المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌مقدمة المؤلف (الشيخ محمد بن صالح العثيمين) بسم الله الرحمن الرحيم إن - الشرح الممتع على زاد المستقنع - جـ ١

[ابن عثيمين]

فهرس الكتاب

‌مقدمة المؤلف

(الشيخ محمد بن صالح العثيمين)

بسم الله الرحمن الرحيم

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه؛ والذين اتبعوهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.

أما بعدُ:

فإن كتاب " زاد المستقنع في اختصار المقنع " - تأليف: أبي النجا موسى بن أحمد بن موسى الحجاوي - كتاب قليل الألفاظ، كثير المعاني، اختصره من " المقنع "، واقتصر فيه على قولٍ واحدٍ، وهو الراجح من مذهب الإمام أحمد بن حنبل، ولم يخرُج فيه عن المشهور من المذهب عند المتأخرين إلا قليلاً.

وقد شُغِفَ به المبتدئون من طلاب العلم على مذهب الحنابلة، وحَفِظَهُ كثير منهم عن ظهر قلب.

وكان شيخُنا عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي " رحمه الله تعالى "، يَحُثنا على حفظه، ويُدرِّسنا فيه.

وقد انتفعنا به كثيرا ولله الحمد، وصرنا نُدرِّس الطلبة فيه بالجامع الكبير بعُنيزة، بحلِّ ألفاظه، وتبيين معانيه، وذِكر القول الراجح بدليله أو تعليله، وقد اعتنى به الطلبة وسجَّلوه وكتبوه.

ص: 5

ولما كَثُرَ تداوله بين الناس عبر الأشرطة والمذكرات؛ قام الشيخان الكريمان الدكتور سليمان بن عبد الله أبا الخيل، والدكتور خالد بن علي المشيقح بإخراجه في كتاب سُمِّيَ:" الشرح الممتع على زاد المستقنع "، فخرَّجا أحاديثه، ورقَّما آياته، وعلَّقا عليه ما رأياه مناسباً، وطبعاه الطبعة الأولى، فجزاهما الله خيراً.

ولما كان الشرح بالتقرير لا يساوي الشرح بالتحرير؛ من حيث انتقاء الألفاظ؛ وتحرير العبارة؛ واستيعاب الموضوع؛ تَبيَّن أنَّ من الضروري إعادة النظر في الكتاب، وتهذيبه وترتيبه. وقد تمَّ ذلك فعلاً - ولله الحمد -؛ فحذفنا ما لا يُحتاج إليه، وزدنا ما تدعو الحاجة إليه، وأبقينا الباقي على ما كان عليه.

وقد كان في مقدمة من قرأه علينا في هذه الطبعة الدكتور خالد بن علي المشيقح، جزاه الله خيراً.

والله أسأل؛ أن يجعل عملنا خالصاً لوجهه، موافقاً لمرضاته، وأن ينفع به عباده، إنه سميعٌ قريبٌ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد؛ وعلى آله وأصحابه؛ والتَّابعين لهم بإحسان.

المؤلف

محمد الصالح العثيمين

4/ 6 / 1420 هـ

ص: 6

‌شرح مقدمة الزاد

قال المؤلف رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم

قوله: «بسم الله» ، الجار والمجرور متعلِّق بمحذوف فعلٍ مؤخَّرٍ مناسبٍ للمقام، فعندما تريد أن تقرأ تقدِّر: بسم الله أقرأُ، وعندما تريد أن تتوضَّأ تقدِّر: بسم الله أتوضَّأُ، وعندما تريد أن تذبحَ تقدِّر: بسم الله أذبحُ، وإنما قَدَّرناه فعلاً، لأن الأصلَ في العمل للأفعال، وقدَّرناه مؤخَّراً لفائدتين:

الأولى: التبرُّكُ بالبَداءة باسم الله سبحانه وتعالى.

الثانية: إفادةُ الحصر؛ لأن تقديم المتعلِّق يُفيد الحصر.

وقدّرناه مناسباً؛ لأنه أدلُّ على المُراد، فلو قلت مثلاً ـ عندما تريد أن تقرأَ كتاباً ـ: بسم الله أبتدئُ ما يُدْرَى بماذا تبتدئُ؟ لكن: بسم الله أقرأ، يكون أدلَّ على المراد الذي ابتدئ به.

قوله: «الله» ، هو عَلَمٌ على الباري جلَّ وعلا، وهو الاسم الذي تَتْبَعُه جميعُ الأسماء، حتى إِنه في قوله تعالى:{كِتابٌ أنزلناهُ إِليكَ لتُخرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلماتِ إِلى النُّور بإِذنِ رَبهم إِلى صِراطِ العزِيزِ الحميدِ * اللَّهِ الذي لهُ ما في السَّماواتِ وما في الأَرضِ} [إبراهيم: 1، 2]، لا نقولُ: إِن لفظ الجلالة «الله» صفة، بل نقول: هو عطف بيان؛ لئلا يكون لفظُ الجلالة تابعاً.

قوله: «الرحمن» ، من أسماء الله المختصَّة به، لا يُطلقُ على غيره، و «الرَّحْمن» معناه: المتَّصف بالرَّحمةِ الواسعةِ.

قوله: «الرَّحيم» ، المُراد به ذو الرحمةِ الواصلةِ.

وإِذا جُمِعَا ـ الرَّحمن الرَّحيم ـ صار المُراد بالرَّحيم: الموصل رحمته إلى من يشاء من عباده، كما قال تعالى:{يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ *} [العنكبوت]، فهو ملحوظٌ فيه الفعل.

ص: 7

وأما الرَّحمن: فهو الموصوف بالرَّحمة الواسعة؛ فهو ملحوظٌ فيه الصِّفةُ.

وابتدأَ المؤلِّفُ كتابَه بالبسملة اقتداءً بكتاب الله عز وجل، فإِنه مبدوءٌ بالبسملة، واقتداءً بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم فإنه كان يبدأ كُتُبَه بالبسملة

(1)

.

‌إِنَّ الحمدَ لله .................

قوله: «الحمدُ لله» ، جملةٌ اسميَّةٌ مكوَّنةٌ من مبتدأ وخبر.

والحمدُ: وصفُ المحمود بالكمال؛ سواءٌ كان ذلك كمالاً بالعَظَمة؛ أو كمالاً بالإحسان والنِّعمة. واللَّهُ تعالى محمودٌ على أوصافه كلِّها وأفعاله كلِّها.

واللام في قوله: «لله» ، قال أهل العلم: إنها للاختصاص والاستحقاق.

فالمستحقُّ للحمد المطلق هو الله، والمختصُّ به هو الله، ولهذا كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم إِذا أصابته السَّرَّاءُ قال:«الحمدُ لله الذي بنعَمِه تَتمُّ الصَّالحاتُ» ، وإن أصابته الضَّرَّاءُ قال:«الحمدُ لله على كُلِّ حالٍ»

(2)

.

(1)

مثال ذلك ما جاء في الحديث بلفظ: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد عبد الله ورسوله إِلى هِرَقل عظيم الروم

» الحديث. رواه البخاري، كتاب بدء الوحي،

رقم (7)، ومسلم، كتاب الجهاد والسير: باب كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إِلى هِرَقل، رقم (1773) من حديث ابن عباس عن أبي سفيان.

(2)

رواه ابن ماجه، كتاب الأدب: باب فضل الحامدين، رقم (3803)، والطبراني في «الدعاء» ، رقم (1769)، وابن السني في «عمل اليوم والليلة» ، رقم (378)،

والحاكم (1/ 499) من طرق عن الوليد بن مسلم، عن زهير بن محمد، عن منصور بن عبد الرحمن، عن صفية بنت شيبة، عن عائشة به.

وهذا إِسناد ضعيف. زهير بن محمد ثقة؛ إِلا أن رواية أهل الشام عنه غير مستقيمة؛ والراوي عنه الوليد بن مسلم دمشقي. أضف إِلى ذلك أن الوليد كثير التدليس

والتسوية وقد عنعن.

إِلا أن للحديث شواهد ـ يتقوَّى بها ـ من حديث ابن عباس، وعلي بن أبي طالب، وأبي هريرة، وغيرهم.

انظر: «الأسماء والصفات» للبيهقي، رقم (150)، و «الدعاء» للطبراني، رقم (1770)، و «تاريخ بغداد» (3/ 131)، و «مسند البزار» ، رقم (533)، و «شرح السنة»

للبغوي، رقم (1380)، و «الحلية» لأبي نعيم (3/ 157).

ص: 8

أما غيرُ اللَّهِ فيُحمَدُ على أشياءَ خاصَّة؛ ليس على كُلِّ حالٍ.

وأيضاً: هي للاختصاص، فالذي يَختصُّ بالحمد المطلق الكامل هو الله، فهو المستحقُّ له المختصُّ به.

‌حَمْداً لا يَنْفَدُ، أفضَلَ مَا يَنْبغِي أن يُحْمَدَ،

..........

قوله: «حمداً لا ينفد» ، «حمداً» مصدر، والعامل فيه المصدر قبله، فهو مصدرٌ معمولٌ لمصدر. والمصدر المحلَّى بأل يعمل مطلقاً، و «حمداً» مصدرٌ مؤكِّدٌ لعامله؛ لأنه إذا جاء المصدر بلفظ الفعل أو معناه فهو مؤكِّدٌ؛ كقوله تعالى:{وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164].

ومع كونه مؤكِّداً وُصِفَ بقوله: «لا يَنفَدُ» . فيكون أيضاً بصفته مبيِّناً لنوع الحمد؛ وأنَّه حمدٌ لا ينفَدُ، بل هو دائم، والربُّ عز وجل مُستحِقٌّ للحمد الدي لا ينفَد، لأن كمالاته لا تنفد، فكذلك الحمد ـ الذي هو وصفه بالكمالات ـ لا ينفَد.

وليس المعنى: لا ينفَدُ منِّي قولاً، لأنَّه ينفَد منه بموته، أو بتشاغله، بغيره، ولكن المعنى: أن اللَّه مُستحِقٌّ للحمد الذي لا ينفَدُ باعتبار ذلك منسوباً إِليه؛ فهو لا ينفَدُ.

قوله: «أَفْضَلَ ما يَنْبَغِي أنْ يُحمدَ» ، صفةٌ لحمد،

ص: 9

فيكون المؤلِّفُ رحمه الله وصفَ الحمدَ بوصفين:

الأول: الاستمرارية بقوله: «لا ينفَدُ» .

الثاني: كمالُ النَّوعيَّة بقوله: «أفضل ما ينبغي أن يُحمَد» ، أي: أفضل حَمْدٍ يَستحقُّ أن يُحمدَهُ.

وعلى هذا تكون «ما» نكرة موصوفة، يعني: أفضل حمدٍ ينبغي أن يُحمَده.

‌وَصَلَّى الله وسَلَّمَ ...............

قوله: «وصلَّى الله وسلَّمَ» ، لما أثنى على الله عز وجل بما ينبغي أن يُثْنَى عليه، ثَنَّى بالصَّلاة والسَّلام على أفضل الخلق.

قال بعضُ العلماء: الصَّلاةُ من الله: الرَّحمة، ومن الملائكة: الاستغفار، ومن الآدميين: الدُّعاء

(1)

.

والصَّواب ما قاله أبو العالية: «إنَّ الصَّلاة من الله ثناؤه على المُصَلَّى عليه في الملأ الأعلى»

(2)

، أي: عند الملائكة المقرَّبين، وهذا أخصُّ من الرَّحمة المطلقة.

وعلى هذا، فمعنى «صلَّى الله على محمَّدٍ» ، أي: أثنى عليه في الملأ الأعلى. وهذه جملة خبرية لفظاً، إنشائية

(1)

انظر: «جلاء الأفهام» ص (256 ـ 276).

(2)

رواه البخاري تعليقاً بصيغة الجزم، كتاب التفسير: باب «إِن الله وملائكته يُصَلُّون على النبي» ، رقم (4797).

ص: 10

معنى؛ لأنه ليس المراد أنِّي أُخبرُ بأن الله صلَّى؛ ولكنَّني أدعو الله عز وجل أن يُصلِّيَ، فهي بمعنى الدُّعاء، والدُّعاءُ إِنشاءٌ.

وقوله: «وسلَّم» ، وهذه أيضاً جملةٌ خبريةٌ لفظاً، إِنشائيَّةٌ معنى، أي: أدعو الله تعالى بأن يُسَلِّمَ على محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.

والسَّلامُ: هو السَّلامةُ من النقائص والآفات. فإِذا ضُمَّ السَّلامُ إلى الصَّلاةِ حَصَلَ به المطلوبُ، وزال به المرهوبُ، فَبالسَّلامِ يزولُ المرهوبُ وتنتفي النقائصُ، وبالصَّلاة يحصُلُ المطلوبُ وتَثْبُتُ الكمالاتُ.

‌على أفضلِ المُصْطَفَيْنَ ................

قوله: «المُصْطَفَيْن» ، بضمِّ الميم وفتح الفاء، أصله «المصتفين» بالتَّاء من الصفوة؛ وهي خُلاصة الشَّيء. والمصطفَوْنَ من الرُّسل: أولو العزم من الرُّسل. وهم مَذْكُورون في القرآن الكريم في موضعين: في سورة الأحزاب: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [الآية: 7]، وفي الشُّورى:{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى} [الشورى الآية: 13].

فهؤلاء الخمسة هم أولو العزم، ومحمَّدٌ صلى الله عليه وسلم أفضلهم. ويدلُّ على ذلك أنَّه خاتمهم

(1)

، وإمامُهم ليلة المعراج

(2)

؛ ولا يُقَدَّم إلا الأفضل، وصاحبُ الشَّفاعةِ العُظمى

(3)

، وهناك أشياء

(1)

وروى البخاري، كتاب المناقب: باب خاتم النبيين، رقم (3535)، ومسلم، كتاب الفضائل: باب ذكر كونه خاتم النبيين، رقم (2286) بلفظ:«وأنا خاتم النبيين» .

(2)

رواه أحمد (1/ 257) من حديث ابن عباس. قال ابن كثير: «إِسناده صحيح ولم يخرِّجوه» . التفسير (5/ 26)(الإِسراء: 1). وله شاهد من حديث أنس بن مالك رواه

النسائي، كتاب الصلاة: باب فرض الصلاة، (1/ 221) رقم (449).

(3)

حديث الشفاعة العُظمى رواه البخاري، كتاب الرقاق: باب صفة الجنة والنار، رقم (6565)، وفي كتاب التفسير: باب {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} ، رقم (4712)،

ومسلم كتاب الإِيمان: باب أدنى أهل الجنة منزلة رقم (193، 194).

ص: 11

أخرى تدلُّ على أنَّه أفضلُهم لكن هذه أمثلة.

‌محمَّدٍ، وعلى آلِهِ،

...................

قوله: «محمد» ، عطفُ بيان؛ لأن أفضل المُصطَفَيْن لا يُعرف من هو، فإِذا قيل:«محمَّد»

صار عطف بيان بَيَّنَ مَنْ هذا الأفضل.

وهو: محمد بن عبد الله بن عبد المطَّلب بن هاشم القُرشي؛ كما قال عن نفسه: «إن الله اصطفى من بني إسماعيل كِنانة، واصطفى من كِنانة قريشاً، واصطفى من قريشٍ بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم، فأنا خِيارٌ من خِيارٍ»

(1)

.

قوله: «وعلى آله» ، إذا ذُكِر «الآل» وحده فالمرادُ جميعُ أتباعه على دينه، ويدخلُ بالأولويَّة مَنْ على دينه من قرابته؛ لأنهم آلٌ من وجهين: من جهة الاتِّباع، ومن جهة القَرابة، وأما إِذا ذُكِرَ معه غيرُه فإِنَّه يكون المرادُ بحسب السِّياق، وهنا ذُكِرَ الآلُ والأصحابُ ومن تعبَّد، فنفسِّرُها بأنهم المؤمنون من قرابته؛ مثل

(1)

رواه مسلم، كتاب الفضائل: باب فضل نسب النبي صلى الله عليه وسلم رقم (2276) إِلى قوله: «واصطفاني من بني هاشم» ، من حديث واثلة بن الأسقع.

وأما قوله: «فأنا خيار من خيار» ، فرواه الطبراني في «الكبير» (12/رقم 13650)، وفي «الأوسط» رقم (6182) عن ابن عمر. قال الهيثمي: «فيه حمَّاد بن واقد وهو

ضعيف يُعتبر به». «المجمع» (8/ 215).

قال ابن حجر: «هذا حديث حسن

وحماد بن واقد لم ينفرد به، فقد رواه معه عبد الله بن بكر السهمي، وهو من رجال الصحيحين. وأما شيخهما محمد بن ذكوان

فمختلف فيه، فحديثه حسن في الجُملة». «الأمالي المطلقة» لابن حجر ص (68).

ص: 12

عليِّ بن أبي طالب، وفاطمة، وابن عبَّاس، وحمزة، والعبَّاس، وغيرهم.

‌وأصْحَابِهِ، وَمَنْ تَعَبَّدَ ..................

قوله: «وأصحابِه» ، جمع صَحْب، وصَحْبٌ اسم جمعِ صاحبٍ، فأصحابه: كُلُّ من اجتمع به مؤمناً به، ومات على ذلك، ولو لم يَرَهُ ولو لم تَطُل الصُّحبةُ.

وهذا من خصائصه صلى الله عليه وسلم، أما غيرُه من النَّاس فلا يكون صاحباً له إلا من لازمه مُدَّةً يَستحِقُّ بها أن ينطبق عليه وصفُ صاحب.

قوله: «ومن تعبَّد» ، مَنْ: اسم موصول، وهي للعموم.

وقوله: «تعبَّد» ، أي: تعبَّد لله؛ وتذلَّل له بالعبادة والطَّاعة.

والعبادة مبنيَّة على أمرين:

1 -

الحُبّ.

2 -

والتَّعظيم.

فبالحبِّ يكون طلب الوصول إلى مرضاة المعبود، وبالتَّعظيم يكون الهرب من الوقوع في معصيته؛ لأنك تعظِّمه فتخافه، وتحبّه فتطلبه.

وأما شرطا قَبولها فهما: الإِخلاصُ لله، والمتابعةُ لرسوله.

وكلمة «من تعبّد» عامة في كل من تعبَّد لله من هذه الأمَّة، ومن غيرها؛ ولهذا قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم في قولنا: السَّلام علينا وعلى عباد الله الصَّالحين: «إنكم إذا قلتم ذلك فقد سلَّمتم على كُلِّ عبدٍ

ص: 13

صالحٍ في السَّماء والأرض»

(1)

حتى الملائكة، وصالحو الجنِّ وأتباع الأنبياء السابقين يدخلون في هذا.

وهل يدخل فيها أصحابُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وآله المؤمنون؟ هذا مبنيٌّ على الخلاف بين العلماء، هل إِذا عطفنا العامَّ على الخاصِّ يكون الخاصُّ داخلاً في العام، أو خارجاً بالتَّخصيص؟ في هذا قولان: فمنهم من يقول: إنه داخل فيه؛ لأن العموم يشمله. ومنهم من يقول: إِنَّ ذكره بخاصَّته يدلُّ على أنه غير مراد

(2)

.

وهذا الخلاف قد يترتَّبُ عليه بعضُ المسائل، لكن من قال: إنه يدخل في العموم قال: إن الخاصَّ يكون مذكوراً مرَّتين: مرَّة بالخصوص، ومرَّة بالعموم.

‌أمَّا بَعْدُ:

................

قوله: «أما بعد» ، هذه كلمة يُؤتى بها عند الدُّخول في الموضوع الذي يُقْصَدُ.

وأما قول بعضهم: إنها كلمة يُؤتى بها للانتقال من أسلوب إلى آخر

(3)

، فهذا غيرُ صحيح، لأنه ينتقلُ العلماءُ دائماً من أسلوب إلى آخر، ولا يأتون بأمَّا بعدُ.

وأما إعرابها فنقول: «أما» نائبة عن شرط وفعلِ الشَّرط، والتَّقدير: مهما يكن من شيءٍ بعد ذلك فهذا مختصرٌ، فيكون

(1)

رواه البخاري كتاب الاستئذان: باب السلام اسم من أسماء الله، رقم (6230)، ومسلم، كتاب الصلاة: باب التشهد في الصلاة، رقم (402) بمعناه عن عبد الله بن

مسعود رضي الله عنه.

(2)

انظر: «مجموع الفتاوى» (20/ 188 ـ 191)، «جلاء الأفهام» ص (338).

(3)

انظر: «الروض المربع» (1/ 10).

ص: 14

«أما» بمعنى مهما يكن من شيء، و «بعدُ» ظرف متعلِّق بـ «يكن» المحذوفة مع شرطها؛ مبني على الضمِّ في محلِّ نصبٍ، لأنه حُذف المضافُ إليه، ونُوِيَ معناه، وهذه الظُّروف ـ بعدُ وأخواتها ـ إِذا حُذف المضاف إليه ونُويَ معناه بُنيت على الضمِّ؛ كما في قوله تعالى:{لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} [الروم: 4].

‌فهذا مخْتَصَرٌ فِي الفقهِ،

..............

قوله: «مختصرٌ» ، مُفْتَعَلٌ فهو اسم مفعول.

والمختصر: قال العلماء: هو ما قلَّ لفظُه وكثُرَ معناه

(1)

.

قوله: «في الفقه» ، الفقة لغةً: الفهم، ومنه قوله تعالى:{وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44]. وقوله: {قَالُوا ياشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ} [هود: 91]. بمعنى لا نفهم.

وفي الشَّرع: معرفة أحكام الله العَقَديَّة والعَمَليَّة.

فالفقه في الشَّرع ليس خاصاً بأفعال المكلَّفين، أو بالأحكام العمليَّة، بل يشمل حتى الأحكام العَقَديَّة، حتى إن بعضَ أهل العلم يقولون: إِن عِلمَ العقيدة هو الفقهُ الأكبرُ

(2)

. وهذا حَقٌّ، لأنك لا تتعبَّد للمعبود إلا بعد معرفة توحيده بربوبيّته وألوهيّتِه وأسمائه وصفاته، وإلا فكيف تتعبَّد لمجهول؟!

ولذلك كان الأساسُ الأولُ هو التَّوحيدَ، وحُقَّ أن يُسمَّى بالفقه الأكبر.

لكنَّ مرادَ المؤلِّف هنا: الفقه الاصطلاحي وهو: معرفة الأحكام العمليَّة بأدلتها التفصيلِيَّة.

(1)

انظر: «الروض المربع» (1/ 10)، «المصباح المنير» (1/ 170).

(2)

انظر: «مجموع الفتاوى» (19/ 307).

ص: 15

شرح التَّعريف:

قولنا: «معرفة» ولم نقل: علم؛ لأن الفقه إما علمٌ وإما ظنٌّ. وليس كلُّ مسائل الفقه علميَّة قطعاً، ففيه كثيرٌ من المسائل الظنِّيَّة، وهذا كثيرٌ في المسائل الاجتهادية التي لا يصلُ فيها الإِنسان إلى درجة اليقين، لكن لا يُكلِّفُ اللَّهُ نفساً إلا وسعها.

فقولنا: «معرفةُ» لأجل أن يتناول العلم والظنَّ.

وقولنا: «العمليَّة» احترازاً من الأحكام العَقَديَّة، فلا تدخل في اسم الفقه في الاصطلاح، وإن كانت تدخل في الشرع.

وقولنا: «بأدلتها التفصيليَّة» احترازاً من أصول الفقه، لأن البحث في أصول الفقه في أدلة الفقه الإجمالية، وربما تأتي بمسألة تفصيليَّة للتمثيل فقط.

وعُلِمَ من قولنا: «بأدلَّتها» أن المقلِّدَ ليس فقيهاً؛ لأنه لا يعرف الأحكام بأدلَّتها، غايةُ ما هنالك أن يكرِّرَها كما في الكتاب فقط. وقد نقل ابنُ عبد البَرِّ الإجماعَ على ذلك

(1)

.

وبهذا نعرف أهميَّة معرفة الدَّليل، وأن طالب العلم يجب عليه أن يتلقَّى المسائل بدلائلها، وهذا هو الذي يُنجيه عند الله سبحانه وتعالى؛ لأن الله سيقول له يوم القيامة:{مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [القصص: 65]، ولن يقول: ماذا أجبتم المؤلِّفَ الفلاني،

ص: 16

فإذاً لا بُدَّ أن نعرفَ ماذا قالت الرُّسل لنعمل به.

ولكن التَّقليد عند الضَّرورة جائزٌ لقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]، فإِذا كُنَّا لا نستطيع أن نعرف الحقَّ بدليله فلا بُدَّ أن نسأل؛ ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن التَّقليد بمنزلة أكل الميتة، فإذا استطاع أن يستخرج الدَّليلَ بنفسه فلا يحلُّ له التقليد

(1)

.

‌من مُقْنعِ الإِمامِ ..................

قوله: «من مُقْنِعِ» ، جار ومجرور، صفة لمختصر. و «مُقْنِع» اسم كتاب للموفّق رحمه الله، مؤلف «زاد المستقنع» .

قوله: «الإمام» ، هذا من باب التَّساهل بعض الشيءِ، لأن الموفَّق ليس كالإِمام أحمد، أو الشَّافعي، أو مالك، أو أبي حنيفة، لكنه إِمام مقيَّد، له مَنْ يَنْصُرُ أقوالَه ويأخذُ بها، فيكون إِماماً بهذا الاعتبار، أما الإِمامةُ التي مثل إِمامة الإِمام أحمد ومَنْ أشْبَهَهُ فإِنَّه لم يصلْ إلى دَرجتها.

وقد كَثُر في الوقت الأخير إطلاق الإمام عند النَّاس؛ حتى إِنه يكون الملقَّب بها من أدنى أهل العلم، وهذا أمرٌ لو كان لا يتعدَّى اللفظَ لكان هيِّناً، لكنه يتعدَّى إلى المعنى؛ لأنَّ الإِنسان إِذا رأى هذا يُوصفُ بالإِمام تكون أقوالُه عنده قدوة؛ مع أنَّه لا يستحِقُّ. وهذا كقولهم الآن لكل مَنْ قُتِلَ في معركة: إِنَّه شهيد. وهذا حرام، فلا يجوز أن يُشْهَدَ لكل شخصٍ بعينه بالشَّهادة، وقد بَوَّبَ البخاريُّ رحمه الله على هذه المسألة بقوله: (بابٌ:

(1)

انظر: «مجموع الفتاوى» (20/ 203، 204).

ص: 17

لا يقول: فلانٌ شهيدٌ، وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:«واللَّهُ أعلمُ بمن يُجاهدُ في سبيله، والله أعلم بمن يُكْلَمُ في سبيله» )

(1)

.

وعمر بن الخطاب رضي الله عنه نهى عن ذلك

(2)

.

نعم يقال: من قُتِل في سبيل الله فهو شهيد، ومن قُتِل بهدمٍ، أو غرق فهو شهيد، لكن لا يُشْهَدُ لرَجُلٍ بعينه.

ولو أنَّنَا سوَّغنا لأنفسنا هذا الأمر؛ لساغَ لنا أن نشهد للرَّجُلِ المعيَّن الذي مات على الإِيمان أنَّه في الجنَّة؛ لأنَّه مؤمنٌ، وهذا لا يجوز.

‌المُوَفَّق أبي مُحَمَّد ...................

قوله: «الموفَّق أبي محمَّد» ، الموفَّق: اسم مفعول، وهو لقب لهذا الرَّجل العالم رحمه الله

(3)

.

«والمقنع» : كتابٌ متوسِّطٌ يذكر فيه مؤلِّفُه القولين، والرِّوايتين، والوجهين، والاحتمالين في المذهب، ولكن بدون ذِكْرِ الأدلَّة أو التَّعليل إِلا نادراً.

وله كتاب فوقه اسمه «الكافي» يذكر القولين، أو الرِّوايتين، أو الوجهين في المذهب، أو الاحتمالين، ولكنه يذكر الدَّليل والتَّعليل، إِلا أنَّه لا يخرج عن مذهب أحمد.

(1)

رواه البخاري معلقاً بصيغة الجزم، كتاب الجهاد والسير: باب لا يقول فلان شهيد، رقم (2898).

(2)

رواه أحمد (1/ 48)، والنسائي، كتاب النكاح: باب القسط في الأصدقة، (6/ 119)، رقم (3349).

قال الحافظ ابن حجر: «هو حديث حسن» . «الفتح» شرح حديث رقم (2898).

(3)

انظر ترجمته في: «ذيل طبقات الحنابلة» (2/ 133).

ص: 18

وله كتاب فوق ذلك هو «المغني» ، فقه مُقَارَنٌ يذكر القولين، والرِّوايتين عن الإِمام أحمد وغيره من علماء السَّلف والخلف.

وله كتاب «العُمدة في الفقه» وهو مختصر على قول واحد، لكنه يذكر الأدلة مع الأحكام.

ولذا قيل:

وفي عصرنا كان الموفَّقُ حُجَّةً

على فقهه الثَّبت الأصول معوَّل

كفى الخلق بالكافي، وأقنع طالباً

بمقنع فقه عن كتاب مطوَّل

وأغنى بمغني الفقه مَنْ كان باحثاً

وعمدته من يعتمدها يحصِّل

وروضته ذات الأصول كروضة

أماست بها الأزهار أنفاس شمأل

تدلُّ على المنطوق أقوى دلالة

وتحمل في المفهوم أحسن محمل

وذلك مما قاله الأديب يحيى بن يوسف الصَّرصري من قصيدة طويلة يُثني بها على الله عز وجل ويمدح النبيَّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، ويذكر جماعة من التَّابعين وتابعيهم، ويَذكر الإِمام أحمد وجماعةً من أصحابه رحمهم الله تعالى

(1)

.

وقد تُوفِّيَ الموفَّق؛ عبد الله بن أحمد بن قُدامة المقدسي سنة (620 هـ).

‌على قَوْلٍ وَاحِدٍ، وهو الرَّاجِحُ ...................

قوله: «على قولٍ واحد» ، بمعنى أنه لا يأتي بأكثرَ من قولٍ لأجل الاختصار؛ وعدم تشتيت ذهن الطَّالب.

قوله: «وهو الرَّاجح» ، يعني: الرَّاجح من القولين، وقد لا يكون في المسألة إلا قولٌ واحد.

ص: 19

‌في مَذْهَب أحْمَد.

قوله: «في مذهب أحمد» ، المذهب في اللُّغَةِ: اسم لمكان الذَّهاب، أو زمانه، أو الذَّهاب نفسِه.

وفي الاصطلاح: مذهب الشَّخص: ما قاله المجتهدُ بدليلٍ، ومات قائلاً به، فلو تغيَّر قولُه فمذهبه الأخير.

وقولنا: ما قاله المجتهدُ. خرج به ما قاله المقلِّدُ؛ لأن المقلِّدَ لا مذهبَ له، وليس عنده علم، وقد تقدَّم حكايةُ ابنِ عبد البَرِّ الإِجماعَ على أنَّ المقلِّد ليس عالماً

(1)

، ولهذا قال ابنُ القيم رحمه الله في النونيَّة:

العلم معرفةُ الهدى بدليله

ما ذاك والتقليدُ يستويان

(2)

وأحمد: هو ابن حَنْبَل الشيباني، إِمام أهل السُّنَّة والفقه والحديث. فهو إِمام أهل السُّنَّة في العقائد والتَّوحيد، وإمام أهل الفقه في المسائل الفقهية، وإِمام أهل الحديث في روايته ونقد رجاله. وقد جرى عليه من المِحَنِ في ذات الله عز وجل، ما نرجو له به رِفْعَةَ الدَّرجات، وتكفير السَّيئات، ولم يصمُدْ أمام المأمون وأعوانه من المُحَرِّفين لكلام الله إِلا هو ونفرٌ قليل؛ ولكنَّه رحمه الله أشدُّهم وأوثقهم عند العامَّة؛ ولهذا كان النَّاس ينتظرون ما يقول أحمد في خلق القرآن، إلا أنَّه جزم بأنَّ القرآنَ كلامُ الله غيرُ مخلوقٍ، حتى إِنهم كانوا يضربونه بالسِّياط فيُغشى عليه، ويجرُّونه في الأسواق، فأثابه الله بأن جعله إماماً {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ *} [السجدة].

واعلمْ أن قول العلماء: مذهب فلان، يُراد به أمران:

(1)

انظر: ص (16).

(2)

انظر: «القصيدة النونية» ص (77).

ص: 20

الأول: المذهب الشَّخصي.

الثاني: المذهب الاصطلاحي.

والغالب عند المتأخِّرين إذا قالوا: هذا مذهب الشَّافعي، أو أحمد، أو ما أشبه ذلك، فالمراد المذهب الاصطلاحي، حتى إِنَّ الإِمام نفسَه قد يقول بخلاف ما يُسمَّى بمذهبه، ولكنهم يجعلون مذهبه ما اصطلحوا عليه.

ومُراد المؤلِّف هنا بمذهب أحمد: المذهب الاصطلاحي.

‌ورُبَّما حَذَفْتُ مِنْهُ مَسَائِلَ نَادِرَةَ الوقُوعِ، وزِدْتُ مَا على مِثْلِه يُعتَمد

؛ ..............

قوله: «وربما حَذفتُ منه مسائلَ» ، منه: الضَّميرُ عائدٌ على «المقنع» .

والمسائل: جمع مسألة، والمسألة ما يُستدلُّ له في العلم؛ ولهذا قالوا: العلم دلائل ومسائل. والدلائل سمعية: إِن كانت نصاً من كتاب أو سُنَّة أو إجماع، أو عقليَّة: إن كانت قياساً.

قوله: «نادرةَ الوقوعِ» ، يعني: قليلة الوقوع؛ لأن المسائل النادرة لا ينبغي للإنسان أن يشغل بها نفسه.

قوله: «وزدتُ ما على مثله يُعتَمد» ، «ما» اسم موصول بمعنى الذي، صلتها قوله:«يعتمد» ، و «على مثله» متعلِّق بـ «يعتمد» ، والمعنى: زدت من المسائل أشياء مهمة يُعتمد عليها.

إذاً؛ هذا الكتاب اشتمل على ثلاثة أمور:

الأول: الاقتصار على قول واحد.

الثاني: حذف المسائل النادرة.

ص: 21

الثالث: زيادة ما يُعتمد عليه من المسائل.

‌إِذ الهِمَمُ قَد قَصُرَتُ، والأسباب المثبِّطَة عن نيل المُرادِ قد كَثُرَتْ.

قوله: «إِذ الهِمَمُ قد قَصُرَتْ» ، إذ: حرف تعليل، والهمم مبتدأ، وجملة «قد قصرت» خبره.

والهمم: جمع همَّة وهي الإِرادة الجازمة، وقد يُراد بالهمَّة ما دون الإرادة الجازمة، وهي شاملة لهذا وهذا.

والجملة تعليلٌ لقوله: «مختصر» ، و «حَذفتُ» .

قوله: «والأسباب المثبِّطةُ عن نيل المراد قد كَثُرت» ، مع قصور الهمم هناك صوارف، ولهذا قال: «والأسباب

إلخ».

الأسباب: جمع سبب، وهو في اللغة: ما يُتَوَصَّلُ به إلى المطلوبِ، وهو المراد هنا.

قوله: «المثبِّطة» بمعنى المفتِّرة للهمم.

قوله: «قد كثُرت» ، ولكن مع الاستعانة بالله عز وجل وبذل المجهود يحصُل المقصود. وليُعلَمْ أنه كلَّما قَويَ الصَّارف، فإِن الطَّالب في جهاد، وأنه كلَّما قوِيَ الصَّارف ودافعه الإِنسان فإِنه ينال بذلك أجرين: أجر العمل، وأجر دفع المقاوم؛ ولهذا قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:«إن أيام الصَّبر للعامل فيهن أجر خمسين من الصَّحابة»

(1)

.

(1)

رواه أبو داود، كتاب الملاحم: باب الأمر والنهي، رقم (4341)، والترمذي، كتاب تفسير القرآن: باب (ومن سورة المائدة)، رقم (3058) وقال:«حسن غريب» ،

وابن ماجه، كتاب الفتن: باب قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} بمعناه من حديث أبي ثعلبة الخشني، وإِسناده ضعيف.

إِلا أن له شاهداً من حديث ابن مسعود يتقوَّى به، رواه البزار رقم (1776)، والطبراني في «الكبير» رقم (10394)، قال الهيثمي: «ورجال البزار رجال الصحيح غير

سهل بن عامر البجلي وثقة ابن حبان»، المجمع (7/ 282).

ص: 22

لأن هناك أسباباً مثبِّطة كثيرة، ولكن إِذا أَعْرَضْتَ فهذه المصيبة.

والذُّنوب من أكبر العوائق. قال الله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ} [المائدة: 49]. وهذا دليل على أنَّ تولِّي الإِنسان عن الذِّكر سببه الذُّنوب، ولكن مع الاستغفار وصدق النيَّة يُيسِّر الله الأمر.

واستنبط بعض العلماء من قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا *وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا *} [النساء]، أنَّه ينبغي للإِنسان إذا نزلت به حادثةٌ، سواءٌ إِفتاء أو حكم قضائيٌّ، أن يُكْثِرَ من الاستغفار

(1)

؛ لأنَّ الله قال: {لِتَحْكُمَ} ثم قال: {وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ} وهذا ليس ببعيد؛ لأنَّ الذُّنوب تمنع من رؤية الحقِّ، قال تعالى:{كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ *} [المطففين].

‌ومعَ صغَر حجمه حَوَى ما يُغْني عن التَّطوِيلِ، ولا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إِلاَّ بِالله،

...........

قوله: «ومع صغر حجمه حَوى ما يُغني عن التَّطويل» ، حوى: جَمَعَ، وهو أجمع من كتاب الشيخ مرعي رحمه الله «دليل الطَّالب» ، و «دليل الطَّالب» أحسن من هذا ترتيباً؛ لأنه يذكر الشُّروط، والأركان، والواجبات، والمستحبَّات، على وجه مفصَّل.

قوله: «ولا حول ولا قُوَّة إلا بالله» ، لا: نافية للجنس، والحَوْلُ: التَّحوُّل وتَغيُّر الشيء عن وجهه.

(1)

انظر: «إِعلام الموقعين» (4/ 172).

ص: 23

والقوَّة: صفة يستطيع بها القويُّ أن يفعل بدون ضعف.

قوله: «إلا بالله» ، الباء للاستعانة. فكأن المؤلِّف استعان بالله تعالى أن يُيَسِّرَ له الأمر.

‌وهو حَسبُنَا، ونِعْمَ الْوَكِيلُ.

قوله: «وهو حسبنا» ، الضَّمير «هو» عائدٌ إلى الله، والحَسْبُ بمعنى الكافي، وكلُّ من توكَّلَ على الله فهو حَسْبُه، كما قال تعالى:{وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3]، ومن لا يتوكَّل عليه فليس الله حَسْبَه، بل هو موكول إلى من توكَّل عليه.

قوله: «ونِعْمَ الوكيل» ، الوكيل: فاعل، وقال النَّحْويُّون: إن «نِعْم» يحتاج إلى فاعل ومخصوص. والمخصوص هنا محذوفٌ والتَّقدير: نِعْمَ الوكيل الله.

والوكيل: هو الذي فُوِّضَ إليه الأمر. فيكون تفويضنا الأمر إلى الله تفويضَ افتقار وحاجة؛ لأنه هو الذي منه الإعداد والإِمداد، كما أنَّه هو الذي منه الإِيجاد.

ونظيرُ هذا في القرآن قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ *} [آل عمران].

قال ابن عباس رضي الله عنهما: «قالها إبراهيمُ عليه الصلاة والسلام حين أُلقيَ في النَّار»

(1)

دفعاً للمكروه، وطلباً للمحبوب وهو النَّجاة.

(1)

رواه البخاري، كتاب التفسير: باب {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ}

} الآية، رقم (4563).

ص: 24

‌كِتَابُ الطَّهارة

[باب المياه]

‌وهِيَ ارْتِفَاعُ الْحَدَثِ،

............

قوله: «كتاب» ، فِعال بمعنى مفعول: أي مكتوب. يعني: هذا مكتوب في الطَّهارة.

والطَّهارة لُغةً: النَّظافة. طَهُرَ الثَّوبُ من القَذَر، يعني: تنظَّفَ.

وفي الشَّرع: تُطلقُ على معنيين:

الأول: أصْل، وهو طهارة القلب من الشِّرك في عبادة الله، والغِلِّ والبغضاء لعباد الله المؤمنين، وهي أهمُّ من طهارة البدن؛ بل لا يمكن أن تقومَ طهارة البدن مع وجود نَجَس الشِّرك، قال تعالى:{إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28].

وقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «إنَّ المؤمن لا يَنْجُسُ»

(1)

.

الثاني: فَرْع، وهي الطَّهارة الحسِّيَّةُ.

قوله: «وهي ارتفاعُ الحَدَث» ، أي: زواله.

والحَدَثُ: وصفٌ قائمٌ بالبدن يمنع من الصَّلاة ونحوها مما تُشْتَرَطُ له الطَّهارةُ.

مثاله: رجل بَالَ واستنجى، ثم توضَّأ. فكان حين بوله لا يستطيع أن يُصلِّيَ، فلما توضأ ارتفع الحَدَثُ، فيستطيع بذلك

(1)

رواه البخاري، كتاب الغسل: باب الجنب يخرج ويمشي في السوق وغيره، رقم (285)، ومسلم كتاب الحيض: باب الدليل على أن المسلم لا ينجس، رقم (371) عن أبي هريرة.

ص: 25

أن يصلِّي لزوال الوصف المانع من الصَّلاة.

‌ومَا في مَعْنَاهُ، وَزَوَالُ الخَبَثِ.

قوله: «وما في معناه» ، الضَّمير يعود على «ارتفاع» ، لا على الحَدَث، أي: وما في معنى ارتفاع الحَدَث، فلا يكون فيها ارتفاع حَدَث، ولكن فيها معناه.

مثاله: غسل اليدين بعد القيام من نوم الليل، فهذا واجب، ويُسمَّى طهارة، وليس بحَدَث؛ لأنَّه لا يرتفع به الحَدَث، فلو غُسلت الأيدي ما جازت الصَّلاة. وأيضاً لو جَدّد رجلٌ وضُوءَه، أي توضَّأ وهو على وضُوء، فلا يكون فيه ارتفاع للحدث مع أنه يُسمَّى طهارة؛ لأنَّه في معنى ارتفاع الحدث.

وأيضاً: صاحب سَلَسِ البول لو توضَّأ من البول ليُصلِّيَ، فيكون هذا الوضُوء حصل به معنى ارتفاع الحدث؛ لأن البول لم يزل.

فصار معنى ارتفاع الحدث: هو كل طهارة لا يحصُل بها رفع الحَدَث، أو لا تكون عن حَدَث.

قوله: «وزوال الخَبَث» ، لم يقل: وإزالة الخَبَث، فزوال الخَبَث طهارة، سواءٌ زال بنفسه، أو زالَ بمزيل آخر، فيُسمَّى ذلك طهارة.

والخَبَثُ: هو النَّجاسة.

والنَّجاسة: كلُّ عَينٍ يَحْرُم تناولُها؛ لا لحرمتها؛ ولا لاستقذارها؛ ولا لضررٍ ببدَنٍ أو عقلٍ. وإنْ شئت فقل: كلُّ عينٍ يجب التطهُّرُ منها. هكذا حدُّوها

(1)

.

(1)

انظر: «الإِقناع» (1/ 6).

ص: 26

فقولنا: «يحرم تناولُها» خرج به المباحُ، فكلُّ مباحٍ تناولُه فهو طاهر.

وقولنا: «لا لضررها» خرج به السُّمُّ وشبهُه، فإنَّه حرام لضرره، وليس بنجس.

وقولنا: «ولا لاستقذارها» : خرج به المخاطُ وشبهُه، فليس بنجس؛ لأنَّه محرَّمٌ لاستقذاره.

وقولنا: «ولا لحرمتها» خرج به الصَّيْدُ في حال الإحرام، والصَّيْدُ داخلَ الحرمِ؛ فإِنه حرام لحرمته.

فيكون قوله: «وزوال الخَبَث» أعَمَّ من إِزالة الخَبَث، لأن الخَبَث قد يزول بنفسه، فمثلاً: إذا فرضنا أن أرضاً نجسة بالبول، ثم جاء المطر وطَهَّرَها، فإِنها تَطْهُرُ بدون إزالةٍ مِنَّا، ولو أنَّ عندنا ماءً متنجِّساً بتغيُّر رائحته، ثم زالت الرائحة بنفسها طَهُرَ، ولو كان عندنا خَمْرٌ ثم تخلَّل بنفسه صار طاهراً، وإِن كان الصَّواب أن الخمرَ ليست بنجسة؛ ولو كانت على صفتها خَمْراً؛ كما سيأتي ـ إن شاء الله ـ في باب «إزالة النجاسة» .

وبدأ المؤلِّفُ بالطَّهارة لسببين:

الأول: أنَّ الطَّهارة تخليةٌ من الأذى.

الثاني: أنَّ الطَّهارة مفتاح الصَّلاة. والصَّلاة آكدُ أركان الإسلام بعد الشَّهادتين، ولذلك بدأ الفقهاء رحمهم الله بكتاب الطَّهارة.

والطَّهارة تحتاج إِلى شيء يُتطهَّرُ به، يُزَال به النَّجسُ، ويُرفعُ به الحدثُ وهو الماء؛ ولذلك بدأ المؤلفُ به.

ص: 27

‌المِياهُ ثلاثةٌ: طَهُورٌ لا يَرْفَعُ الحَدَثَ،

........

قوله: «المياهُ ثلاثةٌ: طَهُورٌ» ، المياه: جمعُ ماء، والمياه ثلاثة أقسام:

الأول: الطَّهور، بفتح الطَّاء على وزن فَعول، وفَعول: اسم لما يُفعَلُ به الشيءُ، فالطَّهورُ ـ بالفتح ـ: اسم لما يُتطهَّر به، والسَّحور ـ بالفتح ـ: اسم للطَّعام الذي يُتسحَّرُ به.

وأما طُهور، وسُحور بالضمِّ، فهو الفعل.

والطَّهور: الماء الباقي على خلقته حقيقة، بحيث لم يتغيَّر شيء من أوصافه، أو حكماً بحيث تغيَّر بما لا يسلبُه الطَّهوريَّةَ.

فمثلاً: الماء الذي نخرجه من البئر على طبيعته ساخناً لم يتغيَّر، وأيضاً: الماء النَّازل من السَّماء طَهور، لأنَّه باقٍ على خلقته، هذان مثالان للباقي على خلقته حقيقة، وقولنا:«أو حُكْماً» كالماء المتغيِّر بغير ممازج، أو المتغيِّر بما يشقُّ صون الماء عنه، فهذا طَهور لكنه لم يبقَ على خلقته حقيقة، وكذلك الماء المسخَّن فإِنه ليس على حقيقته؛ لأنَّه سُخِّن، ومع ذلك فهو طَهور؛ لأنَّه باقٍ على خلقته حكماً.

قوله: «لا يرفع الحدث» ، أي: لا يرفع الحَدَث إلا الماء الطَّهُور.

فالبنزين وما أشبهه لا يرفع الحَدَثَ؛ فكل شيء سوى الماء لا يرفع الحَدَث، والدَّليل قوله تعالى:{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: 6]، فأمر بالعدول إلى التيمُّم إذا لم نجد الماء، ولو وجدنا غيره من المائعاتِ والسوائل.

والتُّراب في التيمُّم على المذهب لا يرفع الحَدَث.

ص: 28

والصَّواب أنَّه يرفع الحَدَث

(1)

لقوله تعالى عَقِبَ التيمُّم: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة: 6]، ومعنى التَّطهير: أن الحَدَث ارتفع، وقوله صلى الله عليه وسلم:«جُعلت لي الأرضُ مسجداً وطَهُوراً»

(2)

بالفتح، فيكون التُّراب مطهِّراً. لكن إِذا وُجِدَ الماءُ، أو زال السَّبب الذي من أجله تيمَّم؛ كالجرح إذا برئ، فإنه يجب عليه أن يتوضَّأ، أو يغتسل إِن كان تيمَّم عن جنابة.

‌ولا يُزِيلُ النَّجَسَ الطَّارِئَ غَيْرُهُ ............

قوله: «ولا يزيل النَّجس الطارئَ غيرُه» ، أي: لا يزيل النَّجس إلا الماء، والدَّليل قوله صلى الله عليه وسلم في دم الحيض يصيب الثَّوب:«تَحُتُّه، ثم تَقْرُصُه بالماء، ثم تَنْضَحُه، ثم تُصلِّي فيه»

(3)

.

والشَّاهد قوله: «بالماء» ، فهذا دليل على تعيُّن الماء لإزالة النَّجاسة.

وقوله صلى الله عليه وسلم في الأعرابي الذي بَالَ في المسجد: «أهْريقوا على بوله سَجْلاً من ماء»

(4)

.

(1)

انظر: ص (375 ـ 376).

(2)

رواه البخاري، كتاب التيمم: باب (1)، رقم (335) واللفظ له، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، رقم (521) من حديث جابر.

(3)

رواه البخاري، كتاب الحيض: باب غسل دم المحيض، رقم (307)، ومسلم كتاب الطهارة: باب نجاسة الدم وكيفية غسله، رقم (291) واللفظ له عن أسماء بنت أبي بكر الصديق.

(4)

رواه البخاري، كتاب الأدب: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: يسِّروا ولا تعسروا، رقم (6128) واللفظ له عن أبي هريرة، ومسلم، كتاب الطهارة: باب وجوب غسل البول وغيره من النجاسات إِذا حصلت في المسجد، رقم (284، 285) عن أنس بن مالك.

ص: 29

«ولمَّا بال الصبيُّ على حِجْره؛ دعا بماء فأتْبَعَهُ إِيَّاه»

(1)

، فدلَّ هذا على أنَّه لا يزيل النَّجَس إِلا الماء، فلو أزلنا النَّجاسة بغير الماء لم تَطْهُر على كلام المؤلِّفِ.

والصَّواب: أنَّه إِذا زالت النَّجاسة بأي مزيل كان طَهُر محلُّها؛ لأنَّ النَّجاسة عينٌ خبيثة، فإذا زالت زال حكمها، فليست وصفاً كالحدث لا يُزال إِلا بما جاء به الشَّرع، وقد قال الفقهاء رحمهم الله: «إذا زال تغيُّر الماء النَّجس الكثير بنفسه صار طَهُوراً

(2)

، وإِذا تخلَّلت الخمر بنفسها صارت طاهرة»

(3)

، وهذه طهارة بغير الماء.

وأما ذِكْرُ الماء في التَّطهير في الأدلة السَّابقة فلا يدلُّ تعيينُه على تعيُّنِهِ؛ لأن تعيينَه لكونه أسرعَ في الإِزالة، وأيسرَ على المكلَّف.

وقوله: «النَّجس الطَّارئ» ، أي: الذي وَرَدَ على محَلٍّ طاهر.

فمثلاً: أن تقع النَّجاسة على الثَّوب أو البساط، وما أشبه ذلك، فقد وقعت على محَلٍّ كان طاهراً قبل وقوع النَّجاسة، فتكون النَّجاسةُ طارئةً.

أما النَّجاسة العينيَّة فهذه لا تطهُر أبداً، لا يطهِّرُها لا ماء

(1)

رواه البخاري، كتاب الوضوء: باب بول الصبيان، رقم (222)، ومسلم، كتاب الطهارة: باب حكم بول الطفل الرضيع وكيفية غسله، رقم (286)، عن عائشة رضي الله عنها.

(2)

انظر: ص (56).

(3)

انظر: «الإِنصاف» (2/ 300).

ص: 30

ولا غيره؛ كالكلب، فلو غُسِلَ سبع مرات إِحداهن بالتُّراب فإِنَّه لا يَطْهُر؛ لأنَّ عينَه نجسة.

وذهب بعض العلماء إِلى أنَّ النَّجاسة العينية إِذا استحالت طَهُرت

(1)

؛ كما لو أوقد بالرَّوث فصار رماداً؛ فإِنه يكون طاهراً، وكما لو سقط الكلب في مملحة فصار ملحاً؛ فإنه يكون طاهراً، لأنَّه تحوَّلَ إِلى شيء آخر، والعين الأولى ذهبت، فهذا الكلب الذي كان لحماً وعظاماً ودماً، صار ملحاً، فالملح قضى على العين الأولى.

‌وَهُوَ الْبَاقِي على خِلْقَتِهِ، فَإِنْ تَغَيَّرَ بغير مُمَازجٍ كَقِطَع كَافُور ........

قوله: «وهو الباقي على خلقته» ، هذا تعريفُ الماء الطَّهور، وقد تقدم شرحُه.

قوله: «فإن تغيَّر بغير ممازجٍ كقطع كافور» ، إن تغيَّر الماءُ بشيء لا يُمازجه كقطع الكافور؛ وهو نوع من الطِّيب يكون قِطعاً، ودقيقاً ناعماً غير قطع، فهذه القطع إذا وُضِعَت في الماء فإنَّها تُغيِّر طعمه ورائحته، ولكنها لا تمازجُه، أي: لا تُخالطه، أي: لا تذوب فيه، فإذا تغيَّر بهذا فإنه طَهُور مكروه.

فإن قيل: كيف يكون طهوراً وقد تغيَّر؟

فالجواب: إن هذا التغيُّر ليس عن ممازجة، ولكن عن مجاورة، فالماء هنا لم يتغير لأن هذه القطع مازجته، ولكن لأنها جاورته.

فإن قيل: لماذا يكون مكروهاً؟

(1)

انظر: «مجموع الفتاوى» (21/ 70)، و «الإِنصاف» (2/ 299).

ص: 31

فالجواب: لأن بعض العلماء يقول: إنه طاهر غير مطهِّر

(1)

. فيرون أن هذا التغيُّر يسلبه الطَّهوريَّةَ فصار التَّعليل بالخلاف، فمن أجل هذا الخلاف كُرِهَ.

والصَّواب: أن التَّعليل بالخلاف لا يصحُّ؛ لأنَّنا لو قُلنا به لكرهنا مسائل كثيرة في أبواب العلم، لكثرة الخلاف في المسائل العلمية، وهذا لا يستقيم.

فالتعليل بالخلاف ليس علَّة شرعية، ولا يُقبل التَّعليل بقولك: خروجاً من الخلاف؛ لأنَّ التَّعليل بالخروج من الخلاف هو التَّعليل بالخلاف. بل نقول: إن كان لهذا الخلاف حظٌّ من النَّظر، والأدلَّة تحتمله، فنكرهه؛ لا لأنَّ فيه خلافاً، ولكن لأنَّ الأدلَّة تحتمله، فيكون من باب «دَعْ ما يَرِيبُك إلى ما لا يَريبُك»

(2)

.

أما إذا كان الخلاف لا حَظَّ له من النَّظر فلا يُمكن أن نعلِّلَ به المسائل؛ ونأخذ منه حكماً.

فليس كلُّ خلافٍ جاء مُعتَبراً إِلا خلافٌ له حظٌّ من النَّظر

(3)

(1)

انظر: «الإِنصاف» (1/ 39).

(2)

رواه أحمد (1/ 200)، والنسائي، كتاب الأشربة: باب الحث على ترك الشبهات، (8/ 328)، والترمذي، كتاب صفة القيامة، رقم (2517)، والحاكم (2/ 13)، وابن حبان رقم (722) عن أبي الحوراء، عن الحسن بن عليّ به.

والحديث صحَّحه: الترمذيُّ، وابن حبان، والحاكم، والذهبي، وابن حجر.

وله شواهد من حديث أنس، وابن عمر، وأبي هريرة، وواثلة.

انظر: «جامع العلوم والحكم» الحديث الحادي عشر، «نتائج الأفكار» (2/ 139).

(3)

البيت لأبي الحسن ابن الحصَّار. وهو علي بن محمد بن محمد ـ وهذا البيت هو الأخير في قصيدة له في معرفة المكي والمدني من السُّور، ضمَّنها كتابه «الناسخ والمنسوخ». انظر:«الإِتقان» (1/ 11، 12).

ص: 32

لأن الأحكام لا تثبت إلاَّ بدليل، ومراعاة الخلاف ليست دليلاً شرعياً تثبتُ به الأحكامُ، فيقال: هذا مكروه، أو غير مكروه.

‌أو دُهْنٍ، أو بملْحٍ مَائِيٍّ، أوْ سُخِّن بنَجَسٍ كُره ............

قوله: «أو دُهْنٍ» ، معطوف على «غير ممازج» أو على «قطع كافور». مثاله: لو وضع إِنسان دُهْناً في ماء، وتغيَّر به، فإنه لا يسلبه الطَّهوريةَ، بل يبقى طَهوراً؛ لأن الدُّهن لا يمازج الماء فتجده طافياً على أعلاه، فتغيُّره به تغيُّر مجاورة لا ممازجة.

قوله: «أو بملح مائي» ، وهو الذي يتكوَّن من الماء، فهذا الملح لو وضعتَ كِسْرةً منه في ماء، فإِنه يُصبح مالحاً، ويبقى طَهوراً مع الكراهة خروجاً من الخلاف

(1)

.

فإن قيل: لماذا لا تنسلب طَهوريته؟

فالجواب أن يقال: لأن هذا الملح أصله الماء.

والتَّعليل بالخلاف للكراهة قد تقدَّم الكلام عليه.

وعُلِم من قوله: «مائي» أنَّه لو تغيَّر بملح معدني يُستخرَجُ من الأرض فإنه يسلبه الطَهوريَّةَ على المذهب، فيكون طاهراً غير مطهِّر.

قوله: «أو سُخِّن بنَجَسٍ كُرِه» ؛ أي: إِذا سُخِّن الماءُ بنجَسٍ تَغيَّر أو لم يتغيَّر فإِنه يُكره.

مثاله: لو جمع رجلٌ روث حمير، وسخَّن به الماء فإِنه

(1)

انظر: «الإِنصاف» (1/ 40).

ص: 33

يُكره، فإِن كان مكشوفاً فإِنَّ وجه الكراهة فيه ظاهر، لأن الدُّخان يدخله ويؤثِّر فيه.

وإِن كان مغطَّى، ومحكم الغطاء كُره أيضاً؛ لأنَّه لا يَسْلَمُ غالباً من صعود أجزاء إِليه. والصَّواب: أنَّه إِذا كان محكم الغطاءِ لا يكره.

فإِن دخل فيه دخان وغَيَّرَهُ، فإِنه ينبني على القول بأن الاستحالةَ تُصيِّرُ النَّجس طاهراً، فإِن قلنا بذلك لم يضر. وإِن قلنا بأن الاستحالة لا تُطهِّر؛ وتغيَّر أحد أوصاف الماء بهذا الدُّخان كان نجساً.

‌وإِنْ تَغَيَّر بمكثِهِ، أو بما يَشقُّ صَوْنُ الماءِ عنه من نابتٍ فيه، وَوَرَقِ شَجَرٍ،

..........

قوله: «وإن تغيَّرَ بمكثه» ، أي: بطول إِقامته، فلا يضرُّ، لأنه لم يتغيَّر بشيء حادث فيه، بل تغيَّر بنفسه، فلا يكره.

قوله: «أو بما يَشقُّ صون الماء عنه من نابتٍ فيه وورَقِ شَجَرٍ» ، مثل: غدير نَبَتَ فيه عُشبٌ، أو طُحلب، أو تساقط فيه ورقُ شجر فتغيَّر بها، فإنَّه طَهُورٌ غير مكروه؛ ولو تغيَّر لونُه وطعمُه وريحُه، والعِلَّة في ذلك أنه يشقُّ التحرُّز منه، فيشُقُّ ـ مثلاً ـ أن يمنع أحدٌ هذه الأشجار من الرِّياح حتى لا تُوقع أوراقها في هذا المكان. وأيضاً يشُقُّ أن يمنع أحدٌ هذا الماء حتى لا يتغيَّر بسبب طول مُكثه.

ولو قلنا للنَّاس: إِن هذا الماء يكون طاهراً غيرَ مطهِّر، لشققنا عليهم.

وإِن تغيَّر بطين كما لو مشى رجل في الغدير برجليه، وأخذ

ص: 34

يحرِّك رجليه بشدَّة حتى صار الماء متغيِّراً جدًّا بالطِّين؛ فإِنَّ الماء طَهُورٌ غيرُ مكروه؛ لأنه تغيَّر بمُكْثِه.

‌أو بمُجَاوَرَةِ مَيْتةٍ، أو سُخِّنَ بالشَّمس، أو بطَاهر؛ لم يُكْرَه، وإِن استُعْمِلَ ........

قوله: «أو بمجَاورة مَيْتَةٍ» ، مثاله: غدير عنده عشرون شاةً ميتة من كُلِّ جانب، وصار له رائحة كريهة جدًّا بسبب الجِيَفِ، يقول المؤلِّفُ: إِنه طَهُور غير مكروه؛ لأن التغيُّر عن مجاورة، لا عن ممازجة، وبعض العلماء حكى الإجماع على أنه لا ينجس بتغيُّره بمجاورة الميتة

(1)

، وربما يُستَدَلُّ ببعض ألفاظ الحديث:«إنَّ الماءَ طاهرٌ، إِلا إِن تغيَّر طعمُه أو لونه أو ريحه بنجاسة تحدث فيه»

(2)

، على القول بصحَّة الحديث.

ولا شكَّ أن الأَوْلَى التنزُّه عنه إن أمكن، فإِذا وُجِدَ ماء لم يتغيَّر فهو أفضل، وأبعد من أن يتلوَّث بماء رائحته خبيثة نجسة، وربما يكون فيه من النَّاحية الطبيَّة ضرر، فقد تحمل هذه الروائح مكروبات تَحُلُّ في هذا الماء.

قوله: «أو سُخِّن بالشَّمس» ، أي وُضِعَ في الشَّمس ليسْخُنَ. مثاله: شخص في الشِّتاء وضع الماء في الشمس ليسْخُنَ فاغتسل به، فلا حرج، ولا كراهة.

قوله: «أو بطاهر» ، يعني: أو سُخِّن بطاهر مثل الحطب، أو الغاز، أو الكهرباء، فإنه لا يُكره.

قوله: «وإن استُعْمِلَ» الضَّمير يعود على الماء الطَّهور.

(1)

انظر: «الشرح الكبير» (1/ 41).

(2)

رواه البيهقي (1/ 259 ـ 260) من حديث أبي أمامة، وضعَّفه.

ص: 35

والاستعمال: أن يُمَرَّ الماء على العضو، ويتساقط منه، وليس الماء المستعمل هو الذي يُغْتَرفُ منه. بل هو الذي يتساقط بعد الغَسْل به.

مثاله: غسلت وجهك، فهذا الذي يسقط من وجهك هو الماء المستعمل.

‌في طهارةٍ مُسْتَحبَّةٍ كتجديد وُضُوءٍ، وغُسْل جُمُعَةٍ، وغَسْلةٍ ثَانيةٍ، وثالثةٍ كُرِهَ .........

قوله: «في طهارة مستحبَّة» ، أي: مشروعة من غير حَدَث.

قوله: «كتجديد وضوء» ، تجديد الوُضُوء سُنَّة، فلو صَلَّى إنسان بوُضُوئه الأول ثم دخل وقت الصَّلاة الأُخرى، فإنه يُسنُّ أن يجدِّدَ الوُضُوء ـ وإِن كان على طهارة ـ فهذا الماء المستعمل في هذه الطَّهارة طَهُور لكنه يُكره.

يكون طَهُوراً؛ لأنه لم يحصُلْ ما ينقله عن الطَّهورية، ويكون مكروهاً للخلاف في سلبه الطَّهورية؛ لأن بعض العلماء قال: لو استُعْمل في طهارة مستحبَّة فإِنه يكون طاهراً غير مطهِّر

(1)

. وقد سبق الكلام على التَّعليل بالخلاف.

قوله: «وغُسْل جُمُعَة» ، هذا على قول الجمهور أن غُسْل الجمعة سُنَّةٌ

(2)

، فإذا استُعْمِلَ الماء في غُسْلِ الجمعة فإِنه يكون طَهُوراً مع الكراهة.

قوله: «وغَسْلة ثانية وثالثة كُرِهَ» ، الغَسْلَةُ الثانية والثالثة في الوُضُوء ليست بواجبة، والدَّليل قوله تعالى:{فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6]

(1)

انظر: «الإِنصاف» (1/ 66).

(2)

انظر: «المغني» (3/ 224).

ص: 36

والغُسْل يصدق بواحدة، ولأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم ثبت أنه توضَّأ مرَّةً مرَّةً

(1)

. فالثانية، والثالثة طهارة مستحبَّة، فالماء المستعمل فيهما يكون طَهُوراً مع الكراهة، والعِلَّةُ هي: الخلاف في سلبه الطَّهورية

(2)

.

والصَّواب في هذه المسائل كلِّها: أنه لا يُكره؛ لأن الكراهة حكمٌ شرعيٌّ يفتقر إِلى دليل، وكيف نقول لعباد الله: إنهُ يكره لكم أن تستعملوا هذا الماء. وليس عندنا دليلٌ من الشَّرع.

ولذلك يجب أن نعرف أن منع العباد مما لم يدلَّ الشرعُ على منعه كالتَّرخيص لهم فيما دَلَّ الشَّرع على منعه؛ لأن الله جعلهما سواء فقال: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ} [النحل: 116]، بل قد يقول قائل: إن تحريم الحلال أشد من تحليل الحرام؛ لأن الأصلَ الحِلُّ، والله عز وجل يحبُّ التَّيسير لعباده.

‌وإن بلغ قُلَّتين وهو الكثيرُ ..........

قوله: «وإن بلغ قُلتين» ، الضَّمير يعود على الماء الطَّهور.

والقُلَّتان: تثنية قُلَّة. والقُلَّة مشهورة عند العرب، قيل: إنها تَسَعُ قِربتين ونصفاً تقريباً.

قوله: «وهو الكثير» ، جملة معترضة بين فعل الشَّرط وجوابه.

أي: إِن القُلَّتين هما الكثير بحسب اصطلاح الفقهاء،

(1)

رواه البخاري، كتاب الوضوء: باب الوضوء مرّة مرّة، رقم (157) من حديث ابن عباس.

(2)

انظر: «الإِنصاف» (1/ 66).

ص: 37

فالكثير من الماء في عرف الفقهاء رحمهم الله ما بلغ القُلَّتين، واليسير: ما دون القُلَّتين.

‌وهما خَمسمائة رَطْلٍ عراقيٍّ تقريباً، فَخالَطَتْهُ نجاسةٌ غَيرُ بولِ آدميٍّ، أو عَذِرته المائعةِ، فلم تغيِّرهُ،

............

قوله: «وهما خمسمائة رَطْلٍ عراقيٍّ تقريباً» ، مائة الرَّطل العراقي

(1)

يزن قِربة ماء تقريباً، وعلى هذا تكون خمس قِرَب تقريباً. وأفادنا المؤلِّف بقوله:«تقريباً» أن المسألة ليست على سبيل التَّحديد، فلا يضرُّ النَّقصُ اليسير.

قوله: «فخالطته نجاسة» ، أي: امتزجت به، وتقدَّم تعريف النَّجاسة

(2)

.

قوله: «غَيرُ بولِ آدميٍّ، أو عَذِرته المائعةِ، فلم تغيِّرهُ» ، المراد لم تغيِّرْ طعمه، أو لونه، أو رائحته، وهذه المسألة ـ أعني مسألة ما إذا خالطت الماءَ نجاسةٌ ـ فيها ثلاثة أقوال

(3)

:

القول الأول ـ وهو المذهب عند المتقدِّمين ـ أنه إذا خالطته نجاسة ـ وهو دون القُلَّتين ـ نَجُسَ مطلقاً، تغيَّر أو لم يتغيَّر، وسواء كانت النَّجاسة بولَ الآدميِّ أم عَذِرَتَهُ المائعةَ، أم غير ذلك. أمَّا إِذا بلغ القُلَّتين فيُفرَّق بين بولِ الآدميِّ وعَذِرَتِهِ المائعةِ، وبين سائر النجاسات، فإِذا بلغ القُلَّتين وخالطه بولُ آدميٍّ أو عَذِرَتُهُ

(1)

الرطل العراقي = 90 مثقالاً، والمثقال بالغرام = 4.25، ووزن الصاع النبوي بالغرام = 2040، وعلى هذا فالرطل العراقي = 382.5 غراماً، والقلتان بالغرامات = 191250، وبالكيلو = 191.25.

وبالأصواع = 191250 7 2040 = 93.75.

(2)

انظر: ص (26).

(3)

انظر: «الإِنصاف» (1/ 101 ـ 104).

ص: 38

المائعةُ نَجُسَ وإِن لم يتغيَّر، إِلا أن يَشُقَّ نَزْحُه، فإِن كان يَشُقُّ نَزحُه، ولم يتغيَّر فَطَهُورٌ، وإن كان لا يَشُقُّ نَزحُه ولو زاد على القُلَّتين فإِنَّه يَنْجُس بمخالطة بول الآدميِّ، أو عَذِرَتِهِ المائِعةِ وإِن لم يتغيَّر.

فالمعتبر ـ بالنِّسبة لبول الآدميِّ وعَذِرَتِهِ المائعة ـ مشقَّة النَّزْح، فإن كان يَشُقُّ نَزْحُه ولم يتغيَّر فطَهُور، وإن كان لا يَشُقُّ نَزْحُه فنجس بمجرد الملاقاة، وأما بقيَّة النَّجَاسات فالمعتبر القُلَّتان، فإِذا بلغ قُلّتين ولم يتغيَّر فطَهورٌ، وإِن لم يبلغ القُلَّتين فنجسٌ بمجرد الملاقاة.

مثال ذلك: رجل عنده قِربةٌ فيها ماء يبلغ القُلَّتين، فسقط فيها روث حمار، ولكن الماء لم يتغيَّر طعمُه، ولا لونه، ولا رائحته فَطَهُورٌ.

مثال آخر: عندنا غدير، وهذا الغدير أربع قلال من الماء، بالَ فيه شخص نقطة واحدة وهو لا يَشُقُّ نَزْحُه؛ ولم يتغيَّر؛ فإنه يكون نجساً؛ لأن العبرة بمشقَّة النَّزْحِ.

واستدلُّوا على أنه إِذا بلغ قُلَّتين لا ينجُس إِلا بالتغيُّر بقوله صلى الله عليه وسلم: «إِن الماء طَهُورٌ لا يُنَجِّسُهُ شيءٌ»

(1)

، مع قوله صلى الله عليه وسلم:

(1)

رواه أحمد (3/ 15، 16، 31)، وأبو داود، كتاب الطهارة: باب ما جاء في بئر بُضاعة، رقم (66)، والنسائي، كتاب المياه: باب ذكر بئر بُضاعة، رقم (325)، والترمذي، أبواب الطهارة: باب ما جاء أن الماء لا ينجسّه شيء، وغيرهم. عن أبي سعيد الخدري.

وقد صحَّحه: الإِمام أحمد، وابن معين، وابن تيمية، وحسنه الترمذي، وغيرهم.

قال النووي: وقولهم مقدَّم على قول الدارقطني: «إِنه غير ثابت» . «الخلاصة» رقم (6)، وانظر «مجموع الفتاوى» (21/ 40).

ص: 39

«إذا كان الماء قُلَّتين لم يحمل الخَبَثَ»

(1)

.

واستدلُّوا على الفرق بين بول الآدميِّ وغيره من النَّجاسات بقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يبولَنَّ أحدُكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه»

(2)

، فنهى النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن البول ثم الاغتسال، وهذا عام؛ لكن عُفي عما يَشُقُّ نَزْحُه من أجل المشقَّة.

القول الثاني: ـ وهو المذهب عند المتأخرين ـ: أنه لا فرق بين بول الآدميِّ وعَذِرَتِهِ المائعةِ، وبين غيرهما من النَّجَاسات، الكُلُّ سواء

(3)

، فإذا بلغ الماء قُلَّتين لم يَنْجُسْ إِلا بالتَّغيُّر، وما دون القلَّتين يَنْجُسُ بمجرَّد الملاقاة.

القول الثالث: ـ وهو اختيار شيخ الإسلام

(4)

وجماعة من

(1)

رواه أحمد (2/ 12، 27)، وأبو داود، كتاب الطهارة: باب ما ينجس الماء، رقم (63)، والترمذي، أبواب الطهارة: باب ما جاء أن الماء لا ينجسه شيء، رقم (67)، وابن ماجه، كتاب الطهارة: باب مقدار الماء الذي لا ينجس، رقم (517) عن ابن عمر.

وقد ضعّفه: ابن عبد البر، وإِسماعيل القاضي.

وصحَّحه جماعة من العلماء كأحمد، والشافعي، وابن معين، وابن منده، وعبد الحق الإِشبيلي، وابن الملقن، وغيرهم. قال النووي:«وهو صحيح، صحَّحه الحفَّاظ» .

«الخلاصة» رقم (9)، قال ابن تيمية: أكثر أهل العلم بالحديث على أنه حديث حسن يحتج به. انظر: «الأحكام الوسطى» (1/ 154)، و «مجموع الفتاوى» (21/ 41)، و «التلخيص الحبير» رقم (4)، و «تهذيب السنن» لابن القيم (1/ 56).

(2)

رواه البخاري، كتاب الوضوء: باب البول في الماء الدائم، رقم (239)، ومسلم، كتاب الطهارة: باب النهي عن البول في الماء الراكد، رقم (282) عن أبي هريرة.

(3)

انظر: «شرح منتهى الإِرادات» (1/ 18).

(4)

انظر: «مجموع الفتاوى» (21/ 32)، «الاختيارات» ص (4).

ص: 40

أهل العلم

(1)

ـ: أنه لا ينجس إِلا بالتَّغيُّر مطلقاً؛ سواء بلغ القُلَّتين أم لم يبلغ، لكن ما دون القلّتين يجب على الإنسان أن يتحرَّز إذا وقعت فيه النَّجَاسة؛ لأنَّ الغالبَ أنَّ ما دونهما يتغيَّر.

وهذا هو الصحيح للأثر، والنَّظر.

فالأثر قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الماء طَهُور لا ينجِّسُهُ شيءٌ» ، ولكن يُستثنى من ذلك ما تغيَّر بالنَّجَاسة فإِنه نجسٌ بالإِجماع. وهناك إشارة من القرآن تدُلُّ على ذلك، قال تعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [المائدة: 3]، وقال تعالى:{قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145]، فقوله:«فإنه رجس» معلِّلاً للحكم دليلٌ على أنه متى وُجِدَت الرِّجْسيةُ ثبت الحكم، ومتى انتفت انتفى الحكم، فإِذا كان هذا في المأكول فكذلك في الماء.

فمثلاً: لو سقط في الماء دم مسفوح فإِذا أثَّر فيه الدَّمُ المسفوح صار رجساً نجساً، وإِذا لم يؤثِّر لم يكن كذلك.

ومن حيث النَّظَرُ: فإنَّ الشَّرع حكيم يُعلِّل الأحكام بعللٍ منها ما هو معلوم لنا؛ ومنها ما هو مجهول. وعِلَّةُ النَّجاسة الخَبَثُ. فمتى وُجِد الخَبَثُ في شيء فهو نَجِس، ومتى لم يوجد فهو ليس بنجس، فالحكم يدور مع عِلَّته وجوداً وعدماً.

فإن قال قائل: من النَّجاسات ما لا يُخالف لونُه لون الماء؛ كالبول فإنه في بعض الأحيان يكون لونُه لونَ الماء.

(1)

انظر: «المغني» (1/ 56)، «المجموع شرح المهذب» (1/ 113).

ص: 41

فالجواب: يُقدَّر أن لونَه مغايرٌ للون الماء، فإِذا قُدِّر أنه يغيّر لونَ الماء؛ حينئذٍ حكمنا بنجاسة الماء على أن الغالب أن رائحته تغيِّر رائحة الماء، وكذا طعمه.

وأما حديث القُلَّتين فقد اختلف العلماء في تصحيحه وتضعيفه. فمن قال: إِنه ضعيف فلا معارضة بينه وبين حديث: «إن الماء طَهُور لا ينجِّسه شيء» ؛ لأن الضَّعيف لا تقوم به حُجَّة.

وعلى القول بأنه صحيح فيقال: إِن له منطوقاً ومفهوماً. فمنطوقه: إذا بلغ الماء قُلتين لم ينجس، وليس هذا على عمومه؛ لأنه يُستثنى منه إِذا تغير بالنَّجاسة فإِنه يكون نجساً بالإِجماع.

ومفهومه أن ما دون القُلّتين ينجس، فيقال: ينجس إِذا تغيَّر بالنَّجاسة؛ لأن منطوق حديث: «إن الماء طهور لا يُنَجِّسُه شيء» مقدَّم على هذا المفهوم، إِذ إِنَّ المفهوم يصدق بصورة واحدة، وهي هنا صادقة فيما إِذا تغيَّر.

وأما الاستدلال على التَّفريق بين بول الآدمي وعَذِرَتِه وغيرهما من النَّجاسات بقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يبولنَّ أحدُكم في الماء الدَّائم ثم يغتسل فيه» ، فيقال: إِن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يقل: إِنه ينجس، بل نهى أن يبول ثم يغتسل؛ لا لأنه نجس، ولكن لأنَّه ليس من المعقول أن يجعل هذا مَبَالاً ثم يرجع ويغتسل فيه، وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم:«لا يجلدُ أحدُكم امرأته جَلْدَ العبد؛ ثم يضاجعُها»

(1)

،

(1)

رواه البخاري، كتاب النكاح: باب ما يكره من ضرب النساء، رقم (5204) واللفظ له، ومسلم، كتاب الجنة: باب في شدة حَرِّ جهنم وبُعْدِ قعرها، رقم (2855) من حديث عبد الله بن زَمْعَة.

ص: 42

فإِنَّه ليس نهياً عن مضاجعتها؛ بل عن الجمع بينهما فإِنه تناقض.

والصَّواب: ما ذهب إليه شيخ الإسلام للأدلة النَّظرية والأثريَّة.

‌أوْ خَالَطَهُ البَوْلُ، أو العَذِرَةُ، ويَشُقُّ نَزْحُه كَمصَانع طَرِيقِ مَكَّةَ فَطَهُورٌ. ولا يَرْفَعُ حَدَثَ رَجُلٍ طَهُورٌ يَسيرٌ خَلَتْ به امرأةٌ لطَهَارةٍ كَامِلَةٍ عن حَدَثٍ ..........

قوله: «أو خَالَطَهُ البَولُ، أو العَذِرَةُ، ويَشُقُّ نَزْحُه كمصانِع طريق مكَّة فَطَهُورٌ» ، مصانعُ جمعُ مصنعٍ؛ وهي عبارةٌ عن مجابي المياه في طريق مكَّة من العراق، وكان هناك مجابٍ في أفواه الشِّعاب. وهذه المجابي يكون فيها مياهٌ كثيرة، فإِذا سقط فيها بول آدمي أو عَذِرَتُه المائعةُ ولم تغيِّره فطَهُورٌ؛ حتى على كلام المؤلِّف؛ لأنه يَشُقُّ نزحُه.

وقوله: «كمصانع» هذا للتَّمثيل؛ يعني: وكذلك ما يشبهها من الغُدران الكبيرة، فإِذا وجدنا مياهاً كثيرة يشقُّ نزحُها فإِنها إِذا لم تتغيَّر بالنَّجاسة فهي طَهُورٌ مطلقاً.

والمشهور من المذهب عند المتأخِّرين خلافُ كلام المؤلِّف، فلا يفرّقون بين بول الآدمي وعَذِرَتِهِ المائعةِ، وبين سائر النَّجاسات، وقد سبق بيانُه

(1)

.

قوله: «ولا يرفع حَدَثَ رَجُلٍ طَهُورٌ يَسيرٌ خَلَتْ به امرأةٌ لطَهَارةٍ كَامِلةٍ عن حَدَثٍ» ، «حَدَثَ» هذا قيد، «رجل» قيد آخر، «طَهُور يسيرٌ» قيد ثالث، «خلت به» قيد رابع، «امرأة» قيد خامس،

(1)

انظر: ص (40).

ص: 43

«لطهارة كاملة» قيد سادس، «عن حدَثَ» قيد سابع. إِذا تمَّت هذه القيودُ السَّبعَةُ ثَبَتَ الحكم، فإِذا تطهَّرَ به الرَّجُلُ عن حَدَثٍ لم يرتفع حدثُه، والماء طَهُور.

مثال ذلك: امرأة عندها قِدْرٌ من الماء يسع قُلَّةً ونصفاً ـ وهو يسير في الاصطلاح ـ خَلَت به في الحمَّام، فتوضَّأت منه وُضُوءاً كاملاً، ثم خرجت فجاء الرَّجُلُ بعدها ليتوضَّأَ به، نقول له: لا يرفعُ حَدَثَك.

والدَّليل نهيُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أن يغتسل الرَّجل بفضل المرأة، والمرأة بفضل الرَّجل

(1)

. وأُلحقَ به الوُضُوءُ.

فنهى النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن الوُضُوء به، والنهي يقتضي الفساد، فإِن توضَّأ فقد فعل عبادة على وجه منهيٍّ عنه فلا تكون صحيحة.

ومن غرائب العلم: أنهم استدلُّوا به على أن الرَّجل لا يتوضَّأ بفضل المرأة، ولم يستدلُّوا به على أن المرأة لا تتوضَّأ بفضل الرَّجل

(2)

، وقالوا: يجوز أن تغتسلَ المرأةُ بفضل الرَّجل، فما دام الدَّليل واحداً، والحكم واحداً والحديث مقسَّماً تقسيماً، فما بالنا نأخذ بقسم، ولا نأخذ بالقسم الثَّاني؛ مع العلم

(1)

رواه أحمد (4/ 110)، (5/ 369)، وأبو داود، كتاب الطهارة: باب النهي عن الوضوء بفضل وضوء المرأة، رقم (81)، والنسائي، كتاب الطهارة: باب ذكر النهي عن الاغتسال بفضل الجنب، (1/ 131) عن رجلٍ صحب النبي صلى الله عليه وسلم.

وصحَّحه الحميدي. وقال البيهقي: «رواته ثقات» .

وقال ابن حجر: «إِسناده صحيح» .

انظر: «المحرر» رقم (9)، و «بلوغ المرام» رقم (7).

(2)

انظر: «الإِنصاف» (1/ 86).

ص: 44

بأن القسم الثاني قد ورد في السُّنَّة ما يدلُّ على جوازه، وهو أنه صلى الله عليه وسلم اغتسل بفضل ميمونة

(1)

ولم يرد في القسم الأوَّل ما يدلُّ على جواز أن تغتسل المرأة بفضل الرَّجل، وهذه غريبة ثانية.

وقوله: «حَدَثَ رجُلٍ» يُفهم منه أنه لو أراد هذا الرَّجل أن يُزيل به نجاسة عن بدنه أو ثوبه فإِنها تطهُر، وكذلك لو غسل يديه من القيام من نوم الليل؛ لأنَّه ليس بحدث. ويُفهم منه أيضاً أنه لو تَطَهَّرت به امرأة بعد امرأة فإِنه يجوز؛ لقوله:«حَدَثَ رَجُلٍ» .

وقوله: «يسير» يفهم منه أنه لو كان كثيراً فإِنه يرفع حَدثه، والدَّليل أنَّه في بعض ألفاظ حديث ميمونة «في جَفْنَةٍ»

(2)

، والجَفْنَةُ يسيرة.

وقوله: «خَلَتْ به» تفسير الخَلوة على المذهب: أن تخلوَ به عن مشاهدة مميِّز، فإِن شاهدها مميِّزٌ زالت الخلوةُ ورَفعَ حَدَثَ الرَّجُلِ

(3)

.

وقيل: تخلو به؛ أي: تنفرد به بمعنى تتوضَّأ به

(4)

، ولم يتوضَّأ به أحدٌ غيرها. وهذا أقرب إِلى الحديث؛ لأنَّ ظاهره العموم، ولم يشترط النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن تخلوَ به.

وقوله: «لطهارة كاملة» ، يُفهم منه أنه لو خلت به في أثناء الطَّهارة، أو في أولها، أو آخرها، بأن شاهدها أحد في أوَّل الطَّهارة ثم ذهب، أو قبل أن تُكمل طهارتها حضر أحدٌ، فإِنه يرفعُ حدثه؛ لأنَّه لم تَخْلُ به لطهارة كاملة.

(1)

رواه مسلم، كتاب الحيض: باب القَدْرُ المستحبُّ من الماء في غسل الجنابة، رقم (323).

(2)

انظر: في هذه الصفحة.

(3)

انظر: «الإِنصاف» (1/ 86، 87).

(4)

انظر: في هذه الصفحة.

ص: 45

وقوله: «عن حَدَث» أي: تَطَهَّرتْ عن حَدَث، بخلاف ما لو تطهَّرتْ تجديداً للوُضُوء، أو خَلَتْ به لتغسلَ ثوبها من نجاسة، أو لتستنجيَ، فإِنه يرفعُ حَدَث الرَّجل؛ لأنها لم تخلُ به لطهارة عن حَدَث.

هذا حكم المسألة على المذهب.

والصَّحيح: أنَّ النَّهي في الحديث ليس على سبيل التَّحريم، بل على سبيل الأَوْلَويَّة وكراهة التنزيه؛ بدليل حديث ابن عبَّاس رضي الله عنهما: اغتسل بعضُ أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم في جَفْنَة، فجاء النبيُّ صلى الله عليه وسلم ليغتسل منها، فقالت: إني كنت جُنباً، فقال:«إن الماء لا يُجنب»

(1)

، وهذا حديث صحيح.

وهناك تعليل؛ وهو أن الماء لا يُجنب يعني أنها إِذا اغتسلت منه من الجنابة فإِن الماء باقٍ على طَهُوريته.

فالصَّواب: أن الرَّجل لو تطهَّر بما خلت به المرأةُ؛ فإِن طهارته صحيحة ويرتفع حدثه، وهذا اختيار شيخ الإِسلام ابن تيمية رحمه الله

(2)

.

‌وإِن تغيَّر لونُه، أو طعْمُه، أو ريحُه ...........

قوله: «وإِن تغيَّر لونه، أو طعمه، أو ريحُه» ، هذا هو القسم

(1)

رواه أحمد (1/ 235)، وأبو داود، كتاب الطهارة: باب الماء لا يجنب، رقم (68)، والنسائي، كتاب المياه، (1/ 174)، والترمذي، أبواب الطهارة: باب ما جاء في الرخصة في ذلك، رقم (65) وقال: حسن صحيح. من حديث ابن عباس.

وصحَّحه أيضاً: ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، والنووي، والذهبي.

انظر: «الخلاصة» رقم (493)، «المحرر» رقم (8).

(2)

انظر: «الاختيارات» ص (3).

ص: 46

الثاني من أقسام المياه على المذهب، وهو الطَّاهر، أي: تغيّر تغيراً كاملاً بحيث لا يُذاقُ معه طعمُ الماء، أو تغيَّر أكثر أوصافه؛ وهي هذه الثَّلاثة: الطعم، والرِّيح، واللون.

‌بطَبْخٍ، أو سَاقِطٍ فِيه،

.........

قوله: «بطبخ» ، أي: طُبخ فيه شيء طاهر كاللحم فتغيّر طعمه، أو لونه، أو ريحه تغيُّراً كثيراً بيِّناً، فإِنَّه يكون طاهراً غير مطهِّر.

قوله: «أو ساقط فيه» ، أي: سقط فيه شيء طاهر فغيَّر أوصافه أو أكثرها فإِنه يكون طاهراً غير مطهِّر.

ويُستثنى من هذه المسألة ما يَشُقُّ صَوْنُ الماء عنه، وما لا يمازجه، كما لو وضعنا قطع كافور فيه وتغيَّر فإِنه طَهُور، وكذا لو كان حول الماء أشجارٌ، فتساقطت أوراقها فيه فتغيَّر فطهور.

والتَّعليل لكون هذا طاهراً غير مطهِّر: أنَّه ليس بماء مطلق، وإِنما يُقال ماءُ كذا فيُضاف، كما يُقال: ماءُ ورد.

ولكن يُقال: إِن هذا لا يكفي في نقله من الطَّهورية إلى الطَّهارة، إِلا إِذا انتقل اسمه انتقالاً كاملاً، فيُقال مثلاً: هذا مَرَقٌ، وهذه قهوة. فحينئذٍ لا يُسمَّى ماءً، وإِنَّما يُسمَّى شراباً؛ يُضاف إِلى ما تغيَّر به، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله

(1)

.

ومما يدلُّ على ضعف ما قاله المؤلِّف: أنهم يقولون: إِن ورق الشجر إذا كان يشقُّ صونُ الماء عنه؛ فوقع فيه وتغيَّر به الماء

(1)

انظر: «مجموع الفتاوى» (21/ 25)، «الاختيارات» ص (3).

ص: 47

فهو طَهُور، ولو وضعه إِنسان قصداً فإِنه يصير طاهراً غير مطهِّر.

ومعلوم أن ما انتقل حكمه بتغيُّره فإِنه لا فرق بين ما يشُقُّ صون الماء عنه وما لا يشقُّ، ولا بين ما وُضِعَ قصداً أو بغير قصد، كما نقول فيما إِذا تغيَّر الماءُ بنجاسة، فإِنه لا فرق بين ما يشقُّ صون الماء عنه من تلك النجاسة وبين ما لا يشقُّ، ولا بين ما وُضِعَ قصداً وما لم يوضع قصداً؛ ما دامت العِلَّة هي تغيُّر الماء.

‌أوْ رُفِعَ بقليله حَدَثٌ،

.............

قوله: «أو رُفِع بقليله حدثٌ» ، أي: بقليل الماء ـ وهو ما دون القُلَّتين ـ حَدَثٌ، سواء كان الحَدَث لكلِّ الأعضاء أو بعضها، مثال ذلك: رجل عنده قِدْرٌ فيه ماء دون القُلَّتين، فأراد أن يتوضَّأ فغسل كَفَّيه بعد أن غرف منه، ثم غرف أُخرى فغسل وجهه، فإِلى الآن لم يصرِ الماء طاهراً غير مطهِّر، ثم غمس ذراعه فيه، ونوى بذلك الغمس رفع الحَدَث فنزع يده، فالآن ارتفع الحدث عن اليد، فصدق أنه رُفِعَ بقليله حَدَثٌ فصار طاهراً غير مطِّهر.

وليس لهذا دليل، ولكن تعليل؛ وهو أنَّ هذا الماء استُعمل في طهارة فلا يُستعمل فيها مرَّة أخرى، كالعبد إِذا أُعتق فلا يُعتق مرَّة أخرى. وهذا التَّعليل عليل من وجهين:

الأول: وجود الفرق بين الأصل والفرع؛ لأن الأصل المقيس عليه وهو الرَّقيق المحرَّر لمَّا حرَّرناه لم يبقَ رقيقاً، وهذا الماء لمّا رُفِع بقليله حدثٌ بقي ماء فلا يصحّ القياس.

الثاني: أن الرَّقيق يمكن أن يعود إِلى رِقِّهِ، فيما لو هرب إِلى

ص: 48

الكُفَّار ثم استولينا عليه فيما بعد؛ فإن لنا أن نسترقَّه، وحينئذٍ يعود إليه وصف الرِقِّ، ثم يصحُّ أن يحرَّر مرَّة ثانية في كفَّارة واجبة.

فالصَّواب أن ما رُفع بقليله حدثٌ طَهورٌ؛ لأن الأصل بقاء الطَّهورية، ولا يمكن العُدُول عن هذا الأصل إلا بدليل شرعي يكون وجيهاً.

‌أو غُمِسَ فِيه يَدُ قَائمٍ مِنْ نَوْمِ ليلٍ نَاقضٍ لوضُوءٍ،

...........

قوله: «أو غُمِسَ فيه يَدُ قائمٍ مِنْ نَوْمِ ليلٍ ناقضٍ لوضُوءٍ» ، الضَّمير في قوله:«فيه» يعود إلى الماء القليل. واليد إِذا أُطلقت فالمراد بها إلى الرُّسغ مفصِل الكفِّ من الذِّراع، فلا يدخل فيها الذِّراع.

مثاله: رجل قام من النَّوم في الليل، وعنده قِدْرٌ فيه ماء قليل، فغمس يده إِلى حَدِّ الذِّراع فيكون طاهراً غير مطهِّر بدليل قوله صلى الله عليه وسلم:«إذا استيقظ أحدُكم من نومه؛ فلا يَغمِسْ يدَهُ في الإِناء حتى يغسلها ثلاثاً؛ فإِنه لا يدري أين باتت يدُه»

(1)

.

ففيه النهي عن غمس اليد في الإِناء، والتَّعليل: فإِن أحدكم

إِلخ، فلو غُمِسَت اليدُ في ماء كثير فإِنَّه يكون طَهُوراً، وإِذا غَمَسَ رَجُلٌ رِجْلَهُ فإِنه طَهُورٌ؛ لأنه قال:«يدٌ» ، وكذلك لو غَمَسَ ذَراعه فإِنَّهُ طَهُور، ولو غمس كافرٌ يده فإِنه طَهُور، وكذا المجنون أو الصَّغير؛ لأنه غير مكلَّف، ولو غمس رجل يده بعد أن نام طويلاً في النَّهار فإِنَّه طَهور، وكذا إن نام يسيراً في اللَّيل،

(1)

رواه البخاري، كتاب الوضوء: باب الاستجمار وتراً، رقم (162)، ومسلم، كتاب الطهارة: باب كراهة غمس المتوضئ وغيره يده المشكوك في نجاستها في الإِناء، قبل غسلها ثلاثاً، رقم (278) عن أبي هريرة.

ص: 49

هذا تقرير كلامهم رحمهم الله. ولو غمس المكلَّف يده بالشروط التي ذكر المؤلِّفُ كان طاهراً غير مطهِّر.

ولكن إِذا تأمَّلتَ المسألةَ وجدتها ضعيفة جداً؛ لأنَّ الحديث لا يدلُّ عليه، بل فيه النهي عن غمس اليد، ولم يتعرَّض النبيُّ صلى الله عليه وسلم للماء.

وفي قوله: «فإن أحدكم لا يدري أين باتت يدُه» ، دليل على أنَّ الماء لا يتغيَّر الحكم فيه؛ لأن هذا التَّعليلَ يدلُّ على أن المسألةَ من باب الاحتياط، وليست من باب اليقين الذي يُرفَعُ به اليقينُ.

وعندنا الآن يقينٌ؛ وهو أن هذا الماء طَهُورٌ، وهذا اليقينُ لا يمكنُ رفعُه إلا بيقين، فلا يُرفَعُ بالشَّكِّ.

وإذا كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم نهى المسلمَ أن يغمس يده قبل غسلها ثلاثاً فالكافر من باب أَوْلَى، لأن العِلَّة في المسلم النائم هي العِلَّة في الكافر النَّائم، وكونه لم يوجه الخطاب إِلى الكافرين جوابه: أنَّ الصَّحيح أن الكُفَّار مخاطبون بفروع الشَّريعة، وليس هذا حكماً تكليفيّاً، بل وضعيٌّ.

ثم يُقال عن اشتراط التَّكليف: إِن المميِّز يُخاطَبُ بمثل هذا وإِن كان لا يُعاقَبُ، فقد تكون يده ملوَّثة بالنَّجاسة، وقد لا يستنجي ويمسّ فرجه وهو نائم، فكيف يضرُّ غَمْسُ يد المكلَّف الحافظ نفسه، ولا يضرُّ غمس يد المميِّز؟!.

فهذا القول ضعيف أثراً ونظراً، أما أثراً فلأن الحديث لا يدلُّ عليه بوجه من الوجوه، وأما نظراً فلأن الشُّروط التي ذكروها

ص: 50

وهي الإِسلام، والتكليف، وأن يكون من نوم ليل لا يتعيَّن أخذُها من الحديث.

أوجه استدلالهم لهذه الشروط من الحديث:

أنَّ قوله: «أحدكم» المخاطبون مسلمون، فهذا شرط الإسلام، وقوله:«أحدكم» لا يخاطب إِلا المكلَّف.

وقوله: «باتت» البيتوتة لا تكون إِلا بالليل.

وأيضاً يُشترط أن يكون ناقضاً للوضوء، وأخذ من قوله:«فإن أحدكم لا يدري» ، فالنُّوم اليسير يدري الإِنسان عن نفسه فلا يضرُّ.

فيقال: يد الكافر ويد الصَّغير الذي لم يميِّز أولى بالتَّأثير.

وخلاصة كلامهم: أنه إِذا تمت الشُّروط التي ذكروها وغمس يده في الماء قبل غسلها ثلاثاً فإِنه يكون طاهراً لا طَهُوراً.

والصَّواب أنه طَهُور؛ لكن يأثم من أجل مخالفته النهي؛ حيث غمسها قبل غسلها ثلاثاً.

ومن أجل ضعف هذا القول قالوا رحمهم الله: إِذا لم يجد الإنسان غيره استعمله ثم تيمَّم من باب الاحتياط

(1)

فأوجبوا عليه طهارتين، ولكن أين هذا الإيجاب في كتاب الله، أو سُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم!؟ فالواجب استعمال الماء أو التُّراب، لكن لشعورهم رحمهم الله بضعف هذا القول بأن الماء ينتقل من الطَّهورية إلى الطَّهارة قالوا: يستعمله ويتيمَّم.

(1)

انظر: «الإِنصاف» (1/ 72، 75)، «شرح منتهى الإِرادات» (1/ 15).

ص: 51

فإن قيل: ما الحكمة في النَّهي عن غمس اليد قبل غسلها ثلاثاً لمن قام من النَّوم؟

أُجيب: أنَّ الحكمة بيَّنها النبيُّ صلى الله عليه وسلم بقوله: «فإِنَّ أحدكم لا يدري أين باتت يدهُ» .

فإن قال قائل: وضعت يدي في جِراب، فأعرفُ أنها لم تمسَّ شيئاً نجساً من بدني، ثم إِنني نمت على استنجاء شرعي، ولو فُرض أنَّها مسَّت الذَّكر أو الدُّبر فإِنَّها لا تنجُس؟

فالجواب: أن الفقهاء رحمهم الله قالوا: إِن العلَّة غير معلومة فالعمل بذلك من باب التَّعبُّد المحض

(1)

.

لكن ظاهر الحديث أن المسألة معلَّلةٌ بقوله: «فإِن أحدكم لا يدري أين باتت يدهُ» .

وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله أن هذا التَّعليل كتعليله صلى الله عليه وسلم بقوله: «إذا استيقظ أحدكم من منامه؛ فليستنثر ثلاث مرَّات؛ فإِن الشيطان يبيت على خياشيمه»

(2)

. فيمكن أن تكون هذه اليد عبث بها الشيطان، وحمل إليها أشياء مضرَّة للإنسان، أو مفسدة للماء فنهى النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يغمس يده حتى يغسلها ثلاثاً

(3)

.

وما ذكره الشيخ رحمه الله وَجيهٌ، وإِلا فلو رجعنا إلى الأمر

(1)

انظر: «الإِنصاف» (1/ 72، 75)، «شرح منتهى الإِرادات» (1/ 15).

(2)

رواه البخاري، كتاب بدء الخلق: باب صفة إِبليس وجنوده، رقم (3295)، ومسلم، كتاب الطهارة: باب الإِيتار في الاستنثار والاستجمار، رقم (238) عن أبي هريرة.

(3)

انظر: «مجموع الفتاوى» (21/ 44، 45).

ص: 52

الحسِّي لكان الإِنسان يعلم أين باتت يده، لكن السُّنَّة يفسِّر بعضُها بعضاً.

‌أوْ كان آخرَ غَسْلَةٍ زالت بها النجاسة فَطَاهرٌ.

...........

قوله: «أوْ كان آخر غَسْلةٍ زالت بها النجاسة فَطَاهرٌ» ، الضَّمير يعود إِلى الماء القليل، والمعروف عند الفُقهاء أنه لا بُدَّ لطهارة المحلِّ المُتَنَجِّس أن يُغسل سبعَ مرات

(1)

، فالغسلة الأولى إلى السادسة كلُّ المنفصل من هذه الغسلات نجس؛ لأنه انفصل عن محلٍّ نجس.

مثاله: رجل يغسل ثوبه من نجاسة فالذي ينفصل من الماء من الغسلة الأولى إِلى السَّادسة نجس؛ لأنه انفصل عن محَلٍّ نجس وهو يسير، فيكون قد لاقى النَّجاسة وهو يسير، وما لاقى النَّجاسة وهو يسير فإِنه ينجس بمجرَّد الملاقاة.

أما المنفصل في الغسلة السَّابعة فيكون طاهراً غير مطهِّر؛ لأنَّه آخر غسلة زالت بها النَّجاسة، فهو طاهر؛ لأنه أثَّر شيئاً وهو التطهير، فلما طَهُرَ به المحلُّ صار كالمستعمل في رفع حَدَث، ولم يكن نجساً لأنَّه انفصل عن محلٍ طاهر، وأما المنفصل عن الثَّامنة فطَهُورٌ؛ لأنَّه لم يؤثِّر شيئاً ولم يُلاقِ نجاسة. وهذا إِذا كانت عين النَّجاسة قد زالت، وإِذا فُرِضَ أن النَّجاسة لم تزل بسبع غسلات، فإِن ما انفصل قبل زوال عين النَّجاسة نجسٌ لأنه لاقى النَّجاسة وهو يسير.

وقوله: «فطاهر» ، هذا جواب قوله: «وإِن تغيَّر طعمه

»، إلخ.

(1)

انظر: ص (421).

ص: 53

وهذا هو الطَّاهر على قول من يقول: إن المياه تنقسم إِلى ثلاثة أقسام: طَهُور، وطاهر، ونجس.

والصَّحيح أن الماء قسمان فقط: طَهُور ونجس. فما تغيَّر بنجاسة فهو نجس، وما لم يتغيَّر بنجاسة فهو طَهُور، وأن الطَّاهر قسم لا وجود له في الشَّريعة، وهذا اختيار شيخ الإِسلام

(1)

. والدَّليل على هذا عدم الدَّليل؛ إذ لو كان قسم الطَّاهر موجوداً في الشَّرع لكان أمراً معلوماً مفهوماً تأتي به الأحاديث بيِّنةً واضحةً؛ لأنه ليس بالأمر الهيِّن إذ يترتَّب عليه إِمَّا أن يتطهَّر بماء، أو يتيمَّم. فالنَّاس يحتاجون إِليه كحاجتهم إلى العِلْم بنواقض الوُضُوء وما أشبه ذلك من الأمور التي تتوافر الدَّواعي على نقلها لو كانت ثابتة.

‌والنَّجسُ ما تغيَّرَ بنجاسةٍ، أوْ لَاقَاهَا، وهو يسيرٌ،

.............

قوله: «والنَّجس ما تغيَّر بنجاسة» ، أي: تغيَّر طعمه أو لونه أو ريحه بالنَّجاسة، ويُستثنى من المتغيِّر بالرِّيح ما إِذا تغيَّر بمجاورة ميتة، وهذا الحكم مُجمَعٌ عليه، أي أن ما تغيَّر بنجاسة فهو نجس، وقد وردت به أحاديث مثل:«الماء طَهُور لا ينجِّسه شيء»

(2)

.

قوله: «أو لاقاها وهو يسير» ، أي: لاقى النَّجاسة وهو دون القُلَّتين، والدَّليل مفهوم قوله صلى الله عليه وسلم:«إِذا بلغ الماء قُلَّتين لم ينجِّسْه شيء»

(3)

.

ومفهوم قوله: «وهو يسير» أنه إِن لاقاها وهو كثير فإِنَّه لا

(1)

انظر: «مجموع الفتاوى» (19/ 236)، «الاختيارات» ص (3).

(2)

تقدم تخريجه ص (39).

(3)

تقدم تخريجه ص (40).

ص: 54

ينجس، لكن يُستثنى من هذا بول الآدمي وعَذِرَتُه كما سبق.

والصَّحيح: أنَّ هذا ليس من قسم النَّجس إِلا أن يتغيَّر.

ويُستثنى من ذلك ـ على المذهب ـ ما إِذا لاقاها في محلِّ التطهير، فإِنه لا ينجس

(1)

. مثال ذلك: لو أن إِنساناً في ثوبه نجاسة؛ وأراد إِزالتها؛ فإِنَّه يصبُّ عليها ماءً يسيراً دون القُلَّتين. فإن قلنا إِنه تنجَّس بمجرد ملاقاة النَّجاسة في محلِّها وهو الثوب؛ لم يمكن تطهير هذا النَّجس؛ لأن الماء إِذا تنجَّس بالملاقاة لم يطهِّر النَّجاسة، وهكذا لو صببت ماءً آخر، ومن أجل ذلك استثنوا هذه المسألة.

‌أوِ انفَصَلَ عَنْ محلِّ نَجَاسَةٍ قَبْلَ زوالها، فإِن أضِيفَ إِلى الماء النَّجسِ طَهُورٌ كثيرٌ غيرُ ترابٍ، ونحوِه،

............

قوله: «أو انفصل عن محلِّ نجاسة قبل زوالها» ، أي: قبل زوال حكمها.

مثاله: ماء نطهِّر به ثوباً نجساً، والنَّجاسة زالت في الغسلة الأولى وزال أثرها نهائياً في الغسلة الثانية، فغسلناه الثَّالثة والرابعة والخامسة والسَّادسة، فالماء المنفصل من هذه الغسلات نجس، لأنه انفصل عن محلِّ النَّجاسة قبل زوالها حكمها.

قوله: «فإِن أُضيف إِلى الماء النَّجِسِ طَهُورٌ كثيرٌ غيرُ ترابٍ، ونحوِه» ، في هذا الكلام بيان طُرق تطهير الماء النَّجس، وقد ذكر ثلاث طُرقٍ في تطهير الماء النَّجس:

إحداها: أن يضيف إِليه طَهوراً كثيراً غير تراب ونحوه،

(1)

انظر: «الإِقناع» (1/ 11).

ص: 55

واشترط المؤلِّفُ أن يكون المضافُ كثيراً؛ لأنَّنا لو أضفنا قليلاً تنجَّس بملاقاة الماء النَّجس.

مثاله: عندنا إِناءٌ فيه ماء نجس مقداره نصف قُلَّة، وهذا الإِناء كبير يأخذ أكثر من قُلَّتين، فإِذا أردنا أن نطهِّره نأتي بقُلَّتين ثم نفرغ القُلَّتين على نصف القُلَّة، فنكون قد أضفنا إِليه ماءً كثيراً؛ فيكون طَهُوراً إِذا زال تغيُّره، فإِن أضفنا إِليه قُلَّة واحدة؛ وزال التغيُّر فإِنَّه لا يكون طَهُوراً، بل يبقى على نجاسته؛ لأنه لاقى النَّجاسة وهو يسير فينجس به ولا يطهِّره، ولا بُدَّ أن تكون إِضافة الماء متَّصلة، لأنَّنا إِذا أضفنا نصفَ قُلَّة، ثم أتينا بأخرى يكون الأول قد تنجَّس، وهكذا فيُشترط في المُضاف أن يكون طَهُوراً كثيراً، والمُضاف إِليه لا يُشترط فيه أن يكون كثيراً أو يسيراً، فإذا كان عندنا إِناءٌ فيه قُلَّتان نجستان ولكنَّه يأخذ أربع قِلال، وأضفنا إِليه قُلَّتين وزال تغيُّره فإِنَّه يَطْهُر مع أن النَّجس قُلَّتان.

‌أوْ زَالَ تغيُّرُ النجسِ الكثير بنفسِهِ،

...........

قوله: «أو زال تغيُّر النَّجس الكثير بنفسه» ، الكثير: هو ما بلغ قُلَّتين، وهذه هي الطَّريقة الثَّانية لتطهير الماء النَّجس، وهي أن يزول تغيُّره بنفسه إِذا كان كثيراً.

مثاله: ماء في إِناء يبلغ قُلَّتين وهو نجس، ولكنه بقي يومين أو ثلاثة وزالت رائحته ولم يبقَ للنَّجاسة أثر، ونحن لم نُضِفْ إِلَيْهِ شيئاً، فيكون طَهُوراً، لأنَّ الماء الكثير يقوى على تطهير غيره، فتطهير نفسه من باب أولى.

والخلاصة: أنه إِذا كان قُلَّتين فإِنه يطهر بأمرين:

1 ـ الإضافة كما سبق.

ص: 56

2 ـ زوال تغيُّره بنفسه.

‌أوْ نُزِحَ منه فَبَقِيَ بعده كثيرٌ غَيْرُ مُتغيرٍ طَهُرَ ........

قوله: «أو نُزِحَ منه فبقِيَ بعده كثيرٌ غَيْرُ مُتغيرٍ طَهُرَ» ، هذه هي الطَّريقة الثَّالثة لتطهير الماء النَّجس، وهي أن يُنزح منه حتى يبقى بعد النَّزح طَهُور كثير.

فالضَّمير في قوله: «منه» يعود إلى الماء الكثير، وفي قوله:«بعده» إِلى النَّزْح.

ففي هذه الصُّورة لا بُدَّ أن يكون الماء المتنجِّس أكثر من قُلَّتين؛ لأنَّ المؤلِّفَ اشترط أن يبقى بعد النَّزْح كثير، أي: قُلَّتان فأكثر.

فإن كان عند الإنسان إِناء فيه أربع قِلال وهو نجس، ونُزِحَ منه شيء وبقي قُلَّتان، وهذا الباقي لا تغيُّر فيه فيكون طَهُوراً.

والخلاصة: أن ما زاد على القُلَّتين يمكن تطهيره بثلاث طُرق:

1 ـ الإِضافة كما سبق.

2 ـ زوال تغيُّرِه بنفسه.

3 ـ أنْ يُنْزَح منه؛ فيبقى بعده كثير غير متغيِّر.

والقول الصَّحيح: أنه متى زال تغيُّر الماء النَّجس طَهُرَ بأي وسيلة كانت.

وقوله: «غير تراب ونحوه» ، استثنى المؤلِّفُ هذه من مسألة الإِضافة، فلو أضفنا تراباً، ومع الاختلاط بالتُّراب وترسُّبه زالت النَّجاسة، فلا يَطْهُر مع أنَّه أحد الطَّهورين، قالوا: لأن التطهر

ص: 57

بالتُّراب ليس حسِّيًّا، بل معنويٌّ

(1)

، فالإنسان عند التيمُّم لا يتطهَّر طهارة حسِّيَّة بل معنويَّة.

وقوله: «ونحوه» كالصَّابون وما شابهه؛ لأنه لا يُطهر إِلا الماء، وما مشى عليه المؤلِّف هو المذهب.

والصحيح: أنه إِذا زال تغيُّر الماء النَّجس بأي طريق كان فإنه يكون طَهُوراً؛ لأن الحكم متى ثبت لِعِلَّة زال بزوالها.

وأيُّ فرق بين أن يكون كثيراً، أو يسيراً، فالعِلَّة واحدة، متى زالت النَّجَاسة فإِنه يكون طَهُوراً وهذا أيضاً أيسر فهماً وعملاً.

واعلم أن هذا الحكم ـ على المذهب ـ بالنِّسبة للماء فقط، دون سائر المائعات، فسائر المائعات تَنْجُس بمجرَّد الملاقاة، ولو كانت مِائة قُلَّة، فلو كان عند إِنسان إِناء كبير فيه سمن مائع وسقطت فيه شعرة من كلب؛ فإِنَّه يكون نجساً، لا يجوز بيعه؛ ولا شراؤه؛ ولا أكله أو شربه.

والصَّواب: أَن غير الماء كالماء لا يَنْجُس إِلا بالتغيُّر.

‌شَكَّ في نجاسةِ ماءٍ، أو غيرِه، أوْ طهارته ............

قوله: «وإِن شكَّ في نجاسة ماء، أو غيرِه، أوْ طَهارته» ، أي: في نجاسته إِذا كان أصله طاهراً، وفي طهارته إِذا كان أصله نجساً.

مثال الشَكِّ في النَّجاسة: لو كان عندك ماء طاهر لا تعلم أنَّه تنجَّس؛ ثم وجدت فيه روثة لا تدري أروثة بعير، أم روثة

(1)

انظر: «المغني» (1/ 52).

ص: 58

حمار، والماء متغيِّر من هذه الرَّوثة؛ فحصل شكٌّ هل هو نجس أم طاهر؟

فيُقال: ابْنِ على اليقين، واليقين أنه طَهُور، فتطهَّر به ولا حرج.

وكذا إِذا حصل شكُّ في نجاسة غير الماء.

مثاله: رجل عنده ثوب فشكَّ في نجاسته، فالأصل الطَّهارة حتى يعلم النَّجاسة.

وكذا لو كان عنده جلد شاة، وشكَّ هل هو جلدُ مُذَكَّاة، أم جلد ميتة، فالغالب أنه جلد مُذَكَّاة فيكون طاهراً.

وكذا لو شَكَّ في الأرض عند إِرادة الصَّلاة هل هي نجسة أم طاهرة، فالأصل الطَّهارة.

ومثال الشكِّ في الطَّهارة: لو كان عنده ماء نجس يعلم نجاسته؛ فلما عاد إليه شكَّ هل زال تغيُّره أم لا؟ فيُقال: الأصل بقاء النَّجاسة، فلا يستعمله.

‌بَنَى على اليَقِينِ،

............

قوله: «بَنَى على اليقين» ، اليقين: هو ما لا شَك فيه، والدَّليل على ذلك من الأثر حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم شُكِيَ إِليه الرَّجل يجدُ الشيءَ في بطنه؛ فيُشكل عليه، هل خرج منه شيءٌ أم لا؟ فقال:«لا ينصرف حتى يسمع صوتاً، أو يجدَ ريحاً»

(1)

. فأمرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالبناء على الأصل، وهو بقاء

(1)

رواه البخاري، كتاب الوضوء: باب من لم يرَ الوضوء إِلا من المخرجين، رقم (177)، ومسلم، كتاب الحيض: باب الدليل على أن من تيقَّن الطهارة ثم شكَّ في الحدث فله أن يصلي بطهارته تلك، رقم (361).

ص: 59

الطَّهارة. ولما قال الصَّحابة رضي الله عنهم: يا رسول الله، إِنَّ قوماً يأتونا باللَّحم؛ لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا؟ فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:«سَمُّوا أنتم وكُلُوه» .

قالت عائشة رضي الله عنها وهي راويةُ الحديث: وكان القوم حديثي عهد بالكفر

(1)

، مع أنَّه يغلب على الظنِّ هنا أنَّهم لم يذكروا اسمَ الله، لحداثة عهدهم بالكُفر، ومع هذا لم يأمرْهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالسؤال ولا البحث.

ويُروى أنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرَّ هو وعمرو بن العاص بصاحب حوض، فسأل عمرو بن العاص صاحبَ الحوض: هل هذا نجس أم لا؟ فقال له عمر: يا صاحب الحوض، لا تخبرنا

(2)

.

وفي رواية: أن الذي أصابهم ماء ميزاب، فقال عمر: يا صاحب الميزاب، لا تخبرنا.

ومن النَّظر: أنَّ الأصل بقاء الشيء على ما كان حتى يتبيَّن التغيُّر، وبناءً عليه: إِذا مرَّ شخص تحت ميزاب وأصابه منه ماء، فقال: لا أدري هل هذا من المراحيض، أم من غسيل الثِّياب، وهل هو من غسيل ثياب نجسة، أم غسيل ثياب طاهرة؟ فنقول:

(1)

رواه البخاري، كتاب الذبائح والصيد: باب ذبيحة الأعراب ونحوهم، رقم (5507).

(2)

رواه مالك في «الموطأ» ، كتاب الطهارة: الطهور للوضوء، رقم (47)، وعبد الرزاق (250) عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب أن عمر بن الخطاب .. فذكره. ويحيى لم يسمع من عمر كما قال ابن معين. انظر:«تهذيب الكمال» (31/ 437) فالأثر منقطع.

ص: 60

الأصل الطَّهارة حتى ولو كان لون الماء متغيِّراً. قالوا: ولا يجب عليه أن يشمَّه أو يتفقَّده، وهذا من سعة رحمة الله.

‌وإِن اشْتَبَهَ طَهُورٌ بنجسٍ حَرُمَ استِعْمَالُهُمَا، ولم يَتَحَرَّ،

........

قوله: «وإِن اشتبه طَهور بنجس حَرُمَ استعْمَالُهُمَا» ، يعني: إِن اشتبه ماء طهور بماء نجس حرم استعْمَالُهُمَا، لأن اجتناب النَّجس واجب، ولا يتمُّ إِلا باجتنابهما، وما لا يتمُّ الواجب إِلا به فهو واجب، وهذا دليل نظري.

وربما يُستدلُّ عليه بأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال في الرَّجُل يرمي صيداً فيقع في الماء: «إن وجدته غريقاً في الماء فلا تأكلْ، فإِنك لا تدري، الماءُ قَتَله أم سهمُك؟

(1)

».

وقال: «إذا وجدت مع كلبك كلباً غيره فلا تأكل، فإِنَّك لا تدري أيُّهما قتله»

(2)

؟.

فأمر باجتنابه، لأنّه لا يُدرى هل هو من الحلال أم الحرام؟

قوله: «ولم يتحرَّ» ، أي: لا ينظر أيُّهما الطَّهور من النَّجس، وعلى هذا فيتجنَّبُهُما حتى ولو مع وجود قرائن، هذا المشهور من المذهب.

وقال الشَّافعي رحمه الله: يتحرَّى

(3)

. وهو الصَّواب، وهو

(1)

واللفظ له عن عدي بن حاتم.

(2)

(3)

انظر: «المجموع شرح المهذب» (1/ 180).

ص: 61

القول الثَّاني في المذهب

(1)

لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود رضي الله عنه في مسألة الشكِّ في الصَّلاة: «وإذا شَكَّ أحدُكُم في صلاته فليتحرَّ الصَّوابَ ثم ليَبْنِ عليه»

(2)

، فهذا دليل أثريٌّ في ثبوت التَّحرِّي في المشتبهات.

والدَّليل النَّظري: أنَّ من القواعد المقرَّرة عند أهل العلم أنَّه إذا تعذَّر اليقين رُجع إِلى غلبة الظنِّ، وهنا تعذَّر اليقينُ فنرجع إِلى غلبة الظنِّ وهو التحرِّي. هذا إن كان هناك قرائن تدلُّ على أن هذا هو الطَّهور وهذا هو النَّجس، لأن المحلَّ حينئذ قابل للتحرِّي بسبب القرائن، وأما إذا لم يكن هناك قرائن؛ مثل أن يكون الإِناءان سواء في النَّوع واللون فهل يمكن التَّحرِّي؟

قال بعض العلماء: إِذا اطمأنت نفسُه إِلى أحدهما أخذ به

(3)

، وقاسوه على ما إِذا اشتبهت القِبْلة على الإِنسان؛ ونظر إلى الأدلَّة فلم يجد شيئاً، فقالوا: يصلِّي إِلى الجهة التي تطمئنُّ إِليها نفسُه. فهنا أيضاً يستعمل ما اطمأنت إِليه نفسه، ولا شكَّ أن استعمال أحد الماءين في هذه الحال فيه شيء من الضَّعف؛ لكنَّه خير من العدول إلى التيمُّم.

‌ولا يُشْتَرَطُ للتيمم إِراقتُهمَا، ولا خَلْطُهُمَا،

.............

قوله: «ولا يُشترط للتيمُّم إِراقتهما، ولا خلطُهما» ، أفادنا المؤلِّفُ رحمه الله أنه في حال اجتنابهما يتيمَّم.

(1)

انظر: «الإِنصاف» (1/ 130، 132).

(2)

رواه البخاري، كتاب الصلاة: باب التوجه نحو القبلة حيث كان، رقم (401)، ومسلم، كتاب المساجد: باب السهو في الصلاة والسجود له، رقم (572).

(3)

انظر: «المغني» (1/ 82)، «المجموع شرح المهذب» (1/ 184).

ص: 62

مثاله: رجل عنده إِناءان أحدهما طَهُور، والآخر نجس، وشكَّ أيُّهما الطَّهور؛ فنقول: يجب عليه اجتنابُهما.

فإن قال: فماذا أعملُ إِذا أردت الصَّلاة؟ نقول: تيمَّم؛ لأنك غير قادر على استعمال الماء؛ لاشتباه الطَّهور بالنَّجس؛ فيشمله قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: 6].

وهل يُشترط للتيمُّم إراقتهما أو خلطهما؟ فيه قولان

(1)

، ولهذا نفى المؤلِّف اشتراط إِراقتهما أو خلطهما رداً للقول الثاني، وإِلا لما كان لنفيه داعٍ، فقال: «ولا يُشتَرط

إلخ» لردِّ قول من قال: إنه يُشتَرط إِراقتهما، أو خلطهما، وهو قولٌ في المذهب.

قالوا: لا يمكن أن يتيَمَّم حتى يُريقَ الماءين؛ ليكون عادماً للماء حقيقة، أو يخلطهما حتى يتحقَّق النَّجاسة.

وعُلم من ذلك أنه إذا أمكن تطهيرُ أحدهما بالآخر وجب التطهير، ولا يحتاج إِلى التيمُّم، وذلك إذا كان كلُّ واحد من الإناءين قُلَّتين فأكثر؛ فيُضاف أحدُهما إلى الآخر، فإِن الطَّهور منهما يطهِّر النَّجس إِذا زالَ تغيُّره.

‌وإن اشتَبَه بطَاهِر تَوَضَّأ منهمَا وُضُوءاً واحداً، مِنْ هذا غَرْفَةٌ، ومن هذا غَرفةٌ، وصَلَّى صلاةً واحدةً.

قوله: «وإِن اشتَبَه بطَاهر تَوَضّأ منهمَا وُضُوءاً واحداً، مِنْ هذا غَرْفَةٌ، ومن هذا غَرفةٌ، وصَلَّى صلاةً واحدةً» ، هذه المسألة لا تَرِدُ على ما صحَّحناه؛ لعدم وجود الطَّاهر غير المطهِّر على القول الصَّحيح، لكن تَرِدُ على المذهب، وسبق بيان الطَّاهر

(2)

.

(1)

انظر: «الإِنصاف» (1/ 135).

(2)

انظر: ص (47).

ص: 63

مثاله: ماء غُمِسَ فيه يدُ قائم من نوم ليل ناقض للوُضُوء، فإِنَّه يكون طاهراً غير مطهِّر، وماء طَهُور اشتبه أحدهما بالآخر، فلا يتحرَّى ولا يتيمَّم؛ لأنَّ استعمال الطَّاهر هنا لا يضرُّ؛ بخلاف المسألة السَّابقة التي اشتبه فيها الطَّهور بالنَّجس، فإِنه لو استعمله تنجَّس ثوبه وبدنه، وعلى هذا فيتوضَّأُ وُضُوءاً واحداً من هذا غرفة، ومن هذا غرفة؛ لأجل أنَّه إِذا أتمَّ وضوءه، فإِنه تيقَّن أنه توضَّأ بطَهُور فيكون وضوؤُه صحيحاً.

فإن قيل: لماذا لا يتوضَّأ من هذا وضوءاً كاملاً، ومن الآخر كذلك؟

فالجواب: أنه لا يصحُّ لوجهين:

الأول: أَنه لو فعل ذلك لكان يخرج من كلِّ وُضُوء وهو شاكٌّ فيه، ولا يصحُّ التردُّد في النيَّة.

الثاني: أَنه إِذا توضَّأ وُضُوءاً كاملاً من الأوَّل، وقدَّرنا أنَّه هو الطَّهور ثم توضَّأ وُضُوءاً كاملاً من الثَّاني الذي هو الطَّاهر، فرُبَّما يجزم في الوُضُوء الأول، أو يغلب على ظنِّه أنَّه استعمل الطَّهور في غسل اليدين والطَّاهر في غسل الوجه، وفي الوُضُوء الثاني أنه استعمل الطَّاهر في غَسْلِ اليدين والطَّهور في غَسْل الوجه، فيكون غَسْلُ الوجه، الذي حصلت به الطَّهارةُ؛ بعد غَسلِ اليدين وذلك إخلالٌ بالتَّرتيب.

ولا يُقال: إِنه باجتماعهما حصل اليقينُ؛ لأن أحدهما حين فعله له كان شاكًا فيه غير متيقِّن، ويُصلِّي صلاةً واحدة.

وقال بعض العلماء: يتوضَّأ أولاً ثم يُصلِّي، ثم يتوضَّأ ثانياً

ص: 64

ثم يُصلِّي

(1)

؛ لأجل أن يتيقَّن بالفعلين أنه توضَّأ وضوءاً صحيحاً، وصلَّى صلاةً صحيحةً.

وأمَّا على القول الرَّاجح فهذه المسألة ليست واردةً أصلاً؛ لأن الماء لا يكون طاهراً، بل إِما طَهوراً، وإِما نجس.

‌وإِن اشْتَبَهَتْ ثيابٌ طاهرةٌ بنجسةٍ .............

قوله: «وإن اشتبهت ثياب طاهرةٌ بنجسة

»، هذه المسألة لها تعلُّق في باب اللباس، وفي باب ستر العورة في شروط الصَّلاة، ولها تعلُّق هنا، وتعلُّقها هنا من باب الاستطراد؛ لأن الثِّياب لا علاقة لها في الماء.

مثال هذه المسألة: رجل له ثوبان، أحدهما نجاسته متيقَّنة، والثاني طاهر، ثم أراد أن يلبسهما فشكَّ في الطَّاهر من النَّجس، فيصلِّي بعدد النَّجس ويزيد صلاة؛ لأنَّ كلَّ ثوبٍ يُصلِّي فيه يحتمل أن يكون هو النَّجس، فلا تصحُّ الصَّلاة به، ومن شروط الصَّلاة أن يُصلّيَ بثوب طاهر، ولا يمكن أن يُصلِّي بثوبٍ طاهر يقيناً إِلا إِذا فعل ذلك.

فإِن كان عنده ثلاثون ثوباً نجساً وثوب طاهر، فإنَّه يُصلِّي واحداً وثلاثين صلاة كلَّ وقت، وهذا فرضاً، وإلا فيُمكن أن يغسل ثوباً، أو يشتريَ جديداً، هذا ما مشى عليه المؤلِّف.

والصَّحيح: أنه يتحرَّى، وإِذا غلب على ظَنِّه طهارة أحد الثِّياب صَلَّى فيه، والله لا يكلِّف نفساً إلا وسعها، ولم يوجب الله على الإِنسان أن يُصلِّيَ الصَّلاة مرتين.

(1)

انظر: «الإِنصاف» (1/ 137، 139).

ص: 65

فإن قلت: ألا يحتمل مع التحرِّي أن يُصلِّيَ بثوب نجس؟

فالجواب: بلى، ولكن هذه قدرته، ثم إِنَّ الصَّلاة بالثَّوب النَّجس عند الضَّرورة، الصَّواب أنها تجوز. أما على المذهب فيرون أنك تُصلِّي فيه وتُعيد، فلو فرضنا أن رجلاً في الصَّحراء، وليس عنده إِلا ثوبٌ نجسٌ وليس عنده ما يُطهِّر به هذا الثوبَ، وبقي شهراً كاملاً، فيُصلِّي بالنَّجس وجوباً، ويُعيد كلَّ ما صَلَّى فيه إذا طهَّره وجوباً.

يُصلِّي لأنه حضر وقت الصلاة وأُمِرَ بها، ويعيد لأنَّه صلَّى في ثوب نجس.

وهذا ضعيف، والرَّاجحُ أنَّه يُصلِّي ولا يعيد، وهم رحمهم الله قالوا: إِنَّه في صلاة الخوف إِذا اضطر إلى حمل السلاح النَّجس حَمَلَه ولا إعادة عليه للضَّرورة

(1)

، فيُقال: وهذا أيضاً للضَّرورة؛ وإِلا فماذا يصنع؟

‌أو بمحرَّمةٍ صلَّى في كلِّ ثوبٍ صلاةً بعددِ النَّجس أو المحرَّم، وزَاد صلاةً ............

قوله: «أو بمحرَّمةٍ صلَّى في كلِّ ثوبٍ صلاةً بعددِ النَّجس أو المحرَّم، وزَاد صلاةً» ، أي: إذا اشتبهت ثيابٌ محرَّمةٌ بمباحة، هذه المسألة لها صورتان:

الأولى: أن تكون محرَّمة لحقِّ الله كالحرير.

فمثلاً: عنده عشرة أثواب حرير طبيعي، وثوب حرير صناعي فاشتبها؛ فيُصلِّي إِحدى عشرة صلاة، ليتيقَّن أنه صَلَّى في ثوب حلال.

(1)

انظر: «الإِقناع» (1/ 288).

ص: 66

الثانية: أن تكون محرَّمةً لحقِّ الآدمي، مثل إِنسان عنده ثوب مغصوب وثوب ملك له، واشتبه عليه المغصوب بالمِلْك، فيُصلِّي بعدد المغصوب ويزيد صلاة.

فإن قيل: كيف يُصلِّي بالمغصوب وهو مِلْكُ غيره؟ ألا يكون انتفع بملْك غيره بدون إِذنه؟

فالجواب: أنَّ استعمال مِلْكِ الغير هنا للضَّرورة، وعليه لهذا الغير ضمان ما نقص الثوبُ، وأجرتُه، فلم يُضِعْ حقَّ الغير.

والصَّحيح: أنه يتحرَّى، ويُصلِّي بما يغلب على ظَنِّه أنَّه الثَّوب المباح ولا حرج عليه؛ لأن الله لا يكلِّف نفساً إلا وسعها.

ولو فرضنا أنه لم يمكنه التحرِّي لعدم وجود القرينة، فإِنه يصلِّي فيما شاء؛ لأنه في هذه الحال مضطر إلى الصَّلاة في الثَّوب المحرَّم ولا إعادة عليه.

ثم إِن في صحة الصَّلاة في الثَّوب المحرَّم نزاعاً يأتي التَّحقيق فيه إن شاء الله

(1)

.

(1)

في باب شروط الصلاة.

ص: 67

‌بابُ الآنية

قوله: «باب» الباب: هو ما يُدخَلُ منه إلى الشَّيء، والعُلماء رحمهم الله تعالى يضعون: كتاباً، وباباً، وفصلاً.

فالكتاب: عبارة عن جملة أبواب تدخل تحت جنس واحد، والباب نوع من ذلك الجنس كما نقول:«حَبٌّ» فيشمل الشعيرَ، والذُّرةَ، والرُّزَّ، لكنَّ الشعير شيءٌ، والرُّز

شيءٌ آخر.

فمثلاً: كتاب الطَّهارة يشمل كلَّ جنس يصدق عليه أنه طهارة، أو يتعلَّق بها.

لكن الأبواب أنواع من ذلك الجنس، كباب المياه، وباب الوُضُوء، وباب الغسل ونحو ذلك.

أما الفصول: فهي عبارة عن مسائل تتميَّز عن غيرها ببعض الأشياء، إِما بشروط أو تفصيلات.

وأحياناً يُفَصِّلون الباب لطول مسائله، لا لأن بعضها له حكمٌ خاصٌّ، ولكن لطول المسائل يكتبون فصولاً.

قوله: «الآنية» ، جمع إِناء، وهو الوعاء، وذكرها المؤلِّفُ هنا، وإِن كان لها صلة في باب الأطعمة ـ لأن الأطعمة لا تؤكل إِلا بأوانٍ ـ لأنَّ لها صلة في باب المياه، فإِن

الماء جوهر سيَّال لا يمكن حفظه إلا بإِناء؛ ولذلك ذكروا باب الآنية بعد باب المياه، ومعلوم أنَّ من الأنسب إِذَا كان للشيء مناسبتان أن يُذكرَ في المناسبة الأولى

ويُحَالُ عليه في الثَّانية؛ لأنَّه إِذا أُخِّرَ

ص: 68

إِلى المناسبة الثَّانية فاتت فائدتُه في المناسبة الأولى، لكن إِذا قُدِّم في المناسبة الأولى؛ لم تَفُتْ فائدته في المناسبة الثانية اكتفاءً بما تقدَّم.

والأصل في الآنية الحِلُّ، لأنها داخلة في عموم قوله تعالى:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29] ومنه الآنية؛ لأنها مما خُلِقَ في الأرض، لكن

إِذا كان فيها شيء يوجب تحريمها، كما لو اتُّخذت على صورة حيوان مثلاً فهنا تحرم، لا لأنها آنية، ولكن لأنها صارت على صورة محرَّمةٍ.

والدَّليل من السُّنَّة قوله صلى الله عليه وسلم: «وما سَكَتَ عنه فهو عَفْوٌ»

(1)

.

وقوله أيضاً: «إن الله فَرَض فرائض فلا تضيِّعوها، وحَدَّ حدوداً فلا تعتدوها، وسكت عن أشياء رحمةً بكم غير نسيان، فلا تبحثوا عنها»

(2)

.

فيكون الأصل فيما سَكَتَ اللَّهُ عنه الحِلَّ إِلا في العبادات،

(1)

وابن أبي حاتم الرازي في تفسيره [ابن كثير (مريم الآية: 64)]، والحاكم (2/ 375)، والبيهقي (10/ 12) بأسانيدهم عن عاصم بن رجاء بن حيوة، عن أبيه، عن أبي الدرداء به مرفوعاً.

قال البزار: «إِسناده صالح» . قال الحاكم: «صحيح الإِسناد» ، ووافقه الذهبي.

قال الهيثمي: «إِسناده حسن ورجاله موثَّقُون» . «المجمع» (1/ 171).

وانظر: «الفتح» شرح حديث رقم (7289).

(2)

رواه الطبراني في «الكبير» (22/رقم 589)، والدارقطني (4/ 184)، والحاكم (4/ 115) وعنه البيهقي (10/ 12) كلهم من طريق مكحول، عن أبي ثعلبة الخشني به مرفوعاً، وأعله أبو مسهر الدمشقي وأبو نعيم وابن رجب بعدم سماع مكحول من أبي ثعلبة الخشني.

وانظر: «جامع العلوم والحكم» الحديث الثلاثون.

ص: 69

فالأصل فيها التَّحريم؛ لأن العبادة طريقٌ موصلٌ إلى الله عز وجل، فإذا لم نعلم أن الله وضعه طريقاً إليه حَرُمَ علينا أن نتَّخذه طريقاً، وقد دلَّت الآيات والأحاديث على

أن العبادات موقوفةٌ على الشَّرع.

قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21]، فدلَّ على أن ما يَدينُ العبد به ربَّه لا بُدَّ أن يكون الله أَذِنَ به.

وقال صلى الله عليه وسلم: «إيَّاكم ومحدثات الأمور، فإِن كُلَّ بدعةٍ ضلالة»

(1)

.

ولا فرق في إِباحة الآنية بين أن تكونَ الأواني صغيرةً أو كبيرةً، فالصَّغير والكبير مباح، قال تعالى عن نبيه سليمان صلى الله عليه وسلم: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ

مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} [سبأ: 13].

الجَفْنَة: تشبه الصَّحفة. وقوله: «وقُدورٍ راسيات» لا تُحْمل لأنَّها كبيرة، راسية لكثرة ما يُطبخ فيها، فتبقى على مكانها، ولكن إذا خرج ذلك إلى حدِّ الإِسراف صار

محرَّماً لغيره، وهو الإِسراف

(1)

رواه أحمد (4/ 126)، وأبو داود، كتاب السنَّة: باب في لزوم السنَّة، رقم (4607)، والترمذي، كتاب العلم: باب ما جاء في الأخذ بالسُّنَّة واجتناب البدع رقم (2676)، وابن ماجه، المقدمة: باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين رقم (42)، وغيرهم كثير؛ من حديث العرباض بن سارية.

والحديث صَحَّحه جمعٌ من أهل العلم منهم: ابن تيمية، وابن القيم، وأبو نعيمٍ، وأبو العباس الدغولي وغيرهم. انظر:«الاقتضاء» ص (267)، «إِعلام الموقعين» (4/ 180)، «إِجمال الإِصابة» للعلائي (49).

ص: 70

لقوله تعالى: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31].

‌كُلُّ إِناءٍ طَاهِرٍ، ولو ثَمِيناً ............

قوله: «كلُّ إناءٍ طاهر» ، هذا احتراز من النَّجس، فإِنَّه لا يجوز استعماله؛ لأنَّه قذر، وفيما قال المؤلِّفُ نظر، لأن النَّجس يباح استعمالُه إِذا كان على وجه لا يتعدَّى،

والدَّليل على ذلك حديث جابر رضي الله عنه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال حين فتح مكَّة: «إِن الله حرَّم بيع الخمر، والميتة، والخنزير، والأصنام» ، قالوا: يا

رسول الله؛ أرأيت شُحوم الميتة، فإِنَّها تُطلى بها السُّفن، وتُدهن بها الجلود، ويَستصبح بها النَّاس، فقال:«لا، هو حرام»

(1)

. فأقرَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم

هذا الفعل مع أنَّ هذه الأشياء نجسة، فدلَّ ذلك على أن الانتفاع بالشيء النَّجس إذا كان على وجه لا يتعدَّى لا بأس به، مثاله أن يتَّخذ «زِنْبِيلاً» نجساً يحمل به

التُّراب ونحوه، على وجهٍ لا يتعدَّى.

قوله: «ولو ثميناً» ، «لو»: إِشارة خلاف، والمعنى: ولو كان غالياً مثل: الجواهر، والزُّمرُّد، والماس، وما شابه ذلك فإنه مباح اتَّخاذه واستعماله.

وقال بعضُ العلماء: إِنَّ الثمين لا يُباح اتِّخاذه واستعماله، لما فيه من الخُيلاء، والإِسراف

(2)

، وعلى هذا يكون تحريمُه لغيره لا لذاته، وهو كونُه إسرافاً وداعياً إِلى

الخُيلاء والفخر، لا لأنَّه ثمين.

(1)

رواه البخاري، كتاب البيوع: باب بيع الميتة والأصنام، رقم (2236)، ومسلم، كتاب المساقاة: باب تحريم بيع الخمر والميتة والأصنام، رقم (1581).

(2)

انظر: «الإِنصاف» (1/ 143، 144).

ص: 71

‌يُبَاحُ اتخاذُهُ واستِعْمَالُه، إلا آنيةَ ذَهَبٍ وفضَّةٍ،

...............

قوله: «يُباحُ اتِّخاذه واستعماله» ، «يُباحُ»: خبر المبتدأ وهو قوله: «كلُّ إِناء» ، والتَّركيب هنا فيه شيء من الإِيهام؛ لأن قوله:«يُباح اتِّخاذُه واستعمَالُه» قد يَتَوَهَّم

الواهم أنَّها صفة لا أنها خبر، ويتوقَّعُ الخبرَ، ولهذا لو قال: يُباح كُلُّ إِناءٍ طاهر ولو ثميناً. لكان أَوْلَى، ولكن على كُلِّ حالٍ المعنى واضح.

وقوله: «اتِّخاذُه واستعمَالُه» ، هناك فرق بين الاتِّخاذ والاستعمال، فالاتِّخاذ هو: أن يقتنيَه فقط إِما للزِّينة، أو لاستعماله في حالة الضَّرورة، أو للبيع فيه والشِّراء، وما

أشبه ذلك.

أما الاستعمال: فهو التلبُّس بالانتفاع به، بمعنى أن يستعمله فيما يستعمل فيه.

فاتِّخاذها جائز، وإِن زادت على قَدْرِ الحاجة، فلو كان عند إِنسان إِبريق شاي وأراد أن يشتريَ إِبريقاً آخر جاز له ذلك، بمعنى أنه يجوز اتِّخاذه وإِن لم يستعمله الآن،

لكن اتَّخذه لأنه رُبَّما يحتاجه فيبيعه، أو يستعيره منه أحد، أو يفسد ما عنده، أو يأتي ضيوف لا يكفيهم ما عنده.

قوله: «إلا آنيةَ ذهب وفضَّة» ، من القواعد الأصولية:«أَن الاستثناء معيار العُمُوم» .

يعني: لو أنَّ أحداً استثنى من كلام عام فإِن ما سوى هذه الصُّورة داخل في الحكم، وعلى هذا فكلُّ شيء يُباحُ اتِّخاذه إِلا آنيةَ الذَّهب والفضَّة.

وذكر بعض الفقهاء استثناءً آخر فقال: إلا عظم آدميٍّ

ص: 72

وجلده، فلا يُباح اتِّخاذه واستعماله آنيةً، لأنَّه محترمٌ بحرمته

(1)

، وقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:«كَسْرُ عظمِ الميِّتِ ككسره حيًّا»

(2)

، وإِسناده صحيح.

قوله: «ذهب» معروف؛ وهو المعدِن الأحمر الثَّمين الذي تتعلَّقُ به النُّفوس، وتحبُّه، وتميل إِليه، وقد جعل الله في فطر الخلق الميلَ إلى هذا الذَّهب؛ وكذلك الفضَّة،

وهي في نفوس الخلق دون الذَّهب؛ ولهذا كان تحريمُها أخفَّ من الذَّهب.

وقوله: «إلا آنية ذهبٍ وفضَّةٍ» يشمل الصَّغير، والكبير حتى الملعقة، والسِّكين.

‌ومُضَبَّباً بهما، فإنه يحرُمُ اتخاذُها واستعمالُها، ولو على أنثى ..............

قوله: «ومُضَبَّباً بهما، فإِنه يحرُمُ اتخاذُها واستعمالُها، ولو على أنثى» ، الضبَّةُ: التي أخذ منها التضبيب، وهي شريطٌ يَجْمَعُ بين طرفي المنكسر، فإِذا انكسرت

الصَّحفَةُ من الخشب يخرزونها خرزاً، وهذا في السَّنوات الماضية، فيكون المضبَّبُ بهما حراماً، وسواءٌ كان خالصاً أو مخلوطاً إِلا ما استُثني. والدَّليل: حديث حذيفة

رضي الله عنه: «لا تشربوا في آنية الذَّهب والفضَّة، ولا تأكلوا في صحافها، فإِنَّها لهم في الدُّنيا ولكم في الآخرة»

(3)

.

(1)

انظر: «كشَّاف القناع» (1/ 50).

(2)

رواه أحمد (6/ 58)، وأبو داود، كتاب الجنائز: باب في الحفَّار يجد العظم هل يتنكب ذلك المكان، رقم (3207)، وابن ماجه، كتاب الجنائز: باب النهي عن كسر عظام الميت، رقم (1616) من حديث عائشة.

قال النووي: «رواه أبو داود وابن ماجه والبيهقي بأسانيد صحيحة» .

قال ابن حجر: «رواه أبو داود بإِسناد على شرط مسلم» .

انظر: «الخلاصة» رقم (3694)، «بلوغ المرام» رقم (576).

(3)

رواه البخاري، كتاب الأطعمة: باب الأكل في إِناء مفضَّضٍ، رقم (5426)، ومسلم، كتاب اللباس والزينة: باب تحريم استعمال إِناء الذهب والفضة، رقم (2067).

ص: 73

وحديث أمِّ سلمة رضي الله عنها: «الذي يشربُ في آنية الفضَّة فإنما يجرجرُ في بطنه نارَ جَهنَّمَ»

(1)

، والنهي للتَّحريم، وفي حديث أمِّ سلمة توعَّده بنار جهنَّم،

فيكون من كبائر الذُّنوب.

فإن قيل: الأحاديث في الآنية نفسِها، فكيف حُرِّم المضبَّبُ؟

فالجواب: أنه ورد في حديث رواه الدَّارقطني: «إِنَّه من شَرِب في آنية الذَّهب والفِضَّة، أو في شيء فيه منهما»

(2)

.

وأيضاً: المحرَّم مفسدةٌ، فإِن كان خالصاً فمفسدتُه خالصة، وإِن لم يكن خالصاً ففيه بقدْرِ هذه المفسدة.

(1)

رواه البخاري، كتاب الأشربة: باب آنية الفضة، ومسلم، كتاب اللباس والزينة: باب تحريم استعمال أواني الذهب والفضة، رقم (2065).

(2)

رواه الدارقطني (1/ 40) من حديث ابن عمر، وقال:«إِسناده حسن» .

قلت: وينبغي أن يُحمل قول الدارقطني هذا؛ على أنه أراد به الغرابة أو النكارة؛ لأنَّ الأئمة المتقدمين وأئمة العلل خاصّة، يُطلقون التحسين ويريدون به النكارة، فمثلاً: يقول النسائي بعد روايته لحديثٍ في «سننه» (4/ 142): «إِسناده حسن، وهو منكر» ولم يُرد النسائي نكارة المتن بقوله هذا، بل نكارة السند؛ ذلك أن المتن صحيح وقد أخرجه الشيخان. وللتَّوسع انظر:«الإِرشادات» (148).

وبهذا يتفق قول الدارقطني مع أقوال بقية الحُفَّاظ حيث أطبقوا على ضعفه ونكارته نذكر منهم:

ـ ابن القطان، قال:«لا يصحُّ» ، «بيان الوهم والإِيهام» ، رقم (2152).

ـ النووي، قال:«ضعيف» ، «خلاصة الأحكام» رقم (72).

ـ ابن تيمية، قال:«إِسناده ضعيف» . «مجموع الفتاوى» (21/ 85).

ـ الذهبي، قال:«حديث منكر» ، «الميزان» ، ترجمة يحيى بن محمد الجاري.

ـ ابن حجر، قال:«حديث معلول» ، «الفتح» شرح حديث رقم (5638) وهو كما قالوا.

ص: 74

ولهذا فكلُّ شيء حرَّمه الشَّارع فقليله وكثيره حرام؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «وما نهيتكم عنه فاجتنبوه»

(1)

.

وعندنا هنا ثلاث حالات: اتِّخاذ، واستعمال، وأكل وشرب.

أمَّا الأكل والشُّرب فيهما فهو حرام بالنَّص، وحكى بعضهم الإجماع عليه

(2)

.

وأما الاتِّخاذ فهو على المذهب حرام، وفي المذهب قول آخر

(3)

، وهو محكِيٌ عن الشَّافعي رحمه الله أنه ليس بحرام

(4)

.

وأما الاستعمال فهو محرَّم في المذهب قولاً واحداً.

والصَّحيح: أن الاتِّخاذ والاستعمال في غير الأكل والشُّرب ليس بحرام؛ لأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم نهى عن شيء مخصوص وهو الأكل والشُّرب، ولو كان

المحرَّم غيرَهما لكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم وهو أبلغُ النَّاس، وأبينهم في الكلام ـ لا يخصُّ شيئاً دون شيء، بل إِن تخصيصه الأكل والشرب دليل على أن ما

عداهما جائز؛ لأنَّ النَّاس ينتفعون بهما في غير ذلك.

ولو كانت حراماً مطلقاً لأَمَر النبيُّ صلى الله عليه وسلم بتكسيرها، كما كان

(1)

رواه البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسُّنة: باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، رقم (7288)، ومسلم، كتاب الفضائل: باب توقيره صلى الله عليه وسلم .. ، رقم (1337)، من حديث أبي هريرة.

(2)

انظر: «المجموع شرح المهذب» (1/ 249).

(3)

انظر: «الإِنصاف» (1/ 145).

(4)

انظر: «المجموع شرح المهذب» (1/ 249)، «المغني» (1/ 103).

ص: 75

النبيُّ صلى الله عليه وسلم لا يدعُ شيئاً فيه تصاوير إلا كسره أو هتكه

(1)

، لأنها إِذا كانت محرَّمة في كل الحالات ما كان لبقائها فائدة.

ويدلُّ لذلك أن أمَّ سلمة ـ وهي راوية الحديث ـ كان عندها جُلجُل من فِضَّة جعلت فيه شعَرات من شعر النبي صلى الله عليه وسلم فكان الناس يستشفون بها،

فيُشفون بإِذن الله، وهذا في «صحيح البخاري

(2)

»، وهذا استعمال في غير الأكل والشرب.

فإن قال قائل: خصَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم الأكل والشرب لأنَّه الأغلب استعمالاً؛ وما علِّق به الحكم لكونه أغلب لا يقتضي تخصيصه به كقوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ} [النساء: 23]، فتقييد تحريم الرَّبيبة بكونها في الحجر لا يمنع التَّحريم، بل تَحرُمُ، وإِن لم تكن في حِجره على قول أكثر

أهل العلم

(3)

؟

قلنا: هذا صحيح، لكن كون الرَّسول صلى الله عليه وسلم يُعلِّق الحكم بالأكل والشُّرب؛ لأن مَظْهَرَ الأمة بالتَّرف في الأكل والشُّرب أبلغُ منه في مظهرها في غير

ذلك، وهذه عِلَّة تقتضي تخصيص الحكم

(1)

روى البخاري، كتاب اللباس: باب ما وُطئ من التصاوير، رقم (5954)، ومسلم، كتاب اللباس والزينة: باب تحريم تصوير صورة الحيوان، رقم (2107)، واللفظ له، عن عائشة قالت: «دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مُتَسَتِّرَةٌ بقرام فيه صورة، فتلون وجهه، ثم تناول الستر فَهَتَكَه

»، وروى مسلم، كتاب الجنائز: باب الأمر بتسوية القبر، رقم (969) عن علي بن أبي طالب:«أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه على أنْ لا يدع تمثالاً إِلا طَمَسَه، ولا قبراً مشرفاً إِلا سوّاه» .

(2)

رواه البخاري، كتاب اللباس: باب ما يُذكر في الشَّيب، رقم (5896).

ملاحظة: اختُلِفَ في ضبط لفظة «من فضَّة» فضبطها الأكثرُ بالقاف والصَّاد المهملة «من قُصَّة» . وانظر كلام الحافظ ابن حجر في توجيه كلا الروايتين.

(3)

ص: 76

بالأكل والشُّرب، لأنه لا شكَّ أنَّ الذي أوانيه في الأكل والشُّرب ذهب وفِضَّة، ليس كمثل من يستعملها في حاجات تَخْفَى على كثير من النَّاس.

وقوله: «ومضبَّباً بهما

إلخ» يشمل الرِّجال والنِّساء، فلا يجوز للمرأة أواني الذَّهب والفِضَّة.

فإن قيل: أليس يجوز للمرأة أن تتحلَّى بالذَّهب؟

فالجواب: بلى، ولكن الرَّجل لا يجوز له ذلك.

فإن قيل: فما الفرق بين اتِّخاذ الحُلي واتِّخاذ الآنية واستعمالها فأُبيح الأوَّل دون الثاني؟

فالجواب: أنَّ الفرق أنَّ المرأة بحاجة إلى التجمُّل، وتجمُّلها ليس لها وحدها، بل لها ولزوجها، فهو من مصلحةِ الجميع، والرَّجل ليس بحاجة إِلى ذلك فهو طالب لا

مطلوب، والمرأة مطلوبة، فمن أجل ذلك أُبيح لها التَّحلِّي بالذَّهب دون الرَّجل، وأما الآنية فلا حاجة إِلى إِباحتها للنِّساء فضلاً عن الرِّجال.

‌وتَصِحُّ الطهارةُ منها،

...................

قوله: «وتصحُّ الطَّهارة منها» ، يعني: تصح الطَّهارة من آنية الذَّهب والفضَّة، فلو جعل إِنسان لوضوئه آنيةً من ذهب، فالطَّهارة صحيحةٌ، والاستعمال محرَّمٌ.

وقال بعض العلماء: إِن الطَّهارة لا تصحُّ

(1)

، وهذا ضعيف؛ لأنَّ التَّحريم لا يعود إِلى نفس الوُضُوء، وإِنما يعود إلى استعمال

(1)

انظر: «الإِنصاف» (1/ 149).

ص: 77

إِنائه، والإِناء ليس شرطاً للوُضُوء، ولا تتوقَّف صِحَّة الوُضُوء على استعمال هذا الإِناء.

فالطَّهارة تصحُّ من آنية الذهب والفِضَّة، وبها، وفيها، وإِليها.

منها: بأن يغترف من الآنية.

بها: أي يجعلها آلةً يصبُّ بها، أي: يغرف بآنية من ذهب فيصبُّ على رجليه، أو ذراعه.

فيها: بمعنى أن تكون واسعة ينغمس فيها.

إليها: بأن يكون الماء الذي ينزل منه؛ ينزل في إِناء من ذهب.

فحروف الجرِّ هنا غيَّرت المعنى، وهذا دليل على قُوَّة فقه اللُّغة العربية.

‌إلا ضَبَّةً يسيرةً من فضةٍ لحاجةٍ .................

قوله: «إِلا ضبَّةً يسيرةً من فِضَّة لحاجةٍ» ، هذا مستثنى من قوله:«يَحْرُم اتِّخاذها واستعمالها» .

فشروطُ الجواز أربعةٌ:

1 ـ أن تكون ضبَّةً.

2 ـ أن تكون يسيرةً.

3 ـ أن تكون من فضَّةٍ.

4 ـ أن تكون لحاجةٍ.

والدَّليل على ذلك: ما ثبت في «صحيح البخاري» من حديث أنس رضي الله عنه: «أن قدح النبيِّ صلى الله عليه وسلم انكسر

ص: 78

فاتَّخذ مكان الشَّعْب سلسلة من فِضَّة»

(1)

.

فيكون هذا الحديث مخصِّصاً لما سبق.

فإن قيل: من أين أخذتم اشتراط كونها يسيرة؟

قلنا: إن هذا هو الغالب في القدح، يعني كونه صغيراً، والغالب أنَّه إِذا انكسر، فإِنه لا يحتاج إلى شيء كثير، والأصل التَّحريم، فنقتصر على ما هو الغالب.

فإن قيل: أنتم قلتم ضبَّة، وهي ما يُجْبَرُ بها الإِناء، فلو جعل الإنسان على خرطوم الإِبريق فِضَّة؛ فَلِمَ لا يجوز؟

أُجِيبَ: بأن هذا ليس لحاجة، وليس ضَبَّة، بل زيادة وإِلحاق.

فإن قيل: لماذا اشترطتم كونها من فضَّة: لِمَ لا تقيسون الذَّهب على الفِضَّة؟

نقول: إِن النصَّ لم يرد إِلا في الفِضَّة، ثم إِن الذَّهب أغلى وأشدُّ تحريماً، ولهذا في باب اللِّباس حُرِّم على الرَّجُل خاتمُ الذَّهب، وأُبيح له خاتمُ الفِضَّة، فدلَّ على أن

الفِضَّة أهون، حتى إِن شيخ الإسلام رحمه الله قال في باب اللِّباس: إِن الأصل في الفِضَّة الإِباحة وأنها حلال للرِّجَال، إِلا ما قام الدَّليل على تحريمه

(2)

.

وأيضاً: لو كان الذَّهب جائزاً لجَبَر النبيُّ صلى الله عليه وسلم به الكسر؛

(1)

رواه البخاري، كتاب فرض الخمس: باب ما ذكر من درع النبي صلى الله عليه وسلم، رقم (3109).

(2)

انظر: «مجموع الفتاوى» (25/ 64، 65)، «الاختيارات» ص (76، 77).

ص: 79

لأن الذَّهب أبعد من الصدأ بخلاف الفِضَّة، ولهذا لما اتَّخذ بعض الصَّحابة أنفاً من فِضَّة ـ لما قُطعَ أنفُه في إِحدى المعارك (يوم الكُلاب في الجاهليَّة) ـ أنتن، فأمرهُ

النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يتَّخذ أنفاً من ذهب

(1)

، لأنه لا يُنتن.

ومأخذ اشتراط الحاجة في الحديث: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يتَّخذْها إِلا لحاجة، وهو الكسر.

قوله: «لحاجة» ، قال أهل العلم: الحاجة أن يتعلَّق بها غرضٌ غير الزِّينة

(2)

، بمعنى أن لا يتَّخذها زينة. قال شيخ الإِسلام: وليس المعنى: ألا يجدَ ما يجبر به

الكسرَ سواها؛ لأن

(1)

هو عَرفَجة بن أسعد. والحديث رواه أحمد (5/ 23)، وأبو داود، كتاب الخاتم: باب ما جاء في ربط الأسنان بالذهب، رقم (4232)، والنسائي، كتاب الزينة: باب مَنْ أُصيب أنفُه هل يتخذُ أنفاً من ذهب (8/ 163)، والترمذي كتاب اللباس: باب ما جاء في شدِّ الأسنان بالذهب، رقم (1770)، عن جمع منهم: ابن المبارك؛ وابن مهدي؛ ويزيد بن هارون، عن أبي الأشهب، عن عبد الرحمن بن طرفة، عن جده عرفجة بن أسعد .. الحديث.

ـ وأعلَّه ابن القطان وابن حجر بأنه قد اختُلف في إِسناده، فرواه ابن علية، وإِسماعيل بن عيّاش، عن أبي الأشهب، عن عبد الرحمن بن طرفة، عن أبيه طرفة، عن عَرفجة به. وطرفة بن عرفجة مجهول.

«بيان الوهم والإِيهام» رقم (443)، «تهذيب التهذيب» (5/ 11)، (7/ 176).

قلت: نصَّ المزيُّ وغيره على أن المحفوظ هو الوجه الأول دون الثاني، وعليه تكون رواية ابن عياش وابن عُليَّة شاذة غير محفوظة؛ لأنهما خالفا جمعاً من الحفَّاظ.

انظر: «تهذيب الكمال» (17/ 192)، «علل الترمذي الكبير» (2/ 739).

وعبد الرحمن بن طرفة هذا قد رأى جده عرفجة.

قال الترمذي: هذا حديث حسن.

(2)

انظر: «الإِنصاف» (1/ 154).

ص: 80

هذه ليست حاجة، بل ضرورة

(1)

، والضَّرورة تُبيحُ الذَّهبَ والفضة مفرداً وتبعاً، فلو اضطر إِلى أن يشرب في آنية الذَّهب فله ذلك، لأنَّها ضرورة.

‌وتُكْره مباشرتُها لغير حاجةٍ ..................

قوله: «وتُكره مباشرتها لغير حاجة» ، أي: تُكره مباشرة الضَّبَّة اليسيرة، ومعنى مباشرتها: أنَّه إِذا أراد أن يشرب من هذا الإِناء المضبَّب شرب من عند الفِضَّة،

فيباشرها بشفتيه وهي حلال. والمكروه عند الفقهاء: ما نُهي عنه لا على سبيل الإِلزام بالتَّرك. وحكمه: أنه يُثابُ تاركُه امتثالاً، ولا يُعاقبُ فاعلُه، بخلاف الحرام،

فإن فاعله يستحقُّ العقوبة، وهذا في اصطلاح الفقهاء.

أما في القرآن والسُّنَّة، فإن المكروه يأتي للمحرَّم، ولهذا لما عدَّد الله تعالى أشياء محرَّمة في سورة الإسراء قال:{كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا *} [الإسراء].

وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله كَرِهَ لكم قيل وقال، وكَثْرَةَ السُّؤال، وإِضاعة المال»

(2)

.

والكراهة: حُكم شرعيٌّ لا تثبت إِلا بدليل، فمن أثبتها بغير دليل، فإِننا نردُّ قوله، كما لو أثبت التَّحريم بلا دليل، فإِننا نردُّ قوله.

وبناءً على هذه القاعدة ننظر إلى كلام المؤلِّف، قال: «تُكره

(1)

انظر: «مجموع الفتاوى» (21/ 81).

(2)

رواه البخاري، كتاب في الاستقراض: باب ما يُنهى عن إِضاعة المال، رقم (2408)، ومسلم كتاب الأقضية: باب النهي عن كثرة المسائل من غير حاجة، رقم (1715) عن أبي هريرة.

ص: 81

مباشرتها لغير حاجة»، فإن احتاج إِليها بأن كان الإِناء يتدفَّق لو لم يشرب من هذه الجهة، أو جعل الإِناء على النَّار، وصارت الجهة التي ليست فيها الضَّبَّة حارَّة لا

يستطيع أن يشرب منها، وشرب من الجهة الباردة التي فيها الضَّبَّة، فهذه حاجة فله أنْ يشربَ، ولا كراهة.

فإِن لم يحتج فكلام المؤلِّفِ صريح في أنه تُكره مباشرتها.

والصَّواب: أنه ليس بمكروه، وله مباشرتها؛ لأن الكراهة حكم شرعيٌّ يُحتاج في إِثباته إِلى دليل شرعي، وما دام ثبت بمقتضى حديث أنس المتقدّم أنها مباحة، فما

الذي يجعل مباشرتها مكروهة؟ وهل ورد أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يتوقَّى هذه الجهة من قدحه؟

الجواب: لا، فالصَّحيح أنَّه لا كراهة؛ لأن هذا شيء مباح؛ ومباشرة المباح مباحة.

‌وتُبَاحُ آنيةُ الكُفَّارِ ـ ولو لم تحلَّ ذَبَائِحُهُم ـ وثيابهم إن جهل حالها.

قوله: «وتُباح آنية الكفار» ، قوله:«آنية» بالرَّفع على أنها نائب فاعل.

قوله: «ولو لم تحلَّ ذبائحهم» ، بالرَّفع على أنها فاعل «تحلَّ» .

قوله: «وثيابهم إِن جُهل حالها» ، بالرَّفع على أنها معطوفة على «آنية» وكلام المؤلِّف رحمه الله يوهم أنها معطوفة على «ذبائحهم» .

ولو قال: وتُباحُ آنيةُ الكفَّار وثيابُهم إِن جُهِلَ حالها، ولو لم تحلَّ ذبائحهم. لسَلِمَ من هذا الإيهام.

ص: 82

وقوله: «الكفَّار» يشمل الكافر الأصلي والمرتد.

وقوله: «ولو لم تحِلَّ ذبائحُهُم» إِشارة خلاف

(1)

. والكفَّار الذين تَحِلُّ ذبائحُهم هم اليهود والنَّصارى فقط. لقوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ

وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [المائدة: 5]. والمراد بطعامهم ذبائحهم كما فسَّر ذلك ابن عباس رضي الله عنهما

(2)

، وليس المراد خبزهم وشعيرهم وما أشبه ذلك؛ لأن

ذلك حلال لنا منهم ومن غيرهم، ولا تحلُّ ذبائح المجوس، والدَّهريِّين، والوثنيِّين وغيرهم من الكفار، أما آنيتهم فتحلُّ. فإن قال قائل: ما هو الدَّليل؟

قلنا: عموم قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29]، ثم إن أهل الكتاب إذا أباح الله لنا طعامهم، فمن المعلوم أنهم يأتون به إلينا

أحياناً مطبوخاً بأوانيهم، ثم إِنَّه ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم دعاه غلام يهوديٌّ على خبز شعير، وإِهالة سَنِخَة

(3)

فأكل منها. وكذلك أكل من الشَّاة

المسمومة التي أُهديت له صلى الله عليه وسلم في خيبر

(4)

. وثبت أنَّه صلى الله عليه وسلم توضَّأ وأصحابه من مزادة امرأة

(1)

انظر: «الإِنصاف» (1/ 156).

(2)

رواه البخاري، كتاب الذبائح والصيد: باب ذبائح أهل الكتاب، رقم (5508).

(3)

رواه أحمد (3/ 210، 270)، إِلا أن الحافظ ابن حجر قد نقل هذا الحديث في «أطراف المسند» (1/ 472) بلفظ:«أن خيَّاطاً» بدل «يهودياً» ، وهو الموافق لبقية روايات المسند (3/ 252، 289 ـ 290)، وهو الموافق أيضاً لرواية البخاري رقم (5379) غير أنه لم يذكر خبز الشعير والإِهالة السَّنخة.

ملاحظة: الإِهالة: الدسم، والسّنخة: المتغيرة. «غريب الحديث» (1/ 503).

(4)

رواه البخاري، كتاب الطب: باب ما يذكر في سُمِّ النبي صلى الله عليه وسلم، رقم (5777) عن أبي هريرة.

ص: 83

مشركة

(1)

، كلُّ هذا يدلُّ على أن ما باشر الكُفَّار، فهو طاهر.

وأما حديث أبي ثعلبة الخشني أن الرَّسول صلى الله عليه وسلم قال: «لا تأكلوا فيها، إلا ألا تجدوا غيرها، فاغسلوها وكلوا فيها»

(2)

.

فهذا يدلُّ على أن الأَوْلَى التنزُّه، ولكن كثيراً من أهل العلم حملوا هذا الحديث على أناس عُرفوا بمباشرة النَّجاسات من أكل الخنزير، ونحوه، فقالوا: إن النبيَّ صلّى

الله عليه وسلّم منع من الأكل في آنيتهم إِلا إذا لم نجد غيرها، فإِننا نغسلها، ونأكل فيها

(3)

. وهذا الحمل جيد، وهو مقتضى قواعد الشَّرع.

وقوله: «وثيابهم» ، أي تُباحُ ثيابُهم، وهذا يشمل ما صنعوه وما لبسوه، فثيابهم التي صنعوها مباحة، ولا نقول: لعلهم نسجوها بمنْسَج نجس؛ أو صَبغُوها بصبغ

نجس؛ لأنَّ الأصل الحِلُّ والطَّهارة، وكذلك ما لبسوه من الثياب فإنَّه يُباح لنا لُبسه، ولكن من عُرِفَ منه عدم التَّوقِّي من النجاسات كالنَّصارى فالأَوْلَى التنزُّه عن ثيابهم

بناءً على ما يقتضيه حديث أبي ثعلبة الخُشني رضي الله عنه.

وقوله: «إن جُهل حالها» هذا له مفهومان:

الأول: أن تُعلَمَ طهارتُها.

(1)

رواه بمعناه البخاري، كتاب التيمُّم: باب الصعيد الطيب وضوء المسلم، يكفيه من الماء، رقم (344)، ومسلم، كتاب المساجد: باب قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها رقم (682) عن عمران بن حُصين.

(2)

رواه البخاري، كتاب الذبائح والصيد: باب ما جاء في التَّصيد، رقم (5488)، ومسلم، كتاب الذبائح والصيد: باب الصيد بالكلاب المعلمة، رقم (1930).

(3)

انظر: «فتح الباري» (9/ 606) شرح حديث رقم (5478).

ص: 84

الثاني: أن تُعلَمَ نجاستُها، فإن عُلِمَتْ نجاستُها فإِنها لا تُستعمل حتى تُغسل. وإِن عُلمتْ طهارتُها فلا إِشكال، ولكن الإِشكال فيما إِذا جُهل الحال، فهل نقول: إِن

الأصل أنهم لا يَتَوَقَّوْنَ النَّجاسات وإِنَّها حرام، أو نقول: إِن الأصل الطَّهارة حتى يتبيّن نجاستها؟ الجواب هو الأخير.

‌ولا يَطْهرُ جلْدُ ميتةٍ بِدِباغٍ ................

قوله: «ولا يَطْهر جلدُ ميتة بدِبَاغ» ، الدَّبغ: تنظيف الأذى والقَذَر الذي كان في الجلد بواسطة مواد تُضاف إلى الماء.

فإِذا دُبِغَ جلدُ الميتة فإِنَّ المؤلِّف يقول: إِنه لا يطهرُ بالدِّباغ.

فإن قيل: هل ينجُس جلد الميتة؟

فالجواب: إن كانت الميتة طاهرة فإِن جلدها طاهر، وإِن كانت نجسةً فجلدها نجس.

ومن أمثلة الميتة الطَّاهرة: السَّمك لقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} [المائدة: 96].

قال ابن عباس رضي الله عنهما: «صيده ما أُخِذَ حيًّا، وطعامه ما أُخِذَ ميتاً»

(1)

.

فجلدها طاهر.

أما ما ينجُس بالموت فإِن جلده ينجُس بالموت لقوله تعالى: {إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ

(1)

رواه ابن جرير الطبري رقم (12696، 12697، 12701، 12692، 12673، 12675)، وابن أبي حاتم في «تفسيره» رقم (6833، 6829).

ص: 85

رِجْسٌ} [الأنعام: 145] أي نَجِسٌ، فهو داخل في عموم الميتة.

فإن قيل: إن الميتة حرام، ولا يلزم من التَّحريم النَّجاسة؟

فالجواب: أنَّ القاعدة صحيحة، ولهذا فالسُّمُ حرام، وليس بنجس، والخمر حرام وليس بنجس على القول الرَّاجح، ولكن الله لما قال: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ

مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ} [الأنعام: 145]، علَّل ذلك بقوله:«رِجْسٌ» والرِّجس النَّجس، وهذا واضح

في أن الميتة نجسة. فإِذاً الميتة نجسة؛ وجلدها نجس؛ ولكن إِذا دبغناه هل يطهُر؟.

اختلَفَ في ذلك أهلُ العلم

(1)

، فالمذهب أنه لا يطهُر، قالوا: لأن الميتة نجسة العين، ونجس العين لا يمكن أن يطهُر، فروثة الحمار لو غُسِلت بمياه البحار ما

طَهُرت، بخلاف النَّجاسة الحُكمية، كنجاسة طرأت على ثوب ثم غسلناه، فإنه يطهُر.

وهذا القياس مع أنَّه واضح جداً إِلا أنه في مقابلة النصِّ، وهو حديث ميمونة رضي الله عنها أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم: «مَرَّ بشاةٍ يجرُّونها، فقال: هلاَّ أخذتم

إِهابها؟ قالوا: إنها ميتة، قال: يُطهِّرها الماءُ والقَرَظُ»

(2)

، وهذا صريح في أنَّه يَطْهُر بالدَّبغ.

(1)

انظر: «الإِنصاف» (1/ 161، 162).

(2)

رواه أحمد (6/ 334)، وأبو داود، كتاب اللباس: باب في أُهب الميتة، رقم (4126)، والنسائي، كتاب الفرع والعتيرة: باب ما يُدبغُ به جلودُ الميتة (7/ 174).

قال النووي: «رواه أبو داود والنسائي بإِسنادين حَسنين، وروى البيهقي معناه من رواية ابن عباس» . الخلاصة رقم (53).

قال ابن الملقن: «رواه أبو داود والنسائي وابن حبان من رواية ميمونة بأسانيد حسنة» «خلاصة البدر المنير» رقم (45).

قال ابن حجر: «صحَّحه ابن السكن والحاكم» ، التلخيص الحبير رقم (43).

ملاحظة: القَرَظُ: ورق السَّلم، أو ثمر السَّنْط، يدبغ به.

ص: 86

ولكن قالوا: هذا الحديث منسوخ بما يُروى عن عبد الله بن عُكَيْم قال: «إن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كتب إِلينا لا تنتفعوا من الميتة، بإِهابٍ ولا عَصَب»

(1)

.

زاد أحمد وأبو داود: «قبل وفاته بشهر» .

والجواب على ذلك:

أولاً: أنَّ الحديث ضعيف، فلا يقابل ما في «صحيح مسلم»

(2)

.

(1)

رواه أحمد (4/ 310)، وأبو داود، كتاب اللباس: باب من روى أن لا يُنْتَفعَ بإِهاب الميتة، رقم (4128)، والنسائي، كتاب الفرع والعتيرة: باب ما يُدبغ به جلود الميتة (7/ 175)، والترمذي، كتاب اللباس: باب ما جاء في جلود الميتة، رقم (1729)، وابن ماجه، كتاب اللباس: باب من قال لا ينتفع من الميتة بإِهاب ولا عصب، رقم (3613)، وابن حبان رقم (1279).

قال الترمذي: «حديث حسن» ، وقال: «كان أحمد بن حنبل يذهب إِلى هذا الحديث

ثم ترك أحمد بن حنبل هذا الحديث لما اضطربوا في إِسناده».

قال البيهقي وآخرون: «هو مرسل، ولا صحبة لابن عُكَيم» .

قال الخطابي: «عَلَّله عامَّةُ العلماء؛ لعدم صحبة ابن عُكيم، وعَلَّلوه أيضاً بأنه مضطرب، وعن مشيخة مجهولين، ولأن الإِهاب الجلد قبل الدباغ عند جمهور أهل اللغة» .

وذهب ابن حبان إِلى أن إِسناده صحيح متَّصل، وأنه لا تعارض بينه وبين حديث ميمونة. انظر كلامه في «صحيحه» رقم (1279) فإِنه هام. وانظر:«الخلاصة» للنووي رقم (45). و «التلخيص الحبير» رقم (41).

(2)

رواه مسلم، كتاب الحيض: باب طهارة جلود الميتة بالدباغ، رقم (363) من حديث ابن عباس ولفظه:«تُصُدِّقَ على مولاة لميمونة بشاة، فماتت فمرَّ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «هلاّ أخذتم إِهابها فدبغتموه، فانتفعتم به؟ فقالوا: إِنها ميتة. فقال: إِنما حُرِّم أكلُها» .

ص: 87

ثانياً: أنَّه ليس بناسخ؛ لأننا لا ندري هل قضيَّة الشَّاة في حديث ميمونة قبل أن يموتَ بشهر، أو قبل أن يموت بأيَّام؟ ومن شرط القول بالنسخ العلم بالتَّاريخ.

ثالثاً: أنَّه لو ثبت أنه متأخِّر، فإِنه لا يُعارض حديث ميمونة؛ لأن قوله:«لا تنتفعوا من الميتة بإِهاب ولا عصب» يُحمَلُ على الإِهاب قبل الدَّبغ، وحينئذٍ يُجمع بينه وبين

حديث ميمونة.

فإن قال قائل: كيف تقولون لو دُبِغَ اللحمُ ما طَهُرَ؛ ولو دُبِغَ الجلدُ طَهُرَ؟ وكلها أجزاء ميتة، ونحن نعرف أن الشريعة الحكيمة لا يمكن أن تفرِّق بين متماثلين؟

أجيب من وجهين:

الأول: أنَّه متى ثبت الفرق في الكتاب والسُّنَّة بين شيئين متشابهين، فاعلم أن هناك فرقاً في المعنى، ولكنَّك لم تتوصَّل إِليه؛ لأن إحاطتك بحكمة الله غير ممكنة،

فموقفك حينئذ التَّسليم.

الثاني: أن يُقالَ: إِنه يمكن التَّفريق بين اللحم والجلد، فإِن حلول الحياة فيما كان داخل الجلد أشدُّ من حلولها في الجلد نفسه، لأن الجلد فيه نوع من الصلابة

بخلاف اللحوم، والشُّحوم، والأمعاء، وما كان داخله فإِنه ليس مثله، فلا يكون فيه من الخَبَثِ ـ الذي من أجله صارت الميتة حراماً ونجسة ـ مثل ما في اللحم ونحوه.

ولهذا نقول: إنه يُعطَى حكماً بين حكمين:

الحكم الأول: أَنَّ ما كان داخل الجلد لا يَطْهُر بالدِّباغ.

ص: 88

الحكم الثاني: أن ما كان خارج الجلد من الوبر والشَّعر فإِنه طاهر، والجلد بينهما، ولهذا أُعطي حكماً بينهما.

وبهذا نعرفُ سُمُوَّ الشريعة، وأنها لا يمكن أن تُفرِّق بين متماثلين، ولا أن تَجمَع بين مختلفين، وأن طهارة الجلد بعد الدَّبغ من الحكمة العظيمة، ونجاسته بالموت من

الحكمة العظيمة؛ لأنه ليس كالشَّعر والوبر والرِّيش، وليس كالشحم واللحم والأمعاء.

‌ويُبَاحُ استعمالُه بَعْدَ الدَّبْغِ في يَابِسٍ ..............

قوله: «ويُباحُ استعمالُه بعد الدَّبغ في يَابِسٍ» ، يعني: يباح استعمال جلد الميتة بعد الدَّبغ في يابس.

فأفادنا المؤلِّفُ أن استعماله قبل الدَّبغ لا يجوز في يابس، ولا غيره؛ لأنه نجس.

وظاهر كلامه أن الاستعمال لا يجوز ولو بعد أن نَشفَ الجلد وصار يابساً، وهذا فيه نظر؛ لأنَّنا نقول: إِذا كان يابساً، واستُعمل في يابس فإن النَّجاسة هنا لا تتعدَّى

كما لو قدَّدناه، وجعلناه حبالاً لا يباشر بها الأشياء الرَّطبة، فإن هذا لا مانع منه.

قوله: «في يَابِس» ، خرج به الرَّطب فلا يجوز استعماله فيه، مثل أن نجعل فيه ماءً أو لبناً، ولا أيَّ شيء رطب، ولو بعد الدَّبغ؛ لأنَّه إِذا كان نجساً، ولاقاه شيء رطب

تنجَّس به، أما إذا كان في يابس، والجلد يابس فإِنه لا يتنجَّس به؛ لأن النَّجاسة لا يتعدَّى حكمها إِلا إِذا تعدَّى أثرها، فإِن لم يتعدَّ أثرها فإِن حكمها لا يتعدَّى، وإذا

قلنا بالقول الرَّاجح: وهو طهارته بالدِّباغ فإنه يُباح استعماله في الرَّطب واليابس.

ص: 89

ويدلُّ لذلك أنَّ الرَّسول صلى الله عليه وسلم توضَّأ وأصحابه من مزادة امرأة مشركة

(1)

، وذبائح المشركين نجسة، وهذا يدلُّ على إِباحة استعماله في الرَّطب،

وأنه يكون طاهراً.

‌من حيوانٍ طاهرٍ في الحياة.

قوله: «من حيوانٍ طاهرٍ في الحياة» ، أفادنا المؤلِّفُ، أن الجلد الذي يُباحُ استعماله بعد الدَّبغ في اليابس هو ما كان من حيوان طاهر في الحياة.

والطاهر في الحياة ما يلي:

أولاً: كُلُّ مأكول كالإبل، والبقر، والغنم، والضَّبُعِ، ونحو ذلك.

ثانياً: كلُّ حيوان من الهِرِّ فأقلُّ خِلْقة ـ وهذا على المذهب ـ كالهِرَّة لقوله صلى الله عليه وسلم: «إنها ليست بنَجَسٍ، إِنَّها من الطوَّافين عليكم»

(2)

.

ثالثاً: كُلُّ شيء ليس له نَفْسٌ سائلة، يعني إِذا ذُبِحَ، أو قُتل، ليس له دم يسيل.

(1)

تقدم تخريجه في ص (84).

(2)

رواه أحمد (5/ 296، 303)، وأبو داود، كتاب الطهارة: باب سؤر الهرة، رقم (75)، والنسائي، كتاب الطهارة: باب سؤر الهرة، (1/ 54، 55)، والترمذي، أبواب الطهارة: باب ما جاء في سؤر الهرة، رقم (92)، من حديث أبي قتادة.

وقد صحَّح هذا الحديث جمعٌ من الأئمة منهم: الترمذي، وابن خزيمة، والعقيلي، وابن حبان، والحاكم، وابن تيمية، وغيرهم. قال البخاري:«جوَّد مالك بن أنس هذا الحديث، وروايته أصحّ من رواية غيره» . قال الدارقطني: «رواته ثقات معروفون» .

انظر: «المحرر» لابن عبد الهادي رقم (14)، «التلخيص الحبير» رقم (36).

ص: 90

رابعاً: الآدمي، ولكنه هنا غير وارد؛ لأن استعمال جلده محرَّم، لا لنجاسته، ولكن لحرمته.

فلو دَبغ إِنسان جلد فأرة، أو هِرَّة فإِنه لا يَطْهُرُ على المذهب، لكن يُباح استعماله في يابس.

وقيل: يَطْهُرُ، ويُباح استعمالُه في اليابسات والمائعات

(1)

، وعلى هذا يصحُّ أن نجعلَ جلدَ الهِرَّة سِقاء صغيراً، إِذا دبغناه لأنه طَهُرَ.

وقيل: إن جلد الميتة لا يطهر بالدِّباغ؛ إِلا أن تكون الميتةُ مما تُحِلُّه الذَّكاة

(2)

، كالإبل والبقر والغنم ونحوها، وأما ما لا تحلُّه الذَّكاة فإنه لا يطهر، وهذا القول هو

الرَّاجح؛ وهو اختيار شيخنا عبد الرحمن السَّعدي رحمه الله

(3)

، وعلى هذا فجلد الهِرَّة وما دونها في الخلقة لا يطهر بالدَّبغ.

فمناط الحُكم على المذهب هو طهارة الحيوان في حال الحياة، فما كان طاهراً فإنه يُباحُ استعمالُ جلد ميتته بعد الدَّبغ في يابس، ولا يطْهُر. وعلى القول الثاني:

يطْهُر مطلقاً، وعلى القول الثالث: يطْهُر إذا كانت الميتة مما تُحِلُّه الذَّكاة.

والرَّاجح: القول الثالث بدليل أنه جاء في بعض ألفاظ الحديث: «دباغُها ذكاتها»

(4)

. فعبَّر بالذكاة، ومعلوم أن الذَّكاة لا

(1)

انظر: «الإِنصاف» (1/ 164).

(2)

انظر: «الإِنصاف» (1/ 163).

(3)

انظر: «المختارات الجلية» ص (11).

(4)

رواه أحمد (3/ 476)، والنسائي، كتاب الفرع والعتيرة: باب جلود الميتة، (7/ 173، 174)، من حديث سلمة بن المُحبَّق.

قال ابن حجر: «إِسناده صحيح» . «التلخيص الحبير» رقم (44).

وله شاهد من حديث عائشة بلفظ: «دباغ الميت ذكاته» رواه النسائي، كتاب الفرع والعتيرة: باب جلود الميتة (7/ 174).

قال ابن حجر: «هذا حديث حسن» . «موافقة الخُبر الخبر» (2/ 129).

ص: 91

تُطَهِّر إِلا ما يُباح أكله، فلو أنك ذبحت حماراً، وذكرت اسم الله عليه، وأنهر الدَّم، فإِنه لا يُسمَّى ذكاة، وعلى هذا نقول: جلد ما يحرم أكله، ولو كان طاهراً في الحياة،

لا يطهر بالدِّباغ، ووجهه: أنَّ الحيوان الطَّاهر في الحياة إِنما جُعِلَ طاهراً لمشقَّة التحرز منه لقوله صلى الله عليه وسلم: «إنها من الطَّوافين عليكم» ، وهذه العِلَّة

تنتفي بالموت، وعلى هذا يعود إلى أصله وهو النَّجاسة، فلا يَطْهُر بالدِّباغ.

فيكون القول الرَّاجح: أن كلَّ حيوان مات وهو مما يُؤكل؛ فإن جلده يَطْهُر بالدِّباغ، وهذا أحد قولي شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وله قول آخر يوافق قول من قال:

إن ما كان طاهراً في الحياة فإِنّ جلده يطهر بالدَّبغ

(1)

.

‌ولبنُهَا ...............

قوله: «ولبنُها» ، لبن الميتة نجس، وإن لم يتغيَّر بها؛ لأنه مائع لاقى نجساً فتنجَّس به، كما لو سقطت فيه نجاسة ـ وإلا فهو في الحقيقة منفصل عن الميتة قبل

أن تموت ـ لكنهم قالوا: إنها لمَّا ماتت صارت نجسةً، فيكون قد لاقى نجاسةً فتنجَّس بذلك.

واختار شيخ الإِسلام أنَّه طاهر

(2)

بناءً على ما اختاره من أن

(1)

انظر: «مجموع الفتاوى» (21/ 95)، «الاختيارات» ص (26)، «الإِنصاف» (1/ 162، 163).

(2)

انظر: «مجموع الفتاوى» (21/ 103)، «الإِنصاف» (1/ 175).

ص: 92

الشيء لا ينجس إلا بالتغيُّر

(1)

، فقال: إِن لم يكن متغيِّراً بدم الميتة، وما أشبه ذلك فهو طاهر.

والذي يظهر لي رجحانه في هذه المسألة هو المذهب؛ لأنَّه وإن انفصل واجتمع في الضَّرع قبل أن تموت فإنه يسير بالنسبة إلى ما لاقاه من النَّجاسة، لأنها

محيطة به من كل جانب، وهو يسير، ثم إن الذي يظهر سريان عُفونة الموت إلى هذا اللَّبن؛ لأنه ليس كالماء في قُوَّة دفع النَّجاسة عنه.

والمذهب، وإن كان فيه نَظَر من حيث قاعدة: أن ما لا يتغيَّر بالنَّجاسة فليس بنجس، وهذه قاعدة عظيمة محكمة، لكن الأخذ به هنا من باب الاحتياط، وأيضاً بعموم

قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3]، واللَّبن في الضَّرع قد يكون داخلاً في هذا العموم.

‌وكُلُّ أجزائِها نجسَةٌ غَيْرُ شَعْرٍ، وَنَحْوِه،

.................

قوله: «وكل أجزائها نجسةٌ» ، كاليد، والرِّجل، والرَّأس ونحوها لعموم قوله تعالى:{إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145]،

والميتةُ تُطلَقُ على كلِّ الحيوان ظاهره وباطنه.

قوله: «غيرُ شَعْر ونحوه» ، كالصُّوف للغنم، والوبر للإِبل، والرِّيش للطيور، والشَّعر للمَعْز والبقر، وما أشبهها.

ويُستثنى من ذلك ما يلي:

1 ـ عظم الميتة، على ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية

(1)

انظر: «مجموع الفتاوى» (21/ 32)، «الاختيارات» ص (4).

ص: 93

رحمه الله

(1)

وهو أحد القولين في المذهب

(2)

، ويُستَدَلُّ لذلك: بأنَّ العظم وإن كان يتألَّم ويحسُّ لكنه ليس فيه الحياة الكاملة، ولا يحُلُّه الدَّم، وليس له

حياة إلا بغيره، فهو يشبه الظُّفر والشَّعر وما أشبه ذلك، وليس كبقية الجسم. ويُقال أيضاً: إِنَّ مدار الطَّهارة والنَّجاسة على الدَّم؛ ولهذا كان ما ليس له نَفْسٌ سائلة

طاهراً.

ولكن الذي يظهر أن المذهب في هذه المسألة هو الصَّواب؛ لأن الفرق بين العظم وبين ما ليس له نَفْسٌ سائلة أن الثاني حيوان مستقل، وأما العظم فكان نجساً

تبعاً لغيره؛ ولأنَّه يتألّم فليس كالظُّفر أو الشَّعر، ثم إِن كونه ليس فيه دم محلُّ نظر؛ فإِن الظّاهر أن فيه دماً كما قد يُرى في بعض العظام.

2 ـ السَّمك وغيره من حيوان البحر بدون استثناء، فإن ميتته طاهرة حلال لقوله تعالى:{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} [المائدة: 96]، وتقدَّم تفسير ابن عباس

للصَّيد والطَّعام

(3)

.

ويلزم من الحِلّ الطَّهارة، ولا عكس، فيتلخَّص عندنا ثلاث قواعد:

أـ كُلُّ حلال طاهر.

ب ـ كُلُّ نجس حرام.

جـ ليس كُلُّ حرام نجساً.

(1)

انظر: «مجموع الفتاوى» (21/ 97)، «الاختيارات» ص (26).

(2)

انظر: «الإِنصاف» (1/ 177).

(3)

تقدم تخريجه ص (83).

ص: 94

3 ـ ميتة الآدمي لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ المؤمن لا ينجس»

(1)

، ولأن الرَّجُل إذا مات يُغسَّل، ولو كان نجساً ما أفاد به التغسيل.

4 ـ ميتة ما ليس له دم، والمراد الدَّم الذي يسيل إِذا قُتل، أو جُرح، كالذُّباب، والجراد، والعقرب. والدَّليل على ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول

الله صلى الله عليه وسلم: «إذا وقع الذُّباب في شراب أحدِكم فلْيغمسه ثم لينزعْه»

(2)

.

فقوله: «فلْيغمسْه» يشمل غمسَه في الماء الحار، وإِذا غُمس في الماء الحار فإِنه يموت، فلو كان ينجس لأمر الرَّسول صلى الله عليه وسلم بإِراقته.

ونضيف للقواعد السابقة قاعدة رابعة وهي: أنه لا يلزم من الطَّهارة الحِلُّ.

وقوله: «غيرُ شَعْرٍ ونحوه» ، اشترطوا رحمهم الله في الشَّعر ونحوه أن يُجَزَّ جزًّا لا أن يُقلَعَ قلعاً

(3)

، لأنه إذا قُلِعَ فإِن أصوله محتقن فيها شيء من الميتة، وهذا

يظهر جدًّا في الرِّيش، أما الشَّعر، فليس بظاهر؛ لكنه في الحقيقة منغرس في الجلد، وفيه شيء مباشر للنَّجاسة.

وبهذا علمنا أن الميتة تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

(1)

تقدم تخريجه ص (25).

(2)

رواه البخاري، كتاب بدء الخلق: باب إِذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه، رقم (3320).

(3)

انظر: «حاشية العنقري على الروض المربع» (1/ 32).

ص: 95

1 ـ الشَّعر ونحوه طاهر.

2 ـ اللحم، وما كان داخل الجلد نجس، ولا ينفع فيه الدَّبغ.

3 ـ الجلد وهو طبقة بينهما، وحكمه بين القسمين السَّابقين.

تتمة: ذكر الفقهاء رحمهم الله، أنَّ جعلَ المُصْران والكِرْش وتَراً ـ أي حبالاً ـ دِبَاغٌ، أي بمنزلة الدِّباغ

(1)

، وبناءً عليه لا يكون طاهراً، ويجوز استعماله في اليابسات

على المذهب.

لكن صاحب «الفروع» رحمه الله وهو من أشهر تلاميذ شيخ الإسلام رحمه الله ولا سيَّما في الفقه ـ يقول: «يتوجَّه لا»

(2)

، والمعنى: أنه يرى أن الأوجه بناءً

على المذهب، أو على القول الرَّاجح عنده أنَّه ليس دباغاً، وما قاله متوجِّه؛ لأن المُصْرَان والكِرْش من صُلب الميتة، والصَّواب ما ذهب إليه صاحب «الفروع» .

وبهذه المناسبة: إذا قيل: «يتوجَّه كذا» ، فهو من عبارات صاحب «الفروع» ، وإذا قيل:«يتَّجه كذا» فهو من عبارات مرعي صاحب «الغاية» ، وهو من المتأخرين جمع

في «الغاية» بين «المنتهى» و «الإقناع» .

لكن بين توجيهات صاحب «الفروع» واتجاهات صاحب «الغاية» من حيث القوَّة والتَّعليل والدَّليل فرق عظيم.

فتوجيهات صاحب «الفروع» غالباً تكون مبنيَّة على القواعد والأصول، أما اتجاهات صاحب «الغاية» فهي دون مستوى تلك.

(1)

انظر: «الإِنصاف» (1/ 174).

(2)

انظر: «الفروع» (1/ 105).

ص: 96

‌وما أُبِيْنَ من حيٍّ فهو كميْتتِهِ.

قوله: «وما أُبين من حيٍّ فهو كميتته» ، هذه قاعدة فقهية.

وأُبين: أي فُصل من حيوان حيٍّ.

وقوله: «كميتته» ، يعني: طهارة، ونجاسة، حِلًّا، وحُرمة، فما أُبينَ من الآدمي فهو طاهر، حرام لحرمته لا لنجاسته، وما أُبين من السَّمك فهو طاهر حلال، وما أبين

من البقر فهو نجس حرام، لأنَّ ميتتها نجسة حرام، ولكن استثنى فقهاؤنا رحمهم الله تعالى مسألتين

(1)

:

الأولى: الطَّريدة: فعيلة بمعنى مفعولة، وهي الصيد يطرده الجماعة فلا يدركونه فيذبحوه، لكنهم يضربونه بأسيافهم أو خناجرهم، فهذا يقطع رِجْلَه، وهذا يقطع يده،

وهذا يقطع رأسه حتى يموت، وليس فيها دليل عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم إلا أن ذلك أُثِرَ عن الصَّحابة رضي الله عنهم

(2)

.

قال الإمام أحمد رحمه الله: كانوا يفعلون ذلك في مغازيهم، ولا يرون به بأساً، والحكمة في هذا ـ والله أعلم ـ: أن هذه الطَّريدة لا يُقدَرُ على ذبحها، وإِذا لم يُقدَرْ على

ذبحها، فإنها تَحِلُّ بعقرها في أي موضع من بدنها، فكما أنَّ الصَّيد إِذا أصيب في أي مكان من بدنه ومات فهو حلال؛ فكذلك الطَّريدة؛ لأنها صيد إلا أنها قطعت قبل أن

تموت.

(1)

انظر: «شرح منتهى الإِرادات» (1/ 28).

(2)

روى الإِمام أحمد عن هشيم، عن منصور، عن الحسن أنه كان لا يرى بالطريدة بأساً، كان المسلمون يفعلون ذلك في مغازيهم. «المغني» (13/ 281) ونحوه عند ابن أبي شيبة في «المصنف» كتاب الصيد: باب في الرجل يضرب الصيد فيبين منه العضو، رقم (19698).

ص: 97

قال أحمد: «فإن بقيت» ، أي: قطعنا رجلها، ولكن هربت ولم ندركها؛ فإن رجلها حينئذٍ تكون نجسة حراماً؛ لأنها بانت من حَيٍّ ميتته نجسة.

الثانية: المِسْك وفأرته، ويكون من نوع من الغزلان يُسمَّى غزال المسك.

يُقال: إنهم إذا أرادوا استخراج المِسْكِ، فإِنهم يُركِضُونه فينزل منه دم من عند سُرَّته، ثم يأتون بخيط شديد قويٍّ فيربطون هذا الدم النازل ربطاً قويًّا من أجل أن لا

يتَّصل بالبدن فيتغذَّى بالدَّم، فإِذا أخذ مدَّة فإنه يسقط، ثم يجدونه من أطيب المسك رائحة.

وهذا الوعاء يُسمَّى فأرة المِسْك، والمِسْكُ هو الذي في جوفه، فهذا انفصل من حَيٍّ وهو طاهر على قول أكثر العلماء

(1)

. ولهذا يقول المتنبي:

فإنْ تَفُقِ الأنامَ وأنت منهم فإِنَّ المِسْكَ بعضُ دم الغزال

(2)

(1)

انظر: «الفروع» (1/ 249)، «المجموع شرح المهذب» (2/ 573).

(2)

ديوان المتنبي بشرح العكبري (2/ 21).

ص: 98

‌بابُ الاستِنْجاء

تمهيد:

اعلم أن الله عز وجل قد أسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة، من الأكل والشَّراب واللباس والمسكن، وغير ذلك من نِعَمِه التي لا تُحصى ولا تُعدُّ.

الأكلُ والشَّرابُ علينا فيهما نِعَمٌ سابقةٌ ولاحقةٌ.

أما السَّابقة: فإن هذا الماء الذي نشربه ما جاء بحولنا ولا بقوتنا، قال الله تعالى:{أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ *أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ *} [الواقعة]، وقال تعالى:{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ *} [الملك]، وقال تعالى:{فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ} [الحجر: 22].

فبيَّن الله تعالى نعمته علينا بالماء النازل من السماء، والنابع من الأرض.

والطعام الذي نأكله قال الله تعالى عنه: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ *أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ *لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ *} [الواقعة]، فهذه نِعْمَةٌ عظيمة من الله، فهو الذي زَرَعهُ، ونمَّاهُ حتى تكامل، ويسَّرَ لنا الأسباب التي تُيسِّرُ جنيه، وحصاده، ثم طَحْنه وطَبْخه، إلى غير ذلك من النِّعَم الكثيرة.

قال بعض العلماء: إِنه لا يُقدَّم الطعام بين يديك وإِلا وفيه ثلاثمائة وستون نِعْمَة

(1)

، هذا الذي يُدْرَكُ فكيف بالذي لا يُدْرَك؟

ص: 99

ثم بعد ذلك نِعَمٌ عند تناوله، وعندما تأكله على جوع ماذا تكون لذته؟

وعندما تطعمه في فمك تجد لذَّة، وعندما يمشي في الأمعاء لا تجد تعباً في ذلك.

فالآن لو يقف على يدك بعوضة أحسست برجليها وتقشعر منها، لكن هذا الطعام الغليظ ينزل في هذه الأمعاء الرَّقيقة ولا تحسُّ به، نِعْمَة من الله عز وجل؛ لأن داخل الجوف ليس فيه إحساس فيمرُّ فيه بدون إحساس.

ثم إن الله تعالى خلق غُدَداً تُفرِز أشياء تُلَيِّن هذا الطعام وتخفِّفه حتى ينزل.

ثم إِن الله عز وجل جعل له قنوات يذهب معها الماء، وهناك عروق شارعة في هذه الأمعاء تُفرِّق الدَّمَ على الجسم؛ فأين توصله؟ توصله إلى القلب.

ثم إن هذا القلب الصَّغير في لحظة من اللحظات يُطهِّرُ هذا الدَّمَ ثم يخرجه إِلى الجانب الآخر من القلب نقيًّا، ثم يدور في البدن، ثم يرجع مرَّة ثانية إلى القلب فيطهِّره ويصفيه، ثم يعيده نقيّاً، وهكذا دواليك.

كلُّ هذا ونحن لا نحسُّ بهذا الشيء؛ وإلا فالقلب يُصْدِرُ نبضات، كلُّ نبضة تأخذ شيئاً، والنبضة الأخرى تخرج شيئاً من هذا الدم.

ومع ذلك يذهب هذا الدَّم إلى جميع أجزاء الجسم بشُعَيْرَات دقيقة منظَّمة مرتَّبة على حسب حكمة الله وقدرته، ومع هذا أيضاً:

ص: 100

فإنَّ من قدرة الله العظيمة البالغة أنَّ مجاريَ العُروق لا تتَّفق في الأعضاء، فكلُّ عضو له مجارٍ خاصَّة؛ بمعنى أنَّ يدك اليُمنى ليست المجاري فيها كيدك اليسرى؛ بل تختلف.

وكذلك بالنسبة إلى الرِّجل تختلف، كلُّ هذا من أجل بيان قُدرة الله عز وجل.

ولا شكَّ أن هذا لمقتضى الحكمة، فلولا أن هناك حكمة تقتضي أن لهذه اليد مجاري معيَّنة؛ ولهذه اليد مجاري خاصَّة لم يخلقها الله هكذا.

المهم من كلِّ هذا أن نبيِّن به أن لله علينا نعماً ماديَّة بدنيَّة في هذا الطَّعام، سابقة على وصوله إِلينا ولاحقة.

ثم إن هناك نعماً دينيَّة تتقدَّم هذا الطعام وتلحقه، فتُسمِّي عند الأكل؛ وتحمد إِذا فرغت. فإن الله تعالى يرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، ويشرب الشَّربة فيحمده عليها، ورضى الله غايةُ كلِّ إِنسان، فمن يُحصِّل رضى الله عز وجل؟ فنحن نتمتَّع بنعمه، فإِذا حمدناه عليها رضي عنَّا، وهو الذي تفضَّل بها أولاً.

وهذه النِّعمة ـ وهي رضى الله ـ أكبر من نعمة البدن.

ما ظنُّكم لو لم يشرع الله لنا أن نحمده عند الأكل والشُّرب؛ فإننا لو حمدناه لصرنا مبتدعين وصرنا آثمين. لكنه شرع لنا ذلك من أجل أن يوصلنا إلى رضاه، أسأل الله أن يحقِّق ذلك لنا جميعاً.

فهذه نعمة عظيمة لا يُدركها الإِنسان إلا عند التأمل.

ص: 101

وأيضاً: عند تفريغ وإخراج هذا الذي أكلناه وشربناه يحصُل لنا نعم جِسْميَّة وحسيَّة، شرعيَّة ودينية.

فالنِّعم الحسِّية فيما لو احتقن هذا الطَّعام أو الشَّراب في جسمك ولم يخرج؛ فإِن المآل الموت المحقق، ولكنه بنعمة الله يخرج.

ولو احتقنت الرِّيح التي جعلها الله تعالى لتفتح المجاري أمام ما يعبر منها من الطَّعام والشَّراب، فلو أنها انسدت ماذا يكون؟ ينتفخ البطن ثم يتمزَّق فيموت الإنسان، وكذلك البول.

إِذاً؛ فَللَّهِ علينا نعمة في خروجه، وفي تيسيره نعمة كبرى، والحمد لله، نسأل الله لنا ولكم دوام النعمة، فإِذا أردت حبسته وإذا أردت فتحته، ومن يستطيع أن يفتح المكان حتى ينزل البول لولا أن الله يسَّر ذلك، وكذلك متى شئت، فقد تذهب وتبول وليس في المثانة إِلا ربعها، أي أن المسألة ليست إجبارية وقد تحبسه وهي مملوءة؛ ولكنك تستطيع أن تتحمَّل.

فهذه من نِعَمِ الله، ولا يعرف قَدْرَ هذه النعمة إِلا من ابتُليَ بالسَّلس، أو الحصر، نسأل الله السلامة.

وكذلك بالنسبة إلى الخارج الآخر فيه نِعَمٌ عظيمة، ومع ذلك هناك نِعَمٌ دينيَّة مقرونة بهذه النِّعم البدنية، فعند الدخول هناك ذكر مشروع يقربك إِلى الله، وعند الخروج ذكر مشروع يقربك إلى الله عز وجل.

فتأمل نعم الله عليك، فهي سابغة وشاملة واسعة دينية ودنيوية، وبهذا تعرف صدق هذه الآية، قال تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا

ص: 102

نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 34]، وقال:{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ *} [النحل]، فبيَّن الله حالَ الإنسان وشأن الربِّ عند النِّعمة العظيمة.

فحال العبد: الظلم والكفر، ظلم نفسه وكفر نعمة ربِّه.

وشأن الربِّ عز وجل: أن يقابل هذا الظُّلم وهذا الكفر بالمغفرة والرحمة ولله الحمد.

هذا الباب ذكر فيه المؤلِّفُ ـ رحمه الله تعالى ـ الاستنجاء، وآداب قضاء الحاجة.

قوله: «الاستنجاء» ، استفعال من النَّجْو، وهو في اللُّغة القطع، يقال: نَجوت الشَّجرة، أي: قطعتها.

وهو اصطلاحاً: إِزالةُ الخارج من السَّبيلين بماء أو حَجَر ونحوه، وفي ذلك قطع لهذا النَّجس. وهذا وجه تعلُّق الاشتقاق بالمعنى الاصطلاحي.

‌يُسْتَحبُّ عِنْدَ دُخولِ الخلاءِ ..........

قوله: «يُسْتَحبُّ عِنْدَ دُخولِ الخلاءِ» ، اختلف العلماء رحمهم الله هل المستحب مرادف للمسنون، أو المستحب ما ثبت بتعليل، والمسنون ما ثبت بدليل؟

فقال بعضهم: الشَّيء الذي لم يثبت بدليل، لا يُقال فيه: يُسَنُّ، لأنك إِذا قلت:«يُسَنُّ» فقد أثبتَّ سُنَّة بدون دليل، أما إِذا ثبت بتعليل ونظر واجتهاد فيُقال فيه:«يُسْتَحب» ؛ لأن الاستحباب ليس كالسُّنَّة بالنسبة لإِضافته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1)

.

(1)

انظر: «حاشية التنقيح للحجاوي» ص (84، 88، 89، 117).

ص: 103

وقال أكثرهم: لا فرق بين «يُستحبُّ» ، و «يُسَنُّ»

(1)

؛ ولهذا يُعبِّر بعضهم بـ «يُسَنُّ» وبعضهم بـ «يُستحبُّ» .

ولا شَكَّ أن القول الأول أقرب إلى الصِّحة، فلا يُعبَّر عن الشَّيءِ الذي لم يثبت بالسُّنَّة بـ «يُسنُّ» ، ولكن يُقال: نستحبُّ ذلك، ونرى هذا مطلوباً، وما أشبه ذلك.

‌قَولُ: بِسمِ الله، أعوذُ بالله من الخُبْثِ والخَبَائِثِ،

........

قوله: «قول بسم الله» ، هذا سُنَّةٌ لما رواه عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:«سَتْرُ ما بين أعيُنِ الجِنِّ، وعَوْرَاتِ بني آدم، إذا دخل أحدُهم الكَنيفَ أن يقول: بسم الله»

(2)

.

قوله: «أعوذ بالله من الخُبث والخبائث» ، وهذا سُنَّةٌ لحديث أنس رضي الله عنه في «الصَّحيحين» أن الرَّسول صلى الله عليه وسلم كان إِذا دخل الخلاء قال:«اللهم إني أعوذ بك من الخُبُثِ والخَبَائث»

(3)

.

(1)

انظر: «شرح الكوكب المنير» (1/ 403).

(2)

سخة دار الكتب المصرية، وكذلك ضعَّفه النووي في «الخلاصة» رقم (326).

إِلا أنه له شواهد ـ يتقوّى بها ـ من حديث أنس، وأبي سعيد الخدري، وابن مسعود، ومعاوية بن حيدة، لذلك صحَّحه مغلطاي!. وحسَّنه ابن حجر، والسيوطي، والمناوي وغيرهم.

انظر: «نتائج الأفكار» (1/ 197)، «فيض القدير» (4/ 96).

(3)

رواه البخاري، كتاب الوضوء: باب ما يقول عند الخلاء، رقم (142)، ومسلم، كتاب الحيض: باب ما يقول إِذا أراد دخول الخلاء، رقم (375).

ص: 104

الخُبْثُ بسكون الباء وضمِّها: ـ فعلى رواية التَّسكين ـ الشَّرُّ، والخبائث: النفوس الشِّرِّيرة ـ وعلى رواية الضمِّ ـ جمع خبيث، والمراد به ذُكران الشَّياطين، والخبائث جمع خبيثة، والمراد إِناث الشَّياطين.

والتسكين أعمُّ، ولهذا كان هو أكثر روايات الشُّيوخ كما قاله الخطابي رحمه الله

(1)

.

فائدةُ البسملة: أنها سَتْرٌ.

وفائدة هذه الاستعاذة: الالتجاء إِلى الله عز وجل من الخُبث والخبائث؛ لأن هذا المكان خبيث، والخبيث مأوى الخبثاء فهو مأوى الشَّياطين، فصار من المناسب إِذا أراد دخول الخلاء أن يقول: أعوذ بالله من الخُبث والخبائث. حتى لا يصيبه الخُبث وهو الشَّرُّ، ولا الخبائث وهي النُّفوس الشِّرِّيرة.

والعندية في كلام المؤلِّف هنا تعني قبل الدُّخول، فإِن كان في البَرِّ ـ مثلاً ـ استعاذ عند الجلوس لقضاء الحاجة.

والخلاء: أصله المكان الخالي، ومناسبته هنا ظاهرة؛ لأنَّ هذا المكان لا يجلس فيه إلا واحد.

وقوله: «قولُ» ، أي: يقول بلسانه إِلا من أخْرَس فيقول بقلبه.

وقوله: «أعوذُ بالله» ، أي: أعتصم وألتجئُ بالله عز وجل.

‌وعِنْدَ الخُرُوجِ منه: غُفْرانك،

.........

قوله: «وعند الخَروجِ منه: غُفْرانك» ، أي: يُسَنُّ أن يقول بعد

(1)

انظر: «معالم السنن» (1/ 10).

ص: 105

الخروج منه: غفرانك، للحديث الصَّحيح عن عائشة رضي الله عنها أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان إِذا خرج من الغائط قال:«غُفْرانك»

(1)

، والعندية هنا بعديَّة، أي: يقول ذلك بعد خروجه، فإِن كان في البَرِّ فعند مفارقته مكان جُلوسه.

وقوله: «غُفْرَانك» ، غُفْرَان: مصدر غَفَر يَغْفِرُ غَفْراً، وغُفْرَاناً، كشَكَرَ يَشْكُر شُكْراً وشُكْرَاناً، فقوله غُفْرَانك: مصدر منصوب بفعل محذوف تقديره: أسألك غفرانك.

والمغفرة هي سَتْر الذَّنب والتَّجاوز عنه، لأنَّها مأخوذة من المِغْفَرِ، وفي المغفر سَتْر ووقاية، وليس سَتْراً فقط، فمعنى: اغفر لي؛ أي: استُرْ ذنوبي، وتجاوز عَنِّي حتى أسَلَمَ من عقوبتها، ومن الفضيحة بها.

ومناسبة قوله: «غُفْرَانك» هنا:

قيل: إن المناسبة أن الإنسان لما تخفَّف من أذيَّة الجسم تذكَّر أذيَّةَ الإِثم؛ فدعا الله أن يخفِّف عنه أذيَّة الإثم كما مَنَّ عليه

(1)

رواه أحمد (6/ 155)، وأبو داود، كتاب الطهارة: باب ما يقول الرجل إِذا خرج من الخلاء رقم (30)، والترمذي، أبواب الطهارة: باب ما يقول إِذا خرج من الخلاء، رقم (7)، والنسائي في عمل اليوم والليلة رقم (79)، وابن ماجه، كتاب الطهارة: باب ما يقول إِذا خرج من الخلاء، رقم (300) وغيرهم من حديث عائشة.

قال الترمذي: «حسن غريب» . وقال أبو حاتم: «هو أصحّ حديث في هذا الباب» .

وصحّحه: ابن حبان، والحاكم، والنووي، وابن حجر.

انظر: «العلل» لابن أبي حاتم (1/ 43)، «المجموع» (2/ 79)، و «الخُلاصة» رقم (391)، «المحرر» لابن عبد الهادي رقم (7)«نتائج الأفكار» لابن حجر (1/ 216).

ص: 106

بتخفيف أذيَّة الجسم، وهذا معنى مناسب من باب تذكُّر الشيء بالشيء

(1)

.

وقال بعض العلماء: إِنه يسأل الله غُفْرانَه، لأنه انحبس عن ذكره في مكان الخلاء، فيسأل الله المغفرة له ذلك الوقت الذي لم يذكر الله فيه

(2)

.

وفي هذا نظر: لأنه انحبس عن ذكر الله بأمر الله، وإِذا كان كذلك فلم يعرِّض نفسه للعقوبة، بل عرَّضها للمثوبة؛ ولهذا الحائض لا تُصلِّي، ولا تصوم، ولا يُسَنُّ لها إِذا طَهُرت أن تستغفر الله بتركها الصَّلاة والصَّوم أيام الحيض. ولم يقله أحد، ولم يأتِ فيه سُنَّة.

والصَّحيح هو الأول.

‌الحَمْدُ لله الذي أَذْهَبَ عَنِّي الأذى وَعَافَاني،

........

قوله: «الحمد لله الذي أذْهب عَنِّي الأذى وعَافَاني» ، قوله:«الأذى» أي: ما يؤذيني من البول والغائط. وعافاني أي: من انحباسهما المؤدِّي إِلى المرض أو الهلاك، والحديث الوارد في هذا فيه ضعف

(3)

.

(1)

انظر: «إِغاثة اللهفان» (1/ 71).

(2)

انظر: «المجموع شرح المهذب» (2/ 76).

(3)

رواه ابن ماجه، كتاب الطهارة: باب ما يقول إِذا خرج من الخلاء، رقم (301) من حديث أنس بن مالك. وضعّفه النووي في «شرح المهذب» (2/ 83)، والبوصيري في «الزوائد» .

ورواه ابن السني في «عمل اليوم والليلة» رقم (22)، وابن الجوزي في «العلل المتناهية» رقم (539) من حديث أبي ذَرٍّ.

وضعّفه النووي في «الخلاصة» رقم (396).

ورواه أبو بكر بن أبي شيبة، كتاب الطهارات: باب ما يقول إِذا خرج من المخرج، رقم (10) عن أبي علي الأزدي، عن أبي ذر به موقوفاً من قوله.

وأبو علي الأزدي: مقبول؛ كما في «التقريب» .

وحسَّن ابن حجر أثرَ أبي ذرٍّ الموقوف. «نتائج الأفكار» (1/ 218).

ص: 107

‌وتَقْدِيمُ رِجْله اليُسْرى دُخُولاً، واليُمنى خروجاً، عَكس مَسْجِدٍ، ونَعْلٍ،

........

قوله: «وتَقْدِيمُ رجْله اليُسْرى دُخُولاً، واليُمنى خروجاً، عَكس مَسْجدٍ، ونَعْلٍ» ، أي: يستحبُّ أن يُقدِّمَ رجله اليُسرى عند دخول الخلاء، ويُقدِّمَ اليُمنى إِذا خرج، وهذه مسألة قياسيَّة، فاليمنى تُقَدَّم عند دخول المسجد كما جاءت السُّنَّة بذلك

(1)

، واليسرى عند الخروج منه، وهذا عكس المسجد، وكذلك النَّعل ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أمر لابس النَّعل أن يبدأ باليُمنى عند اللُّبس، وباليُسرى عند الخلع، وهذا في «الصَّحيحين»

(2)

قالوا: فدلَّ هذا على تكريم اليُمنى، لأنه يبدأ بها باللُّبس الذي فيه الوقاية، ويبدأ باليُسرى بالخلع الذي فيه إِزالة الوقاية، ولا شكَّ أن الوقاية تكريم.

فإِذا كانت اليُمنى تُقدَّم في باب التَّكريم، واليُسرى تُقدَّم في عكسه، فإنه ينبغي أن تُقدَّم عند دخول الخَلاء اليُسرى، وعند الخروج اليُمنى؛ لأنَّه خروج إِلى أكمَل وأفضلَ

(3)

.

(1)

رواه الحاكم (1/ 218). وقال: صحيح على شرط مسلم. ووافقه الذهبي.

(2)

رواه البخاري، كتاب اللباس: باب ينزع نعله اليسرى، رقم (5856)، ومسلم، كتاب اللباس: باب استحباب لبس النعل في اليمنى، رقم (2097). من حديث أبي هريرة ولفظه:«إِذا انتعلَ أحدُكم فليبدأ باليمين، وإِذا نزع فليبدأ بالشِّمال، ليكن اليمنى أولهما تُنْعَل، وآخرهما تُنْزَع» ، واللفظ للبخاري.

(3)

انظر: «فتح الباري» (1/ 270) شرح حديث رقم (168)، (10/ 311) شرح حديث (5856).

ص: 108

‌واعتمادُه على رجْلِه اليُسْرَى وبُعْدُه في فضاءٍ،

.........

قوله: «واعتمادُه على رجْلِه اليُسرى» ، يعنى يُستحبُّ أن يعتمدَ على رجله اليُسرى عند قَضَاء الحاجة، واستدلَّ الأصحاب لذلك بأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم «أمر أصحابه أن يعتمدوا على الرِّجْل اليُسرى، وأن ينصِبُوا اليُمنى»

(1)

، وهذا الحديث ضعيف.

وعَلَّلُوا ذلك بعلَّتين

(2)

:

الأولى: أنَّه أسهل لخروج الخارج، وهذا يُرْجَعُ فيه إلى الأطبَّاء، فإِن ثبت هذا طبًّا يكون من باب مراعاة الصِّحة.

الثانية: أنَّ اعتماده على اليُسرى دون اليُمنى من باب إكرام اليمين، وهذه علَّة ظاهرة، لكن فيه نوع من المشقَّة إِذا نُصبت اليُمنى، واعتُمد على اليُسرى، ولا سيَّما إِذا كان قاضي الحاجة كثير اللحم، أو كبير السِّنِّ، أو ضعيف الجسم فيتعب في اعتماده على اليُسرى، ويتعب في نصب اليُمنى.

ولهذا لو قال قائل: ما دامت المسألة ليست فيها سُنَّة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإِن كون الإِنسان يبقى على طبيعته معتمداً على الرِّجلين كلتيهما هو الأولى والأيسر.

قوله: «وبُعْدُه في فَضَاء» ، الضَّمير يعود إلى «قاضي الحاجة» ، والمراد بُعْدُهُ حتى لا يُرى جسمُه، وذلك إِذا كان في

(1)

رواه الطبراني في «الكبير» (7/رقم 6605)، والبيهقي (1/ 96) عن سراقة بن مالك.

وضعّفه: النووي، والهيثمي، وابن حجر.

انظر: «الخلاصة» رقم (361)، «المجمع» (1/ 206)، «بلوغ المرام» رقم (104).

(2)

انظر: «كشاف القناع» (1/ 60).

ص: 109

مكان ليس فيه جُدران، أو أشجار ساترة، أو جبال، يبعد في الفضاء حتى يستترَ؛ لحديث المغيرة بن شُعبة في «الصَّحيحين» قال:«فانطلق حتى تَوَارى عَنِّي فقضى حاجته»

(1)

، وأيضاً: فيه من المروءة والأدب ما هو ظاهر.

‌واستتارُهُ، وارتيادُهُ لبولِهِ مكاناً رخْواً،

.........

قوله: «واستتارُه» ، يعني: يُستحب استتارُه، والمراد استتارُ بدنه كُلِّه، وهذا أفضل؛ لما تقدَّم من حديث المغيرة بن شُعبة، وأما استتارُه بالنسبة للعورة فهو أمر واجب.

قوله: «وارتيادُه لبوله مكاناً رَخْواً» ، ارتياد، أي: طلب، و «لبوله» يعني: دون غائطه، و «رخواً»: مثلث الرَّاء ومعناه المكان اللَّيِّن الذي لا يُخشى منه رَشاشُ البول.

فإِن قيل: لماذا يُستَحبُّ؟

فالجواب: أنه أسلم من رَشَاش البول، وإن كان الأصلُ عدمُ إِصابتَهِ، لكن رُبَّما يفتح باب الوِسواس إِذا كان المكان صُلباً.

وكثير من النَّاس يُبتلى بالوِسواس في هذه الحال، فيقول: أخشى أن يكون قد رُشَّ عليَّ، ثم تبدأ النَّفسُ تعملُ عَمَلَها حتى يَبْقى شاكًّا في أمره.

فإِن كان في أرض ليس حولَه شيءٌ رخْوٌ، قالوا: يُدني ذَكَرَه من الأرض حتى لا يحصُل الرَّشاش

(2)

، وهذا صحيح، وكُلُّ هذا

(1)

رواه البخاري، كتاب الوضوء: باب المسح على الخفين، رقم (203)، ومسلم، كتاب الطهارة: باب المسح على الخفين، رقم (274) واللفظ له.

(2)

انظر: «شرح منتهى الإِرادات» (1/ 30).

ص: 110

إِبعاد عن الوِسواس والشُّكوك التي يُلقيها الشَّيطان في نفس الإنسان.

‌ومَسْحُهُ بيده اليُسْرَى إذا فَرَغَ من بولِهِ، من أَصْلِ ذَكَرِهِ إلى رأسِهِ ثلاثاً،

..........

قوله: «ومَسْحُه بيده اليُسرى

»، أي: يُستحبُّ أن يمسح إِذا فرغَ من البول من أصل الذَّكر ـ وهو عند حلقة الدُّبُر ـ إلى رأسه ثلاث مرات؛ لأجل أن يخرج ما تَبَقَّى في القناة من البول؛ لأنه رُبَّما يَبْقى بولٌ، فإِذا قام أو تحرَّك نزل، فمن أجل ذلك يَحْلُبُه بمسحه من عند حَلَقَة الدُّبُر إِلى رأسه.

وهذا قول ضعيف جدًّا؛ لأنه لم يصحَّ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم. ولضرره بمجاري البول، فربما تتمزَّقُ بهذا المسح، ولا سيَّما إِذا أُضيف إِليه النَّتْرُ فإِنه يُحدث الإِدرار، ولهذا قال شيخ الإسلام:«الذَّكَرُ كالضَّرع، إِن حلبته دَرَّ، وإِن تركته قَرّ»

(1)

، وعلى هذا فلا يُستحبُّ المسحُ، بل إذا انتهى البول يغسل رأسَ الذَّكر فقط.

قوله: «ونَتْرُه ثلاثاً» ، النَّتْرُ معناه: أن يحرِّك الإِنسان ذَكَره من الدَّاخل لا بيده لحديث: «إذا بَالَ أحدُكُم فَلْيَنْتُرْ ذَكَره ثلاثاً»

(2)

، قالوا: ولأجل أن يخرج بقيَّة البول إِن كان فيه شيء من البول، لكنَّ الحديث ضعيف لا يُعتمد عليه، والنَّتْرُ من باب التنطعِ المنهيِّ عنه، ولهذا قال شيخ الإسلام: «النَّترُ بدعة وليس

(1)

انظر: «مجموع الفتاوى» (21/ 106).

(2)

رواه أحمد (4/ 347)، وابن ماجه، كتاب الطهارة وسننها: باب الاستبراء بعد البول، رقم (326)، والبيهقي (1/ 113) عن يزداد اليماني به مرفوعاً.

وضعّفه: البيهقي، والنووي، وابن حجر، والبوصيري.

انظر: «الخلاصة» رقم (362)، «بلوغ المرام» رقم (105).

ص: 111

سُنَّة، ولا ينبغي للإِنسان أن يَنْتُرَ ذَكَرَه»

(1)

.

وهذان الأمران اللَّذان ذكرهما الأصحاب يُشبهان ما ذكره بعض العلماء من أنَّه ينبغي للإنسان أن يَتَنَحْنَحَ ليخرج باقي البول إِن كان فيه

(2)

.

وبعضهم قال: ينبغي أن يقومَ ويمشيَ خطوات

(3)

.

وبعضهم قال: ينبغي أن يصعدَ درجة ويأتي من أعلاها بسرعة (167)، والتَّعليل ما سبق.

وكُلُّ هذا من الوساوس التي لا أصل لها، والدِّينُ ـ ولله الحمد ـ يُسْرٌ.

صحيحٌ أن بعض النَّاس قد يُبتلى إِذا لم يمشِ خطوات ويتحرَّك بخروج شيء بعد الاستنجاء، فهذا له حكم خاصٌّ، فيمكن أن نقول له: إِذا انتهى البول وكان من عادته أن ما بقي من البول لا يخرج إلا بحركة، ومشي، فلا حرج أن تمشيَ بشرط أن يكون عنده علم ويقين بأنه يخرج منه شيء، أما مجرد الوهم فلا عِبْرَة به، وهذا كعلاجٍ لهذا الشَّخص ولا يُجعل هذا أمراً عاماً لكلِّ أحد.

قوله: «وتَحوُّلُه من موضعه؛ ليستَنْجي في غيره إِن خافَ تلوُّثاً» ، يعني: انتقاله من موضع قضاء الحاجة ليستنجي بالماء إِن خاف تلوُّثاً؛ كأن يخشى من أن يضربَ الماء على الخارج النَّجس

(1)

انظر: «مجموع الفتاوى» (21/ 106)، «الاختيارات» ص (9).

(2)

انظر: «مجموع الفتاوى» (21/ 106)، «إِغاثة اللهفان» (1/ 165).

(3)

انظر: «مجموع الفتاوى» (21/ 106)، «إِغاثة اللهفان» (1/ 165).

ص: 112

ثم يُرشُّ على ثوبه، أو فخذه، أو ما أشبه ذلك، فيُقال: الأفضل أن تنتقلَ درءاً لهذه المفسدة. وأيضاً: مثل هذه الأمور قد تُحدث وسوسة.

أما إذا لم يخَفْ، كما يوجد في المراحيض الآن، فإِنَّه لا ينتقل.

‌ويُكْرَهُ دُخولُهُ بشيء فيه ذِكْرُ الله تعالى.

قوله: «ويُكْرَهُ دُخولُهُ بشيء فيه ذِكْرُ الله تعالى» ، الضمير في قوله:«دُخولُه» يعود إلى «قاضي الحاجة» ، ويُحتمل أن يعود إلى «الخلاء» .

والمُراد بذكر الله هنا «اسم الله» لا الذِّكر المعروف؛ لأنهم استدلُّوا بحديث أنس رضي الله عنه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان إِذا دخل الخلاء وضع خَاتَمه

(1)

؛ لأنه كان منقوشاً فيه: «محمَّدٌ رسولُ الله» ،

(1)

رواه أبو داود، كتاب الطهارة: باب الخاتم يكون فيه ذكر الله يُدخل به الخلاء، رقم (19)، والترمذي، كتاب اللباس: باب ما جاء في لبس الخاتم في اليمين، رقم (1746)، وابن ماجه، كتاب الطهارة: باب ذكر الله على الخلاء والخاتم في الخلاء، رقم (303)، والحاكم (1/ 187).

قال الترمذي: «حسن صحيح غريب» ، «تحفة الأشراف» رقم (1512).

قال الحاكم: «صحيح على شرط الشيخين» . وفيما قالا نظر؛ لأن الحديث معلول ضعيف كما قال الجمهور.

قال أبو داود: «هذا حديث منكر» .

قال النسائي: «هذا الحديث غير محفوظ» . «تحفة الأشراف» رقم (1512).

قال النووي: «ضعّفه أبو داود والنسائي والبيهقي والجمهور، وقول الترمذي: إِنه حسن مَرْدُودٌ عليه» . «الخلاصة» رقم (329).

قال ابن حجر: «هو معلول» . «بلوغ المرام» رقم (86).

وانظر: «تهذيب السنن» (1/ 26)، «المحرر» رقم (92)، «التلخيص الحبير» رقم (140).

ص: 113

وهذه ليست من الذِّكر المعروف، فيقتضي أن كُلَّ ما فيه اسمُ الله يُكرَه دُخولُ الخلاء به.

والحديث معلول، وفيه مقال كثير

(1)

. ومن صحَّح الحديث أو حسَّنه قال بالكراهة. ومن قال: إِنه لا يصحُّ؛ قال بعدم الكراهة، لكن الأفضل أن لا يدخُلَ.

وفرق بين قولنا: الأفضل، والقول: إِنه مكروه، لأنَّه لا يلزم من ترك الأفضل الوقوع في المكروه.

واستثنى بعض العلماء «المُصْحَفَ» فقال: يحرم أن يدخلَ به الخَلاء سواءٌ كان ظاهراً أم خفيًّا

(2)

؛ لأن «المُصْحَفَ» فيه أشرف الكلام، ودخول الخلاء فيه نوع من الإهانة.

‌إِلا لحاجَةٍ،

........

قوله: «إلا لحاجة» ، هذا مستثنى من المكروه، يعنى إذا احتاج إلى ذلك كالأوراق النقديَّة التي فيها اسم الله فلا بأس بالدُّخول بها، لأنَّنَا لو قلنا: لا تدخل بها ثم أخرجَهَا ووضعها عند باب الخلاء صارت عُرضة للنسيان، وإِذا كان في محلٍّ بارح صارت عُرضة لأن يطير بها الهَواءُ، وإِذا كان في مجمع من النَّاس صارت عُرضةً لأن تُسرق.

أما «المُصْحَفُ» فقالوا: إِن خاف أن يُسرقَ، فلا بأس أن يدخل به

(3)

، وظاهر كلامهم: ولو كان غنيًّا يجدُ بَدَلَه.

وعلى كُلِّ حالٍ ينبغي للإِنسان في «المُصْحَفِ» خاصَّة أن يحاول عدم الدُّخول به، حتى وإن كان في مجتمع عامٍّ من النَّاس، فيعطيه أحداً يمسكه حتى يخرج.

(1)

انظر: «الفروع» (1/ 113)، «النكت على المحرر» (1/ 8).

(2)

انظر: «كشاف القناع» (1/ 59).

(3)

انظر: «كشاف القناع» (1/ 59).

ص: 114

‌ورَفْعُ ثَوْبِهِ قَبلَ دُنُوِّهِ مِن الأرض ........

قوله: «ورَفْعُ ثَوْبِهِ قَبلَ دُنُوِّه مِن الأرض» ، أي: يُكره لقاضي الحاجة أن يرفَعَ ثوبَه قبل أن يدنو من الأرض، وهذا له حالان:

الأولى: أن يكون حوله من ينظره، فرفْعُ ثوبِه هنا قبل دنوِّه من الأرض محرَّم؛ لأنَّه كَشْفٌ للعورة لمن ينظر إِليها، وقد نهى النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال:«لا ينظر الرَّجُل إِلى عورة الرَّجُل»

(1)

.

الثانية: كشفه وهو خالٍ ليس عنده أحد، فهل يُكرَهُ أم لا؟ هذا ينبني على جواز كشف العورة والإِنسان خالٍ.

وفيه ثلاثة أقوال للعلماء

(2)

:

الأول: الجواز.

الثاني: الكراهة.

الثَّالث: التَّحريم، وهو المذهب. لكن اقتصروا على الكراهة هنا؛ لأنَّ كشفها هنا لسببٍ وهو قضاءُ الحاجة، لكن كرهوا أن يرفع ثوبَه قبل دُنوِّه من الأرض؛ لعدم الحاجة إلى الرَّفْع حينئذٍ، ولم يقولوا بالتَّحريم؛ لأن أصل الكشف هنا مباح.

أما إِذا أراد أن يبولَ وهو قائم، فإِنه سيرفع ثوبه وهو واقف، ولكن نقول: إن القائم دانٍ من قضاء الحاجة؛ لأنه سيقضيها وهو قائم.

والبول قائماً جائزٌ، ولا سيَّما إِذا كان لحاجة، ولكن بشرطين:

(1)

رواه مسلم، كتاب الحيض: باب تحريم النظر إِلى العورات، رقم (338)، من حديث أبي سعيد الخدري.

(2)

انظر: «الإِنصاف» (3/ 198).

ص: 115

الأول: أن يأمنَ التَّلويث.

الثاني: أن يأمنَ النَّاظر.

وقد ثبت في «الصَّحيحين» من حديث حُذيفة رضي الله عنه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أتى سُبَاطَةَ قومٍ فبالَ قائماً

(1)

.

قال بعض العلماء: فعل ذلك لبيان الجواز، وقال آخرون: فعله للحاجة

(2)

؛ لأن السُّبَاطة كانت عند قوم مجتمعين ينظرون إليه، فهو إِن قعد في أعلاها مستدبراً لهم ارتد بولُه إِليه، وإِن قعد في أعلاها مستقبلاً لهم انكشفت عورته أمامهم، فما بقي إِلا أن يقوم قائماً مستدبرًا للقوم، فيكون في ذلك محتاجاً إلى البول قائماً.

وأما حديث: «أنه فعل ذلك لجُرحٍ كان في مأبَضِه»

(3)

فضعيف، وكذلك القول بأنه فعل ذلك لأن العرب يَتَطبَّبُون بالبول قياماً من وَجَعِ الرُّكَبِ فضعيف

(4)

.

ولكن يمكن أن يُقالَ: إِن العرب إِذا أوجعتهم ركبُهم عند الجلوس بَالوا قياماً للحاجة.

(1)

رواه البخاري، كتاب الوضوء: باب البول قائماً وقاعداً، رقم (224)، ومسلم، كتاب الطهارة: باب المسح على الخفين، رقم (273). (ملاحظة): السُّباطة: هي المِزبلة.

(2)

انظر: «فتح الباري» (1/ 330)، «المغني» (1/ 224).

(3)

رواه الحاكم (1/ 182)، والبيهقي (1/ 101) من حديث أبي هريرة.

وصحَّحه الحاكم، وتعقبه الذهبي: بأن فيه راوياً ضعيفاً.

والحديث ضعَّفه: الدارقطني، والبيهقي، والنووي، وابن حجر وغيرهم.

انظر: «الخلاصة» رقم (360)، و «الفتح» شرح حديث رقم (226).

(ملاحظة): المأبض: باطن الرُّكبة.

(4)

انظر: «فتح الباري» (1/ 330).

ص: 116

‌وكَلَامُهُ فِيهِ ......

قوله: «وكَلامُهُ فيه» ، يعني: يُكره كلامُ قاضي الحاجة في الخلاء، والدَّليل: أن رجلاً مرَّ بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم وهو يبول؛ فسلَّم عليه فلم يردَّ عليه السَّلام

(1)

.

قالوا: ولو كان الكلام جائزاً لردَّ عليه السَّلام؛ لأن ردَّ السَّلام واجب

(2)

.

لكن مقتضى هذا الاستدلال أنه يحرم أن يتكلَّم وهو على قضاء حاجته، ولهذا ذكر صاحب «النُّكت» ابن مفلح رحمه الله هذه المسألة وقال: وظاهر استدلالهم يقتضي التَّحريم، وهو أحد القولين في المسألة

(3)

.

لكن اعتذروا عن القول بالتَّحريم بعذرين

(4)

:

الأول: أن هذا المُسَلِّم لا يستحقُّ رَدًّا، لأنه لا ينبغي السَّلام على قاضي الحاجة، ومن سلَّم في حالٍ لا ينبغي أن يُسَلِّم فيها لم يستحقَّ رَدًّا. وهذا ضعيف؛ لأن الرَّسول صلى الله عليه وسلم لم يعلِّلْ عدم رَدِّ السَّلام بأنَّه سَلَّم في حالٍ لا يستحقُّ الردَّ فيها.

الثاني: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يترك الواجب؛ لأنَّه بعد أن انتهى من بوله رَدَّ عليه واعتذر منه

(5)

.

(1)

رواه مسلم، كتاب الحيض: باب التيمم، رقم (370). من حديث ابن عمر.

(2)

انظر: «المغني» (1/ 227).

(3)

انظر: «النكت على المحرر» (1/ 8، 9).

(4)

انظر: «كشاف القناع» (1/ 63)، (2/ 128).

(5)

رواه أحمد (4/ 345)، وأبو داود، كتاب الطهارة: باب أيردُّ السلام وهو يتبول، رقم (17)، والنَّسائي، كتاب الطهارة: باب ردّ السَّلام بعد الوضوء، رقم (38)، وابن ماجه، كتاب الطهارة: باب الرجل يُسلَّم عليه وهو يبول، رقم (350) عن المهاجر بن قنفذ أنه أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم وهو يبول، فسلَّم عليه فلم يرد عليه حتى توضَّأ، ثم اعتذر إِليه، فقال:«إِني كرهت أن أذكر الله إِلا على طُهر» وصحَّحه: ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، والنووي، والذهبي.

انظر: «الخلاصة» رقم (355)، و «فتح الباري» شرح حديث رقم (6230).

ص: 117

وهذا صحيح؛ لأن تأجيلَ الردِّ لا يستلزم القول بالتَّحريم. أما إِذا كان قاضِيَا الحاجة اثنين، ينظر أحدهما إِلى عورة الآخر ويتحدَّثان فهو حرام بلا شَكٍّ، بل إِن ظاهر الحديث الوارد فيه ـ لولا ما فيه من المقال ـ أنه من كبائر الذُّنوب؛ لأن الرَّسول صلى الله عليه وسلم أخبر أن الرَّجُلين إِذا فَعَلا ذلك فإِن الله يمقت عليه

(1)

. والمَقْت أشدُّ البغض، وأما إذا لم ينظر أحدهما إلى عورة الآخر؛ فأقلُّ أحواله أن يكون مكروهاً.

والإِمام أحمد نصَّ على أنه يُكره الكلام حال قضاء

(1)

ن يحيى بن أبي كثير، عن محمد بن عبد الرحمن، عن جابر بن عبد الله:«إِذا تغوط الرَّجُلان فليتوارَ كلُّ واحد منهما عن صاحبه، ولا يتحدثان على طوْقهما، فإِن الله يمقت على ذلك» .

قال ابن القطان: «صحيح من حديث جابر» ، وأقرَّه ابن عبد الهادي في «المحرر» رقم (98).

ورواه الطبراني في «الأوسط» (1286) عن أبي هريرة. وقال الهيثمي: «رجاله موثقون» . «المجمع» (1/ 207).

ورواه أحمد (3/ 36)، وأبو داود، كتاب الطهارة: باب أيرد السلام وهو يبول، رقم (15)، والحاكم (1/ 157) وصححه، ووافقه الذهبي. وحسَّنه النووي من حديث أبي سعيد الخدري.

وضعّف طريق أبي سعيد ابنُ القطان؛ بسبب الاضطراب وجهالة الراوي عن أبي سعيد.

«بيان الوهم والإِيهام» رقم (852، 1018، 2460)، وانظر:«العلل» للدارقطني (11/ 296). ولكن تقدم تصحيح ابن القطان لطريق جابر.

ص: 118

الحاجة، وفي رواية عنه قال:«لا ينبغي»

(1)

.

والمعروف عند أصحابه أنه إذا قال: «أكره» ، أو «لا ينبغي» أنه للتَّحريم.

فالحاصل: أنه لا ينبغي أن يتكلَّم حال قضاء الحاجة، إلا لحاجة كما قال الفقهاء رحمهم الله، كأن يُرشِدَ أحداً، أو كلَّمه أحد لا بدَّ أن يردَّ عليه، أو كان له حاجة في شخص وخاف أن ينصرف، أو طلب ماء ليستنجي، فلا بأس

(2)

.

‌وبَوْلُهُ في شَقٍّ، ونحوِهِ،

...........

قوله: «وبولُه في شَقٍّ» ، يعني: يُكرَهُ بولُه في شَقٍّ. والشَّقُّ: هو الفتحةُ في الأرض، وهو الجُحر للهوامِّ والدَّواب، وظاهر كلامهم أنَّه ولو كان الشَّقُ معلوم السَّبب كما لو كانت الأرض قيعاناً، ويبس هذا القَاع ففي العادة أنه يتشقَّقُ.

قوله: «ونحْوِه» ، مثَّلَ بعضهم بفم البَالوعة

(3)

، وهي مجتمع الماء غير النَّظيف، وسُمِّيت بهذا الاسم لأنها تبتلع الماءَ.

والكراهة تزول بالحاجة، كأن لم يجدْ إلا هذا المكان المتشقق.

والدَّليل على الكراهة:

1 ـ حديث قتادة عن عبد الله بن سَرْجِس أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم: «نهى أن يُبال في الجُحر» ، قيل لقتادة: فما بال الجُحر؟ قال: يُقال: إِنَّها مساكن الجنّ

(4)

. وهذا الحديث من العلماء من

(1)

انظر: «الإِنصاف» (1/ 19).

(2)

انظر: «كشاف القناع» (1/ 63).

(3)

انظر: «النكت على المحرر» (1/ 9).

(4)

رواه أحمد (5/ 82)، وأبو داود، كتاب الطهارة: باب النهي عن البول في الجُحر، رقم (29)، والنسائي كتاب الطهارة: باب كراهية البول في الجُحر، رقم (1/ 33)، والحاكم (1/ 186).

وأعلّه ابن التركماني وغيره بما نُقل عن أحمد بن حنبل أنه لم يثبت سماع لقتادة من عبد الله بن سَرجس.

لكن أثبت سماعه منه عليُّ بن المديني وأبو زرعة، والمثبت مقدَّم على النافي. بقيَ أن قتادة مدلس ولم يُصرّح بالسماع.

والحديث صحَّحه: الحاكم، وابن خزيمة، وابن السَّكن، والنووي، والذهبي. والله أعلم.

انظر: «الجوهر النقي» مع سنن البيهقي (1/ 99)، و «الخلاصة» رقم (344)، و «التلخيص الحبير» رقم (134)، «جامع التَّحصيل» للعلائي ص (254).

ص: 119

صَحَّحه، ومنهم من ضَعَّفه، وأقلُّ أحواله أن يكون حسناً؛ لأنَّ العلماء قَبِلوه، واحتجُّوا به.

2 ـ ومن التَّعليل: أنه يُخشَى أن يكونَ في هذا الجُحر شيء ساكن فتُفْسِد عليه مسكنه، أو يخرج وأنت على بولك فيؤذيك، وربما تقوم بسرعة فلا تسلم من رَشاش البول.

وقد ذكر المؤرِّخون أنَّ سيِّدَ الخزرج سعدَ بنَ عبادة رضي الله عنه بَالَ في جُحر بالشَّام، وما إن فرغ من بوله حتى استلقى ميِّتاً، فسمعوا هاتفاً يهتف في المدينة يقول:

نحنُ قَتَلْنا سَيِّدَ الخَزْ رَجِ سَعْدَ بْنَ عُبَادهْ

وَرَمَيْنَاهُ بسَهْمَيْـ ـنِ فلم نُخْطِئ فُؤادَهْ

(1)

(1)

قم (45)، والطَّبراني (6/رقم 5359)، والحاكم (3/ 253)، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (20/ 266) عن ابن سيرين.

ورواها الأصمعي حدثنا سلمة بن بلال عن أبي رجاء.

ورواها عبد الأعلى بن مسهر أيضاً.

وهذه كلها مراسيل، والمرسل إِذا جاء مرسلاً من وجه آخر؛ مخرجه غير مخرج الأول؛ فإِنه حينئذ يتقوَّى؛ كما هو مذهب المحققين من أهل العلم.

انظر: «جامع التحصيل» للعلائي ص (40)، «تاريخ دمشق» لابن عساكر (20/ 266).

ص: 120

هكذا ذكر المؤرخون، والله أعلم بصحَّة هذه القِصَّة، ولكن يكفي ما ذكرنا من الدَّليل والتَّعليل، ومع هذا لو لم يجد إِلا هذا المكان المتشقِّقَ كان بوله فيه جائزاً.

‌ومَسُّ فَرْجِهِ بِيَمِينِه،

..........

قوله: «ومسُّ فرجِه بيَمِينِهِ» ، يعني: يُكْرَهُ لقاضي الحاجة مسُّ فرجه بيمينه، وهذا يشمل كلا الفَرْجَين، لأن «فرج» مفردٌ مضافٌ والمفردُ المضاف يَعمُّ، والفَرْجُ يُطلق على القُبُل والدُّبُر، فيُكره أن يمسَّ فرجه بيمينه لحديث أبي قتادة:«لا يُمْسِكَنَّ أحدُكُم ذَكَرَهُ بيمينه وهو يبول، ولا يَتَمَسَّحْ من الخلاء بيمينه، ولا يَتَنَفَّسْ في الإِناء»

(1)

.

ومن تأمَّل الحديثَ وَجَدَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قَيَّده بحال البول، فالجملة:«وهو يبول» حال من فاعل «يمسُّ» .

وقد اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في القَيد، هل هو مرادٌ بمعنى أن النهيَ وارد على ما إِذا كان يبول فقط، لأنه رُبَّما تتلوَّث يده بالبول، وإِذا كان لا يبول فإِن هذا العضو كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:«إنما هو بَضْعَة منك»

(2)

، حينما سُئل عن الرَّجل يمسُّ

(1)

رواه البخاري، كتاب الطهارة: باب النهي عن الاستنجاء باليمين، رقم (153)، ومسلم، كتاب الوضوء، باب النهي عن الاستنجاء باليمين، رقم (267) واللفظ له.

(2)

يأتي تخريجه: ص (281).

ص: 121

ذكرَه في الصَّلاة هل عليه وضوءٌ؟ وإِذا كان بَضْعَة منه فلا فرق بين أن يمسَّه بيده اليُمنى أو اليُسرى

(1)

.

وقال بعض العلماء: إِنه إِذا نُهي عن مسِّه باليمين حال البول، فالنهيُّ عن مسِّه في غير حال البول من باب أَوْلَى؛ لأنه في حال البول رُبَّما يحتاج إِلى مسِّه، فإِذا نُهي في الحال التي يحتاجَ فيها إلى مسّه فالنهيُ في غيرها أَوْلَى

(2)

.

وكلا الاستدلالين له وَجْهٌ، والاحتمالان واردان، والأحوط أن يتجنَّب مسَّهُ مطلقاً، ولكن الجزم بالكراهة إِنَّما هو في حال البول للحديث، وفي غير حال البول محلُّ احتمال، فإذا لم يكن هناك داعٍ ففي اليد اليُسرى غنيةٌ عن اليد اليمنى.

وتعليل الكراهة: أنه من باب إكرام اليمين.

‌واستنجاؤُهُ، واستجمارُهُ بها،

.........

قوله: «واستنجاؤه واستجماره بها» ، يعني: يُكرَهَ استنجاؤه واستجماره بيمينه.

والفرق بينهما: أن الاستنجاء بالماء، والاستجمار بالحجر ونحوه، لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم:«لا يتمسَّح من الخلاء بيمينه»

(3)

.

وأما التّعليل فهو إكرام اليمين.

أما إذا احتاج إِلى الاستنجاء، أو الاستجمار بيمينه؛ كما لو كانت اليُسرى مشلولة فإِن الكراهة تزول، وكذا إن احتاج إلى الاستجمار باليمين؛ مثل أن لا يجد إِلا حجراً صغيراً، فقال

(1)

و

(2)

انظر: «فتح الباري» (1/ 254)، «الإِنصاف» (1/ 209).

(3)

تقدم تخريجه ص (121).

ص: 122

العلماء: إن أمكن أن يجعله بين رجليه، ويتمسَّح فعل، وإن لم يمكنه أخذه باليمين، ومسح بالشِّمال

(1)

.

‌واستقبَالُ النَّيِّرَيْن، ويحْرُمُ استقبالُ القبلةِ، واستدبارُها ......

قوله: «واستقبال النَّيِّرَين» ، يعني يُكْرَهُ استقبالُ الشَّمس والقمر حال قضاء الحاجة، وليس هناك دليل صحيح، بل تعليل وهو: لما فيهما من نور الله، وهذا النُّور الذي فيهما ليس نورَ الله الذي هو صفته، بل هو نورٌ مخلوق. وفي هذا نَظر! لأن مقتضاه كراهة استقبال النُّجوم مثلاً، فإِذا قلنا بهذا قلنا: كلُّ شيء فيه نورٌ وإضاءةٌ يُكرهُ استقبالهُ! ثم إِن هذا التَّعليلَ منقوضٌ بقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تستقبلوا القِبلةَ ولا تستدبروها ببول ولا غائط، ولكن شرِّقوا، أو غرِّبُوا»

(2)

.

ومعلوم أن من شرَّق أو غرَّب والشَّمس طالعة فإنه يستقبلها، وكذا لو غرَّب والشمسُ عند الغروب. والرسول صلى الله عليه وسلم لم يقل: إلا أن تكون الشمس أو القمر بين أيديكم فلا تفعلوا.

فالصحيح: عدمُ الكراهة لعدم الدَّليل الصَّحيح، بل ولثبوت الدَّليل الدَّالِّ على الجواز.

قوله: «ويحرُمُ استقبالُ القبلة واستدبارُها» ، لحديث أبي أيُّوب رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:«لا تستقبلوا القبلة ببولٍ ولا غائط، ولا تستدبروها، ولكن شَرِّقوا، أو غَرِّبوا» ، قال أبو أيُّوب: فقدمنا الشَّام فوجدنا مراحيض قد بُنيت نحو الكعبة،

(1)

انظر: «الإِنصاف» (1/ 210).

(2)

رواه البخاري، كتاب الوضوء: باب لا تستقبل القبلة بغائط أو بول

رقم (144)، ومسلم كتاب الطهارة: باب الاستطابة، رقم (264) واللفظ له.

ص: 123

فننحرف عنها، ونستغفر الله

(1)

.

وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تستقبلوا ولا تستدبروا» نَهيٌ، والأصلُ في النهي التَّحريم.

والحديث يفيد أن الانحرافَ اليسير لا يكفي؛ لأنه قال: «ولكن شرِّقوا أو غرِّبوا» ، وهذا يقتضي الانحراف التَّام. ولكن:«شرِّقوا أو غرِّبوا» لقوم إِذا شرَّقوا أو غربوا لا يستقبلون القِبْلة، ولا يستدبرونها كأهل المدينة، فإنَّ قبلتهم جهة الجنوب، فإِذا شرَّقوا، أو غرَّبوا صارت القبلة إما عن أيمانهم، أو عن شمائلهم، وإِذا شرَّق قوم أو غرَّبوا، واستقبلوا القبلة، فإِن عليهم أن يُشَمِّلُوا، أو يُجَنِّبوا.

وأما التَّعليل: فهو احترام القِبْلة في الاستقبال والاستدبار.

‌في غير بُنْيَان ............

قوله: «في غير بُنْيَان» ، هذا استثناءٌ، يعني: إِذا كان في بنيان فيجوز الاستقبال والاستدبار؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: «رَقِيْتُ يوماً على بيت أختي حفصة، فرأيت النبيَّ صلى الله عليه وسلم قاعداً لحاجته مستقبلَ الشَّام مستدبر الكعبة»

(2)

، وهذا المشهور من المذهب، بل قالوا رحمهم الله: يكفي الحائل وإِن لم يكن بُنياناً، كما لو اتَّجه إلى كَوْمَةٍ من رمل أقامها وكان وراءها، أو إِلى شجرة ما أشبه ذلك

(3)

.

(1)

رواه البخاري، كتاب الصلاة: باب قبلة أهل المدينة وأهل الشام وأهل المشرق، رقم (394)، ومسلم كتاب الطهارة: باب الاستطابة، رقم (264).

(2)

رواه البخاري، كتاب الوضوء: باب التبرز في البيوت، رقم (148)، وانظر رقم (145)، (149)، ومسلم، كتاب الطهارة: باب الاستطابة، رقم (266).

(3)

انظر: «شرح منتهى الإِرادات» (1/ 33).

ص: 124

وقال بعض العلماء: لا يجوز استقبال القبلة، ولا استدبارها بكلِّ حال في البُنيان وغيره، وهو رواية عن أحمد

(1)

، قالوا: وهذا مقتضى حديث أبي أيُّوب استدلالاً وعملاً.

أما الاستدلال: فبقولِ الرَّسولِ صلى الله عليه وسلم.

وأما العمل: فبفعل أبي أيُّوب حين قدم الشَّام فوجد مراحيض بُنيت نحو الكعبة قال: «فَنَنْحَرِفُ عنها ونستغفر الله» ، وهذا يدلّ على أنه لم يرَ هذا كافياً، وهذا اختيار شيخ الإِسلام

(2)

.

وأجابوا عن حديث ابن عمر بما يلي:

1 ـ أنه محمولٌ على ما قبل النَّهي، والنَّهي يُرَجَّحُ عليه؛ لأن النَّهيَ ناقل عن الأصل، وهو الجواز، والنَّاقل عن الأصل أوْلَى.

ذ 2 ـ أن حديث أبي أيُّوب قول، وحديث ابن عمر فعل، والفعل لا يُعارض القولَ؛ لأن فعله صلى الله عليه وسلم يحتمل الخصوصية، أو النِّسيان، أو عُذْراً آخر، لكن هذا الاحتمال مردودٌ؛ لأن الأصل الاقتداء والتأسِّي به صلى الله عليه وسلم. ثم إِنَّه لا توجد هنا معارضة تامَّة بين القول والفعل، ولو كان كذلك لكان القول بالخُصوصية مُتَّجهاً، بل يمكن حمل حديث أبي أيُّوب على ما إذا لم يكن في البُنيان، وحديث ابن عمر في الاستدبار على ما إذا كانَ في البنيان.

والرَّاجح: أنه يجوز في البُنيان استدبارُ القِبْلة دون استقبالِها؛ لأن النهيَ عن الاستقبال محفوظٌ ليس فيه تفصيل ولا

(1)

انظر: «الإِنصاف» (1/ 204).

(2)

انظر: «الاختيارات» ص (8).

ص: 125

تخصيص، والنهيَ عن الاستدبار خُصِّصَ بما إِذا كان في البُنيان؛ لفعل النبيِّ صلى الله عليه وسلم.

وأيضاً: الاستدبار أهونُ من الاستقبال؛ ولهذا جاء ـ والله أعلم ـ التخفيفُ فيه فيما إِذا كان الإِنسان في البُنْيان.

والأفضل: أن لا يستدبرها إِن أمكن.

واستقبال القبلة قد يكون حراماً كما هنا، وقد يكون واجباً كما في الصَّلاة، وقد يكون مكروهاً كما في خطبة الجمعة، فإنه يكره للخطيب أن يستقبل القِبْلة ويجعل النَّاس وراءه، وقد يكون مستحبًّا كالدُّعاء والوُضُوء حتى قال بعض العلماء: إِن كُلَّ طاعةٍ الأفضلُ فيها استقبالُ القبلة إلا بدليل

(1)

. ولكن في هذا نظر! لأنَّنا إِذا جعلنا هذه قاعدةً، فإِنَّ هذا خلاف المعروف من أنَّ الأصل في العبادات الحظر.

‌ولُبْثُه فَوقَ حاجته،

............

قوله: «ولُبْثُه فوق حاجته» ، أي: يحرم، ويجب عليه أن يخرج من حين انتهائه، وعلَّلوا ذلك بعِلَّتين

(2)

:

الأولى: أن في ذلك كشفاً للعورة بلا حاجة.

الثَّانية: أن الحُشُوشَ والمراحيض مأوى الشَّياطين والنُّفوس الخبيثة فلا ينبغي أن يبقى في هذا المكان الخبيث.

وتحريمُ اللُّبث مبنيٌّ على التَّعليل، ولا دليلَ فيه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال أحمد في رواية عنه:«إِنه يُكره، ولا يحرم»

(3)

.

(1)

انظر: «الفروع» (1/ 152).

(2)

انظر: «كشاف القناع» (1/ 63).

(3)

انظر: «الإِنصاف» (1/ 193).

ص: 126

‌وبولُه في طريقٍ، وظِلٍّ نافعٍ،

............

قوله: «وبولُه في طريق» ، أي: يحرم، والغائط من باب أَوْلَى؛ لما رواه مسلمٌ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:«اتقوا اللَّعَّانَيْن» ، قالوا: وما اللَّعَّانان يا رسول الله؟ قال: «الذي يتخلَّى في طريق النَّاس، أو في ظلِّهم»

(1)

. وفي سنن أبي داود رحمه الله تعالى: «اتقوا الملاعن الثلاث: البِرَاز في الموارد، وقارعة الطَّريق، والظِّلّ»

(2)

.

والعِلَّة: أن البول في الطَّريق أذيَّة للمارَّة، وإِيذاء المؤمنين محرَّمٌ، قال الله تعالى:{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْمًا مُبِيناً *} [الأحزاب].

قوله: «وظِلٍّ نافع» ، أي: يَحْرُمُ أن يبولَ أو يتغوَّط في ظلٍّ نافع، وليس كُلُّ ظل يحرم فيه ذلك، بل الظلُّ الذي يستظِلُّ به النَّاسُ، فلو بال أو تغوَّط في مكان لا يُجلسُ فيه؛ فلا يُقال بالتَّحريم، والدَّليل قوله صلى الله عليه وسلم:«أو في ظِلِّهم» ، يعني: الظِّلَّ الذي هو محلُّ جلوسهم، وانتفاعهم بذلك.

(1)

رواه مسلم، كتاب الطهارة: باب النهي عن التخلي في الطرق والظلال، رقم (269) من حديث أبي هريرة.

(2)

رواه أبو داود، كتاب الطَّهارة: باب المواضع التي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن البول فيها، رقم (26)، وابن ماجه، كتاب الطهارة: باب النهي عن الخلاء على قارعة الطريق، رقم (328)، والحاكم (1/ 167).

من طريق أبي سعيد الحميري عن معاذ به، والحميري هذا ـ إِضافة لكونه مجهولاً ـ لم يسمع من معاذ، لذلك ضعّفه ابن القطان وابن حجر والبوصيري، إلا أن له شواهد من حديث ابن عباس وسعد بن أبي وقاص وجابر وابن عمر والحديث صححه الحاكم، وابن السكن، والذهبي، وحسنه النووي.

والحديث صحَّحه: الحاكم، وابن السكن، والذهبي. وحسَّنه النووي. انظر:«العلل» للدارقطني (4/ 378) و «الخلاصة» رقم (340)، و «التلخيص» رقم (132)، المجمع (3/ 213).

ص: 127

وقال بعض أهل العلم: مثلُه مَشْمَسُ النَّاس في أيام الشِّتاء

(1)

، يعني: الذي يجلسون فيه للتَّدفئة، وهذا قياس صحيح جَليٌّ.

وقال بعض أهل العلم: إلا إذا كانوا يجلسون لِغِيْبَة، أو فعل محرَّم جاز أن يفرِّقهم، ولو بالبول، أو الغائط (206). وفي هذا نظر؛ لعموم الحديث؛ ولأن لا فائدة من ذلك، لأنهم إِذا علموا أنه تغوَّط أو بال في أماكن جلوسهم فإنهم يزيدون شرًّا، وربَّما يتقاتلون معه.

والطَّريق السَّليم أن يأتي إليهم وينصحهم.

‌وتحت شجرةٍ عليها ثَمرةٌ.

قوله: «وتحت شجرةٍ عليها ثَمرةٌ» ، يعني يحرم البولُ والتغوُّط تحت شجرة عليها ثمرة، وأفادنا رحمه الله بقوله:«تحت» أنه لا بُدَّ أن يكون قريباً منها، وليس بعيداً.

وقوله: «ثمرة» أطلق المؤلِّف رحمه الله الثمرة، ولكن يجب أن تُقيَّد فيُقال: ثمرة مقصودة، أو ثمرة محترمة.

والمقصودةُ هي التي يقصدها النَّاس، ولو كانت غير مطعومة، فلا يجوز التبوُّل تحتها أو التغوُّط، لأنَّه ربما تسقط فتتلوَّث بالنَّجاسة، ولأن من قصد الشَّجرة ليصعد عليها، فلا بُدَّ أن يمرَّ بهذه النَّجاسة فيتلوّثَ بها، والمحترمة كثمرة النَّخل، ولو كانت في مكان لا يقصده أحدٌ فلا يبول ولا يتغوَّط تحتها ما دامت مثمرة، لأن التَّمر طعام محترم، وكذلك غيرها من الأشجار التي تكون ثمرتها محترمة لكونها طعاماً؛ فإِنه لا يجوز التبوُّل والتغوُّط تحتها.

(1)

انظر: «كشاف القناع» (1/ 64).

ص: 128

وهناك أشياء لا يجوز البول فيها ولا التغوُّط غير ما ذكره المؤلِّف كالمساجد؛ ولهذا قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم للأعرابي: «إنَّ هذه المساجد لا تصلح لشيءٍ من هذا البول ولا القَذَر؛ إِنَّما هي لذكر الله عز وجل والصَّلاة، وقراءة القرآن»

(1)

، وكذلك المدارس، فكلُّ مجتمعات النَّاس لأمر دينيٍّ أو دنيويٍّ لا يجوز للإِنسان أن يتبوَّلَ فيها أو يتغوَّط.

والعِلَّةُ: القياسُ على نهي النبيِّ صلى الله عليه وسلم عن البول في الطُّرقات، وظِلِّ النَّاس.

وكذلك: الأذيَّة التي تحصُل للمسلمين في أي عمل كان قوليًّا أو فعليًّا لعموم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْمًا مُبِيناً *} [الأحزاب].

وأما المُسْتَحَمُّ الذي يستحِمُّ النَّاسُ فيه فلا يجوز التغوّط فيه، لأنَّه لا يذهب. أما البول فجائز، لأنه يذهب؛ مع أنَّ الأَوْلَى عدمه، لكن قد يحتاج الإِنسان إلى البول كما لو كانت باقي الحمَّامات مشغولة.

‌ويَسْتَجْمر، ثمَّ يَسْتَنْجِي بالماء. ويُجْزئُهُ الاستجمارُ ..........

قوله: «ويستجمر ثُمَّ يَسْتَنْجِي بالماء

»، الاستجمارُ: يكون بحجر وما ينوب منابه، والاستنجاء يكون بالماء.

وقوله: «يستجمرُ ثم يستنجي» هذا هو الأفضل؛ وليس على سبيل الوجوب، ولهذا قال:«ويجزئه الاستجمارُ» .

(1)

رواه مسلم، كتاب الطهارة: باب النهي عن الاغتسال في الماء الراكد، رقم (285) عن أنس بن مالك.

ص: 129

والإنسان إِذا قضى حاجته لا يخلو من ثلاث حالات:

الأولى: أنْ يستنجيَ بالماء وحده. وهو جائز على الرَّاجح، وإِن وُجِدَ فيه خلافٌ قديم من بعض السَّلف

(1)

حيث أنكر الاستنجاء وقال: «كيف ألوِّثُ يدي بهذه الأنتان والقاذورات»

(2)

، والصَّحيح الجواز، وقد انعقد الإِجماع بعد ذلك على الجواز.

ودليل ذلك: حديث أنس رضي الله عنه قال: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يدخل الخلاء، فأحمل أنا وغلامٌ نحوي إِداوةً من ماء وعَنَزَةً؛ فيستنجي بالماء

(3)

.

وأما التَّعليل: فلأن الأصل في إزالة النَّجاسات إِنما يكون بالماء، فكما أنك تزيلُ النَّجاسة به عن رجلك، فكذلك تزيلُها بالماء إِذا كانت من الخارج منك.

الثانية: أن يستنجيَ بالأحجار وحدها.

والاستنجاءُ بالأحجار مجزئ دَلَّ على ذلك قول الرَّسول صلى الله عليه وسلم وفعله:

أما قوله: فحديث سلمان رضي الله عنه قال: «نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستنجيَ بأقلَّ من ثلاثةِ أحْجَار»

(4)

.

(1)

انظر: «المغني» (1/ 207).

(2)

انظر «المصنف» لابن أبي شيبة، كتاب الطهارات: باب من كان لا يستنجي بالماء، رقم (1635) عن حذيفة بن اليمان، ورقم (1641) عن عبد الله بن الزبير.

(3)

رواه البخاري، كتاب الوضوء: باب حمل العنزة مع الماء في الاستنجاء، رقم (152)، ومسلم، كتاب الطهارة: باب النهي عن التَّخلي في الطُّرق والظلال، رقم (271).

(4)

رواه مسلم، كتاب الطهارة: باب الاستطابة، رقم (262).

ص: 130

وأما فعله فكما في حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أتى الغائط، وأمره أن يأتيه بثلاثة أحجار، فأتاه بحجرين ورَوْثة، فأخذ النبيُّ صلى الله عليه وسلم الحجرين، وألقى الرَّوثة وقال:«هذا رِكْسٌ»

(1)

، وفي رواية:«ائتني بغيرها»

(2)

.

وحديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه جمع للنبيِّ صلى الله عليه وسلم أحجاراً، وأتى بها بثوبه؛ فوضعها عنده؛ ثم انصرف

(3)

. فدلَّ على جواز الاستجمار.

وهذا مما يدلِّل لقول شيخ الإسلام رحمه الله أن النَّجاسة إِذا زالت بأي مزيل كان طَهُرَ المحلُّ

(4)

. وهذا أقرب إلى المنقول والمعقول من قول من قال: لا يزيل النَّجس إِلا الماء الطَّهُور.

الثالثة: أن يستنجيَ بالحجر ثم بالماء.

وهذا لا أعلمه ثابتاً عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، لكن من حيث المعنى لا شكَّ أنه أكمل تطهيراً.

‌إن لم يَعْدُ الخارجُ موضعَ العادة.

قوله: «إن لم يَعْدُ الخارجُ موضعَ العادةِ» ، اشترط المؤلِّفُ للاستجمار شروطاً: الشَّرط الأول أشار إِليه بقوله: «إِن لم يَعْدُ الخارجُ موضعَ العادةِ» ، أي: الذي جرت العادة بأن البول ينتشر إليه من رأس الذَّكَر، وبأن الغائط ينتشر إليه من داخل الفَخذين،

(1)

رواه البخاري، كتاب الوضوء: باب لا يستنجي بروثٍ، رقم (156).

(2)

رواه الدارقطني في «سننه» (1/ 55).

(3)

رواه البخاري، كتاب الوضوء: باب الاستنجاء بالحجارة، رقم (155).

(4)

انظر: «مجموع الفتاوى» (21/ 475). وسياق الكلام على هذه المسألة يأتي إِن شاء الله تعالى ص (424).

ص: 131

فإن تعدَّى موضع العادة فلا يجزئ إِلا الماء، وليس هناك دليلٌ على هذا الشَّرط؛ بل تعليل، وهو أن الاقتصار على الأحجار ونحوِها في إِزالة البول أو الغائط خرج عن نظائره؛ فيجب أن يُقتصر فيه على ما جرت العادة به، فما زاد عن العادة فالأصل أن يُزال بالماء.

وظاهر كلام المؤلِّفِ: أن الذي لم يتعدَّ موضع العادة يجزئ فيه الاستجمار، والمتعدِّي لا بُدَّ فيه من الماء.

وقال بعض أصحاب أحمد رحمه الله: إِذا تعدَّى موضعَ الحاجة لم يَجُزْ في الجميع إِلا الماء

(1)

، لأنه لمَّا لم يتمَّ الشَّرطُ فسد الكُلُّ.

ولو قال قائل: إن ما يتعدَّى موضعَ العادة بكثير، مثل أن ينتشر على فخذه من البول فإِنه لا يجزئ فيه إلا الماء؛ لأنَّه ليس محلَّ الخارج ولا قريباً منه، وأما ما كان قريباً منه فإنه يُتَسامح فيه فلعلَّه لا يُعارض كلام الفقهاء رحمهم الله.

‌ويُشترطُ للاستجمارِ بأحجارٍ ونحوِها أن يكون طاهراً،

.......

قوله: «ويُشترَطُ للاستجمار بأحجارٍ ونحوها» ، الأحجار جمع حجر.

«ونحوها» مثل: المَدَرَ؛ وهو: الطِّين اليابس المتجمِّد، والتُّراب، والخِرَق، والورق، وما أشبه ذلك كالخشب.

قوله: «أن يكون طاهراً» ، يعني: لا نجساً، ولا متنجِّساً، والفرق: أن النَّجِسَ: نجس بعينه، والمتنجِّس: نجس بغيره، يعني

(1)

انظر: «الإِنصاف» (1/ 216).

ص: 132

طرأت عليه النَّجاسة، وهذا هو الشَّرط الثَّاني، والدَّليل: حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم ألقى الرَّوثة وقال: «هذا رِكْسٌ» . والرِّكْسُ: النَّجِسُ.

وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُستنجى بعظمٍ أو رَوث وقال: «إِنهما لا يُطهِّران»

(1)

، فدلَّ على أن المُسْتَنجَى به لا بُدَّ أن يكون طاهراً.

ومن التَّعليل: أن النَّجس خبيث، فكيف يكون مطهِّراً.

‌مُنْقِياً ..........

قوله: «مُنْقِياً» ، يعني يحصُل به الإنقاء، فإِن كان غير مُنْقٍ لم يجزئ، وهذا هو الشَّرط الثَّالث.

لأن المقصود بالاستجمار الإِنقاء، بدليل أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى أن يُستنجى بأقلَّ من ثلاثة أحجار. ولأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال في الذي يُعذَّبُ في قبره:«إِنَّه لا يَسْتَنْزِهُ من بوله»

(2)

، أو «لا يَسْتَتِرُ»

(3)

، أو «لا يَسْتَبْرِئُ من البول»

(4)

، ثلاث روايات.

(1)

رواه ابن عدي (4/ 356)(ترجمة سلمة بن رجاء)، والدارقطني (1/ 56).

قال ابن عَدي: «

ولسلمة بن رجاء غير ما ذكرت من الحديث، وأحاديثه أفراد وغرائب، ويحدِّث عن قوم بأحاديث لا يُتابع عليها».

وقال الدَّارقطني: «إِسناده صحيح» ، وأقرَّه الحافظ في «الفتح» شرح حديث رقم (155). وصحَّحه النووي في «الخلاصة» رقم (375).

(2)

رواه مسلم، كتاب الطهارة: باب الدليل على نجاسة البول ووجوب الاستبراء منه، رقم (292) عن ابن عباس.

(3)

رواه البخاري، كتاب الوضوء: باب من الكبائر أن لا يستتر من بوله، رقم (216)، ومسلم، في الموضع السابق، من حديث ابن عباس أيضاً.

(4)

رواه ابن عساكر، كما ذكر الحافظ ابن حجر في «الفتح» شرح حديث رقم (218).

ص: 133

والذي لا يُنقي: إِما لا يُنقي لملاسته، كأن يكون أملساً جدًّا، أو لرطوبته، كحجر رَطْب، أو مَدَر رطب، أو كان المحلُّ قد نَشِفَ؛ لأنَّ الحجر قد يكون صالحاً للإنقاء لكنَّ المحلَّ غير صالح للإِنقاء.

‌غيرَ عَظْمٍ وَرَوْثٍ،

..........

قوله: «غيرَ عظمٍ وروثٍ» ، هذا شرط عدمي وهو الشَّرط الرَّابع، لأنَّ كلمة «غير» تدلُّ على النَّفي.

والدَّليل على ذلك أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم نهى أن يُستنجَى بالعظم أو الروث، كما في حديث ابن مسعود

(1)

، وأبي هريرة (221)، وسلمان (221)، ورويفع

(2)

، وغيرهم رضي الله عنهم.

والتَّعليل: أنه إِن كان العَظْمُ عظمَ مُذَكَّاة، فقد بَيَّنَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّ هذا العظم يكون طعاماً للجِنِّ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال لهم:«لكم كلُّ عظم ذُكِرَ اسمُ الله عليه، يقع في أيديكم أوفَرَ ما يكونُ لحماً»

(3)

، ولا يجوز تنجيسه على الجِنِّ، وإِن كان عظم ميتة فهو نجس فلا يكون مطهِّراً.

والرَّوث: نستدلُّ له بما استدللنا به للعظم.

وأما العِلَّة فإِن كان طاهراً فهو عَلَفُ بهائم الجِنِّ؛ وإِن كان نجساً لم يصلح أن يكون مطهِّراً.

(1)

تقدَّم تخريجه، ص (130، 131، 133).

(2)

رواه أبو داود، كتاب الطهارة: باب ما يُنهى عنه أن يُستنجى به، رقم (36)، والنسائي كتاب الزينة: باب عقد اللحية، رقم (5082)، وأحمد (4/ 108).

(3)

رواه مسلم، كتاب الصلاة: باب الجهر بالقراءة في الصبح والقراءة على الجن، رقم (450) عن عبد الله بن مسعود.

ص: 134

‌وطعامٍ، ومُحْترمٍ، ومتَّصلٍ بحيوانٍ،

...........

قوله: «وطعامٍ» ، يعني طعام بني آدم، وطعام بهائمهم، فلا يصحُّ الاستنجاء بهما. والدَّليل: أن الرَّسول صلى الله عليه وسلم نهى أن يُستنجَى بالعظم، والرَّوث، لأنَّهما طعام الجِنِّ، ودوابهم. والإِنس أفضل، فيكون النهي عن الاستجمار بطعامهم وطعام بهائمهم من باب أوْلى.

كما أن فيه محذوراً آخر، وهو الكفر بالنِّعمة؛ لأن الله تعالى خلقها للأكل؛ ولم يخلقها لأجل أن تُمتهن هذا الامتهان.

فكُلُّ طعام لبني آدم، أو بهائمهم، فإنَّه حرام أن يُستَجْمَرَ به.

وظاهر كلام المؤلِّف: ولو كان فَضْلَةَ طعام ككِسْرَةِ الخُبز.

قوله: «ومحترم» ، المحترم ما له حُرمة، أي تعظيم في الشَّرع، مثل: كُتب العلم الشَّرعي، والدَّليل قوله تعالى:{ذَلِكَ ومَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ *} [الحج].

وقوله: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج: 30].

والتَّقوى واجبة، فمن أجل ذلك لا يجوز أن يَستجمرَ الإنسان بشيءٍ محترم.

وظاهر كلام المؤلِّف: ولو كان مكتوباً بغير العربية ما دام أنَّ موضوعه موضوعٌ محترمٌ.

قوله: «ومتَّصلٍ بحيوان» ، يعني: المتَّصل بالحيوان لا يجوز الاستجمار به، لأن للحيوان حُرمة؛ مثل: أن يستجمر بذيل بقرة، أو أُذُن سَخْلة، وإِذا كان علفُها يُنهى عن الاستجمار به، فكيف بالاستجمارِ بها نفسها؟!

ص: 135

فإِن قِيل: يلزمُ على هذا التَّعليل أنْ لا يجوز الاستنجاءُ بالماء؛ لأنَّ اليد سوفَ تُباشر النَّجاسة؟

فالجواب: أن هذا قد قال به بعض السَّلف، وقال: إن الاستنجاء بالماء من غير أن يتقدَّمه أحجارٌ لا يجوز ولا يجزئ؛ لأنك تلوِّث يدك بالنَّجاسة

(1)

.

وهذا قولٌ ضعيفٌ جداً، وتردُّه السُّنَّة الصَّحيحةُ الصَّريحةُ أنَّه صلى الله عليه وسلم كان يقتصرُ على الاستنجاء.

أما مباشرة اليد النَّجاسة فإِن هذه المباشرة ليست للتَّلوُّث بالخَبَثِ بل لإزالته والتَّخلص منه، ومباشرةُ الممنوع للتَّخلص منه ليست محظورةً بل مطلوبةً، ألا ترى أنه إذا كان الإِنسان مُحْرِماً، ووضع عليه شخص طيباً، فإِنَّ استدامة هذا الطِّيب حرام، ويجب عليه أن يُزيلَه، ولا شيء عليه بمباشرته إِيَّاه لإِزالته.

ومثله أيضاً: لو أن رجلاً غصب أرضاً وأخذ يذهب ويجيء عليها، ثم تذكَّر العذاب وتاب إِلى الله توبة نصوحاً، ومن شروط التَّوبة الإِقلاعُ عن المعصية فوراً، فإن مروره على هذه الأرض إلى أن يخرجَ لا إثم فيه؛ لأنَّه للتَّخلُّص من الحرام، فمباشرة الشيء الممنوع للتَّخلُّص منه لا يمكن أن يأثم الإنسان به، لأنَّ هذا من تكليف ما لا يُطاق.

‌ويُشْتَرطُ ثلاثُ مسحاتٍ ...........

قوله: «ويُشترط ثلاثُ مسحات» ، هذا هو الشَّرط الخامس من شروط الاستجمار وهو أن يمسح محل الخارج ثلاث مرَّات.

(1)

انظر: ص (130).

ص: 136

والدَّليل على ذلك: حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه وهو في «صحيح مسلم» قال: «نهى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن نستنجيَ بأقلَّ من ثلاثة أحجار»

(1)

.

والعِلَّة في أمره صلى الله عليه وسلم بثلاثة أحجار: لأجل أن لا يُكرِّر الإِنسانُ المسحَ على وجه واحد؛ لأنَّه إِذا فعل ذلك لا يستفيدُ، بل ربما يتلوَّث زيادة.

‌مُنْقِيَةٍ فأكثر ولو بحَجَرٍ ذي شُعبٍ ............

قوله: «مُنْقِيَة» ، هذا هو الشَّرط السَّادس، والإِنقاء هو أن يرجعَ الحجرُ يابساً غير مبلول، أو يبقى أثرٌ لا يزيله إلا الماء.

قوله: «فأكثر» ، يعني: أن يمسحَ ثلاثَ مسحات، فإِن لم تُنْقِ الثَّلاث زاد عليها.

وقال بعض العلماء: إذا أنقى بدون ثلاث كفى

(2)

؛ لأنَّ الحكم يدور مع عِلَّته. وهذا القول يُرَدُّ بأنَّه صلى الله عليه وسلم نهى أن نستنجيَ بأقلَّ من ثلاثة أحجار، وإِذا نهى عن ذلك فإِنَّه يجب أن لا نقع فيما نهى عنه. وأيضاً: الغالب أنَّه لا إِنقاء بأقلَّ من ثلاثة أحجار؛ ولأنَّ الثَّلاثة كمِّيَّةٌ رتَّبَ عليها الشَّارع كثيراً من الأحكام.

قوله: «ولو بحَجَر ذي شُعبٍ» ، «لو»: إشارة خلاف؛ لأن بعض العلماء قال: لا بُدَّ من ثلاثة أحجار

(3)

؛ مقتصراً في ذلك على الظَّاهر من الحديث، ولا شَكَّ أن هذا أكمل في الطَّهارة، إِذ إِنَّ الحجَر ذا الشُّعب قد يكون في أحد جوانبه شيء من المسحة

(1)

تقدم تخريجه، ص (130).

(2)

انظر: «المغني» (1/ 209)، «المجموع شرح المهذب» (2/ 103).

(3)

انظر: «الإِنصاف» (1/ 230)، «المحلى» (1/ 95).

ص: 137

الأولى وهو لم يعلم به، لكن من نظر إِلى المعنى قال: إِن الحجَر ذا الشُّعبِ كالأحجار الثَّلاثة إِذا لم تكن شُعَبُه متداخلة بحيث إِذا مسحنا بشُعْبَةٍ اتَّصل التَّلويث بالشُّعْبَة الأخرى.

وهذا هو الرَّاجح في ذلك؛ لأن العِلَّةَ معلومةٌ، فإذا كان الحَجَر ذا شُعَبٍ واستجمر بكُلِّ جهة منه صَحَّ.

وقال بعض العلماء: إِن الرَّسُول صلى الله عليه وسلم اشترط ثلاثة أحجار؛ لأجل أن يكون حجرٌ للصَّفحة اليُمنى، وآخر لليُسرى، وآخر لحَلَقَة الدُّبُر

(1)

.

‌ويُسَنُّ قطعُهُ على وِتْرٍ.

قوله: «ويُسَنُّ قَطْعُه على وِتْرٍ» ، يعني: قطع الاستجمار، والمُراد عددُه، فإِذا أنْقَى بأربعٍ زاد خامسة، وإِذا أنقى بستٍّ زاد سابعة، وهكذا.

والدَّليل: ما ثبت في «الصَّحيحين» أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «من استجمرَ فليوتِرْ»

(2)

، واللام للأمر.

فإن قال قائل: الأصل في الأمر الوجوب، وهذا يقتضي وجوب الإِيتار.

فالجواب: نعم؛ الأصل في الأمر الوجوب، فإن أُريد بالإِيتار الثَّلاثُ فالأمر للوجوب؛ لحديث سلمان وقد سبق

(3)

، وإِن أريدَ ما زاد على الثَّلاث فالأمر للاستحباب بدليل قوله صلى الله عليه وسلم:

(1)

انظر: «فتح الباري» (1/ 257)، «المغني» (1/ 216).

(2)

رواه البخاري، كتاب الوضوء: باب الاستنثار في الوضوء، رقم (161)، ومسلم، كتاب الطهارة: باب الإِيتار في الاستنثار، رقم (237) عن أبي هريرة.

(3)

تقدم تخريجه ص (130).

ص: 138

«من استجمرَ فليوتِرْ، مَنْ فعل فقد أحسنَ؛ ومَنْ لا فلا حَرَج»

(1)

.

فبيَّن النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن هذا على سبيل الاستحباب.

‌ويجبُ الاستنجاءُ لكُلِّ خَارِجٍ إِلا الرِّيحَ،

............

قوله: «ويجبُ الاستنجاءُ لكُلِّ خارج إِلا الريحَ» ، هذا بيانُ حكم الاستنجاء، وما يجب له الاستنجاء، فقال: «ويجب

». وهل المرادُ هنا تطهير المحلِّ بالماء أو بما هو أعمُّ من ذلك؟

الجواب: أَنه عامٌّ، يعني أن تطهيرَه بالماء أو بالأحجار واجب.

والدَّليل: أمرُهُ صلى الله عليه وسلم عليَّ بنَ أبي طالب أن يغسلَ ذكرَه لخروج المَذِي

(2)

، والمذيُ نجس. وأيضاً: حديث سلمان: «أمرنا

(1)

رواه أحمد (2/ 371)، وأبو داود، كتاب الطهارة: باب الاستتار في الخلاء، رقم (35)، وابن ماجه، كتاب الطهارة، وسننها: باب الارتياد للغائط والبول، رقم (337)، وابن حبان رقم (1410) وغيرهم من طريق الحصين الحبراني، عن أبي سعيد الخير، عن أبي هريرة به.

قال ابن حجر: «ومداره على أبي سعد الحبراني الحمصي، وفيه اختلاف، وقيل: إِنه صحابي، ولا يصحُّ، والرَّاوي عنه حصين الحبراني، وهو مجهول، وقال أبو زرعة: شيخ، وذكره ابن حبان في الثقات، وذكر الدارقطني الاختلاف فيه في العلل» .

«التلخيص الحبير» رقم (123)، وانظر:«العلل» للدارقطني رقم (1570).

قال النووي: «هذا حديث حسن» ! «المجموع» (2/ 55).

قال ابن حجر: «حسن الإِسناد» ! «الفتح» شرح حديث رقم (156).

قلت: أما أبو سعد (أو سعيد) فهو تابعي قطعاً كما قال ابن حجر في «تهذيب التهذيب» (12/ 109)، وذِكْر «الخير» بعده كما في بعض الروايات وَهْمٌ، والصواب بدونها كما قال الدارقطني في «العلل» ، فالقول قول الحافظ في «التلخيص» والإِسناد ضعيف.

(2)

رواه البخاري، كتاب الغسل: باب غسل المذي والوضوء منه، رقم (269)، ومسلم، كتاب الحيض: باب المذي، رقم (303). بلفظ:«يغسل ذكره ويتوضأ» .

ص: 139

رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا نستنجيَ بأقلَّ من ثلاثة أحجار»

(1)

.

وقوله: «لكُلِّ خَارجٍ» أي من السَّبيلين، ويُستثنى من ذلك الرِّيحُ؛ لأنها لا تُحدِثُ أثراً فهي هواءٌ فقط، وإِذا لم تُحدث أثراً في المحلِّ فلا يجب أن يُغسَلَ؛ لأن غسله حينئذٍ نوع من العبث، وسواء كان لها صوت أم لا فهي طاهرة، وإِن كانت رائحتها خبيثة.

وقال بعض العلماء: إِن الرِّيحَ نجسةٌ فيجب غَسْلُ المحلِّ منها

(2)

. والصحيحُ: أنَّها طاهرةٌ؛ لأنها ليس لها جِرْمٌ.

ويترتَّب على هذا أنَّه لو خرجت منك وثيابك مبلولة فإِنها ستلاقي رطوبة.

فإن قلنا: هي نجسةٌ وجب غسل ما لاقته، وإن قلنا: طاهرةٌ لم يجب.

ولا نقول: يترتَّبُ على ذلك ما ذكره بعضُ الفقهاء: من أنَّ المصلِّيَ لو حمل قِرْبَة فُساءٍ فهل تصحُّ صلاته؟ لأن هذا أمر لا يمكن، ولكن بعض أهل العلم مشغوفٌ بالإِغراب في تصوير المسائل، ومثل هذا الأولى تركه؛ لأنه قد يُعاب على الفقهاء أن يصوِّروا مثل هذه الصُّور النَّادرة، التي قد تكون مستحيلة.

ويُستثنى من ذلك أيضاً المنيُّ؛ وهو خارجٌ من السَّبيل فهو داخل في عموم قوله: «لكُلِّ خَارجٍ» لكنَّه طاهرٌ، والطَّاهر لا يجب الاستنجاء له.

(1)

تقدم تخريجه ص (130).

(2)

انظر: «الإِنصاف» (1/ 234، 235).

ص: 140

ويُستثنى أيضاً غيرُ المُلَوِّثِ ليُبُوسَتِه، فإِذا خرج شيءٌ لا يُلوِّثُ ليُبُوسَتِه فلا يُستَنْجى له؛ لأن المقصودَ من الاستنجاء الطَّهارةُ، وهنا لا حاجة إلى ذلك.

فإِن خرجَ شيءٌ نادرٌ كالحصاة فهل يجب له الاستنجاء؟

الجواب: إِنْ لوَّثت وجب الاستنجاءُ؛ لدخولها في عموم كلام المؤلِّف، وإِذا لم تلوِّث لم يجبْ لعدم الحاجة إليه.

‌ولا يصحُّ قبلَه وُضُوءٌ، ولا تَيَمُّمٌ.

قوله: «ولا يصحُّ قبلَه وُضُوءٌ ولا تيمُّمٌ» ، يعني: يُشترطُ لصحَّة الوُضوء والتيمُّم تقدم الاستنجاء، أو الاستجمار.

والدَّليل فعلُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فإِنَّه كان يُقدِّمُ الاستجمار على الوُضُوء

(1)

، ولكن هل مجرد الفعل يدلُّ على الوجوب؟ الرَّاجحُ عند أهل العلم أن مجرَّد الفعل لا يقتضي الوجوب؛ إِلا إذا كان بياناً لمجمل من القول يدل على الوجوب؛ بناءً على النَّصِّ المبيَّن

(2)

.

أما مجرَّدُ الفعل: فالصَّحيح أنَّه دالٌ على الاستحباب، ولكنَّ فقهاء الحنابلة استدلُّوا على الوجوب بقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم لعليٍّ رضي الله عنه:«يغسُل ذَكَرَه ويتوضَّأ»

(3)

، قالوا: قَدَّمَ ذِكْرَ غَسْلِ

(1)

مثل حديث أنس عند البخاري، كتاب الوضوء: باب حمل العنزة مع الماء في الاستنجاء، رقم (152) بلفظ:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل الخلاء، فأحمل أنا وغلامٌ إِداوةً من ماء وعَنَزَة، يستنجي بالماء» . ووجه حمل العنزة مع الماء: لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إِذا استنجى توضَّأ، وإِذا توضَّأ صلَّى. قال ابن حجر:«هذا أظهر الأوجه» . وهو استنباط البخاري، وانظر أحاديث الاستجمار والاستنجاء ص (130، 131).

(2)

انظر: «مجموع الفتاوى» (22/ 567)، «الأصول من علم الأصول» ص (41).

(3)

تقدم تخريجه ص (139).

ص: 141

الذَّكَر، والأصل أن ما قُدِّمَ فهو أسبق

(1)

، ويدلُّ لذلك قوله صلى الله عليه وسلم حين أقبل على الصَّفا:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} ؛ أبْدَأُ بما بَدَأ اللَّهُ به»

(2)

، ولكن هذه الرِّواية في «مسلم» يعارضها رواية «البخاري» و «مسلم» حيث قال:«توضَّأ وانضحْ فرجك»

(3)

فظاهرهما التَّعارض؛ لأنَّ إِحدى الرِّوايتين قَدَّمَتْ ما أخَّرتَه الأخرى.

والجمع بينهما أن يُقالَ: إِن الواو لا تستلزم التَّرتيب.

فأما رواية النَّسائي: «يغسلُ ذَكَره ثم ليتوضَّأ»

(4)

، وهذه صريحة في التَّرتيب. فقد ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله أنها منقطعة، والانقطاع يضعِّفُ الحديث، فلا يُحتَجُّ بها.

ولهذا كان عن الإِمام أحمد في هذه المسألة روايتان

(5)

:

الأولى: أنَّه يصحُّ الوُضُوءُ والتيمُّمُ قبل الاستنجاء.

الثانية: أنَّه لا يصحُّ وهي المذهب.

(1)

انظر: «كشاف القناع» (1/ 70، 71).

(2)

رواه مسلم، كتاب الحج: باب حجة النبيِّ صلى الله عليه وسلم، رقم (1218) عن جابر بن عبد الله ..

(3)

اللفظ له، عن علي بن أبي طالب.

(4)

رواه النسائي، كتاب الغسل: باب الوضوء من المذي (الاختلاف على بُكير)، (1/ 215) رقم (438). عن بكير بن الأشج، عن سليمان بن يسار عن علي بن أبي طالب به. وسليمان بن يسار لم يسمع من علي ولا من المقداد؛ كما قال القاضي عياض. انظر: هامش «جامع التحصيل» ص (191).

(5)

انظر: «الإِنصاف» (1/ 235، 236).

ص: 142

والرِّواية الأولى اختارها الموفَّق، وابن أخيه شارح «المقنع» والمجد

(1)

.

وهذه المسألة إِذا كان الإِنسانُ في حال السَّعَة فإِننا نأمره أولاً بالاستنجاء ثم بالوُضُوء، وذلك لفعل النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وأما إِذا نسيَ، أو كان جاهلاً فإِنه لا يجسر الإِنسان على إِبطال صلاته، أو أمره بإِعادة الوُضُوء والصَّلاة.

(1)

انظر: «المغني» (1/ 155)، «الشرح الكبير» (1/ 235، 236)، «المحرر» (1/ 10).

ص: 143

‌بابُ السِّواكِ وسُنَنِ الوُضُوءِ

‌التَّسوُّكُ بعودٍ ..........

السِّواك: فِعَال من ساك يسُوك، أو مِنْ تسوَّك يتسوَّكُ، فهو على الثَّاني اسم مصدر يُطلق على الآلة التي هي العُود فيُقال: هذا سواكٌ من أراك، كما يقال: مِسْواك، ويُطلق على الفعل ويُقال: السِّواك سُنَّةٌ، أي: التَّسوُّك الذي هو الفعل.

وقوله: «باب السِّواك وسُنَنِ الوُضُوء» ، بعضُ العلماء قال: باب السِّواكِ وسُنَنِ الفِطْرة، والمناسبة أنَّ السِّواك من الفِطْرة.

وبعضهم قال: باب السِّواكِ وسُنَنِ الوُضُوء؛ لأنَّه لما كان السِّواك من سُنَنِ الوُضوء قَرَنَ بقيةَ السُّنن بالسِّواك، وإِلا فالأصل أن السُّنَنَ تُذْكَرُ بعد ذِكْرِ الواجبات والأركان، كما فعلوا ذلك في كتاب الصَّلاة، وإِنما قُدِّمَ السواكُ على الوُضُوء وهو من سُنَنِه لوجهين:

الأول: أنَّ السِّواك مَسْنُون كلَّ وقت، ويتأكّد في مواضع أخرى غير الوُضُوء.

والثاني: أنَّ السِّواك من باب التطهير فله صِلَةٌ بباب الاستنجاء.

قوله: «التَّسوُّك بعُود» ، التسوُّك مبتدأ، وخبره «مسنونٌ» . والجار والمجرور الذي هو «بعود» متعلِّق بالتَّسوُّك.

وقوله: «بعودٍ» دخل فيه كلُّ أجناس العيدان؛ سواء كانت من جريد النَّخل، أو من عراجينها، أو من أغصان العنب أو من

ص: 144

غير ذلك، فهو جنس شامل لجميع الأعواد، وما بعد ذلك من القُيود فإِنها فصولٌ تُخرِجُ بقيةَ الأعواد.

فخرج بقوله: «عُود» التَّسوُّكُ بخِرْقَةٍ، أو الأصابعُ، فليس بسُنَّة على ما ذهب إليه المؤلِّف وهو المذهب.

‌ليِّنٍ مُنْقٍ غَيْرِ مُضِرٍّ لا يَتَفَتَّتُ، لا بِأصْبِع،

........

قوله: «ليِّنٍ» ، خرج به بقيَّةُ الأعواد القاسية؛ فإنه لا يُتسوَّكُ بها؛ لأنها لا تفيد فائدةَ العود الليِّن، وقد تضرُّ اللِّثَةَ إِن أصابتها، والطَّبقة التي على العظم في الأسنان.

قوله: «مُنْقٍ» ، خرج به العُودُ الذي لا شعر له، ويكون رطباً رطوبة قويَّة، فإنه لا يُنقي لكثرة مائه وقِلَّة شعره التي تؤثِّرُ في إِزالة الوَسَخ.

قوله: «غَيْرِ مُضرٍّ» ، احترازاً مما يُضِرُّ كالرَّيحان، وكُلّ ما له رائحة طيِّبة؛ لأنَّه يؤثِّر على رائحة الفم؛ لأن هذه الريح الطيِّبة تنقلب إلى ريح خبيثة.

قوله: «لا يَتَفَتَّتُ» ، معناه لا يتساقط، لأنه إِذا تساقط في فمك ملأه أذى.

قوله: «لا بأصْبع» ، أي: لا يُسَنُّ التَّسوُّكُ بالأصبع، ولا تحصُل به السُّنَّةُ، سواء كان ذلك عند الوُضُوء أو لم يكن، هذا مقتضى إِطلاق المؤلِّف.

وقال بعض العلماء؛ ومنهم الموفَّق صاحب «المقنع» ، وابن أخيه شارح «المقنع»: إِنه يحصُل من السُّنِّيَّة بقدر ما حصل من الإِنْقاء

(1)

.

(1)

انظر: «المغني» (1/ 137)، «الشرح الكبير» (1/ 247).

ص: 145

وقد رُوي عن عليِّ بن أبي طالب رضي الله عنه في صفة الوُضُوء أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم: «أدخل بعضَ أصابعه في فيه

»

(1)

، وهذا يدلُّ على أن التَّسوُّك بالأصبع كافٍ، ولكنَّه ليس كالعُود؛ لأن العود أشدُّ إِنقاءً.

لكن قد لا يكون عند الإنسان في حال الوُضُوء شيء من العيدان يَستاكُ به، فنقول له: يجزئ بالأصبع.

‌أو خِرْقَةٍ .........

قوله: «أو خِرْقَةٍ» ، أي: لا يُسَنُّ التَّسوُّك بالخِرْقَة ولا تحصُل به السُّنَّة، ومعناه: أن يجعل الخِرْقَة على الأصبع ملفوفة ويتسوَّك بها، والإِنقاء بالخِرْقَة، أبلغُ من الإِنقاء بمجرَّد الأصبع.

ولهذا قال بعضُ العلماء: إن كان الإصبع خشناً أجزأ التَّسوُّك به، وإِن كان غير خشنٍ لم يجزئ

(2)

.

وتقدَّم أن الخرقة أبلغ في التَّنظيف. فَمَنْ قال: إِن الأصبع تحصُل به السُّنَّة قال: إِن الخِرْقَة من باب أولى.

فائدة: في الأصبع عَشْرُ لُغَاتٍ؛ ولذلك يُقال: لا يُغلَّطُ فيها أحدٌ في الصَّرف؛ لأن الصَّاد ساكنة، والهمزة والباء مثلثتان، يعني يجوز فيها فتح الهمزة، وكسرها، وضمُّها، مع فتح الباء، وكسرها، وضمِّها.

قال بعضُهم ناظماً تلك اللُّغات، ومضيفاً إليها «أنملة»:

(1)

رواه أحمد (1/ 158) وإِسناده ضعيف، وانظر:«التلخيص الحبير» رقم (69).

(2)

انظر: «المجموع شرح المهذب» (1/ 282).

ص: 146

وهمزَ أنملةٍ ثلِّث وثالِثَه التسعُ في أصبع، واختم بأصبوع

‌مسنونٌ كل وقت .......

قوله: «مَسْنُون» ، هذا خبر قوله:«التَّسوُّك» . والمسنون عند العلماء: كلُّ عبادة أُمِرَ بها لا على سبيل الإِلزام.

فقولنا: لا على سبيل الإِلزام، لأنَّه إِن كان على سبيل الإِلزام فهو الواجب.

والدَّليل على سُنيَّة السِّواك قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «لولا أن أشقَّ على أمتي لأمرتهم بالسِّواك عند كلِّ صلاة»

(1)

.

فقوله صلى الله عليه وسلم: «لولا أن أشُقَّ على أمتي لأمرتهم

»، يدلُّ على أنه ليس بواجب، لأنه لو كان واجباً لشَقَّ عليهم.

ولا يدلُّ على أنه ليس بمسنون، أو ليس مأموراً به، بل لولا المشقَّة لكان واجباً لأهميَّته.

‌لغيرِ صائمٍ بَعْدَ الزوالِ،

.........

قوله: «كُلّ وقْتٍ» ، أي: بالليل والنَّهار، والدَّليل قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة:«السِّواك مطهرة للفم؛ مرضاة للرَّبِّ»

(2)

، فأطلق النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقيِّد في وقت دون آخر.

وفي هذا فائدتان عظيمتان:

1 ـ دُنيويَّة، كونُه مطهرةً للفم.

2 ـ أُخرويَّة، كونُه مرضاةً للرَّبِّ.

وكلُّ هذا يحصُل بفعل يسير فيحصُل على أجر عظيم، وكثير

(1)

رواه البخاري، كتاب الجمعة: باب السواك يوم الجمعة، رقم (887)، ومسلم، كتاب الطهارة: باب السواك، رقم (252) واللفظ له من حديث أبي هريرة.

(2)

رواه البخاري تعليقاً بصيغة الجزم، كتاب الصوم: باب السواك الرَّطب واليابس للصائم، ترجمة حديث، رقم (1934).

ص: 147

من النَّاس يمرُّ عليه الشَّهران والثَّلاثة ولم يتسوَّك إِما جهلاً، أو تهاوناً.

قوله: «لغير صائمٍ بعد الزَّوال» ، أي: فلا يُسَنُّ، وهذا يعمُّ صيام الفرض والنَّفْل.

وقوله: «بعد الزَّوال» ، أي: زوال الشَّمس، ويكونُ زوالُها إِذا مالت إلى جهة المغرب؛ لأنها أولُ ما تطلع من ناحية الشَّرق، فإِذا توسطت السَّماء ثم زالت عنه فقد زالت.

قال أهل العلم رحمهم الله: علامة الزَّوال أن تنصب شاخصاً؛ أي: شيئاً مرتفعاً، وتَنْظُرَ إِليه فما دام ظِلُّه ينقص فالشَّمس لم تَزُلْ، فإِذا بدأ يزيد ولو شعرة فقد زالت

(1)

.

والمشهور من المذهب كراهة التَّسوُّك بعد الزَّوال للصَّائم؛ والدَّليل:

1 -

قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا صُمْتُم فاستاكوا بالغداة، ولا تستاكوا بالعَشيِّ»

(2)

، والعَشِيُّ بعد الزَّوال.

2 -

قوله صلى الله عليه وسلم: «لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائم أطيبُ عند الله يوم القيامة من ريح المسك»

(3)

. والخُلوف ـ بضم الخاء ـ هو الرَّائحة الكريهة التي تكون بالفم عند خلوِّ المعدة من الطَّعام، ولا يظهر

(1)

انظر: «حاشية العنقري على الروض المربع» (1/ 133).

(2)

رواه الدارقطني (2/ 204) رقم (2347)، ومن طريقه البيهقي (4/ 274)، من حديث علي، والحديث ضعّفه البيهقي، وابن حجر. انظر:«التلخيص» رقم (64).

(3)

رواه البخاري، كتاب الصوم: باب فضل الصوم، رقم (1894)، ومسلم، كتاب الصيام: باب فضل الصيام رقم (1151) من حديث أبي هريرة.

ص: 148

في الغالب إلاَّ في آخر النَّهار، لكن لما كان ناشئاً عن طاعة الله صار أطيبَ عند الله من ريح المسك، وإِذا كان أطيبَ عند الله من ريح المسك فإِنَّه لا ينبغي أن يُزالَ، بدليل أنَّ دمَ الشَّهيد الذي عليه لا يُزالُ، بل يجب أن يبقى عليه وأن يُدفن في ثيابه وبدمائه، كما أمر النبيُّ صلى الله عليه وسلم بذلك في شُهداء أحد

(1)

، قالوا: فكلُّ ما كان ناشئاً عن طاعة الله فإِنه لا ينبغي إِزالتُه، ولذلك كُرِه للصَّائم التَّسوُّك بعد الزَّوال، وأما قبل الزَّوال فقالوا: يُستحب بيابس ويُباح برطب. فجعلوا السِّواك للصَّائم على ثلاثة أوجه: مباح برطب قبل الزَّوال، ومسنون بيابس قبل الزَّوال، ومكروه بعد الزَّوال مطلقاً

(2)

.

واستدلُّوا على أنَّه مسنون للصَّائم قبل الزَّوال: بعموم الأدلة.

وعلى أنَّه مباح برطْبٍ: أنَّه لرطُوبته يُخشى أن يتسرَّب منه طعمٌ يصل إلى الحلق فيُخِلَّ بصيامه؛ ولهذا قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم للقيط بن صَبِرة: «وبالغْ في الاستنشاقِ إِلا أن تكونَ صائماً»

(3)

.

(1)

رواه البخاري، كتاب الجنائز: باب الصلاة على الشهيد، رقم (1343)، من حديث جابر بن عبد الله.

(2)

انظر: «المغني» (1/ 138)، «شرح منتهى الإِرادات» (1/ 38).

(3)

رواه أحمد (4/ 33، 211)، وأبو داود، كتاب الطهارة: باب في الاستنثار، رقم (142)، والنسائي كتاب الطهارة: باب المبالغة في الاستنشاق، (1/ 67) رقم (87)، والترمذي، كتاب الصوم: باب ما جاء في كراهية مبالغة الاستنشاق للصائم، رقم (788)، وابن ماجه، كتاب الطهارة: باب المبالغة في الاستنشاق والاستنثار، رقم (407).

وصَحَّحه جمعٌ منهم: الترمذي، وابن خزيمة، والحاكم، والنووي وغيرهم.

انظر: «الخلاصة» رقم (149)، «شرح صحيح مسلم» للنووي رقم (226)، «المحرر» (1/ 103) رقم (45)، «التلخيص» رقم (80).

ص: 149

وأما كونه مكروهاً بعد الزَّوال فاستدلُّوا: بالأثر والنَّظر السابقين؛ الدَّالين على الكراهة.

وقال بعض العلماء: إِنه لا يُكرَهُ للصَّائم مطلقاً، بل هو سُنَّةٌ في حَقِّه كغيره

(1)

.

قال في «الإِقناع» ـ وهو من كتب الحنابلة المتأخِّرين؛ وهو غالباً على المذهب ـ: «وهو أظهر دليلاً»

(2)

. وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله

(3)

.

واستدلُّوا: بعموم الأدلة الدَّالَّة على سُنِّيَّة السِّواك؛ كحديث عائشة رضي الله عنها السابق

(4)

، فإن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يستثنِ شيئاً، والعام يجب إِبقاؤه على عمومه، إلا أن يَرِدَ مخصِّص له، وليس لهذا العموم مخصِّصٌ قائم.

وأما حديث عليٍّ فضعيف

(5)

لا يَقْوَى على تخصيص العموم؛ لأنَّ الضَّعيف ليس بحُجَّة، فلا يَقْوَى على إِثبات الحكم، وتخصيص العموم حكم؛ لأنه إِخراج لهذا المخصَّصِ عن الحكم العام؛ وإِثبات حكم خاصٍّ به، فيحتاج إلى ثبوت الدَّليل المخصِّصِ، وإِلا فلا يُقْبَلُ.

وأما التَّعليل فعليل من وجوه:

الوجه الأول: أن الذين قتلوا في سبيل الله، أُمِرْنا بأن نُبقيَ

(1)

انظر: «الإِنصاف» (1/ 242).

(2)

انظر: «الإِقناع» (1/ 31).

(3)

انظر: «مجموع الفتاوى» (25/ 266)، «الاختيارات» ص (10).

(4)

تقدم تخريجه، ص (147).

(5)

تقدم تخريجه ص (148).

ص: 150

دماءهم؛ لأنهم يُبْعثونَ يوم القيامة، الجرح يَثْعُبُ دماً، اللونُ لونُ الدَّمِ، والرِّيحُ ريحُ المسكِ، فلا ينبغي أن يُزالَ هذا الشَّيءُ الذي سيوجدُ يوم القيامة.

ونظير هذا قوله صلى الله عليه وسلم في الذي مات في عرفة «كَفِّنُوه في ثَوبيه»

(1)

، ولهذا ينبغي فيمن مات محرماً أن لا نطلب له خِرْقَة جديدة، بل نكفِّنُه في ثياب إحرامه التي عليه؛ لأنه كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:«يُبعث يوم القيامة ملبِّياً» (260).

الوجه الثاني: أنَّ ربط الحُكم بالزَّوال مُنتقضٌ؛ لأنه قد تحصُل هذه الرَّائحة قبل الزَّوال؛ لأن سبَبَها خلوُّ المعدة من الطَّعام، وإِذا لم يتسحَّر الإِنسان آخر الليل فإِنَّ معدته ستخلو مبكِّرة؛ وهم لا يقولون: متى وُجِدت الرَّائحة الكريهة كُرِه السِّواك؟!

الوجه الثالث: أنَّ من النَّاس من لا توجد عنده هذه الرَّائحة الكريهة، إِما لصفاء معدته، أو لأنَّه معدته لا تهضم بسرعة، فتكون هذه العِلَّة منتقضة، وإِذا انتقضت العِلَّة انتقض المعلول؛ لأن العِلَّة أصلٌ والمعلول فرعٌ.

والرَّاجح أن السِّواك سُنَّةٌ حتى للصَّائم قبل الزَّوال وبعده، ويؤيِّده حديث عامر بن ربيعة ـ والذي ذَكَره البخاريُّ تعليقاً ـ:«رأيت النبيَّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَاك وهو صائمٌ، ما لا أُحصي أو أَعُدُّ»

(2)

.

(1)

رواه البخاري، كتاب جزاء الصيد: باب سُنَّة المحرم إِذا مات، رقم (1851) واللفظ له، ومسلم، كتاب الحج: باب ما يُفعل بالمحرم إِذا مات، رقم (1206) من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما.

(2)

رواه البخاري تعليقاً بصيغة التمريض، كتاب الصوم: باب السّواك الرطب واليابس للصائم، انظر رقم (1934). ووصله أحمد (3/ 445)، وأبو داود، كتاب الصوم: باب السواك للصائم، رقم (2364)، والترمذي، كتاب الصوم: باب ما جاء في السواك للصائم، رقم (725) وقال: حديث حسن، وابن خزيمة رقم (2007). ومداره على عاصم بن عبيد الله، قال الحافظ فيه: ضعيف.

انظر: «التقريب» (3082).

ص: 151

‌متأكِّدٌ عِنْدَ صلاةٍ،

...........

قوله: «مُتَأكّدٌ» ، خبرٌ ثان، لقوله:«التَّسوُّك» وتعدُّد الأخبار جائز، قال تعالى:{وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ *} [البروج] فالودودُ خبرٌ ثانٍ، ولا يجوزُ أن يكونَ صفةً للغفور؛ لأن «الغفور» نفسه صفة بالمعنى العام، لا بالمعنى النَّحْوي.

قوله: «عِنْدَ صَلاة» ، والدَّليل قوله صلى الله عليه وسلم:«لولا أن أشُقَّ على أمتي لأمرتهم بالسِّواك عند كلِّ صلاة»

(1)

. وكلمة «عند» في الحديث وفي كلام المؤلِّف تقتضي القُرْبَ، لأن العندية تقتضي قرب الشيء من الشيء، كما قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ} [الأعراف: 206]، وكما قال في الكتاب الذي كتبه فهو عنده فوقَ العرش

(2)

.

فقوله صلى الله عليه وسلم: «عند كُلِّ صلاة» أي قُربها، وكُلَّما قَرُبَ منها فهو أفضل، وأما قول بعضهم:«عند الصَّلاة» : إِن المراد به الوُضُوء، فغير صحيح؛ لأن الوُضُوء قد يتقدَّمُ على الصَّلاة كثيراً،

(1)

تقدم تخريجه ص (147).

(2)

رواه البخاري، كتاب التوحيد: باب قول الله تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} ، رقم (7404) ومسلم، كتاب التوبة: باب في سعة رحمة الله، رقم (2751) عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لما خلق الله الخلق، كتب في كتابه، وهو يكتب على نفسه، وهو وَضْعٌ عنده على العرش: إِن رحمتي تغلبُ غضبي» . واللفظ للبخاري.

ص: 152

ثم إِنَّ للوُضُوء استياكاً خاصًّا، وليس من شروط التَّسوُّك عند الصَّلاة أن يكون الفمُ وسخاً.

وقوله: «عند صلاةٍ» يشمل الفرضَ والنفلَ، وصلاةَ الجنازة لعموم الحديث

(1)

، أما سجود التِّلاوة فيُبنى على الخلاف:

فإِن قلنا: إِنَّه صلاة ـ كما هو المشهور من المذهب ـ سُنَّ السِّواك له، وإلا فلا، وكذلك سجود الشُّكر.

ولكن نقول: إِذا لم يكن مُتَأكّداً عند سجود التِّلاوة، فإِنه داخل في أنه مسنون كُلَّ وقت، لكن لا نعتقد أنَّه مسنونٌ من أجل هذا الشيء إِذا قلنا: إن سجود التلاوة ليس بصلاة.

‌وانْتِبَاهٍ،

...........

قوله: «وانتباهٍ» ، أي يَتَأكَّدُ السِّواكُ عند الانتباه من النَّوم، والدَّليلُ قولُ حُذيفةَ بنِ اليمان رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إِذا قامَ من الليل يَشُوصُ فاهُ بالسِّواك

(2)

.

قال العلماء: معنى يشوص: يغسله ويدلكه بالسِّواك

(3)

.

وظاهر كلام المؤلِّف: أنه يَتَأَكَّدُ عند الانتباه من نوم الليل، ومن نوم النَّهار؛ لأنه قال:«وانتباهٍ» ولم يخصَّ بالليل.

ولا يصحُّ أن يُستدلَّ بحديث حذيفة على تأكُّد السِّواك عند الانتباه من نوم النَّهار؛ لأن الدَّليل أخصُّ، ولا يمكن أن يُستَدَلَّ

(1)

تقدم تخريجه ص (147).

(2)

رواه البخاري، كتاب الوضوء: باب السِّواك، رقم (245) واللفظ له، ومسلم كتاب الطهارة: باب السواك، رقم (255)، ولفظه:«كان إِذا قام ليتهجد .... » .

(3)

انظر: «المصباح المنير» (1/ 327).

ص: 153

بالأخصِّ على الأعمِّ. لكن يُقالُ: إِن حذيفة رأى النبيَّ صلى الله عليه وسلم عند الانتباه من نوم الليل، ولا يمنع أن يكون ذلك أيضاً عند الانتباه من نوم النهار؛ لأنّ العِلَّة واحدة، وهي تغيُّر الفَم بالنَّوم. فعلى هذا يتأكَّد كما قال المؤلِّف عند الانتباه من النَّوم مطلقاً، بالدَّليل في نوم الليل، وبالقياس في نوم النَّهار.

واعلم أن القياس الواضح الجليَّ يُعبِّر عنه بعضُ أهل العلم، كشيخ الإِسلام ابن تيمية رحمه الله بالعموم المعنوي

(1)

، لأنَّ العموم يكون بالألفاظ، وقد يكون بالمعاني، بمعنى أنَّا إِذا تيقَّنَّا أو غلب على ظنِّنا أن هذا المعنى الذي جاء به النَّصُّ يشمل هذا المعنى الذي لم يدخل في النَّصِّ لفظاً؛ فإِننا نقول: دخل فيه بالعموم المعنوي. وإِذا قلنا: إِنَّه ثبت بالقياس الجليِّ فالأمر واضح؛ لأن الشَّريعة لا تفرِّق بين متماثلين.

‌وتَغَيُّرِ فَمٍ، ويَسْتَاكُ عَرْضاً،

.........

قوله: «وتغيُّر فَم» ، أي: يَتَأكَّد عندَ تغيُّر الفَمِ، والدَّليل قوله صلى الله عليه وسلم:«السِّواك مطهرة للفَمِ»

(2)

، فمقتضى ذلك أنَّه متى احتاج الفَمُ إِلى تطهير كان مُتَأكّداً.

قوله: «ويستاكُ عَرضاً» ، أي: عرضاً بالنِّسبة للأسنان، وطولاً بالنِّسبة للفَمِ، وقال بعض العلماء: يستاك طولاً بالنِّسبة للأسنان، لأنه أبلغ في التنظيف.

ويحتمل أن يُقال: يرجع إلى ما تقتضيه الحال، فإِذا اقتضت الحالُ أن يستاكَ طولاً، استاك طولاً، وإِذا اقتضت أن يستاكَ

(1)

انظر: «مجموع الفتاوى» (6/ 439).

(2)

تقدم تخريجه ص (147).

ص: 154

عرضاً استاك عرضاً؛ لعدم ثبوت سُنَّة بيِّنَةٍ في ذلك.

‌مُبْتَدِئاً بِجَانِبِ فَمِهِ الأيْمَنِ،

..........

قوله: «مبتدِئاً بجانب فَمِه الأيمن» ، والدَّليل أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم «كان يُعجبُه التيمُّن في تنعُّله، وترجُّله، وطُهوره، وفي شأنه كلِّه»

(1)

.

واختلف العلماء هل يستاك باليد اليُمنى أو اليُسرى

(2)

؟

فقال بعضهم: باليمنى؛ لأن السِّواك سُنَّةٌ، والسُّنَّةُ طاعةٌ وقُربةٌ لله تعالى، فلا يكونُ باليُسرى؛ لأنَّ اليسرى تُقدَّم للأذى، بناءً على قاعدةٍ وهي: أن اليسرى تقدَّم للأذى، واليُمنى لما عداه.

وإذا كان عبادة فالأفضل أن يكون باليمين.

وقال آخرون: باليسار أفضل، وهو المشهور من المذهب؛ لأنَّه لإِزالة الأذى، وإِزالة الأذى تكون باليُسرى كالاستنجاء، والاستجمار.

وقال بعض المالكية: بالتَّفصيل، وهو إِنْ تسوَّك لتطهير الفَمِ كما لو استيقظ من نومه، أو لإزالة أثر الأكل والشُّرب فيكون باليسار؛ لأنه لإزالة الأذى

(3)

.

وإِنْ تسوَّك لتحصيل السُّنَّة

فباليمين؛ لأنه مجرد قُربة، كما لو توضَّأ واستاك عند الوُضُوء، ثم حضر إِلى الصَّلاة قريباً فإِنَّه يستاك لتحصيل السُّنَّة.

(1)

رواه البخاري، كتاب الوضوء: باب التيمُّن في الوضوء والغُسْل، رقم (168) واللفظ له، ومسلم، كتاب الطهارة: باب التيمُّن في الطهُور وغيره، رقم (268) عن عائشة رضي الله عنها ..

(2)

انظر: «مجموع الفتاوى» (21/ 108 ـ 113)، «الإِنصاف» (1/ 272، 273).

(3)

انظر: «شرح الزرقاني على مختصر خليل» (1/ 72).

ص: 155

والأمر في هذا واسع لعدم ثبوت نصٍّ واضحٍ.

‌ويَدَّهِنُ غِبًّا، ويَكْتَحِلُ وِتْراً،

.........

قوله: «ويَدَّهِنُ غِبًّا» ، الادهان: أن يستعملَ الدُّهن في شعره.

وقوله: «غِبًّا» يعني: يفعل يوماً، ولا يفعل يوماً، وليس لازماً أن يكون بهذا التَّرتيب؛ فيُمكن أن يستعمله يوماً، ويتركه يومين، أو العكس، ولكن لا يستعمله دائماً؛ لأنه يكون من المُترَفين الذين لا يهتمون إِلا بشؤون أبدانهم، وهذا ليس من الأمور المحمودة، ففي سنن أبي داود والنَّسائي أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن كثيرٍ من الإِرفاه

(1)

، أي لا ينبغي أن يُكثِرَ من إِرفاه نفسه، وقال صلى الله عليه وسلم:«إن خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يكون بعدهم قومٌ يَشْهَدون ولا يُستَشْهَدُون، ويخونون ولا يُؤتَمنون، ويَنْذِرُونَ ولا يُوفُون، ويظهر فيهم السِّمَن»

(2)

. فالسِّمَن يظهر من كثرة الإِرفاه؛ لأن الذي لا يُترِفُ نفسه لا يسمن غالباً، وهذا يدلُّ على أنَّ كثرة التَّرف، ليست من الأمور المحمودة.

وتركُ الادِّهان بالكلية سيِّءٌ؛ لأنَّ الشَّعر يكون شَعِثاً ليس بجميل ولا حسن، فينبغي أن يكون الإِنسان وسطاً بين هذا وهذا.

قوله: «ويَكْتَحِلُ وِتْراً» ، الكُحْلُ يكون بالعين.

(1)

رواه أحمد (6/ 22)، وأبو داود، كتاب الترجل، رقم (4160)، والنسائي، كتاب الزينة: باب التَّرجُّل، (8/ 185). وانظر (8/ 133). من حديث عبد الله بن شقيق، ورجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يُقال له: عبيد ـ بإِسنادين صحيحين.

(2)

رواه البخاري، كتاب الشهادات: باب لا يشهد على شهادة جور، رقم (2651)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة: باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم، رقم (2535) من حديث عمران بن حصين.

ص: 156

وقوله: «وِتْراً» يعني ثلاثةً في كُلِّ عَين.

قالوا: وينبغي أن يكتحلَ بالإِثْمِدِ كُلَّ ليلة، وهو نوع من الكُحْل مفيدٌ جداً للعين.

ومن أراد أن يعرفَ عنه فليقرأ: «زادُ المعادِ»

(1)

لابن القَيِّم رحمه الله، وهو من أحسن الكُحْلِ تقويةً للنَّظر.

ويُقال: إِن زرقاء اليمامة كانت تنظرُ مسيرةَ ثلاثة أيام بعينها المجرَّدة، فلما قُتلَتْ نظروا إِلى عينها فوجدوا أن عروق عينها تكاد تكون محشوَّةً بالإِثْمِدِ

(2)

.

أمَّا الاكتحالُ الذي لتجميل العين فهل هو مشروع للرَّجُلِ أم للأنثى فقط؟

الظَّاهر أنَّه مشروع للأنثى فقط، أما الرَّجُل فليس بحاجة إلى تجميل عينيه.

وقد يُقال: إِنه مشروع للرَّجُل أيضاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سُئل: إِن أحدنا يحب أن يكون نعلُه حسناً، وثوبُه حسناً فقال:«إن الله جميلٌ يحبُّ الجمال»

(3)

.

وقد يُقال: إِذا كان في عين الرَّجُل عيبٌ يَحتاجُ إلى الاكتحال فهو مشروعٌ له، وإِلا فلا يُشرع

(4)

.

(1)

انظر: «زاد المعاد» (4/ 283).

(2)

انظر: «خزانة الأدب» للبغدادي (10/ 255) الشاهد رقم (845) تحقيق/ عبد السلام هارون.

(3)

رواه مسلم، كتاب الإِيمان: باب تحريم الكبر وبيانه، رقم (91) من حديث عبد الله بن مسعود.

(4)

وفي «مجموع الفتاوى» لشيخنا (11/ 116) قال: «وأما الرِّجَال فمحل نظر، وأنا أتوقف فيه، وفرق بين الشاب الذي يُخشى من اكتحاله فِتْنَةٌ فيُمنع، وبين الكبير الذي لا يُخشى ذلك من اكتحاله فلا يُمنع» .

ص: 157

‌وتجبُ التسميةُ في الوُضُوءِ مَعَ الذِّكْرِ،

.........

قوله: «وتجبُ التَّسميةُ في الوُضُوءِ مع الذِّكر» ، أي يقول: بسم الله، ويكون عند ابتدائه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:«لا وُضُوء لِمَنْ لم يَذكرِ اسم الله عليه»

(1)

، فدلَّ هذا على أنَّها واجبةٌ، وأنها في البداية، وهذا المشهور؛ لأن التَّسمية على الشيء تكون عند فعله كما في قوله تعالى:{فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 118]. وقوله صلى الله عليه وسلم: «ما أَنْهَرَ الدَّمَ وذُكِرَ اسمُ الله عليه فكلوه»

(2)

. والتَّسمية على الذَّبيحة تكون عند الذَّبح قبل الشُّروع فيه، وهذا المشهور من المذهب؛ بناء على القاعدة المعروفة:«أن النَّفي يكون أولاً لنفي الوجود، ثم لنفي الصِّحة، ثم لنفي الكمال» . فإِذا جاء نصٌّ في الكتاب أو السُّنَّة فيه نفيٌ لشيء؛ فالأصل أن هذا النفيَ لنفي وجود

(1)

رواه أحمد (2/ 418)، وأبو داود، كتاب الطهارة: باب التسمية على الوضوء، رقم (101)، وابن ماجه، كتاب الطهارة: باب التسمية على الوضوء رقم (399)، وغيرهم من حديث أبي هريرة.

وفي إِسناده يعقوب بن أبي سلمة: «مجهول» .

إِلا أنه روي من حديث: أبي سعيد، وسعيد بن زيد، وعائشة، وسهل بن سعد، وأبي سَبرة، وأم سبرة، وعلي، وأنس، ولا يخلو طريق منها من مقال.

قال ابن كثير: «رُويَ من طُرقٍ يشدُّ بعضها بعضاً، فهو حديث حسن أو صحيح» .

قال ابن حجر: «والظَّاهر أن مجموع هذه الأحاديث يحدث منها قوَّة» .

وصحَّحه: أبو بكر بن أبي شيبة. وحسَّنه: العراقي، وابن الصَّلاح، وابن تيمية، وابن كثير، وغيرهم.

انظر: «شرح العمدة» لابن تيمية (1/ 170)، «إِرشاد الفقيه» لابن كثير (1/ 36)، «التلخيص الحبير» رقم (70).

(2)

رواه البخاري، كتاب الشركة: باب قسمة الغنائم، رقم (2488)، ومسلم، كتاب الأضاحي: باب جواز الذبح بكل ما أنهر الدم، رقم (1968) عن رافع بن خديج.

ص: 158

ذلك الشيء، فإن كان موجوداً فهو نفي الصِّحَّة، ونفيُ الصِّحَّة نفيٌ للوجود الشَّرعي، فإنْ لم يمكن ذلك بأن صحَّت العبادة مع وجود ذلك الشيء، صار النَّفيُ لنفي الكمال لا لنفي الصِّحَّة.

مثالُ نفي الوجود: «لا خالق للكون إلا الله» .

مثال نفي الصِّحة: «لا صلاة لمن لم يقرأ بأمِّ الكتاب» .

ومثال نفي الكمال: «لا يُؤمن أحدكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه» .

فإِذا نزَّلنا حديث التَّسمية في الوُضُوء على هذه القاعدة فإِنَّها تقتضي أن التسمية شرطٌ في صِحَّة الوُضُوء، لا أنَّها مجرَّد واجب؛ لأن نفيَ الوُضُوء لانتفاء التَّسمية معناه نفي الصِّحَّة، وإذا انتفت صحَّة العبادة بانتفاء شيء كان ذلك الشيء شرطاً فيها. ولكنَّ المذهب أنها واجبة فقط وليست شرطاً. وكأنهم عَدَلُوا عن كونها شرطاً لصحَّة الوُضُوء، لأنَّ الحديث فيه نظر؛ ولهذا ذهب الموفق رحمه الله إِلى أنها ليست واجبة بل سُنَّة

(1)

؛ لأن الإمام أحمد رحمه الله قال: «لا يثبت في هذا الباب شيء» (280)، وإِذا لم يثبت فيه شيء فلا يكون حُجَّة.

ولأن كثيراً من الذين وصفوا وُضُوء النبيِّ صلى الله عليه وسلم لم يذكروا فيه التَّسمية، ومثل هذا لو كان من الأمور الواجبة التي لا يصحُّ الوُضُوء بدونها لذُكِرَت.

وإذا كان في الحمَّام، فقد قال أحمد: «إذا عطسَ الرَّجلُ

(1)

انظر: «المغني» (1/ 145)، «الإِنصاف» (11/ 273).

ص: 159

حَمِدَ الله بقلبه»

(1)

، فيُخَرَّج من هذه الرِّواية أنَّه يُسمِّي بقلبه.

وقوله: «مع الذِّكر» أفادنا المؤلفُ رحمه الله أنها تسقط بالنِّسيان وهو المذهب، فإن نسيها في أوَّله، وذكرها في أثنائه فهل يُسمِّي ويستمر، أم يَبْتَدِئُ؟ اختلف في هذه المسألة «الإِقناعُ» و «المُنتهى» ـ وهما من كتب فقه الحنابلة ـ فقال صاحب «المنتهى»: يبتدئ

(2)

، لأنه ذكر التسمية قبل فراغه، فوجب عليه أن يأتي بالوُضُوء على وجهٍ صحيح.

وقال صاحب «الإقناع» : يستمر

(3)

؛ لأنَّها تسقط بالنِّسيان إذا انتهى من جملة الوُضُوء، فإذا انتهى من بعضه من باب أولى.

والمذهب ما في «المنتهى» ، لأن المتأخِّرون يرون أنه إذا اختلف «الإقناع» و «المنتهى» فالمذهب «المنتهى» .

وقال الفقهاء: تجب التَّسميةُ في الغُسل

(4)

؛ لأنه إِحدى الطَّهارتين فكانت التسمية فيه واجبة كالوُضُوء، ولأنها إِذا وجبت في الوُضُوء وهو أصغر، وأكثر مروراً على المكلَّف فوجوبُها في الحَدَث الأكبر من باب أولى.

وقالوا أيضاً: تجب في التيمُّم (284)؛ لأنه بدل عن طهارة الماء، والبدل له حكم المبدل. وقد يُعارَضُ في هذا فيُقال: إِن التيمُّمَ ليس له حكم المبدل في وجوب تطهير الأعضاء؛ لأنَّ التيمُّم إِنما يُطَهَّرُ فيه عضوان فقط: الوجه والكفَّان في الحدث

(1)

انظر: «المغني» (1/ 227)، «الإِنصاف» (1/ 191).

(2)

انظر: «منتهى الإِرادات» (1/ 17).

(3)

انظر: «الإِقناع» (1/ 41).

(4)

انظر: «الإِنصاف» (1/ 274، 275)، «الإِقناع» (1/ 40).

ص: 160

الأصغر والأكبر، فلا يُقال: ما وجب في طهارة الماء وجب في طهارة التيمُّم، لكن الاحتياط أولى فيسمِّي عند التيمُّم أيضاً.

والمتأمِّل لحديث عمَّار بن ياسر وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «إنما كان يكفيك أن تصنع هكذا»

(1)

، يستفيد منه أن التسمية ليست واجبة في التيمُّم.

والتَّسميةُ في الشَّرع قد تكون شرطاً لصحَّة الفعل، وقد تكون واجباً، وقد تكون سُنَّةً، وقد تكون بدعةً. فتكون شرطاً لصحَّة الفعل كما في الذَّكاة والصَّيد، فلا تسقط على الصَّحيح لا عمداً، ولا جهلاً، ولا سهواً، فإِذا ذَبَحَ، أو صاد ونسي التَّسميةَ؛ صار المذبوح والصَّيد حراماً.

والمذهب: إِذا رمى صيداً ونسيَ أن يُسمِّيَ صار حراماً، وإِن ذَبَحَ ونسيَ أن يُسمِّي صار حلالاً

(2)

! وهذا من غرائب العلم، فإِنَّ الصَّيد أولى بالعُذر؛ فكيف يُعذر النَّاس في الذَّبيحة، ولا يُعذرون في الصَّيد؟! مع أنَّ الغالب أنَّ الإِنسان إذا رأى صيداً يستعجل وينسى التَّسمية. ودليل المذهب ـ على أن التَّسمية لا تسقط في الصَّيد سهواً ـ قوله صلى الله عليه وسلم:«إذا أرسلت كَلْبَك وسمَّيت فَكُلْ»

(3)

، ومقتضى ذلك أنَّك إِذا لم تذكر اسم الله فلا تأكلْ.

(1)

رواه البخاري، كتاب التيمم: باب التيمم ضربة، رقم (347)، واللفظ له، ومسلم كتاب الحيض: باب التيمم، رقم (368).

(2)

انظر: «الإِقناع» (4/ 319، 334).

(3)

رواه البخاري، كتاب الذبائح والصيد: باب صيد المعراض، رقم (5476)، ومسلم، كتاب الصيد والذبائح: باب الصيد بالكلاب المعلمة، رقم (1929) من حديث عدي بن حاتم.

ص: 161

فنقول: هو أيضاً قال: «ما أَنهرَ الدَّمَ وذُكِرَ اسمُ الله عليه فَكُلْ، ليس السِّنَّ والظُّفُرَ»

(1)

، وأيُّ فرق بين هذا وهذا؟

لا فرق، فجعل حِلِّ المذكَّاة مشروطاً بالتَّسمية وإِنهار الدَّم، كما جعل الصَّيد مشروطاً بالإِرسال والتَّسمية، وحينئذٍ لا يتَّجه التَّفريق بينهما، وأيضاً: فكما أنَّه لو نسيَ وذَبَحَ الذَّبيحة بصعق كهربائي، فإنها ميتة لا تحِلُّ، فكذلك إِذا نسيَ ولم يسمِّ فهي ميتة لا تحِلُّ.

فإن قيل: أليس الله تعالى يقول: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِيْنَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286].

قلنا: بلى؛ فالذي نسيَ أن يسمِّيَ على الذَّبيحة ليس عليه إِثم، لكن من أكل منها متعمِّداً فإِنَّه آثم لأن الله يقول:{وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] فنهى عن الأكل، لكن إِذا أكل جاهلاً، أو ناسياً فلا إِثم عليه لقوله تعالى:{رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِيْنَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286]، وهذا اختيار شيخ الإسلام

(2)

رحمه الله.

فإن قيل: إن ذلك يترتَّب عليه إتلافٌ لأموال المسلمين، وقد تكون نُوقاً ثمينة؛ فهل يُؤمر صاحبُها بجرِّها للكلاب إذا نسي التَّسمية؟ قلنا: لو نسيَ مرّة فحرَّمناها عليه؛ فإِنَّه لا يمكن أن ينسى بعد ذلك.

وتكون التَّسميةُ واجبة كما في الوُضوء.

(1)

تقدم تخريجه ص (158).

(2)

انظر: «مجموع الفتاوى» (35/ 239).

ص: 162

وتكون مستحبَّة كالتَّسمية عند الأكل على رأي الجمهور

(1)

، وقال بعض العلماء: إنها واجبة (290) وهو الصَّحيح.

وتكون بدعةً كما لو سَمَّى عند بَدْء الأذان مثلاً، إذا أراد أن يؤذِّن قال: بسم الله الرحمن الرحيم، وكذا عند الصَّلاة.

أمّا عند قراءة القرآن فتُقرأ في أول السُّورة، وأما في أثناء السُّورة فقال بعضُ العلماء: يُستحب أن يقول: بسم الله

(2)

.

ورَدَّ بعضُ العلماء هذا ـ وهو الصَّحيح ـ وقال: إن الله لم يأمرْنا عند قراءة القرآن إلا أن نقول: أعوذ بالله من الشَّيطان الرَّجيم، فإِذا أردت أن تقرأ في أثناء السُّورة فلا تُسَمِّ (291).

‌ويجبُ الختانُ ما لم يَخَفْ على نَفْسِهِ،

.......

قوله: «ويجبُ الختانُ ما لم يخفْ على نفسه» ، أوَّلُ مَنْ سَنَّ الخِتانَ إبراهيم عليه السلام

(3)

.

(1)

انظر: «فتح الباري» (9/ 522)، «الإِنصاف» (21/ 361 ـ 363)، «زاد المعاد» (2/ 397).

(2)

انظر: «البدور الزاهرة في القراءات العشر المتواترة» ص (11).

(3)

رواه ابن أبي عاصم في «الأوائل» رقم (19)، والطبراني في «الأوائل» له رقم (10) عن سلمة بن رجاء، عن محمد بن عمرو بن علقمة، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «كان إِبراهيم أول من اختتن

». وسلمة بن رجاء: صدوق يُغرب كما في «التقريب» ، وسيأتي ص (165). قول ابن عدي فيه:«يحدث عن قومٍ بأحاديث لا يُتابع عليها» .

إِلا أنه قد تابعه أبو أسامة حماد بن أسامة ـ وهو ثقة ـ حدثني محمد بن عمرو بن علقمة به. فيما رواه ابن عساكر «التاريخ» (6/ 201)، فمدار الحديث إِذاً على محمد بن عمرو بن علقمة؛ وهو صدوق له أوهام، كما في «التقريب» .

قال ابن معين: ما زال الناس يتقون حديثه. قيل له: وما عِلَّة ذلك؟

قال: كان يُحدِّث مرَّة عن أبي سلمة بالشيء من رأيه، ثم يُحدِّث به مرَّة أخرى عن أبي سلمة عن أبي هريرة «تهذيب الكمال» (26/ 216)، فلا تطمئن النفس لتحمله هذا الحديث ما لم يُتابع.

ورواه ابن عدي (1/ 360) عن إِبراهيم بن أبي يحيى، عن يحيى، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة به مرفوعاً.

إِبراهيم بن أبي يحيى: متروك. وتابعه حماد بن سلمة عند البيهقي في «الشُّعب» رقم (8641) ولكنها متابعة لا تنفع؛ لأن الراوي عن حماد هو عبد الله بن واقد: متروك. ورواه البخاري في «الأدب المفرد» رقم (1250)، والبيهقي في «الشُّعب» رقم (8640) من طريقين عن سعيد بن المسيب موقوفاً عليه، من قوله.

قال البيهقي: هذا هو الصحيح؛ موقوف.

ص: 163

وهو بالنسبة للذَّكر: قطعُ الجلدة التي فوق الحَشَفَة.

وبالنسبة للأنثى: قطعُ لحمةٍ زائدة فوق محلِّ الإِيلاج، قال الفقهاء رحمهم الله: إِنها تُشبه عُرف الدِّيك.

وظاهر كلام المؤلِّف: أنه واجب على الذَّكر والأنثى، وهو المذهب. وقيل: هو واجب على الذَّكر دون الأنثى، واختاره الموفق

(1)

رحمه الله.

وقيل: سُنَّة في حَقِّ الذُّكور والإِناث (293).

وقد أطال ابن القيم رحمه الله في «تُحفة المودود»

(2)

في حُجج الاختلاف، ولم يرجِّح شيئاً!، وكأنَّه ـ والله أعلم ـ لم يترجَّح عنده شيء في هذه المسألة.

وأقرب الأقوال: أنه واجب في حَقِّ الرِّجال، سُنَّةٌ في حَقِّ النِّساء. ووجه التَّفريق بينهما: أنه في حَقِّ الرِّجال فيه مصلحة تعود إلى شرط من شُروط الصَّلاة وهي الطَّهارة، لأنَّه إِذا بقيت هذه

(1)

انظر: «المغني» (1/ 115)، «الإِنصاف» (11/ 266، 267).

(2)

انظر: «تحفة المودود» ص (95 ـ 106).

ص: 164

الجلدة، فإِن البول إذا خرج من ثُقب الحَشَفَة بقي وتجمَّع، وصار سبباً في الاحتراق والالتهاب، وكذلك كُلَّما تحرَّك، أو عصر هذه الجلدة خرج البول وتنجَّس بذلك.

وأما في حَقِّ المرأة فغاية فائدته: أنه يُقلِّل من غُلمتِها، أي: شهوتها، وهذا طلب كمال، وليس من باب إِزالة الأذى.

ولا بُدَّ من وجود طبيب حاذقٍ يعرف كيف يختن، فإِن لم يوجد فإِنه يختن نفسه إذا كان يُحْسن، وإبراهيم عليه السلام خَتَنَ نفسَهُ

(1)

.

واشترط المؤلِّف أنْ لا يخاف على نفسه، فإِن خاف على نفسه من الهلاك، أو الضَّرر، فإِنه لا يجب، وهذا شرطٌ في جميع الواجبات؛ فلا تجب مع العجز، أو مع خوف التَّلف، أو الضَّرر.

ويجوز للخاتن أن ينظر إلى عورة المختون، ولو بلغ عشر سنين، وذلك للحاجة، والدَّليل على وجوبه في حقِّ الرجال:

1 -

قوله صلى الله عليه وسلم: «خمسٌ من الفِطرة» ، وذكر منها الخِتَان

(2)

.

2 -

أمره صلى الله عليه وسلم من أسلمَ أن يختتن

(3)

، وهذا يدلُّ على الوجوب.

(1)

رواه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء: باب قول الله تعالى: «واتخذ الله إِبراهيم خليلاً» رقم (3356)، ومسلم، كتاب الفضائل: باب من فضائل إِبراهيم، رقم (2370) عن أبي هريرة.

(2)

رواه البخاري، كتاب الاستئذان: باب الختان بعد الكبر ونتف الإِبط، رقم (6297)، ومسلم، كتاب الطهارة: باب خصال الفطرة، رقم (257) عن أبي هريرة.

(3)

ولفظه: «ألقِ عنك شعر الكفر واختتن» رواه أحمد (3/ 415)، وأبو داود، كتاب الطهارة: باب في الرجل يسلم فيؤمر بالغسل، رقم (356) عن ابن جُريج قال: أُخبرت عن عُثيم بن كُليب عن أبيه عن جده فذكره.

قال ابن القطّان الفاسي: «إِسناده غاية في الضَّعف، مع الانقطاع الذي في قول ابن جريج: أُخبرت، وذلك أن عُثيم بن كُليب وأباه وجدّه مجهولون» ، «بيان الوهم والإِيهام» رقم (695).

إِلا أن له شاهدين:

الأول: من حديث واثلة بن الأسقع، رواه الطبراني في «الكبير» (22/رقم 199)، والحاكم (3/ 570). قال الهيثمي:«فيه منصور بن عمار الواعظ وهو ضعيف» . «المجمع» (1/ 283).

الثاني: من حديث قتادة أبي هشام، رواه الطبراني في «الكبير» (19/رقم 20) ولفظه:«وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر من أسلم أن يختتن» .

قال الهيثمي: «رجاله ثقات» «المجمع» (1/ 283).

قلت: فيه هشام بن قتادة الرهاوي: تابعي لم يوثّقه إِلا ابنُ حبان. «الثقات» (7/ 569) ومالَ النووي في «المجموع» (2/ 154) إِلى تحسينه.

وروى البخاري في «الأدب المفرد» رقم (1252) بإِسناد صحيح عن الزهري قال: «كان الرجل إِذا أسلم أُمر بالاختتان، وإِنْ كان كبيراً» .

قال ابن كثير: «هذا مرسل حسن» ، «إِرشاد الفقيه» (1/ 34).

وانظر: «المجمع» (7/ 569)، «التلخيص» رقم (2139).

ص: 165

3 -

أن الخِتَان مِيزةٌ بين المسلمين والنَّصارى؛ حتى كان المسلمون يَعرفون قتلاهم في المعارك بالختان، فالمسلمون والعرب قبل الإِسلام واليهود يختتنون، والنَّصارى لا يختتنون، وإِذا كان مِيزة فهو واجب.

4 -

أنَّه قَطْعُ شيء من البَدَن، وقطعُ شيء من البَدَن حرام، والحرام لا يُستباح إلا بالواجب.

5 -

أنه يقوم به وليُّ اليتيم، وهو أعتداءٌ عليه، واعتداءٌ على ماله، لأنه سيعطي الخاتن أجرةً من ماله غالباً، فلولا أنه واجبٌ لم يجز الاعتداء على مال اليتيم وبدنه.

وأمّا بالنسبة للمرأة فأقوى الأقوال أنه سُنَّةٌ

(1)

.

(1)

انظر: «مجموع الفتاوى» (21/ 114).

ص: 166

ويدلُّ له قوله صلى الله عليه وسلم: «الختان سُنَّةٌ في حَقِّ الرِّجال، مَكْرمة في حَقِّ النِّساء»

(1)

لكنه ضعيفٌ، ولو صَحَّ لكان فاصلاً.

‌ويُكْرَهُ الْقَزَعُ.

قوله: «ويُكره القَزَعُ» ، القَزَعُ: حلقُ بعض الرَّأس، وتركُ بعضه، وهو أنواع:

1 -

أن يحلِقَ غير مرتّب، فيحلقُ من الجانب الأيمن، ومن الجانب الأيسر، ومن النَّاصية، ومن القَفَا.

2 -

أن يحلقَ وسطَه ويترك جانبيه.

3 -

أن يحلقَ جوانبه ويتركَ وسطه، قال ابن القيم رحمه الله:«كما يفعله السُّفَل»

(2)

.

4 -

أن يحلقَ النَّاصيةَ فقط ويتركَ الباقي.

والقَزَع مكروه

(3)

؛ لأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم رأى غلاماً حلق بعض شعره وترك بعضه، فنهاهم عن ذلك وقال:«احلقوا كلَّه، أو اتركوه كلَّه»

(4)

. إِلا إِذا كان فيه تشبُّهٌ بالكُفَّار فهو محرَّمٌ،

(1)

أخرجه أحمد (5/ 75)، والبيهقي (8/ 325) وغيره من حديث شداد بن أوس، والحديثُ ضعّفه: البيهقي، وابن عبد البرِّ، وابن حجر، وغيرهم.

انظر: «التلخيص» رقم (2139).

(2)

انظر: «تحفة المودود» ص (59).

(3)

انظر: «شرح صحيح مسلم» للنووي، كتاب اللباس: باب كراهة القزع، (7/ 352).

(4)

رواه عبد الرزاق في «المصنف» رقم (19564)، وعن أحمد بن حنبل (2/ 88)، وعنه أبو داود، كتاب الترجل: باب في الذؤابة، رقم (4195) عن معمر عن أيوب عن نافع عن ابن عمر به.

قال ابن عبد الهادي: «هذا إِسناد صحيح، ورواته كلهم أئمة ثقات» . «المحرر» رقم (36).

قال ابن كثير: «إِسناده صحيح» . «إِرشاد الفقيه» (1/ 33).

ص: 167

لأن التشبُّه بالكُفَّار محرَّمٌ، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:«من تَشَبَّه بقومٍ فهو منهم»

(1)

، وعلى هذا فإذا رأينا شخصاً قَزَّع رأسه فإِننا نأمره بحلق رأسه كلِّه، ثم يُؤمر بعد ذلك إِمَّا بحلقهِ كلِّه أو تركه كلِّه.

‌وَمِنْ سُنَن الوُضُوءِ:

قوله: «ومن سُنن الوُضُوء» ، السُّنَنَ جمع سُنَّة، وتُطلق على الطَّريقة، وهي أقوال الرَّسول صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته، ولا فرق في هذا بين الواجب والمستحبِّ، فالواجب يُقال له: سُنَّة، والمستحبُّ يُقال له: سُنَّة.

مثال الواجب: قول أنس: «من السُّنَّة إِذا تزوَّجَ البكرَ على الثيِّب أقام عندها سبعاً»

(2)

.

ومثال المستحبِّ: حديثُ ابن الزبير رضي الله عنه: «صَفُّ القدمين، ووضْعُ اليد على اليد من السُّنَّة»

(3)

.

وأمَّا عند الفقهاء والأصوليين رحمهم الله تعالى: فهي ما سوى الواجب؛ أي: الذي أُمِرَ به لا على سبيل الإِلزام.

(1)

رواه أحمد (2/ 50)، وأبو داود، كتاب اللباس: باب في لبس الشهرة، رقم (4031) عن ابن عمر، بإِسنادٍ قال فيه ابنُ تيمية:«وهذا إِسناد جيد، فإِن ابن أبي شيبة، وأبا النضر، وحسان بن عطية ثقات مشاهير أجلاء من رجال الصحيحين، وهم أجلُّ من أن يُحتاج أن يُقال: هم من رجال الصحيحين» . انظر: «الاقتضاء» (82).

(2)

رواه البخاري، كتاب النكاح: باب إِذا تزوج البكر على الثيب، رقم (5213)، ومسلم، كتاب الرضاع: باب قدر ما تستحقه البكر والثيب من إِقامة الزوج عندها عقب الزفاف، رقم (1461).

(3)

رواه أبو داود، كتاب الصلاة: باب وضع اليُمنى على اليسرى في الصلاة، رقم (754).

قال النووي: «رواه أبو داود بإِسناد حسن» . «الخلاصة» رقم (1091).

ص: 168

حكمها: أنه يُثاب فاعلها امتثالاً، ولا يُعاقب تاركُها.

‌السِّواكُ، وغَسْلُ الكَفَّيْنِ ثلاثاً، ويَجبُ من نومِ لَيْلٍ .........

قوله: «السِّوَاك» ، تقدَّم أنَّه يتَأَكَّدُ عند الوُضُوء، ودليله: قوله صلى الله عليه وسلم: «لولا أن أَشُقَّ على أُمتي لأَمرتُهم بالسِّوَاك مع كُلِّ وُضُوء»

(1)

.

قوله: «وغَسْلُ الكفَّين ثلاثاً» ، لأنه صلى الله عليه وسلم كان إذا توضأ بدأ بغسل الكفَّين ثلاثاً

(2)

، ولأنهما آلة الغسل فإِنَّ بهما يُنقل الماء، وتُدلَكُ الأعضاءُ، فكان الأليقُ أن يتقدَّم تطهيرهُما.

فإن قيل: لماذا لا يُقال: إِن غسلهما واجب لمداومة النبيِّ صلى الله عليه وسلم؟

فالجواب: أن الله يقول: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6]، ولم يذكر الكفين.

قوله: «ويجبُ من نومِ ليلٍ» ، الضَّمير في قوله:«يجب» يعودُ على غسل الكفَّين ثلاثاً، وهذا إِذا أراد أن يغمسهُما في الإِناء.

والدَّليل: حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «إذا استيقظ أحدُكم من نومه، فلا يغمس يدَه في الإِناء؛

(1)

رواه البخاري تعليقاً بصيغة الجزم، كتاب الصوم: باب سواك الرطب واليابس للصائم، انظر رقم (1934) بلفظ:«عند كل وضوء» من حديث أبي هريرة.

ورواه ـ بهذا اللفظ ـ أحمد (2/ 460، 517)، وابن خزيمة رقم (140).

قال النووي: «هو حديث صحيح

وأسانيده جيدة». «المجموع» (1/ 328).

قال ابن عبد الهادي: «رواته كلهم أئمة أثبات» ، انظر:«المحرر» رقم (26).

(2)

رواه البخاري، كتاب الوضوء: باب الوضوء ثلاثاً ثلاثاً، رقم (159)، ومسلم، كتاب الطهارة: باب صفة الوضوء وكماله، رقم (226) من حديث عثمان بن عفان.

ص: 169

حتى يغسلها ثلاثاً؛ فإن أحدَكم لا يدري أين باتت يدُه»

(1)

.

وقوله: «مِنْ نومِ ليلٍ» خرج به نوم النهار، فلا يجب غسل الكفَّين منه.

فإن قال قائل: قولُه في الحديث: «إذا استيقظ أحدُكم من نومه» فإِن «نومه» مفردٌ مضاف فيشمل كُلَّ نومٍ.

وأيضاً قوله: «إذا استيقظ» ظرف يشمل آناء الليل وآناء النَّهار، فلماذا يُخَصُّ بالليل؟

فأجابوا: أنَّه يُخَصُّ بالليل لتعليله صلى الله عليه وسلم في قوله: «فإِن أحدكم لا يدري أين باتت يدهُ» ، والبيتوتة لا تكون إِلا بالليل

(2)

. وهذا من باب تخصيص العام بالعِلَّة، لأنَّه صلى الله عليه وسلم لمَّا علَّلَ بعِلَّة لا تصلح إلا لنوم الليل صار المراد بالعموم في قوله:«من نومه» نومَ الليل، فهو عام أُريد به الخاصُّ.

‌ناقضٍ لوُضُوءٍ،

..........

قوله: «ناقضٍ لوُضُوء» ، احترازاً مما لو لم يكن ناقضاً.

والنَّوم النَّاقض على المذهب: كُلُّ نوم إلا يسير نوم من قائم، أو قاعد

(3)

. والصَّحيح أن المدار في نقض الوُضُوء على الإِحساس، فما دام الإِنسان يحسُّ بنفسه لو أحدث فإِن نومه لا يَنْقُضُ وضوءَه، وإِذا كان لا يحسُّ بنفسه لو أحدث فإِن نومَه يَنْقُضُ وضوءَه (310).

وهذا الذي ذكره الفقهاء هنا حيث قالوا: «ناقضٍ لوُضُوءٍ» ،

(1)

تقدم تخريجه ص (49).

(2)

انظر: «المغني» (1/ 140).

(3)

انظر ص (275 ـ 278).

ص: 170

يؤيِّدُ أنَّ الرَّاجح أنَّ النَّوم النَّقض للوُضُوء ما فَقَدَ به الإِنسانُ إِحساسَه.

ووجهه: أن قوله: «فإن أحدَكم لا يدري» معناه أن إحساسه مفقود، وعلى هذا إذا كان يدري بحيث لم يفقدْ إِحساسه فإنه لا ينتقض وضوءُه، مع أنَّ الفقهاء في باب نواقض الوضوء يخالفون ذلك.

‌والبدَاءَةُ بِمَضْمَضَةٍ، ثُمَّ اسْتِنْشَاقٍ، والمبالغةُ فيهما لغيرِ صائمٍ،

.........

قوله: «والبَدَاءَةُ بمَضْمَضَةٍ ثم استنشاق» ، أي: ومن سُنَنِ الوُضُوء البَدَاءَةُ بمضمضة ثم استنشاق، وهذا بعد غسل الكَفَّين، والأفضل أن يكون ثلاث مَرَّات بثلاث غَرَفات.

والمضْمَضَةُ هي: إِدارة الماء في الفَمِ.

والاستنشاق هو: جَذْبُ الماء بالنَّفَسِ من الأنف.

والبَدْءُ بهما قبلَ غسل الوجه أفضل، وإِن أخَّرهما بعد غسل الوجه جاز.

ولم يذكر المؤلِّف الاستنثار؛ لأن الغالب أن الإنسان إِذا استنشق الماء أنه يستنثره، وإِلا فلا بُدَّ من الاستنثار، إذ لا تكتمل السُّنَّة إلا به، كما أنها لا تكتمل السُّنَّة بالمضمضة إلا بمجِّ الماء، وإن كان لو ابتلعه لعُدَّ متمضمضاً، لكن الأفضل أن يمجَّه؛ لأن تحريك الماء بالفمِ يجعل الماء وسخاً لما يلتصق به من فضلات كريهة بالفم.

قوله: «والمبالغة فيهما لغير صائم» ، «فيهما» أي: ومن سُنَنِ الوُضُوء المبالغة في المضمضة والاستنشاق، والمبالغة في المضمضة: أن تحرِّكَ الماء بقوة وتجعله يصلُ كلَّ الفم، والمبالغة في الاستنشاق: أن يجذبه بنفس قويٍّ.

ص: 171

ويكفي في الواجب أن يديرَ الماء في فمه أدنى إِدارة، وأن يستنشقَ الماءَ حتى يدخل في مناخره.

والمبالغة مكروهةٌ للصَّائم، لأنها قد تؤدِّي إلى ابتلاع الماء ونزوله من الأنف إلى المعدة؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم للقيط بن صَبِرَة:«أسْبِغِ الوُضُوء، وخَلِّلْ بين الأصابع، وبالغْ في الاستنشاقِ، إلا أن تكون صائماً»

(1)

.

وإذا كان في الإنسان جيوبٌ أنفيةٌ، ولو بالغ في الاستنشاق احتقن الماءُ بهذه الجيوب وآلمه، أو فسد الماء وأدَّى إِلى صديد أو نحو ذلك، ففي هذه الحال نقول له: لا تبالغ درءاً للضَّرر عن نفسك.

‌وتَخْليلُ اللِّحْيَةِ الكثيفةِ ........

قوله: «وتخليلُ اللِّحْيَة الكثيفة» ، أي ومن سنن الوضوء تخليل اللحية الكثيفة، واللحية إِما خفيفةٌ، وإِما كثيفةٌ.

فالخفيفة هي التي لا تَسْتُرُ البشرة، وهذه يجب غسلُها وما تحتها؛ لأنَّ ما تحتها لمَّا كان بادياً كان داخلاً في الوجه الذي تكون به المواجهة، والكثيفةُ: ما تَسْتُرُ البشرة، وهذه لا يجب إِلا غسل ظاهرها فقط، وعلى المشهور من المذهب يجب غسل المسترسل منها.

وقيل: لا يجب كما لا يجب مسحُ ما استرسلَ من الرَّأسِ

(2)

، والأقرب في ذلك الوجوب

(3)

، والفرق بينهما وبين الرأس: أن اللحية وإِن طالت تحصُل بها المواجهة؛ فهي داخلة

(1)

تقدم تخريجه ص (149).

(2)

انظر: «الإِنصاف» (1/ 284).

(3)

انظر: ص (211).

ص: 172

في حَدِّ الوجه، أما المسترسلُ من الرَّأس فلا يدخل في الرَّأس لأنَّه مأخوذ من التَّرؤُّس وهو العُلو، وما نزل عن حدِّ الشَّعر، فليس بمُتَرئِّسٍ.

والتَّخليل له صفتان:

الأولى: أن يأخذَ كفًّا من ماء، ويجعله تحتها ويَعْرُكَها حتى تتخلَّلَ به.

الثانية: أن يأخذ كفًّا من ماء، ويخلِّلَها بأصابعه كالمشط، والدَّليل قول عُثمان رضي الله عنه:«كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يُخلِّلُ لحيته في الوُضُوء»

(1)

، وهذا الحديث وإن كان في سنده مقال؛ لكن له طُرُقٌ كثيرة، وشواهد تدلُّ على أنه يرتقي إلى درجة الحسن على أقلِّ درجاته، وعلى هذا يكون تخليل اللِّحية الكثيفة سُنَّة.

وذكر أهل العلم أن إِيصال الطَّهور بالنسبة للشعر ينقسم إلى ثلاثة أقسام

(2)

:

(1)

رواه الترمذي، أبواب الطهارة: باب ما جاء في تخليل اللحية، رقم (31)، وابن ماجه، كتاب الطهارة: باب ما جاء في تخليل اللحية، رقم (430) وغيرهما، من حديث عثمان بن عفان، وفي إِسناده عامر بن شقيق: لين الحديث.

إِلا أن له شاهداً من حديث أنس؛ رواه أبو داود، كتاب الطهارة: باب تخليل اللحية، رقم (145)، والحاكم (1/ 149) وصحَّحه، وله شواهد كثيرة انظرها في «التلخيص الحبير» رقم (86).

والحديث صَحَّحه: الترمذي، وابن خزيمة، والحاكم، وابن حبان، وابن القطان.

وحسَّنه ابن الملقن.

وقال البخاري: أصحُّ شيء عندي في التخليل حديث عثمان. فقيل له: إِنهم يتكلَّمون في الحديث؟ فقال: هو حَسَنٌ. «علل الترمذي الكبير» (1/ 115).

(2)

انظر: «المغني» (1/ 164، 301، 302)، «القواعد» لابن رجب ص (4).

ص: 173

الأول: ما يجب فيه إيصال الطَّهور إلى ما تحت اللِّحية، كثيفة كانت، أم خفيفة، وهذا في الطَّهارة الكُبرى من الجنابة لحديث عائشة رضي الله عنها:«كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يصبُّ على رأسه الماء حتى إِذا ظَنَّ أنه أروى بشرَتَه أفاض عليه ثلاث مرَّات»

(1)

، وحديث:«اغسلوا الشعر، وأنْقُوا البشرة»

(2)

.

الثاني: ما لا يجب فيه إِيصال الطَّهور إِلى ما تحت الشَّعر، سواء كان خفيفاً، أم ثقيلاً، وهذا في طهارة التيمُّم.

الثالث: ما يجب فيه إِيصال الطَّهورِ إلى ما تحت اللِّحية إِن كانت خفيفة، ولا يجب إِن كانت كثيفة، وهذا في الوُضُوء.

فإن لم يكن له لحية سقط التَّخليل.

وهل يُقال مثلُ هذا في الأصْلع الذي ليس على رأسه شعر بالنسبة للحلق، أو التَّقصير في النُّسك؟

قال بعض العلماء: يُسَنُّ أن يَمُرَّ بالموسى على رأسه

(3)

.

وهذا في الحقيقة لا فائدة له؛ لأنَّ إمرار الموسى على

(1)

رواه البخاري، كتاب الغسل: باب تخليل الشعر، رقم (272)، ومسلم، كتاب الحيض: باب صفة غسل الجنابة، رقم (316).

(2)

رواه أبو داود، كتاب الطهارة: باب الغسل من الجنابة، رقم (248)، والترمذي، أبواب الطهارة: باب ما جاء أن تحت كلّ شعرة جنابة، رقم (106)، وابن ماجه، كتاب الطهارة: باب تحت كلِّ شعرة جنابة، رقم (597) من حديث أبي هريرة. ومداره على الحارث بن وجيه، وهو ضعيف جداً. والحديث ضعّفه: الشافعي، وأحمد، والبخاري، وأبو حاتم الرازي، وأبو داود، والبيهقي، والنووي، وغيرهم.

انظر: «العلل» لابن أبي حاتم (1/ 29)، «المعرفة والآثار» (1/ 483).

(3)

انظر: «الإِنصاف» (9/ 211).

ص: 174

الشَّعر ليس مقصوداً لذاته حتى يُقال: لمَّا تعذَّر أحد الأمرين شُرع الأخذ بالآخر؛ لأن المقصود من إِمرار الموسى إزالة الشَّعر، وهذا لا شعر له.

ونظير هذا قول من قال: إِن الأخرس لا بُدَّ أن يقرأ الفاتحة، بأن يحرِّك لسانه وشفتيه، ولا صوت له

(1)

.

وهذا لا فائدة له؛ لأن تحريك اللسان والشفتين لإِظهار النُّطق والقِراءة، وإِذا كان هذا متعذِّراً فتحريكُهما عبث.

‌والأصَابِعِ،

.......

قوله: «والأصابع» ، أي: ومن سُنَنِ الوُضُوء تخليل أصابع اليدين، والرِّجلين، وهو في الرِّجلين آكد لوجهين:

الأول: أنَّ أصابعهما متلاصقة.

والثَّاني: أنهما تباشران الأذى فكانتا آكد من اليدين.

وتخليل أصابع اليدين: أن يُدخِلَ بعضُهما ببعض.

وأما الرِّجْلان فقالوا: يُخلِّلهما بخنصر يده اليُسرى؛ مبتدئاً بخنصر رجله اليُمنى من الأسفل إِلى الإِبهام، ثم الرِّجل اليُسرى يبدأ بها من الإبهام لأجل التَّيامن؛ لأن يمين الرِّجل اليُمنى الخنصر، ويمين اليُسرى الإِبهام، ويكون بخنصر اليد اليُسرى تقليلاً للأذى؛ لأنَّ اليُسرى هي التي تُقدَّم للأذى

(2)

.

وهذا استحسنه بعضُ العلماء، لكن القول: بأنه من السُّنَّة وهو لم يَرِدْ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم فيه نظر!، فيُقال: هذا استحسانٌ من بعض العلماء، لكن لا يُلتَزَمُ به كسُنَّة.

(1)

انظر: «الإِنصاف» (3/ 413).

(2)

انظر: «المغني» (1/ 152).

ص: 175

وهذا يُشبه ما ذكروه في تقليم الأظافر من أنَّه يُقلِّمُها مخالفاً

(1)

، ورووا حديثاً لا يصحُّ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم:«أن من قلَّم أظفاره مخالفاً لم يصبْه رمدٌ في عينيه»

(2)

. وصِفَةُ المخالفة هنا أن تبدأ بخِنْصَرِ اليمنى؛ ثم الوسطى؛ ثم الإِبهام؛ ثم البِنْصِر؛ ثم السَّبَّابة. وفي اليسرى أن تبدأ بالإِبهام؛ ثم الوسطى؛ ثم الخِنْصَر؛ ثم السَّبَّابة؛ ثم البِنْصِر.

وهذا لو صَحَّ فيه الحديث لقلنا به وعلى العين والرأس، فربَّما يكون سبباً لشفاء العين ونحن لا ندركه، لكن الحديث لا يثبت عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وإنما يكون تقليم الأظافر على ما ورد في حديث عائشة قالت:«كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يعجبه التيمُّنُ في تنعُّله، وترجُّله، وطُهوره، وفي شأنه كلِّه»

(3)

. فيبدأ بخِنْصَرِ اليد اليمنى؛ ثم البِنْصِر؛ ثم الوسطى؛ ثم السَّبَّابة؛ ثم الإِبهام؛ ثم إِبهام اليسرى؛ ثم السَّبَّابة؛ ثم الوسطى؛ ثم البِنْصَر؛ ثم الخِنْصَر، هذا على أنَّ في النَّفس ثقلاً من ذلك، لكنه أقرب من المخالفة.

‌والتَّيَامُنُ،

........

قوله: «والتَّيَامن» ، أي: ومن سُنَن الوُضُوء التَّيَامُن، وهو خاصٌّ بالأعضاء الأربعة فقط وهما: اليدان والرِّجْلان، تبدأ باليد

(1)

انظر: «المغني» (1/ 118)، «الإِنصاف» (1/ 251).

(2)

رواه ابن بطَّة (شرح العمدة) لابن تيمية (1/ 240)، وذكره ابن قدامة في «المغني» ، والجيلاني في «الغُنية» دون عزوٍ لمصدر، وقال عنه ابن القيم:«إِنه من أقبح الموضوعات» ، ونصَّ السخاوي ومُلاّ علي قاري على أنه لم يثبت في كيفية قصّ الأظافر عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء.

انظر: «المغني» (1/ 118)، «المنار المنيف» ص (74)، «الأسرار المرفوعة» (257)، «تذكرة الموضوعات» ص (160).

(3)

تقدم تخريجه ص (155).

ص: 176

اليمنى ثم اليسرى، والرِّجْل اليُمنى ثم اليسرى.

أما الوجه فالنُّصوص تدلُّ على أنَّه لا تيامن فيه، اللهم إلا أن يعجزَ الإِنسان عن غسله دفعة واحدة فحينئذٍ يبدأ بالأيمن منه، وكذلك الرَّأس.

والأُذنان يُمسحان مرَّة واحدة؛ لأنَّهما عضوان من عضو واحد، فهما داخلان في مسح الرَّأس، ولو فُرِضَ أنَّ الإِنسان لا يستطيع أن يمسحَ رأسه إِلا بيد واحدة، فإنه يبدأ باليمين، وبالأُذن اليمنى.

والدَّليل على مشروعية التَّيامن حديث عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه التَّيمُّنُ في تنعُّله، وترجُّله، وطُهُورِه، وفي شأنه كُلِّه»

(1)

.

وأما المسح على الخُفين فقال بعض العلماء: يمسحُهما معاً

(2)

، لأنَّهما لما مُسحا كانا كالرَّأس؛ ولأنَّ المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال:«فمسح على خُفيه»

(3)

، ولم يذكر التَّيامن.

وقال بعض العلماء: يُستحب التَّيامن

(4)

، لأن المسح فرعٌ عن الغسل؛ ولأنهما عضوان يتميَّز أحدُهما عن الآخر بخلاف الرأس، وإِنما لم يذكر التَّيامن لكونه معلوماً من هديه صلى الله عليه وسلم أنَّه كان يعجبه التَّيامن، كما لو قال في الوُضُوء: ثم غسل رجليه، ولم

(1)

تقدم تخريجه ص (155).

(2)

انظر: «الإِنصاف» (1/ 418).

(3)

رواه البخاري، كتاب الصلاة: باب الصلاة في الخفاف، رقم (388)، ومسلم، كتاب الطهارة: باب المسح على الخفين، رقم (274).

(4)

انظر: «الإِنصاف» (1/ 418).

ص: 177

يذكر اليُمنى قبل اليُسرى. وهذا هو الأقرب؛ أنَّك تبدأ باليُمنى قبل اليُسرى

(1)

، والأمرُ في هذا واسع إِن شاء الله تعالى.

‌وأَخْذُ ماءٍ جديدٍ للأُذُنَيْنِ،

..........

قوله: «وأخْذُ ماءٍ جديد للأُذُنَيْن» ، أي ومن سُنَن الوُضُوء أخْذُ ماءٍ جديد للأُذُنين، فيُسَنُّ إِذا مسح رأسه أن يأخذ ماءً جديداً لأُذُنيه، والدَّليل حديث عبد الله بن زيد أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يتوضَّأ، فأخذ لأُذُنيه ماءً خلاف الماء الذي أخذ لرأسه

(2)

.

وهذا الحديث شاذٌّ؛ لأنه مخالف لما رواه مسلم أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم مسح برأسه بماء غير فضل يديه

(3)

، ولأنَّ جميع من وصَفَ وضوءَه صلى الله عليه وسلم لم يذكروا أنَّه أخذ ماءً جديداً للأُذُنين. فعلى هذا يكون الصَّواب: أنَّه لا يُسَنُّ أنْ يأخذ ماءً جديداً للأُذُنين.

وأمَّا التَّعليل لمشروعية أخذ ماء جديد للأذنين: أنهما كعضو

(1)

وقال شيخنا في مجموع الفتاوى (11/ 177): «

يكون المسح باليدين جميعاً على الرجلين جميعاً، يعني اليد اليمنى تمسح الرجل اليمنى، واليد اليسرى تمسح الرجل اليسرى في نفس اللحظة، كما تمسح الأذنان؛ لأن هذا هو ظاهر السنة؛ لقول المغيرة رضي الله عنه:«فمسح عليهما» ، ولم يقل: بدأ باليمنى .... ».

(2)

نه رآه في رواية ابن المقري عن حرملة عن ابن وهب بهذا الإِسناد وفيه: ومسح بماء غير فضل يديه لم يذكر الأذنين.

وتعقَّبه أيضاً ابن حجر بقوله: «وهو عند مسلم من هذا الوجه بلفظ: ومسح برأسه بماءٍ غير فضل يديه، وهو المحفوظ» ، «بلوغ المرام» رقم (42).

قال ابن القيم: «لم يثبت أنه أخذ لهما ماءً جديداً، وإِنما صَحَّ ذلك عن ابن عمر» . «زاد المعاد» (1/ 95).

(3)

رواه مسلم، كتاب الطهارة: باب صفة الوضوء، رقم (236) من حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه.

ص: 178

مستقل. فجوابه أنهما يُمسحان مع الرَّأس مرَّةً واحدة فليسا عضواً مستقلاً.

‌والغَسْلَةُ الثَّانِيَةُ، والثَّالثة.

قوله: «والغَسْلَةُ الثَّانيةُ والثَّالثةُ» ، أي من سُنَنِ الوُضُوء الغسلة الثَّانية، والثَّالثة. والأولى واجبة لقوله تعالى:{فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6].

والثَّانية أكمل، والثَّالثة أكمل منهما؛ لأنَّهما أبلغ في التَّنظيف.

وقد ثبت عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه توضَّأ مرَّة مرَّة

(1)

، ومرَّتين مرَّتين

(2)

، وثلاثاً ثلاثاً

(3)

.

وتوضَّأ كذلك مخالفاً، فغسل وجهه ثلاثاً، ويديه مرَّتين، ورجليه مرَّة

(4)

.

وقد كَرِهَ بعضُ العلماء أن يخالفَ بين الأعضاء في العدد

(5)

،

(1)

رواه البخاري، كتاب الوضوء: باب الوضوء مرّة مرّة، رقم (157). من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

(2)

رواه البخاري، كتاب الوضوء: باب الوضوء مرتين مرتين، رقم (158). من حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه.

(3)

رواه البخاري كتاب الوضوء: باب الوضوء ثلاثاً ثلاثاً، رقم (159)، ومسلم، كتاب الطهارة: باب صفة الوضوء وكماله، رقم (226)، من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه.

(4)

رواه البخاري، كتاب الوضوء: باب غسل الرجلين إِلى الكعبين، رقم (186)، ومسلم، كتاب الطهارة: باب في وضوء النبيِّ صلى الله عليه وسلم، رقم (235) من حديث عبد الله بن زيد.

(5)

انظر: «الإِنصاف» (1/ 290).

ص: 179

فإذا غسلت الوجه مرَّة، فلا تغسل اليدين مرَّتين وهكذا.

والصَّواب أنَّه لا يُكره؛ فإِنه ثبت أن الرَّسول صلى الله عليه وسلم خالف فغسل الوجه ثلاثاً، واليدين مرَّتين، والرِّجلين مرَّة.

والأفضل أن يأتي بهذا مرَّة، وبهذا مرَّة.

وقد يُقال: إِنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم توضَّأ مرَّة لبيان الجواز، لا على سبيل التعبُّد باختلاف العبادات، وتوضأ مرَّتين لبيان الجواز أيضاً.

وخَالف كذلك لبيان الجواز. لكن نقول: إِنَّ الأصل التعبُّد والمشروعية.

فالذي يظهر: أن الإِنسان ينوِّعُ، وعلى كلام المؤلِّف: الثَّلاث أفضل من الثِّنتين، والثِّنتان أفضل من الواحدة.

وقد ألغز بعض العلماء بهذه المسألة فقال: لنا سُنَّةٌ هي أفضل من واجب

(1)

! وقد قال الله عز وجل في الحديث القُدسي: «وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيءٍ أحبَّ إليَّ مما افترضت عليه»

(2)

. والتثليثُ في الوُضُوء سُنَّةٌ، وهي أفضل من الغسل مرَّةً مرَّةً وهي واجبةٌ، وابتداء السَّلام سُنَّةٌ، وهو أفضل من ردّه الواجب.

والجواب: أن هذا اللُّغز خطأ من أصله؛ لأن غسل أعضاء الوُضُوء ثلاثاً قد دخل فيه الواجب وزِيد عليه، وأما ابتداء السَّلام فمُناقَشٌ من وجهين:

الأول: أن يُقال: لا نسلِّم أنَّ ابتداءه أفضلُ، بل ردُّه أفضلُ

(1)

انظر: «الإِنصاف» (1/ 290)، «غذاء الألباب شرح منظومة الأداب» (1/ 286).

(2)

رواه البخاري، كتاب الرقاق: باب التواضع، رقم (6502) من حديث أبي هريرة.

ص: 180

لعموم الحديث: «ما تقرَّب إليَّ عبدي

»، فيبطل الإلغاز من أصله.

الثَّاني: أنَّنا لو سلَّمنا أن ابتداء السَّلام أفضل من ردِّه؛ فذلك لأن ردّه مبنيٌّ عليه؛ فحاز مبتدئ السَّلام فضيلتين: الأولى: ابتداءُ السلام، والثانية: أنه كان سبباً للواجب.

فالحاصل أن النَّفل لا يمكن أن يكون أفضل من الواجب للحديث الذي ذكرناه وللنَّظر الصَّحيح؛ لأنَّه لولا محبَّة الله لهذه العبادة ما أوجبها، ولجعلها إلى اختيار الإنسان.

ص: 181

‌بابُ فُرُوضِ الوُضُوءِ وصِفَتِهِ

الفُروض: جمع فرض، وجَمَعَهَا مع أن القاعدة عند النَّحْويين أنَّ المصدر لا يُجْمَعُ، ولا يُثَنَّى، ولكن جَمَعَهَا باعتبار تعدُّدها، أو على تقدير أن المصدر بمعنى اسم المفعول، أي: مفروضات الوُضُوء.

والفَرض في اللُّغة يدلُّ على معانٍ أصلها: الحَزُّ والقطع، فالحزُّ قطعٌ بدون إِبانة، والقطعُ حزٌّ مع إبانة.

والفرض في الشرع عند أكثر العلماء مرادفٌ للواجب، أي بمعناه، وهو ما أُمِرَ به على سبيل الإِلزام. يعني: أَمَرَ اللَّهُ به ملزماً إِيَّانا بفعله.

وحكمه: أن فاعله امتثالاً مُثابٌ، وتاركَهُ مستحِقٌّ للعقاب.

وعند أبي حنيفة رحمه الله: الفرض ما كان ثابتاً بدليل قطعيِّ الثُّبوت والدَّلالة.

والواجبُ: ما ثبت بدليل ظَنِّيِّ الثُّبوت أو الدِّلالة

(1)

.

ومثَّلوا لذلك: بقراءة شيء من القُرآن؛ فإِنه فُرضَ في الصَّلاة، لقوله تعالى:{فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20].

وقراءة الفاتحة واجبٌ ولا يُسمَّى فرضاً؛ لأن قراءتها من أخبار الآحاد، وعند كثير من الأصوليين وغيرهم، أن أخبار الآحاد لا تفيد إلا الظَّنَّ.

(1)

انظر: «الإِحكام في أصول الأحكام» ، للآمدي (1/ 99).

ص: 182

والمراد بفروض الوُضُوء هنا أركانُ الوُضُوء.

وبهذا نعرف أن العُلماء رحمهم الله قد ينوِّعون العبارات، ويجعلون الفروضَ أركاناً، والأركان فروضاً.

والدَّليل على أن الفروض هنا الأركان: أن هذه الفروض هي التي تتكوَّن منها ماهيَّة الوُضُوء، وكلُّ أقوال أو أفعال تتكوَّن منها ماهيَّةُ العبادة فإِنَّها أركانٌ.

والوُضُوء في اللُّغة: مشتَقٌ من الوَضَاءةِ، وهي النَّظَافَةُ والحُسْنُ.

وشرعاً: التعبُّدُ لله عز وجل بغسل الأعضاء الأربعة على صفة مخصوصة.

فإن قيل: هذا حدٌّ غيرُ صحيح، لقولك: بغسل الأعضاء، والرَّأس لا يُغسل؟

فالجواب: أنَّ هذا من باب التغليب.

وقوله: «وصفَتِهِ» معطوفةٌ على فُروض، وليست معطوفةً على وُضُوء، يعني: وباب صفة الوُضوء.

والصِّفة: هي الكيفيَّة التي يكونُ عليها.

وللوُضُوء صفتان: صفةٌ واجبةٌ، وصفةٌ مستحبَّةٌ.

‌فروضُهُ سِتَّةٌ: غَسْلُ الوجْهِ،

..........

قوله: «فُروضُهُ سِتَّةٌ» ، دليلُ انحصارها في ذلك هو التَّتبُّع.

قوله: «غسل الوجه» ، هذا هو الفرض الأول، وخرج به المسحُ، فلا بُدَّ من الغسل، فلو بلَّلت يدك بالماء ثم مسحت بها وجهك لم يكن ذلك غسلاً.

ص: 183

والغَسلُ: أن يجري الماء على العضو.

وقوله: «الوجه» هو ما تحصُل به المواجهةُ، وحَدُّه طولاً: من منحنى الجبهة إِلى أسفل اللحية، وعرضاً من الأُذن إلى الأذن.

وقولنا: من منحنى الجبهة؛ وهو بمعنى قول بعضهم: من منابت شعر الرَّأس المعتاد

(1)

؛ لأنه يصِل إِلى حَدِّ الجبهة وهو المنحنى، وهذا هو الذي تحصُل به المواجهة؛ لأن المنحنى قد انحنى فلا تحصُل به المواجهة والدَّليل قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6]. وقد سبق حكم مسترسل اللِّحية

(2)

.

‌والفَمُ والأَنْفُ منه، وغَسْلُ اليَدَيْن،

.........

قوله: «والفمُ والأنفُ منه» ، أي: من الوجه؛ لوجودهما فيه فيدخلان في حَدِّه، وعلى هذا فالمضمضة والاستنشاق من فروض الوُضُوء؛ لكنهما غير مستقلَّين؛ فهما يشبهان قوله صلى الله عليه وسلم:«أُمِرتُ أن أسْجُدَ على سبعة أَعظُم، على الجبهة، وأشار بيده على أنفه»

(3)

، وإن كانت المشابهة ليست من كُلِّ وجه.

قوله: «وغسل اليدين» ، هذا هو الفرضُ الثَّاني، وأطلق المؤلِّف رحمه الله لفظ اليدين، ولكن يجب أن يقيِّد ذلك بكونه إلى المرفقين؛ لأنَّ اليد إِذا أطلقت لا يُرادُ بها إِلا الكفّ.

(1)

انظر: «الإِنصاف» (1/ 329)، وسيأتي ذلك في المتن ص (210).

(2)

انظر: ص (172).

(3)

رواه البخاري، كتاب الأذان: باب السجود على الأنف، رقم (812)، ومسلم، كتاب الصلاة، باب أعضاء السجود، رقم (490) من حديث ابن عباس.

ص: 184

والدَّليل قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيدِيَهُمَا} [المائدة: 38]، وقوله في التيمم:{فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6]، ولم يمسح النبيُّ صلى الله عليه وسلم في التيمُّم إِلا الكفَّين

(1)

.

والمِرْفَقُ: هو المفْصلُ الذي بين العضد والذِّراع.

وسُمِّي بذلك من الارتفاق؛ لأن الإِنسان يرتفق عليه، أي: يتَّكئ.

والدَّليل على دخول المرفقين قوله تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] وتفسير النبيِّ صلى الله عليه وسلم لها بفعله، حيث كان يغسل يده اليُمنى حتى يشرع في العَضُد، ثم يغسل يده اليُسرى كذلك

(2)

.

‌ومَسْحُ الرَّأْسِ ............

قوله: «ومسحُ الرَّأس» ، هذا هو الفرضُ الثَّالثُ من فُرُوض الوُضُوء، والفرقُ بين المسح والغسل: أنَّ المسحَ لا يحتاج إِلى جريان الماء، بل يكفي أن يغمس يده في الماء؛ ثم يمسح بها رأسَه، وإِنَّما أوجب الله في الرأس المسحَ دون الغسل؛ لأن الغسلَ يشقُّ على الإِنسان، ولا سيَّما إذا كَثُرَ الشَّعرُ، وكان في أيام الشِّتاء، إِذ لو غُسل لنزلَ الماءُ على الجسم، ولأن الشَّعر يبقى مبتلاً مدةً طويلة، وهذا يَلْحَق الناسَ به العسرُ والمشقَّةُ، والله إِنما يريد بعباده اليسر.

(1)

رواه البخاري، كتاب التيمم: باب التيمم ضربة، رقم (347)، ومسلم، كتاب الحيض: باب التيمم، رقم (368) عن عمار بن ياسر.

(2)

رواه مسلم، كتاب الطهارة: باب استحباب إِطالة الغرّة والتحجيل، رقم (246)، من حديث أبي هريرة، وأصله مختصراً في البخاري، كتاب الطهارة: باب استحباب إِطالة الغرة والتحجيل، رقم (136).

ص: 185

وحَدُّ الرَّأس من منحنى الجبهة إِلى منابت الشَّعر من الخلف طولاً، ومن الأُذن إِلى الأُذن عرضاً، وعلى هذا فالبياض الذي بين الرَّأس والأُذنين من الرَّأس.

واختلف العلماء رحمهم الله فيما إذا غسل رأسه دون مسحه؛ هل يجزئه أم لا؟ على ثلاثة أقوال

(1)

:

القول الأول: أنه يُجزئه؛ لأن الله إنما أسقط الغسل عن الرَّأس تخفيفاً؛ لأنه يكون فيه شعر فيمسك الماء ويسيل إلى أسفل، ولو كُلِّف النَّاس غسله لكان فيه مشقَّة، ولا سيَّما في أيَّام الشتاء والبَرْد، فإذا غسله فقد اختار لنفسه ما هو أغلظ فيجزئه.

القول الثَّاني: أنَّه يجزئه مع الكراهة بشرط أن يُمِرَّ يده على رأسه، وإِلا فلا، وهذا هو المذهب، لأنَّه إِذا أمرَّ يده فقد حصل المسح مع زيادة الماء بالغسل.

القول الثالث: أنه لا يجزئه؛ لأنَّه خلاف أمر الله ورسوله، قال تعالى:{وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} [المائدة: 6]، وإذا كان كذلك فقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم من حديث عائشة:«من عَمِلَ عَمَلاً ليس عليه أمرُنا فهو رَدٌّ»

(2)

.

ولا ريب أنَّ المسح أفضلُ من الغسل، وإِجزاء الغسل مطلقاً عن المسح فيه نظرٌ، أما مع إِمرار اليد فالأمر في هذا قريب.

(1)

انظر: «الإِنصاف» (1/ 345).

(2)

رواه البخاري تعليقاً بصيغة الجزم، كتاب البيوع: باب النجش، ومن قال: لا يجوز ذلك البيع، انظر رقم (2142)، ووَصَلَهُ مسلمٌ، كتاب الأقضية: باب نقض الأحكام الباطلة، رقم (1718) من حديث عائشة.

ص: 186

ولو مسح بناصيته فقط دون بقيَّة الرَّأس فإِنَّه لا يجزئه؛ لقوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} [المائدة: 6] ولم يقل: «ببعض رؤوسكم» والباء في اللغة العربية لا تأتي للتبعيض أبداً.

قال ابن برهان: من زعم أن الباء تأتي في اللّغة العربية للتبعيض فقد أخطأ

(1)

. وما ورد في حديث المغيرة بن شعبة أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم مسح بناصيته؛ وعلى العِمامة، وعلى خُفَّيْه

(2)

. فإجزاء المسح على الناصية هنا لأنه مسح على العِمامة معه، فلا يدلُّ على جواز المسح على الناصية فقط.

‌ومنهُ الأَذُنَان ...........

قوله: «ومنه الأذنان» ، أي من الرَّأس، والدَّليل مواظبته صلى الله عليه وسلم على مسح الأُذُنين.

وأما حديث: «الأُذنان من الرَّأس»

(3)

فضعّفه كثير من العلماء كابن الصَّلاح وغيره، وقالوا: إن طرقه واهية، ولكثرة الضَّعف فيها لا يرتقي إلى درجة الحسن.

(1)

انظر: «المغني» (1/ 176).

(2)

رواه مسلم، كتاب الطهارة: باب المسح على الناصية والعمامة، رقم (274).

(3)

رواه أحمد (5/ 268)، وأبو داود، كتاب الطهارة: باب صفة وضوء النبيِّ صلى الله عليه وسلم، رقم (134)، والترمذي، أبواب الطهارة: باب ما جاء أن الأذنين من الرأس، رقم (37)، وابن ماجه، كتاب الطهارة: باب الأذنان من الرأس، رقم (443، 444، 445) وغيرهم من طُرقٍ كثيرة لا يخلو أيٌّ منها من ضعف.

قال الحافظ ابن حجر: «وإِذا نظر المنصفُ إِلى مجموع هذه الطرق، عَلم أنَّ للحديث أصلاً، وأنه ليس مما يُطرحُ، وقد حَسَّنوا أحاديث كثيرة باعتبار طُرقٍ لها دون هذه» .

«النكت على ابن الصلاح والعراقي» (1/ 415).

وانظر طُرقه في: «الخلافيات» للبيهقي (1/ 366 ـ 393)، و «التَّلخيص الحبير» (1/ 91، 92) رقم (96).

ص: 187

وبعض العلماء صحَّحه، وبعضهم حسَّنه، لكن مواظبة النبي صلى الله عليه وسلم على مسحهما دليلٌ لا إشكال فيه، وعلى القول بصحة الحديث فهل يجب حلق الشَّعر الذي ينبت على الأذنين مع شعر الرَّأس في حلق النسك؟

فالجواب: أنَّ من صحَّح الحديث فإِنَّه يلزمه القول بذلك. ولكن الذي يتأمَّل حلْقَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم شعره في النُّسك لا يظَنُّ أنه كان يحلق ذلك، أو أنَّ النَّاس مكلَّفون بحلقه أو تقصيره، وأمّا على القول بضعف الحديث فلا إشكال.

‌وغَسْلُ الرِّجْلَيْن،

.........

قوله: «وغَسْلُ الرِّجلين» ، وهذا هو الفرض الرَّابع من فروض الوُضوء. وأطلق رحمه الله هنا الرِّجلين، لكن لا بُدَّ أن يُقالَ: إلى الكعبين، كما قال الله تعالى:{وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6]؛ ولأن الرِّجل عند الإِطلاق لا يدخل فيها العَقِبُ؛ بدليل أن قُطَّاع الطريق يُقطعون من المفصل الذي بين العَقِبِ وظهر القدم، ويبقى العَقِب فلا يُقطع، وعلى هذا يجب أن نقيِّد كلام المؤلِّف بما قُيَّدتْ به الآيةُ.

والكَعْبَان: هما العظمان النَّاتئان اللذان بأسفل السَّاق من جانبي القدم، وهذا هو الحقُّ الذي عليه أهل السُّنَّة.

ولكن الرَّافضة قالوا: المراد بالكعبين ما تكعَّب وارتفع، وهما العظمان اللذان في ظهر القدم

(1)

، لأن الله قال:{إِلَى الْكَعْبَيْنِ} ولم يقل: «إلى الكِعَاب» وأنتم إذا قلتم: إن الكعبين

(1)

انظر: «شرح العقيدة الطحاوية» (2/ 551، 552).

ص: 188

هما: العظمان النَّاتئان فالرِّجلان فيهما أربعة، فلما قال الله:{إِلَى الْكَعْبَيْنِ} عُلم أنَّهما كعبان في الرِّجْلين، فلكُلِّ رِجْلٍ كعب واحد.

والرَّدُّ عليهم بسُنة النبيِّ صلى الله عليه وسلم فإِنه كان يغسل رجليه إلى الكعبين اللذين في منتهى السَّاقين، وهو أعلم بمراد الله تعالى، وتبعه على ذلك كلُّ من وصف وُضُوء النبيِّ صلى الله عليه وسلم من الصَّحابة رضي الله عنهم.

والرَّافضة يخالفون الحقَّ فيما يتعلَّق بطهارة الرِّجل من وجوه ثلاثة:

الأول: أنهم لا يغسلون الرِّجل، بل يمسحونها مسحاً.

الثاني: أنهم ينتهون بالتطهير عند العظم الناتئ في ظهر القدم فقط.

الثالث: أنهم لا يمسحون على الخُفين، ويرون أنه محرَّم، مع العلم أنَّ ممن روى المسحَ على الخُفين عليَّ بن أبي طالب رضي الله عنه وهو عندهم إمام الأئمة.

‌والتَّرتيبُ،

.........

قوله: «والتَّرتيبُ» ، وهو أن يُطهَّر كلُّ عضو في محلِّه، وهذا هو الفرض الخامس من فروض الوُضُوء، والدليل قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6].

وجه الدِّلالة من الآية: إِدخال الممسوح بين المغسولات، ولا نعلم لهذا فائدة إلا التَّرتيب، وإلا لسيقت المغسولات على نسقٍ واحد، ولأنَّ هذه الجملة وقعت جواباً للشَّرط، وما كان

ص: 189

جواباً للشَّرط فإِنَّه يكون مرتَّباً حسب وقوع الجواب.

ولأن الله ذكرها مرتَّبة، وقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:«أبْدَأُ بما بَدَأَ اللَّهُ به»

(1)

.

والدَّليل من السُّنَّة: أن جميع الواصفين لوُضُوئه صلى الله عليه وسلم ما ذكروا إِلا أنَّه كان يرتِّبها على حسب ما ذكر الله.

مسألة: هل يسقط التَّرتيبُ بالجهل أو النسيان على القول بأنَّه فرض؟

قال بعض العلماء: يسقط بالجهل والنسيان

(2)

لأنهما عُذْر، وإِذا كان التَّرتيب بين الصَّلوات المقضيات يسقط بالنِّسيان فهذا مثله.

وقال آخرون: لا يسقط بالنِّسيان (351)؛ لأنه فرض والفرض لا يسقط بالنسيان.

والقياس على قضاء الصَّلوات فيه نظر؛ لأنَّ كلَّ صلاة عبادةٌ مستقلة، ولكن الوُضُوء عبادةٌ واحدة.

ونظير اختلاف الترتيب في الوُضُوء اختلاف التَّرتيب في رُكوع الصَّلاة وسُجودها، فلو سجد قبل الرُّكوع ناسياً فإِن السُّجود لا يصح؛ لوقوعه قبل محلِّه؛ ولهذا فالقول بأنَّ الترتيب يسقطُ بالنِّسيان؛ في النَّفس منه شيء، نعم لو فُرِضَ أن رجلاً جاهلاً في بادية ومنذ نشأته وهو يتوضَّأ؛ فيغسل الوجه واليدين والرِّجلين ثم

(1)

رواه مسلم، كتاب الحج: باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم: رقم (1218)، من حديث جابر.

(2)

انظر: «الإِنصاف» (1/ 303).

ص: 190

يمسح الرَّأس، فهنا قد يتوجَّه القول بأنه يُعذر بجهله؛ كما عَذَرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أُناساً كثيرين بجهلهم في مثل هذه الأحوال.

‌والمُوَالاةُ .........

قوله: «والموالاة» ، هذا هو الفرض السَّادس من فروض الوُضُوء؛ وهي أن يكون الشَّيء موالياً للشيء، أي عَقِبَه بدون تأخير، واشتُرطت الموالاة لقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} الآية [المائدة: 6].

ووجه الدِّلالة: أنَّ جواب الشَّرط يكون متتابعاً لا يتأخَّرُ، ضرورة أن المشروط يلي الشرط.

ودليله من السُّنَّة: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم توضَّأ متوالياً، ولم يكن يفصل بين أعضاء وُضُوئه، ولأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً توضَّأ، وترك على قدمه مثل موضع ظُفُر لم يصبْه الماء، فأمره أن يُحسنَ الوُضُوءَ

(1)

. وفي «صحيح مسلم» من حديث عمر رضي الله عنه: «ارجعْ فأحسِنْ وُضُوءَك» (352).

وفي «مسند الإمام أحمد» : أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يُصلِّي، وفي ظهر قدمه لُمْعَةٌ قَدْرَ الدِّرهم لم يصبْها الماءُ، فأمره النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يعيد الوُضُوء والصَّلاة

(2)

. والفرق بين اللفظين ـ إذا لم نحمل

(1)

رواه مسلم، كتاب الطهارة: باب وجوب استيعاب جميع أجزاء البدن محل الطهارة، رقم (243) من حديث عمر بن الخطاب.

(2)

«التلخيص الحبير» رقم (103).

ص: 191

أحدُهما على الآخر ـ أنَّ الأمر بإِحسان الوُضُوء أي: إتمام ما نقص منه. وهذا يقتضي غَسْلَ ما تَرَك دون ما سَبَق، ويمكن حملُ رواية مسلم على رواية أحمد، فلا بُدَّ من إعادة الوُضُوء، ورواية أحمد سندُها جيدٌ قاله أحمد، وقال ابن كثير:«إسناده صحيح» .

ومن النَّظر: أنَّ الوُضُوء عبادةٌ واحدةٌ، فإِذا فرَّق بين أجزائها لم تكن عبادة واحدة.

وقال بعضُ العلماء: إن الموالاة سُنَّةٌ وليست بشرط

(1)

؛ لأن الله أمر بغسل هذه الأعضاء، وهذا حاصل بالتَّوالي، والتفريق.

والأَوْلَى: القول بأنها شرط؛ لأنها عبادة واحدة لا يمكن تجزئتها.

‌وهي: أن لا يؤخِّرَ غَسْلَ عُضْوٍ حتى يَنْشِفَ الذي قَبْلَه.

قوله: «وهي: أن لا يؤخِّر غَسْل عُضْوٍ حتى يَنْشِفَ الذي قَبْلَه» ، هذا تفسيرالمؤلِّف رحمه الله للموالاة.

وهذا بشرط أن يكون ذلك بزمنٍ معتدل خالٍ من الرِّيح أو شِدَّة الحرِّ والبرد.

وقوله: «الذي قبله» ، أي: الذي قبل العضو المغسول مباشرة، فلو فُرِضَ أنَّه تأخَّر في مسح الرَّأس فمسحه قبل أن تَنْشِف اليدان، وبعد أن نَشِفَ الوجه فهذا وُضُوء مجزئ؛ لأنَّ المراد بقوله:«الذي قبله» ، أي: قبله على الولاء، وليس كُلَّ الأعضاء السَّابقة.

وقولنا: في زمن معتدل، احترازاً من الزَّمن غير المعتدل،

(1)

انظر: «الإِنصاف» (1/ 303).

ص: 192

كزمن الشِّتاء والرُّطوبة الذي يتأخَّر فيه النَّشَاف، وزمن الحرِّ والرِّيح الذي يُسرع فيه النَّشاف.

وقال بعض العُلماء ـ وهي رواية عن أحمد ـ: إِن العبرة بطول الفصل عُرفاً، لا بنَشَاف الأعضاء

(1)

. فلا بُدَّ أن يكون الوُضُوء متقارباً، فإِذا قال النَّاس: إن هذا الرَّجُل لم يفرِّق وضوءَه؛ بل وضوؤه متَّصلٌ، فإِنَّه يُعتبرُ موالياً، وقد اعتبر العُلماء العُرف في مسائل كثيرة.

ولكنَّ العُرْفَ قد لا ينضبطُ، فتعليقُ الحكمِ بنشَافِ الأعضاءِ أقربُ إِلى الضَّبط.

وقوله: «الموالاة» يُستثنى من ذلك ما إِذا فاتت الموالاة لأمرٍ يتعلَّق بالطَّهارة.

مثل: أن يكون بأحد أعضائه حائلٌ يمنع وصول الماء «كالبوية» مثلاً، فاشتغل بإزالته فإِنه لا يضرُّ، وكذا لو نفد الماء وجعل يستخرجه من البئر، أو انتقل من صنبور إلى آخر ونَشِفت الأعضاء فإِنَّه لا يضرُّ.

أما إذا فاتت الموالاة لأمر لا يتعلَّق بالطَّهارة؛ كأن يجد على ثوبه دماً فيشتغل بإِزالته حتى نَشِفت أعضاؤه؛ فيجب عليه إِعادةُ الوُضُوء؛ لأن هذا لا يتعلَّق بطهارته.

‌والنيَّةُ شرطٌ .............

قوله: «والنِّية شرطٌ» ، وهي القصد، ومحلُّها القلبُ ولا يعلم بالنيَّات إلا الله عز وجل.

(1)

انظر: «الإِنصاف» (1/ 305).

ص: 193

والنيَّةُ شرطٌ في جميع العبادات.

والكلامُ على النيَّة من وجهين:

الأول: من جهة تعيين العمل ليتميَّز عن غيره، فينوي بالصَّلاة أنَّها صلاة وأنَّها الظُّهر مثلاً، وبالحجِّ أنه حجٌّ، وبالصِّيام أنَّه صيام، وهذا يتكلَّم عنه أهل الفقه.

الثَّاني: قصدُ المعمول له، لا قصد تعيين العبادة، وهو الإِخلاص وضدُّه الشِّرك، والذي يتكلَّم على هذا أرباب السُّلوك في باب التَّوحيد وما يتعلَّق به، وهذا أهمُّ من الأوَّل، لأنَّه لُبُّ الإِسلام وخلاصة الدِّين، وهو الذي يجب على الإِنسان أن يهتمَّ به.

وينبغي للإنسان أن يتذكَّر عند فعل العبادة شيئين:

الأول: أمر الله تعالى بهذه العبادة حتى يؤدِّيها مستحضراً أمر الله، فيتوضَّأ للصَّلاة امتثالاً لأمر الله؛ لأنَّه تعالى قال:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6]. لا لمجرد كون الوُضُوء شرطاً لصحَّة الصَّلاة.

الثاني: التأسِّي بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم لتتحقَّق المتابعة.

وقوله: «والنيَّةُ شرطٌ» أي لصحَّة العمل وقَبوله وإِجزائه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «إِنما الأعمال بالنيَّات»

(1)

.

ولأنَّ الله عز وجل قيَّد كثيراً من الأعمال بقوله: {ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ} .

(1)

رواه البخاري، كتاب بدء الوحي: باب كيف كان بدء الوحي إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، رقم (1)، ومسلم، كتاب الإِمارة: باب قوله: «إِنما الأعمال بالنيات» ، رقم (1907) عن عمر بن الخطاب.

ص: 194

كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ} [الرعد: 22]، وقوله:{وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 114].

وهل يَنطِقُ بالنيَّة؟ على قولين للعلماء

(1)

، والصَّحيحُ أنَّه لا ينطق بها، وأن التعبُّد لله بالنُّطق بها بدعة يُنهى عنها، ويدلُّ لذلك أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يكونوا ينطقون بالنيَّة إِطلاقاً، ولم يُحفظ عنهم ذلك، ولو كان مشروعاً لبيَّنه الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم الحالي أو المقالي.

فالنُّطق بها بدعةٌ سواءٌ في الصَّلاة، أو الزَّكاة، أو الصَّوم.

أما الحجُّ فلم يرد عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: نويت أن أحُجَّ أو نويت النُّسك الفلاني، وإِنما يلبِّي بالحجِّ فيُظهر النِّيَّة، ويكون العقد بالنيَّةِ سابقاً على التلبية.

لكن إذا احتاج الإِنسانُ إلى اشتراط في نُسُكه، فإِنه لا يشترط أن ينطِقَ بالنية، فيقول: إني أريد كذا، بل له أن يقول: اللهم إِن حَبَسَنِي حابس فَمَحِلِّي حيث حبستني دون النُّطقِ بالنيَّة.

والمشهور من المذهب: أنه يُسَنُّ النُّطق بها سرًّا في الحجِّ وغيره، وهذا ضعيف لما سبق.

وأمّا القول: بأنه يُسَنُّ النُّطُق بها جهراً؛ فهذا أضعف وأضعف، وفيه من التَّشويش على النَّاس ولا سيما في الصَّلاة مع الجماعة ما هو ظاهرٌ، وليس هناك حاجة إلى التلفُّظ بالنيَّة لأنَّ الله يعلم بها.

(1)

انظر: «مجموع الفتاوى» (18/ 263)(22/ 218)، «الإِنصاف» (1/ 307).

ص: 195

والنيَّة ليست صعبة، وإن كانت عند بعض أهل الوسواس صعبة؛ لأنَّ كُلَّ عاقل مختار يعمل عملاً فلا بُدَّ أن يكون مسبوقاً بالنيَّة، فلو قُرِّبَ لرَجُلٍ ماءٌ، ثم سَمَّى وغسلَ كفَّيه، ثم تمضمض واستنشق

إِلخ؛ فإِن هذا لا يُعقل أن يكون بدون نيَّة.

ولهذا قال بعض العلماء رحمهم الله: لو أنَّ الله كلَّفنا عملاً بدون نيَّة؛ لكان من تكليف ما لا يُطاق

(1)

. فلو قال الله: صلُّوا ولا تنووا، فإِنَّه غير ممكن، حتى قال شيخ الإسلام: إِذا تعشَّى الإِنسان لياليَ رمضان فإِن عشاءه يدلُّ على نيَّته ولو لم ينوِ الصِّيام من الغد؛ وذلك لأنَّه لن يُكثر من الطَّعام كما يُكثره في سائر أيامه؛ لأنه سوف يتسحَّر آخر الليل.

‌لِطَهَارةِ الأحْداثِ كلِّها،

............

قوله: «لطهارة الأحداث كلِّها» ، الحَدَثُ: معنًى يقوم بالبَدَن يمنع من فعل الصَّلاة ونحوها، هذا في الأصل.

وأحياناً يُطلقُ على سَبَبِهِ، فيُقال: للغائط حَدَثٌ، وللبول حَدثٌ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:«لا يقبل الله صلاةَ أحدكم إِذا أحدث حتى يتوضَّأ»

(2)

.

وخرج بقوله: «طهارة الأحداث» طهارة الأنجاس، فلا يُشترطُ لها نيَّةٌ، فلو عَلَّق إِنسانٌ ثوبه في السَّطح، وجاء المطرُ حتى غسله، وزالت النَّجَاسةُ طَهُرَ؛ مع أن هذا ليس بفعله، ولا بنيَّته.

(1)

انظر: «مجموع الفتاوى» (18/ 262).

(2)

رواه البخاري، كتاب الوضوء: باب لا تُقبلُ صلاةٌ بغير طهور، رقم (135)، ومسلم، كتاب الطهارة، باب وجوب الطهارة للصلاة، رقم (225). من حديث أبي هريرة.

ص: 196

وكذلك الأرض تصيبها النَّجَاسة، فينزل عليها المطر فتطهُر.

وما ذكره المؤلِّف: مذهب مالك

(1)

، والشَّافعي

(2)

، وأحمد

(3)

.

وذهب أبو حنيفة رحمه الله إلى أن طهارة الحدث لا يُشترطُ لها النيَّةُ

(4)

، لأنها ليست عبادة مقصودة لذاتها، وإنما هي مقصودة لتصحيح الصَّلاة، كما لو لَبِسَ ثوباً يستُر به عورته، فإِنه لا يُشترطُ أن ينوي بذلك ستر العورة، بل لو لَبِسَهُ للتجمُّلِ أو لدفع البرد، وما أشبه ذلك أجزأه. وهذا ضعيف. والصَّوابُ أن الوُضُوء عبادةٌ مستقلِّة، بدليل أن الله تعالى رتَّب عليه الفضلَ والثَّوابَ والأجرَ، ومثلُ هذا يكون عبادةً مستقلّةً، وهو قول جمهور العلماء.

وإِذا كان عبادة مستقلَّة، صارت النيَّةُ فيه شرطاً، بخلاف إزالة النَّجاسة فإِنَّها ليست فعلاً، ولكنها تَخَلٍّ عن شيء يُطلب إِزالته، فلهذا لم تكن عبادة مستقلَّة، فلا تُشتَرطُ فيها النيَّة.

وقوله «كلِّها» أراد به شُمول الحدث الأصغر والأكبر، والطَّهارة بالماء والتيمُّم.

‌فَيَنْوِي رَفْعَ الحدث،

...........

قوله: «فينوي رَفْعَ الحدث» ، هذه الصُّورة الأولى للنيَّة، فإِذا توضَّأ بنيَّة رفع الحدث الذي حَصَل له بسبب البول مثلاً صحَّ وُضُوءُه، وهذا هو المقصود بالوُضُوء.

(1)

انظر: «حاشية الدسوقي على الشرح الكبير» (1/ 78).

(2)

انظر: «المجموع شرح المهذب» (1/ 309).

(3)

انظر: «الإِنصاف» (1/ 307).

(4)

انظر: «بدائع الصنائع» (1/ 19، 20).

ص: 197

‌أو الطَّهارة لِمَا لا يُبَاحُ إِلا بها، فإِن نوى ما تُسَنُّ لَهُ الطهارةُ كَقِرَاءةٍ، أو تجديداً مَسْنُوناً ناسياً حدَثَه ارتَفَعَ،

..........

قوله: «أو الطَّهارة لما لا يُبَاح إِلا بها» ، وهذه هي الصُّورة الثَّانية، أي: ينوي الطَّهارة لشيء لا يُباح إِلا بالطَّهارة كالصَّلاة والطَّواف ومسِّ المصحف، فإِذا نوى الطَّهارَة للصَّلاة ارتفعَ حدثُه، وإِن لم ينوِ رفع الحدث، لأن الصَّلاة لا تصحُّ إلا بعد رفع الحدث.

قوله: «فإن نوى ما تُسنُّ له الطَّهارة كقراءة» ، هذه هي الصُّورة الثالثة، أي: نوى الطَّهارة لما تُسَنُّ له، وليس لما تجب، كقراءة القرآن، فإِن قراءة القرآن دون مسِّ المصحف تُسَنُّ لها الطَّهارة، بل كلُّ ذِكْرٍ فإِن السُّنَّة أن يتطهَّرَ له؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:«كَرِهْتُ أن أذكر الله إلا على طهارة»

(1)

، فإذا نوى ما تُسَنُّ له الطَّهارةُ ارتفع حدثُه، لأنَّه إِذا نوى الطَّهارةُ لما تُسَنُّ له فمعنى ذلك أنه نوى رفع الحدث؛ لأجل أن يقرأ، وكذلك إِذا نوى الطَّهارةَ لرفع الغضبِ، أو النَّومِ، فإِنَّه يرتفعُ حدثه.

فصار للنيَّة ثلاثُ صُور:

الأولى: أن ينويَ رفع الحدث.

الثانية: أن ينويَ الطَّهارةَ لما تجبُ له.

الثالثة: أن ينويَ الطهارةَ لما تُسَنُّ له.

قوله: «أو تجديداً مسنوناً ناسياً حدَثَه ارتفَعَ» ، هذه الصُّورة الرَّابعة. أي: تجديداً لوُضُوءٍ سابق عن غير حدث، بل هو على

(1)

تقدم تخريجه ص (117).

ص: 198

وُضُوء، فينوي تجديدَ الوُضُوء الذي كان متَّصفاً به.

لكن اشترط المؤلِّفُ رحمه الله شرطين:

الشرط الأول: أن يكونَ ذلك التجديدُ مسنوناً؛ لأنه إِذا لم يكن مسنوناً لم يكن مشروعاً، فإِذا نوى التَّجديدَ وهو غير مسنونٍ، فقد نوى طهارةً غير شرعية، فلا يرتفع حدثُه بذلك.

وتجديد الوُضُوء يكون مسنوناً إِذا صَلَّى بالوُضُوء الذي قبله، فإِذا صلَّى بالوُضُوء الذي قبله فإِنه يُستحبُّ أن يتوضَّأ للصَّلاة الجديدة.

مثاله: توضَّأ لصلاة الظُّهر وصلَّى الظُّهر، ثم حَضَر وقتُ العصر وهو على طهارته، فحينئذٍ يُسَنُّ له أن يتوضَّأَ تجديداً للوُضُوء؛ لأنَّه صلَّى بالوُضُوء السَّابق، فكان تجديدُ الوُضُوء للعصر مشروعاً، فإن لم يَصلِّ به؛ بأنْ توضَّأ للعصر قبل دخول وقتها؛ ولم يُصَلِّ بهذا الوُضُوء، ثم لما أذَّن العصرُ جدَّد هذا الوُضُوء، فهذا ليس بمشروع؛ لأنَّه لم يُصلِّ بالوُضُوء الأوَّل، فلا يرتفع حدثُه لو كان أحدث بين الوُضُوء الأول والثَّاني.

الشرط الثَّاني: أن ينسى حدثَه، فإِن كان ذاكراً لحدثه فإِنه لا يرتفع، وهذا من غرائب العلم! إذا نوى الشَّيءَ ناسياً صَحَّ، وإِذا نواه ذاكراً لم يصحَّ!.

مثاله: رجل صلَّى الظُّهر بوُضُوء، ثم نقضه بعد الصَّلاة، ثم جدَّد الوُضُوء للعصر ناسياً أنه أحدث، فهذا يرتفع حدثُه؛ لأنه نوى تجديداً مسنوناً ناسياً حدثَه.

فإِذا كان ذاكراً لحدثه، فلا يرتفع؛ لأنَّه حينئذٍ يكون

ص: 199

متلاعباً، فكيف ينوي التجديدَ وهو ليس على وُضُوء؛ لأن التَّجديد لا يكون إلا والإِنسان على طهارة.

‌وإِن نوى غُسْلاً مَسْنُوناً أجْزَأَ عن واجب،

...........

قوله: «وإن نوى غُسْلاً مسنوناً أجْزَأَ عن واجبٍ» ، مثاله: أن يغتسلَ من تغسيل الميِّت، أو يغتسل للإِحرام، أو للوقوف بعرفة، فهذه أغسال مسنونةٌ، وكذلك غُسْلَ الجمعة عند جمهور العلماء، والصَّحيح: أنه واجبٌ.

وظاهر كلام المؤلِّف ـ وهو المذهب ـ: ولو ذكر أن عليه غسْلاً واجباً وقيَّده بعض الأصحاب بما إِذا كان ناسياً حدثه

(1)

، أي: ناسياً الجنابة، فإِن لم يكن ناسياً فإِنَّه لا يرتفع؛ لأن الغُسْل المسنون ليس عن حدث، وإذا لم يكن عن حدث، فقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:«إنما الأعمال بالنيَّات»

(2)

. وهذا الرَّجلُ لم ينوِ إِلا الغُسْل المسنون، وهو يعلمُ أن عليه جنابة، ويذكر ذلك، فكيف يرتفع الحدث؟

وهذا القول ـ وهو تقييده بأن يكون ناسياً ـ له وجهةٌ من النَّظر.

وتعليلُ المذهب: أنه لما كان الغُسْل المسنونُ طهارةً شرعيَّة كان رافعاً للحدث، وهذا التَّعليل فيه شيء من العِلَّة، لأنَّه لا شَكَّ بأنَّه غُسْلٌ مشروع، ولكنه أدنى من الغُسْل الواجب من الجنابة، فكيف يقوى المسنونُ حتى يجزئ عن الواجب الأعلى؟

(1)

انظر: «الإِنصاف» (1/ 311، 315).

(2)

متفق عليه، وقد تقدَّم تخريجه، ص (194).

ص: 200

لكن إن كان ناسياً فهو معذور.

مثاله: لو اغتسل للجمعة ـ على القول بأنه سُنَّة ـ وهو عليه جنابة لكنه لم يذكرها، أو لم يعلم بالجنابة إِلا بعد الصلاة، كما لو احتلم ولم يعلم إلا بعد الصلاة، فإن صلاة الجمعة تكون صحيحة لارتفاع الجنابة.

أما إذا علم ونوى هذا الغسل المسنون فقط، فإن القول بالإجزاء في النفس منه شيء.

‌وكذا عكْسُهُ،

...........

قوله: «وكذا عكسه» ، كذا: خبر مقدَّم، وعكسه: مبتدأٌ مؤخَّر، أي: إِذا نوى غُسلاً واجباً أجزأ عن المسنون لدُخُوله فيه، كما لو كان عليه جنابة فاغتسل منها عند السَّعي إلى الجُمعة فإِنه يجزئه عن غُسْل الجمعة؛ لأن الواجبَ أعلى من المسنون فيسقطُ به، كما لو دخل المسجد ووجد الناس يصلُّون فدخلَ معهم، فإِن تحيَّة المسجد تَسقطُ عنه؛ لأن الواجب أقوى من المستحبِّ.

وإذا نوى الغُسْلين الواجب والمستحبَّ أجزأ من باب أولى؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّما الأعمال بالنيَّات»

(1)

.

وإِنْ جعل لكلٍّ غُسْلاً فهو أفضل؛ كما اختاره الأصحاب

(2)

رحمهم الله.

وعلى هذا فالغُسْل الواجب مع المسنون له أربع حالات:

الأولى: أن ينويَ المسنونَ دونَ الواجبِ.

(1)

متفق عليه، وقد تقدم تخريجه ص (194).

(2)

انظر: «كشاف القناع» (1/ 89).

ص: 201

الثانية: أن ينويَ الواجبَ دونَ المسنونِ.

الثالثة: أن ينويهما جميعاً.

الرابعة: أن يغتسل لكلِّ واحد غسلاً منفرداً.

‌وإِن اجتمعت أحداثٌ تُوجِبُ وُضوءاً ........

قوله: «وإن اجتمعت أحداثٌ تُوجِبُ وُضُوءاً» ، أي: بأن فعل من نواقض الوُضُوء أشياء متعدِّدة، كما لو بَالَ، وتغوَّط، ونامَ، وأكل لحم إِبل، ونوى الطَّهارة عن البول، فإنه يجزئ عن الجميع.

ولكن لو نوى عن البول فقط على أن لا يرتفع غيرُه، فإِنَّه لا يجزئ إلا عن البول؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم:«إِنَّما الأعمال بالنيَّات، وإِنما لكُلِّ امرئٍ ما نوى»

(1)

.

وقيل: يجزئ عنه وعن غيره

(2)

، لأن الحدثَ وصفٌ واحد؛ وإن تعدَّدت أسبابه فإِنه لا يتعدَّد، فإِذا نوى رفعه ارتفع وإِن لم يعيِّن إلا سبباً واحداً من أسبابه.

وقيل: إِن عَيَّنَ الأوَّلَ ارتفع الباقي، وإِن عيَّن الثاني لم يرتفعْ شيء منها

(3)

؛ لأنَّ الثَّاني ورد على حدث، لا على طهارة كما لو بال أولاً، ثم تغوَّط، ثم توضَّأ عن الغائط فقط فإِنَّه لا يرتفعُ حدثُه؛ لأن الثَّاني وَرَدَ على حَدَثٍ فلم يؤثِّر شيئاً، وحينئذٍ إِذا نَوى رفع الحدث من الثَّاني لم يرتفع، لأن الحدث من الأول.

والصَّحيح: أنه إِذا نوى رفع الحدث عن واحد منها ارتفع

(1)

متفق عليه، وقد تقدم تخريجه، ص (194).

(2)

انظر: «الإِنصاف» (1/ 317، 318).

(3)

انظر: «الإِنصاف» (1/ 317، 318).

ص: 202

عن الجميع؛ حتى وإِنْ نوى أن لا يرتفع غيرُه، لأن الحدَثَ وصف واحد وإِن تعدَّدت أسبابه، فإِذا نوى رفعه من البول ارتفع.

ولا يعارض قوله صلى الله عليه وسلم: «وإِنّما لكُلِّ امرئٍ ما نوى» ، وهذا لم ينوِ إلا عن حدث البول؛ لأن الحدث شيء واحد، فإِذا نوى رفعه ارتفع، وليس الإِنسان إِذا بال في الساعة الواحدة مثلاً صار له حدث، وإِذا تغوَّط في الساعة الواحدة والنصف صار له حدث آخر وهكذا، بل الحَدَثُ واحدٌ، والأسباب متعدِّدةٌ.

‌أو غُسْلاً، فَنَوى بطَهَارَتِهِ أحَدَها ارتفعَ سَائِرُها، ويجبُ الإِتيانُ بها عند أوَّلِ واجباتِ الطَّهَارةِ، وهو التَّسْمِيَةُ،

.........

قوله: «أو غُسْلاً فَنَوى بطَهَارَتِهِ أحَدَها ارتفعَ سائُرها» ، أي: اجتمعت أحداث توجب غُسْلاً كالجماع، والإِنزال، والحيض، والنِّفاس بالنسبة للمرأة، فإذا اجتمعت ونوى بغُسْلِهِ واحداً منها، فإنَّ جميعَ الأحداث ترتفعُ.

وما يُقال في الحدثِ الأصغر، يُقالُ هنا.

قوله: «ويجب الإتيان بها عند أوَّل واجبات الطَّهارة، وهو التَّسمية» ، أي: يجبُ الإِتيان بالنيَّة عند أوَّل واجبات الطَّهارة، وهي التَّسمية.

والنيَّة: عزمُ القلب على فعل الطَّاعة تقرُّباً إلى الله تعالى.

والمؤلِّفُ أراد الكلام على محل النيَّة، أي: متى ينوي الإنسان؟

وقوله: «عند» ، هذه الكلمة تدلُّ على القُرْب كما في قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ *} [الأعراف]. فالعنديَّة تدلُّ على القُرب، وعلى هذا يجب أن تكون النيَّةُ مقترنةً بالفعل، أو متقدِّمةً عليه بزمنٍ يسير، فإِن تقدمت بزمن كثير فإِنها لا تجزئ.

وقوله: «عند أوَّل واجبات الطهارة» ، لم يقل عند أوَّل فروض الطَّهارة؛ لأن الواجب مقدّمٌ على الفروض في الطَّهارة، والواجب هو التَّسمية.

وهذا على

ص: 203

المذهب من أنَّ التسمية واجبةٌ مع الذِّكر.

وقد سبق بيانُ حكم التسمية والخلاف في ذلك، وبيان أنَّ الصَّحيح أنَّها سُنَّةٌ

(1)

.

فإِذا أراد أن يتوضَّأ فلا بُدَّ أن ينويَ قبل أن يُسمِّيَ، لأن التَّسمية واجبةٌ.

‌وتُسنُّ عِنْدَ أوَّل مسنوناتِها إِن وُجد قَبْلَ واجبٍ،

.............

قوله: «وتُسَنُّ عند أوَّل مسنوناتها إنْ وُجِدَ قبل واجبٍ» ، أوَّلُ مسنونات الطَّهارة غسل الكفَّين ثلاثاً، فإذا غسلهما ثلاثاً قبل أن يُسمِّي صار الإِتيان بالنيَّة حينئذٍ سُنَّةٌ.

وقوله: «إِن وُجِدَ» الضَّمير يعود على أوَّل المسنونات.

وقوله: «قبل واجب» ، أي: قبل التَّسمية، فلو غسل كَفَّيه ثلاثاً قبل أن يُسمِّيَ، فإِنَّ تَقَدُّمَ النِّيةِ قبلَ غسلِ اليدين سُنَّةٌ.

والنيَّةُ لها محلاَّن:

الأول: تكونُ فيه سُنَّةٌ، وهو قبل المسنون إِنْ وُجِدَ قبل واجبٍ.

الثاني: تكون فيه واجبةً عند أوَّل الواجبات، وقد سبق بيان

(1)

انظر: ص (158).

ص: 204

ما في ذلك

(1)

، وأنَّه لا يمكن أن يقرِّب الإنسانُ الماء؛ ثم يشرع في الوُضُوء من غير نيَّة؛ ولهذا لا بُدَّ أن تكون النيَّةُ سابقةً حتى على أوَّل المسنونات؛ اللهم إِلا إِن كان إِنما يغسل يديه لتنظيفهما من طعام ونحوه؛ ثم نوى الوُضُوء بعد غسل اليدين، فهذا ربما يُقالُ: إِنه ابتدأ الطَّهارةَ بلا نيَّة، وحينئذٍ فعليه أن يأتيَ بالنيَّة عند التَّسمية.

وقولُه: «إن وُجِدَ قبل واجب» ، يشير رحمه الله إلى أن هذا المسنون لا يوجد قبلَ الواجب في الغالب، فالغالب أن يُسمِّيَ قبل غسل كفَّيه، وحينئذ يكون الواجب متقدِّماً.

‌واستصحابُ ذِكْرِها في جميعها، ويجبُ استصحاب حُكْمِها.

قوله: «واستصحاب ذكرها في جميعها» ، أي يُسَنُّ استصحاب ذكرها، والمرادُ ذكرُها بالقلب، أي يُسَنُّ للإِنسان تذكُّرُ النيَّةِ بقلبه في جميع الطَّهارة، فإِن غابت عن خاطره فإنه لا يضرُّ، لأن استصحاب ذكرها سُنَّةٌ.

ولو سبقَ لسانُه بغير قصده فالمدارُ على ما في القلب.

ولو نوى بقلبه الوُضُوء، لكن عند الفعل نطق بنيَّة العمل؛ فيكون اعتمادُه على عزم قلبه لا على الوهم الذي طرأ عليه، كما لو أراد الحجَّ ودخل في الإحرام بهذه النيَّة؛ لكن سبقَ لسانُه فلبَّى بالعُمْرة فإِنَّه على ما نوى.

قوله: «ويجب استصحابُ حكمها» ، معناه: أن لا ينوي قطعها.

(1)

انظر ص (203).

ص: 205

فالنيَّةُ إِذاً لها أربع حالات باعتبار الاستصحاب:

الأولى: أن يستصحب ذكرها من أوَّل الوُضُوء إِلى آخره، وهذا أكمل الأحوال.

الثانية: أن تغيبَ عن خاطره؛ لكنَّه لم ينوِ القَطْعَ، وهذا يُسمَّى استصحابَ حكمِها، أي بَنَى على الحكم الأوَّل، واستمرَّ عليه.

الثالثة: أن ينويَ قطعها أثناء الوُضُوء، لكن استمرَّ مثلاً في غسل قدميه لتنظيفهما من الطِّين فلا يصحُّ وُضُوءُهُ؛ لعدم استصحاب الحكم لقطعه النيَّة في أثناء العبادة.

الرابعة: أن ينويَ قطع الوُضُوء بعد انتهائه من جميع أعضائه، فهذا لا يَنتقضُ وُضُوءهُ، لأنَّه نوى القطع بعد تمام الفعل.

ولهذا لو نوى قطعَ الصَّلاةِ بعد انتهائها، فإِنَّ صلاته لا تنقطع

(1)

.

قاعدة: قَطْعُ نيَّةِ العبادة بعد فعلها لا يؤثِّر، وكذلك الشكُّ بعد الفراغ من العبادة، سواء شككتَ في النيَّة، أو في أجزاء العبادة، فلا يؤثِّر إِلا مع اليقين.

فلو أن رجلاً بعد أن صَلَّى الظُّهر قال: لا أدري هل نويتُها ظُهراً أو عصراً شكّاً منه؟ فلا عبرة بهذا الشكِّ ما دام أنَّه داخل

(1)

انظر: «المغني» (1/ 159).

ص: 206

على أنها الظُّهر فهي الظُّهر، ولا يؤثِّر الشَّكُّ بعد ذلك، ومما أُنشِدَ في هذا:

والشَّكُّ بعد الفعل لا يؤثِّرُ

وهكذا إِذا الشُّكوكُ تكثُر

(1)

ومثله لو شَكَّ ـ بعد الفراغ من الصَّلاة ـ هل سجد سجدة أو سجدتين؟ فإن هذا لا يؤثِّرُ.

وهنا مسألةٌ مهمَّةٌ وهي: لو نوى فرض الوقت دون تعيين الصَّلاة، وهذه تقع كثيراً، فلو جاء إنسان مثلاً لصلاة الظُّهر؛ ووجد الناس يُصلُّون ودخل معهم في تلك الساعة؛ ولم يستحضر أنَّها الظُّهر، أو الفجر، أو العصر، أو المغرب، أو العشاء. وإنما استحضر أنَّها فرض الوقت.

فالمذهب: لا يجزئه؛ لأنه لا بُدَّ أن يُعيِّنَ إِما الظُّهر، أو العصر، أو المغرب، أو العشاء، أو الصُّبح.

وعن أحمد رواية: أنه إِذا نوى فرض الوقت أجزأه. ذكرها ابن رجب في «جامع العلوم والحكم» ، واختارها بعض الأصحاب

(2)

.

وهذا لا يسعُ النَّاس العمل إِلا به، لأنَّه كثيراً ما يغيب عن الإِنسان تعيينُ الصَّلاة، لكن نيَّته هو أنَّها فرض الوقت.

مسألة: رجل سلَّم من ركعتين من الظُّهر بناءً على أنَّها الفجر ثم ذكر، هل يكمل ركعتين أم يستأنف الصَّلاة؟

(1)

انظر: «منظومة في أصول الفقه وقواعد فقهية» ، للمؤلف رحمه الله ص (10).

(2)

انظر: «الإِنصاف» (3/ 360)، «جامع العلوم والحكم» (1/ 85).

ص: 207

يقولون في هذه الصُّورة: يجب أن يستأنف الصَّلاة

(1)

؛ لأنه سلَّم على أنها صلاة ركعتين؛ بخلاف من سَلَّم من ركعتين عن الظُّهر ونحوها ثم ذكر؛ فإنه يتمُّ أربعاً ويسجد للسَّهو، ولأنَّه سلَّم على أنَّها صلاة رباعية.

‌وصفةُ الوضوء: أن ينويَ، ثُمَّ يُسمِّي، ويغسلَ كفَّيه ثلاثاً ثُمَّ يَتَمَضْمَضَ،

.........

قوله: «وصفة الوُضُوء» ، المؤلف رحمه الله ساق صفة الوُضُوء المشتملةَ على الواجب، وغير الواجب.

قوله: «أن ينويَ» ، النيَّةُ شرطٌ لقوله صلى الله عليه وسلم:«إِنَّما الأعمال بالنيَّات»

(2)

.

قوله: «ثم يُسمِّي» ، التسميةُ واجبةٌ على المذهب وقد سبق بيانُ الخلاف في هذا

(3)

.

قوله: «ويغسل كفَّيه ثلاثاً» ، والدَّليل فعلُ النبي صلى الله عليه وسلم، فإِنَّه كان إذا أراد أن يتوضَّأ غسل كفَّيه ثلاثاً

(4)

وهذا سُنَّةٌ.

وتعليل ذلك أنَّ الكفَّين آلةُ الوُضُوء، فينبغي أن يبدأ بغسلهما قبل كُلِّ شيء حتى تكونا نظيفتين.

قوله: «ثم يَتَمَضْمَضَ» ، المضمضةُ: أن يُدخل الماء في فمه ثم يمجّ

وهل يجبُ أن يُدير الماء في جميع فمه أم لا؟

(1)

انظر: «الإِقناع» (1/ 163).

(2)

متفق عليه، وقد تقدم تخريجه، ص (194).

(3)

انظر: ص (158).

(4)

تقدم تخريجه ص (169).

ص: 208

قال العلماء رحمهم الله: الواجبُ إدارته في الفم أدنى إِدارة

(1)

، وهذا إِذا كان الماء قليلاً لا يملأ الفم، فإن كان كثيراً يملأ الفم فقد حصل المقصودُ.

وهي يجب أن يزيلَ ما في فمه من بقايا الطعام فيخلِّلَ أسنانه ليدخلَ الماءُ بينها؟

الظَّاهر: أنه لا يجب.

وهل يجبُ عليه أن يزيلَ الأسنانَ المركَّبةَ إِذا كانت تمنعُ وصول الماء إِلى ما تحتها أم لا يجب؟

الظَّاهر أنه لا يجب، وهذا يُشبه الخاتمَ، والخاتم لا يجب نزعُه عند الوُضُوء، بل الأَوْلى أن يحرِّكَه لكن ليس على سبيل الوجوب، لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يلبسه

(2)

ولم يُنْقَلْ أنه كان يحرِّكه عند الوُضُوء، وهو أظهر من كونه مانعاً من وصول الماء من هذه الأسنان، ولا سيَّما أنه يَشُقُّ نزع هذه التركيبة عند بعض النَّاس.

‌ويَسْتَنْشِقَ،

.............................................

قوله: «ويستنشقَ» ، الاستنشاق: أن يجذِبَ الماء بنَفَسٍ من أنفه.

وهل يجب الاستنثار؟

قالوا: الاستنثار سُنَّةٌ

(3)

، ولا شَكَّ أن طهارة الأنف لا تتمُّ

(1)

انظر: «الإِقناع» (1/ 42).

(2)

رواه البخاري، كتاب الأيمان والنذور، رقم (6651)، ومسلم، كتاب اللباس والزينة: باب لبس النبيّ صلى الله عليه وسلم خاتماً من وَرِقْ

، رقم (2091)، من

حديث ابن عمر.

(3)

انظر: «الإِنصاف» (1/ 327).

ص: 209

إِلا بالاستنثار بعد الاستنشاق؛ حتى يزول ما في الأنف من أذىً.

وهل يبالغ في المضمضة والاستنشاق؟

قال العلماء: يبالغُ إِلا أن يكونَ صائماً لقوله صلى الله عليه وسلم للقيط بن صَبِرَة: «

وبالغْ في الاستنشاق إِلا أن تكونَ صائماً»

(1)

.

وكذلك لا يبالغُ في الاستنشاق إِذا كانت له جيوب أنفيَّة زوائد؛ لأنَّه مع المبالغة ربما يستقرُّ الماء في هذه الزوائد ثم يتعفَّن، ويصبح له رائحة كريهة ويصابُ بمرض، أو ضرر في ذلك، فهذا يقال له: يكفي أن تستنشق حتى يكونَ الماء داخل المنخرين.

‌ويَغْسلَ وجْهَهُ مِنْ منابتِ شَعْر الرأس .......................

قوله: «ويغسلَ وجهه» ، الوجه ما تحصُلُ به المواجهةُ، وهو أشرف أجزاء البدن.

قوله: «من منابت شعر الرأس» ، المرادُ: مكان نبات الشَّعر المعتاد بخلاف الأفْرَع، والأنْزَع.

فالأفرع: الذي له شعرٌ نازل على الجبهة.

والأنزع: الذي انحسر شعرُ رأسه. قال الشاعر يوصي زوجته:

ولا تَنْكِحي إِنْ فرَّقَ الدَّهرُ بيننا أغَمَّ القفا والوَجْهِ، ليس بأنْزَعا

(2)

وقوله: «من مناب شعر الرَّأس» ، هكذا حدَّه المؤلِّفُ رحمه الله، وقال بعضُ العلماء: من منحنى الجبهة من الرَّأس؛

(1)

تقدم تخريجه، ص (149).

(2)

البيت لهُدبة بن خشرم، انظر:«لسان العرب» مادة (نزع)(8/ 352).

ص: 210

لأن المنحنى هو الذي تحصُل به المواجهة، وهذا أجود.

‌إِلى ما انحَدَرَ من اللَّحْيين والذَّقن طُولاً، ومن الأُذُنِ إِلى الأُذُنِ عَرْضاً، وما فيه من شَعْرٍ خفيفٍ، والظاهر الكثيفَ ........

قوله: «إلى ما انحدر من اللَّحْيَين والذَّقن طولاً» ، الذَّقن: هو مجمعُ اللَّحْيَين. واللَّحْيَان: هما العظمان النَّابت عليهما الأسنان.

فما انحدر من اللَّحيين، وكذلك إذا كان في الذَّقن شعرٌ طويلٌ فإِنه يُغسل، لأن الوجه ما تحصُل به المواجهةُ، والمواجهةُ تحصُل بهذا الشَّعر فيكون غسله واجباً.

وقال بعض العلماء: إِن ما جاوز الفرض من الشَّعر لا يجب غسله، لأنَّ الله قال:{وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6]»، والشَّعر في حكم المنفصل.

وقد ذكر ابنُ رجب هذا في «القواعد» ، وصحَّحَ أنَّه لا يجب غسل ما استرسل من اللَّحيين والذَّقن

(1)

.

والأحوَطُ والأَوْلى غسلُ ما استرسل من اللَّحيين والذَّقن.

قوله: «ومن الأُذُن إِلى الأُذن عرضاً» ، والبياضُ الذي بين العارض والأُذُن من الوجه.

والشَّعر الذي فوق العظم الناتئ يكون تابعاً للرَّأس، هذا حَدُّ الوجه.

والدَّليل على غسله قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6].

قوله: «وما فيه من شعر خفيف، والظَّاهرَ الكثيف» ، الخفيفُ:

(1)

«القواعد» لابن رجب ص (4).

ص: 211

ما تُرى من ورائه البشرةُ، والكثيف: ما لا تُرى من ورائه.

فالخفيفُ: يجب غسله وما تحته؛ لأن ما تحته إِذا كان يُرى فإنَّه تَحصُلُ به المواجهة، والكثيف يجب غسلُ ظاهرهِ دونَ باطنهِ؛ لأن المواجهةَ لا تكون إلا في ظاهر الكثيف.

وكذلك يجب غسلُ ما في الوجه من شعر كالشَّارب والعَنْفَقَةِ

(1)

والأهداب والحاجبين والعارضين. ويُستحبُّ تخليل الشَّعر الكثيفِ؛ لأنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم كان يخلِّل لحيته في الوُضُوء

(2)

.

‌مع ما استرسل منه ثمَّ يديه مع المرفقين،

...................

قوله: «مع ما استرسل منه» ، «استرسل» أي: نَزَلَ.

وظاهرُ كلام المؤلِّفِ، ولو نزلَ بعيداً، فلو فُرِضَ أنَّ لرَجُلٍ لحيةً طويلة أكثر مما هو غالب في النَّاس، فإنَّه يجب عليه غسل الخفيف منها، والظَّاهر من الكثيف.

قوله: «ثمَّ يديه مع المرفقين» ، أي: اليُمنى ثم اليُسرى، ولم يَذْكُرْ هنا التَّيامنُ؛ لأنه سبق في سُنَن الوُضُوء.

وقوله: «مع المرفقين» ، تعبير المؤلِّف مخالفٌ لظاهر قوله تعالى {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6]، لأن المعروف عند العلماء أن ابتداء الغاية داخل لا انتهاؤها، بمعنى: أنك إِذا قُلت لشخص: لك من هذا إِلى هذا، فما دخلت عليه «من» فهو له، وما دخلت عليه «إلى» فليس له، فظاهر الآية أن المرفقين لا يدخلان. لكنهم قالوا:«إلى» في الآية بمعنى «مع» ، وجعلوا نظير

(1)

العنفقة: شُعيرات بين الشفة السُّفلى والذقن، «المحيط» مادة (عنفق) ..

(2)

تقدم تخريجه، ص:(173).

ص: 212

هذا قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} [النساء: 2]، أي: مع أموالكم. ولكن هذا التنظير فيه نظرٌ؛ فإِن الآية في المال، ليست كالآية في الغسل، لأنه قال:{وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ ولَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} [النساء: 2]، أي: مضمومة إلى أموالكم، فالإنسان لا يأكل مال غيره إِلا إِذا ضمَّه إِلى ماله، فضمَّن قوله:«ولا تأكلوا» معنى الضَّمِّ.

أما آية الوُضُوء فليست كذلك.

ولكن الجواب الصَّحيح أن الغاية داخلة فيها بدليل السُّنَّة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّه توضَّأ حتى أشرع في العَضُد، وقال: هكذا رأيت النبيَّ صلى الله عليه وسلم يفعل

(1)

، ومقتضى هذا أنَّ المرفق داخل.

وكذلك رُويَ عنه صلى الله عليه وسلم أنه توضَّأ فأدار الماء على مرفقيه

(2)

.

وقد يُقال: إن الغاية لا تدخلُ إِذا ذُكِرَ ابتداءُ الغاية «من» ، أما إِذا لم تُذكر فإنها تكونَ داخلة، ولهذا لو قال قائل: هل الأفضلُ في غسل اليدين البَدْءُ من المرفق، أو من وسط الذراع، أو من أطراف الأصابع؟.

فالجواب: أن الأفضل أن يبدأ من أطراف الأصابع لقوله: «إلى» . وإن لم يكن ظُهور ذلك عندي قويًّا؛ لأنَّ الابتداء

(1)

رواه مسلم، وقد تقدّم تخريجه ص (185).

(2)

رواه الدارقطني (1/ 83)، والبيهقي (1/ 56) من حديث جابر.

وضعّفه: ابن الجوزي، والمنذري، والنووي، وابن الصلاح، وابن حجر وغيرهم.

انظر: «الخلاصة» للنووي رقم (177)، و «التلخيص الحبير» رقم (56).

ص: 213

لم يُذكر، ولا بُدَّ من الإِتيان بـ «إلى» هنا؛ إِذ لو لم تأتِ وقال:(اغسلوا أيديكم)، لكان الواجبُ غسلَ الكفِّ فقط؛ لأن اليَد إِذا أُطلقت فالمراد بها «الكفُّ» بدليل قوله تعالى:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيدِيَهُمَا} [المائدة: 38] وقطعُ يد السَّارق من الكفِّ، وكذلك قوله تعالى في التيمم:{فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6]، ومسحُ اليد في التيمُّمِ إنما يكون إلى الكفِّ؛ بدليل فعل الرسول صلى الله عليه وسلم.

وإِن تمسَّك متمسِّكٌ بالظاهر ـ الذي ليس بظاهر ـ وقال: إن الأفضل أن يكون من الأصابع. فأرجو أن لا يكون به بأسٌ.

وقوله: «مع المرفقين» تعبير المؤلِّف بـ «مع» من باب التَّفسير والتوضيح.

‌ثم يمسح كلّ رأْسِه مع الأُذُنَيْن مَرَّةً واحدةً،

........

قوله: «ثم يمسحُ كُلَّ رأسه مع الأُذنين مَرَّةً واحدةً» ، أي: لا يغسلُه، وإنَّما يمسحُه، وهذا من تخفيف الله تعالى على عباده؛ لأن الغالب أنَّ الرَّأس فيه شعرٌ فيبقى الماءُ في الشَّعر؛ لأن الشعر يمسكُ الماءَ فينزل على جسمه، فيتأذّى به؛ ولا سيَّما في أيَّام الشِّتاء.

وقوله: «مع الأُذنين» دليلُ ذلك:

1 ـ ثبوته عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه كان يمسحُ الأُذنين مع الرَّأس

(1)

.

2 ـ أنَّهما من الرَّأس

(2)

.

(1)

تقدم تخريجه، ص (179) من حديث عبد الله بن زيد.

(2)

تقدم تخريجه، ص (187).

ص: 214

3 ـ أنَّهما آلة السَّمع، فكان من الحكمة أن تُطَهَّرا حتى يَطْهُرَ الإِنسانُ ممَّا تلقَّاه بهما من المعاصي.

‌ثُمَّ يَغسل رجْلَيْه معَ الكعبين ........

قوله: «ثم يغسل رجليه مع الكعبين» ، الكلامُ على قوله:«مع الكعبين» كالكلام على قوله: «مع المرفقين» ، وكلمة «مع» ليس فيها مخالفةٌ للقرآن؛ لأن «إلى» في قوله تعالى:{إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6] بمعنى «مع» لدلالة السُّنَّة على ذلك؛ كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أنه توضَّأ فغسل ذراعيه حتى أشرع في العَضُد، ورجليه حتى أشرع في السَّاق، وقال: هكذا رأيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يفعلُ

(1)

. وعلى هذا فالكعبان داخلان في الغسل وهما: العظمان الناتئان في أسفل السَّاق.

فيجبُ غسلُهما، وهذا الذي أجمع عليه أهل السُّنَّة لقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6] بنصب «وأرجلَكم» عطفاً على «وجوهَكم» وهذه قراءة سَبْعيَّة.

وأما قراءة «وأرْجُلِكُمْ» بالجرِّ، وهي سَبْعِيَّةٌ أيضاً

(2)

، فتُخرَّج على ثلاثة أوجه:

الأول: أنَّ الجرَّ هنا على سبيل المجاورة، بمعنى أنَّ الشيء يتبع ما جاوره لفظاً لا حكماً، والمجاور لها «رؤوسكم» بالجرِّ

(1)

رواه مسلم، وقد تقدم تخريجه ص (185).

(2)

قرأ بها: ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة. انظر:«السَّبعة» لابن مجاهد ص (242).

ص: 215

فتجرُّ بالمجاورة. ومنه قول العرب: «هذا جُحر ضَبٍّ خَرِبٍ» بجرِّ خَربٍ، مع أنَّه صِفةٌ لجُحر المرفوع، ومقتضى القواعد رفع خَرب، لأن صفة المرفوع مرفوع، ولكن العرب جرَّته على سبيل المجاورة

(1)

.

الثاني: أن قراءة النَّصب دلَّت على وجوب غسل الرِّجلين.

وأما قراءة الجر؛ فمعناها: اجعلوا غسلكم إِيَّاها كالمسح، لا يكون غسلاً تتعبون به أنفسكم؛ لأن الإِنسان فيما جرت به العادة قد يكثر من غسل الرِّجلين ودلكها؛ لأنَّها هي التي تباشر الأذى، فمقتضى العادة أن يزيد في غسلها، فقُصدَ بالجرِّ فيما يظهر كَسْرُ ما يعتادهُ النَّاسُ من المبالغة في غسل الرِّجلين؛ لأنهما اللتان تلاقيان الأذى.

الثالث: أن القراءتين تُنزَّلُ كلُّ واحدة منهما على حال من أحوال الرِّجل، وللرِّجل حالان:

الأولى: أن تكونَ مكشوفةً، وهنا يجب غسلها.

الثانية: أن تكونَ مستورةً بالخُفِّ ونحوه فيجب مسحُها.

فتُنَزَّل القراءتان على حالَيْ الرِّجْل، والسُّنَّةُ بيَّنت ذلك، وهذا أصحُّ الأوجه وأقلُّها تكلُّفاً، وهو متمشٍّ على القواعد، وعلى ما يُعرَفُ من كتاب الله تعالى حيث تُنزَّلُ كلُّ قراءة على معنى يناسبها.

(1)

وردَّه ابنُ خالويه بأن هذا يُستعمل في الشعر والأمثال للاضطرار، والقرآن لا اضطرار فيه. «الحجَّة» ص (129).

ص: 216

ويكون في الآية إشارة إلى المسح على الخفَّين.

‌ويغسلُ الأقطعُ بقيَّة المفْرُوضِ، فإن قُطِعَ من المَفْصِل غَسَلَ رَأْسَ العَضُد منه،

.........

قوله: «ويغسلُ الأقطعُ بقيَّة المفروضِ» ، أراد رحمه الله أقطعَ اليدين؛ بدليل قوله:«غَسَلَ رأسَ العَضُد منه» .

فيغسلُ الأقطعُ بقيةَ المفروض، ولا يأخذ ما زاد على الفرض في المقطوع.

فمثلاً: لو أنه قُطِعَ من نصف الذِّراع، فلا يرتفعُ إلى العَضُدِ بمقدار نصفِ الذِّراع؛ لأن العَضُدَ ليس محلًّا للغسل، وإِنما يغسلُ بقيَّة المفروضِ لقوله تعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، وهذا اتقى الله ما استطاع.

ولقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا أمَرتُكُم فأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم»

(1)

، وما قُطِعَ سقط فرضُه.

قوله: «فإِن قُطِعَ من المَفْصِل غَسَلَ رَأْسَ العَضُد منه» ، يعني إِذَا قُطِعَ من مفصل المِرْفق غَسَلَ رأسَ العَضُد، لأن رأس العَضُد مع المرفق في موازنة واحدة.

وقد سبقَ

(2)

أنه يجبُ غسلُ اليدين مع المرفقين، ورأسُ العَضُدِ داخلٌ في المرفق فيجب غسلُه، وإِن قُطِع من فوق المفصل لا يجبُ غسلُه.

(1)

رواه البخاري، كتاب الاعتصام: باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، رقم (7288)، ومسلم، كتاب الحج: باب فرض الحج مرَّة في العمر، رقم

(1337)

من حديث أبي هريرة.

(2)

انظر ص (212 ـ 213).

ص: 217

وهكذا بالنسبة للرِّجل إِن قُطِعَ بعضُ القدمِ غَسلَ ما بقيَ، وإِن قُطِع من مفصل العَقِبِ غسلَ طرفَ السَّاقِ؛ لأنَّه منه.

وهكذا بالنسبة للأُذُن إِذا قُطِعَ بعضُها مسح الباقي، وإِن قُطِعت كلُّها سقطَ المسحُ على ظاهرِها، ويُدخِلُ أصبعيهِ في صِمَاخ الأُذنين.

‌ثم يرفعُ بصرَهُ إلى السَّماءِ ...........

قوله: «ثم يرفعُ بصره إلى السَّماء» ، هذا سُنَّةٌ إِن صحَّ الحديث، وهو ما رُويَ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:«من توضَّأ فأحسن الوُضُوء، ثم رفع نظره إلى السَّماء فقال: أشهد أن لا إله إلا الله؛ وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فُتحت له أبواب الجنَّة الثمانية، يدخل من أيِّها شاء»

(1)

وفي سنده مجهولٌ، والمجهولُ لا يُعلم حاله: هل هو حافظ، أو عدل، أو ليس كذلك، وإِذا كان في السند مجهولٌ حُكِمَ بضعف الحديث.

والفقهاء رحمهم الله بَنَوا هذا الحكمَ على هذا الحديث. وعلى تعليل وهو: أنه يرفعُ نظرَه إلى السَّماء إِشارةً إلى عُلوِّ اللَّهِ تعالى حيثُ شَهِدَ له بالتَّوحيد.

(1)

رواه أحمد (4/ 150 ـ 151)، وأبو داود، كتاب الطهارة: باب ما يقول الرجل إِذا توضأ، رقم (170)، وابن السنِّي رقم (31)، والبزار في «مسنده» رقم (242) كلهم

من طريق أبي عقيل، عن ابن عمه، عن عقبة بن عامر، عن عمر به. وابن عم أبي عقيل هذا: أُبهِمَ، ولم يُسمَّ.

قال علي بن المديني: هذا حديث حسن. «مسند الفاروق» لابن كثير (1/ 111) قال ابن حجر: «هذا حديث حسن من هذا الوجه، ولولا الرجل المبهم لكان على

شرط البخاري؛ لأنه أخرج لجميع رواته؛ من المقرئ فصاعداً إِلا المبهم، ولم أقف على اسمه». «نتائج الأفكار» (1/ 243)، وانظر:«العلل» للدارقطني (2/ 111).

ص: 218

‌ويقولُ ما وَرَدَ،

...........

قوله: «ويقول ما وَرَدَ» ، وهو حديث عمر رضي الله عنه:«أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التَّوابين، واجعلني من المتطهِّرين، فإِنَّ من أسبغ الوُضُوء ثم قال هذا الذِّكر؛ فُتِحَتْ له أبوابُ الجنَّة الثَّمانية، يدخل من أيّها شاء»

(1)

.

وناسب أن يقول هذا الذِّكر بعد الوُضُوء، لأن الوُضُوء تطهيرٌ للبَدَن، وهذا الذِّكر تطهيرٌ للقلب؛ لأن فيه الإخلاص لله.

ولأن فيه الجمع بين سؤال الله أن يجعله من التَّوابين الذين طهَّروا قلوبهم، ومن المتطهِّرين الذين طهَّروا أبدانهم.

وقال بعض العلماء: إِن هذا الذِّكر يُشَرعُ بعد الغسل والتيمُّم

(2)

أيضاً، لأن الغسلَ يشتمل على الوُضُوء وزيادة، فإِن

(1)

رواه مسلم، كتاب الطهارة: باب الذكر المستحبِّ عقب الوضوء، رقم (234).

دون قوله: «اللهم اجعلني من التوابين، واجعلني من المتطهرين» ، وهذه الزيادة رواها الترمذي، أبواب الطهارة: باب ما يُقال بعدَ الوضوءِ، رقم (55).

ـ قال الترمذي: في إِسناده اضطراب.

ـ قال ابن حجر: لم تثبت هذه الزيادة في هذا الحديث، فإِن جعفر بن محمد شيخ الترمذي تفرَّد بها، ولم يضبط الإِسناد، فإِنه أسقط بين أبي إِدريس وبين عمر: جبير

بن نفير وعقبة، فصار منقطعاً، بل معضلاً، وخالفه كلُّ من رواه عن معاوية بن صالح ثم عن زيد بن الحباب

فاتفاق الجميع أولى من انفراد الواحد».

«نتائج الأفكار» (1/ 244).

وله شاهد من حديث ثوبان رواه ابن السني رقم (32). وفي إِسناده أبو سعد البقال: ضعيف.

وله طريق أخرى عند الطبراني في «الأوسط» رقم (4895). من طريق الأعمش عن سالم بن أبي الجعد عن ثوبان.

قال ابن حجر: سالم لم يسمع من ثوبان، والراوي له عن الأعمش ليس بالمشهور.

(2)

انظر: «الإِنصاف» (1/ 365)، «الأذكار» للنووي ص (59).

ص: 219

من صفات الغسل المسنونة أن يتوضَّأ قبله.

ولأنَّ المعنى يقتضيه.

وأمَّا التيمُّم فلأنه بدل على الوُضُوء، وقد قال الله تعالى بعد التيمم:{وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة: 6] فكان مناسباً.

ويرى بعضُ العلماء: أنه يقتصر على ما وَرَدَ في الوُضُوء فقط.

وهو ظاهر كلام الأكثر، قال في «الفروع»:«ويتوجَّهُ ذلك بعد الغُسل؛ ولم يذكروه»

(1)

، وقال في «الفائق»:«قلت: وكذا يقوله بعد الغُسل»

(2)

.

وهذا ـ أعني الاقتصار على قوله بعد الوُضُوء ـ أرجح؛ لأنَّه لم يُنقل بعد الغُسل والتَّيمم، وكلُّ شيء وُجِدَ سَبَبُهُ في عهد النبيِّ صلى الله عليه وسلم ولم يمنعْ منه مانع، ولم يفعله، فإِنه ليس بمشروع. نعم؛ لو قال قائل باستحبابه بعد الغُسل إِن تَقَدَّمهُ وُضُوء لم يكن بعيداً إِذا نواهُ للوُضُوء.

وقول هذا الذِّكر بعد الغسل أقربُ من قولِه بعد التيمُّم؛ لأنَّ المغتسل يصدق عليه أنه متوضِّئ.

‌وتُبَاحُ معونتُه،

...........

قوله: «وتُباحُ معونتُه» ، أي: معونة المتوضِّئ، كتقريب الماء إليه وصَبِّه عليه، وهو يتوضَّأ، وهذه الإباحة لا تحتاج إلى دليل؛ لأنها هي الأصل.

وقد دَلَّ أيضاً على ذلك: أن المغيرةَ بن شعبة رضي الله عنه صَبَّ الماءَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتوضَّأ

(3)

.

(1)

انظر: «الفروع» (1/ 154).

(2)

انظر: «الإِنصاف» (1/ 365).

(3)

رواه مسلم، كتاب الطهارة: باب المسح على الخفين، رقم (274).

ص: 220

فإن قلت: ألا يكون هذا مشروعاً؛ لأنَّه من باب التَّعاون على البِرِّ والتقوى، فلا يقتصر على الإباحة فقط، بل يُقال: إنه مشروع؟

فالجواب: لا شك أنَّه من باب التَّعاون على البِرِّ والتَّقوى، ولكن هذه عبادة ينبغي للإِنسان أن يُباشِرَها بنفسه، ولم يردْ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه كُلَّما أراد أن يتوضَّأ طلب من يُعينه فيه.

وقال بعضُ العلماء: تُكرَهُ إِعانةُ المتوضِّئ إلا عند الحاجة

(1)

؛ لأنَّها عبادة ولا ينبغي للإِنسان أن يستعينَ بغيره عليها، والمذهب أصَحُّ.

‌وتَنْشِيفُ أعضائِه.

قوله: «وتنشيفُ أعضائه» ، التنشيف بمعنى: التجفيف.

والدَّليل: عدم الدَّليل على المنع، والأصل الإباحة.

فإن قلت: كيف تجيبَ عن حديث ميمونة رضي الله عنها بعد أن ذكرت غُسْلَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قالت: «فَنَاولتُهُ ثَوباً فلم يأخُذْهُ، فانطلق وهو يَنْفُضُ يديه»

(2)

.

فالجواب: أن هذا قضيَّة عين تحتمل عِدَّة أمور:

إِما لسببٍ في المنديل، كعدم نظافته، أو يُخشى أنْ يُبِلَّهُ بالماء وبلَلُه بالماء غيرُ مناسب أو غير ذلك.

وقد يكونُ إِتيانُها بالمنديل دليلاً على أنَّ من عادتِه أن ينشِّفَ أعضاءه وإلا لم تأت به.

والصَّوابُ: ما قاله المؤلِّف أنه مباحٌ.

(1)

انظر: «الإِنصاف» (1/ 369).

(2)

رواه البخاري، كتاب الغسل: باب نفض اليدين من الغسل عن الجنابة، رقم (276) واللفظ له، ومسلم، كتابُ الحيض: باب صفةُ غُسْلِ الجنابةِ، رقم (317).

ص: 221

‌بابُ مَسْحِ الْخُفَّيْنِ

أتى به المؤلِّف بعد صِفَةِ الوُضُوء لأنه حُكمٌ يتعلَّق بأحد أعضاء الوُضُوء. وذكر المؤلِّفُ في هذا الباب المسحَ على العِمَامة، والجبيرةِ، والخِمَارِ، والخُفَّيْنِ، فكان مشتملاً على أربعة مواضيع.

والخُفَّان: ما يُلبَسُ على الرِّجل من الجلود، ويُلْحَقُ بهما ما يُلبَسُ عليهما من الكِتَّان، والصُّوف، وشبه ذلك من كُلِّ ما يُلبَسُ على الرِّجْل مما تستفيدُ منه بالتسخين، ولهذا بعث النبيُّ صلى الله عليه وسلم سريةً وأمرهم أن يمسحوا على العصائب والتَّسَاخين

(1)

.

أي: الخِفَاف، وسُمِّيتْ:«تساخين» ، لأنَّها تُسَخِّنُ الرِّجْلَ.

والمسح على الخفين جائزٌ باتفاق أهل السُّنَّةِ.

وخالفَ في ذلك الرَّافضةُ؛ ولهذا ذكره بعضُ العلماءِ في كتب العقيدةِ لمخالفةِ الرافضة فيه

(2)

حتى صار شعاراً لهم.

(1)

رواه أحمد (5/ 277)، وأبو داود، كتاب الطهارة: باب المسح على العمامة، رقم (146)، والحاكم (1/ 169)، عن راشد بن سعد عن ثوبان قال: «بعث رسولُ الله

صلى الله عليه وسلم سريةً، فأصابهم البردُ، فلما قَدِموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرَهم أن يمسحوا على العصائب والتَّسَاخين»، قال أحمد: «لا

ينبغي أن يكونَ راشدٌ سمع من ثوبان، لأنه مات قديماً». تعقَّبه ابنُ عبد الهادي والزيلعيُّ بما نصُّه: «وفي هذا القول نظر، فإِنهم قالوا: إن راشداً شهد مع معاوية

صفين، وثوبان مات سنة أربع وخمسين، ومات راشد سنة ثمان ومائة، ووثَّقه ابنُ معين وأبو حاتم

». انظر: «المحرَّر» لابن عبد الهادي (1/ 113) رقم (71)، «نصب

الراية» (1/ 165). أضف إِلى ذلك أن ثوبان وراشداً حمصيّان. والحديث صحَّحه الحاكم؛ ووافقه الذهبي. وقال الذهبي في «السِّير» (4/ 491): «إسناده قويٌ» .

(2)

انظر: «شرح العقيدة الطحاوية» (2/ 551، 555).

ص: 222

وهو جائز بالكتابِ والسُّنَّةِ والإِجماعِ.

أما من الكتاب فقوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6] على قراءة الجرِّ.

وأما من السُّنَّة فقد تواترت الأحاديثُ بذلك عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم.

قال النَّاظم:

ممَّا تواتر حديثُ مَنْ كَذَب ومَنْ بَنَى لله بيتاً واحتسب

ورؤيةٌ شفاعةٌ والحوض ومسحُ خُفَّين وهذي بعض

قال الإمام أحمد رحمه الله: ليس في قلبي من المسح شيء، فيه أربعون حديثاً عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم

(1)

. أي: ليس في قلبي أدنى شَكٍّ في الجواز.

وأما الإجماع فقد أجمع أهلُ السُّنَّة على جواز المسح على الخُفَّين في الجملة.

‌يَجُوزُ لمقيمٍ يوماً وليلةً ..........

قوله: «يجوزُ لمقيمٍ يوماً وليلةً» ، عبَّر

(1)

انظر: «المغني» (1/ 360)، «نصب الراية» (1/ 162).

ص: 223

بالجواز، فهل الجوازُ مُنْصَبٌّ على بيان المدَّة، أو على بيان الحكم؟

إن كان على بيان المدَّة فلا إِشكال فيه، يعني: أن الجواز متعلِّق بهذه المدَّة.

وإِن كان مُنْصَباً على بيان الحكم فقد يكون فيه إِشكال، وهو أنَّ المسحَ على الخُفَّين للابسهما سُنَّةٌ، وخلْعُهما لغسلِ الرِّجلِ بدعة خلاف السُّنَّة.

لكن قد يُجابُ عن هذا الإشكال بأن نقول: إِن المؤلِّفَ عبَّر بالجواز دفعاً لقول من يقول بالمنع، وهذا لا يُنافي أن يكون مشروعاً، والعلماءُ يعبِّرون بما يقتضي الإِباحة في مقابلة من يقول بالمنع، وإن كان الحكم عندهم ليس مقصوراً على الجواز، بل هو إِما واجب، أو مستحبٌّ.

ونظيرُ ذلك: قول بعضهم: ولمن أحرم بالحجِّ مفرداً ولم يُسقِ الهدي أن يفسخه لعمرة ليكونَ متمتِّعاً

(1)

.

فالتعبير باللام الدالَّة على الجواز في مقابل من منع ذلك؛ لأنَّ بعض العلماء يقول بعدم الجواز؛ لأن هذا من إبطال العمل.

وقوله: «لمقيم» يشمل المستوطن والمقيمَ؛ لأن الفقهاء رحمهم الله يرون أن النَّاس لهم ثلاث حالات:

إحداها: الإقامة.

الثانية: الاستيطان.

الثالثة: السَّفر.

ويُفرِّقون في أحكام هذه الأحوال.

والصَّحيح: أنَّه ليس هناك إلا استيطان أو سفر، وهذا اختيار شيخ الإسلام

(2)

، وأن الإقامة باعتبارها قسماً ثالثاً ينفرد بأحكام خاصَّة لا توجد في الكتاب، ولا في السُّنَّة.

والإِقامة عند الفقهاء: هي أن يقيمَ المسافرُ إقامةً تمنع القصْرَ ورُخَصَ السَّفرِ؛ ولا يكون مستوطناً، وعلى هذا فإِنه مقيم، فلا

(1)

انظر: «الإقناع» (1/ 563).

(2)

انظر: «مجموع الفتاوى» (14/ 136، 139).

ص: 224

تنعقد به الجمعةُ، ولا تجب عليه؛ أي: بنفسه، ولا يكون خطيباً، ولا إماماً فيها، حتى لو أراد أن يقيم سنتين، أو ثلاثاً.

والمستوطنُ: الذي اتَّخَذَ البلدَ وطناً له.

وحكم المقيم في المسح على الخُفَّين كحكم المستوطن، كما أنَّ حكمه كحكم المستوطن في وجوب إِتمام الصَّلاة، وفي تحريم الفِطْرِ في رمضان، لكن ليس هو كالمستوطن في مسألة الجمعة، فلا تجب عليه بنفسه، ولا يكون إِماماً فيها، ولا خطيباً، وحينئذٍ يكون في مرتبة بين مرتبتين، ولا دليل على هذه المرتبة.

وقوله: «يوماً وليلة» لحديث عليٍّ رضي الله عنه قال: «جعل النبيُّ صلى الله عليه وسلم للمقيم يوماً وليلة، وللمسافر ثلاثة أيام بلياليهن» ، أخرجه مسلم

(1)

.

وهذا نَصٌّ صريحٌ بَيِّنٌ مُفَصَّلٌ.

‌ولمسافرٍ ثلاثةً بلَيَالِيها من حَدَثٍ بَعْدَ لُبْسٍ ...........

قوله: «ولمسافر ثلاثةً بلياليها» ، إطلاقُ المؤلِّف رحمه الله يشمل السَّفر الطَّويل والقصير.

ويشمل سفرَ القَصر وغيره؛ لأن هناك سفراً طويلاً لكن لا يُقْصَر فيه كالسَّفر المحرَّم، أو المكروهِ على المذهبِ، كمن سافر لشُرب الخمر أو الاستمتاع بالبغايا.

والمذهب: أنَّ السَّفر هنا مُقيَّدٌ بالسَّفر الذي يُباحُ فيه القَصرُ، ولعلَّه مراد المؤلِّف رحمه الله.

قوله: «من حَدَثٍ بعد لُبْسٍ» ، من: للابتداء، يعني: أنَّ ابتداءَ

(1)

رواه مسلم، كتاب الطهارة: باب التوقيت في المسح على الخفين، رقم (276).

ص: 225

المدَّةِ سواءٌ كانت يوماً وليلة؛ أم ثلاثة أيَّام، من الحَدَث بعد اللبس، وهذا هو المذهب؛ لأنّ الحَدَثَ سببُ وجوب الوُضُوء فعلَّق الحكم به، وإِلا فإنَّ المسحَ لا يتحقَّقُ إلا في أوَّل مرَّة يمسحُ.

ونظيرُ هذا قولُهم في بيع الثِّمار: إذا باع نخلاً قد تشقَّقَ طَلْعُهُ فالثَّمر للبائع؛ مع أن الحديث: «من باع نخلاً قد أُبِّرتْ

»

(1)

، لكن قالوا: إِن التشقُّقَ سببٌ للتَّأبير فأُنيط الحكم به

(2)

.

والذي يمكن أن يُعلِّق به ابتداء المُدَّة ثلاثة أمور:

الأول: حال اللُّبس.

الثاني: حال الحَدَث.

الثالث: حال المسح.

أما حال اللِّبس، فلا تبتدئ المدَّة من اللِّبس قولاً واحداً في المذهب، وأما حال الحَدَث فالمذهبُ: أن المدَّة تبتدئُ منه.

والقول الثاني: تبتدئُ من المسح

(3)

؛ لأنَّ الأحاديث: «يمسح المسافرُ على الخفين ثلاث ليال، والمقيم يوماً وليلة»

(4)

إلخ، ولا يمكن أن يَصْدُقَ عليه أنَّه ماسح إِلا بفعل المسح، وهذا هو الصَّحيح.

(1)

رواه البخاري، كتاب البيوع: باب من باع نخلاً قد أبِّرت، رقم (2204)، ومسلم، كتاب البيوع: باب مَنْ باع نخلاً عليها ثمر، رقم (1543)، من حديث عبد الله بن

عمر رضي الله عنهما.

(2)

انظر: «كشاف القناع» (1/ 279).

(3)

انظر: «الإنصاف» (1/ 400).

(4)

رواه أحمد (5/ 213) ـ واللفظ له ـ وأبو داود، كتاب الطهارة: باب التوقيت في المسح، رقم (157)، والترمذي، كتاب الطهارة: باب المسح على الخفين للمسافر

والمقيم، رقم (95)، وابن حبان رقم (1329)(1330)، والطبراني (4/ رقم 3764) عن أبي عبد الله الجدلي، عن خزيمة بن ثابت به مرفوعاً.

قال البخاري: «لا يصح عندي؛ لأنه لا يُعرف لأبي عبد الله الجدلي سماع من خزيمة بن ثابت» . «العلل الكبير» (1/ 173).

وهذا من البخاري بناءً على اشتراطه ثبوت السماع بين الراوي وشيخه.

وإلا فإن الحديث قد صححه جمع من الأئمة منهم: ابن معين، والترمذي، وابن حبان، وابن القيم وغيرهم.

انظر: «العلل» لابن أبي حاتم (1/ 22)، عون المعبود (1/ 264)، «جامع التحصيل» ص (231).

وانظر: حديث أبي بكرة ص (249).

ص: 226

ويدلُّ له أن الفقهاء أنفسهم رحمهم الله قالوا: لو أن رجلاً لبس الخُفَّين وهو مقيمٌ؛ ثم أحدثَ؛ ثم سافر؛ ومسحَ في السَّفَر أوَّل مرَّة، فإنه يُتِمُّ مسح مسافر

(1)

. وهذا يدلُّ على أنَّه يعتَبر ابتداء المدَّة من المسح وهو ظاهرٌ.

فالصَّوابُ: أن العِبْرَةَ بالمسح وليس بالحَدَثِ.

مثال ذلك: رجلٌ توضَّأ لصلاة الفجر ولبس الخُفَّين، وبقي على طهارته إلى السَّاعة التَّاسعة ضُحى، ثم أحدث ولم يتوضَّأ، وتوضأ في السَّاعة الثانية عشرة، فالمذهب: تبتدئ المُدَّةُ من السَّاعة التَّاسعة.

وعلى القول الرَّاجح: تبتدئ من السَّاعة الثَّانية عشرة إلى أن يأتي دورها من اليوم الثَّاني إِن كان مقيماً، ومن اليوم الرَّابع إن كان مسافراً.

(1)

انظر: «الإنصاف» (1/ 404).

ص: 227

فالمقيمُ أربعٌ وعشرون ساعةً، والمسافر اثنتان وسبعون ساعةً.

وأما قول العامَّة: إنَّ المدَّة خمسُ صلوات فهذا غير صحيح؛ لأنَّ الإِنسانَ قد يُصلِّي أكثر من ذلك ومُدَّة المسح باقية وهو مقيم، كما لو لبس الخُفَّين لصلاة الفَجر، وبقي على طهارته إِلى أن صَلَّى العشاء، فهذا يوم كامل لا يُحسب عليه؛ لأن المدَّة قبل المسح أوَّل مرَّة لا تُحسَبُ، فإذا مسح من الغَدِ لصلاة الفجر، فإِذا بقيَ على طهارته إلى صلاة العشاء من اليوم الثالث، فيكون قد صَلَّى خمس عشرة صلاة وهو مقيمٌ.

‌على طَاهِرٍ .........

قوله: «على طاهر» ، هذا هو الشَّرط الثَّاني من شُروطِ صِحَّةِ المسحِ على الخُفَّين، وهو أن يكونَ الملبوس طاهراً.

والطَّاهر: يُطلَقُ على طاهر العين، فيخرج به نجس العين.

وقد يُطْلَقُ الطَّاهرُ على ما لم تُصبْه نجاسةٌ، كما لو قلت: يجب عليك أن تُصلِّيَ بثوبٍ طاهر، أي: لم تُصبْه نجاسةٌ.

والمراد هنا طاهر العين؛ لأن من الخِفَاف ما هو نجس العين كما لو كان خُفَّا من جلد حمار، ومنه ما هو طاهر العين لكنَّه متنجِّس؛ أي: أصابته نجاسة، كما لو كان الخُفُّ من جلد بعيرٍ مُذكَّى لكن أصابته نجاسة، فالأوَّل نجاسته نجاسة عينيَّة؛ والثَّاني نجاسته نجاسة حُكميَّة، وعلى هذا يجوز المسح على الخُفِّ المتنجِّس، لكن لا يُصلِّي به، لأنه يُشترط للصَّلاة اجتناب النَّجاسة.

وفائدة هذا أن يستبيح بهذا الوُضُوء مسَّ المصحف؛ لأن

ص: 228

لا يُشترط للَمْسِ المصحف أن يكون متطهِّراً من النَّجاسة، ولكن يُشترط أن يكون متطهِّراً من الحدث.

أما لو اتَّخذ خُفًّا من جلد ميتة مدبوغ تحلُّ بالذَّكَاة، فإِن هذا ينبني على الخلاف

(1)

:

إن قلنا: لا يطهرُ ـ وهو المذهبُ ـ لم يَجُز المسح عليه.

وإن قلنا: يطهُر بالدَّبغ جازَ المسحُ عليه.

ووجه اشتراط الطَّهارة: أن المسحَ على نجس العين لا يزيدُه إلا تلويثاً، بل إن اليد إذا باشرت هذا النَّجسَ وهي مبلولةٌ تنجَّست.

وربما يُؤخَذُ من قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «فإِنِّي أدخلتُهما طاهرتين»

(2)

.

لكن معنى الحديث أدْخَلتُهما، أي: القدمين طاهرتين، كما يفسِّره بعض الألفاظ

(3)

.

‌مُبَاحٍ ..............

قوله: «مباحٍ» ، احترازاً من المحرَّم، هذا هو الشَّرط الثَّالث، والمحرَّم نوعان:

(1)

انظر: ص (85).

(2)

رواه البخاري، كتاب الوضوء: باب إذا أدخل رجليه وهما طاهرتان، رقم (206)، ومسلم، كتاب الطهارة: باب المسح على الخفين، رقم (274) من حديث المغيرة

بن شعبة.

(3)

رواه أبو داود، كتاب الطهارة: باب المسح على الخفين، رقم (151). بإسناد حسن عن المغيرة مرفوعاً: «

فإني أدخلت القدمين الخفين وهما طاهرتان».

وبوّب به البخاري، انظر الحديث السَّابق.

وروى ابن حبان رقم (1324) بسندٍ حسن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «

إِذا تطهَّرَ ولبس خفيه فليمسحْ عليهما». وصَحَّحه ابنُ خزيمة رقم (192).

ص: 229

الأول: محرَّم لكسبه كالمغصوب، والمسروق.

الثاني: محرَّم لعينه كالحرير للرَّجُلِ، وكذا لو اتَّخَذ «شُرَاباً» (وهو الجورب) فيها صُور فهذا محرَّمٌ، ولا يُقال: إِن هذا من باب ما يُمتهن؛ لأنَّ هذا من باب اللباس، واللباس الذي فيه صُورٌ حرام بكلِّ حال، فلو كان على «الشُّراب» صورةُ أسدٍ مثلاً فلا يجوز المسح عليه.

وكلا هذين النوعين لا يجوز المسحُ عليهما.

ولا نعلم دليلاً بيِّنا على ذلك.

وأما التَّعليل: فلأنَّ المسح على الخُفَّين رُخْصَة، فلا تُستباحُ بالمعصية؛ ولأن القول بجواز المسح على ما كان محرَّماً مقتضاه إقرار هذا الإنسان على لبس هذا المحرَّم، والمحرَّم يجب إِنكاره.

وربما نقول: بالقياس على بطلان صلاة المُسْبِلِ

(1)

ـ إن

(1)

عن عطاء بن يسار، عن أبي

هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يقبل الله صلاة رجلٍ مسبل إِزاره» . قال النووي: «على شرط مسلم» ! «الخلاصة» رقم (983). قلت: بل إِسناده ضعيف؛

فيه ثلاث علل:

1 -

أبو جعفر هذا هو المدني: مجهول، كما قال ابن القطان، والذهبي، وابن حجر، وغيرهم. انظر:«تهذيب التهذيب» (12/ 55).

2 -

أبان العطَّار قد خُولف في إسناده؛ كما قال البيهقي، ولبيان ذلك انظر «السنن الكبرى» للبيهقي (2/ 242).

3 -

في إسناده اختلاف. أفاده الحافظ ابن حجر. انظر: «السنن الكبرى» للنسائي (5/ 488) رقم (9703)، «النكت الظراف» مع «التحفة» (10/ 279)، «أطراف

المسند» (8/ 309).

ص: 230

صحَّ الحديثُ ـ فإِن المُسْبِلَ تبطل صلاتُه، لأنَّه لبس ثوباً محرَّماً، فإِذا فسدت الصَّلاةُ بلبس الثَّوب المحرَّم؛ فإنَّ المسح أيضاً يكون فاسداً بلبس الخُفِّ المحرَّم.

‌ساتِرٍ للمفْرُوضِ،

.............

قوله: «ساترٍ للمفْروضِ» ، أي: للمفْروض غسلُه من الرِّجْلِ، وهذا هو الشَّرط الرابع، فيُشترَط لجواز المسح على الخُفَّين أن يكون ساتراً للمفروض.

ومعنى «ساتر» ألا يتبيَّنَ شيءٌ من المفروض من ورائه؛ سواءٌ كان ذلك من أجل صفائه، أو خفَّته، أو من أجل خروق فيه.

لأنَّه إِذا كان به خُروقٌ بانَ من ورائه المفروضُ، فلا يصحُّ المسحُ عليه حتى قال بعض أهل العلم ـ وهو المشهور من المذهب ـ: لو كان هذا الخَرْقُ بمقدار رأس المخراز.

والتَّعليل: أن ما كان خفيفاً أو به خُروق، فإِن ما ظَهَرَ؛ فَرْضُهُ الغُسْل، والغُسْل لا يجامعُ المسحَ، إِذ لا يجتمعان في عضوٍ واحد.

وأمَّا ما يصف البشرة لصفائه؛ فلأنه يُشترَطُ السَّتر وهذا غير ساترٍ، بدليل أن الإِنسان لو صلَّى في ثوب يصف البشرةَ لصفائه فصلاتُه باطلةٌ.

وذهب الشافعيةُ إِلى: أنَّ ما لا يَسْتُرُ لصفائه يجوز المسحُ عليه

(1)

، لأنَّ محلَّ الفرض مستورٌ لا يمكن أن يصل إِليه الماء، وكونُه تُرى من ورائه البشرةُ لا يضرُّ، فليست هذه عورة يجب

ص: 231

سترها حتى نقول: إن ما يصف البشرة لا يصحُّ المسح عليه.

وليس في السُّنَّة ما يدلُّ على اشتراط ستر الرِّجْل في الخُفِّ.

وهذا تعليل جَيّدٌ من الشَّافعية.

وقال بعض العلماء: إنه لا يُشترطُ أن يكون ساتراً للمفروض

(1)

.

واستدلُّوا: بأن النُّصوص الواردةَ في المسح على الخُفَّين مُطْلَقةٌ، وما وَرَدَ مُطْلَقاً فإنه يجب أن يبقى على إِطلاقه، وأيُّ أحد من النَّاس يُضيف إِليه قيداً فعليه الدَّليل، وإلا فالواجب أن نُطلق ما أطلقه اللَّهُ ورسولُه، ونقيِّد ما قيَّده الله ورسولُه.

ولأن كثيراً من الصَّحابة كانوا فُقَراء، وغالب الفُقراء لا تخلو خفافهم من خُرُوق، فإذا كان هذا غالباً أو كثيراً من قوم في عهد الرَّسول صلى الله عليه وسلم؛ ولم ينبِّه عليه الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم، دَلَّ على أنَّه ليس بشرط. وهذا اختيار شيخ الإسلام

(2)

.

وأما قولهم: إِنَّ ما ظَهَرَ؛ فرضُه الغُسْلُ، فلا يجامع المسحَ، فهذا مبنيٌّ على قولهم: إِنه لا بُدَّ من ستر المفروض، فهم جاؤوا بدليل مبنيٍّ على اختيارهم، واستدلُّوا بالدعوى على نفس المُدَّعَى، فيُقال لهم: مَنْ قال: إِنَّ ما ظَهَرَ؛ فرضُه الغُسْل؟

بل نقول: إِن الخُفَّ إِذا جاء على وفق ما أطلقتْه السُّنَّةُ؛ فما ظَهَرَ من القدم لا يجب غسْلُه، بل يكون تابعاً للخُفِّ، ويُمسحُ عليه.

(1)

انظر: «الإنصاف» (1/ 405).

(2)

انظر: «مجموع الفتاوى» (21/ 173، 212)، «الاختيارات» ص (13)

ص: 232

وأما قولهم: لا يجتمع مسحٌ وغُسْلٌ في عضو واحد، فهذا مُنتقضٌ بالجَبيرة إِذا كانت في نصف الذِّراع، فالمسحُ على الجبيرة، والغُسْلُ على ما ليس عليه جبيرة، وعلى تسليم أنَّه لا بُدَّ من ستر كُلِّ القدم نقول: ما ظهر يُغسَلُ، وما استتر بالخُفِّ يُمسحُ كالجبيرة، ولكن هذا غيرُ مُسلَّم، وما اختاره شيخ الإسلام هو الرَّاجح؛ لأن هذه الخفاف لا تسلم غالباً من الخروق، فكيف نشقُّ على النَّاس ونلزمُهم بذلك. ثم إِن كثيراً من النَّاس الآن يستعملون جواربَ خفيفة، ويرونَها مفيدةً للرِّجْل، ويحصُل بها التَّسخينُ، وقد بعث النبيُّ صلى الله عليه وسلم سريةً، فأصابهم البردُ، فأمرَهم أن يمسحوا على العصائب (يعني العمائم) والتَّساخين (يعني الخِفَاف)

(1)

، والتَّساخين هي الخِفاف؛ لأنها يُقصد بها تسخينُ الرِّجل، وتسخينُ الرِّجْل يحصُلُ من مثل هذه الجوارب.

إذاً؛ هذا الشَّرط محل خلاف بين أهل العلم، والصَّحيحُ عدم اعتباره.

َ‌

‌ثْبُتُ بِنَفْسِهِ ...........

قوله: «يَثْبُتُ بنفسه» ، أي: لا بُدَّ أن يثبت بنفسه، أو بنعلين فيُمسحُ عليه إِلى خلعهما، وهذا هو الشَّرط الخامس لجواز المسح على الخُفَّين، فإِن كان لا يثبت إِلا بشدِّه فلا يجوزُ المسح عليه. هذا المذهب.

فلو فُرِضَ أنَّ رَجُلاً رِجْلُه صغيرةٌ، ولبس خُفَّاً واسعاً لكنَّه ربطه على رجْله بحيث لا يسقط مع المشي، فلا يصحُ المسحُ عليه.

(1)

تقدم تخريجه ص (222).

ص: 233

والصَّحيح: أنه يصحُّ، والدَّليلُ على ذلك أن النُّصوصَ الواردة في المسحِ على الخُفَّين مُطلقةٌ، فما دام أنه يَنْتَفِعُ به ويمشي فيه فما المانع؟ ولا دليل على المنع.

وقد لا يجدُ الإِنسانُ إلا هذا الخُفَّ الواسع فيكونُ في منعه من المسح عليه مشقَّة، لكن اليوم ـ الحمد لله ـ كلُّ إنسانٍ يجد ما يريد .....

لكن لو فُرِضَ أنَّ هذا الرَّجُلَ قدمُه صغيرة، وليس عنده إلا هذا الخُفُّ الكبير الواسع وقال: أنا إِذا لَبِسْتُه وشددتُه مشيت، وإن لم أشدُدْهُ سقط عن قدمي، ماذا نقول له؟

نقول: على المذهبِ لا يجوزُ، وعلى القول الرَّاجحِ يجوزُ، ووجه رجحانه أنَّه لا دليل على هذا الشَّرط.

فإن قال قائل: ما هو الدَّليلُ على جواز المسح عليه؟

نقولُ: الدَّليلُ عدم الدَّليلِ، أي عدمُ الدَّليلِ على اشتراط أن يَثْبُتَ بنفسه.

‌مِنْ خُفٍّ،

.............

قوله: «من خُفٍّ» ، من: بيانيَّة لقوله: «طاهر» ، فالجارُ والمجرورُ بيان لطاهر، و «من»: إذا كانت بيانيَّة فإِن الجار والمجرور في موضع نصب على الحال، يعني حال كونه من خُفٍّ.

والخُفُّ: ما يكون من الجلد. والجوارب: ما يكون من غير الجلد كالخرق وشبهها، فيجوز المسح على هذا وعلى هذا.

ودليل المسح على الجوارب القياس على الخُفِّ، إذ لا

ص: 234

فرق بينهما في حاجة الرِّجْل إليهما، والعِلَّة فيهما واحدة، فيكون هذا من باب الشُّمول المعنوي، أو بالعموم اللفظي كما في حديث:«أن يمسحوا على العصائب والتَّساخين»

(1)

.

والتَّساخينُ يعمُّ كلَّ ما يُسخِّنُ الرِّجْلَ.

وأمَّا «المُوق» فإنه خُفٌّ قصير يُمْسَحُ عليه، وقد ثبت أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم مسح على الموقين

(2)

.

‌وجَوْرَبٍ صَفِيقٍ،

...........

قوله: «وجَوْرَبٍ صفيق» ، اشترط المؤلِّفُ أن يكون صفيقاً؛ لأنَّه لا بُدَّ أن يكون ساتراً للمفروض على المذهب، وغير الصَّفيق لا يستر.

(1)

تقدم تخريجه ص (222).

(2)

رواه أبو داود، كتاب الطَّهارة: باب المسح على الخفين، رقم (153)، والطبراني (1/رقم 1100، 1101)، والحاكم (1/ 170) وصحَّحه عن شعبة، عن أبي بكر بن

حفص، عن أبي عبد الله مولى بني تيم بن مرة، عن أبي عبد الرحمن، عن بلال به مرفوعاً. وهذا إسناد ضعيف.

ـ أبو عبد الله، وأبو عبد الرحمن كلاهما مجهول لا يُعرف.

ـ شُعبة قد خولف في إسناده. خالفه ابن جريج فرواه عن أبي بكر بن حفص، عن أبي عبد الرحمن، عن أبي عبد الله به. فيما رواه عبد الرزاق رقم (734).

وانظر: «العلل» للدارقطني (7/ 176) رقم (1283)، «تهذيب الكمال» (34/ 32، 43)، «تهذيب التهذيب» (12/ 155).

ورواه أحمد (6/ 15)، والطبراني (1/رقم 1112)، وابن خزيمة رقم (189) عن حماد بن سلمة، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي إدريس الخولاني، عن بلال به

مرفوعاً. وهذا إسناد جيد في الظاهر؛ إلا أنه معلول، لأنه قد رواه جماعة عن أيوب فلم يذكروا أبا إدريس الخولاني، وخالفهم حماد فذكره. واختُلف فيه على أوجه

أخرى.

انظر: «العلل الكبير» للترمذي (1/ 177)، «العلل» لابن أبي حاتم (1/ 39) رقم (82)، «مسند البزار» رقم (1378)، «العلل» للدارقطني (7/ 182) رقم (1285).

ص: 235

‌وَنَحْوِهِمَا، وعلى عِمَامَةٍ لرجلٍ ..........

قوله: «ونحوهما» ، أي: مثلهما من كلِّ ما يُلبَسُ على الرِّجْل سواء سُمِّي خُفَّاً، أم جورباً، أم مُوقاً، أم جُرموقاً، أم غير ذلك، فإِنَّه يجوز المسح عليه؛ لأن العِلَّة واحدة .....

قوله: «وعلى عِمَامةٍ لرجُل» ، أي ويجوز المسح على عِمَامة الرَّجل، والعِمامةُ: ما يُعمَّمُ به الرَّأس، ويكوَّرُ عليه، وهي معروفةٌ.

والدَّليل على جواز المسح عليها حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم: «مسح بناصيته، وعلى العِمامة، وعلى خُفّيه»

(1)

.

وقد يُعبَّر عنها بالخِمَار كما في «صحيح مسلم» : «مسح على الخُفَّين والخِمَار»

(2)

، قال: يعني العِمَامة

(3)

.

ففسَّر الخِمَار بالعِمَامة، ولولا هذا التفسير لقلنا بجواز المسح على «الغُترة» ، إِذا كانت مخمِّرة للرَّأس، كما يجوز في خُمُر النِّساء.

وقوله: «لرَجُل» ، أي: لا للمرأة، وهو أحد شروط جواز المسح على العِمامة، فلا يجوز للمرأة المسحُ على العِمَامة، لأنَّ لبسها لها حرام لما فيه من التشبُّه بالرِّجَال، وقد لعن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم

(1)

رواه مسلم، كتاب الطهارة: باب المسح على الناصية والعمامة، رقم (274).

(2)

رواه مسلم، الكتاب والباب السابقين، رقم (275) عن بلال بن رباح رضي الله عنه.

(3)

روى أحمد (6/ 11 ـ 12 ـ 13) من حديث بلال بلفظ: «فيمسح على العمامة والخفين» .

ص: 236

المتشبهين من الرِّجال بالنِّساء، والمتشبهات من النِّساء بالرِّجال

(1)

.

ويُشترطُ لها ما يُشترَطُ للخُفِّ من طهارة العين، وأن تكونَ مباحةً، فلا يجوز المسح على عمامةٍ نجسة فيها صورٌ، أو عمامةِ حريرٍ.

وقوله: «لرَجُل» ، كلمة رَجُل في الغالب تُطلَقُ على البالغ، وهذا ليس بمراد هنا، بل يجوزُ للصبيِّ أن يلبس عِمامةً ويمسحَ عليها.

وكلمة «ذَكَر» تُطْلَقُ على ما يُقابل الأنثى.

‌مُحَنَّكَةٍ، أَوْ ذَاتِ ذُؤَابَةٍ ...........

قوله: «محنَّكة أو ذات ذؤابة» ، هذا هو الشَّرط الثَّاني لجواز المسح على العِمَامة، فالمحنَّكة هي التي يُدار منها تحت الحنك، وذات الذؤابة هي التي يكون أحد أطرافها متدلِّياً من الخلف، وذات: بمعنى صاحبة.

فاشترط المؤلِّفُ للعِمامة شرطين:

الأول: أن تكون لرَجُل.

الثاني: أن تكون محنَّكة، أو ذات ذؤابة.

مع اشتراط أن تكون مباحة، وطاهرة العين.

والدَّليل على اشتراط التَّحنيك، أو ذات الذؤابة: أنَّ هذا هو الذي جرت العادةُ بلبسه عند العرب .....

(1)

رواه البخاري، كتاب اللباس: باب المتشبهون بالنساء والمتشبهات بالرجال، رقم (5885) من حديث ابن عباس.

ص: 237

ولأن المحنَّكة هي التي يَشقُّ نزعها، بخلاف المُكوَّرة بدون تحنيك.

وعارض شيخ الإسلام رحمه الله في هذا الشرط

(1)

، وقال: إِنَّه لا دليل على اشتراط أن تكون محنَّكة، أو ذات ذؤابة.

بل النصُّ جاء: «العِمامة»

(2)

ولم يذكر قيداً آخر، فمتى ثبتت العِمَامة جاز المسحُ عليها.

ولأنَّ الحكمة من المسح على العِمَامة لا تتعيَّنُ في مشقَّة النَّزع، بل قد تكون الحكمةُ أنَّه لو حرَّكها ربما تَنْفَلُّ أكوارُها.

ولأنَّه لو نَزَع العِمَامة، فإِن الغالب أنَّ الرَّأس قد أصابه العرقُ والسُّخونَة فإِذا نزعها، فقد يُصاب بضررٍ بسبب الهواء؛ ولهذا رُخِّصَ له المسح عليها.

ولا يجب أن يَمسحَ ما ظهر من الرَّأس، لكن قالوا: يُسَنَّ أن يمسحَ معها ما ظهر من الرَّأس؛ لأنَّه سيظهر قليلٌ من النَّاصية ومن الخلف غالباً؛ فيجب المسح عليها، ويستحب المسح على ما ظَهَرَ.

‌وعلى خُمُر نِسَاءٍ .............

قوله: «وعلى خُمُر نساءٍ» ، أي ويجوزُ المسحُ على خُمُرِ نساءٍ.

خُمُرِ: جمع خِمَار، وهو مأخوذٌ من الخُمْرة، وهو ما يُغطَّى به الشيءُ. فخِمَار المرأة: ما تُغطِّي به رأسها.

(1)

انظر: «مجموع الفتاوى» (21/ 186، 187)، «الاختيارات» ص (14).

(2)

تقدم تخريجه، ص (236).

ص: 238

واختلف العلماء في جواز مسح المرأة على خمارها.

فقال بعضهم: إِنه لا يجزئ

(1)

لأن الله تعالى أمر بمسح الرَّأس في قوله: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} [المائدة: 6]، وإِذا مَسَحَتْ على الخمار فإِنها لم تمسح على الرَّأس؛ بل مسحت على حائل وهو الخمار فلا يجوز.

وقال آخرون بالجواز، وقاسوا الخِمَار على عِمَامة الرَّجُل، فالخِمَار للمرأة بمنزلة العِمَامة للرَّجُل، والمشقَّة موجودة في كليهما.

وعلى كُلِّ حالٍ إِذا كان هناك مشقَّة إِما لبرودة الجوِّ، أو لمشقَّة النَّزع واللَّفّ مرَّة أخرى، فالتَّسامح في مثل هذا لا بأس به، وإلا فالأوْلى ألاَّ تمسح ولم ترد نصوصٌ صحيحة في هذا الباب

(2)

.....

ولو كان الرَّأس ملبَّداً بحنَّاء، أو صمغ، أو عسل، أو نحو ذلك فيجوز المسح؛ لأنه ثبت أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان في إحرامه ملبِّداً رأسَه

(3)

فما وُضع على الرَّأس مِنَ التَّلبيد فهو تابع له.

(1)

انظر: «الإنصاف» (1/ 387).

(2)

روى ابن أبي شيبة، كتاب الطهارات: في المرأة تمسح على خمارها، رقم (249) بإِسناد حسن عن الحسن البصري عن أم سلمة أنها كانت تمسح على

الخمار.

قال علي بن المديني: رأى الحسن أم سلمة ولم يسمع منها. «جامع التحصيل» ص (163).

(3)

ن حديث ابن عمر.

ص: 239

وهذا يدلُّ على أن طهارة الرَّأس فيها شيء من التَّسهيل.

وعلى هذا؛ فلو لبَّدت المرأة رأسها بالحِنَّاء جاز لها المسحُ عليه، ولا حاجة إلى أن تنقض رأسَها، وتَحُتُّ هذا الحنَّاء.

وكذا لو شدَّت على رأسها حُليًّا وهو ما يُسمّى بالهامة، جاز لها المسحُ عليه؛ لأننا إِذا جوَّزنا المسح على الخمار فهذا من باب أَوْلَى.

وقد يُقال: إن له أصلاً وهو الخاتم، فالرَّسول (ص) كان يلبس الخاتم

(1)

ومع ذلك فإِنَّه قد لا يدخل الماءُ بين الخاتم والجلد، فمثل هذه الأشياء قد يُسامِحُ فيها الشَّرع، ولا سيما أن الرَّأس من أصله لا يجب تطهيرُه بالغسل، وإنما يطهرُ بالمسح، فلذلك خُفِّفَتْ طهارتُه بالمسح.

وقوله: «على خُمر نساء» ، يفيد أنَّ ذلك شرطٌ، وهو أن يكون الخمارُ على نساء.

‌مُدَارَةٍ تَحت حُلُوقِهِنَّ ............

قوله: «مُدَارةٍ تحت حُلُوقِهن» ، هذا هو الشَّرط الثَّاني، فلا بُدَّ أن تكون مدارةً تحت الحلق، لا مطلقةً مرسلةً؛ لأن هذه لا يشقُّ نزعُها بخلافِ المُدارةِ.

وهل يُشترطُ لها توقيت كتوقيت الخُفِّ؟ فيه خلاف. والمذهب أنَّه يُشترط، وقال بعض العلماء: لا يُشترط، لأنه لم يثبت عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه وقَّتها، ولأنَّ طهارة العُضوِ التي هي عليه أخفُّ من طهارة الرِّجْلِ، فلا يمكن إِلحاقُها بالخُفِّ، فإِذا كان

(1)

تقدم تخريجه، ص (209).

ص: 240

عليكَ فامسح عليها، ولا توقيتَ فيها، وممن ذهب إلى هذا القول: الشَّوكاني في «نيل الأوطار»

(1)

، وجماعة من أهل العلم

(2)

.

‌فِي حَدَثٍ أَصْغَرَ،

............

قوله: «في حَدَثٍ أصغر» ، الحَدَث: وصفٌ قائمٌ بالبَدَن يمنع من الصَّلاة ونحوها مما تُشترط له الطَّهارة.

وهو قسمان: ....

الأول: أكبر وهو ما أوجب الغسل.

الثاني: أصغر وهو ما أوجب الوُضُوء.

فالعِمامةُ، والخُفُّ، والخِمارُ، إِنما تمسحُ في الحَدَث الأصغر دون الأكبر، والدَّليل على ذلك حديث صفوان بن عَسَّال قال:«أمَرنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إِذا كُنَّا سَفْراً ألاَّ ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة، ولكن من غائط، وبول، ونوم»

(3)

.

فقوله: «إلا من جنابة» ، يعني به الحدَثَ الأكبر.

وقوله: «ولكن من غائط وبول ونوم» ، هذا الحدث

(1)

انظر: «نيل الأوطار» (1/ 205، 206).

(2)

انظر: «المحلى» (2/ 65).

(3)

رواه أحمد (4/ 239، 240)، والنسائي، كتاب الطهارة: باب الوضوء من الغائط والبول، وباب الوضوء من الغائط، (1/ 98) رقم (158، 159)، والترمذي، كتاب

الطهارة: باب ما جاء في المسح على الخفين للمسافر رقم (96)، وابن ماجه، كتاب الطهارة: باب الوضوء من النوم، رقم (478).

والحديث صحّحه: الترمذي، وابن خزيمة، وابن حبان، والنَّووي، وابن حجر.

انظر: «المحرر» رقم (67)، «الخلاصة» رقم (245)، «الفتح» شرح حديث رقم (206).

ص: 241

الأصغر. فلو حصل على الإِنسان جنابة مدَّةَ المسح فإنه لا يمسح، بل يجب عليه الغُسلُ؛ لأنَّ الحدث الأكبر ليس فيه شيء ممسوح، لا أصلي ولا فرعي، إلا الجبيرة كما يأتي.

تنبيه:

تَبيَّنَ مما سبق أن لهذه الممسوحات الثلاثة: الخُفّ والعِمامة والخِمار شروطاً تتفق فيها؛ وشروطاً تختصُّ بكل واحد. فالشُّروط المتفقة هي:

1 ـ أن تكون في الحدث الأصغر.

2 ـ أن يكون الملبوس طاهراً.

3 ـ أن يكون مباحاً.

4 ـ أن يكون لبسها على طهارة.

5 ـ أن يكون المسح في المدَّة المحددة.

هذا ما ذكره المؤلِّفُ وقد عرفت الخلاف في بعضها.

وأما الشُّروط المختلفة فالخفُّ يُشتَرطُ أن يكون ساتراً للمفروض، ولا يُشتَرَطُ ذلك في العِمَامة والخِمَار، والعِمَامة يُشترَطُ أن تكونَ على رَجُلٍ، والخِمَار يُشترَط أن يكون على أنثى، والخُفُّ يجوزُ المسح عليه للذُّكور والإِناث.

‌وجَبِيرَةٍ،

...........

قوله: «وجبيرة» ، أي: ويجوز المسحُ على جبيرةٍ، والجبيرة: فعيلة بمعنى فاعلة، وهي أعوادٌ توضعُ على الكسرِ ثم يُرْبَطُ عليها ليلتئمَ. والآن بدلها الجبسُ.

وأما «جبير» بالنسبة للمكسور فهو بمعنى مفعول أي مجبورٌ.

ص: 242

ويُسمَّى الكسيرُ جبيراً من باب التفاؤل، كما يُسمَّى اللَّديغُ سليماً مع أنه لا يُدرى هل يسلم أم لا؟

وتُسمَّى الأرضُ التي لا ماء فيها ولا شجر مَفَازة من باب التَّفاؤل .....

‌لَمْ تَتَجَاوزْ قَدْرَ الحَاجَةِ، ولو فِي أكْبَرَ ........

قوله: «لم تتجاوز قَدْرَ الحاجة» ، هذا أحدُ الشُّروطِ، وتتجاوز: أي تتعدَّى.

والحاجة: هي الكسر، وكلُّ ما قَرُبَ منه مما يُحتاجُ إليه في شدِّها.

فإِذا أمكن أن نجعل طول العيدان شبراً، فإِنَّنا لا نجعلُها شبراً وزيادة، لعدم الحاجة إلى هذا الزَّائد.

وكذا إذا احتجنا إلى أربطةٍ غليظة استعملناها، وإلا استعملنا أربطةً دقيقة.

وإِذا كان الكسر في الأصبع واحتجنا أن نربط كلَّ الرَّاحة لتستريحَ اليدُ جاز ذلك لوجود الحاجة.

فإِن تجاوزت قَدْرَ الحاجة، لم يُمسح عليها، لكن إِن أمكن نزعُها بلا ضرر نُزِعَ ما تجاوز قدَر الحاجةِ، فإِنْ لم يُمكنْ فقيل: يمسح على ما كان على قدر الحاجةِ ويتيمَّم عن الزَّائد

(1)

. والرَّاجح أنه يمسحُ على الجميعِ بلا تيمُّم؛ لأنَّه لما كان يتضرَّرُ بنزع الزَّائدِ صار الجميع بمنزلةِ الجَبيرة.

قوله: «ولو في أكبر» ، لو: لرفع التَّوهُّمِ، لأنه في العِمَامة

(1)

انظر: «الإنصاف» (1/ 426).

ص: 243

والخِمارِ والخُفَّين قال: «في حدث أصغر» ، ولو لم يقل هنا «ولو في أكبر» لتوهَّمَ متوهِّمٌ أن المسحَ عليها في الحدث الأصغر فقط مع أنَّه يجوز المسح عليها في الحدث الأصغر والأكبر.

وذلك لوجوه:

1 ـ حديث صاحب الشّجَّة ـ بناءً على أنه حديث حسن، ويُحتَجُّ به ـ فإِن الرَّسول صلى الله عليه وسلم قال:«إِنمَّا كان يكفيه أن يتيمَّمَ؛ ويعصِبَ على جُرحه خِرقةً ثم يمسح عليها»

(1)

.

وهذا في الحدث الأكبر، لأن الرَّجل أجنب.

2 ـ أن المسح على الجبيرة من باب الضَّرورة، والضَّرورة لا فرق فيها بين الحدث الأكبر والأصغر، بخلاف المسح على الخفين فهو رخصة.

3 ـ أنَّ هذا العضو الواجبَ غسلُه سُتِرَ بما يسوغُ ستره به شرعاً فجاز المسحُ عليه كالخُفَّين .....

(1)

رواه أبو داود، كتاب الطهارة: باب في المجروح يتيمَّم، رقم (336)، والدارقطني (1/ 189) رقم (719)، والبيهقي (1/ 227).

وصحّحه ابن السكن، وقال ابن الملقن:«رجاله ثقات» !

قال أبو بكر بن أبي داود: «لم يروه عن عطاء عن جابر غير الزبير بن خُريق، وليس بالقوي» . قال البيهقي: «ليس هذا الحديث بالقوي» .

قال عبد الحق الإِشبيلي: «لا يُروى الحديث من وجه قوي» . وكذلك ضعفه النووي.

وقال ابن حجر: «رواه أبو داود بسندٍ فيه ضعف، وفيه اختلاف على رواته» .

انظر: «الأحكام الوسطى» (1/ 223)، «الخلاصة» رقم (580)، «التلخيص الحبير» رقم (210)، «البلوغ» رقم (136).

_

ص: 244

4 ـ أنَّ المسحَ وردَ التعبُّد به من حيثُ الجُملةُ، فإذا عجزنا عن الغسل انتقلنا إلى المسح كمرحلة أخرى.

5 ـ أنَّ تطهير محلِّ الجبيرة بالمسح بالماء، أقرب إلى الغسل من العدول إلى التيمُّم، والأحاديث في المسح على الجبيرة وإن كانت ضعيفة إلا أن بعضها يجبر بعضاً.

ثم إِننا يمكن أن نقيسها ولو من وَجْهٍ بعيد على المسح على الخُفَّين، فنقول: إِنَّ هذا عضو مستور بما يجوز لُبْسُه شرعاً فيكون فرضُه المسحُ. وهذا القياسُ وإِن كان فيه شيءٌ من الضَّعف من جهة أن المسح على الخفَّين رخصةٌ ومؤقَّتٌ، والمسحُ على الجبيرةِ عزيمةٌ وغير مُؤقَّت، والمسحُ على الخُفَّين يكون في الحدث الأصغر، وهذا في الأصغر والأكبر، والمسحُ على الخُفَّين يكون على ظاهر القدم، وهذا يكون على جميعها، ولكن مع ما في هذا القياس من النَّظر إِلا أنه قويٌّ من حيث الأصلُ، وهو أنَّه مستورٌ بما يسوغُ ستره به شرعاً فجاز المسح عليه كالخُفَّين، وهذا ما عليه جمهور العلماء.

وقال بعضُ العلماء ـ كابن حزم ـ لا يمسحُ على الجبيرة

(1)

؛ لأنَّ أحاديثها ضعيفةٌ، ولا يَرَى أنه ينجبر بعضها ببعض، ولا يَرَى القياس.

واختلف القائلون بعدم جواز المسح.

فقال بعضهم: إِنه يسقطُ الغُسْل إِلى بدل، وهو التيمُّم

(2)

بأن

(1)

انظر: «المحلى» (2/ 74).

(2)

انظر: «نيل الأوطار» (1/ 324).

ص: 245

يِغْسِلَ أعضاءَ الطَّهارةِ ويتيمَّمَ عن الموضع الذي فيه الجبيرة، لأنَّه عاجزٌ عن استعمال الماء، والعجز عن البعض كالعجز عن الكُلِّ فيتيمَّم.

وقال آخرون: إنه لا يتيمَّمُ، ولا يمسحُ

(1)

؛ لأنه عجز عن غسل هذا العضو فسقط كسائر الواجبات، وهذا أضعفُ الأقوال أنه يسقط الغسلُ إلى غير تيمُّمٍ، ولا مسح، لأنَّ العضو موجود ليس بمفقود حتى يسقط فرضه، فإذا عجز عن تطهيره بالماء تطهر ببدله.

ورُبَّما يعمُّه قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: 6]، وهذا مريضٌ؛ لأن الكسر أو الجُرحَ نوعٌ من المرض فجاز فيه التيمُّمُ .....

وإذا قُلنا: لا بُدَّ من التيمُّم أو المسح، فإِن المسح أقرب إلى الطَّهارة بالماء، لأنه طهارة بالماء، وذاك طهارة بالتُّراب.

وأيضاً: التيمُّم قد يكون في غير محلِّ الجبيرة؛ لأن التيمُّم في الوجه والكفَّين فقط، والجبيرة قد تكون ـ مثلاً ـ في الذِّراع أو السَّاق.

فأقرب هذه الأقوال: جواز المسح عليها.

وهل يُجمعُ بين المسحِ والتيمُّم؟

قال بعض العلماء: يجبُ الجمعُ بينهما احتياطاً

(2)

.

(1)

انظر: «المحلَّى» (2/ 74، 75).

(2)

انظر: «الإنصاف» (1/ 425).

ص: 246

والصَّحيح: أنَّه لا يجب الجمعُ بينهما؛ لأن القائلين بوجوب التيمُّم لا يقولون بوجوب المسح، والقائلين بوجوب المسح لا يقولون بوجوب التيمُّم؛ فالقول بوجوب الجمع بينهما خارج عن القولين.

ولأن إيجاب طهارتين لعضو واحد مخالفٌ للقواعد الشرعيَّة؛ لأنَّنا نقول: يجب تطهير هذا العضو إما بكذا أو بكذا.

أما إيجاب تطهيره بطهارتين فهذا لا نظير له في الشَّرع، ولا يُكلِّف الله عبداً بعبادتين سببُهما واحد.

قال العلماء ـ رحمهم الله تعالى ـ: إن الجُرحَ ونحوَه إِما أن يكون مكشوفاً، أو مستوراً.

فإِن كان مكشوفاً فالواجبُ غسلُه بالماء، فإِن تعذَّر فالمسحُ، فإِن تعذَّر المسحُ فالتيمُّمُ، وهذا على الترتيب.

وإن كان مستوراً بما يسوغُ ستره به؛ فليس فيه إلا المسحُ فقط، فإِن أضره المسحُ مع كونه مستوراً، فيعدل إلى التيمُّم، كما لو كان مكشوفاً، هذا ما ذكره الفقهاء رحمهم الله في هذه المسألة.

‌إِلى حَلِّهَا،

............

قوله: «إِلى حَلِّها» ، بفتح الحاء أي: إِزالتها، وكسر الحاء لحنٌ فاحشٌ يغيِّر المعنى؛ لأنه بالكسر يكون المعنى إلى أن تكون حلالاً، وهذا يفسدُ المعنى، فيمسحُ على الجبيرة إِلى حَلِّها إِمَّا ببرء ما تحتها، وإِمَّا لسبب آخر.

فإذا برئ الجرحُ وجب إِزالتها؛ لأن السببَ الذي جاز من أجله وضعُ الجبيرة والمسحُ عليها زال، وإِذا زال السبب انتفى المُسبَّب .....

ص: 247

‌إِذَا لَبِسَ ذلك بَعْدَ كَمَال الطهارةِ.

قوله: «إِذا لَبِسَ ذلك» ، المشارُ إليه الأنواع الأربعة: الخُفُّ، والعِمامةُ، والخِمارُ، والجبيرةُ.

قوله: «بعد كمال الطَّهارة» ، لم يقلْ: بعد الطَّهارة حتى لا يتجوَّز متجوِّزٌ، فيقول: بعد الطَّهارة، أي: بعد أكثرها.

فلو أنَّ رَجُلاً عليه جنابةٌ وغسل رجليه، ولبس الخُفَّين، ثم أكمل الغسل لم يجزْ؛ لعدم اكتمال الطَّهارة.

صحيحٌ أن الرِّجلين طهُرتا، لأن الغسل من الجنابة لا ترتيب فيه، لكن لم تكتمل الطهارة.

ولو توضَّأ رَجُلٌ ثم غسل رِجْلَه اليُمنى، فأدخلها الخُفَّ، ثم غسل اليُسرى؛ فالمشهورُ من المذهب: عدمُ الجواز، لقوله:«إذا لَبِسَ ذلك بعد كمال الطَّهارة» ، فهو لمَّا لبس الخُفَّ في الرِّجْلِ اليُمنى لبسها قبل اكتمال الطَّهارة لبقاء غسل اليُسرى، فلا بُدَّ من غسل اليُسرى قبل إِدخال اليُمنى الخُفَّ.

ودليل هذا القول: قوله صلى الله عليه وسلم: «فإِنِّي أدخلتُهما طاهرتين»

(1)

.

فقوله: «طاهرتين» وصفٌ للقدمين، فهل المعنى أدخلتُ كلَّ واحدة وهما طاهرتان، فيكون أدخلهما بعد كمال الطهارة.

أو أن المعنى: أدخلتُ كُلَّ واحدة طاهرة، فتجوز الصُّورة التي ذكرنا؟ هذا محتمل.

واختار شيخ الإِسلام: أنه يجوز إِذا طَهَّر اليُمنى أن يلبسَ الخفَّ، ثم يطهِّر اليسرى، ثم يلبس الخُفَّ

(2)

.

(1)

تقدَّم تخريجه، ص (229).

(2)

انظر: «مجموع الفتاوى» (21/ 209، 210)، «الاختيارات» ص (14).

ص: 248

وقال: إنه أدخلهما طاهرتين، فلم يُدخل اليُمنى إلا بعد أن طهَّرها، واليُسرى كذلك، فيصدقُ عليه أنه أدخلهما طاهرتين.

وعلى المذهب: لو أن رجلاً فعل هذا، نقول له: اخلع اليمنى ثم البسها؛ لأنَّك إذا لبستها بعد خلعها لبستها بعد كمال الطَّهارة.

ورُبَّما يُقال: هذا نوعٌ من العبث؛ إذ لا معنى لخلعها ثم لبسها مرَّةً أخرى؛ لأن هذا لم يؤثِّر شيئاً، ما دام أنه لا يجب إعادة تطهير الرِّجْل فقد حصل المقصودُ.

ولكن روى أهلُ السُّنن أن النبي صلى الله عليه وسلم رَخَّصَ للمقيم إِذا توضَّأ فلبس خُفّيه أن يمسح يوماً وليلة

(1)

.....

فقوله: «إِذا توضَّأ» قد يُرَجِّح المشهورَ من المذهب؛ لأن مَنْ لم يغسل الرِّجل اليسرى لم يصدق عليه أنه توضَّأ.

وهذا ما دام هو الأحوط فسلوكه أَوْلى، ولكن لا نجسُر على رَجُلٍ غسلَ رِجْلَه اليمنى ثم أدخلها الخفَّ، ثم غسل اليسرى ثم أدخلها الخُفَّ أن نقولَ له: أعدْ صلاتك ووضوءك، لكن نأمر من لم يفعل ألا يفعل احتياطاً.

(1)

رواه ابن ماجه، كتاب الطهارة: باب ما جاء في التوقيت في المسح للمقيم والمسافر، رقم (556)، وابن خزيمة رقم (192)، وابن حبان رقم (1324) وغيرهم،

عن أبي بكرة.

والحديثُ صَحَّحه: الشافعي، وابن خزيمة، وابن حبان، والخطّابي، والنووي وغيرُهم، وحَسَّنه البخاري.

انظر: «الخلاصة» رقم (247)، «التلخيص الحبير» رقم (216).

ص: 249

وأما اشتراط كمال الطَّهارة في الجبيرة، فضعيفٌ لما يأتي:

الأول: أنه لا دليل على ذلك، ولا يصحُّ قياسُها على الخُفَّين لوجود الفروق بينهما.

الثاني: أنها تأتي مفاجأةً، وليست كالخُفِّ متى شئت لبسته.

وعدم الاشتراط هو اختيار شيخ الإسلام

(1)

، ورواية قويَّة عن أحمد اختارها كثيرٌ من الأصحاب

(2)

.

ويكون هذا من الفروق بين الجبيرة والخُفِّ.

ومن الفروق أيضاً بين الجبيرة وبقيَّة الممسوحات:

1 ـ أن الجبيرة لا تختصُّ بعضوٍ معيَّن، والخُفُّ يختصُّ بالرِّجْلِ، والعِمَامة والخِمَار يختصَّانِ بالرَّأسِ.

وبهذا نعرف خطأَ من أفتى أن المرأةَ يجوز لها وضع «المناكير» لمدَّة يوم وليلة؛ لأن المسح إِنما ورد فيما يُلبس على الرَّأس والرِّجْلِ فقط، ولهذا لما كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم في تبوك عليه جُبَّةٌ شاميَّةٌ وأراد أن يُخرِجَ ذراعيْه من أكمامه ليتوضَّأ، فلم يستطعْ لضيق أكمامِه، فأخرج يده من تحت الجُبَّة، وأَلقَى الجُبَّةَ على منكبيه، حتى صبَّ عليه المغيرةُ رضي الله عنه

(3)

، ولو كان المسح جائزاً على غير القدم والرَّأس، لمسح النبيُّ صلى الله عليه وسلم في مثل هذا الحال على كُمَّيهِ.

2 ـ أن المسحَ على الجبيرة جائزٌ في الحَدَثين، وباقي ....

(1)

انظر: «مجموع الفتاوى» (21/ 179)، «الاختيارات» ص (15).

(2)

انظر: «الإِنصاف» (1/ 387، 388).

(3)

تقدم تخريجه، ص (229) من حديث المغيرة بن شعبة.

ص: 250

الممسوحات لا يجوز إلا في الحدث الأصغر.

3 ـ أن المسح على الجبيرة غيرُ مؤقَّت، وباقي الممسوحات مؤقّتةٌ، وسبقَ الخلافُ في العِمَامة

(1)

.

4 ـ أنَّ الجبيرةَ لا تُشترطُ لها الطَّهارةُ ـ على القول الرَّاجح ـ وبقيَّةُ الممسوحات لا تُلبسُ إلا على طهارة، على خلاف بين أهلِ العلمِ في اشتراطِ الطهارة بالنسبة للعِمَامة والخِمارِ

(2)

.

‌وَمَنْ مسحَ في سَفَرٍ، ثُمَّ أقَامَ، أوْ عَكَسَ،

...........

قوله: «ومن مسحَ في سَفَر، ثم أقام» ، من مَسَحَ في سَفَرٍ ثم أقام، فإِنَّه يُتمُّ مسحَ مقيم إِن بقيَ من المدَّة شيءٌ، وإِن انتهت المدَّةُ خَلَعَ.

مثاله: مسافرٌ أقبلَ على بلده وحان وقتُ الصَّلاة، فمسحَ ثم وصل إلى البلد، فإِنَّه يُتمُّ مسحَ مقيمٍ؛ لأن المسحَ ثلاثة أيَّام لمن كان مسافراً والآن انقطع السَّفرُ، فكما أنَّه لا يجوزُ له قَصْرُ الصَّلاة لمَّا وصلَ إلى بلده، فكذا لا يجوز له أن يتمَّ مَسْحَ مسافرٍ.

فإن كان مضى على مسحه يومٌ وليلة، ثم وصلَ بلدَه فإِنه يخلعُ، وإِن مضى يومان خَلَعَ، وإن مضى يومٌ بقي له.

قوله: «أو عَكَسَ» ، أي: مسح في إقامة ثم سافر، فإنه يتمَّ مسح مقيم تغليباً لجانب الحظر احتياطاً.

مثاله: مسح يوماً وهو مقيم، ثم سافر، فإنه يبقى عليه ليلة،

(1)

انظر: ص (241).

(2)

انظر: «الإنصاف» (1/ 387، 388).

ص: 251

وما بعد الليلة اجتمع فيه مبيحٌ وحاظرٌ، فالسَّفَر يبيحه والحَضَر يمنعه، فيُغَلَّبُ جانبُ الحظر احتياطاً؛ لأنك إذا خلعت وغسلت قدميك فلا شُبهة في عبادتك، وإن مسحت ففي عبادتك شُبهة، وقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:«دَعْ ما يَريْبُك إلى ما لا يَرِيبُك»

(1)

.

والرِّواية الثانية عن أحمد: أنه يُتِمُّ مسح مسافر؛ لأنَّه وُجِدَ السَّببُ الذي يستبيح به هذه المدَّة، قبل أن تنتهي مُدَّة الإِقامة، أما لو انتهت مُدَّةُ الإقامة كأن يتمَّ له يومٌ وليلة؛ ثم يسافر بعد ذلك قبل أن يمسح؛ ففي هذه الحال يجب عليه أن يخلعَ

(2)

.

وهذه الرِّواية قيل: إِن أحمد رحمه الله رجع إليها (455)، وهذه رواية قويَّة.

مسألة: إذا دخل عليه الوقت ثم سافر، هل يُصلِّي صلاة مسافر أو مقيم؟ ....

المذهب: يُصلِّي صلاة مقيم.

والصَّحيح: أنه يُصلِّي صلاة مسافر.

فهذه المسألة قريبة من هذه؛ لأنَّه الآن صَلَّى وهو مسافر، وقد قال الله تعالى:{وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} [النساء: 101].

كما أنه إذا دخل عليه الوقتُ وهو مسافر، ثم وصل بلده فإنه يُتمُّ.

(1)

تقدم تخريجه، ص (32).

(2)

انظر: «الإنصاف» (1/ 302، 403).

ص: 252

‌أوْ شَكَّ في ابْتِدائِهِ، فَمَسْحَ مُقِيْمٍ، وإِنْ أَحْدَثَ ثُمَّ سَافَرَ قَبْلَ مَسْحِهِ فَمَسْحَ مُسَافِرٍ، ولا يَمْسَحُ قَلَانِسَ،

.........

قوله: «أو شَكَّ في ابتدائه

»، يعني هل مَسَحَ وهو مسافرٌ أو مسحَ وهو مقيمٌ؟ فإِنه يُتمُّ مسح مقيم احتياطاً، وهو المذهب.

وبناءً على الرِّواية الثَّانية ـ في المسألة السَّابقة ـ يتمُّ مسح مسافر؛ لأنَّ هذه الرِّواية الثَّانية يُباح عليها أن يُتمَّ مسح مسافر، ولو تيقن أنه ابتدأ المسح مقيماً. والصَّحيح في هذه المسائل الثلاث: أنَّه إِذا مسح مسافراً ثم أقام فإنه يتمُّ مسح مقيم، وإذا مسح مقيماً ثم سافر أو شَكَّ في ابتداء مسحه فإِنه يُتمُّ مسح مسافر، ما لم تنته مُدَّة الحضر قبل سفره، فإِن انتهت فلا يمكن أن يمسح.

قوله: «وإن أحْدَث ثم سافر قبل مَسْحه فَمَسْحَ مسافرٍ» ، أي: أحدث وهو مقيمٌ، ثم سافر قبل أن يمسحَ، فإِنَّه يمسحُ مسحَ مسافرٍ؛ لأنَّه لم يبتدئ المسحَ في الحضر، وإِنَّما كان ابتداء مسحه في السَّفر. وعلى هذا يتبيَّن لنا رُجحان القول الذي اخترناه من قبل: بأنَّ ابتداءَ مُدَّة المسحِ من المسح لا من الحَدَث، وَهُمْ هُنَا قد وافقوا على أنَّ الحُكم معلَّقٌ بالمسح لا بالحَدَث، ويُلزمُ الأصحاب رحمهم الله أن يقولوا بالقول الرَّاجح؛ أو يطردوا القاعدة، ويجعلوا الحكم منوطاً بالحَدَث، ويقولوا: إِذا أحدثَ ثم سافر، ومسحَ في السَّفر، فيلزمُه أن يمسحَ مسحَ مقيمٍ؛ وإِلا حصلَ التَّناقض .....

قوله: «ولا يَمْسَحُ قَلانس» ، القلانس جمع قَلَنْسُوَة، نوع من اللباس الذي يُوضع على الرَّأس، وهي عبارة عن طاقيَّة كبيرة،

ص: 253

فمثل هذا النوع لا يجوزُ المسحَ عليه؛ لأن الأصلَ وجوبُ مسح الرَّأس لقوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} [المائدة: 6].

وعَدَل عن الأصل في العِمَامة، لورود النَّصِّ بها.

وقال بعض الأصحاب: يمسحُ على القَلانس، إِذا كانت مثل العِمَامة يشقُّ نزعُها

(1)

، أمَّا ما لا يشقُّ نزعُه كالطاقيَّة المعروفة فلا يمسح عليها. ففرَّق بين ما يشقُّ نزعه وما لا يشقُّ.

وهذا القول قويٌّ، لأنَّ الشَّارع لا يفرِّق بين متماثلين كما أنه لا يجمع بين متفرقين

(2)

؛ لأن الشَّرع من حكيمٍ عليم، والعِبْرة في الأمور بمعانيها، لا بصورها.

وما دام أن الشَّرع قد أجاز المسحَ على العِمَامة، فكلُّ ما كان مثلها في مشقَّة النَّزع فإِنه يُعطى حكمَها.

‌ولَا لِفَافَةَ،

............

قوله: «ولا لِفَافة» ، أي: في القَدَم، فلا يمسح الإِنسان لِفافة لفَّها على قدمه؛ لأنَّها ليست بخُفٍّ فلا يشملُها حكمُه.

وكان النَّاس في زمنٍ مضى في فاقةٍ وإعواز، لا يجدون خُفًّا، فيأخذ الإِنسانُ خِرقة ويلفُها على رجله ثم يربطُها.

وعلَّة عدم الجواز أنَّ الأصلَ وجوبُ غسل القدم، وخولِفَ هذا الأصل في الخُفِّ لورود النَّصِّ به، فيبقى ما عداه على الأصل.

(1)

انظر: «الإنصاف» (1/ 385، 386).

(2)

وقال شيخنا رحمه الله في «مجموع الفتاوى» (11/ 170): «وأما ما يلبس في أيام الشتاء من القبع الشامل للرأس والأذنين، والذي قد يكون في أسفله لفة

على الرقبة، فإِن هذا مثل العمامة لمشقة نزعه فيمسح عليه».

ص: 254

واختار شيخ الإسلام رحمه الله جوازَ المسح على اللِّفافةِ

(1)

، وهو الصَّحيحُ؛ لأن اللِّفَافة يُعذَرُ فيها صاحبُها أكثر من الخُفِّ؛ لأنَّ خلعَ الخُفِّ ثم غسل الرِّجْل، ثم لبْسَ الخُفِّ أسهل من الذي يَحُلُّ هذه اللِّفافة ثم يعيدها مرَّة أخرى، فإِذا كان الشَّرع أباح المسح على الخُفِّ، فاللِّفافة من باب أولى.

وأيضاً: فإِن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أمر السَّريَّة التي بعثها بأن يمسحوا على العصائب والتَّساخين

(2)

.....

فنأخذ من كلمة «التَّساخين» جواز المسح على اللِّفافة؛ لأنَّه يحصُل بها التَّسخين.

والغرض الذي من أجله تُلبس الخِفَاف موجودٌ في لبس اللِّفافة.

‌ولا مَا يَسْقُطُ مِنَ القَدَمِ،

.........

قوله: «ولا ما لا يسقط من القَدَم» ، يعني: ولا يمسح ما يسقط من القَدَم، وهذا بناءً على أنه يُشترط لجواز المسح على الخُفِّ ثبوتُه بنفسه، أو بنعلين إلى خلعهما؛ لأن ما لا يثبت خُفٌّ غيرُ معتاد؛ فلا يشمله النصُّ، والنَّاس لا يلبسون خِفافاً تسقط عند المشي، ولا فائدة في مثل هذا، وهذا ظاهرٌ فيمن يمشي فإِنَّه لا يلبسه.

لكن لو فُرض أن مريضاً مُقْعَداً لَبِسَ مثل هذا الخُفِّ للتدفئة، فلا يجوز له المسح على كلام المؤلِّف.

(1)

انظر: «مجموع الفتاوى» (21/ 185)، «الاختيارات» ص (13).

(2)

تقدم تخريجه، ص (222).

ص: 255

ولأنَّ الذي يسقط من القَدَم سيكون واسعاً، وإخراج الرِّجْلِ من هذا الخُفِّ سهلٌ، فيخرجها ثم يغسلها، ثم ينشِّفها ثم يردُّها.

‌أو يُرَى منه بَعْضُهُ، فإِن لَبِسَ خُفًّا على خُفٍّ قَبْلَ الحدثِ فالحكمُ للفوقاني ............

قوله: «أو يُرى منه بعضُه» ، أي: إِذا كان الخُفُّ يُرى منه بعضُ القَدَم فإِنه لا يُمسح ولو كان قليلاً، وهذا مبنيٌّ على ما سبق من اشتراط أن يكون الخُفُّ ساتراً للمفروض.

وسواء كان يُرى من وراء حائل؛ مثل أن يكون خفيفاً؛ أو من البلاستيك، أم من غير حائل. فلو فُرِضَ أن في الخُفِّ خَرقاً قَدْرَ سَمِّ الخِيَاطِ، أو كان جزء منه عليه بلاستيك يُرى من ورائه القَدَم؛ فالمذهب أنَّه لا يجوز المسح عليه.

وسبق بيان أن الصَّحيح جواز ذلك

(1)

.

قوله: «فإِن لَبِسَ خُفًّا على خُفٍّ قبل الحَدَث فالحُكم للفوقاني» ، وهذا يقع كثيراً كالشُّراب والكنادر، فهذا خُفٌّ على جَورب.

ولا يجوز المسح عليهما إِن كانا مَخْرُوقين على المذهب، ولو سَتَرَا؛ لأنَّه لو انفرد كلُّ واحد منهما لم يجز المسح عليه، فلا يمسح عليهما .....

(1)

انظر: ص (232، 233).

ص: 256

مثاله: لو لَبِسَ خُفَّين أحدُهما مخروق من فوق، والآخر مخروق من أسفل، فالسَّتر الآن حاصل، لكن لو انفرد كلُّ واحد لم يجز المسحُ عليه فلا يجوز المسح عليهما.

ولو كانا سليمين جاز المسحُ عليهما، لأنَّه لو انفرد كلُّ واحد منهما جاز المسح عليه.

والصَّحيح: جواز المسح عليهما مطلقاً، بناءً على أنه لا يُشترط سترُ محلِّ الفرض ما دام اسم الخُفِّ باقياً.

وإِذا لَبِسَ خُفًّا على خُفٍّ على وجه يصحُّ معه المسحُ، فإِن كان قبل الحدث فالحكم للفوقاني، وإن كان بعد الحدث فالحكم للتحتاني، فلو لَبِسَ خفًّا ثم أحدث، ثم لبس خُفًّا آخر فالحكم للتحتاني، فلا يجوزُ أن يمسح على الأعلى.

فإِن لَبِسَ الأعلى بعد أن أحدث، ومسح الأسفل فالحكم للأسفل، كما لو لبس خُفًّا ثم أحدث، ثم مسح عليه، ثم لبس خفًّا آخر فوق الأوَّل وهو على طهارةِ مَسْحٍ عند لبسه للثاني، فالمذهب أنَّ الحكم للتَّحتاني؛ لأنَّه لبس الثاني بعد الحَدَث.

وقال بعض العلماء: إِذا لبس الثَّاني على طهارة؛ جاز له أن يمسح عليه

(1)

؛ لأنه يصدق عليه أنه أدخل رجليه طاهرتين، وقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:«فإني أدخلتهما طاهرتين»

(2)

، وهو شامل لطهارتهما بالغسل والمسح، وهذا قول قويٌّ كما ترى. ويؤيِّدُه: أنَّ الأصحاب رحمهم الله نَصُّوا على أن المسح على الخُفَّين رافع للحدث، فيكون قد لَبِسَ الثَّاني على طهارة تامَّة، فلماذا لا يمسح؟

(3)

.

(1)

انظر: «المجموع شرح المهذب» (1/ 507).

(2)

تقدم تخريجه، ص (229).

(3)

وقال شيخُنا رحمه الله في «مجموع الفتاوى» (11/ 176): «

وعلى هذا فلو توضأ ومسح على الجوارب، ثم لبس عليها جوارب أخرى أو «كنادر» ومسح

العليا فلا بأس به على القول الراجح، ما دامت المدَّة باقية لكن تُحسب المدةُ من المسح على الأول لا من المسح على الثاني».

ص: 257

أما لو لَبِسَ الثَّاني وهو محدثٌ فإِنه لا يمسحُ؛ لأنه لبسه على غير طهارة.

وقوله: «فالحكم للفوقاني» هذا لبيان الجواز فإِنه يجوز أن يمسحَ على التَّحتاني حتى ولو كان الحكم للفوقاني.

وإِذا كان في الحال التي يمسح فيها الأعلى؛ فَخَلَعه بعد مسحه؛ فإِنه لا يمسح التَّحتاني، هذا هو المذهب .....

والقول الثَّاني: يجوز جعلاً للخُفَّين كالظِّهارة والبِطَانة

(1)

، وذلك فيما لو كان هناك خُفٌّ مكوَّنٌ من طبقتين العُليا تُسمَّى الظِّهارة والسُّفلى تُسمَّى البِطَانة، فلو فرضنا في مثل هذا الخُفِّ أنه تمزَّق من الظِّهارة بعد المسح عليه، وهو الوجه الأعلى فإِنه يمسح على البِطَانة، وهي الوجه الأسفل حتى على المذهب

(2)

.

فالذين يقولون بجواز المسح على الخُفِّ الأسفل بعد خلع الخُفِّ الأعلى بعد الحدث قالوا: إِنما هو بمنزلة الظِّهارة والبطانة، فهو بمنزلة الخُفِّ الواحد. وهذا القول أيسر للنَّاس؛ لأن كثيراً من الناس يلبس الخُفَّين على الجورب ويمسح عليهما، فإِذا أراد النوم خلعهما، فعلى المذهب لا يمسح على الجورب بعد خلع الخُفَّين؛ لأنَّ زمن المسح ينتهي بخلع الممسوح. وعلى القول الثَّاني: يجوز له أن يمسحَ على الجورب، فإذا مسح ولبس

(1)

انظر: «الإِنصاف» (1/ 434).

(2)

انظر: «الإنصاف» (1/ 412).

ص: 258

خُفَّيه جاز له أن يمسح عليه مرَّة ثانية؛ لأنه لبسهما على طهارة، ولا شَكَّ أنَّ هذا أيسر للنَّاس؛ والفتوى به حسنة، ولا سيَّما إِذا كان قد صدر من المستفتي ما قبل ذلك فيُفتى بما هو أحوط.

‌ويَمْسَح أكثَرَ العِمَامة، وظاهِرِ قَدَم الخُفِّ ..........

قوله: «ويمسحُ أكثرَ العِمَامة» ، هذا بيان لوضع المسح وكيفيته في الممسوحات، ففي العِمَامة لا بُدَّ أن يكون المسح شاملاً لأكثر العِمَامة، فلو مسح جُزءاً منها لم يصحَّ، وإن مسح الكُلَّ فلا حرج، ويستحبُّ إِذا كانت النَّاصيةُ بادية أن يمسحها مع العِمَامة.

قوله: «وظاهر قَدَم الخُفِّ» ، هذا بيان لمسح الخُفَّين.

وقوله: «ظاهر» بالجرِّ يعني: ويمسحُ أكثر ظاهر القدم؛ لأن المسح مختصٌّ بالظَّاهر لحديث المغيرة بن شعبة

(1)

: «مسح خفيه» فإِنَّ ظاهره أن المسحَ لأعلى الخُفِّ .....

ولحديث عليٍّ رضي الله عنه قال: «لو كان الدِّين بالرَّأي، لكان أسفلُ الخُفِّ أولى بالمسح من أعلاه، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح أعلى الخُفِّ»

(2)

. وهذا الحديث وإِنْ كان فيه نَظَرٌ؛ لكن حسَّنه بعضهم.

وفي قوله: «لو كان الدِّين بالرَّأي» إِشكال، فإِن الرَّأي هو العقل.

(1)

تقدم تخريجه ص (229).

(2)

رواه أحمد (1/ 114)، وأبو داود، كتاب الطهارة: باب كيف المسح، رقم (162)، وأبو يعلى رقم (346) وغيرهم.

قال ابن حجر: «إسناده صحيح» .

انظر: «التلخيص» رقم (219)، «بلوغ المرام» رقم (60).

ص: 259

وهل الدِّين مخالفٌ للعقل؟ الجواب: لا، ولكن مرادُ عليٍّ رضي الله عنه إِن صحَّ نسبته إليه ـ هو باديَ الرَّأي كما قال تعالى:{وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ} [هود: 27]، أي: في ظاهر الأمر.

لأنه عند التَّأمُّل نجد أن مسح أعلى الخُفِّ هو الأَولى، وهو الذي يدلُّ عليه العقل، لأنَّ هذا المسح لا يُراد به التَّنظيف والتنقيةُ، وإنما يُرادُ به التعبُّد، ولو أنَّنا مسحنا أسفلَ الخُفِّ لكان في ذلك تلويثٌ له.

‌مِنْ أَصابِعِه إلى ساقِه دون أسْفَلِهِ، وعَقِبِه، وعَلَى جَمِيعِ الجَبِيْرَة ............

قوله: «من أصابعه إِلى ساقه» ، بيَّن المؤلِّفُ كيفيَّة المسح: بأن يبتدئ من أصابعه أي أصابع رجله إلى ساقه، وقد وردت آثارٌ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه أنه يمسح بأصابعه مفرَّقة حتى يُرى فوق ظهر الخُفِّ خُطوطٌ كالأصابع

(1)

.

قوله: «دون أسفله وعقبه» ، لأنهما ليسا من أعلى القدم، والمسح إِنما ورد في الأعلى كما سبق في حديث المغيرة، فإِنَّ له روايات

(2)

تدلُّ على ما دلَّ عليه حديثُ علي رضي الله عنه.

(1)

رواه ابن ماجه، كتاب الطهارة، باب في مسح أعلى الخف وأسفله، رقم (551)، والطبراني في «الأوسط» رقم (1157) من حديث جابر. وضعَّفه النووي.

وقال ابن حجر: «إسناده ضعيف جداً» .

انظر: «الخلاصة» رقم (254)، «التلخيص» رقم (219).

(2)

رواه أحمد (4/ 254)، وأبو داود، كتاب الطهارة: باب كيف المسح، رقم (161)، والترمذي، أبواب الطهارة: باب ما جاء في المسح على الخفِّين ظاهرهما، رقم

(98)

بلفظ: «رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يمسح على الخفين على ظاهرهما» .

وفي إسناده عبد الرحمن بن أبي الزناد: صدوق؛ تغيّر حفظه لما قدم بغداد، والرواة عنه بغداديون. ويشهد له حديث علي المتقدم.

والحديث حسَّنه الترمذيُّ، والنوويُّ، وغيرهما.

انظر: «سنن البيهقي» (1/ 291). «الخلاصة» رقم (249)، «التلخيص الحبير» رقم (219).

ص: 260

وإذا كان الخُفُّ أكبر من القدم، فهل يمسحُ من طرف الخُفِّ أو طرف الأصابع؟

إِن نظرنا إلى الظَّاهر؛ فإِنَّه إِن مسح على خُفَّيه مسح من طرف الخُفِّ إلى ساقه؛ بقطع النَّظر عن كون الرِّجْل فيه صغيرة أو كبيرة، وإِن نظرنا إلى المعنى قلنا: الخُفُّ هنا زائدٌ عن الحاجة والزَّائدُ لا حُكم له، ويكونُ الحكم مما يُحاذي الأصابع، والعمل بالظَّاهر هو الأحوط .....

تنبيه: لم يبيِّن المؤلِّفُ رحمه الله هل يمسح على الخُفَّين معاً أو يبدأ باليُمنى؛ فقيل: يمسح عليهما معاً لظاهر حديث المغيرة. وقيل: يبدأ باليُمنى؛ لأن المسح بدلٌ عن الغسل، والبَدلُ له حكم المبدلُ. وهذا فيما إِذا كان يمكنه أن يمسحَ بيديه جميعاً، أما إذا كان لا يمكنه، مثلَ أن تكون إحدى يديه مقطوعة أو مشلولة فإِنه يبدأ باليمنى.

قوله: «وعلى جميع الجبيرة» ، أي: يمسح على جميع الجبيرة؛ لأن ظاهرَ حديث صاحب الشُّجَّة وهو قوله: «ويمسح عليها»

(1)

شامل لكلِّ الجبيرة من كلِّ جانب.

ولو غسل الممسوح بدل المسح: فقال بعض أهل العلم:

(1)

تقدم تخريجه ص (244).

ص: 261

لا يجزئ

(1)

لأنَّه خلاف ما جاء به الشَّرع، وقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:«من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رَدٌّ»

(2)

، ثم إِننا بالغسل نقلب الرُّخصة إِلى مشقَّة. وقال بعض العلماء: يجزئ الغسل

(3)

؛ لأنَّه أكمل في الإِنقاء، وإِنما عدل إلى المسح تخفيفاً.

وتوسَّط بعضُهم فقال: يجزئ الغسلُ إِن أَمَرَّ يده عليها

(4)

؛ لأنَّ إِمرار اليد جعل الغسل مسحاً، وهذا أحوطُ؛ لكن الاقتصار على المسح أفضل وأَوْلى.

‌ومَتَى ظَهَرَ بعضُ مَحلِّ الفَرْضِ بَعْدَ الحدثِ،

...........

قوله: «ومتى ظهر بعضُ محلِّ الفرض بعد الحدث» ، فَرْضُ الرِّجْلِ أن تُغسَلَ إِلى الكعبين، فإِذا ظهر من القدم بعضُ محلِّ الفرض كالكعب مثلاً، وكذا لو أن الجورب تمزَّق وظهر طرفُ الإبهام، أو بعض العَقِب، أو أن العِمَامة ارتفعت عمّا جرت به العادة فإِنه يلزمه أن يستأنفَ الطَّهارة، ويغسل رِجليْه، ويمسحَ على رأسه.

وهذا بالنسبة للعِمَامة مبنيٌّ على اشتراط الطَّهارة للبسها. وعلى القول بعدم اشتراط الطَّهارة بالنسبة للعمامة (474) فإِنه يعيد لفَّها ولا يستأنف الطَّهارة.

وبالنسبة للخُفَّين ونحوهما مبنيٌّ على أنَّ ما ظَهَرَ؛ فرضُه ....

(1)

انظر: «الإنصاف» (1/ 345، 419).

(2)

تقدم تخريجه، ص (186).

(3)

انظر: «الإنصاف» (1/ 345، 419).

(4)

انظر: «الإنصاف» (1/ 387، 388).

ص: 262

الغسلُ، وإِذا كان فرضه الغسلُ فإن الغسلَ لا يُجامِعُ المسحَ، فلا بُدَّ من استئنافِ الطَّهارة؛ وغسل القدمين، ثم يلبسُ بعد ذلك.

وقول المؤلِّف رحمه الله: «بعد الحدث» ، يُفهم منه أنه لو ظهر بعضُ محلِّ الفرض، أو كلُّه قبل الحدث الأوَّل فإِنه لا يضرُّ.

كما لو لبس خُفَّيه لصلاة الصُّبح، وبقي على طهارته إِلى قُرب الظُّهر، وفي الضُّحى خلع خُفَّيه، ثم لبسهما وهو على طهارته الأولى فإِنه لا يستأنف الطَّهارة.

مسألة: إذا خلع الخُفين ونحوهما هل يلزمُه استئناف الطَّهارة؟ اختُلِفَ في هذه المسألة على أربعة أقوال

(1)

:

القول الأول: ما ذهب إليه المؤلِّفُ رحمه الله أنه يلزمه استئناف الطَّهارة، حتى ولو كان ظهورها بعد الوُضُوء بقليل وقبل جفاف الأعضاء، فإِنه يجبُ عليه الوُضُوء، والعِلَّة: أنَّه لمَّا زال الممسوحُ بطلت الطَّهارة في موضعه، والطَّهارةُ لا تتبعّضُ، فإِذا بطلت في عضوٍ من الأعضاء بطلت في الجميع، وهذا هو المذهب.

القول الثاني: أنه إِذا خلع قبل أن تَجِفَّ الأعضاء أجزأه أن يغسل قدميه فقط، لأنَّه لمَّا بطلت الطَّهارةُ في الرِّجْلَين؛ والأعضاء لم تنشَفْ، فِإنَّ الموالاة لم تَفُتْ، وحينئذٍ يبني على الوُضُوء الأوَّل فيغسل قدميه.

القول الثالث: أن يلزمه أن يغسلَ قدميه فقط، ولو جفَّت

(1)

انظر: «المجموع شرح المهذب» (1/ 526)، «الإنصاف» (1/ 428).

ص: 263

الأعضاءُ قبل ذلك، وهذا مبنيٌّ على عدم اشتراط الموالاة في الوُضُوء.

القولُ الرَّابعُ: ـ وهو اختيار شيخ الإسلام

(1)

ـ أن الطَّهارة لا تبطل سواء فاتت الموالاة أم لم تَفُتْ، حتى يوجد ناقضٌ من نواقض الوُضُوء المعروفة، لكن لا يعيده في هذه الحال ليستأنف المسح عليه؛ لأنَّه لو قيل بذلك لم يكن لتوقيت المسح فائدة؛ إِذ كلُّ مَنْ أراد استمرار المسح خلع الخُفَّ، ثم لَبسه، ثم استأنف المدَّة .....

وحجته: أن هذه الطهارة ثبتت بمقتضى دليل شرعيٍّ، وما ثبت بمقتضى دليل شرعيٍّ، فإِنه لا ينتقض إلا بدليل شرعيٍّ، وإِلا فالأصل بقاء الطَّهارة، وهذا القول هو الصَّحيحُ، ويؤيِّده من القياس: أنَّه لو كان على رَجُلٍ شَعْرٌ كثيرٌ، ثم مسح على شعره؛ بحيث لا يصل إلى باطن رأسه شيء من البلل، ثم حلق شعره بعد الوُضُوء فطهارتُه لا تنتقض.

فإن قيل: إن المسح على الرَّأس أصلٌ، والمسحُ على الخُفِّ فرعٌ، فكيف يُساوى بين الأصل والفرع.

فالجواب: أن المسحَ ما دام تعلَّق بشيء قد زال، وقد اتفقنا على ذلك، فكونه أصليًّا، أو فرعيًّا غير مؤثِّر في الحكم.

‌أوْ تَمَّتْ مُدَّتُهُ اسْتَأْنَفَ الطَّهارة.

قوله: «أو تمَّت مدَّتُه استأنف الطَّهارة» ، يعني إِذا تَمَّت المدَّة، ولو كان على طهارة، فإنه يجب عليه إِذا أراد أن يُصلِّيَ ـ مثلاً ـ أن يستأنفَ الطَّهارة.

(1)

انظر: «الاختيارات» ص (15).

ص: 264

مثاله: إِذا مَسَحَ يوم الثلاثاء الساعة الثانية عشرة، فإِذا صارت الساعة الثانية عشرة من يوم الأربعاء انتهت المدَّة فبطل الوُضُوء، فعليه أن يستأنفَ الطَّهارة، فيتوضَّأ وُضُوءاً كاملاً. هكذا قرَّر المؤلِّفُ رحمه الله.

ولا دليل على ذلك من كتاب الله تعالى، ولا من سُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم ولا من إجماع أهل العلم.

والنبيُّ صلى الله عليه وسلم وقّتَ مدَّة المسح، ليُعرَفَ بذلك انتهاء مدَّة المسح، لا انتهاء الطَّهارة. فالصَّحيحُ أنَّه إِذا تَمَّت المدَّةُ، والإِنسان على طهارة، فلا تبطل، لأنها ثبتت بمقتضى دليل شرعيٍّ، وما ثبت بمقتضى دليل شرعيٍّ، فلا ينتقض إِلا بدليل شرعيٍّ آخر، ولا دليل على ذلك في هذه المسألة، والأصلُ بقاء الطَّهارة، وهذا اختيار شيخ الإِسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى

(1)

.

فإن قيل: ألا توجبون عليه الوُضُوء احتياطاً؟ ....

قلنا: الاحتياط بابٌ واسعٌ، ولكن ما هو الاحتياط؟ هل هو بلزوم الأيسر؟ أو بلزوم الأشدِّ؟ أو بلزوم ما اقتضته الشَّريعة؟ الأخير هو الاحتياط.

فإِذا شككنا هل اقتضته الشَّريعةُ أم لا؟ اختلف العلماء رحمهم الله: فقال بعضهم: نسلك الأيسرَ

(2)

؛ لأن الأصلَ براءة الذِّمَّة؛ ولأنَّ الدينَ مبنيٌّ على اليُسر والسُّهولة.

وقال آخرون: نسلك الأشدَّ (478)؛ لأنه أحوط، وأبعد عن الشُّبهة.

(1)

انظر ص (264).

(2)

«إعلام الموقعين» (4/ 219)، «جامع العلوم والحكم» (1/ 282).

ص: 265

ولكن في مسألة نقض الوُضُوء عندنا أصل أصَّله النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وهو قوله في الرَّجُل يُخيَّل إِليه أنَّه يجدُ الشَّيء في بطنه في الصَّلاة، فقال:«لا ينصرف حتى يسمع صوتاً، أو يجد ريحاً»

(1)

.

فلم يوجب النبيُّ صلى الله عليه وسلم الوُضُوء إلا على من تيقَّن سبب وجوبه، ولا فرق بين كون سبب الوجوب مشكوكاً فيه من حيث الواقعُ كما في الحديث، أو من حيث الحكمُ الشَّرعي، فإِن كُلاًّ فيه شَكٌّ، هذا شكٌّ في الواقع هل حصل النَّاقض أم لم يحصُل، وهذا شكٌّ في الحكم؛ هل يوجبه الشَّرع أم لا؟.

فالحديث: دَلَّ على أن الوُضُوء لا ينتقض إلا باليقين، وهنا لا يقين.

وعلى هذا؛ فالرَّاجح ما اختاره شيخ الإسلام رحمه الله أنه لا تنتقض الطَّهارة بانتهاء المدَّة، لعدم الدَّليل.

وأيُّ إِنسان أتى بدليل فيجب علينا أن نتَّبع الدَّليل، وإذا لم يكن هناك دليلٌ فلا يسوغ أن نُلزم عباد الله بما لم يلزمهم الله به، لأنَّ أهل العلم مسؤولون أمام الله، ومؤتمنون على الشَّريعة؛ ولهذا جاء في الحديث:«أنهم ورثة الأنبياء»

(2)

.

(1)

تقدم تخريجه ص (59).

(2)

رواه أحمد (1/ 196)، وأبو داود، كتاب العلم، باب الحث على طلب العلم، رقم (3641)، والترمذي، كتاب العلم: باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة، رقم

(2682)

، وابن ماجه، المقدمة: باب فضل العلماء والحث على طلب العلم، رقم (223)، وصححه الحاكم وابن حبان.

وقال ابن حجر: « .. حسَّنه حمزة الكناني، وضعَّفه بعضهم باضطراب في سنده، لكن له شواهد يتقوَّى بها» . انظر: «الفتح» كتاب العلم: باب العلم قبل القول والعمل،

رقم (67، 68).

ص: 266

وكذلك ـ على المذهب ـ لو برئ ما تحت الجبيرة، لزمه أن يستأنف الطَّهارة إِذا كانت في أعضاء الوُضُوء.

وإِذا كانت في أعضاء الغسل، كما لو اغتسل من جنابة ومسح عليها لزمه أن يغسل ما تحتها، ولا يلزمه الغسل كاملاً، لأن الموالاة على المذهب لا تُشترط في الغسل.

وكذلك لو انحلَّت الجبيرةُ استأنفَ الطَّهارةَ في الوُضُوءِ إِذا كانت في أحد أعضاء الوُضُوء.

والصَّحيح كما سبق: أنه لا تبطل الطَّهارة لبرء ما تحتها، أو انتقاضها، ويعيد شدَّها في الحال، أو متى شاء؛ لأن الجبيرة ـ على القول الرَّاجح ـ لا يُشترط لوضعها الطَّهارةُ كما سبق

(1)

.....

(1)

انظر: ص (250).

ص: 267

‌بابُ نَواقِضِ الوُضُوءِ

‌يَنْقُضُ ما خَرَجَ من سَبِيلٍ ..........

النَّواقض: جمعُ ناقض؛ لأن «ناقض» اسم فاعل لغير العاقل، وجمعُ اسمِ الفَاعل لغير العاقل على «فواعل» .

والوُضُوء بالضَّمِّ: الطَّهارة التي يرتفع بها الحَدَث، وبالفتح: الماءُ الذي يُتَوَضَّأُ به كما يُقال: طَهُور بالفتح: لما يُتَطَهَّرُ به، بالضَّمِّ لنفس الفعل، وسَحور بالفتح: لما يُتَسَحَّرُ به، وبالضَّمِّ لنفس الفعل الذي هو الأكل.

ونواقض الوُضُوء: مفسداتُه، أي: التي إِذا طرأت عليه أفسدته.

والنَّواقض نوعان:

الأول: مجمع عليه، وهو المستند إلى كتاب الله وسُنَّةِ رسوله صلى الله عليه وسلم.

الثاني: فيه خلافٌ، وهو المبنيُّ على اجتهادات أهل العلم رحمهم الله.

وعند النِّزاع يجب الردُّ إلى كتاب الله وسُنَّةِ رسوله صلى الله عليه وسلم.

قوله: «ينقضُ ما خَرَجَ من سَبيلٍ» ، هذا هو النَّاقض الأوَّل من نواقض الوُضُوء.

وقوله: «ما خرج من سبيل» ، ما: اسم موصول بمعنى الذي، وهو للعموم، وكلُّ أسماء الموصولات للعموم؛ سواء

ص: 268

كانت خاصَّة، أم مشتركة، فالخاصة: هي التي تدلُّ على المفرد، والمثنى، والجمع مثل: الذي، اللَّذَيْنِ، الذين.

والمشتركة: هي الصَّالحة للمفرد وغيره مثل: «مَنْ» ، «ما» ، فقوله:«ما خرج من سبيل» يشمل كلَّ خارج.

و «من سبيل» مطلق يتناول القُبُل، والدُّبر، وسُمِّيَ «سبيلاً» ، لأنَّه طريق يخرج منه الخارج.

وقوله: «ما خرج» عام يشمل المعتاد وغير المعتاد؛ ويشمل الطَّاهر والنَّجس

(1)

، فالمعتاد كالبول، والغائط، والرِّيح من الدُّبر، قال الله تعالى:{أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [المائدة: 6].

وفي حديث صفوان بن عَسَّال: «ولكن من بول، وغائط، ونوم»

(2)

.

وفي حديث أبي هريرة، وعبد الله بن زيد رضي الله عنهما:«لا ينصرف حتى يسمع صوتاً، أو يجد ريحاً»

(3)

.....

وغير المعتاد: كالرِّيح من القُبُل.

واختلف الفقهاء رحمهم الله فيما إذا خرجت الرِّيحُ من القُبُل؟

فقال بعضهم: تنقض وهو المذهب

(4)

.

(1)

انظر: «المغني» (1/ 230).

(2)

تقدم تخريجه ص (241).

(3)

حديث أبي هريرة رواه مسلم، كتاب الحيض: باب الدَّليل على أن من تيقَّن الطهارة ثم شكَّ في الحدث فله أن يصلي بطهارته تلك، رقم (362).

وحديث: عبد الله بن زيد متفق عليه، وقد تقدم تخريجه ص (59).

(4)

انظر: «الإقناع» (1/ 57).

ص: 269

وقال آخرون: لا تنقض

(1)

.

وهذه الرِّيح تخرج أحياناً من فُروج النساء، ولا أظنُّها تخرج من الرِّجَال، اللهم إلا نادراً جداً.

وتنقضُ الحصاةُ إِذا خرجت من القُبُل، أو الدُّبُر؛ لأنه قد يُصابُ بحصوة في الكِلى، ثم تنزلُ حتى تخرجَ من ذكره بدون بول.

ولو ابتلع خرزة، فخرجت من دبره، فإِنه ينتقض وضوءُه لدخوله في قوله:«ينقض ما خرج من سبيل» .

ويشمل الطَّاهر: كالمنيِّ.

والنَّجس ما عداه من بولٍ، ومذيٍ، ووَدْيٍ، ودَمٍ.

وهذا هو النَّاقض الأوَّل، وهو ثابت بالنَّصِّ، والإِجماع، إِلا ما لم يكن معتاداً، ففيه الخلاف

(2)

.

‌وخَارجٌ مِنْ بَقيَّةِ البَدَنِ إِنْ كَان بَوْلاً، أو غَائِطاً،

..........

قوله: «وخارج من بقية البدن إن كان بولاً، أو غائطاً» ، هذا هو النَّاقض الثَّاني من نواقض الوُضُوء.

وهو معطوف على «ما» ، أي: وينقضُ خارجٌ من بقيَّة البَدن، إن كان بولاً، أو غائطاً، وهذا ممكن ولا سيَّما في العصور المتأخِّرة، كأن يُجرى للإِنسان عمليَّةٌ جراحيَّةٌ حتى يخرج الخارج من جهة أخرى.

فإِذا خرج بول، أو غائط من أيِّ مكان فهو ناقض، قلَّ أو كَثُرَ.

وقال بعض أهل العلم: إن كان المخرج من فوق المعدة

(1)

انظر: «الإنصاف» (2/ 5).

(2)

انظر: «المغني» (1/ 230).

ص: 270

فهو كالقيء، وإن كان من تحتها فهو كالغائط، وهذا اختيار ابن عقيل رحمه الله

(1)

. وهذا قولٌ جيد، بدليل: أنه إِذا تقيَّأ من المعدة، فإنه لا ينتقض وضوءُه على القول الرَّاجح، أو ينتقض إِن كان كثيراً على المشهور من المذهب.

ويُستثنى مما سبق مَنْ حَدَثُه دائمٌ، فإِنَّه لا ينتقضُ وضوءهُ بخروجه؛ كَمَنْ به سلسُ بول، أو ريح، أو غائط، وله حال خاصَّةٌ في التطهُّر تأتي إن شاء الله

(2)

.....

وظاهر قوله: «إن كان بولاً، أو غائطاً» ، أن الرِّيح لا تنقض إِذا خرجت من هذا المكان الذي فُتِحَ عوضاً عن المخرج، ولو كانت ذات رائحة كريهة، وهذا ما مشى عليه المؤلِّف، وهو المذهب.

وقال بعضُ العلماء: إِنها تنقضُ الوُضُوء

(3)

، لأن المخرج إِذا انسدَّ وانفتح غيره كان له حكمُ الفَرج في الخارج، لا في المسِّ، لأنَّ مسَّه لا ينقض الوُضُوء كما سيأتي إن شاء الله

(4)

.

‌أو كثيراً نَجساً غَيْرَهُما ............

قوله: «أو كثيراً نجساً غيرَهُما» ، أي: أو كان كثيراً نجساً غير البول والغائط، فقيَّد المؤلِّفُ غير البول، والغائط بقيدين.

الأول: كونُه كثيراً.

الثاني: أن يكون نجساً.

ولم يقيِّد البولَ والغائط بالكثير النَّجس؛ لأن كليهما نجس، ولأنَّ قليلَهُما وكثيرَهُما ينقض الوُضُوء.

(1)

انظر: «الإنصاف» (1/ 218)، (2/ 11، 12).

(2)

انظر: ص (502).

(3)

انظر: «الإنصاف» (2/ 13).

(4)

انظر: ص (282، 292).

ص: 271

وقوله: «أو كثيراً» ، أطلق المؤلِّف الكثير، والقاعدة المعروفة: أنَّ ما أتى، ولم يُحدَّدْ بالشَّرع فمرجعُه إلى العُرف، كما قيل:

وكلُّ ما أتى ولم يحدَّدِ

بالشَّرع كالحِرْزِ فبالعُرف احدُدِ

(1)

فالكثير: بحسب عُرف النَّاس، فإن قالوا: هذا كثيرٌ، صار كثيراً، وإن قالوا: هذا قليلٌ، صار قليلاً.

وقال بعض العلماء: إِن المعتبر عند كلِّ أحد بحسبه

(2)

، فكلُّ من رأى أنَّه كثيرٌ صار كثيراً، وكلُّ من رأى أنه قليلٌ صار قليلاً.

وهذا القول فيه نظر؛ لأنَّ من النَّاس من عنده وسواس، فالنُّقطَةُ الواحدة عنده كثيرة، ومنهم من عنده تهاون فإِذا خرج منه دم كثير قال: هذا قليل.

والصَّحيح الأول: أن المعتبر ما اعتبره أوساط النَّاس، فما اعتبروه كثيراً فهو كثير، وما اعتبروه قليلاً فهو قليل.

وقوله: «نجساً غيرَهُما» ، نجساً: احترازاً من الطَّاهر، فإِذا خرج من بقية البدن شيء طاهر، ولو كَثُرَ فإِنه غيرُ ناقض كالعَرَق، واللُّعاب ودمع العين .....

وقوله: «غيرَهُما» أي: غير البول والغائط، فدخل في هذا الدَّمُ، والقيءُ، ودَمُ الجروح، وماءُ الجروحِ وكلُّ ما يمكن أن يخرج مما ليس بطاهر.

(1)

انظر: «منظومة في أصول الفقه وقواعد فقهية» للمؤلف رحمه الله ص (16).

(2)

انظر: «الإنصاف» (2/ 16).

ص: 272

فالمشهور من المذهب أنَّه إذا كان كثيراً إِما عُرفاً، أو كل إِنسان بحسب نفسه ـ على حسب الخلاف السابق ـ أنَّه ينقض الوُضُوء، وإن كان قليلاً لم ينقض.

واستدلُّوا على ذلك بما يلي:

1 -

أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قَاءَ، فأفطرَ، فتوضَّأ

(1)

. وقد قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]، فلما توضَّأ بعد أن قاء فالأُسوة الحسنة أن نفعل كفعله.

2 -

أنها فضلات خرجت من البدن فأشبهت البول والغائط، لكن لم تأخذْ حكمهما من كلِّ وجهٍ؛ لاختلاف المخرج، فتُعطى حكمهما من وجه دون وجه، فالبول والغائطُ ينقض قليلهُ وكثيرُه؛ لخروجه من المخرج، وغيرهما لا ينقض إلا الكثير.

وذهب الشافعيُّ، والفقهاءُ السَّبعةُ

(2)

وهم المجموعون في قول بعضهم:

إِذا قيل مَنْ في العلم سبعة أبْحُرٍ روايتهم ليست عن العلم خَارِجَه

(1)

رواه أبو داود، كتاب الصوم: باب الصائم يستقئ عامداً، رقم (2381)، والترمذي، أبواب الطهارة: باب ما جاء في الوضوء من القيء والرعاف، رقم (87)،

والنَّسائي في «السنن الكبرى» ، كتاب الصيام: باب في الصائم يتقيأ، رقم (3123، 3124)، وابن خزيمة، رقم (36) وابن حبان رقم (1097)، عن أبي الدرداء رضي

الله عنه.

قال ابن منده: «إسناده صحيح متصل» .

قال ابن حجر: «حديث قوي الإسناد» . ثم قال: «هذا حديث صحيح» .

انظر: «التلخيص الحبير» رقم (885)، «موافقة الخُبر الخَبر» (1/ 441).

(2)

انظر: «المغني» (1/ 247)، «المجموع شرح المهذب» (2/ 9).

ص: 273

فقل: هم عُبَيدُ الله، عروة، قاسمٌ

سعيدٌ، أبو بكرٍ، سليمانُ، خارجه

(1)

إلى أنَّ الخارج من غير السَّبيلين لا ينقض الوُضُوء قلَّ أو كثُر إلا البول والغائط، وهذا هو القول الثاني في المذهب

(2)

، وهو اختيار شيخ الإِسلام ابن تيمية

(3)

، واستدلُّوا بما يلي:

1 ـ أن الأصل عدم النَّقض، فمن ادَّعى خلاف الأصل فعليه الدَّليل.

2 ـ أن طهارته ثبتت بمقتضى دليل شرعي، وما ثبت بمقتضى دليل شرعي، فإنه لا يمكن رفعه إِلا بدليل شرعي.

ونحن لا نخرجُ عمّا دلَّ عليه كتاب الله، وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، لأننا متعبَّدون بشرع الله، فلا يسوغ لنا أن نلزم عباد الله بطهارةٍ لم تجبْ، ولا أن نرفَعَ عنهم طهارةً واجبة .....

وأما الحديث الذي استدلُّوا به على نقض الوُضُوء فقد ضعَّفه كثيرٌ من أهل العلم. وأيضاً: هو مجرد فعل، ومجرد الفعل لا يدلُّ على الوجوب؛ لأنه خالٍ من الأمر. وأيضاً: هو مقابل بحديث ـ وإِن كان ضعيفاً ـ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم احتجم، وصلَّى، ولم يتوضَّأ

(4)

. وهذا يدلُّ على أن الوُضُوء ليس على سبيل الوجوب، وهذا هوالقول الرَّاجح.

(1)

انظر: «إعلام الموقعين» (1/ 23)، و «سير أعلام النبلاء» (4/ 438).

(2)

انظر: «الإنصاف» (2/ 13).

(3)

انظر: «مجموع الفتاوى» (20/ 526) و (21/ 242)، «الاختيارات» ص (16).

(4)

رواه الدارقطني (1/ 157)، والبيهقي (1/ 141) من حديث أنس.

والحديث ضعَّفه النووي في «الخلاصة» رقم (295) وقال ابن حجر: «في إسناده صالح بن مقاتل وهو ضعيف» ، انظر:«التلخيص الحبير» رقم (152).

ص: 274

‌وَزَوَالُ العَقْلِ إِلاَّ يَسِيرَ نَوْمٍ مِنْ قَاعِدٍ أوْ قَائِمٍ ............

قوله: «وزوالُ العقلِ» ، هذا هو النَّاقض الثَّالث من نواقض الوُضُوء، وزوال العقل على نوعين:

الأول: زواله بالكُلِّيَّة، وهو رفع العقل، وذلك بالجنون.

الثاني: تغطيته بسبب يوجب ذلك لمدَّة معيَّنة كالنَّوم، والإِغماء، والسُّكر، وما أشبه ذلك.

وزوال العقل بالجنون والإِغماء والسُّكْرِ هو في الحقيقة فَقْدٌ له، وعلى هذا فيسيرُها وكثيرُها ناقضٌ، فلو صُرِعَ ثم استيقظَ، أو سَكِرَ، أو أُغمي عليه انتقضَ وضوءُه سواءٌ طال الزَّمنُ أم قَصُرَ.

قوله: «إلا يسيرَ نوم من قاعدٍ أو قائمٍ» ، اختلف العلماء رحمهم الله في النَّوم هل هو ناقضٌ، أو مظنَّة النَّقض، على أقوالٍ منها:

القول الأول: أن النَّوم ناقضٌ مطلقاً يسيرُه وكثيره

(1)

، وعلى أيِّ صفة كان؛ لعموم حديث صفوان وقد سبق

(2)

. ولأنَّه حَدَث، والحدثُ لا يُفرَّقُ بين كثيره ويسيره كالبول.

القول الثَّاني: أنَّ النَّوم ليس بناقضٍ مطلقاً

(3)

؛ لحديث أنس رضي الله عنه أن الصَّحابة رضي الله عنهم كانوا ينتظرون العِشاء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تخفِقَ رؤوسهم ثم يُصلُّون ولا يتوضؤون»

(4)

، ....

(1)

انظر: «المجموع شرح المهذب» (2/ 14).

(2)

تقدم تخريجه ص (241).

(3)

انظر «المغني» (1/ 234)، «الإنصاف» (2/ 20).

(4)

رواه مسلم، كتاب الحيض: باب الدليل على أن نوم الجالس لا ينقض الوضوء، رقم (376) وأبو داود، كتاب الطهارة: باب الوضوء من النوم، رقم (200) وهذا

لفظه، وصحَّح النووي إسناد أبي داود «الخلاصة» رقم (264).

ص: 275

وفي رواية البزَّار: «يضعون جنوبهم»

(1)

.

القول الثَّالث: ـ وهو المذهب ـ أن النَّوم ليس بِحَدَثٍ، ولكنه مظنَّة الحدث، ولا يُعفى عن شيء منه إلا ما كان بعيداً فيه الحدث

(2)

، ولهذا قال المؤلِّف:«إِلا يسير نومٍ من قاعدٍ وقائم» .

القول الرَّابع: ـ وهو اختيار شيخ الإسلام، وهو الصَّحيح ـ: أنَّ النَّوم مظنَّة الحَدَث، فإِذا نام بحيث لو انتقض وضوءُه أحسَّ بنفسه، فإِن وضوءَه باقٍ، وإِذا نام بحيث لو أحدث لم يحسَّ بنفسه فقد انتقض وضوءُه

(3)

.

وبهذا القول تجتمع الأدلة، فإن حديث صفوان بن عسَّال دلَّ على أنَّ النَّوم ناقض، وحديث أنس رضي الله عنه دلَّ على أنه غيرُ ناقض.

فيُحمل ما ورد عن الصَّحابة على ما إذا كان الإِنسانُ لو

(1)

وأبو يعلى رقم (3199).

قال الهيثمي: «رواه البزار وأبو يعلى ورجاله رجال الصحيح» ، المجمع (1/ 248).

قال البوصيري عن إسناد أبي يعلى: «هذا إسنادٌ صحيحٌ ورواه البزار في مسنده

»، «إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة» (1/ل 197).

قال ابن القطان: «قال قاسم بن أصبغ أحدثنا محمد بن عبد السلام الخُشني، حدثنا محمد بن بشار، حدثنا يحيى بن سعيد القطان، حدثنا شعبة، عن قتادة، عن

أنس قال:

فذكره. وهو ـ كما ترى ـ صحيحٌ، من رواية إمام عن شعبة فاعلمه».

«بيان الوهم والإيهام» رقم (2806).

(2)

انظر: «الإنصاف» (2/ 20، 25).

(3)

انظر: «مجموع الفتاوى» (21/ 230)، «الاختيارات» ص (16).

ص: 276

أحدث لأحسَّ بنفسه، ويُحمل حديثُ صفوان على ما إذا كان لو أحدث لم يحسَّ بنفسه.

ويؤيِّد هذا الجمع الحديثُ المروي «العين وكَاء السَّه، فإِذا نامت العينان استطلق الوكاء»

(1)

. فإِذا كان الإِنسانُ لم يُحكِمْ وكاءَه بحيث لو أحدث لم يحسَّ بنفسه فإِن نومه ناقضٌ، وإِلا فلا.

وقوله: «إِلاّ يسير نومٍ من قاعد أو قائم» ، هذا استثناء من قول المؤلِّف:«وزوال العقل» ، فخرج باليسير: الكثير، وخرج بقوله:«من قائم أو قاعد» ما عداهما، فما عدا هاتين الحالين ينقض النَّوم فيها مطلقاً.

فعلى هذا يكون النَّومُ الكثيرُ ناقضاً مطلقاً، والنَّومُ اليسيرُ ناقضاً أيضاً إلا من قائم أو قاعد.

واليسيرُ يُرجَعُ فيه إلى العُرف، فتارة يكونُ يسيراً في زمنه

(1)

رواه أحمد (4/ 97)، والطبراني في «الكبير» (19/رقم 875)، والدارقطني (1/ 160) من حديث معاوية. قال ابن حجر: «في إسناده بقية، عن أبي بكر بن أبي

مريم وهو ضعيف».

وروى أبو داود، كتاب الطهارة: باب الوضوء من النوم، رقم (203)، وابن ماجه، كتاب الطَّهارة: باب الوضوء من النوم، رقم (477)، والدارقطني (1/ 161) عن علي يرفعه «

العين وكاء السَّه، فمن نام فليتوضأ».

قال أحمد: «حديث علي أثبت من حديث معاوية» . قال أبو حاتم: «ليسا بقويين» .

وحسَّن المنذري وابن الصلاح حديث عليٍّ، وقال النَّووي:«رواه أبو داود وغيره بأسانيد حسنة» .

انظر: «الخلاصة» رقم (262)، «التلخيص» رقم (159).

ملاحظة: السَّهِ: الدُّبُر. الوكاء: الخيط الذي تُربط به الخريطة.

ص: 277

بحيث يغفل غفلة كاملة، وربما يرى في منام شيئاً، لكنه شيء يسير؛ لأنَّه استيقظ سريعاً، ولو خرج منه شيء لشمَّه.

وتارة يكون يسيراً في ذاته بحيث لا يَغْفُل كثيراً في نومه، فمثلاً يسمع المتكلِّمين، أو إِذا كلَّمه أحدٌ انتبه بسرعة، أو لو حصل له حَدَث لأحسَّ به .....

وظاهر قوله: «من قاعد أو قائم» الإِطلاق، ولكنهم استثنوا ما إِذا كان محتبياً أو متَّكِئاً أو مستنداً فإِنه ينتقض وضوؤُه؛ لأنه في الغالب يستغرق في نومه، وإذا استغرقَ في نومه، فإنه قد يُحدِثُ ولا يحسُّ بنفسه.

ولو أن رجلاً نام وهو ساجدٌ نوماً خفيفاً، فالمذهب: ينتقضُ وضوؤُه؛ لأنه ليس قاعداً ولا قائماً.

وعلى القول الرَّاجح: لا ينتقض إِلا في حالِ لو أحدث لم يحسَّ بنفسه.

‌وَمَسُّ ذَكَرٍ مُتَّصلٍ، أَوْ قُبُلٍ بظَهْرِ كَفِّه، أَوْ بَطْنِه،

........

قوله: «ومسُّ ذكر متَّصل» ، هذا هو النَّاقض الرابع من نواقض الوُضُوء والمسُّ لا بُدَّ أن يكون بدون حائلٍ؛ لأنَّه مع الحائل لا يُعَدُّ مسّاً.

وقوله: «ذكرٍ» ، أي: أن الذي ينقض الوُضُوءَ مسُّ الذَّكرِ نفسِه، لا ما حوله.

وقوله: «متَّصلٍ» ، اشترط المؤلِّف أن يكون متَّصلاً احترازاً من المنفصل، فلو قُطِع ذكرُ إِنسان في جناية، أو علاج، أو ما أشبه ذلك، وأخذه إِنسان ليدفنه، فإِن مسَّه لا ينقض الوُضُوء.

ص: 278

وأيضاً: لا بُدَّ أن يكون أصليًّا؛ احترازاً من الخُنثى؛ لأن الخُنثى ذكره غيرُ أصليٍّ؛ لأنَّه إن تبيَّن أنَّه أنثى فهو زائد، وإِن أشكل فلا ينتقضُ الوُضُوءُ مع الإِشكال.

قوله: «أو قُبُلٍ» ، القُبُل للمرأة، ويُشترَطُ أن يكونَ أصليًّا ليخرج بذلك قُبُل الخُنثى.

قوله: «بظهر كفِّه أو بطنه» متعلِّق بـ «مسَّ» ، أي: لا بُدَّ أن يكون المسُّ بالكفِّ، سواء كان بحرفه، أو بطنه، أو ظهره.

ونصَّ المؤلِّف على ظهر الكفِّ؛ لأن بعض أهل العلم يقول: إنَّ المسَّ بظهر الكفِّ لا ينقض الوُضُوء

(1)

؛ لأن المسَّ والإِمساك عادة إِنَّما يكون بباطن الكَفِّ .....

والمسُّ بغير الكَفِّ لا ينقض الوُضُوء؛ لأن الأحاديث الواردة في المسِّ باليد كقوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أفضى بيده إلى ذَكره ليس بينهما سِترٌ، فقد وجب عليه الوضوءُ»

(2)

. واليد عند الإِطلاق لا يُراد بها إلا الكَفُّ لقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيدِيَهُمَا} [المائدة: 38]، أي: أكُفَّهُما.

واختلف العلماء رحمهم الله في مسِّ الذَّكر والقُبُل، هل ينقضُ الوُضُوءَ أم لا؟ على أقوال:

(1)

انظر: «الإنصاف» (2/ 31).

(2)

رواه أحمد (2/ 333) واللفظ له، وابن حبان رقم (1118)، والدارقطني (1/ 147)، والبيهقي (2/ 131) من حديث أبي هريرة.

والحديث صحَّحه: الحاكم، وابن حبان، وابن عبد البر، وعبد الحق الإِشبيلي، والنووي.

انظر: «الخلاصة» رقم (270)، «التلخيص الحبير» رقم (166).

ص: 279

القول الأول: وهو المذهب أنَّه ينقض الوُضُوءَ، واستدلُّوا بما يلي:

1 -

حديث بُسْرَة بنت صفوان أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ مَسَّ ذكرَه فليتوضأ»

(1)

.

2 -

حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «إذا أفضى أحدُكُم بيده إلى ذكره؛ ليس دونها سِتْر فقد وجب عليه الوُضُوء» .

وفي رواية: «إلى فرجه»

(2)

.

3 -

أن الإنسان قد يحصُل منه تحرُّكُ شهوةٍ عند مسِّ الذَّكر، أو القُبُل فيخرج منه شيء وهو لا يشعر، فما كان مظَّنة الحدث عُلِّق الحكم به كالنَّوم.

القول الثاني: أن مسَّ الذَّكَرِ لا ينقضُ الوضوءَ

(3)

، واستدلُّوا بما يلي:

(1)

سخة دار الكتب، حيث أطال الكلام على هذا الحديث واستوفى طرقه بما لا يزيد عليه، «الخلاصة» رقم (266)، «

التلخيص» رقم (165).

(2)

هي رواية ابن حبان انظر ص (246).

(3)

انظر: «الإنصاف» (2/ 26، 27).

ص: 280

1 -

حديث طَلْقِ بْنِ عليٍّ أنه سأل النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن الرَّجُل يمسُّ ذَكَرَه في الصَّلاة: أعليه وُضُوءٌ؟ فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «لا، إِنَّما هو بَضْعة منك»

(1)

.

2 -

أنَّ الأصل بقاءُ الطَّهارة، وعدمُ النقض، فلا نخرج عن هذا الأصل إِلا بدليل متيقَّن. وحديث بُسرة وأبي هريرة ضعيفان، وإِذا كان فيه احتمالٌ؛ فالأصل بقاءُ الوُضُوء. قال صلى الله عليه وسلم:«لا ينصرف حتى يسمع صوتاً، أو يجد ريحاً»

(2)

، فإِذا كان هذا في السَّببِ الموجبِ حسًّا، فكذلك السَّببُ الموجبُ شرعاً، فلا يمكن أن نلتفت إليه حتى يكون معلوماً بيقين .....

القول الثَّالث: أنَّه إنْ مسَّهُ بشهوة انتقض الوُضُوء وإلا فلا

(3)

، وبهذا يحصُل الجمع بين حديث بُسرة، وحديث طَلْق بن

(1)

رواه أحمد (4/ 23) واللفظ له، وأبو داود، كتاب الطهارة: باب الرخصة في ذلك، رقم (182، 183)، والنسائي، كتاب الطهارة: باب ترك الوضوء من ذلك (1/ 101)،

رقم (165) والترمذي، أبواب الطهارة: باب ما جاء في ترك الوضوء من مسّ الذكر، رقم (85)، وابن ماجه كتاب الطهارة: باب الرخصة في ذلك، رقم (483). وغيرهم.

والحديث ضعَّفه: الشافعي، وأبو حاتم، وأبو زرعة، والدارقطني، والبيهقي، والنووي، لأجل قيس بن طلق، وقد رجَّح الحافظ ابن حجر أنه «صدوق» .

وصحَّحه بالمقابل: الفلاس، والطبراني، والطحاوي، وابن حزم.

وقال ابن المديني: «هو عندنا أحسن من حديث بُسرة» .

وقال الطحاوي: «إسناده مستقيم غير مضطرب» .

انظر: «علل الحديث» لابن أبي حاتم (1/ 48)، «سنن البيهقي» (1/ 135)، «الخلاصة» للنووي رقم (281)، «المحرر» رقم (83)، و «التلخيص» رقم (165).

(2)

تقدَّم تخريجه، ص (59).

(3)

انظر: «الإنصاف» (2/ 27).

ص: 281

عليٍّ، وإِذا أمكن الجمع وجب المصير إليه قبل التَّرجيح والنَّسخ؛ لأنَّ الجَمْعَ فيه إِعمال الدَّليلين، وترجيح أحدهما إِلغاء للآخر.

ويؤيد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «إِنمَّا هو بَضْعَة منك»

(1)

، لأنك إِذا مسَسْتَ ذَكَرَكَ بدون تحرُّكِ شهوة صار كأنما تمسُّ سائر أعضائك، وحينئذٍ لا ينتقض الوُضُوء، وإِذا مَسَسْتَه لشهوةٍ فإِنَّه ينتقض؛ لأن العِلَّة موجودة، وهي احتمال خروج شيء ناقض من غير شعور منك، فإِذا مسَّه لشهوةٍ وجب الوُضُوء، ولغير شهوة لا يجب الوُضُوءِ، ولأن مسَّه على هذا الوجه يخالف مسَّ بقية الأعضاء.

قالوا ـ وهم يحاجُّون الحنابلة ـ: لنا عليكم أصل، وهو أنكم قلتم: إِنَّ مسَّ المرأة لغير شهوة لا ينقض، ومسَّها لشهوة ينقض؛ لأنه مظنَّة الحدث.

وجمع بعض العلماء بينها بأنَّ الأمر بالوُضُوء في حديث بُسْرة للاستحباب، والنَّفيَ في حديث طَلْق لنفي الوجوب

(2)

؛ بدليل أنه سأل عن الوجوب فقال: «أعليه» ، وكلمة:«على» ظاهرة في الوجوب.

القول الرَّابع: وهو اختيار شيخ الإسلام أن الوُضُوء من مسِّ الذَّكَر مستحبٌ مطلقاً، ولو بشهوةٍ

(3)

.

وإذا قلنا: إِنه مستحبٌّ، فمعناه أنه مشروع وفيه أجر، واحتياط، وأما دعوى أنَّ حديث طَلْق بن عليٍّ منسوخ، لأنَّه قَدِمَ

(1)

تقدم تخريجه، ص (281).

(2)

انظر: «المجموع شرح المهذب» (2/ 42)، «نيل الأوطار» (1/ 251).

(3)

انظر: «مجموع الفتاوى» (20/ 524)، (21/ 222)، «الاختيارات» (16).

ص: 282

على النبيِّ صلى الله عليه وسلم وهو يبني مسجده أول الهجرة

(1)

، ولم يَعُدْ إِليه بعدُ. فهذا غير صحيح لما يلي:

1 -

أنه لا يُصار إلى النَّسخ إلا إِذا تعذَّر الجمع، والجمع هنا ممكن .....

2 -

أن في حديث طَلْق عِلَّة لا يمكن أن تزول، وإِذا رُبط الحُكم بعلَّة لا يمكن أن تزولَ فإن الحكم لا يمكن أن يزولَ؛ لأن الحكم يدور مع عِلَّته، والعلَّة هي قوله:«إنما هو بَضْعَة منك» ، ولا يمكن في يوم من الأيام أن يكون ذكرُ الإِنسان ليس بَضْعَةً منه، فلا يمكن النَّسخ.

3 -

أن أهل العلم قالوا: إن التاريخ لا يُعلم بتقدُّم إِسلام الرَّاوي، أو تقدُّم أخذه؛ لجواز أن يكون الرَّاوي حَدَّث به عن غيره.

بمعنى: أنه إِذا روى صحابيَّان حديثين ظاهرهما التَّعارض، وكان أحدُهما متأخِّراً عن الآخر في الإِسلام، فلا نقول: إنَّ الذي تأخَّر إِسلامُه حديثُه يكون ناسخاً لمن تقدَّم إِسلامُه، لجواز أن يكون رواه عن غيره من الصَّحابة، أو أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم حدَّث به بعد ذلك.

(1)

والطبراني (8/رقم 8242)، والدارقطني (1/ 149)، وابن حبان رقم (1122) عن ملازم بن عمرو، عن عبد

الله بن بدر، عن قيس بن طلق، عن أبيه به.

ورواه الدارقطني (1/ 148) من طريق إسحاق بن أبي إسرائيل، عن محمد بن جابر، عن قيس به.

قال الطحاوي: حديث ملازم صحيح، مستقيم الإسناد. «شرح المعاني» (1/ 76).

ص: 283

والخلاصة: أن الإنسان إِذا مسَّ ذكره استُحِبَّ له الوُضُوءَُ مطلقاً، سواء بشهوة أم بغير شهوة، وإِذا مسَّه لشهوة فالقول بالوجوب قويٌ جدًّا، لكنِّي لا أجزم به، والاحتياط أن يتوضَّأ.

‌ولَمْسُهُمَا من خُنْثَى مُشْكِلٍ، وَلَمْسُ ذَكَرٍ ذَكَرَه، أَوْ أُنْثَى قُبُلَه لِشَهوةٍ فِيهِمَا .......

قوله: «ولمسُهُما من خُنْثَى مُشْكِل» ، لمسُهُما: أي القُبُل والذَّكر. وقوله «من خُنْثَى مُشْكِلٍ» هو الذي لا يُعلم أذكرٌ هو أم أنثى.

أي: إِذا مسَّ قُبُلَ الخُنثى وذَكَرَه انتقض وضوءُه؛ لأنه قد مسَّ فَرجاً أصليّاً إِذ إِنَّ أحدَهما أصليٌّ قطعاً.

قوله: «ولَمسُ ذَكَرٍ ذَكَرَه» ، أي: لمسُ الذَّكرِ ذَكَرَ الخُنْثَى لشهوة.

قوله: «أو أنثى قُبُلَه» ، أي: لَمْسُ الأُنثى قُبُلَ الخُنثى لشهوة.

قوله: «لشهوة فيهما» ، أي: فيما إِذا مسَّ الذَّكرُ ذكرَ الخُنثى، أو الأنثى قُبُلَهُ.

مثاله: رجلٌ خُنثى، ورجلٌ صحيحٌ، هذا الصَّحيحُ مَسَّ ذَكَرَ الخُنثى لشهوةٍ فينتقضُ وضوؤُه .....

والعلَّة: أنه لمَّا مسَّ هذا الجزء من بدنه لشهوة، فإن كان أنثى فقد مسَّها لشهوة، ومسُّ المرأة لشهوة يَنْقُضُ الوُضُوء على المذهب كما سيأتي

(1)

، وإن كان ذكراً فقد مسَّ ذَكَرَه، ومسُّ

(1)

انظر: ص (286).

ص: 284

الذَّكر ينقض الوُضُوء، وعلى هذا يكون وُضُوؤُه منتقضاً على كلِّ تقدير. وإِنْ مسَّ الرَّجلُّ فرجَ الخُنثى لم ينتقضِ الوُضُوءُ، وإِن كان بشهوة؛ لأنَّ الخُنثى إنْ كان ذكراً فقد مسَّه لشهوة، ومسُّ الرَّجُل الرَّجُلَ لشهوة لا ينقضُ الوُضُوء، وإن كان أنثى فقد مسَّ فرجها، لكن ليس لدينا علم الآن بأنَّه أنثى، بل فيه شَكٌّ، فيبقى الوُضُوء على أصله، ولا ينتقض.

وإن كانت الأنثى مَسَّتْ قُبُل الخُنثى لشهوة، فإِن ينتقض الوُضُوء.

مثاله: امرأةٌ صحيحةٌ عندها خُنثى، فمسَّتْ قُبُلَه لشهوةٍ، فإنَّه ينتقضُ الوُضُوء.

والعِلَّة: أنَّه إِن كان الخُنثى ذكراً، فقد مسَّتْه لشهوةٍ، ومسُّ المرأة الرَّجُلَ لشهوة ينقض الوُضُوء، وإن كان أنثى فقد مسَّت فرجها، ومسُّ فرج المرأة ينقض الوُضُوء، وعلى هذا يكون وُضوءُها منتقضاً على كلِّ تقدير، والصُّور كما يلي:

1 -

مسُّ أحد فرجي الخنثى المشكل بدون شهوة، فإِنه لا ينقض مطلقاً، سواء كان اللامس ذكراً أم أنثى.

2 -

مسُّهُما جميعاً، فإِنه ينتقض الوُضُوء مطلقاً.

3 -

مسُّ أحد فرجي الخُنثى المشكل بشهوة؛ فله أربع حالات:

حالتان ينتقض الوُضُوء فيهما وهما:

1 -

أن يمسَّ الذَّكرُ ذَكَره.

ص: 285

2 -

أن تمسَّ الأنثى فرجه.

وحالتان لا ينتقضُ الوُضُوء فيهما وهما:

1 -

أن يمسَّ الذَّكرُ فرجه.

2 -

أن تمسَّ الأنثى ذَكَرَه .....

‌وَمَسُّهُ امرأةً بشهوةٍ ..........

قوله: «ومسُّه امرأةً بشهوة» ، هذا هو النَّاقض الخامس من نواقض الوُضُوء.

والضَّمير في قوله: «ومسُّه» يعود على الرَّجُل، أي: مسُّ الرَّجل امرأة بشهوة؛ وظاهره العموم وأنه لا فرق بين الصغير والكبير، والعاقل والمجنون، والحرِّ والعبد.

ولم يقيِّد المؤلِّف المسَّ بكونه بالكَفِّ فيكون عامًّا، فإِذا مسَّها بأيِّ موضع من جسمه بشهوة انتقض وضُوءُه.

والباء في قوله: «بشهوةٍ» للمصاحبة، أي: مصحوباً بالشَّهوة.

وبعضُهم يعبِّر بقوله: «لشهوة» باللام، فتكون للتعليل

(1)

، أي مسًّا تحملُ عليه الشَّهوةُ.

وقوله: «امرأة» المرأة هي البالغة، ولكن البلوغ هنا ليس بشرط، لكن قيَّده بعضُ العلماء ببلوغ سبع سنين، سواءٌ من اللامس أم الملموس

(2)

. وفيه نظر؛ لأن الغالب فيمن كان له سبع سنوات أنَّه لا يدري عن هذه الأمور شيئاً؛ ولهذا قيَّده بعضُ

(1)

انظر: «الإقناع» (1/ 59)، «منتهى الإرادات» (1/ 25).

(2)

انظر: «المجموع شرح المهذب» (2/ 28).

ص: 286

العلماء بمن يطأ مثله. ومن تُوطأ مثلها، أي: تشتهي

(1)

. والذي يطأ مثله من الرجال هو من له عشر سنوات، والتي تُوطأ مثلُها من النِّساء هي من تم لها تسعُ سنوات، فعلى هذا يكون الحُكم معلَّقاً بمن هو محلُّ الشَّهوة، وهذا أصحُّ؛ لأنَّ الحُكم إِذا عُلِّق على وصف فلا بُدَّ أن يوجد محلٌّ قابلٌ لهذا الوصف.

واختلف أهل العلم في هذا النَّاقض على أقوال:

القول الأول: ـ وهو المذهبُ ـ أن مسَّ المرأة بشهوة ينقض الوُضُوء

(2)

.

واستدلُّوا:

بقوله تعالى: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [المائدة: 6] وفي قراءة سَبعيَّة: «أَوْ لَمَسْتُمُ النِّسَاءَ»

(3)

. والمسُّ واللمس معناهما واحد، وهو الجسُّ باليد أو بغيرها، فيكون مسُّ المرأة ناقضاً للوُضُوء .....

فإن قيل الآية ليس فيها قيدُ الشَّهوة، إذ لم يقل الله «أو لامستم النساء بشهوة» ، فالجواب: أن مظنَّةَ الحدث هو لمس بشهوة، فوجب حمل الآية عليها، ويؤيد ذلك أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يُصلِّي من الليل، وكانت عائشةُ رضي الله عنها تمدُّ رجليها بين يديه، فإِذا أراد السُّجود غمزها فكفّتْ رجليها

(4)

، ولو كان مجردُ اللَّمس ناقضاً لانتقض وضوءُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم واستأنفَ الصَّلاة.

(1)

انظر: «الإنصاف» (2/ 45).

(2)

انظر: «الإنصاف» (2/ 42).

(3)

قرأ بها: حمزة، والكسائي، وخلف. انظر:«إِتحاف فضلاء البشر» للبنَّا (1/ 531)

(4)

رواه البخاري، كتاب الصلاة: باب الصلاة على الفراش، رقم (382)، ومسلم، كتاب الصلاة: باب الاعتراض بين يدي المصلي، رقم (512).

ص: 287

ولأن إيجابَ الوُضُوء بمجرد المسِّ فيه مشقَّةٌ عظيمة، إذ قلَّ من يسلمُ منه، ولا سيَّما إِذا كان الإِنسان عنده أمٌّ كبيرةٌ، أو ابنةٌ عمياء وأمسك بأيديهما للإِعانة أو الدِّلالة. وما كان فيه حرج ومشقَّةٌ فإِنه منفيٌّ شرعاً.

القول الثَّاني: أنه ينقضُ مطلقاً، ولو بغير شهوة، أو قصد

(1)

.

واستدلُّوا: بعموم الآية.

وأجابوا عن حديث عائشة: بأنه يحتمل أن الرَّسول صلى الله عليه وسلم كان يمسُّها بظُفره، والظُّفر في حكم المنفصل، أو بحائل، والدَّليل إِذا دخله الاحتمال بطل الاستدلال به، وفي هذا الجواب نَظَر، وهذا ليس بصريح.

القول الثَّالث: أنه لا ينقض مسُّ المرأة مطلقاً، ولو الفرج بالفرج، ولو بشهوة (527).

واستدلُّوا:

1 -

حديث عائشةَ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قَبَّلَ بعضَ نسائه، ثم خرج إلى الصَّلاة، ولم يتوضَّأ

(2)

، حَدَّثت به ابن اختها عروةَ بن

(1)

انظر: «الإنصاف» (2/ 42).

(2)

وقال ابن تيمية: «إسناه جيد» . «شرح العمدة» (1/ 315).

وقال ابن حجر: «رجاله ثقات» . «الدراية» (1/ 45).

ورواه أحمد (6/ 210)، وأبو داود رقم (178) عن إبراهيم التيمي عن عائشة به. قال أبو داود:«هذا مرسل، إبراهيم التيمي لم يسمع من عائشة» . وانظر «العلل»

للدارقطني [5/ 152 ـ أ].

قال ابن تيمية: «غايةُ ما في الإِسناد نوع إِرسال، وإِذا أُرسل الحديث من وجهين مختلفين اعتضد أحدهما بالآخر، ولا سيما وقد رواه البزار بإِسناد جيد عن عطاء عن

عائشة مثله»، «شرح العمدة» (1/ 315).

وقد احتج ـ بهذا الحديث ـ الإمام أحمد كما في رواية حنبل عنه. ومَالَ ابن عبد البَر إلى تصحيحه.

انظر: «العلل» للدارقطني [5/ل 129 ـ ب، ل 151 ـ أ، ل 156 ـ أ] نسخة دار الكتب، «سنن الدارقطني» (1/ 137)، «سنن البيهقي (1/ 124)، «التلخيص الحبير» رقم

(178)

.

ص: 288

الزبير فقال: ما أظنُّ المرأةَ إِلا أنت، فضحكت.

ص: 289

وهذا حديثٌ صحيح، وله شواهدُ متعدِّدةٌ، وهذا دليلٌ إيجابي، وكون التَّقبيل بغير شهوة بعيدٌ جداً.

2 -

أنَّ الأصل عدم النَّقض حتى يقومَ دليلٌ صحيح صريحٌ على النَّقض.

3 -

أن الطَّهارة ثبتت بمقتضى دليل شرعي، وما ثبت بمقتضى دليل شرعيٍّ، فإنه لا يمكن رفعه إلا بدليل شرعي، ولا دليل على ذلك وهذا دليل سلبيٌّ .....

وأجابوا عن الآية بأن المُراد بالملامسة الجماع لما يلي:

1 -

أن ذلك صحَّ عن ابن عباس

(1)

رضي الله عنهما، الذي دعا له النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يعلِّمه الله التأويل

(2)

، وهو أولى من يُؤخذ قوله في التفسير إلا أن يعارضه من هو أرجح منه.

2 -

أنَّ في الآية دليلاً على ذلك حيث قُسِّمت الطَّهارةُ إلى أصليَّة وبدل، وصُغرى وكُبرى، وبُيِّنَت أسباب كلٍّ من الصُّغرى

(1)

رواه عبد الرزاق في «تفسيره» (1/ 184)، وفي «المصنف» رقم (506)، وابن جرير رقم (9583، 9584، 9585، 9586، 9587)، قال ابن كثير: «وقد صَحَّ من

غير وجه عن عبد الله بن عباس أنه قال ذلك». «تفسير ابن كثير» (النساء 43).

وهذا هو مذهب عمر بن الخطاب، فروى عبد الرزاق رقم (512) عن عمر أنه قبَّلَ امرأته عاتكة بنت زيد، ثم مضى إلى الصلاة فصلَّى ولم يتوضَّأ.

والأثر صحَّحه أبو عمر بن عبد البر في «الاستذكار» (1/ 318)، وأقرَّه ابن كثير في «مسند الفاروق» (1/ 115).

(2)

روى البخاري، كتاب العلم: باب قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: اللهم علِّمه الكتاب، رقم (75)، بلفظ:«اللهم علِّمه الكتاب» ، ورواه أحمد (1/ 266)،

والطبراني (10/رقم 10587)، وغيرهما بلفظ:«اللهم فقِّهه في الدِّين وعلِّمه التأويل» ، وانظر كلام الحافظ في «الفتح» شرح حديث رقم (75).

ص: 290

والكُبرى في حالتي الأصل والبدل، وبيان ذلك أن الله تعالى قال:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6]، فهذه طهارة بالماء أصليَّة صُغرى.

ثم قال: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} ، وهذه طهارة بالماء أصليَّة كُبرى.

ثم قال: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} ، فقوله:«فتيمَّمُوا» هذا البدل، وقوله:{أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} هذا بيانُ سبب الصُّغرى، وقوله:{أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} هذا بيان سبب الكُبرى.

ولو حملناه على المسِّ الذي هو الجسُّ باليد، لكانت الآية الكريمة ذكر الله فيها سببين للطهارة الصُّغرى، وسكت الله عن سبب الطَّهارة الكُبرى مع أنَّه قال:{وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} ، وهذا خلاف البلاغة القرآنية .....

وعليه؛ فتكون الآية دالة على أن المُراد بقوله: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} أي: «جامعتم» ، ليكون الله تعالى ذكر السَّببين الموجبين للطَّهارة، السَّببَ الأكبر، والسَّبب الأصغَر، والطَّهارتين الصُّغرى في الأعضاء الأربعة، والكُبرى في جميع البدن، والبدُل الذي هو طهارةُ التيمُّم في عضوين فقط؛ لأنَّه يتساوى فيها الطَّهارة الكُبرى والصغرى.

فالرَّاجح: أن مسَّ المرأة، لا ينقضُ الوُضُوءَ مطلقاً إِلا إِذا خرج منه شيءٌ فيكون النَّقضُ بذلك الخارج.

ص: 291

قوله: «أو تمسُّه بها» ، ضمير المفعول في «تمسُّه» يعود على الرَّجل، أي: أو تمسُّ المرأة الرَّجلَ بشهوة، فينتقض وضوءُها.

والدَّليل على ذلك: القياس، فإِذا كان مسُّ الرَّجل للمرأة بشهوة ينقض الوُضُوء، فكذا مسُّ المرأة للرَّجُل بشهوة ينقضُ الوُضُوءَ، وهذا مقتضى الطَّبيعة البشرية، وهذا قياسٌ واضحٌ جليٌّ.

وعُلِمَ من قوله: «أو تمسُّه بها» ، أن المرأة لو مسَّت امرأة لشهوة فلا ينتقض وضوءها، لأن المرأة ليست محلاً لشهوة المرأة الأخرى كما أنَّ الرَّجُل ليس محلاً لشهوة الرَّجُل.

ويمكن أن نقول: إِنَّ المرأة إِذا مسَّت امرأة لشهوة انتقض وضوءُها بالقياس على ما إِذا مسَّت الرَّجُل بشهوة؛ لأن العِلَّة واحدة، ويوجد من النِّساء من تتعلَّق رغبتُها بالشَّابات، كما أنه يوجد من الرِّجال ـ والعياذ بالله ـ من تتعلَّق رغبتهم بالشَّباب، وما دامت العلَّة معقولة، فإِن ما شارك الأصلَ في العِلَّة، وجب أن يُعطى حكمَه، لكن سبق أنَّ القولَ الرَّاجح أن مسَّ المرأة لا ينقضُ الوُضُوءَ مطلقاً ما لم يخرج منه شيءٌ، فما تفرَّع عنه فهو مثله .....

‌أو تَمَسُّهُ بهَا ومَسُّ حَلْقَةِ دُبُرٍ،

.............

قوله: «ومسُّ حلْقةِ دُبُرٍ» ، هذا من النواقض، ولا يحتاج إلى أن يُخصَّ؛ لأنَّه داخل في عموم مسِّ الفَرْج، ولكن لما ذكر المؤلِّفُ «مسَّ الذَّكر احتاج إلى أن يقول:«ومسُّ حلْقة دُبُرٍ» ، ولو قال هناك:«مسُّ الفَرْج» لكان أعمَّ ولم يحتج إلى ذكر الدُّبر.

وقد روى الإِمامُ أحمد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه

ص: 292

أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «من مسَّ فرجه فليتوضَّأ»

(1)

، والدُّبُر فَرْجٌ ـ لأنه منفرجٌ عن الجوف، ويخرج منه ما يخرج.

وعلى هذا فإنه ينتقضُ الوضوءُ بمسِّ حلْقة الدُّبُر، وهذا فرعٌ من حكم مسِّ الذَّكر فليُرجعْ إِليه لمعرفة الراجح في ذلك

(2)

.

وقوله: «حلقة دُبُر» يخرج به ما لو مسَّ ما قَرُب منها كالصفحتين، وهما جانبا الدُّبُر، أو مسَّ العجيزة، أو الفخذ، أو الأنثيين، فلا ينتقض الوُضُوء.

‌لَا مَسَّ شَعرٍ وَظُفُرٍ،

...........

قوله: «لا مسَّ شَعْرٍ» ، أي: لا ينقض مسُّ شعرٍ ممن ينقضُ مسُّه كمس المرأة بشهوة على المذهب.

مثاله: رجلٌّ مسَّ شَعْر امرأته بشهوة، ولم يخرجْ منه شيءٌ، فإِنَّه لا ينتقض وضوءه، لأن الشَّعْر في حكم المنفصل، فكما لو مسَّ خمارها لم ينتقض وضوءُهُ ولو بشهوة، فكذا الشَّعر؛ لأنه في حكم المنفصل، ولا حياة فيه.

قوله: «وظُفُر» ، يعني لو مسَّ ظُفُر من ينقضُ الوُضُوءَ مسُّه لم ينقضْ وضوءه

(3)

.

مثاله: رجل مسَّ ظُفْر امرأته لشهوة فإِنه لا ينتقض وضوءُه، سواء طال هذا الظُّفْر، أو قَصُر.

وكذا السِّنُّ، فلو مسَّه بشهوة لا ينتقضُ وضوءهُ، لأنَّه في حكم المنفصل ولا حياة فيه ولا شعور.

(1)

تقدم تخريجه، ص (280).

(2)

انظر: ص (278).

(3)

انظر: «المغني» (1/ 260).

ص: 293

وقال ابن عقيل: إذا قلتم: إن هذه الثَّلاثة لا حياة فيها، فقولوا: إنَّ المسَّ بالعضو الأشلِّ لا ينقض الوُضُوء أيضاً، وأنتم تقولون بأنَّه ينقض

(1)

.....

‌وأَمْرَدٍ،

..............

قوله: «وأمْرَدٍ» ، أي لا ينقضُ الوُضُوء مَسُّ الأمرد، وهو من طرّ شاربُه، أي: اخضَرَّ ولم تنبت لحيتُه؛ لأنه ليس محلاً للشهوة، ولذا قال لوط لقومه:{أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ *وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ *} [الشعراء].

فالذَّكَر لم يُخلق للذَّكر فهو كما لو مسَّ بنت ثلاثة أشهر؛ لأن كُلًّا منهما ليس محلًّا للشَّهوة.

وهذا القول ضعيف جدًّا، إِذا قلنا بنقض الوُضُوء بمسِّ المرأة لشهوة؛ لأن من النَّاس ـ والعياذ بالله ـ من قَلَبَ اللَّهُ حِسَّه وفطرته فأصبح يشتهي الذُّكور دون النِّساء، بل أشدُّ.

وقوم لوط لما جاؤوا إِلى لوط قال: {هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} فقالوا: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} [هود: 79] يقصدون الملائكة الذين أتوا في صورة شباب.

والصَّواب: أن مسَّ الأمرد كمسِّ الأُنثى سواء، حتى قال بعض العُلماء: إِنَّ النظر إلى الأمرد حرامٌ مطلقاً كالنظر إلى المرأة فيجب عليه غَضُّ البصر

(2)

.

وقال شيخ الإسلام: لا تجوز الخلوةُ بالأمرد، ولو بقصد

(1)

انظر: «الإنصاف» (2/ 47).

(2)

انظر: «الإنصاف» (20/ 56).

ص: 294

التَّعليم

(1)

؛ لأن الشَّيطان يجري من ابن آدم مجرى الدَّم، وكم من أُناس كانوا قتلى لهذا الأمرد، فأصبحوا فريسة للشَّيطان والأهواء، وهذه المسألة يجب الحذر منها.

ولهذا كان القول الرَّاجح أن عقوبةَ اللوطيِّ ـ فاعلاً كان أو مفعولاً به إذا كان راضياً ـ القتلُ بكلِّ حالٍ إِذا كانا بالغين عاقلين، حتى وإن لم يكونا محصنين.

قال شيخ الإسلام رحمه الله: إِن الصَّحابةَ رضي الله عنهم أجمعوا على قتلِ الفاعلِ والمفعولِ به، لكن اختلفوا كيف يُقتلُ

(2)

.....

فأبو بكر، وعبد الله بن الزُّبير، وخالد بن الوليد حرَّقوهم بالنَّار؛ لأن فعلتهم هذه من أقبح المنكرات، ولهذا قال الله في الزِّنا:{وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} [الإسراء: 32] يعني: من الفواحش؛ لأن «فاحشةً» نكرة.

وقال الله في اللِّواط: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} [الأعراف: 80]، فكأنها بلغت في الفُحْشِ غايتَه، وأعلاه.

والإِمام يقتله بما يردع عن هذه الفِعلة الخبيثة؛ لأنه لا يمكن التحرُّز منها إِطلاقاً، فالزِّنا يُتَحرَّز منه، فإِذا رأينا رجلاً معه امرأة غريبة، قلنا له: من هذه؟ أما الرَّجُلُ مع الرَّجُل فلا يمكن ذلك.

وهذا كما قالوا: إن قتل الغيلة موجبٌ للقتل بكلِّ حال،

(1)

انظر: «مجموع الفتاوى» (21/ 245، 250، 251).

(2)

انظر: «مجموع الفتاوى» (11/ 543)، (28/ 335).

ص: 295

ولو عفا أولياء المقتول، لأنه لا يمكن التحرُّز منه

(1)

.

‌ولا مَعَ حَائِلٍ، ولا مَلْمُوسٍ بَدَنُه، وَلَوْ وُجِدَ منه شَهْوَةٌ،

....

قوله: «ولا مع حائل» ، أي: ولا ينقض مسٌّ مع حائل؛ لأنَّ حقيقة المسِّ الملامسةُ بدون حائل.

قوله: «ولا ملموسٍ بدنُه» ، يعني ولا ينتقضُ وضوءُ ملموسٍ بدنُه، فلو أن امرأة مسَّها رَجُلٌ بشهوةٍ، فلا ينتقض وضوءُها، وينتقض وضوءُ الرَّجُل.

قوله: «ولو وُجِدَ منه شهوة» ، أي: ولو وُجِدَ من الملموس بدنُه شهوةٌ؛ فإِن وضوءَه لا ينتقضُ؛ وهذا غريبٌ: أنه لا ينتقضُ وضوءُ الملموس.

مثاله: شابٌّ قَبَّلَ زوجته وهي شابَّةٌ بشهوة، وهي كذلك بشهوة فيجب عليه الوضوء، ولا يجب عليها مع أن العِلَّة واحدة.

ولهذا كان القول الصَّحيح في هذه المسألة: أن الملموس إِذا وُجِدَ منه شهوةٌ انتقض وضوءُه؛ على القول بأنَّ اللامس ينتقض وضوءُه، وهو القياس.

قال الموفق رحمه الله: كل بشرتين حصل الحدثُ بمسِّ إحداهما؛ فإِن الطَّهارة تجبُ على اللامس والملموس، كالختانين فيه مُجَامَع ومُجَامِع، إِذا التقى الختانان بدون إِنزال منهما وجب الغسل عليهما جميعاً

(2)

.

وهذا الذي قاله الموفق رحمه الله هو الصَّوابُ؛ لكنَّه مبنيٌّ ....

(1)

انظر: «الإنصاف» (25/ 210)، «الاختيارات» ص (293).

(2)

انظر: «المغني» (1/ 261).

ص: 296

على القول بأن مسَّ المرأة بشهوة ينقض الوُضُوء، وقد سبق أن الرَّاجح أنه لا ينقض إلا أن يخرج منه شيء.

‌وَيَنْقُضُ غَسْلُ مَيِّتٍ،

.............

قوله: «وينقضُ غَسْلُ ميِّتٍ» ، هذا هو النَّاقضُ السَّادسُ من نواقض الوضوء.

والغَسل بالفتح: بمعنى التغسيل، وبالضم، المعنى الحاصل بالتغسيل، ومعنى: ينقض غَسلُ ميِّت، أي: تغسيل ميِّت، سواء غَسَل الميِّتَ كلَّه أو بعضَه.

وقوله: «ميِّت» يشمل الذَّكرَ والأنثى، والصَّغيرَ والكبيرَ، والحُرَّ والعبدَ، ولو من وراء حائل؛ لأن المؤلِّف يقول:«غسل» ولم يقل «مسُّ» ، فلو وضع على يده خرقة، وأخذ يغسله انتقض وضوءهُ مطلقاً، وهذا الذي مشى عليه المؤلِّفُ هو المذهبُ، وهو من مفردات مذهبِ أحمد

(1)

؛ لأن الأئمة الثَّلاثة قالوا بخلاف ذلك

(2)

.

واستدلَّ الأصحاب بما يلي:

1 -

ما رُويَ عن ابن عمر، وأبي هريرة، وابن عباس رضي الله عنهم أنهم أمروا غاسل الميِّت بالوُضُوء

(3)

.

(1)

انظر: «الإنصاف» (2/ 52).

(2)

انظر: «المغني» (1/ 256).

(3)

روى عبد الرزاق في «مصنفه» (3/ 405) رقم (6101)، وأبو بكر بن أبي شيبة، كتاب الجنائز: باب من قال: ليس على غاسل الميت غسل، رقم (11134)،

والبيهقي (1/ 305 ـ 306) عن ابن عباس أنه قال في غسل الميت: «يكفي منه الوُضُوء» .

وروى عبد الرزاق أيضاً (3/ 406، 407)، وأبو بكر بن أبي شيبة، الموضع السابق، رقم (11137)، والبيهقي (1/ 306) عن ابن عمر أنه قال في غسل الميت: «إِنما

يكفيك الوُضوء»، واللفظ لعبد الرزاق.

وذكر في «المغني» (1/ 256)، و «شرح العمدة» لابن تيمية (1/ 342) عن أبي هريرة أنه قال:«أقلُّ ما فيه الوُضُوء» .

ورُويَ نحو ذلك عن: عائشة، وعبد الله بن مسعود، وأبي برزة، وعائذ بن عمرو وغيرهم. انظر:«المراجع السابقة» .

ص: 297

2 -

أن غاسل الميِّت غالباً يمسُّ فرجه، ومسُّ الفرج من نواقض الوُضُوء.

القول الثاني: أن غَسْلَ الميِّت لا ينقضُ الوُضُوءَ

(1)

.

واستدلُّوا على ذلك بما يلي:

1 -

أن النقضَ يحتاجُ إلى دليل شرعيٍّ يرتفعُ به الوُضُوءُ الثَّابتُ بدليل شرعيٍّ، ولا دليل على ذلك من كتاب الله، ولا من سُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا من الإجماع.

وأجابوا عما وَرَدَ عن هؤلاء الصَّحابة الثَّلاثة:

أن الأمر يحتملُ أن يكون على سبيل الاستحباب، وفرضُ شيء على عباد الله من غير دليل تطمئنُّ إليه النَّفس أمر صعب، لأن فرض ما ليس بفرض كتحريم ما ليس بحرام.

ولأننا إذا فرضنا عليه الوُضُوء، فقد أبطلنا صلاته إِذا غسَّل الميِّت وصلَّى ولم يُعِد الوُضُوء، وإبطال الصَّلاة أمر صعب يحتاج إلى دليل بيِّنٍ .....

،‌

‌ وأكْلُ اللَّحْمِ خاصَّة من الجَزُور ...........

قوله: «وأكل اللَّحم خاصَّة من الجَزُورِ» ، يعني وينقض أكلُ اللَّحم خاصَّة من الجزور، وهذا هو النَّاقضُ السابعُ من نواقض الوُضُوء، وهو من مفردات مذهب أحمد رحمه الله

(2)

.

(1)

انظر: «الإنصاف» (2/ 52).

(2)

انظر: «الإنصاف» (2/ 53، 54).

ص: 298

وقوله: «وأكل اللحم» يشمل النِّيء والمطبوخ؛ لأنَّه كلَّه يُسمَّى لحماً. وخرج بقوله: «أكلُ» ما لو مضغه ولم يبلعه، فإِنه لا ينتقض وضوءُه؛ لأنه لا يُقال لمن مضغ شيئاً ثم لفظه: إنه أكله.

وقوله: «خاصَّة» يعود إلى اللَّحم لا إلى الجزور؛ لأن قوله «الجزور» يُغني عن «خاصَّة» .

وخرج بكلمة «خاصَّة» ما عدا اللحم كالكِرْش، والكبد، والشَّحم، والكلية، والأمعاء، وما أشبه ذلك.

والدَّليل على ذلك:

1 -

أن هذه الأشياء لا تدخل تحت اسم اللَّحم، بدليل أنك لو أمرت أحداً أن يشتريَ لك لحماً، واشترى كرشاً؛ لأنكرت عليه، فيكون النقضُ خاصًّا باللَّحم الذي هو «الهَبْرُ»

(1)

.

2 -

أنَّ الأصل بقاءُ الطَّهارة، ودخولُ غير «الهَبْر» دخولٌ احتماليٌّ، واليقينُ لا يزول بالاحتمال.

3 -

أنَّ النَّقْضَ بلحم الإِبل أمرٌ تعبُّديٌّ لا تُعرف حكمته، وإِذا كان كذلك، فإِنه لا يمكن قياس غير الهَبْرِ على الهَبْر؛ لأن من شرط القياس أن يكون الأصل معلَّلاً، إِذ القياس إِلحاق فرع بأصل في حُكم لِعلَّةٍ جامعة، والأمور التعبُّدية غير معلومة العِلّة وهذا هو المشهور من المذهب.

والصَّحيح: أنه لا فرق بين الهَبْرِ وبقيَّة الأجزاء، والدَّليل على ذلك: ....

(1)

الهَبْرَةُ: القطعة من اللحم لا عظم فيها. «المحيط» مادة (هَبَرَ).

ص: 299

1 -

أنَّ اللَّحم في لُغَة الشَّرع يشمل جميعَ الأجزاء، بدليل قوله تعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة: 3]، فلحم الخنزير يشمل كلَّ ما في جلده، بل حتى الجلد، وإِذا جعلنا التَّحريمَ في لحم الخنزير ـ وهو مَنْعٌ ـ شاملاً جميع الأجزاء فكذلك نجعل الوُضُوء من لحم الجزور ـ وهو أَمْرٌ ـ شاملاً جميع الأجزاء، بمعنى أنك إِذا أكلت أي جزء من الإِبل، فإِنه ينتقض وضوءُك.

2 -

أنَّ في الإِبل أجزاءً كثيرة قد تُقارب الهَبْر، ولو كانت غير داخلة لبيَّن ذلك الرَّسول صلى الله عليه وسلم لعِلْمِهِ أنَّ النَّاس يأكلون الهَبْر وغيره.

3 -

أنَّه ليس في شريعة محمَّد صلى الله عليه وسلم حيوانٌ تتبعَّضُ أجزاؤه حلًّا وحُرمةً، وطَهارةً ونجاسةً، وسلباً وإيجاباً، وإِذا كان كذلك فلتكن أجزاء الإِبل كلُّها واحدة.

4 -

أنَّ النَّصَّ يتناول بقيَّة الأجزاء بالعموم المعنوي، على فرض أنه لا يتناولها بالعُموم اللَّفظي؛ إِذْ لا فرق بين الهَبْر وهذه الأجزاء، لأنَّ الكُلَّ يتغذَّى بدمٍ واحد، وطعام واحد، وشراب واحد.

5 -

أنَّه إِذا قلنا بوجوب الوُضُوء وتوضَّأنا وصلَّينا، فالصَّلاة صحيحةٌ قولاً واحداً، وإِن قلنا بعدم الوجوب وصلَّينا بعد أكل شيء من هذه الأجزاء بلا وُضُوء، فالصَّلاة فيها خلاف؛ فمن العلماء من قال بالبطلان، ومنهم من قال بالصِّحة، ففيها شُبهة، وقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «من اتَّقى الشُّبهات

ص: 300

فقد استبرأ لدينه وعِرضه»

(1)

.

وقال صلى الله عليه وسلم: «دَعْ ما يَريبُكَ إلى ما لا يَرِيبُكَ»

(2)

.

6 -

أنَّه روى أحمد في «مسنده» بسندٍ حسن عن أُسيد بن حُضير أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «تَوضَّؤوا من ألبان الإِبل»

(3)

.....

(1)

رواه البخاري، كتاب الإيمان: باب فضل من استبرأ لدينه، رقم (52)، ومسلم، كتاب المساقاة: باب أخذ الحلال وترك الشبهات، رقم (1599). من حديث

النعمان بن بشير.

(2)

تقدم تخريجه ص (32).

(3)

أبو يعلى رقم (632).

قال الهيثمي: «فيه مَنْ لم يُسمَّ» . قال البوصيري: «مدار طرق هذه الأسانيد على ليث بن أبي سليم وهو ضعيف» .

انظر: «المجمع» (1/ 250)، «المطالب العالية» (1/ 101)، «إتحاف الخيرة المهرة» (1/ل 105).

ص: 301

وإِذا دلَّت السُّنَّة على الوُضُوء من ألبان الإِبل، فإِن هذه الأجزاء التي لا تنفصل عن الحيوان من باب أَوْلَى. وعلى هذا يكون الصَّحيحُ أنّ أكل لحم الإِبل ناقضٌ للوُضُوء مطلقاً، سواءٌ كان هَبْراً أم غيره.

وقوله: «من الجزور» أي: البعير، وخرج به اللحم من غير الجزور، وإِن شارك الجزور في الحكم كالبقرة، فإِنها تُسمَّى بدنة وتجزئ عنها في الهدي والأضاحي، ومع ذلك فإِنَّ لحمها لا يَنْقُضُ الوُضُوء، وكذلك اللحم المحرَّم لا ينقض الوضوء، كما لو اضطر إِنسانٌ إِلى أكلِ لحم حمار أو ميتة فإِنه لا ينقض الوُضُوء، وكذا لو أكل اللحم المحرَّم لغير ضرورة، فإِنه لا ينقض وضوءه، لأن الأصل بقاء الطهارة.

وقوله: «من الجزور» ظاهره أنه لا فرق بين القليل والكثير، والمطبوخ والنِّيء، وسواء كانت الجزور كبيرة أم صغيرة لا تجزئ في الأضحية لعموم الحديث. ولا يُقال: إِنَّ لحم الصَّغير يُترفَّه به كلحم الضأن، فلا يوجب الوُضُوء؛ لأن هذه علَّة مظنونة، والعموم أقوى منها، فنأخذ به.

وهذا النَّاقض من نواقض الوُضُوء هو من مفردات مذهب أحمد رحمه الله واستدلُّوا على ذلك بما يلي:

ص: 302

1 -

حديث جابر بن سَمُرَة رضي الله عنه أن رجلاً سأل النبيَّ صلى الله عليه وسلم: أنتوضَّأ من لحوم الإِبل؟ قال: «نعم، فتوضَّأ من لحوم الإِبل» ، قال: أنتوضَّأ من لحوم الغنم؟ قال: «إن شئت فتوضَّأ، وإِن شئت فلا تتوضَّأ»

(1)

.

وجه الدَّلالة: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم علَّق الوُضُوء بالمشيئة في لحم الغَنَم، فدلَّ هذا على أنَّ لحم الإِبل لا مشيئة فيه ولا اختيار، وأن الوُضُوء منه واجب.

2 -

حديث البراء، وفيه:«توضَّؤوا من لحوم الإبل»

(2)

. والأصل في الأمر الوجوب، قال الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه: فيه حديثان صحيحان عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: حديث البراء، وحديث جابر بن سَمُرة

(3)

.

القول الثاني: أنه لا ينقض الوُضُوء

(4)

، واستدلُّوا على ذلك بما يلي: ....

(1)

رواه مسلم، كتاب الحيض: باب الوضوء من لحوم الإِبل، رقم (360).

(2)

رواه أبو داود، كتاب الطهارة: باب الوضوء من لحوم الإبل، رقم (184)، والترمذي، أبواب الطهارة: باب الوضوء من لحوم الإِبل، رقم (81)، وابن ماجه، كتاب

الطهارة: باب ما جاء في الوضوء من لحوم الإبل، رقم (494)، وابن خزيمة رقم (32) من حديث البراء بن عازب.

قال ابن خزيمة: «لم أَر خلافاً بين علماء الحديث أن هذا الخبر صحيح من جهة النقل لعدالة ناقليه» . وصحَّحه أيضاً: أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، والنووي،

وابن تيمية، وغيرهم.

انظر: «الخلاصة» رقم (275)، «شرح العمدة» لابن تيمية (1/ 330). «التلخيص الحبير» رقم (154).

(3)

انظر: «المغني» (1/ 251).

(4)

انظر: «الإنصاف» (2/ 54).

ص: 303

1 -

حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: «كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم تركُ الوُضُوء مما مسَّت النار» ، رواه أهل السُّنن

(1)

.

ووجه الدلالة أن قوله: «مما مسَّت» عام يشمل الإِبل وغيرها، وقد صرَّح بقوله:«كان آخرُ الأمرين» ، وإِذا كان آخر الأمرين، فالواجب أن نأخذ بالآخر من الشَّريعة؛ لأن الآخر يكون ناسخاً للأول.

2 -

حديث ابن عباس، أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:«الوُضُوء ممَّا خَرَج، لا ممَّا دخل»

(2)

.

(1)

رواه ـ بهذا اللفظ ـ أبو داود، كتاب الطهارة: باب في ترك الوضوء مما مسَّت النار، رقم (192)، والنسائي، كتاب الطهارة: باب ترك الوضوء مما غيَّرت النار

(1/ 108) رقم (185)، وابن حبان رقم (1134) عن شعيب بن أبي حمزة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر به، وأُعِلَّ بعلتين:

1 -

أنه مختصر من حديث جابر الطويل؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ثم أكل خبزاً ولحماً، ثم صَلَّى ولم يتوضَّأ، قاله أبو حاتم الرازي، وأبو داود، وابن حبان، وابن

حجر.

قال أبو حاتم الرازي: هذا حديث مضطرب المتن، إنما هو أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أكل كتفاً ولم يتوضأ. كذا رواه الثقات عن ابن المنكدر عن جابر، ويحتمل أن

يكون شعيب حَدَّث به من حفظه فوهم فيه. «العلل» لابنه (1/ 64) رقم (168).

2 -

قال الشافعي: لم يسمع ابن المنكدر هذا الحديث من جابر، إِنما سمعه من عبد الله بن محمد بن عقيل. «التلخيص الحبير» رقم (155) ـ وعبد الله هذا صدوق

في حديثه لين، ويُقال تغيَّر بآخره كما في «التقريب» .

ويشهد لمعناه ما رواه البخاري رقم (5457) عن جابر أنه سُئل عن الوضوء مما مسَّت النار؟ فقال: لا.

(2)

رواه الدارقطني (1/ 151) رقم (545)، والبيهقي (1/ 116).

وضعَّفه: البيهقي، وابن حجر، وغيرهم. انظر:«التلخيص» رقم (158).

ص: 304

وأجيب عن هذين الدَّليلين بما يلي:

أما حديث جابر: «كان آخر الأمرين ترك الوُضُوء مما مسَّت النار» ، فلا يعارض حديث الوُضُوء من لحم الإِبل، فضلاً عن أن يكون ناسخاً له؛ لأنه عام، والعام يُحمل على الخاصِّ، باتِّفاق أهل العلم، فيخرج منه الصُّور التي قام عليها دليل التَّخصيص، ولا يُقال بالنسخ مع إِمكان الجمع؛ لأن النَّسخ مع إمكان الجمع إبطال لأحد الدَّليلين، مع أنه ليس بباطل.

والغرض من حديث جابر: بيان أن الوُضُوءَ مما مسَّت النَّار ليس بواجب؛ فإِن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان قد أمر بالوُضُوء مما مَسَّت النارُ، وصحَّ عنه الأمر بذلك، فقال جابر:«كان آخُر الأمرين تركَ الوُضُوء مما مسَّت النار» .

والنبيُّ صلى الله عليه وسلم إِذا أمر بأمرٍ وفعل خلافه، دَلَّ على أن الأمر ليس للوجوب.

وأصَّلَ بعضُ أهل العلم أصلاً ليس بأصيل، ومالَ إِليه الشَّوكاني

(1)

، وهو أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم إِذا أمرَ بأمرٍ، وفعل خلافه، صار الفعلُ خاصًّا به، وبقي الأمر بالنسبة للأمة على مدلوله للوجوب.

وهذا ضعيف؛ لأنَّ سُنَّة الرَّسول صلى الله عليه وسلم تشمل قوله صلى الله عليه وسلم وفعله، فإِذا عارض قولُه فعلَه، فإِن أمكن الجمع فلا خصوصية؛ لأننا مأمورون بالاقتداء به قولاً وفعلاً، ولا يجوز أن نحمله على ....

(1)

انظر: «نيل الأوطار» للشوكاني، كتاب الطهارة: باب الوضوء من لحوم الإبل (1/ 253) وباب استحباب الوضوء مما مسته النار (1/ 262).

ص: 305

الخصوصية مع إِمكان الجمع، لأن مقتضى ذلك ترك العمل بشطر السُّنَّة، وهو السُّنَّة الفعلية.

وأما حديث ابن عباس فضعيف، وإِن صَحَّ موقوفاً

(1)

، فقد خُولف.

فظهر بذلك ضعفُ دليل من قال: إِن لحمَ الإِبل لا ينقضُ الوضوءَ، ويبقى حديثُ الوُضُوءِ من لحمِ الإِبل سالماً من المعارض المقاوم، وإِذا كان كذلك، وجب الأخذ به، والقول بمقتضاه.

وأما الوُضُوء من ألبان الإِبل؛ فالصَّحيح أنَّه مستحبٌّ وليس بواجب؛ لوجهين:

الأول: أنَّ الأحاديث الكثيرة الصَّحيحة واردة في الوُضُوء من لحوم الإِبل، والحديث في الوضوء من ألبانها إِسناده حسن وبعضهم ضعَّفه

(2)

.

الثَّاني: ما رواه أنس في قصة العُرنيين أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يلحقوا بإِبل الصَّدقة، ويشربوا من أبوالها وألبانها

(3)

ولم يأمرْهم أن يتوضؤوا من ألبانها، مع أن الحاجة داعية إلى ذلك، فدلَّ ذلك على أن الوُضُوء منها مستحبٌّ.

(1)

رواه البيهقي (1/ 116) من طريق وكيع، عن الأعمش، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس به. وهذا إِسناد صحيح رجاله رجال الصحيح.

وانظر: «فتح الباري» شرح حديث رقم (1938).

(2)

تقدم تخريجه ص (303).

(3)

رواه البخاري، كتاب الوضوء: باب أبوال الإِبل والدواب والغنم ومرابضهما، رقم (233)، ومسلم، كتاب القسامة والمحاربين: باب حكم المحاربين والمرتدين، رقم

(1671)

من حديث أنس بن مالك.

ص: 306

مسألة: الوُضُوء من مرقِ لحم الإِبل.

المذهب: أنه غير واجب، ولو ظهر طعمُ اللَّحم؛ لأنه لم يأكل لحماً.

وفيه وجه للأصحاب: أنه يجب الوُضُوء

(1)

؛ لوجود الطعم في المرق، كما لو طبخنا لحم خنزير، فإِن مرقه حرام. وهذا تعليل قويٌّ جداً. فالأحوط أن يتوضَّأ، أما إِذا كان المرق في الطَّعام، ولم يظهر فيه أثره فإِنه لا يضرُّ.

فإن قيل: ما الحكمة من وجوب الوُضُوء من أكل لحم الإبل؟

فالجواب من وجهين:

الأول: أن الحكمة أمرُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وكل ما أتى به النبيُّ صلى الله عليه وسلم من الأحكام فهو حكمة .....

قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36].

وقالت عائشة لما سُئلت: ما بال الحائضِ تقضي الصَّوم، ولا تقضي الصَّلاة؟ قالت:«كان يُصيبُنا ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فنؤمر بقضاء الصَّوم، ولا نؤمر بقضاء الصَّلاة»

(2)

.

ولأننا نؤمن ـ ولله الحمد ـ أن الله لا يأمر بشيء إِلا والحكمة

(1)

انظر: «الإِنصاف» (2/ 61).

(2)

رواه البخاري، كتاب الحيض: باب لا تقضي الحائض الصلاة، رقم (321)، ومسلم، كتاب الحيض: باب وجوب قضاء الصوم على الحائض دون الصلاة، رقم (335).

ص: 307

تقتضي فعلَه، ولا ينهى عن شيء إلا والحكمة تقتضي تركَه.

الثاني: أن بعض العلماء التمس حكمةً فقال: إِن لحم الإِبل شديدُ التَّأثير على الأعصاب، فيُهَيِّجها

(1)

؛ ولهذا كان الطبُّ الحديث ينهى الإِنسان العصبي من الإِكثار من لحم الإِبل، والوُضُوء يسكِّن الأعصاب ويبرِّدها، كما أمر النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالوُضُوء عند الغضب

(2)

؛ لأجل تسكينه.

وسواء كانت هذه هي الحكمة أم لا؛ فإِن الحكمة هي أمر النبيِّ صلى الله عليه وسلم، لكن إِن علمنا الحكمة فهذا فَضْلٌ من الله وزيادة علم، وإن لم نعلم فعلينا التَّسليم والانقياد.

‌وكُلُّ ما أَوْجَبَ غُسْلاً، أَوْجَبَ وُضُوءاً،

.............

قوله: «وكلُّ ما أوجب غُسْلاً أوجب وُضُوءاً» ، هذا هو النَّاقض الثَّامن من نواقض الوُضُوء وبه تمَّت النَّواقضُ.

أي: وكلُّ الذي أوجب غسلاً أوجب وُضُوءاً، وهذا ضابط.

ولا بُدَّ من معرفة موجبات الغسل حتى نعرف أن هذا الذي

(1)

انظر: «إِعلام الموقعين» (1/ 395).

(2)

رواه أحمد (4/ 226)، وأبو داود، كتاب الأدب: باب ما يقال عند الغضب، رقم (4784) من طريق عروة بن محمد بن عطية السعدي عن أبيه عن جده به.

عروة بن محمد روى عنه جماعة، ووثقه ابن حبان وقال:«يخطئ وكان من خيار الناس» ، «الثقات» (7/ 287). وَلِيَ اليمن لعمر بن عبد العزيز عشرين سنة.

وقد قال ابن كثير: «كلُّ من استعمله عمر بن عبد العزيز فهو ثقة» ، «البداية والنهاية» (9/ 219). كما أنه يظهر من كلام ابن حبان فيه أنه قد عرفه.

أما أبوه محمد فقد قال الحافظ ابن حجر فيه في التقريب: «صدوق» ، وقال الذهبي في الكاشف:«وثِّق» فالإِسناد لا بأس به.

وله شاهد رواه أبو نعيم (2/ 130) من حديث معاوية بن أبي سفيان وإِسناده ضعيف. والحديث احتجّ به شيخُ الإِسلام ابن تيمية في «مجموع الفتاوى» (25/ 238).

ص: 308

أوجب غسلاً أوجب وُضُوءاً، فيكون هذا إِحالة على باب وسيأتي إن شاء الله

(1)

.

فالحدث الأكبر يدخل فيه الحَدَث الأصغر.

مثال ذلك: خروجُ المنيِّ موجبٌ للغسل، وهو خارجٌ من السَّبيلين فيكون ناقضاً للوُضُوء بقاعدة: أن ما خرج من السَّبيلين فهو ناقض .....

وهذا الضَّابط في النَّفس منه شيء لقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6]. فأوجب الله في الجنابة الغسل فقط، ولم يوجب علينا غسلَ الأعضاء الأربعة، فما أوجب غُسْلاً لم يوجب إِلا الغُسْل، إلا إِن دَلَّ إِجماع على خلاف ذلك، أو دليل.

ولهذا فالراجح: أن الجنب إِذا نوى رفع الحدث كفى، ولا حاجة إلى أنْ ينويَ رفع الحدث الأصغر.

‌إِلاَّ الموتَ ..............

قوله: «إلا الموت» ، فالموت موجبٌ للغسل، ولا يوجب الوُضُوءَ بمعنى أنه لا يجب على الغاسل أن يوضِّئ الميِّت أولاً.

فلو جاء رجل وغمس الميِّتَ في نهرٍ ناوياً تغسيله ثم رفعه فإنه يجزئ.

وهذا من غرائب العلم، كيف ينفون وجوب الوُضُوء في تغسيل الميِّت مع أن الرَّسول صلى الله عليه وسلم قال:«ابدأن بميامنها، ومواضع الوُضُوء منها»

(2)

.

(1)

انظر: ص (333).

(2)

رواه البخاري، كتاب الجنائز: باب ما يستحب أن يُغسل وتراً، رقم (1254)، ومسلم، كتاب الجنائز: باب في غسل الميت، رقم (939) عن أم عطية.

ص: 309

والتعليلُ على المذهب لاستثناء الموت: أن الشَّارعَ إِنما أمر بتغسيل الميت فقط.

فيُقال: وكذا الشارع أمر بتغسيل الميت والبداءة بمواضع الوضوء منه.

فإن قالوا: إِن الموت حَدَث لا يرتفع.

قلنا: ولكن الأثر الحاصل بتغسيله عندكم بمعنى ارتفاع الحَدَث، لأننا غسَّلناه وحكمنا بطهارته مع أن الحَدَث الموجب للطَّهارة ما زال باقياً، فيكون بمعنى ارتفاع الحدث.

ونحن نوافق أن الموت موجبٌ للغسل، ولا يوجب الوُضُوء، لعدم الدَّليل الصريح على وجوب الوُضُوء. وإِن كان يحتمل أن الوُضُوء واجب؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:«ومواضع الوُضُوء منها»

(1)

.

فالظَّاهر أن موجبات الغُسْل لا توجب إِلا الغُسْل لعدم الدَّليل على إِيجاب الوُضُوء .....

‌ومَنْ تَيَقَّنَ الطهارةَ وشَكَّ في الحَدَثِ، أَوْ بِالْعَكْسِ بَنَى على اليقينِ،

............

قوله: «ومن تيقَّن الطَّهارة وشَكَّ في الحدث أَوْ بالعَكْسِ بَنَى على اليقينِ» ، يعني: إِذا تيقَّن أنه طاهر، وشك في الحدث فإِنه يبني على اليقين، وهذا عام في موجبات الغُسل، أو الوُضُوء.

مثاله: رجل توضَّأ لصَلاةِ المغرب، فلما أذَّن العِشَاء وقام ليُصلِّي شَكَّ هل انتقض وضوءُه أم لا؟

فالأصل عدم النَّقضِ فيبني على اليقين وهو أنه متوضِّئ.

(1)

تقدم تخريجه ص (309).

ص: 310

مثال آخر: استيقظ رجلٌ فوجد عليه بللاً، ولم يرَ احتلاماً، فشكَّ هل هو منيٌّ أم لا؟ فلا يجب عليه الغسل للشَّكِّ.

ولو رأى عليه أثر المنيِّ وشكَّ هل هو من الليلة البعيدة أم القريبة؟ يجعله من القريبة لأنها مُتيقَّنة، وما قبلها مشكوك فيه.

ودليل ذلك حديث أبي هريرة، وعبد الله بن زيد رضي الله عنهما في الرَّجُل يجد الشيءَ في بطنه، ويُشْكِلُ عليه: هل خرج منه شيء أم لا؟ فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «لا ينصرف حتى يسمعَ صوتاً، أو يجد ريحاً»

(1)

، وفي حديث أبي هريرة:«لا يخرج» (566)، أي: من المسجد «حتى يسمعَ صوتاً أو يجدَ ريحاً» (566) مع أن قرينةَ الحَدَثِ موجودةٌ، وهي ما في بَطْنِهِ من القرقرة والانتفاخ.

وقوله: «أو بالعكس» ، يعني أن من تَيَقَّنَ الحدثَ وشكَّ في الطَّهارة، فالأصْل الحدث.

ويُستدلُّ لهذه المسألة بحديث أبي هريرة، وعبد الله بن زيد من باب قياس العكس.

وقياس العكس ثابت في الشَّريعة، قال صلى الله عليه وسلم:«وفي بُضْعِ أحدكم صدقة» ، قالوا: يا رسول الله! أيأتي أحدُنا شهوَتَه، ويكون له فيها أجْرٌ؟ قال:«نعم، أرأيتم لو وَضَعَها في حرام؛ أكان عليه وِزْر؟» ، قالوا: نعم، فقال: «فكذلك إذا وضعها في حلال كان له أجرٌ

(2)

.........

(1)

تقدّم تخريجهما، ص (269).

(2)

رواه مسلم، كتاب الزكاة: باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف، رقم (1006) من حديث أبي ذَرٍّ.

ص: 3110

وكذا لو كان عليه جنابة، وشكَّ هل اغتسل أم لا؟ فإِنه يغتسل، ولا يتردَّد.

وهذه ـ أعني البناءَ على اليقين وطرحَ الشَّكِّ ـ قاعدة مهمَّة، دَلَّ عليها قولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم:«إِذا شَكَّ أحدكم في صلاته فليطرح الشَّكَّ وليَبْنِ على ما استيقن»

(1)

، ولها فروع كثيرة جدًّا في الطلاق والعقود وغيرهما من أبواب الفقه، فمتى أخذ بها الإنسان انحلَّت عنه إشكالات كثيرة، وزال عنه كثير من الوَساوس والشُّكوك، وهذا من بَرَكَةِ كلام النبيِّ صلى الله عليه وسلم وحكمه.

وهو أيضاً من يُسْرِ الإِسلام وأنه لا يريد من المسلمين الوُقوعَ في القلق والحيرة؛ بل يريد أن تكون أمورهم واضحة جليَّة، ولو استسلم الإِنسان لمثل هذه الشُّكوك لتنغَّصت عليه حياته؛ لأنَّ الشيطان لن يقف بهذه الوساوس والشكوك عند أمور الطَّهارة فقط، بل يأتيه في أمور الصَّلاة والصِّيام وغيرهما، بل في كلِّ أمور حياته؛ حتى مع أهله، فَقَطَعَ الشَّارع هذه الوساوس من أصلها، وأمر بتركها، بل ودفعها حتى لا يكون لها أَثَرٌ على النفس.

‌فإِن تَيَقّنَهُمَا، وَجَهلَ السابقَ،

...........

قوله: «فإِن تَيَقَّنَهُمَا وجهل السَّابق» ، أي: تيقَّن أنه مرَّ عليه طهارةٌ وحَدَثٌ تَيَقَّنَهُمَا جميعاً، ولكن لا يدري أيُّهما الأول، فيُقال له: ما حالُكَ قَبْلَ هذا الوقت الذي تبيَّن لك أنَّكَ أحدثت وتَطَهَّرْتَ فيه؟

(1)

رواه مسلم، كتاب المساجد: باب السهو في الصلاة والسجود له، رقم (571) من حديث أبي سعيد الخدري.

ص: 312

فإن قال: محدث، قلنا: أنت الآن متطهِّر. وإِن قال: متطهِّر، قلنا: أنت الآن محدث.

مثاله: رجل متيقِّنٌ أنَّه على وُضُوء من صلاة الفجر إلى طلوع الشَّمس، وبعد طلوع الشمس بساعة أراد أن يُصلِّي الضُّحَى، فقال: أنا متيقِّن أنَّه من بعد طلوع الشَّمس إِلى الآن حصل مِنِّي حَدَث ووُضُوء، ولا أدري أيُّهُما السَّابق. نقول: أنت الآن محدث.

وإن قال: أنا متيقِّن أني بعد صلاة الفجر نَقَضْتُ الوُضُوءَ، وبعد طلوع الشمس حَصَل مِنِّي حَدَثٌ ووُضُوء، نقول: أنت الآن طاهر .....

والتَّعليل: أنه تيقَّن زوال تلك الحال إلى ضِدِّها، وشَكَّ في بقائه، والأصل بقاؤه.

ففي الصُّورة الأولى تيقَّن أنَّه كان على وُضُوء إلى طلوع الشَّمس، ثم تيقَّن أنه أحْدَثَ بعد ذلك، ثم شَكَّ هل زال الحدث أم لا؟ فيُقال: إِنك محدث لأنَّ الأصل بقاء الحدَثِ الذي تَيَقَّنْتَه، وهكذا.

فإِن تيقَّن الطَّهارة والحَدَث؛ وجهل السَّابق منهما؛ وجهل حاله قَبْلَهُمَا؛ وَجَبَ عليه الوُضُوء؛ لأنه ليس هناك حال متيقَّنة ويُحَالُ الحكم عليها. وهذا هو المذهب.

وقال بعض العُلماء: إِنه يجب الوُضُوء مطلقاً

(1)

.

(1)

انظر: «الإِنصاف» (2/ 68).

ص: 313

والتَّعليل: أنَّه تيقَّن أنه حصل له حالان، وهذان الحالان مُتَضَادَّان ولا يدري أيُّهما الأسبق، فلا يدري أيُّهما الوارد على الآخر فيتساقطان، وقد تيقَّن زوال تلك الحال الأولى، فيجب عليه الوُضُوء احتياطاً كما لو جهل حاله قبلهما.

والقول بوجوب الوُضُوء أَحْوَطَ، لأنه مثلاً بعد طلوع الشمس متيقِّن أنه أَحْدَثَ وتَوَضَّأ، ولا يدري الأسبق منهما، وفيه احتمال أنه توضَّأ تجديداً ثم أحدث، فصار يجب عليه الوُضُوء الآن، وإِذا كان هذا الاحتمال وارداً فلا يخرج من الشَّكِّ إِلا بالوُضُوءِ.

وهذا الوُضُوء إِنْ كان هو الواجب فقد قام به، وإِلا فهو سُنَّةٌ. والفقهاء رحمهم الله قالوا: إِذا قَوِيَ الشَّكُّ فإِنه يُسَنُّ الوُضُوء؛ لأجل أن يُؤَدِّي الطَّهارة بيقين

(1)

.

والحاصل أن الصُّوَرَ أربع وهي:

الأولى: أن يتيقَّن الطَّهارة ويَشُكَّ في الحَدَثِ.

الثانية: أن يتيقَّن الحَدَثَ ويشكَّ في الطَّهارة.

الثَّالثة: أن يَتَيَقَّنَهُمَا ويجهلَ السَّابق منهما، وهو يعلم حاله قَبْلَهُمَا.

الرَّابعة: أن يَتَيَقَّنَهُمَا ويجهلَ السَّابق منهما، وهو لا يعلم حاله قَبْلَهُمَا، وقد تبيَّن حكم كلِّ حالٍ من هذه الأحوال .....

وبهذا التَّقسيم وأمثاله يتبيَّن دقَّة ملاحظة أهل العِلْمِ؛ وأنه لا تكاد مسألة تَطْرأُ على البال إِلاَّ وذكروا لها حُكْماً، وهذا من

(1)

انظر: «الإِنصاف» (2/ 67).

ص: 314

حِفْظِ الله تعالى للشَّريعة، لأنَّه لولا هؤلاء العلماء الأَجِلاَّء الذين فَرَّعوا على كتاب الله تعالى وعلى سُنَّةِ رسوله صلى الله عليه وسلم ما فَرَّعوا؛ لفاتنا كثير من هذه الفروع.

‌ويَحْرُمُ على المحدِثِ مسُّ المُصْحَفِ،

..........

قوله: «ويحرم على المحدِث مسُّ المصحف» ، المصْحَفُ: ما كُتِبَ فيه القرآن سواء كان كاملاً، أو غير كامل، حتى ولو آية واحدة كُتِبَتْ في ورقة ولم يكن معها غيرها؛ فحكمها حكم المصحف.

وكذا اللَّوح له حكم المصحف؛ إِلا أن الفقهاء استثنوا بعض الحالات.

وقوله: «المحدِث» ، أي: حدثاً أصغر أو أكبر؛ لأن «أل» في المحدث اسم موصول فتشمل الأصغر والأكبر.

والحَدَثُ: وصف قائم بالبَدَن يمنع مِنْ فِعْلِ الصلاة ونحوها مما تُشترط له الطَّهارة.

والدَّليل على ذلك:

1 -

قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ *فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ *لَا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ *تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ *} [الواقعة].

وجه الدِّلالة: أنَّ الضَّمير في قوله: «لا يمسُّه» يعود على القرآن، لأن الآيات سِيقت للتَّحدُّث عنه بدليل قوله:{تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ *} [الواقعة] والمنزَّل هو هذا القرآن، والمُطَهَّر: هو الذي أتى بالوُضُوء والغُسُل من الجنابة، بدليل قوله:{وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة: 6]

(1)

.

(1)

انظر: «الجامع لأحكام القرآن» للقرطبي (17/ 217 ـ 218).

ص: 315

فإن قيل: يَرِدُ على هذا الاستدلال: أنَّ «لا» في قوله: «لا يمسُّه» نافية، وليست ناهية، لأنه قال:«لا يمسُّه» ولم يقل: «لا يمسَّه» ؟ .....

قيل: إِنه قد يأتي الخبر بمعنى الطَّلب، بل إِن الخبر المراد به الطَّلب أقوى من الطَّلب المجرَّد، لأنه يُصوِّر الشيءَ كأنه مفروغ منه، ومنه قوله تعالى:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234]، فقوله:«يَتَرَبَّصْنَ» خبر بمعنى الأمر. وفي السُّنَّة: «لا يبيع الرَّجُل على بيع أخيه»

(1)

بلفظ الخبر، والمراد النَّهي.

2 -

ما جاء في كتاب عمرو بن حزم الذي كتبه النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن وفيه: «

ألا يمسَّ القرآن إلا طاهر

»

(2)

.

والطَّاهر: هو المُتطهِّرُ طهارة حسِّيَّة من الحَدَث بالوُضُوء أو الغُسُل، لأن المؤمن طهارته معنوية كاملة، والمصحف لا يمسُّه غالباً إلا المؤمنون، فلما قال:«إلا طاهر» عُلم أنها طهارة غير الطَّهارة المعنوية، بل المراد الطَّهارة من الحَدَث، ويَدُلُّ لهذا قوله

(1)

رواه البخاري، كتاب البيوع: باب لا يبيع على بيع أخيه، رقم (2140)، ومسلم، كتاب النكاح: باب تحريم الخطبة على خطبة أخيه حتى يأذن أو يترك، رقم

(1413)

، من حديث أبي هريرة.

(2)

رواه الطبراني في «الكبير» (12/رقم 13217)، والدارقطني (1/ 121)، والبيهقي (1/ 88) عن ابن عمر، قال ابن حجر:«إِسناده لا بأس به» .

وروي أيضاً من حديث عمرو بن حزم، وحكيم بن حزام وعثمان بن أبي العاص.

وصحَّحه: إِسحاق بن راهويه، والشافعي، وابن عبد البر. واحتجَّ به أحمد بن حنبل.

انظر: «التلخيص الحبير» رقم (175)، «نصب الراية» (1/ 196).

ص: 316

تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة: 6] أي طهارة حسِّيَّة؛ لأنه قال ذلك في آية الوضوء والغُسل.

3 -

من النَّظر الصَّحيح: أنَّه ليس في الوجود كلام أشرف من كلام الله، فإذا أَوْجَبَ الله الطَّهارة للطَّواف في بيته، فالطَّهارة لِتِلاوَةِ كتابه الذي تَكَلَّم به من باب أولى، لأننا نَنْطق بكلام الله خارجاً من أفواهنا، فَمُمَاسَّتنا لهذا الكلام الذي هو أشرف من البناء يقتضي أن نكون طاهِرِين؛ كما أن طوافنا حول الكعبة يقتضي أن نكون طاهرين، فتعظيماً واحتراماً لكتاب الله يجب أن نكون على طهارة.

وهذا قول جمهور العلماء ومنهم الأئمة الأربعة

(1)

.

وقال داود الظَّاهري وبعض أهل العلم: لا يحرم على المُحْدِثِ أن يَمَسَّ المصحف

(2)

.....

واستدلُّوا: بأن الأصل براءة الذِّمة، فلا نُؤَثِّم عباد الله بفعل شيء لم يَثْبُتْ به النَّص.

وأجابوا عن أدلَّة الجمهور:

أما الآية فلا دلالة فيها، لأن الضَّمير في قوله:«لا يمسُّه» يعود إلى «الكتاب المكنون» ، والكتاب المكنون يُحْتَمَلُ أن المرادَ به اللوحُ المحفوظ، ويُحْتَملُ أن المرادَ به الكتب التي بأيدي

(1)

انظر: «المغني» (1/ 202)، «مجموع الفتاوى» (21/ 266).

(2)

انظر: «المحلَّى» (1/ 77).

ص: 317

الملائكة. فإن الله تعالى قال: {كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ *فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ *فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ *مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ *بِأَيْدِي سَفَرَةٍ *كِرَامٍ بَرَرَةٍ *} [عبس]، وهذه الآية تفسير لآية الواقعة، فقوله:{فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ *} كقوله: {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ *} [الواقعة].

وقوله: {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ *} ، كقوله:{لَا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ *} [الواقعة].

والقرآنُ يُفسِّر بعضه بعضاً، ولو كان المراد ما ذَكَرَ الجمهور لقال:«لا يمسُّه إلا المطَّهِّرون» بتشديد الطاء المفتوحة وكسر الهاء المشددة، يعني: المتطهرين، وفرق بين «المطهَّر» اسم مفعول، وبين «المتطهِّر» اسم فاعل، كما قال الله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222].

وقولهم: إن الخبر يأتي بمعنى الطَّلب، هذا صحيح لكن لا يُحْمَلُ الخبر على الطلب إِلا بقرينة، ولا قرينة هنا، فيجب أن يبقى الكلام على ظاهره، وتكون الجملة خَبَريَّة، ويكون هذا مؤيِّداً لما ذكرناه من أن المراد بـ «المطهَّرون» ، الملائكة كما دلَّت على ذلك الآيات في سورة «عبس» .

وأما قوله: {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ *} [الواقعة]، فهو عائدٌ على القرآن، لأن الكلام فيه، ولا مانع من تداخل الضَّمائر، وعود بعضها إلى غير المتحدَّث عنه، ما دامت القرينة موجودة.

ثم على احتمال تساوي الأمرين فالقاعدة عند العلماء إنه إِذا وُجِدَ الاحتمال بَطلَ الاستدلال. فيسقط الاستدلال بهذه الآية، فنرجع إلى براءة الذِّمة .....

ص: 318

وأما بالنسبة لحديث عمرو بن حزم: فهو ضعيف، لأنه مُرسَل، والمرسل من أقسام الضَّعيف، والضَّعيف لا يُحْتَجُّ به في إثبات الأحكام؛ فضلاً عن إِثبات حُكْمٍ يُلْحِقُ بالمسلمين المشَقَّة العظيمة في تكليف عباد الله ألا يقرؤوا كتابه إلا وهو طاهرون، وخاصَّة في أيام البرد.

وإذا فرضنا صِحَّتَهُ بناء على شُهْرَتِهِ فإن كلمةَ «طاهر» تَحْتَمِلُ أن يكونَ طاهرَ القلب من الشِّرك، أو طاهر البَدَنِ من النَّجَاسَة، أو طاهراً من الحدث الأصغر؛ أو الأكبر، فهذه أربعة احتمالات، والدَّليل إِذا احتمل احتمالين بَطلَ الاستدلال به، فكيف إِذا احتمل أربعة؟

وكذا فإِن الطَّاهر يُطْلَقُ على المؤمن لقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28]، وهذا فيه إثبات النَّجاسة للمُشرك.

وقال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ المؤمنَ لا يَنْجُس»

(1)

، وهذا فيه نَفْيُ النَّجاسة عن المؤمن، ونفي النَّقيضِ يستلزم ثبوت نقيضه، لأنَّه ليس هناك إِلا طَهَارة أو نَجَاسة، فلا دلالة فيه على أن من مَسَّ المصْحَفِ لا يكون إِلا من مُتَوضِّئ.

وأما بالنِّسبة للنَّظَر: فنحن لا نُقِرُّ بالقياس أصلاً، لأن الظَّاهِريَّة لا يقولون به.

وعندي: أن ردَّهم للاستدلال بالآية واضح، وأنا أوافقهم على ذلك.

(1)

تقدم تخريجه، ص (25).

ص: 319

وأما حديث عمرو بن حزم فالسند ضعيف كما قالوا

(1)

، لكنْ مِنْ حيثُ قَبُولُ النَّاسِ له، واسْتنادُهم عليه فيما جاء فيه من أحكام الزَّكاة والدِّيات وغيرها، وتلقِّيهم له بالقَبُول يَدلُّ على أنَّ له أصلاً، وكثيراً ما يكون قَبُول النَّاس للحديث سواء كان في الأمور العلميَّة أو العَمَليَّة قائماً مقام السَّند، أو أكثر، والحديث يُسْتَدلُّ به من زمن التابعين إِلى وقتنا هذا، فكيف نقول: لا أَصْلَ له؟ هذا بَعيد جدًّا.

وكنت في هذه المسألة أميل إلى قول الظَّاهِريَّة، لكنْ لمَّا تأمَّلتُ قوله صلى الله عليه وسلم:«لا يمسُّ القرآن إلا طاهر» ، والطَّاهرُ يُطْلَق على الطَّاهر من الحدث الأصغر والأكبر لقوله تعالى:{مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة: 6]، ولم يكن من عادة النبيِّ صلى الله عليه وسلم أن يُعَبِّرَ عن المؤمن بالطَّاهر؛ لأنَّ وَصْفَهُ بالإِيمان أَبْلَغُ، تبيَّن لي أنَّه لا يجوز أن يمسَّ القرآنَ مَنْ كان محدثاً حدثاً أصغر، أو أكبر، والذي أَرْكَنُ إِليه حديث عمرو بن حزم، والقياس الذي استُدلَّ به على رأي الجمهور فيه ضعف، ولا يقوى للاستدلال به، وإِنما العُمْدَة على حديث عمرو بن حزم.

وقد يقول قائل: إِنَّ كتابَ عمرو بن حزم كُتِبَ إلى أهل اليَمَنِ، ولم يكونوا مسلمين في ذلك الوقت، فَكَوْنُهُ لِغَيْرِ المسلمين يكون قرينة أنَّ المراد بالطَّاهر هو المؤمِن.

وجَوَابُه: أن التَّعبير الكثير مِنْ قوله صلى الله عليه وسلم أن يُعَلِّقَ الشَّيء

(1)

تقدم تخريجه، ص (316).

ص: 320

بالإيمان، وما الذي يَمْنَعُهُ مِنْ أن يقول: لا يَمَسُّ القرآنَ إِلا مُؤْمِنٌ، مع أنَّ هذا واضح بَيِّن.

فالذي تَقَرَّرَ عندي أخيراً: أنَّه لا يجوز مَسُّ المصْحَفِ إِلا بِوُضُوء .....

مسألة: هل المحرَّمُ مَسُّ القرآنِ، أو مَسُّ المصحفِ الذي فيه القرآن؟ فيه وَجْهٌ للشَّافعية: أن المحرَّم مسُّ نَفْس الحروفِ دونَ الهوامِش

(1)

، لأنَّ الهوامِش وَرَقٌ، قال تعالى:{بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ *فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ *} [البروج]، والظَّرف غير المظروف.

وقال صلى الله عليه وسلم: «لا يَمَسَّ القرآنَ إِلا طَاهِرٌ»

(2)

.

وقال الحنابلة: يَحْرُمُ مَسُّ القرآن وما كُتِبَ فيه؛ إِلا أنَّه يجوز للصَّغير أن يَمَسَّ لوحاً فيه قُرآن بِشَرْطِ ألاَّ تقع يَدُهُ على الحروف

(3)

.

وهذا هو الأحوط؛ لأنه يَثْبُتُ تبعاً ما لا يَثْبُتُ استقلالاً.

مسألة: هل يَشْمُل هذا الحُكْم مَنْ دونَ البُلُوغ.

قال بعض العلماء: لا يَشْمُل الصِّغار لأنَّهم غير مكلَّفين

(4)

، وإِذا كانوا غير مكلَّفين فكيف نُلزمهم بشَيءٍ لا يتعلَّق به كُفْر، ولا ما دون الكُفْرِ؛ إِلا أنه مَعْصِيَة للكبير، وهؤلاء ليسوا من أهل المعاصي لِرَفْعِ القلمِ عنهم.

وهل يلزم وَلِيُّهُ أنْ يأمره بذلك، أو لا يلزمه؟

(1)

انظر: «المجموع شرح المهذَّب» (2/ 67).

(2)

تقدم تخريجه، ص (316).

(3)

انظر: «الإِقناع» (1/ 61).

(4)

انظر: «الإِنصاف» (2/ 73)، «المجموع شرح المهذب» (2/ 69).

ص: 321

الصَّحيح عند الشَّافعية: أنه لا يلزمه الوُضُوء، ولا يَلزم وليَّه أن يُلزِمه به

(1)

؛ لأنه غير مكلَّف.

ولأن إِلزام وليِّه به فيه مَشَقَّة وهو غير واجب عليه، وإِذا كان فيه مشقَّة في أمر لا يجب على الصَّغير، فإِنه لا يُلزِمه به وَلِيُّه.

والمشهور عند الحنابلة: أنه لا يجوز للصَّغير أن يَمَسَّ القرآن بلا وُضُوء، على وليِّه أن يُلزِمه به كما يلزمه بالوُضُوء للصَّلاة

(2)

، لأنه فعل تُشترط لحِلِّه الطَّهارة، فلا بُدَّ من إِلزام وليِّه به.

واستثنوا اللوح، فيجوز للصَّغير أن يَمَسَّه ما لَمْ تقع يدهُ على الحروف

(3)

. وعَلَّلَ بعضُهم ذلك بالمشقَّة

(4)

، وعَلَّلَ آخرون بأنَّ هذه الكتابة ليست كالتي في المصحف (585)، لأن التي في المصحف تُكْتَبُ للثُّبوت والاستمرار، أمَّا هذه فلا .....

ولو كَتَبْتَ قرآناً معكوساً ووضعتَه أمام المرآة، فإنه يكون قرآناً غير معكوس، ولا يَحْرُم مس المرآة، لأن القرآن لم يُكتبْ فيها.

وظاهِرُ كلام الفُقَهاء رحمهم الله: أنه لا يجوز مَسُّ «السُّبُّورة»

(5)

الثَّابتة بلا وُضُوء إِذا كُتِبَتْ فيها آية، لكن يجوز أن تَكتبَ القرآن بلا وُضُوء ما لم تمسَّها. وقد يُقال: إِن هذا الظَّاهر

(1)

انظر: «الإِنصاف» (2/ 73).

(2)

انظر: «الإِنصاف» (2/ 73).

(3)

انظر: «الإِنصاف» (2/ 73).

(4)

انظر: «المغني» (1/ 204)، «المجموع شرح المهذب» (2/ 70).

(5)

السُّبُّورة: لوح كبير يُعلَّق أمام جمهور من الناس، يُكتب عليه ويُمحى. «المعجم العربي الأساسي» ص (604).

ص: 322

غير مراد؛ لأنه يُفرَّق بين المصحف أو اللوح وبين السُّبُّورة الثَّابتة، بأنَّ المصحف أو اللوح يُنْقَل ويُحْمَل فيكون تابعاً للقرآن بِخِلاف السبّورة الثابتة.

وأمَّا كُتُب التَّفسير فيجوز مَسُّها؛ لأنها تُعْتَبر تفسيراً، والآيات التي فيها أقلُّ من التَّفسير الذي فيها.

ويُسْتَدَلُ لهذا بكتابة النبيِّ صلى الله عليه وسلم الكُتُبَ للكُفَّارِ، وفيها آيات من القرآن

(1)

، فدلَّ هذا على أن الحُكْمَ للأغلب والأكثر.

أما إِذا تساوى التَّفسير والقُرآن، فإِنَّه إِذا اجتمع مبيحٌ وحاظرٌ ولم يتميَّز أحدُهما بِرُجْحَانٍ، فإِنه يُغلَّب جانب الحظر فيُعْطى الحُكْمُ للقرآن.

وإن كان التَّفسير أكثر ولو بقليل أُعْطِيَ حُكْمَ التَّفسير.

‌والصَّلاةُ،

........

قوله: «والصَّلاة» ، أي: تَحْرُمُ الصَّلاة على المحدِثِ، وذلك بالنَّصِّ من الكتاب والسُّنَّة والإِجماع.

أولاً: الكتاب:

قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6]، ثم علَّلَ ذلك بأن المقصود التطهُّر لهذه الصَّلاة.

وعلى هذا فالطَّهارة شَرْطٌ لِصحَّةِ الصَّلاة وجَوازِها، فلا يَحِلُّ لأحَدٍ أن يُصَلِّيَ وهو مُحْدِثٌ، سواء كان حَدثاً أصغر أو أكبر.

فإِن صلَّى وهو مُحْدِثٌ، فإِنْ كان هذا استهزاء منه؛ فهو ....

(1)

تقدم تخريجه، ص (8).

ص: 323

كافر لاستهزائه. وإِنْ كان متهاوناً فقد اختلف العلماء رحمهم الله في تكفيره.

فمذهب أبي حنيفة رحمه الله: أنه يَكْفُر

(1)

، لأن من صلَّى وهو مُحْدِثٌ مع عِلْمِهِ بإِيجاب الله الوُضُوء فهذا كالمستهزئ، والاستهزاء كُفْرٌ كما قال الله تعالى:{قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} } [التوبة: 65، 66].

ومَذْهَبُ الأئمة الثَّلاثة: أنَّه لا يَكْفُر

(2)

، لأنَّ هذه معصيةَ، ولا يَلْزَمُ مِنْ تَرْكِهِ أنْ يكونَ مُسْتَهزئاً.

ولهذا قلنا: إِنْ صَلَّى بلا وُضُوء استهزاء فإِنَّه كافر، وإلا فلا، وهذا أقرب، لأنَّ الأَصْلَ بقاءُ الإِسلام، ولا يمكن أنْ نُخرِجه منه إلا بدليل.

ثانياً: السُّنَّة:

قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يَقْبَلُ الله صلاةً بغير طُهُور»

(3)

، وقال صلى الله عليه وسلم:«لا صلاة بغير طُهُور»

(4)

، وقال صلى الله عليه وسلم:«لا يقبل الله صلاة أَحَدِكُمْ إِذا أَحْدَثَ حتى يتوضَّأ»

(5)

.

(1)

انظر: «حاشية ابن عابدين» (1/ 81).

(2)

انظر: «الفروع» (1/ 188)، «المجموع شرح المهذب» (2/ 67).

(3)

رواه مسلم، كتاب الطهارة: باب وجوب الطهارة للصلاة، رقم (224).

(4)

رواه أحمد (2/ 57) من حديث ابن عمر، وأبو داود، كتاب الطهارة: باب فرض الوضوء، رقم (59) من حديث أبي المليح عن أبيه.

قال الحافظ ابن حجر: «إِسناده صحيح» . انظر: «الفتح» شرح حديث رقم (1410).

(5)

رواه البخاري، كتاب الوضوء: باب لا تقبل صلاة بغير طهور، رقم (135)، ومسلم، كتاب الطهارة: باب وجوب الطهارة للصلاة، رقم (225).

ص: 324

ثالثاً: الإجماع:

فقد أجمع المسلمون أنه يَحْرُمُ على المحْدِثِ أن يُصَلِّيَ بلا طَهَارة.

والصَّلاة هي التي بَيَّنَهَا الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم تحريمها التَّكبير، وتحليلها التَّسليم، سواء كانت ذاتَ رُكوع وسُجود أم لا.

فالفرائض الخَمسُ صلاة، والجمعة، والعيدان، والاستسقاء، والكسوف، والجنازة صلاة، لأن الجنازة مُفتتحة بالتكبير، مُختتمة بالتَّسليم، فينطبق عليها التَّعريف الشَّرعي، فتكون داخلة في مُسَمَّى الصَّلاة.

وقال بعض العلماء: إِنَّ الصَّلاةَ هي التي فيها رُكُوع وسجود

(1)

.

وقال آخرون: إِن الصَّلاة هي التي تكون رَكْعَتَيْن فأكثر، إِلا الوِتْر فهو صلاة، ولو رَكْعَة (593).

والأوَّل هو الأصحُّ.

وبناءً على هذا التَّعريف ننظر في سجدتَي التِّلاوة والشُّكر هل يكونان صلاة؟ ....

فالمشهور من المَذْهَبِ أنهما صلاة تُفْتَتَحُ بالتكبير، وتُخْتَتَمُ بالتَّسليم، ولهذا يُشرعُ عندهم أن يُكبِّر إِذا سجد وإِذا رفع، ويُسلِّم. وبِنَاءً على هذا يَحْرُمُ على المحْدِثِ أن يَسْجُدَ للتِّلاوة أو الشُّكْر وهو غير طاهر. فالخلاف في اشتراط الطَّهارة لهما مبنيٌّ

(1)

انظر: «مجموع الفتاوى» (21/ 277، 289)، «تهذيب السُّنن» (1/ 52).

ص: 325

على أنَّ سَجْدَتَي التِّلاوة والشُّكر هل هما صلاة أم لا؟ فإِن قُلْنا: إِنهما صلاة وَجَبَ لهما الطَّهارة، وإن قلنا: إنهما غير صلاة لم تَجِبْ لهما الطهارة.

والمتأمِّلُ للسُّنَّةِ يُدْرِك أنهما ليسا بصلاة لما يلي:

1 -

أن الرَّسول صلى الله عليه وسلم كان يسجد للتِّلاوة، ولم يُنْقَل عنه أنه كان يُكبّر إذا سجد أو رفع، ولا يسلِّم، إلا في حديث رواه أبو داود في التَّكبير للسجود دُونَ الرَّفع منه، ودُونَ التَّسليم

(1)

.

2 -

أن الرَّسول صلى الله عليه وسلم سَجَدَ في سورة النَّجْمِ، وسجد معه المسلمون والمشركون، والمشركُ لا تصحُّ منه صلاة، ولم يُنكر النبيُّ صلى الله عليه وسلم ذلك

(2)

.

وهذا قَدْ يُعَارَضُ فيه، فيُقال: إِنَّ سُجُودَ المشرِكين في ذلك الوقت كان قَبلَ فَرْضِ الوُضُوءِ، لأنَّ فَرْضَ الوُضُوءِ لمْ يَكُنْ إِلا مع فَرْض الصَّلاةِ، والصَّلاةُ لم تُفرض إِلا مُتأخِّرة قبل الهجرة بسَنةٍ، أو بثلاثِ سَنَوات، وما دام الاحتمالُ قائماً فالاستِدْلال فيه نظر.

والمتأمِّل لِسُجُودِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم للشُّكر، أو التِّلاوة يَظْهَرُ له أنه

(1)

رواه عبد الرزاق رقم (5911)، ومن طريقه أبو داود، كتاب الصلاة: باب في الرجل يسمع السجدة وهو راكب، رقم (1413) عن عبد الله بن عمر العمري، عن

نافع، عن ابن عمر قال:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ علينا القرآن، فإِذا مرَّ بالسجدة كبّر وسجد وسجدنا» . وعبد الله بن عمر العُمري ضعيف. كما في

«التقريب» . قال النووي: «رواه أبو داود وإِسناده ضعيف. «الخلاصة» رقم (48).

(2)

رواه البخاري، كتاب سجود القرآن: باب ما جاء في سجود القرآن وسُنتها، رقم (1067)، ومسلم، كتاب المساجد: باب سجود التلاوة، رقم (576) عن عبد الله

بن مسعود.

ص: 326

لا يُكَبِّر، وعليه لا تكون سجدة التِّلاوة والشُّكر من الصَّلاة، وحينئذٍ لا يَحْرُم على مَنْ كان مُحْدِثاً أن يَسْجُدَ للتِّلاوة أو الشُّكْرِ وهو على غَير طَهَارة، وهذا اختيار شيخ الإِسلام رحمه الله

(1)

.

وصَحَّ عن عبد الله بنِ عُمَر رضي الله عنه أنه كان يَسْجُدُ للتِّلاوة بلا وُضُوء

(2)

....

ولا رَيْبَ أنَّ الأفضل أن يتوضّأ، ولا سيَّما أن القارئ سوف يَتْلُو القرآن، وتِلاوَةُ القرآن يُشْرَعُ لها الوُضُوء، لأنها مِنْ ذِكْرِ الله، وكلُّ ذكر لله يُشرع له الوُضُوء.

أمَّا اشتراط الطَّهارة لِسُجُودِ الشُّكر فَضَعيف، لأنَّ سَبَبَهُ تَجدُّد النِّعَمِ، أو تجدُّد اندفاع النِّقَمِ، وهذا قد يَقَعُ للإِنسان وهو مُحْدِث.

فإن قلنا: لا تَسْجُدُ حتّى تَتَوَضَّأ؛ فرُبَّما يطول الفصل، والحُكْمُ المعلَّق بِسَبَبٍ إِذا تأخَّرَ عن سببه سقط، وحينئذٍ إِمّا أن يُقال: اسْجُدْ على غير وُضُوء، أو لا تسجد، لأنه قد لا يَجِدُ الإِنسانُ ماءً يتوضَّأ منه سريعاً ثمَّ يَسْجُد.

أما سُجُود التِّلاوة فَيَنْبَغِي ألا يَسْجُدَ الإِنسانُ إِلا وهو على طَهَارةٍ كما أنَّهُ يَنْبغي أَنْ يقرأ على طهارة.

‌والطَّوافُ.

قوله: «والطَّواف» ، أي: يَحْرُمَ على المُحْدِثِ الطَّوافُ بالبيتِ، سواء كان هذا الطَّواف نُسُكاً في حَجٍّ، أو عُمْرَةٍ أو تَطَوُّعاً، كما لو طَافَ في سَائِرِ الأيَّام.

(1)

انظر: «مجموع الفتاوى» (21/ 279، 293)، «الاختيارات» ص (60).

(2)

رواه البخاري معلقاً بصيغة الجزم، كتاب سجود القرآن: باب سجود المسلمين مع المشركين، انظر ترجمة حديث رقم (1071) ..

ص: 327

والدَّليل على ذلك:

1 ـ أنه ثَبَتَ عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه حين أراد الطَّواف تَوَضَّأ ثمَّ طاف

(1)

.

2 ـ حديث صفيَّة لمَّا قيل له: إِنَّ صَفِيَّة قد حاضَتْ، وظنَّ أنها لم تَطُفْ للإِفاضة فقال:«أحابستنا هي؟»

(2)

.

والحائِضُ معلوم أنَّها غيرُ طاهِرٍ.

3 ـ حديث عائشة أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال لها حين حاضت: «افعلي ما يفعل الحاجُّ غيرَ أنْ لا تطوفي بالبيت»

(3)

.

4 ـ قوله صلى الله عليه وسلم: «الطَّواف بالبيت صلاة؛ إِلا أنَّ الله أباح فيه الكلام؛ فلا تَكلَّموا فيه إِلا بخير»

(4)

.....

(1)

رواه البخاري، كتاب الحج: باب من طاف بالبيت إِذا قدم مكة، رقم (1614، 1615)، ومسلم، كتاب الحج: باب ما يلزم من طاف بالبيت وسعى من البقاء على

الإِحرام وترك التحلل، رقم (1235) من حديث عائشة.

(2)

(3)

(4)

رواه الترمذي، كتاب الحج: باب ما جاء في الكلام في الطواف، رقم (960)، وابن خزيمة رقم (2739)، وابن حبان رقم (3836) وغيرهم من حديث ابن عباس

موقوفاً ومرفوعاً.

ورجَّح رواية الوقف: النسائي، والبيهقي، وابن الصلاح، والمنذري، والنووي.

ورجّح رواية الرفع: ابن السكن، وابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، وابن حجر.

انظر: «التلخيص الحبير» رقم (174)، «موافقة الخُبر الخبر» (2/ 131).

ص: 328

5 ـ استدلَّ بعضهم بقوله تعالى: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: 125].

وجه الدَّلالة: أنه إِذا وَجَبَ تطهير مكان الطَّائف، فتطهيرُ بَدَنِهِ أَوْلَى، وهذا قَول جمهورِ العلماء

(1)

.

وقال بعض العلماء: إِنَّ الطَّوافَ لا تُشْتَرطُ له الطَّهارة، ولا يَحْرُمُ على المُحْدِثِ أنْ يَطُوفَ، وإِنَّما الطَّهارة فيه أَكْمَل

(2)

.

واسْتَدَلُّوا: بأنَّ الأَصْلَ بَراءة الذِّمَّة حتى يقوم دليلٌ على تحريمِ هذا الفِعْل إِلاَّ بهذا الشَّرط، ولا دليلَ على ذلك، ولمْ يَقُل النبيُّ صلى الله عليه وسلم يوماً من الدَّهْر: لا يقبل الله طَوَافاً بغيرِ طهور، أو: لا تطوفوا حتى تطَّهَّروا. وإِذا كان كذلك فلا نُلْزِم الناس بأمرٍ لم يكن لنا فيه دليلٌ بَيِّنٌ على إِلزامهم، ولا سيَّما في الأحوالِ الحرِجَة كما لو انتقضَ الوُضُوءُ في الزَّحْمَةِ الشَّديدةِ في أيَّامِ الموسِمِ، فَيَلْزمه على هذا القَوْلِ إِعَادَةُ الوُضُوء، والطَّوافِ مِنْ جديد.

وأجابوا عن أدلَّة الجمهور:

أنَّ فِعْلَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم المجرَّد لا يدلُّ على الوُجُوبِ، بل يَدلُّ على أنَّه الأفضل، ولا نِزاع في أنَّ الطَّوافَ على طَهَارة أفضل؛ وإِنَّما النِّزاع في كَوْنِ الطَّهارة شَرْطاً لصِحَّة الطَّواف.

وأمَّا حديث عائشة: «افْعَلي ما يفعل الحاجُّ

» إلى آخره، وقوله صلى الله عليه وسلم في صفيَّة:«أحابِسَتنا هي؟» . فالحائض إِنما مُنِعَتْ مِنَ ....

(1)

انظر: «المغني» (5/ 222).

(2)

انظر: «مجموع الفتاوى» (21/ 273)، (26/ 123).

ص: 329

الطَّواف بالبيت، لأنَّ الحيض سَبَبٌ لمنْعِها من المُكْثِ في المسجد، والطَّواف مُكْثٌ.

وأيضاً: فالحيض حَدَثٌ أكبر، فلا يُسْتَدلُّ بهذا على أنَّ المحدِثَ حَدَثاً أصغرَ لا يجوزُ لَهُ الطَّواف بالبيت، وأنتم توافقون على أنَّ المحدِثَ حدثاً أصغر يجوز له المُكْثُ في المسجد، ولا يجوز للحائض أن تَمْكُثَ، فَمَنَاطُ حُكْمِ المنْعِ عندنا هو المُكْثُ في المسجد.

وأمَّا حديث: «الطَّواف بالبيت صلاة»

(1)

فَيُجَاب عنه:

1 ـ أنَّه موقوفٌ على ابن عباس، ولا يَصِحُّ رفعه للنبي صلى الله عليه وسلم.

2 ـ أنَّه مُنْتَقَضٌ، لأنَّنا إِذا أخذنا بِلَفْظِهِ، فإِنَّه على القواعِد الأصوليَّة يقتضي أنَّ جميعَ أحكام الصَّلاة تَثْبُتُ للطَّواف إِلاَّ الكلام، لأن مِنَ القواعد الأصولية: أنَّ الاستثناء مِعيار العُمُوم، أي: إِذا جاء شيء عام ثم استثني منه، فكلُّ الأفراد يتضمَّنه العموم، إلا ما اسْتُثْنِيَ، وإِذَا نظرنا إلى الطَّواف وجدناه يُخالِفُ الصَّلاة في غَالِبِ الأحكام غير الكلام، فهو يجوز فيه الأكلُ، والشُّربُ، ولا يجب فيه تكبير ولا تسليم، ولا قراءة، ولا يبطل بالفعل ونحوه، وكلامه صلى الله عليه وسلم يكون مُحْكَماً لا يمكن أن يَنْتَقِضَ، فلمّا انْتَقَضَ بهذه الأمور ووجدنا هذه الاستثناءات علمنا أنَّ هذا لا يصحُّ من قول الرسول صلى الله عليه وسلم.

وهذا أحد الأوجه التي يُسْتَدَلُّ بها على ضَعْفِ الحديث

(1)

تقدم تخريجه، ص (328).

ص: 330

مرفوعاً، وهو أن يكون متخلخلاً، لا يمكن أن يَصْدُرَ من النبيِّ صلى الله عليه وسلم.

وأما بالنسبة للآية؛ فلا يَصِحُّ الاستدلال بها، إِذ يلزم منه أنَّ المعْتَكِفَ لا يصحُّ اعتكافُه إلا بطهارة، ولم يَشْتَرِطْ أحدٌ ذلك، إِلا إِنْ كان جُنُباً فيجب عليه أن يَتَطَهَّر ثم يَعْتَكِف؛ لأنَّ الجنابة تُنافي المُكْثَ في المسجد .....

ولا شَكَّ أنَّ الأفضل أن يَطُوفَ بطهارة بالإِجماع، ولا أظنُّ أنَّ أحداً قال: إِنَّ الطواف بطهارة وبغير طهارة سواء، لأنه من الذِّكرِ، ولِفِعْلِهِ صلى الله عليه وسلم.

مسألة: إِذا اضطُرَّت الحائض إِلى الطَّواف

(1)

.

على القول بأنَّ الطَّهارة من الحيض شَرْط فإنها لا تطوف؛ لأنها لو طافت لم يصحَّ طوافها؛ لأنه شرط للصِّحَّة.

وإن قلنا: لا تطوف لِتَحْرِيمِ المقَام عليها في المسجد الحرام، فإنها إِذا اضْطُرَّت جَازَ لها المُكثُ، وإِذا جاز المُكث جاز الطَّواف.

ولهذا اخْتَلَفَ العلماءُ في امرأةٍ حاضت ولم تَطُفْ للإِفاضَةِ، وكانت في قافِلَةٍ ولن ينتظروها

(2)

، فهذه القوافل التي لا يمكن أن تنتظر ولا يمكنُ للمرأة أن تَرْجِعَ إِذا سافرت؛ كما لو كانت في أقصى الهند أو أمريكا، فحينئذٍ إِما أن يُقَال: تكون مُحْصَرة

(1)

انظر: «مجموع الفتاوى» (26/ 242)، «إِعلام الموقعين» (3/ 26).

(2)

انظر: «مجموع الفتاوى» (26/ 199، 243)، «الاختيارات» ص (27).

ص: 331

فَتَتَحَلَّل بِدَمٍ، ولا يَتِمُّ حَجُّهَا؛ لأنَّها لمْ تَطُفْ. وهذا فيه صُعُوبَةٌ لأنها حينئذٍ لم تُؤَدِّ الفريضةَ.

أو يقال: تذهب إلى بلدها وهي لم تَتَحَلَّل التَّحَلُّلَ الثَّاني، فلا يَحِلُّ لها أن تتزوَّج ولا يحلُّ لمزوَّجةٍ أن يَقْرَبَهَا زوجُها، وإِنْ مات عنها أو طَلَّقَهَا لا يحلُّ لها أن تتزوَّج، لأنها ما زالت في إِحرام، وهذا فيه مَشَقَّةٌ عظيمة.

أو يقال: تَبْقَى في مكَّة وهذا غير ممكن.

أو يُقال: تطوف للضَّرورة، وهذا اختيارُ شيخ الإسلام رحمه الله

(1)

، وهو الصَّواب، لكنْ يجبُ عليها أن تَتَحَفَّظَ حتى لا ينْزل الدَّمُ إلى المسجد فيلوِّثه .....

(1)

انظر: «مجموع الفتاوى» (26/ 199، 243)، «الاختيارات» ص (27).9 ن

ص: 332

‌بابُ الغُسْلِ

‌وموجِبُهُ خروجُ المنيِّ دفقاً بِلذَّةٍ ............

أي: باب ما يوجبه، وصِفَتُهُ، فالباب جَامِعٌ للأمرين.

قوله: «ومُوجِبُهُ» ، بالكَسْرِ، أي: الشيء الذي يوجب الغُسْل، يقال: موجب بِكَسْرِ الجيم وفَتْحِهَا.

فبالكسر: هو الذي يُوجبُ غيره.

وبالفتح: هو الذي وَجَبَ بغيره، كما يقال: مُقْتَضي بكسر الضَّادِ: الذي يقتضي غيره، ومقتضَى بفتحها: الذي اقتضاه غيرُه.

قوله: «خروج المنيِّ دفقاً بلذَّةٍ» ، هذا هو الموجِبُ الأوَّل

(1)

.

والدَّليل على ذلك:

1 -

قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6]، والجُنُبُ: هو الذي خرج منه المنيُّ دَفقاً بلذَّةٍ.

2 -

قَولُه صلى الله عليه وسلم: «الماءُ من الماءِ»

(2)

، المراد بالماء الأوَّل ماء الغُسلِ؛ عبَّر به عنه، وبالماء الثَّاني المنيّ، أي: إِذا خرجَ المنيُّ وجبَ الغُسْلُ.

وظاهر الحديثِ أنَّه يجب الغُسل سَوَاء خرجَ دَفْقاً بلذَّةٍ، أم لا، وهذا مذهب الشَّافعي رحمه الله: أنَّ خروج المنيِّ مُطلقاً

(1)

انظر: «المغني» (1/ 265).

(2)

رواه مسلم، كتاب الحيض: باب إنما الماء من الماء، رقم (343) من حديث أبي سعيد الخدري.

ص: 333

مُوجِبٌ للغُسْلِ حتى ولو بدونِ شَهْوَةٍ وبأيِّ سَبَبٍ خرج

(1)

، لعُمُومِ الحديث، وجمهور أهل العلم: يشترطون لوُجُوبِ الغُسل بخروجه أن يكون دفقاً بلذَّة

(2)

.

وقال بعضُ العلماء: بلذَّةٍ. وحَذَفَ «دفقاً» ، وقال: إِنَّه متى كان بلذَّة فلا بُدَّ أنْ يكونَ دفقاً

(3)

.

وذِكْرُ الدَّفقِ أَوْلى لموافقةِ قوله تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ *} {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ *} [الطارق].

فإِذا خرجَ مِنْ غيرِ لذَّةٍ مِنْ يقظانَ فإِنَّه لا يُوجِبُ الغُسْلَ على ما قاله المؤلِّفُ، وهو الصَّحيح.

فإنْ قيل: ما الجواب عن حديثِ: «الماءُ من الماءِ» .

قلنا: إن يُحملُ على المعهودِ المعروف الذي يَخْرُجُ بلذَّة، ويوجِبُ تحلُّلَ البَدَنِ وفُتُورَه، أما الذي بدونِ ذلك، فإِنه لا يوجبُ تحلُّلَهُ ولا فُتورَه، ولهذا ذكروا لهذا الماء ثلاث علامات

(4)

:

الأولى: أنْ يَخْرُجَ دفقاً.

الثانية: الرَّائحة، فإِذا كان يابساً فإِنَّ رائحتَه تكون كرائِحَة البَيْضِ، وإِذا كان غيرَ يابِسٍ فرائحته تكونُ كرائحة العَجِينِ واللِّقاح

(5)

.

(1)

انظر: «المجموع شرح المهذب» (2/ 139).

(2)

انظر: «المغني» (1/ 266).

(3)

انظر: «حاشية العنقري على الروض المربع» (1/ 74) .....

(4)

انظر: «الكافي» (1/ 121)، «المجموع شرح المهذَّب» (2/ 141).

(5)

اللقَاح: اسم ما يلقح به النخل.

ص: 334

الثالثة: فُتُورُ البَدَنِ بَعْدَ خُروجِه.

‌لا بِدُونِهما مِنْ غيرِ نائِمٍ ...........

قوله: «لا بدونهما» ، الضَّميرُ يعودُ على الدَّفْقِ، واللَّذَّةِ.

قوله: «من غير نائم» ، أي: من اليَقْظَان، فإذا خَرَجَ مِنَ اليقظان بلا لذَّةٍ، ولا دَفْقٍ، فإِنه لا غُسْلَ عليه.

وعُلم منه: أنَّه إِنْ خرجَ مِنْ نائم وَجَبَ الغُسْلُ مطلقاً، سواء كان على هذا الوصف أم لمْ يكن، لأنَّ النَّائِم قد لا يُحِسُّ به، وهذا يَقَعُ كثيراً أنَّ الإِنسان إِذا استيقظ وجدَ الأثرَ، ولم يشعرْ باحتلامٍ، والدَّليل على ذلك أنَّ أمَّ سُليم رضي الله عنها سألت النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن المرْأَةِ ترى في منامِها ما يرى الرَّجُلُ في منامه، هل عليها غُسْل؟ قال:«نعم، إِذا هي رَأتِ الماء»

(1)

. فأوجبَ الغُسْل إِذا هي رأت الماء، ولم يشترطْ أكثر من ذلك، فدلَّ على وُجُوبِ الغُسْل على مَنْ استيقظ وَوَجَدَ الماءَ سواء أحسَّ بخُروجِهِ أم لَمْ يُحِسَّ، وسواء رأى أنَّه احتلمَ أم لم يَرَ، لأنَّ النَّائمَ قد ينسى، والمرادُ بالماء هنا المنيُّ.

فإِذا استيقظَ ووجد بَللاً فلا يخلو من ثلاث حالات:

الأولى: أن يتيقَّنَ أنَّه مُوجِبٌ للغُسْل، يعني: أنَّه مَنِيٌّ، وفي هذه الحال يجبُ عليه أنْ يغتسلَ سواء ذَكَرَ احتلاماً أم لم يذكر.

الثانية: أنْ يتيقَّنَ أنَّه ليسَ بِمِنِيٍّ، وفي هذه الحال لا يجب الغُسْل، لكنْ يجب عليه أنْ يَغْسِلَ ما أصابه، لأن حُكْمَهُ حُكمُ البولِ.

(1)

رواه البخاري، كتاب العلم، باب الحياء في العلم، رقم (130)، ومسلم، كتاب الحيض: باب وجوب الغسل على المرأة بخروج المني منها، رقم (310، 311، 312، 313) من حديث أم سلمة، وأم سُليم، وأنس بن مالك.

ص: 335

الثالثة: أنْ يجهلَ هل هو مَنيٌّ أم لا؟ فإِن وُجِدَ ما يُحَالُ عليه الحُكْم بِكَوْنِهِ منيًّا، أو مذياً أُحِيلَ الحكم عليه، وإِنْ لم يوجد فالأصل الطَّهارة، وعدم وجوب الغُسْل، وكيفيَّة إِحالةِ الحُكْمِ أَنْ يُقال: إِنْ ذَكَرَ أنَّه احتلم فإِننا نجعله منيًّا، لأنَّ الرَّسول صلى الله عليه وسلم لما سُئِل عن المرأة تَرى في مَنَامِها ما يَرى الرَّجُلُ في مَنَامِهِ؛ هل عليها غسل؟ قال:«نعم، إِذا هي رأت الماءَ»

(1)

، وإِنْ لم يَرَ شيئاً في منامه، وقد سبقَ نومَهُ تفكيرٌ في الجِمَاعِ جعلناه مَذياً، لأنَّه يخرج بعد التَّفكيرِ في الجِمَاعِ دونَ إِحساس، وإِنْ لَمْ يَسْبِقْه تفكير ففيه قَوْلان للعلماء:

قيل: يجبُ أن يغتسلَ احتياطاً

(2)

.

وقيل: لا يجب (617)، وقد تعارضَ هُنا أصْلان.

‌وإِن انْتَقَل، ولَمْ يخرج، اغْتَسل لَه،

.........

قوله: «وإن انتقل ولَمْ يخرج، اغْتَسل لَه» ، أي: المنيُّ، يعني: أَحَسَّ بانتقاله لكنه لَمْ يَخْرُجْ، فإِنَّه يغتسل، لأن الماء بَاعَدَ محلَّهُ، فَصَدَقَ عليه أنه جُنُبٌ، لأن أصل الجَنَابَةِ من البُعْدِ.

وهل يُمكن أنْ يَنتقلَ بلا خُرُوج؟

نعم يمكن؛ وذلك بأن تَفْتُرَ شهوتُه بَعْدَ انتقاله بسببٍ من الأسباب فلا يخرج المنيُّ.

ومثَّلوا بمثالٍ آخر: بأنْ يمسكَ بذَكَرِهِ حتى لا يَخْرج المنيُّ، وهذا وإن مَثَّلَ به الفقهاء فإِنه مُضِرٌّ جدًّا، والفقهاء رحمهم الله

(1)

انظر تخريج الحديث السابق.

(2)

انظر: «القواعد» لابن رجب ص (20)، «الإنصاف» (2/ 84).

ص: 336

يمثِّلون بالشَّيء للتَّصويرِ بِقَطْعِ النَّظَرِ عنْ ضَررِهِ أو عدم ضرره، على أنَّ الغالبَ في مِثْلِ هذا أنْ يخرج المنيُّ بَعْدَ إِطلاق ذَكَرِهِ.

وقال بعض العلماء: لا غُسْلَ بالانتقال

(1)

، وهذا اختيار شيخِ الإسلام

(2)

وهو الصَّواب، والدَّليل على ذلك ما يلي:

1 -

حديثُ أُمِّ سَلَمَةَ وفيه: «نعم، إِذا هي رأت الماءَ»

(3)

، ولم يقلْ: أو أَحَسَّتْ بانتقالِه، وَلَوْ وَجَبَ الغُسْلُ بالانتقالِ لَبَيَّنَهُ صلى الله عليه وسلم لدُعَاءِ الحاجَةِ لِبَيَانِهِ.

2 -

حديثُ أبي سعيدٍ الخُدريِّ: «إنما الماءُ من الماءِ»

(4)

، وهُنا لا يوجَدُ ماءٌ، والحديث يَدُلُّ على أنَّه إِذا لم يَكُنْ ماءٌ فلا ماءَ.

3 -

أن الأصل بقاءُ الطَّهارة، وعَدَمُ مُوجب الغَسْل، ولا يُعْدَل عنْ هذا الأصْل إِلا بدليل.

‌فإِن خَرَجَ بَعْده لم يُعِدْه،

........

قوله: «فإِن خَرَجَ بَعْدَه لم يُعِدْه» ، أي: إِذا اغْتَسَلَ لهذا الذي انتقل ثُمَّ خرجَ مع الحركةِ، فإِنَّه لا يُعِيدُ الغُسْلَ، والدَّليل:

1 -

أنَّ السَّببَ واحدٌ، فلا يوجِبُ غُسْلَين.

2 -

أنَّه إِذا خَرجَ بعد ذلك خَرَجَ بلا لذَّةٍ، ولا يَجِبُ الغُسْل إِلا إِذا خرج بلذَّةٍ.

لكنْ لَوْ خَرَجَ منيٌّ جديدٌ لشهوةٍ طارِئة فإِنَّه يَجِبُ عليه الغُسْل بهذا السَّبب الثَّاني.

(1)

انظر: «الإنصاف» (2/ 87).

(2)

انظر: «الاختيارات» ص (17).

(3)

تقدم تخريجه ص (335).

(4)

تقدم تخريجه ص (333).

ص: 337

‌وتَغْييبُ حَشَفَةٍ أصليَّةٍ في فَرْجٍ أصليٍّ،

.........

قوله: «وتَغْييبُ حَشَفَةٍ أصليَّة» ، هذا الموجِبُ الثَّاني من مُوجِبَات الغُسل.

وتَغْييبُ الشَّيءِ في الشَّيءِ معناه: أنْ يختفيَ فيه.

وقوله: «أصليَّة» يُحْتَرز بذلك عن حَشَفَةِ الخُنْثَى المُشْكِل، فإِنها لا تُعتبر حَشَفَةً أصليَّة. فلو غَيَّبَهَا في فَرْجٍ أصليٍّ أو غير أصليٍّ فلا غُسْلَ عليهما.

والخُنْثى المُشْكِل: مَنْ لا يُعْلَمُ أذَكَرٌ هو أم أُنثى، مثل: أنْ يكونَ له آلة ذَكَرٍ وآلة أنثى، ويبول منهما جميعاً، فإِنه مُشْكِل، وقد يتَّضِح بعدَ البلوغِ، وما دام على إِشكاله فإِنَّ فَرْجَه ليس أصليًّا.

قوله: «في فَرْجٍ أصليٍّ» ، احترازاً منْ فرجِ الخُنثى المُشْكِل، فإِنه لا يُعْتبرُ تَغْييبُ الحَشَفَةِ فيه موجباً للغُسْل، لأنَّ ذلك ليس بفَرْجٍ.

فإِذا غَيَّبَ الإِنسانُ حَشفَتَهُ في فَرْجٍ أصليٍّ، وجبَ عليه الغُسْلُ أنزلَ أم لم يُنْزِلْ.

والدَّليل على ذلك: حديث أبي هريرة أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا جَلَسَ بَيْنَ شُعَبِهَا الأربَع، ثم جَهَدَهَا، فقدْ وَجَبَ الغُسْلُ» ، أخرجه الشَّيخان

(1)

.

وفي لفظٍ لمسلم: «وإِنْ لمْ يُنْزِلْ»

(2)

، وهذا صريحٌ في

(1)

رواه البخاري، كتاب الغسل: باب إِذا التقى الختانان، رقم (291)، ومسلم، كتاب الحيض: باب نسخ الماء من الماء، رقم (348).

(2)

ص: 338

وُجوبِ الغُسْلِ وإِنْ لم يُنْزِل، وهذا يَخْفَى على كثير منَ النَّاس، فتجد الزَّوجين يحصُلُ منْهما هذا الشَّيء، ولا يغتسلان، ولا سيَّما إِذا كانا صغيرَين ولم يتعلَّما، وهذا بناءً على ظنِّهم عدم وجوب الغُسْل إِلا بالإِنزال، وهذا خطأ.

‌قُبُلاً كَانَ أَوْ دُبُراً، وَلَو من بَهِيمَةٍ، أو مَيْتٍ،

...........

قوله: «قُبُلاً كان أو دُبُراً» ، وَطْءُ الدُّبُرِ حرام للزَّوج، وغيره من باب أَوْلَى، وهذا من باب التَّمثيل فقط، وقد سبَق أنَّ الفقهاء رحمهم الله يمثِّلون بالشَّيء بِقَطْع النَّظر عن حِلِّهِ، أو حُرْمَتِهِ

(1)

، ويُعرف حُكْمه من محلٍّ آخر.

قوله: «ولو من بَهِيمَةٍ أو مَيْتٍ» ، لو: إِشارة خِلاف، فَمِنْ أهل العلم من قال: يُشترط لِوُجُوبِ الغُسْلِ بالجِمَاعَ أنْ يكون في فَرْجٍ من آدميٍّ حيٍّ

(2)

. وعلى هذا الرَّأي لو أولجَ بفَرجِ امرأة ميْتة ـ مع أنَّه يَحْرُم ـ فعليه الغُسْل، ولو أَوْلَجَ في بهيمة فعليه الغُسْل.

وقال بعض العلماء: إِنه لا يجب الغُسل بِوَطْءِ الميْتَةِ إِلا إِذَا أَنْزَلَ (625). والدَّليل قوله صلى الله عليه وسلم: «إِذا جلس بين شُعَبِها الأربع ثم جَهَدَهَا» ، وهذا لا يحصلُ إِذا كانت ميتة، لأنه لا يُجْهِدها.

وأيضاً: تلذُّذه بها غير تلذُّذه بالحيَّة.

أما البَهِيمَة فالأمر فيها أبعدُ وأبعدُ، لأنَّها ليست محلًّا لجِمَاع الآدميِّ بمقتضَى الفطرة، ولا يَحلُّ جِمَاعها بحال.

وهل يُشْتَرط عدم وجود الحائل؟

(1)

انظر ص (336).

(2)

انظر: «الإِنصاف» (2/ 97).

ص: 339

قال بعض العلماء: يُشْتَرَط أن يكون ذلك بلا حائل

(1)

، لأنَّه مع الحائل لا يَصْدُق عليه أنه مَسَّ الختانُ الختانَ، فلا يجب الغُسْلُ.

وقال آخرون: يجب الغُسْلُ (626) لعُموم قوله صلى الله عليه وسلم: «ثم جَهَدَهَا» ، والجَهْدُ يحصُل ولو مع الحائل.

وفَصَّل آخرون فقالوا: إنْ كان الحائلُ رقيقاً بحيث تَكْمُل به اللَّذَّةُ وجب الغُسْلُ، وإن لم يكن رقيقاً فإِنه لا يجب الغُسْل (626)، وهذا أقرب، والأَولَى والأحوط أن يغتسل.

‌وإِسْلامُ كافرٍ،

.........

قوله: «وإسلامُ كافرٍ» ، هذا هو الموجِبُ الثَّالث من موجِبَات الغُسْل، وهو إِسلام الكافر، وإذا أسلم الكافر وجب عليه الغُسْل سواء كان أصليًّا، أو مرتدًّا.

فالأصليُّ: من كان من أول حياته على غَيْرِ دِينِ الإِسلام كاليهوديِّ والنَّصْرانيِّ، والبوذيِّ، وما أشبه ذلك.

والمرتدُّ: من كان على دين الإِسلام ثم ارتدَّ عنه ـ نسأل الله السَّلامة ـ كَمَنْ ترك الصَّلاة، أو اعتقد أنَّ لله شريكاً، أو دعا النبيَّ صلى الله عليه وسلم أن يُغِيثَه من الشِّدَّة، أو دعا غيره أن يُغِيثه في أمرٍ لا يمكن فيه الغَوْثُ.

والدَّليل على وجوب الغُسْل بذلك:

1 -

حديث قَيس بن عاصم أنَّه لمَّا أسلم أَمَره النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يغتسل بماءٍ وسِدْر

(2)

، والأَصْلُ في الأمر الوُجوب.

(1)

انظر: «الإِنصاف» (2/ 92، 93)، «المجموع شرح المهذب» (2/ 134).

(2)

رواه أحمد (5/ 61)، وأبو داود، كتاب الطَّهارة: باب في الرجل يُسلم فيُؤمر بالغسل، رقم (355)، والنَّسائي، كتاب الطَّهارة: باب غسل الكافر إِذا أسلم، (1/ 110)، رقم (188)، والترمذي، كتاب الصلاة: باب ما ذكر في الاغتسال عندما يسلم الرجل، رقم (605) وغيرهم.

والحديث: حسَّنه الترمذي. وصحَّحه ابن خزيمة، رقم (255)، وابن حبان، رقم (1240) وقال ابن المنذر:«حديث ثابت» . «الأوسط» (2/ 114)، وصحَّحه أيضاً: النووي في «الخلاصة» رقم (455).

ص: 340

2 -

أنه طَهَّر باطنه من نَجَسِ الشِّرْك، فَمِنَ الحِكْمَةِ أن يُطَهِّرَ ظاهره بالغُسْلِ.

وقال بعض العلماء: لا يَجِب الغُسْل بذلك

(1)

، واستدلَّ على ذلك بأنه لم يَرِدْ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أمر عامٌّ مثل: مَنْ أسلم فَلْيَغْتَسِلْ، كما قال:«من جاء مِنْكُم الجُمُعَةَ فَلْيَغْتَسِل»

(2)

، وما أكثر الصَّحابة الذين أسلموا، ولم يُنْقَل أنه صلى الله عليه وسلم أمرهم بالغُسْلِ أو قال: من أسلم فليغتسل، ولو كان واجباً لكان مشهوراً لحاجة النَّاس إليه.

وقد نقول: إنَّ القول الأوَّل أقوى وهو وُجوب الغُسْل، لأنَّ أَمْرَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم واحداً مِنَ الأمَّة بحُكْمٍ ليس هناك معنى معقول لتخصيصه به أمْرٌ للأمة جميعاً، إذ لا معنى لتخصيصه به. وأمْرُه صلى الله عليه وسلم لواحد لا يعني عدم أمْرِ غيره به.

وأما عدم النَّقل عن كلِّ واحد من الصَّحابة أنه اغتسل بعد إِسلامه، فنقول: عدم النَّقل، ليس نقلاً للعدم؛ لأنَّ الأصلَ العملُ بما أمر به النبيُّ صلى الله عليه وسلم، ولا يلزم أن يُنْقلَ العمل به من كلِّ واحد.

(1)

انظر: «الإِنصاف» (2/ 98).

(2)

رواه البخاري، كتاب الجمعة: باب فضل الغسل يوم الجمعة، رقم (877)، ومسلم، كتاب الجمعة، رقم (844) من حديث عبد الله بن عمر.

ص: 341

وقال بعض العلماء: إِنْ أتَى في كفره بما يوجب الغُسْل كالجَنَابَةِ مثلاً وجب عليه الغُسْلُ سواء اغتسل منها أم لا، وإِنْ لم يأت بموجب لم يجب عليه الغُسْلُ

(1)

.

وقال آخرون: إِنه لا يجب عليه الغُسْلُ مطلقاً، وإِن وجد عليه جنابة حال كُفْرِه ولم يغتسل منها (630)، لأنه غير مأمور بشرائع الإِسلام. والأَحْوَط أن يغتسل؛ لأنه إِن اغتسل وصلَّى فَصَلاتُه صحيحة على جميع الأقوال، ولو صلَّى ولم يغتسل ففي صِحَّة صَلاته خلاف بين أهل العلم.

‌ومَوْتٌ،

...........

قوله: «وموت» ، هذا هو الموجِب الرابع من موجبَات الغُسْل.

أي: إِذا مات المسلم وجب على المسلمين غَسْلُه، والدَّليل على ذلك:

1 -

قوله صلى الله عليه وسلم فِيمَنْ وَقَصَتْهُ ناقتُه بعرفة: «اغسلوه بماءٍ وسِدْرٍ

»

(2)

، والأصل في الأَمْرِ الوُجُوب.

2 -

حديث أم عطيَّة حين ماتت ابنته وفيه: «اغسلنها ثلاثاً، أو خمساً، أو سبعاً، أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك»

(3)

.

وهذا الحديث قد يُنازَع فيه بأن يُقال: إِنَّ المقصود مِنْ

(1)

انظر: «الإنصاف» (2/ 98، 99).

(2)

رواه البخاري، كتاب جزاء الصيد: باب سنة المحرم إذا مات، رقم (1851)، ومسلم، كتاب الحج: باب ما يُفعل بالمحرم إذا مات، رقم (1206) من حديث ابن عباس.

(3)

تقدم تخريجه ص (309).

ص: 342

تغسيلِ الميْتِ فيه التنظيف، لأنَّ التَّعبُّد بالطَّهارة حدّه ثلاث، ولا يُوْكَلُ إلى رأي الإِنسان، وفي هذا الحديث وَكَلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم الأمْرَ إِلى رأيهنَّ.

وقد يقال: إِنَّه وَكَلَ الأمر إلى رأيهن في زيادة عدد الغسلات لا في أصل الغُسْل، لكنَّ الدَّليل الأول كافٍ في ذلك، بل إِنَّ تغسيلَ الأمواتِ أَمْرٌ معلوم بالضَّرورة، ومشهور شُهْرَة يكاد يكون متواتراً.

وسواء مات فجأة، أو بحادث، أم بمرضٍ، أم كان صغيراً، أم كبيراً.

وهل يشمل السَّقط؟

فيه تفصيل: إِن نُفِخت فيه الرُّوح غُسِّل، وكُفِّنَ، وصُلِّيَ عليه، وإِن لم تُنْفَخ فيه الرُّوح فلا.

وتُنْفَخُ الرُّوح فيه إِذا تَمَّ له أربعة أشْهُرٍ؛ لحديث عبد الله بن مسعود قال: حدَّثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصَّادق المصدوق: «إِنَّ أحدَكُم يُجْمَعُ خَلْقُهُ في بَطْن أُمِّه، أربعين يوماً نُطْفَةً، ثم يكون عَلَقَةً مثل ذلك، ثم يكون مُضْغَة مثل ذلك، ثم يُرْسَل إِليه الملك، فيُؤمَرُ بأربع كلمات، بِكَتْبِ: رِزْقِهِ، وأَجَلِهِ، وعَمَلِه، وشقيٌّ أم سعيد، ثم يَنْفُخُ فيه الرُّوح»

(1)

، وهذا لا يعلمه النبيُّ صلى الله عليه وسلم بدون وَحْي إِذ لا مَدْخل للاجتهاد فيه.

(1)

رواه ـ بهذا السياق ـ أبو عوانة في «مستخرجه» من طريق: وهب بن جرير عن شعبة عن الأعمش قال: سمعت زيد بن وهب، عن عبد الله بن مسعود به.

ووهب بن جرير: ثقة، روى له الجماعة، وباقي الإِسناد عند البخاري، وأصل الحديث عند البخاري، كتاب القدر: الباب الأول، رقم (6594)، ومسلم، كتاب القدر: باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه، رقم (2643) دون قوله:«نطفة» ، والله أعلم.

ص: 343

‌وحيضٌ، ونِفَاسٌ،

.......

قوله: «وحيض» ، هو الموجِبُ الخامس من موجبات الغُسْل، فإِذا حاضت المرأة وَجَبَ عليها الغُسْلُ، وانقطاع الحيض شَرْطٌ، فلو اغتسلتْ قَبل أن تَطْهُرَ لم يصحَّ، إِذ مِنْ شرط صِحَّة الاغتسال الطَّهارة.

والدَّليل على وجوب الغُسْل من الحيض ما يلي:

1 -

حديث فاطمة بنت أبي حُبيش أنها كانت تُستحاض فأمَرها النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن تجلس عادتها، ثم تغتسل وتُصلِّي

(1)

. والأصل في الأمر الوجوب.

ويشير إلى مُطْلَقِ الفعل قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ}

} الآية [البقرة: 222]، أي: اغْتَسَلْنَ، فهذا دليل على أن التَّطَهُّرَ من الحَيض أمرٌ مشهور بين الناس، والآية وَحْدَها لا تدلُّ على الوجوب؛ ولكن حديث فاطمة رضي الله عنها دليل واضِحٌ على أنه يجب على المرأة إذا حاضت أن تغتسل، لكنَّ شَرْطَ الوجوب انقطاعُ الدَّم.

قوله: «ونِفَاسٌ» ، هذا هو الموجِبُ السَّادس من موجبات الغُسْلِ.

والنِّفَاسُ: الدَّمُ الخارج مع الولادة أو بعدها، أو قَبْلها بيومين، أو ثلاثة، ومعه طَلْقٌ.

(1)

رواه البخاري، كتاب الحيض، باب إذا حاضت في شهر ثلاث حيضٍ، رقم (325)، ومسلم، كتاب الحيض: باب المستحاضة وغسلها وصلاتها، رقم (333).

ص: 344

أما الدَّمُ الذي في وسط الحَمْلِ، أو في آخر الحَمْلِ ولكن بدون طَلْقٍ فليس بشيء، فتصلِّي وتصوم، ولا يَحْرُمُ عليها شيء مما يحرم على النُّفساء.

والدَّليل على وجوب الغُسْل منه: أنه نوع من الحيض، ولهذا أَطْلقَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم اسمَ النِّفاس على الحيض؛ بقوله لعائشة لمَّا حاضت:«لعلَّكِ نُفِسْتِ»

(1)

.

وقد أجمعَ العلماء على وجوب الغُسْلِ بالنِّفَاسِ كالحيض.

‌لا وِلادةٌ عاريةٌ عَنْ دمٍ. ومَنْ لَزِمَه الغُسْلُ حَرُمَ عليه قِراءةُ القُرْآنِ،

..........

قوله: «لا وِلادةٌ عاريةٌ عن دَمٍ» ، لا: عاطفة، تدلُّ على النفي، أي: ليست الولادةُ العاريةُ عن الدَّمِ موجِبَةً للغُسْل، فلو أن امرأة ولَدت، ولم يخرج منها دم فلا غُسْل عليها، لأنَّ النِّفَاس هو الدَّمُ، ولا دَمَ هنا، وهذا نادر جدًّا.

وقال بعض العلماء: إِنه يجب الغُسْل، والولادة هي الموجِبَةُ

(2)

.

ولأن عدم الدَّمِ مع الوِلادة نادر، والنَّادر لا حُكْمَ له.

ولأن المرأة سوف يَلْحَقُها من الجُهْدِ والمشقَّة والتَّعَب كما يَلْحَقُها في الوِلادة مع الدَّمِ.

قوله: «ومَنْ لَزِمَهُ الغُسْل حَرُمَ عليه قِراءة القُرْآنِ» ، مَنْ: اسم شَرْط جازِم، وفعل الشَّرط: لَزِمه، وجوابه: حَرُمَ، وأسماء الشَّرط

(1)

رواه البخاري، كتاب الحيض: باب تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت، رقم (305) ومسلم، كتاب الحج: باب بيان وجوه الإحرام، رقم (1211).

(2)

انظر: «الإنصاف» (2/ 106).

ص: 345

تُفيد العموم؛ فيكون المعنى: أيُّ إِنسان لَزِمَهُ الغُسْل سواء كان ذكراً أم أنثى، ويلزَمُ الغُسْل بواحد من الموجِبات السِّتة السَّابقة.

فمن لَزِمَهُ الغُسْل حرم عليه: الصَّلاة، والطَّواف، ومَسُّ المصْحَفِ. لأن المؤلِّف سبق أن قال: «ويَحْرُمُ على المحدِثِ

»

(1)

إلخ.

ويَحْرُمُ عليه أيضاً: قراءة القرآن، واللبْثُ في المسجد، وهذان يختصَّان بمن لَزِمَهُ الغُسْل

(2)

.

وقوله: «حَرُمَ عليه قِراءةُ القُرآنِ» ، أي: حتى يغتسل، وإن توضَّأ ولم يغتسل، فالتَّحريم لا يزال باقياً.

وقوله: «قراءة القرآن» المراد أن يقرأ آية فصاعداً، سواء كان ذلك من المصْحَفِ، أم عن ظَهْرِ قَلْبٍ، لكن إِن كانت الآية طويلة فإِنَّ بعضها كالآية الكاملة.

وأطول آية في القرآن آية الدَّين: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ}

} الآية [البقرة: 282]، ومع ذلك لم تستَوعِب حروف اللُّغة العربيَّة، واستوعب حروف اللُّغة العربيَّة آيتان أقصَرُ منها هما:

1 -

آخر آية في سُورة الفَتْح وهي قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ}

} [الفتح: 29]

2 -

الآية التي في آل عمران وهي قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً} الآية [آل عمران: 154]

(1)

انظر: ص (315).

(2)

انظر: «المغني» (1/ 200).

ص: 346

وقوله: «قراءة القرآن» ، أي: لا قراءة ذِكْرٍ يوافق القرآن، ولم يَقْصِد التِّلاوة؛ فإِنَّه لا بأس به كما لو قال: بسم الله الرحمن الرحيم، أو الحمد لله رب العالمين؛ ولم يقصد التِّلاوة.

والدَّليل على أنَّ الجُنُب ممنوع من القرآن ما يلي:

1 -

حديث عليٍّ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يُعَلِّمُهم القرآن، وكان لا يَحْجُزه عن القرآن إلا الجَنَابَة»

(1)

.

2 -

ولأنَّ في مَنْعِهِ من قراءة القرآن حثًّا على المبادرة إِلى الاغتسال، لأنَّه إِذا عَلِمَ أنَّه ممنوع من قراءة القرآن حتى يَغْتسل فسوف يُبادِرُ إلى الاغتسال، فيكون في ذلك مصلحة.

3 -

أنَّه رُوِيَ أنَّ المَلَكَ يتلقَّف القرآن من فَمِ القارئ

(2)

،

(1)

رواه أحمد (1/ 84، 107، 124)، وأبو داود، كتاب الطهارة: باب في الجنب يقرأ القرآن، رقم (229)، والنسائي، كتاب الطهارة: باب حجب الجنب من قراءة القرآن، (1/ 144) رقم (265)، والترمذي، أبواب الطهارة: باب ما جاء في الرجل يقرأ القرآن على كل حال ما لم يكن جنباً، رقم (146) وغيرهم.

والحديث وهَّنه أحمد. وصحَّحه: الترمذي، وابن السكن، وابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، وعبد الحق الإِشبيلي، والبغوي في «شرح السنة» .

وحسَّنه شعبة بن الحجاج (وناهيك به). قال ابن حجر: «وضعَّف بعضُهم بعضَ رواته، والحقُّ أنه من قَبيل الحسن يصلح للحُجَّة» «الفتح» . شرح حديث رقم (305).

وانظر: «الخلاصة» رقم (524)، و «التلخيص الحبير» رقم (184).

(2)

رواه البزار في «مسنده» رقم (603)، والبيهقي (1/ 38) من حديث علي بن أبي طالب.

قال الهيثمي: «رواه البزار ورجاله ثقات» . قال المنذري: «إسناده جيد لا بأس به» .

وله شاهد من حديث جابر. انظر: «مجمع الزوائد» (2/ 99)، «الترغيب والترهيب» رقم (335)، «كنز العمال» رقم (26178).

ص: 347

وأنَّ الملائكة لا تدخل بيتاً فيه جُنُب

(1)

. وعلى هذا إِذا قرأ القرآن فإِمَّا أن يَحْرُمَ الملَك من تلقُّفِ القُرآن، أو يؤذيه بِجَنَابَتِه، وهذا وإِنْ كان فيه شيء من الضَّعف لكن يُعلَّل به.

وأما بالنِّسبة للحائض: فإِنَّها مِمَّنْ يلزمه الغُسْل، وعلى هذا فجُمهور أهل العِلْمِ أنَّه لا يجوز لها أنْ تقرأَ القرآن؛ لكنْ لها أن تذكُرَ الله بما يوافق القرآن

(2)

.

وقال شيخُ الإسلام رحمه الله: إِنه ليس في مَنْعِ الحائض من قراءة القرآن نُصوص صريحة صحيحة

(3)

، وإذا كان كذلك فلها أن تقرأ القرآن لما يلي:

(1)

قال الهيثمي: «رجاله رجال الصحيح خلا العباس بن أبي طالب وهو ثقة» .

ـ من حديث بُريدة، رواه أبو بكر بن أبي شيبة في «مسنده» [المطالب العالية، رقم (2247)]، والبزار [مختصر زوائد البزار، رقم (1127)]. قال الهيثمي: «فيه عبد الله الحكم لم أعرفه. وبقية رجاله ثقات» . «المجمع» (5/ 72).

والحديثُ صحّحه ابن حبان، والحاكم، والذهبي، وحَسَّنه الحافظ ابنُ كثير. «تفسير القرآن العظيم» (الكهف: 18).

وانظر: «المعجم الأوسط» رقم (5405)، «العلل» للدارقطني (3/ 257).

(2)

انطر: «المغني» (1/ 199، 200)، «المجموع شرح المهذب» (2/ 357).

(3)

انظر: «مجموع الفتاوى» (26/ 191)، «الاختيارات» ص (27)

ص: 348

1 -

أنّ الأصْلَ الحِلُّ حتى يقوم دليلٌ على المَنْعِ.

2 -

أنَّ الله أمر بتلاوة القرآن مُطْلَقاً، وقد أثنى الله على من يتلو كتابه، فَمَنْ أخرجَ شخصاً من عِبَادة الله بقراءة القرآن فإِنَّنا نُطالبه بالدَّليل، وإِذا لم يكن هناك دليل صحيح صريح على المنْعِ، فإِنَّها مأمورة بالقراءة.

فإن قيل: ألا يُمكِن أن تُقَاسَ على الجُنُبِ بجامع لُزُوم الغُسْلِ لكلٍّ منهما بسبب الخارج؟

أُجِيب: أنَّه قياس مع الفارق؛ لأنَّ الجُنُبَ باختياره أن يُزيل هذا المانع بالاغتسال، وأمّا الحائضُ فليس باختيارها أن تزيل هذا المانع. وأيضاً: فإِن الحائض مُدَّتها تطول غالباً، والجُنُب مدَّته لا تطول؛ لأنه سوف تأتيه الصَّلاة، ويُلْزم بالاغتسال.

والنُّفساء من باب أَوْلى أنْ يُرخَّص لها، لأنَّ مُدَّتها أطول من مُدَّة الحائض. وما ذهب إليه شيخ الإسلام رحمه الله مَذْهبٌ قويٌّ.

ولو قال قائل: ما دام العلماء مختلفين، وفي المسألة أحاديث ضعيفة

(1)

، فلماذا لا نجعل المسألة معلَّقة بالحاجة، فإِذا احتاجتْ إلى القِراءة كالأَوْراد، أو تَعاهُد ما حَفِظَتْهُ حتى لا تنسى، أو تحتاج إِلى تعليم أولادها؛ أو البنات في المدارس فيُباح لها ذلك، وأما مع عدم الحاجة فتأخذ بالأَحْوَطِ، وهي لن تُحْرَم بقيَّة الذِّكْرِ. فلو ذهب ذاهب إِلى هذا لكان مذهباً قويًّا.

(1)

انظر: «التلخيص الحبير» رقم (183).

ص: 349

أما إسلام الكافر: فالكافر ممن يَلْزَمُه الغُسْل، فلو أَسْلَمَ وأراد القراءة مُنِعَ حتى يَغتسل.

والدَّليل على ذلك: القياس على الجُنُبِ.

وهذا فيه نَظَرٌ قويٌ جدًّا؛ لأن العلماء أجمعوا على وجوب الغُسْل على الجُنُبِ بخلاف الكافر فهو مختلَف في وجوبه عليه كما سبق

(1)

، ولا يُقاس المُختلَفُ فيه على المتَّفَقِ عليه.

فإن قيل: نحن نَقِيسُ بناءً على من يقول بوجوب الغُسْلِ على الكافر، أمَّا من يقول بعدم الوجوب فالأمر ظاهر في عدم مَنْعِهِ من قراءة القرآن؟.

فالجواب: أنه حتى على قول من يقول بوجوب الغُسْل عليه، فإِنه لا يرى أنَّ وجوبه مُتَحَتِّم كتَحَتُّمِ الغُسْل من الجَنَابة، بل يرى أنه أضعف. وعليه فَمَنْعُ الكافر من قراءة القرآن حتى يغتسل ضعيف؛ لأنَّه ليس فيه أحاديث، لا صحيحة ولا ضعيفة، وليس فيه إِلا هذا القياس.

‌ويَعْبُرُ المسجدَ لحاجةٍ،

.........

قوله: «ويَعْبُرُ المسجد لحاجة» ، أي: يَمرُّ به عند الحاجة، وهذا يفيد مَنْعَه من المُكْثِ في المسجد، ولذلك لو قال: ويَحْرُم عليه المُكْثُ في المسجد، ثم استثنى العُبور كان أوضح.

أي: يَحْرُم على من لَزِمَهُ الغُسْل اللُّبْثُ في المسجد، أي: الإقامة فيه ولو مدَّة قصيرة. والدَّليل على ذلك: ....

1 ـ قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ

(1)

انظر: ص (342).

ص: 350

وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء: 43]، يعني: ولا تقربوها جُنُباً إِلا عابري سبيل.

وليس المعنى لا تُصَلُّوا إِلا عابري سبيل، لأن عابر السَّبيل لا يُصلِّي، فيكون النَّهْيُ عن قُربان الصَّلاة، أي: النَّهْيُ عن المرور بأماكنها، وهي المساجد، فإِن عَبَر المسجد فلا بأس به، وأمَّا أن يَمْكُثَ فيه فلا.

2 ـ أن المساجد بيوت الله عز وجل ومحل ذِكْرِه، وعبادته، ومأوَى ملائكته، وإِذا كان آكل البصل والأشياء المكروهة ممنوعاً من البقاء في المسجد، فالجُنُبُ الذي تَحْرُمُ عليه الصَّلاة من باب أوْلَى، ولا سيَّما إِذا كانت الملائكة لا تدخل بيتاً فيه جُنُب، فإِنَّها تتأذَّى بمَنْعِهَا من دخول هذا المسجد.

وقوله: «لحاجة» . والحاجة متنوِّعة، فقد يريد الدُّخول من باب، والخروج من آخر حتى لا يُشاهَد، وقد يفعل ذلك لكونه أخْصَرَ لطريقه، وقد يَعْبُره لينظر هل فيه محتاج فيؤويه أو يتصدَّق عليه، أو هل فيه حَلَقَةُ عِلْمٍ فيغتسل ثم يرجع إليها.

وأفادنا رحمه الله بقوله: «لحاجة» أنه لا يجوز له أن يَعْبُرَ لغير حاجة.

وظاهر الآية الكريمة: {إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ} العموم؛ فَيَعْبُره لحاجة، أو غيرها، وهو المذهب

(1)

إلا أن الإِمام أحمد رحمه الله كَرِه أن يُتَّخَذ المسجد طريقاً إلا لحاجة، وهذا له وجه لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ أنَّ هذه المساجد بُنِيَتْ للذِّكر، والصَّلاة، والقراءة

(2)

(1)

انظر: «الإنصاف» (2/ 112).

(2)

تقدم تخريجه، ص (29).

ص: 351

فاتخاذها طريقاً خِلافُ ما بُنِيَتْ له إِلا إِذا كانت حاجة .........

‌وَلَا يَلْبثُ فيه بِغَيْر وُضُوءٍ،

..........

قوله: «ولا يَلْبَثُ فيهِ بغَيْر وُضُوء» ، فإِن توضَّأ جاز المُكْثُ، والدَّليل على ذلك:

1 ـ أن الصَّحابة رضي الله عنهم كانوا إِذا تَوضَّؤوا من الجنابة مكثوا في المسجد، فكان الواحد منهم ينام في المسجد؛ فإذا احْتَلَمَ ذهب فتوضَّأ ثم عاد

(1)

، وهذا دليل على أنه جائز، لأن ما فُعِلَ في عَهْدِهِ صلى الله عليه وسلم ولم يُنكره، فهو جائز إِن كان من الأفعال غير التَّعَبُّديَّة، وإن كان من الأفعال التَّعَبُّديَّة فهو دليل على أن الإِنسان يُؤْجَر عليه.

2 ـ أن الوُضُوء يُخَفِّفُ الجَنَابَة؛ بدليل أنَّ الرَّسول صلى الله عليه وسلم سُئل عن الرَّجل يكون عليه الغُسْل؛ أينامُ وهو جُنُب؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «إذا توضَّأ أحدُكُم فَلْيَرْقُدْ وهو جُنُبٌ»

(2)

.

(1)

روى سعيد بن منصور في «سننه» واللفظ له، وأبو بكر بن أبي شيبة، الطهارات: باب الجنب يمرّ في المسجد قبل أن يغتسل، رقم (1557). عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار:«رأيت رجالاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلسون في المسجد وهم مجنبون إذا توضؤوا وضوء الصَّلاة» .

وروى حنبل بن إسحاق عن أبي نعيم، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم قال:«كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحدَّثون في المسجد وهم على غير وضوء، وكان الرجل يكون جنباً فيتوضَّأ ثم يدخل المسجد فيتحدث» .

قال ابن كثير: «هذا إسناد صحيح على شرط مسلم» .

وروى أبو بكر بن أبي شيبة في «مصنفه» ، الموضع السابق، نحوه عن عليٍّ وجابر.

انظر: «تفسير ابن كثير» ، النساء (43)، «نيل الأوطار» ، كتاب الطهارة: باب الرخصة في اجتياز الجنب في المسجد (1/ 288).

(2)

رواه البخاري، كتاب الغسل: باب نوم الجنب، رقم (287)، ومسلم، كتاب الحيض: باب جواز نوم الجنب

، رقم (306) عن عمر بن الخطاب به.

ص: 352

3 ـ ولأنَّ الوُضُوء أحد الطَّهورَين، ولولا الجنابة لكان رافعاً للحَدَثِ رَفْعاً كُلِّيًّا فحيئذٍ يكون مخفِّفاً للجنابة.

‌ومَنْ غَسَّلَ مَيْتاً،

...........

قوله: «ومَنْ غَسَّلَ ميتاً» ، هذا شروع في بيان الأَغْسال المسْتَحَبَّة فمنها: الاغتسال من تغسيل الميتِ، فإِذا غَسَّل الإِنسان ميتاً، سُنَّ له الغُسْل، والدَّليل على ذلك ما يلي:

1 ـ قوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ غَسَّل ميتاً فَلْيَغْتَسِلْ، ومَنْ حَمَلَهُ فليتوضَّأ»

(1)

.

قالوا: وهذا الحديث فيه الأَمْرُ، والأَمْرُ الأصل فيه الوُجوب، لكن لمَّا كان فيه شيء من الضَّعف لم يَنتهضْ للإِلزام به. وهذا مبنيٌّ على قاعدة وهي: أنَّ النَّهْيَ إِذا كان في حديث ضعيف لا

(1)

رواه أحمد (2/ 454)، وأبو داود، كتاب الجنائز: باب في الغسل من غَسَّل ميتاً، رقم (3161)، والترمذي، كتاب الجنائز: باب ما جاء في الغسل من غسل الميت، رقم (993)، وابن ماجه، كتاب الجنائز: باب ما جاء في غسل الميت، رقم (1463) من حديث أبي هريرة.

وقد رجَّح الإمام أحمد وأبو حاتم الرازي والبخاري وغيرهم أن رفعه خطأ، والصَّواب أنه موقوف على أبي هريرة. «العلل» لابن أبي حاتم رقم (1035)، «المحرر» رقم (87).

وقد ساق ابن القيم لهذا الحديث أحدَ عشر طريقاً، ثم قال:«وهذه الطُّرق تدلُّ على أنَّ الحديث محفوظ» . وصحَّحه ابن القطان وابن حزم.

وقال ابن تيمية: «إسناده على شرط مسلم» .

وقال الحافظ ابن حجر: «وفي الجُملة، هو بكثرة طُرقه أسوأُ أحواله أن يكون حسناً» .

انظر: «الخلاصة» رقم (3339)، «شرح العمدة» (1/ 362)، «تهذيب السنن» (4/ 306)، «التلخيص الحبير» رقم (182).

ص: 353

يكون للتَّحريم، والأمرُ إِذا كان في حديث ضعيف لا يكون للوُجوب، لأنَّ الإِلزام بالمنْعِ أو الفعل يحتاج إلى دليل تَبرأُ به الذِّمة لإِلزام العباد به .........

وهذه القاعدة أشار إليها ابنُ مفلح في «النُّكَت على المحرَّر» في باب موقف الإِمام والمأموم

(1)

؛ ومراده ما لم يكن الضَّعف شديداً بل محتَمِلاً للصِّحَّة، فيكون فِعْلُ المأمور وتَرْكُ المنهيّ من باب الاحتياط، والاحتياط لا يوجب الفعل أو الترك.

2 ـ أنه ورد عن أبي هريرة أَنه أَمَرَ غاسل الميْت بالغُسْلِ

(2)

.

وهذا القول الذي مشى عليه المؤلِّف هو القول الوسط والأقرب.

وقال بعض أهل العِلْم: إنه يجب أن يَغْتَسِلَ

(3)

. واستدلُّوا بحديث أبي هريرة السابق، والأصل في الأَمْرِ الوُجُوب.

وقال آخرون: لا يجب عليه أن يَغْتَسِل، ولا يُسَنُّ له (653).

واستدلُّوا على ذلك بما يلي:

1 -

ضَعْف حديث أبي هريرة، فقد قال الإمام أحمد:«لا يَثْبُتُ في هذا الباب شيء» ، وإذا لم يَثْبُتْ فدعوى المشروعيَّة تحتاج إِلى دليل؛ ولا دليل.

2 -

أنَّ المؤمِن طاهر حيًّا وميْتاً، فإِذا كان لا يُسَنُّ الغُسْلُ من تَغْسيل الحيِّ، فتغسيل الميتِ من باب أولى.

فإن قيل: أكثَرُ الذين كانوا يغسِلون الموتى في زمن النبيِّ صلى الله عليه وسلم كما في حديث الذي وَقَصَتْهُ ناقته، وحديث أم عطيَّة ومَنْ معها من

(1)

انظر: «النكت على المحرر» (1/ 110).

(2)

انظر ص (297).

(3)

انظر: «الإنصاف» (2/ 120).

ص: 354

النِّساء اللاتي غسَّلن ابنته، لم يأمرهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالاغتسال

(1)

.

فالجواب على ذلك:

1 ـ أن عدم الأمر في القضيَّة المعيَّنة لا يلزمُ منه نفيُ الأَمْرِ الوارد من طريق آخر إِذا صَحَّ.

2 ـ أنَّنا لا نقول بوجوب هذا الغُسْلِ، فَعَدَمُ الأمر في موضعه يدلُّ على عَدَمِ الوُجوب، لكن لا يدلُّ على نفي المشروعيَّة مطلقاً إِذا جاء مِنْ طريق آخر صحيح.

‌أوْ أفاقَ من جُنُونٍ، إو إِغماءٍ .......

قوله: «أو أفاقَ مِنْ جُنُونٍ، أو إِغماءٍ» ، هذا هو الثَّاني والثَّالث من الأغْسال المستحبَّة.

والجنون: زوال العقل، ومنه الصَّرَعُ فإِنَّه نوع من الجُنُون.

والإغماء: التَّغطية، ومنه الغَيْم الذي يُغطِّي السَّماء .....

فالإِغماء: تغطية العقل، وليس زواله، وله أسباب متعدِّدة منها: شِدَّة المَرضِ كما حَصَلَ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، فإِنه في مَرَضِه أُغْمِيَ عليه ثم أفاق، فقال: أَصَلَّى الناسُ؟ قالوا: لا، وهم ينتظرونك، فأَمَرَ بماء في مِخْضَبٍ ـ وهو شبيه بالصَّحن ـ فاغتَسَلَ؛ فقام لِيَنُوءَ فأُغْمِيَ عليه مرَّة ثانية، فلما أفاق قال: أصلَّى الناسُ؟ قالوا: لا، وهم ينتظرونك»

(2)

، الحديث.

فهذا دليل على أنَّهُ يُغتسل للإِغماء، وليس على سبيل الوجوب، لأن فِعْلَهُ صلى الله عليه وسلم المجرَّد لا يدُلُّ على الوُجوب.

(1)

تقدم تخريجهما، ص (309، 342).

(2)

رواه البخاري، كتاب الأذان: باب إنما جُعل الإِمام ليؤتم به، رقم (687)، ومسلم، كتاب الصلاة: باب استخلاف الإِمام إِذا عرض له عذر، رقم (418).

ص: 355

وهل هذا مشروع تعبُّداً، أو مشروع لتقوية البَدَنِ؟

يحتمل كلا الأمرين، والفقهاء رحمهم الله قالوا: إِنه على سبيل التعبُّد، ولهذا قالوا: يُسَنُّ أن يَغْتَسِلَ. وأمَّا بالنِّسبة للجنون، فإِنهم قاسوه على الإِغماء، قالوا: فإِذا شُرِعَ للإِغماء، فالجنون من باب أَوْلَى، لأنه أَشَدُّ

(1)

.

‌بلا حُلْمٍ سُنَّ له الغُسْلُ، والغُسْلُ الكاملُ: أَنْ يَنْوي .........

قوله: «بلا حُلْمٍ سُنَّ له الغُسْلُ» ، أي: بلا إِنزال، فإِن أنزلَ حال الإِغماء وَجَبَ عليه الغُسْل كالنَّائم إذا احتلم.

قوله: «والغُسْلُ الكاملُ

»، الغُسْل له صفتان:

الأولى: صفة إجزاء.

الثانية: صفة كمال.

كما أنَّ للوُضُوء صفتين، صفة إجزاء، وصفة كمال، وكذلك الصَّلاةُ والحجُّ.

والضَّابط: أن ما اشتَمَل على الواجب فقط فهو صفة إِجزاء، وما اشتمل على الواجب والمسْنُون، فهو صفة كمال.

قوله: «أن ينويَ» ، «أن» وما دخلتْ عليه في تأويل مصدر خبر المبتدأ. والنِّيَّة لغةً: القصد.

وفي الاصطلاح: عَزْمُ القلب على فعل الشَّيء عَزْماً جازماً، سواء كان عبادة، أم معاملة، أم عادة.

ومحلُّها القلب، ولا تعلُّق لها باللِّسان، ولا يُشْرَع له أن يتكلَّم بما نَوَى عند فِعْلِ العبادة .....

(1)

انظر: «كشاف القناع» (1/ 151).

ص: 356

فإن قيل: لماذا لا يُقال: يُشْرَع أن يتكلَّم بما نَوَى لِيُوافق القلبُ اللسانَ، وذلك عند فِعْلِ العبادة؟

فالجواب: أنه خِلاف السُّنَّةِ.

فإن قيل: إنه صلى الله عليه وسلم لم يَنْهَ عنه؟

فالجواب:

1 -

أنَّه صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ أحْدَثَ في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رَدٌّ»

(1)

.

2 -

أنَّ كلَّ شيء وُجِدَ سببُه في عهد النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ولم يفعله، كان ذلك دليلاً على أنه ليس بِسُنَّةٍ، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم كان ينوي العبادات عند إرادة فِعْل العبادة، ولم يكن يتكلَّم بما نَوى، فيكون تَرْكُ الشَّيء عند وجود سببه هو السُّنَّة، وفِعْلُه خِلاف السُّنَّة.

ولهذا لا يُسَنُّ النُّطْق بها لا سِرًّا ولا جهراً؛ خلافاً لقول بعض العلماء: إِنه يُسَنُّ النُّطْق بها سِرًّا

(2)

.

ولقول بعضهم: إِنه يُسَنُّ النُّطْق بها جهراً (658)، وكِلا القولين لا أصْلَ له، والدَّليل على خِلافه.

والنَّيةُ شَرْط في صِحَّة جميع العبادات لقوله صلى الله عليه وسلم: «إنَّما الأعمال بالنِّيَّات، وإِنَّما لكلِّ امرئٍ ما نوى»

(3)

.

والنِّيَّة نيَّتان:

(1)

تقدم تخريجه، ص (186).

(2)

انظر: «مجموع الفتاوى» (18/ 263)(22/ 218)، «الإنصاف» (1/ 307) وتقدم ذلك ص (195).

(3)

تقدم تخريجه، ص (194).

ص: 357

الأولى: نِيَّة العمل، ويتكلَّم عليها الفقهاء رحمهم الله أنها هي المصحِّحة للعمل.

الثانية: نِيَّة المعمول له، وهذه يتكلَّم عليها أهل التَّوحيد، وأرباب السُّلوك لأنها تتعلَّق بالإخلاص.

مثاله: عند إرادة الإِنسان الغسل ينوي الغُسْل، فهذه نيَّة العمل .....

لكن إِذا نَوى الغُسْل تقرُّباً إلى الله تعالى، وطاعة له، فهذه نيَّة المعمول له، أي: قصَد وجهه سبحانه وتعالى، وهذه الأخيرة هي التي نغفل عنها كثيراً فلا نستحضر نيَّة التقرب، فالغالب أنَّنا نفعل العبادة على أننا ملزَمون بها، فننويها لتصحيح العمل، وهذا نَقْصٌ، ولهذا يقول الله تعالى عند ذِكْرِ العمل:{ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ} [الرعد: 22] و {إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى *} [الليل]، {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ} [الرعد: 22]، و {يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً} [الحشر: 8].

‌ثُمَّ يُسَمِّيَ، ويَغْسِلَ يَديه ثلاثاً،

..........

قوله: «ثُمَّ يُسَمِّيَ» ، أي: بعد النِّيَّة، والتسميَة على المذهب واجبة كالوُضُوء وليس فيها نَصٌّ، ولكنَّهم قالوا: وَجَبَتْ في الوُضُوء فالغُسْلُ من باب أولى، لأنَّه طهارة أكبر.

والصَّحيح كما سبق

(1)

أنها ليست بواجبة لا في الوُضُوء، ولا في الغُسْل.

قوله: «ويغسل يديه ثلاثاً» ، هذا سُنَّة، واليدان: الكفَّان،

(1)

انظر: ص (158).

ص: 358

لأنَّ اليَدَ إِذا أُطْلقتْ فهي الكَفُّ، والدَّليل قوله تعالى:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيدِيَهُمَا} [المائدة: 38]، والذي يُقْطَع هو الكَفُّ فقط.

ولما أراد ما فوق الكفِّ قال تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6].

‌وما لَوَّثَه، ويَتَوَضَّأ، ويَحْثِيَ على رأسِهِ ثلاثاً تُروِّيه،

......

قوله: «وما لَوَّثَه» ، أي: يغسل ما لَوَّثَه من أَثَرِ الجنابة، وفي حديث ميمونة رضي الله عنها أنَّ الرَّسول صلى الله عليه وسلم عند غَسْلِهِ ما لوَّثه ضَرَبَ بيَده الأرض، أو الحائط مرَّتين، أو ثلاثاً

(1)

.....

والذي يَظْهَر لي من حديث ميمونة أن الماء كان قليلاً. ولذلك احتاج صلى الله عليه وسلم أن يضربَ الحائط بيده مرَّتين، أو ثلاثاً، ليكون أسرع في إزالة ما لوَّثه، وَغَسَلَ رجليه في مكان آخر.

قوله: «ويتوضَّأ» ، أي: يتوضَّأ وُضُوءه للصَّلاة.

وكلام المؤلِّف يدلُّ على أنَّه يتوضَّأ وضُوءاً كاملاً، وهو كذلك في حديث عائشة

(2)

رضي الله عنها.

قوله: «ويحثي على رأسه ثلاثاً» ، ظاهره أنه يحثي الماء على جميع الرَّأس ثلاثاً.

قوله: «تُروِّيه» ، أي: تصل إِلى أُصُوله بحيث لا يكون الماء قليلاً.

(1)

رواه البخاري كتاب الغسل: باب من توضأ في الجنابة ثم غسل سائر جسده، رقم (274) واللفظ له، ومسلم، كتاب الحيض: باب صفة غسل الجنابة، رقم (317).

(2)

متفق عليه، وقد تقدم تخريجه ص (174).

ص: 359

وفي حديث عائشة رضي الله عنها: «ثم يخلِّل بيده شَعْره حتى إذا ظَنَّ أنه قد أروى بَشَرَتَهُ أفاض عليه الماء ثلاث مرات، ثم غسَل سائر جَسَده»

(1)

. وظاهره أن يصب عليه الماء أولاً ويخلِّله، ثم يفيض عليه بَعْدَ ذلك ثلاث مرات.

وقال بعض العلماء: إِن قولها: «ثلاث مرَّات» لا يَعُمُّ جميع الرَّأس، بل مَرَّة للجَّانب الأيمن، ومرَّة للأيسر، ومرَّة للوَسَطِ

(2)

، كما يدلُّ على ذلك صنيعه حينما أتى بشيء نحو الحِلَاب

(3)

فأخذ منه فغسل به جانب الرَّأس الأيمن، ثم الأيسر، ثم وسط الرَّأس

(4)

.

‌ويَعُمَّ بدنَه غُسْلاً ثلاثاً،

........

قوله: «ويَعُمَّ بدنَه غسلاً» ، بدليل حديث عائشة وميمونة رضي الله عنهما:«ثم أفاض الماء على سائر جسده»

(5)

.

قوله: «ثلاثاً» ، وهذا بالقياس على الوُضُوء لأنه يُشْرَع فيه التَّثليث، وهذا هو المشهور من المذْهَب.

واختار شيخ الإِسلام وجماعة من العلماء، أنه لا تثليث في غَسْلِ البَدَنِ

(6)

لعدم صحَّته عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فلا يُشْرَع .....

(1)

متفق عليه، وقد تقدم تخريجه ص (174).

(2)

انظر: «فتح الباري» (1/ 368، 370).

(3)

الحِلَاب: إناء يسع قدر حلبة ناقة، يستعمل للغسل، «المصباح المنير» (1/ 146).

(4)

رواه البخاري، كتاب الغسل: باب من بدأ بالحِلاب أو الطيب عند الغسل، رقم (258)، ومسلم، كتاب الحيض: باب صفة غسل الجنابة رقم (318) بمعناه من حديث عائشة.

(5)

تقدم تخريجه، ص (174).

(6)

انظر: «مجموع الفتاوى» (20/ 369)، «الاختيارات» ص (17).

ص: 360

‌وَيَدْلُكَهُ، ويَتَيَامن، ويغسل قَدَمَيْه مَكَاناً آخَر. والمجزئُ:

.......

قوله: «ويَدْلُكَه» ، أي: يمرُّ يده عليه، وشُرع الدَّلك ليتيقَّن وصول الماء إلى جميع البَدَنِ، لأنَّه لو صَبَّ بلا دَلْكٍ ربَّما يتفرَّق في البدن من أجل ما فيه من الدُّهون، فَسُنَّ الدَّلك.

قوله: «ويَتَيَامن» ، أي: يبدأ بالجانب الأيمن لحديث عائشة رضي الله عنها: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يُعْجِبُه التَّيمُّن في ترجُّله وتنعُّله، وطُهُوره، وفي شأنه كلِّه»

(1)

.

قوله: «ويغسل قَدَميْه مكاناً آخر» ، أي: عندما ينتهي من الغسْل يغسل قَدَميْه في مكان آخر غير المكان الأول.

وظاهر كلام المؤلِّف أنه سُنَّة مطْلَقاً، ولو كان المحلُّ نظيفاً كما في حمَّاماتنا الآن.

والظَّاهر لي أنه يَغْسل قَدَمَيْه في مكان آخر عند الحاجة كما لو كانت الأرض طِيناً، لأنَّه لو لم يغسلهما لتلوَّثت رِجْلاه بالطِّين.

ويدلُّ لهذا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يَغْسِلْ رِجْلَيْهِ في حديث عائشة بعد الغُسْلِ

(2)

. ورواية: «أنه غسل رجليه»

(3)

ضعيفة. والصَّواب: أنه غَسَلَ رِجْلَيْه في حديث ميمونة فقط.

قوله: «والمجزئ» ، أي: الذي تبرأُ به الذِّمَّة.

(1)

تقدم تخريجه، ص (155).

(2)

تقدم تخريجه، ص (174).

(3)

تفرد برواية هذه الزيادة مسلم، كتاب الحيض: باب صفة غسل الجنابة، رقم (316). قال ابن حجر:«هذه الزيادة تفرَّد بها أبو معاوية دون أصحاب هشام، قال البيهقي: هي غريبة صحيحة. قلت: (أي: ابن حجر): لكن في رواية أبي معاوية عن هشام مقال. نعم له شاهد من رواية أبي سلمة عن عائشة، أخرجه أبو داود الطيالسي» . انظر: «الفتح» شرح حديث رقم (248).

ص: 361

والإِجزاء: سُقوط الطَّلب بالفِعل، فإذا قيل: أَجْزأتْ صلاته، أي: سقطتْ مطالبته بها لِفِعْله إِيّاها، وكذلك يقال في بقيَّة العبادات.

فلو أنَّ أحداً صلَّى وهو مُحدِث ناسياً، ثم ذَكَرَ بعد الصَّلاة، فإِنَّ صلاته لا تجزِئه لأنه مطالب بها، وفِعْله لم يسقط به الطَّلب.

‌أن يَنْوِيَ، ويُسَمِّيَ، ويَعُمَّ بَدَنَهُ بالغُسْلِ مَرَّةً ...........

قوله: «أن ينويَ ويُسمِّيَ» ، سبق الكلام على النِّيَّة

(1)

والتَّسمية

(2)

.

قوله: «ويعمَّ بدنه بالغُسْل مرَّةً» ، لم يذكر المضمضة والاستنشاق، لأن في وُجوبهما في الغسل خِلافاً، فَمِنْ أهل العِلْم من قال: لا يَصحُّ الغُسْل إِلا بهما كالوُضُوء

(3)

.

وقيل: يصحُّ بدونهما

(4)

.....

والصَّواب: القول الأوّل؛ لقوله تعالى: {فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] وهذا يَشْمُل البَدَنَ كُلَّه، وداخل الأنْفِ والفَمِ من البَدَنِ الذي يجب تطهيره، ولهذا أَمَرَ النبي صلى الله عليه وسلم بهما في الوُضُوء لِدُخولهما تحت قوله تعالى:{فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6]، فإذا كانا داخلَين في غَسْل الوَجْه، وهو ممَّا يجب تطهيره في الوُضُوء، كانا داخلَين فيه في الغُسْل لأن الطَّهارة فيه أَوْكَدُ.

وقوله: «ويَعُمَّ بَدَنَهُ» . يشمل حتى ما تحت الشَّعر الكثيف، فيجب غَسْل ما تحته بخِلافِ الوُضُوء، فلا يجب غَسْل ما تحته.

(1)

انظر: ص (356).

(2)

انظر: ص (358).

(3)

انظر: «الإنصاف» (1/ 325، 326).

(4)

انظر: «الإنصاف» (1/ 325، 326).

ص: 362

والشَّعر الكثيف: هو الذي لا تُرى مِنْ ورائه البَشَرة.

قال أهلُ العِلْمِ: والشَّعر بالنسبة لتطهيره وما تحته ينقسم إلى ثلاثة أقسام

(1)

:

الأول: ما يجب تطهير ظاهره وباطنه بكلِّ حال، وهذا في الغُسْل الواجب.

الثاني: ما يجب تطهير ظاهره وباطنه إِنْ كان خفيفاً، وتطهير ظاهره إِن كان كثيفاً، وهذا في الوُضُوء.

الثالث: ما لا يجب تطهير باطنه سواء كان كثيفاً، أم خفيفاً، وهذا في التَّيَمُّم.

والدَّليل على أنَّ هذا الغُسْل مجزئ: قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6]، ولم يَذْكُر الله شيئاً سوى ذلك، ومن عَمَّ بَدَنَه بالغُسْل مَرَّة واحدة صَدَقَ عليه أنَّه قد اطَّهَّرَ.

فإن قيل: هذه الآية مُجْملة، والنبي صلى الله عليه وسلم فَصَّلَ هذا الإِجمال بفِعْله فيكون واجباً على الكيفيَّة التي كان يفعلها، كما أنَّ الله لمَّا قال:{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [المزمل: 20]، فَسَّر النبيُّ صلى الله عليه وسلم هذه الإِقامة بفِعْلِه، فصار واجباً علينا إقامة الصَّلاة كما فعلها الرَّسول صلى الله عليه وسلم.

فالجواب في وجهين:

الأول: أنَّه لو كان الله يريد منَّا أن نغتسل على وَجْه التَّفصيل لَبيَّنه كما بَيَّن الوُضُوء على وَجْهِ التَّفصيل، فلما أَجْمَلَ الغُسْل ....

(1)

انظر: «المغني» (1/ 164، 301 ـ 302)، «القواعد» لابن رجب ص (4). وقد تقدم ذلك ص (172).

ص: 363

وفصَّل في الوُضُوء عُلِمَ أنَّه ليس بواجب علينا أن نغتسل على صفة معيَّنة.

الثاني: حديث عِمران بن حصين رضي الله عنه الطويل، وفيه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال للرَّجُل الذي كان جُنباً ولم يُصلِّ:«خُذْ هذا وأَفرِغْه عليك»

(1)

، ولم يُبيِّن له النبيُّ صلى الله عليه وسلم كيف يُفرغه على نفْسِه، ولو كان الغُسْل واجباً كما اغتسل النبيُّ صلى الله عليه وسلم لبَيَّنه له؛ لأنَّ تأخير البَيَان عن وقت الحاجة في مقام البلاغ لا يجوز.

فإن قيل: لعلَّ هذا الرَّجُل يعرف كيفيَّة الغُسل.

أُجيب بجوابَين:

الأول: أنَّ الأصْلَ عدم معرفته.

الثاني: أنَّ ظاهر حاله أنه جاهلٌ، بدليلِ أنَّه لم يَعْلَمْ أنَّ التَّيمُّم يُجزئ عن الغُسل عند عدم الماء.

والحاصل: أن الغُسْلَ المجزئ أن ينويَ، ثم يسمِّيَ، ثم يعمَّ بدَنَه بالغُسل مرَّة واحدة مع المضمضة والاستنشاق

(2)

.

ولو أن رَجُلاً عليه جنابة، فنوى الغُسْل، ثم انغمس في بِرْكة ـ مثلاً ـ ثم خرج، فهذا الغُسْل مجزئ بِشَرط أنْ يتمضمض ويستنشق.

ولو أنَّه أراد الوُضُوء بعد أن انغمس فلا يجزئ إِلا إِن خَرَج مرتِّباً، لأن التَّرتيب فرْضٌ على المذهب

(3)

.

(1)

رواه البخاري، كتاب التيمم: باب الصعيد الطيب وضوء المسلم، رقم (344)، وأصله في مسلم، كتاب المساجد: باب قضاء الصلاة الفائتة، رقم (682).

(2)

انظر: «المغني» (1/ 289 ـ 292).

(3)

انظر: ص (189).

ص: 364

وظاهرُ كلام المؤلِّف رحمه الله أنَّ الموالاة ليست شرطاً في الغُسل، فلو غسل بعض بدنه ثم أتمَّهُ بعد زمن طويل عُرفاً صَحَّ غُسله، وهذا هو المذهب.

وقيل: إِن الموالاة شرطٌ، وهو رواية عن الإِمام أحمد، وقيل: وجه للأصحاب

(1)

.....

وهذا ـ أعني كون الموالاة شرطاً ـ أصَحُّ، لأن الغُسل عبادة واحدة، فلزم أن ينبني بعضُه على بعض بالموالاة، لكن لو فرَّقه لعُذْرٍ، لانقضاء الماء في أثناء الغسل مثلاً؛ ثم حصَّله بعد ذلك لم تلزمه إِعادة ما غسَّله أولاً؛ بل يُكمل الباقي.

‌وَيَتَوَضَّأُ بِمُدٍّ، وَيَغْتَسِلُ بِصَاعٍ،

..........

قوله: «ويتوضَّأُ بمُدٍّ ويَغْتَسِلُ بِصَاعٍ» ، يتوضَّأُ: بالرَّفع؛ لأنَّها جملة استئنافية، وليست معطوفة على قوله:«أن ينوي» ، لأنها لو كانت معطوفة على قوله:«أن ينوي» لصار المعنى: والمجزئ أن ينوي، وأن يتوضَّأ بمُدٍّ، وليس كذلك، بل المعنى يُسَنُّ أنْ يكون الوُضُوء بِمُدٍّ، والغُسْلُ بصَاعٍ.

والمُدُّ: رُبْعُ الصَّاع

(2)

.

والصَّاع النبويُّ: أقلُّ من الصَّاع العُرْفِي عندنا بالخُمْس وخُمْس الخُمْس، فالصَّاع النبويُّ ـ مثلاً ـ زِنته ثمانون ريالاً فرنسياً، وصاعنا العُرْفي مائة ريال، وأربع ريالات.

فيأخذ إِناء يَسَعُ أربعة أخماس الصَّاع العُرْفِي، ويغتسل به،

(1)

انظر: «الإنصاف» (2/ 138).

(2)

والصَّاع بالبُرِّ الجيد = 2040 جراماً، فمُدُّ البرِّ = 510 جراماً كما في «تنبيه الأفهام شرح عمدة الأحكام» للمؤلف رحمه الله (1/ 91).

ص: 365

هذه هي السُّنَّة، لِئَلا يُسرِف في الماء، فإِن أسبغ بأقلَّ جاز.

فإن قيل: نحن الآن نتوضَّأ مِن الصَّنابير فمقياس الماء لا ينضبط؟

فيقال: لا تَزِدْ على المشروع في غَسْل الأعضاء في الوُضوء، فلا تَزِدْ على ثلاث، ولا تزد في الغُسْل على مرَّة، على القول بِعَدَم الثلاث، وبهذا يحصُل الاعتدال.

‌فإِن أَسْبَغَ بأَقَلَّ، أو نوى بغُسْلِه الحَدَثيْن أَجْزَأَ،

............

قوله: «فإن أسْبَغ بأقلَّ» ، أي: إِن أسْبَغَ بأقلَّ مِنَ المدِّ في الوُضُوء، ومِن الصَّاع في الغُسْل أَجْزأَ؛ لأنَّ التَّقدير بالمدِّ والصَّاع على سبيل الأفضليَّة.

لكنْ يُشترط ألا يكون مَسْحاً، فإِن كان مَسْحاً فلا يُجزئ.

والفرق بين الغُسْل والمسح: أن الغُسْل يتقاطر منه الماء ويجري، والمسح لا يتقاطر منه الماء، والدَّليل على ذلك: ....

1 -

قوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6]، ثم قال:{وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} [المائدة: 6]، ففرَّق سبحانه وتعالى بين المسْح، والغُسْل.

2 -

قوله تعالى: {فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6]، بيَّنه صلى الله عليه وسلم بالغسْل، لا بالمسْح.

قوله: «أو نوى بغُسْلِه الحَدَثَيْن أَجْزَأ» ، النيَّة لها أربع حالات:

الأولى: أن ينوي رفع الحَدَثَيْن جميعاً فيرتفعان لقوله صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنِّيَّات»

(1)

.

(1)

تقدم تخريجه ص (194).

ص: 366

الثانية: أن ينويَ رفع الحَدَثِ الأكبر فقط. ويَسْكت عن الأصغر، فظاهر كلام المؤلِّف أنَّه يرتفع الأكبر، ولا يرتفع الأصغر لقوله صلى الله عليه وسلم:«إنَّما الأعمال بالنِّيَّات» ، وهذا لم ينوِ إِلاَّ الأكبر.

واختار شيخ الإسلام: أنه يرتفع الحَدَثَان جميعاً

(1)

، واستدلَّ بقوله تعالى:{وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6]، فإذا تطهَّر بنيَّة الحَدَثِ الأكبر فإِنَّه يُجزئه، لأنَّ الله لم يذكُر شيئاً سوى ذلك، وهذا هو الصَّحيح.

الثالثة: أن ينويَ استباحة ما لا يُباح إِلاَّ بالوُضُوء، أو ارتفاع الحَدَثَيْن جميعاً كالصَّلاة، فإِذا نوى الغُسْلَ للصلاة، ولم ينوِ رَفْع الحَدَثِ، ارتفع عنه الحَدَثَان، لأنَّ مِنْ لازم نيَّة الصَّلاة أن يرتفع الحَدَثَان، لأنَّ الصَّلاة لا تَصِحُّ إِلا بارتفاع الحَدَثَيْن.

الرابعة: أن ينوي استباحة ما يُباح بالغُسْل فقط، دون الوُضُوء كقراءة القرآن، أو المُكْثِ في المسجد.

فلو اغتسل لقراءة القرآن فقط، ولم يَنوِ رَفْعَ الحَدَثِ أو الحَدَثَيْن فيرتفع حَدَثُه الأكبر فقط، فإِن أراد الصَّلاة، أو مَسَّ المصحفِ، فلا بُدَّ من الوُضُوء.

ولكن واقع النَّاس اليوم، نجدُ أنَّ أكثرهم يغتسلون من الجَنَابة من أَجْلِ رَفْعِ الحَدَثَ الأكبر، أو الصَّلاة، وعلى هذا فيرتفع الحَدَثَان .....

(1)

انظر: «مجموع الفتاوى» (21/ 396)، «الاختيارات» ص (17).

ص: 367

‌ويُسنُّ لجُنُبٍ غَسْلُ فَرْجِهِ، والوُضُوءُ لأكْلٍ، ونَوْمٍ، ومُعَاوَدةِ وَطْءٍ.

قوله: «ويُسنُّ لجُنُبٍ غَسْلُ فَرجِهِ، والوُضُوءُ لأكلٍ» ، وُضوء الجُنُبِ للأكل ليس بواجب بالإِجماع؛ لكنَّه مستَحَبٌّ والدَّليل على ذلك:

1 -

حديث عائشة رضي الله عنها أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان إِذا أراد أن يأكل أو ينام وهو جُنُبٌ توضَّأ وضوءه للصَّلاة

(1)

.

وأمَّا مَنْ حمل هذا على الوُضُوء اللغوي، وهو النَّظَافة، فلا عِبْرة به؛ لأن رواية مسلم صريحة في أنَّ المراد به الوُضُوء الشَّرعي.

ولأن القاعدة في أصول الفِقْه: أنَّ الحقائق تُحمَل على عُرْفِ النَّاطِقِ بها، فإِذا كان النَّاطِقُ الشَّرع حُمِلَت على الحقيقة الشَّرعيَّة، وإِذا كان من أهل اللُّغة حُمِلت على الحقيقة اللغويَّة، وإِذا كان من أهل العُرْف حُمِلَت على الحقيقة العُرفيَّة.

فمثلاً: «زَيْدٌ قائم» زَيْدٌ في اللغة فاعل؛ لأن الفاعل في اللغة من قام به الفعل، وعند النَّحويِّين مبتدأ؛ لأن الفاعل عندهم: الاسمُ المرفوع المذكور قَبْلَه عامِلُه.

2 -

حديث عمار بن ياسر رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم رخَّص للجُنُب إِذا أراد أن يأكل، أو يشرب أو ينام أن يتوضَّأ

(2)

.

(1)

رواه مسلم، كتاب الحيض: باب جواز نوم الجنب

، رقم (305).

(2)

رواه أحمد (4/ 320)، وأبو داود، كتاب الطهارة: باب من قال يتوضأ الجنب، رقم (225، 4601)، والترمذي، أبواب الصلاة: باب ما ذكر في الرخصة للجنب في الأكل والنوم إذا توضأ، رقم (613) عن يحيى بن يعمر عن عمار.

قال الترمذي: حسن صحيح. وصحَّحه أيضاً النووي في «الخلاصة» ، رقم (504) وأعلَّه أبو داود والدارقطني بالانقطاع بين يحيى بن يعمر وعمار.

قلت: ويؤيِّده ما قالاه أن يحيى قال في بعض روايات الحديث: إِنه أخبره رجل عن عمار بن ياسر. انظر: «السنن» لأبي داود رقم (4177).

ص: 368

قوله: «ونومٍ» ، أي: يُسْتَحَبُّ للجُنُب إِذا أراد النَّوم أن يتوضَّأ، واستُدلَّ لذلك بحديث عمر رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله، أَيَرْقُد أحدُنا وهو جُنُب؟ قال:«نعم، إِذا توضَّأ أحدُكم فلْيَرْقُد وهو جُنُب»

(1)

، وفي لفظ:«توضَّأ واغسلْ ذَكَرَكَ ثُمَّ نَمْ»

(2)

.....

وهذا الدَّليل يقتضي الوُجوب لأنَّه قال: «نعم إِذا توضَّأ» . وتعليق المباح على شَرْط يدلُّ على أنَّه لا يُباح إِلا به، وعليه يكون وُضُوء الجُنُب عند النوم واجباً، وإلى هذا ذهب الظَّاهريَّة وجماعة كثيرة من أهل العِلْمِ

(3)

، ولكن المشهور عند الفقهاء والأئمَّة المتبوعين أنَّ هذا على سبيل الاستحباب

(4)

، واستدلُّوا لذلك بحديث عائشة رضي الله عنها أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم:«كان ينامُ وهو جُنُبٌ من غير أن يمسَّ ماءً»

(5)

.

(1)

متفق عليه، وقد تقدم تخريجه ص (352).

(2)

رواه البخاري، كتاب الغسل: باب الجنب يتوضأ ثم ينام، رقم (290)، ومسلم، كتاب الحيض: باب جواز نوم الجنب واستحباب الوضوء له، رقم (306) .....

(3)

انظر: «فتح الباري» (1/ 395).

(4)

انظر: «المغني» (1/ 303)، «المجموع شرح المهذب» (2/ 158).

(5)

شرح السُّنة» (2/ 36، 37)«الخلاصة» رقم (511)، «التلخيص الحبير» رقم (187).

ص: 369

قالوا: فَتَرْكُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم للوُضُوء في هذه الحال بيان للجَواز، وأن الأمر ليس للوُجوب. وهذه قاعدة صحيحة معتَبَرة، خلافاً لمن قال: إِن فِعْلَه لا يُعارض قولَه، بل يؤخذ بالقول فلا يدلُّ فِعلُه على الجواز.

فائدة: هذه الطَّريقة يلجأ إِليها الشَّوكاني رحمه الله في «نَيْل الأوطار»

(1)

، وأنا أتعجَّب من سلوكه هذه الطَّريقة؛ لأنَّه مِنَ المعلوم أنَّنا لا نحمل فعْل الرَّسول صلى الله عليه وسلم على الخُصوصيَّة إِلا حَيث تعذَّر الجَمْع، أما إِذا أمكن الجَمْع فإِنَّه لا يجوز حَمْلُ النَّصِّ على الخُصوصيَّة؛ لأن الأصل التَّأسِّي به صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]، فإذا كان الأصل التَّأسِّي به فلا وجه لحمل النَّصِّ على الخصوصيَّة مع إِمكان الجمع إِلا بدليل.

ويدلُّ على أن فِعْله صلى الله عليه وسلم أو قوله لا يُحمَل على الخُصوصيَّة إِلا بدليل قول الله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ ....

(1)

انظر: «نيل الأوطار» (1/ 241).

ص: 370

أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50]، ووجْه الدَّلالة من الآية: أنَّ الله تعالى بيَّن أنها خالصة للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، ولولا ذلك لكان مقتضَى النَّص أنه يجوز للإِنسان التزوُّج بالهِبَة.

ودليل آخر: أن الله تعالى قال في قصَّة زينب بنت جحش رضي الله عنها: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب: 37]، وكانت زينب تحت زيدِ بن حارثة، وكان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم قد تَبَنَّاهُ، فلما أحلَّ الله له زينب قال:{لِكَي لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا} [الأحزاب: 37]. فهذا الحُكْمُ خاصٌّ، وعِلَّته عامّة، وعلى هذا فالحكم الذي يَثْبُت للرَّسول صلى الله عليه وسلم يَثْبت للأمَّة؛ وإِلا لم يكُنْ لقوله:{لِكَي لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ} فَائدةٌ.

وعُورض حديث عائشة: «كان ينام وهو جُنُب من غير أن يمسَّ ماءً» بأمرين:

الأول: أنَّه منقطع. ورُدَّ بأنه متَّصل، وأن أبا إسحاق سَمِع من الأسود الذي رواه عن عائشة، وإِذا تعارض الوَصْل والقَطْع، فالمعتَبَر الوصل.

الثاني: أنَّ قولها: «من غير أن يمسَّ ماءً» ، أي: ماء للغُسْل. ورُدَّ بأن هذا بعيد؛ لأن «ماء» نكرة في سِيَاق النَّفْي فتعُمُّ أيَّ ماءٍ، وعليه فالتَّعليل بالانقطاع غيرُ صَحيح، وكذلك التَّأويل.

والذي يظهر لي: أن الجُنُبَ لا ينام إِلا بِوُضُوء على سبيل الاستحباب، لحديث عائشة رضي الله عنها، وكذا بالنِّسبة للأكْلِ والشُّرْب.

ص: 371

وفرَّق الفقهاء رحمهم الله بين الأكل والشُّرب والنَّوم، فقالوا: يُكْرهُ أن ينام على جنابة بلا وُضُوء، ولا يُكْرَه له الأكل، والشُّرب بلا وُضُوء

(1)

.

قوله: «ومُعَاوَدَةِ وَطْءٍ» ، أي: يُسَنُّ للجُنُبِ أن يتوضَّأ إِذا أراد أن يُجَامع مرَّة أُخرى، والدَّليل على ذلك ما ثَبتَ في «صحيح مسلم» أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أمر مَنْ جَامَع أهلَه، ثم أراد أن يعود أن يتوضَّأ بينهما وُضُوءاً

(2)

.

والأصل في الأَمْر الوُجُوب، لكن أخرج هذا الأَمر على الوُجُوب ما رواه الحاكم: «

إِنه أَنْشَطُ للعَوْدِ»

(3)

.

فَدلَّ هذا أنَّ الوُضُوء ليس عبادة حتى نُلْزِم النَّاسَ به، ولكنْ من باب التَّنْشيط، فيكون الأَمْرُ هنا للإِرشاد، وليس للوجوب.

وكان صلى الله عليه وسلم يطوف على نسائِه بِغُسْلٍ واحد

(4)

، وإِن كان طوافه عليهن بغسل واحد، لا يَمْنَعُ أن يكون قد توضَّأ بين الفِعْلَين .....

(1)

انظر «كشاف القناع» (1/ 158).

(2)

رواه مسلم، كتاب الحيض: باب جواز نوم الجنب واستحباب الوضوء له، رقم (308) من حديث أبي سعيد الخدريِّ.

(3)

رواه ابن خزيمة في «صحيحه» رقم (221)، وابن حبان رقم (1211)، والحاكم (1/ 152) والبيهقي (1/ 204) من حديث أبي سعيد الخدري.

قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين؛ ولم يخرجاه بهذا اللفظ. ووافقه الذهبي. وصحَّحه أيضاً النووي. انظر: «الخلاصة» رقم (507).

(4)

رواه ـ بهذا اللفظ ـ مسلم، كتاب الحيض: باب جواز نوم الجنب واستحباب الوضوء له، رقم (309) من حديث أنس، وبوّب به البخاري، كتاب الغسل: باب إِذا جامع ثم عاد، ومن دار على نسائه في غسل واحدٍ، ثم أورد حديث عائشة، رقم (267). وبنحوه حديث أنس رقم (268) بلفظ:«كان يدور على نسائه في السَّاعة الواحدة» .

ص: 372

‌بابُ التَّيَمُّمِ

‌وهُو بَدَلُ طهارَةِ الماءِ

التَّيمُّم لغةً: القصد.

وشرعاً: التَّعبُّد لله تعالى بقصد الصَّعيد الطَّيِّب؛ لمسْحِ الوجه واليدين به.

وهو من خصائص هذه الأمَّة لِمَا رواه جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أُعطيتُ خمساً لم يُعْطَهُنَّ نبيٌّ من الأنبياء قَبْلي: نُصِرت بالرُّعب مسيرة شَهْر، وجُعِلتْ لي الأرضُ مسجداً وطَهوراً، فأيّما رَجُلٍ مِنْ أُمَّتي أَدْرَكَتْه الصَّلاةُ فَلْيُصلِّ

»، الحديث

(1)

.

وكانت الأمم في السَّابق إِذا لم يجدوا ماءً بَقَوا حتى يَجِدوا الماء فيتطهَّروا به، وفي هذا مشقَّة عليهم، وحرمان للإِنسان من الصِّلة بربِّه، وإِذا انقَطَعَتْ الصِّلة بالله حَدَثَ للقَلب قَسْوةٌ وغَفْلةٌ.

وسببُ نزول آية التيمُّم ضياعُ عِقْد عائشة رضي الله عنها التي كانت تتجَمَّل به للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وكان هذا العِقد عارية، فلما ضاع بقيَ الناس يطلبونه، فأصبحوا ولا ماء معهم، فأنْزَلَ الله آية التَّيمُّم، فلما نَزَلَتْ بَعَثُوا البعير، فوجدوا العِقد تحته؛ فقال أُسيد بن حضير رضي الله عنه:«ما هي بأوَّلِ بَرَكَتِكُمْ يا آل أبي بكر»

(2)

.

قوله: «وهو بَدَلُ طهارة الماء» ، أي: ليس أصْلاً؛ لأن الله

(1)

متفق عليه، وقد تقدم تخريجه، ص (29).

(2)

رواه البخاري، كتاب التيمم: باب قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} رقم (334)، ومسلم، كتاب الحيض: باب التيمم، رقم (367) .....

ص: 373

تعالى يقول: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة:6] فهو بدلٌ عن أصلٍ، وهو الماء.

وفائدة قولنا: «إِنه بدل» أنه لا يُمكن العمل به مع وجود الأصل؛ وإلا فهو قائم مقامه، ولكن هذه الطَّهارة إِذا وُجِدَ الماء بطلت، وعليه أن يغتسل إِن كان التَّيمُّم عن غُسْل، وأن يتوضَّأ إِن كان عن وُضُوء، والدَّليل على ذلك: ....

1 -

حديث عمران بن حُصين رضي الله عنه الطَّويل، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم للذي أصابته جنابة ولا ماء:«عليك بالصَّعيد فإنه يكفيك» ، ولمَّا جاء الماءُ قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:«خُذْ هذا وأفرغْه عليك»

(1)

. فدلَّ على أنَّ التَّيمُّم يَبْطُلُ بوجود الماء.

2 -

قوله صلى الله عليه وسلم: «الصَّعيد الطيّب وُضُوء المسْلم، وإِن لم يَجِد الماء عَشر سنين، فإِذا وجَدَ الماء فَلْيَتَّقِ الله ولْيُمِسَّهُ بَشَرَتَهُ، فإِن ذلك خيرٌ»

(2)

.

(1)

تقدم تخريجه، ص (84).

(2)

ن حديث ابن سيرين، عن أبي هريرة.

قال ابن القطان: «إسناده صحيح» ، «بيان الوهم والإِيهام» رقم (2464).

قال الهيثمي: «رجاله رجال الصحيح» ، «المجمع» (1/ 259).

قال الدارقطني: الصواب عن ابن سيرين مرسلاً. «العلل» رقم (1423).

ورواه أحمد (5/ 146، 155، 180)، وأبو داود، كتاب الطهارة: باب الجنب يتيمم، رقم (332، 333)، والترمذي، أبواب الطهارة: باب التيمم للجنب إِذا لم يجد الماء، رقم (124)، وابن حبان رقم (1311) وغيرهم من طريق عمرو بن بُجدان عن أبي ذرٍ به مرفوعاً في قصةٍ.

وعمرو بن بُجدان وثَّقه العجلي وابن حبان وصحَّح حديثه الترمذي، وابن حبان. فهو ثقة. وانظر:«نصب الراية» (1/ 149)، «الكاشف» ، «التلخيص» رقم (210).

وصحَّح حديث أبي ذر: الترمذي، وابن حبان، والنَّووي، وغيرهم.

انظر: إضافة لما سبق: «الخلاصة» رقم (549)، «المعجم الأوسط» للطبراني، رقم (1355).

ص: 374

وهل هو رافِع للحَدَثِ، أو مُبيح لما تَجِبُ له الطَّهارة؟ اختُلِف في ذلك:

فقال بعض العلماء: إِنه رافع للحَدَثِ

(1)

.

وقال آخرون: إِنه مُبيح لما تجب له الطَّهارة (700).

والصواب هو القول الأول:

1 -

لقوله تعالى لمَّا ذكر التيمم: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة: 6].

2 -

وقوله صلى الله عليه وسلم: «وجُعِلَت لي الأرضُ مسجداً وطَهوراً»

(2)

، والطَّهور بالفتح: ما يُتَطَهَّر به.

3 -

ولأنَّه بَدَل عن طهارة الماء، والقاعدة الشَّرعيَّة أنَّ البَدَل له حُكْم المُبْدل، فكما أنَّ طهارة الماء تَرفعُ الحَدَثَ فكذلك طهارة التَّيمُّم.

ويترتَّب على هذا الخلاف مسائل منها:

أ- إذا قلنا: إِنه مُبيح فَنَوى التَّيمُّم عن عِبادة لم يَستبِح به ما فوقها.

فإِذا تيمَّم لنافلة لم يُصلِّ به فريضة؛ لأن الفريضة أعلى،

(1)

انظر: «الإنصاف» (2/ 241، 242).

(2)

تقدم تخريجه ص (29) .....

ص: 375

وإذا تيمَّم لِمَسِّ المصحف لم يُصلِّ به نافلة، إِذ الوُضُوء للنَّافلة أعلى فهو مُجْمع على اشتراطه بخلاف الوُضُوء لِمَسِّ المصحف، وهكذا.

وإذا قلنا: إنه رافع فإِذا تيمَّمَ لنافلة جازَ أن يُصلِّيَ به فريضة، وإِذا تيمَّم لمسِّ مصحف جاز أن يُصلِّيَ به نافلة .....

ب- إذا قلنا: إنّه مُبيح، فإذا خرج الوقت بَطلَ؛ لأن المبيح يُقتصر فيه على قَدْرِ الضَّرورة، فإِذا تيمَّم للظُّهر ـ مثلاً ـ ولم يُحْدِث حتى دخل وقت العصر فعليه أن يُعيدَ التَّيمُّم.

وعلى القول بأنه رافع، لا يجب عليه إعادة التيمُّم، ولا يَبطُل بخروج الوقت.

ج- إذا قلنا: إِنه مبيح، اشترط أن ينويَ ما يتيمَّم له، فلو نَوَى رفْع الحَدَث فقط لم يرتفع.

وعلى القول بأنه رافع لا يُشْترطَ ذلك، فإذا تيمَّم لرَفْع الحَدَث فقط جاز ذلك

(1)

.

وظاهر كلام المؤلِّف: أنه بَدَل عن طهارة الماء في كلِّ ما يطهِّره الماء؛ سواء في الحَدَث؛ أم في نجاسة البَدَن؛ أم في نجاسة الثَّوب؛ أم في نجاسة البُقعة، ولكن ليس هذا مراده، بل هو بَدَل عن طهارة الماء في الحَدَث قولاً واحداً؛ وفي نجاسة البَدَن على المذهب

(2)

، أي أنه يتيمَّم إِذا عدم الماء للحَدَث الأصغر والأكبر، ويتيمَّم إِذا كان على بَدَنِه نجاسة ولم يَقْدِرْ على

(1)

انظر ص (400).

(2)

انظر: «الإنصاف» (2/ 204) .....

ص: 376

إزالتها، ولا يتيمَّم إِذا كان على ثَوبه أو بُقعَته نجاسة.

والصَّحيح: أنه لا يتيمَّم إلا عن الحَدَث فقط لما يلي:

1 -

أن هذا هو الذي وَرَد النَّص به.

2 -

أن طهارة الحَدَث عبادة، فإِذا تعذَّر الماء تعبَّد لله بتعفير أفضل أعضائه بالتُّراب، وأما النَّجاسة، فشيء يُطْلَبُ التَّخلِّي منه، لا إِيجادُه، فمتى خَلا من النَّجاسة ولو بلا نيَّة طَهُرَ منها، وإِلا صلَّى على حَسَب حاله، لأنَّ طهارة التَّيمُّم لا تؤثِّر في إزالة النَّجاسة، والمطلوب من إِزالة النَّجاسة تخْلِيَة البَدَنِ منها، وإِذا تيمَّم فإِنَّ النَّجاسة لا تزول عن البَدَن، وعلى هذا: إِن وَجَد الماء أزالها به، وإلا صلَّى على حَسَب حاله؛ لأنَّ طهارة التيمُّم لا تؤثِّر في إزالة النَّجاسة .........

‌إِذا دخلَ وقتُ فريضةٍ أو أُبيحَت نافلةٌ ............

قوله: «إذا دخلَ وقتُ فريضةٍ أو أُبيحَت نافلةٌ» ، «إذا» أداة شرط، وفعل الشَّرط «دخل» وما عُطف عليه، وجوابه قوله بعد ذلك:«شُرع التَّيمُّم» .

أي: يُشترط للتَّيمُّم دخول الوقت، أو إِباحة النَّافلة، وهذا هو الشَّرط الأول لِصِحَّة التَّيمُّم، وهذا مبنيٌّ على القول بأنه مبيح لا رافع وهو المذهب، فيقتصر فيه على الضَّرورة، وذلك بأن يكون في وقت الصَّلاة.

وقوله: «أو أبيحَت نافلةٌ» . أي: صار فِعْلها مباحاً، وذلك بأن تكون في غير وقت النَّهي، فإِذا كان في وقت نَهْيٍ، فلا يتيمَّم لصلاة نَفْل لا تجوز في هذا الوقت.

وقولنا: «لا تجوز في هذا الوقت» ، احترازاً مما يجوز في

ص: 377

هذا الوقت من النَّوافل كَذَوات الأسباب ـ على القول الرَّاجح ـ وهذا مبنيٌّ على القول بأنَّه مبيح لا رافع.

والصَّواب أنه رافع، فمتى تيمَّم في أيِّ وقتٍ صحَّ، وقد سبق بيانه

(1)

.

‌وعَدِمَ الماء أو زادَ على ثَمَنه كثيراً، أو ثَمَنٍ يُعْجِزُهُ، أَوْ خَافَ باسْتِعْمَالِهِ أو طَلَبِهِ ضَرَرَ بَدَنِهِ ........

قوله: «وعدم الماء» ، هذا الشَّرط الثَّاني لِصِحَّة التَّيمُّم: أن يكون غيرَ واجِدٍ للماء لا في بيته، ولا في رَحْلِه، إن كان مسافراً، ولا ما قَرُبَ منه.

قوله: «أو زاد على ثَمَنه كثيراً» ، أي: إِذا وجد الماء بثمن زائد على ثمنه كثيراً عَدَل إِلى التَّيمُّم، ولو كان معه آلاف الدَّراهم. وعلَّلوا: أن هذه الزِّيادة تجعله في حُكْم المعدوم.

والصَّواب: أنه إِذا كان واجداً لثمنه قادراً عليه وَجَبَ عليه أن يشتريه بأيِّ ثمن، والدَّليل على ذلك قوله تعالى:{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [المائدة: 6]، فاشترط الله تعالى للتَّيمُّم عَدَم الماء، والماء هنا موجود، ولا ضرر عليه في شِرائه لِقُدْرَته عليه، وأمَّا كون ثمنه زائداً فهذا يرجع إلى العَرْض والطَّلب، أو أن بعض النَّاس ينتَهِز حاجَةَ الآخرين فيرفع الثَّمن .........

(1)

انظر: ص (375) .....

قوله: «أو ثَمَن يعجزه» ، أي لا يَقْدر على بَذْلِه بحيث لا يكون معه ثَمنه، أو معه ثَمن ليس كاملاً، فَيُعتبر كالعَادِم للماء فيتيمَّم.

قوله: «أو خاف باسْتِعْمالِه، أو طَلَبِهِ ضَرَرَ بَدَنِهِ» ، فإذا تضرَّر

ص: 378

بَدَنُه باستعماله الماءَ صار مريضاً، فيدخل في عموم قوله تعالى:{وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} الآية [المائدة: 6].

كما لو كان في أعضاء وُضُوئه قُروح، أو في بَدَنِه كُلِّه عند الغُسْل قُروح وخاف ضَرَر بَدَنِه فله أن يتيمَّم.

وكذا لو خاف البرْد، فإِنه يُسخِّن الماء، فإِن لم يَجِد ما يسخِّن به تيمَّم؛ لأنَّه خَشِيَ على بَدَنِه من الضَّرر، وقد قال تعالى:{وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29]. واستدلَّ عمرو بن العاص رضي الله عنه بهذه الآية على جواز التَّيمُّم عند البَرْد إِذا كان عليه غُسْل

(1)

.

وقوله: «أو طلبِه ضرَرَ بدنِهِ» ، أي: خاف ضَرَرَ بَدَنِه بطلَبِ الماء، لبُعْدِه بعض الشيء، أو لِشدَّة برودة الجَوِّ، فيتيمم.

والدَّليل على هذا قوله سبحانه وتعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29]، وقوله:{وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195]، وقوله:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، وخَوْفُ الضَّرر حَرَجٌ، وقوله صلى الله عليه وسلم:«لا ضَرَرَ، ولا ضِرَار»

(2)

.

(1)

رواه البخاري تعليقاً بصيغة التمريض، كتاب التيمم: باب «إذا خاف الجنب على نفسه المرض

» رقم (345)، ووصله أبو داود والحاكم. قال ابن حجر:«وإسناده قويٌّ؛ لكنه علَّقه بصيغة التمريض لكونه اختصره» . «الفتح» شرح ترجمة الباب المذكور.

(2)

رواه أحمد (5/ 326 ـ 327)، وابن ماجه، كتاب الأحكام: باب من بنى في حقِّه ما يضرّ بجاره، رقم (2340) من حديث عبادة بن الصامت.

ورُوي أيضاً من حديث أبي سعيد، وأبي هريرة، وجابر، وابن عباس، وعائشة وغيرهم. قال النووي: «حديث حسن

وله طرق يَقْوَى بعضها ببعض». قال ابن رجب: «وهو كما قال» . قال ابن الصَّلاح: «هذا الحديث أسنده الدارقطني من وجوه، ومجموعها يقوِّي الحديث ويحسِّنه، وقد تقبله جماهير أهل العلم، واحتجُّوا به» .

انظر: «جامع العلوم والحكم» لابن رجب، شرح حديث رقم (32) .....

ص: 379

‌أو رفيقه، أو حرمته، أو مالِه بعطش، أَوْ مَرَضٍ، أو هلاكٍ، ونَحْوه ........

قوله: «أو رفيقه» ، أي: خاف باستعمال الماء أو طَلَبِه ضَرَرَ رفيقه.

مثال ذلك: أن يكون معه ماء قليل ورُفْقَة، فإِن استعمل الماء عطِشَ الرُّفْقَة وتضرَّروا، فنقول له: تيمَّم، ودَع الماء للرُّفْقَة .....

وظاهر قوله: «أو رفيقه» أنه يشْمل الكافر والمسلم، لكن بِشَرط أن يكون الكافر معصوماً، وهو الذِّمِّي، والمُعَاهد، والمُسْتَأْمِن.

قوله: «أو حرمته» ، أي: خاف باستعمال الماء أو طلبِه ضرر امرأته، أو من له ولاية عليها من النِّساء.

قوله: «أو مالِه» ، أي: خاف باستعمال الماء أو طلبه تضرُّر ماله، كما لو كان معه حيوان، وإِذا استعمل الماء تضرَّر، أو هَلَكَ.

قوله: «بِعَطَشٍ» ، متعلِّق بـ «ضَرر» ، أي: ضرر هؤلاء بعطش.

قوله: «أو مَرَضٍ» ، مثاله: أن يكون في جِلْدِه جروح تتضرَّر باستعمال الماء.

قوله: «أو هَلاكٍ» ، كما لو خاف أن يموت من العَطَشِ.

قوله: «ونَحْوه» ، أي: من أنواع الضَّرر.

فالضَّابط أن يُقال: الشَّرط الثاني: تعذُّر استعمال الماء، إِما لِفَقْده، أو للتَّضرُّر باستعماله أو طَلَبِه، وهذا أعمُّ وأوضَحُ من عبارة المؤلِّفِ.

ص: 380

‌شُرعَ التَّيمُّمُ، ومَنْ وَجَدَ مَاءً يَكْفي بعضَ طُهرِه تيمَّم بعد اسْتِعمالِه،

..........

قوله: «شُرع التَّيمُّمُ» ، «شُرع»: جواب «إذا» في قوله: «إِذا دخل» ، وإِذا تأخَّر الجواب، وطال الشَّرْط بالمعطوفات عليه، فعِنْد البَلاغيين ينبغي إِعادة العامِل ليتَّضِح المعنى، لكنَّه لو أعاد الشَّرطَ هنا لعَادَ الأمْرُ كما هو؛ لأنَّ هذه الأمور كلها تابعة للشَّرط.

وقوله: «شُرع» ، أي: وجب لما تجب له الطَّهارة بالماء كالصَّلاة، واستُحبَّ لما تستحبُّ له الطَّهارة بالماء؛ كقراءة القرآن دون مَسِّ المصحَف.

قوله: «ومَنْ وجدَ ماءً يكْفي بعضَ طُهره تيمَّم بعد استعمالِهِ» ، أفادنا المؤلِّف أن الإِنسان إذا وَجَدَ ماءً يكْفي بعضَ طُهرِه، فإِنَّه يَجمع بين الطَّهارة بالماء والتَّيمُّم.

مثاله: عنده ماء يكفي لغَسْل الوَجْه واليدين فقط؛ فيجب أن يستعمل الماء أولاً؛ فيغسِل وجهه ويديه، ثم يتيمَّم لما بَقِيَ من أعضائه.

وسبب تقديم استعمال الماء، ليَصْدُق عليه أنه عَادِمٌ للماء، إِذا استعمله قبل التَّيمُّم.

والدليل على ذلك:

1 -

قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16].

2 -

وقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا أَمَرْتُكُمْ بأَمْرٍ فأْتوا منه ما اسْتَطَعْتُمْ»

(1)

.

(1)

رواه البخاري، كتاب الاعتصام: باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، رقم (7288) واللفظ له، ومسلم، كتاب الحج: باب فرض الحج مرَّة في العمر، رقم (1337) من حديث أبي هريرة.

ص: 381

فنحن مأمورون بغَسْل الأعضاء، فَغَسَلْنا الوجه واليدين، وانتهى الماء فاتَّقَيْنا الله بهذا الفعل، وتيمَّمنا لمسْحِ الرَّأس، وغَسْل الرِّجلين لتعذُّر الماء، فاتَّقَيْنا الله بهذا الفعل أيضاً، فلا تَضَادّ بين الغَسْل، والتَّيمُّم إِذ الكُلُّ مِنْ تقوى الله.

وقال بعض العلماء: لا يجمع بين طهارة الماء وطهارة التَّيمُّم، بل إِذا كان الماء يكفي لِنِصْفِ الأعضاء فأكثر فإنه يستعمل بلا تيمُّم، وإذا كان يكفي لأقلَّ من النِّصف، فلا يستعمل الماء بل يتيمَّم فقط

(1)

.

وعلَّلوا ذلك بأنَّ الجَمْع بين الطَّهارتين جَمْعٌ بين البدل والمبدل، وهذا لا يَصِحُّ لأنَّه من باب التَّضَادِّ.

وعلَّلوا أيضاً: بأن القاعدة العامة في الشَّريعة تغليب جانب الأكثر، فإِذا كانت الأعضاء المغسولة هي الأكثر فلا تَتَيمَّم، وإِذا كان العكس فتيمَّم ولا تغسلها.

ورُدَّ هذا: بأن التيمم هنا عن الأعضاء التي لم تُغْسَل، وليس عن الأعضاء المغسولة، فليس فيه جمع بين البَدَل والمبدل، بل هو شبيه بالمسْحِ على الخُفَّين من بعض الوجوه، لأنك غَسَلت الأعضاء التي تُغْسَل، ومَسَحْتَ على الخُفِّ بدلاً عن غَسْل الرِّجْل التي تحته.

وقال آخرون: إِنه يستعمل الماء مطلقاً، فيما يقدر عليه ولا يتيمَّم (708) .....

(1)

انظر: «المغني» (1/ 315)، «مجموع الفتاوى» (21/ 137)، «الإنصاف» (2/ 193 ـ 195) .....

ص: 382

وعلَّلوا ذلك: بأن التَّيمُّم بَدَلٌ عن طهارة كاملة، لا عن طهارة جُزئيَّة.

والصَّواب: ما ذهب إِليه المؤلِّف، وربما يُسْتَدلُّ له بما رُويَ عن الرَّسول صلى الله عليه وسلم في حديث صاحب الشُّجَّةِ الذي قال فيه الرَّسول صلى الله عليه وسلم:«إِنما كان يكفيه أن يتيمَّم، ويَعْصِبُ على جُرْحِه خِرْقَة، ثم يمسَحُ عليها، ويغْسِل سائر جسده»

(1)

. فجمَع النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بين طهارة المسْحِ، وطهارة الغسْل.

‌وَمَنْ جُرِحَ تَيَمَّمَ لَهُ وَغَسَلَ البَاقي ...........

قوله: «ومَنْ جُرِحَ تيمَّم له وغَسَل الباقي» ، يعني: من كان في أعضائه جُرْح، والمراد جُرْح يَضرُّه الماء، تيمَّم لهذا الجُرح وغَسَل باقي الأعضاء، والتَّيمُّم للجُرح لا يُشترَط له فُقدان الماء، فلا حَرَجَ أن يتيمَّم مع وجود الماء.

وظاهر قول المؤلِّف: «تيمَّم له» أنه لا بُدَّ أن يكون التَّيمُّم في مَوضِع غَسْل العضوِ المجروح، لأنه يُشْترَط الترتيب، وأما إِذا كان الجُرح في غُسْل الجنابة، فإِنه يجوز أن يتيمَّم قبل الغُسْل، أو بعده مباشرة، أو بعد زَمَنٍ كثيرٍ.

هذا هو المذهب، لأنهم يَرَون أن الغُسْل لا يُشْترَط له ترتيب ولا مُوالاة

(2)

، فلو بَدَأَ بِغَسْل أعلى بَدَنِه، أو أَسْفَلِه، أو وَسَطِه صَحَّ.

واستدلُّوا بقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] وهذا يشْمَل البَداءة بأعلى الجِسْم، أو وَسَطِه أو أسْفَلِه. وهو

(1)

تقدم تخريجه ص (244).

(2)

انظر: «الإقناع» (1/ 71).

ص: 383

واضح. أما الموالاة في الغُسْل فقد سَبَق الكلام فيها

(1)

. وإِذا كان التَّيمُّم في الحَدَثِ الأصغر فَعَلَى المذهب يُشْترَط فيه التَّرتيب والموالاة.

فإِذا كان الجُرْح في اليَدِ وَجَبَ أن تَغْسِل وجهك أولاً، ثم تتيمَّم، ثم تَمْسَح رأسك، ثم تغسِل رجليك.

وهنا يجب أن يكون معك منديل، حتى تُنشِّف به وجهك، ويَدَكَ، لأنَّه يُشترط في التُّراب أن يكون له غبار

(2)

، وإِذا كان على وجهك ماء فالتَّيمُّم لا يَصِحُّ

وقال بعض العلماء: إِنه لا يُشترط التَّرتيب ولا الموالاة، كالحَدَثِ الأكبر

(3)

، وعلى هذا يجوز التَّيمُّم قَبْل الوُضُوء، أو بعده بِزَمن قليل أو كثير، وهذا الذي عليه عمل النَّاس اليوم، وهو الصَّحيح. اختاره الموفَّق والمجدُ (713) وشيخ الإِسلام ابن تيمية

(4)

، وَصوَّبه في «تصحيح الفروع»

(5)

.

فائدة: قال بعض العلماء: لا يُشرع التَّيمُّم إِلا في الطَّهارة الواجبة، وأما المستحبَّة فلا يُشْرَع لها

(6)

. واستدلُّوا لذلك بأثرٍ ونَظَرٍ.

أما الأثر فقالوا: إِن الله تعالى إِنما ذَكَرَ التَّيمُّم في الطَّهارة

(1)

انظر: ص (365).

(2)

انظر: ص (393) .....

(3)

انظر: «المغني» (1/ 338، 339)، «الإنصاف» (2/ 224، 226).

(4)

انظر: «مجموع الفتاوى» (21/ 422، 426)، «الاختيارات» ص (21).

(5)

انظر: «تصحيح الفروع» (1/ 218).

(6)

انظر: «مجموع الفتاوى» (26/ 190)، «الإنصاف» (8/ 137، 138).

ص: 384

الواجبة، وذلك في قوله تعالى:{أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} الآية [المائدة: 6].

وأما النَّظَر فقالوا: إِن التَّيمُّم طهارة ضرورة، والطَّهارة غير الواجبة لا ضرورة لها؛ فلا يُشْرَع لها التَّيمُّم. وهذا أحد القولين في المذهب

(1)

.

وهذا الاستدلال والتعليل مع أنه قويٌّ جداً إِلا أنه يُعكِّر عليه أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم تيمَّم لردِّ السَّلام وقال: «إِني كَرهْتُ أن أَذْكُر الله إِلا على طُهْر»

(2)

، ومعلوم أن التَّيمُّم لردِّ السَّلام ليس واجباً بالإِجماع، وإِذا كان كذلك وقد تيمَّم له النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم فإِنه يدلُّ على مشروعيَّة التَّيمُّم في الطَّهارة المستحبَّة. وهذا استدلال واضح جداً.

ثم إِن التَّيمُّم بَدَلٌ عن الطَّهارة بالماء، والبَدَلُ له حُكْمُ المبدل منه، فمتى استُحبَّت الطَّهارة بالماء استُحبَّت الطَّهارة بالتَّيمُّم، فيُعارض الاستدلال بالآية بالاستدلال بالحديث، ويُعارض النَّظَرُ بالنَّظَرِ، ويكفيه من ذلك أن يشعرَ بأنه متعبِّد لله تعالى بأحد نوعي الطهارة لهذا العمل الذي تُشْرَع له الطَّهارة .....

‌ويَجبُ طلبُ الماءِ ...........

قوله: «ويَجبُ طَلَبُ الماءِ» ، الواجب: ما أَمَرَ به الشَّارع على سبيل الإِلزام بالفعل.

وحكمه: أن فاعله مُثَاب، وتارِكَه مستحِقٌّ للعِقاب، ولا نقول يعاقَب تارِكُه؛ لأنه يجوز أن يعفوَ الله عنه قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 116].

(1)

انظر: «الإنصاف» (8/ 136، 137).

(2)

تقدم تخريجه ص (117) .....

ص: 385

والدَّليل على وجوب طلب الماء قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: 6]، ولا يُقال: لم يَجِد إِلا بعد الطَّلب.

‌في رَحْلِه، وقُرْبِه، وبِدلالةٍ، فإن نَسِيَ قدرتَه عليه وتيمَّم أعادَ، وإِن نَوى بتيمُّمِهِ أَحداثاً .....

قوله: «في رَحْلِه» ، أي: عند الجماعة الذين معه.

والرَّحْل: المَتَاع، والمراد الجماعة، فإِذا كان يعْلَم أنه لا ماء فيه فلا حاجَة إِلى الطَّلب، لأنه حينئذ تحصيل حاصل، وإِضاعَةُ وقت، لكن لو فُرض أنه أَوْصَى مَن يأتي بماء، ويُحتمَل أنه أتى بماء، ووضَعه في الرَّحْل فحينئذ يجب الطَّلب.

قوله: «وقُرْبِه» ، أي: يجب عليه أن يطلب الماء فيما قَرُبَ منه، فيبحث هل قُرْبه، أو حَوْله بئر، أو غدير؟ والقُرب ليس له حَدٌّ محدَّد، فيُرْجَع فيه إِلى العُرْف، والعُرْف يختلف باختلاف الأزمنة. ففي زمَننا وُجِدَت السيَّارات فالبعيد يكون قريباً. وفي الماضي كان الموجود الإِبل فالقريب يكون بعيداً.

فيبحث فيما قَرُبَ بحيث لا يشقُّ عليه طلبه، ولا يفوته وقت الصَّلاة.

قوله: «وبِدلالةٍ» ، يعني: يجب عليه أن يطلب الماء بدليل يَدُلُّهُ عليه.

فإِذا كان ليس عنده ماء في رحْلِه، ولا يستطيع البحث لِقِلَّةِ معرفته، أو لكونه إِذا ذهب عن مكانه ضاع، فهذا فرضُه الدِّلالة؛ فيَطلُب من غيره أن يَدُلَّه على الماء سواء بمال، أم مجاناً.

وإِذا لم يَجِد الماء في رحَلْهِ، ولا في قُرْبِه، ولا بدلالة، شُرِعَ له التَّيمُّم.

ص: 386

‌فإِن نسيَ قدرتَه عليه وتيمَّمَ أعادَ، وإِن نَوى بتيمُّمِه أحداثاً ..........

والدَّليل على ذلك قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: 6].

قوله: «فإِن نسيَ قدرتَه عليه وتيمَّمَ أعادَ» ، أي: لو كان يعرف أن حوله بئراً لكنَّه نَسِيَ، فلما صلَّى، وَجَدَ البئر فإِنَّه يُعيد الصَّلاة.

فإِن قيل: كيف يعيد الصلاة وقد قال الله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِيْنَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286].

فالجواب: أن هذا تحصيل شَرْط، والشَّرط لا يسقط بالنِّسيان، ولأنه حَصَلَ منه نوع تفريط، فَلَوْ أنه فكَّر جيداً؛ وتروَّى في الأمْرِ لَتَذكَّر.

وقيل: لا يُعيد

(1)

، لأنَّه لم يقصد مخالفة أمْرِ الله تعالى، فهو حينما صلَّى كان منتهى قدرته أنَّه لا ماء حَوْلَه.

والأَحْوَط: أن يُعيد. والعلماء إِذا قالوا الأَحْوَط لا يَعْنُون أنه واجب، بل يَعْنُون أنَّ الورَعَ فعلُه أو تَرْكه؛ لئلاَّ يُعرِّض الإِنسان نفْسَه للعقوبة، وهنا يُفرِّقون بين الحُكْمِ الاحتياطيِّ، والحُكْمِ المجزوم به. ذكر هذا شيخ الإِسلام

(2)

رحمه الله.

قوله: «وإِن نَوى بتيمُّمِه أحداثاً» ، أي: أجزأ هذا التَّيمُّم الواحد عن جميع هذه الأحداث، ولو كانت متنوِّعة؛ لأنَّ الأحداث إِمَّا أن تكون من نوع واحد؛ كما لو بال عِدَّة مرَّات فهذه أحداث نَوْعُها واحد وهو البول.

(1)

انظر: «الإِنصاف» (2/ 202).

(2)

انظر: «مجموع الفتاوى» (21/ 62)، (25/ 100، 110).

ص: 387

أو تكون من أنواع من جِنْس واحد كما لو بال، وتغوَّط، وأكل لحم جَزور، فهذه أنواع من جِنْس واحد وهو الحَدَث الأصغر.

أو تكون من أجناس كما لو بال، واحْتَلم، فهذه أجناس؛ لأن الأوَّل حَدَث أصغر والثَّاني أكبر.

فإِذا تيمَّم، ونَوَى كُلَّ هذه الأحداث، فإِنه يجزئُ، والدَّليل قوله صلى الله عليه وسلم:«إِنَّما الأعمال بالنِّيَّات، وإِنما لكلِّ امرئ ما نَوَى»

(1)

، والتَّيمُّم عَمَل؛ وقد نَوَى به عِدَّة أحداث فله ما نَوى .....

‌أَوْ نَجَاسَةً على بدنِه تضُرُّهُ إزالتُها، أوْ عَدِمَ ما يُزيلها،

......

قوله: «أو نَجَاسة على بَدَنِه تضُرُّه إِزالتُها» ، مثاله: لو سقطتْ نقطةُ بَولٍ على جُرْحٍ طريّ لا يستطيع أن يغسلَه، ولا يمسَحَه؛ لأنَّه يضرُّه إِزالتها، فيتيمَّم على القول بالتَّيمُّم عن نجاسة البَدَن.

قوله: «أوْ عَدِمَ ما يُزيلها» ، مثاله: أصابه بول على بَدَنِه ولا ماء عنده يُزيلها به، فيتيمَّم.

وأفاد رحمه الله بقوله: «أو نجاسة على بَدَنِه» ، أن النَّجاسة على البَدَنِ يتيمَّمُ لها إِذا لم يَقْدِر على إِزالتها، وأما النَّجاسة في الثَّوب، أو البقعة فلا يتيمَّم لها.

والصَّحيح: أنه لا يتيمَّم عن النَّجاسة مطلقاً، وقد سبق بيان ذلك

(2)

.

ومثال نجاسة البُقْعة: كما لو حُبِسَ في مكان نَجِسٍ

(1)

تقدم تخريجه، ص (194) .....

(2)

انظر: ص (376).

ص: 388

كالمرحاض، فيتوضَّأ ويصلِّي على حسب حاله، ولا يتيمَّم للنَّجاسة.

‌أوْ خَافَ بَرْداً، أَوْ حُبسَ في مِصْرٍ فَتَيَمَّم، أو عَدِم الماءَ والترابَ صلَّى، ولم يُعِدْ.

قوله: «أو خافَ برْداً» ، يعني: خاف من ضَرَرِ البرد لو تطهَّر بالماء، إِما لكون الماء بارداً ولم يَجِد ما يُسخِّن به الماءَ، وإِما لِوُجود هواء يتضرَّر به، ولم يَجِد ما يتَّقي به فَلَهُ أن يتيمَّم، لقوله تعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16].

فإِن وَجد ما يُسخِّن به الماءَ، أو يتَّقي به الهواء، وَجَبَ عليه استعمال الماء، وإِنْ خافَ الأذى باستعمال الماء دون الضَّررِ، وجب عليه استعمالُهُ.

قوله: «أو حُبِس في مِصْرٍ فَتَيَمَّم» ، «حُبس» أي: لم يتمكَّن من استعمال الماء. والمِصْر: المدينة، وإِنما نَصَّ المؤلِّفُ رحمه الله على ذلك؛ لأن بعض العلماء قال: لا يتيمَّم

(1)

؛ لأنه ليس مسافراً، ولا عادماً للماء؛ لأنَّه في مِصْر. ولكن يقال: إِن الماء الموجود في المِصْر بالنِّسبة له معدوم؛ لأنه حُبِس ولم يتمكَّن من استعمال الماء، وحينئذ تعذَّر عليه الماء فيتيمَّم .....

وإِن حُبِس في مِصْر، ولم يَجِد ماء، ولا تُراباً صلَّى على حَسَب حاله، ولا إِعادة عليه، ولا يؤخِّر صَلاته حتى يقْدِر على إِحدى الطَّهارتين: الماء، أو التُّراب.

قوله: «أو عَدِمَ الماء، والتُّراب صلَّى، ولم يُعِد» ، كما لو حُبِس في مكان لا تُراب فيه ولا ماء، ولا يستطيع الخروج منه، ولا

(1)

انظر: «الإنصاف» (2/ 261) .....

ص: 389

يُجلب له ماء ولا تُراب؛ فإِنه يُصلِّي على حَسَب حاله، محافظة على الوقت الذي هو أعظم شروط الصلاة.

والدَّليل على ذلك قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، وقوله صلى الله عليه وسلم:«إِذا أمَرْتُكم بأمرٍ فأْتوا منه ما استطعتم»

(1)

، وقوله صلى الله عليه وسلم:«أيُّما رَجُل من أمَّتي أدْرَكَته الصَّلاةُ فلْيُصَلِّ»

(2)

لأنَّ هذا عام، ومن هنا نأخذ أهمِّية المحافظة على الوقت، وأنَّ الوقت أَوْلى ما يكون ـ من شروط الصَّلاة ـ بالمحافظة.

‌ويَجبُ التيمُّمُ بِتُرابٍ ............

قوله: «ويَجبُ التيمُّمُ بتُرابٍ» ، هذا بيان لما يُتيمَّم به. وقد ذكر المؤلِّفُ له شروطاً:

الأول: كونه تراباً، والتُّراب معروف، وخرج به ما عداه من الرَّمل، والحجارة وما أشبه ذلك.

فإِنْ عَدِم التُّرابَ كما لو كان في بَرٍّ ليس فيه إِلا رَمْل، أو ليس فيه إِلا طِين لكثرة الأمطار فيصلِّي بلا تيمُّم، لأنَّه عادِم للماء والتُّراب. والدَّليل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:«وجُعِلت تربتُها لنا طَهُوراً»

(3)

، وفي رواية:«وجُعِل التُّراب لي طَهُوراً»

(4)

.

قالوا: هذا يُخصِّص عُموم قوله صلى الله عليه وسلم: «وجُعِلتْ لي الأرض

(1)

تقدم تخريجه، ص (381).

(2)

تقدم تخريجه، ص (29).

(3)

رواه مسلم، كتاب المساجد: الباب الأول، رقم (522) من حديث حُذيفة.

(4)

رواه ابن أبي شيبة، كتاب الفضائل: باب ما أعطى الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم رقم (31638)، وأحمد (1/ 98، 158) من حديث علي بن أبي طالب. قال الهيثمي: «الحديثُ حَسَنٌ» ، «المجمع» (1/ 261).

ص: 390

مسجداً وطَهُوراً»

(1)

. لأن الأرض كلمة عامَّة، والتُّراب خاصٌّ، فيُقيَّد العام بالخاص.

ورُدَّ هذا: بأنه إِذا قُيِّد اللفظ العام بما يوافق حُكْم العام، فليس بِقَيد.

وتقرير هذه القاعدة: أنَّ ذكر بعض أفراد العام بحُكم يوافق حُكم العام، لا يقتضي تخصيصه .....

مثال ذلك: إِذا قلت: «أكرِم الطَّلَبَة» فهذا عام، فإِذا قلت: أكرم زيداً وهو من الطَّلبة؛ فهذا لا يُخصِّص العام، لأنك ذكرت زيداً بحُكْمٍ يوافق العام.

لكن لو قلت: لا تُكْرم زيداً، وهو من الطَّلبة صار هذا تخصيصاً للعام؛ لأنِّي ذَكرته بِحُكْم يُخالف العام.

ومن ذلك قول بعض العلماء في قوله صلى الله عليه وسلم: «وفي الرِّقَةِ رُبع العُشرِ»

(2)

، أنه يخصِّص عموم الأدلَّة الدَّالة على وجوب الزكاة في الفضَّة مطلقاً

(3)

، لأنه قال:«وفي الرِّقَة» ، والرِّقَة: هي السِّكَّة المضروبة.

فيقال: إِن سلَّمْنا أن الرِّقَة هي الفِضَّة المضروبة، فذِكْرُ بعض أفراد العام بِحُكْم يوافق العام لا يقتضي تخصيصه.

وهذه القاعدة ـ أعني أن ذكر أفرادٍ بِحُكْم يوافق العام لا يقتضي

(1)

تقدم تخريجه ص (29) .....

(2)

رواه البخاري، كتاب الزكاة: باب زكاة الغنم، رقم (1454) عن أبي بكر الصدِّيق.

(3)

انظر: «المغني» (4/ 220، 221) .....

ص: 391

التخصيص ـ إِنَّما هو في غير التقييد بالوصف، أما إِذا كان التَّقييد بالوصف فإِنه يفيد التَّخصيص، كما لو قُلت: أكرِم الطَّلبة، ثم قلت: أكرِم المجتهد من الطَّلبة، فذِكْر المجتهد هنا يقتضي التَّخصيص؛ لأنَّ التَّقييد بِوَصْف. ومثل ذلك لو قيل:«في الإِبل صدقة» ، ثم قيل:«في الإِبل السَّائمة صدقة» . فالتَّقييد هنا يقتضي التَّخصيص فتأمَّل.

والصَّحيح: أنَّه لا يختصُّ التَّيمُّم بالتُّراب، بل بِكلِّ ما تصاعد على وجه الأرض، والدَّليل على ذلك:

1 ـ قوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة: 6]، والصَّعيد: كلُّ ما تصاعد على وجه الأرض، والله سبحانه يَعْلَم أنَّ النَّاس يطْرُقون في أسفارهم أراضي رمليَّة، وحجريَّة، وتُرابيَّة، فلم يخصِّص شيئاً دون شيء.

2 ـ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم، في غزوة تبوك مَرَّ برِمالٍ كثيرة، ولم يُنقل أنَّه كان يحمِل التُّراب معه، أو يصلِّي بلا تيمُّم .....

‌طَهُورٍ ..........

قوله: «طَهُور» ، هذا هو الشَّرط الثَّاني لما يُتيمَّم به. وهو إِشارة إِلى أن التُّراب ينقسم إِلى ثلاثة أقسام: ....

1 -

طَهُور.

2 -

طاهر.

3 -

نجِس.

كما أن الماء عندهم ينقسم إِلى ثلاثة أقسام

(1)

.

فخرج بقوله: «طَهُور» التُّراب النَّجس كالذي أصابه بَوْل،

(1)

انظر: ص (28).

ص: 392

ولم يَطْهُر من ذلك البول، والدَّليل قوله تعالى:{فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة: 6]، والطَّيب ضدُّ الخبيث، ولا نعلَم خبيثاً يُوصَف به الصَّعيد إِلا أن يكون نجساً.

وخرج أيضاً: التُّراب الطَّاهر كالذي يتساقط من الوجه أو الكفَّين بعد التَّيمُّم، وكذا لو ضَرَبْتَ الأرضَ وغبّرت ومسَحْت وجهك، ثم أتى شخص وضَرب على يديك ومَسَح فلا يجزئ؛ لأن التُّراب الذي على اليدين مستعمل في طهارة واجبة، فيكون طاهراً غير مطهر.

أما لو تيمَّمت على أرض، ثم جاء آخر فضرب على موضع ضَرْب يديك فهذا طَهُور، وليس بطاهر، وقد نَصَّ الفقهاء على ذلك

(1)

، وهذا شبيه بما لو توضَّأ جماعة من بِرْكَة واحدة، فإِن ماء البِرْكة يبقى طَهُوراً.

والصَّحيح: أنه ليس في التُّراب قِسْم يُسمَّى طاهراً غير مطهِّر كما سبق في الماء

(2)

.

‌غير محتَرقٍ له غُبار ..........

قوله: «غير محتَرِق» ، هكذا في بعض النُّسَخ، وهذا هو الشَّرط الثَّالث من شروط المتيمَّم به. فلو كان محترِقاً كالخَزَفِ والإِسمنت، فلا يجوز التَّيمُّم به.

وهذا ضعيف، والصَّواب: أنَّ كلَّ ما على الأرض من تُراب، ورَمْل، وحجر محتَرِق أو غير محتَرِق، وطين رطب، أو يابس فإِنه يُتيمَّم به.

قوله: «له غبار» ، هذا هو الشَّرط الرَّابع من شروط المتيمَّم

(1)

انظر: «المغني» (1/ 334).

(2)

انظر: ص (47، 54) .....

ص: 393

به. فإِن لم يكن له غبار لم يصحَّ التَّيمُّم به كالتُّراب الرَّطب، وعلى هذا لو كنّا في أرض أصابها رَشُّ مطر حتى ذهب الغُبَار فلا نتيمَّم عليها، بل نصلِّي بلا تيمُّم .........

والدَّليل على ذلك قوله تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6]، قالوا:«من» للتَّبعيض، ولا تتحقَّق البعضيَّة إِلا بغبار يَعْلق باليد، ويُمْسَح به الوجه واليدان.

والصَّحيح: أنه ليس بشرط، والدَّليل على ذلك:

1 -

عموم قوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة: 6].

2 -

أنه صلى الله عليه وسلم كان يسافر في الأرض الرمليَّة، والتي أصابها مطر، ولم ينقل عنه ترك التيمُّم.

وأما قولهم إِن «من» تبعيضيَّة فالجواب عنه أن «من» ليست تبعيضيَّة بل لابتداء الغاية فهي كقولك: سرت من مكَّة إِلى المدينة، وهذا وإِن كان خلاف الظَّاهر إِلا أنَّه الموافق لِسُنَّة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم حيث لم يكن يَدَعْ التيمُّم في مثل هذه الحال.

ومما يُبيِّن هذا أن آية «النِّساء» ، ليس فيها «من» ، قال تعالى:{فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} [النساء: 43]، وآية «النساء» سبَقت آية «المائدة» بسنوات.

وأيضاً: في حديث عمَّار رضي الله عنه الذي رواه البخاري: أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لما ضَرَبَ بكفَّيهِ الأرض نَفَخَ فيهما

(1)

، والنَّفْخُ يُزيل الغبار، وأثر التُّراب.

(1)

رواه البخاري، كتاب التيمم: باب المتيمم هل ينفخ فيهما، رقم (338) وهذا لفظه، وفي باب التيمم ضربة، رقم (347) وفيه: أنه نَفَضَ كفَّيه، ومسلم، كتاب الحيض: باب التيمم، رقم (368) ولفظه:«إنما كان يكفيك أن تضرب بيديك الأرض، ثم تَنْفُخَ، ثم تمسحَ بهما وجهك وكفَّيك» .

ص: 394

واشترط الأصحاب أن يكون التُّراب مُبَاحاً، فإِن كان غير مباح فلا يصحُّ تيمُّمُه منه كما لو كان مسروقاً.

وهذه المسألة خِلافيَّة

(1)

، والخِلاف فيها كالخِلاف في اشتراط إِباحة الماء للوُضُوء والغُسْل.

أما لو كان التُّراب ترابَ أرضٍ مغصوبة، فإِنَّه يصحُّ التَّيمُّم منه، كما لو غَصب بئراً فإِنه يصحُّ الوُضُوء من مائها، ولكن قال الفقهاء رحمهم الله: يُكرَه الوُضُوء من ماء بئر في أرض مغصوبة.

‌وفُرُوضُه: مَسْحُ وَجْههِ، ويَديْه إِلى كُوعَيْه،

..............

قوله: «وفُرُوضُه: مَسْحُ وَجْهِه ويَديْه إِلى كُوْعَيْه» ، والدَّليل على ذلك قوله تعالى:{فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6]، وهو كقوله تعالى في الوُضُوء:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} الآية [المائدة: 6].

والكُوع: هو العَظم الذي يلي الإِبهام. وأنشدوا:

وعظمٌ يلي الإِبهامَ كوعٌ وما يلي

لخنصره الكرسوع، والرَّسغُ ما وَسَطْ

وعظمٌ يلي إِبهامَ رِجْلٍ مُلَقَّبٌ

ببوعٍ؛ فَخُذْ بالعِلْم واحذر من الغَلَطْ

(2)

والدَّليل على أنَّ المسح إِلى الكُوعين:

(1)

انظر: «الإنصاف» (1/ 47، 311)(2/ 222) .....

(2)

انظر: «حاشية ابن عابدين» (1/ 111).

ص: 395

1 -

قوله تعالى: {وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6]، واليَدُ إِذا أُطلقت فالمراد بها الكَفُّ بدليل قوله تعالى:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيدِيَهُمَا} [المائدة: 38]، والقَطْع إِنما يكون من مِفْصَل الكَفِّ.

2 -

حديث عمار بن ياسر وفيه أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «إِنما يكفيك أن تقول بيَدَيْك هكذا، ثم ضَرَب بِيَدَيْه الأرض ضربة واحدة، ثم مَسَح الشِّمال على اليمين، وظاهرَ كفَّيه ووجهه»

(1)

، ولم يَمسَحِ الذِّراع.

وقال بعض العلماء: إِن التَّيمُّم إِلى المرفقين

(2)

؛ واستدلُّوا بما يلي:

1 -

ما رُويَ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «التَّيمُّم ضربتان، ضربةٌ للوَجْه، وضربةٌ لليدين إِلى المرفقين»

(3)

، ورُدَّ هذا بأن الحديث ضعيف شاذٌ مخالف للأحاديث الصَّحيحة في صفة التَّيمُّم؛ وأنه ضربة واحدة، والمسْحُ إِلى الكُوع فقط.

2 -

قياس التَّيمُّم على الوُضُوء. ورُدَّ هذا القياس بأمرين:

(1)

وقد تقدَّم تخريجه آنفاً ص (394).

(2)

انظر: «المغني» (1/ 321).

(3)

رواه الدارقطني (1/ 180)، والحاكم (1/ 179)، والبيهقي (1/ 207) من حديث عبد الله بن عمر. وضعَّف إسناده عبد الحق الإِشبيلي وابن حجر وغير واحد. وللحديث طُرق أخرى كلها متكلَّم فيها. وصحَّح الدارقطني وعبد الحق الإِشبيلي وقفه على ابن عمر.

انظر: «الأحكام الوسطى» (1/ 222)، «التلخيص الحبير» رقم (208)، «البلوغ» رقم (130) .....

ص: 396

الأول: أنه مقابل للنَّصِّ، والقِياس المقابل للنَّصِّ يُسمَّى عند الأصوليِّين فاسد الاعتبار.

الثاني: أنه قياس مع الفارق، والفرق من وجوه: ....

الوجه الأول: أن طهارة التَّيمُّم مختصَّة بعضوَين، وطهارة الماء مختصَّة بأربعة في الوُضُوء، وبالبَدَنِ كُلِّه في الغُسْل.

الوجه الثَّاني: أنَّ طهارة الماء تختلف فيها الطَّهارتان، وطهارة التَّيمُّم لا تختلف.

الوجه الثَّالث: أنَّ طهارة الماء تنظيف حِسِّي، كما أن فيها تطهيراً معنويًّا، وطهارة التَّيمُّم لا تنظيف فيها.

3 ـ أن اليدَين في التَّيمُّم جاءت بلفظ مطلَق، فتُحمل على المُقيَّد في آية الوُضُوء. ورُدَّ هذا بأنَّه لا يُحْمَل المطلَق على المقيَّد إِلا إِذا اتَّفقا في الحُكْم، أمَّا مع الاختلاف فلا يُحْمَل المطلَق على المقيَّد.

‌وكذا التَّرتيبُ والمُوالاةُ في حَدَثٍ أصْغَر.

قوله: «وكذا التَّرتيبُ والموالاةُ في حَدَث أصغر» ، يعني: أنَّ من فروض التَّيمُّم في الحَدَثِ الأصْغَرِ التَّرتيب والموالاة.

فالتَّرتيب: أن يبدأ بالوَجْه قَبْل اليَدَين.

ودليله قوله تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} [المائدة: 6]، فبدأ بالوجه قبل اليدين. وقد قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:«ابدؤوا بما بَدَأ الله به»

(1)

.

(1)

رواه النسائي في «الكبرى» ، كتاب الحج: باب الدعاء على الصفا (2/ 413) رقم (3968)، والدارقطني (2/ 254). وأشار ابن دقيق العيد إلى شذوذ لفظة الأمر «ابدؤوا» لمخالفة رواتها لجمع من الحُفَّاظ. والصواب صيغة الخبر «أبدأُ» .

انظر: «التلخيص الحبير» رقم (1036).

ص: 397

والموالاة: ألاّ يُؤخِّر مسْحَ اليدين زمناً لو كانت الطَّهارة بالماء لَجَفَّ الوَجْه، قبل أن يطهِّر اليدين.

وعلَّلوا: أن التَّيمُّم بَدل عن طهارة الماء، والبَدَل له حُكْمُ المبدَل، فلما كانا واجبَين في الوُضوء، وَجَبَا في التَّيمُّم عن الحَدَثِ الأصغر. وأما بالنسبة للأكبر كالجنابة فلا يُشْتَرط التَّرتيب، ولا الموالاة، لِعَدم وجوبهما في طَهارة الجَنابة، وهذا هو المذهَب.

وقال بعض العلماء: إِن التَّرتيب والموالاة فَرْضٌ فيهما جميعاً

(1)

.

واستدلُّوا بِقَوله صلى الله عليه وسلم في حديث عَمَّار وهو جُنُب: «إِنما يكفيك أن تقول بيديك هكذا» ، ففعل التَّيمُّم مرتَّباً، متوالياً .....

قالوا: وقياس التَّيمُّم على طهارة الحَدَثِ الأكبر في عَدَم وُجوب التَّرتيب والموالاة قياس مع الفارق؛ لأن البَدَنَ كلَّه عُضْوٌ واحد في طهارة الحدث الأكبر بالماء وفي التَّيمُّم عُضْوان.

وقال بعض العلماء: إِنهما لَيْسا فرضاً في الطَّهارتين جميعاً

(2)

.

والذي يظهر أن يقال: إِن التَّرتيب واجب في الطَّهارتين جميعاً، أو غير واجب فيهما جميعاً؛ لأن الله تعالى جعل التَّيمُّم

(1)

انظر: «الإِنصاف» (2/ 224 ـ 226) .....

(2)

انظر: «الإِنصاف» (2/ 224 ـ 226).

ص: 398

بدلاً عن الطَّهارتين جميعاً، والعضوان للطهارتين جميعاً.

وبالنِّسبة للموالاة الأوْلَى أن يُقال: إِنها واجبة في الطَّهارتين جميعاً، إِذ يبعد أن نقول لمن مَسَح وَجْهَه أوَّل الصُّبْح، ويدَيْه عند الظُّهر: إِن هذه صورة التَّيمُّم المشروعة!.

‌وتُشْتَرطُ النيةُ لما يَتَيَمَّمُ له مِنْ حَدَثٍ، أو غَيْرِه.

قوله: «وتُشْتَرطُ النيَّةُ» ، الشَّرط في اللُّغة: العلامة، ومنه قوله تعالى:{فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} [محمد: 18]، أي: علاماتها.

وفي اصطلاح الأصوليين: ما يَلزَمُ من عَدَمِه العَدَم، ولا يَلْزَم من وجوده الوُجود.

مثاله: الوُضُوء شرط لصحَّة الصَّلاة، يلزم مِن عَدَمِه عَدَمُ الصِّحة، ولا يلزم من وجوده وجود الصَّلاة؛ لأنه قد يتوضَّأ ولا يُصلِّي.

والسَّبب: ما يَلزَم من وجوده الوُجود، ويَلزَم من عَدَمِه العَدَم. فالفرق بينه وبين الشَّرط: أن السبب يَلزَم من وجوده الوُجود بخِلاف الشَّرط.

والمانع: ما يَلزَم من وُجوده العَدَم، ولا يَلزَم من عَدَمِه الوُجود، عكس الشَّرط.

وقوله: «النِّيَّة» . سبق الكلام عليها

(1)

.

قوله: «لما يَتَيَمَّم له من حَدَثٍ، أو غيره» ، «من حَدَثِ»: متعلِّق بـ «يَتَيَمَّم» ، وليست بياناً للضَّمير في «له» ، وذلك أن عندنا

(1)

انظر: ص (193) .....

ص: 399

شيئين مُتَيَمَّماً له، ومُتَيَمَّماً عنه، والمؤلِّف جمَع بينهما.

فلا بُدَّ أن ينويَ نِيَّتَيْن: ........

الأولى: نِيَّة ما يتيمَّم له، لنعرف ما يستبيحه بهذا التَّيمُّم، وتعليل ذلك: أن التَّيمُّم مبيح لا رافع على المذهب

(1)

، ولا يُستباح الأعلى بنيَّة الأدنى، فلو نَوَى بِتَيَمُّمِهِ صلاة نافلة الفَجْر لم يُصَلِّ به الفريضة، ولو نوى الفريضة صلَّى به النافلة؛ لأنَّ النَّافلة أدنى والأدنى يُستباح بنيَّة الأعلى.

الثَّانية: نيَّة ما يتيمَّم عنه من الحَدَثِ الأصغر أو الأكبر.

وقول المؤلِّف رحمه الله: «أو غيره» ، يعني به: النَّجاسة التي على البَدَنِ خاصَّة.

مثال ذلك: إِذا أحْدَث حَدَثاً أصغر، وأراد صلاة الظُّهر يُقال له: انْوِ التَّيمُّم عن الحَدَثِ الأصغر، وانْوِهِ لصلاة الظُّهر.

وأما بالنسبة لطهارة الماء، فلو نَوى الصَّلاة، ولم يطْرأ على باله الحدث ارتفع حَدَثُه، وكذا لو نوى رَفْع الحَدَث، ولم يطرأ على باله الصَّلاة ارتفع حَدَثُه وصلَّى به الفريضة.

وإِذا قلنا بالقول الرَّاجح: إِن التَّيمُّم مُطَهِّر ورافع؛ فنجعل نيَّته حينئذٍ كنيَّة الوُضُوء.

فإِذا نوى رفع الحَدَث صَحَّ، وإِذا نوى الصَّلاة ـ ولو نافلة ـ صَحَّ وارتفع حَدَثُه وصلَّى به الفريضة.

‌فإِن نَوَى أحدَها لم يُجْزئه عَنْ الآخر،

...........

قوله: «فإِن نَوَى أحدَها لم يُجْزئه عَن الآخر» ، أي: إِن نَوَى

(1)

انظر: ص (375).

ص: 400

أحدَ ما يتيمَّم عنه، فإِذا نَوى الأصغر لم يرتفع الأكبر، وإِذا نَوى الأكبر لم يرتفع الأصغر، وإِن نَوى عن نجاسة بَدَنِه لم يُجْزِئه عن الحَدَث، وإِن نوى الجميع الأصغر والأكبر والنَّجاسة فإِنه يُجْزِئه لِعُموم قوله صلى الله عليه وسلم:«إِنَّما الأعمال بالنِّيَّات»

(1)

.

‌وإِن نَوى نَفْلاً، أو أطلقَ لم يُصَلِّ به فَرْضاً، وإِن نواه صلَّى كُلَّ وقتِهِ فُرُوضاً ونَوافلَ. ويبْطُلُ التيمُّمُ بخروجِ الوَقْتِ،

..................

قوله: «وإِن نَوى نَفْلاً، أو أطلقَ لم يُصَلِّ به فَرْضاً» ، مثاله: تيمَّم للرَّاتبة القبلية، فلا يُصلِّي به الفريضة، لأنه نَوى نَفْلاً والتَّيمُّم على المذهب استباحة، ولا يستبيح الأعلى بنيَّة الأدنى.

وقوله: «أو أطلقَ» ، أي: نَوى التَّيمُّم للصَّلاة، وأطلق فلم يَنْوِ فرضاً ولا نَفْلاً، لم يُصَلِّ به فرضاً، وهذا من باب الاحتياط.

قوله: «وإِن نواه صَلَّى كُلَّ وقتِهِ فُروضاً ونَوافِلَ» ، أي: إِذا نَوى التَّيمُّم لصلاة الفريضة، صلَّى كلَّ وقت الصَّلاة فَرائِض ونَوَافل.

فَلَه الجمع في هذا الوقت وقضاء الفَوائِت، ويُصلِّي النَّوافل الرَّاتبة وغير الرَّاتبة ما لم يكن الوقتُ وقتَ نَهْي.

وإِنما نَصَّ على ذلك؛ لأن بعض السَّلف قال: يَتَيَمَّم لكلِّ صلاة

(2)

، فكلَّما سَلَّم من صلاة تيمَّم للأخرى. وهذا ضعيف، والصَّواب ما قاله المؤلِّف.

قوله: «ويَبْطُلُ التيمُّم بخروجِ الوَقْتِ» ، هذا شروعٌ في بيان

(1)

تقدم تخريجه، ص (194) ......

(2)

انظر: «المغني» (1/ 342)، «الإنصاف» (2/ 232) .....

ص: 401

مبطلات التيمُّم، وهي خروج الوقت الأوَّل، أي: وقت الصَّلاة التي تيمَّم لها، فإِذا تيمَّم لصلاة الظُّهر بَطَلَ بخروجِ الوقت، فلا يصلِّي به العصر.

قالوا: لأن هذه استباحة ضرورة فَتُقدَّر بِقَدر الضرورة، فإِذا تيمَّم للصَّلاة؛ فإِن تيمُّمه يتقدَّر بقدر وقتِ الصَّلاة.

واستثنوا من ذلك:

1 -

إِذا تيمَّم لصلاة الظُّهر التي يريد أن يجمعها مع العصر، فلا يبطل بخروج وقت الظُّهر، لأن الصَّلاتين المجموعتين وقتهما واحد.

2 -

إِذا تيمَّم لصلاة الجُمعة وصلَّى ركعة قبل خروج الوقت ثم خرج الوقت، فإِنه يتمُّها، لأن الجُمعة لا تُقْضَى فيبقى على طهارته. وهذا ليس بواضح، لأننا إِذا قلنا: إِن خروج الوقت مُبطِل لزم من ذلك بطلانُ صَلاته، فيخرج منها ويُصلِّي ظُهراً .........

والصَّحيح: أَنَّه لا يَبطل بخروج الوقت، وأنَّك لو تيمَّمت لِصلاة الفَجر، وبقيتَ على طهارتكَ إِلى صلاة العِشاء فتيمُّمك صحيح، وما علَّلوا به فهوَ تعليل عليل لا يصحُّ، والدَّليل على ذلك ما يلي:

1 -

قوله تعالى بعد أن ذَكر الطَّهارة بالماء والتُّراب: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة: 6]، إِذاً فطهارة التَّيمُّم طهارة تامَّة.

2 -

قوله صلى الله عليه وسلم: «وجُعِلَت ليَ الأرضُ مسجداً وطَهوراً»

(1)

.

(1)

تقدم تخريجه، ص (29).

ص: 4021

والطَّهور ـ بالفتح ـ ما يُتَطَهَّر به، وهذا يدُّل على أن التيمُّم مطهِّرٌ؛ ليس مبيحاً.

3 -

قوله صلى الله عليه وسلم: «الصَّعيدُ الطَّيِّبُ طَهورُ المسلم، وإِن لم يجِد الماء عَشْر سنين»

(1)

.

4 -

أنه بَدَل عن طهارة الماء، والبَدَلُ له حكم المبدل.

‌وبمبطلات الوُضُوء، وبوجُودِ الماءِ، ولو في الصَّلَاةِ،

.......

قوله: «وبمبطلات الوُضُوء» ، هذا هو الثَّاني من مُبطلات التَّيمُّم، وهو مبطلات الوُضُوء، أي: نواقض الوضوء.

مثال ذلك: إِذا تيمَّم عن حَدَث أصغر، ثم بال أو تغوَّط، بَطل تيمُّمه؛ لأنَّ البَدَل له حُكْم المبدَل.

وكذا التيمُّم عن الأكبر يبطل بموجبات الغُسْل، وهذا ظاهر جدًّا.

قوله: «وبوجُودِ الماءِ» ، هذا هو الثَّالث من مبطلات التيمُّم؛ وهو وجود الماء فيما إِذا كان تيمُّمه لِعَدَم الماء.

فإِذا تيمَّم لِعَدَم الماء بَطلَ بوجوده، وإِذا تيمَّم لمرَضٍ لم يَبْطُلْ بوجود الماء؛ لأنه يجوز أن يتيمَّم مع وجود الماء، ولكن يَبْطُل بالبَرْءِ ُ لزوال المبيح، وهو المرَض. ولهذا لو قال المؤلِّف:«وبزوال المبيح» لكان أَوْلَى.

قوله: «ولو في الصَّلاة» ، لو: إِشارة خلاف. والعُلماء إِذا نَصُّوا على شيء؛ وهو داخل في العموم السَّابق؛ دَلَّ على أن فيه خلافاً احتاجوا إِلى الإِشارة إِليه؛ لأن قوله: «ولو في الصَّلاة»

(1)

تقدم تخريجه، ص (374) .....

ص: 403

داخل في عموم قوله: «بِوُجود الماء» ، فلو سَكتَ ولم يقل:«ولو في الصَّلاة» قلنا: يَبْطُل؛ لأنَّ كلام المؤلِّفِ عامٌّ، وقد يُشيرون إِلى ذلك لدفع تَوَهُّم خروج هذه الصُّورة من العموم لا للإِشارة إِلى خلاف.

وذهب كثير من العلماء إِلى عَدَم بُطْلان التَّيمُّم إِذا وُجِدَ الماءُ في الصَّلاة

(1)

، وهو رِواية عن أحمد، لكن قيل: إِنه رجع عنها، وقال: كنت أقول: إِنه لا يَبْطُل، فإِذا الأحاديث تدلُّ على أنه يَبطُل (749).

ودليل المذهب ما يلي:

1 -

عموم قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: 6]، وهذا وَجَدَ ماءً فَبَطَل حُكْم التَّيمُّم، وإِذا بَطَل حُكْم التَّيمُّم بَطَلتْ الصَّلاة؛ لأنه يعود إِليه حَدَثُه.

2 -

قوله صلى الله عليه وسلم: «فإِذا وَجَد الماء، فليتَّقِ الله، وليُمسَّه بَشَرَتَه»

(2)

. وهذا وجد الماء، فعليه أن يمسَّه بشرته، وهذا يقتضي بُطْلان التَّيمُّم.

3 -

أن التيمُّم بَدَلٌ عن طهارة الماء عند فَقْدِه، فإِذا وُجِدَ الماء، زالت البدَليَّة، فيزول حُكْمُها، فحينئذ يجب عليه الخروج من الصَّلاة، ويتوضَّأ، ويستأنف الصلاة.

ودليل القول الثاني ما يلي:

1 -

أنه شَرَعَ في المقصود والغاية، وهي الصَّلاة؛ لأنه تيمَّم

(1)

انظر: «الإنصاف» (2/ 246، 247).

(2)

تقدم تخريجه، ص (374).

ص: 404

لها، وإِذا كان كذلك، فقد شَرَع فيها على وجْهٍ مأذون فيه شرعاً، وهي فريضة من الفرائض لا يجوز الخروج منها إِلا بِدَليل واضح، أو ضرورة. وهنا لا دَليل واضح ولا ضَرورة؛ لأن الأحاديث السَّابقة

(1)

قد يُراد بها ما إِذا وجد الماء قبل الشُّروع في الصَّلاة، وإِذا وُجِدَ الاحتمال بَطَلَ الاستدلال.

2 -

أن الله عز وجل قال: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33]، والصَّلاة التي هو فيها الآن عَمَلٌ صالح ابتدأه بإِذن شرعي، فليس له أن يُبْطِله إِلا بدليل، ولا دليل واضح .....

وهذه المسألة مُشْكِلَة؛ لأنَّ العمل بالاحتياط فيها متعذِّر، لأنَّه إِن قيل: الأحْوَط البطلان. قيل: إِن الأَحْوَط عَدَمُ الخروج من الفريضة.

ونظير هذا فيما يتعذَّر فيه الاحتياط: أنَّ المشهور عن أبي حنيفة: أن وقت العصر لا يدخل إِلا إِذا صار ظِلُّ كل شيء مِثلَيه

(2)

، وجمهور العلماء على أنه يَخرُج الوقت الاختياري إِذا صار ظِلُّ كلِّ شيء مِثلَيه

(3)

.

فإِن قيل: الأَحْوَط أن تُؤخَّر حتى يصيرَ ظلُّ كلِّ شيءِ مثليه، فأنت آثمٌ عند الجمهور.

وإِن قيل: الأحْوَط أن تقدِّم، فأنت عند أبي حنيفة آثم.

وحينئذٍ لا بُدَّ أن نُمعن النَّظر لنعرف أيَّ القولَين أسعدُ بالدَّليل.

(1)

انظر: ص (373، 374) .....

(2)

انظر: «حاشية ابن عابدين» (1/ 360).

(3)

انظر: «المغني» (2/ 14).

ص: 405

والذي يَظهر ـ والله أعلم ـ أن المذهب أقربُ للصَّواب؛ لأنَّه وُجِدَ الماء، وقال صلى الله عليه وسلم:«إِذَا وَجَدَ الماء فليتَّقِ الله ولْيُمِسَّه بَشَرَتَه»

(1)

، ولأن خروجه من الصَّلاة حينئذ لإِكمالها؛ لا لإِبطالها، كما قال بعض العلماء فيمن شَرع في الصَّلاة وَحْدَه، ثم حضَرَتْ جماعة فله قَطْعها ليصلِّيها مع الجماعة

(2)

.

‌لا بَعْدَهَا ..........

قوله: «لا بَعْدَها» ، أي: إِذا وَجَدَ الماء بعد الصَّلاة، لا يَلْزَمه الإِعادة، وليس مُراده أنَّ التيمُّم لا يَبْطُل كما هو ظاهر عبارته.

والدَّليل على هذا: ما رواه أبو داود في قصَّة الرَّجُلين اللذين تَيمَّمَا ثم صَلَّيَا، ثم وَجَدَا الماءَ في الوقت، فأمَّا أحدُهما فلم يُعِدِ الصَّلاة، وأمَّا الآخر فتوضَّأ وأعاد، فَقَدِما على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فأخبراه الخبرَ؛ فقال للذي لم يُعِدْ:«أَصَبْتَ السُّنَّةَ» ، وقال للذي أعاد:«لك الأجْرُ مَرَّتين»

(3)

.

(1)

تقدم تخريجه، ص (374).

(2)

انظر: «الإنصاف» (3/ 372)، «الإقناع» (1/ 163).

(3)

رواه أبو داود، كتاب الطهارة: باب المتيمم يجد الماء بعد ما يصلي في الوقت، رقم (338)، والنسائي، كتاب الغسل: باب التيمم لمن يجد الماء بعد الصلاة، (1/ 212)، رقم (431)، والدارمي رقم (744)، والحاكم (1/ 9، 178) من طريق عبد الله بن نافع، عن الليث، عن بكر بن سوادة، عن عطاء، عن أبي سعيد الخدري به مرفوعاً.

وأُعل: بأن عبد الله بن نافع قد تفرَّد بوصله، وخالفه عبد الله بن المبارك ويحيى بن بكير فروياه عن الليث، عن عَميرة بن أبي ناجية، عن بكر بن سوادة، عن عطاء بن يسار عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً.

قال أبو داود: «وذِكْرُ أبي سعيد في هذا الحديث وَهْمٌ وليس بمحفوظ، وهو مرسل» وروي موصولاً من طريق الليث، وابن لهيعة، وفي كل ذلك نظر من حيث صلاحيته للمتابعة.

انظر: «فتح الباري» لابن رجب (2/ 37)، «بيان الوهم والإِيهام» رقم (440)، «نصب الراية» (1/ 160)، «التلخيص الحبير» رقم (213) .....

ص: 406

فإِن قال قائل: أُعيد لأنالَ الأَجْرَ مرَّتين .....

قلنا: إِذا علمت بالسُّنَّة، فليس لك الأَجْرُ مرَّتين، بل تكون مبتدعاً، والذي أعاد وقال له النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:«لك الأَجْرُ مرَّتين» لم يعْلَم بالسُّنَّة، فهو مجتهد فصار له أجر العملين: الأول، والثاني.

ومن هذا الحديث يتبيَّن لنا فائدة مهمّة جدًّا وهي أن موافقة السُّنَّة أفضل من كَثْرة العَمل.

فمثلاً تكثير النَّوافل من الصَّلاة بعد أذان الفجر، وقبل الإِقامة غير مشروع؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يفعل ذلك.

وكذلك لو أراد أحد أن يُطيل رَكعتي سُنَّة الفجر بالقراءة والرُّكوع والسُّجود، لكونه وقتاً فاضلاً ـ بين الأذان والإِقامة ـ لا يُرَدُّ الدُّعاء فيه، قلنا: خالفتَ الصَّواب؛ لأن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يُخفِّف هاتين الرَّكعتين

(1)

.

وكذا لو أراد أحد أن يتطوَّع بأربع رَكَعَات خلْفَ المقام بعد الطَّواف، أو أراد أن يُطيل الرَّكعتين خلْفَ المقام بعد الطَّواف. قلنا: هذا خطأ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يخفِّفهُما، ولا يزيد على الرَّكعتين

(2)

.

(1)

رواه البخاري، أبواب التهجد: باب ما يقرأ في ركعتي الفجر، رقم (1171)، ومسلم، كتاب الصلاة: باب استحباب ركعتي سُنَّة الفجر، رقم (724) من حديث عائشة رضي الله عنها.

(2)

رواه مسلم، كتاب الحج: باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم رقم (1218) من حديث جابر في وصفه لحجة النبي صلى الله عليه وسلم وفيه أنه قرأ فيهما سورتي الإخلاص، والكافرون .....

ص: 407

‌والتَّيمُّمُ آخِرَ الوقتِ لراجِي الماءِ أَوْلَى.

قوله: «والتَّيمُّمُ آخِرَ الوقتِ لراجِي الماءِ أَوْلَى» ، أي: إِذا لم يَجِدْ الماءَ عند دخول الوقت، ولكن يرجو وجُودَه في آخر الوقت؛ فتأخير التَّيمُّم إِلى آخر الوقت أَوْلَى؛ ليصلِّي بطهارة الماء، وإِن تيمَّم وصلَّى في أوَّل الوقت فلا بأس.

واعْلَم أن لهذه المسألة أحوالاً:

فيترجَّح تأخير الصَّلاة في حالين:

الأولى: إِذا عَلِمَ وجود الماء.

الثَّانية: إِذا ترجَّح عنده وجود الماء؛ لأن في ذلك محافظة على شَرْطٍ من شروط الصَّلاة وهو الوُضُوء، فيترجَّح على فِعْل الصَّلاة في أوَّل الوقت الذي هو فضيلة.

ويترجَّح تقديم الصَّلاة أول الوقت في ثلاث حالات:

الأولى: إِذا عَلِمَ عدم وجود الماء.

الثَّانية: إِذا ترجَّحَ عنده عَدَمُ وجود الماء .....

الثالثة: إِذا لم يترجَّحْ عنده شيء.

وذهب بعضُ العلماء إِلى أنه إِذا كان يَعْلَم وجود الماء فيجب أن يؤخِّر الصَّلاة

(1)

؛ لأن في ذلك الطَّهارة بالماء، وهو الأصل فيتعيَّن أنْ يؤخِّرَها.

والرَّاجح عندي: أنه لا يتعيَّن التَّأخير، بل هو أفضل لما يلي:

1 -

عموم قوله صلى الله عليه وسلم: «أيُّما رجل من أمتي أدْركَتْه الصَّلاة فليُصَلِّ»

(2)

.

(1)

انظر: «الإِنصاف» (2/ 252).

(2)

تقدم تخريجه، ص (29).

ص: 408

2 -

أنَّ عِلْمَه بذلك ليس أمراً مؤكَّداً، فقد يتخلَّف لأمْرٍ من الأمور، وكلَّما كان الظَّن أقوى كان التَّأخير أَوْلَى.

والمراد بقوله: «آخِرَ الوقت» الوقت المختار.

والصَّلاة التي لها وقتُ اختيار ووقت اضْطرار هي صلاة العَصْر فقط، فوقت الاختيار إِلى اصْفِرار الشَّمس، والضَّرورة إِلى غروب الشَّمس.

وأما العِشَاء؛ فالصَّحيح أنه ليس لها إِلا وقت فضيلة ووقت جَواز، فوقت الجواز من حين غَيبوبة الشَّفق، ووقت الفضيلة إِلى نِصف الليل.

وأمَّا ما بعد نِصف الليل؛ فليس وقتاً لها؛ لأنَّ الأحاديث الواردة عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قد حدَّدتْ وقت العِشاء إِلى نِصف الليل

(1)

.

ويَنْبَني على هذا: لو أنَّ امرأة طَهُرَتْ من حَيضها بعد نِصف الليل، فعلى هذا القول لا يَلزَمها صلاة العِشاء ولا المغْرِب.

وعلى قول من قال: إِنه يمتدُّ وقت ضرورة إِلى طلوع الفجر، فإِنه يَلْزَمها عندهم أن تُصلِّيَ العِشاء.

وعند آخرين يَلزمُها أن تصلِّيَ العِشاء والمغرِب

(2)

.

وإِذا دار الأَمْر بين أن يُدرِك الجماعة في أوَّل الوقت بالتَّيمُّم، أو يتطهَّر بالماء آخِر الوقت وتفوته الجماعة؛ فيجب عليه

(1)

رواه مسلم، كتاب المساجد: باب أوقات الصلوات الخمس، رقم (612) من حديث عبد الله بن عمرو ولفظه: «

ووقت صلاة العشاء إلى نصف الليل الأوسط

».

(2)

انظر: «الإنصاف» (3/ 178، 179)، وسياق الكلام على هذه المسألة إن شاء الله تعالى سيأتي في باب شروط الصلاة .....

ص: 409

تقديم الصَّلاة أول الوقت بالتَّيمُّم، لأنَّ الجماعة واجبة.

‌وصِفَتُه: أَنْ يَنْوِيَ ثُمَّ يُسَمِّيَ، ويَضرِب التُّرابَ بِيَدَيْه .......

قوله: «وصِفَتُه» ، أي: وصِفَةُ التَّيمُّم. وإِنَّما يَذْكُر العلماء صِفَة العبادات، لأن العبادات لا تَتِمُّ إِلا بالإِخلاص لله تعالى، وبالمتابعة للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، والمتابعة لا تتحقَّق إِلا إِذا كانت العبادة موافِقَة للشَّرع في سِتَّة أمور:

فلا تُقْبَل العبادة إِلا إِذا كانت صِفَتُها موافِقة لما جاء عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، ولهذا احتاج العلماء إِلى ذِكْر صِفَة العبادات كالوُضُوء، والصَّلاة، والصِّيام وغيرها.

قوله: «أَنْ يَنْوِي» . النِّيَّة ليست صِفَة إِلا على سبيل التَّجوُّز، لأن مَحلَّها القلب، وقد سبق الكلام على النِّيَّة

(1)

.

قوله: «ثم يُسَمِّي» ، أي: يقول: بسم الله.

والتَّسمِيَة هنا كالتَّسْمِية في الوُضُوء خِلافاً ومذهباً

(2)

، لأنَّ التَّيمُّم بَدَلٌ، والبَدَلُ له حُكْم المبدَل.

قوله: «ويَضْرِبَ التُّرابَ بِيَدَيْه» ، لم يَقُلْ: الأرض، لأنَّهم يشتَرِطون التُّراب، والصَّواب أن يُقال: ويَضْرِب الأرضَ سواء كانت تراباً، أم رَمْلاً، أم حجَراً.

(1)

انظر: ص (193).

(2)

انظر: «الفروع» (1/ 225)، وقد تقدَّم الكلام على ذلك ص (158) .....

ص: 410

‌مُفَرَّجَتَيْ الأصَابِعِ، يَمْسَح وَجْهَهَ بِباطِنِها، وكفَّيهِ براحَتَيْهِ، ويُخَلِّلَ أَصَابِعَه.

قوله: «مُفَرَّجَتَي الأصَابِعِ» ، أي مُتَباعِدة؛ لأجْل أن يَدْخُل التُّراب بينها، لأنَّ الفقهاء يَرَوْن وُجوب استيعاب الوَجْه والكفَّين هنا، ولذلك قالوا: مُفَرَّجَتَي الأصابع.

والأحاديثُ الواردة عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه ضَرَب بِيَديه ليس فيها أنه فرَّج أصابعه. وطهارة التَّيمُّم مبنيَّة على التَّسهيل والتَّسامُحِ، ليست كطهارة الماء

قوله: «يمسح وجهه بباطنها وكفَّيْه بِراحَتَيْهِ» ، أي: بِباطن الأصابع، ويَتْرُك الرَّاحتَين، فلا يَمْسَح بهما، لأنه لو مَسَحَ بكلِّ باطن الكفِّ، ثم أراد أن يَمْسَح كفَّيه؛ صار التُّراب مستعمَلاً في طهارة واجبة؛ فيكون طاهراً غير مطهِّر على المذهب؛ بناءً على أنَّ التُّراب ينقسم إِلى ثلاثة أقسام: طَهُور، وطاهر، ونَجِس كالماء. وهذا غير مُسلَّم، والصَّحيح كما سبق أنَّه لا يوجد تراب يُسمَّى طاهراً غيرُ مطهِّر

(1)

، وأن التُّراب المستعمَل في طهارة واجبة طَهُور، وحينئذ لا حاجة إِلى هذه الصِّفة؛ لأنها مبنيَّة على تعليل ضعيف، ولا دليل عليها؛ بل الدَّليل على خلافها، فإِن حديث عمَّار:«مَسَحَ وجْهَه بيَدَيْه»

(2)

بدون تفصيل، وعلى هذا فنقول: تَمْسَح وجهَك بيدَيك كِلتَيْهما، وتمسح بعضهما ببعض.

قوله: «ويخلِّل أصابِعَه» ، أي: وُجوباً، بخلاف طهارة الماء فإِنه مُسْتَحَبٌّ، لأن الماء له نفوذ فيدخل بين الأصابع بدون

(1)

انظر: ص (392، 393).

(2)

تقدم تخريجه ص (394).

ص: 411

تخليل، وأما التُّراب فلا يجري فيحتاج إِلى تخليل

(1)

.

ونحن نقول: إِثبات التَّخليل ـ ولو سُنَّة ـ فيه نَظَر؛ لأن الرَّسول صلى الله عليه وسلم في حديث عمَّار لم يخلِّل أصابعَه.

فإِن قيل: ألَا يدخل في عُموم حديث لَقيط بن صَبِرة رضي الله عنه:

«أَسبغ الوُضُوء، وخلِّلْ بين الأصابِع، وبالِغْ في الاسْتِنْشاق»

(2)

.

أجيب: بالمنْع؛ لأنَّ حديث لَقيط بن صَبِرَة في طَهارة الماء.

ولهذا ففي النَّفس شيء من استحباب التخليل في التَّيمُّم لأمرين:

أولاً: أنه لم يَرِدْ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم.

وثانياً: أنَّ طهارة التَّيمُّم مبنيَّة على التَّيسير والسُّهولة، بخلاف الماء؛ ففي طهارة الماء في الجنابة يجب استيعاب كل البَدَنِ؛ وفي التَّيمُّم عُضوان فقط، وفي التَّيمُّم لا يجب استيعاب الوَجْه والكفَّين على الرَّاجِح، بل يُتَسامَح عن الشَّيء الذي لا يَصِل إِليه المسْح إِلا بمشقَّة كباطن الشَّعْر، فلا يجب إِيصال التُّراب إِليه ولو كان خفيفاً، فيُمْسَح الظَّاهرُ فقط، وفي الوُضُوء يجب إِيصال

ص: 412

الماء إِلى ما تحت الشَّعر إِذا كان خفيفاً، ولأن التَّيمُّم لا مضمضة فيه ولا استنشاق، ولأنَّ ما كان من غضون (مسافط) الجبهة لا يجب إِيصال التراب إِليه بخلاف الماء.

فالصَّواب: أن نَقْتَصِر على ظاهر ما جاء عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في هذا، واتِّباع الظَّاهر في الأحكام كاتِّباع الظَّاهر في العقائد، إِلا ما دلَّ الدَّليل على خلافه.

لكنَّ اتَّباع الظَّاهر في العقائد أَوْكَد، لأنها أمُور غيبيَّة، لا مجال للعَقْل فيها؛ بخلاف الأحكام؛ فإِنَّ العَقْل يدخل فيها أحياناً، لكن الأَصْل أَنَّنا مكلَّفون بالظَّاهر.

والكيفيَّة عندي التي توافق ظاهر السُّنَّة: أن تَضْرب الأرض بيدَيك ضَرْبة واحدة بلا تفريج للأصابع، وتَمْسَح وجهك بكفَّيك، ثم تَمْسَح الكفَّين بعضهما ببعض، وبذلك يَتِمُّ التَّيمُّم.

ويُسَنُّ النَّفْخ في اليدين؛ لأنه وَرَدَ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم

(1)

، إِلا أن بعض العلماء قيَّده بما إِذا عَلِق في يدَيه تراب كثير

(2)

.

(1)

متفق عليه، وقد تقدم ص (394).

(2)

انظر: «المغني» (1/ 324)، «الإقناع» (1/ 86) .....

ص: 413

‌بابُ إِزالة النَّجَاسة

لما أنهى المؤلِّفُ رحمه الله تعالى الكلامَ على طهارة الحدث، بدأ بطهارة النَّجَسِ، لأن الطهارة الحسِّيَّة، إِما عن حَدَث، وإِما عن نجس.

وقد سبق تعريف الحدث

(1)

.

والخبث: عينٌ مستقذرةٌ شرعاً.

قولنا: «عين» ، أي: ليست وصفاً، ولا معنى.

قولنا: «شرعاً» ، أي: الشَّرعُ الذي استقذرها، وحَكَمَ بنجاستها وخُبْثِهَا.

والنَّجاسة: إِما حُكميَّة، وإِما عينيَّة.

والمراد بهذا الباب النجاسة الحُكميَّة، وهي التي تقع على شيء طاهر فينجس بها.

وأما العينيَّة: فإِنه لا يمكن تطهيرها أبداً، فلو أتيت بماء البحر لتُطَهِّرَ روثة حمار ما طَهُرَت أبداً؛ لأن عينها نجسة، إِلا إِذا استحالت على رأي بعض العلماء، وعلى المذهب في بعض المسائل.

والنَّجاسة تنقسم إِلى ثلاثة أقسام:

الأول: مغلَّظة.

الثاني: متوسِّطة.

الثالث: مُخفَّفة.

(1)

انظر: ص (25).

ص: 414

‌يُجزِئ في غَسْلِ النجاسات كلِّها إذا كانت على الأرض غَسْلةٌ واحدةٌ تَذْهَبُ بعَيْنِ النجاسةِ وعلى غَيْرِها سَبْعٌ إِحْدَاها بتُرابٍ في نجاسةِ كَلْبٍ، وخِنْزيرٍ،

.........

قوله: «يُجزِئ في غَسْلِ النَّجاسات كلِّها إِذا كانت على الأرض غَسْلةٌ واحدةٌ تَذْهَبُ بعَيْنِ النجاسةِ» ، هذا تخفيف باعتبار الموضع، فإِذا طرأت النَّجاسة على أرض؛ فإِنه يُشترَط لطِهَارتها أن تزول عَينُ النَّجاسة ـ أيًّا كانت ـ بغَسْلَة واحدة، فإِن لم تَزُلْ إِلا بغَسْلَتين، فَغَسْلَتان، وبثلاث فثلاث.

والدَّليل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لما بال الأعرابيُّ في المسجد: «أريقوا على بوله ذَنُوباً من ماء»

(1)

، ولم يأمُرْ بعدد.

وإِن كانت النَّجاسة ذات جِرْمٍ، فلا بُدَّ أولاً من إِزالة الجِرْمِ، كما لو كانت عَذِرَة، أو دَمَاً جَفَّ، ثم يُتبع بالماء.

فإِن أزيلت بكلِّ ما حولها من رطوبة، كما لو اجتُثَّتِ اجْتِثاثاً، فإِنه لا يحتاج إِلى غَسْل؛ لأن الذي تلوَّث بالنَّجاسة قد أُزيل.

قوله: «وعلى غَيْرِها سَبْعٌ» ، أي: يُجزئ في غَسْل النَّجاسات على غير الأرض سَبْعُ غَسْلات، فلا بُدَّ من سَبْع، كلُّ غَسْلَة منفصلة عن الأخرى، فيُغسَلُ أولاً، ثم يُعصَر، وثانياً ثم يُعصَر، وهكذا إِلى سَبْع.

قوله: «إِحْدَاها بترابٍ في نجاسةِ كَلْبٍ وخِنْزيرٍ» ، أي: إِحدى الغَسْلات السَّبْعِ بتراب.

(1)

رواه البخاري، كتاب الوضوء: باب صبّ الماء على البول في المسجد، رقم (220)، ومسلم، كتاب الطهارة: باب وجوب غسل البول وغيره من النجاسات إذا حصلت في المسجد، رقم (284) من حديث أنس بن مالك .....

ص: 415

والدَّليل على ذلك أنه صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة، وعبد الله بن مُغَفَّل:«أمَر إِذا وَلَغَ الكَلْب في الإِناء أن يُغْسَل سَبْع مرَّات»

(1)

، «إِحداهنَّ بالتُّراب»

(2)

، وفي رواية:«أولاهنَّ بالتُّراب»

(3)

. وهذه الرِّواية أخصُّ من الأُولى، لأن «إِحداهنَّ» يَشْمل الأُولى إِلى السابعة، بخلاف «أولاهنَّ» فإِنه يخصِّصه بالأولى، فيكون أَوْلى بالاعتبار، ولهذا قال العلماء رحمهم الله تعالى: الأَوْلَى أن يكون التُّراب في الأُولى

(4)

لما يلي:

1 -

ورود النَّصِّ بذلك.

2 -

أنه إِذا جُعل التُّراب في أوَّل غَسْلة خفَّت النَّجاسة، فتكون بعد أوَّل غَسْلة من النَّجاسات المتوسِّطة.

3 -

أنه لو أصاب الماء في الغَسْلة الثَّانية بعد التُّراب مَحلًّا آخرَ غُسِل سِتًّا بلا تراب، ولو جعل التُّراب في الأخيرة، وأصابت الغَسْلة الثانية محلًّا آخر غُسِل سِتًّا إِحداها بالتُّراب.

وقوله: «كَلْب» يشمل الأسودَ، والمُعلَّم وغيرهما، وما يُباح اقتناؤه وغيره، والصَّغير، والكبير.

(1)

رواه البخاري، كتاب الوضوء: باب إذا شرب الكلب في إناء أحدكم، رقم (172)، ومسلم، كتاب الطهارة: باب حكم ولوغ الكلب، رقم (279).

(2)

رواه البزار من حديث أبي هريرة. قال الهيثمي: «رجاله رجال الصحيح خلا شيخ البزار» ، «المجمع» (1/ 287)، قال ابن حجر:«إسناده حسن» . «التلخيص» رقم (35)، وانظر:«الخلاصة» رقم (424).

(3)

رواه مسلم، كتاب الطهارة: باب حكم ولوغ الكلب، رقم (279).

(4)

قال الحافظ ابن حجر: «ورواية أولاهن أرجح من حيث الأكثرية والأحفظية، ومن حيث المعنى أيضاً، لأن تتريب الأخيرة يقتضي الاحتياج إلى غسلة أخرى لتنظيفه» ، «الفتح» شرح حديث رقم (172) .....

ص: 416

ويشمل أيضاً لما تنجَّس بالولُوغ، أو البَول، أو الرَّوث، أو الرِّيق، أو العَرَق.

والدَّليل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «إِذا وَلَغَ الكَلْبُ» ، و «أل» هنا لحقيقة الجِنْس، أو لِعُموم الجِنْس، وعلى كلٍّ هي دالَّة على العموم.

فإِن قيل: ألا يكون في هذا مَشقَّة بالنِّسبة لما يُباح اقتناؤه؟

أجيب: بلى، ولكن تزول هذه المشقَّة بإِبعاد الكلب عن الأواني المستعمَلة، بأن يُخصَّص له أواني لطعامه وشرابه، ولا نخرجه عن العموم، إِذ لو أخرجناه لأخرجنا أكثر ما دلَّ عليه اللفظ، وهذا غير سديد في الاستدلال.

وقال بعض الظَّاهريَّة: إِنَّ هذا الحُكم فيما إِذا وَلَغَ الكلب، أما بَوْله، ورَوْثه فكسائر النَّجاسات

(1)

، لأنهم لا يَرَوْن القياس.

وجمهور الفقهاء قالوا: إِن رَوْثَهُ، وبوله كوُلُوغه، بل هو أخبث

(2)

، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم نَصَّ على الوُلُوغ، لأن هذا هو الغالب، إِذ إِن الكلب لا يبول ويروث في الأواني غالباً، بل يَلِغُ فيها فقط، وما كان من باب الغالب فلا مفهوم له، ولا يُخَصُّ به الحكم.

ورجَّحَ بعض المتأخِّرين مذهب الظَّاهريَّة

(3)

، لا من أجل الأخذ بالظَّاهر؛ ولكن من أجل امتناع القياس، لأن من شَرْط القياس مساواة الفرع للأصل في العِلَّة حتى يساويه في الحُكم،

(1)

انظر: «المحلَّى» (1/ 109 ـ 111).

(2)

انظر: «المغني» (1/ 78)، «المجموع شرح المهذب» (2/ 586).

(3)

انظر: «حاشية الصنعاني على العدة» (1/ 149) .....

ص: 417

لأن الحكم مرتَّبٌ على العِلَّة، فإِذا اشتركا في العِلَّة اشتركا في الحكم، وإِلا فلا.

والفرق على قولهم: أَن لُعاب الكلب فيه دودة شريطيَّة ضارَّة بالإِنسان، وإِذا وَلَغَ انفصلت من لُعابه في الإِناء، فإِذا استعمله أحد بعد ذلك فإِنها تتعلَّق بمعدة الإِنسان وتخرقها، ولا يُتلفها إِلا التُّراب.

ولكن هذه العِلَّة إِذا ثبتت طبيًّا، فهل هي منتفية عن بوله، وروثه؟ يجب النَّظر في هذا، فإِذا ثبت أنها منتفية، فيكون لهذا القول وجه من النَّظر، وإِلا فالأحْوَط ما ذهب إِليه عامَّة الفقهاء، لأنك لو طهَّرته سبعاً إِحداها بالتُّراب لم يَقُل أحد أخطأت، ولكن لو لم تطهِّره سَبْع غسلات إِحداها بالتُّراب، فهناك من يقول: أخطأت، والإِناء لم يطهُر.

....

وقوله: «وخِنْزير» ، الخنزير: حيوان معروف بفَقْدِ الغيرة، والخُبث، وأكلِ العَذِرة، وفي لحمه جراثيم ضارَّة، قيل: إِن النَّار لا تؤثِّر في قتلها، ولذا حَرَّمه الشَّارع.

والفقهاء رحمهم الله ألحقوا نجاسته بنجاسة الكلب؛ لأنه أخبث من الكلب، فيكون أوْلى بالحكْم منه.

وهذا قياس ضعيف؛ لأن الخنزير مذكور في القرآن، وموجود في عهد النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ولم يَرِدْ إِلحاقه بالكلب.

فالصَّحيح: أن نجاسته كنجاسة غيره، فتُغسل كما تُغسل بقية النَّجاسات.

‌ويُجْزِئ عن التراب أشنانٌ، ونحوه.

قوله: «ويُجْزِئ عن التُّراب أشنانٌ ونحوه» ، الأشنان: شجر

ص: 418

يُدَقُّ ويكون حبيبات كحبيبات السُّكَّر أو أصغر، تغسل به الثِّياب سابقاً، وهو خشن كخشونة التُّراب، ومنظِّف، ومزيل، ولهذا قال المؤلِّف:«يجزئ عن التُّراب» في نجاسة الكلب.

وهذا فيه نظر لما يلي:

1 -

أن الشارع نَصَّ على التُّراب، فالواجب اتِّباع النَّصِّ.

2 -

أن السِّدْر والأشنان كانت موجودة في عهد النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ولم يُشرْ إِليهما.

3 -

لعل في التُّراب مادة تقتل الجراثيم التي تخرج من لُعاب الكلب.

4 -

أن التُّراب أحد الطهورين، لأنه يقوم مقام الماء في باب التيمُّم إِذا عُدِم. قال صلى الله عليه وسلم:«وجُعِلت لي الأرضُ مسجداً وطَهُوراً»

(1)

، فرُبَّما كان للشَّارع ملاحظات في التُّراب فاختاره على غيره؛ لكونه أحد الطَّهورين، وليس كذلك الأشنان وغيره. فالصَّحيح: أنه لا يجزئ عن التُّراب، لكن لو فُرض عدم وجود التُّراب ـ وهذا احتمال بعيد ـ فإِن استعمال الأشنان، أو الصَّابون خير من عَدَمه.

وظاهر كلام المؤلِّف: أنَّ الكلب إِذا صادَ، أو أمسك الصَّيدَ بفمه، فلا بُدَّ من غسْل اللحم الذي أصابه فَمُهُ سبع مرَّات إِحداها بالتُّراب، أو الأشنان، أو الصَّابون، وهذا هو المذهب.

(1)

تقدم تخريجه، ص (29) .....

ص: 419

وقال شيخ الإِسلام: إِن هذا مما عَفَا عنه الشَّارع؛ لأنه لم يَرِدْ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه أمر بغَسْل ما أصابه فَمُ الكلب من الصَّيد الذي صاده

(1)

.

وأيضاً: الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم قال: «إِذا وَلَغَ»

(2)

، ولم يقل:«إِذا عَضَّ» ، فقد يخرج من معدته عند الشرب أشياء لا تخرج عند العضِّ. ولا شَكَّ أن الصحابة رضي الله عنهم لم يكونوا يغسلون اللحم سبع مرات إِحداها بالتُّراب، ومقتضى ذلك أنه معفوٌّ عنه، فالله سبحانه هو القادر وهو الخالق وهو المشرِّع، وإِذا كان معفوًّا عنه شرعاً زال ضرره قدراً، فمثلاً الميتة نجسة، ومحرَّمة، وإِذا اضطُرَّ الإِنسان إِلى أكلها صارت حلالاً لا ضرر فيها على المضطرِّ.

والحمار قبل أن يُحرَّم طيِّب حلالُ الأكل، ولما حُرِّمَ صار خبيثاً نجساً.

فالصَّحيح: أنه لا يجب غسل ما أصابه فَمُ الكلب عند صيده لما تقدَّم، لأن صيد الكلب مبنيٌّ على التَّيسير في أصله؛ وإِلا لجاز أن يُكلِّفَ الله عز وجل العباد أن يصيدوها بأنفسهم؛ لا بالكلاب المعلَّمة، فالتيسير يشمل حتى هذه الصُّورة، وهو أنه لا يجب غَسْل ما أصابه فَمُ الكلب، وأن يكون مما عَفَا الله تعالى عنه.

‌وفي نجاسةِ غَيْرها سَبْعٌ بلا تُرابٍ،

...................

قوله: «وفي نجاسةِ غَيْرهما سَبْعٌ بلا تُرابٍ» ، أي: يجزئ في

(1)

انظر: «مجموع الفتاوى» (21/ 620).

(2)

تقدم تخريجه، ص (416) .....

ص: 420

نجاسة غير الكلب والخنزير سبع غسلات بلا تُراب، فلا بُدَّ من سبع، بأن تُغسل أولاً، ثم تُعصر، ثم تغسل ثانياً، ثم تُعصر، وهكذا إِلى سبع غسلات، وإِن احتاج إِلى الدَّلك فلا بُدَّ من الدَّلك، وإِذا زالت النَّجَاسة بأوَّل غسلة، وبقي المحلُّ نظيفاً، لا رائحة فيه، ولا لون فلا يطهر إِلا بإِكمال السَّبع، وهذا هو المذهب .....

واستدلُّوا: بما رُوي عن ابن عمر أنه قال: «أُمِرْنا بِغَسْل الأنجاس سَبْعاً»

(1)

، وإِذا قال الصَّحابي أُمِرنا فالآمر هو النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، فيكون من المرفوع حُكماً.

وقال بعض العلماء: إِنه لا بدَّ من ثلاث غسلات

(2)

.

واستدلُّوا: بأن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يكرِّرُ الأشياء ثلاثاً، حتى في الوُضُوء أعلاه ثلاث مرات

(3)

، ولأن النَّجاسة لا تزول بدونها غالباً.

وقال آخرون: تكفي غَسْلة واحدة تزول بها عَيْن النَّجاسة، ويطهر بها المحلُّ

(4)

.

واستدلُّوا على ذلك بما يلي:

1 -

قوله صلى الله عليه وسلم في دَمِ الحيض يُصيب الثَّوب: «تحتُّهُ ثم تَقْرُصُه بالماء، ثم تَنْضِحُهُ، ثم تُصَلِّي فيه»

(5)

ولم يذكر عدداً، والمقام مقامُ بيانٍ؛ لأنه جواب عن سؤال، فلو كان هناك عدد

(1)

ذكره ابن قدامة في «المغني» (1/ 75) عن ابن عمر بدون عزوه لمصدر.

(2)

انظر: «الإنصاف» (2/ 287).

(3)

تقدم تخريجه ص (179).

(4)

انظر: «الإنصاف» (2/ 287).

(5)

تقدم تخريجه، ص (29).

ص: 421

معتَبَر لَبيَّنَه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، ولهذا لمَّا كان الدَّمُ جافًّا، قال: تحتُّه أولاً، ولم يقُلْ تغسِلُه، مع أنه مع تكرار الغَسْل يمكن أن يزول، ولو كان جافًّا، لكن بدأ بالأسهل.

2 -

أن النَّجاسة عين خبيثة متى زالت زال حُكمها، وهذا دليل عقليٌّ واضح جداً، وعلى هذا فلا يُعتبر في إِزالة النَّجاسة عددٌ؛ ما عدا نجاسة الكلب فلا بُدَّ لإِزالتها من سبع غسلات إِحداها بالتُّراب للنَّصِّ عليه.

وأجيب عن حديث ابن عمر بجوابين:

1 -

أنَّه ضعيف، لا أصل له.

2 -

على تقدير صحَّته؛ فقد روى الإِمام أحمد رحمه الله حديثاً ـ وإِن كان فيه نظر ـ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أُمِر بغسل الأنجاس سبعاً، ثم سأل الله التَّخفيف، فأُمِرَ بغسلها مرَّة واحدة

(1)

، فيُحمل حديث ابن عمر ـ إِن صحَّ ـ على أنه قَبْل النَّسْخ، فيَسقط الاستدلال به.

والصَّحيح: أنه يكفي غسلة واحدة تذهب بعين النَّجاسة، ويطهُر المحلُّ، ما عدا الكلب فعلى ما تَقدَّم.

فإِن لم تَزُلِ النَّجاسة بغسلةٍ زاد ثانية، وثالثة وهكذا، ولو

....

(1)

رواه الإمام أحمد (2/ 109)، وأبو داود، كتاب الطهارة: باب في الغسل من الجنابة، رقم (247) عن عبد الله بن عمر قال:«كانت الصلاة خمسين، والغسل من الجنابة سبع مرار، وغسل البول من الثوب سبع مرار، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل حتى جعلت الصلاة خمساً، والغسل من الجنابة مرة، وغسل البول من الثوب مرة» . قال ابن قدامة في «المغني» (1/ 75) بعد ذكره لهذا الحديث: «في رواته أيوب بن جابر وهو ضعيف» .....

ص: 422

عشر مرَّات حتى يطهُر المحلُّ، والدَّليل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم للاَّتي غسَّلن ابنته:«اغسلنها ثلاثاً، أو خمساً، أو سبعاً، أو أكثر؛ إِن رأيتنَّ ذلك»

(1)

. مع أن تطهير الميْت ليس عن نجاسة في الغالب، فإِذا كان كذلك ـ أي: التطهير الذي ليس عن نجاسة يُزاد فيه على السَّبع إِذا رأى الغاسل ذلك ـ فما كان عن نجاسة من باب أَوْلَى، بل يجب أن يُغسل حتى تطهُرَ النَّجاسة.

‌ولا يَطْهُرُ مُتَنَجِّسٌ بشمسٍ،

..................................

قوله: «ولا يَطْهُرُ مُتَنَجِّسٌ بشمسٍ» ، المتنجِّس ما أصابته النَّجاسة.

وهو هنا نكِرة في سِيَاق النَّفي، فتعمُّ كلَّ متنجِّس، سواء كان أرضاً، أو ثوباً، أو فراشاً، أو جداراً، أو غير ذلك، فلا يطهُر بالشَّمس، يعني بذهاب نجاسته بالشمس، والدليل على ذلك:

1 -

قوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال: 11]، فجعل الله الماء آلة التَّطهير.

2 -

قوله صلى الله عليه وسلم في البحر: «هو الطَّهور ماؤه»

(2)

.

(1)

تقدم تخريجه، ص (309).

(2)

رواه أحمد (2/ 361، 378)، وأبو داود، كتاب الطهارة: باب الوضوء بماء البحر، رقم (83)، والنسائي، كتاب الطهارة: باب في ماء البحر، (10/ 50)، رقم (59)، والترمذي، أبواب الطهارة: باب ما جاء في ماء البحر أنه طهور، رقم (69)، وابن ماجه، كتاب الطهارة: باب الوضوء بماء البحر، رقم (386) من حديث أبي هريرة.

والحديث صحَّحه: البخاري، والترمذي، وابن خزيمة، وابن حبان، وابن عبد البر وغيرهم.

انظر: «المحرر» رقم (1)، «التلخيص» رقم (1).

ص: 423

3 -

قوله صلى الله عليه وسلم في الماء يُفطر عليه الصَّائم: «فإِنَّه طَهور»

(1)

، أي: تحصُل به الطَّهارة، فلم يذكر الله عز وجل ولا النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم شيئاً تحصُل به الطَّهارة سوى الماء.

4 -

حديث أنس رضي الله عنه: «أنَّ أعرابيًّا دخل المسجد، فبالَ في طائفة منه، فزجره النَّاس، فنهاهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فلما قضى بوله، أمر بذَنوب من ماء فأُريق عليه»

(2)

، فلم يتركه النبيُّ صلى الله عليه وسلم للشَّمس حتى تطهِّره.

وهذا هو المشهور من المذهب، أنَّ الماء يُشْتَرَط لإِزالة النَّجاسة، فلو كان هناك شيء مُتنجِّس بادٍ للشمس كالبول على الأرض، ومع طول الأيام، ومرور الشمس عليه زال بالكلِّية، وزال تغيُّرُه فلا يطهُر، بل لا بُدَّ من الماء.

....

وذهب أبو حنيفة رحمه الله إِلى أن الشمس تُطَهِّرُ المتنجِّس، إِذا زال أثر النَّجاسة بها، وأنَّ عين النَّجاسة إِذا زالت بأيِّ مزيل طَهُر المحلُّ

(3)

، وهذا هو الصَّواب لما يلي:

(1)

رواه أحمد (4/ 17)، وأبو داود، كتاب الصوم: باب ما يُفطر عليه، رقم (2355)، والترمذي، كتاب الصوم: باب ما جاء ما يستحب عليه الإفطار، رقم (695)، وابن ماجه، كتاب الصيام: باب ما جاء على ما يستحب الفطر، رقم (1699)، وابن حبان في «صحيحه» رقم (3514)، والحاكم (1/ 432) من حديث سلمان بن عامر.

وصحَّحه: أبو حاتم الرازي، والترمذي، وابن خزيمة، والحاكم وقال:«على شرط البخاري» ، ووافقه الذهبي.

انظر: «التلخيص الحبير» رقم (900)، «بلوغ المرام» رقم (661).

(2)

تقدم تخريجه ص (29) .....

(3)

انظر: «مجموع الفتاوى» (21/ 474، 481)، «حاشية ابن عابدين» (1/ 311).

ص: 424

1 -

أن النَّجاسةَ عينٌ خبيثة نجاستُها بذاتها، فإِذا زالت عاد الشيء إِلى طهارته.

2 -

أن إِزالة النَّجاسة ليست من باب المأمور، بل من باب اجتناب المحظور، فإِذا حصل بأيِّ سبب كان ثَبَتَ الحُكم، ولهذا لا يُشترط لإِزالة النّجاسة نيَّة، فلو نزل المطر على الأرض المتنجِّسة وزالت النَّجاسة طَهُرت، ولو توضَّأ إِنسان وقد أصابت ذراعَه نجاسةٌ ثم بعد أن فرغ من الوُضُوء ذكرها فوجدها قد زالت بماءِ الوُضُوء فإِن يده تطهر، إِلا على المذهب؛ لأنهم يشترطون سبع غسلات، والوُضُوء لا يكون بسبع.

والجواب عما استدلَّ به الحنابلة: أنه لا ينكر أن الماء مطهِّر، وأنه أيسر شيء تطُهَّر به الأشياء، لكن إِثبات كونه مطهِّراً، لا يمنع أن يكون غيره مطهراً، لأن لدينا قاعدة وهي: أن عدم السبب المعيَّن لا يقتضي انتفاء المسَبَّب المعين، لأن المؤثِّر قد يكون شيئاً آخر. وهذا الواقع بالنسبة للنجاسة. وعبَّر بعضهم عن مضمون هذه القاعدة بقوله: انتفاء الدَّليل المعيَّن لا يَستلزِم انتفاء المدلول؛ لأنَّه قد يَثْبُتُ بدليل آخر.

وأما بالنسبة لحديث أنس، وأَمْرِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بأن يُصَبَّ عليه الماء

(1)

، فإِنَّ ذلك لأجل المبادرة بتطهيره، لأن الشَّمس لا تأتي عليه مباشرة حتى تُطهِّره بل يحتاج ذلك إِلى أيام، والماء يُطهِّره في الحال، والمسجد يحتاج إِلى المبادرة بتطهيره؛ لأنه مُصلَّى النَّاس.

(1)

تقدم تخريجه، ص (29) ....

ص: 425

ولهذا ينبغي للإِنسان أن يُبادر بإِزالة النَّجاسة عن مسجده، وثوبه، وبَدَنِه، ومصلاَّه لما يلي:

1 -

أن هذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم.

2 -

أنَّه تخلُّص من هذا القَذَر.

....

3 -

لئلا يَرِدَ على الإِنسان نسيان، أو جهالة بمكان النَّجاسة فيُصلِّي مع النَّجاسة.

‌ولا رِيْحٍ، ولا دَلْكٍ، ولا استحالةٍ،

.................................

قوله: «ولا ريح» ، أي لا يطهُر المتنجِّس بالرِّيح، يعني الهواء. هذا هو المشهور من المذهب.

والدَّليل: ما سبق أنَّه لا يُطَهِّر إِلا الماء.

والقول الثَّاني: أنه يطهُر المتنجِّس بالريح

(1)

، لكن مجرد اليُبْس ليس تطهيراً، بل لا بدَّ أن يمضي عليه زمن بحيث تزول عين النَّجاسة وأثرها، لكن يُستثنى من ذلك: لو كان المتنجِّس أرضاً رمليَّة؛ فحملت الرِّيح النَّجاسة وما تلوَّث بها، فزالت وزال أثرها؛ فإِنها تطهر.

قوله: «ولا دَلْكٍ» ، أي: لا يطهُر المتنجِّس بالدَّلكِ مطلقاً؛ سواء كان صقيلاً تذهبُ عينُ النَّجاسة بدلكه كالمرآة، أم غير صقيل، هذا هو المذهب.

والقول الثَّاني: أن المتنجِّس ينقسم إِلى قسمين:

الأول: ما يمكن إِزالة النَّجاسة بِدَلْكِه، وذلك إِذا كان صقيلاً كالمرآة والسَّيف، ومثل هذا لا يتشرَّب النَّجاسة، فالصَّحيح أنه

(1)

انظر: «مجموع الفتاوى» (21/ 523)، «الإنصاف» (2/ 304 ـ 306).

ص: 426

يطهُر بالدَّلْكِ، فلو تنجَّست مرآة، ثم دَلَكْتَها حتى أصبحت واضحة لا دَنَسَ فيها فإِنها تطهُر.

الثاني: ما لا يمكن إِزالة النَّجاسة بِدَلْكِه؛ لكونه خشناً، فهذا لا يطهُر بالدَّلك، لأن أجزاءً من النَّجاسة تبقى في خلاله

(1)

.

قوله: «ولا استحالةٍ» ، استحال أي: تحوَّل من حالٍ إِلى حال.

أي: أن النَّجاسة لا تطهر بالاستحالة؛ لأنَّ عينها باقية.

مثاله: رَوْثُ حمار أُوقِدَ به فصار رماداً؛ فلا يطهُر؛ لأن هذه هي عين النَّجاسة، وقد سبق أن النَّجاسة العينيَّة لا تطهُر أبداً

(2)

، والدُّخَان المتصاعد من هذه النَّجاسة نَجِسٌ على مقتضى كلام المؤلِّف؛ لأنه متولِّد من هذه النَّجاسة، فلو تلوَّث ثوب إِنسان، أو جسمه بالدُّخان وهو رطب، فلا بُدَّ من غَسْله.

....

مثال آخر: لو سقط كلبٌ في مَمْلَحَة «أرض ملح» واستحال، وصار مِلْحاً، فإِنه لا يطهُر، ونجاسته مغلَّظة.

ويَستَثنون من ذلك ما يلي:

1 -

الخَمْرَة تتخلَّل بنفسها

(3)

.

2 -

العَلَقَة تتحول إِلى حيوان طاهر.

والصَّحيح: أنه لا حاجة لهذا الاستثناء، لأن الخَمْرة على القول الرَّاجح ليست نَجِسة كما سيأتي

(4)

.

(1)

انظر: «مجموع الفتاوى» (21/ 523)، «الإنصاف» (2/ 304 ـ 306) .....

(2)

انظر: ص (414).

(3)

انظر: «المغني» (1/ 97).

(4)

انظر: ص (428).

ص: 427

وأما بالنسبة للعَلَقة فلا حاجة لاستثنائها؛ لأنها وهي في معدنها الذي هو الرَّحم لا يُحكم بنجاستها، وإِن كانت نجسة لو خرجت.

ولذلك كان بول الإِنسان وعَذِرَتُه في بطنه طاهرين، وإِذا خرجا صارا نجسَين، ولأن المصلِّي لو حمل شخصاً في صلاته لَصحَّت صلاته؛ بدليل أنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم حَمَلَ أُمامة بنت ابنته زينب، وهو يُصلِّي

(1)

، ولو حمل المُصلِّي قارورة فيها بول أو غائط لَبَطلت صلاتُه.

‌غَيْرَ الخَمْرَةِ .............................................

قوله: «غَيْرَ الخَمْرَة» ، الخَمْرُ: اسم لكل مُسكِر. هكذا فسَّره النبيُّ صلى الله عليه وسلم

(2)

.

والعجبُ ممن قال: إِنَّ الخمر لا يكون إِلا من نبيذ العنب، وقد قال أفصح العرب وأعلمهم:«كلُّ مسكرٍ خَمْر، وكلُّ مُسْكرٍ حرام» (801)، مع أنَّه لو وُجِدَ ذلك في «القاموس المحيط» مثلاً ومؤلِّفه فارسيٌّ لسُلِّمَ به.

والخمر حرام بالكتاب، والسُّنَّة، وإِجماع المسلمين. ولهذا قال العلماء: مَن أنكر تحريمه وهو ممن لا يجهل ذلك كَفَرَ،

(1)

رواه البخاري، كتاب الطهارة: باب إذا حمل جارية صغيرة على عنقه في الصلاة، رقم (516)، ومسلم، كتاب المساجد: باب جواز حمل الصبيان في الصلاة، رقم (543) من حديث أبي قتادة.

(2)

رواه مسلم، كتاب الأشربة: باب بيان أن كل مسكر خمر وأن كل خمر حرام، رقم (2003) من حديث عبد الله بن عمر.

ورواه البخاري مختصراً، كتاب الأشربة: باب قول الله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ} رقم (5575).

ورواه مسلم أيضاً، الموضع السابق، رقم (2002) من حديث جابر بن عبد الله .....

ص: 428

ويُستتاب؛ فإِن تاب وإِلاَّ قُتِل؛ سواءٌ كانت من العنب، أم الشَّعير، أم البُرِّ، أم التَّمر، أم غير ذلك.

مسألة: نجاسة الخمر:

جمهور العلماء ـ ومنهم الأئمَّة الأربعة، واختاره شيخ الإِسلام ـ أنَّها نجسة

(1)

، واستدلُّوا بقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [المائدة: 90]. والرِّجس: النَّجَس؛ بدليل قوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145]، ولا مانع من أن تكون في الأصل طيِّبة؛ ثم تنقلب إِلى نجسة بعلَّة الإِسكار؛ كما أن الإِنسان يأكل الطَّعام وهو طيِّب طاهر ثم يخرج خبيثاً نجساً.

واستدلُّوا أيضاً بقوله تعالى: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} [الإِنسان: 21] يعني في الجَنَّة، فدلّ على أنه ليس كذلك في الدُّنيا.

والصَّحيح: أنها ليست نجسة، والدَّليل على ذلك ما يلي:

1 -

حديث أنس رضي الله عنه: «أنَّ الخمرَ لمَّا حُرِّمت خرج النَّاس، وأراقوها في السِّكك»

(2)

، وطُرقات المسلمين لا يجوز أن تكون مكاناً لإِراقة النَّجاسة، ولهذا يَحرُم على الإِنسان أن يبولَ في الطَّريق؛ أو يصبَّ فيه النَّجاسة، ولا فرق في ذلك بين

(1)

انظر: «أحكام القرآن» للقرطبي (6/ 288)، «أضواء البيان» (2/ 127)، «مجموع الفتاوى» (21/ 481)، «الاختيارات» ص (23، 24).

(2)

رواه البخاري، كتاب المظالم: باب صبّ الخمر في الطريق، رقم (2464)، ومسلم، كتاب الأشربة: باب تحريم الخمر

، رقم (1980).

ص: 429

أن تكون واسعة أو ضيِّقة كما جاء في الحديث: «اتقوا اللعَّانَين» ، قالوا: وما اللعَّانَان يا رسول الله؟ قال: «الذي يَتَخَلَّى في طريق النَّاس أو في ظلِّهم

(1)

».

فقوله: «في طريق النَّاس» يعمُّ ما كان واسعاً وضَيِّقاً، على أنَّه يُقال: إِنَّ طُرقات المدينة لم تكن كلُّها واسعة، بل قد قال العلماء رحمهم الله: إِن أوسع ما تكون الطُّرقات سبعة أذرع، يعني عند التَّنازع

(2)

.

فإِن قيل: هل عَلِم النبيُّ صلى الله عليه وسلم بإِراقتها؟

....

أجيب: إِنْ عَلِمَ فهو إِقرار منه صلى الله عليه وسلم ويكون مرفوعاً صريحاً، وإِن لم يَعْلَم فالله تعالى عَلِمَ، ولا يقرُّ عبادَه على مُنكَر، وهذا مرفوع حُكماً.

2 -

أنَّه لما حُرِّمت الخمر لم يؤمروا بِغَسْل الأواني بعد إِراقتها، ولو كانت نجسة لأُمروا بِغَسْلها، كما أُمروا بِغَسْل الأواني من لحوم الحُمُر الأهليَّة حين حُرِّمت في غزوة خيبر

(3)

.

فإِن قيل: إِنَّ الخمر كانت في الأواني قبل التَّحريم، ولم تكن نجاستها قد ثبتت.

أُجيب: أنَّها لما حُرِّمت صارت نجسة قبل أن تُراق.

3 -

ما رواه مسلم أن رجلاً جاء براوية خمر فأهداها

(1)

تقدم تخريجه ص (127).

(2)

انظر: «القواعد» لابن رجب ص (201، 202)، «فتح الباري» (5/ 118) .....

(3)

رواه البخاري، كتاب المغازي: باب غزوة خيبر، رقم (4196)، ومسلم، كتاب الجهاد والسِّير: باب غزوة خيبر، رقم (1802) من حديث سلمة بن الأكوع.

ص: 430

للنبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال: «أما علمتَ أنَّها حُرِّمت؟» فَسَارَّةُ رجلٌ أنْ بِعْها، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:«بِمَ سارَرْتَهُ؟» ، قال: أمَرْتُهُ ببيعِهَا، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:«إِن الذي حَرَّمَ شُرْبَها حَرَّمَ بَيْعَها» ، ففتح الرجلُ المزادة حتى ذهب ما فيها

(1)

. وهذا بحضرة النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ولم يَقُلْ له: اغْسلِها، وهذا بعد التَّحريم بلا ريب.

4 -

أنَّ الأصل الطَّهارة حتى يقوم دليل النَّجاسة، ولا دليل هنا. ولا يلزم من التحريم النجاسة؛ بدليل أن السُمَّ حرام وليس بنجس.

والجواب عن الآية: أنَّه يُراد بالنَّجاسةِ النَّجاسةُ المعنويَّة، لا الحسِّيَّة لوجهين:

الأول: أنها قُرِنَت بالأنصاب والأزلام والميسر، ونجاسة هذه معنويَّة.

الثاني: أن الرِّجس هنا قُيِّد بقوله: {مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} فهو رجسٌ عمليٌّ، وليس رجساً عينيّاً تكون به هذه الأشياء نجسة.

وأما قوله تعالى: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} [الإِنسان: 21]، فإِننا لا نقول بمفهوم شيء من نعيم الآخرة؛ لأننا نتكلَّم عن أحكام الدُّنيا.

وأيضاً: فكلُّ ما في الجنَّة طَهُور فليس هناك شيء نجس.

....

(1)

رواه مسلم، كتاب المساقاة، باب تحريم بيع الخمر، رقم (1579) من حديث عبد الله بن عباس .....

ثم إِن المراد بالطَّهور هنا الطَّهورُ المعنويُّ الذي قال الله

ص: 431

فيه: {لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزِفُونَ *} [الصافات] وهذا متعيِّن؛ لأن لدينا سُنَّة عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم بِعَدَمِ النَّجاسة.

ثم إِن شراب أهل الجنَّة ليس مقصوراً على الخمر، بل فيها أنهار من ماء ولَبَن وعسل، وكلُّها يُشرب منها، فهل يمكن أن يُقال: إِنَّ ماء الدنيا ولَبَنَها وعسَلَها نَجِس بمفهوم هذه الآية؟.

فإِن قيل: كيف تخالف الجمهور؟.

فالجواب: أن الله تعالى أمر عند التَّنازع بالرُّجوع إلى الكتاب والسُّنَّة، دون اعتبار الكثرة من أحد الجانبين، وبالرُّجوع إلى الكتاب والسُّنَّة يتبيَّن للمتأمِّل أنه لا دليل فيهما على نجاسة الخمر نجاسة حسيَّة، وإِذا لم يَقُم دليل على ذلك فالأصل الطَّهارة، على أننا بيَّنَّا من الأدلَّة ما يَدُلُّ على طهارته الطَّهارة الحسيَّة.

‌فَإِنْ خُلِّلَتْ أَوْ تَنَجَّسَ دُهْنٌ مائعٌ لم يَطْهُر،

..............

قوله: «فإِن خُلِّلَتْ» ، الضَّمير يعود إِلى الخمرة، وتخليلها أن يُضاف إِليها ما يُذهِب شدَّتها المسْكِرة من نبيذ أو غيره، أو يصنع بها ما يذهب شدَّتها المسْكِرة.

والمشهور من المذهب: أنها إِذا خُلِّلَتْ لا تطهُر، ولو زالت شدَّتُها المسكرة، ولا فرق بين أن تكون خمرة خلاَّل، أو غيره؛ لأن بعض العلماء استثنى خمرة الخلاَّل وقال: إِنه يجوز تخليلُها

(1)

؛ لأن هذه هي كلُّ ماله، فإِذا منعناه من التَّخليل أفسدنا عليه ماله. ولكن الصَّحيح أنَّه لا فرق، وأن الخمر متى تخمَّرت أريقت؛ ولا يجوز أن تُتَّخذ للتَّخليل بخلاف ما إِذا تخلَّلت بنفسها فإِنها تطهُر وتحِلُّ.

(1)

انظر: «الإنصاف» (2/ 302، 303) .....

ص: 432

واستدلُّوا: بأن زوال الإِسكار كان بفعل شيء محرَّم، فلم يترتَّب عليه أثره، إِذ التَّخليل لا يجوز؛ بدليل ما رواه أنس أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِل عن الخمر تُتَّخذ خَلًّا؟ ـ أي: تُحَوَّلُ خلًّا ـ قال: «لا»

(1)

. ولأن التَّخليل عمل ليس عليه أمْر الله، ولا رسوله، فيكون باطلاً مردوداً، فلا يترتَّبُ عليه أثرٌ كما قال صلى الله عليه وسلم:«من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رَدٌّ»

(2)

.

وقال بعض العلماء: إِنها تطهُر، وتحلُّ بذلك، مع كون الفعل حراماً

(3)

.

وعلّلوا: أنَّ عِلَّة النَّجاسة الإسكار، والإِسكار قد زال، فتكون حلالاً.

وقال آخرون: إِنْ خلَّلها مَنْ يعتقدُ حِلَّ الخمر كأهل الكتاب؛ اليهود والنَّصارى، حَلَّت، وصارت طاهرة. وإِن خلَّلها مَنْ لا تَحِلُّ له فهي حرام نجسة (811)، وهو أقرب الأقوال. وعلى هذا يكون الخلُّ الآتي من اليهود والنَّصارى حلالاً طاهراً، لأنهم فعلوا ذلك على وجه يعتقدون حِلَّه، ولذا لا يُمنعون من شرب الخمر.

قوله: «أَوْ تَنَجَّسَ دُهْنٌ مائعٌ لم يَطْهُر» ، الدُّهن تارة يكون مائعاً، وتارة يكون جامداً، والمائع قيل: هو الذي يتسرَّب أو

(1)

رواه مسلم، كتاب الأشربة: باب تحريم تخليل الخمر، رقم (1983).

(2)

تقدم تخريجه ص (187).

(3)

انظر: «مجموع الفتاوى» (21/ 481 ـ 487)؛ «الإنصاف» (2/ 302)؛ «المجموع شرح المهذب» (2/ 577).

ص: 433

يجري إِذا فُكَّ وعاؤه، فإِن لم يتسرَّب فهو جامد. وقيل: هو الذي لا يمنع سريان النَّجاسة

(1)

.

فإِذا كان جامداً، وتنجَّس، فإِنها تزال النَّجاسة، وما حولها.

مثاله: سقطت فأرة في وَدَكٍ جامد فماتت، فالطَّريق إِلى طهارته أن تأخذ الفأرة، ثم تقوِّر مكانها الذي سقطت فيه، ويكون الباقي طاهراً حلالاً.

وإِن كان مائعاً، فالمشهور من المذهب أنَّه لا يطهرُ، سواء كانت النجَّاسة قليلة أم كثيرة، وسواء كان الدُّهن قليلاً أم كثيراً، وسواء تغيَّر أم لم يتغيَّر، فمثلاً: إِذا سقطت شعرة فأرة في «دَبَّةٍ»

(2)

كبيرة مملوءة من الدُّهن المائع، فينجُس هذا الدُّهن ويفسد .....

والصَّواب: أن الدُّهن المائع كالجامد؛ فتلقي النجاسة وما حولها، والباقي طاهر.

والدَّليل على ذلك ما يلي:

1 -

أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِل عن فأرة، وقعت في سَمْنٍ فقال:«ألقوها، وما حولها فاطْرَحُوهُ، وكُلُوا سمنَكم»

(3)

، ولم يفصِّلْ.

أما رواية: «إِذا كان جامداً، فألقوها وما حولها، وإِذا كان

(1)

انظر: «الإنصاف» (2/ 304).

(2)

الدَّبَّة: الظَّرف الكبير للبَزْر والزَّيت، «القاموس المحيط»: مادة «دَبَّ» .....

(3)

رواه البخاري، كتاب الذبائح والصيد، باب إذا وقعت الفأرة في السمن الجامد أو الذائب، رقم (5538)، وفي كتاب الوضوء: باب ما يقع من النجاسات في السمن والماء، رقم (235). وهذا لفظه من حديث ابن عباس.

ص: 434

مائعاً، فلا تقربوه»

(1)

، فضعيفة كما ذكر ذلك شيخ الإِسلام

(2)

.

2 -

أن الدُّهن لا تسري فيه النَّجاسة، سواء كان جامداً أم مائعاً، بخلاف الماء، فتنفذ فيه الأشياء.

لكن إِنْ كانت النَّجاسة قويَّة وكثيرة، والسَّمن قليل، وأثَّرت فيه فهل يمكن تطهيره؟.

قال بعض العلماء: لا يمكن؛ لأنَّ الأشياء لا تنفذ في الدُّهن

(3)

، فلو جئنا بماء، وصببناه فإِنه لا يدخل في الدُّهن، بل يبقى معزولاً.

وقال آخرون: يمكن تطهيره بأن يُغلى بماء حتى تزول رائحةُ النَّجاسة وطعمُها بعد إِزالة عين النَّجاسة (817).

وهذا القول يَنْبَنِي على ما سبق وهو أن النَّجاسة عين خبيثة متى زالت زال حُكْمُها.

‌وإن خَفِي مَوْضِعُ نجاسةٍ غَسَل حَتَّى يَجْزِمَ بِزَوَالِهِ،

.......

قوله: «وإِن خَفِيَ مَوْضِعُ نجاسةٍ غَسَل حَتَّى يَجْزِمَ بزَوالِهِ» ، يعني: إذا أصابت النَّجاسة شيئاً، وخفي مكانها، وجب غسل ما أصابته حتى يتيقَّن زوالها.

واعْلَم أنَّ ما أصابته النَّجاسة لا يخلو من أمرين:

(1)

رواه أحمد (2/ 232، 233)، وأبو داود، كتاب الأطعمة: باب في الفأرة تقع في السمن، رقم (3842).

قال البخاري: «هو خطأ» . قال أبو حاتم الرازي: «هو وَهْمٌ» . قال الترمذي: «هو حديث غير محفوظ» .

انظر: «سنن الترمذي» رقم (1798)، «العلل» لابن أبي حاتم رقم (1507).

(2)

انظر: «مجموع الفتاوى» (21/ 490، 516).

(3)

انظر: «المغني» (1/ 53، 54)، «الإنصاف» (2/ 304، 305) .....

ص: 435

إِما أن يكون ضيِّقاً، وإِمَّا أن يكون واسعاً.

فإِن كان واسعاً فإِنه يتحرَّى، ويغسل ما غلب على ظنِّه أنَّ النَّجاسة أصابته، لأن غسْل جميع المكان الواسع فيه صُعوبة.

وإِن كان ضيِّقاً، فإِنَّه يجب أن يَغسِل حتى يَجزِم بزوالها.

مثال ذلك: أصابت النَّجاسة أَحَدَ كُمَّي الثَّوب، ولم تعرف أيَّ الكُمَّين أصابته، فيجب غسل الكُمَّين جميعاً، لأنه لا يجزم بزوالها إِلا بذلك.

وكذا لو علمتَ أحدهما، ثم نسيتَ فيجب غسلهما جميعاً.

....

وكلامه رحمه الله يدلُّ على أنه لا يجوز التَّحرِّي ولو أمكن؛ لأنه لا بُدَّ من الجزم واليقين.

والصَّحيح: أنه يجوز التَّحرِّي، لقوله صلى الله عليه وسلم في الشَّكِّ في الصَّلاة:«فليتحرَّ الصَّواب، ثم ليتمَّ عليه»

(1)

.

وعليه؛ إِذا كان للتَّحرِّي مجال، فتتحرَّى أيَّ الكُمَّين أصابته النَّجاسة، ثم تغسله.

مثال ذلك: لو مرَرْتَ بالنَّجاسة عن يمينك، وأصابك منها، ولا تدري في أيِّ الكُمَّين، فهنا الذي يغلب على الظَّن أنَّه الأيمن، فيجب عليك غسله دون الأيسر.

أما إِذا لم يكن هناك مجال للتَّحرِّي، فتغسل الكُمَّين جميعاً؛ لأنك لا تجزم بزوال النَّجاسة إِلا بذلك، فالأحوال أربع:

(1)

تقدّم تخريجه، ص (62).

ص: 436

الأولى: أن تجزم بإِصابة النَّجاسة للموضعَين؛ فتغسِلهما جميعاً.

الثانية: أن تجزم أنَّها أصابت أحدهما بعينه؛ فتغسِله وحده.

الثالثة: أن يغلب على ظنِّك أنها أصابت أحدهما؛ فتغسله وحده على القول الرَّاجح.

الرَّابعة: أن يكون الاحتمالان عندك سواء؛ فتغسلهما جميعاً.

والمذهب: أن الثَّالثة كالرابعة؛ فتغسلهما جميعاً.

‌ويَطْهُرُ بَوْلُ غلامٍ لم يأكُل الطَّعامَ بنضْحِه،

.............

قوله: «ويَطْهُرُ بَولُ غلامٍ» ، «بول»: خرج به الغائط. «غلام» : خرج به الجارية.

قوله: «لم يأكُل الطَّعامَ بنضْحِه» ، خرج من يأكل الطَّعامَ، أي: يتغذَّى به.

والنَّضح: أن تُتْبِعَهُ الماء دون فَرْكٍ، أو عَصْرٍ حتى يشمله كلَّه، والدَّليل على ذلك: حديث عائشة

(1)

وأُمِّ قيس بنت محصن الأسديَّة أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بغلامٍ، فبال على ثوبه، فدعا بماءٍ فأتْبَعَهُ بَولَه؛ ولم يغسِلْه

(2)

.

فإِن قيل: ما الحكمة أنَّ بَول الغلام الذي لم يَطْعَمْ يُنضح، ولا يُغسل كَبَول الجارية؟.

(1)

تقدّم تخريجه، ص (29).

(2)

رواه البخاري، كتاب الوضوء: باب بول الصبيان، رقم (222)، ومسلم كتاب الطهارة: باب حكم بول الطفل الرضيع، وكيفية غسله، رقم (286)، واللفظ له من حديث أم قيس بنت محصن .....

ص: 437

أُجيب: أنَّ الحكمة أن السُّنَّة جاءت بذلك، وكفى بها حكمة، ولهذا لما سُئِلَت عائشة رضي الله عنها: ما بَالُ الحائض تقضي الصَّوم، ولا تقضي الصَّلاة؟ فقالت:«كان يُصيبنا ذلك على عهد الرَّسول صلى الله عليه وسلم فنُؤْمَر بقضاء الصَّوم، ولا نُؤْمَر بقضاء الصَّلاة»

(1)

.

ومع ذلك التمس بعض العلماء الحكمة في ذلك

(2)

:

فقال بعضهم: الحكمة في ذلك التيسير على المكلَّف، لأن العادة أن الذَّكر يُحْمَل كثيراً، ويُفرح به، ويُحَبُّ أكثر من الأُنثى، وبوله يخرج من ثقب ضيِّق، فإِذا بال انتشر، فمع كثرة حمله، ورشاش بوله يكون فيه مشقَّة؛ فخُفِّفَ فيه.

وقالوا أيضاً: غذاؤه الذي هو اللبَن لطيف، ولهذا إذا كان يأكل الطَّعام فلا بُدَّ من غسل بوله، وقوَّته على تلطيف الغذاء أكبر من قوَّة الجارية.

وظاهر كلام أصحابنا أن التفريق بين بول الغلام والجارية أَمْرٌ تعبُّدي

(3)

.

وغائط هذا الصبي كغيره لا بُدَّ فيه من الغَسْل.

وبَول الجارية والغلام الذي يأكل الطَّعام كغيرهما، لا بُدَّ فيهما من الغَسْل.

‌ويُعْفَى في غير مائعٍ ومَطْعُومٍ عن يسيرِ دمٍ نجسٍ ..........

قوله: «ويُعْفَى في غير مائعٍ ومَطْعُومٍ عن يسيرِ دمٍ نجسٍ» ،

(1)

تقدم تخريجه ص (307).

(2)

انظر: «إعلام الموقعين» (2/ 59)، «تحفة المودود» ص (129).

(3)

انظر: «شرح منتهى الإرادات» (1/ 98).

ص: 438

العفو: التَّسامح والتَّيسير. والمائع: هو السَّائل، كالماء، واللَّبَن، والمرَق: والمطعوم: ما يُطعَم كالخبز، وما أشبه.

فيُعفى في غير هذين النَّوعين كالثياب، والبدن، والفُرش، والأرض وما أشبه ذلك عن يسيرِ دمٍ نجس

إلخ.

أما المائع والمطعوم؛ فلا يُعفى عن يسيره فيهما، هذا هو المذهب، والرَّاجح: العفو عن يسيره فيهما كغيرهما ما لم يتغيَّر أحدُ أوصافهما بالدَّمِ.

واختلف العلماء ـ رحمهم الله تعالى ـ في ميزان اليسير والكثير على قولين سبق بيانهما، والرَّاجح منهما

(1)

.....

قوله: «دم نجس» ، عُلِمَ منه أن الدَّمَ الطَّاهر غير داخل في هذا؛ ويتبيَّن ذلك ببيان أقسام الدِّماء. فالدماء تنقسم إِلى ثلاثة أقسام:

الأول: نجس لا يُعْفَى عن شيء منه، وهو الدَّمُ الخارج من السَّبيلَين، ودم محرَّم الأكل إِذا كان مما له نَفْسٌ سائلة كدم الفأرة والحمار، ودم الميْتة من حيوان لا يحلُّ إِلا بالذَّكاة.

الثاني: نجس يُعْفَى عن يسيره، وهو دم الآدمي وكلُّ ما ميتته نجسة، ويُستثنى منه دَمُ الشَّهيد عليه، والمسك ووعاؤه، وما يبقى في الحيوان بعد خروج روحه بالذَّكاة الشَّرعيَّة؛ لأنَّه طاهر.

الثالث: طاهر، وهو أنواع:

1 -

دم السمك، لأن ميْتته طاهرة، وأصل تحريم الميتة من

(1)

في باب نواقض الوضوء، ص (271، 272) .....

ص: 439

أجل احتقان الدَّمِ فيها، ولهذا إِذا أُنهِرَ الدَّمُ بالذَّبْح صارت حلالاً.

2 -

دم ما لا يسيل دمه؛ كدم البعوضة، والبقِّ، والذُّباب، ونحوها، فلو تلوَّث الثَّوب بشيء من ذلك فهو طاهر، لا يجب غَسْلُه

(1)

.

وربما يُستدَلُّ على ذلك ـ بأنَّ ميْتة هذا النوع من الحشَرات طاهرة ـ بقوله صلى الله عليه وسلم: «إِذا وَقَع الذُّبابُ في شرابِ أحدكم، فلْيَغْمِسْهُ، ثم لينزِعْهُ، فإِن في أحد جناحَيه داء، وفي الآخر شفاء»

(2)

.

ويلزم من غَمْسِه الموت إِذا كان الشَّراب حارًّا، أو دُهناً، ولو كانت ميْتته نجسة لتنجَّس بذلك الشَّراب، ولا سيَّما إِذا كان الإِناء صغيراً.

3 -

الدَّمُ الذي يبقى في المذكَّاة بعد تذكِيَتِها، كالدَّمِ الذي يكون في العُروق، والقلب، والطِّحال، والكَبِد، فهذا طاهر سواء كان قليلاً، أم كثيراً.

4 -

دَمُ الشَّهيد عليه طاهر، ولهذا لم يأمُر النبيُّ صلى الله عليه وسلم، بغَسْل الشُّهداء من دمائهم

(3)

، إِذ لو كان نجساً لأمر النبيُّ بغسله.

وهل هو طاهر لأنَّه دم شهيد، وهذا ما ذهب إليه الجمهور

(4)

، أم أنَّه طاهر لأنه دم آدمي؟.

(1)

انظر: «نيل الأوطار» (1/ 77).

(2)

تقدم تخريجه، ص (95).

(3)

تقدم تخريجه، ص (150).

(4)

انظر: «أحكام القرآن» للقرطبي (2/ 221)، «الفروع» (1/ 252، 253) .....

ص: 440

فعلى رأي الجمهور: لو انفصل عن الشَّهيد لكان نجساً. وعلى الرأي الثَّاني: هو طاهر؛ لأنَّه دم آدمي.

والقول بأن دم الآدمي طاهر ما لم يخرج من السَّبيلَين قول قويٌّ، والدَّليل على ذلك ما يلي.

1 -

أنَّ الأصل في الأشياء الطَّهارة حتى يقوم دليل النَّجاسة، ولا نعلم أنَّه صلى الله عليه وسلم أمَر بغسل الدَّمِ إِلا دم الحيض، مع كثرة ما يصيب الإِنسان من جروح، ورعاف، وحجامة، وغير ذلك، فلو كان نجساً لبيَّنه صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّ الحاجة تدعو إلى ذلك.

2 -

أنَّ المسلمين ما زالوا يُصلُّون في جراحاتهم في القتال، وقد يسيل منهم الدَّمُ الكثير، الذي ليس محلاًّ للعفو، ولم يرد عنه صلى الله عليه وسلم الأمرُ بغسله، ولم يَرِدْ أنهم كانوا يتحرَّزون عنه تحرُّزاً شديداً؛ بحيث يحاولون التخلِّي عن ثيابهم التي أصابها الدَّم متى وجدوا غيرها.

ولا يُقال: إِن الصَّحابة رضي الله عنهم كان أكثرهم فقيراً، وقد لا يكون له من الثياب إِلا ما كان عليه، ولا سيَّما أنهم في الحروب يخرجون عن بلادهم فيكون بقاء الثِّياب عليهم للضَّرورة.

فيُقال: لو كان كذلك لعلمنا منهم المبادرة إِلى غسله متى وجدوا إِلى ذلك سبيلاً بالوصول إِلى الماء، أو البلد، وما أشبه ذلك.

3 -

أنَّ أجزاء الآدميِّ طاهرة، فلو قُطِعَت يده لكانت طاهرة مع أنَّها تحمل دماً؛ ورُبَّما يكون كثيراً، فإِذا كان الجزء من الآدمي الذي يُعتبر رُكناً في بُنْيَة البَدَن طاهراً، فالدَّم الذي ينفصل منه ويخلفه غيره من باب أولى.

ص: 441

4 -

أنَّ الآدمي ميْتَته طاهرة، والسَّمك ميْتته طاهرة، وعُلّل ذلك بأن دم السَّمك طاهر؛ لأن ميتته طاهرة، فكذا يُقال: إِن دم الآدمي طاهر، لأن ميتته طاهرة.

فإِن قيل: هذا القياس يُقابل بقياس آخر، وهو أنَّ الخارجَ من الإِنسان من بولٍ وغائطٍ نجسٌ، فليكن الدَّم نجساً .........

فيُجاب: بأن هناك فرقاً بين البول والغائط وبين الدَّمِ؛ لأنَّ البول والغائط نجس خبيث ذو رائحة منتنة تنفر منه الطِّباع، وأنتم لا تقولون بقياس الدَّم عليه، إِذ الدَّم يُعْفَى عن يسيره بخلاف البول والغائط فلا يُعْفَى عن يسيرهما، فلا يُلحق أحدُهما بالآخر.

فإِن قيل: ألا يُقاس على دَمِ الحيض، ودم الحيض نجس، بدليل أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أَمَرَ المرأة أن تَحُتَّه، ثم تقرُصَه بالماء، ثم تَنْضِحَه، ثم تُصلِّي فيه

(1)

؟.

فالجواب: أن بينهما فرقاً:

أ- أن دم الحيض دم طبيعة وجِبِلَّة للنساء، قال صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ هذا شيءٌ كتبه اللَّهُ على بنات آدم»

(2)

، فَبَيَّنَ أنه مكتوب كتابة قَدريَّة كونيَّة، وقال صلى الله عليه وسلم في الاستحاضة:«إِنَّه دَمُ عِرْقٍ»

(3)

ففرَّق بينهما.

ب- أنَّ الحيضَ دم غليظ منتنٌ له رائحة مستكرهة، فيُشبه البول والغائط، فلا يصحُّ قياس الدَّم الخارج من غير السَبيلَين على الدَّم الخارج من السَّبيلَين، وهو دم الحيض والنِّفاس والاستحاضة.

(1)

تقدم تخريجه، ص (29).

(2)

تقدم تخريجه، ص (328).

(3)

رواه البخاري، كتاب الحيض: باب عرق الاستحاضة، رقم (327)، ومسلم، كتاب الحيض: باب المستحاضة وغسلها وصلاتها، رقم (333) من حديث عائشة.

ص: 442

فالذي يقول بطهارة دم الآدمي قوله قويٌّ جداً؛ لأنَّ النَّصَّ والقياس يدُلاّن عليه.

والذين قالوا بالنَّجاسة مع العفو عن يسيره حكموا بحكمين:

أ- النَّجاسة.

ب- العفو عن اليسير.

وكُلٌّ من هذين الحُكْمَين يحتاج إِلى دليل، فنقول: أثبتوا أولاً نجاسة الدَّمِ، ثم أثبتوا أنَّ اليسير معفوٌّ عنه، لأنَّ الأصل أنَّ النَّجس لا يُعْفَى عن شيء منه، لكن من قال بالطَّهارة، لا يحتاج إِلا إِلى دليل واحد فقط، وهو طهارة الدَّم وقد سبق

(1)

.

فإِن قيل: إِنَّ فاطمة رضي الله عنها كانت تغسل الدَّمَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم في غزوة أُحُد

(2)

، وهذا يدلُّ على النَّجاسة.

أُجيب من وجهين:

أحدهما: أنَّه مجرَّد فِعْل، والفعل المجرَّد لا يدلُّ على الوجوب.

........

الثاني: أنه يُحتَمَل أنَّه من أجل النَّظافة؛ لإِزالة الدَّم عن الوجه، لأنَّ الإِنسان لا يرضى أن يكون في وجهه دم، ولو كان يسيراً، فهذا الاحتمال يبطل الاستدلال.

‌من حيوانٍ طاهرٍ ............

قوله: «من حيوانٍ طاهرٍ» ، الحيوانات قسمان: طاهر، ونجس.

فالطَّاهر:

1 -

كلُّ حيوان حلال كبهيمة الأنعام، والخَيل، والظِّباء، والأرانب ونحوها.

(1)

انظر: ص (441، 442).

(2)

رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير: باب لبس البيضة، رقم (2911)، ومسلم، كتاب الجهاد والسير: باب غزوة أُحد، رقم (1790) من حديث سهل بن سعد .........

ص: 443

2 -

كلُّ ما ليس له دم سائل فهو طاهر في الحياة، وبعد الموت، وسبق أن الدَّمَ من هذا الجنس طاهر

(1)

.

والنَّجس: كل حيوان محرَّم الأكل؛ إِلا الهِرَّة وما دونها في الخِلْقة فطاهر على المذهب؛ لحديث أبي قتادة رضي الله عنه أنَّه قُدِّمَ إِليه ماء ليتوضَّأ به، فإِذا بِهرَّة فأصغى لها الإِناء حتى شربت، ثم قال: إِن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال في الهِرَّة: «إِنها ليست بِنَجَسٍ، إِنَّها من الطَّوَّافين عليكم والطَّوَّافات»

(2)

.

وسواء كان ما دون الهرة من الطوَّافين، أم لم يكن من الطَّوَّافين، حتى ولو كان لا يوجد في البيوت أبداً.

ولكن ظاهر الحديث: أن طهارتها لمشَقَّة التَّحرُّز منها؛ لكونها من الطوَّافين علينا؛ فيكثر تردُّدها علينا، فلو كانت نجسة؛ لَشقَّ ذلك على النَّاس.

وعلى هذا يكون مناطُ الحُكْمِ التَّطْوَافُ الذي تحصُل به المشقَّة بالتَّحرُّز منها، فكل ما شقَّ التَّحرُّز منه فهو طاهر.

فعلى هذا؛ البغل والحمار طاهران، وهذ هو القول الرَّاجح الذي اختاره كثير من العلماء

(3)

.

‌وعَنْ أَثَرِ استجمارٍ بِمَحَلِّه،

........

قوله: «وعَنْ أَثَرِ استجمارٍ بِمَحَلِّه» ، أي: يُعفى عن أثر استجمار بمحلِّه.

والمراد: الاستجمار الشَّرعي، الذي تَمَّت شروطُه، وقد

(1)

انظر: ص (440).

(2)

تقدم تخريجه: ص (90).

(3)

انظر: «مجموع الفتاوى» (21/ 520)، «المغني» (1/ 68)، «الإنصاف» (2/ 354).

ص: 444

سبق ذلك في باب الاستنجاء

(1)

.

فإِذا تَمَّتْ شروطُه، فإِنَّ الأثر الباقي بعد هذا الاستجمار يُعْفَى عنه في محلِّه، ولا يطهُر المحلُّ بالكُليَّة إِلا بالماء.

....

والدَّليل على هذا: أنه ثبت عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم الاقتصار على الاستجمار

(2)

في التَّنَزُّه من البول والغائط.

وعليه؛ فإِذا صلَّى الإِنسان وهو مستجمِر؛ لكنه قد توضَّأ؛ فصَلاته صحيحة، ولا يُقال: إِن فيه أثر النَّجاسة، لأن هذا الأثر معفوٌّ عنه في محلِّه.

ولو صلَّى حاملاً من استجمَر استجماراً شرعيًّا لعُفِيَ عنه أيضاً.

وعُلِم من قوله: «بمحلِّه» أنه لو تجاوز محلَّه لم يُعْفَ عنه، كما لو عَرِقَ وسال العَرَقُ، وتجاوز المحلَّ، وصار على سراويله أو ثوبه، أو صفحتي الدُّبر، فإِنه لا يُعْفَى عنه حينئذ، لأنه تعدَّى محلَّه.

وعُلِمَ من كلامه رحمه الله أنَّ الاستجمار لا يُطَهِّر، وأن أثره نجس، لكن يُعْفَى عنه في محلِّه.

والصَّحيح: أنه إِذا تَمَّتْ شروط الاستجمار، فإِنه مطَهِّر.

والدَّليل قوله صلى الله عليه وسلم في العظم والرَّوث: «إِنَّهما لا يُطَهِّران»

(3)

، وإِسناده جيد.

(1)

انظر: ص (129 ـ 136).

(2)

تقدم تخريجه، ص (130 ـ 131).

(3)

تقدم تخريجه، ص (133).

ص: 445

فقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يُطَهِّران» ، يدلُّ على أن الاستجمار بما عداهما ـ مما يباح به الاستجمار ـ يُطهِّر.

وبناءً على هذا القول ـ الذي هو الرَّاجح ـ لو تعدَّى محلَّه، وعَرِقَ في سراويله فإِنه لا يكون نجساً، لأنَّ الاستجمار مطهِّر، لكنَّه عُفي عن استعمال الماء تيسيراً على الأمة.

فهذان اثنان مما يُعْفَى عنهما:

1 -

يسير الدَّم النَّجس من حيوان طاهر.

2 -

أثر الاستجمار بمحلِّه.

وظاهر كلامه: أنه لا يُعفَى عن يسير شيء مما سواهما، فالقَيء مثلاً لا يُعْفَى عن يسيره، وكذلك البول، والرَّوث.

وللعلماء ـ رحمهم الله تعالى ـ في هذه المسألة أقوال

(1)

:

القول الأول: أنَّه لا يُعفَى عن اليسير مطْلقاً.

القول الثَّاني: المذهب على التَّفصيل السَّابق.

القول الثَّالث: أنه يُعفَى عن يسير سائر النَّجاسات.

............

وهذا مذهب أبي حنيفة

(2)

، واختيار شيخ الإِسلام ابن تيميَّة

(3)

ولا سيَّما ما يُبتلَى به النَّاس كثيراً كبعر الفأر، وروثه، وما أشبه ذلك، فإِنَّ المشقَّة في مراعاته، والتطهُّر منه حاصلة، والله تعالى يقول:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78].

(1)

انظر: «مجموع الفتاوى» (21/ 16 ـ 19)، «الإنصاف» (2/ 317 ـ 321).

(2)

انظر: «حاشية ابن عابدين» (1/ 316 ـ 325).

(3)

انظر: «الاختيارات» ص (26).

ص: 446

وكذلك أصحاب الحيوانات التي يمارسونها كثيراً، كأهل الحمير مثلاً، فهؤلاء يشقُّ عليهم التحرُّز من كُلِّ شيء.

والصَّحيح: ما ذهب إِليه أبو حنيفة، وشيخ الإِسلام، لأنَّنا إِذا حكمنا بأن هذه نجِسة، فإِمَّا أن نقول: إِنَّه لا يُعفَى عن يسيرها كالبول والغائط؛ كما قال بعض العلماء، وإِما أن نقول بالعَفْوِ عن يسير جميع النَّجاسات، ومن فرَّق فعليه الدَّليل.

فإِن قيل: إِنَّ الدَّليلِ فِعْلُ الصَّحابة حيث كانوا يُصلُّون بثيابهم، وهي ملوَّثة بالدَّم من جراحاتهم.

فنقول: إِنَّه دليل على ما هو أعظم من ذلك وهو طهارة الدَّمِ.

ومن يسير النَّجاسات التي يُعْفَى عنها لمشَقَّةِ التَّحرُّز منه: يسير سَلَسِ البول لمن ابتُلي به، وتَحفَّظ تحفُّظاً كثيراً قدر استطاعته.

‌ولا يَنجُسُ الآدمِيُّ بالمَوْتِ.

قوله: «ولا يَنجُسُ الآدمِيُّ بالمَوْتِ» ، الآدمي: مَنْ كان من بني آدم من مؤمن، وكافر، وذكر، وأنثى، وصغير، وكبير، فإِنه لا يَنْجُسُ بالموت.

1 -

لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «إِن المؤمن لا يَنجُسَ»

(1)

.

2 -

قوله صلى الله عليه وسلم فيمن وَقَصَتْه ناقته: «اغسلوه بماءٍ وسِدْر»

(2)

.

3 -

قوله صلى الله عليه وسلم لمن غَسَّلن ابنته: «اغسلنها ثلاثاً، أو خمساً، أو سبعاً، أو أكثر من ذلك إِن رأيتنَّ ذلك»

(3)

.

(1)

تقدم تخريجه، ص (25).

(2)

تقدم تخريجه، ص (151).

(3)

تقدم تخريجه، ص (309).

ص: 447

........

وهذا يدلُّ على أن بَدَنَ الميْت ليس بِنَجِس، لأنَّه لو كان نجساً لم يُفِد الغسل فيه شيئاً، فالكلب مثلاً لو غسَلْتَه ألف مرَّة لم يطهر؛ ولولا أن غسل بَدَنِ الميْت يؤثِّر فيه بالطَّهارة لكان الأمْرُ بغسله عبثاً.

فإِن قيل: إِن هذا ظاهر في المؤمن أنَّه لا يَنْجُس، أما بالنسبة للمشرك فكيف يُقال: لا يَنْجُس، والله يقول:{إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28].

فالجواب: أنَّ المراد بالنَّجاسة هنا النَّجاسة المعنويَّة؛ بدليل أنَّ الله تعالى أباح لنا أن نتزوَّج نساء أهل الكتاب، وأن نأكل طعامهم، مع أنَّ أيديهم تلامسه؛ والإِنسان يلامس زوجته إِذا كانت من أهل الكتاب، ولم يَرِدْ أَمْرٌ بالتَّطَهُّر مِنْهنَّ؛ وهذا هو القول الصَّحيح.

وقال بعض العلماء: إن الكافر يَنجُس بالموت

(1)

، واستدلُّوا بما يلي:

1 -

منطوق الآية السَّابقة.

2 -

مفهوم الحديث السَّابق.

3 -

أنه لا يُغَسَّل، وإِذا كان لا يُغَسَّل، فالعِلَّة فيه أنه نَجِسُ العين، وما كان نَجِس العين فإِن التَّغسيل لا يفيد فيه.

ورُدَّ هذا: بأن المراد بالنَّجس في الآية النَّجاسة المعنويَّة؛ للأدلَّة التي استدلَّ بها من قال بطهارة بَدَنِ الكافر، وكذلك يُجاب عن مفهوم حديث:«إِن المؤمن لا يَنجُس» . وأما عَدَم تغسيله: فلأن تغسيل الميت إِكرام؛ والكافر ليس محلًّا للإِكرام.

(1)

انظر: «الإنصاف» (2/ 338).

ص: 448

‌وما لا نَفْسَ له سائِلَةٌ مُتَولِّد مِنْ طَاهرٍ .......................

قوله: «وما لا نَفْسَ له سائِلَةٌ متَولِّد مِنْ طاهر» ، الصَّواب في قوله:«متولِّد» من حيث الإِعراب أن يكون «متولداً» بالنَّصب لأنّه حال، ولهذا قدَّر في «الروض» مبتدأ ليستقيمَ الرَّفع فقال:«وهو متولِّد»

(1)

.

وقوله: «نَفْس» ، أي: دم. وقوله: «سائلة» ، أي: يسيل إِذا جُرِح، أو قُتِل.

وقوله: «متولِّد من طاهر» ، أي مخلوق من طاهر.

فاشترط المؤلِّف رحمه الله شرطين:

الأول: ألا يكون له نَفْس سائلة.

............

الثاني: أن يكون متولِّداً من طاهر، فهذا لا يَنْجُس بالموت، وكذلك لا يَنْجُس في الحياة من باب أَوْلَى.

مثال ذلك: الصَّراصير، والخنفساء، والعقرب، والبَقُّ (صغار البعوض)، والبعوض، والجراد.

فإِذا سَقَطَتْ خنفساء في ماء وماتت فيه، فلا يَنْجُس؛ لأنها طاهرة.

وأما الوزغُ؛ فقد قال الإِمام أحمد رحمه الله تعالى: «إِنَّ له نَفْساً سائلة»

(2)

، وعلى هذا تكون ميتته نَجِسَة، والفأرة لها نَفْس سائلة، فإِذا ماتت فهي نَجِسَة.

ومفهوم قوله: «متولِّد من طَاهرٍ» ، أنَّه إِذا تولَّد من نَجِسٍ فهو نَجِسٌ، وهذا مبنيٌّ على أنَّ النَّجس لا يطهُر بالاستحالة.

(1)

انظر: «الروض المربع» (1/ 103).

(2)

انظر: «الإنصاف» (2/ 343، 344).

ص: 449

وأمَّا على قول من يقول: بأنَّ النَّجس يطهر بالاستحالة

(1)

، فإِن ميتته طاهرة؛ وعليه فلا يشترط أن يكون متولِّداً من طاهر.

فصراصير الكُنُفِ (المراحيض) ـ على المذهب ـ نجسة؛ لأنها متولِّدة من نجس، وعلى القول الثَّاني طاهرة (849).

‌وبَوْلُ ما يُؤكَلُ لَحْمُهُ، وَرَوْثُه،

..............................

قوله: «وبَوْلُ ما يُؤكَلُ لَحْمُهُ، وَرَوْثُه» ، يعني: أنه طاهر. كالإِبل، والبقر، والغنم، والأرانب، وما شابه ذلك.

والدَّليل على ذلك ما يلي:

1 -

أنه صلى الله عليه وسلم أمر العُرنيين أن يلحقوا إِبل الصَّدقة، ويشربوا من أبوالها وألبانها

(2)

، ولم يأمرهم بغسل الأواني، ولو كانت نجسة لم يأذن لهم بالشُّرْبِ، ولأَمَرَهُمْ بغسل الأواني منها.

2 -

أنه صلى الله عليه وسلم أَذِنَ بالصَّلاة في مرابِضِ الغنم

(3)

، وهي لا تخلو من البول، والرَّوث.

3 -

البراءة الأصلية، فمن ادَّعى النَّجاسة في أيِّ شيء فعليه الدَّليل، فالأصل الطَّهارة.

فإِن قيل: ما الجواب عن حديث ابن عباس في قصَّة صاحب القَبْرَين، وفيه:«أما أحدهما فكان لا يستتر من البول»

(4)

، والبول عام سواء جعلنا «أل» للجنس، أو للاستغراق، فإِن ذلك يدُّل على نجاسة البول؟.

(1)

انظر: «الإنصاف» (2/ 299).

(2)

تقدّم تخريجه، ص (306).

(3)

رواه مسلم، كتاب الحيض: باب الوضوء من لحوم الإِبل، رقم (360)، من حديث جابر بن سمرة.

(4)

متفق عليه، وقد تقدَّم تخريجه، ص (133).

ص: 450

........

وكذلك ما الجواب عن نهي النبيِّ صلى الله عليه وسلم عن الصَّلاة في مَعاطِنِ الإِبل، فإِن هذا يدلُّ على نجاستها أيضاً؟.

فالجواب عن حديث ابن عباس أن قوله: «من البول» ، أي بول نفسه. «فأل» للعهد الذِّهني، والدَّليل على ذلك أنَّه في بعض ألفاظ الحديث عند البخاري:«أما أحدهما فكان لا يستبرئ من بوله»

(1)

، وهذا نَصٌّ صريح فَيُحْمَل الأوَّل عليه.

وأما النَّهي عن الصَّلاة في معاطِن الإِبل، فالعِلَّة في النَّهي ليست هي النَّجاسة، ولو كانت العِلَّة النَّجاسة لم يكن هناك فرق بين الإِبل والغنم، ولكن العِلَّة شيء آخر.

فقيل: إن هذا الحكم تعبُّدي، يعني: أنه غير معلوم العِلَّة

(2)

.

وقيل: يُخشَى أنه إِذا صلَّى في مباركها أن تَأْوي إِلى هذا المبرك وهو يصلِّي، فَتُشوِّش عليه صلاته لِكِبَر جسمها، بخلاف الغنم

(3)

. وقيل: إنها خُلِقت من الشَّياطين (855) كما ورد بذلك الحديث

(4)

. وليس المعنى أنَّ أصل مادَّتها ذلك، ولكن المعنى أنها خُلِقت من الشَّيطنة، وهذا كقوله تعالى:{خُلِقَ الإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء: 37]، وليس المعنى أن مادة الخَلْق من عجل، لكن هذه طبيعته، كما قال تعالى:{وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولاً} [الإِسراء: 11].

(1)

تقدّم تخريجه، ص (133).

(2)

انظر: «مجموع الفتاوى» (19/ 41)، «شرح منتهى الإرادات» (1/ 155).

(3)

انظر: «مجموع الفتاوى» (21/ 320)، «فتح الباري» (1/ 527، 580).

(4)

تقدم تخريجه ص (301)، من حديث البراء بن عازب.

ص: 451

وكذا ورد وإِن كان ضعيفاً: «أن على ذروة كُلِّ بعير شيطاناً»

(1)

، فيكون مأوى الإِبل مأوى للشياطين، فهذا يشبه النهي عن الصلاة في الحمَّام؛ لأن الحمَّام مأوى الشياطين.

فإن قيل: إِن النبي صلى الله عليه وسلم أباح شرب أبوال الإِبل للضَّرورة، والضَّرورات تُبيح المحظورات؟.

فالجواب من وجوه:

الأول: أن الله لم يجعل شفاء هذه الأُمَّة فيما حَرَّم عليها

(2)

.

(1)

ن حديث عبد الرحمن بن أبي عميرة به مرفوعاً.

قال البوصيري: «رواه مسدد ورجاله ثقات. وعبد الرحمن بن أبي عميرة مختلف في صحبته» . «مختصر إِتحاف السادة المهرة» رقم (2858).

قلت: عبد الرحمن بن أبي عميرة أثبت له الصحبة أبو حاتم والبخاري وابن سعد وابن السكن وابن حبان وابن حجر وغيرهم. انظر «الإصابة» (4/ 287) ط/دار الكتب، «التقريب» ص (593، 1254) ط/دار العاصمة.

وله شاهد من حديث أبي لاس الخزاعي رواه أحمد (4/ 221)، والطبراني في «الكبير» (22/رقم 837، 838) والحاكم (1/ 144) وضعّف ابن حجر والبوصيري سنده؛ لأن فيه ابن إسحاق: مدلس ولم يصرح بالتحديث، «الفتح» ، شرح ترجمة حديث رقم (1468)، «مختصر إتحاف السادة المهرة» رقم (2859).

قال الهيثمي: «رواه أحمد والطبراني بأسانيد رجال أحدها رجال الصحيح، غير محمد بن إسحاق وقد صرّح بالسماع» ، المجمع (10/ 131).

قلت: ابن إسحاق قد صرَّح بالتحديث عند أحمد والطبراني في «الكبير» (22/ رقم 838).

(2)

لقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرَّم عليكم» ، رواه أحمد في «الأشربة» رقم (159)، والطبراني (23/ رقم 749)، وابن حبان رقم (1391) من حديث أم سلمة. وفيه حسان بن مخارق لم يوثقه إلا ابن حبان.

ورواه البخاري، كتاب الأشربة: باب شراب الحلوى والعسل، رقم (5614) موقوفاً على عبد الله بن مسعود تعليقاً بصيغة الجزم.

ص: 452

الثاني: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يأمرهم بِغَسْل الأواني بعد الانتهاء من استعمالها، إِذ لا ضرورة لبقاء النَّجاسة فيها.

........

الثالث: القاعدة العامة: «لا ضرورة في دواء» . ووجه ذلك: أن الإِنسان قد يُشفَى بدونه، وقد لا يُشفَى به.

‌ومَنِيّه، ومنيّ الآدَميّ،

............

قوله: «ومَنِيّه» ، أي: منيُّ ما يُؤكل لحمه، أي: طاهر. وعُلم من كلامه أن له مَنِيّاً، والدَّليل على ذلك قوله تعالى:{وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِنْ مَاءٍ} [النور: 45].

وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ} [الأنبياء: 30].

وإذا كان بَوْلُه، ورَوْثه طاهرين، فمَنِيُّه من باب أَولَى، ولأنَّ المنِيَّ أصلُ هذا الحيوان الطَّاهر فكان طاهراً.

قوله: «ومنيُّ الآدمَيّ» ، أي: طاهر. والمنِيُّ: هو الذي يَخْرج من الإِنسان بالشَّهْوة، وهو ماء غليظ، وَصَفَهُ الله تعالى بقوله:{أَلَمْ نَخْلُقْكُّمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ *} [المرسلات]، أي: غليظ لا يسيل من غلظه، بخلاف الماء الذي يسيل، فهو ماء ليس بِمَهين، بل مُتَحرِّك، وهذا الماء خُلِقَ مِنْه بنو آدم عليه السلام، قال تعالى:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ *ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ *} [المؤمنون].

فَمِن هذا الماء خُلِق الأنبياء، والأولياء، والصِّدِّيقون،

ص: 453

والشُّهداء، والصَّالحون، ولنا في تقرير طهارته ثلاث طُرُق:

1 -

أنَّ الأصل في الأشياء الطَّهارة، فَمَن ادَّعى نجاسة شيء فَعَلَيْه الدَّليل.

2 -

أن عائشة رضي الله عنها كانت تَفرُك اليابس من مَنِيِّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم

(1)

، وتَغْسِل الرَّطب منه

(2)

، ولو كان نَجِساً ما اكتفت فيه بالفَرْكِ، فقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم في دَمِ الحيض يُصيب الثَّوب، قال:«تَحُتُّه، ثمَّ تَقْرُصُه بالماء، ثمَّ تَنْضِحُه، ثمَّ تصلِّي فيه»

(3)

. فلا بُدَّ من الغَسْل بعد الحتِّ، ولو كان المنيُّ نجساً كان لا بُدَّ من غَسْله، ولم يُجْزِئ فَرْكُ يابِسِه كدَمِ الحيض.

3 -

أن هذا الماء أصل عِبَاد الله المخلصين من النَّبيين، والصِّدِّيقين، والشُّهداء، والصَّالحين، وتأبى حكمة الله تعالى، أن يكون أصل هؤلاء البَررة نَجِساً.

ومرَّ رجل بعالمين يتناظران، فقال: ما شأنكما؟ قال: أحاول أن أجعل أَصْلَه طاهراً، وهو يحاول أن يجعل أصْلَه نجِساً؛ لأن أحدهما يرى طهارة المنيِّ، والآخر يرى نجاسته.

وقد عَقَد ابنُ القيم رحمه الله في كتابه «بَدائعُ الفَوائدِ»

(4)

(1)

رواه مسلم، كتاب الطهارة: باب حكم المني، رقم (288).

(2)

رواه البخاري، كتاب الوضوء: باب غسل المني وفركه وغسل ما يصيب من المرأة، رقم (229، 230).

وباب إذا غسل الجنابة أو غيرها فلم يذهب أثره، رقم (231، 232)، ومسلم، كتاب الطهارة: باب حكم المني، رقم (289).

(3)

تقدّم تخريجه ص (29).

(4)

انظر: «بدائع الفوائد» (3/ 119 ـ 126).

ص: 454

مناظرة بين رَجُلَين أحدهما يرى طهارة المنيِّ، والآخر يرى نجاسته، وهي مناظرة مفيدة لطالب العلم.

فإن قيل: لماذا لا يُقال: بأنه نجس كفَضَلات بني آدم من بول، وغائط؟.

فالجواب:

1 -

أنه ليس جميع فضلات بني آدم نجسة، فَرِيقُهُ، ومخاطه، وعَرَقُه كلُّه طاهر.

....

2 -

أنَّ هناك فَرْقاً بين البول، والغائط، والمنيِّ. فالبول والغائط فَضْلَةُ الطَّعام والشَّراب، وله رائحة كريهة مستخْبَثَة في مشامِّ الناس ومناظِرِهم، فكان نجساً، أما المنيُّ فبالعكس فهو خلاصة الطَّعام والشَّراب، فالطَّعام والشَّراب يتحوَّل أولاً إِلى دَمٍ، وهذا الدَّم يسقي الله تعالى به الجسم، ولهذا يمرّ على الجسم كلِّه، ثم عند حدوث الشَّهوة يتحوَّل إِلى هذا الماء الذي يُخلَق منه الآدميُّ، فالفرق بين الفضْلَتَين من حيثُ الحقيقةُ واضح جدًّا، فلا يمكن أن نُلحِق إِحداهما بالأخرى في الحكْم، هذه فضلة طيِّبَة طاهرة خلاصة، وهذه خبيثة مُنْتِنَة مكْروهة.

وقوله: «ومنيّ الآدمِيِّ» مفهومه أنَّ منيَّ غير الآدميِّ نجس، ولكن هذا المفهوم لا عموم له، أي: أنه لا يخالف المنطوق في جميع الصُّور، لأنه يصدق بالمخالفة في صورة واحدة من الصُّور، وإِن كان في الباقي موافقاً، وعلى هذا فمنيُّ غير الآدميّ إِن كان من حيوان طاهر البول والرَّوث فهو طاهر، وإِن كان من حيوان نجس البول والرَّوث فهو نجس.

ص: 455

والدَّليل على ذلك: أنَّ بوله وروثه نجس، فكذا مَنِيُّه؛ لأنَّ الكُلَّ فضلة.

فإن قيل: الآدميُّ بوله وروثه نجس، فليكن منيُّه نجساً؟.

فالجواب: أنَّه قام الدَّليل على طهارة مَنِيِّ الآدميِّ بخلاف غيره، وقال بعض العُلماء: ما كان طاهراً في الحياة فمنيُّه طاهر

(1)

، ولا يصحّ قياس المنيِّ على البول والرَّوث، بل هو من جنس العَرَقِ، والرِّيق، وما أشبه ذلك.

‌ورُطُوبَةُ فرجِ المرْأَةِ،

.......................................

قوله: «وَرُطُوبَةُ فرجِ المرْأَةِ» ، أي: طاهرة. واخْتُلِفَ في هذه المسألة.

فقال بعض العلماء: إنها نجسة

(2)

، وتُنَجِّسُ الثِّياب إِذا أصابتها، وعلَّلُوا: بأن جميع ما خرج من السَّبيل، فالأصل فيه النَّجاسة إِلا ما قام الدَّليل على طهارته.

....

وفي هذا القول من الحرج والمشقَّة ما لا يعلمه إِلا الله تعالى، خصوصاً مَنِ ابتُلِيَتْ به من النِّساء؛ لأنَّ هذه الرُّطوبة ليست عامَّة لكُلِّ امرأة، فبعض النِّساء عندها رطوبة بالغة تخرج وتسيل، وبعض النِّساء تكون عندها في أيام الحمل، ولا سيَّما في الشُّهور الأخيرة منه، وبعض النساء لا تكون عندها أبداً.

وقال بعض العلماء: إِنها طاهرة، وهو المذهب (864).

وعلَّلوا: بأن الرَّجل يُجامع أهله، ولا شَكَّ أنَّ هذه الرُّطوبة

(1)

انظر: «الإنصاف» (2/ 346، 347).

(2)

انظر: «الإِنصاف» (2/ 353) .....

ص: 456

سوف تَعْلَق به، ومع ذلك لا يجب عليه أن يغسلَ ذكره، وهذا كالمُجمع عليه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى يومنا هذا عند النَّاس، ولا يُقالُ بأنها نجسة ويُعفى عنها؛ لأنَّنا إِذا قلنا ذلك احتجنا إِلى دليل على ذلك.

فإِن قيل: إِن الدَّليل المشقَّة، وربما يكون ذلك، وتكون هي نجسة، ولكن للمشقَّة من التحرُّز عنها يُعْفَى عن يسيرها كالدَّم، وشبهه مما يَشُقُّ التحرُّز منه.

ولكنَّ الصَّوابَ الأوَّلُ، وهو أنها طاهرة، ولبيان ذلك نقول: إِن الفرجَ له مجريان:

الأولُ: مجرى مسلك الذَّكر، وهذا يتَّصل بالرَّحم، ولا علاقة له بمجاري البول ولا بالمثانة، ويخرج من أسفل مجرى البول.

الثَّاني: مجرى البول، وهذا يَتَّصِلُ بالمثانة ويخرج من أعلى الفرج.

فإِذا كانت هذه الرُّطوبةُ ناتجةً عن استرخاء المثانة وخرجت من مجرى البول، فهي نجسةٌ، وحكمها حكم سلس البول.

وإِذا كانت من مسلك الذَّكر فهي طاهرة، لأنها ليست من فضلات الطعام والشراب، فليست بولاً، والأصل عدم النَّجاسة حتى يقومَ الدليل على ذلك، ولأنَّه لا يلزمه إِذا جامع أهله أن يغسل ذكره ولا ثيابه إِذا تلوَّثت به، ولو كانت نجسة للزم من ذلك أن ينْجُسَ المنيُّ، لأنَّه يتلوَّث بها.

وهل تنقض هذه الرُّطوبةُ الوُضُوءَ؟.

....

ص: 457

أما ما خرج من مسلك البول، فهو ينقضُ الوُضُوء، لأنَّ الظَّاهر أنَّه من المثانة.

وأما ما خرج من مسلك الذَّكر: فالجمهور: أنه ينقض الوُضُوء

(1)

.

وقال ابن حزم: لا ينقض الوُضُوء

(2)

، وقال: بأنه ليس بولاً ولا مذياً، ومن قال بالنَّقض فعليه الدَّليل، بل هو كالخارج من بقية البدن من الفضلات الأخرى. ولم يذكر بذلك قائلاً ممن سبقه.

والقول بنقض الوُضُوء بها أحوط.

فيُقال: إِن كانت مستمرَّة، فحكمها حكم سلس البول، أي: أن المرأة تتطهَّر للصلاة المفروضة بعد دخول وقتها، وتتحفَّظُ ما استطاعت، وتُصلِّي ولا يضرُّها ما خرج.

وإِن كانت تنقطع في وقت معيَّن قبل خروج الصَّلاة فيجب عليها أن تنتظرَ حتى يأتيَ الوقتُ الذي تنقطع فيه؛ لأنَّ هذا حكم سلس البول.

فإن قال قائل: كيف تنقض الوُضُوء وهي طاهرة؟

فالجواب: أن لذلك نظيراً، وهو الرِّيح التي تخرج من الدُّبُر، تنقض الوُضُوء مع كونها طاهرة.

‌وسُؤْرُ الهِرَّةِ، وما دُونَها في الخِلْقَةِ: طاهرٌ.

قوله: «وسؤرُ الهِرَّة وما دونها في الخِلْقَة طاهر» ، السُّؤر:

(1)

انظر: «المغني» (1/ 230)، «المجموع شرح المهذب» (2/ 6).

(2)

انظر: «المحلَّى» (1/ 255).

ص: 458

بقيَّة الطَّعام والشَّراب، ومنه كلمة سائر؛ بمعنى الباقي.

والدَّليل قوله صلى الله عليه وسلم في الهِرَّة: «إِنَّها ليست بنجس، إِنَّها من الطَّوَّافين عليكم والطَّوَّافات»

(1)

.

فحكم بأنها ليست بنجس، والطَّهارة والنَّجاسة نقيضان فيلزم منه أنها طاهرة؛ إِذ ليس بعد النجاسة إِلا الطَّهارة.

وقوله صلى الله عليه وسلم: «إِنها ليست بنجس، إِنها من الطَّوَّافين عليكم والطَّوَّافات» (867).

الطَّوَّافُ من يُكثر التَّرداد، ومنه الطَّوَاف بالبيت، لأنَّ الإِنسان يكثر الدَّوران عليه.

وقوله: «وما دونها في الخِلْقَة طاهر» . والدَّليل: القياس على الهِرَّة .....

والقياس: إِلحاق فرع بأصل في حكمٍ لِعِلَّة جامعة. وإِذا كانت العِلَّة في الهِرَّة هي التَّطواف وجب تعليق الحكم به؛ لأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يعلِّل بكونها صغيرة الجسم، ولو علَّل بذلك لقلنا به وجعلناه مَنَاط الحكم. فكون العِلَّة صغر الجسم غير صحيح؛ لأنه إِثبات علَّة لم يعلِّل بها الشَّارع، وإِلغاءٌ لِعِلَّة علَّل بها الشَّارع، فالعلَّة هي التَّطواف، وهي علَّةٌ معلومة المناسبة، وهي مشقَّة التَّحرُّز، فيجب أن يُعلَّق الحكم بها.

وأيضاً: لو أردنا أن نقيس قياساً تامًّا؛ على تقدير كون العلَّة صغر الجسم، لوجب أن نقول: سؤر الهرَّة، ومثلها في

(1)

تقدم تخريجه ص (90).

ص: 459

الخلقة طاهر، لا أن نقول: وما دونها، لأن الفرع لا بُدَّ أن يكون مساوياً للأصل، ولا يظهر قياس ما دونها عليها قياساً أولوياً.

وظاهر كلامه: أن ما كان قَدْرها من السِّباع التي لا تؤكل نجس.

والرَّاجح: أن العِلَّة التي يجب أن تُتَّبع مَا علَّل به النبيُّ صلى الله عليه وسلم وهي: أنَّها من الطَّوافين علينا.

وعلى هذا: كلُّ ما يكثر التطواف على الناس؛ مما يشقُّ التَّحرُّز منه فحكمه كالهرَّة.

لكن يُستثنى من ذلك ما استثناه الشَّارع، وهو الكلب، فهو كثير الطَّواف على النَّاس، ومع ذلك قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:«إذا ولغ الكلب في إِناء أحدكم، فليغسله سبعاً إِحداهن بالتُّراب»

(1)

.

‌وسِبَاعُ البهائِم والطَّيْرِ، والحمارُ الأَهْلِيُّ، والبَغْلُ منه: نَجِسَةٌ.

قوله: «وسباع البهائم» ، يعني: نجسة.

وسباع البهائم: هي التي تأكل وتفترس كالذِّئبِ، والضَّبُعِ، والنَّمِر، والفَهْدِ، وابن آوى، وابن عُرس، وما أشبه ذلك مما هو أكبر من الهِرَّة.

قوله: «والطير» ، أي: وسباع الطَّير كالنسر، التي هي أكبر من الهرة.

قوله: «والحمارُ الأهليُّ» ، احترازاً من الحمار الوحشيِّ، لأن الوحشيَّ حلالُ الأكل فهو طاهر.

(1)

تقدم تخريجه، ص (416).

ص: 460

وأما الأهليُّ فهو محرَّمٌ نجِسٌ كما في حديث أنس رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أمر أبا طلحة رضي الله عنه أن يِناديَ يومَ خيبر: «إِنَّ الله وَرسولَه ينهيانكم عن لحوم الحُمُر الأهليَّة، فإِنها رجس أو نجس»

(1)

.

قوله: «والبغل منه: نَجِسةٌ» ، أي: من الحمار الأهليِّ، والبغل: دابَّة تتولَّد من الحمار إِذا نَزَا على الفرس.

وتعليل ذلك: تغليب جانب الحظر؛ لأن هذا البغل خُلِقَ من الفرس والحمار الأهليِّ، على وجه لا يتميَّز به أحدهما عن الآخر؛ فلا يمكن اجتناب الحرام إِلا باجتناب الحلال.

فإِن كان من حمار وحشيٍّ، كما لو نزا حمارٌ وحشيٌّ على فرس، فإِن هذا البغل طاهرٌ، لأن الوحشيَّ طاهرٌ، والفرسَ طاهرٌ، وما يتولَّدُ من الطاهر فهو طاهر.

وإذا كانت هذه الأشياء نجسة، فإن آسارَها ـ أي بقية طعامها وشرابها ـ نجسة.

فلو أن حماراً أهليًّا شرب من إِناء، وبقي بعد شربه شيء من الماء، فإِنه نجس على كلام المؤلِّف.

وذهب كثيرٌ من أهل العلم إِلى أن آسار هذه البهائم طاهرةٌ إِذا كانت كثيرةَ الطَّواف علينا

(2)

.

(1)

رواه البخاري، كتاب الذبائح والصيد: باب لحوم الحمر الإِنسية، رقم (5528)، ومسلم، كتاب الصيد والذبائح: باب تحريم أكل لحم الحمر الإنسية، رقم (1940).

(2)

انظر: «المغني» (1/ 68)، «مجموع الفتاوى» (21/ 520، 621) ......................

ص: 461

وعلَّلوا: بأن هذا يشقُّ التَّحرُّز منه غالباً، فإِنَّ النَّاس في البادية تكون أوانيهم ظاهرةً مكشوفةً، فتأتي هذه السِّباعُ فتردُ عليها، وتشرب. فلو ألزمنا النَّاس بوجوب إراقة الماء، ووجوب غسل الإِناء بعدها لكان في ذلك مشقَّة.

والأحاديثُ في ذلك فيها شيء من التَّعارض. فبعضها يدلُّ على النَّجاسة، وبعضها يدلُّ على الطَّهارة ....

فممَّا وَرَدَ يدلُّ على الطَّهارة، حديث القُلَّتين الذي رواه ابن عمر رضي الله عنهما أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عن الماء، وما ينوبُه من السِّباع؟ فقال:«إِذا بلغ الماء قُلَّتين لم يحمل الخَبَث»

(1)

، ولم يقل بأن هذه طاهرة، بل جعل الحكم منوطاً بالماء، وأنه إِذا بلغ قُلَّتين لم يحمل الخبث، فدلَّ ذلك على أن ورود هذه السِّباع على الماء يجعله خبيثاً لولا أن الماء بلغ قلتين.

وفيه أحاديث أخرى، وإن كان فيها ضعف، لكن لها عِدَّة طرق تدلُّ على أن آسار البهائم طاهرة، حيث سُئِلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال:«لها ما حملت في بطونها، ولنا ما غَبَرَ طَهور»

(2)

، وهذا يدلُّ على الطهارة.

ويمكن الجمع بين الحديثين، فيُقالُ: إِن كان الماء كثيراً لا

(1)

تقدم تخريجه، ص (40).

(2)

رواه ابن ماجه، كتاب الطهارة: باب الحيض، رقم (519)، والطَّحاوي في «شرح المشكل» رقم (2647)، والدارقطني (1/ 31)، والبيهقي (1/ 258).

قال الطحاوي بعد روايته: «ليس من الأحاديث التي يحتج بمثلها، لأنه إنما دار على عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وحديثه عند أهل العلم بالحديث في النهاية من الضعف» . وضعفه كذلك البيهقي والبوصيري وغيرهما.

ص: 462

يتغيَّر بالشُّرب فلا بأس به، ويكون طَهوراً. وإِن كان يسيراً، وتغيَّر بسبب شربها منه؛ فإِنه نجس.

وقال ابن قدامة رحمه الله: إِنَّ الحمار والبغل طاهران

(1)

؛ لأنَّ الأمة تركبهما، ولا يخلو ركوبهما من عَرَقٍ، ومن مطر ينزل، وقد تكون الثياب رطبة، أو البدن رطباً، ولم يأمر النبيُّ صلى الله عليه وسلم أمَّته بالتحرُّز من ذلك. وهذا هو الصَّحيح.

وعلى هذا فسؤرهما، وعرقهما، وريقهما، وما يخرج من أنفهما طاهر، وهذا يؤيِّد ما سبق أنْ ذكرناه في حديث أبي قتادة في الهِرَّة

(2)

، فإِن الحمار بلا شكٍّ من الطَّوافين علينا، ولا سيَّما أهل الحُمُر الذين اعتادوا ركوبها، فالتحرُّز منها شاقٌّ جدًّا.

فإِن قيل: الكلاب أيضاً لمن له اقتناؤها كصاحب الزَّرع، والماشية والصَّيد، يكثر تطوافها عليهم؟

فالجواب: أنَّ الكلاب فيها نصٌّ أخرجها وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «إِذا ولغ الكلب

»، الحديث

(3)

.

وهذا يدلُّ على نجاسة سؤر الكلب، حتى وإِن كان من الطَّوَّافين .....

(1)

انظر: «المغني» (1/ 68).

(2)

تقدم تخريجه، ص (90).

(3)

تقدم تخريجه، ص (416) .............

ص: 463

‌بابُ الحَيْضِ

هذا الباب من أصعب أبواب الفقه عند الفقهاء، وقد أطالوا فيه كثيراً.

وفيما يبدو لنا أنَّه لا يحتاج إِلى هذا التَّطويل والتفريعات والقواعد التي أطال بها الفقهاء رحمهم الله والتي لم يكن كثيرٌ منها مأثوراً عن الصَّحابة رضي الله عنهم.

فالمرأة إذا جاءها الحيض تركت الصَّلاة ونحوها، وإِذا طَهُرَتْ منه صلَّت، وإِذا تنكَّر عليها لم تجعله حيضاً.

فقواعده في السُّنَّة يسيرة جدًّا، ولهذا كانت الأحاديث الواردة فيه غير كثيرة.

ولكن بما أننا نقرأ كلام الفقهاء، فيجب علينا أن نعرف ما قاله الفقهاء رحمهم الله في هذا الباب، ثم نعرضه على كتاب الله وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، فما وافق الكتاب والسُّنَّة أخذناه، وما خالفهما تركناه، وقلنا: غفر الله لقائله.

الحيض في اللُّغة: السَّيلان، يُقال: حَاضَ الوادي إِذا سال.

وفي الشَّرع: دم طبيعة يصيب المرأة في أيام معلومة إِذا بلغت. خلقه الله تعالى لحكمة غذاء الولد، ولهذا لا تحيض الحامل في الغالب، لأن هذا الدَّم ـ بإِذن الله ـ ينصرف إِلى الجنين عن طريق السُّرَّة، ويتفرَّق في العروق ليتغذَّى به، إِذ إِنه لا يمكن أن يتغذَّى بالأكل والشُّرب في بطن أمه، لأنه لو تغذَّى بالأكل والشُّرب

ص: 464

لاحتاج غذاؤه إلى الخروج. هكذا قال الفقهاء

(1)

رحمهم الله.

والحيض دم طبيعة، ليس دماً طارئاً أو عارضاً، بل هو من طبيعة النساء لقول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها:«إِنَّ هذا أَمْرٌ كتبه اللَّهُ على بنات آدم»

(2)

أي كتبه قَدَراً، بخلاف الاستحاضة فهي دم طارئ عارض كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم في الاستحاضة:«إِنها دَمُ عِرْق»

(3)

. فإِذا عرف الإِنسان أنه مكتوب عليه وعلى غيره، فإِنَّه يهون عليه.

والدِّماء التي تصيب المرأة أربعةٌ: الحيضُ، والنِّفاس، والاستحاضةُ، ودَمُ الفساد، ولكلٍّ منها تعريفٌ وأحكامٌ كما سيأتي إِن شاء الله تعالى.

فالحيض دمُ طبيعةٍ كما سبق، وهل له حدٌّ في السِّنِّ، ابتداءً وانتهاءً، وكذا في الأيام؟.

المعروف عند الفقهاء أنَّ له حدًّا. والصَّحيح: أنَّه ليس له حدٌّ.

‌لَا حَيْضَ قَبْلَ تسعِ سِنين،

............

قوله: «لا حَيضَ قبل تسع سنين» ، أي: لا حيض شرعاً قبل

(1)

وقال أهل الطب: يستعدُّ جسمُ المرأة كلَّ شهر للحمل، فتتضخَّمُ بطانةُ جدار الرَّحم وتحتقنُ بالدَّم؛ استعداداً لتلقِّي البويضة الملقَّحة كي تُعشعش فيها، فإِذا لم يحدث التلقيح والحمل انكمشت البطانةُ المحتقنة بالدَّم وانسلخت، ثم تتساقط من الفرج. فيحدث ما يُعرف بالحيض. انظر:«القرار المكين» للدكتور: مأمون الشقفة ص (41 ـ 48).

(2)

رواه البخاري، كتاب الحيض: باب الأمر بالنُّفساء إِذا نُفِسْنَ، رقم (294)، ومسلم، كتاب الحج، باب إحرام النفساء، رقم (1211) من حديث عائشة.

(3)

تقدم تخريجه، ص (442).

ص: 465

تسع سنين، فإِن حاضت قبل تمام التِّسع فليس بحيض، حتى وإِن حاضت حيضاً بالعادة المعروفة، وبصفة الدَّم المعروف، فإنه ليس بحيض، بل هو دم عِرْق، ولا تثبت له أحكامُ الحيض.

وقوله: «قبل تسع سنين» أي انتهاؤها، فإِذا حاضت من لها تسعٌ، فليس بحيض، وبعد التِّسع حيض.

ومن المأثور عن الشَّافعي رحمه الله: أنه رأى جَدَّة لها إِحدى وعشرون سنة

(1)

.

ويُتصوَّر هذا بأن تحيض لتسع سنين، وتلد لعشر، وبنتها تحيض لتسع، وتلد لعشر، فهذه عشرون سَنَة، وسَنَة للحمل، فتضع مولوداً، فهذه إِحدى وعشرون سَنَة.

‌ولا بَعْدَ خَمْسِينَ،

..............

قوله: «ولا بعد خمسين» ، أي ولا حيض بعد تمام خمسين سنة، فلو أنَّ امرأة استمرَّ بها الحيض على وتيرة وطبيعة واحدة بعد تمام الخمسين فليس بحيض.

مثاله: امرأة تُتِمُّ خمسين سنة في شهر ربيع الأول، وفي شهر ربيع الثاني جاءها الحيض على عادتها، فعلى كلام المؤلِّف ليس بحيض، لأنَّه لا حيض بعد الخمسين.

ولا فرق عندهم بين المرأة الأعجميَّة، ولا العربيَّة، ولا الصَّحيحة، ولا المريضة، ولا المرأة التي تأخَّر ابتداءُ حيضها، ولا التي تقدَّم.

(1)

أخرجه البيهقي في «السنن» (1/ 319) وتعقَّبه ابن التركماني بقوله: «في سنده أحمد بن طاهر بن حرملة، قال الدارقطني: كذَّاب، وقال ابن عدي: حدَّث عن جده عن الشافعي بحكايات بواطيل يطول ذكرها» ، وهذه الحكاية من جملتها.

ص: 466

واستدلُّوا على ذلك: بأن هذا ليس معروفاً عادة، فالعادة الغالبةُ ألا تحيض قبل تمام تسعِ سنين، ولا بعد خمسين سنة.

والعادة والغالب لها أثرٌ في الشَّرع، فالرَّسولُ صلى الله عليه وسلم قال للمستحاضة:«امكُثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك»

(1)

، فَرَدَّها إِلى العادة.

وقال شيخُ الإِسلام

(2)

، وابنُ المنذر، وجماعةٌ من أهل العلم

(3)

:

إِنه لا صحَّة لهذا التَّحديد، وأن المرأة متى رأت الدَّم المعروف عند النِّساء أنه حيض؛ فهو حيض؛ صغيرةً كانت أم كبيرةً، والدَّليل على ذلك ما يلي:

1 -

عموم قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيْضِ قُلْ هُوَ أَذىً} [البقرة: 222]، فقوله:{قُلْ هُوَ أَذىً} حكمٌ معلَّقٌ بِعلَّة، وهو الأذى، فإِذا وُجِدَ هذا الدَّمُ الذي هو الأذى ـ وليس دم العِرْق ـ فإِنَّه يُحكمُ بأنه حيضٌ.

وصحيحٌ أن المرأة قد لا تحيضُ غالباً إلا بعد تمام تسع سنين، لكن النِّساء يختلفن، فالعادةُ خاضعةٌ لجنس النِّساء، وأيضاً للوراثة، فمن النساء من يبقى عليها الطُّهر أربعة أشهر، ويأتيها الحيض لمدَّة شهر كامل، كأنه ـ والله أعلم ـ ينحبس، ثم يأتي جميعاً.

(1)

رواه البخاري، كتاب الحيض: باب الاستحاضة، رقم (306)، ومسلم، كتاب الحيض: باب المستحاضة وغسلها وصلاتها، رقم (334)، من حديث عائشة.

(2)

انظر: «مجموع الفتاوى» (19/ 237، 240)، «الاختيارات» ص (28).

(3)

انظر: «المغني» (1/ 389)، «المجموع شرح المهذَّب» (2/ 373).

ص: 467

ومن النِّساء من تحيض في الشهر ثلاثة أيام، أو أربعة، أو خمسة، أو عشرة.

2 -

قوله تعالى: {وَاللَاَّّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَاَّّئِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4]، أي: عِدَّتهن ثلاثةُ أشهر، ولم يقل: واللائي قبل التسع أو بعد الخمسين، بل قال: واللائي يئسن من المحيض واللائي لم يحضن، فالله سبحانه رَدَّ هذا الأمر إِلى معقول معلَّل، فوجب أن يثبت هذا الحكم بوجود هذه الأمور المعقولة المعلَّلة، وينتفي بانتفائها، والمرأة التي حاضت في آخر شهر من الخمسين، وأوَّل شهر من الحادية والخمسين غير آيسة، فهو حيضٌ مطَّردٌ بعدده وعدد الطُّهر بين الحيضات ولا اختلاف فيه، فمن يقول بأنَّ هذه آيسة؟!.

والله علَّق نهاية الحيض باليأس، وتمام الخمسين لا يحصُل به اليأس إِذا كانت عادتُها مستمرَّةٌ، فتبيَّن أنَّ تحديد أوَّله بتسع سنين، وآخره بخمسين سَنَة لا دليل عليه.

فالصَّواب: أنَّ الاعتماد إِنَّما هو على الأوصاف، فالحيض وُصِفَ بأنَّه أذى، فمتى وُجِدَ الدَّمُ الذي هو أذىً فهو حيض.

فإِن قيل: هل جرت العادة أن يذكر القرآن السَّنوات بأعدادها؟.

فالجواب: نعم، قال تعالى:{حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} [الأحقاف: 15]، ولو كانت مدَّة الحيض معلومة بالسَّنوات لبيَّنه الله تعالى، لأنَّ التَّحديدَ بالخمسين أوضحُ من التحديد بالإِياس.

ص: 468

‌ولا مع حَمْلٍ،

............

قوله: «ولا مع حَمْلٍ» ، أي: لا حيض مع الحمل، أي حال كونها حاملاً. والدَّليل من القرآن، والحسِّ.

أما القرآن: فقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]، وقال تعالى:{وَاللَاَّّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَاَّّئِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4]، أي: عدتهن ثلاثة أشهر.

وقال تعالى: {وَأُولَاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4]، فدلَّ هذا على أنَّ الحامل لا تحيض، إِذ لو حاضت، لكانت عِدَّتها ثلاث حِيَضٍ، وهذه عِدَّة المطلقة.

وأما الحِسُّ: فلأَنَّ العادة جرت أنَّ الحامل لا تحيض، قال الإِمام أحمد رحمه الله:«إِنما تعرف النساء الحمل بانقطاع الدَّم»

(1)

.

وقال بعض العلماء: إِن الحامل قد تحيض إِذا كان ما يأتيها من الدَّم هو الحيض المعروف المعتاد

(2)

.

واستدلُّوا: بما أشرنا إِليه من أنَّ الحيض أذىً، فمتى وُجِدَ هذا الأذى ثبت حكمه.

وأما إِلغاء الاعتداد بالحيض بالنسبة للحامل، فليس من أجل أنَّ ما يصيب المرأة من الدَّم ليس حيضاً، ولكن لأنَّ الحيض لا يصحُّ أن يكون عدةً مع الحمل، لأن الحمل يقضي على ما عداه

(1)

انظر: «المغني» (1/ 444).

(2)

انظر: «مجموع الفتاوى» (19/ 239)، «الإنصاف» (2/ 389).

ص: 469

من العِدد، إِذ يُسمَّى عند الفقهاء رحمهم الله «أمُّ العِدد»

(1)

، ولهذا لو مات عن امرأته، ووضعت بعد ثلاث ساعات أو أقلَّ من موته، فإِن العِدَّة تنقضي، بينما المُتوفَّى عنها زوجُها بلا حمل عِدَّتها أربعة أشهر وعشر، فلو حاضت الحامل المطلَّقة ثلاث حِيَضٍ مطَّردة كعادتها تماماً، فإِنَّ عدَّتها لا تنقضي بالحيض.

ولذا كان طلاق الحامل جائزاً، ولو وطئها في الحال، لأنها تَشْرَعُ في العِدَّة من فور طلاقها، فليس لها عِدَّةُ حيضٍ، ويقع عليها الطَّلاق.

فالرَّاجح: أن الحامل إِذا رأت الدَّم المطَّرد الذي يأتيها على وقته، وشهره؛ وحاله؛ فإِنه حيضٌ تترك من أجله الصَّلاة، والصَّوم، وغير ذلك، إِلا أنه يختلف عن الحيض في غير الحمل بأنه لا عِبْرَة به في العِدَّة، لأن الحمل أقوى منه.

والحيض مع الحمل يجب التحفُّظ فيه، وهو أنَّ المرأة إِذا استمرت تحيضُ حيضَها المعتاد على سيرته التي كانت قبل الحمل فإِنَّنا نحكم بأنه حيض.

أما لو انقطع عنها الدَّم، ثم عاد وهي حاملٌ، فإِنَّه ليس بحيضٍ.

‌وأقَلُّهُ يومٌ وليلةٌ، وأَكْثَرُه خَمْسَةَ عَشَرَ يوماً،

..........

قوله: «وأقلُّه يومٌ وليلة» ، يعني: أقلَّ الحيض يومٌ وليلةٌ، والمراد أربعٌ وعشرون ساعة. هذا أنهى شيء في القلَّة، فلو أنها رأت الحيض لمدَّة عشرين ساعة وهو المعهود لها برائحته، ولَونه،

(1)

انظر: «المغني» (11/ 226، 227)، «إعلام الموقعين» (2/ 66).

ص: 470

وثخونته، فليس حيضاً، فما نَقَصَ عن اليوم والليلة، فليس بحيض. هذا المذهب.

واستدلُّوا: بأن العادة لم تجرِ أن يوجد حيضٌ أقلُّ من يوم وليلة، فإِذا لم يوجد عادة، فليكن أقلُّه يوماً وليلة.

وهذا ليس بدليل، لأن من النِّساء من لا تحيض أصلاً، ومنهن من تحيض ساعات ثم تطهر، فالصحيح: أنه لا حَدَّ لأقلِّه.

قوله: «وأكثَرُه خَمْسَةَ عَشَرَ يوماً» ، أي: أكثر الحيض، وهذا المذهب.

واستدلُّوا: بالعادة، وهو أن العادة أن المرأة لا يزيد حيضها على خمسة عشر يوماً، ولأنَّ ما زاد على هذه المدَّة فقد استغرق أكثر الشهر، ولا يمكن أن يكون زمن الطُّهر أقلَّ من زمن الحيض.

فإِذا كان سِتَّة عشر يوماً، كان الطُّهر أربعة عشر يوماً، ولا يمكن أن يكون الدَّم أكثر من الطُّهر، وعند العلماء أن الدَّم إِذا أطبق على المرأة وصار لا ينقطع عنها، فإِنها تكون مستحاضة، فأكثر الشَّهر يجعل له حُكْم الكُلِّ، ويكون الزَّائد على خمسة عشر يوماً استحاضة، فكلُّ امرأة زاد دمها على خمسة عشر يوماً يكون استحاضة.

وإِذا سَأَلت المرأة عن دم أصابها لمدَّة عشرين ساعة، هل تقضي ما عليها من الصَّلاة التي تركتها في هذه المدَّة؟.

فالجواب: عليها القضاء؛ لأنَّ هذا ليس بحيض، فهي قد جلست في زمن طُهْر.

ص: 471

وإِذا سَأَلت عن دم زاد على خمسة عشر يوماً؟

فالجواب أن نقول: إِنك مستحاضة، فلا تجلسي هذه المدَّة، وما ليس بحيض مما هو دون اليوم والليلة، أو مع الحمل، فليس استحاضة، ولكن له حُكم الاستحاضة، ومن الفقهاء من يُطْلِق عليه بأنَّه دَمُ فساد

(1)

.

والصَّحيح في ذلك أيضاً: أنه لا حَدَّ لأكثره؛ فمن النِّساء من تكون لها عادة مستقرَّة سبعة عشر يوماً؛ أو ستة عشر يوماً، فما الذي يجعل الدَّم الذي قبل الغروب من اليوم الخامس عشر حيضاً، والدَّم الذي بعد الغروب بدقيقة واحدة استحاضة مع أن طبيعته ولونه وغزارته واحدة، فكيف يقال: إِنه بمضيِّ دقيقة أو دقيقتين تحوَّل الدَّم من حيض إِلى استحاضة بدون دليل. ولو وُجِدَ دليل على ما قالوا لسَلَّمنا.

فإِذا كان لها عادة مستمرَّة مستقرَّة سبعة عشر يوماً ـ مثلاً ـ قلنا: هذا كله حيض.

أما لو استمرَّ الدَّم معها كُلَّ الشَّهر؛ أو انقطع مدَّة يسيرة كاليوم واليومين، أو كان متقطِّعاً يأتي ساعات، وتطهُر ساعات في الشَّهر كلِّه، فهي مستحاضة؛ وحينئذ نعاملها معاملة المستحاضة كما سيأتي إِن شاء الله تعالى

(2)

.

‌وغَالِبُهُ ستٌّ، أو سَبْعٌ، وأَقَلُّ الطُّهرِ بين الحَيضَتَيْن ثَلاثَة عَشَرَ يوماً ............

قوله: «وغَالِبُهُ ستٌّ، أو سَبْعٌ» ، أي غالب الحيض ستُّ ليال أو سبع.

(1)

انظر: «مجموع الفتاوى» (21/ 631، 632).

(2)

انظر ص (486).

ص: 472

وهذا صحيح؛ لثبوت السُّنَّة به؛ حيثُ قال صلى الله عليه وسلم للمستحاضة: «فَتَحيَّضِي ستَّة أيَّامٍ، أو سبعة أيَّام في علم الله، ثم اغتسلي»

(1)

.

وهذا أيضاً هو الواقع، فإِنه عند غالب النساء يكون ستًّا، أو سبعاً.

قوله: «وأَقَلُّ الطُّهرِ بين الحَيْضَتَين ثَلاثَة عشَرَ يوماً» ، وكذا لو أتاها بعد عشرة أيام بعد طُهْرِها، فليس بحيض، فما تراه قبل ثلاثة عشر يوماً ليس بحيض، لكن له حُكْم الاستحاضة.

والدَّليل على ذلك: ما رُويَ عن عليِّ رضي الله عنه أن امرأة جاءت، وقالت: إِنها انْقَضَت عدَّتُها في شهر، فقال علي لشُرَيحٍ:«اقْضِ فيها» ، فقال:«إِن جاءت ببيِّنة من بطانة أهلها ممن يُعرف دينه وخلقه فهي مقبولة، وإِلا فلا. قال علي: «قالون» أي جيِّد بالرُّومية

(2)

.

(1)

رواه أحمد (6/ 439)، وأبو داود، كتاب الطهارة: باب من قال إِذا أقبلت الحيضة تدع الصلاة: رقم (287)، والترمذي، أبواب الطهارة: باب ما جاء في المستحاضة أنها تجمع بين الصلاتين، رقم (128) وغيرهم.

والحديث وهّنه أبو حاتم الرازي، وقال الدارقطني:«تفرَّد به ابنُ عقيل، وليس بقويٍّ» ، ونحوه قال البيهقي.

قلت: عبد الله بن محمد بن عقيل، قال عنه البخاري:«مقارب الحديث» . قال الذهبي: «حسن الحديث؛ احتجَّ به أحمد وإسحاق» ، «المغني» له (1/رقم 3337).

قال ابن حجر: «صدوق في حديثه لين، ويُقال تغيَّر بأخَرَة» «تقريب» (542). وصحَّح الحديث: أحمد بن حنبل، والترمذي، والنووي، وحسَّنه البخاري.

انظر: «علل الترمذي الكبير» (1/ 187)، «العلل» لابن أبي حاتم (1/ 51) رقم (123)، «الخلاصة» رقم (632)، «التلخيص» رقم (224).

(2)

رواه البخاري معلَّقاً بصيغة التمريض، كتاب الحيض: باب إِذا حاضت في شهر ثلاث حيض. قال ابن حجر: وصله الدارمي ورجاله ثقات.

انظر: «سُنن الدارمي» رقم (854)، «الفتح» شرح ترجمة حديث رقم (325).

ص: 473

لأنَّه إِذا كان لها شهر، وادَّعَتْ انتهاء العِدَّة، فهذا بعيد، فاحتاجت إِلى بيِّنة.

ويُتصوَّر أن تحيض ثلاث مرَّات خلال شهر كما يلي: تحيض يوماً وليلة، وتطهر ثلاثة عشر يوماً، فمضى من الشهر أربعة عشر يوماً، ثم تحيض يوماً وليلة، فبقي الآن أربعة عشر يوماً بالتأكيد، أو خمسة عشر يوماً، ثم طَهُرَتْ ثلاثة عشر يوماً، بقي الآن يوم أو يومان، ثم حاضت يوماً وليلة الحيضة الثالثة، فانتهت العِدَّة، وهذا نادر جدًّا.

والمرأة إِذا ادَّعت انتهاء العِدَّة بالحيض، فإِن كان بزمن معتاد، قُبِلَ قولُها كما لو ادَّعت انتهاء عدَّة الطَّلاق بالحيض بشهرين ونصف، فيُقبَلُ قولُها بلا بينة، لأن الله جعل النِّساء مؤتمنات على عدَدهنَّ فقال:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [البقرة: 228].

ولو ادَّعت مطلَّقةٌ انتهاء العِدَّة بعد ثمانية وعشرين يوماً؛ فهذه تُرَدُّ ولا تُسمَعُ دعواها؛ ولو كانت من أصدق النِّساء؛ لأنَّ هذا مستحيل، مادمنا قعَّدنا قواعد أنَّ أقلَّ الحيض يومٌ وليلةٌ، وأقلَّ الطُّهر بين الحيضتين ثلاثة عشر يوماً، فلا يمكن أن تنقضي بثمانية وعشرين يوماً.

ولو ادَّعت بعد مضيِّ شهر؛ أي: تسعة وعشرين يوماً إِلى ثلاثين انتهاء العِدَّة، فهذه تُسمَعُ دعواها، أي: يَلتفتُ القاضي لها

ص: 474

وينظر في القضية، ولا يقبل قولَها إِلا ببيِّنَةٍ.

والصَّحيح: أنه لا حدَّ لأقلِّ الطُّهر كما اختاره شيخ الإِسلام

(1)

، ومالَ إِليه صاحب «الإِنصاف» ، وقال:«إِنه الصَّواب»

(2)

.

‌ولا حدَّ لأكثرِهِ،

..........

قوله: «ولا حدَّ لأكثره» ، أي: لا حدَّ لأكثر الطُّهر بين الحيضتين، لأنه وُجِدَ من النساء من لا تحيض أصلاً، وهذا صحيحٌ.

‌وتَقْضي الحائِضُ الصَّوْمَ، لا الصَّلاةَ، ولا يَصِحَّان مِنْهَا، بل يَحْرُمَانِ،

............

قوله: «وتقضي الحائض الصَّوم، لا الصَّلاة» ، استفدنا من هذه العبارة أربعةَ أحكام:

الأول: أنَّها لا تصوم.

الثاني: أنَّها لا تُصلِّي.

الثَّالث: أنَّها تقضي الصوم.

الرَّابع: أنَّها لا تقضي الصَّلاة.

أما الأول والثَّاني، فاستفدناهما بدلالة الالتزام والإِشارة؛ لأنَّ من لازم قوله:«تقضي» أنها لم تفعل.

وأما الثَّالث والرَّابع، فاستفدناهما من منطوق كلام المؤلِّف، والدِّلالة عليه من باب دَلالة المطابقة.

والدَّليل عليه ما يلي:

1 -

أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لما سألته النِّساء: وما نُقصانُ ديننا وعقلنا

(1)

انظر: «مجموع الفتاوى» (19/ 237، 240)، «الاختيارات» ص (28).

(2)

انظر: «الإنصاف» (2/ 396).

ص: 475

يا رسول الله؟ قال: «

أليس إِذا حاضت لم تُصَلِّ ولم تَصُمْ؟»، قُلن: بلى، قال:«فذلك من نقصان دينها»

(1)

.

2 -

أن عائشة رضي الله عنها سُئِلتْ ما بَالُ الحائض تقضي الصَّوم، ولا تقضي الصَّلاة؟ قالت:«كان يصيبنا ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فنؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصَّلاة»

(2)

.

3 -

أن الإِجماع قائم على ذلك.

فإِن قيل: ما الحكمة أنَّها تقضي الصَّوم، ولا تقضي الصَّلاة؟.

قلنا: الحكمة قول الرَّسول صلى الله عليه وسلم كما سبق. واستنبط العلماء رحمهم الله لذلك حكمة، فقالوا: إِن الصَّوم لا يأتي في السَّنة إِلا مَرَّةً واحدة، والصَّلاة تتكرَّر كثيراً، فإِيجاب الصَّوم عليها أسهل، ولأنها لو لم تقضِ ما حصل لها صومٌ.

وأمَّا الصَّلاة فتتكرَّر عليها كثيراً، فلو ألزمناها بقضائها لكان ذلك عليها شاقًّا.

ولأنَّها لن تعدم الصَّلاة لتكرُّرِها، فإِذا لم تحصُل لها أوَّل الشَّهر حصلت لها آخره

(3)

.

قوله: «ولا يَصحَّان منها» ، أي: لا يصحُّ منها صومٌ، ولا صلاةٌ. فلو أنها تذكَّرت فائتةً قبل حيضها، ثم قضتها حال الحيض

(1)

رواه البخاري، كتاب الحيض: باب ترك الحائض للصوم رقم (304) واللفظ له، ومسلم، كتاب الإيمان: باب بيان نقصان الإِيمان بنقص الطاعات، رقم (80)، وانظر رقم (79) من حديث أبي سعيد الخدري.

(2)

تقدم تخريجه ص (307).

(3)

انظر: «إعلام الموقعين» (2/ 60).

ص: 476

لم تبرأ ذمَّتُها بذلك، وإِنّما مَثَّلتُ بالفائتة لأنَّها واجبةٌ عليها، أما الحاضرة فليست واجبةً عليها.

وكذا لو قالت: أحبُّ الصَّوم مع النَّاس وأتحفَّظ حتى لا ينزل الدَّم، فصامت؛ فصومُها غيرُ صحيح للحديث السَّابق.

قوله: «بل يحرمان» ، أي: الصَّوم والصَّلاة.

وتعليل ذلك: أنَّ كلَّ ما لا يصح فهو حرام.

قال صلى الله عليه وسلم: «كلُّ شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإِن كان مائة شرط»

(1)

.

‌ويَحْرُمُ وطؤُها في الفَرْج، فإِن فعل فعليه دينارٌ، أو نِصْفُهُ كفَّارةٌ، ويَسْتَمْتِعُ منها بما دُونَه ....

قوله: «ويحرم وطؤها في الفرج» ، أي يحرم وطء الحائض في فرجها.

والحرام: ما نُهِيَ عنه على سبيل الإِلزام بالترك.

وحكمه: يُثاب تاركُه امتثالاً، ويستحقُّ العقابَ فاعلُه.

والدَّليل على تحريم وطء الحائض في الفَرْج:

1 -

قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيْضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222].

والمحيض: مكان وزمان الحيض، أي: في زمنه ومكانه وهو الفَرْج، فما دامت حائضاً فوطؤها في الفَرْج حرام.

2 -

قوله صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية: «اصنعوا كلَّ شيءٍ إِلا

(1)

رواه البخاري، كتاب الشُّروط: باب الشرط في الولاء، رقم (2561، 2562)، ومسلم، كتاب العتق: باب إنما الولاء لمن أعتق، رقم (1504) من حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما.

ص: 477

النِّكاح»

(1)

، أي: إِلا الوَطء.

قوله: «فإِن فعل» ، أي: وَطئها في الفَرْج.

قوله: «فعليه دينار، أو نصفه كفَّارة» ، أي: يجب عليه دينار أو نصفه كفَّارة.

والدِّينار: العُملة من الذَّهب، وزِنةُ الديِّنار الإِسلاميِّ مثقالٌ من الذهب، والمثقالُ غرامان وربع، والجنيه السعودي: مثقالان إِلا قليلاً، فنصف جنيه سعودي يكفي، فيُسأل عن قيمته في السُّوق.

فمثلاً: إِذا كان الجنيه السعودي يساوي مائة ريال، فالواجب خمسون أو خمسة وعشرون ريالاً تقريباً، ويُدفع إِلى الفقراء.

وقوله: «أو نِصْفُه» أو: للتخيير، فيجب عليه أن يتصدَّق بدينار، أو نصفه، لأنَّ الأصل في «أو» أنها للتخيير.

والدَّليل على ذلك: ما رواه أهلُ السُّنن عن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال في الذي يأتي امرأته وهي حائض: «يتصدَّق بدينار أو بنصف دينار»

(2)

.

(1)

رواه مسلم، كتاب الحيض: باب جواز غسل الحائض رأس زوجها .. ، رقم (302) من حديث أنس بن مالك.

(2)

رواه أحمد (1/ 230، 237)، وأبو داود، كتاب الطهارة: باب في إِتيان الحائض، رقم (264)، والنسائي، كتاب الطهارة: باب ما يجب على من أتى حليلته في حال حيضتها بعد علمه بنهي الله عز وجل عن وطئها، رقم (288)(1/ 153)، والترمذي، أبواب الطهارة: ما جاء في الكفارة في إتيان الحائض، رقم (136)، وابن ماجه، كتاب الطَّهارة: باب في كفارة من أتى حائضاً، رقم (640) وغيرهم من حديث ابن عباس.

والحديثُ ضعَّفه البيهقيُّ وتبعه النوويٌّ؛ بسبب الاضطراب في سنده.

وذهب ابن القطان وابن التركماني وابن حجر وغيرهم إلى أن بعضَ رواياته سالمةٌ من الاضطراب.

والحديث صححَّه: الحاكم، وابن القطان، وابن دقيق العيد، وابن تيمية، وابن التركماني، وابن القيم، والخطابي، وابن حجر وغيرهم. واستحسنه أحمد بن حنبل.

انظر: «المستدرك» للحاكم (1/ 171)، «السنن الكبرى» للبيهقي مع «الجوهر النقي» (1/ 314)«بيان الوهم والإيهام» لابن القطان رقم (2468)، «الخلاصة» للنووي رقم (605)، «شرح العمدة» لابن تيمية (1/ 467)، «التلخيص الحبير» رقم (228).

ص: 478

واختلف العلماء في تصحيحه، فصحَّحه جماعةٌ من العلماء حتى قال الإِمام أحمد: ما أحسنه من حديث

(1)

. وقال أبو داود لمَّا رواه: هذه هي الرِّواية الصَّحيحة

(2)

.

وضعَّفه بعض العلماء حتى قال الشَّافعيُّ رحمه الله: «لو ثبت هذا الحديث لَقُلْتُ به»

(3)

. ولهذا كان وجوبُ الكفَّارة من مفردات المذهب، والأئمة الثَّلاثة يرون أنَّه آثم بلا كفارة

(4)

.

والحديثُ صحيحٌ، لأنَّ رجالَه كلَّهم ثقاتٌ، وإِذا صحَّ فلا يضرُّ انفرادُ أحمد بالقول به.

فالصحيح: أنها واجبةٌ، وعلى الأقل نقولُ بالوجوب احتياطاً.

وهل على المرأة كفَّارة؟ سكت المؤلِّفُ عن ذلك.

(1)

انظر: «مسائل الإمام أحمد» ، لأبي داود ص (26).

(2)

انظر: «سنن أبي داود» حديث رقم (264).

(3)

انظر: «المجموع شرح المهذب» (2/ 360).

(4)

انظر: «المغني» (1/ 416)، «الإنصاف» (2/ 377).

ص: 479

فقيل: لا كفارة عليها

(1)

؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال: «يتصدَّقُ بدينار؛ أو نصفه» . وسكت عن المرأة.

وقيل: عليها كفَّارة كالرَّجل إِن طاوعته (902).

وعلَّلوا: بأن الجنايةَ واحدةٌ، فكما أنَّ عليه ألاَّ يقربها، فعليها ألا تمكِّنه، فإِذا مكَّنته فهي راضيةٌ بهذا الفعل المحرَّم فلزمتها الكفَّارة.

وأيضاً: تجب عليها قياساً على بقية الوَطء المحرَّم، فهي إذا زنت باختيارها فإِنه يُقامُ عليها الحدُّ، وإِذا جامعها زوجُها في الحجِّ قبل التَّحلُّل الأول فسد حجُّها، وكذا إِذا طاوعته في الصِّيام فسد صومُها ولزمتها الكفارة.

وسكوتُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم عن المرأة لا يقتضي الاختصاص بالرَّجل، لأن الخطاب الموجَّه للرِّجال يشمَل النِّساء، وبالعكس، إِلا بدليل يقتضي التَّخصيص.

ولا تجب الكفَّارة إِلا بثلاثة شروط:

1 -

أن يكون عالماً.

2 -

أن يكون ذاكراً.

3 -

أن يكون مختاراً.

فإِن كان جاهلاً للتّحريم، أو الحيضِ، أو ناسياً، أو أُكرهت المرأةُ، أو حَصَلَ الحيضُ في أثناء الجماع، فلا كفَّارة، ولا إِثم.

قوله: «ويستمتعُ منها بما دُونه» ، أي يستمتعُ الرَّجل من الحائض بما دون الفَرْج.

(1)

انظر: «الإنصاف» (2/ 380).

ص: 480

فيجوز أن يستمتعَ بما فوق الإِزار، وبما دون الإزار، إِلا أنَّه ينبغي أن تكون متَّزرة؛ لأنَّه صلى الله عليه وسلم كان يأمر عائشة رضي الله عنها أن تَتَّزِرَ فيباشرها وهي حائض

(1)

، وأَمْرُه صلى الله عليه وسلم لها بأن تتَّزِرَ لئلاَّ يَرى منها ما يكره من أثر الدَّم، وإِذا شاء أن يستمتع بها بين الفخذين مثلاً، فلا بأس.

فإِن قيل: كيف تجيب عن قوله صلى الله عليه وسلم لما سُئِلَ ماذا يَحِلُّ للرَّجُل من امرأته وهي حائض؟ قال: «لك ما فوق الإِزار»

(2)

، وهذا يدلُّ على أن الاستمتاع يكون بما فوق الإِزار.

فالجواب عن هذا بما يلي:

(1)

رواه البخاري، كتاب الحيض: باب مباشرة الحائض، رقم (300)، ومسلم، كتاب الحيض: باب مباشرة الحائض فوق الإِزار، رقم (293).

(2)

والبيهقي (1/ 312) عن زيد بن أبي أنيسة، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن عمرو، عن عمير مولى عمر، عن عمر بن الخطاب به. وقد رُوي هذا الحديث من أوجهٍ أخرى عن عاصم بن عمرو؛ هذا أرجحُها. انظر:«العلل» للدارقطني رقم (216). قال البوصيري: مدار الطريقين على عاصم بن عمرو، وهو ضعيف، ذكره العقيلي في «الضعفاء». وقال البخاري: لم يثبت حديثه. قال أبو حاتم الرازي: صدوق، يحوّل من كتاب الضعفاء ـ (الذي للبخاري). وذكره ابن حبان في «الثقات». «تهذيب الكمال» (13/ 534). وقال ابن حجر في «التقريب»: صدوق رُمي بالتشيع. أما عمير؛ فقد ذكره ابن حبان في «الثقات» وقال ابن حجر: مقبول. والحديث: حسَّنه النووي في «الخلاصة» رقم (602). وقال ابن كثير: .. فهذه شواهد تدلُّ على صحة هذا الحديث. «مسند الفاروق» (1/ 128، 129). قال ابن حجر: هذا حديثٌ حسن. «الأمالي الحلبية» له ص (43).

ص: 481

1 -

أنَّه على سبيل التنزُّه، والبعد عن المحذور.

2 -

أنه يُحمَلُ على اختلاف الحال، فقولُه صلى الله عليه وسلم:«اصنعوا كلَّ شيء إِلا النكاح»

(1)

، هذا فيمن يملك نفسه، وقوله صلى الله عليه وسلم:«لك ما فوق الإِزار» ، هذا فيمن لا يملك نفسه إِما لقلَّة دينه أو قوَّة شهوته.

وإِذا استمتع منها بما دون الفَرْج فلا يجب عليه الغُسْل إِلا أن يُنزِلَ. والمرأة إِذا أنزلت وهي حائض استُحِبَّ لها أن تغتسل للجنابة، لئلا يبقى عليها أثر الجنابة، سواء حَدَثت لها الجنابة بعد الحيض كما لو احتلمت، أو كانت على جنابة حين الحيض، هكذا قال العلماء

(2)

، وتستفيد من هذا الغسل استباحة قراءة ما تحتاجه من القرآن كالأوراد والتَّعلُّمِ والتَّعليم.

‌وإِذا انقَطَعَ الدَّمُ، ولم تغتسلْ لم يُبَحْ غَيْرُ الصِّيامِ، والطَّلاقِ.

قوله: «وإِذا انقطع الدَّم ولم تغتسل لم يُبَحْ غير الصيِّام والطَّلاق» .

يعني: إِذا انقطع الدَّمُ ولم تغتسل؛ بقي كلُّ شيء على تحريمه إِلا الصِّيامَ، والطَّلاقَ.

أما الصِّيام فقالوا: لأنها إِذا طَهُرَتْ صارت كالجُنُبِ تماماً، والجُنُبُ يصحُّ منه الصِّيامُ بدلالة الكتاب والسُّنَّة:

فالكتاب قوله تعالى: {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ

(1)

رواه مسلم، كتاب الحيض: باب جواز غُسْل الحائض رأس زوجها

، رقم (302) من حديث أنس.

(2)

انظر: «الإنصاف» (2/ 104، 105).

ص: 482

الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187]، وإِذا جاز الجِمَاع إِلى طُلوع الفجر لزمَ من ذلك أن يصبحَ جُنُباً.

والسُّنَّة ما روته عائشةُ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يصبحُ جُنُباً من جماعٍ غير احتلامٍ، في رمضان ثم يصوم

(1)

.

ولم يذكر المؤلِّف فيما سبق تحريم الطَّلاق، لكن يُفْهَمُ من قوله هنا:«لم يُبَحْ غير الصِّيام والطَّلاق» ، أنه محرَّمٌ.

والدَّليل على جواز الطَّلاق بعد انقطاع الدم قوله صلى الله عليه وسلم: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، ثم لِيُطَلِّقْهَا طاهراً أو حاملاً»

(2)

، والمرأة تَطْهُرُ بانقطاع الدَّم.

فإِن قيل: هل يجوز الجِمَاع؟

فالجواب: لا، والدَّليلُ على هذا قوله تعالى:{وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 222].

فإِن قيل: المرأة إِذا كان عليها جنابةٌ جاز أن تُجَامَعَ قبل الغُسل فكذلك هذه أيضاً؟.

فالجواب: أن هذا قياسٌ في مقابلة النَّصِّ، فلا يُعتَبَرُ.

فإن قيل: المراد بقوله: «تَطَهَّرْنَ» أي: غَسَّلْنَ أثرَ الدَّم؟.

(1)

رواه البخاري، كتاب الصوم: باب اغتسال الصائم، رقم (1931، 1932)، ومسلم، كتاب الصيام: باب صحَّة صوم من طلع عليه الفجرُ وهو جُنُبٌ، رقم (1109).

(2)

ن حديث ابن عمر، واللفظ له.

ص: 483

الجواب: أنَّ هذا قال به بعضُ العلماء كابن حزم رحمه الله

(1)

، ولكن نقول: إن المراد بالتطهُّر هو التطهُّر من الحَدَث، وهذا لا يكون إِلا بالاغتسال، والدَّليل على ذلك قوله تعالى:{وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6]، وقال تعالى:{وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} .

‌والمُبْتَدَأَةُ تَجْلِسُ أَقَلَّه، ثُمَّ تَغْتَسلُ، وتُصَلِّي، فإن انقَطَع لأكْثَره فَمَا دُون، اغْتَسلَتْ عِنْدَ انقطاعِهِ،

...........

قوله: «والمُبْتَدَأةُ تجلس أقلَّه، ثم تغتسلُ وتصلِّي» ، بدأ رحمه الله ببيان الدِّماء التي تكون حيضاً، والتي لا تكون حيضاً.

والمُبْتَدأةُ: هي التي ترى الحيضَ لأوَّل مرَّة، سواءٌ كانت صغيرةً، أم كبيرة لم تحضْ من قبلُ ثم أتاها الحيضُ.

ومعنى قوله: «تجلسُ» ، أي: تدعُ الصَّلاةُ والصِّيام، وكلَّ شيء لا يُفْعَلُ حال الحيض.

وقوله: «أقلَّه» ، أي: أقلَّ الحيض وهو يومٌ وليلةٌ.

وقوله: «ثم تغتسل وتُصلِّي» .

أي: بعد أن يمضي عليها أربعٌ وعشرون ساعة، تغتسلُ وتُصلِّي ولو لم يتوقَّف الدَّمُ.

وعلَّلوا: بأنَّ أقل الحيض هو المتيقَّنُ، وما زاد مشكوكٌ فيه، فيجب عليها أن تجلس أقلَّ الحيض.

وقوله: «وتصلِّي» ، أي: المفروضة. وظاهر كلامه حتى النَّوافل، وهل هذا الظَّاهر مرادٌ؟.

الذي يظهر لي: أنَّه إِنْ كان مراداً فهو ضعيف، لأنَّ صلاتها

(1)

انظر: «المحلَّى» (2/ 172).

ص: 484

الآن من باب الاحتياط، فيجب عليها أن تقتصر على الفرائض، إِذ الأصل أنَّ هذا الدَّمَ دمُ حيض، أمَّا النَّافلة فليس فيها احتياط، لأنَّ الإِنسان لا يأثم بتركها، فلا حاجة للاحتياط فيها.

وعلى هذا ينبغي أن يُحمَلَ قولُه: «وتصلِّي» ، أي: المفروضة، لأنها هي التي يُخشى أن تأثم بتركها بخلاف النَّافلة.

وتصوم الصَّوم الواجب؛ كما لو ابتدأ بها في رمضان؛ فتجلس يوماً وليلة، ثم تصوم من باب الاحتياط.

قوله: «فإِن انقطعَ لأكْثَره فما دُون اغتسلت عند انقطاعه» ، أي: انقطع الدّم لأكثر الحيض كخمسة عشر يوماً، فما دونه كعشرة أيام، إِن لم ينقصْ عن يوم وليلة.

وسنقرِّر المذهب حتى نعرفه، ثم نرجع إِلى القول الرَّاجح.

مثال ذلك: امرأة جلست يوماً وليلةً، ثم اغتسلت، وصارت تُصلِّي وتصوم الواجب، فانقطع لأكثره فأقل، فمثلاً: انقطع لعشرة أيام، فتغتسل مرَّةً أخرى، ولهذا قال:«اغتسلت عند انقطاعه» وهذا على سبيل الوجوب؛ لاحتمال أن يكون الزَّائدُ عن اليوم واللَّيلة حيضاً، فتغتسل احتياطاً، فهنا اغتسلت مرَّتين؛ الأولى عند تمام اليوم واللَّيلة، والثَّانية عند الانقطاع.

ولنفرض أنَّه في شهر «محرَّم» فعلت هذا الشيء؛ فإِذا جاء «صفر» تعمل كما عملت في «محرَّم» ، فإِذا جاء الشهر الثَّالث وهو «ربيعٌ الأولُ» تعمل كما عملت في شهر «محرَّم» تجلس يوماً وليلة، ثم تغتسل وتُصلِّي وتصوم، فإِذا انقطع لعشرة أيام كما ذُكِرَ في المثال اغتسلت أيضاً ثانية وصلَّت، فالآن تكرَّر عليها ثلاثَ مرَّاتٍ.

ص: 485

‌فإنْ تَكرَّرَ ثلاثاً فَحَيْضٌ، وتَقْضِي ما وَجَبَ فيه، وإِن عَبَر أكْثَرَهُ فَمُسْتَحَاضَةٌ، فإن كان بعضُ دَمِهَا أَحْمَرَ، وبعضُه أسْودَ،

.........

قوله: «فإِن تكرَّر ثلاثاً فحيضٌ» ، كما في المثال السَّابق، فتكون عادتُها عشرةَ أيام، لكن ماذا تصنع بالنِّسبة لما بين اليوم والليلة إِلى اليوم العاشر؛ لأنها كانت تُصلِّي فيها وتصوم، وتبيَّن أنَّها أيَّامُ حيض؟

فيُقال: أمَّا بالنِّسبة للصَّلاة فإِنَّها وإِن لم تصحَّ منها؛ فإِنها لا تُقضى، لأنَّ الحائض لا تجب عليها الصَّلاةُ ولا تأثم بفعلها؛ لأنَّها فعلتها تعبُّداً لله واحتياطاً.

وتقضي الصَّوم، لأن تبينَّ أنَّها صامت في أيام الحيض، والصَّوم لا يصحُّ مع الحيض، لو فُرِضَ أنَّ هذا وَقَعَ في رمضان.

قوله: «وتقضي ما وَجَبَ فيه» ، أي: تُقضَى كلُّ عبادة واجبة على الحائض؛ لا تصحُّ منها حال الحيض، كما في المثال السَّابق. وهذه قاعدةٌ.

فإِن قُدِّرَ أن هذا الحيض لم يتكرَّر بعدده ثلاثاً، أي: جاءها أول شهر عشرةٌ، والشهرُ الثاني ثمانيةٌ، والثالث ستةٌ، فالسِّتةُ هنا هي الحيض فقط، ففي الشَّهر الرَّابع إِن تكرَّرت الثمانية ثلاث مرَّات صارت عادتُها ثمانية، وفي الشهر الخامس إِن تكرَّرت العشرة ثلاثاً صارت عادتها عشرة، فما تكرَّر ثلاثاً فهو حَيضٌ.

قوله: «وإِن عَبَر أكثره فمستحاضةٌ» ، «عبر» أي جاوز، «أكثرَه» ، أي: أكثر الحيض وهو خمسة عشر يوماً، «فمستحاضةٌ» ويكون من مُبْتَدَأَة ومُعْتَادة.

مثال المُبْتَدَأة: امرأة جاءها الحيض لأوَّل مرَّة واستمرَّ معها

ص: 486

حتى جاوز الخمسة عشر؛ فهذه المبتدأةُ ليس لها عادةٌ سابقةٌ ترجع إليها، فلا يكون أمامها بالنسبة للاستحاضة إِلا شيئان:

الأول: التَّمييز، وهذه علامةٌ خاصَّة.

الثَّاني: عادة غالب نسائها، وهذه عامَّةٌ، والخاصُّ مقدَّمٌ على العام، والاستحاضة: سيلان دم عِرْقٍ في أدنى الرَّحم يُسمَّى العاذل.

مثل: لو حصل لها جُرح في عِرقٍ، وخرج الدَّم باستمرار، فهذا ليس طبيعيًّا، ولكنه مرضٌ بسبب انفصام أحد العُروق في أدنى الرَّحم.

والحيض: سيلان دَم عِرْقٍ في قعر الرَّحم يُسمَّى العاذر.

ثم بَيَّنَ المؤلِّفُ ـ رحمه الله تعالى ـ التَّمييز فقال:

«فإِن كان بعضُ دمها أحمرَ وبعضه أسودَ» ، هذه علامة من علامات التَّمييز، فيُقال لها: ارجعي إِلى التَّمييز.

والتَّمييزُ: التَّبيُّن حتى يُعرفَ هل هو دُم حيض، أو استحاضة.

والمؤلِّف رحمه الله ذكر علامةً واحدةً وهي اللَّون. والتَّمييز له أربع علامات:

الأولى: اللَّون: فدم الحيض أسودُ، والاستحاضةِ أحمرُ.

الثانية: الرِّقة: فدم الحيض ثخينٌ غليظٌ، والاستحاضةِ رقيقٌ.

الثالثة: الرَّائحة: فدم الحيض منتنٌ كريهٌ، والاستحاضةِ غيرُ منتنٍ، لأنه دَمُ عِرْقٍ عادي.

ص: 487

الرَّابعةُ: التَّجمُّد: فدم الحيض لا يتجمَّد إِذا ظهر، لأنه تجمَّد في الرَّحم، ثم انفجر وسال، فلا يعود ثانية للتجمُّد، والاستحاضة يتجمَّد، لأنه دم عِرْقٍ. هكذا قال بعضُ المعاصرين من أهل الطبِّ، وقد أشار صلى الله عليه وسلم إِلى ذلك بقوله:«إِنه دَمُ عِرْقٍ» ، والمعروف أنَّ دماء العروق تتجمَّد.

‌ولم يَعْبُرْ أَكْثَرَهُ، ولم يَنْقُصْ عن أَقَلِّه فهو حَيْضُها تَجْلسُهُ في الشَّهْرِ الثَّاني، والأحْمَرُ استحاضةٌ، وإن لم يكُنْ دَمُهَا مُتَميِّزاً قَعَدَتْ غالبَ الحَيْضِ من كلْ شهرٍ.

قوله: «ولم يَعبُرْ أكثره» ، أي: لم يتجاوز الأسود أكثر الحيض، لأنه إِذا عَبَرَ أكثرهُ لم يصلُح أن يكونَ حيضاً.

فلو أنَّ امرأةً جاءها الدَّم لمدَّة خمسة وعشرين يوماً، منها عشرون يوماً أسود وخمسةٌ أحمر، فالأسودُ لا يصلح أن يكون حيضاً، لأنَّه تجاوز أكثر الحيض ..

قوله: «ولم يَنْقُصْ عن أَقَلِّه فهو حَيْضُها تَجْلِسُهُ في الشَّهْرِ الثَّاني، والأحْمَرُ استحاضةٌ» ، أي: لم ينقص الأسود عن أقلِّ الحيض. وأقلُّه يوم وليلةٌ، فلو قالت المُبْتَدَأة: إِنَّه أول يوم أصابها الدَّم كان أسود، ثم صار أحمر لمدة عشرين يوماً، فلا ترجع إِلى التَّمييز، لأنَّه لا يصلح أن يكون حيضاً؛ لنقصانه عن يوم وليلة.

وإن قالت: أصابها الدَّم الأسود ستَّةَ أيام، فإِنَّه حيضٌ، لأنَّه لم ينقص عن أقلِّه، ولم يزد على أكثره، والباقي الأحمر استحاضة.

قوله: «وإِنْ لم يكن دَمُهَا متميِّزاً قعدتْ غالبَ الحيضِ» ، قعدت؛ أي: المُبْتَدأةُ.

ص: 488

وغالب الحيض: ستَّة أيام أو سبعةٌ، والدَّليل على ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم: «تحيَّضي في علم الله ستًّا أو سبعاً»

(1)

.

ولأنَّه إِذا تعذَّر علم الشَّيء بعينه رجعنا إِلى جنسه، فهذه المرأة لمَّا تعذَّر علم حيضها بعينها ترجع إِلى بني جنسها.

والأرجح: أن ترجع إِلى عادة نسائها كأختها وأمِّها، وما أشبه ذلك، لا إِلى عادة غالب الحيَّض، لأنَّ مشابهة المرأة لأقاربها أقرب من مشابهتها لغالب النساء.

قوله: «من كلِّ شهر» ، لأن غالب النساء تحيض في الشَّهر مرَّة.

والدَّليل على ذلك قولُه تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]، وقال تعالى:{وَاللَاَّّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَاَّّئِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4].

فجعل اللَّهُ لكلِّ حيضة شهراً، وهذا هو الغالب.

وتبدأ الشَّهر من أوَّل دم أصابها، فإِذا كان أول يوم أصابها الدَّم فيه هو الخامس عشر، فإِنها تبدأ من الخامس عشر، فإِذا قلنا: سبعة أيام، فإِلى اثنين وعشرين، وإِن قلنا: ستة فإِلى واحد وعشرين، وهكذا.

وإِن نسيت ولم تَدْرِ هل جاءها الحيض من أول يوم من الشَّهر، أم في العاشر، أم العشرين، فلتجعلْهُ من أوَّل الشَّهر على سبيل الاحتياط.

(1)

تقدم تخريجه، ص (473).

ص: 489

واعلم: أن هذه الأحكام ليست من أجل الصَّلاة فقط، بل كلُّ الأحكام المترتِّبَة على الحيض تترتَّب على هذه الأيام إِذا حكمنا بأنها أيَّام حيض، وإِذا قلنا بأنها أيام طُهْر يترتَّب على ذلك كلُّ ما يترتَّب على الطُّهر.

والخلاصة: أن المستحاضة المُبْتَدأة تعمل بالتَّمييز، فإِن لم يكن لها تمييزٌ عملت بغالب عادة النساء، فتجلس ستَّة أيَّام أو سبعة من أوَّل وقت رأت فيه الدَّم، فإِن نسيت متى رأته فمن أول كلِّ شهر هلالي، وسبق أنَّ الأرجح أن تعمل بعادة نسائها.

‌والمستَحاضةُ المُعْتَادةُ، ولو مُميِّزة تَجْلِس عادتَها، وإن نسيتها عَملتْ بالتَّمييز الصَّالح،

.........

قوله: «والمستحاضةُ المعتادةُ ولو مميِّزة تجلسُ عادتَها» ، المعتادة: هي التي كانت لها عادةٌ سليمةٌ قبل الاستحاضة، ثم أُصيبتْ بمرض الاستحاضة.

مثال ذلك: امرأةٌ كانت تحيض حيضاً مطَّرداً سليماً ستَّة أيَّام من أوَّل كلِّ شهر، ثم أُصيبت بمرض الاستحاضة؛ فجاءها نزيفٌ يبقى معها أكثر الشَّهر، فهذه مستحاضةٌ معتادة، نقول لها: كلَّما جاء الشَّهر فاجلسي من أول يوم إِلى اليوم السَّادس.

وقوله: «ولو مميِّزة» ، لو: إِشارة خلاف.

أي: هذه المعتادة تجلس العادة، ولو كان دمُها متميِّزاً فيه الحيضُ من غيره.

مثاله: امرأةٌ معتادةٌ عادتها من أول يوم من الشهر إِلى اليوم العاشر؛ لكنها ترى في اليوم الحادي عشر دماً أسود لمدَّة ستَّة أيَّام، والباقي أحمر، فهذه معتادة مميِّزة. فالمشهور من المذهب: أنها تأخذ بالعادة.

ص: 490

واستدلُّوا بقوله صلى الله عليه وسلم لأمِّ حبيبة بنت جحش: «امْكُثي قَدْرَ ما كانت تحبسُكِ حَيْضَتُكِ»

(1)

. فردَّها النبيُّ صلى الله عليه وسلم للعادة، واحتمال وجود التَّمييز معها ممكنٌ، ولم يستفصل النبيُّ صلى الله عليه وسلم. فلمَّا لم يستفصل مع احتمال وجود التَّمييز عُلِمَ أنها ترجع إِلى العادة مطلقاً، وأنَّ المسألة على سبيل العموم، إِذ من القواعد الأصولية المقرَّرة:«أنَّ ترك الاستفصال في مقام الاحتمال يُنَزَّلُ منزلةَ العموم في المقال» .

وذهب الشَّافعيُّ

(2)

، وهو روايةٌ عن أحمد

(3)

: أنها ترجع للتَّمييز. واستدلُّوا بما يلي:

1 -

قوله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ دمَ الحيضِ أسودُ يُعرَفُ»

(4)

، قال هذا

(1)

رواه مسلم، كتاب الحيض: باب المستحاضة وغسلها وصلاتها، رقم (334) من حديث عائشة.

(2)

انظر: «المجموع شرح المهذب» (2/ 431).

(3)

انظر: «الإنصاف» (2/ 412).

(4)

رواه أبو داود، كتاب الطهارة: باب من قال إِذا أقبلت الحيضة تدع الصلاة، رقم (286)، والنسائي، كتاب الطهارة: باب الفرق بين دم الحيض والاستحاضة، (1/ 123)، رقم (215، 216)، وابن حبَّان، رقم (1348)، والدارقطني (1/ 207) وغيرُهم عن ابن أبي عدي، عن محمد بن عمرو، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة به مرفوعاً ..

قال الدارقطني: «رواته كلُّهم ثقات» . وصحَّحه: ابن حبان، والحاكم على شرط مسلم، ووافقه الذهبي.

قال النوويُّ: «صحيحٌ، رواه أبو داود والنسائي بأسانيد صحيحة» ، «الخلاصة» رقم (609).

قلت: كذا قالوا! مع أن الحديث قد أُعِلَّ بعلَّتين قادحتين:

1 -

أنه قد اختُلف على ابن عدي في إِسناده، فحدَّث به مرَّة كما تقدم من حفظه، وحدَّث به أخرى من كتابه عن محمد بن عمرو، عن عروة عن فاطمة بنت أبي حبيش.

قال ابن رجب الحنبلي: «قيل: إِن روايته عن عروة عن فاطمة أصحُّ؛ لأنها في كتابه كذلك، وقد اختُلف في سماع عروة من فاطمة» . «فتح الباري» لابن رجب (1/ 438).

2 -

قال أبو حاتم الرازي: «لم يُتابع محمد بن عمرو على هذه الرواية، وهو منكر» ، «العلل» (1/ 50) رقم (117). وأعلَّه النسائي بهذه العلَّة أيضاً عقب روايته له.

وانظر: «المحرر» لابن عبد الهادي رقم (133)، «فتح الباري» لابن رجب (1/ 437).

ص: 491

في المستحاضة، والنساء اللاتي استحضن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حوالي سبع عشرة امرأة

(1)

، ولا يُستبعد أن تنتقلَ العادةُ من أوَّل الشَّهر إِلى وسطه بسبب مرض الاستحاضة الذي طرأ عليها.

2 -

أنَّ التَّمييز علامةٌ ظاهرةٌ واضحةٌ، فيُرجع إِليها.

والرَّاجح: أنها ترجع للعادة، ولأنَّ الحديث الذي فيه ذكر التَّمييز قد اختُلِفَ في صحَّته.

ولأنه أيسر وأضبطُ للمرأة، لأنَّ هذا الدَّمَ الأسود، أو المنتنَ، أو الغليظَ، ربما يضطرب، ويتغيَّر أو ينتقل إِلى آخر الشَّهر، أو أوَّله، أو يتقطَّع بحيث يكون يوماً أسود، ويوماً أحمر.

قوله: «وإِن نسيتها عملت بالتَّمييز الصَّالح» ، أي نسيت عادتها.

والتَّمييزُ الصالحُ: هو الّذي يصلُحُ أن يكونَ حيضاً، بأن لا ينقص عن أقلِّه، ولا يزيد على أكثره.

مثاله: امرأةٌ نسيت عادتها؛ لا تدري هل هي في أوَّل

(1)

انظر: «فتح الباري» (1/ 412)، «فرائد الفوائد» للمؤلف ص (191).

ص: 492

الشَّهر، أو وسطه أو آخره، فنقول: ترجع إِلى المرحلة الثَّانية، وهي التَّمييز، لأنها لما نسيت العادة تعذَّر العمل بها، فترجع إِلى التَّمييز.

فنقول: هل دمك يتغيَّر؟ فإن قالت: نعم، بعضُه أسودُ، أو منتنٌ، أو غليظٌ، نقول لها أيضاً: كم يوماً يأتي هذا الأسود، أو المنتن، أو الغليظ؟ فإِذا قالت: يأتي خمسة أيَّام أو سِتَّة أيَّام مثلاً، نقول لها: اجلسي هذا الدَّم، والباقي تطهَّري وصلِّي، وإِن قالت: إِنه يأتيها يوماً واحداً أو أكثر من خمسة عشر يوماً فلا عِبْرَة به؛ لأنَّه لا يصلح أن يكونَ حيضاً.

‌فإِن لم يكُنْ لها تمييزٌ فغَالب الحيض كالعَالِمَة بموْضِعِه النَّاسية لِعَدَدِه،

...........

قوله: «فإِن لم يكن لها تمييزٌ فغالب الحيض» ، أي: أنه ليس لها تمييزٌ، بأن كان دمُها لا يتغيَّر فتجلسَ غالب الحيض مثاله: امرأة يأتيها الدَّم أسود دائماً؛ أو أحمر دائماً ونحو ذلك.

فنقول هنا: تجلس غالب الحيض سِتَّة أيَّام أو سبعة.

والرَّاجح كما قلنا في المُبْتَدَأة أنَّها ترجعُ إِلى أقاربها، وتأخذ بعادتهن في الغالب من أَوَّلِ الشهر الهلاليِّ، ولا نقول من أوَّل يوم أتاها الحيضُ، لأنَّها قد نسيت العادة.

قوله: «كالعالمة بموضعه النَّاسية لعدَدِه» ، يعني: كما تجلسُ العالمة بموضعه الناسية لعدده.

أي: أن العالمة بموضعه الناسية لعدده تجلس غالب الحيض، ولا ترجع للتَّمييز.

ومثاله: امرأة تقول: إنَّ عادتها تأتيها في أوّل يوم من الشهر

ص: 493

الهلاليِّ لكنها لا تدري هل هي ستَّة أيام، أو سبعةٌ، أو عشرةٌ؟ فهي نسيت العدد، وعلمت الموضع.

فنقول: ترجع إلى غالب الحيض، فتجلس ستَّة أيَّام أو سبعة من أوَّل الشهر؛ لأنها علمت أن عادتها من أول الشَّهر. وسبق أنها ترجع إلى غالب عادة نسائها على القول الرَّاجح.

‌وإِن علمتْ عدَدَهُ ونسيتْ موضعَهُ من الشَّهرِ ولو في نصفه جلستها من أوَّله، كَمَنْ لا عادة لها ولا تمييز ومَنْ زادتْ عادتُها، أو تقدَّمتْ، أو تأخَّرَتْ، فما تكرر ثلاثاً فحيضٌ، وما نَقَصَ عن العادةِ طُهْرٌ، وما عاد فيها جَلَسَتْهُ،

.........

قوله: «وإِن علمت عَدَدَهُ ونسيت موضعه من الشَّهرِ» ، هذه المسألة عكس المسألة السَّابقة، علمت العَدَدَ؛ ونسيت الموضعَ من الشَّهر.

فنقول لها: كم عادتُك؟ فإذا قالت: ستَّةٌ لكنني نسيت هل هي في أوَّل الشَّهر، أو وسطه، أو آخره؟ فنأمرها أن تجلس من أوَّل الشَّهر على حسب عادتها.

قوله: «ولو في نصفه جلستها من أوَّلِهِ» ، لو: إِشارة خلاف.

أي: علمت أنَّها في نصفه، لكن لا تدري في أيِّ يوم من النِّصف هل هو في الخامس عشر، أو العشرين؟ فترجع إِلى أوَّل الشَّهر لسقوط الموضع، وهذا هو المذهب.

والقول الثَّاني: تجلس من أوَّل النِّصف

(1)

، لأنَّه أقرب من أوَّل الشَّهر. وهذا هو الصحيح.

قوله: «كمن لا عادة لها، ولا تمييز» ، مَنْ: نكرة موصوفة، والتقدير: كمُبْتَدَأَة. وعرفنا هذا التقدير من قوله: «لا عادة لها» .

(1)

انظر: «الإنصاف» (2/ 431).

ص: 494

إِذن؛ فالمُبْتَدَأَة التي لا عادة لها ولا تمييز؛ تجلس غالبه من أوَّل الشَّهر، وهذه فائدة قوله:«كمن لا عادة لها، ولا تمييز» .

والصحيح في المُبْتَدَأَة: أنَّ دمَها دم حيض ما لم يستغرق أكثر الشهر، فالمبتدأةُ من حين مجيء الحيض إِليها فإِنها تجلس حتى تطهر أو تتجاوز خمسة عشر يوماً.

والدَّليل على ذلك قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيْضِ قُلْ هُوَ أَذىً} [البقرة: 222]. فمتى وُجِدَ هذا الدَّمُ الذي هو أذىً فهو حيضٌ قلَّ أو كَثُرَ. إِذ كيف يُقالُ: اجلسي يوماً وليلة، ثم اغتسلي وصلِّي، ثم اغتسلي عند انقطاعه ثانية، واقضي الصوم؟!!.

إِذ معنى هذا أننا أوجبنا عليها العبادة مرَّتين، والغسل مرَّتين، وهذا حكم لا تأتي بمثله الشَّريعةُ، والعبادات تجبُ مرَّةً واحدة لا أكثر من ذلك.

وإِن استغرق دمُ المُبْتَدَأَةِ أكثرَ الوقت، فإِنَّها حينئذ مستحاضةٌ، ترجع إِلى التَّمييز، فإِن لم يكن تمييزٌ فغالب الحيض أو حيض نسائها، هذا هو الصحيح.

قوله: «ومن زادت عادتها» ، مَنْ: اسم شرط جازم، يفيدُ العموم، فيشمل كلَّ امرأة.

مثاله: امرأةٌ عادتُها خمسةُ أيَّام، ثم زادت فصارت سبعة أيام.

قوله: «أو تقدَّمت» ، مثالُه: امرأةٌ عادتُها في آخر الشهر، فجاءتها في أوَّل الشَّهر.

ص: 495

قوله: «أو تأخَّرت» ، مثاله: عادتُها في أوَّل الشَّهر فجاءتها في آخره.

فالصُّور في تغيُّر الحيض ثلاث: الزِّيادة، التَّقدُّم، التَّأخُّر، وبقيت صورةٌ رابعةٌ وهي النقصُ، وسيذكرها المؤلِّف

(1)

.

قوله: «فما تكرر ثلاثاً فحيض» ، كالمبتدأة تماماً.

مثال الزِّيادة: عادتُها خمسةُ أيام، فجاءها الحيضُ سبعةٌ، فتجلس خمسةٌ فقط، ثم تغتسل وتُصلِّي وتصوم، فإِذا انقطع اغتسلت ثانية كالمُبْتَدَأة إِذا زاد دمُها على أقلِّ الحيض، وإِذا كان الشَّهرُ الثَّاني وحاضت سبعة تفعل كما فعلت في الشهر الأول، وإِذا كان الشهر الثَّالث وحاضت سبعة صار حيضاً، وحينئذ يجب عليها أن تقضي ما يجب على الحائض قضاؤه فيما فعلته بعد العادة الأولى؛ فتقضي الصَّوم الواجب إِن كانت صامت في اليومين، والطَّواف الواجب، إِن كانت طافت فيهما، لأنه تبيَّن أنهما حيضٌ؛ والحيض لا يصحُّ معه الصِّيام ولا الطَّواف.

وهذا مبنيٌّ على ما سبق في المُبْتَدَأة، وتقدَّم أنَّ الصَّحيح: أنَّ المُبْتَدَأَة تجلسُ حتى تطهر

(2)

، وعلى هذا إِذا زادت العادةُ وجبَ على المرأة أن تبقى لا تُصلِّي ولا تصومُ، ولا يأتيها زوجُها حتى تطهَر ثم تغتسل وتُصلِّي؛ لأنَّ هذا دمُ الحيض ولم يتغيَّر، والله قد بيَّن لنا الحيضَ بوصف منضبط فقال: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ

(1)

تنبيه: قد وَهِمَ صاحب «الروض» رحمه الله في هذا الموضع؛ فجعل صورة التَّقدم للتأخر؛ وصورة التأخُّر للتقدُّم، فتنبَّه.

(2)

انظر: ص (495).

ص: 496

الْمَحِيْضِ قُلْ هُوَ أَذىً} [البقرة: 222]، فما دام هذا الأذى موجوداً فهو حيض.

ومثال التَّقدُّم: عادتُها في آخر الشَّهر فجاءها في أوَّله فنقول: انتظري، فإِذا تكرَّر ثلاثاً فحيض، وإِلا فليس بشيء.

والصَّحيح: أنه حيضُ، وأنه لو كانت عادتُها في آخر الشَّهر، ثم جاءتها في أوَّله في الشَّهر الثَّاني، وجب عليها أن تجلسَ ولا تُصلِّي ولا تصوم ولا يأتيها زوجُها.

ومثال التَّأخر: عادتُها في أوَّل الشَّهر، ثم تأخرت إِلى آخره، فعلى ما مشى عليه المؤلِّف إِذا جاءها في آخره لا تجلس ـ وإِن كان هو دم الحيض الذي تعرفه برائحته وغلظه وسواده ـ حتى يتكرَّرَ ثلاثاً، وتُصلِّي وتصوم، فإِذا تكررَ ثلاث مرَّات أعادتْ ما يجب على الحائضِ قضاؤه. والرَّاجحُ: أنه إِذا تأخَّرت عادتُها، وجب عليها أن تجلس لكونه حيضاً، لأنه معلوم بوصف الله إِيَّاه بأنَّه أذى.

قوله: «وما نَقَصَ عن العادة طُهْرٌ» ، هذا تَغَيُّر العادة بنقص.

مثاله: عادتُها سبعٌ، فحاضت خمسةً، ثم طَهُرت، فإِنّ ما نقص طُهْرٌ، يجب عليها أن تغتسل، وتُصلِّي، وتصوم الواجب، ولزوجها أن يجامعها كباقي الطَّاهرات.

والدَّليل على ذلك ما يلي:

1 -

قولُه تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 222].

ص: 497

2 -

قولُه صلى الله عليه وسلم: «أليس إِذا حاضت لم تصلِّ، ولم تصم»

(1)

. وهذه المرأة انتهى حيضها.

فائدة: علامةُ الطُّهر معروفةٌ عند النِّساء، وهو سائلٌ أبيضُ يخرج إِذا توقَّفَ الحيضُ، وبعض النِّساء لا يكون عندها هذا السَّائل، فتبقى إِلى الحيضة الثَّانية دون أن ترى هذا السَّائل، فعلامةُ طُهْرِها أنَّها إِذا احتشت بقطنة بيضاء، أي: أدخلتْهَا محلَّ الحيض ثم أخرجَتْهَا ولم تتغيَّرْ، فهو علامةُ طهرها.

قوله: «وما عاد فيها جَلَسَته» ، أي: ما عاد في العادة بعد انقطاعه، فإِنها تجلسه بدون تكرار، لأنَّ العادة قد ثَبَتَتْ، وعاد الدَّم الآن في نفس العادة.

مثاله: عادتُها ستَّة أيَّام وفي اليوم الرَّابع انقطع الدَّم، وطَهُرَتْ طُهْراً كاملاً، وفي اليوم السادس جاءها الدَّمُ، فإِنها تجلس اليوم السَّادس؛ لأنه في زمن العادة، فإِن لم يعدْ إِلا في اليوم السَّابع، فإِنَّها لا تجلسه، لأنه خارجٌ عن العادة، وقد سبق أنه إِذا زادت العادة، فليس بحيض حتى يتكرَّر ثلاث مرَّات، وسبق القولُ الرَّاجح في ذلك

(2)

.

قوله: «والصُّفرة، والكُدرة» ، الصُّفرة والكُدرة سائلان يخرجان من المرأة، أحياناً قبل الحيض، وأحياناً بعد الحيض.

‌والصُّفْرَةُ، والكُدْرَةُ في زمن العادةِ: حيضٌ،

...........

والصُّفرة: ماءٌ أصفر كماء الجُروح.

والكُدرة: ماءٌ ممزوجٌ بحُمرة، وأحياناً يُمزَجُ بعروق حمراء

(1)

تقدم تخريجه، ص (476).

(2)

انظر: ص (495 ـ 497).

ص: 498

كالعَلَقة، فهو كالصَّديد يكون ممتزجاً بمادة بيضاء وبدم.

قوله: «في زمن العادة حيضٌ» ، أي: في وقتها، وظاهر كلامه أنهما إِن تقدَّما على زمن العادة أو تأخَّرا عنه فليسا بحيض. وهذا أحد الأقوال في المسألة

(1)

.

والقول الثاني: أنَّهما ليسا بحيض مطلقاً؛ لقول أمِّ عطيَّة: «كُنَّا لا نعدُّ الكُدْرة والصُّفرة شيئاً» رواه البخاري

(2)

. ومعنى قولها: «شيئاً» من الحيض، وليس المعنى أنَّه لا يؤثِّر، لأنه ينقض الوُضُوء بلا شكٍّ، وظاهر كلامها العموم.

والقول الثَّالث: أنَّهما حيض مطلقاً؛ لأنَّه خارجٌ من الرَّحم ومنتنُ الرِّيح، فحكمه حكم الحيض.

واستُدلَّ لما قاله المؤلِّف:

1 ـ بما رواه أبو داود في حديث أمِّ عطيَّة: «كُنَّا لا نَعُدُّ الصُّفرة والكُدْرَةَ بعد الطُّهرِ شيئاً»

(3)

. فهذا القيد يدلُّ على أنه قبل الطُّهر حيضٌ.

(1)

انظر الأقوال في المسألة في: «المغني» (1/ 413)، «الإنصاف» (2/ 449)، «المجموع شرح المهذب» (2/ 395).

(2)

رواه البخاري، كتاب الحيض: باب الكدرة والصفرة، رقم (326).

(3)

رواه أبو داود، كتاب الطهارة: باب في المرأة ترى الكدرة والصفرة بعد الطهر، رقم (307)، والحاكم (1/ 174)، والبيهقي (1/ 337)، وغيرهم.

وصحَّحه الحاكم على شرط البخاري ومسلم، ووافقه الذهبي.

قال النووي: «إسناده صحيح» . «الخلاصة» رقم (613).

قال ابن حجر: «وهو موافق لما ترجم به البخاري» . «الفتح» شرح حديث رقم (326).

وفي رواية الدارمي، كتاب الطهارة: باب الكدرة إذا كانت بعد الحيض، رقم (870):«كنّا لا نعتدُّ بالصُّفرة والكُدرة بعد الغُسل شيئاً» .

قال النوويُّ: «إسناده صحيحٌ» . «الخلاصة» رقم (612).

وانظر: «فتح الباري» لابن رجب (1/ 521، 522).

ص: 499

2 ـ أنَّه إِذا كان قبل الطُّهر يثبت له أحكام الحيض تبعاً للحيض، إِذ من القواعد الفقهيَّة:«أنه يثبت تَبَعَاً ما لا يثبتُ استقلالاً» ، أما بعد الطُّهر فقد انفصل، وليس هو الدَّم الذي قال الله فيه:{هُوَ أَذىً} فهو كسائر السَّائلات التي تخرج من فرج المرأة، فلا يكون له حكم الحيض.

‌ومن رأتْ يوماً دماً ويوماً نقَاءً، فالدَّمُ حيضٌ، والنَّقَاءُ طُهْرٌ ما لم يَعْبُر أكْثَرهُ، والمُسْتَحاضَةُ ونَحْوُها تَغْسِلُ فَرْجَهَا، وتَعْصبُه وتتوضَّأُ لوقت كُلِّ صَلَاةٍ، وتصلِّي فُروضاً ونَوافِلَ، ولا تُوطأُ إِلا مَعَ خوفِ العَنَتِ، ويُسْتَحبُ غُسْلُها لِكلِّ صلاةٍ.

قوله: «ومن رأت يوماً دماً، ويوماً نقاءً، فالدَّم حيضٌ، والنَّقاء طُهرٌ» .

مثاله: امرأة ترى يوماً دماً، ويوماً نقاءً، فإذا أذَّن المغرب رأت الدَّم، وإِذا أذَّن المغرب في اليوم الثاني رأت الطُّهر.

فالحكم يدور مع عِلَّته، فيوم الحيض له أحكام الحيض، ويوم النَّقاء له أحكام الطُّهر؛ لأن هذا هو مقتضى قوله تعالى:{قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222]. فما دام الأذى ـ وهو الدم ـ موجوداً فهو حيض، وإِذا حصل لها النَّقاء منه فهو طُهْرٌ، وعلى هذا فإِننا نُلزِمُ المرأة أن تغتسل ثلاث مرَّات في ستَّة أيام.

القول الثاني: أنَّ اليومَ ونصفَ اليوم لا يُعدُّ طُهراً

(1)

؛ لأنَّ عادة النِّساء أن تجفَّ يوماً أو ليلة؛ حتى في أثناء الحيض ولا ترى الطُّهر، ولا ترى نفسها طاهرة في هذه المدَّة، بل تترقَّب

(1)

انظر: «المغني» (1/ 437)، «الإنصاف» (2/ 453).

ص: 500

نزول الدم، فإذا كان هذا من العادة، فإِنه يُحكم لهذا اليوم الذي رأت النَّقاء فيه بأنه يومُ حيض؛ لا يجب عليها فيه غُسْلٌ، ولا صلاةٌ، ولا تطوف ولا تعتكف؛ لأنَّها حائض، حتى ترى الطُّهر.

ويؤيِّد هذا: قول عائشة رضي الله عنها للنِّساء إِذا أحضرن لها الكرسف ـ القطن ـ لتراها هل طَهُرتْ المرأة أم لا؟ فتقول: «لا تعجلن حتى تَرَيْنَ القَصَّةَ البيضاء»

(1)

. أي لا تغتسلن، ولا تصلِّين حتى تَرَيْنَ القصَّةَ البيضاء.

ولأن في إِلزامها بالقول الأول مشقَّةً شديدةً، ولا سيَّما في أيَّام الشَّتاء وأيام الأسفار ونحوها.

وهذا أقرب للصَّواب، فجفافُ المرأة لمدَّة عشرين ساعة، أو أربع وعشرين ساعة أو قريباً من هذا لا يُعَدُّ طُهراً؛ لأنه معتاد للنِّساء.

قوله: «ما لم يَعْبُرْ أكثَره» ، أي ما لم يتجاوز مجموعُهما أكثرَ الحيض، فإِن تجاوز أكثره فالزَّائد عن خمسة عشر يوماً، يكون استحاضةً؛ لأنَّ الأكثر صار دماً.

قوله: «والمستحاضةُ ونحوُها» ، المستحاضة على المذهب: هي التي يتجاوز دمُها أكثر الحيض.

وقيل: إِنّ المستحاضة هي التي ترى دماً لا يصلُح أن يكونَ حيضاً، ولا نفاساً

(2)

.

(1)

رواه البخاري تعليقاً بصيغة الجزم، كتاب الحيض، باب إِقبال المحيض وإِدباره، رقم (320)، ورواه مالك موصولاً في «الموطأ» رقم (150).

(2)

انظر: «كشَّاف القناع» (1/ 207).

ص: 501

فعلى التَّعريف الأخير يشمل من زاد دمُها على يوم وليلة وهي مُبْتَدَأة، لأنَّه ليس حيضاً ولا نِفَاساً، فيكون استحاضة حتى يتكرَّر كما سبق.

وعلى الأوَّل يكون دَمَ فساد، يُنْظَرُ فيه هل يلحق بالحيض، أو بالاستحاضة؟.

قوله: «ونحوها» ، أي: مثلها. والمُراد به من كان حدثُه دائماً، كمن به سَلَسُ بولٍ أو غائط فحكمه حكم المستحاضة.

قوله: «تغسل فرجها» ، أي: بالماء فلا يكفي تنظيفُه بالمناديل وشبهها، بل لا بُدَّ من غسله حتى يزولَ الدَّم.

فإِن كانت تتضرَّرُ بالغُسل أو قرَّر الأطباءُ ذلك، فإِنها تنشِّفه بيابس كالمناديل وشبهها، لقوله تعالى:{وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29]، وقوله:{وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195].

ومن به سَلَسُ بول يغسل فرجه، ومن به سلس ريح لا يغسل فرجه، لأن الرِّيحَ ليست بنجسة.

والدَّليل على أنها تغسل فَرْجَها قوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت أبي حُبَيْش: «اغسلي عنك الدَّمَ وصَلِّي»

(1)

، فهذا يدلُّ على أنه لا بُدَّ من غسله.

قوله: «وتَعْصِبُه» ، أي: تشدُّه بخِرْقَة، ويُسَمَّى تَلجُّماً، واستثفاراً.

(1)

رواه البخاري، كتاب الحيض: باب الاستحاضة، رقم (306)، ومسلم، كتاب الحيض: باب المستحاضة وغسلها، رقم (333).

ص: 502

والذي ينزف منه دمٌ دائماً من غير السَّبيلين لا يلزمُه الوُضُوء، إِلا على قول من يرى أن الدَّم الكثيرَ ينقض الوُضُوء إِذا خرج من غير السَّبيلين

(1)

.

والرَّاجح: أنه لا يلزمه الوُضُوءُ؛ لأن الخارج من غير السَّبيلين لا دليل على أنه ناقض للوُضُوء، والأصل بقاء الطَّهارة.

قوله: «وتتوضَّأ لوقت كُلِّ صلاةٍ» ، أي: يجب على المستحاضة أن تتوضَّأ لوقتِ كُلِّ صلاة إِن خرج شيء، فإِن لم يخرج منها شيء بقيت على وضوئِها الأوَّل

(2)

.

قوله: «وتُصلِّي فروضاً ونوافل» ، أي: إِذا توضَّأت للنَّفل فلها أن تُصلِّيَ الفريضة، لأنَّ طهارتها ترفع الحدث.

قوله: «ولا تُوطَأُ إِلا مع خوف العَنَتِ» ، يعني: أن المستحاضة لا

(1)

انظر ص (271).

(2)

هذا ما كان يراه شيخنا رحمه الله سابقاً، ثم إنه رجع عن ذلك وقال، إن المستحاضة ونحوها ممن حدثه دائم لا يجب عليه الوضوء لكل صلاة بل يستحب، فإذا توضأ فلا ينتقض وضوءه إلا بناقض آخر، وهذا مذهب مالك واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمهما الله، لعدم الدليل على النقض، ولأن من حدثه دائم لا يستفيد بالوضوء شيئاً لأن الحدث معه دائم ومستمر. وأما رواية البخاري ثم توضئ لكل صلاة» فهذه الزيادة ضعفها مسلم، وأشار إلى أنه حذفها عمداً فقال: وفي حديث حماد حرف تركناه اهـ وضعفها أيضاً أبو داود والنسائي وذكرا أن جميع الروايات ضعيفة لانفراد حماد بها. وقال ابن رجب، إن الأحاديث بالأمر بالوضوء لكل صلاة مضطربة ومعللة اهـ، وأما رطوبة فرج المرأة فالقول بوجوب الوضوء منها أضعف من القول بوجوبه في الاستحاضة لأن الاستحاضة ورد فيها حديث بخلاف رطوبة فرج المرأة مع كثرة ذلك من النساء والله أعلم. انظر: الاختيارات ص (15)، فتح الباري لابن رجب (2/ 69 ـ 75).

ص: 503

يحلُّ وَطْؤها إِلا مع خَوفِ العَنَتِ، أي: المشقَّة بترك الوَطءِ ـ هذا هو المذهب ـ إِلا أنَّ هذا التَّحريم ليس كتحريم وطءِ الحائض كما سيأتي.

واستدلُّوا بما يلي:

1 -

قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيْضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222]. فجعل الله علَّة الأمر باعتزالهنَّ أنَّ الدَّم أذى، ومعلوم أن دم الاستحاضة أذىً فهو دم مستقذَرٌ نجس.

2 -

أنه عند الوَطء يتلوَّث الذَّكر بالدَّم، والدَّمُ نجسٌ، والأصل أنَّ الإِنسانَ لا يباشر النَّجاسة إِلاَّ إِذا دعت الحاجةُ إلى ذلك.

لكنَّ تحريمَ وَطءِ المستحاضة أهونُ من تحريم وطء الحائض لأمور هي:

1 -

أن تحريم وطء الحائض نصَّ عليه القرآنُ، أما وطء المستحاضة فإِنَّه إِما بقياس، أو دعوى أن النَّصَّ شَمِلَهُ.

2 -

أنه إِذا خاف الرَّجلُ أو المرأة المشقَّة بترك الجِمَاع جاز وطءُ المستحاضة، بخلاف الحائض فلا يجوز إِلا عند الضَّرورة.

3 -

أنه إِذا جاز وَطءُ المستحاضة للمشقَّة، فلا كفَّارة فيه بخلاف وطء الحائض.

القول الثَّاني: أنه ليس بحرام

(1)

، وهو الصَّحيح، ودليل ذلك:

1 -

قوله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223].

2 -

أنَّ الصَّحابة رضي الله عنهم الذين استُحيضتْ نساؤهم وهنَّ حوالي سبع عشرة امرأة، لم يُنقَلْ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أمر أحداً

(1)

انظر: «الإنصاف» (1/ 469).

ص: 504

منهم أن يعتزل زوجته، ولو كان من شرع الله لبيَّنه صلى الله عليه وسلم لمن استُحيضَت زوجتُه، ولَنُقِلَ حفاظاً على الشريعة، فلما لم يكن شيءٌ من ذلك عُلِمَ أنه ليس بحرام.

3 -

البراءة الأصلية، وهي الحلُّ.

4 -

أنَّ دم الحيض ليس كدم الاستحاضة، لا في طبيعته، ولا في أحكامه؛ ولهذا يجب على المستحاضة أن تُصلِّيَ، فإِذا استباحت الصَّلاةَ مع هذا الدَّم فكيف لا يُباح وطؤُها؟ وتحريمُ الصَّلاة أعظمُ من تحريم الوَطء.

ولا يُسلَّمُ أنه داخلٌ في الآية؛ لأنَّ الله قال: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيْضِ قُلْ هُوَ أَذىً} [البقرة: 222]. فقوله: «هو» ضميرٌ يدلُّ على التَّخصيص، أي: هو لا غيره أذىً. ولا يُسَلَّم القياس في أكثر الأحكام؛ فكيف يُقاس عليه والحالةُ هذه!.

5 -

أنَّ الحيض مدَّته قليلةٌ، فمنع الوطء فيه يسيرٌ؛ بخلاف الاستحاضة فمدَّتُها طويلةٌ؛ فمنع وطئها إِلا مع خوف العَنَتِ فيه حرجٌ والحرجُ منفيٌّ شرعاً.

وأما كونُ الذَّكر يتلوَّث عند الوطء بالدَّم النَّجس؛ فإِن قلنا: إِنه يُعفى عن يسير دم الاستحاضة فلا إِشكال؛ لأنَّ ما يعلق منه بالذَّكر يسيرٌ، وإِنْ قلنا: لا يُعفى عنه فهو مباشرةٌ للدم غير مقصودة ولا مستمرَّة؛ إِذ يجبُ عليه غسله بعد ذلك.

لكن إِذا استقذره، وكَرِه أن يجامعَ مع رؤية الدَّم؛ فهذا شيءٌ نفسيٌّ لا يتعلَّق به حكمٌ شرعيٌّ، فقد يَكره الإِنسان الشيءَ كراهةً نفسيَّةً، ولا يُلام إِذا تجنَّبَه، كما كَرِهَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أكل الضَّبِّ مع أنَّه

ص: 505

حلالٌ، وقال:«إِنه ليس في أرض قومي فأجِدُني أعَافُهُ»

(1)

.

قوله: «ويُستَحبُّ غُسلها لكلِّ صلاة» ، أي غُسل المستحاضة لوقتِ كلِّ صلاة؛ لا لفعل كلِّ صلاة. والدَّليل على ذلك: أمره صلى الله عليه وسلم بذلك

(2)

.

وهذا إِذا قويت أن تغتسلَ لكلِّ صلاة، وإِلا فإِنَّها تجمعُ بين الظُّهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، فبدلاً من أن تغتسلَ خمس مرَّات تغتسلُ ثلاث مرات، مرَّةً للظُّهر والعصر، ومرَّة للمغرب والعشاء، ومرَّة للفجر.

وهذا الاغتسال ليس بواجب، بل الواجب ما كان عند إِدبار الحيض، وما عدا ذلك فهو سُنَّة.

وفيه فائدةٌ من النَّاحية الطِّبيَّة، لأنه يوجب تقلُّص أوعيةِ الدَّم، وإِذا تقلَّصت انسدَّت، فيقلُّ النَّزيف، وربما ينقطع بهذا الاغتسال؛ لأنَّ دم الاستحاضة دمُ عِرْقٍ، ودمُ العِرْق يتجمَّد مع البرودة.

‌وأكثرُ مُدةِ النِّفاسِ أربعونَ يوماً،

.........

قوله: «وأكثر مدَّة النِّفاس أربعون يوماً» ، النِّفاس آخرُ الدِّماء، لأن الدماء ثلاثةٌ: حيضٌ، واستحاضةٌ، ونِفاس، وبعضهم يزيد دماً رابعاً: دمُ فساد، وبعضهم يُدخِلُ دمَ الفساد في دم الاستحاضة.

والنِّفاس: بكسر النون من نَفَّسَ اللَّهُ كُربَتَه، فهو نِفاس، لأنه نُفِّسَ للمرأة به، يعني لما فيه من تنفيس كُربة المرأة.

(1)

رواه البخاري، كتاب الأطعمة: باب الشواء، رقم (5400)، ومسلم، كتاب الصيد والذبائح: باب إباحة الضَّب، رقم (1945) عن ابن عباس وعن خالد بن الوليد.

(2)

رواه البخاري، كتاب الحيض: باب عرق الاستحاضة، رقم (327)، ومسلم، كتاب الحيض: باب المستحاضة وغسلها، رقم (334) من حديث عائشة.

ص: 506

ولا شكَّ أن المرأة تتكلَّفُ عند الحمل، وعند الولادة، قال الله تعالى:{حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ} [لقمان: 14]، وقال تعالى:{حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا} [الأحقاف: 15].

والنِّفاس: دمٌ يخرج من المرأة بعد الولادة، أو معها، أو قبلها بيومين، أو ثلاثةٍ مع الطَّلق، أما بدون الطَّلق، فالذي يخرج قبل الولادة دمُ فساد وليس بشيء.

فإِن قيل: كيف نعرف أنه قبل الولادة بيومين أو ثلاثة؟ فهنا امرأة أحسَّت بالطَّلق، وصار الدَّم يخرج منها؛ لكن هل نعلم أنها سَتَلِدُ خلال يومين أو ثلاثة؟.

الجواب: لا نعلم، والأصل أنها لا تجلس، لكن عندنا ظاهرٌ يَقْوَى على هذا الأصل وهو الطَّلق، فإِنه قرينةٌ على أنَّ الدَّم دمُ نِفاسٍ، وأن الولادةَ قريبةٌ، وعلى هذا تجلسُ ولا تُصلِّي، فإِن زاد على اليومين قضت ما زاد؛ لأنَّه تبيَّن أنَّ ما زاد ليس بنفاس، بل هو دمُ فساد.

وقال بعض العلماء: لا نفاس إِلا مع الوِلادة أو بعدها، وما تراه المرأةُ قبل الولادة ـ ولو مع الطَّلق ـ فليس بنِفاس

(1)

.

وعلى هذا القول تكونُ المرأة مستريحةً، وتُصلِّي وتصومُ حتى مع وجود الدَّم والطَّلق ولا حرج عليها، وهذا قول الشَّافعية

(2)

، وأشرت إِليه لقوَّته؛ لأنَّها إِلى الآن لم تتنفَّس، والنِّفاس يكون بالتنفُّس.

(1)

انظر: «الإنصاف» (2/ 392، 481).

(2)

انظر: «المجموع شرح المهذب» (2/ 521).

ص: 507

مسألة: هل كلُّ دم يخرج عند الوضع يكون نفاساً؟.

الجواب: لا يخلو هذا من أحوال:

الأولى: أن تُسقِطَ نطفةً، فهذا الدَّم دمُ فساد وليس بنِفَاس.

الثَّانية: أن تضع ما تمَّ له أربعةُ أشهر، فهذا نِفاسٌ قولاً واحداً؛ لأنه نُفِختْ فيه الرُّوحُ، وتيقَّنَّا أنَّه بَشَرٌ، وهذان الطَّرفان محلُّ اتفاق، وما بينهما محل اختلاف.

الثَّالثة: أن تُسقِطَ علقةً. واختُلفَ في ذلك:

فالمشهور من المذهب: أنه ليس بحَيضٍ ولا نِفَاس.

وقال بعض أهل العلم: إِنه نفِاس

(1)

. وعلَّلوا: أن الماء الذي هو النُّطفة انقلب من حاله إِلى أصل الإِنسان، وهو الدَّمُ، فتيقَّنَّا أن هذا السَّقط إِنسانُ.

الرابعة: أن تُسقِط مُضغَةً غير مخلَّقة.

فالمشهور من المذهب: أنَّه ليس بِنفَاسٍ.

وقال بعض أهل العلم: إِنَّه نفاس (935).

وعلَّلوا: أن الدَّم يجوز أن يفسد، ولا ينشأ منه إِنسان، فإذا صار إلى مضغة لحم فقد تيقَّنّا أنه إنسان، فدمُها دمُ نِفاس.

الخامسة: أن تُسقِطَ مُضغةً مخلَّقة بحيث يتبينُ رأسُه ويداه ورجلاه.

فأكثر أهل العلم ـ وهو المشهور من المذهب ـ أنَّه نِفَاس.

والتَّعليل: أنه إِذا سقط ولم يُخَلَّقْ يُحتمل أن يكون دماً

(1)

انظر: «الإنصاف» (2/ 481).

ص: 508

متجمِّداً، أو قطعة لحم ليس أصلها الإِنسان، ومع الاحتمال لا يكون نِفَاساً؛ لأنَّ النِّفاس له أحكام منها إِسقاط الصَّلاة والصَّوم، ومنع زوجها منها، فلا نرفع هذه الأشياء إِلا بشيء مُتيقَّنٍ، ولا نتيقَّن حتى نتبيَّن فيه خَلْقَ الإِنسان.

وأقلُّ مدَّة يتبيَّن فيها خَلْقُ الإِنسان واحدٌ وثمانون يوماً؛ لحديث ابن مسعود رضي الله عنه وفيه: «أربعون يوماً نطفة، ثم علقة مثل ذلك»

(1)

.

فهذه ثمانون يوماً، قال:«ثم مضغة» ، وهي أربعون يوماً، وتبتدئ من واحد وثمانين.

فإِذا سقط لأقلَّ من ثمانين يوماً، فلا نِفاس، والدَّمُ حكمُه حكمُ دم الاستحاضة.

وإِذا ولدت لواحد وثمانين يوماً فيجب التثبُّتُ، هل هو مخلَّق أم غير مخلق؛ لأن الله قسَّمَ المُضْغَة إِلى مخلَّقة، وغير مخلَّقة بقوله:{مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} [الحج: 5]، فجائز ألاَّ تُخلَّق.

والغالب: أنه إِذا تمَّ للحمل تسعون يوماً تبيَّن فيه خلق الإِنسان، وعلى هذا إِذا وضعت لتسعين يوماً فهو نِفَاس على الغالب، وما بعد التِّسعين يتأكَّد أنه ولدٌ وأنَّ الدَّم نفاسِ، وما قبل التسعين يحتاج إِلى تثبُّتٍ.

وإِذا نَفِستِ المرأةُ فقد لا ترى الدَّم، وهذا نادرٌ جدًّا، وعلى هذا لا تجلس مدَّة النِّفاس، فإِذا ولدت عند طُلوع الشَّمس ودخل

(1)

تقدم تخريجه ص (343).

ص: 509

وقت الظُّهر ولم تَرَ دَماً فإِنها لا تغتسلُ، بل تتوضَّأْ وتُصلِّي.

وإِذا رأت النُّفساء الدَّم يوماً أو يومين أو عشرة أو عشرين أو ثلاثين أو أربعين يوماً فهو نِفَاس، وما زاد على ذلك فالمذهبُ أنَّه ليس بنِفَاسٍ؛ لأنَّ أكثرَ مدَّة النَّفاس أربعون يوماً.

واستدلُّوا: بما رُويَ عن أمِّ سلمة رضي الله عنها قالت: «كانت النُّفساء تجلس على عهد النبيِّ صلى الله عليه وسلم مُدَّة أربعين يوماً»

(1)

، وهذا الحديث من العلماء من ضعَّفه، ومنهم من حسَّنه وجوَّده، وله شواهد يرتقي بها إلى درجة الحسن.

فيحتمل أن يكون معناه أنَّ هذا أكثرُ مدَّة النِّفاس، ويُحتمل أن يكونَ هذا هو الغالب.

فعلى الأوَّل إِذا تمَّ لها أربعون يوماً؛ والدَّم مستمرٌ؛ فإِنَّه

(1)

رواه أحمد (6/ 300، 304، 309، 310)، وأبو داود، كتاب الطهارة: باب ما جاء في وقت النفساء، رقم (311)، والترمذي، أبواب الطهارة: باب ما جاء في كم تمكث النفساء، رقم (139)، وابن ماجه، كتاب الطهارة: باب النفساء كم تجلس، رقم (648)، والحاكم (1/ 175) وغيرهم من حديث كثير بن زياد، عن مُسَّة الأزدية، عن أم سلمة به.

وضُعِّف إسنادُه بسبب مُسَّة الأزدية: لا يُعرف حالُها، قال الحافظ فيها:«مقبولة» «تقريب» (1372)، أي حيث تُتابع.

وللحديث شواهد كثيرة لكنْ لا يخلو أيُّ واحد منها من مقال، وفي صلاحيتها للمتابعة نظر. انظر:«نصب الراية» (1/ 204).

والحديثُ صحّحه الحاكم ووافقه الذهبيُّ. قال النووي: «حديثٌ حسن، رواه أبو داود والترمذي وغيرهما. وقال الخطابي: أثنى البخاري على هذا الحديث، وأما قول جماعةٍ من مصنفي الفقهاء إِنه ضعيفٌ فمردودٌ عليهم» . «الخلاصة» رقم (640). فثناءُ البخاريّ على هذا الحديث هو المعوَّلُ عليه. والله أعلم.

انظر: «علل الترمذي الكبير» (1/ 193).

ص: 510

يجب عليها أن تغتسل وتصلِّي وتصومَ؛ إِلا أن يوافق عادةَ حيضِها فيكونُ حيضاً؛ لأنَّ أكثر مدَّة النِّفاس أربعون يوماً.

وعلى الثَّاني تستمرُّ في نِفَاسها حتى تبلغَ ستين يوماً، وهذا قول مالك

(1)

والشَّافعي

(2)

وحكاه ابنُ عقيل رواية عن أحمد

(3)

.

وعلَّلوا: بأن المرجع فيه إِلى الوجود وقد وُجد من بَلَغَ نِفاسُها ستين يوماً.

وحملوا حديث أمِّ سلمة على الغالب.

ويدُّل لهذا الحمل أنه يوجد من النِّساء من يستمرُّ معها الدَّمُ بعد الأربعين على طبيعته، ورائحته، وعلى وتيرة واحدة.

فكيف يُقال مثلاً: إِذا ولدت في السَّاعة الثانية عشرة بعد الظُّهر، وتمَّ لها أربعون يوماً في الثَّانية عشرة من اليوم الأربعين. كيف يُقال: إِنها في السَّاعة الثانية عشرة إِلا خمس دقائق من اليوم الأربعين دمُها دمُ نِفاس، وفي السَّاعة الثانية عشر وخمس دقائق من اليوم نفسه دمُها دمُ طُهْرٍ؟ فالسُّنَّة لا تأتي بمثل هذا التَّفريقِ مع عدم الفارق.

فإِن قيل: هذا الإِيرادُ يَرِدُ على الستِّين أيضاً.

فالجواب: أنَّ هذا أكثر ما قيل في هذه المسألة عن العلماء المعتبرين، وإِن كان بعضُ العلماءِ قال: أكثرُه سبعون

(4)

، لكنه قولٌ ضعيفٌ شاذٌّ.

(1)

انظر: «حاشية الدسوقي على الشرح الكبير» (1/ 174).

(2)

انظر: «المجموع شرح المهذب» (2/ 524).

(3)

انظر: «الإنصاف» (2/ 471).

(4)

انظر: «مجموع الفتاوى» (19/ 239)، «الإنصاف» (2/ 471).

ص: 511

والذي يترجَّح عندي: أنَّ الدَّم إِذا كان مستمرًّا على وتيرة واحدة، فإِنَّها تبقى إِلى تمام ستِّين، ولا تتجاوزه.

وعلى التَّقديرين، السِّتِّين أو الأربعين على القول الثَّاني إِذا زاد على ذلك نقول: إِن وافق العادة فهو حيضٌ.

مثاله: امرأةٌ تمَّ لها أربعون يوماً في أوَّل يوم من الشَّهر، وعادتُها قبل الحمل أن يأتيها الحيضُ أولَ يوم من الشَّهر إِلى السِّتَّة الأيام فإِذا استمرَّ الدَّمُ من اليوم الأوَّل إِلى السَّادس، فهذه الأيَّام نجعلُها حيضاً؛ لأنَّه وافق العادة، وهو لمَّا تجاوز أكثَر النِّفاس صار حكمُه حكم الاستحاضة، وقد تقدَّم أن المستحاضةَ المعتادةَ ترجعُ إِلى عادتِها

(1)

، فَنَرُدُّ هذه إِلى عادتها.

فإِن لم يصادف العادةَ فدَمُ فساد، لا تترك من أجله الصَّومَ ولا الصَّلاةَ، وأما أقلُّ النِّفاس فلا حدَّ له، وبهذا يُفارق الحيضَ، فالحيضُ على كلام الفقهاء أقلُّه يومٌ وليلة، وأما النِّفاس فلا حَدَّ لأقلّه.

‌ومتى طَهُرتْ قَبْلَه تَطَهَّرتْ وصَلَّتْ، ويُكْرَهُ وَطْؤُها قَبْلَ الأرْبَعِينَ بَعدَ التَّطَهُّر،

.............

قوله: «ومتى طَهُرَتْ قَبلَه» ، أي: طَهُرَت النُّفساء قبل مدَّة أكثر النِّفاس. وذلك بانقطاع الدَّم، والمرأةُ تعرف الطَّهارةَ.

قوله: «تطهَّرت» ، أي: اغتسلت.

قوله: «وصلَّت» ، أي: فروضاً ونوافل، فالفرائض وجوباً، والنَّوافل استحباباً.

(1)

انظر: ص (486).

ص: 512

قوله: «ويُكره وَطؤها قبل الأربعين بعد التَّطهُّر» ، أي: يُكره وَطءُ النُّفساء إِذا تطهَّرت قبل الأربعين.

واستدلُّوا على ذلك بما يلي:

1 -

أن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه لما طَهُرتْ زوجتُه قبل الأربعين وأتت إِليه قال: «لا تقربيني»

(1)

. وهو من الصَّحابة، وقوله:«لا تقربيني» نهيٌ، وأقلُّه الكراهةُ.

2 -

وخوفاً من أن يرجع الدَّم، لأنَّ الزَّمنَ زمنُ نِفاس.

فأخرجوا حكم الوَطء عن الحكم الأصليِّ، وهو التَّحريم في حالة نزول الدَّم إِلى الكراهة بانقطاعه؛ لزوال علَّة التحريم وهو الدَّم، فلماذا لا يخرجُ عن التَّحريم إِلى الإِباحة؟ لأن وَطء النُّفساء إِما حلالٌ، وإِما حرامٌ، والكراهةُ تحتاجُ إِلى دليل، ولا دليل.

فالرَّاجح: أنه يجوز وطؤُها قبل الأربعين إِذا تطهَّرت.

وقول عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه يُجاب عنه بما يلي:

1 -

أنَّه ضعيف.

2 -

أنه قد يَتَنَزَّه عن ذلك دون أن يكونَ مكروهاً عنده، فلا يدلُّ على الكراهة.

(1)

روى عبد الرزاق في «مصنفه» رقم (1202)، والدارقطني في «سننه» (1/ 219) رقم (842) عن الحسن عن عثمان بن أبي العاص أنه كان يقول للمرأة من نسائه إِذا نفست:«لا تقربيني أربعين ليلة» .

وروى عبد الرزاق أيضاً، رقم (1201)، والدارمي رقم (944)، وابن الجارود رقم (118) عن الحسن عن عثمان بن أبي العاص أنه كان لا يقرب النساء أربعين ليلة ـ يعني في النفاس». والحسن مدلِّسٌ وقد عنعن. وقيل: لم يسمع من عثمان بن أبي العاص، «تهذيب الكمال» (19/ 409).

ص: 513

3 -

أنه ربما كان فعله من باب الاحتياط، فقد يخشى أنها رأت الطُّهر وليس بطُهْرٍ، أو يخشى أن ينزل الدَّم بسبب الجماع، أو غير ذلك من الأسباب.

‌فإِن عَاوَدَهَا الدَّمُ فَمَشْكُوكٌ فيه تَصُومُ، وتُصَلِّي، وتَقْضِي الواجب،

.............

قوله: «فإِن عاودها الدَّم» ، أي: عاد الدَّم إِلى النُّفساء بعد انقطاعه.

قوله: «فمشكوكٌ فيه» ، أي: لا ندري أنِفاسٌ هو؟ أم دمُ فساد؟.

فإِن كان نفاساً ثبت له حُكْمُ النِّفاس، وإِن كان دم فساد لم يثبتْ له حكمُ النِّفاس.

قوله: «تصومُ وتُصلِّي» ، أي: يجب عليها أن تتطهَّر، وتصلي وتصومَ إِذا صادف ذلك رمضان، ولكنها تتجنَّب ما يحرم على النّفساء كالجماع مثلاً فلا تفعله، لأننا نأمرها بفعل المأمور كالصَّلاة والصَّوم من باب الاحتياط، ونمنعُها من المحرَّم من باب الاحتياط.

قوله: «وتقضي الواجب» ، يعني من الصَّوم والصَّلاة إِن كان يُقْضَى.

مثال ذلك: امرأةٌ كان يوم طُهرِها في اليوم العاشر من رمضان، ولها عشرون يوماً في النِّفاس، بمعنى أنَّها ولدت قبل رمضان بعشرة أيَّام، وطَهُرت في العاشر من رمضان، واستمرَّ الطُّهر إِلى عشرين من رمضان، ثم عاودها الدَّم في العشر الأواخر من رمضان، فيجب عليها أن تصلِّي وتصوم احتياطاً، لأنه يحتمل أنه ليس دمَ نفاس.

ص: 514

ثم إِذا طَهُرَتْ عند تمام الأربعين وذلك في يوم العيد، وجب عليها أن تغتسلَ وأن تقضيَ الصَّوم الذي صامته في أثناء هذا الدَّم، لأنه يُحتمل أنه دمُ نفاس، والصَّوم لا يصحُّ مع دم النِّفاس.

وأمَّا الأيَّام التي صامتْها أثناء الطُّهر ـ وهي ما بين العاشر إِلى العشرين من رمضان ـ فلا تقضيها، لأنها صامتها وهي طاهرٌ ليس عليها دمٌ.

وأما بالنسبة للصلاة؛ فلا يجب عليها أن تقضيَ الصَّلوات التي فعلتها بعد معاودة الدَّم، لأنَّه إِن كان دم فساد فقد صلت وبرئت ذمَّتُها، وإِن كان دمَ نفاس فالصَّلاة لا تجب على النُّفساء.

فصار حكم الدَّم المشكوك فيه أن المرأة يجب عليها فعلُ ما يجب على الطَّاهرات لاحتمال أنه دمُ فساد، ويجب عليها قضاءُ ما يجب على النُّفساء قضاؤه لاحتمال أنه دمُ نِفاس، هذا ما قاله المؤلِّف وهو المذهب.

والرَّاجح: أنَّه إِن كان العائدُ دمَ النِّفاس بلونه ورائحته، وكلِّ أحواله، فليس مشكوكاً فيه، بل هو دمٌ معلومٌ، وهو دمُ النِّفاس فلا تصومُ، ولا تصلِّي، وتقضي الصَّوم دون الصَّلاة. وإِن عَلِمَت بالقرائنِ أنه ليس دمَ نفاس فهي في حكم الطَّاهرات تصومُ وتصلِّي، ولا قضاءَ عليها؛ لأن الله لم يوجبْ على العباد العبادةَ مرَّتين. فإِمّا أن تكونَ أهلاً للصوم فتصوم وإِلا فلا. لكن إِن صادف العائدُ عادة حيضها فهو حيض.

‌وهو كالْحيض فيما يَحِلُّ، ويَحْرُمُ، ويَجِبُ، ويَسْقُطُ، غَيْرَ العِدَّة، والبُلُوغِ،

............

قوله: «وهو كالحيض فيما يحلُّ» ، يعني أن حكمَ النِّفاس

ص: 515

حكمُ الحيض. فيما يحلُّ كاستمتاعِ الرَّجل بالمرأة بغير الوَطء، والمرورِ في المسجد مع أمن التَّلويث.

قوله: «ويحرم» ، يعني أنه كالحيض فيما يحرُمُ. كالصَّوم، والصَّلاة، والوطءِ، والطَّواف، والطَّلاق على حسب كلام المؤلِّف.

قوله: «ويجب» ، يعني أنه كالحيض فيما يجب. كالغسل إِذا طَهُرتْ.

قوله: «ويسقُطُ» ، يعني أنه كالحيض فيما يَسقُطُ به، كالصَّوم، والصَّلاةِ فإِنهما يسقطانِ عنها، لكن الصومَ يجبُ قضاؤه، والصلاةَ لا تُقضى.

قوله: «غير العِدَّة» ، يعني أن النِّفاس يفارق الحيض في العدَّة.

فالحيضُ يُحْسَبُ من العِدَّة، والنِّفاس لا يُحْسَبُ من العدَّة.

مثاله: إِذا طلَّق امرأته، فإِنها تعتدُّ بثلاث حِيَضٍ، وكلُّ حيضةٍ تحسبُ من العدَّةِ.

والنِّفاس لا يُحسب؛ لأنه إِذا طلَّقها قبلَ الوضعِ انتهتِ العدَّةُ بالوضع، وإِن طلَّقها بعده انتظرتْ ثلاث حيض، فالنِّفاسُ لا دخلَ له في العِدَّة إِطلاقاً.

قوله: «والبلُوغ» ، يعني: أنه يفارقَ الحيضَ في البلوغِ، أي: أن الحيضَ من علامات البلوغ.

أما الحَملُ فليس من علامات البلوغ؛ لأنَّها إِذا حملت، فقد

ص: 516

علمنا أنَّها أنزلت، وحصل البلوغُ بالإِنزال السَّابق على الحمل.

ويُستثنى أيضاً مدَّة الإِيلاء، وهو أن يحلف عن ترك وطء زوجته إِما مُطْلَقاً، أو مدَّة تزيد على أربعة أشهر. مثل أن يقول: والله لا أَطَأُ زوجتي.

أو يقول: والله لا أطأ زوجتي حتى يخرج الدجَّال.

فهذا يُحسب عليه أربعةُ أشهر، فإِن رجعَ وجامع كَفَّر عن يمينه، وإِنْ أَبَى، فإِن تمَّت المدَّةُ يُقال له: ارجعْ عن يمينك، أو طلِّقْ.

فإن قال: إِن امرأته تحيضُ في كلِّ شهر عشرةَ أيام، فيبقى من مدَّة الإِيلاء أربعون يوماً، وطلب إِسقاطها من مدَّة الإِيلاء يُقال له: لا تُسْقَطُ عنك أيَّام الحيض، بل تُحسَبُ عليك.

أما بالنِّسبة للنِّفاس فلا تُحسب مدَّتُه على المولي.

مثاله: حلف ألا يجامع زوجتَه وهي في الشَّهر التَّاسع من الحمل، فيُضربُ له أربعَة أشهرٍ، فإِذا وضعتْ زوجته ومضى أربعةُ أشهرٍ من الأجل الذي ضربناه له، قلنا: طلِّقْ، أو جامعْ، فإِن قال: إِنَّ زوجته جلستْ أربعين يوماً في النَّفاس، وأريد إِسقاطها عنِّي، فهذه نسقطها عنه ونزيدُه أربعين يوماً، وإن جلستْ ستِّين يوماً زدناه ستِّين يوماً.

فهذا فرق بين الحيض والنِّفاس، ووجهُ الفرق كما قال أهلُ العلم

(1)

: أن الحيضَ أمرٌ معتادٌ، وقد جعل اللَّهُ تعالى لهذا الزوج

(1)

انظر: «المغني» (11/ 34).

ص: 517

أربعةَ أشهرٍ وعشراً؛ وهو سبحانه وتعالى يعلم أن غالب النساء يحضن في كلِّ شهر مرَّة. وأما النِّفاس فهو أمرٌ نادرٌ وهو حالٌ تقتضي أن لا يميلَ المولي إلى زوجه حال النِّفاس والدم، والمسألة مع ذلك لا تخلو من خلاف

(1)

.

ومن الفروق أيضاً: أنَّ المرأةَ المعتادة التي عادتُها في الحيض ستَّةُ أيَّام؛ إِذا طَهُرَتْ لأربعة أيام طهراً كاملاً يوماً وليلة، ثم عاد إِليها الدَّم؛ فيما بقي من مدَّة العادة وهو يومٌ وليلةٌ، فهو حيضٌ، وفي النِّفاس إِذا عاد في المدَّة يكون مشكوكاً فيه، وهذا على المذهب.

ومن الفروق أيضاً: وهو خلاف المذهب، أن الطَّلاق في الحيض حرامٌ، وهل يقعُ؟ فيه خلافٌ

(2)

.

وفي النِّفاس ـ على المذهب ـ حرام أيضاً كما قال المؤلِّفُ: «وهو كالحيض فيما يحلُّ ويحرمُ» . لأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال لعمر: «مُرْهُ فليطلِّقها طاهراً، أو حاملاً»

(3)

، والنُّفساء غير طاهر.

والصحيح: أنُّه ليس بحرام.

والدليل على ذلك: أن الطَّلاق في الحيض حُرِّمَ لكونه طلاقاً لغير العدَّة، قال الله تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1]، فإِذا طلَّق وهي حائضٌ فإِن بقيَّة هذه

(1)

انظر: «الإنصاف» (23/ 193).

(2)

انظر: «المغني» (10/ 327)، «مجموع الفتاوى» (33/ 21).

(3)

تقدم تخريجه ص (483).

ص: 518

الحيضة لا تحسب، فلا بدَّ أن تأتي ثلاثُ حِيَضٍ جديدةِ، فلا تدخل في العدَّة من حينِ الطَّلاقِ.

أما النِّفاس فلا دخل فيه في العدَّة، لأنه لا يُحسب منها، فإِذا طلقَّها فيه شرعت في العدَّة من حين الطَّلاق فيكون مطلِّقاً للعدة، وإِذا كان كذلك فإِذا طلَّقها في النِّفاس أو بعده، فهو على حدٍّ سواء.

أما قولُه صلى الله عليه وسلم: «مُرْهُ فليطلِّقها طاهراً، أو حاملاً»

(1)

، أي: طاهراً من الحيض بدليل ما جاء في الحديث: «أنه طلَّق امرأته وهي حائضٌ» (948)، ولأنه صلى الله عليه وسلم قرأ:{فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1]، وهذا الحكمُ يختصُّ بالطَّلاق في الحيض دون النِّفاس.

ومن الفروق بين الحيض والنِّفاس: أنَّه يُكره وطءُ النُّفساء إِذا طَهُرَتْ قبل الأربعين على المشهورِ من المذهبِ، ولا يُكرهُ وطء الحائضِ، إِذا طَهُرَتْ قبلع زمن العادةِ.

ومن الفروق أنه لا حدَّ لأقل النِّفاس بخلاف الحيض.

فهذه سبعةُ فروقٍ بين الحيضِ والنِّفاس.

‌وإِن وَلَدتْ تَوْأَمَيْنِ، فَأوَّلُ النِّفاسِ، وآخِرُهُ من أَوَّلِهِمَا.

قوله: «وإِن ولدت توأمين» ، أي: ولدين.

قوله: «فأوَّلُ النِّفاس، وآخرُه من أوَّلهما» ، أي: أوَّل الولدين خروجاً.

حتى ولو كان بينهما مدَّة كيومين، أو ثلاثة، فلو قُدِّر أنها ولدت الأول في أول يوم من الشهر، والثَّاني في العاشرِ من

(1)

تقدم تخريجه، ص (483).

ص: 519

الشَّهر، فإِنه يبقى لها ثلاثون يوماً؛ لأن أوَّل النِّفاس من الأوَّل.

ولو قُدِّر أنها ولدت الأوَّل في أوَّلِ الشَّهر، وولدت الثَّاني في الثَّاني عشر من الشَّهر الثَّاني، فلا نفاس للثَّاني؛ لأن النِّفاس من الأوَّل، وانتهت الأربعون يوماً، ولا يمكن أن يزيدَ النِّفاس على أربعين يوماً على المذهب؛ لأن الحملَ واحدٌ والنَّفاس واحدٌ، وإن تعدَّد المحمولُ.

والرَّاجحُ: أنه إِذا تجدَّدَ دمٌ للثاني، فإِنَّها تبقى في نفاسِها، ولو كان ابتداؤه من الثاني، إِذ كيفَ يُقال: ليس بشيءٍ، وهي ولدتْ وجاءها دم؟!.

انتهى بحمد الله تعالى المجلد الأوَّل

ويليه بمشيئة الله عز وجل المجلد الثَّاني

وأوَّله: «كتاب الصَّلاة»

ص: 520