولو قال أكسر كان على البعض لأن الكسر ضد الجبر وهو افتراق الاتصال ليس إلا في الصلاب وما كان في اللحم يكون جرحا أو قطعا والقطع يقع على الاثنين لأن القطع من التقاطع وهو أن ينقطع حكم كل واحد منهما عن الآخر جملة كافية فأما فيما يتصل فمجاز ثم اعلم أن الأسماء على نوعين اسم جنس واسم نوع واسم الجنس يقع على الخاص والعام واسم النوع يقع على الخاص دون العام، والهاء على ضربين هاء إفراد واسم الجنس كما تقول حيوان فإنه يقع على جميع الحيوانات فإن خصصت نوعا منه قلت إنسان فإنسان حيوان أيضا ولكن يختص بقولنا إنسان من دون سائر الحيوانات وكذلك إن وصفناه بناطق أيضا وهاء الإفراد أكثر من أن أصف لك مثل عمامة وقلنسوة وشعيرة وقمحة وهاء التأنيث امرأة ويتيمة وغلامة فإن مذكر ذلك يتيم وامرؤ وغلام.
مسألة
رجل. قال: عبده حر إن أكل لحم دجاج أبدا فأكل لحم دجاجة أو ديك حنث لأن الدجاج اسم جنس يقع على الذكر والأنثى قال جرير:
لما تذكرت بالديرين أرقنى
…
صوت الدجاج وضرب بالنواقيس
والأنثى منهن لا تصيح وإنما يصيح الذكر فدل على أن الهاء للأفراد لا للتأنيث.
وذكر الجوهري في الصحاح أن الهاء في الدجاجة للأفراد، ولو حلف لا يأكل لحم دجاجة فهو على الأنثى لأن الهاء للتأنيث إذ لم يكن لها من جنس لفظها ذكر فحملت على الحقيقة كما أن اسم الديك يقع على الذكر خاصة ولو حلف لا يأكل لحم جمل أو بعير أو إبل أو جزور هذا كله يقع على الذكر والأنثى وعلى العربي والبختي لأنه اسم جنس يتناول الكل لأن العرب نسبت الصنعة إلى صانعها كما نسبت سائر الصناعات فقالت جمال كما قالت حداد وبغال وما كان على وزن فعال ولم يفرقوا بينهم. ولو حلف لا يأكل لحم بقر فأكل لحم ثور أو بقرة حنث لأن البقر اسم جنس والبقرة أيضا كذلك. ولو أن رجلا وكل رجلا في أن يشترى له بقرة فاشترى له ثورا جاز ألا ترى أن رجلا لو حلف أن لا يملك عشرين بقرة فملك
عشرين بقرة إناثا وذكورا يحنث واسم الثور يقع على الذكر خاصة لأنه اسم نوع واسم الشاة يقع على الذكر والأنثى جميعا. قال أبو ذؤيب الشاعر:
فلما رآه قال لله من رأى
…
من العصم شاة مثل ذا في العواقب
وما قال مثل هذه لأنه لم يرد التأنيث. وقال آخر:
أو أسفع الخدين شاة إران
لأنه اسم جنس والكبش اسم نوع يقع على الذكر خاصة والنعجة اسم نوع يقع على الأنثى خاصة. قال جران العود:
أو نعجة من نعاج الرمل أخذلها
…
عن إلفها واضح الخدين مكحول
ولو حلف لا يأكل لحم البقر فأكل لحم الجواميس لا يحنث لأن أوهام الناس لا تنصرف إليه عند ذكر البقر والأيمان محمولة على معاني كلام الناس وجمعه في باب الزكاة لا يدل على أنه من نوعه في باب اليمين فصار في الزكاة كالعنز يضم إلى الضأن والكبش إلى النعاج، ومع ذلك لو حلف لا يأكل لحم شاة فأكل عنزا لا يحنث والفرس اسم للعربي ويقع على الذكر والأنثى، والبرذون اسم للبخاتى والتركي غير العربي ويقع على الذكر والأنثى، والخليل يقع على الجميع لأن الخليل اسم جنس والفرس اسم نوع والفرس والبرذون اسم نوع قد روى عن سعيد بن المسيب رضي الله عنه أنه سئل عن صدقة البراذين فقال: أو في الخيل صدقة؟ فسماها خيلا. ولو حلف لا يركب حمارا يقع على الذكر والأنثى، لأنه اسم جنس لأنهم يرون أن ابن عباس رضي الله عنه قدم على حمار ذكر وما أرادوا ذلك إلا ليبينوا النوع والأتان للأنثى والعير للذكر. وقد قيل حمار للذكر وحمارة للأنثى ولو حلف لا يركب حمارة يقع على الأنثى خاصة.
قال الخطيب:
أخبرنا البرقاني حدثنا محمد بن العباس الخزاز حدثنا عمر بن سعد حدثنا عبد الله ابن محمد حدثني أبو مالك بن أبى بهز البجلي عن عبد الله بن صالح عن أبى يوسف. قال: قال لي أبو حنيفة: إنهم يقرءون حرفا في يوسف فيلحنون فيه. قلت ما هو؟ قال قوله: {لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ} قلت: فكيف هو؟ قال ترزقانه
هذه القراءة لم يخرج بها أبو حنيفة عن الأصل لأن الأصل في ضمير الذكور هو الرفع لأنك تقول هو، وضمير المؤنث هي، وهذه المسألة التي جرت بين سيبويه والكسائي لأن الكسائي جعل ضمير المؤنث منصوبا فقال: إياها وسيبويه كان معه الحق فمن عرف هذا عرف ما قلت، لأن الهاء عائدة إلى الرزق وهو مذكر وعلى هذا قرأ من قرأ {فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ} ألا ترى أنه لما جاء إلى ضمير المذكر أجراه على الأصل وإنما كسر من كسر الهاء من ضمير المذكر في المجرورات اتباعا للكسرة كما أمال من أمال للاتباع، وأن الهاء حرف خفى أخفى من الألف فلما ساغ لهم الإمالةفي الألف مع أنها أشد من الهاء فلأن تمال الهاء أجدر.
وأما قوله يلحنون فاللحن ليس هو الخطأ على لغة العرب وإنما يحتمل معنى غير المفهوم الأصل وذلك أن الحديث إذا احتمل معنى ظاهرا واحتمل معنى آخر قيل له لحن، ومن هاهنا سمى ابن دريد كتابه المعروف بملاحن بن دريد وذلك أنه قال: إذا قال له شخص رأيت فلانا فقال والله ما رأيته ولا كلمته فظاهر اللفظ يدل على رؤية العين والكلام باللسان. وإنما الحالف يعنى ما ضرت رئته ولا جرحته وهو مأخوذ من الكلم وهي الجراح. قال الله تعالى: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} لأنه يكون كلاما يدل على معنيين مثل ذلك قوله: {فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} ألا تراه جعل له أحسن وغير أحسن قال الشاعر:
حلوا عن الناقة الحمراء أرحلكم
…
والبازل الأصهب المعقول فاصطنعوا
إن الذئاب قد اخضرت براثنها
…
والناس كلهم بكر إذا شبعوا
فلو حملنا هذين البيتين على ظاهر لفظهما لما دلا على معنى لأن قوله الذئاب قد اخضرت براثنها، والناس كلهم بكر، كل جملة من هاتين الجملتين غير مناسبة للجملة الأخرى. وهذا محمول على أن رجلا كان من تغلب وكان أسيرا في بنى وائل فرأى الناس يتمتعون للنهيض إلى قومه وكان قومه في أرض يقال لها الدهناء فقال لأصحابه إنّي أريد أن أفادى نفسي فهل لكم في الفداء. قالوا نعم- قال ائتوني برجل أرسله فلما جاءه قال أبلغ قومي التحية وقل لهم قد أطلتم الركوب على ناقتي الحمراء فخلوا عنها وارتحلوا الجمل الأصهب فقد شكت الإماء ودبى العرفج بآية ما أكلت معكم حيسا واسألوا أبا الحسين عن خبري. فلما جاء إلى أهل الأسير قال لهم الرسالة قالوا والله إنه لمجنون لا ناقة حمراء له ولا جمل أصهب. فقال: أحدهم إنه قال لكم
اسألوا أبا الحسين فلما سألوه قال هو يقول لكم قد أطلتم المقام على الدهناء فارتحلوا عنها واطلعوا الصمان فقد شكت الإماء أى ملأن الشكايا وأدبى العرفج، والعرفج شجر له شوك فشبه العدو به وأدبى أى دبا نحوكم بآية ما أكلت معكم حيسا والحيس يعمل من تمر وسمن وخبز أى تجمع لكم من أعدائكم وغيرهم. فهذا ومثله اللحن. ومن هذا قيل لمعاوية إن عبد الله يلحن قال أوليس بظريف بنى أخى يعرف بالفارسية فجعل الفارسية لحنا فإذا قال أبو حنيفة إنهم يلحنون إنما عنى أنهم غيروه عن أصله على ما ذكرنا.
قال الخطيب:
قد سقنا عن أيوب السختياني، وسفيان الثوري، وسفيان بن عيينة، وأبى بكر بن عياش، وغيرهم من الأئمة أخبارا كثيرة تتضمن تقريظ أبى حنيفة والمدح له والثناء عليه، والمحفوظ عند نقلة الحديث عن الأئمة المتقدمين وهؤلاء المذكورين منهم في أبى حنيفة خلاف ذلك وكلامهم فيه كثير لأمور شنيعة حفظت عليه يتعلق بعضها بأصول الديانات، وبعضها بالفروع. نحن ذاكروها بمشيئة الله ومعتذرون إلى من وقف عليهما وكره سماعها، بأن أبا حنيفة عندنا مع جلالة قدره أسوة غيره من العلماء الذين دونا ذكرهم في هذا الكتاب وأوردنا أخبارهم وحكينا أقوال الناس فيهم على تباينها.
أما قول الخطيب هذا فأنا إن شاء الله نبين أن قصده خلاف ما ذكر من المعذرة وإنما قصد الشناعة جرأة منه وافتراء.
أما قوله: والمحفوظ عند نقلة الحديث خلاف ذلك.
فأقول: إن نقلة الحديث ينظرون إلى طريق الحديث فمتى ما وجدوا فيه رجلا ضعيفا ضعفوا الحديث خاصة في جرح الرجال، فإنه لا يسمع إلا من عدل ثقة معروف بالعدالة والثقة، فحيث نقل الخطيب أحاديث في الجرح عن جماعة ضعفاء شهد بضعفهم أئمة الحديث تبين أن قصده خلاف ما اعتذر عنه.
قال الخطيب: ما حكى عن أبى حنيفة في الإيمان:
أخبرنا الحسين بن محمد الحسن أخو الخلال بإسناده إلى وكيع. قال سمعت الثوري يقول: نحن المؤمنون وأهل القبلة عندنا مؤمنون في الأنكحة والمواريث والصلاة
والإقرار، ولنا ذنوب ولا ندري ما حالنا عند الله. ثم قال وقال أبو حنيفة من قال بقول سفيان هذا فهو عندنا شاك، نحن المؤمنون هنا وعند الله حقا. قال وكيع:
ونحن نقول بقول سفيان وقول أبى حنيفة عندنا جرأة.
اعلم وفقك الله أن الإيمان هو التصديق، واعلم أنه لا يكون تصديقا بدون المعرفة والمعرفة لا تكون مع الشك إنما تكون مع اليقين وإذا ثبت هذا فنحن المؤمنون هنا وعند الله لأن المعرفة والمعرفة لا تختلف لأن من عرف هنا كان عارفا عند الله لأن المعرفة الجهل، وأما قول أبى حنيفة عن سفيان في قوله نحن المؤمنون وأهل القبلة عندنا مؤمنون محمول على قوله تعالى:{قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ} ألا تراه نفى الإيمان عن من أسلم إلا من عرف بقلبه فثبت ما قلت إنه لا يكون إيمانا إلا بمعرفة.
وقال: حدثنا على بن محمد بن عبد الله المعدل بإسناده إلى حمزة بن الحارث بن عمير عن أبيه. قال سمعت رجلا سأل أبا حنيفة في المسجد الحرام عن رجل قال أشهد أن الكعبة حق ولكن لا أدرى هي هذه التي بمكة أم لا؟ فقال مؤمن حقا وسأله عن رجل قال أشهد أن محمد بن عبد الله نبى ولكن لا أدرى هو الذي قبره بالمدينة أم لا؟ فقال مؤمن حقا. قال الحميدي: من قال بهذا فقد كفر. قال وكان سفيان يحدث به عن حمزة بن الحارث.
وقال أخبرنا الحسن محمد الخلال بإسناده إلى محمد الباغنديّ حدثنا أبى قال:
كنت عند عبد الله بن الزبير فأتاه كتاب أحمد بن حنبل اكتب إلى بأشبع مسألة عن أبى حنيفة فكتب إليه: حدثني الحارث بن عمير قال سمعت أبا حنيفة يقول: لو أن رجلا قال أعرف أن لله بيتا ولا أدرى هو الذي بمكة أو غيره أمؤمن هو؟ قال: نعم ولو أن رجلا قال أعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد مات ولا أدرى دفن بالمدينة أو غيرها أمؤمن هو؟ قال نعم فهذا القول لم ينقله أحد من أصحاب أبى حنيفة ولا رووا عنه مثل هذا فلو كان صحيحا لنقل كما نقلت جميع مسائله. ولكني أقول ما تقول في اليهود أصحاب موسى لما جهلوا قبر موسى أضرهم ذلك؟ لا لأنهم عرفوا أن موسى نبى حق فأما جهالة القبر لا تضر بدليل أن من لم يزر المدينة ولم يحج لا يعرف القبر ولا البيت ومع ذلك لم يقدح في إيمانه ثم ومن زار المدينة فالحجرة الشريفة حائلة بينه وبين مكان القبر حقيقة من جهة التربيع فمن ذهب إلى قول الحميدي
وسفيان احتاج أن يعرف بيوت مكة والمدينة وبنيانهما وصقاعهما وحدائقهما على ما كانا عليه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليوم، واعلم أن معرفة الأراضى غير مشروعة في شريعة من شرائع الإسلام، واعلم أنا نقول إن الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين مبعوثون حقا ولو قال رجل لا أعرف أن موسى نبى حق أو غيره فقد كفر ومع ذلك لا يضرنا جهالة قبورهم ولا مواطنهم. فأما إذا ثبت عنده مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بلا شك بشرائط الإسلام فهو مؤمن حقا ولا يضره جهالته بموضع قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيه فإن القبر ليس من شرائط الإيمان ولا الإسلام، واعلم أنه لو كان الأمر كما ذكر عنه لكان المسلمون الذين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم الناءون عنه لا يصح إسلامهم فإنهم ما كانوا يعرفون كل وقت حقيقة موضعه لأنهم كانوا يفارقونه في موضع وينتقل إلى آخر، أفكانوا بجهالة المواضع يكفرون؟ فإذا ثبت أن الموضع لا يحتاج إليه في حال الحياة فلأن لا يضر مع الوفاة أجدر.
وقال: في سياق الحديث قال الحارث بن عمير: وسمعته يقول: لو أن شاهدين شهدا عند قاضى أن فلانا طلق امرأته وعلما جميعا أنهما شهدا بالزور ففرق بينهما، ثم لقيها أحد الشاهدين فله أن يتزوج بها؟ قال نعم.
الجواب: إن القاضي ما سمى قاضيا إلا مشتقا من القضاء والقضاء القطع كأنه مأخوذ من قطع الخصومات أو مأخوذ من القطع بالشيء عن أحدهما للآخر وهذا أولى لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «قضيت له شيئا» أى من قطعت له شيئا فثبت ما ذكرت فإذا فسخ القاضي بينهما أيحل لأجنبى أن يتزوج بهذه المرأة أم لا فإن قال لا فقد افترى، وإن قال نعم فكذلك يحل لأحد الشاهدين لأن فعل القاضي حجة من حجج الشرع لا تندفع في حق بعض دون بعض وإن كانت لا تحل لأحد الشاهدين فهي على نكاحها الأول فلا تحل لغيره أيضا وليس في سياق الخبر ما يضر ما قلت لأن
قول النبي صلى الله عليه وسلم «فإنما أقطع له قطعة من النار»
فنحن نقول كذا أيضا لأن هذا فعل حرام إنما اتصل بقضاء القاضي غير مدفوع كقضاء النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم بين تحريمه، وما قلت فهو جواب لما أسنده إلى حمزة بن الحارث بن عمير وعن عباد بن كثير.
وأما ما نقله عن محمد بن الحسين بن الفضل القطان إلى يحيى بن حمزة أن أبا حنيفة قال: لو أن رجلا عبده هذه النعل يتقرب بها إلى الله لم أر بذلك بأسا. فقال سعيد: هذا الكفر صراحا.
فهذا لم ينقله أحد من أصحاب أبى حنيفة واعلم أن أصحاب الإنسان أعرف به من الأجنبى، ثم اعلم أن مذهب أبى حنيفة له أصول وقواعد وشروط لا يخرج عنها، فأما أصول مذهبه رضي الله عنه فإنه يرى الأخذ بالقرآن والآثار ما وجد وقواعده أن لا يفرق بين الخبرين أو الآي والخبر مهما أمكن الجمع بينهما إلا إن ثبت ناسخا أو منسوخا وشروطه أن لا يعدل عنهما إلا أن لا يجد فيهما شيئا فيعدل إلى أقوال الصحابة الملائمة للقرآن والسنة وإن اختلفوا تخير ما كان أقرب إلى الكتاب والسنة. فهذا عليه إجماع أصحاب أبى حنيفة وهو إذا عددت المدرسين منهم في عصر واحد وجدتهم أكثر من إسناد الخطيب منه إلى أبى حنيفة رحمه الله.
واعلم أن أخبار الآحاد المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم توجب العمل لأجل الاحتياط في الدين ولا توجب العلم. وأخبار التواتر توجب العلم والعمل معا فكيف بك عن أخبار الخطيب هذه التي لا تكاد تنفك عن قائل يقول فيها، فإذا نازلنا الأمر وساوينا قلنا أخباره أخبار آحاد وأخبار أصحاب أبى حنيفة متواترة والعمل بالمتواترة أولى؛ وقد ثبت مذهب أبى حنيفة وأصوله وقواعده فإذا ثبت أن هذه أصول أبى حنيفة فكيف يسوغ له أن يقول هذا مع علمه بقوله تعالى:{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى} فهذا لا يصح عن أبى حنيفة.
قال: أخبرنا أبو سعيد بإسناده إلى إسماعيل بن عيسى بن على قال قال لي شريك: كفر أبو حنيفة بآيتين من كتاب الله تعالى قال الله تعالى: {وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} وقال تعالى: {لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ} وزعم أبو حنيفة أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وزعم أن الصلاة ليست من دين الله. قد قلت فيما مضى: إن الإيمان هو المعرفة والمعرفة لا يدخلها جهل وإذا لم يدخلها جهل فمن أين تكون الزيادة والنقصان إنما الزيادة بأن يرتفع الجهل والنقص بأن تذهب المعرفة، وأما قوله عنه إن الصلاة ليست من دين الله تعالى فلم يرو هذا عن أبى حنيفة لكن نقول إذ لو روى هذا إن الصلاة لا يكون تاركها كافرا إنما الكافر جاحدها، فإذا لم يفرق القائل والناقل بين هذين كيف يعرف كلام أبى حنيفة ومن أين يأخذ عليه. إنما الصلاة دين إلى الله لا دين الله؟ وأصل الديانة الذلة والتعبد فإن قلنا إنها من عبدنا الله صح وإن قلنا إنها من ذلتنا إلى الله وطاعتنا له فهي دين لنا. قالوا دنته فدان وفي الحديث «الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت» .
قال الأعشى:
هو دان الرباب أذكر هو الدين
…
دراكا بغزوة وارتحال
ثم دانت بعد الرباب وكانت
…
كعذاب عقوبة الأقوال
قال: هو دان الرباب يعنى أذلها. ثم دانت بعد الرباب أى ذلت له وأطاعت، والدين الجزاء والمكافأة يقال دانه دينا أى جازاه كما قالوا كما تدين تدان قال:
ولم يبق سوى العدوا
…
ن دناهم كما دانوا
ومنه الدين قال تعالى: {إِنَّا لَمَدِينُونَ} أى لمجزيون محاسبون، ومنه الديان في صفة الله عز وجل. والمدين العبد والمدينة الأمة كأنهما من أذلهما العمل قال الأخطل:
ربت وربا في كرمها ابن مدينة
…
يظل على مسحاته يتركل
فلو كانت الصلاة من جزاء الله لكانت دين الله، وانما هي من ديننا دينا الله بها أى عبدنا فهي ديننا لا دين الله. وأجمع أهل السنة أن الصلاة ليست داخلة في الإيمان لأنها من الأعمال وإنما يرد على أبى حنيفة من عرف وجه الكلام واشتقاقه.
قال: أخبرنا أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله السراج بإسناده إلى أبى إسحاق الفزاري يقول سمعت أبا حنيفة يقول: إيمان أبى بكر مثل ايمان إبليس. فهذا أيضا لم ينقل عن أبى حنيفة لكن لو نقل كان على ما ذكرت لك من الأصل أن معرفة أبى بكر الصديق بالله كمعرفة إبليس وهذالا ينكره عالم لأنا قد أصلنا أن الإيمان هو المعرفة ولا يشك أن إبليس رأى صنع الله تعالى عيانا وأبو بكر انما ثبت هذا عنده بقول النبي صلّى الله تعالى وسلم والنقل، ولا شك أن ثبوت العلم في القلب بالرؤية أكثر من ثبوته بالنقل، ويدل على هذا أنه من وصف له طريق حتى حفظ صفاتها كالماء الجاري ثم أراد أن يسلكها فإنه لا يقدر على ذلك، ومن سلكها دفعة بعد أخرى قدر على سلوكها وإن لم يصفها. ويدلك على ما ذكرت أن أكابر الفقهاء إذا حجوا احتاجوا من يعرفهم. فإذا عرفت هذا كان القياس أن يقول إن إيمان إبليس أقوى من إيمان أبى بكر، إلا أن العلم لما استوى قلنا إنه مثله. ثم قال: قال أبو إسحاق: ومن كان من المرجئة ثم لم يقل هذا أنكر عليه قوله. أما قوله إنه من المرجئة فيجيء الجواب إن شاء الله في موضعه. وقوله حدثنا الفضل بإسناده عن إيمان إبليس وآدم فهو يخرج على ما ذكرت.
وقال حدثنا أبو طالب بإسناده إلى القاسم بن عثمان يقول مر أبو حنيفة بسكران يبول قائما قال لو بلت جالسا: قال فنظر في وجهه فقال ألا تمر يا مرجئ قال له أبو حنيفة: هذا جزائي منك صيرت إيمانك كإيمان جبريل. فإن كان أراد الإيمان وحديثه فقد مر، وإن كان يحتج بقول السكران فهذا مما تثبت به الروايات عند المحدثين؟
أتراه ما عرف شروط أهل الحديث أم تعامى.
أخبرنا ابن رزق بإسناده إلى القاسم بن حبيب. قال وضعت نعلى في الحصا ثم قلت لأبى حنيفة أرأيت رجلا صلّى لهذه النعل حتى مات إلا أنه كان يعرف الله بقلبه فقال مؤمن قال لا أكملك أبدا. فهذا قد ذهب الجواب عنه عند أصول أبى حنيفة.
قال الخلال بإسناده إلى وكيع. قال اجتمع سفيان الثوري وشريك والحسن بن صالح وابن أبى ليلى فبعثوا إلى أبى حنيفة فأتاهم فقالوا له: ما تقول في رجل قتل أباه ونكح أمه وشرب الخمر في رأس أبيه؟ قال مؤمن فقال له ابن أبى ليلى لا قبلت لك شهادة أبدا، وقال له سفيان لا كلمتك أبدا، وقال له شريك لو كان لي من الأمر شيء لضربت عنقك، قال له الحسن بن صالح وجهى من وجهك حرام أن انظر إليه أبدا. فأبصر إلى هذا الراوي إنه لا يفرق بين رجل وبين مؤمن. فأما رجل فإنه نكرة من الرجال فلو كان كافرا وعبد الله مائة سنة لم يكن مؤمنا، وأما المؤمن لو فعل هذا لم تذهب معرفته.
وقال بروايته عن جماعة عن أبى يوسف وغيره إن أبا حنيفة كان مرجئا جهميا أفنظرت لكثرة كلامه في ذلك؟ أما الجواب فإن أبا حنيفة لا يرى الصلاة خلف المرجئ والجهمى ولا صاحب بدعة ولا هوى فكيف يكون منهم؟ وهذا القول في جميع كتب أصحاب أبى حنيفة ورواياتهم حفظا كما يحفظ الكتاب العزيز أفيكون هذا متروكا ويكون المحفوظ ما جاء به آحاد الناس. وأما روايته عن أبى يوسف فالمروى عن أبى يوسف أنه قال لما حج: اللهم إنك تعلم أنى ما قلت قولا إلا ما ثبت عندي من كتابك وسنة نبيك، وما لا أعرفه منهما جعلت أبا حنيفة فيه بيني وبينك.
وقد روى عنه هذا القول عند الموت أيضا، فكيف يصح عن من يقول هذا عند الموت أن يقول بمثل ذلك؟ ثم إن جميع كتب أبى حنيفة مشحونة برواية أبى يوسف عنه ولم يكن فيها شيء من ذلك.
وقال بإسناده إلى ابن المقرئ عن أبيه أن رجلا سأل أبا حنيفة- أحمر كأنه من رجال الشام- فقال: رجل لزم غريما له فحلف له بالطلاق أن يعطيه حقه غدا إلا أن يحول بينه وبينه قضاء الله، فلما كان من الغد جلس على الزنا وشرب الخمر؟ قال:
لم يحنث ولم تطلق امرأته. وهذا لم يرو عن أبى حنيفة كما ذكر، ولكن الرواية عنه قريب من هذا، إذا قال الرجل امرأته طالق إن شاء الله لم تطلق، وهذا أظنه إجماعا.
وكذلك لو قال إن شاء الإنس أو الجن أو الملائكة فهذا المروي وهذا استثناء والاستثناء لا يوجب إيقاع اليمين. وأما قوله قعد على شرب الخمر والزنا فهذا مما لا يدخل في اليمين ولا في شيء منه بإجماع الفقهاء، لكن قصده الشناعة.
وقال: أما القول بخلق القرآن فقد قيل إن أبا حنيفة لم يكن يذهب إليه، والمشهور عنه أنه كان يقوله واستتيب منه وهذا دليل على كذب الخطيب لأن المشهور ما نفى الجهل عن عامة الناس وهو إنما روى ما ذكر عن أبى حنيفة عن واحد واحد من كل عصر وأصحاب أبى حنيفة تفردوا بأكثر بلاد المسلمين وفقهاؤهم في كل عصر أكثر من أن يحصوا وكلهم يروى عن أبى حنيفة أنه لا يصلى خلف من يقول بخلق القرآن فترى أى شهرةأوجبت له ما ذكر لأنه روى عن أناس أن أبا حنيفة كان يقول القرآن مخلوق، وروى عن أناس أنه لم يكن يقول القرآن مخلوق، وجميع أصحاب أبى حنيفة على أن أبا حنيفة لم يكن يقول بخلق القرآن إلا بعضهم وهم أناس من أصحاب أبى حنيفة والشافعي وهو المعتزلة مخالفون أبا حنيفة وهم معترفون بأن هذا القول لم يكن أبو حنيفة قاله، ولا شك أن أبا حنيفة ناظر المعتزلي في خلق أفعال العباد فقال له: إن كان فعلك بأمرك فأخرج البول من موضع الغائط والغائط من موضع البول. فانقطع فضحك أبو حنيفة، فقال له المعتزلي: أتناظرني في العلم وتضحك والله لا كلمتك بعد اليوم فلم ير أبو حنيفة بعد ذلك اليوم ضاحكا. وهذا المسألة أخذها أبو حنيفة من قول الله عز وجل: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} والمعتزلي إنما اعتزل حلقة الحسن البصري فكيف لقائل أن يقول إن أبا حنيفة أول من تكلم بهذا؟ وهذه الروايات التي تخالف أصحاب أبى حنيفة ومن قد روى عنه لا تصح لان أصحاب أبى حنيفة مجمعون على خلاف ما نقله عنه الخطيب. وهما كتب أصحاب أبى حنيفة بخلاف ما ذكر فكيف له أن يقول والمشهور خلاف ذلك، إنما المشهور مأخوذ من الشهرة وهي ما يلبسه الرجل عند القتال، والشهرة مشتقة من الشهر وهو الهلال سمى بذلك لشهرة الناس
له، ومنه سمى الشهر للأيام. وقال الخطيب: بإسناده إلى أبى بكر بن أبى داود السجستاني يقول لأصحابه ما تقولون في مسألة اتفق عليها مالك وأصحابه، والشافعي وأصحابه، والأوزاعى وأصحابه، والحسن بن صالح وأصحابه، وسفيان الثوري وأصحابه، وأحمد بن حنبل وأصحابه؟ فقال أصحابه: يا أبا بكر لا تكون مسألة أصح من هذه. فقال: هؤلاء كلهم اتفقوا على تضليل أبى حنيفة.
الجواب: اعلم وفقك الله أن الصحابة جميعهم اختلفوا في عدة مسائل ولكن ليس كل من خولف فقد ضل، فإن هؤلاء المسلمين جميعهم خالف بعضهم بعضا كما خالفوا أبا حنيفة فهذا لا يعد من التضليل أما المنقول عن الشافعي في كتاب الأم أنه قال من أراد خمسا فعليه بخمس، من أراد الفقه فعليه بأبى حنيفة، ومن أراد النحو فعليه بالكسائى. وما ذكرت مسطور عن الشافعي. ومن يقول عنه هذا مثل الشافعي كيف يقول مثل ذلك وانظر بين الروايتين ما قلت في كتاب الأم لأصحاب الشافعي ينقله فقهاء أهل عصر إلى فقهاء أهل عصر إلى ما روى الخطيب عن آحاد الناس.
وأما غير الشافعي فسيأتى الجواب عنه إن شاء الله.
وقال الخطيب:
ذكر ما حكى عن أبى حنيفة في الخروج على السلطان بأسانيده إلى جماعة ينقلون عن أبى جماعة ينقلون عن أبى حنيفة منه ما أسنده إلى الأوزاعى أنه قال جاءوني فقالوا قد أخذنا عن أبى حنيفة شيئا فانظر فيه فلم يبرح بى وبهم حتى أريتهم. فما جاءوني به عنه أنه قد أحل لهم الخروج على الأئمة. وهذه الرواية لا تصح عن أبى حنيفة لأنه يقول: ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا وإن جاروا علينا وندعوا لهم. ثم إجماع أصحاب أبى حنيفة على ما قلت، ثم أبو حنيفة جعل قتال على رضي الله عنه مع البغاة والخوارج حجة، كما جعل قتال النبي صلى الله عليه وسلم مع الكفار. قال وإذا سمع الإمام أن قوما يدعون إلى الخروج فعليه أن ينبذ إليهم ويمسكهم حتى يظهروا توبة، فإذا صار فئة يرجعون إليها يقتل مقاتلهم ويجهز على جريحهم، ويقتل أسراهم كما يقتل الكفار. فمن يكون هذا رأيه كيف يرى الخروج على الأئمة؟ قال الله تعالى:{وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخائِنِينَ} وقال: لا يمض قضاء قاضى أهل البغي ولا تقبل شهادتهم.
ثم روى بإسناده إلى ابن المبارك قال ذكرت أبا حنيفة يوما عند الأوزاعى فأعرض
عنى فعاتبته في ذلك فقال: تجيء إلى رجل يرى السيف في أمة محمد فتذكره عندنا ألا ترى إلى الخطيب لم يعرف الفرق بين الخروج على الأئمة وبين من يرى السيف في الأمة! اعلم وفقك الله أن القتل ليس مشروعا بمجرد الكفر إذ لو كان لكان يحل لنا قتالهم من غير نبذ، ولما كان يجوز لنا أخذ الجزية منهم وتركهم وما يعبدون ويكونون كالمسلمين في أموالهم ودمائهم، وإنما القتل مشروع للفساد في الأرض والتعدي على الدين. ولذلك قال تعالى:{وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخائِنِينَ} وقال تعالى: {إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا} وقال تعالى: {وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} فأمر بقتال البغاة كما أمر بقتال أهل الحرب. وقال عز وجل في قصة أهل الحرب {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ} فأراد إعلاء كلمة الإسلام وأمر بالقتال للفريقين جميعا لاكتفاء شرهم وقمع المفسدين وإصلاح الرعية وأمن الطرق فاستويا، فمن لا يعرف وجوه القرآن كيف يجوز له الرد على من يعرف؟
ثم ذكر عن الأبار لإسناده إلى أبى إسحاق الفزاري.
قال: جاءني نعى أخى من العراق- وخرج مع إبراهيم بن عبد الله الطالبي- فقدمت الكوفة فأخبرونى أنه قتل وأنه قد استشار سفيان الثوري وأبا حنيفة. فأتيت سفيان فقلت أنبئت بمصيبتى بأخى وأخبرت أنه استفتاك؟ قال نعم قد جاءني فاستفتانى. فقلت ما أفتيته قال قلت لا آمرك بالخروج ولا أنهاك. قال فأتيت أبا حنيفة فقلت له بلغني أن أخى أتاك فاستفتاك؟ قال قد أتانى واستفتانى، قال قلت وما أفتيته بالخروج، قال فأقبلت عليه فقلت لا جزاك الله خيرا.
قال: هذا رأيى قال فحدثته بحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرد لهذا قال هذه خرافة. قال الخطيب: يعنى حديث النبي صلى الله عليه وسلم.
الخطيب ذكر هذا الخبر عن هذا الرجل أعنى أبا إسحاق ثم اختلف فيه فتارة قال ما ذكرت. ثم روى عنه أنه قال قتل أخى مع إبراهيم بالبصرة فركبت لنظر في تركته فلقيت أبا حنيفة فقال لي من أين أقبلت وأين أردت؟ فأخبرته الحديث فقال لي لو أنك قتلت مع أخيك لكان خيرا لك. فهذا حديث قد تقدم الجواب عنه. إلا أنى
أردت أن أذكر شيئا يعرفه الناس كما يعرفون أن أبا إسحاق الفزاري روى لأبى حنيفة حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم، والناس يعرفون أن أبا إسحاق لم يكن فقيها ولا محدثا يؤخذ بقوله، ثم يرجح قول مثل هذا يكون أراد به الحق، ثم قول الخطيب أنه عنى قول النبي صلى الله عليه وسلم. أترى ما علم أنه لو ثبت مثل هذا القول عند أبى حنيفة إنه يحمل على أن هذا حديث مشكوك فيه أو مطعون في ناقله، وأن أبا إسحاق لم يهتد إلى نقله على الوجه، وأنه لم يعرف الوجه في الحديث. ثم إن الخطيب قال عنى بقوله حديث النبي صلى الله عليه وسلم. فما أدرى الخطيب أنه عنى حديث النبي صلى الله عليه وسلم دون حديث الفزاري؟ ثم إن الخطيب جعل رأى سفيان في هذا الأمر حجة حيث قال لم آمر أخاك ولم أنهه. فإن المتفقهة إذا سئلوا عن مثل هذا لا بد أن يقولوا حلال أو حرام أو واجب أو محظور فإن كان واجبا لزم العمل به وإن كان محظورا وجب التجنب عنه.
فنقول: سفيان في هذه الفتيا لا يخلو إما إن كان الطالبي على الحق أو على الباطل ولا يخلو المستفتى إما إن كان ذا قدرة على الخروج أو عاجز وإن كان طالب فضيلة أولا. إن كان قادرا على الخروج طالبا للفضيلة ووجد إمام حق فالأولى له اتباعه، وان كان إمام باطل وجب عليه قتاله مع إمام الحق إذا دعى. أما السوقة وآحاد الناس فيقدرون على أن يفتوا بما أفتى به سفيان بأن لا يأمروا ولا ينهوا، فمن لا يفرق بين هذا وهذا ليت شعري كيف يجوز له الطعن على الأئمة، وفي قوله حدثته بحديث عن رسول الله صلّى الله وسلّم في الرد لهذا. كان الواجب أن يبين الحديث الذي في الرد. وأما إسناده إلى محمد بن على عن سعيد بن سالم أنه قال قلت لقاضى القضاة أبى يوسف سمعت أهل خراسان يقولون: إن أبا حنيفة جهمي مرجئ؟ فقال لي صدقوا ويرى السيف أيضا. قال له فأين أنت منه؟ قال إنما كنا نأتيه يدرسنا الفقه ولم نكن نقلده ديننا.
اعلم أن المشهور عن أبى يوسف خلاف ما ذكره عنه لأنه ذكر هذا الحديث عن محمد وحده وجميع أصحاب أبى حنيفة يقولون عن أبى يوسف عن- أبى حنيفة خلاف ما ذكر. وأما قول أبى يوسف كان يدرسنا الفقه وما كنا نقلده ديننا فالمشهور عن أبى يوسف أنه لما حج. قال اللهم إنك تعلم أننى لم أعمل إلا بما عرفته من كتابك وسنة نبيك، وما لم أعرفه منهما جعلت بيني وبينك فيه أبا حنيفة لعلمي به. وروى عنه أيضا هذا القول عند الموت، فمن يكون هذا قوله أما يكون قد قلده في دينه؟
قال الخطيب: ذكر ما حكى عنه من مستشنعات الألفاظ والأفعال، روى بإسناده عن الحسن بن على الجوهري إلى أبى مطيع أن أبا حنيفة رضي الله عنه قال: إن كانت الجنة والنار مخلوقتين فإنهما يفنيان وبإسناده عن محمد بن الحسين عن أبى مطيع أنه سمع أبا حنيفة يقول إن كانت الجنة والنار خلقتا فإنهما يفنيان والرواية المشهورة عن أبى حنيفة التي عليها جملة أصحابه أنه قال: إن الجنة والنار مخلوقتان لا تبيدان أبدا. وكذلك روى عنه أبو جعفر الطحاوي في عقيدته.
وبإسناده عن ابن رزق عن أسباط أن أبا حنيفة. قال: لو أدركنى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأدركته لأخذ بكثير من قولي.
وبإسناده عن على بن أحمد الرزاز عن يوسف بن أسباط. قال قال أبو حنيفة: لو أدركنى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأدركته لأخذ بكثير من قولي. المروي عن أبى حنيفة رضي الله عنه وعليه فتاوى كل أصحابه أنه قال في
المروي عن العباس رضي الله عنه لما خطب النبي صلّى عليه وسلّم وقال: «ألا إن مكة حرام من حرمات الله» الخبر بطوله. فقال العباس إلا الإذخر يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إلا الإذخر»
قال أبو حنيفة في هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يستثنى هذا فسبقه العباس إليه، فأبو حنيفة لم يجعل النبي صلى الله عليه وسلم آخذا برأى العباس، فكيف يجعله أخذا برأى نفسه.
وقد روى عن عمر رضي الله عنه مثل هذا أنه قال وافقنى ربى في ثلاث ولم يرد بالموافقة أنه كان على الخلاف ثم وافق، إنما كانت شهوته تقتضي هذا، وأنزل الله ذلك على وفاق ما أراده فسماه موافقة، ومذهب أبى حنيفة خلاف ما نقل الناقل لأنه يرى الأخذ بالكتاب والسنة ما وجد، فإن لم يجد أخذ بقول الصحابي فإن اختلفوا أخذ بقول أقربهم إلى الكتاب والسنة لا يعدل عن ذلك.
وروى بإسناده عن عبد الله بن محمد بن الحارث عن أبى إسحاق الفزاري.
قال: كنت آتى أبا حنيفة أسأله عن الشيء من أمر الغزو فسألته عن مسألة فأجاب، فقلت له إنه يروى فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم كذا وكذا. فقال دعنا من هذا. قال وسألته يوما آخر عن مسألة فأجاب فيها، فقلت له إن هذا يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه كذا وكذا. فقال حك هذا بذنب خنزير. هذا النقل يخالف مذهب أبى حنيفة وقد تقدم الجواب عنه.
ثم إن الخطيب لم يعن المسألة التي ذكر الراوي أنه سأل أبا حنيفة عنها ولا الخبر الذي أورده الفزاري، وإذا لم يعين لم يثبت ما اشترطه الخطيب من أن التثبت عند أهل الحديث غير هذا لأن المعلوم لا ينقض بالمجهول وهذا قد روى عن آحاد الناس لا شيء. لأنه قال حدثنا فلان عن الفزاري أنه قال سالت أبا حنيفة عن مسألة فأجاب. فقلت: روى عن النبي صلى الله عليه وسلم كذا وكذا في هذا. فقال له أبو حنيفة: حك هذا بذنب خنزير. وهذا كما حكى
الخطيب في كتابه في ترجمة أشعب عن أشعب أنه قال لما سئل هل تروى شيئا من الحديث النبوي؟ فقال نعم سمعت عكرمة يقول سمعت ابن عباس يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «خلتان لا يجتمعان في مؤمن» .
ثم سكت فقالوا له وما الخلتان؟ قال: نسى عكرمة واحدة ونسيت أنا الأخرى.
قال أخبرنا ابن دوما ثم أسنده إلى الفزارى قال حدثت أبا حنيفة حديثا في رد السيف فقال: هذا حديث خرافة أترى أى شيء هو رد السيف؟ وإنما اشتراط الخطيب أن هذا ثبت هو العجب، لأنه قال والثبت عند أصحاب الحديث غير هذا، أترى الثبت ما يعلم وما لا يعلم؟ فإن كان الثبت ما يعلم كان [ينبغي] نقل ما قال وما قيل عنه ليكون الجواب. وأما قوله حدثت أبا حنيفة في رد السيف حديثا فهذا لا يثبت مثله، لأنه إنما يثبت الشيء، أما غير شيء لا يثبت أصلا وهذا كقول المتنبي:
إذا رأى غير شيء ظنه رجلا
وهذا غير شيء، أترى غير شيء أى شيء يكون: وروى عن الأبار إلى أن قال سمعت على بن عاصم يقول: حدثنا أبا حنيفة بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم. فقال: لا آخذ به، ثم قلت عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لا آخذ به. إنما يجاب عن هذا لو ذكر الحديث، فمن المعلوم أن كلما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يؤخذ به لأن فيه منسوخا والمنسوخ فبالإجماع لا يؤخذ به.
اعلم وفقك الله أن أخبار النبي صلى الله عليه وسلم فيها ناسخ ومنسوخ، ومحكم ومتشابه، وإفراد وتركيب، وحقيقة ومجاز. ثم بعد ذلك صنفت على النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث، [و] نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ثقات وغير ثقات، وبعض هذا مما يرد به الحديث بإجماع الأمة.
قال أخبرنا محمد بن أبى نصر الزينبي إلى بشر بن مفضل.
قال قلت لأبى حنيفة:
روى نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم. قال «البيعان بالخيار
ما لم يفترقا»
قال هذا رجز. أترى الناقل عن أبى حنيفة مثل هذا ما استحيا أن ينقل ما لا يسمع، فإن أراد به الرجز الذي هو الشعر فليس كذلك ومثل أبى حنيفة يعرف هذا المقدار، ولو أنه عرض على أدنى عامي لعرف هذا فكيف ينقل عن أبى حنيفة رحمه الله ما لو قيل لعامى لعرف أنه خلاف ذلك ويدعى أنه الثبت؟ وأما أبو حنيفة فإنه لا يأخذ بهذا الحديث على هذا الوجه الذي ذهب إليه غيره أن قول النبي صلى الله عليه وسلم إذا اختلف لفظا الواجب أن يوفق بينهما معنى. وهذا مذهب أبى حنيفة والبيع عقد من عقود الشرع، وجميع عقود الشرع بعد صحتها لا تحتمل النقض، مثل أن تقول بعت ويقول اشتريت، ومثل أن تقول أنكحتك على صداق مبلغه كذا وكذا، فيقول قبلت. فكما أنه ليس خيار في النكاح فكذلك ليس له خيار في البيع. وكذلك إلا جارة وغيرها من عقود الشرع، وإنما كلام النبي صلى الله عليه وسلم مثل القرآن والقرآن جاء على العرب، تقول بئست الرمية الأرنب وإن كانت لم ترم إلا أنها من شأنها أن ترمى فسميت رمية بذلك. كما قال تعالى {أَعْصِرُ خَمْراً} والمائع لا ينعصر وإنما كان يعصر عنبا ليجعله خمرا. فلما كان من شأنه أن يكون خمرا نطلق اسم الخمر على العنب، لأنه اسم ما يؤول إليه.
وقد روى أنه عليه السلام. قال لأبى سفيان يوم الفتح: «كل الصيد في جوف الفرا»
سماه صيدا وان لم يصد. فكذلك سماهما بيعين وإن يبيعا بعد، وتقديره البيعان بالخيار إذا شاءا تبايعا، وإن شاءا لا.
كما قال صلى الله عليه وسلم: «المتطوع أمير نفسه، إن شاء صام وإن شاء أفطر» فلما عرض عليه الحكم وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم حضر عند رجل من الأنصار وكان معه رجل صائم فقال: «أجب أخاك وأفطر واقض يوما مكانه»
فلما أثبت الوجوب أوجب العوض، فهذا ومثله كثير عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال قلت: روى قتادة عن أنس أن يهوديا رضخ رأس جارية بين حجرين فرضخ النبي صلى الله عليه وسلم رأسه. قال. هذيان. فأبو حنيفة رحمه الله لا يقول عن كلام النبي صلى الله عليه وسلم هذا، ولو كان كما قال عنه الخطيب لما ترك، فضلا عن أن يتبعه الناس ويقتادون إليه وقد تقدم أن رواية جماعة خير من رواية آحاد الناس. ثم هذا الخبر مجمع على ترك العمل به بقول النبي صلى الله عليه وسلم عن جابر بن عبد الله. قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرا على جيش أو سرية. قال: «اغزوابسم الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا ولا تمثلوا» . ألا تراه صلى الله عليه وسلم نهى عن المثلة. ونهى في الخبر عن قتل النساء والصبيان فهذا ناسخ لما تقدم.
ثم قال
أخبرنا أبو بكر البرقاني إلى عبد الصمد عن أبيه قال:
ذكر لأبى حنيفة قول النبي صلى الله عليه وسلم «أفطر الحاجم والمحجوم» فقال هذا سجع.
وهذا مثل قول الله عز وجل: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ} والثاني لا يكون متعديا بل مستوفيا. ثم هذا الحديث منسوخ بقول النبي صلى الله عليه وسلم «الفطر مما دخل، والوضوء مما خرج» والحاجم والمحجوم لم يدخل إلى بطنيهما شيء فيفطرهما. قال: وذكر له قول من قول عمر- أو قضاء من قضاء عمر- فقال: هذا قول شيطان. فهذا مثل ما ذكرت من خبر أشعب، الواحد أنسيه هو، والآخر أنسيه الخطيب.
وكذلك ما رواه عن ابن رزق إلى عبد الوارث، وقال أخبرنا محمد بن عبد الملك القرشي إلى إسحاق قال سمعت يحيى بن آدم ذكر لأبى حنيفة هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«الوضوء نصف الإيمان» قال لتتوضأ مرتين حتى تستكمل الإيمان. قال إسحاق وقال يحيى بن آدم الوضوء نصف الإيمان- يعنى نصف الصلاة- لأن الله تعالى سمى الصلاة إيمانا فقال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} أى صلاتكم. قال النبي صلى الله عليه وسلم «لا تقبل صلاة إلا بطهور» فالطهور نصف الإيمان على هذا المعنى إذا كانت الصلاة لا تتم إلا به. ومثل هذا لم ينقل عن أحد من الأئمة المعروفين وكيف ينبغي أن يقال في قوله تعالى: {وَمَا كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} ويعنى بها الصلاة لأنه يقول في أثناء الآية {أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ} وليس الهداية الصلاة وحدها وإنما الهداية إلى جميع الدين والصلاة فرع من فروعه. فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يكمل إيمان المؤمن حتى يريد لأخيه المؤمن ما يريد لنفسه» .
أفكان يعنى بهذا الصلاة وحدها؟ وقد قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} فيحمل هذا الخطاب على من هو في الصلاة لا من هو خارج عنها، ومثل هذا كثير.
وإنما [لا] يتبين المختلف فيه إلا على العلماء، أما مثل هذا فلا.
وقد نقل عن يحيى أيضا أنه ذكر لأبى حنيفة قول من قال لا أدرى نصف العلم. قال: فليقل مرتين لا أدرى حتى يستكمل العلم. قال يحيى وتفسير قوله لا أدرى نصف العلم، لأن العلم إنما هو أدرى ولا أدرى، فأحدهما نصف الآخر. فانظر ما أحسن هذا الكلام أترى أيش يقال فيمن لا يعرف هذا الكلام؟ حتى أنه يجعل قول من قال حجة حتى يرد به على أبى حنيفة. والعلم إنما هو إثبات حكم أو نسخ حكم.
قال أخبرنا أبو القاسم إلى سفيان بن عيينة ثم أعاد حديث «البيعان بالخيار ما لم يفترقا» ، وهذا تقدم الجواب عنه. وروى عن ابن دوما إلى الفضل بن موسى قال سمعت أبا حنيفة يقول: من أصحابى من يبول قلتين، يرد على النبي صلى الله عليه وسلم. أترى أين الرد على النبي صلى الله عليه وسلم وإنما القلتان العامتان، والقلتان الجرتان، والقلتان الكوزان، والقلتان قلتا الجبلين فهذا كله ينطلق عليه اسم القلتين، وقول أبى حنيفة هذا إن ثبت أنه قاله أين الرد فيه على النبي صلى الله عليه وسلم؟ وانما أردت أن أبين بهذا ومثله قول الخطيب. والمحفوظ غير ذلك فانظر إلى هذا المحفوظ ما أحسنه، إلا أنه يشبه ذاك الحافظ الذي جعله ثبتا فأخبر عن الخلال إلى وكيع يقول سأل ابن المبارك أبا حنيفة عن رفع اليدين في الركوع فقال أبو حنيفة: يريد أن يطير. أترى أى شيء في هذا من الفقه أو العلم حتى يجعله ثبتا وروى عن ابن رزق إلى سفيان يقول: كنت في جنازة أم خصيب بالكوفة فسأل رجل أبا حنيفة عن مسألة في الصرف فأفتاه، فقلت: يا أبا حنيفة إن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قد اختلفوا في هذه، فغضب وقال للذي استفتاه: اذهب فأعمل بها فما كان فيها من إثم فهو على. افتراه لم لا عرف المسألة كما عرف أم خصيب؟
أفهذا ومثله الثبت.
وحدث عن أبى القاسم عبد الواحد إلى يوسف بن أسباط يقول: رد أبو حنيفة على رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعمائة حديث- أو أكثر- قلت له يا أبا محمد تعرفها؟ قال نعم قلت أخبرنى بشيء منها فقال قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: «للفرس سهمان وللراجل سهم»
فقال أبو حنيفة إنا لا نجعل سهم بهيمة أكثر من سهم المؤمن. فهذا اللفظ لم يثبت عن أبى حنيفة وإنما مذهبه أن يكون للفارس سهمان وللراجل سهم. وأما لفظ النبي صلى الله عليه وسلم للفرس سهمان فمحمول على أمثاله مما ورد عنه صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه. فأما ما روى عنه صلى الله عليه وسلم فإنه لما جاء الرجل إليه وقال إنّي جعلت لأصحابى إبلا ليسلموا فلما أسلموا رجعت نفسي في الإبل؟ فقال صلى الله عليه وسلم «لا تعطهم شيئا إن أقاموا وإلا سيرنا إليهم الخيل» فلم يرد النبي صلى الله عليه وسلم أن يسير إليهم الخيل وإنما أراد أن يسير الخيالة. وقد تقدم مثل هذا القول. وأما روى عن أصحابه رضي الله عنهم فإنه كان ينادى فيهم بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم وبعده إذا استفزعوا يا خيل الله اركبي، فما كانت الخيل تركب الناس عادة، وإنما تقديره يا خيالة الله اركبي، فكنى عن الخيالة بالبعض كما ورد العرب كثير من هذا، ومثله قوله تعالى:{إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً} وإنما كان يعصر العنب ليكون خمرا، فمن لا يفهم هذا أيش يكون جوابه؟ وقال قال أبو حنيفة: الأشعار مثله.
صدق إلا أن يكون في الحج. وقال قال البيعان بالخيار، وقد تقدم الجواب. وقال كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرع بين نسائه إذا أراد أن يخرج في السفر. وأقرع أصحابه. وقال أبو حنيفة: القرعة قمار. فأقول إن القمار ما كان فيه أخذ وعطاء، وأما مذهب أبى حنيفة رحمه الله في السفر بالنساء إن شاء أخرج إحداهن، وإن شاء أقرع بينهن تطيبا لأنفسهن كان حسنا. وقال لو أدركنى رسول الله صلّى الله صلى الله عليه وسلم وأدركته لأخذ بكثير من قولي. قد تقدم الجواب عنه.
وحدث عن ابن رزق إلى إسماعيل البطلانى. وأخبرنا البرقاني قال قرأت على أبى حفص إلى أبى السائب يقول سمعت وكيعا يقول: وجدنا أبا حنيفة خالف مائتي حديث. هذه كانت أربعمائة صارت مائتين ولم يذكر من الأربعمائة والمائتين إلا حديثا واحدا، ولو أراد الخطيب صحة الثبت كما زعم لذكر الأحاديث. وحدث عن على بن أحمد الزاذ إلى حماد بن سلمة قال وسمعته يقول: أبو حنيفة استقبل الآثار واستدبرها. فهذا قول قالهحماد. والجواب عنه فيما مضى وعن غيره من أمثاله الذين قالوا مثل هذه الأقوال في أبى حنيفة وقد روى عنه أن أبا حنيفة يستقبل السنة يردها برأيه. وأخبرنى عن محمد بن الحسين بن محمد المتوثى إلى بشر بن السرى قال أتيت أبا عوانة فقلت بلغني أن عندك كتابا لأبى حنيفة أخرجه فقال: يا بنى ذكرتني فقام إلى صندوق فاستخرج كتابا فقطعه قطعة [قطعة] ثم رمى به، فقلت له ما حملك على ما صنعت؟ قال: كنت عند أبى حنيفة جالسا فأتاه رسول بعجلة من قبل السلطان كأنما قد حموا الحديد وأرادوا أن يقلدوه الأمر. فقال: يقول الأمير رجل سرق وديا فما ترى؟ فقال- غير متعتع- إن كانت قيمته عشرة دراهم فاقطعوه: فذهب الرجل فقلت يا أبا حنيفة ألا تتقى الله،
حدثني يحيى بن سعيد عن محمد بن يحيى بن حبان عن رافع بن خديج. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا قطع في ثمر ولا كثر»
أدرك الرجل فإنه يقطع. فقال- غير متعتع- ذاك حكم قد مضى فانتهى وقد قطع الرجل فهذا ما يكون له عندي كتاب.
هذا مذهب أبى حنيفة رضي الله عنه. وذلك لما
روى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا قطع في ثمر ولا كثر» وقال: «فإذا جمعها الجرين فاقطعوا فيما بلغ قيمة المجن»
فأبو حنيفة رحمه الله اعتبر الأصل، وذلك أن اللص إذا سرق قمحا أو تمرا أو شيئا إلا أنه أصل في نفسه مقصود بالمالية قطع، وإن سرق طعاما أو شرابا ليس بمقصود بالمالية مثل
طعام مطبوخ أو شراب لم يقطع لأنه ليس بمقصود بالمالية في نفسه، وإنما المقصود منه دفع ضرر الجوع حتى أنه لو سرقه في إناء فضة أو ذهب لا قطع عليه لأن مقصوده دفع الضر وسد الجوع وذلك مباح بالمحرم فصار فيه شبهة والحدود عنده تدرأ بالشبهات لما روى عن الصحابة رضي الله عنهم أنهم كانوا يقولون. ادرءوا الحدود بالشبهات. والنبي صلى الله عليه وسلم تارة أمر بالقطع وتارة منع منه. وقد ذكرت فيما مضى مذهب أبى حنيفة في أنه لا يخالف بين الخبرين ما وجد وجه التوفيق. فلما بين النبي صلى الله عليه وسلم الكثير بقوله «جمعه الجرين» تبين أنه المقصود بنفسه للمالية. ولما أبهم كان لسد الجوعة.
وكذلك ما حدث عن ابن دوما إلى أبى عوانة. قال وقال الحلواني إلى حماد.
قال سمعت أبا حنيفة سئل عن محرم لم يجد إزارا فلبس سراويل، قال عليه فدية.
قلت: سبحان الله
سمعت عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال: «السراويل لمن لم يجد الإزار» .
هذا الخبر لم يعمل به أحد من الأئمة فيحتج بصحته، فإن من لم يجد الإزار يلبس السراويل، كذلك من لم يجد الرداء يلبس القميص ومحال أن يجد السراويل ولم يجد إزارا، فإن السراويل يصير منه إزار، فهذا ومثله لا يدفع قول الخصم، فإن
أعرابيا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ما تقول فيمن أحرم في جبته هذه بعد ما ضمخها بالطيب؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم «أما الجبة فانزعها وأما الطيب فاغسله وافعل في عمرتك ما تفعل في حجك»
وإجماع الناس ان المحرم يلزم المخيط فإن المخيط لا يراد به ما دخلته الإبرة مطلقا إنما المراد به ما يتلف على الإنسان مثل الثوب المخيط على البدن وعلى اليدين حتى يصير كهيئة الإنسان. فكذلك أيضا السراويل والخف. وحديثه عن بن دوما إلى حماد يدخل فيما ذكرت.
ثم قال: أخبرنا ابن دوما إلى سفيان بن عيينة قال قدمت الكوفة فحدثتهم عن عمرو بن دينار عن جابر بن زيد- يعنى حديث ابن عباس- فقالوا: إن أبا حنيفة يذكر هذا عن جابر بن عبد الله. قال قلت لا إنما هو جابر بن زيد. فذكروا ذلك لأبى حنيفة فقال: لا تبالوا إن شئتم صيروه عن جابر بن عبد الله، وإن شئتم صيروه عن جابر بن زيد. إنما قال أبو حنيفة ذلك- إن صح عنه- لأن هذا الخبر لم يعمل به أحد من الفقهاء فتقديره صيروه عمن شئتم فإنه غير معمول به. فقد أجمع القوم على أنه من لبس المخيط كان عليه الفدية سواء كان سراويل أو غيره.
ثم قال أخبرنا القاضي أبو عبد الله الصيمري إلى أبى عبد الله قال أنشدنى أبو عبد الله محمد بن زيد الوسطى لمحمد بن المعدل:
إن كنت كاذبة التي حدثتني
…
فعليك إثم أبى حنيفة أو زفر
المائلين إلى القياس تعمدا
…
والراغبين عن التمسك بالأثر
أما من هجا فقد هجا مثله خيرا من أبى حنيفة ولم يصر ذلك حجة. وهذا قال عن أبى حنيفة رحمه الله ما ليس من مذهبه، وقد تقدم القول في مذهب أبى حنيفة وأخذه بالأحاديث ما وجد حتى أنه إذا جاءه الحديث الواحد خلاف القياس يعمل به في الواقعة وحدها ولا يترك أحد الحديثين. مثاله: إن الله تعالى فرض الصلاة في أوقات مخصوصة ففرض لكل وقت صلاة، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى الظهر مع العصر بعرفة في وقت الظهر، والمغرب مع العشاء بالمزدلفة في وقت العشاء. فعمل بذلك أبو حنيفة في يوم عرفة خاصة، ولم يقسه على باقى الصلوات، ولا قاس باقى الصلوات عليه. وهذا إذا كان المصلى مع الإمام، وأما إذا صلّى وحده صلاها كسائر الصلوات في أوقاتها لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما فعل ذلك بالجماعة ولم يثبت أنه صلاها وحده على ما ذكرت فمن يكون نظره في الجمع بين الأحاديث كذا كيف يقدح فيه بقول من لا يعرف الفقه ولا العربية ولا يفرق بين الأحاديث.
ثم قال أخبرنا عبد الله بن يحيى السكرى والحسن بن أبى بكر ومحمد بن عمر النرسي إلى أبى عوانة. قال سمعت أبا حنيفة وسئل عن الأشربة، قال: فما سئل عن شيء منها إلا قال هو حلال، حتى سئل عن السّكر- أو السّكر شك أبو جعفر- فقال: حلال. قال قلت يا هؤلاء إنها زلة عالم لا تأخذوا عنه. أما مذهب أبى حنيفة رحمه الله في الأشربة فمعروف، ولو لم يشك أبو جعفر لرددت الجواب. وإنما الشاك لا يصدق لأن كذبه من نفسه إذا قال شككت فقد عرف أن قوله ليس بحجة فهو شك فيما نقله عن أبى حنيفة، ولم يشك في علم أبى حنيفة فكيف استحل الخطيب أن يجعل ما شك فيه ثبتا ينفى به ما جعله يقينا.
فأما السّكر فحرام على مذهب أبى حنيفة، والسكر حلال إذا طبخ أدنى طبخ لقول الله تعالى:{تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً} وليس قول من قال خلاف أبى حنيفة بحجة لأنه قد نقل عن بعض الناس أنه قال الكلام محمول على أنك تقول تتخذون منه سكرا وتتخذون رزقا حسنا. وليس هذا حجة لأن الصحابة رضى الله
عنهم اتخذوا من السكر ومن التمر ومن الزبيب ومن العسل الأنبذة، والنبي صلى الله عليه وسلم شرب من السقاية بعد ما قال له العباس يا رسول الله إنه منذ أيام، وقد مرسته أيدى الناس، ألا تصبر حتى نأتيك بشراب من البيت؟ يقول ذلك له ثلاثا والنبي صلى الله عليه وسلم يرد قوله.
حتى أتاه بشيء منه فشربه وقطب وجهه ثم بماء من زمزم فصبه فيه وشربه. ثم قال:
«إذا اغتلمت عليكم هذه الأشربة فاكسروا متونها بالماء» وأضاف على عليه السلام قوما فأطعمهم وسقاهم، فسكر بعضهم فحده. فقال: تسقينا، ثم تحدنا؟ فقال: إنما أحدكم للسكر لا للشرب. وروى أن رجلا من المسلمين شرب من سطيحة عمر فسكر، فأراد أن يحده فقال إنما شربت من سطيحتك. فقال: إنّي أحدك للسكر لا للشرب فمثل هذه الأحاديث قد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه فلأن يحمل أحد وجهى الآية على ما يوافق هذه الآثار مع أن هذا الوجه في القرآن أو لا خير من أن يحمل على أبعد الوجهين مع مضاد هذه الآثار وأولى.
ثم قال: أخبرنا محمد بن أحمد بن محمد بن حسنون الترسى إلى أبى حمزة السكرى يقول: سمعت أبا حنيفة يقول لو أن ميتا مات فدفن ثم احتاج أهله إلى الكفن فلهم أن ينبشوه ويبيعوه. هذا لم ينقل عن أبى حنيفة ولو فعل ذلك أحد لما كان به بأس.
فإن حيا يحتاج إلى كفن الميت مع أنه لم يزل عن ملكه بدفنه إياه لأحق من ميت لا يحتاج إلى شيء من أمور الدنيا.
ثم قال أخبرنا محمد بن عيسى بن عبد العزيز والبزاز بهمذان إلى سفيان بن عيينة يقول: ما رأيت أحدا أجرا على الله من أبى حنيفة، ولقد أتاه يوما رجل من أهل خراسان فقال يا أبا حنيفة قد أتيتك بمائة ألف مسألة أريد أن أسألك عنها. فقال هاتها، فهل سمعتم أحدا أجرا على الله تعالى من هذا؟
وأخبرنا عطاء بن السائب عن ابن أبى ليلى.
قال: لقد أدركت عشرين ومائة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الأنصار إن كان أحدهم ليسأل عن المسألة فيردها إلى غيره فيرد هذا إلى هذا وهذا إلى هذا حتى ترجع إلى الأول، وإن كان أحدهم ليقول في شيء وإنه ليرتعد، وهذا يقول هات مائة ألف مسألة.
وأنا أقول: هل رأيتم أو سمعتم بأحد أكذب من هذا، من يحفظ مائة ألف مسألة
يكون رجلا لا يعرف له اسم؟ فهل رأيتم كذا بل أقول إن جميع المجتهدين من كان فيهم من يحفظ مائة ألف مسألة على قلبه، ولو كان الأمر كما زعم فليس بأكثر من كتب الفقه فلو أخذ رجل كتابا من كتب الفقه وجاء إلى رجل من أوساط الفقهاء وقال له: أريد أن أسألك عن جميع ما في هذا الكتاب لقال له نعم وما كان يعجز عنه إذا كان من مذهبه فكيف يعجز أبو حنيفة عن ما يسأل عنه، وقد نقل عن أبى حنيفة ما شاء الله من المسائل. وأما قوله عن الصحابة: فمن المعلوم أن جميع الصحابة لم يكونوا فقهاء وما كان الفقهاء منهم إلا قليل، بل لو كان هذا السائل سأل أحد فقهاء الصحابة لقال كما قال أبو حنيفة. وقد روى عن ابن عباس أنه كان قاعدا بحرم مكة والناس حوله يسألون عن القرآن وهو يجيب، فقال له نافع بن الأزرق: يا ابن عباس ما أجرأك على كتاب الله أتفسره من عندك؟ فقال: لا إنه لكلام عربي وأنا أفسره على ما تعرفه العرب. فقال له أكل هذا تعرفه العرب؟ فقال نعم ثم جعل يقص عليه شيئا فشيئا من القرآن وينشده عليه بيتا [بيتا] من أشعار العرب، وهذا الكتاب جمعه ابن السائب وهو يعرف اليوم بغريب القرآن لابن السائب
قال:
ذكر ما قاله العلماء في ذم رأيه والتحذير عنه إلى ما يتصل بذلك من أخباره
قال أخبرنا أبو الحسن على بن أحمد بن إبراهيم البزاز إلى هشام بن عروة عن أبيه.
قال: كان الأمر في بنى إسرائيل مستقيما حتى نشأ فيهم أبناء سبايا الأمم.
فقالوا بالرأى فهلكوا وأهلكوا، وأكثر هذا الباب مثل هذا الخبر.
والجواب: أن الخطيب جعل هذا ثبتا وصححه وجعل قول عروة أولى من قول النبي صلى الله عليه وسلم فإن
النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ: «يا معاذ بم تحكم؟» قال أحكم بكتاب الله. قال «فإن لم تجد؟» قال بسنة رسول الله.
«قال فإن لم تجد» ؟: قال أجتهد رأيى ولا آلو. فقال النبي صلى الله عليه وسلم حينئذ: «الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله» .
وهذا الخطيب شرع يرد قول النبي صلى الله عليه وسلم بطريق الرد على أبى حنيفة كما فعلت الفلاسفة وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم شهد للعشرة بالجنة فلما أرادت الفلاسفة رد قول النبي صلى الله عليه وسلم جاءوا إلى العشرة يطعنون فيهم فلم يجدوا إلى ذلك سبيلا إلى ان جرى ما جرى
بين المسلمين من قتل عثمان ونوبة الجمل وصفين ثم قتل الحسين، وقامت التوابون وكثرت شيعة على واختلف الناس وذلك في زمن فترة معاوية بن يزيد بن معاوية لما خلع نفسه، فقالت الفلاسفة: إن عليّا رضي الله عنه ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم وأحق بالخلافة من غيره، وأبو بكر اغتصبه حقه وأعانه عمر ثم ولى عثمان أمرا لم يكن له بحق وذلك لأن عبد الرحمن بن عوف تغرض عليا فأزاله عن مستحقه، وأما طلحة والزبير فإنهما قاتلا عليا في نوبة الجمل وهما له ظالمان. فهؤلاء غيروا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبقوا على ما كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فإذا صار أمرهم على هذا فقد فسقوا فلم يبقوا من أهل الجنة. ثم أرادوا الطعن في على فقالوا: إن عليا ترك حقه لأبى بكر وعمرو عثمان وكان أحق بذلك منهم وكان يلزمه القيام بالخلافة لأنه كان أعلم منهم وأحق بالخلافة، ومن تعين للإمامة ثم تركها لغير ذى حق فقد فسق ومن فسق استحق النار. فهؤلاء كلهم غيروا فلم تبق شهادة النبي صلى الله عليه وسلم نافعة لهم وأشاروا إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما شهد لهم لما رآه منهم ولم ينزل عليه في ذلك وحى، وما قصدوا بذلك إلا أنه لم يكن ينزل عليه الوحى، لأن النبوات عندهم باطلة لأنهم يقولون إما أن تكون الحاجة بالرسالة أو للناس، فيقال لهم للناس لأن الله غير محتاج إلى شيء، فيقولون هل يمكن أن يؤمن من لا يريد الله إيمانه؟ فنقول لا فيقولون: فإذا لا حاجة إلى النبي فإن الله يهدى من يريد، وهذا هو الكفر بعينه. وإنما أرسل الله الرسل مبشرين ومنذرين واختصهم برسالته فإن الله تعالى اجتبى الأنبياء صلوات الله عليهم ليميزهم على الناس، وأرسلهم ليعلموا الناس الحلال والحرام، وجعل العلماء ورثتهم ليهدوا الناس بهداية النبي صلى الله عليه وسلم فمن طعن في العلماء فإنما طعن في الأنبياء
لقوله صلى الله عليه وسلم: «العلماء ورثة الأنبياء» .
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم شهد للسبطين الشهيدين بالجنة فما قدروا أن يطعنوا إلا في الحسن رضي الله عنه. فقالوا: ترك حقه وبايع للرغبة في الدنيا فجعلوا ذلك ذريعة إلى الرد على النبي عليه السلام. وهكذا الخطيب جعل الرأى الذي قرنه النبي عليه السلام بالكتاب والسنة وحمد الله كيف وفق معاذا رسوله وكيف هداه الله اليه خطأ واعلم أنه إذا خطأ أحد الثلاثة المجتمعة فقد خطأ الآخرين ضرورة، وإذ خطأ الثلاثة فإنما التخطئة لقابلهم فكان ظاهر قوله الرد على أبى حنيفة والمقصود من قال بالرأى.
فانظر أيدك الله إلى رجل جعل أبا حنيفة ذريعة إلى الرد على الرسول صلى الله عليه وسلم وسائر أئمة الأمصار موافقون لأبى حنيفة في الرأى فكان الرد على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أئمة أمته جميعا.
وقال:
أخبرنا البرقاني إلى حمدويه. قال قلت لمحمد بن مسلمة: ما لرأى النعمان دخل البلدان كلها إلا المدينة. قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال. «لا يدخلها الدجال ولا الطاعون»
وهو دجال من الدجاجلة. أما هذا الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم فصحيح، وأبو حنيفة قد دخل المدينة ودخلها مذهبه، فلو كان الأمر كذلك لما دخلها. وأما قوله إن مذهبه ما دخلها فباطل، لأن في المدينة من أهل مذهب أبى حنيفة جماعة لا يحصون وقد دخلها من زوار الحجاج ممن يقول بمذهب أبى حنيفة من لا يعد ولا يحصى كثرة في كل سنة من الأعوام.
وبإسناده عن ابن الفضل إلى مالك أنه قال: ما ولد في الإسلام مولود أضر على أهل الإسلام من أبى حنيفة. وكان يعيب الرأى ويقول قبض النبي صلى الله عليه وسلم وقد تم الأمر واستكمل، فإنما ينبغي أن تتبع آثار النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ولا يتبع الرأى، وأنه متى اتبع الرأى جاء رجل آخر أقوى منك في الرأى فاتبعته، فأنت كلما جاء رجل أقوى منك اتبعته أرى هذا الأمر لا يتم.
هذا لا يكاد يصح عن مالك فإن ظاهر مذهبه أنه يعمل بإجماع أهل المدينة ويترك الحديث الذي رواه في موطئه وهذا عمل بالرأى وهو خلاف عمل أبى حنيفة رضي الله عنه. لأن رأى أبى حنيفة أن يأخذ بخبر النبي صلى الله عليه وسلم. ما جاء فإن اختلف خبران أو كان لأحدهما وجه في التأويل يوافق به الخبر الآخر الذي ليس له إلا وجه واحد في الظاهر وفق بينهما. فإن لم يجد خبرا عن النبي صلى الله عليه وسلم عمل من أقوال الصحابة رضي الله عنهم لما كان أقرب إلى كتاب الله وسنة نبيه ويسمى ذلك اجتهادا. ومالك فقد عمل بإجماع أهل المدينة وترك الحديث الذي رواه في موطئه وهو
قول النبي صلى الله عليه وسلم: «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا»
وقد رواه عن أنبل شيوخه عن نافع عن ابن عمر ثم ترك العمل به وأفتى بغير قياس لأنه أهل المدينة فصار مقلدا لهم. فإذا كان هذا مذهبه فكيف يمكن أن يصح عنه مثل هذا القول الناقض لمذهبه.
وبإسناده عن ابن رزق إلى حبيب عن مالك بن أنس أنه قال كانت فتنة أبى حنيفة على هذه الأمة أضر من فتنة إبليس في الوجهين جميعا في الأرجاء وما وضع من نقض السنن.
أما السنن فقد ذكرنا مذهب أبى حنيفة رضي الله عنه فيها، وأما الأرجاء فأصحاب أبى حنيفة كلهم على خلاف رأى أصحاب الأرجاء فلو كان أبو حنيفة
مرجئا لكان أصحابه على رأيه وهم الآن موجودون على خلاف ذلك وهذا يبطل ما ادعاه الخطيب من الثبت فإنه جاء إلى أصحاب أبى حنيفة مع كثرتهم أهمل ما نقلوه وما هم عليه وتمسك بقول رجل واحد وجعله ثبتا وسيأتي فيما بعد ذكر ما في إسناد هذه الحكاية وغيرها من الخلل.
وبإسناده عن الأزهرى إلى اسماعيل بن بشر عن عبد الرحمن بن مهدى يقول: ما أعلم في الإسلام فتنة بعد فتنة الدجال أعظم من رأى أبى حنيفة. كان ينبغي لعبد الرحمن أن يبين ما استخطأ فيه أبا حنيفة حتى نجيب عنه. فإن رأى أبى حنيفة يستحيل أن يكون أخطأ في جميعه وخالف آراء الناس، فأما حين أجمل القول فهذا دليل على أن الكلام محمول على الغرض والقصد. ثم إنه قال بعد فتنة الدجال والدجال لم يفتن بعد ولا خرج فكيف يجعل شيئا ظهر وأجمعت عليه الأمة مثل شيء لم يظهر. ويقول بعد فلو كان غير هذا لكان أخفى لقصده من التشنيع ولا شك أن جمعا من المسلمين وافقوا رأى أبى حنيفة، وأيضا أبو حنيفة عمل بقول النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فترى أى الأمور التي قصدها عبد الرحمن؛ ما نقله أبو حنيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن أصحابه أو ما استخرجه من القرآن العظيم.
وبإسناده عن ابن الفضل إلى نعيم عن سفيان قال: ما وضع في الإسلام من الشر ما وضع أبو حنيفة إلا فلان- لرجل صلب-.
الجواب عن هذا كالجواب عن ما تقدمه، ومن هو فلان الذي صلب حتى إن كان له مذهب يوافق مذهب أبى حنيفة نتكلم عليه. وإلا فلان لا يعرف، وإن كان كل من صلب يلزم أن يكون مخطئا منسوبا إلى الخطإ فيلزم من هذا أن يكون زيد بن الحسن بن على بن أبى طالب، وابن الزبير، وخبيب صاحب النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الصورة.
وبإسناده عن الطناجيرى إلى ابن صالح الأسدى قال سمعت شريكا يقول لأن يكون في كل حي من الاحياء خمار خيرا من أن يكون فيه رجل من أصحاب أبى حنيفة. وبإسناده أيضا عن على بن محمد بن عبد الله المعدل إلى منصور بن أبى مزاحم. قال سمعت شريكا يقول: لو أن في كل ربع من أرباع الكوفة خمارا يبيع الخمر لكان خيرا من أن يكون فيه من يقول بقول أبى حنيفة. أنا لا أشك أن شريكا إن صح عنه هذا القول كان يختار أن يكون الخمارون في الكوفة ولا يكون فيها
مذهب أبى حنيفة وذلك لأن الكوفة حينئذ لم تخل من النصارى واليهود والمجوس ولم يذكرهم ولا أنف منهم، وأظن أنه كان يحب الخمر ويختارها على ما سواها، فأراد أن تكون في رباع الكوفة ليسهل مطلبها ولا يكون فيها مثل أبى حنيفة يبين خطأه ويفقه الناس، وهذا معروف عند الناس أنه من استقضى في بلدة وكان فيها من هو أفقه منه لا يريد مجاورته لأنه كلما أخطأ بين خطأه للناس.
وبإسناده عن ابن الفضل إلى حماد بن زيد يقول. سمعت أيوب- وذكر أبا حنيفة- فقال: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} هذا يدل على قلة فهم الخطيب لأن إتمام نور الله إنما هو بقاء العلم وقد رأينا مذاهب جماعة من أهل الرأى قد ذهبت واضمحلت ومذهب أبى حنيفة باق وكلما قدم يزيد، والناس الآن مطبقون على أن أصحاب السنة والجماعة هو أهل المذاهب الأربعة مثل أبى حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل.
والخطيب لم يكن قريبا من عصر أبى حنيفة ولا معاصرا له بل كان بينهما ثلاثمائة وعشر سنين وقد رأى أن مذهب أيوب تلاشى ومذهب أبى حنيفة باق ومع هذا لم يرجع عنه، بل هو كما
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «حبك الشيء يعمى ويصم»
فمن لم يفهم إلى أن وضع المدح موضع الذم ما كان ينبغي أن يتحدث في مثل هذا. ونحن نقول إن أيوب ما أراد بتلاوة هذه الآية عند ذكر الإمام أبى حنيفة إلا مدح أبى حنيفة والدليل عليه أن كل من تحدث في مذهب أبى حنيفة درس مذهبه حتى لا يعرف، ومذهب أبى حنيفة باق قد ملأ الأرض وأكثر الناس عليه.
وبإسناده عن الحيرى إلى سلام بن أبى مطيع قال كان أيوب قاعدا في المسجد الحرام فرآه أبو حنيفة فأقبل نحوه فلما رآه أيوب قد أقبل نحوه قال لأصحابه: قوموا لا يعرنا بجربه. قوموا فقاموا فتفرقوا. وأى شيء في هذا مما ينقص به أبو حنيفة، فكونهم قاموا وتفرقوا لا يدل على معيبة في كلام أبى حنيفة ولا في رأيه. ولقائل أن يقول ربما أراد بقيامه أن لا يناظره فيقطعه قدام تلامذته، ثم إنه لم يبين الجرب الذي يعرهم به أى شيء هو؟ حتى يجاب عنه. ثم أيضا إن الله تعالى بين إتمام نوره بأن مذهب أيوب قد اضمحل وبقي مذهب أبى حنيفة بحيث لا يعرف اليوم أن أيوب كان صاحب مذهب إلا القليل من الناس.
وبإسناده عن ابن الفضل إلى الأسود بن عامر عن شريك أنه قال: إنما كان أبو
حنيفة جربا. وهذا مما يؤيد ما ذكرنا من أن الخطيب إنما أراد الرد على
النبي صلى الله عليه وسلم لأنه عليه السلام. قال:- «فمن أعدى الأول» . وقال عليه السلام «لا عدوى ولا هامة ولا صفر» .
وبسنده عن ابن رزق إلى سليمان الحلبي أنه قال سمعت الأوزاعى- ما لا أحصره- يقول: عمد أبو حنيفة إلى عرى الإسلام فنقضها عروة عروة.
وروى عن ابن الفضل إلى إبراهيم الفزارى قال كنت عند سفيان الثوري إذ جاءه نعى أبى حنيفة فقال: الحمد لله الذي أراح المسلمين منه، لقد كان ينقض عرى الإسلام عروة عروة، وما ولد في الإسلام مولود أشأم على الإسلام منه.
وروى عن ابن حسنويه إلى ثعلبة قال سمعت سفيان الثوري يقول: ما ولد في الإسلام مولود أشأم على أهل الإسلام منه.
وروى عن أبى نصر إلى محمد بن كثير قال سمعت الأوزاعى يقول: ما ولد مولود في الإسلام أضر على الإسلام من أبى حنيفة.
وروى عن أبى العلاء محمد بن الحسن الوراق إلى الفزاري قال سمعت الأوزاعى وسفيان يقولان: ما ولد في الإسلام مولود أشأم عليهم.
وقال الشافعي هذا هو محمد بن عبد الله صاحب الفوائد- شر عليهم من أبى حنيفة.
وروى عن ابن رزق إلى يحيى بن السكن البصري قال سمعت حمادا يقول: ما ولد في الإسلام مولود أضر عليهم من أبى حنيفة.
وروى عن ابن رزق إلى الحميدي قال سمعت سفيان يقول: ما ولد في الإسلام مولود أضر على الإسلام من أبى حنيفة.
وروى عن الحسين بن أبى بكر إلى عمر بن إسحاق قال سمعت ابن عون يقول:
ما ولد في الإسلام مولود أشأم من أبى حنيفة إن كان لينقض عرى الإسلام عروة عروة.
وبروايته عن محمد بن عمر بن بكير المقري إلى شريك قال سمعت ابن عون يقول:
ما ولد في الإسلام مولود أشأم من أبى حنيفة.
قد سبق الجواب عن هذه الروايات مع أن أبا حنيفة رضي الله عنه كان آدميّا ولم يكن جربا فإن أراد بذلك الاستعارة والتشبيه بأفعاله فكان ينبغي أن يبين الفعل الذي صدر منه فشبهه بالجرب حتى نجيب عنه، ومثل هذه الحكايات لا تكاد تصدر عن الأوزاعى لأنه كان فقيها فلو أراد أن يرد على أبى حنيفة لرد عليه مفصلا لا مجملا كما يرد الفقهاء وبين الخطأ الذي نسبه إليه والعرى التي حلها حتى يكون الجواب عنه على كل فصل، وأما من أجمل أمرا والناس على خلافة فلا اعتداد بقوله. وقد روى عن الأوزاعى في مدح أبى حنيفة ما يدل على رجوعه عن هذا القول في حقه- إن صح هذا عنه- وهو يأتى فيما بعد.
وروى عن ابن الفضل إلى ابن عون أنه قال نبئت أن فيكم صدادين يصدون عن سبيل الله. قال سليمان بن حرب: وأبو حنيفة وأصحابه ممن يصدون عن سبيل الله.
وهذا ليس كما ذكر ابن عون فإن أبا حنيفة رضي الله عنه أملى محمدا رحمه الله كتابي السير. وذكر فيهما من أمور الجهاد ووصايا الأمراء وما ينبغي أن يفعله أهل الثغور وقسمة الغنائم ما لم يسبقه إلى جمعه أحد، ولم يجمع مثله بعده أحد.
فهذا الذي نعرفه فأما إن عنى بسبيل الله الجهاد وأحواله فكان يلزمه البيان ليكون الجواب بحسبه ثم كان ينبغي له أن يبين من نبأه، فإن كان النبي صلى الله عليه وسلم كان محمولا على الرأس والعين، وإن كان عن غير النبي صلى الله عليه وسلم عرف بالقائل لنجيب عنه. وإن كان ابن عون نبى من النبوة بزعمه فقد كفر، وإن كان قال هذا القول من عنده وعزاه إلى من لا يعرف، فبهذا القدر يعرف كذبه، وأنه ليس بأهل لهذا القول وكان يلزم سليمان ابن حرب أن يبين من أين عرف أن أبا حنيفة وأصحابه من الصدادين.
وروى عن الخلال إلى حماد بن زيد قال ذكر أبو حنيفة عند البتى فقال: ذاك رجل أخطأ عظم دينه كيف يكون حاله؟.
وروى عن إبراهيم بن محمد إلى الفريابي قال سمعت سفيان يقول: قيل لسوار لو نظرت في شيء من كلام أبى حنيفة وقضاياه فقال: كيف انظر في كلام رجل لم يؤت الرفق في دينه. قد أخذ بمذهب أبى حنيفة من هو خير من البتى وأجمعت الأمة على أن أبا حنيفة أحد فقهاء الأمصار والبتى لم يعرفه إلا آحاد الناس ولم يكن ممن يصلح لهذا القول.
وروى عن إبراهيم بن مخلد إلى أبى مصعب الأصم قال سئل مالك بن أنس عن قول عمر في العراق بها الداء العضال؟ قال: الهلكة في الدين ومنهم أبو حنيفة. لم يرد عمر رضي الله عنه بالداء العضال الهلكة في الدين كما ذكر مالك، إنما أراد الوباء بدليل قوله لا تسكنوا العراق فإن العرب لا تصلح إلا حيث يصلح البعير.
فاختطوا بأرض العرب. فاختط الناس الكوفة والبصرة فكتبوا إليه وإنا قد اختطينا بأرض كوفة، فسميت الكوفة. وبأرض بصرة فسميت البصرة.
وروى عن جعفر إلى مطرف أنه قال سمعت مالكا يقول الداء العضال الهلاك في الدين وأبو حنيفة من الداء العضال.
وروى عن ابن رزق إلى الوليد بن مسلم قال قال لي مالك بن أنس: أيتكلم برأى أبى حنيفة عندكم؟ قلت: نعم. قال: ما ينبغي لبلدكم أن يسكن.
وروى عن على بن المعدل إلى الوليد بن مسلم قال قال لي مالك بن أنس: أيذكر أبو حنيفة ببلدكم؟ قلت نعم. وقال ما ينبغي لبلدكم أن تسكن.
وروى عن على بن معدل إلى منصور بن مزاحم قال سمعت مالك بن أنس يقول- وذكر أبا حنيفة- فقال: كاد الدين، كاد الدين.
وروى عن ابن رزق إلى منصور بن مزاحم قال سمعت مالك يقول: إن أبا حنيفة كاد الدين ومن كاد الدين فليس له دين.
وروى عن أحمد العتيقى إلى أبى محمد عبد الرحمن بن أبى حاتم الرازي عن أبيه عن بن أبى سريج قال سمعت الشافعي يقول سمعت مالك بن أنس- وقيل له أتعرف أبا حنيفة؟ فقال نعم ما ظنكم برجل لو قال هذه السارية من ذهب لقام دونها حتى يجعلها من ذهب وهي من خشب أو حجارة. قال أبو محمد: يعنى أنه كان يثبت على الخطأ ويحتج دونه ولا يرجع إلى الصواب إذا بان له.
هذا لا يصلح أن يصدر عن مالك، لأن مالكا رضي الله عنه كان يثنى على أبى حنيفة وهو ما رواه الخطيب. قال: أنبأنا البرقاني أنبأنا أبو العباس بن حمدان لفظا حدثنا محمد بن أيوب حدثنا أحمد بن الصباح قال سمعت الشافعي محمد بن إدريس قال قيل لمالك بن أنس: هل رأيت أبا حنيفة؟ قال نعم رأيت رجلا لو كلمك في هذه السارية أن يجعلها ذهبا لقام بحجته. وأما قول أبى محمد إن مالكا عنى أنه كان
يثبت على الخطإ ويحتج دونه ولا يرجع إلى الصواب إذا بان له فمن أين لأبى محمد هذا؟ وهذا القول من مالك في حق أبى حنيفة أقرب إلى المدح منه إلى الذم وأظهر.
ثم إن القائلين بمذهب مالك من عهد مالك إلى وقتنا هذا- وهي سنة إحدى وعشرين وستمائة- لا يقدرون على إثبات خطإ لأبى حنيفة، فكيف يسوغ لفقيه أن يتكلم في أمر فقيه ولا يقوم بما قال ومسائل الخلاف أشهر من أن أبينها لك وليس المراد من كتابنا هذا الإكثار وإنما مرادنا الاختصار.
وروى عن حمزة إلى أبى بلال الأشعريّ قال سمعت أبا يوسف القاضي يقول: كنا عند هارون أنا وشريك وإبراهيم بن أبى يحيى وحفص بن غياث، قال فسأل هارون عن مسألة فقال إبراهيم بن أبى يحيى حدثنا صالح عن أبى هريرة. قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال شريك حدثنا أبو إسحاق عن عمرو بن ميمون قال: قال عمر بن الخطاب.
وقال حفص حدثنا الأعمش عن إبراهيم عن علقمة قال: قال عبد الله قال: وقال لي أنا: ما تقول أنت قال: قلت قال أبو حنيفة. قال فقال خاك يس.
قلت: تفسيره تراب على رأسك. هذا القول إنما أراد به الخطيب التشنيع على أحسن وجهيه أما الوجه الآخر فهو الصحيح لأن الخطيب إنما أراد التشنيع وما علم ما ينقل، لأن الأمة قد أجمعت أن أئمة الأمصار هم اليوم الأربعة فمتى جاء عن أحدهم كلام لا يشك أحد أنه منقول من الكتاب والسنة، أو مقيس عليهما أو على أحدهما، ولا شك أن الخبر الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يكمل العمل به اليوم، لأنا لا نعلم أحوال الرواة. ثم إن المحدثين يأخذون الآثار عمن سمع وهو طفل صغير لم يقف على ما يرويه ولا يعلم كيف سمعه. أو يكون رجلا سمع الحديث ثم لم يقرأه ولم يدر ما هو حتى يرويه. وقد أجمعت الأمة على أنه لا يجوز أخذ الأحكام إلا ممن سمعها ووعاها وأداها كما سمعها، كما قال عليه الصلاة والسلام:«رحم الله امرأ سمع مقالتي فوعاها وأداها كما سمعها» وإذا سمع أحد الخبر على هذا الوجه لا يحل له العمل به حتى يعلم أنا سخا هو أو منسوخا، أم ثم حديث آخر يجب على الفقيه أن يجمع بينهما مثل قوله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن مس الفرج- فقال:«من مس فرجه فليتوضأ» . ثم روى عنه صلى الله عليه وسلم أنه سئل فقال: «هل هو إلا بضعة منك» فورد عنه صلى الله عليه وسلم هذان الوجهان، فإذا أردنا الجمع بينهما قلنا إن أصل الوضوء من الوضاءة وهي
النظافة، والوضوء الشرعي هو غسل أعضاء معينة، فلما ورد الأمران احتجنا إلى أن نعرف تأويل الخبر فقلنا لما أمر بالوضوء تارة وبتركه أخرى قلنا إن أمره بالوضوء محمول على قوله صلى الله عليه وسلم:«فتوضئوا مما مسته النار فتوضئوا ولو من تور أقط» وهذا للنظافة. وقد أجمعنا على أنه لا يجب من هذا إلا النظافة وحملنا قوله هل هو إلا بضعة منك على الوجوب فلم يوجب وضوءا.
واعلم أيدك الله أن الخلاف نشأ بين الأئمة من ثمانية أوجه؛ وهي الناسخ والمنسوخ، والمحكم والمتشابه، والحقيقة والمجاز، والأفراد والتركيب، والاجتهاد فيما لا نص فيه إلى ما فيه نص، واشتراك الألفاظ مع اختلاف المعنى واختلاف الألفاظ مع اشتراك المعنى، والتأويل، والنقلة والرواة.
فأما النقلة والرواة فقد انقطع أمرهم عنا لأنا لا نعرفهم إلا بالنقل، ولعل الناقل لا يعرف حاله على الوجه أيضا. فمن لا يعرف هذا كله لا يحل لهالكلام إلا فيما ينقله عن الأئمة لأن الله تعالى يقول {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} فبين أن بعضنا إذا قام بالعلم جاز لنا أن نأخذ عنه أمر ديننا. وأجمع أهل عصر أبى حنيفة على أنه لم يكن مثله في علم التأويل، والفقهاء إلى يومنا هذا مسلمون أن القياس مع أبى حنيفة وقد أجمعنا أن الأئمة لم يأخذوا إلا من كتاب الله وسنة رسوله، فإذا قد سلموا الفقه لأبى حنيفة وسلموا أنه مشاركهم في الكتاب والسنة فوجب على العامة الأخذ بقول أبى حنيفة دون غيره.
هذا إذ لو كان الخطيب لما ذكر الإسناد بين الخبر الذي أسنده وما المسألة التي سألها هارون وطعن الخطيب هذا ليس على أبى حنيفة وحده لأن الأئمة الأربعة على مذهب واحد في أنهم إذا سألوا عن مسألة لم يرووها عن النبي صلى الله عليه وسلم ولكنهم يذكرون المسألة ويعلم السامع أنهم لم يأخذوها إلا من الكتاب والسنة. وكأن الخطيب أراد التشنيع في الظاهر على أبى حنيفة ومراده الجميع.
وروى عن القاضي أبى بكر الحرشي إلى عفان قال سمعت أبا عوانة يقول:
اختلفت إلى أبى حنيفة حتى مهرت في كلامه ثم خرجت حاجا فلما قدمت أتيت مجلسه فجعل أصحابه يسألونى عن مسائل كنت عرفتها وخالفوني فيها، فقلت سمعت من أبى حنيفة على ما قلت، فلما خرج سألته عنها فإذا هو قد رجع عنها
فقال: رأيت هذا أحسن منه. فقلت كل دين يتحول عنه فلا حاجة لي فيه ونقضت ثيابي ثم لم أعد إليه.
هذا أبو عوانة لم يعرف من الفقهاء فقد ثبت أن قوله مهرت في كلامه ليس بصحيح وإنما مهر في كلام أبى حنيفة أبو يوسف ومحمد بن الحسن وبشر بن غياث وابن أبى ليلى وابن شبرمة وزفر وغيرهم ممن هو في طبقاتهم. ثم قوله فلا حاجة لي فيه. خلاف إجماع الأمة، لأنا نعلم يقينا أن القرآن العزيز فيه الناسخ والمنسوخ، كذلك السنة فإذا قال الفقيه قولا ثم علم أنه منسوخ كيف يحل له الوقوف عنده؟
وهذا لم يفعله أبو حنيفة وحده، وقد فعله جميع الفقهاء من الصحابة والتابعين وغيرهم. ومذهب على رضي الله عنه أنه. قال: كنت لا أرى بيع أم الولد في زمن عمر، واليوم فقد رأيت ذلك. فهذا أيضا رجوع عن مذهب وتمسك بآخر. وابن عباس قد نقل عنه كذلك أيضا في مسألة العول، أنه. قال: ما كان المال إن يكون له نصف ونصف وثلث. فقالوا له: إنك كنت تراها في زمن عمر. فقال هبته وكان رجلا مهيبا.
فانظر إلى الخطيب كيف يروى الشيء وضده ويجعله عيبا والشيء وضده لا يكونان عيبا، لأنه قال في الحكاية التي ذكر فيها أبا حنيفة: وإن مالكا قال ما ظنكم برجل لو قال هذه السارية من ذهب لقام بحجته، أى لجعلها من ذهب وهي من خشب أو حجارة. ثم قال قال أبو محمد- يعنى أنه كان يثبت على الخطإ ويحتج دونه ولا يرجع إلى الصواب إذا بان له- ففي هذه الحكاية أخبر أنه لا يرجع وجعله عيبا، وفي هذه أخبر إنه يرجع وجعله عيبا، فهذا أيدك الله يعلم منه أنه انما أراد التشنيع ولم يرد التثبيت ولم يكن له من المعرفة ما يفرق به بين الجيد والرديء، ولا من العلم ما يعرف به الخطأ من الصواب.
وروى عن أحمد بن الحسن بن إلى النضر بن محمد قال: كنا نختلف إلى أبى حنيفة وشامي معنا فلما أراد الخروج جاء ليودعه فقال: يا شامي تحمل هذا الكلام معك إلى الشام. قال نعم قال تحمل شرا كثيرا.
هذا الخطيب لا يستحى فيما يذكر كيف يقول الرجل مذمة نفسه، وإن كان قاله فإنما قاله على وجه التواضع، لأن الرجل قد يقول للآخر أنت خير الناس فيقول أنا أقل الناس، وهذا الذي عليه الناس فما يقول أنا خير الناس، ولو قال ذلك لعاب
الناس عقله. ثم قوله تحمل شرّا كثيرا إن كان أراد ما قلت فهو كذلك وإن أراد أنه فقه كلام كثير وجدل كثير فهذا عليه جميع الفقهاء. وكل فقه لا يكون كذلك فليس بشيء. والخطيب فلكونه لم يكن من الفقهاء ولا عرف الفقه ظن أنه يعيب أبا حنيفة بهذا.
وروى عن ابن الفضل إلى مزاحم بن زفر قال قلت لأبى حنيفة: يا أبا حنيفة هذا الذي تفنى والذي وضعت في كتابك هو الحق الذي لا شك فيه؟ فقال: والله ما أدرى لعله الباطل الذي لا شك فيه. فهذا كما ذكر والمجتهد لا يعلم يقينا أنه على الحق ولو علم ذلك يقينا لتنزل منزلة النبي صلى الله عليه وسلم وهذا عليه إجماع الأمة أن المجتهد يخطئ ويصيب وإلى هذا
أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب كان له أجران، وإذا اجتهد وأخطأ كان له أجر»
فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم بين هذا وإجماع الأمة عليه فمن جعله خطأ وعيبا، أتراه يكون مخطئا للفرع أو للأصل؟ وقد بينت لك من قبلأنه لم يكن غرض الخطيب إلا التشنيع والطعن على النبي صلى الله عليه وسلم وإنما جعل أبا حنيفة ذريعة إلى ذلك. ولو كان أبو حنيفة قال هو الحق الذي لا شك فيه لكان مخطئا لا محالة فانظر إلى من لا يعرف الصواب من الخطأ ويعيب الأئمة.
وروى عن على بن القاسم عن أبى نعيم قال سمعت زفر يقول: كنا نختلف إلى أبى حنيفة ومعنا أبو يوسف ومحمد بن الحسن فكنا نكتب عنه، قال زفر فقال يوما أبو حنيفة لأبى يوسف: ويحك يا يعقوب لا تكتب كل ما تسمعه منى فإنى قد أرى الرأى اليوم فاتركه غدا، وأرى الرأى غدا وأتركه بعد غد. هذا قد تقدم الجواب عنه. وسيأتي في الخبر الذي بعده جواب أيضا.
وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «لا تكتبوا عنى شيئا سوى القرآن: من كتب عنى شيئا فليمحه» .
وروى عن الخلال إلى حماد بن أبى عمر قال قال أبو نعيم سمعت أبا حنيفة يقول لأبى يوسف: لا ترو عنى شيئا فانى والله ما أدرى أمخطئ أنا أم مصيب. هذا لم ينقل عن أبى حنيفة لكن نقل عنه ما هو قريب من هذا، وذلك أنه كان إذا بلغ أحد أصحابه رتبة الاجتهاد قال له: لا يحل لك بعد أن تأخذ عنى. فهذا يدل على دينه ووفور عقله وهذا لم يفعله أحد من العلماء قبل أبى حنيفة ولا بعده، والعلة في هذا أن المجتهد كما بيننا يخطئ ويصيب، والواجب على كل مسلم أن يجتهد فإن قدر على الاجتهاد مثل الفقهاء كان، وإن لم يقدر اجتهد فيمن يأخذ عنه. وهذا عليه إجماع
الأمة فكان أبو حنيفة يقرئ الناس الفقه فإذا بلغ أحدهم رتبة الاجتهاد قال له هذا القول. أفترى ذلك عيبا على من فعله؟ أو على من اعتقد أن هذا ذم؟ وما قلت عن الخطيب فهو أحسن الوجهين له، لأنه إن كان يعرف هذا وقال هذا، إنما كان قصده الطعن على الأئمة جميعهم، لأن هذه مسألة إجماع. ألا تراه قال لأبى يوسف ولم يقل لغيره، وذلك لعلمه بأبى يوسف وهذا دال على ما قلت ولو كان كما قال الخطيب لقال لهم جميعا ولم يقرئ أحدا مذهبه.
وروى عن ابن رزق إلى عمر بن حفص بن غياث عن أبيه قال كنت أجلس إلى أبى حنيفة فأسمعه يسأل عن مسألة في اليوم الواحد فيفتى فيها بخمسة أقاويل، فلما رأيت ذلك تركته وأقبلت على الحديث. هذا هو الفقه لأنه يوجه جميع الوجوه حتى يترجح عنده الحق فيتبعه. وقد روى عن أبى حنيفة أنه كان يتحدث في المسائل إلى أن سأله محمد بن الحسن فقال: ما تقول يا شيخ في رجل قال لامرأته إن كلمتك فأنت طالق إن كلمتك فأنت طالق إن كلمتك فأنت طالق. فقال ثم ماذا؟ فقال محمد انظر حينا. فأطرق أبو حنيفة رأسه ثم رفعه. فقال: طلقت ثنتان. فقال أحسنت.
فقال ما أدرى أى قوليه أوجع. انظر حينا أو أحسنت. قال فما كان أبو حنيفة بعد ذلك إذا سئل مسألة يرفع رأسه حتى يأتى بالجواب. وفقهه معروف لا أحتاج أن أذكره فمن أراد أن يعرفه فليقف عليه وليتصفحه، فقد روى أن عالما يهوديا كان بالبصرة فطلب الجامع الكبير، فلما وقف عليه. قال: من بحث عن دينه مثل هذا ودقق مثل هذه المسائل ثم لم يدعها لنفسه وإنما نسبها إلى نبى أشهد أنه على الحق.
فأسلم وهذا يعد من بركات محمد بن الحسن رحمه الله لما صنفه، ومسائله معروفة فإن من أراد أن يقرأه ويفهمه يحتاج أن يكون عالما بارعا بستة علوم؛ أولها الكتاب العزيز، والآثار، والفقه، والنحو، واللغة، والحساب. ومن لم يكن مجيدا بهذه العلوم لم يعرفه إلا تقليدا.
وروى عن الحسن بن أبى طالب إلى ابن المقري عن أبيه قال سمعت أبا حنيفة يقول: ما رأيت أفضل من عطاء، وعامة ما أحدثكم به خطأ هذا لا يثبت مثله عن أحد أن يقول أكثر ما أقوله خطأ، فإن قال أحد من العلماء مثل هذا إنما يريد به التواضع وهذا الأحسن بالعالم لا سيما في الاجتهاديات فإن العلماء لمجمعون على أن المجتهد ليس على الخطإ بيقين، ولا على الصواب بيقين ولهذا سميت الاجتهاديات وقد
تقدم الجواب أيضا.
وروى عن ابن رزق إلى وكيع عن أبى حنيفة أنه سمع عطاء- إن كان سمعه. هذا كلام لا يجاب عنه، لأننى لم أفهم قوله سمع عطاء إن كان سمعه. وإن قصد ثلب أبى حنيفة في أنه يدعى أنه سمع من تابعي ولم يكن سمع منه، فأبو حنيفة أدرك جماعة من الصحابة وعاصرهم، ومولده يقتضى ذلك فإنه ولد سنة ثمانين وعاش إلى سنة خمسين ومائة، فقد أمكن اللقاء لوجود جماعة من الصحابة في ذلك العصر.
وقد جمع روايته في جزء أبو معشر عبد الكريم بن عبد الصمد الطبري المقرئ وهذا الجزء سمعناه وروينا الأحاديث التي فيه عن سبعة، أخبرنا به الشيخ الفقيه ضياء الدين أبو الخطاب عمر بن أيلمك بن الأردغانسى الحنفي قراءة عليه بظاهر البيت المقدس بقراءة الخطيب بالمسجد الأقصى يومئذ في يوم الأحد الثاني والعشرين من شهر ربيع الأول سنة ثلاث وستمائة. قال أنبأنا القاضي نجم الدين أبو البركات محمد بن على بن محمدالأنصارىّ البخاري- قراءة عليه بمدينة أسيوط من أصل سماعه في جمادى الأولى سنة إحدى وثمانين وخمس مائة-. قال أنبأنا القاضي الإمام أبو الحسن مسعود ابن الحسن اليزدي. قال أنبأنا الشيخ الإمام أبو معشر عبد الكريم بن عبد الصمد المقرئ الطبري قال: هذا ما روى الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت بن زوطى بن يحيى ابن زيد بن ثابت الأنصارىّ التيمي- تيم الله- بن ثعلبة رحمه الله تعالى. وتوفى ببغداد سنة خمسين ومائة عن الصحابة رضي الله عنهم أعنى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر أنس بن مالك وعبد الله بن جزء وواثلة بن الأسقع وجابر ابن عبد الله وعبد الله بن أنيس وعبد الله بن أبى أوفى وعائشة بنت عجرد وروى عن كل واحد منهم حديثا مسندا إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وأما لقيه للتابعين وسماعه منهم فقد قال ابن حاتم في كتابه في حرف النون. النعمان بن ثابت أبو حنيفة روى عن عطاء ونافع وأبى جعفر محمد بن على وقتادة وسماك بن حرب وحماد بن أبى سليمان. روى عنه هشيم وعباد بن العوام، وابن المبارك، ووكيع وعبد الرزاق وأبو نعيم. فقد اندفع بهذا إنكار الخطيب. وقوله عن أبى حنيفة أنه سمع عطاء إن كان سمعه، فقد أثبت ابن حاتم روايته عن عطاء وجماعة من التابعين.
وروى عن البرقاني إلى أبى محمد عبد الله بن أبى القاضي قال سمعت محمد بن حماد يقول: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقلت يا رسول الله ما تقول في النظر في كلام
أبى حنيفة وأصحابه انظر فيها وأعمل عليها؟ قال لا. لا. لا ثلاث مرات، قلت فما تقول في النظر في حديثك وحديث أصحابك انظر فيها وأعمل عليها؟ قال نعم نعم نعم ثلاث مرات. ثم قلت يا رسول الله علمني دعاء أدعو به، فعلمني دعاء وقال لي ثلاث مرات فلما استيقظت أنسيته. فمن رأى النبي عليه السلام وسأله عن أى شيء يعمل بواسطة؟ وأما حديث النبي عليه السلام وأصحابه فلا يرده أحد من علمائنا، إنما الاختلاف في تفسيره وبيانه وصحة روايته، ثم كيف أنسى الدعاء وحفظ شيئا يتهم في الصدق فيه.
وروى عن محمد بن عبد الله الخنائى إلى عبيد الله بن المبارك قال: من نظر في كتاب الحيل لأبى حنيفة أحل ما حرم الله وحرم ما أحل الله.
وروى عن محمد بن على المقري إلى النضر بن شميل يقول في كتاب الحيل كذا وكذا مسألة كلها كفر.
وحدث عن الأزهرى إلى عبد الله بن المبارك يقول من كان عنده كتاب حيل أبى حنيفة يستعمله أو يفي به فقد بطل حجه وبانت منه امرأته. فقال مولى ابن المبارك: يا أبا عبد الرحمن ما أرى وضع كتاب الحيل إلا شيطان. فقال ابن المبارك الذي وضع كتاب الحيل أشر من الشيطان.
وروى عن إبراهيم بن عمر البرمكي إلى أبى إسحاق قال سمعت ابن المبارك يقول: من كان كتاب الحيل في بيته يفتي به أو يعمل بما فيه فهو كافر بانت امرأته وبطل حجه. فقيل له: إن في هذا الكتاب إذا أرادت المرأة أن تختلع من زوجها ارتدت عن الإسلام حتى تبين ثم تراجع الإسلام! فقال عبد الله: من وضع هذا فهو كافر بانت منه امرأته وبطل حجه. فقال له خاقان المؤذن: ما وضعه إلا إبليس. فقال الذي وضعه عندي أبلس من إبليس.
نحن لا نحيل الجواب عن هذا على معدوم، الكتاب حاضر فمن أراد أن يستبين فليفعل؟ وأما قوله عن المرأة فقد أجمع المسلمون على أن الردة تفسخ النكاح وأما عند أبى حنيفة فإنها إذا ارتدت عن الإسلام إلى دين أهل الكتاب إن لحقت بدار الحرب انفسخ نكاحها عند حلولها بدار الحرب، وإن أقامت بدار الإسلام لم ينفسخ نكاحها إلا بعد انقضاء العدة وهي على الردة، وإن ارتدت إلى الشرك انفسخ نكاحها في
الحال. وهذه ليست بمسألة اجتهاد بل هي مأخوذة عن النص بقوله تعالى. {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} ولا فرق بين بقاء النكاح وبين إنشائه. وقال تعالى {وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا} ولهذا قلنا إنها لا تبين حتى تعتد أو تلحق بدار الحرب، فإنها إذا لحقت بدار الحرب زال عنها حكم الإسلام وجرى عليها حكم الكفر وحصلت بالبينونة فليس طعنه على أبى حنيفة وحده.
وروى عن زكريا إلى الحسين بن عبد المبارك النيسابوري قال: أشهد على عبد الله يعنى ابن المبارك شهادة يسألنى عنها أنه قال لي: يا حسين قد تركت كل شيء رويته عن أبى حنيفة فاستغفر الله وأتوب إليه. هذا التارك لكل ما رواه عن أبى حنيفة مع أن أبا حنيفة أحد المجتهدين على وجهين، ان أراد بالترك ترك الرواية فمنه إلى ربه، وإن أراد بالترك ترك المروي، فلا يخلو هل تركه باجتهاد أظهر له أن الصحيح في خلافة فله حكم بقية المجتهدين، وإن تركه عن غير اجتهاد فقد ترك الإسلام. والمنقول عن ابن المبارك أنه لم يزل على مذهب أبى حنيفة إلى أن قبضة الله. وهذا يدل على خلاف ما نقل عنه الخطيب.
وقال زكريا: سمعت عبدان وعلى بن شقيق كليهما يقولان.
وقال ابن المبارك كنت إذا أتيت مجلس سفيان فشئت أن تسمع كتاب الله سمعته وإن شئت أن تسمع آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعتها وإن شئت أن تسمع كلاما في الزهد سمعته. وأما مجلس لا أذكر أنى سمعت فيه قط صلّى على رسول الله صلى الله عليه وسلم فمجلس أبى حنيفة.
وروى عن الخلال إلى أبى داود سليمان بن الأشعث السجستاني قال ابن المبارك: ما مجلس ما رأيت ذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم قط ولا يصلى إلا مجلس أبى حنيفة. وما كنا نأتيه إلا خفية من سفيان الثوري.
وروى عن أبى نصر أحمد بن الحسين القاضي بالدينور إلى هارون بن إسحاق.
قال سمعت محمد بن عبد الوهاب القناد يقول: حضرت مجلس أبى حنيفة فرأيت مجلس لغو لا وقار فيه وحضرت مجلس سفيان الثوري فكان الوقار والعلم والسكينة فيه فلزمته.
وروى عن أبى بكر محمد بن عبد الله أبان التغلبي الهيتى إلى يوسف الفريابي يقول: كان سفيان ينهى عن النظر في رأى أبى حنيفة. قال: وسمعت محمد بن يوسف وسئل هل روى سفيان الثوري عن أبى حنيفة شيئا؟ فقال: معاذ الله سمعت سفيان الثوري يقول: ربما استقبلني أبو حنيفة يسألنى عن مسألة فأجيبه وأنا كاره وما سألته عن شيء قط.
وروى عن القاضي أبى بكر محمد بن عمر الداودي إلى محمد بن عبيد الطنافسي يقول سمعت سفيان- وذكر عنده أبو حنيفة- فقال: يتعسف الأمور بغير علم ولا سنة.
وحدث عن ابن رزق إلى ابن الجراح قال سمعت أبى يقول: ذكروا أبا حنيفة في مجلس سفيان فكان يقول عوذا بالله من شر النبطي إذا استعرب. أبو حنيفة رحمه الله لم يكن نبطيا وإنما اختلف الناس في أنه هل كان مولى لبنى زياد أو فارسيا؟ وقد
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لو أن العلم مناط بالثريا لنالته رجال من أبناء فارس» .
ولا شك في أن قول النبي صلى الله عليه وسلم أرجح من قول ابن الجراح.
وروى عن ابن رزق إلى الفريابي قال سمعت الثوري ينهى عن مجالسة أبى حنيفة وأصحاب الرأى. هذا سفيان رحمه الله قد روى الخطيب عن جماعة عنه ذم أبى حنيفة والتحذير عنه، وهذا الخبر الأخير يتضمن أنه نهى عن مجالسة أصحاب الرأى جملة، فهذا يدخل فيه مالك أيضا والشافعي وأحمد بن حنبل. ولما قرّض ابن المبارك سفيان قال إذا أتيت مجلس سفيان، إن شئت أن تسمع كتاب الله سمعته، وإن شئت أن تسمع آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعتها، وإن تسمع كلاما في الزهد سمعته، ولم يذكر له فقها.
فهذا يدل على أنه لم يكن فقيها وإذا لم يكن فقيها لم يدخل في قوله تعالى {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ} ومن لم يخش الله قال ما شاء. وقوله ليس بحجة لأنه ليس من الفقهاء وإنما يطعن في كل صنف من كان منه. فإنّ شاعرا إذا طعن في محدث لا يلتفت إلى قوله، وكذلك إن طعن محدث في فقيه وإنما يكون قوله حجة إذا كان يعرف ذلك العلم، هذا إذا عرف أن سفيان لم يكن له غرض أو حيث عرف غرضه بأن طعن على جميع أصحاب الرأى فقوله متروك بالإجماع وسيأتي ما ذكر عن سفيان وغيره بعد أن شاء الله تعالى.
وروى عن الأبار إلى عبد الله بن عبد الرحمن سئل قيس بن عن أبى حنيفة فقال.
من أجهل الناس بما كان، وأعلمهم بما لم يكن.
وروى عن البرمكي إلى حجاج قال سألت قيس بن الربيع عن أبى حنيفة فقال:
أنا من أعلم الناس به كان أعلم الناس بما لم يكن وأجهلهم بما كان. هذا قد روى عن قيس بن الربيع من وجهين أن أبا حنيفة كان من أجهل الناس بما وأعلمهم بما لم يكن، هذا قد رد قول الله تعالى {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} قال فقد جعل أبا حنيفة يعلم ما لم يأت وجهله بما أتى وهذا رجل من الجاهلية يقول:
وأعلم ما في اليوم والأمس قبله
…
ولكني عن علم ما في غد عم
وسمع النبي صلى الله عليه وسلم قوله فاستحسنه ولم يخطئه. فانظر رحمك الله لي رجل يريد أن يثلب أبا حنيفة فيدعى له علم الغيب ولا علم له بما قال. ثم إن الخطيب إما أن نقل مثل هذا ولم يعلم ما نقل أو لم يستح أن ينقل مثل هذا.
وروى عن البرقاني قال: قال ابن إدريس: إنّي لأشتهى من الدنيا أن يخرج من الكوفة. قول أبى حنيفة، وشرب المسكر، وقراءة حمزة هذا قد بلغه الله أمنيته، فقد خرج من الكوفة قول أبى حنيفة وقراءة حمزة ولكنهما انتشرا في الأرض واستحسنهما الناس واشتغلوا بهما، وما ضره قوله. واعلم أن جميع أصحاب أبى حنيفة ومن قرأ بقراءة حمزة إلى يومك هذا منهم من هو أعلم وأورع من هذا المتمنى وأتقى لله.
وروى عن زكريا قال سمعت محمد بن الوليد البسرى قال: كنت قد تحفظت قول أبى حنيفة، فبينما أنا يوما عند أبى عاصم فدرست عليه شيئا من مسائل أبى حنيفة فقال ما أحسن حفظك ولكن ما دعاك إلى أن تحفظ شيئا تحتاج أن تتوب إلى الله منه؟ أتراه يريد من العلم بكتاب الله وسنة رسوله وأتباع الصحابة، وإذا تاب عن هذا فبأى شيء كان يريده يتعلق أم تراه لم يقف على الجامع الكبير وحده حتى يعلمه ما يتوب عنه. وأنا ذاكرا لك مسألة من مسائله لتعلم ما يطرد عليه.
قال أبو حنيفة: إذا قال الرجل لامرأته إن دخلت الدار فأنت طالق وطالق وطالق إن كلمت زيدا. فدخلت الدار، وقع عليها تطليقتان، وإن كلمت زيدا وقع عليها
تطليقة. قال الله عز وجل: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ} فقد جمع الناس على أن الختم للقلوب، والأسماع، والغشاوة للبصر. فأبو حنيفة استخرج من هذه الآية هذه المسألة فجعل قوله إن دخلت الدار فأنت طالق وطالق، ثم ابتدأ وطالق إن كلمت زيدا. فجاء بها على نسق الآية. فانظر كم وقف على هذه الآية من إنسان ولم يستخرج منها شيئا. وقد بينت في أول كتابي من جنس هذه المسألة ما يستدل به على أن من تاب عن مثل هذا كفر.
وروى عن ابن رزق إلى مصعب بن خارج بن مصعب قال سمعت حمادا يقول- في مسجد الجامع- وما علم أبى حنيفة؟ علمه أحدث من خضاب لحيتي هذه.
وروى عن أبى بكر أحمد بن على بن عبد الله الزجاجي إلى سفيان بن سعيد وشريك والحسن بن صالح قالوا: أدركنا أبا حنيفة وما يعرف بشيء من الفقه، ما نعرفه إلا بالخصومات. لا يشك أحد أن كل إنسان محدث وفي حال صغره لا يوصف بالعلم، ومعرفته بالعلم محدثة ولا يكون العلم قديما إلا لله تعالى وحده. وأنه لم يؤت العلم وهو صبي سوى يحيى. ومع هذا أفعلمه كان محدثا، ومن ادعى العلم القديم فقد كفر. فهذا شكر أبا حنيفة وهو يظن أنه يثلبه.
وروى عن الحسن بن أبى طالب إلى المزني قال: سمعت الشافعي يقول: ناظر أبو حنيفة رجلا فكان يرفع صوته في مناظرته إياه، فوقف عليه رجل فقال الرجل لأبى حنيفة: أخطأت. فقال أبو حنيفة للرجل تعرف المسألة ما هي؟ قال لا، قال فكيف تعرف أنى أخطأت؟ قال أعرفك إذا كان لك الحجة ترفق بصاحبك، وإذا كانت عليك تشغب وتجلب.
إذا كان الغائب لا يعرف المسألة فقوله وتركه سواء لأنه معترف بالجهل، وأجهل منه من يعتقد أن هذا مما يطعن به على الأئمة.
وروى عن البرقاني إلى أبى العباس السراج قال سمعت أبا قدامة يقول سمعت سلمة ابن سليمان قال: قال رجل لابن المبارك: كان أبو حنيفة مجتهدا؟ قال: ما كان بخليق لذاك، كان يصبح نشيطا في الخوض إلى الظهر، ومن الظهر إلى العصر، ومن العصر إلى المغرب، ومن المغرب إلى العشاء فمتى كان مجتهدا؟ قال وسمعت أبا قدامة يقول سمعت سلمة بن سليمان يقول قال رجل لابن المبارك: أكان أبو حنيفة عالما؟
قال لا، ما كان بخليق لذاك، ترك عطاء وأقبل على أبى العطوف.
هذا لا يجاب عن مثله، لأنه قال من عنده شيئا خالفه الناس كلهم. لأن الناس رجلان، إما صاحب لأبى حنيفة وإما مخالف له، فأما أصحابه فلا يشك أحد أنهم يكذبون من قال هذا، وأما مخالفوه فهم أصحاب مالك والشافعي. فأما مالك فقد.
قال: رأيت رجلا لو أراد أن يقيم الدليل على أن هذه السارية من ذهب لأقامه.
والشافعي يقول: الناس عيال في الفقه على أبى حنيفة. وقد ذكرت عن الخطيب أنه قال في تاريخه: إن ابن المبارك لم يزل على مذهب أبى حنيفة إلى أن مات. فكيف يقول إنسان مثل هذا ويعمل بقوله؟.
وروى عن الأزهرى إلى إبراهيم بن راشد الآدمي قال سمعت أبا ربيعة محمد بن عوف يقول سمعت حماد بن سلمة يكنى أبا حنيفة أبا جيفة.
وروى عن ابن رزق إلى حنبل بن إسحاق قال سمعت الحميدي يقول لأبى حنيفة- إذا كناه- أبو جيفة، لا يكنى عن ذاك، ويطهره في المسجد الحرام في حلقته والناس حوله.
أما هذا القول فيريد مثله أن يجيبه، لأن مثل هذا لا يذكره إلا من لا خلاق له.
قال الله تعالى {وَلَا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ} فمن خالف القرآن فقد كفر، وهذا قد خالف القرآن أفترى قوله يصير حجة؟ فلو أن الخطيب يريد الإنصاف لكان يجعل الذم لحماد بن سلمة والحميدي لأنهما خالفا الكتاب العزيز وعملا بضد ما جاء فيه.
وروى عن العتيقى إلى زكريا بن يحيى الحلواني قال: سمعت محمد بن بشار العبدى بندارا يقول: قلما كان عبد الرحمن بن مهدى يذكر أبا حنيفة إلا قال: كان بينه وبين الحق حجاب.
وروى عن ابن الفضل إلى يعقوب عن محمد بن بشار قال سمعت عبد الرحمن بن مهدى يقول: بين أبى حنيفة وبين الحق حجاب.
وروى عن البرقائى إلى محمد بن على الحافظ قال قيل لبندار- وأنا أسمع- أسمعت عبد الرحمن بن مهدى يقول كان بين أبى حنيفة وبين الحق حجاب؟ فقال:
نعم قد قاله لي. قال الله تعالى: {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ} وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لتختصمون إلى ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض
فأقضي له بنحو ما أسمع، فمن قضيت له بشيء من ذلك فإنما أقطع له قطعة من النار»
فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلم الغيب، فكيف عرف عبد الرحمن بن مهدى أن بين أبى حنيفة وبين الحق حجابا؟.
وروى عن ابن رزق إلى الوليد بن عتبة قال سمعت مؤمل بن إسماعيل. قال: قال عمر بن قيس: من أراد الحق فليأت الكوفة فلينظر ما قال أبو حنيفة وأصحابه فليخالفهم.
وروى عن بشرى بن عبد الله الرومي إلى أبى الجواب قال: قال لي عمار بن زريق: خالف أبا حنيفة فإنك تصيب. وقال بشرى: فإنك إذا خالفته أصبت. وروى عن ابن الفضل إلى عمار بن زريق قال إذا سألت عن شيء فلم يكن عندك شيء فانظر ما قال أبو حنيفة فخالفه فإنك تصيب.
وروى عن البرقاني إلى الحسين بن إدريس قال: قال ابن عمار: إذا شككت في شيء نظرت إلى ما قال أبو حنيفة فخالفته كان هو الحق- أو قال البركة- في خلافه.
قال حنيفة مخالفته كان هو الحق- أو قال البركة- في خلافه.
قال أبو حنيفة وأصحابه: إن الله تعالى واحد أحد لا شريك له ولا شيء يشبهه قديم بلا ابتداء، دائم بلا انتهاء، لا يفنى ولا يبيد، ولا يكون إلا ما يريد. وإن النبي صلى الله عليه وسلم حق، والساعة حق، وإن القرآن كلام الله منه بدأ وإليه يعود بلا كيفية شبها، وإن الجنة والنار مخلوقتان لا يفنيان أبدا، وإن الله يبعث من في القبور. أفترى من خالفهم في هذا يكون حاله؟.
وروى عن عبد الله بن يحيى السكرى إلى سفيان بن عيينة قال: قال مساور الوراق:
إذا ما أهل رأى حاورونا
…
بآبدة من الفتوى طريفه
أتيناهم بمقياس صحيح
…
صليب من طراز أبى حنيفة
إذا سمع الفقيه بها وعاها
…
وأثبتها بحبر في صحيفة
فأجابه بعضهم يقول:
إذا ذو الرأى خاصم عن قياس
…
وجاء ببدعة هنة سخيفة
أتيناه بقول الله فيها
…
وآيات محبرة شريفه
فكم من فرج محصنة عفيف
…
أحل حرامها بأبى حنيفة
فكان أبو حنيفة إذا رأى مساور الوراق أوسع له وقال هاهنا، هاهنا.
وروى عن ابن رزق إلى أبى صالح هدبة بن عبد الوهاب المروزي قال: قدم علينا شقيق البلخي فجعل يصرى أبا حنيفة، فقيل له لا تطر أبا حنيفة بمرو فإنهم لا يحتملونك. قال شقيق أليس قد قال مساور الوراق:
إذا ما الناس يوما قايسونا
…
بآبدة من الفتوى طريفه
أتيناهم بمقياس تليد
…
طريف من طراز أبى حنيفة
فقالوا له أما سمعت ما أجابوه؟ قال أجل.
إذا ذو الرأى خاصم في قياس
…
وجاء ببدعة هنة سخيفة
أتيناهم بقول الله فيها
…
وآثار مبرزة شريفه
فكم من فرج محصنة عفيف
…
أحل حرامها بأبى حنيفة
وروى عن ابن رزق إلى عبد الكريم قال سمعت يحيى بن أيوب قال حدثنا صاحب لنا ثقة. قال: كنت جالسا عند أبى بكر بن عياش فجاء إسماعيل بن حماد بن أبى حنيفة فسلم وجلس، فقال أبو بكر من هذا؟ قال أنا اسماعيل يا أبا بكر. قال فضرب أبو بكر على ركبة إسماعيل ثم قال: كم من فرج حرام أباحه جدك.
لا شك في أنه كان حراما فأحله بما أحله به الله ورسوله، وهذه كتب أبى حنيفة غير مدحوضة ولا مستورة. وقد ذكرت غير مرة أصول مذهب أبى حنيفة وأنها من كتاب الله، فإن لم يجد فمن سنة رسول الله، فإن اختلفت الأحاديث رجح ما رجحته الصحابة، فإن لم يجد اجتهد في التوفيق بينهما ما أمكن. فإن لم يمكن واجتهد برأيه ولم يخرج عن قول النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهذا مذكور في عدة مواضع، أفترى الخطيب يعتقد أن الفرج يكون حلالا من أول ما يخلق؟ ومن لا يعرف مثل هذا كيف يجوز له الحديث. وإنما الفرج يكون حراما فيحل، ويكون حلالا فيحرم.
وهذا ما جاء في الكتاب والسنة.
وحدث عن أبى عبد الله محمد بن عبد الواحد إلى أبى معمر قال: قال أبو بكر بن
عياش: يقولون إن أبا حنيفة ضرب على القضاء، إنما ضرب على أن يكون عريفا على طرز حاكة الخزازين.
هذا إن صح عن ابن عياش فإنما ذكره ابن عياش وحده والناس على خلافه ولكني أجيبه، وإن كان ضرب أيضا على أن يكون عريفا فلم يفعل فهو كذلك أيضا لأنه تجنب الولاية، فسواء القضاء وغيره لأن
النبي صلى الله عليه وسلم يقول «العرفاء في النار»
والدليل على خلاف قوله، أنهم استعملوا أبا يوسف على القضاء وهو تلميذ أبى حنيفة، فلو فعل أبو حنيفة [ورضى أن] يلي لما ولوا غلامه.
وروى عن ابن رزق إلى أسود بن سالم يقول قال أبو بكر بن عياش سود الله وجه أبى حنيفة. هذا من الجميع خطأ، رجل دعا على أبى حنيفة أى شيء كان في هذا حتى ينقله، فإن مثل هذا لا ينبغي أن يذكره أحد لأنه ما أتى عن أبى حنيفة بشيء ينكره عالم، وإنما سفه فنقل الخطيب سفهه فلو أن كل من دعى عليه كان منكوتا لما سلم أحد من الناس كافة.
وروى عن الحسن بن على بن عبد الله المقرئ إلى محمد بن حفص الدوري قال سمعت أبا عبيد يقول: كنت جالسا مع الأسود بن سالم في مسجد الجامع بالرصافة، فتذكروا مسألة فقلت إن أبا حنيفة يقول فيها كيت وكيت، فقال لي الأسود: تذكر أبا حنيفة في المسجد؟ فلم يكلمني حتى مات. الجواب عن هذا كما تقدم، وأيضا فإن ذكر الكفار في القرآن، وهو كلام الله الذي لا تصح الصلاة إلا به، وأى شيء كان في هذا مما ينقل ويجعل قدحا في أبى حنيفة؟ وأيضا قد فعل محرما لأن
النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يحل لمؤمن أن يهجر أخاه فوق ثلاث، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام»
فهذا الخبر لم يفت الخطيب، وإنما قصد رده والطعن فيه لا في أبى حنيفة.
وروى عن محمد بن أحمد بن يعقوب إلى محمد بن عبد الوهاب يقول قلت لعلى ابن عثام: أبو حنيفة حجة؟ فقال: لا للدين ولا للدنيا.
قد أجمع الناس على خلاف قول هذا القائل، وليس ابن عثام بأعلم من جميع أصحاب أبى حنيفة ولا مثل واحد منهم، فكيف ينقل عنه مثل هذا؟ وقد تقدم الجواب عنه مع غيره.
وروى عن أبى حازم إلى محمد بن جعفر الأسامى قال: كان أبو حنيفة يتهم شيطان الطاق بالرجعة، وكان شيطان الطاق يتهم أبا حنيفة بالتناسخ فخرج أبو حنيفة يوما إلى السوق فاستقبله شيطان الطاق ومعه ثوب يريد بيعه، فقال له أبو حنيفة أتبيع هذا الثوب إلى رجوع على؟ فقال: إن أعطيتنى كفيلا أنك لا تمسخ قردا بعتك. فبهت أبو حنيفة.
وقال: لما مات جعفر بن محمد التقى هو وأبو حنيفة فقال له أبو حنيفة أما إمامك فقد مات: فقال له شيطان الطاق: أما إمامك فمن المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم.
قد تقدم القول فيما مضى أن أبا حنيفة وأصحابه على غير هذا المذهب فكيف كان يليق بالخطيب أن يقول هذا المحفوظ ويحيل على رجل يخالفه أصحاب أبى حنيفة كلهم، ثم إن شيطان الطاق كان رافضيا وقد كان يسب كبار الصحابة، فلأبى حنيفة رضي الله عنه أسوة بأبى بكر وعمر رضي الله عنهما، والحمد لله الذي بين لك صحة ما ذكرت من أن الخطيب لم يكن غرضه الرد على أبى حنيفة، وإنما أراد الرد على النبي عليه الصلاة وأفضل السلام وأصحابه، فلذلك رجح قول من يبغض الصحابة ويسبهم.
وحدث عن أبى نعيم الحافظ إلى جبر- وهو محمد بن عصام بن يزيد الأصبهانى- يقول سمعت سفيان الثوري يقول: أبو حنيفة ضال مضل. قد تقدم الجواب عن مثل هذا في أمر الحميدي وعبد الرحمن، وكذلك سفيان إن كان يدعى علم الغيب، وإلا فمن أين له هذا؟ فإن كان من قول أبى حنيفة كان بينه، فإن أقوال أبى حنيفة أظهر من الشمس.
وروى عن إبراهيم بن محمد بن سليمان المؤدب إلى رجاء السندي قال: قال عبد الله بن إدريس: أما أبو حنيفة فضال مضل، وأما أبو يوسف ففاسق من الفساق.
قد تقدم الجواب عن هذا في الخبر الذي قبله.
وروى عن أيوب إلى يزيد بن هارون يقول ما رأيت قوما أشبه بالنصارى من أصحاب أبى حنيفة. أترى النصارى على غير شكل بنى آدم وإلا فأى شيء شبههم بالنصارى. ومثل هذا لا يذكر فإن الله تعالى خالق كل شيء ومع هذا فلا يقال خالقك خالق الكلب. ولا شك أن الجميع خلقة الله، ومن ينكر هذا لا يكون مسلما.
وروى عن أحمد بن محمد العتيقى والحسن بن جعفر السلماسي والحسن بن على الجوهري إلى محمد بن عبد الله بن الحكم قال: قال لي محمد بن إدريس الشافعي:
نظرت في كتب لأصحاب أبى حنيفة فإذا فيها مائة وثلاثون ورقة، فعددت منها ثمانين ورقة خلاف الكتاب والسنة. قال أبو محمد: لأن الأصل كان خطأ فصارت الفروع ماضية على الخطإ.
وقال ابن أبى حاتم حدثني الربيع بن سليمان المرادي قال: سمعت الشافعي يقول:
أبو حنيفة يضع أول المسألة خطأ ثم يقيس الكتاب كله عليها. وقال أيضا حدثنا هارون بن سعيد الأيلى قال: سمعت الشافعي يقول: ما أعلم أحدا وضع الكتب أدل على عوار قوله من أبى حنيفة.
أما أصول أبى حنيفة رضي الله عنه فمعروفة لا يقدر أحد أن يطعن فيها، فإنه إذا بنى أصلا على باب من الأبواب لم يخالفه أبدا. مثال ذلك أن الشك لا يزيل اليقين عند أبى حنيفة رحمه الله، مثاله إذا أكل الرجل في شهر رمضان وهو يرى أنه لم يصبح وكان قد أصبح فعليه القضاء ولا كفارة عليه، ولو أكل وهو يرى أنه قد دخل الليل ثم تبين أنه نهار فعليه القضاء والكفارة، لأنه ممسك بالأصل. ومثاله إن العصير لا يصير خمرا يغلى ويقذف بالزبد ويشتد ويسكر فإذا حمض الخمر أدنى الحمض لا يصير خلا حتى يشتد حمضه فيتخلل بيقين ومثاله رجل توضأ ثم شك في الحدث فهو على وضوئه، ورجل شك في الوضوء يجب عليه الوضوء لأنه على الأصل، هذا في الأصول التي بنى عليها. أما على القول فالشافعي وأصحابه منذ كانوا وإلى هذه السنة التي تكلمنا فيها- وهي سنة إحدى وعشرين وستمائة لهجرة النبي صلى الله عليه وسلم لا يقدرون على بيانما نقل عنه الخطيب. وجوابي للخطيب، وإنما عندي أن الشافعي نقل عنه من حمد أبى حنيفة ما لا ينقل إلا عمن يعرف الفضل ويعرف به.
وروى عن ابن رزق إلى أحمد بن سنان بن أسد القطان قال سمعت الشافعي يقول: ما شبهت رأى أبى حنيفة إلا بخيط السحارة يمد كذا فيجيء أخضر، ويمد كذا فيجيء أصفر. هذا القول لا يحسن أن ينقل عن الشافعي لأنه لا ينقله عنه إلا من يريد الطعن والتشنيع عليه، لأن مثل هذا المثل لا يتمثل به إلا الصبيان.
وحدث عن البرقاني إلى المروذى أبو بكر أحمد بن الحجاج قال سألت أبا عبد الله- وهو أحمد بن حنبل- عن أبى حنيفة وعمرو بن عبيد. قال: أبو حنيفة أشد على
المسلمين من عمرو بن عبيد لأن له أصحابا. إن صح هذا الخبر وكان الأمر على ما ذكر فكلهم له الأصحاب، فأما أصحاب أبى حنيفة فليس فيهم من يقول: إن الله شبح جالس على العرش والعرش لا يسعه. أترى من يقول هذا القول لا يعرف أن من خلق السموات والأرض قادر على أن يخلق له ما يسعه؟.
وروى عن طلحة بن على الكتاني إلى الأثرم قال رأيت أبا عبد الله مرارا يعيب أبا حنيفة ومذهبه، ويحكى الشيء من قوله على الإنكار والتعجب. أنا أصدق هذا لأن أصحاب أحمد إلى يومنا هذا لم يفهم أحد منهم «الجامع الكبير» ، ولا عرف ما فيه، ومتى وقف عليه فلا شك أنه ينكره فخل عنك باقى كتب أصحاب أبى حنيفة.
وروى عن بشرى بن عبد الله الرومي إلى أبى بكر الأثرم قال أخبرنا أبو عبد الله بباب في العقيقة فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث مسندة، وعن أصحابه، وعن التابعين، ثم قال: وقال أبو حنيفة: هو من عمل الجاهلية. ويتبسم كالمتعجب.
أما هذا القول فلا ينكره على أبى حنيفة إلا من لا يعرف أمور الشرع، فإن العقيقة والطهور وغيرهما كان من شريعة إبراهيم ثم استمر ذلك في الجاهلية حتى جاء النبي صلى الله عليه وسلم وأمر به، وبهذا جاء الكتاب العزيز {وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} يعنى التوراة. ونحن نعمل بذلك. وقد جاء شيء من عمل الجاهلية لم يكن مذهبا لإبراهيم عليه السلام وعمل به النبي صلى الله عليه وسلم وهو البدنة.
وروى عن محمد بن عبد الملك القرشي إلى محمد بن يوسف البيكندى يقول: قيل لأحمد بن حنبل قول أبى حنيفة الطلاق قبل النكاح؟ فقال مسكين أبو حنيفة كأنه لم يكن من العراق، كأنه لم يكن من العلم بشيء، قد جاء فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن الصحابة، وعن نيف وعشرين من التابعين، مثل سعيد بن جبير وسعيد بن المسيب وعطاء وطاوس وعكرمة. كيف يجترئ أن يقول تطلق؟.
هذا خلاف مذهب أبى حنيفة، لأن مذهبه أنه يقول لا طلاق إلا في ملك أو مضافا إلى ملك، أو في علقة من علائق الملك. وجميع أصحاب أبى حنيفة على ما ذكرت. وأما من نقل عن رجل فقها لم يكن من مذهبه ويقول إنه مذهبه، ما نعلم كل أحد أنه يتقول عليه ومن علم أنه كاذب كيف يصدق قوله في الأخبار عنه أو عن غيره؟.
وروى عن ابن رزق إلى مهنئ بن يحيى قال: سمعت أحمد بن حنبل يقول: ما قول أبى حنيفة والبعر عندي إلا سواء.
لا يشك أحد أن أحمد بن حنبل بعد مذهب أبى حنيفة، والمسائل التي هي [من] قول أبى حنيفة وعمل بها أحمد كيف حكمه فيها؟ هل هي داخلة في الجملة أو خارجة عنها؟ فإن قال داخلة فيها فقد خالف قوله بلا شك وصار بهذا كافرا لأنه يرى الخطأ ويتبعه، وإن قال لا فقد خالف قوله وناقض الحكم، ومثل هذا لا يصح عن أحمد بن حنبل لأن أدنى درجات أحمد أن يعرف ما ذكرت، فإن أحمد ولد بعد [وفاة] أبى حنيفة بأربع عشرة سنة.
وروى عن البرقاني إلى محمد بن روح قال سمعت أحمد بن حنبل يقول: لو أن رجلا ولى القضاء ثم حكم برأى أبى حنيفة، ثم سألت عنه لرأيت أن أرد أحكامه.
إن كان أحمد يرى رد أحكام الحكام فربما، وإن كان غير ذلك فلا يجوز له. لأن الصحابة كلهم على خلاف هذا، فإن عليا رضي الله عنه ولى شريحا وكان يرى خلاف رأى شريح، وكذلك أكثر الخلفاء الراشدين ولوا قضاة يرون خلاف رأيهم وإن كان أحمد يحالف جميع الصحابة فهذا عجيب.
وروى عن الحسن بن أبى طالب إلى خالد بن يزيد بن أبى مالك أنه قال: أحل أبو حنيفة الزنا، وأحل الربا، وأهدر الدماء. فسأله رجل ما تفسير هذا؟ فقال: أما تحليل الربا فقال درهم وجوزة بدرهمين نسيئة لا بأس به، وأما الدماء فقال لو أن رجلا ضرب رجلا بحجر عظيم فقتله كان على العاقلةديته ثم تكلم في شيء من النحو فلم يحسنه، ثم قال لو ضربه بأبا قبيس كان على العاقلة وأما تحليل الزنا فقال لو أن رجلا وامرأة أصيبا في بيت وهما معروفا الأبوين فقالت المرأة هو زوجي، وقال هو هي امرأتى، لم أعرض لهما. قال أبو الحسن النجاد: في هذا إبطال الشرائع والأحكام.
أما جوزة ودرهم بدرهمين نسيئة فإن هذا لم يرو عن أبى حنيفة ولا يصح في مذهبه النسيئة خاصة، بل الذي روى عن أبى حنيفة إذا اشترى سيفا وعليه حلية فضة لا يخلص إلا تضرب بدراهم نقدا، فإن كان الثمن بقدر الحليلة أو أقل لم يصح البيع، وإن كان الثمن أكثر من الحلية صح. لأن الحلية بوزنها والفضل في مقابلة السيف، وهذا إذا كان يدا بيد. قال ولو باع إبريق فضة وزنه عشرة ذراهم بعشرين درهما
لصح يدا بيد. فإن أعطاه غيره دراهم وافترقا صح في النصف وبطل في النصف، وهذا خلاف ما حكاه الخطيب. وأما الدماء فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرو عنه القصاص في الحجر،
وقد قال صلى الله عليه وسلم: «ادرءوا الحدود بالشبهات» وقال «ألا إن قتيل شبه العمد قتيل السوط والعصا مائة من الإبل»
ولم يفرق النبي صلى الله عليه وسلم بين العصا الكبيرة والصغيرة، ولا يستحق كل واحدة اسما غير العصا. ولم يوجب إلا الدية بهذا. وأما أبا قبيس فقد تقدم الجواب عنه. وأما الزنا فإذا جاء واحد إلى كل واحد من امرأة ورجل فقالا نحن زوجان بأى طريق يفرق بينهما أو يعترض عليهما، لأن كل واحد منهما يدعى أمرا حلالا. ولو فتح هذا الباب لكان الإنسان كل يوم، بل في كل ساعة يشهد على نفسه وعلى زوجه أنهما زوجان، وهذا لم يقل به أحد من الأئمة وفيه من الحرج ما لا يخفى على أحد.
وروى عن إبراهيم بن عمر البرمكي إلى محمد بن أيوب بن المعافى البزاز قال:
سمعت إبراهيم الحربي يقول: وضع أبو حنيفة أشياء في العلم مضغ الماء أحسن منها، وعرضت يوما شيئا من مسائله على أحمد بن حنبل فجعل يتعجب منها، ثم قال كأنه هو يبتدئ الإسلام.
أما جواب أحمد بن حنبل عن مثل هذا فقد تقدم، ولو كان الأمر كما ذكر لبين المسائل حتى يعرف السامع أن الحق مع من وضعها أو مع من عابها.
وروى عن البرقاني إلى عبد الله بن محمد بن سيار الفرهياني قال سمعت القاسم ابن عبد الملك أبا عثمان يقول سمعت أبا مسهر يقول: كانت الأئمة تلعن أبا فلان على هذا المنبر، وأشار إلى منبر دمشق. قال الفرهياني: وهو أبو حنيفة. أترى بأى شيء استدل الفرهياني على أن المراد بأبى فلان أبو حنيفة، حتى كأن الكنى والكنايات اختصت به دون غيره. ومع هذا فإن أبا حنيفة لم يلعن على منبر دمشق، وأما الذي ذكرة فلم يتعرض إليه إلا من وجب قتاله، وإذا كان لأبى حنيفة أسوة بمن ذكره فما نريد شرفا أكثر من ذلك.
وروى عن الخلال إلى العباس بن عبد الله الترقفى قال سمعت الفريابي يقول: كنا في مجلس سعيد بن عبد العزيز بدمشق، فقال رجل رأيت فيما يرى النائم كان النبي صلى الله عليه وسلم قد دخل من باب الشرقي يعنى باب المسجد، ومعه أبو بكر وعمر- وذكر غير واحد من الصحابة- وفي القوم رجل وسخ الثياب، رث الهيئة فقال تدرى من ذا؟
قلت لا، قال هذا أبو حنيفة، هذا ممن أعين بعقله على الفجور. فقال له سعيد: أنا أشهد أنك صادق لولا أنك رأيت هذا، لم تكن تحسن تقول هذا.
ليت شعري أى شيء في هذا القول مما يصعب على أبله الناس إذا أراد الاختلاف أن يقوله، ثم ومن لا يحسن أن يقول مثل هذا في اليقظة كيف يحتج بقوله في المنام؟
وليت شعري من كان هذا الرجل الرائي للمنام الذي قيست رؤياه برؤيا يوسف لم يتحمل على ظاهرها لأنها أولت لأنه لم يسجد له الشمس والقمر والكواكب الأحد عشر في اليقظة كما رآها ساجدة له في المنام، ومه هذا فيكفى أبا حنيفة شرفا دخوله المسجد مع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه مقارنا لأبى بكر وعمر، ولو كان الأمر كما ذكرنا لما صحب النبي صلى الله عليه وسلم إلى المسجد، هذا إن صدق افتراؤهما لوجدنا به بهتا وهما مستيقظان أكان أحد يصدقهما فكيف يصدقهما في المنام؟ وقد أجمع الناس على أن الرؤيا لا تفسر على ظاهرها، ولو كان الأمر كذلك لما احتيج إلى المفسرين لأن نص القرآن العزيز حكاية عن يوسف لما قال له الرائي {إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ} إنه يصلب فتأكل الطير من رأسه، وأين الحمل من الصلب، وأين الخبز من رأسه؟ وفي قول الملك {إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ، قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ} ثم قال {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ} وأين البقرة من السنة، فقد أول المعبرون البكاء بالفرح، والموت بطول العمر، وأشياء كثيرة بما يضادها. فعلى هذا يكون وسخ أثواب أبى حنيفة ورثاثة هيئته نظافة وطهارة.
وحدث عن أبى الفتح محمد بن المظفر بن إبراهيم الخياط إلى على بن حرب قال سمعت محمد بن عامر الطائي- وكان خيرا- يقول: رأيت في المنام كان الناس مجتمعون على درج مسجد دمشق، إذ خرج شيخ ملبب بشيخ، فقال: أيها الناس إن هذا قد بدل دين محمد صلى الله عليه وسلم. فقلت لرجل إلى جانبي من هذان الشيخان؟ فقال: هذا أبو بكر الصديق ملبب بأبى حنيفة.
أما حديثهم عن أبى حنيفة في المنام فلا حجة فيه، لا سيما ممن لو طعن فيه في اليقظة لم يقدح ذلك فيه، لأنهم ليسوا من أهل العلم. والطعن في مثله وليس في مثل هذا فائدة إلا ما ذكرناه عن الخطيب من قصد التشنيع والنكير والتعصب وقد تقدم الكلام عن ذلك.
وروى عن القاضي أبى العلاء محمد بن على الواسطي إلى طريف بن عبد الله قال: سمعت ابن أبى شيبة- وذكر أبا حنيفة- فقال: أراه كان يهوديا. قد أجمع الناس على أنه من كفر مسلما فهو كافر، ولا شبهة عند أئمة الأمصار أن أبا حنيفة مسلم، ومن كفر مسلما فقد كفر. لا يعد بقوله، ولقد كان هذا القول بالقدح في ابن أبى شيبة أولى منه في أبى حنيفة لولا حيف الخطيب.
وحدث عن ابن رزق إلى محمد بن المهلب السرخسي عن على بن جرير. قال:
كنت في الكوفة فقدمت البصرة وبها ابن المبارك، فقال لي كيف تركت الناس؟ قال قلت تركت قوما بالكوفة يزعمون أن أبا حنيفة أعلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال قلت اتخذوك في الكفر إماما؟ قال فبكى حتى ابتلت لحيته. هذا كلام غير مفهوم فيجاب عنه، ولو أراد قائله أن يقول ما يسمع الجواب عنه لتكلم بما يفهم، ومع هذا قد تقدم القول عن ابن المبارك وأنه ما زال على مذهب أبى حنيفة إلى أن مات برواية الخطيب عنه.
وروى عن محمد بن على المقرئ إلى على بن جرير الأبيوردى قال قدمت على ابن المبارك فقال له رجل: إن رجلين تماريا عندنا في مسألة فقال أحدهما قال أبو حنيفة.
وقال الآخر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كان أبو حنيفة أعلم بالقضاء. فقال ابن المبارك: أعد على، فأعاد عليه فقال: كفر كفر. قلت بك كفروا. وبك اتخذوا الكفر إماما. قال ولم؟ قلت بروايتك عن أبى حنيفة. قال أستغفر الله من رواياتي عن أبى حنيفة.
أول ما نقول إن هذا القول من ذلك الرجل لا يتعلق بأبى حنيفة، فيكون قدحا فيه، ثم نقول كيف يتصور أن يستغفر الله من رواياته عن أبى حنيفة رجل لم يزل على مذهب أبى حنيفة إلى أن مات.
وحدث عن الحسن بن أبى طالب إلى الحميدي قال سمعت ابن المبارك يقول:
صليت وراء أبى حنيفة صلاة وفي نفسي منها شيء. وقال وسمعت ابن المبارك يقول:
كتبت عن أبى حنيفة أربعمائة حديث إذا رجعت إلى العراق إن شاء الله محوتها.
أما قوله إن في نفسه شيئا من تلك الصلاة فلا يعلم الغيب إلا الله، ما يدرى أى شيء هو الذي كان في نفسه، وأما الأحاديث التي رواها عن أبى كانت من أقوال
أبى حنيفة فينبغي أن يبينها لنجيب عما أنكره، وإن لم تكن من أقوال أبى حنيفة فليس الطعن في ذلك على أبى حنيفة.
وحدث عن إبراهيم بن محمد بن سليمان المؤدب إلى إبراهيم بن شماس يقول:
كنت مع ابن المبارك بالثغر فقال: إن رجعت من هذه لأخرجن أبا حنيفة من كتبي.
وروى عن العتيقى إلى إبراهيم بن شماس قال: سمعت ابن المبارك يقول: اضربوا على حديث أبى حنيفة.
وروى عن عبيد الله بن عمر الواعظ إلى الحسن بن الربيع قال: ضرب ابن المبارك على حديث أبى حنيفة قبل أن يموت بأيام يسيرة. قال الخطيب كذا رواه لنا وأظنه عن عبد الله بن أحمد عن أبى بكر الأعين نفسه والله أعلم.
الجواب عن هذه الحكايات الثلاث: إن قول ابن المبارك لا يعتد به في مثل أبى حنيفة لأن أبا حنيفة كان مجتهدا وابن المبارك من كوادن المتفقه، ثم قد تقدم القول أن ابن المبارك مات وهو على مذهب أبى حنيفة.
ثم إن الخطيب بحمد الله قد شك في رواة الحكاية الثالثة الذين جعلهم ثبتا.
وروى عن محمد بن أحمد بن يعقوب إلى محمد بن على بن حسن بن شقيق يقول سمعت أبى يقول سمعت عبد الله بن المبارك يقول: لحديث واحد من حديث الزهري أحب إلى من جميع كلام أبى حنيفة. إن كان الحديث الذي يحدثه الزهري عن النبي صلى الله عليه وسلم فكل المسلمين يقولون هذا ويعتقدونه، بل يعتقدون أن لفظة واحدة من كلام النبي صلى الله عليه وسلم خير من كل مل تكلم به الخلق، إلا أن يظن أن في المسلمين من لا يعتقد هذا فمكافأته عمن يظن به ذلك على الله، وإن كان الحديث من كلام الزهري فما اعتد أحد بكلام الزهري ولا عمل به، ولا نعرف مذهبا يقال له مذهب الزهري.
وروى عن ابن دوما إلى على بن إسحاق الترمذي قال: قال ابن المبارك: كان أبو حنيفة يتيما في الحديث. هذا بالمدح أشبه منه بالذم فإن الناس قد قالوا درة يتيمة إذا كانت معدومة المثل، وهذا اللفظ متداول للمدح لا نعلم أحدا قال بخلاف، وقيل يتيم دهره، وفريد عصره وإنما فهم الخطيب قصر عن إدراك ما لا يجهله عوام الناس.
وحدث عن البرقاني إلى عبد الله بن أحمد بن شبويه قال سمعت أبا وهب يقول سمعت عبد الله بن المبارك يقول: كان أبو حنيفة يتيما في الحديث. الجواب عن هذا كالجواب عما تقدمه.
وحدث عن على بن محمد بن عبد الله المعدل إلى أبى قطن قال حدثنا أبو حنيفة- وكان زمنا في الحديث- الزمانة لا نعرفها إلا في الأعضاء وأما العلم فلا يوصف من يتعاناه إلا بالجهل أو المعرفة، ولا يشك أحد في فقه أبى حنيفة. وأما أبو قطن فلا يعرف له قول يرجع إليه.
وروى عن محمد بن الحسين الأزرق إلى أبى غسان قال ذكرت للحسن بن صالح رجلا قد كان جالس أبا حنيفة من النخع. فقال لا: لو كان أخذ من فقه النخع كان خيرا له. انظروا عمن تأخذون النخع إنما هي قبيلة من اليمن وليست بفقيه، فانظروا إلى رجل لا يعرف النخع هل هي قبيلة أو فقيه، ثم يأخذ بالأخذ عنها، ثم يحتج بقوله ويجعل ثبتا يقدح به في الأئمة. مع إن هذا الحسن بن صالح لم يكن من الفقهاء فيعرف الفقه، إنما كان يحمل كتب الحديث.
وروى عن عبد الله بن يحيى السكرى والحسن بن أبى بكر ومحمد بن عمر النرسي إلى مؤمل بن إسماعيل قال سألت سفيان بن عينية قلت يا أبا محمد تحفظ عن أبى حنيفة شيئا؟ قال لا، ولا نعمة عين. ليس يضر أبا حنيفة لا يقدح فيه كون سفيان لا يحفظ عنه، فقد حفظ عنه من هو خير من سفيان مع أن الخطيب ذكر في تاريخه أن سفيان روى عنه، فلا ندري على أى قولي الخطيب نعتمد. على أن الذين حفظوا عن أبى حنيفة اعتد بأقوالهم الناس واعتمدوا على مذاهبهم، وسفيان بحمد الله لم يعتمد أحد على مذهبه.
وروى عن البرمكي إلى ابن نمير قال: أدركت الناس وما يكتبون الحديث عن أبى حنيفة فكيف الرأى؟ هذا ابن نمير لم يعرف أنه من الفقهاء أصلا ولا من المحدثين المعتبرين المعتد بأقوالهم، ومه هذا فلو لم يكتب الرأى عن أبى حنيفة ويحفظ ويتداول كيف كان يبقى مذهبه إلى زماننا بعد موته إلى تأليف هذا الكتاب أربعمائة وإحدى وسبعون سنة. ويكفى هذا في الدلالة على بطلان قول ابن نمير.
وروى عن العتيقى إلى حماد بن زيد قال سمعت الحجاج بن أرطاة يقول: ومن أبو حنيفة؟ ومن يأخذ عن أبى حنيفة؟ وما أبو حنيفة: أما قوله من أبو حنيفة فهو النعمان بن ثابت وأما قوله من يأخذ عنه فمن وفقه الله للتفقه في دينه، وقد أخذ عنه أهل اليمن أجمع، وأهل الهند والسند، وأهل غزنة، وجبال الغور، وأهل ما وراء النهر كلهم، وأهل خراسان- إلا بعض أهل نيسابور وما حولها فإنهم شافعية-
وعامة أهل العراق، وبلد الروم بأسرهم، وأكثر أهل الشام، وفلسطين، ومصر، وما برح أصحاب أبى حنيفة قضاة الإسلام في دار السلام التي هي قبة الإسلام إلى هلم.
وأما ما هو فإنسان شرفه الله بالعلم والعمل، فكان علمه وعمله لا يرجح أحدهما على الآخر، ولم يماثله أحد فيهما ولا قارنه. وأما علمه فباق إلى الآن لا يحتاج من عنده أدنى معرفة إلى طلب الدليل على عظمه، وأما علمه فمن جملته أنه أقام- على ما اشتهر عنه من الجم الغفير الموثوق برواياتهم- أربعين سنة يصوم النهار ويقوم الليل. لم يرو عنه أنه رؤى بالليل نائما. وكان يصلى الصبح في المسجد جماعة ثم يعطى ظهره المحراب ويقعد يطارح الناس الفقه ويتكلم في العلم إلى أن يؤذن للظهر، ثم يقوم فيركع ويصلى الظهر، فإذا فرغ من صلاته أعطى ظهره القبلة وفعل كذلك إلى العصر، ثم يصلى العصر، ويفعل كذلك إلى أن يؤذن المغرب، ثم يصلى المغرب ثم يفعل كذلك إلى أن يؤذن العشاء فيصليها ثميقوم إلى بيته فيفطر ثم يجدد وضوءه، ثم يعود إلى المسجد فيختم القرآن في ركعتين من العشاء إلى الفجر فكان هذا دأبه أربعين سنة. وكان في القرن الذين أثنى النبي عليه الصلاة والسلام عليه بلا خلاف لأنه من القرن الثاني. ثم لم يكن من عامة الناس بل كان من خواصهم في أحكام القرآن والسنة والدين، وكان من خيار أهل عصره ومعلوم أن من كان في الدرجة الثانية وقد فاق أهلها فليس له منزلة إلا الدرجة الأولى. قال الله تعالى {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً} فقد بين الله تعالى أن من أطاع الله ورسوله فقد لحق بالنبيين والصديقين والشهداء والصالحين فحقيق أن يلحقه لكونه من صالحي أهل قرنه بالقرن الأول.
وروى عن البرقاني إلى يحيى هو ابن سعيد القطان- وذكر عنده أبو حنيفة- قالوا كيف كان حديثه؟ قال: لم يكن بصاحب حديث. هذا لا يصح فإن الناس قد رووا عنه، ولولا الإطالة لذكرت كل من روى عنه لأن ذلك موجود في الكتب وقد ذكر الخطيب في التاريخ أنه روى عن جماعة، وروى عنه جماعة.
وحدث عن الخلال إلى محمد بن حماد المقرئ قال: وسألت يحيى بن معين عن أبى حنيفة. فقال: وأيش كان عند أبى حنيفة من الحديث حتى تسأل عنه؟ كتب الحديث التي رويت عنه مشهورة لا يحتاج إلى ذكرها لاشتهارها.
وروى عن الحسن بن الحسن بن المنذر القاضي والحسن بن أبى بكر البزاز إلى إبراهيم بن إسحاق الحربي قال سمعت أحمد بن حنبل- وسئل عن مالك- فقال:
حديث صحيح ورأى ضعيف وسئل عن الأوزاعى فقال: حديث ضعيف ورأى ضعيف. وسأل عن أبى حنيفة فقال: لا رأى ولا حديث. وسأل عن الشافعي فقال.
حديث صحيح ورأى صحيح. هذا لا يكاد يصح عن أحمد بن حنبل، وإن صح فلا اعتداد به لأنه إذا جعل رأى الشافعي صحيحا وخالفه كفر. ولا شك أن أحمد يخالف الشافعي في كثير من الأقوال.
وحدث عن أحمد بن على البادا إلى أبى بكر بن شاذان قال: قال لي أبو بكر بن أبى داود: جميع ما روى أبو حنيفة من الحديث مائة وخمسين حديثا أخطأ- أو قال غلط- في نصفها. هذا القائل كان ينبغي له أن يذكر الأحاديث ويبين ما أخطأ فيه بزعمه حتى نجيبه عن ذلك إن قدرنا.
وروى عن ابن دوما إلى إبراهيم بن سعيد قال سمعت أبا أسامة يقول: مر رجل على رقبة فقال من أين أقبلت؟ قال من عند أبى حنيفة قال يمكنك من رأى ما مضغت، وترجع إلى أهلك بغير ثقة.
وروى عن ابن رزق إلى الحميدي قال: قال سفيان: كنت جالسا عند رقبة ابن مصقلة فرأى جماعة منجفلين، فقال من أين؟ قالوا من عند أبى حنيفة، فقال رقبة يمكنهم من رأى ما مضغوا وينقلبون إلى أهليهم بغير ثقة. هذان القولان لم نفهم معناهما، ولو فهمنا ذلك لأجبناه. وأما قوله بغير ثقة فليس كذلك بإجماع من يعتد بقوله، ويرجع إلى مذهبه من الناس.
وروى عن العتيقى إلى يحيى بن سعيد قال سمعت شعبة يقول: كف من تراب خير من أبى حنيفة. هذا القول مخالف لقول الله تعالى، وقول نبيه صلى الله عليه وسلم، فإن الله تعالى يقول {وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا} فممن؛ سؤال عمن يعقل، وليس من خلق الله من يعقل سوى الملائكة والجن والأنس، وأقل درجات أبى حنيفة أن يكون من بنى آدم لا ينازع في ذلك من له لب، بل كان من أكابر العلماء. والإجماع على أن العلماء أفضل من خواص الملائكة، وبهذه الآية استدل على ذلك لأنهم لو فضلوا على الجن لم يكن تفضيلا على الكثير، لأن تفضيل جنس من ثلاثة أجناس على جنس
منها لا يكون تفضيلا على الكثير إن لم يفضل على الجنسين الآخرين. فلزم أن يفضلوا على الملائكة والجن عملا بالنص.
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «حرمة المؤمن عند الله خير مما طلعت عليه الشمس»
وهذا قد جعل كفا من تراب خيرا من أبى حنيفة.
فهذا الرد ليس لأبى حنيفة فيه حديث.
وحدث عن البرمكي إلى عبد الرحمن بن مهدى قال سألت سفيان عن حديث عاصم في المرتدة فقال: أما من ثقة فلا، كان يرويه أبو حنيفة. قال أبوعبد الله:
والحديث كان يرويه أبو حنيفة عن عاصم عن أبى رزين عن ابن عباس في المرأة إذا ارتدت، قال تحبس ولا تقتل.
وحدث عن عبيد الله بن عمر الواعظ إلى منصور بن سلمة الخزاعي قال سمعت أبا بكر بن عياش- وذكر حديث عاصم- فقال: والله ما سمعه أبو حنيفة قط. هذا الحديث لم يذكره أبو حنيفة فيكون الجواب عنه، وإنما هكذا مذهبه أنها تحبس، والتعلق
بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء مطلقا بقوله «نهيت عن قتل النساء» وبقوله «ما بالها قتلت ولم تقاتل»
والنهى إذا ورد مطلقا عمل به إلا أن يأتى أمر آخر يقيده فإنه يعمل به. فإنها إذا قتلت قتلت. ولكن بنص آخر وهو أنه القصاص.
وحدث عن على بن أحمد الرزاز إلى مؤمل قال ذكروا أبا حنيفة عند سفيان الثوري فقال: غير ثقة ولا مأمون غير ثقة ولا مأمون. الجواب عن هذا يأتى عند ذكر الرواة.
وحدث عن محمد بن عمر بن بكير المقرئ إلى المؤمل مثله.
وحدث عن أبى سعيد بن حسنويه إلى الأشجعيّ مثله. هذه الأخبار إن صحت عن سفيان فقد رد عليه أكثر أهل الإسلام وعدوه مخطئا في ذلك.
وحدث عن البرقاني إلى محمد بن كثير العبدى يقول: كنت عند سفيان الثوري فذكر حديثا، فقال رجل حدثني فلان بغير هذا فقال من هو؟ فقال أبو حنيفة. قال أحلتنى على غير مليء.
وحدث عن محمد بن الحسين بن محمد المتوثى إلى محمد بن كثير العبدى إلى سفيان الثوري قال رأيته، وسأله رجل عن مسألة فأفتاه فيها، فقال له الرجل إن فيها أثرا، فقال عمن؟ فقال عن أبى حنيفة. قال أحلتنى على غير مليء. أما قوله غير
مليء فليس بصحيح فلا شك أن أبا حنيفة أول من وضع المسائل، وأقرأ الفقه.
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «حسن السؤال نصف العلم»
فقد حصل له نصف العلم بالسؤال، ثم أجاب عن المسائل فحصل له نصف العلم بالإجابة، ثم وافقه أناس وخالفه آخرون فخولف في ربع الأمر فحصل له ثلاثة أرباع العلم بغير منازعة، ومثل هذا لا يكون غير مليء. ثم وإن عنى بقوله غير مليء أن أبا حنيفة لا يكون مليئا بحديث واحد عن النبي صلى الله عليه وسلم فهذا أيضا يقطع كل أحد ببطلانه، فإن الصبيان لا يقصرون عن مثل هذا فكيف أبو حنيفة؟
وحدث عن رضوان إلى أبى سلمة الفقيه يقول سمعت عبد الرزاق يقول ما كتبت عن أبى حنيفة إلا لأكثر به رجالي: وكان يروى عنه نيفا وعشرين حديثا. هذا قال لأكثر به رجالي. وهذا أكبر غرض المحدثين فإنهم لا يحفظون الأحاديث كما يحفظ الفقهاء المسائل والمقرءون القرآن،. ولا غرضهم إلا ما ذكر من جميع من يروون عنه، فأى شيء في هذا مما يقدح في أبى حنيفة؟ وإن كان هذا القدر قادحا فهو في جميع من يروى عنه من المشايخ.
وحدث عن على بن أحمد بن عمر المقرئ إلى عبد الله بن أحمد بن حنبل قال:
سألت أبى عن الرجل يريد أن يسأل عن الشيء من أمر دينه مما يبتلى به من الأيمان في الطلاق وغيره، وفي مصره من أصحاب الرأى، ومن أصحاب الحديث لا يحفظون ولا يعرفون الحديث الضعيف ولا الإسناد القوى. فلمن يسأل؟ لأصحاب الرأى أو لهؤلاء؟ - أعنى أصحاب الحديث- على ما كان من قلة معرفتهم. قال:
يسأل أصحاب الحديث، ولا يسأل أصحاب الرأى، ضعيف الحديث خير من رأى أبى حنيفة. هذا لا يكاد يصح عن أحمد بن حنبل رضي الله عنه لأنه من أصحاب الرأى، فكيف يفضل أصحاب الحديث مع وصفه لهم بقلة المعرفة والحفظ على أصحاب الرأى- وهو منهم- فإن ثبت عنه ذلك فهو إما مخالف لرأيه، أو لحديث معاذ: ومن رأى الحق في جهة واتبع غيرها كان مخطئا.
وحدث عن العتيقى إلى عبد الله بن أحمد قال سمعت أبى يقول: حديث أبى حنيفة ضعيف، ورأيه ضعيف.
وحدث عن العتيقى أيضا إلى أحمد بن الحسن الترمذي قال سمعت أحمد بن حنبل يقول: كان أبو حنيفة يكذب لم يقل العتيقى- كان- أبو حنيفة رحمه الله ما كان
يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثا في الأحكام والدين ويخالفه، بل إن كان الحديث صحيحا عمل به، وإن كان ضعيفا وثم حديث آخر صحيح يشبهه عمل بهما، ومن صح عنده عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث ولم يعمل به كان مخطئا، وهذا لم ينقل عن أبى حنيفة كما نقل عن أحمد ومالك فإنهما رويا أحاديث وخالفاها. وحدث عن القاضي أبى الطيب طاهر بن عبد الله المطيري إلى عباس بن محمد الدوري قال سمعت يحيى بن معين يقول:- وقال له رجل- أبو حنيفة كذاب. قال: أبو حنيفة أنبل من أن يكذب، كان صدوقا إلا أن في حديثه ما في حديث الشيوخ انظر إلى الخطيب اعتقد أن هذا مما يذم به أبو حنيفة، فهل للمحدثين ولجميع العلماء إلا الشيوخ؟
وحدث عن عبيد الله بن عمر الواعظ إلى جعفر بن أبى عثمان قال سمعت يحيى- وسألته عن أبى يوسف وأبى حنيفة- فقال كان أبو يوسف أوثق منه في الحديث.
قلت فكان أبو حنيفة يكذب؟ قال كان أنبل في نفسه من أن يكذب. من لا يكذب كيف يكون غيره أوثق منه؟ مع أن أبا يوسف رحمه الله لم يكن له شيء إلا من أبى حنيفة، وقد تقدم قول أبى يوسف بقول أبى حنيفة في حكاية خاك يسر.
وروى عن البرقاني عن محمد بن العباس الخزاز إلى أحمد بن محمد بن القاسم بن محرز قال سمعت يحيى بن معين يقول: كان أبو حنيفة لا بأس به وكان لا يكذب.
وسمعت يحيى يقول مرة أخرى: أبو حنيفة عندنا من أهل الصدق ولم يتهم بالكذب.
ولقد ضربه ابن هبيرة على القضاء فأبى أن يكون قاضيا. هذا يحيى بن معين قد رددت أقواله في أبى حنيفة رضي الله عنه وتناقضت فإن ثبتت عنه هذه الطرق المروية كلها فلا اعتبار بقوله، لأنه قد ثبت عنه قول الشيء وضده، ولا بد أن يكون في أحدهما مبطلا. وإذا بطل في أحد القولين لم يصدق في الآخر.
وحدث عن العتيقى إلى نصر بن محمد البغدادي يقول سمعت يحيى بن معين يقول:
كان محمد بن الحسن كذابا وكان جهميّا، وكان أبو حنيفة جهميا ولم يكن كذابا.
أصحاب أبى حنيفة أكثر من أن يحصوا في عصر من الأعصار، وما ثبت عن أحد منهم مذهب الجهمية بل هم مجمعون على أن الصلاة خلف الجهمى لا تجوز، وهؤلاء ثبتت بعشرة منهم خبر التواتر. والذي نقل عن يحيى بن معين إنما نقله الواحد عن الواحد، وإذا قيس بمثل هذين في الأخبار النبوية رجح التواتر على الآحاد.
وحدث عن ابن رزق إلى محمد بن سعد العوفى يقول سمعت يحيى بن معين يقول:
كان أبو حنيفة ثقة لا يحدث بالحديث إلا بما يحفظ، ولا يحدث بما لا يحفظ. هذا هو مذهب أبى حنيفة وأصحابه أنه لا يجوز أن يروى حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا ما سمعه وحفظه من حين سمعه إلى حين أداه.
وحدث عن التنوخي إلى أحمد بن الصلت الحماني قال سمعت يحيى بن معين- وهو يسأل عن أبى حنيفة أثقة هو في الحديث؟ - قال: نعم ثقة ثقة، كان والله أورع من أن يكذب، وهو أجل قدرا من ذلك. وهذا الخبر عن أبى حنيفة إنما أوردناه في هذا الموضع لأنه جاء في هذا الباب وليس منه وإنما أوردناه لسياق الكلام. وسيأتي الجواب عن هذا وعما تقدم من صفات أبى حنيفة ومدحه فيما بعد.
وحدث عن الصيمري إلى أحمد بن عطية قال سئل يحيى بن معين هل حدث سفيان عن أبى حنيفة؟ قال نعم كان أبو حنيفة ثقة صدوقا في الحديث والفقه، مأمونا على دين الله عز وجل.
قلت: (يعنى الخطيب) أحمد بن الصلت هو أحمد بن عطية وكان غير ثقة، وسيأتي حديث أحمد مع بقية الرواة فيما بعد إن شاء الله.
وحدث عن ابن رزق إلى محمد بن عثمان بن أبى شيبة قال سمعت يحيى بن معين- وسئل عن أبى حنيفة- فقال: كان يضعف في الحديث.
وحدث عن أحمد بن عبد الله الأنماطى إلى أحمد بن سعد بن أبى مريم قال:
وسألته- يعنى يحيى بن معين- عن أبى حنيفة فقال: لا تكتب حديثه.
هذا القول لا يلتفت الناس إليه، قد كتب حديثه ورأيه وسار في الآفاق واجمع الناس على أئمة أربعة أبو حنيفة منهم. وما أخذ أحد بقول يحيى ولا بروايته.
وأخبر عن على بن محمد المالكي إلى عبد الله بن على بن عبد الله المديني قال:
وسألته- يعنى أباه- عن أبى حنيفة صاحب الرأى فضعفه جدا وقال لو كان بين يدي ما سألته عن شيء. وروى خمسين حديثا أخطأ فيها.
كان الواجب أن يذكر الأحاديث ويبين خطأ أبى حنيفة فيها هل هو من الطرق أو من الرأى الذي رآه فيها، وأما أن يقول خمسين حديثا من غير ذكرها وتبيين الخطإ فيها فهذا من دلائل التحامل والافتراء، والعجب من اقتصاره على خمسين حديثا.
وحدث عن عبد الله بن يحيى السكرى إلى ابن الغلابي قال: أبو حنيفة ضعيف.
هذه دعوى مجهولة، هل أراد ضعيف الجسم، أو ضعيف القلب، أو ضعيف الفقه أو ضعيف الحديث. كان يريد أن يبين في أى شيء هو ضعيف، وإن كان يعنى الحديث- وهو الأقرب- فكان يلزمه أن يبين الأحاديث التي ضعفه فيها ويبين وجه ضعفه وإلا ربما يكون الضعف من فهم القادح، وإلا فقد روى عن أبى حنيفة جماعة كثيرة كل واحد منهم أجل قدرا منه.
وحدث عن ابن الفضل إلى أبى حفص عمرو بن على قال: وأبو حنيفة النعمان ابن ثابت صاحب الرأى ليس بالحافظ مضطرب الحديث: واهي الحديث، وصاحب هوى.
هذا كان يحتاج إلى تبيين ما ادعاه وإثبات طرقه وذكر الأحاديث التي كان فيها مضطربا واهيا متهاويا فإن مثل هذا لا يثبت إلا بمثل هذه الشرائط.
وحدث عن عبد العزيز بن أحمد الكتاني إلى إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني قال:
أبو حنيفة لا يقنع بحديثه ولا برأيه. أما الحديث فقد ذكرته وذكرت أنه كان يجب ذكر الأحاديث التي لم يقنع به فيها ولم كان؟ وأما الرأى فقد أجمع أهل العصر على أربعة منهم أبو حنيفة، وهذا إبراهيم لا يكاد يعرفه إلا آحاد المحدثين فمن أجمعت الأمة على أنه أحد الأئمة الأربعة المجمع عليهم لا يقدح فيه قول من لا يعرفه إلا بعض المحدثين. ورأى أبى حنيفة أكثر من أن نحصيه في كتاب.
وحدث عن أبى عمر عبد الواحد بن محمد بن عبد الله بن مهدى أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد بن يعقوب بن شيبة حدثنا جدي قال: أبو حنيفة النعمان بن ثابت صدوق ضعيف الحديث. وهذا أيضا كما قدمنا من الأمر أنه قال شيئا وضده، والذي يكون صدوق كيف يكون ضعيف الحديث، ومن يكون ضعيف الحديث كيف يكون صدوقا.
وحدث عن أبى حازم العبدوي قال سمعت محمد بن عبد الله الجوزقى يقول قرئ على مكي بن عبدان وأنا أسمع قيل له سمعت مسلم بن الحجاج يقول: أبو حنيفة النعمان بن ثابت صاحب الرأى مضطرب الحديث، ليس له كبير حديث صحيح؟
هذه أيضا دعوى مجهولة إلا أن يشرح الأحاديث ويبين وجه الاضطراب كما بينا القول.
وحدث عن البرقاني إلى عبد الكريم بن أحمد بن شعيب النسائي عن أبيه قال: أبو حنيفة النعمان بن ثابت كوفى ليس بالقوى في الحديث. والجواب عن هذا كما تقدم.
وحدث عن القاضي أبى العلاء محمد بن على الواسطي إلى الهيثم بن عدى قال:
وأبو حنيفة النعمان بن ثابت التيمي- تيم بن ثعلبة- مولى لهم توفى ببغداد سنة خمسين ومائة.
هذا إن كان أراد أن يبين النسب فالنسب قد اختلف فيه وهو معروف، وإن كان أراد أن يبين كونه مولى فنحن نجيب على تقدير صحة قوله فنقول قال الله عز وجل {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ} وقال تعالى {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَساءَلُونَ} .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة» وقال:
وكونه مولى إن صح ذلك لا يقدح في دينه ولا في علمه.
وحدث عن القاضي أبى بكر أحمد بن الحسن الخرشى إلى أبى عاصم قال سمعت سفيان الثوري- بمكة- وقيل له مات أبو حنيفة فقال: الحمد لله الذي عافانا مما ابتلى به كثيرا من الناس.
وحدث عن أبى سعيد محمد بن موسى الصيرفي إلى مسدد قال سمعت أبا عاصم يقول ذكر عند سفيان موت أبى حنيفة فما سمعته يقول رحمه اللهو لا شيئا. قال:
الحمد لله الذي عافانا مما ابتلاه به.
هذا قد بين أن سفيان كان له غرض مع أبى حنيفة حتى أنه لما مات لم يترحم عليه مع كونه من أهل القبلة بلا شك. وقال: الحمد لله الذي عافانا مما ابتلاه به فإن كان حمد الله على كونه عافاه من الموت الذي ابتلاه به فقد أخطأ فإن الله لا يعافى أحدا منه ولو كان ذلك لكان في حق النبي صلى الله عليه وسلم وقد قال له {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} وإن كان حمد الله على أنه عافاه بلاء ابتلى به أبا حنيفة دونه فكان ينبغي أن يبينه.
وحدث عن محمد بن عمر بن بكير المقرئ إلى عبد الله بن مسمع الهروي قال:
سمعت عبد الصمد بن حسان يقول: لما مات أبو حنيفة قال لي سفيان الثوري اذهب إلى إبراهيم بن طهمان فبشره أن فتان هذه الأمة قد مات، فذهبت إليه فوجدته قائلا
فرجعت إلى سفيان. فقلت له إنه قائل، قال اذهب فصح به إن فتان هذه الأمة قد مات.
قلت: (يعنى الخطيب) أراد الثوري أن يغم إبراهيم بوفاة أبى حنيفة لأنه كان على مذهبه في الأرجاء.
هذا غير صحيح لأن أصحاب أبى حنيفة كلهم على غير ذلك وإذا جمع الناس على أمر وخالفهم واحد لم يلتفت إلى قوله ولم يصدق في دعواه، حتى أن الصلاة عند أصحاب أبى حنيفة خلف المرجئة لا تجوز.
وحدث عن ابن الفضل إلى على بن المديني قال: قال لي بشر بن أبى الأزهر النيسابوري رأيت في المنام جنازة عليها ثوب أسود وحولها قسيسين، فقلت جنازة من هذه؟ فقالوا: جنازة أبى حنيفة، حدثت به أبا يوسف فقال لا تحدث به أحدا.
قد علمت وفقك الله بما تقدم من هذه الأقوال تعصب الخطيب وما ذكرت فيه في نفسه وإن مثله لا يقبل قوله إذا روى عمن يقول في اليقظة فكيف بالرواية عمن يقول إنه رأى في المنام، ولكني أجيب عن ذلك أيضا لأن لكل كلام جوابا وقد يكون الكلام خطأ ويسمى كلاما، وأنا أذكر الجواب من الكتاب والسنة وإن كنت قد ذكرته فيما تقدم. أما الكتاب العزيز فقوله تعالى:{إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} فلم يكن ذلك في اليقظة وإنما كان أخوته النجوم وأباه وخالته القمران، هذا مع كونه نبى ابن نبى وقوله:{إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ} فأولت البقر بالسنين وأين هذا من هذا، وقوله عز وجل:{وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قَالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ} وأجمع المفسرون على أن هذه الرؤيا ما كانت وأنهما افتعلاها كذبا ولما أولها يوسف الصديق لم يؤولها على ظاهر لفظها بل أول العاصر على أنه يسقى ربه خمرا ولم يكن للسقي ولا لرب الرائي ذكر في الرؤيا، وأول لحامل الخبز أنه يصلب فتأكل الطير من رأسه وأين هذا من هذا لولا التأويل، فإن كان راوي هذه الرؤيا صادقا فيما زعم فالتأويل على ضد ما روى، وأما السنة فإن النبي صلى الله عليه وسلم رويت عنه تأويلات كثيرة على خلاف ظاهر لفظ الرؤيا، وكان إذا أصبح يقول «من رأى منكم الليلة رؤيا» ثم يؤوله أو يقول لأبى بكر الصديق رضي الله عنه ما ترى فيه ولا يتوقف على أن يحمله على ظاهره وكان
المفسر مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم. فكيف يصدق بشر بن أبى الأزهر ويحمل منامه على ظاهره من غير تأويل.
هذا آخر ما ذكره الخطيب في ترجمة أبى حنيفة رحمه الله وقد أجبناه بما تيسر لنا من الأجوبة.
ونحن الآن ذاكرون إن شاء الله أحوال الرجال الذين روى عنهم هذه الحكايات التي أوردها في تاريخه وكاشفون أسماءهم من كتابه التاريخ وناقلون ما ذكره عنهم وما ذكره غيره من أئمة الحديث في حالهم.
فأول من روى عنه هذه الحكايات وكيع بن الجراح. قال: الخطيب في تاريخه في ترجمة وكيع أجاز لنا إبراهيم بن مخلد حدثنا مكرم بن أحمد القاضي. ثم أنبأنا الصيمري قراءة أنبأنا عمر بن إبراهيم المقرئ أنبأ مكرم حدثنا على بن الحسين بن حبان عن أبيه قال سمعت يحيى بن معين قال: ما رأيت أفضل من وكيع بن الجراح، قيل له ولا ابن المبارك؟ قال قد كان لابن المبارك فضل ولكن ما رأيت أفضل من وكيع، كان يستقبل القبلة ويحفظ حديثه ويقوم الليل ويسرد الصوم ويفتي أبى حنيفة، وكان قد سمع منه شيئا كثيرا قال يحيى بن معين: وكان يحيى بن سعيد القطان يقول بقوله أيضا. وإذا أثبت الخطيب أن وكيعا من أصحاب أبى حنيفة وكان يفتي بقوله فقد اندفع ما نقل عنه من خلاف ذلك، وعلم أنه لا يقدح فيه. والذي يدل على كونه من اتباع أبى حنيفة أنه كان يرى شرب النبيذ مباحا.
وقد ذكر الخطيب في ترجمة وكيع؛ حدثت عن أبى الحسن الدارقطني قال:
حدثني القاضي أبو الحسن محمد بن صالح بن على بن أم شيبان الهاشمي. قال حدثني أبى قال حدثنا أبو عبد الرحمن سفيان بن وكيع بن الجراح قال حدثني أبى. قال:
كان أبى وكيع يصوم الدهر فكان يبكر فيجلس لأصحاب الحديث إلى ارتفاع النهار ثم ينصرف فيقيل إلى وقت صلاة الظهر ثم يخرج فيصلى الظهر ويقصد طريق المشرعة التي كان يصعد منها أصحاب الروايا فيريحون نواضحهم فيعلمهم من القرآن ما يؤدون به الفرض إلى حدود العصر ثم يرجع إلى مسجده فيصلى العصر ثم يجلس فيدرس القرآن ويذكر الله إلى آخر النهار، ثم يدخل إلى منزله فيقدم إليه إفطاره وكان يفطر على نحو عشرة أرطال من الطعام ثم يقدم له قرابة فيها نحو من عشرة
أرطال نبيذ فيشرب منها ما طاب له على طعامه ثم يجعلها بين يديه. ويقوم فيصلى وردة من الليل وكلما صلّى ركعتين- أو أكثر من شفع أو وتر- شرب منها حتى ينفذها ثم ينام.
وقال الخطيب: قرأت على التنوخي عن أبى الحسن أحمد بن يوسف بن يعقوب ابن إسحاق بن البهلول الأنبارى. قال حدثني أبى قال حدثني جدي إسحاق بن البهلول. قال: قدم علينا وكيع بن الجراح فنزل في المسجد على الفرات فكنت أصير إليه لاستماع الحديث منه فطلب منى نبيذا فجئته بمخيسة ليلا فأقبلت أقرأ عليه الحديث وهو يشرب فلما نفذ ما كنت جئته به أطفأ السراج فقلت له ما هذا فقال لو زدتنا لزدناك.
وقال أنبأنا هلال بن محمد بن جعفر الحفار أنبا إسماعيل بن محمد الصفار حدثنا جعفر ابن محمد- يعنى الطيالسي- قال سمعت يحيى بن معين يقول سمعت رجلا سأل وكيعا فقال: يا أبا سفيان شربت البارحة نبيذا فرأيت فيما يرى النائم كأن رجلا يقول إنك شربت خمرا؟ فقال وكيع ذاك الشيطان.
وقال أخبرنا ابن الفضل أنبأنا دعلج حدثنا أحمد بن على الأبار حدثنا محمد بن يحيى قال: قال نعيم بن حماد: تعشينا عند وكيع أو قال تغذينا فقال أى شيء تريدون أجيئكم به؟ نبيذ الشيوخ أو بنبيذ الفتيان؟ قال قلت أتتكلم بهذا. قال هو عندي أحل من ماء الفرات. قال قلت له ماء الفرات لم يختلف فيه أحد، وقد اختلف في هذا.
وذكر الخطيب في ترجمة الفضل بن دكين أبى نعيم من تاريخه بإسناده ساقه عن البرقاني إلى أن قال سمعت عبد الله بن أحمد بن حنبل. قال سمعت أبى يقول: أخطأ وكيع بن الجراح في خمسمائة حديث.
ثم ذكر بعده سفيان الثوري وهو ممن قال في أبى حنيفة المدح وخلافه، وقد روى عنه الأمران جميعا فأما أن يكون الطرق إليه كلها سواء فإحدى الروايتين كذب لا محالة، وإن كانت إحدى الطريقين ليست بصحيحة فالأخرى صحيحة فأما طرق مدح أبى حنيفة وتعظيمه فلم نذكرها إذ لا حاجة لنا في ذكره فإن الطرق في هذا كثيرة وقد أفردت له كتب من غير تصانيف الخطيب، فلو كنا نقتصر على البعض
يكون الكتاب غير مفيد، ولو استوعبنا الجميع لطال الكتاب وليس هذا من الغرض.
فنقتصر على المتكلمين في أبى حنيفة والنقلة عنهم ونبين طرق ذلك. فأول من تكلم سفيان الثوري وروى عنه وكيع ورجح قول سفيان.
فنحن ذاكرون حاله إن شاء الله تعالى ونبدأ بما نقل عنه الخطيب ثم بما بلغنا عن غيره.
قال الخطيب في ترجمة سفيان الثوري: أخبرنا محمد بن الحسين القطان أخبرنا دعلج بن أحمد أخبرنا أحمد بن على الأبار حدثنا أحمد بن هاشم حدثنا ضمرة قال سمعت مالك بن أنس يقول إنما كانت العراق تجيش علينا بالدراهم والثياب، ثم صارت تجيش علينا بسفيان الثوري. وكان سفيان يقول: ما لك ليس له حفظ. فهذا القول من سفيان في حق مالك باطل، لأنه إن عنى به الحفظ للحديث فمالك له الموطأ الذي هو أشهر من الشمس وإن كان يريد الفقه فهو أحد الأئمة الأربعة الذين أجمعت عليهم الأمة، فثبت أن قول سفيان هذا ليس بشيء لأنه نقل خلاف إجماع الناس فتبين أنه صاحب هوى، ومن كان شأنه هكذا رفض المحدثون أقواله. ونظرنا طرق هذا النقل إلى سفيان رجلا رجلا فلم نجد فيهم من تحدث فيه، ثم نظرنا الحديث الذي تكلم فيه سفيان عن أبى حنيفة فرأينا راوية عنه وكيعا، وقد ذكرنا عن وكيع ما تقدم.
ثم ذكر حكاية حدث بها عن على بن محمد بن عبد الله المعدل إلى حمزة بن الحارث بن عمير عن أبيه. والحارث بن عمير هذا هو أبو عمر البصري. قال ابن حبان البستي في كتاب الجرح: يروى عن الإثبات الموضوعات.
ثم ذكر حكاية رواها عن واحد عن محمد بن العباس الخزاز- وهو ابن حيوية- ذكر عنه الخطيب في ترجمته أنه كان مكثرا وكان فيه تسامح، وربما أراد أن يقرأ شيئا ولا يقرب أصله منه. فيقرأه من كتاب أبى الحسن بن الرزاز لثقته بذلك الكتاب، وإن لم يكن فيه سماعه، ثم ساق السند إلى محمد بن محمد الباغنديّ وقال في ترجمته قال حمزة سألت الدارقطني عن محمد الباغنديّ. قال: كان كثير التدليس يحدث بما لم يسمع، وربما سرق. وقال ابن عدى في كتاب الجرح: كان مدلسا. وقال إبراهيم الأصفهانى كذاب. وهذا ظاهر. وهذه الحكاية قال في آخرها: إن أحمد بن حنبل كتب إلى ابن الزبير أن أكتب إلى بأشنع مسألة عن أبى حنيفة، فكتب إليه: حدثني
الحارث بن عمير، والحارث بن عمير قد نقلنا ما ذكر الناس عنه. وأما أحمد بن حنبل فإنه طلب أشنع مسألة من أبى حنيفة، فتبين بهذا أنه كان صاحب هوى. ثم نقل ما نقل عن الحارث بن عمير وهو عارف بما قيل فيه فتبين أنه نقل عن ضعيف غير خاف عنه ضعفه وحاله، وساق فيها عن الحارث بن عمير أشياء أخر، وقد بينا حال الحارث هنا. ثم ذكر حكاية فيها الحارث بن عمير [أيضا] وقد تبين حاله.
وذكر أيضا حكاية فيها مؤمل بن إسماعيل عن سفيان، ومؤمل هذا هو بصرى، قال أبو حاتم: صدوق شديد في السنة كثير الخطأ.
وذكر حكاية عن سفيان في سندها شيخ شيخه وهو عبد الله بن جعفر بن درستويه، ثم ذكر في ترجمة عبد الله هذا قال سمعت هبة الله بن الحسن الطبري ذكر ابن درستويه فضعفه وقال: بلغني أنه قيل له حدث عن عباس الدوري حديثا ونحن نعطيك درهما، ففعل- ولم يكن سمع من عباس- وقال سألت البرقاني عن ابن درستويه فقال ضعفوه، لأنه لما روى كتاب التاريخ عن يعقوب بن سفيان أنكروا عليه ذلك، وقالوا له إنما حدث يعقوب بهذا الكتاب قديما فمتى سمعته منه؟
وذكر في حكاية ساقها إلى شريك القاضي، وقد ذكر الخطيب في ترجمة شريك عن أحمد بن حنبل. قال: قال أبو بكر المروذى قلت- يعنى لأحمد بن حنبل- يحيى القطان أى شيء كان يقول في شريك؟ قال: كان لا يرضاه، وما ذكر عنه إلا شيئا على المذاكرة حديثين وذكر قال: قال على بن المديني: شريك أعلم من إسرائيل.
وإسرائيل أقل خطأ منه. وذكر عن شريك فقال: كان عسرا في الحديث، وإنما كان حديث شريك وقع بواسط قدم عليهم في حفر نهر فحمل عنه إسحاق الأزرق وغيره.
وقال أيضا في روايته إلى عمرو بن على أبى حفص. قال: كان يحيى لا يحدث عن إسرائيل ولا عن شريك. وروى أيضا بإسناد له إلى على بن المديني. قال: قال يحيى بن سعيد: قدم شريك مكة فقيل لي لو أتيته؟ فقلت لو كان بين يدي ما سألته عن شيء، وضعف حديثه جدا. قال يحيى أتيته بالكوفة فإذا هو لا يدرى.
وقال أيضا بإسناد رفعه إلى أبى صالح الهمداني قال سمعت أبا حاتم الرازي. قال:
شريك لا يحتج بحديثه.
وقال أبو حاتم في كتاب «الجرح والتعديل» : شريك بن عبد الله النخعي صدوق وله أغاليط. وقال أبو زرعة: كان صاحب وهم يغلط أحيانا. وقال يحيى بن سعيد:
ما زال مخلطا. وقال الدارقطني في كتابه: ليس بالقوى فيما ينفرد به- يعنى شريكا.
ومن جملة رجال هذه الحكاية عبد السلام بن عبد الرحمن الوابصى القاضي ذكر في ترجمته قال: كان عبد السلام بن عبد الرحمن الأسدى الوابصى على قضاء بغداد، وكان عفيفا. فصرفه يحيى بن أكثم في أيام المتوكل فأخبرنى أبو عبد الله المباركى أن المتوكل قال ليحيى: لم صرفت الوابصى؟ فذكر له شيئا أراه ضعفه في الفقه وقول ابن المبارك أراه ضعفه في الفقه ظن منه. والظاهر أن يحيى لم يعزله إلا لأمر أوجب عزله، ولأنه بين ذلك بين يدي الخليفة.
وذكر حكاية فيها شيخ شيخه عبد الله بن درستويه وقد ذكرنا ما قيل عنه.
وذكر حكاية ساقها إلى القاسم بن حبيب، وهذا القاسم المذكور ذكره أبو حاتم في كتاب «الجرح والتعديل» قال: قال عنه ابن معين: لا شيء.
وذكر حكاية ساق سندها إلى طاهر بن محمد بن وكيع، وقد تقدم القول في وكيع.
وذكر حكاية فيها شيخ شيخه ابن درستويه وقد تقدم القول فيه وفي ضعفه وذكرهما من طريق آخر فيه محمد بن موسى البربري وقد ذكر الخطيب في ترجمته قال: كان لا يحفظ إلا حديثين، حديث الطير، وحديث تقتل عمارا الفئة الباغية.
ومعلوم أن حديث الطير موضوع.
وروى عن القاضي أحمد بن كامل أنه دخل عليه يوما وهو مغموم فقال له مالك؟ فقال فلانة- يعنى امرأته- حملتني على أن عتقت هذه الجارية، وقد بقيت بلا أمة تخدمنى ولا أحد يغيثنى. فقلت وأى شيء ثمن هذه الجارية؟ قال إن امرأتى دفعت إلى دنانير اشترى لها بها جارية، فاشتريت هذه الجارية. فقلت وتعتق ما لا تملك؟ قال كأنه لا يجوز؟ قلت لا، الجارية لها على ملكها. فقال لي: فعل الله وفعل، يدعو لي. ومن لا يعرف هذا المقدار كيف يؤخذ عنه.
وذكر في حكاية أخرى عن أبى القاسم إبراهيم بن محمد بن سليمان المؤدب بأصفهان أخبرنا أبو بكر بن المقرئ قال حدثنا سلام بن محمود القيسي- بعسقلان-
حدثنا عبد الله بن محمد بن عمرو قال سمعت أبا مسهر.
وذكر حكاية أخرى رواها عن الحسن بن الحسين بن العباس النعالى- وهو شيخ الخطيب يعرف بابن دوما- ذكر الخطيب في ترجمته قال: كتبنا عنه وكان كثير السماع، إلا أنه أفسده أمره بأن ألحق لنفسه السماع في أشياء لم تكن سماعه.
وقال الخطيب: ذكرت لمحمد بن على الصوري جزءا من حديث الشافعي كان حدثنا به ابن دوما، فقال الصوري: لما دخلت بغداد رأيت هذا الجزء وفيه سماع ابن دوما الأكبر وليس فيه سماع أبى على، ثم سمع فيه أبو على لنفسه وألحق اسمه مع اسم أخيه. وقد قال الخطيب عنه هذا وروى عنه.
وروى في حكاية أخرى عن ابن رزق عن جعفر الخلدى حدثنا محمد بن عبد الله ابن سليمان الحضرمي حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقرئ قال سمعت أبى يقول:
دعاني أبو حنيفة إلى الأرجاء.
وروى في حكاية أخرى عن ابن الفضل عن ابن درستويه- وقد تقدم ما ذكر فيه- رفعها إلى ابن المبارك وقد تقدم القول فيه. والحكاية التي بعدها فيها ابن درستويه وقد علم حاله.
ثم ذكر حكاية أخري عن أبى يوسف رضي الله عنه، وقد ذكرنا أن هذا لا يصح عن أبى يوسف، لأن الفقهاء ينقلون عنه خلاف ذلك.
وذكر حكاية عن الحسن بن الحسين بن دوما وقد تقدم القول عنه وهو شيخه.
وذكر حكاية عن البرقاني عن محمد بن العباس الخزاز وقد تقدم ما ذكر عنه.
وذكر حكاية أخرى عن العتيقى رفعها إلى أبى القاسم البغوي، وأبو القاسم هذا هو عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي، ذكره ابن عدى في كتاب «الضعفاء» .
وقال: وافيت العراق سنة سبع وتسعين ومائتين والناس أهل العلم والمشايخ مجمعون على ضعفه.
وذكر حكاية عن محمد بن على المقرئ ساقها إلى مسدد بن قطن عن قطن، وقطن هذا هو ابن بشير أبو عباد الغبرى. قال الرازي قال أبو زرعة: روى أحاديث عن جعفر بن سليمان عن ثابت أنكرت عليه. وقال ابن عدى: كان يسرق الحديث
ويوصله. وتمام الحكاية قال سمعت عشرة كلهم ثقات. كان الواجب عليه أن يبين من هم ليعلم حالهم.
ثم ذكر حكاية رواها عن أبى عبد الله الحسين بن شجاع الصوفي ساقها إلى حسين بن عبد الأول، والحسين هذا هو الذي ذكره ابن أبى حاتم في كتابه وقال تكلم الناس فيه. وقال أبو زرعة: روى أحاديث لا أدرى ما هي، ولست أحدث عنه.
وروى حكاية عن الخلال إلى عمر بن الحسن القاضي، والقاضي هذا هو الأشنانى، ذكره الخطيب في تاريخه وقال في ترجمته ذكر أبو عبد الرحمن السلمى أنه سأل الدارقطني عن عمر بن الأشنانى فقال: ضعيف. ثم قال الخطيب سألت الحسن ابن محمد الخلال عن ابن الأشنانى فقال: ضعيف تكلموا فيه.
وذكر الحكاية التي بعدها. أخبرنا ابن رزق عن محمد بن العباس قال حدثنا أبو محمد- شيخ له- وهذا مجهول كان ينبغي بيانه.
وذكر حكاية رواها عن ابن الفضل إلى سفيان بن وكيع، وسفيان بن وكيع هذا هو ابن الجراح أبو محمد. قال البخاري يتكلمون فيه لاشياء لقنوه إياها. قال أبو زرعة: لا نشتغل به، قيل له أكان يتهم بالكذب؟ قال نعم. وقال ابن عدى: كان إذا لقن تلقن. وقال النسائي: ليس بشيء. وقال ابن حبان: قيل له في أشياء لقتها فلم يرجع عنها فاستحق الترك لإصراره.
وذكر حكاية عن إبراهيم بن عمر البرمكي إلى ابن أبى غنية قال أخبرنا جار لي أن أبا حنيفة دعاه إلى ما استتيب منه بعد ما استتيب. وهذا جميعه مجهول الراوي والذي استتيب منه.
وذكر حكاية عن محمد بن عبد الله الحنائى إلى ضرار بن صرد، وضرار هذا هو نعيم الكوفي الطحان. روى عن المعتمر والدراوردي، وكان متعبدا. ذكره ابن أبى حاتم في كتابه وقال: كان يحيى بن معين يكذبه. وقال النسائي: متروك الحديث.
وقال الدارقطني: ضعيف: ضعيف. وشيخ ضرار المذكور سليم أبو سلمة القارئ الكوفي وهو مولى الشعبي يروى عنه. قال يحيى بن معين: ضعيف ليس بشيء وقال أبو حفص الفلاس: ضعيف الحديث. وقال النسائي ليس بثقة.
وذكر حكاية بعدها فيها ضرار بن صرد وقد تقدم ما ذكرته العلماء عنه. وذكر
حكاية بعدها عن عبد الباقي بن عبد الكريم إلى عبد الرحمن بن الحكم بن بشر بن سلمان عن أبيه ثم قال- أو غيره- وأكبر ظني أنه عن غيره.
لما ساق الخطيب الإسناد جيدا عدل به ثم قال أو غيره، فأدخل الشك فنفى صحة الإسناد. ألا ترى أن غيرا موضوعة للإبهام، وهي مع الإضافة لا تختص بقول مررت برجل غيرك، فيكون كل من مر به غيرك الاسم واقع عليه ألا ترى أن قولك مررت بغلامك يختص هاهنا ويعرف بالإضافة إلى الكاف فهي تجرى في الإبهام مجرى مثلك وشبهك.
ثم ذكر حكاية عن ابن رزق ساقها إلى شريك القاضي وقد تقدم ما قيل فيه.
ثم ذكر حكاية عن ابن الفضل عن ابن درستويه وقد ذكر حاله، وما ذكر. عنه.
ثم ساقها إلى محمد بن فليح المدني ذكره ابن أبى حاتم في كتابه وقال: قال يحيى ابن معين: ليس بثقة. وقال أبو حاتم: ليس بذلك القوى. وهذا محمد بن فليح يروى الحكاية عن أخيه سليمان. قال أبو زرعة: لا أعرفه ولا أعرف لفليح ولدا غير محمد ويحيى.
وقال الخطيب عن سليمان في هذا السند: وكان علّامة بالناس. وأدنى أحوال العلامة أن يعرفه أكثر الناس، فكيف بك من ينكر وجوده أئمة المحدثين ويقولون لا نعرف لفليح ولدا غير محمد ويحيى.
وذكر حكاية عن على بن طلحة المقرئ والحسن بن على الجوهري ساقها إلى على بن إسحاق بن زاطيا ذكره الخطيب في تاريخه فقال في ترجمته بحكاية ساقها:
كان بجانبنا أسفل خان أبى زياد، كتب عنه ولم يكن بالمحمود.
ثم ساقها إلى حجاج الأعور ذكره الخطيب في تاريخه في ترجمة حجاج وقال:
قال إبراهيم الحربي: أخبرنى صديق لي قال: لما قدم حجاج الأعور آخر قدمة إلى بغداد خلط، فرأيت يحيى بن معين عنده، فرآه يحيى يخلط فقال لابنه: لا تدخل عليه أحدا. وروى الحجاج هذا عن قيس بن الربيع، وقيس هذا هو أبو محمد الكوفي الأسدى ذكره ابن أبى حاتم في كتابه فقال: تركه عبد الرحمن بن مهدى، وضعفه أحمد. وقال روى أحاديث منكرة وقال ابن معين: ليس حديثه بشيء.
وذكره ابن الجوزي في كتاب «الضعفاء» فقال قال يحيى ليس بشيء. وقال مرة
ضعيف. وقال مرة لا يكتب حديثه. وقال قيل لأحمد لم ترك الناس حديثه؟ قال كان يتشيع، وكان كثير الخطأ في الحديث وروى أحاديث منكرة. وكان ابن المديني ووكيع يضعفانه. وقال الدارقطني: ضعيف الحديث. وقال السعدي: ساقط. وقال النسائي: متروك الحديث. وقال أبو داود: إنماأتى قيس من قبل ابنه، كان يأخذ أحاديث الناس فيدخلها في كتاب قيس ولا يعرف الشيخ ذلك. وقال ابن الجوزي:
إنما قال أبو الفتح الأزدى في ابن منيع. أخبرنا محمود بن غيلان. قال لي محمد بن عبيدة: كان قيس بن الربيع استعمله أبو جعفر على المدائن، فكان يعلق النساء بأبدانهن ليرسل عليهن الزنابير.
ثم ذكر حكاية عن الحسن بن محمد أخى الخلال ساقها إلى شريك القاضي وقد تقدم شرح حاله.
ثم ذكر حكاية أخرى حدث فيها عن ابن الفضل عن ابن درستويه وقد شرحنا ما قاله فيه الناس. ثم ساقها إلى شريك القاضي وقد ذكر ما قيل فيه.
ثم ذكر حكاية أخرى عن محمد بن عبد الله المعدل رفعها إلى شريك وقد ذكر فيما تقدم حاله.
ثم ذكر حكاية عن ابن رزق إلى على بن إسحاق بن عيسى بن زاطيا وقد شرح ما قاله الخطيب في ترجمته.
وساق الحكاية من طريق أخرى عن ابن الفضل إلى أن أوصل الطريقين إلى سفيان الثوري. ذكر ابن عدى صاحب كتاب «الجرح والتعديل» في كتاب مسند أبى حنيفة رضي الله عنه في صدر الكتاب في مناقب أبى حنيفة بإسناد له إلى أن قال: كان بين أبى حنيفة وبين سفيان الثوري شيء، وكان أبو حنيفة أكفهما لسانا. فهذا ابن عدى قد نقل أنهما كان بينهما شيء، وإذا صار خصما فلا اعتداد بقوله في حقه، وقد بين ابن عدى بقوله وكان أبو حنيفة أكفهما لسانا، أنه قد جرت بينهما منافرة توجب ترك كلام كل واحد منهما في صاحبه ثم إن الخطيب نقل عن سفيان الثوري مدح أبى حنيفة وتعظيمه، ونقل خلاف ذلك عنه أيضا. وقد ذكرنا ما كان بينهما، وهذا إذا لم يقابل بين قولي سفيان فقد بينا غرضه. أما إذا تقابل القولان فهما متضادان، فلا بد أن يكون أحدهما باطلا. فأما من وافق سفيان على مدح أبى حنيفة وتعظيمه
فأكثر من أن يحصوا كثرة في كل عصر من أعصر الإسلام من لدن أبى حنيفة إلى هلم. وأما من وافق سفيان في القول الآخر فقليل لم نعرفه إلا في كتاب الخطيب، وقد بينا ما كان بينهما، وبينا فساد الطريق. فأما ما حكى الخطيب عن سفيان بإسناد له في كتابه إلى أن قال سمعت يزيد بن أبى الزرقا يقول: رأيت سفيان الثوري ببغداد وقد نظر إلى شيخ جلاد يتصدق- وقد ذهب بصره- فحمل قطعة فأعطاه ثم قال له: ليس هذه صدقة عليك. هذه شماتة بك.
وذكر أيضا في ترجمته عن محمد بن الحسين القطان أخبرنا دعلج بن أحمد أخبرنا أحمد بن على الأبار حدثنا أحمد بن هاشم حدثنا ضمرة قال سمعت مالك بن أنس يقول إنما: كانت العراق تجيش علينا بالدراهم والثياب، ثم صارت تجيش علينا بسفيان الثوري. وكان سفيان الثوري يقول: ما لك ليس له حفظ. فهذا يدلك- أيدك الله- أنه لما قال للأعمى ذلك القول إنما أراد المجون- أو الاستهتار- ومن نقل عنه مثل هذا عن رجل ليس بينه وبينه شيء فلأن ينقل عنه في رجل بينه وبينه شيء بطريق الأولى. ثم قوله عن مالك ليس له حفظ يعلم يقينا أنه كذب، لأنه إن أراد الحديث فليس لسفيان مثل موطإ مالك، وإن أراد الفقه فهو أحد الأئمة الأربعة المجمع عليهم وسفيان من المتروكى المذهب. ومن ثبت مثل هذا عنه فلا اعتداد بقوله.
وحدث أيضا مثلها عن ابن الفضل عن ابن درستويه إلى سفيان، وابن درستويه قد تقدم ما قاله فيه، وهذا قولنا في سفيان.
وحدث في حكاية عن أبى نعيم الحافظ، وأبو نعيم هذا هو صاحب الحلية وقد تكلم فيه بسبب جزء محمد بن عاصم الذي أخرجه إلى أبى بكر الخطيب ولم يكن سماعه عليه، ولحق الخطيب الضعف أيضا بسبب قراءته عليه، وسيأتي ذكره.
وقد ذكر الحافظ محمد بن طاهر المقدسي في كتابه المعروف بمنثور الحكايات قال: سمعت إسماعيل بن أبى الفضل القومسانى- بهمذان- وكان من أهل المعرفة بالحديث يقول: ثلاثة من الحفاظ لا أحبهم لشدة تعصبهم وقلة إنصافهم؛ الحاكم أبو عبد الله، وأبو نعيم، وأبو بكر الخطيب.
ثم ساق الخبر إلى مؤمل وسيأتي ذكر مؤمل هذا في الحكاية التي تلى هذه الحكاية.
ثم ذكر حكاية عن أبى سعيد محمد بن عبد الله بن حسنويه إلى مؤمل بن إسماعيل إلى سفيان الثوري، أما سفيان فقد ذكرنا حاله، وأما مؤمل فقد ذكر مؤملا الأول ولم يذكر ابن من هو، وذكر في الحكاية الثانية مؤمل بن إسماعيل ولم يكن في هذه الطبقة إلا مؤمل بن إسماعيل ومؤمل بن أهاب، فلا يخلو إما أن يكون مؤمل الذي في الحكاية الاولى هذا ابن إسماعيل فقد قال فيه ابن أبى حاتم في كتابه هو ثقة. وقال أبو حاتم صدوق شديد في السنة، كثير الخطأ. وإن كان مؤمل الأول هو ابن أهاب قال الخطيب في ترجمته ذكر عن ابن معين أنه سئل عنه فضعفه.
وذكر حكاية عن ابن رزق إلى سفيان بن عيينة، وقد ذكر الخطيب في كتابه في ترجمة سفيان عن محمد بن عبد الله بن أحمد بن شهريار إلى أن قال سمعت حامد بن يحيى البلخي يقول سمعت سفيان بن عينية يقول: رأيت كان أسنانى كلها سقطت، فذكرت ذلك للزهري فقال: تموت أسنانك وتبقى أنت. فمات أسنانى وبقيت، فجعل الله كل عدو لي محدثا يحتمل الوجهين أن يكون يعاديهم أو يعادونه. وفي كلا الوجهين قوله غير مقبول فيهم.
ثم ذكر حكاية عنه أيضا عن الحسن بن أبى بكر إلى أن قال سمعت أبا مسلم- يعنى المستملي- قال سمعت سفيان يقول سمعت من عمرو- ما لبث نوح في قومه- ويؤيد هذا الكلام ما ذكره الخطيب في ترجمته عن البرقاني إلى أن قال سمعت ابن عمار قال سمعت يحيى بن سعيد يقول: اشهدوا أن سفيان بن عينية قد اختلط سنة سبع وتسعين، فمن سمع منه في هذه السنة- أو بعدها- فسماعه لا شيء، وقد تقدم القول في أن كل من مدح أبا حنيفة وعظمه ثم ذكر عنه ضد ذلك يقابل القول فيه، ولا بد أن يكون أحدهما ساقطا. ثم تأيد قوله في أبى حنيفة مما نقل عنه من الاختلاط، مع غير ذلك مما لا يفيد قوله في مثل أبى حنيفة هذا لو تفرد بهذا القول، أما إذا وجد منه المدح وغيره فلا اعتداد بقوله، لأنه قال الشيء وضده.
ثم ذكر حكاية عن ابن رزق إلى أن ساقها إلى نعيم بن حماد، ونعيم هذا هو الخزاعي الأعور الفارض.
ذكر الخطيب في ترجمته في تاريخه عن محمد بن جعفر بن علان إلى أن قال سمعت صالح بن مسمار يقول سمعت نعيم بن حماد يقول: أنا كنت جهميا فلذلك عرفت كلامهم، فلما طلبت الحديث عرفت أن أمرهم يرجع إلى التعطيل.
وذكر عنه رواية
حديث عوف بن مالك «تفترق أمتى على بضع وسبعين فرقة»
ثم قال: قال أبو زرعة قلت ليحيى بن معين في حديث نعيم هذا- وسألته عن صحته- فأنكره. قلت من أين يؤتى؟ قال شبه له. ثم ذكر طرق هذا الحديث عن جماعة ثم قال: وبهذا الحديث سقط نعيم بن حماد عند كثير من أهل العلم بالحديث. وإلا أن يحيى بن معين لم يكن ينسبه إلى الكذب، بل كان ينسبه إلى الوهم. وذكر أيضا في سياق حديث.
قال: وكان نعيم يحدث من حفظه وعنده مناكير كثيرة لا يتابع عليها. وسمعت يحيى ابن معين سئل عنه فقال: ليس في الحديث بشيء، ولكنه كان صاحب سنة وذكره ابن الجوزي أيضا في كتاب «الضعفاء» ونقل ما ذكرناه أولا ثم قال: وقال الدارقطني كثير الوهم. وقال أبو الفتح الأزدي: كان يضع الحديث في تقوية السنة، وحكايات مزورة في ثلب أبى حنيفة كلها كذب. وكذلك ذكر ابن عدى في كتاب «الضعفاء» .
وذكر حكاية عن الحسن بن أبى بكر عن البغوي، والبغوي هذا هو عبد الله بن إسحاق بن إبراهيم البغوي الخراساني ذكر عنه الخطيب في ترجمته حكاية قال فيها سئل أبو الحسن على بن عمر عن عبد الله بن إسحاق الخراساني فقال: فيه لين.
ثم ذكر حكاية عن أبى بكر البرقاني وابن رزق عن محمد بن جعفر بن الهيثم وقد ذكره الخطيب في تاريخه فقال فيه بعض الشيء.
ثم ذكر حكاية رواها عن محمد بن عبد الله بن أبان الهيتى. وذكر الخطيب في كتابه في ترجمة شيخه هذا قال: كان شيخا مستورا صالحا فقيرا مقلا معروفا بالخير، وكان مغفلا مع خلوه من علم الحديث إنما حدثنا عن شيخ شيخه وهو لا يعلم ولقد حدثنا في مجلس الإملاء فقال: حدثنا أبو الحسن على بن العباس المقانعي، وذكر عنه حديثا طويلا هو في كتابي إلى الآن على الخطإ لأنى لا أعلم من حدثه به عن المقانعي، وكنت إذ ذاك مبتدئا في كتب الحديث فلم أقف على أنه وهم فأسأله عنه.
وحدثنا يوما آخر قال: حدثنا محمد بن على بن حبيب الرقى المري الطرائفى، وأظن الحديثين عنده عن ابن الدقم.
ثم ذكر حكاية عن محمد بن على بن مخلد الوراق وساقها إلى أبى بكر بن أبى داود، وأبو بكر هذا هو عبد الله بن سليمان بن أبى الأشعث السجستاني ذكره الأئمة في كتبهم. وقال ابن صاعد: إن أباه كفانا أمره وقال إن ابني هذا كذاب قلا
تأخذوا عنه. وكذلك قال إبراهيم الأصفهانى. وقال ابن عدي سمعت محمد بن الضحاك بن عمرو بن أبى عاصم النبيل يقول: أشهد على محمد بن يحيى بن مندة بين يدي الله عز وجل أنه قال: أشهد على أبى بكر بن أبى داود السجستاني بين يدي الله عز وجل أنه قال. روى الزهري عن عروة. قال: كانت قد حفيت أظفار على من كثرة ما كان يتسلق على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم.
ذكر ما حكى عن أبى حنيفة رحمه الله من الخروج على السلطان
ذكر فيه حكاية عن ابن الفضل عن عبد الله بن جعفر بن درستويه، وقد تقدم ما قيل فيه.
ثم ذكر حكاية عن طلحة بن على بن الصقر، ورواها من طريق آخر عن عبد الله ابن عمر البرمكي ساقها من الطريقين إلى ابن المبارك وقد تقدم ذكره.
ثم ذكر حكاية عن محمد بن أحمد بن يعقوب ساقها أيضا إلى ابن المبارك وقد تقدم ذكره.
وذكر حكاية عن الحسن بن الحسين بن العباس بن دوما النعالى وقد تقدم ما ذكره الخطيب عنه، ثم ساقها إلى الحسن بن على الحلواني.
قال الخطيب في ترجمته في التاريخ: أنبأنا محمد بن أحمد بن رزق أخبرنا أبو على ابن الصواف حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال سألت أبى عن الحسن بن الخلال الذي يقال له الحلواني؟ قال: ما أعرفه بطلب الحديث، وما رأيته يطلب الحديث قلت إنه يذكر أنه كان ملازما ليزيد بن هارون. قال ما أعرفه إلا أنه جاءني إلى هنا يسلم على، ولم يحمده أبى. ثم قال: يبلغني عنه أشياء أكرهها، ولم أراه يستخفه وقال أبى مرة أخرى- وذكره- أهل الثقة عنه غير راضين- أو كلاما هذا معناه.
وذكر أيضا حكاية عن البرقاني إلى أن قال: قال لكم أبو سليمان داود بن الحسين البيهقي: بلغني أن الحلواني الحسن بن على. قال: إنّي لا أكفر من وقف في القرآن فتركوا علمه. قال أبو سليمان سألت أبا سلمة بن شبيب عن علم الحلواني قال:
يرمى في الحش. قال أبو سلمة: من لم يشهد بكفر الكافر فهو كافر.
ثم ساقها إلى ابن المبارك وقد تقدم حاله فيها.
ثم قال: وقال الأبار حدثنا منصور بن أبى مزاحم حدثني يزيد بن يوسف، ويزيد هذا هو يزيد بن يوسف أبو يوسف شامي ذكره الخطيب في تاريخه فقال في ترجمته أخبرنا العتيقى إلى أن قال حدثنا عبد الله بن أحمد قال سمعت أبى يقول: رأيت يزيد ابن يوسف أبا يوسف الشامي وكان قد رأى حسان بن عطية. قال أبى: رأيت عليه إزارا أصفر ولم أكتب عنه شيئا.
ثم روى حكاية قال فيها قال أبو زكريا: يزيد بن يوسف شامي ليس بثقة. وروى حكاية إلى أن قال فيها سمعت يحيى يقول: يزيد بن يوسف، قال في آخرها وليس بشيء. وروى حكاية قال فيها سألت أبا على صالح بن محمد عن يزيد بن يوسف.
قال: تركوا حديثه. وروى حكاية إلى أن قال فيها وذكر [حديثا فقال] خطأ لا أصل له، إنما هو عن يحيى عن النبي صلى الله عليه وسلم. وروى حكاية عن البرقاني قال سألت أبا الحسن الدارقطني عن يزيد بن يوسف الدمشقي فقال: متروك الحديث حميرى يروى عن الأوزاعى. وقال لنا مرة أخرى: اختلفوا فيه فيحيى بن معين يغمز عليه.
ثم ذكر حكاية عن ابن الفضل عن ابن درستويه وقد تقدم شرح حاله.
ثم ذكر حكاية عن الحسن بن أبى بكر عن إبراهيم بن محمد بن يحيى المزكى، وهذا إبراهيم المذكور هو أبو إسحاق النيسابوري من جملة شيوخ أبى بكر البرقاني.
حكى الخطيب في ترجمته من تاريخه أن البرقاني كان عنده عن المزكى سفط أو سفطان، ولم يخرج عنه في صحيحه شيئا. قال الخطيب فسألته عن ذلك فقال حديثه كثير الغرائب وفي نفسي منه شيء فلذلك لم أرو عنه في الصحيح.
ثم ساقها إلى أبى عوانة الوضاح، قال أبو محمد بن أبى حاتم في كتابه: إذا حدث عن حفظه غلط كثيرا.
وقال الخطيب في ترجمته إنه كان يقرأ من كتب الناس فيقرأ الخطأ وقال أيضا بإسناد ذكره إلى أن قال سمعت على بن عبد الله المديني قال: كان أبو عوانة في قتادة. ضعيفا، لأنه كان ذهب كتابه وكان يحفظ في سعيد وقد أغرب فيها أحاديث. وقال أيضا بإسناد ذكره. قال شعبة لأبى عوانة: كتابك صالح وحفظك لا يسوى شيئا، مع من طلبت الحديث؟ قال مع منذر الصيرفي. قال: منذر صنع بك هذا.
ثم روى حكاية عن على بن أحمد الرزاز ساقها إلى سفيان والأوزاعى، وقد تقدم ذكرهما.
ثم روى حكاية عن ابن الفضل عن محمد بن الحسن بن زياد النقاش، والنقاش هذا هو المفسر.
ذكره الخطيب في تاريخه وقال: كان في حديثه مناكير بأسانيد مشهورة. ثم قال
حدثني أبو القاسم الأزهرى عن أبى الحسن على بن عمر الحافظ. قال حدث أبو بكر النقاش بحديث أبى غالب على بن أحمد بن النضر أخى أبى بكر ابن بنت معاوية ابن عمر ولأبيه، فقال: حدثنا أبو غالب حدثنا جدي معاوية بن عمرو عن زائدة عن ليث عن مجاهد عن ابن عمر. قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «سألت الله أن لا يستجيب دعاء حبيب على حبيبه»
فأنكرت عليه هذا الحديث وقلت لها إن أبا غالب ليس هو ابن بنت معاوية، وإنما أخوه لأبيه ابن بنت معاوية، ومعاوية بن عمرو ثقة، وزائدة من الإثبات الأئمة، وهذا حديث كذب موضوع مركب؟ فرجع عنه وقال:
هو في كتابي ولم أسمعه من أبى غالب، وأرانى كتابا له فيه هذا الحديث على ظهره أبو غالب. قال حدثنا جدي. قال أبو الحسن: وأحسبه أنه نقله من كتاب عنده صحيح، وكان هذا الحديث مركبا في الكتاب على أبى غالب فتوهم أبو بكر أنه من حديث أبى غالب فاستغفر به وكتبه، فلما وقفناه عليه رجع عنه.
ثم ذكر الخطيب حديثا عن النقاش وقال عقيبه: دلس النقاش بن صاعد فقال:
حدثنا يحيى بن محمد بن عبد الملك الخياط، وأقل مما شرح في هذين الحديثين يسقط به عدالة المحدث، ويترك الاحتجاج به. ثم قال حدثني عبد الله بن أبى الفتح عن طلحة بن محمد بن جعفر أنه ذكر النقاش فقال: كان يكذب في الحديث، والغالب عليه القصص.
ثم قال سألت أبا بكر البرقاني عن النقاش فقال: كل حديثه منكر. وقال أيضا وحدثني من سمع أبا بكر ذكر تفسير النقاش فقال: ليس فيه حديث صحيح.
وقال حدثني محمد بن يحيى الكرماني قال سمعت هبة الله بن الحسن الطبري ذكر تفسير النقاش فقال: ذاك إشفاء الصدور وليس بشفاء الصدور.
ثم ذكر حكاية عن الحسن بن على الجوهري عن محمد بن العباس الخزاز، وهذا هو ابن حيويه، وقد مضى ما قيل فيه.
ثم ذكر حكاية عن ابن رزق إلى أن ساقها إلى يوسف بن أسباط وهو أبو محمد ابن واصل ذكره ابن أبى حاتم في كتابه، فقال أبو حاتم: كان رجلا عابدا يغلط كثيرا، دفن كتبه لا يحتج بحديثه.
وذكر حكاية عن على بن أحمد الرزاز ساقها إلى المسيب بن واضح، والمسيب هذا كثير الوهم. قال الدارقطني: المسيب ضعيف، حكى ذلك ابن الجوزي في كتاب «الضعفاء» . وهذا المسيب رواها عن يوسف بن أسباط وقد ذكرناه في الحكاية الأولى.
وحدث عن أبى سعيد الحسن بن محمد بن حسنويه الكاتب بأصبهان إلى أن ساقها إلى عبد السلام بن عبد الرحمن القاضي، وقد ذكرنا حاله فيما تقدم.
ثم ذكر حكاية عن ابن دوما الحسن بن الحسين النعالى وقد ذكرنا ما قاله فيه ثم ساقها إلى الحسن بن على الحلواني وقد تقدم ما ذكره عنه.
ثم ذكر حكاية عن الأبار إلى على بن عاصم ذكره الخطيب في تاريخه فقال في ترجمته أخبرنا أبو عمر بن مهدى- إجازة- وحدثنيه الحسن بن على بن عبد الله المقرئ عنه أخبرنا محمد بن أحمد بن يعقوب بن شيبة حدثنا جدي قال سمعت على بن عاصم على اختلاف أصحابنا فيه منهم من أنكر عليه كثرة الخطإ والغلط، ومنهم من أنكر عليه تماديه في ذلك وتركه الرجوع عما يخالفه الناس فيه ولجاجته فيه، ونشأته على الخطإ، ومنهم من تكلم في سوء حفظه واشتباه الأمر عليه في بعض ما حدث به من ضبطه، وتوانيه عن تصحيح ما كتبه الوراقون له، ومنهم من قصته عنده أغلظ من هذه القصص. وقد كان رحمة الله علينا وعليه من أهل الدين والصلاح والخير البارع شديد التوقي وللحديث آفات تفسده.
وقال أخبرنا أبو عمر بن مهدى- إجازة- وحدثنيه الحسن بن على المقرئ عنه أخبرنا محمد بن أحمد حدثنا جدي قال حدثني إبراهيم بن هاشم حدثنا عتاب بن زياد عن ابن المبارك قال قلت لعبادي بن العوام: يا أبا سهل ما بال صاحبكم؟ - يعنى على بن عاصم- قال: ليس ننكر عليه أنه لم يسمع، ولكنه كان رجلا موسرا، وكان الوراقون يكتبون له فنراه أتى من كتبه التي كتبوها له. وذكر عنه حكايات من هذا الجنس.
ثم ذكر حكاية عن محمد بن أبى نصر النرسي عن محمد بن عمر بن محمد بهته
البزاز ذكره في تاريخه فقال: قال البرقاني: كان يذكر أن في مذهبه شيئا ويقولون هو باب طاقي. قلت للبرقانى يعنى بذلك أنه شيعى؟ قال نعم.
ثم ساقها إلى أحمد بن محمد بن سعيد الكوفي وأحمد بن محمد بن سعيد هذا هو أبو العباس بن عقدة الحافظ من كبار الشيعة، وممن روى المنكرات والمنقطعات عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضائل أهل البيت.
وقد ذكره ابن عدى في كتاب «الضعفاء» وقال: رأيت مشايخ بغداد يسيئون الثناء عليه ويقولون إنه كان لا يتدين بالحديث ويحمل شيوخنا بالكوفة على الكذب، ويسوى لهم نسخا ويأمرهم بروايتها، واشتهر ذلك عنه. وقال ابن عدى أيضا في كتابه محارفات في الرواية وقال سمعت ابن مكرم يقول: كان ابن عقدة معنا عند ابن نعيما بن سعيد المروي بالكوفة في بيت فوضع بين أيدينا كتبا كثيرة، فنزع ابن عقدة سراويله وملأه من كتب الشيخ سرا منه ومنا، فلما خرجنا قلنا له ما هذا الذي معك لم حملته؟ قال دعونا من ورعكم هذا. وقد ذكره الدارقطني وقال: ابن عقدة رجل سوء.
وقد ذكره الخطيب في تاريخه وذكر هذه الحكايات جميعها بأسانيده. وقال أيضا حدثني على بن محمد بن نصر إلى أن قال سمعت أبا عمر بن حيوية يقول: كان أحمد ابن محمد بن سعيد بن عقدة في جامع براثا يملى مثالب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قال الشيخين أبى بكر وعمر رضي الله عنهما وتركت حديثه لا أحدث عنه بشيء وما سمعت بعد ذلك عنه شيئا. وهذا ممن جعله الخطيب حجة. وقد حكى عنه مثل هذا وحكى عنه بإسناد ذكره. قال: وجه إلى أبى العباس بن عقدة من خراسان بمال وأمر أن يعطيه بعض الضعفاء، وكان على باب داره صخرة عظيمة. فقال لابنه ارفع هذه الصخرة فلم يستطع رفعها لعظمها وثقلها، فقال له أراك ضعيفا فخذ هذا المال ودفعه إليه.
ثم ذكر حكاية عن البرقاني إلى أن ساقها إلى عبد الله بن عمرو بن أبى الحجاج أبو معمر المنقري ذكره الخطيب في تاريخه وقال: إنه كان يرى القدر. وذكر مثل ذلك عن جماعات بطرق شتى.
وذكر حكاية عن أبى القاسم إبراهيم بن سليمان المؤدب ساقها إلى إبراهيم بن
بشار الرمادي عن سفيان بن عينية، وإبراهيم بن بشار هذا ذكر عنه أحمد بن حنبل تخليطا حكاه أبو حاتم في كتابه. وقال يحيى بن معين: ليس بشيء. وقال النسائي:
ليس بالقوى. هذا عن إبراهيم بن بشار، وسفيان بن عينية قد سبق عنه ما ذكرناه.
وحدث عن ابن دوما حكاية أخرى وقد تقدم ذكره.
ثم ذكر حكاية أخرى عن الخلال ساقها إلى وكيع وابن المبارك وقد تقدم ذكرهما ثم ذكر حكاية عن ابن رزق ساقها إلى الحميدي عن سفيان- هو ابن عينية وقد ذكرنا حاله، وإن كان الثوري فقد ذكرناه أيضا.
ثم ذكر حكاية عن القاضي أبى القاسم البجلي إلى أحمد بن محمد بن عبد الكريم الوساوسى وقد ذكره الخطيب في تاريخه فقال حدثني على بن محمد بن نصر. قال سمعت حمزة بن يوسف قال سألت الدارقطني عن أحمد بن محمد بن عبد الكريم الوساوسى فقال: تكلموا فيه. ثم ساقها إلى يوسف بن إسحاق بن أسباط وقد تقدم ذكره.
ثم ذكر حكاية عن ابن رزق والبرقاني من طريقين ساقها إلى وكيع بن الجراح وقد تقدم ذكره.
وذكر حكاية عن على بن أحمد بن الطيب الرزاز وقد ذكره الخطيب فقال عنه إن ابنه ألحق في سماعاته ما ليس بسماعه بخط طرى وشيخ على الرزاز هذا في هذه الحكاية على بن محمد بن سعيد [الموصلي] ذكره الخطيب في ترجمة عيسى بن فيروز من كتابه وقال ليس بثقة.
ثم ذكر حكاية عن أبى سعيد محمد بن موسى الصيرفي ساقها إلى مؤمل عن حماد ابن سلمة، ومؤمل هذا هو ابن اسماعيل وقد ذكرنا ما قاله ابن أبى حاتم فيه.
ثم ذكر حكاية عن ابن دوما النعالى وقد تقدم حاله، ثم ساقها إلى مؤمل وقد تقدم أيضا.
ثم ذكر حكاية عن محمد بن الحسن بن محمد المتوثى إلى أبى عوانة وهو الوضاح وقد تقدم ذكره، وحدث حكاية أخرى عن ابن دوما وقد تقدم ما ذكره عن ابن
دوما، ثم ساقها إلى الحسن بن على الحلواني وقد تقدم إلى أبى عوانة وقد تقدم.
وحدث حكاية أخرى عن ابن دوما أيضا وقد علم حاله، ثم ساقها إلى عارم وهو محمد بن الفضل أبو النعمان. قال أبو حاتم: اختلط وزال عقله فمن سمع منه قبل الاختلاط سنة عشرين ومائتين فسماعه صحيح، وسمعت منه قبل الاختلاط سنة أربع عشرة.
ثم ذكر حكاية عن البرقاني رفعها إلى حماد بن زيد في لبس الخفين والسراويل وهذا ليس بتشنيع على أبى حنيفة، إنما هو تشنيع على كثير من الأئمة فإنهم خالفوا هذا الحديث.
ثم حدث حكاية عن ابن دوما وقد ذكرنا حاله، ثم ساقها إلى الحسن بن على الحلواني وقد تقدم ما ذكره الخطيب عنه، رواها الحلواني عن نعيم بن حماد وقد ذكرنا ما قبل فيه، ثم ساقها إلى سفيان بن عينية وقد تقدم خبره.
ثم ذكر حكاية عن الصيمري إلى أن أورد بيتين لابن المعدل هجوا لم يكن بنا حاجة إلى الكلام في رجالها إذ قد تقدم الجواب عنها.
ثم ذكر حكاية عن عبد الله بن يحيى السكرى رفعها إلى أبى عوانة الوضاح وقد ذكرنا ما ذكر فيه، ثم شك بعض الرواة في هذا الخبر هل قال السكر بفتح السين والكاف أم السكر بجزم الكاف، فسقط الاحتجاج به.
ثم ذكر حكاية عن أحمد بن محمد بن حسنون النرسي ساقها إلى محمد بن محمد الباغنديّ وقد مر ذكره.
ثم ذكر حكاية عن محمد بن عيسى بن عبد العزيز البزاز عن صالح بن أحمد وصالح هذا هو ابن أبى مقاتل يعرف بالقيراطى هروي الأصل ذكره الخطيب في تاريخه فقال بإسناد له عن ابن حبان إنه كان يسرق الحديث يقلبه ولعله قد قلب أكثر من عشرة آلاف حديث فيما خرج من الشيوخ والأبواب، لا يجوز الاحتجاج به بحال. وقال ذكر أبو عبد الرحمن السلمى أنه سأل الدارقطني عن صالح هذا فقال:
كذاب دجال يحدث بما لم يسمعه. وقال قال لي البرقاني: لم نكن نكتب حديث صالح بن أبى مقاتل. قلت ولم ذلك لضعفه؟ قال نعم هو ذاهب الحديث، وطريقه المحدثين قد علمتموها. فمن روى عن مثل هذا، وقد قال عنه مثل هذا الكلام كيف
يكون حاله؟ وقال ابن عدى أيضا في كتابه: إنه كان يسرق الأحاديث ويلزق حديث قوم على قوم ويرفع الموقوف، ويصل المرسل، وأمره بيّن.
وقال في الترجمة: ذكر ما قاله العلماء في ذم رأيه والتحذير منه إلى ما يتصل بذلك من أخباره
قال أخبرنا أبو الحسن على بن أحمد بن إبراهيم البزاز بالبصرة قال حدثنا أبو على الحسن بن محمد بن عثمان الفسوي أنبأنا يعقوب بن سفيان قال حدثنا محمد بن عوف حدثنا إسماعيل بن عباس الحمصي حدثنا هشام بن عروة عن أبيه. قال: كان الأمر في بنى إسرائيل مستقيما حتى نشأ فيهم أبناء سبايا الأمم، فقالوا بالرأى فهلكوا وأهلكوا فإنا قد تركت الجواب عن هذه الحكاية في الموضع لأنها لم تتعلق بأبى حنيفة وحده، فتركها ليعلم من وقف عليها أنه لم يرد الطعن على أبى حنيفة وحده وإنما أراد الطعن على أئمة المسلمين من الصحابة والتابعين، وتركته ليعلم من وقف عليها ما ذكرت من أول الأمر من أنه جعل الطعن على أبى حنيفة سببا للطعن على سائر المسلمين كما فعلت الفلاسفة بمذهب الروافض، وقد ذكر بعدها مثلها وذكر فيها أبا حنيفة وأنا مجاوبه إن شاء الله تعالى.
وأما الحكاية التي بعدها ذكرها ونسبها إلى سفيان ورواها عن أبى نعيم الأصبهانى وقد تقدم خبره. وكذلك سفيان وما ذكره عن أبى حنيفة من أنه من أبناء سبايا الأمم فقد أجمع النسابون على أنه لم يكن من أبناء سبايا الأمم وهو أبو حنيفة النعمان بن ثابت بن النعمان بن المرزبان، والنعمان بن المرزبان، أبو ثابت الذي أهدى لعلى بن أبى طالب رضي الله عنه الفالوذج في يوم النيروز- أو المهرجان- فقال:
نيروزنا كل يوم- أو مهرجونا كل يوم- وساق هذه الحكايات عن سفيان وهذا عندي نقص في حق سفيان إن صحت هذه الأسانيد عن سفيان لأنه إذا عاب الرأى لم يعد من العلماء ومن لم يعد من العلماء فلا اعتداد بقوله.
وذكر حكاية عن ابن الفضل إلى أن ساقها إلى البخاري ثم قال حدثنا صاحب لنا فنكر وأجهل الإسناد وقد تقدم الجواب عن مثل هذا.
ثم ذكر حكاية عن محمد بن الحسن الأزرق إلى النقاش المقرئ وقد تقدم ما قيل فيه.
ثم ذكر حكاية عن ابن درستويه أيضا وقد تقدم أيضا ساقها إلى إسحاق بن إبراهيم الحنينى، وهذا إسحاق من أصحاب مالك كان أحمد بن صالحالمصري لا يرضاه، حكاه ابن أبى حاتم في كتابه، وذكره ابن الجوزي في كتاب الضعفاء، وقال: قال النسائي: ليس بثقة. وقال ابن عدى: ضعيف. وقال الأزدى ضعيف.
ثم ذكر حكاية عن ابن رزق وساقها إلى حبيب كاتب مالك بن أنس، وحبيب هذا هو ابن رزق ذكره ابن أبى حاتم في كتابه. وقال أحمد: ليس بثقة. وقال أبو حاتم: كان يحيل الحديث ويكذب.
ثم ذكر حكاية عن ابن درستويه إلى نعيم عن سفيان وقد تقدم ذكر الثلاثة.
وذكر حكاية عن أبى الفضل الطناجيرى إلى شريك القاضي وقد تقدم ذكر حاله.
وذكر حكاية من طريقين إحداهما عن ابن دوما وقد تقدم حاله، والطريق الثانية عن على بن محمد بن عبد الله المعدل ساقها إلى منصور إلى شريك القاضي وقد ذكرناه.
ثم ذكر حكاية عن ابن الفضل عن ابن درستويه عن يعقوب عن أبى بكر بن خلاد. قال سمعت عبد الرحمن بن مهدى قال سمعت حماد بن زيد يقول سمعت أيوب- وذكر أبو حنيفة- فقال {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} فهذه الحكاية ذكرها الخطيب في ذم أبى حنيفة والتحذير منه، والله أعمى الخطيب ليظهر كرامة أبى حنيفة فإنه قال {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ} وقد علم الناس أن الله عز وجل نشر مذهب الأربعة الأئمة وأتم نور دينه بهم حتى ملأ الآفاق وهو من المتأخرين ولم يعلم ذلك، فكأن الله أنطق حماد بن زيد بكرامة أبى حنيفة رضي الله عنه، ومع هذا فإن مذهب أبى حنيفة رضي الله عنه اشتهر في الآفاق ولم يعرف لحماد بن زيد مذهب إلا ما نقل في آحاد الكتب.
ثم ذكر حكاية عن أحمد بن الحسن الحيرى إلى أن ساقها إلى سعيد بن عامر وسعيد بن عامر هذا هو الضبعي أبو محمد ذكره ابن أبى حاتم في كتابه فقال: هو صدوق صالح وفي حديثه بعض الغلط، ورواها سعيد بن عامر عن سلام بن أبى مطيع وكنيته أبو سعيد. قال ابن حبان البستي: كثير الوهم لا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد.
ثم ذكر حكاية أخرى عن ابن الفضل عن ابن درستويه وقد تقدم ذكر حاله، وساقها إلى شريك القاضي وقد مضى ذكره.
ثم ذكر حكاية عن ابن رزق والبرقاني جميعا، ثم سرقها إلى محمد بن جعفر بن الهيثم الأنبارى وقد ذكر حاله، ثم ساقها إلى سليمان بن حسان الحلبي الشامي ذكره الخطيب في تاريخه وقال ذكره عبد الرحمن بن أبى حاتم وقال سألت عنه أبى فقال سألت ابن أبى غالب عنه فقال: لا أعرفه ولا أرى البغداديين يروون عنه.
ثم ذكر حكاية عن ابن رزق ساقها إلى الحسن بن على الحلواني وقد تقدم ذكره.
ثم روى حكاية عن ابن الفضل عن ابن درستويه وقد تقدم ذكره، ثم ساقها إلى نعيم بن حماد الخزاعي وقد تقدم ذكره. ثم ساقها إلى سفيان الثوري وقد تقدم ذكره.
ثم ذكر حكاية عن ابن حسنويه ساقها إلى ثعلبة بن سهيل وهو القاضي ذكره ابن الجوزي في كتاب «الضعفاء» وقال يحيى بن معين: ليس بشيء. ثم ساقها إلى سفيان وقد ذكرناه، وفي جملة سند هذا الحديث جرير بن عبد الحميد ذكره الخطيب في تاريخه وقال في ترجمته بإسناد ساقه قال سمعت سليمان بن داود الشاذكوني يقول:
قدمت على جرير فأعجب بحفظي وكان لو مكرما، وقدم يحيى بن معين والبغداديون الذين معه وأنا، ثم قال فرأوا موضعي منه فقال له بعضهم: إنما بعثه يحيى وعبد الرحمن ليفسد حديثك عليك ويتتبع عليك الأحاديث، قال وكان جرير حدثنا عن مغيرة عن إبراهيم في طلاق الأخرس، قال ثم حدث به بعد عن سفيان عن مغيرة عن إبراهيم، قال فبينما أنا يوما عند ابن أخيه إذ رأيت على ظهر كتاب لابن أخيه عن ابن المبارك عن سفيان عن مغيرة عن إبراهيم، قال فقلت لابن أخيه: عمك هذا يحدث بهذا عن مغيرة، ومرة عن سفيان عن مغيرة، ومرة عن ابن المبارك عن سفيان، فينبغي أن نسأله ممن سمعه؟ قال سليمان وكان هذا الحديث موضوعا. قال فوقفت جريرا عليه فقلت له حديث طلاق الأخرس ممن سمعته؟ فقال حدثنيه رجل من أهل خراسان عن ابن المبارك. قال فقلت له قد حدثت به مرة عن مغيرة، ومرة عن سفيان عن مغيرة، ومرة عن رجل عن ابن المبارك عن سفيان عن مغيرة، ولست أراك تقف على شيء فمن الرجل؟ قال: رجل جاءنا من أصحاب الحديث. قال فوثبوا بى وقالوا ألم نقل لك إنما جاء ليفسد عليكحديثك؟ قال فوثب بى البغداديون، قال وتعصب لي قوم من أهل الري حتى كان بينهم شر شديد. وذكر في ترجمته أيضا
حكاية عن أبى الوليد الطيالسي قال قدمت الري ومعى أبو داود الطيالسي وحملت معى أصل كتابي عن شعبة، قال وكان جرير يجالسنا عند رجل من التجار، قال فسمعنا نذكر الحديث، فيعجب بالحديث إعجاب رجل سمع العلم وليس له حفظ، قال فسمعني أتحدث بحديث شعبة عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن مسلمة حديث صفوان بن عسال- أو حديث على- «إنكما علجان فعالجا عن دينكما» فقال اكتبه لي. قال فكتبته له وحدثته به، قال وتحدثت بحديث فضالة بن عبيد في القلادة فاستحسنه وقال اكتبه لي فكتبته له، وحدثته به عن الليث بن سعد. قال فقال لي قد كتبت عن منصور ومغيرة وجعل يذكر الشيوخ، فقلت له حدثنا، فقال لست أحفظ كتبي غائبة عنى، وأنا أرجو أن أوتى بها، قد كتبت في ذاك: فبينما نحن كذلك إذ ذكر يوما شيئا من الحديث، فقلت له أحسب أن كتبك جاءت؟ قال أجل. قلت لأبى داود: جليسا جاءته كتبه من الكوفة اذهب بنا ننظر فيها قال فأتيناه فنظرت في كتبه أنا وأبو داود. وحكى بإسناد له قال سمعت سليمان بن حرب يقول: كان جرير عبد الحميد وأبو عوانة يتشابهان في رأى العين، ما كانا يصلحان إلا أن يكونا راعيى غنم.
ثم روى حكاية عن أبى نصر أحمد بن إبراهيم المقدمي إلى على بن زيد وهذا هو الفرائض ذكره في تاريخه وقال: هو شيخ شيخ شيخي ثم قال في الترجمة وقد تكلموا فيه، ثم قالها إلى محمد بن كثير عن الأوزاعى، ومحمد هذا هو المصيصي صناعى الأصل أبو يوسف ذكره ابن أبى حاتم في كتابه وقال: ضعفه أحمد جدا وضعف حديثه. وقال أبو حاتم: لم يكن عندي ثقة.
وذكر حكاية عن محمد بن الحسن الوراق عن أحمد بن كامل القاضي ذكره في تاريخه وقال في ترجمته سأل أبو سعيد الإسماعيلى أبا الحسن الدارقطني عن أبى بكر أحمد بن كامل فقال: كان متساهلا وربما حدث من حفظه بما ليس عنده في كتابه وأهلكه العجب، فإنه كان يختار ولا يضع لاحد من العلماء الأئمة أصلا. ثم إلى الأوزاعى وسفيان وقد مضى ذكرهما، ثم حدث عن ابن رزق إلى يحيى بن السكن البصري عن أيوب بن محمد ذكره ابن أبى حاتم في كتابه وقال: قال أبو حاتم: ليس بالقوى.
ثم ذكر حكاية عن ابن رزق، ثم ساقها من طريق أخرى عن أبى نعيم الحافظ
وهو الأصفهانى وقد تقدم ذكرنا له، ثم ساقها إلى سفيان وقد تقدم ذكر حاله.
ثم ذكر حكاية عن الحسن بن إبراهيم وهو ابن شاذان ذكره الخطيب في تاريخه فقال في ترجمته كان أشعريا مشتهرا بشرب النبيذ، ثم ساقها إلى مؤمل بن إسماعيل وقد سبق ذكرنا له.
وحدث حكاية عن محمد بن عمر بن بكر إلى المؤمل وقد ذكرنا حاله.
وحدث حكاية أخرى عن ابن الفضل عن ابن درستويه وقد تقدم شرح ما قاله فيه.
وحدث حكاية أخرى عن الخلال ساقها إلى أبان بن سفيان الحرزى قال أبو حاتم محمد بن حبان البستي: روى عن الثقات أشياء موضوعة. وقال الدارقطني متروك.
ثم ذكر حكاية عن إبراهيم بن محمد بن سليمان ساقها إلى سفيان وقد تقدم ذكره.
ثم ذكر حكاية عن إبراهيم بن مخلد عن محمد بن أحمد الحكيمي، وهذا ذكره الخطيب في تاريخه فقال: سألت أبا بكر البرقاني عن الحكيمي فقال: ثقة إلا أنه يروى مناكير، ثم ساقها إلى مطرف أبى مصعب الأصم قال أبو أحمد بن عدى: يحدث مطرف عن ابن أبى ذئب ومالك وغيرهما بالمناكير.
ثم ذكر حكاية عن ابن رزق إلى الوليد بن مسلم والوليد هذا هو أبو العباس الدمشقي. قال ابن عدى: يروى عن الأوزاعى عن شيوخ ضعفاء عن شيوخ قد أدركهم الأوزاعى مثل نافع والزهري فيسقط أسماء الضعفاء ويجعلها عن الأوزاعى عنهم. وقال الدارقطني مثل هذا أيضا.
ثم ذكر حكاية أخرى عن على بن محمد المعدل إلى الوليد بن مسلم هذا المقدم ذكره.
ثم ذكر حكاية أخرى عن ابن رزق إلى مطرف وقد تقدم ذكرنا له.
ثم ذكر حكاية عن أبى الفرج الطناجيرى إلى على بن زيد الفرائضى ذكره الخطيب في تاريخه فقال: وقد تكلموا فيه.
ثم ذكر حكاية عن القاضي أبى بكر أحمد بن الحسن الحرشي إلى أبى عوانة وقد تقدم.
ثم ذكر حكاية عن ابن الفضل عن ابن درستويه وقد تقدم ذكره.
ثم ذكر حكاية عن الحسن بن أبى طالب إلى عبد الله بن محمد البغوي وهو أبو القاسم وقد تقدم ذكره.
ثم ذكر حكاية عن الخلال إلى أبى نعيم وحدث عن على بن القاسم بن الحسن البصري إلى أبى نعيم وقد ذكر الخطيب في ترجمة أبى نعيم من تاريخه قال حدثت عن محمد بن عبد الله بن المطلب الكوفي قال حدثنا على بن محمد حدثنا أحمد بن ميثم بن أبى نعيم. قال: قدم جدي أبو نعيم الفضل بن دكين بغداد ونحن معه، فنزل الرميلة ونصب له كرسي عظيم فجلس عليه ليحدث فقام إليه رجل ظننته من أهل خراسان فقال: يا أبا نعيم أتتشيع؟ فكره الشيخ مقالته وصرف وجهه وتمثل بقول مطيع بن إياس:
وما زال بى حبيك حتى كأننى
…
برجع جواب السائلى عنك أعجم
لأسلم من قول الوشاة وتسلمي
…
سلمت وهل حي من الناس يسلم
فلم يفقه الرجل مراده فعاد سائلا فقال: يا أبا نعيم أتتشيع؟ فقال الشيخ: يا هذا كيف بليت بك، وأى ريح هبت إلى بك. سمعت الحسن بن صالح يقول سمعت جعفر ابن محمد يقول: حب على عبادة، وأفضل العبادة ما كتم. ثم ذكر حكاية أخرى عن أبى الفتح بن أبى الفوارس إلى أن قال: كنت عند أبى نعيم الفضل بن دكين فجاء ابنه يبكى، فقال له مالك؟ فقال الناس يقولون إنك تتشيع فأنشأ يقول:
وما زال كتمانيك حتى كأننى
…
برجع جواب السائلى عنك أعجم
لأسلم من قول الوشاة وتسلمي
…
على وهل حي على الناس يسلم
ثم ذكر حكاية عن ابن رزق إلى وكيع وقد تقدم ذكره.
ثم ذكر حكاية عن محمد بن عبد الله الحنائى ساقها إلى عبد الله بن المبارك وقد تقدم ذكره.
ثم ذكر حكاية عن محمد بن على المقرئ عن محمد بن عبد الله الحاكم
النيسابوري وهذا محمد بن الحاكم هو صاحب التاريخ ذكره الخطيب في تاريخه وحكى أنه كان يميل إلى التشيع. وقال: جمع الحاكم أبو عبد الله أحاديث زعم أنها صحاح على شرط البخاري ومسلم لم يلزمهما إخراجها في صحيحيهما، منها حديث «الطائر، ومن كنت مولاه فعلى مولاه» . فأنكر عليه أصحاب الحديث ذلك ولم يلتفتوا إلى قوله، ولا صوبوه في فعله. وقد حكى أبو الفضل محمد بن طاهر المقدسي عن سعد بن على الريحاني أنه قال: ثلاثة من الحفاظ لا أحبهم لشدة تعصبهم؛ منهم أبو عبد الله الحاكم.
ثم ذكر حكاية عن الأزهرى عن محمد بن العباس الخزاز وهذا هو ابن حيويه وقد تقدم حاله.
ثم ذكر حكاية عن الأزهرى إلى أبى إسحاق الطالقاني وهو إبراهيم بن إسحاق ابن عيسى الطالقاني ذكره الخطيب في تاريخه وقال عنه كان ثقة ثبتا يقول بالإرجاء.
وساقها إلى عبد الله بن المبارك وقد تقدم ذكره.
وذكر حكاية عن إبراهيم بن عمر البرمكي عن عمر بن محمد الجوهري ذكره في تاريخه فقال: وفي بعض حديثه نكرة.
ثم ذكر حكاية أخرى ساقها إلى الطالقاني إلى ابن المبارك وقد تقدم ذكرهما.
ثم ذكر حكاية عن الخلال إلى أبى داود عن ابن المبارك وهذا سند منقطع لان أبا داود لم يدرك ابن المبارك. وثم قد تقدم ذكر ابن المبارك، ثم إن الحكاية هي أن قال ابن المبارك: ما كنا نأتى مجلس أبى حنيفة إلا خفية من سفيان الثوري، وهذا دليل على ما ذكرناه من أنه كان بين أبى حنيفة وبين سفيان الثوري شيء، وكان أبو حنيفة أكفهما لسانا.
ثم ذكر حكاية عن أبى نصر أحمد بن الحسين عن أبى بكر السنى عن عبد الله ابن محمد بن جعفر، وعبد الله هذا هو أبو القاسم القزويني القاضي فقيها على مذهب الشافعي وكان يظهر العبادة ويحفظ، ثم خلط ووضع أحاديث فافتضح وسقط جاهه. ذكر ذلك أبو سعيد بن يوسف في تاريخمصر. وقال الدارقطني: هو كذاب يضع الحديث. وإن كان غيره فهو أبو محمد عبد الله بن محمد بن جعفر الأصفهانى بن حبان المعروف بأبى الشيخ، ضعفه أبو أحمد العسال الأصفهانى.
ثم ذكر حكاية عن ابن رزق إلى سفيان الثوري وقد تقدم ذكره.
ثم ذكر حكاية عن أبى بكر محمد بن عبد الله بن أبان الهيتى ذكره الخطيب في تاريخه وقد سبق ما ذكره، وعن أحمد بن سلمان النجاد ذكره الخطيب في تاريخه فقال سأل أبو سعيد الإسماعيلى أبا الحسن الدارقطني فقال قد حدث أحمد بن سلمان النجاد من كتاب غيره بما لم يكن في أصوله. ثم رفعها إلى سفيان وقد تقدم ذكره.
ثم ذكر حكاية عن القاضي أبى بكر محمد بن عمر الداودي إلى محمد بن الحسين ابن حميد بن الربيع وذكره الخطيب في تاريخه فروى عن أحمد بن محمد بن سعيد قال: كنت عند الحضرمي فمر عليه ابن للحسين بن حميد الخزاز فقال: هذا كذاب ابن كذاب. ثم بعده إلى محمد بن عمر بن الوليد ذكره ابن أبى حاتم في كتابه وقال:
قال أبو حاتم: أرى أمره مضطربا وذكره ابن الجوزي في كتاب الضعفاء. وقال:
قال ابن حبان: يروى عن مالك ما ليس من حديثه لا يجوز الاحتجاج به. ثم بعده إلى محمد بن عبيد الطنافسي ذكره ابن أبى حاتم وقال: قال أحمد: كان يخطئ ولا يرجع عن خطئه. ثم سرقها إلى سفيان الثوري وقد تقدم ذكره، أو ابن عينية.
ثم ذكر حكاية عن ابن رزق إلى سفيان بن وكيع بن الجراح عن أبيه وقد تقدم ذكرهما ثم ساقها إلى سفيان وقد تقدم ذكره.
ثم ذكر حكاية عن الأبار إلى قيس بن الربيع وقد تقدم حاله.
ثم ذكر حكاية عن البرمكي إلى عمر بن محمد الجوهري ذكره الخطيب في تاريخه فقال: وفي بعض حديثه نكرة. ثم إلى حجاج وهو أبو محمد الأعور وقد ذكرناه، إلى قيس بن الربيع وقد تقدم ذكرناه.
ثم ذكر حكاية عن البرقاني عن محمد بن أحمد بن محمد الآدمي ذكره الخطيب في تاريخه قال: قال لي أبو طاهر حمزة بن محمد الدقاق: لم يكن الأمى هذا صدوقا في الحديث كان يسمع لنفسه في كتب لم يسمعها، ثم ساقها إلى أن قال حدثني بعض أصحابنا وهذا مجهول.
وذكر حكاية أخرى عن ابن رزق ساقها إلى مصعب بن خارجة وذكره ابن أبى حاتم في كتابه وقال: مجهول.
ثم ذكر حكاية عن أبى بكر أحمد بن على بن عبد الله الرخاخى الطبري وذكره في تاريخه وقال: إنه ثقة، ثم ساق الحكاية إلى سفيان الثوري وشريك والحسن بن صالح، فأما شريك وابن صالح فقد سبق ما قيل عنهما.
ثم ذكر حكاية عن الحسن بن أبى طالب ولم يذكره في التاريخ.
ثم ذكر حكاية عن البرقاني إلى أن ساقها إلى سلمة بن سليمان قال: قال رجل لابن المبارك، ورجل غير مسمى مجهول الأمر.
ثم ذكر حكاية عن الأزهرى عن محمد بن العباس ومحمد بن العباس هذا هو ابن حيوية الخزاز ذكره الخطيب في تاريخه وقال كان فيه تسامح وربما أراد أن يقرأ شيئا ولا يقرب أصله منه، فيقرأه من كتاب أبى الحسن بن الرزاز لثقته بذلك الكتاب، وإن لم يكن فيه سماعه. وكان مع ذلك ثقة، ثم ساقها إلى فهد بن عوف وفهد بن عوف هذا قال على بن المديني: هو كذاب، وكان على يقول: ذهب الفهدان، فهد ابن عوف وفهد بن حيان. حكى ذلك ابن الجوزي في كتاب «الضعفاء» .
ثم ذكر حكاية عن العتيقى ساقها إلى محمد بن بشار بندار وقد ذكره الخطيب في تاريخه فقال في ترجمته بإسناد ساقه إلى أن قال الفرهياني قال سمعت أبا موسى وكان قد صنف حديث داود بن أبى هند، ولم يكن بندار صنفه. سمعت أبا موسى يقول:
منا قوم لو قدروا أن يسرقوا حديث داود لسرقوه- يعنى به بندارا- ثم قال الخطيب أخبرنا أبو القاسم الأزهرى وساق سندا إلى أن قال حدثنا عبد الله بن على ابن عبد الله المديني قال سمعت أبى وسألته عن حديث رواه بندار عن ابن مهدى عن أبى بكر بن عياش عن عاصم عن زر عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال: «تسحروا فإن في السحور بركة» فقال هذا كذب. قال حدثني أبو داود موقوفا وأنكره أشد الإنكار.
ثم قال أخبرنا محمد بن جعفر بن علان الشروطي- مما أذن لي أن أرويه عنه- أخبرنا أبو الفتح محمد بن الحسين الأزدى الحافظ حدثنا محمد بنجعفر المطيري حدثنا عبد الله بن الدورقي. قال: كنا عند يحيى بن معين وجرى ذكر بندار فرأيت يحيى لا يعبأ به ويستضعفه، قال ابن الدورقي ورأيت القواريري لا يرضاه، وكان صاحب حمام.
ثم ذكر حكاية عن البرقاني ثم ساقها إلى بندار هذا وقد تقدم ذكره.
ثم ذكر حكاية عن ابن الفضل عن ابن درستويه وقد تقدم ذكره أيضا.
ثم ذكر حكاية عن ابن رزق إلى الوليد بن عتبة وهو مجهول، ثم إلى مؤمل بن إسماعيل وقد ذكرناه فيما تقدم.
ثم ذكر حكاية عن بشرى وعن محمد بن حسنويه ساق السندين إلى البغوي عن أبى الجواب، وهو الأحوص بن جواب قال يحيى بن معين: ليس بذاك القوى، وذكر البغوي قد تقدم.
ثم ذكر حكاية عن ابن الفضل عن ابن درستويه وقد تقدم ذكرهما، ثم ساقها إلى ابن نمير عن بعض أصحابنا وهذا مجهول.
ثم ذكر حكاية عن عبد الله بن يحيى السكرى ساقها إلى سفيان بن عينية وقد تقدم ذكره، روى ابن عينية شعرا عن مساور الوراق. وقال أجابه بعضهم وهذا المجيب مجهول وقد تقدم الجواب عن الشعر.
ثم ذكر حكاية عن ابن رزق ساقها إلى يحيى بن أيوب قال حدثنا صاحب لنا ثقة وأبهم، وهذا مجهول عن أبى بكر بن عياش ذكره ابن الجوزي في كتاب «الضعفاء» فقال: كان يحيى بن سعيد لا يعبأ به، وإذا ذكر عنده كلح وجهه. وكان محمد بن عبد الله بن نمير يضعفه.
ثم ذكر حكاية عن ابن رزق إلى أسود بن سالم إلى أبى بكر بن عياش وقد ذكرناه.
ثم ذكر حكاية عن أبى عبد الله محمد بن عبد الواحد عن محمد بن العياش وقد تقدم ساقها إلى أبى معمر، وأبو معمر هذا هو إسماعيل بن إبراهيم الهذلي الهروي ذكره الخطيب في «التاريخ» فروى بإسناده إلى يحيى بن معين وذكر أبا معمر- يعنى يحيى- فقال: لا صلّى الله عليه ذهب إلى الرقة فحدث بخمسة آلاف حديث أخطأ في ثلاثة آلاف حديث، وذكر أيضا بإسناده إلى أبى زرعة أنه قال: كان أحمد لا يرى الكتابة عن أبى نصر النمار ولا عن أبى معمر ولا يحيى بن معين ولا أحد ممن امتحن فأجاب، وذكر أيضا بإسناده إلى أبى معمر أنه أخذ في المحنة فأجاب فلما خرج قال: كفرنا وخرجنا.
وقد ذكر حكاية عن أبى بكر بن عياش وقد سبق ذكره.
ثم ذكر حكاية عن أبى حازم العبدون عمر بن أحمد بن إبراهيم بن عبدويه السدوسي.
ثم ذكر حكاية عن أبى نعيم الحافظ أحمد بن عبد الله الأصفهانى صاحب الحلية وقد تقدم ذكره، عن أبى محمد عبد الله بن محمد بن حيان- وهو أبو الشيخ وقد ضعفه أبو أحمد العسال وهو من أهل بلده- عن سالم بن عصام وقد ذكره أبو نعيم في تاريخ أصفهان فقال: كان كثير الحديث والغرائب، ثم ساقها إلى سفيان الثوري وقد تقدم ذكره.
ثم ذكر حكاية عن البرقاني عن محمد بن العباس بن حيويه وقد تقدم ذكر حاله.
ثم ذكر حكاية عن بشرى الرومي عن أحمد بن جعفر بن حمدان- وهو القطيعي- ذكره الخطيب في تاريخه وحدث عن أبى الحسن بن الفرات قال: كان ابن مالك القطيعي مستورا صاحب سنة كثير السماع [سمع] من عبد الله بن أحمد وغيره إلا أنه خلط في آخر عمره وكف بصره وخرف حتى لا يعرف شيئا مما يسمع عليه، ثم قال: قال محمد بن أبى الفوارس: أبو بكر بن مالك كان مستورا صاحب سنة، ولم يكن في الحديث بذاك. وقال أيضا سمعت أبا بكر البرقاني- وسئل عن ابن مالك- فقال: كان شيخا صالحا، وكان لأبيه اتصال ببعض السلاطين، فقرئ لابن ذلك السلطان على عبد الله بن أحمد المسند وحضر ابن مالك سماعه ثم غرقت قطعة من كتبه بعد ذلك فنسخها من كتاب ذكروا أنه لم يكن سماعه فيه فغمزوه لأجل ذلك.
ثم ذكر حكاية عن ابن رزق عن أحمد بن سلمان الفقيه المعروف بالنجاد وقد تقدم ذكره. ساقها إلى مهنى بن يحيى ذكره الخطيب في تاريخه فقال في ترجمته حدثني أحمد بن محمد الرزاز أخبرنا محمد بن جعفر الشروطي أنبأنا أبو الفتح محمد بن الحسين الأزدى. قال: مهنى بن يحيى الشامي نزل بغداد منكر الحديث.
ثم ذكر حكاية عن البرقاني عن أحمد بن محمد الأدمى وقد تقدم ذكره.
ثم ذكر حكاية عن الحسن بن أبى طالب عن محمد بن نصر بن أحمد بن نصر بن مالك القطيعي ذكره الخطيب في تاريخه وقال حدثني الأزهرى قال حضرت عند محمد بن نصر بن مالك فوجدته على حالة عظيمة من الفقر والفاقة، وعرض على
شيئا من كتبه لأشتريه، ثم انصرفت من عنده وحضرت بعد عند أبى الحسن بن رزقويه فقال لي: ألا ترى إلى ابن مالك، إنه جاءني بقطعة من كتب ابن أبى الدنيا وقال لي اشتراها منى فإن فيها سماعك معى من البرذعى؟ فقلت له يا هذا والله ما سمعت من البرذعى شيئا. قال الأزهرى فنظرت في تلك الكتب وقد سمع فيها ابن مالك بخطه لابن رزقويه تسميعا طريا- أو كما قال- ثم ذكر حكاية عن محمد بن المسيب- وقد تقدم ذكره- عن خالد بن يزيد بن أبى مالك الشاعر ذكره بن أبى حاتم في كتابه فقال: كان يروى مناكير. ثم ذكر حكاية عن البرقاني عن بشر بن أحمد الأسفراييني عن عبد الله بن محمد.
ابن سيار قال سمعت القاسم بن عبد الملك أبا عثمان يقول سمعت أبا مسهر يقول: كانت الأئمة تلعن أبا فلان على هذا المنبر- وأشار إلى منبر دمشق- قال الفرهياني: هو أبو حنيفة.
لم يكن غرض الخطيب أن يذكر هذا عن أبى حنيفة، إنما جعل أبا حنيفة ذريعة، وأراد أن يذكر الناس بما نقل مما كان على منبر دمشق، ولم أتتبع رجال هذا السند بالكشف لعلم الناس بمن أراد بالحكاية وشهرة الخبر أغنت عن ذكره ولأن أحدا لا يلعن على منبر إلا بإذن الإمام، وأبو حنيفة كان في دولة بنى العباس في زمن المنصور. فلو لعن على منبر دمشق لكان لعن على منابر العراق إذ هي دار الخلافة ولم ينقل هذا الخطيب ولا غيره.
ثم ذكر حكاية عن الخلال عن أبى الفضل عبيد الله بن عبد الرحمن بن محمد الزهري عن عبيد الله بن عبد الرحمن أبو محمد السكرى عن العباس بن عبد الله الترقفى قال سمعت الفريابي يقول: كنا في مجلس سعيد بن عبد العزيز بدمشق فقال رجل: رأيت فيما يرى النائم كأن النبي صلى الله عليه وسلم قد دخل من الباب الشرقي- يعنى باب المسجد- ومعه أبو بكر وعمر، وذكر غير واحد من الصحابة وفي القوم رجل وسخ الثياب رث الهيئة، فقال تدرى من ذا؟ قلت لا، قال [هذا] أبو حنيفة، هذا ممن أعين بعقله على الفجور، فقال له سعيد بن عبد العزيز: أنا أشهد أنك صادق ولولا أنك رأيت هذا لم تحسن تقول هذا.
أما أنا فقد رضيت بصحبة أبى حنيفة للنبي صلى الله عليه وسلم، ولم أر بالثياب بأسا بعد صحبة
النبي صلى الله عليه وسلم، ومن صحب النبي صلى الله عليه وسلم في مثل ما ذكر فلا يكون فاجرا ولا يعان بعقله على الفجور، فإن كان الخطيب أراد بهذا أن كل من صحب النبي صلى الله عليه وسلم يوصف بما وصف به أبا حنيفة فيكون تأكيدا لما ذكرت أنا آنفا، وأما هذا السند فلو أردت أن أقول فيه شيئا لقلت فإنه قال: قال رجل، أخبر عن رجل، لا يعرف، ثم إنه منام، ثم إن سعيد بن عبد العزيز شهد للرائى أنه لا يعرف شيئا.
ثم ذكر حكاية عن أبى الفتح محمد بن المظفر بن إبراهيم الخياط قال الخطيب في تاريخه كتبت عنه وهو شيخ صدوق، كان يسكن دار إسحاق، ولا أعلم كتب عنه أحد غيرى عن محمد بن على بن عطية المكي ذكره في تاريخه فقال في ترجمته صنف كتابا سماه قوت القلوب على لسان الصوفية، وذكر فيه أشياء منكرة مستشنعة في الصفات. قال الخطيب وقال لي أبو طاهر محمد بن على بن العلاف: كان أبو طالب المكي من أهل الجبل، ونشأ بمكة ودخل البصرة بعد وفاة أبى الحسن بن سالم فانتمى إلى مقالته، وقدم بغداد. فاجتمع الناس عليه في مجلس الوعظ، فخلط في كلامه وحفظ عنه أنه قال: ليس على المخلوقين أضر من الخالق. فبدعه الناس وهجروه، وامتنع من الكلام على الناس بعد ذلك.
ثم ذكر حكاية عن القاضي محمد بن على الواسطي أبى العلاء ذكره الخطيب في تاريخه فقال في ترجمته ورأيت لأبى العلاء أصولا عتقا سماعه فيها صحيح، وأصولا مضربة وكان من أهل العلم بالقراءات ممن أدركنا يقدحون فيه وسمعته يذكر أن عنده تاريخ شباب العصفري فسألته إخراج أصله لأقرأ عليه فوعدني بذلك، ثم اجتمعت مع أبى عبد الله الصوري فتجارينا ذكره فقال لي: لا ترد أصله بتاريخ شباب فإنه لا يصلح لك، فقلت وكيف ذاك؟ فذكر أن أبا العلا أخرج إليه الكتاب فرآه قد سمع فيه لنفسه تسميعا طريا مشاهدته تدل على فساده.
ورأيت في كتاب أبى العلا عن بعض الشيوخ المعروفين حديثا استنكرته وكان متنه طويلا موضوعا مركبا على إسناد واضح صحيح عن رجال ثقات أئمة في الحديث، فذاكرت به أبا عبد الله الصوري فقال لي: قد رأيت هذا الحديث في كتاب أبى العلاء فاستنكرته، فعرضته على حمزة بن محمدفقال لي اطلب من القاضي أصلا به فإنه لا يقدر على ذلك. قال الخطيب: ورأيت له أشياء سماعه فيها مفسود، إما مكشوط بالسكين أو مصلح بالقلم. ثم قرأت عليه حديثا من المسلسلات فقال
لي: هذا الحديث عندي بعلو، فسألته إخراجه فأخرجه إلى في رقعة من خطه فقرأه على من لفظه، فلما قرأه استنكرته، فقلت له هذا الحديث من هذا الطريق غريب جدا وأراه باطلا. فذكر أن له به أصلا نقله منه إلى الرقعة وأن الأصل قريب إليه لا يتعذر إخراجه عليه، واعتل بأن له شغلا يمنعه عن إخراجه في ذلك الوقت، فسألته أن يخرجه بعد فراغه من شغله فأجابنى إلى أن يفعل ذلك، وانصرفت من عنده فالتقيت ببعض من كان يختص به فذكرت له القصة وقلت له هذا موضوع على أبى يعلى الموصلي وكنت قد سمعته من عير أبى العلاء بنزول، وقلت ما أظن القاضي إلا قد وقع إليه نازلا من الطريق الموضوع فحدث به عن عبد الله بن محمد بن عثمان.
فلما كان بعد أسبوع اجتمعت معه فقال لي: قد طلبت أصل كتابي بالحديث وتعبت في طلبه فلم أجده، وهو مختلط بين كتبي. فسألته أن يعيد طلبه إياه فقال أنا أفعل ومكثت مدة أقتضيه به وهو يحتج بأنه ليس يجده، ثم قال لي أيش قدر هذا الحديث فكم عندي مثله، يروى عنى فما سمعنى غيره. وسأل أبو العلاء بعد إنكارى عليه أن يحدث به فامتنع ولم يروه لأحد بعدي. ثم ساقها إلى طريف بن عبيد الله قال:
الدارقطني: هو ضعيف.
ثم ذكر حكاية عن إبراهيم بن عمر البرمكي عن عبيد الله بن محمد بن محمد بن حمدان العكبري هو أبو عبد الله بن بطة ذكره الخطيب في تاريخه ثم قال: كتب إلى أبو ذر عبد بن أحمد الهروي يذكر أنه سمع نصرا الأندلسى قال- وكان يحفظ ويفهم ورحل إلى خراسان- قال: خرجت إلى عكبرا فكتبت على شيخ بها عن أبى خليفة وعن ابن بطة، فرجعت إلى بغداد فقال الدارقطني أين كنت؟ فقلت بعكبرا، فقال وعمن كتبت؟ فقلت عن ابن بطة، فقال وأيش كتبت عن ابن بطة؟ فقلت: كتاب السنن لرجاء بن مرجى حدثني به ابن بطة، عن حفص بن عمر الأردبيلى عن رجاء ابن مرجى فقال: هذا محال، دخل رجاء بن مرجى بغداد سنة أربعين، ودخل حفص ابن عمر الأردبيلى سنة سبعين ومائتين؛ فكيف سمع منه قال الخطيب قال لي أبو القاسم الأزهرى بن بطة ضعيف ضعيف ليس بحجة، وعندي عنه معجم البغوي ولا أخرج عنه في الصحيح شيئا. فقلت له فكيف كان كتابه بالمعجم؟ فقال: لم نر له أصلا وإنما دفع إلينا نسخة طرية بخط ابن شهاب فنسخنا منها وقرأنا عليه، وكذلك ادعى سماع كتب أبى محمد بن قتيبة ورواها عن شيخ سماء بن أبى مريم، وزعم أنه دينورى حدثه عن ابن قتيبة، وابن أبى مريم هذا لا يعرفه أحد من أهل العلم سوى ابن بطة.
ثم ذكر حكاية عن محمد بن على المقري عن محمد بن عبد الله النيسابوري وقد تقدم ذكره ثم ساقها إلى محمد بن أبى عتاب الأعين أبى بكر ذكره الخطيب في تاريخه فقال في ترجمته محمد بن الحسن. وقال في أثناء إسناد ساقه: سأل يحيى بن معين عن أبى بكر الأعين فقال: ليس هو من أصحاب الحديث.
ثم ذكر حكاية عن الحسن بن أبى طالب عن أحمد بن محمد بن يوسف- وهو ابن دوست- ذكره الخطيب في تاريخه فقال تكلم محمد بن أبى الفوارس في روايته عن المطيري وطعن عليه. وقال الخطيب سمعت أبا القاسم الأزهرى يقول: ابن دوست ضعيف رأيت كتبه كلها طرية، وكان يذكر أن أصوله العتق غرقت فاستدرك نسخها. قال الخطيب: سألت البرقاني عن ابن دوست فقال: كان يسرد الحديث من حفظه وتكلموا فيه، وقيل إنه كان يكتب الأجزاء ويتربها حتى يظن أنها عتق. قال الخطيب: حدثني عيسى بن أحمد قال سمعت حمزة بن محمد يقول: مكث ابن دوست سبع عشرة سنة يملى الحديث، وكان إذا سئل عن شيء أملى من حفظه في معنى ما سئل عنه، وكان يذاكر بحضرة أبى الحسن الدارقطني ويتكلم في علم الحديث، فتكلم الدارقطني فيه بهذا السبب. ثم ساقها إلى ابن المبارك وقد تقدم ذكره.
ثم ذكر حكاية عن إبراهيم بن محمد بن سليمان المؤدب إلى ابن المبارك وقد سبق.
ثم ذكر حكاية عن العتيقى ساقها إلى أبى بكر الأعين وقد تقدم ذكره ثم ساقها إلى ابن المبارك وقد تقدم أيضا. ثم ذكر حكاية عن عبيد الله بن عمر بن شاهين عن أبيه عن عبد الله بن سليمان وقد سبق ذكر عبد الله بن سليمان، ثم ساقها إلى أبى بكر الأعين وقد سبق ذكره عن الحسن بن الربيع ذكره الخطيب في تاريخه فقال: قال عبد الخالق بن نصور سئل يحيى بن معين- وأنا أسمع- عن الحسن بن الربيع فقال:
لو كان يتقى الله لم يحدث بالمغازى، ما كان يحسن يقرؤها. وقال ابن بنت لأبى أسامة إنه يحدث عن ابن المبارك عن حميد عن أنس في القراءة. فقال يحيى: كل من يحدث به عن حميد فقد كذب.
ثم ذكر حكاية عن ابن المبارك وقد تقدم ذكره.
ثم ذكر حكاية عن محمد بن أحمد بن يعقوب ثم ساقها إلى محمد بن على بن الحسن بن شقيق عن أبيه، وأبوه على هذا ذكره الخطيب في تاريخه وقال: إنهم
تكلموا فيه في الأرجاء ثم رجع عنه.
ثم ذكر حكاية عن ابن المبارك وقد تقدم ذكره.
ثم ذكر حكاية عن ابن دوما النعالى وقد تقدم ذكره، ثم ساقها إلى ابن المبارك وقد تقدم ذكره.
ثم ذكر حكاية عن البرقاني إلى أن ساقها إلى أبى وهب عن ابن المبارك وأبو وهب إن كان زمعة بن صالح فهو ضعيف في حديثه، وأما عبد الله بن المبارك فقد تقدم ذكره.
ثم ذكر حكاية عن عبد الله بن يحيى السكرى وغيره من شيوخه، ثم ساقها إلى محمد بن يونس الكديمي ذكره الخطيب في تاريخه ونقل عن جماعة أنه كذاب.
ثم ذكر حكاية عن مؤمل بن إسماعيل عن سفيان بن عينية وقد تقدم ذكرهما.
ثم ذكر حكاية عن البرمكي إلى محمد بن محمد الجوهري؟ عن الأثرم وقد تقدم ذكر الجوهري.
ثم ذكر حكاية عن العتيقى ساقها إلى الحجاج بن أرطاة، قال أبو الحسن الدارقطني: حجاج بن أرطاة لا يحتج به. وكان الخطيب يقول: كان مدلسا يروى عمن لم يلقه. وقال محمد بن سعد: كان ضعيفا وقال يحيى بن معين: الحجاج بن أرطاة ضعيف. وقال زائدة: اطرحوا حديث الحجاج بن أرطاة. وذكره ابن الجوزي في كتاب الضعفاء. فقال: قال ابن حبان: تركه ابن المبارك ويحيى القطان، وابن مهدى، ويحيى بن معين، وأحمد بن حنبل. وقال ابن المبارك: رأيته في مسجد الكوفة يحدثهم بأحاديث العرزمي يدلسها على شيوخ العرزمي، والعرزمي قائم يصلى لا يقربه أحد والناس على حجاج. وقال أحمد بن حنبل: يزيد في الأحاديث، ويروى عمن لم يلقه لا يحتج بحديثه.
وحدث عن البرقاني عن محمد بن العباس بن حيويه وقد تقدم ذكره، ساقها إلى على بن المديني ذكره الخطيب في تاريخه فقال في ترجمته بإسناد ذكره. قال. دخلت على على بن المديني يوما فرأيته واجما مغموما فقلت ما شأنك؟ فقال: رؤيا رأيتها، فقلت وما هي؟ فقال رأيت كأنى أخطب على منبر داود النبي عليه السلام، قال:
فقلت خيرا رأيت أنك تخطب على منبر نبى، فقال: لو رأيت كأنى أخطب على منبر
أيوب كان خيرا لي لأن، أيوب بلى في بدنه، وداود فتن في دينه، وأخشى أن أفتن في ديني. فكان منه ما كان.
قال الخطيب يعنى أنه أجاب لما امتحن إلى القول بخلق القرآن. ثم قال أخبرنى الحسين بن على الصيمري حدثنا محمد بن عمران المرزباني أخبرنى محمد بن يحيى حدثني الحسين بن فهم حدثني أبى قال: قال ابن أبى داود للمعتصم: يا أمير المؤمنين هذا يزعم- يعنى أحمد بن حنبل- أن الله تعالى يرى في الآخرة، والعين لا تقع إلا على محدود، والله لا يجد. فقال له المعتصم ما عندك في هذا؟ فقال: يا أمير المؤمنين عندي ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال وما قال صلى الله عليه وسلم؟ قال:
حدثني محمد بن جعفر غندر حدثنا شعبة عن إسماعيل بن أبى خالد عن قيس بن أبى حازم عن جرير بن عبد الله البجلي. قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة أربع عشرة من الشهر، فنظر إلى البدر فقال:
«أما إنكم سترون ربكم كما ترون هذا البدر لا تضامون في رؤيته»
فقال لأحمد بن أبى داود: ما عندك في هذا؟ فقال انظر في إسناد هذا الحديث وكان هذا في أول يوم ثم انصرف، فوجه ابن أبى داود إلى على بن المديني وهو ببغداد مملق ما يقدر على درهم، فأحضره فما كلمه بشيء حتى وصله بعشرة آلاف درهم، فقال هذه وصلك بها أمير المؤمنين وأمر أن يدفع إليه جميع ما استحق من أرزاقه، وكان به رزق سنتين ثم قال: يا أبا الحسن حديث عبد الله بن جرير في الرؤية ما هو؟ قال صحيح، قال: فهلعندك فيه شيء؟ قال يعفيني القاضي من هذا، فقال يا أبا الحسن هذه حاجة الدهر، ثم أمر له بثياب وطيب ومركب بسرجه ولجامه، ولم يزل حتى قال له: في هذا الإسناد من لا يعمل عليه ولا على ما يرويه، وهو قيس بن أبى حازم، إنما كان أعرابيا بوالا على عقبيه. فقبل ابن أبى داود بن المديني واعتنقه، فلما كان الغد وحضروا قال: ابن أبى داود: يا أمير المؤمنين يحتج في الرؤية بحديث جرير، وإنما رواه عنه قيس بن أبى حازم وهو أعرابى بوال على عقبيه. قال: فقال أحمد بعد ذلك: فحين أطلع لي هذا علمت أنه من عمل على بن المديني، فكان هذا وأشباهه من أوكد الأمور في ضربه.
ثم ذكر حكاية عن أحمد بن على بن البادا ثم ساقها إلى أبى بكر بن أبى داود وقد تقدم ذكره.
ثم ذكر حكاية عن ابن دوما النعالى وقد تقدم ذكره.
ثم ذكر حكاية عن ابن رزق ساقها إلى سفيان بن عينية وقد تقدم ذكره، ثم ساقها من طريق أخرى عن أبى نعيم الأصفهانى وهو صاحب الحلية وقد تقدم ذكره. وساقها إلى سفيان بن عينية.
ثم ذكرها حكاية عن العتيقى ساقها إلى محمد بن يونس الجمال، قال محمد بن الجهم: هو عندي متهم. وقال ابن عدى: هو يسرق الحديث. حكى ذلك ابن الجوزي في كتاب «الضعفاء» ، ثم ساقها إلى شعبة بن الحجاج العتكي ذكره الخطيب في تاريخه فقال في ترجمته أخبرنا أحمد بن جعفر بن حمدان حدثنا محمد بن جعفر الراشدي حدثنا أبو بكر الأثرم قال سمعت أبا عبد الله يقول: كان شعبة يحفظ لم يكتب إلا شيئا قليلا وربما وهم في الشيء، ثم ذكر حكاية أخرى قال أخبرنا ابن الفضل حدثنا أحمد بن دعلج بن أحمد أخبرنا أحمد بن على الأبار حدثنا محمد بن المنهال حدثنا يزيد بن زريع. قال: قدم علينا شعبة البصرة ورأيه رأى سوء خبيث- يعنى الترفض- فما زلنا به حتى ترك قوله ورجع وصار معنا.
ثم ذكر حكاية أخرى عن البرمكي ثم ساقها إلى عمر بن محمد الجوهري وقد تقدم ذكره، ثم ساقها إلى سفيان بن عينية وقد تقدم ذكره.
ثم ذكر حكاية عن عبيد الله بن عمر الواعظ ساقها إلى أبى بكر بن عياش وقد تقدم ذكره.
ثم ذكر حكاية عن على بن أحمد الرزاز إلى مؤمل بن إسماعيل وتقدم ذكر على ومؤمل، ثم ساقها إلى سفيان الثوري وقد تقدم ذكره.
ثم ذكر حكاية عن محمد بن عمر بن بكر المقري ساقها إلى المؤمل بن إسماعيل إلى سفيان وقد تقدم ذكرهما.
ثم ذكر حكاية عن أبى حسنويه ساقها إلى إبراهيم بن أبى الليث. ذكره الخطيب في تاريخه فقال: قرأت على البرقاني عن محمد بن العباس قال حدثنا أحمد بن محمد ابن مسعدة قال حدثنا جعفر بن درستويه قال حدثنا أحمد بن محمد بن القاسم بن محرز قال سمعت يحيى بن معين- وذكر إبراهيم بن أبى الليث- فقيل له إن أحمد يكتب عنه فقال: لو اختلف إليه ثمانون كلهم مثل منصور بن المعتمر. ما كان إلا كذابا. قال الخطيب: أخبرنى الأزهرى حدثنا عبد الرحمن بن عمر الخلال حدثنا محمد
ابن أحمد بن يعقوب بن شيبة قال حدثنا جدي قال: إبراهيم بن أبى الليث كان أصحابنا كتبوا عنه ثم تركوه، وكانت عنده كتب الأشجعيّ، وكان معروفا بها، ولم يقتصر على الذي عنده حتى تخطى إلى أحاديث موضوعة. وقال جدي: حدثني أحمد ابن العباس قال سمعت يحيى بن معين يقول: ابن أبى الليث يكذب في الحديث. ولو حدث بما سمع لكان خيرا له. وقال أبو حفص عمرو بن على: وإبراهيم بن نصر صاحب الأشجعيّ متروك الحديث كان يكذب. وقال أبو على صالح بن محمد الأسدى: كان إبراهيم بن أبى الليث يكذب عشرين سنة.
وذكر حكاية ساقها إلى سفيان الثوري وقد تقدم ذكره. ثم ذكر حكاية عن محمد ابن الحسين بن محمد المتوثى إلى الحسن بن الفضل البوصرائى ذكره الخطيب في تاريخه فقال: أكثر الناس عنه ثم انكشف ستره فتركوه.
وذكر حكاية عن محمد بن كثير العبدى وقد تقدم.
وذكر حكاية عن سفيان الثوري وقد تقدم.
ثم ذكر حكاية عن رضوان بن محمد بن الحسن الدينوري ساقها إلى عبد الرزاق، وعبد الرزاق هذا هو ابن همام الصنعائى. قال النسائي: فيه نظر لمن كتب عنه بأخرة، كتبت عنه أحاديث مناكير. وقال عباس بن عبد العظيم لما قدم من صنعاء والله لقد تجشمت إلى عبد الرزاق وإنه لكذاب، والواقدي أصدق منه. وقال ابن عدى: حدث عبد الرزاق بأحاديث في الفضائل لم يوافقه أحد عليها، ومثالب لغيرهم مناكير، ونسبوه إلى التشيع. حكى ذلك ابن الجوزي في كتاب الضعفاء.
ثم ذكر حكاية عن ابن رزق ساقها إلى محمد بن عثمان بن أبى شيبة ذكره الخطيب في تاريخه فقال في ترجمته أخبرنا على بن محمد بن الحسين الدقاق. قال قرأنا على الحسين بن هارون عن أبى العباس بن سعيد قال: سمعت عبد الله بن أسامة الكلبي يقول: محمد بن عثمان كذاب أخذ كتب ابن عبدوس الرازي ما زلنا نعرفه بالكذب، وقال ابن سعيد: سمعت إبراهيم بن إسحاق الصواف يقول: محمد بن عثمان كذاب يسرق حديث الناس، ويحيل على أقوام أشياء ليست من حديثهم.
وقال سمعت داود ابن يحيى يقول: محمد بن عثمان كذاب قد وضع أشياء كثيرة يحيل على قوم أشياء ما حدثوا بها قط. قال وسمعت عبد الرحمن بن يوسف بن خراش
يقول: محمد بن عثمان كذاب بين الأمر يزيد في الأسانيد فيوصل ويضع الحديث.
وقال سمعت محمد بن عبد الله بن على الحضرمي يقول: محمد بن عثمان كذاب ما زلنا نعرفه بالكذب وهو صبي. وقال سمعت عبد الله بن أحمد بن حنبل يقول:
محمد بن عثمان كذاب بين الأمر يقلب هذا على هذا، وأعجب من يكتب عنه.
وقال سمعت جعفر بن محمد بن أبى عثمان الطيالسي يقول: ابن عثمان هذا كذاب يجيء عن قوم بأحاديث ما حدثوا بها قط، متى سمع؟ أنا عارف به جدا. وقال حدثني محمد بن عبيد بن حماد قال: سمعت جعفر بن هذيل يقول: محمد ابن عثمان كذاب. قال الخطيب إلى هاهنا عن ابن سعيد. قال وحدثني على بن محمد ابن نصر قال سمعت حمزة بن يوسف السهمي يقول وسألت الدارقطنيّ عن محمد بن عثمان بن أبى شيبة فقال: كان يقال أخذ كتب أبى أنس وكتب غير محدث. قال الخطيب:
سألت البرقاني عن ابن أبى شيبة قال: لم أزل أسمع الشيوخ يذكرون أنه مقدوح فيه.
ثم ذكر حكاية عن محمد بن على المالكي ساقها إلى محمد بن عبد الله المديني قال الخطيب حدثني على بن محمد بن نصر قال سمعت حمزة بن يوسف يقول سألت الدارقطني عن عبد الله بن على المديني روى عن أبيه كتاب الفلك؟ فقال: إنما أخذ كتبه وروى إجازة ومناولة، وما سمع كثيرا من أبيه، قلت لم؟ قال لأنه ما كان يمكنه من كتبه.
وذكر حكاية عن أبيه على بن المديني وقد تقدم ذكره.
ثم ذكر حكاية عن أبى عمر عبد الواحد ساقها إلى يعقوب بن شيبة ذكره الخطيب في تاريخه ونقل عن أحمد بن حنبل أنه سأل يعقوب فقال: مبتدع صاحب هوى.
وذكر حكاية عن أحمد بن الحسن الحرشي الحربي ساقها إلى أبى قلابة الرقاشي وهو عبد الملك بن محمد ذكره الخطيب في تاريخه وقال: قال الدارقطني: هو صدوق كثير الخطإ في الأسانيد والمتون، كان يحدث من حفظه فكثرت الأوهام منه. وقال في حكاية أخرى بسند ساقه قال: حدثنا محمد بن إسحاق بن خزيمة أبو قلابة بالبصرة قبل أن يختلط ويخرج إلى بغداد، ثم ساق الحكاية إلى سفيان الثوري وقد تقدم ذكره.
ثم ذكر حكاية عن أبى سعيد محمد بن موسى الصيرفي عن أبى العباس محمد بن
يعقوب الأصم عن محمد بن على الوراق عن مسدد قال سمعت أبا عاصم يقول ذكر عند سفيان موت أبى حنيفة فما سمعته يقول رحمة الله عليه ولا شيئا، وقال الحمد لله الذي عافانا مما ابتلاه. وهذا يؤيد قول عبد الله بن على في قوله: وكان بينهما شيئا.
وهذا آخر ما ذكره الخطيب وقد بينا الجواب عن كل فصل، وهذا على ما شرطته أولا في صدر الكتاب.
ثم ذكرت روايته وما في سند كل واحد من الضعف أو الكلام الشبيه بالضعف وكل ذلك بينت موضعه من الكتب وقائله لم أرد بذلك إلا جوابا للخطيب في قوله المحفوظ عند أئمة الحديث غير هذا، وربما كان بعض من ذكرنا مشهورا بالثقة والأمانة إلا أن الخطيب لما أن ذكر في كتابه ما حكيناه عن واحد واحد منهم أردنا نقل ذلك عنه إلزاما له بقوله وهو لا بد أن يكون في أحد النقلين كاذبا، وهذا حديثنا في الرجال والنقلة على تقدير أن يكون الخطيب يصلح للنقل أو النقل عنه كما في الفصل إذا وقع الاختلاف في المقضى به فعلى القاضي الثاني أن يجيزه، أما إذا كان الاختلاففي القاضي فليس للثاني أن يجيزه على وجه من الوجوه. مثال ذلك أن يكون محدودا في القذف أو يكون امرأة استقضت فحكمت في الحدود فهذا لا ينفذ، وليس للثاني أن يجبره أصلا. وجوابنا للخطيب على هذا التقدير.
أما ما قد نقل عنه في نفسه فما أنبأنا به أبو محمد بن اسماعيل الطرسوسي في كتابه إلى من أصبهان قال أنبأنا محمد بن طاهر المقدسي الحافظ- ونقلته من خطه- قال سألت الإمام أبا القاسم سعد بن على عن أبى بكر الخطيب- ورأيت على بعض أجزائه علامة له- فقلت له كيف رأيته؟ فقال: كان هاهنا يفيد الناس من سليم الرازي، ويقرأ لهم عليه. وكأنه لم يرفع به رأسا. وبالإسناد قال المقدسي- ونقلته من خطه- وسألت أبا القاسم هبة الله بن عبد الوارث الشيرازي هل كان أبو بكر الخطيب كتصانيفه في الحفظ؟ فقال: لا كنا إذا سألناه عن شيء أجابنا بعد أيام، وإن ألححنا عليه غضب. وكانت له بادرة وحشة. وأما تصانيفه فمصنوعة مهذبة، ولم يكن حفظه على قدرها.
قلت: وقد كان مصحفا. أنبأنا شيخنا الإمام العلامة حجة العرب أبو اليمن زيد ابن الحسن الكندي- مشافهة- قال أجاز لنا الإمام العلامة الحافظ أبو الفضل محمد
ابن ناصر السلامي. قال: قال لنا الشيخ الحافظ أبو الغنائم بن النرسي سمعت الشيخ الحافظ أبو بكر الخطيب وهو يقرأ لنا كتاب «المغازي» عن الواقدي على أبى محمد الجوهري، فبلغ إلى غزاة أحد وذكر
قول النبي صلى الله عليه وسلم: «يا ليتني غودرت يوم أحد مع أصحابى نحض الجبل» .
بالضاد معجمة، فاستنكرته إذ لم يعرف ذلك فلقيت الشيخ أبا القاسم بن برهان النحوي فسألته عن ذلك وقلت له قد
قرأ أبو بكر الخطيب اليوم على الجوهري في «المغازي» قول النبي صلى الله عليه وسلم «يا ليتني غودرت مع أصحابى نحض الجبل»
بالضاد فاستنكرته فما تقول في ذلك؟ فقال لي: صحف أبو بكر الخطيب هذه الكلمة، وإنما هو نحص بالصاد غير معجمة- النص- أصل الجبل.
وبالإسناد قال المقدسي- ونقلته من خطه أيضا- سمعت أبا القاسم مكي بن عبد السلام الرميلى رحمه الله يقول كان سبب خروج أبى بكر الخطيب من دمشق إلى صور أنه كان يختلف إليه صبي صبيح الوجه وقد سماه مكي أنا نكبت عن ذكره فتكلم الناس في ذلك وكان أمير البلدة رافضيّا يتعصب، فبلغته القصة فجعل ذلك سببا للفتك به، فأمر صاحب شرطته أن يأخذه بالليل ويقتله، وكان صاحب الشرطة من أهل السنة. فقصده صاحب الشرطة في تلك الليلة مع جماعة من أصحابه ولم يمكنه أن يخالف الأمير وأخذه وقال: قد أمرت بكذا وكذا، ولا أجد لك حيلة إلا أنى أعبر بك على دار الشريف بن أبى الحسن العلوي، فإذا حاذيت الباب اقفز وادخل الدار فإنى لا أطلبك، وأرجع إلى الأمير وأخبره بالقصة. ففعل ذلك ودخل دار الشريف وذهب صاحب الشرطة إلى الأمير وأخبره بالخبر فبعث الأمير إلى الشريف أن يبعث به. فقال الشريف: أيها الأمير أنت تعرف اعتقادي فيه وفي أمثاله، ولكن ليس في قتله مصلحة، هذا رجل مشهور بالعراق وإن قتلته قتل به جماعة من الشيعة بالعراق وخربت المشاهد. قال فما ترى؟ قال: أرى أن يخرج من بلدك. فأمر بإخراجه فخرج إلى صور وبقي بها مدة إلى أن رجع إلى بغداد وأقام بها إلى أن مات رحمه الله.
ويدلك على هذه الحكاية ما ذكره أبو الفرج بن الجوزي في كتابه المسمى ب «السهم المصيب في الرد على الخطيب» الذي أخبرنا به الشيخ الإمام الأوحد أبو طاهر أحمد بن عمر بن محمد بن قدامة المقدسي بقراءتي عليه بالبيت المقدس في شهر صفر من سنة اثنتين وعشرين وستمائة قال أخبرنا الشيخ الإمام العالم أبو الفرج
ابن الجوزي بجميع كتابه المسمى ب «السهم المصيب في الرد على الخطيب» قال في أثناء كتابه: (فصل) وجمع الخطيب كتابا في الجهر بالبسملة فساق فيه الأحاديث التي يعلم أنها ليست صحيحة مثل حديث عبد الله بن زياد بن سمعان وقد أجمعوا على ترك حديثه. فقال مالك: كان كذابا ومثل حديث عبد الرحمن بن عبد الله العمرى، قال أحمد: كان كذابا. ومثل حديث حفص بن سليمان، قال أحمد: هو متروك الحديث. وكل أحاديثه قد تكلمت عليها في التعليقة وبينت وهاءها، فلا أعيد.
والعجب منه كيف يعارض بمثل هذه الأحاديث الصحاح وصنف كتاب «القنوت» فذكر فيه من هذا الجنس، ولولا أن مسائل الخلاف أولى بذكر ذلك من هاهنا لذكرت من ذلك هاهنا الكثير وإنما المقصود بيان عصبيته الخارجية على الحنابلة، ومدحه المبتدعة وأصحاب الكلام، وما للمحدث ومدح المتكلمين. وقد قال الشافعي: حكمى في أهل الكلام أن يحملوا على البغال ويطاف بهم في القبائل، ويقال هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأخذ في الكلام.
قال ابن الجوزي: أنبأنا أبو زرعة طاهر بن محمد بن طاهر المقدسي عن أبيه. قال سمعت إسماعيل بن الفضل القوسى- وكان من أهل المعرفة بالحديث- يقول: ثلاثة من الحفاظ لا أحبهم لشدة تعصبهم وقلة إنصافهم الحاكم أبو عبد الله، وأبو نعيم الأصفهانى، وأبو بكر الخطيب.
قلت: كان إسماعيل هذا حافظا ثقة صدوقا له معرفة بالرجال والمتون، غزير الديانة سمع أبا الحسين بن المهتدى وابن النقور وغيرهما. وقال الحق.
فأما أبو عبد الله الحاكم فأخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أحمد بن على بن ثابت قال: كان ابن البيع الحاكم يميل إلى التشيع، وأنبأنا أبو الفتح بن عبد الباقي عن أبى محمد التميمي عن أبى عبد الرحمن السلمى. قال: دخلت على الحاكم أبى عبد الله وهو في داره لا يمكنه الخروج إلى المسجد من جهة أصحاب أبى عبد الله بن كرام وذلك أنهم كسروا منبره ومنعوه من الخروج. فقلت له لو خرجت وأمليت في فضائل هذا الرجل يعنى معاوية حديثا لاسترحت من هذه المحنة؟ فقال:
لا يجيء من قلبي، لا يجيء من قلبي لا يجيء من قلبي.
وأما أبو نعيم الأصفهانى فكانت له العصبية في مذاهب الأشاعرة، ورأيت له
كتابا قد سماه «مذهب الحروفية» فذكر مذهب الأشعريّ مختلطا بضده وهو لا يدرى مثل قوله: من قرأ حرفا من القرآن فله عشر حسنات، ومن دليل تخليطه أنه قال:
القراءة غير المقروء. ثم حكى عن أحمد بن حنبل أنه سئل ما تقول في رجل قال التلاوة مخلوقة وألفاظنا بالقرآن مخلوقة؛ والقرآن كلام الله ليس بمخلوق؟ فقال: هذا يجانب، وهو قول المبتدعة. فقلت: فمن أحتج على ما نصره بهذا لا يصلح أن يكلم لأنه يريد أن يحتج لنفسه فيحتج على نفسه وليس هذا موضع الرد عليه وإنما المقصود أنه متصعب وما للمحدث والخوض في الكلام وهو يروى نهى السلف عنه، وأما الخطيب فإنه زاد عليهما في التعصب وسوء القصد، ولهذا لم يبارك في كتبه ولا يكاد يلتفت إليها وهي كتب حسان، ولو ذهبنا نذكر أغلاطه وما تعصب به لطال ومن تبلغ به العصبية إلى ما قد ذكرنا من تغطية الحق والتلبيس على الخلق لا ينبغي أن نقبل جرحه وتعديله لأن فعله وقوله ينبئ عن قلة دين، ولقد نقلت من خطه أشعارا قالها منها:
تغيب الناس عن عيني سوى قمر
…
حسبي من الخلق طرا ذلك القمر
محله من فؤادي قد تملكه
…
وحاز روحي فما لي عنه مصطبر
أردت تقبيله يوما مخالسة
…
فصار من خاطري في خده أثر
وكم حكيم رآه ظنه ملكا
…
وراجع الفكر فيه أنه بشر
ومنها:
بات الحبيب وكم له من ليلة
…
فيها أقام إلى الصباح معانقي
ثم الصباح أتى ففرّق بيننا
…
ولقلما يصفو سرور العاشق
ومنها:
للخمر والورد حق لست أجحده
…
إذ ناسبا ما بدت منه بلاياى
فالخمر من طيب ريق الحب قد سرقت
…
والورد أضحى يحاكى خد مولاي
ومنها:
بالله أقسم أيمانا مغلظة
…
ما مثل حبى مشى في سائر الناس
إذا بدا يتثنى خلته قمرا
…
من فوق غصن مديد الفرع مياس
شربت من لحظه خمرا سكرت بها
…
زادت على نعت خمر الكاس والطاس
فأورثت مهجتي من حبه دنفا
…
وعظمت حال أفكارى ووسواسى
ومنها:
يا عاذلى كف عن عذلى فلو نظرت
…
عيناك حبى لعاينت الذي أجد
وقلت من فرط وجد حين تنظره
…
هل يملك الصبر عن هذا ترى أحد
جعلت في الحب فردا لا نظير له
…
كما حبيبي بحسن الوصف منفرد
ومنها:
ما كان أغفلنى عما ابتليت به
…
من حب ذى هيف أبهى من القمر
قد أبدع الله فيه حين صوره
…
كأنه ملك في صورة البشر
سقام أجفانه قد زاد في سقمي
…
فصرت من ذا وذا في أعظم الخطر
مترف ناعم لو ظلت لاحظه
…
لذاب من رقة في ساعة [النظر]
يؤثر الوهم في توريد وجنته
…
لكنما قلبه أقسى من الحجر
فهذه الأشعار تدل على صحة ما تقدم من الحكاية التي ذكرها المقدسي في سبب خروج الخطيب من دمشق، ومن هذا حاله لا يصلح أن يكون بمنزلة الأئمة الذين تقبل أقوالهم في الجرح والتعديل، ورواياتهم.
نسأل الله أن يعصمنا من الزلل ويوقفنا لصالح العمل بفضله وكرمه، وما ذكرته من الحكايات والأسانيد أخبرنى بها وبجميع تاريخه الخطيب شيخي الإمام العلامة حجة العرب أبو اليمن زيد بن الحسن بن زيد الكندي- إجازة- قال أخبرنا أبو منصور القزاز- سماعا- قال أخبرنا أبو بكر الخطيب.
آخر الكتاب والحمد لله والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد النبي وآله أجمعين.
ملحق في آخر الأصل ما يأتى
ومن جملة لطائف الإمام الأعظم أبى حنيفة رضوان الله عليه في النحو يقول:
أشرت إلى بكم بكم بكم ما بكم
…
بكم عوضا ترضون عما بكم بكم
أعرب تفهم الجواب
فقالوا جميعا بالإشارة إنه
…
كفى عوضا أنّ السّلامة في البكم
فرغ من كتابته العبد الفقير إلى رحمة ربه الراجي عفوه أحمد بن عبد الدائم ابن نعمة المقدسي سامحه الله وذلك في يوم الاثنين العشرين من شهر رمضان المبارك من سنة ثلاث وعشرين وستمائة هجرية.
وفي آخر ما نصه قوبل بالأصل المنقول عنه المقروء على مولانا السلطان أعز الله نصره.
تم كتاب الرد للملك المعظم. ويتلوه إن شاء الله [كتاب مفتاح الترتيب لأحاديث تاريخ الخطيب] الذي تفضل بوضعه العلامة الأثرى السيد أحمد الصديق الطنجى نزيل القاهرة حالا، والحمد لله وحده وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
آخر الجزء الثاني والعشرين
[*] تعليق الشاملة: كذا في المطبوع، وهو إعادة صف لما ورد في طبعة دار السعادة - مصر (1351 هـ - 1932 م) ص 182، وليس ثَمّ -في ط العلمية هذه- «مفتاح الترتيب»