الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشرح الممتع
على
زاد المستقنع
لفضيلة الشيخ العلامة
محمد بن صالح العثيمين
غفر الله له ولوالديه وللمسلمين
المجلد الثاني عشر
دار ابن الجوزي
طبع بإشراف مؤسسة الشيخ محمد بن صالح العثيمين الخيرية
الطبعة الأولى 1427 هـ
كِتَابُ النِّكَاحِ
قوله: «النكاح» النكاح في اللغة يطلق على أمرين:
الأول: العقد.
الثاني: الجماع.
والأصل فيه الأول، وأنه للعقد، فقول الله تعالى:{وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 22] يعني لا تعقدوا عليهن، وأما قوله تعالى:{حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230]، فهنا قال بعض العلماء: المراد بالنكاح الجماع، وأن الذي حرَّفه عن المعنى الأول هو السُّنَّة، وقال آخرون: وأن الذي حرَّفه عن المعنى الأول هو قوله: {زَوْجًا} لأن الزوج لا يكون زوجاً إلا بعقد، وحينئذٍ يتعين أن يكون المراد بالنكاح في قوله:{حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا} الوطء، ومعنى ذلك أن الزوجية سابقة على النكاح، ولا تكون زوجية سابقة على النكاح إلا إذا كان النكاح هو الوطء.
فإذا قيل: نكح بنت فلان، فالمراد عقد عليها، وإذا قيل: نكح زوجته، فالمراد جامعها.
فهو إذاً مشترك بين المعنيين بحسب ما يضاف إليه، إن أضيف إلى أجنبية فهو العقد، وإن أضيف إلى مباحة فهو الجماع.
أما في الشرع فهو أن يعقد على امرأة بقصد الاستمتاع بها، وحصول الولد، وغير ذلك من مصالح النكاح.
وقد ذكر الفقهاء أن النكاح تجري فيه الأحكام الخمسة، تارة يجب، وتارة يُستحب، وتارة يُباح، وتارة يُكره، وتارة يَحْرُم.
وَهُوَ سُنَّةٌ،
.............
قوله: «وهو سنة» ، هذا هو الأصل في حكمه، وذلك لحث النبي صلى الله عليه وسلم عليه، ولما فيه من المصالح العظيمة التي ستتبين فيما بعد.
وقوله: «وهو سنة» ، دليله قول النبي صلى الله عليه وسلم:«يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج»
(1)
، والمراد بالباءة النكاح بحيث يكون عنده قوة بدنية وقدرة مالية، إلا أنه سيأتي ـ إن شاء الله ـ بيان اختلاف العلماء في هذه المسألة.
وهو ـ أيضاً ـ من سنن المرسلين لقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} [الرعد: 38]، وقال:{وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور: 32]، وقال عز وجل:{فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3]، ولأن عثمان بن مظعون رضي الله عنه قال: لو أذن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لاختصينا، ولكن نهانا عن التبتل
(2)
، يعني ترك النكاح؛ وذلك لما في النكاح من المصالح الكثيرة التي من
(1)
أخرجه البخاري في النكاح/ باب من لم يستطع الباءة فليصم (5066)؛ ومسلم في النكاح/ باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه (1400) عن ابن مسعود رضي الله عنه.
(2)
أخرجه البخاري في النكاح/ باب ما يكره من التبتل والخصاء (5073)، ومسلم في النكاح/ باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه
…
(1402) عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، ولفظه:«رد رسول الله صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظعون التبتل، ولو أذن له لاختصينا» .
أجلها صار سنة، ولأنه من ضرورة بقاء الأمة؛ لأنه لولا النكاح ما حصل التوالد، ولولا التوالد ما بقيت الأمة، ولما يترتب عليه من المصالح العظيمة، والشيء قد يكون مطلوباً وإن لم ينص على طلبه لما يترتب عليه من المصالح والمنافع العظيمة.
وَفِعْلُهُ مَعَ الشَّهْوَةِ أَفْضَلُ مِنْ نَوَافِلِ الْعِبَادَةِ، وَيَجِبُ عَلَى مَنْ يَخَافُ زِنًا بِتَرْكِهِ،
........
قوله: «وفعله مع الشهوة أفضل من نوافل العبادة» ، وليس أفضل من واجباتها؛ لأن الواجب مقدم على السنة لقوله تعالى في الحديث القدسي:«وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه»
(1)
، لكن النوافل هو أفضل منها، فالنكاح إذا كان لدى الإنسان شهوة، وعنده مال يستطيع به القيام بواجب النكاح فإنه أفضل من نوافل العبادة.
فلو قال قائل: هل تفضلون أن أبقى أتعبَّد في المسجد بالصلاة، والتسبيح، وقراءة القرآن، أو أن أتزوج؟
قلنا له: ما دُمْتَ ذا شهوة وعندك ما تقوم به بواجبات النكاح فإن الأفضل أن تتزوج؛ لأن فيه من المصالح العظيمة ما يربو على نوافل العبادة.
قوله: «ويجب على من يخاف زناً بتركه» ، هذا هو الحكم الثاني للنكاح، وهو الوجوب على من يخاف زنا بتركه؛ وذلك لشدة شهوته، ولتيسر الزنا في بلده؛ لأن الإنسان ربما تشتد به الشهوة ويخشى أن يزني، لكن لا يتيسر له؛ لأن البلد محفوظ،
(1)
أخرجه البخاري في الرقاق/ باب التواضع (6502) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
لكن مراده إذا اشتدت شهوته في بلد يتيسر فيه الزنا، أما إذا لم يتيسر فهو وإن اشتدت به الشهوة لا يمكن أن يزني، فإذا خاف الزنا لوجود أسبابه وانتفاء موانعه، صار النكاح في حقه واجباً دفعاً لهذه المفسدة؛ لأن ترك الزنا واجب، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
وقال بعض أهل العلم: إنه واجب مطلقاً، وأن الأصل فيه الوجوب؛ لأن قول النبي صلى الله عليه وسلم:«يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج» ، اللام للأمر، والأصل في الأمر الوجوب، إلا أن يوجد ما يصرفه عن الوجوب، ولأن تركه مع القدرة عليه فيه تشبه بالنصارى الذين يعزفون عن النكاح رهبانيةً، والتشبه بغير المسلمين محرم، ولما يترتب عليه من المصالح العظيمة واندفاع المفاسد الكثيرة، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ولكن لا بد من شرط على هذا القول وهو الاستطاعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قيد ذلك بالاستطاعة فقال:«من استطاع منكم الباءة» ، ولأن القاعدة العامة في كل واجب أن من شرطه الاستطاعة.
والقول بالوجوب عندي أقرب، وأن الإنسان الذي له شهوة، ويستطيع أن يتزوج فإنه يجب عليه النكاح، ولكن المشهور من المذهب هو ما ذكره المؤلف.
ومتى يباح؟ يباح لمن لا شهوة له إذا كان غنياً؛ لأنه ليس هناك سبب يوجب، ولكن من أجل مصالح الزوجة بالإنفاق عليها وغير ذلك.
فإن قصد بذلك إعفاف الزوجة وتحصين الفرج كان مسنوناً
لمصلحة الآخرين، وهكذا المباحات إذا كانت وسيلة للمحبوبات صارت محبوبة ومطلوبة.
ومتى يكره؟ يكره لفقير لا شهوة له؛ لأنه حينئذٍ ليس به حاجة، ويُحَمِّل نفسه متاعب كثيرة، فإن كانت المرأة غنية لا يهمها أن ينفق أو لا ينفق، فالنكاح في حقه سنة.
ومتى يحرم؟ قالوا: يحرم بدار حرب، إذا صار الإنسان في دار الكفار يقاتل في سبيل الله، فإنه لا يجوز أن يتزوج؛ لأنه يخشى على عائلته في هذه الدار، ومن ذلك إذا كان الإنسان معه زوجة وخاف إذا تزوج ثانية ألا يعدل، فالنكاح حرام لقول الله تعالى:{فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء: 3]، فأمر الله ـ تعالى ـ بالاقتصار على الواحدة إذا خفنا عدم العدل، ويستحب فيما عدا ذلك؛ لأنه هو الأصل.
فإذا قلنا: إن الأصل فيه الوجوب وهو القول الثاني، فإننا نجعل الأصل هو الواجب، ونقول: يستحب لإنسان ليس له شهوة ولكن عنده مال ويريد أن ينفع الزوجة، ولكن المذهب أنه تجري فيه الأحكام الخمسة، وفي هذه الحال التي ذكرنا لا يجب وإنما يباح.
وينبغي لمن تزوج ألا يقصد قضاء الشهوة فقط، كما هو مراد أكثر الناس اليوم، إنما ينبغي له أن يقصد بهذا التالي:
أولاً: امتثال أمر النبي عليه الصلاة والسلام: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج»
(1)
.
(1)
سبق تخريجه ص (6).
ثانياً: تكثير نسل الأمة؛ لأن تكثير نسل الأمة من الأمور المحبوبة إلى النبي عليه الصلاة والسلام
(1)
، ولأن تكثير نسل الأمة سبب لقوتها وعزتها، ولهذا قال شعيب عليه الصلاة والسلام لقومه:{وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ} [الأعراف: 86]، وامتن الله به على بني إسرائيل في قوله:{وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا} [الإسراء: 6].
ثالثاً: تحصين فرجه وفرج زوجته، وغض بصره وبصر زوجته، ثم يأتي بعد ذلك قضاء الشهوة.
ثم انتقل المؤلف رحمه الله من بيان حكم النكاح إلى بيان من تنكح كَمًّا وكيفاً، أما الكم، فقال:
وَيُسَنُّ نِكَاحُ وَاحِدَةٍ،
.............
«ويسن نكاح واحدة» يعني لا أكثر، وهذه المسألة اختلف فيها أهل العلم، فمن العلماء من قال: إنه ينبغي أن يتزوج أكثر من واحدة، ما دام عنده قدرة مالية وطاقة بدنية، بحيث يقوم بواجبهن فإن الأفضل أن يتزوج أكثر؛ تحصيلاً لمصالح النكاح، والمفاسد التي تتوقع تنغمر في جانب المصالح، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان عنده عدة نساء، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: خير هذه الأمة أكثرها نساء
(2)
، لكن من المعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعدد الزوجات من أجل قضاء الوطر، وإنما من أجل المصلحة
(1)
أخرجه أبو داود في النكاح/ باب النهي عن تزويج من لم يلد من النساء (2050) والنسائي في النكاح/ باب كراهية تزويج العقيم (6/ 65) عن معقل بن يسار رضي الله عنه، وصححه الحاكم (2/ 162) ووافقه الذهبي، انظر: خلاصة البدر المنير (1908) والإرواء (1784).
(2)
أخرجه البخاري في النكاح/ باب كثرة النساء (5069) موقوفاً على ابن عباس رضي الله عنهما.
العامة؛ حتى يكون له في كل قبيلة صلة، فتكون كل قبائل العرب لها صلة بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن المصاهرة قسيم النسب، وعديل النسب، عَادَلَ الله بينهما في قوله:{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ المَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا} [الفرقان: 54]، ومن جهة أخرى أن رسول الله عليه الصلاة والسلام أراد أن يكثر الأخذ عنه في الأعمال الخفية التي لا تكون إلا في البيوت، فزوجاته تأخذن عنه، ولهذا كان كثير من السنن التي لا يعلنها الرسول صلى الله عليه وسلم تؤخذ من زوجاته رضي الله عنهن، وكذلك تحصين فروجهن، وجبر قلوبهن، كقضية صفية بنت حيي رضي الله عنها، وكانت أسيرة في غزوة خيبر، وأبوها سيد بني النضير، ومعلوم أن امرأة بنتاً لسيد بني النضير تؤخذ أسيرة سوف ينكسر قلبها، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يجبر قلبها فتزوجها
(1)
، ولو كان يريد أن يقضي الوطر، ما كانت زوجاته كلهن ثيبات إلا واحدة؛ لأن البكر بدون شك أحسن من الثيب، حتى قال صلى الله عليه وسلم لجابر رضي الله عنه:«هلا بكراً تلاعبك وتلاعبها»
(2)
، فعلى كل حال نقول: التعدد خير لما فيه من المصالح، ولكن بالشرط الذي ذكره الله عز وجل، وهو أن يكون الإنسان قادراً على العدل.
وذهب بعض أهل العلم إلى أنه يسن أن يقتصر على واحدة، وعلل ذلك بأنه أسلم للذمة من الجَوْرِ؛ لأنه إذا تزوج اثنتين أو أكثر فقد لا يستطيع العدل بينهما، ولأنه أقرب إلى منع
(1)
أخرجه البخاري في النكاح/ باب من جعل عتق الأمة صداقها (5086)؛ ومسلم في النكاح/ باب فضيلة إعتاقه أمته ثم يتزوجها (1365)(84) عن أنس رضي الله عنه.
(2)
أخرجه البخاري في النكاح/ باب تزويج الثيبات (5079)؛ ومسلم في النكاح/ باب استحباب نكاح البكر (715)(56) عن جابر رضي الله عنه.
تشتت الأسرة، فإنه إذا كان له أكثر من امرأة تشتت الأسرة، فيكون أولاد لهذه المرأة، وأولاد لهذه المرأة، وربما يحصل بينهم تنافر بناء على التنافر الذي بين الأمهات، كما هو مشاهد في بعض الأحيان، ولأنه أقرب إلى القيام بواجبها من النفقة وغيرها، وأهون على المرء من مراعاة العدل، فإن مراعاة العدل أمر عظيم، يحتاج إلى معاناة، وهذا هو المشهور من المذهب.
فإن قال قائل: قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ} [النساء: 3] ألا يرجح قولَ من يقول بأن التعدد أفضل؟ لأنه قال: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} ، فجعل الاقتصار على واحدة فيما إذا خاف عدم العدل، وهذا يقتضي أنه إذا كان يتمكن من العدل فإن الأفضل أن ينكح أربعاً؟
قلنا: نعم، قد استدل بهذه الآية من يرى التعدد، وقال: وجه الدلالة أن الله تعالى يقول: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء: 3] فجعل الاقتصار على واحدة فيما إذا خاف عدم العدل.
ولكن عند التأمل لا نجد فيها دلالة على هذا؛ لأن الله يقول: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] كأنه يقول: إن خفتم ألا تعدلوا في اليتامى اللاتي عندكم، فإن الباب مفتوح أمامكم إلى أربع، وقد كان الرجل تكون عنده اليتيمة بنت عمه أو نحو ذلك، فيجور عليها، ويجعلها لنفسه، ويخطبها الناس ولا يزوجها، فقال الله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ
النِّسَاءِ}
(1)
، أي: اتركوهن والباب أمامكم مفتوح لكم، إلا أنه لا يمكن أن تتزوجوا أكثر من واحدة إذا كان في حال خوف عدم العدل، فيكون المعنى هنا بيان الإباحة لا الترغيب في التعدد.
وعلى هذا فنقول: الاقتصار على الواحدة أسلم، ولكن مع ذلك إذا كان الإنسان يرى من نفسه أن الواحدة لا تكفيه ولا تعفه، فإننا نأمره بأن يتزوج ثانية وثالثة ورابعة، حتى يحصل له الطمأنينة، وغض البصر، وراحة النفس.
دَيِّنَةٍ،
............
قوله: «ديِّنَةٍ» ، أي: صاحبة دين، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«تنكح المرأة لأربع: لمالها وحسبها وجمالها ودينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك»
(2)
. فالديِّنة تعينه على طاعة الله، وتصلح من يتربى على يدها من أولاده، وتحفظه في غيبته، وتحفظ ماله وتحفظ بيته، بخلاف غير الدينة فإنها قد تضره في المستقبل، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام:«فاظفر بذات الدين» ، فإذا اجتمع مع الدين جمال ومال وحسب فذلك نور على نور، وإلا فالذي ينبغي أن يختار الديِّنة.
فلو اجتمع عند المرء امرأتان: إحداهما جميلة وليس فيها فسق أو فجور، والأخرى دونها في الجمال لكنها أدين منها، فأيهما يختار؟ يختار الأدين.
لكن أحياناً بعض الناس يكون مولعاً بالجمال، وإذا علم أن
(1)
أخرجه البخاري في الشركة/ باب شركة اليتيم وأهل الميراث (2494)؛ ومسلم في التفسير/ باب في تفسير آيات متفرقة (3018).
(2)
أخرجه البخاري في النكاح/ باب الأكفاء في الدين (5090)؛ ومسلم في النكاح/ باب استحباب نكاح ذات الدين (1466) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
هناك امرأة جميلة، لا تطيب نفسه بنكاح من دونها في الجمال، ولو كانت أدين، فهل نقول: إنك تكره نفسك على هذه دون هذه وإن لم ترتح إليها؟ أو نقول: خذ من ترتاح لها ما دامت غير فاجرة ولا فاسقة؟
الظاهر الثاني، إلا إذا كانت غير دينة، بمعنى أنها فاسقة، فهذه لا ينبغي أن يأخذها، إلا في مسألة الفجور والزنا فلا تحل، وقد يقول بعض الناس: أتزوج امرأة غير دينة لعل الله أن يهديها على يدي، ونقول له: نحن لا نكلف بالمستقبل، فالمستقبل لا ندري عنه، فربما تتزوجها تريد أن يهديها الله على يدك، ولكنها هي تحولك إلى ما هي عليه فتشقى على يديها.
وكذلك بالعكس بعض الناس يخطب منهم الرجل الفاسق، لكن يقولون: لعل الله أن يهديه، وأقبح من ذلك أن يعرف بعدم الصلاة فيقولون: لعل الله أن يهديه، فنقول: نحن لا نكلف بالمستقبل، لكن نكلف بما بين أيدينا، بالحاضر، فلعل هذا الرجل الذي ظننت أن يستقيم لعله يعوج ابنتكم ويضلها؛ لأن الرجل له سيطرة على المرأة، وكم من امرأة ملتزمة تزوجت شخصاً تظن أنه دين فيتبين أنه غير دين، فتتعب معه التعب العظيم، ونحن دائماً يشكى إلينا هذا الأمر من النساء، حتى تود أن تفر بدينها من هذا الرجل، ولو بكل ما تملك من المال، ولهذا يجب التحرز في هذه المسائل، سواء من جهة الرجل يتزوج المرأة، أو من جهة المرأة تتزوج الرجل.
أَجْنَبِيَّةٍ،
..............
قوله: «أجنبية» يعني ليس بينه وبينها نسب، لا تكون من بني عمه، بل تكون من أناس أجانب، وعللوا ذلك بأمرين:
أحدهما: أنه أنجب للولد يعني يكون فيه نجابة؛ لأنه يأخذ من طبائع أخواله، ومن طبائع أهله، فيتكون من ذلك خلق من الخلقين جميعاً، وهذا أمر مقصود، وكم من أناس كثيرين جذبهم أخوالهم في الكرم، والشهامة، والرجولة.
الثاني: أنه ربما حصل بينه وبينها جفوة، فيؤدي إلى قطيعة الرحم، كأن يقع بينه وبينها مشاكل، فيأتي ـ مثلاً ـ عمه ويتنازع معه أو مع أبيه، فيحصل بذلك قطيعة الرحم، فكونه يأخذ امرأة أجنبية أولى.
وما قالوه صحيح، لكن إذا وجد في الأقارب من هو أفضل منها بالاعتبارات الأخرى، فإنه يكون أفضل، يعني عند التساوي ربما تكون الأجنبية أولى، لكن مع التفاضل بالاعتبارات الأخرى لا شك أننا نقدم القريبة، ومن ذلك إذا كانت ـ مثلاً ـ بنت العم امرأة ذات دين وخلق، وأحوالهم ـ مثلاً ـ ضعيفة يحتاجون إلى رفق ومساعدة، فإنه لا شك أن هذا مصلحة كبيرة، فالإنسان يراعي المصالح في هذا الأمر، وما دامت المسألة ليس فيها نص شرعي يجب الأخذ به فإن الإنسان يتبع في هذا المصالح.
بِكْرٍ،
........
قوله: «بكر» ، وهي التي لم تتزوج من قبل، لقول النبي صلى الله عليه وسلم لجابر بن عبد الله رضي الله عنهما لما سأله تزوجت؟ قال: نعم، قال:«بكراً أم ثيباً؟» ، قال: بل ثيباً، فقال:«فهلاَّ بكراً تلاعبك وتلاعبها»
(1)
، فالبكر أفضل؛ لأنها لم تطمح إلى رجال سابقين، ولم يتعلق قلبها بأحد قبله، ولأن أول من يباشرها من الرجال هذا الرجل، فتتعلق به أكثر.
(1)
سبق تخريجه ص (11).
لكن قد يختار الإنسان الثيب لأسباب، مثل ما فعل جابر بن عبد الله رضي الله عنهما فإنه اختار الثيب؛ لأن والده عبد الله بن حرام رضي الله عنه استشهد في أحد، وخلف بناتاً يحتجن إلى من يقوم عليهن، فلو تزوج بكراً لم تقم بخدمتهن ومؤنتهن، فاختار رضي الله عنه ثيباً لتقوم على أخواته، ولهذا لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك أقره النبي عليه الصلاة والسلام، فإذا اختار الإنسان ثيباً لأغراض أخرى فإنها تكون أفضل، وفي هذا دليل على اعتبار الأمور، وأن التفضيل يرجع إلى هذه الاعتبارات، كما سبق ذكره.
وَلُودٍ،
.......
قوله: «ولود» ، أي: كثيرة الولادة، وهذا ظاهره يتناقض مع قوله:«بكر» ؛ لأن البكر ما ولدت حتى نعلم أنها ولود أم لا، ولكن لا تناقض، ويمكن معرفة هذا بمعرفة قريباتها، فإذا كانت من نساء عرفن بكثرة الولادة فالغالب أنها تكون مثلهن، فيختار المرأة التي عرفت قريباتها بكثرة الولادة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذلك فقال:«تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الأنبياء يوم القيامة»
(1)
؛ ولأن كثرة الأمة عِزٌّ لها، وإياك وقول الماديين الذين يقولون: إن كثرة الأمة يوجب الفقر، والبطالة، والعطالة، بل والكثرة
(1)
أخرجه أحمد (3/ 158)؛ وابن حبان (4028)؛ والطبراني في الأوسط (5099) عن أنس رضي الله عنه انظر: خلاصة البدر المنير (1908)؛ والإرواء (1784).
وأخرجه أبو داود في النكاح/ باب النهي عن تزويج من لم يلد من النساء (2050)؛ والنسائي في النكاح/ باب كراهية تزويج العقيم (6/ 65) عن معقل بن يسار رضي الله عنه بلفظ «الأمم» بدل «الأنبياء» ، وصححه الحاكم (2/ 162) ووافقه الذهبي.
عِزٌّ امتن الله به على بني إسرائيل، حيث قال:{وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا} [الإسراء: 6]، وذَكَّر شعيب عليه الصلاة والسلام قومه بها، حيث قال:{وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ} [الأعراف: 86].
فكثرة الأمة عِزٌّ، لا سيما إذا كانت أرضهم قابلة للحراثة، والزراعة، والصناعة، بحيث يكون فيها مواد خام للصناعة وغير ذلك، وليس ـ والله ـ كثرة الأمة سبباً للفقر والبطالة أبداً.
لكن ـ مع الأسف ـ أن بعض الناس ـ الآن ـ يختار المرأة التي يمكن أن تكون عقيماً، فهي أحب من الولود، ويحاولون أن لا تلد نساؤهم إلا بعد ثلاث أو أربع سنوات من الزواج وما أشبه ذلك، وهذا خطأ؛ لأنه خلاف مراد النبي صلى الله عليه وسلم، ويقولون أحياناً: إن تربيتهم تشق، فنقول: إذا أحسنتم الظن بالله أعانكم الله.
ويقولون أحياناً: إن المال الذي عندنا قليل، نقول لهم:{وَمَا مِنْ دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6]، وأحياناً يرى الإنسان الرزق ينفتح إذا ولد له، وقد حدثني من أثق به ـ وهو رجل يبيع ويشتري ـ يقول: إني منذ تزوجت فتح الله علي باب رزق، ولما ولد ولدي فلان انفتح باب رزق آخر، وهذا معلوم؛ لأن الله يقول {وَمَا مِنْ دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6]، ويقول:{وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} [الأنعام: 151]، وقال:{وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} [الإسراء: 31]، وقال:{إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 32]، فالحاصل أن هذه العلة وهي ـ كون الأولاد سبباً للفقر ـ خطأ.
قد يقول قائل: أنا أحب أن تبقى زوجتي شابة فلا أحب أن تلد.
فنقول: هذا غرض لا بأس به، لكن الولادة، أو كثرة الأولاد أفضل من ذلك.
ولو قال قائل: أنا أريد أن أنظم النسل، بمعنى أن أجعل امرأتي تلد كل سنتين مرة، فهل يجوز أو لا؟
الجواب: هذا لا بأس به، وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يعزلون في عهد النبي صلى الله عليه وسلم
(1)
، والعزل لا شك أنه يمنع من الحمل غالباً.
بِلَا أُمٍّ .........
قوله: «بلا أم» ، أي: أن يختار امرأة لا أم لها؛ أي لا أم لها حية؛ لأن الأم ربما تفسدها عليه ـ سبحان الله ـ هذا تشاؤم، ولو تأملت الواقع وجدت أكثر النساء لهن أمهات، ولم تفسدهن، والحمد لله، بل نادراً أن الأم تفسد، وأيضاً نقول: الزوج بلا أم؛ لأن بعض أمهات الأزواج تفسده على المرأة، وكم من أم غارت من محبة ابنها لزوجته، ثم حاولت أن تفسد بينها وبين زوجها، وإذا كان كذلك فإنه لا ينبغي أن نقول: إنه يختار امرأة لا أم لها، بل نقول: يختار امرأة أمها صالحة، أما أن نقول: بلا أم، فهذا فيه نظر؛ لأن من الأمهات من تكون خيراً على بناتهن، وعلى أزواجهن.
(1)
كما في حديث جابر رضي الله عنه كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخرجه البخاري في النكاح/ باب العزل (5207)؛ ومسلم في النكاح/ باب حكم العزل (1440).
ثم إن المفسدة ليست محصورة في الأم، فقد تفسدها خالتها أو أختها أو أحد أقاربها، أو أحد من الأباعد، وتكون الأم حامية لها، تحميها من هؤلاء الذين يفسدونها على زوجها.
وَلَهُ نَظَرُ مَا يَظْهَرُ غَالِباً، مِرَارَاً، بِلَا خَلْوَةٍ ............
قوله: «وله نظر ما يظهر غالباً مراراً بلا خلوة» ، «وله» ، اللام للإباحة، والضمير يعود على من أراد خطبة امرأة، ولو قال: للخاطب، لكان أولى وأوضح، أي: ولمن أراد خطبة امرأة نظر
…
إلى آخره.
وظاهر كلام المؤلف هنا أن النظر للمخطوبة مباح وليس بمطلوب؛ وعلَّلوا كونه مباحاً أنه ورد بعد الحظر، فيكون مباحاً كالأمر بعد الحظر عند أكثر الأصوليين يكون للإباحة، ولكن العلماء رحمهم الله يعبرون بما يفيد الإباحة أحياناً لدفع توهم المنع، لا لإثبات الحكم المباح، مثلاً قالوا في باب الحج: ويجوز للقارن والمفرد أن يتحول إلى عمرة ليصير متمتعاً، مع أن الأمر سنة.
قال صاحب الفروع: لعلهم عبروا بالجواز لدفع قول من يقول بالمنع، فلا ينافي أن يكون مستحباً، فهنا قال:«وله نظر» فيحتمل أن المؤلف عبر بما يدل على الإباحة دفعاً لتوهم المنع، فلا ينافي أن يكون مستحباً، ولهذا نقول: يسن لمن أراد أن يخطب امرأة أن ينظر إلى ما يظهر غالباً، فإن كان المؤلف أراد دفع توهم المنع فلا إشكال، وإن كان أراد إثبات حكم الإباحة، فالمسألة فيها قول آخر وهو أنه سنة وهو الصواب، إلا إذا علم الإنسان بصفتها بدون نظر، فلا حاجة، كما لو أرسل امرأة يثق بها تماماً فإنه لا حاجة إلى أن ينظر.
على أنه في الحقيقة نظر الغير لا يغني عن نظر النفس، فقد تكون المرأة جميلة عند شخص وغير جميلة عند شخص آخر، وقد يرى الإنسان ـ مثلاً ـ المرأة على حال غير حالها الطبيعية؛ لأنه أحياناً يكون الإنسان في حال السرور وما أشبه ذلك له حال، وفي حال الحزن له حال، وفي الحال الطبيعية له حال أخرى، ثم إنه ـ أيضاً ـ بعض الأحيان إذا علمت المرأة أنه سينظر إليها أدخلت على نفسها تحسينات، فإذا نظر إليها ظن أنها جميلة جداً، وهي ليست كذلك.
وعلى كل حال نقول: إن ظاهر السنة أن النظر إلى المخطوبة سنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به وقال: «إنه أحرى أن يؤدم بينكما»
(1)
، أي: يؤلف بينكما.
ولكن كيف ينظر؟ إذا أمكن أنه ينظر إليها باتفاق مع وليها، بأن يحضر وينظر لها فله ذلك، فإن لم يمكن فله أن يختبئ لها في مكان تمر منه، وما أشبه ذلك، وينظر إليها، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر منها إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل»
(2)
.
(1)
أخرجه أحمد (4/ 245)؛ والترمذي في النكاح/ باب ما جاء في النظر إلى المخطوبة (1087)؛ والنسائي في النكاح/ باب إباحة النظر قبل التزويج (6/ 69)؛ وابن ماجه في النكاح/ باب النظر إلى المرأة إذا أراد أن يتزوجها (1865) عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، وحسنه الترمذي، وقال البوصيري: هذا إسناد صحيح رجاله ثقات، وصححه الحاكم (2/ 165)، على شرط الشيخين ووافقه الذهبي.
(2)
أخرجه أحمد (3/ 334)؛ وأبو داود في النكاح/ باب في الرجل ينظر إلى المرأة وهو يريد تزويجها (2082)؛ عن جابر رضي الله عنه، وصححه الحاكم (2/ 165) على شرط مسلم، ووافقه الذهبي.
وقوله: «وله نظر ما يظهر غالباً» مثل الوجه، والرقبة، واليد والقدم، ونحوها، أما أن ينظر إلى ما لا يظهر غالباً، فهذا لا يجوز، فكلمة «غالباً» مربوطة بعرف السلف الصالح، لا بعرف كل أحد؛ لأننا لو جعلناها بعرف كل أحد لضاعت المسألة، واختلف الناس اختلافاً عظيماً، لكن المقصود ما يظهر غالباً وينظر إليه المحارم، فللخاطب أن ينظر إليه، وأهم شيء في الأمر هو الوجه، وينظر إليها قبل الخطبة، ويجوز للمرأة أن تمكن الخاطب من النظر إليها بالشروط التي ذكرها المؤلف.
وقوله: «مراراً» ، أي: يجوز أن يكرر النظر إليها، لقوله عليه الصلاة والسلام:«إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر منها إلى ما يدعوه إلى نكاحها، فليفعل» ، فإذا كان في أول مرة ما وجد ما يدعوه إلى نكاحها، فلينظر مرة ثانية، وثالثة.
وهل يجوز له مكالمتها؟ لا؛ لأن المكالمة أدعى للشهوة والتلذذ بصوتها، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام:«أن ينظر منها» ، ولم يقل: أن يسمع منها.
وقوله: «بلا خلوة» لأنها لم تزل أجنبية منه، والأجنبية يحرم على الرجل أن يخلو بها؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يخلون
رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم»
(1)
، والنهي للتحريم، وقال صلى الله عليه وسلم:«لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان»
(2)
، وهذا يدل على أن تحريمه مؤكد.
فشروط جواز النظر إلى المرأة ستة:
الأول: أن يكون بلا خلوة.
الثاني: أن يكون بلا شهوة، فإن نظر لشهوة فإنه يحرم؛ لأن المقصود بالنظر الاستعلام لا الاستمتاع.
الثالث: أن يغلب على ظنه الإجابة.
الرابع: أن ينظر إلى ما يظهر غالباً.
الخامس: أن يكون عازماً على الخطبة، أي: أن يكون نظره نتيجة لعزمه على أن يتقدم لهؤلاء بخطبة ابنتهم، أما إذا كان يريد أن يجول في النساء، فهذا لا يجوز.
السادس: ـ ويخاطب به المرأة ـ ألا تظهر متبرجة أو متطيبة، مكتحلة أو ما أشبه ذلك من التجميل؛ لأنه ليس المقصود أن يرغب الإنسان في جماعها حتى يقال: إنها تظهر متبرجة، فإن هذا تفعله المرأة مع زوجها حتى تدعوه إلى الجماع، ولأن في هذا فتنة، والأصل أنه حرام؛ لأنها أجنبية منه، ثم في ظهورها هكذا مفسدة عليها؛ لأنه إن تزوجها ووجدها على غير البهاء الذي كان عهده رغب عنها، وتغيرت نظرته إليها، لا سيما وأن الشيطان يبهي من لا تحل للإنسان أكثر مما يبهي زوجته، ولهذا
(1)
أخرجه البخاري في الجهاد والسير/ باب من اكتتب في جيش فخرجت امرأته حاجة (3006)، ومسلم في الحج/ باب سفر المرأة مع المحرم إلى حج وغيره (1341) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(2)
أخرجه أحمد (1/ 26)، والترمذي في الفتن/ باب ما جاء في لزوم الجماعة (2165) عن عمر رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (4557) ط/ الأفكار الدولية، والألباني في الصحيحة (430).
تجد بعض الناس ـ والعياذ بالله ـ عنده امرأة من أجمل النساء، ثم ينظر إلى امرأة قبيحة شوهاء؛ لأن الشيطان يبهيها بعينه حيث إنها لا تحل له، فإذا اجتمع أن الشيطان يبهيها، وهي ـ أيضاً ـ تتبهى وتزيد من جمالها، وتحسينها، ثم بعد الزواج يجدها على غير ما تصورها، فسوف يكون هناك عاقبة سيئة.
فإن قيل: كيف يغلب على ظنه الإجابة؟
الجواب: الله سبحانه وتعالى جعل الناس طبقات، كما قال تعالى:{نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} [الزخرف: 32]، فلو تقدم أحد الكنَّاسين إلى بنت وزير، فالغالب عدم إجابته، وكذلك إنسان كبير السن زمِن، أصم، يتقدم إلى بنت شابة جميلة، فهذا يغلب على ظنه عدم الإجابة.
لما ذكر المؤلف الخاطب ذكر مَن المخطوبة، وهل كل امرأة يمكن أن يخطبها الإنسان؟ فقال:
وَيَحْرُمُ التَّصْرِيحُ بِخِطْبَةِ الْمُعْتَدَّةِ مِنْ وَفَاةٍ، وَالْمُبَانَةِ ............
«ويحرم التصريح بخِطبة المعتدة من وفاة والمبانة» .
«خِطبة» و «خُطبة» الفرق بينهما: أن الخُطبة هي الكلمة التي يخطب بها الخطيب، مثل خطبة الجمعة، والخِطبة بكسر الخاء هي طلب التزوج من المرأة، قال الله تعالى:{وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} [البقرة: 235].
وقوله: «ويحرم التصريح بخطبة المعتدة» ، التصريح معناه أن يقول ما لا يحتمل غير النكاح، مثل أن يقول: أطلب
زواجك، أو زوجيني نفسك، أو يقول للولي: زوِّجني ابنتك، أو ما أشبه ذلك.
وقوله: «بخطبة المعتدة» يعني التي في عدة الغير، مثل معتدة من وفاة، أو من طلاق رجعي، أو من طلاق بائن، فالتصريح للمعتدة لا يجوز أبداً.
وقوله: «من وفاة» يعني امرأة زوجها مات عنها، فتكون في عدة، ولا يجوز لأحد أن يصرح بخطبتها في العدة، والدليل قوله تعالى:{وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} [البقرة: 235]، فقوله:{ئ {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} مفهومه عليكم جناح إذا صرَّحتم.
وقوله: «والمبانة» ، أي: التي فارقها زوجها في الحياة فراقاً بائناً لا يستطيع الرجوع إليها، وهي إما أن تكون مطلقة آخر ثلاث تطليقات؛ أو مطلقة على عوض، أو مفسوخة فسخاً لا طلاقاً، مثلاً: وجدت في زوجها عيباً ففسخت النكاح، أو وجد هو بها عيباً ففسخ النكاح.
هذه المبانة التي بانت من زوجها فلا رجعة له عليها، فلا يجوز أن يخطبها صريحاً.
دُونَ التَّعْرِيضِ،
.............
قوله: «دون التعريض» يعني يحرم التصريح دون التعريض فيباح، والدليل قوله تعالى:{وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ} [البقرة: 235]، فمنطوق الآية نفي الجناح بالتعريض، ومفهومها ثبوت الجناح في التصريح.
والتعريض مثل أن يبدي لها الرغبة بالخطبة، وهو جائز
للمعتدة من وفاة، والبائن بطلاق، أو فسخ، وسيأتي ذكرها في كلام المؤلف، مثل أن يقول لها: والله إن امرأة مثلك غنيمة، أو: إذا انقضت العدة فأخبريني، أو: لا تفوتي نفسك، أو: إني في مثلك لراغب، أو: أم العيال كبرت وأنا محتاج لزوجة، أو ما أشبه ذلك، فالمهم أن هذا نسميه تعريضاً، وهو جائز للمعتدة من وفاة، والبائن بطلاق أو فسخ.
وَيُبَاحَانِ لِمَنْ أَبَانَهَا دُونَ الثَّلَاثِ .........
قوله: «ويباحان» ، أي: التصريح والتعريض.
قوله: «لمن أبانها دون الثلاث» يعني لزوج أبانها بغير الطلاق الثلاث، مثل ما لو طلقها على عوض، كرجل اتفق هو وزوجته على أنه يطلقها وتسلم له فلوساً، أو وليها، أو أي شخص آخر، فهذه نسميها بائناً بعوض، وقد سمى الله ـ تعالى ـ هذا العوض فداء؛ لأن المرأة اشترت نفسها من زوجها:{فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229]، فلو قلنا: إن زوجها له أن يراجعها ما استفادت، ولهذا نقول: لا رجعة له عليها إلا برضاها.
وقوله: «دون الثلاث» ، لو قال المؤلف: بغير الثلاث، لكان أوضح، مثل أن يطلقها على عوض، أو يفسخ العقد فسخاً لعيب في زوجها، أو لإعسار بالصداق، أو بالنفقة، أو نحو ذلك، المهم أن الطلاق على عوض وجميع الفسوخ، تعتبر بينونة، لكن ليست مثل البينونة بالثلاث، فيجوز لزوجها الذي أبانها أن يصرح ويعرِّض، ويعقد عليها أيضاً، ولو في العدة بمهر جديد؛ لأن العدة له، ولا عدوان في ذلك على أحد.
إذاً يجوز التصريح والتعريض لزوج أبان زوجته بغير الثلاث، وبالثلاث لا يجوز التعريض ولا التصريح؛ لأنها تحرم عليه.
والدليل على جواز خطبة المبانة بغير الثلاث ممن أبانها تصريحاً وتعريضاً أن العدة له، ويحل له تزوجها، فكل امرأة يجوز أن يتزوجها ويعقد عليها فإنه يجوز التصريح والتعريض في خطبتها.
كَرَجْعِيَّةٍ، وَيَحْرُمَانِ مِنْهَا عَلَى غَيْرِ زَوْجِهَا ...........
قوله: «كرجعية» يعني كرجعية له، والحقيقة هذا التمثيل فيه نظر؛ لأن الرجعية بالنسبة لزوجها ما تخطب، بل يراجعها، فيقول: أنا راجعتك، وتتمم الرجعة، وتعود زوجته، لكنه ذكر ذلك تمهيداً لقوله:
«ويحرمان منها على غير زوجها» «يحرمان» ، أي: التعريض والتصريح «منها» أي: من الرجعية، فالرجعية يحرم على غير زوجها أن يخطبها تصريحاً أو تعريضاً؛ لأنها زوجة، ولا يجوز لأحد أن يأتي لامرأة رجل طلقت ويقول: أريد أن أتزوجك؛ لأن هذا معناه أنه خبَّبها على زوجها، وليس من الدين الإفساد بين الناس، ومن أعظم الأشياء محاولة التفريق بين الرجل وأهله الذي هو طريق السحرة:{فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} [البقرة: 102].
فعلم من كلام المؤلف أن خطبة المعتدة لها ثلاث حالات:
الأولى: تحرم تصريحاً وتعريضاً.
الثانية: تجوز تصريحاً وتعريضاً.
الثالثة: تجوز تعريضاً لا تصريحاً.
تحرم تصريحاً وتعريضاً خطبة الرجعية من غير زوجها؛ لأنها زوجة، ولا يجوز لأحد أن يخطب زوجة غيره لا تصريحاً ولا تعريضاً، ومثلها المبانة بثلاث من زوجها.
وتباح الخطبة تصريحاً وتعريضاً لزوج أبان زوجته بغير الثلاث، بطلاق على عوض، أو فسخ.
ويحرم التصريح دون التعريض في خطبة المبانة من غير الزوج، والمعتدة من الوفاة.
وهل يجوز التصريح أو التعريض في خطبة المحرمة بحج أو عمرة؟
لا يجوز؛ لأنه لا يجوز عقد النكاح عليها.
إذاً القاعدة: كل من لا يجوز العقد عليها فإنه تحرم خطبتها تصريحاً، أما تعريضاً ففيه تفصيل.
قال المؤلف رحمه الله مبيناً معنى التعريض:
وَالتَّعْرِيضُ: إِنِّي فِي مِثْلِكِ لَرَاغِبٌ،
..............
«والتعريض: إني في مثلك لراغب» ، فإذا قال مثل هذا الكلام عرفت أنه يريدها، فالمهم ألا يصرح، ودليل ذلك قوله تعالى:{وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} ـ أي: المعتدات من وفاة ـ {أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفًا} [البقرة: 235]، فأباح الله تعالى التعريض في خطبة المعتدة من وفاة.
والتصريح ما عرَّفه؛ لأنه بيِّن، مثلاً يقول: أريد أن تزوجيني
نفسك، أو يقول لوليِّها: أريد أن تزوجني فلانة، يعني أن يطلب نكاحها على وجه صريح لا احتمال فيه.
وَتُجِيبُهُ: مَا يُرْغَبُ عَنْكَ، وَنَحْوُهُمَا، فَإِنْ أَجَابَ وَلِيُّ مُجْبَرَةٍ، أَوْ أَجَابَتْ غَيْرُ المُجْبَرَةِ لِمُسْلِمٍ، حَرُمَ عَلَى غَيْرِهِ خِطْبَتُهَا،
...........
قوله: «وتجيبه: ما يرغب عنك» يعني أنا لا أرغب عنك.
قوله: «ونحوهما» مثل لا تفوتي نفسك، وتقول: إن قضي شيء كان.
وفهم من كلام المؤلف أنه يجوز للإنسان أن يخاطب مخطوبته، وعليه فنقول: هذا الإطلاق من المؤلف يجب أن يقيد بأن لا يحدث شهوة، أو تلذذ بمخاطبتها، فإن حصل ذلك فإنه لا يجوز؛ لأن الفتنة يجب أن يبتعد عنها الإنسان.
قوله: «فإن أجاب ولي مجبرة أو أجابت غير المُجبَرَة لمسلم حرم على غيره خطبتها» ، يعني إذا تمت الخطبة فأجابت غير المجبرة، أو أجاب ولي المجبرة حرمت خطبتها.
وعلم من كلام المؤلف أن النساء قسمان: مجبرات، وغير مجبرات، وهذا مبني على المذهب كما سيأتي إن شاء الله تعالى، والصحيح أنه ليس هناك امرأة تجبر على النكاح، نعم لو زَوَّجَ صغيرةً، وقلنا بجواز تزويج الصغيرة فهذه لا تعتبر إجابتها، إنما المعتبر إجابة الولي، لكن نحن نمشي على كلام المؤلف، وكونها تجبر أو لا تجبر يأتي ـ إن شاء الله ـ في بابه، فالمعتبر إجابة غير المجبرة وإجابة ولي المجبرة.
فغير المجبرة مثل الثيب أو البكر مع غير الأب.
والمجبرة البكر مع الأب على المذهب، فإذا أجاب أبو البكر الخاطب اعتبرت الإجابة صحيحة، وإذا أجاب أخو البكر فالإجابة غير صحيحة لا أثر لها، وإذا أجاب أبو الثيب فالإجابة غير صحيحة وغير معتبرة، فالمعتبر إجابة المرأة نفسها إن كانت لا تزوج إلا برضاها، وإجابة وليها إن كان يستطيع أن يجبرها.
وقوله: «لمسلم» تنازعه عاملان، «أجاب» و «أجابت» ، يعني إن أجاب ولي المجبرة لمسلم، أو أجابت غير المجبرة لمسلم.
وعلم منه: أنها لو أجابت لغير مسلم فإنه يجوز خطبتها، فيخطب على خطبة غير المسلم، كامرأة نصرانية ـ مثلاً ـ خطبها نصراني، فظاهر كلام المؤلف أنه يجوز للمسلم أن يخطب على خطبة هذا النصراني؛ لأنه قال:«أو أجابت غير المجبرة لمسلم» فمفهومه أن غير المسلم لا تحرم الخطبة على خطبته، والدليل قوله تعالى:{وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} [البقرة: 221]، ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لا يبع أحدكم على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه»
(1)
، والنصراني ليس أخاً.
وهذه المسألة اختلف فيها أهل العلم، فمنهم من قال: إن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خطبة أخيه» من باب الأغلب؛ لأنه يخاطب مسلمين، والغالب أن الخاطب مسلم، ومعلوم أن القيد إذا كان
(1)
أخرجه البخاري في البيوع/ باب لا يبيع على بيع أخيه ولا يسوم على سوم أخيه (2140)؛ ومسلم في النكاح/ باب تحريم الخطبة على خطبة أخيه متى يأذن أو يترك (1413) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
للأغلب فلا مفهوم له، وعلى هذا لا يجوز للرجل أن يخطب على خطبة النصراني؛ لأن النصراني له حقوق.
وهذا القول أصح أنه لا يجوز أن يخطب على خطبة غير المسلم إذا لم يكن حربياً، أما إذا كان حربياً فليس له حق، لكن إذا كان معاهداً أو مستأمناً، أو ذمياً؛ لأن هذا من باب حقوق العقد لا العاقد، فعلى هذا لا يجوز لنا أن نخطب على خطبة غير المسلمين، وأيضاً لو خطبنا على خطبة غير المسلم كان فيه مضرَّة على الإسلام، سيتصور غير المسلمين أن الإسلام دين وحشية، واعتداء على الغير، وعدم احترام للحقوق، فما دام هذا الرجل خطبها وهو كفء لها في دينها، فلا يجوز لنا أن نعتدي عليه.
فإن قال قائل: فما الجواب عن الآية؟
قلنا: إن الله يقول: {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ} يخاطب أهل الزوجة ألا يزوجوا المشرك مع وجود المؤمن، لكنه لا يبيح للمؤمن أن يخطب على خطبة المشرك، هذا إذا قلنا: إن النصارى يدخلون هنا في اسم المشرك.
وقوله: «حرم على غيره خطبتها» تعريضاً أو تصريحاً؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ولا يخطب على خطبة أخيه»
(1)
.
وهذا نهي، والأصل في النهي التحريم، لا سيما وأن علته تقتضي التحريم؛ لما فيها من العدوان والظلم، ولأن هذا قد يؤدي إلى فتنة كبيرة.
(1)
سبق تخريجه ص (29).
وَإِنْ رُدَّ أَوْ أَذِنَ، أَوْ جُهِلَ الحَالُ جَازَ ............
قوله: «وإن رُدَّ أو أذن، أو جُهل الحال جاز» ، أفادنا المؤلف رحمه الله بهذه العبارة أن حال الخاطب لا تخلو من أربع أحوال:
الأولى: أن يجاب فتحرم الخطبة على خطبته.
الثانية: أن يرد ويعلم أنهم ردوه فتحل الخطبة؛ لأنه انتهى حقه.
الثالثة: أن يأذن، مثلاً علمتُ أنه خطب هذه المرأة، فذهبتُ إليه، وقلت: يا فلان أنت خطبت فلانة، وأنا متعلِّق قلبي بها، أريد أن تسمح لي أن أخطبها، فإذا أذن جاز؛ لأن الحق له، وإذا أسقطه سقط، لكن إذا علمنا أنه أذن حياء وخجلاً لا اختياراً فإن هذا لا يجوز؛ لأن هذا الإذن كعدمه، أو علمنا أنه أذن خوفاً؛ لأن الذي استأذنه رجل شرير لو لم يأذن له لآذاه، فلا يجوز الإقدام، لكن إذا أذن اختياراً وبرضا وطواعية فإن يجوز للثاني أن يخطب.
الرابعة: إذا جهل الحال، فلا نعلم هل أجيب أو رد؟ فظاهر كلام المؤلف أنه يجوز أن يخطب؛ لأنه إلى الآن ما ثبت حقه، كالذي يسوم سلعة، فلك أن تزيد عليه.
ولكن الصحيح أنه لا يجوز؛ لأن هذا اعتداء على حقه، وربما يكون أهل الزوجة قد ركنوا إلى هذا الخاطب، إلا أنهم ما أجابوه، فإذا جاءت خطبة أخرى عدلوا عنه، فالصحيح أنه إذا جهل الحال حرمت الخطبة، ويدل لذلك الأثر والنظر:
أما الأثر فعموم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ولا يخطب على خطبة أخيه»
(1)
. وهذا يشمل هذه الصورة، ولهذا جاء في الرواية الأخرى:«ما لم يأذن أو يُرَد»
(2)
.
أما النظر فلأن ذلك يورث العداوة وقطع الرزق، وقد نهى عنه النبي عليه الصلاة والسلام فقال:«لا تسأل المرأة طلاق أختها لتكفأ ما في صحفتها»
(3)
، فكونك تخطب وأنت ما تدري هل أجيب أو رد، معناه أنك قطعت رزقه.
وإذا قلنا: إنه لا تجوز الخطبة على خطبة أخيه، فكيف نجيب عن قصة فاطمة بنت قيس رضي الله عنها، أنها جاءت تستشير النبي صلى الله عليه وسلم لما خطبها ثلاثة: أبو جهم، ومعاوية، وأسامة رضي الله عنهم؟
(4)
.
الجواب: أن هذه القصة تحمل على أن الواحد منهم ما علم بخطبة الآخر.
وَيُسَنُّ العَقْدُ يَوْمَ الجُمُعَةِ مَسَاءً،
...........
قوله: «ويسن العقد يوم الجمعة مساءً» ، يسن عقد النكاح يوم الجمعة مساء، يعني بعد العصر، وذكر ابن القيم أنه ينبغي أن يكون في المسجد ـ أيضاً ـ لشرف الزمان والمكان، وهذا فيه نظر في المسألتين جميعاً، إلا لو ثبتت السنة بذلك لكان على العين
(1)
سبق تخريجه ص (29).
(2)
أخرجه البخاري في النكاح/ باب لا يخطب على خطبة أخيه حتى ينكح أو يدع (5142) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
(3)
سبق تخريجه في حديث: «لا يبيع أحدكم على بيع أخيه
…
» ص (29).
(4)
أخرجه مسلم في الطلاق/ باب المطلقة البائن لا نفقة لها (1480) عن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها.
والرأس، لكنني لا أعلم في هذا سنة، وقد علَّلوا ذلك بأن يوم الجمعة آخره فيه ساعة الإجابة، فيرجى إجابة الدعاء الذي يكون عادة بين الزوج ومن يبرِّكون عليه، «بارك الله لك وعليك» .
ولكن يقال: هل النبي عليه الصلاة والسلام من هديه وسنته أنه يتحرى هذا الوقت؟ إذا ثبت هذا فالقول بالاستحباب ظاهر، وأما إذا لم يثبت فلا ينبغي أن تسن سنة، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يزوج في أي وقت، ويتزوج في أي وقت، ولم يثبت أنه اختار شيئاً معيناً، نعم لو صادف هذا الوقت لقلنا: هذا ـ إن شاء الله ـ مصادفة طيبة، وأما تقصُّد هذا الوقت ففيه نظر، حتى يقوم دليل على ذلك، فالصواب أنه متى تيسر العقد، سواء في المسجد أو البيت أو السوق أو الطائرة ونحو ذلك، وكذلك ـ أيضاً ـ يعقد في كل زمان.
بِخُطْبَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ .............
قوله: «بخُطبة ابن مسعود» التي رواها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي: «إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره» ، وزاد في الروض
(1)
: «ونتوب إليه» ولكنها لم ترد، فيقتصر على «ونستغفره» ، «ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله»
(2)
،
(1)
الروض المربع مع حاشية ابن قاسم (6/ 244).
(2)
أخرجها أحمد (1/ 392 ـ 393)؛ وأبو داود في النكاح/ باب في خطبة النكاح (2118)؛ والترمذي في النكاح/ باب ما جاء في خطبة النكاح (1105)؛ والنسائي في الجمعة/ باب كيفية الخطبة (3/ 104 ـ 105)؛ وابن ماجه في النكاح/ باب خطبة النكاح (1892) وحسنه الترمذي.
ويقرأ ثلاثة آيات وهي قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ *} [آل عمران]، {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا *} [النساء]، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا *يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا *} [الأحزاب].
هذه هي خطبة الحاجة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمها أصحابه، أي: التي تقدم بين يدي الحاجة.
كثير من الإخوان يقول: من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، فينقلون الآية إلى هذا الحديث؛ والأليق بالإنسان والأكمل في الأدب أن يتمشى على ما جاء به الحديث، لأن كونه يضع لفظاً مكان اللفظ النبوي شبه اعتراض على الرسول صلى الله عليه وسلم كأنه قال: لماذا لم تقل الذي في الآية؟
وهذه المسألة لا يتفطن لها إلا القليل من الناس، فالشيء الذي جاءت به السنة يقال كما جاءت به السنة، ولا يستبدل كلام الرسول صلى الله عليه وسلم بغيره أبداً، حتى لو كان من القرآن؛ لأننا نقول له: هل أنت أحفظ للقرآن من الرسول صلى الله عليه وسلم؟ وهل أنت أكثر تعظيماً لله ولكتابه من الرسول صلى الله عليه وسلم؟ قل كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «من يهدِه الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له» ، وأما قوله:«ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً» ، ففي هذا الموضع لا يقال.
ثم يقال للولي: زوِّج الرجل، فيقول: زوجتك بنتي فلانة،
ولا حاجة أن يقول: على سنة الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الأصل في المسلم أنه على سنة الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ويقول الزوج: قبلت، ثم يقال للزوج: بارك الله لكما، وبارك عليكما، وجمع بينكما في خير
(1)
، وبعض الناس يقول ما يقوله أهل الجاهلية:«بالرفاء والبنين» ، نسأل الله ألا يعمي قلوبنا، يأتي لفظ عن الرسول عليه الصلاة والسلام خير وبركة ونعدل عنه، ربما لا يكون هذا رفاء، فربما يحصل من الخروق أكثر من الرفاء بين الزوج والزوجة، وقد تكون البنت خيراً من الابن بكثير.
ثم إذا زفت إليه يأخذ بناصيتها، ويقول: اللهم إني أسألك خيرها وخير ما جبلتها عليه، وأعوذ بك من شرها وشر ما جبلتها عليه
(2)
، لكن هل يقول ذلك جهراً أم سراً؟ نرى التفصيل في هذا، إن كانت امرأة متعلمة تدري أن هذا من المشروع فليقل ذلك جهراً، وربما تؤمِّن على دعائه، وإن كانت جاهلة فأخشى إن قال ذلك أن تنفر منه، وعلى كل حال لكل مقام مقال.
(1)
أخرجه أحمد (2/ 381) وأبو داود في النكاح/ باب ما يقال للمتزوج (2130) والترمذي في النكاح/ باب ما جاء فيما يقال للمتزوج (1091) وابن ماجه في النكاح/ باب تهنئة النكاح (1905) عن أبي هريرة رضي الله عنه وقال الترمذي: «حديث حسن صحيح» وصححه ابن حبان (4041) والحاكم على شرط مسلم (2/ 183) ووافقه الذهبي، وصححه النووي في الأذكار (787).
(2)
أخرجه أبو داود في النكاح/ باب في جامع النكاح (2160) وابن ماجه في النكاح/ باب ما يقول إذا دخلت عليه أهله (1918) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وصححه الحاكم (2/ 185) ووافقه الذهبي، وصححه النووي في الأذكار (788).
فَصْلٌ
وَأَرْكَانُهُ: الزَّوْجَانِ الخَالِيَانِ مِنَ المَوَانِعِ، وَالإِيجَابُ، وَالقَبُولُ،
........
قوله: «وأركانه» ، أي: أركان النكاح، والركن في اللغة الجانب الأقوى من البيت، ولهذا تسمى الزاوية ركناً؛ لأن أقوى ما في الجدار زاويته؛ لأنها مدعومة من الجانبين.
أما في الاصطلاح فإن الأركان ما لا يتم تركيب الماهية إلا به، مثلاً أركان الصلاة: قيام وقعود وركوع وسجود؛ لأن الصلاة ما تقوم إلا بهذا، أيضاً أركان النكاح ما يقوم النكاح إلا بها، وأما ما كان من أجزاء الماهية ولكنها تتم بدونه، فهذا لا يسمى ركناً، كرفع اليدين في الصلاة مثلاً، فهذا تتركب منه الماهية، لكن الصلاة تتم بدونه.
قوله: «الزوجان» يعني الزوج والزوجة، والتثنية صحيحة، فلا يقال: إنه غلب فيها جانب الذكور؛ لأن الزوج يطلق على الذكر والأنثى، وعلى هذا فلا تغليب.
قوله: «الخاليان من الموانع» ، هذا ليس داخلاً في الركنية، ولكنه شرط، أي خلو الزوج أو الزوجة من الموانع، ولهذا لو قلنا: الزوجان، كفى، والموانع هي المحرمات في النكاح، أي: ما يمنع صحة النكاح؛ لأن من فيهما موانع، وجودهما كالعدم، كما لو كانت المرأة معتدة وتزوجت، فإن هذا النكاح غير صحيح، ولكن اشتراط الخلو من الموانع يلزم منه ـ أيضاً ـ الزوجان اللذان تمت فيهما الشروط.
قوله: «والإيجاب والقبول» ، الإيجاب هو اللفظ الصادر من
الولي، أو من يقوم مقامه، والقبول هو اللفظ الصادر من الزوج أو من يقوم مقامه.
فيقول ـ مثلاً ـ الولي، كالأب، والأخ، وما أشبه ذلك: زَوَّجْتك ابنتي، زوجتك أختي، وسمي إيجاباً؛ لأنه أوجب به العقد، والقبول هو اللفظ الصادر من الزوج، أو من يقوم مقامه.
والذي يقوم مقام الولي هو الوكيل، وهو الذي أذن له بالتصرف في حال الحياة، مثل أن يقول: وكلتك أن تزوج بنتي.
والوصي هو الذي أذن له بالتصرف بعد الموت، وهو ـ على المذهب ـ أيضاً يقوم مقامه، وهو مبني على أنه، هل تستفاد ولاية النكاح بالوصية أو لا؟ فيه خلاف سيأتي بيانه إن شاء الله، إنما على القول الصحيح الذي يقوم مقامه واحد فقط هو الوكيل، وكذا الزوج أو من يقوم مقامه وهو الوكيل، وإذا قلنا بأن الأب يجوز أن يقبل النكاح لابنه الصغير ـ كما سيأتي إن شاء الله ـ يكون الولي قائماً مقام الزوج، وبعده الوكيل.
وَلَا يَصِحُّ مِمَّنْ يُحْسِنُ العَرَبِيَّةَ بِغَيْرِ لَفْظِ زَوَّجْتُ، أَوْ أَنْكَحْتُ،
...........
قوله: «ولا يصح» الضمير إما أن يعود على النكاح، أو على الإيجاب والقبول.
قوله: «ممن يحسن العربية بغير لفظ زوجت أو أنكحت» ، فإن كان لا يحسن العربية أتى بأي لفظ يفيد هذا المعنى ويصح، ومعلوم أن الناس يختلفون في اللغة؛ لأنه ليس لهم لفظ إلا هذا، سواء كان باللغة الإنجليزية أو الفرنسية أو الألمانية أو الروسية، ولهذا اشترط المؤلف «ممن يحسن العربية» ، فإن كان يحسن أن
يقول: زوجت أو أنكحت وهو غير عربي، ولا يدري ما معنى زوجت أو أنكحت، فإنه يقولها بلغته؛ لأنه لا يتعبد بلفظه، بخلاف القرآن الكريم، فلو أراد أحد أن يتلو القرآن الكريم بلغته ولو بالمعنى المطابق قلنا له:، لا؛ لأن القرآن كلام الله، لا يمكن أن يغير، ولأنه يتعبد بتلاوته.
وقوله: «ممن يحسن العربية بغير لفظ زوجت أو أنكحت» فيقول مثلاً: زوجتك بنتي، أو أنكحتك بنتي، فلو قال: جوزتك بنتي، لا يصح على المذهب؛ لأنه يحسن العربية، فلا بد أن يقول: زوجتك بتقديم الزاي.
ولو قال: ملكتك بنتي لا يصح؛ لأنه لا بد أن يكون بلفظ زوَّجت أو أنكحت.
وما الدليل على أنه لا يصح إلا بهذين اللفظين؟ ليس هناك دليل، لا في القرآن، ولا في السنة أنه لا يصح النكاح إلا بهذا اللفظ، لكن يقولون: لأنهما اللفظان اللذان ورد بهما القرآن، ففي القرآن الكريم:{فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3]، {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب: 37]، فاللفظان اللذان ورد بهما القرآن هما النكاح والزواج، فلا نتعداهما، فنقتصر على الألفاظ الواردة؛ وذلك لعظم خطر النكاح، فهو أعظم العقود خطراً وأشدها تحرياً، ولا شك أن هذا التعليل عليل، بل هو ميت.
القول الثاني: أنه يجوز العقد بكل بلفظ يدل عليه عرفاً، والدليل من القرآن ومن السنة.
من القرآن أن الله قال: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3]،
فأطلق النكاح، وعلى هذا فكل ما سمي نكاحاً عرفاً فهو نكاح، ولم يقل: فانكحوا ما طاب لكم من النساء بلفظ الإنكاح أو التزويج، ولا قال:{فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} بلفظ الإنكاح أو التزويج، فلما أطلق العقد رجعنا في ذلك إلى العرف.
ولو أننا قلنا: إن التعبير بالمعنى معناه التقيد باللفظ لقلنا أيضاً: البيع لا ينعقد إلا بلفظ البيع؛ لأن الله يقول: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275]، وكان كل ما ذكره الله بلفظ، قلنا: لا بد فيه من هذا اللفظ، مع أنهم يقولون: إن البيع ينعقد بما دل عليه عرفاً حتى بالمعاطاة.
ومن السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم أعتق صفية رضي الله عنها وجعل عتقها صداقها
(1)
.
فلما رأوا أن هذا دليل قالوا: تستثنى هذه المسألة، فقالوا: لا بد أن يكون بلفظ الإنكاح أو التزويج، إلا إذا أعتق أمته، وجعل عتقها صداقها.
دليل آخر من السنة: قصة المرأة التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم وقد ثبت في صحيح البخاري
(2)
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ملكتكها بما معك من القرآن» ، وهذا نص صريح، فأجابوا عنه بأن أكثر الروايات:«زوجتكها بما معك من القرآن»
(3)
.
(1)
سبق تخريجه ص (11).
(2)
في النكاح/ باب تزويج المعسر (5087)؛ وأخرجه مسلم في النكاح/ باب الصداق وجواز كونه تعليم قرآن وخاتم حديد
…
(1425) عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه.
(3)
أخرجه البخاري في الوكالة/ باب وكالة المرأة الإمام في النكاح (2310)؛ ومسلم في النكاح/ باب الصداق وجواز كونه تعليم قرآن (1425) عن سهل بن سعد رضي الله عنه.
فيقال: كون الرواة ينقلونه بالمعنى «ملكتكها» دليل على أنه لا فرق بين هذا وهذا، ولو كان هناك فرق ما جاز أن يغيروا اللفظ إلى لفظ يخالفه في المعنى؛ لأن شرط جواز رواية الحديث بالمعنى أن يكون اللفظ البدل لا يخالف اللفظ النبوي في المعنى، فدل هذا على أنه بمعناه، وأنه لا فرق عندهم بين هذا وهذا.
ثم نقول: الدليل النظري القياس على جميع العقود أنها تنعقد بما دل عليها، والله ـ تعالى ـ يقول:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]، فما عده الناس عقداً فهو عقد، وعلى هذا القول يصح أن تقول للرجل: جوزتك بنتي، أو ملكتك بنتي، ولكن لا بد أن تكون دلالة اللفظ العرفي دالة على المعنى الشرعي للنكاح، فلو قال: آجرتك بنتي بألف ريال فلا يصح؛ لأن الأجرة لا تستعمل في النكاح إطلاقاً، لكن لو قال: أجرتك بنتي على صداق قدره ألف ريال هنا يصح العقد؛ لأن فيه ما يدل على أن المراد بالأجرة هنا النكاح، وقد سمى الله تعالى المهر أجرة فقال تعالى:{فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} [النساء: 24].
فالقاعدة أن جميع العقود تنعقد بما دل عليها عرفاً، سواء كانت باللفظ الوارد أو بغير اللفظ الوارد، وسواء كان ذلك في النكاح أو في غير النكاح، هذا هو القول الصحيح، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
وكون عقد النكاح له خطر قد يقال: إن هذا أولى بأن ينعقد
بكل ما دلَّ عليه؛ لأنه لو أن أحداً قال: جوزتك بنتي، وقال: قبلت، ودخل بها، وأتت منه بأولاد، أو مات، أو ماتت، فكوننا نقول: لا ينعقد، مع العلم بأن الطرفين، الولي والزوج، كليهما يعلم المراد فيه خطر، فالصواب قطعاً أن ينعقد بكل لفظ دلَّ عليه.
ونقل في الحاشية عن شيخ الإسلام أنه قال
(1)
: «ولم ينقل أحد عن أحمد أنه خصه بهذين اللفظين، وأول من قال ذلك من أصحاب الإمام أحمد ابنُ حامد، وتبعه على ذلك القاضي ومن جاء بعده؛ بسبب انتشار كتبه وكثرة أتباعه وأصحابه» ، وبناء على ذلك لا يصح نسبة هذا القول إلى مذهب الإمام الشخصي، إنما يقال: هو مذهب الإمام أحمد الاصطلاحي، وهناك فرق بين المذهب الشخصي الذي يدين به الإمام لله عز وجل وبين المذهب الاصطلاحي، فالمذهب الاصطلاحي قد لا يكون الإمام قاله، أو قال بخلافه، وهو ما اصطلح عليه أتباع هذا الإمام أن يكون هو مذهبهم، مثل أن يختاروا أئمة من أتباعه، ويقولون: إذا اتفق فلان وفلان من أئمة أتباعه على كذا فهو المذهب، أو إذا كان أكثر الأتباع على هذا فهو المذهب، لكن المذهب الشخصي يختلف فهو ما يدين به لله عز وجل، وقد يكون موافقاً لما قيل: إنه المذهب اصطلاحاً، وقد يكون مخالفاً.
وَقَبِلْتُ هَذَا النِّكَاحَ،
............
قوله: «وقبلت هذا النكاح» يقوله الزوج؛ أو من يقوم مقامه، لكن من يقوم مقامه ما يطلق، ويقول: قبلت هذا النكاح، لا بد أن يقول: قبلته لموكلي فلان، كما أنه إذا كان الولي له وكيل، ما يقول الوكيل مثلاً: زوجتك بنتي، بل يبين أنه وكيل، فيقول:
(1)
حاشية ابن قاسم على الروض المربع (6/ 247).
زوجتك بنت موكلي فلان، وهي فلانة بنت فلان، أو زوجتك بالوكالة بنت فلان ابن فلان.
فلو قال: زوجتك بنت فلان ما صح؛ لأنه لا ولاية له عليها، حتى يبين السبب بأنه زوجه بنت فلان، لأنه وكيله.
أو تَزَوَّجْتُهَا، أَوْ تَزَوَّجْتُ، أَوْ قَبِلْتُ، وَمَنْ جَهِلَهُمَا لَمْ يَلْزَمْهُ تَعَلُّمُهُمَا،
......
قوله: «أو تزوجتها أو تزوجت أو قبلت» ، القبول توسعوا فيه أكثر، فإذا قال: قبلت هذا النكاح، أو تزوجتها، مع أنها صيغة ظاهرها الخبر وليست إنشاء، ومع ذلك يقولون: إن قرينة الحال تدل على أن المراد الإنشاء فيصح.
وقوله: «أو تزوجت» ، أي: قال الولي: زوجتك بنتي، قال: تزوجت، فهل يفهم منها القبول؟! حقيقة أن فهم القبول منها بعيد، بل قد يُفهم منها أن عنده زوجة فلا يريد هذه.
وقوله: «تزوجتها» أهون؛ لأنه فيها ضمير يعود على المذكورة، لكن «تزوجت» هذه من الغرائب أنهم جعلوها قبولاً مقبولاً، ولا يجعلون «جوزتك بنتي» مع قول الزوج:«قبلت هذا النكاح» عقداً صحيحاً، وإذا قال: زوجتك فقال: تزوجت، يعتبر قبولاً مقبولاً!! وهذا كله مما يدل على أن القول الراجح والصواب أن النكاح ينعقد إيجاباً وقبولاً بما دل عليه العرف.
قوله: «ومن جهلهما لم يلزمه تعلمهما» ، أي: جهل الإيجاب والقبول باللغة العربية لا يلزمه تعلمهما، وإلا لكنا نلزم جميع غير العرب أن يتعلموا اللغة العربية في عقد النكاح، وإذا أوجب الولي العقد بلغة غير عربية ـ وهو يحسن العربية ـ لكنها معروفة للزوج والشاهدين، فعلى القول الراجح ينعقد، كأن يوجب الولي العقد
باللغة الإنجليزية، وهو يعلم المعنى، والزوج والشاهدان يعلمون المعنى، فالراجح أنه ينعقد؛ لأن العبرة بالمعنى، ولكنه يؤدب على كونه يعقد النكاح، الذي هو عقد شرعي من أفضل العقود، وأهمها في الشريعة بلغة غير العربية مع كونه يعلمها، ولهذا كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يضرب من تكلم بالرطانة الأعجمية
(1)
، وبعض إخواننا اليوم من المسلمين لضعف الإيمان في قلوبهم، وضعف الشخصية في نفوسهم يتكلمون باللغة الإنجليزية، فتجده إذا كلم صاحبه باللغة الإنجليزية وخاطبه ذلك باللغة الإنجليزية مجيباً له ينتفخ، وكأنه نال مشارق الأرض ومغاربها؛ لأنه صار يتكلم باللغة الإنجليزية، وحينئذٍ يتمثل بقول الشاعر:
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا متى أضع العمامة تعرفوني
لأنه يعرف التكلم باللغة الإنجليزية، حتى بلغني أن بعض الناس ـ والعياذ بالله ـ يعلم صبيانه اللغة الإنجليزية، وإذا أراد أن يودعه، أو يسلم عليه سلم عليه باللغة الإنجليزية، ويترك [السلام عليكم]، أو [عليكم السلام]!! وهذا فضيحة، وعار، ولو لم تكن المسألة شرعية لكان يجب أن تكون على الأقل قومية، أذهبُ إلى لغة قوم آخرين وعندي اللغة العربية؟! أفصح اللغات هي لغة العرب وأذهب إلى اللغات الأخرى!! ولهذا فيما أرى أن الذي يعلم صبيه اللغة الإنجليزية من الصغر، سوف يحاسب عليه يوم القيامة؛ لأنه يؤدي إلى محبة الصبي لهذه اللغة وإيثارها على اللغة العربية، وبالتالي يؤدي إلى محبة من ينطق بها من أهلها، واستهجان من
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة (5/ 299) ط/ الحوت.
ينطقون بغير هذه اللغة، أما من كبر وترعرع وقال: أنا أريد أن أتعلم اللغة الإنجليزية، أو غيرها من اللغات الأجنبية لأدعو إلى الله بها، فنقول له: هذا خير، ونساعدك على هذا ونشجعك، أو قال: أنا أحتاج إلى اللغة غير العربية؛ لأني أمارس التجارة مع هؤلاء القوم، فأريد أن أتكلم لأتمكن من عملي، قلنا: هذا لا بأس به، هذا عمل مقصود وغرض صحيح، أما إنسان يفعل ذلك تعشقاً لها، وتعظيماً لقومها، وإيثاراً لها على اللغة العربية، فهذا خطأ.
وَكَفَاهُ مَعْنَاهُمَا الخَاصُّ بِكُلِّ لِسَانٍ،
.......
قوله: «وكفاه معناهما الخاص» يعني الذي لا يحتمل غير النكاح.
قوله: «بكل لسان» ، أي: بكل لغة، قال الله تعالى:{بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ *} [الشعراء] أي: بلغة عربية، وقال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم: 4] فاللسان في اللغة بمعنى اللغة.
ويستثنى من ذلك إذا تزوجها وهي مملوكة، وجعل عتقها صداقها، فلا يحتاج إلى اللغة العربية، ولا إلى لفظ التزويج، أو الإنكاح، بل يقول: أعتقتك وجعلت عتقك صداقك، ودليل ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أعتق صفية رضي الله عنها، وجعل عتقها صداقها
(1)
.
مسألة: إذا كان الولي أو الزوج أخرس ـ نسأل الله السلامة ـ فكيف يعقد النكاح؟
الجواب: يعقده بالإشارة المفهومة، إن كان يعرف الإشارة المفهومة، وإن كان لا يعرف فبالكتابة إن كان يجيدها، فإن كان لا يعرف الكتابة انتقلت الولاية إلى غيره.
(1)
سبق تخريجه ص (11).
والإشارة المفهومة لا بد أن يعرفها الشاهدان حتى يشهدا على ما وقع.
فَإِنْ تَقَدَّمَ القَبُولُ لَمْ يَصِحَّ،
...........
قوله: «فإن تقدم القبول لم يصح» ، لو قال: قبلت قبل أن يقول: زوجتك، لم يصح؛ لأن العقد لا يكون إلا به، ولأن القبول قَبولُ شيءٍ بُذِلَ، فكيف يتقدم القبول على الإيجاب، ولم يبذل شيء حتى الآن؟! فلا بد أن يتقدم الإيجاب على القبول، فإن تأخر فإنه لا يصح، والطريق إلى تصحيحه أن يعاد القبول بعد الإيجاب؛ لأن القبول المتقدم وقع في غير محله، فإذا جاء الإيجاب وأردفناه بالقبول صح، والقول الراجح أنه إذا تقدم القبول على وجه يحصل به فإنه يصح.
وظاهر كلام المؤلف سواء وقع القبول بلفظ الماضي أو الأمر، مع أنه في باب البيع تقدم أنه يصح إذا كان بلفظ الأمر، مثل: بعني هذا البيت بعشرة آلاف، فقال: بعتك، صح البيع، فهنا لو قال: زوجني ابنتك، فقال: زوجتك بنتي، ظاهر كلام المؤلف أنه لا يصح، وأنه لا بد أن يتقدم الإيجاب.
وبناء على ما قررناه من أن المعتبر في كل العقود ما دلت عليه بالعرف الخاص، نقول: إنه يصح، بل إنه وقع في حديث الرجل الذي قال:«زوِّجنيها» ، فقال:«زوَّجتكها بما معك من القرآن»
(1)
، وما ورد أن الرجل قال: قبلت، فهذا دليل على أنه إذا تقدم القبول على وجه يتضح به القبول فإنه يصح، كما لو وقع ذلك بلفظ الطلب: زوِّجني، فقال: زوَّجتك.
(1)
سبق تخريجه ص (39).
مسألة: متى يسقط القبول، أي: متى ينعقد النكاح بالإيجاب فقط؟
الجواب: إذا كان الولي هو ابن العم مثلاً، وأراد أن يتزوجها فليحضر شاهدين، ويقول: أشهدكما أني تزوجت موليتي بنت عمي، فلانة بنت فلان، وينعقد النكاح، ولا حاجة أن يقول: وقبلت؛ لأن كلمة «تزوجتها» وهو وليها كافية.
وَإِنْ تَأَخَّرَ عَنِ الإِيجَابِ صَحَّ مَا دَامَا فِي المَجْلِسِ، وَلَمْ يَتَشَاغَلَا بِمَا يَقْطَعُهُ،
........
قوله: «وإن تأخر عن الإيجاب صح ما داما في المجلس» ، أي: إن تأخر القبول عن الإيجاب، بأن قال الولي: زوجتك بنتي، وبعد مدة قال: قبلت، يصح ما داما في المجلس.
قوله: «ولم يتشاغلا بما يقطعه» ، كذلك ـ أيضاً ـ لو لم يتشاغلا بما يقطعه، فإن تشاغلا بما يقطعه ما صح، كأن يقول: زوجتك بنتي، ثم قال: أحضروا الطعام، وحين انتهوا من الأكل قال: قبلت.
كذلك ـ أيضاً ـ لو أنه أوجب العقد، بأن قال: زوجتك ابنتي، ثم قال: سمعت في الأخبار اليوم أنه حصل كذا وكذا، وصار يتكلم عن الأخبار، ثم لما انتهى قال الرجل: قبلت النكاح، فلا يصح؛ لأنهما تشاغلا بما يقطعه، فلا بد أن يكون الإيجاب غير مفصول بينه وبين القبول بفاصل أجنبي.
فإن تشاغلا بما يقطعه بغير اختيار، مثل أن قال له: زوجتك بنتي، فمن شدة الفرح قام يبكي وأطال البقاء حتى قال: قبلت، فإنه يصح؛ لأن هذا بغير اختياره، أو أصابته سعلة ثم قال: قبلت، فهذا لا بأس به؛ لأن هذا الانفصال كان لعذر.
وَإِنْ تَفَرَّقَا قَبْلَهُ بَطَلَ ............
قوله: «وإن تفرقا قبله بطل» ، «قبله» أي: قبل القبول، مثلاً لما قال: زوجتك ابنتي، قاموا وتفرقوا ثم رجعوا، وقال الخاطب: قبلت النكاح، فلا يصح؛ وذلك لأن الإيجاب والقبول صيغة عقد واحد، فلا بد أن يتقارنا.
فصار يشترط في القبول شرطان:
الأول: أن يكون في المجلس.
الثاني: ألا يتشاغلا بما يقطعه.
وهناك شرط ثالث ما ذكره المؤلف؛ لأنه معلوم، أن يكون القبول لمن أوجب له، فلو قال: زوجتك بنتي فلانة، فقال: قبلت نكاح ابنتك فلانة الثانية فإن العقد لا يصح، لعدم التطابق بين الإيجاب والقبول.
قال في الروض
(1)
: «وكذلك لو جُنَّ أو أغمي عليه قبل القبول» ، أي: يشترط ألا يزول عقل القابل قبل قبوله، فإن زال عقله فإنه يبطل الإيجاب، ويكون القبول إذا أفاق، لكن لا بد من إعادة الإيجاب، وكذلك لو أغمي عليه بطل الإيجاب ولا بد من إعادته.
قال في الروض: «لا إن نام» مثلاً أوجب الولي العقد فقال: زوجتك بنتي، فألقى الله عليه النوم، وبعد ساعة استيقظ فقال: قبلت، يصح على المذهب؛ لأنهما لم يتشاغلا بما يقطعه ولم يتفرقا فهو كالساكت.
(1)
الروض المربع مع حاشية ابن قاسم (6/ 251).
فَصْلٌ
وَلَهُ شُرُوطٌ: أَحَدُهَا: تَعْيِينُ الزَّوْجَيْنِ،
..........
قوله: «وله شروط» ، أي: للنكاح شروط.
واعلم أن من حكمة الشرع أن جميع العبادات والمعاملات لا بد فيها من شروط؛ لأجل أن تتحد الأمور وتنضبط وتتضح، ولولا هذه الشروط لكانت هذه الأمور فوضى، كل يتزوج على ما شاء، وكل يبيع على ما شاء، وكل يصلي كيف شاء، لكن هذه الشروط التي جعلها الله ـ تعالى ـ في العبادات، وفي المعاملات هي من الحكمة العظيمة البالغة؛ لأجل ضبط الشريعة وضبط العقود، كما أنه لا بد من انتفاء الموانع، ولذلك من القواعد المشهورة: أن الشيء لا يتم إلا بوجود شروطه، وانتفاء موانعه.
ثم هناك فرق بين شروط النكاح، والشروط في النكاح:
أولاً: شروط النكاح قيود وضعها الشرع ولا يمكن إبطالها، والشروط في النكاح شروط وضعها العاقد ويمكن إبطالها.
ثانياً: شروط النكاح يتوقف عليها صحته، والشروط في النكاح يتوقف عليها لزومه.
قوله: «أحدها: تعيين الزوجين» ، لأن عقد النكاح على أعيانهما، الزوج والزوجة؛ والمقام مقام عظيم يترتب عليه أنساب، وميراث، وحقوق، فلذلك لا بد من تعيين الزوجين، فلا يصح أن يقول: زوجت أحد أولادك، أو زوجت أحد هذين الرجلين، أو زوجت طالباً في الكلية، بل لا بد أن يعين، وكذلك الزوجة فلا بد أن يعيِّنها فيقول: زوجتك بنتي.
والأدلة الواردة في الكتاب والسنة تدل على التعيين، قال الله
تعالى: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} [النساء: 25]، وقال:{فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب: 37]، وقال:{وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} [النساء: 12] وإن كان هذا حكاية عن عقد تام.
ولأن النكاح لا بد فيه من الإشهاد، والإشهاد لا يكون على مبهم، بل لا يكون إشهاد إلا على شيء معين.
فَإِنْ أَشَارَ الوَلِيُّ إِلَى الزَّوْجَةِ، أَوْ سَمَّاهَا، أَوْ وَصَفَهَا بِمَا تَتَمَيَّزُ بِهِ، أَوْ قَالَ: زَوَّجْتُكَ بِنْتِي وَلَهُ وَاحِدَةٌ لَا أَكْثَرَ صَحَّ.
قوله: «فإن أشار الولي إلى الزوجة، أو سماها، أو وصفها بما تتميز به» التعيين له طرق:
الأول: الإشارة، بأن يقول زوجتك ابنتي هذه، فيقول: قبلت.
الثاني: التسمية باسمها الخاص، بأن يقول: زوجتك بنتي فاطمة، وليس له بنت بهذا الاسم سواها.
الثالث: أن يصفها بما تتميز به، مثل أن يقول: ابنتي التي أخذت الشهادة السادسة هذا العام، أو ابنتي الطويلة، أو ابنتي القصيرة، أو البيضاء، أو السوداء، أو العوراء، أو ما أشبه ذلك.
الرابع: أن يكون التعيين بالواقع، مثل أن يقول: زوجتك ابنتي، وليس له سواها، ما سمَّاها، ولا وصفها، ولا أشار إليها، فالذي عيَّنها الواقع، ولهذا قال:
«أو قال: زوجتك بنتي وله واحدة لا أكثر صح» .
وهل يلحق به ما إذا كان له بنت واحدة لم تتزوج، والباقيات متزوجات؟ نعم يشمل هذا.
فإذا قال قائل: هذا الشرط كيف تجمعون بينه وبين قوله تعالى عن موسى عليه السلام أنه قال له صاحب مدين: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِي حِجَجٍ} [القصص: 27].
فالجواب: لا تعارض بين هذا وبين الآية؛ لأن الرجل ما قال: إني زوجتك بإحدى ابنتي، بل قال: إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين، فهذا ليس عقداً، هذا خبر عن الإرادة، يعني فتخير من شئت منهما أزوجك.
على أنه لو فرض أن هناك معارضة صريحة، وورد شرعنا بخلافها، فالعبرة بما في شرعنا؛ لأن شرعنا نسخ ما سواه من الشرائع، فلا يعارض شرعنا بشرع من قبلنا.
فَصْلٌ
الثَّانِي: رِضَاهُمَا .........
قوله: «الثاني: رضاهما» ، أي: الشرط الثاني: رضا الزوجين، والدليل على هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم:«لا تنكح البكر حتى تستأذن، ولا تنكح الأيِّم حتى تستأمر» ، قالوا: يا رسول الله وكيف إذنها ـ أي: البكر ـ؟ قال: «أن تصمت»
(1)
، حتى لو كان الأب هو الذي يزوج، والدليل العموم «لا تنكح البكر» لم يستثن الأب، وهناك رواية في صحيح مسلم
(2)
خاصة بالأب حيث قال صلى الله عليه وسلم: «والبكر يستأذنها أبوها» فنص على البكر ونص على الأب، ولأن هذا العقد من أخطر العقود.
وإذا كان الإنسان لا يمكن أن يجبر في البيع على عقد البيع ففي النكاح من باب أولى؛ لأنه أخطر وأعظم؛ إذ إن البيع إذا لم تصلح لك السلعة سهل عليك بيعها، لكن الزواج مشكل، فدل هذا على أنه لا أحد يجبر البنت على النكاح، ولو كانت بكراً، ولو كان الأب هو الولي، فحرام عليه أن يجبرها ولا يصح العقد.
وقول النبي عليه الصلاة والسلام: «لا تنكح» ، لو قال قائل: هذا ليس نهياً، هذا خبر، فما الجواب؟ نقول: هذا الخبر بمعنى النهي، واعلم أن الخبر إذا جاء في موضع النهي فهو أوكد من النهي المجرد، فكأن الأمر يكون مفروغاً منه، ومعلوم
(1)
أخرجه البخاري في النكاح/ باب لا ينكح الأب وغيره البكر والثيب إلا برضاهما (5136)؛ ومسلم في النكاح/ باب استئذان الثيب في النكاح بالنطق والبكر بالسكوت (1419) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
في النكاح/ باب استئذان الثيب في النكاح بالنطق والبكر بالسكوت (1421)(68) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
الامتناع؛ لأن النفي دليل على الامتناع، والنهي توجيه الطلب إلى المكلف، فقد يفعل وقد لا يفعل، ولهذا قلنا في قوله تعالى:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} [البقرة: 228] إنه أبلغ مما لو قال: وليتربَّص المطلقات؛ لأن قوله: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} كأن هذا أمر واقع لا يتغير.
إِلاَّ البَالِغَ المَعْتُوهَ، وَالمَجْنُونَةَ، وَالصَّغِيرَ، وَالبِكْرَ وَلَوْ مُكَلَّفَةً،
.......
قوله: «إلا البالغ المعتوه، والمجنونة، والصغير» ، هؤلاء ثلاثة لا يشترط رضاهم:
الأول: البالغ المعتوه لا يشترط رضاه؛ لأنه لا إذن له، ولا يعرف ما ينفعه وما يضره.
والبالغ من بلغ خمس عشرة سنة، أو أنبت الشعر الخشن حول القبُل، أو أنزل باحتلام، أو غيره.
والمعتوه هو الذي نسميه باللغة العامية الخِبْل، وليس مجنوناً، فهذا يزوجه أبوه، ولكن بماذا نعلم أنه يريد النكاح؟ نعرف ذلك بميله إلى النساء، وتحدثه في النكاح، وظهور علامات الرغبة عليه، فهذا نزوجه ولا يحتاج أن نستأذن منه.
الثاني: المجنونة، أيضاً يزوجها أبوها، وهي أبعد من المعتوه، ولم يقيدها المؤلف بالبلوغ ولا بالصغر؛ لأن الأب يجبر ابنته عاقلة كانت أو مجنونة إذا لم تكن ثيباً، وهل يزوج المجنونة مطلقاً؟ ظاهر كلام المؤلف الإطلاق، ولكن ينبغي أن يقيد بما إذا علمنا رغبتها في النكاح، فإذا لم نعلم رغبتها في النكاح صار تزويجها عبثاً، وربما يحصل نزاع من زوجها ومفسدة، فربما تكون في حالة جنون شديد وتقتل أولادها كما قد يقع، لكن إذا
علم أنه لا بد من تزويجها بقرائن الأحوال فلا بد من ذلك، كذلك المجنون لا يشترط رضاه، وعلامة رغبته في النكاح القرائن، فإذا رأينا القرائن تدل على أن هذا المجنون يريد الزواج زوَّجناه، ولا حاجة أن نقول له: هل ترغب في الزواج؟
الثالث: الصغير، وهو من دون البلوغ، كذلك لا يشترط رضاه؛ لأنه إن كان دون التمييز فهو كالمجنون لا تمييز له، وإن كان دون البلوغ فإن رضاه غير معتبر، وسخطه غير معتبر، وعلى هذا فالمراهق يزوجه أبوه بدون رضاه، هذا ما ذهب إليه المؤلف.
وفي هذه المسألة نظر، صحيح أن الصغير لا إذن له معتبر؛ لأنه يحتاج إلى ولي، لكن هل هو في حاجة إلى الزواج؟ غالباً ليس بحاجة، والصغر علة يرجى زوالها بالبلوغ، فلننتظر حتى يبلغ، أما المجنون والمعتوه فعلتهما لا ينتظر زوالها.
لكن إذا قال قائل: ربما يحتاج الصغير إلى زوجة، كأن تكون أمه ميتة، والزوجة ستقوم بحاجاته ومصالحه، فهل نقول في مثل هذه الحال: إننا نزوجه؟ نقول: نعم، وهذا في الحقيقة فيه مصلحة، ومن مقاصد النكاح القيام بمصالح الزوج، غير الجماع وما يتعلق به، وقد مر علينا قصة جابر رضي الله عنه في أنه تزوج ثيباً لتصلح من شؤون أخواته
(1)
، فعلم من ذلك أن للنكاح مقاصد غير مسألة الجماع، فإذا قلنا بهذا، فهل نقول في مثل هذه الحال: يجوز أن يعقد الأب له الزواج على هذه المرأة لتقوم بمصالحه؟
(1)
سبق تخريجه ص (11).
المذهب يقولون: نعم يعقد له النكاح لتقوم بمصالحه، ولو قلنا بعدم الصحة، وأن هذه المصالح يمكن إدراكها باستئجار هذه المرأة لتقوم بمصالحه، ولا نلزمه بزوجة يلزمه مؤونتها، والإنفاق عليها، وترثه لو مات، ويترتب عليه أمور أخرى، فلو قلنا بذلك لكان له وجه، فكوننا نلزم هذا الصغير بأمر لا يلزمه مع أنه يمكن أن نقوم بمصالحه على وجه آخر، محل نظر.
فإن كان قريباً من البلوغ فله إذن؛ لأنه إذا صار يعرف مصالح النكاح فيمكن أن يستأذن، وسيأتينا ـ إن شاء الله ـ أن ابن تسع وبنت تسع في باب النكاح لهم إذن؛ لأنهم يعرفون مصالح النكاح.
مسألة: إذا زوج الأب ابنه الصغير لمصلحته، فهل له الخيار إذا بلغ؟
الجواب: هناك قول في المذهب بأن له الخيار في الفسخ، وحينئذٍ يلزم الأب المهرُ، وهذا هو الفرق بين قولنا له الخيار وله الطلاق، فإذا طلق فالمهر يلزمه هو، والصحيح أنه لا خيار له؛ لأن تصرف الأب صحيح بمقتضى الشرع، فإن أراد الابن أن يفارق هذه الزوجة فله أن يطلق.
قوله: «والبكر ولو مكلفة» ، أي: أنه يجوز لأب البكر أن يزوجها، ولو بغير رضاها، ولو كانت مكلفة، أي: بالغة عاقلة.
وقوله: «ولو مكلفة» إشارة خلاف، فإذا قال لها أبوها: أنا أريد أن أزوجك فلاناً، فقالت: لا، أنا ما أريد فلاناً صراحة، يقول: أزوجك ولا أبالي، ويغصبها غصباً ولو كانت لا تريده؛
لأنها بكر، ولو كانت بالغة عاقلة ذكية، تعرف ما ينفعها وما يضرها، وعقلها أكبر من عقل أبيها ألف مرة؛ ودليلهم أن عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنهما زوجها أبوها النبيَ صلى الله عليه وسلم وهي بنت ست، وبنى بها الرسول صلى الله عليه وسلم وهي بنت تسع سنوات
(1)
.
فنقول لهم: هذا دليل صحيح ثابت، لكن استدلالكم به غير صحيح، فهل علمتم أن أبا بكر رضي الله عنه استأذن عائشة رضي الله عنها وأبت؟!
الجواب: ما علمنا ذلك، بل إننا نعلم علم اليقين أن عائشة رضي الله عنها لو استأذنها أبوها لم تمتنع، والنبي عليه الصلاة والسلام خيَّرها مثل ما أمره الله:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَِزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً *} ، أي: بلطف وحسن معاملة وشيء من المال، {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا *} [الأحزاب].
فأول من بدأ بها عائشة رضي الله عنها وقال لها النبي عليه الصلاة والسلام: «استأمري أبويك في هذا وشاوريهم» ، فقالت: يا رسول الله أفي هذا أستأمر أبواي؟! إني أريد الله والدار الآخرة
(2)
، فمن هذه حالها لو استؤذنت لأول مرة أن
(1)
أخرجه البخاري في النكاح/ باب إنكاح الرجل ولده الصغار (5133)؛ ومسلم في النكاح/ باب تزويج الأب البكر الصغيرة (1422) عن عائشة رضي الله عنها.
(2)
أخرجه البخاري في التفسير/ باب قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَِزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} (4785)؛ ومسلم في الطلاق/ باب بيان أن تخييره امرأته لا يكون طلاقاً إلا بالنية (1475) عن عائشة رضي الله عنها.
تتزوج الرسول صلى الله عليه وسلم هل تقول: لا؟! يقيناً لا، وهذا مثل الشمس، فهل في هذا الحديث دليل لهم؟! ليس فيه دليل.
فإذا قال قائل: إذا كانت صغيرة فلا يشترط إذنها، بخلاف الكبيرة.
قلنا: أنتم تقولون: «ولو مكلفة» ، أي: هي بالغة عاقلة من أحسن الناس عقلاً، ولها عشرون سنة، أو ثلاثون سنة، فلا يشترط رضاها، فأنتم لا دليل لكم في هذا الحديث.
ثم نقول: نحن نوافقكم إذا جئتم بمثل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومثل عائشة رضي الله عنها وهل يمكن أن يأتوا بذلك؟! لا يمكن، إذن نقول: سبحان الله العظيم، كيف نأخذ بهذا الدليل الذي ليس بدليل؟! وعندنا دليل من القرآن قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا} [النساء: 19] وكانوا في الجاهلية إذا مات الرجل عن امرأة، تزوجها ابن عمه غصباً عليها
(1)
.
ودليل صريح صحيح من السنة، وهو عموم قوله عليه الصلاة والسلام:«لا تنكح البكر حتى تستأذن»
(2)
، وخصوص قوله:«والبكر يستأذنها أبوها»
(3)
، فإذا قلنا: لأبيها أن يجبرها صار الاستئذان لا فائدة منه، فأي فائدة في أن نقول: هل ترغبين أن نزوجك بهذا، وتقول: لا أرضى، هذا رجل فاسق، أو رجل كفء لكن لا أريده، فيقال: تجبر؟! هذا خلاف النص.
(1)
أخرجه البخاري في التفسير/ باب «لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً» (4579) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(2)
سبق تخريجه ص (51).
(3)
سبق تخريجه ص (51).
وأما النظر فإذا كان الأب لا يملك أن يبيع خاتماً من حديد لابنته بغير رضاها، فكيف يجبرها أن تبيع خاتم نفسها؟! هذا من باب أولى، بل أضرب مثلاً أقرب من هذا، لو أن رجلاً طلب من هذه المرأة أن تؤجر نفسها لمدة يومين لخياطة ثياب، وهي عند أهلها ولم تقبل، فهل يملك أبوها أن يجبرها على ذلك، مع أن هذه الإجارة سوف تستغرق من وقتها يومين فقط وهي ـ أيضاً ـ عند أهلها؟ الجواب: لا، فكيف يجبرها على أن تتزوج من ستكون معه في نكد من العقد إلى الفراق؟! فإجبار المرأة على النكاح مخالف للنص المأثور، وللعقل المنظور.
فإذا قال قائل: قوله: «يستأذنها» يدل على أن المرأة لها رأي، فلا نجعل الحكم خاصاً بالصغيرة، ونقول: المكلفة لا تجبر، لكن الصغيرة تجبر.
قلنا: أي فائدة للصغيرة في النكاح؟! وهل هذا إلا تصرف في بضعها على وجه لا تدري ما معناه؟! لننتظر حتى تعرف مصالح النكاح، وتعرف المراد بالنكاح ثم بعد ذلك نزوجها، فالمصلحة مصلحتها.
إذاً القول الراجح أن البكر المكلفة لا بد من رضاها، وأما غير المكلفة وهي التي تم لها تسع سنين، فهل يشترط رضاها أو لا؟ الصحيح ـ أيضاً ـ أنه يشترط رضاها؛ لأن بنت تسع سنين بدأت تتحرك شهوتها وتحس بالنكاح، فلا بد من إذنها، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهو الحق.
وأما من دون تسع سنين، فهل يعتبر إذنها؟ يقولون: من
دون تسع السنين ليس لها إذن معتبر؛ لأنها ما تعرف عن النكاح شيئاً، وقد تأذن وهي تدري، أو لا تأذن؛ لأنها لا تدري، فليس لها إذن معتبر، ولكن هل يجوز لأبيها أن يزوجها في هذه الحال؟
نقول: الأصل عدم الجواز؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: «لا تنكح البكر حتى تستأذن»
(1)
، وهذه بكر فلا نزوجها حتى تبلغ السن الذي تكون فيه أهلاً للاستئذان، ثم تستأذن.
لكن ذكر بعض العلماء الإجماع على أن له أن يزوجها، مستدلين بحديث عائشة رضي الله عنها، وقد ذكرنا الفرق، وقال ابن شبرمة من الفقهاء المعروفين: لا يجوز أن يزوج الصغيرة التي لم تبلغ أبداً؛ لأننا إن قلنا بشرط الرضا فرضاها غير معتبر، ولا نقول بالإجبار في البالغة فهذه من باب أولى، وهذا القول هو الصواب، أن الأب لا يزوج بنته حتى تبلغ، وإذا بلغت فلا يزوجها حتى ترضى.
لكن لو فرضنا أن الرجل وجد أن هذا الخاطب كفء، وهو كبير السن، ويخشى إن انتقل إلى الآخرة صارت البنت في ولاية إخوتها أن يتلاعبوا بها، وأن يزوِّجوها حسب أهوائهم، لا حسب مصلحتها، فإن رأى المصلحة في أن يزوجها من هو كفء فلا بأس بذلك، ولكن لها الخيار إذا كبرت؛ إن شاءت قالت: لا أرضى بهذا ولا أريده.
وإذا كان الأمر كذلك فالسلامة ألا يزوجها، وأن يدعها
(1)
سبق تخريجه ص (51).
إلى الله عز وجل فربما أنه الآن يرى هذا الرجل كفئاً ثم تتغير حال الرجل، وربما يأتي الله لها عند بلوغها النكاح برجل خير من هذا الرجل؛ لأن الأمور بيد الله سبحانه وتعالى.
وهذا أمر ينبغي للإنسان أن يسلكه في أقواله وتصرفاته، فمتى دار الأمر بين السلامة والخطر فالأولى السلامة، وذكر عن الإمام أحمد رحمه الله أنه كان لا يعدل بالسلامة شيئاً، ولعل هذا مأخوذ من قوله صلى الله عليه وسلم:«من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت»
(1)
، يعني إذا لم يتبين لك الخير فيما تقول فوظيفتك السكوت، وجرب تجد، كم من إنسان أخرج كلمة، فقال: ليتني لم أخرجها، لكن لو كان مالكاً لها في قلبه يكون له التحكم، ويصبر حتى إذا وجد أنه لا بد من الكلام تكلم، وكذلك التصرفات إذا دار الأمر بين أن تفعل أو لا تفعل، ولم يترجح عندك أن الإقدام خير، فإن الأولى الانتظار والتأني حتى يتبين، وما أحسن حال الإنسان إذا استعمل ذلك، فإنه يجد الراحة العظيمة.
والفرق بين قولنا: إن الصغير يجوز لأبيه تزويجه لمصلحته، وقولنا: إن الصغيرة لا يزوجها، أن الصغير يستطيع أن يتخلص من الزوجة بالطلاق، لكن الزوجة لا تستطيع التخلص.
لكن هاهنا مسألة، وهي أن المرأة إذا عيَّنت من ليس بكفء فإن الأب لا يطيعها، ولا إثم عليه، ويقول: أنا لا أزوجك مثل
(1)
أخرجه البخاري في الرقاق/ باب حفظ اللسان (6475)؛ ومسلم في الإيمان/ باب الحث على إكرام الجار والضيف
…
(47) عن ابن هريرة رضي الله عنه.
هذا الرجل أبداً، ولكن إذا عينت كفؤاً فعلى العين والرأس.
وإذا عيَّن كفؤاً وأبت، ثم جاءه كفء آخر وأبت، ثم جاءه ثالث وأبت، وكلما جاء كفء أبت، فهل عليه إثم إذا لم يزوجها؟ لا؛ لأنها هي التي تأبى، فيقال لها: أنت إن رضيت الكفء الذي أمرنا الرسول عليه الصلاة والسلام بتزويجه، وهو من نرضى دينه وخلقه فعلى العين والرأس، أما إذا عينت من ليس بكفء في دينه وخلقه ـ وأهم شيء الدين ـ فإننا لا نقبل منك ولا نزوجك.
لَا الثَّيِّبَ، فَإِنَّ الأَبَ، وَوَصِيَّهُ فِي النِّكَاحِ يُزَوِّجَانِهِمْ بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ، كَالسَّيِّدِ مَعَ إِمَائِهِ،
....
قوله: «لا الثيب» ، أي: لا تستثنى الثيب، بل الثيب يشترط رضاها، ولو زوجها أبوها، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«ولا تنكح الأيم حتى تستأمر»
(1)
، أي يؤخذ أمرها، والثيب هي التي زالت بكارتها بجماع في نكاح صحيح، أو بزنا مع رضا، أو بزنا مع إكراه ـ أيضاً ـ على المذهب؛ وذلك لأن الثيب التي جومعت عرفت معنى الجماع، فتستطيع أن تقبل أو ترد، ولكن هذا بالنسبة لمن تزوجت وجومعت واضح، وكذلك من زنت ـ والعياذ بالله ـ برضاها واضح؛ فإنها تتلذذ بالجماع وتعرفه، لكن بالنسبة لمن زني بها كرهاً، هل نقول: إن حكمها حكم الثيب التي زالت بكارتها بالجماع في النكاح الصحيح، أو بالزنا المرضي به؟
الجواب: هذا لا يظهر، والمذهب أن حكمها حكم الأولين، ولكن الصحيح خلاف ذلك، وأن المزني بها ـ ولو زالت بكارتها ـ فإنها إذا كانت مكرهة فلا بد من إذنها، ولا عبرة
(1)
سبق تخريجه ص (51).
بثيوبتها، المهم أن الثيب لا بد أن ترضى حتى ولو زوجها أبوها، فإن زوَّجها بغير رضاها فلها الخيار؛ لأنه ثبت في الصحيح أن امرأة زوجها أبوها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وهي ثيب فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم
(1)
، فلا بد من استئمارها، أي: أن تشاور وتراجع، والفرق بين البكر والثيب ظاهر، فالبكر حيية تستحي من الكلام في هذه الأمور، والثيب قد عرفت الأزواج والرجال، ويمكنها أن تقبل أو ترفض، فلذلك لا بد من استئمارها، فإن ردت من أول الأمر، بأن رفضت فلا حاجة للاستئمار، لكن لنا أن نشير عليها إذا كان الرجل كفؤاً لعلها تقبل؛ لأن بعض النساء قد ترد لأول وهلة، وبعد المراجعة تقبل.
قوله: «فإن الأبَ، ووصيَّه في النكاح يزوِّجانهم بغير إذنهم» ، «الأبَ» بالتخفيف، أما «الأبّ» بالتشديد فهو نبات ينبت في الأرض، قال تعالى:{وَفَاكِهَةً وَأَبًّا *} [عبس]، وأما الأبُ بالتخفيف فهو الوالد، والمراد به الوالد الأدنى الذي خرجوا من صلبه.
وقولنا: «الوالد الأدنى» احترازاً من الجد فإنه لا يزوجهم، فهو هنا كغيره من بقية الأولياء.
وقوله: «ووصيه» الوصي من عهد إليه الولي بتزويج بناته بعد موته، فإن عهد إليه بالتزويج في الحياة فهو وكيل.
إذاً الأب، ووكيله، ووصيه يزوجونهم بغير إذنهم.
(1)
أخرجه البخاري في النكاح/ باب إذا زوج الرجل ابنته وهي كارهة فنكاحه مردود (5138) عن خنساء بنت خدام الأنصارية رضي الله عنها.
وعلم من قول المؤلف: «ووصيه» ، أن ولاية النكاح تستفاد بالوصية، أي: أن من أوصى أن يزوجوا مولياته بعد موته، فإن وصيه يقوم مقامه، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد.
فالأب إذا مات يكون الولي بعده العم أو الأخ إن كان كبيراً، فإذا أوصى الأب إلى أحدٍ يزوجها صار الذي يزوجها الوصي دون الأخ، هذا معنى قولنا: إن ولاية النكاح تستفاد بالوصية، وعللوا ذلك بأن الأب له شفقة، وله نظر بعيد بالنسبة للبنات، فقد يرى أن الأولياء ليسوا أهلاً ولا ثقة عنده بهم فيوصي إلى شخص آخر.
والصحيح أنها لا تستفاد بالوصية، وأنها تسقط بموت صاحبها، فإذا مات الأب فإنه لا حق له في الوصية بالتزويج، بل إن الوصية في الأصل لم تنعقد؛ لأن ولاية النكاح ولاية شرعية تستفاد من الشرع، ونحن إذا قلنا باستفادة الولاية بالوصية ألغينا ما اعتبره الشرع، فكما أن الأب لا يوصي بأن يرث ابنَه وصيُه، فكذلك لا يوصي بأن يزوج بنتَه وصيُه.
فلو أن إنساناً قال: أوصيت بنصيب بنتي أن يملكه فلان، ومات الأب ثم ماتت البنت، فهل يرثها الوصي؟ لا يرثها؛ لأنه لا يملك بالوصاية، كذلك الولاية لا تملك بالوصاية، فإذا مات الأب وقد أوصى بطلت الوصية، وهذا هو القول الصحيح؛ لأن الولاية متلقاة من الشرع، نعم له أن يوكل ما دام حياً، أما بعد الموت فولايته ماتت بموته.
قوله: «كالسيد مع إمائه» السيد مالك العبد؛ ولهذا قال:
«مع إمائه» أي: مملوكاته، فالسيد الذي له مملوكات ولو كن كباراً يزوجهن بغير إذنهن؛ لأنه مالك لهن ملكاً مطلقاً، ويدل لهذا قول الله تبارك وتعالى:{وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً} [النور: 33]، فمفهومه أن إكراههن على غير البغاء كالنكاح الصحيح لا بأس به، وهو كذلك، ولقوله تعالى:{وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} [النساء: 25] فأهلهن هم الذين يزوجونهن، فالسيد مالك لأمته، لرقبتها ومنفعتها ملكاً تاماً، ولهذا لو قالت: زوجني، وقال: لا أنا أريد أن أتسرَّاك، لا نلزمه بالتزويج، فالمالك له أن يزوج إماءه رضين أم لم يرضين، لكن على كل حال يجب عليه أن لا يشق عليهن، وألا يزوجهن من لا يرضينه.
وقوله: «كالسيد مع إمائه» ، فهل يجوز إطلاق السيد على المالك؟
الجواب: إطلاق السيد من حيث هو ـ لا على المالك ـ كثير، كما في قصة يوسف عليه الصلاة والسلام:{وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} [يوسف: 25]، كذلك قوله عليه الصلاة والسلام:«أنا سيد ولد آدم»
(1)
، وقوله صلى الله عليه وسلم:«قوموا إلى سيدكم»
(2)
.
(1)
أخرجه مسلم في الفضائل/ باب تفضيل نبينا صلى الله عليه وسلم على جميع الخلائق (2278) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
أخرجه البخاري في الجهاد/ باب إذا نزل العدو على حكم رجل (3043)؛ ومسلم في المغازي/ باب جواز قتال من نقض العهد (1768) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
وَعَبْدِهِ الصَّغِيرِ، وَلَا يُزَوِّجُ بَاقِي الأَوْلِيَاءِ صَغِيرَةً دُونَ تِسْعٍ، وَلَا صَغِيراً، وَلَا كَبِيرَةً عَاقِلَةً، وَلَا بِنْتَ تِسْعٍ إِلاَّ بِإِذْنِهِمَا، وَهُوَ صُمَاتُ البِكْرِ، وَنُطْقُ الثَّيِّبِ،.
قوله: «وعبده الصغير» احترازاً من الكبير، أي: فللسيد أن يجبر عبده الصغير الذي لم يبلغ على أن يتزوج، فالسيد مع مملوكه كالأب مع أولاده، يزوج الصغار من العبيد والمجانين ونحوهم، لكنه أكثر سيطرة من الأب؛ لأنه يزوج الكبار والصغار من النساء، والثيبات والأبكار.
قوله: «ولا يزوج باقي الأولياء صغيرة دون تسع» بقية الأولياء، أي: من عدا الأب، مثل الأخ والعم وما أشبه ذلك، لا يزوجون صغيرة دون تسع بأي حال من الأحوال، سواء كانت بكراً أم ثيباً.
قوله: «ولا صغيراً» ، أي: لا يزوجون صغيراً أبداً؛ لأنه ليس لهم عليه ولاية تامة، وليس عندهم شفقة كشفقة الأب، ولأنهم إذا زوجوا الصغير ألزموه بمقتضيات النكاح من النفقة وغيرها، وهذا لا يجوز إلا للأب، إلا أنهم استثنوا إذا احتاج الصغير إلى المرأة فيزوجه الحاكم ـ القاضي ـ ولا يزوجه الأولياء.
وكيف يحتاج الصغير إلى زوجة؟ مثل ما إذا كان يحتاج إلى امرأة تخدمه وتصلح أحواله، من تغسيل الثياب، وفرش الفرش، وما أشبه ذلك.
وقال بعض الأصحاب: إذا كان الحاكم يزوجه فغيره من الأولياء ـ أيضاً ـ يزوجه إذا احتاج؛ لأن ولاية الحاكم دون ولاية غيره من الأقارب؛ فولاية الحاكم عامة، وولاية غيره خاصة،
فمثلاً صبي له سبع سنوات، احتاج إلى الزواج، وله أخ بالغ فله أن يزوجه لحاجته، أما على المذهب فلا يزوجه إلا الحاكم.
قوله: «ولا كبيرة عاقلة» ، أي: لا يزوج باقي الأولياء، ولو كان الجد، أو الأخ الشقيق، أو العم الشقيق كبيرة عاقلة ـ أي: بالغة ـ إلا بإذنها، سواء كانت ثيباً أو بكراً؛ لأن الإجبار للأب فقط.
وعلم من قول المؤلف: «كبيرة عاقلة» أنهم يزوجون الكبيرة المجنونة، ولكن هذا مقيدٌ بالحاجة، وذلك إذا عرفنا أنها تميل إلى الرجال، ففي هذه الحال يزوجها الأولياء بدون إذنها لدفع حاجتها؛ لأنها مجنونة فلا إذن لها.
قوله: «ولا بنت تسع» ، أي: لا يزوجون بنت تسع ولو بكراً إلا بإذنها، وهي ما بين التسع إلى البلوغ على رأي المؤلف، كالبالغة، والصحيح أنها ليست كذلك، وأن إذنها غير معتبر؛ وذلك لأنها لا تفهم مصالح النكاح كما ينبغي.
قوله: «إلا بإذنهما» الضمير المثنى يعود على الكبيرة العاقلة وبنت التسع.
فصار بقية الأولياء لا يزوجون ذكراً، ولا صغيرة دون تسع بأي حال من الأحوال، ولا كبيرة عاقلة، ولا بنت تسع إلا بإذنهما، وأما الكبيرة المجنونة فيزوجونها إذا احتاجت إلى النكاح، وكان من مصلحتها أن تزوج؛ حتى لا تفسد أخلاقها.
وقوله: «إلا بإذنهما» ، الدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تنكح
البكر حتى تستأذن ولا تنكح الأيم حتى تستأمر»
(1)
.
فقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تنكح» خبر بمعنى النهي؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بأنه لا تنكح، لكن مراده النهي عن أن تنكح إلا بإذنها، والثيب تستأمر، والفرق بين الاستئذان والاستئمار، أن الاستئذان أن يقال لها مثلاً: خطبك فلان بن فلان، ويذكر من صفته وأخلاقه وماله، ثم تسكت أو ترفض، وأما الاستئمار فإنها تشاور؛ لأنه من الائتمار لقوله تعالى:{وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 6]، وقوله:{إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ} [القصص: 20] فهي تُشاور؛ وذلك لأنها عرفت النكاح، وزال عنها الحياء، فكان لا بد من استئمارها.
ثم فسَّر الإذن بقوله: «وهو صمات البكر ونطق الثيب» «صمات البكر» أي: سكوتها، «ونطق الثيب» أي: أن تقول: نعم، رضيت.
وقوله: «صمات البكر» ، ظاهر كلامه ولو بكت أو ضحكت، أما إذا ضحكت فظاهر أنها راضية، وأما إذا بكت فالفقهاء يقولون: إن هذا لا يدل على عدم الرضا، بل قد يدل على الرضا، وأنها بكت لفراق أبويها، لما عرفت أنها إذا تزوجت ستفارقهما، فلا يدل ذلك على الكراهة.
وهذا الذي قالوه له وجهة نظر، لكن ينبغي أن يقال في البكاء خاصة: إن دلت القرينة على أن البكاء كراهة للزواج فهو
(1)
سبق تخريجه ص (51).
رفض، وإذا لم تدل القرينة على ذلك فلا يدل على الرفض.
وقوله: «وهو صمات البكر ونطق الثيب» ، فلو عكس الأمر وقالت البكر: نعم أريد أن أتزوج بهذا الرجل، وأنا قابلة به، والثيب سكتت، فهل يكون ذلك إذناً؟
أما الثيب فلا يكون إذناً؛ لأن النطق أعلى من السكوت، فقولها: رضيت، أعلى من كونها تسكت، وأما البكر فإنه يكون إذناً؛ لأن كونها تنطق وتقول: رضيت به، أبلغ في الدلالة على الرضا من الصمت.
والعجيب أن ابن حزم رحمه الله بظاهريته يقول: إنها لو صرحت بالرضا لم يكن إذناً، فلو قالت: رضيت بهذا الرجل وأنا أريده ولا أريد غيره، يقول: هذا ليس بإذن؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام سئل كيف إذنها، قال:«أن تسكت»
(1)
، فمعناه أنها لو جاءت بإذن غير السكوت، لم يكن ذلك معتبراً شرعاً.
وهذا قولٌ ضعيف، وهو مما يدل على فساد التمسك بالظاهر بدون مراعاة المعنى؛ لأن الشريعة ظواهرها كلها حق، وكلها حِكم وأسرار، وليس من الحكمة أن نقول لامرأة: هل ترضين أن تتزوجي بهذا الرجل؟ فتقول: نعم، رضيت به، ثم نقول لنظيرتها: هل ترضين أن تتزوجي بهذا الرجل؟ فتسكت، ونقول: إن الثانية راضية، والأولى غير راضية.
فالصواب: أن إذن البكر أدناه الصمت وأعلاه النطق؛ لكن
(1)
سبق تخريجه ص (51).
النبي صلى الله عليه وسلم جعل الصمت دليلاً على الرضا؛ لأن الغالب في الأبكار الحياء وعدم التصريح بهذا الأمر، وهذا خاضع لكل زمان ووقت، ففي وقتنا الحالي هن يبحثن عن الزوج قبل أن يخطبن، وإذا قيل لإحداهن: ترضين بفلان؟ قالت: أرضى به، وهو طيب، وأنا ما أريد إلا هذا، ولا تبالي.
كما يجب أن يسمى الزوج المستأذن في نكاحه على وجه تقع به المعرفة، فيقال: رجل شاب، كهل، شيخ، صفته كذا وكذا، عمله كذا وكذا، حالته المادية كذا وكذا، أما أن يقال: نريد أن نزوجك، فقط، فهذا لا يجوز، فربما أنها تتصور أن هذا الزوج على صفة معينة ويكون الأمر بالعكس.
فَصْلٌ
الثَّالِثُ: الوَلِيُّ،
..........
قوله: «الثالث: الولي» ، أي: الثالث من شروط النكاح الولي، يعني أن النكاح لا ينعقد إلا بولي، والدليل على ذلك القرآن والسنة، والنظر الصحيح.
أما القرآن فقوله تعالى: {وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} ، [البقرة: 220]، وقوله:{وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32]. «وأنكح» فعل متعدٍ يتعدى إلى الغير، والخطاب للأولياء فدل هذا على أن النكاح راجع إليهم، ولذلك خوطبوا به، فيكون هذا دليلاً على أن المرأة لا يمكن أن تزوج نفسها، بل لا بد من أن ينكحها غيرها، وقوله تعالى:{فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 232]، {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} أي: لا تمنعوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف، ووجه الدلالة من الآية أنه لو لم يكن الولي شرطاً لكان عضله لا أثر له.
وفي قوله تعالى: {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} دليل على أنه لا فرق في اشتراط الولي بين الثيب والبكر؛ لأن قوله: {أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} دليل على أنهن قد تزوجن من قبل، وعلى هذا فنقول: إن الآية دلالتها صريحة على أن الولي شرط في النكاح، سواء في البكر أو في الثيب.
أما السنة فقوله صلى الله عليه وسلم: «لا نكاح إلا بولي»
(1)
، و «لا» نافية
(1)
أخرجه أحمد (4/ 394)؛ وأبو داود في النكاح/ باب في الولي (2085)؛ والترمذي في النكاح/ باب ما جاء لا نكاح إلا بولي (1101)؛ وابن ماجه في النكاح/ باب لا نكاح إلا بولي (1881) عن أبي موسى رضي الله عنه، وصححه في الإرواء (1839).
للجنس، والنفي هنا منصب على الصحة وليس على الوجود؛ لأنه قد تتزوج امرأة بدون ولي، والنبي عليه الصلاة والسلام ما يخبر عن شيء فيقع على خلاف خبره.
وعلى هذا فقوله: «لا نكاح إلا بولي» ، أي: لا نكاح صحيح إلا بولي.
فلو قال قائل: لِمَ لا نقول: لا نكاح كامل، ونحمل النفي على نفي الكمال لا على نفي الصحة؟
قلنا: هذا غير صحيح؛ لأنه متى أمكن حمله على نفي الصحة كان هو الواجب؛ لأنه ظاهر اللفظ، ونحن لا نرجع إلى تفسير النفي بنفي الكمال، إلا إذا دل دليل على الصحة، ولأن الأصل في النفي انتفاء الحقيقة واقعاً أو شرعاً.
وهذه القاعدة تقدمت لنا مراراً، وقلنا: إن النفي يحمل على نفي الوجود، فإن تعذر فنفي الصحة، فإن تعذر فنفي الكمال.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل»
(1)
.
أما النظر فإن المرأة ضعيفة العقل والدين، وسريعة العاطفة، سهلة الخداع، يمكن أن يأتي شخص من أفسق الناس ويغرّها،
(1)
أخرجه الإمام أحمد (6/ 47)؛ وأبو داود في النكاح/ باب في الولي (2083) والترمذي في النكاح/ باب ما جاء لا نكاح إلا بولي (1102)؛ وابن ماجه في النكاح/ باب لا نكاح إلا بولي (1879) عن عائشة رضي الله عنها، وحسنه الترمذي، وصححه ابن حبان (4074)؛ والحاكم (2/ 168) وقال: صحيح على شرط الشيخين.
ويحمد نفسه عندها، ويجعل نفسه فوق الناس، في المال والكمال والأخلاق والدين، وهو من أفجر الناس وأرذل الناس، فتنخدع، فكان من الحكمة أن لا تتزوج إلا بولي.
فصار النظر مع الأثر يقتضي أن لا يصح النكاح إلا بولي، وهذا هو الذي عليه عامة أهل العلم وجمهور الأمة، أنه لا بد في النكاح من ولي، وأنه لا يصح بدون ولي أبداً، ويستثنى من ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فإن له أن يتزوج بدون ولي، وله أن يتزوج مع وجود الولي لقوله تعالى:{النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب: 6] كما أن له أن يتزوج بالهبة بدون صداق.
وذهب أبو حنيفة رحمه الله إلى أن الحرة المكلفة تزوج نفسها بدون ولي، وقال: إن الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: «الثيب أحق بنفسها من وليها»
(1)
.
ولكن هذا القول ضعيف، والحديث الذي استدل به ليس معناه أنها تزوج نفسها، بل معناه أنها لا تُزوج حتى تستأمر، ويؤخذ أمرها ويبين لها الأمر واضحاً جلياً، فلا يُكتفى بنظر الولي في حقها، بل لا بد أن تستأمر ويبين لها الأمر على وجه واضح.
والذي حملنا على ذلك هو الحديث الذي ذكرناه: «لا نكاح إلا بولي» ، وقد صححه أحمد وغيره، وعلى هذا فالصحيح أنه لا بد من الولي.
(1)
أخرجه مسلم في النكاح/ باب استئذان الثيب في النكاح بالنطق والبكر بالسكوت (1421)(67) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وقال بعض أهل العلم: إنه يجوز أن تزوج نفسها بإذن وليها، فتقول لوليها ـ مثلاً ـ إذا خُطِبَتْ وَوافَقَتْ: إن فلاناً خطبني، وأنا أريد أن أتزوج به وسأعقد النكاح لنفسي، فإذا أُذن لها زوجت نفسها.
ولكن الصحيح ـ أيضاً ـ خلاف هذا، وأنه لا بد من الولي المباشر، وهذا هو المعروف من سنة الرسول عليه الصلاة والسلام أنه لا تزوج امرأة إلا بولي، حتى أم سلمة رضي الله عنها لما أراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يتزوجها أمرت ابنها عمر أن يزوج النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: قم يا عمر فزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
، مع أنهم ذكروا من خصائصه صلى الله عليه وسلم في النكاح أنه يتزوج بدون ولي؛ لأنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم.
وَشُرُوطُهُ: التَّكْلِيفُ، وَالذُّكُورِيَّةُ، وَالحُرِّيَّةُ، وَالرُّشْدُ فِي العَقْدِ،
قوله: «وشروطه» يعني شروط الولي.
الأول: قوله: «التكليف» بأن يكون بالغاً عاقلاً، فالذي دون البلوغ لا يعقد لغيره، والمجنون لا يعقد لغيره؛ لأنهما يحتاجان إلى ولي، فكيف يكونان وليين لغيرهما؟!
أما المجنون فأمره ظاهرٌ جداً، فإنه لا يمكن أن يزوج، وأما الصغير فذهب بعض أهل العلم إلى أن المراهق الذي لم يبلغ، لكنه قريب البلوغ ويميز ويعرف الكفء، أن له أن يزوج، ولكن المذهب خلاف ذلك، وأنه لا بد أن يكون بالغاً، حتى لو
(1)
أخرجه أحمد (6/ 295)؛ والنسائي في النكاح/ باب إنكاح الابن أمه (6/ 81)؛ والحاكم (3/ 178 ـ 179)، وصححه على شرط مسلم ووافقه الذهبي، وانظر: الإرواء (6/ 220).
فرض أن له أربع عشرة سنة، وأحد عشر شهراً، وثمانية وعشرين يوماً، وبناء على ذلك لو وجدت امرأة لها عم كفء في الولاية، ولها أخ صغير لم يبلغ يزوجها عمها، وأخوها الشقيق لا يزوجها، ولو لم يكن بينه وبين البلوغ إلا يوم واحد.
الثاني: قوله: «والذكورية» ضدها الأنوثة والخنوثة؛ لأنه إذا كانت المرأة لا تزوج نفسها فكيف تزوج غيرها؟! وعلى هذا فالأم لا تزوج بنتها لاشتراط الذكورية، فلو كان لها أم وابن عم، وجاءت تسأل من وليها؟ نقول: ابن عمها، أما الأنثى فلا تكون ولياً.
وكذلك الخنثى المشكل لا يزوج، وهذا ـ والحمد لله ـ قليل كما مر علينا، ولكن على كل حال يجب أن نعرف أنه يحترز بالذكورية عن الأنوثة والخنوثة.
والذكورية مشروطة في كل ولاية إلا ولاية تتعلق بالنساء، فلا حرج أن تكون الولية امرأة، فلا يمكن أن تكون المرأة مديرة على مدرسة رجال، ويمكن أن تكون مديرة على مدرسة نساء، ولا يمكن أن تكون وزيرة في وزارة رجال، ولكن هل يمكن أن تكون وزيرة في وزارة النساء؟ الجواب: نعم، لكن لا يمكن الآن؛ لأنه حتى وزارة النساء، أو إدارة النساء، أو رئاسة النساء فلا بد أن يكون فيها ذكور.
الثالث: قوله: «والحرية» ، أي: يشترط أن يكون الولي حراً، فالرقيق لا يزوج ابنته ولو كان من أعقل الناس، وأسَدِّ الناس رأياً، وأقومهم ديناً؛ لأنه هو نفسه مملوك لا يستقل بنفسه ومنافعه، فلا يكون ولياً على غيره.
والصحيح أن ذلك ليس بشرط؛ لأن هذا ليس مالاً أو تصرفاً مالياً حتى نقول: إن العبد لا يملك، ولكن هذه ولاية، فهو أبٌ، ومعلوم أن احتياط الأب لابنته أبلغ من أن يحتاط لها عمها أو أخوها أو السلطان أو ما أشبه ذلك، فكيف تسلب عنه الولاية مع أبوته ورشده وعقله ودينه؟!
والعجب أنهم رحمهم الله قالوا: إن المكاتب يصح أن يكون ولياً فيزوج ابنته؛ لأن المكاتب انعقد فيه سبب الحرية، وإن كان عبداً ما بقي عليه درهم، لكن له أن يزوج بناته، فيقال: هو عبد، فإذا صح أن يزوج بناته فيصح أن يزوجهن من ليس بمكاتب، وهذا القول هو الراجح، فإذا وجد وليٌّ رقيق فإنه يزوج، وهل هذا التزويج يفوت حق سيده؟ لا يفوته، فلا ضرر على سيده في ولايته النكاح، وهو رشيد وعاقل ودَيِّن وفاهم، فقد يكون الرقيق من أعلم الناس بأحوال الناس، والمقصود بالولاية أن تكون المرأة عند زوج كفء، فكيف يزوجها القاضي، وأبوها موجود؟!
الرابع: قوله: «والرشد في العقد» كذلك ـ أيضاً ـ يشترط الرشد في العقد، وهذا من أهم الشروط أن يكون الولي رشيداً، والرشد في كل موضع بحسبه، الرشد في العقد بأن يكون بصيراً بأحكام عقد النكاح، بصيراً بالأكْفَاء، ليس من الناس الذين عندهم غِرَّة وجهل، بل يعرف الأكفاء ومصالح النكاح، وهذا في الحقيقة هو محط الفائدة من الولاية؛ لئلا نضيع مصالح المرأة، فإذا لم يكن رشيداً، ولا يهمه مصلحة البنت، ولا يهمه إلا المال، وجاء إليه شخص، وقال: أنا أعطيك مليون ريال وزوجني
بنتك، وهذا الرجل ليس كفؤاً، فوافق الأب وزوج ابنته، وقال: أنا لي إجبار بنتي، وأخذ المليون، فهذا لا يمكن أن يولى، ولا تصح ولايته، فلا بد أن يكون عنده رشد في العقد، ولو فرضنا أن هذا الولي عنده رشد في العقد، ويعرف مصالح النكاح، ويعرف الأكفاء ويعرف الناس معرفة تامة، لكنه في بيعه وشرائه ليس برشيد، فلا يحسن البيع ولا الشراء، فهذا لا يضر؛ لأن الرشد في كل موضع بحسبه، فما دام أن الرجل يعرف مصالح النكاح والكفء، وما يجب للزوجة وجميع ما يتعلق بالنكاح فهو رشيد ويزوِّج.
وَاتِّفَاقُ الدِّينِ سِوَى مَا يُذْكَرُ، وَالعَدَالَةُ،
..........
الخامس: قوله: «واتفاق الدين» ، يعني أن يكون الولي والمرأة دينهما واحد، سواء كان دين الإسلام أو غير دين الإسلام؛ وذلك لانقطاع الولاية بين المختلفين في الدين، ويدل على انقطاع الولاية أنه لا يتوارث أهل ملتين، فإذا انقطعت الصلة بالتوارث، فانقطاعها بالولاية من باب أولى، فعلى هذا يزوج النصراني ابنته النصرانية، وكذلك يزوج اليهودي ابنته اليهودية، وعلى هذا فقس، وهل يزوج المسلم ابنته النصرانية؟ على كلام المؤلف لا يزوج، وكذلك بالعكس النصراني ما يزوج ابنته المسلمة، لكن استثنى فقال:
«سوى ما يذكر» ، قال في الروض
(1)
: «كأم ولد لكافرٍ أسلمت، وأمة كافرة لمسلم، والسلطان يزوج من لا ولي لها من أهل الذمة» ثلاث مسائل: لا يشترط فيها اتفاق الدين:
(1)
الروض المربع مع حاشية ابن قاسم (6/ 264).
الأولى: «أم ولد لكافر أسلمت» ، يعني رجلاً كافراً له مملوكة فجامعها، ثم ولدت منه، فصارت أم ولد لكافر، فلا يجوز له بيعها؛ لأنها أم ولد، لكن يزوجها؛ لأنها مملوكته حتى يموت، فإذا مات عتقت، وهذا مبني على القول بمنع بيع أمهات الأولاد، والمسألة خلافية، ولم يقل المؤلف: كأمة مسلمة لكافر؛ لأن هذا لا يتصور؛ لأن الأمة إذا أسلمت تحت الكافر أجبر على إزالة ملكه ببيع أو عتق أو غيره.
الثانية: «أمة كافرة لمسلم» ، يعني إنساناً عنده أمة، وهو مسلم وهي كافرة، فهذا يزوجها؛ لأنه سيدها، ولا نقول له: أنت مسلم وهي كافرة، فتجبر على إزالة الملك؛ لأن السيد أعلى.
الثالثة: «السلطان يزوج من لا ولي لها من أهل الذمة» ، المراد بالسلطان الإمام الرئيس الأعلى في الدولة، أو من ينوب منابه، والذي ينوب منابه، في وقتنا الحاضر وزارة العدل، ومن ورائها مأذون الأنكحة، فإذا وُجِدَ امرأة من أهل الذمة ما لها ولي فله أن يزوجها، مع أنها كافرة وهو مسلم.
وظاهر كلام الأصحاب رحمهم الله أن المسلم لا يزوج مَوْلِيَّتَه الكافرة، كابنته وأخته وعمته، مع أنه أعلى منهم، صحيح أن الكافر لا يزوج موليته المسلمة لا شك، لكن كون المسلم ما يزوج الكافرة، هذا في النفس منه شيء، فإن كانت المسألة إجماعاً، فالإجماع لا يمكن الخروج عنه، وإن كان في المسألة خلاف، فالراجح عندي أنه إذا كان الولي أعلى من المرأة في دينه فلا بأس أن يزوجها؛ لأن هذا ولاية، وإذا كان ولاية، فمن كان
أقرب إلى الأمانة فهو أولى، فإذا كانت امرأة نصرانية، لها عم نصراني، وأخ نصراني، وأب مسلم، فعلى كلام المؤلف يزوجها أخوها أو عمها؛ لأنهما هما الموافقان لها في الدين، وأما أبوها المسلم فيقال له: اذهب بعيداً، مع أننا نعلم أن أشد الناس نظراً لمصلحة المرأة أبوها، ولهذا فالقول الراجح أنه لا يضر اختلاف الدين إذا كان الولي أعلى من المرأة، أما العكس فإنه لا يمكن أن يزوج النصراني بنته المسلمة؛ فإن الله يقول:{وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء: 141]، وإذا كنا نشترط في الولي المسلم العدالة، وهي أخص من الإسلام فاشتراط الإسلام أولى.
ولكن هل يتصور أن تكون كافرة مولية لمسلم؛ هذا غير متصور؛ لأن المسلمة إذا كفرت فهي مرتدة ولا تقر على دينها، بل يقال: أسلمي أو القتل.
وهل يزوج النصراني ابنته اليهودية؟ كلا الدينين باطلان، ولا فرق بين هاتين الديانتين وغيرهما من الديانات، إلا ما فرق فيه الشارع، وهو حل نسائهم وذبائحهم، وإلا ففي العبادات هم سواء، فالبوذي الذي يعبد إلهه بوذا، كالنصراني الذي يعبد المسيح، من حيث الديانة، أما الأحكام فمعروف أن الله تعالى أعطى فسحة في معاملة اليهود والنصارى، أكثر مما أعطى بقية الأديان.
السادس: قوله: «والعدالة» ، وهي استقامة الدين والمروءة، فغير العدل لا يصح أن يكون ولياً؛ لأنها ولاية نظرية، ينظر فيها الولي ما هو الأصلح للمرأة؟ فيشترط فيها الأمانة، والفاسق غير
مؤتمن حتى في خبره، فكيف في تصرفه؟! والله عز وجل يقول:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6]، إذاً الفاسق لا يصح أن يكون ولياً على ابنته، ولا على أخته، ولا على بنت أخيه، وما أشبه ذلك، ولكن الفقهاء في هذا الباب خففوا بعض الشيء، فقالوا: تكفي العدالة ظاهراً، فإذا كان هذا الولي ظاهره الصلاح، لكن في باطن أمره ليس بصالح، مثلاً يشرب الدخان في بيته، فهذا عدل ظاهراً وليس عدلاً باطناً، فيصح أن يكون ولياً، أما رجل حالق لحيته فلا يصح أن يكون ولياً؛ لأنه فاسق ظاهراً وباطناً، والذي يتعامل بالربا علناً لا يزوج بنته، والذي اغتاب شخصاً من المسلمين ـ ولو مرة واحدة في عمره ولم يتب ـ لا يزوجها؛ لأنه فاسق غير عدل، أو رجل يمشي في السوق وهو يأكل الطعام فلا يزوج بنته؛ لأنه لم يستعمل المروءة، وكان في الزمن بالأول ـ أيضاً ـ الذي يشرب القهوة بالشارع يعتبر خلاف المروءة، لكن الآن بالعكس، فالناس الآن صاروا يصنعون هذا بالشارع، ولا يعدون هذا خلاف المروءة، وعلى كل حال هذا ما يراه الفقهاء رحمهم الله في هذه المسألة، أنه يشترط للولي أن يكون عدلاً، وماذا نصنع إذا كان كل أقاربها حالقي لحاهم، فمن يزوجها؟! يزوجها القاضي، أو مأذون الأنكحة.
فهذه المسألة في الحقيقة لو طبقناها قد لا نجد أحداً يزوج موليته إلا عشرة في المائة، لا سيما في مسألة هينة عظيمة، وهي الغيبة، فما تكاد تجد أحداً سالماً من الغيبة، فالغيبة ـ ولو مرة
واحدة ـ يعتبر الإنسان خارجاً بها من العدالة، فلا يصح أن يكون ولياً، قال ابن عبد القوي رحمه الله في المنظومة:
وقد قيل صغرى غِيبة ونميمة
وكلتاهما كبرى على نص أحمد
وعلى هذا فالمسألة مشكلة جداً، ولهذا يرى بعض الأصحاب رحمهم الله أن العدالة ليست بشرط، وإنما الشرط الأمانة أن يكون مرضياً وأميناً على ابنته، وألا يرضى لها غير كفء، وهذا هو الحق، وكم من إنسان مستقيم الظاهر لكن بالنسبة لبنته لا يهمه إلا الدراهم، فيأخذ الدراهم ويزوجها أفسق الناس ولا يهتم، فهذا في الحقيقة لا يصلح أن يكون ولياً، وخيانته لابنته تنافي عدالته، فالصواب في هذه المسألة أنه لا بد أن يكون الولي مؤتمناً على موليته، هذا أهم الشروط؛ وذلك لأنه يتصرف لمصلحة غيره، فاعتبر تحقيق المصلحة في حق ذلك الغير، أما عدالته ودينه فهذا إليه هو، وكثير من الآباء تجده فاسقاً من أفسق عباد الله، يشرب الخمر ويزني، ويحلق لحيته، ويشرب الدخان، ويُعامل بالغش، ويغتاب الناس، وينم بين الناس، لكن بالنسبة لمصلحة بنته لا يمكن أن يفرط فيها أبداً.
في الروض
(1)
استثنى من العدالة فقال: «إلا في سلطان وسيد يزوج أمته فإنه لا تشترط العدالة» ، إذا زوج السلطان من لا ولي لها فلا تشترط العدالة؛ لأننا لو اشترطنا في السلطان العدالة لكان في ذلك تضييق على المسلمين، فإذا قدرنا أن السلطان
(1)
الروض المربع مع حاشية ابن قاسم (6/ 265).
يشرب الخمر ويقتل ظلماً ويلعب القمار، فهل نقول: تسقط ولايته على المسلمين؟ لا تسقط، فهو ولي على المسلمين، ولو فعل ما فعل من الفجور، ما لم نرَ كفراً بواحاً عندنا فيه من الله برهان.
وكذلك السيد مع أمته ولو كان فاسقاً يزوجها؛ لأنها مال، ولكن لا بد أن يكون فسقه لا يخل بمصلحة المرأة، فإن كان يخل فلا، فيجب عليه أن يتقي الله عز وجل فإن عُلِمَ أنه لم يتقِ الله في ذلك، فلها الحق في أن تطالبه، أو أن تمتنع ولا يجبرها.
فَلَا تُزَوِّجُ امْرَأَةٌ نَفْسَهَا وَلَا غَيْرَهَا، وَيُقَدَّمُ أَبُو المَرْأَةِ فِي إِنْكَاحِهَا،
.........
قوله: «فلا تزوج امرأةٌ نفسَها» ، معلوم إذا اشترطنا الولي فلا تزوج نفسها، ولو أذن لها الولي، فلا بد أن يتولى عقدَ النكاح وليُّها، وأما قوله صلى الله عليه وسلم:«الثيب أحق بنفسها»
(1)
، فمراده بذلك إذنها في النكاح لا أن تزوج نفسها.
وظاهر كلام المؤلف أن المرأة لا تزوج نفسها ولو في حال الضرورة، كما لو كانت امرأة في بلد ليس لها فيه ولي، وليس فيه سلطان مسلم، لكن يزوجها من كان ذا سلطان في محلها، ولو كان مديراً على مجتمع إسلامي، كإدارات الجمعيات الإسلامية في أمريكا وغيرها.
لكن إذا لم يكن هناك أحد، كرجل وامرأة هربا من بلادهما، وأثناء الطريق قال الرجل: أنا لا أصبر عن المرأة، فهل
(1)
سبق تخريجه ص (71).
أزني بها أو أتزوجها، فهل يكون هو الولي أو هي؟ في هذا قولان لأهل العلم: منهم من يقول: إنه يزوجها، فيقول: زوجتك نفسي، وتقول: نعم، وقيل: هي التي تزوج، فتقول: زوجتك نفسي، فيقول: قبلت، وهذا أقرب إلى الصواب؛ لأنه الآن ليس عندنا ولي شرعي، وإذا لم يكن ولي شرعي فهي أحق بنفسها، والمسألة ضرورة.
فهل هذا العقد الذي عقدناه بهذه الكيفية على وجه الضرورة أفضل، أو أن يزني بها؟ الأول أفضل ولا شك.
قوله: «ولا غيرها» لأنها إذا لم تمكن من تزويج نفسها، فغيرها من باب أولى، وعلى هذا فالأم لا تزوج بنتها، والأخت الكبرى لا تزوج الأخت الصغرى، ولو أن غيرها وكَّلَها، فلو قال الأب للأم: أنا سأسافر وفلان قد خطب البنت، فإذا جاء وقت الزواج فزوِّجيه، أنت وكيلتي، فلا يصح؛ لأن المرأة لا يمكن أن تعقد النكاح أبداً، حتى في هذه الحال، مع العلم بأن الزوج معلوم ومرضي عند الولي؛ سداً للباب، وإلا فالعلة في كون المرأة ضعيفة، وسريعة العاطفة، وناقصة العقل والدين وما أشبه ذلك منتفية في هذا.
قوله: «ويقدَّم أبو المرأة في إنكاحها» ، كامرأة لها أبٌ ولها ابن يعصبها إذا ماتت، فالابن في باب الميراث مقدم، ولكن يقدم أبو المرأة في إنكاحها حتى على عيالها؛ أما الأبكار فواضح أن الأب يقدم؛ لأنه ليس لهن أولاد، والأخ لا يمكن أن يكون أولى من الأب وهو مدلٍ به، وأما الثيبات فإن الأب مقدم على الابن؛
لأن الغالب أن الأكبر سناً يكون قد جرب الأمور، وعرف الناس، فيكون أكمل نظراً من الصغير.
ثُمَّ وَصِيُّهُ فِيهِ، ثُمَّ جَدُّهَا لأَبٍ وَإنْ عَلَا، ثُمَّ ابْنُهَا، ثُمَّ بَنُوهُ وَإِنْ نَزَلُوا، ثُمَّ أَخُوهَا لأَبَوَيْنِ، ثُمَّ لأَِبٍ، ثُمَّ بَنُوهُمَا كَذَلِكَ، ثُمَّ عَمُّهَا لأَبَوَيْنِ، ثُمَّ لأَبٍ، ثُمَّ بَنُوهُمَا كَذَلِكَ، ثُمَّ أَقْرَبُ عَصَبَةٍ نَسَباً كَالإِرْثِ،
قوله: «ثم وصيه فيه» اعلم أن الولي له وكيل، وله وصي، الوكيل الذي أقامه مقامه في حياته، والوصي فهو الذي يقوم مقامه بعد موته، وقد اختلف أهل العلم، هل ولاية النكاح تستفاد بالوصية أو لا؟ فالمشهور من المذهب أنها تستفاد بالوصية، وعلى هذا فيقدم وصي الأب على غيره من الأولياء؛ حتى على الجد، والابن، والأخ، والصحيح في هذه المسألة أن الولاية تنقطع بالموت، وأن الولي ليس له أن يوصي بعد موته، وحتى لو أوصى فالوصية باطلة؛ لأن الولاية مستفادة من الشرع، وليست من فعل الإنسان، وليس هذا كالمال، فمالك لك، فلك أن توصي أحداً على ثلثك مثلاً، لكن هذه ولاية على الغير، فما دمت حياً فأنت أولى بها، فإذا مت انقطعت الولاية، والأمر إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا فإذا أوصى الأبُ أن يزوج بناتَه فلانٌ، ولهن إخوة، فالذي يزوجهن بعد موته ـ على القول الصحيح ـ الإخوة، أما الوصي فلا حق له، لكن لو أراد أحد احتياطاً أن يجمع بين القولين، فيقول الوليُّ للوصيِّ: احضر، وأنا أوكلك، فهذا يجوز، ويكون وكيلاً للولي الحاضر، وبهذا نجمع بين القولين، والمسائل التي يحتاط فيها ـ خصوصاً في النكاح ـ أولى، فنقول للولي: احضر، وأخوها الذي له الولاية نقول له: وكِّلْه أن يزوج، أو نقول للوصي: افسخ الوصية، والوصي يجوز أن يفسخ الوصية؛ لأنها ليست لازمة، فإذا فسخ الوصية عادت المسألة إلى الأولياء.
وقوله: «فيه» احترازاً من وصيه في المال، فلو كان هذا الولي له وصي في المال، يعني أوصى إنساناً على ثلثه، فهل يكون هذا الإنسان المُوصَّى على الثلث وصياً على التزويج؟ لا، ولهذا قيده بقوله:«ثم وصيه فيه» .
قوله: «ثم جدها لأبٍ وإن علا» ، فيقدم الأقرب فالأقرب، فالجد أولى من الابن في هذا الباب، وهنا قدموا الجد على الإخوة الأشقاء، أو لأب، وفي باب الميراث ورثوا الإخوة الأشقاء أو لأب مع الجد على تفصيل معروف، وتقديم الجد على الإخوة في باب ولاية النكاح يدل على ضعف القول بتوريث الإخوة مع الجد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«فما بقي فلأولى رجل ذكر»
(1)
، وإذا كانوا قد اعترفوا بأن الجد أولى في ولاية النكاح من الأب، فإن الحديث يقتضي أن يكون أولى منه في الميراث.
وقوله: «جدها لأب» احترازاً من جدها لأم، فإن جدها للأم لا ولاية له، وهو الذي بينه وبين المرأة أنثى، فكل من بينه وبينها أنثى من الأجداد فإنه لا ولاية له.
قوله: «ثم ابنها» ، أي: ابن المرأة.
قوله: «ثم بنوه وإن نزلوا» ، أي: بنو الابن؛ احترازاً من بني البنت فإنه لا ولاية لهم.
(1)
أخرجه البخاري في الفرائض/ باب ميراث الولد من أبيه وأمه (6732)؛ ومسلم في الفرائض/ باب ألحقوا الفرائض بأهلها (1615) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
قوله: «ثم أخوها لأبوين، ثم لأبٍ، ثم بنوهما كذلك، ثم عمها لأبوين، ثم لأبٍ، ثم بنوهما كذلك» ، إذاً عليَّ ترتيب العصبة في الميراث تماماً، إلا في مسألة الأب والابن فقط، فتقدم الأبوة هنا على البنوة، فنقول:
أبوةٌ بنوة أخوة
عمومة وذو الولا التتمة
فبدلاً من أن ما نقول في الميراث في العصبة: بنوة أبوة، نقول هنا: أبوة بنوة؛ لأن البنوة مفقودة تماماً فيما إذا كانت المرأة بكراً، ولأننا لو قدرنا أن المرأة ثيِّب ولها أبناء ولها أب، فالأب غالباً أدرى بمصالح النكاح من الأبناء؛ لأن الأبناء صغار في الغالب، ولأنه أشد شفقة من الأبناء، فكان أولى بالتقديم.
قوله: «ثم أقرب عَصَبَةٍ نسباً كالإرث» ، فلما ذكر الجهات ذكر القرب، فالعم مع ابن العم فالولي العم؛ لأنه أقرب، والأخ مع ابن الأخ، فالولي الأخ؛ لأنه أقرب، وعلى هذا فنقول: جهات الولاية في عقد النكاح خمس، أبوة، ثم بنوة، ثم أخوة، ثم عمومة، ثم ولاء، فإن كانوا في جهة واحدة قدم الأقرب منزلة، والأقرب هو الذي يجتمع مع الآخر قبل المحجوب، فمن بينه وبين الجد ثلاثة أقرب ممن بينه وبين الجد أربعة، وهلم جرّاً، فإن كانوا في منزلة واحدة فالأقوى، فأخ شقيق وأخ لأب، الولي الأخ الشقيق.
ثُمَّ الْمَوْلَى المُنْعِمُ، ثُمَّ أَقْرَبُ عَصَبَتِهِ نَسَباً، ثُمَّ وَلَاءً، ثُمَّ السُّلْطَانُ،
قوله: «ثم المولى المنعِمُ» هذا عصبة السبب؛ أي: ثم المولى المنعِم بالعتق، قال ذلك؛ أخذاً من قوله تعالى:{وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} [الأحزاب: 37]، وهو زيد بن حارثة رضي الله عنه.
قوله: «ثم أقرب عصبته نسباً» أي: عصبة المولى المنعم، على ترتيب الميراث، وظاهر كلام المؤلف رحمه الله أن عصبة المولى يرتبون ترتيب الميراث، فيقدم ابن المولى على أبيه، ثم إن عُدم فعصبة المولى نسباً.
قوله: «ثم ولاءً» هذا عطف على قوله «نسباً» يعني ثم أقرب عصبته نسباً، ثم أقرب عصبته ولاءً، وعصبته ولاء، يعني لو كان المعتِق قد أعتقه غيرُه، وليس له عصبة من النسب، فإننا نرجع إلى عصبته ولاء وهم الذين أعتقوه.
قوله: «ثم السلطان» وهو الإمام أو نائبه، وكان نواب الإمام فيما سبق في هذه المسائل القضاة، أما الآن فنائبه وزير العدل، ونائب وزير العدل المأذون في الأنكحة، قال الإمام أحمد: والقاضي أحب إليَّ من الأمير في هذا، وهذا بناء على ما سبق في عُرفهم أنهم كلهم نواب للسلطان، أما الآن فليس للإمارة دخل إطلاقاً، بل ولا للقضاة، فأصبحت مقيدة بناس مخصوصين، فالغالب أنها لا تصل إلى هذه الدرجة، يعني لو أنك تأمَّلت زواجات الناس لوجدت أن المسألة ما تعدو عصبة النسب.
وأيهما يقدم مأذون الأنكحة، أو الأخ لأم؟ مأذون الأنكحة
يقدم على أخيها من أمها، بل على أبي أمها، فلو كانت هذه المرأة لها أبو أم قد كفلها منذ الصغر، وهو لها بمنزلة الأب، وخطبت فلا يتولى زواجها، بل يتولى زواجها مأذون الأنكحة، وهذه قد تبدو غريبة عند العامة، والشرع ليس فيه غرابة، مثل ما استغربوا مسألة رجل مات عن ابن أخيه الشقيق، وبنت أخيه الشقيق، فلمن التعصيب؟ لابن الأخ الشقيق، فيستغربونها ويقولون: أخواتهم لا يرثن معهم!! نقول: نعم؛ لأن بنات الأخ ليس لهن عصبة.
وقوله: «السلطان» فإذا قدرنا أننا في بلد كفر، والسلطان لا ولاية له، فنقول: السلطان إذا لم يكن أهلاً للولاية، فمن كان له الرئاسة في هذه الجالية المسلمة فهو الذي يتولى العقد؛ لأنه ذو سلطان في مكانه.
فَإِنْ عَضَلَ الأَقْرَبُ، أَوْ لَمْ يَكُنْ أَهْلاً، أَوْ غَابَ غَيْبَةً مُنْقَطِعَةً لَا تُقْطَعُ إِلاَّ بِكُلْفَةٍ، وَمَشَقَّةٍ زَوَّجَ الأَبْعَدُ،
قوله: «فإن عضل الأقرب» قال المؤلف هذا اللفظ «عضل» لأنه المطابق لما في القرآن {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة: 232]، و «عضل» بمعنى منع، أي: إذا منع كفؤاً رضيته، يعني رجلاً كفؤاً في دينه، وفي خُلُقه، وفي ماله، خطب هذه المرأة من أبيها، أو من أخيها، ورضيت المرأة به فمنعها، يقول المؤلف:«زوج الأبعد» فيزوجها أخوها، أو عمها أو ابن أخيها مثلاً؛ وذلك لأنه ليس له الحق في المنع، فهو ولي يجب عليه أن يفعل ما هو الأصلح لموليته، فإذا لم يفعل انتقل الحق إلى غيره
ولكن المشكلة أن الناس لا يجرؤون على هذه المسألة، فتجد الأب يمتنع من تزويج ابنته؛ لأن الخاطب لم يعطه ما
يرضيه من المهر، فهو عاضل، فلو قلنا لأخيها أو لعمها: زوجها، قال: لا أقدر أن أتعدى الأب، ففي هذه الحال إذا أبى الأقرب، نذهب إلى الأبعد منه، فإذا أبى كل العصبة، وقالوا: ما نقدر، نخشى أن تكون فتنة، فيجب على القاضي أن يزوجها، ولو أن الناس استعملوا هذا ـ وهو شرعي ليس منكراً ـ لانكفَّ كثير من الشر من هؤلاء الآباء، الذين يعضلون ويبيعون بناتهم بيعاً صريحاً.
فالحاصل: أن مشكلتنا أنه لا أحد من الأقارب يجرؤ أن يزوجها، وأبوها أو أخوها موجود، وهذا غلط، ويعتبر ظلماً لهذه المسكينة، وفي هذه الحال لو أن أباها أبى، وكل العصبة، وكذلك القاضي صار جباناً، فحينئذٍ نقول بالقول الثاني، وهو مذهب أبي حنيفة ـ وهو مذهب قائم من مذاهب المسلمين ـ تزوِّج نفسها، وينتهي الإشكال، مع أن هذا سيكون أندر من الكبريت الأحمر، ولا يمكن، لكن لو أنه فعل لانكف الناس عن هذا التحكم في بناتهم، ولقد ذكر لنا بعض الناس منذ أكثر من خمس عشرة سنة أن فتاة حضرها الموت، وقد تجاوزت العشرين من عمرها، وكانت تخطب كثيراً، ومرغوبة عند الناس، وأبوها يأبى، وفي سياق الموت قالت للنساء الحاضرات: بلغوا أبي السلام، وقولوا له: إن بيني وبينه موقفاً يوم القيامة بين يدي الله عز وجل حيث منعني أن أتزوج، فهذه كلمة عظيمة في سياق الاحتضار، تتوعد أباها بالوقوف بين يدي الله عز وجل، نسأل الله العافية ـ مسألة كبيرة عظيمة، وسبحان الله!! الرجل يعرف من نفسه أنه
يريد هذه اللذة، هذه الشهوة، ثم يمنع الشابة التي تريدها مثل ما يريد أو أكثر، فبعض الشابات لولا الحياء والخوف من الله لحصل منهن مفاسد كثيرة، فكيف يمنعها؟! كيف يشبع من الخبز واللحم، ويدع ابنته أو أخته تموت جوعاً؟! فجوع الشهوة الجنسية قد يكون أشد من جوع الشهوة البطنية، وكلتاهما أمران ضروريان للإنسان.
فلهذا يجب على طلبة العلم أن يحذروا من عضل الأولياء، وأن يبينوا للناس أن العاضل لا كرامة له، بل قال العلماء: إذا تكرر عضله فإنه يصبح فاسقاً لا تقبل شهادته، ولا ولايته، ولا أي عمل تشترط فيه العدالة، فإن ذهب طلبة العلم لنشر مثل هذه المعلومات بين الناس، فإن الناس قد يستنكرونها لأول مرة، ويقول الأخ: كيف أزوج وأبي موجود؟! لكن إذا تكرر ذلك ثم صار هناك أخ شجاع وزوَّج مع وجود أبيه الذي عضل، تتابع الناس، فالناس يحتاجون إلى فتح الباب فقط، وإلا فالمسألة متأزمة، يتقدم للمرأة عدة رجال يبلغون إلى ثلاثين رجلاً، ومع ذلك يمنع لسبب شخصي بينه وبين الخاطب، أو حسداً لابنته، كيف يخطبها مثل هذا الرجل الفاضل؟! أو تكون البنت موظفة يأخذ راتبها، وإذا قالت: يا أبي أعطني راتبي، قال: أنت ومالكِ لأبيك!!
فإن كان هناك سبب شرعي اقتضى أن يمتنع فإنه لا يزوج الأبعد، مثال ذلك: امرأة خطبها رجل معروف بنقص الدين، والمجتمع كله أو غالبه أحسن منه ـ وإنما قلت: المجتمع كله أو غالبه، لئلا يرد علينا أنه لو كان مستوى المجتمع بهذه المثابة ـ أي:
على مستوى الخاطب ـ فهنا نقول: يزوج ما دام لم يكفر، فلو فرضنا أن عامة المجتمع يشرب الدخان، أو عامة المجتمع يحلق اللحية، فهل يَرُدُّ هذا، ونحن لا ندري متى يأتينا شخص غير حالق لحيته، وغير شارب للدخان؟
الجواب: لا يرده؛ لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، وكما أننا إذا لم نجد حاكماً إلا فاسقاً فإننا نولي الأمثل فالأمثل من الفاسقين، كذلك هنا، لكن لو كان هذا الرجل يأتي بمعصية نادرة في المجتمع، ثم إن الأقرب قال: لا أزوج هذا الرجل، فله الحق في المنع، وليس لأحد أن يزوج إذا رفض الأقرب.
قوله: «أو لم يكن» الضمير يعود على الأقرب.
قوله: «أهلاً» يعني ليس أهلاً للولاية، مثل أن يكون صغيراً أو فاسقاً، أو مخالفاً في الدين، أو ما أشبه ذلك؛ فإن وجود من ليس بأهل كالعدم لا فائدة من وجوده.
قوله: «أو غاب غَيْبَة منقطعة لا تقطع إلا بكلْفة ومشقة زوَّج الأبعدُ» ، أي: غاب عن بلد المرأة المخطوبة أبوها مثلاً، أو أخوها، أو وليها، غَيْبَة منقطعة، وفسرها بقوله:«لا تقطع إلا بكلْفة ومشقة» فإنه يزوِّج الأبعدُ.
والمؤلف رحمه الله قيد الغَيْبة بالتي لا تقطع إلا بكلفةٍ ومشقة، وهذا يختلف باختلاف الأزمان، ففيما سبق كانت المسافات بين المدن لا تقطع إلا بكلفة ومشقة، والآن بأسهل السبل، فربما لا يحتاج إلى سفر، فيمكن يخاطب بالهاتف، أو
يكتب الأب بالفاكس وكالة ويرسلها بدقائق، فالمسألة تغيرت.
وقيده بعض أهل العلم بما إذا غاب غيبة يفوت بها الخاطب، يعني ـ مثلاً ـ قال الخاطب: أنا لا أنتظر إلى يومين أو ثلاثة أو عشرة أيام، أو شهر، أعطوني خبراً في خلال يوم، وإلا فلا.
فبعض العلماء يقول: إذا كانت الغيبة يفوت بها الخاطب الكفء فإنه تسقط ولايته، وفي الحقيقة أن هذه المسألة تحتاج إلى نظر؛ لأن الأولياء ليسوا على حد سواء، فتزويج ابن العم مع وجود ابن عم أعلى منه، لا شك أنه أهون من تزويج ابن عم مع وجود الأب.
يعني ـ مثلاً ـ عندنا ابن عم يلتقي مع هذه المرأة في الدرجة الثالثة، وهو هنا في بلد المخطوبة، وابن عم يلتقي بها في الدرجة الثانية في بلد آخر يفوت به الخاطب، فلو زوج ابن العم الأبعد في هذه الحال لم يكن هناك ملامة عليه؛ لأن الكل منهم ابن عم، لكن هذا أقرب منزلة، لكن لو كان ابن عمها هنا موجود وأبوها في بلد آخر، لكان تزويج ابن العم يُعَدُّ عند الناس اعتداء وجناية على حق الأب، فالمسألة هنا تختلف باختلاف الأولياء، والذي ينبغي أن يقال: إن كانت مراجعته ممكنة فإنه لا يزوِّج الأبعد؛ والسبب في هذا أننا لو قلنا بتزويج الأبعد في هذه الحال مع إمكان المراجعة؛ لأدى ذلك إلى الفوضى، وصار كل إنسان يريد امرأة يذهب إلى ابن عمها إذا غاب أبوها ـ مثلاً ـ في سفر حج، أو نحوه، ثم يقول: زوجني، فيحصل بذلك فوضى ما لها حد، فالصواب أنه يجب مراعاة الولي الأقرب لا سيما في الأبوة فلا يُزوج إلا إذا تعذر.
فمثلاً لو فرضنا أن الأب سافر إلى بلاد أوربية، ولا نعلم عنه خبراً فهنا نقول: ما نفوِّت مصلحة البنت من أجل أن نطلب هذا الرجل؛ لأننا يمكن أن نبقى شهرين أو ثلاثة أو سنة ما نعلم عنه، والمذهب ـ أيضاً ـ خلاف كلام المؤلف، فالمذهب إذا غاب مسافة قصر زوج الأبعد، وعلى هذا فلو كان ـ مثلاً ـ الولي في «الزلفى» وهي في «عنيزة»
(1)
، لا نراجع أباها، ويزوجها الأبعد؛ لأنهم يعتبرون أن من بينه وبين موليته مسافة قصر تسقط ولايته، ولكن كل هذا فيه نظر، فالصواب أنه متى أمكن مراجعة الولي الأقرب فهو واجب، وإذا لم يمكن، وكان يفوت به الكفء فليزوجها الأبعد.
قوله: «وإن زوج الأبعد أو أجنبي من غير عذر لم يصح» ، الأبعد هنا بمعنى البعيد، ليس المعنى أنه إذا لم يوجد الأخ يزوج ـ مثلاً ـ المولى مع وجود العم، أو يزوج ابن العم مع وجود العم، فقوله:«الأبعد» هنا بمعنى البعيد، أو على تقدير «منه» يعني زوج الأبعد من هذا القريب.
وَإِنْ زَوَّجَ الأَبْعَدُ، أَوْ أَجْنَبِيٌّ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ لَمْ يَصِحَّ.
وقوله: «وإن زوج الأبعدُ أو أجنبيٌ من غير عذرٍ لم يصح» يعني والأقرب موجود وأهل للولاية، فإن النكاح لا يصح؛ لأن قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إلا بولي
(2)
» وصف مشتق من الولاية، فيقتضي أن يكون الأحق الأولى فالأولى، وسبق لنا أن كل حكم علق على وصف فإنه يقوى الحكم بقوة هذا الوصف فيه، فما دام أنه علق الحكم بالولاية فمن كان أولى فهو أحق، ولا حق لمن وراءه
(1)
تقدر المسافة بين المدينتين بحوالي 100 كلم.
(2)
سبق تخريجه ص (69).
مع وجوده وهو أهل، فهذه امرأة لها عم ولها ابن عم فزوجها ابن عمها مع وجود عمها في البلد فلا يصح النكاح، أو زوجها القاضي لا يصح، ولو زوجها جارها لا يصح من باب أولى، وإذا كان وليها القريب ـ والعياذ بالله ـ لا يصلي، فزوجها البعيد فإنه يصح؛ لأن القريب ليس أهلاً للولاية، فالذي لا يصلي لا ولاية له؛ لأنه كافر، والعياذ بالله.
وإذا كان حالق لحية فزوج الأبعد، فعلى المذهب لا يصح التزويج؛ لأن هذا فاسق فسقاً ظاهراً، وإذا كان الولي الأقرب يشرب الدخان، لكن يشربه خفية، فزوج الأبعد، فلا يصح حتى على المذهب؛ وذلك لأنهم يشترطون العدالة ظاهراً، فالذي لا يجاهر بالفسق ولايته ثابتة؛ لأنه عدل ظاهراً.
مسألة: هل يصح أن يكون الولي زوجاً؟
نعم يصح، فلو كان ابن عم يريد أن يتزوج بنت عمه، وليس لها أحد أقرب منه جاز، لكن ماذا يقول عند العقد؟ هل يقول: زوجت نفسي بنت عمي، ويُحْضر الشهودَ، ويقول: أشهدكم أني زوجت نفسي بنت عمي؟ أو يكفي دون ذلك؟ الجواب: لو أحضر شهوداً، وقال: أشهدكم أني زوجت نفسي بنت عمي صح، ويجوز أن يقول: أشهدكم أني تزوجتها إذا كانت حاضرة، وشهدوا على رضاها.
ونظير هذا السيد يقول لأمته: أعتقتك وجعلت عتقك صداقك، فهذا ليس فيه إيجاب ولا قبول، لكنه يكفي عن الإيجاب والقبول.
وهل يصح أن يتولى طرفي العقد بالوكالة أو بالولاية؟
نعم يصح، مثلاً يقول شخص لآخر: وكلتك أن تتزوج لي بنت فلان، ويقول أبو المرأة لهذا الذي وكله الزوج: وكلتك تعقد النكاح لبنتي على فلان، فيكون قد تولى طرفي العقد بالوكالة، أما بالولاية فيمكن هذا فيما سبق، فلو زوج الأب ابنه الصغير، وله بنت أخ هو وليها، فهنا يتولى طرفي العقد بالولاية، فيجوز أن يزوجها ابنه إذا رضيت؛ لأنه لا بد من رضاها، ويكون ـ أيضاً ـ بالأصالة، مثلاً لو تزوج هو ابنة عمه وهو وليها، فقد زوج نفسه موليته وهي بنت عمه.
فَصْلٌ
الرَّابِعُ: الشَّهَادَةُ،
............
قوله: «الرابع الشهادة» ، يعني الرابع من شروط صحة النكاح الشهادة، أي: أن يشهد على عقد النكاح شاهدان، ودليل ذلك قوله تعالى:{فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2].
فأمر الله ـ تعالى ـ بالإشهاد على الرجعة، والرجعة إعادة نكاح سابق، فإذا كان مأموراً بالإشهاد على الرجعة، فالإشهاد على العقد ابتداءً من باب أولى؛ لأن المراجَعة زوجته، وهذه أجنبية منه، ولحديث:«لا نكاح إلا بولي مرشد وشاهدي عدل»
(1)
، لكن هذا الحديث ضعيف لا تقوم به الحجة، ولأن الإشهاد فيه إعلان للنكاح، ولخطورة هذا العقد؛ لأن من أخطر العقود عقد النكاح؛ يترتب عليه محرمية، وإرث، ونسب، ولذلك له شروط لا توجد في غيره.
وقال بعض العلماء: إن الإشهاد ليس بشرط؛ لأن عقد النكاح كغيره من العقود، فهو عقد يستبيح به الإنسان الاستمتاع بهذه الزوجة، كعقد البيع، أو عقد الشراء على المملوكة الذي يستبيح به التسري، قالوا: وأما الإشهاد على الرجعة، فإنما أمر به لئلا يحصل نزاع بين الزوج والزوجة، فيدعي ـ مثلاً ـ أنه راجعها، وتنكر أن يكون راجعها، وبالتالي ربما نقضي بعدم الرجوع ونبيحها لزوج آخر، وهو قد راجع فيكون في هذا مفسدة، أما النكاح ابتداءً فليس فيه نزاع.
(1)
أخرجه الشافعي في الأم (7/ 222)؛ وعنه البيهقي (7/ 112) موقوفاً على ابن عباس رضي الله عنهما، وانظر: التلخيص (1512) وخلاصة البدر المنير (1948) والإرواء (1844).
وقال بعض العلماء: إنه يشترط إما الإشهاد، وإما الإعلان ـ أي: الإظهار، والتبيين ـ وأنه إذا وجد الإعلان كفى؛ لأنه أبلغ في اشتهار النكاح، وأبلغ في الأمن من اشتباهه بالزنا؛ لأن عدم الإشهاد فيه محظور، وهو أنه قد يزني بامرأة، ثم يدعي أنه قد تزوجها، وليس الأمر كذلك، فاشتراط الإشهاد لهذا السبب، لكن إذا وجد الإعلان انتفى هذا المحظور من باب أولى، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، بل قال: إن وجود الإشهاد بدون إعلان في النكاح في صحته نظر؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام أمر بإعلان النكاح، وقال:«أعلنوا النكاح»
(1)
، ولأن نكاح السر يخشى منه المفسدة حتى ولو بالشهود؛ لأن الواحد يستطيع أن يزني ـ والعياذ بالله ـ بامرأة، ثم يقول: تزوجتها، ويأتي بشاهدي زور على ذلك.
ومما يدل على أن الشهادة ليست شرطاً أن هذا مما تدعو الحاجة إلى بيانه وإعلانه، والصحابة رضي الله عنهم لا يمكن أن يتركوا هذا الأمر لو كان شرطاً، ولبيَّنوه، ولكان أمراً مشهوراً مستفيضاً، ولو كان هذا من الأمور المشترطة لجاء في الكتاب أو السنة على وجه بيِّن واضح، فالدليل عدم الدليل، فمن قال: إنه يشترط فليأت بالدليل.
(1)
أخرجه الترمذي في النكاح/ باب ما جاء في إعلان النكاح (1089)؛ وابن ماجه في النكاح/ باب إعلان النكاح (1895) عن عائشة رضي الله عنها، واللفظ لابن ماجه:«أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالغربال» ، وضعفه الترمذي، والبوصيري في زوائد ابن ماجه، والحافظ في التلخيص (2122).
تنبيه: قوله «أعلنوا النكاح» ، هذه الجملة حسَّنها في الإرواء (993).
وقد بلغنا أن أحد الإخوان الذين لهم عناية كبيرة في الحديث الشريف ـ أثابهم الله ـ، قد ذكر أن حديث «لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل»
(1)
صحيح مرفوعاً، ثم أتى بأدلة ضعيفة، لا يجبر بعضها بعضاً، وعلى قاعدة المحدثين، لو أن الأدلة ضعيفة ضعفاً يسيراً ينجبر بعضها ببعض لكان الحديث حسناً لغيره، لكن في بعض الطرق من هو متروك وما أشبه ذلك، فمثل هذا لا نستشهد به.
وقد نبهنا على هذا لأجل أن نعرف أن الإنسان مهما أدرك من العلم فإنه ليس معصوماً في كل شيء، وإنما هو بشر يخطئ ويصيب وينسى، ولا أحد معصوم إلا مَنْ عصم الله عز وجل.
إذاً بعد النظر في هذا، يتبين لنا أن الإشهاد ليس بشرط، لكن ينبغي الإشهاد ويتأكد، لا سيما في بلادٍ كبلادنا يحكمون بأن الإشهاد شرط؛ لأن هذه المسألة لو يحصل خلاف، وترفع إلى المحاكم حكموا بفساد النكاح، وحينئذٍ نقع في مشاكل، فكل مسألة من مسائل النكاح يحتاط فيها الإنسان، لا سيما إذا كان فيها موافقة للحكام في بلده.
فالأحوال أربعة:
الأول: أن يكون إشهاد وإعلان، وهذا لا شك في صحته ولا أحد يقول بعدم الصحة.
الثانية: أن يكون إشهاد بلا إعلان، ففي صحته نظر؛ لأنه مخالف للأمر:«أعلنوا النكاح» .
(1)
سبق تخريجه ص (94).
الثالثة: أن يكون إعلان بلا إشهاد، وهذا على القول الراجح جائز وصحيح.
الرابعة: ألا يكون إشهاد ولا إعلان، فهذا لا يصح النكاح؛ لأنه فات الإعلان وفات الإشهاد.
فَلَا يَصِحُّ إِلاَّ بِشَاهِدَيْنِ، عَدْلَيْنِ، ذَكَرَيْنِ، مُكَلَّفَيْنِ، سَمِيعَيْنِ، نَاطِقَيْنِ،
.....
قوله: «فلا يصح إلا بشاهدين» يعني رجلين، فامرأتان ورجل لا تقبل شهادتهما، ورجل وامرأة من باب أولى، وامرأتان كذلك، وأربع نساء كذلك، فلا بد من شاهدين رجلين، ودليله إن صح قوله صلى الله عليه وسلم:«لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل»
(1)
، وهذا التعبير يعبر به عن الرجال.
قوله: «عدلين» أي: مستقيمين ديناً ومروءة، قال في الروض
(2)
: «ولو ظاهراً؛ لأن الغرض إعلان النكاح» ، هنا اكتفوا بالعدالة الظاهرة، وهذا أضِفه إلى ما سبق من اشتراط العدالة الظاهرة في الولي، فصار الولي في النكاح، والشهادة على النكاح، يكتفى فيهما بالعدالة الظاهرة، وكذلك ذكروا في باب الأذان أنه يكتفى فيه بالعدالة الظاهرة.
قوله: «ذكرين» هذا من باب التأكيد، وإلا فقوله:«بشاهدين عدلين» معروف أنهما من الرجال.
قوله: «مكلفين» كلما قلنا: مكلفين، فالمعنى بالغان عاقلان.
قوله: «سميعين» يعني يسمعان بآذانهما، فإن كانا أصمين لم
(1)
سبق تخريجه ص (94).
(2)
الروض المربع مع حاشية ابن قاسم (6/ 277).
تقبل شهادتهما؛ لأنهما لا يسمعان الإيجاب والقبول، فالولي لو قال: زوجتك بنتي وذاك قال: قبلت، وهما لا يسمعان، فوجودهما كالعدم.
وظاهر كلام المؤلف ولو كانا بصيرين يقرآن، وكتب العقد كتابة، كما لو أخذ الولي ورقة فكتب: زوجتك بنتي، ثم أعطاها الزوج فكتب تحتها: قبلت النكاح، وقرأها الشاهدان، فظاهر كلام المؤلف أن ذلك لا يصح، والصحيح أنه يصح؛ لأن الشهادة تحصل بذلك، فوصول العلم إلى هذين الأصمَّين صار عن طريق البصر، والمقصود وصول العلم، سواء عن طريق السمع أو عن طريق البصر، كما قال تعالى:{إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86]، فإذا وصل العلم إلى الشاهد كفى.
وقوله: «سميعين» ولو كانا ثقيلي السمع، بحيث أنهما لا يسمعان إلا برفع صوت، المهم أن يكون لهما سمع ولو كان قليلاً.
قوله: «ناطقين» فلا بد ـ أيضاً ـ أن يكونا ناطقين، والمراد ناطقان بالفعل، أما قولهم:«الإنسان حيوان ناطق» ، فالمراد ناطق بالفعل أو بالقوة.
وقوله: «ناطقين» احترازاً من الأخرسين، فلا تقبل شهادتهما؛ لأن غير الناطق لا يمكن أن يؤدي الشهادة.
وظاهر كلام المؤلف ولو كانا سميعين بصيرين؛ لأنهما لا يستطيعان أداء الشهادة.
وظاهر كلامه ولو كانا يحسنان الكتابة عند أداء الشهادة،
وهذا فيه نظر، والصواب أنهما إذا كانا يمكن أن يعبرا عما شهدا به بكتابة أو بإشارة معلومة، فإن شهادتهما تصح؛ لأن المقصود من اشتراط السمع التحمل، ومن اشتراط النطق الأداء، فإذا كان هذا المقصود فمتى توصلنا إلى أداء صحيح، ولو عن طريق الكتابة فإن ذلك كافٍ، وكم من إنسان أخرس عنده من العلم بأحوال الناس ما ليس عند الناطق، لكن يؤدي بطريق الكتابة أو الإشارة، إذاً اشتراط السمع والنطق صار فيه تفصيل على القول الراجح.
ويشترط ـ أيضاً ـ خلوهما من الموانع، بأن لا يكونا من أصول أو فروع الزوج، أو الزوجة، أو الولي، فعلى هذا إذا زوج الأب ابنته وكان الشاهدان أخوي البنت فالنكاح لا يصح؛ لأنهما فروع للولي، وكذلك لو زوج الإنسان ابنته وشهد أبوه وابنه على العقد لم تصح الشهادة فلا يصح النكاح، وكذلك ـ أيضاً ـ لو كان أبو الزوج حاضراً وكان أحدَ الشاهدين، فإن الشهادة لا تصح، ولا يصح العقد، ولو زوج أحد الإخوة وشهد أخواه صح العقد؛ لأنهما ليسا فرعاً للولي، وعليه لو سألنا سائل هل تصح شهادة الأخ على نكاح أخته؟
نقول فيه التفصيل: فإن زوَّج الأب لم يصح؛ لأن الشاهد من فروع الولي، وإن زوج أخوه صح؛ لأن الشاهد ليس أصلاً للولي ولا فرعاً له، ولا للمرأة ولا للزوج، هذا المذهب.
القول الثاني في المسألة: أنه يصح أن يكون الشاهدان أو أحدهما من الأصول أو من الفروع، وهذا القول هو الصحيح بلا
شك؛ لأن شهادة الأصول والفروع ممنوعة حيث كانت شهادة للإنسان؛ خشية التهمة، أما حيث تكون شهادة عليه وله، كما هو الحال في عقد النكاح فلا تمنع، ثم إننا نقول أيضاً: المذهب يجوِّزون أن يكون الشاهدان، أو أحدهما عدوّاً للزوج أو الزوجة، وشهادة العدو على عدوه غير مقبولة؛ لأنه متهم فيها، فنقول: هذا النكاح هل هو للإنسان، أو على الإنسان؟
الجواب: له وعليه، فإذا قبلتم شهادة العدو مع أنها لم تتمحض له ولا عليه، فاقبلوا شهادة القريب؛ لأنها لم تتمحض له ولا عليه، فالنكاح في الحقيقة ليس حقاً للزوج أو الزوجة، ولا حقاً عليه، بل هو له وعليه؛ لأنه يوجب حقوقاً للعاقد وحقوقاً عليه، فالصواب إذاً أنه يصح العقد، وهو رواية عن الإمام أحمد رحمه الله واختارها كثير من الأصحاب، وهذه المسألة قلَّ من يتفطن لها من العوام، فقد يعقدون وأبو الزوج موجود ويعتبرونه أحد الشهود، وهذا على المذهب لا يصح، ولكن الصحيح أنه جائز.
وَلَيْسَتِ الكَفَاءَةُ ـ وَهِيَ دِينٌ وَمَنْصِبٌ، وَهُوَ النَّسَبُ وَالحُرِّيَّةُ ـ شَرْطاً فِي صِحَّتِهِ،
..........
قوله: «وليست الكفاءة ـ وهي دين ومنصب، وهو النسب والحرية ـ شرطاً في صحته» نص على ذلك؛ لأن من العلماء من قال: إن الكفاءة شرط في الصحة، ومنهم من قال: إنها شرط في اللزوم، ومنهم من قال: إنها ليست شرطاً في هذا ولا هذا.
وقوله: «الكفاءة» من الكُفء، وهو المِثْل في اللغة العربية، والمراد بها هنا أن يكون الزوج أهلاً لأن يُزوَّج.
وقوله: «وهي دين» ، المراد بالدين هنا أداء الفرائض واجتناب النواهي، فليس شرطاً أن يكون الزوج مؤدياً لجميع الفرائض، مجتنباً لجميع النواهي، فيصح تزويج الفاسق.
والصحيح أن الدين شرط لصحة عقد النكاح إذا كان الخلل من حيث العفاف، فإذا كان الزوج معروفاً بالزنا، ولم يتب فإنه لا يصح أن يُزوَّج، وإذا كانت الزوجة معروفة بالزنا، ولم تتب فإنه لا يصح أن تزوج، لا من الزاني ولا غيره، وسيأتي.
أما إذا كان الزوج يشرب الدخان، والزوجة تستعمل النمص، فهذا يخل بالدين، وينقص الإيمان بلا شك، فهل يزوج شارب الدخان، وهل تزوج المتنمصة؟ الظاهر نعم؛ لأننا لا نعلم أن أحداً من العلماء اشترط لصحة النكاح أن يكون الزوج والزوجة عدلين، ولو شرط ذلك فات النكاح على كثير من الناس، نعم إن كان هناك خيار بين رجل فاسق ورجل مستقيم، فلا شك أن التزويج يكون للمستقيم.
وقوله: «ومنصب وهو النسب» يعني أن يكون الإنسان نسيباً، أي: له أصلُ في قبائل العرب، احترازاً من الذي ليس له أصل.
فالنسب ليس شرطاً في صحة النكاح، وعلى هذا فيجوز أن نزوج امرأة قبيلية من إنسان غير قبيلي.
وقوله: «والحرية» كذلك الحرية ليست شرطاً في صحته، فيجوز أن نزوج الحرة
عبداً مملوكاً، والممنوع العكس، فلا نزوج الحر أمة إلا بشروط ستأتي ـ إن شاء الله ـ، أما أن نزوج الحرة عبداً فهذا جائز، وليس شرطاً لصحة النكاح أن يكون الزوج حراً.
ويوجد وصفان آخران ذكرهما بالروض
(1)
:
الأول: قوله «صناعة غير زَرِيَّة» ، أي: غير مزرية ضرورية بالشخص، فمن الكفاءة أن لا تكون صناعته مزرية يعني ممقوتة عند الناس، مثل الكساح منظف الكُنُف، أو زبَّال وهو الذي يكنس الزبالة ويحملها، فهذا ليس كفئاً لامرأة مصونة محترمة أهلها أغنياء، لكن لو زوَّجناها كساحاً ينظف الكنف صح العقد.
الثاني: قوله: «ويسار بحسب ما يجب لها» ، «يسار» يعني غنى، فليس شرطاً أن يكون الزوج غنياً، فيزوج ولو كان فقيراً وهي غنية.
فالمهم أن المنصب وهو النسب والحرية ليس شرطاً في صحة النكاح، لكن شرط في لزومه.
فَلَوْ زَوَّجَ الأَبُ عَفِيفَةً بِفَاجِرٍ، أَوْ عَرَبِيَّةً بِعَجَمِيٍّ، فَلِمَنْ لَمْ يَرْضَ مِنَ المَرْأَةِ، أَوِ الأَوْلِيَاءِ الفَسْخُ.
ولهذا قال: «فلو زوج الأب عفيفة بفاجر» الفاجر هنا الزاني؛ لأنه مقابل بعفيفة، فلو زوج الأب عفيفة بفاجر، فالنكاح على رأي المؤلف صحيح؛ لأن الكفاءة ليست شرطاً للصحة، والصواب في هذه المسألة بالذات أن النكاح فاسد؛ لأن الله يقول:{الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ *} [النور]، ومعنى الآية ـ وهي محل إشكال عند العلماء ـ أن الزاني إذا تزوج عفيفة، فإما أن تكون هذه الزوجة عالمة بالحكم، وأن زواج الزاني بها حرام،
(1)
الروض المربع مع حاشية ابن قاسم (6/ 279).
فتكون زانية؛ لأنها أباحت فرجها لمن لا يباح له، وإما أن تكون عالمة بالحكم ولكنها خالفت وعاندت ولم ترضَ بالحكم أصلاً، فهذه تكون مشركة؛ لأنها شرعت لنفسها ما لم يشرعه الله، هذا أحسن ما قيل في معنى الآية.
ومعنى ذلك أن العفيفة لا يجوز أن تتزوج بالزاني، والغريب أن أصحابنا رحمهم الله يقولون: إن الزانية لا يصح نكاحها حتى تتوب، والزاني يصح نكاحه قبل أن يتوب، مع أن الآية واحدة والحكم واحد، فالصواب أنه إذا زوج عفيفة بفاجر فالنكاح غير صحيح إلا إذا تاب، والحكمة والله أعلم، أما بالنسبة للزانية فلئلا تختلط الأنساب؛ لأن الزانية إذا لم تتب لم يؤمن أن تزني بعد الزواج، وأما بالنسبة للزوج، فإذا كان معروفاً بالزنا ولم يتب فإنه يهون عليه أن تزني امرأته؛ لأن الذي يمارس المنكر يهون عليه المنكر، وحينئذٍ يكون ديوثاً؛ وهو الذي يقر الفاحشة في أهله.
ومن عُرف باللواط ـ والعياذ بالله ـ لا يزوج حتى يعلم أنه تاب؛ لأنه إذا كان الزنا ـ وهو فاحشة ـ يمنع من ذلك، فاللواط وهو الفاحشة من باب أولى، فاللواط وصف بأنه الفاحشة، والزنا وصف بأنه فاحشة، والفرق أن «أل» التي دخلت على «فاحشة» تجعله أعظم، يعني أن اللواط الفاحشة العظمى، والزنا فاحشة من الفواحش، والسحاق وهو جماع الأنثى للأنثى بصفة معروفة، فالظاهر أنه كذلك.
قوله: «أو عربية بعجمي» ، المراد بالعجمي هنا من ليس بعربي، ولو كان ينطق بالعربية، فالمعتبر هنا بالعروبة والعجمة
النسب لا اللسان، فقد يكون عربياً وهو لا يعرف إلا اللغة الأعجمية، فلو زوج عربية ـ أي: عربية الأصل والنسب، بقطع النظر عن اللسان ـ بعجمي لصح النكاح؛ لأنه ليس شرطاً في صحته، ويشمل هذا عجم الفرس كإيران وما ضاهاها، وعجم الغربيين كالإنجليز والفرنسيين، والأمريكان والروس، فكل من سوى العرب فهو أعجمي.
قوله: «فلمن لم يَرضَ من المرأة أو الأولياء الفسخ» ، المرأة معلوم يشترط رضاها كما سبق، فإذا لم ترضَ لا تُزوج، لكن الأولياء ولو بعدوا لهم الفسخ، يعني لو أن شخصاً قبيلياً زوج ابنته برضاها برجل غير قبيلي، والرجل صاحب دين وتقوى وخلق ومال ومن أحسن الناس، فجاء ابن عم بعيد، وقال: أنا ما أرضى، فله الفسخ على المذهب، حتى من ولد بعد، فهذه امرأة قبيلية تزوجها غير قبيلي وبقيت معه خمسين سنة، وأنجبت منه أولاداً، فوُلد لأحد أبناء عمها البعدين ولد، فلما كبر قال: أنا ما أقبل، افسخوا النكاح، فيفسخ النكاح ولو لها أولاد وبيت، فيفسد البيت وكل شيء من أجل ابن العم الذي قد يكون حاسداً، ولا يهمه شرف النسب!!
وظاهر كلام المؤلف أنه حتى أولادها يفسخون؛ لأنهم أولياء، والصحيح أنه ليس لأحد الحق في فسخ النكاح ما دام النكاح صحيحاً، ونقول لهؤلاء الذين يقولون بالصحة، ثم يقولون: يجوز الفسخ، نقول: إذا صح العقد بمقتضى الدليل الشرعي، فكيف يمكن الإنسان أن يفسخه إلا بدليل شرعي؟! ولا
دليل، وعلى هذا فنقول: إذا زوج الأب الذي هو من القبائل الشريفة المعروفة بمن ليس بقبيلي، فالنكاح صحيح وليس لأحد من أوليائها أن يفسخ النكاح، وهذا كله من الجاهلية، فالفخر بالأحساب من أمر الجاهلية.
مسألة: إذا كان الزوج فاسقاً، لكن بغير اللواط أو الزنا؛ كشرب الخمر وحلق اللحية وما أشبه ذلك، فهل لبقية الأولياء أن يفسخوا؟
المذهب لهم أن يفسخوا، وهذه المسألة لو فتح فيها الباب حصل في ذلك شر كثير، يأتي إنسان يزوج هذا الرجل الذي يحلق لحيته، ويأتي ابن عم بعيد ويطالب بفسخ النكاح، فعلى المذهب له فسخ النكاح، كذلك ـ أيضاً ـ لو كان يشرب الدخان أو يتعامل بالربا أو ما أشبه ذلك فله الفسخ، وفي كلام الفقهاء نظر في هذه المسألة، فهذا لا يقبل ذوقاً ولا شرعاً، فالصواب بلا شك أن الكفاءة ليست شرطاً للصحة ولا للزوم، وعلى كلام المؤلف الكفاءة شرط للزوم لا للصحة، بمعنى أن من لم يرضَ من الأولياء فله فسخ النكاح، والصواب خلاف ذلك.
لكن يكون كلامهم له حظ من النظر، لو كان الخلل بشرب خمر، فإن شرب الخمر في الحقيقة لا يقتصر ضرره على الشارب، بل يتعدي إلى زوجته وأهله، فأحياناً يدخل على زوجته بالسكين ليقتلها، وأحياناً ـ والعياذ بالله ـ يأتي إليها يطلب أن يزني ببناته، ففي الحقيقة لو قيل بالمذهب في هذه المسألة لكان له وجه، فإذا عُرِف أن هذا الزوج يشرب الخمر فللبعيد من الأولياء
أن يطالب بفسخ النكاح، وهذه مسألة تغيب عن كثير من القضاة، ولهذا يسألون عنها كثيراً فيما إذا كان الزوج يشرب الخمر، فهل يفسخ العقد أو لا يفسخ؟ فمنهم من يتوقف في الأمر، ومنهم من يقول: لا فسخ؛ لأن العدالة ليست شرطاً في بقاء النكاح ولا ابتدائه.
ولكن الحقيقة أننا إذا رجعنا إلى كلامهم هنا، وجدنا أن المذهب يجوِّز الفسخ لنقص الدين، كما أن ظاهر حديث زوجة ثابت بن قيس رضي الله عنهما أن خلل الدين يبيح للمرأة طلب الفسخ؛ لأنها قالت:«يا رسول الله، ثابت، لا أعيب عليه في خلق ولا دين، ولكن أكره الكفر في الإسلام»
(1)
، فظاهر قولها أنها لو عابته بخلق ودين لكان لها الحق في طلب الفسخ، وهذا هو الصحيح عندنا، وهو الموافق للمذهب في هذا الباب.
الخلاصة أن الشروط أربعة: تعيين الزوجين، ورضاهما، والولي، والشهادة على المذهب، أو الإعلان على رأي شيخ الإسلام، وأما الكفاءة فالصحيح أنها ليست بشرط، لكن في مسألة الزنا قد نجعله من الموانع.
(1)
أخرجه البخاري في الطلاق/ باب الخلع وكيف الطلاق فيه (5273) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
بَابُ المُحَرَّمَاتِ فِي النِّكَاحِ
قوله: «المحرمات في النكاح» المحرمات يعني الممنوعات؛ لأن التحريم بمعنى المنع، ومنه حريم البئر، أي: ما دنى منها، فإنه يَمْنع من إحياء ما حول البئر.
وهل المحللات محدودات أو معدودات؟ الجواب: أنهن محدودات، والمحرمات معدودات، فإذا شككنا فالأصل الحل؛ لأن المحدود بالإطلاق إذا لم نتيقن أنه خرج منه شيء فالأصل عمومه.
والمحرمات في النكاح أنواع، دمجهن المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ، ولكن سنبين ـ إن شاء الله ـ كل نوع على حدة، فنقول: المحرمات قسمان: محرمات إلى أبد، ومحرمات إلى أمد، والمرجع في التحريم والتحليل إلى الكتاب والسنة، فما دل الكتاب والسنة على تحريمه فهو حرام، وما لا فلا.
تَحْرُمُ أَبَداً، الأُمُّ، وَكُلُّ جَدَّةٍ وَإِنْ عَلَتْ، وَالْبِنْتُ، وَبِنْتُ الابْنِ، وَبِنْتَاهُمَا مِنْ حَلَالٍ وَحَرَامٍ وَإِنْ سَفُلَتْ،
........
قوله: «تحرم أبداً» يعني على التأبيد، وهذا هو القسم الأول، وهن خمسة أنواع: بالنسب، وبالرضاع، وبالمصاهرة، وباللعان، وبالاحترام.
نبدأ بالأسهل وهو المحرم بالاحترام، أي: زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم، قال تعالى:{وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا} [الأحزاب: 53]، فهن محرمات
إلى يوم القيامة، وهذا بالنسبة إلينا انتهى وقته، لكنه محرم إلى الأبد.
الثاني: المحرمات بالنسب، وقد ذكره المؤلف بقوله:
«الأم» يعني التي ولدت الإنسان، قال الله تعالى:{إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللَاَّّئِي وَلَدْنَهُمْ} [المجادلة: 2].
قوله: «وكل جدة» أي كل جدة من قِبَل الأب، أو من قِبَل الأم.
قوله: «وإن علت» ، أي: إلى حواء.
إذاً كل أنثى من الأصول بدءاً بالأم إلى ما لا نهاية له فهي حرام على الإنسان، وهنا لا تسأل هل ترث أو لا ترث؟ فالجدة وإن لم ترث كأم أبي الأم ـ مثلاً ـ فإنها حرام؛ لأن باب تحريم النكاح أوسع من باب الإرث.
قوله: «والبنت وبنت الابن وبنتاهما» ، فالبنت التي خرجت من صلب الإنسان، وبنت الابن التي خرجت من صلب ابنه وإن نزل، وكذلك بنتاهما، أي: بنت البنت، وبنت بنت الابن.
قوله: «من حلال وحرام» من حلال كالتي خلقت من ماء رجل يحل له وطء من وَلَدتها، مثل الزوج، والسيد، فالبنت التي خلقت من مائه حرام عليه، وهي من وطء حلال، والسيد إذا تسرَّى أمته وأتت منه ببنت فهي ـ أيضاً ـ حرام، وهي من وطء حلال.
وبنت الزاني خلقت من ماء حرام، فتحرم عليه؛ لأنها بضعة منه قدراً، وإن كانت ليس بنته شرعاً، فلا تنسب إليه عند جمهور أهل العلم، سواء استلحقها الزاني أم لا.
قوله: «وإن سفلت» كالبنت، وبنت البنت، وبنت بنت البنت .... إلخ، هؤلاء الفروع.
وَكُلُّ أُخْتٍ، وَبِنْتُهَا، وَبِنْتُ ابْنَتِهَا، وَبِنْتُ كُلِّ أَخٍ، وبِنْتُهَا، وَبِنْتُ ابْنِهِ، وَبِنْتُهَا وَإِنْ سَفُلَتْ، وَكُلُّ عَمَّةٍ، وَخَالَةٍ وَإِنْ عَلَتَا،
...........
قوله: «وكُلّ أختٍ وبِنْتُها وبِنْتُ ابنتها» ، فالأخوات حرام على الإنسان، فلا يجوز للإنسان أن يتزوج أخته، سواء كانت شقيقة، أو لأب، أو لأم، وكذلك بنتها، وبنت بنتها، وبنت ابنها، فالأخوات وفروعهن كلهن حرام على الأخ، أما الأخت فواضح؛ لأنها أخته، وأما فروعها فلأنه خالهن، فهو خال بنت الأخت، وخال بنت بنت الأخت؛ لأن خال كل إنسان خال له ولذريته، من ذكور أو إناث.
قوله: «وبِنْتُ كُلِّ أخٍ، وبِنْتُهَا، وبِنْتُ ابْنِهِ وبِنْتُها وإن سفلت» فبنت كل أخ حرام على أخيه؛ لأنه عمها، وإذا نزلت تكون حراماً؛ لأن عم الأم عم لبناتها، وعم الأب عم لبناته وإن نزلن، وهذه قاعدة تريحك، فلا تبحث ولا تسأل، فما دام هذا الإنسان خالاً للأصل فهو خال للفرع، وما دام عمًّا للأصل فهو عم للفرع.
قوله: «وكُلُّ عَمَّةٍ وَخَالَةٍ وَإِنْ عَلَتا» العمة هي أخت الأب، والخالة هي أخت الأم، فهما حرام وإن علتا، بأن تكون خالة
للأب، أو خالة للجد، أو خالة للأم، أو خالة للجدة، وكذلك يقال في العمة، أما بناتهن فحلال، ولهذا قال:«وكل عمة» ولم يقل: وبنتها.
إذاً المحرمات إلى الأبد: الأم وإن علت، والبنت وإن نزلت، والأخت وما تفرع عنها، وما تفرع عن الأخ، والعمة، والخالة، هذه سبع، لكن الآية تغنيك عن هذا الذي قاله المؤلف، مع ما فيه من شيء من التعقيد، قال الله تعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ} [النساء: 23]، فهولاء سبعة حرام بالنسب، أمهاتكم وإن علون، وبناتكم وإن نزلن، وأخواتكم، سواء كن شقيقات أو لأب أو لأم، وما تفرع عنهن، وعماتكم وإن علون، ولا نقول: وإن نزلن؛ لأن بنت العمة حلال، وكذلك بالنسبة لبنت الخالة، وبنات الأخ وإن نزلن، وبنات الأخت وإن نزلن، فهذه سبع محرمات بالنص والإجماع، ولم يخالف في هذا أحد من أهل العلم.
أما بنت الزاني فتدخل في عموم قوله تعالى: {وَبَنَاتُكُمْ} لكنها بنت قدراً وليست بنتاً شرعاً، ولذلك لا ترث ولكنها حرام؛ لأن باب النكاح أحوط من باب الميراث، فهي لا ترث؛ لأنها لا تنسب إليه، ولكنها حرام عليه.
وقال بعض أهل العلم: إنها ليست حراماً، لكنه قول ضعيف، وكيف لا تكون حراماً على الزاني وقد خُلِقت من مائه، وإذا كان الرضاع من لبن الزوج مؤثراً في التحريم، فهذا من باب أولى.
ويمكن أن نجمل المحرمات بالنسب فنقول:
أولاً: الأصول وإن علون.
ثانياً: الفروع وإن نزلن.
ثالثاً: فروع الأصل الأدنى وإن نزلن، فالأب فروعه الأخ والأخت، وكذلك الأم.
رابعاً: فروع الأصل الأعلى، ولا نقول: وإن نزلن، أي: بنات الجد، وبنات الجدة دون بناتهن.
فهذه أربعة ضوابط، وإذا اشتبهت عليك الضوابط، فارجع إلى الشيء الواضح وهو الآية الكريمة.
الثالث من المحرمات إلى الأبد ذكره المؤلف بقوله:
والْمُلَاعَنَةُ عَلَى الْمُلَاعِنِ،
.........
«والملاعَنة على الملاعِن» ، والملاعنة هي التي رماها زوجها بالزنا ولم تقر به، ولم يقم بينة على ما قذفها به، ففي هذه الحال إذا طالبت بإقامة حد القذف عليه فله إسقاطه باللعان، فيُحْضِرُهما القاضي، ويقول: اشهد على زوجتك أربع مرات، وفي الخامسة أن لعنة الله عليك إن كنت من الكاذبين، فيحلف أربع مرات، ويقول في الشهادة الخامسة: أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ثم يقول لها: احلفي في تكذيبه، فتحلف بالله أربع مرات إنه لمن الكاذبين، وفي الخامسة تقول: أنَّ غضب الله عليها إن كان من الصادقين، فإذا تم ذلك فرق بينهما تفريقاً مؤبداً، لا تحل له أبداً.
وقوله: «والملاعنة على الملاعن» ، أما أبناء الملاعن فنرجع إلى الأصل في تحريم المصاهرة، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
الرابع من المحرمات إلى الأبد قوله:
وَيَحْرُمُ بِالرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ بِالنَّسَبِ، إِلاَّ أُمَّ أُخْتِهِ، وأُخْتَ ابْنِهِ،
......
«ويحرم بالرضاع ما يحرم بالنسب» هذا لفظ الحديث
(1)
.
فقوله: «بالرضاع» أي: بسبب الرضاع «ما يحرم بالنسب» ، أي: بسبب النسب.
والرضاع معروف وهو سقي الطفل لبناً، والنسب القرابة، قال الله تعالى:{فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ *} [المؤمنون] إذاً عُدَّ المحرمات بالرضاع كما تعد المحرمات بالنسب، سواءً بسواء، فتقول: تحرم الأم من الرضاع، والبنت من الرضاع، والأخت من الرضاع، وبنت الأخت من الرضاع، وبنت الأخ من الرضاع، والعمة من الرضاع، والخالة من الرضاع.
وقد أعطي النبي صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم، وفواتح الكلم، وفواصل الكلم، فقال:«يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» فطبق هذا على هذا، ولكن لا بد لذلك من شروط في الرضاع:
أولاً: أن يكون الرضاع خمس رضعات فأكثر، هذا هو القول الراجح، لحديث عائشة رضي الله عنها الذي رواه
(1)
أخرجه البخاري في الشهادات/ باب الشهادة على الأنساب والرضاع المستفيض والموت (2645)؛ ومسلم في النكاح/ باب تحريم ابنة الأخ من الرضاعة (1447) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
مسلم
(1)
: «أنه كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات يحرمن، ثم نسخن بخمس معلومات» ، فإذا نقص عن خمس فلا أثر له، ولا تقل: ما الفرق بين الرابعة والسادسة مثلاً، أو الخامسة؟ لأن هذا حكم الله عز وجل، فيجب التسليم له، كما أننا لا نقول: لماذا كانت الظهر أربعاً، ولم تكن خمساً أو ستاً؟ فهذه مسائل توقيفية.
وقيل: إنه يثبت التحريم بالثلاث لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تحرم الإملاجة ولا الإملاجتان
(2)
»، وقوله صلى الله عليه وسلم:«ولا المصَّة ولا المصَّتان»
(3)
.
فنقول: إن دلالة حديث عائشة بالمنطوق أن الثلاث لا تحرم، ونحن نقول به؛ لأننا إذا قلنا: إن الأربع لا تحرم، فالثلاث من باب أولى، لكن مفهوم هذا الحديث أن الثلاث تحرم، إلا أن هناك منطوقاً، وهو أن المحرِّم خمس رضعات، والقاعدة عند أهل العلم (أن المنطوق مقدم على المفهوم).
ومن العلماء من قال: إن الرضعة الواحدة تحرِّم؛ لأن الله تعالى أطلق في قوله: {وَأُمَهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء: 23] فيقال: المطلق من القرآن إذا قُيِّد بالسنة صار مقيداً؛ لأن السنة شقيقة القرآن، فهي تبينه، وتفسره، وتقيد مطلقه، وتخصِّص عامَّه.
(1)
في النكاح/ باب التحريم بخمس رضعات (1452).
(2)
أخرجه مسلم في النكاح/ باب في المصة والمصتان (1451) عن أم الفضل رضي الله عنها.
(3)
أخرجه مسلم في النكاح/ الباب السابق (1450) عن عائشة رضي الله عنها.
فما هي الرضعة المحرمة، هل هي المصة، بحيث لو أن الصبي مص خمس مرات، ولو في نَفَس واحد ثبت التحريم؟ أو الرضعة أن يمسك الثدي ثم يطلقه ويتنفس ثم يعود؟ أو أن الرضعة بمنزلة الوجبة، يعني أن كل رضعة منفصلة عن الأخرى، ولا تكون في مكان واحد؟
في هذا أقوال للعلماء ثلاثة، والراجح الأخير، وهو اختيار شيخنا عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله؛ ووجه ذلك أننا لا نحكم بتحريم المرأة ـ مثلاً ـ إلا بدليل لا يحتمل التأويل، ولا يحتمل أوجهاً أخرى، وهذا الأخير لا يحتمل سواه؛ لأن هذا أعلى ما قيل، وعلى هذا فلو أنه رضع أربع رضعات، وتنفس في كل واحدة خمس مرات، فلا يثبت التحريم على القول الراجح، حتى تكون كل واحدة منفصلة عن الأخرى.
وقد بحث ابن القيم رحمه الله هذه المسألة في (زاد المعاد) بحثاً دقيقاً، ينبغي لطالب العلم أن يرجع إليه.
الشرط الثاني: أن يكون الرضاع في زمن يتغذى فيه الطفل باللبن، وهل يحمل على الغالب، أو يحمل على الواقع؟
في هذا للعلماء قولان أيضاً:
القول الأول: أن يحمل على الغالب وهو سنتان، فمتى وقع الإرضاع بعد السنتين فلا أثر له، سواء كان الطفل مفطوماً أم غير مفطوم، وما وقع قبلهما ثبت به التحريم سواء كان الطفل مفطوماً أم لا، وهذا المشهور من المذهب، واستدلوا بقوله تعالى:{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233]
وقالوا: إن هذا التحديد أضبط من أن نحدده بشيء آخر؛ لأن الحولين يمكن ضبطهما بالدقيقة، فإذا ولد الطفل في الساعة الثانية عشرة نهاراً، ودار الحولان وبلغ الساعة الثانية عشرة وقد أرضع أربع مرات، فيبقى عليه رضعة واحدة، فإذا أرضعته المرأة بعد الساعة الثانية عشرة بنصف ساعة مثلاً، فإن الرضاع لا يؤثر؛ لأنه لم يقع في الزمن المحدد، ولا شك أن هذا أضبط.
لكن يضعف هذا أن الإرضاع بعد الفطام لا أثر له في نمو الجسم وتغذيته، فلا فرق بين أن ترضعه وله سنة وثمانية أشهر إذا كان قد فُطِم، أو ترضعه وله أربع سنوات؛ لأنه لن ينتفع بهذا الإرضاع، ولن ينمو به، ويؤيد هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لا رضاع إلا ما فتق الأمعاء، وكان قبل الفطام»
(1)
، والنفي هنا لنفي التأثير لا لنفي الواقع؛ لأنه قد يُرضَع بعد هذا، أي: لا رضاع مؤثر إلا ما فتق الأمعاء وكان قبل الفطام.
فهذا من حيث المعنى أرجح، وذاك من حيث الضبط أرجح، فلننظر:
أولاً: فإذا فطم لحولين اتفق القولان.
ثانياً: إذا فطم لثمانية عشر شهراً، فإن قلنا: العبرة بالحولين، فالإرضاع بعد ذلك مؤثر، وإن قلنا: بالفطام، فالإرضاع بعد ذلك غير مؤثر.
(1)
أخرجه الترمذي في الرضاع/ باب ما جاء أن الرضاعة لا تحرم إلا في الصغر دون الحولين (1152) عن أم سلمة رضي الله عنها، وقال: حسن صحيح. انظر: الإرواء (1150).
ثالثاً: إن لم يفطم إلا لسنتين وخمسة أشهر فإن قلنا بالحولين، فالإرضاع غير مؤثر، وإن قلنا بالفطام فالإرضاع مؤثر بعد الحولين، والمسألة واضحة.
وهل رضاع الكبير مؤثر؟ بعض العلماء يقول: إن رضاع الكبير مؤثر، ولو تجاوز الحولين، أو الثلاثة أو العشرة، واستدلوا بعموم قوله تعالى:{وَأُمَهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء: 23]، وبناءً على هذا يجب أن نحذر بعض الأزواج الذين يرضعون من ثدي زوجاتهم ـ وهذا واقع ونُسأل عنه ـ لأن الناس الآن من شدة الترف أصبحوا يستمتعون بالنساء من كل وجه، فعلى هذا القول تكون أمه من الرضاع، وحينئذٍ ينفسخ، فينقلب الترف تلفاً، فهو يريد أن يترف نفسه بهذا، لكن بعده المفاصلة.
فلو قلنا بهذا القول ـ وهو قول ضعيف مطَّرح لا عبرة به، لكن حكايته لا بأس بها ـ لكانت المرأة الذكية التي لا تريد زوجها تحتال عليه، وتسقيه من لبنها، وكأنه من ثدي شاة، خمسة أيام، فإذا تم اليوم الخامس تقول له: سلام عليك!!
المهم أن هذا قول مطرح ولا عبرة به؛ لأن السنة يجب أن تكون مقيدة للقرآن؛ لأن الله ـ تعالى ـ قال: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ *} [آل عمران]، فلا يمكن أن يصل الإنسان إلى رحمة الله إلا إذا أطاع الله، وأطاع رسوله صلى الله عليه وسلم، والسنة هي قول الرسول صلى الله عليه وسلم أو فعله أو تقريره.
وهل يشترط أن يكون هذا اللبن قد ثاب ـ يعني اجتمع ـ عن حمل أو لا يشترط؟
في ذلك خلاف ينبني عليه لو أن البكر أرضعت طفلاً، فهل يكون ولدها من الرضاع وتحرم عليه أو لا؟
فالمشهور من المذهب أنه لا بد أن يكون قد ثاب عن حمل، وأن إرضاع البكر لا عبرة به؛ لأنه ليس عن حمل، والصواب أنه مؤثر وإن لم يثب عن حمل لعموم الآية:{وَأُمَهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ} ولأن المعنى واضح وهو تغذي هذا الطفل باللبن.
والدليل على أن الإرضاع مؤثر في تحريم النكاح قول الله تعالى: {وَأُمَهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23]، فذكرت الآية صنفين أو نوعين، وأكملت السنة الباقي فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب»
(1)
.
قوله: «إِلاَّ أمَّ أُخْتِهِ، وأُخْتَ ابْنِهِ» ، فأم أخته من الرضاع لا تحرم عليه، ومن النسب تحرم عليه؛ لأن أم أختك من النسب، إما أن تكون أمك، وإما أن تكون زوجة أبيك، فإن كانت زوجة أبيك فهي حرام عليك بالمصاهرة، وأما أم أختك من الرضاع فليست زوجة أبيك، بل هي زوجة رجل آخر، فإذا رضعت أختك من امرأة فيجوز لك أن تتزوج بها.
كذلك أخت ابنك من الرضاع، كأم أختك من الرضاع، فهذه تحرم عليك إذا كانت من النسب، لكن بالمصاهرة لا بالقرابة، وبهذا يتبين أن هذا الاستثناء لا وجه له ولا حاجة إليه،
(1)
سبق تخريجه ص (112).
ولو كان هذا محتاجاً إليه لكان الرسول صلى الله عليه وسلم أول من يستثنيه، والحديث:«يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» عام، وهذه المسألة التحريم فيها بالمصاهرة، أي: في النسب، وليس بالرضاع.
وَيَحْرُمُ بِالعَقْدِ زَوْجَةُ أَبِيهِ، وَكُلِّ جَدٍّ، وَزَوْجَةُ ابْنِهِ وَإِنْ نَزَلَ، دُونَ بَنَاتِهِنَّ، وَأُمَّهَاتِهِنَّ، وَتَحْرُمُ أُمُّ زَوْجَتِهِ، وَجَدَّاتُهَا بِالْعَقْدِ، وَبِنْتُهَا وَبَنَاتُ أَوْلَادِهَا بِالدُّخُولِ،
..........
قوله: «ويحرم بالعقد زوجةُ أبِيهِ، وَكُلِّ جَدٍّ، وزوجةُ ابْنِهِ وإِنْ نَزَلَ دُونَ بناتِهِن وأمَّهاتِهِنَّ، وتحرُمُ أُمُّ زَوْجَتِهِ، وجَدَّاتُها بالعقد، وبِنْتُها وبناتُ أَوْلادِهَا بالدُّخُولِ» ، هذا المحرم بالمصاهرة، وهي الاتصال بين إنسانين بسبب عقد النكاح، فليس هناك قرابة ولا رضاع.
فقوله: «ويحرم بالعقد» أي عقد النكاح بدليل قوله: «زوجة أبيه» فمتى عقد إنسان على امرأة حرم على ابنه أن يتزوجها، سواء دخل بها أم لم يدخل، حتى لو طلقها قبل الدخول أو مات عنها قبل الدخول فهي حرام على ابنه، لقول الله تعالى:{وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلاً *} [النساء]، وقال في الزنا:{وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وسَاءَ سَبِيلاً *} [الإسراء] ولم يقل: (مقتاً) وهو يدل على أن نكاح المحارم أشد من الزنا، ولهذا كان القول الراجح أن من نكح محرمه فإنه يقتل بكل حال، حتى وإن كان بكراً، بخلاف الزنا فإن البكر لا يرجم.
وقوله: «ويحرم بالعقد» هل يشترط أن يكون العقد صحيحاً؟ الجواب: نعم؛ لأن العقد غير الصحيح لا يسمى عقداً، فلو
تزوجت امرأة شخصاً بدون ولي ـ والولي كما سبق شرط في النكاح ـ فالعقد فاسد، فلو مات جاز لابنه من غيرها أن يتزوجها؛ لأن العقد غير صحيح، وكلما سمعت في القرآن أو السنة «عقد» فالمراد به الصحيح.
إذاً يحرم بالعقد الصحيح زوجة أبيه وإن علا، ويغني عنها قوله:«وكل جد» .
فلو قال قائل: {آبَاؤُكُمْ} في قوله: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 22] ألا يمكن أن يراد بها أبو الصلب؟
فالجواب: لا، فالآباء تشمل الأجداد وإن علوا، قال الله تعالى:{مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78] وأبونا إبراهيم عليه السلام ليس أباً للصلب، بل هو أبو آبائنا وأجدادنا.
مسألة: لو أن رجلاً زنى بامرأة، فهل يحرم عليه أصلها وفرعها؟ وهل يحرم عليها أصله وفرعه؟ لا يحرم؛ لأنه لا يدخل في قول:{وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ} ، وقوله:{وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} ، وقوله:{وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ} ، والزانية لا تدخل في هذا، فالمزني بها من ليست من حلائل الأبناء، وكذلك أمُّ المزني بها ليست من أمهات نسائك، إذاً فتكون حلالاً لدخولها في قوله تعالى:{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} وفي قراءة و «أَحلَّ لكم ما وراء ذلك»
(1)
.
(1)
قرأ بها سائر القراء عدا حمزة والكسائي وحفص عن عاصم، كما في الوجيز للأهوازي (158).
والمذهب أن الزنا كالنكاح، فإذا زنا بامرأةٍ حرم عليه أصولها وفروعها، وحرم عليها أصوله وفروعه تحريماً مؤبداً، وهذا من غرائب العلم، أن يُجْعل السفاح كالنكاح، وهو من أضعف الأقوال، وأضعف منه ـ أيضاً ـ من قال: إن الرجل إذا لاط بشخص ـ والعياذ بالله ـ فهو كالمرأة المعقود عليها عقداً شرعياً!! فيحرم على هذا اللائط فروع الملوط به وأصوله، ويحرم على الملوط به فروع اللائط وأصوله، هذا أبعد وأبعد من القول الأول!! وذلك لأن اللواط لا يحل الفرج بأي حال من الأحوال، لا بعقد ولا بغير عقد، أما فرج المرأة فيمكن أن تعقد على امرأة ويحل لك.
فالصواب أنه لا أثر في تحريم المصاهرة بغير عقد صحيح؛ وذلك لأن العقود إذا أطلقت في الشرع حملت على الصحيح، ومن الغرائب أنهم يقولون في الظهار: لو ظاهر الإنسان من امرأة أجنبية لا يثبت الظهار، مع أن قوله:{الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة: 2] مثل: «أمهات نسائكم» في هذا، وكذلك في الإيلاء:{لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [البقرة: 226] قالوا: ما يثبت إلا مع زوجة، فكيف نقول بالتحريم في هذه المسألة؟! فالصواب أن كل ما كان طريقه محرماً فإنه لا أثر له في التحريم والمصاهرة.
وقوله: «وزوجة ابنه وإن نزل» مثل: ابن ابنه، وابن بنته، وابن ابن ابن ابنه
…
إلخ، وقد اشترط الله ـ تعالى ـ في زوجة الابن أن يكون من الأصلاب، فقال تعالى:{وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ} [النساء: 23] يعني الذين خرجوا من صلب
الإنسان، احترازاً من الابن من الرضاع، وهذا هو الراجح، ولكن جمهور العلماء يقولون: إنه احتراز من ابن التبني، فقوله تعالى:{الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ} يعني لا من الأبناء الذين تبنيتموهم.
ولكن يقال: في هذا نظر، لا سيما إن كانت الآية نزلت بعد إبطال التبني، فإنه إذا أبطِل التبني شرعاً لا يُحتاج إلى الاحتراز منه؛ لأنه غير داخل في الحكم حتى يحُتاج إلى الاحتراز منه بالقيد، وسنذكر ذلك إن شاء الله تعالى.
وقوله: «دون بناتهن وأمهاتهن» أي بنات زوجة أبيه، وبنات زوجة ابنه، ومعلوم أن المراد بنات زوجة أبيه من غير جدته، أو من غير أمه، فلو كان للأب زوجة ولها بنت من غيره، وهذه الزوجة ليست أماً لولده، فإنه يجوز أن يتزوج الولد هذه البنت؛ لأنه لا علاقة بينه وبينها، فهي ليست أخته؛ لأنها ليست من أمه، ولا من أبيه أيضاً.
إذاً يجوز أن يتزوج الأب أماً والابن بنتها، وكذلك العكس، وفيها تداخل بأن يكون عمًّا وخالاً، وابن عم وابن خال، وهي معروفة في الألغاز.
وقوله: «وتحرم أم زوجته وجداتها بالعقد» ، أي عقد النكاح الصحيح، فأم الزوجة حرام بمجرد العقد، فلو عقد على امرأة وطلقها قبل الدخول حرمت عليه أمها؛ لأن الله تعالى أطلق فقال:{وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} [النساء: 23]، والمرأة تكون من نسائه بمجرد العقد.
وقوله: «وبنتها وبنات أولادها بالدخول» بنتها من فروعها،
وبنات الأولاد يشمل بنات الأبناء، وبنات البنات؛ لأن الأولاد إذا أطلقت شملت البنين والبنات، فبنت الزوجة وبنات أولادها لا يُحرَّمن على الزوج إلا بالدخول بالأم، والمراد بالدخول هنا الوطء يعني الجماع، فلو تزوج امرأة وخلا بها، ولم تعجبه وطلقها فله أن يتزوج بنتها، سواء كانت من زوج سابق، أو من زوج لاحق لقول الله تعالى:{وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَاَّّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23].
فربيبة الزوج اشترط الله تعالى فيها شرطين:
الأول: أن تكون في حجر الزوج.
الثاني: أن يكون قد دخل بأمها.
هذان الشرطان ذكر الله تعالى مفهوم أحدهما، ولم يذكر مفهوم الآخر، فقال:{فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 23] ولم يقل: وإن لم يكُنَّ في حجوركم فلا جناح عليكم، فصرح بمفهوم القيد الثاني، وهو قوله:{اللَاَّّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} وسكت عن مفهوم الأول، فيستدل بهذا على أن القيد الأول غير معتبر؛، وأكثر العلماء على ذلك، وإن كان هناك قول للسلف والخلف أنه شرط، ولكننا نقول: ليس بشرط؛ لأن الله تعالى صرح بمفهوم القيد الثاني، فدل ذلك على أن مفهوم القيد الأول غير معتبر.
فإن قال قائل: إذا كان غير معتبر فعلى أي شيء تخرجون الآية؟
فالجواب: أننا نخرجها بناءً على الغالب، وإشارةً للعلة،
أما كونه بناءً على الغالب فلأن الغالب ـ لا سيما في صدر الإسلام ـ أن بنت الزوجة إذا تزوجت أمها تكون معها.
وأما الثاني وهو الإشارة إلى العلة فكأنه قال: إنها تحرم على الزوج؛ لأنها كبناته، إذ إنها في حجره، وهو ينظر إليها نظر مربٍّ لها، ولذلك تجدها مثلاً بنتاً لها سبع سنين، أو عشر سنين، أو اثنتا عشرة سنة تأتي إلى زوج أمها وتقدم له الطعام، وتكشف وجهها له وكأنها ابنته تماماً، فليس من المناسب أن يدخل عليها وينكحها.
وهذا القول الذي عليه الجمهور هو الراجح أنه لا يشترط في تحريم الربيبة على زوج أمها إلا شرط واحد، وهو الدخول بأمها.
فلو عقد على امرأة وطلقها قبل الدخول، أو ماتت قبل الدخول فإنه يحل له بناتها، ولو كن في حجره على قول الجمهور وهو الأرجح.
فهؤلاء الأربعة يثبت التحريم فيهن بالمصاهرة، فهل يثبت التحريم فيهن إذا كن من الرضاع؟ بمعنى هل يحرم على الزوجة أبو زوجها من الرضاع، وابن زوجها من الرضاع، وعلى الزوج بنت زوجته من الرضاع، وأم زوجته من الرضاع؟ مثال ذلك: رجل تزوج امرأة لها أم من الرضاع وأم من النسب، فأمها من النسب حرام عليه، أما أمها من الرضاع، فهل هي حرام أو غير حرام؟
هذه المسألة فيها خلاف: فجمهور أهل العلم ومنهم الأئمة الأربعة على أنه يثبت التحريم بالمصاهرة، وحكي إجماعاً ولا يصح، فيقولون: إنه يحرم على الزوجة أبو زوجها من الرضاع، وابن زوجها من الرضاع، وعلى الزوج أم زوجته من الرضاع وابنة
زوجته من الرضاع، واستدلوا بعموم قوله تعالى:{وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} [النساء: 23] والمرضعة تسمى أماً، وقوله:{وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 22] والأب من الرضاع يسمى أباً، وقوله تعالى:{وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ} ، وبقوله عليه الصلاة والسلام:«يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب»
(1)
، فقالوا: كما أن أبا الزوج من النسب حرام على الزوجة، فيكون أبوه من الرضاع حراماً عليها، وكما أن أم الزوجة من النسب حرام على الزوج فأمها من الرضاع ـ أيضاً ـ حرام.
واختار شيخ الإسلام رحمه الله أنه لا يحرم من الرضاع ما يحرم بالمصاهرة لحديث: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» ، فالحديث يدل بمنطوقه على أنه يحرم بالرضاع ما يحرم بالنسب، ويدل بمفهومه على أنه لا يحرم بالرضاع ما يحرم بغير النسب.
وأما قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} فالاستدلال به غير صحيح من الآية نفسها، فلو كانت الأم عند الإطلاق تشمل الأم من الرضاع والأم من النسب، لم يكن لقوله:{وَأُمَهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ} فائدة؛ لأن {أُمَهَاتُكُمْ} سبقت في أول الآية، وأيضاً الأم من الرضاعة لا يصح أن نقول: إنها أم على الإطلاق، بل لا بد من القيد، ولهذا لا تدخل في الأم في قوله تعالى:{فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11] بالإجماع، وكذلك الأخت عند الإطلاق لا يدخل فيها الأخت من الرضاع، وإلا لما قال:{وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} فلا دليل في الآية.
(1)
سبق تخريجه ص (112).
كذلك قوله: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} فإنه من المعلوم أن الأب من الرضاع لا يدخل في مطلق الأب أبداً، فلا يسمى أباً إلا بقيد الرضاع.
وأما قوله: {وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ} فقد تكون حجة عليهم؛ لأن الله قيد الأبناء بكونهم من الأصلاب؛ فقال: {وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ} وأجابوا: أن هذا القيد احتراز من ابن التبني، فيقال: إنه لا يمكن أن يحترز الله في القرآن عن ابن باطل شرعاً؛ لأن الابن الباطل شرعاً غير داخل حتى يحتاج إلى قيد يخرجه، فابن التبني ليس شرعياً من الأصل.
وعلى هذا فالآية تدل على ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وهو الذي نراه ونرجحه أنه لا دخل للرضاع في المصاهرة؛ وذلك لأن لدينا عموماً من القرآن فلا يمكن أن نخرمه إلا بدليل بَيِّن، وهو قوله:{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} و «ما» اسم موصول تفيد العموم، فأي إنسان يقول: هذه المرأة حرام، نقول له: ائت بدليل.
وعلى هذا يجوز للرجل أن يتزوج أم زوجته من الرضاعة، لكن بعد أن يفارق الزوجة بموت أو طلاق فلا يجمع بينهما؛ لقول الرسول عليه الصلاة والسلام «يحرم بالرضاعة ما يحرم بالنسب»
(1)
، فإذا حرم الجمع بالنسب حرم بالرضاعة، ولهذا فشيخ الإسلام رحمه الله في هذه المسألة لم يصب في قوله إنه يجوز الجمع بين الأختين من الرضاع، وكون جمهور الأمة
(1)
سبق تخريجه ص (112).
على أن الرضاع مؤثر في تحريم المصاهرة يوجب للإنسان أن يسلك طريق الاحتياط، فنقول: أم الزوجة حرام تبعاً للجمهور، وتحتجب تبعاً لشيخ الإسلام ابن تيمية؛ وذلك لأننا إذا قلنا: إنها حرام عليك على رأي الجمهور لا تحتجب، وإذا قلنا إنها حلال على رأي الشيخ تحتجب، وأنا أعمل بالدليلين، وأقول: هذه مسألة مشكوك فيها، وإذا شك في الأمر فإنه يسلك فيه طريق الاحتياط، فنأخذ بالاحتياط بما قاله الجمهور من تحريم نكاحها، ونأخذ بالاحتياط بما قاله شيخ الإسلام من وجوب الحجاب.
وهذا المسلك له أصل في الشرع، وهو قصة سودة بنت زمعة رضي الله عنها حينما تخاصم سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة رضي الله عنهما في غلام كان ادعاه سعد بن أبي وقاص وقال: إنه ابن أخي عهد به إليَّ فأريده، فقال: عبد بن زمعة: يا رسول الله إنه ولد وليدة أبي، ولد على فراشه ـ ومعلوم أن الولد للفراش إذا ادعاه صاحب الفراش، حتى لو علمنا أنه من الزاني قطعاً ـ فقال سعد: يا رسول الله انظر إلى شبه الغلام، فنظر إليه فوجد شبهاً بيناً بعتبة، مما يدل على أنه خلق من مائه، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم:«الولد للفراش وللعاهر الحجر، واحتجبي منه يا سودة»
(1)
، فقضى به لزمعة على أنه ابنه، وأمر سودة أن تحتجب منه على سبيل الاحتياط؛ لأنه رأى شبهاً بيناً، فأعمل النبي صلى الله عليه وسلم السببين احتياطاً.
(1)
أخرجه البخاري في البيوع/ باب تفسير المشبهات (2053)؛ ومسلم في الرضاع/ باب الولد للفراش وتوقي الشبهات (1457) عن عائشة رضي الله عنها.
فما دام هذا الأمر له أصل في الشريعة فلا حرج أن نسلك هذا المسلك.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الولد للفراش وللعاهر الحجر» ، هل هذا عام، سواء ادَّعاه صاحب الفراش أم لم يدعه، أو خاص فيما إذا ادَّعاه صاحب الفراش؟ بمعنى أنه لو كانت المزني بها لا فراش لها، وادعى الزاني أن الولد ولده فهل يلحق به؟
الجمهور على أنه عام، وأنه لا حق للزاني في الولد الذي خلق من مائه، وذهب بعض العلماء إلى أن هذا خاص في المخاصمة، يعني إذا تخاصم الزاني وصاحب الفراش قضينا به لصاحب الفراش، أما إذا كان لا منازع للزاني، واستلحقه فله ذلك ويلحق به، وهذا القول هو الراجح المناسب للعقل، وكذلك للشرع عند التأمل.
فَإِنْ بَانَتِ الزَّوْجَةُ، أَوْ مَاتَتْ بَعْدَ الخَلْوَةِ أُبِحْنَ.
قوله: «فإن بانت الزوجة، أو ماتت بعد الخلوة أبحن» نائب الفاعل في قوله: «أبحن» يعود على بنات الزوجة، وبنات بناتها، وبنات أبنائها، فلو تزوج امرأة ثم بانت منه بعد أن خلا بها، لكنه لم يجامعها فإنه تحل له بناتها، وبنات بناتها، وبنات أبنائها؛ لأن من شرط تحريم الربيبة ومن تفرع منها أن يدخل بأمها، وهنا لم يدخل.
وكذلك ـ أيضاً ـ لو أنه طلقها فانقضت العدة جاز أن يتزوج ابنتها، إذا لم يدخل بأمها؛ لاشتراط الدخول.
وهل يحرم على الزوج بنات زوجته التي دخل بها من زوج بعده؟
الجواب: نعم؛ لأن المحرمات بالمصاهرة أربعة أصناف:
أولاً: أصول الزوج على الزوجة.
ثانياً: فروع الزوج على الزوجة.
ثالثاً: أصول الزوجة على الزوج.
هذه الثلاث تحرم بمجرد العقد.
رابعاً: فروع الزوجة على الزوج، وهنا لا بد من الدخول، فإذا حصل دخول فبناتها من زوج قبله، أو بعده حرام عليه تحريماً مؤبداً، ولهذا قال:«فإن بانت الزوجة» أي انفصلت من الزوج، إما بطلاق بائن كالثلاث، وإما بانقضاء العدة في الرجعية.
وقوله: «بعد الخلوة» وقبل الخلوة من باب أولى، لكنه نص على ما بعد الخلوة؛ لأن بعض أهل العلم يقول: إنه إذا خلا بأمهن دون جماع حرمن عليه، وقاسوا ذلك على وجوب العدة، وعلى استقرار الصداق كاملاً، فيما إذا تزوج امرأة وخلا بها، ثم طلقها فإن العدة تجب، وكذلك يستقر الصداق كاملاً.
ولكن هذا فيه نظر؛ لأن القرآن هنا صرح باشتراط الدخول، ومع وجود النص فلا قياس.
فَصْلٌ
وَتَحْرُمُ إِلَى أَمَدٍ أخْتُ مُعْتَدَّتِهِ، وَأُخْتُ زَوْجَتِهِ، وَبِنْتَاهُمَا، وَعَمَّتَاهُمَا، وَخَالَتَاهُمَا،
.......
ثم شرع المؤلف رحمه الله بالمحرمات إلى أمد، وهن المحرمات إلى مدة معينة، أو تغير حال إلى أخرى، فهن محرمات لسبب يزول فقال:
«وتَحْرُمُ إلى أمد أخت معتدته» ، أي إذا طلق امرأة وشرعت في العدة، وأراد أن يتزوج أختها فإن ذلك حرام، حتى تنتهي العدة.
قوله: «وأخت زوجته» أي التي لم تطلق؛ لأنه إذا حرمت أخت المطلقة ما دامت في العدة، فأخت غير المطلقة من باب أولى.
وقوله: «وتحرم إلى أمد أخت معتدته، وأخت زوجته» .
هذا تسامح من المؤلف رحمه الله؛ لأن أخت معتدته وأخت زوجته لا تحرم عليه، فالقرآن لم ينص على أن أخت زوجته حرام عليه، ولا على أن أخت معتدته حرام عليه، بل قال:{وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} [النساء: 23]، فالمحرم هو الجمع، أما نفس الأخت فليست موصوفة بأنها حرام، بخلاف الأم، والبنت، والمحرِمة، وما أشبه ذلك، فهؤلاء موصوفات بأنهن حرام، فلنعبر بما عبر به القرآن، وهو صريح، فقال:{وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} .
إذاً أخت الزوجة حرام، وأما أخت المعتدة ـ فعلى كلام المؤلف ـ أنها حرام، ولو كانت بائنة بينونة كبرى، كالمطلقة
ثلاثاً، فإنها وإن كانت لا ترجع إليه بعقد لكن لا زالت عُلق النكاح وآثاره باقية عليها وهو العدة، والصواب أن في ذلك تفصيلاً:
فإن كانت عدة بائنة، فلا تحل للزوج إلا بعد زوج كالمطلقة ثلاثاً، فله أن يتزوج أختها؛ وذلك لأن الزوجة بانت بينونة كبرى.
وإن كانت رجعية أو بينونتها صغرى فإنها لا تحل، والرجعية هي التي طلقها على غير عوض مرة واحدة بعد الدخول، والبائنة بينونة صغرى هي التي خالعها زوجها، وسميت صغرى؛ لأنه يجوز للزوج المخالع أن يتزوجها في العدة وبعدها، أما البينونة الكبرى فهي البائن بالطلاق الثلاث، وعلى هذا فالمعتدات ثلاثة أنواع:
الأول: رجعية، وهي المعتدة التي يمكن أن يراجعها بدون عقد.
الثاني: بائن بينونة صغرى، وهي التي له أن يتزوجها بعقد بدون مراجعة، يعني لا يملك المراجعة، لكن يملك أن يعقد عليها، فكل معتدة لا تحل إلا بعقد، فبينونتها صغرى.
الثالث: بائن بينونة كبرى، وهي التي طلقها آخر ثلاث تطليقات فلا تحل إلا بعد زوج، بالشروط المعروفة.
المهم أن أخت معتدته ظاهر كلام المؤلف أنها حرام، سواء كانت رجعية، أو بائنة بينونة صغرى، أو بائنة بينونة كبرى.
والصحيح أنه إذا كانت بائنة بينونة كبرى فإنها تحل له؛ لأن البائنة بينونة كبرى لا يمكنه الرجوع إليها.
قوله: «وبنتاهما» أي: بنت أخت زوجته، وبنت أخت معتدته.
قوله: «وعمتاهما وخالتاهما» أي: لا يجوز الجمع بين معتدته وعمتها أو خالتها، وكذلك زوجته وعمتها أو خالتها، ولو أن المؤلف رحمه الله وغيره من العلماء أتوا بالآية والحديث لكان أوضح وأبين وأجلى، قال الله تعالى:{وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يجمع بين المرأة وعمتها ولا بين المرأة وخالتها»
(1)
؛ والتعليل لأن الجمع بين هذه القرابة القريبة يؤدي غالباً إلى قطيعة الرحم؛ لأنه من المعروف أن الضرتين يكون بينهما عداوة وبغضاء وشحناء؛ فمن أجل البعد عن قطيعة الرحم، حرم الشرع الجمع بين الأختين، وبين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها.
فصار الذي يحرم بينهن الجمع ثلاثة أصناف:
الأختان، والعمة وبنت أخيها، والخالة وبنت أختها، وهذا أوضح مما قاله المؤلف وأبين، وأيضاً هو حكم ودليل.
وبنت العم مع بنت عمها تحل؛ لأن ما سوى الثلاث حلال، وهذا ـ أيضاً ـ أوضح من قول بعضهم:«يحرم الجمع بين امرأتين، لو قدرت إحداهما ذكراً لم تتزوج بالأخرى لنسب أو رضاع، لا مصاهرة» ، وهذا وإن كان ضابطاً، لكنه ضابط يعقد
(1)
أخرجه البخاري في النكاح/ باب لا تنكح المرأة على عمتها (5109)؛ ومسلم في النكاح/ باب تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها في النكاح (1408) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
المسألة؛ لأنه يحتاج أولاً إلى تصور، وبعد التصور الحكم، لكن القرآن والسنة أسهل.
فإذا قال قائل: هل يجوز أن يجمع بين زوجة إنسان وبنته من غيرها، فلو توفي رجل عن زوجته وله بنت من غيرها، فتزوجهما رجل، وجمع بينهما فإنه يجوز، ولو فرضنا إحداهما ذكراً فإنه لا يتزوج بالأخرى، لكن قالوا: هنا لا يتزوج من أجل المصاهرة فلذلك جاز الجمع، ولهذا نقول: إذا رجعنا إلى الكتاب والسنة في هذه المسألة بالذات، وفي غيرها أيضاً، فإننا نرى أن التعبير القرآني والنبوي أوضح.
فزوجة إنسان وبنته من غيرها ليستا أختين، ولا عمة وبنت أخيها، ولا خالة وبنت أختها فتحل، والسؤال عن هذا كثير، كيف يجمع بين امرأة رجل وبنته من غيرها؟
فنقول: نعم؛ لأن الله بين فقال: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24].
وهل الجمع بين الأختين من رضاع، وبين المرأة وعمتها، أو خالتها من رضاع يحرم، أو لا يحرم؟
الصحيح بلا شك أنه يحرم الجمع بينهن، وهو قول الجمهور، ولا إشكال فيه؛ لأن الدليل فيه واضح «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب»
(1)
، فكما حرم الجمع بين هاتين المرأتين بالنسب، فكذلك يحرم الجمع بينهما بالرضاع.
(1)
سبق تخريجه ص (112).
وخالف في هذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فقال: يجوز أن تجمع بين الأختين من الرضاع، وبين المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها، لكن قوله ضعيف، والحق أحق أن يتبع، والحديث واضح:«يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» سواء كان معنًى أو عيناً، فما يحرم من النسب بعينه من النساء يحرم من الرضاع، وما يحرم لمعنى فيه يحرم كذلك من الرضاع، وعلى هذا فلا يجمع بين الأختين من الرضاع، ولا بين امرأة وعمتها، ولا بين امرأة وخالتها من الرضاع.
فَإِنْ طُلِّقَتْ وَفَرَغَتِ الْعِدَّةُ أُبِحْنَ، وَإِنْ تَزَوَّجَهُمَا فِي عَقْدٍ أَوْ عَقْدَيْنِ مَعاً بَطَلَا ........
قوله: «فَإِنْ طُلِّقَتْ وَفَرَغَتْ العِدَّةُ أُبِحْنَ» أي أبيحت أخت الزوجة، وعمتها، وخالتها، ولكن شرط المؤلف أن تفرغ العدة، فظاهره أنه ما دامت العدة باقية فهن حرام، سواء كانت العدة عدة بينونة أو لا، ولكن نعود إلى ما سبق أن الراجح إذا كانت بينونة كبرى فلا حرج؛ لأنه لا يمكن الجمع بينهن، أما البينونة الصغرى والرجعية فلا يجوز أن يتزوج أخت من كانت عدتها عدة بائن بينونة صغرى أو رجعية.
قال في الروض
(1)
: «ومن وطئ أخت زوجته بشبهة، أو زنا حرمت عليه زوجته حتى تنقضي عدة الموطوءة» يعني لو أن رجلاً زنا بأخت زوجته ـ والعياذ بالله ـ قلنا له: إن زوجتك حرام عليك حتى تنقضي عدة المزني بها، فلو قدر أن المزني بها حملت من هذا الوطء، فلا تحل له زوجته حتى تضع المزني بها حملها، ولو بقي في بطنها أربع سنوات!! لكن تقدم لنا القول الراجح أن الزنا
(1)
الروض المربع مع حاشية ابن قاسم (6/ 297).
لا أثر له، ولا يمكن أن نجعل السفاح مثل النكاح الصحيح.
قوله: «وَإِنْ تَزَوَّجَهُمَا فِي عَقْدٍ أَوْ عَقْدَيْنِ مَعَاً بَطَلا» أي: إن تزوج الأختين، فإن كان عقد واحد فالمثال فيه سهل، بأن يقول الأب للشخص: زوجتك ابنتيَّ هاتين، فيقول: قبلت، فهنا لا يصح إنكاح واحدة منهما؛ لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر، فلا يصح العقد لا على هذه، ولا على هذه، والعمل أن يعين واحدة، فيقول: زوجتك بنتي فلانة، ويصح العقد على واحدة.
وقوله: «أو عقدين معاً بطلا» أي: تزوجهما في عقدين معاً، وهذا لا يتصور إلا بوكالة، مثل أن يكون الولي له ابنتان فيوكل شخصاً يزوج إحداهما ويتولى هو تزويج الأخرى، وكذلك الزوج يوكل شخصاً يقبل له نكاح إحداهما ويتولى هو نكاح الأخرى، فوافق أن قال الولي لهذا الزوج: زوجتك بنتي فلانة، ووكيل الولي يقول لوكيل الزوج: زوجت موكلك فلاناً فلانة في آن واحد، فيبطل العقدان جميعاً، وهذا يذكر على سبيل الفرض، وإلا فهو صعب.
فلو قال قائل: ألا يمكن أن نصور المسألة بأهون من هذا، فنقول: لو أن الولي وَكَّل شخصاً في تزويج بنته فلانة، وعقد الولي لبنته الأخرى فأوجبا العقد للزوج، فقال الزوج: قبلت، فهل يمكن أن يصح هذا المثال، ويقال: إنه في عقدين؟
فالجواب: أن الإيجاب من شخصين ولا شك، لكن القبول من شخص واحد، فيكون العقد واحداً؛ لأنه في العقدين لا بد
لكل عقد من إيجاب وقبول، وهذا لا يتصور في إيجابين بقبول واحد.
ولو قالا جميعاً: زوجتك، فقال للأب: قبلت، وقال للثاني: قبلت، فإن فيه إشكالاً؛ لأن الإيجابين وقعا جميعاً، إلا إذا قال الزوج: أنا نويت الإعراض عن الإيجاب الثاني، وأردت الرد على إيجاب الأب، فهنا نقول: يصح، ويقع الثاني لغواً.
وعلى كل حال فهذه مسائل فرضيات، وإلا فوقوعها نادر جداً.
فَإِنْ تَأَخَّرَ أَحَدُهُمَا، أَوْ وَقَعَ فِي عِدَّةِ الأُخْرَى وَهِيَ بَائِنٌ أَوْ رَجْعِيَّةٌ بَطَلَ،
....
قوله: «فَإِنْ تَأَخَّرَ أَحَدُهُمَا» يعني أحد العقدين، فالذي يصح هو الأول، مثل أن يقول: زوجتك بنتي عائشة فيقول: قبلت، ثم يقول الأب في نفس المجلس: زوجتك بنتي فاطمة، فيقول: قبلت، فالذي يصح نكاحها عائشة، والثاني لا يصح؛ لأنه إنما حصل الجمع بالعقد الثاني، فيكون هو مورد النهي، فاختص البطلان به.
قوله: «أَوْ وَقَعَ فِي عِدَّةِ الأُخْرَى وَهِيَ بَائِنٌ أَوْ رَجْعِيَّةٌ بَطَلَ» أي: بطل المتأخر؛ لأنه لا يحل أن يجمع بين الأختين، ولا بين المرأة وعمتها، ولا بين المرأة وخالتها.
مسألة: إن وقع العقدان وجهلنا السابق، فماذا نصنع؟ نقول: يجب فسخهما جميعاً، ولا نقول: يبطلان؛ لأنه ليس عندنا ما يحصل به البطلان، إذ البطلان إنما يكون حين يتحقق أنهما وقعا معاً، أما الآن فلا ندري، قد يكونان وقعا معاً، وقد يكون
أحدهما سابقاً، إذاً يجب فسخهما، ويترتب على ذلك أنه يجب نصف المهر لإحداهما، ولو قلنا: باطلاً، ما وجب لإحداهما شيء؛ لأنه عقد باطل ما يوجب المهر، ولا حصل الدخول، حتى نقول: يستقر المهر بالدخول فهذا هو الفرق، والذي يتولى فسخهما القاضي، يقول: أقرر فسخ النكاح، فيفسخه ويجب لإحداهما نصف المهر؛ لأنها مطلقة قبل الدخول، ومن الذي يجب لها نصف المهر؟ نقول: نقرع بينهما؛ لأنها تدخل في الأموال، فأيتهما وقعت عليها القرعة يكون لها نصف المهر، ولا عدة على الجميع؛ لأنه لم يحصل دخول.
لكن إذا تبين الحال بعد ذلك، فإن تبين أنهما وقعا معاً فلا مهر عليه ويرد، وإن تبين أن أحدهما هو السابق، فهذا محل نظر عندي، قد نقول: إن القرعة كحكم الحاكم، وقد نقول: إن القرعة لتمييز المشتبه، وقد زال الاشتباه فيرد المهر لمن تبين أن نكاحها هو الأول.
وَتَحْرُمُ الْمُعْتَدَّةُ، وَالْمُسْتَبْرَأَةُ مِنْ غَيْرِهِ،
..........
قوله: «وتَحْرَمُ المُعْتَدَّةُ» المعتدة من الغير حرام على غير الزوج، وسبق لنا بيان ذلك مفصلاً في أول كتاب النكاح.
فالمعتدة من الغير لا يجوز لأحد أن يتزوجها، حتى ولو كانت بائنة بينونة كبرى؛ لأنه قد تعلق بها حق الزوج الأول، وقد سبق أنه لا يجوز ولا خطبتها على وجه صريح، إنما يجوز التعريض.
لكن لو تزوج معتدة من غيره، قلنا: إن العقد باطل ولا شك؛ لأن الله قال: {وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ
أَجَلَهُ} [البقرة: 235] فنقول: النكاح باطل؛ لأنه منهي عنه بنص القرآن، ولا يمكن تصحيح المنهي عنه.
لكن لو انقضت العدة فهل له أن يتزوجها، ونقول: إنه زال المانع، وإذا زال المانع حلت، أو نقول: يحرم إياها تعزيراً؛ لأنه تعجل الشيء قبل أوانه على وجه محرم، فيعاقب بحرمانه؟
جمهور العلماء على أنها تحل له بعقد، وذهب عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه يمنع منها، ولا يزوج إياها، حتى بعد العدة
(1)
؛ تنكيلاً له ولغيره أيضاً، وهذا من سياساته الحكيمة.
والصحيح في هذه المسألة أنه راجع إلى حكم الحاكم، فإن رأى من المصلحة أن يمنعه منها فليفعل تأسياً بعمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقياساً على ما لو قتل الموصى له الموصي، فإن الموصى له يحرم من الوصية، فلو أوصى رجل بألف ريال، فقام الموصى له وقتله من أجل أن يأخذ الألف، فإننا نقول: نمنعك منها؛ لأنك تعجلت الشيء قبل أوانه على وجه محرم، فالصحيح في هذه المسألة أنه يرجع إلى رأي الحاكم، والحاكم لا شك أن الأمور عنده تختلف، فلو تتابع الناس على خطبة المعتدات ونكاحهن، فهنا يتعين المنع، والتحريم على العاقد.
قوله: «والمستبرأة من غيره» المستبرأة هي من لا يراد منها العدة، وإنما يراد معرفة براءة رحمها، ومنها على القول الراجح المخالعة، فالمخالعة لا يقصد من تربصها أن تعتد، وإنما يقصد
(1)
أخرجه مالك (2/ 536).
العلم ببراءة الرحم، ولهذا قضى عثمان رضي الله عنه بأن عدة المخالعة حيضة واحدة وأخبر أنه سنّة النبي صلى الله عليه وسلم
(1)
، فلو أن أحداً تزوج امرأة مخالعة قبل استبرائها فالنكاح باطل، لكن هل له أن يعود فيعقد عليها مرة أخرى؟
ينبني على الخلاف الذي ذكرنا.
وَالزَّانِيَةُ حَتَّى تَتُوبَ وَتَنْقَضِيَ عِدَّتُها،
.........
قوله: «والزانية حتى تتوب وتنقضي عدتها» ، الزانية هي فاعلة الفاحشة ـ والعياذ بالله ـ حرام على الزاني وغيره حتى تتوب، لقول الله تبارك وتعالى:{الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} [النور: 3]، فالزانية تحرم على الزاني وغير الزاني؛ لأن الله تعالى قال:{وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} ، والقرآن صريح بأنه حرام، وأنه لا يحل للمؤمن أن يتزوج امرأة زانية.
وقوله: «حتى تتوب» أي: تتوب من الزنا، لكن ما الذي يدرينا أنها تابت؟
قال بعض أهل العلم: نعلم أنها تابت بأن تراود على الزنا فتأبى، يعني أن يذهب أحد إليها ويراودها، فإذا أبت دل ذلك على أنها تابت، لكن هذا القول ضعيف جداً؛ لأنها إن علمت أن هذا الرجل من الفساق، فما أقرب أن تجيب، ويكون هذا فتح باب للزنا، وإن علمت أنه من أهل الخير سوف تمتنع وإن كانت تريد الزنا، وفيه ـ أيضاً ـ تغرير بصاحب الخير؛ لأنه ربما إذا راودها ووافقت غرته ويزني بها، فالصواب أن توبة الزانية
(1)
أخرجه النسائي في الطلاق/ باب عدة المختلعة (6/ 186)؛ وابن ماجه في الطلاق/ باب عدة المختلعة (2058) عن الربيع بنت معوذ رضي الله عنها.
كغيرها، فإذا علمنا أن المرأة أصبحت نادمة، وظهر عليها أثر الحزن والبعد عن مواقع الريب، فهنا نعلم أنها تابت فتحل.
ولم يذكر المؤلف الزاني حتى يتوب؛ لأن فقهاءنا رحمهم الله يرون أن الزاني له أن يتزوج، ولو كان زانياً والعياذ بالله، ولو كان مصرًّا على الزنا!! ولكن هذا من غرائب العلم أن يستدل ببعض النص دون بعض، فالزانية والزاني كلاهما سواء في الآية:{الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} ، فكيف نفرق؟!
ونضرب لهذا مثلاً آخر، أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يغتسل الرجل بفضل المرأة، والمرأة بفضل الرجل
(1)
، فقالوا: الرجل لا يتطهر بفضل ماء المرأة، والمرأة لها أن تتطهر، مع أن الدليل واحد!! بل إن الدليل وقع خلاف ما ذهب إليه هؤلاء، فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ بفضل ميمونة رضي الله عنها وقالت: يا رسول الله إني جُنب، فقال:«إن الماء لا يجنب»
(2)
وإنما نذكر
(1)
رواه أحمد (4/ 110)، (5/ 369)؛ وأبو داود في الطهارة/ باب النهي عن الوضوء بفضل وضوء المرأة (81)؛ والنسائي في الطهارة/ باب ذكر النهي عن الاغتسال بفضل الجنب (1/ 131) عن رجل صحب النبي صلى الله عليه وسلم، وصححه الحميدي، وقال البيهقي:«رواته ثقات» وقال ابن حجر: «إسناده صحيح» انظر: بلوغ المرام (7).
(2)
رواه أحمد (1/ 235)؛ وأبو داود في الطهارة/ باب الماء لا يجنب (68)؛ والنسائي في المياه (1/ 174)؛ والترمذي في الطهارة/ باب ما جاء في الرخصة في ذلك (65) وقال: حسن صحيح، عن ابن عباس رضي الله عنها. وصححه ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، والنووي، والذهبي، انظر: الخلاصة (493).
هذه الأمثلة ليعلم أن الإنسان بشر قد يخطئ في أمر واضح، فما الفرق بين الزاني والزانية في هذا الباب، والدليل واحد؟! ولهذا فالقول الراجح بلا شك أنه لا يجوز أن يُزَوَّجَ الزاني حتى نعلم أنه تاب بالقرائن، فإذا علمنا أن هذا الرجل ظهر عليه أثر الحزن والندم، واستقام وابتعد عن مواضع الريب فحينئذٍ يُزَوَّجُ.
والخلاصة: أن الزانية تحرم على الزاني وغيره حتى تتوب، ويضاف إلى هذا أن تنقضي عدتها، وسيأتي ـ إن شاء الله ـ بيانها، فإن تابت ولكنها لم تنقضِ العدة، وهي ثلاث حيض على المذهب، فإنها لا تحل.
وظاهر كلام المؤلف أنها لا تحل للزاني ولا لغيره، ما دامت في العدة ولو تابت، وهو قول جمهور العلماء؛ وذلك لأن الزاني لا يلحقه ولده من الزنا، سواء استلحقه أم لم يستلحقه.
وَمُطَلَّقَتُهُ ثَلَاثاً حَتَّى يَطَأَهَا زوْجٌ غَيْرُهُ، وَالْمُحْرِمَةُ حَتَّى تَحِلَّ،
.....
قوله: «ومطلقته ثلاثاً حتى يطأها زوج غيره»
(1)
، مطلقته ثلاثاً حرام عليه بنص القرآن، قال الله تعالى:{اَلطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} ثم قال: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} أي المرة الثالثة {فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} .
فالمطلقة ثلاثاً سواء قلنا بقول الجمهور، أنه إذا قال: أنت طالق ثلاثاً، أو: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، أو: أنت طالق، ثم طالق، ثم طالق تبين به، أو قلنا بالقول الثاني الراجح: إنها لا تبين به، ولا تبين إلا بثلاث مرات، بعد هذه الثلاث تحرم عليه حتى يطأها ـ أي يجامعها ـ زوج غيره، ولا يمكن أن يكون
(1)
سيأتي بسط هذا في كتاب الطلاق ـ إن شاء الله ـ.
زوجاً إلا بعقد صحيح، وعلى هذا يكون الشرط أن يطأها زوج تزوجها بعقد صحيح، حتى يخرج ما لو تزوجها بعقد فاسد، كما لو نوى التحليل؛ لأن نية التحليل تفسد العقد، والدليل على هذا قول الله تعالى:{فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230]، وتأمل قوله:{حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا} يتبين لك أن المراد بالنكاح هنا الجماع، وأما في سائر القرآن فالنكاح هو العقد إلا في هذا الموضع، ودليل ذلك قوله:{زَوْجًا غَيْرَهُ} ، فلو كان المراد بالنكاح العقد لكان تكراراً بلا فائدة، ولكان المعنى حتى تتزوج زوجاً، فقوله:{زَوْجًا} لا يمكن أن يكون زوجاً إلا إذا كان النكاح صحيحاً، ولهذا لو نكحها محلل وجامعها لم تحل للأول.
ولو أن الزوج الثاني تزوجها بعقد صحيح، ودخل عليها وباشرها، ولكن لم يطأها، فإنها لا تحل للأول، ودليل ذلك قصة امرأة رفاعة القرظي رضي الله عنهما، فإن رفاعة طلقها ثلاث تطليقات، وتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزَّبِير رضي الله عنه، ولكنه ليس عنده قدرة على النكاح، وجاءت تشتكي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم تقول له: إن رفاعة طلقها وبتَّ طلاقها، وإنها تزوجت عبد الرحمن بن الزَّبير، وليس معه إلا مثل هدبة الثوب وأشارت بثوبها، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم:«أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتى تذوقي عسيلته، ويذوق عسيلتك»
(1)
.
(1)
أخرجه البخاري في الطلاق/ باب من جوز الطلاق الثلاث
…
(5260)؛ ومسلم في النكاح/ باب لا تحل المطلقة ثلاثاً
…
(1433) عن عائشة رضي الله عنها.
قال العلماء رحمهم الله: يؤخذ من هذا أنه لا بد من الجماع، حتى يكون النكاح مراداً حقاً.
واختلف العلماء، هل يشترط الانتشار وهو قيام الذكر، وهل يشترط الإنزال؟ أما الانتشار فالصحيح أنه يشترط؛ لأنه لا يمكن أن تكون لذة في الجماع إلا بذلك، لكن الإنزال، المشهور من المذهب أنه ليس بشرط، فإذا حصل الجماع فإنه يحصل به الحِلُّ، وقال بعض أهل العلم: لا بد من الإنزال لقوله صلى الله عليه وسلم: «حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك» .
قوله: «والمحرِمة حتى تحل» ولم يقل المؤلف: «والمحرِم حتى يحل» ؛ لأن كلامه في المحرمات في النكاح، كما أنه لم يقل: والزاني حتى يتوب، فالكلام في النساء المحرَّمات، وليس في الرجال المُحَرَّمِين، وإن كان حتى المحرم لا يجوز أن يتزوج حتى يحل.
فقوله: «والمحرمة حتى تحل» سواء كانت محرمة بعمرة أو بحج، لحديث عثمان بن عفان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لا يَنكح المحرم ولا يُنكِح ولا يخطب»
(1)
.
فقوله: «المحرم» وصف، وهو علة الحكم، ويزول هذا الحكم إذا زال هذا الوصف، فإذا حل من إحرامه جاز النكاح، إذاً فهذا التحريم إلى أمد.
وقوله: «حتى تحل» أي: الحل الثاني؛ لأن التحلل الأول
(1)
أخرجه مسلم في النكاح/ باب تحريم نكاح المحرم (1409).
لا يبيح النكاح، فلو أن رجلاً عقد على امرأة بعد التحلل الأول فالعقد حرام، والنكاح غير صحيح؛ لأنها لم تحل بعد، فلا بد من التحلل الأول والثاني.
فإن قال قائل: وهل الرجل بعد التحلل الأول مُحرِم؟ قلنا: لا، لكن قال الرسول صلى الله عليه وسلم:«إذا رميتم وحلقتم فقد حل لكم كل شيء إلا النساء»
(1)
، فنقول: هو غير محرم لكن النساء مستثناة، والعقد من وسائل استحلال النساء، فيحرم بعد التحلل الأول ولا يصح.
وقيل: إن عقد النكاح بعد التحلل الأول صحيح وليس حراماً؛ لأن المحرم النساء، وهذا عقد، وهذا إحدى الروايتين عن أحمد، واختيار شيخ الإسلام رحمه الله وهو أصح، أنه لا يحرم النكاح بعد التحلل الأول، ولكن نقول للإنسان: احتط لنفسك، المسألة ليست هينة؛ لأنه ربما تقدم على النكاح بعد التحلل الأول، ثم بعدئذٍ يوسوس لك الشيطان، ويقول: زوجتك حرام ويدخل عليك شكوكاً، فنقول له: انتظر حتى تحل؛ لأنك حتى لو عقدت الآن لن تدخل عليها؛ لأن النساء حرام عليك.
مسألة: لو أن امرأة أحرمت بعمرة، وحاضت قبل الطواف، واستحيت أن تقول لأهلها: إنها حاضت، فطافت وسعت ورجعت إلى أهلها، وعقد عليها النكاح، فالعقد غير صحيح؛ لأنها لم تزل على إحرامها، وطوافها غير صحيح، وسعيها غير صحيح،
(1)
أخرجه الإمام أحمد (6/ 143)؛ وابن خزيمة (2937)؛ والدارقطني (2/ 276) وزاد: «وذبحتم» ؛ والبيهقي (5/ 136) عن عائشة رضي الله عنها، انظر: نصب الراية (3/ 81) والتلخيص (1057).
وتقصير شعرها أمره سهل، فيجب أن تذهب وتكمل عمرتها، ثم يعقد عليها من جديد.
فهذه مسائل خطرة، هذه المرأة لما استحيت من الحق عوقبت بهذه العقوبة، والله لا يستحي من الحق، والواجب ألا يستحي الرجل ولا المرأة من الحق، وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم لما سأله رجل، فقال: يا رسول الله إني أجامع فلا أنزل، أعليَّ الغسل؟ فقال:«إني أفعله أنا وهذه ـ يشير إلى عائشة رضي الله عنها وأغتسل»
(1)
، فلم يستحِ لأنه حق، ولما سأله ابن أبي سلمة عن قبلة الصائم، وكان عنده أم سلمة رضي الله عنها فقال:«سل هذه» يعني أمه، وكان يقبلها الرسول عليه الصلاة والسلام وهو صائم، فقال: يا رسول الله غفر الله لك ما تقدم من ذنبك، فقال صلى الله عليه وسلم:«إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأتقاكم له»
(2)
، ولما ضحك قوم من الضرطة وهي الريح التي لها صوت، قال النبي صلى الله عليه وسلم:«علام يضحك أحدكم مما يفعل؟»
(3)
، هل أنت إذا فعلتها وحيداً في نفسك تضحك؟ ولكن على كل حال الناس يضحكون؛ لأنه من سوء الأدب أن الإنسان يظهر صوت الضرطة
(1)
أخرجه مسلم في الطهارة/ باب نسخ الماء من الماء ووجوب الغسل بالتقاء الختانين (350) عن عائشة رضي الله عنها ..
(2)
أخرجه مسلم في الصيام/ باب بيان أن القبلة في الصوم ليست محرمة
…
(1108) عن عمر أبي سلمة رضي الله عنه.
(3)
أخرجه البخاري في التفسير/ باب سورة {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا *} (4942)؛ ومسلم في الجنة ونعيمها/ باب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء (2855) عن عبد الله بن زمعة رضي الله عنه.
بين الناس، والحمد لله هذا أدب طيب، فنقول: لا تظهر، ولا تضحك.
وَلَا يَنْكِحُ كَافِرٌ مُسْلِمَةً، وَلَا مُسْلِمٌ وَلَوْ عَبْداً كَافِرَةً إِلاَّ حُرَّةً كِتَابِيَّةً،
.........
قوله: «ولا ينكح كافرُ مسلمة» ، الكافر بأي نوع كان كفره، سواء كان يهودياً أم نصرانياً أم وثنياً أم شيوعياً، فإنه لا يحل أن يتزوج مسلمة، ولو كانت فاسقة، والدليل قوله تعالى:{وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} [البقرة: 221] أي: لا تزوجوا المشركين حتى يؤمنوا، وقوله تعالى:{لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة؛ 10]، فإذا منع من استدامة عقد الكافر على المؤمنة فابتداؤه من باب أولى، أما الدليل من النظر فلأنه لا يمكن أن تكون المسلمة تحت زوج كافر، والزوج سيد، قال الله تعالى:{وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} [يوسف: 25]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«اتقوا الله في النساء فإنهن عوان عندكم»
(1)
، أي: أسرى.
وهل تارك الصلاة كافر أو لا؟ الخلاف في هذا معروف، والصواب أنه كافر فلا يجوز أن يزوج بمسلمة، فإن عقد له على مسلمة، فإن نكاح الكافر بالمسلمة باطل بإجماع المسلمين.
قوله: «ولا مسلمٌ ولو عبداً كافرةً» ، المسلم لا ينكح الكافرة ولو كان عبداً، والدليل قوله تعالى:{وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221].
(1)
أخرجه الترمذي في الرضاع/ باب ما جاء في حق المرأة على زوجها (1163) وابن ماجه في النكاح/ باب حق المرأة على الزوج (1851) عن عمرو بن الأحوص رضي الله عنه، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وقوله: «ولو عبداً» «لو» هل هي إشارة خلاف، أو رفع توهم بأنه لما نقص في الحرية صار يجوز له أن يتزوج الكافرة؛ لأنها تفوقه في الحرية، وهو يفوقها في الدين فيتقابلان؟ لا أدري إن كان أحد من أهل العلم قال بذلك أو لا؟ فإن كان فيه خلاف فالخلاف لا شك أنه ضعيف، وإن كان رفع توهم فقد يتوهم بعض الناس أن حريتها تقابل إسلامه، ورِقُّه يقابل كفرها، فيكون كل واحد منهما له مزية على الآخر.
قوله: «إلا حرة كتابية» هذا مستثنى من نكاح المسلم بالكافرة، فيجوز نِكاحها بشرطين: أن تكون حرة، وأن تكون كتابية، والدليل قوله تعالى:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [المائدة: 5]، قال أهل العلم: المراد بالمحصنات هنا الحرائر، والمحصنات تطلق في القرآن على معانٍ، منها:
أولاً: المتزوجات يعني ذوات الأزواج.
ثانياً: العفيفات عن الزنا.
ثالثاً: الحرائر.
فقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ} [النور: 4]، المراد بالمحصنات هنا العفيفات.
وقوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] على قول فيها، إن المراد المتزوجات، وأما المحصنات الحرائر، فمثل هذه الآية:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} .
وقوله: «كتابية» هي اليهودية أو النصرانية، وهل يشترط أن
تكون ملتزمة بالدين الخالص لليهود والنصارى، أو لا يشترط؟
قال بعض أهل العلم: إنه يشترط بأن توحد الله عز وجل ولا تشرك به شيئاً، ولكنها لا تتبع إلا موسى عليه الصلاة والسلام إن كانت يهودية، أو عيسى عليه الصلاة والسلام إن كانت نصرانية، فإن خالفت الإسلام وأشركت فإنها لا تحل، وهؤلاء راموا الجمع بين آية المائدة وآية البقرة، فقالوا: إذا أشركت بالله، ولو كانت يهودية أو نصرانية فلا تحل، وأما إذا كانت غير مشركة بالله وإن لم تَدِنْ بالإسلام الذي جاء به محمد عليه الصلاة والسلام فإنها تحل، وتكون الفائدة من قوله:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} أنها غير مسلمة وحلت، لا أنها مشركة وحلت، وإلى هذا ذهب كثير من أهل العلم من السلف والخلف، وعلى هذا الرأي إذا كانت النصرانية تقول بأن الله ثالث ثلاثة، فإنها لا تحل ولو تدينت بدين النصارى، وكذلك اليهودية إذا قالت: عزير ابن الله فإنه لا تحل؛ لأنها مشركة.
وذهب أكثر أهل العلم إلى أن الآية: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} عامة، فكل من انتمى إلى دين أهل الكتاب فهو منهم، وقالوا: إن هذا مخصص لقوله ـ تعالى ـ في سورة البقرة: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} لأن آية البقرة متقدمة على آية المائدة، ثم هذا التعليل في الحقيقة عليل؛ لأن التخصيص لا فرق فيه بين المتقدم والمتأخر، لكن الدليل الواضح هو أن الله ذكر في سورة المائدة حل نساء أهل الكتاب، وحكى عنهم الشرك وكفَّرهم أيضاً سبحانه وتعالى فقال:{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} [المائدة: 73]، وقال:{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة: 17]، وقال:
{وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ *} [التوبة] إلى أن قال: {هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31].
فالحاصل: أن الذي عليه جمهور أهل العلم أن من تدين بدين أهل الكتاب وانتسب إليهم، ولو كان يقول بالتثليث فإنه تحل ذبيحته، ويحل نكاحه.
وقوله: «إلا حرة كتابية» هل مثلها المجوسية؟ لا، ليست مثلها مع أن المجوس تؤخذ منهم الجزية، ولكنهم يخالفون أهل الكتاب في الذبائح، فلا تحل ذبائح المجوس، ولا تحل مناكحتهم بالإجماع، ولم يخالف في حل ذبائحهم إلا أبو ثور رحمه الله، ولكن الإمام أحمد رحمه الله أنكر هذا القول إنكاراً عظيماً، فالمجوس لا تحل ذبائحهم، ولا يحل نكاح نسائهم، ولكن تؤخذ منهم الجزية؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية منهم
(1)
، والصحيح في مسألة الجزية كما تقدم لنا أنها تؤخذ من جميع الكفار؛ لأن المقصود أن يكون الكفار تحت حضانة المسلمين ورعايتهم لعلهم يسلمون، وهذا لا فرق فيه بين اليهود والنصارى والمجوس وغيرهم.
وَلَا يَنْكِحُ حُرٌّ مُسْلِمٌ أَمَةً مُسْلِمَةً، إِلاَّ أَنْ يَخَافَ عَنَتَ العُزُوبَةِ، لِحَاجَةِ المُتْعَةِ، أَوْ الخِدْمَةِ، وَيَعْجَزُ عَنْ طَوْلِ حُرَّةٍ، أَوْ ثَمَنِ أَمَةٍ،
........
قوله: «ولا ينكح حر مسلم أمة مسلمة» «حر» احترازاً من العبد، فالعبد له أن يتزوج أمة؛ لأنه يساويها.
(1)
أخرجه البخاري في الجزية/ باب الجزية والموادعة (3157) عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه.
وقوله: «مسلم» احترازاً من الكافر، فلا ينكح الأمة المسلمة مطلقاً، إذاً المفهومان مختلفان حكماً.
وقوله: «أمة مسلمة» ، اشترط أن تكون مسلمة، وظاهر كلامه ولو كانت كتابية فلا تحل للمسلم.
قوله: «إلا أن يخاف عنت العزوبة» العنت المشقة، «العزوبة» عدم الزواج، فالأعزب هو غير المتزوج، سواء كان رجلاً أو امرأة.
قوله: «لحاجة المتعة أو الخدمة» ، فإذا خاف عنت العزوبة، إما لأجل الخدمة، وإما لأجل الاستمتاع، فله أن يتزوج الأمة لقوله تعالى:{ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} [النساء: 25].
قوله: «ويعجز عن طَوْل حرةٍ أو ثمن أمة» الطول المهر، أي: يعجز عن مهر الحرة، أو ثمن الأمة.
فهذه ثلاثة شروط:
الأول: أن تكون الأمة مسلمة.
الثاني: أن يخاف عنت العزوبة.
الثالث: أن يعجز عن طول حرة أو ثمن أمة.
والدليل قوله تبارك وتعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} إلى أن قال: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [النساء: 25].
فالشرط الأول من قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً} .
والشرط الثاني من قوله تعالى: {مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} .
والشرط الثالث من قوله تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} .
وتأمل الآية الكريمة هل ينطبق عليها كلام المؤلف؟ نعم، ينطبق إلا في قوله:«وثمن أمة» فإن هذا الشرط ليس موجوداً في القرآن، لكن اشترطه الفقهاء، قالوا: لأنه إذا كان قادراً على شراء الأمة استغنى به عن نكاح الأمة، ولأن نكاحه الأمة يلحقه من العار أكثر مما يلحقه لو اشترى أمة وتسرَّاها، ولأنه إذا نكح أمة صار أولاده أرقاء، وإذا تسرى أمة صار أولاده أحراراً، ولهذا قال الإمام أحمد رحمه الله: إذا تَزوَّج الحرُّ أمةً رَقَّ نصفُهُ، يعني صار رقيقاً؛ لأن عياله من هذه الأمة يكونون مماليك لسيدها.
وما ذكره المؤلف له وجه قوي، ثم إن النظر يقتضي التحريم كذلك؛ لأنه كما قال الإمام أحمد يستلزم أن يكون أولاده أرقاء مماليك يباعون ويشترون، وهو حر!! وهذا قد يكون فيه عار أن يرى ولده يقاد بالقلادة إلى السوق ليباع، فهذا أمر عظيم ليس هيناً؛ فلذلك لا يجوز إلا في حالة الضرورة، كما ذكر الله عز وجل.
بقي علينا أن يقال: ما الحكم فيما لو اشترط على المالك أن يكون أولاده أحراراً؟ اختلف في هذا أهل العلم، فمنهم من قال: إنه يجوز أن يتزوج الأمة إذا اشترط أن يكون أولاده
أحراراً، قالوا: لأن العلة هي رق الأولاد، والآن زال، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، ولكن نقول: كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، والله عز وجل لم يشترط ذلك، لم يقل: إلا أن يشترط حرية أولاده، ثم إن من الدناءة وخلاف المروءة أن الحر يتزوج أمة، حتى عند الناس إذا تزوج أمة صار شهرة، فلان الرجل الشريف النسيب تزوج رقيقة فلان!! ففيه معرة وعيب، والإنسان ينبغي أن يبتعد عن كل شيء يجر إليه العيب، فالصواب ما دل عليه القرآن الكريم أنه لا يحل أن يتزوج الأمة، إلا بما ذكر الله عز وجل من الشروط، حتى وإن اشترط أن أولاده أحرار فإنه لا يصح لعموم الآية، وكوننا نقول: إن العلة هي استرقاق أولاده، قد يعارض فيه معارض، ويقول: من قال لكم إن هذه هي العلة؟ وَهَبْ أن ذلك جزء العلة فإن الحكم لا يتم إلا بوجود العلة تامة.
وَلَا يَنْكِحُ عَبْدٌ سَيِّدَتَهُ، وَلَا سَيِّدٌ أَمَتَهُ، وَلِلْحُرِّ نِكَاحُ أَمَةِ أَبِيهِ، دُونَ أَمَةِ ابْنِهِ، وَلَيْسَ لِلْحُرَّةِ نِكَاحُ عَبْدِ وَلَدِهَا،.
قوله: «ولا ينكح عبدُ سيدته» تحريماً إلى أمد؛ حتى يخرج عن ملكها، فما دامت سيدته فإنه لا يحل له أن يتزوجها، فإذا قيل: ما الدليل؟ مع أن الله يقول: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] قلنا: الدليل إجماع العلماء، قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم عليه.
والإجماع أحد الأدلة الأربعة التي هي الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس الصحيح، وأيضاً المعنى يقتضي ذلك؛ لأن السيدة لا يمكن أن تكون مَسُودة، والزوجُ سيد زوجته، فإذا قلنا: إنها سيدته كيف تكون مسودة؟! يكون له الأمر عليها، هذا تنافر
وتناقض أن يكون الآمر مأموراً، لكن ما الطريق إلى الحِل إذا رغب أن يتزوجها ورغبت أن تتزوجه؟ تعتقه، لكن لو خدعها وقال: أعتقيني لأتزوجك وهي راغبة فيه فأعتقته، فلما أعتقته قال: الحمد لله الذي فكني منك، والمُعْتَق لا يمكن أن يرجع رقيقاً، ففي مثل هذه الحال يضمن قيمة نفسه لها؛ لأنه غرها وخدعها.
قوله: «ولا سيد أمته» أي: لا ينكح سيد أمته، يعني لا يعقد عليها النكاح، وليس المعنى ألا يطأ، فإنه يطؤها بملك اليمين؛ لأن الله جعل ملك اليمين قسيماً للنكاح فقال:{إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 6]، فدلَّ ذلك على أنهما لا يجتمعان؛ لأن قسيم الشيء مباين له، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أعتق صفية وجعل عتقها صداقاً
(1)
، وأيضاً فإن وطأه إياها بملك اليمين أقوى من وطئه إياها بالعقد؛ لأن ملك اليمين يحصل به الملك التام، فيملك عينها ومنافعها، والنكاح لا يملك إلا المنفعة التي يقتضيها عقد النكاح شرعاً أو عرفاً، فهو مقيد، قال أهل العلم: ولا يَرِدُ العقد الأضعف على العقد الأقوى، فهو يستبيح بُضعها بملك اليمين الذي هو أقوى من عقد النكاح.
قوله: «وللحر نكاح أمة أبيه» بشرط ألا يكون الأب قد جامعها؛ فإن جامعها الأب فإنها لا تحل للابن؛ لأنها مما نكح أبوه.
مثال ذلك: رجل له أبٌ غني وعند أبيه جوارٍ، فأراد هذا
(1)
سبق تخريجه ص (39).
الابن أن يتزوج واحدةً منهن، يجوز بالشروط السابقة في نكاح الأمة؛ لأنها داخلة في عموم الآية:{مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25]، وفي عموم قوله:{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24].
قوله: «دون أمة ابنه» مثلاً رجل له ابن غني، لكن لم يجد أحداً يزوجه؛ لأنه كبير السن، وعند ابنه إماء مملوكات، فأراد أن يتزوج واحدة منهن، فهل يجوز؟ يقول المؤلف: لا يجوز أن يتزوجها، ولو تمت شروط نكاح الأمة في حقه؛ لأن الأب له أن يتملك من مال ولده بخلاف الابن، فإذا كان له أن يتملك من مال ولده، فلا حاجة إلى أن يتزوج أمة ولده، بل يتملك الأمة، وتحل له بملك اليمين، فهو إذاً مستغنٍ عن نكاح أمة ابنه بجواز تملكه، فله فيها شبهة ملك.
ولكن هذا القول ضعيف؛ لأنه ليس للأب شبهة ملك في مال ولده، بل له شبهة تملك، وفرق بين أن نقول: لك التملك، وأن نقول: لك ملك؛ لأننا إذا قلنا: ملك، يعني أنه مشارك للابن، وإذا قلنا: تملك، يعني أنه ليس مشاركاً، لكن له أن يتملك، والمراد هنا أن له التملك، وحينئذٍ نقول: إن أمة ابنه حلال له، لدخولها في عموم قوله تعالى:{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} ، فالصواب في هذه المسألة أنه يجوز للأب أن يتزوج أمة ابنه إذا تم في حقه شروط جواز نكاح الإماء.
فإن قيل: كيف تجيزون هذا وهو له حق التملك، لماذا لا تقولون له: تملكها؟ فنقول: قد لا يختار أن يتملكها، بل يحب
أن تبقى ملكاً لابنه ليبيعها إذا طلقها أبوه، أو يزوجها وينتفع بمهرها، أو ما أشبه ذلك.
قوله: «وليس للحرة نكاح عبد ولدها» ، هذه امرأة حرة ولها ولد، وهذا الولد له عبد، فأراد هذا العبد أن يتزوج أم سيده، يقول المؤلف: إن هذا لا يجوز، ولو كان عبد آخر، وأراد أن يتزوج أم هذا الرجل، جاز.
وهذا القول مبني على قول ضعيف، وهو أنه إذا ملك أحد الزوجين زَوْجَه، أو ملكه ابنُهُ، أو أبوه انفسخ النكاح، وستأتي في آخر الفصل، فإذا ضعف الأصل ضعف الفرع، وإذا كان الأصل ضعيفاً لا دليل عليه تبقى هذه المسألة وهي الفرع كذلك ضعيفة لا دليل عليها.
والقول الثاني في هذه المسألة: أنه يجوز للحرة أن تنكح عبد ولدها، ولا حرج فيه، ولا يقال: إن هذه المسألة غريبة، كيف تكون؟! نقول: ربما تكون أم السيد امرأة شابة، ولابنها عبد شاب جميل مثلاً، فأحبته وأحبها، وطلبت من ابنها أن يزوجها هذا العبد، فهذا يجوز، وهذا القول هو الصحيح؛ لأنه داخل في عموم قوله تعالى:{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] وعبد ابنها ليس أباها، ولا ابنها، وأخاها، ولا عمها، ولا خالها، ولا ابن أخيها، ولا ابن أختها، فأين الدليل على المنع؟! وقد سبق أنه لا يجوز للحرة أن تتزوج عبدها، وقلنا: إن الدليل على ذلك الإجماع والتضاد، أما هنا فلا إجماع ولا تضاد، فالصواب إذاً أن للحرة أن تنكح عبد ولدها، وأولادها منه يكونون أحراراً تبعاً لها.
وَإِنِ اشْتَرَى أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ أَوْ وَلَدُهُ الْحُرُّ، أَوْ مُكَاتَبُهُ الزَّوْجَ الآخَرَ أَوْ بَعْضَهُ انْفَسَخَ نِكَاحُهُمَا،
.......
قوله: «وإن اشترى أحدُ الزوجين أو ولدُه الحرُّ، أو مُكاتَبُهُ الزوجَ الآخرَ أو بعضَه انفسخ نِكَاحُهُما» ، هذه المسألة مبنية على ما سبق، مثال ذلك: امرأة حرة زَوْجُها عَبْدٌ لرجل، فاشترته فينفسخ النكاح؛ لأنها لما اشترته صارت سيدته، والسيدة لا تنكح عبدها، فإذا امتنع ابتداء النكاح امتنع دوامه.
وبالعكس: لو أن حراً أراد أن يتزوج أمة، وهو ممن يحل له نكاح الإماء، فتزوجها، ثم اشتراها، فينفسخ النكاح؛ لأنه لما اشتراها ملكها، فورد العقد الأعلى على العقد الأدنى، فانفسخ العقد الأدنى، وصارت تحل له بملك اليمين.
وهل يجب عليه أن يستبرئها أو لا؟ في ذلك تفصيل، إن كان السيد قد اشترط ما في بطنها، فلا يجوز أن يجامعها حتى يستبرئها؛ لأن الولد للسيد، وإن لم يشترط السيد ذلك فله أن يجامعها، ولا يحتاج إلى استبرائها؛ لأن الولد له.
وقوله: «أو ولده» هذا مبني على أن الإنسان لا يتزوج أمة ابنه، والقول الراجح جواز ذلك، مثاله: رجل تزوج أمة على وجه صحيح، بالشروط المعروفة، فاشترى ابنه هذه الزوجة من سيدها، وصارت ملكاً للولد، فينفسخ النكاح؛ لأنه ليس للأب أن يتزوج أمة ابنه.
وسبق أن القول الراجح أن للأب أن يتزوج أمة ابنها، إلا إذا تملكها، وأنه لا ينفسخ النكاح.
ولكن هل للولد إذا علم أن النكاح ينفسخ أن يشتري زوجة أبيه؟ الجواب: لا يحل؛ لأنه عقوق، فقد يكون الأب متعلقاً بهذه الزوجة وراغباً فيها، فيأتي الولد ويشتريها فيفوتها عليه.
ولو أن شخصاً له أم متزوجة عبداً، وهذا الابن اشترى هذا العبد ينفسخ نكاح أمه؛ لأنه ملك زوجها، فإذا كان مالكاً له من الأصل، فعدم انعقاد النكاح من باب أولى، وهذه المسألة مبنية على أصل ضعيف، والمبني على الضعيف أضعف منه، وعلى هذا يجوز للإنسان أن يزوج عبده أمه، لعموم قوله تعالى:{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24].
وقوله: «أو ولده الحر» لأن غير الحر لا يملك أصلاً، ولا يشتري شيئاً يدخل في ملكه.
وقوله: «أو مكاتَبُهُ» المكاتب هو العبد الذي اشترى نفسه من سيده بثمن مؤجل بأجلين فأكثر، وهو حر في التصرف، يتصرف كما شاء، بالبيع والشراء والاستئجار والإجارة، فإذا اشترى المكاتب زوجة سيده، فإن النكاح ينفسخ ـ لأن أصل المكاتب لا يكون حراً إلا إذا أدى الكتابة، وما دام لم يؤدِ الكتابة فهو عبد ـ فإذا اشترى زوجة سيده صار السيد هو الذي ملك زوجته في الواقع؛ لأن ملك المكاتب ملك لسيده، هكذا قالوا.
وفي هذا التعليل نظر؛ لأن المكاتب يملك البيع والشراء؛ ولهذا لو أراد أن يبيع ما اشتراه لم يملك سيده أن يمنعه، ثم إن المكاتب قد يعجز عن أداء قيمة الكتابة، فإذا عجز صار عبداً، ولهذا لو قيل: إذا اشترى المكاتب زوجة سيده فإنه ينتظر، فإن
تحرر فالنكاح لا ينفسخ، وإن عاد رقيقاً فإنه ينفسخ؛ لأنه حينئذٍ يكون السيد قد ملك زوجته.
وكل هذه مبنية على تعليلات بعضها له وجه، وبعضها لا وجه له، وليس هناك أدلة.
وَمَنْ حَرُمَ وَطْؤُهَا بِعَقْدٍ حَرُمَ بِمُلْكِ يَمِينٍ إِلاَّ أَمَةً كِتَابِيَّةً،
.........
قوله: «ومن حرم وطؤها بعقد حرم بملك يمين» ، هذا ضابط «فكل امرأة يحرم أن تعقد عليها يحرم أن تطأها بملك اليمين» فأخت الزوجة يحرم عقد النكاح عليها، فيحرم أن تطأها بملك اليمين، أي: لو كان إنسان له زوجة حرة ولها أخت مملوكة، فاشترى أختها المملوكة، فالشراء صحيح، لكن لا يطؤها ما دامت أختها عنده، حتى يحرمها، إما بطلاق أو فسخ أو غير ذلك؛ لأنه لا يجوز أن يجمع بين الأختين في العقد، فلا يجوز أن يجمع بينهما في ملك اليمين.
فإن قال قائل: كيف صح شراؤها ولم يصح نكاحها؟
فالجواب: أن الشراء لا يتعين للاستمتاع، بل قد يشتري العبد ليعتقه، أما عقد النكاح فالمراد به الاستمتاع، ولذلك يجوز أن يشتري أخت زوجته، ولا يجوز أن يعقد عليها النكاح، وكذلك لو اشترى أمة وهو محرم فيصح العقد، ولو تزوج امرأة وهو محرم لم يصح، ولو علق عتق شخص بالشراء، فقال: إذا اشتريت هذا فهو عتيق فإنه يصح؛ لأن الشراء يراد للعتق فإذا اشتراه عتق، ولو قال: إذا تزوجت فلانة فهي طالق، وتزوجها، فإنها لا تطلق.
والفرق بينهما أن الشراء يراد للعتق، والنكاح لا يراد للطلاق، هكذا فرق الإمام أحمد رحمه الله بينهما.
ولهذا لو أراد شخص أن يتزوج ثانية، وعلمت الأولى وغضبت، فإنه يقول: إن تزوجت فلانة فهي طالق، فإذا تزوجها لا تطلق؛ لأن النكاح لا يراد للطلاق.
ومن العلماء من قال: لا يصح في المسألتين؛ لأنه لم يملك المرأة حتى يملك طلاقها، ولم يملك العبد حتى يملك عتقه.
قوله: «إلا أمة كتابية» ، فالأمة الكتابية يجوز وطؤها بملك اليمين، مع أنه لا يجوز وطؤها بعقد النكاح؛ لأنه ـ سبق لنا ـ أنه يشترط لجواز عقد النكاح على الأمة أن تكون مؤمنة لقوله تعالى:{مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25]، فنكاح الأمة المؤمنة جائز، ونكاح الأمة الكافرة غير جائز، ووطء الأمة الكتابية يجوز بملك اليمين، والدليل عموم قول الله تعالى:{إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 6].
وعلم من قول المؤلف: «أمة كتابية» أن الأمة غير الكتابية لا تحل بملك اليمين، فلو اشترى الإنسان أمة وثنية، فإنه لا يحل له أن يطأها ـ على كلام المؤلف رحمه الله، فإذا وقعت حرب بين المسلمين وبين الهندوس، وسبينا نساءهم، فعلى ما ذهب إليه المؤلف فإن نساءهم لا تحل.
لكن هذا خلاف ظاهر القرآن، وهو قول ضعيف، والصواب
أن الأمة المملوكة وطؤها حلال، سواء كانت كتابية، أم غير كتابية، وليس في كتاب الله عز وجل اشتراط أن تكون من مُلِكت كتابية، والآيات واضحة، {إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} فمن يُخرِج نوعاً من الإماء عن هذا العموم فعليه الدليل، وعلى هذا فلو كان عند الإنسان أمة غير كتابية وهو مالك لها فإن له أن يطأها بملك اليمين، خلافاً لما يفيده كلام المؤلف رحمه الله وهذا الذي ذكرناه هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
وقد حكى بعضهم الإجماع على أن غير الكتابية من الإماء لا يحل وطؤها، ولكن هذا الإجماع غير صحيح.
وَمَنْ جَمَعَ بَيْنَ مُحَلَّلَةٍ وَمُحَرَّمَةٍ فِي عَقْدٍ صَحَّ فِيمَنْ تَحِلُّ، وَلَا يَصِحُّ نِكَاحُ خُنْثَى مُشْكِلٍ قَبْلَ تَبَيُّنِ أَمْرِهِ،
..........
قوله: «ومن جمع بين محلَّلةٍ ومحرمةٍ في عقدٍ صح فيمن تحل» ، هذا يسميه العلماء تفريق الصفقة أي: العقد، يعني إذا جمعت الصفقة في بيع أو نكاح بين شيئين، يصح العقد على أحدهما دون الثاني، فإنه يصح فيما يصح العقد عليه، ويبطل فيما لا يصح، هذا هو المذهب وهو الصحيح؛ لأن العلة في أحدهما تقتضي الصحة وفي الآخر تقتضي البطلان، فيجب العمل بها.
وقال بعض أهل العلم: إنه لا يصح في المحللة أيضاً؛ لأن العقد واحد اشتمل على مباح ومحظور، فيغلب جانب الحظر، ولكن الصواب أن يقال: إِنَّ تعدُّدَ المعقود عليه كتعدد العقد، وإن كانت الصيغة واحدة، مثال ذلك: رجل تزوج امرأتين في عقد، إحداهما مُحْرِمة، والأخرى غير محرِمة، فيصح العقد في غير المحرمة، ولا يصح في المحرمة.
قوله: «ولا يصح نكاح خنثى مشكل قبل تبين أمره» بنو آدم وغيرهم أيضاً من ذوات الحياة، إما ذكور خلص، أو إناث خلص، أو مشتبه فيهم، فالذكور والإناث الخلص واضح أمرهم، لكن المشتبه فيه يسمى الخنثى المشكل.
تعريفه في باب الميراث: من لم يتبين أنه ذكر أو أنثى، سواء كان له آلة ذكر وأنثى، أو كان له مخرج واحد يخرج منه البول والغائط، أو لم يكن له مخرج.
والخنثى المشكل في باب النكاح: من له آلة ذكر وآلة أنثى، أي له عضو ذكر وفرج أنثى، ولم يتبين أهو ذكر أو أنثى، بأن كان يبول منهما جميعاً، ولم يحصل له شيء يميزه، أذكر هو أو أنثى؟ فهذا لا يصح أن يتزوج، فلا يتزوج أنثى ولا يتزوج ذكراً، لا يتزوج أنثى لاحتمال أن يكون أنثى، والأنثى لا تتزوج الأنثى، ولا يتزوج ذكراً لاحتمال أن يكون ذكراً، والذكر لا يتزوج الذكر، فيبقى هكذا لا يتزوج إلى أن يتبين أمره، فإذا تبين أمره، فإن كان من الذكور تزوج الإناث، وإن كان من الإناث تزوجه الذكور، فهذا حرام إلى أمد، حتى يتبين أمره.
مسألة: هل يجوز أن يجرى له عملية ليحول إلى أحد الصنفين؟ إن كان واضحاً فلا شك أنه يجوز إجراء العملية له، يعني إن اتضح أنه أنثى فإنه يجوز أن تجرى له عملية بإزالة آلة الذكر، وإن تبين أنه ذكر، وكان له ثديان مثلاً، فإنه يجوز له إجراء عملية لإزالة الثديين؛ لأن الثديين عيب في الذكور، كما أن ذكر الرجل عيب في الإناث، لكن المشكل إذا كان خنثى مشكلاً؛
فإن أردنا أن نزيل آلة الذكورة فقد نكون جَنَيْنا عليه، وإن أزلنا آلة الأنوثة ـ أيضاً ـ جنينا عليه؛ لأنه إلى الآن لم يتضح أنه ذكر ولا أنثى، فالظاهر أنه يبقى على ما هو عليه حتى يبينه الله عز وجل بما أراد، وإذا كان يمكن الكشف عليه بالطب ـ مثلاً ـ على الرحم أو غيره، فهذا يعمل به.
وإذا كان له شهوة وهو الآن ممنوع شرعاً من النكاح، فماذا يصنع؟ نقول له: الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: «من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم»
(1)
، فنقول له: صم، فإذا قال: لا أستطيع الصوم؛ فإنه يمكن أن يعطى من الأدوية ما يهون عليه الأمر، وهو أحسن من قولنا: أخرج المني بطرق غير مشروعة.
(1)
سبق تخريجه ص (6).
بَابُ الشُّرُوطِ وَالعُيُوبِ فِي النِّكَاحِ
قوله: «الشروط والعيوب في النكاح» ، جمع المؤلف بين الشروط والعيوب؛ لأن العيب فَقْد شرط؛ إذ إن العقد المطلق مقتضاه السلامة من العيوب، فكأن العاقد شرط بمطلق عقده خلو المعقود عليه من العيوب؛ فلهذا جمع بينهما.
سبق لنا شروط النكاح، فنحتاج إلى معرفة الفرق بينها وبين الشروط في النكاح، فنقول: الشرط في اللغة العلامة، ومنه قوله تعالى:{فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} [محمد: 18] أي: علاماتها، أما الفرق بين شروط النكاح والشروط فيه، فهو من أربعة أوجه:
أولاً: أن شروط النكاح من وضع الشارع، فالله سبحانه وتعالى هو الذي وضعها وجعلها شروطاً، وأما الشروط في النكاح فهي من وضع العاقد، وهو الذي شرطها.
ثانياً: شروط النكاح يتوقف عليها صحة النكاح، أما الشروط فيه فلا تتوقف عليها صحته، إنما يتوقف عليها لزومه، فلمن فات شرطه فسخ النكاح.
ثالثاً: أن شروط النكاح لا يمكن إسقاطها، والشروط في النكاح يمكن إسقاطها ممن هي له.
رابعاً: شروط النكاح لا تنقسم إلى صحيح وفاسد، والشروط في النكاح تنقسم إلى صحيح وفاسد.
واعلم أن الشروط في النكاح يعتبر أن تكون مقارِنة للعقد، أو سابقة عليه، لا لاحقة به، فمحلها إما في صلب العقد أو قبله لا بعده، في صلب العقد مثل أن يقول: زوجتك ابنتي هذه على أن لا تتزوج عليها، فهذا مقارن للعقد، أو زوجتك ابنتي هذه على أن تدفع لها خمسمائة ريال مهراً، هذا مقارن أيضاً، والشرط السابق أن يتفق هو وإياه حين خطبها منه أن لا يتزوج عليها، فهذا الشرط مع كونه سابقاً للعقد، لكنهما اتفقا عليه فيعتبر؛ لأن العقد الذي حصل مبني على ما سبق من الشروط.
وقد سبق لنا في الشروط في البيع أن المعتبر منها المقارن واللاحق في زمن الخيار، دون ما اتفقا عليه قبل، وسبق لنا أن الصحيح أنه كالنكاح لا فرق بينه وبينه، وأن ما اتفقا عليه قبله يكون كالمقارن، أما النكاح فإنه لا يمكن فيه الشرط اللاحق؛ لأنه ليس فيه خيار على المذهب، وفي البيع يمكن أن يلحق بعد العقد كما لو لحق في خيار المجلس، أو في خيار الشرط كما تقدم.
واعلم أن الأصل في جميع الشروط في العقود الصحة حتى يقوم دليل على المنع؛ والدليل على ذلك عموم الأدلة الآمرة بالوفاء بالعقد: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]، {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} [الإسراء: 34]، وكذلك الحديث الذي روي عن الرسول عليه الصلاة والسلام:
«المسلمون على شروطهم إلا شرطاً أحل حراماً أو حرم حلالاً»
(1)
. وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام: «كل شرط ليس فيه كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط»
(2)
.
فالحاصل: أن الأصل في الشروط الحل والصحة، سواءً في النكاح، أو في البيع، أو في الإجارة، أو في الرهن، أو في الوقف، وحكم الشروط المشروطة في العقود إذا كانت صحيحة أنه يجب الوفاء بها في النكاح وغيره؛ لعموم قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} فإن الوفاء بالعقد يتضمن الوفاء به وبما تضمنه من شروط وصفات؛ لأنه كله داخل في العقد، وقد قيل:
الأصل في الأشياء حِلٌّ وامنعِ
عبادةً إلا بإذن الشارعِ
(3)
والغريب أن فقهاء المذهب رحمهم الله يرون أن الوفاء بالشروط في عقد النكاح سنة وليس بواجب، حتى فيمن لا يملك الفسخ، ولكن هذا القول ضعيف، ومخالف لقول
(1)
علقه البخاري بصيغة الجزم في الإجارة، باب أجر السمسرة، ووصله أبو داود في القضاء/ باب في الصلح (3594)؛ والحاكم (2/ 92) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه الترمذي في الأحكام، باب ما ذكر عن ـ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلح بين الناس (1352)؛ عن كثير بن عبد الله المزني عن أبيه عن جده، وقال: حسن صحيح، وأخرجه الدارقطني (3/ 27، 28)؛ والحاكم (2/ 49، 50) عن عائشة وأنس رضي الله عنهما بلفظ: «المسلمون عند شروطهم ما وافق الحق» ؛ وصححه النووي في المجموع (9/ 464)؛ والألباني في الإرواء (1303).
(2)
أخرجه البخاري في البيوع/ باب الشروط والبيع مع النساء (2155)؛ ومسلم في العتق/ باب بيان أن الولاء لمن أعتق (1504)(8) عن عائشة رضي الله عنها.
(3)
منظومة في قواعد الفقه وأصوله للمؤلف رحمه الله.
الرسول عليه الصلاة والسلام الثابت عنه في الصحيحين: «إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج»
(1)
، فالصواب أنه يجب على الزوج والزوجة، وعلى كل من شُرط عليه شرط أن يوفي به استناداً إلى الآيات التي أشرنا إليها، وإلى هذا الحديث الصحيح، ومن الغريب أن نوجب الوفاء بالشرط في عقدٍ على بيع لا يساوي خمسة دراهم، ولا نوجب الوفاء بالشرط في عقد يكون العوض فيه الزوجة، التي هي محل الحرث، والعوض الذي أعطيته خمسون ألفاً!!
والشروط في النكاح تنقسم إلى ثلاثة أقسام: صحيحة، وفاسدة غير مفسدة، وفاسدة مفسدة.
الأول: شروط صحيحة، ومعلوم أن الشرط الصحيح لا يؤثر على العقد، فالصحيحة يصح معها العقد، ومنها:
إِذَا شَرَطَتْ طَلَاقَ ضَرَّتِهِا، أَوْ أَنْ لَا يَتَسَرَّى أَوْ لَا يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا،
قوله: «إذا شرطت طلاق ضَرتِها» «إذا» شرطية، والجواب في قوله:«صح» فإذا شرطت طلاق ضرتها فإن الشرط صحيح والعقد صحيح، مثال ذلك: خطب رجل من شخص ابنته، فقال: لا بأس لكن بشرط أن تطلق زوجتك، نقول: هذا الشرط صحيح؛ لأن الزوجة التي شرطت أن يطلق ضرتها لها مقصود في ذلك، وهو أن تنفرد به، وهذا مقصود للنساء بلا شك، وكل يعرف أن النساء يحببن أن ينفرد الزوج بهن، فيكون هذا مقصوداً صحيحاً.
(1)
أخرجه البخاري في الشروط/ باب الشروط في المهر عند عقدة النكاح (2721)؛ ومسلم في النكاح/ باب الوفاء بالشروط في النكاح (1418) عن عقبة بن عامر رضي الله عنه.
لكن هذا القول ضعيف؛ لأن هذا القياس في مقابلة النص، والنظر في مقابلة الأثر عمًى وليس بنظر؛ لأن كل شيء يخالف النص فهو باطل، يخالف قول رسول الله عليه الصلاة والسلام:«لا تسأل المرأة طلاق أختها» فأتى بالأخوة التي تستوجب عدم الاعتداء على حقها، ثم علل فقال:«لتكفأ ما في صحفتها»
(1)
، يعني فإن هذا الشرط موجب لقطع رزقها من هذا الزوج الذي ينفق عليها، وهذا أدنى ما يوجبه، وإلا فالرسول صلى الله عليه وسلم ذكر الأدنى ليُستدل به على الأعلى، ففراق زوجها لها فراق العشرة، وإن كانت ذات أولاد ففراق أولاد، وتشتتهم، وهذا أعظم، فالرسول عليه الصلاة والسلام نبه بأدنى المفاسد على أعلاها.
فإذا قلنا بجوازه، فمعنى ذلك أننا خالفنا النص، وأبحنا للمرأة أن تشترطه، إذاً هذا الشرط يدخل في الشروط الفاسدة لا في الشروط الصحيحة؛ لمخالفته للنص.
وقولهم: إن لها في ذلك غرضاً مقصوداً، نقول: صحيح لكن فيه اعتداء على غيرها ممن هي أمكن منها بزوجها، فيكون هذا النظر الذي قالوه مقابَلاً بأثر ونظر، فلو تزوجها على هذا الشرط، ثم دخل بها وأمسك الأولى فليس لها أن تطالبه بطلاقها؛ لأن الشرط الفاسد كأن لم يكن.
قوله: «أو أن لا يتسرى أو لا يتزوج عليها» الفرق بين التسري والتزوج، أن التسري الوطء بملك اليمين، والتزوج عقد النكاح، فإذا اشترطت امرأة أن لا يتسرى عليها زوجها، فقبل فإن
(1)
سبق تخريجه ص (32).
هذا يجوز؛ لأن حق الأمة لم يوجد بعد، فلم تعتدِ على أحد، أو اشترطت أن لا يتزوج عليها فإن هذا يجوز.
وقال بعض العلماء: إنه لا يجوز؛ لأنه حجر على الزوج فيما أباح الله له، فهو مخالف للقرآن:{فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3]، فيقال في الجواب على ذلك: هي لها غرض في عدم زواجه، ولم تعتدِ على أحد، والزوج هو الذي أسقط حقه، فإذا كان له الحق في أن يتزوج أكثر من واحدة وأسقطه، فما المانع من صحة هذا الشرط؟! ولهذا فالصحيح في هذه المسألة ما ذهب إليه الإمام أحمد رحمه الله من أن ذلك شرط صحيح.
فإذا قيل: ما الفرق بين هذه المسألة والمسألة الأولى؟
فالجواب: أن الفرق بينهما ظاهر؛ لأنه في الأول الرجل متزوج، وهنا لم يتزوج، فليس في هذه المسألة الأخيرة عدوان على أحد، ولهذا يقال: إن الدفع أهون من الرفع، وهي قاعدة معروفة من قواعد الفقه، والاستدامة أقوى من الابتداء، ثم إن الوفاء به ـ أيضاً ـ هو الموافق للمروءة والأخلاق؛ لأنه ليس من كريم الخلق أن تتزوج امرأة على أنك لا تتزوج عليها، ثم إذا أزلت بكارتها وصارت كاسدة بين الناس تذهب وتتزوج عليها!!
مسألة: لو قالوا للزوج: نشرط عليك أنك لو تزوجت فهي طالق، فقال: لكم ألا أتزوج، وإن تزوجت فهي طالق، يصح شرط ألا يتزوج، لكن لو تزوج هل تطلق؟ لا؛ لأنه تعليق على ما لا يملك، فالطلاق لا يكون إلا بعد النكاح، وهذا الرجل لم يتزوج حتى يطلق، ولهذا لو أن امرأة سمعت أن زوجها يريد أن يتزوج
وبدأت تخالفه، فإذا أمرها بشيء، لم تمتثل، وقالت: لأنك ستتزوج، فقال: أتريدين أن أرضيك؟ قالت: نعم، قال: إذا تزوجت أي امرأة فهي طالق، ثم عقد على امرأتين فلا تطلقان؛ لأنه طلاق معلق على النكاح، ولا يصح أن يعلق الطلاق على النكاح، إذ إنه لا بد أن يكون النكاح سابقاً للطلاق.
يُخْرِجَهَا مِنْ دَارِهَا أَوْ بَلَدِهَا، أَوْ شَرَطَتْ نَقْداً مُعَيَّناً، أَوْ زِيَادَةً فِي مَهْرِهَا صَحَّ، فَإِنْ خَالَفَهُ فَلَهَا الفَسْخُ،
.........
قوله: «أو لا يخرجها من دارها» قال: أنا أزوجك بنتي، لكن بشرط ألا تخرجها من بيتي فيصح؛ وذلك لأنه هو الذي أسقط حقه، وليس في ذلك عدوان على أحد، لكن يجوز فيما بعد أن يسألها إسقاط هذا الشرط، ولو بعوض على القول الراجح.
قوله: «أو بلدها» اشترطت ألا يخرجها من بلدها فهذا جائز، وهو أوسع من الدار قليلاً؛ لأنه يملك في هذا الشرط أن يخرجها إلى بيته، أو إلى جهة أخرى من البلد، فإن اتسعت البلد حتى صارت بلاداً، فنقول: ما دام اسم البلد باقياً على هذه المنطقة فهو بلدها، فيجوز هذا الشرط.
وفي الروض
(1)
«أو ألا يفرق بينها وبين أولادها» ، فهذا ـ أيضاً ـ شرط صحيح.
كذلك ـ أيضاً ـ إذا شرطت أن ترضع ولدها الصغير وقَبِل بهذا يلزمه؛ لأن هذه كلها أقصى ما فيها أنها إسقاط لكمال الاستمتاع من الزوج، وهو الذي رضي بذلك وأسقط حقه.
(1)
الروض المربع مع حاشية ابن قاسم (6/ 315).
قوله: «أو شرطت نقداً معيناً» يعني في المهر، بأن قالت: أريد أن يكون صداقي من الدولارات فإنه يجوز، ولو اشترطت أن يكون المهر من النقد المعدني، يعني ذهباً أو فضة فإنه يجوز، ولو شرطت أن يكون صداقها من فئة مائتين الجديدة فإنه يجوز؛ لأنه قد يكون لها فيها غرض، فالمهم إذا شرطت نقداً معيناً لزم الزوج لعموم قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]، والشروط في العقود هي أوصاف للعقود، فتدخل في قوله:{أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} .
قوله: «أَوْ زيادةً فِي مَهْرِهَا صحَّ» أي: والتزم الزوج بذلك، فالشرط صحيح، ولا مانع.
وقوله: «في مَهْرِهَا» متعلق بقوله: «معيناً» .
وقوله: «زيادة» لو شرطت العكس أي: نقصاً في المهر، فهذا يصح، بأن قالت: بشرط أن لا يكون مهري إلا مائة ريال، ثم أعطاها مائتين فإن لها أن ترد المائة؛ لأنه قد يكون لها غرض في قلة المهر، إما لئلا تنكسر قلوب أخواتها، أو صديقاتها، أو تريد أن تسن سنة حسنة بتقليل المهور، فلها أن ترد الزائد على ما شرطت؛ لأن الحق لها وأسقطته.
وعموم قول المؤلف: «أو زيادة في مهرها» يشمل الزيادة الكثيرة والزيادة القليلة، فلو قالت: أنا أشترط عليك أن يكون مهري مليون ريال، ومهرها لا يساوي إلا مائتي ريال، فهذا يصح والحق لها، وهذا قد يقع تعجيزاً للخاطب؛ لأنها لا تريده، وأبوها، أو أمها، أو حاشيتها يريدون أن يجبروها على ذلك، فتقول: لا مانع، بشرط أن يعطيني مهراً مليون ريال، فإن كان
تعجيزاً فسوف يرفضه الزوج غالباً، فاشتراط الزيادة الكبيرة قد يكون لغرض، ونحن نقول: إن الشروط في النكاح هي إلزام أحد الزوجين الآخر ماله فيه غرض.
والزيادة في المهر، هل تكون لها، أو لأمها وأبيها؟
تكون لها بنص القرآن لقوله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ} أي: مهورهن {نِحْلَةً} [النساء: 4] أي: عطية لا منة فيها.
قوله: «فإن خالفه فلها الفسخ» يعني إن خالف هذه الشروط، أن يطلق ضرتها، وألا يتزوج عليها، ولا يتسرى، ولا يخرجها من دارها، أو بلدها، أو زيادة نقد معين، أو زيادة في مهرها، سبع مسائل، لكن الأولى منها ضعيفة لا نعتبرها، فيكون المعتبر من المسائل التي عدها ست مسائل، إن خالفها فلها الفسخ.
وقد يستفاد من ظاهر قوله: «فإن خالفه» أن المخالفة ليست حراماً؛ لأنه لم يقل: «وتحرم مخالفته» فقد يقال: إن ظاهر كلامه أن مخالفة الشرط ليست حراماً، وأن الوفاء به ليس بواجب وهو المذهب؛ وعللوا ذلك بأنه إذا لم يفِ فلها الخيار يعني فقد استفادت، فلا نلزمه، ولكن الصحيح أن الوفاء به واجب كما سبق، لكن إذا لم يفِ به، سواء قلنا: إن الوفاء سنة، أو قلنا: إنه واجب، فلها الفسخ.
وقوله «فلها» اللام هل هي للإباحة، أو للاستحقاق، أو لهما جميعاً؟ لهما جميعاً، فالفسخ حق لها، إن شاءت فسخت، وإن شاءت لم تفسخ.
وقوله: «فلها الفسخ» ظاهره على التراخي، يعني لا يشترط
أن تبادر وتفسخ، مثال ذلك: اشترطت أن لا يتزوج عليها فتزوج، نقول: ظاهر كلام المؤلف أن الفسخ على التراخي، لقوله:«فلها الفسخ» ولم يقل: فوراً، فلما لم يشترط الفورية علم أنه على التراخي، وقد يقول قائل: لم يذكر التراخي إذاً يبقى الفسخ استحقاقه مطلقاً، فإذا كان مطلقاً فمتى شاءت فسخت، لكن إن وجد منها ما يدل على الرضا فإنه يسقط حقها، فدلالة الرضا منها إما بالقول وإما بالفعل، أما القول فأن تقول: لا بأس، أنا راضية بما خالفتَ فيه، وأما بالفعل فأن تستقر، وما أشبه ذلك، فإذا لم يعلم رضاها فإن لها الفسخ.
وإذا قلنا: لها الفسخ، فالصواب أن لها أن تفسخ بدون إذن الحاكم؛ لأن هذا شرط لا اختلاف لها فيه، وقد امتنع من عليه الشرط من التزامه به، فلا حاجة للحاكم؛ لأننا نحتاج إلى الحاكم في الفسوخ التي فيها الخلاف.
مسألة: بعض الناس يشترط على الزوج أن لا يسافر بزوجته إلى الخارج، وهذا يقع كثيراً، فهذا الشرط صحيح، لكن إذا تزوجها وأسقطت هذا الشرط فيسقط؛ لأن الحق لها، ولا نقول: إن لأبيها أن يمنعها من السفر إذا خاف عليها الفتنة؛ لأنها لما تزوجت صار وليها زوجها، قال النبي عليه الصلاة والسلام:«الرجل راعٍ في أهله ومسؤول عن رعيته»
(1)
.
(1)
أخرجه البخاري في الجمعة/ باب الجمعة في القرى والمدن (893)؛ ومسلم في المغازي/ باب فضيلة الأمير العادل وعقوبة الجائر
…
(1829) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
وإِذَا زَوَّجَهُ وَلِيَّتَهُ عَلَى أَنْ يُزَوِّجَهُ الآخَرُ وَلِيَّتَهُ فَفَعَلَا وَلَا مَهْرَ بَطَلَ النِّكَاحَانِ،
...........
قوله: «وإذا زوجه وليته على أن يزوجه الآخر وليته ففعلا ولا مهر بطل النكاحان» ، هذا من الشروط الفاسدة المفسدة، «إذا زوجه وليته» أي من له ولاية عليها، ففعيل هنا بمعنى مفعول، أي: موليته «على أن يزوجه الآخر وليته» يعني من له ولاية عليها، من بنت، وأخت، وعمة، والجدة إن كانت من جهة الأم، فلا ولاية له عليها، وإن كانت من جهة الأب فهو ابن ابن فله ولاية عليها.
وقوله: «على» أي بشرط «أن يزوجه الآخر وليته ولا مهر بينهما» والمهر هو الصداق الذي يدفع بعقد النكاح «بطل النكاحان» كل منهما يبطل، والدليل أثر ونظر، أما الأثر فهو ما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن نكاح الشغار، وفُسِّر الشغار بأن يزوجه موليته على أن يزوجه الآخر موليته ولا مهر بينهما
(1)
، وأما التعليل فمن ثلاثة أوجه:
أولاً: أنه في هذه الحال جعل مهر كل واحدةٍ بُضْع الأخرى، فهل هذا ابتغى بمالِهِ أو ابتغى بفرج موليته؟ الجواب: ابتغى بفرج موليته، والله تعالى يقول:{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء: 24] يعني أن تطلبوا النكاح بأموالكم، وهذا الرجل طلب النكاح بفرج موليته، فجعل فرج موليته هو المهر.
(1)
أخرجه البخاري في النكاح/ باب الشغار (5112)؛ ومسلم في النكاح/ باب تحريم نكاح الشغار وبطلانه (1415).
ثانياً: أنه في هذه الحال عادت منفعة الصداق إلى غير المرأة، فعادت إلى الولي، والله تعالى يقول:{وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء: 4] أي: عطية بلا تقصير، فأضاف الصداق إليهن، وأمر بإعطائهن إياه نحلة، وهنا ما أعطينا هذه المسكينة صداقاً.
ثالثاً: أن هذا فيه غالباً مخالفة الأمانة ومجانبتها، فإن الإنسان إذا كان يحصل له فرج امرأة بفرج موليته غفل عن مقتضى الأمانة، وهي اختياره الكفء لها، وصار لا يهمه إلا من يحقق له رغبته، أما أن يكون صالحاً أو طالحاً فلا يهمه، يأتيه الرجل الصالح فيقول: أريد أن تزوجني بمهر، لكن ليس عنده بنت فيقول: لا، ويأتيه الرجل الفاسق عنده بنت فيتبادلان، ففي هذا تضييع للأمانة التي حملها الله ـ تعالى ـ للإنسان، ولهذا كان هذا العقد باطلاً بالأثر وبالنظر.
وقوله: «ولا مهر بينهما» مفهومه أنه إن كان بينهما مهرٌ صح العقد، وظاهر كلامه سواء كان المهر قليلاً أم كثيراً؛ لأنه قال:«ولا مهر» فعلم منه أنه إذا كان بينهما مهر فالنكاح صحيح؛ لأن تفسير نافع للشغار قال: «أن يزوجه ابنته على أن يزوجه الآخر ابنته وليس بينهما صداق»
(1)
، وأيضاً فإن الشغار بمعنى الخلو، ومنه قولهم شغر المكان إذا خلا، ومنه قول الناس: وظيفة شاغرة، يعني خالية ما فيها أحد، فإذا كان هناك مهر فلا خلو، وأيضاً فإن الله قال:{أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} وهذا الرجل قد ابتغى
(1)
سبق تخريجه ص (172).
بماله فقد بذل مهراً، فيكون النكاح صحيحاً بالمهر، سواء كان قليلا أم كثيراً.
وقال بعض أهل العلم، ومنهم الخرقي أحد فقهاء الحنابلة: لا يصح وإن سمي لهما مهر، وأن الشغار ليس من الخلو، ولكن من شغر الكلب، إذا رفع رجله ليبول، وأنه سمي بهذا الاسم تقبيحاً له، وهو ظاهر ما في قصة معاوية رضي الله عنه حيث أمر بفسخ النكاح مع تسمية المهر، وقال: هذا الشغار الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
، صحيحٌ أن المهر تام، ولكن ربما أن يضيع الإنسان أمانته بسبب أنه سيحصل على التزوج بهذه المرأة.
وقال بعض العلماء بالتفصيل، وهو أنه إذا كان المهر مهر مثلها لم ينقص، والمرأة قد رضيت بالزوج وهو كفء لها، فإن هذا صحيح، وهذا هو الصحيح عندنا، أنه إذا اجتمعت شروط ثلاثة: وهي الكفاءة، ومهر المثل، والرضا، فإن هذا لا بأس به؛ لأنه ليس هناك ظلم للزوجات، فقد أعطين المهر كاملاً، وليس هناك إكراه، بل غاية ما هنالك أن كل واحد منهما قد رغب ببنت الآخر فشرط عليه أن يزوجه، لا سيما في مثل وقتنا هذا، حيث صار الناس ـ والعياذ بالله ـ لا يمكن أن يزوجوا بناتهم ويتحجَّروهن، لكن وإن قلنا: إن هذا صحيح من حيث النظر، فإنه لا ينبغي فتح الباب للعامة؛ لأن الإنسان الذي ليس عنده خوف من الله، إذا كان يهوى أن يتزوج ببنت هذا الرجل، فهي وإن
(1)
أخرجه أحمد (4/ 94)؛ وأبو داود في النكاح/ باب في الشغار (2075) وصححه ابن حبان (4141) ط/ الأفكار الدولية، وحسنه الألباني في الإرواء (1896).
كرهت الزوج فيجبرها، فسد الباب في مثل هذا الوقت أولى، وأن يقال: متى شرط أن يزوجه الآخر فإنه يجب فسخه درءاً للمفسدة، أما من حيث المعنى ومن حيث النظر، فإن ظاهر الأدلة يقتضي أنه إذا وجد مهر العادة، والرضا، والكفاءة فلا مانع.
فَإِنْ سُمِّيَ لَهُمَا مَهْرٌ صَحَّ، وَإِنْ تَزَوَّجَهَا بِشَرْطِ أَنَّهُ مَتَى حَلَّلَهَا لِلأَوَّلِ طَلَّقَهَا، أَوْ نَوَاهُ بِلَا شَرْطٍ،
قوله: «فإن سمي لهما مهر صح» أي: كلا النكاحين، واعتمدوا على قوله في الحديث:«الشغار أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه الآخر ابنته وليس بينهما صداق»
(1)
، قالوا: هذا التفسير يحل الإشكال، ويدل على أنه إذا كان بينهما صداق فإن النكاح صحيح، وكذلك الاشتقاق يدل عليه فهو من شغر المكان إذا خلا، والعبرة في الألفاظ بمعانيها، فالشغار إذاً ليس فيه مهر، فإن سمي فيه مهر فليس فيه خلو، وقد سبق بيان ذلك.
وقوله: «مهرُ» نكرة في سياق الشرط، وظاهره ولو قليلاً، لكنه خلاف المذهب، فالمذهب قالوا: غير قليل بلا حيلة، فإن كان قليلاً حيلة فإنه لا يصح حتى على المذهب.
قوله: «وإن تزوجها بشرط أنه متى حللها للأول طلقها» ، هذا ـ أيضاً ـ شرط فاسد مفسد، ويسمى نكاح التحليل، كامرأة مطلقة ثلاثاً، والرجل إذا طلق زوجته ثلاثاً لا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره، لقوله تعالى:{اَلطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} ثم قال: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] فجاء رجل فتزوجها، لكن اشترط أهل الزوجة عليه أنه متى حللها للأول طلقها، فوافق
(1)
سبق تخريجه ص (172).
على هذا الشرط، فهذا الشرط فاسد مفسد؛ لأنه نكاح غير مقصود، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى»
(1)
، والنكاح يراد به الدوام والاستمرار، وهذا لا يراد به ذلك؛ ولهذا سماه النبي عليه الصلاة والسلام «بالتيس المستعار»
(2)
، فهو كرجل استعار تيساً ليبقى عنده في غنمه ليلة، ثم ينصرف، وهو جدير بأن يسمى بهذا الاسم؛ لأنه ما أراد بهذا النكاح البقاء، ولا العشرة، ولا الأولاد، وإنما أراد جماعاً يحلها به للأول فلا يصح؛ ولأن الرسول عليه الصلاة والسلام لعن المحلِّل والمحلَّل له
(3)
، فالمحلِّل؛ لأنه ـ والعياذ بالله ـ اتخذ آيات الله هزواً، فالنكاح يراد للبقاء وهذا لم يرده للبقاء، والمحلَّل له إن كان عالماً فملعون، أما إن كان ليس بعالم فليس بملعون، لكن إذا علم فلا يجوز أن يتزوجها؛ وذلك لأن النكاح الثاني غير صحيح، ولا بد أن يكون النكاح صحيحاً حتى تحل
(1)
أخرجه البخاري في بدء الوحي/ باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) ومسلم في الإمارة/ باب قوله: «إنما الأعمال بالنيات» (1907) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
(2)
أخرجه ابن ماجه في النكاح/ باب المحلل والمحلل له (1936) عن عقبة بن عامر رضي الله عنه وصححه الحاكم (2/ 199) ووافقه الذهبي.
(3)
أخرجه أحمد (1/ 83)؛ وأبو داود في النكاح/ باب في التحليل (2076)؛ والترمذي في النكاح/ باب ما جاء في المحل والمحلَّل له (1119)؛ وابن ماجه في النكاح/ باب المحل والمحلل له (1935) عن علي رضي الله عنه؛ وضعفه الترمذي، وأخرجه أحمد (1/ 448)؛ والترمذي (1120) عن ابن مسعود رضي الله عنه، وقال: حسن صحيح، وصححه ابن القطان وابن دقيق العيد على شرط البخاري، كما في التلخيص (1530)، وانظر: الإرواء (1797).
للأول، فهو ليس نكاحاً شرعاً فلا يؤثر ما يؤثره النكاح الصحيح، وعلى هذا فلا تحل للأول ولا للثاني، أما الثاني فلأن عقده عليها غير صحيح، وأما الأول فلأنها لم تنكح زوجاً غيره في الواقع.
وهل يسمى زنا؟ قد يكون فيه شبهة لكن ليس زناً محضاً، وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال:«لا أوتى بمحلِّل ولا محلَّل له إلا رجمتهما»
(1)
، فهذا الأثر يدل على أنه زنا؛ لأن الرجم لا يكون إلا للزاني.
قوله: «أو نواه بلا شرط» أي: نواه الزوج الثاني، ولهذا قال:«وإن تزوجها بشرط أو نواه» أي: نوى الزوج الثاني أنه متى حللها للأول طلقها، فإنها لا تحل للأول، والنكاح باطل، والدليل أن هذا نوى التحليل فيكون داخلاً في النهي أو في اللعن، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام:«إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى»
(2)
.
وماذا لو نوته الزوجة، فوافقت على التزوج بالثاني من أجل أن تحل للأول؟ فظاهر كلام المؤلف أنه لا أثر لنية الزوجة؛ ووجهه أنه ليس بيدها شيء، والزوج الثاني لا يطلقها؛ لأنه تزوجها نكاح رغبة، فليس على باله هذا الأمر، فإن لم تنوه هي ولكن نواه وليها فكذلك.
ولهذا قال بعض الفقهاء عبارة تعتبر قاعدة، قال: من لا
(1)
أخرجه عبد الرزاق (10777).
(2)
سبق تخريجه ص (176).
فرقة بيده لا أثر لنيته، فعلى هذا تكون الزوجة ووليها لا أثر لنيتهما؛ لأنه لا فرقة بيدهما.
وذهب بعض أهل العلم إلى أن نية المرأة ووليها كنية الزوج، وهو خلاف المذهب، وسلموا بأنه لا فرقة بيدهما، لكن قالوا: بإمكانهما أن يسعيا في إفساد النكاح، بأن تنكد على الزوج حتى يطلقها، أو يغروه بالدراهم، والنكاح عقد بين زوج وزوجة، فإذا كانت نية الزوج مؤثرة فلتكن نية الزوجة مؤثرة أيضاً.
فعندنا ثلاثة: الزوج، والزوجة، والولي، والذي تؤثر نيته منهم هو الزوج على المذهب، والقول الراجح أن أي نية تقع من واحد من الثلاثة فإنها تبطل العقد، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«إنما الأعمال بالنيات» والولي حينما عقد لم ينوِ نكاحاً مستمراً دائماً، وكذلك الزوجة.
فإذا قال قائل: امرأة رفاعة القرظي تزوجت عبد الرحمن بن الزَّبير رضي الله عنهما وجاءت تشكو للرسول عليه الصلاة والسلام أن ما معه مثل هدبة الثوب، فقال لها:«أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟» ، فقالت: نعم
(1)
، ألا يدل ذلك على أن نية الزوجة لا تؤثر؟ نقول: هذه الإرادة، هل هي قبل العقد، أو حدثت بعد أن رأت الزوج الثاني بهذا العيب؟ الذي يظهر أنها بعد أن رأته؛ لأن كون الرجل يتزوجها ويدخل بها، وليس عندها أي ممانعة، ثم جاءت تشتكي، فظاهر الحال أنه لولا أنها وجدت هذه العلة ما جاءت تشتكي، والله أعلم، وإن كان الحديث فيه احتمال.
فإذا كان نكاح المحلل باطلاً ولا تحل به للأول، فمتى تحل؟
(1)
سبق تخريجه ص (141).
تحل إذا تزوجها بنكاح صحيح، نكاح رغبة، وجامعها، ولا بد من الجماع، فبغير جماع لا تحل، فلو بقيت مع الثاني عشر سنوات ولم يجامعها لم تحل للأول، والدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم لامرأة رفاعة القرظي:«أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا حتى تذوقي عسيلته، ويذوق عسيلتك» ، والحكمة من ذلك أن الزوج الثاني إذا جامع رغب، فإن الجماع يقتضي المودة بين الزوجين.
أوْ قَالَ: زَوَّجْتُكَ إِذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ، أَوْ إِنْ رَضِيَتْ أُمُّهَا، أَوْ إِذَا جَاءَ غَدٌ فَطَلِّقْهَا، أَوْ وَقَّتَهُ بِمُدَّةٍ بَطَلَ الكُلُّ.
قوله: «أو قال: زوجتك إذا جاء رأس الشهر، أو إن رضيت أمها، أو إذا جاء غدُ فطلقها، أو وقته بمدة بطل الكل» هذا النكاح المعلق، والمؤلف ذكر له أربع صور: الأولى: إذا جاء رأس الشهر، وهذا تعليق محض، الثانية: إذا رضيت أمها، فهذا تعليق بفعل الغير، الثالثة: تعليق الطلاق، الرابعة: إذا وقَّته بمدة، أي: وقَّت النكاح.
الأولى: إذا قال: زوجتك إذا جاء رأس الشهر، فهذا تعليق محض، فهل يصح النكاح أو لا يصح؟ يقول المؤلف: إنه لا يصح؛ لأنه يشترط تنجيز العقد، فلا يصح معلقاً.
وقوله: «رأس الشهر» هل هو أوله أو آخره؟ المعروف أن رأس الشهر ورأس الحول آخره، فإذا قال: زوجتك إذا جاء رأس الشهر يعني آخره، فقال: قبلت، فالنكاح لا يصح؛ لأنه نكاح معلق على شرط، فإذا كان نكاحاً معلقاً على شرط ثم قبل، وقع القبول قبل الإيجاب؛ لأن الإيجاب على رأس الشهر فإذا قبل الآن لم يصح.
هذا هو المشهور من المذهب في هذه المسألة وغيرها، أن جميع العقود غير الولايات والوكالات وما جرى مجراها لا يصح
تعليقها، فالبيوع لا يصح تعليقها، والإجارة لا يصح تعليقها، والصحيح أن في ذلك تفصيلاً، فإن كان مجرد تعليق، فالقول بعدم صحة العقد صحيح، أما إن كان التعليق فيه غرض مقصود فالنكاح صحيح.
ثانياً: إذا قال: زوجتك إن رضيت أمها، فقال: قبلت، فرضيت أمها، فالنكاح لا يصح بناءً على ما سبق، من أن النكاح المعلق على شرط يقع فيه القبول قبل الإيجاب.
وقال بعض أهل العلم: إنه يصح؛ لأنه وإن كان تعليقاً لكن له معنى، وهو رضا الأم، فإن رضا الأم بزواج ابنتها له شأن كبير في إصلاح ما بين الزوجة والزوج، ولذلك بعض النساء تفسد بنتها على زوجها إذا لم ترضه.
فالقول الراجح في هذه المسألة: أنه جائز أن يقول: زوجتك إذا رضيت أمها؛ لأن في ذلك غرضاً صحيحاً، ولأن مدته الغالب أنها تكون قليلة، فإذا قلنا: إنه لا يصح، ورضيت الأم فلا يلزم إلا شيء واحد فقط وهو إعادة العقد، وما أسهل إعادة العقد إذا كان يحمي الإنسان من الشبهة، ويخرج به من الخلاف، ويترتب على القول بأنه يصح أنه لو رضيت أمها ثم مات الزوج، فعليها العدة، ولها المهر والميراث، وإذا قلنا: لا يصح لم يترتب شيء.
قال في الروض
(1)
: «غير زوجت أو قبلت إن شاء الله فيصح، كقوله: زوجتكها إذا كانت بنتي، أو إن انقضت عدتها
(1)
الروض المربع مع حاشية ابن قاسم (6/ 323).
وهما يعلمان ذلك» هذا استثناء من هذه المسألة:
المسألة الأولى: إذا علقه بمشيئة الله، مثل أن يقول: زوجتك بنتي إن شاء الله، فقال: قبلت، فإن النكاح يصح، فإذا قال قائل: كيف يصح، ونحن لا نعلم مشيئة الله؟ قلنا: بل قد علمنا مشيئة الله؛ لأننا إذا فعلنا المأمور على حسب ما أمر الله به فقد علمنا أن الله قد شاء فِعْلَنا؛ فإذا قلت: زوجتك إن شاء الله، فقلت: قبلت هذا الزواج، علمنا أن الله شاءه لما وقع، وأن الله يرضاه بمقتضى الشرع، فنحن بوقوعه علمنا أنه مُشاءٌ لله، وبمعرفتنا أنه منطبق على مقتضى الشريعة علمنا رضا الله به، فبالوقوع، نعلم أنه مراد، وبموافقته للشرع نعلم أنه مرضي؛ وذلك لأن الله لا يرضى إلا ما وافق شرعه:{إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} . [الزمر: 7]، وقال تعالى:{فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 96]، فما خالف أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فهو غير مرضي له، وقع أم لم يقع، وما وافق مشيئته وقع، سواء كان مرضياً له أم لم يكن مرضياً له.
المسألة الثانية: إذا كان ولياً لها بأن قال: زوجتك هذه إن كانت ابنتي، وهو يعلم أنها بنته، والشهود يعلمون أنها ابنته، فهذا التعليق في الحقيقة بيان للواقع فيصح النكاح؛ والسبب أن هذا هو الواقع؛ لأنه لو لم تكن ابنته ما زوجها، وهذا تعليق على وجود الشرط.
المسألة الثالثة: لو علقه على انتفاء مانع، بأن يقول: زوجتك ابنتي هذه إن كانت انقضت عدتها، والزوج يعلم أنها منقضية، والشهود يعلمون أنها منقضية، فالنكاح صحيح؛ لأن هذا
بيان للواقع، ومعلوم أنه لما انقضت عدتها صح نكاحها.
فصار التعليق بوجود الشرط، أو انتفاء المانع صحيحاً إذا كان الولي، والزوج، والشهود يعلمون ذلك.
وقوله: «أو إذا جاء غد فطلقها» ، أي: بأن قال: زوجتك بنتي ليلة الثلاثاء، لكن صباح الأربعاء طَلِّقْها، فإن هذا لا يجوز؛ لأنه وقَّته ولم يأتِ في الشرع أن النكاح يراد للطلاق.
وقوله: «أو وقته بمدة» هذه هي القاعدة العامة، يعني إذا وقته بمدة بطل النكاح في كل المسائل، بأن قال: زوجتك ابنتي لمدة شهر، أو شهرين، فهذا الشرط فاسد مفسد، وهو ما يسمى بنكاح المتعة، وسمي بذلك؛ لأن المراد به التمتع هذه المدة فقط.
ولو قال: زوجتك بنتي ما دمت في هذا البلد، أو ما دمت تدرس في الجامعة فإن هذا لا يجوز؛ لأن هذا هو المتعة، سواء قيدها بزمن معين محدد، أو بحال معينة للزوج.
فالقاعدة إذاً كل نكاح موقت بعمل، أو زمن فإنه نكاح متعة لا يجوز.
والمتعة من مسائل الخلاف بين أهل القبلة الذين ينتسبون للإسلام، فقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه يجوز للضرورة
(1)
، وأن الإنسان إذا اضطر لمثل هذا النكاح فلا بأس به، مثل أن يكون غريباً يخشى على نفسه من الفساد، ويريد أن يتزوج، فإن تزوج تزوجاً مطلقاً كثر عليه المهر، وإن تزوج تزوجاً
(1)
أخرجه البخاري في النكاح/ باب نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نكاح المتعة أخيراً (5116).
مؤقتاً قل عليه المهر، فيرى رضي الله عنه أن هذا جائز.
ولكن هذا الرأي مرجوح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه، كما في حديث مسلم
(1)
عن سبرة بن معبد الجهني رضي الله عنه أنه خطب، وقال عن المتعة:«إنها حرام إلى يوم القيامة» فصرح النبي صلى الله عليه وسلم بحرمتها، وصرح بقوله:«إلى يوم القيامة» ، وهذا خبرٌ، والخبر لا يدخله النسخ، ثم هو خبرٌ مقيد بأمد تنتهي به الدنيا، فما دام الرسول صلى الله عليه وسلم حرمه إلى يوم القيامة، فمعنى ذلك أنه لا يمكن أن ينسخ هذا الحكم أبداً، فلو أن أحداً قال: إنها حرام، وهذا خبر صحيح لكن بمعنى الحكم، والخبر الذي بمعنى الحكم يدخله النسخ، قلنا: لكن هذا ما يمكن دخول النسخ فيه؛ والسبب أنه قال: «إلى يوم القيامة» .
وقال بعض أهل العلم: إن المتعة أحلت ثم حرمت ثم أحلت ثم حرمت، والصحيح أنه لم يكن ذلك فيها، وإنما أحلت ثم حرمت.
وخالف في ذلك من أهل البدع الروافض، فإنهم يجيزون نكاح المتعة، ويستدلون بقوله تعالى:{فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [النساء: 24] وكأنهم لم يلتفتوا إلى الأحاديث الواردة في هذا، مع أن الآية لا تدل على ما ذهبوا إليه؛ لأن الله يقول:{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} ، فهذا مُفرع على ما سبق أن الإنسان يبتغي بماله حال كونه محصناً غير مسافح، ومعلوم أن نكاح المتعة يشبه السفاح، كأنه إجارة على الوطء
(1)
أخرجه في النكاح/ باب نكاح المتعة وبيان أنه أبيح ثم نسخ
…
(1406).
والاستمتاع مدة معينة، ولكن معنى الآية أنكم إذا استمتعتم بهن فإن الأموال التي أعطيتموهن حق لهن، وأن المهر يثبت بالاستمتاع بالزوجة وإن لم يطأ، فالصواب في هذه المسألة أن نكاح المتعة محرم وباطل.
بقي أن يقال: لو نوى المتعة بدون شرط، يعني نوى الزوج في قلبه أنه متزوج من هذه المرأة لمدة شهر ما دام في هذا البلد فقط، فهل نقول: إن هذا حكمه حكم المتعة أو لا؟ في هذا خلاف، فمن العلماء من قال: إنه حرام وهو المذهب لأنه في حكم نكاح المتعة؛ لأنه نواه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى»
(1)
، وهذا الرجل قد دخل على نكاح متعة مؤقت، فكما أنه إذا نوى التحليل وإن لم يشترطه صار حكمه حكم المشترط، فكذلك إذا نوى المتعة وإن لم يشترطها فحكمه كمن نكح نكاح متعة، وهذا القول قول قوي.
وقال آخرون: إنه ليس بنكاح متعة؛ لأنه لا ينطبق عليه تعريف نكاح المتعة، فنكاح المتعة أن ينكحها نكاحاً مؤقتاً إلى أجل، ومقتضى هذا النكاح المؤجل أنه إذا انتهى الأجل انفسخ النكاح، ولا خيار للزوج ولا للزوجة فيه؛ لأن النكاح مؤقت يعني بعد انتهاء المدة بلحظة لا تحل له هذه المرأة، وهو ـ أيضاً ـ ليس فيه رجعة؛ لأنه ليس طلاقاً بل هو انفساخ نكاح وإبانة للمرأة، والناوي هل يُلزِم نفسه بذلك إذا انتهى الأجل؟
(1)
سبق تخريجه ص (176).
الجواب: لا؛ لأنه قد ينوي الإنسان أنه لا يريد أن يتزوجها إلا ما دام في هذا البلد، ثم إنه إذا تزوجها ودخل عليها رغب فيها ولم يطلقها، فحينئذٍ لا ينفسخ النكاح بمقتضى العقد، ولا بمقتضى الشرط؛ لأنه ما شرط ولا شُرط عليه، فيكون النكاح صحيحاً وليس من نكاح المتعة.
وشيخ الإسلام رحمه الله اختلف كلامه في هذه المسألة، فمرة قال بجوازه، ومرة قال بمنعه، والذي يظهر لي أنه ليس من نكاح المتعة، لكنه محرم من جهة أخرى، وهي خيانة الزوجة ووليها، فإن هذا خيانة؛ لأن الزوجة ووليها لو علما بذلك ما رضيا ولا زوجاه، ولو شرطه عليهم صار نكاح متعة، فنقول: إنه محرم لا من أجل أن العقد اعتراه خلل يعود إليه، ولكن من أجل أنه من باب الخيانة والخدعة.
فإذا قال قائل: إذا هم زوَّجوه، فهل يلزمونه بأن تبقى الزوجة في ذمته؟ فمن الممكن أن يتزوج اليوم ويطلق غداً؟
قلنا: نعم، هذا صحيح أن الأمر بيده إن شاء طلق وإن شاء أبقى، لكن هنا فرق بين إنسان تزوج نكاح رغبة، ثم لما دخل على زوجته ما رغب فيها، وبين إنسان ما تزوج من الأصل إلا نكاح متعة بنيته، وليس قصده إلا أن يتمتع هذه الأيام ثم يطلقها.
فلو قال قائل: إن قولكم إنه خيانة للمرأة ووليها غير سديد؛ وذلك لأن للرجل عموماً أن يطلق متى شاء، فالمرأة والولي داخلان على مغامرة ومخاطرة، سواء في هذه الصورة أو غيرها؛ لأنهما لا يدريان متى يقول: ما أريدها.
قلنا: هذا صحيح لكنهما يعتقدان ـ وهو أيضاً يعتقد ـ أنه إذا كان نكاح رغبة أن هذا النكاح أبدي، وإذا طرأ طارئ لم يكن يخطر على البال، فهو خلاف الأصل، ولهذا فإن الرجل المعروف بكثرة الطلاق لا ينساق الناس إلى تزويجه، ولو فرضنا أن الرجل تزوج على هذه النية، فعلى قول من يقول: إنه من نكاح المتعة ـ وهو المذهب ـ فالنكاح باطل، وعلى القول الثاني ـ الذي نختاره ـ أن النكاح صحيح، لكنه آثم بذلك من أجل الغش، مثل ما لو باع الإنسان سلعة بيعاً صحيحاً بالشروط المعتبرة شرعاً، لكنه غاشٌ فيها، فالبيع صحيح والغش محرم، لكننا لا نشجع على هذا الشيء؛ لأنه حرام في الأصل، ثم إن بعض الناس بدأ ـ والعياذ بالله ـ يستغل هذا القول بزنا صريح، فبعض الناس الذين لا يخافون الله، ولا يتقونه يذهبون إلى الخارج؛ لأجل أن يتزوجوا، ليس لغرض، يعني ليس غريباً في البلد يطلب الرزق، أو يطلب العلم، وخاف من الفتنة فتزوج، بل يذهب ليتزوج، ويقول: النكاح بنية الطلاق جائز، وقد سمعنا هذا من بعض الناس، يذهبون إلى بلاد معينة معروفة ـ والعياذ بالله ـ بالفجور ليتزوج، وبعضهم يتزوج أكثر من عشر نساء في مدة عشرين يوماً، فلذلك يجب أن نقول: إن هذا حرام ممنوع، وحتى لو كان من الوجهة النظرية مباحاً، فهو من الوجهة التربوية يجب أن يكون ممنوعاً؛ لأنه صار وسيلة للفسوق والفجور نسأل الله العافية، والشيء المباح إذا تضمن وقوعاً في حرام، أو تركاً لواجب صار حراماً، ولذلك لو سافر الإنسان في رمضان من أجل أن يفطر
حرم عليه السفر والفطر، ولو أكل البصل من أجل أن يترك المسجد حرم عليه أكل البصل، فالمباح لا يعني أنه مباح في كل حال، ولذلك أقول ـ وإن كنت أعتقد أن النكاح من حيث العقد ليس بباطل، لكن نظراً إلى أنه اتخذ وسيلة للزنى، الذي لم يقل أحد من العلماء بجوازه ـ أقول: يجب أن يمنع، وأن لا ينشر هذا القول بين الناس.
وقوله: «أو وقته بمدة» فلو وقته بمدة هي مقتضى العقد، بأن قال: زوجتك بنتي إلى أن تموت أنت أو هي، فإنه يصح؛ لأن هذا مقتضى عقد النكاح، فمتى مات الزوج أو الزوجة حصل الفراق.
مسألة: إذا اشتُرِطَ أن الطلاق بيد المرأة، فهل هذا جائز؟ قال الرسول صلى الله عليه وسلم:«ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن»
(1)
، فهل يمكن أن نجعل عقدة النكاح الذي هو من أشرف العقود، وأعظمها خطراً بيد امرأة ناقصة؟! فإذا خرجت إلى السوق، ووجدت هذا الشاب الجميل المملوء شباباً، قالت لزوجها: أنت طالق بالثلاث!! فلا يجوز هذا أبداً، لكن يجوز شرط الخيار لغرض مقصود، مثل أن تقول: إن طاب لي المسكن فالنكاح باقٍ، وإلا فلي الخيار، فإن تبين أن المسكن غير طيب، إما لسوء العشرة مع والدي الزوج، أو مع إخوانه، أو أن الزوج رجل شحيح، فلها الخيار، أما مجرد أن لي أن أطلقك، فهذا لا ينبغي، لأن الطلاق لمن أخذ بالساق، فالطلاق بيد الرجال؟
(1)
أخرجه البخاري في الحيض/ باب ترك الحائض الصوم (304)؛ ومسلم في الإيمان/ باب بيان نقصان الإيمان بنقص الطاعات
…
(80) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
فَصْلٌ
وَإِنْ شَرَطَ أَنْ لَا مَهْرَ لَهَا، أَوْ لَا نَفَقَةَ،
............
قوله: «وإن شرط أن لا مهر لها» إذا شرط الزوج أن لا مهر لها عليه، فعلى المذهب يصح النكاح دون الشرط، فشرط عدم المهر فاسد غير مفسد.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن شرط عدم المهر فاسد مفسد؛ لأن الله يقول: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء: 24]، فقيد النكاح بابتغاء المال، يعني أن تطلبوا النكاح بأموالكم التي تبذلونها، ولأن الله ـ تعالى ـ ذكر فيما أحل لنبيه صلى الله عليه وسلم أن تهب المرأة نفسها له فقال:{} [الأحزاب: 50]، ولو قلنا بصحة النكاح مع شرط انتفاء المهر لكان هبة، والعبرة بالمعاني لا بالألفاظ، والهبة لا تصح إلا للرسول صلى الله عليه وسلم، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزوج الرجل الذي طلب منه أن يزوجه الواهبة نفسها لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بمهر، حتى انتهى إلى أن يكون مهرها أن يعلمها ما معه من القرآن
(1)
، ولأن علة تحريم الشغار أنه لا مهر بينهما، ولذلك لو رضيت الزوجتان وصار كلا الزوجين كفئاً للأخرى، ولكن شرطوا أن لا مهر ما صح النكاح، فما دام أنه لا يصح الشغار لعدم المهر، فلا فرق، وما ذهب إليه الشيخ رحمه الله هو الصحيح.
أما المذهب فيرون أن الشرط ليس بصحيح، وأما النكاح فصحيح، وحينئذ يجب لها مهر المثل؛ لأنه لا بد لها من مهر
(1)
سبق تخريجه ص (39).
بخلاف البيع، فالبيع لا يصح إلا بثمن المثل، أما النكاح فهو أوسع.
ولو خدعوا هذا الزوج وقالوا: لعلك تعطينا مائة ريال مهراً، قال: لا، ولا عشرة ريالات، فقالوا: لا مانع، فتزوج، فنقول: يجب عليك مهر المثل، خمسون ألفاً، وهو بالأول رافض المائة ريال، فيلزم هذا الزوج المسكين خمسون ألفاً، وعلى رأي شيخ الإسلام العقد غير صحيح، ولا تحل له المرأة، وهذا أهون عليه ما لم يكن قد جامعها، فإن كان قد جامعها فعليه مهر المثل، ويفرق بينهما.
ولهذا في مثل هذه المسائل ينبغي أن يكون الإنسان فقيهاً، فالزوج مثلاً إذا طلق زوجته أول طلقة فله المراجعة، لكن لو أعطته زوجته ريالاً واحداً فليس له المراجعة.
قوله: «أو لا نفقة» أي: اشترط الزوج أن لا ينفق عليها، ومعلوم أنه يجب على الزوج أن ينفق على زوجته إذا عقد عليها وتسلمها، فإذا اشترط ذلك فقبلت، فالنكاح صحيح؛ لأن هذا لا يعود إلى نفس العقد، ولكن الشرط غير صحيح؛ لأنه يخالف مقتضى العقد، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف»
(1)
، ذكر هذا في خطبة حجة الوداع، فإذا أسقط النفقة كان مخالفاً للحديث، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط»
(2)
.
(1)
أخرجه مسلم في الحج/ باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم (1218) عن جابر رضي الله عنه.
(2)
سبق تخريجه ص (164).
وأما التعليل فهو أن هذه المرأة أسقطت حقها قبل ثبوته؛ لأن النفقة تثبت بعد العقد، وهذه أسقطتها قبل ثبوتها فلا يصح.
فإذا شرط أن لا نفقة وتم العقد، ثم طالبته بالنفقة، فقال: إنه شارط أن لا نفقة عليه، فإنه يُلزم بالنفقة.
ولو أنه بعد العقد رأت الزوجة أن زوجها سوف يطلقها، وخافت أن يطلقها، فقالت له: أبقى عندك بلا نفقة، فوافق، فإن هذا يجوز؛ لأنه إسقاط للحق بعد ثبوته، لكنهم قالوا رحمهم الله: لو عادت فطالبت وجبت لها النفقة؛ لأن المستقبل لها الحق أن تطالب به، فالنفقة تتجدد كل يوم بيومه، وهذا صحيح إلا إذا وقع ذلك على وجه المصالحة، بأن خيف الشقاق بين الزوجين ثم تصالحا على أن لا نفقة، فهنا لا تلزمه النفقة؛ لأن هذا فائدة المصالحة، فلو قلنا: إذا تصالحا على عدم النفقة لها أن تطالب بالنفقة بعد ذلك، أصبح الصلح لغواً لا فائدة منه.
الخلاصة:
أولاً: إذا شرط الزوج أن لا نفقة قبل العقد، ثم عقد على هذا الشرط، فالعقد صحيح والشرط باطل.
ثانياً: إذا أسقطت المرأة نفقتها بعد العقد، فالإسقاط صحيح، لكن لها أن تطالب بها في المستقبل.
ثالثاً: إذا جرى ذلك بينهما صلحاً، بأن خيف الشقاق بينهما، وتصالحا على أن لا نفقة، فهنا ليس لها أن تطالب بالنفقة؛ لأنه جرى الصلح عليها؛ لأن فائدة الصلح أن يُمضى
ويثبت، وإذا لم يمضِ ولم يثبت فلا فائدة في الصلح.
أَوْ أَنْ يَقْسِمَ لَهَا أَقَلَّ مِنْ ضَرَّتِهَا أَوْ أَكْثَرَ، أَوْ شَرَطَ فِيهِ خِيَارَاً، أَوْ إِنْ جَاءَ بِالمَهْرِ فِي وَقْتِ كَذَا، وَإِلاَّ فَلَا نِكَاحَ بَيْنَهُمَا،
.........
قوله: «أو أن يقسم لها أقل من ضرتها» أي: رجل تزوج امرأة على امرأة سابقة وهي الضرة، وسميت ضرة لكثرة المضارة بينها وبين الزوجة الأخرى في الغالب، فإذا شرط أن يقسم لها أقل من ضرتها، فالمذهب لا يصح، والصحيح أنه يصح، فإذا قال: أنا عندي زوجة سأعطيها يومين وأنت يوماً، فرضيت بذلك فلا مانع، فهذه سودة بنت زمعة رضي الله عنها وهبت يومها لعائشة رضي الله عنها فأقرها النبي عليه الصلاة والسلام
(1)
.
فإن شرطت هي أن يقسم لها أقل من ضرتها، يعني قالت: اقسم لي يوماً ولضرتي يومين، فهل هذا الشرط يقع من المرأة؟ نعم يمكن أن تكون هذه المرأة مدرِّسة أو ذات عمل، وتقول: لا أريد أن تأتيني يوماً وراء يوم، ائتني يوماً وللزوجة الأخرى يومين، أو تقول: لي يوم، ولها ستة أيام، أو يوم الخميس والجمعة مثلاً، والباقي للأولى، فالنكاح صحيح والشرط باطل على كلام المؤلف، قالوا: لأن في ذلك إسقاطاً لحق الزوج، والجواب: أنه يقال: نعم هو إسقاط لحق الزوج، لكن برضاه واختياره، ولهذا كان الصواب أنه إذا اشترطت أن يقسم لها أقل من ضرتها ورضي بذلك، فالشرط صحيح.
قوله: «أو أكثر» أي: شرطت أن يقسم لها أكثر من ضرتها، فالشرط لا يصح لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من كانت له امرأتان فمال إلى
(1)
أخرجه البخاري في الهبة/ باب هبة المرأة لغير زوجها
…
(2594) عن عائشة رضي الله عنها.
إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل»
(1)
؛ ولأنه يتضمن ظلماً على الضرة، فالضرة تقول: لا بد أن تساويني بها؛ لأنه بذلك يكون مسقطاً لحق الزوجة القديمة، وهو لا يملك إسقاط حقها، فإذا رضيت القديمة فلا حرج.
قوله: «أو شرط فيه خياراً» أي: شرط الزوج في النكاح خياراً، وشرط الخيار ينقسم إلى قسمين: أن يكون من الزوجة على الزوج، وأن يكون من الزوج على الزوجة.
فإذا كان من الزوجة على الزوج كامرأة خطبها إنسان، فقالت: لي الخيار لمدة شهر، فالشرط فاسد على المذهب؛ لأن النكاح يقع لازماً، فيكون شرط الخيار فيه منافياً للعقد فلا يصح.
والصحيح أنه يصح إذا شرطت الخيار لها؛ لأن لها في هذا غرضاً مقصوداً، فقد يكون هذا الرجل مشهوراً بسوء الخلق، أو أهله مشهورين بسوء الخلق، فتقول: لي الخيار إن جاز لي المقعد، وإلا فلي الفسخ، فإذا رضي بذلك، فالصحيح أنه لا مانع، وكونه يقع لازماً، نقول: حتى البيع يقع لازماً، وإذا شرط فيه الخيار جاز، فكذلك النكاح.
وإذا شرط هو الخيار فالمذهب أنه لا يصح؛ لأن الزوج
(1)
أخرجه أحمد (2/ 347)؛ وأبو داود في النكاح/ باب في القسم بين النساء (2133)؛ والترمذي في النكاح/ باب ما جاء في التسوية بين الضرائر (1141)؛ والنسائي في النكاح/ باب ميل الرجل إلى بعض نسائه دون بعض (7/ 63)؛ وابن ماجه في النكاح/ باب القسمة بين النساء (1969) عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال الحافظ في البلوغ (978): سنده صحيح.
يستغني عن شرط الخيار بملك الطلاق، فالزوج له أن يفسخ إذا شاء طلق، وانتهى الموضوع وزال الإشكال، وعلى هذا فلا يصح شرط الخيار للزوج اكتفاء بملكه الطلاق، ويمكن أن يقال: إن له الخيار إذا تبين أنه مغرور بها، ويرجع بالمهر على من غره، ولكن يقال: هذه مسألة ثانية، هذه المسألة الأخيرة فيما إذا شرطها على صفةٍ فبانت دونها، أما الخيار الذي نحن بصدده فهو الخيار المطلق، الذي ليس سببه فوات صفة مطلوبة، أو وجود صفة غير مرغوبة، وقد يقال ـ أيضاً ـ بأن هذا الخيار للزوج ربما يستفيد منه فيما إذا طلق قبل الدخول، فإنه يكون عليه نصف المهر، فإذا شرط الخيار وطلق قبل الدخول، أو اختار الفسخ ـ مثلاً ـ فإنه في هذه الحال ليس عليه شيء من المهر، فهو يستفيد من شرط الخيار إذا اختار قبل الدخول، أما بعد الدخول فإن لها المهر بما استحل من فرجها، فلا يستفيد شيئاً، نعم يستفيد بأنه إذا فسخ لا يحسب عليه من الطلاق، وحينئذٍ نرجع بعد هذه المناقشات إلى تصحيح الخيار للزوج وللزوجة، وهذا ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وقال: إنه يصح شرط الخيار له ولها أيضاً.
قوله: «أو إن جاء المهر في وقت كذا وإلا فلا نكاح بينهما» يعني قال: أنا سأتزوجها على ألف ريال، على أني إن جئت بالألف على رأس سنة ألف وأربعمائة وخمسة، وإلا فلا نكاح، نقول: هذا الشرط لا يصح؛ وعللوا ذلك بأنه يشبه الخيار، ولا خيار في النكاح، مع أنهم قالوا في البيع: يجوز أن يقول: إن
جئتك بالثمن في وقت كذا، وإلا فلا بيع بيننا؛ لأنه تعليق فسخ، وهنا يقولون: إنه لا يصح، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام:«إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج»
(1)
.
والصواب أنه يجوز، وأنه إذا مضت المدة انفسخ النكاح، ولكن هل يثبت المهر؟ نعم، إذا حصل الدخول، فإذا وجدت مقرِّرات المهر استقر المهر، وإن قالوا: لا يمكن أن تدخل إلا أن تسلم المهر، فلهم ذلك.
قال في الروض
(2)
: «أو شرطت أن يسافر بها» ، يقولون: إنه لا يصح، وهذا ـ أيضاً ـ ليس بصحيح، فإنها لو شرطت أن يسافر بها، كما لو شرطت الزيادة في المهر والنفقة، فإذا قالت: بشرط أن تسافر بي إلى مكة للحج، ما المانع من هذا الشرط؟! أو بشرط أن تسافر بي إلى الرياض لأزور خالتي، أو عمتي، أو عمي، أو ما أشبه ذلك، فالصواب أن يصح، نعم لو قالت: بشرط أن تسافر بي إلى بلاد لا يجوز السفر إليها، فالشرط هنا فاسد، كذلك يقول في الروض:«أو أن تستدعيه للوطء عند إرادتها» ، فهذا الشرط لا يصح.
كذلك إذا شرطت أن لا تسلم نفسها لمدة سنة، يقولون: النكاح صحيح والشرط فاسد، والصحيح أنه يصح، وعليه عمل الناس الآن، فأحياناً يتزوجها ويشترطون أن لا يدخل عليها، إلا
(1)
سبق تخريجه ص (165).
(2)
الروض المربع مع حاشية ابن قاسم (6/ 327).
بعد سنتين، أو ثلاثة، أو خمسة، فعائشة رضي الله عنها تزوجها عليه الصلاة والسلام ولها ست، ودخل بها وهي بنت تسع
(1)
، فإذا لم يمنع الشرع هذا فلا مانع من اشتراطه، ولو كان حراماً ما فعله النبي عليه الصلاة والسلام وإذا لم يكن حراماً صار حلالاً، وإذ صار حلالاً، صار اشتراطه جائزاً.
بَطَلَ الشَّرْطُ وَصَحَّ النِّكَاحُ، وَإِنْ شَرَطَهَا مُسْلِمَةً فَبَانَتْ كِتَابِيَّةً،
........
قوله: «بطل الشرط» والعلة منافاته لمقتضى العقد، وهذا التعليل في الحقيقة يجب أن ننظر فيه، فعندنا ثلاث كلمات: منافاته مطلق العقد، منافاته مقتضى العقد، منافاته للعقد.
المنافاة لمطلق العقد هي جميع الشروط غير المشروطة شرعاً، إذ إن مطلق العقد أن لا يوجد شرط.
أما المنافاة لمقتضى العقد، فينظر إن أريد مقتضى العقد المطلق فهو الأول؛ لأن كل الشروط منافية لمقتضى العقد المطلق، وإن أريد منافية لمقتضى العقد الذي لم يشرط فيه هذا الشيء، فكذلك، ولهذا فهذا التعليل فيه نظر؛ لأننا يمكننا أن نقول: جميع الشروط الصحيحة والفاسدة منافية لمقتضى العقد، لكن ما هو التعليل الصحيح؟
التعليل الصحيح أن يقال: لمنافاته للعقد، أي: المنافي لما جاء به الشرع، مثل اشتراط البائع أن يكون الولاء له إذا أعتقه المشتري، فهذا منافٍ للعقد، فالصواب في هذا أن يقال: الشرط
(1)
أخرجه البخاري في المناقب/ باب تزويج النبي صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله عنها (3894)؛ ومسلم في النكاح/ باب جواز تزويج الأب البكر الصغيرة (1422) عن عائشة رضي الله عنها.
الفاسد؛ هو الشرط المنافي لمقتضى الشرع.
قوله: «وصح النكاح» لأنه لا يوجد ما ينافي العقد؛ لأن عندهم الذي ينافي العقد من أصله يبطل العقد، والذي ينافي مقتضاه يبطل الشرط ويصح العقد، والذي ينافي مطلق العقد، فهذا قد يكون صحيحاً، وقد يكون فاسداً.
قوله: «وإن شرطها مسلمة» الضمير يعود على الزوج، أي: أنه شرط أنها مسلمة.
قوله: «فبانت كتابية» فله الفسخ، إذاً هذا شرط صحيح، والمؤلف رحمه الله ما رتبها كما ينبغي.
وعلم من كلامه أنه إذا لم يشترط أنها مسلمة فبانت كتابية فلا فسخ له، كإنسان تزوج امرأة وهو يعتقد أنها مسلمة، ولما دخل عليها وإذا هي نصرانية، أو يهودية فليس له الفسخ؛ لأنه ما شرط أنها مسلمة، لكن لاحظ أن الشرط العرفي كالشرط اللفظي، فإذا كنت في بلد أهله مسلمون، وعند الزواج قال: زوجتك بنتي فلانة، فقلت: بشرط أنها مسلمة، لقال الولي: تتهم بناتي بأنهن كافرات؟! فإذا كان في بيئة أهلها مسلمون فلا يحتاج أن يشترط أنها مسلمة؛ لأنه معروف أنها مسلمة، فلو تبين أنها غير مسلمة فله الفسخ، ولا إشكال.
وإذا تبين أنها كافرة غير كتابية، فالنكاح من أصله فاسد، كأن يتبين أنها لا تصلي، وهذا ربما يقع، فالنكاح فاسد من الأصل، ولا يجب به مهر، سواء علم قبل الدخول أو بعده، لكن إن كان بعد الدخول تعطى المهر لوطئه، ويرجع على من غرَّه.
أَوْ شَرَطَهَا بِكْراً، أَوْ جَمِيلَةً، أَوْ نَسِيبَةً، أَوْ نَفْيَ عَيْبٍ لَا يَنْفَسِخُ بِهِ النِّكَاحُ فَبَانَتْ بِخِلَافِهِ فَلَهُ الفَسْخُ،
.........
قوله: «أو شرطها بكراً» أي فبانت ثيباً فله الفسخ، ويرجع على من غره.
وعلم من كلامه أنه إذا لم يشترط أنها بكر فلا فسخ له، حتى ولو علم أنها لم تتزوج من قبل؛ لأنه ربما ما تزوجت لكن زالت بكارتها، إما بزناً إكراهاً، والعياذ بالله، أو بعبثها هي في بكارتها حتى زالت، أو بسقوطها على شيء، المهم أنها قد تزول البكارة وإن لم تتزوج، وعلى هذا فإذا تبين أنها غير بكر فلا خيار له؛ لأنه لم يشترط، ولو ظن أنها بكر ظناً فقط، فليس له الخيار، ولكن إذا لم تتزوج فالأصل البكارة، ولو قيل: بأن هذا شرط عرفي لكان له وجه، وإذا أردت أن تعرف أن هذا القول فيه ضعف، فتصور لو أن أحداً قال: زوجتك بنتي، ومعروف أنها ما تزوجت، وقال: بشرط أنها بكر، فماذا تكون حال الولي؟ قد يرفض الزوج نهائياً؛ لأنه سيقول: اتهم بنتي بالفساد، ولهذا فالصحيح في هذه المسألة أن من لم يُعلم أنها تزوجت، فإن اشتراط كونها بكراً معلوم بالعرف، ولو شُرِط لعدَّه الناس سفهاً.
قوله: «أو جميلة» أي: شرطها جميلة، ولما دخل عليها فإذا هي ليست بجميلة، فله الفسخ، فإن لم يشترطها جميلة فليس له الفسخ.
فالمرأة لا تخلو من ثلاث حالات: جميلة، قبيحة فيها عيوب، متوسطة لا هي من ذات الجمال، ولا هي من المعيبات، فأما كونه يقول: أنا ما تزوجتها إلا على أنها من أجمل النساء، فهذا ليس صحيحاً، إنما إن وجد فيها عيوباً فقد نقول: إن الأصل
السلامة من العيوب، فما الميزان لكونها جميلة أو غير جميلة؟ لأنه قد يكون جميلاً عند شخص ما ليس جميلاً عند آخر، وكل طفلة عند أمها غزالة، فيقال: إذا تنازع الزوج والزوجة وأهلها ـ وهذا قد يكون غير وارد ـ، لكن لو تنازعوا، فإنه يرجع إلى نساء متزنات، ومن ثم نعرف أهمية رؤية الخاطب لمخطوبته، ولذلك جاء الأمر بها من الرسول عليه الصلاة والسلام
(1)
؛ لأنه إذا رآها لم يبقَ له حجة، ودخل على بصيرة، فإذا لم يشترط أنها جميلة، ثم تبين أنها قبيحة فليس له الخيار ما دام لم يشترط؛ لأن الجمال أمر زائد على الأصل.
قوله: «أو نسيبة» أي: شرطها نسيبة يعني ذات نسب، وهي التي نسميها نحن القبيلية، فتبين أنها ليست قبيلية، وهؤلاء الناس الذين تزوج منهم اسمهم قبيلي، وكثيراً ما تشترك الأسماء يكون ناس قبيليون وناس غير قبيليين، واسمهم واحد، فهو تزوجها على أنها من القبيليين واشترط ذلك، فتبين أنها ليست كذلك فله الفسخ.
قوله: «أو نفي عيبٍ لا ينفسخ به النكاح فبانت بخلافه فله الفسخ» يعني شرط نفي عيب لا ينفسخ به النكاح؛ لأن العيوب قسمان: قسم إذا وجد في المرأة فللزوج الفسخ، وسيأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ في آخر الباب، وقسم إذا وجد في المرأة فإنه لا
(1)
سبق تخريجه ص (20).
يملك الفسخ، إلا بشرط نفي العيب، فالذي لا ينفسخ به النكاح العمى، والصمم، والبكم، والخرس، والقبح، وسقوط الأسنان، وقطع الأذنين، والزمانة، فلما دخل عليها وإذا هي عجوز فيها كل العيوب التي لا ينفسخ بها النكاح، نقول له: لا خيار لك إلا إن كانت شارطاً عند العقد انتفاء هذه العيوب، وعلى هذا فلا يسلم من هذا البلاء إلا من شرط عند العقد أنها سميعة، بصيرة، غير مشوهة، ولا ساقطة أسنانها، ولا زمناء، ولا مقطوعة الأذن، المهم أنه على المذهب إذا أراد أن يسلم من هذه الأشياء يشترط انتفاءها، فإن لم يشترط الانتفاء فإنه لا خيار له، لكن هذا كما هو معلوم قول ضعيف، والصحيح أن له الخيار.
وقوله: «أو شرطها بكراً
…
إلخ» ظاهره أن هذا الشرط للزوج، وأن المرأة لو شرطت ذلك على الزوج فلا عبرة به، فلو شرطته بكراً فبان غير بكر فلا يضر، لكن إن شرطته شاباً فبان شيخاً فلها ذلك، وهذا هو الصحيح، والمذهب لا، وإذا شرطته جميلاً فبان قبيحاً فلا خيار لها على المذهب؛ وذلك لأن الجمال إنما يراد في المرأة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«تنكح المرأة لأربع: لمالها، وحسبها، وجمالها، ودينها، فاظفر بذات الدين»
(1)
، وقال في الرجل:«إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه»
(2)
، ولم
(1)
سبق تخريجه ص (13).
(2)
أخرجه الترمذي في النكاح/ باب ما جاء فيمن ترضون دينه فزوجوه (1084)؛ وابن ماجه في النكاح/ باب الأكفاء (1967) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وحسنه الألباني في الإرواء (1868).
يذكر الجمال، فإذا شرطت أن الزوج جميل، ولما دخل عليها فإذا هو لا تحب أن تنظر إليه، فعلى المذهب ليس لها الخيار، سبحان الله! يقول المتنبي قولاً صحيحاً:
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى
عدواً له ما من صداقته بد
ومع أنهم يقولون: إذا اشترطت زيادة ريال واحد في المهر ولم يفِ به فلها الفسخ، فلو كان مهرها ألف ريال، وقالت: لا بد أن تعطيني ألفاً وريالاً، ولم يعطها إلا ألفاً فلها الفسخ لفوات الريال، فكيف إذا اشترطت أن يكون جميلاً، وتبين أنه من أقبح عباد الله؟! فلا شك أن هذا أشد على المرأة.
ولهذا فالقول المتعين الراجح أنها إذا اشترطت في الزوج صفة مقصودة من جمال، أو طول، أو سمن، أو ما أشبه ذلك، فإنه إذا تبين بخلافه فلها الفسخ، وسبحان الله! إذا شرطها جميلة فبانت قبيحة فله الفسخ، وإذا شرطت أن يكون جميلاً فبان قبيحاً فلا فسخ، فأين العدل؟!
ولذلك فالصواب المقطوع به أنها إذا شرطت صفة مقصودة في الزوج فتبين بخلافها فلها الفسخ، ولا فرق، بل لو نقول: إنها أحق من الزوج بالفسخ؛ لأن الزوج يستطيع أن يتخلص بالطلاق، لكن الزوجة ليس بيدها طلاق لكان أولى.
وإن شرطته مسلماً فبان كتابياً يبطل النكاح أصلاً؛ لأن الكافر ولو كتابياً لا يحل له أن يتزوج المسلمة، وإذا شرطها تلد فبانت عقيمة فله الخيار على المذهب، وبالعكس فلها الخيار ـ أيضاً ـ على المذهب.
وَإِنْ عَتَقَتْ تَحْتَ حُرٍّ فَلَا خِيَارَ لَهَا، بَلْ تَحْتَ عَبْدٍ.
قوله: «وإن عتقت تحت حر فلا خيار لها، بل تحت عبدٍ» أي: حرٌ تزوج أمة بالشروط السابقة وهي ثلاثة، ثم إن سيدها أعتقها فلا خيار لها؛ لأنها وإن عتقت لم ترتفع على زوجها؛ إذ إنها حرة وزوجها حر، فالنقص الذي كان فيها زال، لكنه لم يرتقِ بها لدرجة أكثر من درجة الزوج، فليس لها خيار، هذا هو المشهور من المذهب، وعليه أكثر العلماء.
وإن عتقت تحت عبد فإن لها الخيار؛ لأنها صارت أعلى منه، والدليل حديث بريرة رضي الله عنها حين عتقت فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم بين أن تبقى مع زوجها أو تفسخ النكاح، فاختارت الفراق، فكان زوجها يلاحقها في أسواق المدينة؛ لأنه كان يحبها حباً شديداً، وهي تبغضه بغضاً شديداً، فيلاحقها، يبكي، يريد أن لا تفارقه، وهي لا تعبأ به، حتى إن الرسول عليه الصلاة والسلام شفع فيه إليها، فقالت: يا رسول الله إن كنت تأمرني فسمعاً وطاعة، وإن كنت تشير علي فلا حاجة لي فيه
(1)
، وهذا دليل على أنه إذا عتقت تحت عبد فلها الخيار، وقد اختلف الرواة في مغيث، هل هو حر، أو عبد
(2)
؟ وأكثر الرواة على أنه عبد
(1)
أخرجه البخاري في الصلاة/ باب شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في زوج بريرة (5283) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(2)
من الروايات التي جاء فيها أنه عبد ما أخرجه البخاري في الطلاق/ باب خيار الأمة تحت العبد (5281) و (5282) عن ابن عباس رضي الله عنهما موقوفاً؛ وأخرجه مسلم في العتق/ باب بيان أن الولاء لمن أعتق (1504) عن عائشة رضي الله عنها وهذا هو اختيار البخاري كما في الصحيح في الفرائض/ باب ميراث السائبة تحت الحديث رقم (6754). ومما جاء أنه حُرٌّ ما رواه أبو داود في الطلاق/ باب من قال كان حراً (2235)، والترمذي في الرضاع/ باب ما جاء في المرأة تعتق ولها زوج (1155)؛ والنسائي في الزكاة/ باب إذا تحولت الصدقة (5/ 106)؛ وابن ماجه في الطلاق/ باب خيار الأمة إذا أعتقت (2074) عن عائشة رضي الله عنها وانظر: التلخيص (3/ 178).
وهو المحفوظ، وفي بعض الروايات أنه كان حراً لكن فيها بعض الإشكال، وعلى هذا فلها الخيار.
واختار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن لها الخيار مطلقاً إذا عتقت، وجعل الموجب للخيار العتق، لا أنها ساوت الزوج؛ وذلك لأنها حين كانت أمة كانت مغلوبة على أمرها، وهو الراجح؛ والعلة أنها قبل العتق نفسها لسيدها، فهو الذي يزوجها، أما إذا عتقت فإنها تحررت، فتملك كل ما كان لسيدها من السيطرة من قبل.
وقد يقال: إن كان سيدها قد أكرهها على الزواج خيرناها، وإن كانت لم تكره ورضيت به فلا خيار لها؛ لأنها قد رضيت هي بنفسها، وهذا قول مركب من القولين، وهو مما يسلكه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أحياناً، فمثلاً اختار وجوب الوتر على من يقوم الليل، والمعروف أن بعض العلماء يقول: الوتر واجب، وبعضهم يقول: غير واجب، قال فيه لما اختار هذا القول: وهو بعض قول من يوجبه مطلقاً، فنحن هنا إذا قلنا بهذا التفصيل، وهي أنها إن كانت متزوجة برغبتها ورضاها فلا خيار لها، وإلا فلها الخيار؛ لأنها في الحقيقة زُوجت مغلوبة على أمرها، والآن تحررت، فلو قلنا بذلك لكنا قد سلكنا مسلك شيخ الإسلام رحمه الله.
فَصْلٌ
وَمَنْ وَجَدَتْ زَوْجَهَا مَجْبُوباً، أَوْ بَقِيَ لَهُ مَا لَا يَطَأُ بِهِ فَلَهَا الفَسْخُ، وَإِنْ ثَبَتَتْ عُنَّتُهُ بِإِقْرَارِهِ، أَوْ بِبَيِّنَةٍ عَلَى إِقْرَارِهِ أُجِّلَ سَنَةً مُنْذُ تُحَاكِمُهُ، فَإِنْ وَطِئَ فِيهَا وَإِلاَّ فَلَهَا الفَسْخُ،
.......
هذا الفصل في العيوب في النكاح، واعلم أن ما يفوت به غرض الزوج، أو الزوجة، ينقسم إلى قسمين:
أحدهما: فوات صفة كمال.
الثاني: وجود صفة نقص.
فمثلاً كونها حسنة الخلق، وكون الزوج حسن الخلق، كريماً، سمحاً، وما أشبه ذلك، فهذا فوات صفة كمال، ويفوت به غرض المرأة، وسعادة النكاح، فما كان لفوات صفة كمال فلا خيار فيه ما لم تشترط تلك الصفة، وما كان صفة عيبٍ ففيه الخيار، لكن ما هو العيب الذي فيه الخيار؟ هل هو مخصوص بأشياء معدودة، أو هو مضبوط بضابط محدود؟ المشهور من المذهب أنه محدود بأشياء معدودة، وما سواها ـ ولو كان أولى منها بالنفور ـ فليس بعيب.
والصحيح أنه مضبوط بضابط محدود، وهو ما يعده الناس عيباً، يفوت به الاستمتاع أو كماله، يعني ما كان مطلق العقد يقتضي عدمه، فإن هذا هو العيب في الواقع، فالعيوب في النكاح كالعيوب في البيوع سواء؛ لأن كلا منها صفة نقص تخالف مطلق العقد.
والعيوب التي يثبت بها الفسخ على المذهب تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: يختص بالرجل.
الثاني: يختص بالمرأة.
الثالث: مشترك.
فالذي يختص بالرجل، ذكره المؤلف بقوله:
«ومن وجدت زوجها مجبوباً» أي: مقطوع الذكر، ولم يقل: إن ثبت جَبُّه؛ لأن الجَبَّ يعلم من جهتها، فإذا قالت: إن زوجها مجبوب، فهذا عيب؛ لأنه يفوت الغرض، فمن أكبر أغراض النساء الولادة، والاستمتاع، والتلذذ بالجماع، وهذا مقطوع ذكره.
قوله: «أو بقي له ما لا يطأ به فلها الفسخ» ، أي: ما بقي له من ذكره جزء صغير، لا يتمكن من الوطء به، فهذا وجوده كالعدم.
وعلم من كلامه أنه إذا بقي ما يمكن الوطء به فليس بعيب، مع العلم بأنه يفوت كمال الاستمتاع، فإذا بقي له ـ مثلاً ـ مقدار الحشفة، أو ما أشبه ذلك مما يمكن أن يطأ به، لكنه لا يحصل به الاستمتاع، فليس بعيب.
قوله: «وإن ثبتت عُنَّتُه بإقراره» العُنة من العِنان وهو ما تقاد به الناقة، وهو أن يحبس عن الجماع، ومناسبتها للاشتقاق ظاهرة، فإن الزمام يحبس الناقة، فكذلك العنة تحبس الإنسان من الجماع، بمعنى أنه ما يتمكن من جماع زوجته، وهذا قد يحدث، وقد يكون طبيعة، وقد يكون حادثاً على القول الراجح فتثبت عنته بإقراره، كأن يقر عند القاضي.
وعلم من قوله «بإقراره» أنها لا تثبت بدعوى المرأة إلا ببينة، فلو قالت: إنه عنين فلا نقبل قولها إلا ببينة؛ وذلك لقول الرسول عليه الصلاة والسلام: «البينة على المدعي»
(1)
.
(1)
أخرجه البيهقي (10/ 252)؛ وقال الحافظ في البلوغ (1408): «إسناده صحيح» وأصله في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما بلفظ: لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه.
قوله: «أو ببينة على إقراره» أنكر لكن عندنا عليه بينة تشهد بأنه أقر من قبل بأنه عنين، فتثبت العنة، فما الحكم فيه؟
الجواب قوله: «أجل سنة منذ تحاكمه» يؤجل سنة منذ التحاكم، والمراد بالسنة هنا الهلالية لا الفصلية؛ لأنها هي التي نص عليها القرآن:{هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ} {لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} [يونس: 5]، فبيَّن الله سبحانه وتعالى أن السنين هي السنين الهلالية، وقال تعالى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} [البقرة: 189]، وهل هناك فرق بين الهلالية والفصلية؟ نعم، الفصلية أطول؛ لأن الفصلية متعلقة بالبروج، والبروج اثنا عشر برجاً، وأيامها أطول من أيام الهلالية، فالمهم أنها سنة هلالية، فتوقَّت بها الآجال لمن فيه عُنة.
وقوله: «منذ تحاكمه» لا منذ الزواج، ولا منذ الدعوى، فلو ادعت عليه ـ مثلاً ـ في محرم، ولم يتحاكما إلا في ربيع، فالمدة من ربيع.
وقوله: «أجل سنة» المؤجل له الحاكم الشرعي.
قوله: «فإن وطئ فيها وإلا فلها الفسخ» إن وطئ الزوج في هذه المدة فلا فسخ لها؛ لأنه تبين أنه ليس بعنين وإلا فلها الفسخ.
وهذه السنة التي ضربت للعنين، أحياناً تكون المرأة حائضاً، فلو قال: إنه نشط في أيام حيضها فلا يقبل، ويقال: وإن لم تتمكن من الجماع في أيام الحيض، لكن تتمكن من المباشرة، ويعلم بذلك زوال عنتك.
وهل تحتسب عليه أيام الحيض؟ نعم، تحتسب عليه، والدليل أنه روي عن عمر وعثمان وابن مسعود والمغيرة بن شعبة رضي الله عنهم
(1)
.
وهل هذا حكم تشريعي أو حكم قضائي؟ يحتمل أنه حكم قضائي، وحينئذ يكون راجعاً إلى اجتهاد القاضي، وقد يختلف من زمان إلى آخر، ويحتمل أنه حكم تشريعي، وهذا ينبني على قول الصحابي هل هو حجة أو ليس بحجة؟ والصحيح أن قول عمر وأبي بكر رضي الله عنهما: حجة لقول النبي عليه الصلاة والسلام: «اقتدوا بالذَيْن من بعدي أبي بكر وعمر»
(2)
، وقوله:«إن يطيعوا أبا بكر وعمر يرشدوا»
(3)
.
ولكن يحتمل أن يكون قضاءً، وفرق بين القضاء والتشريع،
(1)
أثر عمر رضي الله عنه أخرجه عبد الرزاق (10720)؛ وكذلك ابن مسعود رضي الله عنه (10723) وكذا المغيرة رضي الله عنه (10724)؛ وأما قول عثمان فلم نقف عليه.
(2)
أخرجه أحمد (5/ 385)؛ والترمذي في المناقب/ باب في مناقب أبي بكر وعمر رضي الله عنهما (3662)؛ وابن ماجه في المقدمة/ باب في فضائل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم (97) عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، وحسنه الترمذي، وانظر: الصحيحة للألباني (1233).
(3)
أخرجه مسلم في الصلاة/ باب قضاء الصلاة الفائتة
…
(681) عن أبي قتادة رضي الله عنه.
فالقضاء اجتهاد في وقته ومحله، يختلف من قاضٍ إلى آخر، ومن زمن إلى زمن، ومن حال إلى حال، والتشريع لا يتغير.
ولهذا أمثلة، منها: أن الرسول عليه الصلاة والسلام قضى للقاتل بسلب المقتول، فقال:«من قتل قتيلاً فله سلبه»
(1)
، فاختلف العلماء في مثل هذا، هل هو تشريع أو قضاء؟ فمن قال: إنه قضاء قال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل من قتل قتيلاً فله سلبه في تلك الغزوة، ومن جعله تشريعاً قال: إنه عام في جميع الغزوات.
فلو أن الطب بالفحص الدقيق قال: إن الرجل عنين قبل أن تمضي السنة، أو قال: إنه ليس بعنين، أو قال: إنه يحتمل أن يعود عليه نشاطه في فصل من فصول السنة، فهل لنا أن نخالف هذا الحكم؟ إن قلنا: إنه من باب التشريع فلا نخالفه، حتى لو قال لنا الأطباء: إننا نعلم علم اليقين أن هذا الرجل لن تعود إليه قوة الجماع فإننا لا نأخذ به، بل نؤجله، وإذا قلنا: إنه من باب القضاء الخاضع للاجتهاد، فإنه إذا قرر الأطباء من ذوي الكفاءة والأمانة أنه لن تعود إليه قوة الجماع فلا فائدة من التأجيل، فلا نستفيد من التأجيل إلا ضرر الزوجة، فهو في الحقيقة يشبه مقطوع الذكر في عدم رجوع الجماع إليه، فلا حاجة في التأجيل حينئذٍ.
ومما يعلم بالطب، واشتهر عند الناس أن من كُوِيَ من صُلبه فإنه تبطل شهوته، إما لأنه لا ينزل، أو لا ينتشر، ولهذا
(1)
أخرجه مسلم في المغازي/ باب استحقاق القاتل سلب القتيل (1753)(44) عن عوف بن مالك رضي الله عنه.
يحترزون جداً من كي الإنسان في صُلبه، فمثل هذا إذا علمنا أنها لن تعود شهوته فلا فائدة من التأجيل؛ لأن ذلك يشبه المجبوب الذي لا يرجى، بل يقطع بعدم قدرته على الوطء.
أما تعليل التأجيل بسنة فقالوا: لأجل أن تمر عليه الفصول الأربعة، وهي: فصل الربيع، والصيف، والخريف، والشتاء.
فصل الربيع يبتدئ من برج الحَمل، إذا تساوى الليل والنهار بعد طول الليل، ففصل الربيع له الحَمل والثور والجوزاء، وفصل الصيف يكون إذا بلغ النهار نهايته في الطول، وله السرطان والأسد والسنبلة، ثم بعد ذلك يبتدئ فصل الخريف، وذلك إذا تساوى الليل والنهار بعد طول النهار، وله الميزان والعقرب والقوس، ثم يدخل فصل الشتاء إذا انتهى طول الليل وبدأ النهار يزيد حتى يتساوى الليل والنهار، فيدخل فصل الربيع.
فالعلماء يقولون: إذا أُجل هذه السنة وتعاقبت عليه الفصول، فإنه يتبين إن كان عنيناً طبيعة فلا ينتفع باختلاف الفصول؛ لأن في الإنسان طبائع أربعة، وهي الحرارة، والبرودة، والرطوبة، واليبوسة فقد يكون هناك غلبة إحدى الطبائع الأربع فلا يناسبها هذا الوقت من فصل السنة، ويناسبها الفصل الثاني؛ فلهذا أجل سنة ليتبين أمره.
مسألة: هل ضعف الرجل في الجماع عُنَّة؟ ليس عُنة، فما دام يستطيع الجماع فإنه ليس بعنة، حتى لو كان لا يجامع في الشهر إلا مرة ـ مثلاً ـ؛ لأنه ثبت أنه يجامع.
مسألة: هل يمكن أن يكون الإنسان عنيناً متبعضاً، بمعنى
أنه في وقت يقدر على الجماع، وفي وقت لا يقدر؟
الجواب: يمكن، لكنه ليس بعنين؛ لأنه ليس بدائم.
وهل يمكن أن يكون عنيناً بالنسبة لزوجة، وليس عنيناً بالنسبة لزوجة أخرى؟
الجواب: الواقع يمكن، لا سيما إذا كان ـ والعياذ بالله ـ مسحوراً؛ لأن هناك سحر عطف وصرف، فقد يكون هو بالنسبة لفلانة لا يستطيع الجماع أبداً، وبالنسبة للأخرى يستطيع أن يجامع، ففي الأولى: المذهب أنه ليس لها الفسخ؛ لأنه ليس بعنين، فهو قادر على الجماع، والصواب وهو الراجح عندي أن لها الفسخ، والحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، ولو قيل: إن هذه أحق بالفسخ من غيرها؛ لأنها تراه مع ضرتها، يغتسل في اليوم ثلاث مرات، وهي لا يأتيها، فهذا أشد عليها مما لو كان منفرداً بها، فينبغي أن نمكنها من الفسخ رأفة بها ورحمة، ولعل الله أن ييسر لها زوجاً يحصل به الكفاية.
وَإِنِ اعْتَرَفَتْ أَنَّهُ وَطِئَهَا فَلَيْسَ بِعِنِّينٍ، وَلَوْ قَالَتْ فِي وَقْتٍ: رَضِيتُ بِهِ عِنِّيناً سَقَطَ خِيَارُهَا أَبَداً.
قوله: «وإن اعترفت أنه وَطِئها فليس بعنين» يعني ولو مرة واحدة، فلو قالت: إنه جامعها في أول ليلة فإنه ليس بعنين، فلا يكون لها الخيار، وتبقى معه طول حياتها لا تتمتع بلذة، ولا تتمتع بأولاد، ونقول: اصبري لعل الله يرزقه القوة أو يموت أو يطلقك، فالأمر بيد الله عز وجل.
إذاً على كلام الفقهاء رحمهم الله العنة لا تحدث، فمتى جامع الرجل مرة واحدة فليس بعنين، وهذا القول ضعيف يخالفه الواقع، فإن العُنَّة تحدث بلا ريب؛ لأن الإنسان معرض لفقد قواه
كلها أو بعضها، أليس السميع يمكن أن يلحقه الصمم؟! بلى، والبصير يلحقه العمى، والقوي الجسم يلحقه الضعف، أيضاً قوي الشهوة يلحقه الضعف، فكثير من الناس يبتلى بمرض يفقده الشهوة نهائياً، فلا يشتهي إطلاقاً ولا ينتشر ذكره، وهذه هي العُنة، فكيف نعلم علم اليقين أن زوجها لم يجامعها، ثم نقول: إنه لا خيار لها؟! فالصواب أن العنة تحدث، وأنها إذا حدثت فللزوجة الخيار.
فإذا قال قائل: كيف تجعلون لها الخيار في أمر قدره الله على الزوج، وليس باختياره؟ قلنا: هذا من المصائب التي يبتلى بها المرء، فالزوج ابتلي بهذه المصيبة، فلا نجعل مصيبته مصيبة على غيره، وإذا كان الرجل إذا أعسر بالنفقة فللزوجة الفسخ، فكيف إذا أعسر بما هو أهم عندها من النفقة؟! فكثير من النساء ما يهمهن النفقة، بل يهمهن الاستمتاع والولد، والنفقة عندهن شيء ثانوي، بل ربما تنفق على زوجها، فالصواب بلا شك أنه متى ثبتت العُنة ولو طارئة وعلم أنها لن تعود شهوة النكاح، فإن لها الفسخ، أما إذا كانت العنة أمراً طارئاً يزول فإننا لا نمكنها من الفسخ؛ لعدم اليأس من قدرته على الجماع.
وقوله: «وإن اعترفت أنه وطئها» قال في الروض
(1)
: في القبل في النكاح الذي ترافعا فيه ولو مرة «فليس بعنين» ، فعلم منه أنه لو اعترفت أنه وطئها في نكاح سابق، ثم طلقها ثم تزوجها ثانياً ولم يطأها أنه عنين، وهذا ما يؤيد القول الذي رجحناه، وهو
(1)
الروض المربع مع حاشية ابن قاسم (6/ 336).
أن العنة تحدث إذ لا فرق في حدوث العنة بين النكاح السابق والنكاح اللاحق.
قوله: «ولو قالت في وقت: رضيت به عنيناً، سقط خيارها أبداً» كامرأة رضيت بزوجها عنيناً، ثم أصابها ما يصيب النساء من شهوة النكاح، فأرادت أن تفسخ، نقول: لا خيار لكِ، فإن قالت: ذاك الوقت أنا معجبة به وراضية، لكن طالت المدة، وأنا الآن لا أريده، فنقول: لا خيار لك؛ لأن التفريط منك.
وهذا مما يجعل الإنسان يأخذ درساً في أن لا يكون مبالغاً في الأمور، فلا يظن أن الأحوال تدوم، بل يكون عنده احتياط وتحفظ، ولهذا ورد في بعض الآثار:«أبغض بغيضك هوناً ما عسى أن يكون حبيبك يوماً ما»
(1)
، وهذا صحيح، لا تغالِ في الأمور، ونزِّل الأمور منازلها، واحسب للمستقبل حسابه حتى تكون حكيماً فيما تفعل وفيما تقول.
(1)
أخرجه الترمذي في البر والصلة/ باب ما جاء في الاقتصاد في الحب والبغض (1997) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وضعفه وقال:«الصحيح عن علي موقوف قوله» .
فَصْلٌ
وَالرَّتَقُ، وَالقَرَنُ، وَالعَفَلُ، وَالفَتْقُ،
..............
قوله: «والرَّتَقُ» مأخوذ من الجمع، كما قال الله تبارك وتعالى:{أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا} [الأنبياء: 30] أي: شيئاً واحداً، فالرتق معناه أنه يكون فرج المرأة مسدوداً، ما يسلكه الذكر، فهذا يثبت للزوج الخيار؛ لأنه يفوت مقصود النكاح من الولد والاستمتاع.
قوله: «والقَرَن» وهو لحم ينبت في الفرج فيسده، وحكمه كالأول، وهو طارئ، والأول أصلي.
قوله: «والعَفَلُ» وهو ورم في اللحمة التي بين مسلكي المرأة، فيضيق منها فرجها، فلا ينفذ فيه الذكر.
قوله: «والفَتْقُ» وهو انخراق ما بين سبيليها، أي: ما بين مخرج بول ومَنِيٍّ، وهذا يمنع التلذذ، وربما يؤدي إلى تسرب البول إلى مخرج المني، وأيضاً قد يمنع الحمل، بحيث يكون هذا الانفتاق سبباً لضياع المني، فلا يصل إلى الرحم، وحينئذٍ يكون هذا عيباً.
وهذه العيوب كلها تتعلق بالفرج، فهي خاصة بالمرأة؛ والسبب في كونها عيوباً أنها تمنع مقصود النكاح.
وظاهر كلام المؤلف أن الفتق عيب ولو أمكن إزالته، ونحن نقول: إذا لم تمكن إزالته إلا بعد عملية طويلة فهو عيب، وقد تنجح وقد لا تنجح، لكن إذا كان الطب قد ترقى، وقالوا: هذا سهل، يزول خلال أسبوع، فظاهر كلامهم في كتاب البيوع أنه إذا زال العيب سريعاً في السلعة فلا خيار، أن يقال: هذا كذلك،
وقد يقال: هناك فرق؛ لأن تصور الزوج أن امرأته أجرت عملية في هذا المكان سوف يمنعه من كمال اللذة، وعليه فنقول: هو عيب ولو أمكن إزالته.
وَاسْتِطْلَاقُ بَوْلٍ، وَنَجْوٍ، وَقُرُوحٌ سَيَّالَةٌ فِي فَرْجٍ،
.........
قوله: «واستطلاق بول ونجو» البول معروف، والنجو الغائط، ومعنى استطلاقهما أنه لا يمكن أن يحبسهما، يعني هو السلس، فسلس البول أو الغائط عيب، من أشد ما يكون من العيوب، وهل مثلهما الريح؟ الجواب: نعم؛ لأن الريح تبعث رائحة كريهة. وهذا العيب مشترك بين الرجل والمرأة، والمؤلف رحمه الله خلط بين الخاص والمشترك، وكان من حسن التصنيف أن يجعل الخاص وحده والمشترك وحده.
قوله: «وقروح سيالة في فرج» هذا خاص بالمرأة، فإذا كان فيها قروح سيالة تسيل ماءً في الفرج، فهو عيب؛ لأنه يوجب النفرة، ويمنع من كمال الاستمتاع.
وعلم من قوله: «سيالة» أنه لو كانت القروح يابسة لا تسيل فليست بعيب، وفيه نظر؛ وذلك لأن القروح في الفرج لا شك أنها توجب النفرة منه والقلق، وحتى لو فرض أنه لقوة محبته للمرأة وشهوته للجماع لا يبالي، لكن ربما تعافها نفسه، لا من جهة الميل النفسي، لكن من جهة خوف العدوى.
قال في الروض
(1)
: «واستحاضة» وهي استمرار الدم الخارج من المرأة، وهو دم طبيعي لكنه مرض، بخلاف الدم
(1)
الروض المربع مع حاشية ابن قاسم (6/ 339).
الناشئ عن عملية في الرحم مثلاً، فالدم الناشئ عنها ليس استحاضة إلا أنه ملحق بها في الحكم، فالاستحاضة عيب؛ وذلك لأننا لو قلنا: إنها تمنع الوطء لخوف العنت فهذا عيب واضح، وإذا قلنا بالقول الصحيح أنه يجوز وطء المستحاضة فإنه وإن جاز وطؤها، فلا شك أنه يحدث للرجل نفوراً من هذه المرأة المستحاضة، فكلما جامع وجد نفسه متلوثاً بالدم، هذا لا شك أنه ينفر منها، ويمنع من كمال الاستمتاع.
وهل نقول: إن كثرة المذي من الرجل عيب؟ ليس عيباً؛ لأنه ليس كاستطلاق البول إذ إنه لا يكون إلا من شهوة.
وَبَاسُورٌ، وَنَاصُورٌ، وَخِصَاءٌ، وَسَلٌّ وَوِجَاءٌ، وَكَوْنُ أَحَدِهِمَا خُنْثَى وَاضِحَاً، وَجُنُونٌ وَلَوْ سَاعَةً،
قوله: «وباسور، وناصور» وهما داءان بالمقعدة، مثل الجروح، يصيبان الرجال والنساء، فإذا كان في أحدهما باسور أو ناصور فهو عيب، والفرق بينهما أن الباسور يكون داخل المقعدة، والناصور يكون بارزاً، ودائماً يكون ملوثاً، ومع أنهما لا يحدثان أي شيء بالنسبة للجماع، ولا يشوهان المنظر أيضاً، ومع ذلك يقولون: إن هذا من العيوب؛ لأنه إذا ذكر أن بامرأته باسوراً أو ناسوراً لا يرتاح لها، وكذلك بالنسبة للمرأة مع الرجل.
قوله: «وخِصاء، وسَل» الخصاء قطع الخصيتين بجلدتهما، والسَّل ليس هو السِّل المعروف عند الناس، الذي هو المرض في البدن كله، السَّل ـ أي: سل الخصيتين ـ بحيث تقطع الخصيتان ويبقى الجلد، وهذا في الأحوال العادية لا يمكن، لكن قد يسلط الله على إنسان عدوًّا يأسره ـ ككافر ـ ويمثل به هذا التمثيل.
قوله: «ووِجاء» وهو أن يقطع الخصيتين ووعاءهما قطعاً، فإن ذلك يضعف الشهوة بلا شك، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:«يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء»
(1)
، والخصاء والسل والوجاء، إما أن تضعف الوطء، أو يزول بالكلية، ثم إنها ـ أيضاً ـ تمنع من النسل؛ لأنه إنما يكون بالمني، والمني لا ينشئه إلا الخصيتان، وإذا فقدت الخصيتان فلا نسل، بل ولا جماع كامل، فيكون هذا عيباً.
قوله: «وكون أحدهما» أي: أحد الزوجين.
قوله: «خنثى واضحاً» فإن كان مشكلاً لا يصح نكاحه من الأصل على ما تقدم في المذهب، أما هذا فهو واضح أنه رجل فيتزوج امرأة، أو أنه أنثى فيتزوجه رجل، فهذا يثبت به الفسخ؛ لأن رجلاً يتزوج امرأة على أنها امرأة خالصة، ثم يجد معها آلة ذكر، أو يجد لها لحية، فلا شك أنه ينفر منها، وكذلك العكس، امرأة تزوجت رجلاً، فإذا له فرج، أو له ثدي، فهذا من العيوب.
قوله: «وجنون ولو ساعة» الجنون ـ والعياذ بالله ـ فقد العقل، فإذا فقد العقل ولو ساعة من زمان، أي: إذا ثبت أنه جُن ولو ساعة، فإن ذلك يعتبر عيباً، سواء المرأة أو الرجل، ومنه الصرع.
وظاهر كلامه ولو برئ منه، لأنه لا يؤمن أن يعود.
(1)
سبق تخريجه ص (6).
أما إذا كان الجنون بواسطة الأعصاب، وعولج علاجاً تاماً، وقطع الأطباء أنه لن يعود لكونهم ـ مثلاً ـ وجدوا عرقاً يكون سبباً للتشنج العصبي، وقطعوه أو غير ذلك، المهم أنهم قطعوا بأنه لن يعود، فهذا ليس بعيب؛ لأنه ما من إنسان إلا ويمرض ثم يبرأ، لكن إذا كان بسبب الجن، أو بسبب الأعصاب لكن لم يشف فهو عيب.
وَبَرَصٌ، وَجُذَامٌ يُثْبِتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الفَسْخَ،
........
قوله: «وبَرَص» وهو بياض الجلد، وهو من الأمراض التي قد تكون وراثية، وقد تكون لسبب من الأسباب، ومن أكثر أسبابها التخم، وهو أن الإنسان يملأ بطنه، ويخلط فيه من الأكل، ولهذا قال شيخ الإسلام رحمه الله: إذا خاف الإنسان بأكله التخمة فالأكل عليه حرام، ولو أنه خبز ولحم.
ومن أسبابه ـ أيضاً ـ الروعة والوحشة فإنها تحدث ذلك، وقد كان الناس فيما سبق يسافرون في الليالي المظلمة المخيفة، فأحياناً يصيب بعضهم هذا البلاء، وقد يكون بأمر الله لا يعلم له سبب، فهذا البرص ولو بقدر رأس الإبرة يعتبر عيباً، سواء كان بالزوج أو بالزوجة، ولهذا جاء في الحديث في قصة الثلاثة الذين كان أحدهم أبرص قال:«ويذهب عني الذي قذرني الناس به»
(1)
وكلام الفقهاء ولو قليلاً؛ لأنه لا يؤمن أن يزداد وينتشر، وعلى هذا فلو كان في إبط الزوجة كرأس الإبرة برص، وجب على
(1)
أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء/ باب حديث أبرص وأعمى وأقرع في بني إسرائيل (3464)؛ ومسلم في الزهد/ باب الدنيا سجن للمؤمن وجنة للكافر (2964) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
أهلها عند العقد أن يبينوا له؛ لأن هذا عيب وكذلك الرجل.
لكن حسب ما نرى أن البرص نوعان: برص يعتبر مرضاً حقيقة، فينشأ أول ما ينشأ في الإنسان جزء صغير جداً، ثم ينتشر في الجلد كالجرب نسأل الله السلامة، وقسم آخر ليس عيباً فتجد مثلاً الجلد أصابه شيء، إما لذعة نار أو جرح أو ما أشبه ذلك، أو أنك لا تدري ما السبب لكنه ليس بمرض، فلا يزيد ولا يتغير ولا يكاد يخلو منه أحد، لكن مرادهم البرص الذي يكون عيباً، وينتشر في الجلد، ويخشى من انتشاره، والغريب ـ سبحان الله ـ أن هذا المرض لا يعدي، ولهذا لو كان يعدي لتمكن الأطباء من معالجته؛ لأن المرض الذي يعدي، يعدي بجراثيمه، وإذا علمت الجراثيم أمكن القضاء عليها، ولهذا تجد بعض الأحيان يكون هذا الرجل خادماً لأناس، يطبخ غداءهم وعشاءهم، ويلامس أوانيهم، وهم سالمون من هذا المرض.
وإبراء الأبرص من الآيات التي أعطيها عيسى صلى الله عليه وسلم، قال تعالى:{وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ} [المائدة: 110] فهو من الآيات المعجزات؛ لأن إبراء الأكمه والأبرص، وإحياء الموتى، وإخراجهم من القبور لا يقدر عليها البشر، لا بعلاج ولا غيره، فعلى كل حال البرص داء منفر، وهو عيب في الزوج أو الزوجة.
قوله: «وجذام» وهو عبارة عن قروح تصيب البدن، ولا يسلم منها، فلا تزال تسري حتى يموت الإنسان، ويسمى عند العامة الآكلة؛ لأنها تأكل الجلد، وهو لا شك عيب، وهو ـ أيضاً ـ معدٍ، وقد جاء في السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالفرار من
المجذوم
(1)
، حتى إن العلماء قالوا: يجب على السلطان أن يعزل الجذمى في مكان واحد؛ لئلا يختلطوا بالناس فينتشر هذا الداء.
قوله: «يثبت لكل واحد منهما الفسخ» وثبوت الفسخ للمرأة ظاهر المصلحة؛ لأن المرأة ليس بيدها الطلاق، فإذا ثبت لها الفسخ حصل لها الفراق، لكن ثبوت الفسخ للرجل، ماذا يستفيد منه؟ نقول: إنه يستفيد منه ثلاث فوائد:
الأولى: أنه لا ينقص به عدد الطلاق، فلا يحسب عليه من الطلاق.
الثانية: أنه يرجع بالمهر على من غره ـ كما سيأتي إن شاء الله ـ.
الثالثة: أن الناس لا ينظرون إليه على أنه رجل مطلاق، أي: كثير الطلاق، وهذه فائدة اجتماعية؛ لأن الرجل المطلاق لا يكاد يقدم على تزويجه أحد؛ لأنهم يخشون أن يطلق.
وهذه العيوب إذا تأملناها، وجدنا منها ما يمكن معالجته، ومنها ما لا يمكن معالجته، فهل هي سواء، أو نقول: إنه إذا أمكن إزالة العيب فلا خيار؟ فالرتق يمكن معالجته بعملية، ولكن هل العملية تجعل الفرج كالطبيعي؟ الظاهر ليس كذلك، وكذلك ـ أيضاً ـ القَرَن، ولا ندري هل يكون كالطبيعي أم لا؟ والعَفَل يمكن علاجه؛ لأنه ما دام ورماً فإنه يمكن علاجه بدون عملية، فإن كانت تبرأ بعد عشر سنين فلا يلزمه الانتظار، لكن إذا كان
(1)
أخرجه البخاري في الطب/ باب الجذام (5707) عن أبي هريرة رضي الله عنه معلقاً؛ وأخرجه عنه أحمد (2/ 443) ولفظه: «فرارك من الأسد» .
في وقت لا تفوت به مصلحة الزوج فإنه لا خيار له، لا سيما مع عدم الغش، أما مع الغش فلا ينبغي أن يعامل الغاش بالأخف والأيسر؛ لأنه ليس محلاً للرحمة.
وأما استطلاق البول والنجو فما أمكن علاجه بسرعة، بحيث لا تفوت مصلحة الزوج فإنه لا يثبت به الفسخ، والقروح السيالة في الفرج واضح أنه يمكن معالجتها، والباصور يمكن معالجته، والناسور يمكن لكنه يعود، والخصاء والسل والوجاء لا يمكن معالجتهما، وكون أحدهما خنثى واضحاً لا يمكن، وإذا كان ليس له إلا ذكر فقط، وجميع مميزات المرأة موجودة فيه ما عدا الآلة، وقالوا: يمكن أن تجرى له عملية بكل سهولة، فهذا يمكن إزالة العيب بدون أي ضرر، ما دام أن الفرج سليم.
وأما الجنون فنوعان: نوع له سبب محسوس فهذا لا شك أنه إذا عولج فبرئ منه فإنه لا خيار، وهو ما يسمى عند الناس الوِشرة، وهو أن الرأس ينفتق في ملاحمه، فتق من الدماغ، ثم يبدأ الرجل يهذي حتى يصل إلى الجنون، لكن له علاج وهو الكي، ولهم طرق يستدلون بها على موضع الفتق، فيضعون على موضع الفتق عجيناً ليناً، فإذا أصبح ووجدوا أن محل الفتق يابس، مع البخار عرفوا موضعه، فإذا كوي بإذن الله برئ بسرعة، كأنما نشط من عقال، فمثل هذا ليس بعيب؛ لأن هذا مرض يزال.
النوع الثاني: ما ليس له علاج فهذا يثبت الفسخ؛ لأنه لا يؤمن أن يعود، ولأن الزوج أو الزوجة يُعيَّر بذلك، فيقال: تزوج
فلانة التي كانت مجنونة بالأسواق، أو فلاناً كذلك، ففيه نوع عار عليه.
والبرص ما أظنه يبرأ، فهو عيب يثبت الفسخ بكل حال، والجذام لا يبرأ كذلك، نسأل الله العافية.
وغير هذه العيوب لا تثبت الفسخ، فالعمى ليس بعيب، والصمم ليس بعيب، والخرس ليس بعيب، والعرج ليس بعيب، وقطع الرِّجْل أو اليد ليس بعيب، وعلى هذا فقس، فلو تزوج امرأة عمياء، بكماء، صماء، مقطوعة اليد، عرجاء الرجل، عجوزاً فإنه لا يعتبر ذلك عيباً، فإن قال: أنا أديت مالاً كثيراً، قالوا: لماذا لم تشترط خُلُوَّهَا من هذه العيوب؟ لماذا لم تقل عند العقد: بشرط أن تكون بصيرة، سميعة، ناطقة، غير عرجاء، ولا مقطوعة اليد
…
إلخ؟! كل هذه العيوب لا يثبت بها الفسخ، فلا بد أن تشترط انتفاءها عند العقد؛ فإن لم تشترط فأنت مخاطر، إن وجدتها سليمة، وإلا فلا خيار لك، هذا ما ذهب إليه الفقهاء رحمهم الله.
ولكن هذا القول فيه نظر، والصواب أن العيب كل ما يفوت به مقصود النكاح، ولا شك أن من أهم مقاصد النكاح المتعة والخدمة والإنجاب، فإذا وجد ما يمنعها فهو عيب، وعلى هذا فلو وجدت الزوج عقيماً، أو وجدها هي عقيمة فهو عيب، ولو وجدها عمياء فهو عيب؛ لأنه يمنع مقصودين من مقاصد النكاح وهما المتعة والخدمة، ولو وجدها صماء فإنه عيب، وكذلك لو وجدها خرساء فإن ذلك عيب، ولو وجدها لا أسنان لها وهي شابة ليست عجوزاً فإن هذا لا يعد عيباً؛ لأنه يمكن إزالته،
والزوج مصلحته من الأسنان كمال الجمال، فيمكن أن تركب أسناناً، وتكون من أحسن ما يكون.
إذاً لو قال قائل: إذا وجدها غير جميلة لكن ليس فيها عيب، فهل يعتبر ذلك موجباً للفسخ؟ لا، إلا إن كان قد اشترط، أما إن وجد فيها خدشاً في الوجه، أو بياضاً في العين، أو شرماً في الشفة وما أشبه ذلك، فلا شك أن هذا عيب، فالصواب أن العيوب غير معدودة، ولكنها محدودة، فكل ما يفوت به مقصود النكاح، لا كماله فإنه يعتبر عيباً يثبت به الخيار، سواء للزوج أو للزوجة.
أما الكِبَر، بمعنى أنه ظن أنها بنت سبع عشر فإذا هي بنت ثلاثين سنة، أو ظنت أن له خمساً وعشرين سنة فإذا له خمس وثلاثون سنة، فالظاهر أن هذا ليس بعيب، لكن لو بانت عجوزاً أو بان شيخاً كبيراً فهذا عيب؛ لأنه يفوت المقصود.
فإذا قال قائل: هذا الرجل يشاهَد فلماذا لم تنظروا إليه؟ فنقول: وجدناه ذا لحية قد طلاها بالسواد، أو حلقها ولا ندري، فيمكن أن يغتر الناس به لأحد هذين السببين.
وهذا الذي اخترناه هو الذي اختاره ابن القيم رحمه الله وكذلك أشار إليه شيخ الإسلام ابن تيمية، وبعض الأصحاب رحمهم الله، وحجة المذهب أن هذا هو الوارد عن السلف من الصحابة والتابعين، فيقال: إن الوارد عن السلف من الصحابة والتابعين قضايا أعيان، يقاس عليها ما يشبهها، أو ما كان أولى منها، ولا ريب أن كل أحد يعلم أن بعض هذه العيوب لا تساوي
شيئاً بالنسبة لعيوب كثيرة، ذكروا أنها ليست عيوباً، والشريعة لا يمكن أن تفرق بين متماثلين، ولا أن تجمع بين مختلفين أبداً، فإذا تشابه الشيئان صار حكمهما واحداً، وإذا اختلفا اختلف حكمهما، هذه قاعدة عامة في كل الشريعة، وقد يبدو للإنسان في بعض الأحيان أن الشيئين مختلفان وهما لم يختلفا، وقد يبدو أنهما مفترقان وهما لم يفترقا، وحينئذ يكون الخطأ من سوء فهمه، وليس من الحكم الشرعي.
وَلَوْ حَدَثَ بَعْدَ العَقْدِ،
..........
قوله: «ولو حدث بعد العقد» أي: لو حدث العيب بعد العقد فلمن له الحق أن يفسخ؛ لأن العيوب قد تحدث بعد العقد، وقد تكون من قبل كما هو واضح، فمثلاً الرتق والفتق وما أشبه ذلك بالنسبة للمرأة يكون قبل العقد، والعُنة على القول الراجح تحدث وتكون بعد العقد.
وقوله: «ولو حدث بعد العقد» هذا إشارة خلاف، حيث إن بعض أهل العلم يقول: إن العيب إذا حدث بعد العقد، وهو لا يتعدى ضرره فإنه لا خيار، كما لو حدث عيب السلعة بعد البيع فلا خيار للمشتري؛ لأنها تعيبت على ملكه، فكذلك إذا حدث بعد العقد فإنه لا خيار، وهذا القول يكون متوجهاً في بعض العيوب، أما بعضها فإنه لا ينبغي أن يكون فيه خلاف، فالجنون المطبق ـ والعياذ بالله ـ إذا حدث بعد العقد لو قلنا: ليس للمرأة الخيار لكان مشكلاً، وهو أن نلزمها بالبقاء مع رجل مجنون تخاف على نفسها منه وعلى أولادها، وهذا لا يمكن أن تأتي به
الشريعة الرحيمة، فبعض العيوب قد نقول: إنه لا يضر حدوثه، فالشيء الذي لا يؤثر من هذه العيوب لا ينبغي أن يكون فيه خيار إذا حدث بعد العقد، والمؤثر كما قال المؤلف.
أَوْ كَانَ بِالآخَرِ عَيْبٌ مِثْلُهُ،
........
قوله: «أو كان بالآخر عيب مثله» فإنه يثبت الفسخ، لما اطلع الرجل على برص في زوجته قال: بك عيب، فقالت: وأنت بك عيب البرص، فلكل منهما الخيار، فإذا قال: لا خيار لك؛ لأن فيك مثل هذا العيب الذي فيّ، فما الجواب؟ الجواب: أن يقال كما علله الفقهاء رحمهم الله: إن الإنسان ينفر من عيب غيره ولا ينفر من عيب نفسه، ولهذا تجد الإنسان يتقزز إذا رأى في إنسان جرحاً، لكن جرحه الذي فيه لا يتقزز منه.
إلا أن بعض الأصحاب استثنوا من ذلك ما لو كان مجبوباً وهي رتقاء، فإنه لا خيار لأحدهما؛ لأنه في هذه الحال إذا وجدها رتقاء إنما يثبت له الفسخ لفوات الاستمتاع بالجماع، وإذا وجدته مجبوباً فإنما يثبت لها الفسخ لفوات الاستمتاع بالجماع، وهنا لا فائدة، حتى لو كان هو غير معيب فإنها لن تستفيد منه، ولو كانت هي غير معيبة فإنه لن يستفيد منها، وعلى هذا فلا خيار لهما، وهذا وجيه.
وقوله: «مثله» أي: يقاس عليه ما إذا كان العيب مغايراً له، فلو كان في الآخر عيب من غير جنسه، مثل أن يكون في المرأة استطلاق النجو، وفي الرجل برص مثلاً، فلها أن تفسخ من باب أولى؛ لأنه إذا كان العيب المماثل لصاحبه أن يفسخ، فهذا من باب أولى.
وَمَنْ رَضِيَ بِالعَيْبِ، أَوْ وُجِدَتْ مِنْهُ دَلَالَتُهُ مَعَ عِلْمِهِ فَلَا خِيَارَ لَهُ،
.......
قوله: «ومن رضي بالعيب أو وجدت منه دلالته مع علمه فلا خيار له» ، «من» شرطية «رضي» فعل الشرط، وجوابه «فلا خيار له» .
وقوله: «رضي بالعيب» بأن صرح به، فقالت المرأة: رضيت به معيباً، أو قال هو: رضيت بها معيبة، فإنه لا خيار لهما؛ لأن الحق لهما وقد أسقطاه.
وقوله: «أو وجدت منه دلالته» أي دلالة الرضا.
وقوله: «مع علمه» أي بالعيب، فإذا قال إنسان: هذا فيه إشكال من الناحية العربية؛ لأن الضمير في «دلالته» يعود على الرضا، ومرجع الضمير لا يكون إلا اسماً، ولا يمكن أن يكون فعلاً، فالجواب أنه يعود على اسم وهو الرضا المفهوم من «رضي» ونظيره في القرآن قوله تعالى:{اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8]{اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} أي: العدل المفهوم من {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} .
والدلالة: العلامة الدالة على رضاه، مثل أن تمكنه من الجماع، فإذا مكنته من ذلك مع علمها بعيبه دل هذا على أنها راضية به، هذا ما ذهب إليه المؤلف.
وقال بعض أهل العلم: إن هذا لا يسقط الفسخ؛ لأنها قد تمكنه وهي غير راضية، لكن تفكر في أمرها هل توافق أو ترفض؟ وبعضهم استثنى مسألة العنين قال: لأنها قد تمكنه رجاء أن تزول عنَّته ويقدر على الوطء، فليس التمكين من الوطء بدليل على الرضا، وعلى هذا يقال: يجب أن نتحقق بأنها فعلت ما يدل على
الرضا، فإذا شككنا وصار هذا التمكين غير صريح في الدلالة على الرضا، فالأصل عدم الرضا وبقاء حقها، فإذا علمنا أن هذه المرأة تمكن زوجها من أن يستمتع بها، وكأنه ليس به مرض، وهي عالمة بهذا العيب، فهذا دليل على الرضا، أما إذا كنا نعلم أنها امرأة تريد أن تتروى في الأمر، أو ترجو زوال هذا العيب فإنه لا يكون دليلاً على رضاها.
وقوله: «فلا خيار له» سواء كان الرجل أو المرأة.
وظاهر قوله «من رضي بالعيب» أن خياره يسقط ولو كان جاهلاً بالحكم، وفي هذه المسألة يكون التفريق بين الجهل بالحكم والجهل بالحال، فالجهل بالحال لا يسقط الخيار، ولهذا قال المؤلف:«مع علمه به» فعلم منه أنه لو كان جاهلاً بالعيب فالخيار لا يسقط، وأما الجهل بالحكم فظاهر كلام المؤلف: أنه يسقط الخيار، مثل ألا تدري أنه إذا وجد به برص أو كان عنيناً أن لها الفسخ، وهذا القول ليس بصحيح، والصواب أن الجهل بالحكم كالجهل بالحال، فالتي مكنته من نفسها وهي لا تدري بعيبه، كالتي مكنته من نفسها وهي لا تدري أن لها الفسخ، لا سيما وأن كثيراً من النساء قد يجهلن هذا الأمر، ثم إننا نقول: إنه لا بد من الرضا بالعيب، وهل الذي لا يدري بالحكم يكون راضياً بالعيب؟ لا؛ ربما أنها لو علمت لفسخت العقد من أول ما علمت.
فإذا ظن العيب يسيراً فبان كبيراً، مثال ذلك: رأى في أصبع امرأته برصاً، أو هي رأت في طرف أصبعه فظنت أنه يسير، لكن
تبين أنه غالب جلده المستور بالثياب، فهنا يسقط الخيار؛ لأنها رضيت بجنس العيب، وكذلك هو بالعكس، لما رضي بجنس العيب، قلنا: أنت الذي فرطت، لماذا لم تنقب عن هذا العيب، هل هو كثير أو قليل؟
وكذلك لو رضيت بجنونه أو رضي هو بجنونها لمدة ساعة، فتبين أنها تجن لساعات، أو لأيام فإنه يسقط الخيار؛ وذلك لأنه رضي بجنس العيب، أما مقداره فهو المفرط في عدم التثبت والتنقيب عن مدى هذا العيب.
وَلَا يَتِمُّ فَسْخُ أَحَدِهِمَا إِلاَّ بِحَاكِمٍ،
..........
قوله: «ولا يتم فسخ أحدهما إلا بحاكم» يعني إذا ثبت العيب وطلبت أن يفسخ العقد، أو طلب هو أن يفسخ العقد فلا يتم الفسخ إلا بحاكم، والحاكم هو القاضي؛ لقوله تعالى:{يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} [ص: 26]، وذلك لقطع النزاع، ولأن في بعض العيوب ما هو مختلف فيه، وحكم الحاكم يرفع الخلاف، ولأنه عقد نكاح فيحتاط له أكثر.
فما هي الصيغة التي يفسخ بها الحاكم النكاح؟ نقول: له صيغتان: إما أن يقول: فسخت نكاح زيد من فاطمة للعيب الذي فيه، أو للعيب الذي فيها، أو يقول لأحدهما: إني قد جعلت لك الفسخ، فيقول الزوج: قد فسخت زوجتي لعيبها، أو تقول هي: فسخت زوجي لعيبه، فهو إما أن يباشر الفسخ بنفسه، أو يوكل أحد الزوجين بذلك.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: عند التنازع يفسخه الحاكم، وعند الاتفاق لا حاجة إلى الحاكم، وما قاله
الشيخ رحمه الله هو الحق، أننا لا نحتاج أن نذهب إلى القاضي إلا عند النزاع، فحينئذ نحتاج إلى الحاكم ليرفع الخلاف، أما إذا اتفقا على ذلك فلا حاجة للحاكم، فتقول: مثلاً: فسخت نكاحي من زوجي لعيبه، أو يقول هو: فسخت نكاحي من زوجتي فلانة لعيبها، ولا حاجة أن نذهب إلى المحاكم، وهذا القول في وقتنا يزداد قوة؛ والسبب صعوبة الوصول إلى المحاكم.
فإذا تم الفسخ فإن كان بعد الخلوة، أو الدخول فإن عليها العدة، وإن كان قبل ذلك فلا عدة عليها؛ لأن كل فراق يكون بين الزوجين قبل الخلوة فإنه لا عدة فيه.
فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَا مَهْرَ،
...........
قوله: «فإن كان قبل الدخول فلا مهر» ، أي: إن كان الفسخ قبل الدخول فلا مهر للزوجة، سواء كان العيب فيه أو فيها، أما إذا كان العيب فيها فعدم وجوب المهر لها واضح، مثاله: إنسان عقد على امرأة وقبل أن يدخل عليها تبين أن فيها عيباً، فَفَسَخَ العقدَ، فليس لها مهر لغشها وغرورها، فهي التي غرت الزوج، وإذا كان العيب في الزوج وهي فسخت من أجل عيب الزوج، فيقول المؤلف: لا مهر لها؛ لأن الفرقة جاءت من قبلها، فهي التي طلبت الفسخ.
والصحيح في ذلك أنه إذا كان العيب في الزوج، وفسخ قبل الدخول فلها نصف المهر؛ لأن الزوج هو السبب، فكيف نعامل هذا الرجل الخادع الغاش بما يوافق مصلحته؟!
وقولهم: إن الفرقة من قبلها؛ لأنها هي التي طلبت الفسخ، نقول: هي ما طلبت الفسخ من أجل هواها أو مصلحتها، بل من
أجل عيبه، ففي الحقيقة هو الذي غرها، وهي تقول: أنا أريد هذا الزوج، لكن ما دام معيباً فأنا لا قدرة لي على أن أبقى معه، فالفرقة الآن من قبله هو في الواقع، وعند أهل العلم أن كل فرقة تكون من قبل الزوج، فإن المرأة تستحق بها نصف المهر، لقوله تعالى:{وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237].
وَبَعْدَهُ لَهَا المُسَمَّى، وَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى الغَارِّ إِنْ وُجِدَ،
........
قوله: «وبعده» أي: بعد الدخول.
قوله: «لها المسمى» أي المهر المسمى في العقد، مثلاً المهر خمسة آلاف ريال، ثم بان بها عيب أو به عيب بعد الدخول، وفُسخ العقد فإنه يثبت لها المسمى، نأخذ ذلك من مفهوم قوله:{وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237]، فمفهوم قوله:{مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} أنه من بعد المسيس يثبت المهر، وهو كذلك، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم:«لها المهر بما استحل من فرجها»
(1)
، فالمهر إذاً يثبت بعد الدخول، فإذا قال الزوج: كيف يذهب مالي لامرأة معيبة؟ يقول المؤلف:
فقوله: «ويرجع» أي: الزوج.
وقوله: «به» أي: بالمهر المسمى.
وقوله: «على الغار» أي: على الذي غره.
(1)
أخرجه الترمذي كتاب النكاح/ باب ما جاء لا نكاح إلا بولي (1102) وأخرجه الدارمي كتاب النكاح/ باب النهي عن النكاح بغير ولي (2684).
وقوله: «إن وجد» أي: إن وجد غارٌّ.
فالتغرير إما إن يكون من الزوجة، بأن يكون بها عيب قد أخفته عن وليها، والولي عقد ودخل الزوج ووجد العيب، فالغار الزوجة، ووليها ليس عليه شيء؛ لأنه لم يعلم.
وإذا كان الولي عالماً وهي عالمة أيضاً، فعلى من يكون الضمان؟
إما عليهما بالتساوي، وإما على الولي؛ لأن الغرور المباشر إنما حصل من الولي؛ لأنه ليس من العادة أن المرأة تخرج إلى الزوج، وتقول: إن فيها العيب الفلاني.
فالمسألة فيها احتمالان:
الأول: أن يكون بين الولي والمرأة؛ لأن كل واحد منهما حصل منه تغرير.
الثاني: أن يكون على الولي؛ لأنه هو المباشر للعقد، وكان عليه إذا علم أن في موليته عيباً أن يبينه، فالولي قال: زوجتك، والزوج قال: قبلت، وهذا هو الأرجح أن يكون الضمان فيما إذا حصل التغرير من المرأة ووليها على الولي.
فإذا كان الولي هو الغار، بأن يكون الولي اطلع على عيب بعد عرض المرأة على الأطباء ـ مثلاً ـ، ولم تعلم به، فالضمان هنا يكون على الولي؛ لأننا إذا صححنا أنه إذا وقع الغرور منها ومن وليها فهو على الولي فهذا من باب أولى.
فإذا لم يوجد غرور لا من المرأة، ولا من وليها، مثل أن يكون العيب برصاً في ظهرها، فالغالب أنه يخفى عليها وعلى
وليها، خصوصاً إذا كان يسيراً، فهل على أحد ضمان؟
ليس على أحد ضمان، ويقال للزوج: هذا نقص كتبه الله عليك، ولهذا المؤلف قيده بقوله:«إن وجد» أي إن وجد الغار، فعلم منه أنه قد لا يكون هناك أحد غار، لا المرأة ولا وليها.
لكن قياس كلامهم على العيب في البيوع أن الزوج لا يهدر حقه، وأنه لا بد أن يرجع، إما على الولي إن كان عالماً، أو على الزوجة مطلقاً؛ وذلك لأن البائع لو باع سلعة وفيها عيب لم يعلمه فللمشتري الرجوع، والمسألة تحتاج إلى تحرير.
فالأقسام أربعة:
إما أن يكون الغرور من المرأة وحدها، أو من الولي وحده، أو منهما، أو ليس من واحد منهما.
فإذا لم يكن من أحدهما فلا يرد له المهر؛ لأنه لم يخدع، وقد استحل الفرج بعقد صحيح.
وإذا كان منها وحدها دون وليها فالضمان عليها وحدها.
وإذا كان من وليها لا منها فالضمان على الولي.
وإذا كان منها ومن وليها، فالراجح أن الضمان على الولي.
مسألة: لو قال الزوج: أنا لا أفسخ فأنا أريد المرأة، ولكن أريد أن تثمنوا النقص، فمهرها إذا كانت سليمة عشرة آلاف ريال، ومهرها معيبة بهذا العيب ثمانية آلاف ريال، فالنقص خُمْس، ونقول في مسائل التقويم سواء هنا أو في العيوب في البيوع أو في الإجارة: إن النقص يقدر بالنسبة، فالمذهب في هذا الباب ليس له الخيار، إما أن يرد ويأخذ المهر كاملاً، وإما أن
يسكت وعليه المهر كاملاً، والعجيب أن شيخ الإسلام في هذا الباب قال: له أن يأخذ الأرش، مع أنه في البيوع يقول: لا أرش له، والفقهاء يقولون: له الأرش، ولم يترجح عندي شيء.
وَالصَّغِيرَةُ، وَالمَجْنُونَةُ، وَالأَمَةُ لَا تُزَوَّجُ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ بِمَعِيبٍ،
…
قوله: «والصغيرة والمجنونة والأمة لا تزوج واحدة منهن بمعيب» الصغيرة هي التي دون البلوغ، فلا يجوز أن تزوج بمعيب حتى لو أذنت؛ لأنه لا عبرة بإذنها، فلو قالت: أنا أريد أن أتزوج هذا الرجل وفيه عيب فلا نمكنها.
كذلك المجنونة لا يجوز أن تزوج بمعيب ولو رضيت، فليس لها رضا ولا غرض، وظاهر كلام المؤلف ولو كان ذلك لمصلحتها، وفي هذا نظر، بل يقال: إن المجنونة إذا كان من مصلحتها أن تزوج هذا المعيب فلنزوجها؛ لأن المجنونة لا يرغبها كل الناس، لكن قد يأتيها إنسان فيه عيب ويقول: أنا أستمتع بها، وأصبر على جنونها، فمن المصلحة أن تزوج، وعلى هذا فيكون في إطلاق المؤلف فيما يتعلق بالمجنونة نظر، ويقال: إن المجنونة تزوج بمعيب إذا اقتضت المصلحة ذلك، بشرط ألا يكون في ذلك عليها ضرر، وألا يتعدى عيبه لنسلها، فلا تزوج بمجذوم؛ لأن هذا يتعدى إليها؛ إذ إن الجذام مرض معدٍ، ولا تزوج بأبرص؛ لأن هذا يتعدى إلى النسل؛ فالغالب أن البرص يكون وراثة.
والأمة كذلك لا تزوج بمعيب، وظاهر كلام المؤلف في الأمة، ولو رضيت ورضي سيدها؛ وذلك لأن أولياءها قد لا
يرضَوْن، أبوها وأخوها وعمها وما أشبه ذلك، ومسألة الأمة فيها نظر، فالأمة إذا كانت كبيرة بالغة عاقلة ورضي سيدها بذلك فلا مانع؛ لأنها كالحرة.
فَإِنْ رَضِيَتْ الكَبِيرَةُ مَجْبُوباً، أَوْ عِنِّيناً لَمْ تُمْنَعْ، بَلْ مِنْ مَجْنُونٍ، وَمَجْذُومٍ، وَأَبْرَصَ،
قوله: «فإن رضيت الكبيرة مجبوباً أو عنيناً لم تمنع» أي: إذا رضيت الكبيرة العاقلة الحرة مجبوباً ليس له ذكر، قالت: أنا أريد هذا الرجل ولو كان ليس له ذكر، يقول المؤلف: إن وليها ليس له حق في المنع؛ لأن الحق لها في الجماع وفي الإيلاد، وكذلك لو رضيت بالعنين وهو الذي لا يستطيع الجماع فإنها لا تمنع؛ وذلك لأن الحق لها.
قوله: «بل من مجنون» المجنون تمنع منه، ولو قالت وهي كبيرة عاقلة: أنا أريد أن أتزوج هذا المجنون؛ لأنه ضائع مسكين، وأنا أحب أن أرأف به وأخدمه، يقول المؤلف: تمنع؛ لأن الجنون يتعدى إليها وإلى أولادها؛ لأن المجنون ما يؤمن عليها، ومن هذا النوع ـ والعياذ بالله ـ من يدمن على السكر، واختارته المرأة، فإنها تمنع منه ولا تزوج؛ لأن هذا أخبث من المجنون، فالمجنون بغير اختياره فهو معذور، والسكران باختياره ومعصيته لله ورسوله صلى الله عليه وسلم ومخالفته لسبيل المؤمنين، فمن عرف بالسكر فإنه لا يزوج، ولا يقال: إذا قلتم كذلك معناه أنكم اشترطتم أن يكون الزوج عدلاً، نقول: ليس شرطاً، لكن مسألة السكر غير مسألة شرب الدخان، أو حلق اللحية، أو ما أشبه ذلك، فهذه معاصٍ لكنها لا تمنع الزوجة من التزوج بهذا الرجل،
أما مسألة السكر فتختلف؛ لأن السكران قد يدخل عليها ويقتلها، وقد يقتل أولادها، وفعلاً وقعت مثل هذه الأمور، فبعض السكارى ـ والعياذ بالله ـ يدخل على زوجته ويقول: أريد بنتي أجامعها، فإذا ردته قتلها، فمثل هؤلاء لا يزوجون من أجل مضرتهم.
قوله: «ومجذوم» أي: مصاب بالجذام، فتمنع المرأة ولو كانت كبيرة عاقلة؛ لأنه لا يؤمن الضرر عليها وعلى أولادها أيضاً، فالجذام مرض معدٍ، وهي إذا رضيت بهذا المجذوم فهي سفيهة، والله عز وجل يقول:{وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء: 5] فإذا كان السفهاء لا يعطون أموالهم، فكذلك لا يعطون نفوسهم.
فلو قدر أنها هي مجذومة ـ أيضاً ـ وقالت: إنها راضية بهذا، فهل نقول: إن العيب سواء فلا تمنع؛ لأن المخوف منه وهو الجذام قد وجد فيها؟
الظاهر أنها لا تمنع في هذه الحال، اللهم إلا إذا قال الأطباء: إن الجذام أنواع، وأن النوع الذي في هذه المرأة ليس هو النوع في هذا الخاطب، فحينئذٍ يتوقف.
قوله: «وأبرص» فتمنع من الأبرص؛ لأنه يخشى على الأولاد، لكن هذا مشكل، لأن معناه أن كل البرصان لا يزوجون، وهذا لا أحد يقول به؛ لأن معنى ذلك أن يبقى هؤلاء عالة على المجتمع، وربما يَفسدون ويُفسدون، وظاهر كلام المؤلف أنها تمنع وجوباً، والصحيح في هذه المسألة أنها لا تمنع؛ لأنه ثبت أن البرص لا
يعدي؛ لأننا نشاهد أناساً أصابهم هذا المرض، ويخالطهم زوجاتهم وأبناؤهم وأهلوهم، وهم يصنعون الطعام ـ أيضاً ـ بأيديهم ولا يضر الآخرين.
أما مسألة الوراثة فهذا ـ أيضاً ـ غير صحيح؛ لأنه يوجد أبناء لأناس أصابهم هذا المرض، ومع ذلك أصحاء ليس فيهم شيء.
بقي أشياء من عيوب الزوج كالخصاء، وما يتعلق به، واستطلاق البول، والنجو، وقرع الرأس الذي له ريح منكرة، والبخر وهو نتن رائحة الفم، وعدة أشياء، فظاهر كلام المؤلف أنها لا تمنع منه؛ لأنه ذكر خمسة، اثنان قال: لا تمنع، وثلاثة قال: تمنع، وسكت عن الباقي، فلو قالت: أنا اختار هذا الرجل الذي فيه سلس البول لا تمنع، ولو قالت: إنها تختار هذا الرجل الذي عنده استطلاق النجو لا تمنع، أو رجل فيه بخر، أو عنده قرع له ريح منكرة، وقالت: أريد هذا الرجل لخلقه ودينه، فظاهر كلام المؤلف أنها لا تمنع.
وَمَتَى عَلِمَتْ العَيْبَ، أَوْ حَدَثَ بِهِ لَمْ يُجْبِرْهَا وَلِيُّهَا عَلَى الْفَسْخِ.
قوله: «ومتى علمت العيب أو حدث به لم يجبرها وليها على الفسخ» الولي يمنع من عقد النكاح، ولا يمنع من استدامته؛ لأن الاستدامة أقوى من الابتداء، يعني له أن يمنعها من أن تتزوج بالمجنون، والمجذوم، والأبرص ابتداءً، لكن لو لم يعلم إلا بعد العقد فليس له أن يرفعه، فلا يجبرها على الفسخ، وهذا فرد من أفراد قاعدة مرت علينا أن الدفع أهون من الرفع، وكذلك لو لم
تعلم بالعيب إلا بعد العقد، ووجدت أن الزوج أبرص بعدما تم العقد فإن وليها لا يجبرها على الفسخ، لكن لها الفسخ، وكذلك إذا حدث العيب بعد العقد ـ مثلاً ـ حصل له جَبٌّ، أو جنون، أو جذام، فإن وليها لا يجبرها على الفسخ؛ لأن الحق محض لها، ولأن العقد قد تم ولا يرفع إلا بسبب شرعي، وهذا عندهم، ليس من الأسباب الشرعية.
بَابُ نِكَاحِ الكُفَّارِ
حُكْمُهُ كَنِكَاحِ المُسْلِمِينَ، وَيُقَرُّونَ عَلَى فَاسِدِهِ إِذَا اعْتَقَدُوا صِحَّتَهُ فِي شَرْعِهِمْ، وَلَمْ يَرْتَفِعُوا إِلَيْنَا، فَإِنْ أَتَوْنَا قَبْلَ عَقْدِهِ عَقَدْنَاهُ عَلَى حُكْمِنَا،
....
قوله: «نكاح الكفار» الكفار هنا عام يشمل أهل الكتاب، والمشركين، ومن لا يتدين بدين.
قوله: «حكمه كنكاح المسلمين» أي: حكم نكاح الكفار كنكاح المسلمين في جميع آثاره، وما يترتب عليه، فمنه صحيح ومنه فاسد، ويقع به الطلاق والظهار، وتجب به النفقة، ويثبت به الإرث، ويدل لذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر من أسلم من الكفار على نكاحه، ولم يتعرض له.
والتعليل أنه لا يمكن العمل إلا بهذا؛ لأننا لو عملنا بغير ذلك لحصل بهذا نفور عن الإسلام، وفوضى عظيمة في الأنساب وغير الأنساب، ولكن هل يقرون عليه أو لا؟ هذه المسألة اختلف فيها أهل العلم، فمنهم من قال: إنهم لا يقرون على فاسده مطلقاً، بل يجب أن يفسخ إذا كان نكاحاً فاسداً، وكانوا تحت ذمة المسلمين، ومنهم من قال: يقرون على الفاسد بشرطين كما سيأتي، وهذا هو الصحيح، ويدل لذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر
(1)
، ولم يتعرض لأنكحتهم، مع العلم بأن
(1)
أخرجه البخاري في الجزية/ باب الجزية والموادعة (3157) عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه.
المجوس كانوا يجوزون نكاح ذوات المحارم، يعني ينكح الإنسان أخته، عمته، خالته، ابنته، والعياذ بالله.
قوله: «ويقرون على فاسده إذا اعتقدوا صحته في شرعهم ولم يرتفعوا إلينا» ذكر المؤلف شرطين:
الأول: أن يعتقدوا صحته في شرعهم، ولو عبر المؤلف بعبارة أسدّ فقال: إذا كان صحيحاً في شرعهم؛ لأنهم قد يعتقدون الصحة، وهو ليس بصحيح بمقتضى شرعهم، كأن يكونوا جهالاً، فالمهم إذا كان هذا صحيحاً في شرعهم فإننا لا نتعرض له.
الثاني: ألا يرتفعوا إلينا، فلم يقولوا: انظروا في نكاحنا، واحكموا بيننا فيه بما يقتضيه الشرع، فإن كان غير صحيح في شرعهم، مثل أن يتزوج اليهودي أخته، فهل نقره؟ لا؛ لأن ذلك ليس صحيحاً في شرعهم، فنمنعه ونفرق بينهما، وكذلك إذا ارتفعوا إلينا فإننا لا نحكم فيهم بمقتضى شرعهم؛ لأن الله سبحانه وتعالى أمرنا أن نحكم بينهم بكتاب الله:{وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} [المائدة: 42] فالواجب أن نحكم بكتاب الله إذا ارتفعوا إلينا، ولهذا قال:
«فإن أتونا قبل عقده عقدناه على حكمنا» أي: إذا أتونا قبل عقده يجب أن نعقده على شرعنا بإيجاب وقبول، وتعيين الزوجة والزوج، والرضا، والولي، والشهود، والمهر على القول باشتراطه.
وَإِنْ أَتَوْنَا بَعْدَهُ أَوْ أَسْلَمَ الزَّوْجَانِ وَالمَرْأَةُ تُبَاحُ إِذَنْ أُقِرَّا، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا يَجُوزُ ابْتِدَاءُ نِكَاحِهَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا،
..........
قوله: «وإن أتونا بعده» أي: بعد ما تم العقد عندهم وصارت زوجته، جاؤوا إلينا يحتكمون في هذا النكاح، فإننا ننظر إن كانت الزوجة الآن تحل أبقينا النكاح على ما هو عليه، وإن كانت لا تحل فسخنا النكاح، فلو كانت هذه الزوجة مطلقته ثلاثاً، وهم يعتقدون حل المطلقة ثلاثاً للزوج، لكن شرعنا يحرمه، فأتونا فإننا نفسخ العقد؛ لأن المرأة لا تحل فنفرق بينهما، ولو كان هو مجوسياً تزوج أخته ثم ترافعوا إلينا بعد العقد، فلا نبقي العقد؛ لأن المرأة لا تحل، فإذا حكمنا بينهم بكتاب الله قلنا: هذه المرأة حرام عليك فيجب التفريق، فنفرق بينهما على كل حال.
وإذا قدر أنها أسلمت، وهو على كفره، فنفرق بينهما، وإذا ترافعوا إلينا بعد العقد، وكانوا قد عقدوا بغير ولي، إلا أنهم يرون ذلك صحيحاً في شرعهم لا نفرق بينهما؛ لأن النكاح صحيح، وهي الآن تحل لو أراد أن يعقد عليها من جديد.
إذن نقر العقد؛ لأن القاعدة أننا لا نتعرض لعقودهم السابقة، بل ننظر إلى ما هم عليه الآن، فإن كانوا في حال يباح للزوج أن يعقد على المرأة أبقيناه، وإلا فسخنا، ولو تزوجها في عدة، والزواج في العدة في حكم الإسلام باطل، ولكن عندهم ليس بباطل، وترافعوا إلينا بعد أن انتهت العدة، فإننا نقره؛ لأن القاعدة:«إن كانت الزوجة يصح أن يعقد عليها الآن أقر النكاح، وإلا فلا» ، مثل ذلك ـ أيضاً ـ إذا أسلم الزوجان فإننا ننظر إن كانت المرأة الآن تحل لو عقد عليها أقررناهما على النكاح، وإن
كان النكاح في أصله ليس بصحيح على مقتضى قواعد الشرع فرقنا بينهما، فهذا رجل وزوجته أسلما، وكان عقد النكاح بدون ولي ولا شهود فإنهما يقران عليه، وإذا كان عقد النكاح بينهما صداقة، وجرت العادة عندهم أنه إذا تصادق الرجل والمرأة وأحبا أن يكونا زوجين، فجامعها على أن هذا هو العقد عندهم، يقران ما دامت المرأة الآن تحل لو أراد أن يتزوجها، ولو أن مجوسياً تزوج عمته من الرضاع وأسلما جميعاً فإنهما لا يقران؛ لأنها الآن لا تحل له، ولو أسلم وكان قد تزوج هذه المرأة ومعه أختها، لكن أختها ماتت يقر؛ لأنها الآن تحل له لو أراد أن يتزوجها، ولهذا قال المؤلف:
«أو أسلم الزوجان، والمرأة تباح إذن أقرا، وإن كانت ممن لا يجوز ابتداء نكاحِها فُرِّق بينهما» .
فصار الضابط:
أولاً: نكاح الكفار حكمه كنكاح المسلمين في كل ما يترتب عليه من آثار، كالظهار، واللعان، والطلاق، والإحصان، ولحوق النسب، وغير ذلك.
ثانياً: إذا كان النكاح صحيحاً على مقتضى الشريعة الإسلامية فهو صحيح، وإن كان فاسداً على مقتضى الشريعة الإسلامية فإنهم يقرون عليه بشرطين: الأول: أن يروا أنه صحيح في شريعتهم، الثاني: ألا يرتفعوا إلينا، فإن لم يعتقدوه صحيحاً فرق بينهما، وإن ارتفعوا إلينا نظرنا، فإن كان قبل العقد وجب أن
نعقده على شرعنا، وإن كان بعده نظرنا إن كانت المرأة تباح حينئذٍ أقررناهم عليه، وإن كانت لا تباح فرقنا بينهما، ودليل هذه الأشياء إسلام الكفار في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فأبقى من كان معه زوجته على نكاحه في الجاهلية، ولم يتعرض له، فدل هذا على أنه يبقى على أصله.
وَإِنْ وَطِئَ حَرْبِيٌّ حَرْبِيَّةً فَأَسْلَمَا، وَقَدْ اعْتَقَدَاهُ نِكَاحاً أُقِرَّا، وَإِلاَّ فُسِخَ، وَمَتَى كَانَ المَهْرُ صَحِيحاً أَخَذَتْهُ، وَإِنْ كَانَ فَاسِداً وَقَبَضَتْهُ اسْتَقَرَّ، وَإِنْ لَمْ تَقْبِضْهُ، وَلَمْ يُسَمَّ فُرِضَ لَهَا مَهْرُ المِثْلِ.
قوله: «وإن وطئ حربي حربية فأسلما وقد اعتقداه نكاحاً أقرا وإلا فُسخ» .
قوله: «حربي حربية» هذا القيد ليس بشرط، والمراد حربي أو ذمي وقد اعتقدا أن هذا الوطء هو عقد النكاح فإنهما يقران عليه، إذا كانت المرأة حين الإسلام تحل له، والبادية فيما سبق كانوا يعقدون أنكحة شبيهة بهذا، فهؤلاء لا يُقرون على هذا؛ لأنهم مسلمون، وإذا كانوا مسلمين يجب أن يطبق العقد على شريعة الإسلام، والمسألة بسيطة نقول: الآن نعقد بينكما.
قوله: «ومتى كان المهر صحيحاً أخذته» أي: لو كان المهر دراهم، وأسلموا على النكاح السابق الفاسد بمقتضى الشريعة الإسلامية، ولكنهم يقرون عليه، فإن الزوجة تأخذ المهر.
مثال ذلك: رجل تزوج امرأة على عشرة آلاف ريال، بدون ولي، وشهود، وأسلما فإننا نقرهم، والمهر تأخذه؛ لأننا قلنا: إن نكاح الكفار كنكاح المسلمين يوجب المهر، فإن كان صحيحاً أخذته.
قوله: «وإن كان فاسداً وقبضته استقر» ، مثال ذلك: أصدقها خمراً، والخمر عندهم مباح، فنقول: إن كانت قد قبضته فقد استقر؛ لأنهم يعتقدون أن الخمر مال، وقد قبضته فلا نتعرض له.
قوله: «وإن لم تقبضه ولم يُسم فُرِضَ لها مهر المثل» أي: إن لم تقبض المهر ولم يسم فلها مهر المثل؛ لأن هذه هي القاعدة في الشريعة الإسلامية، أن المهر إذا لم يسم ثبت لها مهر المثل.
وقوله: «ولم يسم» فإن سمي فلها المسمى إن كان صحيحاً، وإن كان فاسداً ولم تقبضه يُقوَّم، كم يساوي هذا الخمر لمن يستحله؟ فإن قالوا مثلاً: مائة ريال، نقول: لها مائة ريال، ولا يمكن أن نعطيها الخمر؛ لأن الخمر حرام فتعطى القيمة
(1)
.
(1)
وأما المذهب فإن المهر يبطل إذا كان فاسداً، ويفرض لها مهر المثل، انظر: شرح منتهى الإرادات (3/ 56)، وكشاف القناع (5/ 133).
فَصْلٌ
وَإِنْ أَسْلَمَ الزَّوْجَانِ مَعًا، أَوْ زَوْجُ كِتَابِيَّةٍ فَعَلَى نِكَاحِهِمَا، فَإِنْ أَسْلَمَتْ هِيَ أَوْ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ غَيْرَ الكِتَابِيَّيْنِ قَبْلَ الدُّخُولِ بَطَلَ،
.........
هذا الفصل مهم في هذا العصر؛ وذلك لأنه يكثر الدخول في الإسلام ـ والحمد لله ـ من أشخاص متزوجين، فهل إذا أسلم أحدهم ينفسخ نكاحه أو لا، يقول المؤلف:
«وإن أسلم الزوجان معاً أو زوجُ كتابيةٍ فعلى نكاحهما» إن أسلم الزوجان معاً، بأن تلفظا بكلمة الإسلام جميعاً، في لحظة واحدة، فهما على نكاحهما؛ لأنه لم يسبق أحدهما الآخر، ولم يختلفا ديناً، وهل هذا ممكن؟ الجواب: ممكن لكن فيه عسر، بأن يقول لهما قائل: قولا: لا إله إلا الله، فيقولان جميعاً: لا إله إلا الله، فحينئذٍ يكون إسلامهما معاً.
وذهب بعض العلماء، ومنهم الموفق صاحب المغني إلى أن الإسلام في المجلس كالإسلام معاً؛ وعللوا ذلك بأن الإسلام معاً من الأمور النادرة، ولا ينبغي أن تحمل الأحكام الشرعية على الأمور النادرة، بل إذا قالت المرأة مثلاً: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ثم قال الرجل: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فهما على نكاحهما، أو بالعكس.
وهذا القول أقرب للصواب؛ لأن القول الأول فيه نوع من الحرج، فلو قدرنا أن الرجل كافر وامرأته كذلك وحضرا مجلساً دعيا فيه إلى الإسلام، فقالت الزوجة: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، انفسخ النكاح، حتى لو قال الزوج بعدها مباشرة: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله؛
والسبب أنها لما قالت: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله صارت مسلمة، والمسلمة لا تحل للكافر فينفسخ النكاح.
لكن القول بأن المجلس معتبر، وأنه كإسلامهما معاً قول فيه سعة، وله قوة.
وقوله: «أو زوج كتابيةٍ» وهي اليهودية أو النصرانية، فلو أن زوج كتابية أسلم، وبقيت هي على دينها، فإنهما يبقيان على نكاحهما لعدم وجود المانع؛ لأن المسلم يجوز أن يتزوج كتابية ابتداءً، وهنا استدامة فهي أقوى، فإذا كان يهودي تزوج يهودية، ثم أسلم هذا اليهودي، فإن النكاح بحاله، ولو بقيت هي على دينها، وكذلك لو كان نصرانياً تزوج نصرانية، ثم أسلم وبقيت هي على دينها فالنكاح بحاله، والأمر في هذا ظاهر؛ لأنه يحل له أن يتزوج النصرانية ابتداءً، فالدوام أقوى.
قوله: «فإن أسلمت هي أو أحد الزوجين غير الكتابيين قبل الدخول بطل» أي: إذا كان الإسلام من المرأة، بأن تقدمت المرأة زوجها بالإسلام ولو بلحظة، وكان ذلك قبل الدخول فإن النكاح يبطل؛ وذلك لأنه لا عدة حتى نقول: إنه ينتظر انتهاء العدة، ويبطل لقوله تعالى في الكفار:{لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10].
وإن تقدم إسلام الرجل فإن كانت المرأة كتابية فالنكاح بحاله، وإن كانت غير كتابية فإن النكاح يبطل، وهذا الكلام قبل
الدخول، إذن، إذا كان قبل الدخول فله أربع حالات:
الأولى: أن يسلما معاً فالنكاح بحاله.
الثانية: أن يسلم الرجل، والزوجة كتابية، فالنكاح بحاله.
الثالثة: أن يسلم والزوجة غير كتابية فيبطل النكاح.
الرابعة: أن تسلم هي فيبطل النكاح.
فَإِنْ سَبَقَتْهُ فَلَا مَهْرَ، وَإِنْ سَبَقَهَا فَلَهَا نِصْفُهُ، وَإِنْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الدُّخُولِ وُقِفَ الأَمْرُ عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، فَإِنْ أَسْلَمَ الآخَرُ فِيهَا دَامَ النِّكَاحُ، وَإِلاَّ بَانَ فَسْخُهُ مُنْذُ أَسْلَمَ الأَوَّلُ،
........
قوله: «فإن سبقته فلا مهر» أي: أسلمت قبله قبل الدخول فلا مهر لها؛ لأن الفرقة جاءت من قبلها، فنقول لها: لو بقيت على الكفر ما صار منك فرقة، لكن لما أسلمتِ صارت الفرقة من قبلك، فليس لك شيء من المهر، وهذا على قاعدة المذهب واضح؛ لأن الفرقة جاءت من قبلها فلو شاءت لم تسلم، وهذا يدعوها إلى البقاء على دينها على الكفر!
قوله: «وإن سبقها فلها نصفه» يعني أسلم قبلها فلها نصفه، فإذا بقيت كافرة وزوجها أسلم تعطى نصف المهر؛ والسبب أن الفرقة من قبله، إذ لو شاء لم يسلم.
وفي المذهب قول أن الفرقة تكون من المتأخر إسلامه، فعلى هذا إذا أسلمت هي ولم يسلم فالفرقة منه، فيجب عليه نصف المهر؛ لأننا نقول: أنت الذي فرطت لِمَ لم تسلم؟ وإن كانت هي التي تأخرت وهو أسلم، فالفرقة من قبلها فلا يكون لها شيء، يعني عكس ما قاله المؤلف، وهذا يشجع على الإسلام، وهذا من الناحية الدينية وكونه فيه حث على الإسلام أقوى من المذهب، ومن ناحية التقعيد فالمذهب أقعد؛ لأن حقيقة الأمر أن
الفرقة ممن تسبب لها، والذي تسبب لها الذي أسلم، فالمذهب أقرب إلى القواعد بقطع النظر عن كون هذا السبب محرماً أو جائزاً.
هذا إذا كان قبل الدخول، وأما إذا كان بعد الدخول، فيقول المؤلف:
«وإن أسلم أحدهما بعد الدخول وقف الأمر على انقضاء العدة، فإن أسلم الآخر فيها دام النكاح، وإلا بان فسخه منذ أسلم الأول» إذا كان الإسلام بعد الدخول فله صور أيضاً:
الأولى: أن يسلما معاً فيبقى النكاح.
الثانية: أن يسلم الزوج وهي كتابية فيبقى النكاح.
الثالثة: أن يسلم الزوج وهي غير كتابية فيوقف الأمر إلى أن تنقضي العدة؛ فلا تنقطع عُلق النكاح حتى تعتد، فإن أسلمت هي فالنكاح بحاله، وإن بقيت على كفرها تبين أن النكاح منفسخ منذ إسلام الزوج.
الرابعة: أن تسلم هي فنوقف الأمر إلى انقضاء العدة، فإن أسلم الزوج بقي النكاح، وإن لم يسلم تبين فسخه منذ أسلمت المرأة، هذا هو المشهور من المذهب.
وقال بعض أهل العلم: إنه إذا حصل اختلاف دين على وجه لا يقران عليه، بطل النكاح بمجرد الاختلاف ولا ينتظر،
فالصورتان الأوليان النكاح باقٍ ولا إشكال، إنما الصورتان الأخريان يرى بعض العلماء كابن حزم وجماعة من أهل العلم، وهو رواية عن أحمد أنه ينفسخ بمجرد أن تسلم هي، أو يسلم هو وهي غير كتابية، ويعللون هذا بأن جميع أسباب الفسخ يكون فيها الفسخ من حين ما يوجد سببه، فكل سبب يبطل النكاح، فبمجرد ما يوجد يبطل النكاح، فاللعان يبطل النكاح بمجرد أن يوجد، والرضاع إن ثبت فبمجرد ثبوته يبطل النكاح.
وهناك قول ثالث عكس هذا الأخير: أنه لا ينفسخ النكاح إذا شاءت المرأة، أي: إذا أسلمت المرأة بعد الدخول وانقضت العدة لا نقول: انفسخ النكاح، فقبل انقضاء العدة لا يمكن أن تتزوج؛ لأنها في عدة الغير فنحبسها عن الزواج، وبعد انقضاء العدة نقول لها: إن شئت تزوجي، وإن شئت انتظري حتى يسلم زوجك، فلعله يسلم فترجعين إليه، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم ـ رحمهما الله ـ، وحسنه الشوكاني رحمه الله في نيل الأوطار، بل إن شيخ الإسلام لا يفرق بين ما قبل الدخول وبعده؛ لأن الأصل بقاء النكاح، ما دام أنه معقود على وجه صحيح، وسبب الصحة باقٍ، ولم يحفظ عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه فرق بين الرجل وامرأته إذا سبقها بالإسلام، أو سبقته به، وقال أيضاً: لدينا دليل على ثبوت ذلك، فهذا أبو العاص بن الربيع رضي الله عنه زوج زينب بنت الرسول صلى الله عليه وسلم أسلم متأخراً عن إسلامها؛ لأنها أسلمت في أول البعثة، وما أسلم هو إلا بعد الحديبية، حين أنزل الله تعالى: {فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى
الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10]، فبين إسلامه وإسلامها نحو ثماني عشرة سنة، وردها النبي صلى الله عليه وسلم بالنكاح الأول ولم يجدد نكاحاً، وهذا دليل واضح جداً، وكذلك صفوان بن أمية رضي الله عنه أسلمت زوجته قبل أن يسلم بشهر؛ لأنها أسلمت عام الفتح وهو ما أسلم إلا بعد غزوة الطائف، وأقره النبي عليه الصلاة والسلام على نكاحه
(1)
، ويقول شيخ الإسلام: القياس إما أن ينفسخ النكاح بمجرد اختلاف الدين، كما قاله ابن حزم؛ لأنه وجد سبب الفرقة إذا قلنا: إن الإسلام سبب للفرقة، وإما أن يبقى الأمر على ظاهر ما جاء في السنة، وهو أنه لا انفساخ، لكن ما دامت في العدة فهي ممنوعة من أن تتزوج من أجل بقاء حق الزوج الأول، وبعد انقضاء العدة إذا شاءت أن تتزوج تزوجت، وإن شاءت أن تنتظر لعل زوجها يسلم فلا حرج، وهذا الذي قاله هو الذي تشهد له الأدلة، ولأنه القياس حقيقة.
واعلم أنه ورد في حديث ابن عباس رضي الله عنهما في قصة أبي العاص بن الربيع رضي الله عنه أنه كان بين إسلامه وإسلام زينب ست سنين
(2)
، ولكن يقول ابن القيم: إن هذا وهمٌ،
(1)
أخرجه مالك في الموطأ (2/ 543) عن ابن شهاب أنه بلغه
…
(2)
أخرجه أحمد (1/ 217)؛ وأبو داود في الطلاق/ باب إلى متى ترد عليه امرأته
…
(2240)؛ والترمذي في النكاح (باب ما جاء في الزوجين المشركين
…
(1143)؛ وابن ماجه في النكاح/ باب الزوجين يسلم أحدهما
…
(2009) عن ابن عباس رضي الله عنهما غير أنه عند ابن ماجه «سنتين» وصححه الإمام أحمد كما في المسند، والحاكم (2/ 200) ووافقه الذهبي.
أو أن المراد بالإسلام الهجرة، أي بين إسلامه وهجرتها ست سنين، وأما بين إسلامه وإسلامها فنحو ثماني عشرة سنة؛ لأنها أسلمت أول البعثة وهو ما أسلم إلا بعد الحديبية، وقد أقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاث عشرة سنة من بعد البعثة مع ست سنين، فهذه تسع عشرة سنة، فإذا قدرنا أنها أسلمت في السنة الثانية، فتكون نحو ثماني عشرة سنة، وبقيت معه حتى الحديبية؛ لأنه لم ينزل التحريم إلا في الحديبية، قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10].
وَإِنْ كَفَرَا أَوْ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الدُّخُولِ، وُقِفَ الأَمْرُ عَلَى انْقِضَاءِ العِدَّةِ، وَقَبْلَهُ بَطَلَ.
قوله: «وإن كفرا أو أحدهما بعد الدخول وقف الأمر على انقضاء العدة، وقبله بطل» ، اعلم أنهما إذا كفرا بعد الإسلام فإنهما لا يمكنان من البقاء في الدنيا؛ لأنهما يستتابان فإن تابا، وإلا ضربت عنقهما.
لكن كلام الفقهاء هنا بيان لحكم المسألة فيما لو تأخر الأمر، أو كان ـ مثلاً ـ في بلد لا يهتمون بمن يكفر ومن يسلم، فلا بد أن نعلم الحكم، فإذا كفرا أو أحدهما
قبل الدخول، يقول المؤلف: بطل النكاح.
وظاهره سواء كفرا معاً أو تأخر كفر أحدهما، كفرا معاً مثاله: بعد ما عقدا النكاح، جاءهما شخص خبيث، ودعاهما إلى الكفر، فقال لهما: اكفرا بالله، فقالا جميعاً: كفرا بالله، فيبطل النكاح؛ لأنهما لا يقران على هذا الدين أصلاً، وإن كفر أحدهما قبل الآخر ـ أيضاً ـ بطل النكاح، هذا إذا كان قبل الدخول.
وإذا كان بعد الدخول، قال المؤلف:
«وقف الأمر على انقضاء العدة» لا نقول هنا: إذا كان يهودياً، أو نصرانياً، أو ما أشبه ذلك؛ لأنه إذا كفرت المرأة، فانتقلت من الإسلام إلى اليهودية فإنها لا تقر، فلا يحل نكاحها، لأنها مرتدة، إذاً نقول: إذا كفرا بعد الدخول، أو أحدهما يوقف الأمر على انقضاء العدة، فلا ينفسخ، بل ننتظر حتى تنتهي العدة، فإن رجع للإسلام بقي النكاح، قال في الروض
(1)
: «فإن تاب من ارتد قبل انقضائها فعلى نكاحهما، وإلا تبينا فسخه منذ ارتد» لا نقول هنا: إن ارتد الآخر دام النكاح، بل نقول: فإن تاب من ردته بقي النكاح؛ لأن الآخر مسلم، وإن لم يتب فرق بينهما.
وشيخ الإسلام يرى في هذه المسألة ما رآه في المسألة الأولى، يقول: قبل انقضاء العدة تمنع المرأة من النكاح، وبعد انتهاء العدة لها أن تنكح، لكن لو أرادت ألا تنكح لعل زوجها يسلم فلها ذلك، فحينئذ يكون الأمر في الارتداد في الكفر كالأمر في الإسلام، إلا أنه في مسألة الردة ما نقول: إن ارتد الآخر، بل نقول: إن رجع الأول عن ردته تبينا بقاء النكاح.
وهذه المسألة الأخيرة كثيرة الوقوع في زماننا، في ترك الصلاة، فكثير من الناس لا يصلي ـ والعياذ بالله ـ، فإذا تبينا قبل الدخول أنه لا يصلي، فمن الأصل ما صح العقد، فالعقد باطل؛
(1)
الروض المربع مع حاشية ابن قاسم (6/ 361).
لأنه بنص القرآن أن الكافر لا يحل أن يتزوج المسلمة، وإن كان هناك خلاف هل يكفر تارك الصلاة أم لا؟ هذا شيء آخر.
لكن إذا حكمنا بكفره وهو القول الراجح، فإنه بنص القرآن يكون النكاح باطلاً
فإن كان عند العقد يصلي، لكن بعد ذلك صار لا يصلي، فإن كان قبل الدخول انفسخ العقد، ولها أن تتزوج في الحال، وإن كان بعده انفسخ العقد، ولكن تنتظر حتى تنقضي العدة، فإن هداه الله للإسلام فهو زوجها وإلا فلها أن تتزوج.
وكثير من النساء ـ والعياذ بالله ـ يمنعهن وجود الأولاد عن طلب الفسخ، وهذه مسألة عظيمة، فيقال: افسخي النكاح، ولا يجوز أن تبقي مع هذا الكافر الذي لا يصلي، وأولادك لن يفارقوك ما دام أبوهم على هذه الحال، فلا ولاية له عليهم، فالكافر لا ولاية له على مؤمن:{وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء: 141] فلن يفرق بينك وبين أولادكِ، وأما هذا الزوج فلا خير فيه، زوج كافر تتركيه يستحل منك ما يحرم! هذا منكر عظيم.
بَابُ الصَّدَاقِ
قوله: «الصداق» وهو العوض الواجب بعقد نكاح أو ما ألحق به.
فقولنا: «عقد النكاح» واضح، وسبقت شروطه وأركانه، وما يجب فيه.
وقولنا: و «ما ألحق به» كالوطء بشبهة، مثل أن يتزوج الإنسان امرأة ويطأها، ثم يتبين أنها أخته من الرضاع، فهنا يجب الصداق بالوطء؛ لأن هذا الوطء ليس حراماً بحسب اعتقاد الواطئ، إذ لم يتبين أنها أخته من الرضاع إلا بعد العقد والوطء.
وسمي صداقاً؛ لأن بذله يدل على صدق طلب الزوج لهذه المرأة، إذ إن الإنسان لا يمكن أن يبذل المحبوب إلا لما هو مثله أو أحب، ولهذا سمي بذل المال للفقير صدقة؛ لأنه يدل على صدق باذله، وأن ما يرجوه من الثواب أحب إليه من هذا المال الذي بذله.
والصداق له أسماء كثيرة؛ وذلك لكثرة ممارسته من الناس، ومنها: المهر، والأجر، والنحلة.
والغالب أن ما يكثر تداوله بين الناس يكون له عدة أسماء، ولهذا يقولون: إنه لا أسماء أكثر من اسم الهر، فمن أسمائه: البَس، والقط،
…
إلخ، فأسماؤه كثيرة؛ لأنه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:
«إنها من الطوافين عليكم والطوافات»
(1)
، وكذلك الأسد أسماؤه كثيرة؛ لأنه مضرِب المثل في الشجاعة، وأما ما لا يكون إلا نادراً فإنك لا تجد له إلا أسماء قليلة.
يُسَنُّ تَخْفِيفُهُ وَتَسْمِيَتُهُ فِي العَقْدِ مِنْ أَرْبَعْمِائَةِ دِرْهَمٍ إِلَى خَمْسِمِائَةٍ،
...........
قوله: «يسن تخفيفه» يعني السنة أن يخفف، ودليل ذلك التالي:
الأول: فعل النبي صلى الله عليه وسلم فإن صداقه صلى الله عليه وسلم كان خفيفاً، كان صداقه وصداق بناته من أربعمائة
(2)
إلى خمسمائة درهم
(3)
، وهذا في الغالب، وقد يكون أصدق أقل من ذلك، فإن قلنا: إن الدرهم مقدر وزناً صار أربعمائة الدرهم قليلات، وإن قلنا: مقدر عدداً ـ كما هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله صار فيه نوع زيادة، وإذا قلنا: إن الدرهم مقدر وزناً تكون أربعمائة الدرهم مائة واثني عشر ريالاً؛ لأن مائتي الدرهم ست وخمسون ريالاً، التي هي نصاب الفضة، واضربها في اثنين، يكون مائة واثني عشر
(1)
أخرجه أحمد (5/ 296، 303)؛ وأبو داود في الطهارة/ باب سؤر الهرة (75)؛ والنسائي في الطهارة/ باب سؤر الهرة (1/ 54، 55)؛ والترمذي في الطهارة/ باب ما جاء في سؤر الهرة (92) من حديث أبي قتادة، وقد صححه جمع من الحفاظ، انظر: التلخيص الحبير (36).
(2)
أخرجه أحمد (1/ 40)؛ وأبو داود في النكاح/ باب الصداق (2106)؛ والترمذي في النكاح/ باب منه (1114 م)؛ والنسائي في النكاح/ باب القسط في الأصدقة (6/ 117)؛ وابن ماجه في النكاح/ باب صداق النساء (1887) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقال الترمذي: حسن صحيح، وصححه الحاكم (2/ 175)، انظر: الإرواء (1927).
(3)
أخرجه مسلم في النكاح/ باب الصداق وجواز كونه تعليم قرآن
…
(1426) عن عائشة رضي الله عنها.
ريالاً سعودياً، هذا الذي ينبغي أن يكون المهر عليه، وإن جعلناها خمسمائة نزيد ثماني وعشرين، فيبلغ مائة وأربعين، هذا أعلى ما ينبغي أن يكون عليه المهر، وهو السنة، والآن يبلغ سبعين ألفاً، غير الأشياء الأخرى.
الثاني: أنه ورد عن الرسول عليه الصلاة والسلام وإن كان في سنده ما فيه: «أعظم النساء بركة أيسرهن مؤنة»
(1)
، وقال عليه الصلاة والسلام:«التمس ولو خاتماً من حديد»
(2)
.
الثالث: أن المعنى يقتضي التيسير؛ لأن تيسير المهور ذريعة إلى كثرة النكاح، وكثرة النكاح من الأمور المطلوبة في الشرع، لما فيه من تكثير وتحقيق مباهاة النبي صلى الله عليه وسلم وغير ذلك من المصالح الكثيرة.
الرابع: أن الإنسان إذا تزوج امرأة بمهر يسير، فإنه لا يكرهها، بخلاف التي تكلفه دراهم باهظة، تجده مهما كانت أسباب المحبة فيها، فإنه كلما ذكر الضريبة التي كانت عليه صار في نفسه بعض الشيء، فهذا إذاً من أسباب المودة بين الزوجين.
الخامس: إذا كان المهر خفيفاً، ولم يحصل التوافق بين الزوجين، سهل على الزوج أن يفارقها إذا ساءت العشرة بينهما؛ لأنه ما خسر عليها شيئاً كثيراً.
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة (4/ 189)؛ والحاكم (2/ 178)؛ وعنه البيهقي (7/ 235) عن عائشة رضي الله عنها، انظر: الإرواء (1928).
(2)
سبق تخريجه ص (252).
السادس: أنه إذا جرى ما يوجب الخلع، فإنه إذا كان المهر خفيفاً تيسر على المرأة أو وليها أن تبذل عوض الخلع، ولكن إذا كان المهر ثقيلاً لا يتيسر؛ لأن الزوج ـ على الأقل ـ يقول: أعطوني حقي، وإذا كان قد دفع مائة ألف فقد لا يحصلونها، ويمكن أن يزيد.
فالحاصل أن تخفيفه فيه موافقة لهدي النبي عليه الصلاة والسلام، وفيه مصالح ورأفة بالمؤمنين، فلهذا يسن تخفيفه.
وقد ذُكر أنه قبل سنوات تزوجت امرأة رجلاً فأصدقها ريالاً، فبينما هو نائم عندها بالقائلة، إذا رجل يدق الباب ويبالغ في الدق، فنزل إلى الباب ولما نزل علا صوته مع الرجل فنزلت تسمع، وإذا الرجل يطلبه ريالاً، فأعطته الريال الذي دفعه لها مهراً، وانحلت المشكلة، فانظر إلى حال الناس في الأول، كيف طابت نفسها أن تتزوج بريال، وأن توفي عن زوجها الريال الذي أعطاها.
قوله: «وتسميته في العقد» الضمير يعود على الصداق، فتسمية الصداق في العقد تسن؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم:«زوجتكها بما معك من القرآن»
(1)
، فسمى الصداق، ولئلا يحصل خلاف عندما يحصل نزاع بين الزوجين، فمثلاً الزوج ما رغب المرأة وطلقها قبل الدخول، فإذا سمي المهر وشهد به الشهود عند العقد لم يحصل خلاف، لكن إذا لم يسمَ حصل الخلاف، أما ما يفعله بعض العامة والجهال ممن يعقدون الأنكحة، فيقول: زوجتك
(1)
سبق تخريجه ص (39).
على صداق ريال، والصداق مائة ألف ريال، فهذا ليس بصحيح، وهو كذب، وإذا كنا في بلد لم يعتادوا التسمية ويرون أن في التسمية نقصاً، وأنه إذا سمي الصداق فكأنها أمة بيعت، فهل نسميه؟ الجواب: لا نسميه؛ لأن الله تعالى قال: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19].
وظاهر كلام المؤلف: «تسميته في العقد» سواء كان دراهم أم أعياناً، غير دراهم، فيقول: زوجتك على الصداق الذي هو فراش، وأسورة، وغرفة نوم، ويذكر الصداق كله، هذا هو السنة؛ لكن جرت عادة الناس اليوم عندنا أنهم لا يذكرون هذه الأشياء؛ استحياء من ذكرها، فلو قال الولي: زوجتك بالمهر الذي دفعته لي، فهل يحصل التعيين؟ لا، إلا إذا كان الشاهدان يعرفان ذلك، فإنه يحصل التعيين.
قوله: «من أربعمائة درهم إلى خمسمائة» أربعمائة درهم وهي صداق بنات النبي صلى الله عليه وسلم
(1)
، وخمسمائة درهم وهي صداق أزواجه صلى الله عليه وسلم
(2)
، ولكن هذا في الغالب، وقد يكون أصدق دون ذلك.
وقوله: «يسنّ» يفهم منه أن هذا ليس بواجب، وأن الزيادة على ذلك جائزة، ويدل لهذا قوله تعالى:{أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء: 24]، ولم يحدد، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة ثابت بن قيس رضي الله عنه حين كرهته امرأته، وقد أصدقها حديقة،
(1)
سبق تخريجه ص (252).
(2)
سبق تخريجه ص (252).
والحديقة غالباً ليست هذه قيمتها، بل قيمتها أكثر من ذلك، فقال لها عليه الصلاة والسلام:«أتردين عليه حديقته؟» ، قالت: نعم، قال:«اقبل الحديقة وطلقها تطليقة»
(1)
، فعلم من ذلك أنه تجوز الزيادة، ولأن الأصل الجواز إلا بدليل، واستدل بعضهم بقوله تعالى:{وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْمًا مُبِيناً} [النساء: 20] القنطار يقولون: إنه ملء جلد العجل من الذهب، وهذا شيء كثير، وبعضهم قال: ألف دينار، فهل في هذه الآية ما يدل على جواز الزيادة؟
بعضهم استدل بهذه الآية على جواز الزيادة، وبعضهم قال: لا دليل فيها، ولكن المعنى أنه لو فرض أنكم أعطيتم هذا المبلغ لا تأخذوا منه شيئاً، فهو على سبيل المبالغة، مثل قوله تعالى:{إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80]، وما ذكر على سبيل المبالغة لا يلزم أن يتحقق، لكن عندنا الآية، والحديث الذي ذكرناه، ولأن الأصل الجواز.
وَكُلُّ مَا صَحَّ ثَمَناً أَوْ أُجْرَةً صَحَّ مَهْراً وَإِنْ قَلَّ،
............
قوله: «وكل ما صح ثمناً أو أجرة صح مهراً» ، يعني كل ما صح عقد البيع عليه، أو عقد الإجارة عليه، صح مهراً، هذا هو الضابط فيما يصح مهراً.
وعلى هذا فيصح بالنقود، أي: الذهب والفضة؛ لأنها تصح ثمناً، ويصح بالأعيان كما لو أصدقها ثياباً، أو أصدقها سيارة، أو أصدقها أرضاً، أو أصدقها بيتاً.
ويصح بالمنافع كما لو أصدقها سكنى بيتٍ، لا يلزمه أن
(1)
أخرجه البخاري كتاب الطلاق/ باب الخلع وكيف الطلاق فيه (5273).
يُسْكِنَها فيه، لمدة سنة أو سنتين، وكما لو أصدقها خدمةَ عبده لمدة سنة.
وعلم من قوله: «كل ما صح ثمناً أو أجرة صح مهراً» ، أن ما لا يصح أن يكون ثمناً أو أجرة لا يصح أن يكون مهراً، وعلى هذا فلو أصدقها خنزيراً أو خمراً أو نحو ذلك مما يحرم لم يصح، ولو أصدقها سماع أغانٍ، بأن قال لها: أنا آتي بمطرب يغني لك، فهذه منفعه، لكن لا تصح مهراً؛ لأنه لا يصح عقد الأجرة عليها.
فصار عندنا طرد وعكس، الطرد أن كل ما صح أن يكون ثمناً أو أجرة صح أن يكون صداقاً، والعكس أن كل ما لا يصح أن يكون ثمناً أو أجرة لم يصح أن يكون صداقاً.
قوله: «وإن قل» إشارة خلاف، فإن بعض العلماء يقول: لا يصح أن يكون أقل من عشرة دراهم، والصواب أنه لا حد لأقله، حتى ولو كان درهماً، أي: سبعة أعشار مثقال، ودليل ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للرجل:«التمس ولو خاتماً من حديد»
(1)
، والخاتم من الحديد لا يساوي شيئاً.
فإن أصدقها منفعته هو، بأن قال: صداقي لك أن أرعى إبلكِ سنة أو سنتين، فإنه يجوز؛ لأن هذه المنفعة منفصلة عن استخدامها إياه.
فلو قال: أصدقك خدمتي إياك لمدة سنة، يعني يغسِّل
(1)
أخرجه البخاري كتاب النكاح/ باب السلطان ولي (5135) واخرجه مسلم كتاب النكاح/ باب الصداق وجواز كونه تعليم قرآن وخاتم حديد (1425).
ثيابها، ويمسح نعالها، ويفرش فراشها، ويكنس البيت، ويطبخ الطعام! قال أهل العلم: هذا لا يجوز؛ لأنه يصبح السيد مسوداً، فالزوج سيد المرأة، والآن تكون هي سيدته، وهذا تناقض، أما شيء منفصل كإصلاح حرثها، أو رعاية غنمها، أو ما أشبه ذلك فلا بأس، وقد جاء هذا في قصة صاحب مدين مع موسى عليه الصلاة والسلام، فإن صاحب مدين عرض على موسى عليه الصلاة والسلام أن يزوجه إحدى ابنتيه على أن يأجره ثماني سنين لرعي الغنم، فوافق على أن العقد على ثمان سنين، وإن أتم عشراً فهو فضل منه، وتم العقد على هذا.
لكن فيه إشكال، فرعاية الغنم مصلحتها للأب، ونحن قلنا: إن الصداق للمرأة، فكيف صح أن يكون صداقها لغيرها؟
الجواب: أنه لها في الواقع؛ لأنها هي التي كانت ترعى، فإذا قام موسى بالرعي سقط عنها، فكان الصداق وإن كان في ظاهره لمصلحة الأب فهو في الحقيقة لمصلحة الزوجة.
وَإِنْ أَصْدَقَهَا تَعْلِيمَ قُرْآنٍ لَمْ يَصِحَّ، بَلْ فِقْهٍ وَأَدَبٍ وَشِعْرٍ مُبَاحٍ مَعْلُومٍ،
..........
قوله: «وإن أصدقها تعليم قرآن لم يصح» لأن القرآن ليس من الأموال، فلا ينبغي أن تستباح به الأبضاع، ثم هناك دليل ـ أيضاً ـ لما زوج النبي صلى الله عليه وسلم الرجل بما معه من القرآن، قال:«إنه لا يكون مهراً لأحد بعدك»
(1)
، وهذا نص في أنه لا يجوز أن يكون مهراً لأحد بعده، ذكر هذا في الروض
(2)
.
(1)
أخرجه سعيد بن منصور (1/ 176) عن أبي النعمان الأزدي مرسلاً، وضعفه الحافظ في الفتح (9/ 120) ط/ الريان، وقال في الإرواء (1929):«منكر» .
(2)
الروض المربع مع حاشية ابن قاسم (6/ 366).
القول الثاني: أنه إذا أصدقها تعليم قرآن فإنه يصح؛ لأن التعليم ليس هو القرآن، نعم لو أراد أن يقرأ شخص بأجرٍ فإنه لا يجوز؛ لأن قراءة القرآن من الأعمال الصالحة، والأعمال الصالحة لا يمكن أن يأخذ الإنسان عليها أجراً من الدنيا، لكن هذا رجل يريد أن يعلِّم، والتعليم عمل وتفرغ للمُعَلَّم، ففي الحقيقة أنني ما جعلت القرآن عوضاً حتى يقال: إنه لا يصح أن يكون عوضاً، إنما جعلت التعليم الذي فيه معاناة وتلقين ووقت مهراً، هذا ما نرد به قولهم.
ثم نرد عليهم ـ أيضاً ـ بوجه آخر، فهذا التعليل الذي عللتم به هذه المسألة لتمنعوها مصادم للنص، وما كان مصادماً للنص فإنه غير مقبول، فهو قياس فاسد الاعتبار لا يعتبر، والنص الذي يصادمه قول النبي عليه الصلاة والسلام للرجل:«زوجتكها بما معك من القرآن»
(1)
، وفي بعض الألفاظ:«فعلمها ما معك من القرآن»
(2)
، وهذا نص صريح.
أما قولهم: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال له: «إنها لا تكون لأحد بعدك مهراً»
(3)
، فالجواب على هذا من وجهين:
الأول: أن الحديث ضعيف لا تقوم به حجة.
ثانياً: على تقدير صحته ـ وهو ممتنع ـ فإنه يحمل قوله: «لا يكون لأحد بعدك مهراً» أي بعد حالك، كما قاله شيخ الإسلام
(1)
سبق تخريجه ص (39).
(2)
أخرجه مسلم في النكاح/ باب الصداق وجواز كونه تعليم قرآن
…
(1425)(77) عن سهل بن سعد رضي الله عنه.
(3)
سبق تخريجه ص (258).
في قصة أبي بردة بن نيار رضي الله عنه الذي قال له: «لا تجزئ عن أحد بعدك»
(1)
، فنقول: إذا صح الحديث ولا يصح، فالمعنى لا تكون مهراً لأحد بعد حالك؛ لأنه ما عندك شيء أبداً، فالقاعدة أنه لا يمكن أن يخص أحد بحكم من أحكام الشريعة أبداً لعينه، بل لوصفه، فالأعرج لا يجب عليه الجهاد في سبيل الله؛ لأنه أعرج، وعلى هذا فكل من عنده عرج يمنعه من الجهاد لا يجب عليه، والفقير لا زكاة عليه؛ لأنه فقير وهلم جرًّا، فالقول بأن هذا جائز لهذا الرجل بعينه لا يمكن أبداً، حتى النبي صلى الله عليه وسلم لم يخص بشيء لعينه أبداً، بل لوصفه؛ لأنه نبي ورسول؛ لأن الله عز وجل ليس بينه وبين البشر نسب، أو محاباة، أو مصاهرة، فلا يمكن أن يخص أحداً من البشر بحكم لعينه، ولكن لوصفه.
فإذا عَلَّم الرجل امرأته السورة التي اتفق عليها مائة مرة، ولكن عجزت فيُقدر لها صداق؛ أجرة المثل، ولا نقول: يبطل المسمى ويجب مهر المثل؛ لأن المسمى ما بطل، ولكن عجز عن إيفائه، فيفرض لها أجرة، تعليم هذه السورة مثلاً، فإذا قيل: هذه السورة يعلمها معلم الصبيان في العادة بعشرة ريالات، كان مهرها عشرة ريالات.
مسألة: هل يصح أن يكون المصحف مهراً؟ الجواب: إن
(1)
أخرجه البخاري في الأضاحي/ باب الذبح بعد الصلاة (5562)؛ ومسلم في الأضاحي/ باب وقتها (1960) عن جندب بن سفيان البجلي رضي الله عنه.
قلنا بجواز بيع المصحف جاز، وهو الصحيح، وإن قلنا بتحريمه، فإنه لا يجوز.
قوله: «بل فقهٍ» ، أي: بل تعليم فقه، الفقه ظاهر، ويدخل فيه تعليم التوحيد؛ لأن التوحيد الفقه الأكبر كما قال أهل العلم، وهو أشرف من الفقه الثاني الأصغر، فعلم أحكام الجوارح من الفقه الأصغر، وعلم أحكام القلوب هو الفقه الأكبر، وهو علم التوحيد، فيصح أن يقول: الصداق أن أعلمك كتاب التوحيد؛ لأن فيه تعليماً، ومعاناة، ومشقة، وتفهيماً، وكذلك لو قال: أعلمك من الفقه كتاب الصلاة يجوز، ولكن يعينه، فيقول: كتاب الصلاة من زاد المستقنع، أو من الروض المربع؛ لأن كتاب الصلاة إذا كان من المغني، لا يكون مثل الزاد، وإذا كان من الإنصاف كذلك، فلا بد أن يعين.
قوله: «وأدب» الأدب في الاصطلاح علم الشعراء الجاهليين والإسلاميين، وما يتعلق بذلك وأحوالهم، فيجوز ـ مثلاً ـ أن يدرسها حياة امرئ القيس، أو المعلقات السبع، وتستفيد منه البلاغة بأقسامها الثلاثة: البيان، والمعاني، والبديع، وربما تتعلم الشعر أيضاً.
قوله: «وشعر مباح» اشترط المؤلف أن يكون شعراً مباحاً؛ لأن الشعر منه غير مباح، ومنه مباح، فما كان خالياً من الفتنة والدعوة إلى الفساد فهو مباح، وما تضمن فتنة، كالتشبيب بامرأة معينة، أو التشبيب ـ والعياذ بالله ـ بالمردان، أو التشبيب بالخمر أو ما أشبه ذلك، والحث عليه، فهذا محرم لا يجوز أن يعلمها شعراً من
هذا النوع، لقوله تعالى:{وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2].
وأصل الشعر جائز، وإن كان الأكثر على الشعراء عدم الاستقامة، قال الله تعالى:{وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ *أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ *وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ *} {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} [الشعراء: 224 ـ 227] وكم من قصيدة كانت أبياتها أشد من السهام بالنسبة للأعداء، وكم من قصيدة صار البيت الواحد منها يساوي مئات الدنانير، يقال: إن هناك قبيلة تسمى أنف الناقة، وأنت إذا سمعت هذا تشمئز، فقال فيهم رجل من الشعراء:
قوم هم الأَنْفُ والأذنابُ غيرُهُمُ
ومن يسوِّي بأنف الناقة الذنبَا
فعلت رؤوسهم، فكم من كلمة أو بيت من الشعر يرفع أمة أو ينزل أمة، ولهذا للشعر مكانة في صدر الإسلام وفيما بعد، ولكن المراد بالشعر الشعر الحقيقي الذي يأخذ بالمشاعر، أما الشعر غير الموزون الذي حصل من هؤلاء الأدباء المتأخرين، لما عجزوا عن الشعر الأول، قالوا: اتركوه وائتوا بشعر غير موزون شطر منه سطران، وشطر منه كلمة واحدة، وقولوا: هذا الشعر!! هذا لا يأخذ بمشاعر أي أحد، حتى الإنسان يمجه إذا قرأه، ولا يحرك مشاعره أبداً؛ والغريب أنه صار حسناً عند بعض الناس، لكن صار حسناً؛ لأنهم لا يستطيعون أكثر منه، ولا يعرفون أن يأتوا بمثل معلقات العرب، أو لامية أبي طالب، وقد أثنى عليها ابن كثير في البداية والنهاية، وقال: هذه التي ينبغي أن تكون من المعلقات؛ لأنها لامية عظيمة جداً.
فالحاصل أن الشعر إذا كان مباحاً لا بأس أن يصدقها تعليمه، وسواء كان عربياً أو نبطياً، فالشعر النبطي فيه حكمة ويصح أن يجعل مهراً؛ لأن المؤلف أطلق.
ونحن لا نحبذ أبداً إعراض الناس عن اللغة العربية، بل ننكر هذا إنكاراً عظيماً، ونرى أن من أكبر الجناية على الأولاد هؤلاء الذين يعلمون أولادهم كلمات من غير اللغة العربية، كالسلام، والجواب، وما أشبه ذلك.
وشيخ الإسلام في كتاب اقتضاء الصراط المستقيم يقول: إن اللغة من أعظم مميزات الأمم، وهي التي تحفظ على الأمم أصولها، وما جرى عليه أسلافها، وكان عمر رضي الله عنه يضرب من يرطنون رطانة الأعاجم
(1)
، وجزاه الله خيراً، ينبغي أن يضرب هؤلاء الذين يفخرون بهذه اللغة الأجنبية، سواء إنجليزية أو غيرها، ويتخاطبون بها فيما بينهم، والأقبح والأسوأ أنهم يعلمونها أبناءهم، فهذه جناية عظيمة، والواجب على كل الأمم تعلم اللغة العربية، حتى الإنجليز والأمريكان والروس؛ لأن الرسالة الموجهة إليهم بالقرآن العربي المبين، واللغة التي يتكلم بها الرسول عليه الصلاة والسلام هي اللغة العربية، فيجب عليهم أن يتعلموا هذه اللغة، لكن مع الأسف أننا لضعفنا، وأنه ليس عندنا مقومات شخصية صرنا نقلدهم حتى في الكلام.
لكن إذا تعلم الإنجليزية لقصد حسن فلا بأس، كأن يتعلم لأجل أن يكون داعية يدعو الناس إلى الإسلام.
(1)
أخرجه عبد الرزاق في المصنف (1/ 411) والبيهقي في السنن الكبرى (9/ 234).
قوله: «معلوم» احتراز من المجهول، أي معلوم بالأبيات مثلاً، كعشرين بيتاً، أو مائة بيت، أو غير ذلك مما يتفقون عليه.
مسألة: أنكر شيخ الإسلام رحمه الله على الذين يرتكزون في مواعظهم على القصائد وشبهها، وقال: إن هذا يؤدي إلى الإعراض عن الكتاب والسنة، وهذا صحيح، يوجد الآن أشرطة بين الناس سائرة وشائعة، يسمونها أناشيد إسلامية، بعضها فيها طبول، وبعضها لا يوجد فيها، فإقبال الإنسان عليها وإعراضه عن القرآن والسنة غلط كبير، أما إذا كان الإنسان إذا خملت نفسه يسمعها أحياناً، فهذا لا بأس به، أما اتخاذها ديدناً واصطحابها في سيارته، كلما مشى استمع، فمعنى ذلك أنها تدعوه إلى الإعراض عن الكتاب والسنة.
وَإِنْ أَصْدَقَهَا طَلَاقَ ضَرَّتِهَا لَمْ يَصِحَّ، وَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا، وَمَتَى بَطَلَ المُسَمَّى وَجَبَ مَهْرُ المِثْلِ.
قوله: «وإن أصدقها طلاق ضرتها لم يصح» بأن قالت: أنا لا أريد منك مالاً، أريد أن يكون صداقي طلاق امرأتك، فهذا غير صحيح:
أولاً: لأن طلاق امرأته ليس مالاً ولا منفعة تُعقَد عليها الأجرة.
ثانياً: أنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عنه، فقال:«لا تسأل المرأة طلاق أختها لتكفأ ما في صحفتها»
(1)
، ولا يمكن أن نجعل ما نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم صداقاً ينتفع به.
ثالثاً: ذكر في الروض
(2)
حديث: «لا يحل لرجل أن ينكح
(1)
سبق تخريجه ص (32).
(2)
الروض المربع مع حاشية ابن قاسم (6/ 368).
امرأة بطلاق أخرى»
(1)
.
فإذا قال قائل: طلاق امرأته فيه مصلحة لها، وهو أن ينفرد الزوج بها، وتسلم من المشاكل، وربما يكون هذا أحب إليها من دراهم كثيرة.
فالجواب: هذه المصلحة يقابلها المفسدة التي تحصل على الزوجة الأولى، والزوجة الأولى أقدم منها، وأحق بدفع الضرر عنها.
قوله: «ولها مهر مثلها» أي: ولها مهر مثلها إذا أصدقها طلاق ضرتها، ومهر المثل يجب أن يراعى فيه السن، والجمال، والحسب، والأدب، والعلم، فمن كانت مثلها في هذه الأمور يُسأل ما صداقها؟ فإذا قالوا: صداقها مثلاً عشرة آلاف فيكون لها عشرة آلاف، إذاً تلاحظ كل صفة يختلف بها المهر.
وهل نعتبرها بقريباتها، أو ببنات الناس؟
الجواب: نعتبرها بقريباتها؛ لأن ذلك أقرب للعدل، ولهذا قلنا: الحسب بأن تكون مثلها في الحسب، وأقرب الناس للمماثلة هم الأقارب.
قوله: «ومتى بطل المسمى وجب مهر المثل» .
هذه قاعدة مفيدة في هذا الباب، وهي أنه كلما بطل المسمى وجب مهر المثل، فإذا أصدقها طلاق ضرتها ما صحت التسمية، لكن لها مهر المثل، فإذا أصدقها لحم خنزير لا يصح
(1)
أخرجه أحمد (2/ 176، 177) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه، وضعفه في الإرواء (1931).
ولها مهر المثل، وإذا أصدقها علبة دخان لا يصح ولها مهر المثل، وإذا أصدقها خمراً لا يصح ولها مهر المثل.
وقال بعض العلماء: لها مثله عصيراً؛ لأنه أقرب إلى مماثلة المسمى، فإذا كان خمراً من عنب قلنا: يجب لها عصير من عنب، نظير هذا الشيء؛ لأن التحريم هنا لصفته، فيكون الوصف ملغى، والأصل باقٍ، لكن على المذهب أنه لما تغير إلى خمر صار خبيثاً لذاته، مثل ما لو أصدقها شاة ميتة، فهذه حرمت لوصفها، فهل نقول في هذه الحال: يجب عليه شاة مثلها؛ إلغاء للوصف، أو نقول: بطل المسمى ولها مهر المثل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حرم بيع الخمر والميتة
(1)
وهذا عام؟ فبيع الميتة لا يجوز، وكذلك جعلها مهراً لا يجوز أيضاً؛ لأنه لا يصح عقد البيع عليها، لكن هل نقول هنا: إنه طرأ عليها الخبث والتحريم، فيجب عليه شاة مثلها، أو نقول: بطل المسمى فيجب مهر المثل؟ المذهب يقولون بطل المسمى فيجب مهر المثل، والذين يقولون بأن الخمر يقدر خلًّا، فقياس قولهم في هذه الحال أن يلغى الوصف فلا تكون ميتة، ويجب له شاة مثلها.
والمهم أن هذه القاعدة مفيدة جداً، فكلما بطل المسمى وجب مهر المثل، فلو أصدقها شيئاً مجهولاً، أو عبداً آبقاً، أو ما أشبه ذلك فلا يصح، ولها مهر المثل، والدليل على ذلك حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في امرأة عقد عليها زوجها
(1)
أخرجه البخاري في البيوع/ باب بيع الميتة والأصنام (2236)؛ ومسلم في البيوع/ باب تحريم بيع الخمر والميتة (1581) عن جابر رضي الله عنه.
ثم مات ولم يسمِّ لها صداقاً، فقال: لها مهر مثلها
(1)
، وإذا سمى شيئاً لا يجوز شرعاً، فهذه التسمية وجودها كالعدم، فكأنه لم يسم لقول الرسول صلى الله عليه وسلم:«كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل»
(2)
، فإذا بطل وجب مهر المثل.
(1)
أخرجه البخاري في البيوع/ باب الشراء والبيع مع النساء (2155)؛ ومسلم في العتق/ باب بيان أن الولاء لمن أعتق (1504)(8) عن عائشة رضي الله عنها.
(2)
سبق تخريجه ص (164).
فَصْلٌ
وَإِنْ أَصْدَقَهَا أَلْفاً إِنْ كَانَ أَبُوهَا حَيّاً، وَأَلْفَيْنِ إِنْ كَانَ مَيِّتاً، وَجَبَ مَهْرُ المِثْلِ،
.......
قوله: «وإن أصدقها» أي: أصدق الزوج الزوجة.
قوله: «ألفاً» ولم يذكر المُمَيَّز ما هو؟ لكن نقول: ألفاً من الدراهم، أو ألفاً من الدنانير، أو ألفاً من الإبل، أو ألفاً من البقر.
قوله: «إن كان أبوها حياً، وألفين إن كان ميتاً وجب مهر المثل» للجهالة؛ لأنه لا ندري هل يثبت الألف، أو يثبت الألفان؟ وحال الأب مجهول، ولنفرض أنه خرج في غزوة ولم يُعلَم عنه، فقال الزوج: مهرك ألفان إن كان أبوك ميتاً، وألف إن كان حياً، يقول المؤلف: إن التسمية غير صحيحة؛ وذلك للجهالة.
أما إذا كانت حاله معلومة، فهذا لا بأس به؛ لأنه إذا كان يعلم أنه حي فمهرها ألف، أو أنه ميت فمهرها ألفان، لكن إذا كانت حاله مجهولة، فيقول المؤلف: إن هذه التسمية غير صحيحة، ويجب مهر المثل؛ والتعليل أنه ليس لها غرض صحيح في هذا؛ لأن المهر سيكون لها، سواء كان أبوها حياً أم ميتاً، هذا ما قرره الأصحاب رحمهم الله.
والقول الراجح أن التسمية صحيحة؛ وذلك لأن لها غرضاً في هذا، فإذا كان أبوها ميتاً تحتاج إلى زيادة المهر؛ لأنها قد تحتاج نفقة، أو دواءً لمرض، أو ما أشبه ذلك، فإذا كان أبوها حياً استغنت به، وكفاها المهر القليل.
وهل العكس لها فيه غرض، بأن يقول: أصدقها ألفين إن كان أبوها حياً، وألفاً إن كان ميتاً؟
الجواب: نعم لها غرض؛ لأنه إذا كان أبوها حياً فقد يحتاج إلى نفقة، فتحتاج إلى زيادة المهر، وإذا كان ميتاً يكفيها ألف.
وَعَلَى إِنْ كَانَتْ لِي زَوْجَةٌ بِأَلْفَيْنِ، أَوْ لَمْ تَكُنْ بِأَلْفٍ يَصِحُّ بِالمُسَمَّى،
......
قوله: «وعلى إن كانت لي زوجة بألفين أو لم تكن بألف يصح بالمسمى» لأن لها غرضاً في ذلك، فإذا كان له زوجة فلا يطيب قلبها إلا إذا بذل لها أكثر، ولهذا فالذي له زوجة ما كل الناس يقدم على تزويجه؛ لما يحصل بين الزوجتين من المشاكل، وبين أولادهما أحياناً، ولأنه إذا لم يكن له زوجة كفاها الألف؛ لأنها ستنفرد به، ولا يزاحمها أحد فيه، وإذا كان له زوجة فإنه لا يكفيها الألف، بل تحتاج إلى ألفين؛ لأن لها مزاحماً، فالتسمية هنا صحيحة.
وهذا إذا كان حال الزوجة مجهولاً، أما إذا كان معلوماً فالأمر واضح، فهذه المسألة والمسألة السابقة حكمهما واحد على ما رجحناه، وقال في الروض
(1)
: و «كذا إن تزوجها على ألفين إن أخرجها من بلدها أو دارها، وألف إن لم يخرجها» ، وهذا أبلغ جهالة من الذي قبله؛ لأن الذي قبله يمكن العلم به قبل الدخول أيضاً، لكن إن أخرجها من بلدها فإلى متى؟ ومع
(1)
الروض المربع مع حاشية ابن قاسم (6/ 372).
ذلك يقولون: إنه جائز ويسلم الآن ألفاً ناجزاً، ثم إن أخرجها سلم الألف الثاني، وإلا فلا شيء عليه، وهنا يقولون: لأن لها غرضاً معلوماً في ذلك، فكثير من النساء لا تحب أن تخرج من بلدها، لا سيما إذا كان لها أقارب من أم وأب وأعمام وأخوال، وبعض النساء ما يهمها، وبعض النساء ترغب أيضاً أن تسافر، فالنساء يختلفن.
وَإِذَا أُجِّلَ الصَّدَاقُ أَوْ بَعْضُهُ صَحَّ،
..........
قوله: «وإذا أجل الصداقُ أو بعضُهُ صح» ، أي: إذا أجل الصداق كله أو بعضه صح التأجيل، ولازم ذلك صحة المسمى، وظاهر كلام المؤلف أن هذا جائز؛ وجه ذلك أن الصحة فرع عن الجواز، فكل صحيح جائز، وكل محرم فاسد، فلما قالوا: إنه صحيح، معناه أنه ليس محرماً؛ لأن المحرم لا يكون صحيحاً، لكن هل هو جائز أو مكروه؟ المذهب أنه جائز، ولا بأس به؛ لأنه كغيره من الأعواض، لقوله تعالى:{أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء: 24] والباء للعوض، فكما أنه يجوز تأجيل الثمن والأجرة، فكذلك يجوز تأجيل الصداق، بل قد سماه الله تعالى أجراً، {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [النساء: 24]، ولقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] فكل عقد بشروطه وصفاته يجب الوفاء به، إلا ما دل الدليل على تحريمه، فالأمر بالوفاء، أمر بالوفاء بأصل العقد، وبما شرط فيه؛ لأن الشروط في العقد وصف في العقد، فإذا لزم الوفاء بالعقد، كان لازماً أن أوفي بالعقد وما يتضمنه من أوصاف وهي الشروط، والأصل في الشروط الحل، ولقوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ
مَسْؤُولاً} [الإسراء: 34]، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم:«كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل»
(1)
، وقوله صلى الله عليه وسلم:«المسلمون على شروطهم إلا شرطاً أحلَّ حراماً أو حرَّم حلالاً»
(2)
، وأما التعليل فهو أن الحق لها فإذا رضيت بتأجيله فلها ذلك، وعلى هذا يصح تأجيله وبدون كراهة.
ومال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إلى كراهة التأجيل، واستنبط ذلك من قصة الرجل الذي قال: لا أجد إلا إزاري، ولم يجد ولا خاتماً من حديد، فزوجه النبي صلى الله عليه وسلم بما معه من القرآن
(3)
، وكان من الممكن أن يؤجل الصداق، ولقوله تعالى:{وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 33]، وقد يستدل بقول النبي صلى الله عليه وسلم:«يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم»
(4)
، وهذا الحديث ليس قوي الدلالة إذ قد يقول قائل: إن قوله: «من استطاع» يعم الحال والمؤجل، لكن لا شك أنه إذا أمكن الزواج بدون تأجيل فهو الأفضل، لا ريب في هذا؛ لأن إلزام الإنسان نفسه بالدين ليس بالأمر الهين.
وبهذه المناسبة أود من طلبة العلم أن يحذروا من أولئك الطامعين الجشعين، الذين يتدينون ديوناً كثيرة، ويشترون أشياء ليس بوسعهم ولا طاقتهم أن يوفوها، إما تفاخراً في بناء قصر، أو في شراء سيارة، وإما طمعاً في تجارة، وكم من أناس عليهم
(1)
سبق تخريجه ص (164).
(2)
سبق تخريجه ص (164).
(3)
سبق تخريجه ص (39).
(4)
سبق تخريجه ص (6).
شكاوى في المحاكم؛ لأنهم أفلسوا، اشتروا أراضي وعقارات وغير ذلك على أنها تزيد ثم نقصت.
فلا ينبغي للإنسان أن يتديَّن إلا عند الضرورة القصوى، لا قرضاً، ولا ما يسمونه ديناً مؤجلاً، علماً بأنه في الوقت الحاضر إذا مات الإنسان، فإن الورثة لا يبادرون في قضاء دينه، ولا يهمهم ويأكلون مال الميت، أو يؤخرون الوفاء، وهذا مما يحدو بالمرء العاقل أن يتجنب الدين مطلقاً.
وقوله: «وإذا أجل الصداق أو بعضه صح» ، وهل يجوز الدخول؟ نعم يجوز الدخول؛ لأن المهر ثبت برضى الطرفين مؤجلاً.
فَإِنْ عَيَّنَا أَجَلاً، وَإِلاَّ فَمَحِلُّهُ الْفُرْقَةُ،
.........
قوله: «فإن عينا أجلاً» أي: الزوج والزوجة؛ لأن الأجل لا يتم إلا بتعيينهما، وجواب الشرط محذوف وقَدَّرَه في الروض
(1)
بقوله: «أنيط به» ، يعني تعين به.
قوله: «وإلا» أي: وإلا يعينا أجلاً، وانظر سعة اللغة العربية، حيث حذف فعل الشرط، والمفعول به، والفاعل التابع للفعل.
قوله: «فمحِله» بكسر الحاء، وهو خلاف فمحَل بفتح الحاء، فالمحَل الموضع ويقال في فعله: حَلَّ يَحُلُّ، والمحِل بالكسر زمن الحلول ويقال: في فعله: حَلَّ يَحِلُّ.
(1)
الروض المربع مع حاشية ابن قاسم (6/ 372).
قوله: «الفرقة» يعني افتراق الزوجين بطلاق، أو موت، أو فسخ، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في بدائع الفوائد أن النكاح له عشرون فُرقة، ومراده بذلك أسباب الفرقة، وإلا فهي منحصرة في الموت والطلاق والفسخ، لكن أسبابها تبلغ العشرين.
فإذا قال: المهر عشرة آلاف، منها خمسة نقداً وخمسة كُلَّ سنة ألفاً يصح، أو قال: الخمسة تحل على رأس السنة، فإن لم يعين أجلاً، بأن قال: المهر عشرة آلاف ريال، منهما خمسة نقداً، وخمسة مؤجلة، فهنا يصح التأجيل، ويبقى المهر مؤجلاً إلى أن تحصل الفرقة، إما منه، أو منها.
فإذا قال قائل: كيف يصح هذا الأجل وهو لا يُدرَى متى يكون، فلا أحد يعلم متى يحصل الفراق، مع أنكم تقولون: لو أجل ثمن المبيع بأجل غير معلوم لم يصح، فما الفرق؟
الفرق أن البيع يراد به المعاوضة المالية، والمعاوضة المالية لا بد أن تكون محددة؛ لئلا تحصل الجهالة التي تؤدي إلى التنازع والعداوة والبغضاء، أما النكاح فليس المال هو القصد الأول به، إذ إن القصد الأول بالنكاح هو المعاشرة والاستمتاع، فلذلك سُهِّلَ فيه.
وهل يوجد في واقع الناس صداق مؤجل؟
الجواب: عندنا لا يوجد إلا نادراً جداً، لكن في البلاد الأخرى نسمع أنه يوجد، فإذا وجد فنقول: إن عَيَّنَا أجلاً فعلى ما عيناه، وإن لم يعينا أجلاً فوقت حلوله الفرقة.
وَإِنْ أَصْدَقَهَا مَالاً مَغْصُوباً، أَوْ خِنْزِيراً وَنَحْوَهُ وَجَبَ مَهْرُ المِثْلِ،
..........
قوله: «وإن أصدقها مالاً مغصوباً أو خنزيراً ونحوه وجب مهر المثل» أي: إن أصدقها مالاً مغصوباً فلا يخلو من حالين، إما أن يعلما ذلك، أو لا يعلما، فإن علما ذلك فلها مهر المثل، وإن لم يعلما ذلك فلها مثله أو قيمته.
فلو قال: أصدقتك هذا المُسَجِّل، وهما يعرفان أنه مسروق، فلا يصح ولها مهر المثل؛ لأنهما عينا مهراً لا يصح أن يكون مهراً، ليس مملوكاً للزوج، وليس للزوجة أن تتملكه.
فإن كانا يجهلان ذلك، ثم تبين أنه مغصوب، فلها القيمة أو المثل، حسب الخلاف بين أهل العلم، والزوجة يمكن أن تجهل أنه مغصوب، لكن الزوج كيف يمكن أن يجهل أنه مغصوب؟ الجواب: يمكن ذلك بأن يكون قد غصب مسجلاً ووضعه مع الذي عنده، وهو لا يدري أن هذا هو الذي غصبه، وجعله مهراً لهذه المرأة، فيثبت لها قيمة هذا الشيء إن كان متقوماً، ومثله إن كان مثلياً.
والصحيح أن المسجل من أقسام المثليات، والمذهب كل مصنوع فليس بمثلي، بل متقوم، والصواب أن الشيء المثلي هو الذي له مثل ونظير، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الطعام الذي أرسلت به إحدى أمهات المؤمنين، وهو في بيت عائشة رضي الله عنها وكسرت الإناء والطعام، أخذ النبي صلى الله عليه وسلم طعامها وإناءها، وقال:«طعام بطعام وإناء بإناء»
(1)
، وهذا يدل على أن المثلية تكون في
(1)
أخرجه الترمذي في الأحكام/ باب ما جاء فيمن يكسر له الشيء
…
(1359) عن أنس رضي الله عنه، وقال:«حسن صحيح» ، والحديث في البخاري دون قوله:«طعام بطعام وإناء بإناء» (2481)، وانظر: الإرواء (1523).
المصنوعات، كما تكون في الحيوانات، فالرسول صلى الله عليه وسلم استسلف بعيراً بكراً ورد خيراً منه رباعياً
(1)
، وهذا يدل على أن المثل ـ أيضاً ـ في الحيوانات، وعندهم أن الحيوان متقوم؛ لأنهم يقيدون المثلي بكل مكيل، أو موزون لا صناعة مباحة فيه، يصح السلم فيه، وهذا ضيق جداً.
والصواب خلاف هذا، أن المثلي ما أمكن أن يكون له مثل، فعلى هذا نقول في هذه المسألة: لها مثل هذا المسجل الذي أصدقها، وتبين أنه مغصوب، وعلى المذهب لها قيمته.
أما إذا أصدقها خنزيراً فلها بكل حال مهر المثل؛ لأن الخنزير محرم لعينه فلا تصح التسمية، فإن كان الخنزير يساوي مائة ألف، ومهر مثلها عشرون ألفاً، فلها عشرون ألفاً، فإذا قالت: هذا الخنزير يساوي مائة ألف، نقول: الخنزير ليس له قيمة شرعاً إطلاقاً، ولهذا لو أتلفه متلف فليس عليه ضمان، فهو ليس مالاً شرعياً، وأما إن كانت لا تعرفه، كأن يأتي لها بخنزير، ويقول لها: هذه شاة أوروبية، فنقول: لها شاة مثله؛ لأنها اعتقدت أنه شاة، فإذا كان هو أوسط الخنازير، فنقول: لها شاة من أوسط الشياه، ولو من أطيبها فمن أطيب الشياه، ولو من أردئها فمن أردأ الشياه؛ وذلك لأنها تزوجت ورضيت بهذا المهر على أنه شاة من الغنم، وقد يقول قائل: مهر المثل أحسن لها،
(1)
أخرجه مسلم في البيوع/ باب جواز اقتراض الحيوان (1600) عن أبي رافع رضي الله عنه.
نقول: قد يكون مهر مثلها ريالاً، والشاة بعشرين ريالاً، فالشاة أحسن لها، فليس على كل حال مهر المثل أكثر قيمة من الشاة، أو من البعير، بل تختلف الأحوال.
فإذا قال قائل: لماذا لا نقول: يباع الخنزير على من يستحلونه وتأخذ قيمته؟ فالجواب: هذا لا يصح؛ لأنه لا يجوز لنا أن نبيع الخنزير على النصارى، وإن كانوا يستحلونه، فيجب مهر المثل، وهذا ما ذهب إليه الأصحاب رحمهم الله، والراجح أنها تعطى أقرب ما يكون إلى الخنزير شبهاً من الحيوان المباح، والظاهر أن أقرب ما يكون إلى الخنزير شبهاً هو البقر، فتعطى بقرة، أو يقال: يقدر هذا الخنزير بما يساوي عند النصارى مثلاً، وتعطى القيمة، لكن الأول أقرب إلى الصواب؛ لأن الأصل في المضمونات أن تضمن بالمثل.
الخلاصة: أن ما كانا يعلمان أنه محرم، سواء لحق الله أو لحق الإنسان فلها مهر المثل؛ لأن التسمية باتفاق الجميع باطلة، وما كانا يجهلان أنه من المحرم فلها مثله أو قيمته، وكذلك على القول الراجح إذا كانت هي تجهله؛ لأنها ما أباحت بضعها لهذا الرجل إلا على هذا العوض، وهو ـ أيضاً ـ ما أصدقها إلا ذلك الشيء، نعم لو أن أحداً اجتهد وقال: إذا كان هو يعلم أنه محرم وهي تجهل فإننا نلزمه بمهر المثل، وإن كان أكثر مما سُمي لها؛ عقوبة له على خداعها، فلو قيل بهذا من الناحية التأديبية لكان له وجه.
وَإِنْ وَجَدَتِ المُبَاحَ مَعِيباً خُيِّرَتْ بَيْنَ أَرْشِهِ وَقِيمَتِهِ، وَإِنْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفٍ لَهَا وَأَلْفٍ لأَبِيهَا صَحَّتْ التَّسْمِيَةُ،
........
قوله: «وإن وجدت المباح معيباً خيرت بين أرشه وقيمته» «المباح» صفة لموصوف محذوف، وابن مالك رحمه الله يقول:
وما من المنعوت والنعت عقل
يجوز حذفه وفي النعت يقل
والتقدير وإن وجدت المهر المباح معيباً، والمراد بالعيب ما تنقص به قيمة المبيع، فإذا وجدته معيباً خيرت بين أمرين، بين أرشه وقيمته، والأرش هو فرق ما بين القيمتين معيباً وسليماً.
فإذا أصدقها بعيراً، ثم وجدته يعرج، فنقول لك الخيار، إن شئت أخذت القيمة، وإن شئت أخذت الأرش، فتأخذ القيمة إذا ردته إلى زوجها، وإن أبقته فلها الأرش، فيقال: هذا البعير يساوي لو كان سليماً مائة، ومعيباً ثمانين، فتعطى عشرين، وهذا ظاهر؛ لأنها إنما قبلت على أن هذا الشيء سليم، فتبين أنه معيب فتعطى النقص، وهذا إذا كان متقوماً؛ والصحيح أنه لا خيار لها في الأرش، فيقال: إما أن تأخذيه معيباً، أو ترديه، وتُعْطَيْ بدلَهُ؛ لأن الأرش ـ في الحقيقة ـ عقد جديد، فكيف نلزم الطرف الثاني به؟! وهذا كما قلنا في البيع.
أما إذا مثلياً فإنها تعطى مثله، مثل أن يصدقها مائة صاع من البر، فأخذتها على أنها سليمة، ثم وجدتها مسوسة، فتعطى مائة صاع سليمة؛ لأنه مثلي، وإذا قيل: بأن الحيوان مثلي ـ وهو الصحيح ـ فإنه تعطى مثل البعير.
قوله: «وإن تزوجها على ألف لها وألف لأبيها صحت التسمية» ، كرجل تزوج امرأة على ألفين، ألف لها وألف لأبيها، وامرأة أخرى وليها أخوها، تزوجها رجل على ألف لها، وألف لأخيها.
في المسألة الأولى: تصح التسمية كما سمى، فيكون ألف لها وألف لأبيها.
وفي المسألة الثانية: تصح التسمية، لكن ما شرط للأخ فهو لها، هذا هو المذهب، فنفرق بين الأب وغيره، وكيف يصح هذا الشرط، وقد جعل الله الصداق للنساء، فقال:{وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء: 4] وجعل العفو عن نصفه إذا كان الطلاق قبل الدخول للنساء فقال: {إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ} [البقرة: 237].
وفي حديث الواهبة نفسها، قال الرجل:«أُعطيها إزاري»
(1)
، فأثبت للمرأة الملك والتصرف في المهر، فكيف يصح للأب أن يشترط منه شيئاً لنفسه؟!
فأجابوا عنه: أن للأب أن يتملك من مال ولده ما شاء لقوله صلى الله عليه وسلم: «أنت ومالك لأبيك»
(2)
، فله أن يشترط نصف المهر، ربعه، ثلثه، كله؛ لأنه يتملك من مال ابنته ما شاء، وأما الأخ فلا يتملك، ولهذا نقول: إن جميع المسمى يكون للزوجة؛ والعلة لأنه ليس له حق التملك، بل هو حرام عليه لقوله تعالى:{وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا *} [النساء].
وقيل ـ وهو الصواب ـ: إن ما كان قبل العقد فهو للزوجة مطلقاً، ثم إذا ملكته فللأب أن يتملك بالشروط المعروفة، وما
(1)
سبق تخريجه ص (39).
(2)
أخرجه الإمام أحمد (2/ 179، 204)؛ وأبو داود في البيوع/ باب الرجل يأكل من مال ولده (3530)؛ وابن ماجه في التجارات/ باب ما للرجل من مال ولده (2292) عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وحسن إسناده في الإرواء (838).
كان بعده فهو لمن أهدي إليه، وقد ورد في ذلك حديث عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أخرجه أهل السنن وهو حسن:«أحق ما يكرم المرء عليه ابنته وأخته»
(1)
.
وهذا الذي يقتضيه الحديث أصح؛ لأن الأول يؤدي إلى أن تكون البنت بمنزلة السلعة، أي إنسان يشرط لأبيها أكثر يزوجه، ففيه تعريض لفقد الأمانة من الأب، وهذا أمر خطير، ومن أجل هذا توسع الناس الآن، فصاروا يشترطون شيئاً للأب، وشيئاً للأم، وشيئاً للأخ، وشيئاً للأخت، فصار مهر المرأة يذهب أشلاء، كل واحد منهم يأخذ نتفة منه، فضاعت الأمانة بسبب هذا الفعل، فنحن نقول: أنت يا أيها الأب لك أن تتملك من مال ولدك ما شئت، لكن هي إلى الآن ما ملكته، بل تملكه بعد العقد، ومع ذلك فالذي تملكه منه معرض للسقوط؛ لأنه إذا طلقت قبل الدخول ما صار لها إلا نصفه، ولو صارت الفرقة بسببها لم يكن لها شيء، فإذا عُقِدَ عليها وملَكَتْ المهر، فلك أن تأخذ من مالها ما شئت بالشروط المعروفة عند أهل العلم.
هاتان مسألتان تفترقان في الحكم على المذهب لافتراق العلة على ما عللوا به، وعلى القول الثاني لا يفترقان وأن ما كان قبل العقد فهو للمرأة، وما كان بعده إكراماً لوليها من أب أو غيره فهو له.
(1)
أخرجه أحمد (2/ 182)؛ وأبو داود في النكاح/ باب في الرجل يدخل بامرأته قبل أن ينقدها شيئا (2125) والنسائي في النكاح/ باب التزويج على نواة من ذهب (6/ 120) وابن ماجه في النكاح/ باب الشرط في النكاح (1955) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
فَلَوْ طَلَّقَ قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَ القَبْضِ رَجَعَ بِالأَلْفِ، وَلَا شَيءَ عَلَى الأَبِ لَهُمَا، وَلَوْ شُرِطَ ذَلِكَ لِغَيْرِ الأَبِ فَكُلُّ الْمُسَمَّى لَهَا، وَمَنْ زَوَّجَ بِنْتَهُ وَلَوْ ثَيِّباً بِدُونِ مَهْرِ مِثْلِهَا صَحَّ،
.......
قوله: «فلو طلق قبل الدخول وبعد القبض رجع بالألف، ولا شيء على الأب لهما» أي: تزوجها بألفين، ألف لها وألف لأبيها وسلَّم الألفين، فأعطى الأب ألفاً وأعطى البنت ألفاً، ثم طلقها قبل الدخول، فيتنصف المهر، نقول: لك ألف على البنت خذها، وأما الألف الذي أخذه الأب فقد ملكه، فليس لك منه شيء.
مثال آخر: لو أن الصداق أربعة آلاف، وشرط الأب لنفسه ثلاثة يبقي للبنت ألف، ثم طلقها قبل الدخول، يرجع بألفين على البنت، وأما الأب يأخذ ثلاثة آلاف بدون شيء، والعلة أن الأب ملكه من قبلها، ما ملكه من قبل الزوج، فالزوج ما أصدق الأب إنما أصدق البنت، فعلى هذا يكون الأب ملكه من جهتها، والزوج لا يعرف الأب، فيأخذ النصف منها، وهي إن شاءت رجعت على أبيها، وإن لم تتمكن فما على الأب شيء، وهذا ما ذهب إليه الفقهاء رحمهم الله
وفي المسألة قول آخر: أنه يرجع بنصف المهر فيأخذ من كل منهما نصف ما دفع، فيأخذ من الأب في المثال الأول خمسمائة، ومن البنت خمسمائة، وهذا لا شك أقرب إلى العدل؛ لأن المهر مهر بقدره، وجنسه، ووصفه، وقدره ألفان، وجنسه ريالات، ووصفه نصف للأب ونصف للزوجة، إذاً لك نصفه قدراً، وجنساً، ووصفاً.
قوله: «ولو شرط ذلك» يعني ألفاً لها، وألفاً لوليها.
قوله: «لغير الأب فكل المسمى لها» مثال ذلك: زوجها أخوها، واشترط ألفاً لها وألفاً لأختها، فالتسمية غير صحيحة، بمعنى أنه ليس لغير الأب شيء، وإنما الألفان للزوجة، فإن طلق قبل الدخول رجع بنصف المهر، أي: ألف، ولا ضرر على الزوجة؛ لأنها قد أخذت ألفين.
قوله: «ومن زوج بنته ولو ثيباً بدون مهر مثلها صح» ، أي: إذا زوج الرجل ابنته، فإن كانت بكراً، فقد سبق أنه على المذهب لا يشترط رضاها، لا بالزوج ولا بالمال، فيزوجها زوجاً لا ترضاه، وبمال لا ترضاه، فلو زوجها أبوها أعمى، أصم، أخرس، زَمِناً، فقيراً، جاهلاً، مريضاً بمهر قدره عشرة ريالات جاز؛ لأن الأب يجوز أن يتملك من مال ابنته ما شاء، فكما أنها لو قبضت المهر أخذ نصفه ولا يبالي، فكذلك إذا زوجها بدون مهر المثل صح، ولأن الأب أدرى بمصالح ابنته؛ لأنه ربما يرضى من فلان بأقل من مهر المثل لكونه ذا دين، ومروءة، وقرابة، وما أشبه ذلك، بخلاف غيره من الأولياء، فإنه قد لا يحتاط لها كما يحتاط لها الأب.
وقوله: «ولو ثيباً» إشارة خلاف؛ لأن بعض العلماء قال: إذا زوج ابنته الثيب بأقل من مهر المثل لم يصح؛ لأن الثيب تملك نفسها، ولا يمكن أن يجبرها أبوها، فإذا كان لا يجبرها لم يجبرها على مهر دون مهر مثلها، ولكن الصحيح أنه لا فرق، وأنه إذا زوج ابنته بأقل من مهر المثل فلا بأس، والتسمية صحيحة
لمراعاة مصلحة البنت، أما مجرد هوى فإن هذا لا يجوز إلا برضاها، سواء كانت بكراً أم ثيباً.
وَإِنْ زَوَّجَهَا بِهِ وَلِيٌّ غَيْرُهُ بِإِذْنِهَا صَحَّ، وَإِنْ لَمْ تَأْذَنْ فَمَهْرُ المِثْلِ،
.......
قوله: «وإن زوجها به وليٌّ غيرُهُ بإذنها صح، وإن لم تأذن فمهر المثل» «إن زوجها» أي: المرأة «به» أي: بدون مهر المثل، «وليُّ غيره» أي: غير الأب «بإذنها صح» ، لكن لا بد أن تكون رشيدة، يعني بالغة عاقلة تحسن التصرف، ويجوز لها التبرع، فإذا أذنت فإنه يصح.
مثاله: رجل زوَّج أخته، ومهر مثلها عشرة آلاف ريال، فزوَّجها شخصاً بخمسة آلاف ريال، فإن رضيت وهي رشيدة فلا حرج؛ لأن المهر لها والحق لها، وقد أذنت، فيصح بالمسمى، وإن لم تأذن، أو أذنت وكانت غير رشيدة، بأن كانت صغيرة لم تبلغ، أو بالغة لكن سفيهة لا تعرف الأمور، ولا تقدر المال، فإنها لا تصح التسمية، ولها مهر المثل؛ لأن التسمية هنا فاسدة؛ لأنها دون مهر المثل ولم تأذن؛ وعندنا القاعدة السابقة في الباب أنه متى بطل المسمى وجب مهر المثل، وعلى هذا فيجب لها مهر مثلها.
فإذا قال قائل: لو وكل شخص غيره أن يبيع سلعة تساوي ألفاً، فباعها بخمسمائة، فما حكم البيع؟ فيه خلاف، وسبق لنا أن بعض الفقهاء يقولون: لا يصح البيع؛ لأنه تصرف تصرفاً لم يؤذن له فيه، وهنا صح النكاح، والجواب على هذا بسيط؛ لأنه في باب النكاح لا يشترط تعيين المهر؛ لأن عندنا قاعدة: إذا
بطل المسمى وجب مهر المثل، ومتى أمكن التصحيح وجب، فلهذا يقول المؤلف: إن لها مهر المثل، وقد يقال: إن الزوج مفرط؛ لأنه ينبغي إذا قال له الولي: سأزوجك بدون مهر المثل، أن يسأل: هل هي راضية أو لم ترضَ؟ وقد يقال هنا: إن الولي حصل منه غرور، لكن ـ أيضاً ـ الزوج حصل منه تفريط، والتفريط أنه كيف يتزوج امرأة بخمسة آلاف ريال، وهو يعرف أنه مهر مثلها عشرة آلاف؟! فلا بد أن يسأل.
فإن قال الولي ـ مثلاً ـ: إن رَضِيَتْ، وإلا فأنا أضمن لك الزيادة حتى ترضى، فالأمر ظاهر، وهذه المسألة في الحقيقة اكتنفها التغرير من الولي بتزويجه بأقل، والأمر الثاني تفريط الزوج، وعلى كل حال ما دامت المسألة يكتنفها هذان الأمران، فالأصل أن الزوج يلزمه المهر كاملاً، ولو أن الزوج أبى وقال: أنت زوجتني بخمسة آلاف، أنا لا أعطيك عشرة آلاف، فنقول حينئذٍ: ترجع على الولي؛ لأن عندنا في الحقيقة مباشراً ومتسبباً، المباشر هو الزوج؛ لأن النفع عاد إليه، والمتسبب الولي، فأقرب الأقوال أنه يلزم الزوج؛ لأنه لا يوجد نكاح إلا بمهر، وهذه التسمية من غير من يملك القول فيها؛ لأن الذي يملك القول في المهر هي الزوجة، فعلى هذا نقول للزوج: لا بد أن تكمل المهر.
وذكر صاحب الفروع أنه يرجع به على الولي؛ لأنه غره، ونحن نقول: نعم حصل من الولي غرور، لكن حصل من الزوج تفريط أيضاً حيث لم يسأل، وعلى هذا فنقول: ترجع هي على
الزوج بتتمة مهرها، فإن لم يمكن وتَعذَّرَ لفقره أو مماطلته، فإنها ترجع على وليها، على قاعدة «مباشر ومتسبب» .
وَإِنْ زَوَّجَ ابْنَهُ الصَّغِيرَ بِمَهْرِ المِثْلِ أَوْ أَكْثَرَ صَحَّ فِي ذِمَّةِ الزَّوْجِ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِراً لَمْ يَضْمَنْهُ الأَبُ،
..........
قوله: «وإن زوج ابنه الصغير بمهر المثل أو أكثر صح في ذمة الزوج، وإن كان معسراً لم يضمنه الأب» ، أي: إنسان له ابن صغير، فزوجه بأقل من مهر المثل، ورضيت الزوجة ووليها بذلك، فهذا يجوز؛ فإن زوجه بمهر المثل من مال الابن، مثلاً: مهر المثل عشرة آلاف ريال، وزوجه بعشرة آلاف، فهذا ـ أيضاً ـ صحيح ولا إشكال، فما دام الابن صغيراً أو سفيهاً لا يحسن التصرف محتاجاً إلى الزواج، فله ذلك ما دام لم يحصل منه عدوان على ابنه، فإن زوجه بأكثر من مهر المثل، بأن زوجه امرأة مهر مثلها عشرة آلاف، ولكن أعطاها خمسة عشر ألف ريال، فهل يصح أو لا؟ يقول المؤلف: يصح، ويكون في ذمة الزوج، إن كان الزوج معسراً لم يضمنه الأب؛ لأن الذي استوفى المنفعة هو الزوج لا الأب، فمن استوفى العوض وجب عليه دفع المعوض، ولا شك أن هذا القول ضعيف.
أولاً: كونه يصح بأكثر من مهر المثل في ذمة الزوج فيه نظر، بل الصواب أنه لا يصح في ذمة الزوج إلا مهر المثل، والزائد يتحمله الأب؛ لأنه هو الذي التزم به، وليس هذا من مصلحة الابن، نعم لو فرض أنه من مصلحة الابن، كأن يكون هذا الابن لا يزوج إلا بزائد على مهر المثل، وهذا ربما يقع، كأن يكون الابن عقله ليس بذاك، ولا يزوجه الناس إلا بأكثر،
فحينئذٍ يكون الأب تصرف لمصلحة الابن، فيجب المهر المسمى على الابن، ولو زاد على مهر المثل؛ لأن هذا التصرف من الأب لمصلحة الابن، فيكون في ذمة الزوج لازماً له.
ثانياً: قولهم: إنه إذا كان معسراً لم يضمنه الأب، فالصواب أنه إذا كان الأب قد أبلغ الزوجة، أو أولياءها، بأن ابنه معسر، وأنه ليس ضامناً، فهنا قد دخلوا على بصيرة، فليس لهم شيء، أما إذا لم يخبرهم فلا شك أنه ضامن؛ لأننا نعلم علم اليقين أن الزوجة وأولياءها لو علموا بإعسار الابن ما زوَّجوه.
فعلى هذا نقول في قول المؤلف: «لم يضمنه الأب» على إطلاقه: فيه نظر، والصواب في ذلك التفصيل، إن كان أعلمهم فلا ضمان عليه، وإن لم يعلمهم فعليه الضمان، لأنه غارٌ، والذي يطالَب بالمهر الزوج، فإن لم يمكن مطالبته، فالمطالب به الأب، واستقرار الطلب على الأب على كل حال، وإنما ابتداء الطلب على من استوفى المنفعة.
فَصْلٌ
وَتَمْلِكُ الَمْرأَةُ صَدَاقَهَا بِالعَقْدِ، وَلَهَا نَمَاءُ المُعَيَّنِ قَبْلَ القَبْضِ، وَضِدُّهُ بِضِدِّهِ،
قوله: «وتملك المرأة صداقها بالعقد» ، من المعلوم أن المرأة إذا أصدقت شيئاً، فإما أن يكون معيناً، أو يكون غير معين، فالمعين مثل أن يقول: زوجتك ابنتي على هذه السيارة، أو هذه الدراهم، أو هذا البيت، أو الثوب، وغير المعين أن يقول: زوجتك ابنتي على عشرة آلاف ريال، يقول المؤلف: تملك صداقها بالعقد، سواء كان معيناً أو غير معين، فإذا كان معيناً فالأمر ظاهر، وإذا كان غير معين فما الفائدة؟ الفائدة أنه يكون لها في ذمة الزوج ديناً.
وقوله: «بالعقد» فإذا قال: زوجني ابنتك بهذا البيت، وتأخر العقد عشرة أيام، فالبيت قبل العقد ليس لها، وإنما يكون للزوج.
قوله: «ولها نماء المعين قبل القبض» ، فالشيء المعين لها نماؤه بمجرد العقد، وإن لم تقبضه، فهذا البيت مثلاً عيَّنه، وعقد له عليها به، وتأخر الدخول لمدة سنة، فحصل في هذه السنة من أجرة البيت عشرة آلاف ريال، فهذه الأجرة تكون للزوجة.
كذلك لو كان المهر حيواناً كشاة مثلاً، وولدت قبل الدخول، فالأولاد للزوجة.
فإذا قال قائل: أليس من الممكن أن يطلقها الزوج؟
فالجواب: بلى، وإذا طلقها لم يكن لها إلا نصفه، ويرجع عليها بنصف المهر.
لكن هل يرجع عليها بنصف الأجرة التي أخذتها قبل الطلاق؟
الجواب: لا يرجع؛ لأنها ملكت الصداق، والأجرة نماء منفصل ملكتها بقبضها.
ولو أصدقها بقرة وعيَّنها، ثم إن المرأة جعلت تحلبها وتبيع الحليب، ثم طلقها قبل الدخول، فالذي يرجع عليه نصف البقرة، ولها اللبن الذي كانت تبيعه؛ لأنه نماء منفصل من عين تملكها كلها.
وقوله: «قبل القبض» فبعد القبض من باب أولى، فالمفهوم هنا مفهوم أولوي، ومعلوم أن المفهوم ثلاثة أقسام: مفهوم موافقة مساوٍ، ومفهوم موافقة أولوي، ومفهوم مخالفة.
فمثلاً: أكل مال اليتيم محرم، وإحراقه أولى؛ لأن الأكل فيه نوع انتفاع، أما هذا ففيه إتلاف وإضاعة مال، فلا انتفع به اليتيم، ولا الذي أحرقه.
وقوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء: 23]، لو قال شخص: ما أثقلكما عليّ وما أشدكما علي، وأنا متضجر منكما غاية التضجر وضربهما، فهذا حرام، وهو مفهوم موافقة أولوي.
وقد زعموا أن الظاهرية لا يرون تحريم ضرب الوالدين، قالوا: لأن الله يقول: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} وهذا الذي ضربهما وما تكلم؛ فلا شيء عليه؛ لأنه ما قال: أفٍ!!
ولكن هذا غير صحيح؛ لأنهم وإن كانوا لا يحرمونه من
جهة الخطاب، إلا أنهم يحرمونه من جهة أخرى وهي العقوق، وهذا من أعظم العقوق، وأما أن يشوَّه هؤلاء بأنهم يبيحون للإنسان أن يضرب والديه، فهذا القول غير صحيح ولا يجوز؛ لأنه تهمة لهم، وبعض الناس يأتي بمثل هذا على سبيل التندر والتنفير عن قولهم، وهذا لا يجوز؛ لأنهم علماء وبعضهم يريد الحق، ولكن ما كل من أراد الحق وفق له.
ومثال مفهوم المخالفة قول ـ النبي صلى الله عليه وسلم: «في كل سائمة إبل»
(1)
، فمفهوم قوله:«سائمة» أن غير السائمة ليس فيها شيء.
قوله: «وضده بضده» يعني أن غير المعين ليس لها نماؤه، وغير المعين يشمل أمرين: ما كان دَيناً في الذمة، وما كان مبهماً في أشياء، فالمبهم في أشياء، مثل شاة من قطيع، أو بعير من إبل، أو قفيز من صبرة طعام، والدين في الذمة مثل عشرة آلاف ريال وله مائة ألف، فلو كسب قبل أن يقبضها العشرة، فليس لها شيء من الكسب والربح، وليس عليها زكاته.
وَإِنْ تَلِفَ فَمِنْ ضَمَانِهَا، إِلاَّ أَنْ يَمْنَعَهَا زَوْجُهَا قَبْضَهُ فَيَضْمَنُهُ، وَلَهَا التَّصَرُّفُ فِيهِ، وَعَلَيْهَا زَكَاتُهُ،
.......
قوله: «وإن تلف» أي: قبل القبض.
قوله: «فمن ضمانها» ، أي: إن تلف المعين قبل قبضها، مثل أن يعين لها بعيراً، فيقول: مهرك هذا البعير، ثم إن البعير مات قبل القبض، فالذي يضمنه هي، ولا شيء على الزوج؛ لأن المهر معين وتلف على ملكها.
(1)
أخرجه أحمد (5/ 2، 4)؛ وأبو داود في الزكاة/ باب في زكاة السائمة (1575)؛ والنسائي في الزكاة/ باب عقوبة مانع الزكاة (5/ 15)؛ وصححه ابن خزيمة (2266)؛ والحاكم (1/ 397)، ووافقه الذهبي، انظر: التلخيص (829).
قوله: «إلا أن يمنعها زوجها قبضه فيضمنه» يعني إذا منعها زوجها قبضه، مثل أن يصدقها بعيراً، فقالت: أعطني إياه، فقال: لا، انتظري، وأبى، ثم تلف فإنه يكون من ضمانه؛ لأنه هو الذي حال بينها وبين قبضه، فصار كالغاصب، وإذا كان غاصباً فعليه ضمانه، ثم عليه ـ أيضاً ـ ضمان كسبه في هذه المدة، فلو فرض أن البعير يؤجر، فعليه مع ضمانه إذا تلف ضمان كسبه؛ لأن لها نماء المعين كما سبق.
وإذا أمهرها ثمر بستانه، فإن كان ظاهراً، فيجوز أن يكون مهراً وإن لم يبد صلاحه، وليس كالبيع؛ لأن البيع عقد معاوضة صرفة، فلا يجوز؛ لنهي النبي عليه الصلاة والسلام عنه
(1)
، أما هذا فيصح، مثل ما قالوا بجواز رهنه، ووقفه، والوصية به، فإن تلف فلها قيمته.
وقوله: «فيضمنُهُ» المتعين فيها الرفع، ولا يجوز النصب؛ لأننا لو قلنا: إنه معطوف على ما سبق صار التقدير إلا أن يمنعها زوجها قبضه، إلا أن يضمنه، وهذا لا يستقيم، وهذه ترد كثيراً في كلام العرب، والحديث، وفي كلام الناس، فإذا كان ما بعد الفاء جواباً لما سبق، أو بياناً لحكمه فإنه لا يكون تبعاً له في الإعراب، بل يكون مرفوعاً على الاستئناف.
قوله: «ولها التصرف فيه» الضمير في قوله: «لها» يعود على
(1)
أخرجه البخاري في الزكاة/ باب من باع ثماره أو نخله أو أرضه
…
(1486)؛ ومسلم في البيوع/ باب النهي عن بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها
…
(1534) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
المهر المعين، فلها أن تتصرف فيه؛ لأنها ملكته، وتتصرف فيه بكل أنواع التصرفات، ببيع، أو تأجير، أو رهن، أو وقف، أو هبة.
قوله: «وعليها زكاته» أي: إذا كان مالاً زكوياً، مثل أن يكون ذهباً أو فضة فإن عليها زكاته من حين العقد؛ لأنه معين، وهنا إشكال؛ لأنه من المعروف أن من شرط وجوب الزكاة استقرار الملك، وملك الزوجة على جميع الصداق ليس مستقراً؛ لأنه عرضة للسقوط، أو سقوط نصفه؛ لأنه إذا طلقها قبل الدخول والخلوة فليس لها إلا نصف المهر، فكيف تلزم بزكاة المهر كاملاً؟!
المذهب يقولون: الطلاق عارض، والأصل بقاء العقد، والطلاق الذي يسقط النصف أمر نادر، فلا عبرة به، ومن ثم ذهب الأصحاب رحمهم الله إلى أن الزوجة لا تملك إلا نصفه فقط، والباقي يكون مراعى، فإن ثبت ما يقرر المهر تبين أنها ملكته جميعه، وإلا فالنصف هو المتيقن، وهذا القول له وجهة نظر قوية؛ لأنه وإن كان الطلاق قبل الدخول نادراً لكنه واقع، فما دام عرضة للسقوط ففي إيجاب الزكاة فيه نظر، وعلى هذا فالمسألة فيها قولان:
الأول: أنها تملك جميعه، ولها أن تتصرف فيه، وعليها زكاته.
الثاني: أنها لا تملك إلا نصفه، فتثبت هذه الأحكام في النصف، وتنتفي في النصف الثاني حتى يتبين استقرار المهر، فإذا تبين استقراره فعلى ما استقر.
مثال ذلك: رجل أصدق امرأة عشرة آلاف ريال معينة، ثم مضى عليها حول كامل ولم يدخل عليها، فالمذهب تزكي عشرة آلاف الريال كلها، يعني مائتين وخمسين ريالاً.
والقول الثاني: إن دخل عليها استقر المهر، فعليها الزكاة كاملة، وإلا فلو طلق فعليها نصف الزكاة، والنصف الثاني على الزوج؛ لأنه تبين أنها لا تملك إلا النصف.
وعلى المذهب إذا طلق قبل الدخول وقد أخرجت الزكاة، وبقي عندها تسعة آلاف وسبعمائة وخمسون ريالاً، تعطي الزوج خمسة آلاف كاملة، ويكون نقص الزكاة عليها.
وَإِنْ طَلَّقَ قَبْلَ الدُّخُولِ، أَوِ الخَلْوَةِ فَلَهُ نِصْفُهُ حُكْماً دُونَ نَمَائِهِ المُنْفَصِلِ، وَفِي المُتَّصِلِ لَهُ نِصْفُ قِيمَتِهِ بِدُونِ نَمَائِهِ،
..........
قوله: «وإن طلق قبل الدخول أو الخلوة فله نصفه حكماً» ، هذه المسألة فيما ينصف الصداق، والمراد بالدخول هنا الجماع، فإذا طلقها قبل الدخول فلها النصف.
وقوله: «أو الخلوة» ، أي: أو قبل الخلوة فلها النصف كذلك، والمراد بالخلوة انفراده بها عن مميز، بمعنى أن يخلو بها في مكان ليس عندهما من يميز ويعرف؛ لأنه في هذه الحال يستطيع أن يقبلها، وأن يجامعها، وإذا كان عندها صبي في المهد فوجوده كعدمه؛ لأنه لو فعلا ما فعلا لا يدري، لكن لو كان عندهما صبي مميز وذكي ونبيه، فهذه ليست خلوة؛ لأن الزوج لا يستطيع أن يفعل شيئاً؛ إذ إن هنا عيناً عليه، أي: جاسوساً.
وقال بعض أهل العلم: إذا اتفق الزوجان على عدم حصول الجماع فإن الخلوة لا توجب المهر؛ لأن الأصل في أن الخلوة أوجبت المهر أنها مظنة الوطء، ولهذا اشترطنا أن لا يكون عندهما
مميز، وهذا القول هو ظاهر القرآن، قال الله سبحانه وتعالى:{وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237]، فظاهر قوله:{مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} أنه لو خلا بها بدون مس فلا شيء لها.
وقوله: «حكماً» أي أنه يدخل في ملكه شاء أم أبى، فهو ضد الاختيار، يعني له نصفه اختار أم لم يختر، مثل الميراث إذا مات الإنسان عن أخته الشقيقة مثلاً، فلها نصف المال رضيت أم أبت، فهذا كذلك إذا طلق فله نصفه حكماً ـ أي: قهراً ـ والدليل قوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237]، فقوله:{فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} لكم أو عليكم لهن، إلا {أَنْ يَعْفُونَ} أي النساء، والنون ضمير النسوة، ولهذا يلغز بهذه المسألة على المبتدئين في النحو، ولو كان من الأفعال الخمسة لقال: إلا أن يعفوا.
وقوله تعالى: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} قيل: الولي، وقيل: الزوج، والصحيح أنه الزوج، فهو الذي بيده عقدة النكاح، إذا شاء حلها، ويكون المعنى إلا أن يعفو الزوجات أو يعفو الأزواج، فإن عفا الزوج صار الكل للزوجة، وإن عفت الزوجة صار الكل للزوج.
إذاً قوله تعالى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} يصلح لكم وعليكم، وهذا من بلاغة القرآن، لأن المهر قد يكون مقبوضاً، وقد يكون غير مقبوض، فإن كانت قبضته فَقَدِّرْ:«فنصف ما فرضتم لكم»
حتى يأخذه، وإن كانت لم تقبضه فقدر:«فنصف ما فرضتم عليكم» لأجل أن تأخذه.
وقوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} أي: تجامعوهن، فعلق الله سبحانه وتعالى الحكم بالجماع، ونحن نقول: قبل الدخول والخلوة، ومعنى ذلك أنه إذا خلا بها ولم يجامع فلها النصف.
فإذا قال قائل: كيف يكون لها النصف، والآية علقت الحكم بالجماع؟ ولا شك أن هناك فرقاً ظاهراً بين الجماع والخلوة، فالجماع تلذذ بها، واستمتع بها، واستحل فرجها، فاستحقت المهر، لكن مجرد الخلوة لم يحصل له بها العوض كاملاً، فكيف تكون موجبة؟!
نقول: إن أكثر أهل العلم على هذا الرأي، وحكي إجماع الصحابة رضي الله عنهم على ذلك، أنه إذا خلا بها فلها المهر كاملاً، فجعلوا الخلوة كالجماع، وقد ذكر عن الإمام أحمد رواية ينبغي أن تكون قاعدة، قال: لأنه استحل منها ما لا يحل لغيره، ولهذا قالوا: لو مسَّها بشهوة، أو نظر إلى شيء لا ينظر إليه إلا الزوج كالفرج، فإنها تستحق المهر كاملاً؛ لأنه استحل منها ما لا يحل لغيره، وهذه الرواية هي المذهب، وهي أنه إذا استحل الزوج من امرأته ما لا يحل لغيره من جماع، أو خلوة، أو لمس، أو تقبيل، أو نظر إلى ما لا ينظر إليه سواه، كالفرج، فإن المهر يتقرر كاملاً.
وذهب بعض أهل العلم إلى أن المهر يتقرر كاملاً بالجماع
فقط، وقال: إن هذا ظاهر القرآن فلنأخذ به، ولكن في النفس من هذا شيء؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم أعلم منا بمقاصد القرآن، لا سيما في الأحكام الشرعية؛ لأن القرآن نزل في وقتهم وبلغتهم، وفهموه على ما يذهبون إليه، وهذا قول جمهور أهل العلم أن الخلوة تلحق بالجماع.
وقوله: «حكماً» أي: قهراً، وقال بعض العلماء: إنه يدخل في ملكه اختياراً، إن شاء أخذ، وإن شاء لم يأخذ، واستدل بالآية:{إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ} .
والذين قالوا: إنه يدخل في ملكه قهراً استدلوا بالآية، وقالوا: لا عفو إلا عن واجب، فإذا وجب فنعفو، أما إذا لم يدخل مُلْكَنَا فكيف نعفو؟! وهذا أقرب، فإذا وجب لي على المرأة النصف عفوت، وإذا وجب لها النصف عليَّ عفت.
يبقى النظر إذا عفا الإنسان عن حقه الواجب، فهل يسقط عن المعفو عنه، رضي أو لم يرضَ، أو لا بد من القبول؟
مثال ذلك: رجل يطلب شخصاً مائة ريال، فقال له: قد عفوت عنك وأبرأتك، فقال المعفو عنه: لا أقبل، فهل يلزمه أو لا؟ المذهب يلزم، فإذا أبرأ غريمه من ذمته لزمه، قَبِل أم لم يقبل؛ لأن هذا هبة أوصاف، كما لو كنت أطلبك مائة صاع بر وسط، وأتيتني بمائة صاع بُرٍّ طيب، فهل يلزمني أن أقبل؟ المذهب يلزمني أن أقبل، والقول الثاني: أنه لا يلزم خشية المنة.
المهم أن هذه المسألة وهي هبة الأوصاف، المذهب لا يشترط فيها القبول، وهي مسألتنا هذه، والقول الثاني: أنه لا بد
من القبول؛ لأنه لا يمكن أن يدخل شيء ملك أحد ما لم يقبل، أو يسقط عن أحد ما لا يقبل إسقاطه.
والحقيقة أن هذه يمكن أن تكون مفتاحاً للمنة على الموهوب له، وللمنة على المُبرَأ، فالقول بأنه لا يدخل ملكه إلا برضاه أقرب للصواب.
والخلاصة: أن المهر ينتصف بكل فرقة من قبل الزوج قبل الدخول والخلوة، أو المس لشهوة، أو النظر لما لا ينظر إليه إلا الزوج.
قوله: «دون نمائه المنفصل» أي: أن النماء المنفصل يكون للزوجة، مثال ذلك: امرأة أمهرها زوجها بعيراً فولدت البعير ولداً، فإنه يكون للزوجة خاصة؛ لأنه نماء منفصل، وكذلك لو كان بيتاً أجر، وحصل منه أجرة بين العقد والدخول، فالأجرة تكون للزوجة.
وقوله: «دون نمائه المنفصل» من متى؟ من العقد إلى الطلاق، وأما ما كان بعد الطلاق فهو بينهما جميعاً.
مثال ذلك: رجل أصدق زوجته شاة، وولدت الشاة قبل أن يطلق، فالولد واللبن للزوجة، فإذا طلق فإن اللبن الناتج بعد الطلاق يكون بينهما أنصافاً؛ لأنه نماء لملكهما جميعاً، ومثله البيت إذا أصدقه امرأة، وأُجِّر، فالأجرة بعد العقد للزوجة، ثم إذا طلق تكون الأجرة بينهما نصفين.
قوله: «وفي المتصل له نصف قيمته بدون نمائه» مثال ذلك:
أصدقها عبداً مملوكاً لا يقرأ ولا يكتب، ثم إنه تعلم وصار يقرأ ويكتب، ثم طلق، وتعلم هذه الأمور من النماء المتصل، فيكون للزوج بعد الطلاق نصف قيمة العبد بدون نمائه، فينظر إلى نصف قيمته يوم العقد قبل أن يتعلم، فمثلاً يوم دفعه للمرأة كان يساوي عشرة آلاف ريال، ثم صار يساوي مائة ألف ريال، فيكون للزوج خمسة آلاف ريال، ومثل لو أصدقها شاة هزيلة، ثم سمنت، ثم طلق، فينظر إلى قيمتها وقت العقد ويعطى الزوج نصفها، ومثله الحمل ما دام لم يخرج.
فالقاعدة: أن النماء المتصل والمنفصل كله للزوجة، لكن المنفصل تأخذه، ويبقى الأصل بينها وبين الزوج، والمتصل يُقَوَّم المهر غير زائد وذلك بقيمته وقت العقد، ويعطى الزوج نصف هذه القيمة.
وَإِنِ اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ، أَوْ وَرَثَتُهُمَا فِي قَدْرِ الصَّدَاقِ، أَوْ عَيْنِهِ، أَوْ فِيمَا يَسْتَقِرُّ بِهِ فَقَوْلُهُ، وفِي قَبْضِهِ فَقَوْلُهَا.
قوله: «وإن اختلف الزوجان أو ورثتهما في قدر الصداق» ، هذه مسائل الخلاف، ويجب أن نعلم أن مسائل الخلاف يقبل فيها قول مَنْ الأصل معه، إلا أن يكون الظاهر أقوى من الأصل فيغلَّب الظاهر، وهذا هو الضابط.
فالأصل في جميع الاختلافات، سواء في البيع، أو الإجارة، أو الصداق، أو الرهن، أو غيرها، أن يقبل قول مَنْ الأصل معه، إلا أن يكون هناك ظاهر يغلب على الأصل فيغلب الظاهر.
ثم إذا قلنا: القول قوله فلا بد من اليمين، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«اليمين على من أنكر»
(1)
، فاعرف هذا الضابط، ونزِّل عليه جميع
(1)
سبق تخريجه ص (204).
مسائل الاختلاف، ثم إن شذَّ شيء عن هذا الضابط فلا بد أن يكون له سبب، فإن لم يكن له سبب يخرجه عن هذا الضابط فلا تخرجه، ودليل هذا الضابط قول النبي صلى الله عليه وسلم:«البينة على المدعي واليمين على من أنكر»
(1)
، لأن الذي أنكر معه الأصل، وهو براءة ذمته، فإن اختلف الزوجان أو ورثتهما بعد موتهما، مثل أن يقول الزوج: أصدقتك مائة، فتقول الزوجة: بل مائتين، فالقول قول الزوج أو ورثته؛ لأنهما اتفقا على المائة واختلفا في الزائد، فمن ادعاه فعليه البينة، ومن أنكره فعليه اليمين.
والدليل من العقل أن الزوج غارم، فالقول قوله في نفي ما يستلزم الغرم إلا ببينة، فنقول للمرأة: هات بينة على أن الصداق مائتان، وإلا فالزوج يحلف ويعطيك مائة.
مثال آخر: قال الزوج: أصدقتك مائتين، وقالت الزوجة: بل مائة، فإذا قلنا: القول قول الزوج، ألزمنا الزوجة بقبول المائة، والصواب أننا لا نلزم الزوجة بالزيادة إلا إذا أتى بدليل، وهذا مثل ما لو قال شخص لآخر: عليَّ لك مائة، فقال الدائن: بل خمسون، فلا نلزمه بقبول المائة.
وهذه الدعوى في الحقيقة نادرة، أن يدعي الزوج أكثر مما تقر به الزوجة، فإن وقعت فالقول قول الزوجة؛ لأن الأصل عدم صحة ما يدعيه إلا ببينة.
قوله: «أو عينه» أي: اختلف الزوجان أو ورثتهما في عين الصداق، يعني قالت: أصدقتني هذه البعير، فقال: بل هذه
(1)
سبق تخريجه ص (204).
البعير، قالت: أصدقتني هذا البيت، قال: بل هذا البيت (لبيت آخر) فالقول قول الزوج، وعلى هذا فنلزمها بما قال؛ لأن الأصل عدم صحة ما تدعيه، هكذا قال الفقهاء، وهذه المسألة غير الأولى، الأولى اختلفا في القدر، فيكونان قد اتفقا على الأقل، وأما هنا فلم يتفقا على شيء، كل واحد منهما يقول قولاً غير قول الآخر، ومع ذلك يقولون: القول قول الزوج فيحلف، وليس لها سوى ما قال، ولكن ينبغي أن يقال: إنه يقبل قوله ما لم يدع شيئاً دون مهر المثل، فإنه لا ينبغي أن يقبل، يعني لو عينت شيئاً يمكن أن يكون مهر مثلها، وعيَّن هو شيئاً دون مهر مثلها فلا شك أن القول قولها.
فهذه المرأة مثلاً مهر مثلها خمسون ألفاً، وقالت: إنك أصدقتني هذا البيت وقيمته خمسون ألفاً أو قريباً منها، وقال: بل أصدقتك هذا البيت وهو لا يساوي إلا عشرين ألفاً، فالأقرب للصواب قولها هي، فينبغي أن يقال: إن كلام المؤلف على إطلاقه فيه نظر، فينظر إلى ما هو أقرب إلى مهر المثل؛ لأن القرينة ـ إذا لم تكن بينة ـ حجة شرعية، فسليمان عليه الصلاة والسلام لما تحكامت إليه المرأتان في الولد، قال: أشقه بينكما نصفين، فالكبرى قالت: نعم، والصغرى قالت: لا، فقضى به للصغرى بدون بينة
(1)
.
(1)
أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء/ باب {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأَيْدِ} (3427)؛ ومسلم في الأقضية/ باب اختلاف المجتهدين (1720) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
قوله: «أو فيما يستقر به فقوله» تقدم لنا أن المهر يستقر بالوطء، والخلوة، والتقبيل، واللمس لشهوة، والنظر، يعني استباحة ما لا يحل إلا للزوج، والموت كما سيأتي.
فإذا قالت الزوجة: إنك خلوت بي، وقال الزوج: لم أخلُ، فالصداق ثابت، فالزوجة تقول: إنه خلا حتى تأخذ المهر كاملاً، وهو يقول: لم أخلُ حتى تأخذ النصف، فالقول قول الزوج؛ لأن الأصل عدم الدخول والخلوة، فإن وجدت قرينة على الدخول كإقامة حفل الزواج، ثم ادعى أنه ما دخل، فالقول قول الزوجة بالقرينة، وهذا ذكره ابن رجب في القواعد، قال: إذا تعارض الأصل والظاهر فأيهما يقدم؟
قال: إن كان الظاهر حجة شرعية قدم الظاهر، وإن لم يكن حجة شرعية فينظر أيهما أقوى.
قوله: «وفي قبضِهِ فقولُها» أي اختلفا في قبض المهر بأن قال الزوج: قد أقبضتك المهر، وقالت الزوجة: لا، لم تقبضني شيئاً، فالقول قولها؛ لأن الأصل عدم القبض، ويقال للزوج: إيت بشهود على أنك أقبضتها.
وهذا ـ أيضاً ـ ينظر فيه إلى القرائن، فعندنا ـ مثلاً ـ هنا في نَجْدٍ المهر مقدم، فلو أنها طالبته بعد الدخول، وقالت: أعطني المهر، فقال: قد سلَّمته لك قبل الدخول، فالقول قول الزوج؛ لأن هذا هو الظاهر، فالأصل ليس مقدماً دائماً، فلو أن امرأة عند زوجها في بيته، ويوم طلقها قالت: أريد منك النفقة، أنا لي معك عشر سنوات، وأنت لا تنفق علي، أنا كنت أنفق من مالي، أو
أهلي ينفقون علي، فالأصل عدم النفقة، ولكن عندنا ظاهر أقوى من هذا الأصل، ولهذا شُدِّد الإنكار على من قال من أهل العلم: إنها إذا ادعت أنه لا ينفق أنه يلزم بالنفقة لما مضى، وقالوا: إن هذا القول لا يقبله العرف، ولا يقره الشرع، فهل من العادة أن المرأة تبقى مدة طويلة عند زوجها، ثم تأتي وتقول: إنك لم تنفق علي؟! فهذا بعيد.
ولهذا يجب أن يعرف طالب العلم أن الأصل ليس مقدماً دائماً، فقد يكون هناك ظاهر أقوى من الأصل فيقدم عليه، سواء فيما ذكره المؤلف هنا، أو ما سيذكره في باب الدعاوى.
فَصْلٌ
يَصِحُّ تَفْوِيضُ البُضْعِ بِأَنْ يُزَوِّجَ الرَّجُلُ ابْنَتَهُ المُجْبَرَةَ، أَوْ تَأْذَنَ امْرَأَةٌ لِوَلِيِّهَا أَنْ يُزَوِّجَهَا بِلَا مَهْرٍ،
.........
قوله: «يصح تفويض البضع» ، هذا الفصل يسمونه فصل المُفوِّضة، والتفويض نوعان:
أولاً: تفويض البضع ـ أي: الفرج ـ وذلك بأن يزوج الرجل ابنته المجبرة، أو تأذن امرأة لوليها أن يزوجها بلا مهر، أي: بدون تسمية مهر، كأن الولي فوض إلى الزوج بضع هذه المرأة دون أن يذكر عوضه.
قوله: «بأن يزوج الرجل ابنته المجبرة» ، قوله:«المجبرة» ينبغي أن يُلاحظ أنه على القول الصحيح لا إجبار، لكن على المذهب تقدم أن الأب يجوز له أن يجبر البكر.
قوله: «أو تأذن امرأة لوليها أن يزوجها بلا مهر» فيصح العقد، ولكن لا بد أن تكون رشيدة، مثال ذلك: رجل قال لآخر: زوجني ابنتك وشاوَرَ البنت ورضيت، فقال: زوجتك ابنتي، فقال: قبلت، ولم يتكلموا عن المهر، فهذا يسمى تفويض البضع، وهذا يمكن أن يقع، والفائدة منه أن بعض الناس يمكن أن يستحي أن يقول للخاطب: كم تعطني من المهر؟ فإجلالاً له واحتراماً يزوجه، ولا يتكلم في المهر إطلاقاً، فيجب لها مهر المثل، ودليل ذلك قوله تعالى:{لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 236].
فأباح الله لنا أن لا نفرض لهن فريضة، وهذا هو تفويض البضع، فإذا حصل الدخول قبل أن يَفرض المهر فالواجب مهر
المثل، وإن طلقها قبل الدخول فلها المتعة، لقوله تعالى في هذه الآية:{وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236] وسيأتينا أن القاضي هو الذي يتولى تقدير المتعة على حسب حال الزوج من غنى وفقر.
ثانياً: تفويض المهر، بأن يذكر المهر دون تعيين، فقال المؤلف:
وَتَفْوِيضُ المَهْرِ بِأَنْ يُزَوِّجَهَا عَلَى مَا يَشَاءُ أَحَدُهُمَا أَوْ أَجْنَبِيٌّ،
.........
«وتفويض المهر بأن يزوجها على ما يشاء أحدهما أو أجنبي» مثاله: إنسان خطب من شخص ابنته، ورضي، فقال الخاطب كم تريد مهراً؟ قال: الذي تريد، أو قال الولي للخاطب: كم ستعطني من المهر؟ فقال: الذي تريده ابنتك، ففي الأول المهر مفوض للخاطب، وفي الثاني المهر مفوض للولي.
أو قال الولي: كم ستعطينا مهراً فإن جدها رجل شحيح، فقال الخاطب: الذي يريده جدها، فهنا المفوض إليه أجنبي؛ لأن المراد بالأجنبي هنا غير الولي، والجد لا ولاية له مع وجود الأب.
وما الذي يحمل الإنسان على أن يجعل المهر مفوضاً؟
الجواب: إما إكراماً للزوج، أو أن الزوج مشفق أن يتزوج من هذه القبيلة، ويقول: الذي تريدونه افرضوه.
والفرق بين تفويض البضع وتفويض المهر، أن تفويض البضع لا يذكر فيه المهر إطلاقاً، وتفويض المهر يذكر ولكن لا يعين، لا قدره ولا جنسه ولا نوعه.
في تفويض المهر إذا حصل الدخول يقول المؤلف:
«فلها مهر المثل بالعقد» فيكون ذاك التفويض لا فائدة له، فهذا الرجل دخل على الزوجة بتفويض المهر، فلما كان الصبح أتى بمهر المثل، فقال أولياء المرأة: أنت تقول المهر ما تريده الزوجة، والزوجة تريد بيتاً، وسيارة، وخادماً، فيقول: ما لها إلا مهر المثل، ولو كانت تريد هذه الأشياء لِمَ لمْ تشترطوها عند العقد؟!
ووجه كوننا نرجع لمهر المثل أن هذه التسمية غير صحيحة لرسوخها في الجهالة؛ لأننا إذا قلنا: ما تريده، فما الذي تريده قدراً، وجنساً، ونوعاً؟! فهو مبهم إبهاماً عظيماً، والمبهم إلى هذا الحد ليس بشيء، فنرجع إلى مهر المثل.
فَلَهَا مَهْرُ المِثْلِ بِالعَقْدِ، وَيَفْرِضُهُ الْحَاكِمُ بِقَدْرِهِ، وَإِنْ تَرَاضَيَا قَبْلَهُ جَازَ،
وقوله: «فلها مهر المثل بالعقد» في كلا التفويضين، في مفوضة البضع لها مهر المثل بالدخول، ولها المتعةُ إذا طلقت قبل الدخول بنص القرآن، وفي مفوضة المهر لها مهر المثل إذا طلقت بعد الدخول؛ لأن القاعدة أنه إذا بطل المسمى فلها مهر المثل، وهنا مهر المثل باطل لعدم العلم به.
فإذا طلقها قبل الدخول فالمذهب قالوا: إن لها المتعة؛ لأن التسمية الفاسدة كعدمها؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل»
(1)
وإذا بطل لم يكن له أثر، وعلى هذا تكون التسمية كلا تسمية، فيلزمه المتعة لقوله تعالى:{وَمَتِّعُوهُنَّ} [البقرة: 236].
(1)
سبق تخريجه ص (164).
والقول الثاني في المسألة: أن لها نصف مهر المثل؛ لأن المهر أشير إليه وفرضت الفريضة، ولكن ما عينت، والذي في القرآن:{أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 236] وهنا فرضت، فقيل: بمهر، ولكن ما عُين.
وعند التأمل في التعليلين يظهر أن المذهب أقوى؛ لأنه مدعوم بالدليل، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:«كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل» ، وهذا باطل لفساد تسميته، والباطل شرعاً كالمعدوم حساً، وحينئذٍ نرجع إلى أنه لا تسمية، فيكون لها المتعة.
وقوله: «بالعقد» أي: بمجرد العقد، لا بالتفويض.
قوله: «ويفرضه الحاكم» أي: مهر المثل، والحاكم المراد به القاضي، واعلم أن بعض أهل العلم كره أن يقال للقاضي: الحاكم، لقوله تعالى:{إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الأنعام: 57] وهذا القول ليس بصحيح، بل الصحيح أنه يجوز، وقد دل عليه القرآن، قال تعالى:{وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ} [المائدة: 42]، ومعلوم أنه إذا قيل: حكم فلان، فاسم الفاعل من حكم حاكم، ولا شك في جوازه، ولذلك الفقهاء يكادون يجمعون على التعبير بلفظ الحاكم.
وإنما جعلنا الفرض للحاكم؛ لئلا يقع النزاع بينهما، فيقول الزوج: مهر المثل ألف ريال، وهي تقول: مهر المثل ألفان.
قوله: «بقدره» أي: بقدر هذا المهر؛ لأنه إن زاد أجحف بالزوج، وإن نقص أجحف بالمرأة، ويراعى في ذلك حال الزوجة، والزوج لا عبرة به، فلو كانت هي غنية، حسيبة،
متعلمة، ديِّنة، بكراً، والزوج فقير، فيفرض المهر على حسب حال الزوجة؛ لأنه عوض عن بضعها.
قوله: «وإن تراضيا قبله جاز» أي: إن اتفقا عليه بدون الرجوع إلى الحاكم فالحق لهما، أي: لا بأس، فلو قالا: لن نذهب إلى القاضي، ونتفق فيما بيننا، فقال الزوج: المهر ألف، وقالت هي: بل ألفان، وتوسط أناس وقالوا: ألف وخمسمائة، وما أشبه ذلك، فلا حرج؛ لأن الحق لا يعدوهما.
وَيَصِحُّ إِبْرَاؤُهَا مِنْ مَهْرِ المِثلِ قَبْلَ فَرْضِهِ، وَمَنْ مَاتَ مِنْهُمَا قَبْلَ الإِصَابَةِ وَالفَرْضِ وَرِثَهُ الآخَرُ، وَلَهَا مَهْرُ نِسَائِهَا،
..........
قوله: «ويصح إبراؤها من مهر المثل قبل فرضه»
(1)
.
قوله: «ومن مات منهما» أي: من الزوجين.
قوله: «قبل الإصابة» أي: الجماع، والخلوة ملحقة به.
قوله: «والفرض» أي: فرض مهر المثل.
قوله: «ورثه الآخر، ولها مهر نسائها» ، فلو فرضنا أن رجلاً عقد على امرأة مفوضة، سواء تفويض بضع، أو مهر، ثم مات، فهنا نسأل عن ثلاثة أشياء:
الأول: هل يجب لها مهر؟
الثاني: هل لها ميراث؟
الثالث: هل تجب عليها عدة؟
(1)
لم يتعرض الشيخ رحمه الله لشرحها، قال في الروض المربع: لأنه حق لها، فهي مخيرة بين إبقائه وإسقاطه (6/ 398).
أما الميراث فإنها ترث من هذا الزوج بإجماع أهل العلم؛ لأنها زوجة، وقد قال الله تعالى:{وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ} [النساء: 12].
وأما العدة فكذلك تجب عليها لعموم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234].
وأما المهر فجمهور أهل العلم على وجوبه للزوجة، فتأخذه أولاً من التركة ثم تدلي بميراثها؛ لأنه مات عنها وثبتت لها أحكام الزوجات من العدة والميراث، فيجب أن يثبت لها المهر، فيجب له مهر نسائها؛ وقد ثبت في قصة بروع
(1)
بنت واشق رضي الله عنها أن الرسول صلى الله عليه وسلم قضى فيها بأن عليها العدة ولها مهر مثلها والميراث
(2)
، وقال الإمام الشافعي: لو ثبت الحديث لقلت به، والحديث قد ثبت، وإذا كان ثابتاً فيكون هو مذهب الشافعي أيضاً؛ لأنه علق القول به على ثبوته، فإذا وجد الشرط ثبت المشروط، والقياس يقتضي ذلك؛ لأن المرأة ستعتد له فتكون محبوسة له، وترث بالإجماع.
وَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَهَا المُتْعَةُ بِقَدْرِ يُسْرِ زَوْجِهَا وَعُسْرِهِ، وَيَسْتَقِرُّ مَهْرُ المِثْلِ بِالدُّخُولِ،
.........
قوله: «وإن طلقها» الضمير يعود على المفوّضة، ويلحق بها مَنْ مهرها فاسد؛ لأنه سبق أنه إن بطل المسمى وجب لها مهر المثل.
قوله: «قبل الدخول» هذا فيه شيء من القصور في الواقع؛
(1)
قال في القاموس: بَرْوَع بالفتح كجَدْوَل، وهو عند المحدثين بالكسر.
(2)
سبق تخريجه ص (266).
لأنه تقدم لنا أن الخلوة، والنظر إلى فرجها، ومسها، وتقبيلها بشهوة يثبت المهر، ولو قال المؤلف: وإن طلقها قبل استقرار المهر، أو قبل وجود ما يستقر به المهر لكان أحسن وأشمل.
قوله: «فلها المتعة بقدر يسر زوجها وعسره» ، لقوله تعالى:{لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ} [البقرة: 236]، فيجب أن يمتِّعها وجوباً، والله ـ تعالى ـ قدر المتعة بحسب حال الزوج، الموسع الغني، والمقتر الفقير المعسر.
قال الفقهاء: أعلاها خادم، يعني يشتري لها مملوكة تخدمها، وأدناها كسوة تستر عورتها في الصلاة، وهذا الذي ذكروه قد يكون موافقاً لواقعهم، لكن الله ـ سبحانه ـ في القرآن ما قدرها بهذا، ومعلوم أن هناك فرقاً عظيماً بين الخادم والكسوة التي تستر عورتها، فالخادم ربما يساوي أكثر من مهر المثل ثلاث مرات، أو أربعة، والكسوة في الصلاة ليست بشيء، وعلى كل حال فقوله تعالى:{عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} تنبني في كل زمان ومكان على حسب ما يليق، يقال للغني: يفرض عليك شيء بقدرك، ويقال للفقير: يفرض عليك شيء بقدرك.
قوله: «ويستقر مهر المثل بالدخول» هذا ذِكرٌ لما يستقر به المهر، وتقدم أنه يستقر بالموت، وهنا ذكر الدخول وهو الجماع، وكذلك بالخلوة، والدليل قوله تعالى:{وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237]
ويستقر ـ أيضاً ـ بلمسها، وتقبيلها ولو بحضرة الناس، وبالنظر إلى فرجها، وقد تقدم عن الإمام أحمد رحمه الله، عبارة جامعة: إذا استحل منها ما لا يحل إلا لزوجها فقد استقر المهر.
وَإِنْ طَلَّقَهَا بَعْدَهُ فَلَا مُتْعَةَ، وَإِذَا افْتَرَقَا فِي الفَاسِدِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَالخَلْوَةِ فَلَا مَهْرَ، وَبَعْدَ أَحَدِهِمَا يَجِبُ الْمُسَمَّى، وَيَجِبُ مَهْرُ المِثْلِ لِمَنْ وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ ........
قوله: «وإن طلقها» أي: إن طلقها الزوج، سواء كانت مفوضة أو غير مفوضة.
قوله: «بعده» الضمير يرجع إلى الدخول، ولو قال المؤلف: بعدما يقرر المهر، من دخول، أو خلوة، أو لمس، أو نظر لفرجها لكان أشمل.
قوله: «فلا متعة» لها؛ اكتفاء بالمهر، ولا حاجة للمتعة، ومع ذلك تستحب المتعة للمطلقة ولو بعد الدخول؛ لأنه ثبت المهر بالدخول، واستحبت المتعة بالطلاق، إذ إن الطلاق ـ ولا سيما إذا كانت المرأة راغبة في زوجها ـ فيه كسر لقلبها، وضيق لصدرها، فكان من الحكمة أن تجبر بمتعة، فالمذهب أن المتعة لا تجب إلا لمن طلقت قبل الدخول، ولم يفرض لها مهر، وأما المطلقة بعد الدخول فلا متعة لها؛ لأن لها مهراً، إما المسمى إن سُمِّي، وإما مهر المثل.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: تجب المتعة لكل مطلقة، حتى بعد الدخول، واستدل بقوله تعالى:{وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ *} [البقرة] والمطلقات عام، وأكد الاستحقاق بقوله:{حَقًّا} أي: أحقه حقاً، وأكَدَّه بمؤكد ثانٍ وهو قوله:{عَلَى الْمُتَّقِينَ} ، فدل هذا على أن القيام به من تقوى الله، وتقوى الله واجبة، وما قاله الشيخ رحمه الله قوي
جداً فيما إذا طالت المدة، أما إذا طلقها في الحال فهنا نقول:
أولاً: أن تعلق المرأة بالرجل في المدة اليسيرة قليل جداً.
ثانياً: أن المهر حتى الآن لم يفارق يدها، فقد أُعطيته قريباً.
أما إذا طالت المدة سنة، أو سنتين، أو أشهراً، فهنا يتجه ما قاله شيخ الإسلام رحمه الله فيكون هذا القول وسطاً بين قولين، الاستحباب مطلقاً، والوجوب مطلقاً، وهذا هو الراجح.
والخلاصة: أن المهر يستقر بما يلي:
أولاً: الموت.
ثانياً: الدخول بها، أي: جماعها.
ثالثاً: أن يستحل منها ما لا يستحله إلا الزوج من التقبيل، واللمس، والنظر للفرج، وما أشبه ذلك.
رابعاً: الخلوة عن مميز ممن يطأ مثله بمثله، أي بامرأة يوطأ مثلها.
ويجب مهر المثل إذا كان المسمى فاسداً، أو لم يسمَّ لها مهر.
وتجب المتعة إذا طلقها قبل ما يتقرر به المهر، ولم يسمَّ لها مهر، أو سمى لها مهراً فاسداً.
ويجب نصف المهر إذا طلقها قبل ما يتقرر به المهر، وسمى لها صداقاً.
ويسقط إذا كانت الفرقة من قبلها قبل أن يتقرر المهر.
قوله: «وإذا افترقا في الفاسد قبل الدخول والخلوة فلا مهر» اعلم أن النكاح الفاسد غير الباطل، وهذا مما يختص به النكاح عند الحنابلة، فإنهم لا يفرقون بين الفاسد والباطل إلا في موضعين: أحدهما: هنا في باب النكاح، والثاني: في باب الحج، ففي باب الحج قالوا: إن الفاسد في الحج هو الذي جامع فيه قبل التحلل الأول، ويمضي فيه، والباطل هو الذي ارتد فيه، كحاج استهزأ بآيات الله فصار مرتداً، وبطل حجه.
والفاسد في النكاح ما اختلف العلماء في فساده، والباطل ما أجمعوا على فساده، كنكاح الأخت، كرجل تزوج امرأة، ثم تبين أنها أخته من الرضاع فالنكاح باطل؛ لأن العلماء مجمعون على فساده، ومثال الفاسد النكاح بلا ولي، أو بلا شهود، أو نكاح امرأة رضعت من أمه مرة أو مرتين أو ثلاثاً أو أربعاً.
وقوله: «وإذا افترقا في الفاسد» أي في النكاح الفاسد «قبل الدخول والخلوة» أي قبل تقرر المهر «فلا مهر» .
مثال ذلك: رجل تزوج امرأة بدون ولي، ثم قيل له: إن هذا النكاح ليس بصحيح، فطلقها قبل الدخول والخلوة، فلا شيء لها؛ لأن العقد الفاسد وجوده كعدمه لا أثر له.
وهل يلزم بالطلاق؟ نعم يلزم مراعاةً للخلاف؛ لأن بعض العلماء يرى أن النكاح بلا ولي صحيح، فقد يأتي رجل ليتزوجها وهو يرى صحة النكاح بلا ولي، فيقول: هذه إلى الآن في ذمة الزوج الأول، ولذلك يجبر الزوج على الطلاق، فإن أبى فإن القاضي يطلق عليه أو يفسخ.
قوله: «وبعد أحدهما» أي: الدخول أو الخلوة.
قوله: «يجب المسمى» أي المعين، أما بعد الدخول فقد يقال: إن كلام المؤلف صحيح فيجب المسمى، وبعض العلماء يقول: إنه لا يجب المسمى وإنما يجب مهر المثل؛ لأن العقد فاسد، وما ترتب عليه فاسد، فهذه امرأة وطئت بشبهة فلها مهر المثل، والمذهب أنه يجب لها المسمى؛ لأنهما اتفقا على استحلال هذا الفرج بهذا العوض المسمى فيجب، ولكن بعد الخلوة لماذا يجب لها المسمى؟ قالوا في التعليل: إلحاقاً للعقد الفاسد بالصحيح، ولكن هذا القياس غير صحيح؛ لأن من شرط القياس تساوي الأصل والفرع، فكيف نلحق الفاسد بالصحيح؟! ولذلك اختار الموفق وجماعة من الأصحاب أنه لا يجب لها شيء بالخلوة؛ لأن هذا عقد فاسد، لا أثر له، وهو كما لو خلا بامرأة لم يعقد عليها، وهذا القول هو الصحيح أن الخلوة في العقد الفاسد لا توجب شيئاً؛ لأنه لا يمكن إلحاق الفاسد بالصحيح.
قوله: «ويجب مهر المثل لمن وطئت بشبهة» فإذا وطئت امرأة بشبهة، سواء شبهة عقد أو شبهة اعتقاد، فلها مهر المثل؛ لأن الزوج جامعها معتقداً أن هذا الجماع حلال، فوجب مقتضاه وهو مهر المثل، وهذا في شبهة الاعتقاد واضح؛ لأنه ليس هناك عقد سمي فيه مهر، لكن في شبهة العقد إذا كان قد سمى لها مهراً،
وجامعها على هذا الأساس، فظاهر كلام المؤلف أن لها مهر المثل؛ وتعليل ذلك أنه لما بطل أصل العقد، بطلت توابع العقد، وهو المهر، فتبطل التسمية، ويجب مهر المثل.
مثال هذا: رجل تزوج امرأة بعقد، ومهر مسمى، ثم تبين أنها أخته من الرضاع، فالشبهة هنا شبهة عقد؛ لأنه تزوجها وجامعها على أنها زوجته، يقول المؤلف: إن لها مهر المثل، ولكن في هذا نظراً؛ لأننا نقول: إنهما قد رضيا بهذا المسمى، وجامعها على أن هذا مهرها، وليس هناك ما يبطله.
فالصواب: أنه إذا كانت الشبهة شبهة عقد، وسمى لها صداقاً فلها صداقها المسمى، سواء كان مثل مهر المثل، أو أكثر، أو أقل.
أما الموطوءة بشبهة اعتقاد فيجب لها مهر المثل؛ لأنه ليس لها مهر مسمى؛ للإجماع، ولولا الإجماع لكان القياس يقتضي أن لا شيء لها؛ لأن هذا وطء بغير عقد، وهو معذور فيه، فكيف يجب عليه مهر المثل؟!
فإن كان أحد يقول: إنه لا شيء لها فهو أحق بالاتباع.
أَوْ زِناً كُرْهاً، وَلَا يَجِبُ مَعَهُ أَرْشُ بَكَارَةٍ،
............
قوله: «أو زنا كرها» أي أن الزاني ـ والعياذ بالله ـ أكره المرأة، فزنا بها فيجب عليه مهر المثل لهذه المزني بها؛ لأنه جامعها مجامعة الرجل لامرأته، هذا إذا كانت مكرهة، وأما إن كانت مطاوعة فليس لها شيء؛ لأنها رضيت بهذا الوطء، وقد
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مهر البغي خبيث»
(1)
، ولأنه وطء يعتقد كل من الفاعل والمفعول به أنه محرم، فلا يوجب شيئاً.
هذا ما قرره المؤلف منطوقاً ومفهوماً، فالمنطوق وجوب المهر لمن زُنِي بها كرهاً، والمفهوم عدم وجوب المهر لمن زني بها مطاوِعة.
والصحيح أنه لا مهر، لا في هذا، ولا في هذا؛ لأن الله ـ تعالى ـ أوجب في الزنا حداً معلوماً، فلا نزيد على ما أوجب الله، ولا يمكن أن نقيس هذا الجماع ـ الذي يعتقد المجامع أنه حرام ـ على الحلال؛ ولكن نقيم عليه الحد، فإن كان الرجل بكراً، أي: لم يتزوج من قبل، فحده مائة جلدة وتغريب عام، وإن كان قد تزوج من قبل وجامع زوجته، وتمت شروط الإحصان فإنه يرجم.
قوله: «ولا يجب معه أرش بكارة» أي: أنه إذا زنى بامرأة كرهاً، وهي بكر، وزالت البكارة، فعلى المذهب نوجب عليه مهر المثل، ومهر المثل يدخل فيه أرش البكارة؛ لأننا سنقدر المهر مهر بكرٍ، وحينئذٍ نكون قد أخذنا أرش البكارة فلا يمكن أن نكرر عليه الغرم.
وعلى القول الذي رجحنا ـ وهو أن المزني بها كرهاً أو طوعاً لا مهر لها ـ نقول: يجب عليه أرش البكارة، إذا كانت بكراً وزنى بها كرهاً؛ لأنه أتلف البكارة بسبب يتلفها عادة.
(1)
أخرجه مسلم في البيوع/ باب تحريم ثمن الكلب (1568)(41) عن رافع بن خديج رضي الله عنه.
وأرش البكارة هو فرق ما بين مهرها ثيباً ومهرها بكراً، فإذا قلنا: إن مهرها ثيباً ألف ريال، ومهرها بكراً ألفان، فيكون الأرش ألف ريال.
في الوقت الحاضر ترقى الطب، وصار يمكن أن يجعل لها بكارة صناعية، بواسطة عملية جراحية، فإذا قال: أنا لا أعطيكم دراهم، بل نجري لها عملية ونعيد البكارة، فهل يُمَكَّن؟ الجواب: لا، فإذا قال: الأصل أن المثلي يضمن بمثله، فهو أذهب بكارة فيعيد لها بكارة أخرى؟
فنقول: هذا لا يكفي ولا يُطاع؛ لأنه مهما كان من ترقيع فلا يمكن أن يكون كالأصل، مع أننا نرى منع هذه العملية مطلقاً، لأنها تفتح باب الشر، فتكون كل امرأة تشتهي أن تزني زنت، وإذا زالت بكارتها أجرت العملية.
وَلِلمَرْأَةِ مَنْعُ نَفْسِهَا حَتَّى تَقْبِضَ صَدَاقَهَا الحَالَّ، فَإِنْ كَانَ مُؤَجَّلاً، أَوْ حَلَّ قَبْلَ التَّسْلِيمِ، أَوْ سَلَّمَتْ نَفْسَهَا تَبَرُّعاً فَلَيْسَ لَهَا مَنْعُها،
.........
قوله: «وللمرأة منع نفسها حتى تقبض صداقها الحال» الصداق على قسمين: إما حال، وإما مؤجل، فالمؤجل ليس للمرأة طلبه ولا المطالبة به حتى يحل أجله، وليس لها أن تمنع نفسها من الزوج؛ لأن حقها لم يحل بعد، لكن إذا كان المهر حالًّا غير مؤجل، فإن لها أن تمنع نفسها حتى تقبضه.
مثال ذلك: رجل تزوج امرأة على صداق قدره عشرة آلاف ريال غير مؤجلة، فقالت له: أعطني المهر، فقال: انتظري، فلها أن تمنع نفسها، وتقول: لا أسلم نفسي إليك حتى تسلم المهر؛ وذلك أن المهر عوض عن المنفعة ويخشى أن سلمت نفسها واستوفى المنفعة أن يماطل بها ويلعب بها، فيُحرم منها حتى يسلم الصداق.
ومثال الصداق المؤجل: أن يتزوج رجل امرأة بمهر يحل بعد سنة، فليس لها أن تمنع نفسها قبل ذلك؛ لأن موجب العقد التسليم، والعقد قد اشتمل على تأجيل الصداق، وسكوت المرأة عن تسليم نفسها، فيكون تسليمها نفسها واجباً بالعقد، ويكون تسليم المهر واجباً بحلول أجله؛ لأنها رضيت بتأجيله، أما لو قالت: نعم أرضى بالتأجيل، ولكن لا تسليم إلا بعد القبض، فلها أن تمنع نفسها بناء على الشرط، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج»
(1)
، أما بدون شرط فليس لها المنع.
وهذه المسألة تدلنا على صحة مسألة مرت في البيع، وهي حبس المبيع على ثمنه، مثل أن يقول البائع للمشتري: ما أسلمك السلعة حتى تسلمني الثمن، فالمذهب أنه ليس له حبسه على ثمنه مطلقاً، والقول الثاني: أن له حبسه على ثمنه، وهو أصح كما سبق.
قوله: «فإن كان مؤجلاً، أو حل قبل التسليم، أو سلمت نفسها تبرعاً فليس لها منعُها» هذه ثلاث مسائل:
الأولى: أن يكون الصداق مؤجلاً فليس لها منع نفسها؛ وقد سبق.
الثانية: إذا حل الصداق قبل التسليم، فليس لها منع نفسها
(1)
سبق تخريجه ص (165).
ولو ماطل بذلك، مثل امرأة تزوجت من إنسان بعشرة آلاف مؤجلة إلى شهر شعبان من السنة القادمة، فجاء شهر شعبان ولم يدخل بها والصداق حل، فطلب منها أن تسلم نفسها فقالت: أعطني الصداق، فقال: الصداق مؤجل، فقالت: قد حل الأجل أعطنيه، يقولون هنا: لا تمنع نفسها؛ لأن الصداق وجب مؤجلاً، والتسليم غير مؤجل، فكان عليها أن تسلم نفسها من الأصل قبل حلول الأجل، فانسحب التسليم الواجب قبل حلول الأجل إلى ما بعد حلول الأجل.
والقول الثاني في المسألة: أن الحالَّ قبل التسليم كغير المؤجل، يعني إذا حل الأجل ولم تسلم نفسها وطلب التسليم فلها أن تمنع نفسها؛ لأنه صدق عليه الآن أنه حال، والضرر الذي يحصل لها فيما إذا سلمت نفسها في الحال يحصل لها الآن.
وقولهم: إنه كان مؤجلاً، وإنه كان يلزمها أن تسلم نفسها قبل حلول الأجل، فانسحب الوجوب إلى ما بعده، يجاب عنه بأن هذا صحيح، لكن الزوج لم يطالب بالتسليم إلا بعد أن صار المهر حالًّا، فلا فرق بين الصورتين، وهذا قول في المذهب أيضاً.
الثالثة: إذا سلمت نفسها تبرعاً في الحال؛ ثقة بالزوج على أنه سيسلم المهر، ثم ماطل به، فالمذهب ليس لها أن تمنع نفسها؛ لأنها رضيت بالتسليم بدون شرط، فلا يمكن أن ترجع، ولكن تطالبه، وتحبسه على ذلك.
والصحيح أن لها أن تمنع نفسها؛ لأن الرجل إذا ماطل لا نمكنه من استيفاء الحق كاملاً؛ لأنه لا يمكن أن نجعل جزاء الإحسان إساءة، ولا يمكن أن نخالف بين الزوجين فنعامل هذا بالعدل، وهذا بالظلم، فنقول: كما امتنع مما يجب عليه، فلها أن تمتنع.
فَإنْ أَعْسَرَ بِالمَهْرِ الحَالِّ فَلَهَا الفَسْخُ، وَلَوْ بَعْدَ الدُّخُولِ، وَلَا يَفْسَخُهُ إِلاَّ حَاكِمٌ .......
قوله: «فإن أعسر بالمهر الحال فلها الفسخ، ولو بعد الدخول» أي: إذا أعسر بالمهر الحال، سواء كان حالاً من الأصل، أو حل بعد التأجيل فلها الفسخ؛ لأنه لم يسلم لها العوض.
مثال ذلك: رجل تزوج بامرأة على عشرة آلاف حالة، ودخل عليها، فلما طالبته تبين أنه معسر لا شيء عنده، نقول: لها أن تفسخ عقد النكاح، وإذا فسخت بقي المهر في ذمته؛ لأنه استقر بالدخول، وكذلك على القول الراجح إن كان لم يستقر، فلها أن تطالبه بما يجب لها قبل الدخول؛ لأن الفراق هنا بسببه، وقد تقدم أن الفراق إذا كان لعيبه فالفرقة من قبله هو على الصحيح، والمذهب أنها من قبلها.
فإن قال قائل: لماذا لا تقولون: تمنع نفسها حتى يسلمها المهر؟
فالجواب: لأننا لا ندري متى يحصل الإيسار.
ولو أنه أعسر بالمهر، ولكنه لما رأى المرأة تريد أن تفسخ النكاح استقرض وأوفاها، فهل لها أن تفسخ؟
الجواب: لا؛ لأن حقها أتاها، فإذا قالت: أنا لا أريد
زوجاً مديناً، قلنا: لا كرامة لك، فكل الأزواج عليهم ديون، فليس لها الفسخ.
وقوله: «فإن أعسر بالمهر» لو رضيت بذلك، وقالت: ما دام أنك معسر، فمتى أيسرت أعطني، ثم رجعت وطلبت أن يعطيها أو تفسخ، فإنه ليس لها ذلك؛ لأنها أسقطت حقها برضاها، ولو تزوجته عالمة بإعساره، والمهر لم يقبض فليس لها الفسخ؛ لأنها راضية بذلك.
قوله: «ولا يفسخه» أي: النكاح.
قوله: «إلا حاكم» لأنه فسخ مختلف فيه، وحكم الحاكم يرفع الخلاف، ويقطع النزاع.
ولكن سبق لنا أن شيخ الإسلام رحمه الله قال: لو قيل إن الفسخ يثبت بتراضيهما، وبفسخ الحاكم لكان له وجه، يعني إذا رضي الزوج والزوجة بالفسخ فلا حاجة للحاكم، فيكتب الزوج: إني فسخت نكاحي من هذه المرأة لإعساري بالمهر، ومطالبتها به، ويعطيها الورقة؛ حتى إذا أرادت أن تتزوج، يكون عندها وثيقة على الفسخ.
أما إن حصل النزاع بأن طالبت بالفسخ فأبى، فحينئذٍ نرجع للحاكم، وما قاله شيخ الإسلام هو الصحيح؛ لأنه إذا كان الطلاق أو الفسخ للعيب إذا تراضيا عليه لا يحتاج إلى الحاكم، فهذا كذلك، وإذا لم يتراضيا فلا بد من حكم القاضي.
بَابُ وَلِيمَةِ العُرْسِ
قوله: «وليمة العرس» هذا من باب إضافة الشيء إلى سببه، والعرس هو النكاح، ووليمة مأخوذة من الإتمام والاجتماع، وهي في الحقيقة جامعة للأمرين، ففيها اجتماع وفيها إتمام، ولكنها نقلت من هذا المعنى إلى معنى آخر، وهو الطعام الذي يصنع وليس الاجتماع عليه، ولا تمام العقد، وإن كان أصلها الاجتماع والتمام، ومنه قول الناس الآن: هذا الشيء والم، أي: تام، ومنه التأم القوم يعني اجتمعوا، ولكنها نقلت بالعرف والاصطلاح إلى نفس الطعام الذي يصنع في أيام العرس.
هناك ولائم يجتمع عليها الناس غير وليمة العرس، منها ما هو مباح، ومنها ما هو مكروه، ومنها ما هو محرم، فمن الولائم المحرمة أن يجتمع الناس إلى أهل الميت للعزاء، ويصنع أهل الميت الطعام للمجتمعين، فهذه محرمة لقول جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنع الطعام من النياحة
(1)
، والنياحة كبيرة من الكبائر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن النائحة
(2)
، ومنها الوليمة على العزف، والغناء، والرقص،
(1)
أخرجه الإمام أحمد (2/ 204)؛ وابن ماجه في الجنائز/ باب ما جاء في النهي عن الاجتماع (1612) وقال البوصيري: إسناده صحيح، رجال الطريق الأول على شرط البخاري، والثاني على شرط مسلم عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه.
(2)
أخرجه الإمام أحمد (3/ 65)؛ وأبو داود في الجنائز/ باب في النوح (3128)؛ والبيهقي (6314) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
فهذه ـ أيضاً ـ حرام، ومنها الوليمة المكروهة، وهي الوليمة الثانية للعرس؛ لأن فيها نوعاً من الإسراف، ووليمة مباحة، وهي سائر الولائم التي تفعل عند حدوث ما يَسُرُّ، فهي من قسم المباح وليس من قسم البدعة، كما ظنه بعض الناس، كالوليمة للختان، فهذه مباحة؛ لأن الأصل في جميع الأعمال غير العبادة الإباحة، حتى يقوم دليل على المنع.
تُسَنُّ بِشَاةٍ فَأَقَلَّ، وَتَجِبُ فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ إِجَابَةُ مُسْلِمٍ يَحْرُمُ هَجْرُهُ إِلَيْهَا إِنْ عَيَّنَهُ، وَلَمْ يَكُنْ ثَمَّ مُنْكَرٌ،
..........
قوله: «تسن» هذا حكمها، أي: أنها مندوبة، وهذا هو القسم الرابع من أقسام الوليمة، وهي وليمة العرس لأول مرة، والدليل على ذلك سنة الرسول عليه الصلاة والسلام القولية والفعلية.
فأما القولية فقوله لعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: «أولم»
(1)
، وهذا فعل أمر، وأقل أحوال الأمر الاستحباب.
وأما الفعلية فقد ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه أولم على نسائه.
وقيل: واجبة؛ للأمر بها في حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه السابق، والجمهور يرون أنها سنة، وقالوا: الذي صرف الأمر عن الوجوب أنه طعام بمناسبة سرور حادث، وهذا لا يقتضي الوجوب؛ لأنه ليس دفع ضرورة كالنفقة فتجب، وليس دفعاً لزكاة، أو نذراً فيجب، وإنما هو سرور فلا يكون واجباً.
(1)
أخرجه البخاري في البيوع/ باب ما جاء في قول الله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ} (2049)؛ ومسلم في النكاح/ باب الصداق وجواز كونه تعليم قرآن وخاتم حديد
…
(1427) عن أنس رضي الله عنه.
والحكمة منها إعلان النكاح، وإظهاره حتى يتميز عن السفاح، وإطعام للفقراء، وصلة للأقارب والأرحام، وما يحدث فيها من السرور، يكون جبراً لخاطر الزوجة، وأوليائها وغير ذلك.
وهي مشروعة في حق الزوج؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: «أولم» ولم يقل لأصهاره: أولموا، ولأن النعمة في حق الزوج أكبر من النعمة في حق الزوجة؛ لأنه هو الطالب الذي يطلب المرأة، ويندر جداً أن المرأة تطلب الرجل.
قوله: «بشاة بأقل» ، فتسن لكن بقدر لا يزيد على شاة، بخبز، بحيس، بتمر، وما أشبه ذلك.
وقال بعض أهل العلم: إن الوليمة من النفقة الراجعة للعرف، فتسن بما يقتضيه العرف، على الموسع قدره وعلى المقتر قدره، لكن بشرط أن لا تصل إلى حد المباهاة والإسراف، فإذا وصلت إلى حد الإسراف والمباهاة صارت محرمة أو مكروهة.
وقوله: «بشاة فأقل» ، الدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«أولم ولو بشاة» ، والحديث لا يدل على ما قالوا، بل يدل على أن أقل شيء شاة، ولم يأت هذا التعبير في اللغة العربية مراداً به بيان الأكثر، وإنما يأتي في اللغة العربية مراداً به الأقل، فالصواب أنها للغني ولو بشاة؛ فإن كان غناه كبيراً يجعل شاتين، أو ثلاثاً، حسب حاله والعرف، ولكن بشرط أن لا يخرج إلى حد الإسراف والمباهاة، فالإسراف محرم، والمباهاة مكروهة.
قوله: «وتجب في أول مرة إجابة مسلم يحرم هجره إليها إن عينه ولم يكن ثم منكر» ، انتقل المؤلف من بيان حكم الوليمة إلى بيان حكم الإجابة إليها إذا دُعي.
فقوله: «تجب» فعل مضارع فاعله قوله: «إجابة» ، وفي هذا إشارة إلى أنه لا بد أن يكون هناك دعوة، وإلا فلا تجب الإجابة.
وقوله: «أول مرة» أي صنعت أول مرة، احترازاً من الثانية، والثالثة، والرابعة
…
إلخ.
وقوله: «مسلم» احترازاً من الكافر، فالكافر لا تجب إجابته، فلو كان عندك جار من الكفار، وحصل عنده زواج، ودعاك إلى وليمته، فإن إجابته لا تجب، ولكنها تجوز؛ لأن إجابة دعوة الكافر جائزة، إلا فيما يقصد به الشعائر الدينية، فإنه تحرم الإجابة إليه، مثل أعيادهم؛ لأن إجابته لها معناه الرضا بها، وهي تفعل على سبيل التدين، فكأنه رضي بدينهم وأقره، ولهذا ـ باتفاق أهل العلم ـ لا يجوز تهنئتهم بها، لأن الرضى بشعائر الكفر أمره عظيم، والعياذ بالله.
وأما مناسباتهم غير الدينية كالولد والزواج، فمن أهل العلم من يقول: إن تهنئتهم بها جائزة، بشرط أن يكون في ذلك مصلحة، أو دفع مضرة، أو أنهم يفعلون ذلك بنا فنكافئهم عليه، وأما تشييع جنائزهم فلا يجوز.
وقوله: «يحرم هجره» ، أفادنا أن من المسلمين من لا يحرم هجره؛ وذلك أن الهجر ينقسم إلى أقسام:
القسم الأول: من يجب هجره، وذلك كصاحب البدعة الداعي إلى بدعته، إذا لم ينتهِ إلا بالهجر، فإنه يجب علينا أن نهجره وجوباً؛ لأن في الهجر فائدة، وهو ترك الدعوة إلى البدعة، فإذا وجدنا شخصاً يدعو الناس إلى القول بخلق القرآن، أو إلى أن الله ـ تعالى ـ في كل مكان وجب علينا أن نهجره، فلا نسلم عليه، ولا نرد عليه السلام، ولا نجيب دعوته، ولا نتحدث إليه حديث الصديق؛ لأن هجره هنا فيه مصلحة، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بهجر من فعل محرماً، كما في قصة كعب وصاحبيه رضي الله عنهم
(1)
، وفاعل المحرم أهون ممن يدعو إلى البدعة؛ لأن البدعة تستمر بالدعوة إليها، وفاعل المحرم فَعَلَه وانتهى.
القسم الثاني: من هجره سُنة، وهو هجر فاعل المعصية التي دون البدعة، إذا كان في هجره مصلحة، كهجر إنسان يحلق لحيته، فإذا رأينا شخصاً قد أصر على ذلك، وكان في هجره مصلحة، وهو الرجوع إلى حظيرة السنة، فالهجر هنا سنة حتى يرجع، وكذلك يقال في شارب الدخان، والموظف في جهات ربوية، ولا نقول: إنه واجب؛ لأننا لا نتحقق به ترك المحرم، فلو تحققنا به ترك المحرم لكان الهجر واجباً.
إذاً هنا الهجر سنة بشرط المصلحة، فإن لم يكن في هجره مصلحة فإنه لا يهجر؛ لأن الأصل أن هجر المؤمن حرام
(1)
أخرجه البخاري في المغازي/ باب حديث كعب بن مالك (4418)؛ ومسلم في التوبة/ باب حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه (2769) عن كعب بن مالك رضي الله عنه.
لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل للمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة»
(1)
، فإن لم يكن مصلحة صار الهجر حراماً، إذ لا يحصل منه إلا عكس ما نريد، وأما ما يفعله بعض الإخوة المستقيمين الغيورين على دينهم من هجر أهل المعاصي مطلقاً فغلط، ومخالف للسنة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«لا يحل للمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة» ، وفاعل المعصية أخ لك مهما فعل من الكبائر، إلا إذا كفر، وعلى هذا فلا يجوز هجر أهل المعاصي إلا لوجود المصلحة.
القسم الثالث: هجر مباح وهو ما يحصل بين الإنسان وأخيه بسبب سوء تفاهم، وهو مقيد بثلاثة أيام فأقل.
والقول الراجح أن الهجر لا يجب، ولا يسن، ولا يباح إلا حيث تحققت المصلحة، فإذا كان هناك مصلحة هجرنا وإلا فلا؛ لأن الهجر إما دواء وإما تعزير، فإن كان من أجل معصية مستمرة فهو دواء، وإن كان من أجل معصية مضت وانتهت فهو تعزير، فيحرم أن يهجر أخاه المؤمن ما لم يصل إلى الكفر، والدليل على ذلك عمومات الأدلة الدالة على حقوق المسلم على المسلم، والمؤمن لا يخرج من الإيمان بمجرد الفسوق والعصيان عند أهل السنة والجماعة، ولذلك الأصل تحريم هجر المؤمنين، ولو فعلوا المعصية وتجاهروا بها؛ لأنهم مؤمنون، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«وحق المسلم على المسلم ست، ومنها: إذا لقيته فسلم عليه»
(2)
،
(1)
أخرجه البخاري في الأدب/ باب الهجرة
…
(6077)؛ ومسلم في الأدب/ باب تحريم الهجر فوق ثلاثة أيام بلا عذر شرعي (2560) عن أبي أيوب الأنصاري.
(2)
أخرجه البخاري في الجنائز/ باب الأمر باتباع الجنائز (1240)؛ ومسلم في الآداب/ باب من حق المسلم على المسلم رد السلام (2162)(5) عن أبي هريرة رضي الله عنه، واللفظ لمسلم.
فقال: حق المسلم، ولم يقل: حق المؤمن؛ لأن الإسلام أوسع من الإيمان، لكن إذا كان في الهجر مصلحة فإنه إما أن يسن، وإما أن يجب، حسب ما تقتضيه المصلحة، وحسب عظم الذنب، فإذا كان هذا الرجل الحالق للحية إذا هجرناه ارتدع، وصار يمشي بين الناس غريباً، لا يُسلم عليه، ولا يرد سلامه، فيخجل ويعفي لحيته، كان هجره سنة أو واجباً؛ لأن هجره مفيد، أما إذا كان هذا الرجل إذا هجرناه ازداد شره، ونفر من أخيه المؤمن، وحصلت الوحشة بينهما، فلا يسن الهجر هنا، بل لا ينبغي، والمسبل لثيابه مجاهر بالمعصية، والذي يبدو لنا أنه أعظم من حلق اللحية؛ لأنه متوعد عليه، فهو من كبائر الذنوب، وأعظم من شرب الدخان، مع أن شرب الدخان الآن أكثر من حلق اللحية والإسبال.
المهم أن المذهب يقسمون الهجر إلى ثلاثة أقسام: واجب، وسنة، ومباح، ولكن الصحيح عندنا أنه لا ينقسم إلى هذه الأقسام، وأن الأصل في الهجر التحريم، إلا إذا كان فيه مصلحة.
هذا بالنسبة لمن كان مسلماً، أما غير المسلمين فلا يبدؤون بالسلام، سواء كانوا غير منتسبين للإسلام، كأن يصرحوا بأنهم نصارى، أو يهود، أو وثنيون، أو كانوا منتسبين للإسلام لكن بدعتهم تخرجهم من الإسلام؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام يقول في أهل الكتاب: «لا تبدأوا اليهود والنصارى
بالسلام، وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه»
(1)
، لكن إن سلم علينا نرد عليه، فإن قال: السلام عليكم، قلنا: وعليكم السلام، وإن قال: السام عليكم، قلنا: وعليكم.
ففي المسألة ثلاثة احتمالات:
إن سلم سلاماً صريحاً، رددنا سلاماً صريحاً، وإن قال: السام عليكم، قلنا: وعليكم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم
(2)
، وإن قال: السام عليكم، وأدغمه نقول: وعليكم.
الشرط الرابع: قوله: «إليها» أي: إلى وليمة العرس؛ احترازاً مما لو دعاه إلى غير وليمة العرس فإنه لا تجب الإجابة، وهذا ما عليه جمهور أهل العلم، ودليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:«شر الطعام طعام الوليمة، يدعى إليها من يأباها، ويمنعها من يأتيها، ومن لم يجب فقد عصى الله ورسوله»
(3)
، وهذا هو الشاهد، وذهب بعض أهل العلم ـ وهو قول الظاهرية ـ إلى وجوب إجابة الدعوة ولو لغير الوليمة؛ لأن هذا من حقوق المسلم على المسلم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في حق المسلم على المسلم:«وإذا دعاك فأجبه»
(4)
،
(1)
أخرجه مسلم في السلام/ باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام (2167) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
أخرجه البخاري في استتابة المرتدين/ باب إذا عرض الذمي وغيره بسب النبي صلى الله عليه وسلم (6926)؛ ومسلم في الآداب/ باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام 2163) عن أنس رضي الله عنه.
(3)
أخرجه البخاري في النكاح/ باب من ترك الدعوة فقد عصى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم (5177)؛ ومسلم في النكاح/ باب الأمر بإجابة الداعي إلى دعوة (1432)(110) عن أبي هريرة رضي الله عنه واللفظ لمسلم.
(4)
سبق تخريجه ص (324).
وهذا عام يدخل فيه وليمة العرس وغيرها، وتخصيص وليمة العرس بالوجوب لا يدل على أن غيرها غير واجب؛ لأن ذلك من باب ذكر بعض أفراد العام، وذكر بعض أفراد العام بحكم مطابق للعام لا يقتضي التخصيص.
أيضاً الإجابة إلى الدعوة من خلق النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: «لو دعيت إلى ذراع أو كراع لأجبت»
(1)
، إلى هذا الحد!! «ذراع أو كراع» وهو من أزهد ما يكون في الذبيحة، فلو لم يكن من بركة الإجابة إلا أنه من خلق النبي صلى الله عليه وسلم، وأن المجيب سيكون متأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم، لو لم يكن إلا هذا لكان كافياً.
وَلَاحِظْ أن الإنسان إذا أشعر نفسه أنه متبع لرسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا أو غيره، فسيكون في قلبه محبة للرسول عليه الصلاة والسلام، كما أنه إذا عود نفسه على الإخلاص لله ـ تعالى ـ فسيكون الإخلاص دأبه في كل شيء.
وقوله: «إن عيَّنه» هذا هو الشرط الخامس، أي: عيَّن الداعي المدعوَ، بأن قال: يا فلان احضر وليمتي، وعلم منه أنه إن لم يعينه فلا يجب، مثل لو أطل برأسه على جماعة، وقال: تفضلوا إلى وليمتي، فإنه لا تجب إجابته؛ لأنه لم يعينه، وإنما وجه الكلام للجميع، ولذلك الناس لا يعدون من تخلف عن هذه الدعوة، كمن عُيِّن وتخلف، فمن عُيِّن وتخلف أشد.
وقوله: «ولم يكن ثَمَّ منكر» هذا هو الشرط السادس،
(1)
أخرجه البخاري في الهبة/ باب القليل من الهبة (2568) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وقوله: «ثَمَّ» أي: هناك، ويغلط كثير من الناس حتى من طلبة العلم، فيقولون: ثُم؛ لأن «ثُم» حرف عطف و «ثَم» ظرف، والمعنى ولم يكن في مكان الدعوة منكر.
والمنكر ما أنكره الشرع والعرف، والعبرة بإنكار الشرع، فما أنكره الشرع منكر ولو أقره العرف؛ لأن بعض الأعراف ـ والعياذ بالله ـ تقر المنكرات، وما أنكره الشرع فالعقل السليم والعرف السليم ينكره، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم:«الإثم ما حاك من نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس»
(1)
، لأن الناس ينكرونه، وهذا في أناس فطرهم سليمة، ومناهجهم مستقيمة.
أما إذا كان المجيب قادراً على تغيير المنكر، فحينئذٍ يجب عليه الحضور؛ إجابة للدعوة ولتغيير المنكر، مثل أن يدعى رجل له قيمته العلمية، أو له سلطة إلى وليمة فيها الحرام، فيحضر وهو قادر على أن يغير هذا الحرام، فالحضور عليه واجب؛ لأنه قادر على تغيير المنكر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«من رأى منكم منكراً فليغيره بيده»
(2)
.
وأما إذا لم يكن قادراً فالإجابة إلى الوليمة المحرمة حرام، ودليل هذا قوله تعالى:{وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]، وقال تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَئُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ
(1)
أخرجه مسلم في الأدب/ باب تفسير البر والإثم (2553) عن النواس بن سمعان رضي الله عنه.
(2)
أخرجه مسلم في الإيمان/ باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان (49) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
إِذًا مِثْلُهُمْ} [النساء: 140] يعني إن قعدتم معهم فأنتم مثلهم في العقوبة والمعصية.
فالشروط ستة، وهناك شرط سابع ذكره بعضهم، وهو أن لا يكون ماله حراماً، فإن كان حراماً لم تجب الإجابة، مثل أن يكون ممن يتعامل بالربا، أو بالغش، أو بالكذب، والحقيقة أن هذا الشرط ليس في النصوص ما يدل عليه، ولكنه محل اجتهاد من أهل العلم، والنبي عليه الصلاة والسلام أجاب دعوة اليهودي
(1)
، وأكل من الشاة التي أهدته اليهودية
(2)
، مع أن اليهود أكَّالون للسحت والربا، ثم إن مَنْ ماله محرم هنا تحريمه لكسبه لا لعينه، وكسبه إثمه عليه، لكن إذا كانت إجابة من يتعامل بالربا والغش ونحو ذلك تغريه، ويغر غيره، فهنا لا يجاب.
واشترط بعض العلماء أن لا يكون في الإجابة دناءة، مثل أن تعلم أن المدعوين ناس من السفهاء والسَّفَل، وأنت رجل محترم بين الناس، فإذا أجبت نزل قدرك، وصار فيه ضرر عليك، لكن هذا الشرط ـ أيضاً ـ ليس بصحيح؛ لأنه يفتح للناس باب الطبقية، والترفع، والتعاظم، بل نقول: احضر، وانصح لعل الله ينفع بك.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: ولهذا نأتي إلى المسجد
(1)
أخرجه أحمد (3/ 270) عن أنس رضي الله عنه، وصححه الضياء المقدسي في الأحاديث المختارة (2493)، وأصله في البخاري في الرهن/ باب في الرهن في الحضر (2508).
(2)
أخرجه البخاري في الهبة/ باب قبول الهدية من المشركين (2617)؛ ومسلم في الآداب/ باب السم (2190) عن أنس رضي الله عنه.
وفيه ناس نصلي معهم، جنباً إلى جنب، فيهم دناءة وسفل، فأنا أُمرت بالإجابة فأجيب ولا أترفع، لا سيما إذا كان الترفع والعلو على هؤلاء لأجل أنهم فقراء، فهذا أشد، اللهم إلا إذا كان حضور هذا الرجل مع هؤلاء يجلب إليه التهمة، فهذا لا يجب عليه الحضور، ولكن رجل من كبار علماء المسلمين ودعي معهم، فلا يمكن أن تلحقه تهمة، بل يقال: جزاه الله خيراً، يمكن أن ينصحهم وينفعهم، ولكل مقام مقال.
واشترط بعضهم أن لا يلحقه ضرر بذلك، وهذا صحيح؛ لأن جميع الواجبات من شرط وجوبها انتفاء الضرر، فلو كان يخشى ضرراً في ماله، أو بدنه، أو عرضه فإنه لا يجب عليه، وهذا معلوم من القاعدة العامة في الواجبات.
فتلخص لنا ستة شروط:
الأول: أن تكون الدعوة أول مرة.
الثاني: أن يكون الداعي مسلماً.
الثالث: أن يحرم هجره.
الرابع: أن يعين المدعو.
الخامس: أن لا يكون ثَمَّ منكر.
السادس: أن لا يكون عليه ضرر.
ولكن يشترط ـ أيضاً ـ شرط لا بد منه، وهو أن نعلم أن دعوته عن صدق، وهذا يضاف إلى الشروط التي ذكرناها، وضد ذلك أن يكون حياءً، أو خجلاً، أو مجرد إعلام، فلا يجب.
كإنسان واقف عند البيت ومر به شخص فقال له: تفضل، فهذه دعوة الغالب فيها أنها عن غير صدق، أي: حياءً فقط، إلا إذا علمنا أن هذا صديق له، وأنه يرغب الجلوس معه، فإن كانت حياءً أو خجلاً لم تجب الإجابة، بل لو قيل بالتحريم لكان له وجه؛ لأنه أحياناً يحرجك، وأحياناً تقول له عند الباب: تفضل فيدخل، وأنت تود أن تنام مثلاً، أو تجلس إلى أهلك، وعادتك أن تتغدى أنت وأهلك ولا تجتمع معهم إلا في هذا الوقت.
فإذا تمت هذه الشروط وجبت الإجابة لقوله صلى الله عليه وسلم: «ومن لم يجب فقد عصى الله ورسوله»
(1)
. وقال الله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُبِيناً} [الأحزاب: 36]، ولعموم قوله صلى الله عليه وسلم:«وإذا دعاك فأجبه»
(2)
.
مسألة: البطاقات التي ترسل الآن تعيين أو لا؟ الجواب: إذا رأيت الاسم مطبوعاً قلت: هذا تعيين، وإذا رأيت أنهم لا يبالون، وإنما ذلك عبارة عن مجاملة؛ لأنك صاحب أو قريب، بدليل أنهم لا يأتون ويقولون: هل ستأتي، أو أنت مشغول؟ فالظاهر لي أن البطاقة صارت مثل دعوة الجَفَلى، إلا إذا كان هناك شيء آخر، كقرابة، وإن لم تأته عدّ ذلك قطيعة، أو قال الناس: لِمَ لَمْ يأت إلى قريبه؟
(1)
سبق تخريجه ص (326).
(2)
سبق تخريجه ص (324).
لما ذكر المؤلف رحمه الله الشروط منطوقاً، ذكر مفهومها، فقال:
فَإِنْ دَعَاهُ الجَفَلَى، أَوْ فِي اليَوْمِ الثَّالِثِ، أَوْ دَعَاهُ ذِمِّيٌّ كُرِهَتِ الإِْجَابَةُ،
.......
«فإن دعاه الجفلى» وهي دعوة العموم، مثل أن يقول: هلموا أيها الناس، وهي مما يفتخر بها العرب، كما قال شاعرهم:
نحن في المشتات ندعو الجفلى
لا ترى الآدب فينا ينتقر
«النقرى» أن يعين، و «الجفلى» أن يعمم، و «الآدب» صاحب المأدُبة.
فإذا دعا الجفلى يقول المؤلف: «كرهت الإجابة» ، والتعليل أن في ذلك دناءة بالنسبة للمدعو، ومفاخرة ومباهاة للداعي، وهذا التعليل عليل، والصحيح أنها لا تكره بل هي جائزة، وقد ثبت أن الرسول عليه الصلاة والسلام أرسل أنساً رضي الله عنه وقال له:«ادع فلاناً وفلاناً ومن لقيت»
(1)
، فعيَّن في الأول، ثم عمم، فالصحيح أن الإجابة ليست مكروهة، بل في ظني أن عدم الإجابة إلى الكراهة أقرب؛ لأنك إذا دعوت الناس جميعاً وتخلف واحد قال الناس: هذا مترفع ومتكبر، صحيح أن الإجابة لا تجب على كل واحد؛ لأن الدعوة عامة، فهي تشبه فرض الكفاية، ولكن لا نقول: إنها مكروهة، بل الصواب أنها ليست بمكروهة وليست بواجبة، لكن إذا علم أحد المدعوين أن صاحب الدعوة يُسَرُّ بحضوره فينبغي له أن يجيب.
قوله: «أو في اليوم الثالث» أي دعاه في اليوم الثالث فإنه
(1)
أخرجه البخاري في النكاح/ باب الهدية للعروس (5163)؛ ومسلم في النكاح/ باب زواج زينب بنت جحش
…
(1428)(94) عن أنس رضي الله عنه.
تكره الإجابة؛ لأنه يروى عن النبي (ص) أنه قال: «الوليمة في يوم الثالث رياء وسمعة»
(1)
، وإذا كانت رياء وسمعة فلا ينبغي أن يشجع صاحبها، ولأنها إذا خرجت إلى اليوم الثالث صارت إسرافاً، فالإجابة تكون مكروهة، ولكن إذا لم تكن رياء وسمعة، مثل أن يكون له أقارب ما حضروا إلا في اليوم الثالث، فمثل هذه الصورة لا تكره الإجابة فيها؛ لأن الوليمة في اليوم الثاني أو الثالث ليس للعرس ولكن للضيوف، ولكن ينبغي لمن أجاب أولاً أن يقتصر على الإجابة الأولى؛ لأنه إذا تكررت الإجابة فلا بد أن يكون فيها دناءة، اللهم إلا أن يكون هناك سبب خاص تنتفي به الدناءة، مثل أن يكون قريباً، أو صديقاً، أو جاراً.
وقوله: «أو دعاه ذمي كرهت الإجابة» ، الذمي هو اليهودي أو النصراني، وعلى الصحيح غيرهما ممن عقدت له الذمة، بأن يقيم في بلاد المسلمين مع دفع الجزية، فالإسلام مسيطر عليه وخاضع لأحكامه، وله حقوق، فإذا دعاك لوليمة العرس، فالمذهب يكره، قالوا: لأن المطلوب هو إذلال أهل الكفر، واحتقارهم، وازدراؤهم، فلا تنبغي إجابتهم، وظاهر كلامهم ولو كانوا يجيبوننا إذا دعوناهم؛ لأن الإسلام يعلو ولا يعلى، وفي هذا نظر، والصواب أنه لا تكره إجابتهم فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أجاب
(1)
أخرجه الترمذي في النكاح/ باب ما جاء في الوليمة (1097) عن ابن مسعود رضي الله عنه، وابن ماجه في النكاح/ باب إجابة الداعي (1915) عن أبي هريرة رضي الله عنه، ومثله عند أبي داود في الأطعمة/ باب في كم تستحب الوليمة (3745)، انظر: خلاصة البدر المنير (2020)، والتلخيص (1560)؛ والإرواء (1950).
دعوة يهودي
(1)
، وسئل الإمام أحمد رحمه الله عن إجابة دعوة الذمي، فقال: نعم، وهذا هو الصحيح، فهي لا تجب، ولكن تجوز، لا سيما إذا كان في ذلك تأليف لهم، ومصلحة، وهذا في إجابتهم في الأمور العادية، كالزواج، والقدوم من سفر، وما أشبه ذلك.
وأما الإجابة إلى الشعائر الدينية فإنه لا يجوز، فلو دعانا نصراني إلى عيد الميلاد فإن الإجابة حرام؛ لأن عيد الميلاد من شعائر الكفر، وشعائر الكفر لا يرضاها الله عز وجل وهكذا نقول في تهنئتهم، فما يهنؤون بأعيادهم؛ لأن معنى ذلك الرضى، بل ذلك أعظم من الرضى.
وعليه فنقول في مسألة إجابة الذمي لوليمة العرس: الصحيح عدم الكراهة، لكن لدينا قاعدة مقررة عند أهل العلم: أن المباح إن كان وسيلة لمحرم صار حراماً، وإذا كان وسيلة لواجب صار واجباً، وإذا كان وسيلة لمكروه صار مكروهاً، وإذا كان وسيلة لمستحب صار مستحباً، فالبيع حلال قال الله تعالى:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275]، وقد يكون واجباً، كما لو رأيت مضطراً يريد شراء طعام مني لينقذ نفسه، فالبيع له واجب، وكما لو أردت أن أشتري ماء للوضوء للصلاة فالشراء واجب، وإذا أردت شراء طيب للتطيب به لصلاة الجمعة فالشراء مستحب، ولو أراد رجل شراء سُلَّم يتسلق به بيوت الناس لسرقتها، فالشراء حرام، ولو أراد إنسان شراء بصل ـ على القول بكراهته ـ فيكون الشراء
(1)
سبق تخريجه ص (329).
مكروهاً، والصحيح أنه لا يكره؛ لأن البصل حلال.
وَمَنْ صَوْمُهُ وَاجِبٌ دَعَا وَانْصَرَفَ، وَالمُتَنَفِّلُ يُفْطِرُ إِنْ جَبَرَ، وَلَا يَجِبُ الأَكْلُ،
قوله: «ومن صومه واجب دعا وانصرف» أي: أن من صومه واجب فإنه يجيب الدعوة، ولكن لا يأكل؛ لأنه لا يجوز قطع الصوم الواجب، كإنسان عليه قضاء من رمضان، فدعي إلى الوليمة وهو صائم، وكإنسان عليه كفارة يمين فصام ودعي إلى الوليمة وهو صائم، وكإنسان عليه فدية لفعل محظور صيام ثلاثة أيام فدعي وهو صائم، فكل هؤلاء يحضرون ولكن لا يأكلون؛ لأن الصيام الواجب لا يجوز قطعه؛ لأن القاعدة الشرعية أن من شرع في واجب وجب عليه إتمامه، ومن شرع في نفل لم يجب عليه إتمامه، إلا الحج والعمرة، وكذلك الجهاد على قول بعض أهل العلم، ولكن يدعو للداعي بما يناسب، إن كان يعرف الوارد فهو أفضل، وإن كان لا يعرفه فيدعو بما يناسب.
وقوله: «وانصرف» هل ينصرف قبل أن تقدم الوليمة، أو بعدها، أو يجلس مع الناس ولا يأكل؟ ظاهر كلام المؤلف: أنه ينصرف قبل ذلك ولا يبقى؛ لأنه إذا بقي مع الناس ولم يأكل ربما يخشى عليه من الرياء، وإذا أخبر الناس بأن صومه عن واجب فقد لا يكون لائقاً، ولكن لو قيل: إن هذا يرجع لحال الإنسان، إن كان يُفقد في الوليمة فليجلس وليتقدم مع الناس في الأكل، ولكن لا يأكل فيقدم لجلسائه مثلاً، لهذا الإدام، ولهذا لحماً، ولهذا خبزاً، فربما لا يُشعر به؛ لأن الإنسان الذي يفقد مثل أن يكون جاراً، أو قريباً، أو صديقاً حميماً، إذا لم يأت تكلم الناس وقالوا: لمَ لمْ يأت جاره، أو قريبه، أو صديقه وما
أشبه ذلك؟ والإنسان ينبغي له أن يكف ألسنة الناس عن نفسه.
وقوله: «صومه واجب» مبتدأ وخبر، وهي صلة الموصول «من» لا محل لها من الإعراب، ولا تصح أن تكون «من» شرطية؛ لأنها دخلت على جملة اسمية، ولكن لها جواب؛ وذلك أن اسم الموصول لما كان يشبه اسم الشرط في العموم صار له جواب كجواب الشرط، وهو هنا:«دعا وانصرف» ومنه قولهم:
الذي يأتيني فله درهم.
فـ «الذي» مبتدأ، و «له درهم» خبره، وقرنت بالفاء؛ لأن اسم الموصول يشبه اسم الشرط في العموم فأعطي حكمه في الجواب.
وقوله: «دعا وانصرف» ، الدليل قول ـ النبي صلى الله عليه وسلم:«إذا دعي أحدكم فليُجب، فإن كان صائماً فليُصَلِّ، وإن كان مفطراً فليطعم»
(1)
، ومعنى قوله:«فليصلِّ» فليدعُ.
فإن قال قائل: أنتم تقولون: إن ألفاظ الشارع تحمل على الحقائق الشرعية، والصلاة حقيقتها الشرعية هي العبادة المعروفة.
قلنا: إن الكلمات يعين معناها السياق وقرائن الأحوال، ومن المعلوم هنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يرد من الإنسان الصائم الذي يُدعى فيجيب أن يصلي؛ لأنه لا معنى لذلك، وإنما المعنى أن يدعو لهم لقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا
(1)
أخرجه مسلم في النكاح/ باب الأمر بإجابة الداعي إلى دعوة (1431) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة: 103].
وَإِبَاحَتُهُ مُتَوَقِّفَةٌ عَلَى صَرِيحِ إِذْنٍ أَوْ قَرِينَةٍ،
وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ ثَمَّ مُنْكَراً يَقْدِرُ عَلَى تَغْيِيرِهِ حَضَرَ وَغَيَّرَه، وَإِلاَّ أَبَى،
قوله: «والمتنفل يفطر إن جبر» يعني أن الصائم المتنفل كصيام أيام البيض، أو الاثنين، أو الخميس، أو ستة أيام من شوال، أو عشر ذي الحجة، أو عاشوراء وما أشبهها، فالمتنفل يجيب الدعوة، ولكن هل يفطر أو لا؟ المؤلف ذكر أن فيه تفصيلاً، إن جبر قلب الداعي، وأدخل السرور عليه فإنه يفطر، وإن لم يجبر كأن يكون الداعي لا يهتم أكل أو ما أكل، المهم أن يجيب الدعوة، فإن الأفضل أن لا يفطر ويتم صومه؛ لأن صومه نفل، ولا ينبغي أن يقطع نفله إلا لغرض صحيح.
قوله: «ولا يجب الأكل» أي: أكل المدعو ليس بواجب، وإنما الواجب الحضور فقط لقوله صلى الله عليه وسلم:«إذا دعي أحدكم فليُجب فإن شاء أكل وإن شاء ترك»
(1)
، فهذا الحديث يدل على أنه لا يجب الأكل، والحديث السابق يدل على وجوب الأكل لقوله:«فليطعم» فكيف الجمع بين الحديثين؟
الجمع بينهما أن يقال: إن الخيار إذا لم يترتب على ترك الأكل مفسدة، فإن ترتب عليه مفسدة فلا شك في وجوب الأكل، كرجل صنع وليمة شاة، أو شاتين، أو أكثر، وجهزها وأذن لهم في الأكل، فقالوا: لا يجب علينا الأكل وما نحن بآكلين!! فهذا فيه نظر، لقول النبي صلى الله عليه وسلم لرجل معتزل عن القوم ناحيةً، وقال: إني صائم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دعاكم أخوكم وتكلف لكم، كُلْ، ثم صُمْ يوماً مكانه
(1)
أخرجه مسلم في النكاح/ باب الأمر بإجابة الداعي إلى دعوة (1430) عن جابر رضي الله عنه.
إن شئت»
(1)
، والصحيح أن الأكل واجب إلا على من صومه واجب كما سبق، أو من يتضرر بالأكل؛ لأن بعض الناس قد يكون مريضاً بمرض يحتاج إلى حِمْية فلا يستطيع أن يأكل.
وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إن شاء أكل وإن شاء ترك» يحمل على الصائم، أو على إذا لم يكن في ذلك مضرة، وإلا فلا شك عند كل الناس أن هذا مما يستقبح عادة، أن يدعو الناس ويحضروا، ثم يقولوا: الأكل غير واجب!! ومن عادة العرب أن الإنسان إذا لم يأكل فإنه يخشى منه، وإلى الآن هذا الأمر موجود، ولذلك يلزمون الواحد بالأكل ولو يسيراً، ويسمونها المِلحة؛ يعني أنك تمالح وتأكل، ومعنى ذلك أننا أَمِنَّاك.
ولنا أن نقول: إن الأكل فرض كفاية لا فرض عين، فإذا قام به من يكفي، ويجبر قلب الداعي، فالباقي لا يجب عليهم الأكل، وهو الصواب، أما أن نقول: لا يجب الأكل على الآخرين، فهذا فيه نظر.
قوله: «وإباحته متوقفة على صريح إذن» أي: إباحة الأكل متوقفة على صريح إذن، وهذا من باب إضافة الصفة إلى الموصوف، يعني على إذن صريح، بأن يقول: تفضل كل، فإذا قال ذلك، أبيح الأكل.
قوله: «أو قرينة» أي: إذا دلت القرينة والعرف والعادة على أنه إن قدم الطعام بهذه الصفة فإنه إذن في الأكل، فلك أن تأكل.
(1)
أخرجه البيهقي (4/ 279) وحسنه الحافظ في الفتح (4/ 247) ط/ دار الريان، وانظر: خلاصة البدر المنير (2028)؛ والإرواء (1952).
وعادة الناس اليوم على أنه يحتاج إلى ألفاظ صريحة، فلو تقدمت للمائدة ولم تكتمل، عُدَّ ذلك جشعاً، كما قال الشاعر:
وإن مدت الأيدي إلى الزاد لم أكن
بأعجلهم إذ أجشعُ القومِ أعجلُ
فما دام الداعي لم يقل: تفضلوا، فلننتظر، أما إذا جاء بإناء الطعام وقدمه بين يديك، فهذا إذن، لا يحتاج إلى لفظ صريح، والحاصل أن هذه الأمور تكون بالألفاظ الصريحة، والقرائن الواضحة الدالة عليها.
وقوله: «وإباحته» فلو أن أحداً أخذ شيئاً من الطعام قبل الإذن، أو القرينة كان ذلك حراماً، والناس لا يرون هذا حراماً، وإنما يرونه سوء أدب بتقدمه قبل الإذن، ولكن ظاهر كلام المؤلف أن الإباحة لا تكون إلا بصريح الإذن، أو القرينة.
ومن هنا نأخذ مسألة مهمة أنه إذا دعاك إنسان وجئت إلى البيت، ووجدت الباب مفتوحاً في الوقت الذي دعاك فيه، فهل يحتاج إلى إذن، أو أن فتح الباب يعتبر إذناً؟
هذا ـ أيضاً ـ عند الناس إذن عرفي، فلو جئت بعد العشاء الآخرة ووجدت الباب مفتوحاً فهو إذن.
ولكن لا شك أن الأفضل أن يستأذن؛ لأنه قد تكون إحدى النساء في فناء البيت ونحوه، أما إذا صرح، وقال: إذا وجدتم الباب مفتوحاً فادخلوا، أو وجد المفتاح على الباب كما كان في الزمن السابق، يتركون المفاتيح على الأبواب، فهذا إذن صريح.
قوله: «وإن علم أن ثم منكراً يقدر على تغييره حضر وغيّره» «إن علم» الضمير يعود على المدعو، «ثَمَّ» ظرف مكان يشار
بها للبعيد، مبني على الفتح في محل نصب، متعلق بمحذوف، خبر مقدم، «منكراً» اسم «أنَّ» مؤخر، والمنكر كل ما حرم الشرع، فإذا علم ـ مثلاً ـ أن في هذه الوليمة اختلاطاً للرجال بالنساء، أو آلات لهو، أو تصويراً، وما أشبه ذلك من الأشياء المحرمة، فهذا إن كان يقدر على تغييره أو تقليله يحضر؛ لأنه يجب على الإنسان أن ينكر المنكر إذا علم أنه إذا أنكر قل، فيحضر وجوباً لسببين:
الأول: أنه دعوة وليمة عرس.
الثاني: أن فيها إزالة لمنكر، أو تقليلاً له، وإزالة المنكر أو تقليله واجب.
مثل أن يكون رجل له هيبة وقيمة، بحيث إذا علم بالمنكر وأمر بإزالته أطاعوه، فهذا يجب عليه الحضور.
قوله: «وإلا أبى» ، أي: وإلا يقدر على تغييره امتنع من الحضور، وهل يذكر السبب أو لا؟ الأولى أن يبين السبب لأمور:
الأول: بيان عذره.
الثاني: ردع هؤلاء.
الثالث: ربما أن هؤلاء يجهلون أن هذا الأمر محرم، فإذا قال: لا أحضر؛ لأن عندكم كذا وكذا، وبين لهم أن هذا محرم، فيكفون عنه.
وتبيين الأسباب في الأمور التي تستنكر مما جاء به الشرع، قال ـ النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا رأيتم من يبتاع في المسجد فقولوا: لا
أربح الله تجارتك، فإن المساجد لم تُبنَ لهذا»
(1)
لأجل أن يعذر.
وقوله: «وإلا أبى» وجوباً أو جوازاً؟ وجوباً ما دام يعرف أن ثم منكراً، ولا يقدر على تغييره، فيحرم عليه الحضور، فإذا قال: أنا أحضر وأكره بقلبي، ولا أشاركهم.
نقول: هذا ليس بصحيح؛ لأنك لو كرهت بقلبك لما بقيت، فكل ما يكرهه الإنسان بقلبه لا يمكن أن يبقى فيه إلا مكرهاً، وقد قال الله عز وجل:{إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} [النساء: 140].
فلو قال قائل: إذا لم أحضر ترتب على هذا قطيعة رحم، كما لو كان صاحب الوليمة من أقاربه، وعندهم منكر ودعاهم، فإذا لم يُجب غضب عليه، وتقطعت الصلة بينهما.
فالجواب: ولو أدى ذلك إلى قطيعة الرحم؛ لأن الله ـ تعالى ـ قال في الوالدين، وهما أقرب الأرحام:{وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا} [لقمان: 15].
ومن التمس رضا الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس فلا يحل، وربما يكون امتناعه عن الحضور لوليمة
(1)
أخرجه الترمذي في البيوع، باب النهي عن البيع في المسجد (1321)؛ والدارمي في الصلاة باب النهي عن استنشاد الضالة في المسجد والشرى والبيع (1/ 347)(ط/البغا) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه ابن خزيمة (1305)؛ والحاكم (2/ 56) على شرط مسلم؛ وأقره الذهبي.
قريبه المشتملة على المحرم، سبباً لهدايته، فيعتب على نفسه، ويوبخ نفسه، ويقول: إنه بفعله هذه المعصية اكتسب هجران قريبه، فيرتدع، وكثيراً ما يقع مثل ذلك، إذا هجر الإنسان قريبه أو صاحبه سابقاً فإنه يراجع نفسه، ويتأمل، وربما يرجع عما كان عليه من المعصية.
المهم أنه لا يجوز الحضور، ولو أدى ذلك إلى قطيعة الرحم، والقاطع هو الداعي إذا قطعت الرحم.
وَإِنْ حَضَرَ ثُمَّ عَلِمَ بِهِ أَزَالَهُ، فَإِنْ دَامَ لِعَجْزِهِ عَنْهُ انْصَرَفَ، وَإِنْ عَلِمَ بِهِ وَلَمْ يَرَهُ وَلَمْ يَسْمَعْهُ خُيِّرَ،
..........
قوله: «وإن حضر» أي المدعو.
قوله: «ثم علم به» أي بالمنكر.
قوله: «أزاله» وجوباً؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه»
(1)
.
قوله: «فإن دام» الضمير يعود على المنكر.
قوله: «لعجزه عنه» اللام للتعليل، يعني من أجل عجزه عن تغييره.
قوله: «انصرف» هذا جواب الشرط، وينصرف وجوباً؛ لأنه لا يمكن أن يقعد مع قوم على منكر، ودليل ذلك ما سبق، وهو قوله تعالى:{وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَئُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [النساء: 140].
(1)
سبق تخريجه ص (328).
قوله: «وإن علم به ولم يره ولم يسمعه خُيِّر» أي: علم بالمنكر بعد حضوره، فيخير بين البقاء والانصراف؛ لأنه لا يشاهد المنكر ولا يسمعه فلا إثم عليه، وله أن ينصرف تعزيراً لهؤلاء الذين فعلوا المنكر.
وأيهما أولى أن ينصرف أو يبقى؟ الجواب: حسب المصلحة؛ لأن التخيير هنا ليس تخيير تشهٍ، ولكنه تخيير مصلحة؛ لأن المقصود بذلك مصلحة الغير، وكل ما كان المقصود به مصلحة الغير فالتخيير فيه للمصلحة لا للتشهي، فإذا كان في انصرافه ردع لهم ولغيرهم، فهذا لا شك أنه يجب عليه الانصراف، وقد يكون عدم الانصراف أحياناً أولى بحسب الحال، فلو فرض أنه في هذه الحال لو انصرف لصار فيه قطيعة رحم، فهنا قد نقول: بقاؤه أولى؛ لأنه لم يرَ ولم يسمعْ، ولكنه يعظ وينصح وينكر؛ فإن لم يستجيبوا فلا بأس أن يجلس؛ لأنه ليس مع الذين يفعلون المنكر.
وإذا كان هذا الرجل كبيراً، كعالم أو وزير ينظر إليه إذا انصرف، ويرون أن هذا من أعظم التعزير؛ فإنه حينئذٍ يجب أن ينصرف، لما في ذلك من إزالة المنكر، وأما إن كان من عامة الناس، إذا انصرف أو لم ينصرف لم يؤبه له، فهذا قد نقول بأنه مخير، وقد نقول بأنه إذا رأى من نفسه أن الانصراف أحسن لقلبه، وأتقى لربه انصرف.
وقوله: «وإن علم به» فإن ظن ولم يعلم، فالأصل وجوب الإجابة، فيحضر ثم إن تحقق ظنه، فإن قدر على تغييره غيَّره، وإلا انصرف.
وَكُرِهَ النِّثَارُ، وَالْتِقَاطُهُ، وَمَنْ أَخَذَهُ أَوْ وَقَعَ فِي حَجْرِهِ فَلَهُ، وَيُسَنُّ إِعْلَانُ النِّكَاحِ، وَالدُّفُّ فِيهِ لِلنِّسَاءِ.
قوله: «وكره» اعلم أن المكروه في اصطلاح الفقهاء غير المكروه في الكتاب والسنة، فالمكروه في الكتاب والسنة يراد به المحرم، كما في قوله ـ تعالى ـ لما ذكر المنهيات العظيمة قال:{كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا *} [الإسراء]، وفي الحديث عن ـ النبي عليه الصلاة والسلام:«إن الله كره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال»
(1)
، فالكراهة في لسان الشرع يراد بها المحرم إذا كانت في الأحكام الشرعية.
وأما الكراهة عند الفقهاء فمرتبة بين المباح والمحرم، يثاب تاركها امتثالاً، ولا يعاقب فاعلها.
قوله: «النثار» وهو أن يُنثر في الوليمة طعام، أو فلوس، أو ثياب، فهذا مكروه، فإن كان المنثور طعاماً، فمكروه لسببين:
الأول: إن فيه امتهاناً للنعمة.
الثاني: أن فيه دناءة وخلافاً للمروءة، لا سيما إذا كان من الشرفاء والوجهاء، أما عامة الناس فلا يكره منهم الالتقاط.
وإذا كان مالاً كان إفساداً له وإضاعة، ولو قيل بالتحريم في مسألة الدراهم، أي: الأوراق النقدية، لكان له وجه؛ لأنه عرضة لإتلاف المال وإضاعته، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال.
وقال بعض أهل العلم: إنه لا يكره النثار، واحتجوا بما
(1)
أخرجه البخاري في الزكاة/ باب قول الله تعالى: {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} (1477)؛ ومسلم في الأقضية/ باب النهي عن كثرة المسائل من غير حاجة
…
(593) عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.
جاء في الحديث في الأضحية أن الرسول عليه الصلاة والسلام ضحى عنده رجل فقال: «من شاء اقتطع»
(1)
.
وعندي أن في هذا الاستدلال نظراً؛ لأن هذا الرجل ما نثر، وإنما قدمها تقديماً، ورخص للناس بالأكل، كما لو قدم طعاماً، وقال للناس: تفضلوا؛ فهذا ليس بنثار، ففرق بينهما، وهذا لا بأس به، وجرت به العادة.
قوله: «والتقاطه» أي: يكره أخذ المنثور لما فيه من الدناءة، وعند الفقهاء ـ كما سيأتينا في باب الشهادات ـ أن الشهادة يعتبر لها شيئان: الصلاح في الدين، واستعمال المروءة، وعلى هذا فمن ذهب إلى النثارات ليلتقط منها يعتبر ساقط المروءة، فلا تقبل شهادته.
قوله: «ومن أخذه، أو وقع في حجره فله» أي: من أخذ النثار، أو وقع في حجره فهو له، أما من أخذه فظاهر، وأما من وقع في حجره، فلا يخلو من حالين:
الأولى: أن يكون قد أعد حجره لاستقباله، فهذا واضح أنه يكون له.
الثانية: أن لا يكون قد أعد حجره لذلك، بل هو غافل، فهذا ـ أيضاً ـ النثار له، وإن لم يقصد التملك، وعلى هذا فمن أخذه من حجره، فعليه أن يرده إليه، ولو أن أحداً جاء بسرعة فلما رآه أهوى والتقطه، ولو تركه لوقع في حجر الرجل، فهذا
(1)
أخرجه أحمد (4/ 350)؛ وأبو داود في المناسك/ باب في الهدي إذا عطب قبل أن يبلغ (1765) عن عبد الله بن قرط رضي الله عنه، وصححه في الإرواء (1958).
يجوز؛ لأن المؤلف يقول: «أو وقع في حجره» ، ولم يقل: أو أهوى إلى حجره.
ولو أنه حين وقع في حجره نفضه فهو لمن أخذه؛ لأن نفضه إياه يعني عدم قبوله، والهبة لا تلزم إلا بالقبول والقبض.
ولو أن أحداً أتى ببساط، واستعان بأشخاص آخرين، وقال: نجعل البساط على الناس حتى يقع كله على البساط، فهذا لا يجوز؛ لأنه يريد أن يتحجر، مثل الذي يتحجر مكاناً في المسجد.
قوله: «ويسن إعلان النكاح» أي: إظهاره، مأخوذ من العلانية التي هي ضد السر، فيسن إعلانه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«أعلنوا النكاح»
(1)
فأمر بإعلانه، ولما في ذلك من إظهار هذه الفضيلة وهي النكاح، فإن النكاح من سنن المرسلين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم عن نفسه إنه يتزوج النساء
(2)
، وقال الله تعالى:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} [الرعد: 38]، وما كان كذلك فإنه ينبغي إعلانه.
وأيضاً إعلانه فصل ما بين السفاح والنكاح؛ لأن السفاح، والعياذ بالله ـ وهو الزنا ـ إنما يفعله من يفعله سراً، وأما النكاح فيسن إعلانه والجهر به.
(1)
سبق تخريجه ص (95).
(2)
أخرجه البخاري في النكاح/ باب الترغيب في النكاح (5063)؛ ومسلم في النكاح/ باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه
…
(1401) عن أنس رضي الله عنه.
وقوله: «يسن» هذا هو المشهور من المذهب، وقيل: إنه يجب إعلان النكاح؛ لأمر النبي صلى الله عليه وسلم به، وهنا ثلاثة أشياء:
إعلان، وإسرار، وتواصٍ بكتمانه، أما الإعلان فهذا هو المشروع، وأما الإسرار بدون تواصٍ بكتمانه، فهذا خلاف المشروع، وعلى قول من يرى أن الإعلان واجب يكون إسراره معصية، يأثم الإنسان عليها.
وأما التواصي بكتمانه بأن يقول الزوج، أو الزوجة، أو وليها: هذا سر بيننا، لا تخبروا أحداً، فهذا لا شك أنه إثم، بل إن بعض أهل العلم قال: إنه يبطل بذلك النكاح؛ لأنه خلاف النكاح الصحيح، وهذا مذهب مالك رحمه الله.
فإن قال قائل: إذا كان في إسراره فائدة، ولم يتواصَ الناس بكتمانه ولكن أسروه، فهل هذا جائز؟
فالجواب: هذا ينبني على اختلاف القولين، إن قلنا: إن الإعلان واجب فإنه لا يجوز إسراره، وإن قلنا: إنه ليس بواجب جاز إسراره إذا كان في ذلك مصلحة، مثل أن يخشى الإنسان إذا كان معه زوجة أخرى، إذا أعلنه أن تتفكك العائلة، فهذا لا بأس به على القول بأنه سنة.
ويعلن بوسائل الإعلان المعروفة، منها مثلاً الدف، ومنها ما كان يفعل في الزمن الأول لما لم تكن أنوار كهرباء، يمشي الزوج من بيته إلى بيت الزوجة ومعه أنوار مصابيح.
ومن الإعلان مزامير السيارات، ولكن فيه غلو؛ لأنه مزعج جداً، ومن الإعلان ـ أيضاً ـ الأنوار التي تكون على بيت الزوج
والزوجة، وفيها غلو أيضاً؛ لأنهم يسرفون فيها، ومن الإعلان أيضاً ما ذكره بقوله:
«والدف فيه للنساء» الدَّف بالفتح وبالضم، أي: يسن الضرب بالدف لكنه للنساء، فهاهنا أمران:
أولاً: أن الذي يسن الدُّف، وهو غير الطبل والطار، فالدف يجعل الرق والجلد على وجه واحد منه، وأما الطبل والطار فبعضهم قال: هي الكُوْبة التي ورد فيها النهي
(1)
، يكون فيه الرَّق من الوجهين جميعاً، وهذا موسيقاه أكثر من الموسيقى الذي فيه الجلد من وجه واحد، ولهذا اشترط الفقهاء في الدف أن لا يكون فيه حلق ولا صنوج، وأخرجوا من ذلك الطبول، فقالوا: لا تسن في النكاح.
ثانياً: أنه للنساء خاصة دون الرجال، والدليل على أن ذلك أن عائشة رضي الله عنها أخبرت الرسول صلى الله عليه وسلم بأنها زفت امرأة إلى رجل من الأنصار، فقال:«ما كان معكم لهو؟ فإن الأنصار يعجبهم اللهو»
(2)
، وفي السنن:«هلاَّ بعثتم معها من يغني»
(3)
، فهذا يدل على أنه يسن الدف وأن يصحبه غناء أيضاً، ولكنه الغناء النزيه
(1)
أخرجه الإمام أحمد (1/ 274)؛ وأبو داود في الأشربة/ باب ما جاء في السكر (3685) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه، وأخرجه أيضاً في الأشربة/ باب في الأوعية (3696) عن ابن عباس رضي الله عنهما، وصححه ابن حبان (5341) ط/ الأفكار الدولية، وانظر التلخيص (2124).
(2)
أخرجه البخاري في النكاح/ باب النسوة اللاتي يهدين الزوجة
…
(5162) عن عائشة رضي الله عنه.
(3)
أخرجه أحمد (3/ 391) عن جابر رضي الله عنه، وابن ماجه في النكاح/ باب الغناء والدف (1900) عن عائشة رضي الله عنها، وحسنه في الإرواء (1995).
الطيب المنبئ عن السرور والبهجة، مثل:«أتيناكم أتيناكم فحيَّانا وحيَّاكم»
(1)
، وما أشبه ذلك من الكلمات الترحيبية الطيبة، أما الأغاني الماجنة فلا يجوز.
وقوله: «للنساء» ظاهره أنه لا يسن للرجال، لكن قال في الفروع: وظاهر الأخبار، ونص الإمام أحمد أنه لا فرق بين النساء والرجال، وأن الدف فيه للرجال كما هو للنساء؛ لأن الحديث عام:«أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالغربال»
(2)
أي الدف، ولما فيه من الإعلان، وإن كان الغالب أن الذي يفعل ذلك النساء، والذين قالوا بتخصيصه بالنساء وكرهوه للرجال، يقولون: لأن ضرب الرجال بالدف تشبه بالنساء؛ لأنه من خصائص النساء، وهذا يعني أن المسألة راجعة للعرف، فإذا كان العرف أنه لا يضرب بالدف إلا النساء، فحينئذٍ نقول: إما أن يكره، أو يحرم تشبه الرجال بهن، وإذا جرت العادة بأنه يُضرب بالدف من قبل الرجال والنساء فلا كراهة؛ لأن المقصود الإعلان، وإعلان النكاح بدف الرجال أبلغ من إعلانه بدف النساء؛ لأن النساء إذا دففن فإنما يدففن في موضع مغلق، حتى لا تظهر أصواتهن، والرجال يدفون في موضع واضح بارز، فهو أبلغ في الإعلان، وهذا ظاهر نص الإمام أحمد رحمه الله وكلامِ الأصحاب حتى «المنتهى» الذي هو عمدة المتأخرين في مذهب الإمام أحمد، ظاهره العموم وأنه لا فرق بين الرجال والنساء في مسألة الدف.
(1)
انظر: الحديث السابق.
(2)
سبق تخريجه ص (95).
ولكن لو ترتب على هذا مفسدة نمنعه، لا لأنه دف، وإنما نمنعه للمفسدة، وهكذا جميع المباحات إذا ترتب عليها مفسدة منعت، لا لذاتها ولكن لما يترتب عليها.
وهناك آلات عزف أخرى كالمزامير، والطنابير، والرباب، وما أشبهها، وهذه لا تجوز بأي حال من الأحوال لحديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«ليكونن في أمتي أقوام يستحلون الحِرَ والحرير والخمر والمعازف»
(1)
.
«الحِرَ» يعني الفرج، والمراد الزنا، والخمر كل ما أسكر، والحرير نوع معروف مما يلبس، لكنه لا يحرم على النساء لدعاء الحاجة إلى لبسه، والمعازف معروفة، واستحلالها نوعان: إما اعتقاد أنها حلال، كما يلبس ثوبه، وإما فعلها فعل المستحل مع اعتقاد أنها حرام، وكلا الأمرين موجود الآن، فمن الناس من يرى حل المعازف، إما عن اجتهاد، أو تأويل، وإما مجرد هوى، فيقول: الناس مختلفون في هذه المعازف، وأنا أرى أنها حلال، بدون أي اجتهاد، ومنهم من يفعلها فعل المستحل.
أما الأول: فوقع فيه علماء أجلاء، وضعفوا حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه بأن البخاري رحمه الله رواه معلقاً، والمعلق نوع من أنواع الضعيف، وقالوا: إن المعازف حلال، وممن قال بذلك ابن حزم الظاهري رحمه الله.
ولكن هذا القول ضعيف، وتعليل الحديث بالانقطاع ـ أيضاً ـ
(1)
أخرجه البخاري في الأشربة/ باب ما جاء فيمن يستحل الخمر ويسميه بغير اسمه (5590) عن أبي عامر الأشعري رضي الله عنه.
ضعيف؛ لأن البخاري رحمه الله رواه جازماً به، وما رواه البخاري معلقاً مجزوماً به فهو صحيح عنده، ثم إن الحديث قد روي موصولاً من طرق أخرى، وله شواهد كثيرة في الوعيد على من يستمعون إلى المعازف.
فالحديث لا شك في صحته، لكن ابن حزم رجل مجتهد، والمجتهد قد يخطئ وقد يصيب، وهناك أناس ليسوا أهل اجتهاد ولا أهل علم، ولكن يحكِّمون الهوى، يقولون: المسألة فيها خلاف، وما دامت المسألة خلافية فأمرها هين، فيعتقدون حله بناءً على الخلاف، وما ذاك إلا لهوى في أنفسهم، وكما قال الأول
(1)
:
وليس كل خلاف جاء معتبراً
إلا خلاف له حظ من النظرِ
وهذا لا حظ له من النظر، ومن أراد استقصاء هذه المسألة بأدلتها فعليه مراجعة كتاب:(إغاثة اللهفان) لابن القيم رحمه الله فقد أجاد في ذلك وأفاد.
وإذا كانت المعازف حراماً فإنه لا يحل منها إلا ما خصه الدليل، وبالقيود التي جاءت به.
وهذه قاعدة مهمة إذا جاءنا نص عام، ثم ورد تخصيصه فإنه يتقيد ـ أي التخصيص ـ بالصورة التي ورد بها النص فقط، مثلاً: وردت إباحة الدف في موضعه، فهل يمكن أن يقول قائل: إذاً جميع آلات العزف تباح في مثل هذه المناسبات قياساً على الدف؟
الجواب: لا يصح؛ لأن التخصيص إذا ورد يجب أن يكون
(1)
أبو الحسن ابن الحصار نقله عنه السيوطي في الأتقان (1/ 41).
في الصورة المعينة التي ورد بها، ولا يمكن أن تقاس بقية المعازف على الدف؛ لأنها أشد تأثيراً من الدف؛ وذلك لأصواتها ورناتها، والنفوس تطرب بها أكثر مما تطرب بالدف.
ثم إن بعضهم يختار أحسن النساء صوتاً ويجعلها تغني، ثم لا يجعلون بين النساء والرجال سوى جدار قصير يمنع الرؤية، ولكن لا يمنع الصوت، فيحصل بذلك فتنة، وأحياناً ـ والعياذ بالله ـ يجعلون مكبرات صوت على الأسواق، وهذا لا شك أنه فتنة، فإذا وصل إلى هذا الحد فإنه يجب على ولاة الأمور منعه، وأن ينبه الناس على أن هذا ليس هو الوارد.
قال في الروض
(1)
: «وكذا ختان، وقدوم غائب، وولادة، وإملاك» .
أما الختان فهو قطع قلفة الذكر، فيسن فيه ـ على كلام صاحب الروض ـ الضرب بالدف.
وأما قدوم الغائب، فقد جاءت السنة بإباحته، فقد أتت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت له: إني نذرت إن ردك الله سالماً أن أضرب بالدف بين يديك، فقال:«أوفِ بنذرك»
(2)
، ولو كان هذا معصية لمنعها من الوفاء بالنذر؛ لأنه لا وفاء لنذر في معصية الله.
(1)
الروض المربع مع حاشية ابن قاسم (6/ 418).
(2)
أخرجه الإمام أحمد (5/ 353، 356)؛ والترمذي في المناقب/ باب في مناقب عمر بن الخطاب رضي الله عنه (3690) عن بريدة رضي الله عنه، وقال: حسن صحيح غريب، وصححه ابن حبان (4386)؛ والحافظ في التلخيص (2123).
ولكن هل يشترط في الغائب أن يكون له جاه، وشرف، ومكانة، كأمير، ووزير، وما أشبه ذلك؟
الظاهر نعم بناء على القاعدة التي ذكرناها، وهي أن ما خرج عن العموم وجب أن يتقيد بما قيد به من حيث النوع، والوصف، والزمان، والمكان، وكل شيء؛ لأن الأصل العموم، فالظاهر أنه لا يجوز إلا لمن له شأن في البلد.
فإذا قال قائل: إذا كان الرجل ليس له شأن في البلد، لكن له شأن في قبيلته، مثل ما يكون في البادية مثلاً، فهل يضرب بالدف لقدومه؟
الجواب: نعم، يضرب بالدف لقدومه؛ لأنه فرح.
كذلك ـ أيضاً ـ في أيام العيد يجوز الدف للرجال والنساء على حد سواء؛ وذلك لأنه فرح عام، كلٌ يفرح به، وهو يوم سرور، والدف لا شك أنه يدخل السرور على الإنسان، ويفرح به ويسر.
وهل نطرد هذا في كل مناسبة فرح؟
الظاهر أننا لا نطرده إلا في فرح يكون عاماً، كالأعياد، وقدوم الغائب الذي له شأن في البلد، وما أشبه ذلك، وإلا فيقتصر على ما ورد.
وكذلك الولادة، إذا ولد للإنسان ولد أو بنت يضربون بالدف.
وكذلك الإملاك وهو عقد المِلكة، وقد يكون داخلاً في قول المؤلف «النكاح» ؛ لأن النكاح كما يكون بالدخول يكون بالعقد.
وكون صاحب الروض يرى هذا من باب الاستحباب فيه نظر، والصواب أنه لا يتجاوز الإباحة؛ لأن النكاح له شأن خاص، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإعلانه
(1)
، وأما هذه الأمور فغاية ما هنالك أن نقول: للنفس أن تطرب بعض الطرب بهذه الأشياء.
وقال بعض أهل العلم: كذلك في كل سرور حادث، وعليه نقول: إذا حصل لواحد نجاح في الدراسة، يجمع إخوانه ويضربون بالدف، وكل هذه الأشياء من التوسع، ولكن أن يصل إلى درجة الغلو كما يفعله بعض الناس، فهذا لا يجوز، ونحن الآن ابتلينا بآلات اللهو والأغاني، وهي بلوى عظيمة في الحقيقة أفسدت كثيراً من شؤون الناس وأمورهم، حتى أصبحت عند بعض الناس من الفنون التي يدعى لها، وتعطى الشهادات عليها، ويحمد عليها، وهذا لا شك أنه يوجب قسوة القلب، وغفلته عن الله عز وجل وعما خلق له، بل عن مصالح الدين والدنيا، ويصير الإنسان ما همه إلا الطرب، ولذا ينبغي أن يبصر المسلمون بأن هذا لا يجوز، وأقبح من هذا أن يتخذ مثل هذا ديناً، مثل ـ والعياذ بالله ـ من يُلحِّن بعض الآيات القرآنية، ويلحنها تلحيناً كأغنية ماجنة خبيثة، وربما يجعل لها ضرباً خاصاً بالموسيقى، فهذا ـ والعياذ بالله ـ من أكبر ما يكون من امتهان كلام الله عز وجل، وصاحبه على خطر عظيم.
ويوجد بعض الناس كذلك يتخذه ديناً، يذكرون بعض القصائد إما محزنة، وإما مسلية، وإما مشجعة ـ كما يزعمون ـ
(1)
سبق تخريجه ص (95).
على الدين، ويجعلونها مصحوبة بموسيقى معينة، ولهم إيقاعات خاصة تسمى بالتغبير، يأتون بقوس معين يسمونه قوس التغبير، ثم يجلسون يذكرون الله ـ تعالى ـ بنغمات معينة، وعندهم عود يضربون به، وكل من كان ضربته أشد وأقوى فهو دليل على أن قلبه أشد تعلقاً بالله، وهذه من طرق الصوفية، ولا شك أنها بدعة محرمة، وهذه لا توجب إخبات الإنسان لله تعالى، وإنما توجب اهتزاز الإنسان لهذه الانفعالات القلبية، ولكنها انفعالات طائشة في الواقع، فالرسول صلى الله عليه وسلم أخشع الناس ولم يسمع لهذا، ولا خلفاؤه الراشدون، ولا الصحابة رضي الله عنهم.
ومن هذا النوع ما يسمى بأناشيد دينية، فهذه كذلك ينهى عنها، وهي مما يصد عن الاتعاظ بالقرآن، فإن استمع إليها الإنسان أحياناً إذا شعر بكسل وخمول ليتنشط بها، فهذا لا بأس به، أما أن يجعلها ديدنه، فهذا لا يجوز، وبعضهم يقول: إننا نستمعها حتى لا نستمع إلى أغانٍ أخرى محرمة.
فنقول لهم: هل الإنسان مجبر أن يسمع إما إلى هذا، أو إلى هذا؟ ليس مجبراً، ومثل هذا من يلعب الورق، فإذا قلت له: هذه لا يجوز اللعب بها، فهي تلهي عن الصلاة وتوجب العداوة والبغضاء، قال لك: أيهم أحسن هذه أو الغيبة؟!
والجواب: نعم هي أهون، وليست أحسن من الغيبة، ولكن لست مجبراً أن تبقى مغتاباً أو لاعباً.
((تتمة)) في آداب الأكل والشرب من الروض المربع
يجب علينا أن نعلم نعمة الله عز وجل علينا بالأكل والشرب في تيسيره وتسهيله، حتى وصل إلينا، وقد أشار الله ـ تعالى ـ إلى هذه النعم في سورة الواقعة، فقال عز وجل بعد أن ذكر المادة التي خُلِق منها الإنسان، وذكر المواد التي يقوم بها الإنسان:{أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ *أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ *} [الواقعة] الجواب: بل أنت يا ربنا، {لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ *} [الواقعة] أي لو نشاء لنبت الزرع ونما واستتم، ثم جعله الله حطاماً، بما يُرسَل عليه من العواصف، أو القواصف، وهذا أشد في الحسرة، من كونه لا ينبت، يعني أن الله لم يقل: لو نشاء لم ينبت، بل قال:{لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا} وهذا أشد؛ لأن تعلق النفس به بعد أن نما واستتم أشد من تعلقها به وهو بذر {إِنَّا لَمُغْرَمُونَ *بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ *أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ *} والطعام لا يكون إلا بماء {أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ *} الجواب: بل أنت يا ربنا {لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا} [الواقعة: 70] ولم يقل: لو نشاء لم ننزله من المزن؛ لأن كون الماء بين يديك، ولكن لا تستطيع أن تشربه لكونه أجاجاً أشد حسرة {فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ} {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ *} ويصلح بها الطعام {أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُونَ *} [الواقعة] الجواب: بل أنت يا ربنا.
اذكر هذه النعم، قبل أن تذكر نعمة الله عليك بالأكل والشرب، ثم اذكر نعمة الله عليك بأنك تسيغ الأكل، ويسهل عليك، وتتلذذ به مذاقاً، وتتلذذ به مقراً في المعدة، وتتلذذ به إخراجاً، نعمٌ عظيمة، ألم يكن في الناس من لا يستطيع أن يسيغ اللقمة أو التمرة؟ بلى، فاحمد الله.
كذلك ـ أيضاً ـ من الناس من لا يتنعم بقرار الطعام في المعدة، ومن الناس من لا يتنعم بإخراج هذا الأكل بعد أن تفرقت الفائدة في الجسد، إذاً اذكر هذا.
إننا في الحقيقة ـ ونسأل الله أن يغفر لنا ويعفو عنا ـ نأكل كما تأكل الأنعام، أكثر ما نأكل تشهياً فقط، دون أن نذكر هذه النعم التي بأيدينا، وليست من صنعنا، اللهم ذكِّرنا ما نسينا، وعلمنا ما جهلنا.
هذا الأكل الذي تدعو إليه الطبيعة، جعل الله سبحانه وتعالى للموفقين فيه عبادات عند البدء به، وعند الانتهاء منه، وفي أثنائه، فأولاً: اذكر أنك تأكل امتثالاً لأمر الله؛ لأن الله أمرك فقال: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} [الأعراف: 31]، ثانياً: تأكل لتحفظ صحتك وعافيتك، حتى في العبادة إذا كنت مريضاً وخفت من الماء، فإنك تتيمم حفاظاً على الصحة، ووقاية للبدن من المرض، ثالثاً: تأكل لتقوى على طاعة الله، ولا سيما في السحور حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم:«تسحروا فإن في السحور بركة»
(1)
، فيكون أكلك الذي تدعو إليه النفس والفطرة عبادة من أجلِّ العبادات.
ثم هناك عبادات مشروعة منها: التسمية عند الأكل، والتسمية عند الشرب، يقول صاحب الروض:«تسن التسمية»
(2)
،
(1)
أخرجه البخاري في الصوم/ باب بركة السحور من غير إيجاب (1923)؛ ومسلم في الصيام/ باب فضل السحور وتأكيد استحبابه
…
(1095) عن أنس رضي الله عنه.
(2)
الروض المربع مع حاشية ابن قاسم (6/ 419).
وهذا قول كثير من العلماء إن لم يكن أكثرهم، والصواب أن التسمية واجبة عند الأكل والشرب، وأن الإنسان يأثم بتركها لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، حيث قال لعمر بن أبي سلمة رضي الله عنه:«يا غلام سمِّ الله»
(1)
مع أنه صغير، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الإنسان إذا لم يسمِّ فإن الشيطان يشاركه في طعامه وشرابه
(2)
، وأتت جارية تُدفَع دفعاً، والنبي صلى الله عليه وسلم جالس، حتى قعدت ومدت يدها لتأكل، ولكنها لم تسم، فأمسك النبي صلى الله عليه وسلم بيدها وأمرها أن تسمي، وأخبر أن يد الشيطان ويد الجارية في يده
(3)
صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على أن الشيطان يتحين الفرص أن يحضر مع من لم يحضر أول الأكل، فيأكل بلا تسمية، فالصواب أن التسمية واجبة.
قوله: «جهراً» وهذا من أجل التعليم إذا كان معه أحد، ومن أجل إعلان هذا الذكر الذي يطرد به الشيطان إذا لم يكن معه أحد، فيقول: بسم الله.
وهل يزيد على ذلك بأن يقول: بسم الله الرحمن الرحيم؟
الجواب: إن اقتصر على قول بسم الله فحسن، وإن زاد: الرحمن الرحيم فحسن أيضاً، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
(1)
أخرجه البخاري في الأطعمة/ باب التسمية على الطعام، والأكل باليمين (5376)، ومسلم في الأشربة/ باب آداب الطعام والشراب وأحكامهما (2022) عن عمر بن أبي سلمة رضي الله عنهما.
(2)
أخرجه مسلم في الأشربة/ باب آداب الطعام والشراب وأحكامهما (2018) عن جابر رضي الله عنه ..
(3)
أخرجه مسلم في الأشربة/ باب آداب الطعام والشراب وأحكامها (7/ 20) عن حذيفة رضي الله عنه.
إذا زاد الرحمن الرحيم فهذا حسن؛ لأن هذا تكملة البسملة، ففي القرآن الكريم: بسم الله الرحمن الرحيم، لكنه قال رحمه الله: وأما زيادتها عند الذبح أي: الرحمن الرحيم ـ فقد ذكر بعض أهل العلم أنها غير مناسبة؛ لأنك ستفعل ما لولا أن الله أحله لك ما كان لك أن تفعله، وهو ذبح الحيوان، فلا يناسب ذكر هذين الاسمين عند الذبح.
وأما ما قاله بعض الإخوان: إنه يكره أن تقول: الرحمن الرحيم، فعجبٌ من هذا، كيف يتجرأ فيحكم بما ليس له به علم؟!
والذي يقول: الرحمن الرحيم، ما زاد إلا خيراً؛ لأن من رحمة الله أن الله يسر لك هذا الأكل، فهي لا تنافي الحال، ولا تنافي الشرع، فلم يرد النهي، ولا يحل لإنسان أن يقول عن شيء: إنه يكره إلا بدليل؛ لأن الكراهة حكم شرعي تحتاج إلى دليل، أو إلى تعليل صحيح يشهد له النص.
وإذا كان الإنسان لا يحسن البسملة باللغة العربية، ويحسنها بلسانه فإنه يسمي بلسانه، وإذا كان أخرسَ لا ينطق أبداً فبالإشارة، وإذا كان معه أناس وبدؤوا بالأكل جميعاً، فهل تكفي تسمية الواحد، أو لا بد أن يسمي كل إنسان بنفسه؟
الجواب: إن جاؤوا مرتبين، بحيث يأتي الإنسان ولم يسمع تسمية الأول، فلا بد أن يسمي، كما جاء في الحديث في قصة الجارية، وأما إذا كانوا بدؤوا جميعاً فالظاهر أن التسمية تكفي من واحد، لا سيما إذا نوى أنه سمى عن نفسه وعمن معه، ومع ذلك فالذي أختار أن يسمي كل إنسان بنفسه، وإن بدؤوا جميعاً.
قوله: «والحمد إذا فرغ» أي: يسن الحمد إذا فرغ، فيقول: الحمد لله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة فيحمده عليها، ويشرب الشربة فيحمده عليها»
(1)
، ولا شك أن هذا من باب الشكر لله عز وجل على نعمه، أن يسر لك هذا الطعام، فاحمد الله على ذلك.
ولكن هل نقول: إذا فرغ من جميع الأكل، أو من كل أكلة، ومن كل شربة؟
الظاهر: الأول؛ لأن الأكلات، وإن تتابعت فهي أكلة واحدة، فإذا فرغ من أكله فليحمد الله.
مثال ذلك: رجل أمامه رز يأكله، فهل نقول: كلما أكلت لقمة قل: الحمد الله، أو السنة أن تحمد الله إذا فرغت نهائياً؟
الجواب: الثاني.
كذلك ـ أيضاً ـ رجل يأكل تمراً، فلا تقول له: احمد الله كلما أكلت تمرة، فما دامت أكلة واحدة، سم عند أولها، واحمد عند آخرها.
قوله: «وأكله مما يليه» ، هذا إذا كان معه أحد، فإن من الأدب أن يأكل مما يليه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر بن أبي سلمة رضي الله عنهما وهو ربيبه:«وكل مما يليك»
(2)
، ولأن هذا من المروءة والأدب، لكن إذا كان وحده فله أن يأكل من أي جانب،
(1)
أخرجه مسلم في الذكر والدعاء/ باب استحباب حمد الله تعالى بعد الأكل والشرب (2734) عن أنس رضي الله عنه.
(2)
سبق تخريجه ص (358).
ولكن لا يأكل من أعلى الصحفة؛ لأن البركة تنزل في أعلاها، فيأكل من الجوانب، ولا حرج.
واستثنى العلماء رحمهم الله إذا كان الأكل أنواعاً فلا بأس أن يأخذ مما لا يليه، وقد جاءت بذلك السنة، كما لو كان على الطعام لحم، فاللحم في الوسط، فله أن يتناول منه، وكذلك لو فرض أن المائدة فيها أنواع من الإدام، ويوجد نوع يلي صاحبه، ونوع لا يليه، فله أن يتناول منه، لكن هنا يحسن أن يستأذن؛ لأنه من كمال الأدب.
قوله: «بيمينه» يعني يسن أكله بيمينه لقول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر ابن أبي سلمة رضي الله عنها: «كل بيمينك» ، وهذا الذي ذكره رحمه الله هو المشهور من المذهب أن الأكل باليمين أفضل من الأكل باليسار.
والقول الراجح في هذه المسألة: أن الأكل باليمين واجب، ودليل هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الأكل بالشمال، وقال:«لا يأكل أحد بشماله، ولا يشرب بشماله، فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله»
(1)
، وقد نهينا عن اتباع خطوات الشيطان.
والعجب أن بعض السفهاء منا ـ معشر المسلمين ـ يرون أن الأكل بالشمال تقدم، فلا أدري كيف يرونه كذلك وهم إنما يقلدون الكفار بهذا الفعل الرديء ولا يستفيدون من سَبْقهم في الصناعات المفيدة، ولكن هذا من إملاء الشيطان ولا شك، فما دام الشيطان
(1)
أخرجه مسلم في الأشربة/ باب آداب الطعام والشراب وأحكامهما (2020) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
يأكل بشماله، فإنه يحب من بني آدم أن يتابعوه على هذا.
فالصواب أن الأكل بالشمال حرام إلا لعذر، وأكل رجل بشماله عند النبي صلى الله عليه وسلم فنهاه وقال:«كل بيمينك» ، قال: لا أستطيع، يعني لا يستطيع نفسياً؛ لأنه ما منعه إلا الكِبْر ـ والعياذ بالله ـ فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«لا استطعت» فما رفع الرجل يمينه إلى فمه أبداً
(1)
؛ لأن الله ـ تعالى ـ أجاب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه بحق، وهذا نوع من التعزير غريب، أن يعزر الإنسان بأن يدعى عليه بما يشبه معصيته؛ لأن التعزير والتأديب بأي نوع كان.
فإن قال قائل: إذا كان الإنسان يأكل طعاماً، وأراد أن يشرب، فإن أخذ باليمين تأثر الإناء بالطعام، وهذا ربما يكرِّه غيره أن يشرب به، فهل هذا يبيح للإنسان أن يشرب بالشمال؟
الجواب: لا؛ لأن المحرم لا يباح إلا للضرورة، وهذا ليس بضرورة، ويستطيع الإنسان أن يمسك هذا الإناء من أسفله، فإن كان كبيراً يضعه على الراحة ويشرب، وإن كان كأساً فهو سهل؛ لأن الكأس يمكن للسبابة والإبهام الإحاطة به، فيمسكه من الأسفل ويشرب.
على أننا في الوقت الحاضر يسر الله الأمر، وزالت هذه العلة نهائياً بكؤوس البلاستيك، فهذا الكأس لا يشرب به غيرك؛ لأنه سيرمى، لكن هذا كله من وحي الشيطان يتحجج به بعض الناس.
(1)
أخرجه مسلم في الأشربة/ باب آداب الطعام والشراب وأحكامهما (2021) عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه.
قوله: «بثلاث أصابع» أي: ينبغي أن يأكل الطعام بثلاث أصابع: الإبهام، والوسطى، والسبابة، هذا إذا أمكن، لكن إذا كان لا يمكن الأكل بثلاث أصابع، كالرز ـ مثلاً ـ فإنه يأكل بما يمكن، وجاءت السنة بذلك؛ لأن الأكل بالأصابع كلها يدل على الشره والجشع، لا سيما إذا كان معه أحد.
والعجب أن بعض الناس استنبط من هذا النص أنه ينبغي أن يأكل اللحم بالشوكة، وغير اللحم بالملعقة، قال: لأنه يمسك الشوكة بثلاث أصابع، والملعقة بثلاث أصابع، سبحان الله! نحن لا يضرنا في الوقت الحاضر إلا الأفهام الخاطئة! فهذا لا يقال: أكل بالأصابع، وإنما بالشوكة وبالملعقة، والعلماء رحمهم الله مع قولهم إنه يأكل بثلاث أصابع قالوا: لا بأس بالأكل بالملعقة، قال شارح الإقناع:(وقد يؤخذ من قول الإمام أحمد رحمه الله «أكره كل مُحدَث» أنه يُكره الأكل بالملعقة)؛ لأنها محدثة، ونحن لا نرى كراهة الأكل بالملعقة، لكن لا نرى أن الأكل بها يعني الأكل بثلاث أصابع.
فالصواب: أن الأكل بالملعقة لا بأس به، لا سيما مع دعاء الحاجة، وقد حدثني بعض الناس عن شخص له وزنه أنه كان مع جماعة كانوا يأكلون بالملعقة وهو يأكل بيده، فقالوا له: يا فلان لماذا لا تأكل بالملعقة؟ قال: أنا آكل بملعقة لا يأكل بها إلا أنا، وأنتم تأكلون بملعقة كل الناس يأكلون بها، أنا آكل بملعقة باشرتُ تنظيفها، وأنتم تأكلون بملاعق ما باشرتم تنظيفها، فربما يكون من نظفها نظفها جيداً، وربما لم ينظفها، وهذا جواب
جيد، لكن لكل امرئ من دهره ما تعودا، فنحن لا نستطيع أن ننكر الأكل بالملعقة، لكننا لا نقول: إنه هو السنة؛ لأنه أكل بثلاث أصابع.
قوله: «وتخليل ما علق بأسنانه» ، لأن بقاء هذا بين الأسنان يضر بها، وباللثة، وربما يحدث به رائحة كريهة، ودفع المؤذي من الأمور المسنونة.
قوله: «ومسح الصحفة» ، وهذا ـ أيضاً ـ مما جاءت به السنة، يعني أن تمسحها من بقية الطعام، وتلعق أصابعك أيضاً، قال النبي صلى الله عليه وسلم:«فإنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة»
(1)
.
قوله: «وأكل ما تناثر» وهذا سنة أيضاً، ولكن بعد إزالة ما فيه من أذى، مثل لو سقطت تمرة، أو قطعة من الطعام، فخذها وامسح ما بها من أذى ثم كُلْها، قال النبي صلى الله عليه وسلم:«ولا تدعها للشيطان»
(2)
، وهذا يدل على أن الشيطان يأكل ما تناثر إذا لم يؤكل، وأما إذا لم يمكن أكل ما تناثر فإنه يترك.
قوله: «وغض طرفه عن جليسه» وهذا ـ أيضاً ـ من الآداب، أن يغض طرفه عن جليسه الذي يأكل معه، فلا تجلس تنظر ما أكل هذا، وما أخذ هذا، وتجلس تراقبه من حين يأخذ الشيء حتى يضعه في فمه، فهذا ليس من الأدب، والناس كلهم ينتقدون هذا.
(1)
أخرجه مسلم في الأشربة/ باب استحباب لعق الأصابع والصحفة
…
(2033) عن جابر رضي الله عنه.
(2)
أخرجه مسلم في الأشربة/ باب سابق (2033)(134) عن جابر رضي الله عنه.
قوله: «وشربه ثلاثاً مصًّا» أي: سن أن يشرب بثلاثة أنفاس
(1)
، لأن النبي صلى الله عليه وسلم إذا شرب شرب مصًّا، وقال:«إنه أهنأ وأبرأ»
(2)
، ففيه ثلاث فوائد، وينبغي أن يكون ذلك مصًّا لا جرعاً؛ وذلك لأن الماء لا يشرب إلا عند الحاجة إليه، إذا عطش الإنسان، والعطش التهاب المعدة وحرارتها، فإذا جاءها الماء جرعاً فإنه يؤثر عليها؛ لأنه يصطدم البارد بالحار، فإذا صار مصاً صار الذي ينزل خفيفاً يسيراً، ويكتسب حرارة من الفم إلى المعدة، فيرد على المعدة وهو ساخن مناسب لها.
ويكون ثلاثاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «فإنه أهنأ وأبرأ وأمرأ» ، ولذلك يقول العارفون: إنك إذا وجدت شخصاً عطشان جداً لا تعطيه الماء دفعة واحدة؛ لأنك إن فعلت فإنه يهلك، لكن أعطه شربة وجرعة واحدة، ثم تمهل قليلاً، ثم أعطه الثانية، وهكذا؛ لئلا يهلك.
وقوله: «مصًّا» ، هذا بالنسبة للماء، وأما اللبن والمرق وما أشبههما فإنه يُعب عباً، والفرق بينهما ظاهر؛ لأن الماء جاف، وليس فيه دهونة، ولا شيء مناسب للمعدة، فكان الأولى أن يأتيها شيئاً فشيئاً، بخلاف اللبن وشبهه فتعبه عبًّا، ولكن بثلاثة أنفاس.
(1)
أخرجه البخاري في الأشربة/ باب الشرب بنفسين أو ثلاثة (5631)؛ ومسلم في الأطعمة/ باب كراهة التنفس في نفس الإناء
…
(2028) عن أنس رضي الله عنه.
(2)
أخرجه البيهقي (1/ 40) عن ربيعة بن أكثم رضي الله عنه.
قوله: «ويتنفس خارج الإناء» فيكره أن يتنفس في الإناء، يعني لو فرض أن رجلاً نفسه قليل، ولا يصبر عن النفس، وأراد أن يتنفس، فليَبِنْ الإناءَ عن فمه ثم يتنفس.
قوله: «وكره شربه من فم سقاء» لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك
(1)
، ولأنه قد يكون في السقاء أشياء مؤذية لا يدري عنها، فإذا صب الماء في الإناء فإنه ينظر إلى الماء، هل فيه أشياء مؤذية أو لا؟ ومما يؤذي «العلقة» ، وهي دودة حمراء تتغذى من الماء، فإذا شرب الإنسان من ماء فيه علقة، ودخلت إلى جوفه، فأحياناً تلصق على جدار المريء، أو ما قبله، وأحياناً تنزل إلى المعدة، فتلتصق به وتعضه وتتغذى منه، ثم تكبر وتتضخم حتى تسد النَّفَس تماماً، ولهذا أحياناً قد يهلكون بها.
قوله: «وفي أثناء طعام بلا عادة» أي: يكره الشرب في أثناء الطعام بلا عادة، فإن كان الإنسان اعتاد هذا فلا بأس، قال بعضهم: ويكره ـ أيضاً ـ بعد الطعام مباشرة بلا عادة.
وقوله: «بلا عادة» يفهم منه أن المسألة ترجع إلى ناحية طبية، قالوا: لأن الشرب أثناء الطعام يفسده، وتزول به منفعته، وكذلك إذا شرب مباشرة، فإذا كان قد اعتاد هذا فإنه لا يضره.
(1)
أخرجه البخاري في الأشربة/ باب الشرب من فم السقاء (5627) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وقال بعضهم أيضاً: إنه إذا شرب أثناء الطعام فإنه يشعر أن معدته كالسقاء ترجرج، أما إذا كان هناك عادة، فالعادات لها طبائع ثابتة، فكثير من الناس لا يهمه أن يشرب أثناء الطعام، أو بعده مباشرة فلا يضره؛ لأنه معتاد.
ثم إن الطعام إذا كان حاراً والماء بارداً، صار هناك مضرة من جهة أخرى، وهي ورود البارد على الحار، ومعلوم أن الحار يوجب تمدد العروق والجلد، فإذا جاء البارد تقلص بسرعة فيكون في ذلك خطر.
قوله: «وإذا شرب ناوله الأيمن» اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم
(1)
، وهذا إذا كان الإناء واحداً، أما إن كان لكل واحد إناء، فالأمر واضح.
ولكن إذا دخل الساقي بمن يبدأ؟ هل يبدأ بمن هو عن يمينه أول ما يدخل، أو بالذي أمامه؟
نقول: يبدأ بالأكبر كما جاءت به السنة، ولا يبدأ بمن هو عن يمينه من عند الباب، وبه نعرف أن ما يفعله بعض الناس إذا دخل صافح كل من في المجلس من أول واحد عن اليمين إلى آخر واحد عن اليسار، أن هذا ليس من السنة، لا من جهة المرور
(1)
أخرجه البخاري في المساقاة/ باب من رأى صدقة الماء
…
(2353)؛ ومسلم في الأشربة/ باب استحباب إدارة الماء واللبن ونحوهما
…
(2029) عن أنس رضي الله عنه.
بالناس ومصافحتهم، ولا من جهة أنه يبدأ من جهة اليمين الذي عند الباب، وهو أصغر القوم.
أما الأول فمن المعروف أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل جلس حيث ينتهي به المجلس
(1)
، ولا يمر على الناس يسلم عليهم.
وأما الثاني فلأن النبي صلى الله عليه وسلم كان معه مسواك يتسوك به، فأراد أن يناوله الأصغر، فقيل له: كبِّر، فأعطاه الأكبر
(2)
، وعلى هذا فإذا كان الإنسان مقبلاً على الناس يبدأ بالأكبر، أما إذا كان بيده إناء وأراد أن يناوله فيبدأ باليمين، فإذا كان عن يمينه واحد، وعن يساره واحد فيعطي الأيمن.
قوله: «ويسن غسل يديه قبل طعام» أي: يسن أن يغسل يديه قبل الطعام، وهذه المسألة مختلف فيها، هل من السنة أن يغسل يديه قبل الطعام مطلقاً، أو إذا كان هناك حاجة؟
الظاهر التفصيل، فإذا كان هناك حاجة فاغسل يديك، ومن الحاجة أن تكون قد لمست شيئاً تتلوث به يدك، أو كثر سلام الناس عليك، فأحسست برائحة كريهة، فهنا الأفضل أن تغسل يديك، وإلا فلا حاجة.
(1)
أخرجه الطبراني في الكبير (22/ 158)، والبيهقي في شعب الإيمان (2/ 156) عن الحسين عن أبيه رضي الله عنهما، وانظر: مجمع الزوائد (8/ 277).
(2)
أخرجه البخاري في الوضوء/ باب دفع السواك إلى الأكبر (246)؛ ومسلم في الرؤيا/ باب رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم (2271) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
قوله: «متقدماً به ربُّه» يعني أن الذي يتقدم في غسل يديه هو رب البيت.
قوله: «وبعده متأخراً به ربُّه» أي: أنه في آخر الطعام يكون رب البيت آخر الناس غسلاً ليديه. وهذه راجعة للعرف والمروءة، وفي وقتنا، فالغالب أن رب البيت لا يشارك الناس.
قوله: «وكره رد شيء من فمه إلى الإناء» ، لأن هذا خلاف المروءة، ويُكرِّه الطعام للناس، والإنسان ينبغي له أن يتعامل معاملة طيبة مع الناس، ويتأدب بالأدب الرفيع.
أما إذا كانت ثمرة أو لقمة فهي أشد وأشد، ومن ذلك أيضاً أن يأخذ قطعة اللحم يريد أكلها، فيجدها قاسية فيردها في الإناء، فهذا مكروه وخلاف المروءة.
قوله: «وأكله حاراً» أي: يكره أكل الحار الشديد، والذي تتألم منه المعدة، والطعام يمر على ثلاثة أشياء: اليد، والفم، والمعدة، فاليد تحس بالحر أكثر؛ لأنها لم تتعود على الحار، فأحياناً يكون الطعام حاراً في اليد، ويدخله الإنسان في فمه فما يتأثر، وبعض الناس إذا كان الطعام حاراً في الفم وتأثر به، أنزله بسرعة إلى المعدة، وهذا غلط؛ لأن هذا يوجب أن تنصهر المعدة ويحدث فيها قرحة، ولهذا أرى أن صاحب البيت إذا رأى أن الطعام حار، فإنه يصبرحتى يبرد، ثم يقدمه للضيوف؛ لئلا يضرهم وهم لا يشعرون.
قوله: «أو من وسط الصحفة» ، كذلك يكره أن يأكل من
وسط الصحفة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، وقال:«إن البركة تنزل في أعلاها»
(1)
.
قوله: «أو أعلاها» الغالب أن الأعلى هو الأوسط، وإذا كانت سواء، كما في صحون الرز فلا يأكل من الوسط.
قوله: «وفعله ما يستقذره من غيره» هذه مهمة جداً، والمعنى أنك لو فعل غيرك هذا لرأيته قذراً، فلا تفعل مثله، وهذا مأخوذ من قول الرسول صلى الله عليه وسلم:«لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»
(2)
، ومن قوله صلى الله عليه وسلم:«من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه»
(3)
.
قوله: «ومدح طعامه وتقويمه» أي: أن هذا مكروه؛ لأنه يمنُّ به على الضيف.
قوله: «وعيب الطعام» أي أنه مكروه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يعيب الطعام، إن اشتهاه أكله، وإلا تركه
(4)
أما أن تعيبه وتقول: طعامك مالح! وشايك مر! وتمرك حشف! فهذا مكروه،
(1)
أخرجه أبو داود كتاب الأطعمة/ باب ما جاء في الأكل من أعلى الصحفة (3772).
(2)
أخرجه البخاري في الإيمان/ باب من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه (13)؛ ومسلم في الإيمان/ باب الدليل على أن من خصال الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه (45) عن أنس رضي الله عنه.
(3)
أخرجه مسلم في المغازي/ باب وجوب الوفاء ببيعة الخليفة الأول فالأول (1844) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
(4)
أخرجه البخاري في المناقب/ باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم (3563)؛ ومسلم في الأطعمة/ باب لا يعيب الطعام (2064) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
أما إن أراد أن يعيبه عند أهله حتى لا يعودوا لمثل ذلك، فهذا جائز، بل هو من التعليم، وهنا لم يعب الطعام، ولكن عاب صنعة أهله.
قوله: «وقِران في تمر» أي: يكره أن يأكل تمرتين جميعاً.
قوله: «مطلقاً» أي سواء كان معه مشارك أم لا، وبعض العلماء يقول: إن لم يكن معه مشارك فهو حر، يقرن بين اثنتين أو ثلاث، أما إن كان معه أحد فيكره ذلك؛ لأنه سيأكل أكثر من صاحبه، فيكون في ذلك ظلم.
وأما كراهته إذا كان وحده فلأنه يدل على الشره، وأيضاً ربما غص بذلك فيتضرر.
وقوله: «تمر» احترازاً مما دون التمر، كالعنب والفستق، فإنه يجوز القران فيه، إلا إذا كان معه أحد يضيق عليه، فلا يفعل.
قوله: «وأن يفجأ قوماً عند وضع طعامهم تعمداً» ، وهذا ما يسمى بالطفيلي، فإذا ظن أنهم قدموا الطعام فاجأهم حتى لا يستطيعوا أن يقولوا له شيئاً.
فمثل هذا يكره؛ لأنه أولاً: دناءة، وثانياً: إن فيه إحراجاً لأهل البيت.
أما إذا كان عن غير عمد، كإنسان أراد أن يزور صاحبه، فدخل ووجدهم على الطعام فهذا لا بأس به.
قوله: «وأكله كثيراً بحيث يؤذيه» أي: أن ذلك يكره، وعلامة الأذى أن يضيق النفَس، ويتعب عند القيام، والاضطجاع، وما أشبه ذلك.
واختار شيخ الإسلام رحمه الله أن هذا حرام، وهو الصواب، فلا يجوز للإنسان أن يأكل أكلاً يؤذيه.
قوله: «أو قليلاً بحيث يضره» الأكل القليل ينظر، إذا كان البدن يتغذى به فهذا خير؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«بحسب ابن آدم لُقيمات يُقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه»
(1)
.
فكونك تأكل قليلاً، ثم تعود إلى الأكل قريباً أحسن من كونك تأكل كثيراً ثم تتأخر إلى العودة إلى الأكل، ولهذا نسمع عن بعض الأمم أنهم يأكلون قليلاً، ثم يرجعون إلى الأكل عن قرب، فتجدهم يأكلون في اليوم والليلة خمس مرات، ويقولون: هذا أصح للبدن، وما هذا ببعيد؛ لأن الحديث السابق يدل عليه؛ لأنه إذا صار الطعام قليلاً كان هضمه من المعدة بيسر وسهولة، ولا يشق عليها، وإذا هضمته وطلبت طعاماً فكل، فلن يضرك، ولكن أكثر الناس لا يقدر على هذا، فإذا جلس على الطعام لا بد أن يملأ البطن، وهذا أحياناً لا بأس به، أي: أن تملأ بطنك بالطعام حتى لا تجد مكاناً للطعام، كما جاء ذلك في حديث أبي هريرة رضي الله عنه فقد كان فقيراً، وكان يصحب النبي صلى الله عليه وسلم على شبع بطنه، وفي يوم من الأيام خرج الناس من المسجد، فجعل إذا لقي أحداً يسأله: ما الذي بعد آية كذا؟ وهو يريد بذلك: أن يدعى من أحدهم، ولكن لم يدعه أحد إلى بيته، حتى
(1)
أخرجه الترمذي في الزهد/ باب ما جاء في كراهية كثرة الأكل (2380)؛ وابن ماجه في الأطعمة/ باب الاقتصاد في الأكل وكراهة الشبع (3349) عن المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه، وقال الترمذي: حسن صحيح.
خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فلما رآني تبسم؛ لأنه عرف أن به جوعاً، قال: فذهبت معه، فجيء إليه بقدح من لبن، فقال لي:«ادع أهل الصفة» يريد أن يسقيهم من اللبن، فقال أبو هريرة في نفسه: إذا دعوت أهل الصفة فماذا يبقى لي؟! ولكن لا بد لي من امتثال أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، فذهب ودعاهم، وكانوا أحياناً يبلغون ثمانين رجلاً، فجاءوا وشربوا كلهم من هذا الإناء، وبقي فيه شيء، وكان أبو هريرة رضي الله عنه هو ساقيهم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:«اشرب أبا هر» ، فشرب، ثم قال له:«اشرب» ، فشرب، حتى ما وجد مكاناً للبن في بطنه، فقال: والله يا رسول الله لا أجد له مساغاً، فأخذ العلماء من هذا أنه يجوز للإنسان أن يملأ بطنه من الطعام، لكن أحياناً.
وانظر إلى البركة فهذا الإناء كفى أهل الصفة، وأبا هريرة، وبقيت فيه بقية، وكان يقول: إن الناس يقولون لي: أبا هريرة، وإن النبي صلى الله عليه وسلم سمَّاني أبا هر
(1)
، والأحسن أبو هر؛ لأنه مكبر، ولأنها تسمية النبي صلى الله عليه وسلم له، ولهذا كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه أحسن الألقاب عنده أبو تراب، لأنه كان نائماً يوماً في المسجد، وقد علق التراب بجسمه، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يمسح عنه التراب، ويقول له:«قم أبا تراب»
(2)
.
(1)
أخرجه البخاري في الرقاق/ باب كيف كان عيش النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه
…
(6452) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
أخرجه البخاري في فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم/ باب مناقب علي بن أبي طالب (3703)؛ ومسلم في الفضائل/ باب من فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه (2405) عن سهل بن سعد رضي الله عنه.
وقال صاحب الحاشية
(1)
: «وليس من السنة ترك أكل الطيبات» وهذا صحيح، بل من السنة أكل الطيبات، فقد جيء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بتمر طيب، فسأل عن مصدره، فقالوا: كنا نأخذ الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاثة
(2)
، ولم ينكر عليهم أكل الطيب، ولكن أنكر عليهم الربا، وأقرهم على أنهم يختارون له الطيب.
وقال أصحاب الكهف: {} [الكهف: 19]، فالتورع عن أكل الطيبات خلاف سنة الأولين والآخرين، لكن إن لزم من أكل الطيبات الخروج إلى حد الإسراف، فحينئذٍ يمنع، لا لأنه أكل من الطيبات، ولكن لأجل السرف.
قوله: «ومن السرف أن يأكل كل ما اشتهى» سبحان الله! هذا ليس من السرف، بل هو من التنعم بنعم الله عز وجل، نعم لو اختار أشياء غالية لا تليق بمثله فهذا صحيح، فكلام المؤلف فيه نظر.
قوله: «ومن أذهب طيباته في حياته الدنيا، واستمتع بها، نقصت درجاته في الآخرة للأخبار» ، لا شك إذا تلهى بطيبات الدنيا عن أعمال الآخرة، فلا شك أن ذلك ضرر عظيم.
(1)
حاشية ابن قاسم على الروض المربع (6/ 424).
(2)
أخرجه البخاري في البيوع/ باب إذا أراد بيع تمر بتمر خير منه (2201)(2202)؛ ومسلم في المساقاة/ باب بيع الطعام مثلاً بمثل (1593)(95) عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما.
قوله: «وكره نفض يده في القصعة» لأنه يقذرها على الناس، حتى لو قال: أنا أنفضها في جهتي؛ لأن الطعام كالرز ينتشر في القصعة.
قوله: «وأن يقدم إليها رأسه عند وضع اللقمة في فمه» ، هذا أيضاً مكروه؛ لأنه دناءة.
قوله: «وأن يغمس اللقمة الدسمة في الخل» الخل عبارة عن ماء يوضع فيه زبيب أو تمر ليحليه، فإذا وضع فيه اللقمة الدسمة تلطخ بالدسم، فأفسده على الناس.
قوله: «أو الخل في الدسم فقد يكرهه غيره» وهذا كذلك؛ إلا إذا كان الخل في إناء خاص به، والدسم كذلك إذا كان في إناء خاص به، فإذا غمس فيه الخبز وفيه دسم فإنه لا يكره؛ لأنه لن يفسده على أحد، ومثله الشاي لو غمست فيه الخبز المدهون فيظهر أثر الدهن فيه، فلا بأس؛ لأن كل واحد يشرب في إناء خاص.
فإذا قال قائل: المؤلف رحمه الله جزم بالكراهة في هذه الأمور، فهل في كل واحد منها سنة مخصوصة؟
فالجواب: لا نعلم، ولكن هنا شيء عام يدل على كراهة هذه الأشياء، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم:«إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى، إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت»
(1)
، وقوله صلى الله عليه وسلم: «الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها
(1)
أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء/ باب (3483) عن أبي مسعود رضي الله عنه
إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان»
(1)
، وكل ما يخالف المروءة، فهو مخالف للحياء.
قوله: «وينبغي أن يحول وجهه عند السعال والعطاس عن الطعام» السعال، أي: الكحة، فينبغي أن يبعد وجهه عن الطعام لئلا يخرج شيء من الريق، ويقع في الطعام وهذا حق، والعطاس من باب أولى.
ولكن قوله: «أن يحول وجهه» أي يصرفه عند العطاس هذا غلط؛ لأنهم يقولون: إن هذا خطر عظيم على الأعصاب؛ لأنه كما هو معلوم العطاس يهز البدن كله، فلو التفت أثناء العطاس ربما اختلفت أعصاب الرقبة، ولهذا كره الأطباء أن ينحرف الإنسان عند العطاس، ولكن يفعل كما قال المؤلف:«يبعد عنه، أو يجعل على فيه شيئاً» وهذا من الآداب أن يغطي الإنسان وجهه عند العطاس، فيضع غترته أو ما أشبه ذلك على وجهه إذا أمكن.
قوله: «لئلا يخرج منه ما يقع في الطعام» وهذا سبق.
قوله: «ويكره أن يغمس بقية اللقمة التي أكل منها في المرقة» كإنسان أكل قطعة من خبز، ثم غمسها في المرق، فيكره، إلا إذا كان لا يأكل معه أحد فلا حرج.
قوله: «ويستحب للآكل أن يجلس على رجله اليسرى وينصب اليمنى، أو يتربع» فيجلس على اليسرى وينصب اليمنى
(1)
أخرجه مسلم في الإيمان/ باب بيان عدد شعب الإيمان
…
(35) عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ وأخرجه البخاري في الإيمان (9) بلفظ: «الإيمان بضع وستون شعبة» .
بساقها وفخذها؛ لئلا يتوطن كثيراً فيأكل كثيراً، أو يتربع، ولكن ابن القيم رحمه الله ذكر في «زاد المعاد» أن التربع مكروه، وأنه داخل في قول النبي صلى الله عليه وسلم:«لا آكل متكئاً»
(1)
، وعلل ذلك بأن المتربع مستوطن أكثر، فربما يأكل كثيراً.
والجواب: عن هذا أن يقال: الحديث لا يدل على هذا، فالتربع ليس اتكاء، ومسألة أنه إذا تربع أكثرَ من الطعام هذه ترجع إلى الإنسان، ربما حتى لو جلس على رجله اليسرى ونصب اليمنى ربما يكثر من الطعام، فالظاهر أن التربع لا يكره.
قوله: «وينبغي لمن أكل مع جماعة أن لا يرفع يده قبلهم حتى يكتفوا» خصوصاً إذا كان كبير القوم، أو صاحب البيت، فلا تقم قبلهم؛ لأنك إذا قمت قبلهم ربما يقومون حياء، وهم لم يشبعوا، فكن آخر شخص.
وكان الناس فيما سبق يبالغون في هذا غاية المبالغة، حتى إذا قام صبي من خمسين رجلاً على المائدة قاموا جميعاً، ولكن أخيراً صار لا يقوم الإنسان إلا إذا شبع، ويعبرون عن هذه العادة بقولهم: سعودية؛ لأن أول من سنها ـ كما قيل ـ الملك عبد العزيز رحمه الله، واقترح علينا بعض الناس في مجلس في الرياض أن تكون سعودية في المبتدى والمنتهى، فالناس إذا حضروا على المائدة لا يبدأون حتى يتكاملوا ويحضروا جميعاً، فيتأخرون كثيراً، فلماذا لا نقول: سعودية في الأول، فمن جلس أكل؟
(1)
أخرجه البخاري في الأطعمة/ باب الأكل متكئاً (5398) عن أبي جحيفة رضي الله عنه.
وهذا الاقتراح أعجبني في الواقع، ولا يعد خلافاً للمروءة كما قال الشاعر
(1)
:
وإن مُدت الأيدي إلى الزاد لم أكن
بأعجلهم إذ أجشع الناس أعجل
لأنه إذا صارت عادة لم تكن جشعاً.
قوله: «وأن يخرج مع ضيفه إلى باب الدار» أي: يستحب ذلك، وهذا ـ أيضاً ـ حسب العادة، فإذا كان الضيف ممن يرى أنه أهل لأن يصحب إلى الباب فليكن، وإلا فلا حاجة.
قوله: «ويحسن أن يأخذ بركابه» هذا إذا جاء على بعير، فيأخذ بركابه حتى يسهل الركوب، وفي الوقت الحاضر يفتح له باب السيارة.
قوله: «وينبغي للضيف ـ بل لكل أحد ـ أن يتواضع في مجلسه» وضد التواضع شيئان:
الأول: الكبر، وهذا حرام، بل من كبائر الذنوب، قال الله تعالى:{وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا} [لقمان: 18].
الثاني: أن لا يكون متكبراً ولا متواضعاً، بل طبيعياً، وهذه حال جائزة، لكن الأفضل أن يكون متواضعاً.
وهل من التواضع أن يقدم اللحم لجليسه كما يفعل بعض الناس؟
هذه ـ أيضاً ـ ترجع إلى العادات، فإذا جرت العادة بأن هذا من باب التواضع والإكرام فافعل، وإلا فلا تفعل، وكذلك لو قال لك جليسك: كف عن هذا، فلا تحرجه، ودعه يأخذ كما يريد.
(1)
الشنفري في ديوانه 1/ 2.
قوله: «وإن عيَّن له صاحب البيت مكاناً لم يتعده» .
هذا من الأدب، فإذا قال له صاحب البيت: تفضل اجلس هنا، فلا يقول: لا، وإذا كان رجلاً شريفاً، وذا مكانة، وأجلسه في مكان لا يليق به فله أن يرفضه؛ لأنه ما أكرمه، فلا كرامة له، وإذا قال للداخل: اجلس هنا ـ أي: في صدر المجلس ـ ولكن أحب هذا الداخل أن يجلس في مكان آخر يكون قريباً من جميع الحضور، فهل يعصي صاحب البيت، ونقول: لا بأس؟ أو نقول: أنت داخل بإذن من صاحب البيت، فليس لك أن تجلس في مكان غير الذي عينه لك؟
الجواب: الثاني، ولكن إذا رأى من المصلحة أن يجلس وسط الناس دون المقدم فليستأذن.
بَابُ عِشْرَةِ النِّسَاءِ
يَلْزَمُ الزَّوْجَيْنِ العِشْرَةُ بِالمَعْرُوفِ،
..........
قوله: «عشرة» : العِشْرة مأخوذة من المعشر، والعشيرة، وما أشبه ذلك، وأصلها في اللغة الاجتماع، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:«يا معشر الشباب»
(1)
يخاطب الجمع، ومنه العشيرة؛ لأنها مجتمعة على أب واحد.
لكن المراد هنا غير ما يراد في اللغة، فالمراد بالعشرة هنا المعاملة والالتئام بين الزوجين.
قوله: «النساء» : المراد بالنساء هنا الزوجات، وليس عموم الإناث؛ لقول الله تعالى:{وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} أي: الزوجات، {وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَاَّّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23] أي: الزوجات، أما قوله:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24]، فالمراد بالنساء هنا الإناث، وعلى هذا فكلمة «النساء» تارة يراد بها الزوجات، وتارة يراد بها عموم النساء، حسب ما يقتضيه السياق.
فقول: «باب عشرة النساء» المراد به كيف يعاشر الرجل زوجته؟ وكيف تعاشر المرأة زوجها؟
والحقيقة أنه باب عظيم تجب العناية به؛ لأن تطبيقه من أخلاق الإسلام، ولأن تطبيقه تدوم به المودة بين الزوجين، ولأن
(1)
سبق تخريجه ص (6).
تطبيقه يحيا به الزوجان حياة سعيدة، ولأن تطبيقه سبب لكثرة الولادة، لأنه إذا حسنت العشرة بين الزوجين ازدادت المحبة، وإذا ازدادت المحبة ازداد الاجتماع على الجماع، وبالجماع يكون الأولاد، فالمعاشرة أمرها عظيم.
ثم اعلم أن معاملتك لزوجتك يجب أن تقدر كأن رجلاً زوجاً لابنتك، كيف يعاملها؟ فهل ترضى أن يعاملها بالجفاء والقسوة؟ الجواب: لا، إذاً لا ترضى أن تعامل بنت الناس بما لا ترضى أن تعَامَل به ابنتك، وهذه قاعدة ينبغي أن يعرفها كل إنسان.
وقد روى الإمام أحمد رحمه الله في مسنده أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الزنا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:«أترضى أن يزني أحد بأختك، أو بنتك، أو أمك؟ قال: لا، فلم يزل يقول: بكذا وكذا، كل ذلك يقول: لا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: فاكره ما كره الله، وأحب لأخيك ما تحب لنفسك»
(1)
.
وهذا مقياس عقلي واضح جداً، فكما أن الإنسان لا يرضى أن تكون ابنته تحت رجل يقصر في حقها، ويهينها، ويجعلها كالأمة يجلدها جلد العبد، فكذلك يجب أن يعامل زوجته بهذا، لا بالصلف، والاستخدام الخارج عن العادة.
وعلى الزوجة ـ أيضاً ـ أن تعامل زوجها معاملة طيبة، أطيب من معاملته لها؛ لأن الله ـ تعالى ـ قال في كتابه:{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة: 228]، ولأن الله تعالى
(1)
أخرجه أحمد (5/ 256)، وقال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (1/ 129):«رجاله رجال الصحيح» .
سمَّى الزوج سيداً، فقال عز وجل في سورة يوسف:{وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} [يوسف: 25]، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم سمى الزوجة أسيرة فقال:«اتقوا الله في النساء فإنهن عوانٍ عندكم»
(1)
«وعوانٍ» جمع عانية وهي الأسيرة.
فعلى كل حال الواجب على الإنسان إذا كان يحب أن يحيا حياة سعيدة، مطمئنة، هادئة أن يعاشر زوجته بالمعروف، وكذلك بالنسبة للزوجة مع زوجها، وإلا ضاعت الأمور، وصارت الحياة شقاء، ثم هذا ـ أيضاً ـ يؤثر على الأولاد، فالأولاد إذا رأوا المشاكل بين أمهم وأبيهم سوف يتألمون وينزعجون، وإذا رأوا الألفة فسيسَرُّون، فعليك يا أخي بالمعاشرة بالمعروف.
ولهذا قال المؤلف:
«يلزم الزوجين العشرة بالمعروف» ، «يلزم» بمعنى يجب و «الزوجين» الرجل والمرأة «العشرة» فاعل يلزم يعني المعاشرة بالمعروف، أي: بما يعرف شرعاً، وعرفاً؛ لقوله تعالى:{وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19] وهذا أمر، والأصل في الأمر الوجوب وقال:{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228].
فأثبت أن عليهن عشرة، فيجب على الزوج والزوجة، كل منهما أن يعاشر الآخر بالمعروف.
وقوله: «بالمعروف» يحتمل أن المراد به ما عرفه الشرع وأقره، ويحتمل أن المراد به ما اعتاده الناس وعرفوه، ويمكن أن
(1)
أخرجه الترمذي في الرضاع/ باب ما جاء في حق المرأة على زوجها (1163)؛ وابن ماجه في النكاح/ باب حق المرأة على الزوج (1851) عن عمرو بن الأحوص رضي الله عنه وقال الترمذي: «حديث حسن صحيح» .
نقول بالأمرين جميعاً، ما عرفه الشرع وأقره، وما اعتاده الناس وعرفوه، فلو اعتاد الناس أمراً محرماً فإنه لا يجوز العمل به، ولو كان عادة؛ لأن الشرع لا يقره، وما سكت عنه الشرع، ولكن العرف يلزم به فإنه يلزم؛ لأن هذا من تمام العقد، إذ العقود الجارية بين الناس تتضمن كل ما يستلزمه هذا العقد شرعاً، أو عرفاً، فلو قالت الزوجة: أنت ما شرطت علي أني أفعل كذا، نقول: لكن مقتضى العقد عرفاً أن تفعلي هذا الشيء.
ولو قال الزوج: يا فلانة اصنعي طعاماً فإن معي رجالاً، فقالت: لا أصنع، أنا ما تزوجت إلا للاستمتاع فقط، أما أن أخدمك فلا، فهل يلزمها أو لا؟ نعم، يلزمها؛ لأن هذا مقتضى العرف، وما اطرد به العرف كالمشروط لفظاً، وبعضهم يعبر بقوله: الشرط العرفي كالشرط اللفظي.
وقوله: «يلزم» أي لزوماً شرعياً، وينبغي للإنسان في معاشرته لزوجته بالمعروف أن لا يقصد السعادة الدنيوية، والأنس والمتعة فقط، بل ينوي مع ذلك التقرب إلى الله ـ تعالى ـ بفعل ما يجب، وهذا أمر نغفل عنه كثيراً، فكثير من الناس في معاشرته لزوجته بالمعروف، قصده أن تدوم العشرة بينهما على الوجه الأكمل، ويغيب عن ذهنه أن يفعل ذلك تقرباً إلى الله تعالى، وهذا كثيراً ما ينساه، ينسيه إياه الشياطين، وعلى هذا فينبغي أن تنوي بهذا أنك قائم بأمر الله:{وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} وإذا نويت ذلك حصل لك الأمر الثاني، وهو دوام العشرة الطيبة، والمعاملة الطيبة، وكذلك بالنسبة للزوجة.
وكذا كل ما أمر به الشرع ينبغي للإنسان عند فعله أن ينوي امتثال الأمر ليكون عبادة، ففي الوضوء ـ مثلاً ـ إذا أردنا أن نتوضأ نقصد أن هذا شرط من شروط الصلاة، لا بد من القيام به، ونستحضر أننا نقوم بأمر الله ـ تعالى ـ في قوله:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] قد نذكره أحياناً، ولكننا ننساه كثيراً، وهل عندما نفعل هذا نشعر بأن الرسول صلى الله عليه وسلم كأنه أمامنا، وأننا نقتدي به فنكون بذلك متبعين؟ هذا قد نفعله أحياناً، ولكنه يفوتنا كثيراً، فينبغي للإنسان أن يكون حازماً لا تفوته الأمور والأجور بمثل هذه الغفلة.
وينبغي للإنسان أن يصبر على الزوجة، ولو رأى منها ما يكره لقوله تعالى:{وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19] سبحان الله، ما أبلغ القرآن، فلم يقل جل وعلا: فعسى أن تكرهوهن، بل قال:{فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا} أي شيء يكون، فقد يكره الإنسان أن يذهب إلى بيت صاحبه ويجعل الله في هذا الذهاب خيراً كثيراً، وقد يكره الإنسان أن يشتري شيئاً، ويشتريه وهو كاره، فيجعل الله فيه خيراً كثيراً، ولقول ـ النبي صلى الله عليه وسلم:«لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقاً رضي منها آخر»
(1)
، ونبَّه الرسول صلى الله عليه وسلم على هذا بقوله: «لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد،
(1)
أخرجه مسلم في النكاح/ باب الوصية بالنساء (1467) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
ثم يضاجعها»
(1)
.
والمرأة كما هو معلوم ناقصة عقل ودين، وقريبة العاطفة، كلمة منك تبعدها عنك بُعد الثريا، وكلمة تدنيها منك حتى تكون إلى جنبك، فلهذا ينبغي للإنسان أن يراعي هذه الأحوال بينه وبين زوجته، ولكن نسأل الله السلامة، الآن لما كان عند الناس شيء من ضعف الإيمان، صار أقل شيء يوجد بينه وبين زوجته، وأقل غضب، ولو على أتفه الأشياء تجده يغضب، ويطلِّق، وليته يطلق طلاقاً شرعياً، بل تجده يطلق زوجته وهي حائض، أو في طهر جامعها فيه، أو بدعياً بعدده، وبعضهم يزيد على هذا، فيظاهر منها، نسأل الله السلامة، كل هذا من ضعف الإيمان، وقلة التربية الإسلامية.
وينبغي للإنسان أن لا يغضب على كل شيء؛ لأنه لا بد أن يكون هناك قصور، حتى الإنسان في نفسه مقصر، وليس صحيحاً أنه كامل من كل وجه، فهي ـ أيضاً ـ أولى بالتقصير.
وأيضاً: يجب على الإنسان أن يقيس المساوئ بالمحاسن، فبعض الزوجات إذا مرض زوجها قد لا تنام الليل، وتطيعه في أشياء كثيرة، ثم إذا فارقها فمتى يجد زوجة؟! وإذا وجد يمكن أن تكون أسوأ من الأولى، لهذا على الإنسان أن يقدر الأمور حتى يكون سيره مع أهله على الوجه الأكمل، والإنسان إذا عود نفسه حسن الأخلاق انضبط، وبذلك يستريح.
(1)
أخرجه البخاري في النكاح/ باب ما يكره من ضرب النساء (5204)؛ ومسلم في الجنة ونعيمها/ باب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء (2855) عن عبد الله بن زمعة رضي الله عنه واللفظ للبخاري.
وَيَحْرُمُ مَطْلُ كُلِّ وَاحِدٍ بِمَا يَلْزَمُهُ لِلآخَرِ، وَالتَّكَرُّهُ لِبَذْلِهِ، وَإِذَا تَمَّ الْعَقْدُ لَزِمَ تَسْلِيمُ الحُرَّةِ الَّتِي يُوطَأُ مِثْلُهَا فِي بَيْتِ الزَّوْجِ إِنْ طَلَبَهُ، وَلَمْ تَشْتَرِطْ دَارَهَا أَوْ بَلَدَهَا،
........
قوله: «ويحرم مطل كل واحد بما يلزمه للآخر» المطل، أي: التأخير، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم:«مطل الغني ظلم»
(1)
، أي: تأخير الغني وفاء الدين ظلم، فيحرم أن يمطل بحق الآخر، فتقول له زوجته: أنا أريد كسوة، يقول: إن شاء الله، ثم تمضي الأيام ولم يأتها بشيء، والمرأة محتاجة، فهذا حرام عليه، يجب أن يسد حاجتها، صحيح أنه ليس عليه أنه كلما نزل في السوق زِيٌّ من الأزياء، وقالت: إيتني به، أن يأتيها به، فبهذا لا يطيعها؛ لأن المرأة لا حد لها، ولكن الشيء الذي لا بد منه يجب عليه أن يبادر ولا يماطل.
فإن منع أحدهما ما يلزمه بالكلية يحرم من باب أولى؛ لأنه إذا كان التأخير حراماً فالمنع من باب أولى.
قوله: «والتكره لبذله» كأن يأتيها بما تطلبه وتحتاجه، ولكنه يعطيها إياه بعنف ومِنَّة، فهذا ـ أيضاً ـ محرم، فما دام أن الأمر واجب عليك فلا تمن، وفي حديث أبي ذر رضي الله عنه في صحيح مسلم
(2)
عن النبي صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا يكلمهم الله، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم يوم القيامة، ولهم عذاب أليم: المسبل، والمنان، والمنفِّق سلعته باليمين الكاذبة» .
كذلك بالنسبة للزوجة يحرم عليها أن تمطل بحق زوجها،
(1)
أخرجه البخاري في الحوالات/ باب الحوالة وهل يرجع في الحوالة؟ (2287)؛ ومسلم في البيوع/ باب تحريم مطل الغني وصحة الحوالة (1564) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
في الإيمان/ باب بيان غلظ تحريم إسبال الإزار والمن بالعطية (106).
فإذا أمرها بما يجب عليها لم يجز لها أن تؤخر، ولهذا جاء في الحديث الصحيح:«إذا دعا الرجل زوجته فأبت لعنتها الملائكة حتى تصبح»
(1)
والعياذ بالله، فالمسألة ليست هينة، كذلك يحرم عليها التكره في بذله، كأن تبذل له ما يجب، لكن مع الكراهة والعبوس، وعدم انطلاق الوجه، وإذا بُلي الإنسان بامرأة كهذه يعظها، ويهجرها، ويضربها حتى تستقيم، كما قال تعالى:{وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} [النساء: 34]، فيعظها وينصحها ويرشدها، والله مع النية الطيبة ييسر الأمر.
فلدينا ثلاثة أشياء: منع ما يجب، والمماطلة به، والتكره لبذله، وكل هذا محرم؛ لأن الحقوق يجب أن تؤدى لأهلها بدون أي توقف.
مسألة: إذا كان مقصراً في النفقة، وهي قادرة على أن تأخذ من ماله بغير علمه، فلها أن تأخذ، أفتاها بذلك سيد المفتين من البشر محمد صلى الله عليه وسلم حين جاءت هند بنت عتبة رضي الله عنه إليه، وقالت: إن أبا سفيان رجل شحيح، لا يعطيني ما يكفيني وولدي، فقال:«خذي ما يكفيك وولدك من ماله بالمعروف»
(2)
.
(1)
أخرجه البخاري في بدء الخلق/ باب إذا قال أحدكم آمين .. (3237)؛ ومسلم في النكاح/ باب تحريم امتناعها من فراش زوجها (1436)(122) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
أخرجه البخاري في النفقات/ باب إذا لم ينفق الرجل فللمرأة أن تأخذ بغير علمه
…
(5364)؛ ومسلم في الأقضية/ باب قضية هند (1714) عن عائشة رضي الله عنها.
قوله: «وإذا تم العقد» والعقد يتم بالإيجاب والقبول.
قوله: «لزم تسليم الحرة» أي: وجب تسليم الحرة.
وقوله «الحرة» احترازاً من الأمة، وسيأتي حكمها.
وهذه المسألة لها أحوال أربعة:
أولاً: أن يطلب الزوج حضورها إلى بيته، فيجب أن تحضر إلى البيت من حين العقد.
ثانياً: أن لا يطلب بلسانه، لكن يطلب بحاله، بمعنى أن توجد قرائن تدل على أنه يرغب أن تأتي إلى بيته، فيلزم؛ لأنه قد يكون الرجل يستحي أن يقول: أعطوني البنت، لكن حاله تدل على هذا، إما أن يشكو التردد إلى بيت أهلها، أو يقول مثلاً: إلى متى ننتظر؟ وما أشبه ذلك.
ثالثاً: أن يطلب أهلها أن يستلمها؛ لأنه زوجها، وسكناها ونفقتها عليه.
رابعاً: أن يكون هناك سكوت من الزوج ومن أهلها، فالأمر إليه، فمتى شاء طلب.
قوله: «التي يوطأ مثلها» قال العلماء: وهي بنت تسع، والحقيقة أن التقييد بالسن في هذا المقام فيه نظر؛ لأن من النساء من تبلغ تسع سنين، ولا يمكن وطؤها لصغر جسمها، أو نحافتها وما أشبه ذلك، ومن النساء من يكون لها ثمان سنين، وتكون صالحة للوطء، فالصواب أنه لا يقيد بالسن، بل يقال: هي التي يمكن وطؤها، والاستمتاع بها، فهذه يجب تسليمها.
وظاهر كلام المؤلف: ولو كانت حائضاً فإنه يجب
تسليمها، والمذهب لا يجب، ولكن هذا مشروط بأن لا يُخشى من الزوج، فإن خشي منه، بحيث نعرف أن الرجل ليس بذاك المستقيم، وأننا لو سلمنا المرأة له ربما يطؤها، فهذه لا نسلمها حتى تطهر، كذلك لو فرض أن المرأة مريضة، والزوج ممن لا يخاف الله، ونخشى عليها أن يجامعها وهي مريضة، فيضرها ذلك، فإننا لا نسلمها.
قوله: «في بيت الزوج» أي يجب أن تسلم في بيت الزوج، وهذا يوافق عرف بعض البلاد، فإذا قال الزوج: دعوها تأتي للبيت، قلنا: يلزم تسليمها له في بيته، ولكن هذا الكلام مقيد بما إذا لم يخالف العادة، فإن خالفها نرجع إلى القاعدة المستقرة وهي {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} فإذا كان من عادة الناس أن الزوج هو الذي يأتي لبيت الزوجة، فيلزمه ذلك.
فالمؤلف اشترط لوجوب تسليم المرأة لزوجها أربعة شروط:
الأول: أن تكون حرة.
الثاني: أن يوطأ مثلها.
الثالث: قوله: «إن طلبه» أي: يطلب الزوج تسليمها.
الرابع: قوله: «ولم تشترط دارها أو بلدها» إذا كان بيت الزوج في بلد آخر.
فإذا تمت هذه الشروط وجب تسليمها، ويجب على زوجها ـ أيضاً ـ أن يتسلمها، فإن عقد عليها وصار كل يوم يقول: اليوم أدخل، اليوم أدخل، فإنه إذا تم لها أربعة أشهر، ولم يدخل فإن لها الفسخ.
وقوله: «ولم تشترط دارها أو بلدها» عُلم منه أنها إذا اشترطت دارها لم يلزم أن تسلم في بيت الزوج، وقد سبق لنا أن هذا من الشروط الجائزة؛ لقول الرسول عليه الصلاة والسلام:«إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج»
(1)
؛ لأن وجودها في بيت الزوج من حقه، فإذا أسقطه سقط، وكذلك إذا اشترطت بلدها، كأن يكون الزوج في بلد آخر وطلب تسليمها فإنه لا يلزم؛ لأنها اشترطت بلدها، وقد التزم بهذا الشرط فلا يلزمها.
وَإِذَا اسْتَمْهَلَ أَحَدُهُمَا أُمْهِلَ العَادَةَ وُجُوباً، لَا لِعَمَلِ جِهَازٍ، وَيَجِبُ تَسْلِيمُ الأمَةِ لَيْلاً فَقَطْ، وَيُبَاشِرُهَا مَا لَمْ يَضُرَّ بِهَا أَوْ يَشْغَلْهَا عَن فَرْضٍ، وَلَهُ السَّفَرُ بِالْحُرَّةِ مَا لَمْ تَشْتَرِطْ ضِدَّهُ،
.........
قوله: «وإذا استمهل أحدهما أمهل العادة وجوباً» أي: طلب الإمهال من الآخر، فمثلاً قال الزوج: أريد أن يكون الدخول الليلة المقبلة، فقالت: أمهلني حتى أصلح من أمري، أو قالوا: نريد أن يكون الدخول الليلة المقبلة، فقال: أمهلوني حتى أصلح أمري، يقول المؤلف:«أمهل العادة» أي: أمهل إمهال العادة.
وقوله: «وجوباً» نعت لمصدر محذوف أي: إمهالاً وجوباً، أو عامله محذوف، والتقدير يجب وجوباً.
والمعنى أنه يجب أن ينظر بما جرت به العادة، يوماً أو يومين، أو ثلاثة، بحسب ما جرى به العرف، وإنما وجب ذلك؛ لأنه من العشرة بالمعروف، وقد قال الله تعالى:{وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19].
قوله: «لا لعمل جهاز» يعني لو طلب الإمهال ليجهز بيته لزوجته فإنه لا تجب إجابته؛ لأن هذا شيء لا يتعلق بالنكاح؛ لأن
(1)
سبق تخريجه ص (165).
تجهيز البيت يمكن ولو بعد الدخول، ومثله ـ أيضاً ـ لو كان الجهاز منها هي، تريد أن تأتي معها بأواني البيت وما يصلحه، وطلبت أن تمهل وأبى الزوج؛ فإنها لا تمهل؛ لأن هذا يمكن شراؤه بعد الدخول، فإذا جرت العادة أن هذا يكون مصاحباً للمرأة فإنها تمهل؛ لأنه لا فرق بين ما يتعلق بذاتها، وما يتعلق بشؤون البيت.
قوله: «ويجب تسليم الأمة ليلاً فقط» هذا مفهوم القيد الأول وهو قوله: «لزم تسليم الحرة» ، فالأمة يجب تسليمها في الليل فقط؛ لأنها في النهار مشغولة بخدمة سيدها، وما يتعلق بالنكاح عماده الليل دون النهار، فالسيد يقول: أنا أحتاج هذه الأمة في النهار لشغل البيت، والزوج يتمتع بها بالليل، هذا ما لم يشترط الزوج أن تسلم له ليلاً ونهاراً، فإذا اشترط ذلك، وقبل السيد، فهما على شرطهما.
والصحيح في هذه المسألة أنه يلزم تسليمها؛ وذلك لأن حق الزوج طارئ على حق السيد، فهو مقدم عليه، وأن سيدها متى زوجها فقد انقطعت منافعه منها، فالزوج هو السيد، وإلا لقلنا: حتى الحرة إذا كان لها أب وأم يحتاجان إلى رعاية فإنه لا يجب تسليمها؛ لأن حق الوالدين واجب!! فنقول: متى تزوجت المرأة فسيدها زوجها تسلم إليه، سواء كانت حرة أو أمة.
لكن لو اشترط السيد على الزوج أن الأمة تبقى في النهار عنده فعلى ما شرط؛ لحديث: «إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج»
(1)
.
(1)
سبق تخريجه ص (165).
استأنف المؤلف بيان شيء من الحقوق فقال: «ويباشرها» الواو للاستئناف، والجملة خبر بمعنى الإباحة، والمعنى يباح له أن يباشرها بالاستمتاع، إلا في الأماكن والأحوال التي حرمها الشرع؛ فمثلاً لا يطؤها في الدبر، ولا يطؤها في حال الحيض والنفاس، ولا يطؤها وهي صائمة صوماً واجباً، أو تطوعاً بإذنه، وإلا فله أن يباشرها متى شاء ليلاً أو نهاراً.
وهل له أن يباشرها وإن لم يحصل الدخول الرسمي؟ فلو عقد عليها ـ مثلاً ـ وهي في بيت أهلها، ولم يحصل الدخول الرسمي الذي يحتفل به الناس، فذهب إلى أهلها وباشرها جاز؛ لأنها زوجته، إلا أننا لا نحبذ أن يجامعها؛ لأنه لو جامعها ثم حملت اتهمت المرأة، فالناس يقولون: كيف تحمل وهو لم يدخل عليها؟ ثم لو جامعها، وقدر الله أن مات من يومه، ثم حملت بهذا الجماع، ماذا يقول الناس؟! لكن له أن يباشرها بكل شيء سوى الجماع؛ لأنها زوجته، ومن ثَمَّ فأنا أفضل أن يكون العقد عند الدخول.
قوله: «ما لم يضر بها» فإن أضر بها فإنه يحرم عليه لقوله تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231] وهذا في الرجعيات، فإذا كان الإمساك بها محرماً في حال الإضرار، فكذلك الاستمتاع بها في حال الإضرار، ولقوله صلى الله عليه وسلم:«لا ضرر ولا ضرار»
(1)
، وكيف يضرها؟ لو فرضنا أن المرأة حامل،
(1)
أخرجه الإمام أحمد (5/ 326)؛ وابن ماجه في الأحكام باب من بنى في حقه ما يضر بجاره (2340) عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، وأخرجه مالك (2/ 745) مرسلاً، وللحديث طرق كثيرة يتقوى بها، ولذلك حسنه النووي في الأربعين (32)؛ وابن رجب في جامع العلوم والحكم (2/ 210)؛ والألباني في الإرواء (876).
والاستمتاع بها يشق عليها مشقة عظيمة، إما على نفسها، أو جنينها، أو ما أشبه ذلك، أو فرضنا أنها أجرت عملية جراحية، فإنه في هذه الحال لا يجوز له مباشرتها؛ لأنه يحرم عليه الإضرار بها، والواجب تجنب ما يضر بها.
قوله: «أو يَشغَلْها عن فرض» مثلا طلب منها الاستمتاع وهي لم تصلِّ، وقد ضاق الوقت، أو طلب الاستمتاع بها قبل طلوع الشمس، وهي ما صلت الفجر، فنقول: هذا لا يجوز لك؛ لأنك تشغلها عن فرض، وهو الصلاة في وقتها، وكذلك لو شغلها عن فرض آخر غير الصلاة، مثل أن يمنعها من صيام قضاء رمضان مع ضيق الوقت، وذلك بأن يبقى من شعبان بقدر ما عليها من الصيام.
ولو فرضنا أنه طلب الاستمتاع والمباشرة، وهي على التنور، فقالت له: انتظر حتى لا يحترق الخبز، فله أن يفعل، ولا يجوز لها أن تتأخر.
وكذا المكان فله الاستمتاع بها في أي مكان، إلا إذا أضر بها، كما لو كان هناك برد، بل قال الفقهاء: ولو على ظهر قتب، أي: رحل البعير، والمعنى أنه في أي مكان، وفي أي زمان، إلا إذا أضر بها، أو شغلها عن فرض.
كل هذا تحقيقاً للسيادة من الزوج على زوجته، وتحقيقاً لكونهن عواني عندنا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«إنهن عوانٍ عندكم»
(1)
، ولهذا كثر حث النبي صلى الله عليه وسلم على الرفق بالنساء؛ لأن الزوج قد يستعلي عليها؛ لأنه سيدها، فحثه الله عز وجل، والنبي صلى الله عليه وسلم على المعاشرة بالمعروف والرفق، استمع قول الله عز وجل {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ} أي فيما يجب {فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} [النساء: 34] يعني اذكروا بِعُلُوِّكم عليهن علوَّ الله عز وجل، وبكبريائكم عليهن كبرياء الله عز وجل.
وهل يشمل الضرر بها الضرر بمالها؟ الظاهر أنه يدخل في ذلك، مثل ما لو كانت المرأة لها غنم، وقد ضاعت غنمها أو هربت، وتحتاج أن تلحق الغنم لتردها، وهو يريد الاستمتاع بها، نقول: هذا لا يجوز؛ لأن فيه إضراراً بها، إلا إذا كنت تختار أن تضمن لها هذا المال إذا تلف، فلا بأس.
وهل لها أن تباشره وتستمع به؟ نعم؛ لأنها كما أنه يريد منها ما يريد، فهي ـ أيضاً ـ تريد منه ذلك، وإنما قال المؤلف:«يباشرها» لأن الزوج هو الذي له الولاية والقوامة عليها، كما قال تعالى:{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء: 34].
وَيَحْرُمُ وَطْؤُهَا فِي الْحَيْضِ وَالدُّبُرِ، وَلَهُ إِجْبَارُهَا عَلَى غُسْلِ حَيْضٍ وَنَجَاسَةٍ، وَأَخْذِ مَا تَعَافُهُ النَّفْسُ مِنْ شَعْرٍ، وَغَيْرِهِ،
.......
قوله: «وله السفر بالحرة ما لم تشترط ضده» ، «له» الضمير يعود على الزوج، «بالحرة» أي بالمرأة الحرة، ما لم تشترط
(1)
سبق تخريجه ص (382).
ضده، فإن اشترطت ضده فلا حق له أن يسافر بها، لما سبق من الأدلة على وجوب الوفاء بالشروط، ولو سافر بها لكن بعد ما سافر بها أصابها مرضٌ نفسي من هذا السفر، هل يلزمه أن يردها إلى بلدها، أو لا؟
الجواب: نعم يلزمه قياساً على ما سبق في قوله: «ويباشرها ما لم يضر بها» ، فإذا أوجب هذا السفر لها المرض، فإن عليه أن يعيدها إلى بلدها، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«لا ضرر ولا ضرار»
(1)
.
وهل له أن يسافر بالأمَة؟ ليس له أن يسافر بها إلا إذا اشترط السفر بها؛ لأن الأمة مشغولة بخدمة سيدها، بخلاف الحرة، وعلى هذا فيكون الأصل في الحرة أن يسافر بها ما لم تشترط ضده، والأصل في الأمة أن لا يسافر بها ما لم يشترط هو أن يسافر بها.
وقوله: «وله السفر بالحرة ما لم تشترط ضده» أي: تشترطه باللفظ، وكذلك بالعرف، فلو كان من المطرد عند أهل هذا البلد أن الرجل لا يسافر بامرأته إلا بشرط فإنه يؤخذ بالشرط، وتقدم لنا في باب الشروط أن الصحيح من أقوال أهل العلم أن جميع الشروط المباحة في النكاح لازمة، وواجب الوفاء بها، لعموم الأدلة الدالة على وجوب الوفاء بالعهود، وبالعقود، وبالشروط.
أما إذا اضطر إلى السفر بها وأبت، فهل له أن يقول: إما
(1)
سبق تخريجه ص (392).
أن تسافري وإما أن أطلقك؟ هذه مشكلة؛ لأنه إذا قال هذا الكلام، فمقتضاه أن يلزمها بإسقاط الشرط وهي كارهة، فإذا كان يريد تهديدها حتى تسقط هذا الشرط، فإن هذا لا يجوز، أما إذا قال هذا عن جِدٍّ، وليس عن تحدٍّ، وقال: إنه لا يملك نفسه، ولا بد له من زوجة إذا سافر، وقال لها: إما أن تسافري معي وإلا فسأتزوج وأطلقك، أي: ليس قصده إجبارها وإكراهها، فهنا نقول: لا بأس.
قوله: «ويحرم وطؤها في الحيض» أي: يحرم وطء الزوجة في الحيض؛ لقول الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيْضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} أي: يطهرن من الحيض {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} أي: اغتسلن {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 222] والآية نص صريح، وفيها ذِكْر التعليل قبل الحكم؛ من أجل إيقاظ الذهن للعلة؛ حتى يكون الإنسان كارهاً للفعل قبل أن يعرف حكمه، وهذا أسلوب من أساليب البلاغة، وإلا فالغالب أنه يُذكَر الحكم ثم تذكر العلة، لكن هنا ذكرت العلة من أجل أن يرد الحكم على نفس كارهة للمخالفة؛ لأن أي إنسان يعرف أنه أذى سوف يتجنبه.
وقوله تعالى: {هُوَ أَذىً} أي: على الزوجين جميعاً، فالزوج يتضرر، والزوجة تتضرر أيضاً، ثم هو دم نجس وليس طاهراً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الحائض إذا أصاب دمها ثوبها أن تغسله ثم تصلي فيه
(1)
.
(1)
أخرجه البخاري في الوضوء/ باب غسل الدم (227)؛ ومسلم في الطهارة/ باب نجاسة الدم وكيفية غسله (291) عن أسماء رضي الله عنها.
وإذا حرم الوطء في الحيض فيجوز ما سواه، من المباشرة والجماع دون الفرج، وما أشبه ذلك؛ لأنه إذا كان الأصل الحل فإنه لا يخرج عن الأصل إلا ما قُيِّد بالوصف فقط، وهو الجماع.
فإذا قال قائل: كيف تقول: إنه الجماع، وقد قال الله عز وجل:{فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ} ، وهذا يقتضي أن الزوج يعتزلها حتى يكون فراشه غير فراشها، وأن لا يقربها أيضاً؟
فالجواب: أن هذا من باب التوكيد؛ لأن السنة بينت ذلك، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«اصنعوا كل شيء إلا النكاح»
(1)
، وأخبرت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمرها، فتتزر، فيباشرها وهي حائض
(2)
، فالتعبير بالعبارتين:{فَاعْتَزِلُوا} ، {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ} من باب التوكيد والتنفير، وذلك واضح؛ لأن النفس تدعو إلى جماع الزوجة، لا سيما إذا كان شاباً وهي شابة، فيحتاج الحكم بالتحريم إلى عباراتٍ جزلة، توجب النفور من هذا العمل، ومن رحمة الله عز وجل أنه لا يمنع شيئاً إلا أحل ما يقوم مقامه، ولو من بعض الوجوه، وهو المباشرة دون الفرج.
لكن ينبغي لمن أراد ذلك أن يأمر زوجته فتتزر، وأن لا
(1)
أخرجه مسلم في الحيض/ باب جواز غسل الحائض رأس زوجها وترجيله
…
(302) عن أنس رضي الله عنه.
(2)
أخرجه البخاري في الحيض/ باب مباشرة الحائض (300)؛ ومسلم في الطهارة/ باب مباشرة الحائض فوق الإزار (293) عن عائشة رضي الله عنها، واللفظ للبخاري.
يبقى محل المباشرة مكشوفاً؛ لأنه ربما يرى منها ما يكره من الدم ونحوه، فتتقزز نفسه منها، ويؤثر ذلك على نفسيته، حتى في المستقبل، ولهذا كان من حكمة النبي صلى الله عليه وسلم أنه يأمر المرأة أن تتزر.
فإذا جامع في الحيض ترتب عليه: الإثم، والمعصية، والعقوبة.
وهل تجب عليه كفارة أم لا؟
هذا ينبني على صحة الحديث الوارد في هذا، والعلماء مختلفون فيه، فمن صح عنده الحديث أوجب الأخذ به، والكفارة دينار، أو نصفه، إما على التخيير، أو باعتبار حال الحيض، بمعنى أنه يفرق بين الوطء في آخر الحيض وخفته، وتوقان النفس إلى الجماع، فيكون نصف دينار، وبين أن يكون الحيض في أوله وفوره، فيكون ديناراً.
والتخيير فيه إشكال، وهو أنه جرت العادة في الكفارات أنه لا يمكن أن تكون كفارة واجبة من جنس واحد، كاملة أو ناقصة؛ لأن التخيير إنما يكون بين شيئين مختلفين، كالإطعام، والكسوة، وتحرير الرقبة، في كفارة اليمين، وأما بين شيئين هما من جنس واحد ـ إلا أن هذا كثير وهذا قليل ـ فهذا لم يرد.
ولكن الجواب عن هذا أن نقول: إن الله سبحانه وتعالى له أن يحكم بما شاء، فإذا خير العبد بين دينار أو نصفه، فهذا من الرحمة، فمن ابتغى الفضل تصدق بدينار، ومن ابتغى الواجب تصدق بنصف دينار.
والمرأة إن وافقت زوجها على الوطء حال الحيض اختياراً فهي مثله، وإن أكرهها فلا شيء عليها، لا إثم ولا كفارة.
قوله: «والدبر» أي: ويحرم وطؤها ـ أيضاً ـ في الدبر، بمعنى أن يولج الذكر في الدبر لقوله تعالى:{فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223]، والدبر ليس محلاً للحرث، ولأحاديث متعددة وردت في التحذير منه، ومجموعها يقضي أن تصل إلى درجة الحسن العالي، ومنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إن الله لا يستحي من الحق، لا تأتوا النساء في أعجازهن»
(1)
.
ثم إن القياس الصحيح يقتضي هذا، فالغائط أخس من الدم بلا شك، فإذا كان الله ـ تعالى ـ حرم وطء الحائض للأذى من الدم، فإن وطء الدبر أشد وأقبح؛ لأن هذا يشبه اللواط، وهو جماع الذكر والعياذ بالله، ولهذا أسماه بعض العلماء باللوطية الصغرى، فلا شك في تحريم وطء المرأة في دبرها.
أما أن يستمتع بها فيما بين الأليتين فلا بأس.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ومن عُرف بالوطء في الدبر وجب أن يفرق بينه وبين زوجته، أي: أن يفسخ النكاح؛ لأن الإصرار على هذه المعصية التي هي من كبائر الذنوب لا يمكن إقراره أبداً.
(1)
أخرجه الإمام أحمد (39/ 468) ط/الرسالة؛ والترمذي في الرضاع/ باب ما جاء في كراهية إتيان النساء في أدبارهن (1164) عن علي بن طلق رضي الله عنه، وقال: حديث حسن، وأخرجه أحمد (5/ 213)؛ وابن ماجه في النكاح/ باب النهي عن إتيان النساء في أدبارهن (1924) عن خزيمة بن ثابت رضي الله عنه، انظر: التلخيص (1542)، والإرواء (2005).
وأما قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ *إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ *} [المؤمنون] فبعض الناس يقول: هذه الآية عامة، فإننا نقول: إذا عممت الاستمتاع بالنسبة للأزواج، فعمم الاستمتاع بالنسبة لما ملكت اليمين، وقل: يجوز للرجل أن يجامع بعيره؛ لأنها مما ملكت يمينه!! فالمطلق يحمل على المعروف المعهود، فيكون قوله:{إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ} أي: فيما أبيح لهم من الاستمتاع بهن لا مطلقاً، كما أنك لا تقول بالتعميم في قوله تعالى:{أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} مع أن الآية واحدة.
فالوطء في الدبر محرم، ومن سوَّلت له نفسه ففعل فلا كفارة عليه، لكنه آثم.
فإن قال قائل: ألست تقول: إنه يقاس على الوطء في الحيض؟
فالجواب: بلى، لكن لا يلزم من التساوي في الحكم التساوي في الكفارة، فالكفارة حكم جديد مستقل، ولا يمكن أن نقيس، ولهذا نص أصحاب أصول الفقه أنه لا قياس في الكفارات.
قوله: «وله إجبارها على غُسل حيض» ، مثلاً امرأة طهرت من الحيض بعد طلوع الشمس، وقالت لزوجها: إنها لن تغتسل إلا عند الظهر، وزوجها ينتظر بفارغ الصبر أن تطهر وتغتسل ليستمتع بها، فقالت: لا يجب عليَّ الغسل إلا إذا أردت القيام للصلاة لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ
فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] وعلى هذا فلا أغتسل إلا إذا زالت الشمس، فهنا يجبرها على الغسل.
فإذا أجبرها واغتسلت إجباراً وهي غير مريدة، فهل يرتفع حدثها مع أنها لم تنوِ؟
الجواب: لا يرتفع حدثها بالنسبة لها، فإذا جاء وقت الصلاة يجب عليها الغسل، لكن بالنسبة للزوج ليس له إلا الظاهر فإنه يرتفع، على أن ابن حزم رحمه الله شذ في هذه المسألة وقال: إن معنى قوله: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} أي: غسلن فروجهن، وليس المعنى اغتسلن، لكن قوله هذا ضعيف بلا شك؛ لأن الله تعالى قال:{فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} والتطهر الاغتسال لقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} .
قوله: «ونجاسة» هذه الكلمة ليست معطوفة على «حيض» بل تحتاج إلى تقدير، وهو: وغَسْلِ نجاسة؛ لأن النجاسة ليس لها غُسْل بل غَسْل، فإن قلت: أُقَدِّر الأولى: على غَسْل حيض، قلنا: لا يستقيم؛ لأنها لو غسلت الحيض لم يجز أن يجامعها حتى تغتسل، وعلى هذا فلا بد من تقدير: وغَسْل نجاسة.
فإن رأى في قدمها قذراً فقال لها: اغسليه، فقالت: لا أغسله، فله أن يجبرها على غسل النجاسة؛ لأن النفس تعاف النجاسة، لا سيما إذا كان لها جرم، أو كان لها لون، فالإنسان ربما لو يرى على وجه واحد منا نقطة حمراء من صبغ، ربما يتقزز، يظنها دماً، وظاهر كلام المؤلف: سواء كانت على بدنها أو على ثيابها.
وهذا الذي ذكره المؤلف فيه نظر، فإنه لا يجبرها على غسل النجاسة إلا في حالين:
الأولى: إذا كانت تفوِّت عليه كمال الاستمتاع.
الثانية: إذا كان وقت صلاة لأجل أن تصلي طاهرة، ففي هاتين الحالين له أن يجبرها على غسل النجاسة، أما فيما عدا ذلك فليس له أن يجبرها عليه؛ لأنه لا يفوت بذلك لا حق الله ولا حق الزوج، مثل لو أصابها في ثوبها شيءٌ من البول، وهذا ليس وقت صلاة، والبول يبس، وليس له لون ولا شيء، فإنه ليس له الإجبار، نعم يشير عليها أن تغسله؛ لأن الأفضل أن يبادر الإنسان بغسل النجاسة.
قوله: «وأخذ ما تعافه النفس من شعر» أي: كذلك له أن يجبرها على أَخذ ما تعافه النفس من شعر مثل ما لو نبت لها شارب، وهذا قد يحصل، بعض النساء ينبت لهن شارب، وبعضهن شارب ولحية أيضاً، فلو حصل هذا الأمر فله أن يجبرها على أن تأخذه، فإذا قالت له: قال النبي عليه الصلاة والسلام «اعفوا اللحى وأحفوا الشوارب»
(1)
، نقول: هذا خاص بالرجال، أما النساء فيعتبر هذا عيباً فيهن، ولهذا جاز إزالته، وإذا طلب الزوج ذلك وجب إزالته.
كذلك لو كان في وجهها شامةٌ فيها شعر تعافها نفسه، فله إجبارها على إزالتها، وكذلك شعر العانة، وشعر الإبط له أن
(1)
أخرجه البخاري في اللباس/ باب إعفاء اللحى (5893)؛ ومسلم في الطهارة/ باب خصال الفطرة (259) عن ابن عمر رضي الله عنهما واللفظ لمسلم.
يجبرها على إزالتها، أما شعر ساق المرأة، فيقال: إذا كثر شعره حتى صار ساقها كساق الرجال فلا بأس، وأما إذا كان طبيعياً فهذا ينبني على قاعدة، وهي أن إزالة الشعور لها ثلاث حالات: مأمور به، ومنهي عنه، ومسكوت عنه، فالمأمور به العانة، والإبط، والشارب، وهذه تزال ولا إشكال، والمنهي عنه اللحية بالنسبة للرجال، والنمص بالنسبة للرجال والنساء، والنمص هو نتف شعر الوجه، سواء الحاجبان أو غيرهما، والمسكوت عنه اختلف العلماء رحمهم الله هل يجوز، أو يكره، أو يحرم؟
فمنهم من قال: إنه يجوز؛ لأن ما سكت الله عنه فهو عفو، وما دمنا أمرنا بشيء ونهينا عن شيء، يبقى هذا المسكوت عنه، بين أن يكون مأموراً به أو منهياً عنه، فإذا تساوى الطرفان ارتفع هذا وهذا، وصار من باب المباح.
وقال بعضهم: إنه يحرم؛ لأنه من تغيير خلق الله، والأصل في تغيير خلق الله المنع؛ لأن تغيير خلق الله من أوامر الشيطان، قال الله عنه:{وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء: 119] فيكون حراماً.
وقال بعضهم: إنه مكروه؛ نظراً لتعادل الأدلة المبيحة والمانعة، والذي أراه أنه لا بأس به؛ لأنه مسكوت عنه، لكن الأولى ألا يزال إلا إذا كان مشوهاً؛ لأن الله لم يخلق هذا إلا لحكمة، فلا تظن أن شيئاً خلقه الله إلا لحكمة، لكن قد لا تعلمها.
وهذا يجرنا لمسألة التبرع بالكلية، هل يجوز أو لا؟ قال
بعضهم: يجوز؛ لأن الإنسان قد يحيا على كلية واحدة، وهذا غلط، أولاً: لأنه أزال شيئاً خلقه الله عز وجل، وهذا من تغيير خلق الله، وإن كان ليس تغييراً ظاهراً، بل هو في الباطن.
ثانياً: أنه لو قدر مرض هذه الكلية الباقية، أو تلفها، هلك الإنسان، لكن لو كانت الكلية التي تبرع بها موجودة لسلم.
ثالثاً: أن الإقدام على التبرع بها معصية، فإذا ارتكبها الإنسان فقد ارتكب مفسدة محققة، وإذا زرعت في إنسان آخر فقد تنجح وقد لا تنجح، فنكون ارتكبنا مفسدة محققة لمصلحة غير محققة، ولهذا نرى أنه لا يجوز للإنسان أن يتبرع بشيء من أعضائه مطلقاً حتى بعد الموت، وقد نص على هذا فقهاؤنا، ذكر في الإقناع في باب تغسيل الميت: أنه لا يجوز أن يقطع شيء من أعضاء الميت، ولو أوصى به.
قوله: «وغيره» كظفر، فله أن يجبرها على تقليم الأظفار، أو قصها، فلو قالت: أنا أريد أن أطول ظفر الخنصر؛ لأن هذا هو علامة التقدم فله أن يجبرها على إزالته؛ لأن إطالة الأظفار من شيم الحبشة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«أما الظفر فمدى الحبشة»
(1)
.
ومن العجب أن الشيطان لعب على بعض النساء حتى أصبحن يطلن ظفر الخنصر، فهذا حرام؛ لأن هذا تشبه بالكفار؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم وقت في الظفر، والشارب، والإبط، والعانة أن
(1)
أخرجه البخاري في الذبائح والصيد/ باب التسمية على الذبيحة
…
(5498)؛ ومسلم في الأضاحي/ باب جواز الذبح بكل ما أنهر الدم
…
(1968) عن رافع بن خديج رضي الله عنه
لا تترك فوق أربعين يوماً
(1)
.
فالمهم أن له أن يجبرها على قص الأظفار وتقليمها؛ لأن هذا مما تعافه النفس، ولو كانت شعثاء لا تصلح شعرها ولا تهتم به، فله أن يجبرها على إصلاحه.
وبالعكس، هل لها أن تجبره على ذلك؟
الظاهر: لا، لكن يجب عليه هو؛ لأنها ليس لها سلطة، فهي بمنزلة الأسير عنده، لكن لها الحق أن تقول له: أزل هذا؛ لأنه يؤذيني إلا اللحية، فإنها ليس لها الحق في أن تقول له: احلقها، وإن كان بعض الناس إذا خاطبناهم وقلنا لهم: يجب إعفاؤها، قال: إن زوجته ما ترضى، فهذا لا يقبل.
فنقول: ولو كانت لا ترضى، فلا بد أن تنفذ ما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم، لكن لو طلبت منه إزالة الأظفار، والعانة، والإبطين، فهذا لا شك أنه يجب عليه لقوله تعالى:{وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} ، وقوله:{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228] وقال بعض السلف: إني أحب أن أتجمل لزوجتي، كما أحب أن تتجمل لي، ولعل هذا يدخل في قوله صلى الله عليه وسلم:«لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»
(2)
.
ولا يجوز له أن يطلب منها الوشر، وهو إصلاح الأسنان بمبرد حتى تكون صغيرة وأنيقة، ولو قال: لا بد من هذا، فنقول:
(1)
أخرجه مسلم في الطهارة/ باب خصال الفطرة (258) عن أنس رضي الله عنه.
(2)
سبق تخريجه ص (370).
لا طاعة له؛ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ومعلوم أن الوشر من كبائر الذنوب.
ولو قال: لا بد أن تقصي شعر الرأس إلى شحمة الأذن، وهي تقول: لا، أنا أريد أن يبقى رأسي كالنساء المستقيمات، فليس له أن يجبرها؛ لأن هذا يخالف قول الله تعالى:{وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} .
وَلَا تُجْبَرُ الذِّمِّيَّةُ عَلَى غُسْلِ الجَنَابَةِ.
قوله: «ولا تجبر الذمية على غُسل الجنابة» ، هذه المسألة خالف فيها الماتنُ المشهورَ من المذهب، والماتن ـ أحياناً ـ يخرج عن المذهب، فالمذهب أن الذمية تجبر على غسل الجنابة، والمؤلف يرى أنها لا تجبر، ولكلٍّ وجهة، أما المؤلف فيرى أنها لا تجبر على غسل الجنابة؛ لأنها ليست ممن يصلي حتى تجبر على غسل الجنابة.
وأما المذهب فيقولون: إن بقاء الجنابة عليها مرة بعد أخرى يؤثر في نفسية الزوج، وربما يحصل روائح كريهة بسبب تجمع الجنابات عليها، فله أن يجبرها على غسل الجنابة، وإن كان لا يقع منها تطوعاً لله؛ لأنه لا يقبل منها هذا الغسل، وليس عليها صلاة حتى تغتسل لها، فالصواب ما عليه المذهب أن الذمية تجبر على غسل الجنابة؛ لأن هذا شيء يتعلق بالاستمتاع، ولهذا أمر بالاغتسال عند إعادة الجماع، ولأنها إذا لم تغتسل بقيت فاترة بالنسبة للجماع، كما تجبر على غُسل الحيض؛ وذلك لأن الحيض يتعلق بمحل الاستمتاع، ولا يخفى أن له رائحة منتنة تكرهها النفس.
وقوله: «الذمية» لو أن المؤلف رحمه الله قال «الكتابية» لكان أولى من وجهين:
الأول: أن الكتابية يجوز نكاحها وإن لم تكن ذمية.
الثاني: أن غير الكتابية لا يجوز نكاحها ولو كانت ذمية.
فَصْلٌ
وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَبِيتَ عِنْدَ الحُرَّةِ لَيْلَةً مِنْ أَرْبَعٍ، وَيَنْفَرِدُ إِنْ أَرَادَ فِي الْبَاقِي،
......
قوله: «ويلزمه» أي: الزوج.
قوله: «أن يبيت عند الحرة ليلة من أربع، وينفردُ إن أراد في الباقي» أي: عليه أن يبيت ليلة من أربع عند الحرة، فيبيت عندها في المضجع، لقوله تعالى:{وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} [النساء: 34] أي: في الفراش، وليس المعنى أنه يبيت ـ مثلاً ـ في حجرة وهي في حجرة في البيت، بل يبيت في المضجع ليلة من أربع، وثلاث ليالٍ من الأربع له أن ينفرد، والدليل أن امرأةً جاءت إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقالت تثني على زوجها: إن زوجي يقوم الليل ويصوم النهار، وليس لي منه حظ، فأمير المؤمنين رضي الله عنه استغفر لها، وأمرها بالصبر، وأثنى على زوجها ثم انصرفت، وكان عنده كعب بن سوار فلما انصرفت قال: يا أمير المؤمنين، إنك ما قضيت حاجتها، قال: لماذا؟ قال: لأنها تستعديك على زوجها، يعني تشكو زوجها إليك، فأرسل عمر رضي الله عنه إلى زوجها، وأخبره، ثم قال لكعب: اقض بينهما فإنك علمت من حالهما ما لم أعلم، فقال: لها ليلة من أربع ولك الباقي
(1)
؛ لأنه يجوز له أن يتزوج أربعاً، فإذا تزوج أربعاً صار ثلاث ليالٍ للزوجات الثلاث، وواحدة لها ليلة، فتعجب عمر رضي الله عنه من حكمه وقضائه ونفذه.
(1)
أخرجه عبد الرزاق (12586).
وهذا الذي قضى به كعب بن سوار بحضرة عمر رضي الله عنه وأقره عليه حجة بإقرار عمر رضي الله عنه؛ لأنه أحد الخلفاء الراشدين.
وقال بعض العلماء: إنه يجب عليه أن يبيت عندها بالمعروف لقوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} ، وليس من المعروف أن يكون الزوج في حجرة ثلاث ليالٍ من أربع، وفي ليلة مع هذه الزوجة، فكلٌّ يعرف أن هذا جنف، ولا يلزم من كونه لا يلزمه إلا ليلة إذا كان عنده أربع نساء ألا يلزمه أكثر إذا لم يكن له إلا واحدة؛ لأن كونه لا يلزمه إلا ليلة إذا كان عنده أربع نساء هو من ضرورة العدل، فلا بد أن يكون كل واحدة لها ليلة من أربع، بخلاف ما إذا كان مخلياً لها، وليس معها أحد، فإن الحكم يختلف، فيجب عليه أن يبيت عندها ما جرت به العادة.
والظاهر أن ما جرت به العادة يكون مقارباً لما قضى به كعب بن سوار عند التشاح والتنازع، أما في المشورة والإرشاد والنصح فإنه ينبغي أن يشار على الزوج، فيقال: إن هذه زوجتك ولا ينبغي أن تهجرها؛ لأن الله ـ تعالى ـ يقول: {وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} [النساء: 34]، أما مع عدم خوف النشوز فلا ينبغي أن تهجر ولا ليلة، إلا إذا جرى العرف بذلك، وهذا القول هو الصواب.
وقوله: «وينفردُ» بالرفع وجوباً؛ لأن الواو هنا، إما للاستئناف، أو معطوفة على «يلزمه» ؛ لأننا لو قلنا ينفردَ بالنصب لأوجبنا عليه أن ينفرد في الباقي.
وقوله: «إن أراد في الباقي» أي: وله أن ينفرد إن أراد في الباقي، وهو ثلاث ليالٍ، ولكن لو أن المرأة أبت أن يبيت عندها ليلة من أربع فلا تملك هذا، مع أنه يمكن أن يكون معها ثلاث زوجات، وتقول: أنا أقدِّر أن معك ثلاث زوجات، ولا يجب عليَّ إلا ليلة واحدة من أربع، فكما أن هذا ليس بصواب فكذلك عكسه.
وَيَلْزَمُهُ الوَطْءُ إِنْ قَدِرَ كُلَّ ثُلُثِ سَنَةٍ مَرَّةً،
........
قوله: «ويلزمه الوطء إن قدر كلَّ ثلث سنةٍ مرة» أي: الجماع لا يلزمه بالسنة إلا ثلاث مرات، كل ثلث سنة مرة فقط، وإذا قدر عليه أيضاً، ولو كانت المرأة من أشب النساء وهو شاب!!
وقوله: «إن قدر» مفهومه إن عجز فلا يلزمه؛ لأن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها، ولا إثم عليه في ذلك، ولكن يبقى النظر أنه إن كان عاجزاً عن الوطء، فهناك صاحب حق وهو الزوجة، فماذا نصنع؟
تقدم لنا أنه إذا كان عنيناً فإنه يؤجل سنة ويفسخ النكاح، وإذا كان عجزه لمرض فالمذهب أنه لا فسخ لها كما سبق.
واختار شيخ الإسلام رحمه الله أن لها أن تفسخ بعجزه عن الوطء، وقال: إن عجزه عن الوطء أولى بالفسخ من عجزه عن النفقة؛ والصحيح ما قاله الشيخ؛ لأن كثيراً من النساء تريد العشرة مع الزوج، وتريد الأولاد أكثر مما تريد من المال، ولا يهمها المال عند هذه الأمور، فكوننا نقول: إذا عجز عن النفقة فإن لها الفسخ، وإذا عجز عن الوطء فليس لها الفسخ، إلا إذا ثبتت عُنته فهذا فيه نظر، فالصواب ما قاله الشيخ رحمه الله أنه
إذا عجز عن الوطء لمرض وطلبت الفسخ فإنها تفسخ، إلا إذا كان هذا المرض مما يعلم أو يغلب على الظن أنه مرضٌ يزول بالمعالجة، أو باختلاف الحال فليس لها فسخ؛ لأنه ينتظر زواله.
وقوله: «كل ثلث سنة مرة» الدليل أن الله تعالى قال: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ *وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ *} [البقرة]، فضرب الله له أربعة أشهر، والإيلاء لا يُسقط واجباً، ولا يوجب ما ليس بواجب، فلو كان يلزمه أن يطأ لأقل من أربعة أشهر لوجب عليه، وكانت مدة الإيلاء أقل من أربعة أشهر، ولو كان ـ أيضاً ـ لا يجب عليه كل أربعة أشهر مرة ما لزمه بالإيلاء، فالإيلاء لا يوجب واجباً ولا يسقط واجباً، فلما ضرب الله له أربعة أشهر علم أن الواجب أن يجامعها في كل أربعة أشهرٍ مرة.
ولكن هذا التعليل عليل؛ لأن الإيلاء حالٌ طارئة، والرجل أقسم أن لا يجامع زوجته، فما دام الرجل حلف، نقول: نظراً لحالك ويمينك وقسمك نؤجلك هذه المدة، إن جامعت ورجعت إلى زوجتك فذاك، وإن لم تجامع فسخ النكاح، وأما من لم تطرأ عليه هذه الحال، ولم يوجد سببٌ لتأجيله، فإن الواجب أن يعاشرها بالمعروف، قال الله تعالى:{وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19] وليس من المعروف أبداً أن الإنسان الشاب يتزوج المرأة الشابة ثم يطؤها في كل أربعة أشهر مرة فقط.
فالصواب أنه يجب أن يطأها بالمعروف، ويفرق بين الشابة والعجوز، فتوطأ كل واحدة منهما بما يشبع رغبتها.
وَإِنْ سَافَرَ فَوْقَ نِصْفِهَا وَطَلَبَتْ قُدُومَهُ وَقَدِرَ لَزِمَهُ، فَإِنْ أَبَى أَحَدَهُمَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا بِطَلَبِهَا،
........
قوله: «وإن سافر فوق نصفها وطلبت قدومه وقدر لزمه» أي: إن سافر عن زوجته فوق نصف السنة، وطلبت قدومه وقدر، لزمه الرجوع والحضور إلى زوجته، وزاد في الروض
(1)
: «في غير حج أو غزو واجبين أو طلب رزق يحتاجه» ، فهذه أربعة شروط:
الأول: أن يزيد السفر عن نصف سنة، فإن كان نصف سنةٍ فأقل فليس لها حق المطالبة، فلو سافر لمدة أربعة شهور أو خمسة شهور، فليس لها حق المطالبة، مع أنه تقدم أن المولي يضرب له أربعة أشهر، وهذا الذي سافر بدون حاجة هو في الحقيقة أشد من المولي؛ لأن المولي عندها ويؤنِّسها وتستأنس به، وأما هذا فقد سافر وتركها وحدها في البلد مثلاً، أو عند أهلها، ويقولون: يقيد بنصف سنة!!
الثاني: أن تطلب قدومه، فإن لم تطلب قدومه فلا يلزمه، حتى لو بقي سنتين أو ثلاثاً أو أربعاً، لكنه يشترط أن يكون آمناً عليها، فلو كان لا يأمن على زوجته من الفتنة بها أو منها، فإنه لا يجوز أن يسافر أصلاً.
الثالث: أن يقدر، فإن عجز فلا يلزمه، مثل أن لا يجد راحلة توصله إلى زوجته، أو انقطعت الأسفار، أو حصل خوف، أو ما أشبه ذلك.
الرابع: ما ذكره في الروض: أن لا يكون لطلب رزقٍ يحتاجه، أو في أمرٍ واجب، كحج وغزو.
وهل الحج يستغرق نصف سنة؟
(1)
الروض المربع مع حاشية ابن قاسم (6/ 438).
نعم، في الزمن السابق يستغرق أو أكثر، أما الآن فلا يستغرق، فإذا تمت هذه الشروط فإنه يلزمه الحضور، فإن كان في معيشةٍ يحتاجها، وقال: لا أستطيع أن آتي، أنا آجرت نفسي على هذا الرجل لمدة ثمانية شهور، وأنا مضطر إلى هذا، فإنه لا يلزمه الحضور، وليس لها حق الفسخ.
قوله: «فإن أبى أحدَهما» الضمير مثنى، وهل الذي سبق اثنان؟ نعم، الوطء كل ثلث السنة، والحضور من السفر، فإن أبى أحدَهما مع قدرته عليه، قال المؤلف:
«فُرِّق بينهما بطلبها» «فُرِّقَ» مبني للمجهول؛ لأن الذي يفرق بينهما الحاكم، أي: القاضي.
فإذا غاب أكثر من نصف سنة ـ مثلاً ـ وهو في غير حجٍ، أو غزوٍ واجب، أو معيشةٍ يحتاجها، وطلبت أن يرجع فأبى مع قدرته فإنه بمجرد ما تتم نصف السنة، تذهب إلى القاضي، وتقول: أريد أن أفسخ النكاح.
وظاهر كلام المؤلف: أن الحاكم لا يحتاج إلى أن يراجع الزوج، أو يراسله، بل يفسخ وإن لم يراسله.
وقال بعض أهل العلم: إنه لا يجوز أن يفسخ حتى يراسل الزوج، فيكتب إليه مثلاً، المهم أن يتصل به، ويقول: إنه لا بد أن تحضر وإلا فسخنا النكاح، وهذا القول أصح؛ لأن الزوج ربما لا يبين العذر لزوجته، فإذا راسله القاضي، وعرف أن المسألة وصلت إلى حدٍّ يوجب الفراق، فربما يبين العذر، ثم هذا لا يضرها فقد صبرت نصف سنة، فلتصبر ما تيسر لمراجعة زوجها.
وَتُسَنُّ التَّسْمِيَةُ عِنْدَ الوَطْءِ، وَقَوْلُ الْوَارِدِ،
............
قوله: «وتسن التسمية عند الوطء وقول الوارد» أي: إذا أراد أن يجامع الرجل امرأته، فإن التسمية سنة مؤكدة عند الجماع؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال: بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، فإنه إن قدر بينهما ولد لم يضره الشيطان أبداً
(1)
».
وهل تقوله المرأة؟ قال بعض العلماء: إن المرأة تقوله، والصواب أنها لا تقوله؛ لأنه عليه الصلاة والسلام قال:«لو أن أحدكم إذا أتى أهله» ، ولأن الولد إنما يخلق من ماء الرجل، كما قال الله تعالى:{فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ *خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ *يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ *إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ *} [الطارق]، فالحيوانات المنوية إنما تكون من ماء الرجل، ولهذا هو الذي نقول: إذا أراد أهله، أن يقول: بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا.
وقول النبي عليه الصلاة والسلام: «إنه إن قدر بينهما ولد لم يضره الشيطان أبداً» ، لا يشكل على هذا أنه ربما يكون هذا الرجل ملتزماً بالتسمية عند كل جماع، ويأتيه أولادٌ يضرهم الشيطان، فاختلف أهل العلم في ذلك، فقال بعضهم: لم يضره ضرراً بدنياً؛ وذلك أن الشيطان إذا ولد الإنسان فإنه يطعن بيده في خاصرته، فيصرخ الطفل إذا ولد، وأحياناً يرى أثر الضرب أزرق في الخاصرة؛ من أجل أن يهلكه، فيقولون: لا يضره ـ أي:
(1)
أخرجه البخاري في بدء الخلق/ باب صفة إبليس وجنوده (3271)؛ ومسلم في النكاح/ باب ما يستحب أن يقوله عند الجماع (1434) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
بطعنه إياه في الخاصرة ـ لا أنه لا يضره ضرراً دينياً.
وقال بعض العلماء: بل الحديث عام لم يضره الشيطان أبداً، والتأبيد يدل على أن ذلك مستمر، ولكن الجواب عن الصورة التي ذكرنا، أن يقال: إن هذا سبب، والأسباب قد تتخلف بوجود موانع، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام:«كل مولودٍ يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه»
(1)
، وإلا فكلام الرسول عليه الصلاة والسلام حقٌ وصدق، ولكن هذا سببٌ من الأسباب، وقد يوجد موانع.
فإذا قال لنا قائل: إذا كان هذا سبباً وقد يوجد موانع، إذاً ما الفائدة؟! نقول: هذا غلط ليس بصحيح، الفائدة أنك فعلت السبب، والموانع عارضة، والأصل عدم وجودها.
فعليك أن تفعل السبب موقناً بأنه سينفع، ثم الأمر بيد الله عز وجل، وكل إنسان يريد أن يفعل شيئاً له أسباب لا يقول: أخشى من الموانع، بل يفعل الأسباب، والموانع عارضة.
وينبغي للزوج قبل الجماع أن يفعل مع امرأته ما يثير شهوتها، حتى يستوي الرجل والمرأة في الشهوة؛ لأن ذلك أشد تلذذاً وأنفع للطرفين، فيفعل معها ما يثير الشهوة من تقبيل، ولمس، وغير ذلك، ثم إذا أراد أن يجامع قال: بسم الله، اللهم جنّبنا الشيطان وجنّب الشيطان ما رزقتنا، أي: من الولد؛ لأن
(1)
أخرجه البخاري في الجنائز/ باب ما قيل في أولاد المشركين (1385)؛ ومسلم في القدر/ باب معنى كل مولود يولد على الفطرة (2658) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
الولد رزق من الله تعالى وفضل، كما قال الله عز وجل:{فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [البقرة: 187]، فإن لم يسمِ فإن الشيطان ربما يضر ولده، وربما يشارك الإنسان في التمتع بالزوجة، قال الله تعالى للشيطان:{وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلَادِ} [الإسراء: 64]، قال بعض العلماء: المشاركة في الأولاد أن الرجل إذا لم يسم عند الجماع فقد يشاركه الشيطان في التمتع بزوجته.
فإن قال قائل: أرأيتم لو أتى أهله وهو عارٍ، أيقول هذا الذكر؟ نعم، يقول؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أطلق، ولأنه لا حرج أن يأتي الرجل أهله عارياً وهي عارية أيضاً، لكن السنة أن يلتحفا بلحاف واحد حتى لا تبرز سوءاتهما، ويكونا شبيهين بالحمارين
(1)
.
وَيُكْرَهُ كَثْرَةُ الكَلَامِ، وَالنَّزْعُ قَبْلَ فَرَاغِهَا، وَالوَطْءُ بِمَرْأَى أَحَدٍ، وَالتَّحَدُّثُ بِهِ، وَيَحْرُمُ جَمْعُ زَوْجَتَيْهِ فِي مَسْكَنٍ وَاحِدٍ بِغَيْرِ رِضَاهُمَا، وَلَهُ مَنْعُهَا مِنَ الخُرُوجِ مِنْ مَنْزِلِهِ،
قوله: «ويكره كثرة الكلام» يعني عند الوطء والجماع، فإذا كان الإنسان يجامع زوجته فلا ينبغي أن يكثر الكلام، فيتكلم، لكن لا يكثر، وفي الروض حديث لكنه ضعيف: «لا تكثروا الكلام عند مجامعة النساء فمنه يكون الخرس والفأفأة
(2)
»، الخرس معناه أن لا يتكلم، والفأفأة أن يكرر الفاء عند نطقه بها، ولا شك أن كثرة الكلام في هذه الحال ما تنبغي؛ لأن الإنسان كاشفٌ فرجه وكذلك المرأة، لكن الكلام اليسير الذي يزيد في ثوران الشهوة لا بأس به، وقد يكون من الأمور المطلوبة.
(1)
أخرجه ابن ماجه في النكاح/ باب التستر عند الجماع (1921) عن عتبة بن عبدٍ السلمي رضي الله عنه، وانظر: الإرواء (2009).
(2)
عزاه في الإرواء (2008) لابن عساكر، وقال: منكر.
قوله: «والنزع قبل فراغها» أي: يكره ـ أيضاً ـ أن ينزع قبل فراغها لحديث: «إذا قضى حاجته فلا يعجلها حتى تقضي حاجتها»
(1)
، والنزع معناه أن ينهي الإنسان جماعه، فيخرج ذكره من فرج امرأته قبل فراغها من الشهوة، أي: قبل إنزالها، والفراغ من الشهوة يكون بالإنزال، فالمؤلف يقول: يكره، وهذا فيه نظر، والصحيح أنه يحرم أن ينزع قبل أن تنزل هي؛ وذلك لأنه يفوت عليها كمال اللذة، ويحرمها من كمال الاستمتاع، وربما يحصل عليها ضررٌ من كون الماء متهيأً للخروج، ثم لا يخرج إذا انقضى الجماع.
وأما الحديث الذي ذكروه فهو ـ أيضاً ـ ضعيف، ولكنه من حيث النظر صحيح، فكما أنك أنت لا تحب أن تنزع قبل أن تنزل، فكذلك هي ينبغي أن لا تعجلها.
قوله: «والوطء بمرأى أحد» ، هذا من أغرب ما يكون أن يقتصر فيه على الكراهة، يعني يكره للإنسان أن يجامع زوجته والناس ينظرون، وهذا تحته أمران:
أحدهما: أن يكون بحيث تُرى عورَتاهما، فهذا لا شك أن الاقتصار على الكراهة غلط، لوجوب ستر العورة، فإذا كان بحيث يرى عورتهما أحد فلا شك أنه محرم، حتى المروءة لا تقبل هذا إطلاقاً، فكلام المؤلف ليس بصحيح إطلاقاً.
الثاني: أن يكون بحيث لا ترى العورة، فإن الاقتصار على
(1)
أخرجه أبو يعلى (7/ 4201) عن أنس رضي الله عنه، انظر: الإرواء (2010).
الكراهة ـ أيضاً ـ فيه نظر، فمثلاً لو كان ملتحفاً معها بلحاف، وصار يجامعها فتُرى الحركة، فهذا في الحقيقة لا شك أنه إلى التحريم أقرب؛ لأنه لا يليق بالمسلم أن يتدنى إلى هذه الحال، وأيضاً ربما يثير شهوة الناظر ويحصل بذلك مفسدة، وقد يكون هذا الناظر ممن لا يخاف الله عز وجل فيسطو على المرأة بعد فراغ زوجها منها.
فالصحيح في هذه المسألة أنه يحرم الوطء بمرأى أحد، اللهم إلا إذا كان الرائي طفلاً لا يدري، ولا يتصور، فهذا لا بأس به، أما إن كان يتصور ما يفعل، فلا ينبغي ـ أيضاً ـ أن يحصل الجماع بمشاهدته ولو كان طفلاً؛ لأن الطفل قد يتحدث بما رأى عن غير قصد.
فالطفل الذي في المهد ـ مثلاً ـ له أشهر هذا لا بأس به؛ لأنه لا يدري عن هذا الشيء، ولا يتصوره، لكن من له ثلاث سنوات، أو أربع سنوات، يأتي الإنسان أهله عنده، فهذا لا ينبغي؛ لأن الطفل ربما في الصباح يتحدث، فلهذا يكره أن يكون وطؤه بمرأى طفلٍ، وإن كان غير مميز إذا كان يتصور ويفهم ما رأى.
قوله: «والتحدث به» ـ سبحان الله العظيم ـ يقول المؤلف: إنه يكره التحدث بجماع زوجته، وهذا ـ أيضاً ـ فيه نظر ظاهر، والصواب: أن التحدث به محرم، وقد ورد في الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام:«إن من شر الناس منزلة الرجل يفضي إلى المرأة وتفضي إليه، ثم يصبح يتحدث بما جرى بينهما»
(1)
،
(1)
أخرجه مسلم في النكاح/ باب تحريم إفشاء سر المرأة (1437) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
فهو من شر الناس منزلة، فكيف يكون مكروهاً؟! والغالب أن الذي يفعل هذا، كما فضح زوجته هي تفضحه أيضاً، فتقول عند النساء: إنه فعل فيها كذا، وفعل فيها كذا
…
إلخ، والصواب في هذه المسألة أنه حرام، بل لو قيل: إنه من كبائر الذنوب لكان أقرب إلى النص، وأنه لا يجوز للإنسان أن يتحدث بما جرى بينه وبين زوجته، وهذا من هفوات بعض العلماء رحمهم الله.
فإن قال قائلٌ: أليس عمر بن أبي سلمة رضي الله عنهما حين سأل الرسول صلى الله عليه وسلم الرجل يقبل امرأته وهو صائم؟ فقال صلى الله عليه وسلم: سل هذه، فقالت: كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقبل وهو صائم
(1)
، قلنا التقبيل ليس كمسألة الجماع، ثم إنه ما تحدَّث بقضية معينة، بل تحدث عن جنس القبلة، كما لو قال الرجل مثلاً: إنه يجامع زوجته فلا ينزل فيغتسل، ففرق بين التحدث عن الجنس، والتحدث عن الفعل المعين، والناس يعرفون الفرق بين هذا وهذا، فلو أن أحداً وصف الجماع المستحسن ـ لأن أنواع الجماع كثيرة، بعضها مستحسن وبعضها غير مستحسن ـ دون أن يضيفه إلى زوجته، بأن قال مثلاً: بعض الناس يفعل كذا وكذا عند الجماع، فهذا جائز، إلا أن يفهم الحاضرون أن المراد به نفسه، فحينئذٍ يمنع.
(1)
أخرجه مسلم في الصيام/ باب بيان أن القبلة في الصوم ليست محرمة على من لم تحرك شهوته (1106)(65) عن عمر بن أبي سلمة رضي الله عنهما.
أي: يحرم على الزوج إذا كان له زوجتان أن يجمع بينهما في حجرة واحدة؛ لأن ذلك يؤدي إلى الشقاق والنزاع؛ لما يحدث بين الزوجات من الغيرة، حتى أمهات المؤمنين رضي الله عنهن، فالغيرة طبيعة في المرأة.
وكلام المؤلف صحيح إذا جمعهما في حجرة واحدة، ولا شك، أما إذا كان في بيت له شقق، وجعل كل واحدة في شقة فهذا لا بأس به؛ لأن كل امرأة مستقلة بمسكنها، وحدثني بعض الناس أن له زوجات يجمعهن في سكن واحد بسبب التآلف والتراحم بينهن. وعلى كل حال فالناس يختلفون والأصل أنه محرم إلا برضاهما، فإذا رضيتا بذلك فلا بأس.
وإن شُرِط عند العقد أن لا يجمع بينهما كان ذلك أوكد؛ لأنه يكون هنا محرماً من جهة الشرط، ومحرماً من جهة الشرع، فإن رضيتا بأن تكونا في مسكن واحد فإنه يجوز؛ لأن الحق لهما.
فإن تعب الزوج من ذلك وأراد أن يفصل بينهما، وأبتا أن تنفصلا، فالحق للزوج، فلو قالت إحداهما: أنا راضية مع ضرتي، استأنس بها، وأتحدث إليها، ولا أريد أن أفارقها، لكن الزوج تعب من كونه يرى زوجتيه في مكان واحد، فله أن يفصل بينهما.
فإن رضيتا أن تكونا في مسكن واحد، ثم بعد ذلك أبتا، فهل
نقول: هذا حق لهما أسقطتاه فسقط، ولا يمكن أن يعود؟ أو نقول: الحكم يدور مع علته، فإذا وُجِدَ بينهما التنافر والغيرة وجب عليه أن يفرق؟
الجواب: الثاني؛ لأنهما قد ترضيان بذلك للتجربة والنظر فيما يكون، ثم تريان أن البقاء في مسكن واحد موجب للغيرة والتنافر، وضيق الحياة، فلهما أن يرجعا في ذلك، ويطالبا بأن يجعل كل واحدة في مسكن منفصل، ولأن حق الزوجة يتجدد كل يوم بيومه، وفي هذه الحال ليس له أن يحتج عليها بأنها أذنت، كما لو وهبت يومها لإحدى الزوجات ثم بعد ذلك رجعت فلها الحق.
قوله: «وله منعها من الخروج من منزله» ، أي: للزوج أن يمنع الزوجة من الخروج من منزله، حتى ولو لزيارة أبويها؛ لأنه سيدها، بدليل قول الله ـ تعالى ـ:{وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} [يوسف: 25]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم:«اتقوا الله في النساء فإنهن عوانٍ عندكم»
(1)
.
ولكن هذه الإباحة هل هي إباحة مطلقة، أو بشرط أن لا تتضرر بذلك؟
الجواب: في هذا تفصيل:
أولاً: إذا كان لا ضرر عليه في خروجها فلا ينبغي أن يمنعها؛ لأن منعها كبت لحريتها من وجه، ولأن ذلك قد يفسدها عليه، وما دام أنه لا ضرر فليأذن لها، فقد تكون امرأة داعية
(1)
سبق تخريجه ص (382).
للخير، تحضر مجالس النساء وتعظهن وتبين لهن الشريعة، وقد تكون امرأة تحب أن تزور أقاربها، فهنا لا ينبغي له أن يمنعها.
ثانياً: أن يكون في خروجها ضرر عليه أو عليها.
فالضرر عليه بأن يفسدها الخروج على زوجها، فإذا كانت إذا خرجت إلى أمها سألتها عن أحوالها، ثم قالت: انظري فلانة، كيف طعامهم مثلاً؟! فهذا فيه إفساد، والمرأة قريبة النظر، فقد تستقل ما يأتي به زوجها، وتفسد عليه، فله أن يمنعها من زيارة أمها في هذه الحال؛ لأن أمها مفسدة.
كذلك ربما يحصل إفسادها على الزوج بغير هذه الطريقة، فقد ترى ـ مثلاً ـ في الشارع مَنْ يعجبها صورته وشبابه، ويكون زوجها أقل منه فتطمح فيه؛ لأن النفوس أمَّارة بالسوء فتفسد عليه، فحينئذ له أن يمنعها.
ثالثاً: أن لا يكون في خروجها خير ولا شر، فالأفضل أن يشير عليها أن لا تخرج، ويقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله وبيوتهن خير لهن»
(1)
.
لكن لو أصرت على أن تخرج فهنا الأفضل أن لا يمنعها، بل يعطيها شيئاً من الحرية حتى تزداد محبتها له، وتكون العشرة بينهما طيبة، فلكل مقام مقال، والعاقل الحكيم يعرف كيف يتصرف في هذا الأمر.
(1)
أخرجه البخاري في الجمعة/ باب (900)؛ ومسلم في الصلاة/ باب خروج النساء إلى المساجد إذا لم يترتب عليه فتنة (442)(137) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
وَيُسْتَحَبُّ إِذْنُهُ أَنْ تُمَرِّضَ مَحْرَمَهَا، وَتَشْهَدَ جَنَازَتَهُ، وَلَهُ مَنْعُهَا مِنْ إِجَارَةِ نَفْسِهَا، وَمِنْ إِرْضَاعِ وَلَدِهَا مِنْ غَيْرِهِ إِلاَّ لِضَرُورَتِهِ.
قوله: «ويستحب إذنه» أي: يستحب أن يأذن لها إذا طلبت، وليس المعنى أنه يستحب أن تستأذن.
قوله: «أن تمرض محرمها» أي: إذا استأذنت منه أن تذهب تمرض والدها فالأفضل أن يسمح لها، لما في ذلك من جبر الخاطر، وطمأنينة النفس، وصلة الرحم، حتى لو فرض أن بينه وبين أبيها مشكلة أو عداءً شخصياً فإن الأفضل أن يأذن لها؛ مراعاة لحالها، ثم إنه يسلم من السمعة السيئة؛ لأنه لو منعها أن تذهب تمرض والدها لتحدث الناس به، وأكلوا لحمه، ورحم الله امرءاً كف الغيبة عن نفسه.
وقوله: «ويستحب إذنه» هذا الأصل، لكن قد يجب أن يأذن، وذلك فيما إذا لم يكن لمحرمها من يمرضه، وكان في حاجة إلى ذلك.
أما عيادتهم، فالصحيح أنه يجب أن يأذن لها، وفرق بين التمريض والعيادة، فالعيادة تعود وترجع، لكن التمريض تبقى عند هذا المريض حتى يأذن الله بشفائه أو موته، فلهذا نقول: أما التمريض فسنة، وأما العيادة فالصحيح أنه يجب أن يمكنها منها؛ لأن العيادة بالنسبة للقريب من صلة الرحم، وليس من المعروف عند الناس أن تمنعها من أن تعود أقاربها إذا مرضوا.
وقوله: «تمرض» مطلق، لكن يجب أن يقال: أن تمرض محرمها في غير ما لا يحل لها النظر إليه، وهو العورة.
وقوله: «محرمها» ظاهره سواء كان قريباً جداً، كالأب، والابن، وما أشبه ذلك، أو بعيداً، ولكن ينبغي أن يُفرَّق بين
القريب والبعيد، فمثلاً إذا كان لها عمٌّ بعيد، فليس كالابن، وليس كالأب، ولكل مقام مقال.
قوله: «وتشهد جنازته» هذا فيه نظر، فإن أراد أن تشهد الصلاة عليها وتتبعها، فقد قالت أم عطية رضي الله عنها:«نهينا عن اتباع الجنائز، ولم يعزم علينا»
(1)
، فمن العلماء من قال: يؤخذ من هذا الحديث أن اتباع الجنائز للنساء مكروه، لقولها:«ولم يعزم علينا» ، ومنهم من قال: إنه محرم، وأن قولها:«ولم يعزم علينا» تفقهاً منها، قد توافق عليه وقد لا توافق، وأن الأصل أن نأخذ بالحديث.
وإن أراد أن تبقى هناك عند موته، فهذا يخشى منه النياحة والندب، فشهود الجنازة لا وجه له إطلاقاً، فمثلاً إذا جاءها خبر أن قريبها ـ أي: محرمها ـ قد مات، وقالت لزوجها: سأذهب لأشهد جنازته إذا غسلوه وكفنوه وخرجوا به، فله الحق أن يمنعها؛ لأن شهودها لا داعي له، وربما يكون ذلك أشد عليها حزناً وتأثيراً، ويحضر النساء ـ أيضاً ـ معها فتحصل النياحة.
قوله: «وله منعها من إجارة نفسها» أي: له أن يمنع زوجته من إجارة نفسها؛ لأنه يملك منافعها في الليل والنهار، حتى إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:«لا يحل لامرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه»
(2)
؛ لأنها لو صامت لمنعته الاستمتاع بها
(1)
أخرجه البخاري في الجنائز/ باب اتباع النساء الجنازة (1278)؛ ومسلم في الجنائز/ باب نهي النساء عن اتباع الجنائز (931)(34).
(2)
أخرجه البخاري في النكاح/ باب لا تأذن المرأة في بيت زوجها لأحد
…
(5195)؛ ومسلم في الزكاة/ باب ما أنفق العبد من مال مولاه (1026) عن أبي هريرة رضي الله عنه، واللفظ للبخاري.
نهاراً، أو لمنعته من كماله؛ لأن الإنسان قد يأنف أن يفسد صومها ولو كان نفلاً.
وإجارة النفس هي أن تؤجر نفسها لتكون خادماً عند آخرين، فله أن يمنعها؛ للخوف عليها من وجه؛ ولأن في ذلك دناءة من وجه آخر تلحق زوجها، فيقال: فلانة زوجة فلان خادمٌ عند الناس.
وقوله: «من إجارة نفسها» يفهم منه أنها لو استؤجرت على عمل، بأن تكون امرأة خياطة مثلاً، وصارت تخيط للناس بأجرة في بيتها فليس له منعها، إلا إذا رأى في ذلك تقصيراً منها في حقه فله المنع.
فصارت المرأة إن أجَّرت نفسها فله منعها مطلقاً، حتى لو قالت: أنا أريد أن أؤجر نفسي ما دمت غائباً عن البلد، فله منعها، لما في ذلك من الدناءة والإهانة، أما إذا استؤجِرت على عمل وهي في بيت زوجها، فليس له المنع، إلا إذا قصرت في حقه فله منعها.
فإن قال قائل: ما تقولون في التدريس، أيدخل في قوله:«من إجارة نفسها» أو لا؟
فالجواب: يدخل؛ لأنها سوف تذهب إلى المدرسة وتدرِّس، فله منعها من أن تدرِّس، إلا إذا شرطت عليه في العقد أن تبقى مدرِّسة، أو تتوظف مدرِّسة في المستقبل، وقَبِلَ بهذا
الشرط، فإنه يلزمه لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج»
(1)
.
فإن قال قائل: إذا كانت لم تشترط هذا، لكن اضطرت إلى أن تكون مدرِّسة؛ لأن زوجها فقير ولا ينفق عليها؟
فالجواب: ليس لها ذلك، لكن لها أن تخيره، فتقول: إما أن تأذن لي أن أدرِّس وأحصل على قُوتي، وإما أن أطالبك بالفسخ؛ لأنها لا يمكن أن تبقى بدون قوت، وفي ظني أنها إذا خيرته بين هذا وهذا، فإنه سيوافق على التدريس.
قوله: «ومن إرضاع ولدها من غيره إلا لضرورته» ، ويكون هذا بأن تكون امرأة طلقها زوجها الأول وهي حامل، فتنتهي العدة بوضع الحمل ويتزوجها آخر، وهي لا تزال ترضع الولد، فللزوج الثاني أن يمنعها من إرضاع ولدها من الزوج الأول، إلا في حالين:
الأولى: الضرورة، بأن لا يقبل هذا الطفل ثدياً غير ثدي أمه، فيجب إنقاذه.
الثانية: أن تشترط ذلك على زوجها الثاني، فإذا وافق لزمه.
وقوله: «ولدها من غيره» علم منه أنه ليس له منعها من إرضاع ولدها منه، وهو كذلك إلا إذا كان في الأم مرض يخشى على الولد منه.
(1)
سبق تخريجه ص (165).
فَصْلٌ
وَعَلَيْهِ أَنْ يُسَاوِيَ بَيْنَ زَوْجَاتِهِ فِي القَسْمِ، لَا فِي الوَطْءِ.
قوله: «وعليه أن يساوي بين زوجاته في القسم» .
«وعليه» الضمير يعود على الزوج، فعليه أن يساوي بين زوجاته في القسم، سواء كن اثنتين، أم ثلاثاً، أم أربعاً، ودليل ذلك من القرآن، والسنة، والنظر، أما القرآن فقال الله تعالى:{وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19]، وليس من المعروف أن يقسم لهذه ليلتين، ولتلك ليلة واحدة، فالجور في هذا ظاهر، وأما من السنة فقول النبي عليه الصلاة والسلام:«من كان له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل»
(1)
، والعياذ بالله، وهذا دليل على تحريم الميل إلى إحداهما، وأما من النظر، فكل منهما زوجة وقد تساوتا في الحق على هذا الرجل، فوجب أن تتساويا في القسم، كالأولاد يجب العدل بينهم في العطية.
وقوله: «بين زوجاته في القسم» ظاهر كلامه سواءٌ كن حرَّات أم إماء؛ لأنه لم يستثنِ، لكن قال بعض العلماء ـ وهو المذهب ـ: إن للحرة مع الأمة ليلتين وللأمة ليلة؛ لأنها على النصف، وفي هذا نظر، والصواب أنه يجب العدل في القسم حتى بين الحرة والأمة.
قوله: «لا في الوطء» فلا يجب أن يساوي بينهن في الوطء؛
(1)
أخرجه أحمد (2/ 347)؛ وأبو داود في النكاح/ باب في القسم بين النساء (2133)؛ والترمذي في النكاح/ باب ما جاء في التسوية بين الضرائر (1141)؛ والنسائي في النكاح/ باب ميل الرجل إلى بعض نسائه دون بعض (7/ 63)؛ وابن ماجه في النكاح/ باب القسمة بين النساء (1969) عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال الحافظ في البلوغ (978):«سنده صحيح» .
لأن الوطء له دوافع من أعظمها المحبة، والمحبة أمرٌ لا يملكه المرء، فقد يكون إذا أتى إلى هذه الزوجة أحب أن يتصل بها، وتلك لا يحب أن يتصل بها، فلا يلزمه أن يساوي بينهن في الوطء، وقد قال الله تعالى:{وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} [النساء: 129]، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقسم بين زوجاته ويعدل ويقول:«هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما لا أملك»
(1)
وهذا حق؛ لأنه إذا كان لا يرغب إحداهما، فإنه لا يملك أن يجامعها إلا بمشقة، ثم إن تكلف الإنسان للجماع يلحقه الضرر.
وقال بعض العلماء: بل يجب عليه أن يساوي بينهن في الوطء إذا قدر، وهذا هو الصحيح والعلة تقتضيه؛ لأننا ما دمنا عللنا بأنه لا يجب العدل في الوطء بأن ذلك أمرٌ لا يمكنه العدل فيه، فإذا أمكنه زالت العلة، وبقي الحكم على العدل، وعلى هذا فلو قال إنسان: إنه رجل ليس قوي الشهوة إذا جامع واحدةً في ليلة لا يستطيع أن يجامع الليلة الثانية ـ مثلاً ـ أو يشق عليه ذلك، وقال سأجمع قوتي لهذه دون تلك، فهذا لا يجوز؛ وذلك لأن الإيثار هنا ظاهر، فهو يستطيع أن يعدل، فالمهم أن ما لا يمكنه
(1)
أخرجه أحمد (6/ 144)؛ وأبو داود في النكاح/ باب القسم بين النساء (2134)؛ والترمذي في النكاح/ باب ما جاء في التسوية بين الضرائر (1140)؛ والنسائي في النكاح/ باب ميل الرجل إلى بعض نسائه دون بعض (7/ 63، 64)؛ وابن ماجه في النكاح/ باب القسمة بين النساء (1971) عن عائشة رضي الله عنها، وصححه ابن حبان (4205)؛ والحاكم (2/ 187) وانظر: التلخيص (1466)؛ والإرواء (2018).
القسم فيه فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، وما يمكنه فإنه يجب عليه أن يقسم.
مسألة: هل يجب أن يعدل بين زوجاته في الهبة والعطية؟ يقول الفقهاء رحمهم الله: أما في النفقة الواجبة فواجب، وما عدا ذلك فليس بواجب؛ لأن الواجب هو الإنفاق، وقد قام به، وما عدا ذلك فإنه لا حرج عليه فيه، لكن هذا القول ضعيف.
والصواب أنه يجب أن يعدل بين زوجاته في كل شيء يقدر عليه، لقوله صلى الله عليه وسلم:«من كان له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل»
(1)
.
وَعِمَادُهُ اللَّيْلُ لِمَنْ مَعَاشُهُ النَّهَارُ، وَالعَكْسُ بِالعَكْسِ، وَيَقْسِمُ لِحَائِضٍ، وَنُفَسَاءَ، وَمَرِيضَةٍ، وَمَعِيبَةٍ، وَمَجْنُونَةٍ مَأْمُونَةٍ وَغَيْرِهَا،
.........
قوله: «وعماده الليل لمن معاشه النهار والعكس بالعكس» «عماده» أي: عماد القسم الأصل فيه الليل لمن معاشه النهار، وهو غالب الناس، كما قال الله تعالى:{وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا *} {وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا *} [النبأ]، فغالب الناس معاشهم النهار وسكونهم الليل، فيكون عماد القسم للزوجات الليل، أما النهار فالإنسان يذهب في معيشته، ربما يتردد إلى بيت هذه لأمرٍ يتعلق بمعيشته، وبيعه، وشرائه، ولا يتردد إلى الأخرى، وربما تكون خزائن ماله في بيت واحدةٍ فيحتاج إلى أن يتردد عليها، ولو لم يكن يومها.
وأما من معاشه في الليل دون النهار، فعماد القسم في حقه النهار، كالحارس الذي يحرس ليلاً وفي النهار، يتفرغ لبيته، ولهذا قال:«والعكس بالعكس» .
(1)
سبق تخريجه ص (192).
قوله: «ويقسم لحائض» أي: إذا كان له زوجتان فحاضت إحداهما، يقول المؤلف: إنه يجب أن يقسم لها.
فإن قال: الحائض لا أستمتع بها بكل ما أريد؟
نقول: لكن الإيناس، والاجتماع، وأن لا تَرَى الزوجة الأخرى متفوقة عليها، هذا واجب.
فإن اتفقت الزوجتان على أنه لا يقسم للحائض، فهل هذا جائز أو غير جائز؟ وإذا جاز، فهل لهما الرجوع أو ليس لهما الرجوع؟
لننظر: هل هذا معلوم أو مجهول؟ هذا غير معلوم، قد تحيض هذه خمسة أيام، وهذه تحيض عشرة أيام، وقد تختلف العادة، فهو مجهول، وإذا كان مجهولاً فلا بد أن يؤثر على قلوب الزوجات؛ لأنه إذا صارت هذه حيضها خمسة أيام، والثانية حيضها، أحياناً خمسة أيام، وأحياناً عشرة أيام، وأحياناً ثمانية أيام، وأحياناً ثلاثة عشر يوماً، فيكون هناك شيء في النفوس، حتى وإن رضين في أول الأمر، لكن سوف لا يرضين في النهاية.
فإذا قال: اتفق معكما على أن لا أقسم للحائض ما لم يتجاوز حيضها ثمانية أيام فإنه يجوز؛ لأنه جعل له حداً أعلى، وربما يكون في هذا راحة للجميع.
قوله: «ونفساء» أي: يجب أن يقسم لها؛ لأنه إذا وجب للحائض وجب للنفساء ولا فرق، لكن النفساء يجب أن يُرجَع في هذا إلى العرف، والعرف عندنا أن النفساء لا تبقى في بيت زوجها، بل تكون عند أهلها حتى تطهر، وأيضاً العرف عندنا أنه
لا قسم لها، أي: أن الزوج لا يذهب لها ليلة وللأخرى ليلة، ولا يقضي إذا طهرت من النفاس، وعلى هذا فنقول: مقتضى قول الله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19] أن لا قسم للنفساء، أما الحائض فعندنا جرت العادة أنه يقسم لها، وأن الزوج لا يفرِّق، يذهب إلى كل واحدة في ليلتها، سواء كانت طاهراً أم حائضاً.
قوله: «ومريضة» أي: يجب أن يقسم للمريضة، وهذا القول وجيه، بل ربما لو نقول: إنه أوجب من القسم للصحيحة لكان له وجه؛ لأنه لو هجر المريضة فإنه يؤثر فيها، ويزيدها مرضاً.
فإن عافت نفسه هذه المريضة، وقال: أنا لا أطيق، قلنا: إذاً استسمح منها، وطَيِّبْ قلبها؛ لأنه أحياناً يكون المرض لا يطيقه الإنسان وأحياناً يطيقه، فنقول: إذا كانت مريضة مرضاً لا تطيقه أو تخشى من العدوى، فحينئذٍ استأذن منها.
قوله: «ومعيبة» المراد معيبة حدث بها العيب، فإنه يقسم لها، وكذلك إذا كانت معيبة من قبل؛ لأنه هو الذي فرط بعدم اشتراط أن لا يقسم، والعيب قد يكون طارئاً وقد يكون سابقاً.
قوله: «ومجنونة مأمونة وغيرها» أي ويجب ـ أيضاً ـ أن يقسم للمجنونة المأمونة وغير المأمونة، أما إذا كانت مأمونة فالأمر واضح ليس فيه إشكال، لكن إذا كانت غير مأمونة فلا يأمن أنه إذا نام ذهبت إلى المطبخ، وأخذت السكين وذبحته، وهذا وارد، فقول المؤلف رحمه الله:«وغيرها» هذا إشارة إلى
أن المسألة فيها خلاف، والصواب أن يقسم للمجنونة بشرط أن تكون مأمونة، فإن لم تكن مأمونة فلا يقسم لها.
لكن هل يرضى الإنسان أن تكون زوجته مجنونة غير مأمونة؟
نقول: أما ابتداءً فلا أظن أحداً يُقدِم على امرأة مجنونة غير مأمونة، لكن قد يحدث هذا الجنون لمدة معينة، فهنا نقول: يقسم لها، وربما إذا قسم لها، وهدأها، وصار يتكلم معها، ربما تستجيب ويزول ما بها من الجنون، كما هو واقع أحياناً.
وقوله: «وغيرها» يعني غيرهن، مثل مَنْ آلى منها، أو ظاهر منها، أو وجد بها مانع، مثل أن تكون صائمة فإنه يقسم لها، يعني حتى من لا يتمتع بها بالوطء، فيجب أن يقسم لها، إلا ما جرى به العرف، أو ما سمحت به، فلو فرض أنه قال لها مثلاً: أنتِ مريضة ويشق علي أن أقسم لك، فهل تسمحين؟ فإذا سمحت فلا حرج؛ لأن الحق لها، ولو كانت امرأة كبيرة في السن، وقال لها: أنا ما أقدر أن أقسم لك، فهل تحبين أن تبقي عندي، وفي عصمتي، وبدون قسم، وإلا فأنا أطلقك؟ فاختارت أن تبقى عنده، فهذا جائز.
فلو قال قائل: إنما اختارت هذا على سبيل الإكراه خوفاً من الطلاق، قلنا: نعم الحق لها، لكن هنا يجوز؛ لأن الإكراه في مسألة الفراق لحقه، فيقول: إذا كانت تريد أن تبقى عند أولادها وفي بيتها فذاك، وإن لم تحب فأنا لا أريد أن يتعلق بذمتي شيء، فأطلقها وأستريح.
ثم ذكر المؤلف مسقطات القسم والنفقة فقال:
هذه عدة مسائل:
وَإِنْ سَافَرَتْ بِلَا إِذْنِهِ، أَوْ بِإِذْنِهِ فِي حَاجَتِهَا، أَوْ أَبَتْ السَّفَرَ مَعَهُ، أَوْ المَبِيتَ عِنْدَهُ فِي فِرَاشِهِ، فَلَا قَسْمَ لَهَا، وَلَا نَفَقَةَ، .........
الأولى: قوله: «إن سافرت بلا إذنه» إن سافرت بلا إذنه فليس لها قسم، وليس لها نفقة؛ لأنها عاصية وناشز، وفوتت عليه الاستمتاع، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول:«لا يحل لامرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه»
(1)
، فكيف بمن تسافر؟!
فإذا قال قائل: قوله: «لا قسم لها» هذا تحصيل حاصل؛ لأنها إذا كانت مسافرة فكيف يقسم؟ نقول: أي: لا يلزمه القضاء إذا رجعت.
الثانية: قوله: «أو بإذنه في حاجتها» إذا سافرت بإذنه فإما أن يكون في حاجته، وإما أن يكون في حاجتها، فإن كان في حاجته فلها النفقة ولها القسم، مثلاً له أم في المستشفى في بلد آخر، وسافرت بإذنه، فالحاجة له هو، ففي هذه الحال نقول: لها النفقة؛ لأن ذلك لحاجته، وجزاها الله خيراً أن ذهبت.
وأما إذا سافرت بإذنه لحاجتها، قالت له مثلاً: إني أريد أن أزور أقاربي أو ما أشبه ذلك، فأذن لها، يقول المؤلف: ليس لها قسم، وليس لها نفقة، أما كونها ليس لها قسم فلا شك في
(1)
سبق تخريجه ص (424).
ذلك؛ لأنها اختارت ذلك بسفرها، وأما أنه لا نفقة لها؛ لأن النفقة في مقابلة الاستمتاع، وهذا فيه نظر؛ لأن المرأة لم تمنع زوجها من نفسها إلا بعد أن أذن، فإذا أذن والحق له فإن حقها لا يسقط، فلها أن تطالبه بالنفقة، ولكن لا يجب عليه من النفقة إلا مقدار نفقة الحضر؛ لأنها إذا سافرت تحتاج إلى أجرة للذهاب وأجرة للإياب، وربما تكون البلد الثانية المؤنة فيها أشد، والسعر فيها أغلى، فلا يلزمه إلا مقدار نفقة الإقامة، إلا إذا أذن بذلك ورضي، وقال: أنا آذن لك، والنفقة عليَّ، فهنا لا إشكال في إنها تجب عليه.
الثالثة: قوله: «أو أبت السفر معه» : قال مثلاً: سنذهب إلى مكة لأداء العمرة فأبت، أو سنذهب إلى الرياض لمتابعة معاملة ـ مثلاً ـ فأبت، أو نذهب لزيارة صديق أو قريب فأبت، فليس لها قسم ولا نفقة، إلا إن كانت قد اشترطت عند العقد ألا يسافر بها، فإن لها النفقة، ولها أن تطالبه بالقسم أيضاً، ويحتمل ـ أيضاً ـ ألا تطالبه بالقسم؛ لأن من ضرورة سفره ألا يقسم لها، وهي إذا طالبته بالقسم، فإن ذلك ضرر على الزوجات الأخرى.
الرابعة: قوله: «أو المبيت عنده في فراشه» : أي: إذا دعاها إلى فراشه وأبت، فإنها تسقط نفقتها، ويسقط حقها من القسم؛ لأنها منعت زوجها من حقٍ يلزمها، فسقط حقها وهي آثمة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجيء لعنتها الملائكة حتى تصبح»
(1)
، وفي هذه الحال له أن يعاملها معاملة أخرى أشد من هذا، وهي أن يعظها، ويهجرها،
(1)
سبق تخريجه ص (387).
ويضربها لقوله تعالى: {وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء: 34].
إذاً المرأة إذا منعت حق الزوج سقطت نفقتها، فإذا منع نفقتها، فهل يسقط حقه؟ نعم {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126]، فإذا كان الزوج يمنع زوجته من النفقة فلها أن تمنع نفسها منه، ولها أن تأخذ من ماله بدون علمه، وإذا كان يسيء معاملتها فلها أن تسيء معاملته لقوله تعالى:{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194].
وَمَنْ وَهَبَتْ قَسْمَهَا لِضَرَّتِهَا بِإِذْنِهِ أَوْ لَهُ فَجَعَلَهُ لأُخْرَى جَازَ، فَإِنْ رَجَعَتْ قَسَمَ لَهَا مُسْتَقْبَلاً،
..........
قوله: «ومن وهبت قسمها لضرتها بإذنه أو له فجعله لأخرى جاز» ، أي: إذا وهبت قسمها لضرتها بإذنه فلا حرج، بأن قالت: هل تأذن لي أن أجعل قسمي لفلانة؟ فإذا قال: نعم، ووافق فلا مانع، وإن أبى فله ذلك، أو قالت: وهبت يومي لك، يعني تتصرف فيه كما شئت، فجعله هو لإحدى زوجاته جاز.
والفرق بين الصورتين: أنه في الصورة الأولى هي التي عينت المرأة، قالت: وهبت قسمي لفلانة، كما فعلت سودة رضي الله عنها لما خافت أن يطلقها النبي صلى الله عليه وسلم لكبر سنها وهبت قسمها لعائشة رضي الله عنها
(1)
، واختارت سودةُ عائشةَ رضي الله عنها؛ لأنها أحب نسائه إليه، فأرادت أن تهبه لمن يحب عليه الصلاة والسلام، وهذا من فقهها وشفقتها على الرسول صلى الله عليه وسلم، أما كونه من فقهها فلأن الرسول صلى الله عليه وسلم لو طلقها لم
(1)
أخرجه البخاري في الهبة/ باب هبة المرأة لغير زوجها
…
(2593) عن عائشة رضي الله عنها.
تبقَ من أمهات المؤمنين، ولم تكن زوجة له في الآخرة، وأما كونه شفقة على الرسول صلى الله عليه وسلم فلأنها وهبته لأحب نسائه إليه.
أما الصورة الثانية فتهب القسم للزوج، والزوج هو الذي يعين من شاء.
فإن قال قائل: لماذا لا تقولون: إذا وهبت قسمها للزوج سقط حقها، وبقي حق الزوجات؟ فمثلاً إذا كانت هي الرابعة ووهبت قسمها للزوج يجب عليه القسم ثلاث ليالٍ؛ لأنه ليس له أن يخص به إحدى الزوجات الباقيات؛ لأنه إذا خص به إحدى الزوجات الباقيات فمعناه أنه مال إليها، فنقول: إذا وهبت قسمها للزوج، فالذي ينبغي أن يسقط حقها، وكأن الزوج ليس له إلا الثلاث الباقيات، وبهذا يكون العدل بين بقية الزوجات، إلا أن يخيرهن، فيقول: هل تخترن أن نسقط حقها، ويكون القسم بينكن، أو تخترن أن نضرب القرعة فمن خرجت لها القرعة، فيوم تلك لها؟ فإذا اخترن ذلك فلا حرج، وعلى هذا فنقول: إذا اخترن القرعة فلا حرج، وإلا فإن المتوجه أنها إذا وهبت قسمها له سقط حقها، وبقي القسم بين الموجودات الباقيات، أما المؤلف فيرى أنها إذا وهبت قسمها له فإنه يضعه حيث شاء.
قوله: «فإن رجعت قسم لها مستقبلاً» يعني بعد أن وهبت القسم له، أو لزوجةٍ أخرى فإن لها أن ترجع، ويقسم لها في المستقبل، ولا يقضي ما مضى، وهذا فائدة قوله «مستقبلاً» ، فإن قال قائل: أليست الهبة تلزم بالقبض؟
قلنا: بلى، لكنهم قالوا: هنا ما حصل القبض؛ لأن الأيام
تتجدد يوماً بعد يوم، ولهذا قلنا: إنه يقسم لها مستقبلاً ولا ترجع فيما مضى، لأن الذي فات قد قبض، والهبة بعد قبضها لا رجوع فيها، أما ما يستقبل فإنه لم يأتِ بعد فلها أن ترجع فيه.
وهذا التعليل لما قاله المؤلف صحيح، لكن ينبغي أن يكون هذا مشروطاً بما إذا لم يكن هناك صلح، فإن كان هناك صلح فينبغي أن لا تملك الرجوع، لقوله تعالى:{وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا} [النساء: 128] والصلح لازم، وكيف الصلح؟ كأن تشعر من هذا الرجل أنه سيطلقها وخافت، فقالت له: أنا أتفق معك على أن أجعل يومي لفلانة، وتبقيني في حِبالك، فوافق على هذا الصلح، فصارت المسألة معاقدة، فإذا كانت معاقدة فإنه يجب أن تبقى وأن تلزم، وإلا فلا فائدة من الصلح، وهذا الذي اختاره ابن القيم رحمه الله.
وَلَا قَسْمَ لإِمَائِهِ، وَأُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ، بَلْ يَطَأُ مَنْ شَاءَ مَتَى شَاءَ، وَإِنْ تَزَوَّجَ بِكْراً أَقَامَ عِنْدَهَا سَبْعاً ثُمَّ دَارَ، وَثَيِّباً ثَلاثاً، وَإِنْ أَحَبَّتْ سَبْعَاً فَعَلَ وَقَضَى مِثْلَهُنَّ لِلْبَوَاقِي.
قوله: «ولا قسم لإمائه» أي: لا قسم واجب لإمائه، فإذا كان عند الإنسان أكثر من أمة فلا يجب عليه القسم بينهن، مثلاً عنده خمس عبدات أو عشر، فلا يجب عليه أن يقسم بينهن لقوله تعالى:{فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3]، فدل هذا على أن ملك اليمين لا يجب فيه العدل، ولو وجب عليه القسم لإمائه لم يكن بينهن وبين النساء فرق.
قوله: «وأمهات أولاده» كذلك أمهات أولاده لا يجب عليه القسم بينهن.
قوله: «بل يطأ من شاء متى شاء» أي من الإماء و «من» يعود على العين و «متى» يعود على الزمن، يعني يطأ من شاء منهن،
هذه، أو هذه، أو هذه متى شاء، ليلاً، أو نهاراً، أو في كل الأوقات، ويصح أن نقول: كيف شاء، ما لم يطأ في الدبر، ونقول: حيث شاء.
قوله: «وإن تزوج بكراً أقام عندها سبعاً ثم دار وثيباً ثلاثاً» هذا قسم الابتداء، فإذا تزوج بكراً فإنه يقيم عندها سبعاً، يعني سبع ليال؛ لأن الليالي هي العمدة، ولهذا ما قال:«سبعة» بل قال: «سبعاً» ؛ لأن عماد القسم الليل، ثم يرجع إلى زوجاته، فيكون في الليلة الثامنة عند الزوجة الأولى.
والدليل حديث أنس بن مالك رضي الله عنه «من السنة إذا تزوج البكر على الثيب أقام عندها سبعاً ثم قسم»
(1)
، أما التعليل:
أولاً: أن رغبة الرجل في البكر أكثر من رغبته في الثيب، فأعطاه الشارع مهلة حتى تطيب نفسه.
ثانياً: أن البكر أشد حياء من الثيب، فجُعلت هذه المدة لأجل أن تطمئن وتزول وحشتها وتألف الزوج، وهذا من حكمة الشرع.
ويلحق بالبكر من زالت بكارتها بغير الجماع، كسقوط ونحوه.
أما الثيب فلأنها قد ألفت الرجال فلا تحتاج لزيادة عدد الأيام لإيناسها، ولهذا جعل الشارع لها ثلاثة أيام، ولهذا قال المؤلف:«وثيباً ثلاثاً» .
(1)
أخرجه البخاري في النكاح/ باب إذا تزوج الثيب على البكر (5214)؛ ومسلم في النكاح/ باب قدر ما تستحق البكر والثيب من إقامة
…
(1461) عن أنس رضي الله عنه.
قوله: «وإن أحبت» يعني الثيب.
قوله: «سبعاً فعل وقضى مثلهن للبواقي» أي: إن أحبت أن يكمل لها سبعة أيام فعل، ولكن يقضي مثلهن للبواقي، وذلك لأنه لما طلبت الزيادة لغى حقها من الإيثار، فقد أثرت في الأول بثلاثة أيام، فلما طلبت الزيادة وأعطيت ما طلبت يلغى الإيثار، ويقسم للبواقي سبعاً سبعاً؛ لأن أم سلمة رضي الله عنها لما مكث عندها النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام، وأراد أن يقسم لنسائه قال لها:«إنه ليس بك هوانٌ على أهلك، إن شئت سبَّعت لك، وإن سبَّعت لك سبعت لنسائي»
(1)
.
فخيرها النبي عليه الصلاة والسلام بين أن تبقى على ثلاثة أيام وهو لها خاصة، أو أن يسبع لها، وحينئذٍ يسبع للبواقي، وفي الغالب أن المرأة ستختار الثلاث؛ لأنه إذا اختارت الثلاث بعد ثلاثة أيام سيرجع لها، لكن إذا اختارت السبعة يرجع لها بعد واحد وعشرين يوماً، اللهم إلا إذا كانت متحرية أن عادتها تأتيها في هذه المدة، فهنا ربما تختار التسبيع، والحكمة ـ والله أعلم ـ من كونها سبعة أيام أن تدور عليها أيام الأسبوع كلها، ونظير ذلك العقيقة شرعت في اليوم السابع؛ لأنها في اليوم السابع تكون أيام الأسبوع قد أتت على هذا الطفل.
(1)
أخرجه مسلم في النكاح/ باب قدر ما تستحق البكر والثيب من إقامة الزوج عندها عقب الزفاف (1460) عن أم سلمة رضي الله عنها.
فَصْلٌ
النُّشُوزُ مَعْصِيَتُهَا إِيَّاهُ فِيمَا يَجِبُ عَلَيْهَا، فَإِذَا ظَهَرَ مِنْهَا أَمَارَاتُهُ، بِأَنْ لَا تُجِيبَهُ إِلَى الاسْتِمْتَاعِ، أَوْ تُجِيبَهُ مُتَبَرِّمَةً، أَوْ مُتَكَرِّهَةً، وَعَظَهَا،
..........
هذا الفصل عقده المؤلف لبيان النشوز، والنشوز يكون من الزوج، ويكون من الزوجة، قال الله تعالى:{وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} [النساء: 34]، وقال الله تعالى:{وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} [النساء: 128].
قوله: «النشوز معصيتها إياه فيما يجب عليها» ، هذا ضابط النشوز، وأصله مأخوذ من النشز، وهو المرتفع من الأرض، ومنه ما ذكره أهل العلم في المناسك إذا علا نشزاً فإنه يلبي، ومناسبة المعنى للمحسوس ظاهرة؛ لأن المرأة تترفع على زوجها وتتعالى عليه، ولا تقوم بحقه.
أما شرعاً فيقول: «معصيتها إياه» ، «معصية» مصدر مضافٌ إلى فاعله، «وإياه» مفعول المصدر، أي: معصيتها الزوج فيما يجب عليها من حقوقه، أما ما لا يجب فإن ذلك ليس بنشوز، ولو صرحت بمعصيته، فلو قال لها: أريد منك أن تصبحي دلاَّلة في السوق تبيعين فقالت: لا، ما يلزمها، ولو قال: أريد منكِ أن تكوني خادمة عند الناس، فلا يلزمها، ثم ضرب المؤلف أمثلة لهذا فقال:
«فإذا ظهر منها أماراته، بأن لا تجيبه إلى الاستمتاع» ، يعني دعاها إلى الاستمتاع فأبت، أو أراد أن يستمتع بها بتقبيل أو غيره فأبت، فهذه ناشز.
وظاهر قوله: «بأن لا تجيبيه إلى الاستمتاع» أنها لو أبت أن
تجيبه إلى الخدمة المعروفة، مثل لو قال: اغسلي ثوبي، اطبخي طعامي، ارفعي فراشي، فإن ذلك ليس بنشوز، وهو مبني على أنه لا يلزمها أن تخدم زوجها، والصحيح أنه يلزمها أن تخدم زوجها بالمعروف، ولهذا مر علينا في المحرمات بالنكاح أنه لا يجوز نكاح الأمة لحاجة الخدمة، فدل هذا على أن من مقصود النكاح خدمة الزوج، وهذا هو الصحيح.
قوله: «أو تجيبه متبرمة» التبرم بمعنى التثاقل في الشيء، فإذا دعاها إلى فراشه صنعت شيئاً آخر، فهذه تجيبه ولكنها تملله، فنقول: هذا نشوز.
قوله: «أو متكرهة» أي: تجيبه لكنها متكرهة، يظهر في وجهها الكراهة والبغض لهذا الشيء، وربما تسمعه ما لا يليق وما أشبه ذلك، فهذه في الحقيقة أجَابَتْهُ، لكن ما أجابته على وجهٍ يحصل به كمال الاستمتاع، حتى الزوج لا شك أنه يكون في نفسه أنفة إذا رأى منها أنها تعامله هذه المعاملة، فهذا نشوز، لكن ماذا يصنع معها؟ قال المؤلف:
«وعظها» والموعظة هي التذكير بما يرغِّب أو يخوِّف، فيعظها بذكر الآيات الدالة على وجوب العشرة بالمعروف، وبذكر الأحاديث المحذرة من عصيان الزوج، مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم:«إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجيء لعنتها الملائكة حتى تصبح»
(1)
وأمثال ذلك.
(1)
سبق تخريجه ص (387).
فيعظها أولاً، وإذا استجابت للوعظ خير من كونها تستجيب للوعيد، أي: خير من كونه يقول: استقيمي وإلا طلقتك، كما يفعله بعض الجهال، تجده يتوعدها بالطلاق، وما علم المسكين أن هذا يقتضي أن تكون أشد نفوراً من الزوج، كأنها شاة، إن شاء باعها وإن شاء أمسكها، لكن الطريق السليم أن يعظها ويذكرها بآيات الله عز وجل حتى تنقاد امتثالاً لأمر الله عز وجل، فإن امتثلت وعادت إلى الطاعة فهذا المطلوب، وإلا يقول المؤلف:
فَإِنْ أَصَرَّتْ هَجَرَهَا فِي المَضْجَعِ مَا شَاءَ، وَفِي الكَلَامِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنْ أَصَرَّتْ ضَرَبَهَا غَيْرَ مُبَرِّحٍ،
...........
«فإن أصرت هجرها في المضجع ما شاء» أي: يتركها في المضجع ما شاء، لقوله تعالى:{وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} [النساء: 34] ولم يقيد، وهذه هي المرتبة الثانية، وتَرْكُها في المضجع على ثلاثة أوجه:
الأول: أن لا ينام في حجرتها، وهذا أشد شيء.
الثاني: أن لا ينام على الفراش معها، وهذا أهون من الأول.
الثالث: أن ينام معها في الفراش، ولكن يلقيها ظهره ولا يحدثها، وهذا أهونها.
ويبدأ بالأهون فالأهون؛ لأن ما كان المقصود به المدافعة فالواجب البداءة بالأسهل فالأسهل، كما قلنا في الصائل عليه: إنه لا يعمد إلى قتله من أول مرة، بل يدافعه بالأسهل فالأسهل، فإن لم يندفع إلا بالقتل قتله.
وقوله: «ما شاء» ليس على إطلاقه، بل المقصود أن يهجرها
حتى تستقيم حالها، فربما تستقيم في ليلة، أو في ليلتين، وربما لا تستقيم إلا بشهر.
المهم أن قول المؤلف: «ما شاء» مقيد بما إذا بقيت على نشوزها، فالحكم يدور مع علته، والتأديب يرتفع إذا استقام المؤدَّب، فإذا استقامت حين هجرها أسبوعاً فالحمد لله، وليس له أن يزيد؛ لأن هذا مثل الدواء، يتقيد بالداء، فمتى شُفِي الإنسان لا يستعمل الدواء؛ لأنه يكون ضرراً، وعليه فمتى استقامت وجب عليه قطع الهجر.
قوله: «وفي الكلام ثلاثة أيام» أي: يهجرها في الكلام ثلاثة أيام، ولا يزيد على هذا، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«لا يحل للمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، يلتقيان، فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام»
(1)
، فله أن يهجرها يومين، أو ثلاثة أيام ولا يزيد على ذلك، ويزول الهجر بالسلام، فإذا دخل البيت وهي موجودة عند الباب، أو في الصالة القريبة، وقال: السلام عليكم، زال الهجر، وإذا قال لها: كيف أصبحت يا أم فلان فإنه يكفي؛ لأنه كلمها.
إذاً يبقى على رأس كل ثلاثة أيام يسلم مرة، ففي هذه الحال سوف تتفجر المرأة غيظاً ويحصل الأدب.
قوله: «فإن أصرت ضربها غير مبرح» هذه المرتبة الثالثة
(1)
أخرجه البخاري في الأدب/ باب الهجرة
…
(6077)؛ ومسلم في الأدب/ باب تحريم الهجر فوق ثلاثة أيام بلا عذر شرعي (2560) عن أبي أيوب الأنصاري.
فيضربها ضرباً غير مبرح، لقول الله تعالى:{وَاضْرِبُوهُنَّ} لكن لو قال قائل: إن الله ـ تعالى ـ قال: {فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} فذكرها بالواو الدالة على الاشتراك وعدم الترتيب؟
فالجواب: تقديم الشيء يدل على الترتيب في الأصل، ولهذا لما قال الله عز وجل:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158]، قال النبي صلى الله عليه وسلم:«أبدأ بما بدأ الله به»
(1)
، وكذلك قال الفقهاء في قوله تعالى:{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] قالوا: يُبدأ بالفقراء؛ لأنهم أشد حاجة، فعليه نقول: إن الله وإن ذكر هذه ثلاث المراتب بالواو، فإن المعنى يقتضي الترتيب؛ لأن الواو لا تمنع الترتيب، كما أنها لا تستلزمه.
فعليه نقول: المسألة علاج ودواء، فنبدأ بالأخف الموعظة، ثم الهجر في المضاجع، ويضاف إليها الهجر في المقال، ثم الضرب.
والآية مطلقة حيث قال الله تعالى: {وَاضْرِبُوهُنَّ} ، لكن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع في حق الرجال وحق النساء:«لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرح» ، وإذا كانت هذه المسألة الكبيرة تُضرَب فيها المرأة ضرباً غير مبرح، فما بالك في النشوز؟! فأولى أن لا يكون الضرب مبرحاً.
وعلى هذا فمطلق الآية يقيَّد بالقياس على ما جاء في الحديث، فنقول: ليس الضرب كما يريد، فلا يأتي بخشبة مثل الذراع
(1)
أخرجه مسلم في الحج/ باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم (1218) عن جابر رضي الله عنه.
ويضربها، مع أنه يمكن أن يضربها بسوط مثل الأصبع، فنقول: إنه أخطأ لا شك، فيضربها ضرباً غير مبرح.
ولا يجوز أن يضربها في الوجه، ولا في المقاتل، ولا فيما هو أشد ألماً؛ لأن المقصود هو التأديب.
أما عدد الضرب فهو ما يحصل به المقصود، ولا تتضرر به المرأة؛ لأن هذا للتأديب، والفقهاء رحمهم الله يقولون في العدد: لا يزيد على عشر جلدات، مستدلين بقول النبي صلى الله عليه وسلم:«لا يجلد أحد فوق عشر جلدات إلا في حدٍّ من حدود الله»
(1)
، لكن قوله في الحديث:«في حد» ليس المراد بالحد العقوبة، كحد الزنا مثلاً، إنما المراد بالحد ترك الواجب، أو فعل المحرم؛ لأن الله ـ تعالى ـ سمى المحرمات حدوداً، فقال:{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا} [البقرة: 187] وسمى الواجبات حدوداً فقال: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا} [البقرة: 229].
فالصواب أن المراد بالحد في الحديث الحد الشرعي، وليس الحد العقوبي، فإذا كانت لا تتأدب إلا بعشرين جلدة، نضيف إلى العشر عشراً أخرى، لكن نرجع إلى القيد الأول وهو أن يكون غير مبرح.
فإن لم يفد، أي: أنه وعظها، ثم هجرها، ثم ضربها ولا فائدة، فماذا نصنع؟
(1)
أخرجه البخاري في الحدود/ باب كم التعزير والأدب (6848)؛ ومسلم في الحدود/ باب قدر أسواط التعزير (1708) عن أبي بردة الأنصاري رضي الله عنه.
قيل: إنه إذا كان التعدي منها تسكن هي وزوجها بقرب رجل ثقة أمين، يراقب الحال، ويعرف أيهما الذي أساء إلى صاحبه.
ولكن هذا ليس بصحيح:
أولاً: أن هذا لم يرد لا في الكتاب ولا في السنة.
ثانياً: أنه مهما كان في الرقابة، فلا يمكن أن يكون عندهما في الحجرة مثلاً، فهو عمل لا فائدة منه.
لكن هنا طريقة ذكرها الله تعالى في القرآن فقال: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ} أي: أقاربه {وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} [النساء: 35] أي: أقاربها، فالمسألة مهمة؛ لأن الخطاب للأمة كلها، للعناية بهذا الأمر، فكل الأمة مسؤولة عن هذين الزوجين الذين يتنازعان، فالإسلام لا يريد أن يقع النزاع بين أحد.
ويشترط في الحَكَم أن يكون عالماً بالشرع، عالماً بالحال، أي: ذا خبرة وأمانة؛ ولهذا كان من المهم في القاضي أن يكون عارفاً بأحوال الناس الذين يقضي بينهم، فالحكم لا بد فيه من العدالة حتى نأمن الحيف، ولا بد أن يكون عالماً بالشرع وبالحال.
وهذان الحكمان، قيل: إنهما وكيلان للزوجين، وعلى هذا لا بدّ أن توكل المرأة قريبها، ويوكل الرجل قريبه.
وقيل: إنهما حكمان مستقلان، يفعلان ما شاءا، يجمعان أو يفرقان بعوض أو بغير عوض.
وظاهر القرآن القول الثاني: أنهما حكمان مستقلان، فلم
يقل الرب عز وجل: فإن خفتم شقاق بينهما فليوكلا من يقوم مقامهما، بل قال تعالى:{فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} .
ولا يجوز للحكمين أن يريد كل واحد منهما الانتصار لنفسه وقريبه، فإن أراد ذلك فلا توفيق بينهما، لكن ماذا يريدان؟
يقول الله تعالى: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا} أي: الحكمان {يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} أي: بين الحكمين، وبين الزوجين، يوفق الله بين الحكمين فيتفق الرأي؛ لأنه لو تنازع الحكمان، وكان لكل واحد منهما رأي ما استفدنا شيئاً، لكن مع إرادة الإصلاح يوفق الله بينهما، فيتفق الحكمان على شيء واحد، أو يوفق الله بينهما إن حكم الحكمان بأن يبقى الزوجان في دائرة الزوجية، فإن الله تعالى يوفق بين الزوجين من بعد العدواة، فالآية تحتمل هذا وهذا، ويصح أن يراد بها الجميع، فيقال: إن أراد الحكمان الإصلاح وفق الله بينهما، وجمع قولهما على قول واحد واتفقا، وإن أرادا الإصلاح وحكما بأن تبقى الزوجية، فإن الله يوفق بين الزوجين.
فصارت المراتب أربعاً:
وعظ، هجر، ضرب، إقامة الحكمين.
وأما المرتبة التي قبل إقامة الحكمين وهي الإسكان عند ثقة فهذه لا أصل لها، ولا دليل لها، ولا فائدة منها.
وكلام المؤلف فيما إذا خاف الزوج نشوز امرأته، فما الحكم إذا خافت هي نشوزه؟ لأنه أحياناً يكون النشوز من الزوج
يعرض عنها، ولا يلبي طلبها الواجب عليه، أو يلبيه لكن بتكره، وتثاقل، وما أشبه ذلك.
نقول: الله بيَّن هذا في قوله: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا} ، وفي قراءة سبعية أن يصَّالحا
(1)
، وقوله:{نُشُوزًا} يعني يترفع عليها ويستهجنها {أَوْ إِعْرَاضًا} أي: يعرض عنها ولا يقوم بواجبها، لا في الفراش، ولا في غير الفراش، ولا كأنه زوج، قال الله عز وجل:{فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا} أي يتصالحا بأنفسهما، وما ذكر الله عز وجل لا وعظاً ولا ضرباً، ولا هجراً، ولا حكمين، والحكمة في هذا ظاهرة جداً؛ لأن الأصل أن الرجل قوَّام على المرأة، فقد يكون إعراضه من أجل إصلاحها، بخلاف العكس، ولهذا هناك يعظها ويهجرها ويضربها، وهي لا تعظه ولا تهجره ولا تضربه، ولكن لا بد من مصالحة بينهما، فإذا لم يمكن أن يتصالحا فيما بينهما، فلا حرج في أن يتدخل الأقارب، لا على سبيل الحَكَم، ولكن على سبيل الإصلاح، ولهذا ما ذكر الله هنا المحاكمة، بل ذكر الإصلاح وندب إليه في قوله:{وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} فهذه الجملة كلمتان فقط، وليست خاصة بهذه القضية، بل في كل شيء، وهي من بلاغة القرآن، فكل شيء يكون عن طريق الصلح فهو خير، خيرٌ من المحاصة؛ فإن في المحاصة مهما كان سيكون في نفسه شيء على
(1)
قرأ بها سائر القرّاء عدا عاصم وحمزة والكسائي، كما في الوجيز للأهوازي (163).
صاحبه الذي غلبه، لكن في المصالحة تطمئن النفوس وتستريح، ومع ذلك أشار الله عز وجل إلى أنه قد يوجد فيه مانع وعائق، فقال تعالى:{وَأُحْضِرَتِ الأَنْفُسُ الشُّحَّ} [النساء 128] يعني عندما يتكلم أناس في نزاع بينهما يحبون الصلح، لكن نفسك تشح أن يهضم حقك مهما كان الأمر، ولكن على كل حال الذي عنده عقل يغلب النفس.
وفي قوله تعالى: {وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} توجيهات عظيمة من الرب عز وجل، يعني ما قال: أطعنكم ورجعن إلى الصواب، فذكروهن ما مضى، وتقولون: فعلتِ كذا، وفعلتِ كذا، أو أنا قلت: كذا، وما أشبه ذلك، مما يبعث الأمور الماضية، بل قال:{فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} أي: اتركوا كل ما مضى، ولا يكن في أذهانكم أبداً، وهذا من الحكمة؛ لأن ذكر الإنسان ما مضى من مثل هذه الأمور ما يزيد الأمر إلا شُقة وشدة {فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} [النساء: 34].
بَابُ الْخُلْعِ
قوله: «الخلع» بالفتح والضم، أما بالضم فهو المعنى، وأما بالفتح فهو الفعل، مثل: الغَسل، والغُسل، الغُسل للمعنى، والغَسل للفعل.
وأصل الخلع من خَلَعَ الثوب إذا نزعه، والمراد به اصطلاحاً فراق الزوج زوجته على عوض.
والخلع على المذهب له ألفاظ معلومة، كلفظ الخلع، أو الفداء، أو الفسخ، أو ما أشبه ذلك، فإن وقع بلفظ الطلاق صار طلاقاً.
واختار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه ليس له ألفاظ معلومة؛ لأن المقصود به هو فداء المرأة نفسها من زوجها، وعلى هذا فكل لفظ يدل على الفراق بالعوض فهو خلع، حتى لو وقع بلفظ الطلاق، بأن قال مثلاً: طلقت زوجتي على عوض قدره ألف ريال، فنقول: هذا خلع، وهذا هو المروي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن كل ما دخل فيه العوض فليس بطلاق، قال عبد الله ابن الإمام أحمد: كان أبي يرى في الخلع ما يراه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أي: أنه فسخ بأي لفظ كان، ولا يحسب من الطلاق.
ويترتب على هذا مسألة مهمة، لو طلق الإنسان زوجته
مرتين متفرقتين، ثم حصل الخلع بلفظ الطلاق، فعلى قول من يرى أن الخلع بلفظ الطلاق طلاق تكون بانت منه، لا تحل له إلا بعد أن تنكح زوجاً غيره، وعلى قول من يرى أن الخلع فسخ ولو بلفظ الطلاق، تحل له بعقد جديد حتى في العدة، وهذا القول هو الراجح.
لكن مع ذلك ننصح من يكتبون المخالعة أن لا يقولوا: طلق زوجته على عوض قدره كذا وكذا، بل يقولوا: خالع زوجته على عوض قدره كذا وكذا؛ لأن أكثر الحكام عندنا ـ وأظن حتى عند غيرنا ـ يرون أن الخلع إذا وقع بلفظ الطلاق صار طلاقاً، ويكون في هذا ضرر على المرأة، فإن كانت الطلقة الأخيرة فقد بانت، وإن كانت غير الأخيرة حُسِبت عليه.
والخلع قد يكون بطلب من الزوج، أو بطلب من الزوجة، أو بطلب من وليها، أو بطلب من أجنبي، فيكون بطلب من الزوج بأن يكون الزوج ملَّ زوجته، لكنه أصدقها مهراً كثيراً، وأراد أن تخالعه بشيء ترده عليه من المهر.
وقد يكون ـ وهو الغالب ـ بطلب من الزوجة، فهل للزوجة أن تطلب الخلع أو لا؟
فالجواب: إن كان لسبب شرعي ولا يمكنها المُقَام مع الزوج فلها ذلك، وإن كان لغير سبب فليس لها ذلك، مثال ذلك: امرأة كرهت عشرة زوجها، إما لسوء منظره، أو لكونه سيئ الخلق، أو لكونه ضعيف الدين، أو لكونه فاتراً دائماً، المهم أنه لسبب تنقص به العشرة، فلها أن تطلب الخلع.
ولهذا قالت امرأة ثابت بن قيس بن شماس رضي الله عنهما للنبي صلى الله عليه وسلم: «يا رسول الله ثابت بن قيس لا أعيب عليه في خلق ولا دين ـ فهو مستقيم الدين، مستقيم الخلق ـ ولكني أكره الكفر في الإسلام، تعني بالكفر عدم القيام بواجب الزوج، كما قال صلى الله عليه وسلم: «تكثرن اللعن، وتكفرن العشير»
(1)
، وليس مرادها أن تكفر بالله عز وجل، بل تكفر بحق الزوج، لأنها قالت: في الإسلام، و «في» للظرفية، وهذا يعني أن إسلامها باقٍ، وفي بعض الروايات شددت في هذا حتى قالت: لولا مخافة الله لبصقت في وجهه
(2)
، من شدة بغضها له، ولا يُستغرب، فالنساء لهن عواطف جياشة كرهاً وحباً، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم:«أتردين عليه حديقته» ، والحديقة هي المهر، حيث كان قد أمهرها بستاناً، فقالت: نعم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لثابت:«خذ الحديقة وطلقها» فأخذها وطلقها
(3)
.
الشاهد من هذا الحديث أنها قالت: «لا أعيب عليه في خلق ولا دين» ، وعلى هذا، فإذا كان الزوج قليل شهود الجماعة في الصلاة، أو قليل الصلاة، أو عاقاً لوالديه، أو يتعامل بالربا، وما أشبه ذلك، فللزوجة أن تطلب الخلع لكراهتها دينه، لا سيما أن بعض الأزواج أولَ ما يخطب تجده يأتي بصورة تروق للناظرين، من حيث الخلق والتدين، كما قال الله عن المنافقين:{وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ} [المنافقون: 4] أي: ترى أنهم من
(1)
(جزء من حديث: «ما رأيت من ناقصات عقل
…
»).
(2)
أخرجه أحمد (4/ 3)؛ وابن ماجه في الطلاق/ باب المختلعة يأخذ ما أعطاها (2057) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
(3)
أخرجه البخاري في الطلاق/ باب الخلع وكيف الطلاق فيه (5276) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
خيرة عباد الله في الدين، وليس المراد تعجبك في الطول والقصر والسمن وما أشبه ذلك، ولهذا جاء في المقابل:{وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} [المنافقون: 4] فهم يعجبون الناظر والسامع.
فبعض الناس ـ نسأل الله العافية ـ أول ما يخطب تجده متنسكاً، بشوشاً، حسن الخلق، إذا تحدث عن المقصرين في الصلاة قال: أعوذ بالله، هؤلاء لا يخافون الله، وإذا تحدث عن أصحاب القنوات الفضائية، قال: نسأل الله العافية، هؤلاء يخربون بيوتهم بأيديهم، وإذا تزوج ضعف، فلا يصلي، إما مطلقاً، أو لا يصلي مع الجماعة، ثم يأتي بالدش لاستقبال القنوات الفضائية، وهذا واقع حيث ترد علينا أسئلة من هذا النوع، ومثل هذا لا يمكن للمرأة أن تصبر عليه، فلها أن تطلب الخلع.
وإذا وصلت بها الحال إلى ما وصلت إليه امرأة ثابت رضي الله عنهما وطلبت الخلع، فهل يُلزم الزوج بالخلع أو لا يلزم؟
لا شك أنه يستحب للزوج أن يوافق، وهو خير له في حاله ومستقبله، لقوله تعالى:{وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ} [النساء: 130] لكن إذا أبى وعُرض عليه مهره، فقيل له: نعطيك المهر كاملاً، فهل يُلزَم بذلك أو لا؟
اختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة، فأكثرهم يقول: لا يُلزَم، فهو زوج وبيده الأمر، والقول الراجح أنه يُلزَم إذا قالت الزوجة: أنا لا مانع عندي، أعطيه مهره، وإن شاء
أعطيته أكثر؛ لأن بقاءها معه على هذه الحال شقاء له ولها، وتفرق، والشارع يمنع كل ما يحدث البغضاء والعداوة، فالبيع على بيع المسلم حرام لئلا يحدث العداوة، فكيف بهذا؟! فيلزم الزوج أن يطلق، وحديث ثابت رضي الله عنه يدل عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«خذ الحديقة وطلقها» ، والأصل في الأمر الوجوب، وقول الجمهور: إن هذا للإرشاد فيه نظر.
والقول بالوجوب هو الراجح، يقول في الفروع: إنه ألزم به بعض القضاة في عهده، وهؤلاء الذين ألزموا به وُفِّقوا للصواب.
مَنْ صَحَّ تَبَرُّعُهُ مِنْ زَوْجَةٍ، وَأَجْنَبِيٍّ صَحَّ بَذْلُهُ لِعِوَضِهِ،
...........
قوله: «من صح تبرعه من زوجة وأجنبي صح بذله لعوضه» «من صح» جملة شرطية، فعل الشرط:«صح» وجواب الشرط: «صح بذله» .
وقوله: «صح» هذا حكم وضعي، أما الحكم التكليفي ففيه تفصيل سيأتي.
وقوله: «تبرعه» التبرع هو إعطاء المال بلا عوض.
ويجب أن نعرف الفرق بين التبرع والتصرف:
فالتصرف: العمل في المال.
والتبرع: بذل المال بلا عوض، وأضرب مثلاً يبين هذا:
ولي اليتيم يصح تصرفه في مال اليتيم، ولا يصح تبرعه من مال اليتيم، أي: لا يصح أن يتبرع ولا بقرش واحد من مال اليتيم، وأما التصرف فيتصرف بكل ماله بالتي هي أحسن.
وعلى هذا يكون التصرف أوسع من التبرع؛ لأنه يصح ممن لا يصح تبرعه.
ولننظر إلى الخلع، هل هو تبرع، أو هو تصرف ومعاوضة؟
الجواب: الخلع تبرع في الواقع؛ لأن الزوجة تتبرع للزوجة بما تعطيه في الخلع، وإن كان هناك مقابل، لكن هو في الأصل تبرع.
فإذا كانت الزوجة لا يصح تبرعها، كالمحجور عليها، وأرادت أن تخالع زوجها فليس لها ذلك؛ لأن تبرعها بمالها لا يصح.
وقوله: «وأجنبي» أي: يصح أن يتبرع أجنبي ببذل عوض الخلع، حتى يخالع الزوج زوجته، بأن يأتي إنسان ويقول للزوج: خالع زوجتك، وأنا أعطيك ألف ريال، فإن هذا يصح.
فإذا قال قائل: الأجنبي ما شأنه والمرأة؟ نعم لو كان أباها أو أخاها أو ما أشبه ذلك من أقاربها، لقلنا: هؤلاء تبرعوا ببذل العوض لمصلحة، لكن الأجنبي ما مصلحته من ذلك؟! ولذلك قال بعض أهل العلم: إنه لا يصح بذل عوض الخلع من أجنبي؛ لأنه لا يستفيد شيئاً.
ولكن الصحيح أنه يصح من الأجنبي، وتبرع الأجنبي بعوض الخلع أقسام:
الأول: أن يكون لمصلحة الزوج، مثل أن يعرف أن الزوج متبرم من زوجته، ولا يريدها، ويكرهها، ولا يستطيع أن يفارقها، وقد بذل لها مهراً كثيراً، فهو في حيرة، فهنا نقول: إذا تبرع أجنبي
بعوض الخلع، فالمصلحة للزوج، والزوجة قد يكون لها مصلحة وقد لا يكون، لكنه يقول: أنا أريد أن أخلص هذا الزوج من هذه الحيرة، فنقول له: جزاك الله خيراً، ولا حرج؛ لأن هذا مصلحة.
الثاني: أن يكون لمصلحة الزوجة، بأن تكون الزوجة كارهة لزوجها، وزوجها متعِب لها، لكن ليس عندها المال الذي تفدي به نفسها منه، فيأتي رجل ويقول: يا فلان خالع زوجتك، وأنا أعطيك كذا وكذا من المال، فهذا جائز، وهو إحسان إليها.
الثالث: أن يكون لمصلحتهما جميعاً، ـ أي: مصلحة الزوج والزوجة ـ بأن يكون كل واحد منهما يرغب الانفكاك، لكن الزوج شاحٌّ بما بذله من المهر، وهي ليس عندها ما تفدي به نفسها.
الرابع: أن يكون للإضرار بالزوج، مثل أن تكون المرأة صالحة خادمة لزوجها معتنية به، فيحسد الزوج على هذا، فيقول له: اخلع زوجتك بعوض، وقصده الإضرار بالزوج؛ لأنه حاسده، فهذا لا شك أنه حرام، وأنه عدوان على أخيه، وهو أشد من الحسد المجرد، والحسد من الكبائر.
فإذا قال قائل: أليس الأمر بيد الزوج، وأنه يستطيع أن يقول: لن أخالع، ولو تعطيني الدنيا كلها؟
فالجواب: بلى، لكن الإنسان قد يخدع ويُغرَى بالمال، بأن يقول له مثلاً: خالع زوجتك وأنا سأعطيك سيارة، ومائة ألف ريال، وقصراً، والإنسان بشر ربما ينخدع ويخالع، فهنا نقول: بذل المال في هذا الخلع محرم لما فيه من العدوان.
وإذا قال هذا الباذل: أنا لم أجبره، والأمر بيده؟
قلنا: لكنك خدعته.
الخامس: أن يكون للإضرار بالزوجة، كأن تكون الزوجة مستقيمة مع الزوج، والحال طيبة، فتأتي امرأة تحسدها ـ وما أكثر ما تحسد النساءُ النساءَ ـ فتقول لها: أنا سأعطيك كذا وكذا، وتخلصي من هذا الرجل، وسوف يرزقك الله رجلاً طيباً ومستقيماً، فتخدعها، وتوافق الزوجة، فهذا حرام لا إشكال فيه؛ لأنه عدوان.
السادس: أن يكون للإضرار بهما جميعاً، بأن يحسد رجل الزوجَ والزوجةَ ويبذل العوض، وهذا ـ أيضاً ـ حرام.
السابع: أن يكون لحظ نفسه، أي لمصلحة الباذل، مثال ذلك: أن يكون الباذل قد أعجبته هذه المرأة التي عند زوجها، فقال للزوج: اخلع زوجتك وسأعطيك عشرة آلاف ريال، فهذا حرام وعدوان وجناية، وهو أشد من تخبيب المرأة على زوجها؛ لأن هذا بالفعل أفسدها عليه.
وسئل الإمام أحمد رحمه الله عن رجل قال لآخر: طلق زوجتك لأتزوجها بكذا وكذا من الدراهم، فأنكر هذا إنكاراً شديداً، وقال: أيفعل هذا أحد؟! لا يجوز.
الثامن: أن يكون لمصلحة غيره، مثال ذلك: رجل عرف أن فلاناً قد تعلق قلبه بهذه الزوجة، فقال له: أنا أراك تحب فلانة ـ أي الزوجة ـ فقال: نعم ليتها تكون لي، فقال: أنا آتي بها ولكن أعطني دراهم، فأعطاه الدراهم، فذهب وخالعها، فهذا لا يجوز؛ لأنه عدوان وظلم.
التاسع: إذا كان لا سبب له، وإنما يريد أن يفرق بينهما، فلا يريد الإضرار، ولا يريد المصلحة لنفسه ولا لغيره، فهل يجوز أو لا يجوز؟
هذا ينبني على مسألة، وهي هل يجوز الخلع مع استقامة الحال، يعني لو أن المرأة أرادت أن تخلع نفسها من زوجها، والحال مستقيمة، فهل يجوز لها ذلك أو لا؟
في هذا خلاف بين العلماء، منهم من قال: الخلع لا يجوز مع استقامة الحال، واستدل بقوله تعالى:{فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229]، فاشترط الله تعالى لنفي الجناح أن نخاف أن لا يقيما حدود الله، وإلا فلا يجوز ولقول النبي صلى الله عليه وسلم:«أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير بأس فحرام عليها رائحة الجنة»
(1)
.
لكن جمهور العلماء على أنه يصح الخلع مع استقامة الحال، إلا أنه يكره إذا لم يكن له سبب.
وقوله: «صح بذله لعوضه» الضمير يعود على عوض الخلع، فالعوض بالنسبة للزوجة المنفعة بالتخلص من هذا الرجل، وبالنسبة للزوج المال المدفوع له.
والصحيح أنه يجوز أن تجعل عوض الخلع غير مال، كخدمته مثلاً، إلا إذا كان العوض محرماً، فهذا لا يجوز.
(1)
أخرجه أبو داود في الطلاق/ باب في الخلع (2226)؛ والترمذي في الطلاق/ باب في المختلعات (1187)، وابن ماجه في الطلاق/ باب كراهية الخلع للمرأة (2055) عن ثوبان رضي الله عنه، وحسنه الترمذي، وصححه ابن حبان (9/ 409) انظر: الإرواء (2035).
ثم ذكر المؤلف رحمه الله أسباب الخلع فقال:
فَإِذَا كَرِهَتْ خُلُقَ زَوْجِهَا، أَوْ خَلْقَهُ، أَوْ نَقْصَ دِينِهِ، أَوْ خَافَتْ إِثْماً بِتَرْكِ حَقِّهِ أُبِيحَ الخُلْعُ، وَإِلاَّ كُرِهَ وَوَقَعَ،
..........
«فإذا كرهت خُلق زوجها أو خَلْقَه» «خُلُق» بضم الخاء واللام، قال بعض العلماء في تعريفه: هو الصورة الباطنة التي يكون بها سلوك المرء، و «خَلْقَه» بفتح الخاء وسكون اللام هي الصورة الظاهرة؛ لأن الصورة الباطنة إذا كانت جميلة صار حسن الأخلاق؛ لأنها هي التي تدبره.
قوله: «أو نقص دينه» أي: نقص الدين الذي لا يوصل إلى الكفر، كأن يتهاون بصلاة الجماعة، أو يشرب الدخان، أو يحلق اللحية، وما أشبه ذلك، فإن وصل إلى الكفر فإن الخلع هنا واجب فيجب أن تفارقه بكل ما تستطيع، ويجب على من علم بحالها من المسلمين إذا كان زوجها ـ مثلاً لا يصلي ـ أن ينقذوها منه بالمال؛ لأنها في مثل هذه الحال في الغالب لو حاكمته إلى القاضي فإنها لن تحصل على طائل؛ لأن القاضي سيطلب منها البينة على عدم صلاته، وإقامة البينة على العدم صعب جداً، بخلاف إقامة البينة على الوجود فإنه سهل؛ لأنه يُرى، لكن على العدم صعب؛ لأنه لا أحد يقول: أنا أشهد أن فلاناً لا يصلي؛ لأنه قد يصلي في بيته، أو يصلي في مسجد آخر، أو في بيت صديقه، ففي مثل هذه الحال إذا علمنا صدق المرأة، وأن الزوج قد طلب لفراقها كذا من المال، فإنه يجب علينا ـ فرض كفاية ـ أن نخلصها منه؛ لأن بقاء المسلمة تحت الكافر أمرٌ محرم بالكتاب، والسنة، والإجماع، ولا يمكن أن تبقى عند هذا الرجل الكافر، يتمتع بها.
قوله: «أو خافت إثماً بترك حقه» أي: ما كرهت منه شيئاً، لكن خافت إثماً بترك حقه، تجد نفسها ليست منقادة له، ولا تجيبه إلى الاستمتاع إلا متبرمة متكرهة، كحال امرأة ثابت رضي الله عنهما؛ فإذا خشيت المرأة أن تضيع حق الله فيه، فهل يباح الخلع؟
نعم لقوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة: 229] فإذا خافا أن لا يقيما حدود الله قال المؤلف:
«أبيح الخلع» «أبيح» مبني للمجهول، أي: صار مباحاً لها، أي: جائزاً.
قوله: «وإلا» يعني وإلا يكون له سبب.
قوله: «كره ووقع» المكروه هو الذي يثاب تاركه امتثالاً، ولا يعاقب فاعله، ومع ذلك يقع الخلع، فلو أن المرأة ـ مثلاً ـ مستقيمة الحال مع زوجها، ولكنها لأي سببٍ من الأسباب قالت: سأعطيك ما أعطيتني وخلني، طلقني، فما الحكم؟
نقول: الخلع مكروه، ويقع؛ لأنه ليس محرماً، والمكروه ينفذ، هذا هو المشهور من المذهب، وهناك قولٌ آخر أن الخلع في حال الاستقامة محرم ولا يقع، وهذا هو الصحيح؛ لقوله تعالى:{فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] فإن مفهوم الآية أنه إن لم يخافا أن لا يقيما حدود الله فعليهما جناح، وهذا يشهد لصحة الحديث، وإن كان ضعيفاً: «أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس
فحرامٌ عليها رائحة الجنة»
(1)
، فهذا يقتضي أن يكون من كبائر الذنوب.
فالحاصل أننا نقول: الآية تؤيد الحديث، وعلى هذا فنقول: إنه إذا كان لغير سبب فإن الصحيح أنه محرم، وأنه لا يقع، فهو محرم للآية وللحديث، ولا يقع لقول الرسول صلى الله عليه وسلم:«من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد»
(2)
.
ولكن إذا قلنا: لا يقع الخلع، فهل يقع طلاقاً؟
الجواب: إن كان بلفظ الخلع، ولم ينو به الطلاق فإنه لا يقع الطلاق؛ لأنه ما تلفظ به ولا نواه، والخلع وقع غير صحيح، وقولنا: بلفظ الخلع مثل أن يقول: خالعتها أو فسختها أو فاديتها أو ما أشبه ذلك، فهنا لا يقع خلعٌ ولا طلاق، وإن كان بلفظ الطلاق أو بنية الطلاق فإنه يقع الطلاق على المذهب؛ لأن الخلع إذا كان بلفظ الطلاق صار طلاقاً، وعلى القول بأنه لا يقع الخلع إلا إذا كان بلفظ الفسخ أو الفداء فإنه لا يقع الطلاق أيضاً؛ لأنه تبين أنه حرام لا فائدة فيه.
والعجيب أن المؤلف رحمه الله قال: «كره ووقع» واستدل بحديث: «أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير بأس فحرام عليها رائحة الجنة»
(3)
، ومقتضى الاستدلال أن يكون
(1)
سبق تخريجه ص (458).
(2)
أخرجه مسلم في الأقضية/ باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات في الأمور (1718)(18) عن عائشة رضي الله عنها.
(3)
سبق تخريجه ص (458).
الحكم حراماً، بل من كبائر الذنوب، وكأنه ـ والله أعلم ـ لم يصح عنده، وقد مر علينا عن صاحب النكت على المحرر ابن مفلح رحمه الله أنه قال: إن الحديث إذا كان ضعيفاً، وكان مفيداً للوجوب فإنه للاستحباب، هذا ما لم يكن الضعف شديداً بحيث لا يقبل، وإذا كان مقتضياً للتحريم صار للكراهة؛ لأن ضعف سنده يتبعه ضعف الحكم، وكونه ورد ونسب إلى الرسول عليه الصلاة والسلام يوجب للإنسان شبهة، بأنه قد قاله النبي عليه الصلاة والسلام فنجعل الحكم بين التحريم وبين الإباحة، وكذلك بالنسبة للوجوب؛ لأن الأصل عدم الإيجاب حتى يتبين بدليلٍ بيِّن، لكن نقول: نظراً إلى احتمال أن يكون صحيحاً يجب أن تفعل، هذا ما ذكره رحمه الله في هذه القاعدة، ولعل المؤلف رحمه الله في هذا الباب أخذ به.
فَإِنْ عَضَلَهَا ظُلْماً لِلافْتِدَاءِ، وَلَمْ يَكُنْ لِزِنَاهَا، أَوْ نُشُوزِهَا، أَوْ تَرْكِهَا فَرْضاً فَفَعَلَتْ، أَوْ خَالَعَتْ الصَّغِيرَةُ، وَالْمَجْنُونَةُ، وَالسَّفِيهَةُ، أَوَ الأَمَةُ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهَا لَمْ يَصحَّ الخُلْعُ،
قوله: «فإن عضلها» أي: أن الزوج منعها حقها.
قوله: «ظلماً» أي: بغير حق.
قوله: «للافتداء» اللام للتعليل، أي: عضلها لتفدي نفسها بشيء من المال.
قوله: «ولم يكن لزناها أو نشوزها» ، فإذا خالعت في هذه الحال لا يصح الخلع؛ لأنه قد أرغمها، وقد قال الله عز وجل {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [النساء: 19]، فإذا فعل هذا بدون سبب، كرجل ـ والعياذ بالله ـ طماع لا يخاف رب العالمين، ولا يرحم
الخلق، ما أحب هذه الزوجة، وقال: لا يمكن مالي يذهب هدراً، وصار يضيق عليها، ويمنعها حقها، ويهجرها في المضجع؛ من أجل أن تفتدي منه، نقول: هذا حرام عليك؛ لأن الله نهى عنه.
وقوله: «ولم يكن لزناها» فإذا كان لغير زناها، لكن لتوسعها في مخاطبة الشباب، تتكلم في الهاتف، وما أشبه ذلك، فهل نقول: إن هذا من سوء الخلق الذي يبيح له أن يعضلها لتفتدي منه؟
نعم، ونجعل قوله:«لزناها» شاملاً لزنا النطق، والنظر، والسمع، والبطش، والمشي، كما أخبر الرسول عليه الصلاة والسلام «أن العين تزني، والأذن تزني، واليد تزني، والرجل تزني»
(1)
، فهذا الرجل يقول: ما أصبر على هذه المرأة، وهي بهذه الحال، فصار يضيق عليها لتفتدي منه، فهذا جائز.
فإن قال قائل: إن الله يقول: {إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} والكلام أو النظر ليس من الفواحش، فنقول: إن هذا وسيلة إلى الفواحش، ثم إن كثيراً من الناس يكون عنده غَيْرة، أن تخاطب امرأته الرجال، أو أن تتحدث إليهم.
ولكن إذا قدر أنه عضلها لزناها فلم تبذل، ولم يهمها، فهل يجوز أن يبقيها عنده على هذه الحال؟
(1)
أخرجه البخاري في الاستئذان/ باب زنا الجوارح دون الفرج (6243)؛ ومسلم في القدر/ باب قُدِّر على ابن آدم حظه من الزنا وغيره (2657) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
الجواب: لا يجوز، ويجب أن يفارقها؛ لأنه لو أبقاها عنده وهي تزني ـ والعياذ بالله ـ صار ديوثاً.
وقوله: «أو نشوزها» ، وهو معصية الزوجة زوجها فيما يجب عليها، فإذا صار عندها نشوز وعضلها وضيق عليها لتفتدي فلا حرج.
قوله: «أو تركها فرضاً» كأن تترك الصلاة دون أن تصل إلى الكفر، أو تترك الصيام، أو تترك الزكاة، أو تترك أي فرض، أو تترك الحجاب، وتقول: سأخرج مكشوفة الوجه، فله أن يعضلها إذا لم يمكن تربيتها، أما إذا كان يرغب في المرأة ويمكن أن يربيها فلا حرج أن تبقى معه.
قوله: «ففعلت» أي: افتدت.
قوله: «أو خالعت الصغيرة» أي: فلا يصح الخلع؛ لأنه لا يصح تبرعها من مالها، فإن خالع وليها عنها من مالها لتضررها بهذا الزوج جاز؛ لأن ذلك لمصلحتها.
قوله: «والمجنونة» فلو خالعت لم يصح الخلع من باب أولى؛ لأن ذلك بذل مال، والمجنونة ليست أهلاً لذلك.
قوله: «والسفيهة» وهي التي لا تحسن التصرف في مالها، فإذا خالعته وبذلت عوض الخلع من مالها فإنه لا يصح؛ لأنه لا يصح تبرعها كما سبق.
قوله: «أو الأمة بغير إذن سيدها» إذا خالعت الأمة بغير إذن
سيدها لم يصح الخلع؛ لأن الأمة لا تملك مالاً، فالمملوك مالُه لسيده ولا يملك، ودليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم:«من باع عبداً له مال فماله للذي باعه إلا أن يشترطه المبتاع»
(1)
أي: المشتري، والشاهد قوله صلى الله عليه وسلم:«له مال فماله للذي باعه» .
فإذا قال قائل: اللاَّمان متناقضتان، يقول:«له مال» ثم يقول: «ماله للذي باعه» فما الجمع؟
فالجواب: أن اللام الأولى للاختصاص، والثانية للتمليك، فمعنى «له مال» أن بيده مالاً أعطاه السيد إياه يتجر فيه، أو ما أشبه ذلك، كما تقول: الزمام للناقة، وهي لا تملك، لكن اللام هنا للاختصاص.
وقوله: «بغير إذن سيدها» ، مثل أن يكون لها زوج لا يقوم بحقها، وآذاها، وضيَّق عليها، فجاءت إلى سيدها، وقالت: يا سيدي إن هذا الرجل لا تستقيم الحال معه، فأذن لي أن أخالعه، فإذا أذن صح.
قوله: «لم يصح الخلع» ولكن ماذا تكون هذه الفرقة؟ بينها المؤلف بقوله:
وَوَقَعَ الطَّلَاقُ رَجْعِيّاً إِنْ كَانَ بِلَفْظِ الطَّلاقِ، أَوْ نِيَّتِهِ.
«ووقع الطلاق رجعياً» هذا إذا كان الطلاق أول مرة، أو ثاني مرة، فإن كان الثالثة فالطلاق يكون بائناً؛ لأنها تطلق ثلاثاً.
(1)
أخرجه البخاري في المساقاة/ باب الرجل يكون له ممر أو شرب في حائط (2379)، ومسلم في البيوع/ باب من باع نخلاً عليها ثمر (1543) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
قوله: «إن كان بلفظ الطلاق» بأن قال لزوجته: طلقتك على عوض قدره كذا.
قوله: «أو نيته» يعني أن الزوج نوى بهذا الفراق الطلاق، فإنه يقع الطلاق رجعياً.
هذا ما ذهب إليه المؤلف بناءً على أن الخلع إذا وقع بلفظ الطلاق فهو طلاق، والصواب أنه لا يقع شيء، لا طلاق ولا خلع، أما عدم وقوع الخلع فلأنه ليس هناك عوض، وأما عدم وقوع الطلاق فلأن الخلع ليس بطلاق، حتى لو وقع بلفظ الطلاق.
فَصْلٌ
وَالْخُلْعُ بِلَفْظِ صَرِيحِ الطَّلَاقِ، أَوْ كِنَايَتِهِ، وَقَصْدِهِ طَلَاقٌ بَائِنٌ،
......
قوله: «والخلع بلفظ صريح الطلاق أو كنايته وقصده طلاق بائن» .
«الخلع» مبتدأ وخبره «طلاق بائن» وقوله: «بلفظ صريح» جار ومجرور في موضع نصب على الحال من كلمة «الخلع» يعني والخلع حال كونه بلفظ صريح الطلاق
…
إلخ.
ذكر المؤلف في هذا الفصل ألفاظ الخلع، يقول: إن وقع بلفظ الطلاق، أو نية الطلاق لو كان بغير لفظه، فهو طلاق بائن.
مثال ذلك: طلبت امرأة من زوجها أن يخالعها على ألف ريال، فوافق الزوج، ولكنه قال: طلقت زوجتي على عوض قدره ألف ريال، فيكون هذا طلاقاً، يحسب من الطلاق، فإن كان هذا آخر مرة بانت منه بينونة كبرى.
وقوله: «أو كنايته وقصده» إذا وقع بكناية الطلاق مع قصد الطلاق صار طلاقاً، والضابط في جميع ما يقال: إنه كناية، هي التي تحتمل معنى الصريح وغيره.
مثال ذلك: إذا قال: امرأتي بريئة على ألف ريال، وقصد بذلك الطلاق، فإنه يقع طلاقاً، هذا ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله.
ولكن القول الراجح: أنه ليس بطلاق وإن وقع بلفظ الصريح، ويدل لهذا القرآن الكريم، قال الله عز وجل:{اَلطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} أي: في المرتين،
إما أن تمسك وإما أن تسرح، فالأمر بيدك {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلاَّ أَنْ يَخَافَا أَلَاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] إذاً هذا فراق يعتبر فداء، ثم قال الله عز وجل:{فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقر: 230]، فلو أننا حسبنا الخلع طلاقاً لكان قوله:{فَإِنْ طَلَّقَهَا} هي الطلقة الرابعة، وهذا خلاف الإجماع، فقوله:{فَإِنْ طَلَّقَهَا} أي: الثالثة {فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} والدلالة في الآية واضحة، ولهذا ذهب ابن عباس رضي الله عنهما إلى أن كل فراق فيه عوض فهو خلع وليس بطلاق، حتى لو وقع بلفظ الطلاق، وهذا هو القول الراجح.
وقوله: «طلاق بائن» البينونة بمعنى الانفصال، والطلاق البائن على نوعين: بائنٌ بينونة كبرى، وهو الطلاق الثلاث، وبائنٌ بينونة صغرى وهو الطلاق على عوض، فإذا كان الرجل قد طلق زوجته مرتين سابقتين، ثم طلقها الثالثة، نقول: هذا الطلاق بائنٌ بينونة كبرى، يعني ما تحل له إلا بعد زوج، وإذا طلقها على عوض صار بائناً بينونة صغرى، فما معنى بائن إذاً؟ معناه أنه لا يحل له أن يراجعها ولو راجعها؛ ووجه ذلك أن بذلها للعوض افتداء، فقد اشترت نفسها، فلو مكنا الزوج من المراجعة لم يكن لهذا الفداء فائدة، ولكانت هي ومن لم تبذل على حدٍ سواء، فهذه المرأة التي بذلت العوض كأنها اشترت نفسها من زوجها، ولهذا نقول: إنه طلاقٌ بائن لا يملك الرجعة فيه، لكن هل يملك أن يتزوجها بعقد جديد؟
الجواب: نعم؛ لأن البينونة ليست بينونة كبرى، بل صغرى، فلا يملك الرجعة، لكن يملك العقد.
واعلم أن الخلع ليس له بدعة، بمعنى أنه يجوز حتى في حال الحيض؛ لأنه ليس بطلاق، والله إنما أمر بالطلاق للعدة {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1]، ولهذا يجوز أن يخالعها ولو كانت حائضاً، ويجوز أن يخالعها ولو كان قد جامعها في الحال؛ لأنه ليس بطلاق بل هو فداء، ولأن أصل منع الزوج من التطليق في حال الحيض، أو في حال الطهر الذي جامعها فيه؛ أن فيه إضراراً بها، لتطويل العدة عليها، فإذا رضيت بذلك فقد أسقطت حقها.
وَإِنْ وَقَعَ بِلَفْظِ الخُلْعِ، أَو الفَسْخِ، أَو الفِدَاءِ، وَلَمْ يَنْوِهِ طَلَاقاً، كَانَ فَسْخاً لَا يُنَقِّصُ عَدَدَ الطَّلَاقِ،
.........
قوله: «وإن وقع بلفظ الخلع أو الفسخ أو الفداء ولم ينوه طلاقاً كان فسخاً لا ينقص عدد الطلاق» .
هاتان صورتان أخريان، فإذا وقع بلفظ الخلع، أو الفسخ، أو الفداء وما أشبهه ولم ينوِ أنه طلاق فهو فسخ، فإن نواه طلاقاً فهو طلاق، فإذا قال: خالعت زوجتي على ألف ريال فهو فسخ، فإن نوى الطلاق صار طلاقاً، وإذا قال: فسخت زوجتي على ألف ريال فهو فسخ، وإذا قال: فاديت زوجتي بألف ريال فهو فسخ، إذاً ألفاظ الفسخ ثلاثة، الخلع، والفسخ، والفداء، بشرط ألا ينوي بذلك الطلاق، فإن نوى بذلك الطلاق فهو طلاق، والصواب أنه فسخ ولو نوى الطلاق، ولو تلفظ بالطلاق، وبهذا تكون الصور أربعاً: أن يكون بلفظ الطلاق، أن يكون بكنايته وقصده، أن يكون
بلفظ الخلع بدون نية الطلاق، أن يكون بلفظ الخلع بنية الطلاق.
فإن وقع بلفظ الطلاق فهو طلاق كما سبق، وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد، وهو قولٌ وسطٌ بين قولين.
القول الثاني: أنه طلاقٌ بكل حال حتى لو وقع بلفظ الخلع أو الفسخ، وهذا القول لا شك أنه ضعيف.
القول الثالث: أنه فسخٌ بكل حال ولو وقع بلفظ الطلاق، وهذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهو المنصوص عن أحمد، وقول قدماء أصحابه، كما حكاه شيخ الإسلام، وعلى هذا فلا عبرة باللفظ، بل العبرة بالمعنى، فما دامت المرأة قد بذلت فداء لنفسها، فلا فرق أن يكون بلفظ الطلاق، أو بلفظ الخلع، أو بلفظ الفسخ.
وهذا القول قريبٌ من الصواب، لكنه ما زال يشكل عندي قول الرسول عليه الصلاة والسلام لثابت بن قيس رضي الله عنه:«اقبل الحديقة وطلقها تطليقة»
(1)
بهذا اللفظ، إلا أن الرواة اختلفوا في نقل هذا الحديث، فالحديث الذي فيه «طلقها تطليقة» كأن البخاري يميل إلى أنه مرسل، وليس متصلاً، وأما الأحاديث الأخرى:«فاقبل الحديقة وفارقها»
(2)
بهذا اللفظ، فإذا تبين أن الراجح من ألفاظ الحديث:«اقبل الحديقة وفارقها» فلا شك إن
(1)
أخرجه البخاري في الطلاق/ باب الخلع وكيف الطلاق فيه (5273) عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال البخاري: لا يتابع فيه عن ابن عباس، وانظر: فتح الباري (9/ 400).
(2)
أخرجه البخاري في الطلاق/ باب الخلع وكيف الطلاق فيه (5276) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
الصواب قول ابن عباس رضي الله عنهما ومن تابعه، وأما إذا صحت اللفظة:«اقبل الحديقة وطلقها تطليقة» فإنه واضح أنه طلاق، ولا يمكن للإنسان أن يحيد عنه، وتحمل رواية «فارقها» على أن المراد فارقها فراق طلاق.
وَلَا يَقَعُ بِمُعْتَدَّةٍ مِنْ خُلْعٍ طَلَاقٌ وَلَوْ وَاجَهَهَا بِهِ،
......
قوله: «ولا يقع بمعتدةٍ من خلع طلاقٌ ولو واجهها به» المعتدة من خلع لا يقع عليها الطلاق؛ لأنها بانت من زوجها، وعليها العدة، وأفاد المؤلف رحمه الله أن الخلع يوجب العدة، وعلى هذا فيجب عليها أن تعتد كما تعتد المطلقة تماماً، إن كانت تحيض فبثلاث حيض، وإن لم تكن من ذوات الحيض فبثلاثة أشهر، وإن كانت حاملاً فبوضع الحمل.
وذهب بعض أهل العلم: إلى أن المختلعة لا تعتد، وإنما تُستبرأ، وهذا القول هو الصحيح أنه لا عدة عليها، وإنما عليها استبراء، فإذا حاضت مرة واحدة انتهت عدتها؛ لأن ظاهر القرآن أن العدة إنما هي على المطلقة قال تعالى:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]، فدلت الآية على أن التي يلزمها ثلاثة قروءٍ إنما هي المطلقة، وهذا هو الذي صح عن أمير المؤمنين عثمان
(1)
رضي الله عنه.
فإن قال قائل: إذا قلتم: إن المختلعة لا يجب عليها إلا استبراء فقط، وعللتم ذلك بأنها بانت من زوجها، فقولوا:
(1)
أخرجه النسائي في الطلاق/ باب عدة المختلعة (6/ 186)؛ وابن ماجه في الطلاق/ باب عدة المختلعة (2058) عن الرُّبيع بنت معوذ رضي الله عنها أن عثمان رضي الله عنه قضى به فيها، وأخبر أنه قضاء النبي صلى الله عليه وسلم.
في المطلقة ثلاثاً ما عليها إلا استبراء؛ لأن الزوج لا يملك الرجعة.
فالجواب على ذلك بأحد وجهين: إما بالتسليم، وإما بإيجاد فرق، أما التسليم فأن نقول: نعم المطلقة ثلاثاً لا يجب عليها ثلاثة قروء، بل لا يجب عليها إلا استبراء فقط، والآية ظاهرة في ذلك لقوله:{وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا} [البقرة: 228] فعندنا عموم في أول الآية، وخصوص في آخرها، وإذا رددنا آخرها على أولها صار المراد بالعموم الرجعيات؛ لأن الله قال:{وَبُعُولَتُهُنَّ} والمطلِّق ثلاثاً ليس بعلاً، وقال:{أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} والبائن بالثلاث ليس لزوجها حق الرجعة عليها، فحينئذٍ تكون المطلقة ثلاثاً لا يلزمها إلا استبراء، حيضة واحدة، إن كانت من ذوات الحيض، أو شهر واحد إن كانت ممن لا يحيض، أو بوضع الحمل، وليس في وضع الحمل إشكال؛ لأنه تتفق فيه كل العدد، ولهذا يسمون عدة الحامل أم العدد.
أو نقول بالفرق، وهو أن بعضهم حكى إجماع أهل العلم على أن المطلقة ثلاثاً يلزمها ثلاثة قروء، بينما المختلعة فيها خلاف حتى عن الصحابة رضي الله عنهم، وما دمنا أوجدنا الفرق فالإلزام لا يثبت، ولهذا قال شيخ الإسلام رحمه الله: إن كان أحد قال بأن المطلقة ثلاثاً لا يلزمها إلا حيضة واحدة ـ استبراء ـ فهذا هو الحق.
قال صاحب الاختيارات: إنه قد نقل عن ابن اللبان القول بذلك، وعلى هذا فيكون قولَ شيخ الإسلام، وأن
المطلقة ثلاثاً تستبرأ فقط؛؛ لأن مقتضى النظر أن من لا رجعة عليها، لا تعتد إلا بحيضة، تُرك في المطلقة ثلاثاً؛ لأنه خلاف الإجماع.
وقوله: «ولا يقع بمعتدة طلاق» يعني حتى ولو قال: أنت طالق فإنه لا يقع الطلاق؛ ووجه ذلك أنها بالبينونة صارت غير زوجة، والطلاق إنما يكون للزوجة، هذا وجه الحكم من النظر، أما الأثر فقال في الروض
(1)
: روي عن ابن عباس وابن الزبير رضي الله عنهم، ولم يعلم لهما مخالف، فيكون الدليل قول الصحابة والتعليل.
وقوله: «ولو واجهها به» بأن يقول: أنت طالق، وضد المواجهة أن يقول: فلانة طالق.
ويقع الطلاق على زوجة في عصمته لو طلقها ولو بدون مواجهة، فلو قال: زوجتي فلانة طالق، تطلق، وكذلك ـ أيضاً ـ لو قال على سبيل التعميم: كل زوجاتي طوالق، فإن المختلعة التي في عدتها لا يقع عليها الطلاق، فضد المواجهة صورتان:
الأولى: التعميم.
الثانية: التعيين بالاسم.
وقوله: «ولو واجهها» هذا إشارة خلاف؛ لأن بعض أهل العلم يقول: إنه إذا واجه المخالعة بالطلاق فإنها تطلق، ولكنه قول لا دليل عليه، لا من أثر، ولا من نظر، ودليلهم لأنها إلى
(1)
الروض المربع مع حاشية ابن قاسم (6/ 468).
الآن لها تعلق به من جهة الاعتداد، أو الاستبراء على الخلاف، لكن يقال: هذا لا يعني أنها زوجته، فهي ليست بزوجة له، حتى وإن كانت في عدته.
وَلَا يَصِحُّ شَرْطُ الرَّجْعَةِ فِيهِ،
..........
قوله: «ولا يصح شرط الرجعة فيه» أي: في الخلع، بأن قال: أنا أخالعك، لكن لي أن أرجع في الخلع، فأعطيك العِوَض وأراجعك، وقد علم أن الرجل إذا خالع زوجته وسلمته العوض، وقال: خالعتك على هذا العوض انقطعت الصلة بينهما؛ لأن هذا افتداء، فلا يمكن أن يرجع عليها إلا بعقد جديد ورضا.
مثاله: خالعها بألف ريال وسلمته إياه، وقال: خالعتك على هذا الألف، لكنه اشترط، قال: إن بدا لي أن أرجع فإني أرد العوض وأراجعك، يقول المؤلف: إن شرط الرجعة فيه غير صحيح.
وهنا سؤال لماذا صح الخلع وبطل الشرط؟
يقولون: بطل الشرط؛ لأنه ينافي مقصود الخلع؛ إذ إن مقصود الخلع هو التخلص من هذا الزوج، فإذا شرط أن له أن يرجع فإن هذا المقصود يفوت الزوجةَ.
ويصح الخلع؛ لأن هذا الشرط لا يعود إلى صلب العقد، فهو لا يتضمن جهالة، ولا وقوعاً في محرم، غاية ما هنالك أنه شرط فاسد ألغي، كما ألغى النبي صلى الله عليه وسلم شرط أهل بريرة رضي الله عنها أن يكون الولاء لهم، وصحح العقد
(1)
،
(1)
أخرجه البخاري في البيوع/ باب الشراء والبيع مع النساء (2155)؛ ومسلم في العتق/ باب بيان أن الولاء لمن أعتق (1504)(8) عن عائشة رضي الله عنها.
فالشرط الفاسد يَفْسد، والعقد ما دام لا يوجد ما ينافي أصله فإنه يبقى صحيحاً.
وهذا له نظائر كثيرة مرت علينا في الشروط في النكاح، وفي الشروط في البيع، وفي الشروط في الرهن، وفي الشروط في الوقف، أن هناك شروطاً فاسدة تفسد بنفسها ولا تفسد العقد.
وقال بعض العلماء: إن الخلع لا يصح؛ لأن هذا الشرط يبطل المقصودَ من أصله؛ إذ إنه يجعل الخلع اللازم جائزاً، متى ما شاء أبطله، فهو كما لو وقف شيئاً واشترط أن يبيعه متى شاء، فإن المشهور من المذهب أن هذا شرط يبطل الوقف، ويكون الوقف غير صحيح، وفيه خلاف.
القول الثالث: صحة الشرط والخلع، لأن هذا الشرط ثبت باختيارهما، ولم يكرهها عليه، والأصل في الشروط الصحة، نعم هو ينافي المقصود من الخلع، لكن حق الزوجة، فإذا رضيت بإسقاطه فإن الحق لها.
لكن المذهب في هذه المسألة هو أقرب الأقوال؛ لأنها قد تغتر عند عقد الخلع، وتوافق على هذا الشرط، ثم بعد ذلك تندم.
وأما من قالوا: إن الخلع لا يصح، وأنه يجب عليه أن يرد عليها ما أخذ منها، وله أن يراجعها فلا وجه له؛ لأن العقد وقع باتفاقهما وبرضاهما.
مسألة: إذا اشترط الخيار في الخلع مدة العدة أو الاستبراء، فهذه المسألة فيها خلاف، المذهب أنه لا يصح شرط
الخيار فيه؛ لأنه ليس عقد معاوضة محضة، ولو كان عقد معاوضة محضة لصح فيه شرط الخيار كالبيع، بل أهم ما فيه الفراق.
القول الثاني: أنه يصح شرط الخيار فيه، وإذا اختار أحدهما الرجوع فإنه يرجع؛ لأن الحق لهما، والذي يظهر أنه يصح الشرط؛ لأن هذه ليست كالمسألة الأولى، فالرجعة في المسألة الأولى للزوج، أما هذا فالخيار لهما جميعاً، مع أنه قد يقول قائل: إذا اختار الزوج فإن الزوجة تجبر على الموافقة، وحينئذٍ نعود إلى أنه كشرط الرجعة تماماً، إلا أن الرجعة من جانب واحد، وهذا من جانبين.
وَإِنْ خَالَعَهَا بِغَيْرِ عِوَضٍ، أَوْ بِمُحَرَّمٍ لَمْ يَصِحَّ،
........
قوله: «وإن خالعها بغير عوض أو بمحرم لم يصح» لقوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229]، فإذا خالعها على غير عوض فأين الفداء؟! لا فداء، وهذا هو المذهب.
وقال شيخ الإسلام: يصح أن يخالعها على غير عوض، وعلل ذلك بأمرين:
أحدهما: أن العوض حق للزوج، فإذا أسقطه باختياره فلا حرج، كغيره من الحقوق، فكما أنها لو خالعته على ألف ريال وتم الخلع ثم أبرأها منه، فلا حرج، فكذلك إذا اتفقا من أول الأمر على أنه لا عوض.
الثاني: أنه إذا خالعها فإنه يخالعها على عوض؛ لأنها تسقط حقها من الإنفاق؛ لأنه لو كان الطلاق رجعياً لكانت النفقة مدة العدة على الزوج، فإذا خالعته فلا نفقة عليه، فكأنها بذلت له عوضاً، فهي قد أسقطت الحق الذي لها من النفقة على الزوج،
وهو قد أسقط الحق الذي له من الرجعة، فالرجعة حق للزوج، والنفقة مدة العدة حق للزوجة، فإذا رضيا بإسقاطهما في الخلع فلا مانع.
ويجيب عن الاستدلال بالآية بأن الغالب أن الزوج لا يفارق زوجته إلا بعوض، ولهذا قال الله عز وجل:{فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} ، وما قاله الشيخ رحمه الله جيد؛ لأنه في الحقيقة خلع على عوض، وهو إسقاط النفقة عنه، وما قاله رحمه الله ظاهر جداً، إلا فيما إذا كان الخلع بما يقتضي الطلاق على المذهب، وكان آخر ثلاث تطليقات، فإن المطلقة ثلاثاً ليس لها على زوجها نفقة، وحينئذٍ لا يستفيد الزوج، ولكن يقال: إذا رضي بهذا فالحق له، فإذا خالعها بغير عوض، وقلنا: على المذهب لم يصح، وإذا لم يصح فإن وقع بلفظ الطلاق أو نيته فهو طلاق، وإن وقع بلفظ الخلع فليس بشيء.
وقوله: «أو بمحرم» مثل الخمر، فلو خالعها على عشرين جرة خمر، فهذا لا يصح؛ لأن الخمر لا يصح أن يكون عوضاً، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:«إن الله حرم بيع الخمر»
(1)
، وكذلك الدخان لا يصح أن يكون عوضاً؛ لأنه محرم، وكذا الخنزير، والمال المسروق.
فإن كانا لا يعلمان أنه محرم فإن الخلع يصح، ولها قيمته، مثل ما لو خالعته على ولد لها من غيره، قالت: هو لك عبد؟
(1)
أخرجه البخاري في البيوع/ باب بيع الميتة والأصنام (2236)، ومسلم في المساقاة/ باب تحريم بيع الخمر والميتة (1581) عن جابر رضي الله عنه.
فهذا لا يجوز؛ لأنه حر، فإذا كانا لا يعلمان أنه حر فله مثل قيمته عبداً، وإذا لم يصح الخلع، فماذا يكون؟ يقول المؤلف:
وَيَقَعُ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا إِنْ كَانَ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ أَوْ نِيَّتِهِ، وَمَا صَحَّ مَهْراً صَحَّ الْخُلْعُ بِهِ، وَيُكْرَهُ بِأَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهَا،
.........
«ويقع الطلاق رجعياً» ؛ لأن العوض لم يصح، فوجوده كعدمه.
قوله: «إن كان بلفظ الطلاق أو نيته» ، مفهومه أنه إن كان بغير لفظ الطلاق أو بغير نيته، مثل أن يكون بلفظ الخلع أو الفداء أو الفسخ فإنه لا يقع؛ لأنه ليس بصحيح.
قوله: «وما صح مهراً صح الخلع به» ، «ما» موصولة، أو شرطية، والشرطية أقرب؛ لأنها تكون جملة مرتباً بعضها على بعض، «وما صح مهراً» يعني كل شيء يصح مهراً فإنه يصح الخلع به، فيصح أن تعطيه دراهم، ويصح أن تعطيه ثياباً وعرضاً، ويصح أن تعطيه عقاراً، ويصح أن تخالعه على تعليم، فهو علمها سورة البقرة مهراً، وهي تعلمه سورة آل عمران خلعاً، فهذا يجوز على الصحيح، فما صح مهراً من مال، أو منفعة فإنه يصح الخلع به؛ ووجه ذلك أن المهر إنما أخذ لاستباحة البضع، وهذا أخذ لفكاك البضع، فالأمر فيه ظاهر.
قوله: «ويكره بأكثر مما أعطاها» أي: يكره الخلع بأكثر مما أعطاها، وظاهر كلامه صحته بأكثر مما أعطاها، وهذه المسألة مما اختلف فيه العلماء، فقال بعض العلماء: إنه يجوز بالمال قل أو كثر، واستدلوا لجواز الزيادة بعموم قوله تعالى:{فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229]، «وما» اسم موصول تفيد العموم
من قليل وكثير، فهو عام لما تفتدي به نوعاً، وجنساً، وكمية، وكيفية.
وقال آخرون: لا يزيد على ما أعطاها؛ لأن قوله: {فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} عائد على ما سبق؛ لأنه قال: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلاَّ أَنْ يَخَافَا أَلَاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} أي: مما آتيتموهن فقط، ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى ثابت بن قيس رضي الله عنه أن يزيد في خلعه فقال له:«خذ الحديقة ولا تزدد»
(1)
.
ولأن هذا الزائد عما أعطاها أكل للمال بالباطل؛ لأنه ليس في مقابلة شيء، نعم ما أُخذ منه له أن يسترجعه لكن ما زاد ففي أي مقابل؟!
وأجاب القائلون بالجواز عن الحديث بأنه ضعيف، والحديث الضعيف لا تقوم به حجة كما هو معلوم، وعلى فرض صحته فهو من باب الإرشاد والتوجيه؛ لأنه لا شك أن كون الزوج يطلب أكثر مما أعطاها أمر غير مستساغ، فالرجل استحل فرجها واستمتع بها وشغلها، ثم في النهاية يقول: أريد أكثر من المهر، فالمروءة لا تسوِّغ هذا.
وأجابوا عن قولهم بأن أخذه أكثر مما أعطى أخذ بغير حق، قالوا: بل هو أخذ بحق؛ لأن هذا الرجل يملك هذه المرأة
(1)
أخرجه ابن ماجه في الطلاق/ باب المختلعة تأخذ ما أعطاها (2056) عن ابن عباس رضي الله عنهما، بلفظ:«فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ منها حديقته ولا يزداد» ، انظر: الإرواء (2037).
إلى الموت فهو حق له، ثم إنه قد يقول: أنا إن تركتها فمتى أجد امرأة؟
ثم قد يكون ـ أيضاً ـ أعطاها المهر في وقت رخص، والآن المهور زائدة مرتفعة، فهذا الذي أخذ منها يمكن أن يأتي له بزوجة، ويمكن ألا يأتي.
والأرجح أن له أن يأخذ أكثر مما أعطى، إلا إذا صح الحديث، ولكن الحديث لا يصح، فإن وجد له شواهد، وإلا فهو بسنده المعروف ضعيف، لكن المروءة تقتضي ألا يأخذ منها أكثر مما أعطاها.
بقي علينا مسألة مهمة، لو أننا ما تمكنا من الجمع بين الزوجين بأي حال من الأحوال، فأبى أن يطلق، وأبت هي أن تبقى عنده، فذهب بعض أهل العلم إلى وجوب الخلع حينئذ بشرط أن ترد عليه المهر كاملاً، ذهب إلى هذا بعض علماء الحنابلة، وشيخ الإسلام رحمه الله يقول عنه تلميذه ابن مفلح: إن شيخنا اختلف كلامه في هذه الصورة، هل يجب الخلع أو لا؟ مع أن بعض علماء الحنابلة صرح بوجوب الخلع والإلزام به، واستدلوا بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لثابت رضي الله عنه:«خذ الحديقة وطلقها» ، وقالوا: الأمر للواجب؛ ولأنه لا سبيل إلى فك هذا النزاع والشقاق إلا بهذا الطريق، وفك النزاع والشقاق بين المسلمين أمر واجب، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وهذا القول هو الصحيح؛ لأنه لا مضرة عليه، فماله قد جاءه، وبقاؤهما هكذا، هي معلقة لا يمكن أن تتزوج، وهو كذلك غير
موفق في هذا النكاح لا ينبغي، لا سيما إذا ظهر للقاضي أن البلاء من الزوج، مثل أن يكون لا يصلي وتتعذر إقامة البينة عليه، ففي مثل هذه الحال القول بالوجوب قوي جداً.
وَإِنْ خَالَعَتْ حَامِلٌ بِنَفَقَةِ عِدَّتِهَا صَحَّ، وَيَصِحُّ بِالمَجْهُولِ، فَإِنْ خَالَعَتْهُ عَلَى حَمْلِ شَجَرَتِهَا، أَوْ أَمَتِهَا،
قوله: «وإن خالعت حامل بنفقة عدتها صح» ، الحامل إذا طلقت فعلى زوجها أن ينفق عليها، قال الله عز وجل:{وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6]، فأوجب الله عز وجل على الزوج الإنفاق إذا كانت حاملاً، فليس لازماً أن المختلعة تبذل دراهم، فمثلاً لو خالعت بنفقة عدتها يصح، كامرأة حامل طلبت من زوجها أن يخالعها، فقال: أعطيني عوضاً، قالت: العوض أني أسقط عنك نفقة الحمل، فيصح؛ لأنها خالعته بعوض في الواقع، إذ إنه لو لم تخالعه لوجب عليه أن ينفق، مع أن النفقة في هذه الحال واجبة، لكن هل هي للمرأة، أو للحمل من أجل المرأة؟
العلماء اختلفوا في الإنفاق على الحامل المعتدة، فقال بعضهم: إن الإنفاق للزوجة من أجل الحمل، وقيل: إن الإنفاق للحمل، وهذا هو المذهب، ويترتب على هذا مسائل ذكرها ابن رجب في القواعد، منها إذا قلنا: إن النفقة للمرأة وجب عليه إخراج زكاة الفطر عنها؛ لأنه ينفق عليها في رمضان، وإذا قلنا: النفقة للحمل لم يجب عليه؛ لأن الإخراج عن الجنين ليس بواجب.
والصحيح أن النفقة سببها الأمران جميعاً، ودليل هذا أنه على القول الراجح لو مات الحمل في بطنها وجبت النفقة.
فإذا قال قائل: كيف يصح على المذهب أن تخالع الحامل بعدة نفقتها، مع أن النفقة على المذهب للحمل ليس لها؟ قلنا: هذا وارد، والجواب عليه أن حقيقة المنتفع بهذه النفقة هو المرأة، ثم على فرض أن هذه النفقة للحمل حقيقة وحكماً، فإن هذه المرأة التزمت أن تقوم بها عن زوجها، وبهذا تكون قد بذلت العوض على كل تقدير.
قوله: «ويصح بالمجهول» يعني يصح أن يخالع الرجل زوجته على شيء مجهول، لكن إذا آل إلى العلم، مثال ذلك: يقول:
«فإن خالعته على حمل شجرتها» صح، قالت: أريد أن تخالعني على حمل هذه النخلة، والنخلة إلى الآن ما أطلعت فيصح، مع أننا لا ندري هل تخرج قنواً واحداً، أو قنوين، أو ثلاثة، أو عشرة، أو لا تخرج شيئاً، فكيف صح ذلك مع أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر
(1)
؟ أجابوا عن هذا بأن هذا ليس معاوضة محضة، وإنما الغرض منه التخلص من هذا الزوج، فإذا رضي بأي عوض وهو غير محرم شرعاً فله ذلك.
قوله: «أو أمتها» أي: إذا خالعته على حمل أمتها يصح كالشجرة، أو على حمل بقرتها، أو على حمل شاتها، كل هذا يصح، وإن كان مجهولاً؛ لأنه ليس الغرض من ذلك المعاوضة والمرابحة، إنما الغرض الفداء.
(1)
أخرجه مسلم في البيوع/ باب بطلان بيع الحصاة والبيع الذي فيه غرر (1513) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
أَوْ مَا فِي يَدِهَا، أَوْ بَيْتِهَا مِنْ دَرَاهِمَ، أَوْ مَتَاعٍ، أَوْ عَلَى عَبْدٍ صَحَّ، وَلَهُ مَعَ عَدَمِ الحَمْلِ وَالمَتَاعِ وَالعَبْدِ أَقَلُّ مُسَمَّاهُ، وَمَعَ عَدَمِ الدَّرَاهِمِ ثَلَاثَةٌ.
قوله: «أو ما في يدها أو بيتها من دراهم أو متاع» أي: لو صالحته على ما في يدها، أو بيتها من دراهم أو متاع، بأن قالت: أخالعك على ما في يدي من دراهم يصح، كذلك ما في بيتها من متاع، بأن قالت: أخالعك على كل المواعين التي في البيت لك، يصح؛ والسبب في كونه يصح مع هذه الجهالة العظيمة، أن الغرض التخلص من الزوج، وليس معاوضة محضة.
قوله: «أو على عبدٍ صح» ، أي قالت: أخالعك على عبد، أو على شاة، أو على بقرة، أو على سيارة، ولم تعين يصح، حتى وإن لم تقل: من سياراتي، أو من عبيدي، أو ما شابه ذلك.
قوله: «وله مع عدم الحمل والمتاع والعبد أقل مسمَّاه» ، يعني لو فرضنا أن الشجرة ما حملت، فله أقل مسمى، وظاهر كلام المؤلف: أنه ما يعطى الوسط، بل يعطى أقل ما تحمل، وأقل ما تحمل النخلة قنواً واحداً،
فنقول: نعطيك قنواً واحداً، وأقل ما تحمل الشاة أو الأمة واحداً، ومع عدم المتاع أقل ما يسمى متاعاً، حتى ولو كان بساطاً.
وقوله: «أقل مسماه» صريح في أننا نرجع إلى العرف، فما سمي متاعاً أو حملاً رجعنا فيه إلى ذلك، لكن بشرط ألا يكون معيباً؛ لأن الأصل السلامة.
فلو قال قائل: إنه في مسألة الحمل والمتاع يعطى الوسط لكان له وجه؛ لأننا إذا أعطيناه الوسط ما ظلمناه ولا ظلمناها، فإن قيل: هذا القول يرد عليه أنه لو حملت النخلة قنواً واحداً، فنقول: الفرق ظاهر؛ لأنه إذا حملت فقد حصل له ما عين فليس له أكثر منه، أما مع عدم الحمل فيحتمل أن لا تحمل إلا قنواً واحداً، ويحتمل أن تحمل عشرين قنواً، فنحن لا نظلمها فنقول: أعطيه عشرين قنواً، ولا نظلمه فنقول: يأخذ قنواً واحداً، بل يرجع في ذلك إلى الوسط.
قوله: «ومع عدم الدراهم ثلاثة» لأن أقل الجمع ثلاثة، فإن كان في يدها درهمان، فما له إلا الذي في اليد، ولو كان بلفظ الجمع؛ وذلك لأنه عُين بما في يدها فيتقيد به، بخلاف إذا لم يكن شيء، ولو كان في يدها شيء لكنه نوًى، فوجوده كالعدم؛ لأنه ليس بدراهم.
وكل هذه المسائل الأخيرة مسائل فرعية يعني هذه غالباً لا تقع، لكن الفقهاء يفرضون أشياء، وإن كانت غير واقعة؛ للتمرين على القواعد العامة، ولهذا فإن بعض الأصحاب رحمهم الله قال: هذه المسألة لا تصح لكثرة الغرر والجهالة فيها.
فمثل هذه الأمور التي يعظم فيها الخطر ينبغي ألا نصححها؛ لأن الزوج في هذه الصور يكون من جنس المغبون في البيع والشراء، والمغبون في البيع والشراء له الخيار.
فَصْلٌ
وَإِذَا قَالَ: مَتَى، أَوْ: إِذَا، أَوْ: إِنْ أَعْطَيْتِني أَلْفاً فَأَنْتِ طَالِقٌ طَلَقَتْ بِعَطِيَّتِهِ، وَإِنْ تَرَاخَى،
..........
قوله: «وإذا قال: متى أو إذا أو إن أعطيتني ألفاً فأنت طالق» «متى» اسم شرط وهي للمستقبل، وكذلك «إذا» ، و «إن» ، لكن «متى» تعود على الزمان، و «إذا» تدل على الظرفية، لكن «إن» أداة شرط محض، وكل الثلاث تدل على الشرط، فإذا قال: متى أعطيتني ألفاً فأنت طالق، أو: إذا أعطيتني ألفاً فأنت طالق، وهذا عام في جميع الأزمنة؛ فتشمل من الآن إلى أن تعطيه، وأما «إن أعطيتني» فدلالتها على الظرفية ليس من نفس الكلمة، لأن «إن» حرف لا معنى لها، لكن الدلالة على العموم من فعل الشرط الذي للمستقبل، فيشمل جميع الزمن المستقبل.
وقوله: «إن أعطيتِني» بكسر التاء بدون ياء، وحكي لغة ـ لكنها ضعيفة جداً ـ أنها تلحقها الياء، لكن للإشباع، فيقال: أعطيتيني، وهذه اللغة توافق العامية عندنا، فنحن نقول: أعطيتيني ولا نقول: أعطيتني، وهذه هي اللغة الفصحى؛ لأنه يفرق بين المذكر والمؤنث بكسر التاء، أو فتحها.
وقوله: «ألفاً» المؤلف ما ذكر تمييز الألف، لكنه ألف من الدراهم؛ لأنه الغالب.
قوله: «طلقت بعطيَّته وإن تراخى» أي تطلق بعطيته، ولو بعد شهر، أو شهرين، أو عشرة أشهر فمتى أعطته ما قال طلقت، مثال ذلك: رجل بينه وبين زوجته مشاكل، وطلبت منه الطلاق، فقال: إن أعطيتني عشرة آلاف ريال فأنت طالق، ويسر الله لها
هذا المبلغ، وجاءت به، وقالت: خذ، فتطلق، وإن تأخر، فلو تبقى شهراً، أو شهرين، أو سنة، أو سنتين ثم تأتي بذلك فإنها تطلق؛ وجه ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل»
(1)
، فمفهومه أن كل شرط لا ينافي كتاب الله فهو ثابت، وهذا الرجل اشترط، والمرأة جاءت بما اشترط عليها وتكلفت، ولا يملك أن يرجع في هذا؛ لأنها كلمة خرجت من فمه، وهو عاقل بالغ؛ وهذا هو الذي عليه جمهور العلماء.
وقال بعض العلماء: إن رجع قَبْل قبولها فله ذلك، مثلاً: إن قال: إن أعطيتني ألفاً فأنت طالق، قالت: نعم، أنا أعطيك، فهنا لا يرجع، وإن رجع قبل أن تقول ذلك فله ذلك؛ لأن هذا شبه معاوضة، فلا بد فيها من اتفاق الطرفين: إيجاب، وقبول، وكذلك إذا أتت بالدراهم فلا يمكن الرجوع.
واختار شيخ الإسلام رحمه الله: أن له أن يرجع ما دامت لم تسلمه، وقال: إنه علق الطلاق على شرط، ورجع فيه قبل أن يتم هذا الشرط، فهو نظير الإيجاب في البيع قبل القبول، فلو أوجب البيع على شخص ولم يقبل لم يتم العقد؛ لأنه لم يحصل قبول، فما دامت المرأة لم تأتِ بالألف فله أن يبطله، بخلاف الشرط المحض، فليس له أن يبطله، مثاله: أن يقول: إذا دخل شهر رجب فأنت طالق، فهنا لا يملك إبطاله حتى عند الشيخ، فالشيخ يفرق بين الطلاق المعلق على عوض، والطلاق المعلق على شرط محض.
(1)
سبق تخريجه ص (165).
وفي النفس من اختيار الشيخ رحمه الله شيء؛ لأنه كلام صدر من عاقل عالم بمعناه فلا يمكن أن يرجع فيه، بل يقال: إذا أعطته ألفاً فهي طالق، ويكون ذلك خلعاً على القول الراجح، أو طلاقاً على عوض ولا تحل له إلا بعقد جديد؛ لأنها بانت منه بالعوض الذي أخذه.
لكن هل يجوز للقاضي في هذه المسألة أن يقضي بما يراه أصلح، فإذا رأى ـ مثلاً ـ أن الزوج فراقه خير من بقائه يأخذ برأي بالمذهب، وإذا رأى أن الزوج أصلح للزوجة يأخذ برأي شيخ الإسلام؟
الجواب: ما دامت المسألة ليس فيها نص وإنما اجتهاد، فإذا رأى القاضي أن يعامل الزوج بأحد القولين للمصلحة فلا بأس به.
وَإِنْ قَالَتْ: اخْلَعْنِي عَلَى أَلْفٍ، أَوْ بِأَلْفٍ، أَوْ وَلَكَ أَلْفٌ فَفَعَلَ بَانَتْ وَاسْتَحَقَّهَا،
........
قوله: «وإن قالت: اخلعني على ألف، أو بألف، أو ولك ألف ففعل بانت واستحقها» ، كل هذه الصور الثلاث على المذهب حكمها واحد، مثال ذلك: قالت: اخلعني بألف فقال: خلعتك، أو قالت: اخلعني ولك ألف، فقال: خلعتك، وما ذكر ألفاً فإنه يستحق الألف؛ لأن كلامه وإن كان مطلقاً، فالمراد به القيد بلا ريب، فعلى هذا نقول: يستحق الألف.
وقوله: «ففعل» الفاء هنا للترتيب والتعقيب، إن فعل الآن استحق، وإن تأخر فإنه لا يستحق؛ لأن المؤلف رحمه الله عبر بالفاء، أما إذا تأخر فإنه لا يصح الخلع؛ لأنه صار على غير عوض.
وقال بعض الأصحاب رحمهم الله: إنه يستحق العوض وإن تأخر؛ لأن قولها: اخلعني على ألف، أو بألف، أو لك ألف ليس مقيداً بالحاضر، وعلى هذا فمتى خالعها استحق الألف، لكن لها أن ترجع قبل أن يقبل.
وقوله: «بانت» أي: لا تحل له إلا بعقد؛ لأن كل فداء فلا رجعة فيه، تبين به المرأة، ثم ينظر هل تحل له بعد ذلك أو لا؟
وَطَلِّقْنِي وَاحِدَةً بِأَلْفٍ فَطَلَّقَهَا ثَلَاثاً اسْتَحَقَّهَا، وَعَكْسُهُ بِعَكْسِهِ،
.......
قوله: «وطلقني واحدة بألف فطلقها ثلاثاً استحقها» أي: قالت زوجته: طلقني واحدة وأعطيك ألف ريال، قال لها: أنت طالق ثلاثاً فإنه يستحق الألف؛ لأنه أعطاها ما تريد وزيادة.
وقال بعض الأصحاب: لا يستحق الألف؛ لأن هذه الزيادة قد تكون فيها مضرتها؛ لأنه إذا طلقها واحدة بألف بانت منه، لكن تحل له بدون زوج، وإذا طلقها ثلاثاً بانت ولا تحل إلا بعد زوج، وهي قد لا تريد هذا.
وهذا القول هو الصحيح أنه لا يستحقها إلا على القول الراجح بأن الثلاث واحدة، ولكن هل تبين، أو نقول: إن هذا الطلاق معلق على استحقاق الألف، وهو الآن لا يستحقها فلا يقع الطلاق؟ يحتمل وجهين، فيحتمل أن يقال: إنه طلق ثلاثاً فتطلق، ويحتمل أن يقال: أنه طلقها ثلاثاً بناءً على أنه يستحق الألف، والآن حرمناه منه، والطلاق المعلق على شيء لا يقع حتى يوجد ذلك الشيء.
قوله: «وعكسه بعكسه» يعني لو قالت: طلقني ثلاثاً بألف
فطلقها واحدة فإن الطلاق يقع، لكن لا يستحق الألف؛ لأنها طلبت طلاقاً ثلاثاً، ولو قيل بأنه يستحقها لكان له وجه:
أولاً: الطلاق الثلاث محرم، وقد عدل عن المحرم إلى المباح فالواحدة حلال، والثلاث محرم.
ثانياً: أن المرأة لم يفت مقصودها فيما إذا طلقها واحدة؛ لأنه على عوض إذ لا يملك الرجعة فيه.
ثالثاً: أنه زادها خيراً لأنه لو تغيرت الحال وتحسنت حل له أن يتزوجها بعقد، بخلاف الثلاث فإنها لا تحل إلا بعد زوج، فالصحيح في هذه المسألة أنه يستحقها.
إِلاَّ فِي وَاحِدَةٍ بَقِيَتْ، وَلَيْسَ لِلأَبِ خَلْعُ زَوْجَةِ ابْنِهِ الصَّغِيرِ، وَلَا طَلَاقُهَا، وَلَا خُلْعُ ابْنَتِهِ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِهَا،
.........
قوله: «إلا في واحدة بقيت» يعني فإنه يستحق الألف، بأن قالت: طلقني ثلاثاً بألف، وسبق أن طلقها مرتين وبقيت واحدة، فقال: أنت طالق واحدة فإنه يستحق الألف، فلو قالت: أنا طلبت أن تطلقني ثلاثاً، نقول: لو طلقك ثلاثاً، فالثنتان لاغيات؛ والسبب أنه ما بقي له إلا واحدة، ولهذا سأل رجل بعض السلف قال: إني طلقت امرأتي مائة طلقة، فقال: حَرُمَت عليك بثلاث، وسبع وتسعون معصية
(1)
.
قوله: «وليس للأب خلع زوجة ابنه الصغير ولا طلاقها» أي: ليس للأب أن يخالع زوجة ابنه الصغير، سواء من ماله هو، أو من مال الولد؛ لأن الخلع بيد الزوج وليس بيد
(1)
انظر: مصنف عبد الرزاق (11348)، والدارقطني (3925) ط/ الرسالة.
أحد سواه، وكذلك ليس له أن يطلق زوجة ابنه الصغير، والعلة ما سبق أن الفراق بيد الزوج، والزوج الآن صغير، فإن كان مميزاً ولم يشأ الطلاق فالأمر ظاهر؛ لأنه سيأتينا ـ إن شاء الله ـ في الطلاق أن المميز الذي يعقل الطلاق ويفهمه يقع طلاقه، وإن كان دون التمييز، فكذلك ليس لأبيه أن يطلق، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«إنما الطلاق لمن أخذ بالساق»
(1)
، وقد أضاف الله ـ تعالى ـ النكاح والطلاق للزوج نفسه، فقال الله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} [الأحزاب: 49] فأضاف الله الطلاق للناكح، فيكون الطلاق بيده.
وظاهر كلام المؤلف: أنه لا فرق بين أن يكون ذلك لمصلحة الابن، أو لغير مصلحته، ولا بين أن يكون من مال الابن، أو من غير ماله.
والصحيح في هذه المسألة أنه إذا كان لمصلحة الابن فلا حرج عليه أن يخالع أو يطلق، سواء كان من مال الابن، أو من ماله هو، أما إذا كان من ماله هو فإن الابن لم يتضرر بشيء؛ لأن المال على أبيه، وأما إذا كان من مال الابن؛ فلأن ذلك من مصلحته، فهو كعلاجه من المرض، ولكن بشرط أن تكون المصلحة في الفراق محققة، كأن تكون المرأة بذيئة، سيئة الخلق، غير عفيفة، جرَّت إلى بيته الويلات، والبلاء والتهم.
لكن ينبغي قبل أن يطلق على الابن أن يأمره بالطلاق كما
(1)
أخرجه ابن ماجه في الطلاق/ باب طلاق العبد (2081) عن ابن عباس رضي الله عنها وانظر: التلخيص (1612) والإرواء (2041).
فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع ابنه عبد الله
(1)
، فإذا أبى أن يطلق وعرفنا أن هذه زوجة لا خير فيها، فحينئذٍ لا بد أن نقول: إن الأب له أن يطلق زوجة ابنه.
وهل إذا طلقها يلزمه أن يزوج الابن؟ نعم، يلزمه ذلك من مال الابن إذا كان له مال، أو من ماله إذا لم يكن للابن مال.
وقوله: «وليس الأب» مفهومه أن الجد لا يملك ذلك من باب أولى.
قوله: «ولا خلع ابنته بشيء من مالها» أي: ليس للأب أن يخلع ابنته من زوجها بشيء من مالها، والمراد بالبنت هنا غير العاقلة، أما إذا كانت البنت عاقلة رشيدة، وطلبت من أبيها أن يخالعها من زوجها، وأن تبذل من مالها، فالأمر واضح أنه يجوز، لكن إذا كانت غير رشيدة فليس له أن يخالعها بشيء من مالها؛ لأنه لا يجوز للأب أن يتبرع بشيء من مال مَنْ هو ولي عليه، لقوله تعالى:{وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أْحْسَنُ} [الأنعام: 152]، والخلع بالمال يتضمن التبرع؛ لأنه لا يقابله مال، وإنما هو فكاك من الزوجية.
مثال ذلك: رجل له ابنة لم تبلغ، زَوَّجها بشخص ـ وهذا
(1)
أخرجه أحمد (2/ 20)؛ وأبو داود في الأدب/ باب في بر الوالدين (5138)؛ والترمذي في الطلاق/ باب ما جاء في الرجل يسأله أبواه أن يطلق امرأته (1189)؛ وابن ماجه في الطلاق/ باب الرجل يأمره أبوه بطلاق امرأته (2088) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وقال الترمذي:«حسن صحيح» ، وصححه ابن حبان (427) ط/الأفكار الدولية، وصححه الحاكم (2/ 197) على شرط الشيخين ووافقه الذهبي.
بناءً على قولنا إنه يصح تزويج الأب من لم تبلغ ـ ثم إنه رأى أن حالها مع زوجها لا تستقيم، فأراد أن يخالعها من زوجها، نقول: إن بذلت المال من عندك فهو جائز؛ لأنه سبق أن الخلع يصح بذله من الزوجة، ومن وليها، ومن الأجنبي وهذا ولي، وإن بَذَلْتَهُ من مالها فليس بجائز؛ لأن الخلع تبرع وليس للأب أن يتبرع بشيء من مال مَنْ هو ولي عليه، وهذا الذي ذكره المؤلف هو المذهب.
القول الثاني: أنه يجوز للأب أن يخلع ابنته بشيء من مالها، إذا كان ذلك لمصلحتها، وهذا القول هو الصحيح؛ لأن قوله تعالى:{وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أْحْسَنُ} [الأنعام: 152] يشمل ما كان أحسن له في ماله، أو في دينه، أو في بدنه، أو في أي شيء، فإذا كان يجوز أن يشتري لابنته ثوباً من مالها، ويجوز أن يداويها من المرض بشيء من مالها، فإن هذا من باب أولى، بشرط أن يرى في ذلك مصلحة.
وَلَا يُسْقِطُ الخُلعُ غَيْرَهُ مِنَ الحُقُوقِ،
.........
قوله: «ولا يسقط الخلع غيره من الحقوق» لأنه عقد مستقل، فلا يسقط شيئاً من الواجبات، فإذا خالعت المرأة زوجها بشيء من المال، وكان قد بقي لها في ذمته شيء من المال، أو من النفقات الأخرى، أو من أي حق من حقوقها، فإن هذا الخلع لا يسقطها.
مثاله: تزوج رجل امرأة بمهر قدره عشرة آلاف ريال، فسلم خمسة آلاف ريال ودخل عليها، ثم خالعها على خمسة آلاف ريال، تبذلها له، ثم سلمته إياها وتم الخلع، يبقى لها حق على زوجها، وهو بقية المهر خمسة آلاف ريال، فلا نقول: إن الخلع
يسقط غيره من الحقوق؛ لأنه ما دام السبب باقياً فإنه يجب أن يبقى المُسبَّب، وإنما ذكر المؤلف ذلك؛ لأن بعض أهل العلم قال: إن الخلع يسقط ما سبقه من الحقوق؛ لأن المقصود الفداء والفراق التام، بحيث لا يبقى له علقة، ولا يبقى لها علقة، ولكن القول الراجح ما قاله المؤلف: أنه إذا خالعها بشيء وجب العوض الذي خالعها عليه، وأما غيرُه من الحقوق الواجبة لها على زوجها فهي باقية.
وَإِنْ عَلَّقَ طَلَاقَهَا بِصِفَةٍ ثُمَّ أَبَانَهَا فَوُجِدَتْ، ثُمَّ نَكَحَهَا فَوُجِدَتْ بَعْدَهُ طَلَقَتْ كَعِتْقٍ، وَإِلاَّ فَلَا.
قوله: «وإن علق طلاقها بصفة ثم أبانها فوُجدت، ثم نكحها فوجدت بعده طَلَقَتْ» .
مثال ذلك: أن يقول: إن كلمت فلاناً فأنت طالق، ثم بعد هذا الكلام طرأ بينهما سوء تفاهم فطلقها، وخرجت من العدة، وكلمت فلاناً بعد أن خرجت من العدة، ثم تزوجها ثانياً، ثم بعد الزواج الثاني كلمت فلاناً تطلق؛ لأنه علق طلاقها في حال يملك التعليق، فوجدت الصفة المعلق عليها في حال يملك التطليق، فإذاً يقع الطلاق.
فإذا قال قائل: أليست الصفة وجدت في حال البينونة فانحلت اليمين بها؟ لأن اليمين والطلاق ينحلان بأول مرة وينتهيان.
نقول: نعم، هذا صحيح، لكن الصفة وجدت في حال لا يملك طلاقها، ولا يقع عليها طلاقه؛ لأنها ليست في عصمته، فوجودها قبل أن يتزوجها المرة الثانية كعدمه، وعلى هذا فتطلق في المرة الثانية.
فلو أن الرجل قال لزوجته: إن كلمت زيداً فأنت طالق فكلمته وهي في عصمته تطلق، فإذا راجعها ثم كلمته ما تطلق؛ لأن الطلاق المعلق انحل بأول مرة، فصار وقوعه في الثانية غير معلق عليه الطلاق.
فإذا قال قائل: ما الفرق بين هذه الصورة والصورة الأولى؟
فالجواب: أن الصورة الأولى وقعت الصفة وهي في غير عصمته، فلم يكن المحل قابلاً، فلا يقع الطلاق.
وقوله: «ثم أبانها» يشمل ما إذا كانت البينونة بالثلاث، أو بما دونه، فالبينونة بالثلاث تبين بمجرد أن يقول: أنت طالق ثلاثاً، والبينونة بغير الثلاث تكون إذا انتهت العدة، أو إذا كان الطلاق على عوض، وكلام المؤلف يشمل ما إذا كانت البينونة بالطلاق الثلاث، أو بغير الطلاق الثلاث، ما دام بانت منه ووجدت الصفة في حال البينونة، فإنه إذا تزوجها مرة ثانية فإنه تعود الصفة.
وقال جمهور أهل العلم: إنه إذا كانت البينونة بالطلاق الثلاث فإن الصفة لا تعود؛ لأن النكاح الأول انتهت أحكامه بالطلاق الثلاث؛ فإذا طلقها ثلاثاً ثم تزوجت بزوج آخر، ثم فارقها الزوج الثاني، ثم تزوجها الزوج الأول تعود على طلاق ثلاث.
فإذا وجدت الصفة في النكاح الجديد لم تطلق الزوجة، مثال ذلك: رجل قال لزوجته: إن كلمت زيداً فأنت طالق ولم يبق له إلا طلقة واحدة فقط، فطلقها الطلقة الثالثة، وقبل انتهاء العدة
كلمت زيداً، ثم إنها تزوجت بزوج آخر، وفارقها، ثم تزوجها زوجها الأول، ثم كلمت زيداً، فعلى رأي الجمهور لا تطلق، وعلى رأي المؤلف تطلق؛ لأن قوله:«ثم أبانها» عام، ولا شك أن رأي الجمهور أصح في هذه المسألة لقوة تعليله.
وهناك قول آخر: أنها لا تعود مطلقاً، ولو كانت البينونة بغير الطلاق الثلاث، قالوا: لأن ظاهر الحال أنه لما قال الرجل لزوجته: إن كلمت فلاناً فأنت طالق أن قصده في هذا النكاح، ولم يكن يطرأ على باله أنه حتى لو طلقها وتزوجها بعد، وهي ـ أيضاً ـ إذا بانت منه فقد انقطعت علائقها منه، فالتعليق إنما كان في نكاح سابق، والنكاح السابق بانت منه، وهذا نكاح جديد فلا تطلق؛ لأن الله ـ تعالى ـ إنما جعل الطلاق بعد النكاح، فقال:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} [الأحزاب: 49] فلا طلاق قبل النكاح، وهذا قد علق الطلاق في نكاح سابق قبل النكاح الثاني.
فعندنا ثلاثة أقوال:
الأول: أن الصفة تعود مطلقاً وهو المذهب.
الثاني: أنها لا تعود مطلقاً.
الثالث: رأي الجمهور، أنها لا تعود إن بانت بالطلاق الثلاث، وتعود إن بانت بغير الثلاث.
وكل هذا فيما إذا وجدت الصفة في حال البينونة، لكن إذا لم توجد، بأن قال: إن كلمتِ زيداً فأنت طالق، ثم طلقها وبانت منه، ثم تزوجها قبل أن تكلم زيداً ثم كلمت زيداً بعد التزويج،
فعلى المذهب وغير المذهب تطلق؛ لأن يمينه لم تنحل، فالصفة لم توجد فتطلق بكل حال.
وعند شيخ الإسلام في هذه المسألة أنها لا تطلق؛ لأن الظاهر أنه أراد وقوع الصفة في النكاح الأول الذي علق عليه، وفي الحقيقة أنك إذا تدبرت الأمر، وجدت أن هذا القول أرجح من غيره؛ لأن الظاهر من هذا الزوج أنه لم يطرأ على باله أن هذا التعليق يشمل النكاح الجديد، اللهم إلا إذا كان علقها على صفة يريد ألا تتصف بها مطلقاً، فهذا قد يقال: إنها تعود الصفة.
قوله: «كعتقٍ» يعني كما لو علق الإنسان عتق عبده على شيء، ثم باع العبد فوجدت الصفة التي علق عتقه عليها، ثم اشتراه فوجدت بعد شرائه، مثاله: قال لعبده: إن فعلت كذا وكذا فأنت حر، ولم يفعله فباعه على زيد، ثم فعله في ملك زيد فإنه لا يعتق؛ لأنه ليس في ملكه، ثم اشتراه من زيد، وفعله بعد أن اشتراه، فإنه يعتق؛ لأنه وجد الفعل وهو في ملكه.
قوله: «وإلا فلا» يعني وإن لم توجد الصفة في النكاح الثاني، فإنها لا تطلق إذا وجدت حال البينونة؛ لأنها حال البينونة ليست زوجة، كما أن الشرط الذي عُلق عليه العتق إذا وجد بعد خروج ملكه عنه لا يحصل به العتق.
تم المجلد الثاني عشر
ـ بفضل الله وتوفيقه ويليه الثالث عشر ـ بعون الله تعالى ـ
وأوله: كتاب الطلاق