الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشرح الممتع
على
زاد المستقنع
لفضيلة الشيخ العلامة
محمد بن صالح العثيمين
غفر الله له ولوالديه وللمسلمين
المجلد العاشر
دار ابن الجوزي
طبع بإشراف مؤسسة الشيخ محمد بن صالح العثيمين الخيرية
الطبعة الأولى 1426 هـ
بَابُ الإِجَارَةِ
قوله: «الإجارة» مأخوذة من الأجر وهو العوض المقابل بعمل، ولهذا يُسمى ثواب العمل أجراً، قال تعالى:{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 185] وهي عقدٌ على منفعة معلومة أو على عمل معلوم، فمستأجر الدار عَقَدَ على منفعة معلومة، ومستأجر العامل، البَنَّاء، عقد على عمل معلوم، ولهذا لا يملك الذي يستأجر العامل أن يؤجره لشخص آخر؛ لأنه لم يملك إلا المنفعة فقط، ما مَلَك الرجل، فالإجارة تكون على عمل وتكون على منفعة في عين، وهي نوع من البيع، ولذلك يحرم عقد الإجارة في المسجد كما يحرم البيع، ويحرم عقد الإجارة بعد نداء الجمعة الثاني، كما يحرم البيع؛ لأنها بيع منافع في الواقع.
وعقد الإجارة جائز بدلالة الكتاب والسنة وإجماع الأمة، أما القرآن ففي قول المرأتين اللتين سقى لهما موسى عليه الصلاة والسلام:{يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص: 26] وأما السنة فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم استأجر عبد الله بن أريقط على أن يدله على الطريق من مكة إلى المدينة
(1)
، وأما إجماع الأمة فمعلوم، وتجويزها من محاسن
(1)
أخرجه البخاري في الإجارة/ باب استئجار المشركين عند الضرورة (2263) عن عائشة رضي الله عنها، وليس في البخاري التصريح باسم عبد الله بن أريقط، وإنما ورد اسمه في كتب السيرة كما قال الحافظ في الفتح.
الشريعة؛ وذلك لأن الإنسان قد يضطر إلى سكنى بيت وليس معه ما يستطيع أن يملك به البيت فإنه ليس له طريق إلا الاستئجار، كذلك ـ أيضاً ـ صاحب البيت قد يكون ممسكاً ببيته ويريد الانتفاع به ولا يتعطل، وليس له سبيل إلى ذلك إلا بالتأجير، فلما كانت المصلحة للمستأجر والمؤجر واضحة ولا ظلم فيها ولا ربا كان من محاسن الشريعة المطهرة أن تباح، ولكن لا بد لها من شروط، وكل عقد من العقود يذكر له شروط، فلا بد أن نستدل لكل شرط من هذه الشروط، وإلا فإن الأصل عدم الشرط، وحل الشيء على الإطلاق، فكل من ادعى في عقد بيع أنه حرام قلنا له: هات الدليل؛ لأن الأصل في عقد البيع الحل، ولهذا فالشروط التي يذكرها العلماء في العقود لا بد لها من دليل، وإلا فإنها لا تقبل.
تَصِحُّ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ: معْرِفَةُ المَنْفَعَةِ كَسُكْنَى دَارٍ، وَخِدْمَةِ آدَمِيٍّ، وَتَعْلِيمِ عِلْمٍ.
قوله: «تصح بثلاثة شروط» أفادنا المؤلف أن الإجارة تقع صحيحة وفاسدة، فما وافق الشرع منها فصحيح وما خالف الشرع ففاسد، وإذا فسدت الإجارة فإنه لا يترتب عليها ما جاء في العقد، بل يثبت فيها أجرة المثل.
قوله: «معرفة المنفعة» هذا هو الشرط الأول، أن تكون المنفعة معلومة للطرفين، المُؤجِّر، والمستأجر، وضد ذلك المنفعة المجهولة، والدليل على هذا الشرط قوله تعالى:{} [المائدة: 90 ـ 91] وجه الدلالة من الآية: أنه إذا كانت المنفعة مجهولة صارت من الميسر؛ لأن
المستأجر وكذلك المؤجر بين غانم وغارم للجهالة، ولحديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم «نهى عن بيع الغرر»
(1)
، وكل مجهول فهو غرر، والإجارة بيع لكنه بيع للمنافع، ولأنه إذا كانت المنفعة مجهولة ستؤدي إلى الخصومة والمنازعة المؤدية إلى العداوة والبغضاء.
وقوله: «معرفة المنفعة» يعني بأن تكون المنفعة معلومة:
إما بالتحديد القولي وإما بالتحديد العُرفي.
فمثال القولي أن يقول: أريد كذا وكذا ويعيِّن.
ومثال العُرفي سيأتي في كلام المؤلف.
قوله: «كسكنى دار» مثال ذلك: استأجر رجل بيتاً لسكناه، وكان المستأجر يبيع الحُمُر ـ جمع حمار ـ فجعل هذا البيت مَرْبطاً للحَمير، فلا يجوز؛ لأن سكنى الدار معناها أن يسكنها آدميون ليس الحمير.
ولو أراد المستأجر أن يتصرف في الدار، وقال: هذه حجرة ضيقة فسوف أسقط الجدار الذي بينها وبين الحجرة الأخرى لتكونا واحدة واسعة، فإنه لا يملك هذا، إنما يملك السكنى فقط، وليس من العادة أن الساكن يتصرف في عين المستَأجَر إلا بإذن المالك.
قوله: «وخدمة آدمي» مثاله: استأجر آدمياً يخدمه، فصار
(1)
أخرجه مسلم في البيوع، باب بطلان بيع الحصاة والبيع الذي فيه غرر (1513) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
يستخدمه في العادة ويقول: يا فلان هات الفطور، أو هات العلف للبهيمة، اذهب بالأبناء إلى المدرسة، أو ما أشبه ذلك، فهذا يصح، أما لو قال في يوم من الأيام: احملني على ظهرك إلى السوق فله أن يمتنع؛ لأن هذا مما لم تجر العادة به إلا بشرط.
كذلك يوجد أناس يستأجرون خادماً ليكون في البيت ليقضي الحوائج ويسوق السيارة وما أشبه ذلك، ثم يستخدمه في رعي الإبل، فهذا لا يجوز إلا إذا استأجره لذلك، فلو أراد أن يحوله من أثقل إلى أخف فلا يجوز إلا بإذنه؛ لأنه حر استؤجر لعمل معين فلا يتجاوز هذا العمل المعين إلا إذا رضي، وفي ظني أنه إذا حُول من أشد إلى أخف فإنه سوف يرضى، فلو حُول من كونه يرعى الإبل في قفار الأرض وصحرائها وغير ذلك، إلى أن يكون في البيت في ظل ظليل يأكل مع الناس ويشرب معهم، فإن الثاني أحسن له وسيختاره، لكن إذا لم يكن للخدمة عُرْفٌ معين، وكان قد استأجره لعمل معين فإنه لا ينقله إلى غيره إلا بإذنه.
وهل يملك إذا استأجره لخدمته أن يؤجره آخرَ لخدمته؟ لا يملك ذلك؛ لأنه غير مالك له؛ لأنه إنما ملك منفعته لنفسه، ولا يمكن أن يحولها إلى آخر إلا إذا رضي فلا بأس، وعلى هذا يتنزل ما يفعله بعض الناس الآن، يأتون بالخدم من الخارج متفقين معهم على عمل معين، ثم يستأجره إنسان آخر من الرجل الذي أتى به، فنقول: إن وافق الأجير فلا بأس، والفرق بين
الأجرتين إذا رضي العامل فهي لمستأجر العامل الأول، فمثلاً: لو جاء به وراتبه ثلاثمائة ريال في الشهر، يعني كل يوم عشرة ريالات، فأجره بإذنه بخمسة عشر ريالاً في اليوم، فإن الخمسة الزائدة تكون للذي استأجره أولاً؛ لأنه رضي أن يعمل عند شخص آخر وهو مالك لمنفعته، أما إذا أبى وقال: أبداً أنا لا أعمل عند غيرك إلا إذا أعطيتني الفرق بين أجرتك وأجرة الآخر، فهو حر يملك هذا.
قوله: «وتعليم علم» بأن يستأجر شخصاً يعلمه باباً من أبواب العلم، كمن استأجر شخصاً يعلمه ـ مثلاً ـ باب الطهارة، أو باب الإجارة، فإن هذا جائز، لكن لا بد أن يحدد نوع العلم.
فإن قال قائل: علم المنفعة هنا قد يكون متعذراً؛ لأنك لا تدري متى يتعلم هذا الرجل؟ فمن الناس من يكون سريع الفهم، سريع الحفظ، بطيء النسيان فهذا يتعلم بسرعة، ومن الناس من هو على عكس ذلك، تعلمه عدة مرات وتبين له وتشرح له وعلى السبورة، وبكل طريقة، ومع ذلك لا يفهم، إذاً كيف تصح الإجارة على تعليم العلم؟! نقول: هذا مما يُتسامح فيه ويُحمل على الوسط من الناس، لا على سريع الفهم والحفظ وعدم النسيان ولا على البطيء، بل يحمل على العادة.
وقوله: «وتعليم علم» ليس على إطلاقه؛ لأنه سيأتينا أن العلوم المحرمة لا يجوز تعليمها ولا الاستئجار لتعلمها، وكذلك ـ أيضاً ـ ليس على إطلاقه؛ لأن من أفضل العلوم القرآن وقد ذكر الفقهاء رحمهم الله أنه لا يصح الاستئجار لتعليم القرآن؛ لأن
تعليم القرآن عبادة كما جاء في الحديث: «خيركم من تعلَّم القرآن وعلَّمه»
(1)
ولا يجوز أخذ الأجرة على العبادة، وعلى هذا فيجب أن نقيد العلم هنا بما ليس بمحرم، وقيد آخر ألا يكون تعليماً للقرآن.
أما الأول: فنعم، يشترط في العلم ألا يكون محرماً، فلو استأجره ليعلمه علماً محرماً كعلم النجوم، وأقصد بذلك علم التأثير لا علم التسيير
(2)
، فهنا الأجرة حرام.
وأما الثاني: فلو استأجره ليعلمه القرآن فهو ـ أيضاً ـ حرام على المذهب، والراجح أنه ليس بحرام وأنه يجوز أن يستأجر الإنسان لتعليم القرآن، ويدل لذلك ما يأتي:
أولاً: قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله»
(3)
وهذا صريح.
ثانياً: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أجاز أخذ الجعل على الرقية في حديث اللديغ
(4)
.
ثالثاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم زوَّج المرأة رجلاً ليس عنده صداق بما
(1)
أخرجه البخاري في فضائل القرآن/ باب خيركم من تعلم القرآن وعلمه (5027) عن عثمان رضي الله عنه.
(2)
ينظر كتاب: القول المفيد للشيخ رحمه الله/ باب ما جاء في التنجيم (2/ 5).
(3)
أخرجه البخاري في الطب/ باب الشرط في الرقية بفاتحة الكتاب (5737) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(4)
أخرجه البخاري في الإجارة/ باب ما يعطى في الرقية
…
(2276)؛ ومسلم في الطب/ باب جواز أخذ الأجرة على الرقية بالقرآن والأذكار (2201) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
معه من القرآن ليعلمها
(1)
فجعله عوضاً.
فإذا قال قائل: كيف تجيزونه وهو قربة؟
قلنا: نعم، نجيزه وهو قربة؛ لأن إجازتنا إياه من أجل انتفاع المستأجر، ولهذا لو أننا استأجرنا شخصاً ليقرأ القرآن فقط لكانت الإجارة حراماً لا تصح أما التعليم فلا؛ لأن المعلم يتعب ويلقن هذا الجاهل حتى يعرف وسيعيد عليه ما حفظ من القرآن بالتعاهد، ففيه عمل مباح لشخص آخر، إذاً القول الراجح أنه تجوز الأجرة على تعليم القرآن وذكرنا ثلاثة أدلة، منها دليل لفظي ودليلان عمليان.
الثَّاني: مَعْرِفَةُ الأُجْرَةِ، وَتَصِحُّ فِي الأَجِيرِ وَالظِّئْرِ بِطَعَامِهِمَا وَكِسْوَتِهِمَا. وَإِنْ دَخَلَ حَمَّاماً، أَوْ سَفِينَةً، أَوْ أَعْطَى ثَوْبَهُ قَصَّاراً، أَوْ خَيَّاطاً بِلَا عَقْدٍ صَحَّ بِأُجْرَةِ العَادَةِ.
قوله: «الثاني: معرفة الأجرة» أي: الشرط الثاني أن تكون الأجرة معلومة، ودليل ذلك هو دليل اشتراط معرفة المنفعة؛ لأنها أحد المعقود عليهما، فلا بد من العلم بها.
فلو قال: استأجرت منك هذا البيت ببعض ما في يدي من الدراهم، فالإجارة غير صحيحة؛ لأن ما في يده من الدراهم مجهول، وبعضه ـ أيضاً ـ مجهول، حتى لو كان الذي في يده من الدراهم معلوماً، بأن كان معه عشرة آلاف ريال، وقال: ببعض ما في يدي من الدراهم، فإن الأجرة لا تصح.
ولو قال: استأجرت منك هذا البيت بما تلده هذه الفرس، فهو ـ أيضاً ـ لا يصح؛ لأن الأجرة غير معلومة.
(1)
أخرجه البخاري في الوكالة/ باب وكالة المرأة الإمام في النكاح (2310)، ومسلم في النكاح/ باب الصداق وجواز كونه تعليم قرآن (1425) عن سهل بن سعد رضي الله عنه.
قوله: «وتصح في الأجير والظئر بطعامهما وكسوتهما» أي: تصح الإجارة في الأجير بطعامه وكسوته، بأن تستأجر شخصاً يعمل عندك بأكله وشربه وكسوته ومنزله، وعلم الأجرة هنا بالعُرف، فيحمل على العرف وهو أدنى الكفاية، فلو قال العامل: أنا استؤجرت بالطعام وأنا أريد طعام الملوك، أي: أعلى ما يكون من الطعام، فإنه لا يجاب وإنما يعطى طعام مثله.
وقوله: «والظئر» هي المرضعة، يجوز أن تستأجرها بطعامها وكسوتها؛ لقول الله تعالى:{فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} [الطلاق: 6] وأطلق وقال: {وَعَلَى الْمَولُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] فيجوز أن تستأجر امرأة لإرضاع الولد بطعامها وكسوتها، ومرجع ذلك العرف.
وهل تصح في المركوب بطعامه وشرابه وما يلزم لبقاء حياته؟ ظاهر كلام المؤلف: لا؛ لأنه خص هذه المسألة في الآدمي وفي الظئر أيضاً، والصواب أنه يجوز أن يستأجر حيواناً بالقيام عليه بالتغذية من طعام وشراب ووقاية من البرد والحر؛ لأنه لا فرق بينه وبين الأجير؛ لأن كليهما استيفاء منفعة، ويُرجع في ذلك إلى العرف.
وهل يصح أن يستأجر الدار بإصلاح ما انهدم منها؟ لا يصح؛ لأنه غير معلوم، قد ينهدم منها شيء كثير، وقد لا ينهدم منها شيء فهي مجهولة تماماً، إلا إذا كان المنهدم موجوداً الآن، وقال: أجرتك إياها بإصلاح ما انهدم الآن، وهو معلوم، فهنا الإجارة صحيحة؛ وذلك لأن الأجرة معلومة بالمشاهدة.
وإذا قال: أجرتك هذا البيت بعشرة آلاف وإصلاح ما ينهدم
منه، فهذا لا يصح؛ لأن ما زاد مجهول، وإذا قال: أجرتك هذا البيت بعشرة آلاف وإصلاح ما انهدم منه من الأجرة، فهذا يصح لأن الأجرة معلومة، ولو قُدِّر أنه قد انهدم بما يصلح بخمسة آلاف فإنه يجوز، لكن لا بد من إضافة شرط آخر وهو أن يقول: محتسباً به من الأجرة وما زاد فعلى رب البيت؛ لأنه ربما يزيد المنهدم على الأجرة، مثل أن تكون الأجرة ألف ريال وينهدم هدماً يستحق ألفي ريال.
والخلاصة: أن استئجار البيت بإصلاح ما ينهدم منه لا يجوز، والإجارة غير صحيحة، أما استئجاره بإصلاح ما ينهدم منه محتسَباً به من الأجرة، فهذا جائز بشرط ألا يزيد على مقدار الأجرة.
قوله: «وإن دخل حماماً» هذه أجرة بالمعاطاة، فإذا دخل حماماً ثم اغتسل فيه وخرج، والحمام مكتوب عليه للإيجار، الساعة بكذا، وهو لم يرَ صاحبه فإنه يصح بأجرة العادة، والعادة في مثل هذا تقدر بالزمن كل ساعة بكذا، فيؤخذ ممن دخل الحمام ما جرت به العادة.
ومثل ذلك ما يفعله الناس الآن من إدخال السيارة في مواقف السيارات، تجده يدخل ويأخذ البطاقة لتعيين وقت الدخول ثم إذا خرج حاسب، بدون أن يكون هناك كلام، نقول: هذا ـ أيضاً ـ لا بأس به، وهذا ربما يكون أبلغ في الجواز من المساومة، يعني من قوله: لا أدخلك إلا الساعة بكذا وكذا؛ لأن هذا معلوم لدى الناس جميعاً.
قوله: «أو سفينة» أي: وجد سفينة تحمل الناس فدخل فيها بدون أن يتفق مع الملاح، أي: مع قائد السفينة، فهذا يجوز وعليه أجرة العادة، وسيارة الأجرة كذلك إذا ركب ثم وصل إلى المحطة وقال له صاحب السيارة: عليك ـ مثلاً ـ عشرة ريالات، إن قال: العشرة كثيرة وما أعطيك إلا خمسة، فهل يُلزم بالعشرة؟ نعم، يلزم ما دامت العادة عشرة فإنه يلزم بالعشرة.
قوله: «أو أعطى ثوبه قصَّاراً» القصَّار: هو الغسَّال، أعطاه الثوب ليغسله، فغسله الغسَّال وعند تسليمه طلب مبلغاً من المال مع أن صاحب الثوب لم يعلم به، فيقال: يلزمه أجرة العادة وإن لم يتعاقدا عليها؛ لأن هذا معلوم بين الناس.
قوله: «أو خياطاً بلا عقدٍ صح بأجرة العادة» كذلك لو أعطى ثوبه خياطاً يخيطه، ولما انتهى قال له الخياط: الأجرة كذا وكذا فهذا يصح ولو بلا عقد.
وفُهم من قول المؤلف رحمه الله «قصاراً أو خياطاً» أنه لا بد أن يكون معداً نفسه للعمل، فإن لم يكن معداً نفسه للعمل فلا شيء له إلا بشرط، مثل أن يعطي شخص ثوبه لإنسان، فقال: خذه اغسله لي، فلما غسله قال له: الأجرة كذا وكذا، فلا يلزم صاحب الثوب أجرة؛ لأن الآخذ الذي غسله ليس معداً نفسه لذلك، والمؤلف يقول:«قصاراً» فلا يلزمه شيء.
فإذا تخاصم الرجلان فإننا نقول للقصار: لماذا لم تشترط لنفسك؟ هو يظن أنك محسن، والعقد لا بد له من قرينة إما لفظية
بالإيجاب والقبول، وإما فعلية بالمعاطاة فيما اشتهر بذلك، وكذلك يقال في الخياط والحلاق، كل هؤلاء الذين أعدوا أنفسهم للعمل، فإنه يجوز الدخول معهم فيما أعدوا أنفسهم له بدون عقد، وعلى الداخل أجرة العادة.
الثَّالِثُ: الإِبَاحَةُ فِي العَيْنِ، فَلَا تَصِحُّ عَلَى نَفْعٍ مُحَرَّمٍ، كَالزِّنَا، وَالزَّمْرِ، وَالغِنَاءِ، وَجَعْلِ دَارِهِ كَنِيسَةً، أَوْ لِبَيْعِ الخَمْرِ.
قوله: «الثالث الإباحة في العين» أي الشرط الثالث الإباحة في العين أي: في نفعها، وإنما قلنا ذلك؛ لأن الباب باب الإجارة، والمعقود عليه في الإجارة هو نفع العين، هذا من جهة، ومن جهة أخرى أن المقصود الإباحة في النفع لا في العين، ولهذا يجوز استئجار الحمار للعمل عليه مع أن عينه حرام، فيشترط أن يكون النفع المعقود عليه مباحاً، فإن كان محرماً فإن الإجارة لا تصح، ودليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم:«إن الله إذا حرَّم شيئاً حرَّم ثمنه»
(1)
والإجارة نوع من البيع، وقوله صلى الله عليه وسلم:«كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل»
(2)
وقوله صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد»
(3)
.
والنفع الذي يكون في الأعيان إما محرم وإما مكروه وإما مباح، وظاهر كلام المؤلف أنه لا بد أن يكون مباحاً.
قوله: «فلا تصح على نفع محرَّم» ظاهره أن المكروه لا بأس
(1)
أخرجه الإمام أحمد (1/ 247، 322) عن ابن عباس رضي الله عنهما؛ وأبو داود في البيوع/ باب في ثمن الخمر والميتة (3488)؛ وصححه ابن حبان (4938)، والنووي في المجموع (9/ 273)، وابن القيم في الهدي (5/ 746).
(2)
أخرجه البخاري في البيوع/ باب الشراء والبيع مع النساء (2155)؛ ومسلم في العتق/ باب بيان أن الولاء لمن أعتق (1504)(8) عن عائشة رضي الله عنها.
(3)
أخرجه مسلم في الأقضية/ باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور (1718)(18) عن عائشة رضي الله عنها.
بالاستئجار عليه، فلدينا ثلاثة أشياء: إباحة، وتحريم، وكراهة، فإذا نظرنا إلى كلام المؤلف:«الإباحة في العين» قلنا: إنها لا تصح الإجارة على مكروه، وإذا نظرنا إلى قوله:«فلا تصح على نفع محرم» قلنا: تصح على المكروه، لكن لا شك أنها خلاف الأولى؛ لأن الإعانة على المكروه مكروهة لقوله تعالى:{وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]، المهم عندنا ثلاثة أشياء: النفع المباح لا بأس بعقد الإجارة عليه، المحرم: يحرم عقد الإجارة عليه، والمكروه: يجوز مع الكراهة.
مثال النفع المباح: ما سبق من استئجار البيت للسكنى وما أشبه ذلك.
ومثال المكروه: أن يستأجر شخصاً ليحلق له حلق (قزع) فالقزع مكروه، فإذا استأجره لهذا العمل كان استئجاراً على عمل مكروه. والمحرَّم قال:
«كالزنا» لو استأجر امرأة ليزني بها فالإجارة باطلة وغير صحيحة وحرام؛ لقوله تعالى: {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مهر البغي خبيث»
(1)
فلا تبيح الإجارة الزنا، وليست شبهة ـ أيضاً ـ في إسقاط الحد كما زعمه بعض العلماء، فبعض العلماء قال: إذا أراد أن يزني بامرأة وخاف أن يقام عليه الحد فليستأجرها، لكن لا شك أن هذا القول من أبطل الأقوال، ولا تحل المرأة بذلك، وهنا قاعدة
(1)
أخرجه مسلم في البيوع/ باب تحريم ثمن الكلب وحلوان الكاهن
…
(1567)(41) عن رافع بن خديج رضي الله عنه.
يجب أن تعلم وهي «كل عقد محرم فإنه لا يترتب عليه آثاره» فمثلاً البيع الفاسد لا يملك المشتري السلعةَ ولا البائعُ الثمنَ، وكذلك لو استأجر امرأة يزني بها فإنه لا يستبيح بذلك فرجها؛ لأن الإجارة فاسدة، ولأن الزنا محرم بالنص والإجماع.
قوله: «والزّمر» يعني استعمال المزمار يعني آلة اللهو، ويقاس على ذلك كل المعازف، فلو استأجر شخصاً على عزف أو على زمر فالإجارة محرمة وغير صحيحة، والفاعل لا يستحق الأجرة فنقول له: ليس لك شيء ونقول للذي استأجره: ليس عليك أجرة؛ لأن الإجارة غير صحيحة، فإذا طالب الزامر بأجرة المثل وقال: ألغوا الإجارة ولكن أعطوني أجرة المثل لأنني عملت، فإننا نقول له: ليس لك أجرة، ويبقى النظر في المستأجِر، فإذا قلنا: ليس عليك أجرة؛ لأن هذا عمل محرم، فصار هذا الرجل قد كسب العمل وكسب الأجرة، ولا ينبغي أن نجمع له بين عوضين، وعلى هذا فنقول: تؤخذ الأجرة من المستأجر ولا تعطى الزامر ولكن تُصْرَفُ في بيت المال، أما أن نقول للمستأجر: ليس عليك شيء، وللزامر ليس لك شيء، فهذا فيه نوع من الظلم، فيقال: أنت أيها الزامر لا شيء لك، وعليك أن تتوب إلى الله وتستغفر، وأنت أيها المستأجر نأخذ منك الأجرة؛ لأنك عقدت على أنك ملتزم بها فنلزمك بها، لكن لا نعطيها الزامر؛ لأنها عوض عن محرم، وإنما نجعلها في بيت المال.
قوله: «والغناء» بالمد، وليس بالقصر؛ لأن «الغنى» بالقصر
ضد الفقر، و «الغناء» بالمد هو تلحين القصائد، والشعر، وما أشبه ذلك.
ثم الغناء أقسام: منه ما هو مباح، ومنه ما هو مكروه، ومنه ما هو محرم، فالمراد هنا الغناء المحرم، وهو يدور على شيئين:
إما أن يكون موضوع الأغنية موضوعاً فاسداً، وإما أن تكون مصحوبة بآلة لهو محرمة، هذا هو الغناء المحرم، إما أن يكون الموضوع موضوعاً فاسداً كوصف النساء والمردان والخمر وما أشبه ذلك، هذا محرم لذات القصيدة؛ لأن الموضوع موضوع فاسد محرم.
أو يكون الموضوع غير محرم في حد ذاته، فهذا إن صحبه آلة لهو صار حراماً لما صحبه، وإن لم يصحبه آلة لهو فليس بحرام، وإذا كانت الأغنية في مدح آلهة المشركين فهذا حرام ولا يحل؛ لأن هذا أشد من وصف الزنا واللواط وما أشبه ذلك.
أما الغناء المباح فمثل حُداء الإبل، أو الغناء على الأعمال المباحة يستعان به على التعب، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبني المسجد مع الصحابة رضي الله عنه ينشدون على العمل ويقرهم على ذلك
(1)
.
فإذاً نقول: العمل الذي يستعان به على مصلحة شرعية أو غرض صحيح لا بأس به، أما العمال الذين لا يبنون المسجد ولا
(1)
أخرجه البخاري في الصلاة/ باب هل تنبش قبور مشركي الجاهلية ويتخذ مكانها مساجد (428)؛ ومسلم في الصلاة/ باب ابتناء مسجد النبي صلى الله عليه وسلم (524) عن أنس رضي الله عنه.
يحفرون خنادق الحروب، لكنهم يبنون أبنية مباحة، فهل يحل لهم الغناء من أجل التقوي على العمل؟ نعم يجوز ذلك.
فالمهم أن مراد المؤلف بقوله: «الغناء» يعني الغناء المحرم، إما لذاته وإما لما يصحبه من فعل محرَّم، وقولنا:«مِنْ فِعْل محرم» ؛ لأنه أعم لأجل أن يشمل العزف ويشمل الطرب ويشمل الرقص وما أشبه هذا.
قوله: «وجعل داره كنيسة أو لبيع الخمر» يعني لو استأجر من شخص داره ليقيم فيها شعائر النصارى فجعلها كنيسة فالإجارة حرام؛ لقوله تعالى: {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]، ومثل ذلك لو استأجرها لبيع الخمر أو الدخان أو القنوات الفضائية، أو لبيع التلفزيونات، فالإجارة حرام إذا كان الغالب على مشتري التلفزيونات أن يستعملها في المحرم؛ لأن التلفزيون فيه شيء محرم وفيه شيء غير محرم؛ لأنه آلة يُصَرّفها الإنسان كما يريد.
لكن لو استأجر البيت على أن يسكنه وكان نصرانياً، فجعل في البيت معبداً فإن الإجارة صحيحة؛ لأنه حين العقد إنما عقد على عمل مباح وهو السكنى، فالمعصية هنا معصية في البيت لكنه لم يستأجر البيت من أجلها.
ولو أنه أجر شخصاً بيتاً ثم وضع فيه القنوات الفضائية، وصار يأتي بكل قناة فاسدة، فحكمه أنه إذا كان قد استأجر البيت لهذا الغرض فالإجارة محرمة وفاسدة، وإن استأجره للسكنى ثم وضع هذا فيه فلا بأس، ولكن إذا تم العقد أي: إذا تمَّت مدة الإجارة يقول
لهذا المستأجر: إما أن تخرج هذه الآلة ـ القنوات الفضائية ـ وإما ألاَّ أجدد لك العقد، وأما ما تم عليه العقد من قبل فإنه يجب إتمامه لقول الله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1].
وَتَصِحُّ إِجَارَةُ حَائِطٍ لِوَضْعِ أَطْرَافِ خُشُبِهِ عَلَيْهِ. وَلَا تُؤَجِّرُ المَرْأَةُ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إِذْنِ زَوْجِهَا.
قوله: «وتصح إجارة حائط لوضع أطراف خشبه عليه» الحائط: يعني الجدار، فلو أراد الإنسان أن يستأجر حائط جاره ليضع أطراف خشبه عليه فإنه لا بأس بذلك، ولكن قد يشكل على هذا أنه يجب على الجار أن يمكن جاره من وضع أطراف خشبه على جداره، كما جاء في الحديث الصحيح:«لا يمنعن جار جاره أن يغرز خشبه، أو قال: خشبة على جداره» . قال أبو هريرة رضي الله عنه وكان أميراً على المدينة ـ: «ما لي أراكم عنها معرضين، والله لأرميَنَّ بها بين أكتافكم»
(1)
وهذا الحديث يدل على أنه يجب تمكين الجار من وضع الخشب، فيقال: نعم، لكن أحياناً لا يجب، وذلك فيما إذا أمكن التسقيف بدون وضع الخشب على الجدار فإنه لا يجب، يعني لو كانت الحجرة ضيقة ويمكن أن تضع الخشب عرضاً، وجدار الجار يكون طولاً، فهنا يمكن أن تسقف بدون أن تحتاج إلى جدار الجار، وكذلك ـ أيضاً ـ ربما يكون الجار لا يحب النزاع والمخاصمة، وَرَفَعَ الأمرَ إلى القاضي حتى يجبر الجار على أن يضع الخشب على جداره، فهنا نقول: في الحال التي يجب على الجار أن يمكِّن جاره من وضع الخشب على الجدار، إذا كان المحتاج لوضع الخشب لا يريد
(1)
أخرجه البخاري في المظالم/ باب لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبة في جداره (2463)؛ ومسلم في البيوع/ باب غرز الخشب في جدار الجار (1609) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
المقاضاة والمحاكمة، وأراد أن يدفع له عوضاً من أجل تمكينه من وضع الخشب فإن ذلك جائز للمستأجر، وليس جائزاً لصاحب الجدار؛ لأن الواجب على صاحب الجدار إذا لم يكن على الجدار ضرر وكان جاره محتاجاً أن يمكِّنه منه.
فإذا قال قائل: هل يشترط في هذه الحال تقدير المدة؟ أو يتسامح عنه للحاجة؟ الجواب الثاني؛ لأننا لا ندري متى ينهدم الجدار، وعلى هذا فنقول: يُضرب عليه أجرة كل سنة بكذا، ولا يحتاج إلى تقدير مدة السنين، للحاجة إلى ذلك، ولا يمكن أن نحيط علماً متى يقع هذا الجدار، وعلى هذا فيكون اشتراط تعيين المدة هنا غير واجب؛ وذلك لدعاء الحاجة إلى عدم اشتراطه.
قوله: «ولا تؤجر المرأة نفسها بغير إذن زوجها» المرأة إذا تزوجت إنساناً ملَكَها، وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم النساء بأنهن عوانٍ عند الأزواج
(1)
، والعواني جمع عانية والعانية هي الأسيرة، وقد سمى الله ـ تعالى ـ في القرآن الزوج سيداً فقال:{وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} [يوسف: 25] أي: زوجها، فهي إذاً مملوكة ونفعها مملوك للزوج،
(1)
أخرجه الترمذي في الرضاع/ باب ما جاء في حق المرأة على زوجها (1163)؛ وابن ماجه في النكاح/ باب حق المرأة على الزوج (1851) عن عمرو بن الأحوص رضي الله عنه، قال الترمذي:«حسن صحيح» .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه»
(1)
فالوقت مملوك للزوج فلا تؤجر نفسها بغير إذن زوجها حتى يأذن، وإذا أذن فالحق له، وإذا طلبت المرأة من زوجها أن يأذن لها أن تخدم فأذن جاز لها ذلك، ولو استأذنت من زوجها أن تشتغل بالتدريس وأذن لها جاز، فإن لم يأذن فإنه لا يحل لها أن تؤجر نفسها إلا بإذن الزوج.
فإن شُرِطَ على الزوج عند العقد أن تؤجر نفسها، فلا بأس، فالمسلمون على شروطهم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج»
(2)
، وهذا يقع كثيراً في الآونة الأخيرة؛ لأن من النساء من تكون مُعَلّمة أو دارسة، فإذا تزوجت ولم يذكر في الشرط أن الزوج يُمَكّنُها من التدريس أو الدراسة فله منعها من ذلك، وأما إذا اشتُرِطَ عليه فالمسلمون على شروطهم.
وقوله: «ولا تؤجر المرأة نفسها» يخرج بذلك ما لو استؤجرت على عمل مشترك، بمعنى أجرناها ـ مثلاً ـ أن تخيط ثوباً، أو تخصف نعلاً، أو ترقع ثوباً، أو ما أشبه ذلك فهنا لم تؤجر نفسها؛ لأن المستأجر لها لا يملكها، إنما استأجرها على عمل، وهذا فيه تفصيل:
إن كان يشغلها عن حقوق زوجها فإنه لا يحل لها إلا بإذن الزوج، وإن كان لا يشغلها فلا بأس، فإذا قدرنا أن هذه المرأة
(1)
أخرجه البخاري في النكاح/ باب لا تأذن المرأة في بيت زوجها لأحد إلا بإذنه (2195)؛ ومسلم في الزكاة/ باب ما أنفق العبد من مال مولاه (1026) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
أخرجه البخاري في الشروط/ باب الشروط في المهر عند عقد النكاح (2721)؛ ومسلم في النكاح/ باب الوفاء بالشروط في النكاح (1418) عن عقبة بن عامر رضي الله عنه.
لها زوج موظف في أول النهار ليس موجوداً عندها، واستؤجرت لخياطة ثوب تخيطه في وقت غيابه عن البيت دون أن تقصر في أعمال البيت فإن هذا جائز؛ لأنه ليس على الزوج ضرر في هذا، وكذلك لو كان الزوج غائباً، واستؤجرت لتخيط ثوباً أو تغسله أو ما أشبه ذلك فلا بأس؛ لأنه في هذه الحال لا يضيع شيء من حق الزوج.
فإن أجَّرت نفسها في حال غياب الزوج، فظاهر كلام المؤلف أن ذلك لا يجوز لقوله:«لا تؤجر المرأة نفسها» ؛ لأنه قد لا يرضى الزوج أن تخرج من بيته وإن كان غائباً، فلا تؤجر نفسها مطلقاً إلا بإذن الزوج.
فَصْلٌ
وَيُشْتَرَطُ فِي العَيْنِ المُؤَجَّرَةِ: مَعْرِفَتُهَا بِرُؤْيَةٍ أَوْ صِفَةٍ فِي غَيْرِ الدَّارِ وَنَحْوِهَا
قوله: «ويشترط في العين المؤجرة معرفتها برؤية أو صفة» هذا هو الشرط الأول من الشروط في العين المؤجرة أن تكون معروفة برؤية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر
(1)
، ولأن عدم معرفتها يفضي إلى النزاع، وما أفضى إلى النزاع فإن الشارع ينهى عنه، مثال ذلك: لو استأجرت من شخص سيارة فلا بد أن تراها، أو يصفها لك بصفة تتميز بها عن غيرها، وتنضبط بها.
قوله: «في غير الدار ونحوها» فالدار ونحوها لا يكفي فيها الصفة فلا بد من الرؤية، فالسيارة ـ مثلاً ـ تكفي فيها الصفة، وكذا البعير، والحيوان لو استأجره فإنه يكفي فيه الصفة، لكن الدار ونحوها كالأرض للزرع وما أشبه ذلك لا تجوز إلا برؤيتها بالعين؛ لأنه لا يمكن إحاطة الوصف بها، فلو أتاك إنسان من أشد الناس دقة في الوصف فإنه لا يمكن أن يحيط بالدار، فلو قال لك ـ مثلاً ـ: البيت فيه عشر حُجَر، وساحة وحمامات، فما تستطيع أن تتصورها، بل إن بعض الناس ربما يكون من أدق الواصفين لكن تدخل البيت فتجدك مغموماً، فبعض البيوت ـ سبحان الله ـ إذا دخلها الإنسان سُرَّ بها، وبعضها إذا دخلها غُمَّ بها، إذاً فلا بد في استئجار البيت من الرؤية.
وكذلك الأرض، لو استأجر أرضاً للزرع فلا بد أن يراها
(1)
سبق تخريجه ص (7).
بنفسه؛ لأن الأرض تختلف من حيث كونها سبخة، أو رملية، أو ترابية، أو حجرية، وكذلك ـ أيضاً ـ تختلف ارتفاعاً وانخفاضاً، فلا يمكن أن يحيط بها الوصف، إذاً لابد أن يراها المستأجر بعينه.
فقول المؤلف رحمه الله: «في غير الدار ونحوها» عائد على قوله: «أو صفة» يعني إلا في الدار ونحوها فإنه لا يجوز تأجيرها بالصفة، بل لا بد فيها من الرؤية.
لكن هناك قول ثان وهو أنه تجوز الإجارة وله الخيار إذا رآها، يعني يجوز أن تؤجر الدار بالصفة، بأن يصفها له تماماً ولو على الخارطة، وله الخيار إذا رآها.
فإذا قال قائل: إذا كان كذلك فلماذا لا يصبر حتى يراها؟
نقول: الفائدة من قولنا: إنها تصح وله الخيار إذا رآها، أنه لو جاء شخص آخر فاستأجر من صاحب الدار، وقلنا: إن الإجارة صحيحة، فلا يملك الثاني أن يستأجر؛ لأنها الآن مؤجرة، والمنفعة تكون للمستأجر بمجرد العقد، وعلى القول بأنها لا تصح، له أن يؤجرها، فلو قال قائل: ننتظر حتى يراها، قلنا: ربما يكون الناس عندهم إقبال شديد على البيوت والشقق، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى ـ من الناحية الحكمية ـ كل عقد غير صحيح فهو حرام؛ لأنه ليس في كتاب الله، وكل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وهذه قاعدة جميع العقود والشروط الفاسدة عقدها حرام واشتراطها حرام؛ لأنه من المضادة لله عز وجل،
فإذا قلنا بأنه يصح العقد وله الخيار إذا رآها صار العقد حلالاً، وإذا قلنا: لا يصح العقد، صار العقد حراماً، وكل من المستأجر والمؤجر آثمين؛ لأنهما فعلا حراماً.
فالمذهب أنه لا يصح مطلقاً، وعلى هذا فيحرم تعاطي هذا العقد ويجب عليه إذا رآها واقتنع بها أن يعيد العقد.
مسألة: ما يستأجر لصوته فإنه يُعلَم بالسماع، مثل ما لو استأجرت ساعة منبهة، من أجل أن تنبهك لعمل ما، فلا بد أن تسمع، ولا تكفي الرؤية، اللهم إلا إذا كانت ـ مثلاً ـ من صناعة معينة معروفة، وأن صوتها في التنبيه معروف فهنا ربما يكتفى بذلك، على أنه ربما يكون هذا النوع غُيّرت نغمة صوته، أو حصل فيها خلل، فلا بد من السماع.
ولو استأجر ديكاً من أجل أذانه فلا بد أن يسمع صوته؛ لأن بعض الديكة صوته جميل، وبعضه ليس بجميل (أَبَحٌّ) فهي تختلف اختلافاً عظيماً، لكن لو استأجر ديكاً يوقظه للصلاة فإنه لا يصلح؛ لأنه لا يمكن استيفاء المنفعة؛ لأن الديك ربما ينام في بعض الأيام.
إذاً الديك يُستأجر لصوته، أما لكونه يوقظك للصلاة فهذا شيء لا يمكن؛ لأن استيفاء المنفعة منه غير ممكن.
وخلاصة القول: أنه يشترط معرفة العين المؤجرة، فما استؤجر للرؤية فبالرؤية، وما استؤجر للصوت فبالصوت، وما لا يمكن إدراكه إلا بالرؤية فلا بد من الرؤية، وما يمكن إدراكه بالصفة فيكفي فيه الصفة.
وَأَنْ يَعْقِدَ عَلَى نَفْعِهَا دُونَ أَجْزَائِهَا، فَلَا تَصِحُّ إجَارَةُ الطَّعَامِ لِلأَكْلِ، وَلَا الشَّمْعِ لِيُشْعِلَهُ، وَلَا حَيَوَانٍ لِيَأْخُذَ لَبَنَهُ إِلاَّ فِي الظِّئْرِ، وَنَقْعُ البِئْرِ، وَمَاءُ الأرْضِ يَدْخُلَانِ تَبَعاً ..
قوله: «وأن يعقد على نفعها دون أجزائها» هذا هو الشرط الثاني من الشروط في العين المؤجرة.
وقوله: «أن يعقد» أي المستأجر والمؤجر ولهذا لو قال: «أن يعقدا» أو قال: «أن يكون العقد» لكان أوضح في الشمول.
وقوله: «على نفعها دون أجزائها» يعني أن يكون المعقود عليه النفع دون الجزء، فالبعير نفعها بركوبها وحملها، والدار نفعها بالسكنى، والدكان بعرض البضاعة فيه، وهكذا، فلا بد أن يكون العقد على النفع دون العين، فإن عقد على العين، بأن قال: بعت عليك داري لمدة سنة بكذا وكذا، فإنه على المذهب لا يصح العقد؛ لأنه أضيف العقد إلى العين، ومورد العقد في الإجارة النفع، فإن قال: بعتك سكناها لمدة سنة صح؛ لأن العقد ورد على المنفعة.
قوله: «فلا تصح إجارة الطعام للأكل» مثال ذلك إنسان وجد إناء من التمر، فقال: أجرني هذا التمر من أجل أن آكله، فهنا لا تصح الإجارة؛ لأنه لا يمكن أن ينتفع به إلا بأكله وذهاب أجزائه، إذاً كيف العمل إذا كان إنسان يريد أن يأكل ملء بطنه والباقي يكون لصاحبه؟ فإذا قلنا: اشترِ منه بمقدار ملء البطن، فهذا لا يجوز؛ لأنه مجهول، ولا ندري قد يكون هذا الرجل قنوعاً وقد يكون أكولاً، إذاً الطريق أن يبيعه جميعاً، فلو قال ـ مثلاً ـ: أبيعه عليك بقدر ما تأكل منه، بمعنى أننا نزن هذا التمر أو نكيله، فإذا بلغ خمسة من الكيلوات بعت عليه مقدار ما يأكل
والباقي ينزل من الثمن بقسطه، فهو أكل كيلوين وقد بعت عليه خمسة كيلوات بخمسين ريالاً فهنا يبقى ثلاثة من الكيلوات فينزل من الثمن ثلاثون ريالاً، هل يجوز هذا أو لا يجوز؟ المذهب لا يجوز، فلا بد أن نعرف مقدار ما يؤكل عند العقد وهذا متعذر، والقول الثاني: الجواز، وأنه لا بأس ما دام أنه عُلِم أن قيمة الخمسة كيلوات خمسون ريالاً أي: أن كل كيلو بعشرة ريالات، فما أكلت منه فبقسطه من الثمن وما أبقيت فينزل من الثمن بقسطه، فهذا ليس فيه جهالة؛ لأنه حتى لو قدر أنه حين العقد فيه جهالة فسيؤول إلى العلم.
وننتقل من هذا إلى مسألة بدأ الناس يتعاملون بها الآن وهي البيع على التصريف، مثال ذلك قال: هذه خمسة كراتين حليب أو خمس سلات خبز يبيعها على البقال على التصريف، يعني يأتي إليه في آخر النهار ويقول: كم صرفت؟ يقول كذا وكذا، فيقول له: هو عليك بكذا والباقي رُدَّهُ ويسقط من الثمن، فهذا على المذهب لا يجوز، لكن على القول الذي قلنا: إنه لا بأس به في مسألة التمر المأكول، نقول: يجوز بشرط أن يُقَدِّر لكل شيء ثمناً، أما أن يقول: على ما تصرف ولم يقل له: كل كرتون بكذا، أو كل سلة من سلات الخبز بكذا، فهذا يؤدي إلى الجهالة.
فمسألة التصريف لها طريقان: إما أن يوكله يعني الذي أتى بالخبز أو اللبن يوكل البقال، فيقول: خذ هذا بعه ولك على كل كرتون كذا وكذا فهذا جائز قولاً واحداً؛ لأنه توكيل بعوض فليس فيه إشكال.
أو يقول على القول الراجح: هذه ـ مثلاً ـ عشرة صناديق هي عليك بمائة، كل صندوق بعشرة وما لم تصرفه يرد بقسطه من الثمن، فهذا نرى أنه جائز؛ لأنه ليس على أحد الطرفين ضرر وليس فيه ظلم، وصاحب السلعة مستعد لقبول ما تبقى.
إذاً المهم أن نحدد مقدار ثمن كل واحد وحينئذٍ يكون صحيحاً، إذاً الطعام للأكل لا تصح إجارته لكن يصح بيعه.
قوله: «ولا الشمع ليشعله» أيضاً لا تصح إجارة الشمع ليشعله، والشمع عبارة عن شيء جامد يذوب مع النار، لكنه يغذي النار مثل الفتيلة تماماً، فلو قال المستأجر: أنا أريد أن أستأجر هذه الشمعة؛ من أجل أن عندي الليلة ضيوفاً، وأستأجرها منك بكذا لمدة ساعة أو ساعتين، المذهب لا يجوز؛ لأننا لا ندري ماذا يستهلك من الشمعة، واختار شيخ الإسلام رحمه الله أن ذلك جائز، ولكن كلام الشيخ رحمه الله لا بد فيه من تحرير، والتحرير أن نقول: إما أن يقدر بمساحة الشمعة فيقول: مثلاً مساحتها شبر بعشرة ريالات وما نقص من الشبر فبقدره، هذه تكون معلومة.
أو يقدرها بالساعة ونحن نعرف استهلاك النار من الشمعة بالساعة والدقيقة، فهذا ـ أيضاً ـ يكون معلوماً.
قوله: «ولا حيوان ليأخذ لبنه إلا في الظئر» الحيوان لا يجوز أن يستأجره لأخذ لبنه، مثال ذلك: رجل عنده أطفال صغار من الضأن، أمها ماتت، فاستأجر شاة من إنسان لمدة يوم أو يومين حتى يشتري شاة ترضع أطفال الضأن، فهذا لا يجوز؛ لأن المعقود عليه الآن هو اللبن، واللبن أجزاء، والإجارة لا تكون
إلا على منافع، لا تكون على أجزاء، ومثل ذلك ما كانوا يستعملونه قديماً، يكون عند الإنسان ضيوف فيستأجر من جاره بقرته لمدة يوم أو يومين من أجل أخذ اللبن، فعلى المذهب لا يجوز؛ لأن اللبن مجهول، ثم حلبها ـ أيضاً ـ مجهول، فبعض البهائم تمنع الحليب لا ترضى أن تحلب، لكن «الظئر» مستثنى، والظئر هي المرضعة لولد غيرها، فيجوز للإنسان أن يستأجر امرأة ترضع ولده بأجرة معلومة، مع أن المعقود عليه هو اللبن، والفقهاء رحمهم الله أورد عليهم إيراد واضح، قيل لهم: إن الظئر إجارتها جائزة بنص القرآن، قال الله تبارك وتعالى:{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَولُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] وقال: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} وقال: {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} [الطلاق: 6] فأي فرق بين لبن الآدمية ولبن غير الآدمية؟!
أجاب بعضهم بجواب ليس بسديد، فقال: لأن الآدمية إنما تستأجر لأجل أخذ الطفل ووضعه في حجرها وإلقامه الثدي وما أشبه ذلك، والحيوان لا يفعل هذا، لكنه يقف لما يرضعه ويتأنى ويفتح رجليه فلا شك أنه يخدمه، فهل من المعقول أن الإنسان يستأجر مرضعة ترضع ولده من أجل أن تأخذه وتضعه في حجرها وتلقمه الثدي، إذا لم يكن في الثدي شيء؟! ما يمكن أبداً، إذاً المقصود هو اللبن لا شك، لكن هذه وسائل إلى الحصول على اللبن، فالمقصود أولاً هو اللبن، وما دمنا قياسيين يجب أن نقول: إن استئجار الحيوان لأخذ لبنه جائز بالقياس على الظئر، وهذا
اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهو الصواب، وسواء استأجره وأتى به إلى محله أو استأجره وهو عند صاحبه؛ لأن استئجار الحيوان لأخذ اللبن على وجهين:
إما أن يستأجره ويأتي به إلى بيته وينفق عليه.
وإما أن يستأجره وهو عند صاحبه ويكون الإنفاق على صاحبه، كل ذلك جائز على القول الصحيح، لكن على المذهب ماذا يصنع إذا كان عنده ضيوف ويريد أن يأخذ لهم لبناً؟ يشتري ولا يجوز بيع اللبن في الضرع بل نقول له احلبها وإذا حلبتها اشتر اللبن إذا كنت محتاجاً، فالمهم حتى لو سددنا الباب في مسألة استئجار الحيوان لأخذ لبنه، فهناك أبواب مفتوحة والحمد لله.
قوله: «ونقع البئر وماء الأرض يدخلان تبعاً» فلو استأجر شخص من آخر بئراً يسقي منه إبله، أو زرعه، فهذا جائز، مع أن المعقود عليه الآن هو الماء وهو عين وأجزاء.
فكيف يجيبون عن قولهم: (إن الإجارة لا بد أن تقع على المنفعة)؟ يقولون: هذا يدخل تبعاً؛ لأن المعقود عليه هو البئر، أما الماء فليس معقوداً عليه.
قد يثبت الشيء لغيره تبع
وإن يكن لو استقل لامتنع
(1)
وهذا غير صحيح! لأن المقصود هو الماء، فقولهم:(إن ماء البئر يدخل تبعاً) الحقيقة أنه بالعكس، فالأصل هو الماء، والبئر لو لم يكن فيها ماء ما استأجرها أحد.
(1)
منظومة القواعد الفقهية لشيخنا ـ رحمه الله تعالى ـ.
وقوله: «وماء الأرض» أيضاً يدخل تبعاً، إنسان ـ مثلاً ـ استأجر أرضاً للزرع، فلا بأس، والأرض فيها ماء، إما من نهر، أو من وادٍ يأتي إليها، أو ما أشبه ذلك، فإنهم يقولون: الماء يدخل تبعاً، وهذا عكس ما يريده كل إنسان؛ لأن كل إنسان يستأجر أرضاً للزرع فإنما يستأجرها من أجل مائها؛ لأنها لو لم يكن فيها ماء ما استؤجرت وكذلك البئر.
والصواب الذي يظهر هو ما اختاره شيخ الإسلام رحمه الله حيث قال: إن الأجزاء التي تتولد وتتتابع شيئاً فشيئاً بمنزلة المنافع تماماً؛ ولهذا اختار رحمه الله أنه يجوز استئجار الحيوان لأخذ لبنه، واستئجار البئر لأخذ مائها، واستئجار الأرض لأخذ مائها، وقوله رحمه الله: إن الأعيان التي تأتي شيئاً فشيئاً بمنزلة المنافع، هو الصواب.
فإذا قلنا: استأجر حيواناً لأخذ لبنه، وقلنا بهذا القول الراجح، فأبى الحيوان أن يحلب؛ لأنه لا يحلب حتى يؤتى له بولده ويحلب عليه، وإما أنه لا يحلب حتى يؤتى له بطعام، المهم أن الحيوانات تختلف، فإذا أبى هذا الحيوان أن يحلب إطلاقاً، فماذا يكون الحكم على القول بأن الإجارة صحيحة؟ نقول: للمستأجر الفسخ، وذلك لتعذر استيفاء المنفعة بغير سبب منه، إذ إن المعقود عليه تعذر بغير سبب منه، وليس هو المفرط، وبذلك يتبين أن القول الراجح هو ما اختاره شيخ الإسلام رحمه الله في هذه المسألة.
وَالقُدْرَةُ عَلَى التَّسْلِيمِ، فَلَا تَصِحُّ إجَارَةُ الآبِقِ، وَالشَّارِدِ، وَاشْتِمَالُ العَيْنِ عَلَى المَنْفَعَةِ، فَلَا تَصِحُّ إجَارَةُ بَهِيمَةٍ زَمِنَةٍ لِحَمْلٍ،
....
قوله: «والقدرة على التسليم» هذا هو الشرط الثالث من
شروط العين المؤجرة، أن يكون قادراً على تسليمها للمستأجر؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«لا تبع ما ليس عندك»
(1)
والإجارة نوع من البيع، وغير المقدور عليه ليس عند الإنسان ولا في حوزته ولا في استطاعته أن يقدر عليه، ولنهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر
(2)
، وغير المقدور عليه إجارته غرر؛ لأن مؤجره سوف يخفض من الأجرة، وإلا لما استؤجر منه، فإن قدر عليه المستأجر صار غانماً وإن عجز صار غارماً وهذا نوع من الغرر، ولأن الإجارة نوع من البيع فإذا كنا نشترط في البيع القدرة على تسليم المبيع، فكذلك نشترط في الإجارة القدرة على تسليم المستأجَر.
قوله: «فلا تصح إجارة الآبق» يعني: العبد الآبق، وهو الذي هرب من سيده، ولا يدري عنه سيده شيئاً، فهذا لا تصح إجارته؛ لأنه غير مقدور على تسليمه، وحينئذٍ إما أن يستطيع المستأجر استلامه وإما أن لا يستطيع، فإن استطاع أن يتسلمه صار غانماً وإن لم يستطع صار غارماً؛ لأن العبد الآبق لا يمكن أن تكون أجرته كأجرة العبد الحاضر؛ فسوف تنزل أجرته ويعتبر المستأجر نفسه مخاطراً، فإذا قدرنا أن هذا العبد يؤجر في اليوم
(1)
أخرجه الإمام أحمد (3/ 402)، وأبو داود في البيوع/ باب في الرجل يبيع ما ليس عنده (3503)؛ والترمذي في البيوع/ باب ما جاء في كراهية بيع ما ليس عندك (1232)؛ والنسائي في البيوع/ باب بيع ما ليس عند البائع (7/ 289)؛ وابن ماجه في التجارات/ باب النهي عن بيع ما ليس عندك (2187) عن حكيم بن حزام رضي الله عنه؛ وحسنه الترمذي؛ وصححه النووي في المجموع (9/ 311)؛ والألباني في الإرواء (1292).
(2)
سبق تخريجه ص (7).
بخمسين ريالاً لو كان حاضراً، فإذا كان آبقاً سيؤجر في اليوم بخمسة ريالات أو عشرة ريالات، وحينئذٍ إن وجده فهو غانم ـ أي: المستأجر ـ وإن لم يجده فهو غارم، والقاعدة الشرعية:(أن كل عقد يكون متردداً بين الغنم والغرم فهو باطل)؛ لأنه ميسر، ويدخل ـ أيضاً ـ في ضمن نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر
(1)
.
قوله: «والشارد» يعني الجمل الشارد، مثل إنسان له جمل شارد هارب، فجاء شخص يستأجره منه، فقال: أنا أريد أن أستأجر منك الجمل شهراً بكذا وكذا ابتداؤه من اليوم، إما أن أجده اليوم وإما أن لا أجده إلا بعد عشرة أيام وإما أن لا أجده أبداً، نقول: هذه إجارة فاسدة باطلة؛ وذلك لعدم القدرة على التسليم، والعجز عن التسليم يقتضي أن يكون المستأجر غانماً أو غارماً.
قوله: «واشتمال العين على المنفعة» هذا هو الشرط الرابع في العين المؤجرة، وهذا شرط مهم؛ لأن المعقود عليه بالإجارة هو المنفعة، فلا بد أن تكون العين مشتملة على هذه المنفعة، فإن لم تكن مشتملة على هذه المنفعة صار من باب إضاعة المال الذي لا فائدة فيه، ولهذا قال:
«فلا تصح إجارة بهيمة زَمِنة لحمل» الزمنة هي التي لا تستطيع السير، فلو أتى إنسان يستأجرها ليحمل عليها، قلنا: هذه
(1)
سبق تخريجه ص (7).
الإجارة غير صحيحة؛ لأنها غير واردة على منفعة؛ لأنها لا تستطيع أن تمشي فكيف يحمل عليها؟! فتكون الإجارة غير صحيحة وباطلة، فإذا قال المستأجر: أنا أريد أن أنفع صاحبها وأجبر قلبه؛ لأن بهيمته شُلَّت وانكسر قلبه وكان يأخذ عليها كل يوم عشرة ريالات في تأجيرها، وأنا سوف أستأجرها منه عشرة أيام كل يوم بعشرة ريالات فما المانع؟ نقول: أنت إذا كنت تريد أن تجبر قلبه فاجبر قلبه بالهبة، أعطه مالاً ودع ناقته عنده، أما أن تعقد عقداً فاسداً من باب أكل المال بالباطل فهذا لا يجوز، وباب التبرع والإحسان مفتوح ولسنا نقول لك: لا تنفعه، إذاً لا تصح إجارة بهيمة زمنة لحمل.
فلو أجَّر سيارة محركها معطل للسفر عليها، فإن الإجارة لا تصح، وإذا قال المستأجر لصاحبها: متى أصلحتها فقد استأجرتها منك الشهر بكذا وكذا، فهنا لا تصح الإجارة أيضاً؛ لما يلي:
أولاً: أن العقود والمعاوضات لا يصح تعليقها كما هو المذهب.
ثانياً: أن هذا مجهول، أي ابتداء المدة من التصليح، والتصليح غير معلوم وعلى هذا فلا تصح، فإذا كان فيها خراب قليل ونعلم أنها تصلح خلال يوم أو يومين فإنه يجوز تأجيرها.
وَلَا أَرْضٍ لَا تُنْبِتُ لِلزَّرْعِ، وَأَنْ تَكُونَ المَنْفَعَةُ لِلْمُؤْجِّرِ أَوْ مَأْذُوناً لَهُ فِيهَا. وَتَجُوزُ إِجَارَةُ الْعَيْنِ لِمَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ، لَا بِأَكْثَرَ مِنْهُ ضَرَراً.
.........
قوله: «ولا أرض لا تنبت للزرع» يعني لا يصح استئجار أرض لا تنبت للزرع، مثلاً: إنسان عنده أرض واسعة لكنها سبخة لا تنبت أبداً، فاستأجرها للزرع، فإننا نقول: لا يجوز
أن يستأجرها لعدم وجود المنفعة المعقود عليها، لكن لو استأجرها على أن تكون مستودعاً له فإنه يجوز؛ لأنه يمكن الانتفاع بها.
قوله: «وأن تكون المنفعة للمؤجر أو مأذوناً له فيها» هذا هو الشرط الخامس في العين المؤجرة، وهذا يعني أنه يشترط أن يكون مالكاً أو قائماً مقام المالك، وهذا شرط في جميع العقود، فكل العقود لا بد أن يكون العاقد مالكاً للمعقود عليه، إما بملك أو بنيابة عن المالك، ودليل ذلك قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] فلا بد أن تكون المنفعة المعقود عليها ملكاً للمؤجر أو مأذوناً له فيها.
ولم يقل المؤلف: أن تكون العين للمؤجر؛ لأن الإنسان قد يملك المنفعة ولا يملك العين، والشرط أن تكون المنفعة للمؤجر أو مأذوناً له فيها، مثل شخص وهبت له منفعة هذه العين، وهي ليست ملكه بل ملكاً لصاحبها، فأجرها فإن الإجارة صحيحة؛ لأنه يملك المنفعة، وإن لم يملك العين، وكرجل أوصي له بمنفعة عبد ليخدمه.
وقوله: «أو مأذوناً له فيها» وهو إما وكيل وهو من أذن له في التصرف في حال الحياة، وإما ولي وهو من يتصرف بإذن من الشارع كولي اليتيم، وكولاية الحاكم على الأموال التي لا يعلم لها مالك، وإما وصي وهو من أذن له في التصرف بعد موت الآذن، وإما ناظر وقف هو من أذن له في التصرف في الوقف،
فلا بد من أن يكون مالكاً أو قائماً مقام المالك، وهم أربعة: الولي، والوصي، والوكيل، والناظر.
فإن أجر ملك غيره فإنه لا تصح الأجرة، فإن وافق صاحب العين على ذلك، فعلى المذهب لا يصح؛ بناءً على أنه لا يصح تصرف الفضولي.
والقول الثاني: أنه يصح، وهذا القول هو الراجح، فلو أن شخصاً عنده علم بأن صاحبه يريد أن يؤجر بيته، وجاء أناس يريدون أن يستأجروه، ورب البيت غير موجود، ولكن صاحب ربِّ البيت موجود فأجَّر لهؤلاء، ثم وافق المالك على ذلك، فالصحيح أن الأجرة صحيحة؛ لأن أصل منع نفوذ العقد في مملوك الغير لحق الغير، فإذا وافق فقد أسقط حقه.
قوله: «وتجوز إجارة العين لمن يقوم مقامه» يعني يجوز للمستأجر أن يؤجر غيره، كرجل استأجر بيتاً لمدة سنة، ثم جاءه شخص وقال: أجرني مدة إجارتك، فأجره، فلا بأس، وهذا المؤجر الذي أجر غيره مالك للمنفعة، وعقد الإجارة يكون على المنفعة وليس على العين، فإذا استأجرت شيئاً وأجرته غيرك فالإجارة صحيحة، لكن اشترط المؤلف فقال:
«لا بأكثر منه ضرراً» يعني يقوم مقام المستأجر الذي أجر، لكن ليس أكثر منه ضرراً؛ فإن كان أكثر منه ضرراً فإنه لا يملك ذلك، مثاله: رجل استأجر دكاناً لبيع الحلي، ثم جاءه إنسان آخر بائع حلي فاستأجره مدة استئجاره، فهذا جائز؛ لأن الثاني يقوم مقام الأول.
رجل آخر استأجر دكاناً لبيع الحلي، فجاءه رجل صاحب مخبزٍ وقال: أريد أن أستأجره منك، فهذا لا يجوز أن يستأجره منه؛ لأن صاحب الفرن يضر الدكان أكثر من صاحب الذهب، إذاً يجوز أن يؤجره لمن يقوم مقامه، أي: أن يكون مثله في استيفاء المنفعة، أو أقل منه ضرراً.
مثال آخر: رجل آجر هذا الدكان لخباز، ثم جاءه بائع حلي، وقال: أجرني إياه مدة إجارتك، ففيه تفصيل:
إذا كان للمؤجر غرض صحيح في تأجيره صاحب المخبز، وهو أن يخدم هذه المنطقة؛ لأنها منطقة ليس فيها خباز، ومنع المالك المستأجر أن يؤجره غيره ولو كان أقل منه ضرراً، فهنا نقول: إن شرط عليه ذلك بأن قال: لا بد أن تقيم هنا مخبزاً، فليس له أن يؤجره من لا يخبز فيه، وإن لم يكن اشترط، فالظاهر لي في هذه الحال أنه ما دام له غرض صحيح فله أن يمنعه؛ لأن بعض الناس قد يكون له غرض، أما إذا لم يكن غرض صحيح فإنه إذا أجره لمن هو دونه فلا بأس.
وظاهر كلام المؤلف: أنه يجوز أن يؤجره بمثل الأجرة أو أكثر، فهل نأخذ بهذا الظاهر؟ الجواب: نعم، فيجوز للمستأجر أن يؤجر بقية مدته لغيره بأكثر من أجرته.
مثال ذلك: استأجر إنسان دكاناً في بلد فيه مواسم كمكة والمدينة، فيستغله في غير وقت المواسم، ثم جاءه شخص يريد أن يستأجره منه في وقت الموسم بأضعاف الأجرة التي استأجره بها، فهذا يجوز، وهذا ظاهر كلام المؤلف؛ لأن المؤلف لم
يقل: بشرط أن لا يأخذ أكثر من أجرته؛ لأنه مالك للمنفعة ملكاً تاماً والمالك له أن يتصرف، يبيع بقليل أو بكثير فليس فيه مانع.
وقال بعض العلماء: إنه لا يجوز أن يؤجر بأكثر، واستدلوا لذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ربح ما لم يضمن
(1)
، والمنافع غير مضمونة، ولهذا لو انهدم الدكان مثلاً انفسخت الإجارة، ولم يطالب صاحب الدكان بأن يؤمن له دكاناً آخر، والذين قالوا بالجواز أجابوا عن الحديث بأنه خاص في البيع، أما الإجارة فلا يشملها الحديث، والعمل الآن على القول الأول، أي: أن المستأجر له أن يؤجر مدة إجارته ولو بأكثر من الأجرة، وهو فيما يبدو أقرب إلى الصواب من المنع؛ لأن الحديث ليس صريحاً في مسألة الإجارة.
مسألة: لو أن الإنسان استؤجر على عمل في الذمة، بأن قيل له: نريد أن تنظف هذا البيت كل يوم ولك في الشهر مائة ريال، فاستأجر من ينظف البيت كل يوم على حسب ما حصل عليه العقد لكن بخمسين ريالاً، يجوز؛ لأن هذا من جنس ما إذا قلنا: إنه يجوز أن يؤجر بقية مدته بأكثر من الأجرة، وعلى هذا عمل الناس اليوم، تجد الدولة ـ مثلاً ـ تتفق مع شركة على تنظيف المساجد، كل مسجد الشهر بكذا وكذا، ثم إن هذه الشركة تأتي
(1)
أخرجه الإمام أحمد (2/ 174)، وأبو داود في البيوع/ باب في الرجل يبيع ما ليس عنده (3504)؛ والترمذي في البيوع/ باب ما جاء في كراهية بيع ما ليس عندك (1234)؛ والنسائي في البيوع/ باب سلف وبيع (7/ 295)؛ وابن حبان (4321)؛ والحاكم (2/ 17) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
قال الترمذي: حسن صحيح؛ وصححه ابن حبان والحاكم، ووافقه الذهبي.
بعمال يقومون بما تم عليه العقد بأقل من ربع ما اتفقت الشركة مع الحكومة عليه، إلا إذا كان الغرض يختلف بالنسبة للمستَأجَر، فإذا كان يختلف فهذا لا يجوز، مثل: إنسان استأجرته لينسخ لك زاد المستقنع، وتعرف أن الرجل خطه جيد وأن خطأه قليل، فاستأجر إنساناً خطه جميل يخطه بأقل مما أجرته به؟ يقول العلماء: إنه لا يجوز؛ لأن العبرة بالنسخ وليس بجمال الخط فحسب، ولكن بجمال الخط ووضع الفواصل والعلامات والإملاء، كم من إنسان خطه من أجمل الخطوط لكن في الإملاء يكتب {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] بالظاء المُشَالَة في الموضعين فهذا خطأ في الإملاء، وكثير من الطلاب خطوطهم جميلة لكن في الإملاء ليس عندهم قاعدة، وكثير من الناس خطه رديء ولا يعرف قراءته إلا من تمرَّن عليه ولكنه في الإملاء جيد، المهم على كل حال ما يختلف فيه الغرض لا يجوز لأحد أن يقيم مقامه غيره.
وَتَصِحُّ إِجَارَةُ الوَقْفِ، فَإِنْ مَاتَ المُؤَجِّرُ وَانْتَقَلَ إِلَى مَنْ بَعْدَهُ لَمْ تَنْفَسِخْ،
......
قوله: «وتصح إجارة الوقف» الوقف هو العين التي سُبِّلت منفعتها وحُبِّس أصلها، ويسمى عند الناس السبيل.
مثاله: إنسان أوقف بيته قال: هذا وقف على الفقراء، فإن البيت يبقى ولا يباع وأجرته أو سكناه للفقراء، وشخص آخر قال: هذا البيت وقف على أولادي، وأولاده الآن لا يمكن أن يبيعوه؛ لأنه وقف محبوس لكن يمكن أن ينتفعوا به بالسكنى أو بالتأجير أو ما أشبه ذلك، فالوقف تجوز إجارته، والمؤلف رحمه الله قال:«وتصح إجارة الوقف» لا لمجرد أن يبين لنا أن إجارة
الوقف صحيحة؛ لأن هذا أمر لا يحتاج إلى تنبيه لكن لما يتفرع عليه، إذاً الوقف تجوز إجارته ولا يجوز بيعه؛ لأن الإجارة واردة على المنفعة، والمنفعة ملك للموقوف عليه، وليست واردة على العين التي لا يجوز بيعها.
وظاهر كلام المؤلف: أنه لا فرق بين الوقف على معين كعلى أولاده، أو على غير معين كعلى الفقراء، أو على جهة تملك كما مثلنا، أو على جهة لا تملك كما لو وقف هذا البيت لمصالح المساجد، والمساجد لا تَمْلِك، فعلى كل تقدير تصح إجارة الوقف.
قوله: «فإن مات المؤجر وانتقل إلى من بعده لم تنفسخ» أَجَّر الوقفَ باعتبار أنه مستحِق ومات، فإن الوقف ينتقل إلى من بعده.
مثاله: قال: هذا وقف على أولادي ثم أولادهم، والأولاد أجَّروا ثم ماتوا، فإن الوقف انتقل إلى أولادهم، الآباء أجَّروا الوقف لمدة عشر سنين، لكن الله ـ تعالى ـ قضى عليهم بالموت في خلال ثمان سنوات وبقي من المدة سنتان، فهل تنفسخ الإجارة؟ المؤلف يقول: لا تنفسخ؛ لأن الآباء أجَّروا في وقت هم يملكون المنفعة، فنفذ العقد، فإذا انتقل إلى من بعدهم انتقل على أنه مؤجر، بقي علينا الأجرة هل تكون جميعها للأولين أو تكون جميعها للأولاد الذين انتقل إليهم الوقف أو كل له بقسطه؟
وَلِلثاني حِصَّتُهُ مِنَ الأُجْرَةِ، وَإِنْ أَجَّرَ الدَّارَ وَنَحْوَهَا مُدَّةً وَلَوْ طَويلَةً يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ بَقَاءُ العَيْنِ فِيهَا صَحَّ.
........
الجواب قوله: «وللثاني حصته من الأجرة» أي نصيبه، فعلى المثال الذي ذكرناه، مضى من المدة ثمانية من عشرة وهي أربعة أخماس فيبقى خمس، تكون خمس الأجرة للأولاد، فإذا قدَّرنا أنهم أجَّروها بألف ريال، فللذين أجَّروا وقد ماتوا في السنة الثامنة: ثمانمائة، وللآخرين: مائتان، فهذا هو كلام المؤلف رحمه الله.
ولكن يجب علينا أن نعرف الفرق في قيمة المنفعة، فقد تكون في بعض السنوات أكثر من بعض، ولكن يقال: إن كل منفعة قد قبضها أصحابها ولا سيما إذا كانوا يقولون: عشر سنوات كل سنة بمائة، إذا حددوا فواضح أن للآخرين مائتين من ألف، وإن لم يحددوا فربما ينظر في الموضوع ويعتبر فرق السعر بين الأول والثاني.
وقوله: «وللثاني حصته من الأجرة» هذا ما قرره المؤلف رحمه الله أنها لا تنفسخ، والعلة أن أولئك أجروا في وقت هم مالكون للمنفعة فكان عقدهم صحيحاً، وانتقل إلى البطن الثاني وهم الأولاد ومنفعته مملوكة للمستأجر، فتبقى الإجارة على ما هي عليه، كما لو أن رجلاً أجر بيته لشخص ثم مات فإن الورثة لا يفسخون الإجارة، ووجه المماثلة بين هذا وهذا، أن هذا الرجل أجر بيته في حال يملك تأجيره فلم تنفسخ الإجارة بموته، وهذا الموقوف عليه أجر الموقوف في زمن يملك منفعته فلم تنفسخ الإجارة بموته.
وقال بعض العلماء وهو المذهب: إنه إذا مات المؤجر
فإن الإجارة تنفسخ؛ لأن البطن الثاني يتلقى المنفعة من الواقف رأساً لا من البطن الأول، فهؤلاء انتهى استحقاقهم للوقف بمجرد موتهم ولم يبق لهم فيه شيء، وأما مسألة الميت إذا أجر ملكه ثم مات، فإن الورثة يتلقون الملك من المورث رأساً، والمورث حر في ملكه، واختار هذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
إلا أنهم قالوا: إذا كان المؤجِّر مشروطاً له النظر فإن الإجارة لا تنفسخ، سواء كان الشرط من الواقف، أو من الشارع، كأن يقول الواقف: هذا وقف على ذريتي والناظر فلان، وسمَّاه، سواء كان من الذرية أو من غير الذرية، ثم إن هذا الناظر أجَّر الوقف لمدة ثم مات، فإن الإجارة لا تنفسخ قولاً واحداً؛ لأنه أجر الوقف بنظر خاص من الواقف.
فإن كان الناظر على هذا الوقف هو القاضي، كأن يكون هذا الوقف موقوفاً على الفقراء ثم أجره القاضي ومات، فإن الإجارة لا تنفسخ؛ لأن القاضي مشروط له النظر بمقتضى الولاية العامة.
مثال: رجل وقف هذا البيت على ولده ثم أولاده، فهذا الولد أجر البيت عشر سنوات، ومات حين تم للأجرة خمس سنوات، فإن الوقف انتقل إلى الولد، فالمؤلف مشى على أن الإجارة باقية وللولد حصته من الأجرة، يعني من حين وفاة أبيه يأخذ الأجرة، لكن القول الثاني: أنها تنفسخ الإجارة، وللولد أن يطالب المستأجر بالخروج من البيت أو زيادة الأجرة أو يبقيه
بالأجرة أو يبقيه بأقل، وكذلك ـ أيضاً ـ المستأجر قد يقول: انفسخت الأجرة وأنا سوف أخرج، وهذا قد يكون من مصلحته، إذا نزلت الأجور.
فصار المؤجر للوقف ثلاثة أقسام:
الأول: مؤجر للوقف بمقتضى الوقفية، أي أن له النظر والتصرف؛ لأنه موقوف عليه.
الثاني: مؤجر بمقتضى شرط الواقف.
الثالث: مؤجر بمقتضى الولاية العامة مثل القاضي.
فالإجارة لا تنفسخ إذا كان المؤجرُ مشروطاً له النظر، أو الحاكمَ.
أما إذا كان التأجير من الموقوف عليه لا لأنه مشروط له النظر ولكن لأنه هو المستحق فهنا خلاف، فالمذهب واختيار شيخ الإسلام أنها تنفسخ، والمؤلف على أنها لا تنفسخ.
وعمل الناس الآن عندنا أنها لا تنفسخ، ولكن يبقى النظر إذا قلنا بأنها لا تنفسخ كما هو عمل القضاة وعمل الناس اليوم، فهل يجوز للبطن المستحقين أن يؤجروا مدة يغلب على الظن أنهم لا يعيشون إليها أو لا يجوز؟
نقول: لا يجوز، ما دمنا قلنا إن الإجارة لا تنفسخ، فهذا يعني أنهم سوف يعتدون على حقوق الآخرين وهذا لا يحل، فمثلاً لو قدرنا أن صاحب الوقف الآن بلغ إلى تسعين سنة، وأجره شخصاً آخر لمدة خمسين سنة فيكون عمره مائة وأربعين، والغالب أنه لا يعيش إلى هذه المدة، نقول: لا يحل لك أن
تؤجره، فكم يؤجرها؟ سنة مثلاً، لكن خمسين سنة هذا بعيد، فيقال له: أنت الآن مستحق ولا ننكر استحقاقك، لكن لا تؤجر مدة أكثر مما يغلب على الظن بقاؤك فيها وهذا حق؛ لأنه لو أجر وكان المعمول به أنها لا تنفسخ الإجارة، فهو اعتداء على حقوق الآخرين وهذا لا يجوز.
وهل للقاضي أن يؤجر مدة طويلة، أو لا؟ هذه تنبني على المصلحة، إن رأى المصلحة في تأجيرها مدة طويلة أجر، وإلا أجر في نحو سنتين أو ثلاث، حتى لا يحرم أصحاب البطون الأخرى.
وهل يجوز للبطن الأول أن يستسلف الأجرة؛ بمعنى أن يأخذ الأجرة مقدماً، فمثلاً إنسان هذا المحل وقف عليه، جاءته شركة وقالت: أنا أريد أن أستأجر منك هذا المحل عشر سنوات، وسأعطيك الآن الأجرة نقداً، كل سنة بعشرة الآف، عشرة في عشرة بمائة ألف.
فهذا لا يجوز، يعني لا يجوز للبطن الأول أن يستسلف الأجرة لأنه لا يدري، قد يموت وإذا مات معناها أنها دخلت في تركته، وربما ينفقها، وتضيع على البطن الثاني، فليس له أن يستسلف الأجرة.
ولو قال: أنا آخذ الأجرة مقدماً؛ لأنني سوف أعمر في الوقف، والوقف محتاج إلى التعمير فإن هذا يجوز؛ لأن هذا في مصلحة الوقف، وما دام لمصلحة الوقف فلا حرج.
قوله: «وإن أجر الدار ونحوها» كالدكان مثلاً.
قوله: «مدة ولو طويلة يغلب على الظن بقاء العين فيها صح» سواء ظن بقاء العاقد أم لم يظن، مثل أن يؤجر هذا البيت لمدة ستين سنة، فالإجارة صحيحة؛ لأن ستين سنة يغلب على الظن أن يبقى البيت إليها، ولا سيما إذا كان من الإسمنت، وكان جديداً، فإن الغالب أنه يبقى، فإذا أجرها هذه المدة صح، لكن لو انهدمت قبل تمام المدة انفسخت الإجارة لتلف العين المعقود عليها، وللمستأجر حصته من الأجرة فيما لم يستوف منفعته.
وقوله: «مدة ولو طويلة يغلب على الظن بقاء العين فيها» لو أجرها مدة طويلة يغلب على الظن أنها لا تبقى فيها، فظاهر كلام المؤلف أن الإجارة لا تصح.
ولكن يجب أن نعرف الفرق بين الأجرة التي يكون فيها العقد على نفس الدار، وبين الحِكر أو الحُكُورة التي يكون العقد فيها على منفعة الأرض، وهذا أظنه موجوداً في كثير من البلدان مثل الحجاز ونجد ومصر، تكون الأجرة على الأرض وليست على نفس البيت، ولهذا يملك المستأجر أن يهدم هذا البيت وأن يغيره وأن يتصرف فيه كما شاء، لكن في الإجارة المحضة لا يملك أن يتصرف في البيت.
ففرق بين أن آتي إلى رجل وأنا أريد أن أبقى في هذا البلد سنتين أو ثلاثاً وأقول: أجرني بيتك فيؤجرني إياه فالبيت لصاحبه، فالمستأجر لا يملك إلا الانتفاع، حتى إنه لا يملك أن يعدِّل باباً من الأبواب ولا أن يفتح فرجة في جدار؛ لأنه إنما استأجر المنفعة فقط أما العين فلا يتصرف فيها.
وفي مسألة (الحُكورة) وتسمى عندنا (الصُّبْرَة) من الصبر وهو الحبس، المعقود عليه ليس العين، بل المعقود عليه منفعة الأرض، ولهذا يجوز لمن عقد عقد (حكورة) أن يهدم البيت وينشئه من جديد، وصاحب الأرض لا يقول له شيئاً؛ لأنه يعرف أنه إنما أجره مدة بدراهم معينة، وليس له رغبة في نفس البيت أو في نفس الدكان، وهذا هو الذي عليه العمل الآن، ولهذا في بلدنا هذه يؤجرون الحكرة إلى مدة خمسمائة سنة وستمائة سنة وألف سنة.
على كل حال أقول: إن هناك فرقاً بين الأجرة المحضة وبين الحِكر؛ لأن الحكر إنما يقع العقد على الأرض ولا يلتفت الآخذ بهذا العقد إلى مسألة العين، لكن إذا كانت العين، يقول المؤلف: لا بد أن يكون إلى مدة يغلب على الظن بقاء العين فيها.
لو أجره البعير لمدة خمسين سنة فإنه لا يصح؛ لأن البعير لا يبقى إلى خمسين سنة، أو أجره سيارة لمدة مائة سنة فلا يصح؛ لأن الغالب أنها لا تبقى إلا أن توقف ولا تستعمل فهذا شيء آخر، لكن إذا استعملت فلا تبقى إلى هذه المدة.
فاشترط المؤلف في تأجير العين مدة يغلب على الظن بقاء العين فيها، فإن لم يغلب على الظن بقاء العين فيها فإنه لا يصح؛ لأنه لا يتم استيفاء المنفعة، ومن شرط الإجارة أن يمكن استيفاء المنفعة، فإذا استأجرها لمدة يغلب على الظن بقاء العين فيها، ولكنها لم تبقَ؛ فإن الإجارة تنفسخ ويسقط عن المستأجر بقسطه من الأجرة.
وَإنِ اسْتَأْجَرَهَا لِعَمَلٍ، كَدَابَّةٍ لِرُكُوبٍ إِلَى مَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ؛ أَوْ بَقَرٍ لِحَرْثٍ، أَوْ دِيَاسِ زَرْعٍ، أَوْ مَنْ يَدُلُّهُ عَلَى طَرِيقٍ، اشْتُرِطَ مَعْرِفَةُ ذَلِكَ وَضَبْطُهُ بِمَا لَا يَخْتَلِفُ.
قوله: «وإن استأجرها» أي: «العين» .
قوله: «لعمل كدابة لركوب إلى موضع معين، أو بقر لحرث أو دياس زرع، أو من يدله على طريق اشتُرط معرفة ذلك وضبطه بما لا يختلف» أفادنا المؤلف بهذا أنه يجوز أن تستأجر العين لعمل، يعني يستأجر عيناً ليعمل بها، كسيارة ليسافر بها إلى مكة، وكـ «مولد» لتوليد كهرباء لمدة معينة، وكـ «محرك» لاستخراج الماء لمدة معينة، وما أشبه ذلك، كل هذا جائز؛ لأنه ليس فيه احتكار على الناس، لكن يقول المؤلف: لا بد على من استأجر الدابة لركوب أن يكون إلى موضع معين معلوم، فإن قال: استأجرت منك هذه الدابة لأطلب عليها ضالتي التي ضاعت مني فالإجارة لا تصح؛ لأنها مجهولة؛ لأننا لا ندري أيجدها قريباً أم بعيداً، فلا بد أن يكون إلى موضع معين، إذا قال: استأجرت منك هذا البعير إلى بلد ما، فلا يصح للجهالة، أو استأجرت منك هذا البعير إلى بلد معين لكن صاحب البعير لا يدري أين هذا البلد فلا يصح أيضاً؛ لأنه لا بد من علم المؤجر والمستأجر.
وهل يشترط أن يعلم الطريق أسهل هو أم وعر، آمن أم خائف؟ نعم؛ لأنه يختلف به القصد، فمثلاً إذا استأجر بعيراً إلى بلد والطريق آمن مُيَسَّر، فليس كما لو استأجرها إلى بلد طريقه خائف وغير ميسر، فبينهما فرق عظيم، فالمهم أنه لا بد أن يعرف كل ما تختلف به الأجرة.
إذا استأجرها لحمل ليس لركوب فلا بد أن يعين المحمول؛ لأنه يختلف، مثلاً: هناك فرق بين أن يكون الحمل من القطن أو من الإسفنج وبين أن يكون من الرصاص فأيهما أشد؟ كل منهما أشد من الآخر فالإسفنج يكون كبيراً فيتعب البعير؛ لأنه سوف يستقبل الهواء، والهواء يعوق البعير ويتعبه، لكنه بالنسبة إلى ظهر البعير أيسر، والرصاص بالنسبة للهواء لا يضره، لكن بالنسبة لثقله على الظهر، ربما يجرحه ويكون فيه الدَّبَر، لذلك لا بد أن يعين نوع المحمول؛ لأن ذلك يختلف.
فصار لا بد أن يعين نوع المحمول والبلد وأن يعرف الطريق، ولو قال: استأجرت منك البعير لركوب رجل عليها إلى المدينة؛ فإنه يحتاج أن يعين الرجل؛ لأن من الركاب من هو خفيف على الدابة، لو تحرك عليها اشتدت به وصارت هملاجة، ومن الناس من لا تهتم به البعير، ثم يوجعها ضرباً وهي لا تمشي، ولهذا فالركاب الذين يعرفون الركوب سواء على الإبل أو على الخيل، يختلفون اختلافاً عظيماً، وسوف يأتي ـ إن شاء الله ـ في المسابقة أنه لا بد من تعيين الراكب؛ لأن الناس يختلفون.
ثم هناك فرق بين أن يكون الراكب كبير الجسم أو صغير الجسم، إذاً لا بد من تعيين الراكب، والقاعدة:(أنه لا بد من ذكر كل ما يختلف به القصد واستيفاء المنفعة)، ودليل ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم: نهى عن بيع الغرر
(1)
، والإجارة بيع منافع، وعلى هذا فلا بد أن لا يكون في هذه المنفعة شيء من الغرر.
(1)
سبق تخريجه ص (7).
وقوله: «أو بقر لحرث» فيما سبق الحرث يكون على البقر؛ تجتمع عدة بقرات وتسير سيراً واحداً، ثم ترجع باتجاه آخر حتى تلين الأرض.
فإذا استأجر البقر للحرث، فلا بد أن تعرف الأرض؛ لاختلافها في الشدة والليونة، وفي الرطوبة واليبوسة، ولا بد أن تعرف المساحة طولاً وعرضاً، حتى يمكن استيفاء المنفعة على وجه معلوم لا نزاع فيه.
ولو استأجر بقراً للركوب، فإن الفقهاء يقولون: يجوز أن يستعمل الحيوان في غير ما جرت العادة به، فيجوز أن يركب البقرة والجاموسة، على كل حال إذا استأجرها لهذا وكان مما جرت به العادة فلا بأس.
وقوله: «أو دياس زرع» الزرع الآن يداس بالآليات، آلات تخلص الحب من جرابه ومن ساقه، لكن فيما سبق يجمع الحب بجرابه وساقه ثم تأتي البقر وتدوسه حتى ينقى الحب، فإذا استأجرها لدياس فلا بد من معرفة القدر أو معرفة الزمن؛ فإن معرفة الزمن تكفي عن معرفة القدر؛ لأن الزمن محدد بالساعات والدياس لا يختلف، غاية ما هنالك أن البقر تدور حتى تدق السنبلة.
لو استأجر بقراً لسقي، يعني لتغرف الماء من البئر وتسقي به الزرع، فإنه يجوز، لكن لا بد من معرفة الغرب الذي يسقى به؛ لأن الغرب الكبير يشق عليها أكثر، فلا بد من معرفته حتى لا يحصل خلاف.
وقوله: «أو من يدله على طريق» يعني لو استأجر من يدله على طريق فلا بد من معرفة هذا الطريق، ولهذا قال:«اشترط معرفة ذلك وضبطه بما لا يختلف» .
فالطرق فيما سبق غير معبدة ويضل الناس فيها كثيراً ويهلكون كثيراً فيحتاجون إلى أدلاء، فإذا استأجر من يدله على الطريق كان ذلك جائزاً، وقد وقع هذا للنبي صلى الله عليه وسلم في هجرته من مكة إلى المدينة، حيث استأجر رجلاً يقال له: عبد الله بن أريقط وكان جيداً في الدلالة ماهراً خرّيتاً، وكان مشركاً فدلّهم على الطريق
(1)
، فيجوز أن أستأجرَ شخصاً يدلني على الطريق لكن لا بد من ضبطه بما لا يختلف، فإذا كان البلد له طريقان فلا بد أن أقول: تدلني مع الطريق الفلاني، أعيّنه؛ لأنه قد يكون الإنسان له غرض في الطريق البعيد ليزور ما فيه من القرى أو ما أشبه ذلك.
وبمناسبة ذكرنا عبد الله بن أريقط الذي دل النبي صلى الله عليه وسلم على الطريق في الهجرة، يؤخذ من ذلك أنه لا بأس في استئجار الكافر فيما يؤتمن عليه، سواء في دلالة الطريق أو في العلاج أو في الصنعة أو في البناء أو غير ذلك، لكن بشرط أن يكون أميناً، ويتفرع على ذلك أنه يجوز للمسلم أن يعمل بقول الطبيب الكافر في أن لا يصلي قائماً مثلاً، أو أن لا يركع، إذا كان العلاج مما يحتاج إلى عدم الركوع والسجود، وذلك ـ مثلاً ـ في مداواة الأعين، فإن كثيراً من الأطباء يقولون للمريض: لا تركع ولا
(1)
سبق تخريجه ص (5).
تسجد، فهذا يؤخذ بقوله، ولو كان كافراً ما دام أميناً، وكذلك في الإفطار.
وأما اشتراط بعضهم أنه لا بد أن يكون الطبيب مسلماً ففيه نظر، والصواب أنه لا بد أن يكون الطبيب أميناً سواء كان مسلماً أم غير مسلم، وكثير من الكفار يكون عنده أمانة، وإن كان لا يريد التقرب إلى الله عز وجل، لكنه يريد أن يعرف الناس صنعته وحذقه ونصحه فيتجهون إليه.
فإذا قال قائل: ما دليلكم على هذا؟ قلنا: دليلنا حديث الهجرة.
وهل يجوز أن نستأجر الكافر في بناء المساجد؟ الجواب: إذا أمنَّا ذلك، وكان القائم عليه مهندساً مسلماً فلا بأس، أما إذا لم يكن كذلك فإنه لا يجوز.
وَلَا تَصِحُّ عَلَى عَمَلٍ يَخْتَصُّ أَنْ يَكُونَ فَاعِلُهُ مِنْ أَهْلِ القُرْبَةِ ........
قوله: «ولا تصح على عمل يختص أن يكون فاعله من أهل القربة» هذه العبارة تداولها العلماء رحمهم الله وتلقوها ناشئاً عن سابق، ومعنى هذه العبارة أن كل عمل لا يقع إلا قربة فإنه لا يصح أن يؤخذ عليه أجرة؛ ووجه ذلك أن ما كان لا يقع إلا قربة فإنه لا يجوز للإنسان أن يعتاض عن ثواب الآخرة شيئاً من ثواب الدنيا، قال الله تعالى:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ *أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *} [هود] فحذَّر الله عز وجل أن يريد الإنسان بعبادته شيئاً من الدنيا، وقال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ
يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ *} [الشورى] فما كان لا يقع إلا قربة فإنه لا يصح أن تؤخذ الأجرة عليه.
مثال ذلك: الصلاة، لو قال رجل لابنه: صلِ يا بني، فقال الابن: لا أصلي إلا كل فرض بعشرة ريالات، ليستحق كل يوم خمسين ريالاً، فاستأجره، على أن يعطيه كل فرض عشرة ريالات فالأجرة هذه لا تصح؛ لأن الصلاة لا تقع إلا قربة.
وكذلك الأذان: لو أن إنساناً قيل له: أذن، فقال: ليس عندي مانع ولكن كل أذان بخمسة ريالات، فإنه لا يصح، ولو قيل لشخص: اقرأ القرآن ليكون ثوابه للميت، فقال: لا بأس، لكن لا أقرأ إلا الجزء بعشرة ريالات، فهذا لا يصح.
فكل شيء لا يقع إلا قربة فإنه لا يصح أن يقع عليه عقد الإجارة؛ والتعليل لأن هذا عمل يقصد به ثواب الآخرة ولا ينبغي أن يكون عمل الآخرة يراد به عمل الدنيا، ولهذا قال شيخ الإسلام فيمن حج ليأخذ:(ليس له في الآخرة من خلاق) أي ليس له نصيب، وأما من أخذ ليحج فقال: لا بأس به؛ لأنه استعان بالمال على طاعة الله، والاستعانة بالمال على طاعة الله أمر جائز ولا بأس به.
سئل الإمام أحمد رحمه الله عن رجل قيل له: أقم بنا في رمضان، يعني صل بنا القيام، فقال: لا أصلي بكم إلا بكذا وكذا، فقال الإمام أحمد رحمه الله: نعوذ بالله ومن يصلي خلف هذا؟! وهذا من الإمام أحمد يدل على أنه أبطل عبادته وبناءً على بطلان عبادته لا تصح الصلاة خلفه، وقد استعاذ الإمام
أحمد رحمه الله من هذا الشرط، ولكن ما يقع قربة بالقصد وينتفع به الغير فلا بأس أن يأخذ الإنسان عليه أجرة من أجل نفع الغير، كالتعليم، إنسان قال لآخر: أريد أن تعلمني باب شروط الصلاة، فقال: ليس عندي مانع، لكن بشرط أن تعطيني أجرة، فنقول: هذا لا بأس به؛ لأن العوض هنا ليس عن التعبد بالعمل ولكن عن انتفاع الغير به.
لو أن شخصاً طُلب منه أن يعلم آخر سورة البقرة فقال: لا أعلمه إلا بأجرة فإنه يجوز؛ لأن هذا للتعليم لا للتلاوة، وفرق بين أن يكون للتعليم الذي يتعدى نفعه للغير وبين التلاوة.
ولو أن إنساناً قال لمريض: أنا لا أرقيك إلا بأجرة، وهو يريد أن يرقيه بالقرآن، فهذا يجوز؛ ولهذا لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية، فنزلوا على قوم ضيوفاً، فأبى القوم أن يضيفوهم، بعث الله على سيدهم عقرباً فلدغته ـ وكانت والله أعلم شديدة ـ فطلبوا من يعالجه، قالوا: لعل هؤلاء القوم فيهم من يرقي، يعنون بذلك الصحابة رضي الله عنهم الذين تنحوا عنهم لمَّا لم يضيفوهم، فجاؤوا إلى الصحابة رضي الله عنهم وقالوا: إن سيدهم قد لُدغ، فهل منكم من راقٍ؟ قالوا: نعم، منا من يرقيه، ولكن لا نرقيه إلا بطائفة من الغنم؛ لأنكم ما أكرمتمونا، ولا ضيفتمونا، فقالوا: لا بأس، فقرأ عليه القارئ، فقام كأنما نشط من عقال بإذن الله، ولم يقرأ عليه إلا سورة الفاتحة فقط، التي يقرأها بعض الناس اليوم ألف مرة ولا يستفيد المريض، فقرأ عليه سورة الفاتحة وبرأ بإذن الله، فأعطوهم الطائفة من الغنم ولكن أشكل
عليهم الأمر، فقالوا: لا نأكل حتى نسأل النبي صلى الله عليه وسلم فلما قدموا المدينة وأخبروا الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا قال: «نعم: كلوا واضربوا لي معكم بسهم» عليه الصلاة والسلام، فأفتاهم بالقول وبالفعل من أجل أن تطمئن قلوبهم، وإلا فالفتوى القولية تكفي، وهو عليه الصلاة والسلام لا يسأل أحداً لكنه سأل هذا لمصلحتهم لا لمصلحته هو، فهو ليس بحاجة ولا ضرورة إلى لحمهم، لكنه فعل ذلك لمصلحتهم لتطيب قلوبهم قال:«خذوا واضربوا لي معكم بسهم فإن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله»
(1)
فدل هذا على أنه لا بأس إذا كانت العبادة ذات نفع متعدٍّ، وأراد الإنسان النفع المتعدي فلا بأس أن يأخذ عليه أجراً، ولو كانت من جنس الأشياء التي لا تقع إلا قربة؛ لأن هذا القارئ ما قصد التعبد لله بالقراءة بل قصد نفع الغير، إما التعليم أو الاستشفاء أو غير ذلك فهذا لا بأس به.
أشكل على بعض الإخوة المستقيمين ما يأخذه بعض الناس على الأذان والإقامة والتدريس والدعوة، وقالوا: إن هذا نقص وخلل في التوحيد؛ لأن هذا الذي يأخذ المكافأة لا شك أنه يجنح إليها، يعني ليس أخذها وعدمه عنده سواء، وأكثر الناس على هذا، بل ربما بعض الناس يصرِّح يقول: أنا أريد أن أكون إماماً لأني أريد أن أتزوج، أو لأني تزوجت وأحتاج إلى نفقة.
فيقول بعض الناس: إن هذا شرك؛ لأنه أراد بهذا العمل الصالح الدنيا، فيقال لهؤلاء: هذا الذي تأخذونه ليس أجرة،
(1)
سبق تخريجه ص (10).
ولكنه حق تستحقونه من بيت المال، وغاية ما عند الحكومة أن توزع بيت المال على المستحقين، فمثلاً: هذا مدرس فله ما يليق بعمله، وهذا مؤذن فله ما يليق بعمله، وهذا إمام فله ما يليق بعمله، وهذا داعية فله ما يليق بعمله، وهكذا، يعني ليس من الحكومة في هذا إلا التوزيع والتنظيم، أما أنت فلك حق، وكل من عمل عملاً متعدياً في المسلمين فله حق من بيت المال على حسب نتيجة هذا العمل وثمرته، وحتى من لم يعمل له حق من بيت المال، كالفقراء واليتامى ومن أشبههم، على كل حال هذه المسألة اشتبهت على بعض المستقيمين ولهذا يسألون عنها كثيراً، حتى إن بعضهم يكون أهلاً للإمامة تماماً، قارئاً وفقيهاً ولا يرغب؛ لأنه سوف يعطى مكافأة من بيت المال، فنقول: الحمد الله، أنت الآن لست مستأجراً ولكنك مستحق لهذا العمل الصالح ونفع المسلمين، فليس عليك أي بأس، فينبغي إذا أورد أحد هذا الإشكال أن يبيَّن له.
بقي علينا الحج، هل يجوز الاستئجار على الحج، مثل أن يستأجر شخصاً ليحج عنه أو لا؟
نقول: أولاً: إذا كان الحج فريضة والمستأجر قادر، فالإجارة لا تصح؛ لأن هذا يجب عليه أن يؤدي الفرض بنفسه؛ لأنه قادر بدنياً ومالياً، وإذا كان عاجزاً عجزاً لا يرجى زواله وحجه فريضة، قد سبق لنا في الوكالة أنه يجوز أن ينيب عنه، واستدللنا لذلك بحديث الخثعمية التي قالت: إن أبي أدركته فريضة الله على عباده بالحج شيخاً كبيراً لا يثبت على الراحلة،
أفأحج عنه؟ فأذن لها
(1)
، فهل تجوز الأجرة على ذلك أو نقول: اتفق مع الذي أراد أن ينيبك، ولا تبحث عن المقدار سواء أعطاك عشرة أو ألفاً؟
أما إذا كان الحج نفلاً فقد سبق لنا في الوكالة ـ أيضاً ـ أنه إن كان مريضاً مرضاً لا يرجى برؤه، فإنه يمكن أن يقال بالجواز قياساً على الفريضة، وإن كان صحيح البدن قوياً فالذي نرى أنه لا يصح؛ لأن العبادات مطلوب من الإنسان أن يشعر بأنه عابد لله ذليل، لا أن يعطي دراهم لشخص ويحج عنه، هل قال الذي أنابه: لبيك اللهم لبيك؟! لم يقل، هل طاف بالبيت أو سعى بين الصفا والمروة؟! هل وقف بعرفة؟! فأين الحج؟! كيف نقول: إن هذا حاج؟! وكيف نقول: إن له أجر الحج؟!
ولهذا قلنا: إن مثل هذا ينبغي أن يُعِينَ من يؤدي الحج عن نفسه أفضل له من أن يقول: حج عني، على كل حال، في الحال التي يجوز فيها أن يستنيب أحداً في الحج، هل يجوز أن يعقد عقد إجارة على هذه النيابة أو لا؟ المذهب لا يجوِّزون هذا ويقولون: الإجارة على الحج حرام؛ لأن الحج عبادة بدنية لا تقع إلا قربة، ليس كتعليم الفقه والحديث وما أشبه ذلك، فلا يجوز، وفيه وجه
(2)
أنه يجوز عقد الإجارة على الحج، وعمل الناس الآن على الثاني ولا يسع الناس إلا هذا، يعني لو قلنا: بأن
(1)
أخرجه البخاري في الحج/ باب وجوب الحج (1513)؛ ومسلم في الحج/ باب الحج عن العاجز (1334) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(2)
الإنصاف (6/ 36).
الإجارة حرام سددنا باب النيابة نهائياً، من يُوفَّق فيقول: أنا أريد أن أقضي حاجة أخي وأقوم عنه بالحج وما أعطاني فأنا راضٍ به؟! هذا نادر أن يكون.
وقال بعض العلماء: إن ذلك جائز للحاجة فقط، وأما مع عدم الحاجة فلا يجوز، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وجعل المدار على حاجة المستَأجَر ـ الذي أجر نفسه ـ إن كان محتاجاً جاز أخذ الأجرة، وإلا فلا.
وهل يجوز إعطاء الجائزة عليه؟ نعم يجوز، ولهذا يجوز أن تعطي من يحفظ عشرة أجزاء من القرآن ـ مثلاً ـ كذا وكذا ولا مانع.
والقاعدة: أن كل عمل لا يقع إلا قربة فلا يصح عقد الإجارة عليه، وما كان نفعه متعدياً من القرب صح عقد الإجارة عليه، بشرط أن يكون العاقد لا يريد التعبد لله ـ تعالى ـ بهذه القربة، وإنما يريد نفع الغير الذي استأجره لاستيفاء هذه المنفعة.
ما هو العمل الذي يشترط أن يكون فاعله من أهل القربة، ومن هم أهل القربة؟ أهل القربة يقولون: هو المسلم؛ لأن الكافر لا يكون من أهل القربة إطلاقاً، إذ إنه مهما عمل فإنه لا يقرِّبه عمله إلى الله، فكل عمل يصح إيقاعه من الكافر فعقد الإجارة عليه صحيح ولا بأس به حتى بناء المسجد، فلو أنك استأجرت إنساناً يبني لك مسجداً فلا بأس؛ لأن بناء المسجد يجوز أن يكون من الكافر، يعني يجوز أن يبني الكافر المسجد، إلا أننا نرى أنه لا بد أن يكون عليه قيم يراقب تنفيذه، البناء وأساسات البناء حتى لا يخون.
فأهل القربة هم المسلمون؛ وذلك لأن الكفار مهما خشعوا وبكوا وذلوا أمام صنمهم فإن ذلك ليس بقربة، ولهذا يذكر أن النصارى في كنائسهم يخشعون خشوع المسلمين في مساجدهم، بكاء، ونياح، وعويل، لكن لا ينفعهم هذا، حتى قال بعضهم في قوله تعالى:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ *عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ *تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً *} [الغاشية] إن هؤلاء هم النصارى في كنائسهم، لكن هذا على كل حال غير صحيح؛ لأن الآية صريحة بأن ذلك يوم القيامة:{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ *} {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ} [الغاشية: 1 ـ 2].
على كل حال الكافر لا يمكن أن يكون من أهل القربة، فإن قال قائل: أرأيتم لو أن كافراً بنى مسجداً للمسلمين أتجوز الصلاة فيه؟ هو لا يقبل منه ولا ينفعه حتى لو صلينا فيه ليس له أجر، لكن نحن لا نمتنع من الصلاة فيه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:«جعلت لي الأرض مسجداً»
(1)
نعم إن خفنا أن يريد هذا الكافر أن يصطاد بالماء العكر، أو أن يضفي مِنَّةً على المسلمين ويقول يوماً من الدهر: نحن الذين بنينا لكم المساجد، فهنا يجب علينا أن نهجر هذا المسجد، ويجب على المسلمين أن يتعاونوا في هذا وأن لا يخون بعضهم بعضاً، أما إذا كان هذا الرجل الكافر معروفاً بالكرم وأنه يعطي هذا وهذا ولا يبالي ولا يمن، ولا يرى أن له فضلاً فلا بأس ولا مانع.
(1)
أخرجه البخاري في التيمم/ باب (335)؛ ومسلم في الصلاة/ باب المساجد ومواضع الصلاة (521) عن جابر رضي الله عنه.
ومن ذلك ـ أيضاً ـ ما أشكل على بعض الناس يأتي إنسان يتعامل بالبنك أو يتعامل بأشياء أخرى محرم كسبها، ثم يبني مسجداً أو يصلح طريقاً فيقول: هل يجوز أن أصلي في هذا المسجد الذي أصلحه مَنْ مَالُهُ حرامٌ أو أمشي في الطريق؟ نرى أنه لا بأس أن يصلي في هذا المسجد ولو كان من مال ربوي أو من كسب محرم آخر؛ لأن إثمه على كاسبه، ثم نقول: هذا الرجل الذي بنى المسجد، لعله أحدث توبة وبنى هذا من أجل أن يتخلص من الإثم والكسب الحرام، فنكون إذا صلينا في ذلك وشجعناه نكون عوناً له على التوبة، والإنسان يجب أن ينظر إلى الأمور بمقياس الشرع والعقل لا بمقياس العاطفة العمياء؛ لأنه ما ضرَّ المسلمين حتى في عهد الصحابة رضي الله عنه إلا هذا، العاطفة العمياء، ما الذي أوجب للخوارج أن يخرجوا إلا العاطفة العمياء، ودعواهم أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قد خان وأنه يجب أن يقاتَل، وأنه كفر برضاه بالتحكيم وما أشبه ذلك.
ولو غصب أرضاً وبنى عليها مسجداً فلا نصلي فيها، أما على قول من قال: إن الصلاة في الأرض المغصوبة باطلة فلا نصلي فيه؛ لأننا لا نتقرب إلى الله ـ تعالى ـ بشيء باطل، لكن على قول من يرى أن الصلاة في الأرض المغصوبة جائزة فنقول: أيضاً لا نصلي، ولا نقول: إن الصلاة لا تصح لكننا نقول: إن هذا تشجيع لهذا الغاصب الظالم أن يغصب أموال المسلمين، ثم يتبجح بأنه بنى عليها مسجداً.
وَعَلَى المُؤَجِّرِ كُلُّ مَا يُتَمَكَّنُ بِهِ مِنَ النَّفْعِ كَزِمَامِ الْجَمَلِ، وَرَحْلِهِ، وَحِزَامِهِ، وَالشَّدِّ عَلَيْهِ، وَشَدِّ الأَحْمَالِ وَالمَحَامِلِ، وَالرَّفْعِ وَالحَطِّ، وَلُزُومِ البَعِيرِ، وَمَفَاتِيحِ الدَّارِ وَعِمَارَتِهَا.
قوله: «وعلى المؤجر كل ما يتمكن به من النفع كزمام الجمل ورحله وحزامه والشد عليه وشد الأحمال والمحامل والرفع والحطِّ ولزوم البعير ومفاتيح الدار وعمارتها» ، إنسان أجر شخصاً بعيراً ليحج به، نقول: عليك كل ما يتمكن به المستأجر من النفع «كزمام الجمل» والزمام هو الحبل الذي تقاد به الناقة أو الجمل.
وقوله: «ورحله» وهو ما يقعد عليه الراكب.
وقوله: «وحزامه» وهو ما يشد به الرحل.
وقوله: «والشد عليه» يعني يشد هذا الرحل والحزام جيداً، ويحتمل أنه إذا نزلوا في مكان، ونزلوا الرحل عن البعير، أن المؤجر هو الذي يحمل الرحل ويشده على البعير.
وقوله: «وشد الأحمال والمحامل» الأحمال يعني الحمل الذي يكون على البعير كالأكياس والأواني وما أشبه ذلك، والمحامل هي التي تكون على جنب الرحل يركب عليها الناس وهذا شاهدناه قديماً، تكون البعير عليها من اليمين ومن الشمال مقاعد يقعد عليها الراكب وتسمى المحامل، والوسْط يسمى الشِّداد.
وقوله: «والرفع والحط» يعني يرفع المحامل وينزلها عند الاحتياج إليها، فلو أنه ـ مثلاً ـ أنزلها وبقوا في هذه الأرض لمدة يوم أو يومين، ولما أرادوا أن يسيروا قال المستأجر للمؤجر: ارفع الرحل وشده، قال: لا، أنت الذي ترفعه؛ لأن الحاجة لك
أنت، فهذا لا يستقيم؛ لأن الحاجة له، لكن هذه الحاجة عُوِّضَ عنها بالأجرة فيقال للمؤجر: عليك هذا.
وقوله: «ولزوم البعير» أي: أن يكون ملازماً لها لئلا تشرد، أو يأتيها شيء يعيقها فيلزم المؤجر البعير.
وهذا فيما إذا كان المؤجر مع الرحل والإبل، أما إذا آجر البعير وحدها وقال: خذ هذه البعير سافر عليها وارجع بها، فمعلوم أن هذه الأشياء لا تلزم المؤجر؛ لأنه غير مصاحب لها، لكن مراد الفقهاء رحمهم الله فيما جرت به العادة أن المؤجر يكون مع الإبل ويسمى عندنا الجمَّال نسبة إلى الجمل، فإذا كان الجَمَّال مع الجِمَال فإنه يلزمه ما قال المؤلف، أما إذا أجر الدابة فقط فلا يلزمه شيء من ذلك.
وقوله: «ومفاتيح الدار» مفاتيح الدار على المؤجر، وعلى هذا فإذا ضاعت من المستأجر بدون تعدٍّ ولا تفريط، وجب على المؤجر أن يصنع له بدلها، ويعطيها إياه؛ لأنها على المؤجر، وهي أمانة في يد المستأجر.
وقوله: «وعمارتها» بمعنى لو أن الدار تهدم منها شيء لا يتمكن به المستأجر من استيفاء المنفعة فإن على المؤجر عمارتها، وأما ما زاد على ذلك فإنه لا يلزمه إلا بشرط، كالذي يسمونه:(الديكور) فهذا لا يلزم المؤجر إلا إذا شُرِطَ عليه.
أما المراوح والمكيف فإنها على المؤجر، بخلاف الدفايات فإنها على المستأجر؛ وذلك لأن كل ما كان ثابتاً فإنه على المؤجر، وأما الشيء المتنقل فإنه يكون على المستأجر.
فَأَمَّا تَفْرِيغُ البَالُوعَةِ وَالكَنِيفِ، فَيَلْزَمُ المُسْتَأْجِرَ إِذَا تَسَلَّمَهَا فَارِغَةً.
قوله: «فأما تفريغ البالوعة والكنيف فيلزم المستأجر إذا تسلمها فارغة» ، «البالوعة» هي الحفرة التي يصب فيها الماء الفاضل من غسيل ونحوه وسمِّيت بالوعة؛ لأنها تبلع الماء، وأما الكنيف فهو مجمع العذرة، وكانوا فيما سبق يحفرون حفرة لتكون فيها العذرة، والبيت الذي يكون فيه هذه الحفرة يسمى الكنيف؛ لأن صاحبه يكتنف فيه أي يستتر عن الغير، والبالوعة والكنيف هل على المستأجر إفراغها أو على المؤجر؟ على المستأجر؛ لأنه هو الذي ملأها، ولهذا اشترط المؤلف وقال:«إذا تسلمها فارغة» تكون عليه؛ لأنه تسلمها فارغة فلزم أن يردها فارغة، فإن تسلمها وفيها النصف فعليه النصف وهلم جراً، يعني بحسب ما أدرك من ملئها فيكون عليه.
في الوقت الحاضر ليس هناك بالوعة ولا كنيف في أكثر البلاد، فيقال: على المؤجر إصلاح المواسير أي المجاري؛ لأن هذا يبقى، لكن لو تسددت هذه المجاري فإنها على المستأجر؛ لأنها تسددت بفعله، وكل هذا الذي قاله الفقهاء رحمهم الله يمكن أن يقال: إنه يرجع إلى العرف فيما جرت العادة أنه على المستأجر أو على المؤجر، فإن تنازع الناس فربما نرجع إلى كلام الفقهاء، وأما بدون تنازع وكون العرف مطرداً بأن هذا على المؤجر وهذا على المستأجر، فالواجب الرجوع إلى العرف لقول الله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] وهذا أمر بالوفاء بالعقد بأصله وصفاته وشرطه.
فَصْلٌ
وَهِيَ عَقْدٌ لَازِمٌ، فَإِنْ آجَرَهُ شَيْئاً وَمَنَعَهُ كُلَّ المُدَّةِ أَوْ بَعْضَهَا فَلَا شَيْءَ لَهُ.
قوله: «وهي» الضمير يعود على الإجارة.
قوله: «عقد لازم» أي لا يمكن فسخه إلا لسبب؛ وذلك أن العقود تنقسم إلى ثلاثة أقسام: عقود جائزة من الطرفين، وعقود لازمة من الطرفين، وعقود لازمة من طرف جائزة من طرف آخر، وذلك إذا كان العقد حقاً لأحدهما على أحدهما، فهو لمن هو له جائز، ولمن هو عليه لازم.
فالبيع لازم؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «فقد وجب البيع»
(1)
والوكالة عقد جائز من الطرفين لكل من الوكيل أو الموكل الفسخ، والكتابة أي: كتابة العبد وهو شراء نفسه من سيده عقد لازم من جهة السيد وجائز من جهة العبد، والرهن عقد جائز من جهة المرتهن، ولازم من جهة الراهن.
والإجارة عقد لازم؛ وذلك لأنها نوع من البيع، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا» ثم ذكر أنهما إذا تفرقا ولم يترك أحدهما البيع فقد وجب البيع.
ثم فرع على هذا الضابط وهو أن الإجارة عقد لازم بقوله:
«فإن آجره شيئاً ومنعه» أي: المؤجر، والضمير «الهاء» يعود على المستأجر، أي: منع المؤجرُ المستأجرَ.
(1)
أخرجه البخاري في البيوع/ باب إذا خير أحدهما صاحبه (2112)؛ ومسلم في البيوع/ باب ثبوت خيار المجلس (1531)(44) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
قوله: «كل المدة أو بعضها فلا شيء له» ، أي: لا شيء للمؤجر.
مثال ذلك: أجره هذه الدار لمدة سنة، فجاء المستأجر يطلبها فمنعه، ومضت السنة كلها وهو قد منعها، فهل له أجرة؟ لا شيء له؛ لأنه هو الذي منعها، ولكن هل يلزمه الفرق بين الأجرتين أي: أجرة المثل والأجرة التي تم العقد عليها لو اختلفت، أو لا يلزمه؟ فمثلاً لو كان قد أجرها بعشرة آلاف وارتفعت الأجور حتى صارت تساوي في هذه السنة عشرين ألفاً، فهل يلزم المؤجر أن يسلم للمستأجر الفرق وهو عشرة آلاف؟
الجواب: على ما مشى عليه المؤلف رحمه الله نقول: الإجارة انتهت ولا شيء للمؤجر ولا شيء على المستأجر، وعلى القول الثاني يلزمه؛ لأن الإجارة لا تنفسخ، والمنفعة من حين العقد ملك للمستأجر فإذا منعه إياها يكون غاصباً، والغاصب عليه الضمان.
وإن كانت الأجرة نزلت فهل يلزمه النقص؟ لا؛ لأننا إذا قلنا بذلك صار فيه ضرر على المستأجر، فإن بقيت الأجرة كما هي فالأمر واضح.
ولو أجره إياها لمدة سنة باثني عشر ألفاً، ثم منعه ستة أشهر، ثم فَرَّغ البيت له وسكن المستأجر بقية المدة، فهل على المستأجر شيء؟ المؤلف يقول: لا شيء عليه؛ لأن المؤجر فوَّت على المستأجر منفعة الدار؛ إذ قد يكون من غرض المستأجر أن يبقى فيها مدة سنة كاملة.
فإن قال قائل: لماذا لا تعطونه القسط من الأجرة إذا منعه بعض المدة؟
فالجواب: أن الإجارة وقعت على صفة معينة وهي سنة كاملة، وهذا الرجل لم يسلم له العين المؤجرة على هذه الصفة فلم يستحق الأجرة، هذا وجه.
الوجه الثاني: أنه ظالم معتدٍ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«ليس لعرق ظالم حق»
(1)
، وقال تعالى:{إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الشورى: 42].
الوجه الثالث: أن نقول للمؤجر: الأمر بيدك أنت الذي منعت وأنت الذي تمكن، فلما منعت كنت أنت الذي أسقطت حقك بنفسك فلا حق لك.
ومثل ذلك لو أجره البعير ليسافر عليها، ومنعه إياها، وفي أثناء الطريق سلمها له، فهل له أجرة فيما بقي؟ المؤلف يقول: ليس له أجرة؛ لأنه منع المستأجر حقه فسقط حقه، أي: المؤجر.
وظاهر كلامه ـ أيضاً ـ أنه لا فرق بين أن يمنعه بعض المدة
(1)
أخرجه البخاري معلقاً بصيغة التمريض في الحرث والمزارعة/ باب من أحيا أرضاً مواتاً، وأخرجه أبو داود في الخراج/ باب في إحياء الموات (3073)؛ والترمذي في الأحكام/ باب ما ذكر في إحياء أرض الموات (1378) عن سعيد بن زيد رضي الله عنه.
وأخرجه أبو داود في الموضع السابق (3074) عن عروة بن الزبير قال: قال رجل من الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وحسنه الحافظ في البلوغ (897) وذكر له طرقاً أخرى في الفتح (5/ 19) ثم قال: وفي أسانيدها مقال لكن يتقوى بعضها ببعض، ومثله في الإرواء (1520).
لعذر أو لغير عذر؛ وذلك لأن حقوق الآدميين لا يفرق فيها بين العذر وغيره، وقد يقال: إنه إذا كان لعذر فإنه يلزم المستأجر أجرة بقية المدة، والعذر مثل أن يُمْنَعَ صاحبُ الدار من الاستيلاء عليها، فحينئذٍ نقول: له ما بقي من المدة، وللمستأجر أن يطالب الذي منعه بمقدار المدة التي منعه إياها.
مثال ذلك: رجل أجَّر شخصاً البيت لمدة سنة تبتدئ من الآن، لكن سُلط على هذا البيت جنود استحلُّوه غصباً، ولم يُسلَّمْ إلى صاحبه إلا بعد نصف سنة فصاحب البيت معذور، له نصف الأجرة؛ لأنه سُلِّم البيت عند انتصاف المدة، والمستأجر يطالب الجنود الذين منعوا صاحب البيت منه، فإن تعذر عليه طلبهم فلا يرجع على المؤجر؛ لأن المؤجر يقول: هذا حصل بغير اختياري.
وَإِنْ بَدَأَ الآخَرُ قَبْلَ انْقِضَائِهَا فَعَلَيْهِ وتَنْفَسِخُ بِتَلَفِ العَيْنِ المُؤْجَرَةِ، وَبِمَوْتِ المُرْتَضِعِ وَالرَّاكِبِ إِنْ لَمْ يُخَلِّفْ بَدَلاً، وَانْقِلَاعِ ضِرْسٍ أَوْ بُرْئِهِ وَنَحْوِهِ،
…
قوله: «وإن بدأ الآخر» أي: المستأجر.
قوله: «قبل انقضائها فعليه» يعني امتنع من سكناها فعليه الأجرة كاملة، ولا يقال: إنه ليس عليه إلا مقدار المدة؛ لأن المؤجر يقول: أنا الآن سلَّمتك البيت بأجرة فوجب لي في ذمتك الأجرة ووجب لك أنت النفع، وأنت قد استلمت النفع.
مثال ذلك: رجل استأجر بيتاً مدة الإجازة وهي ثلاثة شهور كل شهر بألف ريال، ثم إن المستأجر تأخر ولم يقدم البلد إلا بعد أن مضى شهرٌ، فيلزمه للمؤجر ثلاثة آلاف، يعني الأجرة كاملة؛ لأن المؤجر لم يحصل منه منع ولا غيره، فقد بذل العين المؤجرة ولكن التأخير من المستأجر، ولهذا قال: «وإن بدأ الآخر
قبل انقضائها» أي: قبل انقضاء المدة «فعليه» أي: عليه الأجرة.
مثال آخر: استأجر هذا البيت لمدة ثلاثة أشهر وسكن فيه شهرين، ثم بدا له أن يرجع إلى بلده وقد بقي شهر، فهل عليه أجرة الشهر الباقي؟ نعم؛ لأن المؤجر يقول: أنا لا أمنعك استيفاء المنفعة.
فالإجارة عقد لازم، إن فسخت من قبل المؤجر فلا شيء له، وإن فسخت من قبل المستأجر فعليه الأجرة، وإن فُسِخت باختيارهما فعلى المستأجر مدة سكناه، ولا شيء عليه أكثر من ذلك، فإن استأجرها بألف لمدة ثلاثة شهور ولما مضى شهر اتفق هو والمؤجر على فسخ الإجارة، فهنا ليس عليه شيء، لكن عليه الشهر الذي سكنه، وأما الباقي فلا شيء عليه؛ لأنهما اتفقا على ذلك.
ثم قال المؤلف مبيِّناً ما تنفسخ به الإجارة:
«وتنفسخ» أي الإجارة.
قوله: «بتلف العين المؤجرة» لتعذر الاستيفاء، فلو آجره داراً فانهدمت فإن الإجارة تنفسخ، وعلى المستأجر أجرة ما سبق من المدة بالقسط، فلو استأجرها لمدة سنة بألف ومائتين، وانهدم البيت بعد تمام ستة أشهر يلزمه ستمائة، فإن قدر أن الزمن الذي انهدمت فيه زمن موسم تكون فيه العقارات أغلى، كأن تكون أربعة الأشهر الأخيرة تساوي ثلثي الأجرة، وهذا يوجد في بيوت مكة والمدينة، يكون قسط الأجرة باعتبار قيمة المنفعة لا باعتبار قيمة الزمن، فقد تكون ستة أشهر إذا وزعنا الأجرة عليها مع بقية
السنة لا تساوي إلا ربع الأجرة، فنعطيه ثلاثمائة.
ولو استأجر سيارة فانحرقت، فإن الإجارة تنفسخ، وعلى المستأجر قسط المدة التي استأجرها لها.
قوله: «وبموت المرتضع» لو أن شخصاً استأجر امرأة لترضع ولده لمدة سنة فمات الولد، فإن الإجارة تنفسخ؛ لأن العين المعقود عليها ـ وهو الراضع ـ قد تلفت، فلا يمكن استيفاء المنفعة مع تلفها.
قوله: «والراكب إن لم يخلِّف بدلاً» مثال ذلك: لو استأجر شخص في النقل الجماعي من مكة إلى المدينة، وفي أثناء الطريق مات فهل تنفسخ الإجارة؟ المؤلف يقول: في ذلك تفصيل، إن خلف بدلاً ـ والبدل هو الوارث أو الموصى له ـ فلا تنفسخ، وإن لم يخلف بدلاً انفسخت؛ وذلك لأنه إذا خلف بدلاً فإنه يقوم مقامه، وإذا لم يخلف بدلاً فقد تعذر استيفاء المنفعة من قبل العاقد.
قوله: «وانقلاع ضرس» يعني تنفسخ ـ أيضاً ـ بانقلاع ضرس، فلو أن شخصاً استأجر طبيباً ليقلع ضرسه، فانقلع الضرس قبل أن يأتي الطبيب، فإن الإجارة تنفسخ، لتعذر الاستيفاء؛ لأن المعقود عليه ـ وهو الضرس الذي استؤجر لقلعه ـ انقلع، فلو أصرَّ الطبيب وقال: لا بد أن أقلع الضرس الثاني، فإنه لا يُمَكَّن من ذلك؛ لأنه استؤجر على قلع ضرس معين، والضرس المعين قد انقلع فلا شيء له.
قوله: «أو برئه» يعني لو برئ الضرس فإن الإجارة تنفسخ، مثال ذلك: رجل التهب ضرسه وتورَّم، واستأجر طبيباً لقلعه، ثم إن الله ـ سبحانه ـ مَنَّ عليه بالشفاء وزال الورم وسكن الألم فإن الإجارة تنفسخ؛ لأنه قد استأجره لقلع ضرسه من أجل ألمه ومرضه، لا لأنه لا يريد الضرس، فتنفسخ، ولو وقع خلاف بين الطبيب الذي أتى بآلاته واستعد وفرغ زمناً من وقته لقلع هذا الضرس، فقال صاحب الضرس: إنه قد سكن الألم وبرئ، فقال الطبيب: لم يبرأ، فمن نصدق؟ صاحب الضرس بيمينه.
وإذا ادَّعى صاحب الضرس أن الألم قد سكن؛ لأنه علم أن الطبيب سيأخذ أجرة كثيرة، هذا فيه احتمال، لكن ولو كان وارداً فلا نقبله؛ لأن معرفة كونه برئ أو لم يبرأ لا يعلم إلا من جهته، فإذا قال الطبيب: أنا سوف أسقيه ماءً بارداً فإن تغير وجهه، أو شد لحييه عرفنا أنه لم يبرأ وإلا فهو بارئ، فإذا قيل: إن هذا الاختبار يؤدي إلى المقصود اختبرناه، كما قال العلماء في الجنايات فيمن جُني عليه فادعى أنه فقد السمع، ومعلوم أن الرجل إذا جُني عليه حتى فقد السمع، فعلى الجاني دية كاملة مائة بعير، والجاني يقول: أبداً ما فقد السمع وهو يقول: فقدتُ السمع، قالوا: يُختبر بأن يؤتى على غفلة ويصاح به فإن أحس فإنه كاذب في دعواه أنه ذهب السمع، وإن لم يحس فهو صادق، وهذا لا شك أنه من الأسباب التي تدل، ومثله البصر قالوا: إذا ادعى أن بصره فُقد في الجناية فإنه يُختبر، بأن يغتفله إنسان ثم يضع يده عند عينه فإن رمش فهو مبصر وإلا فلا.
هذا الذي قاله الفقهاء رحمهم الله لكن ربما يوجد الآن وسائل أدق من هذا يختبر بها ذلك.
قوله: «ونحوه» مثل أن يستأجر طبيب لمداواة مريض، فلما وصل لمداواة المريض وإذا المريض قد مات، فإن الإجارة تنفسخ، ولو كان في البيت مريض آخر فقال الطبيب: مات المريض الذي دعوتموني له فأنا أداوي الثاني ولا تنفسخ الأجرة، فلا يُوافَق؛ لأن المعقود عليه عين المريض وقد فاتت.
لَا بِمَوْتِ المُتَعَاقِدَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا، وَلَا بِضَيَاعِ نَفَقَةِ المُسْتَأْجِرِ وَنَحْوِهِ. وَإِنِ اكْتَرَى دَاراً فَانْهَدَمَتْ، أَوْ أَرْضاً لِزَرْعٍ فَانْقَطَعَ مَاؤُهَا، أَوْ غَرِقَتْ، انْفَسَخَتْ الإِجَارَةُ فِي البَاقِي.
قوله: «لا بموت المتعاقدين أو أحدهما» يعني لا تنفسخ الإجارة بموت المتعاقدين أو أحدهما؛ وذلك لأن المعقود عليه باقٍ، فلو أجر بيته شخصاً ثم مات المؤجر أو المستأجر لم تنفسخ الإجارة؛ لأنها عقد لازم، وكما هو معلوم الناس يستأجرون البيوت وهذا يموت وهذا يولد له، وهكذا، وكذلك لو ماتا جميعاً لم تنفسخ أيضاً؛ لأنهما إذا ماتا انتقل إلى ورثتهما.
وسبق في كلام المؤلف أنه إذا مات الراكب ولم يخلف بدلاً فإنها تنفسخ، والراكب أحد المتعاقدين، فهل نقول: إن في كلامه تناقضاً، أو نقول: إنه مشى فيما سبق على قول، وفي الثانية على قول آخر؟ مشى صاحب الإنصاف على هذا، وقال: إن صاحب المقنع رحمه الله مشى في أول كلامه على قول، وفي الثاني على قول آخر، ولكن عندي أن الجمع بينهما هو أنه في الأول عُيِّن الراكب، قال: أنا أستأجر البعير إلى مكة ثم مات، وهنا المتعاقدان عقدا على شيء معين لا على شخص معين، وحينئذٍ لا تنفسخ الإجارة بموت المتعاقدين أو أحدهما.
وسبق ـ أيضاً ـ أن مؤجر الوقف إذا مات فإن الإجارة تنفسخ إذا كان المؤجِّر هو الموقوف عليه بأصل الاستحقاق، وسبق لنا الخلاف في هذه المسألة، وأن عمل الناس على أن إجارة الوقف لا تنفسخ.
قوله: «ولا بضياع نفقة المستأجر ونحوه» إنسان ـ مثلاً ـ استأجر دكاناً من أجل أن يبيع فيه أموالاً، فاحترقت الأموال، المؤلف يقول: لا تنفسخ الإجارة، ويُلزم هذا الذي احترق ماله بدفع الأجرة؛ لأنه بإمكانه إذا لم ينتفع هو بالدكان أن يؤجره، وربما تكون الأسعار قد ارتفعت بعد، فلهذا لا تنفسخ باحتراق متاع مستأجر الدكان، واختار شيخ الإسلام رحمه الله أنها تنفسخ؛ لأن هذا عذر لا حيلة فيه، والدكان قد يؤجر وقد لا يؤجر، وقاسه رحمه الله على وضع الجوائح، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إذا بعت من أخيك ثمراً فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئاً، بم تأخذ مال أخيك بغير حق؟»
(1)
وهذا الرجل الذي احترق متاعه لم يقبض المنفعة؛ لأن المنفعة في الإجارة تأتي شيئاً فشيئاً، وهو لم يقبضها وتعذر قبضه إياها بأمر لا قِبَلَ له به، فيكون كالثمر الذي أصابته جائحة، وما ذهب إليه الشيخ رحمه الله أولى، لا سيما إذا كان المؤجر يعلم أن هذا إنما استأجر البيت لبيع هذا المتاع الذي احترق، أما إذا كان لا يدري، مثل لو جاءه إنسان واستأجر منه الدكان ولم يقل له شيئاً، فهنا قد يتوجه ما قاله المؤلف رحمه الله أن الإجارة لا تنفسخ؛ لأن المؤجر لا يعلم.
(1)
أخرجه مسلم في البيوع/ باب وضع الجوائح (1554) عن جابر رضي الله عنه.
مثله ـ أيضاً ـ ضياع نفقة المستأجر، مثل لو استأجر رجلٌ بعيراً ليحج عليه، فأراد الله عز وجل أن تضيع نفقته، وإذا ضاعت النفقة لا يمكن أن يحج، اللَّهم إلاّ بقرض، والقرض لا يلزمه، يقول المؤلف: إن الإجارة لا تنفسخ؛ لأن العذر هنا لا يتعلق بنفس المعقود عليه، ونقول لهذا الذي ضاعت نفقته وترك الحج: بإمكانك أن تؤجر البعير.
والقول الراجح في هذه المسألة أن الإجارة تنفسخ؛ لأن صاحب البعير حيث علم أن الرجل استأجرها ليحج عليها، وأن نفقته ضاعت فالعذر هنا واضح ولا قِبَلَ له به، فهو كوضع الجوائح.
قوله: «وإن اكترى داراً فانهدمت أو أرضاً لزرع فانقطع ماؤها، أو غرقت انفسخت الإجارة في الباقي» إذا اكترى داراً فانهدمت إما بالسيول أو بزلزال ـ والعياذ بالله ـ أو بغير ذلك من أسباب الهدم أو أنها هدمت لصالح شارع للمسلمين، فإن الإجارة تنفسخ لتعذر استيفاء المنفعة في المعقود عليه، وما قبل ذلك لا ينفسخ، ولهذا قال: انفسخت الإجارة في الباقي، وأما ما استوفاه من قبل فهو على ما استوفاه، ولكن هل يؤخذ من الأجرة بقسط المدة أو بقسط المنفعة؟
إذا قلنا بقسط المدة معناه يلزمه ربع الأجرة؛ لأنه ذهب ثلاثة من اثني عشر، وإذا قلنا: إنه بقسط المنفعة قلنا: إن أجرتها في هذه الأشهر الثلاثة قد تقابل أجرتها كل السنة، انظر ـ مثلاً ـ
إلى بيوت مكة، إجارتها في الحج أكثر من إجارتها بقية السنة، فنقول: لا نعتبر القسط بالمدة وإنما نعتبره بالمنفعة.
وقوله: «أو أرضاً لزرع فانقطع ماؤها أو غرقت» استأجر أرضاً لزرع وقد نص في عقد الإجارة أنها لزرع، وانقطع الماء يقول المؤلف: إن الإجارة تنفسخ؛ والسبب تعذر استيفاء المنفعة؛ لأن الزرع لا يمكن أن يقوم إلا بماء، وكذلك بالعكس لو غرقت الأرض، بأن كانت هذه الأرض روضة، وتداركت الأمطار عليها وصارت بحراً كل مدة الزرع، فهنا تنفسخ الإجارة؛ لتعذر استيفاء المنفعة من غير أحد الطرفين.
فإن قال قائل: ألا يؤيد هذا ما سبق ـ وقلنا: إنه الصحيح ـ فيما إذا استأجر دكاناً لبيع سلعة ثم تلفت فإن الإجارة تنفسخ؟
الجواب: إن هذا يؤيد ذلك من بعض الوجوه، ولكن الفرق أن هذا لخلل في المعقود عليه لا في المعقود له، في المسألة الأولى تعذر الانتفاع في المعقود له، وهنا تعذر الانتفاع في المعقود عليه وهو الأرض أو الدار، ومع ذلك فقد نقول: إن هذا الفرق غير مؤثر؛ لأن الانتفاع قد تعذر في هذا وفي هذا بغير إرادة الإنسان.
وَإِنْ وَجَدَ العَيْنَ مَعِيبَةً، أَوْ حَدَثَ بِهَا عَيْبٌ فَلَهُ الفَسْخُ، وَعَلَيْهِ أجْرَةُ مَا مَضَى. وَلَا يَضْمَنُ أَجِيرٌ خَاصٌّ مَا جَنَتْ يَدُهُ خَطَأً،
............
قوله: «وإن وجد العين معيبة أو حدث بها عيب فله الفسخ وعليه أجرة ما مضى» .
إذا وجد عيناً معيبة، والعيب هنا ما تنقص به الأجرة، فليس كل عيبٍ يعتبر عيباً، وقد يقال: إن العيب ما يفوت به غرض
المستأجر سواء نقصت الأجرة أم لم تنقص، لكن على قياس قولهم في عيب المبيع، أن العيب هو ما ينقص الأجرة، فإذا وجدها معيبة يقول المؤلف:«فله الفسخ وعليه أجرة ما مضى» (له) الضمير يعود على المستأجر، (الفسخ) يعني فسخ الإجارة «وعليه أجرة ما مضى» ؛ لأنه استوفى ما مضى من المنفعة فلزمه عوضها.
وهل له أن يبقيها بالأرش، بمعنى أن يقول: أنا أصبر على العيب الذي فيها، لكن أريد الفرق بين أجرتها سليمة وأجرتها معيبة، فهل له ذلك؟ ظاهر كلام المؤلف: لا، وأنه لا يخير، ويقال له: إما أن تأخذها بما فيها من العيب وإلا فاتركها، وتنفسخ الإجارة وهو المذهب.
وقيل: له الأرش قياساً على العيب في المبيع، والأقرب أنه ليس له أرش، حتى العيب في المبيع سبق لنا أن شيخ الإسلام رحمه الله يقول: إن الأرش معاوضة جديدة لا يجبر عليه أحد إلا برضاه.
هذا فيما إذا كان المؤجر غير مدلس، فإن كان مدلساً، فإنه على الصحيح ليس له شيء من الأجرة؛ لأنه غاش، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«من غش فليس منا»
(1)
وهو ظالم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«ليس لعرق ظالم حق»
(2)
.
(1)
أخرجه مسلم في الإيمان/ باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من غشنا فليس منا» (101) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
سبق تخريجه ص (66).
والقول الثالث: أنه إذا كان مدلساً ألزم بالأرش وإلا فلا.
مثال ذلك: استأجر بيتاً، فجاء المطر وأصاب البيت وخرَّ السقف وأفسد بعض ما فيها، فنقول: للمستأجر أن يفسخ، لكن لو قال المؤجر: أنا أزيل العيب الآن بدون ضرر عليك، فهنا نقول: ليس له الفسخ، ما دام العيب سيزال بدون ضرر عليه فإنه لا فسخ له؛ لأنه لن يفوته شيء.
مسألة: إذا اتفق رجل مع جمّال ليُرْكِبَه إلى مكة ليحج ويرجع ـ مثلاً ـ ثم هلك البعير في الطريق، فهل تنفسخ الإجارة، أو نقول: يلزم صاحب البعير أن يؤمن له بعيراً؟
الجواب: الثاني؛ لأن العقد ليس على عين البعير، وإنما على العمل فيلزم صاحب البعير أن يؤمن له بعيراً.
قوله: «ولا يضمن أجير خاص ما جنت يده خطأ» أفادنا المؤلف رحمه الله أن الأجراء نوعان: أجير خاص، وأجير مشترك.
فما الفرق بينهما؟
ما كان مستأجراً بالزمن فهو أجير خاص، وما كان مستأجراً على عمل فهو أجير مشترك، ويظهر ذلك بالمثال:
استأجرتَ عاملاً يعمل عندك في البيت، أو في الدكان، أو في المزرعة، فهذا أجير خاص؛ لأن عمله مقدر بالزمن، فالشهر بكذا وكذا، والأسبوع بكذا وكذا، واليوم بكذا وكذا.
استأجرت خياطاً يخيط لك ثوباً، فهذا مشترك؛ لأن نفعه مقدَّر بالعمل، وإنما سُمِّي الأول خاصاً؛ لأن زمنه خاص
بالمستأجر، لا يملك الأجير أن يتصرف فيه، فهو لا يملك أن يعمل عند رجل آخر في هذه المدة؛ لأن المدة خاصة بالمستأجر، والمشترك ليس خاصاً بالمستأجر، فقد فتح بابه لكل أحد، فتجد الخياط ـ مثلاً ـ يأتيه فلان وفلان وفلان، كل واحد منهم يريد أن يخيط له ثوباً.
إذاً الفرق بين الخاص والمشترك:
أن ما قدِّر نفعه بالزمن فهو خاص، وما قُدِّر بالعمل فهو مشترك.
فرق آخر: أن الأجير الخاص منفعته مملوكة مدة الأجرة، والأجير المشترك منفعته غير مملوكة.
هل يمكن أن يجتمعا، بمعنى أن أستخدم هذا الرجل عندي على عمل معين، أقول له مثلاً: أنا أريد أن أستأجرك لمدة خمسة أيام تخيط لي كذا وكذا ثوباً؟
الجواب: لا؛ لأن الخاص يقضي على العام، ما دمت قد قدَّرت مدته بالزمن فهو خاص، وإن كنت قد عيَّنت له عملاً معيناً، وتكون الإجارة فاسدة، هذا هو المذهب.
والصواب: أنه يجوز الجمع بين مدة العمل والعمل؛ لأن فيه مصلحة، ويستعمل هذا بعض الناس في المقاولات فيقول: تنفذ هذا البيت في خلال سنة، فإن تمت السنة فعليك لكل يوم خصم كذا وكذا، فالصحيح أنه جائز بشرط أن تكون المدة المقدرة معقولة، بحيث إن هذا البيت يبنى في هذه المدة، أما إذا كان يبنى في سنة وقال: في ستة شهور فإن هذا لا يجوز؛ لأنه غرر.
وانتبه للفرق بينهما من حيث الحكم، فقوله:«ولا يضمن أجير خاص ما جنت يده خطأ» ؛ وذلك لأن الأجير الخاص يعمل كالوكيل عن المستأجر.
مثال ذلك: استأجرت عاملاً عندك شهراً بكذا وكذا ليعمل، وفي يوم من الأيام أخطأ في العمل وصار في هذا الخطأ ضرر عليك؟ يقول المؤلف: لا يضمن؛ لأنه يشتغل عندك بالوكالة عنك، والوكيل لا يضمن ما تلف من فعله بلا تعدٍّ ولا تفريط.
مثال آخر: استأجرت خياطاً عندك، وقلت له: أنا أريد أن أستأجرك لمدة شهر للخياطة ولم تعين له ثوباً معيناً ولا شيئاً، فأعطيته ثوباً أو أي شيء يخيطه، وأخطأ في التفصيل، فلا يضمن؛ لأنه لم يتعد، وهو يتصرف بالوكالة عنك، والوكيل لا يضمن ما لم يتعد أو يفرط.
وَلَا حَجَّامٌ، وَطَبِيبٌ، وَبَيْطَارٌ لمْ تَجْنِ أَيْدِيهِمْ، إِنْ عُرِفَ حِذْقُهُمْ، وَلَا رَاعٍ لَمْ يَتَعَدَّ.
قوله: «ولا حجام» يعني لا يضمن حجام، والحجامة هي استخراج الدم من الإنسان بطرق معينة، ولها أحوال وأوقات، أحياناً يطلب فيها من الإنسان أن يحتجم، وأحياناً ينهى أن يحتجم فيها.
قوله: «وطبيب» معروف وهو الذي يعالج البشر.
قوله: «وبيطار» وهو الذي يعالج البهائم.
وهؤلاء الثلاثة أجراء عامّون من وجه، خاصّون من وجه آخر، إن أتيت بهم إلى البيت فإنهم يشبهون الخاص ومع ذلك هم عامّون.
قوله: «لم تجنِ أيديهم إن عُرف حذقهم» اشترط المؤلف
رحمه الله في عدم ضمان خطأ الحجام والطبيب والبيطار شرطين:
الأول: أن لا تجني أيديهم، ومعنى تجني أي: تزيد على قدر الحاجة، سواء عن عمد أو عن خطأ.
الثاني: إن عُرف حذقهم، أي: إجادتهم للصنعة ومعرفتهم بها، فإذا اجتمع هذان الشرطان فلا ضمان.
مثال ذلك:
أولاً الحجام: هذا حجام معروف بالحذق لكنه أخطأ وقطع عرقاً لا يقطع مثله في الحجامة، فهلك الرجل المحجوم فإنه يضمن؛ لأن يده تعدت موضع الحاجة، وإن كان خطأً؛ لأن ضمان الأنفس والأموال لا يشترط فيه القصد، ولهذا يجب الضمان على المجنون إذا أتلف المال وإذا أتلف البهيمة وإذا أتلف النفس إلا أن عمده خطأ.
ثانياً الطبيب: أراد أن يعمل عملية ـ ولتكن عملية الزائدة ـ أجرى العملية لكن المشرط تجاوز موضع الحاجة، بأن فتح أكثر مما يحتاج إليه فهلك المريض فهنا يضمن؛ لأنه جنت يده.
وكذلك في وصف الدواء: طبيب وصف الدواء لشخص فقال له مثلاً: خذ خمسة أقراص من هذا الدواء ويكفيه ثلاثة، وهذا المريض أخذ خمسة الأقراص فهلك، يضمن؛ لأنه جنت يده في الواقع، وأخطأ في التقدير فيكون ضامناً وإن كان غير آثم.
الشرط الثاني: «إن عرف حذقهم» يعني بأن يكون مجرباً في
الإصابة عارفاً، فإن لم يعرف فإنه يضمن بكل حال، حتى وإن لم يتعد موضع الحاجة، رجل لا يعرف الجراحة، فأجرى عملية جراحية لشخص وشق البطن، لكنه عجز أن يخيطه، فهذا يضمن لا شك؛ لأنه يحرم على الإنسان أن يتعاطى الطب وهو لا يعرف، فكما أن المسائل الدينية يحرم على الإنسان أن يفتي فيها بلا علم، كذلك ـ أيضاً ـ المسائل غير الدينية لا يجوز للإنسان أن يتقدم إليها بلا علم، فيكون ضامناً.
مثال آخر: إنسان قلنا له: هذا الصبي نحب أن تختنه وهو غير خَتَّان، فمن اجتهاده قال: أنا أريد أن أبالغ في الختن؛ لأنه أطهر وأحسن، فقطع الحشفة مع القلفة فإنه يضمن؛ لأنه غير حاذق وتعدى، وهذا من الأصل يمنع؛ لأنه غير حاذق.
ومثال عدم الحذق بدون التعدي: لو أن هذا الخاتن ختن وقطع القلفة فقط قطعاً تاماً، بمعنى أنه ليس فيه نقص لكن الجرح تعفن حتى أدى إلى هلاك الصبي فهنا يضمن؛ لأنه غير حاذق، لا لأن يده جنت، لكن لأنه غير حاذق.
فصار يمكن أن نقول: يجتمع الضمان في عدم الحذق وحده، وفي جناية اليد وحدها، وفيهما جميعاً حسب الأمثلة التي ذكرنا.
لو قال قائل: إذا قلتم باشتراط الحذق، معناه أنه لا يمكن أن يتقدم الطب؛ لأننا إذا قلنا: إنه لا يتطبب بوصف الدواء أو الجراحة أو غير ذلك إلا من كان حاذقاً، فمتى يتعلم الإنسان؟!
نقول: يمكن أن يتعلم بالدراسة والتطبيق العملي، قبل أن يباشر هو المعالجة، أما أن يأتي إنسان متعلم ولم يكن حاذقاً ليجري التجارب على الأصحاء حتى يموتوا، فهذا لا يجوز.
وهناك شرط ثالث لعدم ضمانهم لم يذكره المؤلف، وهو أن يكون عملهم بإذن مكلَّف، أي: بالغ عاقل، أو ولي غير مكلف، فلو أن صبياً ذهب إلى ختَّان، وقال له: اختني فختنه خِتاناً طبيعياً، ولكن الصبي مات لتعفن الجرح، فهنا يضمن.
قوله: «ولا راع لم يتعد» الراعي يعني راعي الماشية سواء رعى إبلاً أو غنماً أو ظباء أو غيرها.
والراعي قد يكون أجيراً خاصاً، وقد يكون مشتركاً، فإن كان عمله قدِّر بالزمن، بأن كان يعمل عندك لمدة شهر يرعى غنمك فهو خاص، وإن كان يرعى لنفسه يأخذ غنمك وغنم غيرك فهو مشترك.
الراعي لا يضمن إذا لم يتعد أو يفرِّط؛ لأنه أمين مؤتمن، والبهائم حصلت في يده بإذن مالكها فيده يد أمانة، هذا الراعي عَدَتْ عليه ذئاب وأكلت ما أكلت من الماشية، فهل عليه الضمان؟
ليس عليه ضمان، لكن عليه أن يدافع.
مثال ثانٍ: راعٍ فرَّط، أوقف الماشية في بطن الوادي والسماء مغيمة والمطر حريٌّ بالنزول، فأنزل الله المطر ومشى الوادي واجترف الماشية، فعليه الضمان؛ لأنه مفرط.
مثال ثالث للمتعدي: راع كان بينه وبين الأرض التي يريد
أن يذهب إليها وادٍ يمشي، فجازف وخاض الوادي بالماشية فهلكت فإنه يضمن؛ لأنه متعدٍّ، ومنهي عن أن يعمل عملاً يضر بالماشية.
ومن ذلك ـ أيضاً ـ لو نزل بَرَدٌ من السحاب ولم يُدْخِل الماشية تحت سقف حتى ماتت فعليه الضمان؛ لأنه مفرط والواجب أن يدخلها في محل تنجو به.
وَيَضْمَنُ المُشْتَرَكُ مَا تَلِفَ بِفِعْلِهِ، وَلَا يَضْمَنُ مَا تَلِفَ مِنْ حِرْزِهِ، أَوْ بِغَيْرِ فِعْلِهِ، وَلَا أُجْرَةَ لَهُ.
قوله: «ويضمن المشترك» يعني الأجير المشترك وهو الذي قدر نفعه بالعمل، ويتقبل العمل من كل أحد كالغسال والخياط ونحوهما.
قوله: «ما تلف بفعله» ولو خطأ، لأنه ورد عن بعض الصحابة رضي الله عنهم أنهم ضمنوه مطلقاً
(1)
، وثانياً: لأن العمل مضمون عليه؛ لأنه قدر نفعه بالعمل، فإذا أخطأ ولم يؤد العمل الذي هو مضمون عليه لزمه الضمان.
وقال بعض أهل العلم: إنه لا يضمن ما تلف بفعله خطأ؛ لأنه مؤتمن، فلا فرق بينه وبين الأجير الخاص، فكما أن الأجير الخاص لا يضمن ما تلف بفعله خطأ فكذلك هذا؛ إذ لا فرق فكل منهما مؤتمن.
وقيل: ما تلف بفعله الذي يفعله هو بنفسه اختياراً يضمنه،
(1)
روي ذلك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أخرجه عبد الرزاق (14949)؛ وابن أبي شيبة (4/ 360) ط/الحوت، وروي مثله عن علي رضي الله عنه وكان يقول: لا يصلح الناس إلا ذلك، أخرجه عبد الرزاق (14948)؛ وابن أبي شيبة (4/ 360)(ط/الحوت).
وأما ما كان بغير إرادته كالزلق وشبهه فلا يضمنه، ولكن الصحيح أنه لا ضمان مطلقاً إذا لم يتعد أو يفرط، والعمل على ما مشى عليه المؤلف.
مثال ذلك: خياط مشترك، أتى له شخص بقطعة من القماش وقال خطها لي قميصاً، فأخطأ وخاطها سراويل فعليه الضمان.
ولو قال: أنا نسيت وتوهمت أنك تريدها سراويل، فإننا نقول: لا يسقط الضمان؛ لأنك أنت الذي تعديت، نعم يسقط الإثم، وأما الضمان الذي هو حق آدمي فإنه لا يسقط، وهذا معنى قوله:«ما تلف بفعله» .
كذلك ـ أيضاً ـ لو أنه قال له: خِط هذا الثوب قميصاً واسعاً، والقطعة تكفي، لكن اجتهاداً منه قال: أجعله معقولاً؛ لأوفر قطعة القماش على صاحب الثوب ففعل، فإنه يضمن؛ لأنه فعل غير ما أذن له فيه.
وإذا قلنا: إنه يضمن فهل له أجرة؛ لأنه تعب وخاط، وأمضى وقتاً وخيوطاً واستعمالاً للآلة أو لا؟ ليس له أجرة.
وإذا قلنا في هذه الحال: إنه يضمن، فهل نقول: يأخذ السراويل ويرد بدلها قطعة القماش، أو نقول: يأخذ صاحب القطعة السراويل ويعطى الفرق بين القميص والسروال؟
الأول هو الواجب، لكن إذا اصطلحا على شيء فلا بأس، لو قال: أنا آخذ السراويل ولكن أعطني الفرق بين السراويل والقميص فلا بأس إذا اتفقا.
قوله: «ولا يضمن ما تلف من حرزه أو بغير فعله» ، «ولا يضمن» أي: الأجير المشترك، «ما تلف من حرزه» فهذا الخياط ـ مثلاً ـ لما كان الليل أغلق الدكان بما جرت العادة أن يغلق به، ولم يقصِّر في الإغلاق، ولكن أتت السرَّاق وسرقوا الدكان، ومن جملته الثياب التي استأجره صاحبها لخياطتها.
فلا يضمن؛ لأن التلف بغير فعله، وهو لم يتعد ولم يفرط، فهو قد وضعها في حرزها.
ولو علق الثوب خارج الدكان ليتذكر صاحبه إذا مر، فيقف ويأخذه ويعطيه الأجر فنسي أن يدخله في الدكان، فأُخذ الثوب فإنه يضمن؛ لأنه تلف في غير حرزه، والمؤلف يقول:«ولا يضمن ما تلف من حرزه» وهذا لا شك أنه ليس حرزاً أن يعلقه عند باب الدكان من الخارج.
وقوله: «أو بغير فعله» كذلك ـ أيضاً ـ ما تلف بغير فعله فإنه لا يضمن، كما لو احترق الدكان فتلف الثوب الذي استؤجر لخياطته، فهذا التلف ليس من فعله، إذاً لا ضمان عليه؛ وذلك لأنه لم يتعد ولم يفرط، لكن يقول:
«ولا أجرة له» يعني ما تلف بفعله يضمنه ولا أجرة له، وما تلف بغير فعله أو من حرزه فلا يضمنه ولا أجرة له، مع أنه خاط الثوب ـ كما في المثال السابق ـ وعمل فيه وأمضى زمناً في خياطته وأتى بكل ما استؤجر عليه، يقول المؤلف:«ولا أجرة له» ؛ لأنه لم يسلم الثوب لصاحبه، وصاحبه إنما استأجره ليعمل له ثوباً يلبسه وينتفع به، وقد فاتت هذه المنفعة فلا يكون لهذا الأجير أجرة، وهذا هو المذهب.
والصحيح أن له الأجرة؛ لأنه وفى بما استؤجر عليه، وما دام لا يضمن لك الثوب فإنه لا يضمن لك العمل في الثوب؛ لأننا إذا قلنا: ليس له أجرة، فمعناه أننا ضمَّنَّاه العمل في الثوب وذهب عليه خسارة، ولأنه غير متعدٍّ ولا مفرط وقد قام بالعمل الذي عليه، وتلف الثوب ـ مثلاً ـ على حساب صاحبه ـ المالك ـ، أما الأجير، فقد أدى ما عليه، فكيف نقول: لا أجرة له؟!
فإن قال صاحب الثوب: إنك لم تعمل فيه شيئاً ولم تخطه، وقال الخياط: إني خطته، فمَن القول قوله؟ قول المالك؛ لأن الأصل عدم الخياطة، حتى لو فرض أنه مضى مدة يمكنه أن يخيط هذا الثوب فيها، ثم ادعى أنه خاطه، ولكن مَنْ قلنا القولُ قولُهُ، فلا بد من اليمين.
وهل اليمين هنا على البت، أو على نفي العلم؟
نقول: على البت، فإذا قال: أنا لا أحلف على البت، قلنا: إذاً نأخذ بقول الخياط، وإن قال: أنا أحلف على نفي العلم، قلنا: هذا لا يدفع به قول الخصم؛ لأن الأصل أن دعواه إذا لم يعارضها ما هو أقوى منها فهي حق.
مسألة: إذا كان القماش من الخياط وتلف عنده، فليس له شيء لا قيمة ولا أجرة، فصار الفرق بين الأجير الخاص والمشترك من حيث التعريف، ومن حيث الضمان، ومن حيث الأجرة.
وَتَجِبُ الأُجْرَةُ بِالعَقْدِ إِنْ لَمْ تُؤَجَّلْ، وَتُسْتَحَقُّ بِتسْلِيمِ العَمَلِ الَّذِي فِي الذِّمَّةِ. وَمَنْ تَسَلَّمَ عَيْناً بِإِجَارَةٍ فَاسِدَةٍ، وَفَرَغَتْ المُدَّةُ لَزِمَهُ أُجْرَةُ المِثْلِ.
قوله: «وتجب الأجرة بالعقد» لما ذكر المؤلف أحكام الإجارة، وهي تتعلق بالعين المؤجرة في كل ما سبق، ذكر ما يتعلق بالأجرة، والأجرة هي العوض الذي اتفق عليه المتعاقدان،
وهو ما يصح عقد البيع عليه، سواء كانت دراهم نقداً، أو عيناً، أو منفعة، ولهذا يجوز استئجار منفعة بمنفعة، واستئجار عين بمنفعة، واستئجار عامل يعمل بمنفعة.
وقوله: «وتجب الأجرة بالعقد» أي: بمجرد العقد تجب الأجرة للأجير؛ وذلك كما أن المستأجر ملك المنفعة بالعقد فالمؤجر يملك عوضها بالعقد، ويتفرع على ذلك لو استأجرتك لعمل بهذه الشاة، فالشاة تكون للأجير من حين العقد، لبنها وصوفها له، وولدها الذي نشأ بعد عقد الإجارة له؛ لأن الأجرة تجب بمجرد العقد، لكنها لا تستحق إلا بتسليم العمل الذي في الذمة، أو تسليم العين مع مضي المدة.
قوله: «إن لم تؤجل» لأنها إذا أُجِّلت فقد رضي كلا الطرفين ألا تجب إلا بعد تمام الأجل، مثل أن أقول: أجرتك بيتي هذا بعشرة آلاف تحل في شهر محرم عام ثماني عشر، فالأجرة الآن لم تجب؛ لأن الطرفين اتفقا على أن تكون مؤجلة إلى محرم.
قوله: «وتستحق بتسليم العمل الذي في الذمة» أي: وتستحق الأجرة سواء كانت معينة أو غير معينة بأمور منها:
أولاً: بتسليم العمل الذي في الذمة، فإذا استأجرت عاملاً على أن يحرث لك هذه الأرض، وحرثها، فإنه يستحق الأجرة الآن، بكل حال؛ لأنه أدى ما عليه فاستحق ماله، ولا يملك المطالبة بتسليمها له قبل تمام العمل؛ لأنه من الجائز أن لا يتم العقد الذي بيني وبينه.
ثانياً: بتسليم العين المؤجرة التي وقع عليها العقد إذا مضت
المدة، سواء انتفع بها المستأجر أم لا، فإذا استأجرتَ بيتاً من شخص وسلَّمك المفتاح، ثم مضت المدة وأنت لم تسكنه، ولم تؤجره، ولم تسكنه أحداً تبرعاً فإن الأجرة ثابتة عليك؛ لأنه سلَّمك العين التي وقع العقد عليها، وتسليم العين التي وقع عليها العقد بمنزلة تسليم العمل الذي في الذمة.
لكن لو منعه من هذه العين يد ظالمة قادرة على منعه، فهل نقول: إن الأجرة ترد على صاحب العين؟ أو نقول: إن الظلم وقع على المنفعة التي استأجرها الأجير لها؟
الجواب: الثاني، يعني أن المنفعة تذهب على المستأجر، فمثلاً لو أن شخصاً استأجر بيتاً من آخر وسلَّمه المفتاح، ثم سُلط على هذا المستأجر يد ظالمة أخذت منه البيت قهراً وسكنته، فالضمان هنا على مستأجر البيت؛ لأن المستأجر لما قبض العين المؤجَّرة ملك المنفعة الآن، فالظلم وقع عليه هو وليس على المؤَجِّر، أما لو تسلَّطت هذه اليد الظالمة على العين المؤجَّرة قبل أن يسلِّمها المؤَجِّر، فهنا تفوت على المُؤَجِّر؛ لأن الأجرة لم تُستحق بعد، إذ لا يستحقها إلا إذا سلَّم العين.
قوله: «ومن تسلم عيناً بإجارة فاسدة وفرغت المدة لزمه أجرة المثل» يعني لو عقد إنسان عقد إجارة فاسدة، وتسلم العين، ومضت المدة، فإنه يلزمه أجرة المثل دون الأجرة التي وقع عليها العقد؛ وذلك لأن الأجرة التي وقع عليها العقد أجرة فاسدة؛ لعدم صحة العقد، وظاهر كلام المؤلف سواء كانت أجرة المثل أقل مما وقع عليه العقد أو أكثر؛ لأنه لما ارتفع العقد الفاسد ارتفعت جميع متعلقاته.
فإن لم تبتدئ المدة لم يلزمه شيء ولزمه رد العين إلى صاحبها، فإن مضى شيء من المدة لزم ردها إلى صاحبها، وأجرة ما استعملها فيه بقسطها من أجرة المثل.
وقوله: «بإجارة فاسدة» تفسد الإجارة إما بفوات شرط أو وجود مانع.
مثال فوات الشرط: رجل استأجر من شخصٍ حرّاً ليعمل عنده، ومعلوم أن تأجير الحر لا يجوز، كما جاء في الحديث الصحيح:«رجل باع حرّاً فأكل ثمنه»
(1)
فكذلك لو أجره فأكل أجرته فإنه لا يحل، فهذا إنسان ـ مثلاً ـ قال لشخص: أنت تريد عاملاً عندك؟ قال: نعم قال: هذا غلامي، خذه، الشهر بمائة ريال، وهو حر، فالإجارة هنا فاسدة؛ لأنه لا يصح عقد الإجارة على الحر؛ لأن من شرط الإجارة أن يكون المؤجر مالكاً للعين المؤجرة، فأخذ المستأجر الغلام واستعمله حتى تمت المدة، يقول المؤلف: إنه يلزمه ـ أي المستأجر ـ أجرة المثل؛ وذلك لأن عقد الإجارة كان فاسداً، والفاسد وجوده كالعدم، ولكن كيف يقول المؤلف:«أجرة المثل» وهو حر لا يصح تأجيره؟ نقول: يُقدر كأنه قن ـ أي: عبد ـ فيقال: كم أجرة هذا العبد؟ قالوا: أجرته ـ مثلاً ـ مائتا ريال، وهو قد استأجره بمائة ريال، نقول: سلِّم مائتي ريال؛ لأن الأجرة فاسدة، وهذا فيما إذا كان المستأجر عالماً بأن هذا
(1)
أخرجه البخاري في البيوع/ باب إثم من باع حراً (2227) عن أبي هريرة رضي الله عنه، ولفظه:«أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة، رجل أعطي بي ثم غدر، ورجل باع حراً فأكل ثمنه ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره» .
الغلام ليس مملوكاً له، فهنا يلزمه أجرة المثل، وهي في المثال الذي ذكرنا مائتا ريال، مع أن العقد وقع على مائة، لكن هذا العقد فاسد، فالقول بأنه يلزم المستأجر أجرة المثل قول صحيح؛ لأن المستأجر دخل على بصيرة وعلم بأن الإجارة غير صحيحة.
لكن إذا كان لا يدري، وقد عقد الأجرة على مائة، فكيف نلزمه بمائتين؟
يقول الفقهاء رحمهم الله في التعليل: إن إتلاف مال الآدمي لا فرق في ضمانه بين العالم والجاهل، كما لو استعمل الإنسان شخصاً يظنه عبده، واستعمله في عمل، فعليه ضمانه، وإن كان لا يدري، ولكن في هذا نظر؛ لأن هذا الذي استعمله بالأجرة التي يظنها صحيحة كان مغروراً، غره المؤجر، وإذا كان مغروراً فيجب أن يكون الضمان على الغار، وهذا هو مقتضى القياس والنظر الصحيح، وعليه فنقول: يجب على المستأجر في المثال الذي ذكرنا مائة ريال، ويضمن الآخر الذي أجره المائة الثانية، ويكون لهذا الغلام الحر مائتا ريال، وهذا هو العدل، وأما أن نُضَمِّن شخصاً ما لم يلتزمه مع أن العقد حسب رأيه واعتقاده عقد صحيح، فهذا فيه نظر.
فالصواب إذاً أنه يلزمه أجرة المثل، لكن إن كان مغروراً فما زاد على الأجرة التي تم العقد عليها فعلى من غره.
فإذا قدرنا أن أجرة المثل أقل، مثلاً أجره بمائتين، وأجرة مثله مائة، فهل نلزمه بالمائتين؟
نقول: إن كان عالماً بأن الإجارة فاسدة ألزمناه بمائتين؛ لأنه دخل على بصيرة، ثم ما زاد على أجرة المثل يكون لهذا الغلام؛
لأنه مظلوم، ولا يكون للذي أجره؛ لأن الذي أجره لا يملكه، فليس له شيء، وإن كان غير عالم فعليه أن يضمن لهذا الحر ما وقع عليه العقد؛ لأنه رضي به واعتبره صحيحاً، فيلزم بما ظنه، وإذا رأى القاضي أن يأخذ هذه الزيادة ويصرفها في بيت المال فلا حرج عليه؛ لأنه مال في الحقيقة ليس خالصاً لمن استحقه، وما اشتُبِه فيه فإنه يُلحق ببيت المال، وإن كانت أجرة المثل بمقدار ما وقع عليه العقد فلا إشكال؛ لأنه ليس فيه زيادة ولا نقص.
مثال آخر: استأجر شخصاً على عمل محرم، مثل أن يستأجر شخصاً ليبيع له خمراً، أو يحمل له خمراً، أو ما أشبه ذلك، فالإجارة فاسدة، لكن العامل الآن هل نقول: ليس له شيء؛ لأن الإجارة فاسدة، والعمل المحرم لا قيمة له؟ أو نقول: يُلزم المستأجر بالأجرة التي وقع عليها العقد؟
الجواب: يجب أن يلزم بالأجرة التي وقع عليها العقد، ثم إن كان العامل يعلم أن هذا شيء محرَّم فإنها تصرف في بيت المال، وإن كان لا يعلم فإنه يعطى إياها ويؤمر بالتوبة والاستغفار، والله أعلم.
مثال وجود مانع: اتفق زيد مع عمرو على أن يؤجره بيته والبيت ملك لزيد، ولكنهما عقدا الإجارة في المسجد، والإجارة في المسجد لا تصح؛ لأنها حرام، قال النبي صلى الله عليه وسلم:«إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا: لا أربح الله تجارتك، فإن المساجد لم تبن لهذا»
(1)
فالإجارة إذاً لا تصح لوجود مانع، فإذا تمت المدة، ألزمناه بأجرة المثل، فإذا تعاقدا على عشرين ألفاً،
(1)
أخرجه الترمذي في البيوع/ باب النهي عن البيع في المسجد (1321)؛ والدارمي في الصلاة/ باب النهي عن استنشاد الضالة في المسجد والشرى والبيع (1/ 347)(ط/البغا) عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ وصححه ابن خزيمة (1305)؛ والحاكم (2/ 56) على شرط مسلم، وأقره الذهبي.
وأجرة المثل عشرة آلاف، لزمه عشرة آلاف، وهذا فيما إذا كانا جاهلين واضح، فإن كانا عالمين فينبغي أن نعاملهما، بما يقتضيه العقد والزائد نجعله في بيت المال؛ لئلا يحصل التلاعب.
فإن قال قائل: إذا تسلم العين بإجارة فاسدة فلماذا لا نلغي العقد والأجرة، ونقول: لا شيء له، لا أجرة المثل ولا الأجرة المتفق عليها؟
فالجواب: هذا لا يمكن؛ لأنه ظلم، فالمالك فُوِّتَت عليه منفعة ملكه مدة الإجارة، فإذا قلنا: لا أجرة لك، فإننا نظلمه بذلك، والمستأجر قد استوفى المنفعة، فإذا قلنا له: لا أجرة عليك، أبحنا له أن يأكل أموال الناس بالباطل، وحينئذٍ نقول: يلزمك أجرة المثل.
والخلاصة: أن كل من تسلَّم عيناً بإجارة فاسدة فإنه لا عبرة بما حصل عليه العقد، تُفسَخ الإجارة ويُرجع إلى أجرة المثل، فإن كانت أجرة المثل مساوية لما وقع عليه العقد فلا إشكال، وإن كانت أجرة المثل أكثر، ألزمنا المستأجر بها، ثم إن كان عالماً فالزيادة عليه، وإن كان جاهلاً مغروراً فالزيادة على من غره، وإن كانت أجرة المثل أقل، فإن كان عالماً ألزمناه بما التزم به؛ لأنه دخل على بصيرة، فهو يعلم أن العقد فاسد، والتزم الزيادة على أجرة المثل، وإن كان جاهلاً لم يلزمه أكثر من أجرة المثل، وإن رأى القاضي قضاءً أن يلزمه بما التزم به ـ ولو كان جاهلاً ولكن يُجعل في بيت المال ـ فلا حرج.
بَابُ السَّبْقِ
قوله: «باب السَّبْق» بسكون الباء، وأما «السَّبَق» فهو العِوض، فالسبْق معناه فَوْت لا يدرك، بمعنى أن يفوتك الإنسان على وجه لا تدركه، فالسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، لا يمكن لمن بعدهم أن يلحقهم في هذا الوصف، ومن سابقك جرياً على الأقدام حتى وصل المنتهى قبل أن تصله فقد سبقك على وجه لا تدركه.
فالسبْق فوت لا يدرك، سواء كان معنوياً أو كان حسياً، وسواء كان في الزمان أو كان في المكان، فالصحابة رضي الله عنهم سبقونا بالزمان، وهذا سبق حسي، وكذلك سبقونا سبقاً معنوياً بالعلم والإيمان والجهاد والعمل الصالح.
والسبق ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
قسم لا يجوز لا بعوض ولا بغيره.
وقسم يجوز بعوض وغيره.
وقسم يجوز بلا عوض، ولا يجوز بعوض.
والأصل فيه منع العوض؛ لأنه من باب الميسر، فإن الإنسان إما أن يكون غانماً وإما أن يكون غارماً، فإذا جعلنا مائة ريال لمن سبق، وتسابق اثنان في الجري على الأقدام، فأحدهما إما غانم وإما غارم، إما أن يأخذ مائة الريال من صاحبه فيغنم،
أو تؤخذ منه المائة فيغرم، فهو في الحقيقة ميسر، ولذلك فالأصل هو منع العوض في المسابقة، ولا يجوز إلا لسبب كما سيأتي إن شاء الله.
يَصِحُّ عَلَى الأَقْدَامِ، وَسَائِرِ الحَيَوَانَاتِ، وَالسُّفُنِ، وَالمُزَارِيقِ،
.......
قوله: «يصح على الأقدام» هذا هو القسم الذي يجوز بغير عوض، وهو ما لا مضرة فيه شرعية، وليس فيه منفعة تربو على مفسدة المراهنة فيه، فهذا القسم يجوز بلا عوض، ولا يجوز بعوض، سواء كان هذا العوض نقداً أو عروضاً أو منفعة، مثل أن يتسابق رجلان أيهما أسرع وصولاً إلى الغرض الذي عيَّنَّاه، وهو جائز بين الرجلين، وبين المرأتين، وبين الرجل وزوجته، كما سابق النبي صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله عنها
(1)
؛ لأن في ذلك ترويحاً عن النفس، وتنشيطاً وتقوية للبدن، وتحريضاً على المغالبة.
وظاهر كلام المؤلف وغيره أنه لا فرق بين أن يتسابقا استقبالاً أو استدباراً؛ لأن المسابقة على الاستدبار تقع بين كثير من الناس، أيهما أشد عزيمة أن يرجع إلى الوراء بسرعة تفوق صاحبه فهذا جائز، وهل يجوز على اليمين وعلى الشمال؟ نعم يجوز، ويقع هذا ـ أيضاً ـ من بعض الناس يتسابقون أيهما أسبق ذهاباً، يميناً أو شمالاً.
(1)
أخرجه الإمام أحمد (6/ 39)؛ وأبو داود في الجهاد/ باب في السبق على الرجل (2578)؛ وابن ماجه في النكاح/ باب حسن معاشرة النساء (1979) عن عائشة رضي الله عنها؛ وصححه ابن حبان (4691)؛ والألباني في الإرواء (1502).
ولا بد فيها من تعيين المسافة ابتداء وانتهاء، ولا بد أن تكون المسافة مما يمكن إدراكه، فإن قال: أسابقك من عنيزة إلى مكة على الأقدام، لم يصح؛ لأنه لا بد أن تكون مقيدة بمسافة معتادة، وقد كان من عادة الصبيان أنهم يتسابقون على الأقدام، فإذا سبق أحدهما الآخر قال له: احملني على ظهرك من منتهى المسابقة إلى ابتدائها فهل هذا جائز؟ هذا لا يجوز؛ لأنه بعوض وهو المنفعة؛ لأن حمله إياه من هذا المكان إلى هذا المكان منفعة فلا تجوز، وقد يقال: إنه يرخص في ذلك للصغار الذين لم يبلغوا وإن لم يرخص للكبار، يعني الصغار يرخص لهم من اللعب ما لا يرخص للكبار.
ولكن يجب أن نعلم أن المباح إذا تضمن ضرراً صار محرماً، فلو أجريت المسابقة في هذه الأمور في وقت صلاة الجماعة، كانت المسابقة حراماً، ولو أدى ذلك إلى العداوة والبغضاء والتحيز والتعصب كان ذلك حراماً.
مسألة: كرة القدم من هذا النوع، أي: أنها تجوز بغير عوض ولا تجوز بعوض؛ لأن فيها ترويحاً للنفس، وتقوية للبدن، وتعويداً على المغالبة، ولكن بشرط أن لا يدخلها التحزب المشين، كما يحصل من بعض الناس يتحزبون لنادٍ معين، حتى تحصل فتنة تصل إلى حد الضرب بالأيدي والعصي والحجارة.
واختلف العلماء رحمهم الله في المسابقة على الأقدام هل تجوز بعوض أو لا؟ المذهب أنها لا تجوز بعوض كما
سبق، ومنهم من قال: إنها تجوز بعوض؛ لأن السبق على الأقدام ينتفع به في الحرب، في الكر والفر، فهو مفيد، لكن هذا الاحتمال يرد عليه أننا لو أجزنا العوض في هذه الأشياء لكانت سبباً للتجارة، بمعنى أن الناس يتجرون بها؛ لأنها سهلة المؤونة، ولا تحتاج إلى اقتناء فرس أو إصلاح رمح أو ما أشبه ذلك، فتتخذ تجارة وينشغل الناس بها عن أمور أهم منها، فهذه المصلحة التي قد يتوقعها الإنسان مع العَدْوِ معارضة بالمفسدة، وهو أن ينكب الناس عليها ثم يتخذونها تجارة، وهذا مانع قوي.
فإن قال قائل: وأيضاً السبق على الخيل الآن يُتخذ تجارة، ومنفعته في الحرب في الوقت الحاضر قليلة فيلزم ـ على طرد القاعدة ـ أن تمنعوا من ذلك ـ أي: من المسابقة على الخيل بالعوض ـ؛ لأن الناس اتخذوها تجارة.
فنقول: هذا ينبني على قاعدة ذكرها العلماء رحمهم الله وهي: أنه إذا نص الشرع على شيء ذي فائدة في وقت الرسالة ثم عدمت منفعته التي تكون في وقت الرسالة، فهل نتبع المعنى أو نتبع اللفظ؟ العلماء يختلفون في هذا، ومن ذلك الشعير والأقط في زكاة الفطر منصوص عليهما، وهما في ذلك الوقت قوت للناس سواء كانوا في البادية أو في الحاضرة، وفي الوقت الحاضر ليسا قوتاً، فهل نتبع اللفظ ونقول: هذا شيء عيَّنه الشرع فهو مجزئ سواء كان قوتاً للناس أو لا؟ أو نقول: إذا أصبح واحد من هذه الأربعة غير قوت فإنه لا يجزئ؟ فيه
احتمال واحتمال، لكن الاحتمال الأخير بالنسبة للفطرة أصح؛ لأنه ثبت في البخاري من حديث أبي سعيد رضي الله عنه قال:«كنا نخرجها صاعاً من طعام وكان طعامنا يومئذٍ التمر والشعير والزبيب والأقط»
(1)
فهذا صريح أن العلة هي الطعام، وكما قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما:«فرض النبي صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طُهرة للصائم من اللغو والرفث وطُعمة للمساكين»
(2)
، لكن نحن الآن في مسألة الخيل، والخيل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لا شك أنها آلة عظيمة فعَّالة في الحرب، وهي في الوقت الحاضر ليست كذلك بل يحصل السبق بها كتجارة، فهل نقول: لما فقدت العلة التي من أجلها جاز السبق يجب أن يفقد الحكم، أو نقول: نأخذ بظاهر اللفظ ولا علينا من العلة تخلَّفت أو وُجدت؟ فيه احتمال.
قوله: «وسائر الحيوانات» كالبغل والحمار وغيرهما مما يركب، والبقرة ـ أيضاً ـ تصح المسابقة عليها؛ لأن القول الراجح جواز ركوب ما لا يركب عادة؛ لعموم قوله تعالى:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29].
ولكن هل يجوز المسابقة بالحيوان نفسه، بمعنى أن يطلق الرجلان كلبيهما ويتسابقا على ذلك؟
(1)
أخرجه البخاري في الزكاة/ باب الصدقة قبل العيد (1510).
(2)
أخرجه أبو داود في الزكاة/ باب زكاة الفطر (1609)؛ وابن ماجه في الزكاة/ باب صدقة الفطر (1827)؛ والدارقطني (2/ 138)؛ والحاكم (1/ 409) وقال الحاكم: «صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه» ووافقه الذهبي. وقال الدارقطني: «ليس فيهم مجروح» وحسَّنه في الإرواء (3/ 332).
الظاهر أنه لا يجوز؛ لأنه لا فعل من المتسابقين في هذه الحال، وقد يقال بالجواز؛ لأن فعل الكلاب ونحوها بأمر صاحبها، كفعل صاحبها، ولهذا جاز صيدها إذا أرسلها صاحبها.
ويشترط في المسابقة على الحيوانات نفسها أن لا يكون في ذلك أذية لها، فإن كان في ذلك أذية، كما يفعله بعض الناس في المسابقة في نقر الديوك بعضها ببعض، فإن بعض الناس ـ والعياذ بالله ـ يربي ديكه على أن يكون قوياً في المناقرة، فهذا حرام ولا يجوز، ومثل ذلك نطاح الكباش، ومثل ذلك صراع الثيران، إذاً كل ما فيه أذية للحيوان فإن المسابقة فيه محرمة.
قوله: «والسفن» وهي الفلك التي تجري في الماء، تصح المسابقة عليها؛ لأن الناس يختلفون فيها اختلافاً كثيراً، وهنا ينبغي أن يقال: إن السفن الحربية يجب أن تلحق بالإبل؛ لأنها داخلة في آلات الحرب ومعداتها.
قوله: «والمزاريق» قال في الروض
(1)
: إنها رمح قصير، يتسابقون به في الطعن، وكذلك المسابقة بالسيوف، إلا أن الإمام أحمد رحمه الله قال: لا يجعله سيفاً حاداً، بل يكون سيفاً من خشب أو نحوه، وهذا ما يسمى عند الناس الآن بالمعركة الوهمية، بمعنى أنهم يتشابكون فيما يسمى بالسلاح الأبيض، لكن لا يجعل الإنسان خنجراً حاداً أو سيفاً حاداً؛ لأنه ربما أهوى به
(1)
الروض المربع مع حاشية ابن قاسم (5/ 348).
الشيطان إلى صاحبه فقتله، لكن يجعله من جنس العصا أو الخشب أو ما أشبه ذلك.
وهل من ذلك ما يسمى بالملاكمة؟ لا، أولاً؛ لأن الملاكمة ضرب مع الوجه خاصة، وهذا منهي عنه.
ثانياً: أنها خطرة؛ لأنه لو أصيب الإنسان الملاكم في مقتل لهلك، لكن إذا كان الإنسان يريد أن يتمرن تمريناً فقط ولكنه لا يضرب الوجه، من أجل أن يستعين بذلك على قتال العدو مثل الكراتيه، فهذه يقولون: إنها مفيدة للإنسان جداً في مهاجمة العدو، وفي الهرب منه، فتكون المسابقة في هذا جائزة، بل لو قيل: إن الناس لو انقلبوا إلى حرب بهذه الطريقة لدخلت في الأشياء التي تجوز بعوض.
وَلَا تَصِحُّ بِعِوَضٍ إلاَّ فِي إِبِلٍ، وَخَيْلٍ، وَسِهَامٍ.
...............
قوله: «ولا تصح بعوض» أي لا تصح المسابقة بعوض سواء كان عيناً أو نقداً أو منفعة.
قوله: «إلا في إبل وخيل وسهام» لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا سبَق إلا في نصل أو خُف أو حافر»
(1)
.
«لا سبق» أي: لا عوض إلا في هذه الثلاثة، وإنما جاز في هذه الثلاثة لما فيها من المصلحة العامة من الجهاد في سبيل الله؛
(1)
أخرجه الإمام أحمد (2/ 256)، وأبو داود في الجهاد/ باب في السبق (2574)، والترمذي في الجهاد/ باب ما جاء في الرهان والسبق (1700). والنسائي في كتاب الخيل/ باب السبق (6/ 226)، وابن ماجه في الجهاد/ باب السبق والرهان (2878)، عن أبي هريرة رضي الله عنه وحسنه الترمذي وصححه ابن حبان، وصححه الألباني في «الإرواء» (5/ 333).
لأن الإبل يحمل عليها المجاهدون الأمتعة، والخيل فيها الكر والفر، والسهام فيها الرمي، ويقاس عليها ما يشبهها من آلات الحرب الحاضرة، فالدبابات ونحوها تشبه الإبل، والصواريخ وشبهها تشبه السهام، والطائرات وشبهها تشبه الخيل، فهذا القسم يجوز بعوض وبدونه.
وقوله: «إبل» بأن يتسابق اثنان على بعيريهما.
وقوله: «وخيل» بأن يتسابق اثنان على فرسيهما.
وقوله: «وسهام» بأن يتسابق اثنان بسهاميهما أيهما يصيب.
وظاهر كلام المؤلف في الإبل والخيل: أنه لا فرق بين أن تكون المسابقة في الجري أو في حمل الأثقال، وهذا بالنسبة للإبل واضح؛ لأن الإبل ينتفع بها في الجري وينتفع بها في حمل الأثقال، لكن في الخيل، في النفس من هذا شيء؛ لأن الخيل إنما ينتفع بها في المسابقة جرياً.
إذاً الدليل على هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا سبق» أي: لا وضع عوض في المسابقة «إلا في إبل وخيل وسهام» وهذا النص صريح.
فإن قال قائل: هذا جارٍ على خلاف القياس؛ لأنه ميسر إذ أن أحدهما غانم أو غارم.
فالجواب: أن من العلماء من أخرج هذه المسألة عن القمار بأن قال: لا بد من أن يكون معهما ثالث ليس غانماً ولا غارماً،
أي: أن يكون محلِّلاً فإن غلب أخذ عوضيهما، وإن غلباه لم يُؤخذ منه شيء، وهذا يخرج المسألة عن صورة القمار والميسر، لكن هذا الجواب ضعيف جداً.
أولاً: لضعف الحديث الوارد فيه
(1)
، فالحديث ليس بحجة.
ثانياً: أن هذا حيلة؛ لأنه إن جاز أخذ العوض بلا محلِّل فلا حاجة للمحلِّل، وإن كان حراماً صار إدخال المحلل من أجل استحلال الحرام، والحيل ممنوعة شرعاً.
ثالثاً: أن المحلِّل الآن سيشاركهم في المسابقة ومع ذلك هو غانم على كل حال أو سالم، فيكون شاركهما في الفعل وخالفهما في الحكم والنتيجة، وهذا ليس من العدل، والمسابقة مبناها على العدل، فالمحلل إذا سبق أخذ العوضين من الاثنين، وإن سُبق لم يأخذ شيئاً ولم يؤخذ منه شيء، وهذا خلاف العدل، فكيف يكون مشاركاً لهما في العمل، ثم يخالفهما في النتيجة والثمرة؟!
فالصواب أنه لا يشترط أن يوجد محلِّل، وأن هذه المسألة مستثناة، وأن فيها مصلحة تربو على مفسدتها، والمصلحة هي
(1)
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أدخل فرساً بين فرسين وهو لا يأمن أن يسبق فلا بأس، ومن أدخل فرساً بين فرسين وهو آمن أن يسبق فهو قمار» . أخرجه الإمام أحمد (2/ 505)؛ وأبو داود في الجهاد/ باب في المحلل (2579)؛ وابن ماجه في الجهاد/ باب السبق والرهان (2876)، وانظر: الفروسية لابن القيم ص (229)(ط/ مشهور) فقد أطال الكلام في بيان ضعفه.
التمرن على آلات القتال، وهذه مصلحة كبيرة وعظيمة تنغمر فيها المفسدة التي تحصل بالميسر، والشرع كله مصالح، إما غالبة وإما متمحِّضة.
وأما ما لا يجوز بعوض ولا غيره فهو المسابقة في الأمور المحرمة، كالمسابقة في العدوان على الناس، وقطع الطريق، وما أشبه ذلك، أو المسابقة في لعب الشطرنج، والنرد، وغير ذلك مما يلهي كثيراً عن المهمات في الدين أو الدنيا ولا فائدة فيه، وهذا هو الضابط فيه، فالذي لا يجوز بعوض، إما أن يكون محرماً لذاته كالمسابقة على العدوان على الناس، وقطع الطريق، ونهب الأموال، وإخافة الآمنين، وما أشبه ذلك، فهذا حرام سواء كان بعوض أو بغير عوض.
وإما أن يكون مما يلهي كثيراً ويتعلق به القلب كثيراً، ولا خير فيه ولا منفعة كالنرد، والشطرنج، وما أشبههما من هذه الألعاب التي كثرت أنواعها في الوقت الحاضر.
وَلَا بُدَّ مِنْ تَعْيِينِ المَرْكُوبَيْنِ، وَاتِّحَادِهِمَا، وَالرُّمَاةِ، وَالمَسَافَةِ بِقَدْرٍ مُعْتَادٍ. وَهِيَ جَعَالَةٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ فَسْخُهَا.
..............
قوله: «ولا بد من تعيين المركوبَين» يعني اللذين يقع عليهما السبق، فتقول مثلاً: أسابقك على هذا الجمل، والثاني يقول: أسابقك على هذا الجمل، أو يقول: أسابقك على هذا الفرس والثاني يقول: أسابقك على هذا الفرس، فلو قال: أسابقك على فرس بدون تعيين لم تصح، فلا بد من تعيين الفرسين أو الجملين مثلاً.
وظاهر كلام المؤلف: أنه لا يشترط تعيين الراكبين؛ لأنه قال: «المركوبين» والصحيح أنه شرط وهو مذهب الشافعي، ولا
بد منه؛ لأنه ليس المقصود أن يكون هذا الجمل أو هذا الفرس سابقاً، بل السبق في الحقيقة يكون من جودة الفرس أو الجمل ومن حذق الراكب، ربما يكون الفرس فرساً جيداً جداً ويركبه إنسان ليس حاذقاً فلا يمشي، ونفس الفرس يركب عليه رجل آخر ويمشي، وهذا شيء مشاهد، ولما كان الناس يستعملون الحمير كآلة ركوب وآلة نقل، تجد أحد الركاب إذا ركب على الحمار بمجرد ما يحرك نفسه يمشي الحمار، وبعض الناس يركب ويزجر الحمار ويضربه ولا يتحرك.
قوله: «واتحادهما» لا بد ـ أيضاً ـ من اتحادهما، بمعنى أنه لا بد أن يكون السبق في الخيل على فرسين من نوع واحد كعربي وعربي، وبِرذَوْن وبِرذَوْن، وهجين وهجين، فلو سابق على فرس وبغل فلا يجوز، ولو سابق بين عربي وهجين فلا يجوز، وكذلك في الإبل فلا يصح بين العِراب والبَخاتي؛ لاختلاف النوع؛ لأنه لا بد من اتحادهما وأن يكونا من نوع واحد.
وظاهر كلام المؤلف: أنه لا يشترط اتفاقهما في الذكورة والأنوثة، فيجوز أن يكون السبق على جمل وناقة أو على فرس وحصان، ولا سيما ـ أيضاً ـ بالنسبة للناقة والجمل فلا بأس، وإن كان يختلف بعضهما عن بعض في مسألة التحمل والصبر والقوة.
قوله: «والرماة» لا بد ـ أيضاً ـ من تعيينهم فيما إذا كانت المسابقة بالسهام؛ لأن القصد معرفة حذقهم وهذا لا يحصل إلا بالتعيين، فيقال مثلاً: فلان ابن فلان يسابق فلان ابن فلان، فلو
قال مثلاً: المسابقة على رجل من بني تميم ورجل آخر من بني غطفان، فهذا لا يصح لعدم التعيين؛ لأنه لا بد من تعيين الرماة، ولا بد ـ أيضاً ـ من تعيين السهم بمعنى أن يكون المُرمى به (الآلة) من نوع واحد، ومعروف الآن الفرق بين أنواع الأسلحة فلا بد أن يكون السلاح نوعاً واحداً.
وهل يشترط ـ أيضاً ـ أن يكون الطراز واحداً؟ ينظر: إذا اختلفت فلا بد من أن يكون الطراز واحداً، أما إذا لم تختلف فلا يشترط؛ لأنها أحياناً لا تختلف من حيث القوة والأداء، لكن تختلف من حيث الشكل فقط، فلا بد من اتحاد ما يرمى به بشرط أن يكون عدم الاتحاد يؤدي إلى الاختلاف.
قوله: «والمسافة بقدر معتاد» لا بد ـ أيضاً ـ من تحديد مسافة الرمي، وكانوا في الأول يعتمدون في مسافة الرمي على قوة الرامي؛ لأنه نبل يرمي به الإنسان، فالإنسان الذي ليس بقوي لا يذهب سهمه بعيداً، فلا بد من تعيين المسافة بقدر معتاد، قالوا: وأكثره ثلاثمائة ذراع يعني حوالي مائتي متر تقريباً، وهذه المسافة بالنسبة للأسلحة الموجودة الآن لا شيء، ولكن فيما سبق لا أحد يرمي ثلاثمائة ذراع، والمرجع في ذلك إلى العرف.
وهذه الشروط التي ذكرت هي لجواز أخذ العوض في المسابقة، أما إذا لم يكن عوض فالأمر واسع، فلو قال شخص لآخر: إن عنده حماراً جيداً لا يسبقه الفرس، وقال الآخر: أنا
عندي فرس، أتحداك، فتسابقا أحدهما على حمار والثاني على فرس، فيجوز بلا عوض.
مسألة: هل تجوز المسابقة في العلوم؟
إذا كانت هذه العلوم شرعية، أو مما يعين على الجهاد كالصناعات الحربية، فالمذهب لا تجوز المسابقة عليها للحديث، والراجح الجواز وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ وذلك أن الدين الإسلامي قام بالسيف والعلم والدعوة، فإذا جازت المراهنة على السيف ونحوه جازت المراهنة على ما قام به من العلم، ولكن ينبغي تقييد هذا الإطلاق بما إذا لم يكن غرض الإنسان الحصول على المال فقط لا الوصول إلى الحكم الشرعي فهنا ينبغي أن يمنع، وقد يقال بعدم المنع؛ لأن بعض العلماء قال: طلبنا العلم لغير الله فأبى أن يكون إلا لله.
قوله: «وهي» أي: المسابقة.
قوله: «جَعَالة لكل واحد فسخها» يعني أنها ليست من العقود اللازمة، بل هي من العقود الجائزة، فهي تشبه الجعالة.
والجعالة هي أن يجعل الإنسان شيئاً معلوماً لمن يعمل له عملاً معلوماً، مثل أن يقول: من رد ضالتي فله ألف ريال، والسبق من هذا الجنس.
وقوله: «لكل واحد» ـ أي: من المتسابقين ـ «فسخها» ، ويشترط لذلك أن لا يظهر الفضل لأحدهما، فإن ظهر الفضل لأحدهما فإنه يمتنع على صاحبه أن يفسخ؛ لئلا يؤدي إلى التلاعب، فمثلاً إذا كانت الإصابة تسعة من عشرة، ثم إن صاحبه
أخذ ثلاثة وهو أخذ خمسة، فلا يجوز لصاحب الثلاثة أن يفسخ، ويجوز لصاحب الخمسة أن يفسخ؛ لأنه ظهر له الفضل.
فإن قال قائل: حتى صاحب الثلاثة ربما يكون مع تكرار المسابقة يقفز، وذاك يتأخر؛ لأن الإصابة مقدرة بتسعة من عشرة؟
نقول: هذا احتمال وارد، لكن ليس لنا إلا الظاهر، والآن الظاهر الغلبة مع صاحب الخمسة، فصاحب الخمسة تبين الآن أن الحق له فيما يظهر، فإن فسخ هو فلا بأس، وإن فسخ المغلوب فليس له ذلك إلا إذا رضي صاحبه.
فقوله: «لكل واحد فسخها» مطلق يجب أن يقيد بما إذا لم يظهر الفضل لأحدهما، فإن ظهر الفضل لأحدهما فليس للمفضول أن يفسخ إلا برضا صاحبه.
وَتَصِحُّ المُنَاضَلَةُ عَلَى مُعَيَّنِينَ يُحْسِنُونَ الرَّمْيَ.
قوله: «وتصح المناضلة» أي: المسابقة في الرمي.
قوله: «على معيَّنين يحسنون الرمي» يعني لا بد أن يكون الرماة معيّنين، وسبق في قوله:«والرماة» لكن لا بد أن يكونوا يحسنون الرمي؛ لأن من لا يحسن الرمي لا فائدة من رميه، والشارع إنما أجاز المسابقة بعوض في الرمي؛ من أجل أن يجيد الإنسان الرمي ويتمرن عليه، فإذا كان لا يعرف فإنه لا يصح أن يدخل في المسابقة.
وقوله: «على معينين» هل هذا يدل على اشتراط أن يكونوا ثلاثة فأكثر؟
الجواب: أما على المذهب فنعم؛ لأنه لا بد من اثنين
وثالث محلل، وأما على القول الراجح فيصح أن تكون المناضلة بين اثنين.
ثم لا بد من حَكَمٍ بين الاثنين يكون عارفاً بالسبق، وتقدير السبق بحيث لا يُظلم أحد؛ لأن المتسابقين كالخصمين تماماً، والخصمان لا بد لهما من حاكم يحكم بينهما.
بَابُ العَارِيَّةِ
َ
هِيَ إِبَاحَةُ نَفْعِ عَيْنٍ، تَبْقَى بَعْدَ اسْتِيفَائِهِ.
............................
«باب العَارِيَّة» ويقال: العَارِيَة سمِّيت بذلك؛ لأنها عارية عن العوض ولهذا قال:
«وهي إباحة نفع عين تبقى بعد استيفائه» فالعارية في الأصل بذل الشيء بلا عوض، على غير وجه التمليك.
وقوله: «وهي إباحة» من المعير للمستعير «نفع عين تبقى» ـ أي: العين ـ «بعد استيفائه» أي: استيفاء النفع.
وقوله: «نفع عين تبقى بعد استيفائه» أي: تبقى العين بعد استيفائه، فإن أعاره ما لا يبقى بعد استيفائه فليست عارية ولكنها منحة، مثل أن يعيره تمراً أو خبزاً أو ما أشبه ذلك، وتصوُّر ذلك أن يكون جاره عنده ضيوف فيقول: أنا عندي ضيوف يحتاجون إلى أن أقدم لهم طعاماً متنوعاً، فيقول: نعم أنا عندي طعام متنوع أعيرك إياه، فيقال: هذا إذا دلت القرينة على أنه لا يريد عوضاً فهو هبة وهدية، وإن دلت القرينة على أنه يريد العوض فهو بيع، كأن يقول: ما أُكِلَ فهو عليك بكذا بقيمته، وما لم يؤكل يرد إليه، وهذا يقع كثيراً عند أهل المطاعم، يقدمون أطعمة متنوعة يَصُفُّها صاحب البيت أمام الضيوف، فما أُكل منها فهو بحسابه وما لم يؤكل فإنه يرده عليه، وهذا ـ وإن كان فيه نوع من الغرر والجهالة ـ لكنه يُتسامح فيه عادة، المهم أنه لا بد أن تبقى العين بعد استيفاء المنفعة.
مثال ذلك: الماعون ـ الإناء ـ هذا يمكن أن ينتفع به الإنسان مع بقائه، القلم يمكن أن ينتفع به مع بقائه ولا يضر إذا كان فيه شيء من الحبر؛ لأن هذا يعتبر تبعاً لا يؤثر، وإلا فمن المعلوم أنه إذا أعطاه قلماً مملوءاً بالحبر، فسوف يفنى هذا الحبر بالكتابة به لكن هذا شيء لا يؤبه له.
والسيارة تبقى بعد استيفائها وما استُهلك من البنزين الذي فيها حين العارية فهو تبع، ولا يقال: إن هذا لا ينتفع به إلا بعد استهلاكه.
وقوله: «إباحة نفع عين» لا بد أن يكون المبيح جائز التبرع بحيث إنه يملك أن يهدي من ماله، وأن يهب من ماله وأن يتصدق من ماله، فإن كان غير جائز التبرع لم تصح منه العارية، كولي اليتيم ـ مثلاً ـ فإنه لا يصح أن يعير مال اليتيم؛ لأنه لا يصح أن يتبرع به والإعارة تبرع بالنفع، نعم لو فرض أن اليتيم مراهق قريب البلوغ وهو يحب البذل والعطاء واستأذنه في أن يعير متاعه، ففرح بذلك وسُرَّ به، فهنا نقول: لا بأس أن يعير متاع هذا اليتيم؛ لأن في هذا إدخال السرور على اليتيم كما قال العلماء رحمهم الله إنه يجوز أن يضحي من مال اليتيم لليتيم؛ لأن اليتيم يفرح بالأضحية فهنا أعار متاعه لمصلحته؛ لأن بعض الشباب المراهقين يحبون أن يحسنوا إلى الناس فتجدهم يتفانَوْن في خدمة الناس ونفعهم وإعارتهم، فإذا كان هذا الولي لليتيم يرى أن من إدخال السرور على اليتيم أن يعير شيئاً من ماله بإذنه فلا بأس.
وَتُبَاحُ إِعَارَةُ كُلِّ ذِي نَفْعٍ مُبَاحٍ، إِلاَّ البُضْعَ، وَعَبْداً مُسْلِماً لِكَافِرٍ، وَصَيْداً وَنَحْوَهُ لِمُحْرِمٍ، وَأَمَةً شَابَّةً لِغَيْرِ امْرَأَةٍ أَوْ مَحْرَمٍ.
.....................
قوله: «وتباح إعارة كل ذي نفع مباح» لم يبيِّن المؤلف رحمه الله حكم العارية بالنسبة للمعير أو للمستعير، وإنما بيَّن حكم المُعار، فنقول: العارية بالنسبة للمستعير جائزة ولا تُعد من السؤال المذموم لجريان العادة بها، فيجوز للإنسان أن يستعير من أخيه قلماً أو ساعة أو سيارة أو إناءً أو ما أشبه ذلك، هذا بالنسبة للمستعير، أما بالنسبة للمعير فإنها سُنَّة على الأصل وقد تجب أحياناً، فهي سُنَّة لدخولها في عموم قول الله تبارك وتعالى:{وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195] وهي إحسان بلا شك فتدخل في عموم الآية، وقد تجب أحياناً، كإعارة شخص رداء يدفع به ضرر البرد، فهذه واجبة فلو طلب منك شخص في برد شديد أن تعطيه رداء يلتحف به، وجب عليك أن تعطيه، وضابط ذلك أنه متى توقف عليها إنقاذ معصوم صارت واجبة، ومن ذلك عند كثير من العلماء إعارة المصاحف؛ لأن المصحف يجب أن يبذل لمن أراد أن يتعلم به.
ومن ذلك ـ أيضاً ـ إعارة الكتب التي يحتاج إليها الناس فتجب إعارتها، لكن يشترط في ذلك ضرورة المستعير وعدم تضرر المعير، فلو قال المعير فيما إذا طلب منه استعارة مصحف: إني لو أعطيت هذا الرجل مصحفاً لأفسده، فإنه لا تجب عليه الإعارة، وكذلك لو قال: إن أعطيته الكتاب أفسده فلا تجب الإعارة؛ لأن فيها ضرراً على المعير، ويوجد بعض الناس ـ الذين يجتهدون وهم مخطئون ـ إذا استعار كتاباً جعل يعلق عليه، والكتاب ليس له، فتجده يملأ الكتاب تعليقاً بين الأسطر وعلى الهوامش وبالحواشي وبالأعالي حتى لا تكاد تقرأ
أصل الكتاب، ثم من المؤسف أن تكون هذه الحواشي، ليس فيها خير وربما تكون خطأً، وهذا حرام لا يجوز، فلا يجوز للمستعير أن يكتب حرفاً واحداً في الكتاب المعار أبداً، حتى لو وجد خطأً ليس له الحق أن يصححه إلا إذا استأذن من صاحبه؛ وذلك لأنه ربما يظن العبارة خطأً وهي صواب.
وما الذي يباح إعارته؟ قال:
«تباح إعارة كل ذي نفع مباح» كل عين فيها نفع مباح فإن إعارتها مباحة، فخرج ما لا نفع فيه كالديدان والصراصير والجِعلان والخنافس وما أشبه ذلك، هذه لا تباح إعارتها؛ لأنها ليس فيها نفع مقصود.
ولا بد أن يكون النفع مباحاً، فإن كان فيها نفع محرم لم تجز إعارتها كإعارة الطبول والمعازف وما أشبهها، فهذه إعارتها محرمة؛ لأن نفعها محرم، ومن ذلك إعارة مغنية لتغني غناءً محرماً فإن إعارتها محرمة، ودليل ذلك قول الله سبحانه وتعالى:{وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] وإعارة ذي النفع الحرام لا شك أنها إعانة على هذا النفع المحرم.
فلو أراد أن يعير شخصاً كلباً عقوراً وقال: الناس يكثرون عند مزرعتي، أعرني كلبك العقور من أجل أن يعقر كل من مرَّ من حولها، فهذا لا يجوز؛ لأن الكلب العقور لا يجوز إبقاء الملك عليه بل يجب قتله، حتى إن الرسول صلى الله عليه وسلم أذن بقتله في الحِلَّ والحرم، كما في الحديث الصحيح: «خمس من الدواب
كلهن فاسق» وذكر منهن: «الكلب العقور»
(1)
.
قوله: «إلا البضع» فلا تحل إعارته، يعني لو جاء شخص لآخر عنده أمة وقال: أعرني بضع أمتك لمدة خمسة أيام، فهذا لا يجوز؛ لأن هذا حرام، يعني يعيره إياها يزني بها!! هذا محرم ولا إشكال فيه، فهو داخل في قوله تعالى:{وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]؛ لأن البضع لا يصح استحلاله إلا للزوج أو السيد؛ لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ *إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ *فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ *} [المؤمنون].
قوله: «وعبداً مسلماً لكافر» فلا يجوز أن يعير عبداً مسلماً لكافر؛ لأن في ذلك إهانة للمسلم، وإهانة المسلم إهانة لدينه، فلا يجوز أن يعير عبداً مسلماً لكافر.
وظاهر كلام المؤلف: وإن لم يستخدمه استخداماً مباشراً، مثل أن يقول: أعرني عبدك أجعله في المكتب الفلاني من شركتي، فهنا الكافر ليس له استخدام مباشر لهذا المسلم، فهل نقول: إن هذا جائز؛ لأن العلة في منع إعارة المسلم للكافر هي خوف إذلاله، فإذا انتفى هذا بأن قال: المكتب الفلاني ليس فيه أحد، أعرني عبدك يبقى في المكتب حتى يأتي الغائب، أو أعرني عبدك يبقى حارساً على هذا المكتب؟ فظاهر عموم كلام المؤلف
(1)
أخرجه البخاري في جزاء الصيد/ باب ما يقتل المحرم من الدواب (1829)؛ ومسلم في الحج/ باب ما يندب للمحرم وغيره قتله من الدواب في الحل والحرم (1198)(71) عن عائشة رضي الله عنها.
أنه لا تصح عاريته، والذي ينبغي أن يقال: إنها تصح عاريته؛ لأن العلة يتبعها الحكم فيثبت بثبوتها وينتفي بانتفائها، وعلى هذا فيستثنى على القول الذي ذكرنا ما إذا لم يكن يريد استخدامه استخداماً مباشراً.
قوله: «وصيداً ونحوه لمحرم» يعني ولا يجوز أن يعير صيداً لمُحرم، مثاله: إنسان عنده غزال والغزال حرام على المُحرم، فالصيد ولو كان مِلكاً للمُحرم لا يجوز أن يبقى تحت يده، فإذا أعار شخصاً ظباء ليتجمل بها، مثل إنسان مُحرم يريد أن يمر من عنده شخص له أهميته كأمير أو وزير أو ما أشبه ذلك، فيقول: أعرني الظباء التي عندك أجعلها في مزرعتي من أجل أن ينظر إليها الوزير أو الأمير فإنه لا يجوز؛ والعلة لأنه داخل في قول الله تعالى: {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2].
قوله: «وأمة شابة لغير امرأة أو مَحْرَم» الأمة الشابة لا تجوز إعارتها لرجل إلا أن يكون مَحْرَماً، فلو كان شخص عنده أمة شابة مملوكة ولها أخ فقال أخوها: أعرني أختي؛ لأني سيأتيني ضيوف وأحتاج إلى مساعدة الأهل بها، فهذا يجوز؛ لأنه مَحْرَم ومأمون عليها، أو استعارتها امرأة، يعني إنسان له جارة أتاها ضيوف فطلبت منه أن يعيرها أمته فهذا يجوز؛ لأن المرأة على المرأة مأمونة، هذا الأصل، والنادر لا حكم له لا في هذا ولا في المَحْرَم، حتى المَحْرَم أحياناً يغويه الشيطان فيفعل الفاحشة في محارمه لكن الكلام على الأصل الغالب.
وقوله: «أمة شابة» فُهِمَ منه أنه لو كانت غير شابة ولو
جميلة فإنه يجوز أن تعار لرجل ولو لم يكن محرماً، والمرأة غير الشابة تنقسم إلى أقسام:
الأول: أن تكون جميلة يعني امرأة لها خمسون سنة لكنها جميلة إذا رأيتها ظننت أنها من ذوات العشرين، فهذه لا يجوز أن تعار لرجل مطلقاً؛ لأن الفتنة حاصلة بذلك.
الثاني: امرأة ليست شابة لكنها وسط في الجمال، هذه ـ أيضاً ـ لا تعار لرجل غير مَحْرَم؛ لأن مفسدة إعارتها أكثر وأغلب من السلامة.
الثالث: امرأة غير شابة وهي قبيحة، فهل يجوز أن يعيرها لرجل غير محرم؟ ظاهر كلام المؤلف: أنه يجوز، ولكن في إطلاقه نظر فيقال: إعارتها لشاب أعزب ولو كانت عجوزاً شوهاء، فيها خطر وداخلة في عموم الحديث:«لا يخلوَنَّ رجل بامرأة»
(1)
وكما قيل: (لكل ساقطة لاقطة) يمكن أن هذه العجوز الشوهاء لا يختارها من تقدمت به السن، لكن شاب يبقى عندها يوماً وليلة أو ثلاثة أيام أو أكثر فربما تدب إليه الشهوة ويحصل الضرر، ثم على فرض أن المسألة ليس فيها شهوة ويريد أن يعير عجوزاً لشيخ كبير، يوجد شيء آخر وهو الخلوة غالباً.
فالصواب في هذه المسألة أنه لا تجوز إعارة أمة لرجل غير مَحْرَمٍ مطلقاً، حتى ولو كانت عجوزاً لشيخ كبير.
(1)
أخرجه البخاري في الجهاد والسير/ باب من اكتتب في جيش فخرجت امرأته حاجّة (3006)؛ ومسلم في الحج/ باب سفر المرأة مع المحرم إلى حج وغيره (1341) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وقوله: «أمة شابة» فُهِمَ منه أنه لو أعار حرة فإنه لا يجوز؛ لأن الحرة غير مملوكة، والعارية لا تكون إلا من مالك.
وَلَا أُجْرَةَ لِمَنْ أَعَارَ حَائِطاً حَتَّى يَسْقُطَ، وَلَا يُرَدُّ إنْ سَقَطَ إلاَّ بِإذْنِهِ، وَتُضْمَنُ العَارِيَّةُ بِقِيمَتِهَا يَوْمَ تَلِفَتْ، وَلَوْ شَرَطَ نَفْيَ ضَمَانِهَا، وَعَلَيْهِ مَؤُونَةُ رَدِّهَا، لَا المُؤجَّرَةِ، وَلَا يُعِيرُهَا .....
قوله: «ولا أجرة لمن أعار حائطاً حتى يسقط» صورة المسألة: أن يكون شخص له جار، والجار له جدار خاص به، واحتاج ذلك الشخص أن ينتفع بجدار جاره، فطلب منه أن يضع خشباً على هذا الجدار عارية، فأعاره إياه وبنى عليه الجار، ثم إن صاحب الجدار طلب من الجار أجرة بعد أن أعاره، وقال: رجعت في عاريتي، فأعطني أجرة على بقاء الخشب على الجدار، فإنه لا يملك هذا، وحتى رجوعه عن العارية لا يقبل؛ لأن الرجوع في العارية على وجه يتضرر به المستعير لا يجوز؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«لا ضرر ولا ضرار»
(1)
، ومثل ذلك لو أعاره أرضاً ليزرعها ثم زرعها المستعير، وفي أثناء ذلك، قال المُعير: رجعت، فإنه لا يلزمه، وهل له أجرة؟ الصحيح أنه ليس له أجرة؛ لأن إذنه له بالزرع يستلزم رضاه ببقائه حتى يحصد، والمشهور من المذهب أنه إذا رجع أثناء مدة الزرع فإن له الأجرة، ولكنه قول ضعيف، ولا تكاد تجد فرقاً بين هذا والحائط.
وكذلك على القول الراجح إذا كانت العارية مؤقتة بوقت
(1)
أخرجه الإمام أحمد (5/ 326)؛ وابن ماجه في الأحكام/ باب من بنى في حقه ما يضر بجاره (2340) عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، وأخرجه الإمام أحمد (1/ 313)؛ وابن ماجه (2341) عن ابن عباس رضي الله عنهما، وأخرجه مالك (2/ 745) مرسلاً، وللحديث طرق كثيرة يتقوى بها ولذلك حسنه النووي في الأربعين (32)؛ وابن رجب في جامع العلوم والحكم (2/ 210)؛ والألباني في الإرواء (896).
فإنه لا يجوز الرجوع في العارية ما دام الوقت باقياً، مثل أن يقول: أعرتك هذه لمدة شهر، فإنه لا يجوز أن يرجع في نصف الشهر، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذب وإذا وعد أخلف»
(1)
وهذا إذا رجع أثناء المدة فقد أخلف، وقوله تعالى:{وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} [الإسراء: 34] وهذا قد عاهده أن تبقى العين عنده لمدة شهر، ولقوله تعالى:{أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] ولقوله صلى الله عليه وسلم: «المسلمون على شروطهم»
(2)
.
وقوله: «حتى يسقط» متعلقة بقوله: «لا أجرة» فإن سقط فهل له طلب الأجرة عما مضى؟ لا، لكن إذا سقط الجدار ثم أقامه فله أن يمنع جاره من الانتفاع به إلا بأجرة، وكذلك إذا رفع الجار خشبه ثم أراد إعادته مرة ثانية فله طلب الأجرة.
وهذا الكلام من المؤلف مقيد بما إذا لم يجب تمكين الجار من وضع الخشب على الجدار، فإن وجب تمكين الجار من وضع
(1)
أخرجه البخاري في الإيمان/ باب علامات المنافق (33)؛ ومسلم في الإيمان/ باب خصال المنافق (59) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
علقه البخاري بصيغة الجزم في الإجارة/ باب أجرة السمسرة، ووصله أبو داود في القضاء/ باب المسلمون على شروطهم (3594)؛ والحاكم (2/ 92) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وأخرجه الترمذي في الأحكام/ باب ما ذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلح بين الناس (1352) عن كثير بن عبد الله المزني عن أبيه عن جده، وقال: حسن صحيح.
وأخرجه الدارقطني (3/ 27، 28)؛ والحاكم (2/ 49، 50) عن عائشة وأنس رضي الله عنهما بلفظ: «المسلمون عند شروطهم ما وافق الحق» ؛ وصححه النووي في المجموع (9/ 464)؛ والألباني في الإرواء (1303)؛.
الخشب على الجدار فإنه ليس له حق في طلب الأجرة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«لا يمنعن جار جاره أن يغرز خشبه، أو قال: خشبة على جداره» قال أبو هريرة رضي الله عنه حين كان أميراً على المدينة: (ما لي أراكم عنها مُعرضين، والله لأرميَنَّ بها بين أكتافكم)
(1)
«أرمين بها» أي: بالخشب، يعني إن لم تضعوها على الجدار أضعها على أكتافكم، فصار كلام المؤلف هنا مقيداً بما إذا لم يجب تمكين الجار من الانتفاع بالجدار، فإن وجب فإنه لا يجوز له طلب الأجرة؛ لأن هذا أمر واجب عليه، والأمر الواجب ليس له أجرة.
قوله: «ولا يرد إن سقط إلا بإذنه» يعني أن الحائط إذا سقط فإنه لا يرد إلا بإذن صاحب الجدار، فلا يقول الجار: قد أذن لي سابقاً، والإذن ينسحب على الجدار الأول وعلى الجدار الثاني، نقول: لا، الجدار الأول سقط ولا يمكن الانتفاع به، فإذا أنشأ الجدار من جديد فلا بد أن تجدد الاستئذان، فإذا قال: الأصل بقاء الإذن، قلنا: ليس كذلك، الأصل بقاء الإذن لو أن خشبك انخلع من الجدار أو ما أشبه ذلك، ثم أعدته على الجدار الباقي ربما يقال في هذا: إن الأصل بقاء الإذن، أما إذا انهدم الجدار ثم جدده مالكه فإنه لا يمكن أن تَرُد ما كنت مستعيراً له من قبل إلا بإذنه لقوله:«ولا يرد إن سقط إلا بإذنه» .
قوله: «وتضمن العارية» أفادنا المؤلف أن العارية مضمونة بكل حال، لقوله:«وتضمن» ولم يفصل، فالعارية مضمونة على
(1)
سبق تخريجه ص (20).
المستعير سواء تلفت بتفريط وتعدٍّ، أو بغير تفريط ولا تعدٍّ، والدليل قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] وهذه أمانة، وقول النبي صلى الله عليه وسلم:«على اليد ما أخذت حتى تؤديه»
(1)
وهذه عين مأخوذة فعلى المرء أن يؤديها.
وقال بعض العلماء: إن العارية لا تضمن إلا بواحد من أمور ثلاثة:
الأول: أن يتعدى.
الثاني: أن يفرط.
الثالث: أن يشترط الضمان.
أما في مسألة التعدي والتفريط فلأنه بتعديه أو تفريطه زال ائتمانه، فصار غير أمين، وأما فيما إذا شرط أن يضمنه فلقوله صلى الله عليه وسلم:«المسلمون على شروطهم»
(2)
وهذا قد التزم بذلك والحديث عام، وهناك دليل خاص بالموضوع وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم استعار أدرعاً من صفوان بن أمية رضي الله عنه، فقال له صفوان: أغصباً يا محمد؟! قال: «بل عارية مضمونة»
(3)
.
(1)
أخرجه الإمام أحمد (5/ 8)؛ وأبو داود في البيوع/ باب في تضمين العارية (3561)؛ والترمذي في البيوع/ باب ما جاء أن العارية مؤداة (1266)؛ وابن ماجه في الصدقات/ باب العارية (2400)؛ والحاكم (2/ 47) عن سمرة رضي الله عنه.
قال الترمذي: حسن صحيح، وصححه الحاكم على شرط البخاري ووافقه الذهبي.
(2)
سبق تخريجه ص (115).
(3)
أخرجه الإمام أحمد (3/ 401)؛ وأبو داود في البيوع/ باب في تضمين العارية (3562)؛ والحاكم (2/ 47) عن صفوان بن أمية رضي الله عنه وأخرجه الحاكم (3/ 48، 49) عن جابر رضي الله عنه وصححه، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في الإرواء (1513).
كلمة «مضمونة» من قال: إن العارية مضمونة بكل حال، قال: إن «مضمونة» صفة كاشفة ليست مقيدة، والصفة الكاشفة لا يخرج مفهومها عن الحكم، فكأنه قال: عارية، وكل عارية مضمونة، والذين قالوا: لا تضمن إلا بشرط، قالوا: إن الصفة «مضمونة» مقيِّدة وليست كاشفة، وإذا تعارض القولان هل الصفة مقيدة أو كاشفة؟ فالأصل أنها مقيدة؛ لأن الكاشفة لو حذفت لاستقام الكلام بدونها، والمقيدة لا يتم الكلام إلا بها، والأصل أن المذكور واجب الذكر، وعليه فتكون الصفة هنا مقيدة وهو الصحيح، فتكون دالة على أن العارية تضمن إن شرط ضمانها وإلا فلا.
فإن قال قائل: بأي شيء تردون استدلالهم بالدليلين السابقين؟
الجواب: أن الله يقول: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] والأمانات ترد إذا كانت باقية، أما إذا تلفت فالآية ليس فيها دليل على وجوب الرد،؛ لأن الأمانات زالت وتلفت.
وكذلك نقول في حديث: «على اليد ما أخذت حتى تؤديه»
(1)
هذا يدل على أنه موجود وأنه يجب أداؤه لصاحبه حيث وجب أداؤه إليه.
(1)
سبق تخريجه ص (117).
ثم نقول: أنتم أنفسكم لم تأخذوا بمقتضى الآية، فالمستأجر عندكم الذي بيده العين المستأجرة أمين، والعين بيده أمانة، ومع ذلك تقولون: لو تلفت العين المستأجرة تحت يده بغير تعدٍّ ولا تفريط فليس بضامن، فكيف تستدلون بالآية على شيء وتخرجون ما تشمله الآية، والحكم واحد فيهما؟!
إذاً فلا دلالة في الآية والحديث على ما ذهبوا إليه، وتبقى العارية على القواعد العامة، وهي أنها وقعت بيد المستعير برضا صاحبها، فيد المستعير يد أمينة، والأمين لا يضمن إلا بتعدٍّ أو تفريط، هذه هي القاعدة الشرعية العامة.
أما إذا شرط ضمانها فلقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] ولقوله: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ} [الإسراء: 34] ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: «المسلمون على شروطهم»
(1)
، ولقوله صلى الله عليه وسلم لصفوان بن أمية رضي الله عنه:«بل عارية مضمونة»
(2)
، وهذا القول هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
وقوله: «وتضمن العارية» الضامن هو المستعير.
قوله: «بقيمتها» يعني إن كانت متقوِّمة، وبمثلها إن كانت مِثْلِيَّة، فالتعبير هنا بقيمتها فيه قصور، وكان الواجب أن يقول:(وتضمن العارية ببدلها يوم تلفت)؛ لأنه إذا قال: ببدلها فالبدل يشمل القيمة والمثل.
والقاعدة عندنا في ضمان المُتلفات: (أن المثلي يضمن
(1)
سبق تخريجه ص (115).
(2)
سبق تخريجه ص (117).
بمثله، والمتقوم يضمن بقيمته) لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«إناء بإناء، وطعام بطعام» في قصة معروفة، وهي أنه صلى الله عليه وسلم كان عند إحدى زوجاته رضي الله عنهن فأرسلت الزوجة الأخرى خادمها بطعام في صحفة، فدخل الخادم بالطعام والصحفة على الرسول صلى الله عليه وسلم في منزل الضرَّة، فأصابتها الغيرة، فضربت بيد الخادم حتى سقطت الصحفة وانكسرت، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم طعام المرأة التي هو عندها وصحفتها وأعطاها الخادم، وقال:«إناء بإناء، وطعام بطعام»
(1)
فهنا ضُمِن بالمثل؛ لأن هذا مثلي.
لكن في الإعتاق لما بيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم أن من أعتق شركاً له في عبد سرى عتقه إلى نصيب شركائه قال: «وقُوِّمَ عليه قيمة عدل»
(2)
فأوجب القيمة، لأنه ليس مثلياً، يتعذر فيه تحصيل المثل فهو متقوم.
والفرق بين المتقوم وبين المثلي:
أن المثلي ضابطه عند الفقهاء (كل مكيل أو موزون ليس فيه صناعة مباحة، يصح السَّلَم فيه) وهذا الضابط يضيِّق المثليات تضييقاً بالغاً.
فقولهم: (كل مكيل أو موزون) يخرج به ما سواهما، مع
(1)
أخرجه الترمذي في الأحكام/ باب ما جاء فيمن يكسر له الشيء ما يحكم له من مال الكاسر
…
(1359) عن أنس رضي الله عنه وقال: حسن صحيح، والحديث في البخاري دون قوله:«طعام بطعام وإناء بإناء» (2481).
(2)
أخرجه البخاري في العتق/ باب إذا أعتق عبداً بين اثنين (2522)، ومسلم في العتق/ باب من أعتق شركاً له في عبد (1501)، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
أن الحيوان يمكن أن يكون مثلياً والمعدود يمكن أن يكون مثلياً، والمذروع يمكن أن يكون مثلياً، وما أشبه ذلك، لكن هم يخصونه بالمكيل والموزون.
وقولهم: (ليس فيه صناعة مباحة) فإن كان فيه صناعة مباحة فإنه يخرج عن كونه مثلياً، فالبر إذا طُبِخ وكان طعاماً خرج عن كونه مثلياً، مع أن أصله مكيل، وكذلك ـ أيضاً ـ الأواني ليست مثلية مع أن أصلها موزون.
وأما قولهم: (مباحة) فاحترازاً من الصناعة المحرمة؛ لأن الصناعة المحرمة وجودها كالعدم.
وأما قولهم: (يصح السلم فيه) فهذا ـ أيضاً ـ شدد التضييق، فهو احتراز مما كان مكيلاً أو موزوناً، لكنه يختلف ولا ينضبط بالصفة فإنه لا يكون مثلياً.
والصحيح أن المثلي ما كان له مثيل مطابق أو مقارب تقارباً كثيراً، ويدل لهذا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لزوجته التي كسرت الإناء، وأفسدت الطعام:«إناء بإناء، وطعام بطعام»
(1)
ولم يضمنها بالقيمة، ثم إننا نقول: الصناعة الآن تتقدم، ومن المعلوم أن الفناجيل ـ مثلاً ـ من الزجاج مصنوعة، وهي مثلية قطعاً، فمماثلة الفنجال للفنجال أشد من مماثلة صاع البر لصاع البر، وهذا أمر معلوم، والحلي ـ مثلاً ـ والأقلام، والساعات، كل هذه مثلية، وهي على حد الفقهاء ليست مثلية.
(1)
سبق تخريجه ص (120).
فالصواب إذاً: أن المثلي ما كان له مماثل أو مقارب مقاربة تامة، فإذا استعار إناء ثم انكسر الإناء ـ فعلى ما اخترناه ـ يُضمن بإناء مثله، وعلى كلام الفقهاء يضمن بقيمته، والأقرب إلى العدل أن يُضمن بمثله.
قوله: «يوم تلفت» أي: في وقت التلف، فإذا كانت مثلية فالأمر واضح، يؤدي المستعير مثلها قَلَّت القيمةُ أو نقصت، ولكن إذا كانت متقومة، فيقول المؤلف: تضمن بقيمتها يوم تلفت، لا في وقت التضمين، ولا في وقت الإعارة؛ لأن لدينا ثلاثة أزمان: زمن الإعارة، وزمن التلف، وزمن المطالبة، والمعتبر زمن التلف؛ لأنه هو الذي خرج ملك صاحبها عنها فيه، أي: في وقت التلف.
مثال ذلك: رجل استعار إناء في واحد من محرم، وتلف يوم الخامس عشر من محرم، وضمنه المعير يوم الثلاثين من محرم، قيمة الإناء حين الاستعارة عشرة، وقيمته حين التلف عشرون، وقيمته حين المطالبة ثلاثون، فيلزم بالعشرين التي هي قيمته يوم التلف، والعلة في ذلك أن العارية قبل تلفها على ملك صاحبها له غنمها وعليه غرمها، فإذا تلفت زال ملكه عنها، فصار هذا هو وقت التقويم.
قوله: «ولو شرط نفي ضمانها» يعني أن المستعير يضمن العارية ولو شرط على صاحبها أن لا يضمنها، وهذه إشارة خلاف، فإن العلماء رحمهم الله اختلفوا في العارية هل هي مضمونة سواء شُرِط ضمانها، أم شُرِط نفيه، أو سُكِت، أو هي
غير مضمونة؟ الفقهاء رحمهم الله يرون أنها مضمونة بكل حال، حتى لو شرط المستعير أنه لا ضمان عليه إذا تلفت فإن هذا الشرط لاغٍ؛ لأنه ينافي مقتضى العقد، إذ مقتضى العقد الضمان مطلقاً، وكل شرط ينافي مقتضى العقد فإنه شرط لاغٍ، وقد مر هذا الضابط في باب الشروط في البيع.
مثال ذلك: إنسان استعار من شخص عشرين فنجالاً، والفنجال من الزجاج، يمكن أن ينكسر، فقال المستعير: لا ضمان عليَّ إن تكسرت الفناجيل، فوافق المعير، ثم تكسرت، فعند الفقهاء رحمهم الله يضمن ولو كان قد شرط أن لا يضمن ورضي بذلك المالك؛ لأن هذا الشرط ـ على كلامهم ـ مخالف لمقتضى العقد، فيكون داخلاً فيما أبطله النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:«كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط»
(1)
.
القول الثاني: أنها لا تضمن إلا بشرط الضمان، وإلا فلا ضمان إلا بتعدٍّ أو تفريط، يعني أنه إن اشترط مالكها على المستعير أن يضمنها ضمنها، وإلا فلا ما لم يتعدَّ أو يفرط.
القول الثالث: أنها تضمن إلا إذا شرط عدم الضمان.
والصواب: أن العارية كغيرها من الأمانات؛ لأنها حصلت بيد المستعير على وجه مأذون فيه، وما ترتب على المأذون فليس بمضمون، فيد المستعير يد أمانة، ليست يد خيانة، وإذا كانت يد أمانة فلا ضمان على الأمين، ووجه كونها يد أمانة أن هذه العارية
(1)
سبق تخريجه ص (15).
حصلت بيد المستعير بإذن مالكها، فهو الذي سلطه عليها، فكيف نضمنه بكل حال؟!
فإن شُرِط عليه الضمان، يعني لو قال المعير: إن عليك الضمان مطلقاً سواء حصل منك تعدٍّ أو تفريط أو لا، فهذا محل نظر؛ لأننا قد نقول: إنه إذا شرط أن يضمن فعليه الضمان لعموم الحديث: «المسلمون على شروطهم»
(1)
، وقد يقال: لا ضمان عليه؛ لأنه أمين، فكما أن المستأجر لو شُرِط عليه أن يضمن فالشرط غير صحيح فكذلك هذا، والأقرب أنه كغيره من الأمناء أنه لا يضمن حتى لو شرط، وهذا مذهب أبي حنيفة، وهذا هو القول الرابع وهو قول قوي جداً، لكن لو قال المعير: لا أعيرك إلا بهذا الشرط؟ فقد يضطر المستعير إلى قبوله؛ لأنه محتاج.
قوله: «وعليه» أي: على المستعير.
قوله: «مؤونة ردها» أي: تكلفة ردها إلى صاحبها، فإذا قدرنا أن العارية تحتاج إلى تحميل؛ لأنها أوانٍ كثيرة، وتحتاج إلى رفق وتأنٍ؛ لأنها تتكسر، ومثل هذه تحتاج إلى تكلفة بيِّنة، فهل المؤونة على المستعير أو على المعير؟ نقول: هي على المستعير والدليل:
أولاً: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «على اليد ما أخذت حتى تؤديه»
(2)
فكل ما يلزم من رد هذه العين فإنه على المستعير.
ثانياً: أن المستعير قبضها لحظ نفسه المحض، فكان عليه في مقابلة هذه المصلحة تحمل نفقة الرد.
(1)
سبق تخريجه ص (115).
(2)
سبق تخريجه ص (117).
ثالثاً: أن المعير محسن، وقد قال الله تعالى:{مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [البقرة: 195].
رابعاً: أننا إذا ألزمنا المعير بمؤونة الرد كان في هذا سد لباب العارية.
قوله: «لا المؤجرة» يعني أن المؤجرة مؤونة ردها على المؤجِر وليست على المستأجر.
مثال ذلك: رجل استأجر من شخص آلة حراثة، وآلة الحراثة تحتاج إلى مؤونة في ردها، تحتاج إلى سائق، وإلى وقود، فالمؤونة على صاحبها وليست على المستأجر؛ ووجه ذلك أن المستأجر قبضها لمصلحته ومصلحة مالكها، وَرَدُّها لمصلحة المالك، فكانت المؤونة على مالكها، بخلاف المعارة فإن المستعير قبضها لمصلحته الخاصة فلزمه ردها إلى أهلها لقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] ولأن المستأجر أعطى المؤجر الأجرة في مقابلة النفع، فهو بدل ببدل، وهذا يقتضي أنه لا مؤونة على المستأجر، كما لو استأجرت بيتاً فخرب منه شيء، فأجرة تعميره على المؤجر إلا إذا كان خرابُهُ بتعدٍّ أو تفريط.
قوله: «ولا يعيرها» أي: أن المستعير لا يجوز أن يعير العين التي استعارها، بخلاف المستأجر، فإن له أن يعير، وله أن يؤجر بشرط أن لا يلحق العين المؤجَرة ضرر، أما المستعير فلا يعيرها، ولا حتى أباه، فلو أن رجلاً استعار إناء من شخص وصار عند أبيه ضيوف، فقال له: أعرني هذا الإناء فلا يعيره؛ لأن المؤلف يقول: «ولا يعيرها» ؛ ووجه ذلك أن المستعير يملك الانتفاع بالإذن المجرد ولا
يملك النفع، والمعير إنما أعار هذا الشخص ولم يعرها غيره، فلا يحل له أن يعيرها؛ لأنه إن أعارها فقد تصرف في مال غيره بغير إذنه.
ولو استعار إنسان كتاباً وكان زميله يحتاج هذا الكتاب لليلة واحدة، فقال زميله: أعرني الكتاب هذه الليلة فقط؟ فلا يعيره، وله أن يعتذر ويقول: أنا مستعير والملك لغيري، والمستعير مالك للانتفاع وليس مالكاً للنفع، ونظير ذلك إنسان يدعو إخوانه لطعام الوليمة، فهل يملك أحد المدعوين أن يتصدق من الطعام، أو يبيع؟ لا يملك؛ لأنه إنما أذن له بالأكل وليس مالكاً، والإذن بأكل طعام الوليمة إباحة وليس تمليكاً؛ ولذلك لا يملك أحد من المدعوين أن يأخذ شيئاً من هذا الطعام ليبيعه أو يتصدق به.
وهل يؤجرها؟ لا، لا يؤجرها، وهذا من باب أولى؛ لأنه إذا كان لا يملك أن يعيرها والعارية سنة وإحسان، فكونه ـ أيضاًـ لا يأذن بالانتفاع بها بأجرة أشد امتناعاً.
لكن إذا علم المستعير أن المعير يأذن في مثل ذلك عادة، يعني ـ مثلاً ـ إنسان استعار إناءً من شخص ثم إن أباه احتاج إلى هذا الإناء لكثرة الضيوف عنده، وطلب من ابنه أن يعيره، قلنا: لا يجوز أن يعيره، لكن إذا علم أن المالك يأذن بل يفرح فهل له أن يفعل؟ نعم، له أن يفعل، وكل إنسان يعلم من صاحبه الرضا بتصرفه فلا حرج عليه أن يتصرف.
فَإِنْ تَلِفَتْ عَنْدَ الثَّانِي اسْتَقَرَّتْ عَلَيْهِ قِيمَتُهَا، وَعَلَى مُعِيرِهَا أُجْرَتُهَا، وَيُضَمِّنُ أَيُّهُمَا شَاءَ.
قوله: «فإن تلفت عند الثاني استقرت عليه قيمتها وعلى معيرها أجرتها» «فإن تلفت» أي العارية، «عند الثاني» وهو
المستعير مِنَ المستعير الأول، فصار الآن عندنا ثلاثة أطراف، معير، ومستعير أول، ومستعير ثانٍ «إن تلفت عند الثاني استقرت عليه» أي: على الثاني قيمتها، فالقيمة تكون على الثاني؛ لأنها تلفت عنده تحت يده، فهو مباشر، والمستعير المعير متسبب ـ إن صح أن نقول: إنه متسبب ـ لكن المستعير الثاني مباشر فيكون الضمان عليه، لكن عليه ضمان قيمتها، أما ضمان منفعتها فهي على المستعير الأول مدة بقائها عند المستعير الثاني؛ لقوله:«وعلى معيرها أجرتها» فلو بقيت ـ مثلاً ـ عشرة أيام، ومثل هذه العارية تؤجر كل يوم بخمسة ريالات فكم قدر الأجرة؟ خمسون ريالاً، يضمنها المستعير الأول.
فصار عندنا الآن شيئان: عين العارية يضمنها المستعير الثاني، ومنفعة العارية يضمنها المستعير الأول.
أما كون المستعير الثاني يضمن العين؛ فلأنها تلفت تحت يده بغير إذن من الشرع ولا إذن من المالك؛ لأننا قلنا: إن إعارتها حرام، فبقاؤها عنده بغير إذن من الشارع ولا من المالك يوجب الضمان عليه.
وأما كون المستعير الأول يضمن المنفعة؛ فلأنه يملك الانتفاع بالعارية بنفسه ولا يملك النفع، فتصرفه فيه بإعارته ليس مأذوناً فيه فلزمه ضمانه.
فالخلاصة: أنه يحرم على المستعير الأول أن يعيرها، فإن فعل فعليه ضمان المنفعة من حين أعارها سواء تلفت أو بقيت؛
لأنها إن بقيت أخذت من المستعير الثاني وردت للمعير الأول، لكن أجرتها ـ من حين أعارها المستعير الأول إلى أن ردها إلى صاحبها ـ على المستعير الأول، لكن المؤلف قال:«إذا تلفت» يعني جعل الصورة مفروضة فيما إذا تلفت؛ لأجل أن يفرق بين ضمان المنفعة وضمان العين، فإذا تلفت عند الثاني فعليه ضمان العين، وعلى المعير الأول ضمان المنفعة من وقت أن أعارها للثاني حتى تلفت.
وإذا لم تتلف ترد إلى صاحبها المعير الأول، ويضمن المستعير الأول أجرتها مدة بقائها عند الثاني.
قوله: «ويضمن أيهما شاء» يعني للمالك أن يُضَمِّن العين المستعير الأول والمستعير الثاني؛ لأن المالك يقول للمستعير الأول: أنا لم آذن لك في أن تدفعها إلى هذا الرجل، فأنت متعدٍّ فعليك الضمان، ويقول للثاني إذا أراد أن يُضَمِّنه: العين تلفت تحت يدك، فعليك الضمان، لكن إذا ضمن أحدهما فعلى مَنْ يستقر الضمان؟ نقول: يستقر على الثاني إن كان عالماً بأن المستعير الأول قد أعارها بدون إذن من مالكها، فقرار الضمان عليه؛ لأنه متعدٍّ، وإن كان لا يعلم فإذا ضَمَّنه المالك يرجع على المستعير الأول الذي أعاره؛ لأن الرجل جاهل، والأصل في تصرف الإنسان أنه يتصرف في ملكه، فيكون قرار الضمان على الأول.
مثال ذلك: زيد استعار من عمرو سيارة، ثم أعارها خالداً، فتلفت السيارة، فنقول لعمرو: ضمِّن المنفعة زيداً من حين أعارها
إلى خالد، وضَمِّن خالداً السيارة؛ لأنها تلفت تحت يده، وإن شئت فضمنها زيداً؛ لأن لك أن تضمن هذا أو هذا، بقي علينا قيمة السيارة التي ضُمِّنَها خالد، هل يرجع بها على زيد، أو لا يرجع؟
نقول: إن كان عالماً بأن السيارة عارية وأنه لم يؤذن لزيد بإعارتها فقرار الضمان عليه؛ لأن يده يد غاصب، وإن كان لا يعلم فقرار الضمان على زيد؛ لأنه إذا كان يعلم أن المستعير الأول ـ وهو زيد في المثال ـ لم يؤذن له فقد أخذ مالاً بغير حق، وإن كان لا يعلم فهو معذور، ولذلك نقول: يكون قرار الضمان على المستعير الأول.
وَإِن أَرْكَبَ مُنْقَطِعَاً لِلثَّوَابِ لمْ يَضْمَنْ.
.............
قوله: «وإن أركب منقطعاً للثواب لم يضمن» هذه مسألة تشبه العارية وليست عارية، إنسان «أركب منقطعاً» يعني منقطعاً في الطريق، أركبه للثواب، وليس بأجرة، أركبه تبرعاً وتقرباً إلى الله ـ تعالى ـ بذلك، فهذا الذي أُركِب لو تلفت الدابة تحته لم يضمن، لأن الذي أركبه للثواب يده على راحلته، ويُتصور هذا فيما سبق من الأسفار، رجل راكب ناقته فوجد في الطريق شخصاً منقطعاً، فنزل عن راحلته وأركبه تقرباً إلى الله، ويده على راحلته، والمنقطع هو المنتفع، فعثرت البعير وانكسرت أو ماتت، فهل على هذا الراكب الذي يشبه المستعير ضمان؟
الجواب: يقول المؤلف: لا؛ ووجه ذلك أن يد صاحبها عليها، لم تزل، فلا ضمان على هذا الراكب، وهذه إحدى المسائل التي لا تضمن فيها العارية.
المسألة الثانية: إذا تلفت فيما استعيرت له، فإنه لا ضمان فيها، مثال هذا: رجل استعار رِشاء من شخص ـ والرشاء هو الحبل الذي يستخرج به الماء من البئر ـ ثم إن الرشاء بالاستعمال تلف، هل يضمن المستعير أو لا؟ نقول: لا يضمن؛ لأن العارية هنا تلفت فيما استعملت له.
ونظير ذلك لو استعار سيارة إلى مكة ـ مثلاً ـ، وتآكلت عجلات السيارة، فلا يضمن؛ لأنها تلفت فيما استعيرت له.
ولو استعار منشفة ليستعملها، ومع طول الوقت زال خَمْلها، فلا يضمن؛ لأنها تلفت فيما استعيرت له.
وهذه المسألة تؤيد القول بأن العارية لا تضمن إذا شرط نفي ضمانها؛ ووجه ذلك أنها إذا تلفت فيما استعملت له فلا ضمان؛ لأن صاحبها حين أعطاها هذا الرجل يستعملها، قد علم أنها سوف تتلف أو تنقص بهذا الاستعمال، فكذلك إذا شرط المستعير أن لا يضمنها فإنه لا شك أنه لا ضمان عليه، بل قلنا: إن الصواب أنه وإن لم يشترط أن لا ضمان عليه إذا تلفت بلا تعدٍّ ولا تفريط، فلا ضمان على المستعير؛ لأنه قبضها من صاحبها بإذن منه فيده يد أمانة.
المسألة الثالثة: إذا استعارها ممن لا ضمان عليه كما لو استعارها من المستأجر، فإذا كان المستأجر لا ضمان عليه وهو أصل فالفرع ـ الذي هو المستعير ـ من باب أولى.
المسألة الرابعة: إذا استعار شيئاً موقوفاً على عموم الناس، كرجل استعار كتباً موقوفة على طلبة العلم ـ وهو من طلبة العلم ـ
ثم إن هذه الكتب مع المطالعة والمراجعة تمزقت أو انمحى بعض كتابتها، أو ما أشبه ذلك فلا يضمن؛ لأنه هو نفسه مستحق للانتفاع، فهو من طلبة العلم واستعار من صاحب المكتبة هذه الكتب وصاحب المكتبة لا يملك الكتب؛ لأن الكتب موقوفة على طلبة العلم، فصاحب المكتبة ما هو إلا منظم يعير هذا ويعير هذا ويعير هذا، فإذا تلفت الكتب الموقوفة على طلبة العلم بيد أحد طلبة العلم فلا ضمان عليه؛ لأنه استعملها لا عن طريق العارية ولكن عن طريق الاستحقاق فليس عليه ضمان.
فإن قال قائل: ما تقولون في رجل استعار كتاباً من مكتبة وصار يحشِّي عليه أيضمن أو لا يضمن؟ يضمن؛ لأنه متعدٍّ، وقد بلغنا أن بعض الناس يستعير كتباً حديثية أو فقهية من المكتبات ثم يحشِّي عليها، فيكتب القول الراجح كذا وكذا، وهو قول مرجوح أو هذا القول الذي في الكتاب باطل أو يقول: إنه بدعة؛ لأن بعض الناس يظنون أن خلاف الفقهاء رحمهم الله يكون المخالف فيه ـ لما يظن أنه خلاف النص ـ مبتدعاً، ولو سلكنا هذا المسلك لكان كل الفقهاء مبتدعة إلا في مسائل الإجماع؛ لأنك تقول: خالفتني فأنت مبتدع، وأنا أقول: خالفتني فأنت مبتدع، ويبقى الفقهاء كلهم مبتدعين إلا في مسائل الإجماع، وهذا ما قال به أحد أبداً ولن يقول به أحد، هذه مسائل اجتهادية، يرى أحد من العلماء أن هذا واجب والثاني يقول: غير واجب، فهل نقول هذا مبتدع؟! فالذي يرى أن لحم الإبل لا ينقض الوضوء وصلى وهو آكل لحم الإبل فهل نقول: أنت مبتدع؟! لا
نقول هذا، والذي لا يخلل لحيته في الوضوء لا نقول له: أنت مبتدع!
فمثل هذه المسائل ينبغي للإنسان أن يعرف الضوابط في الخلاف فيها.
فعلى كل حال نحن نقول: إن أي إنسان يستعير كتاباً من مكتبة، فإنه لا يجوز أن يحشي عليه أبداً، فإن وجد خطأً لا شك فيه فهل له أن يعدله؟ لا، ليس له أن يعدله، لكن ينبه القَيِّمَ على المكتبة ويقول: هذه الكلمة التي في الصفحة الفلانية خطأ، فإذا قال أصلحها فإنه يصلحها، وإذا باشر القيم تصليحها فهو له.
ثم ذكر المؤلف مسائل الاختلاف بين المعير والمستعير فقال:
وَإِذَا قَالَ: أَجَّرْتُكَ، قَالَ: بَلْ أَعَرْتَنِي، أَوْ بِالعَكْسِ عَقِبَ العَقْدِ قُبِلَ قَوْلُ مُدَّعِي الإِعَارَةِ، وَبَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةٍ قَوْلُ المَالِكِ بِأُجْرَةِ المِثْلِ.
...........
«وإذا قال: أجَّرتك، قال: بل أعرتني، أو بالعكس عقب العقد قُبل قول مدعي الإعارة» إذا قال المالك: أجَّرتك، يعني فأريد منك أجرة، وذاك يقول: بل أعرتني، فليس عليَّ أجرة، يقول:«عقب العقد» يعني إذا كان هذا الخلاف بعد العقد مباشرة، بأن قال مثلاً: أعرني هذا الكتاب فأعاره إياه، وبعد أن أخذه بخمس دقائق قال: إنك أعرتني، فقال له: بل أجَّرتك، فالقول قول مدَّعي الإعارة مع يمينه، وإذا جعلنا القول قول مدعي الإعارة سَهُلَ الأمر؛ لأننا إذا قلنا للمالك: أنت قولك مرفوض، والقول قول مدعي الإعارة، سيقول المالك: ما دام أنها عارية أعطني إياها.
أما إذا كان بعد مضي مدة لها أجرة، فيقول المؤلف:«وبعد مضي مدة قول المالك بأجرة المثل» قال المالك: آجرتك، قال: بل أعرتني، فالقول قول المالك مع يمينه؛ لأن القاعدة أن الأصل فيمن قبض ملك غيره أنه مضمون عليه؛ ولأن الأصل أن الإنسان لا يسلطك على ملكه إلا بعوض، والتبرع أمر طارئ.
ولكن كيف يكون تقدير الأجرة؟ هل نقول: إذا ادعى المالك أنه أجره إياه كل يوم بعشرة ريالات أن القول قول المالك؟ لا؛ لأن الذي أخذها لم يعترف بالإجارة حتى الآن، نقول: نرجع إلى أجرة المثل؛ لأن الله ذكر في المرأة التي لم يسم لها مهر أنها تمتع، وبيَّنت السنة أن تمتيعها أن تعطى مهر المثل، كما في حديث ابن مسعود رضي الله عنه
(1)
ـ فيقال: كم تؤجر هذه العين في مدة أسبوع؟ إذا قالوا: مائة ريال، قلنا: هات مائة ريال، ولكن إذا كانت أجرة المثل أكثر مما ادعى صاحب العين، فالمذهب نعطيه إياها ولو كانت أكثر مما ادعاه، والقول الثاني أننا لا نعطيه إلا ما ادعاه.
ولكن يقبل قول المالك هنا في شيء ولا يقبل في شيء
(1)
أخرجه الإمام أحمد (1/ 430، 447)؛ وأبو داود في النكاح/ باب فيمن تزوج ومات ولم يسم لها صداقاً (2114)؛ والترمذي في النكاح/ باب ما جاء في الرجل يتزوج المرأة فيموت عنها قبل أن يفرض لها (1145)؛ والنسائي في الطلاق/ باب عدة المتوفى عنها زوجها قبل أن يدخل بها (6/ 198)؛ وابن ماجه في النكاح/باب الرجل يتزوج ولا يفرض لها فيموت على ذلك (1891)؛ وابن حبان (4098)؛ والحاكم (2/ 180) عن معقل بن سنان رضي الله عنه، قال الترمذي: حسن صحيح، وصححه ابن حبان والحاكم على شرط الشيخين ووافقه الذهبي.
آخر، فيقبل بالنسبة للمدة الماضية ولا يقبل بالنسبة للمدة المستقبلة، لو قال المالك في هذه الصورة: أنا أجرتك إياها لمدة أربعة أيام، وحصل الاختلاف بعد مضي يومين، فنقبل قول المالك فيما مضى من المدة، ولا نقبله فيما يستقبل؛ لأن خصمه ينكره، ويقول: ما أخذتها بأجرة، ولكن بإعارة.
وبهذا نعرف أن الأحكام تتبعض، وهذه قاعدة فقهية، بمعنى أنه إذا وُجد ما يثبت أحدها من وجه دون الآخر، حكمنا بالوجه الثابت وتركنا الوجه الذي لم يثبت، وهذه قاعدة مفيدة تنفعك في مسائل عديدة، ونظير ذلك رجل ادعى على آخر أنه سرق منه مالاً من بيته وأتى بشاهد على ذلك رجل وامرأتين، فهذه الصورة تضمنت حكمين ضمان المال، وقطع اليد، الحد لا يثبت برجل وامرأتين، وإنما يثبت بشهادة رجلين، والمال يثبت بشهادة رجل وامرأتين، ففي هذه الحال نقول: يضمن السارق المال ولا تقطع يده، فهذه صورة واحدة تضمنت حكمين مختلفين لوجود مقتضي أحدهما دون الآخر، فتتبعض الأحكام.
وقوله: «أو بالعكس» قال المالك: أعرتك، قال: بل أجرتني، نقول: إن كان عقب العقد فالقول قول مدعي الإعارة، ومدعي الإعارة في هذه الصورة هو المالك؛ لأن الأصل عدم عقد الإجارة، فإذا قال المالك: أعطني إياها، أعطاه إياها.
أما لو كان ذلك بعد مضي مدة، فالقول قول المالك ـ أيضاً ـ وإن كان مدعي الإعارة، لكنه إذا كان هو مدعي الإعارة فإنه لا أجرة له إذا مضت المدة، يعني بعد أسبوع قال المالك: إني
معيرك إياها، وقال من هي بيده: بل هي بالإجارة، وهنا قد يقال: كيف يدعي من هي بيده أنها بالإجارة والمالك يدعي الإعارة؟ نقول: نعم، إذا تلفت فالأحظ للمالك أن يقول: هي عارية؛ من أجل أن تضمن سواء تعدى أو فرط أو لم يتعدَّ ولم يفرط، لكن لو ثبت أنها إجارة لا يضمن إلا بتعدٍّ أو تفريط.
وَإنْ قَالَ: أَعَرْتَنِي، أَوْ قَالَ: أَجَّرْتَنِي، قَالَ: بَلْ غَصَبْتَنِي، أَوْ قَالَ: أَعَرْتُكَ، قَالَ: بَلْ أجَّرْتَنِي وَالبَهِيمَةُ تَالِفَةٌ، أَوْ اخْتَلَفَا فِي رَدٍّ فَقَوْلُ المَالِكِ.
قوله: «وإن قال» أي: من هي بيده.
قوله: «أعرتني أو قال: أجرتني قال: بل غصبتني» أي: أخذتها مني غصباً، يقول المؤلف: القول قول المالك: أنها غصب، وإنما يقول المالك: إنها غصب؛ من أجل أن يضمن الغاصب المنفعة والعين؛ لأنه لو كان مُعِيراً فالمنفعة غير مضمونة على من هي بيده، ولو كان مُؤجِّراً فالمنفعة ـ أيضاً ـ للمستأجر وهي مضمونة عليه بالأجرة، وقد سلَّمها، لكن لو تلفت العين بلا تعدٍّ أو تفريط لم يضمنها، والغاصب يضمن سواء تعدى أم فرط، أو لم يتعدَّ ولم يفرط، ويضمن العين والمنفعة وكل ما يترتب على الغصب من نقص.
قوله: «أو قال» أي: المالك.
قوله: «أعرتك، قال: بل أجرتني والبهيمة تالفة» يعني أو غير تالفة في مسألة الإجارة فالقول قول المالك، فلو قال المالك: أعرتك، قال من هي بيده: بل أجرتني، والبهيمة تالفة، وإذا كانت تالفة وثبت أنها عارية فضمانها يكون على المستعير سواء فرَّط أم لم يفرِّط، وهذا على المذهب، وإذا كانت إجارة لم يضمن إذا لم يتعدَّ أو يفرط، فيقول المؤلف: إن القول قول
المالك، وإن لم تكن تالفة؛ لأن الأصل فيمن قبض مال غيره ـ كما سبق ـ الضمان.
قوله: «أو اختلفا في رد فقول المالك» «اختلفا» يعني المعير والمستعير في رد العارية فالقول قول المالك، مثاله: أعار إناء لشخص، ثم جاء يطلبه منه، فقال المستعير: رددته، وقال المعير: لم ترده، فالقول قول المالك؛ لأن الأصل عدم الرد، وبناء على القاعدة المعروفة عند الفقهاء: أن من قبض العين لمصلحة نفسه لم يُقبل قوله في الرد، والمستعيرُ العينُ في يده لمصلحته، فإذا قال: رددتها عليك، قلنا: لا نقبل قولك إلا إذا أتيت ببيِّنة بأنك رددتها، فلو أتى المستعير ببينة أنه رد العارية فإنه يقبل قوله بالبينة، وكل كلام المؤلف في هذه الخلافات فيما إذا لم يكن هناك بينة، أما إذا كان هناك بينة فالبينة قاضية على كل شيء.
وهل هذه هي مسألة المخزومية
(1)
؟
لا، المخزومية تجحد، تقول: ما أعرتني، وهذا يقول: أعرتني ولكن رددتها عليك، وبينهما فرق؛ فإذا ثبت أن هذا لم يردها فإننا لا نقطع يده، لكن الجحد يقتضي أن لا يُطالَب هذا الذي ادُّعِي عليه العارية إلا إذا ثبت أنه مستعير، فبينهما فرق واضح.
ويتفرع على القاعدة السابقة: «أن من قبض العين لمصلحة
(1)
أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء (3475)؛ ومسلم في الحدود/ باب قطع السارق الشريف وغيره (1688) عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كانت امرأة مخزومية تستعير المتاع وتجحده فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها» . وهذا اللفظ لمسلم.
نفسه لم يقبل قوله في الرد»، أنه إذا كانت المنفعة لصاحب العين لا لمن هي بيده، فهل يُقبل قوله في الرد؟ نعم يقبل، مثل: الوديعة، كرجل أودع عند إنسان شيئاً ثم جاء يطلبه، فقال المُودَع: إني قد رددته عليك، فهنا القول قول المُودَع؛ لأنه إنما قبض العين لمصلحة مالكها، فهو كالوكيل له في حفظها.
أما إذا كانت المنفعة لمصلحتهما جميعاً كالعين المستأجرة، فإن العين المستأجرة بيد المستأجر لمصلحته ومصلحة مالكها، فهي لمصلحته من أجل استيفاء المنفعة التي تم العقد عليها، ولمصلحة مالكها من أجل الأجرة المتفق عليها، فهل نقول: القول قول المستأجر، أو نقول القول قول المُؤجِّر؟ الفقهاء رحمهم الله يغلبون جانب الاحتياط، يقولون: إذا كانت العين بيد الإنسان لمصلحة الطرفين، وادعى ردها فإنه لا يُقبل إلا ببيِّنة، وظاهر كلامهم في هذا: أنه لا فرق بين الرجل المعروف بالصدق والأمانة والحفظ، والرجل المعروف بالكذب والخيانة والنسيان، ولكن لو قيل بأنه يجب النظر إلى القرائن أولاً، فإذا لم يكن قرينة فالقول ما ذهب إليه الفقهاء رحمهم الله، أما مع القرينة فلا ينبغي أن يُقال: إن القول قول المالك، أو قول من هي بيده، بل يرجع إلى ما تقتضيه القرينة، وهذا هو الأقرب للصواب؛ لأن قرائن الأحوال شواهد بمنزلة البينة، فلو أن شخصاً أعار رجلاً أميناً صدوقاً حافظاً، ثم جاء يطلبه فقال المستعير: قد رددته عليك، وقال المعير: لم ترده عليّ، والمعير معروف بالنسيان، فهنا لا يسوغ أن نقول: إن القول قول المعير؛ لأن هذا الذي
ادعى الرد ثقة صدوق حافظ، فيكون القول قوله لكن لا بد من اليمين.
والقرائن تعمل عملها، أرأيتم الحاكم الذي حكم بين يوسف عليه السلام وبين امرأة العزيز، ماذا قال حينما دافع يوسف عليه السلام عن نفسه؟ {قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي} [يوسف: 26] وهي ادعت أنه أراد بها سوءاً؟ فهنا الحاكم حكم بالقرينة، ولم يحكم بالبراءة للمرأة، ولا ليوسف عليه الصلاة والسلام ولكن قال:{إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ *} [يوسف] لأنه إذا كان من دبر فمعناه أن الرجل هرب منها ولَحِقَته فأمسكت بقميصه، وإذا كان من قُبُل فالمرأة هي المدافعة عن نفسها حتى مزقت القميص، فهذه قرينة.
كذلك القسامة: في القتل يُحكم فيها بالقرينة، ويُهدر الأصل، والقسامة أن يدعي جماعة على قبيلة أنهم قتلوا صاحبهم، وكان بينهم عداوات، وأولياء القتيل ليس عندهم بينة، لكن حلفوا أن فلاناً من هذه القبيلة هو الذي قتل قتيلهم، فالأصل عدم ذلك وهذا قتل نفس، لكن لوجود القرينة وهي العداوة الظاهرة بين القبيلتين تُجرى القسامة، وإذا حلف أولياء المقتول خمسين يميناً أن هذا الرجل هو الذي قتل صاحبهم قُتِل، فهذا حكم بالقرينة، فينبغي أن يقال: إن إطلاق الفقهاء في مثل هذا ما لم تقم قرينة قوية تغلب على الأصل، فإذا وجد قرينة قوية تغلب على الأصل فإنه يُعمل بها.
وقد تكون القرينة أقوى من البينة، ففي المثال السابق المستعير رجل أمين صدوق حافظ، وادعى أنه رد العارية، وصاحب العارية بالعكس، فهنا يكاد الإنسان يشهد أن القول قول المستعير، فقد تكون هذه القرينة أقوى من أن يأتي بشاهد واحد ويحلف معه، أو يأتي بشاهدين أو شاهد وامرأتين، فعلى كل حال ما ذكروه رحمهم الله في هذه المسائل ينبغي أن يُقيد بما إذا لم توجد قرينة قوية تؤيد أحد المدعيين فيُعمل بها.
مسألة: متى يجب على المستعير أن يرد العارية؟
الجواب: يجب على المستعير أن يرد العارية في أحوال منها:
الأولى: إذا انتهت المدة إذا كان قد قدر لها مدة.
الثانية: إذا طلبها صاحبها.
الثالثة: إذا خاف عليها من سراق أو غيرهم.
الرابعة: إذا سافر المستعير.
الخامسة: إذا تم انتفاعه بها لما استعارها من أجله، كأن يستعير شخص كتاباً؛ لأن عنده اختباراً فإنه يلزمه رده بمجرد أن ينتهي اختباره.
بَابُ الغَصْبِ
وَهُوَ الاسْتِيلَاءُ عَلَى حَقِّ غَيْرِهِ قَهْراً بِغَيْرِ حَقٍّ مِنْ عَقَارٍ وَمَنْقُولٍ ..........
قوله: «الغصب» مصدر غَصَب يغصِب غصباً بمعنى قهر، وفي الاصطلاح عرَّفه المؤلف بقوله:
«وهو الاستيلاء على حق غيره قهراً بغير حق» .
فقوله: «حق غيره» سواء كان مِلكاً أو اختصاصاً، فالملك كالدراهم والسيارات وغيرها، والاختصاص كالشيء الذي لا يُملك ولكن صاحبه أخص به، مثل كلب الصيد فإن كلب الصيد لا يملك ولذلك لا يباع ولا يشترى، ومثل السرجين النجس كرَوث الحمير مثلاً، فإن صاحبه أخص به وليس بمال؛ ومثل خمر الذمي، فإنه أخص بها وهي بالنسبة للمسلمين ليست بمال وبالنسبة للذميين مال.
وقوله: «قهراً» خرج به السرقة، والاختلاس، والانتهاب، وما أشبه ذلك؛ لأن السرقة، والاختلاس، والانتهاب ليست قهراً.
وخرج به ـ أيضاً ـ ما لو استولى على مال الغير باختيار الغير، ولكن إن كان الغير مختاراً على سبيل الإكراه كأن يوليه على ملكه على سبيل الإكراه، فإن هذا لا يُعد إذناً.
وقوله: «بغير حق» خرج به ما إذا استولى عليه بحق، فإذا استولى عليه بحق فإنه ليس بغاصب، مثال ذلك: أَخْذُ الولي
أموال اليتامى وحفظها والقيام عليها والاتجار بها وما أشبه ذلك، هذا حق، فلا يُعد الولي إذا أخذ مال اليتيم وتصرف فيه ببيع وشراء لمصلحة اليتيم، لا يعد غاصباً، وكاستيلاء الحاكم على مال المفلس ليبيعه ويوفي الغرماء فإن هذا بحق.
إذاً فقوله: «الاستيلاء على حق غيره» جنس، وقوله:«بغير حق» فصل.
قوله: «من عقار ومنقول» هذا بيان للحق، يعني سواء كان الحق عقاراً، كالأراضي، والأشجار، والبيوت، أو كان منقولاً، وهو ما يُنقل عادة مثل السيارات، والأثاث من فُرُش وغيرها، وكذلك الأغراض اليدوية كالساعة، والقلم، وغيرها.
وأشار المؤلف بقوله: «ومنقول» إلى رد قول من يقول: إن الغصب خاص بالعقار، والصواب أنه يكون في العقار والمنقول.
ولم يُفصِح المؤلف رحمه الله بحكمه الشرعي، وحكمه الشرعي أنه حرام، لقول الله تعالى:{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ *} [البقرة] وقال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] وإذا كان في حق اليتامى ونحوهم من القُصَّار صار أشد إثماً كما قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا *} [النساء].
والدليل من السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب المسلمين في أوسع
تجمع لهم في حجة الوداع حيث قال: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام»
(1)
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه»
(2)
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من اقتطع شبراً من الأرض ظلماً طوَّقه الله به يوم القيامة من سبع أرضين»
(3)
والعلماء مجمعون على تحريمه في الجملة، أي على أنه يحرم على الإنسان أن يأخذ مال أخيه بغير حق، والمصلحة تقتضي تحريمه لما يحصل به من العدوان على أموال الناس والفوضى.
وهل هو من كبائر الذنوب؟
الجواب: ليس هناك نص عام على أن الغصب من كبائر الذنوب، لكن هناك أشياء من الغصب جعلت شرعاً من كبائر الذنوب، مثل اقتطاع الأرض وأكل أموال اليتامى، فهل نقتصر على ما ورد فيه الوعيد ونقول: الباقي يدخل في عموم التحريم؟ أو نقول: إن ما ذكر على سبيل المثال، ويكون هذا عاماً؟ فيه
(1)
أخرجه البخاري في العلم/ باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «رُبَّ مبلغ أوعى من سامع» (67)؛ ومسلم في الحدود/ باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال (1679) عن أبي بكرة رضي الله عنه.
(2)
أخرجه الإمام أحمد (5/ 72)؛ والدارقطني (3/ 26)؛ والبيهقي (6/ 100) عن أبي حرة الرقاشي عن عمه مرفوعاً، وأخرجه الدارقطني (3/ 26) عن أنس رضي الله عنه؛ والحديث حسنه البيهقي لطرقه كما في خلاصة البدر المنير (1591)، وانظر: الإرواء (1459).
(3)
أخرجه البخاري في المظالم/ باب إثم من ظلم شيئاً من الأرض (2452)؛ ومسلم في البيوع/ باب تحريم الظلم وغصب الأرض وغيرها (1610) عن سعيد بن زيد رضي الله عنه، واللفظ لمسلم.
احتمال، قد لا نجزم أنه من كبائر الذنوب ونقتصر على ما ورد فيه الوعيد، وما لم يرد فيه الوعيد يكون من المحرمات على وجه العموم، فهذا حكمه الشرعي، أما الأحكام الوضعية من ضمان ونحوه فبيَّنه المؤلف بقوله:
وَإِنْ غَصَبَ كَلْباً يُقْتَنَى، أَوْ خَمْرَ ذِمِّيٍّ رَدَّهُمَا، وَلَا يَرُدُّ جِلْدَ مَيْتَةٍ .....
«وإن غصب كلباً يقتنى أو خمر ذمي ردهما» قوله: «كلباً يقتنى» أي: يحل اقتناؤه، وهو كلب الحرث، والصيد، والماشية، هذه هي الكلاب التي تقتنى وما عداها يحرم اقتناؤه، فإذا غصب كلباً يقتنى وطلبه صاحبه وجب رده، وإن لم يكن مالاً، لكن لصاحبه حق الاختصاص به؛ لأنه أولى الناس به، وأحق الناس بمنفعته.
وإن غصب كلباً لا يقتنى فهدر؛ لأن صاحبه ليس له حق اقتنائه، فهو عند غير مستحق.
مسألة: ما حكم اقتناء الكلب الذي يحرس الإنسان؟
نقول: إن الكلب الذي يحرس الإنسان يجوز اقتناؤه؛ لأنه إذا كان اقتناء الكلب لحراسة الماشية جائزاً فحراسة الإنسان أولى وأحرى، كذلك إذا كان اقتناء الكلب للصيد جائزاً ـ والصيد ليس أمراً ضرورياً؛ لأن الإنسان بإمكانه أن يعيش بدون صيد ـ فإن اقتناءه للأمور الضرورية من باب أولى.
وأما اقتناء الكلب تشبهاً بالكفار وتفاخراً به فإن هذا لا شك حرام، ويَنقص من أجر الإنسان كل يوم قيراط أو قيراطان، مع ما في ذلك من إثم التشبه وتقليد الكفار، ومع ما في ذلك من الدناءة؛ لأن الكلب أخبث الحيوانات من حيث النجاسة، فإن نجاسته لا تطهر إلا بسبع غسلات إحداها بالتراب، ولا توجد
نجاسة أغلظ من نجاسة الكلب، مع ما في ذلك من إلف الإنسان للأشياء الخبيثة، وقد قال الله تعالى:{الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ} [النور: 26].
وقوله: «أو خمر ذمي» الذمي هو الكافر الذي أقام في بلاد الإسلام مُؤَمَّنَاً على مالِهِ ونفسه ويعطي الجزية، إذا غصب خمر ذمي وجب عليه رده وجوباً، فإن قيل: أليس الخمر حراماً؟ فالجواب: بلى، لكنه بالنسبة للذمي حلال، فإن قال قائل: أنا إذا أعطيته هذا الخمر فإني كما لو صنعت له تمثالاً يعبده؟ قلنا: هذا ليس بصحيح، فالتمثال الذي يعبده محرم حتى في شريعته، لكن الخمر عنده حلال.
وقوله: «أو خمر ذمي» خرج به ما لو غصب خمر حربي فإنه لا يضمنه ويكون هدراً.
ومتى يكون الذمي حربياً؟ يكون حربياً إذا نقض العهد.
وإن غصب خمر مسلم فهدر، ولو طلب المسلم رده فلا يرده، ولكن يريقه، هذا إذا كان له السلطة في التغيير باليد، وأما إذا لم يكن له ذلك فإنه لا يحل له أن يتجرأ على حق السلطان ويفتات عليه.
وبهذا التقرير الذي ذكره المؤلف رحمه الله يتبين خطأ أولئك الذين يعتدون على الذميين في بيوتهم ويدخلون عليهم ويريقون خمورهم، فإن هذا لا يجوز؛ لأن الذمي له حق، فيُباح له ما يعتقد إباحته لكنه لا يُعلنه، وإذا أعلنه نمنعه ولنا الحق أن نأخذه ولا نرده.
قوله: «ولا يرد جلد ميتة» مثال هذا: شخص رأى شاة ميتة فسلخ جلدها وأخذه، فطالبه مالكها به، فهل يرده؟ المؤلف يقول:«ولا يرد جلد الميتة» ؛ لأن جلد الميتة ليس بمال، وهو داخل في عموم قول الرسول صلى الله عليه وسلم:«إن الله حرم بيع الخمر والميتة»
(1)
فلا قيمة له شرعاً، ولكن إذا قال صاحب الجلد: أنا أريد أن آخذ الجلد لأدبغه، فإذا دبغ صار على القول الراجح طاهراً، فهو كالثوب النجس إذا غصبه غاصب يرده على صاحبه، فيقول: الشاة التي ماتت مُلكي، والجلد يمكنني أن أنتفع به بدبغه، ولهذا كان القول الراجح في هذه المسألة أنه يجب عليه أن يرد جلد الميتة؛ وذلك لإمكان معالجته حتى يصبح طاهراً.
فإذا قال قائل: كيف يرده وهو نجس؟
قلنا: لأن الله إنّما حرم من الميتة أكلها؛ لأن الله تعالى قال: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} [الأنعام: 145] ولم يقل: على مستعمل يستعمله.
ثانياً: أن جلد الميتة يمكن الانتفاع به إذا دبغ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم مر على شاة ميتة يجرونها فقال: «هلاَّ انتفعتم بإهابها» ، قالوا: إنها ميتة، فقال:«يطهِّره الماء والقَرَظ»
(2)
وإذا طهر جلد
(1)
أخرجه البخاري في البيوع/ باب بيع الميتة والأصنام (2236)؛ ومسلم في البيوع/ باب تحريم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام (1581) عن جابر رضي الله عنه.
(2)
أخرجه الإمام أحمد (6/ 334)؛ وأبو داود في اللباس/ باب في أهب الميتة (4126)؛ والنسائي في الفرع والعتيرة/ باب ما يدبغ به جلود الميتة (7/ 174) عن ميمونة رضي الله عنها؛ وحسنه النووي في المجموع (1/ 276)؛ وابن الملقن في خلاصة البدر المنير (45).
الميتة بالدباغ جاز استعماله في كل شيء من الجامدات والمائعات، فيمكن أن يجعل سقاء للماء أو اللبن، ويمكن أن يجعل حذاء أو خُفّاً، فالصواب أنه لا يجوز غصب جلود الميتة، وإذا غصبها وجب عليه ردها لما ذكرنا.
وَإِتْلَافُ الثَّلَاثَةِ هَدَرٌ .............
قوله: «وإتلاف الثلاثة هدر» الثلاثة يعني الكلب وخمر الذمي وجلد الميتة، يعني لو أتلفها متلف فإنها لا تضمن، ودليل ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«ثمن الكلب خبيث»
(1)
وهذا يدل على أن الكلب لا قيمة له شرعاً، فإذا أتلفه متلف فليس عليه ضمان، والخمر ـ أيضاً ـ دليله أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم بيعه
(2)
، وهذا يدل على أنه لا عوض له شرعاً، فإذا أُتلف فلا ضمان، أما جلد الميتة فيدخل في قول الرسول صلى الله عليه وسلم:«إن الله حرَّم بيع الميتة» وهذا يدل على أن الميتة ليس لها قيمة شرعاً، فإذا أتلفها متلف فإنه لا يضمن.
بالنسبة للكلب والخمر الأمر فيهما واضح فليس لهما قيمة شرعاً، أما بالنسبة لجلد الميتة إن كان قد دبغ فإن بيعه يجوز، وحينئذ يضمنه متلفه بالقيمة أو بالمثل إن كان له مثل؛ لأنه إذا دبغ صار طاهراً، فيجوز الانتفاع به في كل شيء، أما قبل الدبغ فمحل نظر قد نقول: إنه يضمنه؛ لأنه إذا كان يمكن تطهيره فهو كالثوب النجس، والثوب النجس يجوز بيعه، وقد نقول: إنه لا
(1)
أخرجه مسلم في البيوع/ باب تحريم ثمن الكلب (1568)(41) عن رافع بن خديج رضي الله عنه.
(2)
سبق تخريجه ص 145.
يضمنه؛ لأنه إلى الآن ليس مما يباح استعماله، وصاحبه قد يدبغه وقد لا يدبغه، فيرجع في هذا إلى نظر القاضي.
ولكن هل يعاقب على تعديه على حقوق الغير المحترمة؟
الجواب: نعم، يعاقب ويؤدب حيث أتلف شيئاً محترماً، وإنما ذكر المؤلف هذه الثلاثة في باب الغصب لقوله:«وإتلاف الثلاثة هدر» أما غيرها مما يُتلف ففيه الضمان وسيأتي إن شاء الله.
وَإِنِ اسْتَوْلَى عَلَى حُرٍّ لَمْ يَضْمَنْهُ، وَإِنِ اسْتَعْمَلَهُ كُرْهاً أَوْ حَبَسَهُ فَعَلَيْهِ أُجْرَتُهُ
…
قوله: «وإن استولى على حر لم يضمنه» يعني أخذ حراً واستولى عليه حتى جعله كالرقيق له، ثم مات الحر ويد الغاصب عليه، فإنه لا يضمنه؛ لأنه حر وليس بمال، والحر لا تثبت عليه اليد، وإن استولى على عبد ضمنه؛ لأن العبد مال، كما لو استولى على سيارة، أو على بيت، أو ما أشبه ذلك فإنه يضمنه.
لكن سيأتينا ـ إن شاء الله ـ في باب الديات أنه لو غصب حراً صغيراً فأصابته صاعقة فإنه يضمنه، وأنه إذا مات بمرض ففي ضمانه قولان، وهذا يقتضي أن اليد تستولي على الحر الصغير؛ لأنه لا يملك الدفاع عن نفسه بخلاف الكبير، وهذه المسألة فيها ثلاثة أقوال في مذهب الإمام أحمد:
القول الأول: أن الحر لا يُستولى عليه أبداً وحينئذ لا يضمن، وهذا هو المذهب.
القول الثاني: أن الحر يمكن الاستيلاء عليه، وعليه فيضمن المستولي عليه عينه ومنفعته.
القول الثالث: التفريق بين الصغير والكبير، فإذا استولى على صغير فإنه يضمنه؛ لأنه لا يمكنه الدفاع عن نفسه، وإذا
استولى على كبير فإنه لا يضمنه؛ لأن الكبير يمكنه الدفاع عن نفسه ويتخلص.
قوله: «وإن استعمله كُرهاً أو حبسه فعليه أجرته» يعني إن أكرهه على أن يخدمه، أو أكرهه على أن يبقى في الدكان «فعليه أجرته» ؛ لأنه أتلف منفعته ظلماً وعدواناً.
فإذا قال قائل: وهل يمكن أن يستولي على حر ولا يستعمله؟
نقول: نعم، يمكن، فيستولي على حر حتى إذا جاءه الضيوف وجدوا عنده هؤلاء على أنهم عبيده أو أولاده أيضاً؛ لأن الإنسان يفخر بالأولاد، ولكنه لا يستعملهم، بل يكرمهم، إنما يريد أن يكون أمام الضيوف عنده أولاد أو خدم، فهؤلاء لا يضمنهم؛ لأنه لم يستعملهم بل كان يكرمهم، أما لو استعمله بأن قال له مثلاً: خذ العصا واذهب إلى الماشية وكن راعياً فيها، أو خذ الحراثة واذهب إلى الأرض احرثها، أو خذ الدفاتر وقيد الداخل والخارج، فهنا يقول المؤلف: إن عليه أجرته.
فإن استعمله طوعاً فليس عليه أجرة، وظاهر كلام المؤلف سواء كان هذا الحر صغيراً أو كبيراً فيما إذا استعمله طوعاً، وهو مُسَلَّم في الكبير، وأما الصغير ففيه نظر؛ لأن الصغير ربما يطيع وهو لا يدري عن الأمور، فكيف نقول: إنه لا يُضمن مع أن تصرفه لا يعتبر تصرفاً معتبراً شرعاً؟! فينبغي أن يقال: إن استعمله طوعاً فإن كان كبيراً فلا أجرة له وإن كان صغيراً فله الأجرة.
وقوله: «أو حبسه» إذا حبسه فعليه أجرته، وظاهر كلامه
رحمه الله أن عليه أجرته مطلقاً حتى وإن كان حبسه في وقت لا ينتفع فيه، كما لو حبسه في الليل؛ لأن الليل ليس محلاً للعمل ومع ذلك نقول: عليه الأجرة، أو كان عاطلاً لا يعمل، وفي المسألة نظر؛ لأنه إذا حبسه وهو عاطل فإنه لم يفوت عليه شيئاً، فالصواب أن يقيد بما إذا كان هذا الرجل يعمل، أو في وقت ينتفع فيه.
وإذا حبسه فمات من الحبس فهل يضمنه بدية؟ نعم، يضمنه بدية؛ لأنه مات بحبسه.
فإن حبسه فنزلت عليه صاعقة من السماء؟ هذه المسألة اختلف فيها الفقهاء رحمهم الله، منهم من قال: إنه يضمنه؛ لأنه لولا أنه حبسه في هذا المكان ما نزلت عليه الصاعقة، ومنهم من قال: لا يضمنه، إلا إذا عُرف أن هذا الموضع عادة تكثر فيه الصواعق، فإذا كان كذلك فإنه يضمنه.
ومثل ذلك لو لدغته حية ومات في مكان الحبس، فإننا نقول: لا يضمن، إلا إذا عُرف أن هذا المكان تكثر فيه الحيات.
وَيَلْزَمُ رَدُّ المَغْصُوبِ بِزِيَادَتِهِ، وَإِنْ غَرِمَ أَضْعَافَهُ، وَإِنْ بَنَى فِي الأَرْضِ أَوْ غَرَسَ لَزِمَهُ القَلْعُ، وَأَرْشُ نَقْصِهَا، وَتَسْوِيَتُهَا، وَالأُجْرَةُ.
......
قوله: «ويلزم رد المغصوب» أفادنا المؤلف أنه يجب شرعاً على الغاصب رد المغصوب، ومؤونة رده على الغاصب؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«ليس لعرق ظالم حق»
(1)
.
قوله: «بزيادته» يعني لو زاد المغصوب فإن الزيادة لمالكه، سواء كانت متصلة أم منفصلة؛ لعموم قول المؤلف:«بزيادته» .
(1)
سبق تخريجه ص (66).
مثال الزيادة المتصلة: إنسان غصب شاة صغيرة ثم قام عليها بالإرضاع والإعلاف، وشَبَّت ونمت، فهل يرجع الغاصب على مالك الشاة بما زاد من قيمتها؟ لا، الزيادة للمالك.
أما الزيادة المنفصلة: فكما لو غصب هذه الشاة وولدت عنده، وأنتجت وصار يبيع من ألبانها وألبان نَتاجها، فإن هذه الزيادة تكون لمالكها.
فقول المؤلف رحمه الله: «بزيادته» يشمل الزيادة المتصلة وهي التي لا يمكن انفكاكها كالسِّمَن وتعلم الصنعة وما أشبه ذلك، والمنفصلة كالولد واللبن وما أشبه ذلك.
ولو غصب عبداً، وهو غلام صغير، فعلَّمه الكتابة وعلَّمه علوماً عظيمة، فازدادت قيمته عشرة أضعاف هل يرجع على مالك الغلام بالتعليم؟ لا؛ لأنه غاصب ودليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم:«ليس لعرق ظالم حق» فأيُّ عرق ظالم فليس له حق، فلو تلف فعليه الضمان بزيادته؛ لأن زيادة المغصوب تحدث على مُلك المالك، فيجب عليه إذا أتلفه أن يضمنه بزيادته.
قوله: «وإن غرم أضعافه» يعني لو غصب شعيراً فخلطه ببُر، عشرة آصع من الشعير غصبها وخلطها في عشرة آصع من البر، فطالب المالك، وقال: أعطني شعيري، فقال: أنا خلطته بالبر، ولو بقيت أخلصه لغرمت أضعاف القيمة، فنقول: يلزمك تخليصه، فأحضر أناساً يخلصون الشعير من البر، ولو كانت قيمة البر والشعير خمسين ريالاً، وأجرة التخليص خمسمائة ريال، ولهذا قال:«وإن غرم أضعافه» .
وقال بعض أهل العلم: إذا كان الضرر كثيراً وليس لصاحبه غرض صحيح بعينه فإنه يعطى مثله أو قيمته، خصوصاً إذا علمنا أن قصد المالك المضارَّة بالغاصب، وهذا القول له وجه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول:«لا ضرر ولا ضرار»
(1)
ويقول: «من ضارَّ ضارَّ الله به»
(2)
، لكن لو كان هذا التضمين سبيلاً لتقليل الغصب والعدوان على الناس فالقول بالمذهب أقوى من القول الثاني، وهذا هو الراجح.
قوله: «وإن بنى» أي: الغاصب.
قوله: «في الأرض» أي: المغصوبة.
قوله: «أو غرس» أي: في الأرض المغصوبة.
قوله: «لزمه القلع، وأرش نقصها، وتسويتها، والأجرة» هذا مع الإثم.
فيلزمه أولاً: «القلع» وهذا إذا طالبه صاحب الأرض، وقال: اقلع الذي غرسته في أرضي، فإنه يلزمه.
وقوله: «أو بنى فيها» لو قال له المالك: اهدم البناء، فإنه يلزمه أن يهدم البناء، وهذا مقبول إذا كان لصاحب الأرض غرض
(1)
سبق تخريجه ص (114).
(2)
أخرجه الإمام أحمد (3/ 453)؛ وأبو داود في القضاء/ باب في القضاء (3635)؛ والترمذي في البر والصلة/ باب ما جاء في الخيانة والغش (1940)؛ وابن ماجه في الأحكام/ باب من بنى في حقه ما يضر بجاره (2342) عن أبي صرمة رضي الله عنه، وانظر: الإرواء (3/ 413).
في تخليتها من الغراس والبناء، لكن إذا كان يريد أن يبني عليها، فهل نلزم الغاصب بالهدم؟ الجواب: لا نلزمه، فلو قال الغاصب: أنا لا أريد البناء والشجر، فالشجر لك، والبناء لك، ولا تكلفني أن آتي بالمعاول، وآتي بالرجال يقلعون الشجر ويهدمون البناء؟ فنقول: إن كان يفوت بذلك غرضُ صاحب الأرض، بأن يقول صاحب الأرض: أنا أريد أن أغرسها نخلاً وهي الآن مغروسة برتقالاً، أو قال: أنا أريد أن أغرسها من نوع معين من النخل دون النوع الموجود فيها، فهنا له الحق بأن يُلزم الغاصبَ بقلع الغرس.
كذلك في البناء، لو قال: أنا أريد أن أبنيها بيتاً لكن ليس على هذا الوجه، فهذا البناء لا يطيب لي، إما من حيث رداءة البناء، أو من حيث تصنيف البناء ـ مثلاً ـ فهل له الحق أن يجبره؟ نعم، لكن إذا علمنا أنه ليس له غرض إلا المضارة، وأن صاحب الأرض يريد أن يبنيها على هذه الصفة، أو يريد أن يغرسها بهذا النوع من الشجر، لكن يريد أن يضار بالغاصب ويكلفه، فهنا نمنعه، ونقول: ليس لك أن تجبر الغاصب على إزالة البناء أو الغراس، والدليل:
أولاً: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار»
(1)
وهذا لا شك أنه أضر صاحبه وأضر بنفسه أيضاً.
ثانياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن إضاعة المال
(2)
، وهذا فيه
(1)
سبق تخريجه ص (114).
(2)
أخرجه البخاري في الزكاة/ باب قول الله عز وجل: {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} (1477)؛ ومسلم في الأقضية/ باب النهي عن كثرة المسائل (1715) عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.
إضاعة مال عليهما جميعاً، أما على الغاصب فواضح، وأما على المالك؛ فلأنه يريد أن ينشئ هذا البناء من جديد، وكان البناء أو الغراس موجوداً، فقد أضاع المال، وسيخسر مرة ثانية بإنشائه.
فصار كلام المؤلف ليس على إطلاقه، بل نقيده بما إذا لم يتبين أن المقصود به المضارة، فإن تبين ذلك فإنه يمنع، فلا ضرر ولا ضرار.
مسألة: لو طالب رب الأرض أن يبقى الغراس ويدفع القيمة، ففيه تفصيل، إن كان للغاصب غرض صحيح في قلعه فإنه لا يجبر على إبقائه، كأن يقلع النخل ويجعله في أرض يملكها، وإن لم يكن له غرض صحيح في امتناعه، وإنما سيقلع هذا الغرس ويرميه في الشمس حتى يتلف، فإننا لا نمكنه من ذلك لوجوه:
الأول: أن هذا من الفساد، والله لا يحب الفساد.
الثاني: أن هذا إضاعة مال، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال
(1)
.
الثالث: أن في إبقائه وإعطاء الغاصب القيمة منفعة له، ورغبته عن المنفعة يعتبر سفهاً، وقد قال تعالى:{وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء: 5]، فإذا مُنعنا أن نعطي هؤلاء أموالهم فكيف لا نلزم هذا بأخذ زيادة على ماله؟!
الرابع: أن لصاحب الأرض حقاً حيث يقول: لولا هذه
(1)
سبق تخريجه ص (152).
الأشجار التي غرسها الغاصب لكنت أنا قد غرست وصار شجري كشجر الغاصب الآن، فقد فوَّت عليَّ منفعة الأرض طيلة هذه المدة، وهو لا ينتفع بغراسه إذا قلعه.
ثانياً: «أرش نقصها» وهل تنقص الأرض بالبناء عليها؟ نعم، ربما تنقص، بأن يكون ـ مثلاً ـ أخذ من تربتها وهي صلبة أو ما أشبه ذلك، وأما في الغرس فواضح أنها تنقص؛ لأن الفلاحين يسمُّون الأرض إذا لم تغرس أرضاً بكراً، وإذا غرست صارت غير جيدة، فهنا فيها نقص فيلزمه أرش نقصها، وكيف ذلك؟ نقول: نقدر الأرض مغروسة وغير مغروسة، يعني نقدرها بكراً أو مغروسة قد نُزع غرسها، فالفرق بين القيمتين هو أرش النقص، فَيُلزم الغاصب بأرش النقص.
ثالثاً: «تسويتها» أي: تسوية الأرض، ومعلوم أن الأرض بعد أن يهدم البناء الذي عليها لا بد أن يكون فيها حُفَر، وبقية الأنقاض كالجُدر وأساسات الحيطان، فنقول: نُلزم الغاصب بأن يسوي الأرض ويردها على ما كانت عليه.
رابعاً: «الأجرة» أي: أجرة الأرض مدة استيلاء الغاصب عليها، فإذا قدرنا أنه استولى عليها لمدة أربع سنوات ألزمناه بأجرتها لمدة أربع سنوات، لكن هل نلزمه بأجرتها مسكونة ومعمورة، أو بأجرتها بيضاء ليس فيها عمران؟ ما دمنا قلنا: إن الزيادة تكون لصاحب الملك فإنها تُقَوَّم على أنها مسكونة معمورة، وهو جعلها عمارات تُسكن فالأجرة للمالك.
ويحتمل أن يقال: إن الأجرة هذه حصلت ببناء الغاصب
وبأرض المالك فتجعل الأجرة بينهما نصفين؛ لأننا الآن سنعطي المالك أكثر من أجرة الأرض، فأجرة الأرض بيضاء يمكن أن تكون ـ مثلاً ـ عشرة آلاف في السنة كأن تكون مستودعات، أو مواقف وما أشبه ذلك، لكن إذا كانت مبنية فأجرتها ـ مثلاً ـ مائة ألف في السنة، لكن من أين حصلنا مائة الألف في السنة؟ من بناء الغاصب، ومن أرض المالك، فهنا لو قال قائل: بأن لكل من الغاصب والمالك قسطه من الأجرة لكان جيداً.
وَلَوْ غَصَبَ جَارِحاً، أَوْ عَبْداً، أَوْ فَرَساً، فَحَصَّلَ بِذَلِكَ صَيْداً فَلِمَالِكِهِ.
قوله: «ولو غصب جارحاً أو عبداً أو فرساً فحصَّل بذلك صيداً فلمالكه» هذه المسائل مبنية على قوله صلى الله عليه وسلم: «ليس لعرق ظالم حق»
(1)
فإذا غصب جارحاً، والجارح يطلق على الكاسب مثل كلب الصيد، وطير الصيد فهذا يسمى جارحاً، قال الله تعالى:{وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} [المائدة: 4] فإذا غصب إنسان كلب صيد، وصاد به فإن الصيد يكون للمالك؛ لأن الكلب لمالكه، ولم يكن من الغاصب إلا أنه أشلاه بالصيد فصاد.
وقوله: «أو عبداً» فلو غصب عبداً وقال له: اذهب وصِدْ لنا طيوراً، صِدْ لنا حُمُر وحش، صِدْ لنا ظباء، فذهب وصاد، فيكون الصيد للمالك؛ لأنه كسب ملكه فيكون له.
وقوله: «أو فرساً» الفرس ليس هو الذي يصيد، العبد يصيد، والجارح يصيد، أما الفرس فلا يصيد، بل يُصاد عليه،
(1)
سبق تخريجه ص (66).
والصائد هو الغاصب؛ لأن الغاصب صاده بسهمه، أو صاده بوثبه، أما الفرس فليس منه إلا العدو فقط، ولهذا ينبغي أن يفرق بينه وبين الجارح والعبد؛ لأن الجارح والعبد حصل الصيد من فعلهما، وأما الفرس فليس من فعله.
ولهذا نقول: الراجح في مسألة الفرس أن الصيد للغاصب؛ لأنه هو الذي باشر الصيد، لكن عليه أجرة الفرس، وربما تكون أجرة الفرس أكثر من قيمة الصيد، فقد يصيد حمامة قيمتها خمسة ريالات، ولكن استعمال الفرس بخمسين ريالاً مثلاً.
وَإِنْ ضَرَبَ المَصُوغَ، وَنَسَجَ الغَزْلَ، وَقَصَّرَ الثَّوْبَ، أَوْ صَبَغَهُ، وَنَجَرَ الخَشَبَ وَنَحْوَهُ، أَوْ صَارَ الحَبُّ زَرْعاً، أو البَيْضَةُ فَرْخاً، وَالنَّوَى غَرْساً، رَدَّهُ وَأَرْشَ نَقْصِهِ، وَلَا شَيْءَ لِلغَاصِبِ، وَيَلْزَمُهُ ضَمَانُ نَقْصِهِ.
جواب: «إن» في هذه المسائل كلها قوله: «رده وأرش نقصه» .
وقوله: «ضرب المصوغ» يعني الحلي، وضربه يعني جعله نقداً، يعني غصب حليّاً من ذهب وضربه وجعله دنانير، أو غصب حلي فضة وضربه وجعله دراهم، فيجب عليه أن يرد هذه الدنانير والدراهم إلى المالك وعليه أرش النقص، فيقال مثلاً: هذه الدنانير تساوي مائة ريال، والمصوغ الذي حوَّله إلى دنانير يساوي مائتين فيرد الدنانير ومائة ريال.
في الفضة ـ أيضاً ـ الحلي الذي حوله إلى دراهم كان يساوي ـ مثلاً ـ مائة ريال، فيرد الدراهم وخمسين ريالاً، فإذا قال: أنا أرد له مثل مصوغه وأطيب منه، وقال المالك: أنا أريد عين مالي، فالقول قول المالك؛ لأن عين ماله موجود، وهو هذه الدنانير والدراهم.
فإذا قال الغاصب: أنا تعبت وخسرت، قلنا له: لكنك ظالم وقد قال تعالى: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الشورى: 42].
وكذلك لو غصب مثقالاً من الذهب وحوَّله إلى حلي، أو مثقالاً من الفضة وحوَّله إلى حُلي، فلمن تكون هذه الزيادة التي زادت بالصنعة؟ تكون لمالك المصوغ وليس للغاصب شيء؛ لأنه ظالم.
وقوله: «ونسج الغزل» لو نسج الغزل وهو خيوط، كما لو غصب غزلاً من صوف أو وبر أو شعر ثم حوله إلى نسيج، فهو لمالكه وليس للغاصب شيء؛ لأنه ظالم.
وقوله: «وقصَّر الثوب» أي: غسله بعد أن كان وسخاً، ومن المعلوم أن قيمته ستزداد لكن الزيادة لمالك الثوب وليس للغاصب شيء؛ لأنه ظالم.
فهنا لا نقص، ولذلك قال في «الروض»
(1)
عند قول المؤلف: «وأرش نقصه» : «إن نقص» .
لكن لو فرض أنه نقص بهذا، وأنه كان في الأول جديداً
(1)
الروض مع حاشية ابن قاسم (5/ 388).
لكن فيه وسخ ثم لما غسله صار غسيلاً، ومعلوم أن قيمة الغسيل أنقص من قيمة الجديد ولو كان وسخاً؛ لأن الذي يرى الجديد الوسخ يعلم أن استعماله قليل، والذي يرى الغسيل يُقدر أنه استعمل استعمالاً كثيراً ثم غُسِل فعليه أرش النقص.
وقوله: «أو صبغه» إذا صبغ الثوب إلى صبغ مرغوب عند الناس بعد أن كان أبيض غير مرغوب فيه، فإن الصبغ يكون لمالك الثوب، هكذا قال المؤلف هنا، لكن فيه نظر؛ لأن الصبغ لا بد فيه من شيء يصبغ به، والشيء الذي صبغ به ملك للغاصب، فكوننا نقول: إن الصبغ يكون لمالك الثوب مع أن في هذا الثوب عيناً للغاصب فيه نظر، وينبغي أن يقال: للغاصب قيمة صبغه، لكن لو نقص الثوب بالصبغ بأن حوله إلى صبغ تنقص به القيمة فعلى الغاصب ضمان النقص.
وقوله: «ونجر الخشب» مثاله: إنسان أخذ أعمدة من الخشب ونجرها أبواباً، فهنا لا بد أن تتغير القيمة وتزداد، فقيمته للمالك؛ لأن هذا ناتج عن فعل ظالم، والنجارة التي تتساقط عند النجر لتسوية الباب وما أشبه ذلك، قد يكون لها قيمة ويضمنها الغاصب؛ لأنه ظالم، والنجارة كان الناس فيما سبق يتخذونها حطباً ويشترونها من النجار.
وقوله: «ونحوه» كما لو حول الحديد إلى أبواب، فإذا غصب صاجات من الحديد وحولها إلى أبواب فتكون للمالك والغاصب لا يستحق شيئاً.
وقوله: «أو صار الحب زرعاً» إذا صار الحب زرعاً فهو
لمالك الحب لا للغاصب؛ لأن هذا الزرع هو عين ملكه لكنه تحول بإرادة الله عز وجل إلى هذا.
وقوله: «أو صارت البيضة فرخاً» كذلك إذا صارت البيضة فرخاً، فلو أن رجلاً غصب بيضة ووضعها تحت طائر وصارت فرخاً، فالفرخ لمالك البيضة؛ لأنه عين ماله.
وقوله: «والنوى غرساً» النوى معروف وهو نواة التمرة، فإذا غصب نوى ووضعه في الأرض فصار غرساً، فالغرس لصاحب النوى، فهذا الذي غصب مائة نواة ودفنها في الأرض فصارت مائة نخلة، فإنها تكون لصاحب النوى وليس للغاصب شيء؛ لأنه ظالم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«ليس لعرق ظالم حق»
(1)
.
وهل يستحق الغاصب في هذه المسائل أجراً؟
الجواب: لا؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس لعرق ظالم حق» .
وقوله: «رده وأرش نقصه، ولا شيء للغاصب» أما وجوب رده فظاهر؛ لأنه ملك لغيره فيجب رده إليه، وأما كونه لا شيء له فلأنه ظالم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«ليس لعرق ظالم حق» .
قوله: «ويلزمه ضمان نقصه» هذه مسألة مستقلة، يعني يلزم الغاصب ضمان نقص ما غصب من أي شيء كان، إن كانت أرضاً فنقصت بحرثه وتغييره إياها فهو ضامن، وإن كان كتاباً فاستعمله ونقص فإنه يلزمه ضمان نقصه، فهذه مسألة مستقلة وليست مفرعة على المسائل التي ذكرها؛ لأن المسائل الذي ذكرها قال فيها:«رده وأرش نقصه» وهنا قال: «ويلزمه ضمان
(1)
سبق تخريجه ص (66).
نقصه» أي نقص المغصوب مطلقاً، فلو غصب حبراً واستعمله فنقص فيلزمه ضمان نقصه.
وقوله: «ويلزمه ضمان نقصه» حتى ولو كان بغير فعله، كرجل غصب عبداً شاباً وبقي عنده عشر سنين، فظهرت لحيته وذهبت نضارة شبابه، فإن قيمته تنقص، فنقول: عليك ردَّه وردَّ ما نقص من قيمته ولو كان بغير فعلك؛ لأنه نقص تحت استيلائه، ولو مات وجب عليه ضمانه، فكل نقص يكون تحت يد الغاصب فهو من ضمانه سواء كان بسببه أو بغير سببه.
وَإِنْ خَصَى الرَّقِيقَ رَدَّهُ مَعَ قِيمَتِهِ وَمَا نَقَصَ بِسِعْرٍ لَمْ يُضْمَنْ، وَلَا بِمَرَضٍ عَادَ بِبُرْئِهِ.
قوله: «وإن خصى الرقيق رده مع قيمته» مثال ذلك: رجل غصب رقيقاً وخصاه؛ من أجل أن تزيد قيمته؛ لأن الرقيق إذا كان خصياً كانت قيمته أكثر؛ لأنه أقل خطراً على النساء من الفحل، يقول المؤلف:«رده مع قيمته» أي: رده مع قيمته خصياً؛ لأن هذا الخصاء زادت به القيمة وهو فعل من ظالم وليس له فيه حق، والقاعدة أن الزيادة للمالك والنقص على الغاصب.
مثال هذا: غصب رقيقاً فحلاً يساوي عشرة آلاف، فخصاه فصار يساوي عشرين ألفاً، فيرده ويرد معه عشرة آلاف؛ لأنه أتلف منه ما فيه دية كاملة بالنسبة للحر، فلو خصى حراً وجب عليه دية كاملة، والرقيق ديته قيمته، فهذا الرجل خصى الرقيق، فنقول له: عليك قيمته؛ لأنك أتلفت منه ما فيه دية كاملة بالنسبة للحر، وما فيه دية كاملة بالنسبة للحر ففيه قيمة العبد كاملة، فصار هذا الغاصب قد زاد صاحب العبد بضمان القيمة، وزيادة قيمته بالخصاء ويرد العبد أيضاً؛ لأنه ليس ملكاً له.
وقال بعض أهل العلم: إن الجناية على العبد تقوم بما نقص، وبناء على هذا الرأي نقول: ما دام العبد زاد بالخصاء فإن الغاصب لا يضمن شيئاً، وسيأتي ـ إن شاء الله ـ في القصاص أن القول الراجح أن الجناية على العبد كالجناية على البهيمة تقدر بما نقص، وأنه لو قطعت يده اليمنى يعطى السيد أكثر مما لو قطعت يده اليسرى، بخلاف الحر فإن اليمنى كاليسرى في الدية.
فإن قال قائل: هل خصاء الآدميين جائز؟
فالجواب: لا يجوز؛ لأنه يؤدي إلى قطع النسل، إذ إن الخصي لا ينجب، وأما خصاء غير الآدميين فإذا كان لمصلحة البهيمة فهو جائز ولو كان من أجل زيادة الثمن، ولا شك أن خصاء البهيمة يجعل لحمها أحسن وأطيب، وهذا في المأكول ظاهر، فلو خصى خروفاً أو ثوراً أو جملاً أو فرساً أي: ذكراً من الخيل، فهذا لا شك أنه يُستفاد منه؛ لأنه يطيب اللحم، لكن إذا كان لا يؤكل كالحمار ـ مثلاً ـ فإن الفائدة من خصائه اتقاء شره؛ لأن الفحل من الحمير يتعب صاحبه إذا رأى أنثى من الحمير ركض إليها وربما يسقط صاحبه، وكذلك ـ أيضاً ـ يأخذ بالنهيق فيُتعِب، فإذا خصي بردت شهوته ولم تحصل منه هذه المفسدة.
قوله: «وما نقص بسعر لم يُضمن» يعني أن هذا الغاصب إذا غصب هذه العين وهي تساوي عشرة آلاف، ثم نزل السعر حتى صارت لا تساوي إلا خمسة آلاف، فهل يضمن الخمسة أو لا يضمن؟ المؤلف يقول: إنه لا يضمن، وهو المذهب؛ لأن هذا
النقص ليس عائداً إلى عين المغصوب بل لأمر خارج وهو قيمته عند الناس، ومعلوم أن القيمة ترتفع أحياناً وتنخفض أحياناً، فلو غصب شاة قيمتها مائتا ريال وبقيت عنده ولم تنقص عينها بل ربما زادت، ثم نقص السعر حتى صارت لا تساوي إلا مائة ريال، فهل يرد الشاة ومائة الريال؟ على كلام المؤلف: يرد الشاة ولا يضمن نقص السعر، مع أنه حين غصبها من مالكها كانت تساوي مائتين، وحال بينه وبينها حتى نقص السعر فلم تبلغ قيمتها إلا مائة، فالمذهب ـ وهو ما مشى عليه المؤلف ـ أنه لا يضمن، وعللوا ذلك بأن عين المغصوب لم تنقص، وإذا كانت لم تنقص فزيادة القيمة ونقصها لأمر خارج وهو الطلب أو الجلب، فإذا كثر الطلب لزم من ذلك ارتفاع القيمة، وإذا كثر الجلب لزم من ذلك نقص القيمة، أما عينها فلم تتغير وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«على اليد ما أخذت حتى تؤديه»
(1)
.
قالوا: ونظير ذلك لو استقرض من شخص صاعاً من بر يساوي ثلاثة دراهم، ثم رده عليه وهو يساوي درهمين، فهل يعطيه درهماً؟ لا؛ لأنه رد عليه مثل ماله، وكذلك بالعكس لو استقرض صاعاً من البر يساوي درهمين، ثم ارتفعت القيمة فصار يساوي ثلاثة دراهم، فهنا يرد الصاع ولا يأخذ من صاحبه درهماً، فالنقص أو الزيادة في السعر لأمر خارج.
واستثنوا من ذلك ما لو تلفت وقيمتها عند التلف مائتان، ثم أراد أن يردها لصاحبها وقد نزلت قيمتها، فعليه ضمان مائتين اعتباراً
(1)
سبق تخريجه ص (117).
بحال التلف قولاً واحداً؛ لأن العين لم ترد الآن فننظر إلى وجوب قيمتها متى وجبت؟ وقد وجبت حين التلف، وهي حين التلف تساوي مائتين، وإن كانت لو كانت موجودة قيمتها تساوي مائة.
لكن يقال: إن هذا الغاصب حال بين المالك وملكه حتى نزل السعر فهو ظالم، ونقص السعر في الواقع نقص صفة؛ لأن السعر قيمة السلعة، والقيمة تعتبر صفة في الواقع، ولهذا كان القول الصحيح أنه إذا نقص السعر فإن الغاصب يضمن النقص، فنقول: رد العين إلى صاحبها ومعها نقص السعر.
ولو غصب رجل كتاباً يساوي خمسين ريالاً، ثم بعد شهر أو شهرين رده وهو يساوي أربعين ريالاً، فهنا ـ على المذهب ـ لا يضمن نقص السعر، لكن إن كان الكتاب نقص بالاستعمال يضمن النقص، وعلى القول الصحيح يضمن نقص السعر فيرد الكتاب ويرد معه عشرة ريالات، ويرد ـ أيضاً ـ أرش النقص الذي حصل باستعمال الكتاب، وهذا القول هو اختيار شيخ الإسلام وشيخنا عبد الرحمن السعدي ـ رحمهما الله ـ وهو الصواب، وهذا القول ينبغي أن يكون هو المتعين؛ لأننا إذا قلنا: إن السعر لا يُضمن ربما يعتدي المعتدي على شخص، فيغصبه ماله ويحبسه عنده يريد أن تنقص الأسعار ثم يسلمه إلى صاحبه، وهذا لا شك في أنه يضمن؛ لأنه تعمد إدخال الضرر على المالك فيضمن، فهو ليس كالذي غصبه وحبسه ليستعمله أو لغير ذلك، ولم يخطر بباله أنه يريد إضرار المالك بنقص السعر، فهذا أهون.
قوله: «ولا بمرض عاد ببُرئه» يعني ولا يُضمن نقص بمرض
«عاد» يعني النقص «ببرئه» أي: ببرء المرض، مثال ذلك: غصب شاة، ثم مرضت الشاة فنقص لبنها، ثم شُفيت الشاة وعاد لبنها على طبيعته، فهل يضمنها أو لا؟ يقول المؤلف: لا يضمنها؛ لأن النقص الذي حصل عنده عاد ورجعت إلى حالها الأولى، لكن لو فُرِض أنه كان رده إياها حين مرضها فإنه يضمن، أما بعد أن شُفيت فإنه لا يضمن؛ لأنه عاد على ما كان عليه حين الغصب، ولهذا قال:«ولا بمرض عاد ببرئه» أي برء المرض، لكن ليعلم أن كل ما أخذه من لبن فإنه يضمنه؛ لأن المنافع مضمونة على الغاصب، والكلام الآن على ضمان الأعيان.
وَإِنْ عَادَ بِتَعْلِيمِ صَنْعَةٍ ضَمِنَ النَّقْصَ، وَإِنْ تَعَلَّمَ أَوْ سَمِنَ فَزَادَتْ قِيمَتُهُ ثُمَّ نَسِيَ أَوْ هُزِلَ فَنَقَصَتْ ضَمِنَ الزِّيَادَةَ كَمَا لَوْ عَادَتْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الأَوَّلِ، وَمِنْ جِنْسِهَا لَا يَضْمَنُ إِلاَّ أَكْثَرَهُمَا.
قوله: «وإن عاد بتعليم صنعة ضمن النقص» «إن عاد» يعني النقص لا ببرء المرض، ولكن بتعليم صنعة ضمن النقص؛ لأن عَوْدَه هنا ليس هو عود النقص الذي حصل.
مثاله: غصب عبداً ثم مرض العبد وهُزِل فهنا تنقص قيمته ولا شك، لكنه علَّمه صنعة ارتفعت بها قيمته، فلو كان هذا العبد يساوي قبل أن يمرض عشرة آلاف، وبعد أن مرض صار يساوي خمسة آلاف، ثم بعد ذلك تعلم صنعة فصار يساوي عشرة آلاف ـ فعاد الآن إلى القيمة الأولى ـ فهل يضمن نقصه؟ الجواب: نعم؛ لأن الغاصب ضامن النقص، والزيادة للمالك، فنقول: العبد يساوي وهو غير متعلم للصنعة نصف قيمته قبل أن ينقص، فيرد العبد ونصف قيمته؛ وما زاد بتعلم الصنعة فإنه للمالك.
وكذلك لو غصب عبداً كاتباً فنسي الكتابة لكنه تعلم صنعة الآلات الكهربائية ـ مثلاً ـ وصار ما نقصه بنسيان الكتابة مجبوراً
بما تعلمه من الصناعة الكهربائية، فهل نقول: هذا يجبر هذا؟ لا، نقول: اضمن نقصه بالكتابة، وزيادة قيمته بالصناعة الكهربائية لمالكه.
قوله: «وإن تعلم أو سمن فزادت قيمته ثم نسي» في مسألة التعلم.
قوله: «أو هُزِل» في مسألة السمن.
قوله: «فنقصت» أي: قيمته.
قوله: «ضمن الزيادة» ، مثال ذلك: رجل غصب عبداً جاهلاً لا يعرف، فعلَّمه فتعلَّم فزادت القيمة، ثم نسي فنقصت، فلو كانت قيمته قبل أن يتعلم عشرة، ولما تعلم صارت قيمته عشرين، ولما نسي عاد إلى عشرة، يقول المؤلف:«فإنه يضمن الزيادة» التي حصلت بالتعلم؛ لأنه لما زادت قيمته بالتعلم وهو على ملك مالكه، نقصت الزيادة وهو في ضمان الغاصب، فيضمن الزيادة.
ومثله ـ أيضاً ـ لو أنه سمن بعد غصبه، كأن يكون غصب شاة هزيلة ثم أعلفها حتى صارت سمينة ثم عادت وهزلت، فهل يضمن الزيادة التي زادت؟ نعم، يضمنها؛ لأن زيادتها كانت في ملك صاحبها، والنقص صار في ضمان الغاصب.
قوله: «كما لو عادت من غير جنس الأول» يعني كما لو عادت الصنعة من غير جنس الأول، بأن غصب عبداً جاهلاً لا يعرف الصناعة، فتعلم النجارة وصار ماهراً جيداً في النجارة، ثم نسي فتعلم الحدادة وصار متقناً لها، فهل يضمن نقصه حين نقص
بنسيان النجارة؟ نعم يضمنه؛ لأن الجنس الآن مختلف، نجارة وحدادة.
قوله: «ومن جنسها لا يضمن إلا أكثرهما» كما لو تعلم الحاسب الآلي في شيء معين، ثم تعلمه في شيء آخر، ونسي العلم الأول، فهنا الزيادة من جنس ما نسيه فلا يضمن إلا أكثرهما، فإذا كانت الزيادة بعد النقص فلا ضمان عليه؛ لأنه زاده خيراً، لكن إن كان ما نسيه أكثر فإنه يضمن الأكثر؛ لأنهما من جنس واحد.
فَصْلٌ
وَإِنْ خُلِطَ بِمَا لَا يَتَمَيَّزُ كَزَيْتٍ، أَوْ حِنْطَةٍ بِمِثْلِهِمَا، أَوْ صَبَغَ الثَّوْبَ، أَوْ لَتَّ سَوِيقاً بِدُهْنٍ، أَوْ عَكْسُهُ وَلَمْ تَنْقُصِ القِيمَةُ وَلَمْ تَزِدْ، فَهُمَا شَرِيكَانِ بِقَدْرِ مَالَيْهِمَا فِيهِ، وَإِنْ نَقَصَتْ القِيمَةُ ضَمِنَهَا ........
قوله: «وإن خُلِط بما لا يتميز» الضمير في قوله: «إن خلط» يعود على المغصوب، فإذا خلط المغصوب، فإما أن يخلط بما يتميز، وإما أن يخلط بما لا يتميز، فهنا قسمان:
الأول: إذا خلط بما لا يتميز «كزيت أو حنطة بمثلهما» مِثْلُ الزيت زيت، ومثلُ الحنطة حنطة، فمثلاً لو غصب إناء من الزيت وخلطه بإناء عنده من الزيت، فهنا لا يمكن تمييز المغصوب من غيره؛ لأنه اختلط، وكذلك لو خلط حنطة بحنطة فلا يمكن تمييزه؛ لأنه اختلط، فلا يمكن تمييز الحبة التي للغاصب من الحبة التي للمغصوب منه، فماذا يكون الحكم؟
قال المؤلف رحمه الله: «ولم تنقص القيمة ولم تزد فهما شريكان بقدر ماليهما فيه، وإن نقصت القيمة ضمنها» مثال ذلك: لو غصب صاعاً من البر وخلطه بصاع من البر من جنسه، فهنا يكونان شريكين بشرط أن لا تنقص القيمة ولا تزد، فإن نقصت القيمة بالخلط بأن كان الناس يختارون أن يشتروا شيئاً قليلاً من البر، وهو قد خلط مائة صاع بمائة صاع فتنقص القيمة، فإذا نقصت فعلى الغاصب ضمان النقص، وأما إذا لم تنقص ولم تزد فهما شريكان بقدر ماليهما، فإذا كان للغاصب صاعان
وللمغصوب منه صاع فتكون القيمة بينهما أثلاثاً، وهلم جراً.
والمذهب يلزمه مثل المغصوب من غير المشترك، فيقال: اشتر مثل الذي غصبت، والفرق بين القولين أنه إذا قلنا: إنهما شريكان، لزم أن يدخل في ملك المالك ما كان ملكاً للغاصب، هذه واحدة.
ثانياً: إذا كانا شريكين، فإن الشركة تكون أحياناً نكدة، ويتنازعان في البيع أو القَسم، وإذا قلنا: هات بدله، ذهب الغاصب إلى السوق واشترى بدله.
ثالثاً: أنه يندر أن تتفق أوصاف المخلوطات، فيندر أن يكون البر الذي غصبه الغاصب مثل الذي خلطه به، وحينئذٍ يدخل على ملك المالك ما هو دون ملكه، ولكن إذا قلنا: يلزمك مثله، فسوف يشتري مثله نوعاً ووصفاً ونسلم من الاختلاف؛ ولهذا نقول: إن ما ذهب إليه الأصحاب أقرب إلى الصواب مما ذهب إليه المؤلف.
وقوله: «أو صبغ الثوب» أي: غَصَبَ الثوب وصبغه بلون ولم تزد القيمة ولم تنقص فهما شريكان، فللغاصب قيمة الصِّبْغ، ولمالك الثوب قيمة الثوب، فإذا قُدِّر أن قيمة الصبغ عشرة ريالات، وقيمة الثوب عشرة، وبِيعَا بعشرين ريالاً فلكل واحد منهما ثمن ملكه، وهذا يتناقض مع ما سبق من أنه إذا صبغ الثوب فهو لمالك الثوب وقد أشرنا إليه فيما سبق
(1)
.
(1)
عند قول المؤلف: «وإن ضرب المصوغ ونسج الغزل وقصر الثوب أو صبغه» .
فإن أمكن إزالة الصبغ وطالب المالك بثوبه وجبت إزالته ويضمن الغاصب النقص.
وقوله: أو لَتَّ سويقاً بدهن» فلو غصب سويقاً ولتَّه بدهن، ومعنى لتَّه يعني صب عليه الدهن، ومعلوم أن الدهن الآن لا يمكن أن يتميز فهما شريكان.
وقوله: «أو عكسه» أي: غصب صبغاً وصبغ به ثوباً عنده، أو غصب دهناً وأضاف إليه السويق ولم تنقص القيمة ولم تزد، فهما شريكان بقدر ماليهما فيه، وعند التنازع فالأصل أن الغارم يُقبل قوله.
وقوله: «ولم تنقص القيمة ولم تزد» مراده قيمتهما مجموعة، بحيث يقال: السويق يساوي عشرة والدهن يساوي خمسة، والقيمة الآن ملتوتاً خمسة عشر، فإذا لم تنقص القيمة ولم تزد نقول: إنهما شريكان بقدر ماليهما، يكون لصاحب السويق عشرة ولصاحب الدهن خمسة.
وقوله: «وإن نقصت القيمة ضمنها» الضامن هو الغاصب، فلو أن هذا السويق الذي لتَّه بدهن نقصت قيمته؛ لأن الناس لا يرغبون الدهن، أو لَتَّه بدهن له رائحة كريهة أو ما أشبه ذلك، فعلى الغاصب ضمان النقص؛ لأنه ظالم.
وَإِنْ زَادَتْ قِيمَةُ أَحَدِهِمَا فِلِصَاحِبِهِ. وَلَا يُجْبَرُ مَنْ أَبَى قَلْعَ الصِّبْغِ.
......
قوله: «وإن زادت قيمة أحدهما فلصاحبه» فلو كان الدهن يساوي عشرة، والسويق يساوي عشرة، والدهن للغاصب لكنه لما لُتَّ بالسويق زادت قيمته؛ لأنه صار فيه نفع، فتكون الزيادة لصاحبه.
فإن قال المالك: دهنك لم يزد إلا حيث كان في شعيري فأنا وأنت شريكان في هذه الزيادة.
فالجواب: أن المالك إذا طلب ذلك وجبت إجابته خلافاً لظاهر كلام المؤلف، ولو لم نقل بهذا لكان كل إنسان يكون الدهن عنده كاسداً يغصب سويقاً ويلته به وتزيد قيمته، وهذا هو الصحيح؛ لأن الزيادة حصلت بضم الدهن إلى السويق، أما لو نقصت قيمة السويق بلتِّه بالدهن، والسويق هو المغصوب فعلى الغاصب ضمان النقص.
والخلاصة أن القاعدة: أن كل نقص يترتب على فعل غاصب أو على غير فعله في المغصوب فإنه مضمون على الغاصب.
والمؤلف رحمه الله لم يذكر القسم الثاني فيما إذا خلط بما يتميز، فإذا خلط بما يتميز وجب على الغاصب تخليصه ولو ضاع عليه مال كثير، فإذا غصب براً وخلطه بشعير، فإن البر يتميز من الشعير، فهنا نقول للغاصب: خلِّص البر من الشعير ولو بقي وقتاً طويلاً؛ لأن عين المال المغصوب موجودة فيجب ردها إلى صاحبها، فإذا قال: هذا إضرار بي؟ فالجواب أن نقول له: أنت الذي جنيت على نفسك، لماذا تغصب أولاً؟ ولماذا تخلطه ثانياً؟ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«ليس لعرق ظالم حق»
(1)
إذن يلزمه التخليص ولو غرم أضعافه.
(1)
سبق تخريجه ص (66).
لو قال الغاصب: الآن أنا خلطت البر بالشعير، والبر الذي خلطته خمسة أصواع، وأنا أعطيك أيها المالك عشرة أصواع، فهل يجبر المالك أو لا؟ يقولون: لا يجبر، بل يقال: خَلِّص البر ولو دفع أكثر من مثله.
وهذا في الحقيقة من جهة قد نقول: إنه قول جيد؛ لأن في ذلك ردعاً للغاصبين، فإذا علم الغاصب أنه سوف يضمن إلى هذا الحد فإنه لا يغصب، وإن نظرنا إلى أن فيه إضراراً، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«لا ضرر ولا ضرار»
(1)
قلنا: هنا يتوجه القول بأن المغصوب منه يجبر على قبول مثل بره الذي غُصِب، ويعد البر الآن كالتالف، وإذا أتلف شخص براً ضمنه بمثله، فالمسألة فيها تردد، وحينئذٍ ننظر ـ في مسألة القضاء والحكم بين الغاصب والمغصوب منه ـ إلى المصلحة، فإذا رأى القاضي أن من المصلحة أن يُلزِم الغاصِبَ بتخليص مال المغصوب منه فليفعل، وإن رأى العكس فلا حرج؛ لأن المضارة في هذا واضحة.
قوله: «ولا يُجبر من أبى قلع الصِّبغ» من الذي يأبى، هل هو الغاصب أو المغصوب منه؟ لا ندري هل المغصوب الصبغ، أو المغصوب الثوب؟ على كل حال سواء هذا أو هذا، إذا قيل: اقلع الصبغ، فلا يمكن هذا؛ لأن الصبغ بعد أن صار في الثوب صار من جنس الصفة ولا يمكن فصله عن الموصوف، وكيف يمكن أن يقلعه؟! لا يمكن، اللهم إلا أن يجعل في الماء ثم يخرج الماء ملوناً بلون هذا الصبغ، ويعود الثوب على ما كان عليه،
(1)
سبق تخريجه ص (114).
وهذا فيه إفساد، حتى الثوب يتضرر بهذا، فلا يجبر من أبى قلع الصبغ.
إذن كيف تكون الحال؟
تكون الحال كما قال بالأول: إذا صبغ الثوب صار شريكاً لصاحب الثوب، فهما شريكان.
فإن قال صاحب الثوب: أنا لا أريد مشاركته؛ لأنني لو شاركته في هذا الثوب وأردت أن أبيعه امتنع من البيع، وإذا أردت أن أبقيه قال: بل يباع، فهنا يحصل نزاع لا شك، فنقول: إذا طلب صاحب الثوب أن يثمَّن ويدفع قيمة الصبغ، ويكون له الثوب مصبوغاً فإنه يتعين إجابته؛ لما في عدم الإجابة من الإضرار بالجميع، وربما يحصل نزاع لا ينتهي.
وَلَوْ قُلِعَ غرْسُ المُشْتَرِي أَوْ بِنَاؤُهُ لاسْتِحْقَاقِ الأَرْضِ، رَجَعَ عَلَى بَائِعِهَا بِالغَرَامَةِ. وَإِنْ أَطْعَمَهُ لِعَالِمٍ بِغَصْبِه، فَالضَّمَانُ عَلَيْهِ وَعَكْسُهُ بِعَكْسِهِ ........
قوله: «ولو قُلع غرس المشتري أو بناؤه لاستحقاق الأرض رجع على بائعها بالغرامة» مثال ذلك: رجل باع أرضاً مغصوبة والمشتري غرس فيها أو بنى، ثم أقام مالك الأرض بَيِّنة على أن هذا غاصب، فالأرض مستحقة الآن للذي أقام البيِّنة على أنها ملكه، وتبين أن الأرض التي باعها الغاصب مغصوبة لا يصح العقد عليها، وصاحب الأرض قال للمشتري، الذي غرس أو بنى: اقلع الغرس، أو اهدم البناء، فهنا المشتري يرجع على البائع؛ لأنه غره، حيث أظهر أنه مالك.
وقوله: «رجع على بائعها بالغرامة» أي: بغرم ما تلف عليه، فهو يقول: أنا تعبت في شراء الشجر وتعبت في غرسه، فأرجع
عليك بقيمة الشجر الذي تلف علي وبأجرة الغارس، وكذلك يقال في البناء.
ولو علم المشتري أن الأرض مغصوبة، لكنه تجاهل الأمر وطمع في الأرض وقال: لعل مالكها لا يكون عنده بينة وغرس أو بنى، فهل يرجع على الغاصب أو لا يرجع؟ لا يرجع؛ لأنه دخل على بصيرة.
وَإِنْ أَطْعَمَهُ لِمَالِكِهِ أَوْ رَهَنَهُ أَوْ أَوْدَعَهُ أَوْ آجَرَهُ إِيَّاهُ لَمْ يَبْرَأْ إِلاَّ أَنْ يَعْلَمَ وَيَبْرَأُ بِإِعَارَتِهِ.
قوله: «وإن أطعمه» أي: الغاصب أطعم المغصوب
قوله: «لعالم بغصبه فالضمان عليه» أي: على الآكل؛ لأنه أكل مال غيره وهو يعلم بغير حق.
قوله: «وعكسه بعكسه» أي: أطعمه لغير عالم بغصبه فالضمان على الغاصب لا على الآكل؛ لأنه أكل استناداً إلى أن الذي يتصرف في المال هو المالك أصلاً.
مثال ذلك: رجل غصب شاة وذبحها وأطعمها شخصاً آخر، يعلم أنها مغصوبة فالضمان على الآكل؛ لأنه مباشر للإتلاف والغاصب متسبب، والقاعدة الشرعية في المتلفات:(أنه إذا اجتمع متسبب ومباشر فالضمان على المباشر) فإن كان لا يعلم فالضمان على الغاصب الذي أطعمه.
بقي علينا أن نقول: صاحب الشاة في هذه الحال، هل له أن يرجع على الغاصب مع أن الآكل قد علم أنها مغصوبة؟
الجواب: نعم، له ذلك فهو مخير بين أن يرجع على الغاصب أو على الآكل، لكن قرار الضمان يكون على الآكل إن كان عالماً بالغصب، وإن لم يكن عالماً بالغصب فالقرار على
الغاصب، وحينئذٍ نقول: يخير المالك بين الرجوع على الغاصب؛ لأنه هو الذي غصب ملكه أي: باشر الغصب، والرجوع على الآكل؛ لأن التلف كان تحت يده.
وقد ذكر ابن رجب رحمه الله في القواعد الفقهية
(1)
: أن الأيدي المترتبة على يد الغاصب ـ وهي التي انتقل إليها المغصوب من الغاصب ـ عشرة، وأنها كلها أيدي ضمان، يعني يصح أن نضمِّنَها، وأما قرار الضمان فإن كانت هذه اليد عالمة فقرار الضمان عليها، وإن كانت جاهلة فقرار الضمان على الغاصب، إلا ما دخلت على أنه مضمون عليها بكل حال فيكون قرار الضمان عليها.
مثال ذلك: إذا غصب شخص من غاصب، فالغاصب الثاني أخذ العين على أنها مضمونة عليه؛ لأنه متعدٍّ، ففي هذه الحال إذا ضمَّنَ المالكُ الغاصبَ الأول رجع على الثاني، وإن ضمن الثاني لم يرجع على أحد بشيء.
مثال آخر: غصب شخص ساعة وجعلها وديعة عند شخص آخر، ثم سرقت الساعة من بيت المودَع مع تحفظه ووضعها في الحرز، فالمودَع لا ضمان عليه؛ لأنه لم يتعدَّ ولم يفرط، فإذا جاء المالك وضمّن المودَع، فإنه يرجع على الغاصب بما ضمن؛ لأنه أخذ الساعة على أنها غير مضمونة عليه وأنه محسن، وما على المحسنين من سبيل، فإن ضمّن المالك الغاصبَ، فإن الغاصب لا يرجع على المودَع؛ لأنه غير ضامن، فلو فرض أن
(1)
القاعدة الثالثة والتسعين.
الساعة للغاصب وتلفت عند المودَع بلا تعدٍّ ولا تفريط فإنه لا يرجع عليه؛ لأن المودَع محسن وما على المحسنين من سبيل.
قوله: «وإن أطعمه لمالكه أو رهنه أو أودعه أو آجره إياه لم يبرأ إلا أن يعلم» مثال ذلك: رجل غصب طعاماً كخبز وأرز وغيره فأطعمه لمالكه، فأكله المالك على أنه مُلْك للغاصب، فهنا نقول: إن الغاصب لا يبرأ إلا إذا أعلمه، بأن قال: أنا غصبت هذا المال منك والآن أنا تائب فتفضل كُلْه، فإذا أكله برئ؛ لأنه علم.
وكذلك لو رهنه إياه، كما لو استدان من المالك ديناً وأرهنه المغصوب فإنه لا يبرأ؛ لأن المرتهن داخل على أنه لا ضمان عليه، فيده يد أمانة فلو تلف بلا تعدٍّ ولا تفريط فلا ضمان عليه، إلا إذا علم مالكه أن هذا ملكه فإنه يبرأ الغاصب؛ لأنه الآن مكَّنه منه وسلَّطه عليه.
وقوله: «أو أودعه» أي: أودع المغصوب «إياه» أي: المالك «لم يبرأ إلا أن يعلم» ، والوديعة هي الاستحفاظ، يعني استحفاظ المالك بأن تعطي الشخص مالاً يحفظه لك، ويسمى عند الناس «أمانة» وهو في الحقيقة وديعة، فإذا أودعه عنده فمن المعلوم أن المُودَع لا يضمن إلا إن تعدى أو فرط، فإن أعلمه الغاصبُ أن هذا ملكه برئ منه سواء تلف أم لم يتلف؛ لأنه إذا تلف فإنه بيد مالكه، وأما إذا أودع الغاصب المال المغصوب لمالِكهِ، ومالِكُهُ لم يعلم فالضمان على الغاصب، حتى لو تلف تحت المُودَع بلا
تعدٍّ أو تفريط فإن الغاصب يضمنه؛ لأنه معتدٍ، والمالك أخذه على أنه ملك للغاصب.
فإن تلف بتعدٍّ من المودَع أو بتفريط منه فإن عليه الضمان، وإذا كان عليه الضمان وهو ملكه فلا يستحق على الغاصب شيئاً ولا يستحق الغاصب منه شيئاً، ومثل ذلك يقال في الرهن.
وقوله: «أو آجره إياه» فلو غصبه سيارة ـ مثلاً ـ وآجره إياها يوماً أو أكثر ولم يعلم، فالضمان لو حصل عليها تلف ـ ولو بلا تعدٍّ ولا تفريط ـ على الغاصب؛ لأن يده يد عدوان، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم:«ليس لعرق ظالم حق»
(1)
.
وقوله: «لم يبرأ إلا أن يعلم» يعني إلا أن يعلم المالك الذي أُودِع أو ارتهن أو أكل أو استأجر، فإذا علم، فمعلوم أن السلطة له على ماله والغاصب بريء.
قوله: «ويبرأ بإعارته» «يبرأ» الفاعل الغاصب «بإعارته» الضمير يعود على المغصوب، يبرأ بإعارته لمالكه، مثال ذلك: رجل غصب كتاباً وأعاره مالكه، فهنا يبرأ سواء علم المالك أم لم يعلم؛ وجه ذلك أنه إن علم أنه ملكه فقد تم استيلاؤه عليه وتلف تحت يده، وإن لم يعلم أنه ملكه فالمستعير ضامن بكل حال، حتى وإن أخذه على أنه ملك للغاصب، وهذا مبني على أن المستعير ضامن بكل حال سواء فرط أو تعدى أو لم يتعدَّ ولم يفرط.
(1)
سبق تخريجه ص (66).
وقد سبق أن القول الراجح أن المستعير كغيره، ممن يكون المال تحت يده بإذن من المالك أو إذن من الشارع، وأن يد المستعير يد أمانة، وعلى هذا لو تلف تحت يد مالكه في إعارة فالضمان على الغاصب، إلا أن يعلم المالك أنه ملكه فيبرأ به، فإن تعدى أو فرط ضمن وإلا فلا.
وَمَا تَلِفَ أَوْ تَغَيَّبَ مِنْ مَغْصُوبٍ مِثْلِيٍّ غَرِمَ مِثْلَهُ إِذاً وَإِلاَّ فَقِيمَتُهُ يَوْمَ تَعَذَّرَ، وَيُضْمَنُ غَيْرُ المِثْلِيِّ بِقِيمَتِهِ يَوْمَ تَلَفِهِ، وَإِنْ تَخَمَّرَ عَصِيرٌ فَالمِثْلُ. فَإِنِ انْقَلَبَ خَلاًّ دَفَعَهُ وَمَعَهُ نَقْصُ قِيمَتِهِ عَصِيراً ......
قوله: «وما تلف أو تغيب من مغصوب مثلي غَرِمَ مثله إذاً» أي حين تلفه.
وقوله: «وما تلف» «ما» يحتمل أنها موصولة، ويحتمل أنها شرطية، والظاهر من السياق أنها شرطية.
وقوله: «تغيب» مراده تغيب غيبة لا يمكن الحصول عليه، فكأنما تلف.
فالمغصوبات تنقسم إلى قسمين:
مغصوب مثلي يعني له مثيل، ومغصوب غير مثلي.
فالمغصوب المثلي يُضمن بمثله، وغير المثلي يُضمن بقيمته، فلننظر ما هو المثلي؟.
المثلي ضيق جداً على المذهب، وهو كل مكيل أو موزون يصح السلم فيه وليس فيه صناعة مباحة.
ولكن القول الراجح في هذا، أن المثلي ما له مثيل أو مشابه، سواء كان مكيلاً أو موزوناً مصنوعاً أو غير مصنوع، فكل ما له مثيل أو مشابه فإنه مثلي.
وقاعدة: (أن المثلي يُضمن بمثله) قاعدة متفق عليها، وعلى هذا فلو أن شخصاً كسر فنجالاً لشخص، فهل نلزمه أن يأتي
بفنجال مثله لصاحب الفنجال الأول؟ على المذهب: لا، بل له قيمة الفنجال، وعلى القول الراجح يلزمه أن يأتي بفنجال.
ولو أنه ذبح شاته الثنية التي صفتها كذا وكذا في السمن والهزال واللون، وعند ذابح الشاة شاة مثلها تماماً، فهل يضمن الشاة بهذه الشاة، أو بالقيمة؟ المذهب: يلزمه الضمان بالقيمة، والقول الراجح في المسألتين جميعاً الفنجال يضمن بفنجال، والشاة تضمن بشاة.
ولو أن رجلاً أخذ خبزة إنسان وأكلها فإنه يضمنها على المذهب بالقيمة؛ لأن فيها صناعة مباحة، وأيضاً هي غير مكيلة، وعلى القول الراجح يضمنها بمثلها، فإذا كان رجلان واقفان عند الفَرَّان فقدم الفران الخبزة لفلان وأخذها، ثم خطفها الثاني من يده وأكلها، فكيف يضمن؟ على المذهب بالقيمة، وعلى القول الراجح يقول: انتظر حتى يعطيني خبزتي فخذها وينتهي كل شيء.
فالقول الراجح أن المثلي كل ما له مثل أو شبه، سواء كان مكيلاً أو موزوناً أو حيواناً أو جماداً أو مصنوعاً أو غير مصنوع، ويدل لهذا أن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف إبلاً فرد مثلها
(1)
ولم يرد القيمة، وعلى المذهب لو استسلفت شاة من جارك ترد قيمتها لا مثلها؛ لأنها غير مثلية فليست مكيلة ولا موزونة، ويدل لهذا ـ أيضاً ـ قصة الصحفة والطعام حيث أرسلت إحدى أمهات المؤمنين إلى النبي صلى الله عليه وسلم طعاماً بصحفة مع رسول لها فأتى الرسول
(1)
أخرجه مسلم في البيوع/ باب جواز اقتراض الحيوان (1600) عن أبي رافع رضي الله عنه.
بالطعام والصحفة إلى النبي صلى الله عليه وسلم في بيت إحدى نسائه، فغارت التي هو في بيتها وضربت بيد الرسول حتى سقطت الصحفة وتكسرت، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم صاحبة البيت أن تعطي هذه صحفتها وطعامها وقال:«طعام بطعام، وإناء بإناء»
(1)
وهذا دليل واضح.
ثم ـ يا سبحان الله ـ أيما أدق أن يضمن الإنسان فنجالاً بفنجال أو صاعاً بصاع؟ الأول بلا شك؛ لأن المماثلة في الفنجال بالفنجال متطابقة تماماً، والمماثلة بين صاع وصاع لا بد أن تختلف، فلا بد أن يكون هناك زيادة يسيرة.
إذاً القاعدة أن المثلي يضمن بمثله؛ لأن مطابقة المثلي لمثله أقوى من مطابقة القيمة للشيء، فالقيمة تقدير وتخمين، والمماثلة مماثلة.
مسألة: قال في «الروض»
(2)
: و «ينبغي أن يستثنى منه الماء في المفازة، فإنه يضمن بقيمته في مكانه، ذكره في المبدع» ؛ لأن الماء في المفازة قيمته كبيرة، فلو أن شخصاً غصب من آخر قربة ماء في مفازة ـ أي: في مهلكة ـ فلما وصلا إلى البلد قال: أعطيك قربة ماء، فعلى القاعدة فإنه ماء بماء وهو مثله فيكفي، ولكن هذا مستثنى، وقالوا: بل يعطى قيمته في مكانه، فالقربة في المفازة ـ مثلاً ـ تساوي ألف ريال، وفي البلد لا تساوي شيئاً وقد يكون باعها هناك وانتفع بها فكيف يقال: رد مثلها؟! فهذا مستثنى حتى على المذهب.
(1)
سبق تخريجه ص (120).
(2)
الروض مع حاشية ابن قاسم (5/ 404).
قوله: «وإلا فقيمته يوم تعذر» أي: وإلا يمكن الضمان بالمثل فإنه يضمن بقيمته يوم تعذره.
فإذا قدرنا أنه أتلف مثلياً ولكن تعذر المثلي، مثال ذلك: غصبه في محرم وأتلفه وما زال له نظير في السوق، وفي ربيع ـ مثلاً ـ فُقِد من السوق، ثم في جمادى طالبه المالك بالضمان، فماذا يضمن الآن؟ هل يضمن القيمة وقت الضمان، أو وقت التعذر؟ يقول المؤلف:«وإلا فقيمته يوم تعذر» ووجه هذا القول: أنه لما تعذر ثبتت القيمة، فلزمه الضمان بالقيمة وقت التعذر، ولو قيل: إن عليه الضمان بالقيمة وقت الاستيفاء منه لكان له وجه؛ وذلك أن الأصل ثبوت المثل في ذمته حتى يسلمه، وهو إذا تعذر فيما بين الإتلاف وبين الاستيفاء فقد لا يتعذر عند الاستيفاء، ربما يتعذر ـ مثلاً ـ في ربيع، ولكن لا يتعذر في جمادى، فنضمنه المثل فإن تعذر فقيمة المثل وقت الاستيفاء؛ لأن الأصل أن الذي ثبت في ذمة الغاصب هو المثل، والتعذر قد يكون في حين ولا يكون في حين آخر.
قوله: «ويضمن غير المثلي بقيمته يوم تلفه» وذلك لأن غير المثلي تثبت القيمة من حين الغصب، فلو تلف هذا الذي ليس بمثلي فقيمته وقت التلف؛ لأنه قبل التلف لا يزال ملكاً لصاحبه فزيادته ونقصه على صاحبه.
لكن المغصوب اختلف العلماء هل يضمن بنقص السعر أو لا؟ وسبق القول فيه.
قوله: «وإن تخمر عصير فالمثل» إنسان غصب عصير عنب
ثم تخمر، لمَّا تخمر العصير زالت ماليته وصار الواجب إراقته، يقول المؤلف: إنه إذا تخمر العصير ضمنه بالمثل، أي: مثل العصير لا مثل الخمر؛ وذلك لأن تخمره بمنزلة تلفه، والمتعذر شرعاً كالمتعذر حساً، والعصير مثلي؛ لأنه مكيل.
قوله: «فإن انقلب خلاًّ» يعني بعد أن تخمر انقلب خلاًّ بنفسه بأن زالت الشدة المسكرة فيه.
قوله: «دفعه» أي: دفع الخل؛ لأنه عين ماله.
قوله: «ومعه نقص قيمته عصيراً» لأنه إذا تخمر ثم تخلل فلا بد أن ينقص فيضمن نقص قيمته عصيراً؛ لأنه حصل النقص وهو في يد الغاصب.
مثال ذلك: رجل غصب عصير عنب ثم تخمر، فتحول من عين حلال إلى عين حرام، لكنه في نفس الوقت عاد خلاًّ؛ لأنه قد يتخلل الخمر بنفسه، وإذا تخللت الخمرة بنفسها فهي حلال، فعاد إلى كونه عصيراً لكنه عصير متخلل من خمر، فينقص؛ لأنك لو أتيت بهذا الإناء الذي تخلل بعد التخمر، وإناء مثله من العصير لكانت قيمة إناء العصير أكثر بلا شك، يقول المؤلف:«دفعه» يعني الغاصب يدفع هذا الخمر الذي تخلل؛ لأنه عين ملك صاحبه.
فإن نقص بأن كان حين غصبه عصيراً يساوي مائة، والآن لا يساوي إلا ثمانين فهنا الغاصب يضمن النقص، ولهذا قال:«ومعه نقص قيمته عصيراً» يعني نقص قيمته عن كونه عصيراً.
هل يمكن أن يقال: إن هذا شاهد لما ذهب إليه شيخ الإسلام
ابن تيمية رحمه الله من أن نقص السعر مضمون على الغاصب؟
الجواب: لا؛ لأن نقص السعر هنا لنقص العين وليس للقيمة، فلا يكون فيه رد على من قالوا: إن النقص بالسعر لا يضمن، ولكن سبق لنا أننا فصلنا في هذا، وأنه إن قصد تأخير تسليمه حتى يزول الموسم وينقص السعر، فعليه الضمان وإلا فلا.
وقوله: «فإن انقلب خلاًّ» ولم يقل: قُلب خلاًّ؛ لأن الخمر إن تخلل بنفسه فهو حلال؛ لأنه بفعل الله وليس بفعلنا، وإن تخلل بفعلنا فهو حرام لحديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الخمر تتخذ خلاًّ، قال: لا
(1)
، ولأن الشارع أمر بإراقة الخمر
(2)
، ولو كان يحل بالتخليل لأمر بتخليله؛ لأن تخليله إبقاء له، وإراقته إتلاف له، ولو كان يمكن أن تعود ماليته شرعاً لأرشد إليه الشارع، فلما لم يرشد إليه عُلم أن التخليل حرام.
لكن لو خلَّله من يعتقد حِلَّ التخليل من مسلم أو كافر، فهل يحل؟
الصحيح أنه يحل؛ لأن هذا انقلب خلاًّ على وجه مباح، فصار مباحاً، وعلى هذا فالخل الوارد من بلاد الكفار يكون حلالاً للمسلمين؛ وإن كان مخللاً بفعل آدمي، لأنه مخلل بفعل آدمي يعتقد تحليله.
(1)
أخرجه مسلم في الأشربة/ باب تحريم تخليل الخمر (1983) عن أنس رضي الله عنه.
(2)
أخرجه الإمام أحمد (3/ 119)؛ وأبو داود في الأشربة/ باب ما جاء في الخمر تخلل (3675) عن أنس رضي الله عنه، وأصله في مسلم دون ذكر الأمر بالإراقة.
فَصْلٌ
وَتَصَرُّفَاتُ الغَاصِبِ الْحُكْمِيَّةُ بَاطِلَةٌ ..........
قوله: «وتصرفات الغاصب الحكمية باطلة» «تصرفات» مبتدأ، و «الحكمية» نعت لـ:«تصرفات» و «باطلة» خبر المبتدأ.
وقوله: «وتصرفات الغاصب» أي: تصرفاته في المغصوب.
وقوله: «الحكمية» يعني التي يلحقها حكم من صحة أو فساد؛ لأن تصرفات الغاصب من حيث الحكم التكليفي كلها حرام، ومن حيث الحكم الوضعي ـ وهو الحكم بالصحة والفساد ـ ما كان له حكم من صحة أو فساد فإن تصرفات الغاصب باطلة، يعني أن وجودها كالعدم، فمثلاً إذا غصب ثوباً فباعه، فالغصب حكمه حرام، والبيع حرام، وهل هو صحيح أو فاسد؟
ننظر هل البيوع منها صحيح وفاسد؟ الجواب: نعم، منها صحيح وفاسد، وعلى هذا فيكون هذا البيع باطلاً لا ينتقل به الملك إلى المشتري؛ لأن من شرط البيع أن يكون من مالك أو من يقوم مقامه، والغاصب لا يقوم مقام المالك.
والإجارة منها صحيح وفاسد، والوقف منه صحيح وفاسد، والرهن منه صحيح وفاسد، فجميع التصرفات الحكمية يعني التي يلحقها حكم بالصحة أو بالفساد، يقول المؤلف:«باطلة» فبيع الغاصب للمغصوب باطل، وتأجيره للمغصوب باطل، ويظهر ذلك فيما لو غصب داراً وآجرها شخصاً بعشرة آلاف ريال، ثم مَنَّ الله عليه بالتوبة وردَّ الدار إلى مالكها، فهل تأجيره هذا صحيح، أو باطل؟ الجواب: باطل، ولو قلنا: إنه صحيح لكان لمالك البيت الأجرة التي تم العقد عليها وهي عشرة آلاف، وإذا قلنا: غير صحيح
فإن الغاصب يضمن الأجرة، فإذا قدرنا أنه يؤجر باثني عشر ألفاً فإن الغاصب يضمن اثني عشر ألفاً؛ لأن العقد الأول غير صحيح ويجب أن يُضمن لصاحب البيت الأجرة المعتادة، ولو قلنا: إنه صحيح لم يلزمه إلا عشرة آلاف فقط، أما المستأجر الذي أخذها بعشرة آلاف والبيت يساوي اثني عشر ألفاً، هل نضمنه اثني عشر ألفاً، أو عشرة آلاف؟ فيه تفصيل: إن كان عالماً بأنه مغصوب فإننا نضمنه اثني عشر ألفاً، وإن كان غير عالم نضمنه عشرة آلاف فقط.
وفُهِمَ من قوله: «الحكمية» أن غير الحكمية لا يُحكم لها بصحة أو فساد، فلو غصب ماءً فأزال به نجاسة، فهل نقول: إن الإزالة غير صحيحة؟ الجواب: لا؛ لأن إزالة النجاسة لا يقال: صحيحة وفاسدة، وعلى هذا فلو غصب ماء فأزال به نجاسة على ثوبه طهر الثوب؛ لأن إزالة النجاسة ليس لها حكم بالصحة ولا بالفساد.
ولو غصب ماء فتوضأ به فهل يصح وضوؤه؟ ننظر هل الوضوء ينقسم إلى فاسد وصحيح؟ الجواب: نعم، إذاً لا يصح وضوؤه بالماء المغصوب؛ لأنه تصرفٌ حكمي، أي: يلحقه الصحة والفساد.
مثال آخر: رجل غصب ثوباً فباعه، فحكم البيع أنه فاسد؛ لأنه من التصرفات الحكمية التي يلحقها الصحة والفساد.
وظاهر كلام المؤلف: أن الغاصب لو ذكى الشاة التي غصبها صارت حراماً؛ لأن التذكية تنقسم إلى صحيحة وفاسدة فتكون تذكية الغاصب غير مبيحةٍ للمذكاة.
فالضابط: أن تصرفات الغاصب من حيث الحكم التكليفي حرام مطلقاً، ومن حيث الصحة والنفوذ تنقسم إلى قسمين:
ما له حكم من صحة أو فساد يكون تصرف الغاصب فيه باطلاً، وما ليس له حكم يكون تصرف الغاصب فيه نافذاً.
وظاهر كلام المؤلف أن تصرفات الغاصب الحكمية باطلة سواء أجازها المالك أو لم يجزها، وسواء تضرر الغاصب وغيره بذلك أم لا.
القول الثاني خلاف ظاهر كلام المؤلف، وهو أنه إذا أجازه المالك فالتصرف صحيح نافذ؛ لأن تحريم التصرف لحق الغير لا لحق الله، فإذا أسقط حقه سقط وزال المانع، وعلى هذا فإذا قيل للمالك: إن الغاصب قد باع ثوبك، فقال: أنا أجزته، فالبيع صحيح والمشتري يملك الثوب، أما إذا لم يجزه فإن البيع لا يصح ويجب على المشتري رد الثوب وأخذ ثمنه الذي بذله فيه؛ لأن التصرف غير صحيح.
القول الثالث: إن كانت التصرفات يسيرة، مثل ما لو باعه على شخص ثم اطلع عليه المالك وطالب به فهو له ويأخذه من المشتري، أما إذا صَعُبَ وتعذر، مثل ما لو باعه الغاصب على رجل، وهذا الرجل باعه على آخر، وهكذا تناقل الناس هذا المغصوب، فإن التصرفات صحيحة، بناء على الحرج والمشقة التي تلحق فيما لو حكمنا ببطلان التصرف، وأيضاً ربما يكون المغصوب بعيراً غصبه الغاصب وباعه على شخص وولدت البعير وكثر نسلها، فكيف نقول: إنه باطل مع العسر والمشقة العظيمة؟!
فالصحيح أنه مع العسر والمشقة يُحكَم بالصحة للضرورة ويقال لمالكه: لك مثل مالك إن كان مثلياً أو قيمته إن كان متقوماً.
القول الرابع: أن تصرفات الغاصب صحيحة، وهو رواية عن أحمد رحمه الله ولكن للمالك أن يستردها، فمثلاً إذا ذكى الشاة فالتذكية على هذه الرواية صحيحة والشاة ترجع لمالكها، وإذا طالب بالمثل وقلنا: إنها مثلية ضمنها بمثلها، وإذا قلنا: إنها متقومة وطالب بمثلها حية، وقال: إن قيمتها حية أكثر من قيمتها لحماً أعطيناه الفرق، أو أعطيناه القيمة كاملة واللحم يكون للغاصب.
وكذلك ـ أيضاً ـ لو توضأ بماء مغصوب، فعلى هذه الرواية ـ التي هي خلاف المذهب ـ الوضوء صحيح، وهو الصحيح؛ لأن هذا التصرف لا يختص بالوضوء، إذ أن تصرف الغاصب بالمغصوب يشمل الوضوء وغير الوضوء، فالغاصب لم يُنه عن الوضوء، لم يُقَلْ له: لا تتوضأ بالماء المغصوب، بل قيل له: لا تتصرف بالماء المغصوب، ولما لم يكن النهي خاصاً بل كان عاماً صارت العبادة صحيحة، هذا هو القول الراجح، ويدل لهذا:
أن الغِيبة على الصائم حرام، والأكل ـ أيضاً ـ حرام، فلو أكل فسد صومه، أما لو اغتاب لم يفسد؛ لأن الأكل حرام على الصائم بخصوصه، والغِيبة ليست حراماً على الصائم بخصوصها، بل هي حرام عليه وعلى غيره، فتبين بهذا الفرق الواضح بين العموم والخصوص.
إذاً الخلاصة: أن تصرفات الغاصب صحيحة، أما إن أجازها المالك فهذا أمر واضح مثل الشمس، وأما إذا لم يجزها
فالصحيح ـ أيضاً ـ صحتها، لكن إذا كان عين مال المالك باقياً، فله أن يسترده ويقول: هذا عين مالي أريده، وأنت أيها المشتري اذهب إلى الغاصب.
وَالقَوْلُ فِي قِيمَةِ التَّالِفِ، أَوْ قَدْرِهِ، أَوْ صِفَتِهِ قَوْلُهُ. وَفِي رَدِّهِ وَعَدَمِ عَيْبِهِ قَوْلُ رَبِّهِ.
قوله: «والقول في قيمة التالف أو قدره أو صفته قوله» أي: قول الغاصب، فلو غصب شيئاً فتلف ـ وكان متقوماً ـ فقال المالك: قيمته ألف، وقال الغاصب: قيمته خمسمائة، فالقول قول الغاصب؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«البينة على المدعي واليمين على من أنكر»
(1)
والآن المالك والغاصب اتفقا على أن القيمة خمسمائة وادعى المالك الزيادة، فيكون المالك مدعياً، والبينة على المدعي واليمين على من أنكر، ومن التعليل أن الغاصب غارم، وكل غارم فالقول قوله، وهذه القاعدة أخذها العلماء من الحديث السابق وهو:«البينة على المدعي واليمين على من أنكر» .
لكن كل من قلنا القول قوله ـ وهو يتعلق بحق الآدميين ـ فإنه لا بد من اليمين لقوله صلى الله عليه وسلم: «واليمين على من أنكر» ، أما الذي يتعلق بحق الله فالقول قول المنكِر بلا يمين، فلو قال المحتسِب يعني الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر لصاحب المال: أدِّ الزكاة، فقال: أنا زكيت مالي، فقال المحتسب: لا،
(1)
أخرجه البيهقي (10/ 252) وقال الحافظ في البلوغ (1408): «إسناده صحيح» وأصله في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما بلفظ: لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه.
الزكاة باقية عليك، فقال: أبداً ما بقيت، فهنا القول قول المالك بغير يمين، ولو قيل له: صل، فقال: صليت، فلا يجوز أن نحلفه، ولا يَلْزمه اليمين، فلو قلنا: احلف، فقال: ما أنا بحالف لَكُنَّا نحن الآثمين؛ لأن هذا شيء بينه وبين ربه والناس مؤتمنون على أديانهم، لكن فيما يتعلق بحق الآدميين فالمنكر لا بد من اليمين على إنكاره.
وقوله: «أو قدره» القول في قدره قول الغاصب، كرجل غصب شاة وتلفت ثم جاء صاحبها وقال: إنك غصبت شاتين أو شاة وولدها، فقال: بل غصبت واحدة لا ولد معها، فالقول قول الغاصب، والدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم:«البينة على المدعي واليمين على من أنكر»
(1)
، ومن التعليل أن الغاصب غارم وكل غارم فإنه يقبل قوله فيما غرم مع يمينه كما سبق.
وقوله: «أو صفته» أي: صفة المغصوب فالقول قوله، فإذا غصب من شخص شاة، وتلفت، فقال مالكها: إنها سمينة لبون ـ أي: ذات لبن ـ وقال الغاصب: بل هزيلة لا لبن فيها، فالقول قول الغاصب، والدليل والتعليل كما سبق.
قوله: «وفي رده وعدم عيبه قول ربه» يعني إذا اختلف الغاصب والمالك فقال الغاصب: إني رددته عليك، وقال المالك: لم ترده، فهنا قد اتفقا على شيء وادعى أحدهما خلاف ما اتفقا عليه، اتفقا على أن العين كانت عند الغاصب ثم ادعى الغاصب أنه ردها، وهذه دعوى فوق ما اتفقا عليه، فنقول: القول
(1)
سبق تخريجه (187).
قول المالك، والدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم:«البينة على المدعي واليمين على من أنكر» فالطرفان متفقان على أن العين المغصوبة كانت عند الغاصب، ثم ادعى الغاصب أنه ردها فنقول: عليك البينة، وإلا فيحلف المالك ويُحْكَم له بها، هذا من حيث الدليل، ومن حيث التعليل نقول: الأصل عدم الرد، فما دام أن الغاصب قد أقر أنها عنده وأنه غصبها فالأصل عدم الرد، وهذا يقاس على قول النبي صلى الله عليه وسلم:«من وجد في بطنه شيئاً فأشكل عليه أخرج منه شيء أم لا، فلا يخرجن من المسجد حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً»
(1)
فإن هذا الحديث أصل في بناء الأمور على ما كانت عليه.
وقوله: «وعدم عيبه» لو غصب شاة فتلفت فأراد أن يضمنها بقيمتها، ولكنه ـ أي: الغاصب ـ قال: إنها معيبة، إنها تعرج وعرجها بَيِّن، وقال المالك: بل هي سليمة؛ ومعلوم أن السليمة أغلى من المعيبة، فهنا تعارَضَ أصلان، الأصل الأول: السلامة، وإذا أخذنا بهذا الأصل قلنا: القول قول المالك؛ لأن الأصل السلامة وعدم العيب، والأصل الثاني: هو الغرم؛ لأن الغاصب ـ إذا قلنا: إنها سليمة ـ سوف يغرم زيادة على ما أقر به؛ لأنها إذا كانت معيبة سيغرم ـ مثلاًـ ثمانين ريالاً، وإذا كانت سليمة سيغرم مائة، فالآن زاد الغرم عليه، والأصل أن الغارم يقبل قوله.
(1)
أخرجه مسلم في الطهارة/ باب الدليل على أن من تيقن الطهارة ثم شك في الحدث فله أن يصلي بطهارته تلك (362) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
فهل نقول: إن القول قول الغاصب؛ لأنه غارم، أو نقول: إن القول قول المالك؛ لأن الأصل السلامة؟
نقول: القول قول المالك؛ لأن الأصل السلامة، وهذا الأصل متقدم على الأصل الثاني؛ لأن العيب حادث على السلامة فقُدم هذا الأصل على أصل الغرم.
وهذه في الحقيقة قاعدة ينبغي لطالب العلم أن ينتبه لها، فأحياناً يتعارض الأصل والظاهر، وأحياناً يتعارض أصلان فيقدم أحدهما على الآخر حسب ما تقتضيه الشريعة، وحسب ما تقتضيه قرائن الأحوال، ولهذا ـ مثلاً ـ لو أن امرأة فارقت زوجها وأمسكت بيدها إبريق القهوة ـ وقهوة البُنِّ يشربها غالباً الرجال ـ وادعت أن الإبريق لها، والزوج يقول: لي.
فعندنا أصل وظاهر، الأصل أن ما بيد الإنسان فهو له، وعندنا ظاهر، وهو أن هذا الإبريق للرجال، فأيهما نقدم؟ يُنْظَر إذا كان الظاهر قوياً أقوى من الأصل قدمنا الظاهر.
وقوله: «وفي رده وعدم عيبه قول ربه» هذا النزاع الذي ذكره المؤلف وهل القول قول الغاصب، أو القول قول ربه، من الذي يحكم به؟ يوجه هذا إلى القاضي، أو إلى رجلٍ حَكّمه الغاصب ورب المال، فيعطى هذه القواعد.
وَإِنْ جَهِلَ رَبَّهُ تَصَدَّقَ بِهِ عَنْهُ مَضْمُوناً ..............
قوله: «وإن جهل ربَّه تصدق به عنه مضموناً» «إن جهل» الفاعل الغاصب «ربه» أي: رب المغصوب، أي: صاحبه، إذا جهل صاحبه، بأن يكون قد غصب هذا الشيء من زمان قديم ونسي، أو غصب شيئاً من عند باب المسجد، كأن يكون قد أخذ نعلاً
ومشى به، أو أخذه من شخص معين لكنه لا يعرفه، المهم إذا جهل من ربه يقول المؤلف:«تصدق به عنه مضموناً» ، وهنا طريقان:
الطريق الأول: أن يدفعه إلى الحاكم ـ أي: إلى القاضي ـ فيبرأ منه بلا نزاع، يعني لم ينازع أحد من العلماء في أنه إذا جهل ربه يعطيه الحاكم، والحاكم يتصرف فيه، وهذا لا شك أنه أسهل على الإنسان.
لكن ـ أحياناً ـ لا يكون الحاكم ثقة، قال الإمام أحمد رحمه الله: أما حكامنا هؤلاء فلا أرى أن يدفع إليهم شيئاً، والإمام أحمد قد مات في القرن الثالث ومع ذلك يقول: حكامه لا يرى أن يدفع إليهم شيئاً؛ لأنهم غير ثقات، فكيف بحكام هذا الوقت؟! فالثقة فيهم أندر من الكبريت الأحمر إلا أن يشاء الله، لكن على كل حال إذا كان الحاكم غير ثقة وخاف أنه إذا أعطاه إياه صرفه في جهة أخرى، أو أن الحاكم أبى، فالأول ـ يعني إذا كان غير ثقة ـ لا يجوز أن يعطيه إياه، والثاني: هل يلزم الحاكم أن يقبل أو لا يلزمه؟ هذا محل نظر وتفصيل، فيقال: إذا كانت الدولة قد جعلت جهة معينة لاستقبال الضائع فللحاكم أن يمتنع، ويقول: اذهب إلى الجهات الأخرى، لكن إذا لم يكن هناك جهات مسؤولة عن استقبال الضائع، فأرى أنه يجب على القاضي أن يقبل هذا.
وهذه المشكلة قد لا تكون في مسألة الغصب إلا قليلاً والحمد لله، لكن تكون في لُقَطَة مكة كثيراً، ولقطة مكة قال فيها
النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تحل ساقطتها إلا لمنشد»
(1)
يعني إلا لشخص يُنشِد عنها مدى حياته ويوصي بها بعد مماته؛ لأنه لا يمكن أن يملكها أبداً، فكل ما في الحرم آمن حتى الجمادات، فالإنسان إذا رأى ـ مثلاً ـ دراهم، ألف ريال أو ألفين أو عشرة آلاف في سوق من أسواق مكة، إن تركها فيا ويلها من اللصوص وإن أخذها تعب فيها، فماذا يصنع؟ إذا كان هناك جهة مسؤولة لاستقبال الضائع فالأمر واضح وسهل ـ والحمد لله ـ يأخذها ويُؤْجَر على إيصالها إلى هذه الجهة، لكن إذا لم يكن هناك جهة فأرى أنه يجب على الحاكم الشرعي أن يستقبلها؛ لأن هذه من جملة ما يتولاه الحاكم فالسلطان ولي من لا ولي له
(2)
، فماذا يصنع الناس؟ الإنسان ليس مستعداً أن يأخذ هذه اللقطة من مكة وينشد عنها مدى الدهر، لكن يسهل عليه جداً أن يأخذها ويوصلها إلى المحكمة ـ مثلاً ـ إذا لم تكن جهة مسؤولة عن ذلك.
فالمهم إذا جهل الغاصب «ربه» أي: مالكه يقول المؤلف: «يتصدق به عنه» وقد ذكرنا طريقين: الطريق الأول: أن يسلمه إلى الحاكم فإن لم يفعل يقول: «تصدق به عنه» يعني دفعه للفقراء، وهذا هو الطريق الثاني.
(1)
أخرجه البخاري في الجنائز/ باب الإذخر والحشيش في القبر (1349)؛ ومسلم في الحج/ باب تحريم مكة (1355) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
كما جاء في الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد (6/ 47)؛ وأبو داود في النكاح/ باب في الولي (2083)؛ والترمذي في النكاح/ باب ما جاء لا نكاح إلا بولي (1102)؛ وابن ماجه في النكاح/ باب لا نكاح إلا بولي (1879) عن عائشة رضي الله عنها؛ وحسنه الترمذي؛ وصححه ابن حبان (4074)؛ والحاكم (2/ 168) وقال: صحيح على شرط الشيخين.
وقوله: «عنه» أي: عن ربه أي: المالك «مضموناً» أي: بشرط الضمان إذا وجده، فيعتقد أنه تصدق بهذا عن ربه مضموناً عليه لو وجد ربه، فعندنا شيئان:
الأول: أن تكون الصدقة عن ربه لا عن نفس الغاصب.
الثاني: أن ينوي أنه ضامن له إذا وجد ربه وطالب به.
فإن تصدق به عن نفسه فإن صدَقته لا تقبل؛ لأنها صدقة غير طيبة، والله عز وجل لا يقبل إلا ما كان طيباً، وذمته لا تبرأ؛ لأنه لم ينو هذه الصدقة عن ربها ولم ينو الضمان، فلم يستفد التقرب إلى الله ولم يستفد إبراء الذمة، بل أقول: إن ذلك لا يزيده إلا إثماً، يعني لو تصدق به عن نفسه فهو آثم.
فإذا وجد ربه بعد أن تصدق به عنه فإنه يقول: أنت الآن مخير إن شئت فأمضِ الصدقة والأجر لك، وإن شئت ضمنت لك مالك، والأجر للغاصب؛ لأن الغاصب اتقى الله وهذا غاية ما يستطيع فيؤجر على تصرفه.
وهذه المسألة من مسائل تصرف الفضولي التي أجازها الفقهاء رحمهم الله؛ لأنها ضرورة، إذ إنه لا يعرف صاحبها فلا بد أن يتخلص منها بهذا.
وقوله: «تصدق به عنه» لو أراد أن لا يتصدق بها بل أراد أن يجعلها في مسجد ـ مثلاً ـ فهل يجوز ذلك؟ ظاهر كلام المؤلف: لا، ولكن هذا الظاهر غير مراد، بل له أن يجعلها في طرق الخير من بناء مسجد، أو بناء أربطة للفقراء، أو شراء كتب لطلبة العلم، المهم أن يصرفها فيما يقرِّب إلى الله، وحينئذٍ هل
يخير بين جهات الخير أو ينظر ما هو أفضل؟ نسأل: هل هو متصرف لنفسه أو لغيره؟ فإذا كان يتصرف لغيره ينظر إلى الأصلح، فقد يكون هذا البلد أهله ليسوا بذاك الفقراء لكنهم محتاجون إلى مسجد، فهنا نقول: صرفه في بناء المسجد أفضل، وقد يكون العكس، المساجد كثيرة وأهل البلد فقراء، فنقول: الصدقة أفضل، فعلى كل حال كلام المؤلف رحمه الله غير مراد، وإن قلنا: إنه مراد فإن الراجح خلافه، وأن له أن يصرف هذا المغصوب في أي جهة خيرية.
لو قدر أن له أقارب محتاجين فهل يصرف هذا في أقاربه؟ الجواب: نعم، يصرف هذا في أقاربه، لكنه لا يجوز أن يحابيهم فيرى غيرهم أحوج ويعطي أقاربه، لكن إذا كان أقاربه مساوين لغيرهم أو أحوج من غيرهم فلا بأس أن يعطيهم.
وهل له أن يأخذه هو إذا كان فقيراً؟ الجواب: فيه خلاف، فمن العلماء من قال: إنه إذا تاب إلى الله ـ وهو على كل حال تائب؛ لأنه الآن يريد أن يتخلص ـ وكان فقيراً فله أن يأخذه، ومن العلماء من قال: لا يجوز سداً للباب؛ لأن الإنسان ربما يفتي نفسه بأنه فقير وليس كذلك، فيتهاون أو يتربص حتى يفتقر، فالقول بمنعه من أن يجعل نفسه مصرفاً قول قوي، لكن لو سلمه إلى الحاكم وكان هو فقيراً فأعطاه الحاكم منه، فهذا يجوز بلا شك؛ لأن التهمة الآن منتفية تماماً، وعلى هذا فلو أعطاه الحاكم وهو من أهل الحاجة ودفع إليه ما غصبه فلا حرج عليه أن يقبله وذمته قد برئت.
وقوله: «وإن جهل ربه» أي: رب المغصوب أي: مالكه، فهل يقال هذا في كل مال مجهول صاحبه؟
الجواب: نعم، كوديعة أُودعها الإنسانُ ثم نسي الذي أودعها إياه، فنقول: إذا نسيت وأيست تصدق به مضموناً، كذلك لو أن إنساناً يعمل خياطاً وأعطاه شخص ثوباً ليخيطه وذهب الرجل وأيسنا منه، فماذا يصنع الخياط في هذا الثوب؟ يتصدق به مضموناً، أو يبيعه إذا رأى أن المصلحة في بيعه مثل أن يكون ثوباً كبيراً واسعاً لا يشتريه أحد فيبيعه ويشتري ثوبين ـ مثلاً ـ فله هذا.
فالقاعدة إذاً: (كل من بيده مال جهل صاحبه وأيس من العثور عليه فله أن يتصدق به بشرط الضمان).
وهنا مسألة تشبه هذه من بعض الوجوه، وهي ما يؤخذ غرامة على المخالفين في بعض البضائع، إذا دخلوا بها وصودرت منهم، فهل يجوز أن تُشتَرى من الجهات المسؤولة أو لا؟ الجواب: نعم يجوز أن تشترى؛ لأنها الآن خرجت عن ملك أصحابها بمقتضى العقوبة، والعقوبة المالية جائزة في الشريعة ولها وقائع وقعت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم
(1)
؛ فيجوز أن يشتريها الإنسان وتدخل ملكه ولا حرج عليه في ذلك،
(1)
من ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في مانع الزكاة بخلاً: «إنا آخذوها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا» ، أخرجه الإمام أحمد (5/ 2، 4)؛ وأبو داود في الزكاة/ باب زكاة السائمة (1575)؛ والنسائي في الزكاة/ باب عقوبة مانع الزكاة (5/ 17) وصححه ابن خزيمة (2266)؛ والحاكم (1/ 397، 398).
كالمغصوب إذ جُهِلَ مالكه وبِيعَ وتُصُرِّف فيه على وجه جائز فلا حرج أن يشتريه.
فإن قال قائل: أنا أعلم رب هذه العين التي صودرت أنه فلان، فكيف يجوز لي أن أشتريها؟!
نقول: نعم؛ لأنها أُخذت بحق، أما لو جاءتك وهي مسروقة تعرف أنها سرقت فهنا لا يجوز أن تشتريها، لكن إذا صودرت عقوبة فقد أخذت بحق؛ لأن لولي الأمر أن يعاقب من خالف ما يجب عليه بما يرى أنه أردع وأنفع، ولولا هذا لكانت الأمور فوضى وصار كل إنسان يعمل على ما يريد وهذا لا يمكن، ولذلك نرى أن الأنظمة التي ليس فيها مخالفة للشريعة وإنما هي اجتهادية أنه يجب اتباعها امتثالاً لقول الله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] ولو قيل: لا يجب أن يطاع ولي الأمر إلا فيما أمر الله به، لقلنا: الجواب على هذا من وجهين:
الأول: أن طاعته في غير معصية مما أمر الله به وإن لم يكن في هذا الشيء بعينه.
الثاني: إذا قلنا: إنه لا يطاع إلا إذا أمر بالصلاة والزكاة والصيام والحج وبر الوالدين لكان قوله تعالى: {وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} لا فائدة منه؛ لأن هذه الأشياء قد أُمر بها من قِبَلِ الشرع، ويكون الأمر بطاعة ولي الأمر عبثاً؛ لأن طاعته في هذه الأشياء داخلة في قوله:{أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} ولهذا يغلط غلطاً عظيماً من ظن أن أوامر ولاة الأمور لا يجب تنفيذها إلا إذا كان مأموراً بها
شرعاً، ومثل هذه المسائل ينبغي لطلبة العلم أن يبينوها لبعض الإخوة الذين ينطلقون في الكلام في الحكام من العاطفة دون التأمل والتأني، وهذه مسألة خطيرة في الحقيقة، يعني كون الإنسان ينطلق بمقتضى العاطفة، فهذا غلط سواء في معاملة الحكام أو غيرها حتى في الصلاة والزكاة، بعض الناس ينطلق من العاطفة ثم يوجب على المسلمين ما لا يجب، وكذلك بالعكس بعض الناس ينطلق من منطلق التأخر بمعنى أنه يقول: هذا غير واجب والدين يسر وما أشبه ذلك، وينفلت الزمام، كل هذا خطأ، فالواجب الوسط، والوسط هو الحق.
وإذا تأملت خلاف العلماء وتأملت تصرفات الناس، وجدت أن الصواب يكون غالباً في الوسط، حتى مسائل خلاف العلماء، الآن ـ مثلاً ـ أهل التعطيل وأهل التمثيل في صفات الله ما هو الوسط؟ الوسط: الإثبات بلا تمثيل، وكذلك في القدر، وكذلك في الإيمان وغير ذلك.
مسألة: في الدول الشيوعية تقوم الحكومات بأخذ أموال الناس غصباً ولا تردها إلى أصحابها، فإنه لا حرج في شرائها منها أو استئجارها لدفع الحاجة.
وَمَنْ أَتْلَفَ مُحْتَرَماً، أَوْ فَتَحَ قَفَصاً، أَوْ بَاباً، أَوْ حَلَّ وِكَاءً، أَوْ رِبَاطاً أَوْ قَيْداً، فَذَهَبَ مَا فِيهِ، أَوْ أَتْلَفَ شَيْئاً وَنَحْوَهُ ضَمِنَهُ،
......
قوله: «ومن أتلف محترماً» «من» شرطية، والمعنى أي إنسان «أتلف محترماً» أي: شيئاً محترماً وهو ما لا يجوز إتلافه، واحترز به عما ليس بمحترم كالكافر الحربي، فالكافر الحربي غير محترم فمن أتلفه فلا ضمان عليه، وكذا الخمر في يد المسلم غير محترم فمن أتلفه فلا ضمان عليه؛ لأنه ليس بمحترم.
وقوله: «ومن أتلف محترماً» يعم الصغير والكبير، والحيوان وغير الحيوان، ويعم ـ أيضاً ـ ما كان عن عمد وما كان عن غير عمد، إلا أن الفرق بين العامد وغير العامد هو أن العامد آثم، وغير العامد ليس بآثم، لكن حق الآدمي لا يسقط، فيجب عليه ضمانه.
فلو أتلف الإنسان مالاً يظنه مال نفسه، فتبين أنه مالُ غيره فعليه الضمان؛ وذلك لأنه أتلف محترماً، فإذا قال: إن الله يقول: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِيْنَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286]، قلنا: نعم، قال الله هذا، لكن هذا في حق الله تعالى فقط، أما في حق الآدمي فعليه الضمان.
ولو أن رجلاً مُحْرِماً قتل صيداً مملوكاً جهلاً أو نسياناً فعليه الضمان لصاحبه وليس عليه الجزاء، والفرق أن الجزاء حق لله تعالى، والضمان حق للآدمي، ولو أتلفه عمداً وهو مملوك لزمه ضمانان:
الضمان الأول: للآدمي، والضمان الثاني: الجزاء وهو حق الله عز وجل.
إذاً كل من أتلف محترماً فعليه الضمان سواء كان عالماً أو جاهلاً أو ناسياً أو ذاكراً أو عامداً أو مخطئاً، فعليه الضمان بكل حال، وسواء كان هذا المحترم قليلاً أم كثيراً.
قوله: «أو فتح قفصاً» القفص وعاء تُجعل فيه الطيور، فإذا فتح القفص وطار الطائر فعليه ضمانه، لأنه متسبب، والمتسبب إذا لم يكن معه مباشر فعليه الضمان.
وظاهر كلام المؤلف: أنه لا فرق بين أن يهيج الطائر أو لا، يعني أنه لا فرق بين أن ينهر الطائر حين فتح القفص أو لم يفعل، ولا فرق بين أن ينضم الطائر إلى جانب القفص لما فُتِح عليه ثم يطير بعد أن يولي هذا الذي فتحه، أو يطير وهو حاضر؛ لأن بعض الطيور إذا فتحت عليه الباب انحاز إلى جهة من القفص خوفاً من فتح الباب، فظاهر كلام المؤلف أنه متى فتح القفص وطار ما فيه فإنه ضامن، ونظير القفص في وقتنا الحاضر (الشَبْك) فلو كان هناك شبك فيه طيور وفتح شخص الباب ثم طارت الطيور فعليه الضمان، لأنه متسبب، فإن اجتمع معه مباشر فالضمان على المباشر، مثل أن يفتح الباب ثم يأتي آخر فيهيج الطائر فيطير فعليه الضمان، أي على المباشر الذي أهاج الطائر.
قوله: «أو باباً» يعني فتح باباً فذهب ما فيه، فلو فتح باباً عن شاة ـ مثلاً ـ فلما فتح الباب خرجت الشاة فتلفت، فعلى فاتح الباب الضمان؛ لأنه متسبب، والمتسبب عليه الضمان، فإن اجتمع معه مباشر فالضمان على المباشر، يعني لو فتح الباب ثم جاء إنسان وأخرج الشاة وتلفت فالضمان على الثاني؛ لأنه مباشر ولا ضمان على المتسبب مع المباشر إلا إذا كانت المباشرة مبنية على السبب.
قوله: «أو حل وكاءً» يعني لو كان هناك دهن أو عسل في وعاء فحل وكاء هذا الوعاء، فاندفق الدهن أو العسل فعليه الضمان؛ لأنه متسبب.
وظاهر كلام المؤلف: أنه ضامن ولو كان حين حل الوكاء جامداً ثم أذابته الشمس، أو كان حين حل الوكاء واقفاً ثم حرفته الريح فعليه الضمان؛ لأنه متسبب.
قوله: «أو رباطاً» يعني وجد حيواناً مربوطاً ـ مثلاً ـ فحل رباطه فذهب، فعليه الضمان.
قوله: «أو قيداً فذهب ما فيه» القيد لحيوان مقيد، والفرق بين القيد والرباط، أن الرباط يثبت في الأرض وتربط به البهيمة، والقيد تقيد به اليد والرجل أو اليدان والبهيمة تمشي.
وهذا الذي ذكره المؤلف رحمه الله أمثلة وصور وليست قواعد، لكن القاعدة أن كل من أتلف شيئاً فعليه الضمان.
قوله: «أو أتلف شيئاً ونحوه ضمنه» فمثلاً لو فُرِض أن هذه الشاة التي فتح لها الباب خرجت وأكلت زرع إنسان، فعلى من فتح الباب ضمان الشاة، وضمان ما أتلفت من الزرع، وكذلك لو أن الطائر اصطدم بشيء وتلف هذا الشيء فعلى من فتح قفصه الضمان، وكذلك لو أن الدهن اندفق على شيء فأفسده فعليه ضمان الدهن وضمان ما أفسده، فيضمن الشيء وما ترتب عليه.
وَإِنْ رَبَطَ دَابَّةً بِطَرِيقٍ ضَيِّقٍ فَعَثَرَ بِهِ إِنْسَانٌ ضَمِنَ، كَالكَلْبِ العَقُورِ لِمَنْ دَخَلَ بَيْتَهُ بِإِذْنِهِ، أَوْ عَقَرَهُ خَارِجَ مَنْزِلِهِ ........
قوله: «وإن ربط دابة بطريق ضيق فعثر به إنسان ضمن» كان مقتضى السياق أن يقول: «فعثر بها إنسان ضمن» .
في وقت المؤلف لا توجد سيارات، وفي وقتنا لا توجد الدواب لكن الشيء يقاس بالشيء، فإذا ربط دابة بطريق ضيق فعثر
بها إنسان وانكسر أو هلك فعليه الضمان؛ لأنه متعدٍّ في ربطها في هذا المكان الضيق.
وعُلِم من كلام المؤلف: أنه لو ربطها بطريق واسع فلا ضمان عليه، وهذا متجه إذا لم يربطها في طريق المارة، فإن ربطها في طريق المارة فهو كما لو ربطها في طريق ضيق، عليه الضمان.
فإن قال قائل: الطريق الواسع وإن كان مُطَّرَق الناس ـ في وسطه مثلاً ـ فإن الإنسان يستطيع أن ينحرف يميناً أو شمالاً.
قلنا: لنسأل هل هذا الرجل الذي ربط الدابة في الطريق الواسع ـ في مطرق الناس ـ معتدٍ أو غير معتدٍ؟ الجواب: معتد، وإذا كان معتدياً فهو ظالم، وقد قال الله تعالى:{إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ} [الشورى: 42] نعم لو ربطها في طريق واسع في أحد جوانبه فلا ضمان.
وقوله: «وإن ربط» ظاهر كلامه رحمه الله: أنه لو أوقفها بلا ربط فلا ضمان عليه؛ لأنه إذا أوقفها سوف تمشي وتذهب، ولكن في هذا الظاهر نظر، والصواب أن إيقافها كربطها؛ لأن مجرد وقوفها في الطريق الضيق أو الواسع ـ إذا أوقفها في مطرق الناس ـ يعتبر عدواناً، نعم لو فرض أنه أوقفها لتحميل متاعه عليها أو لتنزيل متاعه منها فعثر بها إنسان، فهذا لا ضمان عليه؛ وذلك لأنه غير معتدٍ، وهذه عادة الناس، ولو قلنا بالضمان لحصل إشكال عظيم، ولكان الإنسان لا يمكن أن يحمل متاعه على بعيره إلا إذا أدخلها إلى بيته، وهذه مشقة عظيمة، إذاً
الضابط: أنه إذا أوقفها أو ربطها في مكان يعتبر متعدياً فعليه الضمان.
والسيارات الآن حكمها حكم الدابة، فإذا أوقفها في مكان واسع وليس في طريق الناس، فعثر بها إنسان فإنه لا ضمان على صاحب السيارة؛ لأنه لم يعتدِ حيث إن العادة جرت بأن الناس يوقفون سيارتهم في الأمكنة الواسعة ولا يعد هذا اعتداءً، فإن أوقفها في مكان واسع في مطرق الناس فعليه الضمان؛ لأنه متعدٍّ، وإن أوقفها في طريق واسع في جانب الطريق فلا ضمان عليه.
لكن ما هي السعة؟ السعة أن يبقى مكاناً يمكن أن تمر به السيارات، فإذا ترك مكاناً يمكن أن تمر به السيارات فهذا ليس بمعتدٍ، والعادة الآن جارية بذلك.
لكن هل يجب أن نقول: لا بد أن يترك ممراً يستطيع أن ينفذ فيه المتقابلان؟
الظاهر نعم، لا سيما في الطرقات النافذة، أما غير النافذة فهي إلى أصحابها، لكن في الطرقات النافذة ولا سيما الطويلة فلا بدّ من ذلك، وما دمنا نعتبر الاعتداء والضرر فلنطبق كل ما يحصل على هذه القاعدة.
ولو أنه أوقف سيارته في مكان واسع وكان حوله فتيان يلعبون الكرة، ثم إن أحدهم لحق الكرة لما طارت واصطدم بالسيارة، فهل عليه الضمان؟ لا ضمان عليه؛ لأن المكان واسع والعادة جارية بذلك، وهذا الذي اصطدم بها كما لو اصطدم بجدار البيت وما أشبهه.
وقوله: «وإن ربط دابة بطريق ضيق فعثر به إنسان ضمن» أي: رابط الدابة، وكذلك مُوقِفُها، فلو لم يعثر بها ولكنها رفسته فعليه الضمان؛ لأن هذا المكان يحرم عليه أن يوقف الدابة فيه، فإن أوقفها في هذا المكان الضيق وجاء إنسان فنخسها فرفسته فلا ضمان على الرابط؛ لأن التلف الآن حصل بفعل الرجل، فهو المباشر فلا ضمان على رابطها، وإن نخسها فضربت برجلها آخر فالضمان على من نخسها، وهذا يُنَزَّل على القاعدة: مباشر ومتسبب.
قوله: «كالكلب العقور لمن دخل بيته بإذنه أو عقره خارج منزله» يعني كما يضمن صاحب الكلب العقور إذا عقر الكلب من دخل بيته بإذنه، أو عقر من كان خارج المنزل؛ وذلك أن الكلب العقور ـ وهو الذي عُرف منه العدوان على الناس ـ لا يجوز اقتناؤه بأي حال من الأحوال ويجب قتله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«خمس يقتلن في الحل والحرم: الغراب، والحدأة، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور»
(1)
فاقتناؤه حرام، وعلى هذا كل ما تلف بعقره فهو مضمون على صاحبه، إلا من دخل بيت صاحبه بغير إذنه فلا ضمان فيه؛ لأن الداخل معتدٍ حيث دخل البيت بغير إذن صاحبه، والله عز وجل يقول:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} [النور: 27] فإن أذن له ودخل الرجل وصاحب المنزل في داخل منزله فعقره الكلب؟ فعليه الضمان؛ لأنه دخل بإذن رب البيت.
وقيل: إنه إن أعلمه أنه عقور فإنه لا ضمان عليه.
(1)
سبق تخريجه (ص 110).
وقوله: «أو عقره خارج منزله» فالكلب العقور إذا عقر إنساناً خارج المنزل فعلى صاحبه الضمان على كل حال.
وقوله: «كالكلب العقور» غير الكلب العقور هل يضمن صاحبه؟ فلو أن رجلاً عنده كلب هادئ ليس بعقور، فخرج الكلب فعقر إنساناً وليس من عادته العقر فهل يضمن؟ لا؛ لأنه يقول:«الكلب العقور» أي: الذي من طبيعته العقر، وهذا كلب غير عقور فلا ضمان عليه.
لكن لو كان غير عقور فأشلاه صاحبه بالرجل، فعليه الضمان؛ لأنه معتدٍ بذلك.
قال العلماء: إن الكلاب ثلاثة:
عقور، وأسود، وما سواهما، فالعقور، يجب قتله، والأسود يباح قتله، وغيرهما لا يباح قتله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل الكلاب
(1)
، إلا إذا آذى فإنه يقتل؛ لأن القاعدة هي:(أن كل مؤذٍ يسن قتله) سواء كانت الأذية طبيعته أم حدثت له بعد ذلك.
قال في «الروض»
(2)
: «وإن أتلف العقور شيئاً بغير العقر كما لو ولغ، أو بال في إناء إنسان، فلا ضمان؛ لأنه لا يختص بالعقور» هذا صحيح؛ إذا أفسد شيئاً بغير العقر فإنه لا ضمان؛ لأنه شيء معتاد، وما زال الناس تكون عندهم الكلاب وربما تبول
(1)
أخرجه مسلم في البيوع/ باب الأمر بقتل الكلاب وبيان نسخه (1572) عن جابر رضي الله عنه.
(2)
الروض مع حاشية ابن قاسم (5/ 416).
في أماكن للناس، ولم يرجع أحد من المسلمين على أصحابها، لكن الشيء الذي يضمنه هو الذي يكون معتدياً فيه.
قال في الروض: «وحكم أسد ونمر وذئب، وهر تأكل الطيور، وتقلب القدور، في العادة حكم كلب عقور»
(1)
. إذا اقتنى الإنسان أسداً، وعدى هذا الأسد على إنسان خارج المنزل فإنه يضمن، لأنه معتدٍ باقتنائه، وكذلك الذئب.
وإذا كان له هرة وذهبت عند الجيران وأكلت اللحم وكفأت القدور فإنه يضمن؛ لأن الواجب عليه حبسها، وهذا إذا كان من عادتها ذلك صارت بمنزلة الكلب العقور، وأما إذا كانت عادتها أنها لا تتعدى فلا ضمان على صاحبها؛ لأن يده ليست عليها.
قال: «وله قتل هر بأكل لحم ونحوه، كالفواسق» يعني للإنسان أن يقتل الهر بأكل اللحم، ولكن هل يشترط أن يكون ذلك حين أكل اللحم أو ولو بعد مفارقة الأكل؟
قال بعض الأصحاب: إن له ذلك حال كونه يأكل، وعليه فيكون قتله من باب دفع الصائل، وأما إذا فرغ من الأكل فلا يقتله، والمذهب أن له أن يقتله ولو بعد فراغه من الأكل؛ لأنه معتدٍ.
فإن لم يكن يأكل اللحم فإن ظاهر قوله: «له قتل
…
» أنه إذا لم يكن عدوان من الهر فإنه لا يقتل؛ وذلك أن الحيوانات تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
(1)
الروض مع حاشية ابن قاسم (5/ 416).
الأول: ما أمر بقتله وهي كل المؤذيات.
الثاني: ما نهي عن قتله، وهي أربعة: النحلة، والنملة، والهدهد، والصُّرَد
(1)
.
الثالث: ما سكت عنه، فهذه الأصل أن لا تقتل، ولكن هل يباح؛ لأن نهي الشارع عن قتل شيء بعينه يدل على جواز غيره، أو لا يباح؛ لأن أمر الشارع بقتل شيء يدل على أن غيره لا يقتل؟ الظاهر الأول وأن الأصل الإباحة، اللهم إلا أن يخشى الإنسان على نفسه أن يكون بقتله لهذه الأشياء محباً للعدوان فحينئذٍ يجب أن يمنع نفسه.
قال في الروض: «وإن حفر في فنائه بئراً لنفسه ضمن ما تلف بها»
(2)
الفناء ما يكون أمام البيت متصلاً به أو منفصلاً عنه لإلقاء الكناسة فيه ونفايات البيت، هذا الفناء ليس ملكاً للإنسان، فإذا حفر فيه بئراً لنفسه ضمن ما تلف بها.
قال: «وإن حفرها للمسلمين بلا ضرر في سابلة لم يضمن ما تلف بها؛ لأنه محسن» أي: إن حفرها لنفع المسلمين ولم يكن ذلك في سابلتهم ـ أي طريقهم ـ بأن حفرها في جانب طريق واسع فإنه لا يضمن ما تلف بها.
(1)
أخرجه الإمام أحمد (6/ 332، 347)؛ وأبو داود في الأدب/ باب في قتل الذر (5267)؛ وابن ماجه في الصيد/ باب ما ينهى عن قتله (3224) عن ابن عباس رضي الله عنهما؛ وصححه ابن حبان (5646)؛ وصححه في الإرواء (2490).
(2)
حاشية الروض مع حاشية ابن قاسم (5/ 416، 417).
قال: «وإن مال حائطه ولم يهدمه حتى أتلف شيئاً لم يضمنه؛ لأن الميل حادث والسقوط بغير فعله» .
أفادنا بقوله: «حادث» أنه لو بناه مائلاً فسقط على ناس فأتلفهم ضمن، وأفادنا بقوله:«بغير فعله» أنه لو كان السقوط بفعله بأن رأى الجدار مائلاً، فدفعه بيده فسقط على شيء وأتلفه فإنه يضمن، لأنه بفعله.
وهذه المسألة اختلف فيها الفقهاء، فقال بعضهم: إنه إذا علم ميله ولم يقومه فإنه يضمن؛ لأن الواجب عليه كف الأذى عن المسلمين، والجدار إذا مال إلى الشارع ولم يقومه معناه أنه لم يكف الأذى.
وقال بعضهم: إن طولب به ضمن، وإن لم يطالب لم يضمن.
والقول الثالث: ـ وهو المذهب ـ أنه لا ضمان عليه مطلقاً، سواء طولب بنقضه أم لم يطالب، ولكن الصحيح أنه يضمن؛ لأن الجدار جداره وهو مأمور بإزالة الأذى، إلا أنه يقيد بما إذا مضى وقت يمكنه فيه نقضه ولم يفعل، أما إذا مضى وقت لا يمكنه نقضه فيه فإنه لا ضمان عليه؛ لأنه لم يتعدَّ ولم يفرط.
وعلى هذا إذا كان الإنسان غائباً عن بيته ومال الجدار وسقط ولم يعلم ولم يُعلَم فإنه لا ضمان عليه؛ لأنه لم يتعدَّ ولم يفرط.
وَمَا أَتْلَفَتْ البَهِيمَةُ مِنَ الزَّرْعِ لَيْلاً ضَمِنَهُ صَاحِبُهَا وَعَكْسُهُ النَّهَارُ، إِلاَّ أَنْ تُرْسَلَ بِقُرْبِ مَا تُتْلِفُهُ عَادَةً.
............
قوله: «وما أتلفت البهيمة» البهيمة هي الحيوان من إبل، وبقر، وغنم ضأنها ومعزها، وغير ذلك، وسميت بهيمة؛ لأنها لا تنطق، ولهذا تسمى ـ أيضاً ـ عجماء؛ لأنها لا يُفهم نطقها،
قال الله تعالى: {عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ} [النمل: 16] فالبهمية إذاً تشمل جميع الحيوان الذي يُقتنى من إبل، وغنم، وحُمُر، وخيل، وظباء، وغير ذلك.
قوله: «من الزرع» يفهم منه أن غير الزرع ليس هذا حكمه، فثمر النخل، والتين، والبرتقال وغيرها، ليس هذا حكمها، وكذلك الأطعمة من حبوب وغيرها ليس هذا حكمها؛ لأن المؤلف خصَّه بالزرع.
قوله: «ليلاً» يدخل الليل بغروب الشمس ويخرج بطلوع الشمس.
قوله: «ضمنه صاحبها» دليل ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بأن على أهل المواشي حفظها في الليل، وعلى أهل الزروع حفظها في النهار
(1)
، وهذا واضح؛ وذلك لأن العادة جرت أن أهل المواشي يحفظونها في الليل إما بقيودها، وإما بأحواشها أو غير ذلك؛ لأنها لا ترعى في الليل، وأهل المزارع يحفظونها في النهار وينامون في الليل وهم مسؤولون عنها في النهار، فكان هذا الحديث مطابقاً للحكمة تماماً.
وقوله: «وما أتلفت البهيمة من الزرع» فلو أتلفت شيئاً من الثمار بأن انطلقت في النهار أو في الليل على نخل قصير فأكلت
(1)
أخرجه الإمام أحمد (5/ 435، 436) وأبو داود في البيوع/ باب المواشي تفسد زرع قوم (3569) و (3570)؛ وابن ماجه في الأحكام/ باب الحكم فيما أفسدت المواشي (2332) عن البراء بن عازب رضي الله عنه وصححه ابن حبان (6008)؛ والإمام الشافعي كما في خلاصة البدر المنير (2490).
ثمرته، فهل يضمن صاحبها أو لا؟ ظاهر كلام المؤلف أنه لا يضمن صاحبها، لا في الليل ولا في النهار؛ لأنه خص ذلك بالزرع، وهذه المسألة فيها للعلماء ثلاثة أقوال:
الأول: أنه خاص بالزرع كما هو ظاهر كلام المؤلف، وهو الذي دل عليه الحديث.
الثاني: أنه خاص بالزروع والثمار التي في الحوائط؛ لأن الثمار التي في الحوائط بمنزلة الزرع؛ إذ العادة جرت بأن الناس يحفظون زروعهم وثمارهم في النهار وينامون عنها في الليل، كما أن العادة جرت بأن أهل المواشي يحفظونها في الليل ويطلقونها في النهار لترعى.
الثالث: أن جميع ما أتلفت من زرع وثمار وأموال وغيرها حكمه حكم ما أتلفت من الزرع وهذا هو المذهب، فعلى هذا يكون عموم ما أتلفت البهائم إن كان في الليل فعلى أصحابها الضمان، وإن كان في النهار فليس على أصحابها شيء، ودليل ذلك عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم:«العجماء جُبار»
(1)
العجماء يعني البهائم، وجبار يعني هدر، وضَمَّنَّا صاحبها في الليل قياساً على الزرع؛ لأن العلة واحدة وهي أن أهل المواشي يحفظون مواشيهم في الليل ويطلقونها في النهار لترعى، وهذا القول أصح، فلو أن إنساناً كان عند بيته أكياس من القمح فجاءت المواشي فأكلتها
(1)
أخرجه البخاري في الزكاة/ باب في الركاز الخمس (1499)؛ ومسلم في الحدود/ باب جرح العجماء والمعدن والبئر جبار (1710) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
فهنا نقول: الضمان على صاحبها؛ لأن الناس في الليل ينامون ولا ينتبهون لأموالهم، وفي النهار لا ضمان على صاحبها؛ لأن الواجب على أهل الأموال حمايتها.
والمذهب ـ أيضاً ـ التفريق بين المفرِّط في حفظ البهيمة وغير المفرِّط، يعني أن الإنسان في الليل إذا حفظ البهيمة إما برباط أو قيد أو شبك أو سور، ثم انطلقت مع تمام التحفظ فإنه لا ضمان على صاحبها، لأن الرجل لم يفرط، والعادة جرت أن الناس يحفظون مواشيهم ثم ينامون، فإذا انطلقت بأن عضت القيد حتى انقطع ـ مثلاً ـ أو تسورت الجدار الذي لا تتسور مثله البهائم فلا ضمان، وهذا في الحقيقة قد يقال: إنه قول لا بأس به؛ لأن الإنسان لم يفرط ولم يتعدَّ، فإذا لم يفرط ولم يتعدَّ فإنه لا ضمان عليه، ويدخل هذا في عموم قوله صلى الله عليه وسلم:«العجماء جبار»
(1)
.
ومبنى الخلاف على أنه هل مناط الحكم تفريط صاحب البهيمة أو تفريط صاحب المال المتلَف؟ إن قلنا: إن مناط الحكم تفريط صاحب المال المتلَف فإننا نفرق بين الزرع وغيره، ونقول: جرت العادة أن غير الزروع تكون وراء الأبواب وتحفظ في المساكن بخلاف الزروع فإنها على البَر، وإذا قلنا: إن مناط الحكم هو تفريط صاحب البهيمة، قلنا: لا فرق بين الزرع وغيره؛ لأن صاحب البهيمة الذي وُجِّه إليه الضمان هو المفرط، وهذا أقرب من القول بأن مناط الحكم هو تفريط صاحب المال
(1)
سبق تخريجه ص (209).
المتلف، ولو قال قائل: إن مناط الحكم تفريط الطرفين، لم يكن بعيداً، ولكن الأقرب أن مناط الحكم هو تفريط صاحب البهيمة فنقول: متى ما فرط صاحب البهيمة في حفظها فأتلفت شيئاً فالضمان عليه؛ لأنه مأمور بحفظها وكف شرها، فإذا لم يفعل ضمن.
وظاهر كلام المؤلف أن على صاحب البهيمة الضمان في الليل سواء فرَّط أو لم يفرِّط، والصحيح المذهب أنه إن فرط فعليه الضمان وإن لم يفرِّط فلا ضمان عليه، فصار كلام المؤلف مخالفاً للمذهب في أمرين:
الأول: تخصيص الضمان بالزرع دون غيره.
الثاني: أن صاحب البهيمة ضامن سواء فرط أم لم يفرط، والمذهب العموم في مسألة المتلف في الزرع وغيره والتقييد في مسألة التفريط، وأنه إذا لم يفرط فلا ضمان عليه.
قوله: «وعكسه النهار» أي: ما أتلفته البهيمة في النهار يكون الضمان على صاحب الزرع، وليس على صاحب البهيمة ضمان؛ لأن المأمور بالحفظ أصحاب المزارع، إلا أن المؤلف رحمه الله استثنى معنى وجيهاً يؤيد ما نقلناه أخيراً فقال:
«إلا أن ترسل بقرب ما تتلفه عادة» مثال ذلك: رجل يرعى إبله في النهار فأطلقها قرب مزرعة، والمزرعة ليس عليها شبك وليس عليها جدار، فمثل هذا جرت العادة أن البهيمة تذهب وتأكل الزرع كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كالراعي يرعى حول الحمى
يوشك أن يقع فيه»
(1)
وهذا الاستثناء الذي ذكره المؤلف وجيه وصحيح، فيرسلها ـ مثلاً ـ على بُعْد خمسة أمتار أو عشرة أمتار أو على مرآه ثم يذهب، ومن المعلوم أنها سوف تذهب إلى الزرع وتأكله، فيكون الضمان هنا على صاحبها ولهذا قال:«إلا أن ترسل بقرب ما تتلفه عادة» .
وهذا ـ أيضاً ـ خلاف المذهب، فالمذهب لا ضمان على صاحبها في النهار سواء أرسلها بقرب ما تتلفه عادة أم لم يرسلها، بناء على أن مناط الحكم هو تفريط صاحب الزرع أو عدمه؛ لأن صاحب الزرع هو المأمور بحفظ زرعه في النهار، والأصح المذهب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بأن على أهل الحوائط حفظها بالنهار
(2)
، إلا أن يكون صاحب البهيمة اهتبل فرصة غياب أصحاب المزارع فأرسل بهيمته فهنا يكون الضمان عليه، أو أرسل البهيمة بقرب ما تتلفه عادة كما تقدم فيضمن.
لو قال قائل: إذا انعكس الأمر وصار الناس يحفظون أموالهم في الليل، والمواشي ـ أيضاً ـ تُطلَق في الليل فهل ينعكس الحكم؟
قال بعض العلماء: إنه ينعكس؛ لأن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، وقال بعض العلماء: لا ينعكس؛ لأن هذه مسألة
(1)
أخرجه البخاري في الإيمان/ باب فضل من استبرأ لدينه (52)؛ ومسلم في البيوع/ باب أخذ الحلال وترك الشبهات (1599) عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما.
(2)
سبق تخريجه ص (208).
نادرة، يعني يندر أن تكون المواشي تُرعى في الليل وأن يكون حفظ الأموال في الليل، والنادر لا حكم له.
فإن قال قائل: ما هو الأصل فيما أتلفت البهيمة من أجل أن نعرف ما خرج عن هذا الأصل، هل الأصل الضمان أو لا؟
قلنا: الأصل فيما أتلفت البهيمة عدم الضمان، والدليل قوله صلى الله عليه وسلم:«العجماء جبار»
(1)
ما لم يكن عدوان من صاحبها أو تفريط، فإن كان عدوان أو تفريط عومل بما يقتضيه ذلك العدوان والتفريط.
فمثلاً الكلب العقور يحرم اقتناؤه كما تقدم، فإذا أتلف شيئاً خارج منزل صاحبه فعليه الضمان، أما الكلب غير العقور إذا أتلف شيئاً خارج منزل صاحبه، ليس فيه ضمان بناءً على القاعدة أن الأصل فيما أتلفت البهيمة عدم الضمان.
وَإِنْ كَانَتْ بِيَدِ رَاكِبٍ أَوْ قَائِدٍ أَوْ سَائِقٍ ضَمِنَ جِنَايَتَهَا بِمُقَدَّمِهَا لَا بِمُؤَخَّرِهَا.
قوله: «وإن كانت» الضمير يعود على البهيمة.
قوله: «بيد راكب» أي: أنه متمكن من التصرف فيها، ولهذا يقول الناس فيما يخرج عن طاقتهم: هذا ليس بيدي.
وقوله: «بيد راكب» الراكب إذا لم تكن البهيمة شكسة فإنه يتصرف، فإذا أتلفت شيئاً ـ كما سيأتي ـ فعليه الضمان؛ لأنه يستطيع أن يتصرف.
فإن انفلتت منه وشردت وعجز أن يتصرف فلا ضمان عليه، وهذا نفهمه من قوله:«بيده» .
(1)
سبق تخريجه ص (209).
قوله: «أو قائد» أي: قائد يقودها من أمام؛ لأن القائد يتصرف فيها وخصوصاً البهيمة الذلول التي تنقاد مع صاحبها، فهي ستتبعه، فأما إن نفرت وشردت وعجز فهذه ليست بيده.
قوله: «أو سائق» والسائق أقل الرجلين تصرفاً في البهيمة؛ لأنه يسوقها من الخلف، فالراكب يتصرف، والقائد يتصرف، أما السائق فإنه يتصرف لكن تصرفه قليل؛ لأن السائق يتصرف في إيقافها إذا تكلم معها بما يدل على الوقوف، لكن فيما أمامها لا يستطيع أن يتصرف كما ينبغي، ومع ذلك جعلوا السائق مثل الراكب والقائد.
قوله: «ضمن جنايتها بمقدَّمها لا بمؤخَّرها» يعني ما عضَّت بفمها أو وطئت بيدها فعليه ضمانه، أما ما كان بالرِّجل فلا ضمان فيه، كما لو وطئت على شيء أو نفحت برجلها شيئاً فلا ضمان؛ لأنه لا يستطيع أن يتصرف برجلها، أما يدها فيستطيع أن يحرفها يميناً وشمالاً إذا أقبلت على شيء تتلفه وكذلك السائق، لكن هذا ـ أيضاً ـ في النفس منه شيء؛ لأن البعير إذا رأت طعاماً، تنقَضُّ عليه انقضاض الطير على اللحم وتأكل هذا الطعام، فهل نقول في هذه الحال: على صاحبها الضمان؟
ظاهر كلام المؤلف أن عليه الضمان، ولكن في النفس من هذا شيء؛ لأن صاحبها في هذه الحال لا يتمكن منها، فلهذا ينبغي أن يقال: إذا كانت بيد راكب أو قائد أو سائق وأتلفت شيئاً بناءً على تفريطه أو تعديه فعليه الضمان، وأما إذا كان بغير تعدٍّ ولا تفريط فلدينا قاعدة أسَّسها النبي صلى الله عليه وسلم وهي:
«العجماء جُبار»
(1)
.
فينبغي أن نجعل مناط الحكم في هذا ـ أي فيما يتعلق بالبهائم من الجنايات ـ هو التعدي أو التفريط، فإذا كان متعدياً أو مفرطاً فعليه الضمان وإلا فلا.
والتعدي مثل أن يمر بها إلى جنب شجر ـ مثلاً ـ أو إلى جنب أطعمة يعرف أنها سوف تنهش من هذه الثمرة أو من هذه الأطعمة.
والتفريط مثل أن يُمْكِنَه كَبْحُ لجامِها ولكنه لا يفعل.
وَبَاقِي جِنَايَتِهَا هَدَرٌ كَقَتْلِ الصَّائِلِ عَلَيْهِ وَكَسْرِ مِزْمَارٍ وَصَلِيبٍ وَآنِيَةِ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ، وَآنِيَةِ خَمْرٍ غَيْرِ مُحْتَرَمَةٍ.
قوله: «وباقي جنايتها هدر» أي: باقي جناية البهيمة هدر، والدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم:«العجماء جُبار» ، والتعليل أنه لا يمكن إحالة الضمان عليها؛ لأنها بهيمة، ولا على صاحبها؛ لأنه لم يحصل منه تعدٍّ ولا تفريط، فكل جنايتها هدر ما عدا ما استثني، وما استثني ـ كما تبين ـ مبني على التعدي أو التفريط، فإن لم يكن تعدٍّ ولا تفريط فلا ضمان على صاحبها، وهذه القاعدة تطمئن إليها النفس وتركن إليها، وهي قاعدة منضبطة تماماً، ومأخوذة من السنة.
مسألة: نحن الآن ليس عندنا بهائم فيما يتعلق بالراكب والقائد والسائق، ولكن عندنا سيارات، فالسيارات الحكم فيها مبني على القاعدة، إن كان هناك تعدٍّ أو تفريط من السائق فعليه الضمان، وإن لم يكن تعدٍّ ولا تفريط فلا ضمان عليه.
(1)
سبق تخريجه ص (209).
لو فرض أن شخصاً أتى مسرعاً والسيارة تسير في طريقها ثم اصطدم بالسيارة بالجنب أو بالمؤخر فهل على السائق ضمان؟
فالجواب: ليس عليه ضمان أبداً؛ لأنه لم يتعدَّ ولم يفرط بل يمشي في الطريق مشياً معتاداً، وهذا هو الذي جاء مسرعاً واصطدم بالسيارة.
ولو فرض أن رجلاً يمشي بسيارته في الطريق على العادة وإذا بشخص يقفز ويكون بين عجلتي السيارة، فهل عليه ضمان أو لا؟ الجواب: ليس عليه ضمان؛ لأن الرجل لم يتعدَّ ولم يفرط، أما لو رأى رجلاً قفز حتى صار في وسط الطريق وهو يملك السيارة ولكنه تهاون أو ظن أنه سوف يجتاز فهذا عليه الضمان، والفرق بينهما أن هذا مفرط والأول غير مفرط.
قوله: «كقتل الصائل عليه» قتل الصائل لا ضمان فيه، وهو يشمل الصائل على النفس، والصائل على العرض، والصائل على المال، فهذا يُدافَع بالأسهل فالأسهل، فإن لم يندفع إلا بالقتل فقتله فلا ضمان، والدليل على هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله رجل فقال: أرأيت إن جاءني رجل يريد أن يأخذ مالي؟ فقال: «قاتله» ، قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: «أنت شهيد» ، قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: «هو في النار»
(1)
فقوله: «هو في النار» يدل على أنه معتدٍ ظالم والمعتدي الظالم لا ضمان فيه؛ ولأن العدوان حصل من الصائل
(1)
أخرجه مسلم في الإيمان/ باب الدليل على أن من قصد أخذ مال غيره بغير حق كان القاصد مهدر الدم
…
(140) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
فهو الذي قتل نفسه في الحقيقة فلا ضمان على القاتل، ولكن يجب أن يدافعه بالأسهل فالأسهل، فإذا اندفع بالتهديد فلا يضربه، وإذا اندفع بالضرب الخفيف فلا يضربه ضرباً شديداً، وإذا اندفع بالضرب الشديد فلا يقتله، وإذا لم يندفع إلا بالقتل فله قتله.
فإذا قال قائل: قد ورد فيمن وجد شخصاً على امرأته فقتله أنه لا ضمان فيه
(1)
، وإن كان يمكن أن يندفع بما دون القتل، وأنتم تقولون: إن الصائل لا يجوز قتله إن أمكن دفعه بما دون القتل.
فالجواب: أن قتل من وجد شخصاً على امرأته أو محرمه ليس من دفع الصائل، ولكنه من باب عقوبة المعتدي، والعدوان حصل منه، فهو يقتل عقوبة لا لدفع عدوانه، ففرق بين هذا وهذا، ونظير ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أهدر عين من نظر من خصاص الباب فقام إنسان ففقأ عينه دون أن يحذره
(2)
، فإن هذا من باب عقوبة المعتدي؛ لأنه قد حصل العدوان وليس من باب دفع الصائل، فإن المدافعة عن شيء لم يقع، أما شيء وقع ليس فيه إلا العقوبة.
فإذا كان المصول عليه لا يدري هل يبادره بالقتل؟ لأن
(1)
أخرجه البخاري في الحدود/ باب من رأى مع امرأته رجلاً فقتله (6846)؛ ومسلم في اللعان (1499) عن المغيرة رضي الله عنه.
(2)
أخرجه البخاري في الديات/ باب من اطلع في بيت قوم ففقؤوا عينه فلا دية له (6902)؛ ومسلم في الآداب/ باب تحريم النظر في بيت غيره (2158) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
الصائل ربما يكون معه سلاح، فهل للمصول عليه في هذه الحال أن يبادره بالقتل؟
الجواب: نعم، إذا غلب على ظنه غلبة قوية أنه إن دافعه بالأسهل فالأسهل قَتَلَهُ، فإنه يقتله ولا شيء عليه، وهذا فيما بينه وبين الله.
لكن لو ادعى فيما بعد أولياء المقتول أنه لم يصل على هذا الرجل، وأن هذا الرجل هو الذي اعتدى عليه وقتله ثم ادعى أنه صائل، فيقال للقاتل: أثبت أن الرجل صالَ عليك، فقال: أثبت ذلك، إنه صال علي في بيتي، حيث إنه لم يقتله في الشارع بل قتله في بيته، قالوا: نعم، قتلته في بيتك؛ لأنك دعوته فأجاب الدعوة فاستغللت الفرصة وقتلته، وهذا يمكن، إذاً ماذا نصنع؟
المشهور في المذهب أنه يُقتل القاتل مع أنه مدافع إلا إذا أثبت أن هذا صائل عليه فلا يقتل.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يجب أن يُنظر للقرائن في القاتل والمقتول، فإذا كان القاتل ممن عُرِف بالصلاح والاستقامة وأنه لا يمكن أن يعتدي على أحد بالقتل، وَعُرِف الصائل بالشر والفساد والهجوم على الناس، فالقول قول القاتل لكن بيمينه ولا حاجة لبينة، وما قاله شيخ الإسلام هو الذي لا يسع الناس العمل إلا به.
وقوله: «الصائل» يشمل الصائل من بني آدم ومن غير بني آدم، فلو صال عليه جمل فقتله دفعاً للصول، فهل يضمن لصاحب الجمل؟ لا؛ لأن الجمل أصبح لا قيمة له، ولو قتل صيداً صال
عليه وهو محرم فليس عليه الجزاء؛ لأنه صال عليه فهو معذور.
فإذا قال قائل: هل يجب قتل الصائل إذا صال؟ بمعنى هل يلزم الإنسان أن يدافع عن نفسه أو لا؟ الجواب: أما أهله وحرمته ونفسه فيجب أن يدافع، وأما المال فمختلف فيه، والصحيح أنه يجب أن يدافع عن ماله؛ لأن المال وإن كان أهون من العرض ومن النفس، لكن الذل الذي يصيب الإنسان بتمكين هذا المجرم من إتلاف المال أو سرقته أو ما أشبه ذلك يقتضي وجوب المدافعة، وقد سأل النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال: يا رسول الله أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: «لا تعطه» ، قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: «قاتله» ، قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: «هو في النار» ، قال: وإن قتلني؟ قال: «فأنت شهيد»
(1)
.
قوله: «وكسر مزمار» يعني كما لا يضمن كسر المزمار؛ لأن هذا من باب تغيير المنكر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«من رأى منكم منكراً فليغيره بيده»
(2)
، ولأن هذه الآلة لا يجوز الإقرار عليها وكسرها وسيلة إلى ذلك، ولكن إتلافه يضمن؛ لأن إتلافه غير كسره؛ لأن كسره يمنع من استعماله في المحرم، ولكن تبقى مادة هذا المزمار ينتفع بها في إيقاد نار، إذا كان من خشب أو في صنع قدور وأوانٍ إذا كان من حديد، أما إتلافه بالكلية فمعناه أنه أزال عين هذا الشيء، وإزالة عينه أكثر من إزالة وصفه الذي يصح
(1)
سبق تخريجه ص (216).
(2)
أخرجه مسلم في الإيمان/ باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان (49) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
أن يكون به مزماراً، ولذلك قال المؤلف:«وكسر مزمار» .
وقوله: «مزمار» المزمار آلة من آلات العزف، وآلات العزف كلها حرام سواء اقترنت بالغناء أم لم تقترن وإن كان الغالب أنها تقترن، والدليل على تحريمها ما ثبت في صحيح البخاري عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«ليكونَنَّ من أمتي أقوام يستحلُّون الحِرَ والحرير والخمر والمعازف»
(1)
هذه أربعة كلها تكاد تكون متلازمة.
فالمعازف يصحبها غناء في الغالب، والغناء يكون مع المعازف فيه الغزل والإغراء، فينبني عليه الزنا حيث قال:«يستحلُّون الحِرَ» أي: الزنا.
وقوله في الحديث: «والخمر والحرير» فالحرير سببه الترف، وأن الإنسان يميل إلى أعلى ما يكون من الترف وحينئذٍ يشرب الخمر ليكمل ـ على ما يزعم ـ ترفُهُ، فهذا نص صريح في أن المعازف حرام؛ لأن قوله:«يستحلون» يدل على أنها حرام.
وهل الاستحلال هنا اعتقاد أنها حلال، أو ممارستها كممارسة الحلال؟!
الجواب: الثاني؛ لأن اعتقاد أنها حلال قد يُخرج من الإسلام، إذا اعتقد أن الخمر حلال وهو في أمة الإسلام قد عاش وفهم ذلك كان مرتداً، لكن المراد يستحلونها أي يفعلونها فعل المستحل لها فلا ينكرونها ولا يدعونها.
(1)
أخرجه البخاري في الأشربة/ باب ما جاء فيمن يستحل الخمر ويسميه بغير اسمه (5590) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
والمعازف عامة تشمل كل آلات العزف، لكن هناك شيء مخصص للعموم وهو استعمال الدف في المناسبات، فإن السنة جاءت بجوازه، كاستعمال الدف في الأعراس، واستعمال الدف في أيام الأعياد، واستعمال الدف في قدوم الغائب الكبير الذي له إمرة أو نحو ذلك، كل هذا جاءت به السنَّة.
أما الأول فظاهر فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالغِربال»
(1)
وإن كان هذا الحديث فيه ما فيه لكنه له مؤيدات.
وأما الأعياد فلأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه رأى جاريتين تغنيان وتدفان عند النبي صلى الله عليه وسلم فانتهرهما، وقال: أمزمار الشيطان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فقال: «دعهما فإنها أيام عيد»
(2)
.
وأما قدوم الغائب فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قدم من سفر فجاءت امرأة إليه فقالت: يا رسول الله إني كنت نذرت إن ردَّك الله سالماً أن أضرب بين يديك بالدف، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أوفي بنذرك»
(3)
.
(1)
أخرجه الترمذي في النكاح/ باب ما جاء في إعلان النكاح (1089)؛ وابن ماجه في النكاح/ باب إعلان النكاح (1895) عن عائشة رضي الله عنها واللفظ لابن ماجه، وضعفه الترمذي والبوصيري في زوائد ابن ماجه والحافظ في التلخيص (2122).
تنبيه: قوله: «أعلنوا النكاح» هذه الجملة حسنها في الإرواء (1993).
(2)
أخرجه البخاري في العيدين/ باب إذا فاته العيد يصلي ركعتين (987)؛ ومسلم في الصلاة/ باب الرخصة في اللعب
…
(892)(17) عن عائشة رضي الله عنها.
(3)
أخرجه الإمام أحمد (5/ 353، 356)؛ والترمذي في المناقب/ باب في مناقب عمر بن الخطاب رضي الله عنه (3690) عن بريدة رضي الله عنه وقال: حسن صحيح غريب.
وصححه ابن حبان (4386)؛ والحافظ في التلخيص (2123).
وما عدا الدف من آلات الزمر، فالأصل فيه التحريم؛ لأنه داخل في العموم، وما عدا ذلك ـ أيضاً ـ من الأحوال التي رُخص فيها فإنه حتى الدف يكون حراماً؛ لأن ما خصص بحال يجب أن يتخصص بها.
إذاً المزمار من آلات العزف التي لا تباح بحال، وعلى هذا فيجب إتلافه، فإذا أتلفه متلف لم يكن عليه ضمان.
ولكن مَنْ الذي يُخاطَب في إتلافه؟
يخاطب في إتلافه من هو بيده، ويقال له: يجب عليك أن تكسر هذا.
فإن قال: أحرقه أو أكسره؟
قلنا: إن كانت مادته يمكن أن ينتفع بها في شيء مباح فلا تحرقه، يعني بحيث يحولها إلى صندوق من خشب أو ما أشبه ذلك فلا تتلفه؛ لأن هذا إنما حرم لا لأنه خشب لكن لكونه استعمل في حرام، فإذا كان يمكن أن يُحَوَّل إلى حلال فإنه لا يجوز أن يُتلف؛ لأن في ذلك إتلاف مال، وأما إذا كان لا يمكن الانتفاع به فإنه يحرق؛ لأن إحراقه أبلغ في التنفير عنه؛ ولئلا تدعوه نفسه فيما بعد إلى جمع المكسَّرات بعضها إلى بعض، حتى يُكوِّنَ منها مزماراً، ويدلنا على أن التحريق أبلغ وأنكى أن الرسول صلى الله عليه وسلم حَرَّق نخل بني النضير
(1)
ولم يقطعه، مع أنه يمكن أن
(1)
أخرجه البخاري في الحرث والمزارعة/ باب قطع الشجر والنخل (2326)؛ ومسلم في المغازي/ باب جواز قطع أشجار الكفار وتحريقها (1746) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
تقطع وينتفع بجذوعها وينتفع بعُسْبها، لكنه حرَّقها؛ لأنه أبلغ في الإهانة.
إذاً يخاطب من هي بيده، ثم يجب على ولاة الأمور أن يكسروها ويتلفوها؛ لأنهم مسؤولون عن الأمة في هذا الشيء، وهم قادرون على أن يكسروها وليسوا عاجزين فيلزمهم أن يكسروها؛ لئلا يشيع المنكر في أمتهم، وهم إذا اتقوا الله ـ تعالى ـ في الأمة اتقت الأمة ربها فيهم، وإذا كان الأمر بالعكس صار الأمر بالعكس؛ لأن من أذل الخلق في طاعة الله أعزه الله بهذه الطاعة، وهذا شيء مُسلَّم؛ لذلك يجب على ولاة الأمور أن يكسروا هذه الآلات؛ لأنها ضرر على المجتمع عامة، وعلى الأمن وعلى الولاة أيضاً؛ لأن النفوس إذا أبعدت عن الخالق لم ترحم المخلوق، وهذه الأشياء تبعد الخلق عن الخالق؛ لأنها تلهي وتصد عن سبيل الله وعن ذكر الله وعن الصلاة.
وهل يجب على الواحد من الناس أن يكسر هذه المزامير؟
الجواب: لا؛ لأنه ليس له السلطة.
وهل يجوز أن يكسرها؟
يُنظر، إن كان يترتب على ذلك ضرر أكبر فإنه لا يكسرها، كما لو حصلت فتنة في تكسيرها بأن يقوم صاحبها على هذا وينازعه ويخاصمه وربما يحصل بينهما شر، فهنا لا يكسرها ولكن إذا سمعها يهرب منها، وإن لم يكن فتنة بحيث أتى على حين
غفلة ووجدها وكسرها فلا بأس، لكن مع هذا إذا كان يخشى أنه يمكن أن يُتتبع حتى يُعرف ويحصل الشر والفتنة، فإنه لا يجوز له أن يكسرها فضلاً عن كونه يجب.
قوله: «وصليب» يعني كذلك كسر الصليب، والصليب هو عبارة عن خطين أحدهما قائم والآخر معترض، ادعت النصارى أن المسيح عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام قُتل وصلب عليه، ولعل ذلك ـ والله أعلم ـ لقوة اليهود وظهورهم عليهم ذَلوا أمامهم، وإلا فمن المعلوم أن النصارى يعظمون عيسى عليه الصلاة والسلام، والذين ادعوا أنهم قتلوه وصلبوه هم اليهود كما قال الله ـ تعالى ـ عنهم:{وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً *} [النساء] ولهذا يجب علينا نحن المسلمين أن نعتقد أن عيسى عليه الصلاة والسلام لم يقتل ولم يصلب، ويجب علينا أن نعتقد أن اليهود باؤوا بإثم قتله وصلبه؛ لأنهم أقروا بأنهم قتلوه وصلبوه فباؤوا بالإثم لإقرارهم.
هذا الصليب تعظمه النصارى وتعلقه في أعناقها وترسمه على أبواب بيوتها وفي مجالسها وفي كل شيء، تعظمه بحجة أن المسيح عليه الصلاة والسلام قتل وصلب عليه، ونحن نرى أنه منكر عظيم؛ لأنه شعار كفر، وأنه مبني على كذب لا حقيقة له، والمبني على الكذب ـ والكذب باطل ـ يكون باطلاً.
فإذا كسر إنسان صليباً فإنه لا يضمنه؛ لأنه لا يجوز إقراره
فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يدع شيئاً فيه صليب إلا نقضه
(1)
، ولكن لو أتلفه ضمن، وهل يضمنه بقيمته صليباً أو بقيمته مكسراً؟ يضمنه بقيمته مكسراً؛ لأنه ليس له قيمة شرعاً.
ولكن هل للإنسان أن يكسر الصلبان التي ينصبها النصارى مثلاً؟ الجواب: لا؛ لأنه ليس له ولاية حتى يمكن من كسر هذه الصلبان، ثم لو فرض أن النصراني أظهر الصليب وأعلنه في لباسه أو غير ذلك، فهنا يجب على ولاة الأمر في البلاد الإسلامية أن يمنعوهم من إظهار الصليب؛ لأنه شعار كفر، وهم يعتقدون تعظيمه ديناً يدينون لله ـ تعالى ـ به.
قوله: «وآنية ذهب وفضة» آنية الذهب والفضة إذا كسرها الإنسان فإنه لا ضمان عليه؛ لأن آنية الذهب والفضة ـ على المشهور من المذهب ـ حرام مطلقاً، سواء كان يستعملها صاحبها في الأكل والشرب أو للزينة أو لغير ذلك، بناءً على أن آنية الذهب والفضة يحرم استعمالها واتخاذها.
وهذه المسألة فيها خلاف، وظاهر السنة أن المحرم الأكل والشرب بها فقط دون بقية الاستعمالات ودون اتخاذها للزينة، اللهم إلا أن يكون هذا من باب السرف فينهى عن ذلك للإسراف لا لذاتها، ودليل هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم:«لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافها»
(2)
فلم يذكر إلا الأكل والشرب
(1)
أخرجه البخاري في اللباس/ باب نقض الصور (5952) عن عائشة رضي الله عنها ولفظه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يترك في بيته شيئاً فيه تصاليب إلا نقضه.
(2)
أخرجه البخاري في الأطعمة/ باب الأكل في إناء مفضض (5426)؛ ومسلم في الأطعمة/ باب تحريم استعمال إناء الذهب والفضة على الرجال والنساء (2607) عن حذيفة رضي الله عنه.
ولو كان المراد الأكل والشرب وغيرهما لقال: لا تستعملوا، ولو كان الاتخاذ بدون الاستعمال حراماً لقال: لا تتخذوا، فلا يمكن أن يدع النبي صلى الله عليه وسلم ما هو أعم، ويذكر ما هو أخص، وإذا كان كذلك فلا يمكن أن نستدل بالأخص على الأعم؛ لأن الدليل لا بد أن يكون أعم من المدلول أو مساوياً له، حتى يمكن الاستدلال، أما إذا كان الدليل أخص فالشارع قد وسع للأمة، ويدل لهذا أن أم سلمة ـ رضي الله تعالى عنها ـ وهي ممن روى النهي عن آنية الفضة خاصة، كان عندها جلجل من فضة ـ يعني مثل ما نسميه نحن (قارورة) حفظت فيه شعرات من شعر النبي صلى الله عليه وسلم وكان الناس يستشفون بهذه الشعرات، إذا مرض المريض صبت في هذا الجلجل ماءً ورجته بالشعرات واستشفى به الناس
(1)
.
بناءً على هذا القول ـ الذي هو ظاهر السنة وهو الراجح ـ نقول: لا يجوز كسر آنية الذهب والفضة إلا لمن يستعملها في الأكل والشرب؛ لأن الأصل في جواز كسر آنية الذهب والفضة وعدم ضمانها بالإتلاف أنها محرمة الاستعمال.
وعلى القول بجواز اتخاذها فإنه يضمنها إذا كسرها؛ لأنه حال بين صاحبها وبين أمر مباح له، ولكن هل يضمنها على أنها آنية تتخذ أو على أنها آنية تستعمل؟ يضمنها على أنها آنية مستعملة في غير الأكل والشرب.
(1)
أخرجه البخاري في اللباس/ باب ما يذكر في الشيب (5896).
قوله: «وآنية خمر غير محترمة» آنية الخمر إذا كسرها الإنسان فلا ضمان عليه؛ لأن فيها ما لا يضمن وهو الخمر، فإن الخمر لا يضمن، حتى لو كان يساوي آلافاً فأتلفه الإنسان فلا ضمان عليه؛ لأنه لا قيمة له شرعاً.
ولو قال قائل: ما شأن الآنية، الآنية تحفظ الخمر وغيره فهي تستعمل في الخمر وغيره؟ نقول: لأنه لما كان الخمر فيها ذهبت حرمتها لذهاب حرمة ما فيها فلا تضمن، ويثبت تبعاً ما لا يثبت استقلالاً، ويدل لذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حرّق حانوت الخمار
(1)
، وهذا أبعد من آنية الخمر، وقال بعض العلماء: إنه إذا كسر آنية خمر فهو ضامن؛ لأن الآنية محترمة ويمكن إتلاف الخمر دون إتلافها، إلا إذا لم يمكن إتلاف الخمر إلا بإتلافها، بناء على أن الأمر الذي لا يتم الأمر إلا به داخل في الأمر الذي أبيح، وهذا هو الصحيح؛ لأن الأصل في مال المسلم أنه محترم.
وقوله: «غير محترمة» هذه صفة لخمر وليست صفة لآنية، وأفادنا رحمه الله أن الخمر المحترمة إذا كسر آنيتها فهو ضامن، فما هي الخمر المحترمة؟ هي خمر الذمي الذي يعيش في بلاد المسلمين بالجزية فخمره محترمة، بمعنى أنه لا يحل لنا أن نريق خمره التي يشربها لكن بدون إعلان، فإذا كان ذمي في بيته
(1)
أخرجه عبد الرزاق (10051) ولفظه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: وجد عمر في بيت رجل من ثقيف شراباً فأمر به فأحرق، وكان يقال له: رويشد، فقال: أنت فويسق.
يشرب الخمر فلا يجوز لنا أن ندخل بيته ونكسر أوانيه أو نريق خمره؛ لأنه يعتقد حله ولم يعلن به فيكون محترماً كاحترام دم الذمي وماله، والخمر عند الذمي مال يباع ويشترى.
والمعاهد والمستأمِن حكمهما حكم الذمي؛ لأن المعاهد والمستأمِن قد عاهدهما المسلمون على أن لا يتعدى عليهما أحد، لكن لو أن الذمي أظهر الخمر وخرج إلينا بكؤوسه يشرب في أسواقنا، فهنا انتقض عهده ولم يكن له عهد، وخمره غير محترمة.
وذكروا ـ أيضاً ـ أن من المحترم من الخمر خمر الخلاَّل الذي يبيع الخل، فلو أنه في يوم من الأيام تخمر الخل إما لشدة الحر أو لسبب آخر فإن خمره محترم؛ وعللوا ذلك بأنه لو كان غير محترم لزم على الخلاَّل ضرر عظيم؛ لأن هذا ماله فيتضرر بهذا.
وهذه المسألة تحتاج إلى نظر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الخمر تتخذ خلاًّ فقال: لا
(1)
، وهذا الخلاّل سوف يحبس الخمر حتى تتخلّل، وربما يخلّلها هو بنفسه، ففيما قاله الأصحاب رحمهم الله في هذه المسألة نظر، فالله أعلم.
وكسر هذه الأشياء ينظر فيه للمصلحة إن كان الإنسان يمكن أن يقوم بذلك بدون ضرر فليفعل، مثل أن يكون المكان خالياً ولا يشاهده أحد فإنه يجب أن يكسرها، وإن كان يخشى ضرراً
(1)
سبق تخريجه ص (182).
فلا يفعل، مثل أن تكون حكومة جائرة إذا كسرت هذه الأشياء وقيل: إن الذي كسرها المسلمون سجنتهم ومنعت دعوتهم إلى الخير، فحينئذٍ نقول: لا يجوز أن تقدم على تكسيرها؛ لأن فيه ضرراً، أما إذا كان ولاة الأمور يفرحون بذلك ولم يكن ذلك على سبيل المنابذة فإن هذا قد يجب لما فيه من إزالة الإثم والعدوان.
بَابُ الشُّفْعَةِ
وَهِيَ اسْتِحْقَاقُ انْتِزَاعِ حِصَّةِ شَرِيكِهِ مِمَّنِ انْتَقَلَتْ إِلَيْهِ بِعِوَضٍ مَالِيٍّ بِثَمَنِهِ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ العَقْدُ .....
قوله: «الشفعة» مأخوذة من الشَفْعِ وهو جعل الواحد اثنين وهو ضد الوتر، وسميت بذلك؛ لأن الشريك يضم نصيب شريكه إلى ملكه فلذلك صار كجعل الوتر شفعاً.
أما اصطلاحاً فيقول: «هي استحقاق انتزاع حصة شريكه ممن انتقلت إليه» يعني الحصة، مثال ذلك: رجلان شريكان في أرض فباع أحدهما نصيبه على ثالث، فللشريك الذي لم يبع أن ينتزع من المشتري هذا النصيب قهراً عليه، ويضمه إلى ملكه، فتكون الأرض كلها للشريك الأول الذي لم يبع.
وقوله: «استحقاق انتزاع» الحقيقة أن في هذا التعريف نظراً؛ لأن الشفعة حقيقة انتزاع الحصة، وليس استحقاقاً؛ لأن هذا المستحق لو لم ينتزع لم تثبت الشفعة، لكن لا يستحق الانتزاع إلا بشروط، فالصواب أن يقال في التعريف: (الشفعة انتزاع حصة الشريك ممن انتقلت إليه
…
إلخ) دون أن يقال: «استحقاق» ؛ لأن هناك فرقاً بين الاستحقاق وبين الانتزاع، ولهذا لو باع أحد الشريكين نصيبه فالشريك الأول مستحق، فإذا أجاز البيع ولم يأخذه فهل هناك شفعة؟ لا، إذاً التعريف ليس بجيد، والصواب أن يقال:«انتزاع حصة شريكه» .
وقوله: «انتزاع» يفيد أن الأمر ليس اختيارياً وأنه ينزع منه قهراً، وهو كذلك.
وقوله: «حصة شريكه ممن انتقلت إليه» أفادنا المؤلف أنه لا ينتزع ملك جاره وأنه لا شفعة للجار، وسيأتي الكلام على ذلك ـ إن شاء الله ـ، لكن كلمة (شريك) تُخرج الجار؛ لأن الجار ليس بشريك.
وقوله: «ممن انتقلت إليه» يفيد أنه لا بد من نقل المُلك، فلو آجرها فإنه لا شفعة، مثال ذلك: رجلان شريكان في أرض أجَّر أحدهما نصيبه منها لشخص ثالث، فهنا لا شفعة للشريك؛ لأن ملكه لم ينتقل وإنما انتقل النفع فقط، حتى ولو طالت المدة كالصُّبرة المعروفة بالحكورة، وهي أن يؤجره الأرض دائماً وأبداً أو لمدة ألف سنة أو ما أشبه ذلك، فظاهر كلام المؤلف: أنه لا شفعة في هذا؛ لأن الملك لم ينتقل وإنما انتقل النفع.
قوله: «بعوض مالي بثمنه الذي استقر عليه العقد» «بعوض» متعلق بقوله: «انتقلت» ، وخرج به ما لو انتقلت بغير عوض، ولا فرق بين أن يكون انتقالها بغير عوض بملك قهري أو اختياري، فمثلاً: لو أن الشريك مات وله ابن يرثه، فهنا انتقل الملك إلى الابن بغير عوض، إذاً ليس لشريكه أن يُشَفِّع، وهذا الانتقال انتقال قهري، يعني أن الملك انتقل إلى الوارث قهراً، فيدخل في ملك الوارث قهراً عليه حتى لو أراد الوارث أن يتخلى وقال: أنا لا أريد نصيبي من التركة، فإنه لا يمكنه ذلك؛ لأن الله
ملَّكه إياه، قال الله تعالى:{وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} [النساء: 12] وقال: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] فلا يمكن أن يتخلى عن شيء ملَّكه الله إياه، فانتقال الملك بالإرث انتقال قهري لا يمكن للوارث أن يرفضه، فلو مات ميت عن ابنين فقال أحدهما: أنا غني ولا أريد الإرث، فهل يمكنه هذا؟ لا يمكن، ونقول: هو دخل عليك قهراً بتمليك الله له إياك.
فإذا انتقل بغير عوض على وجه اختياري كالهبة فظاهر كلام المؤلف ـ حسب المفهوم ـ أنه لا شفعة، مثال ذلك: شريكان في أرض وهب أحدهما نصيبه لشخص ثالث، فهل لشريكه أن يأخذ بالشفعة؟ على كلام المؤلف لا؛ لأنه انتقل بغير عوض لكن هذا الانتقال اختياري، فهو الذي قام بهبته، والصحيح أن فيها الشفعة؛ لأن الحكمة من إثبات الشفعة موجودة فيما خرج ملكه عن الشريك بالهبة، والحكمة إذا ثبتت فإنه لا عبرة باختلاف الصور، يعني إذا وُجدت الحكمة فسواء كان ببيع أو بهبة.
إذاً قوله: «بعوض» يخرج به ما انتقل بغير عوض وهو نوعان:
أحدهما: أن يكون الانتقال قهرياً مثل الميراث، فلا شفعة وهذا واضح؛ لأن الشريك لم ينقله باختياره.
الثاني: أن يكون انتقال الملك فيه بالاختيار كالهبة، فالمذهب أنه لا شفعة، والصحيح أن الشفعة ثابتة؛ لأن الحكمة من الشفعة موجودة في الهبة، إذ إن الحكمة من الشفعة إزالة ضرر
الشريك الجديد عن الشريك الأول؛ لأنه قد يكون الشريك الجديد شكساً سيئ الخلق، فشرع الشارع الشفعة لإزالة هذا الضرر، ثم إن هذا الشريك الجديد قد لا يتلاءم مع الأول فتحصل المنازعات والخصومات والبغضاء، وهذا ما يريد الشرع البعد عنه.
وقوله: «بعوض مالي» يشترط أن يكون العوض مالياً فإن لم يكن مالياً فإنه لا شفعة، فالأعواض مالية وغير مالية، فالمالية كالنقود والثياب والسيارات وما أشبه ذلك، والعوض المالي يشمل الأعيان والمنافع، مثال الأعيان: إنسان باع ملكه على شخص بسيارات، فالعوض هنا مالي، وهو أعيان وليس بمنافع.
ومثال المنافع: إنسان استأجر بيتاً وأعطى صاحب البيت نصيبه من هذه الأرض مثلاً، فهنا العوض منفعة؛ لأنه أعطى نصيبه من هذه الأرض لشخص استأجر بيته واستوفى العوض منفعة؛ والمنفعة لا شك أنها من الأعواض المالية.
ولو أنه أعطاها مصالحة عن دم عمد كالقتل العمد فإن فيه القصاص، فهذا الشريك قتل شخصاً عمداً، فنقول: عليك القصاص، فتصالح هو وأولياء المقتول بأسقاط القصاص بعوض على قدر الدية أو أقل أو أكثر، فهل للشريك الأول أن يأخذ النصيب بالشفعة؟! لا؛ لأن العوض هنا ليس مالياً، العوض قصاص لقتل نفس فلا تُؤْخذ بالشفعة.
وقيل: بل تؤخذ بالشفعة ويأخذها الشريك بقيمتها التي تساوي عند الناس، وهذا القول أرجح؛ لأنها خرجت عن هذا
باختياره، والذي نرى أنه كلما خرج الشقص بالاختيار فإن للشريك أن يأخذ بالشفعة، سواء كان العوض مالياً أو غير مالي، فإن كان العوض مالياً فواضح أنه يأخذه بعوضه، وإن كان غير مالي قُدِّر بقيمته في السوق.
وقوله: «بثمنه» الباء حرف جر، وكل مجرور فلا بد له من متعلق؛ لأن المجرور معمول لعامل، والمعمول لا بد له من عامل، كما أن المفعول به لا بد له من فعل ينصبه، فالمجرور ـ أيضاً ـ لا بد له من فعل يتعلق به، ولهذا قال ناظم القواعد:
لا بد للجار من التعلق
بفعل أو معناه نحو مرتقي
(1)
على كل حال (الباء) في قوله: «بثمنه» متعلقها قوله: «انتزاع» فهي استحقاق انتزاع بالثمن، يعني أن الشريك يأخذ الشقص المبيع بالثمن لا بالقيمة.
واعلم أن هناك فرقاً بين القيمة والثمن عند أهل العلم، فالثمن هو ما وقع عليه العقد، والقيمة ما يساوي بين الناس، فمثلاً اشترى رجل بيتاً بعشرة آلاف، فالثمن عشرة آلاف، لكن هذا البيت يساوي بين الناس خمسة آلاف، فالقيمة إذاً خمسة آلاف، أو يساوي عشرين فالقيمة عشرون، فالثمن قد يساوي القيمة، وقد يكون أقل وقد يكون أكثر.
وقوله: «الذي استقر عليه العقد» فُهِم من كلام المؤلف أن العبرة بما استقر عليه العقد لا بما جرى به العقد، فمثلاً: لو أن
(1)
منظومة قواعد الإعراب.
رجلاً اشترى حصة لشريك بعشرة آلاف ريال، وفي مجلس الخيار قال المشتري بعدما تم العقد: إنه غالٍ وأنا لا أريد أن آخذه إلا بتسعة آلاف فيأخذه الشفيع بتسعة آلاف، والعكس بالعكس، فلو باعه بتسعة آلاف وفي مجلس العقد قال البائع: إن الثمن قليل، وأريد أن يكون بعشرة وإلا فسخت العقد فوافق المشتري واشتراه بعشرة فيأخذه الشفيع بعشرة، فالعبرة بما استقر عليه العقد لا بما جرى به العقد؛ لأنه قد يزاد وقد ينقص في خيار المجلس أو خيار الشرط.
والدليل على ثبوت الشفعة حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة في كل ما لم يقسم
(1)
، وهذا القضاء قضاء حكم وتشريع، وذلك أن قضاء الرسول صلى الله عليه وسلم قد يكون قضاء حكم وتشريع عام للأمة، وقد يكون قضاء مصلحة يتقيد بزمنه، مثال الأول: هذا الحديث الذي معنا، ومثال الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالسَّلَب للقاتل في الجهاد
(2)
، والسلب ما على الكافر المقتول من ثياب ونحوها، فهل قضاؤه بذلك قضاء حكم وتشريع أو هو قضاء عين ومصلحة؟ إن قلنا بالأول صار السلب للقاتل في كل حال سواء جعله له القائد أم لم يجعله، وإن قلنا بالثاني صار القضاء بالسلب للقاتل إلى الإمام أو قائد الجيش، لكن الشفعة قضاء حكم وتشريع عام.
(1)
أخرجه البخاري في الشفعة/ باب الشفعة فيما لم يقسم
…
(2257)؛ ومسلم في المساقاة/ باب الشفعة (1608) واللفظ للبخاري.
(2)
أخرجه مسلم في المغازي/ باب استحقاق القاتل سلب القتيل (1753)(44) عن عوف بن مالك رضي الله عنه.
فإذا قال قائل: كيف يؤخذ منه قهراً؟! وهل هذا إلا من أكل أموال الناس بالباطل؟! فيقال: معاذ الله أن يكون من أكل المال بالباطل؛ لأن أخذ المال بالباطل أن يأخذه الإنسان بغير حق، وهذا أخذه بحق جعله الشارع له.
فإذا قال قائل: إذاً ما وجه تسليط الشارع الشريك على هذا المشتري حتى ينتزع منه ملكه قهراً؟
فيقال: لما في ذلك من المصلحة، وعدم المضرة على المشتري؛ فالمشتري ليس عليه ضرر؛ لأن ثمنه الذي دفع سوف يدفع إليه، وليقدر أنه لم يشترِ، وأما انتفاء الضرر الذي يحصل بالشفعة فلأن هذا الشريك قد يكون شريكاً سيئ الشركة متعباً لشريكه يحوجه إلى النزاع والخصومة دائماً، فجعل الشارع للشريك أن يدفع ما يخشى من ضرره بالشفعة.
فإذا قال قائل: إذا كانت هذه هي العلة وقُدِّر أن الشريك باع على رجل أحسن منه شركة، فهل تسقطون الشفعة؟
فالجواب: لا نسقطها؛ لأن ما ثبت بعلة خفية، فإنه يثبت ولو لم تتحقق العلة، ومثل ذلك القصر في السفر فإن علة القصر هي المشقة غالباً، فإذا زالت المشقة فلا يزول الحكم، بل للإنسان أن يقصر في السفر وأن يفطر ولو لم تكن مشقة، وهنا كذلك.
فَإِنِ انْتَقَلَ بَغَيْرِ عِوَضٍ، أَوْ كَانَ عِوَضُهُ صَدَاقاً، أَوْ خُلْعاً، أَوْ صُلْحاً عَنْ دَمِ عَمْدٍ فَلَا شُفْعَةَ وَيَحْرُمُ التَّحَيُّلُ لإسْقَاطِهَا.
.......
قوله: «فإن انتقل بغير عوض» فلو انتقل النصيب بميراث ـ مثلاً ـ فلا شفعة، مثاله: رجلان شريكان في أرض، مات أحدهما فانتقل نصيبه في هذه الأرض إلى ورثته، فهل للشريك أن
يشفع؟ الجواب: لا؛ لأنه انتقل بغير عوض على وجه قهري.
مثال آخر: وهب الشريك نصيبه لشخص، فهل للشفيع أن يأخذه؟ على كلام المؤلف ليس له أن يأخذه؛ لأنه انتقل بغير عوض.
ولو تصدق الشريك بحصته على الفقراء فليس لشريكه أن يشفع؛ لأنه انتقل بغير عوض، وكذا لو أوقفه على الفقراء فليس له أن يأخذه بالشفعة؛ لأنه انتقل بغير عوض، أما لو جعله أجرة، بأن كان الشريك عليه أجور كثيرة فقال لمن له الأجرة: أنا أعطيك نصيبي من هذه الأرض، فقبل، فهل للشفيع أن يشفع؟ نعم له أن يشفع؛ لأن الأجرة دراهم، فانتقلت بعوض.
ولكن القول الراجح أنه إذا انتقلت بغير عوض، فإن كان قهرياً فلا شفعة، وإن كان اختيارياً ففيه الشفعة، وبناء على هذا القول الراجح إذا انتقل بإرث، فهل للشريك أن يشفع على الورثة؟ لا؛ لأنه انتقل على وجه قهري.
ولو وهب الشريك نصيبه لشخص فهل لشريكه أن يشفع؟ على القول الراجح نعم له أن يشفع، ولكن كيف يكون الثمن؟ إذا قال الموهوب له: لا يمكن أن تأخذ مني ما ملكته بالهبة بدون عوض فنقول: تُقَدَّر قيمته من لدن أهل الخبرة فإذا قالوا: قيمته كذا، قلنا للشريك: إن أخذته بهذه القيمة فلك الحق وإلا فلا حق لك.
وقوله: «فإن انتقل» مقتضى السياق أن يقول: فإن انتقلت، لأنه قال:«انتزاع حصة» فأعاد الضمير على «حصة» باعتبار معناها لا لفظها.
قوله: «أو كان عوضه صداقاً» يعني أن الشريك أصدق نصيبه زوجه، فهنا العوض غير مالي، لم يعتض عنه شيئاً مالياً، والعبارة فيها شيء من الركاكة، والتقدير:(وإن كان عوضه غير مالي بأن جُعِل صداقاً) يعني أن الشريك أصدق امرأته نصيبه من المشترك، فليس لشريكه أن يشفع؛ لأن هذا الشريك اعتاض عن حصته فرجاً كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«لها المهر بما استحلَّ من فرجها»
(1)
فهنا يقول المؤلف: إنه لا شفعة.
ولكن القول الراجح أن له أن يشفع، وحينئذٍ بماذا يأخذه الشريك المشفِّع؛ لأن القيمة غير مالية؟ فهل نقول: يأخذه بالمالية، يعني بما يساوي في السوق فيُقَوَّم ويأخذه بذلك، أو يأخذه بمثل مهر المرأة؛ لأن هذا جُعِل مهراً؟ فيه قولان، والصحيح أنه يأخذه بقيمته، بمعنى أنه يقوَّم ويؤخذ بقيمته سواء زاد على مثل مهر المرأة أو نقص أو ساوى.
قوله: «أو خُلعاً» أي: جُعِلَ عوضاً في خلع، فالذي يبذل الصداق هو الزوج، والذي يبذل الخلع المرأة أو غيرها من الناس، فإذا جعل خلعاً بأن تكون امرأة شريكة لإنسان في أرض، وطلبت من زوجها المخالعة فخالعها على نصيبها من هذه الأرض، فعوض النصيب الآن غير مالي وهو فداؤها نفسها من
(1)
أخرجه الإمام أحمد (6/ 47)؛ وأبو داود في النكاح/ باب في الولي (2083) والترمذي في النكاح/ باب ما جاء لا نكاح إلا بولي (1102)؛ وابن ماجه في النكاح/ باب لا نكاح إلا بولي (1879) عن عائشة رضي الله عنها؛ وحسنه الترمذي؛ وصححه ابن حبان (4074)؛ والحاكم (2/ 168) وقال: «صحيح على شرط الشيخين» .
هذا الزوج وفراقها إياه، فليس للشريك أن يشفع؛ لأن هذا النصيب أو هذه الحصة انتقلت بغير عوض مالي، والقاعدة عندنا أنه لا بد أن يكون انتقل بعوض مالي، وهذا ـ أيضاً ـ فيه خلاف.
والصحيح أنه يشفع؛ لأن القاعدة التي تظهر لي من السنة أنه متى انتقل الملك على وجه اختياري، ففيه الشفعة بأي حال من الأحوال.
وإذا قلنا: بأنه يشفع فكيف تكون القيمة؟ تكون بالتقويم، بمعنى أن نسأل أهل الخبرة كما يساوي هذا الشقص؟ فإذا قالوا: يساوي كذا وكذا أخذه الشفيع بذلك.
قوله: «أو صلحاً عن دم عمد فلا شفعة» دم العمد هو ما يثبت به القصاص، يعني أخذ عوضاً عن قصاص، وسيأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ شروط القصاص.
فالقتل ثلاثة أقسام: عمد، وشبه عمد، وخطأ.
فتعريف العمد: أن يقصد من يعلمه آدمياً معصوماً فيقتله بما يغلب على الظن موته به.
وشبه العمد هو نفس العمد إلا أننا نبدل قولنا: (بما يغلب على الظن موته به) بكلمة أخرى فنقول: (بما لا يغلب على الظن موته به، أو بما يغلب على الظن أنه لن يموت به) فمثلاً: رجل ضرب شخصاً على رأسه بالساطور فمات فهذا عمد، وآخر ضربه بعصا صغيرة فمات فهذا شبه عمد، فقصد الجناية حاصل في العمد وشبهه، لكن الآلة في العمد تقتل وفي غير العمد لا تقتل.
والقتل الخطأ ليس فيه قصد، بمعنى أن الإنسان يفعل ما له
فعله فيصيب آدمياً لم يقصده، مثل أن يرمي صيداً فيقع السهم على إنسان، فنسمي هذا خطأً.
فالقتل العمد يوجب القصاص، وشبه العمد والخطأ يوجب الدية، فإذا صُولح أولياء المقتول، وقيل لهم: نصالحكم عن قتل صاحبنا بكذا وكذا، أو صالح القاتل نفسُه أولياء المقتول بنصيبه من هذه الأرض، وأخذوا نصيبه من الأرض ثم عفوا عن القصاص، فهل لشريك المالك أن يشفع؟ على ما ذهب إليه المؤلف لا؛ لأن العوض غير مالي، فالقتل ليس بمال، وهو جعل هذا الشقص عوضاً عن القصاص فلا شفعة.
والقول الراجح ـ الذي رجحناه ـ أن فيه الشفعة، وتقدر قيمة هذا الشقص عند أهل الخبرة.
وعلم من قول المؤلف: «عن دم عمد» أنه إذا كان صلحاً عن دم شبه عمد أو خطأ فإنه يؤخذ بالشفعة، مثال ذلك: رجل قتل إنساناً خطأً أو شبه عمد، فالواجب عليه الدية، والدية مال، فصالح أولياء المقتول عن الدية بنصيبه من هذه الأرض فهنا للشريك أن يشفع؛ لأن نصيب القاتل انتقل إلى أولياء المقتول وعوضه مالي.
لكن هنا هل نأخذه بقيمة الدية التي صالح عنها، أو بقيمة الشقص؟ الثاني هو الصحيح، وقيل بالأول، فمثلاً نقول: إن دية المسلم مائة ألف وهذا الشقص أُخذ عوضاً عن مائة الألف، فإذا أراد الشفيع أن يأخذه قلنا: هو عليك بمائة ألف، وعلى القول الراجح أنه يؤخذ بقيمته فيسأل أهل الخبرة كم يساوي؟ فإذا قالوا: يساوي كذا وكذا قلنا: خذه.
قوله: «ويحرم التحيل لإسقاطها» يعني يحرم على المشتري أن يتحيل لإسقاط الشفعة، والتحيل له صور كثيرة، فمن الحيلة أن يظهر أن ثمنها كثير، وما دام ثمنها كثيراً فإن الشريك لن يأخذ بالشفعة، فمثلاً يشتري الحصة بعشرة آلاف ويظهر أنه اشتراها بعشرين ألفاً، والشريك لا يريدها بعشرين ألفاً؛ لأن الثمن غالٍ، فهذا حرام، ومتى تبين أن الثمن عشرة آلاف فإن له أن يأخذها بالشفعة ولو طالت المدة؛ لأن حق المسلم لا يسقط بالتحيل.
ومن ذلك ـ أيضاً ـ أن يظهر البائع أنه وهبها للمشتري، وسبق أن المذهب أن ما انتقل بغير عوض ليس فيه شفعة، فهذه حيلة لإسقاطها.
ومن ذلك ـ أيضاً ـ أن يظهر المشتري أنه أوقفها، يعني من حين ما يشتريها يقول: هي وقف للمساجد، أو لطلبة العلم، أو لأولاده، فإذا أوقفها سقطت الشفعة؛ لأن انتقال الملك عن المالك إلى جهة لا يثبت فيها الشفعة ابتداءً يسقطها.
المهم أن التحيل لإسقاطها حرام والدليل:
أولاً: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات»
(1)
.
ثانياً: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «قاتل الله اليهود لما حرمت عليهم الشحوم أذابوها ثم باعوها وأكلوا ثمنها»
(2)
. فتحيلوا على المحرم.
(1)
أخرجه البخاري في بدء الوحي/ باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (1)؛ ومسلم في الإمارة/ باب قوله صلى الله عليه وسلم: «الأعمال بالنية» (1907) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
(2)
أخرجه البخاري في البيوع/ باب لا يذاب شحم الميتة ولا يباع ودكه (2223)؛ ومسلم في البيوع/ باب تحريم بيع الخمر والميتة (1582) عن عمر رضي الله عنه.
ثالثاً: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل»
(1)
قال شيخ الإسلام: إسناده جيد.
أما التعليل؛ فلأنه يتضمن إسقاط حق المسلم، وكل ما تضمن إسقاط الحقوق الواجبة فهو حرام لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام»
(2)
.
فإن قال قائل: ما هي الحيلة؟
قلنا: الحيلة هي أن يتوصل إلى شيء محرم بصورة ظاهرها الحل، والحيل في أي شيء محرمة، فكل حيلة على إسقاط واجب أو انتهاك محرم فهي حرام، وهي أبلغ من المخالفة الصريحة؛ لأنها تتضمن الوقوع في المخالفة الصريحة معنىً مع الخداع لله عز وجل والتلاعب بأحكامه، ولهذا قال أيوب السختياني رحمه الله:(إن هؤلاء ـ يعني المتحيِّلين ـ يخادعون الله كما يخادعون الصبيان، ولو أنهم أتوا الأمر على وجهه لكان أهون).
إذاً الحيلة محرَّمة، والدليل الأحاديث التي سقناها، والتعليل أن المخادعة لله أعظم من المخالفة الصريحة؛ لأن المخادعة فيها
(1)
أخرجه ابن بطة في إبطال الحيل (24)؛ وصححه شيخ الإسلام كما في الفتاوى الكبرى (3/ 123).
(2)
سبق تخريجه ص (142).
نوع من التلاعب بأحكام الله عز وجل فهي ـ أي: الحيلة ـ أشد، والمتحيل فيه خصلة من خصال اليهود، كما أن المخلف للوعد فيه خصلة من خصال النفاق، ولهذا أيُّ إنسان مسلم يقال له: إن فيك خلقاً من أخلاق اليهود سوف يغضب ويثور، ولكنه قد يكون فيه هذا الخلق من حيث لا يعلم.
وإذا تحيل فهل تسقط؟
الجواب: لا تسقط، بل متى ظهر أن في الأمر حيلة فإن للشريك أن يشفع.
وَتَثْبُتُ لِشَرِيكٍ فِي أَرْضٍ تَجِبُ قِسْمَتُهَا، وَيَتْبَعُها الغِرَاسُ، وَالبِنَاءُ، لَا الثَّمَرَةُ وَالزَّرْعُ فلَا شُفْعَةَ لِجَارٍ،
......
قوله: «وتثبت» أي: الشفعة.
قوله: «لشريك في أرض تجب قسمتها» «لشريك» مفهومه أن الجار لا شفعة له، وصرح به في قوله:«فلا شفعة لجار» .
وقوله: «في أرض» خرج بذلك الشريك في غير أرض كالشريك في سيارة، والشريك في دكان وما أشبه ذلك، فإنه لا شفعة فيما لو باع نصيبه على آخر.
وقوله: «تجب قسمتها» احترازاً من الأرض التي لا تجب قسمتها، ومعنى قوله:«تجب قسمتها» أنه إذا طلب أحد الشركاء القسمة قسمت إجباراً، وإلا فإن الأرض لا تجب قسمتها، فالشركاء متى شاؤوا قسموا ومتى شاؤوا بقوا على الشركة.
وفُهم من قوله: «تجب قسمتها» أن الأرض منها ما تجب قسمته ويجبر الشريك على القسمة، ومنها ما ليس كذلك، فما هو الضابط؟
الضابط أنه إذا كانت الأرض تنقسم بدون ضرر، ولا رد عوض فالقسمة إجبارية، وإذا كانت لا تنقسم إلا بضرر، أو رد عوض فالقسمة اختيارية، مثال ذلك: رجلان بينهما أرض مقدارها عشرة أمتار في عشرة أمتار، فطلب أحدهما القسمة وأبى الآخر، فهل يجبر؟ لا يجبر على القسمة؛ لأنه إذا قسمت فسدت ولم تصلح لبناء شيء، فهذه ليس فيها شفعة.
المثال الثاني: رجلان بينهما أرض واسعة إذا قسمت لا يتضرر أحدهما بالقسمة، ويمكن أن يستفيد بنصيبه على الوجه الأكمل، فقسمة هذه إجبارية، فإذا طلب أحدهما أن تقسم وأبى الآخر أجبر على ذلك، فهذه فيها الشفعة، والأُولى ليس فيها شفعة.
على كلام المؤلف: أن الشريك في الأرض الأولى ـ وهي الأرض الصغيرة ـ إذا باع نصيبه على شخص، فهل لشريكه في هذه الأرض أن يشفع؟ المؤلف يرى أنه لا يشفع، والشريك في الأرض الواسعة إذا باع نصيبه فلشريكه أن يشفع، فأيهما أولى بالشفعة الثانية أو الأولى؟ الأولى أولى بالشفعة؛ لأن الأولى لا يمكن قسمتها، ولا يمكن التخلص من الشريك الجديد، والثانية يمكن أن يتخلص من الشريك الجديد بطلب القسمة وتقسم وينتهي الإشكال، ولهذا كان الأولى أن يقال: الأرض التي لا تجب قسمتها ولا تقسم إلا بالاختيار أولى بثبوت الشفعة من الأرض التي تقسم إجباراً، وهذا هو المعقول.
فإذا قال قائل: ما الدليل على ما اشترطه المؤلف؛ لأن
قوله: «لشريك في أرض» يخرج الجار، وقد صرَّح به فقال:«فلا شفعة لجار» فما الدليل؟
قالوا: إن الدليل قول جابر رضي الله عنه: (قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم)
(1)
فمفهومه أن ما قسم ليس فيه شفعة، وإذا قسم صار الشريك جاراً، كأرض بين رجلين اقتسماها كانت في الأول مشتركة والآن صار الشريك جاراً، والحديث:(قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم) هذا المنطوق، ومفهومه لا شفعة فيما قسم، والنتيجة لا شفعة للجار؛ لأنه إذا كان الجار الذي كان شريكاً بالأول لا شفعة له، فالجار الذي ليس بينه وبين جاره شركة من باب أولى.
ولكن نقول: الاستدلال بهذا الحديث فيه نظر؛ لأنه يجب إذا استدللنا بالحديث أن نستدل به كاملاً، وإذا استدللنا بالحديث كاملاً لزم أن يكون الجار له شفعة في بعض الأحوال، وليس له شفعة في بعض الأحوال، يقول جابر رضي الله عنه:(فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة) فالحديث بيَّن أنه إذا حصلت القسمة ورسمت الأرض بحدودها وصرِّفت الطرق، بأن كان هذا الجانب له طريق والجانب الآخر له طريق فلا شفعة، فيؤخذ من هذا أنهما لو اقتسما وبقي الطريق واحداً لم يُصرَّف فالشفعة باقية، وهذا هو القول الراجح، أن الجار له الشفعة في حال وليس له الشفعة في حال، فإذا كانت الطريق واحدة، أو الماء الذي يسقى به الزرع واحداً، أو أي شيء اشتركا فيه من
(1)
سبق تخريجه ص (235).
حق الملك فإن الشفعة ثابتة، وإذا لم يكن بينهما حق مشترك فلا شفعة، هذا هو القول الراجح في ثبوت الشفعة للجار، وعليه يحمل حديث:«الجار أحق بسقبه»
(1)
، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
وقال بعض العلماء: للجار الشفعة مطلقاً لحديث: «الجار أحق بسقبه» أي: بما جاوره.
وقوله: «لشريك في أرض» خرج بذلك الشريك في غير الأرض، كالشريك في السيارة، والشريك في السفينة، والشريك في السلع فإنه لا شفعة له، مثال ذلك: رجلان يملكان سيارة شركة، فباع أحدهما نصيبه على آخر فعلى المذهب لا شفعة؛ لأن الشركة في غير أرض، ولا بد أن تكون الشركة في أرض.
وهذه المسألة فيها خلاف، فمن العلماء من قال كما قال المؤلف: لا شفعة في غير الأرض، ومنهم من قال: الشفعة في كل شيء إلا ما أمكن قسمته من المنقولات فإنه لا شفعة فيه؛ لإمكان قسمته من دون ضرر ككيس من البر ونحو ذلك، وهذا القول أرجح؛ لأن العلة التي ثبتت بها الشفعة للشريك في الأرض موجودة في الشريك في غير الأرض، فإذا كان شريكك في السيارة رجلاً طيباً سهلاً لا يعارضك في شيء، إذا احتاجت السيارة إلى إصلاح أصلحها، وإذا احتاجت إلى زيادة زادها، وإذا حصل عليها حادث تساهل في الأمر، ثم جاء هذا الشريك
(1)
أخرجه البخاري في الإجارة/ باب عرض الشفعة على صاحبها قبل البيع (2258) عن أبي رافع رضي الله عنه.
الجديد وكان من أشكس عباد الله، فإذا خربت السيارة ـ مثلاً ـ فإنه يؤذيه في إصلاحها ولا يتساهل معه، فأيهما أولى، الشريك الأول الذي باع أو الشريك الجديد؟ الأول ولا شك، فيتضرر الشريك بهذا الشريك الجديد، والشفعة إنما شرعت لدفع ضرر الشريك الجديد، وعليه فالقول الراجح أن الشفعة تثبت في كل مشترك، سواء كان أرضاً، أم أوانِيَ، أم فرشاً، أم أي شيء.
وقوله: «تجب قسمتها» خرج به ما لا تجب قسمته كالدور الصغيرة، والأراضي الصغيرة وما أشبه ذلك فإنها ليس فيها شفعة، وتقدم قريباً، ومعلوم أن هذا يحتاج إلى دليل، قالوا: الدليل حديث جابر رضي الله عنه: «إذا وقعت الحدود وصُرِّفت الطرق فلا شفعة»
(1)
، ووقوع الحدود لا يمكن إلا في أشياء واسعة يمكن قسمتها، والجواب على هذا سهل؛ لأن قوله:«إذا وقعت الحدود» يشمل كل ما يمكن قسمته سواء كان إجبارياً أم اختيارياً، حتى الذي قسمته اختيارية يمكن أن تقع فيه الحدود وتصرَّف فيه الطرق، وعلى هذا فلا دليل في الحديث.
فالصواب إذاً أن الشفعة واجبة حتى في الأرض التي لا تقسم إلا اختياراً خلافاً لكلام المؤلف رحمه الله.
قوله: «ويتبعها الغراس والبناء، لا الثمرة والزرع» يعني إذا شفَّع الشريك في أرض فيها غراس وبناء فإن الغراس والبناء يتبعها إذا كانت حين البيع موجوداً فيها الغراس والبناء، وأما الثمر والزرع فلا يتبع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من باع نخلاً بعد أن تؤبر
(1)
سبق تخريجه ص (235).
فثمرتها للذي باعها»
(1)
فكما أن الثمر والزرع لا يتبع في البيع فكذلك لا يتبع في الأخذ بالشفعة، بل يكون لمن اشتراها، ولأن مدة الزرع والثمر لا تطول بخلاف الغراس والبناء فإن مدتهما تطول.
وظاهر كلام المؤلف: أنه لا فرق بين أن تكون حين البيع مثمرة أو مزروعة، أو كان الثمر والزرع بعد ذلك، ولكن الصحيح أنه إذا كانت الثمرة موجودة حين البيع، وشفع الشريك والثمرة موجودة فإنها تتبع، وكذلك يقال في الزرع لما يلي:
أولاً: أن الثمرة فرع الغراس، والشجر والزرع فرع الأرض، ويثبت تبعاً ما لا يثبت استقلالاً.
ثانياً: أنه قد يحدث ضرر ولو يسيراً، والدليل على هذا أن الرسول عليه الصلاة والسلام نهى عن بيع الثمر حتى يبدو صلاحه وعن بيع الحب حتى يشتد
(2)
؛ لئلا يحصل النزاع والخصومة بين البائع والمشتري.
ثالثاً: أننا إذا منعنا الشفعة في الثمرة والزرع صار في ذلك تشقيص على الشريك، وهذا قد يتضرر به وحتى المشتري قد يتضرر به؛ لأنه قد يقول: إن لم يحصل لي النصيب كاملاً فأنا لا
(1)
أخرجه البخاري في البيوع/ باب من باع نخلاً قد أبرت (2204)؛ ومسلم في البيوع/ باب من باع نخلاً عليها تمر (1543) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
(2)
أخرجه البخاري في الزكاة/ باب من باع ثماره أو نخله أو أرضه (1486)؛ ومسلم في البيوع/ باب النهي عن بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها
…
(1534) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
أريد الثمرة ولا الزرع، وإذا قال الشريك الأول: أنا لا أريدها ـ أيضاً ـ صار في ذلك ضرر على المشتري، فإذا قلنا: إنها تتبع الأصل استرحنا من هذا الضرر.
أما لو كانت النخيل حين البيع ليس فيها ثمر ثم أثمرت بعد عند المشتري فإنها تكون للمشتري، لأنها نماء ملكه فإنه قبل أن يؤخذ بالشفعة للمشتري.
بقي سؤال يرد على المذهب، وهو أن الشريك إذا أخذ النصيب بثمنه الذي استقر عليه العقد، مع أنه سينزع منه الثمرة والزرع فسيكون فيه ضرر على الشريك؛ لأن الثمن الذي استقر عليه العقد هو قيمة للأرض والثمرة والغراس والزرع، فإذا قلنا: إن الشريك يلزمه الثمن كاملاً صار في ذلك ظلم عليه فماذا نفعل؟
نقول: نقدر ثمن الزرع والثمرة ويخصم من الثمن.
قوله: «فلا شفعة لجار» هذا مفهوم قوله: «وتثبت لشريك» ، وهذا هو المشهور من المذهب أن الشفعة لا تثبت للجار مطلقاً، وقد سبق.
وَهِيَ عَلَى الفَوْرِ وَقْتَ عِلْمِهِ فَإِنْ لَمْ يَطْلُبْهَا إِذاً بِلَا عُذْرٍ بَطَلَتْ.
.....
قوله: «وهي على الفور وقت علمه» أي: الشفعة، وسبق أن الشفعة هي انتزاع الحصة، يعني أنه لا بد أن يبادر الشفيع في الأخذ بالشفعة، فيقول: شفَّعت، أو أخذتها بالشفعة أو ما أشبه ذلك، إلا أنهم استثنوا ما إذا كان مشغولاً بما لا يمكن معه المطالبة، كما لو علم ـ مثلاً ـ وهو على قضاء الحاجة، فلا يستطيع أن يشفع، أو جاءه الخبر وهو يتغدى أو يتعشى، فهذا لا يمكن أن يشفع.
أما إذا جاءه وهو غائب فإنه إن لم يشهد على الأخذ بالشفعة سقطت شفعته، وعلى هذا إذا جاءه الخبر بأن شريكه قد باع وهو في مكان بعيد فإنه يشهد رجلين، أو رجلاً وامرأتين على أنه آخذ بالشفعة.
وقوله: «على الفور» قد يقول قائل: إن إلزامنا إياه أن تكون المطالبة على الفور فيه مشقة؛ لأن الشفيع ربما يقول: أعطوني مهلة أفكر في الأمر، أعطوني مهلة أنظر هل أحصِّل الثمن أو لا أحصِّله؟ فنقول: لا، لا مهلة لك، مع أن الشفعة حق من حقوقه لا يمكن أن يسقط إلا بما يدل على رضاه، لكنهم يقولون: إنها على الفور، وإن لم يطالب على الفور سقطت، والدليل حديث:«الشفعة لمن واثبها»
(1)
(2)
أي: عقال البعير، يعني لا بد أن تكون بسرعة، لكن الحديثين ضعيفان لا يُحتج بهما ولا يمكن أن يتوصل بهما إلى إسقاط حق المسلم فلا اعتماد عليهما، وإذا لم يكن عليهما اعتماد رجعنا إلى الأصل، والأصل أن كل من ثبت له حق فإنه لا يسقط إلا بما يدل على رضاه؛ لأن هذا حق شرعي:«قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم» فهذا قضاء نبوي لا يمكن أن يسقط إلا بما يدل على الرضا.
(1)
قال الحافظ في الدراية (2/ 203): «لم أجده، وإنما ذكره عبد الرزاق من قول شريح» . انظر: مصنف عبد الرزاق (14406).
(2)
أخرجه ابن ماجه في الشفعة/ باب طلب الشفعة (2500) عن ابن عمر رضي الله عنهما قال الحافظ في التلخيص (1278): «إسناده ضعيف جداً» .
وعليه فالقول الراجح الذي يتعين الأخذ به أن يقال: هي على التراخي لا تسقط إلا بما يدل على الرضا.
فإذا قال المشتري: إلى متى أنتظر، ما أدري متى يرضى أو لا يرضى؟ ففي هذه الحال نضرب له أجلاً مناسباً، فيقال للشريك الذي له الشفعة: لك ثلاثة أيام، أو لك يومان، أو لك أربعة أيام، حسب الحال؛ لأننا لو قلنا: لك إلى شهرين أو ثلاثة حتى ترضى، صار في ذلك ضرر على المشتري.
إذاً القول الراجح أنها ليست على الفور بل هي على التراخي ولا تسقط إلا بما يدل على الرضا، ووجه هذا القول أنه حق جعله الشارع للشريك فلا يسقط إلا برضاه.
ثم إنه ـ أي: الشريك ـ قد يحتاج إلى تأمل؛ لأن المشكل أنه لا بد أن يأخذها بالثمن، وإذا كان حالاًّ يأخذها بالثمن الحال، وقد لا يكون عنده دراهم في ذلك الوقت، فيحتاج إلى أن يطلبها من يمين أو يسار أو يستدينها أو ما أشبه ذلك:
قال المؤلف رحمه الله بناءً على أنها على الفور:
«فإن لم يطلبها» الضمير «ها» يعود على الشفعة، والفاعل الشريك الذي هو الشفيع.
قوله: «إذاً» أي حال علمه «بلا عذر بطلت» .
وعلم من قوله: «بلا عذر» أنه لو كان معذوراً في الفورية، فإذا زال عذره فلا بد أن يطلب بها على الفور، فلو جاءه الخبر وهو على فراشه يريد أن ينام فهل نقول: لا بد أن تذهب إلى المشتري وتقول: أنا مطالب بالشفعة؟ لا، هذا عذر، لكن من
حين أن يستيقظ ويقوم ويصلي الفجر يذهب إلى المشتري ويقول: أنا آخذ بالشفعة، فعلى هذا نقول: لا بد إذا زال العذر من أن يطالب بها على الفور.
وَإِنْ قَالَ لِلْمُشْتَرِي: بِعْنِي، أَوْ صَالِحْنِي، أَوْ كَذَّبَ العَدْلَ، أَوْ طَلَبَ أَخْذَ البَعْضِ سَقَطَتْ.
قوله: «وإن قال للمشتري: بعني» القائل الشفيع وهو الشريك، أي قال للمشتري: بعني أي: بع علي الذي اشتريت، سقطت شفعته؛ لأنه لم يطالب على الفور، وقوله:«بعني» إقرار للملك، أي: لملك المشتري، وإذا كان إقراراً لملك المشتري فلازم ذلك أنه لا يريد المطالبة بها.
قوله: «أو صالحني» فكذلك تبطل؛ لأن طلب المصالحة يؤخر المطالبة على الفور، ويدل على أن الشريك قد أقر بأنها ملك المشتري.
قوله: «أو كذب العدل» «كذب» الفاعل الشريك «العدل» أي: المخبر العدل، يعني أن الشريك أخبره رجل عدل وقال له: إن شريكك باع على فلان، فقال: كذبت، شريكي لا يمكن أن يبيع؛ لأن له رغبة في بقاء ملكه، فإن الشفعة تسقط؛ لأن الرجل عدل والأصل في خبر العدل أنه مقبول، لقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] فعلم منه أنه إذا جاءنا عدل فإننا نقبل خبره.
وعلم من قوله: «أو كذب العدل» أنه لو كَذَّب الفاسق فلا تسقط الشفعة؛ لأن الفاسق لا يجب قبول خبره بل يتبين فيه، ولو كَذَّب الكذوب فمن باب أولى؛ لأن علة الكذوب هنا في إخباره، فيكون إخباره غير مقبول.
قوله: «أو طلب أخذ البعض سقطت» أي: طلب الشريك أخذ البعض.
مثاله: شريكان في أرض لكل واحد منهما نصفها، فباع أحد الشريكين نصيبه على شخص، فقال الشريك: أنا لا أتحمل قيمة الأرض كلها، وأريد أن آخذ بعضها ولك البعض، فإن الشفعة تسقط؛ لفوات الفورية؛ لأنه لم يبادر، فلو أنه بادر وأخذ بالشفعة ثم طلب المصالحة أو المقاسمة فلا بأس، لكنه لما طلب المصلحة أو المقاسمة قبل الأخذ بالشفعة سقطت.
إذاً هذه المسقطات مبنية على أنه لا بد أن يطالب بها فور علمه، لكن ينبغي أن يقال: إن اللوازم التي ذكروها من أن طلب المصالحة، أو طلب البعض، أو ما أشبه ذلك، تدل على أنه أقر البيع، ينبغي أن يقال: إذا وقع هذا من عالم فنعم، وإن وقع من جاهل لا يدري، وقال: أنا أريد المصالحة دفعاً للمطالبة وكسر قلبه، وما أشبه ذلك، فإنه لا ينبغي أن تسقط الشفعة، فيفرق بين من يفهم ويعلم، وبين من لا يفهم ولا يعلم، فإذا قال: صالحني، أو نجعلها أنصافاً لك النصف ولي النصف، عن سلامة قلب وعدم معرفة، فينبغي أن لا تسقط الشفعة؛ لأنه في هذه الحال معذور، وكما عذروا من لم يطلبها على الفور بما عذروه به، فهذه مثلها.
والخلاصة: أن الشفعة حق للشفيع لا تسقط إلا بما يدل على رضاه، أما كونها حقاً للشفيع فهو قضاء نبوي:«قضى بالشفعة في كل ما يقسم» ، وأما كونها لا تسقط إلا برضاه؛
فلأنها حقه، ولا يمكن أن تؤخذ الحقوق من أصحابها كرهاً.
وَالشُّفْعَةُ لاثْنَيْنِ بِقَدْرِ حَقَّيْهِمَا، فَإِنْ عَفَا أَحَدُهُمَا أَخَذَ الآخَرُ الكُلَّ أَوْ تَرَكَ. وَإِنِ اشْتَرَى اثْنَانِ حَقَّ وَاحِدٍ، أَوْ عَكْسُهُ، أَوْ اشْتَرَى وَاحِدٌ شِقْصَيْنِ مِنْ أَرْضَيْنِ صَفْقَةً وَاحِدَةً فَلِلشَّفِيعِ أَخْذُ أَحَدِهِمَا .......
قوله: «والشفعة لاثنين بقدر حقَّيهما فإن عفا أحدهما أخذ الآخر الكل أو ترك» الشفعة لاثنين تستلزم أن يكون الشركاء ثلاثة، فتكون بقدر حقيقها لا بقدر الرؤوس، مثال ذلك: قطعة من الأرض بين ثلاثة شركاء، أحدهم له النصف، والثاني له الثلث، والثالث له السدس، فتكون مسألتهم من ستة، لصاحب النصف ثلاثة، ولصاحب الثلث اثنان، ولصاحب السدس واحد، فإذا باع أحدهم صارت الشفعة لشريكيه.
فلنبدأ أولاً بالأكبر وهو صاحب النصف فإذا باع صاحب النصف نصيبه وهو ثلاثة رجعت إلى ثلاثة، فيكون الملك الآن أثلاثاً بين صاحب الثلث وصاحب السدس، وإذا باع صاحب الثلث، والثلث اثنان فيبقى أربعة، فيعود الملك أرباعاً بين صاحب النصف وصاحب السدس، وإذا باع صاحب السدس فيبقى خمسة، فيعود الملك الآن بين صاحب النصف والثلث أخماساً، لصاحب النصف ثلاثة، ولصاحب الثلث اثنان.
فإذا عفا أحدهما فنقول للثاني: إما أن تأخذ الجميع وإما أن تترك الجميع، ولنفرض أن الذي باع صاحب النصف فيبقى النصف، فإذا قال صاحب السدس: أنا لا أريد الشفعة ويكفيني نصيبي من هذه الأرض، فنقول لصاحب الثلث: إما أن تأخذ كل الثلاثة التي هي النصف ويكون لصاحب الثلث خمسة، ولصاحب السدس واحد، فإذا قال: ما أتحمل، قلنا: إذاً سقطت الشفعة.
وإذا قال صاحب الثلث: أنا لا أريدها، فماذا نقول لصاحب السدس؟ نقول: خذ نصيب صاحب النصف، فيكون لك أربعة من ستة، فإذا قال: ما أتحمل، قلنا: إذاً لا شفعة، ولهذا قال:«فإن عفا أحدهما أخذ الآخر الكل أو ترك» .
وهذا الاشتراك يسمِّيه العلماء اشتراك تزاحم، بمعنى أنه إذا طلب كل واحد منهم حقه زاحم الآخرين، وإن أسقط حقه لزم الآخرين؛ لأن هذا الاشتراك اشتراك تزاحم، وإذا كان اشتراك تزاحم فإنه إذا طلب كل واحد حقه ازدحموا فيه، وإن عفا عاد إلى الآخرين.
قوله: «وإن اشترى اثنان حق واحد أو عكسه أو اشترى واحد شقصين من أرضين صفقة واحدة فللشفيع أخذ أحدهما» مثال الصورة الأولى: أرض بين رجلين باع أحدهما نصيبه من الأرض على رجلين، فنقول: للشفيع أن يأخذ نصيب أحد الرجلين دون الآخر؛ لأنه في هذه الحال لا ضرر على واحد منهما، إذ إن أحدهما أُخِذ حقه بالشفعة وهو حق للشريك، والثاني بقي حقه كاملاً، فيكون الملك الآن بين اثنين؛ لأن الثالث أخرجناه بأخذ نصيبه بالشفعة.
فإذا قال الذي لم يؤخذ نصيبه: في هذا ضرر عليَّ، نقول: ليس فيه ضرر عليك، أنت لك الربع من الأصل، والآن الربع باقٍ ولم يتجدد لك شريك، فالشريك الأول الذي لم يبع ما زال موجوداً.
وهذا ربما يحتاج إليه الإنسان إما لكونه ليس عنده مال يدفعه للاثنين، وإما لكون أحد الشريكين سيئ العشرة والآخر طيب العشرة، وإما للعدوان على الشريك الثاني، فيريد أن يحرمه من الأرض، أو لأي سبب فله ذلك.
وقوله: «أو عكسه» مثال ذلك: اشترى واحد حق اثنين، إذاً الأرض بين ثلاثة أطراف، فباع اثنان حقهما على واحد، فللشفيع أن يشفع في نصيب واحد من شركائه دون الثاني، والتعدد الآن في البائع، فله أن يأخذ بنصيب أحدهما.
وقوله: «أو اشترى واحد شقصين من أرضين صفقة واحدة فللشفيع أخذ أحدهما» مثال ذلك: أرضان شركة لشخصين، فباع أحد الشريكين نصيبيه من الأرضين على واحد، فللشفيع أن يأخذ أحد الشقصين؛ لأنه الآن تعدد المعقود عليه، والصورتان السابقتان تعدد فيهما المشتري أو البائع، وهذا بخلاف ما إذا اشترك اثنان في شفعة فإننا نقول: إما أن تأخذا جميعاً بالشفعة وإلا فيسقط حق أحدكما، وهو اشتراك تزاحم.
والخلاصة: أن هذه المسألة لها أربع صور:
الأولى: اتحاد البائع والمشتري والمبيع، فإذا طلب الشفيع أخذ البعض لم يُمَكَّن وتسقط شفعته على المذهب.
الثانية: تعدد البائع، بأن يبيع رجلان نصيبيهما من أرض واحدة على رجل واحد، فهنا للشفيع أن يأخذ بأحدهما.
الثالثة: تعدد المشتري، بأن يبيع الإنسان نصيبه من أرض واحدة على شخصين، فللشفيع أن يأخذ من أحد الشخصين.
الرابعة: تعدد الشقصين، أن يكون للشريك شركة في أرضين فيبيع شركته في الأرضين على شخص واحد صفقة واحدة فللشفيع الأخذ بالشفعة في إحدى الأرضين، فالصورة التي يمتنع فيها تبعض الشفعة هي الصورة الأولى.
وَإِنْ بَاعَ شِقْصاً وَسَيْفاً، أَوْ تَلِفَ بَعْضُ المَبيعِ فَلِلشَّفِيعِ أَخْذُ الشِّقْصِ بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ. وَلَا شُفْعَةَ بِشَرِكَةِ وَقْفٍ، وَلَا غَيْرِ مُلْكٍ سَابِقٍ، وَلَا لِكَافِرٍ عَلَى مُسْلِمٍ.
قوله: «وإن باع شقصاً وسيفاً أو تلف بعض المبيع» الفقهاء رحمهم الله دائماً يتلقون العبارات بعضهم عن بعض، فأول من مثَّل بهذا المثال قال: باع شقصاً وسيفاً، ونحن نقول: إن باع شقصاً وكتاباً، وهذا اللائق بطلبة العلم، وبالمجاهدين: شقصاً وسيفاً، وبالنجارين: شقصاً وباباً، وبأصحاب المعارض: شقصاً وسيارةً، إذاً نمثل لكل إنسان بما يناسبه، وضابط المسألة: إذا باع ما فيه الشفعة وما لا شفعة فيه، فالمراد بالشقص هنا الشقص الذي فيه الشفعة، والسيف ما لا شفعة فيه، فإذا باع في صفقة واحدة ما فيه الشفعة وما لا شفعة فيه يقول:
«فللشفيع أخذ الشقص بحصته من الثمن» وأما الآخر الذي ليس فيه شفعة فلا يأخذه بالشفعة، مثاله: رجل صاحب معرض بيع عليه شقص وسيارة، فللشفيع ـ وهو الشريك في الأرض ـ أن يأخذ بالشفعة في الأرض دون السيارة، وكيف ذلك؟ نقول: كم تساوي الأرض؟ قالوا: تساوي مائتي ألف، وكم تساوي السيارة؟ قالوا: خمسين ألفاً، فالثمن الآن يكون مائتين وخمسين، فنقول: خذ الأرض بمائتين والسيارة للمشتري، ولهذا قال:«فللشفيع أخذ الشقص بحصته من الثمن»
ولم يقل: بحصته من القيمة؛ لأن الشفعة يرجع فيها إلى الثمن لا إلى القيمة.
وقوله: «أو تلف بعض المبيع فللشفيع أخذ الشقص بحصته من الثمن» بمعنى أنه باع أرضاً وسيفاً أو سيارة أو ما أشبه ذلك، وتلف البعض فللشفيع أخذ الباقي بحصته من الثمن، أو أرضاً باعها وتلف بعضها، كما لو أخذها مَنْ لا تمكن مطالبتُهُ فللشفيع أخذ الباقي بحصته من الثمن، ومثل ذلك لو كانت الأرض عليها غراس ثم تلف الغراس قبل الأخذ بالشفعة فللشفيع الأخذ بالشفعة في الباقي بقسطه من الثمن، مثال ذلك: أرض بين زيد وعمرو وفيها غراس، باع عمرو نصيبه من هذه الأرض، ثم تلف الغراس، ومن المعلوم أن القيمة سوف تنقص، فإذا قدرت الأرض بالغراس بعشرة آلاف ريال، وبدون غراس سبعة آلاف ريال، فيأخذ الشفيع النصيب بسبعة آلاف ريال؛ لأن بعض المبيع قد تلف فينقص من الثمن قدر قيمة التالف.
قوله: «ولا شفعة بشركة وقف» يعني لو كان الشريك نصيبه موقوفاً، وباع شريكه فإن الموقوف عليه لا يأخذ بالشفعة.
مثال ذلك: أرض بين اثنين وهي على أحدهما وقف وعلى الثاني طِلق وليست وقفاً، فباع صاحب النصيب الطلق، فهل لشريكه الموقوف عليه أن يشفع؟ يقول المؤلف: لا؛ لأن الملك في الوقف قاصر وغير تام؛ لأن الموقوف عليه لا يستطيع أن يبيع الوقف أو يرهنه، فملكه إذاً غير تام، وإذا كان غير تام فكيف
نسلطه على أخذ مال المشتري؟! ولكن القول الراجح في هذه المسألة أن له الشفعة، أي: للشريك الذي نصيبه الوقف أن يأخذ بالشفعة؛ لأن العلة الثابتة فيما إذا كان الملك طلقاً هي العلة الثابتة فيما إذا كان وقفاً، بل العلة فيما إذا كان وقفاً أوضح؛ لأن هذا الوقف لا يمكن أن يتخلص منه الموقوف عليه، ولو كان طلقاً لكان إذا وجد الشريك الجديد سيئ المعاملة يبيع نصيبه وينتهي، فالشفعة في شركة الوقف أحق منها في شركة الطلق؛ لأن تضرر الشريك في الوقف أشد من تضرر صاحب الملك الطلق.
وأما قولهم: إنه غير تام، فيقال: هو تام باعتبار أن الموقوف عليه يملك الوقف، حتى عند الأصحاب رحمهم الله قالوا: إن الوقف يملكه الموقوف عليه لكنه ملك قاصر.
وإذا كان له الشفعة وأخذ بها فهل يكون هذا النصيب تبعاً للوقف أو يكون ملكاً للموقوف عليه؟ الثاني، فهو ملك طلق للموقوف عليه، إلا إذا نوى أنه تبع للوقف فيكون تبعاً للوقف، وحينئذ نسأل هل الأولى أن ينويه للوقف أو يبقيه على ملكه؟ ينظر للمصلحة، فإذا كان في الوقف ريع كثير يتحمل ثمن هذا الشقص فالأولى أن يجعله للوقف؛ لأجل أن ينمو الوقف ويزداد، ولأجل أن لا يكون نزاع فيما إذا مات الموقوف عليه؛ لأن الموقوف عليه إذا مات لا ينتقل الوقف انتقال ميراث بل ينتقل حسب شرط الواقف.
فإذا قال قائل: إذا صار لنفسه فإن الشركة لم تنتفع، لأن الملك الآن ليس مصرفه واحداً؟
قلنا: هذا حق، لكن لا شك أن كون الإنسان مشاركاً بنفسه لنفسه خير من كونه يتلقى شريكاً جديداً.
مثال آخر: زيد وعمرو شريكان في أرض قد أوقفاها، فباع عمرو نصيبه من هذه الأرض لسبب اقتضى بيعها، فإنه ليس لزيد أن يشفع؛ لأن شريكه لو وقف الأرض لم يكن له أن يشفع، فكذلك إذا باعها ـ وهي وقف ـ فليس له أن يشفع.
والصواب ـ أيضاً ـ أن له أن يشفع؛ لأن الوقف إذا بيع فقد انتقل بعوض مالي، والضرر الحاصل بالشركة الجديدة في الوقف أشد من الضرر الحاصل في الشركة الجديدة في الطِّلق؛ لأن شريك الطلق يستطيع التخلص ببيعه، وشريك الوقف لا يستطيع التخلص، فكان الأخذ بالشفعة بشركة الوقف أولى من أخذها بالشركة في الطلق.
والحاصل أن الشفعة ثابتة في الصورتين، وما استدل به المانعون لا يستقيم، بل الصواب العموم بدلالة الحديث:«قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل مالم يقسم»
(1)
، وهذا عام في الشركة في ملك مطلق أو شركة وقف.
قوله: «ولا غير ملك سابق» يعني لا بد أن يسبق ملكُ الشريكِ الشفيعِ ملكَ المشتري، فلو اشترى اثنان حق واحد أو اشتريا أرضاً صفقة واحدة، فهل لأحدهما أن يشفع على الآخر؟ لا؛ لأن ملكهما ليس بسابق، فهما ملكا الأرض صفقة واحدة،
(1)
سبق تخريجه ص (235).
فإذا قال زيد لعمرو وهما المشتريان: أنا أشفع عليك، يقول عمرو: أنا أشفع عليك، فحينئذٍ نقول: لا شفعة لواحد على الآخر، وأنتما اشتريتما الأرض أو الشقص صفقة واحدة فتساويتما، فلا حق لأحدكما على الآخر، إذاً لا بد أن يسبق ملك الشفيع ملك شريكه.
ولو أن أرضاً بين اثنين كانت لأحدهما دون الآخر في الأول ثم اشترى نصفها منه، ثم إن المالك الأول باع نصيبه على آخر فإن الشفعة تثبت؛ لأن ملك البائع سابق على ملك المشتري وملك المشتري سابق على الملك الذي فيه الشفعة.
وقوله: «ولا غير ملك» فلا شفعة في شركة إجارة، كما لو استأجر رجلان بيتاً، فأجر أحدهما نصيبه، فإنه ليس لشريكه أن يشفع؛ لأنه غير مالك للرقبة وإنما هو مالك للمنفعة، والملك للمؤجر الأول، والشفعة تثبت بانتقال الملك.
قوله: «ولا لكافر على مسلم» يعني لو كانت أرض بين مسلم ونصراني، فباع المسلم نصيبه على رجل مسلم، فهل للنصراني أن يشفع؟ يقول المؤلف: لا؛ لأننا لو مكنَّاه من الشفعة لسلطنا كافراً على مسلم، والإسلام يعلو ولا يعلى عليه.
ولو كان الشريكان كافرين وباع أحدهما على مسلم، فهل يأخذ شريكه الكافر بالشفعة؟ لا؛ لأن العلة واحدة، وهي إهانة المسلم.
وقال بعض أهل العلم: بل للكافر شفعة على المسلم؛ لأن الشفعة من حق التملك وليست من حق المالك، وإذا كان الكافر
له الخيار ـ أي: خيار المجلس ـ ويمكن أن يفسخ العقد كرهاً على المسلم؛ لأن هذا حق ملك، فكذلك الشفعة.
وصورة المسألة الأخيرة: مسلم باع على كافر شيئاً فهل للكافر ما دام في مجلس الخيار أن يفسخ البيع؟ نعم له ذلك؛ لأن هذا من باب حق التملك فله أن يفسخ، حتى وإن كره المسلم؛ لأن هذا حقه وهذا مقتضى العقد، والشفعة حق، ومقتضى بيع الشريك على أجنبي أن يكون للشريك الأول حق الشفعة.
فالمسألة فيها خلاف بين العلماء، ولو قلنا برجوع هذا إلى نظر الحاكم أي القاضي لكان هذا جيداً، ويظهر هذا بالقرائن، فإذا عرفنا أن الكافر سوف يفتخر بأخذ الشفعة من المسلم ويرى أنه علا عليه فحينئذ لا نمكنه، أما إذا علمنا أن الكافر مهادن وأنه لم يأخذ بالشفعة إلا لأنه مضطر إليها لمصلحة ملكه، فإننا نمكنه منها.
فَصْلٌ
وَإِنْ تَصَرَّفَ مُشْتَرِيهِ بِوَقْفِهِ، أَوْ هِبَتِهِ أَوْ رَهْنِهِ لَا بِوَصِيَّةٍ سَقَطَتْ الشُّفْعَةُ.
قوله: «وإن تصرف مشتريه» أي: مشتري الشقص.
قوله: «بوقفه» أي: تسبيله، يعني أنه حين اشترى الشقص وقفه، سواء على خاص أو على عام، فعلى الخاص، مثل أن يقول حين اشترى الشقص: هذا وقف على فلان أو على ذريتي، فإن الشفعة تسقط، والعام مثل أن يقول حين اشتراه: هذا وقف على الفقراء، فتسقط الشفعة؛ لأن الشقص انتقل بعقد لا تثبت به الشفعة؛ لأن الشفعة إنما تثبت فيما إذا انتقل بعوض مالي وهنا انتقل الملك إلى الوقف، والوقف ليس فيه شفعة، يعني لو أن أحد الشريكين وقف نصيبه من أرض مشتركة فليس لشريكه أن يشفع؛ لأنه انتقل ملكه بغير عوض مالي.
ومثل ذلك أن يصير الشقص وقفاً بمجرد الشراء، وذلك بأن يكون المال الذي اشتراه به المشتري بدلاً عن وقف بيع، مثال ذلك: أرض بين زيد وعمرو فاشترى بكر نصيب عمرو بدراهم هي عوض عن وقف باعه، فبمجرد شراء بكر لنصيب عمرو يكون وقفاً؛ لأنها عوض عن وقف، والعوض يثبت له حكم المعوض في الحال.
قوله: «أو هبته» يعني أن الذي اشترى الشقص وهبه لشخص آخر فتسقط الشفعة؛ لأنه لو انتقل الشقص بالهبة لم تثبت الشفعة، فإذا انتقل من المشتري إلى جهة أخرى لا تثبت الشفعة بانتقاله إليها فإن الشفعة تسقط.
قوله: «أو رهنه» يعني أن مشتري الشقص رهنه، مثاله: أرض بين شريكين باع أحدهما نصيبه على ثالث، فالثالث استدان
من شخص وأرهنه نصيبه الذي اشتراه، يقول المؤلف: إن الشفعة تسقط؛ لأن الرهن ليس انتقالاً ولكنه إشغال، فالإنسان إذا رهن ملكه عند شخص فهل معناه أنه باعه عليه، أو وهبه له؟ لا، ولكن شغل الملك للتوثقة، أي: لتوثقة صاحب الدين، فليس انتقال ملك؛ هذا ما ذكره المؤلف رحمه الله.
والصحيح أنها لا تسقط بالرهن؛ لأن الملك لم ينتقل للمرتهن وهو المذهب، لكن يقال: إن أوفى الراهن دينه أخذ الشريك بالشفعة وإن لم يوفِ وبيع الرهن فحينئذ نرجع إلى انتقاله ببيع، وسيأتي ذكره إن شاء الله؛ وذلك لأن الرهن لم ينتقل به الملك فهو على ملك المشتري إنما تعلق به حق الغير، فإذا تعلق به حق الغير فإننا نبقي حق الغير وحق الشفيع، ونقول: ما دام مرهوناً لا يمكن أن تأخذه بالشفعة؛ لأنه مشغول، لكن إن أوفى المدين دينه صار الرهن طِلقاً ليس مرهوناً فخذه بالشفعة، وإن لم يوفِ وبيع فخذه أنت بأحد البيعين كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
وقيل: بل يأخذه ولا ينتظر، وحينئذ ينفسخ الرهن ولا يكون للمرتهن حق في هذا المرهون؛ لأنه إنما رهن عينه وقد استحقت للغير فيبطل الرهن.
فإذا قال قائل: إذا بطل الرهن فهل للمرتهن أن يطالب الراهن بعوض عن ذلك الرهن؟ فالجواب: لا؛ لأن الرهن متعلق بعين المرهون وقد صارت مستحقة للغير، فهو كما لو رهن مغصوباً ثم أخذه مالكه فإن المرتهن لا يطالب بعوضه فينفسخ الرهن، ويبقى الدين في ذمة الراهن.
ومثل ذلك لو آجر النصيب الذي اشتراه، فهل تسقط الشفعة أو لا؟ المذهب: أنها تنفسخ الإجارة ويأخذه بالشفعة، والصحيح أنها لا تنفسخ الإجارة وأنها باقية، ولكن للشفيع الأجرة من حين أخذه بالشفعة.
مثال ذلك: باع أحد الشريكين نصيبه على شخص ثالث، والشخص الثالث آجره فوراً، بأن قال لشخص: أجرتك نصيبي لمدة خمس سنوات، فالإجارة على المذهب تنفسخ؛ لأن حق الشفيع سابق على حق المستأجر.
القول الثاني: لا تنفسخ، وللشفيع الأجرة من حين أخذ بالشفعة، فإذا قدرنا أنه أخذ بها بعد شهر صارت بقية خمس السنوات أجرتها للشفيع؛ وذلك لأن المشتري آجر الشقص وهو على ملكه، فالإجارة صحيحة وهي عقد لازم، وإذا كان هذا الرجل تصرف تصرفاً مأذوناً فيه بعقد لازم، فإننا لا يمكن أن نضيع حق المستأجر، بل نقول للمستأجر: تبقى ولكن الأجرة من حين أخذ الشفيع تكون للشفيع، وهذا لا شك أنه أقرب إلى العدل.
قوله: «لا بوصية سقطت الشفعة» يعني لا إن تصرف مشتريه بوصية فإنها لا تسقط، فيكون المؤلف رحمه الله ذكر ثلاثة أشياء تسقط بها الشفعة، وذكر شيئاً واحداً لا تسقط به الشفعة.
مثاله: رجلان شريكان في أرض باع أحدهما نصيبه على شخص، ومن حين اشتراه الشخص أوصى به، بأن قال: أوصيت بنصيبي الذي اشتريت أن يكون وقفاً على طلبة العلم، فالشفعة لا
تسقط؛ لأن الوصية لا ينتقل بها الملك إلا بعد موت الموصي، وقبول الموصى له إن كان معيناً أو جماعة يمكن حصرهم، وقبل الموت يكون الموصى به ملكاً للموصي، فإذا شفع الشريك انتقل الملك من نصيب الموصي إلى نصيب الشريك فتبطل الوصية؛ لأن محلها تعذر أن تنفذ فيه الوصية.
الخلاصة: أنه إذا تصرف المشتري فيما اشتراه تصرفاً ينقل الملك على وجه لا تثبت فيه الشفعة ابتداء فإن الشفعة تسقط، وإن تصرف فيه تصرفاً لا ينقل الملك فالشفعة باقية، مثل: الإجارة والوصية والعارية وما أشبه ذلك، حتى الرهن على القول الراجح ـ وهو المذهب ـ خلافاً لما قال المؤلف رحمه الله.
والقول الثاني في المسألة: أن هذا التصرف لا يبطل حق الشفيع حتى لو أوقفه المشتري أو وهبه أو جعله صداقاً، أو جعلته المرأة عوضاً عن خلع فإن ذلك لا يسقط حق الشفيع؛ لأن هذا الشقص انتقل من شريكه على وجه تثبت به الشفعة، فكان ثبوت الشفعة سابقاً على تصرف المشتري، وإذا تزاحمت الحقوق أخذ بالأسبق، فنقول: حق الشفيع سابق على حق المشتري فكان أحق بالتنفيذ من تصرف المشتري، وعلى هذا فإذا تصرف المشتري بوقفه ـ ولو على أناس معنيين ـ ثم أخذ الشريك بالشفعة فإن الوقف يبطل؛ لأن العين انتقلت إلى غير الواقف بحق سابق على الواقف.
كذلك في الهبة، إذا وهب المشتري الشقص، فإننا نقول: للشريك أن يأخذه بالشفعة؛ لأن حقه سابق على تصرف
المشتري، فإذا أخذ بالشفعة بطلت الهبة، فهل للموهوب له أن يطالب الواهب بقيمة هذه الهبة؟
الجواب: لا يطالبه؛ لأنه لما أخذ بالشفعة انسحب الحكم على ما قبل الهبة، فصادفت الهبة شيئاً مملوكاً لغير الواهب.
ولهذا نقول: إن القول الراجح في هذه المسألة أنه إذا تصرف المشتري بهبته أو وقفه أو جعله صداقاً أو ما أشبه ذلك، فإن للشفيع أن يشفع.
وفي مسألة الهبة والوقف لا حق للموهوب له أو للموقوف عليه في الرجوع على الواهب أو الواقف، ولكن إذا جعله الزوج صداقاً، وقلنا بالقول الراجح وهو أن للشريك أن يشفع، فشفع، بطل كونه صداقاً، ولكن يُقوَّم الشقص وتعطى ما قُوِّم به.
فإذا قال قائل: أفلا ترجع إلى ثمن الشقص الذي أصدقها زوجها؟
فالجواب: لا؛ لأن الثمن قد يكون فيه محاباة من البائع فينقص عن القيمة، وقد يكون فيه محاباة من المشتري فيزيد على القيمة.
وإن تصرف فيه بنقل الملك على وجه تثبت به الشفعة ابتداءً فهو ما ذكره المؤلف رحمه الله بقوله:
وَبِبَيْعٍ فَلَهُ أَخْذُهُ بِأَحَدِ البَيْعَيْنِ وَلِلمُشْتَرِي الغَلَّةُ، وَالنَّمَاءُ المُنْفَصِلُ، وَالزَّرْعُ، وَالثَّمَرَةُ الظَّاهِرَةُ. فَإِنْ بَنَى أَوْ غَرَسَ فَلِلشَّفِيعِ تَمَلُّكُهُ بِقِيمَتِهِ، وَقَلْعُهُ، وَيَغْرَمُ نَقْصَهُ، وَلِرَبِّهِ أَخْذُهُ بِلَا ضَرَرٍ.
«وببيع فله أخذه بأحد البيعين» يعني إن تصرف فيه ببيع، والفاعل المشتري، يعني أن المشتري باعه على آخر «فله» أي: للشفيع وهو الشريك الأول «أخذه» أي: أخذ الشقص «بأحد البَيْعَيْن» .
مثاله: باع الشريك وهو زيد على عمرو نصيبه من الملك، ثم باع عمرو نصيبه على بكر، فعندنا الآن بيعان، بيع زيد على عمرو، وبيع عمرو على بكر، فبم يأخذ الشريك؟ أيأخذ بالبيع على عمرو، أم بالبيع على بكر؟ يقول المؤلف:«له أخذه بأحد البيعين» ، والغالب أنه سوف يأخذ بالأقل ثمناً، وقد يأخذ بالأكثر إذا كان هناك مماطلة.
فلو باع الشريك الذي هو زيد نصيبه على عمرو بمائة ألف، ثم إن عمراً باعه على بكر بمائتي ألف، فشريك زيد هنا يأخذ بالبيع الأول، فإذا أخذه بالبيع الأول سوف ينتزع ملكه من بكر وسيعطيه مائة ألف، فأين تذهب مائة الألف التي سلَّمها بكر؟ نقول: يرجع بها على من باع عليه وهو عمرو.
فإذا كان العكس بأن باعه زيد على عمرو بمائتي ألف، وعمرو باعه على بكر بمائة ألف، فالشريك الآن لا شك أنه سيأخذ بالثاني، فإذا أخذ بالثاني سوف يعطي بكراً مائة ألف، وبكر لن يرجع على أحد؛ لأنه لم يُضَمَّن شيئاً، سلَّم مائة ألف وأُخِذَ منه الشقص وأعطي مائة ألف.
المهم أنه إذا بيع فللشفيع أخذه بأحد البَيْعَيْن، وإن بيع ثلاث مرات أو أربع مرات فيأخذ بما يرى أنه أنسب له سواء كانت أول بيعة أو آخر بيعة أو ما بينهما، والرجوع كلٌ يرجع على من أخذه منه بما زاد على ما أعطي.
فتصرفات المشتري في الشقص تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: تصرف بلا عوض لا تثبت به الشفعة، وهو الوقف والهبة، والراجح ثبوت الشفعة.
الثاني: تصرف بعوض ينقل الملك وهو البيع فله أخذه بالشفعة بأحد البيعين.
الثالث: تصرف بعوض لا ينقل الملك وهو الرهن والإجارة، والمؤلف يرى سقوط الشفعة بالرهن والإجارة، والصحيح أن ذلك لا يسقط الشفعة وأن للشريك أن يأخذ الشقص.
قوله: «وللمشتري الغلة» أي: لمشتري الشقص الغلة.
مثال ذلك: رجلان شريكان في عمارة وأجَّراها السنة بمائة ألف، ثم إن أحد الشريكين باع نصيبه على شخص، وخفي على الشريك أنه باع حتى مضى أربعة أشهر، فالغلة في هذه أربعة الأشهر للمشتري، وتعليل ذلك أنه نماء ملكه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«الخراج بالضمان»
(1)
فهو ملكه مضمون عليه فتكون له غلته.
قوله: «والنماء المنفصل» فله ـ أيضاً ـ النماء المنفصل، مثاله: رجل باع نصيبه من النخل قبل أن يثمر ولم يطالب الشريك إلا بعد أن خرجت الثمرة وجذها، فانفصلت الزيادة فتكون للمشتري؛ لأنها نماء ملكه.
قوله: «والزرع» فلو أن الشريك باع نصيبه على شخص،
(1)
أخرجه الإمام أحمد (6/ 80، 116)؛ وأبو داود في البيوع/ باب فيمن اشترى عبداً فاستعمله (3508)؛ والترمذي في البيوع/ باب ما جاء فيمن يشتري العبد (1285)؛ والنسائي في البيوع/ باب الخراج بالضمان (7/ 254)؛ وابن ماجه في التجارات/ باب الخراج بالضمان (2242) عن عائشة رضي الله عنها؛ وصححه الترمذي؛ وابن حبان (4927)؛ والحاكم (2/ 15)، ووافقه الذهبي.
وزُرِعت الأرض فالزرع للمشتري ما دام قد ظهر، أما إذا كان حباً مدفوناً في الأرض فإنه يتبعها، لكن إذا ظهر فإنه يكون للمشتري؛ لأنه برز وبان وتعلقت به نفسه، فيبقى في الأرض حتى الحصاد.
قوله: «والثمرة الظاهرة» تكون ـ أيضاً ـ للمشتري حتى وإن لم تؤبر، ففي هذا الموضع لم يفرقوا بين المؤبر وغير المؤبر، وجعلوا الثمرة الظاهرة نماءً منفصلاً.
ولكن الصحيح أنها إذا لم تؤبر فإنها تتبع قياساً على البيع، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«من باع نخلاً بعد أن تؤبر فثمرتها للذي باعها»
(1)
.
وعلم من قول المؤلف: «النماء المنفصل» أن النماء المتصل يتبع وليس للمشتري منه شيء، مثاله: اشترى نصيب زيد من النخل، والنخل ما زال غراساً صغيراً وبقي الشريك لم يعلم أن شريكه قد باع، ونما النخل وكبر، فهل هذا النماء للمشتري، أو ليس له؟ مفهوم كلام المؤلف يدل على أنه ليس له؛ لأنه نماء متصل مع أن المشتري تعب عليه، وخسر في إصلاح الأرض وحرثها وجلب الماء له، المهم أنه خسر عليه، ومع ذلك يقولون: ليس له شيء، لأن هذا نماء متصل فيتبع.
لكن القول الراجح ـ بلا شك ـ أن النماء المتصل كالمنفصل يكون لمن انتقل إليه الملك ولا فرق، وهذا هو
(1)
سبق تخريجه ص (248).
العدل؛ لأن الرجل تعب عليه، ونما بسبب عمله، ومثل ذلك الشاة في غير الشفعة إلا على القول الراجح إذا سمنت، فإن النماء المتصل يكون للمشتري.
إذاً الصواب خلاف مفهوم كلام المؤلف، وكلام المؤلف يدل على أن النماء المتصل يتبع العين وليس للمشتري شيء، والقول الراجح أنه لا يتبع، ولكن إن لم يمكن فصله فحينئذ تقدر قيمته للمشتري، بأن يقوَّم النخل وهو فسيل صغير ويقوَّم وهو كبير قد نما، فتقوَّم الأرض وفيها النخل على صفته حين البيع، ثم تقوَّم وفيها النخل على صفته حين الأخذ بالشفعة، والفرق بين القيمتين يكون للمشتري؛ لأنه قيمة النماء المتصل، وهذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ولا شك أن هذا هو العدل، فالعدل أن يعطى كل إنسان ما تعب عليه وعمل فيه، ويدل لهذا قول النبي صلى الله عليه وسلم:«ليس لعرق ظالم حق»
(1)
فإن مفهومه أن العرق غير الظالم له حق، والمشتري عرق غير ظالم فله الحق.
قوله: «فإن بنى أو غرس فللشفيع تملكه بقيمته وقلعه ويَغرم نقصه» .
قول المؤلف: «فإن بنى أو غرس» يتنافى مع قوله فيما سبق إن الشفعة تكون على الفور، فكيف يكون بناء وغراس والشفعة على الفور؟! نعم قد يحصل ذلك بأن يكون هناك حيلة بأن يخفى على الشريك البيع، فيأتي المشتري وكأنه وكيل لشريكه ثم يعمل،
(1)
سبق تخريجه ص (66).
والشريك يظن أن هذا وكيل ولا يدري أنه انتقل الملك، وبعد ذلك يعلم أنه انتقل الملك، فحينئذ يتصور أن المشتري يبني ويغرس، فإذا بنى أو غرس يخيَّر الشفيع بين أمرين: بين تملكه بقيمته أو قلعه ويغرم النقص، فإن اختار التملك فله ذلك، ولكن كيف نعرف قيمة الغراس والبناء؟ نقدِّر الأرض خالية منهما ثم نقدِّرها وهما فيها، والفرق بين القيمتين هو قيمة الغراس والبناء.
فإن قال قائل: لماذا لا نعطيه قيمة الغراس والبناء من أصله؟ نقول: هذا لا يستقيم؛ لأن الأمور قد ترخص وقد تزيد وقد تكون قيمة المواد قبل أن تُبْنى ويؤلف بينها شيئاً وقيمتها بعد البناء شيئاً آخر، والعدل هو أن تقوَّم الأرض خالية من الغراس والبناء، ثم تقوم وفيها الغراس والبناء، فما بين القيمتين يكون هو قيمة الغراس والبناء.
فإذا قال الشفيع: أنا أريد أن يبقى الغراس والبناء وأنا أعطيكم القيمة فإننا نقبل، وإن قال: أنا لا أريد أن يبقى الغراس والبناء؛ لأني أريد أن أبني الأرض على شكل آخر غير الشكل الموجود، فهل له الحق أن يقلعه؟ نعم له الحق، فإذا قال المشتري: هذه أدواتي وآلاتي، هذا حديدي، وهذا لَبِني، وهذه أبوابي فلا تتصرف فيها، نقول له: تصرف فيها واقلعها لكن تغرم النقص، فإذا قدرنا أن الأبواب واللبن نقصت بعد قلعها فإنه يضمن نقصها.
والغراس كذلك يضمن النقص فيه، فإذا نقصت الشجرة بعد قلعها يضمن نقصها، فإن كانت الشجرة بعد قلعها لا يمكن أن تنمو فإنه يضمنها كلها.
فإذا قال قائل: لماذا تضمِّنونه النقص وفي الغصب لا تجعلون للغاصب حقاً؟ نقول: لأن المشتري غرسها وبنى بحق، أما الغاصب غرس وبنى بلا حق فلا شيء له، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«ليس لعرق ظالم حق»
(1)
فمفهومه أن العرق غير الظالم له حق.
فإذا قال الشفيع: أنا أريد أن أهدم البناء وأقلع الغرس ولكن لا أضمن النقص.
قلنا: إذن تسقط شفعتك ولا حق لك، وتبقى الأرض والبناء والغراس للمشتري.
قوله: «ولربه أخذه بلا ضرر» إذا تعارض رأي المالك ـ أي: مالك الغراس والبناء ـ ورأي الشفيع، فالشفيع يقول: أنا أريد أن آخذها وثَمِّنُوها علي، وقال ربها: أريد أن آخذها، أنا لي مكان آخر وسوف آخذ هذا الغراس وأغرسه في مكانه، فالقول قول ربها؛ لأنه ملكه.
لكن المؤلف رحمه الله قيد هذا وقال: «بلا ضرر» ولا مضارة، ولا بد من هذا فإن كان هناك ضرر فإنه لا يمكن أن يزال الضرر بمصلحة؛ لأن أخذ ربها له مصلحة له، لكن يتضرر رب الأرض، ومن المعلوم أن درء المفاسد أولى من جلب المصالح، لا سيما إذا علمنا أن صاحبها أي: المشتري يريد أن يأخذ الغراس والبناء مضارة لا لمصلحة، وهذا قد يقع، وإن كان قد لا ينتفع به، فيقول: أنا أريد أن أهدم البناء وأنا أعرف الآن أنني لا أنتفع
(1)
سبق تخريجه ص (66).
بالحديد ولا اللبن، نقول: هذا سفه ولا يمكن أن نمكنك من السفه فإن الله يقول: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ *} [النساء: 5] فنمنعه.
إذاً نمنعه في حالين:
الأولى: إذا كان على الأرض ضرر.
الثانية: إذا كان المشتري لا ينتفع بها، فنكون زدنا على كلام المؤلف:«بلا ضرر» إن كان يمكنه الانتفاع بها؛ لأنه إذا كان ضرر فإنه لا يمكن أن يقع الإنسان في ضرر لأجل مصلحة؛ لأن دفع الضرر مقدم على المصلحة.
وإن لم يكن ضرر، لكن يفسد هذا الغراس والبناء، فإننا لا نمكّن المشتري من ذلك؛ لأن هذا من باب إضاعة المال والسفه، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال
(1)
، وقال تعالى:{يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ *} [النساء: 5].
والغريب أن الأصحاب رحمهم الله يخالفون كلام المؤلف يقولون: له أخذه ولو تضررت الأرض ولو مع ضرر، لكن هذا القول ـ أي: المذهب ـ ضعيف، وهذا يدلنا على أن صاحب الكتاب لم يلتزم بالمذهب في جميع المسائل، وهذا كثير لمن تدبره، يعني لو أن أحداً تدبر هذا الكتاب منطوقاً ومفهوماً وإشارة لوجد فيه أشياء كثيرة تخالف المشهور من المذهب.
وَإِنْ مَاتَ الشَّفِيعُ قَبْلَ الطَّلَبِ بَطَلَتْ، وَبَعْدَهُ لِوَارِثِهِ، وَيَأْخُذُ بِكُلِّ الثَّمَنِ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْ بَعْضِهِ سَقَطَتْ شُفْعَتُهُ.
قوله: «وإن مات الشفيع قبل الطلب بطلت وبعده لوارثه» فإذا مات الشفيع ـ وهو الشريك الأول ـ قبل أن يطالب بالشفعة فإن الشفعة تبطل وليس لوارثه المطالبة بذلك، أما إذا كان بعد المطالبة فإن
(1)
سبق تخريجه ص (152).
الوارث يأخذ بها، والمطالبة أن يقول: أنا أريد أن أشفع، ولي الحق في هذا، والأخذ أن يقول: أخذته بالشفعة، فيصرح بأنه تملكه.
وهذا يشبه من بعض الوجوه الخِطبة والعقد، فالخطبة إبداء الخاطب الرغبة في هذه المرأة، والعقد تملكه إياها بعقد النكاح. فالشفيع إذا مات قبل أن يطالب فإنه لا شفعة له؛ لأنه لم يطالب، ولا لوارثه؛ لأن الشفعة حق للشفيع حيث إن الخيار له، فلما مات ولم يختر لم يكن لوارثه أن يختار، كخيار الشرط.
قالوا: لأنه يشبه مَنْ أَوْجَبَ البيعَ ثم مات قبل قبول المشتري، فإن الإيجاب يبطل، قالوا: وكذلك الشفعة تبطل إذا مات قبل أن يطالب.
ولكن هذا القياس ليس بصحيح؛ لأنه إذا مات الموجب قبل القبول لم يتم البيع، فإن العقد لا يتم إلا بإيجاب وقبول، أما هذه المسألة فإن الشفعة ثبتت بمجرد بيع الشريك، فصارت حقاً للشفيع، وهي متعلقة بالمال لا ببدنه فإنها تبقى لمن ورث المال بعده، ونظير ذلك لو اشترى الإنسان شيئاً وتبين فيه عيب، ولكنه مات قبل أن يطالب به، فللورثة المطالبة به، مع أن صاحب السلعة ـ المشتري ـ لم يطالب، ولكننا نقول: لمّا لم يسقط حقه فإن الرد بالعيب متعلّق بماله الذي ورث من بعده.
فالقول الراجح في هذه المسالة أنه ينتقل حق المطالبة بالشفعة إلى الوارث؛ لأن هذا تابع للملك، فإذا مات الشفيع ولم يطالب فللوارث أن يطالب؛ لأن هذا من حقوق الملك، وإذا كان من حقوق الملك فإن الملك ينتقل بحقوقه، ولهذا نجد
في وثائق البيع قولهم: فصار المبيع ملكاً للمشتري بجميع حقوقه وحدوده، ومنها الأخذ بالشفعة، وهذا هو الصواب؛ لأنه حق ثابت فيورث عن الميت كما يورث المال، وكما تورث بقية الحقوق.
قوله: «ويأخذ بكل الثمن» (يأخذ) الضمير يعود على الشفيع وليس على الوارث، يعني من أراد أن يأخذ الشقص بالشفعة فإنه يأخذه بكل الثمن بدون مماكسة، وبدون أن يحاول تنزيل شيء من الثمن، فإذا كان المشتري ـ مثلاً ـ اشتراه بألف فيقال للشفيع: خذه بألف، فإذا قال: أنا آخذه بتسعمائة قلنا: سقطت شفعتك ولا تأخذه بأقل من ألف، نعم لو تم الأخذ ثم قال الشفيع للمشتري: أريد أن تسقط عني مائة من الألف فهذا جائز، لكنه ـ أيضاً ـ لا ينبغي للشفيع أن يسأل المشتري إسقاط شيء؛ لأن هذا من المسألة المذمومة، ولأنه قد يُحرِج المشتري فيضع من الثمن وهو لا يريد ذلك.
وأفادنا المؤلف بقوله: «بكل الثمن» أنه يأخذه بالثمن لا بالقيمة.
قوله: «فإن عجز عن بعضه سقطت شفعته» قوله: (إن عجز) الفاعل الشفيع، فإذا قال: أنا ليس عندي إلا تسعة آلاف، والثمن عشرة آلاف، سقطت الشفعة؛ لأننا لو قلنا بثبوت الشفعة مع إعساره ببعض الثمن صار في ذلك ضرر على المشتري، والمشتري سيُؤخذ منه الملك قهراً، فنضرُّه من جهتين، من جهة أننا أخذناه منه قهراً، ومن جهة أننا عاملناه بالأشد من جهة الثمن.
وظاهر قول المؤلف: أنه لا فرق بين أن يأتي برهن محرز أو كفيل مليء أو لا يأتي بشيء، ووجه ذلك أن المؤلف لم يستثن شيئاً.
وَالمُؤَجَّلُ يَأْخُذُهُ المَلِيءُ بِهِ، وَضِدُّهُ بِكَفِيلٍ مَلِيءٍ.
قوله: «والمؤجل» صفة لموصوف محذوف، والتقدير الثمن المؤجل.
قوله: «يأخذه» الفاعل يعود على الشفيع وهو الشريك.
قوله: «المليء به» المليء هو القادر على الوفاء بماله وقوله وبدنه.
القادر بماله: بمعنى أن يكون عنده مقدار الثمن، والقادر بقوله: أن لا يكون مماطلاً، والقادر ببدنه: أن يمكن إحضاره لمجلس الحكم، إذا دعت الحاجة إلى المحاكمة.
فمثلاً: إذا قُدِّر أن الشفيع فقير والثمن مؤجل، بأن يكون الشريك باع هذا الشقص بألف ريال إلى سنة، فأراد الشريك أن يأخذ الشقص المبيع، نقول: إذا كان مليئاً يأخذه بثمنه المؤجل، فإذا كان يحل بعد سنة أخذه المليء لمدة سنة، فإذا كان الشفيع فقيراً وقال: الثمن لم يحل، وسوف يرزقني الله عز وجل في هذه المدة وأوفي، نقول: نعم إن الله على كل شيء قدير لكن هات كفيلاً يضمن، ولهذا قال:
«وضده بكفيل مليء» فإذا حل الأجل ولم يسلم الشفيع أخذنا من الكفيل، فإذا كان الكفيل معسراً سقطت الشفعة، وإذا كان الشفيع غنياً وعنده مال لكنه معروف بالمماطلة؛ فالمماطل كالمعسر تماماً، وإن كان المماطل يمكن لصاحب الحق أن يطالبه
ويحبسه، لكن المشتري يقول: هذا رجل معروف بالمماطلة فلا أقبل منه، إلا إذا أقام كفيلاً مليئاً.
ويشترط ـ أيضاً ـ أن يكون المشتري الذي سيؤخذ منه الشقص قادراً على مطالبته ـ أي: مطالبة الشفيع ـ، فلو فرض أن الشفيع من ذوي السلطان الذين لا تمكن مطالبتهم والثمن مؤجل، بأن يكون الشريك باع نصيبه على شخص بألف ريال إلى سنة، فأراد الشفيع أن يأخذ الشقص بثمنه المؤجل، وكان هذا الشفيع من ذوي السلطان الذين لا تمكن مطالبتهم، فماذا يكون الحكم؟ نقول: أقم كفيلاً مليئاً تمكن مطالبته وإلا فلا شفعة لك، ومن المعلوم أن مثل هذا المليء المماطل لكونه ذا سلطان لا يمكن لأحد أن يجرأ عليه فيقول: أقم كفيلاً، فهذا شيء متعذر حسب العادة، فللمشتري أن يمنع من أخذه بالشفعة؛ وذلك لأنه لا يمكنه مطالبته عند حلول الأجل، ولا يمكنه أن يطالبه بكفيل مليء.
كذلك إذا كان المشتري لا يمكن أن يطالب الشفيع لكونه أباه؛ لأن الابن لا يمكن أن يطالب أباه إلا بنفقته الواجبة، فإذا كان له على أبيه دَيْن فإنه لا يمكنه مطالبته، حتى لو طالبه عند القاضي، فالقاضي لا يسمع دعواه، إلا في شيء واحد وهو النفقة الواجبة. فإذا كان الشفيع أباً للمشتري وقال المشتري: لا يمكن أن يأخذه أبي؛ لأن أبي لا يمكنني مطالبته، فهل نقول: إن له أن يمتنع، أو نقول: إذا كان الأب يتملك من مال ولده ما شاء فليس لولده أن يمتنع؟ الثاني؛ لأنه لو فرض
أن الأب قال: أنا لا أريد أن آخذه بالشفعة، أنا أريد أن آخذه بالتملك، أيملك هذا أو لا؟ يملكه، فإذا أخذه بالشفعة زاد الابن خيراً؛ لأنه إذا أخذه بالشفعة فسوف يدفع الثمن، ولا يأخذه بالقوة.
إذاً يشترط بالإضافة إلى قولنا: إن المليء هو الذي يقدر على الوفاء بماله وحاله، أن لا يلحق المشتري ضرر؛ لكونه لا يستطيع مطالبته، والمثال الذي لا يتوجه عليه اعتراض هو أن يكون الشفيع من ذوي السلطان الذين لا تمكن مطالبتهم.
وقوله: «وضده بكفيل مليء» أي: ضد المليء، يعني إذا كان الشفيع غير مليء والثمن مؤجلاً، فللشفيع أن يأخذه ولو كان فقيراً بشرط أن يقيم كفيلاً مليئاً، وهنا نقول: هل المراد الكفيل بالبدن أو الكفيل بالمال؟ الثاني: لأنه أنفع، فهو يلتزم بإحضار الدين، وعلى هذا فالكفالة هنا بمعنى الضمان.
ومرّ فيما سبق أن الضمان والكفالة بينهما فرق، لكن هنا المراد بالكفالة الضمان، الذي يسميه العامة عندنا (كفيلاً غراماً) يعني أنه ضامن.
وَيُقْبَلُ فِي الخُلْفِ مَعَ عَدَمِ البَيِّنَةِ قَوْلُ المُشْتَرِي، فَإِنْ قَالَ: اشْتَرَيْتُهُ بِأَلْفٍ أَخَذَ الشَّفيعُ بِهِ وَلَوْ أَثْبَتَ البَائِعُ أَكْثَرَ.
قوله: «ويقبل في الخُلْف مع عدم البينة قول المشتري» يعني إذا اختلف الشفيع والمشتري فقال الشفيع: قيمة الشقص ألف، وقال المشتري: بل قيمته ألف ومائة، فالقول قول المشتري؛ لأن المشتري غارم إذ أنه سيؤخذ منه الشقص ـ لو قبل قول الشفيع ـ بأقل مما غرم، فيكون القول قول المشتري، ولأن أخذه منه عن طريق التملك القهري، وإذا كان مأخوذاً منه قهراً فإن المرجع في
تقدير ثمنه إليه، ولهذا يجوز له أن يمنع الأخذ بالشفعة إلا إذا سلم الشريك الثمن.
لكن لو كان هناك بينة على أن البيع بألف، فالقول ما شهدت به البينة، وهنا يجب أن ننتبه إلى شيئين:
الأول: كل من قلنا القول قوله فلا بد من يمينه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«البينة على المدعي واليمين على من أنكر»
(1)
، ولاحتمال صدق خصمه.
الثاني: أن لا تكون دعواه مخالفة للعرف، فإن كانت مخالفة للعرف سقطت، فلو ادعى المشتري في المثال الذي ذكرنا أن قيمة الشقص عشرة آلاف وهو لا يساوي إلا ألفاً فالقول قول الشفيع، وهذا ـ أيضاً ـ إذا أمكن؛ لأن كل دعوى لا تمكن غير مقبولة، فإذا كان هذا الشقص لا يساوي عشرة آلاف، ولا يساوي إلا ألفاً فالقول قول الشفيع ويحلف، وإذا كان يساوي خمسة آلاف فهنا لا نقبل قول الشفيع ولا قول المشتري؛ لأن المشتري زاد خمسة آلاف على المعتاد، وهذا نقص أربعة آلاف عن المعتاد فلا يقبل.
قوله: «فإن قال» أي: المشتري.
قوله: «اشتريته بألف أخذ الشفيع به ولو أثبت البائع أكثر» بأن قال البائع للمشتري: قد بعته عليك بألفين وأقام
(1)
سبق تخريجه ص (187).
بينة، فهنا يثبت على المشتري ألفان، بمقتضى دعوى البائع الثابتة بالشهود.
بقي علينا هل يثبت على الشفيع ما ثبت على المشتري ونقول: يجب على الشفيع أن يدفع ألفين، أو نقول: لا يلزم الشفيع إلا ما أقر به المشتري وهو ألف؟ يقول المؤلف: «فإن قال: اشتريته بألف أخذ الشفيع به ولو أثبت البائع أكثر» لماذا؟ لأن البائع لما أثبت أنه بألفين بالشهود أي بالبينة، لزم المشتري ما شهدت به البينة، أما بالنسبة للشفيع، فالشفيع يقول: أنا لا يلزمني إلا ما أقر به المشتري، والمشتري أقر بأنه بألف فلا يلزمني أكثر مما أقر به، وكيف يعطيه ألفين وهو يقول: إني اشتريته بألف؟!
فصار لدينا حقان:
الأول: حق البائع على المشتري وثبت أنه ألفان.
الثاني: حق المشتري على الشفيع وثبت بأنه بألف بإقرار المشتري، وهنا تتبعض الأحكام؛ لاختلاف أسبابها، ولكن لو قال المشتري: أنا نسيت أو غلطت، أو أنا رجل لا أدري عن تجارتي، تجارتي بيد عمالي فظننت أنه بألف فقلت: بألف، فهل يقبل قوله في هذه الحال أو لا يقبل؟ لا يقبل؛ ويقال: إن غلطك على نفسك وإن جهلك على نفسك وإن نسيانك على نفسك ولا نقبل قولك، لا عذر لمن أقر، وهذا هو المشهور من المذهب أنه يرجع إلى إقراره ولو ثبت بالبينة أن البيع كان بأكثر مما أقرّ به، والقول الثاني: أنه إذا ثبت بالبينة أنه بأكثر وجب الأخذ به، وهذا القول تطمئن إليه النفس؛ لأن النسيان والغلط واردان.
فإن ادعى نسياناً أو غلطاً ولم تكن بينة تدل على أنه ناسٍ أو غالط فهل يقبل قوله؟ المذهب لا يقبل، والقول الثاني: أنه إذا كان معروفاً بالصدق وكان ما ادعاه أقرب إلى موافقة القيمة مما أقرّ به فإن القول قوله بيمينه.
فإن ادعى غلطاً أو نسياناً وليس معروفاً بالصدق، أو ادعى غلطاً أو نسياناً لكن ادعى قدراً بعيداً عن القيمة فإنه لا يقبل قوله، فإن صدقه الشفيع قبل قوله ولا إشكال؛ لأن الحق له.
وقوله: «ولو أثبت البائع أكثر» فإن أثبت البائع أقل ـ عكس المسألة ـ فقال: اشتريته بألف، وأثبت البائع أنه بثمانمائة، فماذا نقول؟ نقول: إنه هنا يأخذه الشفيع بما أثبته البائع؛ لأنه ظهر كذب المشتري أو غلطه أو جهله.
وَإِنْ أَقَرَّ البَائِعُ بِالبَيْعِ وَأَنْكَرَ المُشْتَرِي وَجَبَتْ. وَعُهْدَةُ الشَّفِيعِ عَلَى المُشْتَرِي، وَعُهْدَةُ المُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ.
قوله: «وإن أقر البائع بالبيع وأنكر المشتري وجبت» أي: الشفعة فإذا قال البائع لشريكه: إني بعت نصيبي على فلان، وقال فلان: لم أشتره منك، يقول المؤلف:«وجبت» أي: الشفعة؛ لأن البائع أقر بأن الملك انتقل إلى المشتري، وبإقراره تثبت الشفعة، ولا نلزم المشتري بذلك؛ لأنه ليس عند البائع إلا الدعوى أما لو أقام بينة بأنه باعه فالأمر واضح.
فصار في كلام البائع إقرار ودعوى، إقرار بالنسبة للشفيع، ودعوى بالنسبة للمشتري، فالمشتري، يقول: أبداً أنا ما اشتريت، فالمشتري بريء وليس عليه شيء حتى يقيم البائع البينة، والصواب أن نقول في التعبير: المدعى عليه الشراء؛ لأنه لم يثبت أنه مشترٍ فلا شيء عليه، ولكن تثبت الشفعة، فيقال للبائع: بكم بعت؟ فإن
قال: بعت بألف، فإن الشفيع يأخذه بألف.
قوله: «وعهدة الشفيع على المشتري وعهدة المشتري على البائع» أصل العهدة ما يتعهد به الإنسان لغيره، والمراد بها ما يترتب على العقد؛ وذلك لأن المتعاقدين قد تعهد كل منهما للآخر بما يقتضيه ذلك العقد، وهي ما نعرفه بالمسؤولية التي يطالب بها الإنسان، فمسؤولية الشفيع على المشتري وعهدة المشتري على البائع، يعني لو ظهر أن الشقص مغصوب، أو أنه ملك لغير البائع، أو ما أشبه ذلك، أو أن البائع باعه على شخص ثم باعه مرة أخرى ـ وهذا ربما يقع ـ فالعهدة على من؟
عندنا ثلاثة: بائع ومشترٍ وشفيع، عهدة الشفيع على المشتري، فالشفيع لا يبحث إلا عن المشتري، فلو ذهب إلى البائع وقال: وجدت أن الأرض فيها عيب أو أن الأرض مملوكة، أو أن الأرض مرهونة، فهل يملك الشفيع أن يطالب البائع؟ لا، سيقول البائع له: عهدتك على المشتري، أنا ما بعت عليك، إذاً عهدة الشفيع على المشتري، وعهدة المشتري على البائع.
ولو أن الشفيع طالب البائع بالعهدة فإنه ليس له حق، إلا في مسألة مرَّت علينا، وهي إذا أقرّ البائع بالبيع وأنكر المشتري، فهنا عهدة الشفيع على البائع؛ لأن المشتري لم يثبت أنه اشترى، فعليه يحتاج أن يستثنى من هذا، فعهدة الشفيع على المشتري وعهدة المشتري على البائع، إلا فيما إذا ادعى البائع البيع وأنكر المشتري فإن الشفيع ليس له عهدة على المشتري.
ومن هنا نعرف أن ما يفعله الآن بائعو السيارات غلط محض تجده يشتري السيارة ثم يبيعها والثاني يبيعها والثالث يبيعها، وتكتب السيارة باسم الرابع على أنه اشتراها من الأول وهذا غلط وحرام؛ لأنه كذب وتترتب عليه عُهَدٌ؛ فلو ظهر أن السيارة مسروقة فالمشتري الرابع يطالب الأولَ حسب الوثيقة، وقد تكون مطالبة الأول صعبة، لكنه يجب في هذه الحال أن يقال: فلان باع السيارة على زيد، وزيد باعها على عمرو، وعمرو باعها على خالد، وخالد باعها على بكر، يجب التسلسل؛ من أجل أن يعود كل إنسان إلى من باع عليه حتى لا يقع الغلط.
بَابُ الوَدِيعَة
قوله: «الوديعة» وزنها الصرفي (فعيلة) وثبتت الياء في الميزان؛ لأنها زائدة وهذه قاعدة صرفية أن الحرف الزائد في الميزان يؤتى به بلفظه، فمثلاً قائم على وزن فاعل؛ لأن الألف زائدة، ويُقَام على وزن (يُفعَل) وجعلنا الألف في «يقام» عيناً لأنها أصلية وليست زائدة، فالوديعة فعيلة، وحروفها الأصلية هي الواو، والدال، والعين، ولهذا نقول في وزنها: فعيلة، فنأتي بالياء وبالتاء؛ لأنهما حرفان زائدان، وهي بمعنى مفعولة، أي: مُودَعة.
ومعنى الإيداع: إعطاء المال لمن يحفظه لصاحبه، وهي بالنسبة للمودِع مباحة، يعني يباح أن يودِع الإنسان ماله، وهي بالنسبة للمودَع سُنَّة بشرط أن يكون قادراً على حفظها وصيانتها والعناية بها، ودليل ذلك قوله تعالى:{وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195] فهي من الإحسان؛ لأن الرجل إذا أعطاك شيئاً تحفظه له فلولا أنه محتاج إلى ذلك ما أعطاك، وإذا كان محتاجاً إلى هذا وقضيت حاجته كان ذلك من الإحسان المأمور به المحبوب إلى الله، وقد ثبت في الحديث الصحيح أن الله ـ تعالى ـ في حاجة العبد ما كان العبد في حاجة أخيه
(1)
.
مثال ذلك: رجل أعطى شخصاً بقرته وديعة، فصاحب
(1)
أخرجه مسلم في الذكر والدعاء/ باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن (2699) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
البقرة يجوز أن يعطيها وديعة لهذا الشخص، والمودَع الذي سيأخذ البقرة يجوز أن يقبل البقرة وديعة، بشرط أن يكون قادراً على مؤونتها وحفظها وإلا فلا يجوز، ولو فرض أن صاحب البقرة أراد أن يودعها عند من يضيعها، فلا يجوز له أن يودعها؛ لأنها حيوان يحتاج إلى رعاية وعناية، بخلاف المال فالمال لا حياة فيه.
فعندنا مودِع، ومودَع، ومودَع إليه، فالمودِع: صاحب المال، والمودَع: المال، والمودَع إليه: المؤتمن.
المؤلف لم يتكلم على هذا، وكأنه رحمه الله علم أن المسألة واضحة فلم يتكلم عليه، وتكلم على الآثار المترتبة على الوديعة.
وبهذا التعريف للوديعة يتبين لنا أن قول العامة ـ الآن ـ إذا جعلوا أموالهم عند البنوك أو ما يُلحَق بها هي وديعة، يتبين أن هذا القول غير صحيح؛ لأنهم لم يجعلوا الدراهم عند البنك أو ما يقوم مقامه، لم يجعلوها للحفظ، إذ إن الدراهم ستجعل في صندوق البنك وسيتصرف فيها، فهو في الحقيقة قرض وليس بوديعة، ولهذا نص الفقهاء رحمهم الله على أن المودِع إذا أذن للمودَع أن يتصرف في الوديعة صارت قرضاً، فكلمة إيداع خطأ؛ لأن الإيداع أن يبقى المال لصاحبه على ما هو عليه، فهي في الحقيقة إقراض وليست إيداعاً، ولذلك لو كانت إيداعاً لقلنا: يجب على البنك أن يجعلها في غلافها وألا يتصرف فيها.
يترتب على هذه المسألة لو أن البنك احترق بأمواله بدون
تعدٍّ ولا تفريط، فإذا قلنا: إن وضع المال فيه وديعة، فلا ضمان عليه، وإذا قلنا: إنه يتصرف فيه بإذن صاحب المال للبنك صار ضامناً، كما لو احترق مال المستقرض فإن القرض ثابت في ذمته.
إِذَا تَلِفَتْ مِنْ بَيْنِ مَالِهِ وَلَمْ يَتَعَدَّ وَلَمْ يُفَرِّطْ لَمْ يَضْمَنْ. وَيَلْزَمُهُ حِفْظُهَا فِي حِرْزِ مِثْلِهَا، فَإِنْ عَيَّنَهُ صَاحِبُهَا فَأَحْرَزَهَا بِدُونِهِ ضَمِنَ، وَبِمِثْلِهِ أَوْ أَحْرَزَ فَلَا.
.....................
قوله: «إذا تلفت من بين ماله ولم يتعد ولم يفرط لم يضمن» وإن تلفت مع ماله فمن باب أولى، فقوله:«إذا تلفت» يعني الوديعة «من بين ماله» بأن احترقت أو أفسدها المطر أو سرقها السراق دون أن يتأثر ماله بذلك، فلا ضمان على المودَع؛ لأنه أمين قبض المال بإذن من مالكه، فكل من قبض مال غيره بإذن منه أو من الشارع فإن يده يد أمانة، والقاعدة في الأمين أنه لا يضمن ما تلف تحت يده إلا بتعدٍّ أو تفريط بدليل قول الله تعالى:{مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91] والمودَع محسن، فإذا كان محسناً فلا ضمان عليه، لكن إن تعدى أو فرط ضمن.
فإن تعدى بأن أخذ الوديعة، أو فك قيدها، أو فرط بأن وضعها في غير حرز ضمن، والفرق بين التعدي والتفريط من حيث العموم، أن التعدي فعل ما لا يجوز، والتفريط ترك ما يجب، فإذا كان المودَع طعاماً فأكله المودَع عنده، فهذا تعدٍّ، وإذا كان طعاماً وأبقاه في ليالي الشتاء في الخارج فتلف، فهذا تفريط؛ لأنه ترك ما يجب.
فإذا قال قائل: لماذا قال المؤلف: «من بين ماله» ولم يقل: إذا تلفت ولم يتعدَّ ولم يفرط لم يضمن؟
قلنا: إنه قال هذا إشارة إلى قول بعض العلماء إنها إذا تلفت من بين ماله فهي مضمونة مطلقاً؛ لأن تلفها من بين ماله يدل على نوع تفريط، وإلا فما الذي جعلها تتلف دون ماله؟!
ولكن الصحيح ما قاله المؤلف: أنه لا ضمان على المودَع عنده إلا بتعدٍّ أو تفريط.
ثم قال مبيناً ما يجب على المودَع عنده:
«ويلزمه» أي: المودَع عنده.
قوله: «حفظها في حرز مثلها» الحرز ما يصون الشيء ويحميه، وهو يختلف بعدة اعتبارات، فيختلف باختلاف الأموال وباختلاف البلدان وباختلاف السلطان قوة وضعفاً وعدلاً وجَوراً، وباختلاف الأموال، فليس حرز الذهب والفضة كحرز الأواني، فالأواني تودع في ظاهر البيت في الحجر والغرف بدون أغلاق وثيقة، والذهب والفضة في الصناديق في أغلاق وثيقة، والمواشي كالإبل حرزها الحوش المحصن القوي، والضأن في حوش دون ذلك.
وكذلك تختلف باختلاف البلدان، فالبلد الذي فيه جنود الأمن منتشرة ليس كالبلد مفتوح الأبواب ليس فيه أحد من قوى الأمن، فهذا أولى بالتحرز، وكذلك في السلطان، فالسلطان إذا كان قوياً هان الاحتراس، وإذا كان ضعيفاً يجب أن يشتد الاحتراس، وكذلك في العدل والجور.
فإذا أودعه شاة أيضعها في الصندوق الوثيق؟! لا، فلو فرض أنه وضعها لصار ضامناً؛ لأنه تعدى إذ ليس هذا مكاناً لها.
قوله: «فإن عينه صاحبها» أي: عيَّن الحرز.
قوله: «فأحرزها» أي: حفظها.
قوله: «بدونه ضمن» أي: عيَّن صاحبها الحرز فأحرزها بدونه، ولو كان الحرز الذي أحرزها به حرز مثلها عادة، فإنه يضمن، فلو أعطاه كتاباً وقال: احفظ هذا الكتاب في الصندوق الحديدي ـ أي: خزانة الذهب والفضة، وهي خزانة قوية ثقيلة ـ فحفظه في حقيبة عادية، فجاء السارق فسرقه هو والحقيبة، مع أن الحقيبة عادة حرز للكتاب فهنا عليه الضمان؛ لأنه حفظها بأدنى مما عينه صاحبها، فإذا قال المودَع عنده: أنا حفظتها في حرز مثلها، وكل الناس يجعلون الكتب في الحقائب وربما جعلوها في الرفوف بارزة، نقول: لكن صاحب الكتاب عَيَّنَ، فلماذا لم تقل له: لا، حينما قال: ضعه في الصندوق الحديدي؟ أما أن تأخذها على أنك ستضعها فيما عين، ثم تحرزها بما دونه فعليك الضمان.
قوله: «وبمثله» فلا ضمان.
قوله: «أو أحرز فلا» أي: فلا ضمان، مثل أن يقول له: خذ هذا الكتاب اجعله في هذا الصندوق، ويعين، فأخذه وجعله في صندوق مثله فهنا لا ضمان، إلا أن يتميز الصندوق الذي عينه بزيادة حرز، لكونه داخل البيت ـ مثلاً ـ أو نحو ذلك فهنا يضمن، أما إذا عين فأحرزها بأقوى فلا ضمان، مثل أن يقول: احفظها في هذا الصندوق، والصندوق صغير يمكن للسراق أن يحملوه، فأحرزها في صندوق أكبر فإنه لا يضمن؛ لأنه أحرز.
ولو أن رجلاً عنده ستة صناديق حديدية من الباب إلى نهاية
الحجرة وقال له: احفظها في آخر ما يكون، فأحرزها في الأول فهل يضمن أم لا؟ هنا يمكن أن نقول: إن آخر صندوق قد يكون أحرز؛ لأنه أبعد من أن يأخذه السارق أو يكسره، وقد لا يكون أحرز؛ لأن السارق سيقع في نفسه أن الصندوق الأبعد هو الذي فيه المال، فالظاهر أنه في مثل هذه الحال يقال: إنه أحرزه بمثله؛ لأن كل واحد منها أحرز من الآخر من وجه، فإن لم يكن كذلك فيرفع الأمر إلى القاضي ويحكم بما يراه صواباً.
وَإِنْ قَطَعَ العَلَفَ عَنِ الدَّابَةِ بِغَيْرِ قَوْلِ صَاحِبِهَا ضَمِنَ. وَإِنْ عَيَّنَ جَيْبَهُ فَتَرَكَهَا فِي كُمِّهِ أَوْ يَدِهِ ضَمِنَ وَعَكْسُهُ بِعَكْسِهِ، وَإِنْ دَفَعَهَا إِلَى مَنْ يَحْفَظُ مَالَهُ أَوْ مَالَ رَبِّهَا لَمْ يَضْمَنْ ................
قوله: «وإن قطع العلف» الضمير يعود على المودَع.
قوله: «عن الدابة» يعني المودَعة.
قوله: «بغير قول صاحبها ضمن» لأنه مفرط بلا شك.
ولكن إذا قال المودَع: أنا قطعت العلف عنها؛ لأني لا أريد أن أنفق عليها من مالي؛ لأن العلف غالٍ، ولا أدري متى يأتي صاحبها؟
قلنا له: أنت مفرط بلا شك؛ لأنك إذا أنفقت عليها، فسوف ترجع على صاحبها، فليس عليك ضرر.
وهذه المسألة لا تخلو من ثلاث حالات:
الحال الأولى: أن يودعه الدابة ويقول: يا فلان أنفق عليها.
الحال الثانية: أن يودعه ويقول: لا تنفق عليها.
الحال الثالثة: أن يودعه ويسكت.
فعليه الضمان في حالين، ولا ضمان عليه في حال،
الحالان هما: إذا قال: أنفق عليها، أو سكت ولم ينفق، ففي هذين الحالين إذا تلفت الدابة فإنه يضمن؛ لأنه مفرط كما لو وضعها في برد قارس وهي لا تستطيع مقاومته، أو في حر شديد وهي لا تستطيع مقاومته فإنه يكون ضامناً.
وعُلِمَ من قول المؤلف أنه لو قال صاحبها: لا تنفق عليها فتلفت فإنه لا يضمن، وذلك بناء على أن ضمان البهيمة إذا تلفت جوعاً أو عطشاً من ضمان الأموال الصامتة التي لا روح فيها، والأموال الصامتة التي لا روح فيها إذا أتلفها الإنسان بإذن صاحبها فإنه لا يضمن، فهو كما لو أذن له في ذبحها فذبحها فإنه لا ضمان عليه.
هذا ما قاله المؤلف رحمه الله لكن فيه نظر، والقول الثاني أنه يضمن؛ لأن هذه نفس محترمة ليست كالمال، فالمال لا يتألم لكن هذه نفس تتألم، فَتَرْكُها تموت عطشاً وجوعاً إِثْمٌ يعذب عليه الإنسان في النار، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم:«أنه رأى في النار امرأة عذبت في هرة حبستها لا هي أطعمتها ولا هي تركتها»
(1)
ويكون صاحبها قد أذن له في شيء محرم، ولا يجوز الموافقة على شيء محرم، فيكون عليه الضمان؛ لأنه لو شاء لقال لصاحبها ـ لما قال لا تنفق عليها ـ: إذاً لا أقبلها؛ لأنه يلحقني الإثم.
(1)
أخرجه البخاري في بدء الخلق/ باب خمس من الدواب فواسق يقتلن في الحرم (3318)؛ ومسلم في السلام/ باب تحريم قتل الهرة (2242) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
فالصواب أنه يضمن ولكنه في هذه الحال يُجعل ما ضمنه في بيت المال، ويُحْرَمُ إياه صاحبها ولا يعطى شيئاً؛ لأنها تلفت بقولٍ من صاحبها وقد رضي بتلفها عليه، لكننا نُضَمِّنُ هذا الذي وافقه على المعصية ونجعل ما ضمنه في بيت المال، هذا هو القول المتعين، وعليه يحمل قول من قال من الأصحاب: إنه يضمن، ويجعل في بيت المال جزاءً لصاحبها وعقوبة له.
قوله: «وإن عين جيبه فتركها في كمه أو يده» وتلفت.
قوله: «ضمن» أي: المودَع، بأن قال المودِع: اجعلها في جيبك يعني في المخباة التي في الجيب، ولكنه جعلها في كمه.
فإن قيل: كيف يجعلها في كمه والكم على قدر الذراع؟
فيقال: هذا كان معروفاً عند الناس فيما سبق، أن الرجل له أكمام ضافية واسعة من أجل أن يضعوا حوائجهم فيها.
فإذا عيَّن الجيب فربطها في كمه فسرقت، فعليه الضمان؛ لأن الجيب أحفظ؛ لأن الجيب لا يكاد أحد يقدم عليه؛ لأنه أمام الإنسان وعلى صدره، بخلاف الكم فإنه يمكن أن يتغافله إنسان ويحله ويأخذ ما فيه، على أن بعض السراق عندهم مهارة فائقة؛ ولهذا ينبغي للإنسان أن يتفطن لهم وأن يحترز، ولا يمكن أن يدرأ شر هؤلاء السراق إلا حُكْم أحكم الحاكمين ألا وهو قطع اليد، فلو قطعت أيدي السراق ما أقدم أحد على السرقة؛ لأنه لا يمكن لأحد أن يُرخِص يده في شيء من المال.
وقوله: «أو يده» فتلفت فعليه الضمان.
فإذا قال قائل: أليس كونها في يده أحرز من كونها في جيبه؟
قلنا: لا؛ لأن الإنسان يعمل ويأخذ بيده، ويقبض ويسلم ويصافح، فربما ينسى ويضعها من يده في أي مكان وتضيع، فإذا عين جيبه وتركها في يده فضاعت ضمن.
قوله: «وعكسه بعكسه» يعني لو عين الكم فجعله في الجيب بأن قال: خذ هذه اجعلها في كمك فجعلها في جيبه فلا ضمان؛ للقاعدة السابقة: أنه إذا عين الحرز صاحِبُهَا، فأحرزها فيما هو أشد فلا ضمان، وكذا لو عين يده فجعلها في جيبه فإنه لا يضمن؛ لأن الجيب أحفظ من اليد.
فإذا قال قائل: إذا كانت الوديعة خاتماً وقال: اجعله في أصبعك، فجعله في جيبه، فيده لا شك أنها أحرز؛ لأنها إذا كانت في الجيب ربما مع السجود ـ مثلاً ـ أو خفض الظهر يسقط منه الخاتم، لكن في الأصبع لا يمكن أن يسقط إلا إذا حاول خلعه أو قُطعت الأصبع مع الخاتم.
إذاً إذا عين الجيب فجعلها في اليد فهو ضامن، إلا فيما إذا كان وجوده في اليد أحرز كما لو عين الجيب، والوديعة خاتم، وجعلها في أصبعه، فهذا لا شك أنه أحرز.
قوله: «وإن دفعها» الفاعل المودَع.
قوله: «إلى من يحفظ ماله» يعني لو أن المودَع عنده غلمان، أو خدم، أو أولاد يحفظون ماله فدفعها إليهم فإنه لا ضمان عليه؛ لأن هذا ما جرت به العادة، والإنسان الكبير السيد الشريف لا يمكن أن يتولى حفظ الودائع بنفسه، بل لا بد أن يكون له من يحفظ ذلك من خدم أو أولاد أو عبيد أو زوجات.
المهم إذا دفعها إلى من يحفظ ماله فتلفت فإنه لا يضمن، إلا إذا نص صاحبها عليه وقال: لا تعطها أحداً، هي مني إليك ومنك إلي، فهنا يضمن؛ لأنه عين حرزاً أقوى من حرز العادة، وقد سبق أنه إذا عين حرزاً فإنه يتعين، فإذا قال: لا تعطها أحداً، لا الخادم، ولا الولد، فحينئذٍ إذا دفعها إلى من يحفظ ماله، فهو ضامن؛ لأنه أقل حفظاً من المودَع.
قوله: «أو مال ربها لم يضمن» أي إذا دفعها المودَع إلى من يحفظ مال ربها لم يضمن، فهذا المودَع كأنه مَلَّ من الوديعة وأراد أن يردها، فردها لمن يحفظ مال صاحبها، مثل أن يردها إلى خدم المودِع، أو إلى غلامه، أو إلى أهله فإنه لا ضمان عليه، مع أنه لم يقل له: ادفعها إلى أهلي، ولم يوكل أهله في قبضها، وهذه المسألة فيها خلاف، فمن العلماء من يقول: إنه إذا دفعها إلى من يحفظ مال ربها بغير إذن ربها فإنه ضامن؛ لأنه لم يُوَكَّل في دفعها إلى غيره؛ ولأن صاحب الوديعة قد لا يأتمن أهله أو خدمه عليها؛ لأنهم مفرطون، والذي ينبغي أن يرجع في ذلك إلى العرف، فما جرى به العرف اتبع وما لم يجرِ به العرف لم يُتَّبع، فالأشياء الثمينة جرت العادة أنها لا ترد الوديعة منها إلا إلى صاحبها بنفسه، والأشياء العادية كالأواني والفرش والبهائم جرت العادة أنه يتولى قبولها عند ردها من يحفظ مال ربها، فيرجع في ذلك إلى العرف، فما جرى العرف بأنه يدفع إلى من يحفظ مال ربها فدفعها إليهم، فلا ضمان عليه؛ وما جرى العرف بأنه لا بد أن يسلم إلى نفس المودِع فإن عليه الضمان.
فمثلاً الوثائق التي فيها إثبات الديون على الناس والمبيعات والمؤجرات وما أشبه ذلك، جرت العادة أنها لا تدفع إلى من يحفظ مال ربها، إنما تدفع إلى ربها، إلا إذا قال: رُدَّها إلى أهلي أو إلى من يحفظ مالي، فعلى ما قال.
وَعَكْسُهُ الأَجْنَبِيُّ وَالحَاكِمُ وَلَا يُطَالَبَانِ إِنْ جَهِلَا. وَإِنْ حَدَثَ خَوْفٌ أَوْ سَفَرٌ رَدَّهَا عَلَى رَبِّهَا، فَإِنْ غَابَ حَمَلَهَا مَعَهُ إِنْ كَانَ أَحْرَزَ، وَإِلاَّ أَوْدَعَهَا ثِقَةً .........
قوله: «وعكسه الأجنبي» أي عكس دفعها إلى من يحفظ ماله أو مال ربها أن يدفعها للأجنبي، والأجنبي هو الذي لا يتولى حفظ مال ربها، ولا حفظ مال المودَع.
وبهذا التفسير نعرف أن كلمة الأجنبي يختلف معناها باختلاف مواضعها، فتكون في موضع لها معنى وفي موضع آخر لها معنى آخر، فإذا قيل: تصح الوصية لأجنبي ولا تصح لوارث، فهنا المراد بالأجنبي من ليس بوارث، وإذا قيل: يحرم كشف وجه المرأة لأجنبي ويجوز للمحارم، فهنا يقصد به غير المحرم، المهم أن الأجنبي في كل موضع بحسبه، فلو دفعها إلى جاره فهنا نقول: عليه الضمان؛ لأن الجار أجنبي، لا يحفظ مال ربها ولا مال المودَع فيكون ضامناً إذا تلفت عند الجار ضمانَ تعدٍّ؛ لأنه فعل ما لا يجوز له، سواء تلفت بتفريط أو تعدٍّ أو بغير تفريط ولا تعدٍّ.
قوله: «والحاكم» وهو القاضي وسُمِّي حاكماً؛ لأنه يحكم بين الناس، وسُمِّي قاضياً لأنه يقضي بين الناس، إذا دفعها إلى الحاكم فهو ضامن؛ لأنه لم يؤمر بدفعها إليه، والحاكم إنما يكون نائباً عن الغائب أو الميت أو نحوهما، لا عن كل الناس، فمثلاً رجل في مدينة أودع دراهم وقيل له: خذ هذه عشرة ملايين
اجعلها عندك، فجعلها عنده، ثم أخذها وأعطاها القاضي، وصاحبها موجود، فهل للقاضي الحق أن يأخذها؟ لا، وليس للمودَع الحق أن يسلمها للقاضي؛ لأن القاضي إنما ينوب عن الغائب أو الممتنع أو ما أشبه ذلك، أما هنا فلا ضرورة، فيضمن المودَع إذا تلفت عند الأجنبي أو عند الحاكم، ويطالب صاحبُ الوديعة المودَع.
وهل يطالب الحاكمَ والأجنبيَ؟
يقول المؤلف: «ولا يطالبان إن جهلا» يعني لا يطالب الأجنبي والحاكم إذا جهلا أنها وديعة عند مودَع؛ لأنهما معذوران، فمثلاً: جاء الأجنبيَ رجلٌ وقال له: خذ هذه اجعلها عندك وديعة، فأخذها على أنها ملك الرجل الذي أعطاه وعلى أنه محسن فلا ضمان عليه، والحاكم كذلك لا ضمان عليه، والمذهب أن له أن يطالبه وإن جهل، وحجتهم أن المال تلف تحت يده، وعلى ما مشى عليه الماتن فليس له أن يطالبه، وحجته أنه جاهل ومحسن وقد قال الله تعالى:{مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91]، أما إذا علما أنها وديعة فعليهما الضمان، ولصاحب الوديعة أن يطالب المودَع أو الحاكم أو الأجنبي؛ لأن الحاكم أو الأجنبي حصل التلف تحت يده، وذاك حصل التلف بتسليطه هؤلاء على هذه الوديعة، فله أن يطالب هذا وهذا، وأما مع الجهل فلا يطالب الحاكم ولا الأجنبي.
لكن لو أن المودَع أعطي عشرة ملايين وديعة، وأودعها في البنك فهل يضمن؟ البنوك أحرز ولا شك، لكن هذا المودِع يعلم
عن البنوك ولا يريد أن يعطيها البنوك تديناً، فكأنه نهاه أن يعطيها البنك، فكونه يختار أن يجعل عنده الدراهم وهو يشاهد البنوك وهو يعلم وكلٌ يعلم أن البنك أحرز، فإعطاؤه إياها بمنزلة نهيه أن يعطيها البنك، فيعتبر هنا متعدياً.
لكن في مثل هذه الحال يقدر أن يقول: أنا لا أستطيع أن أحفظ هذه الدراهم الكثيرة، أتأذن لي إن اشتد معي القلق أو الخوف أن أجعلها عند البنك؟ فإذا قال: نعم، فإنه يعمل بما أذن له فيه، وإن قال لا، فيقول: خذ دراهمك لا أقبل الوديعة؛ لأنه في حل.
قوله: «وإن حدث خوف أو سفر» أي للمودَع بأن كثرت السرقات ـ مثلاً ـ أو دخل البلد عدو وخاف عليها، أو أراد المودَع أن يسافر.
قوله: «ردها على ربها» وجوباً ولا يجوز أن يبقيها عنده مع الخوف أو في بيته مع السفر؛ لأنه في هذه الحال مفرط، إذ الواجب التخلص من الخوف أو التخلص من إبقائها في بيت لا يسكنه أحد.
فإن حدث سفر منه لكن البيت فيه الأهل والأولاد، فهل يضمنها في هذه الحال لو بقيت؟ الجواب: لا، خصوصاً وأنه سبق لنا أنه إذا دفعها إلى من يحفظ ماله فلا ضمان، فهنا نقول: لا ضمان، لكن ينبغي للمودَع إذا أراد أن يسافر ولا سيما إذا كانت الوديعة كبيرة، أن يقول له: إني سأسافر، فهل تأذن أن أبقيها عند الأهل أو أردها؟
قوله: «فإن غاب» أي: ربها، أو تغيب، المهم إذا لم يجده عند السفر.
قوله: «حملها معه إن كان أحرز» فإذا غاب صاحبها فإنه يحملها معه، بشرط أن يكون سفره بها أحرز من إبقائها، والغالب أن السفر بها ليس بأحرز؛ لأن السفر يحصل فيه آفات، لكن مع ذلك يقول:«إن كان أحرز» .
قوله: «وإلا» يعني وإن لم يكن أحرز.
قوله: «أودعها ثقة» أي جعلها وديعة عند ثقة، فَمَن الثقة؟ الثقة من جمع وصفين: القوة والأمانة، وهذان الوصفان في كل عمل، قال الله تعالى:{إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص: 26] وقال الجني العفريت لسليمان عليه الصلاة والسلام: {أَنَا آتِيكَ بِهِ} أي: بعرش بلقيس {قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ} } [النمل: 39] فالمراد بالثقة هنا القوي الأمين فلا يودعها ضعيفاً، ولا يودعها غير أمين.
فإن قال قائل: أرأيتم لو أقرضها مليئاً أيجوز؟ فالجواب: لا؛ لأن القرض عقد لا يجوز إلا ممن يملك العقد أو نائبه أو وكيله، وهذا المودَع لم يوكَّل في القرض.
ولاحظ أن الإيداع عند البنوك من باب القرض، والناس يسمون إعطاء البنوك الأموال إيداعاً، وهذه تسمية خطأ، بل هي في الحقيقة قرض، ولهذا ينتفع بها البنك ويدخلها في رأس ماله ويتجر بها ويضمنها لو تلف ماله كله؛ لأنه قرض، والعلماء نصُّوا تصريحاً بأنه إذا أذن المودِع للمودَع أن ينتفع فهذا يعتبر قرضاً.
ويوجد بنوك تقبل الوديعة، بمعنى أن الدراهم التي تعطى إياها تجعلها في صناديق معينة محفوظة لا يتصرف فيها البنك، فهذه وديعة محضة.
وإن سافر بها ولم يجد ثقة يودعها عنده وربها غائب فماذا يصنع؟ يعطيها الحاكم؛ لأن الحاكم ولي من ليس له ولي، والدليل على هذا التفصيل قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] وهذا أمر بكل ما يلزم للأداء، فالأمر بالأداء أمر به وبما لا يتم إلا به، ومعلوم أنه في مثل هذه الحال إذا كان السفر عرضة للضياع، فإن بقاءها عند ثقة هو الذي فيه الأداء.
وَمَنْ أُودِعَ دَابَّةً فَرَكِبَهَا لِغَيْرِ نَفْعِهَا، أَوْ ثَوْباً فَلَبِسَهُ، أَوْ دَرَاهِمَ فَأَخْرَجَهَا مِنْ مَحْرَزٍ ثُمَّ رَدَّهَا، أَوْ رَفَعَ الخَتْمَ، أَوْ خَلَطَهَا بِغَيْرِ مُتَمَيِّزٍ فَضَاعَ الكُلُّ ضَمِنَ.
قوله: «ومن أودِع دابة فركبها لغير نفعها» فهو ضامن، مثل فرس أو بعير أودعه عنده فركبه لغير نفعه فهو يضمن ضمان تعدٍّ لا تفريط، إن تلف من هذا العمل أو من بعده أيضاً؛ لأنه بتعديه زال عنه وصف الأمانة وصارت يده يد متعدٍّ كالغاصب فيكون ضامناً بكل حال، سواء تعدى أو فرط، أو لم يتعدَّ ولم يفرط، وسواء تلف الشيء بنفس العمل أو بما بعده.
فهذا رجل مشغوف بركوب الخيل وأودِع فرساً فجعل كل يوم يسابق عليه، أو كل يوم يركضه لغير نفع الفرس، فإنه يضمن إن تلف في نفس الاستعمال، أو في غير نفس الاستعمال حتى لو أدخله في الحرز، أما كونه يضمن في نفس الاستعمال فواضح وأما كونه يضمن بعده فلأنه باستعماله إياه صارت يده غير أمينة.
وعلم من قوله: «لغير نفعها» أنه لو ركبها لنفعها فليس
بضامن لأنه محسن، لكن كيف يركبها لنفعها؟ يركبها ـ مثلاً ـ ليذهب بها إلى الماء لتشرب أو يروضها؛ لأنها إذا بقيت ربما تخمل ولا تكون قوية، فهو يركبها لنفعها، فلا ضمان عليه؛ لأن هذا خير.
قوله: «أو ثوباً فلبسه» فإنه يضمن، لكن إذا قال: أنا أريد أن ألبسه للجمعة، فالجمعة يسن فيها لبس أحسن الثياب فإنه يضمن، فإذا قال: أنا أعطيت صاحبها خيراً لأنه يؤجَر، فأنا أؤجر بلبس أحسن الثياب، وهو يؤجر؛ لأنه أعانني على هذا، فنقول: أنت لا تؤجر، ومن قال: إنك تؤجر باستعمال مال غيرك؟! هذا ظلم فلا أجر لك، وإذا بطل أجرك بطل أجره هو؛ لأن أجره فرع عن أجرك.
فإن قال: إنه لبسه لئلا يدخله السوس؛ لأن الحرير إذا لم يبرز في أيام الصيف والحر فإنه يحترق ويتمزق، فما الجواب؟ نقول: يمكن أن تخرجه وتنشره بدون لبس.
إذاً إذا أودع ثوباً فلبسه فإنه يضمن، سواء تلف باللبس أو بأمر آخر ولو بعد خلعه؛ وذلك لأنه بمجرد أن لبس الثوب انتقلت يده من كونها يداً أمينة إلى كونها يداً غير أمينة، وعلى هذا فلو لبس الثوب يتجمل به للجمعة فلما رجع رده إلى محرزه فتلف من محرزه ضمن؛ لأنه تعدى حيث فعل ما لم يؤذن له به، لا شرعاً ولا عرفاً لا من صاحبها ولا من عند الله عز وجل.
قوله: «أو دراهم فأخرجها من محرز» أي إذا أودع دراهم فاستقرضها فإنه يضمن، حتى وإن احتاج إليها؛ لأنه ليس له الحق
في أن يستقرضها، أو يتصرف فيها بأي شيء حتى لو باع أو اشترى فهو ضامن.
وعلم من قوله: «من محرز» أنه لو لم يخرجها من المحرز لكن غَيَّر مكانها، مثل أن تكون في الرف الأعلى من الصندوق فجعلها في الرف الذي تحته، أو كانت في الرف الأدنى فجعلها في الرف الذي فوقه والصندوق واحد، فهنا لا شك أنه غَيَّر مكانها ولكن لم يخرجها من المحرز فلا ضمان عليه.
فإذا أخرجها لتنظيف الصندوق ـ مثلاً ـ ثم نسي وبقيت خارج الصندوق ثم سرقت، يحتمل أنه يضمن؛ لأن حق الآدمي يستوي فيه الخطأ والنسيان والعمد والذِّكر، وقد نقول: لا يضمن؛ لأن هذا في عرف الناس لا يعد مفرطاً، وإذا تعارض الضمان وعدم الضمان، واليد يد أمانة فالأصل عدم الضمان.
قوله: «ثم ردها» يعني فيضمن ولو أُخذت من الحرز، وكذا لو رأى المصلحة في شراء سلعة فأخرج الوديعة فاشترى السلعة لصاحب الوديعة من أجل ما يرجوه من الكسب فإنه يضمن؛ لأنه غير مأذون له بذلك، اللهم إلا إذا كان قد قال له صاحبها: إن رأيت مصلحة في بيع أو شراء أو غير ذلك فتصرف، فيكون حينئذ غير ضامن.
قوله: «أو رفع الخَتْم» فإنه يضمن حتى لو أعاد الختم مرة أخرى، والختم هو ما جرت به العادة فيما سبق، أنهم يضعون الدراهم في كيس ثم يعقدونها بالخيوط، ثم يضربون على طرف الخيط شمعاً، يُذاب في النار، ويصب على طرف الخيط، ثم
يُختم عليه بالخاتم؛ لأجل ألا يعبث بها أحد، فهذا إنسان رفع الختم ولكنه لم يحلها، فإنه يضمن؛ لأن الختم لا شك أنه أقوى مما لو كانت خالية منه، فإذا رفعه فقد أخل بحرزها فيكون ضامناً.
ومثل الختم القفل فلو أنه رفع قفل الصندوق ـ ولو أعاده ـ فعليه الضمان، إلا إذا كان الصندوق ليس خاصاً بالوديعة مثل أن يكون هذا الصندوق فيه دراهم له، أو لغيره ومعها دراهم المودِع ثم صار يفتح هذا الصندوق ليخرج النفقة منه لنفسه، فإنه لا ضمان عليه؛ لأنه لم يتعدَّ ولم يفرط، فالضابط: أنه إذا أزال المودَع ما فيه كمال الحفظ أو أصل الحفظ فعليه الضمان.
قوله: «أو خلطها بغير متميز فضاع الكل ضمن» مثل أن يُودَع براً يخلطه ببر، فهنا خلط الوديعة بشيء غير متميز؛ لأن حب البر واحد لا يختلف، فلو خلطها بغير متميز ثم ضاع الكل، يعني ضاع ما كان عنده أولاً وما خلطه به فإنه يضمن.
ويحتمل أن يكون المراد بقوله: «فضاع الكل» فيما إذا أُودِع دراهم فأخرجها من محرز أو رفع الختم، أو خلطها بغير متميز أي أنه راجع للمسائل الثلاث.
وعُلِمَ من قوله: «خلطها بغير متميز» أنه لو خلطها بمتميز فلا بأس، لكن بشرط أن تكون بحرز مثلها، ولكن ينبغي أن يقال: في هذا تفصيل:
إن خلطها بغير متميز يسهل أخذها منه فلا بأس، ولا يقال: إن الرجل فرط أو تعدى، مثل أن يخلط حلياً بدنانير في صندوق
محرز، وأما لو خلط شعيراً ببر فهذا وإن كان متميزاً لكن تخليص الوديعة من خليطها فيه صعوبة، فربما يأبى أن يخلص ذلك ويتعب ويحصل بذلك ضرر على الطرفين.
وعليه فينبغي أن يقيد مفهوم قوله: «بغير متميز فضاع الكل» ما إذا خلطها بمتميز يسهل تخليصه من خليطه، وإلا فيكون ضامناً.
وعليه فالحالات ثلاث:
الأولى: أن يخلطها بغير متميز فعليه الضمان.
الثانية: أن يخلطها بمتميز يصعب فيه التمييز فعليه الضمان، والمذهب في ظاهر كلام المؤلف لا ضمان عليه.
الثالثة: أن يخلطها بمتميز يسهل فيه التمييز، فهذا ليس عليه ضمان.
فَصْلٌ
وَيُقْبَلُ قَوْلُ المُودَعِ فِي رَدِّهَا إِلَى رَبِّهَا أَوْ غَيْرِهِ بِإِذْنِهِ، وَتَلَفِهَا وَعَدَمِ التَّفْرِيطِ.
.......
قوله: «ويقبل قول المودَع في ردها إلى ربها أو غيره بإذنه، وتلفها، وعدم التفريط» هذه ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: إذا ادعى المودَع أنه دفع الوديعة إلى ربها، بأن يكون شخص أودع إنساناً دراهم، ثم بعد حين جاء يطالبه بها، فقال: إني رددتها إليك، فالقول قول المودَع لوجهين:
الأول: قول الله تبارك وتعالى: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91] والمودَع محسن ولا شك وإذا لم يكن عليه سبيل، فإن صاحبها إذا ادعى أنه لم يردها فالقول قول المودَع؛ لأننا لو قبلنا قول صاحبها لكان على المحسن سبيل.
الثاني: أن نقول للمودِع: أنت الآن ائتمنت الرجل على الوديعة، فيجب أن يكون أميناً في دفعها إليك، كما جعلته أميناً في حفظها، والأمين كل من حصل في يده مال بإذن من الشارع أو إذن من المالك، وهذا قياس بَيِّن، فهذا دليل من السمع ومن القياس.
ولذلك عندنا قاعدة:
أن من قبض العين لِحَظِّ مالكها قُبِلَ قولُه في الرد.
ومن قبض العين لمصلحته لم يُقبل قوله في الرد.
ومن قبض العين لمصلحته ومصلحة مالكها لم يقبل ـ أيضاً ـ تغليباً لجانب الضمان.
وقوله: «إلى ربها» بأن يقول: رددتها عليك.
وقوله: «أو غيره» أي: إلى غير ربها.
وقوله: «بإذنه» أي بإذن ربها، أما إذا ادعى ردها إلى غيره، وقال: إني رددتها لكنني لم استأذنك، فهو ضامن؛ لأنه لم يوكله في دفعها إليه، فإذا قال: دفعتها إليه بإذنك، أنت الذي قلت لي: يا فلان أعط الوديعة التي عندك لفلان، فأنكر صاحبها الإذن، وقال: إني لم آذن لك، فهنا يقال: إن الرجل أمين عندك، وهو محسن، وقد قال الله تعالى:{مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91] ولا يمكن أن يدعي أنك أذنت له وأنت لم تأذن، والنسيان وارد على كل أحد، ومنه صاحب الوديعة.
وعليه فتكون الحالات ثلاثة:
الأولى: إذا ادعى ردها إلى ربها قُبِل.
الثانية: إذا ادعى ردها إلى غيره بغير إذنه فهو ضامن.
الثالثة: إذا ادعى ردها إلى غير صاحبها بإذنه فهو غير ضامن، لأنه أمين، وقد قال الله تعالى:{مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91].
وقوله: «وتلفِهَا» هذه هي المسألة الثانية: أي: يقبل قول المودَع في تلفها، فإذا قال لصاحبها: الوديعة تلفت، فقال صاحبها: لم تتلف، فالقول قول المودَع.
لكن لو ادعى التلف بأمر ظاهر كالحريق، بأن قال: احترق الدكان وهي في الدكان، فهنا لا يقبل قوله إلا إذا أثبت أن الدكان قد احترق؛ لأن هذا أمر ظاهر لا يخفى على أحد، فإذا أثبت أنه
احترق وقال صاحبها: نعم الدكان احترق وليس عندي فيه شك، لكن أنا لا أقر بأن الوديعة تلفت بهذا الاحتراق، فلا يقبل قول صاحبها، ويقبل قول المودَع أنها تلفت بهذا الاحتراق.
وقوله: «وعَدَمِ التفريط» هذه هي المسألة الثالثة، بأن قال صاحبها: أنت فرطت ولم تحفظها في حرز مثلها، وقال: لم أفرط، فالقول قول المودَع؛ لأنه مؤتمن، فإن أقر الجميع بالسبب لكن ادعى صاحبها أنه تفريط وهو يقول: ليس بتفريط، فنرجع إلى العرف ويعرض على أهل الخبرة، فإذا قالوا: الرجل الذي حفظها في هذا المكان غير مفرط فهو غير مفرط، وإذا قالوا: إنه تفريط فهو تفريط.
وهذا التفصيل هو القول الراجح، وإن كان ظاهر كلام المؤلف أن قول المودَع مقبول في عدم التفريط مطلقاً، ولكن هذا فيه نظر.
فإذا قال قائل: إذا اختلف المودَع والمودِع في هذا العمل هل هو تفريط أو لا، وقال المودَع هذا في نظري أنه غير تفريط؟
فيقال: كون أهل الخبرة يقولون: إنه تفريط وأنت تعتقد أنه ليس بتفريط يدل على أنك غير فاهم، والمعاملات بين الخلق لا يعذر فيها بالجهل، فكان الواجب عليك أن تسأل أولاً، هل هذا تفريط أو ليس بتفريط؟
ولنضرب لهذا مثلاً:
في ليلة شاتية أبقى المودَع الشاة في العراء ظناً منه أن الشاة
تقاوِم، ولكن أهل الخبرة قالوا: إنها لا يمكن أن تقاوم في هذا البرد الشديد والثلج؛ لأن هذه الشاة ليست مما يعيش في بلاد ثلجية، فقال: هذه الشاة في هذا المكان لو نزل عليها الثلج فإنها ستبقى حية، فعد نفسه غير مفرط، لكن أهل الخبرة قالوا: هذا تفريط، فحينئذ يؤخذ بقول أهل الخبرة ويقبل قول المودِع.
هذا في مسائل الاختلافات في الوديعة، والاختلافات التي ذكرها الفقهاء في الواقع كلها ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في كلمتين فقال:«البينة على المدعي واليمين على من أنكر»
(1)
، فجميع ما ذكره المؤلفون رحمهم الله في الاختلافات ومن يقبل قوله ومن لا يقبل كله يعود إلى هذا الحديث، لكن لا بأس بالتفصيل.
َ
إِنْ قَالَ: لَمْ تُودِعْنِي، ثُمَّ ثَبَتَتْ بِبَيِّنَةٍ أَوْ إِقْرَارٍ ثُمَّ ادَّعَى رَدّاً، أَوْ تَلَفاً سَابِقَيْنِ لِجُحُودِهِ، لَمْ يُقْبَلَا وَلَوْ بِبَيِّنَةٍ ..............
قوله: «فإن قال» أي: المودَع للمودِع.
قوله: «لم تودعني» يعني أنكر الوديعة.
قوله: «ثم ثبتت ببينة» يعني ثبت أنه أودعه، والبينة هنا إما رجلان، أو رجل وامرأتان، أو رجل ويمين المدعي؛ لأن المال وما يقصد به المال هذه بينته.
فثبوت البينة برجلين، أو رجل وامرأتين في القرآن لقول الله تعالى:{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282]، وثبوتها برجل ويمين المدعي ثبت بالسنة، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم:(أنه قضى بالشاهد مع اليمين)
(2)
.
(1)
سبق تخريجه ص (187).
(2)
أخرجه مسلم في الأقضية/ باب القضاء باليمين والشاهد (1712) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
المهم أن المودَع أنكر وقال: لم تودعني، وثبت أنه أودعه ببينة.
قوله: «أو إقرار» يعني بعد أن أنكر ـ هداه الله ـ وندم وأقر، أو أنكر ناسياً للوديعة ثم تذكر، أو كان ناسياً لها ثم وجدها في بيته، المهم أنه بعد أن أنكر أقر.
قوله: «ثم ادعى رداً أو تلفاً سابقين لجحوده لم يقبلا ولو ببينة» مثال ذلك: أنكر الرجل الوديعة يوم الخميس، وأقيمت الدعوى عليه يوم الجمعة، وثبتت عليه ببينة، ثم ادعى أنها تلفت يوم الأربعاء، فهنا لا يقبل قوله؛ لأنه كذب نفسه، حيث أنه أنكر الوديعة يوم الخميس وقال: ليس عندي وديعة، ولما ثبتت قال: إنها تلفت يوم الأربعاء، فهنا دعواه التلف لا تقبل، ودعواه الرد لا تقبل؛ لأنه بإنكاره صار خائناً، فلا يقبل قوله لا في الرد ولا في التلف ويلزمه الضمان.
ولو أقام بينة على أنها تلفت يوم الأربعاء، وأتى بشهود يشهدون أن الوديعة الفلانية تلفت يوم الأربعاء، فهل يقبل أو لا يقبل؟
يقول المؤلف: «لم يقبلا» أي: الرد والتلف «ولو ببينة» حتى لو جاء بشهود وقالوا: نشهد إن وديعة فلان تلفت يوم الأربعاء فإنها لا تقبل؛ لأنه هو نفسه مكذب للبينة؛ لأنه لما أنكر يوم الخميس وقال: أبداً ما أودعتني ما صار له عنده وديعة فيكون مكذباً للبينة؛ فكلامه يناقض بينته.
وأشار المؤلف رحمه الله بقوله: «ولو ببينة» إلى خلاف
في هذا، فإن بعض أهل العلم قال: إذا ثبت ببينة أنها تلفت فيكون إنكاره كذباً وتُصدَّق البينة، والمذهب يقولون: تبين كذب البينة بقوله هو، فهو أقر ضمناً أن البينة كاذبة.
لكن بعض العلماء يقول: إذا قامت البينة فليعمل بها؛ لأنه تبين أنه هو الكاذب، لكن في هذه الحال ينبغي للقاضي أن يحكم عليه بالتعزير لكذبه وخيانته، وإتعابه المودِع بإقامة الدعوى، وإشغال القاضي، وإشغال الشهود، فهو مستحق للتعزير من عدة أوجه، ولئلا يتلاعب أحد غيره، فإذا قيل: ليس عليك إلا ضمان الوديعة فلا يهمه، لكن إذا أُدِّب صار ردعاً له.
بَلْ فِي قَوْلِهِ: مَا لَكَ عِنْدِي شَيْءٌ وَنَحْوُهُ، أَوْ بَعْدَهُ بِهَا. وَإِنِ ادَّعَى وَارِثُهُ الرَّدَّ مِنْهُ أَوْ مِنْ مُوَرِّثِهِ لَمْ يُقْبَلْ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ.
........
قوله: «بل في قوله ما لك عندي شيء ونحوه» مثاله: هذا الرجل في يوم الخميس قيل له: إن عندك وديعة، فقال: ليس عندي شيء، وثبت بالبينة أن عنده وديعة، ثم ادعى التلف يوم الأربعاء، يعني قبل الإنكار، وأقام بينة بذلك، فتقبل، سواء ببينة أو بغير بينة؛ لأن الرجل قال:«ما لك عندي شيء» ، ومعلوم أن الوديعة إذا تلفت بلا تعدٍّ ولا تفريط، لم يثبت على المودَع شيء فيكون صادقاً في قوله:«ما لك عندي شيء» بخلاف ما لو قال: لم تودعني، والفرق ظاهر؛ لأنه إذا قال: لم تودعني فقد أنكر أصل الوديعة، أما إذا قال:«ما لك عندي شيء» فهو نفي لضمان الوديعة فيقبل قوله حتى لو ثبتت ببينة؛ لأنه لا يتنافى قوله وثبوت الوديعة، فهو يقول: نعم أنا قلت ما لك عندي شيء؛ لأني لا فرطت ولا اعتديت، وإذا تلفت الوديعة بدون تعدٍّ ولا تفريط فليس علي شيء.
قوله: «أو بعده بها» يعني أو ادعى التلف «بعده» أي: بعد الجحد «بها» أي بالبينة فإنه يقبل، لاحتمال حدوث الوديعة بعد الجحد، وحينئذ لا ينافي البينة التي تشهد بالتلف بعد الجحود فلم يحصل تناقض، ولماذا لا يقبل مطلقاً وهو مودَع؟ لأنه بجحوده زال عنه وصف الأمانة، فلا يقبل قوله في التلف ولا في الرد إلا ببينة.
فهذا الرجل طلبت منه الوديعة، فقال للمودِع: لم تودعني، وأنكر، فأقام المودِع بينة أنه أودعه وكان إنكاره يوم الخميس، فادعى أنها تلفت يوم الجمعة فيقبل قوله ببينة، وبغير بينة لا يقبل، وكونه يقبل ببينة؛ لأنه لم يحصل تناقض بين جحوده وبينته بالرد.
فإن قيل: ألستم تقولون: إن المودَع يقبل قوله في الرد؟ فالجواب: بلى، نقول بهذا، لكننا نقول: يقبل قوله في الرد ما دام أميناً، أما وقد خان بإنكار الوديعة فإنه لا يقبل قوله إلا ببينة.
والحاصل أنه إذا أنكر الوديعة ثم ثبتت عليه ببينة ثم ادعى رداً أو تلفاً، فإن كان الرد والتلف اللذان ادعاهما سابقين على جحوده فلا قبول له مطلقاً لا ببينة ولا بغير بينة، وإن ادعى الرد والتلف بعده قُبِلَ ببينة، وبغير بينة لا يقبل، هذا إذا أنكر.
أما إذا قال: ما لك عندي شيء فهو مقبول على كل حال؛ وذلك لأن قوله: مالك عندي شيء لا ينافي ثبوت الوديعة؛ لأنها إذا تلفت بغير تعدٍّ ولا تفريط فقد صدق، ليس لمدعي الإيداع شيء؛ لأنه يقول: نعم أنت أودعتني وأنت صادق، لكن تلفت، ولما تلفت لم يبق لك عندي شيء، فيكون هنا إقراره بالوديعة أو
ثبوتها بالبينة لا ينافي قوله: «ما لك عندي شيء» فيقبل.
قوله: «وإن ادعى وارثه» أي: وارث المودَع.
قوله: «الرد منه» أي: من الوارث.
قوله: «أو من موِّرثه» وهو المودَع، بأن قال وارث المودَع: إن المودَع ردها عليك.
قوله: «لم يقبل إلا ببينة» لأن الوارث ليس هو المودَع حتى يقبل قوله في الرد.
وقوله: «أو من مورِّثه» بأن ادعى وارث المودَع أن مورِّثه، أي: المودَع ردها، يعني لما جاء صاحب الوديعة يطلبها بعد أن مات المودَع، قال الورثة: إن مورِّثنا قد ردها عليك فلا يقبل قول الوارث؛ لأنه غير مؤتمن من قِبَل ربِّها؛ لأن ربَّها لم يودعها الوارث، إنما أودعها المورِّث، وحينئذ نقول للورثة: إن كان عندكم بينة أنكم رددتموها إلى صاحبها قبلناها، وإلا فعليكم الضمان، فالوارث أقر بالوديعة ولم ينكرها لكن ادعى الرد منه أو من مورثه، فلا تقبل دعوى الرد من الوارث أو المورث إلا ببينة.
ولو ادعى الورثة: أن المورِّث لم يترك شيئاً لا وديعتكم ولا غيرها، فيلزم المودِع حينئذ أن يثبت ببينة أن المورث تركها؛ وذلك لأن المورث قد يكون تصرف فيها وأنفقها، أو ردّها وهم لا يعلمون، أو ما أشبه ذلك.
فإن قال قائل: إذا ترك الميت وديعة، فهل يجب على الورثة أن يبلغوا صاحبها، أو يردوها إليه فوراً؟
الجواب: نعم، يجب على الورثة إذا خلف المورث وديعة
أن يبلغوا صاحبها فوراً أو يردوها عليه فوراً؛ لأن المودِع لم يأتمن الورثة عليها، والورثة وجدوا مالاً لغيرهم غير مؤتمنين عليه، فيجب عليهم أن يبلغوه أو يردوها.
وَإِنْ طَلَبَ أَحَدُ المُودِعَيْنِ نَصِيبَهُ مِنْ مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ يَنْقَسِمُ أَخَذَهُ. وَلِلمُسْتَوْدَعِ، وَالمُضَارَبِ، وَالمُرْتَهِنِ، وَالمُسْتَأْجِرِ مُطَالَبَةُ غَاصِبِ العَيْنِ ...............
قوله: «وإن طلب أحد المودِعَيْنِ» ويجوز «المودِعِينَ» ونظيره في الحديث: «من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذِبَيْنِ، أو الكاذِبِينَ»
(1)
فهنا يجوز الجمع ويجوز التثنية.
قوله: «نصيبه من مكيل أو موزون ينقسم أخذه» مثال المكيل: مائة صاع بر في كيس مشتركة بين اثنين، أودعاها إلى زيد، وبعد مدة جاء أحدهما وقال: إنا أودعناك مائة صاع بر، وأنا أريد نصيبي منه، وهو يعلم أن نصيبه النصف، أو الثلث، أو الربع، فيلزمه أن يعطيه نصيبه، فإن اتفق الطرفان على أن مائة الصاع هذه بينهما، نصفين، فيعطيه نصفه، وعللوا هذا بأنه ليس على شريكه الغائب الذي لم يطالب ضرر.
وقيل: ما داما قد أودعاه إياها جميعاً، فإنه لا يلزمه أن يسلم للشريك؛ لاحتمال أن هذا الشريك الذي طلب نصيبه قد باعه على شريكه، وأيضاً ربما إذا أخذ نصيبه كاملاً ينقص نصيب الآخر؛ لأن الشيء إذا كيل ورُدِّد فإنه ينقص، ولهذا يقولون: كل شيء ردَّدته فإنه ينقص إلا الكلام، وهذا صحيح، فاملأ ـ مثلاً ـ فنجالاً من الماء ثم صبه في الفنجال الثاني، ثم في الثالث
(1)
أخرجه الإمام أحمد (4/ 250)؛ ومسلم في مقدمة صحيحه، باب/ وجوب الرواية عن الثقات وترك الكذابين
…
عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.
والرابع والخامس تجده ينقص بلا شك، وكذلك ـ أيضاً ـ المكيل فإذا قدرنا هذا الكيس ـ مثلاً ـ مائة صاع، وكلنا منه خمسين صاعاً وافية، فإن ذلك يؤدي إلى نقص الخمسين صاعاً الباقية.
والصحيح أنه لا يلزمه تسليمه، ويقال له: أحضر صاحبك أو هات منه موافقة وإلا فلا.
وقوله: «أو موزون ينقسم» مثله ـ أيضاً ـ، فالموزون المنقسم كما لو كان بينهما جِراب من عسل أحضراه إليه وقالا له: هذا وديعة، ثم بعد حين جاء أحدهما وقال: أعطني نصيبي؟ فعلى كلام المؤلف يلزمه إعطاؤه، والصحيح أنه لا يلزمه إلا بموافقة صاحبه لما ذكرنا من الاحتمالات.
وقوله: «ينقسم» احترازاً مما لا يمكن أن ينقسم، كما لو كان مخلوطاً، فإنه لا يلزمه لئلا يضر الآخر، أو كان لا تمكن قسمته لكونه متلبداً لا يمكن قسمته بوزن ولا بكيل، ففي هذه الحال لا يلزم المودَع أن يسلمه نصيبه؛ لما في ذلك من الضرر على شريكه، لكن على ما اخترناه، لا يلزمه مطلقاً أن يسلم نصيب الشريك إليه حتى يأتي بإذن من صاحبه.
قوله: «وللمستودَع» المراد به المودَع.
قوله: «والمضارَب» وهو من أعطي المال مضاربة، بأن قيل له: خذ هذه عشرة آلاف ريال مضاربة، اتجر بها ولك نصف الربح، وسميت مضاربة؛ لما سبق من كون التجار غالباً يضربون في الأرض، ويسافرون فيها قال الله تعالى:{وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل: 20].
قوله: «والمرتهن» وهو من بيده الرهن؛ لأن مالك الرهن يسمى راهناً.
قوله: «والمستأجر» أي الذي بيده العين المستأجرة.
قوله: «مطالبة غاصب العين» أي: كل هؤلاء الأربعة لهم مطالبة غاصب العين.
فنبدأ أولاً بالمستودَع وهو المودَع، فلو غُصِبت الوديعة، فهل للمودَع أن يطالب غاصب العين؟ نعم.
ثانياً: المضارَب بيده تجارة غصبت، وأخذها إنسان قهراً، فهل له أن يطالب؟ نعم.
ثالثاً: المرتهن، أيضاً بيده الرهن فغصب فهل له أن يطالب؟ نعم.
رابعاً: المستأجر ـ أي مستأجر سيارة مثلاً ـ لمدة يومين أو ثلاثة، فجاء شخص فغصبها فهل له أن يطالب؟ نعم له أن يطالب.
فلو قال الغاصب: أنت لست بمالك؟ فجوابه أن يقال: لكنه نائب عن المالك.
بقي أن يقال: (اللام) في قوله: «للمستودع» هل هي للإباحة أو لدفع توهم الامتناع؟ (اللام) لدفع توهم الامتناع وليست للإباحة، ولو قلنا: إنها للإباحة، لكان المستودع مخيراً بين أن يطالبه وأن لا يطالبه، فإذا قلنا: لدفع توهم الامتناع، بمعنى أنه لا يُمنع المستودع من مطالبة الغاصب، وكذلك ما عطف عليه، فصار ذلك لا ينافي أن نقول: يجب عليه أن يطالب وهو كذلك، وكيف يتوهم الامتناع؟ يتوهم ذلك بأن يقال: أنت لست المالك، وإذا لم تكن المالك فليس لك حق في المطالبة؛ لأنه من الجائز أن يرضى
المالك بهذا الغصب؛ فهذا هو التوهم الذي قد يتوهمه الإنسان، فبين المؤلف رحمه الله أن للمستودع أن يطالب غاصب العين، ويقول: نعم، أنا لست المالك لكني مؤتمن عليها.
فيجب على المستودَع بمقتضى الأمانة أن يطالب بنفسه أو يبلغ فوراً مالك الوديعة، أما أن يسكت وهو يرى الغاصب يأخذها فلا يجوز؛ لأن ذلك خلاف الأمانة، ويستثنى من ذلك إذا كان صاحب العين حاضراً وعالماً بالغصب فإنه لا يلزم هؤلاء المطالبة؛ لأنه إذا كان صاحبها حاضراً ويعلم بالغصب فهو المسؤول عنها.
واللام تأتي في كلام الفقهاء لمثل هذا:
مثلاً عبر بعض العلماء في فسخ المفرد والقارن ـ إذا لم يسوقا الهدي إلى عمرة ـ فقالوا: «وللمفرد والقارن أن يفسخا نيتهما إلى عمرة ليصيرا متمتعين» ، فأنت تفهم من هذه العبارة أن اللام للإباحة، وليست كذلك؛ لأن الذين عبروا بهذا التعبير قالوا: يسن، فتكون اللام هنا لدفع توهم الامتناع، ودفع القول بعدم الجواز، وهذا لا ينافي أن يقال: إن فسخ الحج، أو الحج والعمرة إلى تمتع، مباح إباحة مستوية الطرفين، بل تحويل الحج إلى عمرة ليصير الإنسان متمتعاً، سنة مؤكدة، إما وجوباً وإما تأكيداً، والصحيح أن فسخ الحج إلى عمرة ليس بواجب لكنه مؤكد، ولا ينافي القول بالاستحباب أن الرسول صلى الله عليه وسلم غضب على الصحابة رضي الله عنهم لما تأخروا في التنفيذ
(1)
؛ لأن المخاطبة في
(1)
أخرجه مسلم في الحج/ باب بيان وجوه الإحرام (1211)(130) عن عائشة رضي الله عنها.
المقابلة أشد من المخاطبة في الإبلاغ، ولو أن الصحابة رضي الله عنهم امتنعوا في ذلك الوقت لفات بهذا تشريع هذه السنة؛ لأنه إذا امتنع منها الصحابة رضي الله عنهم فمن بعدهم من باب أولى، ولهذا كان أحسن الأقوال، وأصحها أن الفسخ واجب على الصحابة، ومن أجل ذلك غضب الرسول صلى الله عليه وسلم عليهم لما تباطؤوا في الفسخ، وأما من بعدهم فإنه سنة، وليس هذا من تقديم قول أبي بكر وعمر رضي الله عنهما لأن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما لا يريان ذلك، بل يريان أن يحج الإنسان حجاً مفرداً ويأتي بالعمرة في وقت آخر، لكن قول الرسول صلى الله عليه وسلم أولى، فيقال: للإنسان أن يتمتع حتى في سفر حجه إلا أن الفسخ ليس بواجب على غير الصحابة رضي الله عنهم.
ولهذا لما سئل أبو ذر رضي الله عنه: ألكم هذه خاصة، أم للناس عامة؟ قال: بل لنا خاصة
(1)
، ومراده بنفي العموم نفي الوجوب، فيحمل كلام أبي ذر رضي الله عنه على نفي الوجوب، وإلا فإن الرسول صلى الله عليه وسلم سأله سراقة بن مالك بن جعشم رضي الله عنه وقال: يا رسول الله ألعامنا هذا أم لأبد؟ قال: «بل لأبد الأبد» وشبك بين أصابعه
(2)
، وقال:«دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة»
(3)
.
(1)
أخرجه مسلم في الحج/ باب جواز التمتع (1224).
(2)
أخرجه البخاري في الحج/ باب من أهل في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم (1557)؛ ومسلم في الحج/ باب بيان وجوه الإحرام (1216) عن جابر رضي الله عنه.
(3)
أخرجه مسلم في الحج/ باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم (1218) عن جابر رضي الله عنه.
بَابُ إِحْيَاءِ المَوَاتِ
وَهِيَ الأَرْضُ المُنْفَكَّةُ عَنِ الاخْتِصَاصَاتِ وَمِلْكِ مَعْصُومٍ. فَمَنْ أَحْيَاهَا مَلَكَهَا،
…
قوله: «إحياء الموات» «إحياء» مصدر أحيا أي: جعل الحياة في شيء ميت، و «الموات» مشتق من الموت وعبروا بالموات دون الميتة؛ لأن الأرض الميتة قد يراد بها ما لا نبات فيها، كما قال تعالى:{وَآيَةٌ لَهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ *} [يس] فعبروا عن الأرض هنا بالموات للفرق بينها وبين الأرض التي ليس فيها نبات.
قال المؤلف في تعريف الأرض الموات: «وهي الأرض المنفكة عن الاختصاصات وملك معصوم» .
فقوله: «الأرض المنفكة» يعني الخالية.
وقوله: «عن الاختصاصات» كمجاري السيول، ومواضع الحطب، ومواضع المراعي، والمصالح العامة، وأفنية الدور ـ وهي مُلْقَى زبالاتهم ـ فهذه غير مملوكة لكنها مختصة لمصالح البلد عموماً، أو لمصالح كل بيت، ففناء الدار وهي البرحة أو الساحة التي أمامها تكون ملقى للكناسة، أو ما أشبه ذلك، هذه وإن لم تكن ملكاً لكنها مختصة لصاحب البيت ينتفع بها، كذلك المصالح العامة كمسايل المياه، ومواضع الاحتطاب، والاحتشاش، والمراعي، وما أشبه ذلك، ومثله ـ أيضاً ـ الطرق، فهذه نسميها
اختصاصات ولا نسميها أملاكاً؛ لأنها ليست ملكاً لأحد.
وقوله: «وملك معصوم» أي: ولم يسبق إحياءَها ملكٌ، فإن سبق إحياءها ملك فإنه لا يمكن لمن أحياها أن يملكها؛ لأنها ملك للأول الذي أحياها، لكن اشترط المؤلف أن تكون ملكاً لمعصوم، والمعصوم من بني آدم أربعة أصناف: المسلم، والذمي، والمعاهَد، والمستأمِن، فهذه أربعة أنفس معصومة لا يجوز لأحد أن يعتدي عليها، أما الحربي الذي ليس له عهد ولا ذمة وليس مسلماً، فماله مباح للمسلمين، فالأرض التي تكون ملكاً لحربي فهي موات وإن كان مستولياً عليها؛ لأن ماله غير معصوم.
ومثل إحياء الموات الأراضي الداثرة التي كانت قرىً في قديم الزمان وارتحل الناس عنها وتركوها، فهذه ـ أيضاً ـ لمن ملكها، ونظير ذلك في الأعيان إذا ألقى الإنسان متاعه زاهداً فيه وراغباً عنه ولا يريده فهو لمن وجده، كما في حديث جابر رضي الله عنه أنه كان على جمل له فأعيا فأراد أن يسيِّبه
(1)
، فلو سيَّبه جابر ووجده آخر فهو له، وكذلك ما يلقى في البحر عند خوف غرق السفينة فإن من وجده فهو له؛ وذلك لأن الذي ألقاه قد تخلى عنه ولم يرد أن يكون ملكاً له، وكذلك أراضي القرى البائدة التي من قديم الزمان ـ كما سبق ـ فهذه ـ أيضاً ـ مَنْ أحياها مَلَكَها، ولهذا الآن يوجد في بعض الأراضي التي تُحيا
(1)
أخرجه البخاري في الشروط/ باب إذا اشترط البائع ظهر الدابة (2718)؛ ومسلم في المساقاة/ باب بيع البعير واستثناء ركوبه (715)(109) عن جابر رضي الله عنه.
آثار إحياء سابقة، حتى إنه عندنا هنا قريب من الوادي عثروا مرة على سوق كله رماد وقطع حديد، مما يدل على أن هذا السوق كان سوق الصناع في هذا المكان، لكنه باد وذهب أهله ولم يعرف له مالك، فهذه تدخل في كلام المؤلف في قوله:«ملك معصوم» ؛ لأن هذه الأراضي البائدة الآن ليس لها مالك فتدخل.
والشح في الأراضي شديد، والاعتداء عليها عقابه شديد، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«من اقتطع شبراً من الأرض ظلماً طُوِّقَه يوم القيامة من سبع أرضين»
(1)
أي يُجعل طوقاً في عنقه من سبع أرضين، وليس من أرض واحدة؛ لأنه ظلم، حتى إن العلماء رحمهم الله قالوا: لا يجوز للإنسان أن يزيد في تلييس الجدار أكثر مما جرت به العادة؛ وذلك لأنه يأخذ بهذه الزيادة من السوق، والسوق مشترك، فإلى هذا الحد حذر العلماء من التعدي على الأرض، لكن على كل حال إذا وجدنا أرضاً منفكة عن الاختصاصات وملك معصوم فمن أحياها ملكها، ولهذا قال المؤلف:
«فمن أحياها ملكها» «مَنْ» شرطية، وفي أصول الفقه أن أسماء الشرط من صيغ العموم، إذاً فتعم كل من أحياها، وسيأتي إن شاء الله بيان الإحياء.
وقوله: «ملكها» أي: دخلت في ملكه قهراً؛ لأن ملكها عُلِّق
(1)
أخرجه البخاري في المظالم/ باب إثم من ظلم شيئاً من الأرض (2452)؛ ومسلم في البيوع/ باب تحريم الظلم وغصب الأرض وغيرها (1610) عن سعيد بن زيد رضي الله عنه واللفظ لمسلم.
بسبب فمتى وجد ثبت، كما قلنا في الميراث، فالميراث إذا وجد سببه دخل في ملك الوارث قهراً، حتى لو قال الوارث: أنا لا أريد الميراث، قلنا: هو لك قهراً عليك؛ لأن الملك المعلق بسبب، متى وجد سببه ثبت الملك شاء الإنسان أم أبى، نعم الإنسان حر مختار قبل أن يفعل السبب، أما إذا فعل السبب فإن الشارع رتب المسبب على وجود السبب فلا خيار للإنسان فيه.
مِنْ مُسْلِمٍ وَكَافِرٍ بِإِذْنِ الإِمَامِ وَعَدَمِهِ، فِي دَارِ الإِسْلَامِ وَغَيْرِهَا. وَالعَنْوَةُ كَغَيْرِهَا. وَيُمْلَكُ بِالإِحْيَاءِ مَا قَرُبَ مِنْ عَامِرٍ، إِنْ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِمَصْلَحَتِهِ.
.......
قوله: «من مسلم وكافر» فصل المؤلف العموم في قوله: «من أحياها» لأنه في بعض أفراده خلافاً، فبعض العلماء يرى أن الكافر لا يملك الأرض في البلاد الإسلامية ولو كان ذمياً؛ لأن البلاد الإسلامية لا ينبغي أن يكون فيها مكان لغير المسلمين؛ لأن غير المسلمين إذا تملكوا الأرض كثروا فيها ثم صاروا أغلبية، فيطغى الخبيث على الطيب، فحينئذٍ يوشك أن يعمهم الله بالعقاب، لكن المؤلف يقول: لا فرق بين المسلم والكافر، والمراد بقوله:«كافر» أي معصوم، وأيضاً نزيد شرطاً ثانياً في الكافر وهو أن يكون ممن يصح تملكه الأرض، فإن كان لا يصح فإنه لا يملكها، فمن أحياها ملكها من مسلم أو كافر، ذكر أو أنثى، صغير أو كبير، لكن الصغير الذي لا يميز يتولى ذلك عنه وليه.
قوله: «بإذن الإمام وعدمه» إذا قال الفقهاء: «الإمام» فمرادهم من له السلطة العليا في البلد، فالبلاد الملكية يكون الإمام فيها الملِك، والبلاد الجمهورية يكون الإمام فيها الرئيس، فمن له السلطة العليا في البلد هو ما يعنيه الفقهاء بكلمة:«الإمام» .
وقوله: «بإذن الإمام» هل يأذن الإمام مباشرة؟ نقول: بإذن الإمام أو نائبه؛ لأنه الآن اختلفت الأوضاع، واختلف أسلوب الحكم، فالإمام نفسه لا يباشر مثل هذه الأمور لكن له نواب، ووزراء، هذا وزير داخلية، وهذا وزير بلديات، وهذا وزير عمال
…
إلخ.
فالوزير ينوب مناب الإمام، وإذا جُعل للوزير من قِبَل الإمام أن ينيب غيره في كل بلد كالأمير أو المحافظ، قام هذا الأمير أو المحافظ مقام الإمام، وقصدي من هذا الترتيب ألا يقول قائل: إن إذن الأمير أو المحافظ أو الوزير أو رئيس البلدية أو ما أشبه ذلك غير معتبر؛ لأن المعتبر إذن الإمام، فنقول: إن النواب عنه بمنزلته يقومون مقامه.
وقوله: «بإذن الإمام وعدمه» لأن الأرض لله وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من أحيا أرضاً ميتة فهي له»
(1)
، لكن لو قال قائل: هذا لا داعي له؛ لأنه إذا قال: من أحياها ملكها، ولم يذكر «بإذن الإمام» معناه أنه لا يشترط إذن الإمام، ولكن الفقهاء إذا قالوا شيئاً لا داعي له من حيث العبارة، فإنما يشيرون إلى رأي آخر، وهنا يريد المؤلف أن يشير إلى رأي آخر، وهو أن هناك قولاً بأنه لا تملك الأرض الميتة إلا بإذن الإمام أو نائبه لئلا تحصل الفوضى والاعتداء، فإذا كانت بإذن الإمام أو نائبه صارت مرتبة مضبوطة.
وسبب اختلافِهم اختلافُهم في فهم قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «من
(1)
جزء من حديث: «ليس لعرق ظالم حق» وقد سبق تخريجه ص (66).
أحيا أرضاً ميتة فهي له» فهل هذا حكم تشريعي أو حكم تنظيمي؟ إن قلنا: إنه حكم تشريعي صار «من أحيا أرضاً ميتة فهي له» سواء أذن الإمام أم لم يأذن؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قاله على وجه التشريع للأمة، وإن قلنا: إنه على وجه التنظيم، صار لا بد أن يقول الإمام:«من أحيا أرضاً ميتة فهي له» في كل زمان ومكان.
ونظير هذا من بعض الوجوه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من قتل قتيلاً فله سَلَبُه»
(1)
أي في الحرب، فهل هذا تشريع أو تنظيم؟ فيه خلاف، فبعض العلماء قال: إن الرجل إذا قتل قتيلاً في الحرب فله سلبه سواء اشترط ذلك الإمام أم لا، وبعضهم قال: ليس له سلبه إلا بإذن الإمام، وهنا أمير الجيش ينوب مناب الإمام؛ لأن سَلَب القتيل غنيمة فيلحق بالغنيمة ولا يملكه القاتل إلا بإذن خاص.
وكلام المؤلف في المسألة السابقة ـ وهو مذهب الحنابلة ـ يدل على أن من أحيا أرضاً ميتة فهي له، سواء كان ذلك برخصة من ولاة الأمر أم لا، لكن لو أن ولي الأمر قال: لا يحيي أحد أرضاً إلا بإذني وموافقتي، فهل يملك المحيي بعد ذلك الأرض بالإحياء بدون مراجعة ولي الأمر؟ الجواب: لا؛ لأن المسألة انتقلت من كونها داخلة في العموم إلى تخصيص من ولي الأمر، وقد قال الله تبارك وتعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] فإذا قال ولي الأمر: لا أحد يحيي إلا بإذني وترخيص مني، فمن أحيا بعد أن بلغه هذا القول فإنها تنزع منه ولا حق له فيها؛ وذلك لأن ولي الأمر أمر بهذا،
(1)
سبق تخريجه ص (235).
لكن إذا كان أحياها قبل صدور الأمر فهي له؛ لأن الذي يظهر من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «من أحيا أرضاً ميتة فهي له» أنه تشريع، وهذا هو الأصل حتى يقوم دليل على أنه تنظيم، لكن قد تكون المصلحة، أو الحاجة، أو الضرورة في تقييد ولي الأمر الإحياء بهذا الشرط وذلك حسب المنطقة، فبعض المناطق يكون فيها أناس جهال إذا لم يُقَيَّدوا بإذن الإمام اعتدى بعضهم على بعض، فهؤلاء يكون من الضروري أن يقيدوا بإذن الإمام، وقد تكون بعض المناطق أهون، فيكون عندهم خوف من الله وتقوى ولا يعتدي أحد على أحد، فهنا قد يكون من الحاجة تقييدهم بالإذن، وقد يزول هذا كله وتكون المنطقة أهلها أغنياء، وكل إنسان عنده أرض تكفيه، وكل إنسان عنده خوف من الله فهنا تكون المصلحة، فالتقييد إما أن تقتضيه الضرورة أو الحاجة أو المصلحة.
وفي وقتنا الحاضر حسب ما نسمع، أن تقييد الإحياء بإذن الإمام أمر لا بد منه، يدخل في قسم الضرورة مباشرة في بعض المناطق، ويدخل في الحاجة أو المصلحة في مناطق أخرى؛ لأنه لا يمكن أن يتبعض النظام، بمعنى أن نجعل هذه الجهة لا بد فيها من إذن الإمام، وهذه الجهة يُمَلَك فيها بدون إذن الإمام؛ لأن الدولة واحدة، ولذلك لو قال قائل: لا حاجة إلى إذن الإمام في بلد أهلها أغنياء، وكل إنسان عنده مزرعته وكل إنسان عنده خوف من الله، ولا يمكن أن يعتدي على أحد؟ نقول: نعم، لكن ليست كل المناطق على هذه المنزلة، فَيُعَمَّم النظام ولا بأس.
إذاً المذهب: أنه لا يشترط للإحياء إذن الإمام، والقول
الراجح أنه يملكها بدون إذن الإمام إلا إذا أصدر الإمام أمره بألا يحيي أحد أرضاً إلا بإذنه فلا تحيا إلا بإذنه، وإذا أمر الإمام ألا يُحييَ أحد أرضاً إلا بإذنه فهل تجب طاعته؟ الجواب: نعم، تجب طاعته؛ لأن طاعة ولي الأمر واجبة في غير معصية الله، وتنظيم الأراضي، وكون الناس لا يُعْطَون إلا بترخيص وحدود مضبوطة ليس من معصية الله، بل هو من حفظ حقوق العباد.
قوله: «في دار الإسلام وغيرها» يعني من أحياها ملكها سواء كان في دار الإسلام وغير دار الإسلام، ودار الإسلام هي التي غلب عليها الإسلام ظهوراً وشيوعاً بحيث يؤذن فيها للصلاة، وتقام فيها الجماعات، ويصام فيها رمضان ويعلن، وتظهر فيها الشعائر حتى وإن كان فيها كفار، فلو قدر أن الكفار فيها خمسون في المائة أو أكثر فهي دار إسلام، ما دام حكم الإسلام غالباً عليها، أما إذا لم يكن حكم الإسلام عليها غالباً فهي دار كفر ولو كثر فيها المسلمون، والاعتبار بالمظهر والظاهر، ويدل لهذا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا غزا قوماً أمسك حتى يطلع الفجر، فإن أَذَّنُوا امتنع من قتالهم، وإن لم يؤذِّنوا قاتلهم
(1)
.
فمثلاً بلاد أوروبا الآن بلاد كفر؛ لأن الحكم الشائع والظاهر فيها هو الكفر، وإن كان يوجد فيها جمعيات إسلامية، وربما يوجد في بعض البلاد هناك مناطق تقام فيها الجماعة والجمعة، لكنها بلاد كفر؛ لأن الغالب والمهيمن عليها هو حكم
(1)
أخرجه البخاري في الأذان/ باب ما يحقن بالأذان من الدماء (610) عن أنس رضي الله عنه.
الكفار، فإذا قدر أن شخصاً تملَّك في أوروبا، وأحيا أرضاً فهي ملكه شرعاً، ولا أحد ينازعه فيها إذا تم الإحياء.
وقيل: إن دار الإسلام من كان أكثر أهلها مسلمين بغض النظر عن الحاكم، وقيل: إن دار الإسلام من يحكمها مسلم ولو كان أكثر أهل البلد كفاراً، والعلماء اختلفوا في هذا اختلافاً كبيراً، لكن أقرب الأقوال أنه ما أعلن فيها بالإسلام.
قوله: «والعَنْوة كغيرها» العنوة ما فتح بالسيف، أي: أن بلاد الكفر المفتوحة بالسيف كغيرها من البلاد التي فتحت صلحاً، فإذا أحيا أرضاً ميتة في بلاد فتحت عنوة فهي له، وما زال المسلمون يتبايعون هذه الأراضي، أما قول بعض الفقهاء ومنهم أصحاب الإمام أحمد ـ في المشهور عنهم ـ أنه لا يباع غير المساكن مما فتح عنوة، فهذا قول مخالف لما جرى بين المسلمين، فإن المسلمين منذ فتحوا هذه البلاد وهم يتبايعون الأراضي والمساكن ويملكونها، وكذلك فيما فتحت صلحاً، بأن صولح أهلها أن يبقوا فيها وتكون الأرض أرضنا، ويبقون فيها بالجزية، أما ما صولحوا على أنها لهم، فإنها لا تملك بالإحياء؛ لأن الأرض أرضهم، لكن ما صولحوا على أنها لنا ونقرهم فيها بالجزية أو بالعهد فإنها تملك.
وظاهر كلام المؤلف: أنه لا فرق بين مكة وغيرها، ولكن هذا فيه خلاف، أما المدينة فكغيرها من البلدان تُملك بالإحياء، وأما مكة ففيها خلاف؛ لأن مكة مشعر يجب على كل مسلم أن يقصده ليؤدي مناسك الحج، فليست خاصة لأحد، ولهذا قال
فقهاؤنا رحمهم الله: إنه لا يصح بيع مساكنها ولا إجارتها؛ لأنها تعتبر أرض مشعر، ولا يملك الإنسان فيها شيئاً على وجه تام كما يملكه في غيرها، إلا المساكن التي بناها فهذه له أن يبيعها لكن الأرض لا تباع.
ويرى شيخ الإسلام رحمه الله قولاً وسطاً في هذا فيقول: هي تملك بالإحياء وبالإرث وبالبيع، لكنها يحرم تأجيرها، فمن استغنى عن مكان وجب بذله لغيره، ولو أن الناس مشوا على كلام شيخ الإسلام لحصل في ذلك سعة عظيمة للناس؛ ووجه ذلك أن الناس لا يبنون إلا ما يحتاجون إليه فقط، وإذا لم يبنوا إلا ما يحتاجون إليه وقدم الحجاج، فإن من وجد سكناً مبنياً بالحجارة والطين سكنه وإلا فالخيام.
والقول الثالث في المسألة: أن مكة كغيرها تملك بالإحياء وبالبيع ويجوز بيعها وإجارتها، والعمل الآن على هذا القول، وهذا هو الذي لا يمكن العمل بسواه في الوقت الحاضر؛ لأننا إن قلنا بالمذهب فهو قول ضعيف لا يمكن العمل به، وإن قلنا باختيار شيخ الإسلام صار هناك خصومات وعداوات وبغضاء، فإذا قدم الحاج ووقف عند البيت وقال لصاحب البيت: البيت يوجد فيه حجر فارغة، فقال صاحب البيت: لا يوجد، فهنا يحصل نزاع وخصام، ثم هل يمكن أن نقول للذي جاء ليستأجر: لك الحق أن تسأل صاحب البيت كم عائلتك؟ وكم في البيت من حجرة؟ والزائد لا بد أن تفرغه لنا!! هذا فيه صعوبة، ولهذا مشى القضاة الآن على أنها تملك بيعاً وشراءً ويملك تأجيرها
واستئجارها، لكن على المذهب يقولون: إذا لم يجد مكاناً إلا بأجرة دفعها والإثم على الآخذ، وهذا فيه فسحة، وعللوا ذلك بأن سكناه في هذا البيت حق له، فإذا قال صاحبه: لا يمكن أن تسكن إلا بأجرة، فمعناه أنه منعك حقك إلا بعوض، فابذِلْ العوض وهو الآثم.
وبهذا التقرير نعرف أن بعض البلاد التي يقولون فيها: لا بد أن تؤمن على سيارتك، وحاجاتك وأنت ترى أن التأمين حرام؛ لأنه من الميسر، فلك في هذه الحال أن تعطيهم وهم الآثمون؛ لأنه لا يمكن أن نضيق على الناس ونفوت مصالحهم، فنقول: اعقد معهم عقد التأمين، لكن أضمر في نفسك أنك مظلوم وأنك مكره على بَذْلِكَ ثمن التأمين، وفي هذه الحال إذا قدر عليك حوادث أكثر مما دفعت فإنك لا تستحق هذا الزائد؛ لأنك تعتقد أن العقد باطل وحرام، فخذ ما خسرت أو ما دفعت في التأمين والباقي امتنع منه، فإن أبوا إلا أن تأخذه فخذه وتصدق به تخلصاً منه، وبهذا نسلم من الحرج الذي يصيب بعض الناس الآن، يقول: إنه في بلاد لا يمكن أن يشتري سيارة، ولا أن يعمل أي عمل إلا بتأمين، فنقول: هذا المخرج، والحمد لله والإثم على الآخذ.
قوله: «ويملك بالإحياء ما قرب من عامر إن لم يتعلق بمصلحته» يعني أن الإحياء لا يشترط أن يكون بعيداً عن العمران، فيملك بالإحياء ما قرب من عامر، حتى وإن لاصقه، فلو أن رجلاً قد بنى بيتاً، وما حول البيت فضاء ليس لأحد، فبنى
هو بجنب البيت وليس بينهما إلا الجدار، فإنه يصح الإحياء ويملكه، لكن يقول المؤلف:«إن لم يتعلق بمصلحته» فإن تعلق بمصلحة العامر لكونه مرعى لدوابهم أو فناءً لإلقاء القمامة أو محتطباً لهم، فإنه لا يملك ولا يجوز لأحدٍ أن يتملكها، فإن تملكها فإن كان ببنيان هدم وإن كان بغرس قلع؛ لأن هذه الأرض التي تتعلق بها مصالح الناس ليست منفكة عن الاختصاصات، فلا تكون مواتاً حسب التعريف الفقهي، وإذا قدرنا أن الرجل قد بنى بيتاً إلى جنب بيتِ قد أحيي وسكن صاحبه، فهل يطالب صاحب البيت هذا الذي أحيا من بعد بقيمة الجدار الذي بينهما؟
الجواب: لا يطالبه؛ لأن هذا الرجل بنى الجدار على أنه حماية بيته وأنه مُلْكُه، وهذا تجدد إحياؤه فلا يطالبه بقيمة الجدار الذي بينهما، لكن لو فرض أن الأرض مقطَّعة وكل قطعة لبيت، وتأخر أحد الجارين في عمارة منزله حتى يعمر الآخر فيسقط عنه قيمة الجدار؛ لأن بعض الناس قد يتحيل، ويقول: أتأخر في البناء وإذا بنى جاري سقط عني قيمة الجدار، ففي هذه الحال يحسن قضاءً أن يلزم بما يُستحق عليه من قيمة الجدار سداً لحيل المتحيلين.
أما إذا كان الجار ليس له نية أن يعمر ثم عمر بعد ذلك، فإنه لا يلزمه أن يدفع شيئاً من قيمة الجدار، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:«لا يمنعن جار جاره أن يغرز خشبه على جداره» قال أبو هريرة رضي الله عنه حين كان أميراً على المدينة: (ما لي أراكم عنها معرضين والله لأرمين بها بين أكتافكم)
(1)
أي: أرمين بالخشب،
(1)
سبق تخريجه ص (20).
يعني إذا لم تمكِّنوا من وضع الخشب أضعه على الكتف؛ لأنه أمير، وهذا نظير قول عمر رضي الله عنه لمحمد بن مسلمة مع جاره، حين احتاج جاره أن يجري الماء من ملكه عبر ملك محمد بن مسلمة فامتنع، وقال: لا يمكن أن تجري الساقي على ملكي، فالأرض أرضي، فقال له صاحب الساقية: انتفع به اغرس عليه وابذر، فأبى، فترافعا إلى عمر رضي الله عنه فقال له:(لَيُجرينَّه وإلا أجريته على بطنك)
(1)
؛ لأن هذا الذي امتنع يعتبر مضاراً، نعم لو قال: أنا لا أريد أن تجري الساقي في ملكي؛ لأني أريد أن أبنيه فهنا له الحق، أما إذا كان يريد أن يزرعه ويغرسه فمن مصلحته أن يجري الماء.
وَمَنْ أَحَاطَ مَوَاتاً، أَوْ حَفَرَ بِئْراً فَوَصَلَ إِلَى المَاءِ، أَوْ أَجْرَاهُ إِلَيْهِ مِنْ عَيْنٍ وَنَحْوِهَا، أَوْ حَبَسَهُ عَنْهُ لِيُزْرَعَ فَقَدْ أَحْيَاهُ.
..............
قوله: «ومن أحاط مواتاً، أو حفر بئراً فوصل إلى الماء، أو أجراه إليه من عين ونحوها، أو حبسه عنه ليُزرع فقد أحياه» هذا بيان لما يحصل به الإحياء، وهي مسائل:
الأولى: «إذا أحاط مواتاً» أي: ضرب عليها حائطاً يمنع الدخول منه ملكها، وليس حائطاً يسيراً كحجر أو حجرين.
وظاهر كلام المؤلف ولو كبيرة، أما إذا كان في الأراضي شح بأن كانت البلد في أرض محجوزة إما بالأنهار وإما بالجبال، فلولي الأمر أن يحدد، ويقول: لا أحد يتملك أكثر من كذا وكذا قدراً؛ وذلك من أجل ألا يحتكرها أحد الأقوياء، ويحوط أرضاً كبيرة ثم يبيعها على الناس بثمن غالٍ.
(1)
أخرجه مالك في الموطأ (2/ 746)؛ وصححه الحافظ في الفتح (5/ 133) ط/الريان.
الثانية: «أو حفر بئراً فوصل إلى الماء» فإن هذا إحياء، لكن ما الذي يملكه بحفر البئر؟ إن كانت البئر للوِرْد ونحوه فإنه يملك حريمها، وسيأتي ـ إن شاء الله ـ بيان ذلك، وإن كانت لسقي الأرض كبئر الزراعة فإنه يملك كل ما أجرى عليه الماء، فإن لم يصل إلى الماء فليس بإحياء لكنه يكون أحق بها من غيره؛ لأنه ابتدأ بالإحياء ولم ينهه.
الثالثة: «أو أجراه إليه من عين ونحوها» فقوله: «أجراه» أي: أجرى الماء إلى الموات «من عين أو نحوها» كالنهر، فإنه يحصل به الإحياء، ولكن ما الذي يُمْلك؟ الجواب: كل ما جرى عليه الماء فهو إحياء.
الرابعة: «أو حبسه عنه ليُزرع» فقد أحياه، فهذه أرضٌ الماءُ فيها كثير لا تصلح للزرع، فإذا زُرِعَ فيها غرق الزرع، فكيف يحييها؟ يحييها بأن يحبس الماء عنها، فإذا حبس الماء عنها لتصلح للزرع فقد أحياها، فكل ما حبس عنه الماء فإنه يعتبر مُحيا يملكه صاحبه، فإجراء الماء إلى الأرض إحياء، ومنع الماء عن الأرض إحياء؛ لأن المقصود أن تتهيأ الأرض للزرع.
وزاد أهل العلم فقالوا: كذلك لو كان فيها أشجار لا يمكن أن تغرس معها أو تزرع فأزال الأشجار فهو إحياء، وكذلك لو كان فيها أحجار متراكمة عليها لا تصلح الأرض مع هذه الأحجار للزرع ثم أزال الأحجار ونقاها فهذا إحياء.
ومن العلماء من يقول: يُرْجع في هذا إلى العرف، فما عده الناس إحياءً فهو إحياء، وما لم يعدوه إحياءً فليس بإحياء، وعللوا
هذا بعلة قوية، فقالوا: إن القاعدة عندنا أن كل ما أطلقه الشارع وليس له حد في الشرع فمرجعه إلى العرف؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من أحيا أرضاً ميتة فهي له»
(1)
ولم يبين النبي صلى الله عليه وسلم ما يحصل به الإحياء، وهذا القول لا يبعد عما قاله المؤلف رحمه الله لكن ربما تتغير الأحوال وتختلف.
أما لو غرس على أرض واسعة كبيرة أشجاراً كالجدار، فهل يملك ما كان داخل هذه الأشجار؟ الجواب: لا يملك؛ لأنه ما زرعها، ولا بنى، والأشجار عرضة للزوال، لكنه تَحجُّر فيكون أحق بها، بمعنى أنه لا يزاحمه عليها أحد، ولكن إذا تأخر في إحيائها وَوُجِد من يطلب إحياءها فيمهل، ويقال له: يا فلان إما أن تحيي الأرض، وإما أن ترفع يدك؛ لأن هناك من ينتظر إحياءها.
وقوله: «أو حبسه عنه ليزرع فقد أحياه» أما لو حبس الماء عن هذه الأرض لمجرد أن تيبس فقط فإن هذا ليس بإحياء، وفي هذا إشارة من المؤلف إلى أن النية معتبرة في الإحياء في مثل هذه الصورة.
وَيَمْلِكُ حَرِيمَ البِئْرِ العَادِيَّةِ خَمْسِينَ ذِرَاعاً مِنْ كُلِّ جَانِبٍ وَحَرِيمَ البَدِيَّةِ نِصْفَهَا.
....
قوله: «ويملك حريم البئر العاديَّة خمسين ذراعاً من كل جانب، وحريمَ البديَّة نصفَها» .
قوله: «حريم» أي: محارم الشيء، أي: ما حوله.
(1)
سبق تخريجه ص (66).
وقوله: «العادية» يعني التي أعيدت بعد أن كانت محفورة من قبل ثم طمها الرمل، أو المطر، أو ما أشبه ذلك، ثم أعادها، فيملك خمسين ذراعاً من كل جانب؛ وذلك لأنه حفرها أولاً ثم حفرها ثانياً، فبالحفر الأول ملك خمسة وعشرين ذراعاً، وبالحفر الثاني ملك خمسة وعشرين، فيكون الجميع خمسين ذراعاً.
ومراد المؤلف رحمه الله بذلك البئر المحفورة للسقيا وليست للزرع، وهذا يقع كثيراً في البر عند البادية، تجد الرجل يحفر بئراً حتى يصل إلى الماء من أجل أن يسقي ماشيته من إبل أو بقر أو غنم، فنقول: هذا الرجل يملك بهذه البئر خمسين ذراعاً إن كانت قد أعيدت، أو خمسة وعشرين ذراعاً إن كانت بدية، يعني مبتدأة، ففعيل هنا بمعنى مفعول، أي: ابتدأ حفرها، أما إن كانت البئر للزرع فهو شبيه بإجراء الماء إلى الأرض يكون إحياء لكل ما يمكن أن يزرع بهذه البئر.
وظاهر كلام الفقهاء رحمهم الله أنه لا فرق بين أن يكون الحفر سهلاً أو يكون الحفر شديداً، كما لو كانت أرضاً صخرية، وأنه لا فرق بين أن يكون عمقها بعيداً أو عمقها قريباً؛ وتعليل ذلك أن هذا الحريم هو الذي يتعلق به مصلحة البئر، فالرجل في البادية إنما حفر هذا البئر من أجل أن يسقي ماشيته، وخمسة وعشرون ذراعاً من كل جانب فيها كفاية، أي: دائرة يبلغ قطرها خمسين ذراعاً، أما إذا كانت عاديَّة بمعنى أنها انطمت ثم حفرها ثانية فإنه يملك خمسين ذراعاً من كل جانب.
وظاهر كلامهم ـ أيضاً ـ أنه لا فرق بين أن يكون الحافر مرة
أخرى، هو الأول أو غيره، أما إذا كان هو الأول فإعطاؤه خمسين ذراعاً واضح؛ لأنه تعب عليها مرتين، وأما إذا كان غيره، فيقال: إن الأول ملك خمساً وعشرين، والثاني ملك خمساً وعشرين فيكون خمسين ذراعاً من كل جانب، فتكون الخمس والعشرون الأولى باعتبار حفر الأول لها، والثانية باعتبار حفر الثاني لها.
وَلِلإمَامِ إِقْطَاعُ مَوَاتٍ لِمَنْ يُحْيِيهِ، وَلَا يَمْلِكُهُ. وَإِقْطَاعُ الجُلُوسِ فِي الطُّرُقِ الوَاسِعَةِ مَا لَمْ يَضُرَّ بِالنَّاسِ، وَيَكُونُ أَحَقَّ بِجُلُوسِهَا، وَمِنْ غَيْرِ إِقْطَاعٍ لِمَنْ سَبَقَ بِالجُلُوسِ مَا بَقِيَ قُمَاشُهُ فِيهَا وَإِنْ طَالَ.
......
قوله: «وللإمام» إذا قال الفقهاء: «الإمام» فمرادهم السلطان الأعلى، أي الذي له الكلمة على كل الدولة، كالملك ـ مثلاً ـ في البلاد الملكية وكالرئيس في البلاد الجمهورية، وما أشبه ذلك، فمن له الكلمة العليا فهو عند أهل العلم الإمام؛ لأنه يؤتم به ويطاع فيما يأمر به في غير معصية الله، وكل من كان قدوة فهو إمام، ولذلك نسمي من يصلي بنا في الجماعة إماماً؛ لأننا نأتمر بأمره، فلا نكبر إلا إذا كبر، ولا نركع إلا إذا ركع، وإذا قام قمنا، وإذا سجد سجدنا.
قوله: «إقطاع موات لمن يحييه» إقطاعه يعني أن يقول مثلاً: يا فلان لك هذه الأرض أحيها، فإذا أحياها المقطَع فإنه يملكها، وإذا لم يحيها فإنه يكون أحق بها من غيره، فيكون المقطَع كالمتحجر وليس كالذي أحيا.
وإذا قالوا: «وللإمام» فاللام للإباحة، بمعنى أنه لا يمنع من الإقطاع، ولكن قد يجب وقد يحرم، فيجب عليه إذا تقدم متشوف لإحياء الأرض، وكان هذا المتقدم قادراً على إحيائها، فالواجب على الإمام حينئذ أن يقطعه حتى لا تتعطل الأراضي، وحتى ينتفع هذا المتقدم.
ويكون حراماً إذا أقطعها شخصاً محاباة، بمعنى أنه قد تقدم من هو أولى منه وأقدر على إحياء الأرض، ولكنه أقطعها هذا الرجل؛ لأنه قريبه، أو لأنه ذو جاه أو ما أشبه ذلك.
وفهم من قوله: «إقطاع موات» أنه ليس له الحق في أن يقطع أرضاً ذات اختصاص؛ لأن الموات هي الأرض المنفكة عن الاختصاصات وملك معصوم، وعلى هذا فليس للإمام أن يقطع أودية البلد، وطرقه، أو ما أشبه ذلك؛ لأنها مختصة وإن لم تكن مملوكة، وليس له أن يقطع مراعي البلد، ومحتطبهم، أي محل جمع الحطب وما أشبه ذلك؛ لأن هذا من الاختصاصات، وليس من الأرض الموات.
وقوله: «وللإمام» كذلك من قام مقام الإمام فهو مثله؛ لأنه في الوقت الحاضر الإمام لا يتولى هذا، وإنما يتولاه الوزراء أو الوكلاء أو ما أشبه ذلك، فيرجع في هذا إلى نظام الحكم، فإذا كانت الدولة يتولى الإقطاع فيها الحاكم الأعلى فهو الحاكم الأعلى، وإذا كان نوابه فنوابه.
قوله: «ولا يملكه» الواو هنا للاستئناف، والضمير هنا يعود على المقطَع، يعني أن المقطَع لا يملكه لكن يكون أحق به من غيره، بحيث لا يمكن لأحد أن يقوم بإحيائه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«من أحيا أرضاً ميتة فهي له»
(1)
فجعل مناط الحكم الإحياء.
وقيل: إنه يملكه بإقطاع الإمام؛ لأن إقطاعه إياه تمليك على
(1)
سبق تخريجه ص (66).
هذا القول؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع بعض الأراضي
(1)
وإقطاعه إياها تمليك بلا شك، ولأن الإمام هو المسؤول عن أراضي دولته وأحوال الدولة، فإذا أقطع هذا الرجل فكأنه وهبه، والهبة يكون بها الملك، لكن الأقرب أنه لا يملكه، وأنه أحق به، ثم إن أحياه فهذا المطلوب ويملكه بالإحياء وإن لم يحيه، وتقدم متشوف لإحيائه وجب على الإمام أن يقول للذي أقطعه: إما أن تحييه، وإما أن ترفع يدك ويضرب له مدة يمكنه أن يحييه فيها.
مسألة: هل يجوز لمن أُقطع أن يتنازل عن إقطاعه بعوض؟
الجواب: في هذا خلاف، فمن العلماء من قال: لا يجوز لاحتمال ألا يحصل للثاني؛ لأن الثاني إذا لم يحيه قيل له: ارفع يدك.
وقال بعض أهل العلم: بل يجوز ذلك؛ لأن هذا الذي أُقطع تنازل عن حقه بعوض، والأصل في العقود الحل والإباحة وليس في ذلك محظور؛ لأنه إذا تنازل عنه نزل الثاني منزلة الأول، وهذا لا مانع منه، وهذا القول هو الصحيح.
قوله: «وإقطاع الجلوس في الطرق الواسعة ما لم يضر بالناس» أي: وللإمام إقطاع الجلوس في الطرق الواسعة بشرط ألا يضر بالناس؛ لأن المصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة، ولنضرب مثلاً بسوق الخضار، فهذا السوق يكون عادة
(1)
من ذلك أنه صلى الله عليه وسلم أقطع الزبير رضي الله عنه أرضاً، كما في البخاري في فرض الخمس/ باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي المؤلفة قلوبهم
…
(3151)؛ ومسلم في الآداب/ باب جواز إرداف المرأة الأجنبية إذا أعيت في الطريق (2182) عن أسماء رضي الله عنها
واسعاً فله أن يقطع أحداً مكاناً يجلس فيه، فيقول: يا فلان لك رأس السوق أو وسط السوق أو طرف السوق أو ما أشبه ذلك؛ لأن المرجع في هذه الأمور إلى الإمام، لكن بشرط ألا يضر بالناس، والإضرار بالناس له صور منها:
لو أقطعه مكاناً كبيراً والناس مزدحمون في هذا المكان، ولو لم يقطعه لَوسِعَ هذا المكان أربعة أو خمسة فهنا لا يجوز له ذلك؛ لأن هذا إضرار بالناس، والناس محتاجون، وإذا أقطع قطعة كبيرة من هذا السوق لهذا الرجل، فبدلاً من أن يكون في هذا السوق عشرون رجلاً لم يتسع إلا لعشرة ـ مثلاً ـ وهذا إضرار.
كذلك لو أقطعه مكاناً هو مدخل السوق ويضيق على الداخلين فهنا نقول: هذا ممنوع، ولا يحل له؛ لأن الإمام يجب عليه أن يراعي المصالح العامة، والمضار الخاصة تغتفر من أجل المصالح العامة؛ لأنه إذا راعى المصالح العامة فربما يضر آخرين لكنهم أفراد.
قوله: «ويكون أحق بجلوسها» ولكن لا يملكها؛ لأن السوق ملك للعامة، فإذا أقطعه مكاناً يبيع فيه، فإنه لا يملكه لكن يكون أحق بالجلوس فيه.
قوله: «ومن غير إقطاع» يعني لو جلس إنسان في مكان من السوق يبيع ويشتري فيه من غير إقطاع.
قوله: «لمن سبق بالجلوس ما بقي قماشه فيها وإن طال» يعني لو تقدم إنسان إلى مكان ووضع بسطته فيه، فما دامت بسطته في السوق فهو أحق وليس لأحد أن يزاحمه؛ لأنه سبق، حتى ولو طال.
وقوله: «وإن طال» فيها إشارة خلاف، فمن العلماء من يقول: يعطى مهلة يومين أو ثلاثة أو أسبوعاً ثم يقال: ارفع يدك؛ لأنه إذا طال بقاؤه صار كالمالك وحينئذٍ يتعذر أن ينتفع به أحد غيره، وربما يبقى القماش وهو لا يأتي فيمنع هذا المكان من الانتفاع به وهو لا ينتفع به.
ومنهم من قال: ما دام الرجل محتاجاً إلى هذا المكان فإنه أحق ولو طال جلوسه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من سبق إلى ما لم يسبق إليه أحد فهو أحق به»
(1)
والصحيح أن ذلك يرجع إلى رأي ولي الأمر، فإن رأى من المصلحة أن يبقى فلا بأس؛ وإن رأى من المصلحة رفعه فإنه يرفعه.
لكن إذا كان هذا المكان موسمياً وانتهى الموسم، فهل نقول: إن هذا الرجل له في الموسم الآخر هذا المكان؟ أو أنه في الموسم الآخر من سبق إلى مكان فهو أحق به؟
الجواب: الثاني؛ لأنه انتهى الموسم، فإذا قدرنا أن في هذا المكان موسماً يكون في عيد الفطر، وانتهى الموسم، وأتى موسم عيد الأضحى فلا نقول للذي جلس في مكان في موسم عيد الفطر: أنت أحق به في موسم عيد الأضحى؛ لأنه انتهى الموسم.
فإن كان من المقرر نظاماً أن كل من قام في بسطة ارتحل عنها في آخر النهار، كما يوجد في بعض المحلات، يبقى الإنسان في هذا المكان طول النهار فقط، وفي الليل تنقل كل الأمتعة، فماذا نعمل في اليوم الثاني؟ هل نقول: نبتدئ من جديد
(1)
أخرجه أبو داود في الجنائز/ باب في إقطاع الأرضين (3071)؛ والطبراني في الكبير (1/ 280)(814) عن أسمر بن مضرس رضي الله عنه.
ومن سبق فهو أحق؟ أو نقول: من كان في مكان بالأمس فهو أحق به؟
الجواب: الأول، فما دام النظام يقول: الجلوس كل يوم بيومه، فإذا انتهى اليوم الأول وجاء الثاني فإن من سبق فهو أحق.
وَإِنْ سَبَقَ اثْنَانِ اقْتَرَعَا، وَلِمَنْ فِي أَعْلَى المَاءِ المُبَاحِ السَّقْيُ وَحَبْسُ المَاءِ إِلَى أَنْ يَصِلَ إِلَى كَعْبِهِ ثُمَّ يُرْسِلُهُ إِلَى مَنْ يَلِيهِ. وَلِلإمَامِ دُونَ غَيْرِهِ حِمَى مَرْعىً لِدَوَابِّ المُسْلِمينَ مَا لَمْ يَضُرَّهُمْ.
قوله: «وإن سبق اثنان اقترعا» يعني سبقا إلى مكان ليبيعا فيه، بأن يكون كل واحد وصل إلى المكان في نفس الوقت، فإننا ننظر إن أمكن توزيع الأرض بينهما وانتفاع كل منهما بما أخذ فإننا نقسمها بينهما، وإن لم يمكن بحيث لا تتسع إلا لمتجر واحد، فهل نقول: ينظر إلى الأكبر سناً، أو إلى الأفقر؛ لأنه أحق بالمراعاة، أو إلى الأغنى، لأنه سوف يجلب إلى هذا المكان ما لا يستطيع الفقير أن يجلبه؟ نقول: كل هذه مسائل اعتبارية فيرجع إلى الأصل، وهو أنهما تساويا في الوصول إليه، ولا طريق إلى التمييز إلا بالقرعة.
ولكن كيف نقرع؟
نقول: القرعة هي ما يحصل بها التمييز، ولا تتعين بشكل معين، فكل ما يحصل به التمييز فهو قرعة وهو يختلف، والناس يختلفون في كيفية الإقراع، والمقصود هو التمييز.
قوله: «ولمن في أعلى الماء المباح السقي وحبس الماء إلى أن يصل إلى كعبه» «لمن» خبر مقدم، و «السقي» مبتدأ مؤخر، و «الماء المباح» يراد به ما ليس بمملوك؛ لأن الماء نوعان: نوع مملوك، ونوع مباح.
فالأنهار التي يجريها الله عز وجل مباحة، والأودية التي يأتي بها المطر مباحة، والبئر التي حفرها قوم واشتركوا فيها هذه مملوكة.
والماء المملوك يكون توزيعه على حسب الملك؛ لأنهم مشتركون، ولا مزية لواحد على الآخر، فمثلاً إذا كان لأحدهما النصف والثاني النصف، وزع الماء بينهما نصفين، وإذا كان لأحدهما الربع والثاني ثلاثة أرباع، فيوزع ربعاً وثلاثة أرباع على حسب الحال.
وكيفية التوزيع ـ أيضاً ـ تختلف، إما أن يكون الساقي واحداً ثم يوضع خروق موزِّعة، فمثلاً إذا كانوا نصفاً ونصفاً فإننا نحتاج إلى اثنين، وإذا كان ثلاثة أرباع وربعاً فإننا نحتاج إلى أربعة، فتوزع بحسب الحال.
أما إذا كان مباحاً فيقول المؤلف: «ولمن في أعلى الماء المباح السقي وحبس الماء إلى أن يصل إلى كعبه» «السقي» يعني أن يسقي زرعه، أو نخله، إلى أن يصل إلى الكعب، ومعلوم أن الأرض ليست متساوية من كل وجه، ربما يصل إلى الكعب في جانب ويصل إلى نصف الساق في جانب آخر، فالعبرة بالمتوسط، وإلا فمن المعلوم أنه لو كانت بعض الأرض نازلة متراً أو أكثر لاستوعبت ماءً كثيراً قبل أن يصل إلى الكعب في العالي، لكن العبرة بالمتوسط.
قوله: «ثم يرسله إلى من يليه» يعني بعد ما يسقي حتى يصل إلى الكعب يرسله إلى من يليه، إلا إذا كان الأعلى أتى أخيراً فإنه يقدم الأسفل.
مثال ذلك: هذا الوادي زرع فيه إنسان، وصار يسقي زرعه منه، ثم جاء إنسان وتقدم إلى أعلى الوادي، فلا نعطي المتقدم؛ لأن الأول أحق لسبقه، لكن إذا قدرنا أنهم أحيوا جميعاً، أو أننا لا نعلم مَنْ المتقدم فإنه يقدم الأعلى، ودليل ذلك ما جاء في الحديث الصحيح من تشاجر الأنصاري والزبير بن العوام رضي الله عنهما في شِراج الحرة، حيث ينزل هذا الشراج إلى الحائطين جميعاً، فكان الزبير رضي الله عنه يسقي ثم يرسل إلى جاره من غير تقدير، فقال الجار: لا، لا بد أن يكون السقي بالسوية، بمعنى أنك إذا سقيت زرعك وكان الماء لا يكفي إلا زرعك فلا بد أن تجعل لي نصيباً منه، فتخاصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى للزبير؛ لأنه أحق، وقال له: اسق ثم أرسل إلى جارك، وأطلق، وهذا يحصل بأقل ما يسمى سقياً، ولكن الأنصاري أخذته الحمية وقال: أن كان ابن عمتك يا رسول الله؟! ـ عفا الله عنه ـ يعني كأنه ظن أن الرسول صلى الله عليه وسلم راعى القرابة، وصلة القرابة واجبة فأراد عليه الصلاة والسلام أن يقدم قرابته؛ لأن صلة القرابة واجبة، فظن رضي الله عنه وعفا عنه ـ أن الرسول صلى الله عليه وسلم راعى هذا وحكم للزبير، ويبعد جداً أن يكون الأنصاري أشار إلى حيف الرسول صلى الله عليه وسلم لكن لفظه يحتمله ولا شك، ولكن علينا أن نحسن الظن به، وأن نقول: إنه ظن أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر الزبير أن يسقي؛ لأنه كان من قرابته وكان هذا من صلة الرحم، فاحتفظ النبي صلى الله عليه وسلم للزبير بحقه فقال: «اسق حتى يصل إلى
الجَدْر، ثم أرسله إلى جارك»
(1)
والجدر هي التي نسميها نحن الغلالي، أو الغلة، وهي التي تفصل بين الحياض، فقيس هذا الجدر، فوصل إلى الكعب، فاعتبر العلماء رحمهم الله ذلك بالكعب؛ لأن الجدر ـ أيضاً ـ يختلف، فقد يكون بعض الناس يكبِّر الجدر، وبعضهم يصغِّره فكان الكعب هو الميزان، فيحبس إلى أن يصل إلى الكعب ثم يرسله إلى جاره، ومعلوم أن وصول الماء إلى الكعب أكثر من أن يكون مجرد سقي؛ لأن مجرد السقي قد يكون بنصف هذه المسافة، وهذا هو الذي أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم أولاً، لكن الأنصاري رضي الله عنه لما قال هذا احتفظ النبي صلى الله عليه وسلم للزبير رضي الله عنه بحقه وقال:«اسق حتى يصل إلى الجدر» . وإذا أرسله إلى من يليه وكانوا ثلاثة أو أربعة، فالثاني يسقي إلى الكعب، والثالث إلى الكعب، والرابع إلى الكعب، وإن لم يبق له شيء بأن كان الماء قليلاً فليس له شيء.
قوله: «وللإمام دون غيره حمى مرعى لدواب المسلمين ما لم يضرهم» اشترط المؤلف رحمه الله ثلاثة شروط في حمى المراعي، والمراعي جمع مرعى وهو مكان الرعي الذي يكثر فيه العشب والحشيش، والأراضي تختلف، بعضها يكون فيه العشب الكثير، والزرع الكثير، وبعضها دون ذلك.
فهل يجوز لأحد أن يحمي شيئاً من هذه الأراضي؟
(1)
أخرجه البخاري في المساقاة/ باب سَكْر الأنهار (2360)؛ ومسلم في الفضائل/ باب وجوب اتباعه صلى الله عليه وسلم (2357) عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما.
نقول: يجوز بثلاثة شروط:
الأول: أن يكون الحامي هو الإمام، وهو الولي العام على الدولة.
الثاني: أن تكون الحماية لدواب المسلمين، ودواب المسلمين هي دواب الصدقة، ودواب الفيء، ودواب الأرباب المجهولين، وما أشبه ذلك، فهي التي لعموم المسلمين وليست لشخص واحد.
الثالث: قوله: «ما لم يضرهم» وصورة الضرر بحيث لا يوجد حول هذا البلد إلا هذا المرعى، وإذا حُمِي تضرر الناس.
فلو أراد أحد من الناس أن يحميه لدواب المسلمين ولكنه ليس له ولاية عليها فإنه لا يجوز؛ لأن هذا افتيات على الإمام، وتَقَدُّمٌ بين يديه، كما أنه لو أراد أحد أن يقيم الحد على الزاني فإنه لا يملك هذا، ولا يملكه إلا الإمام أو نائبه، فكذلك حمى المرعى لدواب المسلمين لا يملكه إلا الإمام أو نائبه.
ولو أراد أحد من الأئمة أن يحمي لنفسه ودوابه مرعى رآه جميلاً وكثير الأعشاب فإن هذا لا يجوز؛ لأن الناس شركاء في ثلاث: الماء، والكلأ، والنار
(1)
، فلا يحل له أن يحميه ويمنع الناس من رعيه.
(1)
أخرجه الإمام أحمد (5/ 364)؛ وأبو داود في البيوع/ باب في منع الماء (3477) عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأخرجه ابن ماجه في الرهون/ باب المسلمون شركاء في ثلاث (2472) عن ابن عباس رضي الله عنهما، وضعفه البوصيري. وأخرجه ابن ماجه في الموضع السابق (2473) عن أبي هريرة رضي الله عنه، مرفوعاً بلفظ: «ثلاث لا يمنعن
…
» الحديث، وصححه البوصيري في زوائده، والحافظ في التلخيص (1304) وانظر: الإرواء (1552).
ولو أراد الإمام أن يحميه لدواب المسلمين، وكان فيه ضرر على الناس فإنه لا يملك ذلك؛ لأن الناس شركاء في هذا.
ومثل المرعى منطقة في البحر كثيرة الحوت، فلا يجوز لأحد أن يحميها، لأن الناس فيها شركاء، ومثل ذلك المحتطب، وهو المكان الذي يكثر فيه الحطب، فلو أن أحداً حماه واختص به فلا يجوز؛ لأن الناس في هذا شركاء.
بَابُ الجَعَالَةِ
وَهِيَ أَنْ يَجْعَلَ شَيْئاً مَعْلُومَاً لِمَنْ يَعْمَلُ لَهُ عَمَلاً مَعْلُوماً، أَوْ مَجْهُولاً مُدَّةً مَعْلُومَةً أَوْ مَجْهُولَةً.
.....
قوله: «الجعالة» فَعَالة من الجَعْل، والجَعْل معناه وضع الشيء، وفسرها المؤلف بقوله:
«وهي أن يجعل شيئاً معلوماً لمن يعمل له عملاً معلوماً، أو مجهولاً، مدة معلومة أو مجهولة» فالجعالة عقد لا يشترط فيه العلم بأحد العوضين، وهو ـ أي عقد الجعالة ـ فيه عوض مدفوع، وعوض معمول، فالعوض المدفوع لا بد فيه من العلم، والمعمول لا يشترط فيه العلم، المدفوع يكون من الجاعل، والمعمول يكون من العامل.
والفرق بين عقد الجعالة والإجارة، أن الإجارة مع معين بخلاف الجعالة فهو يطلق فيقول: من فعل كذا فله كذا؛ ولهذا صارت عقداً جائزاً، فإن قال قائل: كيف تجيزون هذا العمل مع ما فيه من الجهالة؟
قلنا: نجيزه لدعاء الحاجة إليه وليس هو على سبيل الإلزام؛ لأن العامل له أن يدع العمل في أي لحظة شاء؛ لأن الجعالة عقد جائز، ولو لم يوجد هذا الشيء لضاع للناس مصالح كثيرة، فمثلاً هذا الشخص ضاعت بعيره فلا يمكن أن يستأجر شخصاً لإحضاره؛ لأن هذا الشخص لا يدري متى يجد البعير، فلم يبق إلا الجعالة.
فإذا قال: من رد بعيري فله مائة ريال، فهنا العوض من الجاعل معلوم، والعمل مجهول؛ لأنه لا يُعلَم أيردها عن قريب أو عن بعيد، فربما يتعب ويظن أنه يردها في يومين ولا يردها إلا في عشرة أيام، أو ربما لا يستطيع ردها مطلقاً، فنقول: العمل لا يشترط فيه العلم بالنسبة للجعالة، وهذا من محاسن الشريعة؛ لأنه قد يصعب تعيين العمل في مثل هذه الحال، فلو قال: مَنْ رد لقطتي ـ مثلاً ـ من مسافة عشرة كيلو، فقد توجد في عشرة كيلو وقد لا توجد، لكن إذا جعل العوض عوضاً عن العمل مطلقاً، والعامل حظه ونصيبه كما يقولون، فهذا لا بأس به.
فإن جعل شيئاً مجهولاً بأن قال: من رد بعيري فله ما في هذا الكيس من الدراهم، فإنه لا يجوز؛ لأنه مجهول، لا ندري أمائة أم مائتان أم أكثر؟ فلا بد أن يكون العوض المدفوع من الجاعل معلوماً ليكون العامل على بصيرة.
ولو قدر أن الجاعل جعل جُعلاً كبيراً؛ لأنه يظن أن هذه البعير لا توجد إلا بمشقة وبُعْد شُقَّة، فيسرها الله للعامل، فهل يطالب الجاعلُ العاملَ بنقص العوض أم لا؟ الجواب: لا، نقول: هذا من رزق الله للعامل، كما أنه لو لم يجدها إلا بعد مدة طويلة وشُقَّة بعيدة فإنه لا يطالب الجاعلَ بزيادة.
ولو قال: إذا رددت بعيري الشارد فلك نصفه، فهذا معلوم، لكنه معلوم بالنسبة؛ لأنه جزء مشاع، فلا بأس؛ كالمضارب تعطيه المال وتقول: اتجر به ولك نصف الربح، فربما يتجر به اتجاراً
شاقاً عظيماً ولا يحصل ربح، وربما تظن أنه لن يربح إلا قليلاً فيربح كثيراً.
فالمعلوم إذاً إما أن يكون بالتعيين بالعدد والوصف، وإما أن يكون بالمشاع أي بالسهم.
كَرَدِّ عَبْدٍ، وَلُقَطَةٍ، وَخِيَاطَةٍ، وَبِنَاءِ حَائِطٍ. فَمنْ فَعَلَهُ بَعْدَ عِلْمِهِ بِقَوْلِهِ اسْتَحَقَّهُ، وَالجَمَاعَةُ يَقْتَسِمُونَهُ. وَفِي أَثْنَائِهِ يَأْخُذُ قِسْطَ تَمَامِهِ ...........
قوله: «كرد عبد» أي: كرد عبد آبق، يعني هرب من سيده فجعل جعلاً لمن جاء به، ومثل ذلك لو جعل جعلاً معلوماً لمن أحضر ولده الضائع فجائز؛ لأنه عمل، وإن كان الحر في الأصل لا يباع لكن هذا ليس بيعاً له، ولكنه إحضار له.
قوله: «وَلُقَطة» أي: رد لقطة وهي المال الضائع، وهذا من باب «علفتها تبناً وماءً بارداً» أي: وسقيتها ماءاً بارداً؛ لأن الماء لا يعلف، فاللقطة لا ترد إلا إذا كانت عند شخص وجدها فيردها، لكن مراده برد اللقطة إيجادها وإحضارها إلى صاحبها.
قوله: «وخياطة» يعني خياطة ثوب، بأن قال: من خاط لي ثوباً صفته كذا وكذا فله الأجر المعلوم، والثوب من الرجل وليس من العامل، فهذا جائز، أما إذا كانت القطعة من العامل فهذا يسمى عند العلماء استصناع السلعة، وفيه خلاف، فبعضهم يقول: لا يجوز؛ لأن هذا ليس بسَلَم، إذ السَّلَم لا بد فيه من التأجيل، وليس معيناً؛ لأنه في الذمة، والوصف قد لا يحيط به، ولكن الصحيح أنه جائز؛ لأنه يمكن ضبطه بالوصف، وعمل الناس عليه قديماً وحديثاً.
قوله: «وبناء حائط» كأن يقول: من بنى لي هذا الحائط فله
كذا وكذا، وهذا يسمى عندنا مقاولة، نقول: هذا جائز، فإن تعاقد مع المقاول على أنه أجير صارت إجارة.
فإذا قال: من بنى هذا الحائط فله عشرة آلاف ريال، ثم سبق واحد وشرع في البناء، فهل لأحد غير الأول أن يأتي ويكمل؟ لا؛ لأنه أحق به، لما شرع صار لازماً، وإلا فالأصل في عقد الجعالة أنه جائز.
قوله: «فمن فعله بعد علمه بقوله استحقه» أي: استحق الجُعل، كرجل سمع آخر يقول: من رد بعيري فله مائة ريال، فبادر، وخرج، وطلبه فجاء به، فإنه يستحق العوض؛ لأنه عمل بعد أن علم، أما لو وجد الرجل الضالة ثم جاء بها إلى صاحبها وهو لا يعلم بالجعل، فإنه لا يستحق شيئاً؛ لأن المؤلف اشترط أن يكون بعد العلم؛ ووجه ذلك أنه لم يعمل لك؛ لأنه لم يعلم أنك وضعت جعلاً فلا عقد بينكما فكيف يستحق؟! وما يفعله بعض الناس اليوم فهو من باب الإكرام فقط.
فبعض الناس إذا وجد شيئاً وأتى به صاحبه قال: أريد منك مالاً مقابل الحفظ، يعني أني حفظته لك ولا سيما إذا كان ثميناً كالحلي، والساعات والأقلام الغالية، فلصاحب المال أن يقول: ليس لك علي شيء؛ لأني لم أجعل جعلاً، أو لأني جعلت جعلاً ولم تعلم به أنت، فله أن يمنع؛ لأنه ليس بينه وبينه عقد، لكن من المروءة إذا كان الشيء ثميناً أن تعطيه ما يطيب به قلبه لما يلي:
أولاً: لأنه عمل معروفاً، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من صنع
إليكم معروفاً فكافئوه»
(1)
.
ثانياً: أن مثل هذا ينبغي أن يشجع هو وأمثاله؛ لأن كونه يأتي به بدون أن يُطلب منه يدل على أمانته، فنحن نقول لصاحب المال: أما الوجوب لا يجب عليك، لكن لا شك أنه من المروءة والخير أن تعطيه.
فإن قال: أنا طلبت هذه اللقطة بنية الرجوع على صاحبها، قلنا: ليس لك الحق في ذلك؛ لأن صاحبها لم يطلب هذا الشيء ولم يجعل هذا الجُعل، وربما يكون صاحبها لم يعلم بأنها ضاعت وربما يكون غنياً ثرياً لا تهمه إذا ضاعت؛ لهذا لا تستحق شيئاً إلا بعد علمك بالجعل.
قوله: «والجماعة يقتسمونه» وفي نسخة: «ولجماعة» يعني وإن جعله لجماعة يقتسمونه بالسوية، يعني أن الجماعة لو أحضروا ما جُعِلَ عليه الجعل فإنهم يقتسمون الجعل، فإذا قال: من رد بعيري فله مائة ريال، فرده عشرة فإنهم يشتركون؛ لأن كل واحد منهم عَمِل.
فلو أن خمسة منهم قالوا: إن هؤلاء ليسوا شركاء لنا، نقول للذين أُنكِروا: هل هؤلاء شركاء لكم؟ فإذا قالوا: نعم، ثبت حق الأولين بدعواهم، وشهادة الآخرين، لكن هل يثبت للآخرين حق
(1)
أخرجه الإمام أحمد (2/ 68، 99)؛ وأبو داود في الزكاة/ باب عطية من سأل بالله (672)؛ والنسائي في الزكاة/ باب من سأل بالله عز وجل (5/ 82) عن ابن عمر رضي الله عنهما؛ وصححه ابن حبان (3408)؛ والحاكم (1/ 412) وقال: على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي.
المشاركة؟ لا يثبت إلا ببينة، ولهذا ينبغي للقاضي أن يكون فطناً في هذه المسألة؛ لأن كل واحد من العشرة يدعي أنه مشارك، فإذا أقر الأولون وقالوا: نعم نحن الذين أتينا به، ولكن هؤلاء لم يشاركونا، فنسأل المنكرين ونقول: هل هؤلاء شاركوكم؟ فإذا قالوا: نعم، قلنا: ثبت حقهم وأنتم تدعون أنكم مشاركون، فإن أتيتم بالبينة وإلا فلا حق لكم.
قوله: «وفي أثنائه يأخذ قسط تمامه» يعني في أثناء العمل «يأخذ» أي العامل «قسط تمامه» .
مثال ذلك: رجل وجد حائط صاحبه قد انهدم جانب من جداره ـ أي: جدار الحائط ـ وبما أن بينهما صحبة جعل يبنيه، فبنى ثلاثة صفوف من اللَّبِن، وبعد أن بنى ثلاثة صفوف قال صاحب الحائط: من بنى حائط بستاني فله سبعمائة ريال، والجدار يحتاج إلى سبعة صفوف من اللبن، فعلم صاحبه أنه جعل جعلاً وهو سبعمائة لمن بنى هذا الجدار، فكمَّل البناء، فكم نعطيه؟ قد يبدو لبعض الناس أنه يعطى أربعة أسباع يعني أربعمائة، ولكن هذا غلط؛ لأن البناء كلما ارتفع ازدادت مشقته، وعلى هذا فلا بد أن نقدره بالنسبة فنقول: جدار بني ثلاثة صفوف منه وهو يحتاج إلى سبعة صفوف، فكم تقدر النسبة؟ فإن قيل: يقدر ما بناه بالربع مثلاً، فنعطيه ثلاثة أرباع، بمعنى ألا نجعل أعلى الصف وهو السابع مثل آخر صف الذي هو الأول؛ لأن الأول ما فيه إلا أن يأتي باللبنات ويضعها، لكن الأعلى يحتاج إلى سُلَّم، وإلى رجال يمد بعضهم لبعض، ثم الموازنة، فموازنة
صفوف اللبن مهمة جداً، ولهذا تجد الناس الحذاق يجعلون خيطاً يقيسون عليه لئلا يختلف اللبن بتقدم أو تأخر.
على كل حال من علم بالجعل في أثناء العمل يعطى قسط تمامه، لكن هل هو بالأجزاء أو بالقيمة؟ بالقيمة؛ لأننا لو قلنا بالأجزاء لكان في المثال الذي ذكرنا يستحق أربعمائة، وليس كذلك.
وَلِكُلٍّ فَسْخُهَا، فَمِنَ العَامِلِ لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئاً، وَمِنَ الجَاعِلِ بَعْدَ الشُّرُوعِ لِلْعَامِلِ أُجْرَةُ عَمَلِهِ.
......
قوله: «ولكل» أي: لكل من الجاعل والعامل.
قوله: «فسخها» أي: الجعالة؛ لأن الجعالة ليست عقداً لازماً، فلو فرض أن الرجل قال: من رد بعيري فله مائة ريال، وبعد يومين رجع وقال: يا أيها الناس إني قد فسخت الجعالة، فله ذلك، ومن عمل بعد أن علم بفسخها فلا حق له؛ لأن الجعالة عقد جائز.
وكل عقد جائز من الطرفين فإن لكل منهما فسخه إلا إذا قصد الإضرار بالآخر؛ لأن جميع المباحات من عقود وأفعال إذا تضمنت ضرراً على الآخرين صارت ممنوعة، فلو تضمن ضرراً على الآخر فإنه لا يجوز أن يفسخ، فإن فسخ الجاعل للإضرار فللعامل أجرة ما عمل.
ولكن هل تكون الأجرة منسوبة إلى الأجرة العامة، أو منسوبة إلى الجُعل الذي جعل له؟ هذا محل نظر.
وصورة ذلك: إنسان جاعل شخصاً على أن يقوم بتصريف هذه السلعة، وفي أثناء العمل وَقَّفه، وكان إيقافه إياه في أيام تضر بالعامل، ففي هذه الحال نقول على ما اشترطنا ألا يتضمن ضرراً: إنه لو فسخ فإنه لا يحل له.
لكن: هل تنفسخ؟ نقول: نعم تنفسخ، ولكن للمجعول له أجرة العمل.
وهل يعطى الأجرة باعتبار أنه عامل كأجير، أو عامل كمجعول له؟
إذا قلنا بالأول فإننا نقول: ننسب الأجرة إلى هذا الزمن الذي تم التعاقد عليه ونعطيه بقسط الأجرة، سواء زادت على حصة الجعالة أم لم تزد؛ ووجه ذلك أنه لو انفسخت الجعالة رجعنا إلى أجرة المثل.
ولكن القول الراجح أن نعطيه بنسبة الجعالة؛ لأن هذا الرجل عمل كمجاعَل وليس كأجير، فنقول: لو عمل العمل كله استحق الجعل كله، ولنقل: إن الجعل كله مائة ريال، وهو الآن عمل الثلثين، فنجعل له ثلثي المائة؛ لأنه راضٍ بهذا.
قوله: «فمن العامل لا يستحق شيئاً» يعني إن كان الفسخ من العامل لم يستحق شيئاً؛ لأنه هو الذي فوت على نفسه الجعالة، فلو قيل مثلاً: من بنى هذا الجدار فله مائة ريال، فالتزم به أحد الناس، وفي أثناء البناء فسخ العامل الجعالة، فنقول له: ليس لك شيء.
لكن لو فُرِض أن الجاعل سيتضرر كثيراً؛ لأن العامل فسخ الجعالة في وقت لا يوجد فيه عمال، فالعمال ـ مثلاً ـ قد أخذهم الناس، لأن العمال في أول السنة كثيرون، وفي أثناء السنة يقلون، وهذا سوف يكون فيه على الجاعل ضرر، ففي هذه الحال لو قيل بتضمين العامل ما يلحق الجاعل من الضرر لكان له وجه،
بمعنى أننا نقيم شخصاً يكمل الجدار ويكون على العامل أجرة هذا الشخص؛ لأنه ربما يتحيل أو يكيد للجاعل، فإذا بدأ بالعمل وتفرق العمال وصار العامل الذي بعشرة لا يوجد بخمسين فسخها.
وهناك قول آخر أنه إذا تضمن ضرراً على الجاعل فيلزم العامل بإتمام العمل إلا من عذر، وعلى هذا القول ـ أيضاً ـ نستريح، ولا نحتاج إلى نسبة ولا شيء، نقول: يلزمك أنت أيها العامل أن تكمل إلا لعذر، مثل لو مُرِض، أو شُل أو ما أشبه ذلك.
قوله: «ومن الجاعل بعد الشروع للعامل أجرة عمله» يعني إذا وقع الفسخ من الجاعل بعد الشروع فللعامل أجرة عمله، فإذا قدرنا أنه بنى نصف الجدار، وفسخ الجاعل، فللعامل أجرة عمله.
وظاهر قوله: «أجرة» أنه تنفسخ الجعالة نهائياً ولا يترتب عليها أثرها، ويُعطى أجرة العمل.
وأجرة العمل منسوبة إلى الأجرة العامة على ظاهر كلام المؤلف، فنلغي الجعالة ونقول: ماذا يقول أهل الخبرة في هذا الجدار إذا بني، كم أجرته؟ فإذا قيل: هذا الجدار إذا استُؤجر لبنائه يبنى بخمسمائة، والآن بنى النصف، فنعطيه ـ مثلاً ـ مائتين من خمسمائة؛ وذلك لأنه كلما ارتفع البناء ازدادت الكلفة، فعلى هذا ننسب ما يعطاه بقسط الأجرة سواء زادت على حصة الجعالة أم لم تزد؛ ووجه ذلك أنه لما انفسخت الجعالة رجعنا إلى أجرة المثل.
والراجح أننا نعطيه بنسبة الجعالة، فإذا قُدِر أنه لو استؤجِر عليه لكان بمائة ولو جُوعِل لكان بثمانين، فنعطيه بالنسبة للثمانين؛ لأن الجاعل راضٍ بهذه الجعالة، وكذلك العامل راضٍ بأن يكون مقابل عمله هو هذا الجعل.
فإذا قدرنا أن الجعالة أكثر من الإجارة ـ وهذا هو الغالب؛ لأن الغالب أن الذي يعقد عقد جعالة يريد العجلة ـ فماذا نعطيه؟ نعطيه بنسبة الجعالة.
الخلاصة: الجعالة على كلام المؤلف عقد جائز، يجوز للجاعل فسخها، ويجوز للعامل فسخها، فإن فسخ العامل فلا شيء له، لكن هل عليه شيء؟
ذكرنا أنه إذا تضمن ضرراً على الجاعل ألزم بدفع الضرر، مثل أن يكون العمال قد فقدوا ولا يوجد عامل فيلزم العامل بإتمام العمل؛ لأنه لا عذر له، وهو الذي ضر الجاعل، فيتمه إما بنفسه وإما بإقامة من يتمه وعلى العامل أجرته.
وإن فسخ الجاعل فإن كان قبل العمل فلا شيء للعامل؛ لأنه لم يعمل، وإذا كان بعد الشروع فللعامل أجرة عمله على المذهب، وأما على القول الراجح فيكون بنسبة الجعل كما سبق.
لكن لو تضمن ضرراً على العامل إذا فسخت قبل العمل فهل على الجاعل شيء؟
المذهب لا شيء عليه، ويتوجه أن يقال: يلزمه أرش تفويت العمل على العامل.
وَمَعَ الاخْتِلَافِ فِي أَصْلِهِ أَوْ قَدْرِهِ يُقْبَلُ قَوْلُ الجَاعِلِ، وَمَنْ رَدَّ لُقَطَةً، أَوْ ضَالَّةً، أَوْ عَمِلَ لِغَيْرِهِ عَمَلاً بِغَيْرِ جُعْلٍ لَمْ يَسْتَحِقَّ عِوَضاً، إِلاَّ دِينَاراً أَوْ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَماً عَنْ رَدِّ الآبِقِ وَيَرْجِعُ بِنَفَقَتِهِ أَيْضاً.
قوله: «ومع الاختلاف في أصله أو قدره يقبل قول الجاعل» يعني لو اختلف العامل والجاعل في أصل الجعل، هل جعل أو لا؟ فالقول قول الجاعل، هكذا قال المؤلف رحمه الله وأطلق، فلو عمل العامل وأنهى العمل وقال: أريد جعلاً، قلنا: لا بد أن نسأل إذا وافق الجاعل فلك ما ادعيت، وإذا لم يوافق فالأصل عدم الجعالة، وكذلك إذا اختلفا في القدر، فقال الجاعل: القدر مائة، وقال العامل: القدر مائتان فالقول قول الجاعل؛ لأنه غارم، فمثلاً إذا قال العامل: إنها مائتان، وقال الجاعل: إنها مائة، فقد اتفقا على مائة وبقيت المائة الزائدة مدعىً بها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«البينة على المدعي»
(1)
ولهذا أخذ العلماء من هذا الحديث قاعدة: أن القول قول الغارم، لكن في هذا ـ أيضاً ـ تفصيل، فإذا اختلفا في القدر وادعى الجاعل قدراً لا يمكن أن يقام العمل بمثله، وادعى العامل قدراً يمكن أن يقام بمثله، فهنا نقول: إن دعوى الجاعل دعوى تكذبها العادة والعرف، فلا يقبل قوله ويقبل قول العامل، ولو ادعى العامل شيئاً كثيراً فإنه لا يقبل لأنه ادعى ما يخالف العادة ولأنه ادعى على الغارم ما لم يعترف به فيقبل قول الجاعل.
قوله: «ومن رد لقطة» يعني الضائع الذي ليس بحيوان إذا أتى بها إلى صاحبها.
(1)
سبق تخريجه ص (187).
قوله: «أو ضالة» وهي الضائع من الحيوان، والفرق بين اللقطة وبين الضالة، أن الضالة لها إرادة وتعرف ولكن تضل، واللقطة ليس لها إرادة.
قوله: «أو عمل لغيره عملاً بغير جعل لم يستحق عوضاً» لكن له أجر عند الله، وعلى هذا فإذا وجد لقطة باهظة الثمن، وقال لصاحبها: أعطني مقابلاً من المال، فإنه لا يلزمه أن يعطيه ويجبر الواجد على تسليمها لصاحبها مجاناً، إلا إذا كان قد جعل جعلاً، بأن قال: من رد لقطتي فإن له كذا وكذا فيعطى جعلاً.
وكذلك الضالة، إذا رد ضالة مما يباح التقاطه، فإنه لا يستحق عوضاً إلا إذا كان قد جعل له، وذلك لعدم وجود عقد بينه وبين المالك، فيقال: لك الأجر عند الله، أما أن تستحق على المالك شيئاً فلا.
واستثنى المؤلف مسألة جاء بها النص فقال:
«إلا ديناراً أو اثني عشر درهماً عن رد الآبق» الدينار هو النقد من الذهب، والدرهم هو النقد من الفضة، وإذا تأملت التقدير في هذا وفي الديات وفي نصاب السرقة، تبين لك أنه في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم كان الدينار يساوي اثني عشر درهماً؛ ولهذا تقطع اليد بربع دينار
(1)
أو بثلاثة دراهم
(2)
، والديات
(1)
أخرجه البخاري في الحدود/ باب قول الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ}
…
} (6789)؛ ومسلم في الحدود/ باب حد السرقة ونصابها (1684) عن عائشة رضي الله عنها.
(2)
أخرجه البخاري في الحدود/ باب قول الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ}
…
} (6795)؛ ومسلم في الحدود/ باب حد السرقة ونصابها (1686) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
ألف مثقال ذهب أو اثنا عشر ألف درهمٍ فضة.
وقوله: «والآبق» هو العبد الذي شرد عن مالكه، هذا إذا رده أحد فله دينار أو اثنا عشر درهماً من الفضة، والدليل السنة، فقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لمن رد الآبق
(1)
ووردت آثار عن الصحابة
(2)
بذلك، والحكمة من هذا أن إباق العبد ليس بالأمر الهين؛ لأنه إذا أبق وكان أصله كافراً فربما يرجع إلى أصله إلى بلاد الكفر، ويكون حرباً على المسلمين، أو إذا ترك وساح في الأرض فربما يحتاج ويفسد في الأرض بالسرقات أو غيرها، فلذلك جعل الشارع لمن رده عوضاً، وإن لم يُظهر سيده ذلك العوض.
ويستثنى أمران آخران ـ أيضاً ـ:
الأول: من أنقذ مال المعصوم من الهلكة، فإنه يستحق أجرة المثل، مثل أن يرى الحريق قد اتجه إلى متاع شخص فينقذ المتاع، فهذا يعطى أجرة المثل؛ وذلك لتشجيع الناس على إنقاذ أموال المعصومين من الهلكة؛ لأننا لو قلنا: لا يعطى شيئاً؛ لأنه
(1)
أخرجه البيهقي (6/ 200) عن ابن عمر رضي الله عنهما ولفظه: «أنه قضى في العبد الآبق يوجد في الحرم عشرة دراهم» وضعفه البيهقي.
(2)
أخرجها البيهقي (6/ 200) عن علي رضي الله عنه في جُعل الآبق دينار قريباً أخذ أو بعيداً، وعن سعيد بن المسيب أن عمر رضي الله عنه جعل في الآبق ديناراً أو اثني عشر درهماً؛ أخرجه ابن أبي شيبة (6/ 541). وانظر: نصب الراية (3/ 470، 471).
لم يتفق مع صاحبه بعقد، توانى الناس عن المبادرة في إنقاذ أموال المعصومين.
الثاني: إذا كان الإنسان قد أعد نفسه للعمل فجاء شخص وأعطاه الثوب وقال: خط لي ثوباً فله أن يأخذ عوضاً؛ لأنه قد أعد نفسه للعمل، أما إذا لم يعد نفسه للعمل فليس له شيء، فقد أعطاه على أنه محسن.
فصار كل من عمل لغيره عملاً بلا عقد فإنه ليس له شيء، إلا في ثلاث أحوال:
الأولى: إنقاذ مال المعصوم من الهلكة.
الثانية: رد الآبق.
الثالثة: إن أعد الإنسان نفسه للعمل.
مسألة: لو أن شخصاً عمل ما فيه مصلحة في مال الشخص وطلب العوض على ذلك، فهل يلزم المالك؟ لا؛ لأن صاحب المال يقول: أنا ما أمرتك لا باللفظ ولا بالقرينة، بل أن صاحب المال يمكن أن يطلب منه عوضاً، ويقول: لماذا تتصرف في مالي؟!
قوله: «ويرجع بنفقته أيضاً» أي: يرجع راد الآبق بنفقته؛ لأن نفقته واجبة، لما فيها من إحياء النفس، ولا يمكن أن يتخلف الذي رد الآبق عن الإنفاق عليه؛ لأنه لو تخلف عن الإنفاق عليه لهلك، فلهذا يرجع بنفقته.
ومن يقبل قوله في النفقة؟
إذا دل العرف على قول الذي رد الآبق، أو على قول سيده
عُمِل بالعرف، فمثلاً لو قال مَنْ رد الآبق: أنفقت عليه ألف ريال، وقال سيده: بل خمسمائة، فلدينا الآن مدعٍ، ومدعى عليه، والغارم السيد، فهل نقبل قول السيد، أو ننظر ماذا يدل عليه واقع الناس؟ الجواب: الثاني، فإذا كان من العادة أن مثل هذا الآبق يُنفق عليه ألف أخذنا بقول الذي رده، وإذا كان من العادة أنه لا ينفق عليه إلا خمسمائة أخذنا بقول السيد، وإن اشتبه علينا الأمر رجعنا إلى الأصل وهو أن يقبل قول السيد؛ لأنه غارم.
فإن نوى التبرع بهذا كله برد الآبق والنفقة، ثم بعد ذلك نُدِّم، وقيل له: كيف تنوي التبرع وقد خسرت عليه كذا وكذا وتعبت فيه؟! فأراد الرجوع فليس له أن يرجع؛ لأنه حال فِعْلِهِ فَعَلَهُ لا على سبيل التعويض.
وإن نوى الرجوع في الرد والنفقة ولكن أثناء الحال نوى بقلبه أنه يبرئ صاحب العبد، ثم ندم وأراد الرجوع فهنا له أن يرجع؛ لأنه حين فعله كان ناوياً الرجوع والتعويض، لكن نوى فيما بعد أن يبرئه ولم يبرئه، والإنسان إذا نوى الشيء ولم يفعل فهو بالخيار، كما لو أعد الإنسان الدراهم ليتصدق بها وقبل أن يتصدق بها عدل عن هذا، وكما لو بنى بيتاً بنية أنه سيوقفه على الفقراء ثم بعد استكمال البيت عدل عن هذه النية، فإنه يجوز؛ لأنه لم يتلفظ بالوقف ولم يشرعه للفقراء، وكما لو نوى أن يضحي بهذه الشاة ثم عدل وباعها فليس عليه شيء، فلا حرج؛ لأن هذه الأشياء لا تتم إلا بالإمضاء فعلاً، أما قبل ذلك ـ وهي مجرد نية ـ فليس عليه شيء.
بَابُ اللُّقَطَةِ
وَهِيَ مَالٌ، أَوْ مُخْتَصٌّ ضَلَّ عَنْ رَبِّهِ، وَتَتْبَعُهُ هِمَّةُ أَوْسَاطِ النَّاسِ.
.....
قوله: «اللقطة» فُعَلَة من الأخذ واللقط، فهي الشيء الملقوط، لكن لها معنى خاص عند الفقهاء، عرفها المؤلف بقوله:
«وهي مال أو مختص ضل عن ربه» والقيد المهم فيها قوله: «ضلَّ عن ربه» أي ضاع منه.
وقوله: «مال» وهو ما يصح تملكه وعقد البيع عليه كالدراهم، والأمتعة وما أشبهها.
وقوله: «مختص» وهو كل ما يختص به الإنسان بدون ملك، فلا يصح تملكه ولا أخذ العوض عنه، وذلك مثل كلب الصيد، فكلب الصيد لا يملك، لكن صاحبه أخص به من غيره، فهو مختص وليس بمال، وكالسرجين النجس وجلد الميتة على قول، فهذه لا تباع ولا تشترى، لكن صاحبها أخص بها.
وقوله: «ضلَّ عن ربه» أي: عن صاحبه؛ لأن «رب» في اللغة العربية تطلق بمعنى صاحب، كما جاء ذلك في القرآن، وجاء ذلك في الحديث.
ففي القرآن: قال الله تعالى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ *} [الصافات] رب العزة أي: صاحبها، ولا يمكن أن تكون {رَبِّ الْعِزَّةِ} بمعنى خالقها؛ لأن العزة صفة من صفات الله غير مخلوقة.
وفي الحديث: «أن تلد الأمة ربها» في إحدى روايات البخاري
(1)
، وقال في ضالة الإبل:«ترد الماء وتأكل الشجر حتى يجدها ربها»
(2)
.
قوله: «وتتبعه هِمة أوساط الناس» هذا القيد قيد فيما يجب تعريفه لا في اللقطة؛ لأن اللقطة يصدق عليها التعريف، وإن كانت لا تتبعها همة أوساط الناس، فمن وجد رغيفاً لا يساوي درهماً فهي لقطة، وإن كانت الهمة لا تتبعه.
لكن المؤلف رحمه الله دمج الحكم في التعريف ليبين أن الذي يجب تعريفه، هو الذي تتبعه همة أوساط الناس، وأما ما لا تتبعه همة أوساط الناس فهذا لا يعرف.
والمراد بقوله: «همة أوساط الناس» أي: تتعلق به نفوسهم، وعلى هذا فنقول: من وجد مالاً فعلى ثلاثة أقسام:
الأول: أن يعلم أن صاحبه تركه رغبة عنه فهذا لواجده، كما يوجد الآن بعض الكراسي المكسرة ترمى في الأسواق، أو بعض الزنابيل، أو بعض الأواني، أو ما أشبه ذلك، نعلم أن صاحبها تركها رغبة عنها، هذه يملكها واجدها بدون شيء، حتى لو علمنا أن هذا الرجل له متاع ثقيل في البر، وعجز عنه وتركه
(1)
أخرجها في الإيمان/ باب سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم في الإيمان والإسلام والإحسان
…
(50) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
أخرجه البخاري في العلم/ باب الغضب في الموعظة
…
(91)؛ ومسلم في اللقطة/ باب معرفة العفاص والوكاء
…
(1722) عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه.
رغبة عنه كما أراد جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن يسيب جمله
(1)
، فهذا لمن وجده.
وهل من ذلك السيارات التي يكون عليها حوادث وتبقى في الطرق، هل نقول: هذه مما تركها أهلها رغبة عنها، فيجوز للإنسان أن يأخذ منها أو لا يجوز؟
نقول: ننظر إلى حال السيارة إذا كان فيها معدات ونعلم أنها غالية، وأن صاحبها سوف يعود إليها، فإنه لا يجوز أخذها، أما إذا كانت هيكلاً محترقاً ما فيه إلا حديد يحتاج إلى أن يصهر بنار، فهذا لمن وجده؛ لأننا نعلم أن صاحبه لن يعود إليه.
الثاني: أن يكون مما لا تتبعه الهمة؛ لكونه زهيداً، كقلم يساوي درهماً، فهذا زهيد لا تتبعه همة أوساط الناس، فأي إنسان يجده فهو له، إلا إذا كان يعلم صاحبه فعليه أن يوصله إلى صاحبه أو يبلِّغ صاحبه به؛ لأنه أصبح الآن غير لقطة، لأن صاحبه معلوم.
الثالث: وهو الذي أشار إليه الماتن، وهو الذي تتبعه همة أوساط الناس فهذا يجب أن يعرَّف لمدة سنة، وسيأتي إن شاء الله ذكرها.
وقوله: «أوساط الناس» هل المراد أوساط الناس بالمال أو أوساط الناس بالشح، أو بهما جميعاً؟
الجواب: بهما جميعاً، يعني أن أوساط الناس الذين ليسوا
(1)
سبق تخريجه ص (318).
من الأغنياء ولا من الفقراء، ولا من الكرماء الذين لا يهتمون به، ولا من البخلاء، فالبخيل همته تتبع حتى قُلامة الظُّفْر كما قال الشاعر:
بَليتُ بِلى الأطلال إن لم أقف بها
وقوف شحيح ضاع في الترب خاتمه
فالشحيح لا عبرة به، والفقير ـ أيضاً ـ لا عبرة به؛ لأن الفقير أي شيء يضيع منه تتبعه همته، فلو ضاع منك عشرة ريالات لا تهتم بها، لكن لو ضاعت من فقير اهتم بها، ولهذا لو أعطاك شخص عشرة ريالات لا تهتم بها ولا تفرح بها ولا ترى أن هذا قدر لك، لكن لو يعطيها فقيراً فرح بها.
إذاً أوساط الناس خُلُقاً ومالاً، خلقاً يعني ليس من الكرماء الذين لا يهتمون بالأمور، ولا من البخلاء الذين همتهم تتبع كل شيء، فهذا المال لواجده إلا إذا كان يعلم صاحبه؛ ودليل ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم وجد تمرة في الطريق فقال:«لولا أن تكون من الصدقة لأكلتها»
(1)
لأن الصدقة محرمة على الرسول صلى الله عليه وسلم نفلها وفرضها، وآل محمد صلى الله عليه وسلم يحرم عليهم الصدقة الواجبة دون النافلة، وسائر الناس إذا كانوا من أهل الزكاة يستحقون النافلة والواجبة.
وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «لولا أن تكون من الصدقة لأكلتها» فيه إشكال، كيف يمتنع النبي صلى الله عليه وسلم منها مع أن الأصل الحل وأنها
(1)
أخرجه البخاري في اللقطة/ باب إذا وجد تمرة في الطريق (2431)؛ ومسلم في الزكاة/ باب تحريم الزكاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم (1071) عن أنس رضي الله عنه.
ليست من الصدقة؟ فيقال في الجواب: إن هذا لكمال ورعه صلى الله عليه وسلم، ولعل هناك قرينة تدل على أنها من الصدقة مثل أن تكون في المكان الذي حوله فرقت الصدقة، فسقطت منها هذه التمرة، لكن بالنسبة لنا لو وجدناها ونحن ممن تحرم عليهم الصدقة الواجبة، فلنا أن نأكلها حتى نتيقن أنها من الصدقة الواجبة.
وقوله: «تتبعه همة أوساط الناس» الذي تتبعه همة أوساط الناس يختلف باختلاف الأحوال والأماكن والأزمان، فيما سبق الدرهم الواحد تتبعه همة أوساط الناس؛ لأنه يحصل به شيء كثير، يعني يمكن أن الدرهم الواحد يشتري به الإنسان شاة ويشتري به ـ أيضاً ـ حباً يطبخه ويكفي ضَيْفَه.
والآن ـ والحمد لله ـ الدرهم لا يهتم به أحد، وكذا خمسة دراهم، وكذا عشرة، والخمسون يهتم بها أوساط الناس، إذاً يقدر هذا بحسب الأحوال، والأحوال يختلف فيها الناس.
لكن لو قال قائل: لعل هذا الذي لا تتبعه همة أوساط الناس تتبعه همة فاقِدِهِ؟ فيقال: العبرة بالأغلب، يعني رب قلم لا يساوي درهماً، وعند صاحبه يساوي مائة درهم؛ لأنه تعوَّد عليه وكتابته به سهلة وجميلة، وهذا شيء مشاهد، بعض الأشياء تكون عند صاحبها غالية، وعند الناس ليست غالية، فيقال: العبرة بالأغلب.
فَأَمَّا الرَّغِيفُ، وَالسَّوْطُ وَنَحْوُهُمَا فَيُمْلَكُ بِلَا تَعْرِيفٍ.
...........
قوله: «فأما الرغيف والسوط ونحوهما فيملك بلا تعريف» لأنها لا تتبعها همة أوساط الناس، والرغيف يعني القرص، فمن وجد قرصاً ساقطاً في السوق فليأخذه وليأكله، ما لم يكن يعلم صاحبه.
كذلك السوط وهو عصا رقيقة صغيرة، وليست بذات قيمة، فمن وجدها فهي له.
وقوله: «ونحوهما» مثل القلم الرخيص، وسلسلة المفاتيح «فيملك بلا تعريف» بمجرد ما يجده الواجد يكون ملكاً له، لكن بشرط ألا يكون عالماً بصاحبه، فإن كان عالماً بصاحبه وجب عليه إعلامه ولكن لا يجب عليه إيصاله له.
ثم انتقل المؤلف رحمه الله مما ضاع من الأموال إلى ما ضاع من الحيوان فقال:
وَمَا امْتَنَعَ مِنْ سَبُعٍ صَغِيرٍ كَثَوْرٍ وَجَمَلٍ وَنَحْوِهِمَا حَرُمَ أَخْذُهُ ..........
«وما امتنع من سبع صغير كثور وجمل ونحوهما حرم أخذه» الحيوان الضائع قسمان:
الأول: ما يمتنع من صغار السباع، وصغار السباع مثل الذئب والكلب إذا صار كَلِباً يعني يَفْرِسُ، وما أشبهها، وأما كبار السباع فإنها لا تمتنع منها حتى الجمال.
وقوله: «كثور وجمل» الثور الكبير يمتنع من صغار السباع لا شك، والصغير لا يمتنع فيلحق بالشاة ونحوها، لكن الكبير يمتنع؛ لأنه إذا أتى إليه الذئب ليأكله نطحه بقرونه أو وطئه برجليه فلا يستطيع الذئب أن يأكله، وكذلك الجمل، نعم لو اجتمع الذئاب على جمل يمكن أن تقدر عليه، لكن العبرة بالغالب.
وقوله: «ونحوهما» مَثَّلَ بعضهم بالحمار، قال: إن الحمار يمتنع من صغار السباع، والواقع أنه لا يمتنع، الحمار جبان، إذا شم رائحة الذئب فإنه يفزع ولا يمكن أن يمتنع، نعم إن كان
يوجد حمير على زمن من مثلوا بها تمتنع فكذلك، أما الحمار الموجود عندنا وهو الحمار الأهلي فإنه لا يمتنع.
أما البغل فإنه يمتنع وكذلك الحصان، وكذلك ما يمتنع من السبع الصغير بعَدْوِهِ كالظباء فإنه يمتنع من السبع الصغير بسرعته، وكذلك ما يمتنع من السبع الصغير بطيرانه كالحمام، إذاً ما امتنع من السبع الصغير لكبر جسمه أو لعَدْوه أو لطيرانه فإنه يحرم أخذه، هذا هو الضابط.
وقوله: «حرم أخذه» أي يحرم التقاطه ولا يحل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن ضالة الإبل فغضب صلى الله عليه وسلم وقال: «دعها، ما لك ولها؟! معها سقاؤها وحذاؤها، ترد الماء وتأكل الشجر حتى يجدها ربها»
(1)
، انظر كلام الرسول صلى الله عليه وسلم كأنما هو من رعاة الإبل، مع أنه ما رعى الإبل وإنما رعى الغنم، فقوله صلى الله عليه وسلم:«معها سقاؤها» يعني بطنها؛ لأنها إذا شربت تبقى مدة حتى في أيام الصيف لا تحتاج إلى شرب «وحذاؤها» يعني خفها، «ترد الماء وتأكل الشجر» ولا أدل من البعير على الماء، حتى إن الناس فيما سبق إذا خافوا على أنفسهم من العطش ربطوا أنفسهم على الإبل، ثم إن البعير تشم الماء من بعيد وتقف عليه، فمعها سقاؤها، ومعها حذاؤها، ترد الماء وتأكل الشجر حتى يجدها ربها.
وظاهر الحديث العموم، أنه لا يجوز التعرض لها، تترك حتى يجدها ربها، لكن إذا رجعنا إلى أصول الشريعة قلنا: إنه إذا كان يخشى عليها من قطاع الطرق، ففي هذه الحال له أن يأخذها
(1)
سبق تخريجه ص (360).
إن لم نقل بالوجوب، ويمكن أن يؤخذ هذا من الحديث، وهو قوله:«حتى يجدها ربها» فإن هذا التعليل يشير إلى أنه إذا كانت في مكان يخشى أن يأخذها قطاع الطرق، فإنه يلتقطها ولا بأس؛ لأنه في هذه الحال يغلب على الظن أن صاحبها لا يجدها، وعلى هذا فنقول: هذا الحديث إن كان لا يدل على أنه يأخذها فإنه يقيد بالنصوص العامة، وإن كان يدل على أنه إذا كان لا يؤمن ألا يجدها صاحبها فإنه يأخذها.
الثاني: الحيوان الذي لا يمتنع من صغار السباع كالضأن والمعز وصغار الإبل وما أشبهها، فهذه يجوز التقاطها، وينفق عليها، ويرجع بها على ربها إن وجده، فإن خشي أن تزيد النفقة على قيمتها فإنه يضبط صفاتها ثم يبيعها ويحفظ ثمنها لربها، فإذا جاء ووصفها وانطبقت الأوصاف على الموجود فإنه يعطيه الثمن.
وَلَهُ الْتِقَاطُ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ حَيَوانٍ وَغَيْرِهِ، إِنْ أَمِنَ نَفْسَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَإِلاَّ فَهُوَ كَغَاصِبٍ.
قوله: «وله التقاط غير ذلك من حيوان وغيره إن أمن نفسه على ذلك» قوله: «وله» اللام هنا للإباحة، وهي في ضد المنع؛ لأنه لما قال:«حرم أخذه» قال: «وله» فهي في مقابل المنع، أي لا يحرم عليه التقاط غير ذلك.
لكن هل الأفضل أن يلتقطه، أو الأفضل ألا يلتقطه، أو يحرم عليه أن يلتقطه؟
يقول المؤلف: يحرم عليه إذا لم يأمن نفسه على ذلك، فإن كان لا يأمن نفسه أنه لو أخذه أنفقه إن كانت دراهم، أو ذبحه إن كانت شاة فإنه يحرم عليه أخذه، ويكون حكمه حكم الغاصب.
أما إذا كان يعرف من نفسه أنه قادر على إنشاد الضالة، فهنا نقول فيه تفصيل: إن كان له قوة وقدرة على التعريف فالأفضل أخذها، وإن كان يخشى ألا يقدر، أو أن يشق عليه فالأفضل تركها، وعلى هذا فقوله:«وله» اللام للإباحة التي في مقابل المنع، وإلا فإنه قد يكون الأفضل تركها وقد يكون الأفضل أخذها.
فإن أمن نفسه على ذلك ولم يخف عليها فله الأخذ، لكن السلامة أولى فيتركها، فكم من إنسان أخذ اللقطة على أنه سيعرفها، ثم يتهاون أو يأتيه شغل يمنعه من تعريفها وما أشبه ذلك.
قوله: «وإلا» أي: وإلا يأمن نفسه على ذلك.
قوله: «فهو كغاصب» فيحرم عليه أخذه، وظاهر كلام المؤلف رحمه الله أنه لا فرق بين لقطة مكة وغيرها؛ لأنه لم يفصل، وهذا هو المشهور من المذهب.
والصحيح أن لقطة مكة لا تحل إلا لمنشد يريد أن يعرِّفها مدى الدهر؛ وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ولا تحل ساقطتها إلا لمنشد»
(1)
وهذا من خصائص الحرم، والحكمة في ذلك أنه إذا علم الإنسان أنه لا يحل له التقاط لقطة الحرم إلا إذا كان مستعداً لإنشادها دائماً فإنه سوف يدعها، وإذا كان هذا يدعها والآخر يدعها ومَنْ بَعده يدعها، بقيت في مكانها حتى يجدها ربها، وهذا
(1)
أخرجه البخاري في الجنائز/ باب الإذخر والحشيش في القبر (1349)؛ ومسلم في الحج/ باب تحريم مكة (1355) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
ـ أعني القول بأن لقطة مكة ليست كغيرها ـ هو القول الراجح، واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رضي الله عنه وعليه يدل الحديث.
لكن إذا خاف الإنسان أن يأخذها مَنْ لا يعرِّفُها فهنا نقول: إما أن يجب أخذها، أو يباح، فماذا يصنع بها؟ نقول: يعرفها دائماً وأبداً، فإن شق عليه ذلك فالأمر ـ والحمد لله ـ واسع، حيث توجد محاكم شرعية تتلقى مثل هذا، فليأخذها وليدفعها للحاكم، وهو إذا أخذها ودفعها للحاكم ـ يعني للقاضي ـ برئت بذلك ذمته.
وَيُعَرِّفُ الجَمِيعَ فِي مَجَامِعِ النَّاسِ غَيْرَ المَساجِدِ حَوْلاً. وَيَمْلِكُهُ بَعْدَهُ حُكْماً، لَكِنْ لَا يَتَصَّرفُ فِيها قَبْلَ مَعْرِفَةِ صِفَاتِهَا.
قوله: «ويعرف الجميع» يعني جميع ما يجوز التقاطه، الحيوان وغير الحيوان، أما غير الحيوان فقد ثبت بالسنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«اعرف عفاصها ووكاءها ثم عرفها سنة»
(1)
، وأما الحيوان فقد اختلف العلماء في وجوب تعريفه، فمنهم من قال بوجوب التعريف كما هو كلام المؤلف حيث قال:«ويعرف الجميع» ، ومنهم من قال: إنه لا يجب أن يعرفه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الشاة يجدها الرجل: «هي لك أو لأخيك أو للذئب» ، و «أو» هنا للتخيير، فهي لك إن شئت ألا تعرفها أو لأخيك إن عرفتها فوجدها، أو للذئب إن شئت ألا تأخذها ولا تعرفها فهي للذئب يأكلها، ولكن الصحيح ما ذهب إليه المؤلف أنه يجب أن يعرف الجميع، الحيوان وغير الحيوان.
وقوله: «ويعرِّف» أي: يطلب من يَعْرِفها.
(1)
سبق تخريجه ص (360).
قوله: «في مجامع الناس» مثل أسواق البيع والشراء، بل وما كان خارج باب المسجد عند خروج الناس من الصلاة، لا سيما صلاة الجمعة مثلاً، فيعرف الجميع.
وكيفية التعريف، أن يقول: من ضاع له المال؟ ولا يعين؛ لأنه لو عيَّن وقال: من ضاع له كذا وكذا ويفصل، لكان ذلك سبيلاً إلى أن يدعيه أي شخص، ولكن يعمم.
وهل يجب عليه أن يذكر النوع عند الإنشاد، كأن يقول مثلاً: من ضاعت له الدراهم بدلاً من أن يقول: من ضاع له المال؟
الظاهر أنه يجب عليه؛ لأنه إذا قال: من ضاع له المال؟ فقد يتصوره الإنسان غير الذي ضاع له، لكن إذا قال: من ضاعت له الدراهم؟ صار هذا أقرب لفهم المقصود، وكذلك يقال لو أنه وجد حلياً، فلو قال: من ضاع له الذهب؟ فإن الناس أول ما يقع في قلوبهم أنه الدنانير، لكن إذا قال: من ضاع له الحلي؟ صار هذا أقرب إلى فهم المخاطب، فيذكر أقرب ما يكون من إدراك الناس له، لكن لا يذكر كل الأوصاف حتى لا يدعيه من ليس له.
فمثلاً إذا وجد دراهم وقال: من ضاعت له الدراهم فإنه يجوز؛ لأنه إذا قال أحد: أنا، سيقول له: كم عددها؟ وما نوعها؟ هل من فئة خمسة، أو من فئة عشرة أو من فئة خمسين، أو من فئة مائة، أو من فئة خمسمائة؟ وهل هي دراهم سعودية أو هل هي دراهم بلد آخر؟ ثم العدد، ثم الكيس إذا كانت في كيس، كل هذا يحددها، إنما يذكر أقرب وصف يمكن للمخاطب
أن يعرفه بدون أن يفصل؛ لئلا يدعيها من ليست له.
والتعريف يجب أن يكون فوراً، فلو أخره فهو آثم ويضمنها ضمان غصب.
قوله: «غير المساجد» أما المساجد فلا يجوز إنشاد الضالة فيها، بل قد أمر النبي صلى الله عليه وسلم من سمع الذي ينشد الضالة في المسجد فليقل:«لا ردها الله عليك، فإن المساجد لم تبنَ لهذا»
(1)
وهذا من باب التعزير، كما أمر النبي بعدم تشميت العاطس إذا لم يحمد
(2)
، فإذا رأى الإنسان أنه إذا أقام هذا التعزير عُزِّر هو فلا يقدم ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
والحديث يحتمل أن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد أن نقول كل الجملة «لا ردها الله عليك فإن المساجد لم تبن لهذا» ، ويحتمل أنه قال ذلك تعليلاً للحكم، وكأن سائلاً يسأل: لماذا نقول هذا الكلام؟ قال: لأن المساجد لم تبن لهذا، وعليه فلينظر للمصلحة، إذا كان من المصلحة أن يقولها فليقلها تطميناً لنفسه وقلبه وبياناً للعلة والحكمة، وهذا أحسن؛ لأنك لو قلت:«لا ردها الله عليك» وصِحْت به، سيكون في قلبه شيء، لكن إذا قلت:«فإن المساجد لم تبن لهذا» اطمأن.
ولو فتح المجال للناس أن ينشدوا الضوال في المسجد
(1)
أخرجه مسلم في الصلاة/ باب النهي عن نشد الضالة في المسجد (568) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
أخرجه مسلم في الزهد/ باب تشميت العاطس وكراهة التثاؤب (2992) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
لامتلأت المساجد من أصوات الناشدين، وألهوا الناس عن ذكر الله وعن الصلاة، فصار الدليل في هذا أثرياً ونظرياً.
وقوله: «غير المساجد» يعم كل ما كان مسجداً، وأما المُصَلَّيات فلا تدخل في هذا، كما لو نشد الضالة في مصلّىً في دائرة من الدوائر فلا حرج عليه؛ لأن هذا المصلّىً ليس مسجداً؛ ولهذا لا يصح فيه الاعتكاف، وليس له تحية مسجد، ولا يحرم على الجنب المكث فيه، ولا على الحائض، فهو بمنزلة مصلى الإنسان في بيته.
قوله: «حولاً» يعني عاماً كاملاً، واعلم أنه إذا أطلق العلماء رحمهم الله الحول أو العام أو السنة فمرادهم بالهلال، أي: السنة الهلالية؛ لأن السنة الهلالية هي السنة الحقيقية التي وقَّتها الله لعباده، قال الله تعالى:{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة: 36] وهذه التواريخ التي بنيت على أشهر غير هلالية هي في الحقيقة أوهام غير منضبطة بشيء معين، ولهذا تجد بعضها يصل إلى واحد وثلاثين يوماً، والثاني إلى ثمانية وعشرين يوماً مثلاً، فهذه ليست مبنية على أصل، لكن الأشهر الهلالية مبنية على أصل جعله الله ـ تعالى ـ للناس كما قال الله ـ تعالى ـ {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189] وقال تعالى: {وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} [يونس: 5] فكلما رأيت في كلام أهل العلم حولاً، أو سنة، أو عاماً، فالمراد بالهلال.
فإذا قال قائل: ما هو الدليل على أنها تعرَّف حولاً؟
قلنا: ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في اللقطة: «اعرف عفاصها، ووكاءها، ثم عرِّفها سنة»
(1)
فبيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم أنها تُعَرَّف سنة، ونعلم علم اليقين أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يريد أن يبقى ليلاً ونهاراً يعرِّف، فيرجع في ذلك إلى العرف، وقد اجتهد بعض العلماء فقال: يُعَرِّفها في الأسبوع الأول كل يوم، ثم كل أسبوع مرة لمدة شهر، ثم في كل شهر مرة، وهذا التقدير اجتهاد ليس عليه دليل، ولكن الأولى أن يرجع في ذلك إلى العرف.
وإذا وجد اللقطة في مكان بين قريتين، هل يعرفها في واحدة منهما أو فيهما كلتيهما؟
ينظر، إذا كانت هذه السلعة ـ مثلاً ـ معروفة في البلد الشرقي، وليست معروفة في البلد الغربي فإنه يعرفها في البلد الغربي؛ لأن عادة الناس جرت أنَّهم يجلبون السلع إلى المكان الذي تقل فيه، وعلى هذا نقول: هذه السلعة اشتراها مَنْ في البلد الغربي من البلد الشرقي، فنعرفها في البلد الغربي.
فإذا كانت السلعة موجودة في القريتين جميعاً على حد سواء فهل ننظر للأقرب أو للأبعد؟
إن تساويا فنقول: عرِّف فيهما جميعاً، في هذه وهذه؛ لأن احتمال أنه من هذه وارد، واحتمال أنه من هذه وارد، والقرعة هنا لا تتأتى.
(1)
سبق تخريجه ص (360).
فإن كانت إلى إحداهما أقرب، فالظاهر أنه يلزمه أن يعرفها في الأقرب ولا يلزمه في البعيد؛ لأن القريب من المكان له حكم ما قرب منه، ولهذا لما حضرت الوفاة من كان قتل مائة نفس وسأل عابداً وقال إنه قتل تسعة وتسعين نفساً، فهل له من توبة؟ فقال له: ما لك من توبة، فقتله، ثم سأل عالماً فقال له: لك توبة، من يحول بينك وبين التوبة؟! ولكنه أرشده إلى بلد آخر ليس بلد ظلم، وسافر مهاجراً إلى الله، ونزل به الموت في أثناء الطريق، فأرسل الله إليه ملائكة الرحمة، وملائكة العذاب، حكمة من الله عز وجل، وإلا فالله ـ تعالى ـ يعلم، فتخاصمت الملائكة، ملائكة الرحمة تقول: نقبض روحه؛ لأنه تاب وخرج وغادر بلده، وملائكة العذاب تقول: نقبض روحه؛ لأنه لم يصل إلى بلد التوبة، فأرسل الله ملكاً يفصل بينهما، وقال: قيسوا فإلى أيهما كان أقرب فهو من أهلها، فقاسوا فوجدوه إلى القرية التي هاجر إليها أقرب، حتى إنه لما حضره الموت جعل ينوء بصدره وهو في سياق الموت إلى البلد التي كان قد قصدها، وأوحى الله إليها أن تقرَّبي وإلى الأخرى أن تباعدي، فصار أقرب إلى التي قصدها بشبر
(1)
، فتولت روحه ملائكة الرحمة، فربما يؤخذ من هذا أن البلد الأقرب يعطى الحكم ويمنع البلد الأبعد.
قوله: «ويملكه» أي: الواجد.
قوله: «بعده» أي: بعد تمام الحول.
(1)
أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء/ باب (3470)؛ ومسلم في التوبة/ باب قبول توبة القاتل وإن كثر قتله (2766) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
قوله: «حكماً» أي قهراً بدون أن يختار، كما يملك الوارث مال مورثه ـ أي: بدون اختيار ـ وهذا هو المذهب.
وهناك قول آخر: أنها لا تدخل في ملكه إلا إذا شاء، وعلى هذا القول تبقى في يده أمانة، فإذا تلفت من غير تعدٍّ ولا تفريط فلا ضمان عليه.
وعلى المذهب لو تلف هذا الموجود بعد الحول، أو قبل الحول، هل يختلف الحكم؟
نعم يختلف الحكم، إن تلف قبل الحول بتعدٍّ منه فعليه الضمان، وبغير تعدٍّ فلا ضمان عليه؛ لأنه إذا كان متعدياً فهو كغيره من المعتدين يضمن، وإذا كان غير متعدٍّ فهو أمين؛ لأن اللقطة الآن بيده على أنها لصاحبها، فيده يد أمانة، فإذا تلف المال بيده بلا تعدٍّ فلا ضمان عليه.
وإذا تلفت بعد الحول فعليه الضمان سواء تعدى أم لم يتعدَّ؛ لأنها دخلت في ملكه الآن وصارت في ضمانه؛ لأن الشيء الذي في ملكك هو في ضمانك، فإذا دخلت في ملكه وصارت في ضمانه، فإن عليه ضمانها بكل حال إذا وجد صاحبها.
وقيل: لا يضمنها إذا لم يتعدَّ أو لم يفرط، فيكون الحكم واحداً، وهذا هو الأقرب؛ لأن الرجل دخلت في ملكه قهراً عليه بغير اختياره، فهي في الحقيقة كأنها ما زالت في ملك صاحبها إذا كان لا يريدها، فكيف يقول: أنا لا أريد أن تدخل ملكي وأبرأ إلى الله منها، ونقول: هي في ملكك، وفي ضمانك؟! فيه شيء
من الصعوبة، فالقول الراجح في هذه المسألة أنه لا ضمان عليه إذا لم يتعدَّ أو يفرط.
وهناك قول ثالث: أنه لا يضمن على كل حال؛ لأنها ما دامت دخلت ملكه فهي ملكه، فلو ذبح الشاة ـ مثلاً ـ أو أنفق المال فليس عليه شيء؛ لأنه ملكه، وإذا جاء صاحبها يطلبها، قال له: أنا أنشدتها لمدة سنة وتمَّت السنة فملكتها.
قوله: «لكن لا يتصرف فيها قبل معرفة صفاتها» أي: لا يتصرف واجدها «فيها» أي في الموجود وهي اللقطة «قبل معرفة صفاتها» لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «اعرف عفاصها ووكاءها»
(1)
والعفاص الوعاء، والوكاء الحبل الذي تربط به ويشد عليها، فلا بد أن يعرف ذلك.
وينبغي أن يشهد على صفاتها، لكن يشهد من يثق به؛ لأنه إذا أشهد سلم من صاحبها لو ادعى أنها على وجه أكمل، وهذا الإشهاد من وسائل الضبط.
مسألة: هل له الانتفاع باللقطة؟
الجواب: إن كان بعد تمام الحول فله أن ينتفع بها؛ لأنها ملكه، وأما قبل فإن احتاجت إلى نفقة كالحيوان يحتاج إلى علف وسقي، فله أن ينتفع بقدرها، وإلا فلا كالإناء فليس له أن ينتفع به.
وعلى القول بأنها تدخل في ملكه، فهل يجوز أن يتصرف فيها أو لا؟
(1)
سبق تخريجه ص (360).
الجواب: يجوز أن يتصرف فيها بالبيع والهبة والرهن والإيقاف، وغير ذلك من أنواع التصرف؛ لأنها دخلت في ملكه، لكن قبل أن يتم الحول لا يكون مالكاً لها؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:«فإن لم يجئ صاحبها كانت وديعة عندك»
(1)
فهي وديعة وأمانة عنده لا يمكن أن يتصرف فيها إلا إذا كان في بقائها ضرر على صاحبها، فله أن يتصرف فيها، كما لو كانت اللقطة من الأشياء التي لا تبقى، مثل الأشياء التي تفسد، فهنا يتصرف فيها بالبيع ويحفظ الثمن، أو كانت من الأشياء التي تبقى لكن تستنفق أكثر من قيمتها أضعافاً مضاعفة، كما لو وجد شاة فهنا يبيعها وإن كان لم يملكها؛ لأن بقاءها ضرر على صاحبها، فلو بقيت عنده وهي تساوي ثلاثمائة ريال وكل يوم تأكل بأربعين ريالاً، ففي خلال سنة تنفق أربعة عشر ألفاً وأربعمائة ريال تقريباً فهل من المصلحة أن تبقى؟! لا، المصلحة في بيعها، بل في هذه الحال يجب أن يبيعها، إلا إن كان يرجو أن يجد صاحبها من قرب كيوم أو يومين فلا يبيعها.
مسألة: إذا أخذ لقطة على أنها لا تساوي شيئاً ولا تتبعها همة أوساط الناس فتبين أنها بخلاف ذلك، كما لو ظنها صفراً أو نحاساً فبانت ذهباً، فإن له أن يردها إلى مكانها الذي وجدها فيه.
فَمَتى جَاءَ طَالِبُهَا فَوَصَفَهَا لَزِمَ دَفْعُهَا إِلَيْهِ.
قوله: «فمتى جاء طالبها فوصفها لزم دفعها إليه» «متى» اسم شرط جازم، والمعنى في أي وقت أتى صاحبها فإنه إذا وصفها تدفع إليه.
(1)
أخرجه مسلم في اللقطة/ باب معرفة العفاص والوكاء
…
(1722)(4) عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه.
وقوله: «طالبها» أي من طلب هذه اللقطة.
وقوله: «فمتى جاء طالبها» عمومه يشمل إذا جاء قبل الحول أو بعد الحول.
وقوله: «فوصفها» أي ذكر صفاتها، وكان ما ذكره طبق الواقع.
وقوله: «لزم» أي يلزم الواجد «دفعها إليه» أي: إلى الواصف؛ لأن هذه اللقطة لا يدعيها أحد، حتى الذي هي في يده لا يدعيها.
وقوله: «لزم دفعها إليه» ظاهر كلامه أنه يلزم الدفع إليه فوراً،
وهو كذلك، إلا إذا قال: أبقها عندك وسأرجع، فتبقى عنده أمانة.
وظاهر كلامه أنه يلزم الدفع إليه بدون بينة ولا استحلاف، بمعنى أن الواجد لا يقول للمدعي إنها له: هات بينة؛ وذلك لأنه لا منازع له، أي: لا منازع للواصف لها، وكذلك ـ أيضاً ـ لا يلزمه اليمين؛ لأنه لا منازع له فإذا وصفها فإنه لا يطالب بالبينة، مع احتمال أن يكون غير مالك لها عند المطالبة؛ لأنه باعها ـ مثلاً ـ وضاعت من المشتري، فهذا الاحتمال وارد ولا شك، لكن مع هذا لا نطالب الواصف بالبينة؛ لأن الأصل بقاء ملكه، وقد وصفها فوجب دفعها إليه بمقتضى السنة.
إذاً نقول: لزم دفعها إليه بغير بينة، ولا يمين.
وهل له أن يمتنع حتى يُشْهِد أو لا؟
الجواب: ليس له ذلك؛ لأنه سيقبل قوله في دفعها إلى ربها؛ لأنه متبرع، والمتبرع يقبل قوله في رد العين إلى مالكها، وهذا هو
المشهور من المذهب، وقد يقال: له أن يمتنع حتى يحضر بينة تسليمها؛ لأنه ربما يأتي واصفها يوماً من الدهر، ويقول: إنه قد ثبت أنك وجدت هذه اللقطة التي هذه صفتها فأعطنيها، وهو سيقبل قوله في الدفع، لكن يقول: أنا أريد أن أُشهِد لأسلم من الإحضار إلى الحاكم، أو توجه اليمين إليَّ، فإذا كان يلاحظ ذلك فله الحق أن يقول: لا أدفع حتى يحضر شهوداً يشهدون أني دفعت إليك هذه اللقطة؛ لئلا يعود فيدعي عليه أنه لم يقبضها منه.
وَالسَّفِيهُ وَالصَّبِيُّ يُعَرِّفُ لُقَطَتَهُمَا وَلِيُّهُمَا. وَمَنْ تَرَكَ حَيَوَاناً بِفَلَاةٍ لانْقِطَاعِهِ أَوْ عَجْزِ رَبِّهِ عَنْهُ مَلَكَهُ آخِذُهُ. وَمَنْ أُخِذَ نَعْلُهُ وَنَحْوُهُ وَوَجَدَ مَوْضِعَهُ غَيْرَهُ فَلُقَطَةٌ.
قوله: «والسفيه والصبي يعرف لقطتهما وليهما» السفيه هو الذي لا يحسن التصرف في ماله، ولو كان بالغاً ما بلغ من السنين، فيجب إقامة ولي له، أي: لماله، وسبق هذا في باب الحجر.
والصبي مَنْ دون البلوغ، ولم يذكر المؤلف المجنون، لكنه لا شك أنه من باب أولى، فلو أن شخصاً مجنوناً أتى إلى أهله يوماً من الدهر وبيده ذهب فسألوه، فجعل يشير إلى السوق، فهذا تُعرَّف لقطته، على أنه ربما يقال: إن المجنون يختلف عن الصبي، فالصبي يعرف، وإذا قيل له: من أين؟ قال: وجدتها في المكان الفلاني، والمجنون لا يعرف، فقد يكون سرقها من بيت، أو استلب الحلي من لابسته، وعليه فلا يكون لقطة، لكنه في الحقيقة في حكم اللقطة.
وقوله: «يعرف لقطتهما وليهما» أي وجوباً، فينشد ويقول مثلاً: من ضاع له المال الفلاني، فإذا جاء طالبه ووصفه لزم دفعه إليه.
وظاهر كلام المؤلف أنه لو عرَّفها الصبي لم يجزئ، ولو عرَّفها السفيه لم يجزئ؛ وذلك لأن الناس لا يثقون بقول الصبي، فقد يُحْجِم صاحبها عن ادعائها؛ لأنه يظن أن الصبي يلعب، فلذلك نقول: يجب أن يعرفها الولي، وتعريف السفيه أو الصبي لا يكفي، أما الصبي فواضح، وأما السفيه ففي النفس منه شيء؛ لأن السفيه ليس كالصبي، وكل الناس إذا رأوا هذا الرجل البالغ الملتحي يعرِّف لقطة، فإنه يبعد أن يظن أنه يتلاعب.
فإن تمت السنة ولم يأتِ أحد لهذه اللقطة فإنها تكون للواجد ولو كان سفيهاً أو صغيراً.
قوله: «ومن ترك حيواناً بفلاة لانقطاعه أو عجز ربه عنه ملكه آخذه» ألحقه المؤلف في باب اللقطة؛ لأنه شبيه بها.
مثال ذلك: إنسان معه حيوان، بعير، أو بقرة، أو شاة، انقطع وصار لا يمشي، فتركه ربه رغبة عنه، فهو لمن وجده، وأصل هذا حديث جابر رضي الله عنه أنه كان على جمل له فأعيى فأراد أن يسيبه
(1)
.
ولكن لو ادعى مالكه أنه لم يتركه رغبة عنه، لكن تركه ليرجع إليه، بأن يعالجه حتى يقوى ويسير بنفسه، فالأصل حرمة المال، وعلى هذا فمن وجده وأخذه على أنه ملكه يضمن إذا ادعى صاحبه أنه تركه ليرجع إليه.
(1)
سبق تخريجه ص (318).
لكن إذا علمنا بالقرائن القوية أنه تركه رغبة عنه، وأنه لا حاجة له فيه، كما لو كان الحيوان هزيلاً جداً، لا يصلح للذبح ولا للركوب إن كان من المركوبات، ولا يصلح لشيء أبداً، فهنا نقول: يملكه آخذه.
وقوله: «أو عجز ربه عنه» يعني أن الحيوان لم ينقطع، بل هو نشيط، لكن عجز عنه، كبعير تمرد على صاحبه وأبى أن يذهب، فإنه يملكه آخذه؛ لأن صاحبه تركه عجزاً عنه.
والقول الثاني في هذه المسألة: أن واجده لا يملكه، بل يبقى على ملك صاحبه؛ لأنه لم يتركه، ولكن للآخذ أجرة المثل، وهذا مبني على ما سبق أن من أنقذ مال شخص من هلكة فله أجرة المثل.
والقول الثالث وهو الراجح: أنه يفرق بين من تركه عجزاً ومن تركه لانقطاعه، فمن تركه لانقطاعه ملكه آخذه، ومن تركه عجزاً لم يملكه آخذه وله أجرة المثل؛ لأنه أنقذه من هلكة.
أما المتاع فإنه لمالكه، فإن تركه بالفلاة فإن من أحضره إليه ليس له أجرة المثل، إلا إذا أحضره إليه إنقاذاً له من الضياع فله أجرة المثل، والفرق بين المتاع والحيوان، أن الحيوان يهلك وهذا لا يهلك.
بقي العبد الآبق إذا عجز عنه سيده فهل يكون للواجد؟
لا، ولكن له أجرة المثل، والفرق بينه وبين الحيوان أن العبد يمكنه أن يخلص نفسه، فصاحبه إذا تركه لم يتركه يأساً بالكلية؛ لأنه يستطيع أن يخلص نفسه فليس كالحيوان، فمن وجده فهو لمالكه ولكن له أجرة المثل.
قوله: «ومَنْ أُخِذَ نعله ونحوه ووجد موضعه غيره فلقطة» النعل معروف «أو نحوه» كعصاه، أو عباءته، أو كتابه، وما أشبه ذلك، ولهذا قال:«أو نحوه» ولم يحدد المؤلف، لكنه «وجد موضعه» أي: في موضعه، فـ:«موضع» هنا منصوبة على أنها ظرف مكان، و «غيرَه» مفعول «وجد» «فَلُقَطة» أي: فهو لقطة، أي: الموجود في مكانه يكون لقطة.
مثال ذلك: الرفوف التي للنعال، إذا وضع رجل نعله في رف، ولما خرج من المسجد وجد في مكان نعله نعالاً غيرها، ونعله مأخوذة، فنقول له: هذا الذي وجدته لقطة، وأما نعالك فابحث عنها؛ وذلك لاحتمال أن يكون سارق سرقها، ثم جاء آخر ووجد هذا المكان ليس فيه نعل فوضع نعله فيه، ومن باب أولى إذا وضع نعاله عند باب المسجد.
لكن لو قال قائل: ليس في المسجد إلا أنا وآخر دخلنا جميعاً أو دخل هو قبلي، ولا يوجد إلا نعلي ونعله، ثم إن الرجل خرج وأخذ نعلي ولما خرجت لم أجد إلا هذا النعل، فهنا قد يجزم الإنسان أن الرجل الذي كان بالمسجد غلط، وأخذ نعل الرجل الآخر، أو تعمد، فكيف نقول: إنها لقطة؟! لأن الحكم بأنها لقطة يستلزم أحد أمرين: إما أن يدعها الإنسان ويذهب إلى أهله حافياً، وإما أن يأخذها ويعرِّفها وفيه صعوبة، لكن الفقهاء رحمهم الله يقولون: إنها لقطة؛ لأنه إذا كان هناك احتمال من مائة احتمال فالأصل حرمة مال الغير، ولا يمكن أن يأخذها ويتصرف فيها.
لكن إذا غلب على الظن أن المسألة فيها خطأ، كالمثال الذي مثلته أخيراً: رجلان في المسجد، نعالهما تتشابهان، خرج أحدهما وأخذ نعل صاحبه وأبقى نعله، ففي هذه الحال نرى أن يبحث عن الرجل؛ لأن مالك هذه النعل معلوم، فإن لم يجده فلينظر الفرق بين قيمة نعله وهذا النعل الذي وجده، فإن كان نعله أحسن من هذا النعل أخذه واكتفى، وإن كان النعل الموجود أحسن من نعله، فإنه يجب أن يتصدق بالزائد من ثمن هذا الموجود لصاحبه؛ لأن صاحبه الآن غير موجود، هذا إن أيس من صاحبه، أما إذا لم ييأس فهنا نقول: انتظر، فربما يرجع؛ لأنه ربما يغلط الإنسان فإذا وصل إلى بيته ـ مثلاً ـ عرف أنه غلطان فيرجع يطلب نعله.
على أن الغالب بالنسبة للنسيان أنه لا يقع؛ لأن الرِّجْل التي اعتادت على نعل معين تعرف نعلها، فالإنسان من حين أن يلبس النعل يعرف أن هذا نعله أو نعل غيره.
والخلاصة: المذهب أنه إذا أُخِذَ نعله أو نحوه ووجد موضعه غيره فهو لقطة مطلقاً.
والقول الثاني: أنه ينظر للقرائن، فإذا وجدت قرائن تدل على أن صاحب النعل أخذ نعلك، وأبقى لك هذا النعل، فإنه لا يكون لقطة وإنما يكون لواجده، ولكن في هذه الحال ينبغي أن يتأنى بعض الشيء لعل صاحبه يرجع، فإذا أيس منه أخذه، فإن كان أدنى من نعله اكتفى به، وإن كان أعلى وجب عليه أن يتصدق بالفرق بين قيمتي النعلين، وعلى هذا يكون كلام المؤلف مقيداً بمثل هذه الصورة.
بَابُ اللَّقِيطِ
وَهُوَ طِفْلٌ لَا يُعْرَفُ نَسَبُهُ، وَلَا رِقُّهُ، نُبِذَ أَوْ ضَلَّ ......................
قوله: «اللقيط» أعقبه لباب «اللقطة» والمناسبة ظاهرة؛ لأن اللقطة ضياع الأموال، وهذا ضياع الآدميين، فلذلك ناسب أن يجعلوا باب اللقيط بعد باب اللقطة، وإلا فله مناسبات أخرى، كمناسبة باب ما يلحق من النسب وما لا يلحق، وكذلك في الميراث، لكنه أشبه ما يكون باللقطة فلذلك جعلوه تابعاً لها.
واللقيط في اللغة العربية فعيل بمعنى مفعول؛ لأن فعيلاً في اللغة العربية تأتي بمعنى مفعول في مواطن كثيرة، يقال: قتيل بمعنى مقتول، وجريح بمعنى مجروح، وإلا فالأصل أن فعيلاً بمعنى فاعل، لكنها قد تأتي بمعنى مفعول حسب السياق والقرائن، فلقيط بمعنى ملقوط أي: مأخوذ.
أما في الاصطلاح فقال المؤلف: «وهو طفل لا يعرف نسبه ولا رقه نبذ أو ضل» .
فقوله: «وهو طفل» الطفل من دون التمييز.
وقوله: «لا يُعْرَفُ نسبه» أي: لا يدرى لمن هو، فإذا عرف نسبه فليس بلقيط.
وقوله: «ولا رِقُّه» فلا يدرى أهو حر ينتسب إلى فلان بن فلان، أو رقيق يملكه فلان أو فلان؟
وقوله: «نُبِذَ» أي: وجد منبوذاً، ونعرف أنه منبوذ بالقرائن،
يعني أن صاحب هذا الطفل قد نبذه وطرحه، لا يريده، وهذا من المعلوم أنه لا يُتصور غالباً إلا فيمن لا يستطيع المشي، كطفل في المهد وجدناه ـ مثلاً ـ في المسجد، أو في الحمامات أو على الأرصفة، وغلب على ظننا أنه منبوذ بقرائن، ومن هذه القرائن أنه إذا نبذ يكتب عليه في مهاده «هذا ليس له أحد» ، وهذا يقع فيما إذا حصل ـ والعياذ بالله ـ زنا ثم وضعت المرأة من هذا الزنا، وقد عُرِف أنها ليست متزوجة فإنها تنبذ هذا الطفل، وأحياناً يكثر هذا في المساجد، وأحياناً يقل، وعلى كل حال إذا نبذ فواضح أنه لقيط.
وقوله: «أو ضل» أي: أو ضاع، وهذا في الحقيقة فيه نظر ظاهر، فإذا علمنا أن هذا الطفل له خمس سنوات أو ست سنوات وقد ضاع عن أهله، وهو الآن يصيح يبحث عنهم، فهل يمكن أن نقول: إن هذا لقيط يأخذه الإنسان ويجعله عنده؟ لا، هذا يشبه اللقطة، بمعنى أنه يجب أن يبحث عن أهله، وهذا يقع كثيراً في مواسم الحج والعمرة، ولكن من توفيق الله لهذه الحكومة ـ الحكومة السعودية ـ أنها جعلت أناساً يتلقون هؤلاء الضائعين، ومن المعلوم أن من ضاع له طفل في هذه السن، فإنه أول ما يذهب إلى الشرطة الذين يتلقون هؤلاء، فيحصل بهذا خير كثير.
وظاهر كلام المؤلف: أن من وجده أخذه على أنه لقيط، ولكن هذا فيه نظر ظاهر، فالصواب إذاً أن اللقيط طفل لا يعرف نسبه ولا رقه نبذ فقط، ولا نقول: أو ضل، بل نقول: إن الضال يُبحث عن أهله.
ولهذا اقترح بعض الناس اقتراحاً جيداً قال: ينبغي في المواسم ـ أي: مواسم الحج أو العمرة ـ أن يكتب على ظهر كل إنسان صغير بطاقة هذا فلان بن فلان، ورقم هاتف أبيه كذا وكذا، وهذا طيب؛ لأنه يستريح الذي يجده ويستريح أهله أيضاً، والآن بعض الحجاج الذين يقدمون من بلاد بعيدة يكتب على إحراماتهم، فإذا كان الحاج وهو بالغ عاقل يكتب عليه لئلا يضيع فكيف بالأطفال؟ فهنا من المستحسن أن من معه طفل في هذه المواسم، أن يجعل كتابة على ظهره حتى يستريح الجميع.
وَأَخْذُهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَهُوَ حُرٌّ، وَمَا وُجِدَ مَعَهُ، أَوْ تَحْتَهُ ظَاهِراً أَوْ مَدْفُوناً طَرِيّاً أَوْ مُتَّصِلاً بِهِ كَحَيَوانٍ وَغَيْرِهِ، أَوْ قَرِيباً مِنْهُ، فَلَهُ وَيُنْفَقُ عَلَيْهِ مِنْهُ،
......
قوله: «وأخذه فرض كفاية» يعني إذا وجد هذا اللقيط، فإنه يجب على المسلمين أن يأخذوه؛ لأنه آدمي محترم فصار حفظه فرض كفاية، وفرض الكفاية هو الذي إذا قام به من يكفي سقط الإثم عن الباقين، فما طُلب فعله من كل أحد فهو فرض عين أو سنة عين، وما كان الغرض منه إيجاد الفعل فقط صار كفاية إما فرض وإما سنة، فأخذ اللقيط ليس مطلوباً من كل أحد، بل المطلوب حفظ هذا الطفل فيكون فرض كفاية.
ولكن هل يجب على أول من يراه أن يأخذه؟
نقول: هذا هو الأصل، فيجب على أول من يراه أن يأخذه؛ لأننا لو لم نقل بهذا وقلنا للأول: ليس هناك مانع أن تتركه، وجاء الثاني وقلنا له كذلك، فهنا لا شك أنه سوف يضيع الطفل، لا سيما إذا كان في أيام الصيف والحر فيحتاج إلى رعاية، أو أيام الشتاء والبرد في البلاد الباردة، فعلى هذا نقول: هو فرض كفاية، لكن يجب على أول من يجده أن يأخذه، إلا إذا
رأى شخصاً آخر يقول: دعه لي، فهنا نقول: حصلت الكفاية.
واختلف العلماء رحمهم الله أيهما أفضل فرض الكفاية أو فرض العين؟ منهم من رجح فرض الكفاية، وقال: إن القائم به يسقط الفرض عن جميع الناس، فكأنه حصل على أجر جميع الناس، ومنهم من قال: فرض العين أفضل؛ لأنه طلب من كل واحد، وهذا القول هو الراجح بلا شك؛ لأنه لولا أن الله تعالى يحبه ويحب من عباده أن يقوموا به جميعاً ما جعله فرض عين.
وفي وقتنا الحاضر والحمد لله ـ عندنا في السعودية ـ الحكومة جعلت لهؤلاء دوراً معينة تسمى دور الرعاية أو ما أشبه ذلك، فهنا يؤخذ هذا الطفل ويجعل في دار الرعاية، لكن لو أراد لاقطه أن يكون عنده في حضانته فهل يمنع؟ لا، لا يمنع، لكن لا بد من شرط، وسيأتي إن شاء الله.
قوله: «وهو حر» الضمير يعود على اللقيط، فلا يقول واجده إنه عبد وأنا أخذته فهو عبد لي أبيعه وأشتري بدله، حتى لو كان في حي أهله عبيد فإنه حر؛ لأن الأصل في بني آدم الحرية.
قوله: «وما وجد معه أو تحته ظاهراً أو مدفوناً طرياً أو متصلاً به كحيوان وغيره أو قريباً منه فله» أي: للقيط، «ما» مبتدأ، والخبر «فله» ، وقوله:«وما وجد معه» أي: مع اللقيط، مثل أن يكون في جيبه أو معلقاً في رقبته أو ما أشبه ذلك، فهذا له وليس لقطة، وهذا يقع أحياناً في اللقطاء، يجعل الذي نبذهم في رقابهم، إما دراهم، أو طعاماً، أو وعاء لبن ـ حليب ـ فيكون
له، كذلك ما وجد تحته فهو له، مثلاً لو كان هذا اللقيط مضطجعاً ووجدنا تحته صرة دراهم فهي له.
يقول المؤلف سواء كان «ظاهراً» يعني غير مدفون، «أو مدفوناً طرياً» يعني دفنه قريب، فإن وُجد تحته مدفوناً لكنه قديم فليس له؛ لأن قرينة الحال تدل على أنه ليس له، لكن إذا كانت الأرض منفوشة، ووجدنا تحت هذا المنفوش دراهم والطفل فوقه، فهذه الدراهم الموجودة تكون للطفل.
فإن قال إنسان: كيف تكون له وهي مدفونة؟ قلنا: ربما يكون الذي نبذه دفن هذه النفقة حفاظاً عليها؛ لأنه من الجائز أن الطفل ينقلب فتبرز الدراهم.
وقوله: «أو متصلاً به» يعني ما وجد متصلاً به، كطفل منبوذ وجدنا سخلة
(1)
صغيرة مربوطة به، فتكون هذه السخلة له؛ لأن ربطها به يدل على أن صاحبها قد جعلها له.
وقوله: «كحيوان وغيره» يعني كإبريق أو إناء أو كيس من الطعام أو أي شيء.
وقوله: «أو قريباً منه» هذه تحتاج إلى تفصيل، فإذا وجد شيء قريب منه فهو له، وهذا مسلم إذا كان هناك قرينة تدل على أنه له، وإلا فيكون القريب منه لقطة؛ لأن الأصل عدم الملك، لكن إذا وجدت قرينة، مثل أن يكون الطفل ملفوفاً بخرقة وما حوله ملفوف بخرقة مثلها، فإنه يدل على أنها تبع له،
(1)
ولد الشاة.
فقوله: «قريباً منه» ينبغي أن يقيد بما إذا كان هناك قرينة.
قوله: «ويُنفق عليه منه» أتى بـ «يُنْفَق» المبني للمجهول؛ لأجل أن يشمل كل من ذكرنا أنه يتولى الإنفاق عليه، والذي ينفق هو الواجد، فينفق على هذا اللقيط مما وجد معه بدون إذن الحاكم؛ لأنه وليه.
وَإلاَّ فَمِنْ بَيْتِ المَالِ، وَهُوَ مُسْلِمٌ، وَحَضَانَتُهُ لِوَاجِدِهِ الأمِينِ، وَيُنْفِقُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ إِذْنِ حَاكِمٍ، ومِيرَاثُهُ، وَدِيَتُهُ، لِبَيْتِ المَالِ،
...........
قوله: «وإلا» يعني وإن لم يوجد شيء معه.
قوله: «فمن بيت المال» إذا كان الحصول على بيت المال يحتاج إلى وقت، إلى أوراق ومعاملة تدور بين الدوائر، والطفل الآن محتاج إلى رضاعة فماذا نعمل؟ ينفق عليه الواجد؛ لأن الإنفاق عليه فرض كفاية، فإذا كانت المعاملة تحتاج إلى مدة قلنا أنفق الآن.
وهل إذا أنفق يرجع على بيت المال أو لا؟ فيه تفصيل: إن نوى الرجوع رجع، وإن لم ينوِ الرجوع فقد قام بواجب عليه ولا يرجع به على أحد، ولكن إذا لم ينتظم بيت المال تكون على من علم بحاله من المسلمين، وأول من علم بحاله الملتقط.
وبيت المال الذي يتكلم عنه الفقهاء هو الموضع الذي يجمع فيه المال الذي تتولى إدارته الدولة ويمول من عدة أشياء، منها خمس الخمس في الغنيمة وهو الذي يكون لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومنها الأموال المجهول صاحبها، ومنها تركة من لا وارث له، ومصادر بيت المال تكون في مصالح المسلمين عموماً، ومنها الإنفاق على اللقطاء.
قوله: «وهو مسلم» أي: اللقيط «مسلم» يعني يُحكم
بإسلامه؛ لأن الأصل أن كل مولود يولد على الفطرة، لكن بشرط أن يكون في بلاد إسلام خالصة أو بالأكثرية، فإن كان في بلد كفار، كرجل سافر إلى بلاد الكفر لتجارة أو زيارة أو علاج، فوجد لقيطاً، وأهل البلد كلهم كفار، فهنا نحكم بكفره تبعاً للدار؛ لأن الدار دار كفر، وتبعاً للقرينة؛ لأن الغالب أن من كان في بلد كل أهله كفار أو غالبهم أنه منهم.
وقيل: بل هو مسلم مطلقاً، وهو ظاهر كلام المؤلف، وهو الصحيح حتى وإن وجد بدار كفر؛ وذلك لأن نسبه مجهول، فإذا لم يكن له أب ينسب إليه قرابةً، فإنه ليس له أب ينسب إليه ديناً من باب أولى، فانقطعت التبعية وإذا انقطعت التبعية فكل مولود يولد على الفطرة؛ لأن الطفل إنما يتبع أبويه في الكفر إذا كان أبواه كافرين، وعليه فالراجح أنه مسلم يحكم بإسلامه حتى وإن وجد في دار كفر، صحيح أنه إذا وجد في دار كفر فإن الغالب أنه من هؤلاء الكفار، لكننا نقول: إن انقطاع تبعيته نسباً يستلزم انقطاع تبعيته ديناً؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: «فأبواه يهودانه أو ينصرانه»
(1)
وهذا الطفل ليس له أبوان، فلما انقطعت تبعيته في الأبوين من حيث النسب فلتنقطع من حيث الدين، ونرجع إلى الأصل وهو الفطرة.
وإذا حكمنا بإسلامه ترتب عليه أحكام، وكان له ما
(1)
أخرجه البخاري في الجنائز/ باب ما قيل في أولاد المشركين (1385)؛ ومسلم في القدر/ باب معنى كل مولود يولد على الفطرة (2658) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
للمسلمين وعليه ما على المسلمين، فلو مات هذا الطفل قبل أن يبلغ فإننا نغسله ونكفنه ونصلي عليه وندفنه في مقابر المسلمين، وسيأتي لمن يكون ميراثه، وإذا مَيَّزَ وأراد أن يكون كافراً اعتبرناه مرتداً، ومعلوم أن هناك فرقاً بين الكافر المرتد والكافر الأصلي، فالكافر الأصلي يبقى على دينه ولا نجبره على الإسلام، أما الكافر المرتد نجبره أن يسلم وإلا قتلناه.
قوله: «وحضانته لواجده الأمين» يعني ضمه، وتربيته، وكفالته تكون لواجده، لكن بشرط أن يكون الواجد أميناً، فإذا كان الذي وجده امرأة وهي أمينة لا نخشى عليه بوجوده عندها، فحضانته للمرأة، وإذا كان رجلاً أميناً فحضانته للرجل، أما إذا كان غير أمين مثل أن يكون فاسقاً، أو مشهوراً باستلاب الأموال فإنه لا حضانة له؛ لأن المقصود بالحضانة في كل أحوالها حفظ المحضون والقيام بمصالحه، فإذا عرفنا أن الواجد ليس بأمين فلا حضانة له، والحاكم يجعل حضانته لشخص أمين، ومن هنا نعرف أن الحضانة لها أهمية كبيرة، وليست الأم أولى بها من الأب مطلقاً، ولا الأب أولى بها من الأم مطلقاً، ولهذا قال العلماء رحمهم الله في باب الحضانة: إن المحضون لا يقر بيد من لا يصونه ويصلحه مهما كان حتى لو كانت الأم.
قوله: «وينفق عليه بغير إذن حاكم» أي: ينفق عليه الواجد دون أن يستأذن من القاضي؛ لأن الحضانة له، وينفق عليه مما معه، وسبق أن ما كان معه أو قريباً منه أو مدفوناً طرياً فهو له،
فإن لم يكن معه مال فمن بيت المال، والواجد هو الذي يدبر النفقة اليومية حسب ما تقتضيه المصلحة.
قوله: «وميراثه وديته لبيت المال» «ميراثه» إن خلف مالاً «وديته» إن قُتِل خطأ أو عمداً واختيرت الدية لبيت المال؛ لأنه ليس له وارث، وأسباب الإرث ثلاثة: النكاح، والنسب، والولاء، وهذا ليس له سبب، لا نكاح ولا نسب ولا ولاء فيكون ميراثه لبيت المال.
ولو تزوج هذا اللقيط وأتاه أولاد فميراثه لورثته، للزوجة إن بقيت معه ولأولاده، لكن إذا لم يتزوج فميراثه يكون لبيت المال.
وديته إن قتل فهي لبيت المال؛ لأن الدية في حكم الموروث، ولهذا لو أوصى الإنسان بثلثه وأحصينا ماله بعد أن قتل، فإننا نضم الدية إلى المال، ويخرج ثلث الدية كما يخرج الثلث من بقية المال، وهذا هو المشهور من المذهب.
والقول الثاني: أن ميراثه وديته لواجده، وهو الصحيح لحديث رواه أهل السنة وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم:«تحوز المرأة ثلاثة: عتيقها، ولقيطها، وولدها الذي لاعنت عليه»
(1)
وهو اختيار شيخ الإسلام رحمه الله ومعلوم أن هذا أولى من أن نجعله في بيت
(1)
أخرجه الإمام أحمد (3/ 490، 106)؛ وأبو داود في الفرائض/ باب ميراث ابن الملاعنة (2906)؛ والترمذي في الفرائض/ باب ما جاء ما يرث النساء من الولاء (2115)؛ وابن ماجه في الفرائض/ باب تحوز المرأة ثلاث مواريث (2742) عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه؛ وصححه الحاكم (4/ 341) ووافقه الذهبي، وانظر: فتح الباري لابن حجر (12/ 32) ط/دار الريان؛ والإرواء (1576).
المال؛ لأن بيت المال ينتفع به عامة المسلمين، لكن هذا ينتفع به الواجد الذي تعب عليه وحضنه، وربما يكون هو السبب ـ أيضاً ـ في تحصيل المال، فالصواب هذا القول وأن من أسباب الإرث الولاء بالالتقاط.
وَوَلِيُّهُ فِي العَمْدِ الإمَامُ يُخَيَّرُ بَيْنَ القِصَاصِ وَالدِّيَةِ. وَإِنْ أَقَرَّ رَجُلٌ أَوْ امْرَأَةٌ ذَاتُ زَوْجٍ مُسْلِمٍ أَوْ كَافِرٍ أَنَّهُ وَلَدُهُ لَحِقَ بِهِ،
..........
قوله: «ووليه» أي: ولي اللقيط.
قوله: «في العمد» أي: فيما إذا قتل اللقيط عمداً.
قوله: «الإمام يخير بين القصاص والدية» فأيهما كان أنفع فعله، أحياناً يكون القصاص أنفع وأحياناً تكون الدية أنفع، وإذا ترددنا فالدية.
ويكون القصاص أنفع إذا كان الذي قتله عمداً معروفاً بالشر والفساد والعدوان فهنا القصاص أنفع، فلو قال قائل: أنتم إذا اقتصصتم منه فوَّتُّم ديته على بيت المال، قلنا: إذا نظرنا إلى المصلحة العامة رجحنا القصاص.
وأحياناً يكون القاتل عمداً ليس معروفاً بالشر والفساد، وربما يكون عن نزاع بينه وبين هذا اللقيط فقتله، فهنا قد نقول: إن أخذ الدية أفضل، ولكن هل هذا التخيير بين القصاص والدية تخيير إرادة أو تخيير مصلحة؟ الثاني، تخيير مصلحة، وكل من خُيِّر بين شيئين وهو متصرف لغيره فالمراد المصلحة، أما من خير بين شيئين للتوسيع عليه ولا يتعلق بغيره فهو تخيير إرادة؛ لأن المقصود به الرفق بالمكلف.
بقي قسم ثالث وهو العفو، لكن هنا لا يمكن العفو؛ لأن العفو معناه أن لا يكون لهذا اللقيط الذي قتل عوض فتفوت فيه
المصلحة العامة أو الخاصة، فيخير الإمام بين القصاص والدية فقط.
وقول المؤلف رحمه الله: «ووليه في العمد الإمام» ولم يقل: أو نائبه، ولم يقل: الحاكم، الذي هو القاضي، فيقال: أما الأول فقد علم في كلام الفقهاء رحمهم الله أن نائب الإمام يقوم مقام الإمام، فمثلاً في عُرْفنا الآن في مسألة القصاص والحدود وما أشبهها، نائب الإمام في هذا وزير الداخلية، ووزير الداخلية له نواب وهم الأمراء والمحافظون، فعلى هذا نقول: الإمام أو نائبه، كما جرى ذلك في كلام الفقهاء في مواضع كثيرة، وأما الحاكم فيتولى القضاء، وإذا كان الإمام قد خلفه في مثل هذه الأمور فهو نائبه في ذلك.
قوله: «وإن أقر رجل أو امرأة ذات زوج مسلم أو كافر أنه ولده لحق به» إن أقر رجل أنه له، فإننا نلحقه به بدون بينة ولو بعد موت اللقيط؛ لأن الشرع يتشوَّف إلى إلحاق الأنساب؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:«الولد للفراش وللعاهر الحجر»
(1)
فالشارع له تشوُّفٌ في إلحاق النسب، ولهذا حرم على الإنسان أن يتزوج المرأة في العدة؛ لئلا تختلط الأنساب وتشتبه.
مثاله: رجل علم باللقيط، فجاء إلى القاضي أو إلى الأمير أو إلى المحافظ، وقال: هذا ولدي، فإنه يلحق به بشرطين:
(1)
أخرجه البخاري في البيوع/ باب تفسير المشبهات (2053)؛ ومسلم في الرضاع/ باب الولد للفراش وتوقي الشبهات (1457) عن عائشة رضي الله عنها.
الأول: ألا يتبين كذب الدعوى، مثل أن يأتي وله عشر سنوات ويقول: الولد ولدي، فإن هذا لا يمكن، أو يأتي وهو له عشرون سنة واللقيط له اثنتا عشرة سنة، فإن هذا لا يمكن ويستحيل عادة، فإذا لم تمكن صحة الدعوى فإنه لا يقبل.
الثاني: ألا ينازعه أحد، فإن ادعاه اثنان فسيأتي في كلام المؤلف.
وقوله: «أو امرأة ذات زوج» فلو ادعت امرأة ذات زوج أنه ولدها فإنه يقبل، ولو أنكر زوج المرأة، وقال: ليس هذا ولداً لي، ألحق بالمرأة ولم يلحق بالزوج؛ لاحتمال أن يكون هذا الولد أتاها قبل أن تتزوج هذا الرجل، أو أنها وطئت بشبهة أو بزنا وزوجها لا يريد أن يستلحقه، وإن لم تكن ذات زوج فإنه يلحق بها ـ أيضاً ـ من باب أولى؛ لأنه إذا كانت ذات الزوج تقبل دعواها أنه ولدها، فمن لم يكن لها زوج من باب أولى، اللهم إلا إذا كذبها الواقع، مثل أن تكون بكراً وتقول: هذا الولد لي، فلا يقبل، وهذه المسألة ـ أي: إذا ادّعته امرأة ـ اختلف العلماء فيها على ثلاثة أقوال:
الأول: أنه لا يلحق بها مطلقاً؛ لأن المرأة ليست ذات نسب، فالناس يلحقون بآبائهم فلا فائدة من استلحاقها له.
الثاني: أنه يلحق بها ـ وهذا ما مشى عليه المؤلف ـ مطلقاً سواء ذات زوج أو ليست ذات زوج فهو لها، ثم إن أقر زوجها فهو له ـ أيضاً ـ وإلا فهو لها هي، وقالوا: إنه وإن كان لا ينسب إلى أمه لكن أمه تستفيد من ذلك بأن يكون ولدها يرثها وترثه،
ومن الممكن أن يكون ولداً لها وإن لم تكن زانية، فقد توطأ بشبهة أو مكرهة، فإذا قالت: هذا ابني، فإننا نلحقه بها حتى وإن لم يقبل الزوج.
الثالث: إن كانت ذات زوج لم يلحق بها لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الولد للفراش»
(1)
وهنا الزوج لم يدع أنه ولده، وإذا ألحقناه بها صار في ذلك عار على الزوج، فيلزم أن تكون زانية أو موطوءة بشبهة، وهذا هو أحسن الأقوال.
وقوله: «مسلم أو كافر» يعني سواء كان المقِر بأنه ولده مسلماً أو كافراً، إن كان مسلماً فالأمر ظاهر ولا إشكال فيه، وإذا كان كافراً فإننا نلحقه به لكننا لا نمكنه من حضانته، نقول: نعم الولد ولدك لكنه محكوم بإسلامه ولا حضانة لك عليه.
والفائدة من إلحاقه به النسب، وهذا الكافر ربما يسلم في يوم من الأيام، فيرد اللقيط إليه ويتوارثان، والشارع له تشوف بالغ في إلحاق النسب.
وقوله: «لحق به» أي: صار ولداً له، وصار أولاد المدعي إخوة له.
وَلَوْ بَعْدَ مَوْتِ اللَّقِيطِ، وَلَا يَتْبَعُ الكَافِرَ فِي دِينِهِ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ أَنَّهُ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ،
........
قوله: «ولو بعد موت اللقيط» هذه إشارة خلاف، يعني أنه يلحق به ولو بعد موت اللقيط، وهو المذهب؛ لأن للشارع تشوفاً بإلحاق النسب، ولم يدعه أحد فليكن ولداً له.
والقول الثاني: أنه بعد موت اللقيط لا نطلق أنه يقبل، بل
(1)
سبق تخريجه ص (393).
في ذلك تفصيل، إن كان هناك تهمة، فإنه لا يلحق به، والتهمة مثل أن يكون لهذا اللقيط أموال كثيرة، فيدعي بعد موت اللقيط أن اللقيط ولده؛ من أجل أن يرث هذه الأموال، فهذا لا نقبل دعواه؛ لأن التهمة هنا قائمة قياماً تاماً، ثم أي فائدة ـ من حيث النسب ـ نحصل عليها وهو قد مات، ولم يخلف ذرية ولا شيئاً؟! وهذا القول هو الصواب، أنه بعد موت اللقيط إذا قامت التهمة والقرينة ـ مثلاً ـ على أنه إنما يريد المال، فإننا لا نلحقه به.
قوله: «ولا يتبع» الضمير يعود على اللقيط.
قوله: «الكافرَ في دينه» أي الكافر الذي ادعاه، نحكم بأنه ولده ولا نحكم بأنه على دينه؛ لأنه سبق لنا أن اللقيط مسلم.
قوله: «إلا ببينة تشهد أنه ولد على فراشه» فإذا أقام بينة بأنه ولد من زوجته أو أنه ولد من سُرِّيَّتِهِ، فهنا لا بد أن نلحقه به نسباً وديناً حتى يبلغ سن التمييز، ويختار من الأديان ما شاء، أما إذا ادعاه وليس له بينة فإن يتبع الكافر نسباً ولا يتبعه ديناً.
واستفدنا من قوله: «ولا يتبع الكافر في دينه إلا ببينة» أن ولد الكافر يتبع الكافر في الدين، فإذا مات طفل أبواه كافران، فإن هذا الطفل كافر حكماً في أحكام الدنيا فلا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه ولا يدفن مع المسلمين؛ لأنه كافر حكماً، أما في الآخرة فالصحيح أن أولاد المشركين يمتحنون، بمعنى أن الله عز وجل يسألهم في الآخرة ويكلفهم بأشياء الله أعلم بها، فمنهم من يطيع ومنهم من يعصي، فمن أطاع استحق ثواب المطيع ومن عصى استحق ثواب العاصي، هذا هو أصح الأقوال
في أطفال المشركين وفيمن لم تبلغهم الدعوة من المكلفين، فحكمهم في الدنيا كفار؛ لأنهم لا يدينون بالإسلام، وفي الآخرة كما سبق.
وَإِنِ اعْتَرَفَ بِالرِّقِّ مَعَ سَبْقِ مُنَافٍ، أَوْ قَالَ: إِنَّهُ كَافِرٌ، لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ، وَإِنِ ادَّعَاهُ جَمَاعَةٌ قُدِّمَ ذُو البَيِّنَةِ، وَإِلاَّ فَمَنْ أَلْحَقَتْهُ القَافَةُ بِهِ.
قوله: «وإن اعترف بالرق مع سبق منافٍ أو قال: إنه كافر لم يقبل منه» قوله: «وإن اعترف» الضمير يعود على اللقيط، بأن قال: لما كبر وأصبح يصح منه الإقرار: إنه رقيق لفلان، نظرنا إن سبق ما ينافي دعواه لم نقبل منه، مثل أن كان هذا اللقيط يتصرف ببيع وشراء وكل شيء، ثم قال: إنه رقيق، فهنا لا نقبل؛ لأن هذا الرجل كان يتصرف بنفسه ولا يقول: إني أراجع سيدي أو ما أشبه ذلك فلا نقبل؛ لأن إقراره ينافيه حاله السابق، وأما إذا لم يسبق منافٍ فإنه يقبل.
والقول الثاني وهو المذهب أنه لا يقبل؛ لأن الحرية والرق حق لله عز وجل: إلا إذا أقام من أُقِرَّ له بينة على أنه رقيقه، فإننا نحكم بالبينة لا بإقرار اللقيط، وهذا أحسن مما ذهب إليه المؤلف.
وقوله: «أو قال: إنه كافر» أي اللقيط فإننا لا نقبله؛ لأننا حكمنا بإسلامه، وفائدة رد قوله: إنه كافر، أنه إذا أصر على الكفر صار مرتداً، فيقال له: إما أن تسلم وإما أن تُقتل؛ لأن المرتد لا يقبل منه البقاء على ردته، لكن لو كان كافراً من الأصل أبقيناه على كفره، وأخذنا منه الجزية حسب ما تقتضيه الشريعة.
قوله: «وإن ادعاه جماعة قدم ذو البينة» «إن ادعاه» أي
اللقيط «جماعة» كل واحد قال: هذا ابني، فإن أقام أحدهم بينة أنه ابنه وولد على فراشه فهو له.
قوله: «وإلا فمن ألحقته القافة به» أي: إذا لم يكن لأحدهم بينة فإننا نعرضه على القافة، والقافة جمع قائف كالصاغة جمع صائغ، وهم قوم يعرفون الأنساب بالشبه، وبنو مدلج من العرب مشهورون بهذا، ولهذا لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم على عائشة رضي الله عنها ذات يوم، مسروراً تبرق أسارير وجهه، فسألته فقال لها:«ألم تري إلى مجزز المدلجي دخل على أسامة بن زيد وزيد بن حارثة رضي الله عنهما، وهما قد تغطيا برداء وقد بدت أقدامهما، فقال: «إن هذه الأقدام بعضها من بعض»
(1)
فَسُرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بشهادة هذا الرجل القائف الذي لا يعرفهما ولا يعرف أمرهما؛ وذلك أن قريشاً كانت تطعن في نسب أسامة بن زيد بن حارثة رضي الله عنهما؛ لأن أسامة أسود وزيد أبيض، وتقول: هذا ليس ولداً لهذا، وهذا لا شك أنه يُهِمُّ الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن زيداً مولاه، وأسامة ابن مولاه، وكلاهما مولى، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يحبهما ومعلوم أن الطعن فيهما ليس بأمر هين على النبي صلى الله عليه وسلم، فشهادة هذا القائف تزيده سروراً.
المهم نعرضه على القافة، وكيف نعرضه على القافة؟ هذا يرجع فيه إلى الأساليب المعتادة، إما بأن يعرض الوجه وتستر الأجسام، أي: يجعل حائل ويعرض الوجه، وإما أن تعرض
(1)
أخرجه البخاري في الفرائض/ باب القائف (6770)؛ ومسلم في الرضاع/ باب العمل بإلحاق القائف الولد (1459) عن عائشة رضي الله عنها.
الأقدام؛ لأن الأقدام ـ سبحان الله ـ دليل واضح على الوجوه، حتى إنه عندنا هنا في البلد أناس يعرفون الرجل بقَدمِه، فإذا رأى القدم ورأى أصابعه قال: كأنني أشاهد وجهه ـ سبحان الله! ـ حتى إنه إذا تسلق الجدار، وكانت الجدران من قبل من الطين تتأثر بالأصابع، فإذا سرق ـ مثلاً ـ وتسلق الجدار عرفه بإبهامه فقط، ويقول: كأنني أشاهد وجهه، وإذا دخل على حوش الغنم، وسرق وخرج ورأى أثر أقدامه في الرمل، قال: هو فلان، فالمهم أن الوجوه والأقدام تدل على النسب؛ لأن مجززاً المدلجي رضي الله عنه إنما رأى أقدامهما.
ولا فرق بين أن يكون الأول مدعياً أو الثاني أو الثالث، يعني لو أن أحدهم جاء في الساعة الواحدة والآخر في الساعة الثانية والثالث في الساعة الثالثة، وكلهم ادعى أنه ولده، فإننا نعرضه على القافة فمن ألحقته به لحقه، لكن بشرط أن يكون مجرباً بالإصابة.
وقول القافة في الأنساب معتبر، فهل يعتبر قول القافة في الأموال، بمعنى أن القائف إذا رأى قدم السارق، وقال: هذا فلان بن فلان، فهل يؤخذ به، أو يقال: إنه قرينة ويؤتى بالرجل إن أقر وإلا برئ؟ فيها خلاف بين العلماء: منهم من قال: إذا عرف بالإصابة بالتجربة فإنه يؤخذ به، وكما ذكرنا هؤلاء القافة ربما يشهدون شهادة على أن هذا قدم فلان بن فلان، وليس عندهم فيه شك، فيكون قرينة، وفي قضية داود وسليمان ـ عليهما الصلاة والسلام ـ {إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ
غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء: 78، 79] استدل بالأثر على المؤثر.
وإذا ألحقته القافة باثنين، وقالت هو ولد لزيد وعمرو، فهل يلحق بهما؟ قال الفقهاء: يلحق بهما، وأنه يمكن الحمل من رجلين، لكن علماء الطب المعاصر يقولون: لا يمكن أن يكون ولد من شخصين، فيدرس الموضوع وينظر، هل ما قاله الفقهاء هو الواقع أو لا؟ لأن الفقهاء ربما يقولون بالشبه، فإذا كان يشبه هذا وهذا فإنه يلحق بهما، والشبه أحياناً يكون الرجل مشابهاً لرجل ليس من قبيلته فضلاً عن كونه أباً أو أخاً.
انتهى المجلد العاشر - بعون الله تعالى وتوفيقه -
ويليه المجلد الحادي عشر إن شاء الله تعالى
وأوله كتاب الوقف