الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشرح الممتع
على
زاد المستقنع
لفضيلة الشيخ العلامة
محمد بن صالح العثيمين
غفر الله له ولوالديه وللمسلمين
المجلد الحادي عشر
دار ابن الجوزي
طبع بإشراف مؤسسة الشيخ محمد بن صالح العثيمين الخيرية
الطبعة الأولى 1426 هـ
كِتَابُ الوَقْفِ
وَهُوَ تَحْبِيسُ الأَصْلِ وَتَسْبِيلُ المَنْفَعَةِ وَيَصِحُّ بِالقَوْلِ وبِالفِعْلِ الدَّالِّ عَلَيْهِ،
قوله: «الوقف» مصدر وَقَفَ يقف وقفاً، ويقال: وقف، أي: توقف عن المشي، ومصدره وقوف، مثل قعد قعوداً، قال ابن مالك:
وَفَعَلَ اللازمُ مِثْلُ قَعَدَا
له فُعُولٌ باطِّرادٍ كَغَدَا
فوقف اللازم مصدره وقوف، ووَقَفَ المتعدي الذي بمعنى أوقف الشيء، مصدره وَقْفٌ، مثل مَنَعَ يمنع مَنْعَاً.
وهو لغة بمعنى الحبس، وفسره المؤلف رحمه الله في الاصطلاح بأنه:«تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة» .
قوله: «وهو تحبيس الأصل» أي: منعه، و «الأصل» أي: العين، كالدار ـ مثلاً ـ والشجر، والأرض، والسيارة، وما أشبه ذلك؛ لأن الوقف يكون في المنقول والعقار.
قوله: «وتسبيل المنفعة» يعني إطلاقها، وعلمنا بأن التسبيل بمعنى الإطلاق لقوله في الأصل إنه «تحبيس» ، فيكون ضده الإطلاق.
والمعنى أن المُوقِف يحبس الأصل عن كل ما ينقل الملك فيه، ويسبل المنفعة ـ يعني الغلة ـ كأجرة البيت مثلاً، والثمرة، والزرع، وما أشبه ذلك.
والأصل في هذا أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أصاب أرضاً في خيبر، وكانت نفيسة عنده، فجاء
يستشير النبي صلى الله عليه وسلم ماذا يصنع فيها؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم ينفقون مما يحبون، فأرشده إلى الوقف، وقال:«إن شئت حبست أصلها، وتصدقت بها»
(1)
، وفي لفظ:«احبس أصلها، وسبِّل ثمرها»
(2)
، وهذا أول وقف في الإسلام، وهو غير معروف في الجاهلية، بل أحدثه الإسلام، ففعل عمر رضي الله عنه وجعل لها مصارف نذكرها ـ إن شاء الله ـ فيما بعد.
وكان ابن عمر رضي الله عنهما إذا أعجبه شيء من ماله تصدق به، يتأول قوله تعالى:{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92]
(3)
.
وأبو طلحة رضي الله عنه لما أنزل الله هذه الآية، جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله، إن الله أنزل:{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} ، وإن أحب مالي إليَّ «بيرحاء» ، وهي اسم نخل مستقبلة مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة، وكان فيها ماء عذب طيب يأتي إليه الرسول صلى الله عليه وسلم ويشرب منه، وهذا لا شك أغلى شيء عند أبي طلحة، فقال: يا رسول الله ضَعْهَا حيثُ شِئْتَ، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم:«بَخٍ بَخٍ، ذاك مال رابح، ذاك مال رابح، وأرى أن تجعلها في الأقربين» ، فجعلها في قرابته وبني عمه
(4)
.
(1)
أخرجه البخاري في الشروط/ باب الشروط في الوقف (2737)؛ ومسلم في الوصية/ باب الوقف (1633) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
(2)
أخرجه النسائي في الأحباس/ باب حبس المشاع (6/ 232)؛ وابن ماجه في الصدقات/ باب من وقف (2397) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
(3)
أخرجه البزار كما في مختصر زوائد مسند البزار لابن حجر (1451).
(4)
أخرجه البخاري في الزكاة/ باب الزكاة على الأقارب (1461)؛ ومسلم في الزكاة/ باب فضل النفقة والصدقة على الأقربين
…
(998) عن أنس رضي الله عنه.
ولم يذكر المؤلف رحمه الله الحكم التكليفي للوقف، يعني هل هو جائز أو حرام، أو
واجب، أو مندوب، وإنما ذكر حكمه الوضعي فقال:«ويصح» .
لكن نقول: الوقف تبرع بالمال، وحبس له عن التصرف فيه، فإذا كان على جهة مشروعة كان مستحباً؛ لأنه من الصدقة، وإذا نذره الإنسان كان واجباً بالنذر، وإذا كان فيه حيف أو وقف على شيء محرم كان حراماً، وإذا كان فيه تضييق على الورثة كان مكروهاً، فيمكن أن تجري فيه الأحكام الخمسة، هذا من حيث الحكم التكليفي.
فإذا جاءنا إنسان يقول: أنا أريد أن أوقف هذه الأرض لأعمر عليها مسجداً، نقول له: هذا مستحب؛ لأنه من الإحسان والصدقة، والله ـ تعالى ـ يحب المحسنين.
قوله: «بالقول» بأن يقول: وقفت داري، أو وقفت سيارتي، أو وقفت أرضي، وما أشبه ذلك، وسيأتي أن القول ينقسم إلى قسمين.
أما الفعل فيشترط أن يكون هناك قرينة تدل على أنه وقف، فإذا وجدت قرينة تدل على أنه وقف فهو وقف ولو نوى خلافه، ولهذا قال:
وبِالفِعْلِ الدَّالِّ عَلَيْهِ، كَمَنْ جَعَلَ أَرْضَهُ مَسْجِداً وأَذِنَ للنَّاسِ في الصَّلاةِ فِيهِ أَوْ مَقْبَرَةً وَأَذِنَ فِي الدَّفْنِ فِيهَا ..
«وبالفعل الدال عليه، كمن جعل أرضه مسجداً وأذن للناس في الصلاة فيه» ، يعني بنى مسجداً وقال للناس: صلوا فيه، فهنا لم يقل: إنه وقف، لكنه فعل فعلاً يدل على الوقف؛ لأن الرجل بنى
مسجداً وقال للناس: صلوا، وأما من بنى مصلى عند بستانه وصار الناس يأتون ويصلون فيه، فهذا لا يدل على أنه وقف، لكن إذا بنى مسجداً يعني على هيئة مسجد، وقال للناس: صلوا فيه، فهو وقف وإن لم يقل: وقفت؛ لأن هذا الفعل دال عليه حتى لو نوى خلافه، فإنه يكون وقفاً اعتباراً بقوة القرينة.
وإذا قال: إني أردت أنه عارية، قلنا: في هذه الحال يجب أن تكتب: إني أعرت هذا المكان للناس يصلون فيه، متى احتجته أخذته، ولا بد من هذا وإلا صار وقفاً.
قوله: «أو مقبرة وأذن في الدفن فيها» ، أي: سوَّر أرضه على أنها مقبرة، ولم يكتب على بابها أنها مقبرة، ولم يكتب في الوثيقة أنها مقبرة، وقال للناس: من شاء أن يدفن فيها ميتاً فليفعل، فهنا نقول: الأرض صارت مقبرة، أي: صارت وقفاً على المسلمين، ولا يمكنه أن يرجع.
نعم لو أراد أن يعير أرضاً للدفن فيها، فهنا لا بد أن يكتب أنه أعار هذه الأرض للدفن فيها، وإذا أعارها للدفن فيها فإنه لا يرجع حتى يبلى الميت؛ لأن من لازم الإذن في الدفن أن يبقى الميت مدفوناً محترماً، فلا ينبش إلا إذا بلي.
وهذا الفعل، أي: جعل الأرض مسجداً أو مقبرة لا يخلو من ثلاث حالات:
الأولى: أن ينوي بذلك أنها مسجد أو مقبرة، فتكون كذلك ولا إشكال في ذلك.
الثانية: أن ينوي خلاف ذلك، بأن ينوي بجعلها مسجداً أو
مقبرة أنها مؤقتة، فقد صرح شيخ الإسلام رحمه الله أنها تكون وقفاً ولو نوى خلافه؛ لأن هذه النية تخالف الواقع؛ لأن من جعل أرضه مسجداً فإنه معلوم أن المسجد سوف يبقى، فكيف تنوي أن لا يبقى؟!
الثالثة: ألا ينوي هذا ولا هذا، فتكون وقفاً لا إشكال فيه.
ولو أن رجلاً عنده أرض بين شارعين، فجعل الناس يستطرقون هذه الأرض وهو ساكت، فهل نقول: إن هذا الطريق صار وقفاً؟ لا؛ لأن هذا لا يدل على الوقف، فكثير من الناس إذا لم يكن محتاجاً للأرض فإنه يسمح للناس أن يتجاوزوا منها، ولكن إذا احتاجها حرفها وسد الطريق، فلا بد في الفعل من قرينة ظاهرة تدل على الوقف؛ لأن الأصل بقاء ملك الإنسان فيما يملك، ولا نخرجه عن هذا الأصل إلا بقرينة ظاهرة.
وَصَرِيحُهُ وَقَّفْتُ وَحَبَّسْتُ وَسَبَّلْتُ وَكِنَايَتُهُ تَصَدَّقْتُ وَحَرَّمْتُ وَأَبَّدْتُ،
....
قوله: «وصريحه» هذا يعود على القول، فالقول ينقسم إلى قسمين: صريح وكناية، وهذا يأتي في مواضع، مثلاً في الطلاق، صريح وكناية.
فالضابط في الصريح: هو الذي لا يحتمل غير الوقف.
والضابط في الكناية: هو الذي يحتمل الوقف وغيره.
والصريح مجرد ما ينطق به يثبت الحكم؛ لأنه صريح لا يحتمل معنى آخر، والكناية لا بد فيها من إضافة شيء إما نية، أو قرينة.
وهل الصرائح والكنايات أمر جاء به الشرع بحيث يستوي فيه جميع الناس، كالصلاة والزكاة والصيام والحج، أو أمر يرجع فيه
إلى العرف؟ الصحيح أن جميع صيغ العقود القولية أمر يرجع فيه إلى العرف، فقد يكون هذا اللفظ صريحاً عند قوم وكناية عند آخرين، وقد لا يدل على المعنى إطلاقاً عند غيرهم، فالصحيح أنه يرجع إلى عرف الناس، فما اطرد عند الناس أنه دال على هذا المعنى فهو صريح، وما لم يطرد ولكنه يراد به أحياناً فهو كناية، وما لا يدل على المعنى أصلاً فليس بشيء، فالصريح من كل شيء ما لا يحتمل غيره عرفاً؛ لأن هذا كله جاء من الناس وإليهم.
قوله: «وقَّفْتُ» ، يعني وقفت أرضي، وقفت بيتي، وقفت سيارتي، وقفت قلمي، وأي شيء يوقفه فهو وقف.
قوله: «وحَبَّستُ» ، يعني حبَّست أصله، فيحمل هنا على الأصل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر:«إن شئت حبَّست أصلها»
(1)
، وقال صلى الله عليه وسلم:«أما خالد، فإنكم تظلمون خالداً، فقد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله»
(2)
، فدل على أن الحبس أو التحبيس وقف صريح.
قوله: «وسبَّلت» ، أي: سبَّلت المنفعة، فإذا قال: سبَّلت داري، فالمعنى أنه سبَّل منفعته وأبقى أصله حبيساً.
فمرة يذكر ما يعود على الأصل، ومرة يذكر ما يعود على المنفعة، فـ «حبَّست» تعود على الأصل، و «سبَّلت» تعود على
(1)
سبق تخريجه ص (6).
(2)
أخرجه البخاري في الزكاة/ باب قول الله تعالى: {وَفِي الرِّقَابِ} (1468)؛ ومسلم في الزكاة/ باب في تقديم الزكاة ومنعها (983) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
المنفعة، فدلالة «حبست» على الوقف دلالة التزام؛ لأن من لازم قوله «حبست الأصل» أن يسبل المنفعة.
وكذلك سبلت ـ أيضاً ـ دلالتها على توقيف الأصل دلالة التزام؛ لأن قوله: «سبلت المنفعة» يعني حبست الأصل، فهذه ثلاث كلمات:«وقفت، وحبست، وسبلت» ، وما اشتق منها فهو مثلها، فلو قال: هذه أرض مُوَقَّفة، أو موقوفة، أو محبسة، أو مسبلة فهي صريحة، ولو قال: سأحبِّس لم ينعقد الوقف؛ لأن هذا خبر وليس إنشاء، والعقود إنشاء وإن كانت صيغتها صيغة الخبر، وقوله: أنا مسبل، أو أنا موقف، أو أنا محبس، كل هذا صريح في الوقف، ولا يشترط اجتماع هذه الكلمات، بل إذا قال كلمة واحدة منها صار وقفاً.
قوله: «وكنايته» ، الكناية هي ما يحتمل المعنى وغيره.
قوله: «تصدقت» ، كلمة «تصدقت» تدل على الصدقة، والصدقة يملك بها المتصَدَّقُ عليه الأصلَ والمنفعةَ، وتكون ملكاً له، فإذا قال: تصدقت على فلان بسيارتي، فالسيارة تكون ملكاً له يتصرف فيها كما يشاء، ويمكن أن تكون وقفاً إذا نوى أنها وقف.
قوله: «وحرمت» ، أي: حرَّمت داري على نفسي، ولا يحرم ملك الإنسان على نفسه إلا إذا أخرجه عن ملكه.
قوله: «وأبدت» كذلك هو كناية؛ لأن «أبَّدت» ، أي: جعلته مؤبداً لا يُغَيَّر، ولذلك نقول: هو كناية وليس صريحاً.
فهذه الألفاظ عند الإطلاق لا تدل على الوقف، لكن يحتملها الوقف بالنية.
فَتُشْتَرَطُ النِّيَّةُ مَعَ الكِنَايَةِ، أَوِ اقْتِرَانُ أَحَدِ الأَلْفَاظِ الخَمْسَةِ، أَوْ حُكْمِ الوَقْفِ.
قوله: «فتشترط النية مع الكناية، أو اقتران أحد الألفاظ الخمسة، أو حكم الوقف» ، يعني أن الكناية لا يثبت بها الوقف إلا بواحد من أمور ثلاثة:
الأول: النية، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى»
(1)
، فإذا قال: تصدقت بسيارتي على فلان، ثم قال: إنه نوى أنها وقف عليه، فكلام المؤلف يدل على أنها تصير وقفاً، وأن المتصدَّق عليه لا يبيعها، ولا ينقل ملكها؛ لأنها وقف، لكن لو ادعى المتصدَّق عليه أنها ملك، فهنا تعارض شيئان: ظاهر اللفظ، وباطن النية، فهل نقول: إن الإنسان أعلم بنيته، وأنه يُرجع إليه؛ لأنه أخرج ملكه على هذا الوجه فلا يخرج إلا على هذا الوجه، أو نقول: إن هذه دعوى خلاف الظاهر، وهي ممكنة؛ لأنه ربما يندم على الصدقة بها، ويدعي أنها وقف حتى تكون حبيسة؟
هنا ينبغي أن يتدخل فيها القضاء، وينظر هل هذا الرجل أمين ـ بحيث يكون ما ادعاه من النية صدقاً ـ أو غير أمين؟ ويحكم بالقرائن.
وإذا قال: حرَّمت سيارتي، فهذا يحتمل أن المعنى حرمها أي: حلف ألا يركبها؛ لأن التحريم يمين، كما قال الله تعالى:
(1)
أخرجه البخاري في بدء الوحي/ باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (1)؛ ومسلم في الإمارة/ باب قوله «إنما الأعمال بالنيات» (1907) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ *} {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 1، 2]، فيحتمل أن يقال: حرَّمتها، أي: حرَّمت ركوبها والانتفاع بها، وحينئذٍ يكون ذلك يميناً، فإذا كفر كفارة يمين عاد واستعملها.
فإذا قال: حرَّمت سيارتي، ثم رأيناه يريد أن يبيعها، فهنا نقول له: هل أنت نويت الوقف أو لا؟ فإذا قال: لم أنوِ الوقف، قلنا: بعها وكفِّر كفارة يمين، وإذا قال: إنه نوى الوقف صارت وقفاً.
الثاني: قوله: «أو اقتران أحد الألفاظ الخمسة» ، وهي ثلاثة ألفاظ صرائح، وكنايتان غير الكناية التي هي الصيغة؛ لأن الألفاظ ثلاث صريحة، وثلاث كناية، فاقتران أحد الألفاظ الخمسة، يعني الصرائح الثلاث والثنتين من الكناية.
مثاله: أن يقول: تصدقت صدقة موقوفة على زيد، فهنا ينعقد الوقف؛ لأنه قرن مع «تصدقت» أحد ألفاظ الوقف الخمسة وهي قوله:«موقوفة» . ولو قال: حرمت هذا تحريماً مؤبداً على زيد، فينعقد الوقف؛ لأنه قرنه بالتأبيد حيث قال:«تحريماً مؤبداً» .
ولو قال: أبدت هذا على زيد صدقة، فينعقد الوقف؛ لأنه اقترن به أحد الألفاظ الخمسة وهي «صدقة» .
الثالث: قوله: «أو حكم الوقف» ، يعني يقترن بها حكم الوقف، ومن أحكام الوقف أنه لا يباع، فإذا قال: تصدقت بهذا على زيد صدقة لا تباع، صار وقفاً، ولو قال: تصدقت على زيد صدقة، فلا يكون وقفاً؛ لأن المؤلف يقول:«أو حكم الوقف» .
وقوله: «أو حكم الوقف» كان الأولى أن يقول: «أو بما يدل على الوقف» ؛ لأنه أعم.
فمثلاً إذا قال: صدقة لا تباع، فهذا اقترن به حكم الوقف بأنه لا يباع، أو صدقة لا ترهن كذلك، وما يدل عليه كما لو قال: تصدقت بهذا على زيد ومن بعده عمرو، فهذا ليس فيه حكم الوقف، لكن فيه ما يدل على الوقف، وهو أنه جعله مرتباً، إذ أن الصدقة المحضة إذا تصدق بها على زيد لم تنتقل إلى غيره، وإذا قال: تصدقت به على فلان والناظر فلان، فهذا وقف أيضاً؛ لأن النظر إنما يكون في الأوقاف، فالتعبير بقوله: أو ما يدل على الوقف، أولى من قوله:(من حكم الوقف) لأن حكم الوقف غير شامل.
ولم يذكر المؤلف رحمه الله شروط الواقف، فيقال: يشترط في الواقف أن يكون عاقلاً، فلو قال المجنون: وقفت بيتي فإن الوقف لا يصح.
ويشترط أن يكون بالغاً، فلو قال مراهق: وقفت بيتي لطلبة العلم فلا يصح الوقف؛ لأنه غير بالغ.
وهل يشترط أن يكون جائز التبرع، بمعنى أنه ليس عليه دينٌ يستغرق مالَهُ؟ في هذا خلاف بين العلماء، وهو مبني على جواز تصرف من عليه دين، فإن قلنا بجواز تصرف من عليه دين يستغرق ماله، قلنا بجواز الوقف، وإن لم نقل ذلك قلنا: لا يصح وقفه.
والصحيح أنه لا يصح تبرعه؛ لأن من عليه دينٌ يستغرق ماله فقد شغله بالدين، وقضاء الدين واجب، والتبرع والصدقة مستحب، فلا يمكن أن نسقط واجباً بمستحب، فالصحيح أنه لا يصح منه
الوقف والعتق ولا يجوز له أن يتصدق، أما المذهب فيجوز إلا إذا حُجر عليه من قبل القاضي، فإنه لا يصح أن يتبرع.
ويشترط أن يكون جائز التصرف من باب أولى، فلو كان بالغاً عاقلاً لكنه سفيه لا يحسن التصرف في ماله فإنه لا يصح وقفه؛ لأنه ليس جائز التصرف، فإن كان لا يصح أن يبيع ماله فتبرعه به من باب أولى ألا يجوز، وأما شروط الوقف فقال:
وَيُشْتَرَطُ فِيهِ المَنْفَعَةُ دَائِماً مِنْ مُعَيَّنٍ يُنْتَفَعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ كَعَقَارٍ وَحَيَوَانٍ وَنَحْوِهِمَا،
«ويشترط فيه المنفعة» ، يعني يشترط للوقف شروط: أولاً: أن يكون فيه منفعة، فأما ما لا منفعة فيه فإنه لا يصح وقفه كما لا يصح بيعه، وأي شيء يستفيد الموقوف عليه من شيء لا منفعة فيه؟! كما لو أوقف حماراً هرماً، فهذا لا منفعة فيه؛ لأنه لا يركب ولا يحمل عليه، وإنما يؤذي بنفقته، فهذا لا يصح فيه الوقف؛ لأنه ليس فيه منفعة.
قوله: «دائماً» ، كذلك ـ أيضاً ـ لا بد أن تكون المنفعة دائمة، فإن كان من معيَّن فيه منفعة مؤقتة فإنه لا يصح وقفه.
مثال ذلك: رجل استأجر بيتاً لمدة عشر سنوات، ثم أوقف هذا البيت على شخص، فالوقف هنا لا يصح؛ لأن المنفعة غير دائمة، المنفعة مدة الإجارة فقط، ولأنه في الإجارة لا يملك المستأجر إلا المنفعة ولا يملك العين.
وهل يصح وقف عَبْدٍ حُكِمَ عليه بالسجن، ثم القتل بعد شهر مثلاً، أو لا يصح؟
الجواب: يصح؛ لأن منفعته الولاء؛ لأنه إذا أوقفه ثم أعتقه الموقوف عليه، وقلنا بصحته فله الولاء.
قوله: «من معيَّن» ، ضده المبهم، فلا يصح وقفه، مثل أن يقول: وقفت أحدَ بيتي، فهذا لا يصح؛ لأنه مبهم غير معين.
وظاهر كلام المؤلف أنه لا فرق بين أن تكون القيم متساوية أو غير متساوية؛ لأنه لم يعينه، والصحيح أنه إذا كانت متساوية فإنه يثبت الوقف.
مثال ذلك: إنسان عنده شقق متساوية من كل وجه، فقال: وقفت إحدى شققي على فلان، فهنا لا مانع؛ أولاً: لأنه عقد تبرع، والتبرع يتسامح فيه ما لا يتسامح في غيره.
ثانياً: أن القيم متساوية، فلا فرق بين اليمين أو الشمال، وكما أنه أحد القولين في مسألة البيع ـ وهو معاوضة مبنية على المشاحة ـ أنه إذا تساوت القيم جاز بيع المبهم، بأن يقول: بعت عليك إحدى هاتين السيارتين.
وقوله: «من معين» ظاهر كلامه أنه لا يصح وقف ما ليس بمعين، يعني ما لم تثبت عينه.
مثال ذلك: إنسان اشترى من شخص سيارة موصوفة، صفتها كذا وكذا، ثم أراد أن يوقفها، فهذه لا يصح وقفها؛ لأنها دين في الذمة غير معينة.
وظاهر كلام المؤلف: أنه لا يشترط أن يكون معلوماً، فلو وقف أحد عقاراته بدون أن يعلمه فإنه يصح وقفه؛ لأن هذا معين، والمذهب أنه لا يصح؛ لأنه مجهول، وإذا كان مجهولاً فإنه قد يكون أكثر مما قد يتصوره الواقف، والراجح صحة هذا؛ لأنه لم يجبر على الوقف؛ وليس الوقف مغالبة حتى يقول:
خدعت أو غلبت؛ بل الوقف تبرع أخرجه الإنسان لله تعالى، كما لو تصدّق بدراهم بلا عدٍّ فتصح وتنفذ ولا يصح الرجوع فيها؛ لأنه تصدَّق وتبرَّع؛ فلهذا كان الراجح أنه يصح وقف المعيّن وإن كان مجهولاً؛ لأنه تبرّع محض إذا أمضاه الإنسان نفذ.
قوله: «ينتفع به» ، أي: بهذا المعين.
قوله: «مع بقاء عينه» ، هذا هو الشرط المهم هنا، فإن كان لا يمكن أن ينتفع به إلا بتلف عينه فإنه لا يصح وقفه؛ لأن الوقف حبس الأصل وتسبيل المنفعة، فلو وقف جراب تمر على الفقراء فإنه لا يصح؛ لأنه لا يمكن الانتفاع به إلا بتلف عينه؛ لأن الفقراء سوف يأكلونه وإذا أكلوه لم تبق عينه، فلا بد أن يكون من معيَّن يُنتفع به مع بقاء عينه.
ولو وقف خبزاً على الفقراء فلا يصح؛ لأنه لا يمكن أن يُنتفع به مع بقاء عينه.
واستثنوا من هذا الماء، فقالوا: إن وقفه يصح؛ لأنه ورد عن السلف
(1)
، فيجوز أن يوقف هذه القربة على العِطَاش من المسلمين، فيقال: إن وروده عن السلف يدل على جواز مثله إذ لا وجه لاستثنائه.
(1)
من ذلك ما رواه الترمذي في المناقب/ باب في مناقب عثمان بن عفان رضي الله عنه (3699)«أنه اشترى بئر رومة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعلها للغني والفقير وابن السبيل» ، قال الترمذي: حديث حسن صحيح غريب، وفي رواية النسائي في الجهاد/ باب فضل من جهز غازياً (6/ 146) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له:«اجعلها سقاية للمسلمين، وأجرها لك» ، وأصل الحديث في البخاري في الوصايا/ باب إذا وقف أرضاً أو بئراً أو اشترط لنفسه مثل ولاء المسلمين (2778).
فالصواب أنه يجوز وقف الشيء الذي لا ينتفع به إلا بتلفه، فإذا قال: هذا الجراب من التمر وقف على الفقراء، قلنا: جزاك الله خيراً، وقبل منك، وهو بمنزلة الصدقة.
وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهو الصواب، أنه يجوز وقف الشيء الذي ينتفع به مع تلف عينه.
فإن وقف دراهم للقرض، وقال: هذه وقف لإقراض المحتاجين، فهل يصح أو لا يصح؟ على المذهب لا يصح؛ لأنه لا يمكن أن ينتفع بالدراهم إلا بتلفها، يأخذها المستقرض ويشتري بها حاجاته فتتلف.
والصحيح أن هذا جائز؛ لأنه إذا جاز وقف المعين الذي يتلف بالانتفاع به، فوقف مثل هذا من باب أولى؛ لأنه إذا استقرضه سيرد بدله ويكون دائماً.
إذاً الصواب جواز وقف الدراهم لإقراضها المحتاجين، ولا حرج في هذا، ولا دليل على المنع، والمقصود إسداء الخير إلى الغير.
قوله: «كعقار» ، مثل الدور والدكاكين والأراضي التي تزرع أو تستأجر أحواشاً أو مستودعات، فهذه يجوز أن يوقفها.
قوله: «وحيوان» ، الحيوان ينتفع به؛ لأنه إن كان مركوباً فبركوبه، وإن كان محلوباً فبحلبه، والحيوان يمكن أن ينتفع به مع بقاء عينه، فإن قال: وقفت هذه الشاة لِتُطْعَم للفقراء، فهل يصح أو لا يصح؟ على المذهب لا يصح؛ لأنه قيَّده بما يمكن الانتفاع به مع بقائه، فهو كما لو وقف التمر والأرز والبر وما أشبهه.
قوله: «ونحوهما» في الوقت الحاضر مثل السيارات، فيصح وقفها، وكذا الأقلام؛ لأنها تستعمل مع بقاء عينها، لكن الأقلام التي تستهلك مثل الرصاص، قد نقول: إن الرصاص الذي فيها بمنزلة المداد فيصح وقفها، وقد نقول: إن المقصود من هذا القلم هو الرصاصة التي فيه، ولا يمكن الانتفاع به إلا بتلفها، فلا يصح على المذهب.
ومن ذلك ـ أيضاً ـ الأقلام السابقة، فقد كانت الأقلام فيما سبق من أغصان الشجر اليابسة، تؤخذ وتُبْرَى بمبراة ويكتب بها ـ وقد أدركنا هذا ـ فهذه لا بد أن تتآكل، مثل أعواد الأراك فإنها تتآكل، فالظاهر أنه على قاعدة المذهب لا يصح، ولكن قد يقال بالصحة؛ لأن استهلاكها يسير والانتفاع بها يطول، وليست كالأكل، مثل التمر والبر وما أشبه ذلك.
فهذا الشرط الأول يشتمل على أكثر من شرط، فلا بد أن يكون فيه منفعة، وأن تكون دائمة، وأن يكون معيَّناً، وأن ينتفع به مع بقاء عينه، فهو شرط واحد يشتمل على أربعة شروط.
وَأَنْ يَكُونَ عَلَى بِرٍّ كَالمَسَاجِدِ وَالقَنَاطِرِ والمَسَاكِينِ والأَقَارِبِ مِنْ مُسْلِمٍ وَذِمِّيٍّ
…
قوله: «وأن يكون على بِرٍّ» ، هذا هو الشرط الثاني أن يكون على بِرٍّ، قال الإمام أحمد: لا أعرف الوقف إلا ما أريد به وجه الله، ولأن عمر رضي الله عنه أراد بوقفه التقرب إلى الله
(1)
.
وهذا الشرط فيه تفصيل، فإن كان على جهة عامة فإنه
(1)
سبق تخريجه ص (6).
يشترط أن يكون على بر، وإن كان على معين فإنه لا يشترط أن يكون على بِرٍّ، لكن يشترط ألا يكون على إثم، والفرق بين هذا وهذا يظهر بالمثال، فمثال الجهة العامة:
قوله: «كالمساجد» ، فلو عَمَرَ الإنسان مسجداً وأوقفه، فهذا على بِرٍّ، إلا إذا عمر مسجداً على قبر فهنا يحرم ولا يصح؛ لأن هذا ليس ببر، بل هو إثم.
أو بنى مسجداً من أجل أن تقام فيه البدع، فهذا ـ أيضاً ـ لا يصح؛ لأنه ليس على بر، فمراده بالمساجد، أي: التي على بر وتقوى.
فإن كان الوقف على مسجد معيَّن تعين فيه، ولا يجوز صرفه إلى غيره، وإن كان على المساجد عموماً وجب على الناظر أن يبدأ بالأحق فالأحق، سواء كانت هذه الأحقية عائدة إلى ذات المسجد أو إلى المصلين فيه.
قوله: «والقناطر» جمع قنطرة وهي الجسر على الماء للعبور عليها، فلو بنى قنطرة على نهر فهنا يصح أن يوقفها؛ لأنها على بر، ويصح أن يؤجرها لأنها ملكه.
فإذا قال قائل: القناطر يمشي عليها المسلم والكافر، فما الجواب؟
نقول: العبرة بالقصد، وهذا قصد البر، والكافر الذي يعبر عليها، إما أن يكون ممن تحل له الصدقة، وإما أن يكون ممن لا تحل له الصدقة، لكن يثبت تبعاً ما لا يثبت استقلالاً.
قوله: «والمساكين» ، المساكين جهة بر؛ لأنهم في حاجة، فإذا وقف هذا البيت على المساكين، فهذه جهة بر، ويقدم
الأحوج فالأحوج؛ لأن الحكم إذا علق بوصف ازداد قوة بحسب قوة الوصف فيه.
قوله: «والأقارب» أيضاً الأقارب نفعهم بر؛ لأنه من الصلة، فإذا قال: هذا وقف على أقاربي ـ ولو كانوا غير مسلمين ـ صح الوقف؛ لأن صلة القرابة من البر، والأقارب من الجد الرابع فنازل، فالإخوان والأعمام وأعمام الأب وأعمام الجد وأعمام جد أبيك فهؤلاء أقارب، ومن فوق الجد الرابع فليسوا بأقارب، وإن كان فيهم قرابة لكن لا يُعَدُّون من الأقارب الأدْنَيْن، ولهذا لما أنزل الله:{وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ *} [الشعراء]، لم يدع النبي صلى الله عليه وسلم كل قريب، بل دعى من شاركوه في الأب الرابع فما دون
(1)
.
والوصف هنا القرابة، فيقدم الأقرب، إلا إذا علمنا أن مراد الواقف دفع الحاجة دون الصلة، فيقدم الأحوج ولو بَعُد.
قوله: «من مسلم وذمي» ، يعني سواء كان القريب مسلماً أو كان ذمياً، أو معاهداً؛ لأن المعاهد والمُسْتأمِن والذمي كلهم معصومون، والصدقة عليهم جائزة، ولأن وصف القرابة ينطبق عليهم جميعاً وإن كانوا مخالفين في الدين، فإذا قال: هذا وقف على فلان، وهو ذمي، فلا بأس ولو كان كافراً؛ لأن الله يقول:{لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} [الممتحنة: 8].
(1)
أخرجه البخاري في الوصايا/ باب هل يدخل النساء والولد في الأقارب (2753)؛ ومسلم في الإيمان/ باب قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ *} (204) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وقوله: «من مسلم وذمي» ، كأن المؤلف أسقط المعاهد والمستأمن؛ لأن العهد لا يدوم، وكذلك الأمان لا يدوم، بخلاف عقد الذمة فالأصل فيه الدوام.
غَيْرَ حَرْبِيٍّ وَكَنِيسَةٍ وَنَسْخِ التَّوْرَاةِ والإِنْجِيلِ وَكُتُبِ زَنْدَقَةٍ ........
قوله: «غير حربي» ، الاستثناء هنا منقطع؛ لأن الحربي ليس من الذمي في شيء، فالحربي هو الكافر الذي ليس بيننا وبينه ذمة ولا عهد ولا أمان، يعني لا يصح الوقف على حربي، ولا على مرتد؛ لأن هؤلاء ليس لهم حرمة، ولا يُرَادون للبقاء، فإذا كان من شرط الوقف أن يكون الموقوف ذا بقاء، فالموقوف عليه من باب أولى، فهؤلاء ـ أي: الحربي والمرتد ـ الواجب قتلهم، إلا أن يسلموا، فإذا قال: هذا وقف على أخي، وأخوه حربي، فالوقف غير صحيح.
وإذا قال: هذا وقف على أخي، وأخوه لا يصلي فإنه لا يصح الوقف؛ لأنه إذا كان على معين فيشترط ألا يكون فيه إثم.
قوله: «وكنيسة» وهي متعبَّد النصارى، يعني بمنزلة المساجد للمسلمين، والبيعة لليهود، والصومعة للرهبان، فإذا وقف على الكنيسة فإن الوقف لا يصح، فَدُورُ الكُفْرِ لا يصح الوقف عليها لقوله تعالى:{وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2].
وظاهر كلام المؤلف سواء كان المُوقِف مسلماً أو نصرانياً؛ لأنه إن كان مسلماً فالأمر ظاهر، وإن كان نصرانياً، فالحكم بصحة الوقف إعانة لهم على الإثم، ولا يحل، فإذا وقف النصراني على الكنيسة أبطلنا الوقف؛ لأن هذه جهة، والجهة لا بد أن تكون على بر.
وذهب بعض أهل العلم إلى أنه إذا كان الذي أوقف على
الكنيسة نصرانياً فإن الوقف يصح؛ لأنهم يدينون لله تعالى ـ وإن كان دينهم باطلاً ـ ببناء الكنائس والإنفاق عليها، ونحن نقرهم على دينهم، والمال ليس مالنا حتى نقول: لا يمكن أن يصرف مال المسلم في معابد الشرك، فالمال ماله هو، وهذا ليس ببعيد إذا لم يتحاكموا إلينا، فإن تحاكموا إلينا وجب الحكم بينهم بما أنزل الله.
قوله: «ونَسْخِ التوراة والإنجيل» ، يعني لا يجوز الوقف على نسخ التوراة، فلو أوقف مالاً لنسخ القرآن الكريم، ومالاً لنسخ التوراة، ومالاً لنسخ الإنجيل، فالأول يصح؛ لأنه قربة، والثاني والثالث لا يصح؛ لأن هذه الكتب كتب محرفة من حيث ذاتها، منسوخة من حيث أحكامها، فلا يعتمد عليها إطلاقاً، وما فيها من حق فقد تضمنته الشريعة الإسلامية.
فلا يجوز لأحد أن ينسخ التوراة أو الإنجيل أو يقرأها أو يوزعها؛ لأن فيما أنزل الله علينا كفاية؛ ولأن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، فربما يزيِّن له شيئاً من التوراة والإنجيل يصده عن القرآن.
وهل يجوز للنصراني ـ مثلاً ـ أن يوقف شيئاً لنسخ الإنجيل؟ فيه تفصيل إن كان على نسخ ونشر فإننا نمنعه، وإن كان على نسخه لينتفع به النصارى فقط، فقد يقال: لا بأس به، على أن في نفسي منه شيئاً؛ لأنه يمكن أن يوزع على الناس، فخطره أعظم من تعمير الكنيسة، وقد يقال بالمنع.
قوله: «وكتب زندقة» ككتب الشيوعية، أو كتب البدع المكفرة أو المفسقة، فلا يجوز الوقف عليها، فلو أوقف إنسان
شيئاً على مؤلفات الزنادقة، فإنه لا يصح الوقف؛ لأنه إعانة على الإثم والعدوان.
فإذا وقف الشيوعي على نشر كتب الشيوعية، فهل نقول: هذا كإيقاف النصراني على نسخ الإنجيل؟ لا؛ لأن النصراني له شبهة، فالإنجيل مُنزل من عند الله، لكنه محرف ومنسوخ، بخلاف الشيوعي فكتب الشيوعية كتب ضلال وإلحاد، وليست من عند الله، فيمنع من إثبات الأوقاف فيها والعمل بها مطلقاً، وكذلك كتب البدع يمنع، فلا يوقف أي شيء في بلاد الإسلام على نسخ كتب البدع.
الخلاصة: أنه إذا كان الوقف على جهة فلا بد أن يكون على بر، وإذا كان على معين فلا يشترط أن يكون على بر؛ لأنه قد يقصد منفعة هذا المعين بعينه، لا التقرب إلى الله عز وجل، لكن يشترط ألا يكون فيه إثم، فإذا كان على إثم فلا يصح، ولنضرب لهذا أمثلة:
وقف على المساكين يصح؛ لأنه بر.
وقف على الأغنياء، لا يصح؛ لأن هذه جهة، والجهة لا بد أن يكون الوقف فيها على بر، والأغنياء ليسوا أهلاً للصدقة.
وقف على ضارب الدفوف، فيه تفصيل: إذا كان على ضاربات الدفوف في العرس، فهذا يجوز؛ لأنه قربة، ويسن إعلان النكاح والدف فيه للنساء.
وإذا كان على لاعبي الكرة، فهذا لا يصح؛ لأن هذه جهة، ولا بد أن تكون على بر، وهذا ليس ببر.
ولو وقف على فلان اليهودي فهذا يصح؛ لأنه على معين.
ولو وقف على نصراني معين، فهذا يصح؛ لأن هذا مما لم ننه عن بره، والوقف بر وليس فيه نهي، فالواقف لم يرتكب ما نهى الله عنه، ولم يصدق عليه أنه عمل عملاً ليس عليه أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله قد أذن في ذلك.
ولو وقف على داعية للنصرانية؛ فهذا لا يصح؛ لأن هذا معناه تشجيع هذا الرجل على باطله، ومن باب أولى أن يوقف على الكنائس والصوامع والبيع، وما أشبه ذلك.
وَكَذَا الوَصِيَّةُ وَالوَقْفُ عَلَى نَفْسِهِ،
.....
قوله: «وكذا الوصية» ، يعني أن الوصية لا تصح على جهة عامة إلا أن تكون على بر، أما إذا كانت على جهة معينة كشخص معين، فلا بأس ألا تكون على بر، لكن لا يجوز أن تكون على إثم.
والفرق بين الوصية والوقف:
أولاً: أن الوقف عقد ناجز، فإذا قال الرجل: وقفت بيتي، أو وقفت سيارتي، أو وقفت كتبي، فيكون وقفاً في الحال.
والوصية تكون بعد الموت، فيقول مثلاً: أوصيت بداري للفقراء.
ثانياً: أن الوقف ينفذ من جميع المال، فلو وقف جميع ماله نفذ، إلا أن يكون في مرض موته المخوف.
والوصية لا تكون إلا من الثلث فأقل، ولغير وارث، وما زاد على ذلك، أو كان لوارث، فلا بد من موافقة الورثة على هذه الوصية.
فلو قال: أوصيت ببيتي لفلان، ثم توفي، وحصرنا تركته
بعد موته فوجدنا أن هذا البيت أكثر من الثلث، فالذي ينفذ من البيت ما يقابل الثلث فقط، فإذا كان هذا البيت النصف فإنه ينفذ منه ثلثاه؛ لأن ثلثي النصف بالنسبة للكل ثلث.
لكن لو أجاز الورثة وقالوا: ليس عندنا مانع، فإن ذلك لا بأس به، وهذه هي قاعدة المذهب، وسيأتي ـ إن شاء الله ـ الكلام عليها، وتحريرها.
قوله: «والوقف على نفسه» يعني لا يصح، بأن يقول: وقفت على نفسي بيتي الفلاني، قال الإمام أحمد: لا أعرف الوقف إلا ما أخرجه لله.
والمُوقف على نفسه لم يصنع شيئاً؛ لأنه أخرج ملكه إلى ملكه، فما الفائدة؟
فإن قالوا: الفائدة ألا يبيعه؛ لأن الوقف لا يجوز بيعه، قلنا: ومن الذي يجبره على بيعه؟! يبقيه حراً غير وقف ولا يبيعه.
فإن قال: أخشى أن تغلبني نفسي على بيعه، فأوقفه على نفسي، فهنا تكون الفائدة، فإذا كان الإنسان يخشى على نفسه أن يبيع بيته فأوقفه على نفسه خوفاً من ذلك، فهذه فائدة، ولا شك أن لها وزناً وقيمة؛ ولذلك اختلف العلماء رحمهم الله هل يصح أن يقف الإنسان على نفسه أو لا؟
فالمذهب: أنه لا يصح، وعليه فيرجع الوقف إليه ملكاً؛ لعدم صحته، فيجعل عقد الوقف وعدمه سواء.
ولكن إذا وقفه على نفسه ثم ذكر أحداً بعد نفسه انتقل إليهم في الحال، مثل أن يقول: هذا وقف على نفسي، ومِنْ بَعْدِي على
أولاد فلان، فنقول: ينتقل في الحال إلى أولاد فلان، ولا يصح أن يقف على نفسه، ومثل ذلك لو وَقَّف على نفسه ثم طلبة العلم، انتقل مباشرة إلى طلبة العلم.
أما إذا لم يذكر أحداً بعده، بأن قال: وقفت هذا على نفسي، وسكت، فالوقف لا يصح ويبقى ملكاً حراً غير وقف؛ لأن هذا الوقف لم يصح، ولم يُذكر له مآل يُصرف إليه، فيرجع إلى الواقف.
والحقيقة أن قولهم: إنه يصرف إلى من بعده وقفاً، يؤيد القول بأن الوقف على النفس صحيح؛ لأننا إذا قلنا: إنه لا يصح وجب ألا يصح، ولا يصرف إلى من بعده، إذ كيف يصرف إلى من بعده وهو لم يكن وقفاً صحيحاً؟!
والقول الثاني: أنه يصح الوقف على النفس، اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وجماعة من العلماء المحققين؛ لأن الوقف على النفس فيه فائدة، وهي الامتناع من التصرف فيه، فلا يبيعه ولا يهبه ولا يرهنه، وأنه إذا مات صرف مصرف الوقف المنقطع، ولم يكن ميراثاً للورثة.
ولكن لو فعل هذا تحيلاً لإسقاط حق الغرماء، مثل أن يكون رجلاً مديناً، فأوقف بيته على نفسه لئلا يُباع في دَينه، فالوقف هنا غير صحيح، حتى لو فرض أنه وقفه على غير نفسه حيلة ألا يباع في الدَّين، فإنه لا يصح الوقف، وهذا هو القول الراجح أن الإنسان الذي عليه دَين يستغرق ماله، فإنه إذا أوقف شيئاً من ماله لا يصح؛ لأن ماله الآن تعلق به حق الغرماء؛ ولأن
وفاء الدين واجب والوقف سنة، ولا يمكن أن تقوى سنة على إسقاط واجب.
ولكن لو وقف وقفاً معلقاً بصفة، واتصف الواقف بهذه الصفة، مثل أن يقول: هذا وقف على طلبة العلم أو الفقراء، ثم أصبح الواقف طالبَ علم أو فقيراً فإنه يصح؛ لأنه لم يوقفه على نفسه ابتداءً.
وَيُشْتَرَطُ فِي غَيْرِ المَسْجِدِ وَنَحْوِهِ أَنْ يَكُونَ عَلَى مُعَيَّنٍ يَمْلِكُ لا مَلَكٍ وَحَيَوَانٍ وَحَمْلٍ وَقَبْرٍ لا قَبُولُهُ وَلَا إِخْرَاجُهُ عَنْ يَدِهِ.
قوله: «ويشترط في غير المسجد ونحوه أن يكون على معيَّن يَملِك» ، هذا هو الشرط الثالث، فيشترط أن يكون على معيَّن يَملِك.
وقوله: «في غير المسجد» مثل المكتبة، أو الكتب، وما أشبه ذلك.
وقوله: «ونحوه» يريد به الجهات العامة، كالفقراء وطلبة العلم والمجاهدين وما أشبه ذلك، فإذا كان على جهة فإنه لا يشترط في الموقوف عليه أن يكون معيناً يملك فيشترط في غير الجهة أن يكون على معين يملك، فإذا أوقف هذا البيت على مسجد يصرف ريعه في مصالح المسجد، فهذا معين لكنه لا يملك، وإذا أوقف على الفقراء، فهو غير معين ولكنه يملك، ونحن نشترط أن يكون على معين ويملك.
فصار الوقف على جهة لا تملك لا بأس به، والوقف على جهة عامة ولو كانت تملك لا بأس به.
وقوله: «أن يكون على معين» ضده المبهم، فإذا قال: هذا وقف على زيد أو عمرو، أو على أحد هذين الرجلين، فالوقف
غير صحيح؛ لأنه غير معين، ولا ندري من هو الذي له الوقف من هذين.
وقال بعض العلماء: يصح ويخرج أحدهما بقرعة؛ لأن هذا أقرب إلى مقصود الواقف، إذ إن الواقف يريد أن يبر أحد هذين ولكن لا يدري أيهما أصلح، وهذا القول أقرب للصواب اتباعاً لمقصود الواقف، فالواقف أخرج هذا عن ملكه ولا يريده، لكن أشكل عليه هذا أو هذا، فقال: هو وقف على أحد هذين الرجلين إما فلان وإما فلان، فهنا يخرج بقرعة.
لكن لو قال: إما فلان، وإما فلان، والنظر لفلان الثالث، فهنا نقول لفلان الناظر: أعطه من ترى أنه أصلح، فإذا كان أحدهما أشد حاجة، أو أشد طلباً للعلم، أو ما أشبه ذلك فلا حرج أن يُعْطى إياه؛ لأننا نعلم أن مقصود الواقف هو البر والإحسان.
ولا بد أن يكون المعين يملك، فإن كان على معين لا يملك لم يصح، مثاله:
قوله: «لا مَلَكٍ» ، فلو وقف على مَلَك معيَّن، كجبريل مثلاً، قال: هذا وقف على جبريل عليه السلام؛ لأنه أمين الله على وحيه، فهذا لا يصح؛ لأنه لا يملك، وإذا كان لا يملك فلا يصح.
قوله: «وحيوان» ، مثل أن يقول: هذا وقف على فرس فلان، فهذا لا يجوز؛ لأن الفرس لا يملك، أما لو قال: على خيول الجهاد، فهذه جهة وليست بمعين، فيصح؛ لأنها عامة،
وكلامنا على المعين فلا بد أن يكون ممن يملك، لكن لو تأملت مقصود الواقف حينما قال: هذا وقف على الفرس الفلاني، وهو يريد أن ينفع هذا الفرس؛ لأنه يقاتل عليه في سبيل الله، فهنا يصح على ما نراه.
فالقول الثاني في الحيوان: أنه إذا كان هذا الحيوان مما ينتفع به في الدِّين، أو له عمل بر، فلا بأس أن يوقف عليه، ويصرف في مصالحه في رعيه، أو في بناء حجرة له في الشتاء أو في الصيف أو ما أشبه ذلك، فإن استغنى عنه صرف فيما يشابهه.
قوله: «وحمل» ، كذلك لا يصح الوقف على الحمل في البطن، مثل أن يقول: هذا وقف على ما في بطن هذه المرأة، فهنا لا يصح؛ لأن الحمل لا يملك، وإذا كان لا يملك الإرث مع قوة نفوذه فهنا من باب أولى، وإذا كان لا يملك فإنه لا يصح الوقف عليه، لكن يصح عليه تبعاً، كما لو قال: على فلان ومن يولد له فلا بأس، وأما استقلالاً فلا؛ وذلك لأن الحمل لا يملك.
ولو ذهب ذاهب إلى صحة الوقف على الحمل أصالة لم يكن بعيداً، ونقول: إن خرج هذا الحمل حيًّا حياة مستقرة استحق الوقف، وإلا بطل الوقف ما لم يذكر له مآلاً.
مثال ذلك: رجل قال: هذا وقف على ما في بطن زوجة ابني، فما المانع من الصحة؟! فيقال: إذا وضعت طفلاً حيًّا حياة مستقرة صار الوقف له، وإلا بأن وضعت ميتاً بطل الوقف، إلا أن يذكر له مآلاً، مثل أن يقول: هذا وقف على ما في بطن زوجة
ابني ثم المساكين، فإنه ينتقل إلى المساكين إذا خرج الحمل ميتاً، فلو قال أحد بهذا لكان قولاً وجيهاً.
قوله: «وقبر» ، فلو وقف على القبر فالوقف غير صحيح؛ لأن القبر لا يملك، ولأنه وسيلة إلى المحرم؛ لأنه لا ينتفع القبر بهذا، فإذا قال: أنا لا أريد أن أُزَوِّقَ القبر، أو أعلق عليه السرج أو ما أشبه ذلك، لكن أريد إذا انخسف أن يجدد؛ لأنه في بعض الأحيان تكثر الأمطار، وتنزل إلى اللبن الموضوع على اللحد ثم ينخسف القبر، فيحتاج إلى ترميم، فإننا نقول: لا يجوز حتى في هذه الحال؛ لأن هذه حال نادرة، فلا تصح.
فإذا قال قائل: إذا كان القبر قبرَ وَلِيٍّ له سدنة وله خدم وله زوار، فإننا نقول: هذا لا يصح من باب أولى؛ لأنه وسيلة إلى الشرك، وقد يكون شركاً أكبر لمن يزورونه.
قوله: «لا قبوله» ، يعني لا يشترط في الوقف على معين أن يقبله ذلك المعين، ولا في الوقف على جهة أن يقبله الولي على تلك الجهة، أو جميع أفراد هذه الجهة، فلا يمكن أن نحيط بجميع الفقراء ونسألهم هل يقبلون أو لا؟
فإذا قال: هذا البيت وقف على فلان، وقال فلان: أنا لا أريده، نقول: الوقف الآن نفذ ويصرف إلى من بعده إن ذكر له مآلاً، وإلا صرف مصرف الوقف المنقطع، وسيأتي ـ إن شاء الله ـ بيان لمن يكون الوقف إذا انقطع من يستحقونه.
وقوله: «لا قبوله» ، نص على نفي كون القبول شرطاً؛ لأن من العلماء من قال: إن الوقف على معين يشترط قبول المعين له،
وهذا القول جيد؛ لأننا كيف نلزم الشخص أن يُدخل ملكه هذا الشيء بدون رضاه؟!
فإذا قال: أنا لا أقبل، كما لا أقبل أن تهدي لي هدية، أو تهب لي هبة، لا أقبل أن توقف علي شيئاً، فالقول بأنه لا بد من قبول المعين إذا وُقِفَ عليه الوقف قول قوي، أقوى من القول بعدم اشتراطه.
قوله: «ولا إخراجه عن يده» ، يعني ولا يشترط إخراج الوقف عن يد الواقف، فلو وقف البيت وبقيت يده عليه، فالوقف يخرج عن ملكه وإن لم يخرج عن يده، ولهذا لو أن إنساناً وضع دراهم في جيبه على أنها صدقة، ثم بدا له ألا يتصدق، فهذا يجوز ولا بأس به، فهي ما دامت في يدك إن شئت أمضيتها وإن شئت رددتها، لكن الوقف إذا وقف نفذ ولو كان تحت سيطرته وتحت يده.
فالشروط التي ذكرها المؤلف رحمه الله هي:
الأول: دوام المنفعة، فلا يصح توقيف العين التي تتلف بالانتفاع بها.
الثاني: أن يكون الموقوف معيَّناً، فلا يصح: وقفت أحد هذين البيتين.
الثالث: أن يكون على بر، إذا كان على جهة عامة.
الرابع: أن يكون على معين يملك.
الخامس: قبوله على قول من يرى أنه يشترط قبوله، أما على القول الثاني فليس بشرط.
فَصْلٌ
ويَجِبُ العَمَلُ بِشَرْطِ الوَاقِفِ فِي جَمْعٍ وَتَقْدِيمٍ وَضِدِّ ذَلِكَ واعْتِبَارِ وَصْفٍ وَعَدَمِهِ وَتَرْتِيبٍ وَنَظَرٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ،
..............
قوله: «ويجب العمل بشرط الواقف» ، أي: على من كان ناظراً على الوقف، وسيأتي بيان من هو الناظر.
وقوله: «بشرط الواقف» ، أي: بما شرط من وصف أو قيد أو إطلاق أو جهة أو غير ذلك، فلا يُرجع في ذلك إلى رأي الناظر، بل إلى ما شرط الواقف، فيُعمل به بشرط ألاّ يخالف الشرع، والدليل: أن الله عز وجل قال في الوصية: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ *} [البقرة]، فبيَّن الله ـ تعالى ـ أن من بدل الشرط الذي اشترطه في نقل ملكه بعدما سمعه فعليه الإثم، وهدد من التبديل بقوله:{إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} ، ومن السنة أن عمر رضي الله عنه اشترط في إيقافه في خيبر شروطاً
(1)
، ولولا أنه يجب تنفيذها لكان اشتراطه لها لا فائدة منه.
والتعليل لأن الواقف أخرج ملكه عن هذا الموقوف على وصف معين، فلا يجوز أن يتجاوز به إلى غيره.
وظاهر كلام المؤلف أنه لا يجوز ولو كان ذلك فيما هو أفضل، وهذه المسألة اختلف فيها العلماء:
فمنهم من يقول: إن الواقف إذا شرط شروطاً في الوقف، ورأى الناظر أن غير هذه الشروط أنفع للعباد، وأكثر أجراً للمُوقف، فإنه لا بأس أن يصرفه إلى غيره.
أما الأولون فقالوا: إن هذا الرجل أخرج ملكه عن هذا
(1)
سبق تخريجه ص (6).
الوقف على وجه معين، فلا يجوز أن يتصرف في ملكه إلا حسب ما أخرجه عليه.
وأما الآخرون الذين قالوا بالجواز فيقولون: إن أصل الوقف للبر والإحسان، فما كان أبر وأحسن فهو أنفع للواقف وللناس، واستدل هؤلاء بأن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه رجل عام الفتح وقال: يا رسول الله إني نذرت إن فتح الله عليك مكة أن أصلي في بيت المقدس، فقال له:«صل هاهنا» ، فأعاد عليه فقال:«صل هاهنا» ، فأعاد عليه فقال:«شأنك إذاً»
(1)
.
والوقف شبيه بالنذر، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أجاز للناذر أن ينتقل إلى الأفضل فالواقف كذلك، وهذا القول هو الصحيح أنه يجوز أن يغير شرط الواقف إلى ما هو أفضل، ما لم يكن الوقف على معين، فإن كان الوقف على معين فليس لنا أن نتعدى، فلو قال: وقف على فلان، فلا يمكن أن نصرفه إلى جهة أفضل؛ لأنه عيَّن، فتعلق حق الخاص به، فلا يمكن أن يغير أو يحوَّل.
قوله: «في جمع» ، بأن يقول: هذا وقف على أولادي وأولادهم، فيكون الوقف على الأولاد وأولادهم مجموعين، فإذا كان له ثلاثة أولاد، وثلاثة أولاد ابن، فيقسم الوقف على ستة؛ لأنه جمعهم، والواو تقتضي الجمع، فيقسم بينهم بالسوية جميعاً بدون ترتيب.
(1)
أخرجه الإمام أحمد (3/ 263)؛ وأبو داود في الأيمان والنذور/ باب من نذر أن يصلي في بيت المقدس (3305)؛ والحاكم (4/ 304) عن جابر رضي الله عنه. وصححه الحاكم وابن دقيق العيد، انظر: التلخيص (2067).
قوله: «وتقديم» ، يعني إذا شرط تقديم من يتصف بوصف معين، مثل أن يقول: هذا وقف على أولادي، ويقدم طالب العلم.
ومعنى كونه يقدم: أنه يعطى كفايته من الوقف، والباقي للآخرين، ففي التقديم لا يُحرَم المؤخر؛ لأن هذا ليس ترتيباً بل هو تقديم وتأخير، فيستحقه الجميع، لكن يقدم من قدمه الواقف.
وإذا قال: هذا وقف على أولادي، يقدم الأعزب منهم، فهل نَفِي بالشرط أو لا؟
ينظر، قد نقول: لا يوفى بالشرط؛ لأن العزوبة ليست أمراً مرغوباً فيه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج»
(1)
، لكن لو لاحظ أمراً آخر، بأن قال: يقدم من ماتت زوجته، فهذا لا بأس به؛ لأنه أراد بذلك جبر هذا الأعزب الذي ماتت زوجته، ولعله أن يتزوج، فإذا كان هذا الواقف يريد أن يجعل العزوبة وصفاً للاستحقاق بدون سبب شرعي، فإن هذا الشرط ملغى؛ لأنه خلاف ما يومئ إليه الشرع، وما يريده الشرع، وكل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل.
قوله: «وضد ذلك» ، ضد الجمع التفريق، وضد التقديم التأخير.
التفريق مثل أن يكون له ستة أولاد، فيقول: هذا وقف على
(1)
أخرجه البخاري في النكاح/ باب من لم يستطع الباءة فليصم (5066)؛ ومسلم في النكاح/ باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه (1400) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
أولادي فلان وفلان وفلان، ويترك الآخرين، فهذا تفريق، فيستحقه هؤلاء الثلاثة، والآخرون لا يستحقون شيئاً؛ لأنه فرق بينهم، فهذه هي الصورة، أما هل يجوز أن يفرق فيعطي أحداً ويحرم أحداً؟ هذا لا يجوز لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم»
(1)
.
وضد التقديم التأخير، فيقول: هذا وقف على أولادي يؤخر من يتكاسل عن الصلاة، فهنا نعطي من لا يتكاسل ونؤخر من يتكاسل، حتى لو فرض أن من يتكاسل أحق بالمال من الآخرين فإننا لا نعطيه؛ لأن الواقف شرط أن يُؤَخر من اتصف بهذه الصفة.
قوله: «واعتبار وصف» ، يعني ويجب العمل بشرط الواقف في اعتبار وصف، مثل أن يقول: وقفت على أولادي طلبة العلم منهم، فهذا اعتبار وصف، والوصف هو طلب العلم، فيعطى طلبة العلم ويحرم الآخرون، أو الفقر فيقول: وقفت على أولادي الفقراء منهم، فهنا يستحق الفقراء ولا يستحق الأغنياء؛ لأنه قيده بوصف، ومثل أن يقول: وقفت على أولادي المتزوجين منهم، فإنه يصح؛ لأن التزوج صفة مقصودة للشرع، ولأن المتزوجين في الغالب أحوج من غير المتزوجين.
قوله: «وعدمه» ، بأن يقول: هذا وقف على أولادي لا
(1)
أخرجه البخاري في الهبة/ باب الإشهاد في الهبة (2587)؛ ومسلم في الهبات/ باب كراهية تفضيل بعض الأولاد في الهبة (1623) عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما.
يعطى الأحمق منهم، أو دون الأحمق منهم، فهذا يعتبر عدم وصف، فاعتبار الوصف إيجابي، واعتبار عدمه سلبي.
قوله: «وترتيب» ، الترتيب أن يأتي بما يدل على الترتيب، مثل أن يقول: هذا وقف على أولادي ثم أولادهم، أو وقف على أولادي بطناً بعد بطن، أو وقف على أولادي فإذا عدم البطن الأول فللثاني، فهذا نسميه ترتيباً، ولا يختص بـ (ثم)، فكل ما دل على الترتيب نعمل به.
لكن إذا قال قائل: ما الفرق بين الترتيب والتقديم؟
فالجواب: أنه في الترتيب لا يستحق البطن الثاني شيئاً مع البطن الأول، وفي التقديم يستحق البطن الثاني مع الأول ما فضل عن الأول، فالبطن الأول والثاني كلاهما مستحق لكن يقدم البطن الأول، فيمكن أن يشترك البطن الأول والثاني في مسألة التقديم، مثل أن يقول: هذا وقف على أولادي يُقدم الأحوج، فإذا أعطينا الأحوج ما يكفيه ـ لأن الريع كثير ـ وبقي بقية أعطينا البطن الثاني ما يحتاجه منها، لكن لو قال: وقف على أولادي، ثم أولادهم وكان الريع كثيراً، وأعطينا الأولاد حاجتهم وزاد أضعافاً، فهل نعطي البطن الثاني شيئاً؟ لا؛ لأنه قال:(ثم) وما بعد (ثم) لا يشارك ما قبلها لوجود الترتيب، ولو قال: بطناً بعد بطن، فكذلك هو ترتيب.
وإذا قال: وقف على أولادي ثم أولادهم، فمات أحد أولاده عن أولاد، فهل يستحقون شيئاً؟ هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء، المشهور من المذهب أنه ليس لأولاد المتوفى شيء
مع أعمامهم، فليس للبطن الثاني شيء مع وجود واحد من البطن الأول.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله: بل لهم مع أعمامهم؛ وعلَّله بأنه لما مات الولد هنا استحق ولده؛ لأن الغالب أن الجد لا يقصد حرمان أولاد ابنه مع وجود أعمامهم، بل ربما تكون نظرته إلى أولاد ابنه الذين انكسروا بموت أبيهم أشد شفقة من نظرته إلى أولاده، لكن لو كان هناك عُرف شائع بأن مثل هذه العبارة ترتيب بطن على بطن، وأنه لا يستحق البطن الثاني مع الأول شيئاً، فإننا نرجع إلى العرف، وخير من ذلك أن يصرح الموقِفُ فيقول: من مات عن ولد فنصيبه لولده.
قوله: «ونظر» ، النظر يعني الولاية، والأولياء الذين يتصرفون لغيرهم أربعة أقسام: الوكيل، والوصي، والناظر، والولي.
فالوكيل: يكون في حال الحياة، كما لو وكل فلاناً أن يشتري له شيئاً معيناً فاشتراه.
الوصي: من أُذِن له في التصرف بعد الموت، مثل أن يقول: أوصيت لفلان بألف درهم، والوصي فلان، يعني الذي يأخذ الألف ويعطيه الموصى له هو فلان، أو يقول: أوصيت إلى فلان بالنظر على أولادي الصغار.
الناظر: هو الوكيل على الوقف، ولهذا يغلط كثير من الذين يكتبون الأوقاف، يقول مثلاً: وقفت بيتي، أو نخلي على أولادي والوكيل فلان، فهذا غلط، والصواب أن يقال: والناظر فلان، ولكن لما كان الذين يكتبون للناس غالبهم لم يتعمقوا في الفقه،
صاروا لا يفرقون بين الوكيل والوصي والناظر، فالكل عندهم وكيل، حتى الوصي بعد الموت يسمونه وكيلاً، ولو جاءت هذه الوثيقة لقاضٍ لا يعرف العرف، لقال: إن هذا بطلت وكالته، يعني مثلاً لو قال: وكيلي على ملكي، أو على أولادي الصغار، أو ما أشبه ذلك فلان، ثم مات انفسخت الوكالة، ولهذا ينبغي للذين يكتبون الوثائق للناس أن يكون لديهم دراية وعلم بالألفاظ ودلالاتها الشرعية.
الولي: من كان يتصرف بإذن من الشارع؛ لأن كل مَنْ ذكرنا من وكيل ووصي وناظر يتصرفون بإذن المالك، لكن إذا كان التصرف بإذن من الشارع سمي ذلك ولاية، كولي اليتيم مثلاً، لا أحد من الناس ولاه، بل ولاه الله عز وجل، وكولاية الأب على مال ولده، فهذه ولاية لم تكن بإذن من العبد.
إذاً الناظر يُرجَع في تعيينه إلى الواقف؛ لأنه أعلم بوقفه ويتعين بالوصف أو بالشخص، فإذا قال: هذا وقف على الفقراء والناظر فلان، تعين أن يكون الناظر فلاناً، فلو أرادت جهة أن تأخذ هذا الوقف؛ لأنه عام، فليس لها الحق مع وجود ناظر خاص، والمُوقِف أخرج الوقف عن ملكه مقيداً بناظر معين، فلا اعتراض لأحد عليه، لكن إن خِيف منه ألا يقوم بالأمانة على وجهها فلهذه الجهة أن تعين ناظراً معه؛ لأن هذا على جهة عامة.
وهل يصح أن يخصص الواقف بعض الموقوف عليهم بالنظر؟
نعم يصح، فلو قال: هذا وقف على أولادي والناظر فلان من الأولاد، صح ذلك ولا أحد يعترض عليه، اللهم إلا إن خرج عن مقتضى الأمانة، فهذا شيء آخر.
قوله: «وغير ذلك» يعني ليست هذه الثمانية حصراً، بل بجميع ما يشترطه الواقف بشرط عدم مخالفته للشرع؛ وعلة وجوب الرجوع إلى شرط الواقف؛ أنه أخرج هذا عن ملكه على وصف معين وشرط معين، فلا يجوز لنا أن نتصرف فيه إلا حسب ما أخرجه به عن ملكه.
فَإِنْ أَطْلَقَ وَلَمْ يَشْتَرِطْ اِسْتَوَى الغَنِيُّ والذَّكَرُ وَضِدُّهُمَا والنَّظَرُ للمَوْقُوفِ عَلَيْهِ،
قوله: «فإن أطلق» الفاعل الواقف.
قوله: «ولم يشترط» شيئاً معيناً.
قوله: «استوى الغَنِيُّ والذَّكَرُ وضِدُّهما» ، فإن أطلق ولم يشترط شيئاً لا ناظراً ولا وصفاً ولا تقديماً ولا تأخيراً، فإنه يستوي الغني والذكر وضدهما، وضد الغني الفقير، وضد الذكر الأنثى، فإذا قال: هذا وقف على أولادي وسكت، فهو لأولاده الذكر والأنثى، والصغير والكبير، والغني والفقير على السواء، ليس للذكر مثل حظ الأنثيين؛ لأن هذا ليس تمليكاً تاماً، وإنما هو تمليك استحقاق؛ ولذلك لا يملك هؤلاء الذين وقف عليهم أن يبيعوه، أو يرهنوه، أو يوقفوه، فليس كالهبة، فالهبة يجب أن يجعل للذكر مثل حظ الأنثيين، لكن الوقف لا.
فإذا قال: هذا وقف على أولادي، وله أربعة أبناء وأربع بنات قُسِمَ على ثمانية أسهم، للذكر كالأنثى؛ ووجه ذلك أنه
أخرجه عن ملكه لهم على وجه الاستحقاق لا التملك، ولذلك لا يملكون بيعه، ولا رهنه، ولا هبته، ولم أجد أحداً خالف في هذه المسألة.
قوله: «والنظر للموقوف عليه» ، يعني إذا أطلق ولم يشترط فالنظر يكون للموقوف عليه، هذا إذا وقف على معين، فإن وقف على جهة، أو على ما لا يملك فالنظر للحاكم، أي: للقاضي.
فالآن إذا وقف على معين ولم يشترط ناظراً فالنظر للموقوف عليه؛ لأنه هو المستحق، وإذا كان الموقوف عليهم عدداً، صار لكلٍّ نظرٌ بقدر نصيبه؛ لأن كل واحد منهم مستحق، ومعنى بقدر نصيبه، أنه لو أمكن أن يجزأ الوقف ـ وهم ستة مثلاً ـ إلى ستة أجزاء، وكل واحد ينظر على سدس فلا بأس.
وهل يصح أن يوقف على معين، ويشترط الناظر مِنْ هذا المعين؟ نعم يصح.
وإذا وقف على معين بالوصف، مثل أن يقول: هذا وقف على إمام المسجد، أو على مؤذن المسجد، أو على المدرس في هذه المكتبة، فهل النظر له أو للقاضي؟
هذا فيه جهتان، جهة خاصة، وجهة عامة، فبالنظر إلى أن إمام المسجد لا يعني فلان بن فلان، بل يعني كل من كان إماماً في المسجد، فمن هذه الناحية يكون عاماً والنظر فيه للحاكم، ومن ناحية أن الإمام واحد، يكون هذا من باب الوقف على معين فيكون النظر للإمام وحده.
فالخلاصة: أولاً: إذا كان الوقف على جهة عامة مثل
المساكين، والأئمة، والمؤذنين، وطلاب العلم، فهؤلاء إذا لم يشترط الواقف ناظراً فالنظر للحاكم؛ لأنه لا يمكن أن نأتي بكل من كان فقيراً، أو طالب علم، ونقول له: انظر في هذا الوقف، فهذا متعذر.
وكذلك لو كان الوقف على ما لا يملك، كالوقف على المساجد فهذا النظر فيه ـ أيضاً ـ للحاكم، ما لم يعين الواقف ناظراً خاصاً.
ثانياً: إذا كان الوقف على معين بالشخص مثل الأولاد، أو زيد أو عمرو أو ما أشبه ذلك، فالنظر هنا للموقوف عليهم، ولا أحد يعارضهم، إلا إذا خرجوا عن مقتضى الأمانة فللحاكم النظر العام.
ثالثاً: إذا كان الوقف على معين بالوصف، وليس محصوراً مثل الإمام، والمؤذن، والمدرس وما أشبه ذلك، فهذا يتجاذبه شيئان، الخصوص والعموم، فبالنظر إلى أن الإمام واحد يكون النظر له، وبالنظر إلى أنه يشبه أن يكون جهة، وأن هذا الإمام قد يتصرف بما فيه حظ نفسه بقطع النظر عن إمام يأتي بعده، فهنا يُغلَّب عليه جانب العموم ويكون النظر للحاكم، أو مَنْ يأتي من قبل الدولة كوزارة الأوقاف، ولهذا نقول: لو تعارض رأي الإمام ورأي المسؤولين عن الأوقاف، فهل نأخذ برأي الإمام، أو نأخذ برأي المسؤولين؟
يجب ألا ينفرد أحدهما بالرأي، بل لا بد أن ينظر للمصلحة، ولكن ليس للجهة المسؤولة الاعتراض على هذا الإمام، إلا إذا خرج عن مقتضى الأمانة.
وهل للناظر على الوقف أجرة؟
الجواب: إن شرطها الواقف فنعم، وإذا لم يشرطها فله أجرة المثل ويقدرها الحاكم، وإن تبرع ـ فجزاه الله خيراً ـ فقد أعان على خير.
وَإِنْ وَقَفَ عَلَى وَلَدِهِ أَوْ وَلَدِ غَيْرِهِ ثُمَّ عَلَى المَسَاكِينِ فَهُوَ لِوَلَدِهِ، الذُّكُورِ وَالإِنَاثِ بِالسَّوِيَّةِ،
قوله: «وإن وقَف على ولده أو ولد غيره ثم على المساكين فهو لولده، الذكور والإناث بالسوية» ، أما الذكور فواضح أن اسم الولد يطلق عليهم، وأما الإناث فيطلق عليهم ـ أيضاً ـ اسم الولد، ودليل ذلك قوله تعالى:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11]، فجعل الأنثى من الأولاد، فإذا قال: هذا وقف على ولدي، وله ذكور وإناث صار الوقف بين الذكور والإناث بالسوية، فإذا قال الولد للأنثى: أنتِ لستِ بولد بل بنت، والولد أنا، فنقول له: مدلول (ولد) في اللغة العربية يشمل الذكر والأنثى، فيكون الذكور والإناث على حد سواء.
فإن انقرض أولاده بأن ماتوا ولم يخلفوا أحداً، فلمن يكون الوقف؟
يقول المؤلف: «ثم على المساكين» ، فيكون الوقف للمساكين؛ لأن الولد انقرض ولم يبق له نسل، وإذا انتقل للمساكين يكون النظر للحاكم إذا لم يعين الواقف ناظراً.
وقوله: «أو ولد غيره» ، فإذا وقف على ولد فلان فهو لأولاده البنين والبنات بالسوية، فإن انقرضوا فعلى المساكين.
ولو قال: وقفت على ولدي ثم المساجد، فيكون الوقف لولده، فإن انقرضوا فللمساجد.
ثُمَّ وَلَدِ بَنِيهِ، دُونَ بَنَاتِهِ كَمَا لَوْ قَالَ عَلَى وَلَدِ وَلَدِهِ، وَذُرِّيَّتِهِ لِصُلْبِهِ وَلَوْ قَالَ: عَلَى بَنِيهِ أَوْ بَنِي فُلانٍ اخْتَصَّ بِذُكُورِهِمْ،
...........
قوله: «ثم ولد بنيه» ، قال المؤلف:(ثم)، إذاً لو قال: وقفت على ولدي فيستحقه الأولاد بطناً بعد بطن؛ لكن المؤلف قال: «ثم ولد بنيه» فهو ترتيب، مع أن اللفظ مجمل ليس فيه ترتيب ولا جمع، فنقول: الأصل الترتيب، والقاعدة المعروفة أن من استحق بوصف فإنه يقدم من كان أقوى في هذا الوصف، ومعلوم أن الولادة بالنسبة للأولاد أقوى وصفاً في الأولاد من أولاد البنين، وعليه فنقول: إذا قال: وقف على أولادي فهو لأولاده، ثم إذا انقرض الأولاد كلهم يكون لأولاد بنيه.
وإذا وقف على أولاده وهم ثلاثة، ثم مات أحدهم عن بنين، فلا يستحقون مع أعمامهم؛ لأن هذا ترتيب بطن على بطن.
لكن لو قال: من مات عن ولد فنصيبه لولده، فيستحق أولاد الولد الذي مات ويكونون محل أبيهم، ويُعمَل في أولاد الذي مات كما يعمل في أولاد الصلب، فيقال: هو لأولاد الابن الذي مات، الذكور والإناث بالسوية.
قوله: «دون بناته» ، أي: دون ولد بناته، فإن أولاد البنات لا يدخلون في الولد، فإذا قال: هذا وقف على أولادي، وله ثلاثة ذكور وبنت، ومات هؤلاء الأربعة، الذكور والبنت وخلفوا أبناءً فيستحقه أولاد البنين، وأما أولاد البنت فليس لهم حق، ودليل ذلك في القرآن الكريم، قال الله تعالى:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11]، وأجمع العلماء على أن أولاد البنات لا يدخلون في الأولاد؛ لأن أولاد البنات من ذوي الأرحام وليسوا من أولاده، فكذلك إذا قال: وقف على أولادي،
وكان له أولاد أبناء وأولاد بنات، فأولاد البنات لا يستحقون شيئاً؛ لأنهم لا يدخلون في اسم الأولاد وهو في القرآن ظاهر، وكذلك هو مقتضى العرف واللغة، يقول الشاعر:
بنونا بنو أبنائِنا وبناتُنا
بنوهن أبناءُ الرجالِ الأباعدِ
وحتى في العاقلة ـ مثلاً ـ أي: عند تحمل الدية ـ فإن أولاد البنات لا يتحملون، وحتى في ولاية النكاح، أولاد البنات ليس لهم ولاية، وعلى هذا فنقول: أولاد البنات لا يدخلون في الوقف على الأولاد، والدليل من القرآن ومن اللغة.
فإن قال قائل: ألم يقل الله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ *وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ *} [الأنعام]، فذكر عيسى عليه الصلاة والسلام، وعيسى ولد بنت، وقال النبي صلى الله عليه وسلم عن الحسن:«إن ابني هذا سيد»
(1)
.
فالجواب عن الآية أن عيسى ابن مريم ـ عليهما الصلاة والسلام ـ أمه أبوه، فليس له أب حتى ينتسب إليه، ولا دليل فيه على أن أولاد البنات يدخلون في مطلق الأولاد أو مطلق الذرية، والأمر واضح.
وأما الحديث: فالجواب: أن كل مؤمن ابن للرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن ليس ابن النسب، قال الله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ
(1)
أخرجه البخاري في الصلح/ باب قول النبي صلى الله عليه وسلم للحسن بن علي رضي الله عنهما «ابني هذا سيد
…
» عن أبي بكرة رضي الله عنه.
أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6]، وقرأ بعض السلف:«وهو أب لهم»
(1)
، وهذا مقتضى القياس إذا كانت زوجاته أمهات فهو أب، ولكن ليس أب النسب، ولهذا يشرف أولاد علي بن أبي طالب رضي الله عنهم بنسبتهم للرسول صلى الله عليه وسلم فهو من خصائصهم.
لكن هذا عند مطلق الوقف، أما إذا دلت القرينة على أن أولاد البنات أرادهم الواقف، أو صرح بذلك فإنه يعمل بها، تبعاً لشرط الواقف.
فلو قال: هذا وقف على أولادي ثم أولادهم، وليس له إلا بنات، فإن أولاد البنات يدخلون للقرينة؛ لأنه ليس عنده ذكور، فهنا يتعين دخول أولاد البنات.
ولو قال: هذا وقف على أولادي، ويُفَضَّل أولاد الأبناء فإنهم يدخلون للقرينة؛ لأن قوله: يفضل أولاد الأبناء، يدل على أنه أراد أولاد الأبناء والبنات.
ولو قال: وقف على أولادي ومن مات عن ولد فنصيبه لولده فإنهم يدخلون؛ لأنه صرح فقال: من مات عن ولد، والبنت تموت عن أولادها فيدخلون، ويكون نصيبها لهم.
ولو قال: هذا وقف على أولادي، أولاد البنين وأولاد البنات، فهذا نص وتصريح، إذاً أولاد البنات لا يدخلون في الأولاد إلا بنص أو قرينة، هذه هي القاعدة.
(1)
عزاها ابن كثير في تفسيره (3/ 451) لأبي بن كعب وابن عباس رضي الله عنهم.
قوله: «كما لو قال على ولد ولده» فإنه يدخل أولاد بنيه فقط دون أولاد البنات، ولكن الصحيح أنه إذا قال: على ولد ولده، فإنه يدخل أولاد البنين وأولاد البنات دون أولاد بنات البنات؛ لأن كلمة «ولده» الثانية تشمل الذكور والإناث.
قوله: «وذريته لصلبه» يعني إذا نص على التقييد بالصلب فإن أولاد البنات لا يدخلون بلا إشكال.
فلو قال: هذا وقف على ولد ولدي لصلبي، فلا يدخل أولاد البنات؛ لأن أولاد البنات ليسوا ذرية لصلبه بل ذرية لبطنه، فالولد يكون في بطن الأنثى وفي صلب الرجل، فمن ينسب إليه عن طريق البنات لا ينسب إليه لصلبه بل لبطنه، وهو قيدها بصلبه.
إذاً الواقف بالنسبة لأولاد بناته لا يخلو من ثلاث حالات:
الأولى: أن ينص على عدم الدخول بأن يقول: أولادي وأولادهم لصلبي، فهنا لا يدخلون بلا إشكال.
الثانية: أن ينص على الدخول أو توجد القرينة فهنا يدخلون.
الثالثة: أن يطلق، فلا يدخلون.
وإذا قال: على ذريته، وذرية فعيلة بمعنى مفعولة، أي: من ذرأهم الله منه، والذين ذرأهم الله منه هم أولاد الصلب، فإذا قال: هذا وقف على ذريتي دخل الأولاد من بنين وبنات، ودخل بعد ذلك أولاد البنين، دون أولاد البنات؛ لأنهم ليسوا من ذريته.
وهنا يرد علينا الإشكال الذي أجبنا عنه أولاً، وهو أن عيسى عليه الصلاة والسلام من ذرية إبراهيم، فكيف كان ذلك؟ والجواب أن عيسى عليه الصلاة والسلام أبوه أمه؛ لأنه
خلق من دون أب، ولهذا لو أن شخصاً انتفى من ولده، وقال: هذا الولد ليس مني، وقُبِل انتفاؤه بالشروط المعروفة، صار هذا الولد أبوه أمه، ولهذا إذا مات عنها ترثه هي ميراث أم وأب، فيقال: إذا لم يكن له أبناء ولا إخوة، فأمه لها الثلث بالفرض والباقي بالتعصيب؛ لأنها هي أبوه وأمه.
قوله: «ولو قال على بنيه أو بني فلان اختص بذكورهم» ، فإذا قال: على بنيه أو بني فلان فإنه للذكور دون الإناث، وهنا نتكلم عن كلمة «بنيه» من حيث مدلول اللفظ، ومن حيث جواز هذا الوقف، فإذا قال: على بنيه، فمدلول اللفظ أن البنات لا يدخلن؛ لأن البنت لا تسمى ابناً، ولكن هل يجوز للإنسان أن يوقف على بنيه دون بناته؟ الجواب: لا.
والفقهاء رحمهم الله إنما يتكلمون على مدلول الألفاظ دون حكم الوقف، فهنا إذا قال: هذا وقف على بنيَّ فيدخل الذكور فقط، وأما الإناث فلا يدخلن؛ لأنه يقال: بنون وبنات، ولكن لا يجوز له أن يخص الوقف ببنيه؛ لأنه إذا فعل ذلك دخل في قول النبي صلى الله عليه وسلم:«اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم»
(1)
، فيكون بهذا العمل غير متقٍ لله تعالى، وسمى النبي صلى الله عليه وسلم تخصيص بعض الأبناء جَوْراً، فقال:«لا أشهد على جَوْر»
(2)
، ولا شك أن من وقف على بنيه دون بناته أنه جَور.
(1)
سبق تخريجه ص (36).
(2)
أخرجه البخاري في الشهادات/ باب لا يشهد على شهادة جور
…
(2650)؛ ومسلم في الهبات/ باب كراهة تفضيل بعض الأولاد في الهبة (1623).
وعلى هذا، فلو وجدنا شخصاً وقف على بنيه ومات، فعلى المذهب نجري الوقف على ما كان عليه؛ لأن هذا ليس عطية تامة؛ لأن الوقف لا يتصرف فيه الموقوف عليه لا ببيع ولا شراء، نقول: لكن الموقوف عليه ينتفع بغلَّته.
فالقول الراجح أننا نلغي هذا الوقف ولا نصححه، ويعود هذا الموقوف ملكاً للورثة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد»
(1)
، وقد يقال: يبقى وقفاً على البنين والبنات؛ لأن المُوقف أخرجه عن ملكه إلى ملك هؤلاء، ولكن الاحتمال الأول أقرب، وهو إبطال الوقف؛ لأنه عمل ليس عليه أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، بل هو مخالف لأمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وقوله: «أو بني فلان» ، أي: دون بناته، فإنه يجوز ولا يجب أن يعدل بينهم وهذا بالإجماع، فإذا قال: هذا وقف على بني عبد الله فيختص بالذكور؛ لأنه يقال: عبد الله له بنون وبنات، فيفرق الناس بين البنين والبنات، فإذا قال: هذا وقف على بني عبد الله وهو شخص، فإنه يكون للذكور دون الإناث، وهذا مدلول اللفظ، وينفذ؛ لأن العطية الآن ليست لأولاده بل لأولاد غيره فينفذ، ويعطى الوقف بني عبد الله دون بنات عبد الله.
إِلاَّ أَنْ يَكُونُوا قَبِيلَةً فَيَدْخُلَ فِيهِ النِّسَاءُ دُونَ أَوْلادِهِنَّ مِنْ غَيْرِهِمْ، والقَرَابَةُ وَأَهْلُ بَيْتِهِ وَقَوْمُهُ يَشْمَلُ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى مِنْ أَوْلَادِهِ وَأَوْلَادِ أَبِيهِ وَجَدِّهِ وَجَدِّ أَبِيهِ،
......
قوله: «إلا أن يكونوا قبيلة فيدخل فيه النساء دون أولادهن من غيرهم» مثل بني تميم، فإذا قال: هذا وقف على بني تميم،
(1)
أخرجه مسلم في الأقضية/ باب نقض الأحكام الباطلة (1718) عن عائشة رضي الله عنها.
دخل فيه الذكور والإناث، ودليل ذلك قول الله تعالى:{يَابَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ} [الأعراف: 27]، فقوله:{يَابَنِي آدَمَ} يخاطب الذكور والإناث، وليس يخاطب الذكور فقط، وقوله تعالى:{يَابَنِي إِسْرَائِيلَ} [البقرة: 40] يشمل الذكور والإناث، وقول النبي صلى الله عليه وسلم:«يا بني عبد مناف»
(1)
، يشمل الذكور والإناث.
فإذا وقف شخص على بني تميم فهو لذكورهم وإناثهم، ولكن هل يدخل أولاد الإناث؟ ينظر إن كان أولاد الإناث من بني تميم دخلوا أصلاً؛ لأنهم من بني تميم، وإن كان أولاد البنات التميميات ليس آباؤهم من بني تميم، فإنهم لا يدخلون، ولهذا قال:«دون أولادهن من غيرهم» ، أي: من غير أبناء القبيلة، فلا يعطون من الوقف على بني تميم.
قوله: «والقرابةُ وأهلُ بيتِهِ وقومُهُ» ، هذه ثلاثة ألفاظ، ما الذي يدخل في مدلولها؟ يقول المؤلف:
«يشمل الذكر والأنثى من أولاده وأولاد أبيه وجدِّه وجدِ أبيه» ، فإذا قال: هذا وقف على قرابتي، دخل فيه هؤلاء الأربعة، أولاده، وأولاد أبيه، وأولاد جده، وأولاد جد أبيه، فيشمل الذكر والأنثى من الفروع إلى يوم القيامة، ومن الأصول إلى الأب الثالث فقط، فيشمل فروعه وفروع أبيه وفروع جده وفروع جد
(1)
أخرجه البخاري في الوصايا/ باب هل يدخل النساء والولد في الأقارب؟ (2753)؛ ومسلم في الإيمان/ باب في قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ *} (204) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
أبيه، ولكن هل يستحق الجميع أو لا يستحق؟ نذكره إن شاء الله.
وعلى هذا فإذا لم يبق من هؤلاء أربعة البطون إلا واحد، استحق الوقف كله، والدليل على أن القرابة تختص بهؤلاء أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعطِ من خمس الغنيمة إلا من كان من بني هاشم وبني المطلب
(1)
، وهاشم بالنسبة للرسول صلى الله عليه وسلم هو الأب الثالث، والله عز وجل يقول:{وَلِذِي الْقُرْبَى} [الأنفال: 41]، فدل ذلك على أن القرابة تختص بهؤلاء، هذا ما ذهب إليه المؤلف، وهذا دليله.
وبعض العلماء أخرج الأولاد من القرابة، لكن الصحيح أنهم لا يخرجون؛ لأن أولاده أشد لصوقاً به من آبائه، إذ إنهم بضعة منه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في فاطمة رضي الله عنها:«إنها بضعة مني»
(2)
.
وقال بعض أهل العلم: إن القرابة تشمل كل من اجتمع به في جده الذي ينتمي إليه، ومعلوم أن القبائل فيها شعوب، فَأَوَّلُ جَدٍّ ينتمي إليه هذا الشِّعب من القبيلة، فإن ذريته هم القرابة، وعلى هذا فلا يتقيد بالأب الثالث، فقد يكون في الرابع، أو الخامس.
وقال بعض أهل العلم: القرابة ليس لها حد محدود، فما
(1)
أخرجه البخاري في فرض الخمس/ باب ومن الدليل على أن الخمس للإمام
…
(3140) عن جبير بن مطعم رضي الله عنه.
(2)
أخرجه البخاري في المناقب/ باب مناقب قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم (3714)؛ ومسلم في فضائل الصحابة/ باب فضائل فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم (2449) عن المسور بن مخرمة رضي الله عنه.
تعارف الناس عليه أنه قريب فهو قريب ولا نحدده بحدٍّ، لكن القول الأول هو أقرب الأقوال: أنهم من كانوا من ذرية أبيه الثالث، ويليه قول من قال: إنهم من يجتمعون به في أول جد ينتسبون إليه، أما القول الأخير فهو ضعيف.
وفهم من قولنا: إنه يشمل هؤلاء، أنه لا يشمل الأقارب من جهة أمه، فلا يدخل في ذلك أبو أمه، ولا أخو أمه، ولا عمها، ولا جدها، ولا أمها؛ ووجه ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعط أخواله من بني زُهْرَة، فلم يدخلهم في قوله:{وَلِذِي الْقُرْبَى} .
وقال بعض أهل العلم: إذا كان من عادته أنه يصل قرابة أمه دخلوا في لفظ القرابة؛ لأن كونه قد اعتاد أن يصلهم يدل على أنه أراد أن ينتفعوا بهذا الوقف، وهذا قول قوي، والعجيب أن بعض العلماء قال بعكسه، قال: إذا كان من عادته أنه يصل أقارب أمه فإنهم لا يدخلون؛ لأن تخصيصهم بصلة خارج الوقف يدل على أنه لا يريد أن ينتفعوا من هذا الوقف بشيء، لكن القول الذي قبله أقرب إلى الصواب، أنه إذا كان من عادته أنه يصل أقارب أمه دخلوا في الوقف الذي قال: إنه على أقاربه.
وقوله: «وأهل بيته» يشمل الذكر والأنثى من أولاده، وأولاد أبيه، وأولاد جده، وأولاد جد أبيه.
وهل يشمل الزوجات؟
المذهب أنهن لا يدخلن؛ لأن أهل بيته مثل القرابة تماماً، والصحيح أن زوجاته إذا لم يطلقهن يدخلن في أهل بيته، ولا شك في هذا، لقوله تعالى في نساء النبي صلى الله عليه وسلم: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ
عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:«خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي»
(1)
، بل لو قيل: إن أهل بيته هم زوجاته ومن يعولهم فقط، لكان قولاً قوياً؛ لأن هذا هو عرف الناس، فالآن عمك وأخوك إذا انفردا في بيت، لا يقول الناس: إنهما أهل بيتك، فأهل البيت عرفاً هم الذين يعولهم من الزوجات والبنين والبنات، لكن مهما كان الأمر فإن الزوجات بلا شك إذا لم يطلقهن يدخلن في أهل البيت، ولا يدخلن في القرابة.
وقوله: «وقومه» جعلها المؤلف كلفظ القرابة وأهل البيت، لكن هذا القول بعيد من الصواب؛ لأن القوم في عرف الناس وفي اللغة ـ أيضاً ـ أوسع من القرابة، اللهم إلا على قول من يقول: إن القرابة تشمل كل من يجتمع معه في الاسم الأول، فالفخذ من القبيلة قرابة، فهنا ربما نقول: إن القوم والقرابة بمعنى واحد، أما إذا قلنا: إن القرابة هم أولاده، وأولاد أبيه، وجده، وجد أبيه، فإن القوم بلا شك أوسع، ولهذا يرسل الله الرسل إلى أقوامهم وهم ليسوا من قراباتهم، فإذا كان للقوم معنًى مطرد عرفاً لا ينصرف الإطلاق إلا إليه وجب أن يتبع؛ لأن القول الراجح في
(1)
أخرجه الترمذي في المناقب/ باب فضل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم (3895)؛ والدارمي في النكاح/ باب حسن معاشرة النساء (2260) عن عائشة رضي الله عنها، قال الترمذي: حديث حسن غريب صحيح؛ وأخرجه ابن ماجه في النكاح/ باب حسن معاشرة النساء (1977) عن ابن عباس رضي الله عنهما، وصححه ابن حبان (4177) و (4186) وحسنه الحافظ ابن حجر في مختصر زوائد البزار (1039) من رواية عائشة رضي الله عنها بلفظ:«خيركم خيركم لأهله» .
أقوال الواقفين والبائعين والراهنين وغيرهم أن المرجع في ذلك إلى العُرف.
وقوله: «يشمل الذكر والأنثى من أولاده وأولاد أبيه وجَدِّه وجدِّ أبيه» ، يتعين في قوله:«جَدِّه» الجر، يعني من أولاده، وأولاد أبيه الذين هم إخوانه، وأولاد جده الذين هم أعمامه، وأولاد جد أبيه الذين هم أعمام أبيه.
ولكن هل هؤلاء كلهم يستحقون؟
الجواب: نعم يستحقون لكن يقدم بعضهم على بعض، فكل من كان أقرب فهو بالوقف أحق، فإذا قدر أن أهل بيته خمسمائة والوقف خمسمائة درهم فهنا لا يمكن أن نعطي الجميع؛ لأن إعطاء كل واحد درهماً لا يفيد شيئاً، بل هنا ينبغي أن ننظر إلى الأقرب فالأقرب، أو إلى الأحوج فالأحوج.
لكن مراد المؤلف رحمه الله: أن كل هؤلاء من ذوي الاستحقاق، أما ترتيبهم فهذا يرجع إلى الناظر على الوقف.
وَإِنْ وُجِدَتْ قَرِينَةٌ تَقْتَضِي إِرَادَةَ الإِنَاثِ أَوْ حِرْمَانَهُنَّ عُمِلَ بِهَا، وَإِذَا وَقَفَ عَلَى جَمَاعَةٍ يُمْكِنُ حَصْرُهُمْ وَجَبَ تَعْمِيمُهُمْ وَالتَّسَاوِي، وَإِلاَّ جَازَ التَّفْضِيلُ وَالاقْتِصَارُ عَلَى أَحَدِهِمْ.
قوله: «وإن وجدت قرينة تقتضي إرادة الإناث أو حرمانهن عُمل بها» ، يعني إذا وجدت قرينة تقتضي إرادة الإناث فيما يدل اللفظ على إخراجهن، أو حرمانهن فيما يدل اللفظ على دخولهن فإنه يعمل بها؛ وذلك لأن الألفاظ تتحدد معانيها بحسب السياق والقرائن، فلذلك إذا وجدت قرينة تدل على أن الإناث داخلات في الوقف دخلن، وإن كان اللفظ لا يقتضي دخولهن، وإذا وجدت قرينة تدل على حرمانهن فإنهن لا يدخلن، وإن كان اللفظ يشملهن.
فإذا قال: هذا وقف على أولادي الذكور والإناث، فهنا تصريح وليس قرينة بأن الإناث داخلات، فيدخلن.
وإذا قال: هذا وقف على أولادي الذين يجاهدون في سبيل الله، فهنا القرينة تدل على أن المراد الذكور؛ لأن الجهاد يختص بالرجال، فالمهم أننا نعمل بالقرائن في شمول اللفظ للإناث أو عدمه.
قوله: «وإذا وقف على جماعة يمكن حصرهم وجب تعميمهم والتساوي» ، إذا وقف على جماعة يمكن حصرهم، وجب شيئان: التعميم، والتساوي.
مثاله: إذا وقف على أولاد فلان وهم عشرة، فهنا يمكن حصرهم، فيجب أن يُعمَّموا ويعطى كل واحد، ويجب أن يساوى بينهم، الذكور والإناث سواء، والغني والفقير سواء، والضعيف والقوي سواء، والشيخ والصغير سواء؛ لأنه يمكن حصرهم، وإن كان لا يمكن كبني تميم مثلاً يقول المؤلف:
«وإلا جاز التفضيل والاقتصار على أحدهم» ، فإن كان لا يمكن حصرهم فله أن يفضل بعضهم على بعض، وله أن يعطي بعضاً ويحرم بعضاً؛ وذلك لأنه جرت العادة أن من لا يمكن حصره لا تمكن الإحاطة به، وإذا لم تمكن الإحاطة به لم يجب أن نعطيهم، وإذا وقف على ثلاثين فيمكن حصرهم، ويجب أن يعمَّموا، فإن كثر هؤلاء وصاروا قبيلة لا يمكن حصرهم، فلا يجب تعميمهم ولا التساوي، بل يجوز الاقتصار على واحد منهم
وأن يفضل بعضهم على بعض، وبالعكس، لو قال: على بني فلان وهم قبيلة، لكن هذه القبيلة انقرضت ولم يبقَ إلا عشرة، فإنه يجب التعميم والتساوي؛ لأن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً.
ودليل ذلك قول الله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60]، فهل يجب علينا أن نعمم الزكاة على الفقراء جميعاً؟
الجواب: لا، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لقَبيصة رضي الله عنه:«أقم عندنا حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها»
(1)
، فلا يجب أن نسوي بين عشرة فقراء أمامنا الآن في الزكاة، فيجوز أن نعطي واحداً ونحرم التسعة، أو نعطيهم متفاضلاً؛ لأن الأصل أنه لا يجب التعميم ولا التساوي.
(1)
أخرجه مسلم في الزكاة/ باب من تحل له المسألة (1044) عن قبيصة رضي الله عنه.
فَصْلٌ
وَالوَقْفُ عَقْدٌ لَازِمٌ لا يَجُوزُ فَسْخُهُ وَلَا يُبَاعُ،
.............
وقوله: «والوقف عقد لازم لا يجوز فسخه»
يعني ثابتاً لا يمكن تغييره، ولا يجوز فسخه؛ لأنه مما أخرج لله ـ تعالى ـ فلا يجوز أن يرجع فيه كالصدقة، فمن حين أن يقول الرجل: وقفت بيتي، أو وقفت سيارتي، أو وقفت كتابي فإنه يلزم، وليس فيه خيار مجلس بخلاف الوصية، فالوصية ليست عقداً لازماً في الحال، بل لا تكون إلا بعد الموت.
أما الوقف المعلق بالموت كما لو قال: هذا وقف بعد موتي، فالمذهب أنه لازم من حين قوله ولا يمكن فسخه، لكن مع ذلك لا ينفذ منه إلا ما كان من ثلث المال فأقل، فيجعلونه وصية من وجه ووقفاً من وجه، وهذا غير صحيح، فلا يمكن أن نعطي عقداً حكمين مختلفين، فإما أن نقول: إنه يلزم في الحال ونلغي التعليق، وإذا قلنا بأنه يلزم في الحال لزم، سواء كان الثلث أو أكثر أو أقل، وإما أن نقول: لا يلزم إلا بعد الموت، وحينئذٍ يكون من الثلث فأقل، وهذا هو الصحيح؛ لأن الرجل علق الوقف بشرط وهو الموت، فلا يمكن أن ينفذ قبل وجود الشرط، فلا ينفذ إلا بعد الموت ويكون من الثلث فأقل.
مثال ذلك: قال رجل: إذا مت فبيتي وقف، أو إذا مت فمكتبتي وقف، فالمذهب أنه ينفذ من الآن ولا يمكن أن يبيع شيئاً من هذا؛ لأنه نفذ، لكن إذا مات فإن أجاز الورثة الوقف نفذ، وإن لم يجيزوه لم ينفذ منه إلا مقدار ثلث التركة.
والصواب: أنه لا ينفذ إلا بعد الموت، وأنه ما دام حياً فله التغيير والتبديل والإلغاء، فإذا مات فإن أجازه الورثة نفذ، وإن لم يجيزوه نفذ منه قدر ثلث التركة فقط.
، قوله:«والوقف عقد لازم لا يجوز فسخه» ظاهر كلام المؤلف: أنه لا فرق بين أن يكون الإنسان مديناً أو غير مدين، ومن المعلوم أن المدين إذا كان قد حجر عليه فإن وقفه لا يصح، لكن إذا لم يحجر عليه وأوقف، وكان عليه دين يستغرق الوقف، فظاهر كلام المؤلف: أن الوقف لازم.
والقول الثاني وهو الراجح: أن الوقف في هذه الصورة ليس بلازم ولا يجوز تنفيذه؛ لأن قضاء الدين واجب والوقف تطوع، ولا يجوز أن نضيق على واجب لتطوع، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
فإن طرأ الدَّين بعد الوقف، كما لو وقف بيته ثم افتقر واستدان، فهل ينفسخ الوقف، أو نقول: إنه لا ينفسخ؛ لأنه تم بدون وجود المانع فيستمر؟ الأقرب الثاني، وقال شيخ الإسلام رحمه الله: له أن يبيعه في دينه؛ لأن هذا ليس أشد من المدبَّر، وهو العبد الذي عُلِّق عتقه بموت سيده، وقد باعه النبي صلى الله عليه وسلم في الدين
(1)
.
لكن الأرجح الأول، يعني أنه إذا حدث الدَّين بعد الوقف فإن الوقف يمضي، والدَّيْنُ ييسر الله أمره.
(1)
أخرجه البخاري في البيوع/ باب بيع المزايدة (2141)؛ ومسلم في الزكاة/ باب الابتداء بالنفقة بالنفس (997) عن جابر رضي الله عنه
قوله: «ولا يباع» يعني لا يباع الوقف؛ لأن بيعه يقتضي إبطال الوقف، فلو قلنا بجواز البيع انتقل إلى المشتري وبطل الوقف، والوقف عقد لازم فلا يجوز بيعه، ويجوز تأجيره؛ لأن أجرته من المنفعة التي سُبِّلت، ولا يجوز رهنه؛ لأن الرهن يراد لبيع المرهون واستيفاء الدين منه، وإذا قلنا: لا يباع، بقي الرهن عديم الفائدة، فإما أن يقال: إن الرهن صحيح، ويباع في قضاء الدين، وهذا يلزم منه إبطال الوقف، وإما أن نقول: إن الرهن لا يصح؛ لأنه لو صح فلا فائدة منه، إذاً لا يجوز بيعه، ولا عقد يراد به بيعه.
إِلاَّ أَنْ تَتَعَطَّلَ مَنافِعُهُ وَيُصْرَفُ ثَمَنُهُ فِي مِثْلِهِ، وَلَوْ أَنَّهُ مَسْجِدٌ وَآلَتُهُ وَمَا فَضَلَ عَنْ حَاجَتِهِ جَازَ صَرْفُهُ إِلى مَسْجِدٍ آخَرَ والصَّدَقَةُ بِهِ عَلَى فُقَرَاءِ المُسْلِمِينَ،
قوله: «إلا أن تتعطل منافعه» ففي هذه الحال يجوز أن يباع، كرجل أوقف داره على أولاده فانهدمت الدار، فيجوز أن تباع.
وقوله: «ولا يباع إلا أن تتعطل منافعه» ظاهره أنه لا يباع بأي حال من الأحوال إلا في هذه الصورة؛ لأن من القواعد المقررة (أن الاستثناء معيار العموم) يعني يدل على العموم فيما عدا الصورة المستثناة، فعلى هذا لا يباع بأي حال من الأحوال إلا في هذه الحال، وهي إذا تعطلت منافعه.
فإن نقصت المنافع ولم تتعطل، فإنه لا يباع فيبقى على ما هو عليه حتى تتعطل، ولا يكون فيه فائدة.
واختار شيخ الإسلام رحمه الله جواز بيعه للمصلحة بحيث ينقل إلى ما هو أفضل، واستدل لهذا بقصة الرجل الذي نذر إن فتح الله على رسوله صلى الله عليه وسلم مكة أن يصلي في بيت المقدس
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «صل هاهنا» فأعاد عليه مرتين أو ثلاثاً فقال: «فشأنَك إذن»
(1)
.
فهنا أباح له النبي صلى الله عليه وسلم أن يتحول عن النذر من المفضول إلى الأفضل، ومعلوم أن نذر الطاعة واجب، فيجوز أن ينقل الوقف أو يباع لينقل إلى ما هو أنفع، وما اختاره شيخ الإسلام رحمه الله هو الصواب.
لكن في هذه الحال يجب أن يمنع من بيعه أو إبداله إلا بإذن الحاكم؛ لأنه قد يتعجل الموقوف عليه، ويقول: أبيعه لأنقله إلى ما هو أفضل، ويكون الأمر على خلاف ظنه، فلا بد من الرجوع إلى الحاكم ـ يعني القاضي ـ في هذه الحال؛ لئلا يتلاعب الناس بالأوقاف.
مثال ذلك: إنسان أوقف عمارة على طلبة العلم في مكان كان من أحسن الأمكنة حين الإيقاف، لكن تغير الوضع وصار محل الطلب في جهة أخرى، فهل يجوز أن يبيع هذه العمارة ليشتري عمارة أخرى قريبة من مواطن العلم؟
أما على المذهب فلا؛ لأن منافعها لم تتعطل، وأما على القول الراجح فيجوز، ولكن لا بد من مراجعة الحاكم؛ لئلا يتلاعب الناس بالأوقاف.
وعلم من قوله: «إلا أن تتعطل منافعه» أنه لو تعطلت بعض المنافع فإنه لا يجوز بيعه، فما دام يوجد فيه منفعة ولو واحد في
(1)
سبق تخريجه ص (34).
العشرة فإنه لا يباع، لكن على ما سبق أنه يباع إذا كان فيه حاجة أو مصلحة.
وإذا بيع فماذا نفعل بثمنه؟
قال: «ويصرف ثمنه في مثله» فإذا كان هذا وقفاً على الفقراء، وتعطلت منافعه وبِعْناه فماذا نفعل بالثمن؟ هل نتصدق به على الفقراء، أو نشتري به وقفاً يكون للفقراء؟ يتعين الثاني، فلا يجوز أن نقول: إن هذا وقف على الفقراء، والآن بعناه لتعطل منافعه فنصرف دراهمه إلى الفقراء، فهذا لا يجوز؛ لأن هذه الدراهم عوض عن أصل الوقف، وأصل الوقف لا ينقل ملكه لا ببيع ولا بغيره.
قوله: «ولو أنه مسجد» يعني ولو كان الذي تعطلت منافعه مسجداً، كأن يكون المسجد في حي ارتحل أهله عنه، فإنه يباع ويصرف ثمنه في مثله.
وإذا بعنا المسجد وصرفنا ثمنه في مسجد آخر، فيجوز لمشتري المسجد أن يبيعه؛ لأنه صار ملكه، ويجوز أن يجعله دكاكين للبيع والشراء، والمهم أنه زال عنه وصف المسجد، فيجوز بيعه والصدقة به وهبته وغير ذلك، ويصرف ثمنه في مثله.
وقوله: «ولو أنه مسجد» إشارة إلى خلاف، فمن أهل العلم من قال: إن المسجد لا يباع؛ لأنه وقف لمصلحة المسلمين، وما كان لمصلحة المسلمين فإن الفرد لا يتصرف فيه، ولكن هذا ليس بصحيح؛ لأن المسجد الآن زال الانتفاع به، فالحي كلهم رحلوا وما بقي أحد، فهو سيباع ويعمر في مكان آخر بثمنه.
قوله: «وآلتُهُ» أي آلة المسجد، والمراد بناؤه، وأبوابه وما أشبه ذلك، وهذا فيما سبق لما كان البناء بلبن الطين كان يمكن أن ينتفع بآلته التي تكوَّن منها وهي لبن الطين، أما الآن فلا أظنه يمكن استرجاع الآلة، اللهم إلا إن كانت أسياخ الحديد فيمكن، أما الإسمنت فلا، على كل حال إذا بقي آلة فإننا نعيدها فيما نريد أن نبنيه.
فإذا قال الذي باع المسجد: آلته الآن إذا نقضناها وبنينا بها المسجد الآخر سيخرج غ
…
ير قوي، فهل لنا أن نبيع الآلة ونشتري آلة جديدة قوية؟
الجواب: نعم، وتكون الآلة الثانية بدلاً عن الأولى، وحينئذٍ لا يضيع حق الواقف.
قوله: «وما فضل عن حاجته جاز صرفه إلى مسجد آخر» ، فما فضل عن حاجة المسجد، فإنه يجوز أن يصرف إلى مسجد آخر؛ لأن هذا أقرب إلى مقصود الواقف،
وهذا لا إشكال فيه.
فإذا قدرنا أن هذا المسجد لما هدم حيث تعطلت منافعه وأعيد بناؤه بقي من آلته شيء فإننا نصرفه إلى مسجد آخر، فإن لم يمكن صُرِفَ إلى جهة عامة ينتفع فيها المسلمون عموماً، كالسقاية والمدرسة وما أشبه ذلك.
قوله: «والصدقة به على فقراء المسلمين» ، يعني وجازت الصدقة به على فقراء المسلمين؛ لأن المسجد مصلحة عامة والصدقة على الفقراء ـ أيضاً ـ مصلحة عامة، فنحن لم نخرج عن
مقصود الواقف؛ لأنها كلها عامة في انتفاع المسلمين عموماً، لكن هذا القول ضعيف جداً؛ لأن المساجد نفعها مستمر والصدقة نفعها مؤقت؛ لأن نفعها مقطوع، ينتفع بها الموجودون الحاضرون ولا ينتفع بها من بعدهم، فالصواب أن ما فضل عن حاجة المسجد يجب أن يصرف في مسجد آخر، ما لم يتعذر أو ما لم يكن الناس في مجاعة فهم أولى؛ لأن حرمة الآدمي أشد من حرمة المسجد ولا شك.
حتى لو فرض أن المسجد مسجد جامع فيجب أن يصرف في مسجد جامع إن تيسر، وإلا ففي مسجد بقية الصلوات، وإنما قلنا: مسجد جامع؛ لأن المسجد الجامع أكثر أجراً وثواباً؛ حيث إنه تصلى فيه الجمعة، وبقية المساجد لا تصلى فيها الجمعة، ثم إنه في صلاة الجمعة يكون أكثر عدداً من المساجد الأخرى.
والخلاصة:
أنه متى جاز بيع الوقف فإنه يجب أن يصرف إلى أقرب مقصود الواقف، بحيث يساوي الوقف الأول أو يقاربه حسب الإمكان.
مسألة: لو أن الناس ـ مثلاً ـ اختاروا أن يحوِّلوا المسجد المبني من لبن الطين إلى مسجد مسلح، هل لهم أن ينقضوا الأول أو لا؟ هذا ينبني على ما ذكرنا؛ لأن منافع مسجد الطين لم تتعطل، لكن ينقل إلى ما هو أفضل وأحسن، فعلى رأي شيخ الإسلام رحمه الله لا بأس، ويكون أجر المسجد الثاني لباني المسجد الأول؛ لأنه لا يمكن أن نبطل أجر الموقف الأول مع
إمكان استمرار أجره، فيكون للباني الأول في مدة يقدر فيها بقاء المسجد الأول، أما ما زاد عليها فأجرها لصاحب المسجد الثاني، وكذا لو كان المسجد الثاني أنفع من جهة التكييف ونحوه، فأجر النفع الزائد للمُوقِفِ الثاني.
فائدة: الوقف المنقطع هو الذي ينقطع من الموقوف عليه، مثلاً: وقف على زيد ثم عمرو، ومات زيد ومات عمرو، فالآن انقطعت الجهة فإذا انقطعت ففيه خلاف، وأقرب شيء عندي أنه إذا علم أن قصد الواقف البر والأجر، فإن الوقف المنقطع يرجع إلى المساكين أو المصالح العامة.
بَابُ الهِبَةِ وَالعَطِيَّةِ
وَهِيَ التَّبَرُّعُ بِتَمْلِيكِ مَالِهِ المَعْلُومِ المَوْجُودِ فِي حَيَاتِهِ غَيْرَهُ،
........
قوله: «الهبة والعطية» ، الهبة مصدر وَهَبَ يَهَبُ هِبَةً، وأصلها وِهْبَةٌ من وهب الشيء إذا أعطاه، مثل وعد يَعِدُ عِدة وأصلها وِعدة.
واعلم أن خروج المال بالتبرع يكون هبة، ويكون هدية، ويكون صدقة، فما قصد به ثواب الآخرة بذاته فهو صدقة، وما قصد به التودد والتأليف فهو هدية، وما قصد به نفع المعطَى فهو هبة، فهذا هو الفرق بينها، والتودد والتأليف من الأمور المقصودة شرعاً ويقصد بها ثواب الآخرة، لكن ثواب الآخرة لم يقصد فيها قصداً أولياً، ولهذا يخصها بشخص معين، أما الصدقة فلا يخصها بشخص معين، بل أي فقير يواجهه يعطيه، وكلها تتفق في أنها تبرع محض لا يطلب الباذل عليها شيئاً.
والعطية معطوفة على الهبة من باب عطف الخاص على العام؛ لأن العطية هي التبرع بالمال في مرض الموت المخوف، فهي أخص من الهبة، والهبة أن يتبرع بالمال في حال الصحة، أو في مرضٍ غير مخوف، أو في مخوف لم يمت به.
قوله: «وهي التبرع بتمليك ماله المعلوم الموجود في حياته غيره» ، فقوله:«في حياته» متعلق بالتبرع، والتبرع تطوع، ولهذا لا
يجوز من شخص عليه دَين ينقص الدينَ، فلو كان إنسان ليس عنده إلا عشرة ريالات وعليه عشرة ريالات، فلا يجوز له التبرع بهذه العشرة لا بصدقة ولا غيرها؛ لأن الدين واجب القضاء، وهذه التبرعات ليست بواجبة، والواجب مقدم.
وقوله: «غيرَهُ» مفعول لقوله: «تمليك» يعني هي أن يتبرع في الحياة بتمليك غيره ماله المعلوم، بمعنى أن الإنسان يتبرع بتمليك ماله لشخص في حال الحياة، ومعنى التبرع أنه لا يأخذ عليه مقابلاً.
وقوله: «ماله» المال كل عين مباحة النفع بلا حاجة.
وقوله: «تمليك» خرج به العارية؛ لأن العارية وإن كانت تبرعاً، لكنها ليست تمليكاً.
وقوله: «تمليك» يؤخذ منه شرط، وهو أن يكون الموهوب له ممن يصح تملكه، فلا يصح أن يهب جبريل عليه السلام؛ لأنه لا يصح تملكه.
وقوله: «ماله» خرج به مال غيره؛ لأنه لا يمكن أن يتبرع الإنسان بملك غيره.
وقوله: «المعلوم» خرج به المجهول، ولكن هذا غير صحيح، فالصحيح جواز هبة المجهول؛ لأنه لا يترتب عليه شيء؛ لأن الموهوب له إن وجد الموهوب كثيراً فهو غانم، وإن وجده قليلاً فلا ضرر عليه وهو غانم أيضاً، فلو وهب لشخص حملاً في بطن صح على القول الذي اخترناه، وهو صحة هبة المجهول.
وقوله: «الموجود» خرج به المعدوم.
وقوله: «في حياته» خرج به الوصية.
وقوله: «غيره» بيان للواقع.
مثال ذلك: شخص أعطى إنساناً كتاباً بدون قيمة، فإننا نسمي هذا هبة، فإن قصد بها ثواب الآخرة سمَّيناها صدقة، وإن قصد بها التودد إلى هذا الشخص فهي هدية، والغالب أن الهدية تكون من الأدنى إلى الأعلى؛ لأن الأدنى لا يريد أن ينفع الأعلى وإنما يريد التودد إليه.
والهبة تكون مع المساوي، ومع من دونه، لكنه لا يقصد بها ثواب الآخرة قصداً أولياً.
وهذه العقود الأربعة
(1)
ـ أيضاً ـ أوسع من عقود المعاوضات من وجه، وأضيق من وجه، فعقود المعاوضات كالبيع والإجارة تجوز حتى ممن عليه الدَّين، أما التبرعات فلا، وعقود التبرعات تجوز في الأشياء المجهولة، والمعاوضات لا تجوز.
وَإِنْ شَرَطَ فِيهَا عِوَضاً مَعْلُوماً فَبَيْعٌ ............
قوله: «وإن شرط فيها» ، أي: في الهبة.
قوله: «عوضاً معلوماً فبيع» ، يعني فلها حكم البيع، مثال ذلك: قال رجل لأخيه: وهبتك هذا على أن تعطيني عشرة ريالات، فنقول: هذه بيع ويثبت لها أحكام البيع، فيكون فيها خيار المجلس، ولا بد فيها من إيجاب وقبول، وسائر الشروط، ولهذا لو قلت لإنسان وأنت ذاهب معه إلى الجامع، وقد أذَّن
(1)
الوقف والهبة والعطية والهدية.
الأذان الثاني يوم الجمعة: أعطيتك هذا القلم تبرعاً فإنه يجوز، ولو قلت: أعطيتك هذا القلم بشرط أن تعطيني خمسة ريالات فلا يجوز؛ لأنه بيع.
وَلَا يَصِحُّ مَجْهُولاً، إِلاَّ مَا تَعَذَّرَ عِلْمُهُ وَتَنْعَقِدُ بالإِيجَابِ وَالقَبُولِ وَالمُعَاطَاةِ الدَّالَّةِ عَلَيْهَا وَتَلْزَمُ بِالقَبْضِ بِإِذْنِ وَاهِبٍ، إِلاَّ مَا كَانَ فِي يَدِ مُتَّهِبٍ،
......
قوله: «ولا يصح مجهولاً» يعني لا يصح أن يهب شيئاً مجهولاً، وليس المراد لا يصح مجهولاً فيما شرط فيه العوض، وعلى هذا فلو أن شخصاً له جَمَلٌ شارد، وقال لآخر: وهبتك جملي الشارد، فإنه لا يجوز؛ لأنه مجهول وغير مقدور عليه فلا يصح، أو قال: وهبتك ما في هذا الكيس من الدراهم، فإنه لا يصح؛ لأنه مجهول، وهذا الذي ذهب إليه المؤلف رحمه الله هو المذهب.
والقول الثاني وهو الصواب: أنه يصح أن يهب المجهول؛ وذلك لأن الهبة عقد تبرع، والإنسان فيها إما غانم وإما سالم، فليس هذا من باب الميسر الدائر بين غرم وغنم، بل بين غنم وسلامة، فإذا وهبته شيئاً مجهولاً وقبل فلا ضرر عليه؛ لأنه إما أن يحصل على شيء يريده، أو شيء لا يريده، فإن حصل على شيء يريده فهذا هو المطلوب، وإلا فلا ضرر عليه.
قوله: «إلا ما تعذر علمه» فتصح هبته، مثل أن يختلط ماله بمال شخص على وجه لا يُدرى عن كميته، ولا يتميز بعينه، فيقول: وهبتك مالي الذي اختلط في مالك، فهذا مجهول يتعذر علمه، فعلى المذهب يصح لدعاء الضرورة لذلك.
والصواب: أنه يصح هبة المجهول، سواء تعذر علمه أم لم يتعذر.
قوله: «وتنعقد» أي: الهبة.
قوله: «بالإيجاب» وهو اللفظ الصادر من الواهب.
قوله: «والقبول» وهو اللفظ الصادر من الموهوب له، فيقول: وهبتك هذا الكتاب، ويقول الثاني: قبلت، فالأول إيجاب والثاني قبول.
قوله: «والمعاطاة الدالة عليها» أيضاً تنعقد بالمعاطاة، أي بدون أن يتلفظ، بشرط أن تكون هذه المعاطاة دالة على الهبة، مثل أن يكون عند شخص وليمة، فأرسل إليه أخوه شاةً ولم يقل شيئاً، فأخذ الشاة وذبحها وقدمها للضِيفان، فتصح الهبة؛ لأن هذا دال عليها؛ لأن المرسل صديقه وأراد أن يساعده، فأرسل إليه الشاة ولم يقل: هبة؛ لأنه يخشى إذا قال: هبة، أن يكون فيها نوع من المنة، ورجل آخر بيده كتاب فرآه صاحبه، فلما رآه ينظر إليه أعطاه إياه بدون أن يقول: وهبتك، وبدون أن يقول ذاك: قبلت، فهذه المعاطاة الظاهر أنها تدل على الهبة، لا سيما إذا كان الواهب ممن عرف بالكرم، وإلا فقد يقال: إن الأصل بقاء ملكه، ولا تصح هذه الهبة؛ لأنه ربما أعطاه إياه من أجل أن ينظر فيه ويستفيد منه، والدليل على انعقادها بالمعاطاة أن الرسول صلى الله عليه وسلم يعطي الصدقات ويعطي من الفيء ولا يقول للمعطى: أعطيت، ولا يقول المعطى: قبلت؛ ولأن جميع العقود تنعقد بما دل عليها.
إذاً صيغتها نوعان: قولية، وفعلية، فالقولية هي الإيجاب والقبول، والفعلية هي المعاطاة الدالة عليها.
قوله: «وتلزم بالقبض بإذن واهب» إذا تمت الهبة بالإيجاب والقبول فليس فيها خيار مجلس، لكن فيها خيار مطلقاً حتى تقبض؛ لأنها لا تلزم إلا بالقبض، فلو قال: وهبتك كتابي الفلاني، فقال: قبلت، ولم يسلمه له، ثم رجع، فرجوعه جائز؛ لأن الهبة لا تلزم إلا بالقبض، فإذا قبضها فليس فيها خيار مجلس؛ لأن هذا عقد تبرع، والذي فيه خيار المجلس هو عقد المعاوضة.
والفرق بينهما ظاهر، ففي عقد المعاوضة أعطى الشارع المتعاقدين مهلة ما داما في المجلس؛ لأن الإنسان قد يرغب في السلعة، وإذا بيعت عليه نزلت من عينه، وهذا شيء مشاهد، فجعل له النبي صلى الله عليه وسلم الخيار إذا أحب أن يردها
(1)
.
لكن الهبة ليس فيها معاوضة، فهو أعطيها مجاناً، حتى لو كان في الأول يحبها ثم أعطيها ونزلت من عينه، فهذا لا يضره شيء، والدليل على أن الهبة لا تلزم إلا بالقبض أن أبا بكر رضي الله عنه وهب عائشة رضي الله عنها ثمرة نخل، ثم لما مرض رجع فيها، وقال لها: لو أنك جذذتيه كان لك، أما الآن فهو ميراث
(2)
، فدل هذا على أنها لا تلزم إلا بالقبض،
(1)
أخرجه البخاري في البيوع/ باب إذا خيَّر أحدهما صاحبه (2112)؛ ومسلم في البيوع/ باب ثبوت خيار المجلس (1531)(44) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
(2)
أخرجه مالك (2/ 752) وعبد الرزاق (16507)؛ والبيهقي (6/ 169) عن عائشة رضي الله عنها. انظر: نصب الراية (4/ 122) وصححه الحافظ في تخريج أحاديث الكشاف كما في موسوعة الحافظ ابن حجر الحديثية (2/ 518) ومثله في الإرواء (1619).
والمسألة خلافية، لكن هذا المذهب في هذه المسألة ونحن نمشي عليه.
ولا بد ـ أيضاً ـ من إذن الواهب بذلك، فلو قال رجل: وهبتك بعيري الذي في حظيرتي، فقال: قبلت، ثم ذهب الموهوب له مسرعاً وأخذ البعير، فهل تلزم الهبة؟ المؤلف يقول: لا تلزم إلا إذا قال: اذهب فاقبضها، أو ذهب معه وأقبضه إياها، أما أن يقبض بدون إذنه فلا، فإذا قال قائل: أليس يلزم من الهبة الإذن في القبض؟ قلنا: لا يلزم؛ لأنه قد يندم الواهب فيرجع قبل القبض، وأنت إذا بادرت وقبضت بدون إذنه سددت عليه الباب، وهو له الحق أن يرجع حتى يسلمك إياها، أو يأذن لك بالقبض، فلهذا اشترط ذلك المؤلف فقال:«بإذن واهب» .
قوله: «إلا ما كان في يد متَّهب» ، فما كان في يد متَّهب لا يحتاج إلى إذن، كشخص استعار كتاباً من آخر والكتاب في يده، فقال له مالك الكتاب: قد وهبتك كتابي الذي استعرته مني، فلا يحتاج أن يقول: وهل تأذن لي في قبضه؟ لأنه في يده، فصار بعد الهبة مقبوضاً.
فإن قال قائل: إن قبضه هنا يختلف، فقبضه قبل الهبة على أن يده يد أمانة لا يد مالك، وبعد الهبة صارت يده يد مالك، نقول: هذا الفرق لا يؤثر؛ لأن العبرة هل الموهوب وصل إلى الموهوب له أو لا؟ وحينئذٍ نقول: إنه قد وصل، ومثل العارية الوديعة، كما إذا أعطيت شخصاً كتاباً، وقلت له: خذ هذا الكتاب احفظه عندك حتى أطلبه منك، ثم وهبته إياه، فهذا لا
يحتاج إلى إذن في القبض، حتى المغصوب، فالعلماء يقولون: لو أن رب المال قال للغاصب: قد وهبتك ما غصبت، لزمت بمجرد القول؛ لأنها عنده.
ولو أن الواهب مات بعد أن وهب الهبة ولم يقبضها الموهوبُ له، فهل تلزم الهبة؟ لا تلزم؛ لأن الموهوب له لم يقبضها، والمال يرجع إلى الورثة؛ لأنها هبة لم تلزم، ولو وهب شيئاً ولم يُقبِضه ثم باعه فإن البيع يصح؛ لأن الهبة لا تلزم إلا بالقبض، فإذا لزمت بالقبض فإن الملك يكون من عقد الهبة، ونظيره إذا بعت عليك سلعة، فما دمنا في مجلس العقد فلكل واحد منا الخيار، فإذا تفرقنا لزم البيع، ويكون دخول ملك المبيع للمشتري من حين العقد لا من حين التفرق، وعلى هذا فإذا قلنا: إن الهبة لا تلزم إلا بالقبض، فإنه ما دام لم يقبضها الموهوب له فللواهب الرجوع، فإذا قبضها فهي ملك الموهوب له، وملكه من العقد، فصارت تملك بالعقد، ولا تلزم إلا بالقبض.
وعلى هذا فلو نَمَتْ فالنماء من نصيب الموهوب له، ويجب على الواهب أن يرده إلى الموهوب له.
وَوَارِثُ الوَاهِبِ يَقُومُ مَقَامَهُ وَمَنْ أَبْرَأَ غَرِيمَهُ مِنْ دَيْنِهِ بِلَفْظِ الإِحْلالِ أَوْ الصَّدَقَةِ أَوِ الهِبَةِ وَنَحْوِهَا بَرِئَتْ ذِمَّتُهُ، وَلَوْ لَمْ يَقْبَلْ وَتَجُوزُ هِبَةُ كُلِّ عَيْنٍ تُبَاعُ، وَكَلْبٍ يُقْتَنَى ......
قوله: «ووارث الواهب يقوم مقامه» يعني في الإقباض وعدمه، فإذا مات الواهب بعد الإيجاب والقبول قبل أن يسلمها، فلورثته الحق في أن يمنعوا التسليم ولهم أن ينفذوها ويسلموها.
وعلم من قوله: «ووارث الواهب» أن وارث المتَّهب لا يقوم مقامه، وعلى هذا فلو وهب شيئاً لشخص ثم مات الموهوب له قبل القبض، بطلت الهبة؛ لأنه تعذر قبضه بعد أن مات.
فإن قال قائل: ما الفرق بين هذا وهذا؟
نقول: لأنه في مسألة الواهب عقد يؤول إلى اللزوم فلم ينفسخ بالموت، أما المتهب إذا مات ولم يقبض شيئاً فليس هنا شيء حتى يرجع إلى ورثته، ولذلك فرَّقوا رحمهم الله بين موت الواهب فقالوا: لا تبطل الهبة به ويقوم وارثه مقامه، وبين موت المتهب فقالوا: إن الهبة تبطل لتعذر القبض حينئذٍ.
قوله: «ومن أبرأ غريمه من دينه» ، «من» شرطية عامة، فتشمل الغني والفقير، والمحجور عليه والطليق، والذكر والأنثى، والصغير والكبير، ولكن هذا ليس على عمومه، فمراد المؤلف: من أبرأ غريمه بشرط أن يكون ممن يصح تبرعه، فهو عام أريد به الخاص، وعليه لو أبرأ المحجور عليه غريمه من دَينه لم يبرأ؛ لأن المحجور عليه لا يصح تصرفه في ماله.
ولو أبرأ ولي اليتيم غريم اليتيم من دَينه لم يبرأ؛ لأن ولي اليتيم لا يصح منه الإبراء.
ولو أبرأ الوكيل غريم الموكل من دينه لا يبرأ؛ لأن الوكيل يتصرف وليس له أن يتبرع، وهلم جرًّا، فكل من يتصرف في مال غيره لا يمكن أن يتبرع به.
وقوله: «غريمه» ، أي: الذي يطلبه، فلدينا طالب ومطلوب، فالمدين يسمى غريماً.
وقوله: «من دينه» ، ظاهره أنه لا فرق بين أن يكون كثيراً أو قليلاً.
وعُلِم من كلمة «دَينه» أنه لا بد أن يكون الدَّين معيَّناً، فإن
كان له على شخص دَينان أحدهما (بُرٌّ) والآخر (شعير) فأبرأه من أحدهما، فظاهر كلام المؤلف أنه لا يبرأ؛ لأنه لم يعين الدَّين الذي أبرأه منه.
والصواب: أنه يبرأ من أحدهما، ويرجع في التعيين إلى المبرئ؛ لأن المبرَأ لم يملك ذلك إلا من قبل المبرِئ، ولأن هذا من جهته وهو أعلم بما أراد.
فلو أن رجلاً له على شخص مائة دينار ومائة درهم، ثم قال له: أبرأتك من أحد دَينيك، ولم يعين لا الدنانير ولا الدراهم، فقال المدين: هي الدنانير، وقال المبرِئ: هي الدراهم، فنرجع هنا إلى قول المبرئ؛ لأنه أعلم بنيته، والمال ماله فيبرئه مما شاء، لكن على المذهب لا يجوز إلا ديناً معيناً لقوله:«من دَينه» .
وقوله: «من دَينه» ، لو أبرأه من دَين غيره، وقال للمدين: إني أبرأتك من دين فلان وأنا أقضيه، فلا يصح ولا يبرأ، وقوله: وأنا أقضيه، هذا وعد والوعد لا يُلزِم، فلا بد أن يكون من دينه لا من دَين غيره.
قوله: «بلفظ الإحلال أو الصدقة أو الهبة ونحوها» ، هذه مسألة لا بد أن نعرفها تماماً، فقوله:«بلفظ» احترازاً مما لو أبرأه بقلبه، كرجل له في ذمة فلان ألف ريال، فنوى بقلبه أنه أبرأه لكن لم يقل: إني أبرأته، أو لم يقل له: أبرأتك، أو أحللتك، أو سامحتك أو تصدقت عليك أو وهبته لك، فلا يبرأ، وهذا مثل إنسان يعين دراهم للصدقة بها، وقبل أن يتصدق منعها، فلا حرج عليه.
قوله: «برئت ذمته» ، أي ذمة الغريم، وبقي حراً طلقاً ليس عليه دين.
قوله: «ولو لم يقبل» ، أي: فإن الدَّين يسقط ولو لم يقبل؛ لأن الدين وصف في الذمة، فإبراؤه منه إزالة وصف عن المدين، وليس إدخال ملك عين عليه كالهبة، ولهذا لم يشترط في الإبراء قبول المبرَأ، بخلاف الموهوب له فإنه يشترط قبوله، وهذه هي قاعدة المذهب: أن الأوصاف لا يشترط فيها القبول، ولهذا لو كان في ذمة زيد لعمرو مائة صاع بر وسط، فأعطاه زيد مائة صاع من البر الجيد، فقال صاحب الدين: أنا لا أقبل إلا الوسط، فلا يشترط قَبول صاحب الدين؛ لأن هذا وصف، فإنه لم يعطه أكثر من مائة بل زاده خيراً في الوصف، لكن لو أراد أن يزيده صاعاً واحداً، فلا يصح إنشاء الزيادة إلا بقبول ممن له الدَّين.
وقال بعض أهل العلم: لا تبرأ ذمته إلا بالقبول؛ لأن المبرأ ربما يلاحظ شيئاً آخر وهو المِنَّة.
والصحيح في هذا التفصيل: أنه إن رد الإبراء دفعاً للمنَّة عليه فإنه لا يُلزَم بذلك؛ لأن المبرَأ قد يقول: لو أنني قبلت لأصبح هذا الرجل يتحدث بين الناس: إني أبرأت فلاناً، أو كلما حصل شيء قال: هذا جزائي حين أبرأتك من دينك! فهنا إذا لم يقبل فله الحق؛ لأنه يقول: أنا لم أقبل خوفاً من المنة، ولا شك أن هذا وصف كل إنسان يحب أن يدفعه عن نفسه.
مسألة: إذا أبرأ غريمه من الدين فهل تجب عليه الزكاة؟ بمعنى أنه لو كان له دين عند شخص وتمت عليه السنة فأبرأه
منه، فهل تجب عليه زكاته؛ لأن إبراءه كقبضه أو لا تجب؟
الجواب: فيه تفصيل: إن وجبت الزكاة في هذا الدين لم يسقطها الإبراء، وإن لم تجب فإنه يسقطها الإبراء، فهذا هو الضابط، مثل أن يبرئ فقيراً أو ما أشبه ذلك فهنا لا تجب، وأما القول بأنه إذا أبرأه منه فإن الزكاة واجبة على كل حال؛ لأن الإبراء كالقبض، والدين إذا قبض ـ سواء على غني أو على فقير ـ فإن الزكاة فيه واجبة، فهو ضعيف.
قوله: «وتجوز هبة كل عين تباع» ، أفادنا رحمه الله أن الهبة إنما تكون في الأعيان، وأما الدين فيسمى إبراءً.
وقوله: «تباع» أي: يصح بيعها، فخرج بذلك ما لا يصح بيعه.
وظاهر كلامه أن ما لا يصح بيعه ولو لجهالته، أو عدم القدرة عليه لا تصح هبته، والصحيح في هذا أن ما لا يصح بيعه لجهالته، أو الغرر فيه، فإن هبته صحيحة، كما لو أبق عبد لشخص فقال لصاحبه: إني قد وهبتك عبدي الآبق، فقبل، فالصواب جواز هذا؛ لأن الموهوب له إن أدركه فهو غانم وإن لم يدركه فهو سالم، بخلاف البيع، وكذلك المجهول تصح هبته على القول الراجح؛ لأن الموهوب له إما سالم وإما غانم، فلا يكون ذلك من باب الميسر الذي حرمه الله عز وجل في كتابه.
ولو وهب موقوفاً فإنه لا تصح هبته؛ لأن الموقوف لا يصح بيعه، ولو وهب مرهوناً لم يصح؛ لأن المرهون لا يصح بيعه، ولو وهب مؤجَّراً صحت الهبة؛ لأن المؤجر يصح بيعه، ولكن لا
يملك الموهوب له منافعه حتى تتم مدة الأجرة، فلو أجَّر بيته لمدة سنة، ووهبه آخر بعد مضي ستة أشهر فالهبة صحيحة، ولكن الموهوب له لا يملك المنافع إلا إذا تمت المدة، بمعنى أن حق المستأجر ثابت على ما هو عليه، أما ما يستحقه من الأجرة فإنه للموهوب له من حين ما وُهِبَ له بقسطه.
قوله: «وكلب يقتنى» يعني وتصح هبة الكلب الذي يقتنى، أي: يجوز اقتناؤه، مع أن الكلب لا يصح بيعه؛ لأن المحرم هو أخذ العوض عليه، فإن وهبه بلا عوض فلا بأس به، وهبته ـ أيضاً ـ ليست هبة حقيقة، ولكنها عبارة عن تنازل عن اختصاص بهذا الكلب، وإلا فالكلب لا يصح بيعه، وما لا يصح بيعه لا تصح هبته.
وقوله: «وكلب يقتنى» أفادنا رحمه الله أن الكلب الذي لا يقتنى لا تصح هبته؛ وذلك لأن الواهب في هذه الحال لا حق له فيه حتى يهبه.
والذي يُقتنى هو ما كان لثلاثة أمور: إما الحرث، وإما الماشية، وإما الصيد
(1)
، فهذه ثلاثة أشياء يجوز اقتناء الكلب لها بشرط ألا يكون أسود، فإن كان أسود فإنه لا يجوز اقتناؤه؛ لأنه لا يحل صيده؛ ولأنه شيطان
(2)
فلا يحل اقتناؤه، لكن الكلب
(1)
لما أخرجه البخاري في الوكالة/ باب اقتناء الكلب للحرث (2322)؛ ومسلم في المساقاة/ باب الأمر بقتل الكلاب
…
(1575)(58).
(2)
لما أخرجه مسلم في الصلاة/ باب ما يستر المصلي (510) عن أبي ذر رضي الله عنه.
الذي يجوز اقتناؤه يجوز للمقتني أن يهبه؛ وذلك لأن هبته حقيقتها التنازل عن حقه في هذا الكلب.
فإن اقتنى كلباً في حال لا يباح اقتناؤه فيها ووهبه، فهذا لا يصح؛ وذلك لأن هذا الواهب لهذا الكلب ليس له حق فيه، إذ أنه لا يجوز له أن يقتنيه، فكيف يتنازل عن شيء لا حق له فيه؟!
فَصْلٌ
يَجِبُ التَّعْدِيلُ فِي عَطِيَّةِ أَوْلَادِهِ بِقَدْرِ إِرْثِهِمْ،
......
قوله: «يجب» ، الواجب هو الذي يثاب فاعله امتثالاً ويستحق العقاب تاركه.
قوله: «التعديل» ، بمعنى أن يعاملهم بالعدل.
قوله: «في عطية أولاده» ، يشمل الذكر والأنثى، والمراد بالعطية هنا الهبة، فهي أعم من العطية في مرض الموت.
ودليل الوجوب حديث النعمان بن بشير بن سعد رضي الله عنهما أن أباه نحله نِحلة، فقالت أم النعمان رضي الله عنها: لا أرضى حتى تُشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهب بشير بن سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره ليشهده على ذلك، فقال له: ألك بنون؟ قال: نعم، قال: أنحلتهم مثل هذا؟ قال: لا، قال:«لا أشهدُ، أَشْهِدْ على هذا غيري، فإني لا أشهد على جَوْر» ، ثم قال:«اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم، أتحب أن يكونوا لك في البر سواءً؟» ، قال: نعم
(1)
، فرجع بشير بن سعد في هبته لولده النعمان.
قوله: «بقدر إرثهم» ، يعني أن يعطي الذكر مثل حظ الأنثيين وهذا في العطية المحضة، فلو أعطاهم بالسوية لكان هذا جَوْراً، لأنه زاد الأنثى ونقص الذكر، أما ما كان لدفع الحاجة فإن يتقدر بقدرها.
وما ذكره المؤلف رحمه الله هو القول الراجح، أن
(1)
سبق تخريجه ص (36).
الأولاد يعطون على حسب ما ذكر الله عز وجل في كتابه في إرثهم: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] ولا شك أنه لا أعدل من قسمة الله عز وجل، ومن قال: إن هناك فرقاً بين الحياة والممات، فإنه يحتاج إلى دليل على ذلك، فنقول: هم في الحياة وبعد الممات سواء.
وأفادنا المؤلف رحمه الله بقوله: «في عطية» أنه بالنسبة للنفقة لا يكون التعديل بينهم بقدر إرثهم، بل بقدر حاجتهم، فيجب التعديل في الإنفاق على ولده بقدر الحاجة، فإذا قدر أن الأنثى فقيرة، والذكر غني، فهنا ينفق على الأنثى ولا يعطي ما يقابل ذلك للذكر؛ لأن الإنفاق لدفع حاجة، فالتعديل بين الأولاد في النفقة أن يعطي كل واحد منهم ما يحتاج، فإذا فرضنا أن أحدهم في المدارس يحتاج إلى نفقة للمدرسة، من كتب ودفاتر وأقلام وحبر وما أشبه ذلك، والآخر هو أكبر منه لكنه لا يدرس، فإذا أعطى الأول لم يجب عليه أن يعطي الثاني مثله.
ولو احتاج الذكر إلى غترة وطاقية قيمتهما مائة ريال مثلاً، واحتاجت الأنثى إلى خرصان في الآذان قيمتها ألف ريال، فالعدل أن يشتري لهذا الغترة والطاقية بمائة ريال، ويشتري للأنثى الخرصان بألف ريال، وهي أضعاف الذكر عشر مرات، فهذا هو التعديل.
ولو احتاج أحدهم إلى تزويج والآخر لا يحتاج، فالعدل أن يعطي من يحتاج إلى التزويج ولا يعطي الآخر، ولهذا يعتبر من الغلط أن بعض الناس يزوج أولاده الذين بلغوا سن الزواج، ويكون
له أولاد صغار، فيكتب في وصيته: إني أوصيت لأولادي الذين لم يتزوجوا، أن يُزَوج كل واحد منهم من الثلث، فهذا لا يجوز؛ لأن التزويج من باب دفع الحاجات، وهؤلاء لم يبلغوا سن التزويج، فالوصية لهم حرام، ولا يجوز للورثة ـ أيضاً ـ أن ينفذوها إلا البالغ الرشيد منهم إذا سمح بذلك، فلا بأس بالنسبة لحقه من التركة.
وهنا مسائل:
الأولى: هل يفضِّل بينهم باعتبار البِرِّ؟ يعني إذا كان أحدهما أبر من الآخر، فقال: سأعطي البار أكثر مما أعطي العاق؛ تشجيعاً للبار وحثاً للعاق؟ فهذا لا يجوز؛ لأن البر ثوابه أعظم من دراهم تعطيه إياها، فالبر ثوابه عند الله عز وجل، ولا تدري فلعل البار اليوم يكون عاقاً بالغد، والعاق اليوم يكون باراً بالغد، فلا يجوز أن تفضله من أجل برِّه.
الثانية: إذا كان أحد الأولاد يعمل معه في متجره أو مزرعته، فهل يجوز أن يعطيه زيادة على الآخر الذي لم ينتفع منه بشيء؟ فيه تفصيل: إن كان الذي يُعِين أباه يريد بذلك وجه الله فإنه لا يعطيه شيئاً؛ لأنه يدخل في البر، وإن كان يريد عوضاً على ذلك، أو أن أباه فرض له العوض قبل أن يعمل فلا بأس، ولكن يُعطى مثل أجرته لو كان أجنبياً.
الثالثة: إذا كان أحد الأبناء كافراً بردة، أو من الأصل لم يدخل في الإسلام، فبعض العلماء يقول: لا يجب التعديل؛ لأن الله تعالى قال: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ *} [القلم].
وبعض العلماء قال: بل يجب التعديل؛ لأن هذا حق سببه
الولادة، وهي ثابتة في الكافر كما هي ثابتة في المسلم، وينبغي أن يقال: ينظر للمصلحة إذا كان إعطاؤه للمسلم دون الكافر يقتضي أن يقرب الكافر للإسلام فيدخل في الإسلام، فهذا يعطي المسلم، وإن لم يكن مصلحة فلا يجوز، بل يجب التعديل.
وقوله: «في عطية أولاده» هل يقاس عليهم بقية الورثة؟ يعني لو كان للإنسان أخوان شقيقان، فهل يجوز أن يعطي أحدهما دون الآخر؟
ظاهر كلام المؤلف: يجوز؛ لأنه خص وجوب التعديل بالأولاد فقط، وهذا هو الحق؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم»
(1)
، ولم يقل:«بين ورَّاثكم» ، والنبي صلى الله عليه وسلم أعطي جوامع الكلم، ولو كان التعديل واجباً بين جميع الورثة لبينه النبي صلى الله عليه وسلم.
لكن إذا كان له أخوان، وخاف إذا أعطى أحدهما كان ذلك سبباً للقطيعة بالنسبة للآخر، فهنا له أن يعطيه، لكن يجب أن يجعل العطاء سرًّا؛ حتى لا تحصل القطيعة من الأخ الثاني، وهنا الواجب ليس هو التعديل، بل الواجب هو دفع ما يخشى منه من قطيعة الرحم، وهذا يحصل بالإسرار.
وما قاله المؤلف من أن التعديل يكون بقدر إرثهم هو القول الراجح، ودليله قسمة الله تبارك وتعالى للأولاد أن للذكر مثل حظ الأنثيين.
وقال بعض العلماء: إن التعديل يكون بالتسوية، أي أن
(1)
سبق تخريجه ص (36).
يعطي الأنثى كما يعطي الذكر، واحتجوا بظاهر عموم حديث النعمان رضي الله عنه:«اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم» ، و «أولاد» صالحة للذكر والأنثى، وبقوله صلى الله عليه وسلم:«أتحب أن يكونوا لك في البر سواء؟»
(1)
، فظاهره أنهم يعطون بالسوية ليكون البر بالسوية، ولكن لا دلالة في ذلك.
أما الأول: فإن قوله: «اعدلوا بين أولادكم» ، ولم يقل سوّوا، بل قال:«اعدلوا» ، ولا نرى أعدل من الله عز وجل وقد قال الله تعالى:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11]، فالعدل أن يعطى الذكر مثل حظ الأنثيين.
ثانياً: أنه في بعض ألفاظ الحديث قال: «ألك بنون؟»
(2)
قال: نعم، قال:«هل أعطيتهم مثله؟» قال: لا، قال:«اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم» ، فقوله:«ألك بنون» يفيد أن القضية بين النعمان بن بشير رضي الله عنه وإخوانه وهم ذكور، وأنه ليس هناك أخوات فإذا كانوا ذكوراً فإنه يجب التسوية.
ثالثاً: أن قوله: «أتريد أن يكونوا لك في البر سواء؟» نقول: هم إذا علموا أن أباهم أعطاهم على حسب قسمة الله، لم يكن في قلب أحدهم حقد ولا غل على الأب، فيبرُّونه على السواء، فالصواب ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله أن التعديل يكون بقدر إرثهم.
(1)
سبق تخريجه ص (36).
(2)
أخرجه مسلم في الهبات/ باب كراهة تفضيل بعض الأولاد في الهبة (1623)(15).
فَإِنْ فَضَّلَ بَعْضَهُمْ سَوَّى بِرُجُوعٍ أَوْ زِيَادَةٍ، فَإِنْ مَاتَ قَبْلَهُ ثَبَتَتْ وَلَا يَجُوزُ لِواهِبٍ أَنْ يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ اللاَّزِمَةِ إِلاَّ الأَبِ ......
قوله: «فإن فضَّل بعضهم» يعني أعطاه أكثر من الآخر أو خصَّه بعطاء.
قوله: «سوَّى» أي بينهم، ولو قال المؤلف:(عَدَّل) لكان أولى؛ لأن أول كلامه يقول: «يجب التعديل» ولم يقل: التسوية، ثم إن قوله:«سوَّى» ليس على إطلاقه؛ لأنه لو قلنا: «سوَّى» للزم أن نعود إلى مشكلة، وهي أن يكون الذكر والأنثى سواء، وليس ذلك مراداً، وعلى كل حال فمراده بالتسوية هنا التعديل.
قوله: «برجوع» على من فُضِّل ليساوي الناقص.
قوله: «أو زيادة» لمن فُضِّل عليه، فمثلاً إذا أعطى أحدهم ألف ريال، وأعطى الثاني ألفين، فطريق التسوية، إما أن يأخذ من الذي أعطاه ألفين ألفاً، وهذا هو قوله:«برجوع» ، وإما أن يضيف إلى الذي أعطي ألفاً ألفاً أخرى، وهذا معنى قوله:«أو زيادة» .
وهناك طريق ثالث: وهي أن يأخذ من الجميع، فيأخذ ممن أعطاه ألفين وممن أعطاه ألفاً، فيكون راجعاً في الهبة، ورجوع الوالد في الهبة جائز كما سيأتي إن شاء الله.
فإن قال قائل: هل هذا الحكم يشمل الأم والأب؟
فالجواب: نعم، يشمل الأم والأب؛ لأن العلة واحدة، فإذا أعطت الأم أحد أولادها شيئاً فلتعطِ الآخر مثله، ويكون للذكر مثل حظ الأنثيين.
فإن قال قائل: وهل يشمل ذلك الجد، يعني لو كان له أولادُ أولادٍ، فهل يجب أن يُعَدِّل بينهم؟
الجواب: الظاهر أنه لا يجب؛ لأن قوة الصلة بين الأب وابنه، أقوى من قوة الصلة بين الجد وأبناء أبنائه، لكن لو كان هناك خوف من قطيعة رحم، فيتجه مراعاتهم بأن يعطي من يعطي على وجه السر.
قوله: «فإن مات قبله» أي: قبل التسوية.
قوله: «ثبتت» أي: ثبتت العطية، يعني إذا مات الأب الذي فضل بعض الأولاد قبل أن يسوي ثبتت العطية، فإذا أعطى أحدهم ـ مثلاً ـ عشرة آلاف ريال تبرعاً لا نفقة ثم مات، فهذا العطاء يعتبر ملكاً للآخذ ويثبت؛ لأنه لم يتمكن من الرجوع أو تمكن ولكنه فرط، فالمطالب بالرجوع هو الأب وقد مات، فسقط عنه التكليف بموته، والابن الذي فُضِّل مَلَكه ملكاً تاماً، هذا المذهب وهو قول ضعيف؛ لأنه لا يجوز أن نمكن هذا الابن من أَخْذِ مالٍ لا يجوز له أخذه.
والصواب: أنه إذا مات وجب على المفضَّل أن يرد ما فضِّل به في التركة، فإن لم يفعل خصم من نصيبه إن كان له نصيب؛ لأنه لما وجب على الأب الذي مات أن يسوي، فمات قبل أن يفعل صار كالمدين، والدين يجب أن يؤدى، وعلى هذا نقول للمفضَّل: إن كنت تريد بر والدك فرد ما أعطاك في التركة.
ولكن هل للورثة الرجوع، أو الهبة لم تصح من الأصل؟
فيها قولان: قيل: إن العطية لم تصح من الأصل.
وقيل: إنها صحت، لكن إذا مات وهو لم يسوِ فللورثة الرجوع، ويجب على المفضل أن يردها في التركة.
والفرق بين القولين: أننا إذا قلنا: إنها لم تصح من الأصل، فإن ما حصل من نماء بين العطية والموت يكون للورثة؛ لأن العطية لم تصح أصلاً، وإذا قلنا بالصحة ولكن لهم الرجوع، فما حصل من نماء منفصل فهو للموهوب له.
لكن على كل حال القول بأنها تثبت قول ضعيف، والصواب أنه يجب على المفَضَّل أن يرد الزيادة في التركة، أو تخصم من نصيبه.
فإن قال قائل: إذا كان أحدهم يحتاج إلى سيارة والآخرون لا يحتاجون؛ لأن الأول مدرسته بعيدة والآخرون مدرستهم قريبة، فهل يجوز أن يشتري للذي يحتاج السيارة سيارة؛ لأنه يحتاجها؟
لا يجوز؛ لأنه إنما يحتاج للنفع فقط، وهو ركوبها إلى المدرسة ورجوعه، وهذا يحصل بأن تكتب السيارة باسم الوالد، ويبقى الانتفاع للولد، بحيث إذا مات الوالد ترجع هذه السيارة في التركة، ولا يجوز للإنسان أن يُملِّك الولد السيارة؛ لأن المقصود دفع الحاجة، ودفع الحاجة يحصل بدون تمليك؛ لأنه ربما يعطيه السيارة بستين ألفاً اليوم ويموت الأب غداً.
فلذلك نقول: هذه مسألة يجب التفطن لها، إذا كان أحد الأبناء يحتاج إلى سيارة والآخرون لا يحتاجون، فإننا لا نعطي المحتاج سيارة باسمه، ولكن تكون السيارة باسم الأب، وهذا يدفع حاجته بانتفاعه بها، وإذا مات الأب ترجع في التركة.
إذاً القول الراجح: أنه إذا مات فإنها لا تثبت العطية، ويجب ردها في التركة.
قوله: «ولا يجوز لواهب أن يرجع في هبته اللازمة إلا الأب» ، «واهب» نكرة في سياق النفي، فتعم كل واهب، ويدل على إرادة العموم الاستثناء في قوله:«إلا الأب» ، وقد قال العلماء رحمهم الله: إن الاستثناء معيار العموم.
وقوله: «هبته اللازمة» احترازاً من الهبة غير اللازمة، والهبة اللازمة هي المقبوضة، وغير اللازمة هي التي لم تقبض، فلو قال لشخص: وهبتك سيارتي الفلانية، وقال: قبلت، وبعد أن وهبها رجع، فالرجوع جائز وصحيح؛ لأنه لم يقبضها، والهبة لا تلزم إلا بالقبض، فإذا قبضها وأراد الرجوع، فإنه لا يحل له ولا يملك أيضاً، حتى في مجلس الهبة، فلو أنه وهبه قلمه وهما في المجلس، وقال: رجعت بعد أن قبضها الموهوب له فإنه لا يملك ذلك؛ لأنها ثبتت ولزمت فيحرم أن يرجع في هبته اللازمة؛ وذلك أن الهبة بعد القبض تصير ملكاً للموهوب له، فإذا رجع فيها فقد أخذ ملك غيره بغير حق فصار هذا حراماً، هذا تعليل المسألة من حيث النظر.
أما من حيث الأثر فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس لنا مَثَلُ السوء، العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه»
(1)
، فقوله صلى الله عليه وسلم:«ليس لنا مثل السوء» ، هذه الجملة مفيدة جداً في الذين
(1)
أخرجه البخاري في الهبة/ باب لا يحل لأحد أن يرجع في هبته وصدقته (2622)؛ ومسلم في الهبات/ باب تحريم الرجوع في الصدقة (1622) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
يمثلون أصوات الحيوان مثلاً، فيقال: ليس لنا مثل السوء، هكذا قال النبي صلى الله عليه وسلم فلا يجوز التمثيل بالحيوانات.
وقوله: «العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه» مثل يراد به التقبيح والتنفير، فالكلب خسيس، من أخس الحيوان وأقبحه، بل هو أنجس الحيوان فيما نعلم؛ لأنه هو الذي يجب أن تغسل نجاسته سبع مرات إحداها بالتراب
(1)
، يقيء ثم يرجع ويأكل القيء!! فعل قبيح، هكذا الذي يهب ثم يرجع، مثله مثل الكلب الذي قاء ثم رجع في قيئه، حتى لو فرض أنه عندما رجع رضي الموهوب له ولم يبالِ، نقول: هذا حرام ولا يجوز، وإذا كان هذا حراماً فينبغي للإنسان إذا وهب شيئاً ألا تتعلق به نفسه؛ لأن بعض الناس يهب الشيء إما لطروء فرح بصاحبه، أو لعاطفة جياشة في تلك الساعة، ثم يندم ويقول: ليتني ما وهبت، فهذا لا ينبغي؛ لأن شيئاً وهبته اجعله عن طيب نفسك ولا تعلق نفسك به، فقد خرج عنك قدراً وشرعاً، فكيف تعلق نفسك به، مع أنه لا يمكن أن تعود؟! فلا يجوز له أن يعود في هبته.
فإن قال قائل: أفلا يمكن أن نقيسها على البيع، ونقول: ما داما في المجلس فللواهب الخيار؟
الجواب: لا؛ لأن البيع عقد معاوضة يحتاج إلى تروٍّ، والإنسان ربما يستعجل فيقدم على البيع دون تروٍّ، فجعل له الشارع مهلة ما دام في المجلس، أما هذا فهو عقد تبرع،
(1)
أخرجه مسلم في الطهارة/ باب حكم ولوغ الكلب (279)(91) بلفظ: «أولاهن بالتراب» عن أبي هريرة رضي الله عنه.
فالواهب لا يريد عوضاً، والموهوب له لم يُؤخذ منه عوضٌ، فلا يصح قياس الهبة على البيع، إذاً تلزم بالقبض ولو في مجلس العقد، ولا يجوز أن يرجع في هبته اللازمة.
فإذا رجع في هبته غير اللازمة كأن يهب شخصاً كتاباً لكنه لم يسلمه له، فله أن يرجع ولكن هذا خلاف المروءة، ولأنه إخلاف للوعد، فنقول: ما دمتَ وهبتَه فقد وعدته، فينبغي إن طرأ عليه ما يقتضي أن يرجع في الهبة، أن يقول للموهوب له قولاً يقتنع به ونحوه حتى يطيب قلبه.
فإن قال قائل: هل يجوز له أن يشتري هبته من الموهوب له؟
فالجواب: لا يجوز؛ لأن الغالب أنك إذا اشتريت الهبة فسوف يخفض لك السعر ويستحي أن يماكسك، فلو وهبت له ما يساوي مائة ثم أردت أن تشتريه منه، فإنك لو قلت له: بثمانين، سوف يقول لك: خذها، ويخجل أن يقول: لا، إلا بمائة، وحينئذٍ تكون قد رجعت في بعض الهبة، لكن بطريق غير مباشر، ولهذا لما حمل أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه على فرس له في سبيل الله، فأضاعه الذي حمله عليه، وظن عمر أنه يبيعه برخص، استأذن من النبي صلى الله عليه وسلم أن يشتريه فقال له:«لا تشترِه ولو باعكه بدرهم، العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه»
(1)
.
أما إذا اشترى صدقته فإنه أشنع؛ لأنه يتضمن شيئين:
(1)
أخرجه البخاري في الهبة/ باب لا يحل لأحد أن يرجع في هبته وصدقته (2623)؛ ومسلم في الهبات/ باب تحريم الرجوع في الصدقة والهبة بعد القبض (1622) عن ابن عمر رضي الله عنهما
الرجوع في الهبة، والرجوع فيما أخرجه لله، وما أخرجه لله لا يجوز فيه الرجوع، حتى البلد إذا هاجر الإنسان منها لله لا يجوز أن يرجع ويسكن فيها؛ لأنه تركها لله وما تُرك لله فإنه لا يرجع فيه.
وقوله: «إلا الأب» ، فله أن يرجع في هبته اللازمة، والدليل على ذلك حديث ورد في هذا:«لا يحل لرجل أن يعطي عطية أو يهب هبة فيرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده»
(1)
، فإنه يرجع فيما وهبه لابنه لقوله صلى الله عليه وسلم:«أنت ومالك لأبيك»
(2)
، لكن الحديث الأول أعله بعضهم وضعَّفه، وقال: إن عموم حديث: «العائد في هبته كالكلب» ، مقدم على هذا الحديث الضعيف، وأن الأب ليس له أن يرجع فيما وهبه لابنه.
لكننا نقول في الجواب عن هذا: إن الاستثناء وإن كان ضعيفاً فله ما يعضده، وهو أن للأب أن يتملك من مال ولده ما شاء، فإذا كان له أن يتملك ما شاء فرجوعه فيما وهبه لابنه من باب أولى، ولكن يستثنى من ذلك ما لم يكن حيلة على التفضيل فلا يجوز، كأن
(1)
أخرجه أحمد (2/ 27)؛ وأبو داود في البيوع/ باب الرجوع في الهبة (3539)؛ والترمذي في البيوع/ باب ما جاء في الرجوع في الهبة (1299)؛ والنسائي في الهبة/ باب رجوع الوالد فيما يعطي ولده (3690)؛ وابن ماجه في الأحكام/ باب من أعطى ولده ثم رجع فيه (2377) عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم، انظر: نصب الراية (4/ 124).
(2)
أخرجه ابن ماجه (2291) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، وصححه البوصيري على شرط البخاري وصححه ابن حبان (410) إحسان عن عائشة رضي الله عنها، وأخرجه الإمام أحمد (2/ 179، 204، 214)؛ وأبو داود في البيوع/ باب الرجل يأكل من مال ولده (3530)؛ وابن ماجه في التجارات/ باب ما للرجل من مال ولده (2292) عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وحسَّن إسناده في الإرواء (3/ 325).
يعطي ولديه كل واحد سيارة، ثم عاد وأخذ من أحدهما سيارته، فهذا الرجوع لا يصح؛ لأنه يراد به تفضيل الولد الآخر.
وقوله: «في هبته اللازمة إلا الأب» يستفاد منه أنه لو أبرأ ابنه من دين فليس له الرجوع؛ لأن الإبراء ليس بهبة، بل هو إسقاط.
وقوله: «إلا الأب» يخرج به الجد، فليس له أن يرجع فيما وهب لابن ابنه، أو لابن بنته، ويخرج من ذلك الأم، فليس لها أن ترجع فيما وهبت لابنها.
فإذا قال قائل: ما الدليل؟
قلنا: عموم «العائد في هبته كالكلب» وصيغة العموم لا يخرج منها إلا ما دل عليه الشرع، وإلا فهي عامة لجميع الأفراد، وهنا لا يصح القياس؛ لأن القياس مخالف للعموم، فالأصل أن المرأة إذا وهبت أبناءها أو بناتها، لا يحل لها أن ترجع.
وقوله: «إلا الأب» هل يحتاج أن نقول: إلا الأب الحر، أو نقول: إنه لا يمكن أن يهب إلا إذا كان حراً؟ نقول: لا يحتاج أن نقيد الأب بالحر؛ لأنه لا يهب إلا وهو حر.
وظاهر كلام المؤلف: أن الأب يرجع ولو كان كافراً فيما وهبه لابنه المسلم للعموم، فلو أن رجلاً غنياً كافراً وهب لابنه المسلم شيئاً فله أن يرجع؛ لأن الحديث عام.
وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ وَيَتَمَلَّكَ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَلَا يَحْتَاجُهُ،
.....
قوله: «وله أن يأخذ ويتملك من مال ولده» لكن لا بد من شرط وهو أن يكون الأب حراً، فنقول:«له» يعود على الأب لكن بقيد أن يكون حراً؛ لأن غير الحر لا يملك فكيف يتملك؟! ولأن
غير الحر لو تملك من مال ابنه فإن ما تملكه يرجع إلى سيده.
وهل يشترط أن يكون موافقاً لابنه في الدِّين؟
إن نظرنا إلى إطلاق الحديث قلنا: لا يشترط، وعلى هذا فيجوز للأب الكافر أن يأخذ من مال ولده المسلم، وللأب المسلم أن يأخذ من مال ولده الكافر، هذا ظاهر الحديث.
وقيل: إنه لا يُمكَّن الأب الكافر من الأخذ من مال ولده المسلم؛ لأنه لا صلة بينهما، ولا توارث؛ ولأن الله تعالى يقول:{وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء: 141]؛ ولأننا لو مكنا الأب الكافر من الأخذ من مال ولده المسلم، لكان في ذلك إذلال للمسلم، وربما يقصد الأب الكافر أن يذل ابنه بالأخذ من ماله.
وعندي لا شك أنه ليس للأب الكافر أن يأخذ من مال ولده المسلم، أما أخذ الأب المسلم من مال ولده الكافر، فهنا قد نقول بعموم الحديث وأن له أن يأخذ؛ لأن أصل بقاء الكافر على الكفر ممنوع، فهو على دين غير مَرْضيٍّ عند الله، وتسليط المسلم على ماله له وجهة نظر، لا سيما إذا كان الابن من المحاربين، فإنه إذا كان من المحاربين فلا شك أن ماله حلال.
إذاً قوله: «له» أي: للأب، ونضيف وصفاً «الحر» ووصفاً آخر «الموافق في الدين» على رأي كثير من العلماء، أو على الأصح ألا يكون كافراً يأخذ من مال مسلم.
وقوله: «وله أن يأخذ ويتملك» الفرق بينهما: يأخذ على سبيل الاستعمال، ويتملك على سبيل الضم إلى ملكه، فله أن يأخذ سيارة الابن يسافر بها إلى مكة، إلى الرياض، إلى المدينة،
إلى أي بلد وإن لم يتملكها، وله أن يتملك وإن لم يأخذ، فيأتي إلى كاتب العدل، مثلاً، ويقول: إني تملكت سيارة ابني فلان ويكتب كاتب العدل، لكن بشروط ستذكر.
وقوله: «من مال ولده» الذكور والإناث؛ لأن الولد إذا أطلق يشمل الذكور والإناث لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أنت ومالك لأبيك»
(1)
لكن بشروط.
قوله: «ما لا يضره» فإن كان يضر الولد فإنه ليس له أن يأخذ، مثل أن يأخذ منه غداءه وهو مضطر إليه، فهنا ليس له ذلك، أو يأخذ منه لحافه وهو مضطر إليه لدفع البرد، فإنه لا يُمكَّن؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«ابدأ بنفسك»
(2)
، ولا يمكن أن نسلط الأب على مال الولد مع أنه يضره.
قوله: «ولا يحتاجه» الحاجة أقل من الضرورة، فإنه ليس له أن يأخذ ما تتعلق به حاجة الابن، مثال ذلك: الابن عنده فرش في البيت ليست ضرورية، لكنه يحتاجها إذا جاءه ضيوف، أو عنده زيادة على قوت يومه وليلته لكنه يحتاجها، فليس للأب أن يتملك هذا؛ لأن هذا تتعلق به حاجة الابن، ومن ذلك سُرِّيَّة الابن إذا كان يحتاجها ولو كان عنده إماءٌ كثير؛ لأنها تتعلق بها نفسه.
إذاً يشترط:
أولاً: ألا يضر الابن.
(1)
سبق تخريجه ص (90).
(2)
أخرجه مسلم في الزكاة/ باب الابتداء بالنفقة على النفس (997) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
ثانياً: ألا يحتاجه.
ثالثاً: أن يكون الأب حراً.
رابعاً: ألا يكون الولد أعلى منه في الدِّين.
خامساً: ألا يأخذ لولد آخر؛ لأنه إذا حرم التفضيل من مال الوالد الخاص، فتحريمه بأخذه من مال الولد الآخر من باب أولى.
مسألة: هل للأب أن يأخذ من أحد أولاده ويعطي الثاني؟
الجواب: نعم إذا كان الآخرون فقراء والأب لا يستطيع أن ينفق عليهم فله ذلك، أما إذا كانوا أغنياء، أو هو يقدر أن ينفق عليهم فلا يجوز؛ لأن هذا يحدث الضغائن بين الأولاد.
فَإِنْ تَصَرَّفَ فِي مَالِهِ وَلَوْ فِيمَا وَهَبَهُ لَهُ بِبَيْعٍ أَوْ عِتْقٍ أَوْ إِبْرَاءٍ أَوْ أَرَادَ أَخْذَهُ قَبْلَ رُجُوعِهِ أَوْ تَمَلُّكِهِ بِقَوْلٍ أَوْ نِيَّةٍ وَقَبْضٍ مُعْتَبَرٍ لَمْ يَصِحَّ بَلْ بَعْدَهُ،
........
قوله: «فإن تصرف» أي: الأب.
قوله: «في ماله» أي: في مال ابنه، فالضمير في «تصرف» يعود إلى الأب، والضمير المجرور في قوله:«ماله» يعود إلى الابن.
قوله: «ولو فيما وهبه له» يعني تصرف الأب في مال ابنه ولو فيما وهبه له، فإنه لا يصح تصرفه، وإنما نص على ما وهبه له؛ لئلا يقول قائل: إن تصرف الأب فيما وهبه لابنه دليل على الرجوع، فيقال: لا، الرجوع لا بد فيه من قول، وهذا الرجل تصرف بلا قول.
مثاله: وهب ابنه سيارة، ثم إنه بعد أن وهبها لابنه وقبضها، باع الأب السيارة، فإنه لا يملك ذلك؛ لأن السيارة لم تزل على ملك الابن، والأب لم يتملكها، ولم يرجع في هبته،
فإذا أجرها فلا يصح التأجير؛ لأنه لم يتملكها.
إذاً يستطيع أن يبيعها أو يؤجرها بأن يرجع في الهبة، يقول: إني رجعت فيما وهبته لابني، حينئذٍ ترجع إلى ملك الأب ويتصرف فيها.
وقوله: «ولو فيما وهبه له» هذه إشارة خلاف، وهو أن بعض العلماء رحمهم الله يقول: إذا تصرف فيما وهبه لابنه، فإن تصرفه يدل على الرجوع، وقاسوا ذلك على رجل وكَّلك في بيع شيء، ثم باعه هو فإنه يصح ويكون بيعه له رجوعاً، فيقال: الفرق واضح؛ لأن الموكل إذا تصرف فيما وكَّلَ فيه فقد تصرف في ملكه، لكن الأب إذا تصرف فيما وهبه لابنه دون أن يرجع، فقد تصرف في ملك غيره، إلا إذا قصد أنه راجع في هبته؛ لأنه لما رجع في هبته دخلت في ملكه، فباعها بعد دخولها في ملكه.
قوله: «ببيع» البيع معروف، مثاله: لولده سيارة فباعها الأب بدون توكيل الابن له فالبيع باطل.
قوله: «أو عتق» الابن له عبد، فقال الأب للعبد: أنت عتيق لوجه الله، فلا يصح العتق؛ لأنه في ملك الابن ولم يتملكه.
قوله: «أو إبراء» يعني من الدَّين، فمثلاً لابنه دين على شخص، فقال الأب للمدين: إني أبرأتك من دين ابني عليك، فإنه لا يبرأ؛ لأن الدين لم يملكه الابن فضلاً عن الأب، فالدين في ذمة المدين، وهذا واضح، هذا أشد من العين التي باعها الأب أو أعتقها.
وقال بعض العلماء: إن تصرف الوالد في مال ولده ببيع أو عتق
أو إبراء صحيح؛ لأنه إذا كان له أن يتملك هذه الأشياء فتصرفه فيها من باب أولى، ويكون الثمن في البيع للابن، أما العتق والإبراء فالأجر للابن؛ لأن هذا أقل مما لو تملكه أصلاً، والظاهر أن الحديث يدل على صحة تصرف الأب في مال ابنه إذا لم يضره أو يحتاجه، وأما الإبراء فليس له ذلك؛ لأن قوله صلى الله عليه وسلم:«أنت ومالك لأبيك»
(1)
، لا يدخل فيه الدَّين؛ لأن الدَّين لا يكون مالاً للابن حتى يقبضه.
قوله: «أو أراد أخذه قبل رجوعه» ، «أخذه» أي: أخذ ما وهبه، والضمير هنا فيه ركاكة؛ لأنك لو قرأت المتن:«أو أراد أخذه» أي أخذ ماله قبل رجوعه، ولكن المراد:«أخذه» أي أخذ ما وهبه قبل رجوعه، يعني وهب ابنه شيئاً ثم أراد أن يضمه إلى ملكه قبل أن يرجع، فإنه لا يصح؛ لأنه لم يصرح بالرجوع، فالرجوع لا بد فيه من اللفظ، بأن يقول: رجعت فيما وهبته لك يا بني، أما أن يأخذه دون أن يصرح بالرجوع فلا يصح.
قوله: «أو تملكه» ، يعني يأخذ ما وهبه بنية التملك لا بنية الرجوع، فله هذا، والتملك يقول المؤلف: له طريقان: القول، أو النية مع القبض.
قوله: «بقول» بأن يقول: إني قد تملكت مال ابني، سيارته أو بيته أو أشياء لا يحتاج إليها ولا تضره.
قوله: «أو نية وقبض معتبر لم يصح» ، يعني يقبض المال
(1)
سبق تخريجه ص (90).
من ابنه بنية التملك، فله حينئذٍ أن يتصرف فيه؛ لأنه لما قبضه بنية التملك صار ملكاً له.
وقوله: «وقبض معتبر» بأن يكون بإذن الابن، وعلى الوصف السابق في كتاب البيع، فما ينقل يكون بنقله، وما يوزن بوزنه، وما يكال بكيله، وما يذرع بذرعه، وما يُعَدُّ بِعَدِّهِ، وما لا يتصور فيه ذلك يكون بتخليته، كالأراضي مثلاً، فالأراضي لا يمكن أن تقبض بما ذكر، فيكون بالتخلية بمعنى أن يرفع يده عنها.
قوله: «بل بعده» ، أي: بل يصح تصرفه بالبيع أو العتق أو الإبراء بعد الرجوع في الهبة، أو بعد التملك في غير الهبة.
وَلَيْسَ لِلْوَلَدِ مُطَالَبَةُ أَبِيهِ بِدَيْنٍ وَنَحْوِهِ إِلاَّ بِنَفَقَتِهِ الوَاجِبَةِ عَلَيْهِ، فَإِنَّ لَهُ مُطَالبَتَهُ بِهَا وَحَبْسَهُ عَلَيْهَا.
قوله: «وليس للولد مطالبة أبيه بدين ونحوه» ، يعني لا يملك الولد أن يطالب والده بدين ونحوه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«إن أطيب ما أكلتم من كسبكم وإن أولادكم من كسبكم»
(1)
، ولأنه إذا جاز أن يتملك من ماله فإنه لا يجوز للولد أن يطالبه بدَينه.
مثال ذلك: استقرض الأب من ابنه عشرة آلاف ريال، فليس للولد أن يقول: يا أبتِ أعطني الدَّين، وليس له أن يطالبه، ولكن له أن يُعَرِّض ويقول: يا أبت أنا محتاج، وأنت قد أغناك الله
(1)
أخرجه الإمام أحمد (6/ 41)؛ والترمذي في الأحكام/ باب ما جاء أن الوالد يأخذ من مال ولده (1358)؛ والنسائي في البيوع/ باب الحث على الكسب (7/ 240) وابن ماجه في التجارات/ باب ما للرجل من مال ولده (2290)؛ عن عائشة رضي الله عنها، وقال الترمذي: حسن صحيح، وصححه ابن حبان (4261). وانظر: التلخيص (1665)؛ والإرواء (1626).
وما أشبه ذلك، أما أن يطالبه ويرفعه إلى القاضي فلا، ولكن إذا مات الأب فله أن يطالب بدينه في تركته.
وقوله: «وليس للولد مطالبة أبيه» مفهوم كلام المؤلف يدل على أن له أن يطالب أمه بدينه، وكذا جده من قبل أبيه أو أمه؛ لأن هؤلاء ليس لهم أن يتملكوا من مال ولدهم، أو ولد ابنهم فله أن يطالبهم، هذا مفهوم كلامه، لأن العلماء رحمهم الله كلامهم له منطوق ومفهوم.
ولكن الصحيح أنه لا يملك أن يطالب أمه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم وقد سئل من أحق الناس بحسن صحبتي؟ فقال: «أمك» ، قال: ثم من؟ قال: «أمك» ، قال: ثم من؟ قال: «أمك» ، قال: ثم من؟ قال: «ثم أبوك»
(1)
، وهذا صريح في أنه إذا كان لا يملك مطالبة أبيه فعدم مطالبته أمه من باب أولى، وهل من البر أن يقود أمه عند رُكَبِ القضاة؟! أبداً ليس من البر، هذا مستهجن شرعاً وعادة.
فالصواب: أنه لا يملك مطالبة أمه، وليست المسألة مبنية على التملك، فالتملك شيء والمطالبة بالدين شيء آخر.
وأصل مسألة الأب خلافية، فبعض أهل العلم يقول: له أن يطالب أباه بالدين.
وقوله: «بدين ونحوه» كأرش الجناية مثلاً، فلو أن أباه جنى عليه جناية توجب المال ـ ولا نقول: توجب القود؛ لأنه على
(1)
أخرجه البخاري في الأدب/ باب من أحق الناس بحسن الصحبة (5971)؛ ومسلم في الأدب/ باب بر الوالدين وأيهما أحق به (2548) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
المذهب ليس بين الأب وابنه قود ـ مثل أن يشجه في رأسه حتى يظهر العظم، وهذه الشجة التي توضح العظم تسمى موضحة، فيها خمس من الإبل، فليس له أن يطالب أباه بهذه الدية لدخولها تحت قوله:«ونحوه» ، كذلك لو أن الأب صدم سيارة الابن فإنه يلزمه أرشها، ويكون ديناً عليه، فليس له أن يطالب أباه بهذا الدين.
وفهم من قوله: «بدين» أن له أن يطالبه بالعين، فلو استعار أبوه منه كتاباً: كفتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فقال الابن: أعطني الكتاب، أنا محتاج إليه، فقال: لا، ولم ينوِ التملك، فله أن يطالبه؛ لأن هذا ليس بدين ولكنه عين، والمؤلف يقول:«بدين» فله أن يطالب أباه بتسليم العين التي أعارها إياه عند القاضي؛ لأن هذا عين ماله.
لكن للأب أن يقول: أنا الآن تملكته، فإذا قال هذا، نظرنا إلى الشروط، فإذا قال الابن: أنا أحتاجه للقراءة أو المطالعة، امتنع التملك؛ لأن من شرط تملك الأب لمال ابنه ألا تتعلق به حاجته أو ضرورته، فحينئذٍ يمتنع التملك فله المطالبة.
وهذه مسألة يجب أن ننتبه لها، أن الذي يقوله الفقهاء رحمهم الله بقطع النظر عن مسألة المروءة أو التربية، أو حسن المعاملة، فهم يذكرون أحكاماً عامة، لكن هل من المروءة أن الإنسان يطالب أباه بعين ماله؟ في ظني لا، لكن قد يكون بين الأب والابن مشاحنات وعداوة وبغضاء، كما يوجد كثيراً ولا يهمه أن يطالب أباه، ولكن لا أعتقد أن المروءة تقضي بجواز ذلك،
فأي إنسان يقال: إنه طالب أباه عند القاضي بقلم ـ مثلاً ـ بخمسين ريالاً فكل الناس سيعيبون هذا، وقد قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:«ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رأوه قبيحاً فهو عند الله قبيح»
(1)
.
قوله: «إلا بنفقته الواجبة عليه، فإن له مطالبته بها وحبسه عليها» ، أي إذا امتنع الأب من النفقة الواجبة عليه فللابن أن يطالبه بها؛ لأنها ضرورة لحفظ حياة الابن، ولأن سببها معلوم ظاهر بخلاف الدَّين، ولأن وجوب النفقة ثابت بأصل الشرع، فهو كالزكاة يجبر الإنسان على بذلها لمستحقها، فإذا جاء الابن الفقير وهو عاجز عن التكسب وليس عنده مال، وقال لأبيه: أنفق عليَّ، فقال: لا أنفق، فله أن يطالب أباه بالنفقة، وإذا امتنع فللحاكم أن يحكم بحبسه حتى يسلم النفقة.
وأعتقد أن هذا العمل من الابن ـ أعني مطالبة أبيه بالنفقة ـ لا يخالف المروءة؛ لأن الذي خرم المروءة هو الأب، لِمَ لم ينفق؟! فإذا طالب أباه بالنفقة فله ذلك وله حبسه عليها.
(1)
أخرجه الإمام أحمد (1/ 379)، وقال الحافظ في الدراية (2/ 187):«إسناده حسن» .
فَصْلٌ
مَنْ مَرَضُهُ غَيْرُ مَخُوفٍ كَوَجَعِ ضِرْسٍ وَعَيْنٍ وَصُدَاعٍ يَسِيرٍ،
.........
ما ذكر المؤلف رحمه الله الهبة وأحكاماً كثيرة تتعلق بها وهي في حال الصحة، ذكر الهبة في حال المرض، فهل الهبة في حال المرض كالهبة في حال الصحة؟ في ذلك تفصيل سيأتي في كلام المؤلف.
واعلم أن الأمراض ثلاثة أقسام: مرض غير مخوف، مرض مخوف، مرض ممتد، فالمرض المخوف هو الذي إذا مات به الإنسان لا يعد نادراً، أي: لا يستغرب أن يموت به الإنسان، وقيل: ما يغلب على الظن موته به، وغير المخوف هو الذي لو مات به الإنسان لكان نادراً، والأمراض الممتدة هي التي تطول مدتها مثل السِّل والجذام.
قوله: «مَنْ مرضُه غيرُ مخوفٍ» ، هذا هو القسم الأول من الأمراض، «مَنْ» اسم موصول مبتدأ «مرضُه» مبتدأ، ولا نقول: مبتدأ ثانٍ، لأن صلة الموصول جملة مستقلة «غير مخوف» خبر المبتدأ، والجملة صلة الموصول لا محل لها من الإعراب.
قوله: «كوجع ضرسٍ» ، فوجع الضرس لا شك أنه يؤلم، وربما يُسْهِرُ الإنسان ليله لكنه غير مخوف، يعني لو أن الإنسان مات من وجع ضرسه لقال الناس: هذا مات في صحته؛ لأنه لا ينسب الموت إلى مثل هذا المرض، وإلا فإن وجع الضرس مؤلم بلا شك.
قوله: «وعين» ، أيضاً وجع العين غير مخوف، إلا أنَّ هناك نوعاً من الأمراض يكون في أصل الضرس، ويكون ـ أيضاً ـ في
حدقة العين يسمى عندنا (الحبة)، فهذه مخوفة لا شك، فإذا مات الإنسان منها لم يكن ذلك غريباً، إنما وجع العين العادي ليس مخوفاً.
قوله: «وصداع يسير» الصداع وجع الرأس، لكن اشترط المؤلف أن يكون يسيراً، فأما الصداع الشديد فهو من الأمراض المخوفة؛ لأن نسبة الموت إليه لا تستغرب.
فَتَصَرُّفُهُ لَازِمٌ كَالصَّحِيحِ وَلَوْ مَاتَ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ مَخُوفاً كَبِرْسَامٍ وَذَاتِ الجَنْبِ وَوَجَعِ قَلْبٍ وَدَوَامِ قِيَامٍ وَرُعَافٍ وَأَوَّلِ فَالِجٍ وآخِرِ سِلٍّ والحُمَّى المُطْبِقَةِ والرِّبْعِ،
......
قوله: «فتصرفه لازم كالصحيح» ، أي: من كان مصاباً بهذا المرض فتصرفه لازم كالصحيح، أي: كمن ليس به مرض.
مثال ذلك: رجل أصابه وجع في ضرسه فأوقف جميع ماله، فالتصرف صحيح، ولو وهب جميع ماله فالتصرف صحيح؛ لأن المرض غير مخوف فهو كالصحيح، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«خير الصدقة أن تصدق وأنت صحيح شحيح تأمل البقاء وتخشى الفقر»
(1)
، الشاهد في قوله:«تأمل البقاء» ، والإنسان في هذه الأمراض اليسيرة يأمل البقاء.
وقوله: «فتصرفه لازم» ، قد يشكل على بعض الطلبة كيف جاءت الفاء في الخبر؟ فنقول في إزالة هذا الإشكال: أن «مَنْ» التي هي المبتدأ اسم موصول، والاسم الموصول يشبه اسم الشرط في العموم، فلذلك وقعت الفاء في خبره؛ لأن قوله:«فتصرفه لازم» هذه الجملة خبر المبتدأ، ومنه المثال المشهور:
(1)
أخرجه البخاري في الزكاة/ باب فضل صدقة الشحيح الصحيح (1419)؛ ومسلم في الزكاة/ باب بيان أن أفضل الصدقة صدقة الشحيح (1032) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وعن البخاري «تأمل الغنى» بدل «تأمل البقاء» .
الذي يأتيني فله درهم، والأصل: الذي يأتيني له درهم، لكن لما كان الاسم الموصول مشبهاً لاسم الشرط في العموم، جاز دخول الفاء في خبره.
قوله: «ولو مات منه» أي: فإنه لا يضره.
قوله: «وإن كان» الضمير يعود على المرض.
قوله: «مخوفاً» هذا هو القسم الثاني من الأمراض، وهو المخوف، وهو الذي يصح نسبة الموت إليه، فعدَّ المؤلف اثني عشر نوعاً منه فقال:
«كبرسام» وهو وجع يكون في الدماغ ـ نسأل الله العافية ـ يختل به العقل، فإذا أصاب الإنسان صار مرضه مخوفاً؛ لأنه لو مات به لم يستغرب، ولا يقول الناس: هذا مات فجأة.
قوله: «وذات الجنب» وهو وجع في الجنب في الضلوع، يقولون: إن سببه أن الرئة تلصق في الضلوع، ولصوقها هذا يشل حركتها، فلا يحصل للقلب كمال دفع الدم وغير ذلك من أعماله، فهذا من الأمراض المخوفة.
وكان هذا الداء كثيراً جداً فيما سبق وقد عشنا ذلك، لا سيما في استقبال الشتاء، ولكنه ـ سبحان الله ـ يُشْفَى بإذن الله عز وجل بالكي، وهو أحسن علاج له، حتى إن بعض المرضى يغمى عليه، ويبقى الأيام والليالي وقد أغمي عليه، ثم يأتي الطبيب العربي، فيقص أثر الألم في الضلوع ثم يَسِم محل الألم بوَسْمٍ ثم يكويه، فإذا كواه ـ سبحان الله ـ لا يمضي ساعة
واحدة إلا وقد تنفس المريض، ولذلك لا يوجد علاج فيما سبق لذات الجنب إلا الكي.
وذات الجنب تؤدي إلى الهلاك لا شك، ومن مات بذات الجنب لم يُعَدَّ مات بشيء غريب.
قوله: «ووجع قلب» أيضاً من الأمراض المخوفة؛ لأن القلب إذا أصابه الألم لم يستطع أن يضخ الدم أو ينقي الدم فيهلك البدن؛ لأن القلب بإذن الله مصفاة ـ سبحان الذي خلقه ـ يرد إليه الدم مستعملاً وفي نبضة واحدة يعود نقياً، فيدخل من عرق ويخرج من عرق آخر في لحظة، وهذا معنى النبضة، ثم إن الله سبحانه وتعالى أودعه قوة إذا احتاج الإنسان إليها وجدت، وإن لم يحتج فهو طبيعي، ولذلك إذا حملت شيئاً شاقاً أو سعيت بشدة تجد نبضات القلب تزيد؛ لأنه يحتاج إلى ضخ بسرعة.
فإذا وجع القلب فهو خطر على الإنسان لا شك، وأوجاع القلب أنواع متنوعة يعرفها الأطباء، لكن منها ما هو قوي ومنها ما هو دون ذلك.
قوله: «ودوام قيام» القيام هو الإسهال، فإذا كان دائماً فلا شك أنه مخوف؛ لأن الأمعاء مع هذا الإسهال لا يبقى فيها شيء يمتص الجسم منه غذاءً، فيهلك الإنسان، أما القيام اليسير كيوم أو يومين، فهذا لا يضر ولا يعد مرضاً مخوفاً، لكن إذا دام مع الإنسان فآخر مآله الموت.
قوله: «ورعاف» وهو خروج الدم من الأنف، هذا ـ أيضاً ـ إذا كان يسيراً فإنه ليس مرضاً، وإن كان دائماً فهو مرض؛ لأنه
إذا دام فإن الدم ينزف، ومعلوم أن البدن لا يقوم إلا بالدم؛ لأن أصل البدن دم، فأصله عَلَقة، فلا يقوم إلا بذلك، فمع دوام الرعاف يعتبر المرض مرضاً مخوفاً.
قوله: «وأول فالج» الفالج هو خدورة البدن وأنواعه متعددة، ويسمى في عرف المتأخرين «الجلطة أو الشلل» ، لكن أول الفالج خطر؛ لأن هذه الخدورة قد تسري إلى البدن بسرعة فتقضي عليه، أما إذا كان في آخر فالج فلا، إلا أن يقطعه بفراش كما سيأتي.
قوله: «وآخر سِل» الخطر في السِّل في آخره؛ لأن أول السل ربما يشفى منه المريض إما بحِمية أو بمعالجة يسيرة، لكن آخره خطر، فهو مرض مخوف، لكنه من الأمراض التي يسَّر الله للناس الحصول على دوائها، فأصبح في زماننا ليس بمخوف.
قوله: «والحمى المطبقة» يعني الدائمة.
قوله: «والرِّبع» التي تأتي في اليوم الرابع تتكرر عليه، كل يوم رابع تأتيه الحمى، والحمى هي السخونة وهي معروفة، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الحمى من فيح جهنم، وأنها تُطفأ بالماء البارد
(1)
، وهذا الطب اليسير السهل قد علم من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم منذ أكثر من أربعة عشر قرناً، والأطباء الآن يرجعون إليه فيصفون هذا الدواء لمن أصيب بالحمى، حتى إنهم يجعلون بعض
(1)
أخرجه البخاري في الطب/ باب الحمى من فيح جهنم (5725)؛ ومسلم في الطب/ باب لكل داء دواء واستحباب التداوي (2210) عن عائشة رضي الله عنها.
المرضى أمام المكيف، ووجه ذلك ظاهر؛ لأن الحمى معناها خروج الحرارة من داخل البدن إلى ظاهره، فيبقى البدن من الداخل بارداً، وإذا عدمت الحرارة اختل التوازن بلا شك؛ لأن الله سبحانه وتعالى جعل برودة وحرارة، ورطوبة ويبوسة يقوم بها البدن، فإذا غلب أحدها على الآخر اختلت طبيعة البدن، فإذا جاء البرد، انتقلت الحرارة من الظاهر إلى الباطن فيعتدل البدن.
وَمَا قَالَ طَبِيبانِ مُسْلِمَانِ عَدْلانِ: إِنَّهُ مَخُوفٌ.
...........
قوله: «وما قال طبيبان مسلمان عدلان: إنه مخوف» فالشرط الأول: قوله: «طبيبان» ، فغير الطبيب لا يعتبر قوله، فلو أن عامياً قال لمريض من المرضى: إن مرضك هذا مخوف، وهو غير طبيب ولا يعرف الطب فإنه لا يعتبر قوله، كما لو أفتاك الجاهل بأن هذه الصلاة صحيحة أو غير صحيحة، أو هذا الوضوء صحيح أو غير صحيح.
فإذا كان غير طبيب لكنه مقلد لطبيب، أي: أنه قد سمع من طبيب ماهر أن هذا المرض مخوف، فإنه على القول الراجح يؤخذ بقوله؛ لأنه أخبر عن طبيب، كما أنه في المسائل الشرعية لو أخبر شخص عن عالم بأنه قال: هذا حرام، فإنه يقبل قوله إذا كان مقبول الخبر.
الشرط الثاني: «مسلمان» وضدهما الكافران، ولو كانا من أحذق الأطباء فإنه لا عبرة بقولهما، لقول الله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6]، فإذا كان هذا خبر الفاسق فخبر الكافر مردود لا يقبل.
الشرط الثالث: «عدلان» والعدل هو المستقيم في دينه ومروءته، فالاستقامة في الدين أن يؤدي الفرائض ويجتنب المحارم، فالمتهاون بصلاة الجماعة مثلاً ـ والجماعة واجبة عليه ـ ليس بعدل، وحالق اللحية ـ مثلاً ـ ليس بعدل إذا استمر على ذلك.
والمروءة أن لا يفعل أو يقول ما يخرم المروءة، وينزل قيمته عند الناس، وإن كان الفعل في نفسه ليس محرماً، وقد ذكر الفقهاء رحمهم الله من الأمثلة:
الرجل المتمسخر، يعني الذي يفعل التمثيليات سخرية وهزءاً، فإن هذا خارم للمروءة.
وذكروا ـ أيضاً ـ الذي يأكل في السوق فليس عنده مروءة، ومعلوم أن هذا المثال في الوقت الحاضر لا ينطبق على ذلك؛ لأن الناس الآن اعتادوا أن يأكلوا في السوق، ولا أعني الولائم، لكن لو وُجِدَ مطعم في السوق فإن الإنسان يأكل فيه.
وكنا نستنكر أن يشرب الشاي في دكانه، ونرى هذا خارماً للمروءة، والآن ليس بخارم للمروءة، فالناس يشربون الشاي والقهوة في الدكاكين.
قالوا: ومما يخرم المروءة أن يمد الإنسان رجله بين الجالسين؛ لأنه من العادة أن الإنسان يوقر جلساءه، وأن لا يمد رجليه بينهم، ولكن هذا في الحقيقة يختلف، فإذا كان الإنسان معذوراً وعرف الجالسون أنه معذور، فإن ذلك لا يعد خارماً للمروءة؛ لأنهم يعذرونه، أو كان الرجل استأذن منهم وقال: ائذنوا لي، ففعل فليس خارماً للمروءة، أو كان الإنسان بين أصحابه وقرنائه، ففعل
ومد رجله بينهم وهم جلوس، فهذا لا يعد خارماً للمروءة، ومن الأمثال العامية «عند الأصحاب ترفع الكلفة في الآداب» .
على كل حال الضابط في المروءة: أن لا يفعل ما ينتقده الناس فيه، لا من قول ولا من فعل.
فالشروط أربعة:
العلم بالطب، الإسلام، العدالة، عدد محصور باثنين.
وذلك لأن هذا من باب الشهادة، فلا بد فيها من الإسلام والعدالة والتعدد، فإذا اختل شرط من ذلك فإنه لا عبرة بقولهم، مع أنهم قالوا في صفة الصلاة: يجوز للإنسان أن يصلي قاعداً، إذا قال الطبيب المسلم الواحد: إن القيام يؤثر عليك، لكنهم يفرقون بين هذا وذاك، بأن ذاك خبر ديني يتعلق بأمور الدين، وهذا يتعلق بأمور المال، هذا ما قيده به المؤلف.
والصواب في هذه المسألة: أنه إذا قال طبيب ماهر: إن هذا مرض مخوف، قبل قوله، سواء كان مسلماً أو كافراً، ولو أننا مشينا على ما قال المؤلف لم نثق في أي طبيب غير مسلم، مع أننا أحياناً نثق بالطبيب غير المسلم أكثر مما نثق بالطبيب المسلم، إذا كان الأول أشد حذقاً من الثاني.
ثم إن صناعة الطب يبعد الغدر فيها من الكافر؛ لسببين:
الأول: أن كل إنسان يريد أن تنجح صناعته، فالطبيب ولو كان غير مسلم يريد أن تنجح صناعته، وأن يكون مصيباً في العلاج وفي الجراحة.
الثاني: أن من الأطباء من يكون داعية لدينه وهو كافر،
وإذا كان داعية لدينه فلا يمكن أن يغرر بالمسلم؛ لأنه يريد أن يمدحه الناس ويحبوه ويحترموه؛ لأنه ناصح، فالصواب في هذه المسألة أن المعتبر حذق الطبيب، والثقة بقوله، والأمانة، ولو كان غير مسلم، والدليل على هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بقول الكافر في الأمور المادية التي مستندها التجارب، وذلك حينما استأجر رجلاً مشركاً من بني الديل اسمه عبد الله بن أريقط ليدله على الطريق في سفره في الهجرة
(1)
، فاستأجره النبي صلى الله عليه وسلم وهو كافر، وأعطاه بعيره وبعير أبي بكر؛ ليأتي بهما بعد ثلاث ليال إلى غار ثور، فهذا ائتمان عظيم على المال وعلى النفس.
وحتى العدالة، فلو أننا اشترطناها في أخبار الأطباء ما عملنا بقول طبيب واحد إلا أن يشاء الله؛ لأن أكثر الأطباء لا يتصفون بالعدالة، فأكثرهم لا يصلي مع الجماعة ويدخن ويحلق لحيته، فلو اشترطنا العدالة لأهدرنا قول أكثر الأطباء.
وكذلك العدد، فالمؤلف اشترط أن يكون اثنين فأكثر، ولكن الصحيح أن الواحد يكفي؛ لأن هذا من باب الخبر المحض، ومن باب التكسب بالصنعة، فخبر الواحد كافٍ في ذلك.
فإذا قال طبيب حاذق: هذا المرض مخوف يتوقع منه الموت، فإننا نعمل بقوله، ونقول: إن المريض بهذا المرض عطاياه من الثلث.
(1)
أخرجه البخاري في الإجارة/ باب استئجار المشركين عند الضرورة (2263) عن عائشة رضي الله عنها، ولم يصرح البخاري باسم عبد الله بن أريقط، إنما ورد اسمه في كتب السيرة كما قال الحافظ في الفتح.
وَمَنْ وَقَعَ الطَّاعُونُ بِبَلَدِهِ، وَمَنْ أَخَذَهَا الطَّلْقُ، لَا يَلْزَمُ تَبَرُّعُهُ لِوَارِثٍ بِشَيْءٍ وَلَا بِمَا فَوْقَ الثُّلُثِ إِلاَّ بِإِجَازَةِ الوَرَثَةِ لَهَا إِنْ مَاتَ مِنْهُ، وَإِنْ عُوفِيَ فَكَصَحِيحٍ.
قوله: «ومن وقع الطاعون ببلده» ، أي: فهو كالمريض مرضاً مخوفاً؛ لأنه يتوقع الموت بين لحظة وأخرى، فإن الطاعون ـ أجارنا الله والمسلمين منه ـ إذا وقع في أرض انتشر بسرعة، لكن مع ذلك قد ينجو منه من شاء الله نجاته، إنما الأصل فيه أنه ينتشر، فكل إنسان في البلد التي وقع فيها الطاعون يتوقع أن يصاب به بين عشية وضحاها، فلا فرق بينه وبين من أصابه المرض، في اليأس من الحياة، فعطاياه في حكم عطايا المريض مرضاً مخوفاً.
والطاعون قيل: إنه نوع معين من المرض يؤدي إلى الهلاك، وقيل: إن الطاعون كل مرض فتاك منتشر، مثل الكوليرا، فالمعروف أنها إذا وقعت في أرض فإنها تنتشر بسرعة، والحمى الشوكية، وغيرها من الأمراض التي يعرفها الأطباء ونجهل كثيراً منها، فهذه الأمراض التي تنتشر بسرعة وتؤدي إلى الهلاك يصح أن نقول: إنها طاعون حقيقة أو حكماً، ولكن الظاهر من السنة خلاف ذلك؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم عَدَّ الشهداء فقال:«المطعون والمبطون»
(1)
، وهذا يدل على أن من أصيب بداء البطن غير من أصيب بالطاعون، والمبطون هو الذي انطلق بطنه، فالمهم أن عطايا الصحيح الذي وقع الطاعون في بلده من الثلث.
وبالنسبة للطاعون هل يجوز للإنسان أن يخرج من البلد إذا وقع فيه؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تخرجوا منه ـ أي من البلد الذي وقع
(1)
أخرجه البخاري في الجهاد والسير/ باب الشهادة سبع سوى القتل (2829)؛ ومسلم في الإمارة/ باب بيان الشهداء (1914) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
فيه ـ فراراً منه»
(1)
، فقيد النبي صلى الله عليه وسلم منع الخروج بما إذا كان فراراً، أما إذا كان الإنسان أتى إلى هذا البلد لغرض أو لتجارة وانتهت، وأراد أن يرجع إلى بلده فلا نقول: هذا حرام عليك، بل نقول: لك أن تذهب.
بقي علينا أن نقول: هل نأذن له أن يذهب إذا خيف أن الوباء أصابه؟ الجواب: لا نأذن له بل نمنعه، حتى إن بعض الأطباء ظن إن قول الرسول صلى الله عليه وسلم:«إذا وقع في أرض وأنتم فيها فلا تخرجوا منها» ؛ أن هذا من باب الحَجْر الصحي، وقال: إن مراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن لا يخرج الناس من هذه الأرض الموبوءة كحَجْرٍ صحي، ولكن هذا غير صحيح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم راعى ما هو أعم وأهم وهو الفرار من قدر الله، قال:«لا تخرجوا منها فراراً منه» .
وإذا سمع الإنسان أنه وقع في أرض، فهل يجوز أن يقدم عليها؟ لا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إذا سمعتم به في أرض فلا تقدموا عليها» ؛ لأن هذا من باب الإلقاء بالتهلكة، ومن باب قوله تعالى:{وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29]، كيف تقدم على بلد وقع فيه الطاعون؟! ما مثلك إلا مثل من أقدم على النار ليقتحم فيها.
فإن قال: أليس يمكن أن يَسْلَمَ الإنسان وهو في بلد الطاعون؟ قلنا: بلى، لكن الأصل الإصابة فلا يجوز أن تقدم.
(1)
أخرجه البخاري في الطب/ باب ما يذكر في الطاعون (5729)؛ ومسلم في الطب/ باب الطاعون والطيرة والكهانة ونحوها (2219) عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه.
وقد ارتحل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى الشام، وفي أثناء الطريق قيل له: إنه قد وقع فيها الطاعون، وهو طاعون عظيم مات فيه خلق كثير، وعمر رضي الله عنه ليس عنده أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، لكنه عنده عقل، فكأنه قال: كيف نقدم على أرض فيها هذا الوباء المعدي الفتاك؟! وكان من عادته رضي الله عنه أنه إذا أشكل عليه الأمر يجمع الصحابة ويستشيرهم، فجمع الصحابة رضي الله عنهم واختلفوا، ثم جمع المهاجرين الأولين ثم الأنصار فاختلفوا عليه جميعاً، ثم دعا من كان عنده من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح، وكان الرأي الذي استقروا عليه أن يرجعوا، فقرر الرجوع بمشورة الصحابة رضي الله عنهم، وأمر بالارتحال، فجاءه أبو عبيدة عامر بن الجراح رضي الله عنه الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم:«إنه أمين هذه الأمة»
(1)
، وقال فيه عمر رضي الله عنه حين طُعِن: لو كان أبو عبيدة حياً لجعلته خليفة
(2)
؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «هو أمين هذه الأمة» ، فقال: يا أمير المؤمنين كيف تقرر الرحيل، أفراراً من قدر الله؟! خفي على أبي عبيدة رضي الله عنه أن القدر لم يقع حتى نفر منه، لكن لو أقدموا لكانوا هم الذين جاؤوا للقدر، فقال: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة!! يعني أتمنى أن
(1)
أخرجه البخاري في المغازي/ باب قصة أهل نجران (4380) عن حذيفة رضي الله عنه، ومسلم في فضائل الصحابة/ باب من فضائل أبي عبيدة بن الجراح (2419) رضي الله عنه عن أنس رضي الله عنه.
(2)
أخرجه أحمد (1/ 18) والحاكم (3/ 268).
غيرك قالها؛ لأن منزلة أبي عبيدة عند أمير المؤمنين عمر منزلة عالية، نحن نفر من قدر الله إلى قدر الله، من قدر الله الذي نلقي بأيدينا للتهلكة لو قدمنا عليه، إلى قدر الله الذي نسلم به، فهم إن مضوا إلى الشام فبقدر الله، وإن رجعوا فبقدر الله.
ثم ضرب له مثلاً: أن لو كان له إبل في وادٍ له عدوتان، واحدة مخصبة والأخرى مجدبة، فقال له: أما تذهب إلى المخصبة؟ قال: بلى، قال: إذاً إن ذهبت للمخصبة فبقدر الله، وإلى المجدبة فبقدر الله، لكن لن تختار المجدبة، إذاً نحن كذلك لا نختار القدوم على أرض الطاعون.
فرجعوا ـ والحمد لله ـ ووفقوا للصواب، وفي أثناء ذلك أتى عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وكان قد تغيب في حاجة له، فبلغه الخبر وجاء إلى عمر، وقال: يا أمير المؤمنين سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا سمعتم بالطاعون في أرض فلا تقدموا عليها، وإذا وقع في أرض وأنتم فيها فلا تخرجوا منها فراراً منه» ، فقال الحمد لله
(1)
، فكل الصحابة رضي الله عنهم ما سمعوا هذا الحديث، إلا عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، لكن ـ الحمد لله ـ الشريعة محفوظة، لا يمكن أن تخفى، كل ما صدر من الرسول صلى الله عليه وسلم من شريعة الله فهو محفوظ، كما قال الله عز وجل:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ *} [الحجر]، إذاً إذا وقع الطاعون في أرض فإننا منهيون أن نخرج منها فراراً منه، وإذا وقع في أرض فإننا منهيون أن نقدم على هذه الأرض.
(1)
سبق تخريجه ص (111).
وكانت الطواعين تكثر في الجزيرة قبل زمن، لكن ـ الحمد لله ـ الآن أنعم الله علينا نعماً كثيرة، نسأل الله أن لا يجعلها استدراجاً.
ويحكون لنا أنه قد يقدم للصلاة ثمان جنائز، وكانت بلدنا من قبل قرية صغيرة ليس فيها أحد، لكن كثر الأموات حتى إنه إذا دخل الطاعون البيت أفنى العائلة كلها، ويبقى البيت موصد الأبواب على غير أحد، وقالوا: إن قاضي البلد وهو صالح بن عثمان القاضي رحمه الله لما خرجوا يوماً من الأيام من المسجد الجامع بثمان جنائز، وكان الناس ليس عندهم سيارات يحملون الجنائز، فأرعب الناس هذا، ثمان جنائز يتبع بعضها بعضاً!! لا شك أنه يرعب، فنهاهم، وقال: لا يأتِ أحد بجنازته إلى الجامع إلا أهل الحي، والبقية كل حي يصلي على ميته في مسجده، ويخرج به إلى المقبرة خوفاً من الرعب؛ لأنه قد تكون كل جنازة من بيت، وربما يكون بكاء ونحيب من المشهد أو من المصيبة فيمن أصيب بقريبه، فكان من حكمته رحمه الله أن منع أن يؤتى بجنازة إلى الجامع إلا من كان في حي الجامع، فالمهم أن الأوبئة ـ والحمد لله ـ خفَّت الآن، ونسأل الله أن لا يجعله استدراجاً.
قوله: «ومن أخذها الطلق» «مَنْ» اسم موصول، أي: والتي أخذها الطلق، يعني بدأت تطلق من أجل الولادة، والطلق مؤلم وصعب، وسببه انتقال الولد من حال إلى أخرى؛ لأن الولد في الرحم وجهه إلى ظهر أمه وظهره إلى بطنها، فإذا أراد الله
عز وجل أن يخرج انقلب حتى يكون رأسه الذي يخرج أولاً، وهذا الانقلاب ليس بهين، فالمكان ضيق والرحم كيس من العصب والعروق، فلا شك أنه سيكون ألم شديد، ولولا أن الله ـ تعالى ـ أحاط الولد بما أحاطه به من المشيمة، التي تسهل انقلابه لكان الأمر صعباً جداً، وقال أهل العلم: ينبغي أن يدخل في القبر كما خرج من بطن أمه، بمعنى أننا ننزله من عند رأسه، ليكون هذا الرأس الذي شهد الدنيا أولاً، هو الذي يذهب عن الدنيا أولاً، على كل حال المرأة إذا أخذها الطلق، ثم أعطت عطية في حال الطلق فإنه يكون من الثلث؛ لأنها على خطر، فحكمها حكم المريض مرضاً مخوفاً، مع أن الأمر ـ ولله النعمة والفضل ـ أن السلامة أكثر بكثير من الهلاك، لكن العلماء يقولون: إن هذا يصح أن يكون سبباً للموت، ولا يستغرب لو ماتت في طلقها، فهو مخوف حتى تنجو.
قوله: «لا يلزمُ تبرعُهُ لوارث بشيء» كلمة «لا يلزم» جواب الشرط في قوله: «وإن كان مخوفاً» ، وعلى هذا فيجوز فيها الرفع والجزم، لا يلزمُ، ولا يلزمْ؛ لأنه إذا كان فعل الشرط ماضياً فإنه يجوز رفع المضارع إذا كان جواباً، بخلاف ما إذا كان فعل الشرط مضارعاً فإنه يضعف أن يكون الجواب مرفوعاً، يقول ابن مالك في الألفية:
وبَعْدَ ماضٍ رَفْعُك الجَزَا حَسَنْ
وَرَفْعُهُ بَعْدَ مُضارِعٍ وَهَنْ
وقوله: «لا يلزم تبرعه لوارث بشيء» يعني لو تبرع لوارثه بشيء فهذا غير لازم، بمعنى أن للورثة أن يعترضوا على هذا؛
لأنه في هذه الحال قد انعقد سبب ميراث الورثة منه، فكان لهم حق في المال، فإذا أعطي الوارث فهذا من تعدي حدود الله عز وجل؛ لأن الله تعالى قسم مال الميت بين الورثة قسمة عدل بلا شك، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«إن الله أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث»
(1)
.
ولكن هل يجوز أن يعطي الوارث؟ الجواب: لا يجوز، ولهذا لم تلزم هذه العطية، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد»
(2)
، حتى وإن كان هذا الوارث ليس من الأولاد، فلو فرضنا أن رجلاً له إخوة وليس له أولاد، ولما أصيب بالمرض المخوف أعطى بعض الإخوة نصف ماله، أو ربع ماله، فإن هذا لا يجوز ولا تلزم العطية؛ لأنه وارث، والمعطي في مرض الموت، فيخشى أنه أعطى هذا الوارث لينال من التركة أكثر من الآخرين.
وعلم من قوله: «تبرعه لوارث» ، أنه لو تصرف مع الوارث ببيع أو إجارة بدون محاباة، فإن البيع والإجارة لازمان، وأنه لو أنفق على وارث في هذا المرض المخوف فإنه جائز؛ لأن
(1)
أخرجه أحمد (5/ 267)؛ وأبو داود في الوصايا/ باب ما جاء في الوصية للوارث (2870)؛ والترمذي في الوصايا/ باب ما جاء لا وصية لوارث (2120)؛ وابن ماجه في الوصايا/ باب لا وصية لوارث (2713) عن أبي أمامة رضي الله عنه.
قال الترمذي: حسن صحيح، وحسنه الحافظ في التلخيص (1369)، وانظر طرقه في الإرواء (1655).
(2)
سبق تخريجه ص (49).
النفقة ليست من باب التبرع، ولكنها من باب القيام بالواجب كالزكاة.
ولو أقر لوارث في مرضه المخوف، فينظر إن وجدت قرائن تدل على صدقه عملنا بإقراره، وإلا فإقراره كتبرعه لا يصح ولا يقبل؛ لأنه ربما يكون بعض الناس لا يخاف الله، ففي مرضه المخوف يقر لبعض الورثة بشيء، فيقول: في ذمتي لفلان كذا وكذا، وليس كذلك، فإذا علمنا أن هذا الرجل عنده من الإيمان بالله عز وجل والخوف منه، ووجدت قرينة أخرى تدل على أنه كان فقيراً، وأن الوارث كان غنياً فحينئذٍ نقبل إقراره، وإلاَّ فالأصل عدم قبول إقراره، لكن إذا وجدت قرينة تدل على صدقه عمل بها، ولا يمكن أن نحرم صاحب الدَّين من دَينه، وتبقى ذمة الميت متعلقة به.
قوله: «ولا بما فوق الثلث إلا بإجازة الورثة لها» يعني ولا بما فوق الثلث لأجنبي، فالأجنبي حده الثلث، فإذا أجاز الورثة فلا بأس، والورثة الذين تعتبر إجازتهم هم الذين يصح تبرعهم، ولا بد أن تكون الإجازة بعد الموت كما سيأتي.
وقوله: «ولا بما فوق الثلث إلا بإجازة الورثة لها» أي: بما فوق الثلث لغير وارث، حتى لو أعطى شخصاً ليبني له مسجداً بزائد على الثلث فإنه لا ينفذ، ولو أعطى الفقراء زائداً على الثلث فإنه لا ينفذ، لحديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، أنه استأذن النبي صلى الله عليه وسلم وكان مريضاً ـ أن يتصدق بثلثي ماله ـ والثلثان اثنان من ثلاثة ـ فقال: لا، قال: فالشطر ـ والشطر واحد من
اثنين ـ قال: لا، قال: فالثلث ـ والثلث واحد من ثلاثة ـ قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الثلث والثلث كثير»
(1)
، يعني لا بأس بالثلث مع أنه كثير، ومن فقه ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«الثلث والثلث كثير»
(2)
، وهذا إشارة إلى أنه ينبغي أن يكون أنزل من الثلث.
إذاً نقول لهذا المريض مرض الموت المخوف: لا تتصدق بأكثر من الثلث.
الثاني: لا تتصدق لوارث، وهذا على سبيل التحريم؛ لأن المال الآن انعقد السبب الذي به ينتقل إلى الورثة.
وقوله: «إلا بإجازة الورثة» يكونون ورثة بعد الموت، فلو أجازوا قبل الموت فإن إجازتهم لا تقبل، ولا يعتد بها، فلو أن هذا المريض أحضر ورثته، وقال لهم: هذا الوارث منكم فقير وأنا أريد أن أتبرع له بشيء من مالي، فقالوا: لا بأس، فإنه لا يجوز؛ لأن إجازتهم في ذلك الوقت في غير محلها.
ومن أين نأخذ أنه لا تجوز إجازتهم ما دام حياً؟ من قوله: «الورثة» إذ لا يتحقق أنهم ورثة إلا بعد الموت، هذا ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله وقيل: إنه إذا كان مريضاً مرضاً مخوفاً فإن
(1)
أخرجه البخاري في الوصايا/ باب الوصية بالثلث (2744)؛ ومسلم في الوصية/ باب الوصية بالثلث (1628) عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.
(2)
أخرجه البخاري في الوصايا/ باب الوصية بالثلث (2743)؛ ومسلم في الوصية/ باب الوصية بالثلث (1629) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
إجازتهم جائزة؛ لأنه انعقد السبب لكونهم يرثون هذا المال، وهو مرض الموت، فإذا رضوا بما زاد عن الثلث قبل الموت فإن رضاهم معتبر، ولا يحق لهم الرجوع بعد ذلك، ويدل لهذا القول ما جاء في باب الشفعة، حيث أمر النبي صلى الله عليه وسلم من أراد أن يبيع أن يعرض على شريكه ليأخذ أو يدع
(1)
، فإن هذا يدل على أنه متى وجد السبب وإن لم يوجد الشرط، فإن الحكم المعلق بهذا السبب نافذ، ويدل لذلك ـ أيضاً ـ أن الرجل لو حلف على يمين فأراد الحنث وأخرج الكفارة قبل الحنث، فإن ذلك جائز لوجود السبب، وهذا القول هو الراجح، ولا مانع من اعتباره، فعلى هذا نقول: تصح إجازة الورثة في مرض الموت المخوف؛ لأن سبب إرثهم قد انعقد وهم أحرار.
فإن قال قائل: إننا نخشى أن تكون إجازة الورثة في حال الحياة حياءً وخجلاً، نقول: إذا خشينا ذلك فإن إجازتهم تكون غير معتبرة.
قوله: «إن مات منه» ، أي: من هذا المرض المخوف، فإن أعطى لبعض ورثته شيئاً، قلنا للورثة: الأمر بأيديكم، إن شئتم نفذوا العطية، وإن شئتم امنعوها.
قوله: «وإن عوفي فكصحيح» ، أي: فإن التبرع يكون صحيحاً، مثاله: امرأة أخذها الطلق فتبرعت لزوجها بنصف مالها ثم ماتت من الوضع، فإن التبرع لا يصح إلا بإجازة الورثة، فإن وضعت وبرئت وعادت صحيحة فإن تبرعها لزوجها بنصف مالها
(1)
أخرجه مسلم في البيوع/ باب الشفعة (1608) عن جابر رضي الله عنه.
صحيح؛ لأن المرض الذي كان يمنعها قد زال، وعليه فيجوز أن يعطي بعض الورثة دون الآخرين، إن كانوا مِنْ غير الأولاد على القول الراجح، ويجوز أن يتبرع بأكثر من الثلث؛ لأن الصحيح يجوز أن يتبرع بجميع ماله، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما حث على الصدقة أتى عمر رضي الله عنه بشطر ماله مسابقاً أبا بكر رضي الله عنه؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم يتسابقون في الخير، وقال: اليوم أسبق أبا بكر، لم يقل هذا حسداً ولكن غبطة، وأتى أبو بكر بجميع ماله، فقال: لا أسابقك بعد هذا أبداً
(1)
ـ الله أكبر ـ، فالمهم أنه إذا كان هذا المريض الذي أعطى أكثر من الثلث في حال المرض ثم عافاه الله، فإنَّ عطيته تكون نافذة كعطية الصحيح للوارث وغير الوارث؛ لأنه زال المحذور.
وَمَنِ امْتَدَّ مَرَضُهُ بِجُذَامٍ أَوْ سِلٍّ أَوْ فَالِجٍ وَلَمْ يَقْطَعْهُ بِفِرَاشٍ فَمِنْ كُلِّ مَالِهِ، وَالعَكْسُ بِالعَكْسِ،
قوله: «ومن امتد مرضه» ، هذا هو القسم الثالث من الأمراض، وهو الممتد، يعني من كان مرضه مستمراً.
قوله: «بجذام» هذا مثال، والجذام جروح وقروح ـ والعياذ بالله ـ إذا أصابت الإنسان سرت في جميع بدنه وقضت عليه، فهو مرض يسري في البدن، وله أسماء أظنها معروفة عند العوام، منها الغرغرينة وما أشبهها.
ويجب على ولي الأمر أن يعزل الجذماء عن الأصحاء، أي
(1)
أخرجه أبو داود في الزكاة/ باب في الرخصة في ذلك (1678)؛ والترمذي في المناقب/ باب في مناقب أبي بكر وعمر رضي الله عنهما (3675) عن عمر رضي الله عنه، وقال: حسن صحيح.
حجر صحي، ولا بد، ولا يعد هذا ظلماً لهم، بل هذا يعد من باب اتقاء شرهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«فرَّ من المجذوم فرارك من الأسد»
(1)
.
وظاهر هذا الحديث يعارض قوله صلى الله عليه وسلم: «لا عدوى ولا طِيَرة»
(2)
، ولا شك في هذا؛ لأنه إذا انتفت العدوى فماذا يضرنا إذا كان المجذوم بيننا، ولكن العلماء رحمهم الله أجابوا بأن العدوى التي نفاها الرسول صلى الله عليه وسلم إنما هي العدوى التي يعتقدها أهل الجاهلية، وأنها تعدي ولا بد، ولهذا لما قال الأعرابي: يا رسول الله كيف يكون لا عدوى والإبل في الرمل كأنها الظباء، ـ يعني ليس فيها أي شيء ـ يأتيها الجمل الأجرب فتجرب؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«مَنْ أعدى الأول»
(3)
؟ والجواب: أن الذي جعل فيه الجرب هو الله، إذاً فالعدوى التي انتقلت من الأجرب إلى الصحيحات كان بأمر الله عز وجل، فالكل بأمر الله تبارك وتعالى.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: «فر من المجذوم» ، فهذا أمر بالبعد عن أسباب العطب؛ لأن الشريعة الإسلامية تمنع أن يلقي الإنسان بنفسه إلى التهلكة، ولهذا إذا قوي التوكل على الله ـ تعالى ـ فلا
(1)
أخرجه أحمد (2/ 443) عن أبي هريرة رضي الله عنه، والبخاري في الطب/ باب الجذام (5707) عن أبي هريرة رضي الله عنه معلقاً، ولفظه:«كما تفر من الأسد» .
(2)
أخرجه البخاري في الطب/ باب الطيرة (5753)؛ ومسلم في الطب/ باب الطيرة والفأل
…
(2225)(116) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
(3)
أخرجه البخاري في الطب/ باب لا صفر (5717)؛ ومسلم في الطب/ باب لا عدوى ولا طيرة
…
(222.) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
بأس بمخالطة الأجذم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ ذات يوم بيد مجذوم وقال له:«كل باسم الله»
(1)
، فشاركه في أكله لقوة توكله صلى الله عليه وسلم على الله، وأن هذا الجذام مهما كان في العدوى إذا منعه الله عز وجل لا يمكن أن يتعدى.
قوله: «أو سِلٍّ» وهو قروح تكون في الرئة فتتجلَّط وتثقل عن الحركة؛ لأنها دائمة الحركة، فإذا أصاب الإنسان ـ نسأل الله العافية ـ خَرَقَ هذه الرئةَ وقضى عليها.
ولكن ـ الحمد لله ـ الآن الطب بتعليم الله عز وجل للبشر تقدم، وصار يمكن أن يقضى على السل، لا سيما في أوله.
قوله: «أو فالج» الفالج يعني الخدورة التي تصيب الإنسان في أحد جنبيه، أو في رأسه، أو في ظهره، وهذا الفالج أولَ ما يصيب الإنسان خطر، لكن إذا امتد صار أهون خطراً.
قوله: «ولم يقطعه بفراش» وجه ذلك أنه إذا قطعه بفراش صار مخوفاً، وصار المريض يشعر بقرب أجله، فصار يتصرف بماله بالتبرع لفلان أو لفلان، أما إذا لم يقطعه بالفراش، فالمريض ـ وإن كان يعرف أن هذا مآله ـ لكنه يستبطئ الموت، وكل إنسان مآله الموت حتى وإن كان صحيحاً، لكن إذا كان المرض لم يلزمه الفراش فإنه يرجو الصحة من وجه، وأيضاً لا
(1)
أخرجه أبو داود في الطب/ باب في الطيرة (3925)؛ والترمذي في الأطعمة/ باب ما جاء في الأكل مع المجذوم (1817)؛ وابن ماجه في الطب/ باب الجذام (3542) عن جابر رضي الله عنه.
يتوقع وقوع الموت عن قرب، فيعتقد أن في الأجل فسحة.
قوله: «فمن كل ماله» ، أي فتصرف هذا الذي لم يقطعه المرض بفراش من كل ماله، وحتى للوارث فإنه لا يضر، إلا الأولاد فإنه يجب التعديل في عطيتهم.
قوله: «والعكس بالعكس» ، العكس من قطعه بفراش فليس تصرفه من كل ماله، ولكن من الثلث، ثم متى يعتبر الثلث؟ قال:
وَيُعْتَبَرُ الثُّلُثُ عِنْدَ مَوْتِهِ وَيُسَوَّى بَيْنَ المُتَقَدِّمِ والمُتَأَخِّرِ فِي الوَصِيَّةِ، وَيُبْدَأُ بِالأَوَّلِ فَالأَوَّلِ فِي العَطِيَّةِ
«ويعتبر الثلث عند موته» ، الثلث الذي ينفَّذ يعتبر عند الموت لا عند العطية؛ لأن الثلث قد يزيد وينقص، فربما يعطي الإنسان العطية وماله كثير فيفتقر، وربما يعطي العطية وماله قليل ثم يغنيه الله، فالمعتبر وقت الموت؛ لأن وقت الموت هو الوقت الذي يتعلق فيه حق الورثة في مال هذا المعطي، إذ قبل الموت لا حق لهم في ماله، فمثلاً رجل أعطى شخصاً مائتي درهم في مرض موته المخوف، وكان ماله حينئذٍ أربعمائة، ثم أغناه الله وصار ماله عند الموت ستمائة، فإن العطية تنفذ؛ لأنها لم تزد على الثلث، أما لو أعطاه مائتي درهم وكان ماله ستمائة وعند الموت صار أربعمائة درهم فلا ينفذ من العطية ما زاد على الثلث إلا بإذن الورثة، فإن لم يأذنوا أخذ ما زاد عن الثلث للورثة.
كذلك فالعطية في مرض الموت لا يتصرف فيها المُعْطَى إلا بتأمين للورثة؛ لأن المعتبر الثلث عند الموت، ولا ندري ربما يتلف مال هذا المريض كله ولا يبقى إلا هذه العطية.
فنقول: إذا كان يعتبر عند الموت فإن هذا المُعْطَى لا يتصرف إلا بتأمين وتوثيق للورثة.
فإن قال قائل: لماذا لا تجيزون له أن يتصرف بثلثها؛ لأننا لو قدرنا أن الميت مات وليس عنده إلا هذه العطية أخذ المُعْطَى ثلثها؟ فنقول: هناك احتمال آخر: أن يموت هذا الميت وعليه دين، وإذا مات وعليه دين فإنه لا حظَّ للمُعْطَى.
قوله: «ويسوَّى بين المتقدم والمتأخر في الوصية، ويبدأ بالأول فالأول في العطية» بدأ المؤلف ببيان الفروق بين العطية والوصية وهما تتفقان في أكثر الأحكام، ويجب أن نعلم الفرق بين العطية والوصية قبل كل شيء، فالوصية إيصاء بالمال بعد الموت، بأن يقول: إذا مِت فأعطوا فلاناً كذا، والعطية تبرع بالمال في مرض الموت.
فتشتركان في أنه لا يجوز أن يوصي لوارث، ولا لغير وراث بما فوق الثلث، ولا يجوز أن يعطي وارثاً ولا غير وارث ما فوق الثلث.
وتشتركان أيضاً في أنهما أدنى أجراً وثواباً من العطية في الصحة؛ لأن المراتب ثلاث:
الأولى: عطية في الصحة.
الثانية: عطية في مرض الموت.
الثالثة: وصية.
أفضلها العطية في الصحة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أفضل الصدقة أن تصدق وأنت صحيح شحيح تأمل البقاء وتخشى الفقر، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد كان لفلان»
(1)
.
يلي ذلك العطية في مرض الموت، ويلي ذلك الوصية، فالوصية متأخرة.
فإذا قال قائل: لماذا تجعلون العطية وهي في مرض الموت أفضل من الوصية؟
فالجواب: أن المُعْطِي يأمل أن يشفى من هذا المرض، والوصية لا تكون إلا بعد الموت.
أما المرض غير المخوف فهذا حكمه حكم الصحة؛ لأن الرجل لا يتوقع الهلاك.
وقوله: «ويسوى بين المتقدم والمتأخر في الوصية، ويُبْدَأُ بالأول فالأول في العطية» ، هذا هو الفرق الأول بينهما، يعني إذا تزاحمت الوصايا والعطايا وضاق الثلث عنها، فإنه في العطية يبدأ بالأول فالأول، وفي الوصية يتساوى الجميع، أما إذا لم تتزاحم وكان الثلث متسعاً فإنه يعطى الجميع، سواء في الوصية أو العطية.
مثال ذلك: رجل أعطى شخصاً ألف ريال، وأعطى آخر ألفي ريال، وأعطى ثالثاً ثلاثة آلاف ريال، فيكون المجموع ستة
(1)
سبق تخريجه ص (102).
آلاف ريال، ثم توفي ووجدنا تركته تسعة آلاف ريال، ومن المعلوم أن هذه العطايا زادت على الثلث، فماذا نصنع؟
نقول: نعطي الأول فالأول، فنعطي الأول ألف ريال، والثاني ألفي ريال، والثالث لا شيء له؛ لأن التركة تسعة آلاف ثلثها ثلاثة، والثلاثة استوعبتها عطية الأول والثاني، فلا يكون للثالث شيء.
ووجه ذلك أن العطية تلزم بالقبض ويملكها المعطَى بالقبض، فإذا أعطينا الأول ألفاً وأعطينا الثاني ألفين استقر ملكهما على ما أُعطياه، ويأتي الثالث زائداً على الثلث فلا يعطى.
ومثال الوصية: رجل أوصى لشخص بألف ريال، ولآخر بألفي ريال، ولثالث بثلاثة آلاف ريال، ثم مات ووجدنا تركته تسعة آلاف ريال، فهنا الوصايا زادت على الثلث، فالثلث ثلاثة والوصايا تبلغ ستة آلاف ريال، إذاً لا بد أن نرد الوصايا إلى الثلث وندخل النقص على الجميع، لكن لا نقدم الأول على الثاني كما فعلنا في العطية، بل نسوي ونقول: لهم ستة آلاف ولا يستحقون إلا ثلاثة، فننسب الثلاثة إلى الستة فتكون نصفها، فيعطى كل واحد نصف ما أوصي له به؛ لأن نسبة الثلث إلى مجموع الوصايا النصف، فنعطي صاحب الألف خمسمائة، وصاحب الألفين ألفاً، وصاحب الثلاثة ألفاً وخمسمائة، فالجميع ثلاثة آلاف، وهي الثلث.
ووجه ذلك أن هؤلاء الموصى لهم إنما يملكون الوصية بعد
موت الموصي، وموت الموصي يقع مرة واحدة، ليس فيه تقديم وتأخير، فهم ملكوا المال الموصى لهم به في آن واحد وهو وقت موت الموصي.
ولو قال قائل: لماذا لا تقولون: إن الوصية الثانية تنسخ الأولى، والثالثة تنسخ الثانية، وحينئذ يُحْرَم الأول والثاني من الوصية، ويعطى الثالث ما أوصي له به، وهو ثلاثة آلاف؟
نقول: هذا لا يصح؛ لأن الجميع تزاحموا في الاستحقاق فلا نقدم بعضهم على بعض، نعم إن قال الموصي: ووصيتي الثالثة ناسخة لما سبق من الوصايا، فحينئذٍ يعمل بها؛ لأن للموصي أن يرجع في وصيته.
ولهذا تقع مشكلة الآن في وصايا الناس، تجد الرجل يوصي بوصية وتكون عنده في الدفتر وينساها، ثم يوصي وصية أخرى لو جمعت إلى الأولى لضاق الثلث، وإن عمل بإحداهما نفذت، كذلك ـ أيضاً ـ تختلف الشروط التي اشترط فيها، مثلاً يقول: هذه على الفقراء، وهذه على طلبة العلم، وهذه على المساجد، وهذه لإصلاح الطرق، فيشكل على الورثة.
ومن ثَمَّ نقول: ينبغي لطلاب العلم أن يرشدوا الناس إلى أنهم إذا أراد أحدهم أن يوصي وصية، يقول: وهذه الوصية ناسخة لما سبقها، فيؤخذ بقوله هذا؛ لأن الرجوع في الوصية جائز، فكلما كتب الإنسان وصية ينبغي أن ينتبه لهذا؛ حتى لا يوقع الموصى لهم والورثة في حيرة فيما بعد، فيستريح ويريح.
وَلَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ فِيهَا، وَيُعْتَبَرُ القَبُولُ لَهَا عِنْدَ وُجُودِهَا وَيَثْبُتُ المِلْكُ إِذاً، وَالوَصِيَّةُ بِخِلَافِ ذَلِكَ.
قوله: «ولا يملك الرجوع فيها» أي: لا يملك الرجوع في
العطية؛ لأنها لزمت؛ لأن العطية نوع من الهبة، فلو أعطى رجلاً ألف ريال وقبضها، صار ملك الألف للمعْطَى، ولا يمكن أن يرجع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«ليس لنا مثل السوء، العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه»
(1)
.
والوصية يملك الموصي الرجوع فيها، فلو أوصى ببيته لفلان، وقال: هذا البيت بعد موتي يُعْطَى فلاناً ملكاً له، ثم رجع فإنه يجوز؛ لأن الوصية لا تلزم إلا بعد الموت فله أن يرجع.
هذا هو الفرق الثاني: أن العطية اللازمة ـ وهي المقبوضة ـ لا يملك الرجوع فيها، والوصية ولو قبضها الموصى له فإن الموصي يملك الرجوع فيها؛ لأنها لا تلزم إلا بعد موته.
الفرق الثالث:
قوله: «ويعتبر القبول لها» أي: للعطية.
قوله: «عند وجودها» لأنها هبة، فيعتبر أن يقبل المعطى العطية عند وجودها قبل موت المعطي، فإذا أعطاه العطية فإنه يقبل في الحال، والوصية لا يصح قبولها إلا بعد الموت، حتى لو قال الموصي: إني أوصيت لك بهذا البيت بعد موتي ملكاً لك، فقال الموصى له: قبلت وشكر الله سعيك وجزاك الله خيراً، وذهب إلى كاتب العدل وقال: إني أوصيت ببيتي لفلان بعد موتي، فله أن يرجع؛ لأنها وصية.
الفرق الرابع: أنه لا يثبت الملك للموصَى له من حين تم
(1)
سبق تخريجه ص (87).
عقد الوصية، بل الملك للموصي، بخلاف العطية فإنه يثبت الملك فيها حين وجودها وقبولها؛ ولهذا قال:
«ويثبت الملك إذاً» ، أي عند وجودها وقبولها، ويت+فرع على هذا أنه لو زادت العطية زيادة متصلة، أو منفصلة فهي للمُعْطى، بخلاف الوصية فالنماء للورثة؛ لأن الملك في الوصية لا يثبت إلا بعد الموت، ولهذا قال:«والوصية بخلاف ذلك» .
هذه أربعة فروق ذكرها المؤلف، وهناك فروق أخرى كنت قد كتبتها زيادة على ما ذكر، فمنها:
الفرق الخامس: اشتراط التنجيز في العطية، وهذا ربما يؤخذ من قوله:«ويعتبر القبول لها عند وجودها» ، وأما الوصية فلا تصح منجزة؛ لأنها لا تكون إلا بعد الموت، فهي مؤجلة على كل حال.
الفرق السادس: الوصية تصح من المحجور عليه، ولا تصح العطية.
مثلاً: رجل عليه ديون أكثر من ماله، مثلاً عليه عشرة آلاف ريال، وماله ثمانية آلاف ريال، وحجر عليه، فلا يمكن أن يعطي أحداً من هذه الثمانية، لأنه محجور عليه، فهذه العطية تبرع يتضمن إسقاط واجب، والتبرع الذي يتضمن إسقاط واجب غير صحيح، لكن لو أوصى بعد موته بألفي ريال فإنه يجوز، والفرق أن الوصية لا تنفذ إلا بعد قضاء الدين، وليس على أهل الدَّين ضرر إذا أوصى بشيء من ماله؛ لأنه إذا مات الميت، نبدأ أولاً بتجهيزه ثم بالديون التي عليه، ثم بعد ذلك بالوصية.
إذاً الوصية تصح من المحجور عليه والعطية لا تصح، والفرق أن العطية فيها إضرار بالغرماء، والوصية ليس فيها إضرار؛ لأنها لن تنفذ إلا بعد قضاء الدين.
وهل تصح من المحجور عليه لسفه؟
المحجور عليه لسفه إما أن يكون صغيراً، وإما أن يكون مجنوناً، وإما أن يكون بالغاً عاقلاً لكنه سفيه لا يحسن التصرف، أما الأول والثاني فلا تصح وصيتهما ولا عطيتهما؛ لأنهما لا قصد لهما ولا يعرفان الوصية والعطية.
وأما الثالث ففيه قولان: قال بعض أهل العلم: تصح وصيته؛ لأنه إنما حجر عليه لمصلحة نفسه، وبعد موته لا يضره ما ذهب من ماله إلى ثواب الآخرة مثلاً، لكن في النفس من هذا شيء؛ لأن السفيه لا يحسن التصرف، فأنا أتوقف في هذا.
الفرق السابع: الوصية تصح بالمعجوز عنه، والعطية لا تصح، فلو أعطى شيئاً معجوزاً عنه كجمل شارد وعبد آبق وما أشبه ذلك، فإنها لا تصح العطية على المشهور من المذهب، والقول الراجح أنها تصح؛ لأن المعطَى إما أن يغنم وإما أن يسلم وليس فيه مراهنة، لكن على المذهب لا تصح العطية بالمعجوز عنه، وتصح الوصية، والفرق أن الوصية لا يشترط تملكها في الحال، فربما يقدر عليها فيما بين الوصية والموت.
والصحيح في هذا أن كلتيهما تصح بالمعجوز عنه.
الفرق الثامن: الوصية لها شيء معين ينبغي أن يُوصى فيه
والعطية لا، والشيء المعين الذي ينبغي أن يوصي فيه هو الخُمس، فالإنسان إذا أراد أن يوصي بتبرع فليوصِ بالخمس، فلدينا خمس وربع وثلث ونصف وأجزاء أخرى.
فالوصية بالنصف حرام، والوصية بالثلث جائزة، والوصية بالربع جائزة ولكنها أحسن من الثلث، والوصية بالخمس أفضل منهما، أي من الثلث والربع، لقول النبي صلى الله عليه وسلم حين استأذنه سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه في أن يوصي بأكثر من الثلث قال:«الثلث والثلث كثير»
(1)
، وقول نبينا صلى الله عليه وسلم:«الثلث كثير» يوحي بأن الأولى النقص عنه.
وابن عباس رضي الله عنهما مع ما أعطاه الله ـ تعالى ـ من الفهم يقول: (لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الثلث والثلث كثير»)
(2)
، يعني لكان أحسن.
أما أبو بكر رضي الله عنه فقد سلك مسلكاً آخر واستنبط استنباطاً آخر، وفهم فهماً عميقاً، فأوصى بالخمس، وقال: أوصي بما رضيه الله لنفسه، ثم تلا:{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} الآية [الأنفال: 41]
(3)
، ولذلك اعتمد الفقهاء رحمهم الله أن الجزء الذي ينبغي أن يوصى به هو الخمس.
وهذه ـ أيضاً ـ مسألة أحب من طلبة العلم أن ينبهوا الناس عليها، فالآن الوصايا كلها ـ إلا ما شاء الله ـ بالثلث، يقول الموصي: أوصيت بثلثي ـ سبحان الله!! ـ الرسول صلى الله عليه وسلم ماكسه سعد
(1)
سبق تخريجه ص (118).
(2)
سبق تخريجه ص (118).
(3)
أخرجه عبد الرزاق (16363) عن قتادة عن أبي بكر رضي الله عنه
رضي الله عنه من الثلثين إلى النصف إلى الثلث فقال: «الثلث كثير» فلماذا لا نرشد العامة ـ لا سيما إذا كان ورثتهم فقراء ـ أن يوصوا بالربع فأقل؟ لكن هذا قليل مع الأسف، والكتَّاب يُرضون من حضر إليهم للوصية، يقول الكاتب: بكم تريد أن توصي؟ فيقول: بالثلث، فلا يقول الكاتب له: بل بالربع أو بالخمس، وهذا غلط.
وأنا أرى أنه إذا طُلِب من إنسان أن يكتب وصية بالثلث، أن يقول: يا أخي تريد الأفضل؟ فإذا قال: نعم، يقول له: الأفضل الخمس، فإذا قال: أنا أريد أكثر فإننا ننقله إلى الربع، ونقول: هذا هو الأفضل، وأنت لو أردت التقرب إلى الله حقاً لتصدقت وأنت صحيح شحيح، تأمل البقاء وتخشى الفقر، أما الآن إذا فارقت المال تذهب تحرمه ممن جعله الله له! فهذا لا ينبغي.
على كل حال الوصية لها جزء معين ينبغي أن تكون به والعطية لا، فلا نقول: يسن أن يعطي الخمس أو الربع.
الفرق التاسع: يقول الفقهاء: الوصية تصح للحمل، والعطية لا تصح؛ ووجه ذلك أن الحمل لا يملك، فإذا أعطيته لم يملك، ولا يصح أن يتملك له والداه؛ لأن الحمل ليس أهلاً للتملك، والعطية لا بد أن يكون التملك فيها ناجزاً.
الفرق العاشر: أن العبد المدبَّر يصح أن يوصَى له، ولا تصح له العطية، مثلاً: رجل عنده عبد مدبَّر ـ وهو الذي علق عتقه بموت سيده ـ فقال له: إذا مت فأنت حر، فهذا مدبَّر؛ لأن عتقه يكون دبر حياة سيده، فيصح أن يوصي لعبده المدبر؛ لأن
الوصية تصادف العبد وقد عتق، وإذا عتق صح أن يتملك، ولا يصح أن يعطي عبده بناءً على أن العبد لا يملك بالتمليك، والعطية لا بد أن يتملكها في حينها.
الفرق الحادي عشر: العطية خاصة بالمال، والوصية تكون بالمال والحقوق، ولذلك يصح أن يوصي شخصاً ليكون ناظراً على وقفه، ويصح على قولٍ ضعيف أن يوصي شخصاً بتزويج بناته، ولكن العطية خاصة بالمال.
وليعلم أن من أسباب تحصيل العلم أن يعرف الإنسان الفروق بين المسائل المشتبهة، وقد ألف بعض العلماء في هذا كتباً، كالفروق بين البيع والإجارة، وبين الإجارة والجعالة، بين العطية والوصية، وكل المسائل المشتبهة، فمن أسباب اتساع نظر الإنسان وتعمقه في العلم أن يحرص على تتبع الفروق ويقيدها. هذا ما تيسر لنا، وقد يكون عند التأمل فروق أخرى.
وقد ذكرنا أنه يصح على قول أن يوصي الإنسان بتزويج بناته وهذا هو المذهب، والصحيح أنه لا تصح وصيته بتزويج بناته؛ لأنه ولي على بناته ما دام حياً، وترتيب الولاية ليست إلى الولي، بل هي إلى ولي الولي وهو الله عز وجل، وعلى هذا فإذا مات الإنسان انقطعت ولايته في تزويج بناته، كما تنقطع ولاية بقية الأولياء.
فلو قال شخص عند موته: أوصيت إلى فلان أن يتولى تزويج بناتي ثم مات ولهن عم، فالقول الراجح أن يزوجهن العم، والقول الثاني: يزوجهن الوصي.
كِتابُ الوَصَايَا
يُسَنُّ لِمَنْ تَرَكَ خَيْراً وَهُوَ المَالُ الكَثِيرُ أن يُوصِيَ بِالخُمُسِ،
.........
الوصية: هي التبرع بالمال بعد الموت، أو الأمر بالتصرف بعده.
فالتبرع بالمال بعد الموت بأن يقول: إذا مت فأعطوا فلاناً ألف ريال.
وأما الأمر بالتصرف بعده، مثل أن يقول: إذا مت فالوصي على أولادي الصغار فلان، فالأول بالمال والثاني بالحقوق.
ومن الوصية بالتصرف ما فعل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين جعل أمر الخلافة شورى بين الستة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
.
والوصية تجري فيها الأحكام الخمسة كما سيتبيَّن إن شاء الله تعالى.
قوله: «يسن لمن ترك خيراً» ، وإنما قال المؤلف:«لمن ترك خيراً» لمطابقة الآية: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} [البقرة: 180].
وتكون الوصية للأقارب غير الوارثين، ودليل ذلك قول الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ
(1)
أخرجه البخاري في فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم/ باب قصة البيعة والاتفاق على عثمان بن عفان رضي الله عنه (3700).
لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ}، والآية عامة في الوارث وغير الوارث؛ لأنه قال:{لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} ، لكن نقول: هذه الآية مُخَصَّصة بآيات المواريث، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«إن الله أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث»
(1)
، فيكون العموم في قوله تعالى:{لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} مخصوصاً بآيات المواريث.
فإن قال قائل: هل يمكن أن يكون الوالدان غيرَ وارثين؟
فالجواب: يمكن أن يكونا غير وارثين، كما لو كانا كافرين والولد مسلم، فإنه يوصي لهما؛ لقول الله تعالى:{وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15].
وقوله: «يسن» صريح في أن الوصية للأقارب غير الوارثين ليست واجبة، وهذا هو الذي عليه جمهور العلماء، وقالوا: إن آيات المواريث نسخت قول الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ *} .
فأكثر العلماء على أن آيات المواريث ناسخة لهذه الآية، وأنه لا يُعمَل بأي حرف منها؛ لأنها منسوخة، والنسخ رفع الحكم.
ولكن أبى ذلك عبد الله بن عباس رضي الله عنهما فقال: إن الآية محكمة، وأن الوصية واجبة للأقارب غير الوارثين، وما ذهب إليه أقرب إلى الصواب.
فإن قال قائل: إن الله يقول: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ
(1)
سبق تخريجه ص (116).
أَزْوَاجُكُمْ} [النساء: 12]، ويقول:{وَلأَِبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} [النساء: 10]، والسدس إذا أُخِذَت منه الوصية التي هي الخمس يكون سدساً إلا خمساً؟
فيقال: إن الله ـ تعالى ـ بَيَّن فقال: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} ، وقال:{مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} ، وقال:{مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} ، وقال:{مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 10، 11]، فالآيات صريحة أن هذه القسمة بعد الوصية، وحينئذٍ إذا عدنا إلى الآية:{كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} فقوله: {كُتِبَ} أي: فرض، وإسقاط هذا الفرض يحتاج إلى دليل بَيِّن.
وأيضاً قوله: {حَقًّا} ، أي: أُحِقُّ هذا حقاً وأثبته إثباتاً.
وأيضاً قوله: {عَلَى الْمُتَّقِينَ} ، أي: على ذوي التقوى، وهذا يدل على أن الوصية من التقوى، ومخالفة التقوى حرام.
ولهذا كان القول الراجح في هذه المسألة أن الوصية للأقارب غير الوارثين واجبة؛ لأن الآية صريحة، والنسخ ليس بالأمر الهيِّن أن يُدَّعى مع هذه الصراحة، ومع إمكان الجمع بين هذه الآية وآية المواريث، والجمع أن آيات المواريث صريحة في أنها من بعد وصية، وكيف نلغي هذه الأوصاف العظيمة:{كُتِبَ} ، {حَقًّا} ، {عَلَى الْمُتَّقِينَ} مع إمكان العمل بآيات المواريث وهذه الآية؟! ولأنه لا دليل على النسخ.
فإذا قال قائل: لو كان الوجوب باقياً لتوافرت النقول عن الصحابة رضي الله عنهم بالوصية، مع أن الوصية بين الصحابة قليلة، فالجواب: لا شك أن هذا الاحتمال يضعف القول بالوجوب، لكن ما دام أمامنا شيء صريح من كتاب الله عز وجل فإن عدم العمل به يدل على أن من الصحابة أو أكثر الصحابة يقولون بأن الوجوب منسوخ، ونحن إنما نكلف بما يدل عليه كلام الله عز وجل.
فالصحيح أن آية الوصية محكمة، وأنه يجب العمل بها، لكن نسخ منها من كان وارثاً من هؤلاء المذكورين، فإنه لا يوصى له، وبقي من ليس بوارث.
قوله: «وهو المال الكثير» المال الكثير يُرجَع فيه إلى العرف وإلى أحوال الناس، فإذا كانت الدراهم كثيرة فالمال الكثير كثير، وإذا كان الناس عندهم قلة في المال فالقليل يكون كثيراً، حتى إن بعض الفقهاء يقول: من ملك خمسين درهماً فهو غني لا تحل له الزكاة، وفي وقتنا الحاضر الخمسون درهماً لا توجب أن يكون الإنسان غنياً؛ لأنها يمكن أن تنفد في عشرة أيام، وليس في سنة كاملة.
فالحاصل أن المال الكثير يرجع فيه إلى العرف، فقد يكون القليل كثيراً في وقت، وقد يكون الكثير قليلاً في وقت آخر.
وقوله: «وهو المال الكثير» مفهومه أنه لو ترك مالاً قليلاً لا تسن له الوصية، ودليل هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: «إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم
عالة»
(1)
، وصاحب المال القليل إذا أوصى فإنه ربما يجعل ورثته عالة على الناس.
قوله: «أن يوصي بالخُمس» ، الدليل على تعيُّن الخُمس هو ما ورد عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال:«أوصي بما رضيه الله لنفسه»
(2)
وهو الخمس، ولكن ليس بلازم، إنما اختاره أبو بكر رضي الله عنه وهو داخل في قول الرسول صلى الله عليه وسلم:«الثلث والثلث كثير» .
والمؤلف لم يبيِّن لمن تُصرف الوصية، والجواب: أنها تصرف في أعمال الخير، وأولاها القرابة الذين لا يرثون؛ لأن الله فرض الوصية لهم، فإذا قلنا: إن الآية لم تنسخ صارت الوصية للقرابة الذين لا يرثون واجبة، وإذا قلنا: إنها منسوخة صارت مستحبة، فتصرف إلى الأقارب غير الورثة سواء كانوا أغنياء أو فقراء، وإذا أوصى إلى جهة عامة صار أكثر أجراً وأعم نفعاً.
وَلَا تَجُوزُ بِأَكْثَرَ مِن الثُّلُثِ لأَِجْنَبِيٍّ وَلَا لِوَارِثٍ بِشَيْءٍ إِلاَّ بِإِجَازَةِ الوَرَثَةِ لَهَا بَعْدَ المَوْتِ، فَتَصِحُّ تَنْفِيذاً،
..........
قوله: «ولا تجوز» ، أي: الوصية.
قوله: «بأكثر من الثلث» ، ودليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وقد نازله فيما يوصي به، فقال للنبي وهو في مرض ظن أنه مرض الموت: أتصدق بثلثي مالي؟ قال: «لا» ، قال: فالنصف؟ قال: «لا» ـ وكلمة: «لا» في مقام الاستفتاء تعني التحريم ـ فقال: فالثلث؟ قال: «الثلث والثلث كثير، إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس» .
قوله: «لأجنبي» ، المراد بالأجنبي هنا من لا يرث بدليل:
(1)
سبق تخريجه ص (118).
(2)
سبق تخريجه ص (131).
قوله: «ولا لوارث بشيء» ، فالوارث لا يجوز للإنسان أن يوصي له لا بقليل ولا بكثير؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«إن الله قد أعطى لكل ذي حق حقه فلا وصية لوارث»
(1)
، ولأن الوصية للوارث تؤدي إلى أن يأخذ من المال أكثر ممّا فرض الله له، وهذا تعدٍّ لحدود الله، وغير الوارث تجوز بالثلث فأقل؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم لسعد رضي الله عنه:«الثلث والثلث كثير»
(2)
.
قوله: «إلا بإجازة الورثة لها بعد الموت فتصح تنفيذاً» ، ظاهر كلامه رحمه الله أنه إذا أجازها الورثة صارت حلالاً، وفيه نظر، والصواب أنها حرام، لكن من جهة التنفيذ تتوقف على إجازة الورثة، فتصح تنفيذاً لا ابتداء عطية.
وقوله: «إلا بإجازة الورثة» ، وكيف تجوز لهم بذلك، وقد منع النبي صلى الله عليه وسلم سعداً رضي الله عنه من الزيادة عن الثلث، ولم يقل: إلا أن يشاء ورثتك؟! فالجواب: أنهم قالوا: إنما منعت الوصية بزائد عن الثلث مراعاة لحقّ الورثة، فإذا أسقطوا حقهم فلا تحريم، ولكن الصحيح أنه حرام أن يوصى بزائد على الثلث، لكن هل ينفذ أو لا؟ هذا هو الذي يتوقف على إجازة الورثة، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم:«لا وصية لوارث إلا بإجازة الورثة»
(3)
.
(1)
سبق تخريجه ص (116).
(2)
سبق تخريجه ص (118).
(3)
أخرجه الدارقطني (4150) ط/الرسالة، والبيهقي (6/ 263) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال الحافظ في التلخيص (1370): والمعروف المرسل، وضعفه في الإرواء (1656)؛ وأخرجه الدارقطني (4154) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، قال الحافظ في التلخيص (1370): إسناده واهٍ.
فإذا قال قائل: إذا كان الحق للورثة ثم وافقوا بعد الموت فكيف يقال: إنه حرام؟!
يقال: لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما استنزله سعد رضي الله عنه وقال: الثلثين، والشطر، قال:«لا» ولم يقل: إلا أن يجيز الورثة، ولأن الإنسان إذا أوصى بأكثر من الثلث لأجنبي، أو بشيء للوارث فقد يجيز الورثة بعد الموت حياءً وخجلاً ودرءاً لكلام الناس، وهذا وارد بلا شك، أن الورثة إذا أوصى لأحدهم بزيادة على ميراثه، أو أوصى لأجنبي بزيادة على الثلث، ربما يوافقون حياءً وخجلاً عن إغماض، أو يخشون إن ردوا الوصية أن يتحدث الناس فيهم، فلذلك نرى أنها حرام بكل حال، حتى وإن كان يقول: إن الورثة بعدي سوف يجيزون هذا، والدليل:
أولاً: حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم منعه، ولم يقل: إلا أن يجيز الورثة.
ثانياً: أنهم إذا أجازوا فقد يجيزون حياءً وخجلاً لا عن اقتناع.
فإذا أوصى بما يزيد عن الثلث لأجنبي أو لوارث بشيء فهو آثم، والتنفيذ يتوقف على إجازة الورثة لما سبق.
وقوله: «إلا بإجازة الورثة» يشمل من يرث بالفرض، أو بالتعصيب، فعلى هذا لا بد من موافقة الزوجة ـ مثلاً ـ أو الزوج، ولا بد من موافقة الأم، ولا بد من موافقة العم إذا كان وارثاً بالتعصيب.
والوارث الذي يملك الإجازة هو البالغ، العاقل، الرشيد، فهذه ثلاثة شروط.
فإجازة غير البالغ لا تعتبر؛ لأنه لا يملك التبرع بشيء من
ماله، وإجازة المجنون غير معتبرة؛ لأنه لا قصد له، ولا إرادة له، ولا عقل له، وإجازة السفيه ـ وهو الذي لا يحسن التصرف في المال ـ لا عبرة بها.
وقوله: «بعد الموت» متعلق بـ: «إجازة» يعني إلا إذا أجازها الورثة بعد الموت، فإن أجازوها قبل الموت فلا عبرة بإجازتهم؛ لأنهم لم يملكوا المال بعد حتى يملكوا التبرع بشيء منه؛ لأن الإجازة معناها التبرع، ولأن هذا الوارث اليوم قد يكون هو الموروث، فكثيراً ما يكون رجل صحيح وآخر مدنِف فيموت الأول قبل الثاني، فلا يعتد بإجازتهم إلا إذا كانت بعد الموت.
وعلى هذا فلو أن المريض لما رأى دنو أجله جمع الورثة وقال لهم: أنا مالي مائة ألف، وأنا أرغب أن أوصي ببناء مسجد، وبناء المسجد يكلف خمسين ألفاً فهل تسمحون؟ فقالوا: نعم نسمح، ثم مات، فهل يُنَفذ بناء المسجد؟
الجواب: ينفذ منه ما لا يزيد على الثلث، وأما ما زاد على الثلث فلا، فإن قال قائل: هؤلاء سمحوا وأذنوا، فالجواب: أنهم أذنوا قبل أن يملكوا المال؛ لأنهم لا يملكون المال إلا بعد موت المورِّث، فإذنهم وإذن من لم يكن وارثاً على حد سواء؛ لأنهم الآن غير وارثين ولا مالكين للمال، ولا يعلم، فربما أن هذا المريض الذي يُخشَى أن أجله قريب، يموت الأصحاء قبله، وهذا يقع كثيراً.
القول الثاني: أن إجازتهم قبل الموت معتبرة مطلقاً.
القول الثالث: التفصيل أنه إذا كان مرضه مرضاً مخوفاً فإن
إذنهم جائز، ولذلك منعناه من التبرع بما زاد على الثلث لتعلق حقهم بماله، فهم هنا يُسقِطون حقهم من الاعتراض، ولا يتبرعون بالمال؛ لأن المال لم يملكوه بعد، ويدل لهذا أن المريض مرض الموت لا يمكن أن يتبرع بأكثر من الثلث من أجل حقهم، ولو قلنا: إن حقهم لا يكون إلا بعد الموت لقلنا: يتبرع بما شاء، وأما إن أجازوا في الصحة فلا وجه لإجازتهم، وإجازتهم غير معتبرة، وهذا القول هو الصحيح، أنهم إذا أذنوا بالوصية بما زاد على الثلث، أو لأحد الورثة فلا بأس إذا كان في مرض الموت المخوف، أما في الصحة فلا عبرة بإجازتهم.
والوصية لأحد الورثة مثل أن يجمعهم، ويقول لهم: يا أبنائي أخوكم الصغير محتاج أكثر، أنتم موظفون وهو قاصر، أنا أريد أن أوصي له بمثل نصيبه من الميراث أو أكثر، فيوافقون على هذا، فالقول الراجح أن هذه الموافقة نافذة وجائزة، إلا إذا علمنا أنهم إنما أذِنوا حياءً وخجلاً فلا عبرة بهذا الإذن.
مسألة: لو أوصى لكل وارث بمقدار حقه، كأن يكون له أربعة أبناء وقال: أوصيت لكل واحد بالربع، فإنه يجوز؛ لأنه ليس في هذا ظلم لأحد، ولكن لو أوصى لوارث بمعين بمقدار حقه، بأن كان له أربعة أبناء وكان عنده أربع شقق متساوية القيمة، فهل يجوز أن يوصي لكل واحد من الأبناء بشقة تساوي حقه؟ فالمذهب أنه لا بأس بذلك.
والقول الثاني: لا يصح وهو أصح، حتى لو كانت متساوية
من كل وجه؛ لأن كل وارث حقه مشاع في التركة، فكيف نلزمه بإفراز حقه بدون رضاه؟! ثم ربما يحصل تشاحن فيما بينهم، ثم إن الموصي قد يقدر أن قيمها واحدة وهي مختلفة.
وقوله: «فتصح تنفيذاً» أي: تصح الوصية تنفيذاً لا ابتداء عطية، وعلى هذا فلا يعتبر شروط العطية في هذا التنفيذ؛ لأنه تنفيذ لتصرف الغير، وعليه فلو كان أحد الورثة مريضاً مرض الموت، وليس له مال إلا ما ورثه من مورثه، وأجاز فتصح إجازته ولو استوعبت جميع المال؛ لأنه لم يتبرع بشيء، فغاية ما هنالك أنه أجاز تصرف المُوَرِّث قبل أن يملكه هو؛ لأن المورث قد أوصى به لفلان، فتكون إجازة الوارث ليست ابتداء عطية، وليست تبرعاً محضاً، وإنما هي تنفيذ لتصرف غيره.
وَتُكْرَهُ وَصِيَّةُ فَقِيرٍ وَارِثُهُ مُحْتَاجٌ وَتَجُوزُ بِالكُلِّ لِمَنْ لَا وَارِثَ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَفِ الثُّلُثُ بِالوَصَايا فَالنَّقْصُ بِالقِسْطِ،
.....
قوله: «وتكره وصية فقير» المراد بالفقير هنا الفقير عرفاً، وليس الفقير في باب الزكاة، فالفقير في باب الزكاة هو الذي لا يجد كفايته وكفاية عائلته سنة، والفقير هنا ما عُدَّ عند الناس فقيراً، وهو من لم يترك مالاً كثيراً، ولو كان عنده مؤونة نفسه لمدة سنة.
قوله: «وارثه محتاج» يعني وارثه ـ أيضاً ـ فقير مثله، يحتاج إلى المال، فهذا يكره أن يوصي؛ لأنه بعد موته تتعلق نفس الوارث بالمال، والموصي إنما أوصى طلباً للأجر، والأولى أن نعطي المال لمن له الحق شرعاً، وهو محتاج، ولا نعطيه شخصاً أجنبياً، فما دام الوارث محتاجاً والمال قليل، فإنه يكره للإنسان أن يوصي ولو بالثلث.
فإذا قال: أنا أريد الخير، فأنا أوصي بثلث مالي للمساجد. قلنا: إغناء الورثة خير لك، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة»
(1)
.
فعندنا ثلاثة أحكام للوصية:
وصية مسنونة، ووصية محرمة، ووصية مكروهة وهي وصية الفقير الذي وارثه محتاج، فإن كان وارثه غير محتاج وهو فقير فالوصية مباحة؛ لأن الأصل فيها الإباحة.
قوله: «وتجوز بالكل لمن لا وارث له» ، أي: تجوز الوصية بكل ماله لمن لا وارث له، فإذا كان رجل ليس له وارث وعنده أموال عظيمة، وأوصى بهذه الأموال أن تعمر بها المساجد فيجوز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم علل منع الزيادة على الثلث بقوله:«إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة» ، فإذا لم يكن له وارث فهنا لا أحد يطالبه بمال، فتجوز الوصية بالكل لمن لا وارث له.
هذه أربعة أحكام تكليفية في الوصية، بقي الحكم الخامس وهو وجوب الوصية، فتجب الوصية بكل حق واجب على الموصي ليس عليه بينة، مثاله: رجل عليه دَين وليس لصاحب الدَّين شهود، فيجب على المدين أن يوصي بقضاء دينه، إلا إذا كان عليه بينة، فإنه إذا كان عليه بينة فلا يمكن أن يضيع، ولكن بشرط أن تكون البينة موجودة، معلومة، موثوقة، فهذه ثلاثة شروط:
(1)
سبق تخريجه ص (118).
الأول: أن تكون البينة موجودة، فإن كانت البينة قد ماتت، فالمدين يعرف أن فلاناً وفلاناً يشهدان على أن في ذمته لفلان كذا، لكن مات الرجلان، فوجود هذه البينة وعدمها سواء؛ لأن صاحب الحق يضيع حقه إذا لم توجد البينة.
الثاني: أن تكون معلومة، فإن لم تكن معلومة فلا فائدة منها، ومعنى معلومة أي في المكان الفلاني، ويمكن بكل سهولة أن نستدعيها، أما إذا كانت غير معلومة كرجل أشهد على دينه فلان بن فلان وفلان بن فلان، وكان ذلك في موسم الحج والشاهدان من الحجاج، فهذه البينة غير معلومة، ولو فرض أنها معلومة فغير مقدور على إحضارها إذا قدرنا أنهم في أقصى الغرب، أو أقصى الشرق.
الثالث: أن تكون موثوقة، فإن كانت البينة غير موثوقة، بحيث يعرف الموصي أن هذين الرجلين لو شهدا عند الحاكم لرد شهادتهما، فلا فائدة من ذلك، وسواء رد شهادتهما لفسقهما، أو لقرابة بينهما وبين من له الحق، أو لغير ذلك.
وبهذا تقرر أن الوصية تجري فيها الأحكام التكليفية الخمسة.
قوله: «وإن لم يفِ الثلث بالوصايا فالنقص بالقسط» سبق أنه يُبدأ بالأول فالأول في العطية، وأن الوصايا يُسوَّى فيها بين المتقدم والمتأخر، فإذا أوصى لجماعة وزادت الوصية على الثلث فإن النقص يكون بالقسط، فلو أوصى لشخص بألف، ولآخر بألفين، ولثالث بثلاثة، وماله تسعة آلاف، فهنا مجموع الوصايا ستة آلاف، يزيد على الثلث، فهل نبدأ بالأول فالأول، أو نأخذ بالأكثر، أو ماذا؟
يقول المؤلف: «فالنقص بالقسط» ، وكيفية ذلك أن تنسب الثلث إلى مجموع الوصايا، فما بلغ من النسبة فلكل واحد من وصيته مثل تلك النسبة.
ففي مثالنا مجموع الوصايا
ستة آلاف، والثلث ثلاثة آلاف، فننسب الثلث إلى مجموع الوصايا يكون النصف، فنعطي كل واحد نصف ما أوصى له به، فنعطي صاحب الألف خمسمائة، وصاحب الألفين ألفاً، وصاحب الثلاثة ألفاً وخمسمائة، فالجميع ثلاثة آلاف وهو الثلث.
لكن لو أوصى لواحد بمعين ولآخر بمشاع، مثل أن يوصي لشخص بسيارة قيمتها ستمائة درهم، وللثاني بخمسمائة درهم، وتوفي وكان مجموع ماله ثلاثة آلاف درهم، والوصية ألف ومائة، فالوصية إذاً زادت على الثلث، فننسب الثلث ألفاً إلى مجموع الوصايا ألف ومائة، فتكون النسبة عشرة من أحد عشر.
فلصاحب السيارة ستة منسوبة إلى عشرة من أحد عشر، ولصاحب الخمسمائة خمسة منسوبة إلى عشرة من أحد عشر، فيدخل صاحب الخمسمائة على صاحب السيارة بشيء، فتكون السيارة مشتركة.
وَإِنْ أَوْصَى لِوَارِثٍ فَصَارَ عِنْدَ المَوْتِ غَيْرَ وَارِثٍ صَحَّتْ، والعَكْسُ بِالعَكْسِ، وَيُعْتَبَرُ القَبُولُ بَعْدَ المَوْتِ وَإِنْ طَالَ، لَا قَبْلَهُ .....
قوله: «وإن أوصى لوارث فصار عند الموت غير وارث صحت» ، سبق أنه لا يحل له أن يوصي لوارث لا بقليل ولا بكثير، والوقت الذي يعتبر فيه كونه وارثاً هو الموت، لا وقت الوصية،
فإذا أوصى لوارث فصار عند الموت غير وارث فالوصية صحيحة، مثال ذلك: أوصى لأخيه الشقيق ثم وُلِدَ له بعد ذلك ابن، فالأخ الشقيق كان عند الوصية وارثاً، ثم لما وُلِدَ للموصي ابن صار الأخ غير وارث، فتصح الوصية له.
قوله: «والعكس بالعكس» ، فلو كان له ابن وأخ، فأوصى للأخ وهو الآن غير وارث؛ لأن الابن يحجبه، ثم مات الابن فصار الأخ وارثاً، فالوصية غير صحيحة؛ لأنه صار عند الموت وارثاً فتبطل الوصية، ويكتفى بما قُدِّر له من الميراث.
المهم أن القاعدة: أن اعتبار كون الموصى له وارثاً أو غير وارث هو وقت الموت دون وقت الوصية.
وهل العطية كالوصية، أو المعتبر وقت الإعطاء؟
في هذا خلاف بين فقهائنا رحمهم الله، فمنهم من قال: إن العطية كالوصية، فيعتبر في كون المعطَى وارثاً أو غير وارث وقت الموت.
ومنهم من قال: بل هو وقت الإعطاء؛ لأنه وقت ملكه إياها.
قوله: «ويعتبر القبول بعد الموت وإن طال» ، أي: قبول الموصى له الوصية معتبر بعد الموت.
قوله: «لا قبله» ، فلو قَبِلَ قَبْل الموت فالقبول غير صحيح، فلو أوصى رجل لآخر ببيت، وقَبِل الموصَى له البيت من حين علمه بالوصية، فلا يصح القبول ولا ينتقل ملك البيت إلى الموصى له؛ لأن الوصية لا تنفذ إلا بعد الموت، إذاً قبوله وعدمه
سواء، ما دام الموصي على قيد الحياة، فيعتبر القبول بعد الموت ولو بلحظة.
فلو أُخبر بأن فلاناً أوصى له بالبيت ولم يقبل في الحال، وتأخر قبوله فلا بأس بهذا؛ لأن المعتبر القبول بعد الموت ولو طال، ولا يشترط أن يقبل حين علمه بالوصية؛ لأن أصل الوصية قبل أن يموت الموصي عقدٌ جائز، فكذلك ـ أيضاً ـ قبل أن يقبل الموصى له هي عقد جائز، إذا شاء قبل وإذا شاء رد.
إذاً من شرط قبول الموصى له أن يكون قبوله بعد الموت، فإن قَبِلَ قبله فلا عبرة بقبوله.
ويستثنى من ذلك ما إذا كانت الوصية لغير عاقل أو لغير محصور.
مثال الأول: لو أوصى بدراهم تصرف في بناء المساجد، فلا يقال: يشترط لصحة الوصية أن يقبل مدير الأوقاف؛ لأن المساجد جهة، وليست ذات ملك.
مثال الثاني: لو أوصى بدراهم للفقراء فلا يشترط اجتماع الفقراء كلهم ليقولوا: قبلنا الوصية؛ لأن هذا مستحيل، ولو أوصى لبني زيد، فإن كانوا قبيلة لم يشترط القبول لعدم إمكان حصرهم، وإن كانوا لصلبه فإنه يمكن حصرهم فيشترط القبول، أما غير العاقل وغير المحصور، فإن الوصية تثبت بمجرد موت الموصي.
وَيَثبُتُ المُلْكُ بِهِ عَقِبَ المَوْتِ، ومَنْ قَبِلَهَا ثُمَّ رَدَّهَا لَمْ يَصِحَّ الرَّدُّ، وَيَجُوزُ الرُّجُوعُ فِي الوَصِيَّةِ ........
قوله: «ويثبت الملك به» أي بالقبول.
قوله: «عقب الموت» ولو طال الزمن بين موت الموصي وقبول الموصى له، وعلى هذا فما حدث من نماء بين موت
الموصي وقبول الموصى له فهو للموصى له؛ لأنه يثبت ملكه للموصى به من حين موت الموصي.
مثال ذلك: رجل أُوصِيَ له ببيت وكان يؤجر في اليوم الواحد بمائة ريال، ثم لم يقبل الموصَى له إلا بعد عشرة إيام من موت الموصي ـ فالنماء ألف ريال ـ يكون للموصى له؛ لأن المؤلف يقول:«يثبت الملك به» ، أي: بالقبول «عقب الموت» ، أي: من حين موت الموصي، مع أنه بالأول ليس على ملكه، فهو محتمل أن يكون للورثة أو للموصى له، لكن لما قَبِل انسحب الملك بأثر رجعي ـ كما يقولون ـ فصار النماء من موت الموصي إلى قبول الموصى له، للموصَى له، هذا ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله.
وقال بعض العلماء ـ وهو المشهور من المذهب ـ: إنه لا يثبت الملك إلا بالقبول؛ لأنه قبل أن يقبل ليس ملكه، وبناءً على هذا ففي مثالنا السابق تكون ألف الريال للورثة؛ لأن ملك الموصَى له للموصى به لم يثبت إلا بعد قبوله.
والمسألة محتملة، فكلام المؤلف رحمه الله له قوة؛ لأن ملك الموصَى له للموصى به ملك مراعى، فإن قَبِل فهو ملكه من حين زال ملك الموصي عنه، وملك الموصي يزول عنه بالموت، والمذهب له وجهة نظر أيضاً؛ لأنه لم يثبت ملكه إياه إلا بالقبول، فكيف يكون نماء ملك غيره له؟! فالمسألة مترددة بين هذا وهذا، والقاضي إذا تحاكم الورثة والموصَى له عنده يرجح ما يراه راجحاً، والأولى والأحسن والأحوط أن يصطلح الورثة والموصى له في مثل هذه الحال.
قوله: «ومن قبلها» أي: الوصية، أي: الموصى به.
قوله: «ثم ردها لم يصح الرد» لأنها دخلت ملكه، لكن لو قبلها الورثة، أي قبلوا ردَّه للوصية صار ابتداء هبة لهم من الموصَى له.
مثاله: أوصى رجل بهذا البيت لفلان، فَقَبِل، وصار البيت له، ثم بعد ذلك نَدَّمَهُ بعض الناس، فجاء للورثة وقال: أنا تعجَّلت وقبلت الوصية والآن أردها، فقال الورثة: لا نقبل، فنأخذ بقول الورثة؛ لأنه لما قبلها دخلت في ملكه، لكن لو قَبِلَ الورثة الرد صار ابتداء هبة، فكأنه أعطاهم من جديد، وبناءً على ذلك لو كان له غرماء وكان محجوراً عليه فإن هبته للورثة غير صحيحة؛ لأنه محجور عليه.
قوله: «ويجوز الرجوع في الوصية» أي: يجوز للموصي أن يرجع في وصيته؛ وذلك لأنها تبرع معلق بالموت، ولم يحصل الموت فله أن يرجع.
مثاله: أوصى رجل بهذا البيت ليسكنه الفقراء، فهو أوصى به لله ـ تعالى ـ صدقة، ثم بعد ذلك رجع، وقال: فسخت وصيتي، فإنه يصح.
فإن قال قائل: أليس أخرجه لله؟
فالجواب: بلى، لكنه لم يخرج عن ملكه، فهو كالرجل يعزل الدراهم ليتصدق بها، أو يكيل الطعام ليتصدق به، ثم يبدو له فيرجع، فالرجوع صحيح؛ لأنه لم يخرجه عن ملكه، فهذا
الذي رجع في وصيته ـ ولو كانت صدقة لله ـ رجوعه صحيح؛ لأنها لم تخرج عن ملكه.
وهل يجوز أن يغير في الوصية ويبدل ويقدم ويؤخر؟ نعم يجوز؛ لأنه إذا جاز الرجوع في الأصل؛ جاز الرجوع في الشرط والوصف، فإذا أوصى بهذا البيت أن يُجْعَلَ للفقراء، ثم بدا له أن يحوله لطلبة العلم جاز ذلك.
ولهذا ينبغي للإنسان إذا أوصى في شيء ثم بدا له بعد ذلك أن يغير وكتب الوصية الثانية، فإنه ينبغي له أن يقول: هذه الوصية ناسخة لما سبقها؛ حتى لا يكون وصيتان ويرتبك الورثة.
ويكون الرجوع في الوصية بالقول وبالفعل، فإذا قال: اشهدوا أني رجعت في وصيتي، أو أني فسخت وصيتي، فهذا رجوع بالقول.
ويكون الرجوع بالفعل كأن يكتب بيده: إني قد أوصيت بالدار الفلانية لسكنى الفقراء لكني رجعت في وصيتي، فهذا رجوع بالفعل؛ لأنه كتب ولم ينطق ولا بكلمة.
مثال ثانٍ: أوصى بالبيت أن يكون سكناً للفقراء ثم باع البيت، فهذا رجوع بالفعل؛ لأنه لما باعه نقل ملكه، فبطلت الوصية لانتقال ملك الموصي عن الموصى به.
إذاً الرجوع يكون بالقول، وبالفعل، والفعل إما كتابة، وإما تصرف يدل على الرجوع.
لكن لو أوصى بهذا البيت لسكنى الفقراء ثم أجَّره، فهذا ليس رجوعاً؛ لأنه لم ينقل ملكه، فالملك باقٍ حتى مع التأجير،
وإذا قدر أنه مات فالإجارة تبقى إلى أن تتم المدة، ثم يسكنه الفقراء؛ لأنه موصى به لهم.
فإذا قال قائل: كيف جاز الرجوع في الوصية؟
قلنا: لأنها لا تنفذ إلا بعد الموت، ومن هنا نعلم صحة الهبة المشروطة بشرط، خلافاً للمذهب، مثل أن يقول لشخص: إن تزوجت فقد وهبت لك هذا البيت تسكنه أنت وزوجتك، فهذا يجوز؛ لأن المسلمين على شروطهم إلا شرطاً أحل حراماً أو حرَّم حلالاً، والصحيح أن جميع العقود يجوز فيها التعليق إلا إذا كان هذا التعليق يحق باطلاً أو يبطل حقاً.
وَإِن قَالَ: إِنْ قَدِمَ زَيْدٌ فَلَهُ مَا أَوْصَيْتُ بِهِ لِعَمْرٍو، فَقَدِمَ فِي حَيَاتِهِ فَلَهُ وَبَعْدَهَا لِعَمْرٍو.
قوله: «وإن قال» ، أي: الموصي.
قوله: «إن قدم زيد فله ما أوصيت به لعمرو فقدم» ، يعني زيداً.
قوله: «في حياته فله» ، أي: حياة الموصي، فهنا يكون الموصى به لزيد؛ لأنه قدم قبل أن يملك عمرو الوصية.
قوله: «وبعدها لعمرو» ، أي: بعد حياته، فإن قدم زيد بعد حياة الموصي فإنها تكون لعمرو؛ لأنه لما توفي الرجل تعلق حق الموصى له بهذه العين، ولا يمكن أن نبطل حقه من أجل قدوم زيد، وسواء قدم زيد قبل قبول عمرو الوصية أو بعد القبول، فإن كان قدم بعد قبول عمرو فالأمر واضح؛ لأن عمراً ملكها، وإن كان قدم قبل قبوله فلأن حق عمرو تعلق بها.
وهذا مبني على ما سبق من جواز الرجوع في الوصية، لأنه
لما قال: «إن قدم زيد فله ما أوصيت به لعمرو» كان رجوعاً في الوصية.
مثال ذلك: أوصى بهذه السيارة لعمرو، ثم قال بعد الوصية بيوم أو يومين أو شهر أو شهرين: إن قدم زيد فله ما أوصيت به لعمرو، فقدم زيد قبل أن يموت الموصي فتكون السيارة لزيد، أما إذا قدم بعد أن مات الموصي فتكون لعمرو؛ لأنه لما قدم في حياة الموصي فإنه تم الشرط، حيث قال: إن قدم فله ما أوصيت به لعمرو، أما إذا قدم بعد موته فقد تعلق بها حق عمرو، إن كان قد قَبِلَها فقد ملكها، وإن كان لم يقبلها فهو أحق بها؛ لأنها موصى بها له.
ولو أوصى بهذه السيارة لعمرو ثم أوصى بها لزيد ثم مات، فكيف يكون الحال؟ هل نقول: إنهما يشتركان فيها، أو نقول: إنها للآخِر منهما؟
فيها قولان:
الأول: أنهما يشتركان فيها؛ لأنها عين أُوصِي بها لشخصين فيشتركان فيها، ولكن هذا الاشتراك اشتراك تزاحم، فإن قبلا الوصية فالسيارة بينهما، وإن ردها أحدهما صارت كلها للآخَر.
وقال بعض العلماء: بل الاشتراك يكون اشتراك ملك، بمعنى أنه إذا لم يقبلها أحدهما فإن نصيبه يرجع للورثة وللآخَر نصيبه، لكن الأول أصح بلا شك؛ لأنهما لم يملكاها بعقد حتى نقول: إنه اشتراك ملك، بل هو اشتراك تزاحم، فإن قبلاها فهي بينهما، وإن لم يقبلاها فهي لمن قبِلها كاملة.
الثاني: أنه إذا أوصى بها لزيد ثم أوصى بها لعمرو فهي للآخِر منهما؛ لأن الوصية بها للثاني رجوع عن الوصية بها للأول، وهذا القول هو الصحيح، أن الأول ليس له منها نصيب وعمل الناس اليوم على هذا، ومثل ذلك لو أوصى بالبيت يصرف في كذا ثم أوصى به ثانية وقال: يصرف في كذا، فهل نقول: يصرف في المصرفَيْن جميعاً، أو في الثاني منهما؟
الجواب: ينبني على الخلاف، ولهذا ذكرت فيما سبق أنه ينبغي للموصي إذا كتب وصية أن يقول: هذه الوصية ناسخة لما سبقها؛ حتى لا يحصل ارتباك بين الورثة والموصَى له.
ويستفاد من هذا جواز تعليق الوصية، وهو كذلك، فالوصية يجوز أن تعلق بشرط، وله أمثلة كثيرة، منها: لو قال: إنْ طلب زيد العلم فله هذه المكتبة، ثم مات الموصي وقد طلب زيد العلم فإن الوصية تثبت؛ لأن الوصية تبرع وليست معاوضة.
وَيُخْرَجُ الوَاجِبُ كُلُّهُ، مِنْ دَيْنٍ وَحَجٍّ وَغَيْرِهِ مِنْ كُلِّ مَالِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَإِنْ لَمْ يُوصِ بِهِ،
قوله: «ويُخرَجُ الواجب كله، من دين وحج وغيره من كل ماله بعد موته وإن لم يوصِ به» إذا مات الإنسان يتعلق بتركته خمسة حقوق:
أولاً: تجهيزه، ثانياً: الدَّين برهن، ثالثاً: الدَّين المرسل، رابعاً: الوصية، خامساً: الإرث.
فنقدم ما يتعلق بالتجهيز، فلو مات وخلف مائة ريال وهو لا يجهز إلا بمائة جهَّزناه بها، حتى وإن كان عليه دين؛ لأن تجهيزه بمنزلة ثياب المُفلَّس وطعامه وشرابه، فهي حاجة شخصية، فكما
أن المفلس الذي عليه الديون، لا نبيع ثيابه التي عليه ولا نأخذ طعامه الذي يأكله؛ لأن هذا تتعلق به حاجته بنفسه، فكذلك تجهيزه.
بعد ذلك الدَّيْنُ الذي برَهْن، ثم الدَّيْن الذي بغير رهن، فالديون تخرج قبل كل شيء.
وظاهر كلامه رحمه الله «من دين وحج» أنه يحج عنه وإن كان الرجل قد ترك الحج لا يريد الحج، ولكن في هذا نظراً، فإن القول الراجح أنه إذا ترك الحج لا يريد الحج فإنه لا يُقضى عنه، ويترك لربه يعاقبه يوم القيامة؛ لأنه ترك الحج وهو لا يريده، أما لو فرض أن الرجل متهاون، يقول: أحج العام القادم وهكذا، فهذا يتوجب القول بقضاء الحج عنه، وقد ذكر هذا ابن القيم رحمه الله في كتابه تهذيب السنن، وقال: قواعد الشريعة تقتضي ألا يقضى عنه الحج، ومثله الزكاة، فإن تركها الإنسان بخلاً لا تفريطاً في الأداء فإننا لا نؤدي الزكاة عنه، أما لو تركها تفريطاً ثم مات فهنا يتوجه أن نؤدي الزكاة عنه؛ لأنه يرجو أن يؤديها لكن عاجله الأجل.
وقوله: «من كل ماله» أي: يخرج الدين من كل ماله لا من الوصية، سواء أوصى به أو لم يوصِ، ثم بعد ذلك الوصية ثم بعدها الميراث.
وقوله: «من دين وحج وغيره» يشمل الكفارات إذا كان عليه كفارات، والزكاة إذا كان عليه زكاة؛ لأن هذا واجب لله عز وجل، والحج كذلك.
ولنضرب لهذا مثلاً برجل توفي وأوصى بالثلث وعليه دين
عشرة آلاف ريال، ولما توفي لم نجد عنده إلا عشرة آلاف ريال، فإنه يقضى دينه حتى وإن كان أوصى بشيء فالوصية باطلة، حتى لو أوصى بشيء معين، فنبطل الوصية ونوفي الدَّين، فالدَّين مقدم على الوصايا وعلى المواريث.
ولعل قائلاً يقول: أليس الله تبارك وتعالى قدم الوصية على الدين فقال: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11]، وفي الآية الثانية:{يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} ، وقال:{مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} ، وقال:{مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12]، فبدأ بالوصية، والقاعدة أنه يبدأ بالأهم فالأهم؟
فالجواب عن هذا من وجهين:
أولاً: أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: «إن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالدين قبل الوصية»
(1)
.
ثانياً: أن الحكمة في تقديم الوصية هو الاعتناء بها؛ لأن الوصية لا مُطالب بها والدين له مُطالب، فالوصية لما كانت لا مطالب بها ربما يتوانى الورثة في تنفيذها، أو يجحدونها أيضاً، والدين لا يمكنهم هذا فيه، فلو أنهم توانوا في قضائه فصاحبه يطالب.
والخلاصة: أنه يقضى الدين قبل الوصية، وبعد قضاء الدين
(1)
أخرجه البخاري تعليقاً بصيغة التمريض في الوصايا/ باب تأويل قول الله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} ؛ ووصله الإمام أحمد (1/ 79)؛ والترمذي في الفرائض/ باب ما جاء في ميراث الإخوة من الأب والأم (2094)؛ وابن ماجه في الوصايا/ باب الدين قبل الوصية (2715) عن علي رضي الله عنه، قال الحافظ في الفتح (5/ 444) ط/دار الريان:«إسناده ضعيف، ولكن العمل عليه كما قال الترمذي» . وحسنه في الإرواء (1667).
نرجع للوصية، وننظر إن استغرقت أكثر من الثلث الباقي بعد الدين لم ينفذ منها إلا الثلث، فإذا قدَّرنا أن رجلاً عنده أربعون ألفاً وعليه عشرة آلاف دين، وقد أوصى بالثلث، فإننا نجعل الوصية في هذه المسألة عشرة آلاف، ولو أننا اعتبرنا الوصية قبل الدين لكانت ثلاثة عشر ألفاً وثلاثمائة وثلاثة وثلاثين وثلثاً، لكننا لا نعتبر الوصية إلا بعد قضاء الدين، فنخرج أولاً الدين ثم ننظر إلى ثلث الباقي وننفذ منه الوصية، ولهذا قال:«من كل ماله بعد موته وإن لم يوصِ به» ، يعني وإن لم يوصِ الميت المدين بقضائه؛ لأنه حق واجب عليه، وسبق لنا أنه إذا كان هذا الدين ليس به بيِّنة فإنه يجب عليه أن يوصي به.
فَإِنْ قَالَ: أَدُّوا الوَاجِبَ مِنْ ثُلُثِي بُدِئَ بِهِ، فَإِنْ بَقِيَ مِنْهُ شَيْءٌ أَخَذَهُ صَاحِبُ التَّبَرُّعِ، وَإِلاَّ سَقَطَ.
قوله: «فإن قال» يعني الميت.
قوله: «أدوا الواجب من ثلثي بُدئ به، فإن بقي منه شيء أخذه صاحب التبرع، وإلا سقط» ، «الواجب» أي: الحج، أو الكفارة، أو الدَّين، فإننا نفصل الثلث عن التركة ونبدأ به، فنخرج الدين من الثلث، فإما أن يزيد الدين على الثلث، وإما أن ينقص، وإما أن يساوي، فإن ساوى فالأمر واضح، فلو قال: أدوا الواجب من ثلثي، ولما مات وفرزنا التركة وجدنا أن الثلث عشرة آلاف، وأن الدين عشرة آلاف، فإننا نخرج الثلث ولا يكون له وصية؛ لأنه أوصى أن يُقضى الدين من الثلث وقد أديناه.
الصورة الثانية: النقص، لما فرزنا التركة وجدنا أن الثلث سبعة آلاف والدين عشرة آلاف، فنوفي الواجب سبعة آلاف ونأخذ الثلاثة الباقية من التركة.
الصورة الثالثة: الزيادة، قال: أدوا الواجب من ثلثي، وثلثه عشرة آلاف، فأحصينا الواجب وجدناه سبعة، فنخرج السبعة في الواجب والباقي تبرع.
مثال ذلك: يقول: أوصيت بثُلُث مالي لزيد، ثم قال: أوصيت أن تخرجوا زكاتي من الثلث ومات الرجل، وكان ثلثه ثلاثين ألفاً وعليه زكاة عشرون ألفاً، فإن أعطينا زيداً الثلث سقطت الزكاة، وإن أدَّينا الزكاة لم يبق لزيد إلا عشرة، فماذا نعمل؟
يقول المؤلف: تخرج الزكاة من الثلث فإن بقي شيء أخذه صاحب التبرع، وإن ساوت الزكاة الثلث أخرجناها، والموصى له ليس له شيء.
أما لو قال: أوصيت لزيد بثلث مالي والمال تسعة آلاف، ثم مات وعليه زكاة ثلاثة آلاف، فنخرج ثلاثة آلاف للزكاة فالباقي ستة، لزيد ألفان، لكن لو قال: أخرجوا الزكاة من ثلثي لم يبق لزيد شيء.
وقوله: «وإلا سقط» يدخل تحتها صورتان:
الأولى: أن يكون الثلث بقدر الدَّين.
الثانية: أن يكون الدين أكثر من الثلث.
وما هو الأفضل للميت؟
نقول: هذا يرجع إلى حال الورثة، إذا كانوا أغنياء فليكن قضاء الواجب من التركة، وإذا كانوا فقراء فليقل: من ثلثي، حتى لا يضيق عليهم.
بَابُ المُوصَى لَهُ
تَصِحُّ لِمَنْ يَصِحُّ تَمَلُّكُهُ.
قوله: «باب الموصى له» ، عندنا: موصى له، وموصى به، وموصى إليه، وموصي، ووصية.
فالموصي معروف وهو: المتبرع، والوصية: هي العقد الصادر من الموصي، والموصى له: من أوصى له الميت ليكون الشيء له ملكاً، والموصى به: العين التي أوصى بها أو المنفعة، والموصى إليه: نظير الوكيل في حال حياته، يعني الذي يؤمر بالتصرف بعد الموت، وسيأتي إن شاء الله.
قوله: «تصح لمن يصح تملكه» ، هذه هي القاعدة، فإن قيل: من الذي تصح الوصية له؟
فالجواب: كل من يصح تملكه، أما من لا يصح تملكه، فلا تصح الوصية له، فلو أوصى لعبد غيره فالوصية لا تصح؛ لأن عبد الغير لا يملك على المشهور من المذهب، ولا يقال: إنها تصح وتكون لسيده؛ لأن الموصي قد يقصد نفس العبد، يريد رحمته والبرَّ به، فلا تصح الوصية.
ولو أوصى لِجِنِّيٍّ، بأن كان له صديق من الجن يخدمه ويساعده على أموره ويطلب العلم عنده، فأوصى له بشيء فإنه لا يصح، مع أن الفقهاء رحمهم الله يقولون: إنه يقبل قول الجني أن ما بيده ملكه، فلو وجدنا جنياً بيده محفظة ويحضر الدرس
وقال: إنها لي، وقال إنسان: هذه محفظتي، فإننا نقول: هي له؛ لأنها بيده، إلا إذا أتيت بالشهود.
أشكل على بعض المتأخرين كيف يقول الفقهاء: إنها لا تصح الوصية للجني؛ لأنه لا يملك، ويقولون: إن ما بأيديهم يقبل أنه لهم؟! أجابوا عن ذلك ـ إن صح ما قاله الفقهاء، وقد أوافق أو لا أوافق ـ بأن الفرق واضح؛ لأن الوصية لهم تمليك جديد، وما بأيديهم ملك مستمر فهو لهم، والنبي صلى الله عليه وسلم قد ملكهم كل عظم ذكر اسم الله عليه يجدونه أوفر ما يكون لحماً، فقال لهم:«لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه تجدونه أوفر ما يكون لحماً ـ هذا يدل على أنهم يأكلون ـ وكل بعرة فهي علف لدوابكم»
(1)
.
مسائل:
الأولى: هل يجوز أن يوصي لكافر؟
المذهب تصح الوصية للكافر، ولكن المرتد يرى بعض أهل العلم أنه لا يمكن أن يملك شيئاً؛ لأنه يجب قتله ويصرف ماله في بيت المال، حتى ورثته لا يرثونه.
الثانية: إذا تزاحمت الديون وصارت أكثر من المال، فهل نبدأ بالأسبق أو يتساوى الجميع؟
نقول: إن الديون تشترك والنقص يكون على الجميع؛ لأن تعلقها بالتركة ورد على التركة في آن واحد عند موت المدين، فلا فرق بين الدين السابق واللاحق، مثال ذلك:
رجل عليه دين لزيد ثلاثة آلاف، استدانه قبل سنة من موته،
(1)
أخرجه مسلم في الصلاة/ باب الجهر بالقراءة في الصبح، والقراءة على الجن (450) عن ابن مسعود رضي الله عنه.
وعليه دين لعمرو ثلاثة آلاف استدانه قبل ستة أشهر من موته، ثم مات ولم نجد في تركته إلا ثلاثة آلاف، فلا نعطيها زيداً؛ لأن دينه أسبق، بل نقول: النقص بالقسط، بأن ننسب التركة إلى مجموع الدين، فننسب ثلاثة آلاف إلى مجموع الدَّين ستة آلاف يكون النصف، فنعطي كل واحد نصف حقه.
الثالثة: إذا اجتمعت ديون لله وللآدمي، فهل نقدم دَين الآدمي، أو دَين الله، أو يشتركان؟
مثال ذلك: رجل مات وفي ذمته خمسة آلاف ريال زكاة، وعليه لزيد خمسة آلاف، ولما توفي لم نجد إلا خمسة آلاف فقط، فالدين أكثر من التركة، فهل نصرف خمسة الآلاف في الزكاة؟ أو في دين الآدمي؟ أو يشتركان؟
في هذا ثلاثة أقوال للعلماء:
فمنهم من قال: يُقضى دين الآدمي، فنعطي خمسة آلاف ـ التي هي التركة ـ الآدمي، وعلل ذلك بأن حق الله مبني على المسامحة، وهو سبحانه وتعالى غني عنا، وحق الآدمي مبني على المشاحة، وهو بحاجة إلى حقه، فيقدم.
ومنهم من قال: يقدم حق الله عز وجل لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «اقضوا الله، فالله أحق بالقضاء»
(1)
، و (أحق) اسم تفضيل، فيقدم على الحق المفضل عليه، وعلى هذا القول نخرج خمسة الآلاف التي في التركة لأهل الزكاة.
(1)
أخرجه البخاري في الحج/ باب الحج والنذور عن الميت (1852) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
ومنهم من قال: يشتركان؛ لأن كلًّا منهما دين في ذمة الميت فلا يفضل أحدهما على الآخر، وهذا هو المذهب عند الأصحاب رحمهم الله وهو الصحيح.
فإن قال قائل: ما هو الجواب عن قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «اقضوا الله، فالله أحق بالقضاء» ؟
الجواب: أن معنى الحديث: إذا كان دين الآدمي يقضى فدين الله من باب أولى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أرأيتِ لو كان على أمكِ دين فقضيتيه أيجزئ عنها؟» ، قالت: نعم، قال:«اقضوا الله فالله أحق بالقضاء» ، والمسألة لم ترد في حقين أحدهما لله والآخر للآدمي حتى نقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم حكم بأن دَين الله مقدم، إنما أراد الرسول صلى الله عليه وسلم القياس، فإذا كان دين الآدمي يقضى فالله أحق بالوفاء.
ونجيب عن القول الآخر، وهو أن حق الآدمي مبني على المشاحة والحاجة، بأن حق الله عز وجل يكون لعباد الله، فالزكاة ـ مثلاً ـ للمخلوقين وليست لله عز وجل، بمعنى أن الله سبحانه وتعالى لا ينتفع بها، فهي في الحقيقة حق لله، وفي نفس الوقت حق لعباد الله، وكذلك نقول في الكفارات، وغيرها مما يجب على الإنسان لله عز وجل.
فالقول بأنهما يتحاصَّان ويشتركان هو القول الراجح.
وَلِعَبْدِهِ بِمُشَاعٍ كَثُلُثِهِ وَيَعْتِقُ مِنْهُ بِقَدْرِهِ وَيَأْخُذُ الفَاضِلَ، وَبِمِائَةٍ أَوْ مُعَيَّنٍ لَا تَصِحُّ لَهُ، وَتَصِحُّ بِحَمْلٍ وَلِحَمْلٍ تُحُقِّقَ وُجُودُهُ قَبْلَهَا،
......
قوله: «ولعبده بمشاع كثلثه» ، المشاع هو الجزء الذي لم يعين مثل الربع، الخمس، العشر، فالوصية لعبده فيها تفصيل، إن أوصى له بمشاع كالثلث ونحوه كالربع والسدس والخمس فلا
بأس فيصح؛ لأنه يدخل في الوصية، أي: أن العبد نفسه يدخل في الوصية، فإذا ملك الجزء بالوصية يعتق منه بقدر ما أوصى به، وينجر العتق إلى العبد كله بالسراية فصح أن يتملك، وهذا وجه الفرق بين عبده وعبد غيره.
ولنفرض أن عنده عبداً يساوي ألفاً وعنده عروض تجارة تساوي ألفاً وعنده نقود ألف، فأوصى لعبده بثلثه، فإن العبد يدخل في الوصية؛ لأن الثلث مشاع، يشمل العبد وعروض التجارة والنقود، فيعتق ثلث العبد وينجر العتق إلى العبد كله بالسراية.
قوله: «ويَعتِقُ منه بقدره» أي: بقدر المشاع الذي أوصى به، سواء الثلث أو أقل.
قوله: «ويأخذ الفاضل» إن فضل، بأن تكون قيمته أقل من الجزء المشاع الذي أوصى له به، فلو أوصى للعبد بالثلث، وقدرنا العبد بعد موت سيده فوجدناه يساوي سبعة آلاف والثلث عشرة آلاف، فإن العبد يعتق، ويبقى من الثلث ثلاثة آلاف يأخذها العبد؛ ولهذا قال:«ويعتق منه بقدره» أي بقدر الثلث إن كانت قيمة العبد أكثر من الثلث، «ويأخذ الفاضل» إن كانت قيمة العبد أقل من الثلث.
مثال آخر إذا كانت قيمة العبد أكثر: كما لو أوصى لعبده بثلث ماله، وبعد موته قدرنا الثلث فوجدناه عشرة آلاف ريال، والعبد يساوي خمسة عشر ألف ريال مثلاً، فإننا نقول: يعتق من العبد ثلثاه؛ ووجه ذلك أنه أوصى له بالثلث، وقيمته تزيد على الثلث فلا يعتق منه إلا مقدار الثلث، وإن ساوى العبد الثلث عتق وليس له شيء.
فصار إذا أوصى لعبده بمشاع، فإما أن تزيد قيمة العبد أو تنقص أو تساوي.
قوله: «وبمائة أو معين لا تصح له» هذا الجانب الثاني من التفصيل، فإن أوصى لعبده بمقدَّرٍ، بأن قال: أوصي لعبدي بمائة ريال بعد موتي، فإن الوصية لا تصح ولو كان عبده؛ لأن عبده لا يملك لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«من باع عبداً له مال فماله لبائعه إلا أن يشترطه المبتاع»
(1)
، فما بيده من المال ليس ملكاً له، وهو غير داخل في الوصية، أما في المسألة الأولى إذا أوصى بالمشاع فهو داخل في الوصية، فمن جملة المشاع نفس العبد فيملك جزءاً من نفسه فيعتق بهذا، أما هنا فهو غير داخل في الوصية.
ولو أوصى لعبده بمعين بأن قال: البيت الفلاني لعبدي، فإن الوصية لا تصح؛ لأن العبد لا يملك، فصارت الوصية لعبد الغير غير صحيحة، سواء أوصى له بمعين أو بمقدر أو بمشاع، والوصية لعبده، إن أوصى بمشاع صحت، وإن أوصى بمقدر كمائة أو بمعين لا تصح، والفرق واضح؛ لأنه إذا أوصى بالمشاع صار من جملة المشاع العبد، فيعتق منه بقدر المشاع الذي أوصى به له.
قوله: «وتصح بحملٍ ولحملٍ تُحُقِّقَ وجودُه قبلَها» الوصية
(1)
أخرجه البخاري في المساقاة/ باب الرجل يكون له ممر أو شرب في حائط (2379)؛ ومسلم في البيوع/ باب من باع نخلاً عليها ثمر (1543) عن ابن عمر رضي الله عنهما
بالحمل والوصية للحمل بينهما فرق، فالوصية بالحمل يعني أن الحمل يكون هو الموصى به، والوصية للحمل يعني أن الحمل هو الموصى له، أي: المملَّك الذي يعطى الوصية، فتجوز الوصية بالحمل، وللحمل، بشرط أن يكون الحمل موجوداً حين الوصية، فيجوز أن يوصي بالحمل ويقول مثلاً: أوصيت بحمل هذه الشاة لفلان، ويريد الحمل الذي في البطن لا الحمل المستقبل، فإذا كشفنا عنها ووجدنا أنه لا حمل في بطنها فإن الوصية باطلة؛ لأنه غير موجود حين الموت، ولو وجد الحمل بعد الموت فإن الوصية باطلة؛ لأنه لم يوجد إلا بعد الوصية.
لكن لو قال: أوصيت بما تحمل بعيري هذه لفلان، صحت الوصية؛ لأن الحمل هنا لم يعين فكأنه أوصى بنماء هذه البعير، بخلاف الأول فإنه عيَّن فقال: بحمل، فإن لم يكن حمل فإن محل الوصية مفقود، وإذا فقد محل الوصية فقدت الوصية.
والوصية للحمل، أي: أوصى لحمل فلانة، يعني الذي في بطنها، إن كان الحمل موجوداً حين الوصية صحت الوصية، ولكن لا يملكها إلا إذا استهل صارخاً كالميراث، وإن لم يكن موجوداً فإنها لا تصح، ومتى نتيقن الوجود؟ نتيقن الوجود إذا وضعت هذه المرأة قبل ستة أشهر من الوصية وعاش، فنعلم الآن أنه موجود حين الوصية؛ لأن أقل مدة حمل يعيش فيها المولود ستة أشهر، والدليل على ذلك مركب من آيتين: الآية الأولى: قوله تبارك وتعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15]، فإن ثلاثين شهراً من الأعوام سنتان ونصف.
الآية الثانية: قوله عز وجل: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 14]، فإذا أسقطنا عامين من ثلاثين شهراً يبقى ستة أشهر، فيكون الاستدلال مركباً من دليلين، وذكر ابن قتيبة في المعارف أن عبد الملك بن مروان الخليفة المشهور ولد لستة أشهر، لكن الغالب أن الحمل يكون تسعة أشهر بالنسبة للآدميين.
وَإِذَا أَوْصَى مَنْ لَا حَجَّ عَلَيْهِ أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ بِأَلْفٍ صُرِفَ مِنْ ثُلُثِهِ مَؤُونَةُ حَجَّةٍ بَعْدَ أُخْرى حَتَّى يَنْفَدَ .............
قوله: «وإذا أوصى من لا حج عليه أن يحج عنه بألف صُرِف من ثلثه مؤونة حجة بعد أخرى حتى يَنفدَ» ، أي: إذا أوصى من لا حج عليه أن يُحَجَّ عنه بألف، كرجل أدى فريضة الحج ـ لأن من لم يحج الفريضة يجب تنفيذ حجه، سواء أوصى به أو لم يوصِ، وسواء زاد عن الثلث أو نقص عنه ـ فإن أدى فريضة الحج ثم أوصى فقال: أوصيت أن يُحَج عني بألف، فوجدنا مَنْ يحج عنه بخمسمائة، يقولون: إنه يُحَج عنه مرة أخرى حتى تَنفدَ الألف؛ لأنه قال: «يحج عني بألف» ولم يقل: حجة، فَيُحج بكل ثلثه حجة بعد أخرى حتى ينفدَ؛ لأنه عيَّن أن يكون الثلث في الحج.
وإذا قال: أوصيت أن يُحَج عني حجة بألف، فهنا قيدها، فهل إذا حججنا عنه بثمانمائة نحج عنه أخرى، أو نطلب من يحج عنه بألف؟
هذا فيه تفصيل:
إذا قال: أوصيت أن يحج عني فلان حجة بألف، أعطينا فلاناً الألف كاملة وقلنا: حج عنه؛ لأن تعيينه الشخص، وتعيينه
أكثر مما تستحقه الحجة، يدل على أنه أراد مصلحة الشخص، فنعطيه الألف ولو كان يحج بثلاثمائة مثلاً.
والمذهب أن الزائد للورثة مطلقاً سواء عين أم لا، والصحيح أنه إن عين الموصى له فالزائد له، وإلا فالزائد للورثة.
وإن قال: يحج عني فلان بألف، نقول: يحج عنه فلان حجة بعد أخرى حتى تنفدَ الألف؛ لأنه لم يقيدها.
أما إذا قال: يُحَج عني حجة بألف ولم يعين الشخص، فهنا لا يحج عنه بألف إذا وجدنا من يحج بأقل؛ لأنه لا يظهر أنه أراد منفعة شخص معين، بل يحتمل أنه غلب على ظنه أنه لا يوجد من يحج إلا بألف، فقيدها بالألف بناءً على ظنه.
والناس في هذه المسألة اختلفوا اختلافاً عظيماً، ونحن أدركنا مَنْ يحج بخمسين ريالاً، أما الآن فلا يُحَج إلا بثلاثة آلاف أو خمسة آلاف، فتغير الحال، فربما يكون هذا الموصي الذي قال: يُحَج عني حجة بألف، ظن أنه لا يوجد مَنْ يحج إلا بألف، فإذا وجدنا من يحج بخمسمائة، فالمذهب أن الزائد للورثة.
فإن نقصت الألف عن الحجة فماذا نصنع؟ الجواب: إذا كان سبب زيادة الحج معلوماً يرجى زواله فإننا ننتظر، مثل أن يكون السبب الخوف في الطرقات ونحو ذلك، أما لو كان السبب غير طارئ ونعلم أنه إن لم تزد قيمة الحجة لم تنقص، ولم نجد أحداً يمكن أن يحج من مكة، ففي هذه الحال، إما أن نبطل الوصية أو نصرفها في أعمال برٍّ أخرى، وهذا هو المتعين، فتصرف
الدراهم في أعمال خير أخرى؛ لأن الرجل إنما قصد بالوصية التقرب إلى الله عز وجل، وخص نوعاً من القربات ولم نتمكن من هذا النوع، فنأخذ بالمعنى العام وهو القربى.
وَلَا تَصِحُّ لَمَلَكٍ وَبَهِيمَةٍ وَمَيِّتٍ، فَإِنْ وَصَّى لِحَيٍّ وَمَيِّتٍ يُعْلَمُ مَوْتُهُ فَالكُلُّ لِلحَيِّ وَإِنْ جَهِلَ فَالنِّصْفُ، وَإِنْ وَصَّى بِمَالِهِ لابْنَيْهِ وَأَجْنَبِيٍّ فَرَدَّا فَلَهُ التُّسْعُ.
قوله: «ولا تصح» ، الفاعل يعود على الوصية.
قوله: «لِمَلَكٍ» ، لأن الملَك لا يملك، فالملائكة ـ عليهم الصلاة والسلام ـ لا يملكون؛ لأنهم ليسوا بحاجة إلى الأكل والشرب، بل هم صُمْدٌ ـ يعني لا أجواف لهم ـ يلهمون التسبيح، فيسبِّحون الله ـ تعالى ـ الليل والنهار لا يفترون.
قوله: «وبهيمة» ، أي لا تصح الوصية لبهيمة على المشهور من المذهب؛ لأن البهيمة لا تملك، ومن شرط صحة الوصية أن تكون لمن يملك، لكن ذكر بعض العلماء أنه يصح الوقف على بهيمة ويصرف في علفها ومؤونتها، فيخرَّج من هذا أن تصح الوصية للبهيمة ويصرف ذلك في علفها ومؤونتها، هذا إذا لم تكن البهيمة من خيول الجهاد أو إبل الجهاد، فإن كانت من خيول الجهاد أو إبل الجهاد فالوصية لها صحيحة؛ لأن المقصود الجهاد وليس البهيمة؛ ولذلك لا يقوم بقلب الموصي أنها لهذا النوع من الخيل أو من الإبل، بل لعموم الإبل والخيل.
فإذا قال: أوصيت لجمل فلان بكذا وكذا، صححنا الوصية على هذا، كذلك إذا علمنا أن المقصود الجهة دون عين البهيمة، مثل الجهاد، أو يكون هناك بهائم كإبل أو بقر تنقل الماء للمحتاجين في الأحياء، وأوصى لهذه الإبل أو البقر فلا شك أن الوصية صحيحة، ويصرف في مؤونتها وعلفها.
قوله: «وميت» أي: لا تصح لميت؛ لأن الميت لا يملك، فإذا كان لا يملك فكيف تصح الوصية له؟!
وقيل: تصح الوصية للميت وتصرف صدقة له في أعمال الخير، وهذا القول هو الراجح، أنه تصح للميت لا على سبيل التمليك؛ لأن الميت لا يملك، وكل أحد يعرف أن الإنسان إذا أوصى لميت لا يريد أن يُشترى له طعام ليأكله، أو شراب ليشربه أو لباس يلبسه، وإنما يريد أن يصرف في أعمال الخير لهذا الميت، لكن لو قال: أنا أريد تمليك الميت، قلنا: الوصية غير صحيحة، وهذا تلاعب؛ لأن الميت لا يملك، وملك الميت ينتقل إلى غيره إذا مات، فكيف يملك؟!
قوله: «فإن وصَّى لحي وميت يعلم موته فالكل للحي» إذا وصى لحي وميت، بأن قال: أوصيت بألف ريال لزيد وعمرو الميت، وهو يعلم أنه ميت فالكل للحي؛ ووجه ذلك أن اشتراكهما اشتراك تزاحم، والموصي يعلم أن الميت معدوم، وأن الوصية لا تصح له، فكأنه أراد أن تكون كلها للحي، فلما تعذر أن يكون نصيب الميت له عاد إلى الحي؛ لأنه يعلم أن الميت لا يملك، وعلى القول الذي رجحنا يكون للحي النصف وللميت النصف ويكون صدقة له، والمذهب أنه ليس للحي إلا النصف مطلقاً سواء علم الموصي أم لم يعلم، بناء على تفريق الصفقة، وأن الصفقة إذا اشتملت على حلال وحرام، حَلَّ الحلال وحرم الحرام، أو على صحيح وفاسد صح الصحيح وفسد الفاسد، وعليه يكون للحي النصف مطلقاً.
ومحل الخلاف ما لم يقل: بينهما أنصافاً، فإن قال ذلك فليس للحي إلا النصف مطلقاً.
قوله: «وإن جهل» ، أي: موته.
قوله: «فالنصف» ، ووجهه أنه إنما أوصى للحي والميت بناءً على أن الميت موجود وحي، وعلى هذا يكون الموصى به بينهما نصفين، وتَعذَّرَ إيصال حق الميت إليه، فيبقى حق الحي وهو النصف.
قوله: «وإن وصَّى بماله لابنَيه وأجنبي فردَّا فله التُّسع» ، أي: إن وصى لابنيه وأجنبي بكل ماله، بأن قال: أوصيت بمالي لزيد وابنيَّ بكر وخالد، فإن الوصية بما زاد على الثلث باطلة إذا ردها الورثة، وهذان الابنان ردَّا وقالا: لا نقبل ما زاد على الثلث ولا نجيزه، فإن الوصية ترجع من المال كله إلى الثلث، فيصير الثلث بين ثلاثة، الابنين والأجنبي أثلاثاً، فيكون نصيب الأجنبي التسع؛ لأنه ثلث الثلث، ولهذا قال:«فله التُّسع» .
بَابُ المُوصَى بِهِ
تَصِحُّ بِمَا يَعْجَزُ عَنْ تَسْلِيمِهِ، كَآبِقٍ وَطَيْرٍ فِي هَوَاءٍ، وَبِالمَعْدُومِ، كَبِمَا يَحْمِلُ حَيَوانُهُ وَشَجَرَتُهُ أَبَداً، أَوْ مُدَّةً مُعَيَّنَةً ............
قوله: «تصح بما يعجز عن تسليمه كآبق» ، «تصح» أي: الوصية، والآبق هو العبد الذي هرب من سيده، وهروبه من سيده يعني أنه لن يرجع إليه، فإذا أوصى بعبده الآبق لزيد فالوصية صحيحة؛ لأنه لا مضرة عليه، فإن وجده فهو له وإن لم يجده لم يخسر شيئاً، وكونه يخسر لطلبه هذا عائد إليه.
قوله: «وطير في هواء» ، أي: وتصح ـ أيضاً ـ الوصية بطير في الهواء، كإنسان له حمام يطير في الهواء، فقال: أوصيت بحمامي الذي يطير لزيد؛ والعلة أنه إما سالم وإما غانم، ومثله الوصية بالجمل الشارد والشاة الضالة.
وبناءً على هذا نقول: يتخرج صحَّة هبة ما لا يقدر على تسليمه؛ لأنه إذا كانت الوصية تصح بما لا يقدر على تسليمه فالهبة ـ أيضاً ـ مثلها؛ لأنها كلها تبرع، وهذا هو الصحيح أنه يجوز هبة ما لا يقدر على تسليمه، كالآبق والطير في الهواء؛ لأنه إن حصل فهو غانم وإن لم يحصل فليس بغارم وإنما هو سالم، أما بيع الآبق والطير في الهواء، فهذا لا يجوز لحديث أبي هريرة رضي الله عنه:«أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر»
(1)
.
(1)
أخرجه مسلم في البيوع/ باب بطلان بيع الحصاة والبيع الذي فيه غرر (1513) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
قوله: «وبالمعدوم» أي: تصح الوصية بالمعدوم.
قوله: «كبما يحمل حيوانه وشجرته أبداً أو مدة معينة» مثاله: أوصيت لزيد بما تحمل هذه الشاة، وليس بالحمل؛ لأنه سبق أن الحمل لا تصح الوصية به حتى يعلم وجوده، لكن هذا أوصى بما تحمل، وليس بحمل معلوم معين بل على سبيل أنه نماء، فقال: كل ما تحمل فهو له، فهذا يجوز مع أنه معدوم، وقد تكون هذه الشاة ليس فيها ولد، فنقول: متى نشأ فيها ولد فهو له، وإذا نشأ الثاني فهو له، وإذا نشأ الثالث فهو له، وهكذا.
وكذلك بما تحمل شجرته، فلو كان عنده نخلة وأوصى بثمرة هذه النخلة لفلان، فهذا يصح سواء على الدوام أو في مدة معينة، بأن قال: أوصيت بما تحمل هذه النخلة لمدة خمس سنوات لزيد، فإن الوصية تصح مع أنه معدوم؛ لأن الحمل في هذه الحال صار كالمنفعة في العقار، إذ أنه لم يقصد حملاً معيناً حتى نقول: لا يصح، بل قصد ثمرتها من الحمل، فصار كما لو أوصى بمنفعة هذا البيت وما أشبه ذلك.
،
فَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ شَيْءٌ بَطَلَتْ الوَصِيَّةُ وَتَصِحُّ بِكَلْبِ صَيْدٍ وَنَحْوِهِ، وَبِزَيْتٍ مُتَنَجِّسٍ.
قوله: «فإن لم يحصل منه شيء بطلت الوصية» يعني لو قال: أوصيت لزيد بثمرة هذه النخلة عام تسعة عشر وأربعمائة وألف، ولم تحمل، فهل يطالب الموصى له الورثةَ بمعدل ثمرتها كل عام؟
الجواب: لا، بل تبطل الوصية؛ لأن الموصى به لم يحصل.
ومثله ـ أيضاً ـ ما يحمل حيوانه، فلو قال: أوصيت بما تحمل هذه الشاة لفلان، ولم تحمل فإنه لا يطالب الورثةَ بمثل حملها كل عام، بل تبطل الوصية لتعذر استيفاء الموصى به.
قوله: «وتصح بكلب صيد» كرجل عنده كلب صيد معلم، فأوصى به لفلان فنقول: تصح الوصية به، مع أن كلب الصيد ليس بمال، ولكنه قد أذن بالانتفاع به، وكذا هبته، أما بيع كلب الصيد فإنه لا يصح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الكلب
(1)
، وحقيقة الوصية به أنها تنازل من الموصي عن هذا الكلب؛ لأن نفس الموصي لا يملك الكلب، وباب التبرع أوسع من باب المعاوضة.
قوله: «ونحوه» أي: نحو الصيد، مثل كلب الحرث والماشية؛ لأن كل هذه الثلاثة تباح منفعتها كما جاء في الحديث
(2)
، فإذا أوصى بكلب صيد أو كلب حرث أو كلب ماشية صحت الوصية.
وإن أوصى بكلب ليس لهذه الثلاثة، ولا لما بمعناها فالوصية لا تصح؛ لأن الموصي لا يملك أن ينتفع بهذا الموصى به.
قوله: «وبزيت متنجس» لا نجس، وبينهما فرق، فالنجس
(1)
أخرجه البخاري في البيوع/ باب ثمن الكلب (2237)؛ ومسلم في البيوع/ باب تحريم ثمن الكلب وحلوان الكاهن ومهر البغي (1567) عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه.
(2)
سبق تخريجه ص (77).
نجس لعينه، والمتنجس نجاسته حكمية، فالنجس كزيت الميتة، وزيت الخنزير، وزيت كل ما يحرم أكله، والمقصود دهنه، فهذا لا تصح الوصية به، أما الزيت الذي هو زيت الأشجار، فهذا لا يمكن أن يكون نجساً، وإنما يكون متنجساً، فدهن الحيوان وودكه إن كان من حيوان نجس فهو نجس، وإن كان من حيوان طاهر وأصابته نجاسة فهو متنجس، وزيت الشجر يكون متنجساً ولا يكون نجساً.
إذاً الزيت المتنجس تجوز الوصية به؛ لأنه يجوز الانتفاع به في الجلود والسفن وما أشبهها، ففيه منفعة مباحة.
وهل يجوز بيعه؟
الجواب: إن قلنا: إنه يمكن تطهيره وهو الصحيح جاز بيعه، فيكون كالثوب النجس يجوز بيعه ويطهر بعد، وإن قلنا: لا يمكن تطهيره فإنه لا يجوز بيعه، والمذهب أنه لا يمكن تطهيره ولا يجوز بيعه، والصواب خلاف ذلك.
وَلَهُ ثُلُثُهُمَا وَلَوْ كَثُرَ المَالُ إِنْ لَمْ تُجِزِ الوَرَثَةُ وَتَصِحُّ بِمَجْهُولٍ كَعَبْدٍ وَشَاةٍ .......
قوله: «وله ثلثهما ولو كثر المال إن لم تُجزِ الورثة» «له» أي: للموصى له، ثلث الكلب وثلث الزيت المتنجس، ولو كثر المال، إلا إذا أجازت الورثة الوصية بالكلب كله أو بالزيت كله صار له كله، ولنضرب المثال حتى يتضح المقال:
رجل أوصى بكلب حرث لفلان، وعنده ماشية تبلغ مئات الآلاف، فلو باع الكلب فإنه يساوي عشرة ريالات والماشية تساوي ملايين، ولما مات قال الورثة: لا نجيز الوصية، فيكون للموصى له من الكلب الثلث؛ لأن الكلب جنس خاص لا نظير
له في ماله، فلا يُملك، ويجوز الانتفاع به، وبقية المال يُملك وينتفع به، وعلى هذا فإذا كان للموصي ثلاثة كلاب متساوية، وأوصى لهذا الرجل بكلب واحد، تنفذ الوصية أجاز الورثة أم لم يجيزوا؛ لأن لهم من جنس هذا ثلثين.
وكذلك الزيت المتنجس يقولون: إنه ليس بمال فلا يصح بيعه، لكن يجوز الانتفاع به، فهو من جنس ليس من جنس المال.
وقوله: «ولو كثر المال» إشارة إلى خلاف.
وهو أن من العلماء من يقول: إنه إذا لم يزد على الثلث ـ لو فرضنا له قيمة ـ فإنه لا تعتبر إجازة الورثة، ويعطى الموصى له بكل حال؛ لأن منع الوصية بأكثر من الثلث لحق الورثة، والورثة الآن ليس عليهم نقص، فهذا الكلب حتى لو باعوه لا يمكن بيعه، فالصواب إذاً أن الكلب كله للموصى له.
قوله: «وتصح بمجهول كعبد وشاة» أي: تصح الوصية بمجهول؛ لأنه إذا صحت بالمعدوم فالمجهول من باب أولى، والمجهول هنا يشمل المبهم، فالمجهول أن يقول: أوصيت لفلان بعبد، والمبهم أن يقول: أوصيت لفلان بعبد من عبيدي، فالجهل في الثانية أقل من الأولى، ويسمى عند العلماء مبهماً؛ لأنه معلوم من وجه مجهول من وجه آخر، فهو معلوم من ناحية كونه محصوراً، ومجهول من ناحية عدم تعيينه.
وهل يُعْطَى أغلى العبيد أو أرخص العبيد أو ماذا؟ وكذا لو أوصى له بشاة، فهل يُعْطَى أدنى شاة أو يعطى شاة سمينة أو ماذا؟
وَيُعْطَى مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الاسْمُ العُرْفِيُّ، وَإِذَا أَوْصَى بِثُلُثِهِ فَاسْتَحْدَثَ مَالاً وَلَوْ دِيَةً دَخَلَ فِي الوَصِيَّةِ ..........
يقول المؤلف: «ويُعْطى ما يقع عليه الاسم العرفي» ، فيعطى عبداً من العبيد أدنى شيء، إلا بإجازة الورثة، فإذا أجازوا فالأمر إليهم، وإلا فيعطى ما يسمى عبداً، ولو كان جاهلاً.
فإن قال قائل: وهل يعطى عبداً مجنوناً؟
فالجواب: لا؛ لأن ظاهر قصد الموصي أن ينتفع الموصى له بالموصى به، والمجنون لا نفع فيه، بل فيه عبء وعناء، فهو يُعْطَى عبداً عاقلاً، سواء كان متعلماً أو جاهلاً، وسواء كان قوياً أو ضعيفاً.
وبالنسبة للشاة يقول المؤلف: «ويُعطَى ما يقع عليه الاسم العرفي» ، فإذا كان عُرف الناس أن الشاة هي الأنثى من الضأن، فإنه يُعطَى شاة أنثى، فإن اختلف العُرف والحقيقة اللغوية فإنه يقدم العرف؛ لأن كلام الناس يُحمل على ما يعرفونه، فالشاة في اللغة تطلق على الذكر والأنثى من الضأن والمعز، لكنها في العرف أخص من ذلك، إنما تطلق على الأنثى من الضأن.
فإذا قال الورثة: نعطيك تيساً، أو عنزاً، قال: لا، أو خروفاً قال: لا، فله ذلك؛ بناء على أن المغلَّب العُرف، وهو الصحيح، أما إذا قلنا: يُرجع إلى اللغة فإن الورثة يعطونه ما شاؤوا من هذه الأصناف.
واستفدنا من كلام المؤلف رحمه الله أن العرف مقدم فيما ينطق به الناس، فيحمل على أعرافهم، وهذه هي القاعدة السليمة الصحيحة، وليس في هذه المسألة فقط، بل في جميع المسائل يحمل كلام الناس على ما يعرفونه.
وعلى هذا، فإذا قال الرجل: خليت زوجتي، فالصيغة من الصريح؛ لأنه عند الناس «خلى زوجته» كـ «طلق زوجته» ، وإن كانت كناية عند الفقهاء، لكن هذا يناقض كلامهم في بعض الأبواب في أنه يُغلَّب العرف حتى في الأيمان.
وإذا قال: «جوزتك» بنتي، بهذا اللفظ، فعند الناس في عرفهم أن جوَّز مثل زوَّج، فعلى هذا ينعقد النكاح بهذا اللفظ، أما لو خطب ابنته منه وقال: أعطيتك، فهذا ليس بعقد ولكنه وعد؛ لأنه لما قال: خطبت، فقال: أعطيتك، يعني وافقتك على خطبتك.
المهم أننا نأخذ من كلام المؤلف هنا أن العرف مقدم على كل شيء ما لم يناقض الشرع، فإن ناقض الشرع فلا حكم له، فلو فرض أنه شاع في الناس أن بيع المحرم المعيَّن حلال، وهو حرام شرعاً فلا يرجع إلى العرف، فالعرف إذا خالف الشرع يجب إلغاؤه؛ لأن الأمة الإسلامية يجب أن يكون المتعارف بينها ما دل عليه الشرع، فإذا وجد عرف يخالف الشرع وجب تعديله، ولا يجوز أن يحول الشرع إلى العرف.
فإن قال قائل: ألستم تقولون: إن المرجع في النفقة على الزوجة ـ مثلاً ـ إلى العرف؟ الجواب: بلى، لكننا لم ننقض القاعدة؛ لأن الله أحالنا في الإنفاق على الزوجة إلى العرف، فإذا عملنا بالعرف في الإنفاق فقد عملنا بالشرع.
قوله: «وإذا أوصى بثلثه فاستحدث مالاً ولو دية دخل في الوصية» ، (أوصى) الفاعل يعود على ما يدل عليه الاشتقاق، يعني وإذا أوصى الموصي، وعَود الضمير على ما يدل عليه الاشتقاق
سائغ في اللغة العربية، قال الله تعالى:{اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8]، فقوله:(هو) أي: العدل المفهوم من كلمة «اعدلوا» ، فإذا أوصى موصٍ بثلثه فاستحدث مالاً دخل في الوصية؛ لأن المعتبر الثلث عند الموت لا عند الوصية.
مثال ذلك: رجل أوصى بثلثه وعنده ثلاثة آلاف، فالثلث حين الوصية يساوي ألفاً، لكن الرجل أغناه الله، وصار عنده ثلاثة ملايين عند الوفاة، فتكون الوصية مليوناً، ولهذا قال:«فاستحدث مالاً دخل في الوصية» .
وقوله: «ولو دية» إشارة خلاف لكنه خلاف ضعيف، فقيل: إن الدية لا تدخل في الوصية؛ لأنها إنما وجبت بعد موته فتكون للورثة خاصة، والذين قالوا تدخل في الوصية قالوا: لأن الموصى له صار مستحقاً لمال الموصي، وموته شرط لثبوتها، أما سبب الثبوت ـ وهو الجناية ـ فهو سابق على الموت؛ لأن الجناية حدثت قبل الموت، وهذا هو الصحيح أن الدية تدخل في الوصية.
مثال ذلك: رجل أوصى بثلث ماله وعنده مائتا ألف، ثم قُتِلَ خطأً فاستحق الدية مائة ألف، فيكون الجميع ثلاثمائة ألف فيكون للموصى له مائة ألف، ولو قلنا: إن الدية لا تدخل لكان للموصى له ثلث المائتين، أي: ستة وستون وثلثان، لكن نقول: له مائة ألف؛ لأن الدية تعتبر من ماله؛ لأنها عوض نفسه.
وبناءً على هذا ينبغي للقضاة إذا كتبوا تنازل الورثة عن الدية، أن يسألوا أولاً هل أوصى أو لا؟ فإن كان قد أوصى فليس
لهم التنازل عن الدية كلها، إلا إذا كان له مال يقابل الثلث؛ لأن حق الوصية مشارك لحق الورثة، فيسأل ويقول: هل له ما يقابل الثلث؟ فإذا قالوا: ليس عنده إلا هذه الدية، فيقول: إذاً لا يصح عفوهم إلا عن ثلثي الدية، أما ثلثها فهي للوصية إذا كان قد أوصى بالثلث.
وهذه يغفل عنها بعض الناس، تجده ـ مثلاً ـ يحضر الورثة ويكتب تنازلهم ولا يسأل هل أوصى أو لا؟ وهل له مال سوى هذه الدية أو لا؟
وَمَنْ أُوصِيَ لَهُ بِمُعَيَّنٍ فَتَلِفَ بَطَلَتْ، وَإِنْ تَلِفَ المَالُ غَيْرُهُ فَهُوَ للمُوصى لَهُ إِنْ خَرَجَ مِنْ ثُلُثِ المَالِ الحَاصِلِ لِلوَرَثَةِ.
قوله: «ومن أُوصي له بمعيَّن فتلِف بطلت» ، بأن قال الموصي: أوصيت بهذه السيارة لفلان، فاحترقت السيارة وتلفت، فتبطل الوصية؛ لأن الموصى به تعذر استيفاؤه، وليس له أن يطالب الورثة ويقول: أعطوني قيمة السيارة؛ لأنه معين تلف، فتبطل الوصية.
قوله: «وإن تلف المالُ غيرُهُ فهو للموصى له إن خرج من ثلث المال الحاصل للورثة» ، أي: إن تلف المال غير الموصى به ـ هذا عكس المسألة السابقة ـ نظرنا، إن كان تلف المال قبل موت الموصي فليس للموصَى له إلا ثلث ما أُوصِيَ له به؛ لأنه لما مات صار هذا المعين زائداً على الثلث فلا ينفذ منه إلا الثلث فقط، أما إن كان تلف المال بعد الموت فكما قال المؤلف:«فهو للموصى له إن خرج من ثلث المال الحاصل للورثة» ، فإذا كان بعد الموت فنقول: إن ما سوى هذا المعين تلف على نصيب الورثة.
مثال ذلك: أوصى له بسيارة فتلف المال إلا هذه السيارة، فهل تبطل الوصية أو لا ينفذ إلا ثلث السيارة، أم ماذا؟ نقول: في هذا تفصيل، إن تلف المال قبل أن يموت لم ينفذ من هذه السيارة إلا الثلث؛ لأنَّ ماله أصبح هذه السيارة فقط، فليس له إلا ثلثها إلا أن يجيز الورثة، وإن كان تلف المال بعد موت الموصي نظرنا، إذا كان المال الذي تلف ضعف قيمة السيارة، يعني السيارة قيمتها ألف، والمال الذي تلف ألفان، فالوصية نافذة؛ لأنه تبين الآن أن هذه السيارة عند موت الموصي تساوي الثلث فتنفذ، وإن كان الذي تلف بعد موت الموصي مثل قيمة السيارة أو أقل، فإنه لا يثبت للموصى له إلا ما يقابل الثلث، بمعنى أننا نضم قيمة السيارة إلى الموجود، فإذا كانت قيمة السيارة مثلاً ستين ألفاً، والموجود عشرون ألفاً، فنضم قيمة السيارة إلى الموجود فيكون ثمانين ألفاً، فلا يملك من السيارة إلا ما يقابل ثلث الجميع، ولهذا قال:«فهو للموصى له إن خرج من ثلث المال الحاصل للورثة» والحاصل للورثة لا يكون إلا بعد الموت.
بَابُ الوَصِيَّةِ بِالأَنْصِبَاءِ وَالأَجْزَاءِ
إِذَا أَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِ وَارِثٍ مُعَيَّنٍ فَلَهُ مِثْلُ نَصِيبِهِ مَضْمُوماً إِلى المَسْأَلَةِ، فَإِذَا أَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِ ابْنِهِ وَلَهُ ابْنَانِ فَلَهُ الثُّلُثُ، وَإِنْ كَانُوا ثَلاثَةً فَلَهُ الرُّبُعُ ......
«باب الوصية بالأنصباء والأجزاء» ، الأنصباء: جمع نصيب وهو نصيب الوارث، وهو الشيء المقدر، والأجزاء: جمع جزء وهو الشيء المقدر، لكن لا بالنسبة لشخص معين، فالأنصباء بالنسبة للأشخاص، والأجزاء بالنسبة للمسألة.
قوله: «إذا أوصى بمثل نصيب وارث معيَّن فله مثل نصيبه مضموماً إلى المسألة» ، هذا هو الضابط، فإذا أوصى بمثل نصيب وارث معين فقال: مثل نصيب ابني فلان، أو بنتي فلانة أو ما أشبه ذلك، فله مثل نصيبه مضموماً إلى المسألة، إذاً نصحح مسألة الورثة، ثم نضيف إليها مثل نصيب مَنْ أوصى له، مثاله:
قوله: «فإذا أوصى بمثل نصيب ابنه وله ابنان فله الثلث» ، فالمسألة من اثنين، أضف إليها مثل نصيب واحد منهما، فتكون المسألة من ثلاثة، فيكون له الثلث.
قوله: «وإن كانوا ثلاثة فله الربع» ، فإذا أوصى بمثل نصيب ابنه وله ثلاثة أبناء، فمسألتهم من ثلاثة، أضف إليها واحداً مثل نصيب أحدهم تكن أربعة، فيكون للموصى له الربع، وهذا سهل.
ولو أوصى بمثل نصيب زوجته وله زوجة وابن، فله الثمن
مضموماً إلى المسألة وهو تسع في الحقيقة! لأن نصيب الزوجة الثمن ـ واحد من ثمانية ـ والمسألة من ثمانية أضف إليها واحداً تكن تسعة، فيكون للموصى له التسع، وللزوجة الثمن واحد، لكنه بسبب الوصية أصبح تسعاً، والباقي للابن.
وَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ بِنْتٌ فَلَهُ التُّسْعَانِ، وَإِنْ وَصَّى لَهُ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِ وَرَثَتِهِ وَلَمْ يُبَيِّنْ كَانَ لَهُ مِثْلُ مَا لأَقَلِّهِمْ نَصِيباً، فَمَعَ ابْنٍ وَبِنْتٍ رُبُعٌ وَمَعَ زَوْجَةٍ وَابْنٍ تُسْعٌ وَبِسَهْمٍ مِنْ مَالِهِ فَلَهُ سُدُسٌ، وَبِشَيْءٍ أَوْ جُزْءٍ أَوْ حَظٍّ أَعْطَاهُ الوَارِثُ مَا شَاءَ.
قوله: «وإن كان معهم بنت فله التسعان» أي: إذا كانوا ثلاثة أبناء معهم بنت فله التسعان؛ لأن الثلاثة لكل واحد سهمان فيكون ستة، والبنت سهم فيكون سبعة، أضف إلى المسألة مثل نصيب أحد الأبناء فتكون تسعة، فيكون له التسعان.
قوله: «وإن وصى له بمثل نصيب أحد ورثته ولم يبين كان له مثل ما لأقلهم نصيباً» مثال ذلك: قال أوصيت لفلان بمثل نصيب وارث من ورثتي، ولم يبين مَنْ هو، فله مثل ما لأقلهم نصيباً.
قوله: «فمع ابن وبنت ربع» هذا المثال الأول.
له ابن وبنت وأوصى له بمثل نصيب أحد ورثته ولم يبين، فنقول: الابن والبنت مسألتهما من ثلاثة، للابن اثنان، وللبنت واحد، أضف إلى الثلاثة مثل نصيب البنت تكن أربعة، إذاً للموصى له الربع.
قوله: «ومع زوجة وابن تُسع» هذا المثال الثاني: إذا قال: أوصيت لفلان بمثل نصيب أحد الورثة، وورثته زوجة وابن، فالزوجة لها الثمن، والابن له الباقي، أضف الثمن واحداً إلى الثمانية تكن تسعة، إذاً فللموصى له التسع.
قوله: «وبسهم من ماله فله سدس» أي: إذا أوصى له بسهم من ماله فله السدس قَلَّ أو كثر، فيؤخذ السدس من التركة أولاً ثم يقسم الباقي على الورثة، مثال هذا: أوصى رجل بسهم من ماله لفلان، وله ابن وبنت، فنعطي فلاناً السدس، والباقي يقسم بين الابن والبنت، للذكر مثل حظ الأنثيين، وهذا مروي عن بعض الصحابة رضي الله عنهم
(1)
ـ فأخذ به الفقهاء توقيفاً لا تعليلاً.
وقال بعضهم: إنه تعليل؛ لأن السهم في اللغة العربية السدس، ولكن في القلب شيء من هذا؛ لأن السهم يقتضي أن يكون أقل سهم، فيكون كما لو أوصى بنصيب وارثٍ ولم يُبين، وهذا أحد القولين في المسألة، أنه إذا أوصى له بسهم من ماله فله مثل ما لأقل الورثة نصيباً، وعلى هذا فمع ابن وبنت يعطى الربع؛ لأن هذا أقل سهم.
وأما السدس فلعلها قضايا أعيان وردت عن بعض الصحابة رضي الله عنهم فَظُنَّ أنها توقيف، وما دامت المسألة ليس فيها نص شرعي ولا حقيقة شرعية، فينبغي أن يُرجع في ذلك إلى المسألة ويقال: أدنى سهم فيها هو الواجب للموصى له.
قوله: «وبشيء أو جزء أو حظ أعطاه الوارث ما شاء» أي: إذا قال: أوصيت لفلان بشيء من مالي ثم هلك، فيعطيه الوارث ما شاء، وظاهر كلامهم رحمهم الله أنه يعطيه ما شاء مطلقاً، حتى ولو كان بعيداً أن يكون مراداً، فلو كان إنسان عنده عشرة ملايين
(1)
كابن مسعود رضي الله عنه كما عند ابن أبي شيبة (11/ 171).
تركة، وأوصى بشيء من ماله لفلان، فأعطاه الورثة ريالاً فقط، فعلى كلام المؤلف تبرأ ذممهم، ولا يطالبهم بشيء؛ لأن الميت أوصى له بشيء من ماله، وهذا شيء، فيعطى أقل ما يقع عليه الاسم، ولكن ينبغي أن يقال: ما لم يخالف ذلك العرف، فإن خالف العرف رجعنا إلى ما تقتضيه الوصية، ومن المعلوم أن من عنده عشرة ملايين وأوصى لشخص بشيء أنه لا يريد ريالاً من عشرة ملايين!! هذا بعيد جداً؛ لأن الموصي قصده نفع الموصى له، وإعطاؤه من هذا المال، ومثل هذا لا يرضى أن يعطى إياه، فيرجع في ذلك ـ على القول الراجح ـ إلى ما يقتضيه العرف، ولا يعطيه الوارث ما شاء.
وكذلك ـ أيضاً ـ إذا قال: بجزء من مالي، وعنده عشرة ملايين، فأعطاه الوارث هللة، وهي جزء من المال، فلا يمكن أن يقال: إن هذه الهللة أراد الموصي أن يُعْطَى إياها الموصى له، وعنده عشرة ملايين!!
ولو أوصى له بشيء من ماله، فأعطاه الورثة غترة النوم التي يتغلل بها إذا نام، فعلى كلام المؤلف أن هذا يجزئ؛ لأن هذه مال تورث وتباع في التركة، لكن هذا لا يمكن أن يقال به، حتى عامة الناس يرون أن هذا منتقد، وأن الموصي لم يرد ذلك.
وقوله: «أو حظ» بأن قال: أوصي لفلان بحظ من مالي، وأعطوه هللة وعنده ملايين فيصح على كلام المؤلف، لكن إذا قال:«حظ من مالي» فكلٌ يفهم أنه حظ مهم.
فعلى كل حال مثل هذه المسائل يُرجع فيها إلى العرف، لا إلى مطلق المعنى؛ لأن الناس لهم أعراف ولهم إرادات تُخصص العام، أو تُعمم الخاص، أو تطلق المقيد أو ما أشبه ذلك.
بَابُ المُوصَى إِلَيْهِ
تَصِحُّ وَصِيَّةُ المُسْلِمِ إِلى كُلِّ مُسْلِمٍ مُكَلَّفٍ عَدْلٍ رَشِيدٍ .....
قوله: «باب الموصى إليه» الموصى إليه ليس ركناً من أركان الوصية؛ لأن أركان الوصية هي: موصٍ، وموصًى له، وموصًى به، والصيغة قد نقول: هي من الأركان، لكن الموصى إليه ليس بركن؛ لأنه أمر زائد فيمكن للموصي أن يقول: أوصيت لفلان بكذا وينتهي.
الموصى إليه هو الذي عُهد إليه بالتصرف بعد الموت سواء في المال أو في الحقوق، وهو بمنزلة الوكيل للأحياء وله شروط.
قوله: «تصح وصية المسلم إلى كل مسلم مكلف عدل رشيد» أي: إذا كان الموصي مسلماً فلا بد أن يكون الموصى إليه مسلماً مكلفاً، يعني بالغاً عاقلاً، عدلاً يعني مستقيم الدين والخلق، رشيداً، يعني حسن التصرف فيما أوصي إليه به.
ووصية الكافر إلى المسلم تصح من باب أولى، ووصية الكافر إلى الكافر تصح، فلو أوصى يهودي إلى يهودي لينفذ بعد موته ما وصاه به فلا بأس، إنما هذه الشروط في الموصى إليه إذا كان الموصي مسلماً.
وقوله: «إلى كل مسلم» يخرج به الكافر، فلا تصح وصية المسلم إلى الكافر، ولو كان الكافر أميناً، ولو كان الكافر عاقلاً ولو كان صديقاً للموصي؛ لأن هؤلاء قد خانوا الله من قبل، وإذا
كانوا خانوا الله فإنهم يخونون عباد الله من باب أولى؛ ولهذا لما كتب معاوية رضي الله عنه إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه في أن يولي نصرانياً على حساب بيت المال فأبى عليه عمر رضي الله عنه وقال: لا يمكن أن نأتمن نصرانياً على حساب بيت المال، وكيف نأمنهم وقد خوَّنهم الله، فكتب إليه معاوية رضي الله عنه أن الرجل حاذق وجيد، فكتب إليه عمر رضي الله عنه:(مات النصراني والسلام)
(1)
، وهذه لها مغزى عظيم، يعني هل يتعطل بيت المال إذا مات هذا النصراني؟! فقدِّرْ أنه مات، فبيت المال لا يتعطل.
إذاً لا يصح أن يوصي إلى الكافر، ولو كان من آمن الكفار، وأقواهم؛ لأنه غير مأمون مهما كان الأمر.
وقوله: «مكلف» يعني بالغاً عاقلاً، والبلوغ معروف بماذا يحصل، والعقل هو أن يكون لدى الإنسان ما يحجزه عن السفه والتصرفات الطائشة، وضد البالغ الصغير، وضد العاقل المجنون.
وظاهر كلامه أنه تصح وصية الرجل إلى المرأة؛ لأنها بالغة عاقلة، فإذا أوصى إليها بثلث ماله تصرفه للفقراء أو أي مشروع خيري، فهذا يجوز؛ لأنها يصح تصرفها في مال نفسها، فيصح تصرفها في مال غيرها.
وقوله: «عدل» العدل ضد الفاسق، وهو من استقام في دينه ومروءته، ففي دينه بأن لا يفعل كبيرة إلا أن يتوب منها، وأن لا يصر على صغيرة، وأن يكون مؤدياً للفرائض؛ وذلك لأن من
(1)
انظر: أحكام أهل الذمة، لابن القيم (1/ 211).
فرط في دينه فإنه لا يؤمن أن يفرط في عمله، وأما المروءة فإنه لا يفعل ما ينتقده الناس، فإن فعل ما ينتقده الناس عليه فليس بعدل.
فإن أوصى إلى فاسق، فالمذهب أنه لا تصح الوصية إليه؛ لأنه غير مأمون، وقد قال الله تبارك وتعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6]، فالفاسق لا يقبل خبره ولا يرضى تصرفه، ولكن ينبغي أن يقال: إن هذا مبني على الشهادة، فإذا قبلنا شهادة الفاسق المرضي في شهادته قبلنا الوصية إليه؛ لأنه قد يوجد فاسق لكنه أمين من جهة المال، ولنفرض أنه يشرب الدخان، وشرب الدخان إصرار على صغيرة، إذاً هو فاسق، فإذا كان هذا الشارب للدخان رجلاً عاقلاً حصيفاً أميناً رشيداً، ونقول: لا تصح الوصية إليه، في هذا نظر لا شك، ولهذا نقول: إن اشتراط العدالة فيه تفصيل، فإن كانت العدالة تخدش في تصرفه فهي شرط، وإن كانت لا تخدش في تصرفه، وأنه يتصرف تصرفاً تاماً ليس فيه أي إشكال، فإنها ليست بشرط، وهذا هو الصحيح في مفهوم قوله:«عدل» .
وقوله: «رشيد» وهو الذي يحسن التصرف فيما وكل إليه؛ لقول الله تعالى في اليتامى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6]، فالرشد لا بد منه، ولكن الرشد في كل موضع بحسبه، فالرشيد في المال هو الذي يحسن البيع والشراء والاستئجار والتأجير، بدون أن يغبن غبناً أكثر مما جرت به العادة.
والرشيد في ولاية النكاح ـ على القول بصحة الوصية فيها ـ
ليس الذي يحسن البيع والشراء، بل هو الذي يعرف الكفء ومصالح النكاح.
فكل رشد بحسبه، فالرشيد في المال ليس الرشيد في ولاية النكاح، والرشيد في النكاح ليس الرشيد في المال، فقد يكون الرجل رشيداً في ولاية النكاح؛ لأنه رجل يعرف الناس ويعرف الكفء ويخشى الله ويتقه، ولكنه في المال أخرق لا يعرف، يأتيه الصبي معه الدجاجة تساوي ريالين فيبيعه إياها بعشرة ريالات، فهذا ليس برشيد؛ لأنه غبن بنحو خمسة أضعاف، لكنه من الناحية الأخرى جيد، إذاً الرشيد في كل موضع بحسبه.
وَلَوْ عَبْداً، وَيَقْبَلُ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ، وَإِذَا أَوْصَى إِلَى زَيْدٍ وَبَعْدَهُ إِلَى عَمْرٍو وَلَمْ يَعْزِلْ زَيْدَاً اشْتَرَكَا، وَلَا يَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا بِتَصَرُّفٍ لَمْ يَجْعَلْهُ لَهُ .....
قوله: «ولو عبداً، ويقبل بإذن سيده» «لو» هذه إشارة خلاف، يعني أنه تصح الوصية إلى العبد لكن يقبل بإذن سيده، ولو قلنا بهذا القول فيجب أن نقول: من شرط السيد أن يكون عدلاً رشيداً بالغاً عاقلاً مسلماً، فيشترط في سيده أن يكون ممن تصح الوصية إليه.
وهذا الخلاف الذي أشار إليه المؤلف رحمه الله يقابله من يقول: لا تصح الوصية إلى العبد مطلقاً؛ لأن العبد قاصر يحتاج إلى من يقوم عليه، فكيف يكون قيماً على غيره؟! فالوصية إلى العبد لا تصح.
والقول الثالث: التفصيل، فالوصية إلى عبد نفسه جائزة، والوصية إلى عبد غيره غير جائزة؛ لأن وصيته إلى عبد نفسه تكون نتيجة لعلمه بأن هذا العبد أمين رشيد، يحسن التصرف تماماً، وأنه سوف يحرص على وصية سيده كما يحرص على ماله أو
أكثر، وهذا القول وسط بين القول بالمنع مطلقاً والقول بالجواز مطلقاً، ومع ذلك لا بد من إذن السيد؛ لأنه إذا قبل الوصية فسوف ينشغل وقتاً غير قصير بتصريف هذه الوصية، فيقتطع جزءاً من وقته يُفوِّته على سيده، فلا بد من إذن السيد.
وقوله: «سيده» يجوز أن يقال: سيده؛ لأن هذه سيادة مقيدة، والممنوع هي السيادة المطلقة، فإنها لا تكون إلا لله وحده عز وجل، أما السيد المقيد فلا بأس، فيقال: سيد هؤلاء القوم، أو سيد بني فلان.
قوله: «وإذا أوصى إلى زيد وبعده إلى عمرو ولم يعزل زيداً اشتركا، ولا ينفرد أحدهما بتصرفٍ لم يجعله له» هذان الاسمان ـ زيد وعمرو ـ محل التمثيل عند الفقهاء والنحويين وغيرهم أيضاً، لخفتهما؛ لأن كليهما ثلاثة أحرف وسطها ساكن، فهي خفيفة على اللسان، فلو قال: أوصيت إلى زيد أن يصرف خُمس مالي في أعمال البر، ثم بعده قال: أوصيت إلى عمرو أن يصرف خُمس مالي في أعمال البر، فنقول: إن قال: عزلت زيداً، فالوصية لعمرو، وإن لم يقل فهي بينهما، هكذا قال الفقهاء رحمهم الله، وإذا كانت بينهما اشتركا في التصرف، ولا يمكن أن ينفرد أحدهما بتصرف إلا بمراجعة الآخر، وعلى هذا فإذا مات الموصي أعطينا الرجلين جميعاً الوصية ـ وهي الخمس ـ في المثال السابق، وقلنا: تصرفا فيه فيما أوصى به فيه، ولا ينفرد أحدكما عن الآخر بشيء؛ لأنه جعله لهما.
وهذه المسألة لها صور:
الأولى: أن يوصي إلى زيد ثم يوصي إلى عمرو، ويقول: قد عزلت زيداً، فإن الموصى إليه يكون عمراً.
الثانية: أن يقول: أوصيت إلى زيد وعمرو، فإن الوصية تكون إلى الاثنين.
الثالثة: أن يقول: أوصيت إلى زيد، ثم يقول بعد ذلك: أوصيت إلى عمرو، فالمذهب أنهما يشتركان.
وقيل: إن الوصية للأخير؛ لوجهين:
أولاً: أنه لو ورد نصان لا يمكن الجمع بينهما فإن الثاني يكون ناسخاً للأول.
ثانياً: إن مقتضى الوصية إلى عمرو عزل زيد، ورضاه بعمرو.
فإن قال قائل: قد يكون نسي أنه أوصى إلى زيد، مثل أن تكون المدة طويلة.
فنقول: نعم، لنفرض أنه نسي، لكن الإيصاء إلى عمرو يقتضي أنه رضي بعمرو، وإذا اقتضى ذلك، فإن قلنا: إنه عزل لزيد فهو عزل، وإن لم نقل فهو ابتداء وصية، فيكون الثاني هو الوصي وحده، وهذا القول هو الراجح، كما مر علينا في الموصى له أنهما يشتركان، وأن القول الراجح أنه للثاني، ولكن كما قلت من قبل، وأقوله الآن تأكيداً: إنه ينبغي للإنسان إذا كتب وصية إنسان أن يقول: هذه الوصية ناسخة لما قبلها، حتى يريح الذين يأتون من بعد، ولا يحصل التباس.
وقوله: «ولا ينفرد أحدهما بتصرفٍ لم يجعله له» علم منه أنه
إذا انفرد أحدهما بتصرف جعله له فلا بأس، كما لو قال: أوصيت بخمسي إلى زيد وعمرو في أعمال الخير، يتولى زيد صرفه في طلبة العلم، فإن الذي يتولاها زيد؛ لأنه خصه، ولو قال: يتولى عمرو صرفه فيمن احتاج إلى النكاح، فإن عمراً يتولى هذا، ونحن نمشي في الوصية على ما يقتضيه كلام الموصي.
وَلَا تَصِحُّ وَصِيَّةٌ إِلاَّ فِي تَصَرُّفٍ مَعْلُومٍ يَمْلِكُهُ المُوصِي كَقَضَاءِ دَيْنِهِ وَتَفْرِقَةِ ثُلُثِهِ والنَّظَرِ لِصِغَارِهِ،
.............
قوله: «ولا تصح وصية إلا في تصرف معلوم يملكه الموصي» أي: الوصية لا تصح بالنسبة للموصى إليه إلا في تصرف معلوم يبينه الموصي، ويكون الموصي يملك ذلك، فإن كان في تصرف مجهول فإنه لا يصح، وهل مثله إذا أَطلق ولم يذكر تصرفاً؟ يحتمل هذا وهذا، مثل أن يقول: أوصيت بخمسي إلى فلان، ولا يذكر شيئاً، فظاهر كلام المؤلف أنه لا تصح الوصية؛ لأن الموصى إليه ماذا يصنع؟
لكن القول الراجح: أنه تصح الوصية ويقال للموصى إليه: افعل ما يقتضيه العرف، أو افعل ما ترى أنه أحسن شيء في أمور الخير، حتى وإن اقتضى العرف خلافه، وَعُرْفُنا الآن ـ الذي جرى عليه أكثر الناس ـ إذا قال: أوصيت بخمس مالي أو ثلثه يجعل في أضحية، وعشاء في رمضان، وما أشبه ذلك من المصروفات التي يعرفها الناس من قبل، لكن لو رأى الموصى إليه أن يصرف هذا في عمارة المساجد وطبع الكتب المحتاج إليها، وتزويج المحتاجين وإعانة طلاب العلم، فهذا أفضل من أضحية تذبح ويتنازع عليها الورثة.
وكان الناس فيما سبق ـ لما كانت الأموال قليلة ـ يتنازعون
على الأضحية نزاعاً شديداً، حتى لو أخذ أحدهم أكثر من الآخر برطل تنازع معه.
فنقول: إذا أوصى بشيء وأطلق، فالصحيح أنه جائز، ويصرف فيما اعتاده أهل البلد، أو على الأصح فيما يرى أنه أفضل.
وقوله: «يملكه الموصي» فإن كان لا يملكه لم تصح الوصية، والذي لا يملكه الموصي نوعان:
أحدهما: ما لا يملكه شرعاً بأن يوصي إليه في فعل محرم، مثل أن يقول: أوصيت إلى فلان أن يَصرف للقبر الفلاني مائة درهم لإسراجه أو للذبح له، فهذه الوصية باطلة.
الثاني: ما يمتنع لحق الغير، مثل أن يقول: أوصيت إلى فلان أن يبيع بيتي وهو مرهون، فهذا لا يصح؛ لأنه لا يملكه إلا بإذن المرتهن.
قوله: «كقضاء دينه» يعني لو أوصى هذا الرجل إلى فلان أن يقضي دينه فإن التصرف معلوم، حتى لو كان الدين مجهولاً فإنه لا يضر.
قوله: «وتفرقة ثلثه» يعني أوصى بثلثه وقال: الوصي ـ أي: الموصى إليه ـ فلان يفرقه في كذا وكذا، فهذا التصرف معلوم، وليت المؤلف لم يقل:«وتفرقة ثلثه» وليته قال: تفرقة خمسه؛ لأنه في أول الوصايا قال: تسن بالخمس، وإذا كان هذا هو الأفضل فينبغي أن يكون هو مورد التمثيل؛ لأن الثلث مباح والخمس أفضل، وإذا كان كذلك فينبغي أن نذكر الأفضل حتى يعتاد الناس عليه، ولهذا الآن أكثر الناس يقول: فلان ليس له
ثلث، ولو راعينا الأفضل لقلنا: ما له خمس، فليت المؤلف رحمه الله قال: وتفرقة خمسه، أو على الأقل قال: وتفرقة ما أوصى به؛ لأنه لو قال: الثلث، اعتاد الناس على الثلث.
قوله: «والنظر لصغاره» النظر للصغار ـ أيضاً ـ من التصرف المعلوم، يقول: الوصي على أولادي الصغار من بنين وبنات فلان، فإنه يجوز ويكون هذا الوصي هو الناظر على الأولاد، يقوم بمصالحهم من نفقة وكسوة وتربية وسكن.
وهل يملك أن يوصي بتزويج بناته؟
المذهب: يملك، فيقول: الوصي في تزويج بناتي فلان، حتى وإن كان لهن إخوة أشقاء فإنهم لا يزوجونهن؛ لأن ولاية النكاح تستفاد بالوصية، لكن هذا القول ضعيف جداً؛ لأن ولاية النكاح ولاية مستقلة، هي للإنسان ما دام حياً، فإذا مات انتقلت إلى من هو أولى شرعاً، فلا تستفاد ولاية النكاح ـ على القول الراجح ـ بالوصية.
وقولنا: لا تستفاد بالوصية، يفهم منه أنها تستفاد بالقرابة، فلو أوصى أن يزوج بناته أخوهن الأكبر الشقيق، فإنه يصح؛ لأنه هو وليهن بعده، إلا من تزوجت وأتت بأبناء فأبناؤها أولياؤها.
إذاً القول الراجح في مسألة التزويج أنه لا يملك الموصى إليه ـ وهو الوصي ـ أن يزوج بهذه الوصية، لكن إذا أردنا أن نعمل بالقول الراجح وبالمذهب فكيف نصنع؟ لأننا نقع في مشكلة، فإذا زوج الوصي ـ وهو بعيد منهن ـ فعلى المذهب
النكاح صحيح، وعلى ما اخترناه النكاح غير صحيح؛ لأن ولاية النكاح لا تستفاد بالوصية، ولو زوج أخوهن في هذه الحال فالنكاح غير صحيح على المذهب، وهو صحيح على القول المختار، فإما أن يوكل أحدهما الآخر فيقال للأخ: وكِّل الوصي، أو يقال للوصي: وكِّل الأخ، وإذا وكل أحدهما الآخر انحلت المشكلة، وإلا يحضران جميعاً عند المأذون ويزوِّجانها.
فيقول الولي: زوَّجتك أختي فلانة، ويقول الوصي: زوجتك بنت فلان بالوصية، فإذا أوجب هذان الاثنان، يقول الزوج: قبلت النكاح، وعلى هذا فيكون الإيجاب صادراً من اثنين، والقبول من واحد.
وَلَا تَصِحُّ بِمَا لَا يَمْلِكُهُ المُوصِي، كَوَصِيَّةِ المَرْأَةِ بِالنَّظَرِ فِي حَقِّ أَوْلَادِهَا الأَصَاغِرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَمَنْ وُصِّيَ فِي شَيْءٍ لَمْ يَصِرْ وَصِيًّا فِي غَيْرِهِ، وإنْ ظَهَرَ عَلى المَيِّتِ دينٌ يَسْتَغْرِقُ تَرِكَتَهُ بَعْدَ تَفرِقَةِ الوَصِيِّ لَمْ يَضْمَنْ وَإِنْ قَالَ: ضَعْ ثُلُثِي حَيْثُ شِئْتَ لَمْ يَحِلَّ لَهُ وَلَا لِوَلَدِهِ.
قوله: «ولا تصح بما لا يملكه الموصي، كوصية المرأة بالنظر في حق أولادها الأصاغر ونحو ذلك» لا تصح الوصية فيما لا يملكه الموصي، كامرأة أيِّم قد مات زوجها ولها أولاد صغار، هي وليتهم، فلما أحست بالموت أو خافت أوصت شخصاً ينظر في أولادها الصغار، يقول المؤلف: الوصية لا تصح؛ لأن الأم لا تملك النظر استقلالاً على أولادها الصغار، فالنظر في الأولاد للأب أي: للذكور، فإذا ماتت الأم تحال المسألة إلى القاضي ويجعل القاضي من رأى فيه خيراً.
وفي المسألة قول آخر، وهو أنها تصح ولايتها ومن ثم وصيتها، فلو أن رجلاً أوصى إلى امرأته بالنظر في أولاده الصغار يجوز؛ لأن المرأة مسلمة مكلفة رشيدة وتصح الوصية إلى كل
مسلم، فتدخل في كلام المؤلف الأول «تصح وصية المسلم إلى كل مسلم» وكثير من النساء تكون رعايتها لأولادها أفضل بكثير من رعاية الرجال.
قوله: «ومن وُصِّيَ في شيء لم يصر وصياً في غيره» فإذا أوصى إلى شخص يكون ناظراً على أولاده، فإنه لا يملك النظر في أموالهم؛ لأن النظر على الأولاد ليس هو النظر في المال.
وإذا وصى إلى شخص ينمي مال أولاده الصغار، لم يكن له حضانتهم؛ لأن الوصية بمنزلة الوكالة، فتختص بما أُوصِيَ إليه فيه، وهكذا جميع من عمل نائباً لغيره فإنه لا يتجاوز ما حُدِّد له، ومن ذلك القضاة مثلاً، فإذا جَعَلَتْ وزارة العدل رجلاً قاضياً في الأنكحة لم ينظر في المواريث، وإذا جعلته قاضياً في المواريث لم ينظر في البيوع، وإذا جعلته قاضياً في البيوع لم ينظر في قسمة المواريث، وهلم جرًّا.
فالوكالة والوصايا تتقيد بما عُيِّنَت له ولا تزيد، فعلى هذا نقول: من وصي إليه بشيء لم يكن وصياً في غيره؛ وتعليل ذلك أن هذا الوصي يتصرف بالإذن، فوجب أن يقتصر على ما أُذِن له فيه ولا يتعداه، وهذا تعليل ظاهر ليس به شبهة.
قوله: «وإن ظهر على الميت دين يستغرق تَرِكَتَهُ بعد تفرقة الوصي لم يضمن» هذه مسألة مهمة، فلو ظهر على الميت دين بعد أن تصرف الوصي، وصرف الموصى به إلى جهته، فإنه لا ضمان
على الوصي؛ لأنه تصرف تصرفاً مأذوناً فيه فليس عليه ضمان.
مثال ذلك: أوصى إلى زيد أن يبذل عشرة آلاف ريال في بناء مسجد، فصرفها، ثم ظهر على الميت دين يستغرق العشرة فليس عليه ضمان؛ لأنه تصرف تصرفاً مأذوناً فيه فوقع موقعه، فهو مجتهد وليس عالماً بالغيب، فإن قيل: لماذا لم ينتظر؟ فالجواب: إلى أي مدى ينتظر؟ لأن كل وقت يحتمل أن يظهر فيه دين، والوصي مأمور بالإسراع بتنفيذ الوصية، فإن أخرها يوماً أو يومين خوفاً من أن يظهر دين، قال أيضاً: أؤجل شهراً أو شهرين خوفاً من أن يظهر دين، وحينئذٍ يؤدي إلى عدم تنفيذ الوصية، فنقول: هذا الوصي المشروع في حقه أن يبادر في تنفيذ الوصية، فإذا فعل ما هو مشروع في حقه ثم تبين ما ليس يعلمه فإنه لا ضمان عليه.
فإذا قال قائل: أين يكون حق صاحب الدين؟
نقول: صاحب الدين ليس له شيء، بخلاف ما إذا أخذ الورثة المال، ثم تبين بعد ذلك أن عليه ديناً، ـ أي: على الميت ـ فإنه يؤخذ من الورثة، فيؤخذ من كل إنسان ما أَخَذَ، والفرق ظاهر؛ لأن الوصي تصرف لغيره، والورثة تصرفوا لأنفسهم، فتلف المال تحت أيديهم فلزمهم ضمانه، وهذه المسألة قد يظن الظان أنه لا فرق بينها وبين المسألة السابقة، والفرق بينهما واضح.
فإن قال قائل: لو علم الوصي له أنَّ على الميت ديناً ولكنه أخذ الموصى به وتصرف فيه، فهنا نقول: إنه يضمن؛ لأنه حين
تَصَرُّفِهِ يعلم أنه لا يستحق، إذ إن الدين مقدم على الوصية، فيكون الوصي له بمنزلة الوارث الذي يضمن.
قوله: «وإن قال: ضع ثلثي حيث شئت لم يحل له ولا لولده» مثاله: إنسان أوصى إلى شخص وقال: ضع ثلثي حيث شئت، أو قال: ضع ثلثي في قضاء الديون، فمات الرجل فإنه لا يجوز للوصي أن يأخذ شيئاً من هذا الثلث، ولا يجوز لولده أن يأخذ شيئاً من هذا الثلث؛ لأنه لو أراد الموصي أن ينفع الوصي لقال: أوصيت لك، ولم يقل: أوصيت إليك، ولا يحل لولده؛ لأنه متهم، فربما يحابي ولده ويصرف المال له، وغيره أحق به منه؛ فلذلك قال العلماء رحمهم الله: إنه لا يجوز للوكيل ولا للوصي أن يصرف لنفسه أو لأحد من أولاده، وعمم بعضهم ذلك وقال: أو ممن لا تقبل شهادته له، فوسعوا الأمر.
ولكن لو قال قائل: في مسألة الوكالة إذا كان الوكيل يريد هذا الشيء، وأخرجه أمامَ الناس يتزايدون فيه حتى كان آخر سوم على هذا الوكيل، فهل له أن يأخذه؟
على كلام الفقهاء لا، والصحيح أنه إذ زالت التهمة فهو كغيره، هذا من حيث النظر، أما من حيث العمل ـ ولا سيما في زمننا هذا ـ فينبغي أن يمنع الوكيل أو الوصي مطلقاً من أن يصرف الشيء إلى نفسه، أو إلى أحد من ذريته، من ذكور أو إناث، والعلة هي التهمة، ألا يحرص على أن يضع هذا الشيء موضعه.
وذكرنا أنه إذا زالت التهمة، بأن أخرج الوكيل الشيء بالمزاد العلني ووقف عليه فالمذهب لا يصح، حتى في هذه
الحال ـ التي هي بعيدة من التهمة ـ يقولون: لا يصح، سداً للباب، وهذا القول من الناحية التربوية أحسن من القول بأنه يجوز أن يأخذه؛ لأننا إذا قدرنا أن واحداً من مائة زال الوصف في حقه ـ وهو التهمة ـ فغيره لا يزول.
وَمَنْ مَاتَ بِمَكَانٍ لَا حَاكِمَ بِهِ وَلَا وَصِيَّ حَازَ بَعْضُ مَنْ حَضَرَهُ مِنَ المُسْلِمِينَ تَرِكَتَهُ، وَعَمِلَ الأَصْلَحَ حِينَئِذٍ فِيهَا مِنْ بَيْعٍ وَغَيْرِهِ.
قوله: «ومن مات بمكان لا حاكم به ولا وصي، حاز بعضُ مَنْ حضره مِنَ المسلمين تِركتَهُ» وهذا يقع كثيراً، مثال ذلك: رفقة مات أحدهم في سفر وليس هناك قاضٍ يرجع إليه، ولا وصي خاص يرجع إليه، يقول:«حاز بعض من حضره من المسلمين تركته» وقوله: «حاز» خبر بمعنى الأمر، يعني يجب أن يحوز بعض من حضره تركته؛ لئلا تضيع أو ما أشبه ذلك.
قوله: «وعمل الأصلح حينئذٍ فيها من بيع وغيره» فيحوز التركة التي معه، ثم إن كان الأحسن أن يبيعها باعها، وإن كان الأحسن أن يبقيها أبقاها، وهذا يختلف باختلاف الأموال واختلاف الأحوال، فمثلاً إذا كان في التركة ما يسرع فساده كالبطيخ فالأفضل له البيع لا شك، وإذا كان في التركة ما الأحسن إبقاؤه وجب إبقاؤه، وإذا دار الأمر بين هذا وهذا فإنه يبقى على حاله؛ لأن الأصل أن لا يتصرف فيه، ثم إن تغيرت الحال فيما بعد عمل ما تقتضيه الحال من بيع أو غيره.
كِتَابُ الفَرَائِضِ
وَهِيَ العِلْمُ بِقِسْمَةِ المَوَارِيثِ
قوله: «كتاب الفرائض» ، ترجم له المؤلف بالكتاب؛ لأنه جنس مستقل، وقال:«الفرائض» ، ولم يقل: المواريث، مع أن المواريث أعم، ولذا عبَّر بعض العلماء وقال: كتاب المواريث، وهو أعم من كتاب الفرائض؛ لأن المواريث تشمل الفرض والتعصيب والرحم، ولكن المؤلف عبَّر بالفرائض؛ لأن الفرائض هي الأصل، قال النبي عليه الصلاة والسلام:«ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر»
(1)
، فلما كانت هي الأصل والمقدم، ترجم بها رحمه الله.
والفرائض من حيث اللغة جمع فريضة بمعنى مفروضة، فهي فعيلة بمعنى مفعولة، والفرض في اللغة: الحز والقطع، إذا حززت الشيء بالسكين قيل: هذا فرض، وكذلك إذا قطعته بالسكين قيل: هذا فرض، ولكنه في الاصطلاح يختلف، ففرائض الوضوء غير الفرائض التي نحن فيها، فتفسر الفرائض في الاصطلاح في كل باب بما يناسبها، فهو هنا يقول:
«وهي العلم بقسمة المواريث» وهو نوعان شرعي وفني،
(1)
أخرجه البخاري في الفرائض/ باب ميراث الولد من أبيه وأمه (6732)؛ ومسلم في الفرائض/ باب ألحقوا الفرائض بأهلها (1615) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
ويقال: فقهي وحسابي، فالعلم بالمواريث فقهاً هذا شرعي، والعلم بالمواريث حساباً هذا فني مرادٌ لغيره، والأول مراد لذاته؛ لأن المقصود إيصال حقوق أصحاب المواريث إليهم، سواء عرفت الحساب أم لم تعرف، لكن مع ذلك يحتاج طالب العلم إلى معرفة حساب المواريث وإن عرف فقهها، فمثلاً: إذا هلك هالك عن بنت وأخت شقيقة، فكوننا نعرف أن للبنت النصف وللأخت الشقيقة ما بقي، فهذا علم شرعي فقهي، وإذا قلنا: المسألة من اثنين للبنت النصف واحد وللأخت الشقيقة ما بقي وهو واحد، فهذا فني حسابي، لكن هل نحن نحتاج إليه بالضرورة؟ لا نحتاج إليه بالضرورة، فأيُّ واحد نقول له: اقسم المال نصفين للبنت النصف وللأخت النصف فإنه يقسم، لكن أحياناً نحتاج إليه فيما إذا كثرت المسائل، ولا سيما في باب المناسخات كما سيأتي إن شاء الله.
وحكم تعلم هذا العلم فرض كفاية، إن قام به من يكفي سقط عن الباقين، وإلا وجب على جميع الأمة؛ لأنه لا يمكن تنفيذ شريعة الله في هذا الباب إلا بتعلمه.
وعلم الفرائض من أجلِّ العلوم وأشرفها؛ لأمور:
أولاً: أنه تنفيذ لفريضة من فرائض الله، قال الله تعالى لما ذكر ميراث الأصول والفروع:{آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ} [النساء: 11]، فأنت إذا تعلَّمت الفرائض فإنك تتوصل بها إلى القيام بفريضة من فرائض الله.
ثانياً: أن المواريث حدٌّ من حدود الله عز وجل فإذا
تعلمتها التزمت بها حدود الله، قال الله تعالى في ميراث الزوجين والإخوة من الأم لما ذكر هذا:{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} [النساء: 13].
ثالثاً: أن الفرائض هدى وبيان، ولهذا لما ذكر الله عز وجل ميراث الإخوة الأشقاء أو لأب في آخر سورة النساء، قال:{يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} [النساء: 176]، ولهذا كان علم الفرائض من أفضل العلوم.
واعلم أن الإنسان إذا مات فإنه يتعلق بتركته خمسة حقوق:
الأول: تجهيز الميت بتغسيله وتكفينه وحنوطه وحمله ودفنه وما يتعلق بذلك، هذا قبل كل شيء، حتى لو كان عليه دين فإنه يقدم هذا على الدين.
الثاني: الدين الموثق برهن.
الثالث: الدين المرسل الذي ليس فيه رهن.
الرابع: الوصية بالثلث فأقل لغير وارث.
الخامس: الميراث.
فهذه خمسة حقوق مرتبة، فإذا مات ميت وخلف مائة ريال وعليه دين مائة ريال وتجهيزه مائة ريال، فإنه يبدأ بالتجهيز، ويقال لصاحب الدين: ليس لك شيء؛ لأنه ليس عنده شيء.
وهل يلزم الوارثَ أن يقضي الدينَ عنه؟ لا يلزم حتى لو كان الميت أباه أو ابنَه أو أخاه الأكبر، لكن إذا كان من باب التبرع فباب التبرع واسع.
بعد ذلك الدين الموثق برهن، مثال هذا: رجل هلك وعنده مائة ريال، وله شاة مرهونة بمائة ريال، وعليه دين ليس موثقاً مائة
ريال هذه ثلاثمائة، فنبدأ بالتجهيز، نأخذ مائة الريال ونجهز الميت بها، ثم الدين الموثق برهن فنقول لصاحب الرهن: هذه الشاة بعها واسْتَوْفِ حقك مائة ريال، فإذا قال الدائن الآخر: أنا ـ أيضاً ـ أطلبه، نقول: دينك مؤخر عن الدين الذي فيه الرهن، والدين المرسل لم يبق شيء له ولا يلزم الوارث أن يقضيه، ولكنا نبشر المدينين إذا أخذوا أموال الناس ليؤدوها، ولكن أخلفت الأمور أن الله سبحانه وتعالى يؤدي عنهم من فضله وكرمه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه»
(1)
، بعد هذا الدينُ غَيْرُ الموثقِ برهن، فلو هلك هالك عن مائتي ريال، وشاة قيمتها مائة ريال مرهونة بدين قدره مائة ريال، وعليه دين مرسل قدره مائة ريال، ووصية، فنوزعها كالآتي: المائة الأولى للتجهيز، والثانية ـ الشاة ـ للدين الموثق برهن، والثالثة للدين المرسل، والوصية لا تنفذ؛ لأن الوصية تكون بعد هذه الثلاثة ولم يبق لها شيء.
مثال آخر: إذا هلك هالك وخلّف مائتين وتسعين ريالاً وعليه دين برهنٍ مائة ريال والمرهون يساوي مائة ريال، وعليه دين مرسل مائة ريال، ووصية بالثلث، أولاً: نأخذ مائة ريال للتجهيز، ثانياً: مائة ريال بالدين الموثق بالرهن، ثالثاً: مائة ريال بالدين المرسل، بقي تسعون ريالاً، وهو موصٍ بالثلث نأخذ ثلاثين ريالاً للوصية يبقى للميراث ستون ريالاً، هنا قدمنا الوصية على الميراث؛ لأننا أخذنا للوصية الثلث من رأس المال كاملاً، وإذا أخذنا الثلث يبقى ثلثان
(1)
أخرجه البخاري في الاستقراض وأداء الديون/ باب من أخذ أموال الناس يريد أداءها أو إتلافها (2387) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
فيكون للذي يرث النصفَ الثلثُ، إذاً الوصية ما نقصت، أُعطي الموصى له الثلاثين كاملة، أي: الثلث كاملاً، والميراث نقص؛ لأن الوصية مقدمة عليه، ولهذا كان لصاحب النصف في الوصية الثلث.
وتأمل يا أخي، فالمالُ الذي تجمعه إذا مت إلى من يذهب؟ يذهب إلى أشياء ضرورية، للتجهيز، أو غرامات ديون عليك، أو لغيرك، فمالُك حقيقةً هو ما قدمته في حياتك تقرباً إلى الله عز وجل، وأما ما خلَّفته فليس لك.
أَسْبَابُ الإِرْثِ رَحِمٌ وَنِكَاحٌ وَوَلَاءٌ، وَالوَرَثَةُ ذُو فَرْضٍ وَعَصَبَةٍ وَرَحِمٍ،
....
ثم اعلم أن الإرث كغيره من الأشياء، له أسباب، وله شروط، وله موانع، ولهذا قال:
«أسباب الإرث رحم ونكاح وولاء» الرحم يعني القرابة، وهي الاتصال بين إنسانين بولادة قريبة أو بعيدة، فابن عمك رحم؛ لأن بينكما اتصالاً بالولادة تلتقي معه في الجد، ثم هذه القرابة أصول وفروع وحواشٍ، فمن تدعوه بأب أو بأم أصل، ومن يدعوك بأب أو بأم فرع، ومن يدعو آباءَك بأبٍ أو بأم حواشٍ، إذن الفروع فروع الإنسان نفسه، والحواشي فروع آبائه وأمهاته، والأصول من تفرع منهم.
وقوله: «ونكاح» وهو الاتصال بين ذكر وأنثى بعقد صحيح، فعقد النكاح الباطل لا توارث فيه، وعقد النكاح الفاسد لا توارث فيه، فلا بد أن يكون نكاحاً صحيحاً حتى يورث به من الجانبين، الزوج يرث الزوجة، والزوجة ترث زوجها، ويثبت التوارث بين الزوجين من حين ما يعقد الرجل على المرأة، حتى وإن هلك في نفس مجلس العقد قبل أن يجتمع بها فإنها ترثه، ولو هلكت هي في
مجلس العقد فإنه يرثها، إذاً يثبت التوارث بمجرد العقد، وينتهي بالبينونة، فلو طلق الرجل زوجته وانتهت العدة ثم مات لا يبقى التوارث، ولو طلق زوجته ومات وهي في العدة فالإرث باقٍ.
وهل يشترط الخلوة أو الدخول؟ لا.
مثال: رجل تزوج امرأة بدون ولي ثم مات فهل ترثه؟ لا؛ لأن النكاح غير صحيح، النكاح فاسد.
مثال آخر: رجل تزوج امرأة وبعد موته تبين أنها أخته من الرضاعة فلا ترث؛ لأن النكاح باطل، والفرق بين النكاح الفاسد والباطل، أن النكاح الفاسد ما اختلف العلماء فيه، والباطل ما أجمعوا على بطلانه، فنكاح الأخت من الرضاعة باطل؛ لأن العلماء مجمعون عليه، والنكاح بلا ولي فاسد؛ لأن العلماء مختلفون فيه، وعليه فلا توارث في نكاح فاسد ولا في نكاح باطل.
وقوله: «وولاء» وهو الاتصال بين إنسانين بسبب العتق، ويورث به من جانب واحد وهو الجانب الأعلى وهو المعتِق، فالمعتِق يرث عتيقَه، والعتيق لا يرث معتِقَهُ، والنكاح يورث به من الجانبين، والرحم تارة من جانبين وتارة من جانب واحد، فابن الأخ يرث عمته وهي لا ترثه، لأنها من ذوي الأرحام، فالورثة ثلاثة أقسام ـ سبحان الله ـ هذا العلم يمكن أن نقول: ثلاثي، أسبابه ثلاثة، موانعه ثلاثة، شروطه ثلاثة، أقسام الميراث به ثلاثة ـ أيضاً ـ.
قوله: «والورثة ذو فرض وعصبة ورحم» فذو الفرض كل من لهم نصيب مقدر شرعاً وسيذكرهم المؤلف رحمه الله، والعاصب من يرث بلا تقدير، ولهذا إذا انفرد أخذ المال كله بجهة واحدة، وإذا
كان معه صاحب فرض أخذ ما بقي، وإذا استغرقت الفروض التركة سقط؛ لأنه يرث بلا تقدير، وذو الرحم كل من يرث بغير فرض ولا عصب، وسيأتي ـ إن شاء الله ـ ذكر هذا مفصلاً.
فَذُو الفَرْضِ عَشَرَةٌ: الزَّوْجَانِ، وَالأَبَوَانِ، وَالجَدُّ وَالجَدَّةُ وَالبَنَاتُ، وَبَنَاتُ الابْنِ، وَالأَخَوَاتُ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ، وَالإخْوَةُ مِنَ الاُمِّ،
…
قوله: «فذو الفرض عشرة» يعني أصحاب الفرض عشرة.
الأول والثاني: قوله: «الزوجان» يعني الزوج والزوجة.
الثالث والرابع: قوله: «والأبوان» يعني الأم والأب، لكن هذا من باب التغليب، كما يقال: القمران للشمس والقمر، ويقال: العُمَرَان لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
الخامس والسادس: قوله: «والجد والجدة» لكن بشرط في الجد ألا يكون بينه وبين الميت أنثى، فأبو الأب يرث، وأبو أبي الأب يرث؛ لأنه ليس بينه وبين الميت أنثى، وأبو الأم لا يرث؛ لأنه بينه وبين الميت أنثى.
والجدة يشترط لإرثها شرطان:
الأول: ألا يكون بينها وبين الميت ذكر مسبوقٌ بأنثى، مثال ذلك: جدة أدلت بأبي أم لا ترث؛ لأنها أدلت بذكر مسبوق بأنثى.
الثاني: ألا تدلي بأب أعلى من الجد على المشهور من المذهب، وهذا الشرط فيه خلاف، مثال ذلك: أم أب ترث؛ لأنها أدلت بأب فترث من ولده لصلبه، أم أبي الأب فأدلت بالجد فترث، أم أبي أبي الأب، هذه لا ترث على المذهب، لأنها أدلت بأب أعلى من الجد، فالقاعدة أن أمهات الأب وإن علون أمومة وارثات، وأمهات الجد وإن علون أمومة وارثات، وأمهات أبي الجد، وإن علون أمومة غير وارثات، لكن هذا الشرط ضعيف،
والصواب أن أمهات الجد وارثات وإن علون أمومة؛ لأنهن مدليات بوارث، ومن أدلى بوارث من الأصول فهو وارث، وبناء على هذا القول الراجح يكون الشرط في إرث الجدة واحداً فقط، وهو ألا تدلي بذكر مسبوق بأنثى، وعلى هذا فأم أم أم أم أم أم أب ترث.
السابع والثامن: قوله: «والبنات وبنات الابن» البنات للصلب يرثن، وبنات الابن يرثن، وبنات البنت لا يرثن، قال الشاعر:
بنونا بنو أبنائِنا وبناتُنا
بَنُوهُنَّ أبناءُ الرجالِ الأباعدِ
فالضابط في ميراث الفروع ألا يدلي أحد بأنثى، سواء كان ذكراً أم أنثى، فمن أدلى بأنثى فلا ميراث له، فبنت ابن ابن ابن ابن ابن ابن ترث، وبنت بنت لا ترث؛ لأنها أدلت بأنثى.
التاسع: قوله: «والأخوات من كل جهة» وهل هناك جهات؟ نعم قد تدلي بجهتين أو بجهة، إما من قِبَل الأب وإما من قِبَل الأم، فالأخت الشقيقة من جهتين؛ لأن الأخت الشقيقة أمها أمك وأبوها أبوك، والأخت لأب من جهة واحدة، والأخت من الأم من جهة واحدة، فالأخت لأب هي التي يجمع بينك وبينها الأب دون الأم، والأخت من الأم هي التي يجمع بينك وبينها الأم دون الأب.
العاشر: قوله: «والإخوة من الأم» أي: الذكور، أما الأخوات من الأم فداخلات في قول المؤلف «والأخوات من كل جهة» .
بدأ المؤلف رحمه الله يفصل الميراث، وما سلكه الفقهاء من كونهم يذكرون الوارث ويذكرون أحواله أحسن مما
سلكه الفرضيون، فالفرضيون رحمهم الله يذكرون الفروض وأصحابها فيقولون مثلاً: النصف يرثه خمسة، ثم يذكرونهم، وهذا يشتت ذهن الطالب، لكن الفقهاء سلكوا مسلكاً آخر، يذكرون الإنسان ويذكرون أحواله في الإرث، والموافق للقرآن كلام الفقهاء؛ لأنه يذكر الوارث ويذكر أحواله.
فَلِلزَّوْجِ النِّصْفُ، وَمَعَ وُجُودِ وَلَدٍ أَوْ وَلَدِ ابنٍ وَإِنْ نَزَلَ الرُّبُعُ، ولِلزَّوْجَةِ فَأَكْثَرَ نِصْفُ حَالَيْهِ فِيهِمَا،
قوله: «فللزوج النصف ومع وجود ولد أو ولد ابن وإن نزل الرُّبُع» الزوج ينحصر ميراثه في النصف أو الربع لا ثالث لهما، فإن وجد فرع وارث فله الربع، وإن لم يوجد فله النصف لقوله تعالى:{وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ} [النساء: 12]، والآية واضحة وصريحة، فلو هلكت امرأة عن زوج وأخ شقيق، فللزوج النصف لعدم الفرع الوارث.
ولو هلكت امرأة عن زوج وابن ابن، فللزوج الربع لوجود الفرع الوارث.
ولو هلكت امرأة عن زوج وابن بنت، فللزوج النصف؛ لأن الفرع غير وارث.
قوله: «وللزوجة فأكثر نصف حاليه فيهما» قد يموت الإنسان عن زوجة واحدة أو عن زوجتين أو ثلاث أو أربع، إذاً الزوجة الواحدة كالأربع لها «نصف حاليه» أي: نصف حال الزوج «فيهما» أي: في الحالين، فمثلاً إذا مات الزوج وله فرع وارث، أولاد، أو أولاد ابن، فلزوجته الثمن، وللثنتين والثلاث والأربع
الثمن، وإذا هلك هالك عن زوجة وأخ شقيق، فللزوجة الربع لعدم وجود فرع وارث، والدليل قوله تعالى:{وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ} [النساء: 12]، الحمد لله الذي فرض هذا، فلولا هذه الفريضة من الله عز وجل لبقي الناس في مشاكسة ونزاع لا نهاية له، لكن الله ـ جل وعلا ـ تولى ذلك بنفسه، هذا له الربع، هذا له الثمن، هذا له النصف.
وَلِكُلٍّ مِنَ الأَبِ وَالجَدِّ السُّدُسُ بِالفَرْضِ مَعَ ذُكُورِ الوَلَدِ أَوْ وَلَدِ الابْنِ، وَيَرِثَانِ بِالتَّعْصِيبِ مَعَ عَدَمِ الوَلَدِ وَوَلَدِ الابْنِ، وَبِالفَرْضِ وَالتَّعْصِيبِ مَعَ إِنَاثِهِمَا .............
قوله: «ولكل من الأب والجد السدس بالفرض مع ذكور الولد أو ولد الابن، ويرثان بالتعصيب مع عدم الولد وولد الابن، وبالفرض والتعصيب مع إناثهما» ، «الجد» أي: الذي ليس بينه وبين الميت أنثى؛ لأن الذي بينه وبين الميت أنثى لا يرث.
فللجد والأب ثلاث حالات:
الأولى: أن يوجد ذكور من الفروع، الثانية: أن يوجد إناث من الفروع، الثالثة: ألا يوجد أحد من الفروع.
ففي الحال الثالثة: إذا لم يكن مع أحدهما أحد من الفروع فإنه يرث بالتعصيب ولا يرث بالفرض.
مثال ذلك: هلك هالك عن زوجة وأب، للزوجة الربع وللأب الباقي؛ لأنه عاصب.
هلك عن أخ شقيق وأب، للأب كل المال؛ لأنه عاصب والعاصب يرث بلا تقدير، وفي الحال الثانية: إذا كان مع الأب
أو الجد إناث فقط من الفروع، فإنه يرث بالفرض وبالتعصيب، مثاله: هلك هالك عن بنتين وأب، للبنتين الثلثان والباقي نقول: للأب السدس فرضاً والباقي بالتعصيب.
هل يصح أن أقول: والباقي للأب؟
الجواب: لو كان الذي يسأل عامياً، وقال: توفي رجل عن بنتين وأب، يحسن أن أقول: للبنتين الثلثان وللأب الباقي؛ لأنك لو قلت له: للبنتين الثلثان وللأب السدس فرضاً والباقي تعصيباً، أشغلته، ما معنى هذا الكلام؟!
ولماذا حافظنا على أن نقول: السدس فرضاً والباقي تعصيباً؟ للآية الكريمة، قال الله تعالى:{وَلأَِبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 11]، والمراد هنا بالولد الذكر والأنثى؛ لأن الولد في اللغة وفي الشرع ـ أيضاً ـ يطلق على الذكر والأنثى، فإذا كان الله يقول: له السدس إن كان له ولد، فيجب أن نقول: له السدس فرضاً، وكيف نقول: الباقي تعصيباً؟ نقول ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر»
(1)
، ألحقنا الفرائض بأهلها للبنتين الثلثان وللأب السدس بقي سدس، يأخذه أولى رجل ذكر وهو الأب؛ فلذلك نحافظ على لفظ النص في هذا الباب، والجد مثل الأب تماماً، ولهذا قال: «ولكل من الأب والجد السدس بالفرض
…
إلخ».
فالأب والجد سواء، يرثان بالفرض تارة، وبالتعصيب تارة، وبهما تارة.
(1)
سبق تخريجه ص (209).
فَصْلٌ
وَالجَدُّ لأَبٍ وَإِنْ عَلَا مَعَ وَلَدِ أبوين أَوْ أَبٍ كَأَخٍ مِنْهُمْ،
...........
هذا الفصل عقده المؤلف لميراث الجد مع الإخوة، واعلم أن القول الصحيح أن الإخوة لا يرثون مع الجدّ، وحينئذٍ كل هذا الفصل الذي ذكره المؤلف لا حاجة إليه، وهذا القول ـ أعني أن الإخوة لا يرثون مع الجد ـ هو ظاهر الأدلة، وهو ـ أيضاً ـ مروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه وثلاثة عشر من الصحابة
(1)
، وهؤلاء لا شك أن قولهم حجة لا سيما أنه موافق للأدلة، فالله ـ تعالى ـ سمَّى الجد أباً، قال الله تعالى يخاطب هذه الأمة:{مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78]، وقال تعالى:{وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} [يوسف: 38]، يقول هذا يوسف، ويعقوب أبوه، وإسحاق جده، وإبراهيم جد أبيه ـ عليهم الصلاة والسلام ـ.
ثم أين الدليل من الكتاب أو السنة على هذه التفاصيل في ميراث الجدة والإخوة؟! لأنها مسائل تفصيل وتنويع فتحتاج إلى دليل، والله عز وجل يقول:{وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ}
(1)
أخرج البخاري في صحيحه معلقاً بصيغة الجزم في الفرائض/ باب ميراث الجد مع الأب والإخوة عن أبي بكر وابن عباس وابن الزبير رضي الله عنهم أنهم قالوا: الجد أب. وقد وصل أثر أبي بكر رضي الله عنه الدارمي في سننه في الفرائض/ باب قول أبي بكر في الجد (2903).
قال الحافظ في الفتح: إسناده صحيح (12/ 20)، وأسنده أيضاً البخاري عنه في نفس الموضع (6738).
وقال البخاري تحت الباب السابق: «ولم يذكر أن أحداً خالف أبا بكر في زمانه وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم متوافرون» ، وقال الحافظ في الفتح (12/ 21) ط/الريان: «وممن جاء عنه التصريح بأن الجد يرث ما كان يرث الأب عند عدم الأب معاذ، وأبو الدرداء، وأبو موسى، وأبي بن كعب، وعائشة وأبو هريرة
…
».
[الأنعام: 119]، ويقول عز وجل:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89]، وإذا كان الله ـ تعالى ـ ذكر أحوال الأم وهي ثلاثة فقط، فكيف لا يذكر أحوال الجد وهي خمسة؟! وهذا من أكبر الأدلة على ضعف هذا القول، إذن الصحيح هو أن الجد بمنزلة الأب، لكنه يختلف عن الأب في مسألة واحدة، وهي مسألة العمريتين فإنه ليس كالأب، فزوجة وأم وجد، للزوجة الربع وللأم الثلث والباقي للجد، وزوج وأم وجد، للزوج النصف وللأم الثلث والباقي للجد، فهذه المسألة يخالف فيها الجدُ الأبَ فليس كالأب، والفرق ظاهر أن الجد أبعد من الأم مرتبة، ولا يمكن للأبعد أن يزاحم الأقرب، فنعطي الأم فرضها كاملاً ونقول: للجد ما بقي، بخلاف الأم مع الأب فهم سواء.
قوله: «والجدُّ لأب وإن علا مع ولد أبوين أو أب» ، الأخُ من الأم يسقط مع الجد، ولهذا قال:«مع ولد أبوين أو أب» ، وولد الأبوين هو الأخ الشقيق، والولد لأب هو الأخ لأب.
قوله: «كأخ منهم» ، ولو أن المؤلف قال:«والجد لأب وإن علا مع الإخوة الأشقاء أو لأب كأخ منهم» كان أوضح من قوله: «ولد أبوين» ، لكن على كل حال المتناهي في الطلب يعرف أن ولد الأبوين هم الإخوة الأشقاء، فالجد كأخ منهم، فإذا هلك هالك عن جد وأخ شقيق فهو كالأخ يأخذ واحداً النصف، ولو وجد أخوان شقيقان يأخذ الثلث، لكن إذا كان كأخ منهم وكانت المقاسمة تنقصه عن ثلث المال، كجدٍّ وثلاثة إخوة أشقاء، فلو قلنا: كأخ منهم يأخذ الربع فماذا نصنع؟ الجواب: يقول المؤلف:
فَإِنْ نَقَصَتْهُ المُقَاسَمَةُ عَنْ ثُلُثِ المَالِ أُعْطِيَهُ، وَمَعَ ذِي فَرْضٍ بَعْدَهُ الأَحَظُّ مِن المُقَاسَمَةِ، أَوْ ثُلُثُ مَا بَقِيَ، أَوْ سُدُسُ الكُلِّ،
........
«فإن نقصته المقاسمة عن ثلث المال أُعْطِيَهُ» أي: يعطى ثلث المال والباقي للإخوة، وهذا أول تناقض!! فإذا هلك هالك عن جد وأخوين فالمال بينهم أثلاثاً، وجدٍّ وثلاثة إخوة المال بينهم أرباعاً، وإذا كان أرباعاً نقص عن الثلث، والجد إذا لم يكن معهم صاحب فرض لا يمكن أن ينقص عن الثلث، فيأخذ ثلث المال والباقي للإخوة الثلاثة يتقاسمونه.
وجد وأخت شقيقة، يأخذ ثلثين؛ لأنه كالأخ، كما لو هلك هالك عن أخ شقيق وأخت شقيقة فللذكر مثل حظ الأنثيين، إذن إذا لم يكن معهم صاحب فرض، فميراثه إما المقاسمة وإما ثلث المال وسيختار الأكثر، فإذا قدر أن هذا الميت مات عن جد وأخ شقيق وخلف ثلاثين مليوناً، إن أخذ ثلث المال فعشرة ملايين، وإن قاسم أخذ خمسة عشر مليوناً وهذا أحسن، إذن نقول: إذا كانت المقاسمة أكثر سيختار المقاسمة، وضابطها: أن يكون الإخوة أقل من مثليه، فمتى كانوا أقل من مثليه فالمقاسمة أحظ، وإذا كانوا أكثر فثلث المال، وإذا كانوا مثليه استوى له الأمران.
قوله: «ومع ذي فرض بعده» إذا كان معه صاحب فرض أخذ نصيبه «بعده» ، أي: بعد صاحب الفرض.
قوله: «الأحظ من المقاسمة، أو ثلث ما بقي أو سدس الكل» هذه ثلاثة أحوال، إذا كان معه صاحب فرض نعطي صاحب الفرض حقه، ثم نقول في الباقي: أنت أيها الجد اختر سدس المال، أو ثلث الباقي، أو المقاسمة، فإذا هلك هالك عن زوجة وجد وأخوين شقيقين، فالمسألة من أربعة، للزوجة الربع واحد، والباقي من المال ثلاثة من أربعة، نقول للجد: اختر سدس
المال أو المقاسمة أو ثلث الباقي، فما هو الأحظ له؟ يستوي له المقاسمة وثلث الباقي؛ لأنه إن قاسم الأخوين أخذ واحداً من ثلاثة، وإن أخذ ثلث الباقي فالباقي ثلاثة وثلثه واحد.
ولو هلك هالك عن زوجة وجد وأخت شقيقة، فالمسألة من أربعة للزوجة الربع واحد، والباقي ثلاثة وعندنا جد وأخت شقيقة فالأفضل له المقاسمة؛ لأنه لو قاسمها سيأخذ اثنين من الباقي ولها واحد.
هلك هالك عن بنتين وجد وأخ شقيق، فالمسألة من ستة: البنتان لهما الثلثان أربعة، ويبقى اثنان، نقول للجد: اختر سدس المال، أو ثلث الباقي أو المقاسمة، فيستوي له المقاسمة والسدس؛ لأنه لو قاسم لأخذ واحداً، ولو قلنا: سدس المال أخذ واحداً.
هلك عن بنتين وجد وأخوين شقيقين، المسألة من ستة: للبنتين الثلثان أربعة بقي اثنان فالأحسن للجد السدس؛ لأنه لو قاسم لأتاه ثلث الباقي وهو أقل من واحد، وإذا أخذ سدس المال أخذ واحداً.
هلك هالك عن بنتين وأم وجد وأخوين شقيقين، فالمسالة من ستة: البنتان لهما الثلثان أربعة والأم السدس واحد، باقي واحد، فالأحسن سدس المال يأخذه، والإخوة الأشقاء ليس لهم شيء ـ سبحان الله ـ أنتم تقولون: الجد كالأخ ثم تطردون
الإخوة!! هذا مما يدل على تناقض هذا القول، ولذلك كلما تأمل الإنسان هذا القول ازداد ضعفه عنده، وأنه لا دليل عليه.
فالضابط أنه إذا أخذ صاحب الفرض حقه ولم يبق إلا السدس فهو للجد، وإذا أخذ صاحب الفرض فرضه ولم يزد على النصف وبقي النصف استوى للجد سدس المال وثلث الباقي؛ لأن ثلث النصف سدس الكل.
هلكت امرأةٌ عن زوجها وجدها وأخويها الشقيقين، المسألة من ستة: للزوج النصف ثلاثة، والباقي ثلاثة نقول للجد: خذ ثلث الباقي، أو سدس المال، أو قاسم فما الأحظ له في هذا؟ تستوي الثلاثة؛ لأنه إن أخذ واحداً من الثلاثة باعتباره السدس فهو سدس، إن أخذ واحداً منها باعتبار ثلث الباقي فهو ثلث الباقي، وإن أخذ واحداً بالمقاسمة فهو نصيبه بالمقاسمة؛ لأن معه أخوين.
فالخلاصة في ميراث الجد مع الإخوة، إذا لم يكن معهم صاحب فرض، إما مقاسمة أو ثلث المال، وإذا كان معهم صاحب فرض فأعط صاحب الفرض حقه، ثم قل للجد والإخوة: الباقي بينكم، ولكن الجد يخير بين سدس المال، أو ثلث الباقي، أو المقاسمة.
فَإِنْ لَمْ يَبْقَ سِوى السُّدُسِ أُعْطِيَهُ، وَسَقَطَ الإِخْوَةُ إِلاَّ فِي الأَكْدَرِيَّةِ،
......
قوله: «فإن لم يبق سوى السدس أعطيه، وسقط الإخوة إلا في الأكدرية» ، الأكدرية
(1)
هي زوج وأم وجد وأخت شقيقة، المسألة
(1)
أخرجها الدارمي في الفرائض/ باب الأكدرية (2931) عن زيد بن ثابت رضي الله عنه موقوفة عليه.
من ستة: للزوج النصف ثلاثة، وللأم الثلث اثنان، بقي السدس، والقاعدة التي فهمناها أنه إذا لم يبق إلا السدس أخذه الجد وسقط الإخوة، لكن هنا نقول: للجد السدس وللأخت النصف ثلاثة، فيفرض لها مع الجد وتعول لتسعة، ثم بعد ذلك يرجع الجد على الأخت، ويقول: أنت أخذت ثلاثة وأنا أخذت واحداً، وأنا كالأخ، فنقسم نصيبنا وهو أربعة بيننا، للذكر مثل حظ الأنثيين، فهذه المرأة ورثت بالفرض أولاً ثم بالتعصيب ثانياً، اقسم أربعة على ثلاث؛ لأن الجد رأسان لا ينقسم ويباين؛ لأن كل عددين متواليين فهما متباينان، هذه قاعدة في أصول المسائل، وإذا كان مبايناً اضرب رؤوسهما ثلاثة في تسعة أصل المسألة تبلغ سبعة وعشرين ومنها تصح، للزوج ثلاثة في ثلاثة تسعة، وللأم اثنان في ثلاثة ستة والباقي اثنى عشر، للجد ثمانية والأخت أربعة، ولهذا يلغز بها، فيقال: مسألة ورث الأول الثلث، والثاني ثلث ما بقي، والثالث ثلث ما بقي، والرابع ـ وهو الجد ـ ما بقي.
وسميت بالأكدرية، قيل: لأنه سأل عنها رجل اسمه أكدر، وقيل: إن الزوج فيها اسمه أكدر، وقيل: لأنها كدرت أصول زيد بن ثابت رضي الله عنه؛ لأن أصوله أنه إذا لم يبق إلا السدس أخذه الجد وسقط الإخوة، ومن أصوله ـ أيضاً ـ أنه لا يعول في مسائل الجد غيرها، فكدرت أصوله فسميت أكدرية.
ولماذا لم تسَمَّ مكدِّرة؟ لأن أكدر اسم تفضيل، وتكديرها للأصول شديد فسميت أكدرية، والحقيقة أنها كدرت أصول زيد بن
ثابت رضي الله عنه وكدرت أصول الفرائض كلها؛ لأنه لا يوجد وارث يرث بالفرض أولاً ثم يرث بالتعصيب أبداً؛ فلذلك تعتبر مكدرة لجميع أصول الفرائض.
وقسمة الأكدرية على القول الراجح للزوج النصف، وللأم الثلث والباقي للجد، حتى الأخت الشقيقة إذا لم تورثها أصلاً أهون من أن تعطيها ميراثها ثم ترجع عليها، وإذا فرضنا أن التركة ستة ملايين، للزوج ثلاثة ملايين النصف، وللأم مليونان، وللجد مليون وللأخت ثلاثة ملايين تعول المسألة إلى تسعة، بعد ما جاءها ثلاثة ملايين عاد عليها الجد، وقال: ضمي نصيبك إلى نصيبي تكون أربعة ملايين، ثم بعد ذلك نقول: لكِ ثلث الأربعة وللجد ثلثان!! فعلى كل حال ـ الحمد لله ـ القول الصحيح مطرد وليس فيه شيء يناقض شيئاً آخر، فالقول الصحيح أن الجد مسقط للإخوة كلهم الأشقاء أو لأب أو لأم، الذكور والإناث.
وَلَا يَعُولُ وَلَا يُفْرَضُ لأُخْتٍ مَعَهُ إِلاَّ بِهَا، وَوَلَدُ الأَبِ إِذَا انْفَردُوا مَعَهُ كَوَلَدِ الأَبَوَيْنِ،
يقول المؤلف في بيان ما خالفت به الأكدرية مسائل الجد: «ولا يعول ولا يفرض لأخت معه إلا بها» ، يعني لا يعول في مسائل الجد والإخوة شيء إلا في الأكدرية، ولا يفرض للأخت ابتداء مع الجد إلا في الأكدرية.
وقولنا: «ابتداء» احترازاً من مسألة المعادَّة، لأن المعادَّة قد يفرض لها مع الجد.
قوله: «وولد الأب إذا انفردوا معه كولد الأبوين» ، ولد الأب يعني الإخوة من الأب «إذا انفردوا معه» ، أي: مع الجد «كولد
الأبوين» على التفصيل السابق، إذا لم يكن معهم ذو فرض فميراث الجد، إما المقاسمة أو ثلث المال، وإذا كان معهم صاحب فرض فميراث الجد بعد أخذ صاحب الفرض نصيبه، إما ثلث الباقي، أو سدس المال، أو المقاسمة.
فَإِنْ اجْتَمَعُوا فَقَاسَمُوهُ أَخَذَ عَصَبَةُ وَلَدِ الأَبَوَيْنِ ما بِيَدِ وَلَدِ الأَبِ، وَأُنْثَاهُمْ تَمَامَ فَرْضِهَا، وَمَا بَقِيَ لِوَلَدِ الأَبِ.
قوله: «فإن اجتمعوا فقاسموه أخذ عصبةُ ولدِ الأبوين ما بيد ولد الأب» ، إذا اجتمعوا يعني مع ولد الأبوين، بأن كان إخوة أشقاء وإخوة لأب «فقاسموه» ، أفادنا المؤلف رحمه الله أنهم إذا اجتمعوا يقاسمونه كأنهم كلهم أشقاء، فإذا قاسموه وأخذ نصيبه، عاد الإخوة الأشقاء إلى الإخوة من الأب ليقاسموهم كأنه مات عنهم.
مثال ذلك: هلك هالك عن جد وأخ شقيق وأخوين لأب، فميراث الجد في هذه المسألة الثلث، بعد هذا نقدر كأن الميت مات عن أخ شقيق وأخوين لأب، فالميراث للأخ الشقيق، والأخوان لأب يسقطان، إذاً صار في هذه المسألة للأخ الشقيق اثنان، وللجد واحد.
قوله: «وأنثاهم تمام فرضها وما بقي لولد الأب» ، أي أن أنثى الإخوة الأشقاء تأخذ تمام فرضها وما بقي فلولد الأب، وإذا كانت أختان شقيقتان أخذتا تمام الفرض وما بقي فلولد الأب، ولا يمكن مع أختين شقيقتين أن يبقى للإخوة لأب شيء؛ لأنهما سيرثان الثلثين والثلث أخذه الجد، ولا يبقى شيء، لكن يتصور هذا في الواحدة.
مثال ذلك: هلك هالك عن جد وأخوين من أب وأخت شقيقة.
للجد الثلث، بقي عندنا اثنان للأخت الشقيقة النصف، لها من الاثنين واحد ونصف يعني نصف الثلاثة فيبقى نصف ـ أي: سدس المال ـ يكون للأخوة لأب، وهذا معنى قوله:«وأنثاهم تمام فرضها وما بقي لولد الأب» .
فإن كان جد وأختان شقيقتان وأخوان من أب، فهنا ميراث الجد الثلث، والأختان الشقيقتان الثلثان، ولم يبق للأخوة لأب شيء.
والقول الصحيح أن الجد أب يسقط الإخوة كلهم ـ والحمد لله ـ، وهذا هو القول الذي إذا تأمله الإنسان وجد أنه هو القول المتعين؛ لأنه لو كانت هذه التفاصيل من شريعة الله لكان في بيان القرآن والسنة نقص، فالكتاب من فاتحته إلى خاتمته لا يوجد فيه هذا التفصيل، واقرأ السنة حديثاً حديثاً لا تجد فيه هذا التفصيل، ولو كان هذا التفصيل من شريعة الله ما تركه الله عز وجل، ولا تركه رسوله صلى الله عليه وسلم ويكفي هذا في إبطال هذا القول، وفي تعين القول الصحيح الذي لا يسوغ للناظر أن يتعداه إلى غيره؛ لأنه واضح.
فَصْلٌ
وَلِلأُمِّ السُّدُسُ مَعَ وَلَدٍ أَوْ وَلَدِ ابْنٍ، أَوْ اثْنَيْنِ مِنْ إِخْوَةٍ أَوْ أَخَوَاتٍ، وَالثُّلُثُ مَعَ عَدَمِهِمْ، والسُّدُسُ مَعَ زَوْجٍ وَأَبَوَيْنِ، وَالرُّبُعُ مَعَ زَوْجَةٍ وَأَبَوَيْنِ، وَلِلأَبِ مِثْلَاهُمَا .....
قوله: «وللأم السدس مع ولدٍ أو ولد ابنٍ، أو اثنين من إخوة أو أخوات، والثلث مع عدمهم، والسدسُ مع زوجٍ وأبوين، والربعُ مع زوجةٍ وأبوين، وللأب مثلاهما» ، الأم لها ثلاث حالات، ترث السدس فقط مع ولد، أو ولد ابن، أو اثنين من إخوة أو أخوات فأكثر، يعني إذا وجد فرع وارث وهو المراد بقوله:«مع ولد أو ولد ابن» فإنها ترث السدس، فترث الأمُ السدسَ مع وجود الفرع الوارث، والفرع الوارث كل من لم يُدْلِ بأنثى.
مثال ذلك: هلك هالك عن أم وابن، للأم السدس والباقي للابن تعصيباً.
هلك هالك عن أم وبنت وعم، للأم السدس؛ لوجود فرع وارث، والبنت لها النصف، والباقي للعم.
وترث الثلث مع عدم الفرع الوارث والجمع من الإخوة.
هلك هالك عن أم وأخ شقيق، للأم الثلث؛ ولهذا قال:«والثلث مع عدمهم» .
الخلاصة: إذا وجد مع الأم فرع وارث ولو واحداً فلها السدس، وإذا وجد معها اثنان فأكثر من الإخوة أو الأخوات فلها السدس، وإذا لم يوجد فلها الثلث إلا في العُمَرِيَّتين وستأتي.
هلك هالك عن أم وأخوين من أم وعم، للأم السدس لوجود أخوين، وهذا من غرائب العلم، الأخوان من الأم يدليان بالأم ويحجبانها، وأيضاً هذه الواسطة التي هي الأم لا تحجبهما، والقاعدة في الفرائض أن من أدلى بواسطة حجبته تلك الواسطة إلا الأخوة من الأم، وإلا أم الأب مع الأب.
وقوله: «والسدس مع زوج وأبوين والربع مع زوجة وأبوين وللأب مثلاهما» ، هذا التعبير غير صحيح وهو تساهل كبير جداً من المؤلف رحمه الله؛ لأنه لم يرد في القرآن ولا في السنة أن الأم لها الربع أبداً، الأم إما لها الثلث وإما السدس، هذا الذي في القرآن، والصواب أن نقول: وثلث الباقي مع زوج وأب، أو زوجة وأب.
مثال الأولى: إذا كان معها زوج وأب، فالمسألة من ستة للزوج النصف ثلاثة، لعدم الفرع الوارث، والباقي ثلاثة، لها ثلث الباقي واحد، والباقي للأب، وحقيقة ثلث الباقي السدس، والمؤلف قال «سدس» لكن نحن لا نوافق المؤلف على هذا التعبير، بل نقول: ثلث الباقي.
مثال الثانية: إذا هلك زوج عن زوجته وأمه وأبيه، فالمسألة من أربعة، للزوجة الربع واحد لعدم الفرع الوارث، وللأم ثلث الباقي واحد، وهو في الحقيقة الربع، لكن لا نعبر بالربع؛ لأن الله لم يعبر به لها، والباقي للأب.
فصار ميراث الأم إما الثلث يعني ثلث المال كله، وإما السدس، وإما ثلث الباقي في مسألتين فقط زوج وأم وأب، أو
زوجة وأم وأب، فإذا قال قائل: ما الدليل على أن ميراث الأم بهذه الحال؟
الجواب: قول الله عز وجل: {وَلأَِبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُِمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11]، فبيَّن الله عز وجل أن للأبوين السدس مع الولد، وأن للأم السدس مع الإخوة، فإذا قال قائل: ما دليلكم على ثلث الباقي، هل في القرآن ثلث الباقي؟
الجواب: لا، لكن دليلنا النص والقياس، النص عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه
(1)
، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه له سنة متبعة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين»
(2)
، ويقول:«إن كان فيكم مُحَدَّثون فعمر»
(3)
، وإذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام أحالنا على عمر رضي الله عنه صار ما يحكم به ثابتاً بالنص، لكن ليس
(1)
أخرجه الدارمي في الفرائض/ باب في زوج وأبوين، وامرأة وأبوين (2758) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن عمر قضى بذلك.
(2)
أخرجه الإمام أحمد (4/ 126)؛ وأبو داود في السنة/ باب في لزوم السنة (4606)؛ والترمذي في العلم/ باب ما جاء في الأخذ بالسنَّة (1676)؛ وابن ماجه في المقدمة/ باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين (42) عن العرباض بن سارية، قال الترمذي: حسن صحيح، وصححه ابن حبان (5) والحاكم (1/ 96).
(3)
أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء/ باب حديث الغار (3469) عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ ومسلم في فضائل الصحابة/ باب من فضائل عمر رضي الله عنه (2398) عن عائشة رضي الله عنها.
النص المباشر، بل على طريق أنه أحد الخلفاء الراشدين، فكان قوله متبوعاً بأمر النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما القياس، فإذا أخذ الزوج نصيبه انفردت الأم والأب بما بقي، وإذا انفردت الأم والأب بالمال كُلِّهِ تأخذ الثلث لعدم الفرع الوارث ولعدم الإخوة، فالآن انفردت الأم والأب بما بقي بعد فرض الزوج فنعطيها ثلث ما انفردا به، كما أنهما لو انفردا بالمال كله أعطيناها ثلث المال، إذاً هذا قياس واضح، وأيضاً القاعدة الغالبة في الفرائض أنه إذا اجتمع ذكر وأنثى في درجة واحدة فإن للذكر مثل حظ الأنثيين.
فتبين ـ والحمد لله ـ أن هاتين المسألتين هما ما قضى به عمر رضي الله عنه، ولهذا تسمى هاتان المسألتان بالعمريتين نسبة إلى عمر رضي الله عنه؛ لأنه أول ما وقعتا في زمانه رضي الله عنه وقضى بهما على هذا الوجه.
فإن قال قائل: الآية الكريمة تبين أنه إذا لم يكن فرع وارث أو عدد من الإخوة أن للأم الثلث، قلنا: لا؛ لأن الله لم يجعل لها الثلث إلا فيما إذا ورثه أبواه حيث قال: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} ، فلا بُدَّ أن نعتبر هذا الشرط، وفي العمريتين ورثه أبواه ومعهما غيرهما، إذاً فلا تخالف القرآن، وما قضى به عمر رضي الله عنه هو الحق الذي دلت عليه السنة ومفهوم القرآن.
فَصْلٌ
تَرِثُ أُمُّ الأُمِّ وَاُمُّ الأَبِ وَأُمُّ أَبِي الأَبِ وَإِنْ عَلَوْنَ أُمُومَةً السُّدُسَ .........
قوله: «ترث أم الأم وأم الأب وأم أبي الأب وإن علون أمومة السدس» ، أم الأم وإن علت أمومة، أي: أم أم أم أم أم أم أم أم أم أم إلى أن تصل إلى حواء.
وكذلك أم الأب، أم أم الأب، أم أم أم الأب، أم أم أم أم الأب.
كذلك أم أبي الأب، وهو الجد من جهة الأب، أمهاته وإن علون أمومة يرثن السدس، فلا يرث إلا ثلاث جدات، وأما أم أبي أبي الأب، سبق لنا أنها لا ترث على المذهب، وأن القول الراجح أنها ترث.
فالجدات من أسهل ما يكون فرضهن، فلا يمكن أن ترث الجدات الثلث ولا النصف ولا الثلثين، فميراثهن السدس فقط مع الفرع الوارث أو عدم الفرع الوارث، ومع الإخوة وعدم الإخوة ومع العاصب وعدم العاصب، لكن لا يرث من الجدات إلا هذه الثلاث، أم الأم وأم الأب وأم أبي الأب الذي هو جدك من جهة الأب وإن علون أمومة، يعني ما بينهن ذكر أم أم أم أم أم
…
إلخ، أم أم أب
…
إلخ، أم أم أبي الأب
…
إلخ، وأمَّا أم أبي أبي الأب فعلى المذهب لا ترث، والصواب أنها ترث، وأن كل من أدلت بوارث فهي وارثة، هذه قاعدة الفرائض.
فَإِنْ تَحَاذَيْنَ فَبَيْنَهُنَّ، وَمَنْ قَرُبَتْ فَلَهَا وَحْدَهَا، وَتَرِثُ اُمُّ الأَبِ والجَدِّ مَعْهُمَا كَالعَمِّ، وَتَرِثُ الجَدَّةُ بِقَرَابَتَيْنِ ثُلُثَي السُّدُسِ،
..............
قوله: «فإن تحاذين» يعني تساوين في المنزلة.
قوله: «فبينهن» فإذا هلك هالك عن أم أم وأم أب وأم جد فالسدس بين أم الأم، وأم الأب، أما أم الجد فلا ترث؛ لأنها أبعد منهما.
فإذا هلك عن أم أم أم، وأم أم أب وأم جد فالسدس بينهن بالسوية؛ لأنهن متحاذيات.
قوله: «ومن قربت فلها وحدها» أم أم أم، وأم أب، وأم جد كيف الميراث؟ السدس لأم الأب؛ لأنها أقربهن.
فعلى هذا نقول: الجدات ميراثهن السدس، وإن تساوين في المنزلة فبينهن، وإن اختلفن فللقربى منهن، هذا هو الموضع الثاني الذي لا يختلف فيه الميراث بين الواحد والمتعدد، والأول الزوجات.
قوله: «وترث أم الأب والجد معهما» يعني ترث أم الأب مع الأب مع أنها مدلية به، وترث أم الجد معه مع أنها مدلية به، فإذا قال قائل: ما دام أنّ المؤلف أعطانا قاعدة أن أم الأم وأم الأب وأم أبي الأب وإن علون أمومة يرثن بدون شرط، فلماذا ينص على المسألة؟ نقول: نص عليها؛ لأن بعض العلماء خالف في هذا وقال: إن أم الأب لا ترث مع الأب، وأن أم الجد لا ترث مع الجد؛ معللاً ذلك بأن قاعدة الفرائض أن من أدلى بواسطة حجبته تلك الواسطة، إلا الإخوة من الأم فإنهم يرثون مع الأم بالإجماع مع إنهم مدلون بها، ولكننا نقول: الحجب مبني على
الدليل، والقاعدة التي ذكرت صحيحة، إذا كان المدلي ينزل منزلة المدلى به عند عدمه، فالقاعدة أن من أدلى بواسطة حجبته تلك الواسطة بشرط أن يكون المدلي يستحق ما للمُدلى به عند عدمه، فأبو الأب وأم الأب كلاهما في المنزلة سواء، فإذا كان الأب موجوداً، ترث أمه ولا يرث أبوه ـ سبحان الله ـ لأن أم الأب لا تقوم مقامه إذا عدم، ولكن يقوم أبوه ـ وهو الجد ـ مقامه، ولذلك حجب الأبُ الجدَ ولم يحجب الجدةَ، إذاً القاعدة ـ وهي التي تكون عند كثير من العلماء مطلقة ـ أن من أدلى بواسطة حجبته تلك الواسطة إلا الإخوة من الأم، فهذه القاعدة يجب أن تقيد بأن من أدلى بواسطة وكان يقوم مقام هذه الواسطة عند عدمها، فإنه يسقط بها ومن لا فلا، إذاً أم الأب ترث مع الأب، وأم الجد ترث مع الجد، فلو هلك هالك عن أبيه وأم أبيه، فلأم أبيه السدس ولأبيه الباقي؛ لأن أباه يرث بالتعصيب لعدم الفرع الوارث، فهنا ورثت الأم مع الأب مع أنها مدلية به؛ لأنها لا تنزل منزلته عند عدمه.
قوله: «كالعم» يعني كما ترث مع العم بالإجماع، مع أن الجدة التي هي أم الأب هي أم العم، فيقال: إذا كانت ترث مع ابنها الذي هو العم، فكيف لا ترث مع ابنها الذي هو الأب؟! لا فرق.
قوله: «وترث الجدة بقرابتين ثلثي السدس» ويكون للأخرى ثلث السدس، يعني لو اجتمعت جدتان إحداهما تدلي بقرابتين والثانية بقرابة واحدة، فللتي تدلي بقرابتين ثلثا السدس، والثانية لها ثلث السدس.
فَلَوْ تَزَوَّجَ بِنْتَ خَالَتِهِ فَأَتَتْ بِوَلَدٍ فَجَدَّتُهُ أُمُّ أُمِّ أُمِّ وَلَدِهِمَا وَأُمُّ أُمِّ أَبِيهِ، وَإِنْ تَزَوَّجَ بِنْتَ عَمَّتِهِ فَجَدَّتُهُ اُمُّ أُمِّ اُمِّهِ وَأُمُّ أَبي أَبِيهِ.
قوله: «فلو تزوج بنت خالته فأتت بولد فجدَّتُهُ أُمُّ أُمِّ أُمِّ وَلَدِهِما» أي: ولد الزوجة والزوج.
قوله: «وأُمُّ أُمِّ أَبيه» مثال ذلك: رجل تزوج بنت خالته ووُلِدَ له ولد، الولد الآن له جدتان، جدة من جهة أبيه، وجدة من جهة أمه، الجدة التي من جهة أمه تكون للولد أم أم أمه، وتكون أم أم أبيه فترث ثلثي السدس، والجدة الأخرى التي من قبل أبيه فقط ترث ثلث السدس.
قوله: «وإن تزوج بنت عمته فجدَّته أم أم أمه وأم أبي أبيه» هذه واضحة.
فَصْلٌ
والنِّصْفُ فَرْضُ بِنْتٍ وَحْدَهَا، ثُمَّ هُوَ لِبِنْتِ ابْنٍ وَحْدَهَا، ثُمَّ لأُخْتٍ لأَبَوَيْنِ أَوْ لأَبٍ وَحْدَهَا، والثُّلُثَانِ لِثِنْتَيْنِ مِن الجَمِيعِ فَأَكْثَرَ إِذَا لَمْ يُعَصَّبْنَ بِذَكَرٍ،
.....
هذا الفصل عقده المؤلف لبيان ميراث الإناث، البنات، وبنات الابن، والأخوات الشقيقات، والأخوات لأب.
قوله: «والنصف فرض بنت وحدها» يعني إذا مات ميت عن بنت واحدة فلها النصف، فإن كان معها عم فلها النصف، أو معها أب فلها النصف، أو معها أم فلها النصف، إذاً شرط إرث البنت النصف أن تكون وحدها، ليس معها بنت أخرى، ولا معها ابن آخر.
قوله: «ثم هو لبنت ابن وحدها» يعني لو هلك هالك عن بنت ابن وحدها فلها النصف، ولكن هنا نزيد شرطاً ألا يكون فوقها فرع وارث، مثال ذلك:
هلك هالك عن بنت ابن وعن ابن لا ترث النصف؛ لأنه وجد فرع وارث أعلى منها.
هلك هالك عن بنت ابن وبنت لا ترث النصف لوجود فرع وارث أعلى منها.
هلك هالك عن بنت ابن وبنت ابن، ليس لها النصف؛ لأنه لا بد أن تكون وحدها، ولهذا قال:«ثم هو لبنت ابن وحدها» ، وأضفنا شرطاً آخر، وهو ألا يوجد فرع أعلى منها.
قوله: «ثم لأخت لأبوين» يعني إذا لم يوجد إناث من الفروع فالنصف لأخت لأبوين، بشرط أن تكون وحدها.
هلك هالك عن أخت شقيقة وعم فلها النصف.
هلك هالك عن أختين شقيقتين ليس لها النصف؛ لأنها ليست وحدها.
هلك هالك عن أخت شقيقة وأخ شقيق لا تستحق النصف؛ لأن الشرط أن تكون وحدها، وهنا نزيد شرطين: ألا يوجد فرع وارث، ولا أصل من الذكور وارث، إذاً الأخت الشقيقة لا بد أن تكون وحدها، وألا يوجد فرع وارث، ولا أصل من الذكور وارث، والفرع الوارث الابن والبنت وابن الابن وبنت الابن وما أشبه ذلك، والأصل من الذكور الأب والجد وما أشبه ذلك.
لو هلك هالك عن أخت شقيقة وأب فليس لها النصف؛ لوجود أصل من الذكور وارث، ولو هلك عن بنت وأخت شقيقة ليس لها النصف فرضاً لوجود فرع وارث.
قوله: «أو لأب وحدها» أيضاً الأخت لأب إذا كانت وحدها ترث النصف، لكن نزيد ثلاثة شروط ألا يوجد فرع وارث، ولا أصل من الذكور وارث، ولا أحد من الأشقاء.
قوله: «والثلثان لثنتين من الجميع فأكثر إذا لم يُعَصَّبْنَ بذكَر» الثلثان لثنتين فأكثر من البنات، أو بنات الابن، أو الأخوات الشقيقات، أو الأخوات لأب، لكن قال:«إذا لم يُعَصَّبْنَ بذكر» فإن عصبن بذكر فليس لهن النصف، وهنا قاعدة أنه متى استحقت الواحدة النصف في مسألة فالثنتان فأكثر يستحققن الثلثين.
والدليل على ذلك قول الله عز وجل: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي
أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} [النساء: 11]، فقال:{فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} ، ونحن نقول: الثنتان لهما الثلثان، والآية:{فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} ، اقرأ بقية الآية:{وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} مفهومه أن الثنتين ليس لهما النصف، فلا بد أن يزيد عن النصف، ولا يوجد فرض يزيد على النصف إلا الثلثان، إذاً ما زاد على الواحدة فله الثلثان لمفهوم قوله:{وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} .
يبقى عندنا إشكال في كلمة «فوق» ، فقال بعض العلماء: إنها زائدة، وهذا فيه نظر كبير.
أولاً: ليس في القرآن شيء زائد.
ثانياً: لو سلمنا أن في القرآن شيئاً زائداً من الحروف، كالباء في قوله تعالى:{أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36] فإنه لا يمكن أن يكون في القرآن شيء زائد من الأسماء؛ لأن الحرف معناه في غيره وليس معناه في نفسه، فالقول بأن «فوق» زائدة غلط.
وقال بعضهم: إن {فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} لها فائدة عظيمة وهي أن الفرض لا يزيد بزيادتهن؛ لأن ما فوق الثنتين إلى آلاف البنات فرضهن الثلثان، ولا يزيد بزيادتهن، ثم نقول: الأختان جعل الله لهما الثلثين، فالبنتان من باب أولى.
وقوله: «إذا لم يعصبن بذكر» الذكر الذي يعصب الأنثى هو كل ذكر مماثل لها درجة ووصفاً، كابنٍ وبنت، وأخ شقيق وأخت شقيقة، أما ابن وبنت ابن، فالابن ليس معصباً هنا لاختلاف
الدرجة، وأخ شقيق وأخت لأب فالشقيق ليس معصباً لاختلاف الوصف.
وَالسُّدُسُ لِبِنْتِ ابْنٍ فَأَكْثَرَ مَعَ بِنْتٍ، وَلأُخْتٍ فَأَكْثَرَ لأَبٍ مَعَ أُخْتٍ لأَبَوَيْنِ مَعَ عَدَمِ مُعَصِّبٍ فِيهِمَا،
.......
قوله: «والسدس لبنت ابنٍ فأكثر مع بنتٍ ولأختٍ فأكثر لأبٍ مع أختٍ لأبوين» ، السدس لبنت الابن مع البنت، يعني متى ورثت البنت النصف فلبنت الابن السدس، وكذلك للأخت لأب مع الأخت الشقيقة السدس، فمتى ورثت الأخت الشقيقة النصف ورثت الأخت لأب السدس.
فإذا هلك هالك عن بنت وحدها وعن بنت ابن وحدها، فللبنت النصف ولبنت الابن السدس.
هلك هالك عن أخت شقيقة وأخت لأب، ولا فرع وارث، ولا أصل من الذكور وارث، فللأخت الشقيقة النصف، وللأخت لأب السدس.
هنا بنات الابن ليس لهن إلا السدس، سواء كن واحدة أو أكثر، فلو هلك هالك عن بنت واحدة وعشر بنات ابن، فللبنت النصف، ولبنات الابن العَشْرِ السدس، لا يزيد الفرض بزيادتهن.
هلك هالك عن أخت شقيقة وأخت لأب، للأخت لأب السدس، ولو كن عشراً فلهنَّ السدس، لا يزيد الفرض بزيادتهن، أضف هذين الصنفين إلى الصنفين السابقين ممن لا يزيد الفرض بزيادتهن يكن الجميع أربعة، ولهذا يقال: أربعة لا يزيد الفرض بزيادتهن الزوجات، والجدات، وبنات الابن مع البنت، والأخوات لأب مع الأخت الشقيقة.
والدليل على أن الأخوات الشقيقات للواحدة النصف وللثنتين فأكثر الثلثان، قوله تعالى:{يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} ، يعني لا يوجد فرع وارث، {وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} ، وأيضاً لا يوجد أصل من الذكور وارث، {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} [النساء: 176].
والدليل على أن بنت الابن مع البنت لها السدس، قوله تعالى:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} [النساء: 11]، فإذا أخذت البنت النصف يبقى على الثلثين السدسُ، والله عز وجل لم يفرض لإناث الفروع أكثر من الثلثين، ولهذا يجب عند القسم أن نقول: للبنت النصف ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين، والأخوات الشقيقات مع الأخوات لأب، للشقيقة النصف وللأخت لأب السدس، والدليل قوله تعالى:{فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} [النساء: 176]، ولم يذكر زيادة على ذلك، وهذا ـ والحمد لله ـ دليل واضح.
وقعت مسألة وهي: بنت وبنت ابن وأخت شقيقة في عهد عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فجاؤوا يستفتون أبا موسى الأشعري عبد الله بن قيس رضي الله عنه وقالوا: هلك هالك عن بنت وبنت ابن وأخت شقيقة، فقال: للبنت النصف وللأخت الشقيقة الباقي؛ لأن الأخوات الشقيقات مع البنات عصبات، ثم قال للسائل: ائتِ ابن مسعود فسيوافقني على ذلك، للتثبت،
فذهب الرجل إلى ابن مسعود وقال: إنه سأل أبا موسى الأشعري، وقال: للبنت النصف وما بقي فللأخت ولم يعط ابنة الابن شيئاً، وأنه قال: اذهب لابن مسعود فسيوافقني، فقال ابن مسعود: لقد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين، ـ يعني إن تابعته فقد ضللت ـ ولأقضين فيها بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم للبنت النصف، ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين، وما بقي فللأخت
(1)
، فهذا دليل على أن لبنت الابن مع البنت السدس، ولا يزيد الفرض بزيادة بنات الابن؛ لأنه لا يمكن أن نتعدى الثلثين اللَّذَيْنِ جعلهما الله عز وجل للبنتين فأكثر.
وقوله: «ولأخت فأكثر لأبٍ» يعني ثنتين فأكثر، وهنا قال:«ولأخت فأكثر لأب» فقدم أكثر؛ لأنه لو قدم «أب» وقال: لأخت لأب فأكثر؛ لأوهم أن الكثرة بالنسبة للأب، فإن قال قائل: هذا لا يمكن أن يوهم، قلنا: بل يوهم؛ لأن الفقهاء يرون أن الإنسان قد يكون له أبوان، فلهذا رأى المؤلف رحمه الله أن يقدم «فأكثر» على قوله:«لأب» .
قوله: «مع عدم معصب فيهما» أي في الأخوات لأب مع الأخت الشقيقة، وفي بنات الابن مع البنت، فإن وجد معصب ورثن بالتعصيب معه.
فَإِن اسْتَكْمَلَ الثُّلُثَيْنِ بَنَاتٌ أَوْ هُمَا سَقَطَ مَنْ دُوْنَهُنَّ إِنْ لَمْ يُعَصِّبْهُنَّ ذَكَرٌ بِإِزَائِهِنَّ أَوْ أَنْزَلُ مِنْهُنَّ، وَكَذَا الأَخَوَاتُ مِنَ الأَبِ مَعَ الأَخَوَاتِ لأَبَوَيْنِ إِنْ لَمْ يُعَصِّبْهُنَّ أَخُوهُنَّ،
قوله: «فإن استكمل الثلثين بنات أو هما» أي البنت وبنت الابن.
(1)
أخرجه البخاري في الفرائض/ باب ميراث ابنة ابن مع ابنة (6736).
قوله: «سقط من دونهن إن لم يعصبهن ذكر بإزائهن أو أنزل منهن» ، أي إن استكمل الثلثين البنات، بأن هلك هالك عن بنتين وبنت ابن، فبنت الابن تسقط إن لم يعصبها ذكر بإزائها، يعني بدرجتها، أو أنزل منها، وهنا الذكر عَصَّب من ليس بدرجته للضرورة؛ لأنها مضطرة إليه إذ لولا أنه عصبها ما ورثت، فيعصبها على القول الذي عليه الجمهور.
قوله: «وكذا الأخوات من الأب مع الأخوات لأبوين» ، يعني أن الأخوات من الأبوين إذا استغرقن الثلثين سقطت الأخوات لأب.
قوله: «إن لم يعصِّبهن أخوهن» ، هنا قال:«إن لم يعصبهن أخوهن» ، ولم يقل:«إن لم يعصبهن ذكر بإزائهن أو أنزل منهن» ؛ لأن الأخوات لا يعصبهن إلا أخوهن، ولذلك لو هلك هالك عن أختين شقيقتين وأخت لأب وابن أخ لأب، فللأختين الشقيقتين الثلثان والباقي لابن الأخ لأب، والأخت لأب لا ترث؛ لأن المؤلف هنا يقول:«إن لم يعصبهن أخوهن» ، وهذا ليس كبنت الابن مع ابن الابن النازل كما سبق، واتفق جمهور العلماء على هذا الحكم.
والأُخْتُ فَأَكْثَرُ تَرِثُ بِالتَّعْصِيبِ مَا فَضَلَ عَنْ فَرْضِ البِنْتِ فَأَزْيَدَ، ولِلذَّكَرِ أَوِ الأُنْثَى مِنْ وَلَدِ الأُمِّ السُّدُسُ، وَلاِثْنَيْنِ فَأَزْيَدَ الثُّلُثُ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ.
قوله: «والأخت فأكثر ترث بالتعصيب ما فضل عن فرض البنت فأزيد» ، «أزيد» و «أكثر» معناهما واحد هنا، وإن كانت الزيادة تكون في زيادة الشيء الواحد، والأكثر في العدد، لكن المؤلف نَوَّع العبارة،
فالأخت الشقيقة أو لأب ترث بالتعصيب ما فضل عن فرض البنت فأزيد، يعني إذا اجتمع بنات وأخوات شقيقات أو أخوات لأب، فأعطِ البنات نصيبهن، والباقي للأخوات تعصيباً.
مثال: هلك هالك عن بنتين وأختين شقيقتين، للبنتين الثلثان والباقي للأخوات الشقيقات تعصيباً.
هلك عن بنت وأخت شقيقة، للبنت النصف والباقي للأخت الشقيقة تعصيباً، والحاصل أنه متى ورثت البنات ومعهنَّ أخوات شقيقات، فإن الأخوات الشقيقات يكن عصبة مع الغير، ولهذا يقولون: الأخوات مع البنات عصبات، لكن عصبة مع الغير.
ومن هنا أقول: قسم العلماء رحمهم الله العصبة إلى عاصب بالنفس، وعاصب بالغير وعاصب مع الغير، العاصب بالغير أربعة: البنات وبنات الابن والأخوات الشقيقات والأخوات لأب مع ذكَر يساويهن درجة ووصفاً، لقوله تعالى:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] وقوله تعالى: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 176].
العصبة مع الغير صنفان فقط: الأخوات الشقيقات، والأخوات لأب مع البنات أو بنات الابن، لماذا فرق العلماء بين «بالغير» و «مع الغير» ؟ أما «بالغير» فواضح؛ لأن الباء للسببية، أي: كان هؤلاء النساء عصبة بسبب غيرهن، وأما «مع الغير» فليس هناك سبب، لكن هناك معية؛ لأن الأخوات الشقيقات لم يعصبهن بنات ولا رجال، لكن كن عصبة بالمصاحبة والمعية في مسألة واحدة.
والعاصب بالنفس له باب معين سيأتي إن شاء الله.
قوله: «وللذكر أو الأنثى من ولد الأم السدس، ولاثنين فأزيد الثلث بينهم بالسوية» ، دليل ذلك قوله تبارك وتعالى:{وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ} ـ أي تورث كلالة ـ {وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء: 12]، ولم يقل: فإن كانوا أكثر من ذلك فللذكر مثل حظ الأنثيين، بل قال:{فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} ، والمشاركة تقتضي التسوية، كما أن البينية تقتضي ذلك، ولهذا لو وَهَبْتَ جماعةً مالاً وقلت: هو بينكم، يكون بالسوية، الصغير والكبير سواء.
فالإخوة من الأم يرثون بشرطين: ألا يوجد فرع وارث، وألا يوجد أصل من الذكور وارث، فإن وجد أحدهما فلا ميراث، فلو هلك هالك عن جد هو أبو أبٍ وعن أخ من أم، فلا شيء للأخ من الأم لوجود أصل من الذكور وارث.
ولو هلك عن بنت ابن وأخ من أم يسقط الأخ من الأم؛ لأن في المسألة فرعاً وارثاً وهي بنت الابن، فإذا ثبت إرثهم فللواحد السدس وللاثنين فأكثر الثلث، ويتساوون.
وليس في الفرائض ما يتساوى فيه الذكر والأنثى إلا الأخوة من الأم، فَذَكَرُهم وأنثاهم سواء، لماذا؟ يوجد جواب لا اعتراض عليه، وهو أن هذا حكم الله، وقد قال الله تعالى:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]، وهذا ـ أعني حكم الله ـ، هو الذي احتجت به أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حين سألتها امرأة قالت: ما بال الحائض
تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ قالت: أحرورية أنت؟! يعني من الخوارج، قالت: لا ولكني أسأل، فلو قالت: إنها حرورية، ما أجابتها عائشة؛ لأنه ليس أصعب ما يقوله الخوارج، فاستحلالهم دماء المسلمين وتكفيرهم المسلمين أشد، لكنها قالت: لا، ولكني أسأل، فاستدلت عائشة رضي الله عنها بالنص، قالت: كان يصيبنا ذلك، فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة
(1)
، وهذا مُسْكِت لكل مسلم لقوله تعالى:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]، ولهذا إذا صادفك سائل ليس جدلياً، وقال: ما الفرق بين هذا وهذا؟ فقلتَ: هذا حكم الله يسكت؛ لأنه مؤمن، ويعلم أن الله لا يفرق بين متماثلين إلا لفرق بينهما، إما معلوم أو غير معلوم، لكن الجدلي يتعبك بالجدل ويتعمق.
أما قول بعضهم في الإخوة لأم أنهم يرثون بالرحم المجردة، فيقال: من قال إنهم يرثون بالرحم المجردة؟! ولو أن أحداً قال: أتشهد على الله أنه سوَّى بين الذكر والأنثى في الإخوة من الأم؛ لأنهم يرثون بالرحم المجردة؟ ما تستطيع أن تقول أشهد، لكن مسائل الفرائض نبه الله عز وجل على أنه لا مدخل للعقول فيها، فقال تعالى:{آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا} [النساء: 11]، وهذا يوجب أن يسكت الإنسان، وألا يتعمق في طلب التعليل حتى يَسْلَم.
(1)
أخرجه البخاري في الحيض/ باب لا تقضي الحائض الصلاة (321)؛ ومسلم في الطهارة/ باب وجوب قضاء الصوم على الحائض دون الصلاة (335)(69) عن عائشة رضي الله عنها، واللفظ لمسلم.
فَصْلٌ
يَسْقُطُ الأَجْدَادُ بِالأَبِ، والأَبْعَدُ بِالأَقْرَبِ، وَالجَدَّاتُ بِالأُمِّ، وَوَلَدُ الابْنِ بِالابْنِ وَوَلَدُ الأَبَوَيْنِ بِابْنٍ وَابْنِ ابْنٍ وَأَبٍ، وَوَلَدُ الأَبِ بِهِمْ، وَبِالأَخِ لأَبَوَيْنِ، وَوَلَدُ الاُمِّ بِالوَلَدِ وَبِوَلَدِ الابْنِ وَبِالأَبِ وَأَبِيهِ، وَيَسْقُطُ بِهِ كُلُّ ابْنِ أَخٍ وَعَمٍّ،
.................
هذا الفصل عقده المؤلف لبيان أحكام الحجب، يقول العلماء: إنه لا يحل لإنسان لا يعرف الحجب أن يفتي في الفرائض؛ لأنه قد يعطي شخصاً ويورثه وهو محجوب؛ فلهذا لا بد أن تعرف باب الحجب.
الحجب نوعان: حجب بوصف وحجب بشخص، الحجب بالشخص: معناه أن الإنسان يحجبه شخص من أهل الميراث.
قوله: «يسقط الأجداد بالأب» كل الأجداد، فإذا هلك هالك عن أب وجد من الأب، حجبه الأب.
قوله: «والأبعد بالأقرب» أي: الأبعد من الأجداد يحجب بالأقرب، فإذا هلك عن أبي أبٍ وأبي أبي أبٍ، يرث الأول؛ لأن أبا أبي الأب أبعد، وهذا واضح، ودليله قول النبي صلى الله عليه وسلم:«ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر»
(1)
، «أولى» يعني أقرب، وليس الأولى الأحق، وإلا لقلنا: الفقير وإن كان بعيداً يقدم على الغني.
قوله: «والجدات بالأم» سواء من جهة الأب أو من جهة الأم، فلو هلك هالك عن أم أم وأم أب وأم، فالجدتان لا ترثان؛ لأن الأم تحجبهم.
قوله: «وولد الابن بالابن» لأنه أبعد، ولد ابن ابن ابن وابن ابن، الأول يسقط؛ لأنه أبعد.
(1)
سبق تخريجه ص (199).
قوله: «وولد الأبوين» ، أي الأخ الشقيق أو الأخت الشقيقة.
قوله: «بابن وابن ابن وأب» ، أي: يسقط ولد الأبوين بأحد هؤلاء الثلاثة.
فلو هلك هالك عن ابن وأخ شقيق، سقط الأخ الشقيق.
هلك عن ابن ابن وأخ شقيق، سقط الأخ الشقيق.
هلك عن أخ شقيق وأب، سقط الأخ الشقيق.
هلك عن أخ شقيق وجد ـ على القول الراجح ـ يسقط الأخ الشقيق؛ لأن الجد لأب كالأب.
قوله: «وولد الأب بهم» ، ولد الأب هو الأخ من الأب «بهم» أي: يسقط بالابن وابن الابن والأب.
قوله: «وبالأخ لأبوين» الذين يسقطون الأخَ لأب أربعة: الابن وابن الابن والأب والأخ الشقيق.
قوله: «وولد الأم بالولد وبولد الابن وبالأب وأبيه» ، ولد الأم يعني الأخ من الأم، أو الأخت من الأم يسقط بأربعة: بالولد وولد الابن والأب وأبيه، وهذا من المؤلف تفصيل، لكننا سبق لنا أن الإخوة من الأم لا يرثون مع الأصل الوارث من الذكور، ولا مع الفرع الوارث.
قوله: «ويسقط به كل ابن أخ وعم» «به» أي: بأب الأب؛ لأن الضمير يعود إلى أقرب مذكور.
وقوله: «كل ابن أخٍ وعمٍ» . هل «عم» معطوف على «كل» أو «ابن» ؟ إذا قلنا: معطوف على «ابن» صار المعنى كل ابن أخٍ وكل عم، وهذا صحيح، وإن شئت فقل: معطوف على «كل» والتقدير ويسقط به كل ابن أخٍ وعمٌّ، أي: يسقط العم أيضاً، ولا يجوز أن نجعله معطوفاً على أخ؛ لأنك لو عطفته على أخ صار المعنى كل ابن أخ وابن عم، وهذا فاسد، ويحسن أن نذكر قواعد في الحجب:
أولاً: الأصول: كل قريب يحجب من فوقه إذا كان من جنسه، فالأم تُسقِطُ الجدة، والأب يسقط الجد، والأب لا يسقط الجدة، والأم لا تسقط الجد؛ لأنه ليس من جنسها.
ثانياً: الفروع: كل ذكر يحجب من تحته، سواء من جنسه أو من غير جنسه، فابن يحجب ابن ابن، وابن يحجب بنت ابن، وابن ابن يحجب بنت ابن ابن؛ أما الأنثى فلا تحجب من تحتها، فلو هلك هالك عن بنت وبنت ابن، ورثت البنت النصف، ولبنت الابن السدس.
ثالثاً: الحواشي: يحجبهم كل ذكر من الأصول أو الفروع، فالأخ مع الأب محجوب، الأخ مع الابن محجوب، الأخ مع الجد محجوب على القول الراجح، كذلك كل قريب من الحواشي يحجب من بَعُد مطلقاً، الأخ يحجب ابن الأخ، لكن إناث الحواشي لا يرث منهن إلا الأخوات فقط.
هذه القواعد تريح من العدد الذي ذكره المؤلف، وهي لا تنافي ما ذكره بل هي نفسها، لكن كلما قل الكلام كان أقرب إلى الفهم، لا سيما إذا كان قواعد وضوابط.
بَابُ العَصَبَاتِ
قوله: «العصبات» : جمع عاصب، وهو كل من يرث بلا تقدير، وحكم العصبة أن الواحد إذا انفرد أخذ المال كله، ومع ذي الفرض يأخذ ما بقي، وإذا استغرقت الفروض التركة سقط.
العصبة خمسة أصناف: البنوَّة والأبوَّة والأخوَّة والعمومة والولاء، فالبنوة خرج بها البنات فالبنات لا تدخل هنا، والأخوة ـ أيضاً ـ خرج بها الأخوات؛ لأن البنات والأخوات يَكُنَّ عصبة إما بالغير أو مع الغير، فالعاصب بالنفس لا يمكن أن يكون أنثى، الأخوة يدخل فيها الإخوة الأشقاء أو لأب وأبناؤهم وإن نزلوا، العمومة يدخل فيها الأعمام الأشقاء أو لأب وأبناؤهم، الولاء يدخل فيه المعتِق وعصبتُه المتعصبون بأنفسهم.
الأبوة يدخل فيها الآباء والأجداد وإن علوا، ولكن بشرط ألا يكون بين الجد والميت أنثى.
البنوة يدخل فيها الأبناء وأبناء الأبناء وإن نزلوا، هؤلاء هم أصول العصبة، فمن نقدم منهم؟ نقدم أولاً من كان أسبق جهة، ثم من كان أقرب منزلة، ثم من كان أقوى.
والقوة لا تكون إلا في الحواشي، فلا تكون في الأصول، ولا في الفروع، فإذا هلك هالك عن ابن وأب يقدم في التعصيب الابن، ولهذا لا نعطي الأب إلا فرضه فقط السدس، هلك عن أبٍ وأخ شقيق نقدم الأب، هلك عن أخ شقيق وعم شقيق؟ نقدم
الأخ الشقيق، هلك عن عم شقيق ومعتِق؟ نقدم العم الشقيق، هذا التقديم بالجهة.
فإذا كانوا في جهة واحدة قُدِّم الأقرب منزلة، هلك عن ابن وابن ابن فالعاصب الابن؛ لأنه أقرب منزلة، هلك عن ابن ابن ابن، وابن ابن ابن ابن؟ الأول؛ لأنه أقرب منزلة، هلك عن أب وجد؟ الأب، لأنه أقرب منزلة، هلك عن أخ لأب وابن أخ شقيق؟ الأخ للأب؛ لأنه أقرب، هلك عن عم شقيق وابن عم شقيق، يقدم العم الشقيق؛ لأنه أقرب منزلة، هلك عن عم لأب وابن عم شقيق؟ العم لأب؛ لأنه أقرب منزلة، هلك عن ابن ابن ابن ابن ابن عم في الدرجة السادسة وعم أبيه، الأول أقرب؛ لأن ابن ابن ابن العم النازل يشترك مع الميت في الجد الأول؛ لأنه أخو أبيه، وعم أبيه يشترك مع الميت في الجد الثاني؛ لذلك كان الأول أقرب.
ومع أنك لو نظرت إلى هذه المسألة بداهة لقلت: إن عم الأب أقرب، لكن يقول العلماء: الأقرب من يتصل بك أولاً، يعني من يشاركك في الجد الأسبق، ولذلك نقدم ابن ابن ابن ابن أخ شقيق على عم شقيق؛ لأن ابن الأخ يجتمع بك بالأب، وهذا بالجد.
فإذا تساووا في الدرجة وفي الجهة نقدم الأقوى، فالأخ الشقيق مع الأخ لأب يقدم الشقيق، وابن الأخ الشقيق مع ابن الأخ لأب يقدم ابن الأخ الشقيق، وعلى هذا فقس، وابن العم لأم وابن ابن عم لأب أيهما أقرب؟ الثاني؛ لأن ابن العم لأم
لا يرث؛ لأن أباه لا يرث، فالأعمام لأم لا يرثون أصلاً، وأبناؤهم من باب أولى، ابن ابن أخ لأب، وابن أخ لأم، يقدّم الأول؛ لأن الثاني لا يرث؛ لأن الإخوة من الأم هم فقط يرثون، أما أبناؤهم فلا يرثون.
هذه هي العصبات، فإذا عرفت هذه الضوابط سهل عليك التطبيق، يقول الجعبري:
فبالجهة التقديمُ ثم بِقُرْبِهِ
وَبَعْدَهُما التقديمَ بالقوةِ اجعلا
وَهُمْ كُلُّ مَنْ لَوِ انْفَرَدَ لأَخَذَ المَالَ بِجِهَةٍ وَاحِدَةٍ، وَمَعَ ذِي فَرْضٍ يَأْخُذُ مَا بَقِيَ، فَأَقْرَبُهُمُ ابْنٌ فَابْنُهُ وَإِنْ نَزَلَ، ثُمَّ الأَبُ ثُمَّ الجَدُّ وَإِنْ عَلَا مَعَ عَدَمِ أَخٍ لأَبَوَيْنِ أَوْ لأَبٍ،
....
قوله: «وهم كل من لو انفرد لأخذ المال بجهة واحدة، ومع ذي فرض يأخذ ما بقي» . المؤلف رحمه الله عَرَّف العصبة بالحكم، والتعريف بالحكم يسلكه كثير من العلماء، لكنه عند أهل المنطق معيب.
وعِنْدَهُمْ مِنْ جُمْلَةِ المَرْدُودِ
أَنْ تُدْخَلَ الأَحْكَامُ فِي الحُدُودِ
وما ذهب إليه أهل المنطق أوضح، فكيف تحكم على ما لا تعرف، فاعرف الشيء أولاً ثم احكم عليه، لكن من باب التسامح فإن الفقهاء رحمهم الله يستعملون الأحكام في الحدود.
أما تعريفه بالرسم فيقال: كل من يرث بلا تقدير.
وحكمه أنه إن انفرد أخذ المال كله، ومع ذي فرض يأخذ ما بقي، وإذا استغرقت الفروض التركة سقط.
وقوله: «بجهة واحدة» ، إنما قال ذلك احترازاً مما لو أخذ
المال بجهتين، كزوج هو ابن عم هلكت زوجته عنه وليس لها عاصب سواه، فهنا نقول: يأخذ المال كله فرضاً وتعصيباً، ولا يقال: إن هذا ليس له فرض؛ لأنه أخذ المال كله؛ لكن يقال: إنه أخذ المال بجهتين فرضاً وتعصيباً، كذلك لو كان أخاً لأم وهو ابن عم، كرجل تزوج عمُّه أمَّهُ بعد موت أبيه وأتت بولد، هذا الولد يرث بجهتين إذا مات ابن عمه، بجهة الفرضية على أنه أخ من أم، وبجهة التعصيب على أنه ابن عم.
وقوله: «ومع ذي فرض يأخذ ما بقي» دليل هذا من السنة قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولى رجل ذكر»
(1)
، وهذا نص صريح واضح، أن نبدأ بأصحاب الفروض ثم بالعصبة، فإذا لم يبق شيء سقطوا.
قوله: «فأقربهم ابن» لأنه أسبق جهة، ولهذا لو قال المؤلف رحمه الله: فأولاهم لكان أحسن؛ لأنه إذا قال: «فأقربهم» يفهم القارئ أن هذا قرب منزلة، وأيضاً لفظ الحديث:«فما بقي فلأولى رجل ذكر» .
قوله: «فابنه وإن نزل» البنت ليس لها التعصيب، فابنها لا ميراث له أصلاً.
قوله: «ثم الأب ثم الجد» من جهة الأب.
قوله: «وإن علا مع عدم أخٍ لأبوين أو لأب» هذا الشرط مبني
(1)
سبق تخريجه ص (199).
على القول الضعيف أن الإخوة يرثون مع الجد، أما على القول الراجح فلا حاجة لهذا القيد، بل نقول:«ثم الأب ثم الجد» .
ثُمَّ هُمَا، ثُمَّ بَنُوهُمَا أَبَدَاً، ثُمَّ عَمٌّ لأَبَوَيْنِ، ثُمَّ عَمٌّ لأَبٍ ثم بَنُوهُمَا كَذَلِكَ، ثُمَّ أَعْمَامُ أَبِيهِ لأََبَوَيْنِ، ثُمَّ لأَبٍ، ثُمَّ بَنُوهُم كَذَلِكَ، ثُمَّ أَعْمَامُ جَدِّهِ، ثُمَّ بَنُوهُمْ كَذَلِكَ، لَا يَرِثُ بَنُو أَبٍ أَعْلَى مَعَ بَنِي أَبٍ أَقْرَبَ وَإِنْ نَزَلُوا،
..............
قوله: «ثم هما» الضمير يعود على الأخ لأبوين والأخ لأب، يعني من بعد الجد الأخوان، الأخ الشقيق والأخ لأب.
قوله: «ثم بنوهما» بنو الأخ الشقيق، والأخ لأب.
قوله: «أبداً» يعني إلى أنزل شيء.
قوله: «ثم عم لأبوين، ثم عم لأب» ، وعم لأم لا يرث.
قوله: «ثم بنوهما كذلك» ، يعني العم لأبوين والعم لأب ثم بنوهما وإن نزلوا.
قوله: «ثم أعمام أبيه، لأبوين، ثم لأب، ثم بنوهم كذلك، ثم أعمام جده، ثم بنوهم كذلك» أعمام الجد أدنى رتبة من أعمام الأب فأعطانا قاعدة رحمه الله قال:
«لا يرث بنو أب أعلى مع بني أب أقرب وإن نزلوا» ، هذه قاعدة مفيدة، فبنو الأعمام لا يرثون مع بني الإخوة، بنو أعمام الأب لا يرثون مع بني أعمام الميت، بنو أعمام أب الأب لا يرثون مع بني أعمام الأب، وهلم جرّا؛ لأن الأقرب للميت هو الذي يتصل به أولاً، وأعمام الأب يتصل بهم الميت قبل أن يتصل بأعمام الجد، وعلى هذا فيكونون أقرب منزلة.
فلو هلك عم عن ابن ابن ابن ابن ابن ابن ابن ابن ابن ابن عم عشر درجات، وعن ابن عم أبيه درجة واحدة، فالعاصب الأول؛ لأنه يتصل بالميت بالجد، وذاك اتصل بالميت بأبي الجد فكان أقرب منزلة، وهذه يجهلها بعض طلبة العلم، يظنون أن الأقرب منزلة هم الأقل عدداً، وليس كذلك، قرب المنزلة يكون لأول من يتصل به الميت.
فَأَخٌ لأَبٍ أَوْلَى مِنْ عَمٍّ وَابْنِهِ وَابْنِ أَخٍ لأَبَوَيْنِ، وَهُوَ أَوِ ابْنُ أَخٍ لأَبٍ أَوْلَى مِنِ ابْنِ ابْنِ أَخٍ لأَبَوَيْنِ، وَمَعَ الاسْتِوَاءِ يُقَدَّمُ مَنْ لأَبَوَيْنِ، فَإِنْ عُدِمَ عَصَبَةُ النَّسَبِ وَرِثَ المُعْتِقُ ثُمَّ عَصَبَتُهُ.
قوله: «فأخ لأب أولى من عم» هذا سبق جهة بجهة.
قوله: «وابنه» أي ابن عمه أو ابنه هو، فإذا كان ابنه فهو أولى منه لقرب المنزلة، وإذا كان ابن عمه فهو أولى منه لقرب الجهة.
قوله: «وابن أخ لأبوين» يعني الأخ لأب أولى من ابن أخٍ لأبوين، فإذا هلك عن أخيه لأبيه وابن أخيه الشقيق فالعاصب أخوه لأبيه؛ لأنه أقرب منزلة.
قوله: «وهو أو ابن أخ لأب أولى من ابن ابن أخ لأبوين» «وهو» يعني ابن أخ لأبوين أو ابن أخ لأب أولى من ابن ابن أخ لأبوين لقرب المنزلة.
قوله: «ومع الاستواء» يعني في الدرجة والجهة.
قوله: «يقدم مَنْ لأبوين» بالقوة.
قوله: «فإن عدم عصبة النسب ورث المعتِق ثم عَصَبَتُهُ» ، لقول
النبي صلى الله عليه وسلم: «الولاء لُحْمَةٌ كلُحمة النسب»
(1)
.
«لُحمة» يعني التحاماً كالتحام النسب، وإذا لم يوجد معتِق، فعصبته، لكن عصبته المتعصبون بأنفسهم، وعلى هذا فلو مات العبد عن ابن سيده وبنت سيده فالعاصب ابن السيد، وبنت السيد ما لها شيء؛ لأن الولاء لا يرث فيه إلا العصبة المتعصبون بأنفسهم.
فإذا قال قائل: كيف لا يكون لبنت السيد شيء مع أخيها؟! نقول: كما أنه ليس لبنت الأخ شيء مع أخيها، فهذا ليس غريباً.
(1)
أخرجه الشافعي في المسند (237)؛ وابن حبان (4950) إحسان، والحاكم (4/ 341)؛ والبيهقي (10/ 292) عن ابن عمر رضي الله عنهما وله شواهد تقويه، وقد صححه ابن التركماني في الجوهر النقي (10/ 292)؛ والحافظ في التلخيص (2151)؛ والألباني في الإرواء 5/ 109.
فَصْلٌ
يَرِثُ الابْنُ وَابْنُهُ، وَالأَخُ لأَبَوَيْنِ أوْ لأَِبٍ مَعَ أُخْتِهِ مِثْلَيْهَا، وَكُلُّ عَصَبَةٍ غَيْرُهُمْ لَا تَرِثُ أُخْتُهُ مَعَهُ شَيْئَاً، وابْنَا عَمٍّ أَحَدُهُمَا أَخٌ لأُِمٍّ أَوْ زَوْجٌ لَهُ فَرْضُهُ والبَاقِي لَهُمَا،
......
قوله: «يرث الابن وابنه والأخ لأبوين أو لأب مع أخته مثليها» هؤلاء العصبة بالغير، فيرث الابن وابنه مع أخته، والأخ لأبوين والأخ لأب مع أخته «مثليها» يعني للذكر مثل حظ الأنثيين، ابن مع بنت، ابن ابن مع بنت ابن، أخ شقيق مع أخت شقيقة، أخ لأب مع أخت لأب، هؤلاء أربعة تكون أخواتهم عصبة بالغير، ودليل ذلك قول الله تبارك وتعالى:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11]، وقال في الإخوة:{وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 176].
قوله: «وكل عصبة غيرهم لا ترث أختُه معه شيئاً» هذا ضابط مفيد، جميع العصبة غَيْرُ هؤلاء الأربعةِ لا ترث أختهم معهم شيئاً، فابن الأخ مع بنت الأخ، بنت الأخ لا ترث شيئاً، والعم والعمة، العمة لا ترث؛ لأن المؤلف أعطانا ضابطاً: كل عصبة سوى هؤلاء الأربعة لا ترث أخته معه شيئاً.
قوله: «وابنا عم أحدهما أخ لأم أو زوج له فرضه والباقي لهما» هذان ابنا عم أحدهما زوج للميتة، كامرأة ماتت عن زوجها الذي هو ابن عمها، وعن أخيه الذي هو ابن عمها، فللزوج فرضه والباقي لهما، فالمسألة من أربعة تصحيحاً الزوج له ثلاثة وابن العم الثاني واحد؛ لأن الأول ورث النصف بالزوجية فرضاً، وما بقي فهو له ولأخيه.
وَيُبْدَأُ بِذَوِي الفُرُوضِ وَمَا بَقِيَ لِلعَصَبَةِ، وَيَسْقُطُونَ فِي الحِمَارِيَّةِ،
............
قوله: «ويبدأ بذوي الفروض وما بقي للعصبة» ، أخذ هذا من قول النبي صلى الله عليه وسلم:«ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولى رجل ذكر»
(1)
، وإذا لم يبقَ شيء يسقط العاصب، ولهذا قال:
«ويسقطون في الحمارية» ، أي العصبة يسقطون في الحمارية وهي زوج وأم وإخوة لأم وإخوة أشقاء، المسألة من ستة للزوج النصف ثلاثة، وللأم السدس واحد، وللإخوة من الأم الثلث اثنان، ولم يبقَ شيء فيسقط الإخوة الأشقاء، إخوة أشقاء يسقطون وإخوة من الأم يرثون!! والدليل قول الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فلنطبق المسألة، الزوج له النصف، والدليل قول الله تبارك وتعالى:{وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ} [النساء: 12]، والأم لها السدس، والدليل قوله تعالى:{فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11]، والإخوة من الأم لهم الثلث، والدليل قوله تعالى:{وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء: 12]، فأعطينا هؤلاء بكتاب الله تعالى، أما العصبة فنقول: ليس لكم شيء بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: «ألحقوا الفرائض بأهلها» ، فقلنا: سمعاً وطاعة لك يا رسول الله، أَلْحَقْنَا الفرائض بأهلها، قال:«فما بقي فهو لأولى رجل ذكر» فنقول: لم يبقَ شيء، فأثار الإخوة علينا قضية يتبعهم فيها العوام، قالوا: كيف يكون إخوة من أم يرثون
(1)
سبق تخريجه ص (199).
ونحن لا نرث، ألسنا أولى بالميت؟! فنحن إخوة أشقاء ندلي بجهتين، وهؤلاء من جهة واحدة؟ فالعوام يوافقونهم، ولكن المؤمنين يقولون: لا خيرة لنا {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]، لو كان الأخ من الأم واحداً والإخوة الأشقاء عشرة، فنقول: المسألة من ست، للزوج النصف ثلاثة، وللأم السدس واحد، وللأخ لأم السدس واحد، وللعشرة واحد، ولو أردنا أن نقيس لقلنا: يضاف سدس الأخ لأم إلى ما بقي للأشقاء ويقسم على إحدى عشرة، ويكون للأخ من الأم واحد من الإحدى عشرة، ولكن ليس الحكم كذلك، لا يضم نصيب الأخ من الأم إلى نصيب الأشقاء.
والمؤلف سمَّاها حمارية نسبة إلى الحمار؛ لأن الإخوة الأشقاء حاكموا الإخوة من الأم إلى القاضي، فقال القاضي: ليس لكم أيها الإخوة الأشقاء شيء؛ لأنكم عصبة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:«ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر» ، فقالوا: هب أن أبانا كان حماراً، يعني قدِّرْه حماراً ـ هذا عقوق عظيم أن يجعلوا أباهم حماراً ـ فسميت الحمارية
(1)
، ولها أسماء أخرى متعددة، منها هذا، ومنها اليمِّيَّة والحجرية والمشركة والمشتركة، على كل حال الألقاب هذه كلها لها شيء من الاشتقاق، لكن القول الراجح بلا شك أنه لا يمكن أن يكون الإخوة الأشقاء مشاركين للإخوة من الأم؛ لأننا لو شركناهم
(1)
أخرجها الدارمي في الفرائض/ باب في المشركة (2882)؛ والحاكم (4/ 337)، وعنه البيهقي (6/ 256). وضعفها في الإرواء (1693).
لخالفنا الحديث والقرآن، فإذا شركناهم مع الإخوة من الأم، فهل يكون للإخوة من الأم الثلث؟ لا؛ لأن هؤلاء سيشاركونهم، وإذا شركناهم هل نحن امتثلنا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله:«فما بقي فلأولى رجل ذكر» ؟ لا، ولذلك نحن نسأل الله عز وجل العفو والمغفرة لمن ذهبوا هذا المذهب، وشركوا الإخوة الأشقاء مع الإخوة لأم، ونقول: هم مجتهدون، ومن اجتهد فأصاب فله أجران، ومن لم يصب فله أجر واحد.
أما لو كان بدل الإخوة الأشقاء أخوات شقيقات فإنهنَّ لا يسقطن، فلو هلكت امرأة عن زوج وأم وإخوة من أم وأختين شقيقتين، لقلنا: المسألة من ست، للزوج النصف ثلاثة وللأم السدس واحد، وللإخوة من الأم الثلث اثنان، وللأختين الشقيقتين الثلثان أربعة، فتعول إلى عشرة ـ سبحان الله ـ فالفرائض فوق مستوى العقول، لو كانا شقيقين سقطا، وإذا كانتا شقيقتين ورثتا، لكن نقول:{آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ} .
انتهى ـ والحمد لله ـ الكلام على المواريث فقهاً، وهذا هو المهم؛ ولم يبق إلا الكلام عليها حساباً، ومعرفة الفرائض حساباً ما هو إلا وسيلة فقط، والوسيلة قد لا تكون ضرورة، إن احتجنا إليها أخذنا بها وإلا فلا.
بَابُ أُصُولِ المَسَائِلِ
الفُرُوضُ سِتَّةٌ: نِصْفٌ وَرُبُعٌ وَثُمُنٌ وَثُلُثَانِ وَثُلُثٌ وَسُدُسٌ، والأُصُولُ سَبْعَةٌ،
.......
قوله: «الفروض ستة» ، أي: الفروض المقدرة ستة.
قوله: «نصف وربع وثمن وثلثان وثلث وسدس» ، ولا يوجد غير هذا، يعني التي قدر الله ـ تعالى ـ نصيب الوارث بها هي هذه الستة، والدليل: أما النصف فقال الله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} ، والربع:{فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ} ، والثمن:{فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ} ، والثلثان:{فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} ، والثلث:{فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُِمِّهِ الثُّلُثُ} ، والسدس:{فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} ، ومرَّ علينا ثلث الباقي في باب الجد والإخوة، وفي العمريتين، أما في العمريتين فأصل صحيح؛ لأنه من سنة عمر رضي الله عنه، وأما في باب الجد والإخوة فأصل غير صحيح؛ لأنه لا دليل عليه، لا من الكتاب ولا من السنة ولا الإجماع.
قوله: «والأصول سبعة» أصول المسائل؛ لأن الفروض غير أصول المسائل، فالفروض هي المقدرات للورثة، والمسائل هي التي يكون بها تصحيح الميراث، فالأصول سبعة: اثنان، ثلاثة، أربعة، ستة، ثمانية، اثنا عشر، أربعة وعشرون، هذه أصول
المسائل، لا يوجد مسألة إلا من واحد من هذه الأصول، فمتى تكون المسألة من اثنين؟ قال المؤلف رحمه الله:
فَنِصْفَانِ أَوْ نِصْفٌ وَمَا بَقِيَ مِنِ اثْنَيْنِ، وَثُلُثَانِ أَوْ ثُلُثٌ وَمَا بَقِيَ أَوْ هُمَا مِنْ ثَلَاثَةٍ، وَرُبُعٌ أَوْ ثُمُنٌ وَمَا بَقِيَ أَوْ مَعَ النِّصْفِ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَمِنْ ثَمَانِيَةٍ، فَهَذِهِ أَرْبَعَةٌ لَا تَعُولُ، وَالنِّصْفُ مَعَ الثُّلُثَيْنِ أَوِ الثُّلُثِ ............
«فنصفان أو نصف وما بقي من اثنين» مثال النصفين: هلكت امرأة عن زوجها وأختها الشقيقة، فنصفان، نصف للزوج ونصف للشقيقة، هلكت عن زوجها وأختها لأب، فنصفان.
مثال نصف وما بقي: هلكت عن زوج وعم، عن بنت وعم، عن بنت ابن وعم، أخت شقيقة وعم، أخت لأب وعم، خمس مسائل، لا يوجد غيرها.
قوله: «وثلثان أو ثلث وما بقي أو هما من ثلاثة» ، ثلاثة أصناف: ثلثان وما بقي، ثلث وما بقي، ثلثان وثلث، هذه من ثلاثة، فثلثان وما بقي أربع مسائل: بنتان وعم، بنتا ابن وعم، أختان شقيقتان وعم، أختان لأب وعم.
ثلث وما بقي مسألتان: أم وعم، إخوة من أم وعم، لا يوجد غير هذا.
«أو هما» يعني الثلثين والثلث، أختان شقيقتان وأختان من أم، أختان لأب وأختان من أم لا يوجد غير هذا.
قوله: «وربع أو ثمن وما بقي أو مع النصف من أربعة ومن ثمانية» ، الربع وما بقي: زوجة وعم، الربع مع النصف: زوج وبنت وعم، زوج وبنت ابن وعم، زوجة وأخت شقيقة وعم،
زوجة وأخت لأب وعم، أربع صور من أربعة.
الثمن وما بقي: زوجة وابن، ثمن ونصف وما بقي: زوجة وبنت وعم، كل هذه من ثمانية، وبدلاً من هذا نقول: أصل المسألة مخرج فروضها بلا كسر، وهذا سهل عند كل حاسب، متى تحصل على عدد بلا كسر، ففي النصف من اثنين، وفي الثلث من ثلاثة، وفي الربع من أربعة، وفي السدس من ستة، وهلم جرًّا.
قوله: «فهذه أربعة لا تعول» أي: لا تزيد فروضها على أصل المسألة أبداً، فهي إما مساوية لأصل المسألة وتسمى عادلة، وإما أقل وتسمى ناقصة، أما عائلة فلا، فأختان شقيقتان وأختان من أم هذه عادلة، وأختان شقيقتان وعم ناقصة؛ لأن الفرض ثلثان فقط.
فهذه الأربعة: أصل الاثنين، وأصل الثلاثة، وأصل الأربعة، وأصل الثمانية، هذه لا يمكن أن تعول أبداً.
قوله: «والنصف مع الثلثين» أقل عدد يخرج منه فرض النصف والثلثين ستة، مثال ذلك: هلكت امرأة عن زوج وأختين شقيقتين، للزوج النصف ثلاثة وللشقيقتين الثلثان أربعة، ثلاثة وأربعة سبعة، وأصل المسألة ستة فتكون عائلة، فصار نصيب الزوج ثلاثة أسباع، ونصيب الأختين أربعة أسباع، فنَقَصَ.
قوله: «أو الثلث» النصف مع الثلث من ستة؛ لأن أقل عدد ينقسم على نصف وثلث هو الستة، مثال ذلك: هلك هالك عن أخت شقيقة وأم، المسألة من ستة، للأخت الشقيقة النصف وللأم
الثلث، والباقي لأولى رجل ذكر، كما جاء في الحديث.
أَوِ السُّدُسِ أَوْ هُوَ ومَا بَقِيَ مِنْ سِتَّةٍ، وَتَعُولُ إِلى عَشَرَةٍ شِفْعَاً وَوِتْرَاً، وَالرُّبُعُ مَعَ الثُّلُثَيْنِ أَوِ الثُّلُثِ أَوِ السُّدُسِ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ ..............
قوله: «أو السدس» ، النصف مع السدس من ستة، ولَمْ نقل: من اثني عشر؛ لأنه متى أمكن تقليل العدد وجب الأخذ به، مثال ذلك: هلك هالك عن أخت شقيقة وأخت من أم وعم، المسألة من ستة، الأخت الشقيقة لها النصف ثلاثة، وللأخت لأم السدس واحد، والباقي لأولى رجل ذكر، العم.
قوله: «أو هو وما بقي من ستة» ، يعني السدس وما بقي، مثاله: أخ من أم وعم المسألة من ستة، للأخ من الأم السدس واحد، والباقي للعم.
وَتَعُولُ إِلى سَبْعَةَ عَشَرَ وِتْرَاً والثُّمُنُ مَعَ سُدُسٍ أَوْ ثُلُثَيْنِ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ، وَتَعُولُ إِلى سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ وَإِنْ بَقِيَ بَعْدَ الفُروضِ شَيْءٌ وَلَا عَصَبَةَ رُدَّ عَلَى كُلِّ فَرْضٍ بِقَدْرِهِ غَيْرَ الزَّوْجَيْنِ.
قوله: «وتعول إلى عشرة شَفْعاً ووِتراً» ، تقبل النقص والزيادة والمساواة، وتسمى الكريمة، فتعول لسبعة هذا وتر، ثمانية شفع، تسعة وتر، عشرة شفع.
مثال الناقصة: كبنت وأم وعم، المسألة من ستة، البنت لها النصف ثلاثة، والأم السدس واحد، والباقي للعم.
أو أخت شقيقة وأم وعم، المسألة من ستة، للأخت الشقيقة النصف ثلاثة، وللأم الثلث اثنان، والباقي للعم.
مثال العادلة: هلك هالك عن زوج وأم وأخوين من أم، المسألة من ستة، للزوج النصف ثلاثة، وللأم السدس واحد، وللأخوين من أم الثلث اثنان، الجميع ستة.
مثال العائلة:
أختان شقيقتان وأختان من أم وأم، فالمسألة من ستة: الأختان الشقيقتان لهما الثلثان أربعة، والأختان من الأم الثلث اثنان، والأم لها السدس واحد، تعول إلى سبعة.
تعول إلى ثمانية: أختان شقيقتان وأم وزوج، المسألة من ستة للأختين الشقيقتين الثلثان أربعة، وللأم السدس واحد، وللزوج النصف ثلاثة.
تعول إلى تسعة: كزوج وأختين شقيقتين وأم وأخ من أم، المسألة من ستة، للزوج النصف ثلاثة، وللشقيقتين الثلثان أربعة، وللأم السدس واحد، وللأخ من الأم السدس واحد، تعول إلى تسعة، فإن جعلت معه أخاً آخر فلهما الثلث فتعول إلى عشرة، وهذا أعلى درجات العول، يعني عالت بثلثين، صار الذي له السدس ليس له إلا عشر، والذي له ثلثان ليس له إلا خمسان، وهذا أنقص ما يكون للورثة.
قوله: «والربع مع الثلثين أو الثلث أو السدس من اثني عشر» ، الربع مع الثلثين من اثني عشر؛ لأنه لا يمكن أن ينقسم بلا كسر إلا من اثني عشر، فالربع مخرجه من أربعة، والثلثان مخرجهما من ثلاثة، فتكون المسألة من اثني عشر.
مثال ذلك: هلك هالك عن زوجة وأختين شقيقتين وعم، المسألة من اثني عشر، للزوجة الربع ثلاثة، وللأختين الشقيقتين الثلثان ثمانية، والباقي واحد للعم.
الربع مع الثلث ـ أيضاً ـ من اثني عشر لتباين المخرجين؛ لأن مخرج الثلث من ثلاثة ومخرج الربع من أربعة، وهما
متباينان، فنضرب ثلاثة في أربعة تكون اثني عشر، كرجل هلك عن زوجته وأمه وعمه، المسألة من اثني عشر للزوجة الربع ثلاثة والأم الثلث أربعة، والباقي للعم خمسة.
الربع مع السدس ـ أيضاً ـ من اثني عشر؛ لأن السدس والربع بينهما موافقة بالنصف، فنضرب إما ثلاثة في أربعة أو اثنين في ستة، يكون الجميع اثني عشر، كزوجة هلكت عن زوجها وجدتها وابنها، الزوج له الربع ثلاثة، والجدة لها السدس اثنان، والباقي للابن.
قوله: «وتعول إلى سبعة عشر وتراً» يعني أن الاثني عشر تعول إلى سبعة عشر وتراً، و «وتراً» حال، وليست تمييزاً لسبعة عشر، يعني تعول إلى سبعة عشر حال كونها وتراً، يعني ولا تعول شفعاً فتعول ثلاث مرات، إلى ثلاثة عشر، وإلى خمسة عشر، وإلى سبعة عشر، مثال ذلك: هلك هالك عن زوجة وأختين شقيقتين وأم، المسألة من اثني عشر، للزوجة الربع ثلاثة، للأختين الشقيقتين الثلثان ثمانية، وللأم السدس اثنان، تكون ثلاثة عشر.
تعول إلى خمسة عشر، مثال ذلك: هلكت امرأة عن زوج وبنتين وأم وأب، المسألة من اثني عشر، للزوج الربع ثلاثة، وللبنتين الثلثان ثمانية، وللأم السدس اثنان، وللأب السدس اثنان، تكون خمسة عشر.
تعول إلى سبعة عشر، مثال ذلك: هلك عن ثماني أخوات شقيقات وجدتين وأربع أخوات لأم، وثلاث زوجات، المسألة من اثني عشر، للأخوات الشقيقات الثلثان ثمانية، وللأخوات من
الأم الثلث أربعة، وللجدتين السدس اثنان، ولثلاث الزوجات الربع ثلاثة، تعول إلى سبعة عشر.
تسمى هذه المسألة أم الفُروج؛ لأنها كلها نساء، وكل امرأة ترث مثل الأخرى مع أن الجهات متفرقة، وكل واحدة لا تزيد عن الأخرى في ميراثها؛ ولهذا يلغز بها فيقال: سبع عشرة امرأة من وجوه شتى ورثن تركةً بالسوية.
قوله: «والثمن مع سدس أو ثلثين من أربعة وعشرين» لا بد في الأربعة والعشرين من ثمن، إذا قدرت مسألة من أربعة وعشرين، وليس فيها ثمن فاعلم أنك غلطان، لا يمكن أن تكون المسألة من أربعة وعشرين إلا وفيها ثمن، كرجل مات عن زوجته وأمه وابنه، المسألة من أربعة وعشرين للزوجة الثمن ثلاثة، وللأم السدس أربعة، والباقي للابن سبعة عشر.
وقوله: «أو ثلثين من أربعة وعشرين» ؛ لأن مخرج الثمن من ثمانية والثلثين من ثلاثة، ثلاثة في ثمانية بأربعة وعشرين، كرجل هلك عن زوجته وبنتين وعم، المسألة من أربعة وعشرين، للزوجة الثمن ثلاثة، وللبنتين الثلثان ستة عشر، والباقي خمسة للعم.
قوله: «وتعول إلى سبعة وعشرين» أي وتعول الأربعة والعشرون إلى سبعة وعشرين، ولا تعول إلا مرة واحدة وبثمنها، ولذلك تسمى البخيلة، والستة تسمى الكريمة؛ لأنها تعول بثلثين شفعاً ووتراً، وإن شئت صارت ناقصة فهي أوسع الأصول، أما الأربعة والعشرون فلا تعول إلا مرة واحدة وبثمنها فقط إلى سبع
وعشرين، مثال ذلك: هلك عن ابنتين وأبوين وزوجة، المسألة من أربعة وعشرين، للبنتين الثلثان ستة عشر، وللأم السدس أربعة، وللأب السدس أربعة، وللزوجة الثمن ثلاثة، هذه سبعة وعشرون، ولا تعول إلا إلى سبعة وعشرين مرة واحدة وتراً.
والفرضيون يتشبثون بكل أثر صحيح أو ضعيف يستشهدون به لما يقولون، يقولون: إن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان يخطب ويقول: الحمد لله الذي حكم بالحق قطعاً، وجزى كل نفس بما تسعى، وفي أثناء ذلك سألوه عن هذه المسألة، فقال: وصار ثمن المرأة تسعاً
(1)
، لكن من قال هذا؟! ـ سبحان الله ـ صادف أن سجع الخطبة قبل أن يسأل كان موافقاً للحكم، هذا بعيد جداً!!
المؤلف لم يقل: «ثلث مع ثمن» ؛ لأنهما لا يمكن أن يجتمعا؛ لأن الثمن لا يمكن أن يوجد إلا مع فرع وارث، والثلث لا يمكن أن يوجد مع فرع وارث؛ لأن الثلث فرض العدد من الإخوة لأم، ولا يرثون مع الفرع الوارث، أو فرض الأم بشرط أن لا يوجد فرع وارث، ولهذا قال الجعبري:
وثمن وثلث لا يحلان منزلاً.
أما الربع مع النصف فإنهما يجتمعان كامرأة هلكت عن زوجها وبنتها.
والربع مع الثمن لا يجتمعان أيضاً.
فأكرم الأصول في العول الستة، ثم الاثنا عشر، ثم الأربع
(1)
أخرجها البيهقي (6/ 253) وضعفها في: الإرواء (6/ 146) رقم (1706/ 1).
والعشرون، أو أربعة وعشرون ونصفها وربعها، أو ستة وضعفها وضعف ضعفها، أو اثنا عشر ونصفها وضعفها، كل هذا صحيح.
قوله: «وإن بقي بعد الفروض شيء ولا عصبة رُدَّ على كل فرض بقدره غير الزوجين» ، لما ذكر المؤلف رحمه الله عول المسائل، والعول هو نقص في السهام، فكل واحد من الورثة لا بد أن ينقص سهمه بسبب العول، ذكر ضد ذلك وهو الرد إذا بقي بعد الفروض شيء، فماذا نعمل بالباقي؟ إن كان هناك عصبة فهو للعاصب لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر»
(1)
، وإذا لم يكن عاصب فيقول المؤلف:«رد على كل ذي فرض بقدره غير الزوجين» فلا يرد عليهما، حكاه بعضهم إجماعاً.
واعلم أن مسألة الرد ـ أصلاً ـ فيها خلاف، فمن العلماء مَنْ أنكره، وقال: ما بقي بعد الفروض يرد في بيت المال؛ لأننا لو رددنا عليهم لزدنا على الفرض المقدر في كتاب الله، والذين قالوا بالرد، قالوا: إن الله تعالى قال: {وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأحزاب: 6]، فإذا قلنا: هذا الزائد يصرف لبيت المال صرفناه لعامة المسلمين، وإذا قلنا بالرد صرفناه لذوي الأرحام، وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض، فالقول بالرد هو الصواب، فإذا قال قائل: أنتم زدتم على ما فرض الله، قلنا: زدنا
(1)
سبق تخريجه ص (199).
لسبب وهو زيادة المسألة على الفروض، فنحن لم ننقص شخصاً ونزيد شخصاً، بل الجميع بالسوية، وكما إننا في العول ننقص من كل واحد، فكذلك في الرد حتى نستعمل العدل فيما إذا زاد الشيء أو نقص.
ومسائل الرد، إذا كان المردود عليهم جنساً واحداً، فأصلها من عدد رؤوسهم كالعصبة تماماً، فإذا هلك هالك عن أربع بنات ولا عاصب، فالمسألة من عدد رؤوسهم من أربعة، كل واحدة تأخذ ربعاً.
وإذا كانوا أصنافاً متعددة فهي من أصل ستة، ثم منتهى الفروض هو منتهى المسألة، فإذا هلك هالك عن أخوين من أم وأم، فالأجناس مختلفة، والمسألة من ستة، للأخوين من أم الثلث اثنان، وللأم السدس واحد فتعود المسألة إلى ثلاثة، فيكون للأم بدل السدس ثلث، ويكون للأخوين بدل الثلث ثلثان.
إذا هلك هالك عن بنت وبنت ابن، المسألة من ست، للبنت، النصف ثلاثة، ولبنت الابن السدس واحد، ترد المسألة إلى أربعة ونقول: المسألة من أربعة للبنت ثلاثة من أربعة، يعني النصف من أصل ستة، ولبنت الابن واحد من أصل ستة وهو الآن ربع.
إذا هلك هالك عن أختين شقيقتين وأخت من أم، المسألة من ستة للشقيقتين الثلثان أربعة، وللأخت من الأم السدس واحد، ترد المسألة إلى خمسة.
هلك هالك عن أخ من أم وجدة، المسألة من ستة، للأخ
من الأم السدس واحد، وللجدة السدس واحد، تعود إلى اثنين، صار للأخ من الأم بعد الرد النصف وللجدة النصف.
إذاً مسائل الرد اثنان ثلاثة أربعة خمسة، فإذا صارت ستة فمعناه أنها استكملت الفروض، ولهذا نقول في أختين شقيقتين وأختين من أم: المسألة من ستة للأختين الشقيقتين الثلثان أربعة، وللأختين من أم الثلث اثنان ولا رد.
وقوله: «غير الزوجين» فلا يرد عليهما، فلو هلك هالك عن زوج فقط، فالمسألة من اثنين للزوج النصف واحد، والباقي لبيت المال؛ لأنه لا دليل في الرد على الزوجين، إذ إن دليل الرد قوله تعالى:{وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأحزاب: 6]، والزوج والزوجة الإرث بينهما ليس بالرحم، ولكن بالزوجية، فيكون الزوج كواحد من المسلمين، فيعطى لبيت المال، وقد حكاه بعض العلماء إجماعاً أنه لا يرد على الزوجين؛ لأنه لا وجه في الرد عليهما من حيث الأدلة، وذكر بعضهم عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه رد على زوجٍ ماتت عنه زوجته ليس لها وارث سواه
(1)
، ومعلوم أن أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه من الخلفاء الراشدين وله سنة متبعة بأمر النبي صلى الله عليه وسلم
(2)
.
أجاب القائلون بعدم الرد بأن هذه قضية عين، وقضية العين لا عموم لها، فلعله رد عليه؛ لأنه ابن عم فيأخذ النصف بالزوجية
(1)
انظر: المغني (9/ 49) ط/دار هجر.
(2)
سبق تخريجه ص (221).
والباقي بالتعصيب، أو رد عليه؛ لأنه رآه من أحق الناس ببيت المال؛ لفقره أو كثرة عياله أو ما أشبه ذلك، فيكون الرد لسبب من أسباب الإرث وهو العصوبة لكونه ابن عم، أو لاستحقاقه من بيت المال؛ لأنه أحق، ولا شك أن الزوج أحق من يُبَرُّ بميراث زوجته من بيت المال.
فكيف نعمل إذا كان معه أحد الزوجين، وقلنا: لا يرد عليهما؟ فإذا هلك هالك عن زوجة وبنت والمال ثمانية ملايين، وقلنا بالرد على الزوجة لقلنا: المسألة من ثمانية، للزوجة الثمن واحد، وللبنت النصف أربعة تعود إلى خمسة، لكننا لا نقول هكذا؛ لأن الزوجة ليس لها أكثر من الثمن، فنقول: إذا كان المردود عليه صنفاً واحداً، فالمسألة ليست مشكلة، فللزوجة نصيبها والباقي للموجود فرضاً ورداً، فإذا هلك عن زوجة وبنت، فالمسألة من ثمانية، للزوجة الثمن واحد، والباقي للبنت فرضاً ورداً، النصف فرضاً وهو أربعة والباقي ثلاثة رداً.
وإذا كان المردود عليه متعدداً، فإننا نقسم مسألة الزوجية ونعطي الزوج أو الزوجة حقها، ثم نقسم ما بقي بعد فرض الزوجية على مسألة الرد بعد أن نصحح مسألة الرد، فإن انقسمت فذاك وإلا عملنا فيهما ما سيذكر ـ إن شاء الله ـ فيما بعد، فلو هلكت عن زوج وثلاث بنات، مسألة الزوج من أربعة، للزوج الربع واحد، بقي عندنا ثلاثة، والبنات الثلاثة مسألتهن من ثلاثة؛ لأنهن من جنس واحد، والجنس الواحد من أصحاب الرد مسألتهم من عدد رؤوسهم، فمسألة البنات من ثلاثة، والباقي بعد فرض الزوجية ثلاثة، إذاً ينقسم، فتكون المسألة واحدة من أربعة، للزوج الربع واحد، والباقي لثلاث البنات فرضاً ورداً.
زوج وست بنات، مسألة الزوجية من أربعة، ومسألة الرد من ستة، أعطينا الزوج حقه واحداً، وبقي ثلاثة، فلا نقول: لكل بنت نصف واحد؛ لأنه لا يعرف الكسر في الفرائض، فلا بد أن نصحح، وعلى هذا فنقول: للزوج الربع واحد يبقى ثلاثة، ومسألة الرد من ستة، اقسم ثلاثة على ستة لا ينقسم إذاً ماذا نعمل؟ نقول الستة والثلاثة بينهما موافقة في الثلث، فنرد الستة إلى ثلثها اثنين، نضرب اثنين في أصل المسألة أربعة تبلغ ثمانية، للزوج واحد في اثنين باثنين، وللبنات ثلاثة في اثنين بستة، لكل واحدة منهن واحد.
الخلاصة في الرد: إذا بقي بعد الفروض شيء، فإنه يرد على أصحاب الفروض كل بقدر فرضه، فإذا كان أصحاب الرد من جنس واحد فمسألتهم بعدد الرؤوس، وإذا كانوا من أجناس متعددة فأصل المسألة من ستة، ثم تستقر حيث تنتهي الفروض، إن انتهت الفروض باثنين فهي من اثنين، ثلاثة من ثلاثة، أربعة من أربعة، خمسة من خمسة، وإذا كانت ستة معناه أنها عادلة، وإذا كان معه أحد الزوجين فصحح أولاً مسألة الزوجية، ثم صحح مسألة الرد، واقسم الباقي بعد فرض الزوجية على مسألة الرد، إما أن ينقسم أو يوافق أو يباين.
بَابُ التَّصْحِيحِ وَالمُنَاسَخَاتِ وقِسْمَةِ التَّرِكَاتِ
إِذَا انْكَسَرَ سَهْمُ فَرِيقٍ عَلَيْهِمْ ضَرَبْتَ عَدَدَهُمْ إِنْ بَايَنَ سِهَامَهُمْ، أَوْ وِفْقَهُ إِنْ وَافَقَهُ بِجُزْءٍ، كَثُلُثٍ وَنَحْوِهِ، فِي أَصْلِ المَسْأَلَةِ، وَعَوْلِهَا إِنْ عَالَتْ، فَمَا بَلَغَ صَحَّتْ مِنْهُ، وَيَصِيرُ للوَاحِدِ مَا كَانَ لِجَمَاعَتِهِ أَوْ وِفْقُهُ،
...........
التصحيح: تحصيل أقل عدد ينقسم على الورثة بلا كسر؛ لأن مسائل الفرائض لا يجوز أن يكون فيها كسر أبداً.
والتأصيل: تحصيل أقل عدد تخرج منه سهام المسألة بلا كسر.
قوله: «إذا انكسر سهم فريق عليهم ضَرَبْتَ عددهم إن باين سهامهم، أو وفقه إن وافقه بجزءٍ، كثلث ونحوه في أصل المسألة وعولِها إن عالت، فما بلغ صحت منه، ويصير للواحد ما كان لجماعته أو وفقه» ، إذا هلك هالك عن زوج وخمسة أعمام، المسألة من اثنين، للزوج النصف واحد وللأعمام الخمسة الباقي واحد، نقسم سهمهم واحداً على خمسة يكون مبايناً لا شك؛ لأن الواحد يباين كل عدد، فنضرب رؤوسهم خمسة في أصل المسألة اثنين تبلغ عشرة، للزوج واحد في خمسة بخمسة، ولهؤلاء واحد في خمسة بخمسة، لكل واحد واحد.
هلك هالك عن زوجة وخمسة أعمام، المسألة من أربعة للزوجة الربع واحد، والباقي ثلاثة للأعمام وهم خمسة لا ينقسم
ويباين، نضرب رؤوسهم خمسة في أصل المسألة أربعة تبلغ عشرين ومنه تصح، للزوجة الربع واحد مضروباً في خمسةٍ خمسةٌ، وللأعمام ثلاثة في خمسة، خمسة عشر، وهم خمسة لكل واحد ثلاثة، والمؤلف يقول:«ويصير للواحد ما كان لجماعته» خمسة الأعمام في الأول لهم ثلاثة، الآن صار لكل واحد ثلاثة، يصير للواحد ما كان لجماعته هذا في المباينة.
في الموافقة إذا هلك هالك عن زوجة وستة أعمام، المسألة من أربعة للزوجة الربع واحد، وللأعمام الباقي ثلاثة لا ينقسم ويوافق، رُدَّ الستة عدد ـ رؤوسهم ـ إلى الوفق اثنين، واضربه في المسألة، اثنين في أربعة بثمانية، للزوجة واحد في اثنين باثنين، وللأعمام ثلاثة في اثنين ستة، وهم ستة لكل واحد واحد، ولو أن أحداً قال: المسألة من أربعة للزوجة الربع واحد وللأعمام الباقي ثلاثة، فهم ستة فلا ينقسم، نضرب رؤوسهم في أصل المسألة، ستة في أربعة بأربعة وعشرين، للزوجة واحد في ستة بستة، ولهم ثلاثة في ستة بثمانية عشر، لكل واحد ثلاثة، نقول: هذا صحيح عملاً، فاسد اصطلاحاً وصناعة؛ لأنه في علم الفرائض متى أمكن الأقل فلا تأخذ بالأكثر، وقد تبين أنه يمكن أن تصح المسألة من اثني عشر، فلماذا تذهب إلى أربعة وعشرين؟! فمتى أمكن الاختصار منع التطويل، وهذا لا شك أنه أسهل، لا سيما إذا وجد مناسخات فإنه تطول المسائل.
كلام المؤلف رحمه الله في الانكسار على فريق، فإذا انكسر سهم فريق عليهم نظرت أولاً، هل بينه وبين سهامهم
مباينة؟ إن كان نعم فاضرب رؤوسهم في أصل المسألة، وإن كان موافقة فرد الرؤوس إلى وفقها ثم اضربه في أصل المسألة، إن كان انقسام فلا حاجة.
واعلم أن ما عالت إليه المسألة كأصل المسألة لا فرق، فلو هلك هالك عن خمس أخوات شقيقات وزوج، فالمسألة من ستة، للشقيقات الثلثان أربعة، وللزوج النصف ثلاثة فتعول إلى سبعة، فللشقيقات أربعة ورؤوسهن خمسة لا تنقسم وتباين، والقاعدة أن كل عددين متواليين فبينهما تباين، فنضرب الرؤوس خمسة في عول المسألة سبعة، تبلغ خمسة وثلاثين، ومنه تصح، للأخوات أربعة في خمسة بعشرين، لكل واحدة أربعة، وللزوج ثلاثة في خمسة بخمسة عشر، هذه خمسة وثلاثون هذا سهل ـ والحمد لله ـ، لكن المؤلف رحمه الله لم يذكر إلا الانكسار على فريق، وهناك الانكسار على فريقين أو ثلاثة أو أربعة، وقد بيناه في البرهانية.
فَصْلٌ
إِذَا مَاتَ شَخْصٌ وَلَمْ تُقْسَمْ تَرِكَتُهُ حَتَّى مَاتَ بَعْضُ وَرَثَتِهِ، فَإِنْ وَرِثُوهُ كَالأَوَّلِ، كَإِخْوَةٍ فَاقْسِمْهَا عَلَى مَنْ بَقِيَ،
............
هذا الفصل عقده المؤلف للمناسخات، وما أدراك ما المناسخات، أصعب علم المواريث، وقد قال الشيخ منصور البهوتي رحمه الله في شرحه للإقناع: إنه من أصعب علم الفرائض، وما أحسن الاستعانة عليه بالشُّباك لابن الهائب رحمه الله.
قوله: «إذا مات شخص ولم تقسم تركته حتى مات بعض ورثته» المدة قد تطول وقد تقصر، قد يموتون بحادث ليس بين واحد والثاني إلا ساعة أو أقل، فإذا مات بعض الورثة قبل أن تقسم التركة، فمن يرثه؟ هل يرثه الموجودون معه أو غيرهم؟ يقول المؤلف:
«فإن ورثوه كالأول كإخوة» أي: ورثوا الثاني كالأول.
قوله: «فاقسمها على من بقي» مثال ذلك: له إخوة عشرة، مات الأول نقسمها على تسعة، مات الثاني، اقسمها على ثمانية، مات الثالث، اقسمها على سبعة، مات الرابع، اقسمها على ستة، مات الخامس، اقسمها على خمسة، فإذا كان ورثة الثاني هم بقية ورثة الأول بدون اختلاف فاقسمها على من بقي.
فإذا قال قائل: لماذا تسمى هذه مناسخة والمسألة ما احتاجت إلى عمل؟ نقول: لأن المسألة الثانية نسخت المسألة الأولى، فبدلاً من أن نقول: من عشرة، نقول: من خمسة، وهذا يسمى بالاختصار قبل العمل.
وَإِنْ كَانَ وَرَثَةُ كُلِّ مَيِّتٍ لَا يَرِثُونَ غَيْرَهُ، كَإِخْوَةٍ لَهُمْ بَنُونَ، فَصَحِّحِ الأُولَى وَاقْسِمْ سَهْمَ كَلِّ مَيِّتٍ عَلَى مَسْأَلَتِهِ، وَصَحِّحِ المُنْكَسِرَ كَمَا سَبَقَ، وَإِنْ لَمْ يَرِثُوا الثَّانِيَ كَالأَوَّلِ صَحَّحْتَ الأُولَى، وَقَسَمْتَ أَسْهُمَ الثَّانِي عَلَى وَرَثَتِهِ، فَإِنِ انْقَسَمَتْ صَحَّتْ مِنْ أَصْلِهَا،
قوله: «وإن كان ورثة كل ميت لا يرثون غيره، كإخوة لهم بنون، فصحح الأولى واقسم سهم كل ميت على مسألته، وصحح المنكسر كما سبق» ، إذا ماتوا واحداً بعد واحد ولم تقسم تركة الأول، وورثة كل ميت لا يرثون غيره، يعني كل واحد مستقل بورثته، فصحح الأولى ثم صحح مسألة الميت الثاني، ثم اقسم نصيبه من المسألة الأولى على مسألته، فإن انقسم صحَّت المسألتان من عدد واحد، وإن لم ينقسم فإما أن يباين وإما أن يوافق، يعني اجعل المسألة الثانية كورثة انكسر سهامهم عليهم، مثال ذلك: هلك هالك عن ثلاثة أبناء، المسألة من ثلاثة، صحَّحناها كل واحد أخذ واحداً، لكن أحدهم مات قبل القسمة عن أربعة أبناء، فالمسألة الأولى من ثلاثة، أعطينا كل واحد نصيبه فكان نصيب الميت واحداً، ومسألته من أربعة، اقسم واحداً على أربعة لا ينقسم ويباين، اضرب مسألته أربعة في المسألة الأولى ثلاثة تبلغ اثني عشر، صارت مسألة الثاني كأنها رؤوس ورثة انكسرت عليها سهامهم، من له من المسألة الأولى شيء أخذه مضروباً في المسألة الثانية، فللوارث الباقي، الأول واحد في أربعة بأربعة، والثاني واحد في أربعة بأربعة، ومن له شيء من الثانية أخذه مضروباً في سهام مورثه من الأولى، الباقون أربعة كل واحد له واحد، اضرب واحداً في نصيب مورثه يساوي واحداً، وكذلك فافعل.
فطريقة العمل إذا مات أكثر من واحد بعد الأول، وورثة كل ميت لا يرثون غيره، فالعمل كالتالي:
نصحح مسألة الأول ونعرف سهم كل وارث، ثم نصحح مسألة كل واحد ونقسم عليها سهامه من المسألة الأولى، إما أن ينقسم أو يباين أو يوافق، ثم نصحح الثالثة ونقسم عليها السهام، إما أن يوافق أو يباين أو ينقسم وهكذا، ثم نجمع مسائل الأموات الأخيرة، وننظر بينها بالنسب الأربعة، موافقة، مباينة، مماثلة، مداخلة، المماثلة نكتفي بواحد، والموافقة نرد وفق إحداهما لما توافق به الأخرى، والمداخلة نكتفي بالكبرى، والمباينة نضرب كل واحد في الأخرى.
مثال ذلك: اثنان وأربعة بينهما مداخلة نكتفي بالأربعة، أربعة وستة بينهما موافقة بالنصف؛ لأن الستة لها النصف والأربعة لها النصف، ثلاثة وثلاثة مماثلة، ثلاثة وأربعة مباينة، ثم نضرب الحاصل من النظر بينها بالنسب الأربعة، ويسمى جزء السهم في مسألة الميت الأول، فما بلغ فهو الجامعة، ثم نضرب جزء السهم في نصيب كل واحد من المسألة الأولى، فمن كان حياً أخذ نصيبه، ومن كان ميتاً قسمنا الحاصل على مسألته فما كان فهو جزء سهمها، يضرب به نصيب كل واحد منها.
قوله: «وإن لم يرثوا الثاني كالأول صحَّحْتَ الأولى، وقسمت أسهم الثاني على ورثته، فإن انقسمت صحت من أصلها» إذا
انقسمت سهام الميت الثاني على مسألته صحَّتا، أي: المسألتان الأولى والثانية «من أصلها» أي: من أصل الأولى.
وَإِنْ لَمْ تَنْقَسِمْ ضَرَبْتَ كَلَّ الثَّانِيَةِ أَوْ وِفْقَهَا لِلسِّهَامِ فِي الأُولَى، وَمَنْ لَهُ شَيْءٌ مِنْهَا فَاضْرِبْهُ فِيمَا ضَرَبْتَهُ فِيهَا، وَمَنْ لَهُ مِن الثَّانِيَةِ شَيْءٌ فَاضْرِبْهُ فِيمَا تَرَكَهُ المَيِّتُ أَوْ وِفْقِهِ، فَهُوَ لَهُ، وَتَعْمَلُ فِي الثَّالِثِ فَأَكْثَرَ عَمَلَكَ فِي الثَّانِي مَعَ الأَوَّلِ ........
قوله: «وإن لم تنقسم ضربت كل الثانية» عند التباين.
إذا اختلفت المواريث يجعل لكل ميت جامعة مستقلة، إذا كان الذين ماتوا بعد الميت الأول ثلاثة، نجعل ثلاث جوامع، ونقسم نصيب كل ميت على مسألته، إن انقسمت صحت الجامعة الثانية من الجامعة الأولى، وما عليك إلا أن تنقل الجامعة الأولى ثم توزع سهام الميت منها على ورثته، وإن لم تنقسم، فإما أن تباين أو توافق، إن باينت ضربنا، كل سهام الميت من الجامعة في الجامعة، وإن وافقت فالوِفْقَ، ثم نقول: من له شيء من الجامعة أخذه مضروباً فيما ضربته فيها، وهو وفق مسألة الثاني أو جميعها، ومن له من الثانية شيء أخذه مضروباً في سهام مورثه من الجامعة عند التباين، أو وفقه عند التوافق.
فَصْلٌ
إِذَا أَمْكَنَ نِسْبَةُ سَهْمِ كُلِّ وَارِثٍ مِنَ المَسْأَلَةِ بِجُزْءٍ فَلَهُ كَنِسْبَتِهِ.
قوله: «إذا أمكن نسبة سهم كل وارث من المسألة بجزء فله كنسبته» ، قسمة التركات: وصول نصيب كل وارث إليه بدون نقص، ولها طرق، أحسنها طريق النسبة إذا أمكن، فإن لم يمكن فهناك طرق مذكورة في البرهانية.
طريق النسبة أن تعطي كل واحد من التركة مثل نسبته من المسألة، يعني أن تقول: لفلان السدس أو الربع أو الثمن وهكذا.
مثال ذلك: إذا هلك إنسان عن أم وأخوين من أم وأختين شقيقتين، المسألة من ستة، للأم السدس واحد؛ وللأخوين من الأم الثلث اثنان، وللأختين الشقيقتين الثلثان أربعة، فتعول إلى سبعة، للأم السبع واحد من سبعة، إن كانت معدودة عددناها، وإن كانت مشاعة فهي مشاعة، فإذا كانت التركة عقاراً يكون للأم سُبع العقار، وللأخوين من الأم سُبُعاه يعني اثنين من سبعة، وللأخوات الشقيقات أربعة أسباعه، يعني أربعة من سبعة، هذه النسبة سهلة.
لكن إذا كانت المسألة لا تصح إلا من عدد كثير، فأحياناً تصح من آلاف، فالنسبة تكون صعبة جداً، هل يمكن أن تقول: لهم العشر ونصف نصف نصف نصف العشر؟! ما يتصور هذا! هذه ليس لها طريق إلا الطرق الأخرى، إما طريق القيراط ـ سواء
قلنا: القيراط أربعة وعشرون أو عشرون ـ، وإما طريق ضرب التركة في المسألة.
وقوله: «إذا أمكن» قد يقول قائل: وهل يمكن أن لا يمكن؟ الجواب: نعم يمكن إذا كانت مناسخات وبلغت أعداداً كثيرة تصعب النسبة جداً جداً، فلا يبقى إلا عملية الضرب.
بَابُ ذَوِي الأَرْحَامِ
قوله: «ذوي» بمعنى أصحاب.
قوله: «الأرحام» : جمع رحم وهم القرابة، كما سبق أن أسباب الإرث ثلاثة، رحم ونكاح وولاء، لكن الأرحام هنا غير الأرحام هناك، الأرحام هنا كل قريب ليس بذي فرض ولا عصبة، فأبو أمك قريب ليس من أصحاب الفروض؛ لأن الجد ليس من أصحاب الفروض إذا كان مسبوقاً بأنثى، وليس من العصبات؛ لأن الأصول الضابط فيهم أن كل من سُبِقَ بأنثى فإنه لا يرث، فنسميه صاحب رحم، الخال أخو أمك، والعم أخو أبيك، الأول من ذوي الأرحام؛ لأنه قريب، لكنه ليس من أصحاب الفروض ولا من العصبة، إذاً هو ذو رحم، والثاني عاصب.
فذَوُو الأرحام إذا عرف الإنسان العصبة، وعرف ذوي الفروض عرف ذوي الأرحام، كما تقول: الجيم تحتها نقطة والخاء فوقها نقطة والحاء ليس فيها نقط، الآن تعرف الحاء؛ لأنك عرفت ما يقابلها، فاعرف ذوي الفروض واعرف العصبة تعرف ذوي الأرحام.
وذَوُو الأرحام اختلف العلماء رحمهم الله في توريثهم، ولكن القول الراجح المتعين أن توريثهم واجب؛ لقول الله تعالى:{وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأحزاب: 6].
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الخالة بمنزله الأم»
(1)
، وقال:«الخال وارث من لا وارث له»
(2)
، وهذا نص.
والقول بعدم التوريث قول ضعيف ـ سبحان الله ـ نحرم الخال أو أبا الأم من مال القريب، ونضعه في بيت المال يأكله أبعد الناس!! مثل هذا لا تأتي به الشريعة، فالصواب المقطوع به أن ذوي الأرحام وارثون، لكن بعد ألا يكون ذو فرض أو عاصب، ولهذا نقول: ذوو الأرحام كل قريب ليس بذي فرض ولا عصبة.
لكن كيف يرثون؟ العلماء اختلفوا في كيفية التوريث، فمنهم من قال: يرث الأقرب مطلقاً، فالأقرب بأي جهة يرث؛ لأن الله يقول:{وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} ، والأقرب أولى من الأبعد، فخال وابن عمة المال للخال؛ لأنه أقرب.
يَرِثُونَ بِالتَّنْزِيلِ الذَّكَرُ وَالأُنْثَى سَوَاءٌ، فَوَلَدُ البَنَاتِ، وَوَلَدُ بَنَاتِ البَنِينَ، وَوَلَدُ الأَخَوَاتِ كَأُمَّهَاتِهِمْ،
ومن العلماء من قال: يرثون بالتنزيل، أي: أنهم ينزلون منزلة من أدلوا بهم، وهذا الذي مشى عليه المؤلف رحمه الله فقال:
«يرثون بالتنزيل» يعني نزلهم منزلة من أدلوا به، فأبو الأم مدلٍ بالأم فله ميراث الأم، ابن الأخت مدلٍ بالأخت فله ميراث
(1)
أخرجه البخاري في الصلح/ باب كيف يكتب
…
(2699) عن البراء بن عازب رضي الله عنه.
(2)
أخرجه الإمام أحمد (4/ 131)؛ وأبو داود في الفرائض/ باب في ميراث ذوي الأرحام (2899)؛ وابن ماجه في الديات/ باب الدية على العاقلة
…
(2634) عن المقداد بن معد يكرب. قال الحافظ في البلوغ (951): «حسنه أبو زرعة الرازي وصححه ابن حبان (6035) والحاكم (4/ 344)» . وانظر: التلخيص (1345) والإرواء (1700).
الأخت، ابن الأخ من الأم مدلٍ بالأخ من الأم فله ميراث الأخ من الأم، فهم يرثون بالتنزيل قال الناظم:
نَزِّلْهُمُ منزلةَ مَنْ أدلَوْا بِهِ
إِرْثَاً وَحَجْبَاً هكذا قَالوا بِهِ
قوله: «الذكر والأنثى سواء» ، فابن الأخت وبنت الأخت يرثان ميراث الأخت على السواء، هكذا مشى عليه المؤلف؛ وعلل بعلة عليلة وهي أنهم يرثون بالرحم المجردة، فاستوى ذكرهم وأنثاهم كولد الأم، فالإخوة من الأم يرثون بالسوية، الذكر والأنثى سواء، أخ وأخت من الأم لهم الثلث بالسوية؛ لأنهم يرثون بالرحم المجردة، أي: بالقرابة المجردة عن الحمية وعن العصبية.
والقول الثاني في المسألة: أنهم إن أدلوا بمن ذكرهم وأنثاهم سواء فذكرهم وأنثاهم سواء، وإن أدلوا بمن يختلف فيه الذكر عن الأنثى فهم يختلفون، فأولاد الإخوة من الأم سواء، فلو هلك هالك عن بنت أخ من أم وابن أخ من أم فهم سواء؛ لأنهم أدلوا بمن ذكرهم وأنثاهم سواء، وهذا مقتضى قولنا: إننا ننزلهم منزلة من أدلوا به، أما إذا أدلوا بمن يختلف ذكرهم وأنثاهم فيجب أن يكون للذكر مثل حظ الأنثيين، ابن العمة وبنت العمة، فالعمة مدلية بالأب، والأب ممن يفضّل فيهم الذكر على الأنثى، فلابن العمة الثلثان ولبنت العمة ثلث ميراث العمة.
قوله: «فولد البنات وولد بنات البنين وولد الأخوات كأمهاتهم» ، ولد البنات الذكور والإناث كأمهم، هلك هالك عن ابن بنت
وبنت بنت نجعلهما بمنزلة البنت فلهما ميراث البنت ـ على كلام المؤلف ـ يستويان فيه.
وعلى القول الثاني: للذكر مثل حظ الأنثيين، فلو مات ميت عن ابن بنت وبنت بنت وعن ابن أخت شقيقة، نزل ابن البنت وبنت البنت منزلة البنت، ونزل ابن الأخت الشقيقة منزلة الأخت الشقيقة، وقَدِّر كأن الميت مات عن بنت وأخت شقيقة، فللبنت النصف وللأخت الشقيقة الباقي بالتعصيب، فابن البنت وبنت البنت لهما النصف وابن الأخت الشقيقة له الباقي، فابن الأخت الشقيقة صار أكثر إرثاً من ابن البنت وبنت البنت؛ لأنهما ـ على كلام المؤلف ـ لهما النصف لكل واحد الربع، وعلى القول الثاني النصف مقسوماً على ثلاثة، لابن البنت اثنان، ولبنت البنت واحد.
وقوله: «وولد بنات البنين وولد الأخوات كأمهاتهم» ، فلو هلك هالك عن بنت بنت وبنت بنت ابن، فبنت البنت تصل إلى الوارث بدرجة واحدة، وبنت بنت الابن تصل إلى الوارث بدرجتين، فكأنه مات عن بنت وبنت ابن.
هلك هالك عن بنت بنت، وبنت بنت ابن، وعمة، لبنت البنت النصف ولبنت بنت الابن السدس تكملة الثلثين، وللعمة السدس فرضاً والباقي تعصيباً؛ لأنها مدلية بالأب، فإذا قدرنا أن الميت مات عن بنت وبنت ابن وأب، فالميراث هكذا، للبنت النصف ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين، وللأب السدس فرضاً والباقي تعصيباً.
وقوله: «وولد الأخوات كأمهاتهم» الذكور والإناث، يعني ابن الأخت وبنت الأخت سواء، فإذا هلك هالك عن بنت أخت شقيقة وبنت أخت لأب وعمة، فكأنه مات عن أخت شقيقة وأخت لأب وأب، المال للأب، إذاً بنت الأخت الشقيقة ما لها شيء، وبنت الأخت لأب ما لها شيء؛ لأن الأب يحجب، ولنجعل العمة بنت عم شقيق، فكيف نقسم؟
نقول: قدر كأنه مات عن أخت شقيقة وأخت لأب وعم شقيق، للأخت الشقيقة النصف وللأخت لأب السدس تكملة الثلثين، والباقي للعم، نقول: بنت الأخت الشقيقة لها النصف، وبنت الأخت لأب لها السدس تكملة الثلثين، والباقي لبنت العم.
وَبَنَاتُ الإِخْوَةِ وَالأَعْمَامِ لأَبَوَيْنِ أَوْ لأَبٍ، وَبَنَاتُ بَنِيهِمْ، وَوَلَدُ الإِخْوَةِ لأُمٍّ كَآبَائِهِمْ ..
قوله: «وبناتُ الإخوةِ والأعمامِ» الأعمامِ بالكسر ويتعين؛ لأننا لو قلنا: «والأعمامُ» بالضم ما استقام المثال؛ لأنهم عصبة ولا ميراث لبنات الأخوات معهم، ومثل هذا يحسن بالمؤلف أن يقول:«وبناتُ الإخوة وبناتُ الأعمام» لئلا يتوهم.
قوله: «لأبوين أو لأب، وبناتُ بنيهم، وولد الإخوة لأم كآبائهم» وإنما قال المؤلف رحمه الله «وبنات الإخوة والأعمام» ؛ لأن بني الإخوة عصبة، وبني الأعمام عصبة، أما الإخوة من الأم فإن أبناءهم وبناتهم كلهم من ذوي الأرحام؛ ولهذا قال:«وولد الإخوة لأم كآبائهم» .
إذاً بنت الأخ الشقيق وبنت الأخ لأب كآبائهم، فلو هلك عن بنت أخ شقيق، وبنت أخ لأب، فالمال لبنت الأخ الشقيق؛
لأنه لو هلك هالك عن أخ شقيق وأخ لأب فالذي يرث الأخ الشقيق ولا شيء للأخ لأب.
وقوله: «والأعمام لأبوين» أيضاً، ولم يقل: وولد الأعمام لأم؛ لأن أصل العم لأم من ذوي الأرحام، لكن العم الشقيق والعم لأب عصبة، وبنات الأعمام لأبوين أو لأب كآبائهم، فبنت العم الشقيق بمنزلة العم الشقيق، وبنت العم لأب كذلك.
هلك هالك عن بنت ابن عم شقيق، وعن بنت عم لأب، فالميراث لبنت العم لأب؛ لأنها أقرب؛ فبنت ابن عم شقيق اجعلها بمنزلة ابن العم الشقيق، واجعل بنت العم لأب بمنزلة العم لأب، فلو هلك هالك عن عم لأب وابن عم شقيق لكان المال للعم لأب.
وَالأَخْوَالُ وَالخَالَاتُ وَأَبُو الأُمِّ كَالأُمِّ وَالعَمَّاتُ وَالعَمُّ لأُمٍّ كَأَبٍ، وَكُلُّ جَدَّةٍ أَدْلَتْ بِأَبٍ بَيْنَ أُمَّيْنِ هِيَ إِحْدَاهُمَا، كَأُمِّ أَبِي أُمٍّ، أَوْ بِأَبٍ أَعْلى مِنَ الجَدِّ، كَأُمِّ أَبِي الجَدِّ ..........
قوله: «والأخوال والخالات وأبو الأم كالأم» الأخوال كالأم، والخالات كالأم، وأبو الأم كالأم، لكن لو اجتمع أخوال وخالات وأبو أم، يرث أبو الأم؛ لأن الأب يحجب الإخوة، ولكن مراد المؤلف رحمه الله في التنزيل، أما الميراث فحسب المسألة.
نبدأ بالأخوال: هلك هالك عن خال وعمة شقيقة، فالخال بمنزلة الأم، والعمة الشقيقة بمنزلة الأب، فعندنا أم وأب، للأم الثلث والباقي للأب، فللخال الثلث وللعمة الباقي.
الخالات: لو هلك هالك عن خالةٍ وعمةٍ، فالخالة بمنزلة الأم والعمة بمنزلة الأب، فكأنه مات عن أم وأب، للأم الثلث وللأب الباقي، إذاً للخالة الثلث وللعمة الباقي.
وقوله: «وأبو الأم كالأم» فلو هلك هالك عن خال وخالة
وأبي أم وبنت عم ننزلهم، فنقول: الخال والخالة وأبو الأم بمنزلة الأم، وبنت العم بمنزلة العم، فكأنه هلك عن أم وعم، نصيب الأم وهو الثلث لمن أدلوا بها، وهم أبوها وأخوها وأختها، فلو ماتت عن هؤلاء لورثها أبوها، إذاً لأبي الأم الثلث، ولبنت العم الباقي؛ لأنها أدلت بالعم.
قوله: «والعمات والعم لأم كأب» العمات أخوات الأب، والعم لأم أخو الأب لأمه، ينزلون منزلة الأب.
قوله: «وكل جدة أدلت بأب بين أُمَّيْن هي إحداهما كأم أبي أم» مثاله: أم أبي أم هذه من ذوي الأرحام؛ لأن الذي أدلت به وهو الجد أبو الأم من ذوي الأرحام، وهو غير وارث؛ لأنه مسبوق بأنثى، والمدلي بذوي الأرحام، من ذوي الأرحام.
قوله: «أو بأب أعلى من الجد كأم أبي الجد» إذا أدلت الجدة بأبٍ أعلى من الجد فهي من ذوي الأرحام، فأم الأب وإن علت أمومة وارثة، وأم الجد وإن علت أمومة وارثة، وأم أبي الجد غير وارثة؛ لأن المؤلف يقول:«بأب أعلى من الجد» فتكون من ذوي الأرحام، وقد مر علينا أن الصحيح أنها وارثة، وأن كل جدة أدلت بوارث فهي وارثة، وكل جدة أدلت بغير وارث فهي غير وارثة، إذاً أم أبي الجد وارثة؛ لأننا نقول: أي فرق بين أم أم أبي الجد وبين أم الجد؟ لا فرق!! كلتاهما مدلية بوارث، ويجب أن نقول: كل من أدلت بوارث فهي وارثة.
وَأَبُو أُمِّ أَبٍ، وَأَبُو أُمِّ أُمٍّ، وَأَخَوَاهُمَا، وَأُخْتَاهُمَا بِمَنْزِلَتِهِم، فَيُجْعَلُ حَقُّ كُلِّ وَارِثٍ لِمَنْ أَدْلَى بِهِ، فَإِنْ أَدَلَى جَمَاعَةٌ بِوَارِثٍ وَاسْتَوتَ مَنْزِلَتُهُمْ مِنْهُ بِلا سَبْقٍ، كَأَوْلادِهِ، فَنَصِيبُهُ لَهُمْ،
....
قوله: «وأبو أم أب، وأبو أم أم، وأخواهما، وأختاهما بمنزلتهم» ، أم الأب وارثة؛ لأنها جدة ليس بينها وبين الميت إلا واحد، أبوها غير وارث لكنه بمنزلتها، وأبو الأم فهو غير وارث؛ لأنه من ذوي الأرحام فيكون بمنزلة أم الأم؛ لأن كل من أدلى بوارث فهو بمنزلته.
وقوله: «وأخواهما وأختاهما» إما أعمام أو أخوال، يكونون بمنزلتهم، سواء من قبل الأب أو من قبل الأم.
قوله: «فيجعل حق كل وارث لمن أدلى به» ، فمن أدلى بأم الأب فله نصيبها السدس، ومن أدلى بالأخت فله نصيبها، وهلم جرًّا، المهم أول ما يصل إلى الوارث فله نصيب ذلك الوارث الذي وصل إليه.
قوله: «فإن أدلى جماعة بوارث واستوت منزلتهم منه بلا سبق، كأولاده، فنصيبه لهم» ، ذوو الأرحام إما أن يدلي واحد بواحد، أو جماعة بواحد، أو جماعة بجماعة، فإن أدلى جماعة بوارث واستوت منزلتهم منه بلا سبق، كأولاده فنصيبه لهم، مثاله: أخ من أم له ثلاثة أبناء، هؤلاء جماعة من ذوي الأرحام أدلوا بالأخ من الأم، فلهم نصيبه.
وقوله: «بلا سبق» مفهومه إن كان أحدهم أسبق إليه فلا شيء للآخر؛ لأنه أنزل، فأبناء أخ من أم، وأبناء أبناء أخ من أم، الأخيرون لا يرثون؛ لأن المؤلف رحمه الله اشترط أن تستوي منزلتهم منه بلا سبق.
فَابْنٌ وَبِنْتٌ لأُخْتٍ مَعَ بِنْتٍ لأُخْتٍ أُخْرَى، لِهَذِهِ حَقُّ أُمِّهَا وَلِلأُولَيَيْنِ حَقُّ أُمِّهِمَا، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ مَنَازِلُهُمْ مِنْهُ جَعَلْتَهُمْ مَعَهُ كَمَيَّتٍ اقْتَسَمُوا إِرْثَهُ، فَإِنْ خَلَّفَ ثَلاثَ خَالاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ، وثَلاثَ عَمَّاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ،
..........
قوله: «فابن وبنت لأخت مع بنت لأخت أخرى، لهذه حق أمها وللأُولَيَيْنِ حق أمهما» ، فابن وبنت أخت اسمها زينب، مع بنت لأخت أخرى اسمها فاطمة، هؤلاء الثلاثة أدلوا بأختين شقيقتين يكون لهم الثلثان، لكن هل نقسمه أثلاثاً، أو نقول: الابن والبنت لهما حق أمهما زينب، والبنت الأخرى للأخت الأخرى لها حق أمها؟ الثاني؛ لأن هؤلاء أدلوا بجماعة، فيعطى كل من أدلى بوارث ميراث من أدلى به، فللأختين الثلثان، فيكون ثلث الأخت التي لها ابن وبنت لابنها وبنتها، ويكون ثلث الأخت التي لها بنت واحدة لبنتها، وهل للذكر له مثل حظ الأنثيين؟ المذهب لا، والصحيح نعم.
قوله: «وإن اختلفت منازلهم منه» ، هذا ضد قوله:«واستوت منزلتهم» .
قوله: «جعلتهم معه كميت اقتسموا إرثه» ، مثال ذلك:
قوله: «فإن خلف ثلاث خالات متفرقات وثلاث عمات متفرقات» ، ثلاث خالات متفرقات يعني خالة شقيقة، والثانية خالة من أم، والثالثة خالة من أب، وثلاث عمَّات متفرقات، واحدة شقيقة، واحدة لأم، واحدة لأب، الخالات مدليات بالأم، والعمَّات مدليات بالأب، قَدِّر كأن الميت مات عن أم وأب،
للأم الثلث وللأب الباقي، اقسم نصيب الأم على ورثتها وهن أخت شقيقة وأخت لأب وأخت لأم، المسألة من ستة للشقيقة النصف ثلاثة، وللتي للأب السدس تكملة الثلثين واحد، للأخت الأم السدس واحد، وترد إلى خمسة.
نصيب الأب الثلثان نقسمه بين ورثته أخت شقيقة وأخت لأب وأخت لأم، المسألة من ست للشقيقة النصف ثلاثة، وللتي للأب السدس تكملة الثلثين واحد، وللأخت لأم السدس واحد، فترد إلى خمسة، ولهذا قال المؤلف:
فَالثُّلُثُ لِلخَالاتِ أَخْمَاساً، وَالثُّلُثَانِ لِلعَمَّاتِ أَخْمَاساً، وَتَصِحُّ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ، وَفِي ثَلاثَةِ أَخْوَالٍ مُتَفَرِّقِينَ لِذِي الأُمِّ السُّدُسُ، وَالبَاقِي لِذِي الأَبَوَيْنِ،
........
«فالثلث للخالات أخماساً والثلثان للعمات أخماساً وتصح من خمسة عشر» ، فالقاعدة إذا أدلى جماعة بجماعة، اقسم المال بين المدلى بهم كأن الميت مات عنهم، ثم اقسم المال بين المدلين كأن المدلى بهم ماتوا عنهم، وتصح المسألة؛ وذلك لأن إرث ذوي الأرحام بالتنزيل وليس بالقرابة.
قوله: «وفي ثلاثة أخوال متفرقين» ، أحدهم أخ للأم من الأم والثاني أخ للأم من الأب، والثالث أخ للأم شقيق.
قوله: «لذي الأم السدس» ، الخال من أم له السدس.
قوله: «والباقي لذي الأبوين» ، لأنه لو ماتت الأم عنهم لكانت المسألة كما يلي، أخ شقيق وأخ لأب وأخ لأم، فللأخ لأم السدس، وللأخ الشقيق الباقي، والأخ لأب ليس له شيء،
ولو صاح الأخ لأب: كيف تعطون الأخ لأم وأنا لا تعطونني؟! نقول: لأنه ذو فرض وأنت عاصب وحجبك الشقيق.
فَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ أَبُو أُمٍّ أَسْقَطَهُمْ، وَفِي ثَلاثِ بَنَاتِ عُمُومَةٍ مُتَفَرِّقِينَ المَالُ لِلَّتِي لِلأَبَوَيْنِ، وَإِنْ أَدْلَى جَمَاعَةٌ بِجَمَاعَةٍ قَسَمْتَ المَالَ بَيْنَ المُدلَى بِهِمْ، فَمَا صَارَ لِكُلِّ وَاحِدٍ أَخَذَهُ المُدْلِي بِهِ، وَإِنْ سَقَطَ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ عَمِلْتَ بِهِ، وَالجِهَاتُ أُبُوَّةٌ، وَأُمُومَةٌ، وَبُنُوَّةٌ.
قوله: «فإن كان معهم أبو أم أسقطهم» ، لأن الأب يسقط الإخوة، فلو هلك هالك عن خال شقيق وخال لأم وخال لأب وأبي أم، قَدِّر كأن الأم ماتت عن أخيها الشقيق وأخيها من أب وأخيها من أم وأبيها، من يرثها؟ أبوها، ولو كان معهم جد أم فعلى القول الراجح يسقط الإخوان، وعلى القول الثاني يرث معهم على التفصيل السابق.
قوله: «وفي ثلاث بنات عمومة متفرقين» ، «متفرقين» وصف للعمومة، أي: ثلاثة أعمام متفرقين.
قوله: «المال للتي للأبوين» ، هلك هالك عن بنت عم شقيق وبنت عم لأب وبنت عم لأم، قَدِّر كأن الميت مات عن ثلاثة أعمام، عم شقيق وعم لأب وعم لأم، من يرث؟ العم الشقيق، العم لأم ليس بوارث؛ لأنه من ذوي الأرحام، والعم لأب محجوب بالعم الشقيق.
قوله: «وإن أدلى جماعة بجماعة قسمت المال بين المدلى بهم، فما صار لكل واحد أخذه المدلي به، وإن سقط بعضهم ببعض عملت به» ، إذا أدلى جماعة بجماعة فاقسم المال أولاً بين المدلى بهم، ثم ما كان لكل واحد أخذه المدلي به على حسب الميراث، وإن
سقط بعضهم، أي: بعض المدلى بهم ببعض عملت به، مثال ذلك:
هلك هالك عن بنت بنت، وبنت أخ شقيق، وبنت أخ لأم، أدلى الآن جماعة بجماعة، ثلاثة أدلوا بثلاثة، اقسم المال بين المدلى بهم أولاً، وقَدِّر كأن الميت مات عن بنت وأخ شقيق وأخ لأم، للبنت النصف والباقي للأخ الشقيق، والأخ لأم تسقطه البنت، إذن نقول: لبنت البنت النصف، ولبنت الأخ الشقيق الباقي، ولا شيء لبنت الأخ لأم.
إذاً إذا أدلى واحد بواحد فله نصيبه، وإذا أدلى جماعة بواحد فلهم نصيبه، يرثونه كما يرثونه لو كان هو الميت، وإذا أدلى جماعة بجماعة فإننا نقسم المال أولاً بين المدلى بهم، ثم نورث المدلين كأن المدلى بهم ماتوا عنهم، وبهذا تم ميراث ذوي الأرحام.
قوله: «والجهات أبوة، وأمومة، وبنوة» ، هذه جهات ذوي الأرحام، وفي التعصيب الجهات خمسة، لكن في ذوي الأرحام جعلوها ثلاثة على اختلاف بين العلماء في هذا؛ لأن ذوي الأرحام لا يوجد فيه نصوص تفصيلية.
فالأبوة يدخل فيها كل من يأتي من قبل الأب، العم لأم من جهة الأبوة؛ لأنه أخو أبيك، أو ابن جدتك من قبل أبيك فهو من قبل الأبوة، والخال من قبل الأمومة؛ لأن الصلة بينك وبينه من قبل الأم، الإخوة من الأم أبناؤهم من جهة الأمومة، والمذهب خلاف هذا، فالمذهب أن أبناء الإخوة من الأم من جهة الأبوة،
لكن ليس قولهم وحياً منزلاً، فنحن نقول: أين الأبوة؟! إخوتك من الأم ليس لأبيك بهم صلة إطلاقاً، ولهذا نرى أن أولاد الإخوة من الأم من جهة الأمومة بلا شك.
البنوة يدخل فيها من يدلي من الفروع بأنثى، أبناء البنات، أبناء بنات الابن، وهكذا، فما فائدة معرفة هذه الجهات؟ يقول الفقهاء: إن كانوا في جهة واحدة فالأسبق إلى الوارث يحجب من دونه، وإن كانوا في جهتين نرقِّي كل واحد حتى يصل إلى الوارث، فإذا كان أبو أم فهو من جهة الأمومة، وبنت بنت بنت بنت بنت، هل نقول: إن أبا الأم الأقرب إلى الميت فيحجب البنت النازلة؟ لا؛ لأنهما في جهتين، وإذا كانوا في جهتين وجب أن نرقِّيَ المدلي حتى يصل إلى الوارث ولو بَعُد، أما إذا كانوا في جهة واحدة فالأقرب يحجب.
مثال ذلك: بنت بنت بنت بنت، وبنت بنت، وبنت عم، هذه لا تضر؛ لأنها في جهة أخرى، هل بنت البنت التي في المرتبة الثانية تحجب بنت البنت التي في الرابعة؟ نعم، تحجبها؛ لأنها أقرب إلى الميت، وبنت العم ترث الباقي، فنقول: بنت البنت لها النصف، والباقي لبنت العم.
إذاً الفائدة من معرفة الجهات هو أن ذوي الأرحام إذا كانوا في جهة واحدة، فالأقرب يحجب الأبعد، وإذا كانوا في جهتين يرقى كل واحد حتى يصل إلى الوارث.
فابن ابن ابن ابن ابن ابن خال جهته الأمومة، هل يرث مع بنت البنت القريبة؟ نعم يرث؛ لأن الجهة مختلفة.
أم أبي الأم، وأم أبي أم الأب، هل هؤلاء الجدات مختلفات في الجهة؟
نعم؛ لأن الأولى من جهة الأمومة والثانية من جهة الأبوة، فنرقي كل واحدة حتى تصل إلى الوارث وترث، لكن كيف ترث؟
نقول كما سبق: للجدات إِنْ تساوين السدس بينهن، وإن لم يتساوين فللقريبة، لكن المذهب يرون أن الجدات سواء من قِبل الأم أو من قبل الأب في جهة واحدة، والإنسان يتعجب كيف تكون أم أبي الأم في جهة الأب؟!
قالوا: لأن كل واحدة منهما تسمى جدة، والمسألة مسألة اجتهاد؛ لأنه لم يرد في القرآن والسنة تفصيل في ميراث ذوي الأرحام، ولهذا اختلف فيه العلماء اختلافاً كثيراً.
بَابُ مِيرَاثِ الحَمِْلِ وَالخُنْثَى المُشْكِلِ
مَنْ خَلَّفَ وَرَثَةً فِيهِم حَمْلٌ فَطَلَبُوا القِسْمَةَ وُقِفَ لِلحَمْلِ الأَكْثَرُ مِنْ إِرْثِ ذَكَرَيْنِ أَوْ أُنْثَيَيْنِ،
............
أفادنا المؤلف رحمه الله بهذه الترجمة أن الحمل له ميراث، ولكن لا بد له من شرط، وهو أن يعلم وجوده حال موت مورثه فإن لم يعلم فإنه لا يرث، وذلك فيما إذا ولد لستة أشهر فأكثر من موت مورثه وأمُّه توطأ، فإنه في هذه الحال لا يدرى أنشأت به أمه بعد موت المورث أو قبله، ولهذا لا بد أن نقول: الحمل لا بد أن يعلم وجوده حال موت مورثه، وذلك بأن تأتي به لأقل من ستة أشهر من موت مورثه ويعيش؛ وهذه الحال الأولى؛ لأنه لا يمكن أن يولد حمل قبل ستة أشهر ويعيش.
الحال الثانية: أن تأتي به بعد أربع سنوات، فلا يرث بناء على أن أكثر مدة الحمل أربع سنوات على كلام الفقهاء رحمهم الله.
الحال الثالثة: ما بين ذلك أن تلده لستة أشهر فأكثر من موت مورثه، فإن كانت لا توطأ علمنا أنه موجود يقيناً، وإن كانت توطأ فلا نعلم؛ لأنه يحتمل أنها نشأت به بعد موت المورث، وإلا فلا يرث.
والحمل كما هو معلوم، إما أن يكون ذكراً أو أنثى، أو ذكراً وأنثى، أو ذكرين، أو أنثيين، وإما أن يخرج حياً أو يخرج ميتاً، كل هذه احتمالات؛ ولذلك نستعمل اليقين في ميراثه.
قوله: «من خلف ورثة فيهم حملٌ فطلبوا القسمة» أفادنا
بقوله: «فطلبوا القسمة» ، أنهم إما ألا يطلبوا القسمة ويقولوا: ننتظر حتى يوضع الحمل ونعرف، وإما أن يطلبوا القسمة، وإذا طلبوا القسمة، فهل يجابون إلى طلب القسمة، أو يقال: انتظروا حتى يخرج الحمل؟ الجواب: يجابون؛ لأن المال مالهم، فإنه لما مات الميت صار ماله للورثة، فإذا طلبوا القسمة أجيبوا، وإن طلب بعضٌ وامتنع بعضٌ يجاب الطالب؛ لأنه شريك ويقول: أنا أريد أن أفسخ الشركة وأستقل بميراثي فيجاب.
إذاً قوله: «فطلبوا القسمة» ، يعني أو أحدهم طلب القسمة فإنه يجاب، ولكن ماذا نصنع بالحمل؟ يقول:
«وُقِفَ للحمل الأكثر من إرث ذكرين أو أنثيين» ، فتارة يكون الأكثر إرث ذكرين، وتارة يكون الأكثر إرث أنثيين، فإذا استغرقت الفروض أكثر من الثلث فالأكثر إرث أنثيين؛ لأنه سيبقى لهما الثلثان، وإن كان أقل من الثلث فالأكثر إرث ذكرين؛ لأنه لو كان أنثيين كان لهما الثلثان والباقي للعاصب، لكن إذا كان ذكرين صار الباقي لهما، وهذا ضابط ويظهر بالأمثلة.
هلك هالك عن زوجة حامل وعن ابنين، الزوجة على كل حال لها الثمن، سواء خرج الحمل حياً أو ميتاً؛ لأنه لا يمكن أن يزيد إرثها عن الثمن لوجود اثنين من الأبناء، بقي الحمل، هل نوقف له إرث أنثيين، أو إرث ذكرين، أو إرث ذكر، أو إرث أنثى؟ الجواب: إرث ذكرين؛ لأنا لو وقفنا إرث ذكرين صار للموجودَيْن نصف الباقي؛ لأنه يكون مات عن أربعة أبناء، للابنين
الموجودَيْن نصف الباقي، وإن قدرناه واحداً صار للاثنين الثلثان، وإن قدرناه أنثى صار للموجودَيْن أربعة أخماس، إذاً الأكثر أن نقدره ذكرين، فإن قال قائل: لماذا لم نقدره ثلاثة؟ نقول: هذا نادر، والنادر لا حكم له، لكن لو فرضنا أننا قدرناه اثنين ثم زادا رجع في نصيبهم.
فإذا قال قائل: لماذا لا نقدره واحداً لأنه متيقن؟ قلنا؛ لأن وجود الاثنين كثير، ولو ذهبنا إلى اليقين لقلنا: لا نجعل له شيئاً؛ لأنه يحتمل أن يسقط ميتاً، لذلك اختار أصحابنا رحمهم الله أن يوقف له نصيب اثنين، فإن كان الأكثر نصيب الأنثيين وقف نصيب الأنثيين، وإن كان الأكثر نصيب الذكرين وقف نصيب الذكرين.
فَإِذَا وُلِدَ أَخَذَ حَقَّهُ، وَمَا بَقِيَ فَهُوَ لِمُسْتَحِقِّهِ، وَمَنْ لَا يَحْجِبُهُ يَأْخُذُ إِرْثَهُ كَالجَدَّةِ، وَمَنْ يُنْقِصُهُ شَيْئاً اليَقِينَ، وَمَنْ سَقَطَ بِهِ لَمْ يُعْطَ شَيْئَاً، وَيرِثُ وَيُورَثُ إِنِ اسْتَهَلَّ صَارِخاً
…
قوله: «فإذا ولد» يعني الحمل.
قوله: «أخذ حقه وما بقي فهو لمستحقه» وإن زاد رجع على الموجودين، فلو هلك هالك عن ابنين وزوجة حامل، الزوجة لها الثمن، ونقدر أن الحمل ذكران فنعطي الابنين الموجودين نصف الباقي، لكن إن صار الحمل ثلاثة، فنرجع عليهم ونقول: بدلاً من أن نقسمه أرباعاً نقسمه أخماساً، للابنين الموجودين الخمسان وللحمل ثلاثة أخماس.
فصار إذا وقفنا إرث ذكرين أو أنثيين يأخذ حقه، فإن بقي شيء رد على مستحقه، وإن نقص له شيء أخذ ممن أخذه؛ لأن المسألة كلها تحت الواقع المستقبل.
قوله: «ومن لا يحجبه يأخذ إرثه كالجدة، ومن ينقصه شيئاً اليقينَ، ومن سقط به لم يعط شيئاً» ، الورثة الذين مع الحمل ينقسمون إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: لا ينقصه الحمل شيئاً فنعطيه نصيبه كاملاً.
القسم الثاني: ينقصه الحمل فنعطيه اليقين.
القسم الثالث: يحجبه الحمل فلا نعطيه شيئاً.
مثال ذلك: مات رجل عن امرأة حامل وجدة وأخ شقيق، هذا المثال ينطبق على كل الأقسام الثلاثة، الجدة نعطيها كاملاً؛ لأنه لا يحجبها ولا ينقصها، فلها السدس على كل حال، سواء ولد ميتاً أو حياً، الزوجة إن ولد حياً فلها الثمن وإن ولد ميتاً فلها الربع، إذاً الحمل ينقصها فنعطيها اليقين وهو الثمن، الأخ الشقيق إن ولد الحمل ذكراً سقط الأخ، وإن ولد ميتاً ورث الباقي، وإن ولد أنثى أخذ الباقي بعد فرضها فنمنعه من الميراث، ونقول: انتظر؛ لأنه يوجد احتمال أن يكون الحمل ذكراً فيسقط، فلا نعطيه، هذا بالنسبة لإرث من معه.
قوله: «ويرث ويورث إن استهل صارخاً» ، شرط ميراثه أن يستهل صارخاً، وقوله:«صارخاً» حال لكنها حال مؤكِّدة، تؤكد معنى الاستهلال وهو رفع الصوت، ومعناه أنه إذا ولد سمع له صياح؛ لأن المولود إذا ولد لا بد أن يستهل صارخاً، فإن الشيطان
قد رصد له فينخسه في خاصرته ليقتله
(1)
.
أَوْ عَطَسَ أَوْ بَكَى أَوْ رَضَعَ أَوْ تَنَفَّسَ وَطَالَ زَمَنُ التَّنَفُّسِ، أَوْ وُجِدَ دَلِيلُ حَيَاتِهِ غَيْرَ حَرَكَةٍ وَاخْتِلَاجٍ، وَإِنْ ظَهَرَ بَعْضُهُ فَاسْتَهَلَّ ثُمَّ مَاتَ وَخَرَجَ لَمْ يَرِثْ،
قوله: «أو عطس» إذا عطس دَلَّ ذلك على حياته؛ لأنه لا يمكن لهذا الحمل أن يعطس بدون حياة.
قوله: «أو بكى» الفرق بين استهل وبكى أن البكاء لطيف لين ليس صراخاً.
قوله: «أو رضع أو تنفس» أي: سمعناه تنفس، أو تنهَّد.
قوله: «وطال زمن التنفس» فنفس خفيف جداً، ثم يموت، لا يدل على الحياة الكاملة.
قوله: «أو وجد دليل حياته» أيُّ دليل، وما ذكره المؤلف من الأمثلة داخل في قوله:«دليل حياته» فيكون هذا من باب عطف العام على الخاص.
قوله: «غير حركة واختلاج» الحركة اليسيرة ما تدل على الحياة، والاختلاج أي: الاضطراب؛ لأن هذا لا يدل على استقرار الحياة.
قوله: «وإن ظهر بعضه فاستهل ثم مات وخرج لم يرث» ظهر بعضه وصرخ ولكن تعسرت الولادة فمات وخرج فإنه لا
(1)
أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء/ باب قول الله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ} (3431)؛ ومسلم في الفضائل/ باب فضائل عيسى عليه السلام (2366) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
يرث؛ لأنه لم تتم الولادة، إذاً لا بد أن يستهل صارخاً بعد الولادة، بعد أن ينفصل من أمه ويخرج وإلا فلا يرث، فشرط إرث الحمل، شرط سابق وشرط لاحق، الشرط السابق أن يعلم وجوده حين موت مورثه، فإن لم يعلم، كما لو أتت به لستة أشهر فأكثر وهي توطأ فإنه لا يرث؛ لأننا لا ندري هل نشأت به أمه قبل موت المورث، أو بعده؛ ولهذا أحياناً نمنع الرجل من إتيان زوجته إذا كان حملها يرث الميت، كإنسان تزوج امرأة لها أولاد ممن سبق فمات أحد أولادها، نقول: لا تجامعها؛ لأنه إذا جامعها فسيكون هذا الولد الذي في بطنها أخاً من الأم فيرث، فنقول: لا تجامع حتى تحيض المرأة، إذا حاضت علم أن ليس في بطنها حمل.
الشرط اللاحق وهو أن يستهل صارخاً، فإن لم يتم الشرطان فلا ميراث له.
وَإِنْ جُهِلَ المُسْتَهِلُّ مِن التَّوْأَمَيْنِ وَاخْتَلَفَ إِرْثُهُمَا يُعَيَّنُ بِقُرْعَةٍ والخُنْثَى المُشْكِلُ يَرِثُ نِصْفَ مِيرَاثِ ذَكَرٍ وَنِصْفَ مِيراثِ أُنْثَى.
قوله: «وإن جهل المستهل من التوأمين واختلف إرثهما يعين بقرعة» أي: إذا جهل المستهل من التوأمين، فإن كان إرثهما واحداً فلا حاجة للقرعة؛ لأنه سواء وجد هذا أو هذا، وإن اختلفا كما لو كان أحدهما ذكراً والثاني أنثى، فلا بد أن نعين أحدهما بالقرعة؛ لأن القرعة سبيل للتعيين إذا لم نجد غيرها.
وقد جاءت القرعة في القرآن الكريم في موضعين، وجاءت في السُّنة في ستة مواضع، وهي طريق شرعي لتعيين المبهم، في القرآن الكريم جاءت في آل عمران:{وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [44]،
والموضع الثاني في سورة الصافات: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ *إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ *فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ *} ، والسنة معروفة منها أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه، فأيهما خرج سهمها خرج بها
(1)
.
قوله: «والخنثى المشكل» وهو الذي لا يُعلم أهو ذكر أم أنثى، وهو أنواع:
الأول: أن يكون له آلة ذكر وآلة أنثى، يعني فرجاً وذكراً ويبول منهما جميعاً، فهذا لا ندري هل هو ذكر أو أنثى؟
الثاني: أن يكون له مخرجٌ واحد يخرج منه البول والغائط، ولا له آلة ذكر ولا آلة أنثى.
الثالث: أن يكون له دبر مستقل، ويخرج البول من غير ذكر ولا فرج، يخرج رشحاً كالعرق الكثيف.
الرابع: ألا يكون له فرج إطلاقاً من أسفله، لا دبر ولا قبل ولا فرج، وإنما يتقيأ ما يأكله ويشربه، يبقى في معدته ما شاء الله حتى يمتص الجسم ما يحتاجه من غذاء هذا الطعام والشراب، ثم يتقيأ، كل هذا ذكره الفقهاء، فهؤلاء كلهم نسمِّيهم خنثى مشكلاً، وأفادنا المؤلف رحمه الله أن في الخنثى من ليس مشكلاً وهو كذلك، كما لو كان له آلة ذكر وفرج أنثى، ولكنه يبول من فرج الأنثى ويحيض، فهذا غير مشكل، فنجعله أنثى، وكما لو كان له
(1)
أخرجه البخاري في الهبة/ باب هبة المرأة لغير زوجها (2594)؛ ومسلم في فضائل الصحابة/ باب في فضل عائشة رضي الله عنها (2445) عن عائشة رضي الله عنها.
فرج أنثى وآلة ذكر، ويبول من آلة الذكر ولا يبول من آلة الأنثى ولا يحيض، فهذا يسمونه خنثى واضحاً.
ماذا نعمل في الخنثى المشكل؟ نقول: إن وافق الورثة على أن ينتظروا حتى يكبر ويبلغ وينظر، أو حتى تجرى له عملية كما في وقتنا الحاضر، فهذا المطلوب، وإن لم يوافقوا فالمؤلف يقول:
«يرث نصف ميراث ذكرٍ ونصف ميراث أنثى» وهذا هو العدل؛ لأنه ما دام مشكلاً فيجب أن نحتاط، ونقول: لك نصف ميراث ذكر ونصف ميراث أنثى، فلو هلك هالك عن ابنين أحدهما خنثى، فمسألة الذكورية من اثنين ومسألة الأنوثية من ثلاثة، الذكورية من اثنين له واحد ولأخيه واحد، الأنوثية من ثلاثة له واحد ولأخيه اثنان، وبين المسألتين تباين نضرب إحداهما في الأخرى تبلغ ستة، ونقول من له شيء من إحدى المسألتين أخذه مضروباً في الأخرى.
بَابُ مِيرَاثِ المَفْقُودِ
مَنْ خَفِيَ خَبَرُهُ بِأَسْرٍ أَوْ سَفَرٍ غَالِبُهُ السَّلَامَةُ كَتِجَارَةٍ، انْتُظِرَ بِهِ تَمَامُ تِسْعِينَ سَنَةً مُنْذُ وُلِدَ،
المفقود مَنْ فُقِدَ ولم تعلم له حياة ولا موت، إما أنه دخل في حرب ولا يُدرى أسَلِمَ أم قُتِلَ، أو أنها جاءت فيضانات واجترفت الناس ولا يُدرى، أو ركب سفينة ولا يدرى أين ذهب، فماذا نصنع فيه؟ يقول المؤلف:
«من خفي خبره بأسْرٍ أو سفر غالبه السلامة، كتجارة، انتُظر به تمام تسعين سنة منذ ولد» ، مثل إنسان سافر إلى المدينة ـ مثلاً ـ في وقت آمن، ثم فقد، فهذا السفر غالبه السلامة، نقول: ينتظر تمام تسعين سنة منذ ولد، فإذا كان فقد وله عشرون سنة ننتظر سبعين سنة، وإذا فقد وله تسع وثمانون سنة وإحدى عشر شهراً ننتظر شهراً واحداً مع أن ظاهر سفره السلامة، لكن هذا عليه سؤالان:
الأول: لماذا خص تسعون سنة؟ قالوا: لأن هذا أكثر ما يعيش فيه الإنسان غالباً، وأعمار هذه الأمة ما بين الستين إلى السبعين، لكن يوجد من يصل إلى مائة.
الثاني: كيف ننتظر شهراً واحداً؟! هذا لا يكفي؛ لأننا إذا قلنا: ننتظر إلى تمام التسعين، معناه إذا تمت التسعون حكمنا بأنه ميت، ووُرِثَ مالُه واعتدَّت زوجتُهُ وحلت للأزواج، ومثل هذا لا
يكفي في الغالب، وقولهم: إن الأكثر والأغلب أن لا يعيش أكثر من هذا، نقول: لكن وجد من يعيش مائة سنة أو أكثر.
وَإِنْ كَانَ غَالِبُهُ الهَلاكَ، كَمَنْ غَرِقَ فِي مَرْكَبٍ، فَسَلِمَ قَوْمٌ دُونَ قَوْمٍ، أَوْ فُقِدَ مِنْ بَيْنِ أَهْلِهِ أَوْ فِي مَفَازَةٍ مَهْلَكَةٍ، انْتُظِرَ بِهِ تَمَامُ أَرْبَعِ سِنِينَ مُنْذُ فُقِدَ ..
قوله: «وإن كان غالبه الهلاك» ، أي: غالب سفره الهلاك.
قوله: «كمن غرق في مركب فسلم قومٌ دوم قومٍ» ، المركب غرق في البحر وسلم قوم إلى الساحل، وقوم فقدوا ولا يعلم عنهم، منهم هذا الرجل المفقود، فهذا غالب فقده الهلاك، أو احترق المركب أو ما أشبه ذلك، فالغالب الهلاك.
قوله: «أو فقد من بين أهله» ، خرج يقضي حاجة في السوق ولم يرجع، هذا ظاهر غيبته الهلاك، أو نائم هو وأهله في البر فلما أصبحوا لم يجدوه، هذا ـ أيضاً ـ ظاهر فقده الهلاك.
قوله: «أو في مفازة مَهْلَكة» ، يعني في أرض فلاة ليس حولها ماء ولا شجر ولا سكان، هذه يسميها العرب مفازة من الفوز، وهذا من باب التسمية بما يتفاءل به؛ لأنها مهلكة فقالوا: مفازة تفاؤلاً، كما قالوا فيما يوضع على الكسر: جبيرة، تفاؤلاً بجبره، فالذي يفقد في مفازة لا ماء ولا ساكن ولا شيء، فظاهر غيبته الهلاك.
قوله: «انتظر به تمام أربع سنين منذ فقد» ، في بعض النسخ «منذ تلف» ، والصواب «منذ فقد» ، لأنه إذا تلف ما ننتظر ولا ساعة، لكنها سبقة قلم من المؤلف رحمه الله فينتظر به تمام أربع
سنين منذ فقد، فإذا فقد رجلان لكل واحد منهما ثمان وثمانون سنة، أحدهما ظاهر غيبته الهلاك، والثاني ظاهر غيبته السلامة، ننتظر بمن ظاهر غيبته السلامة سنتين، والآخر الذي ظاهر غيبته الهلاك أربع سنين، هذا غير معقول!! كيف نقول: الذي ظاهر غيبته الهلاك وله ثمان وثمانون سنة ننتظره أربع سنين، والذي ظاهر غيبته السلامة وله ثمان وثمانون سنة ننتظره سنتين؟! كان يقتضي الأمر العكس، وإنما قدروا هذا التقدير للتوقيف يعني هذا لا مجال للعقل فيه؛ لأن هذا هو الذي ورد عن الصحابة رضي الله عنهم
(1)
، ولكن لنا أن نقول: ما ورد عن الصحابة قضايا أعيان، وقضايا الأعيان ليست توقيفية؛ لأن قضايا الأعيان يعني أننا ننظر إلى كل مسألة بعينها، وإذا كان قضايا أعيان فهو اجتهاد، فالقول الراجح في هذه المسألة أنه يرجع فيه إلى اجتهاد الإمام، أو من ينيبه الإمام في القضاء، والناس يختلفون، من الناس مَنْ إذا مضى سنة واحدة عرفنا أنه ميت؛ لأنه رجل شهير في أي مكان ينزل يُعرف، فإذا فُقِدَ يكفي أن نطلبه في سنة، ومن الناس من هو من العامة يدخل مع الناس، ولا
(1)
ومن ذلك ما أخرجه مالك في الموطأ (2/ 575) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: «أيما امرأة فقدت زوجها فلم تدرِ أين هو؟ فإنها تنتظر أربع سنين ثم تعتد أربعة أشهر وعشراً ثم تحل» .
وأخرجه ابن أبي شيبة (4/ 237)؛ وعبد الرزاق (12317) عن عمر وعثمان رضي الله عنهما. وأخرج سعيد بن منصور في سننه (1756)؛ والبيهقي (7/ 445) عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم مثل ذلك، وصحح هذه الآثار الحافظ ابن حجر في الفتح (9/ 340) ط/دار الريان.
يعلم عنه إن اختفى لم يفقد، وإن بان لم يؤبه به، هل نقول: إننا ننتظر في هذا الرجل كما انتظرنا في الأول؟ لا؛ لأن هذا يحتاج إلى أن نتحرى فيه أكثر؛ لأنه إنسان مغمور ليس له قيمة في المجتمع، فننتظر أكثر، ثم إذا غلب على الظن أنه ميت حكمنا بموته، وهنا يجب على القاضي أن يبحث عن هذا الشخص.
أيضاً تختلف المسألة باختلاف ضبط الدولة، بعض الدول تكون حدودها قوية لا يمكن أن يدخل عليها أحد، وإذا دخل عليها أحد لا يمكن أن يخرج، فهذه لا نطوِّل مدة الانتظار؛ لأنها محكمة محصورة، وما دامت الأمور تختلف باختلاف أحوال الشخص، وباختلاف السلطان وقوة النظام، فإننا يجب أن نرجع في ذلك في كل مكان وزمان بحسبه، وهذا هو الراجح، وحينئذٍ لنا نظران: النظر الأول: في قسم ماله، يعني بحكمنا بموته يقسم ماله، والنظر الثاني: في إرث من معه، يقول المؤلف:
ثُمَّ يُقْسَمُ مَالُهُ فِيهِمَا، فَإِنْ مَاتَ مُوَرِّثُهُ فِي مُدَّةِ التَّرَبُّصِ أَخَذَ كُلُّ وَارِثٍ إِذَاً اليَقِينَ وَوُقِفَ مَا بَقِيَ، فَإِنْ قَدِمَ أَخَذَ نَصِيبَهُ، وَإِنْ لَمْ يَأْتِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَالِهِ، وَلِبَاقِي الوَرَثَةِ أَنْ يَصْطَلِحُوا عَلَى مَا زَادَ عَنْ حَقِّ المَفْقُودِ فَيَقْتَسِمُونَهُ.
«ثم يقسم ماله فيهما» «فيهما» الضمير يعود على الغَيْبة التي ظاهرها السلامة والتي ظاهرها الهلاك.
قوله: «فإن مات مورِّثه في مدة التربص أخذ كل وارث إذاً اليقين ووقِف ما بقي» إذا مات مورثه، يعني مات شخص يرثه المفقود في مدة الانتظار نبقي حق المفقود، ونقسم ما زاد على حقه بين الورثة، فإذا كان المفقود ابناً مع ابنين موجودين نوقف له الثلث، ونعطي الابنين الموجودين كل واحد ثلثاً حتى يتبين الأمر.
قوله: «فإن قدم أخذ نصيبه وإن لم يأتِ فحكمه حكم ماله» أي متى حكمنا بموته ورث وارثوه مالَه الأصلي، ومالَه الذي ورثه من مُورِّثه، فإذا أوقفنا له عشرة آلاف من مورِّثه ثم مضت المدة ولم يأتِ، وقلنا: الرجل ميت، وكان عنده من قبل عشرة آلاف فالتركة عشرون ألفاً فتورث.
وخلاصة الأمر:
أولاً: المفقود هو الذي اختفى فلم يعلم أحي هو أم ميت؟
ثانياً: الفقهاء يقولون: إن كان ظاهر غيبته السلامة ننتظر به تمام تسعين سنة منذ ولد، وإن كان ظاهر غيبته الهلاك ننتظر به أربع سنين منذ فقد.
ثالثاً: إذا مضت المدة ولم يأت يقسم ماله بين ورثته؛ لأننا نحكم بموته، وإذا أتى قبل تمام المدة يأخذ الموقوف له ولا إشكال، وإذا مات له مورث في مدة الانتظار يوقف نصيبه كأنه حي موجود، ويرث من معه اليقينَ، ثم إن قدم فالأمر واضح، وإن لم يأت فحكمه حكم ماله، وإذا علمنا أنه مات قبل موت مورثه، يرد المال على الورثة، فإذا مات عن ابنين أحدهما موجود والثاني مفقود، ثم تبين أن المفقود مات قبل موت الأب فالمال للابن الموجود، ولا إشكال في ذلك.
قوله: «ولباقي الورثة أن يصطلحوا على ما زاد عن حق المفقود فيقتسمونه» يعني حق المفقود إذا وقفناه وزاد، فللورثة أن يصطلحوا على هذا الزائد ويقتسموه بينهم؛ لأنه ليس له وارث.
بَابُ مِيرَاثِ الغَرْقَى
إِذَا مَاتَ مُتَوَارِثَانِ كَأَخَوَيْنِ لأَبٍ بِهَدْمٍ أَوْ غَرَقٍ أَوْ غُرْبَةٍ أَوْ نَارٍ، وَجُهِلَ السَّابِقُ بِالمَوْتِ وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِيهِ، وَرِثَ كُلُّ وَاحِدٍ مِن الآخَرِ مَنْ تِلادِ مَالِهِ دُونَ مَا وَرِثَهُ مِنْهُ؛ دَفْعَاً للدَّوْرِ.
الغرقى يعني الذين غرقوا جميعاً ولم نعلم السابق منهم، فهل لهم نظير؟ نعم، لو سقطت طائرة ولم نعلم الميت الأول، لو انقلبت سيارة ولم نعلم الميت الأول، لو شب حريق ولم نعلم الميت الأول، فالمراد بالغرقى هنا جماعة هلكوا جميعاً ولم نعلم عن حالهم، هل ماتوا لحظة واحدة أو تقدم أحدهم؟
قوله: «إذا مات متوارثان كأخوين لأب بهدم أو غرق أو غربة أو نار» الهدم واضح، والغرق واضح، والنار واضحة، والغربة كرجلين سافرا جميعاً وأتانا خبر أنهما ماتا، ولم ندرِ أيهما الأول، فحكمهما حكم من ماتوا بغرق أو نار ولم يعلم الأول منهم.
قوله: «وجُهل السابق بالموت ولم يختلفوا فيه» يعني ورثة كل واحد لم يختلفوا.
قوله: «ورث كلُّ واحدٍ من الآخَر من تِلادِ ماله دون ما ورثه منه دفعاً للدور» أولاً نصور المسألة: هؤلاء جماعة ركبوا سفينة، غرقت السفينة وماتوا كلهم، ولا ندري أيهم الأول، فهل يجري التوارث بينهم أو لا؟ المذهب أنه يجري التوارث بينهم إذا لم يختلف الورثة.
القول الثاني: أنه لا توارث بينهم، كل واحد منهم لا يرث الآخر، وإنما يرثه الورثة الآخرون؛ لأن من شرط الإرث أن يوجد الوارث بعد موت المورث لقوله تعالى:{وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} [النساء: 12]، {وَلأَِبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ} [النساء: 11]، فلا بد أن نعلم أن الوارث وجد بعد موت المورث، وهنا الشرط غير موجود، إذاً لا توارث، وهذا القول مع كونه أصح وأوفق للأدلة الشرعية هو ـ أيضاً ـ أهون وأقطع للنزاع، على القول الأول سيكون نزاعٌ إذا كان أحد الذين غرقوا يملك الملايين، والثاني يملك ثوبه الذي عليه فقط، فنورث هذا من هذا وهذا من هذا، فالغني هل يرث من الفقير؟ لا؛ لأنه لا شيء له، والفقير يرث من الغني، فيعود مال هذا الغني لورثة الفقير بأي حق؟! فالقول الراجح بلا شك أنه لا توارث بينهم.
وعلى المذهب إن تنازع الورثة في المثال الذي ذكرنا، أخوان أحدهما يملك الملايين والثاني ما عنده شيء، كل واحد منهم له زوجة وأم، ثم تنازعوا فورثة الغني يقولون: إن مورثكم مات قبل مورثنا، وأولئك يقولون بالعكس، فهنا يتساقطون، وهذا فيه شيء من الصحة، ويكون ميراث كل ميت لورثته، وأما إذا لم يختلفوا قالوا: ما نعلم، فنحن لا ندعي أن مورثنا هو الأول أو الثاني، فحينئذٍ يرث كل واحد منهما من الآخر من تلاد ماله ـ أي: من قديمه ـ لا مما ورثه منه؛ لأننا لو قلنا: مما ورثه منه، صار دوراً، فيرث هذا مما ورثه منه، ثم ذاك يرث مما ورث منه، وهكذا.
مثال هذا: أحدهما خلف مليون ريال والثاني خلف مائة ألف ريال، إذا ورث صاحب مائة الألف من صاحب المليون سيرث خمسمائة ألف، وذاك إذا ورث من الآخر يرث خمسين ألفاً، هل نضم الخمسين ألفاً للمليون ونقول: يرث هذا خمسمائة ألف وخمسين ألفاً؟
لا يمكن، لو قلنا هذا لزم أن ندور، فنقول: يرث صاحب مائة الألف خمسمائة ألف من صاحبه، وصاحب المليون يرث خمسين ألفاً من صاحبه وتنتهي المسألة، ومع هذا نحن نقول ونرجح: أنه لا توارث بينهما، وأنه لا حق لأحدهما في مال الآخر؛ لأن الشرط وهو وجود الوارث بعد موت المورث لم يتحقق، وهذا الذي اخترناه هو مذهب الشافعي رحمه الله وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهو الصواب بلا شك.
بَابُ مِيرَاثِ أَهْلِ المِلَلِ
لَا يَرِثُ المُسْلِمُ الكَافِرَ إِلاَّ بِالوَلَاءِ، وَلَا الكَافِرُ المُسْلِمَ إِلاَّ بِالوَلَاءِ،
......
أهل الملل يعني الأديان، ولا يمكن أن نبحث في ميراث أهل الملل حتى يوجد سبب الميراث، وأسباب الميراث ثلاثة: نكاح ونسب وولاء، فإذا وجد اثنان بينهما توارث وهما على دين واحد جرى التوارث، وإن اختلف دينهما فلا؛ لأن من شرط الإرث اتفاق الدين، لقول الله تبارك وتعالى لنوح حين قال:{إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} قال الله له: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود: 45، 46] ولقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه: «لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم»
(1)
.
قوله: «لا يرث المسلمُ الكافرَ إلا بالولاء ولا الكافرُ المسلمَ إلا بالولاء» والدليل ما أشرنا إليه من الآية، وما قاله النبي صلى الله عليه وسلم:«لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم» ، ولأن الإرث مبني على الموالاة والنصرة، ولا موالاة ولا نصرة بين المسلم والكافر، أما قول المؤلف:«إلا بالولاء» ، فهذا الاستثناء لا دليل عليه ولا يصح أثراً ولا نظراً، أما كونه لا يصح أثراً فلعدم الدليل الصحيح، وقد ورد فيه حديث ضعيف
(2)
، وأما كونه لا يصح
(1)
أخرجه البخاري في الفرائض/ باب لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم (6764)؛ ومسلم في الفرائض/ باب لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم (1614).
(2)
أخرجه الدارمي في الفرائض/ باب ميراث أهل الشرك وأهل الإسلام (2993 ـ 2994)؛ والنسائي في الكبرى في الفرائض/ باب الصبي يسلم أحد أبويه (6356)؛ والدارقطني (4/ 74)؛ والحاكم (4/ 345)؛ والبيهقي (6/ 218) عن جابر رضي الله عنه.
نظراً؛ فلأن الإرث بالولاء أضعف من الإرث بالنسب والزوجية، فإذا كان اختلاف الدين يمنع الميراث مع السبب الأقوى، فكيف لا يمنعه مع السبب الأضعف؟! هذا خلاف القياس وخلاف النظر، ولنضرب لهذا مثلاً: هلك هالك عن أب كافر هل يرثه أبوه؟ لا.
هلك هالك عن معتِق كافر والعبد المعتق مسلم، هل يرثه سيده؟ على المذهب يرثه، وعلى القول الراجح لا يرثه، ونحن نقول بالقول الراجح لعموم الحديث:«لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم» .
لو هلك هالك عن ابن لا يصلي وعن عم مسلم يصلي، فميراثه للعم، والابن الذي لا يصلي لا يرث، وكذلك لو كان هناك رجل لا يصلي ومات عن أقارب مسلمين فإنهم لا يرثونه؛ لأنه لا يرث المسلم الكافر، وسيأتي ـ إن شاء الله ـ بيانه.
وَيَتَوَارَثُ الحَرْبِيُّ وَالذِّمِّيُّ وَالمُسْتَأْمِنُ وَأَهْلُ الذِّمَّةِ يَرِثُ بَعْضُهُمْ بَعْضاً مَعَ اتِّفَاقِ أَدْيَانِهِمْ لَا مَعَ اخْتِلَافِهَا، وَهُمْ مِلَلٌ شَتَّى، وَالمُرْتَدُّ لَا يَرِثُ أَحَداً وَإِنْ مَاتَ عَلَى رِدَّتِهِ فَمَالُهُ فَيْءٌ.
قوله: «ويتوارث الحربي والذمي والمستأمن» ، هؤلاء ثلاثة أصناف من الكفار، فالحربي هو الذي ليس بيننا وبينه عهد ولا ذمة ولا أمان.
وقوله: «والمستأمِن» بكسر الميم، وأكثر الناس يقولون: المستأمَن بفتح الميم وهذا غلط؛ لأنه ليس مستأمَناً بل هو مُؤَمَّن، وهو الذي أُعْطِيَ الأمان ألا يعتدى عليه، سواء من الإمام أو ممن
يجيز إجارته الإمام، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«قد أجرنا من أجرتِ يا أم هانئ»
(1)
.
وقوله: «والذمي» وهو الذي بيننا وبينه عهد وذمة أن يبقى في دارنا آمناً، تحفظ له حقوقُه، ولا يعتدى عليه لكن عليه الجزية.
والمعاهد هو الذي جرى بينه وبين المسلمين عهد، لكنه في بلده مستقل، ليس للمسلمين به تعلق، إلا العهد الذي بيننا وبينه، فيتوارث هؤلاء إذا اتفقت أديانهم، فكلهم يهود، كلهم نصارى، كلهم مجوس، كلهم شيوعيون، يتوارثون إذا اتفقت أديانهم، وإن اختلفت فلا توارث، والدليل قوله صلى الله عليه وسلم:«لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم»
(2)
، فإن هذا يدل على أن اختلاف الدين مانع من الإرث، ولهذا قال المؤلف:
«وأهل الذمة يرث بعضهم بعضاً مع اتفاق أديانهم لا مع اختلافها» أهل الذمة هل يمكن أن تختلف أديانهم؟ نعم، يهود، نصارى، مجوس، هؤلاء أهل الذمة، ثلاثة أصناف، والصحيح أنهم أكثر من ثلاثة أصناف، وأن جميع الكفار يمكن أن يكونوا أهل ذمة، تعقد لهم الجزية، كما صح ذلك فيما رواه مسلم عن بريدة رضي الله عنه
(3)
.
(1)
أخرجه البخاري في الصلاة/ باب الصلاة في الثوب الواحد ملتحفاً به (357)؛ ومسلم في الصلاة/ باب استحباب صلاة الضحى وأن أقلها ركعتان (336) عن أم هانئ رضي الله عنها.
(2)
سبق تخريجه ص (302).
(3)
في الجهاد/ باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث ووصيته إياهم بآداب الغزو وغيرها (1731).
قوله: «وهم» الضمير يعود على أهل الأديان.
قوله: «ملل شتى» أي: متفرقة، اليهود ملة، والنصارى ملة، والمجوس ملة، والشيوعيون ملة، والبوذيون ملة وهكذا، وهذا هو القول الراجح.
وقال بعض العلماء: إن الكفر ملة واحدة، لكن هذا قول ضعيف؛ لأن اليهود يقولون: ليست النصارى على شيء، والنصارى يقولون: ليست اليهود على شيء، فكيف يكونون أمة واحدة؟! نعم هم بالنسبة للإسلام صنف، لكن بالنسبة لما بينهم مختلفون، كما نقول مثلاً: أهل السنة يدخل فيهم المعتزلة، يدخل فيهم الأشعرية، يدخل فيهم كل من لم يَكْفُر من أهل البدع، إذا قلنا هذا في مقابلة الرافضة، لكن إذا أردنا أن نبين أهل السنة، قلنا: إن أهل السنة حقيقة هم السلف الصالح الذين اجتمعوا على السنة وأخذوا بها، وحينئذٍ يكون الأشاعرة والمعتزلة والجهمية ونحوهم ليسوا من أهل السنة بهذا المعنى.
قوله: «والمرتد لا يرث أحداً» لأنه ـ والعياذ بالله ـ ليس له دين ولا يقر على دينه، يعني لو كان عندنا كافر ملحد غاية الإلحاد نقره على دينه، لكن لو ارتد أحد إلى اليهودية أو النصرانية لا نقره؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وآله وسلم:«من بدل دينه فاقتلوه»
(1)
يعني من بدل دين الإسلام، فإننا نقتله، إذاً المرتد لا يرث أحداً، ولا أباه ولا أمه ولا ابنه؛ لأنه مرتد مخالف للدين وليس على دين؛ لأنه لا يقر على هذا الدين.
(1)
أخرجه البخاري في الجهاد/ باب لا يعذب بعذاب الله (3017) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
قوله: «وإن مات على ردته فماله فيء» يعني يُدخَل في بيت المال، وبهذا نعلم أن العلماء رحمهم الله يحكمون على الشخص بعينه بالردة أو غيرها مما يقتضيه فعله، خلافاً لما عليه الشباب الآن فإنهم يتهيبون أن يكفروا أحداً بعينه، وهذا غلط، إذا وجد الكفر وتمَّت الشروط وانتفت الموانع، فإننا نكفره بعينه ونعامله معاملة الكافر في كل شيء؛ لأنه ليس لنا إلا الظاهر، أما لو فرضنا أنه كان مؤمناً بقلبه، ولكن يظهر الكفر، فهذا حسابه على الله عز وجل لكن نكفره بعينه؛ لأننا لو قلنا: إننا لا نكفر أحداً بعينه، وإنما نكفر الجنس، ما بقي أحد يكفر، ولا أحد يُدعى إلى الإسلام.
وقوله: «وإن مات على ردته فماله فيء» دليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم»
(1)
، وهذا واضح؛ ولأن الإرث مبني على النصرة والولاء، ولا نصرة ولا ولاء بين المسلم والكافر، هذا ما ذهب إليه الفقهاء رحمهم الله وهم أسعد بالدليل مما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية، فإنه رحمه الله يرى أن المرتد يورث، ويستدل بأن الصحابة رضي الله عنهم في أيام الردة يورِّثون أهل المرتدين من أموال المرتد، ولكن الإنسان يقول: ما جوابي يوم القيامة حين يناديهم فيقول: «ماذا أجبتم المرسلين» ؟ ماذا نقول في قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم» ؟ وأما فعل الصحابة رضي الله عنهم، فهل أجمعوا عليه؟ لو أجمعوا عليه
(1)
سبق تخريجه ص (302).
لقلنا: إجماعهم حجة، لكن من يقول: إنهم أجمعوا على هذا؟ والمسألة ليست عندي بذاك المسألة البينة، إذاً نبقى على الأصل وهو:«لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم» .
وقوله: «فماله فيء» الفيء يكون في بيت المال، يصرف في المصالح العامة، كبناء المساجد، وبناء المدارس، وإعطاء الفقراء، المهم ما يصرف فيه بيت المال، يصرف فيه مال المرتد.
وَيَرِثُ المَجُوسُ بِقَرَابَتَيْنِ إِنْ أَسْلَمُوا، أَوْ تَحَاكَمُوا إِلَيْنَا قَبْلَ إِسْلَامِهِمْ، وَكَذَا حُكْمُ المُسْلِمِ يَطَأُ ذَاتَ رَحِمٍ مُحَرَّمٍ مِنْهُ بِشُبْهَةٍ وَلا إِرْثَ بِنِكَاحِ ذَاتِ رَحِمٍ مُحَرَّمٍ، وَلَا بِعَقْدٍ لَا يُقَرُّ عَلَيْهِ لَوْ أَسْلَمَ.
قوله: «ويرث المجوس بقرابتين إن أسلموا» المجوس من مذهبهم الخبيث أنه يجوز للإنسان أن ينكح محارمه ـ والعياذ بالله ـ ينكح أخته، بنته، عمته، أمه، وهذا من أخبث المذاهب وأقبحها، فإذا كان أحدهم يدلي بقرابتين فإنه يرث بهما؛ لأنهم يعتقدون حل فعلهم، فإذا أسلموا فإنهم يورثون بالقرابتين، كما ذكرنا في الجدات أن الجدة التي تدلي بجهتين ترث ثلثي السدس.
قوله: «أو تحاكموا إلينا قبل إسلامهم» يعني إذا تحاكموا إلينا قبل إسلامهم فإننا نورثهم على حسب القرابتين، فإن لم يسلموا أو لم يتحاكموا فأمرهم إلى أنفسهم.
قوله: «وكذا حكم المسلم يطأ ذات رحم محرم منه بشبهة» يعني لو أن المسلم وطئ ذات رحم محرم منه بشبهة، والشبهة إما شبهة عقد وإما شبهة اعتقاد، فمن وطئ امرأة يظنها زوجته فبانت أخته أو بنته فهذا شبهة اعتقاد، ومن عقد على امرأة على أنها أجنبية منه وبعد العقد والدخول تبين أنها مَحرم له، تبين أنها أخته
من الرضاعة ـ مثلاً ـ هذه شبهة عقد؛ لأنه عقد عقداً يظنه صحيحاً وذاك جامَع جماعاً يظنه صحيحاً، فإذا أتت بولد صار هذا الولد يرث بجهتين، فيوَرَّث بالجهتين؛ لوجود السببين، والشيء إذا وجد سببه وجب العمل به.
وقيل: يرث بأقوى الجهتين ميراثاً واحداً؛ لأنه لا يمكن أن يجتمع في شخص واحد جهتان متقابلتان، وإذا كان لا يمكن فإنه يؤخذ بالأقوى ويرث بجهة واحدة.
قوله: «ولا إرث بنكاح ذات رحم محرَّم» مثاله: إنسان تزوج امرأة ثم مات عنها، وبعد الموت تبين أنها أخته من الرضاعة، فهل ترث؟ الجواب: لا ترث؛ لأنه تبين أن النكاح باطل، فلا ترث حتى لو بقيت معه عدة سنين.
قوله: «ولا بعقد لا يُقَرُّ عليه لو أسلم» يعني ولا إرث بعقد لا يقر عليه لو أسلم، مثاله: أن يتزوج المجوسي أخته ثم يموت عنها، فهذا العقد إذا أسلم لا يقر عليه، بخلاف ما لو كان عقد عقداً محرماً لكن زال سبب التحريم، فإنه يقر عليه، كما لو تزوج أخت زوجته والأخت معه فالنكاح لا يصح؛ لأنه لا يجمع بين أختين، لكن لو أنه حين أسلم فارق الأولى فالنكاح يصح؛ لأنه زال المانع، وكذلك لو نكح امرأة في عدتها فالنكاح باطل، ولكن لو أسلم بعد أن انقضت العدة فإنه يقر عليه.
بَابُ مِيرَاثِ المُطَلَّقَةِ
مَنْ أَبَانَ زَوْجَتَهُ فِي صِحَّتِهِ أَوْ مَرَضِهِ غَيْرِ المَخُوفِ وَمَاتَ بِهِ، أَوْ المَخُوفِ وَلَمْ يَمُتْ بِهِ لَمْ يَتَوَارَثَا بَلْ فِي طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ لَمْ تَنْقَضِ عِدَّتُهُ،
.........
سبق أن من أسباب الإرث: النكاح، فإذا كان له زوجة وطلقها، فهذا لا يخلو من أحوال يذكرها المؤلف.
قوله: «من أبان زوجته في صحته أو مرضه غير المخوف ومات به، أو المخوف ولم يمت به لم يتوراثا» إذا أبان زوجته، أي: طلقها طلاقاً بائناً كالطلاق الثلاث، والفسخ بعيب وما أشبه ذلك، في صحته فإنه لا توارث ولو كان في العدة؛ لأنها بانت منه، فلو مات لم ترثه وإن ماتت لم يرثها.
وقوله: «أو مرضه غير المخوف» المرض نوعان: مرض مخوف، وهو الذي إذا مات منه الإنسان لم يقل الناس شيئاً؛ لأنه صار عادة أن يموت به الناس، وغير المخوف هنا الذي يرجى برؤه، فما كان سبباً للموت عادة فهو مخوف وما لا فلا، مثال المرض غير المخوف: إنسان يؤلمه سِنُّهُ، أو عينه، أو جرح فيه، أو زكام، هذه أمراض غير مخوفة، فإذا طلقها في هذا المرض طلاقاً بائناً، ثم اشتد به المرض ومات، فإنها لا ترث؛ لأنها بانت منه في حال لا يتهم فيها بمنع الإرث.
وقوله: «أو المخوف» أي: مرضه المخوف الذي مات به ولم يستنكره الناس، مثل الحمى الشديدة، أو ذات الجنب، وفي
عصرنا هذا انتشر داء السرطان، وفي الأول كان السِّل، المهم الأمراض التي لو مات بها قال الناس: هذا سبب، ولهذا قال العلماء رحمهم الله: المرأة التي يأخذها الطلق مرضها مخوف مع أنه لا يكثر فيه الموت، لكن لو ماتت بالطلق قال الناس: ليس هذا بغريب.
وقوله: «أو المخوف ولم يمت به لم يتوارثا» لو أن إنساناً مريضاً مرضاً مخوفاً بذات الجنب ـ مثلاً ـ فخاف أن يموت به، فطلق زوجته لئلا ترث، ثم عافاه الله وانتهت عدتها ثم مات بعد ذلك فإنها لا ترث؛ لأنه برئ من المرض، وهذه المسألة تحتاج إلى تحرير؛ لأن كونه طلقها في مرض موته المخوف واضح أنه أراد الحرمان، فإذا شُفِيَ ثم عاد المرض ومات ففي حرمانها نظر؛ لأن التهمة قائمة.
قوله: «بل في طلاق رجعي لم تنقض عدتُه» الطلاق الرجعي هو الذي يملك الزوج فيه مراجعة الزوجة بدون عقد، فهذا إنسان طلق زوجته في حال صحته طلاقاً رجعياً، ثم مات وهي في العدة فإنها ترث منه، ولو ماتت هي يرث منها؛ لأن الرجعية في حكم الزوجات، بل سمى الله ـ تعالى ـ الزوج المُطَلِّق بعلاً فقال ـ جلَّ وعلا ـ:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228]، فلو قال قائل: هذا باعتبار ما كان، نقول: الأصل حمل اللفظ على ظاهره، ولا يمكن أن نقول: باعتبار ما كان أو باعتبار ما يكون إلا بدليل، قال الله
تعالى: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 3] ولا يمكن أن نؤتيه ماله إلا إذا بلغ، وسماهم الله أيتاماً باعتبار ما كان، نقول: لكن هذا فيه دليل، وفي سورة يوسف عليه السلام قال أحد صاحبي السجن:{إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} [36]، وهو يعصر عنباً، لكنه خمر باعتبار ما يكون، فنقول: إذا قال قائل: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} باعتبار ما مضى، نقول: لا، فالأصل حمل الكلام على ظاهره،، فإذا مات المطلق طلاقاً رجعياً في العدة ورثته الزوجة، وإن ماتت ورثها الزوج؛ لأنهما لا زالا على الزوجية، ولهذا قال المؤلف: بل «في طلاق رجعي لم تنقضِ عدته» ، فإن انقضت العدة، تَبِينُ منه ولا توارث.
لو قال قائل: لو طلقها طلاقاً رجعياً في مرض موته المخوف ومات به ترث؛ لأنها لم تنقضِ عدتها، فإن انقضت العدة لا ترث، ولو أبانها في المرض وانقضت العدة ومات فإنها ترث، نقول: هذه المسألة قد يُظن أن الأمر خلاف ذلك، فرجل طلق زوجته في مرض موته طلاقاً رجعياً، وانقضت العدة ثم مات لا ترث، ورجل طلق زوجته طلاقاً بائناً في مرض موته المخوف ومات بعد انقضاء عدتها فإنها ترث، وقد يبدو للإنسان في بادئ الأمر العكس، فيقال: لا؛ لأن البائن إذا بانت ترث منه من حين الطلاق؛ لأنه متهم، والرجعية ينقطع ميراثها بانقطاع العدة، وفي هذه المدة ربما تموت هي ويرثها، والبائن لو ماتت لا يرثها، هذا هو الفرق.
إذاً حد إرث المطلقة الرجعية انقضاء العدة، سواء كان
طلاقها في المرض أو في الصحة، وهنا نقول: يجري التوارث بينهما، الزوج يرث منها وهي ترث منه، ولهذا قال:«بل في طلاق رجعي لم تنقضِ عدته» .
وَإِنْ أَبَانَهَا فِي مَرَضِ مَوْتِهِ المَخُوفِ مُتَّهَمَاً بِقَصْدِ حِرْمَانِهَا، أَوْ عَلَّقَ إِبَانَتَهَا فِي صِحَّتِهِ عَلَى مَرَضِهِ، أَوْ عَلَى فِعْلٍ لَهُ فَفَعَلَهُ فِي مَرَضِهِ وَنَحْوِهِ لَمْ يَرِثْهَا، وَتَرِثُهُ فِي العِدَّةِ وَبَعْدَهَا مَا لَمْ تَتَزَوَّجْ أَوْ تَرْتَدَّ.
قوله: «وإن أبانها في مرض موته المخوف متهماً بقصد حرمانها» فإنه لا يرثها، وترثه هي معاملة له بنقيض قصده؛ لأن الحيل لا تبطل الحقوق.
وقوله: «متهماً بقصد حرمانها» ، إذا لم يتهم فإنها لا ترث منه من حين البينونة، مثال الذي لم يتهم: امرأة لما رأت زوجها اشتد به المرض ـ مثلاً ـ طلبت الطلاق فطلقها فهذا غير متهم؛ لأنها هي التي طلبت، وإذا كانت هي التي طلبت فلا تهمة.
قوله: «أو علق إبانتها في صحته على مرضه» قال الرجل وهو صحيح لزوجته: إذا مرضت مرض الموت فأنت طالق، فإنها ترث؛ لأنه متهم.
قوله: «أو على فعل له ففعله في مرضه ونحوه لم يرثها» قال: إن كلمتُ زيداً فأنت طالق، فلما مَرِض الرجل مرض الموت كلم زيداً، فإنها تطلق على المذهب، فإن المذهب لا فرق بين الحلف والطلاق، وهو متهم؛ لأنه فعل ما تطلق به في مرض موته فلا يرثها.
ولو علقه على فعل لها فَفَعلَتْهُ في مرضه، ففيه تفصيل، إن
كان هذا الفعل لا بد لها منه شرعاً أو حساً فإنها تطلق وترث؛ لأنها لا بد أن تفعل، فلو قال: إن صَلَّيْتِ الظهرَ فأنت طالق وجاء وقت الظهر وجب أن تصلي فصلت، تطلق وترث، ونقول: هذا الفعل لا بد لها منه شرعاً وهو بغير اختيارها في الواقع، أو قال لها: إن أَكَلْتِ غداء أو عشاء أو فطوراً فأنت طالق، فلو أكلت تطلق وترث؛ لأنه لا بد لها من ذلك، لكن لو قال: إن أكلت الأرز فأنت طالق، فلما مرض أكلت الأرز، هذه تطلق ولا ترث؛ لأن لها بداً منه، إذ يمكن أن تأكل بدل الأرز خبز بر أو تمراً أو ما أشبه ذلك.
قوله: «وترثه في العدة وبعدها» أي: المطلقة في مرض موته المخوف متهماً بقصد حرمانها، فترثه البائن في العدة وبعد العدة؛ لأنه متهم، وكل من حاول إبطال حق مسلم فإنه يعامل بنقيض قصده، وهو لا يرثها، وبعد العدة ـ أيضاً ـ لأنه لا أثر للعدة هنا؛ إذ إن العدة عدة بائن لا تؤثر.
قوله: «ما لم تتزوج» لأنها إذا تزوجت لا يمكن أن ترث زوجين، إذ لو قلنا: بأنها ترث بعد الزواج، لكان معناه أنها ترث من الزوج الأول ومن الزوج الثاني، وهذا لا نظير له في الشرع، ثم إنها إذا تزوجت فإنها بتزوجها قطعت العلاقة بينها وبين الزوج الأول نهائياً.
قوله: «أو ترتد» كذلك إن ارتدت ـ والعياذ بالله ـ فإنها لا ترث؛ لأنها أتت بمانع من موانع الإرث باختيارها.
بَابُ الإِقْرَارِ بِمُشَارِكٍ فِي المِيرَاثِ
إِذَا أَقَرَّ كُلُّ الوَرَثَةِ وَلَوْ أَنَّهُ وَاحِدٌ بِوَارِثٍ لِلمَيِّتِ وَصَدَّقَ، أَوْ كَانَ صَغِيرَاً أَوْ مَجْنُونَاً وَالمُقَرُّ بِهِ مَجْهُولُ النَّسَبِ، ثَبَتَ نَسَبُهُ وَإِرْثُهُ، وإِنْ أَقَرَّ أَحَدُ ابْنَيْهِ بِأَخٍ مِثْلِهِ فَلَهُ ثُلُثُ مَا بِيَدِهِ، وَإِنْ أَقَرَّ بِأُخْتٍ فَلَهَا خُمُسُهُ.
إذا ثبت نسب الإنسان من شخص فإنه يرث ويورث، لكن إذا لم يثبت وكان مجهول النسب، وأقر الورثة بأن هذا أخوهم، فإذا أقر الورثة كلهم ولو كان واحداً فإنه يثبت النسب ويثبت الإرث، أما الإرث فلأن الوارث أقر على نفسه ومن أقر على نفسه فإنه يؤاخذ بما أقر به.
مثال ذلك: رجل قال بعد أن مات أبوه: هذا أخي، فهذا أقر أن نصف ميراث أبيه لهذا الشخص، يؤخذ بإقراره دون إشكال، ولا عذر لمن أقر، لكن كيف يثبت النسب؛ لأنه إذا قلنا بثبوت النسب صار هذا المُقَرُّ به أخاً له، وعمًّا لأولاده، وهلم جرّاً؟
الجواب: أن هذا المُقَرُّ به مجهول النسب والشارع له تشوُّف عظيم للحوق النسب، لا يريد من أبنائه أن يضيعوا، لا يُدرى لمن هم، فلما كان تطلع الشارع وتشوفه للحوق النسب عظيماً، قلنا: لمَّا أقر به ثبت نسبه.
إذاً فالعلة في كونه يلحق به في الميراث، أن هذا الوارث أقر على نفسه بحق لغيره فيقبل، والعلة في كونه يلحق به في النسب هو حرص الشارع وتشوفه للحوق النسب؛ لأن هذا ليس له نسب.
ولو أقر بمعلوم النسب فإقراره غير صحيح، ولهذا لا بد من شروط.
قوله: «إذا أقر كل الورثة ولو أنه واحد» هذا إشارة من
المؤلف إلى أن المسألة ليست مبنية على الشهادة، فلو كانت مبنية على الشهادة لكان لا بد من شاهدين.
قوله: «بوارث للميت وصَدَّقَ» الفاعل هو المُقَرُّ به، قال: نعم، أنا أخوه، فإن أنكر لم يثبت نسبه ولا إرثه، أما عدم ثبوت إرثه فواضح؛ لأنه يقول: أنا ما لي حق في هذه التركة، فقد أقر على نفسه، وأما عدم ثبوت نسبه فلأنه لا يمكن أن يثبت النسب بدعوى شخص مع إنكار المُدَّعَى عليه، إذاً لا بد من تصديق المُقَرِّ به.
قوله: «أو كان صغيراً أو مجنوناً» يعني الصغير والمجنون لا عبرة بتصديقهما أو تكذيبهما؛ لأنه لا حكم لأقوالهما، وهذا هو الشرط الأول.
الشرط الثاني قال:
«والمُقَرُّ به مجهول النسب» يشترط أن يكون المقر به مجهول النسب، لا يعلم أنه فلان ابن فلان، فإن كان معلوم النسب فلا يقبل إقراره به؛ لأن إقراره به يستلزم إبطال نسبٍ معروف، ولو فتح الباب لكان كل واحد يرى شخصاً أديباً لبيباً عالماً فيقول: هذا ولدي، ولا يمكن هذا، فإذا كان معلوم النسب فلا دعوى لأحد في نسبه.
الشرط الثالث: إمكان صدق الدعوى، وذلك بأن يمكن أن يكون ممن يلحق به، فلو أن شخصاً ادعى أن هذا ولده، والولد هذا مجهول النسب، لكن الأب له عشرون سنة وهذا الولد له خمس عشرة سنة، فهذا لا يقبل؛ لأنه لا يمكن أن يكون الفرق
بين هذا وأبيه خمس سنوات، فلا بد من إمكان صدق المُقرِّ فإن لم يمكن فقوله ملغى.
قوله: «ثبت نسبه وإرثه» ، فإذا تمت هذه الشروط ثبت نسبه وإرثه.
قوله: «وإن أقر أحد ابنيه بأخٍ مثله فله ثلث ما بيده» ، أي: بيد المُقِر، وهذا إذا أنكر الآخر، يعني لدينا أخوان زيد وعَمْرو، أقر زيد بخالد أنه أخوه، ولكن عَمْراً أنكر، فكيف يكون الميراث؟ نقول: يجب عليك أن تعطي هذا الذي أقررت به ثلث ما بيدك؛ لأنك الآن تقر بأن الورثة ثلاثة، أنت أحدهم.
قوله: «وإن أقر بأخت فلها خمسُهُ» ، أي: أقر بأخت فهي بنت أبيه فلها خمسه؛ لأنه أقر أنه هو وعَمْراً أختهما فاطمة، اقسم التركة عليهم من خمسة، لزيد خمسان ولعمرو خمسان، وللأخت خمس، نقول: خمس ما بيدك أعطها إياه؛ لأنك أقررت.
لكن لو ثبت نسب هذا المقر به بشاهدين، فإن الميراث يثبت من الأصل.
ونظير هذا مسألة تقع كثيراً، يقول أحد الورثة: قد قال الميت: إنه أوصى بثلثه في عمارة المساجد، والورثة لم يصدقوا هذا القائل، قالوا: أبداً أبونا لو كان عنده وصية لكتبها ولا نقبل كلامك، فهل يلزمه أن يخرج ثلث ما بيده؟ نعم يلزمه؛ لأنه أقر الآن أن ثلث مال أبيه قد أوصى به أبوه، فيلزمه أن يصرف ثلث ما بيده على حسب ما كان يقوله عن أبيه.
بَابُ مِيرَاثِ القَاتِلِ، وَالمُبَعَّضِ، وَالوَلاءِ
مَنِ انْفَرَدَ بِقَتْلِ مُوَرِّثِهِ، أَوْ شَارَكَ فِيهِ مُبَاشَرَةً، أَوْ سَبَباً بِلَا حَقٍّ، لَمْ يَرِثْهُ إِنْ لَزِمَهُ قَوَدٌ أَوْ دِيَةٌ أَوْ كَفَّارَةٌ، وَالمُكَلَّفُ وَغَيْرُهُ سَوَاءٌ،
........
قوله: «باب ميراث القاتل والمبعض والولاء» «القاتل» معروف هو الذي أزهق روح إنسان بسبب أو مباشرة، و «المبعض» هو الذي بعضه حر وبعضه رقيق، و «الولاء» يعني ما هو الولاء وما كيفية الإرث به؟
قوله: «من انفرد بقتل مورثه» بأن أخذ السيف وجَزَّ رأسه، هذا منفرد، أو دهسه بالسيارة بلا عمد لكن خطأ فهذا منفرد.
قوله: «أو شارك فيه» بأن صار الخطأ في الحادث بينه وبين آخر، أو اشترك اثنان في قتله، كل واحد قتله بسهمه.
قوله: «مباشرة» بأن يفعل سبب القتل هو بنفسه مباشرة.
قوله: «أو سبباً» بأن يحفر أمامه حفرة فيسقط فيها، فهنا ما باشر، لكن كان سبباً.
قوله: «بلا حق» فإن كان بحق ـ وسيذكره المؤلف ـ فإنه يرث.
قوله: «لم يرثه إن لزمه قود أو دية أو كفارة» يلزمه القود إذا كان عمداً، وتلزمه الدية إذا كان خطأ أو شبه عمد، وتلزمه الكفارة ـ على المشهور من المذهب ـ إذا قتل بين صف الكفار لقوله تعالى:{فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92]، ولم يذكر الدية، وهذا في المؤمن
إذا كان في صف الكفار، ثم قتله مؤمن فهذا يلزمه الكفارة، ولا تلزمه الدية؛ لأنه أهدر نفسه حيث صار في صف الكفار.
والقول الثاني في الآية: أنها في المؤمن يكون ورثته كفاراً، وهذا هو الصحيح والمتعين، فهو رجل مؤمن ورثته كفار أعداء لنا، فهذا تجب فيه الكفارة؛ لأنه مؤمن، ولا تجب الدية؛ لأننا لو بذلنا الدية سيأخذها الكفار، فلا نعطيهم ما يستعينون به على قتال المسلمين.
قوله: «والمكلف وغيره سواء» ، يعني حتى غير المكلف، فلو كان صبي له عشر سنوات يلعب ببندقية وأصاب مورثه فإنه لا يرث؛ لأن هذه حقوق مالية تتعلق بالعباد، فلا فرق فيها بين المكلف وغير المكلف.
وظاهر كلام المؤلف أنه لا يرث القاتل ولو كان خطأ محضاً، واستدل هؤلاء بحديث:«ليس للقاتل من الميراث شيء»
(1)
، وهذا لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم وإذا لم يصح نرجع إلى القواعد العامة، فإذا علمنا يقيناً أن هذا الوارث لم يتعمد القتل فإننا لا نمنعه؛ لانه قد استحق الميراث، فكيف نحرمه منه؟! وهذا يقع كثيراً.
(1)
أخرجه أبو داود في الديات/ باب ديات الأعضاء (4564) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، قال الحافظ في البلوغ (954):«والصواب وقفه على عمرو» ، وأخرجه الترمذي في الفرائض/ باب ما جاء في إبطال ميراث القاتل (2109) وابن ماجه في الديات/ باب القاتل لا يرث (2645) عن أبي هريرة رضي الله عنه. ولفظه:«القاتل لا يرث» ، قال الترمذي: لا يصح، وأخرجه مالك (2/ 867) وابن ماجه في الديات/ باب القاتل لا يرث (2646) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وانظر: الدراية (2/ 260)، والإرواء (1671).
ونضرب مثلاً يتبين به ضعف هذا القول، أنه لا يرث ولو كان خطأ محضاً: رجل له ولدان وهو ذو أموال كثيرة، أما الأكبر منهما فكان عاقاً لأبيه ولا يعرفه، وأما الثاني فهو بار بأبيه يخدمه ويجتهد في كل بر وإحسان، فقال الرجل للولد البار: أحب أن أذهب إلى العمرة، والولد يجيد قيادة السيارة، سافر هو وأبوه وأراد الله سبحانه وتعالى أن يكون حادث على يد هذا الولد البار خطأ بدون قصد، مات الأب وعنده الملايين، من يرثه؟ العاق يرثه والبار لا يرثه!! لا يمكن أن تأتي الشريعة بمثل هذا، ابن يحب أن تكون المصيبة عليه دون أبيه، ويحب أن ينجرح رأسه دون أن يَمس أصبعَ أبيه شيءٌ نقول: يُحرم من الميراث، وهذا الولد العاق هو الذي يرث!! الشريعة لا تأتي بمثل هذا، وما دام الحديث لم يصح فلنرجع إلى القواعد العامة، فهل يمكن أن يتهم هذا الذي كان باراً بأبيه بأنه تعمد قتله لأجل أن يرثه؟ لا يمكن بأي حال من الأحوال، ولهذا نقول: القول الصواب في هذه المسألة الذي لا يجوز سواه فيما نرى، أن القتل خطأً لا يمنع من الميراث، وأننا لو منعناه من الميراث فقد حرمناه حقاً أثبته الله له في كتابه {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11].
والتهمة في مثل هذه الصور التي ذكرناها بعيدة جداً، وإذا كانت التهمة بعيدة وسبب الإرث موجود، فكيف نمنع نفوذ هذا السبب من أجل طرد القاعدة؟! لا يصح، ولهذا كان مذهب الإمام مالك رحمه الله في هذه المسألة أصح المذاهب،
يقول: لا يمكن أن نمنع هذا من الميراث، ولا نمنعه إلا إذا عرفنا أنه أخذ السكين، وأضجع والده فذبحه، ففي هذه الحال لا يرث؛ لأن التهمة قوية جداً، لا سيما إن كان قد توعده، وقال: يا أبي أعطني أتزوج، أنا ما عندي فلوس، قال: لا، قال الولد: بيني وبينك الأيام سأرثك غصباً عليك، ثم جاء يوم من الأيام وأضجعه وذبحه بالسكين، هذا لا يمكن أن نورثه ولا تأتي الشريعة بتوريثه؛ لأنه تعمد قتل أبيه لينال ميراثه، وما أحسن ما قعَّده ابن رجب رحمه الله قال:«من تعجل شيئاً قبل أوانه على وجه محرم عوقب بحرمانه» .
إذاً القول الراجح في مسألة القتل أنه إذا تعمد الوارث قتل مورثه عمداً لا شك فيه فإنه لا يرث، وإن كان خطأ فإنه يرث، ولكن هل يرث من الدية التي سيبذلها؟ لا يرث؛ لأن الدية غرم عليه، وقد جاء في حديث رواه ابن ماجه:«أنه يرث من تلاد ماله»
(1)
، يعني قديمه، فيرث من المال لا من الدية.
وفي قولنا: لا من الدية، إشارة إلى أن الدية تثبت على ملك المقتول، فتكون ملكاً للمقتول تورث عنه ويخرج منها الثلث، وهنا يجب أن ننتبه إلى مسألة مهمة، وهي أن بعض
(1)
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما في الفرائض/ باب ميراث القاتل (2736)، ولفظه:«قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة فقال: المرأة ترث من دية زوجها وماله، وهو يرث من ديتها ومالها ما لم يقتل أحدهما صاحبه، فإن قتل أحدهما صاحبه عمداً لم يرث من ديته وماله شيئاً، وإن قتل أحدهما صاحبه خطأ ورث من ماله ولم يرث من ديته» .
وضعفه البوصيري في مصباح الزجاجة، وانظر: نصب الراية (4/ 330).
الناس إذا حضر القاتل خطأً رحموه، ورقوا له وعفوا عن الدية، فالمقتول له أولاد صغار أو أولاده كلهم راشدون، ولكن عليه دين فيعفون، فالعفو هنا غير صحيح؛ لأن الميراث لا يثبت إلا بعد قضاء الدين {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11]، فإذا عفوا والميت عليه دين، قلنا: العفو غير صحيح، وتؤخذ الدية ويقضى بها دين الميت، وهذه مسألة قَلَّ من ينتبه لها، ولذلك على أولياء المقتول ألا يعفوا حتى ينظروا هل عليه دين أو لا؟ ثم بعد ذلك ينظرون هل في الورثة قُصَّر أو لا؟
وَإِنْ قُتِلَ بِحَقٍّ قَوَداً أَوْ حَدًّا أَوْ كُفْراً أَوْ بِبَغْيٍ ..............
قوله: «وإن قتل بحق قوداً» يعني قصاصاً فإنه يرث، مثال ذلك: أخوان لهما أب فقام الأكبر فقتل أباه عمداً فإنه لا يرث منه، فقام الأصغر وقتل أخاه قصاصاً يرث، إذاً صار ميراث الأب والابن الأكبر للأخ الصغير، فحاز ميراث الرجلين، أما أبوه؛ لأن أخاه قتله عمداً فلا حق له، وأما أخوه فلأنه قتله بحق.
قوله: «أو حدًّا» هل هناك شيء من الحدود يصل إلى القتل؟ نعم، رجم الزاني، لو أن الوارث شارك في رجم الزاني، الذي هو مورثه فإنه يرث.
قوله: «أو كفراً» نحن ذكرنا أن من موانع الإرث اختلاف الدين، فكيف يقتله بالكفر؟ هذا على القول بأن الولاء لا يمنع فيه اختلاف الدين فتصح هذه الصورة، أو القول بأن المرتد يرثه أقاربه كما هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
قوله: «أو ببغي» يشير إلى البغاة وهم الذين يخرجون على الإمام ـ يعني على السلطان ـ بتأويل سائغ، فيقولون للإمام: أنت
فعلت كذا وفعلت كذا، فهؤلاء بغاة يُقاتَلون، يجب على الرعية أن يساعدوا السلطان على قتالهم؛ لأنهم بغاة، والأئمة لا يجوز الخروج عليهم إلا بشروط مغلظة؛ لأن أضرار الخروج عليهم أضعافُ أضعافُ ما يريد هؤلاء من الإصلاح، وهذه الشروط هي:
الأول: أن نعلم علم اليقين أنهم أتوا كفراً.
الثاني: أن نعلم أن هذا الكفر صريح ليس فيه تأويل، ولا يحتمل التأويل، صريح ظاهر واضح؛ لأن الصريح كما جاء في الحديث هو الشيء الظاهر البين العالي، كما قال الله تعالى عن فرعون أنه قال لهامان:{ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ} {أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ} [غافر: 36، 37] فلا بد أن يكون صريحاً، أما ما يحتمل التأويل، فإنه لا يسوِّغ الخروج عن الإيمان.
الثالث: أن يكون عندنا فيه من الله برهان ودليل قاطع مثل الشمس أن هذا كفر، فلا بد إذن أن نعلم أنه كفر، وأن نعلم أن مرتكبه كافر لعدم التأويل، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام:«إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان»
(1)
وقالوا: أفلا ننابذهم عند ذلك؟ قال: لا ما أقاموا فيكم الصلاة
(2)
، أي: ما داموا يصلون.
(1)
أخرجه البخاري في الفتن/ باب قول النبي صلى الله عليه وسلم سترون بعدي أموراً تنكرونها (7056)؛ ومسلم في المغازي/ باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية (1709)(42) عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه.
(2)
أخرجه مسلم في المغازي/ باب خيار الأئمة وشرارهم (1855) عن عوف بن مالك رضي الله عنه.
الرابع: القدرة على إزالته، أما إذا علمنا أننا لا نزيله إلا بقتال، تُراقُ فيه الدماء وتستباح فيه الحرمات، فلا يجوز أن نتكلم أبداً، ولكن نسأل الله أن يهديه أو يزيله؛ لأننا لو فعلنا وليس عندنا قدرة، فهل يمكن أن يتزحزح هذا الوالي الكافر عما هو عليه؟ لا، بل لا يزداد إلا تمسكاً بما هو عليه، وما أكثر الذين يناصرونه، إذاً يكون سعينا بالخروج عليه مفسدة عظيمة، لا يزول بها الباطل بل يقوى بها الباطل، ويكون الإثم علينا، فنحن الذين وضعنا رقابنا تحت سيوفه، ولا أحد أحكم من الله، ولم يفرض القتال على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم إلا حين كان لهم دولة مستقلة، وإلا فإنهم كانوا يهانون في مكة، الذي يحبس، والذي يقتل، والذي توضع عليه الحجارة المحماة على بطنه، ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجع من الطائف، يرمونه بالحجارة حتى أدموا عقبه
(1)
، ولم يؤمر بالقتال؛ لأن الله حكيم؛ ولذلك مع الأسف الشديد لا تجد أحداً عصى الرسول عليه الصلاة والسلام وخرج على الإمام بما للإمام فيه شبهة، إلا ندم وكان ضرراً على شعبه، ولم يزل الإمام، ولا أريد بالإمام الإمام الأعظم؛ لأن الإمام الأعظم ذهب من زمان، لكن إمام كل قوم من له سلطة عليهم.
المهم إذا خرج الوارث مع الإمام يقاتل البغاة فقتل مورثه فإنه يرث؛ لأنه قاتَلَهُ وَقَتَلَهُ بحق، قال الله تعالى:{فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9].
(1)
انظر: «عيون الأثر» لابن سيد الناس (1/ 232).
أَوْ صِيَالَةٍ أَوْ حِرَابَةٍ أَوْ شَهَادَةِ وَارِثِهِ، أَوْ قَتَلَ العَادِلُ البَاغِيَ وَعَكْسُهُ وَرِثَهُ، وَلَا يَرِثُ الرَّقِيقُ وَلَا يُورَثُ،
........
قوله: «أو صيالة» ، هذا مورث صال على وارثه ولم يندفع إلا بالقتل، فله قتله، يدافع بالأسهل فالأسهل، فإذا لم يمكن دفاعه إلا بالقتل فقتله فإنه يرث؛ لأن الصائل لا حرمة له.
قوله: «أو حرابة» ، الحرابة يعني المحاربين الذين يتعرضون للناس بالسلاح في الصحراء، أو في البنيان ويغصبونهم المال مجاهرة لا سرقة، ويُسمَّوْن قطاع الطريق، فإذا قتلهم فإنه يرث إذا كان وارثاً.
قوله: «أو شهادة وارثه» ، يعني الوارث شهد بحق أن هذا قاتِلُ هذا، وكان القاتل مورثاً للشاهد فإنه يرث؛ لأن الشاهد قام بحق واجب عليه.
قوله: «أو قتل العادلُ الباغيَ وعكسه ورثه» ، الفرق بينهما أن العادل مدافع والباغي مهاجم، فإذا كان هناك بغاة خرجوا على الإمام، وقتل العادلُ الباغيَ أو بالعكس، فيقول المؤلف: إنه يرثه، وقيل: إن قتل الباغي العادلَ فإنه لا يرث؛ لأنه ليس بحق، وهو الراجح.
قوله: «ولا يرث الرقيق ولا يورث» ، والدليل سبق لنا في أول الفرائض أن الله ـ تعالى ـ جعل الميراث ملكاً للوارث، والرقيق لا يملك، فلا يرث ولا يورث؛ لأنه لا مال له، قال النبي صلى الله عليه وسلم:«من باع عبداً له مال فماله للذي باعه»
(1)
، فهو لا يملك، وإذا كان لا يملك، فماذا يورث منه؟!
(1)
سبق تخريجه ص (164).
وَيَرِثُ مَنْ بَعْضُهُ حُرٌّ وَيُورَثُ، ويَحْجِبُ بِقَدْرِ مَا فِيهِ مِن الحُرِّيَّةِ، وَمَنْ أَعْتَقَ عَبْداً فَلَهُ عَلَيْهِ الوَلَاءُ، وَإِنِ اخْتَلَفَ دِينُهُمَا، وَلَا يَرِثُ النِّسَاءُ بِالوَلَاءِ إِلاَّ مَنْ أَعْتَقْنَ أَوْ أَعْتَقَهُ مَنْ أَعْتَقْنَ.
قوله: «ويرث من بعضه حر ويورث ويَحْجب بقدر ما فيه من الحرية» إذا كان بعضه حراً وبعضه رقيقاً فالحكم يدور مع علته، فيرث بالحرية ولا يرث بالرق؛ وذلك لأن القاعدة الشرعية أن ما ثبت بسبب تبعض بتبعض ذلك السبب، والحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، لكن كيف يكون الرقيق مبعضاً، بعضه حر وبعضه عبد؟ مثال ذلك: عبد بين شركاء أعتق أحد الشركاء نصيبه منه، إن كان المعتِق غنياً انسحب العتق على جميع العتيق، وألزم هذا المعتِق بأن يغرم قيمة أنصباء شركائه، كعبد بين شركاء عشرة، وهو يساوي عشرة آلاف ريال، أعتق هذا الرجل نصيبه وهو واحد من عشرة، فيسري العتق إلى جميع العبد ويغرم لشركائه تسعة آلاف ريال، فإن قال: لا أجد شيئاً، فالمذهب أنه يعتق عشر العبد ويبقى تسعة أعشاره رقيقاً.
والقول الثاني: أننا ننتقل إلى المرحلة الثانية، وهي أن نقول للعبد: تكسب ببيع أو شراء أو عمل أو ما أشبه ذلك، حتى تؤدي لأسيادك قيمة أنصبائهم، فإذا قال العبد: لا أقدر، قلنا: عتق منك العشر، وحينئذٍ صار مبعضاً، فيرث ويورث ويحجب بقدر ما فيه من الحرية.
قوله: «ومن أعتق عبداً فله عليه الولاء» دليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما الولاء لمن أعتق»
(1)
، وظاهر كلام المؤلف
(1)
أخرجه البخاري في البيوع/ باب إذا اشترط في البيع شروطاً لا تحل (2168)؛ ومسلم في العتق/ باب بيان أن الولاء لمن أعتق (1504) عن عائشة رضي الله عنها.
سواء أعتقه تطوعاً، أو أعتقه في زكاة، أو أعتقه في كفارة، فالولاء له.
مثال التطوع: رجل اشترى رقيقاً وقال له: أنت حر، فلا إشكال في كون الولاء للمعتِق في هذه الصورة.
مثال الزكاة: من مصارف الزكاة الرقاب، لقوله تعالى:{وَفِي الرِّقَابِ} [التوبة: 60]، ومن صور ذلك أن يشتري من الزكاة عبداً فيعتقه، فله عليه الولاء، فلو أن هذا العبد اتجر وأغناه الله وصار عنده أموال كثيرة ثم مات، وليس له عصبة فعاصبه المعتِق.
مثال الكفارة: إنسان عليه عتق رقبة كفارة، كرجل ظاهر من زوجته، أو جامعها في رمضان، فأول ما يجب عليه أن يعتق رقبة، فإن أعتق رقبة في الكفارة فالولاء له.
وقال بعض أهل العلم: الولاء في غير التطوع يكون للجهة التي أعتقه من أجلها، فمثلاً إذا أعتقه من الزكاة يكون ولاؤه لأهل الزكاة، الفقراء، والمساكين، والعاملين عليها، والمؤلفة قلوبهم، وفي الرقاب، والغارمين، وفي سبيل الله، وابن السبيل، وإذا أعتقه في كفارة يكون ولاؤه للفقراء؛ لأنهم مصرف للكفارات، لكن المشهور من المذهب أن كل من أعتق عبداً فله ولاؤه، ولهذا قال المؤلف:«فله عليه الولاء» ، واستدلوا بعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم:«إنما الولاء لمن أعتق»
(1)
.
قوله: «وإن اختلف دينهما» ، أي: فالولاء ثابت.
(1)
سبق تخريجه ص (326).
وقوله: «وإن» هذا إشارة خلاف، فالمؤلف يريد أنه يرث ولو مع اختلاف الدين.
والقول الثاني: أنه لا توارث بينهما وإن ثبت الولاء؛ من أجل اختلاف الدين، وهذا القول هو الراجح أن الولاء ثابت ولكن لا توارث بينهما، ودليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم:«لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم»
(1)
، فقول المؤلف رحمه الله:«وإن اختلف دينهما» يريد أنه يرث ولو مع اختلاف الدين، ونحن لا نوافقه على ذلك؛ لأن لدينا دليلاً واضحاً صريحاً، لكن هل نوافقه على ثبوت الولاء؟ نعم؛ لأن الولاء ثابت، وهو لحمة كلحمة النسب.
قوله: «ولا يرث النساء بالولاء إلا من أعتقْنَ أو أعتَقَه من أعتقن» ، المرأة لا ترث بالولاء إلا من أعتَقَتْ أو أعتقه من أعتَقَتْ، فلا ترث بالولاء بواسطة النسب، مثال ذلك: ذكر وأنثى اشتريا أباهما ثم عتق عليهما، ثم إن الأب اشترى عبداً فأعتقه، فيرثان أباهما ميراث نسب؛ لأن النسب مقدم، فمثلاً البنت بذلت في قيمة والدها عشرة آلاف والابن بذل خمسة آلاف، يعني بذلت الضعفين فمات الأب، كيف يرثانه؟ للذكر مثل حظ الأنثيين، فلو قالت: أنا بذلت أكثر من أخي في شراء والدي، قلنا: النسب مقدم على الولاء، أما بالنسبة لعتيق الأب إذا مات، فمن يرثه؟ يرثه الابن؛ لأن ميراث البنت والابن في الأول ميراث نسب، ليس ميراث ولاء، وعليه فيرثه الابن ولا ترثه البنت؛ لأن النساء
(1)
سبق تخريجه ص (302).
لا يرثن بالولاء، إلا من أعتقن أو أعتقه من أعتقن، هكذا عند الفقهاء، والمسألة تحتاج إلى تحرير وبحث؛ لأنه قد يقال: لماذا لا ترث بالولاء، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:«الولاء لحمة كلحمة النسب» ؟
(1)
.
(1)
سبق تخريجه ص (246).
كِتَابُ العِتْقِ
جعل الفقهاء العتق بعد المعاملات المالية مباشرة؛ لأن فيه شائبة مال، فإن العتق هو تخليص الرقبة من الرق، والرقيق مال؛ فلهذا ضمّوه إلى المعاملات المالية قبل أن تأتي المعاملات الشخصية، ومن العلماء من جعل باب العتق في آخر الفقه بعد الإقرار، والإقرار جعلوه في الصلح أو في مكان آخر، ولكل وجهة، أما الذين جعلوا آخر الفقه كتاب الإقرار، قالوا: تفاؤلاً بالإقرار بالشهادة عند الموت الذي هو آخر عمل الإنسان، والذين جعلوا العتق آخر الفقه، قالوا: تفاؤلاً بأن يعتق الله الإنسان من النار، لكن الفقهاء المتأخرين لاحظوا المعنى الأول أن العتق فيه شائبة مالية، فألحقوه بالمعاملات.
العتق في اللغة: القِدَم، ومن قوله تعالى:{ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 33].
واصطلاحاً: تخليص الرقبة من الرق.
يعني إنسان عنده عبد مملوك فأعتقه، أي: حرره من الرق.
ويحصل العتق بأمور، منها:
أولاً: الصيغة القولية، وهي نوعان: صريح، وكناية، فالصريح ما لا يحتمل غير المراد، مثل أعتقتك، حررتك، أنت عتيق، أنت حر، وما أشبه ذلك.
الكناية كل لفظ يحتمل المعنى المراد وغيره، مثل أن يقول: لا سبيل لي عليك، أنت طليق في الهواء، وما أشبه ذلك.
والفرق بين الصريح والكناية من حيث الحكم، أن الصريح لا يحتاج إلى نية، والكناية تحتاج إلى نية؛ لأن الكناية كل لفظ يحتمل المعنى المراد وغيره، فإذا كان كذلك فإنه لا يكون للمعنى المراد إلا بالنية، فإذا قال السيد لعبده: لا سبيل لي عليك، اذهب، فيحتمل أن المعنى لا سبيل لي عليك في هذا المذهب الذي قلت لك فيه: اذهب، ويحتمل لا سبيل لي عليك مطلقاً، يعني فأنت حر.
ثانياً: القوة وهي السراية، فإذا أعتق نصف العبد سرى العتق إلى جميعه بالقوة حتى وإن لم يرده، فلو أن إنساناً عنده عبد فقال: عشرك حر، يعتق كله، أو: إصبعك حر، يسري العتق إليه كله، فلا يتبعض العتق، بل لو أن الرجل أعتق نصيبه من عبد وله شركاء سرى إلى نصيب شركائه، مع أنه لا يملكه، لكن يسري بالقوة ويعطي شركاءه قيمة أنصبائهم، هكذا جاء الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
، هذا إذا كان عنده ثمن الشركاء، أما إذا لم يكن عنده، فهذا فيه قولان للعلماء:
القول الأول: أنه لا يسري العتق؛ لأنه لو سرى لكان في ذلك ضرر على الشركاء؛ لأنه فوَّت العبد عليهم، فيبقى ملكهم على ما هو عليه، ويكون هذا العبد مبعضاً، جزء منه حر والباقي رقيق.
(1)
أخرجه البخاري في العتق/ باب إذا أعتق عبداً بين اثنين (2522)؛ ومسلم في العتق/ باب من أعتق شركاً له في عبد (1501) عن ابن عمر رضي الله عنهما. ولفظه: «من أعتق شركاً له في عبد فكان له ما يبلغ ثمن العبد قوم قيمة عدل، فأعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد، وإلا فقد عتق منه ما عتق» .
القول الثاني: يُستسعى العبد، فيقال له: اذهب، اتجر، اعمل، ثم اردد ما يحصل لك على أسيادك الآخرين حتى ينتهي، فإن قال أسياده: نحن لا نريد أن يعتق بل يبقى، قلنا: قهراً عليكم أن يستسعى ويوفي أسياده.
ثالثاً: ملك ذي الرحم
(1)
، وضابطه أن يملك مَنْ لو كان أنثى لحرم عليه بنسب أن يتزوجه، فإنه لو ملك أباه يعتق عليه، ولو لم يكن عنده مال إلا قيمة أبيه، وكذلك لو ملك أخاه فإنه يعتق عليه، وكذلك عمته تعتق؛ لأنه لا يمكن أن يتزوج بها، أما ابنة عمه فإنها لا تعتق؛ لأنه يحل أن يتزوج بها، ولو ملك من لو كان أنثى لحرم عليه برضاع لم يعتق، وهذا مما يفرق فيه بين الرضاع والنسب.
رابعاً: التمثيل،، يعني أنه يمثل بعبده، فإذا مثل به عتق عليه
(2)
، كإنسان عنده عبد فحل وخاف على أهله منه فخصاه
(1)
لما أخرجه الإمام أحمد (5/ 18)؛ وأبو داود في العتق/ باب فيمن ملك ذا رحم محرم (3949)؛ والترمذي في الأحكام/ باب فيمن ملك ذا رحم محرم (1365)؛ وابن ماجه في الأحكام/ باب من ملك ذا رحم محرم (2524) عن سمرة بن جندب رضي الله عنه ولفظه: «من ملك ذا رحم مَحْرَمٍ فهو حر» . قال الحافظ في البلوغ (1425): «ورجح جمع من الحفاظ أنه موقوف» .
انظر: التلخيص (2149)، ونصب الراية (3/ 278).
(2)
أخرجه أبو داود في الديات/ باب من قتل عبده أو مثل به
…
(4515)؛ وابن ماجه في الديات/ باب من مثل بعبده فهو حر (2680) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، ولفظه:«جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم صارخاً، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما لك؟ قال: سيدي رآني أقبِّل جارية له فجبَّ مذاكيري، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إذهب، فأنت حر» .
ـ أي: قطع خصيتيه ـ فإنه يعتق عليه، ولو أنه غضب على عبده فقطع شحمة أذنه فإنه يعتق، ولكن لو قلم أظافره فإنه لا يعتق؛ لأن هذا ليس تمثيلاً.
وإنما جعل الشرع العتق يحصل بأدنى سبب حرصاً منه على تحرير الرقاب، وبه تندفع الشبهة التي يوردها الكفار على الإسلام في مسألة الرق؛ لأننا نقول: إن الإسلام ضَيَّقَ سبب الملك في الرق، إذ ليس هناك سبب للرق إلا الكفر، ووسَّع جداً أسباب الحرية، وما يندب إلى الحرية، وجعل العتق في الكفارات، وقربة من القربات من أفضل الأعمال، فضيق جداً نطاق الرق من وجوه منها:
أولاً: أن سببه واحد.
ثانياً: أنه فتح أبواباً كثيرة تكون سبباً للعتق، باختيار المرء مثل الكفارات، وبغير اختياره كالسراية والتمثيل.
وَهُوَ مِنْ أَفْضَلِ القُرَبِ، وَيُسْتَحَبُّ عِتْقُ مَنْ لَهُ كَسْبٌ، وَعَكْسُهُ بِعَكْسِهِ، وَيَصِحُّ تَعْلِيقُ العِتْقِ بِمَوْتٍ، وَهُوَ التَّدْبِيرُ.
قوله: «وهو من أفضل القُرَب» ، «من» للتبعيض فليس أفضل القرب ولكن من أفضلها؛ لأن من أعتق عبداً أعتق الله من هذا المعتِق كل عضو من النار، حتى الفرج بالفرج
(1)
، ولا يعني قولنا: إنه من أفضل القرب أن يكون مشروعاً بكل حال، ولذا قال المؤلف:
(1)
لما أخرجه البخاري في كفارات الأيمان/ باب قول الله تعالى: {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} (6715)؛ ومسلم في العتق/ باب فضل العتق (1509)(22) عن أبي هريرة رضي الله عنه. ولفظه: «من أعتق رقبة مسلمة أعتق الله بكل عضو منه عضواً من النار حتى فرجه بفرجه» .
«ويستحب عتق من له كسب، وعكسه بعكسه» ، فالذي ليس له كسب لا يستحب عتقه؛ لأننا نجعله عالة على نفسه وعالة على غيره، ومن باب أولى إذا كان هذا العبد معروفاً بالشر والفساد فإننا نقول: لا تعتقه؛ لأنك إذا أعتقته ذهب يفسد في الأرض، وكذلك لو كان إذا أعتق هرب إلى الكفار، وصار علينا فإننا لا نعتقه، فالمهم أن كون العتق من أفضل القربات مقيد بما إذا لم يترتب عليه مفسدة، فإن ترتب عليه مفسدة فإنه ليس من القربات فضلاً عن أن يكون من أفضلها.
قوله: «ويصح تعليق العِتق بموتٍ وهو التدبير» ، التدبير: مأخوذ من دبر الحياة أي ما بعدها، وهو تعليق العتق بالموت، سمي تدبيراً؛ لأنه ينفذ في دبر الحياة، ولا شك أنه صحيح؛ لأنه ثبتت به السنة، فإن رجلاً أعتق غلاماً له عن دبر، ولم يكن له مال غيره، وكان عليه دين، فباعه النبي صلى الله عليه وسلم وأوفى دينه
(1)
، وليس عتق التدبير كعتق الحياة؛ لأن عتق التدبير يكون بعد الموت، بعد أن خرج الإنسان من الدنيا، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أفضل الصدقة أن تصدق وأنت صحيح شحيح تأمل البقاء وتخشى الفقر، ولا تمهل ـ أي: تؤخر ـ حتى إذا بلغت الحلقوم، قلت: لفلان كذا ولفلان كذا ـ يعني أوصيت ـ وقد كان لفلان
(2)
، أي: الوارث، فالعتق بالتدبير أقل أجراً من العتق في حال الحياة، والعتق في
(1)
سبق تخريجه ص (58).
(2)
سبق تخريجه ص (102).
مرض الموت أقل من العتق في الصحة، فإذا قال الإنسان لعبده: أنت حر بعد موتي صح، فإذا مات عتق، ولكن لا يعتق إلا بعد الدَّين ومن الثلث فأقل، فحكمه حكم الوصية فلا يعتق مطلقاً، فإذا مات السيد والعبد مدبر، قيمته عشرة آلاف ريال، وعليه دين يبلغ عشرة آلاف ريال، فإن العبد لا يعتق؛ لأن الدين مقدم عليه، ولهذا باع النبي صلى الله عليه وسلم العبد المدبر لقضاء دين سيده
(1)
، وإذا دبر سيدٌ عبده وقيمة العبد عشرة آلاف ريال، وعليه دين يبلغ خمسة آلاف ريال، وليس له سوى هذا العبد، فنصفه للدين ويعتق ثلث النصف الباقي، أي: سدس جميعه، والباقي للورثة، فيباع العبد على أن سدسه حر، فيوفى الدين، والباقي من الثَّمَن يكون ثلثه للعبد؛ لأنه كَسَبَه بجزئه الحر، والباقي للورثة.
ولو دبر عبداً وقيمته عشرة آلاف ريال، وليس عنده إلا خمسة آلاف ريال، فالجميع خمسة عشر ألفاً، فثلثها خمسة ـ آلاف وهو نصف قيمة العبد ـ فيعتق نصفه، وفي هذه الحال يستسعى العبد ـ على قول بعض العلماء ـ حتى يتحرر.
(1)
سبق تخريجه ص (58).
بَابُ الكِتَابَةِ
وَهِيَ بَيْعُ عَبْدِهِ نَفْسَهُ بِمَالٍ مُؤَجَّلٍ فِي ذِمَّتِهِ، وَتُسَنُّ مَعَ أَمَانَةِ العَبْدِ وَكَسْبِهِ وَتُكْرَهُ مَعَ عَدَمِهِ، وَيَجُوزُ بَيْعُ المُكَاتَبِ، وَمُشْتَريِهِ يَقُومُ مَقَامَ مُكَاتِبِهِ فَإِنْ أَدَّى لَهُ عَتَقَ، وَوَلاؤُهُ لَهُ وَإِنْ عَجَزَ عَادَ قِنّاً.
الكتابة: اسم مصدر كتب يكتب كتباً وكتابة، وهي مأخوذة من الكتب، وهي أن يشتري العبد نفسه من سيده، وقد قال الله تعالى في كتابه:{وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33]، وسميت بذلك؛ لأن الغالب ألا تقع إلا بمكاتبة بين السيد والعبد.
قوله: «وهي بيع عبدِهِ نفسَه» ، لو قال المؤلف: شراء العبد نفسه من سيده، لكان أوضح وأخصر.
فقوله: «بيع» مصدر مضاف إلى المفعول به؛ لأن البائع ليس العبدَ بل السيد، والعبد مشترٍ، «ونفسَه» مفعول ثانٍ، أو منصوب بنزع الخافض.
قوله: «بمالٍ مؤجلٍ» ، لا بد أن يكون المال مؤجلاً فلا تصح بمال حال؛ لأن العبد ليس عنده مال ولو ملَّكه أحد مالاً فماله لسيده، ولو قال قائل: العبد ليس عنده مال، ولكن لو فرض أن أحداً من الناس قال له: اشترِ نفسك من سيدك، وأنا أعطيك المال نقداً، ولهذا إن أراد المؤلف أنه لا بد من التأجيل فهذا ليس بصحيح؛ لأنه قد تكون القضية كقضية بريرة مع عائشة رضي الله عنهما فإن بريرة كاتبت أهلها على تسع أواقٍ، ثم جاءت تستعين عائشة رضي الله عنها، فقالت: «إن أراد أهلك
أن أعدها لهم ويكون ولاؤك لي فعلت»
(1)
، فهذا دليل على أن الكتابة يجوز أن تكون بحالٍ إذا كان من غير العبد، أما من العبد فهذا متعذر؛ لأنه لا يملك.
قوله: «في ذمته» ، أي: ذمة العبد؛ لأنه لا يمكن أن تقع على عين إذ إنه ليس له مال، فصار لا بد أن يكون مؤجلاً في الذمة.
ثم بيَّن المؤلف حكم الكتابة فقال:
«وتسن مع أمانة العبد وكسبه» ، أفادنا المؤلف أن الكتابة سنَّة إذا كان العبد أميناً قادراً على التكسب، فإن لم يكن أميناً، بأن كان يخشى من عتقه أن يذهب إلى الكفار، ويكون معهم على المسلمين، أو خشي أنه إذا عتق سعى في الأرض فساداً، فهنا لا تسن الكتابة؛ لأنه ليس بأمين، ولأن العتق هنا يفضي إلى شر، ودرء المفاسد أولى من جلب المصالح.
ويشترط ـ أيضاً ـ قدرته على التكسب، فإن كان عاجزاً عن التكسب كما لو كان زَمِناً، أي: لا يستطيع أن يكتسب ولا يسعى، فهنا لا تسن الكتابة، ودليل هذا قوله تعالى:{فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33]، قال المفسرون: أي صلاحاً في دينهم وكسباً.
وقوله: «تسن» ، هذه المسألة فيها خلاف، إذا علم السيد في عبده خيراً وطلب منه العبد الكتابة، فالمؤلف يرى أن كتابته سنة، ودليل ذلك أن الله أمر به فقال:{فَكَاتِبُوهُمْ} ، وتعليل كون الأمر للندب لا للوجوب أن العبد ملك للسيد، ولا يجبر الإنسان على إزالة ملكه إلا إذا تعلق به حق الآدمي.
(1)
سبق تخريجه ص (326).
وقال بعض العلماء ومنهم الظاهرية: إنَّ الكتابة تجب إذا طلبها العبد بهذا الشرط: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33]، قالوا: لأن الأصل في الأمر الوجوب؛ ولأن في هذا تكثيراً للأحرار، والشارع له تشوُّف إلى الحرية حتى إن العبد يعتق بالتمثيل، ويعتق بالسراية.
وأما الجواب عن قوله: إن الإنسان لا يجبر على إزالة ملكه إلا إذا كان لآدمي، فيقال: بل قد يجبر ولو لغير آدمي، كما في الزكاة يجب أن يخرجها الإنسان من ملكه بأمر الله عز وجل، وهذا القول قوي جداً، أي: وجوب إجابة العبد إلى الكتابة إذا طلبها، بشرط أن نعلم فيه خيراً.
قوله: «وتكره مع عدمه» أي عدم الخير، يعني تكره إذا كان يخشى منه الشر والفساد، أو إذا لم يكن ذا كسب؛ لأنه إذا أعتق وليس ذا كسب صار كَلًّا على نفسه وعلى غيره.
قوله: «ويجوز بيع المكاتب، ومشتريه يقوم مقام مكاتِبِه» ، يعني لو أن الرجل كاتبه عبده وأراد أن يبيعه هل يجوز؟ الجواب نعم، يجوز، ودليل ذلك حديث عائشة رضي الله عنها في قصة بريرة أن عائشة رضي الله عنها اشترتها من أهلها، فأجازها النبي صلى الله عليه وسلم وأقرها على ذلك، بل أذن لها باللفظ قال:«خذيها واشترطي لهم الولاء»
(1)
، فبيع المكاتب يجوز، ولكن هل يملك السيد الثاني أن
(1)
سبق تخريجه ص (326).
يبطل كتابته؟ الجواب: لا؛ لأن سبب العتق قد انعقد، فلا يملك مشتريه إبطال الكتابة، لكن العبد يبقى على كتابته فيقوم مشتريه مقام مكاتبه الأول، ويبقى العبد عند المشتري بصفة مكاتب، لكن لو أن العبد رغب أن يبقى عبداً عند المشتري، يعني أن المشتري رجل طيب ينتفع به العبد، فرغب أن يكون عند المشتري عبداً، ماذا يعمل؟ قال العلماء: يمكن ألا يؤدي النجوم التي عليه، أي: لا يؤدي القيمة التي اتفق عليها مع سيده الأول، وإذا عجز عاد قِنًّا كما قال المؤلف:
«فإن أدى له عتق» جبراً على الثاني؛ لأن الثاني لا يملك فسخ الكتابة، كما أن الأول كذلك لا يملك فسخها؛ لأن الكتابة عقد جائز من جهة العبد لازم من جهة السيد.
قوله: «وولاؤه له» أي للمشتري، فإن اشترط السيد الأول أن يكون الولاء له، لا للمشتري الثاني، فهل يصح؟
الجواب: لا يصح، ولو رضي الثاني، والدليل أن بريرة جاءت تستعين عائشة رضي الله عنهما في كتابتها، فقالت: إن أحب أهلك أن أعد لهم ما اتفقتم عليه تسع أواق فعلت، ويكون ولاؤك لي، فذهبت بريرة إلى أهلها وقالت لهم، قالوا: لا، إلا أن يكون الولاء لنا، فجاءت فأخبرت عائشة، والنبي عليه الصلاة والسلام عندها فقال لها:«خذيها واشترطي لهم الولاء، فإنما الولاء لمن أعتق»
(1)
، يعني وإن اشترطوا أن الولاء لهم فإنه
(1)
سبق تخريجه ص (326).
لا يصح الشرط، إذاً يكون ولاؤه للثاني لا للأول، ولهذا يقول:«وولاؤه له» .
قوله: «وإن عجز» أي: عن الأداء، وهذا مقابل قوله:«فإن أدى» .
قوله: «عاد قناً» يعني رجع عبداً.
بَابُ أَحْكَامِ أُمَّهَاتِ الأَوْلادِ
إِذَا أَوْلَدَ حُرٌّ أَمَتَهُ، أَوْ أَمَةً لَهُ وَلِغَيْرِهِ، أَوْ أَمَةً لِوَلَدِهِ خُلِقَ وَلَدُهُ حُرّاً، حَيّاً وُلِدَ أَوْ مَيِّتَاً قَدْ تَبَيَّنَ فِيهِ خَلْقُ الإِنْسَانِ لا مُضْغَةٍ أَوْ جِسْمٍ بِلا تَخْطِيطٍ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، تَعتِقُ بِمَوْتِهِ مِنْ كُلِّ مَالِهِ،
..........
قوله: «أمهات الأولاد» يقال: أمهات في بني آدم، وأُمَّات في الحيوان، تقول: أمات السخال ولا تقل: أمهات، وإنما يقال: أمهات في بني آدم، قال الله تعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَهَاتُكُمْ} [النساء: 23].
وقوله: «أمهات الأولاد» ، يراد بأمهات الأولاد مَنْ أتت من سيدها بولد ـ كما سيأتي ـ لكن بشروط.
قوله: «إذا أولد حر أمته» صارت أم ولد بالشروط المذكورة.
وقوله: «حر» احترازاً من العبد، فالعبد لا يملك حتى لو مُلِّك فإنه لا يملك على المشهور من المذهب، وكذلك ـ أيضاً ـ احترازاً من المكاتَب، فالمكاتَب عبد، فلو أولد أمته التي اشتراها ليتكسب بها إن صح أن يجامعها فإنها لا تكون أم ولد، إنما إذا أولد الحر أمته.
قوله: «أو أمة له ولغيره» ، أما أمته فظاهر، أما الأمة له ولغيره أي المشتركة، فلا يجوز للشريك أن يجامعها، لا بملك اليمين؛ لأنه لم يتمحض الملك له، ولا بالنكاح؛ لأن المالك لا يتزوج المملوكة، وهذا له ملك فيها، لكن يمكن أن يكون ذلك بوطء شبهة، يعني وجد امرأة نائمة على فراش زوجته فجامعها، فإذا هي الأمة المشتركة.
قوله: «أو أمة لولده» ، إذا أولد أمة لولده صارت أم ولد، والمؤلف أطلق، فيقتضي أنه لا فرق بين أن يكون الولد وطئها أو
لا، وفي هذا نظر؛ لأن الولد إذا وطئها صارت من حلائله فلا تحل للأب، كما أن القول الراجح أنه لا يحل للأب أن يطأ أمة ولده إلا بعد أن ينوي التملك، أما أن يطأها ونيته أنها باقية في ملك الولد، فهذا حرام؛ لأن الله قال:{إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المعارج: 30]، لكن لنقل: إنه جامع أمة ولده بشبهة، فإنها تكون أم ولد.
إذا قال قائل: لماذا تكون أم ولد وليست ملكاً له حتى ولو بشبهة؟ قالوا: لأن الوالد له أن يتملك من مال ولده ما شاء، فلما صار له أن يتملك صارت كأنها مملوكة.
قوله: «خلق ولده حراً» يعني حال كون الولد قد خلق حراً، احترازاً مما لو تزوج أمة وجامعها وحملت ثم اشتراها، فهنا لا تكون أم ولد؛ لأن الولد الذي في بطنها لم يخلق حراً إنما خلق عبداً لسيدها، فلا بد أن يكون الولد قد خلق حراً، أي: نشأت به وهي في ملك السيد الذي وطِئها.
قوله: «حياً ولد أو ميتاً قد تبين فيه خلق الإنسان» يعني إذا ولدت ولو ميتاً أو حياً فإنه لا بد أن يتبين فيه خلق إنسان، يتبين فيه اليدان والرجلان والرأس، وهذا إنما يكون بعد بلوغ الحمل ثمانين يوماً، أما قبل ذلك فلا يمكن أن يُخَلَّق؛ لأن الجنين في بطن أمه يكون في الأربعين الأولى نطفة، وفي الثانية علقة، ثم في الثالثة يكون مضغة مخلقة وغير مخلقة، إذاً لا يمكن أن يبدأ التخطيط إلا بعد الثمانين، فبعد الثمانين يمكن أن يخلق، وفي التسعين الغالب أنه مخلَّقٌ.
قوله: «لا مضغةٍ» يعني لا بإلقاء مضغة.
قوله: «أو جسمٍ بلا تخطيط» ، فإذا ألقت مضغة أو علقة فإنها لا تكون أم ولد؛ لأنه لم يتبين فيه خلق إنسان.
واعلم أن أحكام الجنين تتنوع، فمنها ما يتعلق بكونه نطفة، ومنها ما يتعلق بكونه علقة، ومنها ما يتعلق بكونه مخلَّقاً، ومنها ما يتعلق بنفخ الروح فيه، ومنها ما يتعلق بوضعه حياً، هذه خمسة أحكام:
الأول: يتعلق بكونه نطفة أنه يجوز إلقاؤه عند الحاجة، وإن لم يكن هناك ضرورة.
الثاني: يتعلق بكونه علقة أنه لا يجوز إلقاؤه إلا للضرورة.
الثالث: يتعلق بكونه مضغة مخلقة أنه يترتب عليه النفاس، فالمرأة إذا وضعت الحمل قبل أن يتبيَّن فيه خلق إنسان فإن الدم الذي يخرج ليس دم نفاس.
الرابع: يتعلق بنفخ الروح، فيه الصلاة عليه، وتكفينه، وتغسيله، ودفنه مع المسلمين، وتسميته، وكذلك العقيقة عنه.
الخامس: يتعلق بخروجه حياً الإرث؛ لأنه لا يرث حتى يخرج حياً كما هو معروف.
قوله: «صارت أم ولد له» ، «صارت» جواب «إذا» ، يعني إذا أولد حُرٌّ أمَتَه بهذه الشروط صارت أم ولد له، أي: للمُولد.
قوله: «تعتق بموته من كل ماله» ، يعني تعتق عتقاً قهرياً على
الورثة من كل ماله، أي: أنها مقدمة على كل شيء، حتى على الدَّيْن والوصية، والميراث من باب أولى، والفرق بينها وبين التدبير أن التدبير يعتق من الثلث كالوصية، أما هذه فمن كل المال.
وَأَحْكَامُ أُمِّ الوَلَدِ أَحْكَامُ الأَمَةِ، مِنْ وَطْءٍ وَخِدْمَةٍ وَإِجَارَةٍ وَنَحْوِهِ، لَا فِي نَقْلِ المُلْكِ فِي رَقَبَتِهَا، وَلَا بِمَا يُرَادُ لَهُ كَوَقْفٍ وَبَيْعٍ وَرَهْنٍ وَنَحْوِهَا.
ذكر المؤلف ثلاثة أحكام، فما يتعلق بالمنفعة جائز، مثل الوطء والخدمة والإجارة والإعارة وما أشبهها، وما يتعلق بنقل الملك فإنه ليس بجائز؛ لأن هذا يؤدي إلى بطلان حريتها، وما يراد لنقل الملك كالرهن فإنه أيضاً لا يجوز؛ لأن الغاية منه نقل الملك.
انتهى بحمد الله تعالى المجلد الحادي عشر
ويليه بمشيئة الله عز وجل المجلد الثاني عشر
وأوله كتاب النكاح