الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشرح الممتع
على
زاد المستقنع
لفضيلة الشيخ العلامة
محمد بن صالح العثيمين
غفر الله له ولوالديه وللمسلمين
المجلد الخامس عشر
دار ابن الجوزي
طبع بإشراف مؤسسة الشيخ محمد بن صالح العثيمين الخيرية
الطبعة الأولى 1428 هـ
كِتَابُ الأَطْعِمَةِ
الأَصْلُ فِيهَا الْحِلُّ،
..............
قوله: «الأطعمة» جمع طعام، وهو كل ما يؤكل أو يُشرب، أما كون ما يؤكل طعاماً فأمره ظاهرٌ؛ وأما كون ما يشرب طعاماً فلقوله تعالى:{فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} [البقرة: 249]، فجعل الشرب طعْماً، ولأن الشارب يطعم الشيء المشروبَ، فهو في الواقع طعامٌ.
واعلم أن كون الإنسان يحتاج إلى الطعام دليلٌ على نقصه، ولهذا برهن الله عز وجل على أن عيسى وأمه ليسا بإلهين بقوله:{كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ} [المائدة: 75]، وتمدَّح سبحانه وتعالى بكونه يُطْعِم ولا يُطْعَم {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ} [الأنعام: 14]، فالحاجة إلى الطعام لا شك أنها نقص؛ لأن الإنسان لا يبقى بدونه، وكونه لا يأكل الطعام أيضاً نقص؛ لأن عدم أكله الطعام خروج عن الطبيعة التي خُلق عليها، والخروج عن الطبيعة يعتبر نقصاً.
إذاً فالإنسان إن أكل فهو ناقص، وإن لم يأكل فهو ناقص، وهذا يتبين به كمال الله عز وجل، ونقص ما سواه.
فالإنسان مضطر إلى الطعام، سواء كان مأكولاً أم مشروباً، والأصل فيه الحلّ كما قال المؤلف:
«الأصل فيها الحِل» «فيها» أي: في الأطعمة، وهذا أمر مجمع عليه، دل عليه القرآن قي قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ
لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29]، و «ما» اسم موصول، والاسم الموصول يفيد العموم، كما أنه أكَّد ذلك العموم بقوله:{جَمِيعًا} ، فكل ما في الأرض فهو حلالٌ لنا، أكلاً، وشرباً، ولُبساً، وانتفاعاً، ومَنِ ادَّعى خلاف ذلك فهو محجوج بهذا الدليل، إلا أن يقيم دليلاً على ما ادَّعاه، ولهذا أنكر الله عز وجل على الذين يُحرِّمون ما أحل الله من هذه الأمور فقال:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32].
وقوله: «الأصل فيها الحل» وهذا الأصل ليس ثابتاً لكل إنسان، بل هو للمؤمن خاصة، أما الكافر فالأطعمة عليه حرام؛ لأن الله يقول:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} ، فقوله:{قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} ، يُخرج غير الذين آمنوا، وكذلك قال ـ تعالى ـ في سورة المائدة:{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} ، فمفهومها أن غيرهم عليهم جناح فيما طعموا، ومع ذلك ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا بشرط ألا يستعينوا بذلك على المعصية، ولهذا قال الله تعالى:{إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة: 93].
ووالله ما ندري هل نحن مُطبقون لهذه الشروط، أو أننا نأكل الشيء وعلينا جناحٌ فيه؟ وهي سبعة شروط، مؤكدة بـ «ما» الزائدة، فإن «ما» من المتعارف عليه من حروف الزيادة، وقد قيل:
يا طالباً خُذْ فائدة
…
(ما) بعد (إذا) زائدة
وكل حروف الزيادة في القرآن، أو في السنَّة، أو في كلام العرب للتوكيد.
إذاً الأصل في الأطعمة الحل للمؤمنين، أما غيرهم فلا؛ فإن الكافر لن يرفع لقمة إلى فمه إلا عُوقب عليها يوم القيامة، ولن يبتلع جُرعة من ماء إلا عوقب عليها يوم القيامة، ولن يستتر، أو يدفئ نفسه بسلكٍ من قطن، إلا حوسب عليه يوم القيامة.
وهذه القاعدة العظيمة التي دل عليها الكتاب، ودلت عليها السنة، قال النبي عليه الصلاة والسلام:«إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها، وحدَّ حدوداً فلا تعتدوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها»
(1)
، وقال:«ما سكت عنه فهو عفو»
(2)
، فهذا الأصل الذي دل عليه الكتاب، والسنة، وأجمع عليه المسلمون في الجملة نستفيد منه فائدة، وهي أن كل إنسان يقول: إن هذا الشيء حرام، مما يؤكل، أو يشرب، أو
(1)
رواه الطبراني في الكبير (22/ 589)، والدارقطني (4/ 184)، والحاكم (4/ 115)، وعنه البيهقي (10/ 12) كلهم من طريق مكحول، عن أبي ثعلبة الخشني به مرفوعاً، وأعله أبو مسهر الدمشقي وأبو نعيم وابن رجب بعدم سماع مكحول من أبي ثعلبة الخشني.
(2)
وابن أبي حاتم الرازي في تفسير ابن كثير (مريم: الآية 64)، والحاكم (2/ 375)، والبيهقي (10/ 12) بأسانيدهم عن عاصم بن رجاء بن حيوة، عن أبيه، عن أبي الدرداء به مرفوعاً.
قال البزار: «إسناده صالح» وقال الحاكم: «صحيح الإسناد» ووافقه الذهبي.
قال الهيثمي: «إسناده حسن ورجاله موثقون» المجمع (1/ 171).
يُلبس أيضاً، نقول له: هاتِ الدليل؛ لأن عندنا أدلة تدل على حله.
فلو قال قائل: الدخان حلال فلا نطالبه بالدليل؛ لأن الأصل الحل.
فإذا قال الثاني: بل هو حرام، نقول لهذا: هات الدليل، ولا شك أن من تأمَّل نصوص الكتاب، والسنة، ونظر نظراً صحيحاً تبيَّن له أن الدخان حرام، وليس هذا موضع ذكر أدلة تحريمه. وربما يأتي لاحقاً من كلام المؤلف نفسه.
قال المؤلف تفريعاً على هذه القاعدة:
فَيُبَاحُ كُلُّ طَاهِرٍ لَا مَضَرَّةَ فِيهِ،
.....................................
«فيباح» الفاء هنا للتفريع، يعني فبناءً على ذلك يباح كل طاهر لا مضرة فيه.
قوله: «كل طاهر» خرج به ما كان نجساً أو متنجِّساً، فالنَّجس نجاسته عينية، والمتنجِّس نجاسته حكمية.
فالنجس مثل: الميتة، والخنزير، والدم المسفوح، قال الله تعالى:{قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145] والضمير عائد على الثلاثة المذكورة، فإذا قال قائل: لو كان كذلك لقال: فإنها رجس. والمراد بالدم هنا الدم المسفوح وهو الذي يكون قبل موت البهيمة أما ما كان بعد الموت فإنه طاهر وحلال قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أحل لنا ميتتان ودمان، أما الميتان فالجراد والحوت وأما الدمان فالكبد والطحال»
(1)
.
والجواب: أن قوله: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى
(1)
رواه ابن ماجه في كتاب الأطعمة/ باب الكبد والطحال (3314).
طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ}، معناه إلا أن يكون ذلك الشيء المحرم على الطاعم الذي يطعمه {مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ} أي: ذلك الشيء {رِجْسٌ} أي: نجس.
فإن قال قائل: النجس واضح تحريمه؛ لأنه نجس العين، وكل نجس حرام، وليس كل حرام نجساً، وهذه القاعدة مرَّت علينا في الآنية
(1)
، فما الدليل على أن المتنجِّس حرام؟
الجواب: لأن المتنجِّس متأثر بالنجاسة، مختلط بها، فالنجاسة لم تزل فيه، فإذا أكَلْتَهُ، أو شَرِبْتَه فقد باشرت النجاسة، أكلت النجاسة وشربتها، ولهذا نقول: المتنجس محرَّم؛ لأنه ليس بطاهر، وإذا كان الشرع يأمرنا بإزالة النجاسة من ظاهر أجسامنا، فكيف نُدخل النجاسة باطن أجسامنا؟!
قوله: «لا مضرة فيه» خرج بذلك الطاهر الذي فيه مضرة، فالطاهر الذي فيه مضرة لا يجوز، بل هو حرام، وسواء كانت المضرة في عينه، أو في غيره.
في عينه كالسُّم، فالسم ضرره في عينه، وكذلك الدخان فإنه ضارٌّ في عينه، وضرره مُجمعٌ عليه بين الأطباء اليوم، لا يختلف في ذلك اثنان منهم؛ لما يشتمل عليه من المواد السامة المفسدة للدم.
والضار في غيره مثل أن يكون هذا الطعام لا يلتئم مع هذا الطعام، بمعنى أنك إذا جمعت بين الطعامين حصل الضرر، وإذا
(1)
الشرح الممتع على زاد المستقنع (1/ 86).
أكلتهما على انفرادٍ لم يحصل الضرر، ومن ذلك الحُمْية للمرضى، فإن المريض إذا حُمي عن نوع معينٍ من الطعام، وقيل له: إن تناوله يضرك، صار عليه حراماً، ومن ذلك على تمثيل النحويين:«لا تأكلِ السمكَ وتشربَ اللبن» بالفتح، ولكننا نقول للنحويين في هذه القاعدة، أو هذا الضابط: ما هذا عِشك فادرجي؛ فإن الأطباء الآن يقولون: إنه لا يضر، وقد رأينا أهل جدة يأكلون السمك، ويشربون اللبن، ولا يضرهم ذلك شيئاً.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: «وإذا خاف الإنسان من الأكل أذًى أو تخمة حَرُمَ عليه» .
فإذا قال الإنسان: أنا إذا ملأتُ بطني من هذا الطعام فإنه سيحتاج إلى ماء، فإذا أضفتُ إليه الماء فلا أكاد أمشي، وأتأذى، فإن جلست تأذيت، وإن ركعتُ تأذيت، وإن استلقيت على ظهري تأذيت، وإن انبطحت على بطني تأذيت، وفي هذا يقول شيخ الإسلام: إذا خاف الأذية فإنه يحرم عليه الأكل، وما قاله رحمه الله صحيح؛ لأنه لا يجوز للإنسان أن يأكل ما يؤذيه، أو يلبس ما يؤذيه، أو يجلس على ما يؤذيه، حتى الصحابة رضي الله عنهم في السجود، كانوا إذا أذاهم الحر يبسطون ثيابهم، ويسجدون عليها
(1)
؛ لئلا يتأذوا، ولأجل أن يطمئنوا في صلاتهم.
(1)
أخرجه البخاري في الصلاة/ باب السجود على الثوب في شدة الحر (385)، ومسلم في المساجد/ باب استحباب تقديم الظهر في أول الوقت (620)(191).
وهذا الذي ذكره شيخ الإسلام خوف الأذية والتُّخمة ممَّا ضرره في غيره، وهو الإكثار، يعني هو بنفسه ليس بضار، لكن الإكثار منه يكون ضاراً مؤذياً، حتى وإن لم يتضرر، لكن الظاهر لي من الناحية الطبية أنه يتضرر؛ لأن المعدة إذا ملأتها سوف تتأذى وتتعب. وهل الشِّرِّية في قوله صلى الله عليه وسلم:«ما ملأ ابن آدم وعاء شراً من بطنه» تعتبر شراً شرعياً أو أنه من الناحية العادية؟ هذا محل توقف وتأمل ولا شك أن الأحسن والأفضل هو ما أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم وجرِّب تجد.
وقد قيل: إن من الأمور المهلكة إدخال الطعام على الطعام، فإذا صح ذلك كان ـ أيضاً ـ حراماً؛ لأن الله يقول:{وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29].
ولا يبعد أن يكون هذا صحيحاً، وهو أمر مجرَّب، وقد ضربوا له مثلاً، برجل أعطى عُمَّالاً عملاً يقومون به، وقبل أن يستكملوا العمل أضاف إليهم عملاً آخر، ومعلوم أنهم لا يمكن أن يشتغلوا بالعَمَلين إلاَّ على حساب أحدهما، فإذا بدؤوا بالشغل الجديد فالشغل القديم يختل، والمعدة إذا استقبلت الطعام الجديد اختل هضمها للطعام الأول، ولا سيما أن الهضم جعل الله له غدداً تفرز مواد بحسب بقائه في المعدة.
وللهضم عند الأطباء مراتب: النضج الأول، والثاني، والثالث، والرابع، فلا بد أن يكون هناك موازنة، حتى يَعرف الإنسان ما مرتبة، أو ما درجة الطعام الأول؟ وهل يمكن أن يضيف إليه طعاماً آخر أو لا؟
مِنْ حَبٍّ وَثَمَرٍ وَغَيْرِهِمَا، وَلَا يَحِلُّ نَجِسٌ، كَالْمَيْتَةِ، وَالدَّمِ، وَلَا مَا فِيهِ مَضَرَّةٌ كَالسُّمِّ وَنَحْوِهِ،
........
قوله: «من حَبٍّ» هذا بيان لقوله: «كل طاهر» والحب مثل: البر، والأرز، والشعير، والعدس، والفول، وما أشبه ذلك.
قوله: «وثمر وغيرهما» : كالتمر، والتين، والعنب، والبرتقال، ونحوها، فتعداد الأنواع قد يصعب ولا نحيط بها، لكن عندنا القاعدة العامة «كل طاهر لا مضرة فيه» .
قوله: «ولا يحل نجس كالميتة والدم» ونضيف إليه ثالثاً: الخنزير؛ لقوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} ، والاستدلال بهذه الآية أولى من الاستدلال بالآية التي ذكرها صاحب «الروض»
(1)
وهي قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ}
…
} إلى آخره؛ لأن هذه الآية ليس فيها التصريح بأنها نجسة.
قوله: «ولا ما فيه مضرة» الدليل على تحريم ما فيه مضرة من القرآن والسنة.
فمن القرآن: قال الله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195]، وقال عز وجل:{وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29]، والنهي عن قتل النفس نهيٌ عن أسبابه أيضاً، فكل ما يؤدي إلى الضرر فهو حرام، وقال النبي عليه الصلاة والسلام:«لا ضرر ولا ضرار»
(2)
، وربما يستدل له أيضاً بقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ
(1)
الروض المربع مع حاشية ابن قاسم (7/ 417).
(2)
أخرجه الإمام أحمد (5/ 326 ـ 327)، وابن ماجه في الأحكام/ باب من بني في حقه ما يضر بجاره (2340) من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه.
وروي أيضاً من حديث أبي سعيد، وأبي هريرة، وجابر، وابن عباس، وعائشة وغيرهم. قال النووي:«حديث حسن وله طرق يقوى بعضها ببعض» قال ابن رجب تعقيباً على كلام النووي: «وهو كما قال» .
قال ابن الصلاح: «هذا الحديث أسنده الدارقطني من وجوه، ومجموعها يقوي الحديث ويحسنه، وقد تقبله جماهير أهل العلم واحتجوا به» انظر: جامع العلوم والحكم (2/ 211).
مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة: 6]، ووجه ذلك أن الله تعالى أوجب التيمم على المريض حمايةً له عن الضرر. فعدل به عن الماء الذي قد يتضرر باستعماله في البرد والمرض ونحوهما إلى التيمم.
قوله: «كالسم ونحوه» السم يحرم، وليس بنجس، بل هو طاهر ولكنه حرام لضرره، وكذلك الخمر فإنه حرام لضرره العقلي، والبدني، والاجتماعي، لكنه طاهر على القول الراجح؛ لأنه ليس هناك دليل على نجاسته، وقد سبق ذلك مفصلاً بأدلته
(1)
.
والسم أحياناً يستعمل دواءً، فيوجد أنواع من السموم الخفيفة تخلط مع بعض الأدوية فتستعمل دواءً، فهذه نص العلماء على أنها جائزة، لكن بشرط أن نعلم انتفاء الضرر، فإذا خلطت بعض الأدوية بأشياء سامَّة، لكن على وجهٍ لا ضرر فيه فإنها تُباح؛ لأن لدينا قاعدة فقهية مهمة، وهي أن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، فإذا استُعمل السم، أو شيء فيه سم على وجه لا
(1)
الشرح الممتع على زاد المستقنع (1/ 429).
ضرر فيه كان ذلك جائزاً، لكن لا يكثر الإنسان من هذا، أو مثلاً يوصف له هذا الدواء الذي فيه شيء من السم بقدرٍ معين، ثم لقوة الأَلَمِ فيه يقول: أنا آخذ بدل القرص عشرة أقراص، فربما إذا فعل ذلك يتضرر ويهلك، بل لا بد في مثل هذه الأمور أن تكون بمشورة أهل العلم بذلك، وهم الأطباء.
وَحَيَوَانَاتُ البَرِّ مُبَاحَةٌ إِلاَّ الْحُمُرَ الأَهْليَّةَ،
...........................
قوله: «وحيوانات البر مباحة» كأن المؤلف قسَّم الموجودات إلى قسمين: حيوان وجماد، فالجماد تقدم الكلام عليه وأن الأصل فيه الحل، وكذلك الحيوان الأصل فيه الحل، لكن الحيوان ينقسم إلى قسمين: بحري، وبري.
أما البحري فكلُّه حلال، وليس فيه شيء حرام، فكل حيوانات البحر مباحة بدون استثناء، حيِّها وميِّتها، لقول الله تعالى:{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} [المائدة: 96]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: صيد البحر، ما أُخذ حيّاً، وطعامه ما أُخذ ميتاً
(1)
، يعني ما ألقاه البحر مثلاً، أو طفا على ظهره ميتاً.
يقال: إن في البحر ثلاثة أضعاف ما في البر من الحيوان، وأن في البحر من أجناس الحيوانات وأنواعها أشياء ليست موجودة في البر، وكلها حلال.
مسألة: هل يحل آدمي البحر؟ قد يوجد أسماك تشبه الآدميين، على شكل أجمل الرجال، وأجمل النساء، وقد قرأت
(1)
أخرجه الدارقطني (4/ 270)، والبيهقي (9/ 255)، بلفظ: صيده ما صيد، وطعامه ما قذف، وانظر: تفسير الطبري (7/ 65).
قديماً أنه موجود، وما يستبعد أنه كان موجوداً ثم انقرض، والله أعلم، فعلى كل حالٍ القاعدة العامة: أن كل حيوانات البحر حلال.
وقوله: «وحيوانات البر مباحة» الأصل في حيوانات البر الحل؛ لعموم قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29] فكل الحيوانات من طيور وغيرها الأصل فيها الحل.
فإذا قال قائل: هذا الطير حلال، لا نقول له: هات الدليل؛ لأن الأصل معه، وإذا قال: هذا حرام، قلنا: عليك الدليل.
وقوله: «وحيوانات البر مباحة» أي قد أباحها الله تعالى خرج به حيوانات البحر، وقد تقدم الكلام عليها. والإباحة بمعنى التحليل.
قوله: «إلا الحُمر الأهلية» وفي نسخة «الإنسية» والمعنى واحد و «الحُمُر» : جمع حمار، ولا يصح أن تنطق بها بسكون الميم، لأنك إذا قلت:«الحُمْرُ» فهي جمع أحمر أو حَمْراء، لكن يجب أن نقول:«الحُمُر» .
والحمر الأهلية هي الحمر التي يركبها الناس وهي معروفة، وهي حرام، وخرج بذلك الحمر الوحشية فهي حلال.
فالذي يقول: إن الحمر الوحشية حلال هل نطالبه بالدليل؟
الجواب: لا، لكن إن جاء بالدليل فقد زادنا خيراً، وأما الذي يقول: إن الحمر الأهلية حرام، فإننا نطالبه بالدليل.
ودليل تحريم الحمر الأهلية ما ثبت في «الصحيحين» من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: أمر النبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر أبا طلحة فنادى: «إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية فإنها رجس»
(1)
، فثبت الحكمُ مقروناً بعلَّته وهو قوله صلى الله عليه وسلم:«فإنها رجس» .
والحُمُر الوحشية قلنا: لا يحتاج حلها إلى دليل؛ لأنه الأصل؛ لكن مع ذلك ثبت في «الصحيحين» أن الصعب بن جثَّامة رضي الله عنه أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم حماراً وحشياً، وهو بالأبواء، سائراً إلى مكة في حجة الوداع، ولكنه صلى الله عليه وسلم ردَّه، وعلل الردَّ قائلاً:«إنا لم نرده عليك إلاَّ إنا حُرُم»
(2)
أي: مُحرِمون، وأنت صِدْتَه لنا فلا نأكله.
مسألة: لو تأهَّل الحمار الوحشي فهل يحرم أكله؟ لا؛ لأن العبرة بالأصل.
فانتبه لعدّ الأشياء المحرمة من الحيوانات؛ لأن الأشياء المحرمة من الحيوانات أقل بكثير من الأشياء المحللة، فهي محصورة، فالأول:«الحمر الأهلية» .
وَمَا لَهُ نَابٌ يَفْتَرِسُ بِهِ غَيْرَ الضَّبُعِ ...................................
الثاني: قوله: «وما له نابٌ يفترس به» يعني ما له ناب يفترس به من السِّباع، ومعنى «يفترس به» أي: يصطاد به، فينهش
(1)
أخرجه البخاري في الذبائح والصيد/ باب لحوم الحمر الإنسية (5528)، ومسلم في الصيد والذبائح/ باب تحريم أكل الحمر الإنسية (1940).
(2)
أخرجه البخاري في جزاء الصيد/ باب إذا أهدى المحرم حماراً وحشياً (1825)، ومسلم في الحج/ باب تحريم الصيد للمحرم (1193).
به الصيد ويأكله، والدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كل ذي نابٍ من السباع
(1)
، والأصل في النهي التحريم، فلا يحل أكل كل ذي ناب من السباع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه؛ ولأن الحكمة تقتضيه؛ لأن للغذاء تأثيراً على المُتَغَذِّي به، فالإنسان ربما إذا اعتاد التغذِّي على هذا النوع من اللحوم صار فيه محبة العدوان على الغير؛ لأن ذوات الناب من السباع تعتدي؛ فإن الذئب مثلاً إذا رأى الغنم عدى عليها، ومع ذلك فإن بعض الذئاب إذا دخل في القطيع ما يكتفي بقتل واحدة ويأكلها، بل يمر على القطيع كله فيقتله كله، ويأكل ما شاء ثم يخرج.
فإذا اعتاد الإنسان التغذي بهذه الأمور فربما يكون فيه محبة العدوان، وهذه من حكمة الشرع، بل إنه يقول بعض العامة ـ ولكنه قول خطأ ـ: إن الذي يأكل كبد الذئب لا يمكن أن يهاب شيئاً أبداً.
قوله: «غير الضَّبُع» هذا مستثنى، يعني أنه حلال، وكلام المؤلف يدل على أن الضبع من ذوات الناب التي تفترس بنابها، ولكن هذا غير مسلَّم، فإن كثيراً من ذوي الخبرة يقولون: إن الضبع لا تفترس بنابها، وليست بسَبُع، ولا تفترس إلا عند الضرورة، أو عند العدوان عليها، يعني إذا جاعت جداً ربما تفترس، وليس من طبيعتها العدوان، أو إذا اعتدى أحدٌ عليها
(1)
أخرجه البخاري في الذبائح والصيد/ باب أكل كل ذي ناب من السباع (5530)، ومسلم في كتاب الصيد والذبائح/ باب تحريم أكل كل ذي ناب (1932) عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه.
فربما تفترسه، مثل أن يأخذ أولادها من بين يديها، وما أشبه ذلك، وإلا فليست كذلك.
ولكن على كل حال فإن استثناء المؤلف إيّاها يجعلنا نطالبه بالدليل؛ لأن استثناءه إيّاها من ذلك يدل على أنه يرى أنها من السباع التي تفترس بنابها، والدليل على إخراجها أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل فيها شاةً إذا قتلها المُحْرِم
(1)
، وهذا يدل على أنها من الصيد؛ لأن الله ـ تعالى ـ يقول:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95]، وبهذا استدل الإمام أحمد رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم جَعَل فيها كبشاً، وذلك يدل على أنها حلال.
وتعتبر هذه الحيوانات الآن منقرضة، يعني نادراً أن تجدها في البلاد، وكانت قديماً كثيرة في الجزيرة العربية، ويقال: إن سبب انقراضها فتح قناة السويس؛ لأنها كانت تأتينا من أفريقيا، وذلك لمَّا كان بين الجزيرة العربية وأفريقيا يابس متصل، ثم لما فتحت القناة امتنعت، والله أعلم.
كَالأَْسَدِ، وَالنِّمْرِ، وَالذِّئْبِ، وَالْفِيلِ، وَالْفَهْدِ، وَالْكَلْبِ، وَالْخِنْزِيرِ، وَابْنِ آوَى، وَابْنِ عِرْسٍ، وَالسِّنَّوْرِ، وَالنِّمْسِ، وَالْقِرْدِ، وَالدُّبِّ، وَمَا لَهُ مِخْلَبٌ مِنَ الطَّيْرِ يَصِيدُ بِهِ،
......
قوله: «كالأسد» الأسد حيوان معروف يضرب به المثل في الشجاعة.
قوله: «والنمر» حيوان بين الكلب والأسد، وله جلد مخطط.
(1)
أخرجه أبو داود في الأطعمة/ باب في أكل الضبع (3801)، وابن ماجه في الحج/ باب جزاء الصيد يصيبه المحرم (3085)، وابن حبان (3964) إحسان، والدارقطني (2/ 246)، والحاكم (1/ 452)، والبيهقي (5/ 183) عن جابر رضي الله عنه وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين.
قوله: «والذئب، والفيل، والفهد، والكلب، والخنزير» وهذه كلها حيوانات معروفة.
قوله: «وابن آوى» معروف، ويسمَّى في العامِّية الواوي؛ ولهذا إذا أرادوا أن يزجروا أحداً قالوا له: أنت الواوي.
قوله: «وابن عرس» حيوان معروف.
قوله: «والسنور» وهو القط.
قوله: «والنِّمس والقرد» وكل هذه أمثلة لما له ناب يفترس به، وليس بشرط أن يفترس الرجال، أو يفترس المواشي، فقد تفترس الأشياء الصغيرة، وكلنا يعرف أن هذه كلها تفترس وتأكل ما دونها من الحيوانات.
قوله: «والدب» معروف، والظاهر أنه حيوان بليد، ولذلك يضرب به المثل في الإنسان البليد يقال:«فلانٌ دُبٌّ» . إذاً: الحيوانات أصناف: الأول: الحمر الأهلية الثاني: ماله ناب من السباع يفترس به، والثالث: ما له مخلب من الطير يصيد به، الرابع: ما يأكل الجيف، الخامس: ما يستخبث، السادس: ما تولد من مأكول وغيره كالبغل.
الثالث: قوله: «وما له مخلب من الطير يصيد به» المخلب ما تُخلب به الأشياء، أي: تُجرح وتُشق، والمراد بها الأظفار التي يفترس بها، فإن هذه الطيور التي ذكرها المؤلف لها أظفار
قوية تشق بها الجلود، حتى إنها تمر خاطفة الأرنب وهي طائرة، فتضربه بهذه الأظفار حتى تشق جلده، وليس المراد بالمخلب ذلك الشيء الذي يَخْرج في ساق الديك، فإن هذا مخلب لكنه لا يصيد به.
كَالْعُقَابِ، وَالْبَازِي، وَالصَّقْرِ، وَالشَّاهِينِ، وَالبَاشِقِ، وَالحِدَأَةِ، وَالْبُومَةِ، وَمَا يَأْكُلُ الجِيَفَ كَالنِّسْرِ، وَالرَّخْمِ، وَاللَّقْلَقِ، وَالْعَقْعَقِ، وَالْغُرَابِ الأَْبْقَعِ، وَالْغُدَافِ، وَهُوَ أَسْوَدُ صَغِيرٌ أَغْبَرُ، وَالْغُرَابِ الأَْسْوَدِ الْكَبِيرِ،
...........
قوله: «كالعقاب والبازي والصقر والشاهين والباشق والحدأة والبومة» هذه أمثلة لطيور تصيد بمخلبها وهي طيور معروفة.
الصنف الرابع: قوله: «وما يأكل الجيف» توجد طيور تأكل الجيف، ولكنها لا تصيد، إذا رأَتِ الجيفة نزلت عليها وأكلت منها، ومثَّل لها المؤلف بقوله:
«كالنسر، والرخم، واللقلق، والعقعق» هذه طيور معروفة، والعقعق والبوم يتشاءم بها العرب، قال الشاعر:
إن مَن صاد عَقْعَقاً لمشوم كيف من صاد عقعقان وبوم؟
يعني: يصير أشد.
لكن الإسلام يقول: «لا عدوى ولا طيرة»
(1)
، ومن فتح على نفسه باب الطيرة تعب.
قوله: «والغُراب الأبْقَع» يعني توجد فيه بقعة بيضاء، هذا أيضاً حرام، وهو احتراز من غراب صغير يشبه الحمامة، فهذا يقولون: إنه حلال؛ لأنه لا يأكل الجيف.
(1)
أخرجه البخاري في الطب/ باب لا عدوى (5772)، ومسلم في السلام/ باب لا عدوى ولا طيرة
…
(2220).
قوله: «والغداف وهو أسود صغير أغبر» وهو معروف عند المؤلف لكن عندنا غير معروف.
قوله: «والغراب الأسود الكبير» هذا غير الأبقع، إذاً، الغِربان صارت ثلاثة أقسام: أبقع، وأسود كبير، وأسود صغير.
والأسود الصغير الذي يشبه الحمامة، ومنقاره أسود، فهذا حلال، والأسود الكبير والأبقع هذان حرام.
هذا الصنف الرابع يقول فيه شيخ الإسلام: «فيه روايتا الجلاَّلة» يعني أن فيه روايتين عن الإمام أحمد، رواية: أنها حرام، والثانية: أنها حلال.
وعند الإمام مالك رحمه الله: جميع الطيور حلال لا يحرم منها شيء، وكأنه لم يبلغه حديث ابن عباس:(أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كل ذي نابٍ من السباع، وكل ذي مخلب من الطير)
(1)
.
والحكمة في تحريم ذوات المخالب التي تصيد بها ما أشرنا إليه في تحريم ما له ناب يفترس به، وهي أن الإنسان إذا تغذّى بهذا النوع من الطيور التي من طبيعتها العدوان والأذى، فإنه ربما يكتسب من طبائعها وصفاتها، ولهذا قال العلماء: لا ينبغي للإنسان أن يُرضِعَ ابنه امرأة حمقاء؛ لأنه ربما يتأثر بلبنها.
والصنف الرابع: ما يأكل الجيف كالجلاَّلة وهي التي أكثر علفها النجاسة، وفيها للعلماء قولان:
(1)
سبق تخريجه ص (17).
الأول: أنها حرام؛ لأنها تغذَّت بنجس، فأثَّر في لحمها.
الثاني: أنها حلال، وهو مبنيٌّ على طهارة النجس بالاستحالة، قالوا: إن هذه النجاسة التي أكلتها استحالت إلى دم ولحم وغير ذلك مما ينمو به الجسم، فيكون طاهراً، وحينئذٍ يكون ما يأكل الجيف حلالاً.
ونظير ذلك من بعض الوجوه، الشجر إذا سمُد بالعذرة، أي: بالنجاسة، هل يحرم ثمره، أو لا يحرم؟
جمهور العلماء على أنه لا يحرم ثمره؛ لأن النجاسة استحالت، إلا إذا ظهرت رائحة النجاسة، أو طعم النجاسة في الثمر فيكون حراماً، وهذا القول هو الصحيح بلا شك، أنه لا يحرم ما سمُد بالنجس ما لم يتغير.
وكان الناس يسمدُون بأرواث الحمير لما كانت هي التي تستخدم لإخراج الماء من الآبار، ولكن لو قلت لهم: سمدوا بعذرة الإنسان، قالوا: نعوذ بالله، هذا ما يجوز! مع أنهم يسمدون بأرواث الحمير، ولا فرق بينهما، فكلاهما نجس! لكن العادات تؤثر في العقائد، لمَّا كانوا لا يعتادون أن يسمدوا بعذرة الإنسان قالوا: هذا حرام، ولما كانوا يعتادون أن يسمدوا بأرواث الحمير قالوا: هذا لا بأس به.
ولكن الصحيح أنه لا بأس به في الموضعين، وأن ثمر النخيل، أو الأشجار التي تسمد بهذه النجاسات حلال وطاهر، ما لم يظهر على ثمرها أثر النجاسة.
وَمَا يُسْتَخْبَثُ كَالْقُنْفُذِ، والنِّيصِ، وَالْفَأْرَةِ، وَالْحَيَّةِ، وَالْحَشَرَاتِ كُلِّهَا، وَالْوَطْوَاطِ، وَمَا تَوَلَّدَ مِنْ مَأْكُولٍ وَغَيْرِهِ كَالْبَغْلِ.
الصنف الخامس: قوله: «وما يُستخبث» يعني وكل ما
يُستخبث، ومن الذي يستخبثه؟ قال في الروض:«ذوو اليسار»
(1)
أي: ذوو الغِنى، يعني أن الشيء الذي يستخبثه الأغنياء من الحيوانات فهو حرام، والدليل قوله تعالى في وصف النبي صلى الله عليه وسلم:{وَيُحِلُّ لَهُمُ الطِّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] قالوا: إذاً كل ما عدَّه الناس خبيثاً فهو حرام، فهذا الدليل صحيح، ولكن الاستدلال به غير صحيح؛ لأن معنى الآية أن الرسول عليه الصلاة والسلام لا يحرم إلا ما كان خبيثاً، وأن ما حرمه الشرع لا تسأل عنه، فهو لا يحرم إلا الخبيث، وليس المعنى كل ما عددته خبيثاً فهو حرام؛ لأن بعض الناس قد يستخبث الطيب، ويستطيب الخبيث، فَيُعلنون عن الدخان ويقولون: طيب النكهة، لذيذ في طعمه، وطيب في رائحته، وطيب في لفافته، فيُلف لفاً طيباً، وطيب في عقبه، فتنتهي السيجارة قبل أن تشوي الفم، فيولونه من الأوصاف الطيبة ما يجعله من أطيب الطيبات، فهل ينقلب هذا الخبيث طيباً؟! لا. أبداً.
ورأينا من الناس من يستخبث الجراد ـ مثلاً ـ حتى إن زميلاً أذكره ـ كان يدرِّس معنا في المعهد ـ يقول: إني حاولت أكل جرادة فكادت نفسي تخرج معها، وعجزت أن أبلعها لكراهتي لها، ولولا أن الله لطف لمِتُّ، إلى هذه الحال يستخبثها!!
إذاً لو رجعنا إلى هذه الأمور لصار الحِلُّ والتحريم أمراً نسبياً، فيكون هذا الشيء عند قوم حلالاً، وعند آخرين حراماً؛
(1)
الروض المربع مع حاشية ابن قاسم (7/ 424).
لأن هؤلاء اعتادوه فاستطابوه، والآخرين لم يعتادوه فلم يستطيبوه، بل استخبثوه، ولكن لا يمكن أن يكون الشرع هكذا، فالشرع إذا حرَّم عيناً فهي حرام عند كل الناس، وليس مطلق كون الشيء خبيثاً يقتضي التحريم، بدليل قول الرسول عليه الصلاة والسلام:«من أكل من هذه الشجرة الخبيثة فلا يقربن مسجدنا» يعني بها البصل، وقالوا: حُرِّمتْ حُرِّمتْ؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «إنه ليس لي تحريم ما أحل الله لي، ولكنها شجرة أكره ريحها»
(1)
.
فإذاً نقول: لا أثر لاستخباث ذوي اليسار، وأن معنى الآية أن الرسول عليه الصلاة والسلام لا يحرم إلا ما كان خبيثاً، فيكون الوصف بالخبث علة لما حرَّمه الشرع، وأن الشرع لا يحرم إلا خبيثاً، فإذا حرم شيئاً فلا تبحث هل هو طيب؟ أو غير طيب؟ بل إذا حرمه فاعلم أنه خبيث، أما أن نقول: كل ما استخبثه الناس، أو ذوو اليسار منهم فهو حرام، فهذا أمر لا يمكن؛ لأن معنى ذلك أن نَردَّ الأحكام إلى أعراف الناس وعاداتهم.
وعليه، فإن هذا الصنف وهو الخامس الصوابُ خلافه وأن ما يُستخبث حلال، إلا إذا دخل في أحد الضوابط السابقة فيكون حراماً، مثاله:
قوله: «كالقنفذ» وهو حيوان معروف صغير، له شوك، إذا أحس بأحد انكمش ودخل في هذا الشوك، ولا يقدر عليه أحد
(1)
أخرجه مسلم في المساجد ومواضع الصلاة/ باب نهي من أكل ثوما أو بصلاً أو كراثاً
…
(565) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
حتى الحية، إلا الحدأة تمسكه بشوكه، وتطير به في السماء، ثم تطلقه، فإذا أطلقته ووصل للأرض مات وانفتح لها، فهذا القنفذ يقول المؤلف: إنه حرام؛ لأن العرب ذوي اليسار يستخبثونه، ولو وجدنا عرباً لا يستخبثونه صار عندهم حلالاً، وقد نزل بنا رجل من بلد عربي، وتسحَّر عندنا ذات يوم في رمضان، وخرج بعد صلاة الفجر على أن يأتي ليفطر معنا ويتعشى، ولما جاء إلى الإفطار، إذا معه خيشة فيها شيء يتحرك، فقلنا: ما هذه؟ قال: هذه قنافذ، فكأنه ـ والله أعلم ـ يريد أن يهديها لنا لنطبخها له في السحور، فقلنا له: هذا ما يحل في مذهبنا، قال: إنه في مذهبنا يحل، وإنه عندنا طعام طيب نتلذذ به، فهل في هذه الحال يجب علينا أن نفتح هذه الخيشة ونخرجها؟ لا؛ لأنه عنده مال محترمٌ.
قوله: «والنيص» وهو يشبه كبير القنافذ، حيوان كبير مثل الهر تقريباً، وله شوك، لكنه ليس كالقنفذ، إذا أحس بأحدٍ يلحقه، أو يريد أن يمسكه انتفض ثم انطلق عليه شوك من جسده وضربه.
قوله: «والفأرة» معروفة، وواضح أنها حرام، ولكن ليس لأجل أنها خبيثة، وإنما من أجل عدوانها؛ لأنها مجبولة على العدوان، ولهذا تسمى «الفُوَيسقة» ، ومثل الفأرة الجرذي، وهو فأرة البر، فلا يحل؛ لأنه يعتدي. ولذلك كان اليربوع حلالاً مع أنه قريب وشبيه بالفأرة واليربوع حيوان صغير رجلاه طويلتان ويداه قصيرتان وهو ذكي يحفر له جحراً ويجعل له أكثر من باب واحد، أحدها مخرجاً غير مرئي حتى يهرب منه عند الحاجة.
قوله: «والحية» الحية حرام، وهنا قاعدة للحية، والفأرة،
وشبهها، ينبغي أن نجعلها بدل قاعدة المؤلف:«الاستخباث» ، وهي:(أن كل ما أمر الشارع بقتله، أو نهى عن قتله، فهو حرام).
أما ما نهى عن قتله فالأمر فيه ظاهر أنه حرام؛ لأنك لو قتلته وقعت فيما نهى عنه الشارع، وأمَّا ما أمر بقتله فلأنه مؤذٍ معتدٍ.
فالذي أمر بقتله مثل قوله صلى الله عليه وسلم: «خمس من الدواب كلهن فواسق، يُقتلن في الحل والحرم: الغراب، والحدأة، والفأرة، والعقرب، والكلب العقور»
(1)
، والحية أيضاً أمر بقتلها
(2)
، والوزغ أمر بقتله
(3)
.
والذي نهي عن قتله أربع من الدواب: النملة والنحلة والهدهد والصُّرَد
(4)
، والصرد طائر صغير مثل العصفور، له مِنْقَارٌ أحمر، قال بعضهم: إنه ما يُعرَف عند العامة «بالصبري» .
قوله: «والحشرات كلها» هذا مثال لما يستخبث، مثل: الصَّارُور، والخُنفساء، والجُعَل، والذباب، وما أشبه ذلك.
(1)
أخرجه البخاري في جزاء الصيد/ باب ما يقتل المحرم من الدواب (1829)، ومسلم في الحج/ ما يندب للمحرم وغيره قتله من الدواب في الحل والحرم (1198)(71) عن عائشة رضي الله عنها.
(2)
أخرجه مسلم في الحج/ باب ما يندب للمحرم وغيره قتله من الدواب في الحل والحرم (1200)(75).
(3)
أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء/ باب قول الله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ}
…
} (3359)، ومسلم في السلام/ باب استحباب قتل الوزغ (2238) عن أم شريك رضي الله عنها.
(4)
أخرجه الإمام أحمد (6/ 332، 347)، وأبو داود في الأدب/ باب في قتل الذر (5267)، وابن ماجه في الصيد/ باب ما ينهى عن قتله (3224) عن ابن عباس رضي الله عنهما وصححه ابن حبان (5646).
قوله: «والوَطْواط» ويسمى عندنا الخُفَّاش، وهو الذي يطير في الليل.
الصنف السادس: قوله: «وما تَوَلَّد من مأكول وغيره كالبغل» كل حيوان تولد من مأكول وغيره فإنه حرام؛ لأنه اختلط مباح بحرام على وجه لا يتميز أحدهما عن الآخر فكان حراماً؛ إذ لا يمكن اجتناب الحرام حينئذٍ إلاَّ باجتناب الحلال، واجتناب الحرام واجب، فكان اجتناب الحلال واجباً.
فالبغل متولد من نزو الحمار على الفرس، ولهذا ورد في حديث رواه أبو داود ـ ولا بأس به ـ أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن أن يُنزى الحمار على الفرس
(1)
، فالبغل حرام؛ والعلة في ذلك أن الله تعالى حرم الحمر، والبغل متولد من حمار وفرس، والفرس حلال، ولكن لا يمكن تمييز الحلال من الحرام فحرم الجميع؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
والحاصل أننا إذا أضفنا ما ذكرتهُ إلى كلام المؤلف رحمه الله تكون الأصناف سبعة، وإذا حذفنا الخامس من كلام المؤلف صارت ستة وهي الأصناف المحرمة من حيوانات البر، أما حيوانات البحر فقد سبق أن قلنا: كلها حلال واستدللنا بقوله تعالى: {
…
{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96] وقلنا: إن المراد بصيده ما أخذ حياً، ويطعامه ما أخذ ميتاً، هكذا فسره ابن عباس رضي الله عنهما.
* * *
(1)
أخرجه أحمد (1/ 98)، والنسائي في الطهارة/ باب الأمر بإسباغ الوضوء (1/ 89)، وأبو داود في الصلاة/ باب قدر القراءة في صلاة الظهر والعصر (808)، والبزار (2/ 259)، والبيهقي (10/ 23).
فَصْلٌ
وَمَا عَدَا ذَلِكَ فَحَلَالٌ، كَالْخَيْلِ،
.........................................
قوله: «وما عدا ذلك فحلال» «ما» موصولة، والمعنى والذي عدا ذلك، ويمكن أن نجعلها شرطية؛ لأن «عدا» فعل ماضٍ مبني على الفتح المقدَّر على آخره، ولا يظهر عليه علامة الجزم، والأصل فيما ارتبط بالفاء أنه شرط؛ لأن «الفاء» الرابطة الأصل أن تأتي في الأدوات الشرطية؛ ولهذا إذا جاءت في خبر مبتدأ موصول نقول: شُبِّهَ الموصول بالشرط؛ لعمومه، وهذا يدل على أن الأصل هو الشرط، فإذا لم يكن في الكلام ما يُعيِّن أن تكون «ما» موصولة فلتجعل «ما» شرطية؛ لأن الأصل أن الربط بالفاء إنما يكون للشرط.
إذاً قوله: «وما عدا ذلك» يعني ما تجاوزه، أي: ما سوى ذلك.
وقوله: «فحلال» خبر لمبتدأ محذوف، أي: فهو حلال.
فإذا قال قائل: ما الدليل؟
الجواب: الأصل، يعني أن الدليل هو عدم الدليل، أي: عدم الدليل على التحريم، مثاله:
قوله: «كالخيل» وهنا قد نحتاج إلى دليل يدل على إباحة الخيل؛ لأن بعض العلماء حرَّم الخيل كأبي حنيفة، وبعضهم كرهها كمالكٍ، وبعضهم أباحها كالإمام أحمد.
فلو قلنا: إن الخيل لا نحتاج إلى الاستدلال لحلّها؛ لأنه الأصل، قلنا: هذا صحيح، لكن ما دام قد عارَضَنَا بعض أهل
العلم مستدلاً بدليل من القرآن، فلا بد أن نأتي بدليل واضح على حلها، فما الدليل؟
الدليل: حديث جابر رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لحوم الحُمُر، وأذِنَ في لحوم الخيل»
(1)
، فهذا واضح.
كذلك حديث أسماء في البخاري قالت: «نحرنا فرساً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ونحن في المدينة فأكلناه»
(2)
، وقولها:«ونحن في المدينة» تعني أنه متأخر، وإنما نصَّت على أنه في المدينة؛ لأن سورة النحل التي فيها دليل من استدل على تحريمها مكية.
إذاً الخيل مباحة، ولها دليل إيجابي ودليل سلبي، فالسلبي عدم الدليل على التحريم فيكون الأصل الإباحة، والإيجابي حديث جابر وحديث أسماء رضي الله عنهما.
ولكن ذهب بعض العلماء إلى التحريم ـ كأبي حنيفة ـ واستدل بقوله تعالى: {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ *وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ *وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ *وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ *} [النحل].
فالأنعام قال: {لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا
(1)
أخرجه البخاري في المغازي/ باب غزوة خيبر (4219)، ومسلم في الصيد والذبائح/ باب من أكل لحوم الخيل (1941).
(2)
أخرجه البخاري في الذبائح والصيد/ باب لحوم الخيل (5519)، ومسلم في الصيد والذبائح/ باب في أكل لحوم الخيل (1942).
تَأْكُلُونَ}، {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ} ، قال:{لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} ، فقسم الله سبحانه وتعالى هذه البهائم إلى قسمين: قسم له كذا، وقسم له كذا، وذكر الخيل فيما يحرم، وهي البغال، والحمير، فلتكن محرَّمة، وذكر الحكمة وهي الركوب والزينة، ولو كان الأكل سائغاً لذكره؛ لأنه غاية لمن اقتناه.
وهذا الاستدلال لولا الأحاديث لكان له وجه، ولكن إذا كانت الأحاديث مُصرِّحَة بأن الخيل حلال، فإنه لا يمكن أن يكون هذا الدليل قائماً؛ لأن السُّنَّة تفسِّر القرآن وتبينه.
فإن قلت: إذاً لماذا هذا التقسيم؟
قلنا: لأن أَعمَّ منافع الخيل هو الركوب، والزينة، وفيه أيضاً إشارة ـ والله أعلم ـ أنه لا ينبغي أن تُجعَل الخيل للأكل، وإنما تُجعل للركوب، وللزينة، وللجهاد في سبيل الله، أمَّا الأكل فهناك ما يكفي عنها وهي الأنعام، فالإبل أكبر منها أجساماً، وأكثر منها لحوماً، والبقر، والغنم، ولأنها لو اتخذت للأكل لفنيت، وبطل الانتفاع بها في الجهاد في سبيل الله.
فهذه هي الحكمة ـ والله أعلم ـ في أنها قرنت بالبغال والحمير.
وَبَهِيمَةِ الأَْنْعَامِ، وَالدَّجَاجِ، وَالْوَحْشِيِّ مِنَ الْحُمُرِ،
........................
قوله: «وبهيمة الأنعام» وهي: الإبل، والبقر، والغنم، وسُمِّيت بهيمة؛ لأنها لا تتكلم، فأَمْرُها مُبْهَم عندنا، أرأيت الشاة في البيت هل إذا جاعت تقول: أعطني علفاً؟! لا، لكن ربما تثغو، فإذا ثغت هل يتعين أن يكون ثُغَاؤهَا لطلب العلف؟ لا،
ربما لطلب الماء، وربما لطلب الفَحْل، وربما لمرض فيها، المهم لها أسباب لا نعرفها فحاجتها بالنسبة لنا مبهمة ولهذا سميت بهيمة.
فما الدليل على حل بهيمة الأنعام؟
الجواب: نقول: لا نحتاج إلى دليل؛ لأن هذا هو الأصل، ومع ذلك ـ والحمد لله ـ توجد أدلة كثيرة، قال الله تعالى:{أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} [المائدة: 1].
قوله: «والدجاج» وهو حلال بناءً على الأصل، وقد وردت فيه أحاديث أنها أكلت على عهد النبي عليه الصلاة والسلام
(1)
. فيكون حل الدجاج ثابت بالنص وبالأصل.
قوله: «والوحشي من الحُمر» الحمار الوحشي حلال، والدليل الأصل، ثم نقول: عندنا دليل إيجابي، وهو حديث
(1)
أخرجه البخاري في الذبائح والصيد/ باب لحم الدجاج (5518)، ومسلم في الأيمان/ باب ندب من حلف يميناً
…
(1649) عن أبي موسى رضي الله عنه.
الصعب بن جثَّامة
(1)
، وحديث أبي قتادة رضي الله عنهما
(2)
ـ، وعندنا أيضاً حديث أنس بن مالك رضي الله عنه:«إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمرُ الأهلية»
(3)
، فإن مفهوم «الأهلية» يدل على حل الوحشية.
وَالْبَقَرِ وَالضبِ وَالظِّبَاءِ وَالنَّعَامَةِ وَالأَْرْنَبِ وَسَائِرِ الْوَحْشِ، وَيُبَاحُ حَيَوَانُ الْبَحْرِ كُلُّهُ ..........
قوله: «والبقر» أي: الوحشي من البقر ـ أيضاً ـ حلال بناءً على الأصل.
قوله: «والضب»
(4)
وهو حيوان معروف، وهو حلال، والدليل الأصل، وفيه ـ أيضاً ـ أحاديث صحيحة عن النبي عليه الصلاة والسلام، لكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأكله؛ لأنه لم يكن في أرض قومه
(5)
، فكرهه كراهة نفسية لا شرعية.
قوله: «والظباء» جمع «ظبي» ، وهو معروف، وهو حلال، والدليل الأصل، ولأن في صيده في حال الإحرام فدية، وكل شيء فيه فدية فإنه حلال.
قوله: «والنعامة» معروفة، وهي حلال للأصل، ولأن
(1)
أخرجه البخاري في جزاء الصيد/ باب إذا أهدى المحرم حماراً وحشياً (1825)، ومسلم في الحج/ باب تحريم الصيد للمحرم (1193).
(2)
أخرجه البخاري في الهبة/ باب من استوهب من أصحابه شيئاً
…
(2570)، ومسلم في الحج/ باب تحريم الصيد للمحرم (1196) عن أبي قتادة رضي الله عنه.
(3)
سبق تخريجه ص (16).
موجودة في بعض النسخ.
(4)
أخرجه البخاري في الأطعمة/ باب الشواء (5400)، ومسلم في الصيد والذبائح/ باب إباحة الضب (1945) عن ابن عباس وخالد بن الوليد رضي الله عنهم.
(5)
أخرجه الشافعي في الأم (2/ 190)، وعبد الرزاق في المصنف (4/ 398)، والبيهقي في السنن الكبرى (5/ 182) عن عمر وعثمان وعلي وزيد وابن عباس ومعاوية رضي الله عنهم.
الصحابة رضي الله عنهم قَضَوا فيها إذا صادها المحرم ببدنة
(1)
، وهذا دليل على الحل.
قوله: «والأرنب» معروف، وهو حلال بناءً على الأصل.
قوله: «وسائر الوحش» والمراد بالوحش هنا غير المألوف من سائر جنس الحيوانات. أي: سائر الوحش غير ما استُثني فيما سبق من المحرمات فإنه حلال، يقول في الروض:«كالزرافة، والوبر، واليربوع، وكذا الطاووس، والببَّغاء»
(2)
، فكل هذه حلال، بناءً على الأصل.
قوله: «ويباح حيوان البحر كله» «كل» من ألفاظ التوكيد، لكن هل هي توكيد للبحر، أو هي توكيد للحيوان؟
الجواب: هي توكيد للحيوان، والدليل الاستثناء؛ حيث قال:«إلا الضفدع» .
وقوله: «ويباح حيوان البحر كله» والدليل قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29]، والدليل الخاص قوله تعالى:{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} [المائدة: 96]، قال ابن عباس:{صَيْدُ الْبَحْرِ} ما أخذ حياً، {وَطَعَامُهُ} ما أخذ ميتاً
(3)
.
(1)
الروض المربع مع حاشية ابن قاسم (7/ 428).
(2)
سبق تخريجه ص (14).
(3)
الروض المربع مع حاشية ابن قاسم (7/ 430).
فيباح حيوان البحر كله ولو كان على صفة الحمار، أو الكلب، أو الإنسان، إلا ثلاثة أشياء، قال:
إِلاَّ الضِّفْدِعَ، وَالتِّمْسَاحَ، وَالْحَيَّةَ، وَمَنِ اضْطُرَّ إِلَى مُحَرَّمٍ ـ غَيْرَ السُّمِّ ـ حَلَّ لَهُ مِنْهُ مَا يَسُدُّ رَمَقَهُ،
...........
«إلا الضفدع، والتمساح، والحية» فهذه الثلاثة لا تُباح.
قوله: «الضفدع» قال في الروض: «لأنها مستخبثة»
(1)
، مع أن الضفدع في الواقع بري بحري، إذاً ليس من حيوان البحر؛ لأن حيوان البحر هو الذي لا يعيش إلا في الماء، وإذا كانت العلةُ الاستخباث فإننا نرجع إلى ما سبق، وهو هل الاستخباث يعتبر علة مؤثرة؟
وقوله: «والتمساح» فهذا ـ أيضاً ـ يحرم، ولو كان من حيوان البحر، قال في الروض:«لأنه ذو ناب يفترس به»
(2)
.
فهل هذا صحيح؟
الجواب: نعم، لكنه ليس من السباع، ولهذا ليس ما يحرم في البر يحرم نظيره في البحر، فالبحر شيء مستقل، حتى إنه يوجد غير التمساح مما له ناب يفترس به، مثل القرش، ويوجد ـ أيضاً ـ أشياء غريبة إذا شاهدت الإنسان ارتَقَت فوقه ـ كما حدثني الذين يغوصون في البحر ـ فتكون فوقه كالغمامة، ثم تنزل شيئاً فشيئاً حتى تكبس عليه، فإذا كبست عليه فإنه يموت، لكن يقول لي أحد البحَّارة: ـ سبحان الله ـ لها محل يخرج منه فضلات الطعام، إذا حكه الإنسان ارتفعت، فينجون.
والحاصل أنه توجد أشياء تقتل، ومع ذلك فإنها حلال،
(1)
المرجع السابق.
(2)
الروض المربع مع حاشية ابن قاسم (7/ 430).
وعليه فإننا نقول: الصحيح أنه لا يُستثنى التمساح، وأنه يؤكل.
وقوله: «والحيَّة» أي: أنها حرام، قال في الروض:«من المستخبثات»
(1)
، وهذه العلة:
أولاً: فيها نظر كما سبق.
ثانياً: ليس ما يُستخبث في البر يكون نظيره في البحر مُستخبثاً.
وعليه فالصواب أنه لا يُستثنى من ذلك شيء، وأن جميع حيوانات البحر التي لا تعيش إلا في الماء حلال، حيُّها وميتها، لعموم الآية الكريمة التي ذكرناها من قبل.
وَمَنِ اضْطُرَّ إِلَى نَفْعِ مَالِ الْغَيْرِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ لِدَفْعِ بَرْدٍ، أَوِ اسْتِسْقَاءِ مَاءٍ، وَنَحْوِهِ، وَجَبَ بَذْلُهُ لَهُ مَجَّاناً،
.......
قوله: «ومن اضطُر» أصل اضطر في التصريف اضتر، ولا يصح أن نقول: اضْطَرَّ؛ لأن الإنسان مُلْجَأٌ وليس مُلجِئاً، نعم إن قلتَ: اضطَرَّ فلانٌ فلاناً أن يفعل كذا صَحَّ، أمَّا إذا كان وصفاً لمن وقعت به الضرورة فلا يجوز أن نقول:«اضْطَرَّ» ولهذا في القرآن: {فَمَنِ اضْطُرَّ} [البقرة: 173] وانتبه، فبعض الطلبة يقول:«اضْطَرَّ» وهذا خطأ، والمعنى ألجأته الضرورة، أي: أصابته ضرورة إلى فعل هذا الشيء، ويلحقه الضرر إن لم يفعله.
قوله: «إلى محرم» أي: محرم من هذه الأشياء المحرمة من المأكولات.
قوله: «غير السم» استثنى المؤلف السم، وسيأتي.
قوله: «حلّ له منه ما يسدُّ رمقه» «يسد» أي: يكفي، «رمقه»
(1)
أخرجه البخاري في الطب/ باب الحبة السوداء (5687)، ومسلم في السلام/ باب التداوي بالحبة السوداء (2215)(88).
أي: بقية حياته، ولهذا الحيوان إذا وصل إلى حال الموت يقال: هذا ما فيه رمق، أي: ما فيه بقية حياة، فيحل للمضطر أن يأكل ما يسد رمقه، يعني ما تبقى معه الحياة فقط، ولا يشبع، والدليل قوله تعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} إلى أن قال: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 3].
وقال تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:173].
إذاً، إذا اضطُر الإنسان إلى هذه المحرمات جاز له أكلها، لكن الله عز وجل اشترط شرطين:
الأول: {فِي مَخْمَصَةٍ} أي: مجاعة.
الثاني: {غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ} يعني غير مائل إلى الإثم، أي: ما ألجأه إلا الضرورة وما قصد الإثم.
في الآية الثانية: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} قيل: إن الباغي هو الخارج على الإمام، والعادي الطالب للمحرَّم المعتدي.
وعلى هذا؛ فإذا كان السفر محرماً، واضطر إلى أكل الميتة قلنا: لا تأكل؛ لأنك باغٍ وعادٍ، والصواب أن الباغي والعادي وصفان للتناول، أي: غير باغٍ في تناوله، أي: لا يريد بذلك أن يتناول المحرم، ولا عادٍ أي: متجاوزٍ قدرَ الضرورة؛ لتُفسَّر الآية التي في سورة «البقرة» بالآية التي في سورة «المائدة» .
وقوله: «حل له منه ما يسد رمقه» فهل له أن يشبع؟
الجواب: على كلام المؤلف ليس له أن يشبع؛ لأن هذا الأكل أكل ضرورة، فيتقيد بقدر الضرورة، لكن لو جاع مرة ثانية أكل ولا مانع.
وقيل: له أن يشبع إن خاف أن يجوع في المستقبل، ولكن الصواب: أنه ليس له أن يشبع، وأن هذا الأكل ضرورة، فيتقيد بقدرها، وإذا خاف أن يجوع قبل أن يصل إلى بلده مثلاً، فله أن يتزود من هذا اللحم بحمله معه، وإذا تزوَّد وحمل معه فليس عليه خطر، لكن إذا شبع من هذا اللحم الخبيث، فربَّما يكون عليه تخمة، ونتن في بطنه فيتضرر، فالصواب هنا ما ذكره المؤلف أنه لا يحل له إلا ما يسد رمقه، ويرد عليه قوَّته.
وقوله: «غير السم» استثنى السم، و «السم» مثلثة السين، فيصح أن تقول:«سَم» و «سُم» و «سِم» فالإنسان لا يغلط فيها، فالسم لو اضطر إليه الإنسان لا يأكل منه، لماذا؟
الجواب: لأنه إذا أكل من السم أسرع إلى نفسه القتل، وهذا أمر معلوم، وإذا لم يأكل ربما سهَّل الله له شيئاً يأكله، لكن إذا أكل السم فقد قتل نفسه فالسم لا يحل بأي حال من الأحوال.
مسائل:
الأولى: لو اضطُر إلى شرب لبن الأتان ـ أي: الحمارة ـ هل يحل؟
الجواب: يحل له ذلك، وكل المحرمات التي لا تضر بذاتها إذا اضطُرَّ إليها الإنسان أكل منها وشرب.
وقد اشتهر عند العامة أن نوعاً من السعال (الكَحَّة) يُداوى بلبن الأتان، ويقولون: إذا حلّت الضرورة حلت المحرمات.
«حلت» الأولى بمعنى نزلت، و «حلت» الثانية بمعنى أُبيحت، ففيه جناس تام، وهذا غير صحيح وليس له أصل، لأمرين:
الأول: أن الله لم يجعل شفاءنا فيما حرم علينا.
الثاني: أن الضرورة التي تبيح المحرم يشترط لها شرطان:
الأول: أن يتعين دفع ضرورته بهذا الشيء لا بغيره.
الثاني: أن تندفع ضرورته به.
فهل الدواء ينطبق على هذا أو لا؟
الجواب: لا ينطبق، أولاً: لأن الإنسان قد يُشفى بدون تناول الدواء، وهذا شيء كثير، وكم شفينا ـ والحمد لله ـ من أمراض كثيرة بدون أن نتناول دواءً، وغالب الناس مر عليه هذا، إذاً لسنا في ضرورة لتناول الدواء.
ثانياً: ربما يكون هناك دواء غير هذا يغني عنه، فلسنا في ضرورة إلى هذا الدواء.
وقولنا: «أن تندفع ضرورته به» فهل الدواء تندفع به الضرورة؟
الجواب: قد تندفع وقد لا تندفع، يعني قد يُفيد، وقد لا يفيد، ولهذا جاء في الحديث الصحيح عن الرسول عليه الصلاة
والسلام: «الحبة السوداء شفاء من كل داء إلا السام»
(1)
، يعني الموت، فإذا لم يرد الله عز وجل أن يشفي هذا المريض لم يُشفَ ولو بالدواء.
وإذا جاء الأمر بعد النهي فهو للإباحة، وإذا جاء الحل بعد التحريم فإنه يقصد به انتفاء التحريم، ولا ينفي أن يكون الشيء واجباً، فقول المؤلف:«حل له» أي: ارتفع التحريم؛ لأنه في هذه الحال إذا اضطر إلى أكل المحرم لا نقول: هو حلال، إن شئت فَكُل، وإن شئت فلا تأكل، بل يجب أن يأكل؛ لإنقاذ نفسه، وعليه فيكون التعبير هنا بالحل في مقابل التحريم، فلا ينافي الوجوب.
المسألة الثانية: لو اضطر إلى شرب ماء محرمٍ هل يشرب؟
الجواب: نعم يشرب، ولو اضطر إلى شرب الخمر فلا يشرب، يقول العلماء: إن الخمر لا يغني من العطش، بل يزيد العطش، ومع ذلك إذا اضطر إليه بحيث تندفع ضرورته بتناوله حل له الخمر، ومثَّلوا لذلك برجل غصَّ بلقمةٍ ولم يكن عنده إلا كأس خمر، فله أن يتناول ما يدفع اللقمة فقط ثم يمسك؛ لأنه هنا تندفع به الضرورة، أما غيرها فلا تندفع به الضرورة.
قوله: «ومن اضطر إلى نفع مال الغير مع بقاء عينه لدفع برد، أو استسقاء ماء، ونحوه وجب بذله له مجاناً» الاضطرار إلى مال الغير إما أن يكون إلى عينه، وإما أن يكون إلى نفعه.
(1)
أخرجه مسلم في الزكاة/ باب الابتداء بالنفقة بالنفس (997) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
مثال الاضطرار إلى عينه: جاع إنسان وليس عنده إلا خبزٌ لغيره، ومثال الاضطرار إلى نفعه: بَرَدَ الإنسان واضطُر إلى لحاف غيره، فالاضطرار هنا إلى نفعه لا إلى عينه؛ لأن اللحاف سيبقى، والذي يُنتفع به هو التدفئة بهذا اللحاف.
والفرق بينه وبين الاضطرار إلى عين المال أنَّ المضطر إلى نفع المال ستبقى عين المال، والمضطر إلى عين المال سوف تفنى عين المال، فبينهما فرق واضح.
في المسألة الأولى: إذا اضطر إلى مال الغير، فإن صاحب المال إن كان مضطراً إليه فهو أحق به.
مثاله: رجل معه خبزة وهو جائع وصاحبه جائع، وليس معه خبز، فالصاحب محتاج إلى عين مال الغير، لكن الغير ـ أيضاً ـ محتاج إليه، ففي هذه الحال لا يحل للصاحب أن يأخذ مال الغير؛ لأن صاحبه أحق به منه، ولكن هل يجوز لصاحبه أن يؤثره أو لا؟
الجواب: المذهب أن الإيثار في هذه الحال لا يجوز، وقد سبق لنا قاعدة في ذلك، وهي أن الإيثار بالواجب غير جائز، ومن أمثلتها في باب التيمم إذا كان الإنسان ليس معه من الماء إلا ما يكفي لطهارته، ومعه آخر يحتاج إلى ماءٍ فلا يعطيه إياه والثاني يتيمَّم؛ لأن هذا إيثار بالواجب، والإيثار بالواجب حرام.
وعلى هذا فإذا كان صاحب الطعام محتاجاً إليه، يعني مضطراً إليه كضرورة الصاحب فإنه لا يجوز أن يؤثر به الصاحب؛ لأن هذا يجب عليه أن ينقذ نفسه، وقد قال النبي عليه الصلاة
والسلام: «ابدأ بنفسك»
(1)
، فلا يجوز أن يؤثر غيره؛ لوجوب إنقاذ نفسه من الهلكة قبل إنقاذ غيره، هذا هو المشهور من المذهب.
وذهب ابن القيم رحمه الله إلى أنه يجوز في هذه الحال أن يؤثر غيره بماله، ولكن المذهب في هذا أصح، وأنه لا يجوز، اللهم إلا إذا اقتضت المصلحة العامة للمسلمين أن يؤثره، فقد نقول: إن هذا لا بأس به، مثل لو كان هذا الصاحب المحتاج رجلاً يُنتفع به في الجهاد في سبيل الله، أو رجلاً عالماً ينفع الناس بعلمه، وصاحب الماء المالك له، أو صاحب الطعام رجل من عامة المسلمين، فهنا قد نقول: إنه في هذه الحال مراعاة للمصلحة العامة له أن يؤثره، وأما مع عدم المصلحة العامة فلا شك أنه يجب على الإنسان أن يختص بهذا الطعام الذي لا يمكن أن ينقذ به نفسه، وصاحبه.
وإذا كان طعام الإنسان كثيراً وَوَجَدَ مضطراً إليه فإنه يجب أن يبذله له وجوباً.
فالخلاصة: أنه إذا اضطر إلى عين مال الغير، فإن كان الغير مضطراً إليه فهو أحق به، ولا يؤثر غيره به، وإذا كان غير مضطر إليه وجب أن يبذله لهذا المضطر وجوباً، وهل يبذله مجاناً أو بالقيمة؟
الجواب: فيه خلاف بين العلماء، قال بعضهم: يجب أن
(1)
أخرجه أحمد (2/ 244)، والنسائي في قطع السارق/ باب الثمر يسرق بعد أن يؤويه الجرين (4/ 85)، وأبو داود في اللقطة/ باب التعريف باللقطة (1710)، والترمذي في البيوع/ باب ما جاء في الرخصة في أكل الثمرة للمار بها (1289)، وابن ماجه في الحدود/ باب من سرق من الحرز (2596)، والحاكم (4/ 380)، والبيهقي (4/ 344)، والحديث حسنه الترمذي، وصححه الحاكم.
يبذله له مجاناً؛ لأن إطعام الجائع فرض كفاية، والفرض لا يجوز أن يتخذ عليه الإنسان أجراً.
وقال آخرون: يجب أن يبذله له، وعلى المنتفع به القيمة؛ لأنه أتلف عين مال الغير فلزمه عوضه، قيمته إن كان متقوماً، ومثله إن كان مثلياً.
وهناك تفصيل أشار إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه إن كان مع المضطر العوض وجب بذله، وإن كان فقيراً فليس عليه شيء؛ لأن الفقير من أين يوفي؟! وإطعام الجائع واجب، بخلاف الغني فإن عنده ما يعوض به صاحب المال، وهذا قول وسط وله وجهة من النظر.
فإن أبى صاحب المال، أو الطعام أن يعطيه، فهل لهذا المضطر أن يأخذه بالقوة؟
الجواب: نعم، له أن يأخذه بالقوة، وإذا لم يمكن أن يأخذه إلا بالقتال، فهل يقاتل؟
الجواب: قال العلماء: يقاتل، فإن قُتل صاحب المال فهو ظالم، وإن قُتل المضطر فهو شهيد.
فإذا قُدِّر أنه عجز، ولم يتمكَّن حتى مات، فهل يضمنه صاحب الطعام؟
الجواب: قال بعض العلماء: يضمنه؛ لأنه تعدَّى بترك القيام بالواجب.
وقال آخرون: إنه لا يضمن؛ لأنه لم يمت بسببه، والمشهور
من مذهب الإمام أحمد أنه يضمنه إذا طلب الطعام ولم يعطه، أما لو مرَّ بشخص مضطر، ولكنه ما طلب فإنه لا يضمنه.
وهل مثل ذلك لو شاهدت إنساناً غريقاً بالماء، وهو يشير أنقذني يا رجل، أنقذني، وتركتَه حتى غرق، فهل تضمن أو لا؟
الجواب: المذهب: لا يضمن، والصحيح أنه يضمن لو كان قادراً على إنقاذه، أما لو كان عاجزاً فإنه لا يضمن، وفي هذه الحال أيضاً، لا ينبغي أن تنزل إلى الماء لإنقاذ غريقٍ، إلا إذا كان لديك قوة، وأنت واثق من نفسك؛ لأن عادة الغريق إذا أمسك بالمنقِذ أنه يغرقه، ويجعله تحته حتى يركب عليه، فإذا لم يكن عند الإنسان قوة بدنية، ومعرفة بالسباحة فسوف يغرق.
وغالب الناس لا يعرفون هذا الفن، وتأخذهم الشفقة والرحمة، ولكن يجب على الإنسان أن يحكِّم العقل دون العاطفة.
وإذا كان رجل في مفازةٍ ومررتُ به، ولكني خشيت منه، فهل يلزمني حمله أو لا؟
الجواب: إذا كان الخوف محققاً لم يلزمك أن تحمله، ولكن يلزمك أن تنقذه، فإذا كان معك فضل ماء، أو فضل طعام، فأعطه وامشِ، أما إذا كان الخوف غير محققٍ فيجب أن تحتاط لنفسك، وتنظر هل معه سلاح، أو ليس معه سلاح، وتركبه بعيداً عنك.
هنا حكم الاضطرار إلى عين مال الغير، أمّا الاضطرار إلى نفع مال الغير فيقول المؤلف:
«ومن اضطر إلى نفع مال الغير مع بقاء عينه لدفع برد» كاللحاف أو النار وما أشبه ذلك.
«أو استسقاء ماء» مثل: الدلو والرشاء وما أشبه ذلك.
«ونحوه» كما لو اضطر إلى ماعون ليضع فيه الماء، أو ليدفِّئ به ماء، أو ليضع فيه الطعام، أو ما أشبه ذلك.
وهل مثل ذلك الاضطرار إلى ركوب السيارة، مثل أن يكون في مفازة، ومرَّ به صاحب سيارة، فهو الآن مضطر إلى الركوب، فهل هذا مثله؟
الجواب: نعم؛ لأن هذا اضطرار إلى نفع هذه السيارة مثلاً، أو البعير، أو الحمار.
وقوله: «وجب بذله له مجاناً» أي: بغير عوض. والفرق بين الاضطرار إلى نفع المال وبين الاضطرار إلى عين المال أن الأول ستبقى عين المال والثاني تغنى عين المال؛ لأن المضطر سيقول لصاحب المال: سيبقى لك مالك فلا تمنعني من الانتفاع به؛ لأن الله تعالى يقول: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ *الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ *الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ *وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ *} [الماعون] فمنع الماعون في هذه الحال داخل في الوعيد.
وَمَنْ مَرَّ بِثَمَرِ بُسْتَانٍ فِي شَجَرَةٍ، أَوْ مُتَسَاقِطٍ عَنْهُ، وَلَا حَائِطَ عَلَيْهِ، وَلَا نَاظِرَ، فَلَهُ الأَكْلُ مِنْهُ مَجَّاناً مِنْ غَيْرِ حَمْلٍ،
............................
قوله: «ومن مر بثمر بستان» «من» عامة تشمل الذكر والأنثى، والمسلم والذمي، كلَّ مَن مَرَّ، لكن اشترط المؤلف فقال:
«في شجرة» كأن مررت بالنخلة، وعليها ثمرها.
قوله: «متساقط عنه» كأن يكون سقط في حوض النخلة
شيء من التمر، بخلاف المجموع، فلو أن صاحب الثمر جمعه، وجعله في البيدر ـ وهو المكان الذي ييبس فيه التمر ـ فليس له هذا الحكم.
قوله: «ولا حائط عليه» الحائط معروف، وهو الجدار المحيط بالبستان الذي يمنع من الدخول، إلا من الباب.
وقوله: «ولا ناظر فله الأكل منه مجَّاناً» وهو الحارس، فإذا كان عليه حارس وإن لم يكن عليه حائط فلا أكل، فاشترط المؤلف شروطاً:
الأول: أن يكون فيه الثمر، أو متساقطاً، لا مجنياً.
الثاني: ليس عليه حائط.
الثالث: ليس عليه ناظر.
فإن كان عليه حائط فإنه لا يأكل منه؛ لأن تحويط صاحبه عليه دليل على أنه لا يرضى أن يأكله أحد، فهو إذاً قرينة على عدم رضا صاحبه بالأكل منه، والإنسان لا يحل ماله إلا بطيب نفس منه.
كذلك إذا كان عليه ناظر فهو دليل على أن صاحبه لا يرضى أن يأكل منه أحد؛ لأنه لو رضي أن يأكل منه أحد لم يجعل عليه ناظراً يحرسه، فهو قرينة على أن صاحبه لا يرضى أن يأكل منه أحد.
فإذا جعل عليه شبكاً فهل له نفس الحكم، أو أن هذا الشبك عن البهائم؟
الجواب: الظاهر أن الشبك الذي فيه موانع شائكة عن
البهائم فقط، والشبك الرفيع الطويل المربع، الظاهر أنه عن الجميع.
والدليل على هذا أن الرسول عليه الصلاة والسلام أذن لمن مر بالحائط أن يأكل منه غير متخذٍ خُبنة
(1)
، والخبنة هي التي يجعلها الإنسان في طرف ثوبه، أي لا يحمل منه شيئاً، ولهذا قال المؤلف:
فشروط الأكل ثلاثة، وإن قلنا: شروط الأخذ فهي أربعة.
فإذا كنا نتكلم عن الأكل فهذه شروطه، وإذا كنا نتكلم عن الأخذ فنزيد شرطاً رابعاً وهو ألا يحمل، فإن حمل فهو حرام؛ لأن الأصل تحريم أكل المال.
ولكن في الحديث شرطاً لم يشر إليه المؤلف، وهو أن الرسول عليه الصلاة والسلام أمر من دخل حائطاً أن ينادي صاحبه ثلاثاً، فإذا أجابه استأذنه، وإن لم يجبه أكل
(2)
، وهذا شرط لا بد منه؛ لأنه دل عليه الحديث، وما دل عليه الحديث
(1)
أخرجه أحمد (3/ 7)، وأبو داود/ باب في ابن السبيل يأكل من الثمر
…
(2619)، والترمذي في البيوع/ باب ما جاء في احتلاب المواشي
…
(1296)، والبيهقي (9/ 359)، قال الترمذي:«حديث حسن غريب صحيح» .
(2)
أخرجه البخاري في الرقاق/ باب حفظ اللسان (6475)، ومسلم في الإيمان/ باب الحث على إكرام الجار والضيف
…
(47) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وجب اعتباره، وعلى هذا فنزيد شرطاً رابعاً للأكل، وهو أن ينادي ثلاثاً، فإن أجيب استأذن، وإن لم يُجَب أكل.
أيضاً اشتراط انتفاء الحائط فيه نظر؛ لأن لفظ الحديث: «من دخل حائطاً» والحائط هو المحوطُ بشيء، وعلى هذا فلا فرق بين الشجر الذي ليس عليه حائط، وبين الشجر الذي عليه حائط.
فالذي تبين من السنة أن الشرط هو أن يأكل بدون حمل، وألا يرمي الشجر، بل يأخذ بيده منه، أو ما تساقط في الأرض، وأيضاً يشترط أن ينادي صاحبه ثلاثاً، إن أجابه استأذن، وإن لم يجبه أكل.
هذا الذي دل عليه الحديث هو ما ذهب إليه الإمام أحمد رحمه الله.
وذهب الجمهور إلى أن ذلك ليس بجائز، وحملوا الأحاديث على أول الإسلام، أو أول الهجرة، حين كان الناس فقراء محتاجين، وأما مع عدم الحاجة فلا يجوز، ولكن الصحيح أنه عامٌّ.
فإذا قلت: هل لهذا القول حظ من النظر بعد أن كان له حظ من الأثر؟
فالجواب: نعم، وهو أن هذا مما جرت العادة في التسامح فيه.
وظاهر كلام المؤلف أنه لا فرق بين كون الإنسان ابن سبيل، أو كان مقيماً، حتى في الحوائط التي في البلاد لا بأس
إذا مررت أن تأخذ، ولكن جرت العادة عندنا هنا في القصيم أنهم قد يبيعون ثمرة النخل على رجلٍ آخر، فهل يبقى الحكم ثابتاً حتى ولو كان قد اشتراها رجل آخر؟ أو نقول: لما اشتراها مَلَكها، والسُّنة إنما جاءت بالنسبة لصاحب الحائط؟
هذا الثاني هو الأقرب، وأن اشتراء الرجل لها يكون بمنزلة حيازة صاحب الحائط لها، فإذا علمنا أن هذا النخل قد بيع ثمره فإننا لا نأكل منه.
ثم شرع المؤلف رحمه الله هنا في بيان أحكام الضيافة، وإنما ذكرها المؤلف هنا من باب الاستطراد، لما ذكر ما حُرِّم لحق الله من الحيوانات وغيرها، ثم ذكر ما يتعلق باحترام مال المسلم، ذكر أيضاً الضيافة، فهذا وجه المناسبة من ذكرها هنا.
وَتَجِبُ ضِيَافَةُ المُسْلِمِ الْمُجْتَازِ بِهِ فِي الْقُرَى يَوْماً وَلَيْلَةً.
قوله: «وتجب ضيافة المسلم» «تجب» هذا بيان حكم الضيافة، والضيافة أن يتلقَّى الإنسان مَن قدم إليه، فيكرمه وينزله بيته، ويقدم له الأكل، وهي من محاسن الدين الإسلامي، وقد سبقنا إليها إبراهيم عليه الصلاة والسلام، كما قال الله تعالى:{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ} [الذاريات:24]، أي: الذين أكرمهم إبراهيم، ولا يمتنع أن يقال: والذين أكرمهم الله عز وجل بكونهم ملائكة.
فحكم الضيافة واجب، وإكرام الضيف ـ أيضاً ـ واجب، وهو أمر زائد على مطلق الضيافة، قال النبي عليه الصلاة والسلام:«من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه»
(1)
، أي: من كان يؤمن إيماناً كاملاً فليكرم ضيفه.
(1)
سبق تخريجه ص (48).
وإكرام الضيف بما جرت به العادة يختلف باختلاف الضيف والمضيف، فأما المضيف فلقوله تعالى:{لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق: 7]، فإذا نزل شخص ضيفاً على رجلٍ غني، فإنه يكرمه بما وسَّع الله عليه، وإذا نزل بإنسان فقير فيكرمه بما قدر عليه، فقد ينزل هذا الرجل على شخص غني، ويكون إكرامه بأن يذبح له ذبيحة، ويدعو مَنْ حوله، وقد ينزل على آخر ويكون إكرامه له أن يقدم له صحناً من التمر؛ لأن الأول عنده مال، وهذا فقير.
كذلك باعتبار الضيف، فالضيوف ليسوا على حد سواء، ينزل بك ضيف، صاحب لك، ليس بينك وبينه شيء من التكلف فتكرمه بما يليق به، وينزل عليك ضيف كبير عند الناس في ماله، وفي علمه، أو في سلطانه، فتكرمه بما يليق به، وينزل عليك شخص من سِطَة الناس تكرمه ـ أيضاً ـ بما يليق به.
ومن الإكرام ـ أيضاً ـ أن لا تقدِّر عليه قِراه كما فعل إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فإبراهيم عليه السلام لما نزل به الملائكة راغ إلى أهله، قال العلماء: انطلق مسرعاً بخفية، حتى لا يقولوا شيئاً؛ لأنه جرت العادة أن الضيف إذا أراد المضيف أن يكرمه قام يحلف: والله لا تفعل كذا، ولا تفعل كذا، فإبراهيم ذهب مسرعاً بخفية، وجاء بعجل حنيذ سمين، وبعض الناس يكرم، ثم إذا قدم الغداء يقول: تفضل، والله ما وجدنا هذا اللحم اليوم إلا الكيلو بعشرة، أو اللحم غالٍ اليوم، لكن أنتم أهل لذلك! وهذا فيه مِنّةٌ.
أو يقول: والله ما وجدت هذه الشاة إلا بمائتي ريال، وأخذ الذباح لها خمسين ريالاً، وما أشبه ذلك؛ فهذا لا يجوز، ولهذا قال العلماء: يكره تقويم الطعام أمام الضيف؛ لأنه مهما كان الأمر فسوف ينكسر خاطره، ولا يمكن أن يخرج وهو مسرور بهذا العمل.
وقوله: «المسلم» خرج به الكافر، وهو عامٌّ للكافر الذمي، والحربي، والمستأمِن، والمُعَاهَد، وهذا هو المشهور من المذهب، حيث اشترطوا أن يكون الضيف مسلماً، ولكن الصحيح أنه يعم المسلم وغير المسلم؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام:«من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه»
(1)
، وهذا عامٌّ، ولم يقل: أخاه، فإذا نزل بك الذمي، وجب عليك أن تكرمه بضيافته.
قوله: «المجتاز به» يعني الذي مر بك وهو مسافر، وأما المقيم فإنه ليس له حق ضيافة، ولو كان المقيم له حق الضيافة لكان ما أكثر المقيمين الذين يقرعون الأبواب! فلا بد أن يكون مجتازاً، أي: مسافراً ومارّاً، حتى لو كان مسافراً مقيماً يومين، أو ثلاثة، أو أكثر، فلا حق له في ذلك، بل لا بد أن يكون مجتازاً.
قوله: «في القرى» دون الأمصار، والقرى البلاد الصغيرة، والأمصار البلاد الكبيرة، قالوا: لأن القرى هي مظنة الحاجة، والأمصار بلاد كبيرة فيها مطاعم وفنادق وأشياء يستغني بها
(1)
الروض المربع مع حاشية ابن قاسم (7/ 439).
الإنسان عن الضيافة، وهذا ـ أيضاً ـ خلاف القول الصحيح؛ لأن الحديث عامّ، وكم من إنسان يأتي إلى الأمصار، وفيها الفنادق، وفيها المطاعم، وفيها كل شيء، لكن يكرهها ويربأ بنفسه أن يذهب إليها، فينزل ضيفاً على صديق، أو على إنسان معروف، فلو نزل بك ضيف ولو في الأمصار فالصحيح الوجوب.
قال في الروض: «ولا يجب إنزاله ببيته مع عدم مسجد ونحوه»
(1)
، والصحيح أنه يجب أن ينزله في بيته ولو وجد مأوى ومساجد مفتوحة لأن هذا من إكرامه؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام أعطانا كلمة جامعة مانعة واضحة، وهي:«فليكرم ضيفه»
(2)
، وليس من إكرامه أنه إذا تعشى، أو تغدَّى تقول له: انصرف! إذاً نقول: يجب إكرامه بما جرت به العادة في طعامه، وشرابه، ومنامه، والحديث عامٌّ.
ومناسبة ذكر الضيافة في كتاب الأطعمة: أن هذا من باب الاستطراد. لما ذكر ما حرم لحقَّ الله من الحيوانات ثم ذكر ما يتعلق باحترام مال المسلم ذكر أيضاً الضيافة فهذا وجه المناسبة.
قوله: «يوماً وليلةً» لقول النبي عليه الصلاة والسلام: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته» ؟ قالوا: وما جائزته يا رسول الله؟ قال: «يوم وليلة» ، أو «يومه وليلته» ، وبعد
(1)
أخرجه البخاري في الأدب/ باب من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذِ جاره (6019)، ومسلم في اللقطة/ باب الضيافة ونحوها (4513)(48) عن أبي شريح العدوي رضي الله عنه.
(2)
أخرجه البخاري في الأدب/ باب إكرام الضيف وخدمته إياه بنفسه
…
(6135)، ومسلم في اللقطة/ باب الضيافة ونحوها (4513)(48) عن أبي شريح العدوي رضي الله عنه.
اليوم والليلة إلى ثلاث صدقة
(1)
، وما عدا ذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«ولا يحل له أن يثوي فيحرجه»
(2)
«لا يحل له» أي: للضيف، «أن يثوي» أي: يبقى، إذاً الضيف إذا بقي ثلاثة أيام يغادر ولا يبقى، وقد علَّل الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك فقال:«فيحرجه» فعُلم من هذا التعليل أنه إذا كان لا يحرجه فلا بأس؛ لأنه يوجد بعض الناس لو يبقى عندك أشهراً فأنت مسرور منه، ولا سيما إذا كان ضيفاً على العزاب، فالعزاب يحبون أن ينزل عليهم الضيف؛ لأنه يؤنسهم، وليس هناك نساء يخجلون، ويتعبون من الضيف.
فالمهم أن قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «فيحرجه» يفيد أنه إذا لم يكن فيه إحراج فلا بأس أن يبقى الضيف، ولو فوق ثلاثة أيام.
والحاصل: أن الضيافة واجبة بأربعة شروط:
الأول: أن يكون الضيف مسلماً.
الثاني: أن يكون مسافراً.
الثالث: أن يكون في القرى.
الرابع: المدة وهي يوم وليلة.
(1)
أخرجه البخاري في الأدب/ باب إكرام الضيف وخدمته إياه بنفسه
…
(6135) عن أبي شريح الكعبي رضي الله عنه.
(2)
أخرجه أحمد (2/ 97)، وابن ماجه في الأطعمة/ باب الكبد والطحال (3314)، والبيهقي (9/ 257) والحديث في إسناده مقال، انظر: الخلاصة (1/ 11)، والتلخيص (1/ 25).
بَابُ الذَّكَاةِ
لَا يُبَاحُ شَيْءٌ مِنَ الْحَيَوَانِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ بِغَيْرِ ذَكَاةٍ، إِلاَّ الْجَرَادُ، وَالسَّمَكُ، وَكُلُّ مَا لَا يَعِيشُ إِلاَّ فِي الْمَاءِ،
..................
قوله: «الذكاة» يعني الذبح، وأصلها من الذكاء، وهو الحدة والنفوذ، ووجه الارتباط أن الذبح يكون بآلة حادة ونافذة، ومنه الذكاء؛ لأن الذكي يكون حاد الذهن، ونافذ البصيرة.
أما في الشرع: فهو إنهار الدم من بهيمة تحل، إما في العنق إن كان مقدوراً عليها، أو في أي محل من بدنه إن كان غير مقدور عليها.
والذكاة شرط لحل الحيوان المباح، فكل حيوان مباح فإنه لا يحل إلا بذكاة.
وهل يشمل ذلك ما أبيح للضرورة، فلو أن إنساناً اضطُر إلى حمار فهل لا بد لحله من الذكاة؟
الجواب: نعم، فلا نقول: إن هذا في الأصل حرام فيحل سواء ذكيته، أم خنقته، أم أصبته في أي موضع من بدنه، بل نقول: إنه لما أبيح للضرورة صار حكمه حكم ما أحل لغير ضرورة.
قوله: «لا يباح شيء من الحيوان» أي: لا يحل.
قوله: «المقدور عليه بغير ذكاة» هذا فيه نظر؛ لأننا ذكرنا تعريف الذكاة الشامل للمقدور عليه، والمعجوز عنه، وأن الذكاة إنهار الدم من حيوان مأكول، إما في الرقبة، وإما في
أي موضع كان من بدنه عند العجز، وحينئذٍ لا نحتاج إلى تقييد ذلك بقولنا:«المقدور عليه» ؛ لأن الذكاة تكون حتى في غير المقدور عليه، كما سيأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ في كلام المؤلف.
فإن قلت: ما الدليل على أنه لا يحل؟ فالدليل قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3]، فاشترط الله الذكاة، فإذا اشترط الله الذكاة لحل هذه التي أصابها سبب الموت، فكذلك غيرها من باب أولى؛ لأنا نقول: إذا كانت هذه التي أصيبت بسبب الموت لا تحل إلا بذكاة، فالتي لم تصب من باب أولى؛ لأنه إذا لم يُعفَ عن الذكاة في هذه التي أصيبت بسبب الموت، فألاَّ يعفى عنها فيما سواها من باب أولى، وحينئذٍ لا يحل إلا بذكاة.
أما التعليل فهو ما أجمع عليه الأطباء من أن احتقان الدم في الحيوان مضرٌّ جدّاً بالصحة، ويسبب أمراضاً عسيرة البرء، وحينئذٍ نعرف حكمة الشارع في إيجاب الذكاة، ولهذا فالمنخنقة، والموقوذة، والمتردية، والنطيحة، وما أكل السبع، هذه الخمس أصيبت بما يُميتها، يعني ما ماتت حتف أنفها، ومع ذلك لم تحل؛ لاحتقان الدم فيها.
قوله: «إلا الجراد» فيحل بدون ذكاة، مع أن الجراد لا يعيش إلا في البر، لكنه يحل بغير ذكاة، لماذا؟
الجواب: أولاً: من حيث الدليل قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أحلت لنا
ميتتان ودمان، فأما الميتتان فالجراد والحوت»
(1)
، وهذا يروى من حديث ابن عمر موقوفاً عليه، ومرفوعاً بسندٍ ضعيف، لكن حتى لو كان موقوفاً عليه فله حكم الرفع؛ لأن هذه الصيغة من الصحابي يحكم لها بالرفع.
ثانياً: من حيث التعليل والحكمة فالجراد ليس فيه دم حتى يحتاج إلى إنهاره؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما أنهر الدم وذُكر اسم الله عليه فكُلْ»
(2)
.
وقال بعض العلماء: لا بد أن يموت بسبب من الإنسان، ولو مات بدون سببٍ من الإنسان فإنه لا يحل، لكنه قول ضعيف.
قوله: «والسمك» السمك يعيش في الماء، وعلى هذا فقوله:
«وكل ما لا يعيش إلا في الماء» من باب عطف العامّ على الخاص، فكل شيء لا يعيش إلا في الماء فإنه يحل بدون ذكاة، والدليل من القرآن قوله تعالى:{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} [المائدة: 96].
ومن السنة ما في حديث أبي عبيدة الطويل الذين بعثهم النبي صلى الله عليه وسلم في سرية، وأعطاهم تمراً، ونفد التمر، وجاعوا، حتى
(1)
أخرجه البخاري في الشركة/ باب قسمة الغنائم (2488)، ومسلم في الأضاحي/ باب جواز الذبح بكل ما أنهر الدم (1968) عن رافع بن خديج رضي الله عنه.
(2)
أخرجه البخاري في المغازي/ باب غزوة سيف البحر وهم يتلقون عيراً
…
(4361)، ومسلم في الصيد والذبائح/ باب إباحة ميتات البحر (1935) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
قيَّض الله لهم حوتاً كبيراً يسمى العنبر، وجدوه على الساحل، وكان عظيم الجسم، حتى إنه ليجلس النفر في قحف عينه فيسعهم من كبره، وحتى إنهم أخذوا ضلعاً من أضلاعه، ونصبوه، ورحلوا أكبر جمل عندهم فمر من تحت الضلع، فأكلوا، وشبعوا، وأتوا بشيء منه للنبي صلى الله عليه وسلم
(1)
.
وكذلك ـ أيضاً ـ حديث ابن عمر رضي الله عنهما: «أحلت لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان فالجراد والحوت»
(2)
، فصار في حل السمك والحوت بغير ذكاة دليل من الكتاب، ومن السنة.
وهو حلال ولو كان فيه دم، ومعلوم أن السمك الكبير فيه دم.
فإن قلت: كيف يحل وفيه دم محتقن، وقد علَّلتَ تحريم الميتة، وشبهها بأن فيها دماً محتقناً ضاراً؟
قلنا: إن الضرر، وانتفاء الضرر، بيد من بيده النفع والضر، وهو الله عز وجل، وإذا أباح الله لعباده ميتة فإننا نجزم بأن دمها المحتقن لا يضر، وهذا من حكمة الله عز وجل؛ وذلك لأن الحصول على السمك حتى تذكيه أمر متعسِّر، أو متعذِّر، فلذلك كان من حكمة الله عز وجل ورحمته أنه أباح لعباده هذا السمك بدون ذكاة.
(1)
سبق تخريجه ص (55).
(2)
أخرجه البخاري معلقاً بصيغة الجزم في الذبائح والصيد/ باب ذبائح أهل الكتاب، ووصله البيهقي (9/ 282) عن عليّ بن أبي طلحة عنه. وانظر: الإرواء (8/ 165).
إذاً كل حيوان مباح يشترط لحلِّه الذكاة، إلا حيوان البحر، والجراد، ولو وجدنا غير الجراد مما أباح الله وليس فيه دم، فحكمه حكم الجراد.
ويوجد الآن أشياء تطير في المزارع شبيهة بالجراد، فهذه ـ أيضاً ـ إذا أخذ منها شيء وجمع، وأُكل بعد أن يشوى بالنار، أو يُغلى بالماء صار حلالاً.
وَيُشْتَرَطُ لِلذَّكَاةِ أَرْبَعَةُ شُرُوطٍ: أَهْلِيَّةُ الْمُذَكِّي، بِأَنْ يَكُونَ عَاقِلاً، مُسْلِماً أَوْ كِتَابِيّاً، وَلَوْ مُرَاهِقاً، أَوِ امْرَأَةً، أَوْ أَقْلَفَ، أَوْ أَعْمَى،
................
قوله: «ويشترط للذكاة أربعة شروط» ظاهر كلام المؤلف الحصر، وأن الشروط أربعة، ولكن سيأتينا ـ إن شاء الله تعالى ـ بعد الكلام عليها أن هناك شروطاً أكثر من أربعة تبلغ إلى عشرة.
قوله: «أهلية المذكي» وذلك بأن يجتمع فيه وصفان: العقل، والدين، أما العقل فقال المؤلف:
«بأن يكون عاقلاً» والعقل معروف، وهو ما يعقل به الإنسان الأشياء، وضد العاقل مَن لا عقل له، سواء كان مجنوناً، أو مُبَرْسَماً، أو سَكراناً، أو دون التمييز، المهم أنه لا عقل له، ولا تمييز، فهذا لا تصح ذكاته.
فلو أن طفلاً دون التمييز أمسك عصفوراً وذبحه فإن هذا العصفور لا يحل؛ لأنه غير عاقل، ولو أن مجنوناً سطا على شاةٍ، وذبحها في رقبتها فإنها لا تحل؛ لأنه ليس له عقل.
ولماذا يشترط العقل؟
الجواب: قالوا: لأنه لا بد من قصد التذكية؛ لأن الله
يقول: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3]، والفعل لا بد فيه من قصد، وغير العاقل ليس له قصد.
ومن هنا نأخذ شرطاً وهو قصد التذكية، يعني زيادة على العقل نشترط أن يقصد التذكية، فإن لم يقصدها، مثل لو أن إنساناً أمسك بسكينٍ ليقطع حبلاً، وكان الحبل مرتفعاً على رقبة شاةٍ، وهو بقوة اتكائه على الحبل انقطع الحبل بسرعة، ونزلت السكين على رقبة الشاة وقطعتها، فلا تحل؛ لأنه لم يقصد التذكية.
مسألة: هل يشترط مع ذلك قصد التذكية للأكل، أو إذا قصد التذكية لغرض غير الأكل حلت الذبيحة؟
الجواب: في هذا قولان لأهل العلم، منهم من قال: يشترط ذلك، وأنه لا بُد أن يقصد الأكل، فإن لم يقصد الأكل لم تحل الذبيحة؛ لأن الذبح إيلام وإتلاف، إيلام للحيوان، وإتلافٌ للمال، وإذا لم يقصد الإنسان الأكل فلا يحل له أن يؤذي الحيوان، ويتلف المال.
وفي أي صورة يمكن ألا يقصد الأكل؟
الجواب: مثل إنسان عنده شاة كثيرة الثغاء، وهو يريد أن ينام، وعجز أن ينام منها، فقال: هذه التي آذتني، لأذهبنَّ وأذبحها، فذهب وذبحها لا لقصد الأكل، أو رجل حصل نزاع بينه وبين آخر في شاةٍ فقال: هذه التي أدَّتْ بي إلى هذا النزاع والله لأذبحنَّها، فذبحها لقصد حَلِّ يمينه، وما قصد أكلها، فمن العلماء من قال: إنها لا تحل، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن
تيمية رحمه الله، ومنهم من قال: إنها تحل؛ لأنه قَصَد التذكية، وقَصْد التذكية قصد صحيح، سواء قصد الانتفاع بها بالأكل، أو قصد حل يمينه، أو قصد اندفاع ضررها.
فتولد من هذا الشرط شرطان:
الأول: قصد التذكية.
الثاني: هل يشترط قصد الأكل أو لا يشترط؟
على الخلاف الذي سبق ذكره.
والظاهر لي من النصوص أنه إذا قصد التذكية فإنها تحل وإن لم يقصد الأكل، على أن لقائل أن يقول: إن عموم قوله: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} مستثنى من قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} ، ومعلوم أن التحريم هنا تحريم الأكل، فيكون المعنى إلا ما ذكيتم للأكل، فالمهم أن اختيار شيخ الإسلام رحمه الله له قوة من النظر بلا شك، لكن الذي يظهر أن الأخذ بالعموم أرفق بالناس.
مسألة: لو أن رجلاً صال عليه جمل، وكان معه سيف، فأراد أن يدافع عن نفسه فقال: بسم الله، وضربه دفاعاً عن النفس؛ حتى أصاب منحره، أو مذبحه، فهل يحل أو لا؟
الجواب: هذا لا يحل؛ لأنه ما قصد التذكية، بل قصد الدفاع عن نفسه، ولهذا لا يهمهم أن يضربه في رقبته، أو في رأسه، أو في ظهره، أما لو قصد التذكية، وقال: ما دام صال عليّ فسأذبحه ذبحاً، وقصد التذكية مع قصد دفع الصول، فهنا ينبني على الخلاف في اشتراط قصد الأكل أو لا.
قلنا: إن أهلية المذكي تدور على أمرين: العقل والدين، فما هو الدين؟ قال المؤلف:
«مسلماً» المسلم هنا من دان بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذه الشريعة نسخت جميع الأديان، فكلُّ الأديان باطلة ما عدا شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، ومَن زعم أن ديناً غير الإسلام قائمٌ اليوم مقبول عند الله فهو كافر مرتد؛ لأنه كذَّب قول الله تعالى:{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلَامُ} [آل عمران: 19]، وهذه الجملة تُفيد الحصر؛ لتعريف طرفيها، وقال:{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85] فلا فرق بين اليهودي، والنصراني، والشيوعي، والمرتد، وغيرهم في أن دينهم لن يقبل، ولن ينفعهم عند الله.
مسألة: هل يمكن أن يُطلق الإسلام على غير المسلمين في حال قيام شرائعهم؟
الجواب: نعم، وهذا في القرآن كثير، قال تعالى عن بلقيس:{رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل: 44]، والآيات في هذا المعنى كثيرة.
قوله: «أو كتابيّاً» أي: يهوديّاً، أو نصرانيّاً، فإن اليهودي والنصراني تحل ذبيحتهما؛ لقوله تعالى:{الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [المائدة: 5]، قال ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير الآية: طعامهم ذبائحهم
(1)
،
(1)
أخرجه البخاري في الطب/ باب ما يذكر في سُمِّ النبي صلى الله عليه وسلم (5777) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وهذا أمر معلوم؛ لأننا لو فسَّرنا الطعام هنا بالخبز، والتمر، وما أشبهه لم يكن فرق بين الكتابيين وغير الكتابيين، فإن غير الكتابيين ـ أيضاً ـ يحل لنا أن نأكل خبزهم، وتمرهم، وما أشبه ذلك، فالمراد بطعامهم ذبائحهم، وإنما أضافه إليهم؛ لأنهم ذبحوه ليَطْعَموه.
ومن السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأكل ذبائح اليهود، فقد أهدت إليه امرأة شاةً في خيبر فقبلها
(1)
، ودعاه يهودي إلى خبز شعير، وإهالةٍ سنخة وهي الشحم المتغير المنتن، فقبل
(2)
، وأكل عليه الصلاة والسلام، وثبت ـ أيضاً ـ في الصحيح أن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه أخذ جراباً من شحم رُمي به في خيبر، فالتفت فإذا النبي صلى الله عليه وسلم وراءه يضحك
(3)
، وهذه سنة إقرارية.
فإن قلت: أفلا يمكن أن يكون الذابح مسلماً؟
الجواب: نقول: هذا احتمال بعيد، وخلاف الظاهر، ولو كان لا يحل ما قدموه للرسول عليه الصلاة والسلام إلا بتذكية مسلم، ولكان الرسول عليه الصلاة والسلام يسأل عنه حينئذٍ؛
(1)
أخرجه الإمام أحمد (3/ 210، 270) إلا أن الحافظ ابن حجر قد نقل هذا الحديث في «أطراف المسند» (1/ 472) بلفظ: «أن خياطاً» بدل «يهودياً» وهو الموافق لبقية روايات المسند (3/ 252، 289، 290) وهو الموافق لرواية البخاري (5379) غير أنه لم يذكر خبز الشعير والإهالة السنخة.
(2)
أخرجه البخاري في فرض الخمس/ باب ما يصيب من الطعام في أرض الحرب (3153)، ومسلم في الجهاد والسير/ باب جواز الأكل من طعام الغنيمة في دار الحرب (1772) عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه، واللفظ لمسلم.
(3)
أخرجه البخاري في الذبائح والصيد/ باب ذبيحة المرأة والأَمَة (5504) عن كعب بن مالك رضي الله عنه.
لأن الأصل فيما بأيديهم أنهم هم الذين ذبحوه.
مسألة: هل نقول: طعام الذين أوتوا الكتاب كل ما اعتقدوه طعاماً، وإن لم يكن على الطريقة الإسلامية؟
الجواب: لا، وهو المشهور عند أهل العلم عامتهم، وذهب بعض العلماء ـ من الأقدمين والمتأخرين ـ إلى أن ما اعتقدوه طعاماً فهو حلال لنا؛ لأن الاختصاص في قوله تعالى:{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المائدة: 5] لولا أنَّ له فائدة لم يكن لذكره فائدة، وهي أن طعامهم يتميَّز عن طعامنا باعتقادهم إياه طعاماً، فإن كانوا مثلاً يعتقدون أن المصعوق بالكهرباء ونحوه يعتبر طعاماً فهو حلٌّ لنا، كما لو أن أحداً من الفقهاء خالفنا في شرط من شروط الذكاة، وذكى الذبيحة على اعتقاده فإنها تكون حلالاً لنا، ولنفرض أن شافعياً ذبح ذبيحة ولم يسم الله؛ فهي حلال لنا وله؛ لأنه اعتقدها حلالاً، أما لو ذبحها من يعتقد التحريم فهي حرام.
فالمهم أن بعض العلماء قال: ما اعتقده أهل الكتاب طعاماً فإنه حلال، ولا نحتاج إلى قطع الحلقوم والمريء، ولا إلى التسمية، لكن الصواب الذي عليه جمهور العلماء خلاف ذلك، وأنه لا بد أن يذكى وينهَر الدم فيه، ولا بد أن يسمى الله عليه؛ كما سيأتينا ـ إن شاء الله تعالى ـ في الشروط المستقبلة.
وقوله «كتابياً» هل يشترط أن يكون الكتابي أبواه كتابيان؟
الجواب: الصحيح أنه لا يشترط أن يكون أبواه كتابيين، وأن لكل إنسان حكم نفسه، فلو قُدِّر أن الأب شيوعي، أو وثني،
وأن ابنه اعتنق دين اليهود مثلاً، أو دين النصارى، فإن ذبيحته ـ على القول الراجح ـ حلال؛ لأنه داخل في عموم قوله تعالى:{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5].
وقد شكك بعض الناس في عصرنا في حل ذبيحة اليهودي والنصراني، وقال: إنهم الآن لا يدينون بدين اليهود، ولا النصارى، وهذا ليس بصواب، نعم إن قالوا: نحن لا ندين بهذه الأديان، ولا نعتبرها ديناً، فإن ردتهم واضحة، أما إذا قالوا: إنهم يدينون بها، ولكن عندهم شركاً، فإن ذلك لا يمنع، بدليل أن الله ـ تعالى ـ أنزل سورة المائدة، وحكى فيها عن النصارى ما حكى من القول بالتثليث، وكفَّرهم بذلك، فقال سبحانه:{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} [المائدة: 73]، وفي نفس هذه السورة قال سبحانه:{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5]، فالقرآن نزل بعد أن غيَّروا وبدَّلوا، بل بعد أن كفروا، ومع ذلك أحل ذبائحهم ونساءهم، وعلى هذا، فما دام هؤلاء يقولون: إنهم يدينون بدين النصارى، أو بدين اليهود فإن لهم حكم اليهود والنصارى، ولو كان عندهم تبديل وتغيير، ما لم يقولوا: إنهم مرتدون.
قوله: «ولو مراهقاً» المراهق من قارب البلوغ، فظاهر كلام الماتن أن المميز ـ الذي دون المراهقة ـ لا تحل ذبيحته، ولكن المذهب خلاف ذلك، وأن المميز تحلّ ذبيحته؛ لأنه عاقل يصح منه القَصْد، فتحل ذبيحته.
والمميز قيل: مَن بلغ سبع سنين، وقيل: من فهم الخطاب
وردَّ الجواب، وهذا القول هو الراجح، ولكن الغالب أن ذلك يحصل في تمام سبع سنواتٍ، ومَنْ ميَّز قبل ذلك فإنه يعتبر خارجاً عن الغالب، ومن تأخر تميزه عن ذلك فهو ـ أيضاً ـ خارج عن الغالب، فالغالب أن السبع وما قاربها نزولاً أو علوّاً يكون بها التمييز.
قوله: «أو امرأة» أي: فتحل ذبيحتها؛ لعموم قوله تعالى: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3]، والخطاب يشمل الرجال والنساء.
ولأن جارية كانت ترعى غنماً للأنصار بسلع، فأصاب الموت واحدة من الغنم، فأخذت حجراً فذبحتها به، فأجاز النبي صلى الله عليه وسلم ذلك
(1)
.
وقوله: «أو امرأة» هذا إن كان فيه خلاف فهو خلاف ضعيف، وإلاَّ فإنه رفع للتوهم.
وقوله: «أو امرأة» يشمل الطاهرة والحائض، فحتى لو كانت حائضاً فإن ذبيحتها تحل؛ لأن لها أن تذكر الله وتسمي، بل إن منعها من قراءة القرآن في النفس منه شيء؛ لأنه كما قال شيخ الإسلام: ليس في منع الحائض من قراءة القرآن سنة صحيحة صريحة.
قوله: «أَوْ أَقْلَفَ» الأقلف هو الذي لم يختن، أي: لم تؤخذ قُلفته، فتحل ذبيحته، وأشار المؤلف إلى ذلك؛ لأن بعض العلماء قال: إن الأقلف لا تصح ذبيحته، ولا تؤكل، لكن هذا ليس
(1)
أخرجه مسلم في الأقضية/ باب نقض الأحكام الباطلة
…
(1718)(18) عن عائشة رضي الله عنها.
بصواب، والصواب أن ذبيحته حلال، وأنها لا تكره، ولا علاقة بين القُلفة وبين الذبح.
قوله: «أَوْ أَعْمَى» فتصح ذبيحته إذا عرف موضع الذبح، وأصابه.
وَلَا تُبَاحُ ذَكَاةُ سَكْرَانَ، وَمَجْنُونٍ، وَوَثَنِيٍّ، وَمَجُوسِيٍّ، وَمُرْتَدٍّ.
قوله: «وَلَا تُبَاحُ ذكاة سَكْرَانَ» لأنه غير عاقل، وليس له قصد.
قوله: «وَمَجْنُونٍ» فلا تباح ذكاته؛ لفقد العقل.
قوله: «وَوَثَنِيٍّ» وهو من يعبد الأوثان، فلا تصح ذكاته؛ لأنه ليس بمسلم ولا كتابي، فالذي يعبد وثناً، أو ملكاً، أو نبياً لا تصح ذكاته، والذي يعبد الله لكن يدعو النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً لا تصح ذكاته، وكذلك الذي يعبد الله ويدعو ولياً فإنه لا تحل ذبيحته، وهذه المسألة مشكلة؛ لأنه يوجد في بعض البلاد الإسلامية قوم يدعون القبور والأموات، ويستغيثون بهم، حتى وإن كانوا بعيدين عنهم، تجده يدعو الولي، أو النبي، أو يدعو علياً، أو الحسن، أو الحسين، وما أشبه ذلك، وهذا شرك، فمن كان كذلك فإن ذبيحته لا تحل لأنه مشرك ولو كان يعبد الله بالصلاة، والزكاة، والصيام، والحج؛ لأن الله تعالى يقول:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48]، فالشرك لا يغفره الله لا حكماً ولا جزاءً، وبناء على ذلك فإن المشرك لا تصح منه عبادة، ولا يصح منه أي عمل يشترط له الإسلام.
قوله: «وَمَجُوسِيٍّ» وهو الذي يعبد النار، وعطفه على الوثني
من باب عطف الخاص على العام؛ لأنه في الواقع يعبد الوثن لكن وثنه نار، فالمجوس الذين يعبدون النار لا تصح ذبيحتهم، وإنما نص عليه رحمه الله؛ لأن المجوس تؤخذ منهم الجزية كأهل الكتاب، لكن لا تحل ذبائحهم بإجماع العلماء، إلاَّ أنه يُروى عن أبي ثور أنه أباح ذبائح المجوس قياساً على أخذ الجزية منهم، والصواب أن أخذ الجزية منهم لا لأنهم مجوس، ولكن لأن جميع الكفار إذا بذلوا الجزية وجب الكف عن قتالهم، سواء كانوا من أهل كتاب، أو من المجوس، أو من الوثنيين، أو غيرهم لكن نص على المجوس لئلا يقول قائل إنهم أهل ذمة فتجوز ذبائحهم ولا تجوز مناكحتهم.
قوله: «وَمُرْتَدٍّ» أي: عن الإسلام، بأي نوع من أنواع الردَّة، فمن كذَّب خبراً من أخبار الله مع علمه أنه من خبر الله فهو مرتد، لا تحل ذبيحته، ومن جحد وجوب الفرائض الظاهرة المجمع عليها فهو مرتد، لا تحل ذبيحته، ومن سخر بشيء من الدين فهو مرتد، بل من كره ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم أو شيء منه فهو مرتد، قال تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ *} [محمد]، ولا يحبط العمل إلاَّ بالردة، قال تعالى:{لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65]{وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [البقرة: 217]، وتارك الصلاة مرتد فلا تحل ذبيحته، وعلى قول من يقول: إنه لا يكفر تحل ذبيحته، فلو ذبح تارك الصلاة ذبيحة، ودعا إليها رجلين، أحدهما يقول: إن تارك الصلاة لا تحل ذبيحته؛ لأنه مرتد،
والثاني يقول: تحل ذبيحته؛ لأنه غير مرتد، فهنا يأكلها من لا يكفِّره، ومن كفَّره لا يأكلها، نعم لو أن من يقول بعدم ردته يترك أكلها تعزيراً له وهجراً لما عمل لعله يرتدع، فلو فعل ذلك لكان خيراً.
الثَّانِي: الآلَةُ: فَتُبَاحُ الذَّكَاةُ بِكُلِّ مُحَدَّدٍ وَلَوْ مَغْصُوباً مِنْ حَدِيدٍ وَحَجَرٍ وَقَصَبٍ وَغَيْرِهِ، إِلاَّ السِّنَّ والظُّفُرَ.
قوله: «الثاني: الآلة» أي: الثاني من شروط حل الذكاة الآلة، فلا بد أن يكون الذبح بآلة، فلا يصح الخنق، ولا التردية ـ أي: أن يرديها من الجبل حتى تموت ـ ولا الحذف بأن يحذفها بشيء حتى تموت، ولا الضرب، فكل هذا لا تحل به الذبيحة، بل لا بد من آلة، ولا بد في هذه الآلة من أن تكون محدَّدة؛ ولهذا قال المؤلف:
«فتباح الذكاة بكل محدد» أي: له حد يقطع، أما إذا لم يكن له حد فلا تحل الذكاة به، فلو صعقها بالكهرباء فلا تحل؛ لأنها غير محددة، ولا تنهر الدم، ولا بد من آلة محدَّدة تنهر الدم، أي: تجعله يسيل.
قوله: «ولو مغصوباً» «لو» هذه إشارة خلاف؛ لأن بعض العلماء يقول: إن الآلة المغصوبة، أو المحرَّمة لحق الله كالذهب والفضة، لا تحل الذكاة بها؛ لأن ما ترتب على غير المأذون فهو فاسد؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:«من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد»
(1)
، فإذا غصب إنسان سكيناً من شخص، أو سرقها ثم ذبح بها فعلى كلام المؤلف تحل الذبيحة، وعلى القول الثاني لا تحل، وحجة
(1)
أخرجه البخاري في الصيام/ باب من لم يدع قول الزور والعمل به في الصوم (1903) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
المؤلف أن التحريم هنا ليس خاصاً بالذبح، فتحريم استعمال المغصوب عام، وعلى هذا فتصح الذكاة بالمغصوب؛ لأن الشرع لم يقل: لا تذكِّ بالمغصوب، حتى نقول: إنه إذا ذكَّى فقد عمل عملاً ليس عليه أمر الشرع، بل الشرع قال: لا تغصب أموال الناس، ولا تستعملها في أي شيء، فالنهي عام، ولمَّا لم يكن النهي خاصاً لم يفسد الذبح.
ونظير ذلك، الغِيبة محرمة على الصائم وغير الصائم، فلو أن رجلاً اغتاب الناس وهو صائم لا يفسد صومه؛ لأن النهي عن الغيبة عام في الصيام، وغير الصيام، وإن كان في الصيام قال الرسول صلى الله عليه وسلم:«من لم يدع قول الزور، والعمل به، والجهل، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه»
(1)
، ولا شك أن الغيبة من قول الزور.
ولو صلى الإنسان بثوب مغصوب، فالمذهب يقولون: إنها لا تصح، فيحصل تناقض في كلامهم، والقول الثاني: أنها تصح؛ لأن النهي ليس عن الصلاة في الثوب المغصوب، بل عن غصب الثوب واستعماله، فالنهي عام.
قوله: «من حديد وحجر» (من) بيان لكل محدد، أي: سواء كان المحدد من حديد، أم حجر. فإذا كان الحجر محدداً ومررت به على الرقبة حتى ينهر الدم أصبحت الذكاة به.
قوله: «وقصب» كل قصب يكون محدداً تحل به الذكاة، ولو
(1)
أخرجه البخاري في الذبائح والصيد/ باب الصيد إذا غاب عنه يومين أو ثلاثة (5484)، ومسلم في الصيد والذبائح/ باب الصيد بالكلاب المعلمة (6، 7)(1929) واللفظ له عن عدي بن حاتم رضي الله عنه.
جاء بآلة حدُّها يسير، لكنّه مَغَطَ رقبة الطائر حتى انقطعت بالمغط والذبح، فهنا لا تحل؛ لأنه اجتمع مبيح وحاظر، والنبي صلى الله عليه وسلم قال في الصيد:«إن وجدته غريقاً في الماء فلا تأكل، فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك»
(1)
، وهنا لا ندري هل انقطعت رقبة العصفور بالمغط، أو بالسكِّين؟
قوله: «وغيره» لأن القاعدة هي أن يكون محدداً ينهر الدم، فالخشب المحدد، وكل شيء محدد فإنه تباح التذكية به، وتحل الذبيحة.
مسألة: هل تحل الذكاة بالذهب؟ الصحيح أنها تصح مع الإثم؛ لأنه حرام.
قوله: «إلاَّ السن والظفر» المراد كل سِنٍّ وظفر، ولو كان محدداً، وعلى هذا فما يفعله الصبيان من قطع رقبة العصفور بأظفارهم، ثم يأكلونه حرام، حتى لو كان الظفر حادّاً، لقوله صلى الله عليه وسلم:«ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلْ، إلاَّ السن والظفر، أما السن فعظم، وأمَّا الظفر فمُدى الحبشة»
(2)
ومُدى: جمع مدية، وهي السكين، والحبشة معروفون.
وتعليل النبي صلى الله عليه وسلم فيه إشكال بالنسبة لقول المؤلف؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال: «أما السن فعظم» ، ولم يقل:«أما السِّنُّ فسنٌّ» ، ولو قال:
(1)
سبق تخريجه ص (55).
(2)
أخرجه مسلم في الصلاة/ باب الجهر بالقراءة في الصبح والقراءة على الجن (450) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
أما السن فسن، لقلنا: السن هو الذي لا تجوز الذبيحة به، لكنه قال:«أما السن فعظم» ، فالعلة أعم من المعلول؛ لأن كل سن عظم، وليس كل عظم سناً.
والعلماء مختلفون في هذا، فمنهم من قال: أما السن فعظم مع كونه سِنّاً، فإذا كان عظم وليس بسنٍّ فقد تخلَّف أحد جُزئي العلة وهي السن، فتحل الذبيحة به.
وقال بعض العلماء ـ ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن الذكاة لا تصح بجميع العظام؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «أما السنُّ فعظم» والتعليل بكونه عظماً معقول المعنى؛ لأن العظم إن كان من ميتة فهو نجس، والنجس لا يصح أن يكون آلة للتطهير والتذكية، وإن كان العظم من مذكاة فإن الذبح به تنجيس له، والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الاستنجاء بالعظام؛ لأنه ينجِّسه، والعظام زاد إخواننا من الجن؛ لأن الجن لهم كل عظم ذكر اسم الله عليه، يجدونه أوفر ما يكون لحماً
(1)
، وعليه يكون تعليل عدم جواز التذكية بالعظم معقول المعنى.
وأولئك قالوا: إن العلة مركَّبة من جزئين: السن، والعظم، ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم يريد العظام جميعاً لقال:«إلاَّ العظم والظفر» ، فلمّا لم يقل ذلك علمنا أنه أراد المعنيين.
لكن الراجح ما اختاره شيخ الإسلام؛ لأن التعليل واضح، والقاعدة الشرعية أن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً.
(1)
سبق تخريجه ص (55).
وقوله صلى الله عليه وسلم: «وأما الظفر فمدى الحبشة» فيه إشكال؛ لأننا لو فرضنا أن للحبشة مدى وسكاكين خاصة بهم، لا يستعملها إلاَّ هم، فهل تصح التذكية بها؟ لأن غير الظفر وإن كان حديداً يصنعونه على صفة معيّنة لا يصنعها إلاّ هم، لا يقتضي أن يكون خاصاً بهم؛ لأن الناس يذبحون بالمحدد في كل مكان، لكن الذين جعلوا أظفارهم مدى هم الحبشة؛ ولهذا لا يقصون أظفارهم بل يتركونها تكبر حتى تطول، ويذبحون بها كل ما يمكن ذبحه بها، وبناءً على ذلك نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الظفر؛ لأنها مدى الحبشة، لأن فيه مفسدتين:
الأولى: أننا لو جعلنا الأظفار آلة للذبح لفاتنا مشروعية القص للأظفار، وفي ذلك مخالفةٌ للفطرة.
الثانية: أنه بذلك يشبه سباع الطير، ونحن نهينا أن نتشبَّه بالحيوانات.
ويمكن أن نقول أيضاً: إنه يتضمن مشابهة الكفار؛ لأن الحبشة في ذلك الوقت كانوا كفاراً، والتشبه بالكفار محرم وأهل الحبشة لا يظهر أنهم كلهم أهل كتاب وعلى فرض أنهم كلهم أهل كتاب فإن التشبه بأهل الكتاب فيما يختص بهم محرم منهي عنه.
وقوله: «الظفر» يشمل ظفر الآدمي، وغيره، والمتصل، والمنفصل، وتقدم الخلاف في العظام.
مسألة: ما حكم الذبح بالأسنان التركيبية؟ إن كانت من عظم فعلى الخلاف، وإن كانت من غير العظام فيجوز الذبح بها،
هذا إذا كانت غير مركبة على الفم، فإن كانت مركبة على الفم فلا يجوز؛ لأنه يتلطخ بالدم النجس، ويكون متشبهاً بالسباع.
الثَّالِثُ: قَطْعُ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ، فَإِنْ أَبَانَ الرَّأْسَ بِالذَّبْحِ لَمْ يَحْرَمِ الْمَذْبُوحُ، وَذَكَاةُ مَا عُجِزَ عَنْهُ مِنَ الصَّيْدِ، وَالنَّعَمِ الْمُتَوَحِّشَةِ، وَالْوَاقِعَةِ فِي بِئْرٍ وَنَحْوِهَا، بِجَرْحِهِ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ مِنْ بَدَنِهِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ رَأْسُهُ فِي الْمَاءِ وَنَحْوِهِ فَلَا يُبَاحُ.
قوله: «الثالث: قطع الحلقوم والمريء» في الرقبة أربعة أشياء: ودجان، وحلقوم، ومريء.
«الودجان» : عرقان غليظان يحاذيان الحلقوم والمريء، ويسميان الشرايين.
«الحلقوم» : مجرى النفس.
«المريء» مجرى الطعام والشراب.
والحلقوم قصب مضلَّع، وهذا من حكمة الله ـ تعالى ـ أن جعله قصبة؛ لأن الحلقوم لو كان كالمريء لم يخرج النفس، ولو خرج لكان بمشقة شديدة، لهذا جعله الله قصبة، وجعله سبحانه ذا أضلاع، لأجل سهولة المضغ، وسهولة تنزيل الرأس ورفعه، والله سبحانه وتعالى حكيم ورحيم.
والحلقوم أعلى من المريء من جهة الجلد، أما من جهة الرقبة فالمريء أعلى.
فلا بد من قطع الحلقوم والمريء؛ لأن بقطعهما فقد الحياة، وأما الودجان فظاهر كلام المؤلف أنه لا يشترط قطعهما.
والدليل على اشتراط قطع الحلقوم والمريء أن هذا هو الذبح، وهو معروف عند العرب، أن الذابح يأتي على الرقبة فيقطع الحلقوم والمريء، وتعليل آخر أن بذهابهما ذهاب الحياة، فإذا انفتح الحلقوم مات الحيوان، إلا أن يبادر ويعالج فربما يعيش، وكذلك المريء مجرى الطعام والشراب، فإن الطعام مادة
الحياة كما أن النفس مادة الحياة، فبقطعهما تزول الحياة، فكان قطعهما واجباً.
مسألة: هل يشترط إبانتهما؟ لا يشترط، فلو قطع نصف الحلقوم ثم أدخل السكين من تحته، وقطع نصف المريء حلت الذبيحة؛ لأن قطعهما وإبانتهما ليست بشرط، وهو محل خلاف.
أما حكم قطع الودجين ـ على ما ذهب إليه فقهاؤنا ـ فهو سنة، وليس بشرط لحل الذبيحة، ولمَّا لم يرد في هذا نص صريح اختلف العلماء في هذه المسألة؛ لأن النص الصريح الصحيح الوارد في هذا المقام هو قوله صلى الله عليه وسلم:«ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل»
(1)
، وكذلك ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم وإن كان في سنده مقال ـ:«النحر في الحلق واللبَّة»
(2)
، فالمشهور من المذهب أن الشرط قطع الحلقوم والمريء.
وقيل: إن الشرط قطع الودجين، وإن لم يقطع الحلقوم والمريء، واستدلَّ هؤلاء بقوله صلى الله عليه وسلم:«ما أنهر الدم»
(3)
، ولم يقل: ما قطع النفس، أو قطع الطعام، ولا ريب عند كل عارف أنه لا يكون إنهار الدم إلا بقطع الودجين فقط أما الحلقوم والمرئ فمن كمال الذبح، واستدلوا ـ أيضاً ـ بأن النبي صلى الله عليه وسلم:«نهى عن شريطة الشيطان»
(4)
، وهي التي تذبح ولا تُفرى أوداجها، وهذا رواه أبو
(1)
رواه الدارقطني (4/ 283)، والبيهقي (9/ 278) وضعفه، انظر: نصب الراية (2/ 484)، والإرواء (2541).
(2)
سبق تخريجه ص (55).
(3)
أخرجه الإمام أحمد (1/ 289) عن ابن عباس رضي الله عنهما، وأخرجه أبو داود في الضحايا/ باب في المبالغة في الذبح (2826)، وابن حبان (5888) إحسان، والحاكم (4/ 113)، وابن عدي (5/ 1794) عن ابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهم، وضعفه ابن عدي وابن القطان في «بيان الوهم والإيهام» (2133).
(4)
أخرجه البخاري في الجهاد والسير/ باب ما يكره من ذبح الإبل والغنم في المغانم (3075)، ومسلم في الأضاحي/ باب جواز الذبح بكل ما أنهر الدم
…
(1968) عن رافع بن خديج رضي الله عنه.
داود وفيه ضعف، لكن يشهد له قوله صلى الله عليه وسلم:«ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل» .
ومنهم من قال: لا بد من قطع الأربعة جميعاً: الحلقوم، والمريء، والودجان.
ومنهم من قال: لا بد من قطع ثلاثة من أربعة: ودج واحد والحلقوم، والمريء، أو الودجين، والمريء، أو الحلقوم.
والخلاف في هذا طويل متشعب؛ لأنه ليس هناك نص واضح يدل على الاشتراط، لكن أقرب الأقوال عندي: أن الشرط هو إنهار الدم فقط، وما عدا ذلك فهو مكمل، ولا شك أن الإنسان إذا قطع الأربعة فقد حلت بالإجماع.
فإن لم يقطع الودجين، ولا المريء، ولا الحلقوم تكون الذبيحة حراماً بإجماع العلماء؛ لأنه ما حصل المقصود من إنهار الدم. وقد اختلف في حكم الذكاة بالأظفار على قولين فمنهم من قال: جميع الأظفار لا يجوز الذكاة بها، حتى لو كان عند الإنسان ظفر حيوان من جنس المدية؛ أي: السكين وذكى به فلا يصح، لعموم النهي الموارد.
ومنهم من قال: المراد بذلك ظفر الإنسان؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «مدى الحبشة» وكانوا يذكون بأظفارهم والعموم أولى وحتى
لو كان الظفر منفصلاً فإنه يحرم الذبح به وبعضهم قال. إذا كان ظفر الآدمي منفصلاً فإنه يحل ولكن الواجب العمل بعموم الحديث.
مسألة: ومن العلماء من قال إن الخرزة التي في الرقبة لا بد أن تكون تابعة للرأس عند الذبح وهي في طرف الحلقوم.
ومنهم من قال لا يشترط وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهو الصحيح فإذا قطع من وراء الخرزة فإنه يجزئ.
قوله: «فإن أبان الرأس بالذبح لم يحرم المذبوح» وهذا واضح؛ لأنه قطع ما يجب قطعه.
قوله: «وذكاة ما عُجِز عنه من الصيد، والنعم المتوحشة، والواقعة في بئر، ونحوها بجرحه في أي موضع كان من بدنه» «ذكاة» مبتدأ، وقوله:«بجرحه» : خبر المبتدأ، يعني ذكاة هذا النوع تكون بجرحه في أي موضع من بدنه.
وقوله: «ما عجز عنه من الصيد» أي: فذكاته «بجرحه في أي موضع كان من بدنه» مثل أن يلحق الإنسانُ ظبياً، ويعجز عنه، فيرسل عليه السكين، فتضربه في بطنه حتى يموت، فإنه يحل، مع أن الذبح ليس في الرقبة، لكن الله يقول:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] وأنا لم أستطع أكثر من ذلك.
وقوله: «والنعم» وهي: الإبل، والبقر، والغنم.
وقوله: «المتوحشة» أحياناً تشرد الإبل حتى لا يستطيع الإنسان أن يمسكها، فماذا يصنع بهذه؟ نقول: حكمها حكم الصيد، تحل بجرحها في أي موضع من بدنها، ودليل ذلك قوله تعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} ، ولأنه ندَّ بعيرٌ من إبل القوم، والنبي صلى الله عليه وسلم معهم، فرماه رجل بسهمٍ فحبسه، فقال النبي عليه الصلاة والسلام:«إن لهذه النعم أوابد كأوابد الوحش، فما ندَّ عليكم فاصنعوا به هكذا»
(1)
، فقوله:«ما ندَّ عليكم» يعني شرد حتى لم تتمكنوا منه «فاصنعوا به هكذا» أي: ارموه بالسهام، ولأن الصيد بإجماع المسلمين يحل في أي موضع أصيب، وهذا مثله، كما أشار إليه النبي عليه الصلاة والسلام.
فهذه ثلاثة أدلة تدل على حكم هذه المسألة من القرآن، والسنة، والقياس الصحيح على ما أجمع عليه العلماء.
وقوله: «والواقعة في بئر ونحوها» كأن تقع في مكان سحيق لا يمكن الوصول إليها، كما لو تردَّت من جبل شاهق، فالغالب أننا لا يمكن أن نصل إليها قبل أن تموت، فإننا في هذه الحال نرميها بالسهم في أي موضع من بدنها، وتحل؛ وعلة ذلك العجز عن ذبحها على الوجه المعتاد.
فتكون أدلة هذه المسألة هي الأدلة السابقة، إلاَّ أن الأدلة
(1)
سبق تخريجه ص (69).
السابقة فيما عُجِزَ عنه عَدْواً، وهذه فيما عجز عنه بالنسبة إلينا، إلا أن المؤلف استثنى فقال:
«إلا أن يكون رأسه في الماء ونحوه فلا يباح» إن كان رأسه في الماء فإنه لا يحل؛ لأننا لا ندري أمات بالماء أم بالسهم؟ كما قال النبي عليه الصلاة والسلام في الصيد: «إن وجدته غريقاً في الماء فلا تأكل، فإنك لا تدري الماء قتله أم سهمك؟»
(1)
، وهذه العلة تدل على أننا لو تيقنا أن الذي قتله السهم لحلَّ، وكيف أدري؟
الجواب: بأن يكون الماء قليلاً لا يغرقه، أو أراه قد رفع أنفه يتنفس، ويكون السهم قد أصابه في قلبه مثلاً، فهنا نعلم أن الذي قتله السهم دون الماء. وهل يلزم أن ينزل إليه في البئر ويذبحه كالمعتاد؟
والجواب: أنه قد لا يمكنه ذلك فلربما أنه بنزوله يموت الحيوان وحينئذٍ يفوت عليه.
وقوله: «ونحوه» مثلاً لو سقط في نار، ورميناه بسهم، فما ندري هل النار التي قتلته أم السهم؟ فإنه لا يحل؛ لأنه اجتمع عندنا مبيح وحاظر، فيُغلَّب جانب الحظر ـ أي: المنع ـ؛ لأننا لا ندري أيهما الذي حصل به الموت.
الرَّابِعُ: أَنْ يَقُولَ عِنْدَ الذَّبْحِ: بِاسْمِ اللهِ، لَا يُجْزِيهِ غَيْرُهَا، فَإِنْ تَرَكَهَا سَهْواً أُبِيحَتْ لَا عَمْداً.
قوله: «الرابع: أن يقول» الضمير يعود على الذابح.
(1)
سبق تخريجه ص (55).
قوله: «عند الذبح» أو النحر، فعند الذبح، فيما يُذبح، أو النحر فيما يُنحر لا بد أن يقول:
«باسم الله» والجملة هذه سبق إعرابها، وأنها متعلقة بمحذوف يُقدَّر فعلاً متأخراً مناسباً، فيقال:«باسم الله أذبح» في الذبح، وفي النحر:«باسم الله أنحر» .
ودليل ذلك قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ} [الأنعام:118]، وقوله تعالى:{وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119]، وقوله عز وجل:{وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121].
ومن السنة قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما أنهر الدم وذُكر اسم الله عليه فكُلْ»
(1)
. فقال: «ما أنهر الدم .. » و «ما» شرطية.
ويمكن أن يستدل ـ أيضاً ـ بحديث عائشة رضي الله عنها الذي رواه البخاري أن قوماً قالوا: يا رسول الله، إن قوماً يأتوننا باللحم، لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا؟ فقال:«سَمُّوا أنتم وكلُوا»
(2)
، فإن هذا يدل على أنه كان من المستقر عندهم أن ما لم يذكر اسم الله عليه لا يؤكل، ولهذا قالوا: لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا؟ يعني فهل نأكله أو لا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «سموا أنتم وكُلوا» .
وقوله: «باسم الله» هل المراد هذا اللفظ، أو المراد باسمِ مُسمَّى هذا الاسمِ؟
(1)
أخرجه البخاري في الذبائح والصيد/ باب ذبيحة الأعراب ونحوهم (5507).
(2)
أخرجه الحارث في مسنده (1/ 478) وعزاه في الدر المنثور إلى عبد بن حميد (3/ 349) وضعفه الألباني كما في الإرواء (2537).
الجواب: المذهب: الأول، يعني لا بد أن يقول:«باسم الله» بهذا اللفظ، فإن قال:«باسم الرحمن» أو «باسم رب العالمين» أو «باسم الخلاق العليم» ، وما أشبه ذلك فإنه لا يجزئ، ولكن الصحيح أن المراد باسمِ مُسمَّى هذا الاسمِ، وعلى هذا إذا قال:«باسم الرحمن» أو «باسم رب العالمين» أو ما أشبه ذلك، كان هذا جائزاً، وكانت الذبيحة حلالاً؛ لأن قوله تعالى:{فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ}
…
}، {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ}
…
} المراد الاسم المختص بهذا المسمَّى وهو الله عز وجل.
مسألة: هل يُشرع أن يذكر اسم الرسول صلى الله عليه وسلم هنا؟
الجواب: لا يشرع؛ وعليه فلا تقل: «باسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله» ؛ لأن هذا مقام إخلاص لله عز وجل، فلا ينبغي أن يُذكر مع اسمه اسمُ غيرِهِ.
قوله: «لا يجزيه غيرها» أي: غير هذا اللفظ «باسم الله» ، فلو قال:«باسم الرحمن» أو: «باسم رب العالمين» أو: «باسم الخلاق» ، أو ما أشبه ذلك مما يختص بالله فإنه لا يجزئ، والصحيح: أنه يجزئ.
قوله: «فإن تركها» أي: التسمية.
قوله: «سهواً أبيحت لا عمداً» والسهو معناه ذهول القلب عن شيء معلومٍ، أي: عن أمرٍ كان يعلمه، فإذا ترك التسمية سهواً فإن الذبيحة تحل.
وظاهر كلام المؤلف أنه إذا تركها ذاكراً فإنها لا تحلّ، ولو
كان جاهلاً، أي: لا يدري أن التسمية واجبة، وهو كذلك على المذهب، فيفرقون هنا بين الجهل والنسيان، فيقولون: إن ترك التسمية ناسياً فإنها تحل، وإن تركها جاهلاً فإنها لا تحل، وإن تركها عالماً ذاكراً فلا تحل من باب أولى، فالأحوال ثلاثة:
الأولى: أن يتركها عالماً بالحكم ذاكراً لها، فلا تحل.
الثانية: أن يتركها عالماً بالحكم ناسياً، فتحل.
الثالثة: أن يتركها جاهلاً بالحكم عامداً ذاكراً، فإنها لا تحل على المذهب فيفرقون بين الجهل والنسيان.
والدليل على أنها تسقط بالسهو قوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِيْنَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286]، وهذا نسيان، وقول النبي عليه الصلاة والسلام:«ذبيحة المسلم حلال، وإن لم يُسمِّ إذا لم يتعمده»
(1)
، قالوا: وهذا دليل واضح، صرَّح فيه الرسول عليه الصلاة والسلام بأن ذبيحة المسلم حلال إذا لم يتعمد ترك التسمية، فعُلِم منه أنه إذا تعمد فليست بحلال ولو كان جاهلاً لعموم الحديث.
وهذه المسألة ـ أعني التسمية على الذبيحة ـ اختلف فيها أهل العلم على ثلاثة أقوال:
الأول: أن التسمية ليست بشرط، وإنما هي مستحبة، إن سمَّى فهو أفضل وإن لم يسمِّ فالذبيحة حلال، سواء تعمد ذلك أم لم يتعمده، وسواء كان ذاكراً أو ناسياً، وهذا مذهب الشافعي
(1)
أخرجه أبو داود في المراسيل (278) عن الصلت السدوسي وهو لا يعرف له حال فيكون في الحديث مع الإرسال جهالة الصلت، انظر: نصب الراية (4/ 183)، والتلخيص الحبير (4/ 137)، والإرواء (8/ 170).
رحمه الله، واستدل بقول النبي صلى الله عليه وسلم:«ذبيحة المسلم حلال ذكر اسم الله عليه أو لم يذكر»
(1)
.
الثاني: أنها شرط ولا تسقط بأي حال من الأحوال، لا سهواً ولا جهلاً ولا عمداً مع الذكر، وهذا مذهب أهل الظاهر، وهو رواية عن الإمام أحمد، وعن الإمام مالك رحمهما الله، واختاره جماعة من السلف، من الصحابة والتابعين وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، واستدل هؤلاء بعموم قوله تعالى:{وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ}
…
} [الأنعام: 121]، وبأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكُلْ»
(2)
فَشَرط لحل الأكل التسمية، ومعلوم أنه إذا فُقد الشرط فُقد المشروط، فإذا فُقِدت التسمية فإنه يُفقد الحل، كسائر الشروط، فكل الشروط الثبوتية الوجودية لا تسقط بالسهو ولا بالجهل؛ ولهذا لو أن الإنسان صلَّى وهو ناسٍ أن يتوضأ وجبت عليه إعادة الصلاة، وكذلك لو صلى وهو جاهل أنه أحدث بحيث ظن أن الريح لا تنقض الوضوء، أو أن لحم الإبل لا ينقض الوضوء مثلاً، فعليه الإعادة؛ لأن الشرط لا يصحُّ المشروطُ بدونه، وكما لو ذبحها ولم ينهر الدم ناسياً أو جاهلاً فإنها لا تحل، فكذلك إذا ترك التسمية؛ لأن الحديث واحد: «ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه
(1)
سبق تخريجه ص (78).
(2)
سبق تخريجه ص (80).
فكل» وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو الصحيح.
الثالث: وهو المذهب، أنه إذا تركها ناسياً حلت الذبيحة، وإن تركها عامداً ولو جهلاً لم تحل الذبيحة، ففرقوا بين الجهل والنسيان، ودليل هذا حديث:«ذبيحة المسلم حلال وإن لم يذكر اسم الله عليه إذا لم يتعمَّد»
(1)
كما في الروض
(2)
.
فإذا قلت: أنت ذكرت الأدلة على أن التسمية لا تسقط لا بالجهل ولا بالنسيان، فبماذا تجيب عن أدلة القائلين بالسقوط؟
الجواب: أن يقال: أدلة القائلين بالسقوط ضعيفة، لا تقوم بها حجة، وما دامت ضعيفة، فإنها لا يمكن أن تعارض القرآن والسنة، والقرآن والسنة قد دلاَّ على أن ذلك شرط، وأنها لا تؤكل الذبيحة إذا لم يذكر اسم الله عليها.
فإن قلت: إن القول الذي رجحته يرد عليه أمور:
الأمر الأول: قوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِيْنَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286]، وهذا الرجل ناسٍ أو مخطئ يعني جاهلاً، فهو غير مؤاخذ.
فالجواب: أننا نقول بذلك، ونقول: إن هذا الذي نسي أن يسمي لا يؤاخذ، وكذلك الجاهل الذي لم يعلم أن التسمية شرط ولم يسمِّ لا يؤاخذ أيضاً، لكنه لا يلزم من انتفاء المؤاخذة صحة العمل، بدليل أنك لو صليت ناسياً، وأنت مُحْدِث فلا إثم عليك، ولكن صلاتك لا تصح، ولو تعمَّدت الصلاة وأنت محدث
(1)
الروض المربع مع حاشية ابن قاسم (7/ 451).
(2)
سبق تخريجه ص (78).
لأثمت، حتى إن أبا حنيفة رحمه الله يقول: من صلَّى محدثاً فهو كافر؛ لأنه قد استهزأ بآيات الله.
فنحن نقول: نعم، نحن لا نؤثِّم هذا الذي نسي أو جهل، لكننا لا نأكل ما لم يُذكر اسم الله عليه؛ لأن الله قال:{وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ}
…
}. ولهذا نقول: لو أكل مما لم يذكر اسم الله عليه ناسياً أو جاهلاً فليس عليه إثم؛ لقوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِيْنَا أَوْ أَخْطَأْنَا} .
وبيان ذلك أن ههنا فعلين، فعل الذابح، وفعل الآكل، فهذا الذابح الذي ذبح ولم يسم ناسياً، ليس عليه إثم، فإذا جاء الآكل ليأكل قلنا: هذه الذبيحة لم يذكر اسم الله عليها، فلا تأكل؛ لأن الله يقول:{وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ}
…
} وأطلق، ولم يقل: إلا أن يكون الذابح ناسياً، لكن لو أن رجلاً أكل من هذه الذبيحة التي لم يذكر اسم الله عليها وهو لا يدري أو ناسياً فلا إثم عليه؛ لقوله تعالى:{رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِيْنَا أَوْ أَخْطَأْنَا} .
الأمر الثاني: قول النبي عليه الصلاة والسلام حين سئل عن اللحم الذي يأتي به من لم يُدرَ أذكر اسم الله عليه أم لا؟ فقال: «سمُّوا أنتم وكلوا»
(1)
، ولو كانت التسمية شرطاً لكان لا بد من العلم به؛ إذ لا يمكن أن يحل شيء حتى نعلم وجود شرط حِلِّه.
فالجواب عن هذا الحديث: أن الذبح صدر من أهله،
(1)
أخرجه البخاري في البيوع/ باب بيع الميتة والأصنام (2236)، ومسلم في البيوع/ باب تحريم بيع الخمر والميتة والأصنام (1581) عن جابر رضي الله عنه.
والأصل في الفعل الصادر من أهله الصحة حتى يقوم دليل الفساد، وهذه قاعدة معتبرة في الشرع، ولو أن الناس كُلِّفُوا أن يعلموا شرط الحل فيمن انتقل منه، لكان في ذلك من العسر والمشقة ما لا يعلمه إلا الله، ولكان الرجل إذا أراد أن يبيع الشيء عليَّ قلتُ له: من أين ملكت هذا الشيء؟! وبأي سببٍ ملكته؟! لأن من شرط حل البيع أن يكون البائع مالكاً للشيء، فلا بد إذاً أن أعلم.
ولو جاء رجل يريد أن يزوِّج ابنته فقال: زوجتك بنتي، فيقول له مثلاً: ومن يقول: إنها ابنتك؟! لا بد أن تأتيني بشهادةٍ تشهد أنها وُلدت على فراشك! وهذا فيه من العسر والمشقة ما لا يمكن، فالأصل في الفعل الصادر من أهله الصِّحَّة. ولو أننا قلنا إن الأصل عدم الصحة وأنه لا بد أنه يعلم شروط الصحة لشق ذلك على الناس مشقة لا تحتمل.
ولهذا لو جاءنا لحم من القصَّابين ـ الجزارين ـ المسلمين فهل يشترط أن نعلم أنهم سموا؟ لا، واحتمال أنهم لم يسموا واردٌ، ومع ذلك لا يشترط، بل نشتري ونأكل ولا نقول شيئاً، فهذه قاعدة مطَّردة: أن الأصل في الفعل الصادر من أهله الصحة، ما لم يقم دليل الفساد، والرسول عليه الصلاة والسلام لما قال:«سموا أنتم وكلوا» كأنه يشير إلى نقدٍ لاذع لهم، كأنه يقول: لستم مكلفين بفعل غيركم، والذبح ليس فعلكم بل فعل الغير، وأنتم غير مسؤولين عنه، ولكنكم مسؤولون عما تفعلون أنتم، فأنتم سموا وكلوا، وهذا واضح لمن تأمله.
وحينئذٍ فلا يكون في هذا الحديث دليل على سقوط التسمية
لا نسياناً، ولا جهلاً، ولا عمداً، بل سبق لنا أن قلنا: إنه دليل على وجوب التسمية، وأن التسمية قد تقرَّر عندهم أنه لا بد منها، ولهذا سألوا عن حلِّ أكل هذا اللحم.
الأمر الثالث: إذا حرَّمتَ الذبيحة التي نُسي أن يذكر اسم الله عليها، فقد أضعتَ مالاً كثيراً على المسلمين؛ لأن النسيان يرد كثيراً عند الفعل، ولا سيما إذا كانت الذبيحة قوية، وأراد الإنسان أن يجهز عليها بسرعة، فتجده مع السرعة ينسى أن يقول: بسم الله، فإذا قلت: إن الذبيحة حرام، وأنه يجب أن تسحب إلى الكلاب، والذئاب، فقد أتلفت مالاً كثيراً على الناس، والنبي عليه الصلاة والسلام نهى عن إضاعة المال.
فالجواب: إذا كنا نخاطب المذهب نقول: أنتم تقولون: إن الرجل إذا نسي أن يُسمِّي على الصيد فالصيد حرام، ولو كان الصيد من أنفس ما يكون، وأغلى ما يكون، حتى لو كان من أحسن الظباء، وأكبر الظباء، وأغلى الظباء! مع أن الذهول عن التسمية في الصيد أكثر من الذهول عن التسمية على الذبيحة، وهذا واضح؛ لأن الصيد يأتي الإنسان بسرعة، ويخشى أن يفوته، لكن الذبيحة بين يديه يذبحها بهدوء، وأنتم تقولون: إنها تحل، فما الفرق؟!
وإذا كان المخاطب ممن يقول: بسقوط التسمية نسياناً في الصيد والذبيحة، وقال: إنكم إذا حرَّمتم ما نُسي أن يذكر اسم الله عليه فقد أضعتم أموالاً كثيرة للمسلمين.
فالجواب عن هذا: أن نقول بمنع أن يكون هذا مالاً، فالذي
لم يُذكر اسم الله عليه ليس بمال؛ لأنه ميتة، والميتة ليست بمال، فقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة:«إن الله حرم بيع الميتة»
(1)
فتركه وإلقاؤه للسباع لا يعتبر إضاعة مال.
ثم نقول: ليس في هذا إضاعة مال على وجه الإطلاق؛ إذ من الممكن أن يؤخذ جِلْدُ هذه الميتة، ويُدبغ، ويكون طاهراً؛ لأن جلد الميتة يطهر بالدباغ، ويمكن أن نأخذ صوفها، ويمكن أن نأخذ شحمها ندهن به السفن، والجلود، وما أشبه ذلك، وفي استعماله في أمرٍ لا يتعدَّى.
ثم نقول ـ جواباً ثالثاً ـ: إننا إذا قلنا ذلك حفظنا المال في الواقع؛ لأن الإنسان متى ذكر أنه رمى شاته في ذلك اليوم الذي نسي أن يسمِّي عليها، فإنه في المرة الثانية لا يترك التسمية، بل قد يسمي مرتين أو ثلاثاً فحينئذٍ لا يكون في ذلك إضاعة مال.
وما إيراد إضاعة المال في مثل هذه المسألة، إلا كإيراد من قال: إنك إذا قطعت يد السارق قطعت نصف أيدي الشعب، وبقي نصف الشعب ليس له إلا يد واحدة!! نقول: هذا الذي يكون نصف الشعب فيه سارقاً هو الشعب الذي لا تُقطع فيه اليد، وأما الذي تقطع فيه اليد فإن السُّرَّاق يقلِّون بلا شك، أو يعدمون.
فالحاصل أنك كلما تأملت هذه المسألة وجدت أن الصواب ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وأن التسمية لا تسقط لا سهواً، ولا جهلاً، كما لا تسقط عمداً.
(1)
أخرجه البخاري في الذبائح والصيد/ باب صيد المعراض (5476)، ومسلم في الصيد والذبائح/ باب الصيد بالكلاب المعلمة (1929) من حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه واللفظ له.
وإذا كان كذلك، فإنه يبقى النظر هل يُشترط أن تكون التسمية واقعة من الفاعل أو لو سمى غيره ممن هو إلى جانبه كفى؟ مثال ذلك: جاء شخص عند الذابح وقال: باسم الله، وذبح الذابح، فهل يجزئ هذا أو لا؟
الجواب: لا يجزئ؛ لأن التسمية من غيره؛ ولهذا لو أن رجلاً كان قائماً عندك وقُدِّم الطعام لك، وقال الرجل: باسم الله، وأكلتَ أنت فلا تكون مسمياً.
ولو أنك عند الوضوء قال رجل: باسم الله وتوضأت أنت، فهذا لا ينفع.
ولو أن رجلاً عند زوجته فقال شخص: أنت طالق فلا تطلق.
فالحاصل إذاً أن القول لا بد أن يكون من الفاعل، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام في الصيد:«إذا أرسلت كلبك وذكرتَ اسم الله عليه»
(1)
«أرسلت» و «ذكرت» ، فلا بد أن تكون التسمية من الفاعل.
فشروط حل الذبيحة ثمانية:
الأول: أهلية المذكي، ويتفرع عليه الثاني وهو قصد الذكاة.
الثالث: الآلة.
الرابع: قطع الحلقوم والمريء.
(1)
انظر: كتاب أحكام «الأضحية والذكاة» لفضيلة الشيخ الشارح رحمه الله.
الخامس: التسمية.
السادس: ألا يذبح لغير الله، فإن ذبح لغير الله فهي حرام، لا تحل، حتى وإن سمى الله، بأن ذبح لصنم، أو لسلطان، أو لرئيس، أو لولي، أو لأي أحد، ذبحاً يتقرب إليه به، ويعظمه به، فإن الذبيحة حرام؛ لقوله تعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [المائدة: 3] يعني على الأصنام، فما ذبح عليها فهو حرام.
السابع: ألا يذكر اسم غير الله عليها، فإن ذكر غير اسم الله عليها فهي حرام، سواء ذكره مفرداً، أو مع اسم الله؛ لقوله تعالى:{وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [المائدة: 3]، وأصل الإهلال رفع الصوت، فإذا أهل لغير الله بشيء من الذبائح فهي حرام، مثل أن يقول: باسم المسيح، أو باسم الولي فلان، أو باسم النبي محمد صلى الله عليه وسلم، أو باسم الشعب، أو باسم الرئيس، أو ما أشبه ذلك، فإن الذبيحة حرام لا تحل؛ لأنه أهل لغير الله بها، فإذا انفرد بذكر غير الله فالأمر واضح، وإن شارك؛ فلأن الشرك إذا قارن العمل أحبطه قال تعالى:{لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65]، وعلى هذا فإذا ذُبحت الذبيحة على اسم غير الله منفرداً أو مشاركاً فإنها حرام لا تحل.
وهل تحل ذبيحة الناسي؟
لا تحل الذبيحة بترك التسمية ناسياً
(1)
.
(1)
أخرجه أبو داود في المناسك/ باب لحوم الصيد للمحرم (1851)، والترمذي في الحج/ باب ما جاء في أكل الصيد للمحرم (775)، والنسائي في مناسك الحج/ باب إذا أشار المحرم إلى الصيد فقتله الحلال (5/ 187)، وابن حبان (3971)، والحاكم (1/ 476) عن جابر رضي الله عنه وصححه ابن حبان، وصححه الحاكم على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي.
الثامن: أن يكون الذبح مأذوناً فيه شرعاً، فإن كان غير مأذون فيه فلا يخلو من حالين: إما أن يكون غير مأذون فيه لحق الله، وإما أن يكون غير مأذون فيه لحق غير الله.
فالأول: الذي لا يؤذن فيه لحق الله، كالصيد في حال الإحرام، أو الصيد في الحرم، فإذا ذبح المُحْرِم صيداً فهو حرام، وإن تمت الشروط؛ لأنه لم يؤذن فيه شرعاً، لقوله تعالى:{وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96]، ولقول النبي عليه الصلاة والسلام:«صيد البر حلال لكم ما لم تصيدوه، أو يُصدْ لكم»
(1)
، ولأن النبي عليه الصلاة والسلام أهدى إليه الصعبُ بن جثامة رضي الله عنه حماراً وحشياً، فرده عليه، وقال:«إنا لم نرده عليك إلا أننا حرم»
(2)
، أي: مُحْرِمون، وقد صاده الصعب بن جثامة للنبي صلى الله عليه وسلم.
وأما الثاني: وهو ما كان غير مأذون فيه لحق الغير، كالمغصوب، والمسروق، والمنهوب، وما أشبهه، ففيه للعلماء قولان، هما روايتان عن الإمام أحمد:
القول الأول: أنه لا يحل؛ لأنه غير مأذون فيه، مثل رجل غصب شاة وذبحها، فإنها لا تحل؛ لأن هذا الذبح غير مأذون
(1)
سبق تخريجه ص (16).
(2)
سبق تخريجه ص (67).
فيه، وكل ما لا يؤذن فيه وهو ينقسم إلى صحيح وفاسد، فإنه لا ينفذ، وهذه قاعدة شرعية، ودليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:«من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد»
(1)
، وذبْح مُلكِ الغير ليس عليه أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فيكون فاسداً مردوداً.
وقولنا في هذه القاعدة: (وهو ينقسم إلى صحيح وفاسد) احترازاً مما لم يؤذن فيه، ولكنه لا يَرِدُ إلا على وجه محرم، فإن هذا ينفذ، مثل الظهار، فهو غير مأذون فيه، فينفذ وإن كان محرماً، ومنكراً، وزوراً؛ لأنه لا ينقسم إلى صحيح وفاسد، فكله باطل.
القول الثاني: أن المحرم لحق الغير يحل؛ وذلك لأن هذا الذبح صادر من أهله، وهذا الحيوان ليس محترماً لعينه، ولا محرماً لعينه، لكنه لحق آدمي، فالتحريم والحرمة فيه لغيره، لا له، بخلاف الصيد في الإحرام، والصيد في الحرَم، فإنه محرم لذاته؛ ولذلك حَرُم صيده، وحرم أكله.
وهذا الأخير هو المذهب أنه حلال لكن مع الإثم، وهو الراجح، فإذا كان حلالاً فهل معناه أنه يحل أكله، أو لا يحل؟ لا يحل، لا من أجل أنه حرام من حيث الذبح، ولكن لأنه مال الغير، ولهذا لو غصب لحماً مذبوحاً، ذبحه صاحبه حرم أكله، إذاً لو أذن فيه صاحبه لصار حلالاً.
قوله: «ويكره أن يذبح بآلة كالَّة» أصل الكلل بمعنى التعب، والكالة معناها التي أنهكها الاستعمال، فلم تكن حادة.
(1)
أخرجه مسلم في الصيد والذبائح/ باب الأمر بإحسان الذبح والقتل
…
(1955) عن شداد بن أوس رضي الله عنه.
وَيُكْرَهُ أَنْ يَذْبَحَ بِآلَةٍ كَالَّةٍ. وَأَنْ يَحُدَّهَا وَالْحَيَوَانُ يُبْصِرُهُ، وَأَنْ يُوَجِّهَهُ إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ، وَأَنْ يَكْسِرَ عُنُقَهُ، أَوْ يَسْلُخَهُ قَبْلَ أَنْ يَبْرُدَ.
وقوله: «ويكره» الكراهة عند الفقهاء رحمهم الله هي التي مَنْ فعلها لا يعاقب، ومن تركها لله أثيب، وعلى هذا فإذا ذبح بالآلة الكالة لم يأثم؛ لأنه مكروه، والدليل قوله صلى الله عليه وسلم:«إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته»
(1)
، ولكنا إذا رجعنا إلى الدليل، وجدنا أن ظاهره يقتضي تحريم الذبح بآلة كالة من وجهين:
الوجه الأول: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله كتب الإحسان» والكَتْب بمعنى الفرض؛ لأنه يطلق على الأمر الواقع اللازم، إما شرعاً، وإما قدراً، فلا يأتي الكَتْب في الشيء المستحب. بل يأتي على الشيء اللاّزم.
فقوله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105]، وقوله تعالى:{كَتَبَ اللَّهُ لأََغْلِبَنَّ} [المجادلة: 21].
فهذه كتابة قدرية، أما الكتابة الشرعية فمثل قوله تعالى:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183]، و {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103]، و {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45]، و {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178] وأمثال ذلك.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «كتب الله الإحسان على كل شيء» فإذا ارجعنا
(1)
سبق تخريجه ص (55).
إلى الاصطلاح الشرعي وجدنا الكتابة لا تكون إلا في الشيء اللازم، وقوله: «كتب الإحسان على كل شيء
…
» عام، ونص على شيء من أفراده يتعلق بما نحن فيه، فقال:«إذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة» .
الوجه الثاني: قوله: «وليحد أحدكم شفرته» اللام هنا للأمر، والأصل في الأمر الوجوب، وإذا وجب إحداد الشفرة صار الذبح بالكالة حراماً، ومن النظر: فلأن الذبح بالآلة الكالة فيه إيلام للحيوان بلا حاجة، وعلى هذا فالقول الراجح في هذه المسألة أن الذبح بالآلة الكالة حرام. ولكن لو ذبح بها فالذبيحة حلال؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم:«ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل» .
فإن قلت: كيف تحرم ذلك، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام:«ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل»
(1)
، والكالة تنهر الدم؟
قلنا: الفعل حرام، والذبيحة حلال، ونحن لا نقول: إن الذبيحة تحرم به، لكن يحرم هذا الفعل، أما الذبيحة فقد أُنهر دمها وذكر اسم الله عليها؛ ولهذا لو لم يكن عنده إلا هذه الآلة فأُصيبت شاة بموت فإنه يذبح بها؛ لأن هذا ضرورة، ولا يتوصل إلى حل هذه الذبيحة إلا بهذه الآلة.
فإن قلت: لماذا لا يدع الحرام وتتلف عليه؟
قلنا: لأن مفسدة تركها أعظم من مفسدة تألمها يسيراً بهذه
(1)
سبق تخريجه ص (91).
الآلة الكالة، وتأليم الحيوان لمصلحة الإنسان وارد في الشرع، فهذا الرجل يكوي إبله يسمها، وغنمه يسمها أيضاً، مع أنها تتألم بهذا، لكن لمصلحته، خوفاً من ضياعها، أو اشتباهها بماشية غيره مثلاً، وهذا الرجل يُهدي الإبل، أو البقر فيشعرها، والإشعار هو أن يجرحها في سنامها حتى يسيل الدم؛ ليعرف أنها هدي، مع أن في هذا إيلاماً لها، لكنه للمصلحة الشرعية في ذلك.
قوله: «وأن يَحُدَّها والحيوان يبصره» أي: يحد الآلة، وجملة «والحيوان يبصره» هذه جملة حالية يعني والحال أنه يبصره؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن تحد الشفار
(1)
، وأن توارى عن البهائم
(2)
، فأمر بأمرين:
الأول: حد الشفرة، يعني سنَّها.
الثاني: أن توارى عن البهائم حال حدها، وفي غير هذه الحال أيضاً، حتى إذا أتيت لتذبحها لا تُظْهِرْ لها السكين، بل وارها عنها إلا عند الذبح، كما نص على ذلك الإمام أحمد رحمه الله، وهذا ظاهر الحديث «وأن توارى» ـ يعني الشفرة ـ عن البهائم؛ لأنها تعرف ربها سبحانه وتعالى، وتسبح بحمده، وتعرف الموت، ولهذا تهرب، حتى إن بعض الإبل إذا رأت بعيراً
(1)
أخرجه أحمد (2/ 108)، وابن ماجه في الذبائح/ باب إذا ذبحتم فأحسنوا الذبح (3172)، والطبراني في الكبير (12/ 289)، والبيهقي (9/ 280). وانظر: نصب الراية (4/ 188)، والدراية (2/ 208).
(2)
أخرجه الحاكم (4/ 257)، والبيهقي (9/ 280) عن ابن عباس رضي الله عنهما والحديث صححه الحاكم ووافقه الذهبي. انظر: نصب الراية (4/ 188)، والتلخيص الحبير (4/ 143).
مذبوحاً هربت، ولا يستطيعون أن يمسكوها، فإذا أَتَيْتَ بالسكين ولا سيما إن حددتها أمامها، معناه أنك روَّعتها، وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً أضجع شاة وهو يحد الشفرة، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام:«أتريد أن تميتها موتات؟!»
(1)
، يعني أن هذا يزعجها، ويروعها ترويعاً عظيماً، حتى يكون كالموت.
فإذا كان المكان ضيقاً، ولا أتمكن من أن أواريها عنها، وأنا محتاج إلى سَنِّها فأغطي وجهها.
فإن قيل: إنها قد تسمع،، فقد نقول: إن قوله صلى الله عليه وسلم: «وأن توارى عن البهائم» يشمل المواراة البصرية، والسمعية؛ لأنها قد تحس بهذا الشيء، فالمهم أنه ما أمكنك البعد عن ترويع البهيمة فهو الأولى.
قوله: «وأن يوجهه إلى غير القبلة» يعني يوجه الحيوان إلى غير القبلة، ولكن لو فعل فلا بأس، والذبيحة حلال، ولم يذكر الفقهاء رحمهم الله دليلاً على ذلك، وغاية ما فيه ما ذكر عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه حين وجَّه أضحيته، قال:«بسم الله والله أكبر»
(2)
، فقوله:«حين وجه أضحيته» يعني وجَّهها إلى القبلة، وهذا يدل على أن التوجيه سنة، ولا يلزم من ترك السنة
(1)
أخرجه البخاري في الأضاحي/ باب من ذبح الأضاحي بيده (5558)، ومسلم في الأضاحي/ باب استحباب الضحية وذبحها مباشرة بلا توكيل
…
(1966) عن أنس رضي الله عنه، واللفظ لمسلم.
(2)
سبق تخريجه ص (73)، حاشية (2).
الكراهة كما ذكره أهل العلم؛ لأنه لو لزم من ترك السنة الكراهة، لكان كل إنسان يترك مسنوناً يكون قد فعل مكروهاً، وليس كذلك، وإنما الكراهة حكم إيجابي لا بد له من دليل.
ثم إنه قد يقول قائل: إن الرسول صلى الله عليه وسلم وجَّه أضحيته؛ لأنه ذبح عبادة، وليس ذبح عادة، ومعلوم أن العبادة لها من الخصائص ما ليس للعادة، فلو أن أحداً قال: أنا أطالبكم بالدليل على استحباب توجيه الذبيحة إلى القبلة إذا لم تكن من الذبائح المشروعة، مثل الأضحية، والهدي، والعقيقة، والنذر لكان له وجه.
لكن نقول: هذا فعل واحد، فمن فرق فيه بين العبادة والعادة فعليه الدليل، وإذا ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم وجَّهها فليكن هذا هو المشروع، إنما القول بالكراهة يحتاج إلى دليل، ولا أعلم للفقهاء رحمهم الله في هذه المسألة دليلاً.
قوله: «وأن يكسر عنقه أو يسلخه قبل أن يبرد» المراد بقوله: «أن يبرد» أي: قبل أن تخرج روحه، وهو عائد على المسألتين جميعاً، وكسر العنق قبل أن يبرد ـ يعني قبل أن يموت ـ فيه إيلام له، ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال:«لا تعجلوا الأنفس قبل أن تزهق»
(1)
يعني قبل أن تخرج بنفسها، يعني لا تفعلوا شيئاً يؤدي إلى سرعة الموت، ما دمتم ذبحتموها ذبحاً يحصل به الموت فقفوا عند ذلك، هذا دليل، وأما التعليل فلأن فيه إيلاماً بلا حاجة، وتعليل آخر لأن فيه إسراعاً لموتها، وقد
(1)
سبق تخريجه ص (55).
يكون بموتها توقف الدم، وعدم خروجه كله، ومعلوم أنه يشرع إخراج الدم؛ لقوله عليه الصلاة والسلام:«ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل»
(1)
.
كذلك يكره أن يسلخه ـ أي: الحيوان ـ قبل أن يبرد؛ لعموم الحديث: «لا تعجلوا الأنفس قبل أن تزهق» ولأن فيه إيلاماً بلا حاجة، ولهذا فالصحيح أن كسر العنق والسلخ قبل الموت حرام لإنه إيلام بلا حاجة.
فإذا قال الجزار: أنا عندي أغنام كثيرة، وأحب أن أكسر العنق ليسرع الموت إليها.
نقول: اذبح هذه، ثم اذبح الأخرى، وهكذا، ولو لم تمت الأولى.
فإن قلت: هل الأفضل أن أمسك بأيديها وأرجلها، أو الأفضل أن أبقيها ترفس؟
الجواب: الثاني أفضل، خلافاً لما يعمله العامة الآن، فالعامة يرون أن إمساكها لازم، وهذا خطأ بل تركها ترفس أحسن، كما نص على ذلك أهل العلم من المتقدمين والمتأخرين، وعللوا ذلك بأن فيه فائدة في استفراغ الدم.
وبعض الناس إذا أراد أن يذبح الذبيحة يمسك يدها اليسرى ويلويها على العنق، وهذا ـ أيضاً ـ لا يجوز؛ لأنه إيلام لها، فما هي السنة إذاً؟ السنة كما فعل النبي عليه الصلاة والسلام أن
(1)
أخرجه البخاري في الأضاحي/ باب التكبير عند الذبح (5565)، ومسلم في الأضاحي/ باب استحباب استحسان الضحية
…
(1966)(17) عن أنس رضي الله عنه.
تطأ برجلك على عنقها، وترفع رأسها وتذبحها
(1)
.
وهل تذبح على الأيمن، أو على الأيسر؟ على الأيسر، والأيسر اسم تفضيل، وليس المراد على الجنب الأيسر، وإنما المراد الأسهل، فالإنسان الذي يذبح باليمنى، الأيسر أن تكون هي على الأيسر، والذي يذبح باليسرى، الأيسر أن تكون هي على الأيمن.
وقالوا أيضاً: إنه يكره أن يذبحها والأخرى تنظر؛ لأن هذا يروعها بلا شك.
(1)
أخرجه مسلم في الإمارة/ باب فضل الرمي (1917) عن عقبة بن عامر رضي الله عنه.
بَابُ الصَّيْدِ
..................................................
قوله: «الصيد» الصيد مصدر يراد به الفعل، ويراد به المفعول، فيراد به الفعل مثل أن يقول القائل: إنني سأصيد صيداً، مثل: أكيد كيداً على أنه فعل، ويراد به المفعول كقوله تعالى:{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} [المائدة: 96] أي: مصيده.
فأما على الأول فالصيد يعرّف بأنه اقتناص حيوان، مأكول، متوحش.
فقولنا: «اقتناص» خرج به الذكاة، فإنها ليست اقتناصاً؛ لأن الإنسان يذكي الحيوان وهو مطمئن، وعلى سهولة ويسر.
وقولنا: «حيوان مأكول» احترازاً من غير المأكول، فإن الإنسان وإن صاده بالسلاح فليس بصيد شرعاً.
وقولنا: «متوحش» احترازاً من غير المتوحش، إلا أنه سبق لنا أن ما ندَّ من الأهلي فحكمه حكم الصيد، أي: حكم المتوحش.
وهل الصيد حلال أو حرام؟
نقول: الصيد يقع على ثلاثة أوجه:
الأول: أن يُصطاد للحاجة إليه والأكل، فهذا لا شك في جوازه، وهو مما أحله الله عز وجل في كتابه، وثبتت به السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأجمع عليه المسلمون.
الثاني: أن يصطاد على سبيل اللهو والعبث، وليس بحاجة إلى الأكل، وإذا صاد الصيد تركه، فهذا مكروه، ولو قيل بتحريمه لكان له وجه؛ لأنه عبث، وإضاعة مال، وإضاعة وقت.
الثالث: أن يصطاد على سبيل يؤذي الناس، مثل أن يستلزم صيدُهُ الدخولَ في مزارع الناس، وإيذاءَهم، وربما يكون فيه انتهاك لحرماتهم، كالتطلع إلى نسائهم في أماكنهم، فهذا يكون حراماً؛ لما يستلزمه من الأذية للمسلمين.
هذا بالنسبة للصيد من حيث هو صيد، أما آثار الصيد فإن الصيد يبهج النفس ويسرها، ويعطي الإنسان نشاطاً وحيوية لا يعرفها إلا أهل الصيد، فتجدهم يجدون لذةً، وسروراً، ومتعة، وإن كانوا يتعبون، ويطاردون الطيور، والحيوانات، ويخرجون إليها في الليالي القارسة، والأيام الحارة.
كذلك ـ أيضاً ـ في الصيد مصلحة تعلم الرمي، وتعلم الرمي من الأمور المشروعة، قال الله تعالى:{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60]، قال النبي صلى الله عليه وسلم:«ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي»
(1)
، وقال النبي عليه الصلاة والسلام:«ارموا واركبوا، وأن ترموا أحب إلي من أن تركبوا»
(2)
.
(1)
أخرجه مسلم في الإمارة /باب فضل الرمي (1917) عن عقبة بن عامر رضي الله عنه.
(2)
أخرجه أحمد (4/ 144)، والنسائي في الخيل/ باب تأديب الرجل فرسه (6/ 223)، وأبو داود في الجهاد/ باب في الرمي (2513)، والترمذي في فضائل الجهاد/ باب ما جاء في فضل الرمي في سبيل الله (1637)، وابن ماجه في الجهاد/ باب الرمي في سبيل الله (2811)، والدارمي في الجهاد/ باب فضل الرمي والأمر به (2298)، والحاكم (2/ 104) عن عقبة بن عامر رضي الله عنه. قال الترمذي: حديث حسن صحيح، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
المؤلف رحمه الله في هذا الباب لا يريد أن يتكلم على هذه الناحية، لكن يريد أن يتكلم على شرط حل الصيد، متى يحل الصيد إذا صاده الإنسان؟ فقال:
لَا يَحِلُّ الصَّيْدُ الْمَقْتُولُ فِي الاصْطِيَادِ إِلاَّ بِأَرْبَعَةِ شُرُوطٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الصَّائِدُ مِنْ أَهْلِ الذَّكَاةِ، الثَّانِي: الآلَةُ وَهِيَ نَوْعَانِ: مُحَدَّدٌ يُشْتَرَطُ فِيهِ مَا يُشْتَرَطُ فِي آلَةِ الذَّبْحِ، وَأَنْ يَجْرَحَ، فَإِنْ قَتَلَهُ بِثِقَلِهِ لَمْ يُبَحْ، وَمَا لَيْسَ بِمُحَدَّدٍ كَالْبُنْدُقِ، وَالْعَصَا، وَالشَّبَكَةِ، وَالْفَخِّ لَا يَحِلُّ مَا قُتِلَ بِهِ.
«لا يحل الصيد المقتول في الاصطياد إلا بأربعة شروط: أحدها: أن يكون الصائد من أهل الذكاة» هذا هو الشرط الأول، وهو أن يكون الصائد من أهل الذكاة، وهو المميز العاقل المسلم، أو الكتابي، فصيد غير الكتابي من الكفار لا يحل، كما لا يحل ذبحه.
وصيد غير العاقل لا يحل، ويتفرع على هذا أن يكون قاصداً، فلو أن رجلاً يرمي على هدف، من خرق، أو عمود، أو ما أشبه ذلك، فإذا بصيد يمر فقتله، فلا يحل؛ لأنه ما قصده، لكن لو سمى على صيد فأصاب غيره حل؛ لأنه قصد الصيد، مثل أن يرى طيراً على غصن شجرة، فيرميه قاصداً هذا الطير، فإذا هو يصيد آخر على غصن آخر، فإنه يحل؛ ولهذا لو أنه رمى على فِرْق من الطير، وأصاب عشرة جميعاً تحل؛ لأنه قصد الصيد.
وَالنَّوْعُ الثَّانِي: الجَارِحَةُ، فَيُبَاحُ مَا قَتَلَتْهُ إِذَا كَانَتْ مُعَلَّمَةً.
قوله: «الثاني: الآلة: وهي نوعان» أي: الشرط الثاني: الآلة، فلا بد أن يكون الصيد بآلة، وباب الصيد آلته أوسع من
باب الذبح؛ لأن آلة الصيد هنا نوعان، بينما هي في الذبح نوع واحد فقط.
قوله: «محدد يشترط فيه ما يشترط في آلة الذبح» فالنوع الأول آلة محددة، كالسهم، والرصاصة، فيشترط فيه ما يشترط في آلة الذبح، وسبق أن آلة الذبح يشترط فيها أن تكون غير سن، ولا ظفر، فلو أخذ سناً ورمى به وقتل بجرحه فإنه لا يحل؛ لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم:«ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل إلا السن والظفر، أما السن فعظم، وأما الظفر فمُدى الحبشة»
(1)
، فعلى هذا يشترط ألا تكون الآلة سناً ولا ظفراً.
ولا يشترط أن تكون حلالاً، فلو جعل سهماً من الذهب حل، وكذلك لو غصب سهماً ورمى به حل، على ما سبق؛ لأن هذه الآلة جارحة.
قوله: «وأن يجرح» أي: ويشترط ـ أيضاً ـ أن يجرح الصيد، بحيث يكون قتله للصيد بالجرح، وضد ذلك أن يكون بالثِّقل، فإذا كان بالثقل فسيأتي ـ إن شاء الله ـ أنه لا يحل، والدليل ما سبق:«ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل» فإنه شامل للذبح والصيد، إلا أن الصيد يختلف عن الذبح بأنه في الذبح يشترط قطع الحلقوم والمريء، أو الودجين، على حسب الخلاف السابق، أما هنا فيكون في أي موضع، وهذا مما يوسع فيه في باب الصيد على باب الذبائح، أن محل إنهار
(1)
سبق تخريجه ص (55).
الدم في الذبائح الرقبة، أما هذا فليس بمعين المكان.
قوله: «فإن قتله بثقله لم يُبح» يعني الذي ضُرب الصيد به لا يجرح، لكنه ثقيل، فمن أجل ثقله مات الصيد، فإن الصيد لا يحل؛ لأنه لا بد من الجرح، ويدل لذلك حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الصيد بالمعراض ـ يعني شيئاً مثل العصا ـ فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«إن خزق فكل، وإن أصاب بعرضه فلا تأكل»
(1)
، وقوله:«خزق» يعني نفذ، وجرح، وشق، وعلى هذا فإذا كان مع الإنسان عصا لها رأس محدد فرماها على الصيد، فأصاب الصيد بهذا المحدد حل، وإن أصابه بالعرض لم يحل ولو مات، لكن لو أنه حبسه ثم أدركه وفيه حياة، يعني لما ضربه بعرضه انكسر مثلاً، أو انهارت قواه، حتى أدركه حياً فذبحه فإنه يكون حلالاً، والدليل قوله تعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] فاستثنى المذكى، فإذا أدركته وفيه حياة وذبحته فإنه يحل.
لكن ما علامة الحياة؟ قيل: علامة الحياة أنني إذا ذبحته تحرك، وقيل: علامة الحياة أن يجري منه الدم الأحمر الحار، فإذا سال منه الدم الأحمر الحار وإن لم يتحرك فهو حي فيحل،
(1)
أخرجه البخاري في التوحيد/ باب السؤال بأسماء الله تعالى والاستعاذة بها (7397)، ومسلم في الصيد والذبائح/ باب الصيد بالكلاب المعلمة (1929) عن عدي بن حاتم رضي الله عنه، وهذا لفظ مسلم.
وإن لم يسل منه، أو سال منه دم أسود بارد فإنه قد مات، وهذا هو الذي رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو الصحيح؛ لأنه إذا خرج الدم الأحمر الحار فقد أنهر الدم فيكون حلالاً.
مسألة: إذا جرح لكنه لم يمت، ثم أدركته حياً ومات بعدما أدركته، فهنا ينظر: فإن كان الجرح مُوحياً ـ أي: قاتلاً له ـ كأن يكون الجرح في قلبه فهو حلال؛ لأن الحركة التي أدركته عليها حركة مذبوح، كما أن المذبوح إذا ذبحته فإنه يبقى مدة يتحرك.
أما إن كان الجرح غير موحٍ، بمعنى أنه أصابه في فخذه، أو أصابه في أي عضو من أعضائه، فهذا لا يحل إلاّ بذكاة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إن وجدته غريقاً في الماء فلا تأكل؛ فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك»
(1)
، وإذا كان الجرح موحياً، والحركة حركة مذبوح فقد علمت أن الذي قتله سهمي فيحل.
قوله: «وما ليس بمحدد كالبندق، والعصا، والشبكة، والفخ لا يحل ما قُتل به» «ما ليس بمحدد» أي: من الآلة.
والبندق عبارة عن طين يُدور، وييبس، والغالب أنه يكون من الفخار، وهو يقتل بثقله؛ لأنه لا ينفُذ، فلو صدت طائراً بالبندق سواء حذفت باليد، أو حذفت بالمقلاع فقتلته لم يحل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنها، وقال:«إنها لا تنكأ عدواً ولا تصيد صيداً، وإنما تفقأ العين، وتكسر السن»
(2)
، أي: أنه لا فائدة
(1)
سبق تخريجه ص (69).
(2)
أخرجه البخاري في الذبائح والصيد/ باب الخذف والبندقة (5479)، ومسلم في الصيد والذبائح/ باب إباحة ما يستعان به على الاصطياد
…
(1954) عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه.
منها، فالعدو لا تدفعه، والصيد لا تصيده؛ لأنه لا يحل الصيد بها، إلاّ إذا أدركتَهُ حياً فذكَّيتَهُ.
وهل مثل البندق الرصاص؟ لا؛ لأن الرصاص نوعان: رصاص مدبب، فهذا كالسهم تماماً، ورصاص غير مدبب لكنه لا يقتل بثقله، وإنما يقتل بنفوذه فيكون جارحاً.
وقد اختلف العلماء أول ما ظهر بندق الرصاص، فمنهم من حرمه، وقال: إن الصيد به لا يجوز، ولا يحل، ولكنهم في آخر الأمر أجمعوا على حل صيده، قال الناظم:
وما ببندق الرصاص صِيدا
جواز أكله قد استفيدا
أفتى به والدنا الأوَّاه
وانعقد الإجماع من فتواه
وقوله: «والعصا» مثل: إنسان أقبل عليه طير ومعه عصا، فضربه فسقط الطائر ميتاً فلا يحل؛ لأنه ليس بجرح.
وقوله: «والشبكة» وعندنا نسميها شَرَكاً، يحفرون بالجدار حفرة صغيرة، ويضعون فيها تمرة، ويستحسن أن يكون فيها حب بر، ثم يضعون على فم الحفرة خيطاً أو حبلاً يكون تِكَّة، فإذا جاء العصفور وأدخل رأسه يأكل التمرة، أمسكه الحبل واشتد على رقبته، فأحياناً يدركه الإنسان قبل أن يموت فيأخذه ويذبحه، وأحياناً يموت قبل أن يدركه، فإذا مات فلا يحل؛ لأنه خُنِقَ خنقاً.
وقوله: «والفخ لا يحل ما قُتل به» فالفخ ـ حسب ما أعرف ـ
عبارة عن قنو نخلة يكون مقوساً، ويوضع في طرفيه حبل، وهذا الحبل يُبرم، ويجعل في وسطه عود ثم يوضع قنو النخلة فوق هذا العود، بحيث إن أي شيء يحرك العود يجعل القنو يطبق عليه.
فالفخ إذا أصاب الصيد فإنه سيموت بغير جرح، فلا يحل ما قُتِل به؛ لأنه يكون خنقاً. والحاصل أنه يشترط في آلة الصيد شرطان:
الأول: ما يشترط في آلة الذبح وهو أن تكون محددة غير سن ولا ظفر.
الثاني: أن تجرح فإن أصابت الصيد بعرضها فلا يحل الصيد لأنه وقيد كما في حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه.
قوله: «والنوع الثاني: الجارحة» أي: النوع الثاني من آلة الصيد الجارحة، وهي اسم فاعل من جَرَح، وجَرَح بمعنى كسب، قال الله تبارك وتعالى:{وَهُوَ الَّذِي يَتَوفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} [الأنعام: 60] أي: ما كسبتم، وقال تعالى:{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} [المائدة: 4]{الْجَوَارِحِ} يعني الكواسب، فالجارحة هي الكاسبة، وهي نوعان:
الأول: جارحة تعدو، يعني تكسب عن طريق العدو والجري بسرعة، وهذا النوع يصيد بنابه.
الثاني: جارحة تطير، يعني تكسب عن طريق الطيران، وهذا النوع يصيد بمخلبه.
فالأول كالكلب، والثاني كالصقر، والبازي، وما أشبه
ذلك، أما الكلب فقد ثبت بالنص والإجماع، وأما الطير فالصواب حل ما قتله، كما سنذكر إن شاء الله.
قوله: «فيباح ما قتلته إذا كانت معلَّمة» المؤلف يقول: «ما قتلته» ولم يقل: ما جرحته، بشرط إن كانت معلمة، يعني إن كان صاحبها قد علمها، كما قال تعالى:{وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4].
وكيف نعرف أنها معلمة؟ بالنسبة لما يصيد بنابه فنعرف أنه معلم بثلاثة أمور:
الأول: أن يسترسل إذا أرسل.
الثاني: أن ينزجر إذا زُجر.
الثالث: إذا أمسك لم يأكل.
فقولنا: «يسترسل إذا أرسل» بمعنى أنه إذا رأى الصيد ما يذهب بنفسه، بل لا يذهب إلا إذا أرسلته، يعني أغريته بالصيد، وطريق الإغراء يختلف من جماعة إلى جماعة، فقد يكون طريق الإغراء أن تذكره باسمه الذي لقبته به وتغريه، وقد يكون بالصفير، وقد يكون بأي سبب، حسب اصطلاح المعلمين لهذه الجوارح.
وقولنا: «ينزجر إذا زجر» يعني إذا قلت: قف، باللغة التي علمته يقف.
وقولنا: «إذا أمسك لم يأكل» لأن الله تعالى قال: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} ؛ لأنه إذا أكل فإنما أمسك على نفسه، حتى ولو أكل شيئاً قليلاً. فلا يعد معلماً.
وقال بعض العلماء: الذي يشترط أن يكون معلماً، وأما ألاَّ يأكل فهذا يرجع إلى العادة، فإذا أكل الشيء القليل الذي لا بد للسبع من أكله من فريسته فإن ذلك لا يضر، ولا ينافي أن يكون أمسك عليك؛ لأنه لو أمسك على نفسه لأكلها كلها، لا سيما إذا كانت صغيرة، ولكن الصواب القول الأول.
وفصَّل بعض العلماء فقال: إن كان جائعاً فأكل فإن ما بقي يحل، وإن كان غير جائع فإنه لا يحل، ونعرف أنه جائع أو غير جائع من إطعامه إياه، فإن كان أكله من الصيد بعد تناوله العشاء مثلاً فإنه شبعان، لكن إن كان له يومان لم يأكل وأكل من الصيد فإنه جائع، وهذا لا يسلم منه شيء من الجوارح، ولكن ظاهر الأحاديث يدل على أنه إذا أكل فلا تأكل، قال النبي صلى الله عليه وسلم:«إنما أمسك على نفسه»
(1)
، وهناك أحاديث أخرى لكنها أقل صحة من هذا الحديث، قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: آكل مما أمسك؟ قال: «كُل» قال: أكل أو لم يأكل؟ قال: «أكل أو لم يأكل»
(2)
فمن العلماء من استدل بهذا الحديث على أنه لا يشترط ألاّ يأكل، ومن العلماء من فصل وجعل الحديثين يتنزلان على حالين، يكون أكل أم لم يأكل في حال الجوع، واشتراط ألا يأكل في حال الشبع، وهذا في الحقيقة جمع بين الدليلين.
وبعض العلماء جمع بينهما فقال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يخاطب في الأول رجلاً غنياً، فقال:«فإذا أكل فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه» ، وفي الثاني يخاطب رجلاً فقيراً، لكن هذا
(1)
رواه الترمذي في أبواب الصيد/ باب في من يرمي الصيد فيجده في الماء (1496).
(2)
أخرجه البيهقي (9/ 237).
ليس بصواب؛ لأن المدار على هذه الآلة، وهل فعلت مفعولها أو لا؟ ولا فرق بين كون الآكل غنياً أو فقيراً، لكن تنزيله على حالين باعتبار الآلة لا شك أنه جمع قوي.
أما الثاني الذي يصيد بمخلبه فيقول العلماء: إنه يعرف أنه مُعلَّم بشيئين فقط:
الأول: أن يسترسل إذا أرسل.
الثاني: أن ينزجر إذا دعي.
ولا يشترط ألا يأكل؛ لأن هذا شيء لا يمكن بالنسبة لما يصيد بمخلبه إذ لا بد أن يأكل، وعلى هذا فإننا نقول: إن قوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} مطلق، فيكون التعليم في كل شيء بحسبه، وهذا يرجع إلى أهل العرف.
وقوله تعالى: {مُكَلِّبِينَ} ؟ قيل: معناه معلِّمينهن الكَلَب، يعني الأخذ والقتل، وقيل: معناه مُغْرين لهن.
فعلى الأول يكون قوله: {مُكَلِّبِينَ} حالاً مؤكدة لعاملها، وهو قوله:{وَمَا عَلَّمْتُمْ} فكأنه قال: وما علمتم معلمين، والفائدة منها الإشارة إلى أن هذا المعلِّم لا بد أن يكون عنده علم وحذق في تعليم هذه الجوارح، فيكون مكلِّباً، يعني ذا علم بالتكليب.
الثَّالِثُ: إِرْسَالُ الآلَةِ قَاصِداً، فَإِنِ اسْتَرْسَلَ الْكَلْبُ أَوْ غَيْرُهُ بِنَفْسِهِ لَمْ يُبَحْ، إِلاَّ أَنْ يَزْجُرَهُ فَيَزِيدَ فِي عَدْوِهِ فِي طَلَبِهِ فَيَحِلُّ.
قوله: «الثالث: إرسال الآلة قاصداً» أي: الشرط الثالث إرسال الآلة بنوعيها، سواء كانت بالمحدَّد كالسهم، أم بالمعلَّم كالكلب والصقر.
وقوله: «إرسال الآلة» من باب إضافة المصدر إلى مفعوله، يعني أن يرسل الصائد الآلة.
وقوله: «قاصداً» هذه حال من الفاعل المحذوف، وعامله المصدر «إرسال» .
قلنا: إن الفاعل محذوف، ولم نقل: مستتر؛ لأن المصدر جامد، فلا يتحمل الضمير.
وقوله: «قاصداً» هل المعنى قاصداً الإرسال، أو قاصداً الصيد؟ كلا المعنيين، يعني يرسلهما قاصداً الإرسال، وقاصداً للصيد، وعلى هذا فكيفية ذلك إذا رأى الصيد رمى بسهم، وإذا رأى الصيد أرسل الكلب، وإذا رأى الصيد أرسل الصقر؛ لأنه لا بد من القصد.
قوله: «فإن استرسل الكلب أو غيره بنفسه لم يبح، إلا أن يزجره فيزيد في عدوه في طلبه فيحل» إذا استرسل الكلب أو الصقر مثلاً بنفسه لم يحل؛ ولقوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} ، فإن قوله:{مُكَلِّبِينَ} إذا قلنا: إن معناه مغرين، فهذا يدل على أنه لا بد من قصد الإرسال، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم رضي الله عنه:«إذا أرسلت كلبك»
(1)
.
مثال ذلك: رجل معه كلب صيد ويمشي ولم ينتبه للصيد إلا والكلب يعدو على الصيد، فهو ما أرسله، لكن كيف يحل؟ نقول: ازجره، يعني حُثَّه على الصيد، فإن زاد في عدوه في طلبه
(1)
سبق تخريجه ص (87).
حلَّ؛ لأن زيادته في العدو تدل على أنه قصد أن يمسك عليك، فحينئذٍ يحل، وهذه حيلة سهلة.
فإن زجرتُهُ أريد أن يسرع في العدو، لكنه بقي على ما هو عليه لم يحل؛ لأن زجري إياه لم يؤثر عليه، وهو إنما انطلق أولاً لنفسه.
لو قال قائل: قد يكون هذا الكلب من كثرة تعليمه أنه تعود هذا، وأنه إنما ذهب بالنيابة عن صاحبه، وهذا ممكنٌ.
لكننا نقول: ويمكن ـ أيضاً ـ أنه إنما أراد أن يأخذ لنفسه، وإذا اجتمع سببان: مبيح وحاظر، غُلب جانب الحظر.
وهذا باعتبار تنزيل هذه المسألة على القواعد، أما باعتبار النص فالمسألة واضحة؛ لأنه عليه الصلاة والسلام قال:«إذا أرسلت كلبك» فما دام الكلب هو الذي ذهب، وراح بدون علم مني، ولا أمر مني، فأنا ما صدت في الحقيقة، وإنما الذي صاد الكلب.
لو وكلته وكالة عامة، وقلت: كلما رأيت صيداً فأنت وَكِيلي في الإرسال فهذا لا يصح؛ لأنه غير عاقل، ولا يصح تصرفه، والعجماء كما قال عليه الصلاة والسلام:«العجماء جُبار»
(1)
، فإذا كانت لا تضمن فإنه يدل على أن تصرفاتها باطلة.
فإن قيل: وما حكم الصيد بالكلب الأسود البهيم؟ نقول:
(1)
أخرجه البخاري في الزكاة/ باب في الركاز الخمس (1499)، ومسلم في الحدود/ باب جرح العجماء والمعدن والبحر جبار (1710) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
نذكر في الشروط أن يكون غير أسود، والعلماء مختلفون في هذه المسألة. فمنهم من قال لا يحل لأن الكلب الأسود شيطان ولأن الأسود لا يحل اقتناؤه فلا يرخص بحل صيده. ومنهم من قال: يحل صيده لعموم قوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} [المائدة: 4] والقول الأول هو الأقرب أنه لا يحل صيده ما دام ورد في الشرع النهي عن اقتنائه والله أعلم.
الرَّابِعُ: التَّسْمِيَةُ عِنْدَ إِرْسَالِ السَّهْمِ أَوِ الْجَارِحَةِ، فَإِنْ تَرَكَهَا عَمْداً أَوْ سَهْواً لَمْ يُبَحْ، وَيُسَنُّ أَنْ يَقُولَ مَعَهَا: اللهُ أَكْبَرُ، كَالذَّكَاةِ.
قوله: «الرابع: التسمية» أي: الشرط الرابع التسمية، بأن يقول: باسم الله، وسبق لنا في باب الذكاة أنه لا بد أن نضيف كلمة اسم إلى لفظ الجلالة الله، وأنه لو أضافها إلى «الرحمن» ، أو «العزيز» ، أو «الجبار» ، أو ما أشبه ذلك، مما لا يسمى به إلا الله، لم يصح، وذكرنا أن الصحيح جواز ذلك، وأن قوله: باسم الله، أي: باسم هذا المسمى، فإذا أضيفت كلمة «اسم» إلى ما يختص بالله عز وجل فلا فرق بين لفظ الجلالة وغيره.
قوله: «عند إرسال السهم أو الجارحة» عند إرساله لا عند تعبئته، فلو أن رجلاً عند تعبئة السهم سمَّى، وعند إرساله عند الرمي ما سمى، فإن ذلك لا يحل؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم:«إذا أرسلت سهمك وذكرت اسم الله عليه»
(1)
أي: عند الإرسال، فالواو هنا تقتضي الاشتراك والاجتماع في الزمن، بل قد نقول: إن قوله: «وذكرت» لولا أن الواو لمطلق الجمع لقلنا: إنها تقتضي أن يكون الذكر بعد الإرسال، ولكن ليس الأمر كذلك، بل الذكر عند الإرسال.
(1)
سبق تخريجه ص (87).
أما الذكر عند التعبئة فإنه لا يفيد، والدليل القياس، فلو أن الإنسان حد شفرته، وسمى الله عند حدها، وذبح بها، وكان بين الفعلين زمن طويل، فلا ينفع.
وكذلك نقول في رجل يكتب على مُديته، وعلى سهمه باسم الله، فلا ينفع؛ إذْ لا بد من النطق، فإن جعل عنده مسجلاً فيه التسمية وعند الذبح شغل المسجل، أو عند الإرسال فلا ينفع؛ لأن التسجيل حكاية صوت، وليس إنشاء صوت. ومثل ذلك عمل الذين يضعون مسجلاً قد سجلوا فيه الأذان، فإذا دخل وقت الصلاة وضعوه أمام مكبر الصوت فهذا لا يجزئ.
قوله: «فإن تركها عمداً أو سهواً لم يبح» أي: إن ترك التسمية سهواً، أو عمداً لم يبح؛ لأن الله يقول:{وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121]، ويقول النبي عليه الصلاة والسلام:«إذا أرسلت سهمك وذكرت اسم الله عليه» ، فعلى هذا لو نسي هذا الصائد أن يقول: باسم الله عند إرسال السهم، أو عند إرسال الجارحة، فإنها لا تحل وتكون ميتة.
وقد مر علينا أن المؤلف رحمه الله في باب الذكاة قال: «فإن تركها سهواً أبيحت» ، والحقيقة أنه لا فرق بين البابين كما سبق، فإن اشتراط التسمية موجود في الذكاة، كما هو موجود في الصيد، قال النبي صلى الله عليه وسلم:«ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل»
(1)
، وأيضاً فإن الصيد قد يكون الصائد أعذر من الذابح في نسيان التسمية، فتجده عندما يرى الصيد ينفعل ويجد في نفسه
(1)
سبق تخريجه ص (55).
إشفاقاً عظيماً أن يفوته هذا الصيد، فيأخذ البندق بسرعة، أو يرسل الجارح بسرعة، ويذهل، ويغفل، فهو إلى النسيان أقرب من الذابح الذي يأتي بهدوء، ويضجع الذبيحة، أو يعلقها إذا كانت بعيراً ويذبح، فهذا يبعد النسيان في حقه بخلاف الصائد، ومع ذلك المؤلف رحمه الله لم يعذره.
والحقيقة أنه مصيب في عدم عذره؛ لأن الآية عامة: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} ، ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:«إذا أرسلت سهمك وذكرت اسم الله عليه فكل»
(1)
، فكما أن الجارحة إذا استرسلت بنفسها لا يحل الصيد، فكذلك إذا لم يسم.
قوله: «ويسن أن يقول معها: الله أكبر كالذكاة» الواجب التسمية، أما التكبير فسنة، ودليل ذلك أنه ثبت من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه في الصحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يذبح أضحيته سمى وكبر
(2)
.
ولكن هل يقول: اللهم تقبل مني؟ لا؛ لأن هذا ليس ذبح عبادة. بل يقول: بسم الله والله أكبر.
مسألة: لو صلى على النبي عليه الصلاة والسلام فقد قال العلماء: إنه ليس بسنة؛ لأنه غير مناسب، كالذكاة.
وهل نشترط في الصيد ما اشترطناه في الذكاة، ألا يذكر اسم غير الله؟ نعم يشترط، ويكون هذا شرطاً خامساً.
وهل يشترط ألا يصيده لغير الله؟ نعم، يعني لو أنه صاد
(1)
سبق تخريجه ص (87).
(2)
سبق تخريجه ص (94).
تعظيماً لملك، أو رئيس، أو وزير، أو ما أشبه ذلك، فلا يحل؛ لأنه لغير الله، فيكون هذا شرطاً سادساً.
لو قال قائل: الصعب بن جثَّامة رضي الله عنه ذهب واصطاد الحمار الوحشي لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
نقول: هذا تكريم للرسول عليه الصلاة والسلام، وليس من باب التعظيم له، أي: التقرب إليه بالتعظيم.
ومما يشترط في الصيد ـ أيضاً ـ أن يكون الصيد مأذوناً فيه، فإن صاد صيداً بمكة داخل حدود الحرم، أو صاده وهو محرم، فإنه لا يحل.
ولا يشترط أن يكون غير مملوك للغير، ويترتب على ذلك لو أن رجلاً ذهب يتتبع في البلد حمامَ عبادِ الله يصطاده، فإنه يحل من حيث الحكم العام، لكن حرام عليه ذلك يعني: يحل مع الإثم، إلا على القول الثاني في مسألة الذبح
(1)
فهو يجري هنا.
فإن قيل: ما حكم الاصطياد في الوقت الذي تمنع فيه الدولة الاصطياد؟
فالجواب: يجب علينا طاعة ولي الأمر، إلا في المعصية، فلا طاعة، وبناءً على هذا فلا يجوز الاصطياد في الزمان أو المكان الذي تمنع الدولة الاصطياد فيه، ولا يحل الصيد إذا صيد. والله أعلم.
(1)
انظر: الشرط الثامن من شروط الذكاة.
كِتَابُ الأَيْمَانِ
قوله: «الأَيمان» جمع يمين، وهو القسم والحلف.
تعريفه: هو تأكيد الشيء بذكر مُعَظَّمٍ بصيغة مخصوصة.
ووجه كونه تأكيداً: أن هذا الحالف كأنه يقول: بمقدار ما في نفسي من تعظيم هذا المحلوف به، أنا أؤكد لك هذا الشيء.
وقولنا: «بصيغة مخصوصة» ، أي: لا بكل صيغة، فلو قلت مثلاً: الله أكبر قدم زيدٌ، فقد قرنته بذكر معظم، لكن ليست بصيغة القسم، فلا يكون قسماً.
واعلم أن اليمين ينقسم إلى خمسة أقسام، فقد يكون واجباً، وقد يكون مستحباً، وقد يكون مكروهاً، وقد يكون محرماً، وقد يكون مباحاً، والأصل فيه أن تركه أولى.
وحروف القسم خمسة، والمشهور منها ثلاثة: الواو، والباء، والتاء، والأم هي الباء؛ ولهذا تدخل على المقسم به مقرونة بالفعل، أو ما ينوب منابه، ومفردة، وتدخل على المقسم به ظاهراً ومضمراً، وتدخل كذلك على جميع الأسماء.
فتقول مثلاً: أقسم بالله على كذا وكذا، فهذه ذكرت مع فعل القسم، ودخلت على اسم ظاهر، وتقول: بالله لأفعلن كذا، فهذه ذكرت مع حذف فعل القسم، ودخلت على اسم ظاهر، وتقول: أحلف به الله ربي، فدخلت على اسم مضمر مع وجود فعل
القسم، وتقول: به الله لأفعلن كذا، فدخلت على اسم مضمر مع حذف فعل القسم، فهي إذاً أوسع أدوات القسم، وتدخل على كل محلوف به، سواء كان اسم «الله» ، أو «العزيز» ، أو «الرحمن» ، أو صفة من صفاته تعالى، أو أي شيء.
الثاني: «الواو» أكثر استعمالاً من الباء، ولكنها لا تقترن مع فعل القسم، ولا تدخل إلا على اسم ظاهر فقط، وتدخل على كل اسم مما يحلف به، فتقول: والله لأفعلن، والرحمن لأفعلن، لكن لا يأتي معها فعل القسم، فلا تقول: حلفت والله لأفعلن، ولا تدخل على الضمير، فهي إذاً أضيق من الباء من جهتين: أنه لا يذكر معها فعل القسم، وأنها لا تدخل إلا على الاسم الظاهر ولا تدخل على الضمير.
الثالث: «التاء» لا تدخل إلا على لفظ الجلالة فقط، ولا تدخل على غيره عند الفقهاء، وقال ابن مالك:
واخصُصْ بمُذْ ومُنْذُ وقتاً وبِرُبْ
مُنكَّراً والتَّاءُ لله وَرَبْ
فجعلها تدخل على لفظ الجلالة «الله» ، وعلى الرب.
قال الله تعالى: {وَتاللَّهِ لأََكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} [الأنبياء: 57]، ولا تقترن بفعل القسم، ولا تدخل على الضمير، ولا على بقية الأسماء، إذاً هي أضيق حروف القسم لأنها لا يقترن بها فعل القسم ولا يحلف بها إلا باسم «الله» أو «رب»؛ فلو قلت:«تالرحمن» لم يكن قسماً؛ لأنها لا تدخل على الرحمن، فهي صيغة غير صحيحة.
الرابع: «الهاء» الممدودة فإنه يقسم بها أحياناً، مثل: لاه اللهِ لأفعلن، لاه الله لا أفعل كذا وكذا.
الخامس: «الهمزة الممدودة» مثل آللهِ لأفعلن، والهاء والهمزة الممدودة لا تدخلان إلا على اسم الجلالة فقط.
وأما حكم اليمين: فهل ينبغي للإنسان كلما ذكر شيئاً حلف عليه، أو ينبغي أن لا يكثر اليمين؟
نقول: الأصل أنه لا ينبغي إكثار اليمين؛ لقول الله تعالى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة: 89]. قال بعض العلماء في تفسيرها: أي: لا تكثروا الأيمان، ولا شك أن هذا أولى، وأسلم للإنسان، وأبرأ لذمته، ولكن مع ذلك قد تكون اليمين محرمة، أو واجبة، أو مستحبة أو مكروهة.
فتكون واجبة إذا كان المقصود بها إثبات الحق، فإنه يجب عليك أن تقسم إذا كان يتوقف إثبات الحق على اليمين؛ لذلك أمر الله تعالى نبيه عليه الصلاة والسلام أن يقسم في ثلاثة أمور:
أن يقسم على أن البعث حق، وعلى أن القرآن حق، وعلى أن الساعة ستأتي.
قال الله تبارك وتعالى: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} [يونس: 53].
وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} [سبأ: 3].
وقال تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} [التغابن: 7]، فإذا كان يتوقف إثبات الحق وطمأنينة المخاطَب على اليمين، فاليمين واجبة.
وكذلك تجب اليمين في دعوى عند الحاكم ليُدفع بها الظلم، مثل لو ادعى رجل على مال يتيم دعوى باطلة، وتوجه اليمين على الولي، فهنا تجب اليمين دفعاً للظلم الذي يحصل على مال هذا اليتيم.
وتكون اليمين محرمة إذا كانت على فعل محرم، أو ترك واجب، مثل لو قال رجل: والله لا أصلي مع الجماعة، ومثل لو قال: والله ليشربن الخمر.
وتكون مستحبة إذا توقف عليها فعل مستحب.
وكذلك تكون مكروهة إذا توقف عليها فعل مكروه، والأصل كما قلنا أولاً: إنه لا ينبغي للإنسان أن يحلف إلا لسبب يدعوه لذلك.
وَاليَمِينُ الَّتِي تَجِبُ بِهَا الكَفَّارَةُ إِذَا حَنِثَ هِيَ اليَمِينُ بِاللهِ، أَوْ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ، أَوْ بِالقُرْآنِ، أَوْ بِالمُصْحَفِ، وَالحَلِفُ بِغَيْرِ اللهِ مُحَرَّمٌ، وَلَا تَجِبُ بِهِ كَفَّارَةٌ،
...........
قوله: «واليمين التي تجب بها الكفارة إذا حنث هي اليمين بالله» كلمة «كفارة» مأخوذة من الكَفْر، وهو الستر، وهي تدل على أن هناك ذنباً يحتاج إلى تكفير، وهذا الذنب هو انتهاك حرمة المقسم به بالحنث؛ لأنك إذا قلت: والله لا أفعل كذا، فمعناه بحق حرمة هذا المحلوف به وتعظيمه لا أفعل هذا الشيء، فإذا فعلته ففيه انتهاك، ولهذا سماها الله تعالى كفارة، لكن من رحمة الله تعالى بعباده أن رخص لهم في الحنث من باب التخفيف، وإلا فإن الأصل وجوب البرِّ باليمين.
ولهذا قال: «إذا حنث» ، الحنث: الإثم، كما قال تعالى:{وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ} [الواقعة:46].
ومعنى حنث، أي: فعل ما حلف على تركه، أو ترك ما حلف على فعله، كأن يقول رجل: والله لا أزور فلاناً، ثم زاره فإن هذا يسمى حنثاً؛ لأنه فعل ما حلف على تركه، أو قال: والله لأزورن فلاناً اليوم، فغابت الشمس ولم يزره، فإنه يحنث؛ لأنه ترك ما حلف على فعله.
وقوله: «واليمين التي تجب بها الكفارة إذا حنث هي اليمين بالله» أي: بهذا اللفظ، ويحتمل أن يكون المراد بأي اسم من أسمائه، وهذا أحسن؛ لأنه أشمل وأعم.
مثال ذلك: والله لأفعلن، والرحمن لأفعلن، وربِ العالمين لأفعلن، والخلاقِ العليمِ لأفعلن، والمنانِ لأفعلن، فكلها أيمان؛ لأنني حلفت باسم من أسماء الله عز وجل.
قوله: «أو صفة من صفاته» سواء أكانت هذه الصفة خبرية، أم ذاتيةً معنوية، أم فعلية، مثل أقسم بوجه الله لأفعلن، فيصح؛ لأن الوجه صفة من صفات الله عز وجل.
ولو قال: أقسم بعظمة الله لأفعلن يصح.
ولو قال: أقسم بمجيء الله للفصل بين عباده لأعدلن في القضاء بينكما، فيصح؛ لأنه قسم بصفة فعلية لله عز وجل.
وينبغي أن يكون القسم باسم مناسب للمقسم عليه، ولهذا تجد في الإقسامات الموجودة في القرآن بين المقسم به والمقسم عليه ارتباطاً من حيث المعنى، ومن أراد الاستزادة من ذلك فعليه مراجعة كتاب ابن القيم رحمه الله:«التبيان في أقسام القرآن» .
قوله: «أو بالقرآن» الحلف بالقرآن تنعقد به اليمين؛ وذلك
لأن القرآن كلام الله، وكلام الله ـ تعالى ـ صفة من صفاته.
ونص المؤلف رحمه الله على القرآن؛ لأن القرآن عند الجهمية والأشاعرة مخلوق من المخلوقات، فالأشاعرة قالوا كلاماً لا يقبله العقل، حيث قالوا: كلام الله هو المعنى القائم بنفسه، وما يُسمع فهو حروف وأصوات مخلوقة، خلقها الله عز وجل لتعبر عما في نفسه، فعلى زعمهم يكون القرآن مخلوقاً، وهذا هو السر في أنَّ المؤلف رحمه الله نصَّ على القرآن، وإلا فقد يقول قائل: لا حاجة للنص عليه؛ لأنه من صفات الله، ولكن نقول: لأن بعض أهل البدع يقولون بأن القرآن مخلوق، أما نحن فنقول: القرآن كلام الله غير مخلوق.
قوله: «أو بالمصحف» المصحف عبارة عن أوراق وحبر، لكن الحالف بالمصحف لا يقصد هذه الأوراق، لكن يقصد الكلام الذي في المصحف، وعليه فإذا قال قائل: إذاً يجب أن يقيد «أو بالمصحف» ناوياً ما فيه.
فالجواب: لا حاجة إلى هذا القيد؛ لأنه هو المتبادر، فالحالف بالمصحف لا يقصد الأوراق، والكتابة، وإنما يقصد ما تضمنته هذه الأوراق، وهو كلام الله عز وجل.
مسألة: هل يجوز القسم بآيات الله؟
الجواب: فيه تفصيل، فإن أراد بالآيات الآيات الكونية، مثل الشمس، والقمر، والليل، والنهار، والإنسان، حرم القسم بها؛ لأنها مخلوقة، وإن أراد بآيات الله الآيات الشرعية التي هي وحيه المنزَّل على رسوله، فهي كلام الله تعالى، والحلف بها
جائز؛ لأنها من صفاته، فماذا يريد العامة بقولهم:«قسماً بآيات الله» ؟ الظاهر لي ـ والله أعلم ـ أنهم يريدون الآيات الشرعية ـ أي: القرآن ـ وعلى هذا تكون اليمين منعقدة.
قوله: «والحلف بغير الله محرم» «غير» مضافة إلى الله، فيشمل كل من عدا الله عز وجل، حتى وإن كان ملكاً مقرباً أو نبياً مرسلاً، ولهذا نقول: الحلف برسول الله صلى الله عليه وسلم حرام بلا شك، وكذلك الحلف بجبريل، وميكائيل، وإسرافيل؛ لأنه حلف بغير الله، والدليل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:«مَنْ كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت»
(1)
. واللام في قوله: «ليصمت» لام الأمر، والأمر للوجوب، أي: ليصمت عن الحلف، وفي حديث آخر:«لا تحلفوا بآبائكم»
(2)
.
فإن قلت: الحلف بغير الله شرك، والشرك ينبغي أن يعبّر به المؤلف، لأنه أعظم وقعاً في النفوس من كلمة «محرم» .
فالجواب: المؤلف رحمه الله يؤلف في الفقه، وليس في التوحيد والعقائد التي يقال فيها: هذا شرك، وهذا توحيد، وإنما يؤلف فيما يجوز وما لا يجوز، أما نوع هذا المحرم، فالمؤلف لا يريد أن يتكلم فيه؛ لأن محلّه كتب العقائد، ولكن نقول نحن تكميلاً للفائدة: الحلف بغير الله شرك، والشرك أعظم من
(1)
أخرجه البخاري في الشهادات/ باب كيف يستحلف؟ (2679)، ومسلم في النذر/ باب النهي عن الحلف بغير الله (1646) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
(2)
أخرجه البخاري في الأيمان والنذور/ باب لا تحلفوا بآبائكم (6648)، ومسلم في النذر/ باب النهي عن الحلف بغير الله (1646) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
الكبيرة، ولهذا قال ابن مسعود رضي الله عنه:«لئن أحلف بالله كاذباً أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقاً»
(1)
، قال شيخ الإسلام رحمه الله: لأن سيئة الشرك وإن صغرت أعظم من سيئة المعصية وإن كبرت.
قوله: «ولا تجب به كفارة» لأنه يمين غير شرعي، وما ليس بشرعي لا يترتب عليه أثره، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد»
(2)
، وكل ما خالف الشرع فإنه لا أثر له.
فإن قلت: الحلف بغير الله محرم وشرك، ولكن فَعَلَهُ أتقى الناس لله، وهو محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه جاء إليه أعرابي وسأله عن شعائر الإسلام فأخبره، ثم قال الرجل: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«أفلح وأَبِيهِ إن صدق»
(3)
، فكيف نقول: إن الحلف بغير الله محرم أو شرك، والشرك ممتنع على الأنبياء؛ لأنه ينافي دعوتهم تماماً؛ لأنهم يدعون إلى التوحيد، والشرك ينافيه ولو كان صغيراً؛ لأنه إذا كان كبيراً فهو ينافي أصله، وإن كان صغيراً فهو ينافي كماله، فكيف يحلف الرسول صلى الله عليه وسلم بغير الله في قوله:«أفلح وأبيه» ؟
الجواب: للعلماء على هذا عدة أجوبة:
(1)
أخرجه عبد الرزاق (8/ 469)، وابن أبي شيبة (3/ 79)، والطبراني في الكبير (9/ 183).
(2)
سبق تخريجه ص (67).
(3)
أخرجه مسلم في الأيمان/ باب بيان الصلوات التي هي أحد أركان الإسلام (11)(9) عن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه.
الأول: أن في هذا الحديث تصحيفاً، وأن أصله:«أفلح والله» ، لكن لما كانوا في الأول لا ينقِّطون، فإن «أبيه» مثل «الله» فيها نبرتان والهاء، لكن قصرت النبرتان وحذف الإعجام فصارت «وأبيه» ، وهذا غير صحيح؛ لأن الأصل عدم التصحيف، ولأن هذا يفتح علينا باباً خطيراً بالنسبة للرواة، إذ كل شيء لا تقبله نفوسنا نقول: هذا مصحَّف.
الثاني: أن هذا قبل النهي عن الحلف بالآباء، وأن هذا كان في الأول كثيراً شائعاً، والناس قد ألِفُوه، فتأخر النهي عنه، كما تأخر النهي عن الخمر، فإنها لم تحرم إلا في السنة السادسة من الهجرة، وكذلك الحجاب ما وجب إلا في السنة السادسة من الهجرة؛ لأن الشيء المألوف يصعب على النفس أن تدعه في أول الأمر، فقالوا: إن الشرع تركهم على هذا الشيء؛ لأنه مألوف عندهم، ولما استقر الإيمان في نفوسهم نهى عنه، ويكون قسم الرسول صلى الله عليه وسلم «بأبيه» قبل النهي، وحينئذٍ نقول: هو منسوخ.
ولكن النسخ من شروطه العلم بالتاريخ، ومجرد التعليل ليس حكماً بالتقدم أو التأخر، فهذا لا يكفي بل لا بد أن نعلم التأخر، وعلى هذا فالقول بالنسخ ـ أيضاً ـ ضعيف.
الثالث: أن هذا مما يجري على اللسان بغير قصد، فيكون من لغو اليمين، وقد قال الله تعالى:{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [المائدة: 89]، ولو فرضنا أن الناس اعتادوا على هذا فإننا نتركهم، وعليه فالذين اعتادوا أن يحلفوا بالنبي صلى الله عليه وسلم لا ننهاهم، لأن هذا يجري على ألسنتهم، وقد جاءني رجل يريد أن يستفتيني
فقال: والنبي تفتيني في هذه المسألة، فقلت له: الحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم حرام، فسكت الرجل وقال: والنبي ما عمري أعود إلى هذا الشيء! فهذا القول غير وجيه، ولا يستقيم مع قوله صلى الله عليه وسلم:«لا تحلفوا بآبائكم»
(1)
؛ لأنه صلى الله عليه وسلم نهى عن هذا بالذات، وما كان منهياً عنه بذاته، كيف نقول: إنه صلى الله عليه وسلم أقره، وأنه يبقى حكمه إلى الآن؟! هذا لا يمكن.
الرابع: أن النهي عن الحلف بغير الله خوفاً من أن يقع في قلب الحالف من تعظيم هذا المحلوف به، كما يكون في قلبه من تعظيم الله، وهذا بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم ممتنع، فلا يمكن أن يقوم في قلبه تعظيم أبي هذا الأعرابي كتعظيم الله، وعلى هذا الوجه يكون هذا خاصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ لعلمنا أن المحذور من الحلف بغير الله لا يتصور في حقه، وعلى هذا يكون الحلف بالأب ونحوه على من سوى النبي صلى الله عليه وسلم ممنوعاً، أما في حقه صلى الله عليه وسلم فهو جائز.
لكن هذا يضعفه أنه صلى الله عليه وسلم أسوة أمته، ولا يمكن أن يحلف بغير الله وهو يعلم أن الأمة سوف تتأسَّى به، لكن قد يقال: إن الأمة قد أخبرها بالحكم بقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تحلفوا بآبائكم» .
وهذا الوجه الرابع ينطبق تماماً على ما ذهب إليه الشوكاني وجماعة من العلماء من أن الفعل من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعارض القول مطلقاً.
فالأقرب من هذه الأوجه أن يكون منسوخاً، وهذا في
(1)
سبق تخريجه ص (121).
النفس منه شيء؛ لأننا لم نعلم تاريخه، أو أنه خاص برسول الله صلى الله عليه وسلم. وعلى كل حال نقول: لدينا نص مشتبه ونص محكم، فالنص المشتبه هو حلفه صلى الله عليه وسلم بأبي هذا الرجل، والنص المحكم هو نهيه صلى الله عليه وسلم عن الحلف بالآباء، والقاعدة الشرعية في طريق الراسخين في العلم أن يحملوا المتشابه على المحكم؛ ليكون الشيء كله محكماً، فما دام هذا الشيء فيه احتمالات، فإن لدينا نصاً محكماً لا يمكن أن نحيد عنه وهو النهي عن الحلف بالآباء. ويصلح أن يجاب بأن هذا على حذف مضاف والتقدير: ورب أبيه ولكن هذا ضعيف لأن الأصل عدم الإضافة والحذف.
الخامس: أن هذه اللفظة «وأبيه» شاذة، وغير محفوظة، فإذا صح هذا فقد كفينا، ولا حاجة لهذه الأجوبة، وإذا صحت فهذه أجوبتها.
وَيُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الكَفَّارَةِ ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ:
الأوَّلُ: أَنْ تَكُونَ اليَمِينُ مُنْعَقِدَةً، وَهِيَ الَّتِي قُصِدَ عَقْدُهَا عَلَى مُسْتَقْبَلٍ مُمْكِنٍ،
.......
قوله: «ويشترط لوجوب الكفارة ثلاثة شروط» الشرط لغة العلامة، وفي الشرع ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده الوجود، يعني أنه إذا عُدِمَ عُدِمَ المشروط، وهو إما أن يعدم حساً إذا كان شرطاً حسياً، وإما أن يعدم شرعاً إذا كان شرطاً شرعياً، فمثلاً الصلاة بلا وضوء، فقد يصلي رجل بدون وضوء صلاة كاملة بقراءتها، وركوعها وسجودها، وأركانها، فهي الآن موجودة حساً، لكنها شرعاً غير موجودة.
وقوله: «لوجوب الكفارة» أفادنا رحمه الله أن الكفارة واجبة بدليل قوله تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُّمُ الأَيْمَانَ
فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة: 89].
فإن الأمر بحفظها يتناول الأمر بالكفارة؛ لأن ذلك من حفظها.
وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها، فكفِّر عن يمينك»
(1)
، فأمر بالتكفير، والأصل في الأمر الوجوب.
وقوله: «الكفارة» من الكفر وهي الستر؛ وذلك أن الأصل أن الإنسان إذا حلف وجب عليه إتمام الحلف؛ لأنه حلف بعظيم، ومن عظمته أن تقوم بما حلفت به عليه؛ لأن الحلف في الواقع تأكيد للشيء بعظمة المحلوف به، فإذا انتهكت هذا التأكيد فهو كالإشارة إلى انتهاك عظمة المحلوف به، فلهذا وجبت الكفارة، ولولا أن الله تعالى رحم العباد لكان من حلف على شيء وجب عليه أن يتمه بكل حال، إلا لضرورة.
قوله: «الأول: أن تكون اليمين منعقدة» وهي التي تثبت وتتأكد؛ لأن انعقاد الشيء معناه أن يكون كالعقدة ثابتة، ومثبِّتة للمعقود بها، لكن تعريفها شرعاً: يقول المؤلف:
(1)
أخرجه البخاري في الأيمان والنذور/ باب قول الله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} (6622)، ومسلم في النذر/ باب ندب من حلف يميناً فرأى غيرها خيراً منها أن يأتي الذي هو خير ويكفر عن يمينه (1652) عن عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه.
«وهي التي قُصد عقدها على مستقبل ممكن» فجمعت ثلاثة شروط:
الأول: قصد عقدها.
الثاني: على مستقبل.
الثالث: على أمر ممكن.
فقوله: «قصد عقدها» يفيد أنه لا بد أن يكون الحالف ممن له قصد، فإن لم يكن له قصد فلا عبرة بيمينه، كالمجنون لو حلف ألف مرة لا تنعقد يمينه، لأنه ليس له قصد، وكذلك المخرِّف لا تنعقد يمينه؛ لأنه لا قصد له، وكذلك السكران، ومن اشتد غضبه لا تنعقد يمينهما؛ لأنه لا قصد لهما، وكذلك الصبي دون التمييز لا تنعقد يمينه، فإن كان فوق التمييز ودون البلوغ، فظاهر كلام المؤلف أن يمينه تنعقد؛ لأن له قصداً صحيحاً، ولهذا ذكر الفقهاء أن المميز تصح ذكاته؛ لأن له قصداً صحيحاً، وذكروا في باب الإيلاء أنه يصح من المميز، وهذا أحد الوجهين في مذهب الإمام أحمد، والقول الثاني وهو المذهب: أنه لا يصح إلا من المكلف.
فأما الذين قالوا: إنه يكفي التمييز، فاستدلوا بقوله تعالى:{وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُّمُ الأَيْمَانَ} [المائدة: 89]، وقوله:{وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225]، فقالوا: هذا عام، وهذه يمين، وانعقادها والحنث فيها ليس من باب الأحكام التكليفية، ولكنه من باب الأحكام الوضعية، أي أنه سبب وُضع على مسبب. فالصبي لو قتل إنساناً وجبت عليه الكفارة وإذا حنث في اليمين تجب عليه الكفارة.
وأما الذين قالوا: لا بد من البلوغ، فقالوا: إن الكفارة تكفير إثم متوقع لولا رحمة الله عز وجل، ومن كان دون البلوغ فإنه لا يكلف، فقد رفع عنه القلم فلا تنعقد يمينه، وبناء على هذا لو أقسم من له أربع عشرة سنة، وعشرة أشهر على شيء، فإن يمينه لا تنعقد، بل لو كان بلوغه في الساعة الثانية عشرة، وحلف في الساعة الحادية عشرة لم تنعقد، وفي الساعة الواحدة تنعقد؛ لأنه في الأول غير بالغ، وفي الثاني بالغ، والراجح أنها تنعقد؛ لأن هذا من باب الأحكام الوضعية المقرونة بأسبابها، صحيح أن غير المكلف لا يدري ولا يفهم، لكن له قصد صحيح، بدليل أن ذكاته تصح.
الشرط الثاني: أن تكون على مستقبل، فإن كانت على ماضٍ فإنها لا تنعقد، مثل لو قال: والله ما فعلت أمسِ كذا، وهو قد فعله، فهذا لا كفارة عليه؛ لأنها يمين على ماضٍ.
الشرط الثالث: أن تكون على أمر ممكن فإن كان غير ممكن لم تنعقد، والممكن ضده المستحيل، والمستحيل تارة يكون مستحيلاً لذاته، وتارة يكون مستحيلاً عادة، وكلاهما على حد سواء، فإذا أقسم على شيء مستحيل، فإن يمينه غير منعقدة، فلا كفارة عليه، سواء حلف على فعله أم على تركه؛ لأنه مستحيل، والمستحيل لا تتعلق به كفارة، لأن الحالف على المستحيل، إما أن يكون على عدمه وهذا لغو، وإما أن يكون على فعله، وهذا ـ أيضاً ـ لا تكون اليمين فيه منعقدة؛ لأنه من المعلوم أنه إذا حلف عليه فلن يكون، فيكون حلفه عليه تأكيداً له
لا وجه له؛ لأن الحلف إنما يقصد به تأكيد فعل المحلوف عليه، وهذا أمر مستحيل، فتكون ـ أيضاً ـ لغواً.
مثال المستحيل لذاته: أن يقول: والله لأقتلن الميت؛ لأن الميت لا يرد عليه القتل، فهذا لا تنعقد يمينه على كلام المؤلف؛ لأن هذا لغوٍ، لأنه لن يقتل الميت أبداً، فقد حلف على نفي المستحيل، والمذهب أن عليه الكفارة في الحال؛ لأن تحقق حنثه معلوم، فيجب عليه أن يكفر في الحال ولا ينتظر.
ولو تأذّى بنباح كلب، فقال: والله لأقتلن هذا الكلب حياً، أو ميتاً، فهنا تنعقد يمينه؛ لأنه قد يكون حياً، وقوله: حياً أو ميتاً، فهو من باب تأكيد قتله.
ومثال المستحيل عادة: لو قال: والله لأطيرنَّ.
فالخلاصة أنه إذا حلف على أمر مستحيل، فعلى كلام المؤلف أنها لا تنعقد، والمذهب: إن كان على فعله فهو حانث في الحال، وتجب عليه الكفارة، وإن كان على عدمه فهي لغو غير منعقدة؛ لأنه حلف على أمر لا يمكن وجوده.
فإذا قال قائل: ما الدليل على اشتراط الاستقبال؟
فالجواب: قوله صلى الله عليه وسلم: «من حلف على يمين هو فيها فاجر، يقتطع بها مال امرئ مسلم، لقي الله وهو عليه غضبان»
(1)
.
ولم يقل: إن عليه الكفارة، إنما ذكر أن عليه هذا الإثم،
(1)
أخرجه البخاري في الخصومات/ باب كلام الخصوم بعضهم في بعض (2416 ـ 2417)، ومسلم في الأيمان/ باب وعيد من اقتطع حق مسلم بيمين فاجرة بالنار (138) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
والكفارة تستر الإثم والاقتطاع إما دعوى ما ليس له، وإما إنكار ما هو عليه، وهذا يكون أمراً ماضياً لا مستقبلاً.
فَإِنْ حَلَفَ عَلَى أَمْرٍ مَاضٍ كَاذِباً عَالِماً فَهِيَ الْغَمُوسُ،
................
قوله: «فإن حلف» الفاعل ضمير مستتر تقديره هو، أي: الإنسان.
قوله: «على أمر ماض» احترازاً من المستقبل، فقد سبق أنه من اليمين المنعقدة.
قوله: «كاذباً» احترازاً من كونه صادقاً، فإن حلف على أمر ماضٍ صادقاً فلا شيء عليه.
قوله: «عالماً» احترازاً مما لو كان جاهلاً، مثل أن يقول: والله لقد حضر فلان أمس، وفلان هذا لم يحضر، بل حضر شخص آخر، ولكنه ظن أنه هو الحاضر، فهو هنا جاهل.
أو يقول: والله لقد حرم الله علينا كذا وكذا، والتحريم سابق ثم قلنا له ما هو الدليل، قال: الدليل كذا وكذا، ثم وجدنا أنه ليس كذلك، فيمينه ليست غموساً.
وظاهر كلام المؤلف ولو كان ناسياً، وليس كذلك، بل إذا كان ناسياً فهو كالجاهل، مثل إنسان حلف على أمر ماضٍ ناسياً، كأن قال: والله ما أقرضني فلان شيئاً، ناسياً أنه أقرضه فلا تكون يمينه غموساً؛ لقوله تعالى:{رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِيْنَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286].
قوله: «فهي الغموس» أي: فهي اليمين الغموس، و «غموس» على وزن فعول، وأصلها غامسة اسم فاعل، ولكن عُدل عن ذلك إلى غموس للمبالغة، وسميت غموساً؛ لأنها تغمس صاحبها في
الإثم ثم في النار؛ لأن الحالف على أمر ماض كاذباً عالماً ـ والعياذ بالله ـ جمع بين أمرين: بين الكذب، وهو من صفات المنافقين، وبين الاستهانة باليمين بالله، وهو من صفات اليهود، فإن اليهود هم الذين ينتقصون ربهم، ويصفونه بالعيوب، فحينئذٍ تكون يمينه غموساً.
وظاهر كلام المؤلف: سواء تضمنت هذه اليمين اقتطاع مال امرئ مسلم أم لا، فالتي تتضمن اقتطاع مال امرئ مسلم هي التي يحلف بها الإنسان في الدعوى عند القاضي، بأن يدعي عليه رجل بمائة ريال، فيقول: ما عندي لك شيء، فيقول القاضي للمدعي: ألك بينة؟ فيقول: لا، فيقول للمدعى عليه: أتحلف؟ فإذا حلف، وقال: والله لا يطلبني شيئاً وهي عليه حقّاً، فهذه اليمين تكون غموساً؛ لأنه حلف فيها على أمر ماضٍ، كاذباً، عالماً، اقتطع بها مال امرئ مسلم.
وقد يكون الاقتطاع بادعاء ما ليس له ويحضر شاهداً، فإذا أتى بشاهد كفته اليمين، وحكم له بها فتكون يمينه غموساً؛ لأنه اقتطع بها مال امرئ مسلم في ادعاء ما ليس له، وهذا أشد من الذي قبله؛ لأنه يتضمن الكذب في اليمين، وأكل مال المسلم.
فاليمين الغموس هي التي يحلف صاحبها على فعل ماضٍ كاذباً عالماً، ليقتطع بها مال امرئ مسلم، وهذا هو الصحيح؛ لأن الأول لا دليل عليه.
وَلَغْوُ اليَمِينِ الَّذِي يَجْرِي عَلَى لِسَانِهِ بِغَيْرِ قَصْدٍ، كَقَوْلِهِ: لَا وَاللهِ، وَبَلَى وَاللهِ، وَكَذَا يَمِينٌ عَقَدَهَا يَظُنُّ صِدْقَ نَفْسِهِ فَبَانَ بِخِلَافِهِ، فَلَا كَفَّارَةَ فِي الْجَمِيعِ.
قوله: «ولغو اليمين الذي يجري على لسانه بغير قصد» «لغو» مبتدأ، «والذي» خبر المبتدأ، ولهذا يحسن هنا أن يأتي
بضمير الفصل؛ ليتبيَّن أن قوله: «الذي» خبر، إذ إن القارئ قد يظن أن قوله:«الذي» صفة لـ «لغو» وينتظر الخبر، فلو قال: «هو الذي يجري
…
» لكان أبين.
وقوله: «الذي يجري على لسانه بغير قصد» يعني يطلقه لسانه وهو لا يقصده، وهذا ليس فيه كفارة بنص القرآن، قال الله تعالى:{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [المائدة: 89]، ولغو اليمين يخرج من القيد السابق في اليمين المنعقدة، وهو قوله:«قُصِد عقدها» ، ولغو اليمين لم يقصد عقدها، فلا تكون يميناً منعقدة.
قوله: «كقوله: لا والله، وبلى والله» والدليل على أن هذا من لغو اليمين قوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُّمُ الأَيْمَانَ} [المائدة: 89]، وقوله تعالى:{وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225]، ولا تكسب القلوب إلا ما قصد؛ لأن ما لا يقصد ليس من كسب القلب.
وقول عائشة رضي الله عنها: «اللغو في اليمين كلام الرجل في بيته: لا والله، بلى والله»
(1)
، أي: إن الرجل عندما يقول ذلك لا يقصد القسم والعقد، فهذا نوع من لغو اليمين.
ونوع آخر على ما مشى عليه المؤلف فقال:
«وكذا يمين عقدها يظن صدق نفسه فبان بخلافه فلا كفارة في الجميع» أي إنه عقدها ونواها وهو يظن صدق نفسه، فتبين
(1)
أخرجه البخاري في التفسير/ باب قوله: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} (4613).
الأمر بخلاف ذلك، مثاله: قال رجل: والله لقد جرى بالأمس كذا وكذا، ظناً منه أنه قد جرى، ولكنه في الواقع لم يجرِ، إذاً عقدها وهو يظن أنه صادق، ولكنه في الواقع غير صادق، يعني تبين أنه يخلافه.
مثال آخر: قال: والله لقد حضر فلان الدرس في الليلة الماضية، وأجمع الطلاب على أنه ما حضر، والواقع أنه لم يحضر، فلا كفارة فيها، يقول المؤلف: إن هذه من لغو اليمين، والذي فاتها من القيود أن تكون على مستقبل، وهو حلف على أمر ماضٍ.
فإذا قال قائل: هل يصح أن نسميها من لغو اليمين، مع أن الرجل قصد يمينه؟
الجواب: هذا ما رآه المؤلف، ولكن الصحيح أنها ليست من لغو اليمين، وأنها يمين منعقدة لكن لا حنث فيها؛ لأنه في الحقيقة بارٌّ لا حانث؛ وذلك لأنه حين قال: والله لقد حضر يعتقد حضوره، وهو إلى الآن يعتقد حضوره، ولكن لأن الشهود شهدوا بأنه لم يحضر فهم آكد مني.
وبناءً على هذا التعليل، فلو أن رجلاً حلف على أمر مستقبل أنه سيكون بناء على غلبة ظنه، ثم لم يكن، فعلى المذهب هي يمين منعقدة، تجب فيها الكفارة إذا تبين الأمر بخلافه؛ لأنها على مستقبل، فإذا قال بناء على ظنه: والله ليأتين زيدٌ غداً، على اعتبار أن زيداً سيأتي، وزيد رجل صادق، فمضى غد ولم يقدم زيد، فالمذهب أن عليه الكفارة؛ لأن هذه اليمين
منعقدة على مستقبل ممكن، ولم يكن وعلى ما ذهبنا إليه فليس عليه كفارة؛ لأن هذا الرجل بار في يمينه؛ لأنه لم يزل ولا يزال يقول: حلفت على ما أعتقد، وهذا اعتقادي، وأما كونه يقع على خلاف اعتقادي فهذا ليس مني، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن من حلف على أمر مستقبل بناء على ظنه، ثم لم يكن، فليس عليه كفارة.
مسألة: هل الطلاق كاليمين في هذه المسألة؟
الجواب: الصحيح أنه كاليمين، والمذهب أنه ليس كاليمين في الصورتين، أي: إنه يقع مطلقاً، وكذلك العتق، وسيأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ الشرط الثاني لوجوب الكفارة.
الثَّانِي: أَنْ يَحْلِفَ مُخْتَاراً، فَإِنْ حَلَفَ مُكْرَهاً لَمْ تَنْعَقِدْ يَمِينُهُ.
قوله: «الثاني: أن يحلف مختاراً» أي: الشرط الثاني لوجوب الكفارة أن يحلف مختاراً، يعني مريداً للحلف وضد المختار المكره، قال المؤلف:
«فإن حلف مكرهاً لم تنعقد يمينه» فلو أن رجلاً مجرماً عثر عليه إنسان فأمسك به، وقال: سأرفع أمرك لولي الأمر، فقال له المجرم: إذا رفعت بي سأقتلك، ثم قال المجرم: أَقْسِمْ بالله أنك لا تخبر بي، وإلا قتلتك، فأقسمَ بالله أن لا يخبر به، فهذه اليمين لا كفارة فيها؛ لأنه حلف مكرهاً، وعلى هذا فلو أخبر ولاةَ الأمور بصنيع هذا المجرم فليس عليه إثم، وليس عليه كفارة؛ لأنه حلف مكرهاً، والدليل من القرآن ومن السنة:
أما من القرآن فقال الله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ
إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل:106]. فإذا كانت كلمة الكفر قد صدرت من مُكرَهٍ فلا أثر لها، فما سواها مثلها.
أما من السنة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه»
(1)
، وعلى هذا فإن حنث في يمينه في هذه الحال، فلا إثم عليه ولا كفارة.
ولكن هل يشترط أن ينوي في اليمين دفع الإكراه، فإن نوى اليمين انعقدت؟
الجواب: ظاهر كلام المؤلف أنه لا يشترط، لكنهم ذكروا في كتاب الطلاق أنه يشترط أن ينوي بذلك دفع الإكراه، لا حصول المكره عليه، والفرق بينهما أن نية دفع الإكراه أن يقول هذا من أجل أن يسلم من شر الذي أكرهه، وهو لا يريد ذلك.
أما نية الفعل، فأن يقول: والله لا أخبر بك، وهو ينوي فعلاً أن لا يخبر به، وليس قصده فقط أن يسلم منه، فقياس كلامهم في الطلاق أن هذه اليمين فيها الكفارة؛ لأن المكرَهَ على الشيء إن قاله دفعاً للإكراه فلا حكم له ولا يضره، وإن قاله يريده
(1)
أخرجه ابن ماجه في الطلاق/ باب طلاق المكره والناسي (2045)، والبيهقي (6/ 84).
وأخرجه بلفظ: «تجاوز» ابن أبي شيبة (4/ 82)، وابن حبان (16/ 202)، والطبراني في الأوسط (8/ 161)، والحاكم (2/ 216)، والحديث صححه الحاكم ووافقه الذهبي، والألباني في المشكاة (3/ 372)، وانظر: التلخيص (1/ 281، 282)، ونصب الراية (2/ 64).
حين أكره عليه، فهذا على المذهب أحكامه ثابتة.
وسبق أن القول الراجح أنه لا يشترط أن ينوي دفع الإكراه، وأنه إذا أكره فلا حكم لكلامه لعموم الأدلة، ولأن كثيراً من العامة إذا أكرهوا فإنهم يقولون ذلك الشيء بنية ذلك الشيء، وليس كل عامي يعرف أنه لا بد أن ينوي دفع الإكراه.
مثاله: رجل أكره على طلاق زوجته، فقال: امرأتي طالق، يريد أن يدفع الإكراه، لا يريد طلاق زوجته، ورجل آخر أُكرِه على طلاق زوجته فطلق يريد الطلاق من أجل أنه أكره عليه، ففي الأولى إذا نوى دفع الإكراه، لا وقوع الطلاق فلا يقع طلاقه؛ لأنه لم يرده، وفي الثانية على المذهب يقع الطلاق؛ لأنه أراد الطلاق وإن كان مكرهاً عليه.
والصحيح أنه لا يقع الطلاق في الحالين لعموم الأدلة، ومسألة الحلف مثلها، كما لو أكره على الحلف أن لا يفعل، فإن حلف يريد دفع الإكراه فلا كفارة عليه، وإن حلف يريد اليمين لكن من أجل أنه أكره عليها فعلى المذهب عليه الكفارة والصحيح انه لا كفارة عليه، لعموم الأدلة ولأن كثيراً من العامة لا يفرقون بين دفع الإكراه وحصول المكره عليه.
الثَّالِثُ: الحِنْثُ فِي يَمِينِهِ، بِأَنْ يَفْعَلَ مَا حَلَفَ عَلَى تَرْكِهِ، أَوْ يَتْرُكَ مَا حَلَفَ عَلَى فِعْلِهِ مُخْتَاراً ذَاكِراً، فَإِنْ فَعَلَهُ مُكْرَهاً أَوْ نَاسِياً فَلَا كَفَّارَةَ، وَمَنْ قَالَ فِي يَمِينٍ مُكَفَّرَةٍ: إِنْ شَاءَ اللهُ لَمْ يَحْنَثْ،
............
قوله: «الثالث: الحنث في يمينه» أصل الحنث الإثم، ومنه قوله تعالى:{وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ *} [الواقعة]، أي: الإثم العظيم، ولكنه هنا ليس إثماً؛ لأن من رحمة الله عز وجل بعباده أن رخص لهم في انتهاك القَسَم، وإلا فإن انتهاكه إثم وحرام.
وفسر المؤلف الحنث اصطلاحاً فقال: «بأن يفعل ما حلف على تركه، أو يترك ما حلف على فعله» مثاله: يقول: والله لا ألبس هذا الثوب أبداً، ثم لبسه بعد ذلك، فقد حنث؛ لأنه فعل ما حلف على تركه، أو قال: والله لألبسن هذا الثوب اليوم، ثم انقضى اليوم ولم يلبسه فقد حنث؛ لأنه ترك ما حلف على فعله.
لكن متى نتحقق أن الرجل حنث في يمينه؟
نقول: إن قيده بزمن فبانتهائه، مثل أن يقول: والله لألبسنَّ اليوم هذا الثوب، فغابت الشمس ولم يلبسه لزمته كفارة؛ لأنه حنث، أمَّا إذا أطلق فإننا لا نعلم أنه يحنث حتى يتقطع الثوب ويتلف، أو يموت الرجل لأنه لم يقيده بزمن، ولهذا لمّا قال عمر رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم: ألم تحدثنا أنا نأتي البيت، ونطوف به؟ قال صلى الله عليه وسلم:«أقلت: هذا العام؟» قال: لا، قال:«فإنك آتيه ومطوف به»
(1)
، وقال ذلك في صلح الحديبية قبل أن يأتيه بسنة.
قوله: «مختاراً» ضده المكره، فإن حنث مكرهاً فلا كفارة عليه، كأن يقول الولد: والله لا ألبس هذا الثوب، فقال الوالد: لتلبسنَّه، وإلاّ فعلتُ، وفعلتُ، وهدَّدَه، فلبسه الولد، فهنا لا شيء عليه؛ لأنه مكره والدليل ما سبق من الأدلة.
قوله: «ذاكراً» وضده الناسي، مثل قوله: والله لا أطالع في هذا الكتاب اليوم، ثم نسي وطالع فيه، فليس عليه شيء؛ لأنه
(1)
أخرجه البخاري في الشروط/ باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط (2734) عن المسور بن مخرمة رضي الله عنه.
ناسٍ، ولكن متى زال العذر، وهو الإكراه في المسألة الأولى والنسيان في الثانية، فإنه يجب عليه التخلي وإلاَّ حنث؛ لأن العذر إذا زال زال موجَبُه.
قوله: «فإن فعله مكرهاً أو ناسياً فلا كفارة» لكن متى زال العذر، وأقام بعده حنث.
وظاهر كلام المؤلف هنا أنه لو حنث جاهلاً فعليه الكفارة، مثل لو قال: والله لا ألبس هذا الثوب، ثم لبسه ظاناً أنه ثوب آخر غير الذي حلف عليه، فظاهر كلام المؤلف أن عليه الكفارة؛ لأنه لم يذكر إلا شرطين:«مختاراً ذاكراً» ، ولم يقل: عالماً، لكن سبق لنا في مسائل متفرقة من أبواب الطلاق، أنه إذا كان جاهلاً فلا حنث عليه، حتى على المذهب، وهو الصحيح، وعلى هذا فنزيد شرطاً ثالثاً وهو «عالماً» ، فنقول: «الحنث في يمينه بأن يفعل ما حلف على تركه، أو يترك ما حلف على فعله مختاراً ذاكراً عالماً، فإن كان مكرهاً، أو ناسياً، أو جاهلاً فلا كفارة عليه.
وهل يفرق في هذا الباب بين الطلاق والعتق واليمين، أو هي سواء؟ المذهب التفريق، فيقولون: إن الطلاق والعتق يعذر فيهما بالإكراه، لكن لا يعذر فيهما بالجهل والنسيان، فإذا قال رجل: إن كلمت فلاناً فزوجتي طالق، فكلم رجلاً لا يدري أنه فلان، فهذا جاهل، وعلى المذهب يقع طلاقه.
وإذا قال: والله إن لبست هذا الثوب فزوجتي طالق، ثم لبسه ناسياً، فعلى المذهب يقع الطلاق، وكذلك في العتق، والصحيح أن هذا الباب واحد الطلاق، والعتق، والنذر،
والظهار، والتحريم، كل هذه على حد سواء لا يحنث فيها الإنسان، إلا إذا كان عالماً، ذاكراً، مختاراً؛ لأن الحنث على اسمه إثمٌ، فإذا كنتَ جاهلاً، أو ناسياً، أو مكرهاً فلا شيء عليك، وهذا هو الصحيح وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهو الذي تدل عليه الأدلة العامة.
قوله: «ومن قال في يمين مكفَّرة: إن شاء الله لم يحنث» «من» اسم شرط جازم، «لم يحنث» جواب الشرط، فتشمل «من» كل حالف، فأي إنسان يحلف، ويقول: إن شاء الله لم يحنث.
وقوله: «يمين مكفَّرة» أي: تدخلها الكفارة، مثل اليمين بالله، والنذر، والظهار، فهذه ثلاثة أشياء كلها فيها كفارة، وخرج بذلك الطلاق والعتق فلا كفارة فيهما.
فإن قال في اليمين المكفرة: إن شاء الله لم يحنث، أي: ليس عليه كفارة، وإن خالف ما حلف عليه.
مثال في اليمين بالله: قال: والله لا ألبس هذا الثوب إن شاء الله، ثم لبسه فليس عليه شيء؛ لأنه قال: إن شاء الله، ولو قال: والله لألبسنَّ هذا الثوب اليوم إن شاء الله، فغابت الشمس ولم يلبسه، فليس عليه شيء.
والدليل قوله صلى الله عليه وسلم: «من حلف على يمين فقال: إن شاء الله فلا حنث عليه»
(1)
، ودليل آخر: قصة سليمان عليه الصلاة والسلام
(1)
أخرجه النسائي في الأيمان والنذور/ باب من حلف فاستثنى (7/ 12)، والترمذي في النذور والأيمان/ باب ما جاء في الاستثناء في اليمين (1531) عن ابن عمر رضي الله عنهما وحسنه الترمذي.
في الصحيحين حين قال: والله لأطوفن الليلة على تسعين امرأة، تلد كل واحدة منهن غلاماً يقاتل في سبيل الله، فقال له المَلَك: قل: إن شاء الله، فلم يقل: إن شاء الله، اعتماداً على قوة عزيمته، فأراه الله عز وجل أن الأمر بيده، فطاف على تسعين امرأة، أي: جامعهن في ليلة واحدة، فأتت واحدة منهن بنصف إنسان، وليس إنساناً كاملاً ولو لم تأتِ واحدة منهن بشيء لكان هذا مما لا غرابة فيه، ولو جاءت كل واحدة منهن بولد لكان برَّ بيمينه، لكن أراد الله أن يُريه قدرته تعالى، وأن الأمر بيده جل وعلا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«لو قال: إن شاء الله لم يحنث، وكان دركاً لحاجته»
(1)
، أي: لو قال: إن شاء الله لأبرَّه الله في يمينه.
مثال النذر: لو قال: إن شفى الله مريضي فللَّه علي نذر إن شاء الله، فلا شيء عليه لو ترك، وكذلك لو قال: لله عليَّ نذرٌ أن لا أكلم فلاناً إن شاء الله، ثم كلَّمه فلا شيء عليه، لكن يشترط لها شروط:
الأول: أن يقولها باللفظ؛ لأن المؤلف قال: «ومن قال» فإن نواها بقلبه لم تُفِده. والدليل قوله صلى الله عليه وسلم: «من حلف على يمين فقال إن شاء الله والقول يكون باللسان فلو نوى فلا عبرة بنيته» .
الثاني: أن تتصل بيمينه حقيقة أو حكماً، مثال الاتصال الحقيقي: أن يقول: والله لا أكلم فلاناً اليوم إن شاء الله.
(1)
أخرجه البخاري في كفارات الأيمان/ باب الاستثناء في الأيمان (6720)، ومسلم في النذور/ باب الاستثناء في اليمين وغيرها (1654)(23) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
مثال الاتصال الحكمي: لو قال: والله لا ألبس هذا الثوب، ثم أخذه العطاس لمدة ربع ساعة، فلما هدأ عنه العطاس قال: إن شاء الله، فهذا اتصال حكمي؛ لأنه منعه مانع من اتصال الكلام، لكنه في الواقع متصل؛ لأنه لمّا زال المانع قال هذا الاستثناء.
الثالث: أن ينوي الاستثناء قبل تمام المستثنى منه، يعني أن يقول إن شاء الله قبل تمام المستثنى منه فيقول:«والله لألبسنَّ هذا الثوب إن شاء الله» ، فلا بد أن ينوي إن شاء الله قبل أن ينطق بالباء من كلمة الثوب، فإن نوى بعد فلا عبرة به.
الرابع: أن يقصد التعليق بالمشيئة؛ لأن الذي يقول: «إن شاء الله» أحياناً يقولها للتبرك وهو عازم، أو التحقيق، وأحياناً يقولها للتعليق، وفرق بين من يقصد التعليق، ومن يقصد التبرك أو التحقيق، فإن قصد التبرك أو التحقيق فإنها لا تؤثر، ولنرجع إلى أدلة هذه الشروط:
فدليل الشرط الأول: وهو أنه لا بد أن ينطق بها قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من حلف على يمين فقال: إن شاء الله»
(1)
، والقول يكون باللسان، ولحديث سليمان عليه الصلاة والسلام حيث قال له الملك:«قل: إن شاء الله»
(2)
.
ودليل الشرط الثاني: وهو أن يكون متصلاً، قالوا: لأنه إذا انفصل فإنه يكون كلاماً أجنبياً، لا رابطة بينه وبين الكلام الأول،
(1)
سبق تخريجه ص (139).
(2)
سبق تخريجه ص (140).
فحينئذٍ لا يكون مقيِّداً للكلام الأول؛ لأنك إذا قلت مثلاً: والله لألبسن هذا الثوب، فهذا غير مقيد، فإذا قلت: إن شاء الله صار مقيَّداً، فيقولون: ما دام عندنا مُقيِّد ومُقيَّد، فلا بد أن يكون المقيِّد متصلاً بالمقيَّد، وإلا كان أجنبياً منه.
ودليل الشرط الثالث: وهو أن ينوي الاستثناء قبل تمام المستثنى منه، قالوا: لأنك إذا قلت: والله لألبسن هذا الثوب، بدون نية، صار الكلام الذي دخل عليه الاستثناء حسب نيّتك كلاماً مطلقاً غير مقيد؛ لأنك لم تنوِ أن تدخل عليه التقييد، فإذا أدخلت عليه التقييد، فإن هذا التقييد لا ينسخ ما سبق، أي: لا يجعل الكلام الذي تم على أنه مطلق مقيَّداً.
ودليل الشرط الرابع: وهو أن يقصد التعليق؛ لأنه إذا قصد التحقيق، أو التبرك فإنه لم يرد به إلاّ تأكيد الشيء وتثبيته، والمقصود بالتعليق الذي يؤثر هو أن يرد الأمر إلى مشيئة الله عز وجل، فإذا كنت لم ترد بذلك رد الأمر إلى المشيئة، وإنما أردت بالمشيئة أن تقوي الأمر وتثبته، فهذا لا يكون مؤثراً، هذا ما ذهبوا إليه فبعضه فيه الدليل وبعضه فيه التعليل.
والصحيح أنه لا يشترط إلا النطق، ودليلنا على ذلك: أن الملَك قال لسليمان عليه الصلاة والسلام: قل: إن شاء الله، بعد أن أتم الجملة، وسليمان لم ينوِ الاستثناء قبل، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:«لو قالها لم يحنث وكان دركاً لحاجته»
(1)
، وهذا نص كالصريح في أنه لا تشترط النية.
(1)
سبق تخريجه ص (139).
أما اشتراط الاتصال، فإن الاتصال ليس كما قالوا، بل الاتصال أن ينسب آخر الكلام إلى أوله عرفاً، فإذا كان ينسب آخر الكلام إلى أوله عرفاً فإنه يصح الاستثناء، وقد خطب النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح، وذكر مكة وحرمتها، وأنه لا يختلى خَلاها، ولا يحش حشيشها، وذكر كلاماً، ثم بعد ذلك قال العباس رضي الله عنه: إلاّ الإذخر يا رسول الله، فإنه لبيوتهم وقبورهم، فقال صلى الله عليه وسلم:«إلا الإذخر»
(1)
.
وهذا بعد كلام منفصل عن الأول انفصالاً بغير ضرورة، وهو صلى الله عليه وسلم لم ينوِ الاستثناء، فدل ذلك على أنه ليس بشرط، وأن الرجل لو حلف عليك أن تفعل شيئاً فقلت له: قل: إن شاء الله، فقالها، فإنه ينفعه الاستثناء على القول الراجح، ولا ينفعه على المذهب.
مسألة: رجل حلف وشك، هل قال: إن شاء الله، أو لم يقلها؟ فنقول: الأصل عدم قول: إن شاء الله، ولكن يقول شيخ الإسلام: إذا كان من عادته أن يستثني فيحمل على العادة؛ لأن الظاهر هنا أقوى من الأصل، واستدل شيخ الإسلام رحمه الله لهذه المسألة بأن النبي صلى الله عليه وسلم رد المستحاضة إلى عادتها
(2)
، وقال: فهذا دليل على أن العادة مؤثرة، مع العلم أن المستحاضة قد
(1)
أخرجه البخاري في العلم/ باب كتابة العلم (112)، ومسلم في الحج/ باب تحريم مكة (1355) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
أخرجه البخاري في الحيض/ باب الحيض (306)، ومسلم في الحيض/ باب المستحاضة وغسلها وصلاتها (334) من حديث عائشة رضي الله عنها.
تكون حيضتها قد تغير زمانها بسبب الاستحاضة، ومع ذلك ردّها النبي صلى الله عليه وسلم إلى عادتها. ولو حلف وقال: والله لألبسن هذا الثوب وإذا أحد من الناس يدخل عليه ويسلم فقال: وعليكم السلام، إن شاء الله للأول فعلى المذهب لا يصح الاستثناء هنا، وعلى القول الثاني وهو الراجح يصح لا سيما إذا كان قد نوى الاستثناء من الأصل، لكن رد السلام هنا جملة معترضة.
وَيُسَنُّ الحِنْثُ فِي الْيَمِينِ إِذَا كَانَ خَيْراً،
................
قوله: «ويسن الحنث في اليمين إذا كان خيراً» الحنث هو ما أشار إليه من قبل، وهو أن يفعل ما حلف على تركه، أو يترك ما حلف على فعله.
مثاله: رجل قال: والله لا أفعل هذا، ثم جاءنا وسألنا: هل الأفضل له أن يفعل هذا الشيء ويحنث، أو الأفضل ألاّ يفعله؟
نقول: إذا كان الحنث خيراً من عدمه فاحنث، وإذا كان عدم الحنث خيراً، أو تساوى الأمران فالأفضل حفظ اليمين، وعدم الحنث.
فالمسألة لا تخلو من ثلاث حالات:
الأولى: أن يكون الحنث خيراً.
الثانية: أن يكون عدم الحنث خيراً.
الثالثة: أن يتساوى الأمران.
فإن كان الحنث خيراً حنث، وإن كان عدمه خيراً فلا يحنث، وإن تساوى الأمران خيِّر، والأفضل أن لا يحنث؛ لقوله تعالى:{وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة: 89]، أي: اجعلوها محكمة محفوظة، ولا تحنثوا فيها.
أما إذا كان الحنث خيراً فقد قال صلى الله عليه وسلم: «إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها، إلاّ كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير»
(1)
.
وقال صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن سمرة: «إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها فكفِّر عن يمينك وائت الذي هو خير»
(2)
.
فصار من قوله والتزامه صلى الله عليه وسلم أنه إذا كان الحنث خيراً فأْتِهِ، والخيرية في الحنث تارة تكون خيرية واجب، وتارة تكون خيرية تطوع، فإن كانت خيرية واجب صار الحنث واجباً، وإن كانت خيرية تطوع صار الحنث تطوعاً، فمثال خيرية الواجب لو قال: والله لا أصلي اليوم مع الجماعة.
فهذا حلف على ترك واجب فالحنث هنا واجب، وعليه أن يصلي مع الجماعة ويكفر عن يمينه.
ومثال خيرية التطوع، لو قال شخص: والله لا أصلي الوتر، فهنا حلف على شيء تطوع فالحنث أفضل له من عدمه، فنقول له: أوتر وكفِّر عن يمينك.
ولو تعاند رجل مع عمِّه في شيء، فقال: والله لا أكلم عمي، فهنا حلف على أمر فيه هجر مؤمن، وقطيعة رحم،
(1)
أخرجه البخاري في الأيمان والنذر/ باب قول الله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} (6623)، ومسلم في النذر/ باب ندب من حلف يميناً فرأى غيرها خيراً منها أن يأتي الذي هو خير ويكفر عن يمينه (1649) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
(2)
سبق تخريجه ص (126).
فالحنث هنا واجب، لأنه يتوقف عليه فعل الواجب، فإذا توقف على الحنث فعل الواجب صار واجباً.
ولو أن رجلاً غضب على شخص فقال: والله لأضربنَّه بالحجر حتى أجرحه، فهذا يجب عليه الحنث؛ لأن ترك المحرم يتوقف على حنثه، وإذا توقف ترك المحرم على الحنث صار الحنث واجباً.
وإذا كان عدم الحنث هو الخير فهنا نقول له: لا تحنث، وذلك فيما إذا حلف على ترك محرم، أو على فعل واجب، فالحنث هنا حرام، مثال ذلك إذا قال الأب لابنه: لا تصلى مع الجماعة فقال الابن: والله لأصلينَّ مع الجماعة فالحنث حرام، ويجب عليه الصلاة مع الجماعة.
ولو قال: والله لا أسرق اليوم، فالحنث حرام، ولو هَمَّ أن يسرق ولم يسرق فهذا محرم عليه، ولو سرق لزمته الكفارة مع الإثم، وقطع اليد إن تمت الشروط.
ومثال الحنث المكروه أن يحلف على ترك المكروه، مثل لو قال: والله لا ألتفت برأسي في الصلاة، والالتفات بالرأس في الصلاة مكروه، فنقول: الحنث هنا مكروه وهو الالتفات برأسه في صلاته.
ولو قال: والله لا آكل البصل، وسوف يصلي في جماعة، وقد بقي على الأذان ثلث ساعة فالحنث هنا مكروه؛ لأن بإمكانه أن يصبر حتى يصلي، فإن أكل لئلا يصلي صار حراماً.
ومثال الحنث المباح: قال: والله لا ألبس هذا الثوب،
ولألبسن هذا الثوب، فهو مخير ولكن حفظها أولى.
وإن قال له والده: يا بني، اتقِ الله، لا تلبس ثوباً ينزل عن الكعبين، فقال: والله لألبسنَّ ثوباً يضرب إلى الأرض، فالحنث واجب؛ لأنه بحنثه يترك المحرم، والعكس بالعكس؛ لأن بعض الناس يعتبون على أولادهم لو رفعوا ثيابهم فوق الكعبين، ويقول أحدهم لابنه: يجب أن تنزل الملابس تحت الكعبين، وإلا فسوف أهجرك!
فقال: والله لا ألبس ثوباً نازلاً عن الكعبين، فيحرم عليه الحنث؛ لأنه إن حنث وقع في المحرم.
بقينا في إبرار القسم، وإبرار القسم غير الحنث؛ لأن الحنث واقع من المقسِم أي: الحالف، لكن إبرار القسم بمعنى أن يحلف عليَّ شخص، فهل الأفضل أن أبر بيمينه، أو ماذا؟
نقول: الأفضل أن تبر بيمينه، بل قال النبي صلى الله عليه وسلم:«إنه من حق المسلم على المسلم»
(1)
، فإذا حلف عليك أخوك فإن من حقه عليك أن تبرَّ بيمنيه، وهذا ما لم يكن في ذلك ضرر عليك، أما إذا كان في ذلك ضرر عليك فإن ذلك لا يلزمك، فلو قال: والله لتخبرني كم مالك؟ وكم عيالك؟ وكيف معاشرتك لأهلك؟ ومتى تنام؟ ومتى تستيقظ؟ أقسم عليك بالله العلي العظيم أن تخبرني، فلا يلزمه أن يخبره، بل ربما يحرم عليه؛ لأنه توجد
(1)
أخرجه البخاري في المظالم/ باب نصر المظلوم (2445)، ومسلم في اللباس والزينة/ باب تحريم استعمال إناء الذهب والفضة
…
(2066) عن البراء بن عازب رضي الله عنه.
أشياء سرية لا يمكن أن يخبر بها أحداً، لكن الشيء الذي ليس عليك فيه ضرر فأنت مأمور أن تبر بيمينه، وأما ما فيه نفع لأخيك فإنه يكون أشدَّ توكيداً، وإن كان فيه دفع ضرر عنه فإنه يجب.
المهم أن إبرار المقسِم الأصل فيه أنه مشروع، وأنه من حقوق المسلم على المسلم، وقد يقترن به ما يجعله ممنوعاً، وما يجعله واجباً.
ولكن هل الكفارة تجب على الحانث أو على الحالف؟ الجواب: على الحالف، يعني لو أنك قطعت يمين الحالف، ولم تبرَّ يمينه فالكفارة عليه؛ لأنه هو الحالف، والكفارة تتعلق بالحالف.
فلو قال الحالف: أنت الذي قطعت اليمين، وتسببت في وجوب الكفارة عليَّ، فعليك الكفارة؛ لأن المتسبب كالمباشر.
يقول: بل أنت متسبب مباشر، فالذي حلف أنت، والذي فعل أنت، وأنا ما فعلت إلا ما هو شرط في وجوب الكفارة فقط، وهو الحنث، وأما المتسبب الأصلي فهو أنت.
وَمَنْ حَرَّمَ حَلَالاً سِوَى زَوْجَتِهِ، مِنْ أَمَةٍ، أَوْ طَعَامٍ، أَوْ لِبَاسٍ، أَوْ غَيْرِهِ لَمْ يَحْرُمْ، وَتَلْزَمُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ إِنْ فَعَلَهُ.
قوله: «ومن حرم حلالاً سوى زوجته، من أمة، أو طعام، أو لباس، أو غيره، لم يحرم، وتلزمه كفارة يمين إن فعله» «من» اسم شرط جازم، وفعل الشرط فيها «حرَّم» ، وجوابه «لم يحرم» فالمحرِّم لما أحل الله ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: أن يكون منشئاً.
الثاني: أن يكون مخبراً.
الثالث: أن يكون ممتنعاً.
الأول: إذا كان منشئاً فهذا قد يَكْفُر، فإذا قال: إن هذا الشيء الذي حرمه الله تعالى، أنا أقول: إنه حلال، ولا أوافق على أنه حرام! فهذا قد يكفر، وذلك إذا استباح ما حرم في الدين بالضرورة، مثل لو استباح الخمر، أو الزنا، أو السرقة، أو ما أشبه ذلك، وكما يُذكر عن المعري في الخمر يقول:
لئن حُرِّمت يوماً عَلَى دينِ أحمدِ
فخذها على دينِ المسيح ابن مريمِ
وإن حرم ما لم يُجمع على تحريمه، فهذا إن كان باجتهاد فله حكم المجتهدين، وإن كان بعِنادٍ فهو على خطر.
الثاني: المخبر بالتحريم، فهذا إما صادق، وإما كاذب، مثل لو قال: إن الله ـ تعالى ـ حرم هذا، لا يقول: أنا أحرمه، وأنشئ تحريمه، وإنما يخبر بأن الله ـ تعالى ـ حرمه، فهذا إما أن نقول: إنه صادق أو كاذب، وننظر إن كان الله قد حرمه، فنقول له: صدقت، وإن كان الله لم يحرمه نقول له: كذبت، ولهذا يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أن من قال لزوجته: أنت عليَّ حرام، أنه يقال له: كذبت، وهذا محمول على أنه مخبِر، فنقول: هذا ليس بصحيح، وليست حراماً، بل الله قد أحلها لك.
الثالث: الممتنع، بأن يحرم الشيء مانعاً نفسه منه، أو ممتنعاً منه، واللفظان بمعنى واحد؛ أي: يقصد الامتناع فقط، وهذا الأخير هو الذي يريده المؤلف رحمه الله في هذا الكلام.
فإذا حرم الإنسان شيئاً حلالاً بقصد الامتناع فلا يحرم، مثل لو قال: حرام عليَّ أن آكل طعامك، فنقول: الطعام حلال لك، لم يحرم، وعليه كفارة يمين، إن فعله لأن قصده هنا أن يمتنع من أكله.
والدليل قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ *} {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 1، 2] وهذه الآية نزلت لما حرم النبي صلى الله عليه وسلم على نفسه العسل في قصة مشهورة
(1)
، تنظر في تفسير ابن كثير وغيره.
وسمي تحلة؛ لأن الإنسان تحلل منه حين كفَّر، فأنا مثلاً قبل أن أُكفِّر لا يحل لي أن أفعله، إلا إذا أديت الكفارة بعد أن أحنث، فإذا أديت الكفارة انحلت اليمين، ولم يعد هناك يمين إطلاقاً، ولهذا نقول: أداء الكفارة قبل الحنث تحلة، وبعد الحنث كفارة.
وقوله: «سوى زوجته» : «سوى» أداة استثناء، يعني من حرم حلالاً سوى الزوجة، فالزوجة حلال للإنسان لقوله تعالى:{وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ} أي: نساؤهم.
يقول المؤلف: إن حكم الزوجة ليس كحكم غيرها، فتحريم الزوجة يكون ظهاراً على المشهور من المذهب، والظهار أغلظ من غيره؛ وذلك لأن الظهار وصفه الله ـ تعالى ـ بأنه منكر من
(1)
أخرجه البخاري في تفسير القرآن/ باب {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ}
…
} (4912)، ومسلم في الطلاق/ باب وجوب الكفارة على من حرم امرأته
…
(1474) عن عائشة رضي الله عنها.
القول وزور فهو منكر لأنه حرام، وزور لأنه كذب.
وكيفية الظهار أن يقول الرجل لزوجته: أنت عليَّ كظهر أمي، وكانوا في الجاهلية يجعلونه طلاقاً بائناً كالطلاق الثلاث، فبيَّن الله سبحانه وتعالى أن هذا الحكم حكمٌ باطل، وجعل على المُظاهر الكفارة المغلظة، وهي عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكنياً، ومع ذلك لا يحل له أن يمس زوجته ـ أي: يجامعها ـ حتى يكفِّر؛ لقوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَآسَّا} [المجادلة: 3]، وقد صرح الله ـ تعالى ـ بهذا الشرط في العتق والصيام، وسكت عنه في الإطعام، فاختلف العلماء في الإطعام هل يجوز أن يمس الزوجة المظاهر منها قبل الإطعام، أو لا يجوز حتى يطعم؟
اختلفوا في ذلك على قولين، وسبق لنا أن المشهور من مذهب الحنابلة، وهو قول أكثر أهل العلم، أنه لا يمسها حتى يطعم.
فإذا قال الزوج لزوجته: أنتِ عليَّ حرامٌ صار مظاهراً، فالزوجة لا تحرُم، ولكن لا يجامعها حتى يكفِّر.
وإذا قال: إن فعلتُ كذا فزوجتي عليَّ حرام، فَفَعَلَه صار ظهاراً، فلا فرق ـ على المذهب ـ بين أن يجعله صيغة قسم، أو أن يبت التحريم، فكلاهما حكمه حكم الظهار، أي: سواء علق تحريمها على شرط، أو لم يعلق تحريمها على شرط.
والتعليق على الشرط تارة يجري مجرى اليمين، وتارة يكون شرطاً محضاً.
فالشرط المحض هو الشرط الذي لا قصد للإنسان فيه، مثل أن يقول: إذا طلعت الشمس فزوجتي عليَّ حرام.
والجاري مجرى اليمين أن يقصد بذلك توكيد المنع، مثل أن يقول: إن كلمتُ فلاناً فزوجتي عليَّ حرام، فهذا ليس كقوله: إن طلعت الشمس فزوجتي عليَّ حرام؛ لأن قصده هنا ألاَّ يكلم هذا الرجل، فهذا التعليق جارٍ مجرى اليمين.
أما التحريم بلا شرط فأن يقول: أنت عليَّ حرام، والأقسام الثلاثة كلها على المذهب حكمها حكم الظهار.
والصحيح أن تحريم الزوجة كغيرها، وحكمه كحكم اليمين؛ لعموم قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} .
فإذا قال قائل: النبي صلى الله عليه وسلم إنما حرم العسل؟ فالجواب: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فالله عز وجل لم يقل للنبي:«يا أيها النبي لِم تحرم العسل؟» ، وإنما قال:{لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} و (ما) من صيغ العموم فتشمل حتى الزوجة.
فإذا قال لزوجته: أنت علي حرام فهو يمين، إذا جامعها وجب عليه كفارة يمين فقط، وله أن يفعل الكفارة قبل وتكون تحلة، أو بعدُ وتكون كفارة.
ويؤيد ذلك قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ *وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:226]، والإيلاء في الواقع أن يحلف أن لا يطأ زوجته، وهذا في معنى التحريم، ومع ذلك فإن عليه الكفارة.
فإن قال: أنا أردت بقولي: إنها علي حرام، الطلاقَ، قلنا:
إذا أردت الطلاق، فإن هذا اللفظ قابل لهذه النية؛ لأن المطلقة حرام على زوجها، حتى وإن كانت رجعية فليست كالزوجات، فإذا أردت بهذا اللفظ ـ الصالحِ للفراقِ ـ طلاقاً صار طلاقاً؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى»
(1)
.
وإذا قال: أردتُ به الظهار، أي: أردت به «أنت علي حرام كحرمة أمي» قلنا: هو ظهار؛ لأن اللفظ مطلق والنية قيدته، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى» .
فإذا قال: أنا قلت: أنت علي حرام، ولم أنوِ الطلاق، ولا الظهار، ولا اليمين، فيُجعل يميناً؛ لأن هذا مقتضى اللفظ المطلق. فإذا أطلق كان يميناً.
فصار الذي يقول لزوجته أنت علي حرام له أربع حالات:
الأولى: أن ينوي الظهار.
الثانية: أن ينوي الطلاق.
الثالثة: أن ينوي اليمين.
الرابعة: أن لا ينوي شيئاً.
فإذا نوى الظهار فظهار، أو الطلاق فطلاق، أو اليمين فيمين، والعمدة عندنا قول النبي صلى الله عليه وسلم:«إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى» .
فإذا لم ينوِ شيئاً صار يميناً، والدليل قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا
(1)
أخرجه البخاري في بدء الوحي/ باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (1)، ومسلم في الإمارة/ باب قوله:«إنما الأعمال بالنيات» (1907) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [المجادلة:2،1].
فإذا قال قائل: هل تجرون هذه الأحكام في لفظ الظهار، فتقولون: إذا قال الرجل لزوجته: أنت علي كظهر أمي، فإنه يقع ما نواه من طلاق، وظهار، ويمين، فإن لم ينوِ شيئاً فظهار؟
الجواب: لا؛ لأن اللفظ هنا صريح في الظهار، ولو جعلناه طلاقاً لكنَّا وافقنا حكم الجاهلية، وهذا لا يجوز؛ لأنه تغيير للحكم الشرعي، فنقول: إذا قلت: أنت عليَّ كظهر أمي، فهو ظهار بكل حال.
فإن قلت: وإذا أجراه مجرى اليمين، بأن قال: إن فعلتُ كذا فزوجتي علي كظهر أمي؟
الجواب: هذا حكمه حكم اليمين ما لم ينوِ الظهار؛ لأنه ظاهر فيه أن المقصود الامتناع.
وبهذا نعرف أن القول الراجح في مسألة التحريم أنه لا فرق بين الزوجة وغيرها.
ولو قال رجل لأمته التي يتسرَّاها: أنت عليَّ حرام، فهذه يمين وليست ظهاراً، حتى على المذهب لقول المؤلف:«ومن حرَّم حلالاً سوى زوجته من أمة» أو إطعام أو لباس فلا تكون الأمة كالزوجة بل يكون تحريم الأمة يميناً.
مسألة: لو قالت الزوجة لزوجها: أنت علي حرام؟ فعلى المذهب عليها كفارة يمين، وإذا قالت لزوجها: أنت علي كظهر ابني أو أبي؟ فعلى الراجح عليها كفارة يمين، ولا يكون ظهاراً؛ لأن
الظهار بيد الرجل، والمذهب يقولون: عليها كفارة ظهار، وليس بظهار، فلزوجها أن يجامعها، ولكن الصحيح أن عليها كفارة يمين.
وقوله: «وتلزمه كفارة يمين إن فعله» فإن لم يفعل فلا شيء عليه.
وإذا قال الرجل: هو يهودي، أو نصراني، أو مجوسي، أو بريء من الإسلام، أو شيوعي إن فعل كذا وكذا، فهل هذا حكمه حكم اليمين، أو هو تَقوُّلٌ فقط؟
بعض العلماء يقول: حكمه حكم اليمين؛ لأن هذه الأمور مكروهة عنده، ولهذا جعل فعل هذا الشيء وكراهته له ككراهته أن يكون يهودياً، أو نصرانياً، أو شيوعياً، أو ما أشبه ذلك، وعلى هذا فيكون حكمه حكم التحريم، أي: تحريم المباح، فيلزمه كفارة يمين، وهذا هو المشهور من المذهب، وهو مروي عن ابن عمر رضي الله عنهما وغيره من السلف.
وقال بعض العلماء: إنه لا كفارة عليه؛ لأن هذا ليس يميناً، وليس في معنى ما ورد من اليمين، ولكن الصحيح أن حكمه حكم اليمين.
* * *
فَصْلٌ
يُخَيَّرُ مَنْ لَزِمَتْهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ بَيْنَ إِطْعَامِ عَشَرَةِ مَسَاكِينِ، أَوْ كِسْوَتِهِمْ، أَوْ عَتْقِ رَقَبَةٍ.
قوله: «يخير» أي: يفعل ما يشاء، أو خير الأمرين، وهل هو تخيير إرادة وتشهٍّ، أو هو تخيير مصلحة؟ فيه تفصيل: إذا كان المقصود به التيسير على المكلف فهو تخيير إرادة وتشهٍّ، وإذا كان المقصود به مراعاة المصلحة فهو تخيير مصلحة.
خيَّر الله عز وجل الحانث في يمينه بين أمور، فهل هو للمصلحة أو للتيسير والتسهيل؟
الجواب: للتيسير والتسهيل؛ بدليل قوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ} الآية، فإذا كان للتيسير والتسهيل فأنا أفعل ما هو أسهل وأيسر لي.
وقال ـ تعالى ـ في فدية الأذى: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196]، فهذا تخيير تشهٍّ وإرادة، حتى لو كانت المصلحة في ذبح الشاة فلا يلزمه ذلك، والأمر موكول إليه.
وقوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة: 33]، فهذا التخيير تخيير مصلحة على القول بأن الآية للتخيير، وبعض العلماء يقول: الآية للتنويع، لكن على القول بأنها للتخيير، فهو تخيير مصلحة، يعني يتبع في ذلك ما هو أصلح وأردع.
وإذا قيل لولي اليتيم: أنت بالخيار بين أن تقرض ماله، أو تدفعه مضاربة، أو تحفظه عندك، فالتخيير هنا مصلحة، والدليل قوله تعالى:{وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أْحْسَنُ} [الأنعام: 152].
فالقاعدة أنَّه إذا خير الإنسان بين شيئين، أو أشياء، فإن كان المقصود بالتخيير التيسير فالتخيير تشهٍّ وإرادة، وإذا كان المقصود المصلحة فهو تخيير مصلحة، بناءً على قاعدة أن كل من خُيِّر بين شيئين وهو متصرف لغيره، فتخييره مصلحة، وليس تخيير تشهٍّ.
قوله: «من لزمته كفارة يمين» تلزم الكفارة إذا تمت الشروط السابقة، وهي ثلاثة شروط على كلام المؤلف، وزدنا شرطاً رابعاً وهو أن يكون عالماً.
مثال ذلك: رجل قال: والله ليقدمن زيد غداً، فلم يقدم، فعلى المذهب تلزمه الكفارة، وعلى القول الراجح لا تلزمه؛ لأنه يُخبر عمَّا يغلب على ظنه.
ولو قال رجل لأخيه عند دخول الباب: والله لتدخلن، وقصد عقد اليمين، فقال أخوه: لا أدخل قبلك، بل ادخل أنت، فهل يحنث الحالف وتلزمه الكفارة؟
هذه المسألة فيها خلاف، فالمشهور من المذهب أن الكفارة تلزمه؛ لأنه قصد اليمين وحنث في يمينه.
والقول الثاني: لا تلزمه إذا كان قصده الإكرام؛ لأن الإكرام حصل بيمينه، فقوله: والله لتدخلن، كقوله: والله إني لأكرمك، فهذا هو المقصود؛ لأنه ليس هدفه من أن يدخل قبله إلا الإكرام، فكأنه حلف على الإكرام الحاصل.
قالوا: وعلى هذا تُخَرَّج قصة أبي بكر رضي الله عنه، لما قدم الطعام للضيفان، فقال الضيفان له: كل، فقال: والله ما آكل، فقالوا لزوجته: كلي، فقالت: والله ما آكل، فقال الضيفان:
والله ما نأكل، فحلفوا كلهم، فقال أبو بكر رضي الله عنه: هذا من الشيطان وأكل، وأكلوا بعد ذلك، فلما أصبحوا غدوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبروه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه:«أنت أبرهم وخيرهم»
(1)
، ولم يأمره بالكفارة.
وهذا الحديث اختلف فيه العلماء، فبعضهم قال: لم يأمره بها؛ لأن الكفارة معلومة، وفعل أبي بكر رضي الله عنه من باب الحنث في اليمين إذا كان خيراً، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه:«إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها فكفِّر عن يمينك، وائت الذي هو خير»
(2)
، فهذا من باب الحنث للخير، والكفارة لا تسقط به.
وقال بعض العلماء: ليس هذا حنثاً في الواقع؛ لأن أبا بكر لم يقصد إلزامهم بذلك، وإنما قصد إكرامهم به، والإكرام حصل، ثم هؤلاء الذين أبوا أن يأكلوا قصدوا إكرامه أيضاً، فالإكرام حصل من الطرفين، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وقال: إن الحنث معناه الإثم، فأبو بكر ما قصد الإلزام، وهم ما قصدوا تحنيث أبي بكر، فكل منهم قصد الإكرام، والإكرام قد حصل، فحينئذ لا يكون هناك حنث، ولا شك أن دلالة حديث أبي بكر رضي الله عنه على ما اختاره شيخ
(1)
أخرجه البخاري في الأدب/ باب ما يكره من الغضب والجزع عند الضيف (6140)، ومسلم في الأشربة/ باب إكرام الضيف وفضل إيثاره (2057) عن عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما، وهذا لفظ مسلم.
(2)
سبق تخريجه ص (126).
الإسلام ابن تيمية رحمه الله واضحة، وهذا القول في الحقيقة فيه فرج للناس؛ لأن الناس دائماً يحلفون هذه الأيمان، أما إذا قصد الإلزام فواضح أنه يحنث.
تلخّص لنا أن بعض العلماء يقول: إذا لم يكن القصد باليمين الإلزام إنما قصده الإكرام فإنه لا يحنث بالمخالفة؛ لأن الإكرام حصل، فكأن صاحب اليمين يقول: والله إني أكرمك بهذا، وقد تم، وعندي أنه لا ينبغي الإكثار من الحلف للإكرام؛ لأن فيه إحراجاً، ولأنه عند الجمهور فيه كفارة بالحنث فيه.
والكفارة تجب على الفور؛ وقد بينا
(1)
في أصول الفقه أن الواجبات تجب على الفور. ولو قال رجل لآخر: إن فعلت كذا فزوجتي طالق فهل يقع به الطلاق؟
فالجواب: هذا يمين لأن هذا اللفظ جاء به المتكلم للتوكيد. يعني أن أغلى ما عندي زوجتي ومع ذلك سوف أرخصها من أجلك لتأكيد الإلزام، والحلف بالطلاق لم يكن في عهد الصحابة ولذلك لم ترد به الآثار ولكن كان في عهد الصحابة الإقسام بالنذر وقد جعل الفقهاء حكمه حكم اليمين. فكل من حلف قاصداً به الامتناع فهو يمين سواء حلف بالطلاق أو الظهار أو التحريم أو الوقف أو غير ذلك.
وقوله: «يخير من لزمته» احترازاً ممن لا تلزمه.
(1)
انظر: الأصول من علم الأصول وشرحه، ومنظومة أصول الفقه وقواعده لفضيلة الشيخ الشارح رحمه الله.
انتقد النحويون على الفقهاء كلمة «أو» في هذا المكان؛ لأنها لا تستقيم مع التخيير، وكان عليهم أن يقولوا: يخير بين إطعام عشرة مساكين، وكسوتهم، وتحرير رقبة، ولا نستدل بالآية الكريمة؛ لأن الآية الكريمة فيها:{فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة: 89] ليس فيها «يخيَّر» ، فـ (أو) لا حاجة لنا أن نأتي بها، لأنا إذا أتينا بها جمعنا بين الفعل الدال على التخيير، والحرف الدال على التخيير، وهذا لا حاجة إليه.
ولكن قال بعض النحويين: إن هذا جائز وسائغ، وتكون «أو» هنا بمعنى «الواو» ولا حرج.
وقوله: «بين إطعام عشرة مساكين» المسكين هنا يتناول الفقير، وهو من لا يجد كفايته وكفاية عائلته لمدة سنة.
والإطعام له كيفيتان:
الأولى: أن يصنع طعاماً يكفي عشرة مساكين ـ غداء أو عشاءً ـ ثم يدعوهم؛ وذلك لأن الله ـ تعالى ـ أطلق فقال: {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} فإذا صنع طعاماً وتغدّوا، أو تعشوا فقد أطعمهم.
الثانية: التقدير، وقد قدَّرناه بنحو كيلو من الأرز لكل واحد، فيكون عشرة كيلوات للجميع، ويحسن في هذه الحال أن يجعل معه ما يؤدِّمه من لحم أو نحوه، ليتم الإطعام؛ لأن الله تعالى يقول:{إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} .
فإن قيل: ما الدليل على تقديره بالكيلو؟ ولماذا لا نقول: نعطيه ما يسد كفايته؟
في الحقيقة ليس هناك دليل واضح في الموضوع، إلا أن يقول قائل: إن دليلنا حديث كعب بن عُجرة رضي الله عنه، حين أذن له النبي صلى الله عليه وسلم أن يحلق، ويطعم ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع
(1)
، فعيَّن لكل مسكين نصف صاع، فيقاس عليه البقية، والمسألة تقريبية، وليست حدّاً معروفاً.
وإذا تأملت وجدت أن الإطعام، والمطعم له ثلاث حالات:
تارة يقدَّر المعطى دون الآخذ، وتارة يقدر الآخذ دون المعطى، وتارة يقدر المعطى والآخذ:
مثال ما قُدر فيه المعطى دون الآخذ: زكاة الفطر، فهي مقدرة بصاع على كل شخص، لكن لم يقدر فيها من يدفع له، ولهذا يجوز أن توزع الفطرة على أكثر من مسكين، ويجوز أن تعطى عدة فطرات لمسكين واحد، فهذا قدر فيه المعطى دون الآخذ، وإن شئت قلت: قدر فيه المدفوع دون المدفوع إليه.
ومثال ما قدِّر فيه المدفوع والمدفوع إليه: فدية الأذى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع» (1).
ومثال ما قدر فيه المدفوع إليه دون المدفوع: كفارة اليمين، ولهذا قال شيخ الإسلام رحمه الله: ما دام الشرع لم يقدر
(1)
أخرجه البخاري في المحصر/ باب قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا} (1814)، ومسلم في الحج/ باب جواز حلق الرأس للمحرم إذا كان به أذى (1201) عن كعب بن عجرة رضي الله عنه.
لنا، فإن ما يسمى إطعاماً يكون مجزئاً، حتى الغداء أو العشاء.
وقوله: «أو كسوتهم» : أي: كسوة العشرة، سواء كانوا صغاراً أم كباراً.
وكيف نكسوهم، هل بقميص، أو بقميص وسراويل، أو إزار ورداء، وهل مع ذلك عمامة، أو غترة وطاقية، أو مشلح، أو ماذا؟
فنقول: أما الإطعام فقد قال الله تعالى: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} ، و «أوسط» بمعن وسط، وليس بمعنى الأعلى، استدلالاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه حين بعثه إلى اليمن:«وإياك وكرائم أموالهم»
(1)
فلو أوجبنا الأعلى لكنا أخذنا من كرائم الأموال.
أما الكسوة فإن الله ـ تعالى ـ لم يقيدها بشيء، وعلى هذا فأي شيء يطلق عليه كسوة يحصل به المقصود، فمثلاً عندنا لو أن شخصاً كسا آخر إزاراً من السرة إلى الركبة فهذا لا يسمى كسوة، فهي في كل بلد بحسبه، ففي بلادنا الكسوة تكون درعاً، وهو الثوب، وغترة، وطاقية، أما السراويل فليست لازمة بل هي من كمال الكسوة.
وظاهر الآية الكريمة أنه لا فرق بين الصغير والكبير، والذكر والأنثى، مع أن كسوة الأنثى غالباً أكثر من كسوة الرجل.
وقوله: «أو عتق رقبة» العتق هو تحرير الرقبة وتخليصها من
(1)
أخرجه البخاري في الزكاة/ باب وجوب الزكاة (1395)، ومسلم في الإيمان/ باب الدعاء إلى الشهادتين (19).
الرق، وهو مطلق، فظاهره أن الرقبة تجزئ ولو كانت كافرة، وهذا مذهب الإمام أبي حنيفة، وأصحابه، وابن المنذر، وجماعة من أهل العلم، قالوا: لأن الله ـ تعالى ـ قال: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة: 89] وأطلق، بينما قال ـ سبحانه ـ في كفارة قتل الخطأ:{وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92]، فقيدها الله ـ تعالى ـ بالإيمان، وفي كفارة اليمين والظهار أطلق، وليس لنا أن نقيد ما أطلقه الله، وإذا كنا نقول: إنه لا إطعام في كفارة القتل؛ لأنه لم يذكر، فكذلك نقول: إنه لا يشترط الإيمان في كفارة الظهار، وكفارة الأيمان؛ لأنه لم يذكر.
ثم نقول: آية القتل اشترط الله فيها الإيمان في ثلاثة مواضع، فقال سبحانه:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92].
فقيدت الرقبة بالإيمان ثلاث مرات، مع أنه لو كنا نقول بحمل المطلق على المقيد لكان يكفي أن تقيد في الآية الكريمة مرة واحدة، ثم يحمل في الموضعين الآخرين عليها، فإذا كان الله ـ تعالى ـ كلما ذكر العتق يقيده بالإيمان، والسبب واحد وهو قتل النفس المحترمة، دل ذلك على أن الإيمان ليس شرطاً في كفارة اليمين، وكفارة الظهار، وكفارة الجماع في نهار رمضان، لا سيما
وأن الجماع في نهار رمضان جاء فيه قصة الرجل الذي جامع في نهار رمضان وجاء يسأل: فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «هل تجد ما تعتق رقبة»
(1)
؟ ولم يقل له: مؤمنة، مع أن المقام يقتضي أن يقول له ذلك، ولهذا كان هذا القول قوياً جداً وهو مذهب الإمام أبي حنيفة وابن المنذر وجماعة من العلماء.
أما الذين قالوا: باشتراط الإيمان فاستدلوا بالقاعدة المعروفة: «أنه يحمل المطلق على المقيد إذا كان الحكم واحداً» .
فإن لم يستقم الأمر فإن الإيمان شرط فيها من باب القياس، وذلك بأن يقال: رقبة وجب إعتاقها للخروج من الذنب، فاشترط فيها الإيمان، كالرقبة الواجبة في كفارة قتل الخطأ.
ولكن قد يُعارض ذلك، فأما الأول وهو حمل المطلق على المقيد، فقد نقول: إنه لا حمل هنا؛ لأن الحكم مختلف، ففي كفارة القتل عتق، وصيام بدون إطعام، وفي كفارة الظهار والجماع في نهار رمضان عتق، وصيام، وإطعام، وفي كفارة اليمين الاختلاف واضح، فهو إطعام، وكسوة، وعتق، وصيام، فيختلف اختلافاً بيناً عن كفارة القتل.
وأيضاً السبب مختلف، وإن كان اختلاف السبب لا يؤثر، لكن لا بد أنَّ مؤثراً أثَّر في الحكم.
وأما القول بالقياس، فإن القياس هنا قد يكون ممنوعاً؛
(1)
أخرجه البخاري في الصوم/ باب إذا جامع في رمضان ولم يكن له شيء فتصدق عليه فليكفر (1936)، ومسلم في الصيام/ باب تحريم الجماع في شهر رمضان
…
(1111) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وذلك لأن القتل أعظم ذنباً من كفارة اليمين، فكفارة اليمين الحنث فيها مباح، والقتل محرَّم ومغلظ، فلا يقاس هذا على هذا.
فإن قلت: بماذا تجيب عن حديث معاوية بن الحكم رضي الله عنه حين أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن له جارية غضب عليها، فصكَّها ـ أي: ضربها ـ وأنه يريد أن يعتقها، فدعاها النبي صلى الله عليه وسلم وقال لها:«أين الله؟» قالت: في السماء، قال:«من أنا؟» ، قالت: أنت رسول الله، قال:«أعتقها فإنها مؤمنة»
(1)
.
فقوله صلى الله عليه وسلم: «أعتقها فإنها مؤمنة» ، جملة تعليلية، أي: لإيمانها أعتقها، أفلا يدل هذا على أن غير المؤمن ليس محلاً للعتق؟ فالجواب: بلى، هو يدل على أن الإيمان شرط.
أيضاً لو أعتقنا الكافر فإنه يتحرر، ولا يُؤمَن أن يلحق بدار الكفر، فيكون في ذلك ضرر عليه وعلينا، أما الضرر عليه فلأنه إذا لحق بدار الكفر فيكون أبعد لإسلامه، والضرر الذي علينا فلأنه قد يعين الكفار على المسلمين في يوم من الأيام، لا سيما إذا كان فيه حنق على المسلمين وكان جلداً شجاعاً.
ولهذا نقول: لا تعتق الكافر مطلقاً، إلا إذا أسلم.
وهذا في الحقيقة هو الذي يمنع من أن يرجح الإنسان الإطلاق في كفارة اليمين والظهار.
فإذا أردنا أن نخرج من المتشابه فلا نعتق إلاّ مؤمنة؛ لأنك
(1)
أخرجه مسلم في الصلاة/ باب تحريم الكلام في الصلاة
…
(537) عن معاوية بن الحكم رضي الله عنه.
إذا أعتقت مؤمنة أبرأت ذمتك بلا خلاف، وإن أعتقت كافرة فقد أبرأت ذمتك على قولٍ من الأقوال، قد يكون هذا الصواب عند الله تعالى، وقد يكون الصواب خلافه، هذا إذا جاء يسألنا في ابتداء الأمر فنقول له: أعتق رقبة مؤمنة فهو أحوط لك، واتَّقِ الشبهات.
وأما رجل قد أعتق ورأى أنه قد أبرأ ذمته إما جهلاً، وإمَّا تقليداً لقول بعض العلماء، فهذا لا نأمره بإعادة العتق؛ لأن أمرنا إياه بإعادة العتق مقتضاه القضاء عليه بالغرم، وهو أمرٌ غير متيقن، فنكون ارتكبنا مفسدة التغريم بدون دليل بيِّن، وحينئذٍ يكون الحكم عليه بإبراء ذمته هو الاحتياط، ولهذا كثير من العلماء في مثل هذه الأمور المشتبهة التي تعارضت فيها الأدلة، أو تكافأت فيها أقوال العلماء إذا لم يكن هناك دليل، يفرقون بين الشيء إذا وقع، وبين الشيء قبل وقوعه، فيقولون: قبل الوقوع نأخذ بالأحوط، وبعد الوقوع نأخذ بالأحوط أيضاً، وهو عدم إفساد العبادة، أو عدم التغريم، أو ما أشبه ذلك.
فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَةٍ،
............
قوله: «فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام» وهذا كقوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ} [المائدة: 89].
ثم قال «فمن لم يجد» هنا المفعول محذوف، وحَذْف المفعول يدل على العموم، وهذا من القواعد.
إذاً فمن لم يجد ما يُطعم به، أو يكسو، أو يعتق، ومن لم يجد من يطعمه، أو يكسوه، أو يعتقه، فكذلك، فمثلاً رجل عنده مال وغني، طلب رقبةً فما وَجد، وطلب مساكين فما وجد، فقيل
له: إن هناك مساكين في أقصى ماليزيا، وهو في المغرب الأقصى، فهذا غير واجد.
إذاً من لم يجد شيئاً يشتري به طعاماً، أو كسوة، أو رقبة، أو عنده مال، ولكن لا يجد محلاً لهذا المال، بأن لم يجد رقبة في السوق، أو لا يجد فقراء يطعمهم ويكسوهم، وهذه المشكلة الآن قائمة عندنا ـ والحمد لله ـ فكثيراً إذا ما قلنا للناس: عليكم إطعام عشرة مساكين، يقولون: أأعطيك لتطعم لي؟ فما يجدون فقراء، ولذا أُفتي الناس وأقول: هؤلاء العمال غالبهم ذوو عائلات وفقراء، وإذا أعطيتهم من هذا الطعام ما يكفيهم غداءً، أو عشاء يوماً أو يومين، ويكونون عشرة مساكين مسلمين، فقد أجزأت الكفارة، ولا يُعطى الكافر.
والدليل على أن الكافر لا يعطى من الكفارة القياس على الزكاة، فإن الكافر لا يعطى من الزكاة إلا إذا كان مؤلَّفاً، ولذلك قاس العلماء الإطعام على الزكاة، وقالوا: إن الكفار ليسوا أهلاً، والمسألة فيها شيء من التأمل؛ لأنه قد يقال: حتى في الزكاة يعطى الكافر إذا لم يكن حربياً.
وقول الله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ} لاحظ أن الإطعام لا يقابل الصوم، فالإطعام عشرة، والصيام ثلاثة، وفي كفارة الظهار صيام شهرين أو إطعام ستين مسكيناً وهو مقارب، وإن كان الصيام قد يكون ثمانية وخمسين يوماً والإطعام ستين مسكيناً، وفي فدية الأذى صوم ثلاثة أيام أو إطعام ستة مساكين فهو متقارب، فدل هذا على أن هناك حِكَماً لله عز وجل تخفى
على الناس، ما نستطيع أن ندركها، وإلا لقال الإنسان: جعل الله إطعام المسكين في صيام رمضان عن يوم، وفي كفارة الظهار والجماع في نهار رمضان عن يوم تقريباً، فلماذا جعل هنا مختلفاً؟
نقول: هذه من الأمور التي لا ندركها، والله أعلم.
قوله: «متتابعة» أي: واحداً تلو الآخر، فإن صامها متفرقة لم تجزئ، فلو صام يوماً وأفطر يوماً، وصام يوماً وأفطر يوماً، وصام يوماً فيبقى عليه يومان؛ لأن اليومين السابقين أفطر بينهما فلم يصحَّا، فما الدليل، وقد قال الله تعالى:{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ} ، ولم يقل: متتابعة، والأصل عدم التتابع والله تعالى لما أراد التتابع قال:{فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [المجادلة: 4]، ولما أراد الإطلاق قال:{فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] وهنا عين العدد، ولم يذكر التتابع؟
قال العلماء: الدليل على ذلك قراءة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «فصيام ثلاثة أيام متتابعة»
(1)
، وقراءة ابن مسعود رضي الله عنه حجة، قال النبي صلى الله عليه وسلم:«من أراد أن يقرأ القرآن غضّاً كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد»
(2)
يعني ابن مسعود؛ إذاً فقراءته إذا صحت عنه تكون ثابتة وحجة، ويكون هذا هو الدليل، وإلا لوجب أن نطلق ما أطلقه الله.
(1)
أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (16103)، والبيهقي (10/ 60).
(2)
أخرجه الإمام أحمد (1/ 445)، وابن ماجه في المقدمة/ باب في فضائل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم (138)، والحاكم (2/ 227)، وقال:«صحيح الإسناد على شرط الشيخين» .
وقال بعض العلماء: إن القراءة إذا لم تكن متواترة فليست بثابتة، وهذا غير صحيح، بل القراءة إذا صحت ولو لم تكن متواترة فهي كالحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، لأن مثلاً ابن مسعود إذا كان يقرؤها، فمعناه أنه رواها عن النبي صلى الله عليه وسلم وسمعها منه، ونحن نقول: لا تُقرأ في الصلاة، مع أن شيخ الإسلام رحمه الله يقول: تقرأ في الصلاة متى صحت، ولو لم تكن متواترة.
وَمَنْ لَزِمَتْهُ أَيْمَانٌ قَبْلَ التَّكْفِيرِ مُوجَبُهَا وَاحِدٌ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ،
.......
قوله: «ومن لزمته أيمان قبل التكفير مُوجَبُها واحد فعليه كفارة واحدة» «من» اسم شرط جازم، وفعل الشرط «لزمته» ، وجوابه «فعليه كفارة واحدة» مثال ذلك: أن يقول: والله لا أكلم فلاناً، والله لا أدخل البيت، والله لا أذهب إلى السوق، هذه أيمان ثلاث موجَبها ـ أي: ما يجب بسببها، أو ما توجبه ـ واحد، وهو إطعام، أو كسوة، أو عتق، فإن لم يجد فصيام، فكلها تتفق في الموجب ـ أي: إن كفارتها واحدة ـ فماذا يلزمه إذا حنث في الثلاث؟ يلزمه كفارة واحدة، قياساً على ما إذا تعددت الأحداث، فلا يلزمه إلا وضوء واحد، كرجل نام، وتغوط، وبال، وخرجت منه ريح، وأكل لحم إبل، فهذه خمسة أحداث، ويلزمه الوضوء مرة واحدة.
قالوا: فهذه أسباب متعددة، والمسبَّب واحد، فلا يلزمه إلا كفارة واحدة، وهذا إذا كان قبل التكفير.
أما إذا كان بعد التكفير، مثل ما لو قال: والله لا أكلم فلاناً، والله لا أدخل البيت، والله لا أذهب إلى السوق فهذه ثلاثة
أيمان، فكلم فلاناً، ثم كفّر عن تكليمه إياه، ثم دخل البيت، وذهب إلى السوق، فهنا لا تجزئه الكفارة الأولى؛ لأن كفارة اليمينين الآخرين لم تلزمه إلا بعدما كفَّر عن الأول.
ولو نوى بالكفارة عن الأول الكفارة عن الأول، والتحلة عن الثاني، والثالث، فيجزئه؛ لأن الموجَب واحد، وهذا ما مشى عليه المؤلف، وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد.
وذهب جمهور العلماء إلى أنه إذا تعدد المحلوف عليه، واليمين فعليه لكل واحدة كفارة، مثل لو قال: والله لا أكلم زيداً، والله لا أدخل البيت، والله لا أذهب إلى السوق، فالأيمان متعددة، والمحلوف عليه متعدد.
قالوا: فيلزمه كفارة لكل يمين، ففي هذه الحال يلزمه ثلاث كفارات، وعللوا ذلك بعموم الآية:{فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89]، وهذه أيمان متعددة فيلزمه كفارات بعددها، كما لو قتل المحرم صيداً كعشر حمامات، فالموجَب واحد وهو مثل ما قتل من النعم، فيلزمه عشر شياه، قالوا: فهذا مثله؛ لأن السبب متعدد، وكل يمين مستقلة بنفسها.
وهذه المسألة لها ثلاث حالات:
الأولى: أن تتعدد اليمين والمحلوف عليه واحد، مثل لو قالت له أمه: البس ثوب الصوف، اليوم برد، فقال: والله ما ألبسه، ثم لقيه أخوه فقال له: البس ثوب الصوف للبرد، فقال: والله ما ألبسه، ثم لقيه أبوه فقال: يا ولدي البس هذا الثوب للبرد، قال: والله لا ألبسه، فالأيمان متعددة، والمحلوف عليه
شيء واحد، فهذا يجزئه كفارة واحدة قولاً واحداً، ولا إشكال فيه.
الثانية: أن تكون اليمين واحدة، والمحلوف عليه متعدداً، مثاله: قيل له: اذهب إلى صاحبك، قد دعاك إلى وليمة عرس، وكل من طعامه، وهنئه بالزواج، فقال: والله لا أذهب إليه، ولا أهنئه بالزواج، ولا آكل من طعامه.
فالمحلوف عليه ثلاثة أشياء، ولكن اليمين واحدة، فهذا ـ أيضاً ـ تجزئه كفارة واحدة، قولاً واحداً؛ لأن اليمين واحدة.
الثالثة: أن تتعدد الأيمان والمحلوفُ عليه، وهذا هو محل الخلاف بين العلماء، فمنهم من قال: إنه يجزئه كفارة واحدة، وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله، ومنهم من قال: إنه لا بد لكل يمين من كفارة، وهذا مذهب الجمهور، والظاهر ما ذهب إليه الجمهور، أنه إذا كانت اليمين على أفعال فإن لكل فعل حكماً. ما لم يكن على الصفتين السابقتين.
وَإِنْ اخْتَلَفَ مُوجَبُهَا، كَظِهَارٍ، وَيَمِينٍ بِاللهِ لَزِمَاهُ، وَلَمْ يَتَدَاخَلَا.
قوله: «وإن اختلف موجَبُها كظهار ويمين بالله لزماه ولم يتداخلا» معلوم أن كفارة الظهار غير كفارة اليمين، فإذا لزمته كفارة ظهار، وكفارة يمين، وجب عليه أن يكفر كفارة ظهار تامة، وكفارة يمين تامة؛ لاختلاف الموجَب.
مثال ذلك: رجل قال: والله لا أكلم زوجتي، وهي عليَّ كظهر أمي، ففي هذا يمين، وظهار، فإن أراد الرجل أن يعود نقول له: عليك كفارة يمين، وكفارة ظهار، فلو قال: أنا أريد أن أعتق رقبة واحدة عن الجميع، فلا يجزئه، ولا بد من رقبتين.
فإن قال: الموجَب واحد، نقول: لكن المعتبر أصل الكفارة، وعلى هذا فلو أراد أن يعتق رقبة واحدة عن اثنين لم يصح.
ولو قال رجل: أنا عليَّ صيام شهرين متتابعين ـ ستين يوماً ـ عن الظهار، وأنوي ثلاثة أيام منها عن اليمين فلا يجزئه، ولا تتداخل الكفارتان.
ولو قال: أنا عليَّ إطعام ستين مسكيناً إذا لم أستطع الصوم عن الظهار، فأنوي إطعام عشرة مساكين من الستين عن اليمين، فهذا لا يجزئ، والعلة اختلاف الموجَب.
فإذا قيل: على أي شيء يقاس هذا؟ قالوا: كالحدث الأصغر، والحدث الأكبر، فالمذهب لا يرتفع الحدث الأصغر بنية ارتفاع الحدث الأكبر فقط، بل لا بد أن ينوي بغُسله رفع الحدثين، وعليه فنقول لهذا الرجل الذي قال: والله لا أكلم زوجتي، وهي عليَّ كظهر أمي، يلزمه إذا عاد كفارتان: كفارة لليمين، وكفارة للظهار.
ولو قال رجل: لله عليَّ نذر ألاَّ آكل من طعامكم، وقال: والله لا أخرج إلى السوق، وقال: إن كلمت فلاناً فزوجتي طالق يريد اليمين، ثم حنث في الثلاثة، فماذا يلزمه على المذهب؟
الجواب: عليه كفارة واحدة؛ لأن موجب هذه الأشياء الثلاثة واحد، فالنذر الذي يقصد به اليمين يمين، والطلاق الذي يقصد به اليمين يمين، فعلى المذهب يجزئه كفارة واحدة، ولكن تطلق الزوجة، والصحيح أنها لا تطلق.
وعلى القول الثاني ـ الذي هو قول الجمهور ـ يلزمه ثلاث كفارات؛ لأن الأفعال متعددة.
بَابُ جَامِعِ الأَيْمَانِ
يُرْجَعُ فِي الأَْيْمَانِ إِلَى نِيَّةِ الْحَالِفِ إِذَا احْتَمَلَهَا اللَّفْظُ،
..................
قوله: «باب جامع الأيمان» يعني باب جامع أحكام الأيمان، والأيمان جمع يمين، وهو القسم، وهذا الباب يبحث فيه على أي شيء ينزل القسم، هل على العرف، أو على اللغة، أو على النية، أو على السبب؟
قوله: «يُرجع في الأيمان إلى نية الحالف» والدليل على ذلك الكتاب والسنة، أما الكتاب فقوله تعالى:{وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُّمُ الأَيْمَانَ} [المائدة: 89] ووجه الدلالة من الآية أنه إذا رُجِع إلى النية في أصل اليمين، هل هي يمين منعقدة أو غير منعقدة؟ فلأن يرجع إليها في المراد باليمين من باب أولى.
وأما من السنة فقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى»
(1)
. وما أعظم هذا الحديث.
لكن اشترط المؤلف: «إذا احتملها اللفظ» يعني بأن كان هذا اللفظ يمكن أن يراد به ما نواه الحالف، فإن لم يمكن لم يقبل منه؛ لأن هذه النية معاندة للفظ مضادة له، فلا تقبل.
مثال النية التي يحتملها اللفظ: إذا قال: والله لا أنام الليلة إلا على فراش ليِّن، فخرج ونام في الصحراء على الرمل، فلما
(1)
سبق تخريجه ص (153).
أصبح قيل له: كفِّر، فقال: لا أكفِّر؛ لأني نويت بالفراش الأرض، فيصح هذا؛ لأن اللفظ يحتمله، قال الله تعالى:{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا} [البقرة: 22]، والرمل لين، فصار اللفظ يحتمل هذا وصالحاً له، وعليه فلا شيء عليه. أما إذا نوى شيئاً لا يحتمله اللفظ فإنه لا يقبل.
ولو قال: والله لأبيتن الليلة على وتد، فذهب إلى جبل وبات عليه، فقلنا له: كفِّر، فقال: لقد بت على الوتد، وقد أردت بالوتد الجبل، فلا شيء عليه؛ لأن اللفظ يحتمله.
ولو حلف ألا ينام إلا تحت سقف، ثم خرج إلى البر ووضع فراشه ونام وليس فوقه إلا السماء، فقيل له: عليك أن تكفر؛ لأنك لم تنم تحت سقف، فقال: أردت السماء، فهذا يصح؛ لقوله تعالى:{وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا} [الأنبياء: 32]، فاللفظ يحتمله.
مثال النية التي لا يحتملها اللفظ، إذا قال: والله لا أشتري اليوم خبزاً، فذهب إلى الفرَّان ووقف عنده واشترى، فقيل له: كفِّر عن يمينك، فقال: أنا أردت بقولي: والله لا أشتري اليوم خبزاً، والله لا أكلم فلاناً، فهذا لا يصح، واللفظ لا يحتمله إطلاقاً، فلا يقبل لأنه ليس هناك ارتباط بين اليمين والمحلوف عليه.
فَإِنْ عُدِمَتِ النِّيَّةُ رُجِعَ إِلَى سَبَبِ اليَمِينِ وَمَا هَيَّجَهَا،
...............
قوله: «فإن عُدمت النية رجع إلى سبب اليمين وما هيَّجها» هيجها يعني: أثارها أي: إذا لم يكن للحالف نية، نرجع إلى سبب اليمين فنحمل اليمين عليه.
مثال ذلك: رجل قيل له: إن ابنك يصاحب الأشرار، فقال: والله لا أكلمه ما حييت، بناءً على أنه يصاحب الأشرار، فجاء إليه رجل، وقال له: لماذا لا تكلمه؟ فقال: لأنه يصاحب الأشرار، فلاناً، وفلاناً، فقال له: هؤلاء أناس طيبون جداً ومن أحسن الشباب، فكيف تمنعه؟! قال: قال لي فلان: إنهم أشرار، قال: نعم، هم أشرار عنده؛ لأنهم أخيار وهو شرٌّ، والشرُّ يرى الأخيارَ أشراراً، فهل إذا كلَّمه أبوه في هذه الحال عليه الكفارة؟ ليس عليه الكفارة؛ لأنه معروفٌ قصده، وسبب اليمين أن ابنه يصاحب الأشرار، فكأن هذا الحالف قال: إن كان ابني مصاحباً للأشرار فلا أكلمه، وهو وإن لم يقل هذا الشرط بلفظه فهو مضمر له في نفسه.
ولو قيل له: اذهب معنا، نريد أن نسافر إلى بلدٍ ما، فقال: البلد الفلاني؟ قالوا: نعم، قال: والله ما أسافر إليه؛ لأنه كان يعلم أنها بلد تشرب فيها الخمور، ويعصى فيها الله عز وجل علانية، ولا يُحكم فيها بما أنزل الله، فقيل له: الحكم تغير، تولاها رجل مؤمن صالح، فأزال الظلم وحكم بشريعة الله، واختفى الفُسَّاق، فلو سافر إليها أعليه كفارة؟ لا؛ لأننا علمنا أن سبب يمينه هذا البلاء الذي في هذا البلد، فكأنه قال: والله لا أسافر إليه ما دام كذلك، والآن زال هذا الأمر فله أن يسافر.
ولو قال: والله لا أكلم زيداً؛ بناءً على أنه سمع أن زيداً رجل وضيع، لا ينبغي لمثله أن يكلمه، فتبين له أن زيداً رجل شريف فكلمه، فهنا نقول: لا حنث عليه؛ لأن السبب الذي جعله يحلف تبين عدمه.
ولو قال: يعلم الله أنني لا أكل هذا، فهل يُعد يميناً؟
الجواب: نعم، هذا يمين أو أبلغ من اليمين لأنه إذا قال هذا الكلام ثم أكل فإن كلامه يتضمن معنى باطلاً في حق الله جل وعلا وهو الجهل.
فَإِنْ عُدِمَ ذَلِكَ رُجِعَ إِلَى التَّعْيِينِ، فَإِذَا حَلَفَ لَا لَبِسْتُ هَذَا الْقَمِيصَ، فَجَعَلَهُ سَرَاوِيلَ، أَوْ رِدَاءً، أَوْ عِمَامَةً، وَلَبِسَهُ، أَوْ لَا كَلَّمْتُ هَذَا الصَّبِيَّ فَصَارَ شَيْخَاً، أَوْ زَوْجَةَ فُلَانٍ هَذِهِ، أَوْ صَدِيقَهُ فُلَاناً، أَوْ مَمْلُوكَهُ سَعِيداً، فَزَالَتْ الزَّوْجِيَّةُ وَالْمُلْكُ وَالصَّدَاقَةُ ثُمَّ كَلَّمَهُمْ،
.......
قوله: «فإن عُدم ذلك رُجع إلى التعيين» هذه المرتبة الثالثة، فإذا لم يكن له نية، ولم يكن لليمين سبب، رُجع إلى التعيين، أي: إلى عين المحلوف عليه، فإذا عين شيئاً تعلق الحكم به على أي صفةٍ كان.
قوله: «فإذا حلف لا لبستُ هذا القميص» هنا الحلف فيه تعيين، وطريقه الإشارة، قال: والله لا ألبس هذا القميص، وليس له نية، ولا سبب، فهنا تتعلق اليمين بعين ذلك القميص.
قوله: «فجعله سراويل أو رداءً أو عمامة ولبسه» «سراويل» مفرد، قال ابن مالك:
ولسراويل بهذا الجمعِ
شَبَهٌ اقتضى عمومَ المنعِ
وبعضهم يقول: إنها جمع سروال، وجمع سراويل سراويلات، كما جاء في الحديث:«لا يلبس السراويلات»
(1)
. فإذا شقق القميص وجعله سراويل ولبسه فإنه يحنث؛ لأنه عينه، فهذا المحلوف عليه هو عين هذا الشيء، أو شققه وجعله رداءً
(1)
أخرجه البخاري في الحج/ باب ما لا يلبس المحرم من الثياب (1542)، ومسلم في الحج/ باب ما يباح للمحرم بحج أو عمرة (1177) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
يرتديه، كرداء الإحرام فإنه يحنث؛ لأنه عينه، أو جعله عمامة ولبسه فإنه يحنث اعتباراً بالتعيين؛ لأن هذا الرجل ليس عنده نية ولا سبب، وقد عين هذا الشيء، وقال: لا ألبسه فتتعلق اليمين بهذا الشيء على أي صفة كان.
قوله: «أو لا كلمت هذا الصبي فصار شيخاً» «كلم» فعل ماضٍ لكن إذا دخلت عليها «لا» النافية في القسم قلبتها إلى مستقبل، وهذا أحد المواضع الذي ينقلب فيه الفعل الماضي مستقبلاً، فكما ينقلب بالشرط مثل: إن قام زيد قمت، كذلك ينقلب هنا في باب اليمين، فمعنى لا كلمت، أي: لا أكلم، فلو قال: والله لا كلمت هذا الصبي، ثم هذا الصبي كَبر، وصار شيخاً كبيراً، فكلمه فإنه يحنث بناءً على التعيين.
قوله: «أو» قال: لا كلمت «زوجة فلان هذه» فعينها.
قوله: «أو» قال: لا كلمت «صديقه فلاناً» أي: هذا.
قوله: «أو مملوكه سعيداً» أي: هذا.
قوله: «فزالت الزوجية، والملك، والصداقة ثم كلمهم» فزالت الزوجية بالطلاق، أو الموت وأصبحت غير زوجة له، فكلمها فإنه يحنث بناءً على التعيين، وكذلك صديقه إذا زالت الصداقة، بأن كان هذا الرجل صديقاً لفلان، فقال: والله لا أكلم صديق الرجل هذا، ثم صار غير صديق له وكلمه فإنه يحنث.
وكذلك المُلْك، فلو أن هذا الرجل باع العبد الذي حلف أن لا يكلمه ثم كلمه فإنه يحنث.
أَوْ لَا أَكَلْتُ لَحْمَ هَذَا الْحَمَلِ، فَصَارَ كَبْشاً، أَوْ هَذَا الرُّطَبَ فَصَارَ تَمْراً، أَوْ دِبْساً أَوْ خَلاًّ، أَوْ هَذَا اللَّبَنَ فَصَارَ جُبْناً، أَوْ كِشْكاً، أَوْ نَحْوَهُ، ثُمَّ أَكَلَهُ حَنِثَ فِي الْكُلِّ، إِلاَّ أَنْ يَنْوِيَ مَا دَامَ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ.
قوله: «أو لا أكلت لحم هذا الحمل فصار كبشاً» «الحمل» هو الصغير من أولاد الضأن؛ فإذا صار كبشاً زال وصف الحمل، لكنه عينه فيحنث.
قوله: «أو هذا الرطب فصار تمراً أو دبساً أو خلاً» فإذا صار تمراً أو دبساً أي: ينعصر فيخرج منه الدبس، فأكل من دبسه فإنه يحنث.
وقوله: «أو صار خلاً» الخل أن يوضع الرطب في الماء ويبقى لمدة يوم أو يومين، ثم يُشرب فالماء يكتسب حلاوة من التمر، والتمر يمتص الرواسب غير الطيبة التي في الماء، وكان الناس يستعملونه قديماً، وكان طعمه من أطيب وأحسن ما يكون، فحل محله الشاي، فلو صار الرطب خلاًّ وشربه يحنث؛ لأن طعم الرطب موجود في الماء.
قوله: «أو هذا اللبنَ فصار جبناً أو كشكاً أو نحوه ثم أكله حنث في الكل» قال في الروض: «أو حلف لا أكلت»
(1)
هذا اللبن، فإن قال قائل: كيف يؤكل اللبن؟ قلنا: يجب أن يُقدر فعل يناسبه، ويكون التقدير لا شربت هذا اللبن، على حد قول الشاعر:
علفتها تبناً وماءً بارداً
(1)
الروض المربع مع حاشية ابن قاسم (7/ 483).
أي: سقيتها ماءً بارداً.
أو صار هذا اللبن جبناً، وأَكَلَ الجبن فإنه يحنث؛ لأنه عينه، أو صار كَشكاً وهو البُر المطبوخ باللبن، ويسمى عندنا جريشاً، وبعضهم يسميه برغلاً، فإذا قال: والله لا شربت هذا اللبن وجعله كشكاً وأكله يحنث؛ لأن طعم اللبن موجود مع أن الكشك لا يسمى لبناً، إلا أن طعمه موجود فيه.
وقوله: «ثم أكله حنث في الكل» أي: في المسائل الثماني التي سبقت، بناء على التعيين.
قوله: «إلا أن ينوي ما دام على تلك الصفة» فإذا نوى ما دام على تلك الصفة، فقد سبق أن النية هي المرجع الأول في الأيمان، فإذا قال: أنا قلت: والله ما ألبس هذا القميص، ما قصدي عين هذا القميص لكن قصدي صفته، أي: لا ألبسه ما دام قميصاً، فشقَّقه، وجعله سراويل، فلا حنث عليه.
ولو قال: لا كلمت هذا الصبي، وقال: لم أقصد عينه، لكن قصدت ما دام على صباه، ثم كلمه بعدما صار شيخاً فلا يحنث، أو قال: لا شربت هذا اللبن، ونيتي ما دام لبناً، أما إذا تغير فأنا ما نويت هذا، فلا يحنث، والدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم:«إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى»
(1)
، فما دمت قد نويت على تلك الصفة فلك نيتك؛ والتعليل أن المرجع في الأيمان قبل كل شيء إلى نية الحالف.
(1)
سبق تخريجه ص (153).
ولو قال: والله لا أكلم زوجة فلان هذه؛ لأني أعرف أن فلاناً ذو غيرةٍ شديدة، فلو يسمعني أكلم زوجته آذاني، وربما اتهمني، وربما قتلني، فإذا زالت الزوجية زالت هذه النية، ولم يحنث، ولم يذكر المؤلف السبب، لكن نقول أيضاً: ما لم ينوِ ما دام على تلك الصفة، أو يكن السبب يقتضي ما دام على تلك الصفة، كالمثال الذي ذكرته أخيراً، وإنما أضفنا: أو لم يكن السبب؛ لأن السبب مقدم على التعيين.
فالخلاصة: أن المراتب التي ذكرها المؤلف في هذا الفصل ثلاث:
النية، ثم السبب، ثم التعيين، فالتعيين يستمر مع هذا المعين، وإن تغيرت صفته، ما لم ينوِ ما دام على تلك الصفة، أو يكن السبب ما دام على تلك الصفة.
* * *
فَصْلٌ
فَإِنْ عُدِمَ ذَلِكَ رُجِعَ إِلَى مَا يَتَنَاوَلُهُ الاسْمُ، وَهُوَ ثَلَاثَةٌ: شَرْعِيٌّ، وَحَقِيقِيٌّ، وَعُرْفِيٌّ،
....
قوله: «فإن عدم ذلك رجع إلى ما يتناوله الاسم» هذه المرتبة الرابعة، يعني إذا لم تكن نية، ولا سبب، ولا تعيين، نرجع إلى ما يتناوله الاسم، ومعنى ما يتناوله، أي: ما يدل عليه الاسم، والمراد بالاسم هنا ليس ما يقابل الحرف، بل المراد بالاسمِ المحلوفُ عليه، أي: اللفظ الذي وقع الحلف عليه، فيرجع إلى ما يتناوله الاسم في ذلك المحلوف عليه.
قوله: «وهو ثلاثة: شرعي، وحقيقي، وعُرفي» الاسم ينقسم إلى ثلاثة أقسام: شرعي، ولغوي، وعرفي، فالأسماء إما أن يكون لها مدلول شرعي، أو مدلول لغوي، أو مدلول عرفي.
وأحياناً تتفق المدلولات في الكلمة الواحدة، فتكون الكلمة معناها واحد، في اللغة، والشرع، والعرف، وأحياناً يكون معناها في اللغة غير معناها في الشرع، ومعناها في العرف غير معناها في الشرع واللغة.
والمراد باللغة هنا اللغة العربية، والمراد بالعرف اللغة العرفية.
وقوله: «وهو ثلاثة: شرعي، وحقيقي، وعرفي» إذا اتفقت هذه الثلاثة في مدلول الكلمة فلا إشكال، لكن الإشكال إذا اختلفت، فأيها يقدم؟ سيبيِّن ذلك المؤلف.
فالسماء مدلولها اللغوي، والشرعي، والعرفي واحد،
والبيضة مدلولها الشرعي، واللغوي، والعرفي واحد، والأرض لها مدلول واحد، وأمثال هذا كثير، فهناك كلمات لا يختلف فيها الشرع، والعرف، واللغة، وهذه الأمر فيها واضح، فإذا حلف تحمل الكلمة على مدلولها وهو لا يختلف، ولكن إذا اختلف، فهل نقدم الشرعي، أو العرفي، أو اللغوي؟ سيأتي في كلام المؤلف.
فالشَّرْعِيُّ مَا لَهُ مَوْضُوعٌ فِي الشَّرْعِ، وَمَوْضُوعٌ فِي اللُّغَةِ،
..............
قوله: «فالشرعي ما له موضوعٌ في الشرع وموضوع في اللغة» أي: ما له مدلول في الشرع، ومدلول في اللغة، فكأن المؤلف يقول: الشرعي ما اختلفت فيه اللغة والشرع، مثل البيع، والطهارة، والصلاة، والزكاة، والحج، والصيام، والوقف، وأشياء كثيرة، هذه يختلف فيها الشرع واللغة، ولهذا نقول: الطهارة لغة كذا، وشرعاً كذا، الصلاة لغة كذا، وشرعاً كذا، الزكاة لغة كذا، وشرعاً كذا، الحج لغة كذا، وشرعاً كذا، البيع لغة كذا، وشرعاً كذا، فهذه الأشياء التي اختلف فيها الشرع واللغة، ما دمنا مؤمنين فإن كلامنا يحمل على المعنى الشرعي عند إطلاقه، أي إن كان لا يوجد سبب ولا نية فهو يحمل على المعنى الشرعي، فإذا قال قائل: والله لأصلينَّ قبل أذان العشاء، ثم مدّ يديه إلى السماء وجعل يدعو حتى أذن العشاء، فقلنا له: يا رجل، لماذا لم تصلِّ؟ قال: أنا صليت، فهنا إن كان ليس له نية ولا سبب، فإنه يحنث؛ لأن كلامه يحمل على المعنى الشرعي، صحيح أن الصلاة في اللغة الدعاء، لكن نحن المسلمين يحمل كلامنا على الأمر الشرعي.
وإذا قال: والله لأحجن اليوم، وكانت الليلة الرابعة عشرة من شهر جمادى الأولى، ثم ذهب إلى صديق له وغابت الشمس، فهذا لا يحنث لأن في كلامه ما يمنع حمله على المعنى الشرعي، وهو قوله: اليوم.
أما لو قال: والله لأحجّن، وأَطْلق، ثم ذهب إلى صديق له؛ وقال: هذا الحج، فالحج في اللغة القصد وأنا قصدت، فنقول له: لا يمكن؛ لأن الحج عند الإطلاق ـ ما دام ليس لك نية ولا يوجد سبب ـ يُحمل على المعنى الشرعي، فهنا يحنث؛ لأنه لم يحج، فإذا كانت الكلمة لها معنى شرعي، ومعنى لغوي، فإنها تحمل على المعنى الشرعي، ولهذا قال المؤلف:
فالْمُطْلَقُ يَنْصَرِفُ إِلَى الْمَوْضُوعِ الشَّرْعِيِّ الصَّحِيحِ، فَإِذَا حَلَفَ لَا يَبِيعُ أَوْ لَا يَنْكِحُ، فَعَقَدَ عَقْداً فَاسِداً لَمْ يَحْنَثْ،
.....................................
«فالمطلق ينصرف إلى الموضوع الشرعي الصحيح، فإذا حلف لا يبيع أو لا ينكح فعقد عقداً فاسداً لم يحنث» فالاسم المطلق يحمل على المعنى الشرعي الصحيح؛ لأن الشرعي لمَّا شاع بين المسلمين صار كالعرفي، فالوضوء مثلاً في اللغة النظافة، وفي الشرع غسل الأعضاء الأربعة على صفة مخصوصة تعبداً لله عز وجل، فإذا قال إنسان: والله لا أتوضأ، ثم ذهب إلى الحمام ونظف جسمه كله، فهو من جهة الشرع لم يتوضأ فلا يحنث.
مثال آخر: رجل قال: والله لا أصلي قبل الظهر، فدعا، فقيل له: حنثت؛ لأن الصلاة في اللغة الدعاء، نقول: لا يحنث؛
لأن الصلاة في الشرع التعبد لله عز وجل بالأقوال والأفعال المعلومة، وعلى هذا فنقول لهذا الرجل: أنت لم تحنث؛ لأن الشيء المطلق يحمل على الشرع.
كذلك ـ أيضاً ـ قال: والله لا أبيع شيئاً فأجَّر إنساناً سيارتَه؛ فإنه لا يحنث؛ لأن الأجرة ليست ببيع شرعاً، أو باع دخاناً فإنه لا يحنث؛ لأن هذا ليس بيعاً شرعيّاً، بل هو بيع فاسد باطل، أو باع خمراً، فإنه لا يحنث، أو باع حملاً في بطن فإنه لا يحنث، لأن هذا وإن سمي بيعاً في اللغة، لكنه في الشرع لا يسمى بيعاً فلا يحنث.
وَإِنْ قَيَّدَ يَمِينَهُ بِمَا يَمْنَعُ الصِّحَّةَ، كَأَنْ حَلَفَ لَا يَبِيعُ الْخَمْرَ أَوِ الْحُرَّ حَنِثَ بِصُورَةِ الْعَقْدِ،
..........
قوله: «وإن قيد يمينه بما يمنع الصحة، كأن حلف لا يبيع الخمر أو الحر حنث بصورة العقد» يعني إذا حلف أن لا يفعل شيئاً، وقيده بلفظ يدل على الفساد، فإنه يحنث وإن كان فاسداً، مثل أن يقول: والله لا أبيع الخمر، ثم باع، فهذا من الناحية الشرعية ليس ببيع؛ لأنه فاسد، لكن الرجل لم يأت به مطلقاً، بل قيده بأمر تنتفي معه الصحة، حيث قال: والله لا أبيع الخمر، فإذا باعه حنث.
فإن قال قائل: كيف تحنثونه وهذا التصرف ليس ببيع شرعي؟!
قلنا: إنه قيده بأمر معين، فبمجرد وجود ذلك الأمر المعين يحنث، ولهذا قال المؤلف:«حنث بصورة العقد» ؛ لأن هذا عقد صوري، والمؤلف قيد يمينه بأمر صوري، فكلمة «لا أبيع الخمر»
لا يمكن أن توافق من الناحية الشرعية؛ لأن الخمر شرعاً لا يباع، فإذا تعذر حمله على الحقيقة والمعنى حملناه على الصورة، فنقول: بمجرد أن يبيع الخمر يحنث، وبناء عليه فالمثال الذي ذكرناه آنفاً وهو بيع الدخان، إذا قال: والله لا أبيع الدخان فباعه، فإنه يحنث، لا لأنه بيع، ولكن لأنه صورة ما حلف عليه، ولو قال: والله لا أبيع بربا، فذهب وباع بالربا فإنه يحنث؛ لأنه قيد اليمين بشيء يمنع الصحة، فيحمل على الصورة.
أما لو قال: والله لا أبيع، فباع ديناراً بدينارين، فإنه لا يحنث؛ لأنه أطلق والمطلق يطلق على الشرعي الصحيح.
وقال بعض العلماء: إنه لا يحنث إذا باع ما يحرم بيعه، ولو قيده بما يمنع الصحة؛ لوجود التناقض؛ لأن قوله: لا أبيع الخمر، كلمة (أبيع) تناقض الخمر، وعلى هذا فنقول: هذا وإن باع الخمر فليس ببيع، فمن نظر إلى الصورة حنَّثه، ومن نظر إلى الحقيقة لم يحنثه. والمسألة فيها قولان للعلماء وعلى المذهب إنه يحنث بصورة العقد.
ولو قال: والله لا أبيع حمل بعيري الذي في بطنها، ثم باعه فعلى المذهب يحنث؛ لأنه يحنث بصورة العقد؛ لأنه قيد يمينه بما يمنع الصحة، أي: قرنه بشيء لا يمكن أن يصح معه العقد، فيحمل على الصورة.
مثال آخر: تأجير الدكان لشخص ليعمل فيه محرماً، مثل أن يؤجره له ليتعامل فيه بالربا فهذا حرام، والعقد غير صحيح، فإذا قال: والله لا أؤجر دكاني لمن يتعامل فيه بالربا، ثم أجره، فعلى
المذهب يحنث بصورة العقد؛ لأنه قيدها بما يمنع الصحة، وعلى القول الثاني: لا يحنث؛ لأن هذا ليس بإجارة فهو وإن سماه إجارة فإنه شرعاً لا يسمى إجارة، لكن المذهب يغلبون الصورة ويؤاخذونه بلفظه، وهذا القول الثاني يغلب المعنى ويقول: هذا ليس بإجارة شرعية.
وَالْحَقِيقِيُّ هُوَ الَّذِي لَمْ يَغْلِبْ مَجَازُهُ عَلَى حَقِيقَتِهِ كَاللَّحْمِ، فَإِنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ اللَّحْمَ فَأَكَلَ شَحْمَاً، أَوْ مُخًّا، أَوْ كَبِداً، أوَ نَحْوَهُ لَمْ يَحْنَثْ، وَإِنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ أُدُماً، حَنِثَ بِأَكْلِ الْبَيْضِ، وَالتَّمْرِ، وَالْمِلْحِ، وَالْخلِّ، وَالزَّيْتُونِ ................
قوله: «والحقيقي هو الذي لم يغلب مجازه على حقيقته كاللحم» يجب أن نعرف أن العلماء ذكروا أن من العيب التعريف بالعدم، أو بالنفي؛ لأن التعريف بالعدم أو بالنفي ما يعطي الصورة؛ لأنه يقتضي رفع هذا المنفي، ولكن ما الذي يحل محله؟! فقوله:«لم يغلب مجازه على حقيقته» هذا تعريف بالنفي، وهو لا يحدد المُعرَّف، والمُعرَّف لا بد أن يكون عن طريق الإثبات والإيجاب، أما النفي فإنه كما قيل: نفي وعدم، ولهذا التعريف الصحيح للحقيقة أن يقال: هو اللفظ المستعمل في حقيقته اللغوية، أو إن شئت فقل: اللفظ الذي استعمل فيما وضع له لغة.
فإذا لم يكن لهذا اللفظ حقيقة شرعية حملناه على الحقيقة اللغوية، مثاله:
قوله: «كاللحم» وهي حقيقةً الهَبْرُ في اللغة، أما الكرش والكبد، والطحال، والشحم، والودك وما أشبه ذلك، فليس بلحم حسب اللغة العربية، ولهذا قال المؤلف:
«فإن حلف لا يأكل اللحم فأكل شحماً، أو مخاً، أو كبداً أو
نحوه لم يحنث» قال: والله لا آكل لحماً أبداً، فجاءوا إليه بسنام بعير فأكل حتى شبع، لم يحنث؛ لأن هذا في اللغة العربية ليس بلحم بل شحم، قال الله تعالى:{وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا} [الأنعام: 146]، وهذا يقتضي أن الشحوم غير اللحوم، وإنما هي بعض من الحيوان، كذلك لو قال: والله لا آكل لحماً فأكل مخاً، فإنه لا يحنث؛ لأن المخ لا يسمى لحماً، وكذلك لو أكل كبداً، فلا يحنث؛ لأن الكبد في اللغة العربية ليست بلحم.
وقوله: «أو نحوه» مثل الكلية، والكرش، والأمعاء، والطحال ونحو ذلك، فهذه لا تسمى لحماً فلا يحنث تغليباً للحقيقة اللغوية.
لكن لو علم أن غرضه من ذلك تجنب الدسم، أي: كانت نيته تجنب الدسم، فأكل من هذه الأشياء يحنث؛ لأن النية مقدمة.
مثال ذلك: رجل مريض قال له الطبيب: لا تأكل اللحم ليتجنب الدسم، فهذا إذا أكل الشحم صار أشد ضرراً من اللحم، أو المخ أو ما أشبه ذلك، فإذا علم أن المراد تجنب الدسم، فإنه يحنث بأكل هذه الأشياء.
قوله: «وإن حلف لا يأكل أُدُماً حنث بأكل البيض، والتمر، والملح، والخل، والزيتون» قال: والله لا آكل الأُدُم؛ يعني الإدام الذي يؤدم به الخبز، يحنث بهذه الأشياء، فلو قال: والله ما آكل
إداماً فأكل بيضاً حنث؛ لأنه يؤتدم به، فالإنسان يغمس الخبز في البيض ويأكل، ولو أكل بيضاً لم يطبخ، ولم يُقلى حنث؛ لأنه يصطبغ به، وهو ظاهر كلام المؤلف؛ لأنه قال:«بأكل البيض» ولم يقل: مطبوخاً أو مقلياً.
ولو قال: والله ما آكل إداماً وأكل تمراً، يحنث؛ لأنه يؤتدم به، وكذلك يحنث بأكل الملح؛ لأنه يؤتدم به، وكذلك الخل وهذا واضح، وفي الحديث:«نعم الإدام الخل»
(1)
.
وكذلك الزيتون الصغير والكبير كلاهما يؤتدم به.
وَنَحْوِهِ، وَكُلِّ مَا يُصْطَبَغُ بِهِ، وَلَا يَلْبَسُ شَيْئاً فَلَبِسَ ثَوْباً، أَوْ دِرْعاً، أَوْ جوْشَناً، أَوْ نَعْلاً حَنِثَ،
.............
قوله: «ونحوه» قال في الروض
(2)
: «كالجبن واللبن» وكلاهما يؤتدم به.
ثم قال المؤلف عبارة عامة:
«وكل ما يصطبغ به» أي: يؤتدم به، يعني يجعل إداماً، قال الله تعالى:{وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلآكِلِينَ} [المؤمنون:20].
وسُمي الإدام صبغاً؛ لأنه يصبغ الطعام، فإنك إذا غمسته في شيء أسود صار أسود، وفي شيء أحمر صار أحمر، وهكذا، فهو صبغ للطعام الذي يؤتدم به فيه.
ولننظر هل هناك أشياء غير هذه يصطبغ بها؟ نعم مثل: الزيت، والعسل، والأقط، والمربى، والقرع، وغيرها.
(1)
أخرجه مسلم في الأشربة/ باب فضيلة الخل والتأدم به (2051) عن عائشة رضي الله عنها.
(2)
الروض المربع مع حاشية ابن قاسم (7/ 487).
قوله: «ولا يلبس شيئاً» «شيئاً» نكرة في سياق النفي فتفيد العموم.
قوله: «فلبس ثوباً» أو لبس سروالاً أو تُبَّاناً يحنث والتُّبان بسروال قصير ليس له أكمام.
قوله: «أو درعاً» يحنث، والدرع يلبسونه في الحرب، قال الله تعالى:{وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ} [الأنبياء: 80]، وقال تعالى:{أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} [سبأ: 11] يعني دروعاً سابغات، والدرع عبارة عن ثوب منسوج من حلق الحديد، يلبسه الإنسان ليتقي به الرماح والسكاكين، وغير ذلك.
قوله: «أو جوشناً» الجوشن نوع من الدروع، لكنه على صفة خاصة، كذلك لو لبس طاقية أو غترة حنث.
قوله: «أو نعلاً حنث» وكذلك الجوارب، إذن كل ما يلبس يحنث به.
مسألة: لو صلى على حصير فهل يحنث أو لا؟ وإذا كان لا يحنث، فكيف نجيب عن حديث أنس رضي الله عنه:«فقمت إلى حصير لنا قد اسود من طول ما لبس»
(1)
، وفي رواية:«لبث»
(2)
؟ قال العلماء: إن اللباس هنا بمعنى الاستعمال، فلباس
(1)
أخرجه البخاري في الصلاة/ باب الصلاة على الحصير
…
(380) ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة/ باب جواز الجماعة في النافلة
…
(658).
(2)
أخرجه البخاري في الأذان/ باب وضوء الصبيان ومتى يجب عليهم الغسل
…
(860).
كل شيء بحسبه، ولكنه في اللغة العربية لا يسمى لباساً.
وَإِنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ إِنْسَاناً حَنِثَ بِكَلَامِ كُلِّ إِنْسَانٍ، وَلَا يَفْعَلُ شَيْئاً فَوَكَّلَ مَنْ فَعَلَهُ حَنِثَ، إِلاَّ أنْ يَنْوِيَ مُبَاشَرَتَهَ بِنَفْسِهِ،
.............................
قوله: «وإن حلف لا يكلم إنساناً حنث بكلام كل إنسان» لننظر هل هذه الكلية عائدة على الإنسان، أو عائدة على الكلام؟ هل المعنى بكل كلام إنسان؟ أو المعنى بكلام كل إنسان؟
مراده الأول؛ لأنه قال: حلف لا يكلم إنساناً، فلا يحتاج أن يقول: كل إنسان، اللهم إلا أن يريد أن يبين أن «إنساناً» هنا نكرة في سياق النفي فتعم.
وقوله: «حنث بكلام كل إنسان» فيحنث بكل ما يسمى كلاماً، سواء كلم إنساناً كبيراً، أو صغيراً، أو ذكراً، أو أنثى، أو حراً، أو عبداً، فلو قال: يا فلان، حنث، ولو قال: فلان، حنث، ولو قال: قِ، فعل أمر من وقى يقي، حنث.
ولو قال: أح، لم يحنث، لأنه ليس كلاماً.
ولهذا لو قال هذا في الصلاة ما بطلت صلاته، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول:«إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس»
(1)
، وقد كان الرسول عليه الصلاة والسلام يتنحنح لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه إذا دخل عليه
(2)
.
(1)
أخرجه مسلم في المساجد/ باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من إباحته (537)(33).
(2)
أخرجه الإمام أحمد (1/ 77)، والنسائي في السهو/ باب التنحنح في الصلاة (3/ 12)، وابن ماجه في الأدب/ باب الاستئذان (3708)، قال ابن حجر رحمه الله:«قال البيهقي: هذا مختلف في إسناده ومتنه» . «التلخيص» (452).
ولو أشار، لم يحنث؛ لأن الإشارة ليست كلاماً.
قوله: «ولا يفعل شيئاً فَوَكَّلَ من فعله حنث» لأن الوكيل قائم مقام المُوكل، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم وكّلَ علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن ينحر إبله التي أهداها
(1)
، فلو قال: والله لا أبيع بيتي، فوكل شخصاً يبيع البيت، فإنه يحنث؛ لأن الوكيل قائم مقام الموكل، ولو قال: والله لا أذبح بعيري، فوكل إنساناً يذبحه، حنث، ولو قال: والله لا أركب السيارة، فوكل شخصاً يركبها، لم يحنث؛ لأن هذا ليس بفعله، إلا إذا كان قصده: والله لا أركب السيارة زائراً فلاناً، فوكل شخصاً يركبها ليزور فلاناً، فهنا يحنث.
قوله: «إلا أن ينوي مباشرته بنفسه» قال: والله لا أبيع بيتي، ناوياً لا أباشر بيعه بنفسي، فهنا إذا وكل من يبيعه لا يحنث؛ لأن النية مقدمة كما سبق.
لكن قد يقول قائل: ما فائدته من هذا، إذا قال: نويت أن لا أباشر البيع بنفسي، فهل له غرض؟ نقول: نعم، ربما يكون له غرض، مثلاً يرى أنه لو باعه هو بنفسه لتهاون بعض الناس في إيفاء الثمن، ويقول: هذا رجل طيب، متى ما رزقني الله وفيته، لكن إذا وكل آخر يبيعه سيلحُّ عليه ويقول: أعطني القيمة.
كذلك لو قال: والله لا أشتري سيارة فلان، ووكل واحداً
(1)
أخرجه مسلم في الحج/ باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم (1218) عن جابر رضي الله عنه.
يشتريها، وقال: أنا نويت لا أباشر الشراء، نقول في هذه الحال: لا يحنث.
فإذا قال قائل: ما غرضه؟
نقول: قد يخشى أنه إذا ذهب إلى فلان وقال له: بع سيارتك عليَّ، يقول: خذها بدون ثمن، أو أنها تساوي عشرة ويقول: أبيعها عليك بثمانية، لكن إذا أخذها من طريق آخر، فإن البائع سوف يستوفي الثمن كاملاً.
المهم أنه إذا حلف أن لا يفعل شيئاً فوكل من يفعله حنث، إلا أن ينوي مباشرته بنفسه. ولو قال: والله لا أصلي الضحى ركعتين ثم وكل شخصاً يصلي عنه فهنا لم تصح الوكالة أصلاً ولو صلى هذا الرجل عنه لم يحنث لأنه لا يستفيد من هذه الصلاة شيئاً.
وَالْعُرْفِيُّ مَا اشْتَهَرَ مَجَازُهُ فَغَلَبَ الْحَقِيقَةَ، كَالرَّاوِيَةِ وَالْغَائِطِ، وَنَحْوِهِمَا، فَتَتَعَلَّقُ الْيَمِينُ بِالْعُرْفِ، فَإِذَا حَلَفَ عَلَى وَطْءِ زَوْجَتِهِ، أَوْ وَطْءِ دَارٍ، تَعَلَّقَتْ يَمِينُهُ بِجِمَاعِهَا، وَبِدُخُولِ الدَّارِ،
........................................
قوله: «والعرفي ما اشتهر مجازه فغلب الحقيقة، كالراوية والغائط ونحوهما، فتتعلق اليمين بالعرف» ليت المؤلف قدم العرف.
فقوله: «ما اشتهر مجازه فغلب الحقيقة» يعني الذي استعمله الناس في عرفهم، فتحمل اليمين على العرف مُقدماً على اللغة إذا اشتهر بين الناس، وغلب على الحقيقة، ومراد المؤلف بالحقيقة هنا الحقيقة اللغوية، فإذا اشتهر هذا المعنى بين الناس، وهجرت الحقيقة اللغوية، يقول المؤلف:«فتتعلق اليمين بالعرف» ، ويحمل اللفظ على معناه العرفي، حتى وإن كان له في اللغة معنى، ولكنه
هجر واشتهر بين الناس المعنى العرفي فإنه يقدم.
إذاً يقدم الشرع، ثم العرف، ثم اللغة؛ لأن الناس يعاملون بنياتهم، ولا شك أن العامي إذا أطلق الكلمة فإنما يريد معناها العرفي، فالعامي لا يعرف اللغة العربية الفصحى، فيكون العرف مقدماً؛ لأنه هو المنوي ظاهراً، مثاله الرَّاوية، وتطلق في اللغة العربية على التي تحمل الماء، وهي البعير التي يسقى عليها، ومنه التسمية العامية «الرَّوَّاية» وهي المرأة التي تُرَوِّي الماء، لكنه في العرف تطلق الرَّاوِية على المَزَادَةِ، وهي عبارة عن جلد يشق، ويؤتى بجلد آخر مثله، ويخاط بعضهما ببعض، فبدل ما كان قربةً واحدة يكون قربتين.
فإذا قال: والله لا أشتري راوية، فذهب، واشترى الراوية التي هي القربة الكبيرة، يحنث؛ لأن هذا هو العرف، ولو اشترى بعيراً لم يحنث، إلا إن نوى فالنية مقدمة.
كذلك أيضاً «الغائط» وهو في اللغة المكان المطمئن يعني المنخفض، وعندنا الآن يقولون: ماء غويط، يعني عميق، وفي العرف الغائط هو الخارج المستقذر من الدبر.
فإذا قال قائل: والله لا أنظر إلى غائط، وذهب إلى مكان منخفض ينظر إليه، فلا يحنث؛ لأن العرف نقل الحقيقة إلى الخارج المستقذر.
وقوله: «ونحوهما» مثل الشاة، فالشاة عندنا في العرف هي الأنثى من الضأن، وفي اللغة العربية أعم من هذا، ولهذا لو جاء رجل بعَنْزٍ وقال: هذه شاة، لأنكر عليه العوام، لكن في اللغة
يطلق عليها شاة، فإذا قال: والله لأشترين لضيوفي شاةً، ثم ذهب واشترى عنزاً، يحنث؛ لأنه ما بَرَّ بيمينه؛ لأن الشاة في العرف هي أنثى الضأن.
مثال ثانٍ: الدابة وهي في اللغة لكل ما دب على الأرض، سواء كان له رجلان أو أربعة، أو كان مما يمشي على بطنه، ودليل ذلك قول الله تعالى:{وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ} [النور: 45]، فهذه الدابة تعم كل شيء، وقال الله تعالى:{وَمَا مِنْ دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6].
فما هي الدابة في العرف؟
ذوات الأربع على عرف، وعلى عرف آخر الحمار خاصة، فإذا قال: أنت دابة، يعني أنت حمار.
إذن فتتعلق اليمين بالعرف؛ لأنه هو الغالب وهو المعروف عند العامة، وإذا كان هو الغالب المعروف عند العامة، فإن النية تنصرف إليه.
وقد تتفق اللغة، والعرف، والشرع، وإذا اتفقت فالأمر واضح، وإذا اختلفت قدم الشرع، ثم العرف، ثم اللغة.
قوله: «فإذا حلف على وطء زوجته، أو وطء دار، تعلقت يمينه بجماعها، وبدخول الدار» كرجل قال: والله لا أطأ زوجتي، فذهب وجامعها، نقول له: حنثت، فإذا قال: كيف أحنث، والوطء أن أطأها بقدمي؟! نقول: لكن العرف غلب على اللغة.
ولو قال: والله لأطأن زوجتي، فقالت له زوجته: ما فعلت شيئاً، فقال: ألم أطأ على قدمك؟
نقول: ما بر بيمينه؛ لأن الحكم يتعلق بالجماع؛ إذ إن الحقيقة وهي الوطء بالقدم هُجِرت، وصار العرف أن وطء الزوجة جماعها.
ووطء الدار دخولها، والظاهر أنه كذلك حتى في اللغة العربية، فمتعذر أن يطأ الإنسان الدارَ كلها بقدمه؛ لأن الدار أكبر من القدم، فإذا قال: والله لا أطأ هذه الدار، ثم دخلها فإنه يحنث.
وإذا دخلها محمولاً فإنه يحنث، أما إذا كان له نية فهذا شيء آخر لكن إذا لم يكن له نيةً فنقول: إذا دخلتها، سواء دخلت برجلك، أو محمولاً، أو على أي وجه كنت فإنك تحنث؛ لأن هذا هو معنى وطء الدار، وهذا مشهور عند الناس، يقول أحدهم: والله ما أطأ هذا المحل، والله ما أطأ دار فلان، والله ما أطأ دكان فلان، فيتعلق بدخوله.
وَإِنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ شَيْئاً فَأَكَلَهُ مُسْتَهْلَكاً فِي غَيْرِهِ، كَمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ سَمْناً فَأَكَلَ خَبِيصاً فِيهِ سَمْنٌ لَا يَظْهَرُ فِيهِ طَعْمُهُ، أَوْ لَا يَأْكُلُ بَيْضاً فَأَكَلَ نَاطِفاً لَمْ يَحْنَثْ، وَإِنْ ظَهَرَ طَعْمُ شَيْءٍ مِنَ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ حَنِثَ.
قوله: «وإن حلف لا يأكل شيئاً فأكله مُسْتَهْلَكاً في غيره» لم يحنث، وهذا فيه فائدة عظيمة، قال: والله لا آكل شيئاً، فخُلِط هذا الشيء في شيء آخر، لكن اسْتَهْلَكَ واضمحل ولم يبقَ له أثر، ولا طعم، ولا ريح، ولا تأثير، فإنه لا يحنث، مثل أن يُجعل جزءاً من مائة جزء، أو جزأين من مائة، أو ثلاثة من مائة، أو ما أشبه ذلك، بحيث لا يؤثر فإنه لا يحنث، ولنفرض أنه قال: والله لا أشرب هذا الشيء، فخلطه بماء، واضمحل هذا
الشيء في الماء؛ لأن الشيء قليل والماء كثير، فاضمحل ولم يصر له أثر إطلاقاً فلا يحنث؛ لأنه استهلك وزال أثره وطعمه ولونه، ودليل ذلك قول الرسول عليه الصلاة والسلام:«إن الماء طهور لا ينجسه شيء، إلا ما غلب على طعمه، أو لونه، أو ريحه بنجاسة تحدث فيه»
(1)
. ومن هنا نعرف أن ما يقال عنه من الأطياب: إنه قد خُلط بكحول ـ بأشياء مسكرة ـ أنه إذا كان هذا الخلط جُزءاً يسيراً فإنه لا أثر له، فلا يجعله خمراً ولا نجساً ـ على رأي من ينجسه ـ وإن كان الصواب أن الخمر أصلاً ليس بنجس.
فإذا قال قائل في المسألة الأخيرة: ماذا نصنع بقول الرسول عليه الصلاة والسلام: «ما أسكر كثيرهُ فقليله حرام»
(2)
، وقوله:«ما أسكر منه الفَرَقُ فملء الكف منه حرام»
(3)
.
(1)
أخرجه ابن ماجه في الطهارة وسننها/ باب الحياض (521)، والطبراني في الكبير (8/ 104)، عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه، وأخرجه الدارقطني من حديث ثوبان بدون «أو لونه» (1/ 28)، انظر: التلخيص الحبير (1/ 15)، والخلاصة (1/ 8).
(2)
أخرجه أحمد (2/ 91)، والنسائي في الأشربة/ باب تحريم كل شراب أسكر كثيره (8/ 300، 301)، وأبو داود في الأشربة/ باب النهي عن المسكر (3681)، والترمذي في الأشربة/ باب ما جاء ما أسكر كثير فقليله حرام (1865)، وابن ماجه في الأشربة/ باب ما أسكر كثيره فقليله حرام (3392)، والحاكم (3/ 467)، وحسنه الترمذي، وصححه ابن حبان (5358) وكذا الألباني في الإرواء (2375). وانظر: التلخيص (1787).
(3)
أخرجه أحمد (6/ 71)، وأبو داود في الأشربة/ باب ما جاء في السكر (3687)، والترمذي في الأشربة/ باب ما جاء ما أسكر كثيره فقليله حرام، عن عائشة رضي الله عنها وحسنه الترمذي، وصححه ابن حبان (5359) ط/الدولية، وابن الملقن كما في الخلاصة (2444)، وصححه في الإرواء (2376).
نقول: معنى الحديث: أنه لو كان هناك شراب، إن شربت قليلاً منه لم تَسكر، وإن شربت كثيراً سكرت، فإنه يحرم عليك القليل والكثير، حتى القليل الذي لا يسكرك يحرم عليك؛ لأن شرب هذا القليل الذي لا يسكر يتدرج به الإنسان إلى أن يشرب كثيراً فيسكر، وليس معنى الحديث ما اختلط فيه قليل من مسكر فإنه يحرم، ولا يمكن أن يفهم الحديث على هذا الوجه، بل معنى الحديث أن هذا الشراب إن كنت إذا أكثرت منه سكرت فقليله حرام، فإن كان إذا شربت منه القليل سكرت فمن باب أولى.
يقال: إن البيرة الموجودة بالسوق فيها خلط من الكحول، فنبنيها على هذه المسألة، إن كان الخلط يسيراً بحيث يستهلك في الشعير الذي فيها فإنه لا يؤثر، وإن كان كثيراً فإنه يحرم قليلها وكثيرها، ولو قال قائل: إن الإنسان لو شرب منها خمسة قوارير تسترخي أعصابه.
نقول: هذا ليس دليلاً على أنه يسكر؛ لأن الإنسان إذا شرب كثيراً حتى من الماء تسترخي أعصابه، وعلى كل حال الميزان لهذه المسألة هو أنه إذا اختلط شيء بآخر واستهلك فيه، ولم يظهر له أثر فوجوده كعدمه.
قوله: «كمن حلف لا يأكل سمناً فأكل خبيصاً فيه سمن لا يظهر فيه طعمه» خبيص بمعنى مخبوص، وهو شيء يخبص من القرصان أو شبهه يجعل فيه السمن، لكن لا يظهر فيه أثر السمن، فإن قال: والله لا آكل سمناً، فأكل خبيصاً فيه سمن لا يظهر فيه طعمه، لم يحنث.
قوله: «أو لا يأكل بيضاً فأكل نَاطِفاً لم يحنث» والناطف طعام أضيف إليه بيض، فإذا صار أكثره طحيناً وانغمس فيه البيض واستهلك فإنه لا يحنث؛ لأنه لا يسمى بيضاً، وأما إذا كان أكثره بيضاً، أو ظهر فيه أثره، فإنه يحنث.
قوله: «وإن ظهر طعم شيء من المحلوف عليه حنِث» لأنه فعل ما حلف عليه فيكون حانثاً. وإذا حلف رجل أن لا يكلم فلاناً، فكلمه بغضب، ولم ينو؟ فإنه حسب نيته، إن كانت نيته أن لا يكلمه برضى فإن كلام التوبيخ لا يحنث به، ولهذا فإن أهل النار ـ نعوذ بالله من حالهم ـ يكلمهم الله عز وجل، يقول:{اخْسَأُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 108] مع أنه لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم يعني لا يكلمهم كلام رحمة ورضى.
خلاصة هذا الفصل: أنه إذا لم توجد مرتبة من المراتب الثلاث السابقة في الفصل الأول، نرجع إلى ما يتناوله الاسم في حقيقته، وهو ثلاثة أقسام: شرعي، وعرفي، ولغوي، فيقدم الشرعي، ثم العرفي، ثم اللغوي.
* * *
فَصْلٌ
وَإِنْ حَلَفَ لَا يَفْعَلُ شَيْئاً، كَكَلَامِ زَيْدٍ، وَدُخُولِ دَارٍ وَنَحْوِهِ، فَفَعَلَهُ مُكْرَهاً لَمْ يَحْنَثْ، وَإِنْ حَلَفَ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ مِمَّنْ يَقْصُدُ مَنْعَهُ كَالزَّوْجَةِ، وَالْوَلَدِ، أَلاَّ يَفْعَلَ شَيْئاً، فَفَعَلَهُ نَاسِيَاً، أَوْ جَاهِلاً حَنِثَ فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فَقَطْ.
قوله: «وإن حلف لا يفعل شيئاً، ككلام زيد، ودخول دار، ونحوه ففعله مكرهاً لم يحنث» قال: والله لا أدخل هذه الدار، فأكره على دخولها، سواء حُمل فأدخل، أو قيل له: ادخل، وإلا حبسناك، أو قتلناك، أو أخذنا مالك، أو ما أشبه ذلك، فإنه لا يحنث؛ لأنه سبق أن من شروط وجوب الكفارة أن يحنث مختاراً، وهذا مبني على قول الله تعالى:{مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل: 106]، فإذا كان هذا الذي أُكره على الكفر ففعله أو قاله، وقلبه مطمئن بالإيمان لا يكفر، فكذلك هذا الذي أُكره على الحنث؛ لأن الحنث مبني على الإثم في الأصل، فإذا كان لا يأثم بالإكراه، فكذلك لا يحنث بالإكراه.
وقوله: «ودخول دار ونحوه» هذه أمثلة، مثل: حلف ألا يلبس ثوباً، حلف ألا يخرج إلى السوق، حلف ألا يذهب إلى المدرسة، وفُعل به هذا مكرهاً فلا حنث عليه، ولهذا قال:«لم يحنث» .
قوله: «وإن حلف على نفسه أو غيره ممن يقصد منعه، كالزوجة والولد، ألا يفعل شيئاً، ففعله ناسياً، أو جاهلاً حنث في الطلاق والعتاق فقط» إذا حلف على نفسه ألا يفعل شيئاً، ففعله
ناسياً أو جاهلاً فلا حنث عليه؛ لأنه لو فعل المحرم ناسياً أو جاهلاً فلا إثم عليه، فكذلك إذا فعل المحلوف عليه ناسياً أو جاهلاً فلا حنث عليه؛ لأن الحنث مبني على التأثيم، فمتى كان الإنسان يأثم في الحكم الشرعي حَنِثَ في اليمين، وإذا كان لا يأثم لم يحنث، فهذا رجل حلف على نفسه، قال: والله لا ألبس هذا الثوب، ثم جاء في الليل فلبسه وهو لا يدري أنه المحلوف عليه، فلا يحنث، فليس عليه كفارة؛ لأن من شروط وجوب الكفارة كما سبق أن يحنث عالماً ذاكراً مختاراً، وأصله قوله تعالى:{رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِيْنَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286].
كذلك لو فعله ناسياً، كأن لبس الثوب الذي حلف أن لا يلبسه ناسياً أنه حلف، فإنه لا كفارة عليه ولم يحنث، والدليل قوله تعالى:{رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِيْنَا أَوْ أَخْطَأْنَا} والحنث مبني على التأثيم بالفعل، ولأن من شرط وجوب الكفارة أن يحنث عالماً ذاكراً مختاراً.
وإذا حلف على نفسه في طلاق، بأن قال: إن لبست هذا الثوب فزوجتي طالق، فهذا يمين، ثم لبسه ناسياً.
فعلى كلام المؤلف تطلق؛ لأنه قال: «حنث في الطلاق» .
أو قال: إن فعلت كذا فعبدي حر، وقصده أن يلزم نفسه بعدم الفعل، فهذا يمين، ففعله ناسياً فالعبد يعتق.
وكذلك لو قال: إن لبست هذا الثوب فعبدي حر، فلبسه جاهلاً أنه الثوب الذي حلف عليه، فإنَّ العبد يعتق، وإن كان طلاقاً فالمرأة تطلق، يقولون: لأن هذا يتضمن حقاً لآدمي،
وحقوق الآدميين لا تسقط لا بالجهل، ولا بالنسيان، وأما الإكراه ففيه تفصيل.
نقول: أما كون العتق حقاً للآدمي فهذا قد يُسلم؛ لأن العبد يحب أن يتحرر، ويعتق، ويسلم من الرق، لكن كون الطلاق حقاً لآدمي! فقد تقول المرأة: أنا لا أحب أن أطلق، وتبكي من الطلاق، ويكون الطلاق عندها أكره من كل شيء، فكيف نلزمه أن يفعل ما تكره؟! ولذلك كان القول الراجح أننا متى أجرينا الطلاق والعتاق مجرى اليمين صار لهما حكم اليمين، إذ كيف نجريهما مجرى اليمين في الكفارة، ثم لا نجريهما مُجرى اليمين في الحنث؟! فهذا تناقض، فالصواب أنه لا حنث عليه، لا في الطلاق، ولا في العتق، ولا في النذر ولا في اليمين، والمؤلف قد أسقطه لكن حكمه حكم اليمين، فلو قال: إن لبست هذا الثوب فزوجتي طالق، ثم لبسه ناسياً فلا حنث عليه، ولا تطلق الزوجة.
ولو قال: إن لبست هذا الثوب فعبدي حر، ثم لبسه ناسياً فالعبد لا يعتق؛ لأننا لما أجرينا هذا الأمر مجرى اليمين، فالواجب أن لا يحنث بالجهل والنسيان، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وهو رواية عن الإمام أحمد، قال شيخ الإسلام: إن رواتها عن الإمام أحمد كرواة التفرقة، يعني أن الإمام أحمد تساوت عنه الروايات في ذلك.
فإذا حلف على نفسه يميناً، وحلف على نفسه بالطلاق، وحلف على نفسه بالعتق، فالمذهب يفرقون بين اليمين والطلاق
والعتق، فيما إذا فعل الشيء المحلوف عليه ناسياً، أو جاهلاً، فيقولون «في الطلاق والعتق»: يحنث، فيقع الطلاق والعتق، ويقولون في اليمين بالله: لا يحنث، والصحيح أنه لا فرق، وأنه لا يحنث فيهما، كما لا يحنث في اليمين؛ هذا إذا حلف على نفسه.
فإذا حلف على غيره ألا يفعل شيئاً بيمين، أو طلاق، أو عتق أو نذر فلا يخلو ذلك الغير من حالين:
الأولى: أن يكون المحلوف عليه ممن جرت العادة أن يمتنع بيمينه أي إذا حلف عليه بَرَّ بيمينه؛ لقرابة، أو زوجية، أو صداقة.
الثانية: أن يكون هذا الغير ممن لا يمتنع بيمينه، ولا يهتم بها وسيأتي.
فإذا كان هذا الغير ممن يمتنع بيمينه ويبر بها، ولا يخالفه بسبب قرابة أو زوجية أو صداقة، كأن حلف على زوجته ألا تفعل شيئاً ففعلته ناسيةً، أو جاهلةً، أو حلف على ولده، ابن أو بنت، ألا يفعل شيئاً، ففعله ناسياً أو جاهلاً، فهذا الغير حكمه حكم نفس الحالف، يعني كأنه نفسه، فإذا فعله ناسياً أو جاهلاً في اليمين بالله لم يحنث، وأما في العتق والطلاق فيحنث.
أمثلة:
قال لابنه: إن فعلت كذا فأمك طالق، ففعله الولد ناسياً، فهل تطلق؟ نعم، تطلق على المذهب.
قال لولده: إن فعلت كذا فعبدي حر، ففعله ناسياً، يحنث ويعتق العبد، كما لو كان ذلك في نفسه.
والصحيح أنه لا يحنث كما لو كان هذا يميناً بالله عز وجل.
وعَلَى مَنْ لَا يَمْتَنِعُ بِيَمِينِهِ مِنْ سُلْطَانٍ وَغَيْرِهِ فَفَعَلَهُ حَنِثَ مُطْلَقاً،
وَإِنْ فَعَلَ هُوَ أَوْ غَيْرُهُ مِمَّنْ قَصَدَ مَنْعَهُ بَعْضَ مَا حَلَفَ عَلَى كُلِّهِ لَمْ يَحْنَثْ، مَا لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ.
قوله: «وعلى من لا يمتنع بيمينه من سلطان وغيره ففعله حنِثَ مُطلقاً» هذه هي الحال الثانية، أن يحلف على شخص لا يمتنع بيمينه، ولا يهتم بها، ولا يحاول أن يرضيه بالبر بيمينه، ففعل المحلوف عليه، فإنه يحنث مطلقاً.
وقوله: «مطلقاً» يقول العلماء: إذا قيل: مطلقاً فإن الإطلاق يفهم معناه مما سبق، أو مما لحق، وهنا نفهمه مما سبق، يعني حنث مطلقاً في اليمين، والطلاق، والعتق، عالماً، أو جاهلاً، ذاكراً، أو ناسياً، ولا فرق.
مثال ذلك: رأى إنسان في السوق واحداً يريد أن يحمل على رأسه حزمة علف، فقال: والله لا تحملها، وكل واحد منهما لا يعرف الآخر، ثم إن الرجل المحلوف عليه نسي فحملها، فيحنث الحالف؛ لأن الأصل أن هذا الحالف ليس له إلزام هذا المحلوف عليه، فيكون اليمين بمنزلة الشرط المحض، فمتى وجد الشرط وجد المشروط؛ لأن حقيقة الأمر أن اليمين تشبه الشرط، فإذا قال له: والله لا تحمله، وهو ممن لا يمتنع بيمينه ولا يهتم بها فحمله ناسياً، قلنا للحالف: عليك الحنث والكفارة؛ لأنه ليس لك حق الإلزام، فصار يمينك بمنزلة الشرط المحض، فإذا وجد الشرط وهو حمله هذا العلف وجد المشروط وهو الكفارة.
وظاهر كلام المؤلف أنه يحنث مطلقاً، سواء قصد الإلزام أو قصد الإكرام؛ لأنه أحياناً يقصد إكرامه، فيقول: والله ما
تحمله أنا أحمله، فإذا حمله المحلوف عليه فإنه يحنث على المذهب، وإن كان قصدُه الإكرام.
واختار شيخ الإسلام ابن تيمية أنه إذا قصد الإكرام فإنه لا يحنث بالمخالفة، بناءً على أن الحنث في اليمين مبني على الحنث في الحكم، وإذا قصد الإكرام وحصلت المخالفة، فإن المخالف لا يعد عاصياً؛ لأنه لم يقصد إلزامه، بل قصد إكرامه واحترامه، وهذا حصل بمجرد الحلف؛ لأن حلفه «أن لا يحمل» إكرام له، وقد حصل وظهر، ولأن أصل الحنث مبني على المخالفة في الحكم، فكما لا يكون عاصياً من خالف في باب الإكرام، لا يكون حانثاً من خالف في الإكرام في اليمين، واستدل لذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر أبا بكر رضي الله عنه حين جاء وهو يصلي بالناس، وأراد أن يتأخر، فأمره أن يبقى، ولكنه تأخر
(1)
، فهل كان أبو بكر عاصياً في هذه الحال؟ لا، فهو لا يريد أن يعصي الرسول عليه الصلاة والسلام بل يريد أن يعظم النبي صلى الله عليه وسلم وإن حلف على شخص لم تجر العادة أن يمتنع بيمينه لكونه لا سلطة عليه فإنه إذا فُعِل المحلوفُ عليه حنث الحالف، لأن من لا يمتنع باليمين لا يصح توجيه المنع إليه وأصل اليمين قد بنيت على المنع والحث أو التصديق أو التكذيب.
قوله: «وإن فعل هو أو غيره ممن قصد منعه بعض ما حلف
(1)
أخرجه البخاري في الأذان/ باب من دخل ليؤم الناس فجاء الإمام
…
(684)، ومسلم في الصلاة/ باب تقديم الجماعة من يصلي بهم
…
(421) عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه.
على كله لم يحنث، ما لم تكن له نية» إذا فعل بعض ما حلف عليه فلا حنث عليه، قال: والله لا آكل هذا الرغيف، فأكل بعضه، لا يحنث؛ لأنه لم يأكل الرغيف، إلا إذا كان له نية، يعني لو نوى أن لا يذوقه، فأكل بعضه، فإنه يحنث؛ لأنه سبق في أول باب الأيمان أنه يرجع أولَ ما يرجع إلى نية الحالف، إذا احتملها اللفظ، وهنا يحتملها اللفظ، مثال ذلك: أعطاك رجلٌ رغيفاً، وقال: كل هذا الرغيف، فقلت: والله لا آكله، ونيتك أنك لا تذوقه، فحينئذ إذا أكلت منه قليلاً أو كثيراً حنثت.
كذلك إذا كان هناك قرينة تدل على أنه أراد البعض، فإنه يحنث، مثل أن يقول: والله لا أشرب ماء هذا النهر، فأخذ بكأس صغيرة وشرب، يحنث؛ لأن القرينة تدل على ذلك، ولا يمكن أن يريد بقوله: والله لا أشرب ماء هذا النهر، أنه يشرب كل ماء النهر! إذاً فالقرينة تدل على أنه لا يشرب منه، لا قليلاً ولا كثيراً.
ولو قال: والله لا أشرب هذه القربة، فصب منها كأساً وشرب لا يحنث؛ لأنه يمكن أن يشربها في أيام، بخلاف النهر فإنه لا يمكن أن يشربه، وعلى هذا فنقول: إذا كان له نية أنه لا يشرب أو لا يأكل الكل أو البعض فعلى نيته، وإذا كان هناك قرينة فعلى حسب القرينة.
قال: والله لا آكل خبز هذا البلد فأكل خبزة منه، فإنه يحنث؛ لأن القرينة تدل على ذلك؛ لأنه من المعلوم أنه لن يأكل خبز البلد كله! فالقرينة تدل على أن المعنى لا يأكل منه.
ولو قال: والله لا آكل خبز هذا الخباز، كذلك إذا أكل
خبزة واحدة يحنث؛ لأن القرينة تدل على ذلك؛ لأنه عين هذا الخباز؛ لأنه ما يجيد الخَبْز، فيجعله نِيّاً، أو لا يجعل فيه ملحاً، أو ما أشبه ذلك من الأسباب التي جعلته يحلف أن لا يأكل خبزه.
قال: والله لآكلن هذا الرغيف، فأكل بعضه فإنه يحنث؛ لأنه يمكن أكله.
وهذه المسألة في الحقيقة فرع عما سبق، وهي أنه يرجع إلى نية الحالف إذا احتملها اللفظ، ثم إلى سبب اليمين، ثم إلى التعيين، ثم إلى ما يتناوله الاسم، فهذه أربع مراتب تنبني أيمان الحالفين كلها عليها.
بَابُ النَّذْرِ
لَا يَصِحُّ إِلاَّ مِنْ بَالِغٍ عَاقِلٍ وَلَوْ كَافِراً، والصَّحِيحُ مِنْهُ خَمْسَةُ أَقْسَامٍ.
الْمُطْلَقُ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: للهِ عَلَيَّ نَذْرٌ، وَلَمْ يُسَمِّ شَيْئاً فَيَلْزَمُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ.
قوله: «النذر» لغة: الإيجاب، يقال: نذرت هذا على نفسي، أي: أوجبت، أما في الشرع فهو إيجاب خاص، وهو إلزام المكلف نفسه شيئاً يملكه غير محال.
وينعقد بالقول، وليس له صيغة معينة، بل كل ما دل على الالتزام فهو نذر، سواء قال: لله عليّ عهد، أو لله عليّ نذر، أو ما أشبه ذلك مما يدل على الالتزام، مثل: لله عليّ أن أفعل كذا، وإن لم يقل: نذر، أو عهد.
وحكم النذر مكروه، بل مال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إلى تحريمه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن النذر، وقال:«إنه لا يأتي بخير»
(1)
، وأنه لا يرد قدراً، ولو شاء الله أن يفعل لفعل، سواء نذرت أم لم تنذر، وإذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام نهى عنه، وبيَّن أنه ليس فيه فائدة لا شرعية ولا قدرية، لا شرعية فهو لا يأتي بخير، ولا قدرية فهو لا يرد قدراً، فإن القول بتحريمه قوي.
فإن قيل: كيف يثني الله عز وجل على الموفين بالنذر وهم قد ارتكبوا مُحرَّماً؟
(1)
أخرجه البخاري في القدر/ باب إلقاء النذر العبد إلى القدر (6608)، ومسلم في النذر/ باب النهي عن النذر وأنه لا يرد شيئاً (1639) عن ابن عمر رضي الله عنهما، واللفظ لمسلم.
فالجواب: أن الله لم يثنِ على الناذرين، وإنما أثنى على الموفين، وفرق بين الأمرين، فقوله تعالى:{يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الإنسان: 7]، معناه أنهم إذا نذروا لله شيئاً لم يهملوه، بل قاموا به، وفيها قول آخر: أن المراد بالنذر كل الواجبات، فهي نذر لقوله تعالى في الحج:{ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج: 29]، مع أنهم ما نذروا، ومثل ذلك قوله تعالى:{وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} [البقرة: 270]، والمعنى أوفيتم نذراً نذرتموه.
أما الوفاء به فإنه ينقسم إلى خمسة أقسام وسيأتي بيانها.
وقولنا: «إلزام المكلف» المكلف هو البالغ العاقل، فلو قال الصبي الذي لم يبلغ: لله علي نذر أن أفعل كذا، وكذا، فإنه لا ينعقد النذر؛ لأن الصغير ليس أهلاً للإيجاب شرعاً؛ لأنه قد رفع عنه القلم.
وقولنا: «شيئاً يملكه غير محال» فلو نذر شيئاً لا يملكه فإن النذر لا ينعقد؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا نذر لابن آدم فيما لا يملك»
(1)
، ولو نذر أن يعتق الحر، فإنه لا ينعقد؛ لأن هذا شيء لا يملكه، ولو نذر أن يطير فإنه لا ينعقد؛ لأنه محال.
قوله: «لا يصح إلا من بالغ عاقل» والدليل قوله صلى الله عليه وسلم: «رفع
(1)
أخرجه أحمد (2/ 190)، والنسائي في الأيمان والنذور/ باب كفارة النذر (7/ 29)، والترمذي في الطلاق واللعان/ باب ما جاء لا طلاق قبل النكاح (1181)، وابن ماجه في الكفارات/ باب النذر في المعصية (2124)، والحاكم (2/ 222)، والطبراني في الكبير (18/ 179). قال الترمذي: حسن صحيح.
القلم عن ثلاثة: الصغير حتى يكبر، والمجنون حتى يفيق، والنائم حتى يستيقظ»
(1)
.
قوله: «ولو كافراً» «لو» هذه إشارة خلاف وقد سبق شرحها يعني ولو كان الناذر كافراً فإن نذره ينعقد، فإن وفى به في حال كفره برئت ذمته، وإن لم يفِ به لزمه أن يوفي به بعد إسلامه؛ لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال:«إني نذرت أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام في الجاهلية» فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «أوفِ بنذرك»
(2)
، والأمر هنا للوجوب، وإيجاب الوفاء عليه لنذره فرع عن صحته؛ لأنه لو كان غير صحيح ما وجب الوفاء به.
وقوله: «ولو كافراً» إشارة خلاف، ولكن الصحيح ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله لحديث عمر رضي الله عنه.
قوله: «والصحيح منه خمسة أقسام» مراده الذي ينعقد من النذر خمسة أقسام، وأما الذي لا ينعقد فهو ما عدا هذه الخمسة، وإن شئت فقل: هو ما لم تتم شروط انعقاده، فمثلاً لو قال قائل: لله علي نذر أن أصوم أمسِ، فهذا لا ينعقد؛ لأنه
(1)
أخرجه أبو داود في الحدود/ باب في المجنون يسرق أو يصيب حداً (4398)، والنسائي في الطلاق/ باب من لا يقع طلاقه من الأزواج (6/ 156)، وابن ماجه في الطلاق/ باب طلاق المعتوه والصغير والنائم (2041)، وصححه ابن حبان (142)، والحاكم (2/ 59) ووافقه الذهبي عن عائشة رضي الله عنها.
(2)
أخرجه البخاري في الاعتكاف/ باب الاعتكاف ليلاً (2032)، ومسلم في الأيمان/ باب نذر الكافر وما يفعل فيه إذا أسلم (1656) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
محال، إذ إن صوم يوم أمس قد مضى، ولو قال صغير: لله علي نذر أن أصوم، لم ينعقد ـ أيضاً ـ فلا يدخل في الصحيح، فقول المؤلف:«والصحيح منه» يحترز به عما لم ينعقد؛ لأن ما لم ينعقد لا حكم له.
قوله: «المطلق مثل أن يقول: لله عليَّ نذر، ولم يسم شيئاً، فيلزمه كفارة يمين» هذا هو القسم الأول، المطلق يعني الذي لم يُعين فيه شيء، بأن يقول: لله علي نذر فقط، وسميناه مطلقاً؛ لأنه لم يعين فيه شيء.
كرجل قال: لله علي نذر، سواء هَمَّ أن يعين أم لم يهم؛ لأنه قد يقول: لله علي نذر، وفي نفسه أن يعين شيئاً ثم يتراجع ولا يتكلم، وقد لا يَهُم بشيء من الأصل، يقول: لله علي نذر، فقط، نقول: يلزمه كفارة يمين؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه: «كفارة النذر إذا لم يُسمَّ كفارة يمين» رواه ابن ماجه
(1)
، وأخرجه مسلم بدون ذكر «إذا لم يسم» بلفظ:«كفارة النذر كفارة اليمين»
(2)
، وكفارة اليمين هي إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو تحرير رقبة، فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام متتابعة.
(1)
أخرجه الترمذي بهذا اللفظ في النذور والأيمان/ باب ما جاء في كفارة النذر إذا لم يسمِّ (1528) وهو عند أبي داود وابن ماجه بلفظ «من نذر نذراً ولم يسم فعليه كفارة يمين» . قال الترمذي: «حديث حسن صحيح غريب» .
(2)
أخرجه مسلم في النذر/ باب في كفارة النذر (1645) عن عقبة بن عامر رضي الله عنه.
الثَّانِي نَذْرُ اللِّجَاجِ وَالْغَضَبِ، وَهو تَعْلِيقُ نَذرِهِ بِشَرْطٍ يَقْصِدُ الْمَنْعَ مِنْهُ، أَوِ الْحَمْلَ عَلَيْهِ، أَوِ التَّصْدِيقَ أَوِ التَّكْذِيبَ، فَيُخَيَّرُ بَيْنَ فِعْلِهِ، وكَفَّارَةِ يَمِينٍ.
قوله: «الثاني نذر اللجاج والغضب» هذا النذر من باب إضافة الشيء إلى سببه، يعني النذر الذي سببه اللجاج، أي: الخصومة، أو المنازعة، أو ما يشبه ذلك، والغضب غليان دم القلب وفورانه، فينفعل الإنسان، وينذر، لكن ما تعريفه؟ قال:
«وهو تعليق نذره بشرط يقصد المنع منه» يعني أن يعلق الإنسان نذره بشرط يقصد المنع منه، مثل أن يقول: إن فعلت كذا فللَّه علي نذر أن أصوم سنة، وغرضه أن يمنع نفسه من ذلك؛ لأنه إذا تذكر صيام السنة امتنع.
أو يقول إنسان لمن يمتنع بيمينه ـ كابنه مثلاً ـ: إن فعلت كذا فلله علي نذرٌ أن أصوم سنة، فهذا ـ أيضاً ـ يسمى نذر اللجاج والغضب، فقصده بذلك المنع.
قوله: «أو الحمل عليه» عكس المنع منه، يعني ينذر ليحملَ نفسه على الفعل، مثل أن يقول: إن لم أفعل كذا فعبيدي أحرار، وأملاكي وقف، ونقودي هبة، والمقصود حمل نفسه على الفعل، فهذا يُسميه العلماء نذر اللجاج والغضب، وإن لم يكن فيه لجاج أو غضب، ولا مشاحة في الاصطلاح، فما دام سموه نذر اللجاج والغضب، فنحن نقول ما قالوا، ونسميه بما سموه.
قوله: «أو التصديق» بأن يحدثنا بحديث فقلنا: هذا ليس بصحيح، فقال: لله علي نذر إن كان كذباً أن أصوم سنة، لماذا قال هذا الكلام؟ قاله تصديقاً لقوله.
قوله: «أو التكذيب» بالعكس، بأن يحدثه شخص بشيء، فيقول: أنت كذاب، إن كان ما تقوله صدقاً فعبيدي أحرار، فالمقصود التكذيب، يعني يؤكد أنه يكذِّب هذا الرجل بهذا القول.
قوله: «فَيُخَيَّرُ بين فعله وكفارة يمين» كاليمين، يعني كما لو حلفت على شيء، فإن فعلته فلا كفارة، وإن لم تفعله فعليك الكفارة، المهم نقول: هذا النذر إن شئت فافعل ما نذرت، وإن شئت فكفر كفارةَ يمين.
ودليل هذا الحديث الذي رواه سعيد في سننه
(1)
: «لا نذر في غضب، وكفارته كفارة يمين» ، أما من جهة التعليل فقالوا: إن هذا بمعنى اليمين؛ لأنه لم يقصد بهذا النذر إلا المنع، أو الحمل، أو التصديق، أو التكذيب، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى»
(2)
، ولنضرب مثالاً لذلك: رجل قال: لله عليَّ نذر إن فعلت كذا أن أصوم ثلاثة أيام، ففعل، فهل يلزمه صيام ثلاثة أيام أو كفارة يمين؟
الجواب: يخير، إن شاء صام ثلاثة أيام، وإن شاء كفر كفارة يمين؛ لأن هذا النذر حكمه حكم اليمين.
وإذا قلنا: إن حكمه حكم اليمين، فهل الأولى أن يفعل أو الأولى أن يكفِّر؟
(1)
أخرجه أحمد (4/ 433)، والنسائي في الأيمان والنذور/ باب كفارة النذر (7/ 28)، وعبد الرزاق (8/ 434)، والبيهقي (10/ 70)، وانظر: الإرواء (2587).
(2)
سبق تخريجه ص (153).
نقول: سبق أن المسألة بحسب المحلوف عليه، إن كان خيراً فالأفضل أن يفعل، وهنا في الغالب أنه خير؛ لأنه نذر، لكن مع ذلك لئلا نلزمه نقول: أنت مخير بين فعلك، وكفارة اليمين.
الثَّالِثُ نَذْرُ الْمُبَاحِ كَلُبْسِ ثَوْبِهِ، وَرُكُوبِ دَابَّتِهِ فَحُكْمُهُ كَالثَّانِي، وَإِنْ نَذَرَ مَكْرُوهاً مِنْ طَلَاقٍ أَوْ غَيْرِهِ اسْتُحِبَّ أَنْ يُكَفِّرَ وَلَا يَفْعَلُهُ،
..........
قوله: «الثالث نذر المباح، كلبس ثوبه وركوب دابته فحكمه كالثاني» أي: يخير بين فعله وكفارة اليمين، مثاله: قال رجل: لله علي نذر أن ألبس هذا الثوب، نقول له: أنت بالخيار، إن شئت البس الثوب، وإن شئت فكفر كفارة يمين.
ومن هذا النوع ما يفعله بعض الناس يقول: إذا نجحت فللَّه علي نذر أن أذبح شاة، فهل يلزمه أن يذبح الشاة، أو نقول: يخيَّر بين ذبحها وكفارة اليمين؟
في ذلك تفصيل، إذا كان قصد بذبح الشاة التصدق بها شكراً لله على النعمة فهذا طاعة، ويجب عليه أن يوفي به، كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وإذا قصد بذلك إظهار الفرح، ودعوة إخوانه وأصدقائه فهو يخير بين فعله وكفارة اليمين؛ لأن هذا من باب المباح وليس من باب الطاعة، أما لو قال: إن نجحت فللَّه علي نذر أن أصوم ثلاثة أيام، فهذا طاعة؛ لأن الصوم قربة، لكن ذبح الشاة، وأكل لحمها، والعزيمة عليها، هذا من قسم المباح.
وقوله: «وركوب دابته» كذلك، قال: لله علي نذر أن أركب هذا البعير، أو أن أركب هذه السيارة، نقول: هذا نذر مباح، إن شئت فاركب، وإن شئت فلا تركب، وعليك كفارة يمين.
والقاعدة أنه إذا نذر شيئاً مباحاً، فعلاً له أو تركاً له، فهو يخير بين أن يوفي بنذره، أو يكفر كفارة يمين.
قوله: «وإن نذر مكروهاً من طلاق أو غيره استحب أن يكفر ولا يفعله» الأصل في الطلاق الكراهة، ولكنه قد يستحب، وقد يجب، وقد يحرم، وقد يباح، فتجري فيه الأحكام الخمسة، لكن الأصل فيه الكراهة، فإذا نذر إنسان أن يطلق زوجته، قال: لله علي نذر أن أطلق هذه الزوجة، نقول له: الأفضل أن تكفر كفارة يمين ولا تطلق.
وقوله: «أو غيره» أي: غير الطلاق، مثل لو قال: لله علي نذر أن آكل بصلاً، وأكل البصل مكروه، فنقول: الأفضل ألا تأكل وتكفِّر.
ولو قال: لله عليَّ نذر أن آكل ثوماً، فمثله.
الرَّابِعُ نَذْرُ الْمَعْصِيَةِ كَشُرْبِ خَمْرٍ، وَصَوْمِ يَوْمِ الْحَيْضِ، وَالنَّحْرِ، فَلَا يَجُوزُ الْوَفَاءُ بِهِ وَيُكَفِّرُ.
قوله: «الرابع نذر المعصية» أن ينذر معصية لله عز وجل، مثل المؤلف لذلك بقوله:
«كشرب خمر» نذر إنسان أن يشرب الخمر ـ نعوذ بالله ـ فهذا نذر معصية، فجاء ليشرب الخمر فقلنا له: اتق الله! فهذا حرام، ومن شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة
(1)
، قال: إني نذرت، نقول له: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من نذر أن يعصي الله
(1)
أخرجه البخاري في الأيمان والنذر، باب النذر في الطاعة
…
(6696) عن عائشة رضي الله عنها.
فلا يعصه»
(1)
، إذاً لا يجوز الوفاء به.
ولو قال: لله علي نذر أن أضرب فلاناً، بدون سبب، نقول: كَفِّرْ، ولا تفعل، فإن قال له فلان: اضربني، فيصير مباحاً، ويكون أسقط حقه، لكن في الأصل هو من نذر المعصية.
ولو نذر رجل أن يتعامل بالربا، قلنا: حرام عليه، وعليه كفارة يمين، حرام عليه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«من نذر أن يعصي الله فلا يعصه» ، وعليه كفارة يمين؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:«لا نذر في معصية الله وكفارته كفارة يمين»
(2)
.
قوله: «وصوم يوم الحيض» كامرأة قالت: لله علي نذر أن أصوم أول يوم من الحيض، نقول: هذا حرام؛ لأن الحائض يحرم عليها الصوم بإجماع المسلمين، استناداً إلى قول الرسول عليه الصلاة والسلام:«أليس إذا حاضت لم تصلِّ ولم تصم»
(3)
، فهذه المرأة لا يمكن أن تصوم يوم الحيض.
(1)
هذا لفظ حديث أخرجه البخاري في الأشربة/ باب قول الله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ}
…
} (5575)، ومسلم في الأشربة/ باب بيان أن كل مسكر خمر
…
(2003) بزيادة: «ثم لم يتب منها» عند البخاري «وإلاّ أن يتوب» عند مسلم، والحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما.
(2)
أخرجه أحمد (6/ 247)، والنسائي في الأيمان والنذر/ باب كفارة النذر (7/ 26)، وأبو داود في الأيمان والنذور/ باب من رأى عليه كفارة
…
(3290)، والترمذي في النذور والأيمان/ باب ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لا نذر
…
» (1525)، وابن ماجه في الكفارات/ باب النذر في المعصية (2125)، والحاكم (4/ 339)، والطحاوي (3/ 42)، وانظر: التلخيص الحبير (4/ 175، 176)، وصححه الألباني كما في الإرواء (2590).
(3)
رواه البخاري في الحيض/ باب ترك الحائض للصوم (304)، ومسلم في الإيمان/ باب بيان نقصان الإيمان بنقص الطاعات (80) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وهذا لفظ البخاري.
قوله: «والنحر» قال: لله عليَّ نذر أن أصوم يوم النحر، نقول: هذا حرام ومعصية، وهل هناك عبارة أعم من قول المؤلف:«يوم النحر» ؟
الجواب: نعم، يوم العيدين؛ لأن يوم الفطر كيوم النحر، وهناك ـ أيضاً ـ أيام أخرى يحرم صومها، وهي أيام التشريق، المهم إذا نذر صوم يوم يحرم صومه، فهذا نذر معصية لا يجوز الوفاء به.
ولو نذر أن لا يكلم عمه فهذا نذر معصية يحرم الوفاء به.
قوله: «فلا يجوز الوفاء به» لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من نذر أن يعصي الله فلا يعصه»
(1)
؛ ولأنه لو جاز أن يوفي بهذا النذر لكان كل من أراد أن يفعل معصية نذرها، وهذا يؤدي إلى انتهاك حرمات الله.
قوله: «ويكفِّر» أي: يكفر كفارة يمين؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا نذر في معصية الله، وكفارته كفارة يمين»
(2)
، وهذا الحديث احتج به الإمام أحمد رحمه الله، وإسحاق بن راهويه، وصحَّحه الطحاوي، خلافاً لقول النووي رحمه الله: إنه ضعيف باتفاق المحدثين، لكن الإمام أحمد احتج به، واحتجاجه به يدل على صحته عنده، وكذلك صححه الطحاوي، وهو من الأئمة الذين يعتبر تصحيحهم، وعلى هذا فالحديث صحيح ويحتج به.
(1)
سبق تخريجه ص (215).
سبق تخريجه ص (215).
(2)
سبق تخريجه ص (215).
لكن جمهور أهل العلم قالوا: إن نذر المعصية لا كفارة فيه، ويحرم الوفاء به، واحتجوا بحديث عائشة رضي الله عنها الذي أشرنا إليه آنفاً، وهو قول الرسول عليه الصلاة والسلام:«من نذر أن يعصي الله فلا يعصه» ، ولكن نقول: إنه ما دام قد ورد حديث فيه زيادة وهو صحيح، فإنه يجب الأخذ بهذه الزيادة، وهي كفارة اليمين.
والمعنى يقتضي ذلك؛ لأن هذا الرجل نذر ولم يفعل، ونحن نقول: نذره انعقد؛ لأنه ألزم نفسه به، ولا يمكن أن يوفي به؛ لأنه معصية، وحينئذ يكون نذر نذراً لم يوفِه فعليه الكفارة، كما لو حلف أن يفعل معصيةً، فإننا نقول له: لا تفعلها، وعليك كفارة يمين، فما ذهب إليه الإمام أحمد رحمه الله وإن كان من مفرداته أقرب إلى الصواب؛ أنه لا يفعل المعصية، وعليه كفارة يمين.
فلو نذر صيام يوم يحرم صومه، فهل يقضي ذلك اليوم ويكفر لفوات محله، أو لا يقضي؟ ظاهر الحديث أنه لا يقضي وأن عليه الكفارة فقط، فلو قال: والله لأصومن يوم العيد، وقلنا: لا يجوز أن تصوم، فهل يلزمه أن يصوم يوماً بدله مع الكفارة، كما هو المذهب، أو لا يلزمه؟ ظاهر النص أنه لا يلزمه؛ لأن أصل التعيين كان محرماً ومعصية.
والفقهاء رحمهم الله يفرقون فيقولون: إذا كان المنع لمعنى يتعلق بالفاعل فإنه لا قضاء، وإن كان لمعنى يتعلق بالزمان أو المكان فإن عليه القضاء.
فلو نذرت امرأة أن تصوم يوم الحيض فنقول: لا تصوم، وعليها كفارة يمين، وهل تقضي؟ لا تقضي؛ لأنه لمعنى يتعلق بالفاعل فلا قضاء عليها.
أما لو نذرت أن تصوم يوم العيد فإنها لا تصوم لا لمعنى فيها، ولكن لمعنى يتعلق بالزمان.
المكان أيضاً، لو نذر إنسان أن يصلي في المقبرة، قلنا: لا تصلِّ؛ لأن هذا حرام، ولكن هل تقضي أو لا تقضي؟ فيه الخلاف، فعلى المذهب تقضي وعليك كفارة يمين؛ لأن هذا المعنى يتعلق بالمكان.
والراجح أنه لا يقضي، سواء تعلق بالزمان، أو المكان، أو الفاعل، وعليه كفارة يمين؛ لأن الأصل أن هذا النذر لم ينعقد.
الْخَامِسُ نَذْرُ التَّبَرُّرِ مُطْلَقاً أَوْ مُعَلَّقاً، كَفِعْلِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَنَحْوِهِ، كَقَوْلِهِ: إِنْ شَفَى اللهُ مَرِيضِي أَوْ سَلَّمَ مَالِيَ الْغَائِبَ، فَلِلَّهِ عَلَيَّ كَذَا، فَوُجِدَ الشَّرْطُ لَزِمَهُ الوَفاءُ بِهِ، إِلاَّ إِذَا نَذَرَ الصَّدَقَةَ بِمَالِهِ كُلِّهِ، أَوْ بِمُسَمَّى مِنْهُ يَزِيدُ عَلَى ثُلُثِ الْكُلِّ فَإِنَّهُ يُجْزِئُهُ قَدْرُ الثُّلْثِ.
قوله: «الخامس نذر التبرر مطلقاً أو معلقاً» التبرر فعل البر، كالتطوع فعل الطاعة، والتنسك فعل النسك، فنذر التبرر هو بمعنى قولنا: نذر الطاعة؛ لأن الطاعة بر.
قوله: «كفعل الصلاة والصيام والحج ونحوه» مثل: الصدقة، والعمرة، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، ونحوها، فنذر الطاعة يجب الوفاء به؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«من نذر أن يطيع الله فليطعه»
(1)
.
وظاهر كلام المؤلف أنه يشمل الواجب وغير الواجب،
(1)
سبق تخريجه ص (215).
فالصلاة منها فرض ومنها تطوع، فإذا قال: لله علي نذر أن أصلي الظهر، صارت واجبة عليه من وجهين: الواجب بأصل الشرع، والواجب بالنذر، ولو قال: لله علي نذر أن أؤدي زكاة مالي، كذلك، صار واجباً عليه من وجهين الشرع، والنذر، فإذا لم يزكِّ وجب عليه كفارة يمين مع الإثم، ولو لم ينذر لم يجب عليه كفارة اليمين، لكنه يأثم بترك الزكاة، هذا هو فائدة قولنا: إن النذر يتعلق بالواجب. وليس هذا تحصيل حاصل ولكن بالنسبة للصلاة يمكن أن يقال إنها لا ترد علينا لانه لو تركها كفر.
فالمهم أن نذر الواجب صحيح.
وقوله: «مطلقاً» المطلق مثل قوله: لله علي نذر أن أصلي ركعتين، أو: لله علي نذر أن أقرأ جزءاً من القرآن.
وقوله: «أو معلقاً» مَثَّلَ له المؤلف بقوله:
«كقوله: إن شفى الله مريضي» أي: إن شفى الله مريضي فللَّه عليَّ نذر أن أتصدق بمائة ريال، فمتى شفي وجبت عليه، وإن مات لم يجب عليه شيء، وإن بقي مريضاً كذلك لم يجب عليه شيء، وإن شُفي بعد موت الناذر فليس عليه شيء؛ لأن الشرط لم يوجد في حياته، والأصل براءة الذمة.
لكن لو شفي، والناذر في حال جنون ـ نسأل الله العافية ـ فهل يلزمه شيء أو لا يلزمه؟ عندنا سبب وشرط، سبب وجوب الصدقة بهذه الدراهم وهو النذر، وشرط الوجوب وهو الشفاء، فسبب الوجوب وُجد من الإنسان في حال هو فيها مكلف، وشرط الوجوب وُجد في حال هو فيها غير مكلف، لكنه أهل للضمان،
فالظاهر أنه يلزم وليه أن يتصدق بها عنه، كالزكاة تماماً، فإن الزكاة تجب على المجنون وتجب على الصغير.
ولو قال: لو شفى الله مريضي فللَّه علي نذر أن أصوم، ثم شُفي المريض في حال جنون الناذر، هذا هو محل الإشكال في الحقيقة.
فهذه تحتاج إلى نظر، فهل نقول: إن هذا الرجل لما أوجب على نفسه الصوم في حال عقله وجب أن يقضى عنه، أو يقال: إنه وجب عليه في حال ليس من أهل الصوم، بخلاف المال فإن المجنون تجب عليه الأموال إذا وجدت شروط الوجوب، كالزكاة، وضمان الأموال التي يتلفها، وما أشبهها؟
مسائل:
الأولى: هل الوفاء بالنذر على الفور؟ وهل حديث لا تدر في معصية يدل مفهومه على جواز النذر مع أنه قد صح النهي عنه؟
إذا كان مقروناً بشرط فهو على الفور، من حين يوجد الشرط يجب الوفاء به، وإذا كان مطلقاً ففيه خلاف، والصحيح وجوب الوفاء به فوراً.
والحديث يدل على انعقاده أو أن المعنى لا نذر يوفى.
الثانية: هل هناك فرق بين اليمين وبين النذر؟
نعم، بينهما فرق، لو نذر أن يصلي ركعتين وجب عليه أن يصلي ركعتين، ولو حلف أن يصلي ركعتين لم يجب عليه، واستحب أن يفعل.
الثالثة: إذا عجز عن نذر الطاعة فإن كان له بدل فعل بدله، وإن لم يكن له بدل فإنه يبقى معلقاً في ذمته حتى يشفيه الله، فإن لم يكن يرجى زوال العجز فينظر فيه، إذا كان ـ مثلاً ـ صياماً يُكفر عنه، كالواجب بأصل الشرع، وإن كان صلاة فالعجز عنها فيما يظهر لا يتصور؛ لأنه يصلي على حسب حاله.
الرابعة: لو علق النذر بالمشيئة فقال: لله علي نذر أن أفعل كذا إن شاء الله.
ففي النذر الذي حكمه حكم اليمين ليس عليه حنث، وإذا كان فعلَ طاعة، نظرنا إذا كان قصده التعليق فلا شيء عليه، وإذا كان قصده التحقيق أو التبرك وجب عليه أن يفعل، حسب نيته.
فائدة: إذا قال صاحب الفروع: (على الأصح) يعني أن المسألة التي يتكلم عليها فيها روايتان عن الإمام أحمد، أصحهما هي التي قال فيها:(على الأصح). ويعني أصحهما في المذهب وليس أصحتهما عن الإمام أحمد.
وإذا قال: (في الأصح) يعني الوجهين عن أئمة أصحاب الإمام أحمد.
الخامسة: إذا نذر الإنسان نذراً معيناً بيوم أو بشهر، ثم جن قبل أن يصل إلى ذلك اليوم، يعني صادف ذلك اليوم أنه مجنون، فلا قضاء عليه بالنسبة للعبادات البدنية، وأما بالنسبة للعبادات المالية، كأن يقول: إن قدم زيد فللَّه علي نذر أن أتصدق بكذا، فقدم وهو مجنون، ذكرنا فيما سبق أنه تلزمه الصدقة؛ لأن
الواجب هنا في المال، فهو كالزكاة، تجب على المجنون، ولا تجب عليه الصلاة ولا الصيام.
أما لو مات الناذر قبل أن يوجد الشرط فليس عليه شيء لا عبادة مالية ولا بدنية يعني لا صدقة ولا صوم ولا يقضى عنه شيء.
السادسة: فلما آتاهم من فضله أخلفوا الأمرين كليهما الصدقة والصلاة فقوله: {بَخِلُوا بِهِ} هذا ضد الصدقة، وقوله:{بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [التوبة: 76] هذا ضد الصلاة {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ *} نعوذ بالله إلى الموت {يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة: 77] يقال: إن هذه الآية نزلت في رجل من الصحابة يقال له ثعلبة بن حاطب لكن هذا ليس بصواب بل هو باطل وضعيف وقد كتب في هذا طالب من الجامعة الإسلامية رسالة علمية بَيَّنَ فيها أن هذا كذب وأن هذا الصحابي لم يقع منه هذا الأمر.
قوله: «أو سلَّم ماليَ الغائب فللَّه عليَّ كذا» أو يقول: إن نجحت فللَّه عليّ نذر كذا.
قوله: «فوجد الشرط لزمه الوفاء به» والدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من نذر أن يطيع الله فليطعه»
(1)
، وهذا يشمل الطاعة سواء كانت معلقة بشرط، أو مطلقة.
قوله: «إلا إذا نذر الصدقةَ بماله كله، أو بمسمَّى منه يزيد على
(1)
أخرجه البخاري في المغازي/ باب حديث كعب بن مالك وقول الله: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} (4418)، ومسلم في التوبة/ باب حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه (2769) عن كعب بن مالك رضي الله عنه.
ثلث الكل، فإنه يجزئه قدر الثلث» استثنى المؤلف من قوله:«لزمه الوفاء به» إذا نذر الصدقة بماله كله فإنه يجزئه قدر الثلث، مثل أن يقول: إن شفى الله مريضي فللَّه عليّ نذر أن أتصدق بجميع مالي، وهذا نذر تبرر معلق، أو يقول: لله عليّ نذر أن أتصدق بجميع مالي، وهذا نذر تبرر مطلق، فيجزئه قدر الثلث، واستدل الأصحاب رحمهم الله لهذا بحديث كعب بن مالك رضي الله عنه، وحديث أبي لبابة بن عبد المنذر رضي الله عنه.
أما كعب بن مالك فتخلف عن غزوة تبوك بدون عذر، ولما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من تبوك جاء المنافقون يعتذرون إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فكان يعذرهم ويستغفر لهم ويكل سرائرهم إلى الله، ويفرحون بهذا؛ لأنهم أهل ظاهر، فيفرحون بالظاهر، ويقولون: يكفينا استغفار النبي صلى الله عليه وسلم لنا، وما علموا أن الله قال:{اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80]ـ والعياذ بالله ـ أما كعب بن مالك، رضي الله عنه وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع رضي الله عنهم فصدقوا، وقالوا: ما لنا عذر، وكعب بن مالك رضي الله عنه تكلم بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم بكلام فصيح عجيب؛ لأنه أشب القوم وأجلدهم، وقال: إني أوتيت جدلاً، يعني أقدر أن أخاصم، وأعرف أن أتخلص، ولكن لا يمكن أن أتقدم إليك بعذر اليوم فتعذرني، ثم يفضحني الله ـ تعالى ـ غداً ـ الله أكبر ـ انظر الإيمان واليقين، المنافقون قال الله فيهم: {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا
عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ *} [التوبة]، أما هذا فلإيمانه أعطى الصدق، وقال: ما لي عذر، وما ملكت راحلتين قط في غزوة كهذه، ولكن أخذه التسويف، لما خرج الناس أول يوم، قال: أنتظر غداً ألحقهم، في اليوم الثاني قال: غداً ألحقهم، حتى ذهب الوقت، فهجره النبي عليه الصلاة والسلام وصار لا يكلمه، حتى أنه يقول: آتي وأسلم على النبي عليه الصلاة والسلام، وأقول: أَحَرَّكَ شفتيه بردِّ السلام أم لا؟ مع حسن خلق النبي عليه الصلاة والسلام، لكن لكل مقام مقال، ومع ذلك كان الرسول عليه الصلاة والسلام يلاحظه، إذا كبَّر للصلاة لاحظه النبي عليه الصلاة والسلام ونظر إليه، فإذا أقبل عليه كعب أعرض؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يراعي أصحابه خير رعاية، بقي على هذه الحال يخرج إلى السوق يكلم الناس وما يكلمونه، حتى أبو قتادة ابن عم كعب بن مالك وأحب الناس إليه، دخل عليه في بستانه وسلم عليه، فلم يرد عليه السلام، فقال له: أنشدك الله، أتعلم أني أحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم يريد أن يتكلم، فلما ناشده الله لم يكلمه، ولكن قال: الله أعلم، وهذه كلمة تصلح خطاباً، وغير خطاب، فلما مضى عليهم أربعون ليلة أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليهم أن يفارقوا زوجاتهم، فيتركونهن يذهبن لأهلهن، فقال كعب ـ لما جاءه رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك ـ قال: هل أطلقها أم أعتزلها؟ فلو قال: طلقها، لطلَّقَها، لكن قال: بل تعتزلها، فذهبت المرأة إلى أهلها، وبقوا خمسين
ليلة، والناس هاجرون لهم، ولا يتكلمون معهم، وفي أثناء هذه المدة جاء خطاب من ملك غسان إلى كعب بن مالك ـ فتنة عظيمة ـ قال له: إنه بلغنا أن صاحبك قد جفاك، وطلب حضوره إليه حتى يكرمه ويعزه، فلما قرأ الكتاب لم يحتفظ به، بل مباشرة جعله في التنور وأوقد به؛ لئلا تخدعه نفسه فيستجيب، فنزلت توبتهم من الله عز وجل في ليلة من الليالي وبعد خمسين ليلة، جاء الفرج من الله عز وجل الله أكبر {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ *} [التوبة: 118].
فلما أصبح النبي صلى الله عليه وسلم أخبر الناس بتوبة الله عليهم ـ الله أكبر ـ وكان كعب لا يصلي مع الجماعة؛ لأنه مهجور، فذهب رجل من المسلمين إلى سلع ـ جبل في المدينة معروف ـ ونادى بأعلى صوته: أبشر يا كعب بخيرِ يومٍ مَرَّ عليك منذ ولدتك أمك! أبشر بتوبة الله عليك! وذهب رجل على فرس يبشره، وانظر إلى الصحابة رضي الله عنهم كيف فرحهم بتوبة الله تعالى على إخوانهم، وعلى أصحابهم، لكن كان صاحب الصوت أسرع، فصارت البشارة لصاحب الصوت، فأعطاه كعب بن مالك حلته، فلما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ودخل المسجد قام إليه طلحة بن عبد الله رضي الله عنه يهنئه بتوبة الله عليه، قال: فكنت لا أنساها لطلحة أن كان أول الصحابة يهنئه رضي الله عنهم، أما النبي عليه الصلاة والسلام فإنه لما رآه كعب وجد وجهه يتهلل، كأنه
قطعة قمر فرحاً بنعمة الله عز وجل بتوبته على هؤلاء الثلاثة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا شك أنه أشفق الناس على أمته وأصحابه، وأشدهم حباً للخير لهم، فكانت هذه القضية مما نزل فيها قرآن يتلى إلى يوم القيامة، وانظر المحنة تعقبها المنحة! كل محنة من الله عز وجل إذا صبرت عليها فأبشر بعقباها منحة، فبعد هذا قال الله عز وجل:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ *} [التوبة]، فجعلهم أسوة لغيرهم في الصدق، ولما تاب الله عليهم، قال كعب: يا رسول الله، إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة، فقال:«أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك» متفق عليه
(1)
، وعند أبي داود
(2)
«أنه يجزئه الثلث» ، وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم الثلث كثيراً، فقال لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه:«الثلث والثلث كثير»
(3)
.
وكذلك أيضاً: أبو لبابة بن عبد المنذر رضي الله عنه قال: إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:«يجزئك منه الثلث»
(4)
وقصة أبي لبابة ذكرها
(1)
أخرجه أبو داود في الأيمان والنذور/ باب فيمن نذر أن يتصدق بماله (3321).
(2)
أخرجه البخاري في الوصايا/ باب الوصية بالثلث (2743)، ومسلم في الوصية/ باب الوصية بالثلث (1629) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(3)
أخرجه أحمد (3/ 502) وعبد الرزاق (5/ 406)، وسعيد في السنن (5/ 206)، وابن حبان (8/ 164)، والحاكم في المستدرك (3/ 733)، والبيهقي (10/ 67).
(4)
أخرجه أبو داود في الزكاة/ باب في الرخصة في ذلك (1678)، والترمذي في المناقب/ باب في مناقب أبي بكر وعمر (3675)، والدارمي في الزكاة/ باب الرجل يتصدق بجميع ما عنده (1601)، والحاكم في المستدرك (1/ 574)، والبيهقي (4/ 180)، والحديث صححه الترمذي والحاكم وحسنه الألباني كما في المشكاة (3/ 313).
بعض الناس في قصة تخلفه عن غزوة تبوك، وليس هذا بصحيح، والصحيح أنها كانت في قصة إشارته لحلفائه بني قريظة حين استشاروه: هل ينزلون على حكم النبي عليه الصلاة والسلام؟ فأشار إلى حلقه، يعني أنه الذبح، فعرف رضي الله عنه أن في ذلك خيانة، فربط نفسه بسارية المسجد، وقال: لا أطلقها حتى يحلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن يتوب الله عليه، فتاب الله عليه، وحلها الرسول صلى الله عليه وسلم لما عرف صدق توبته، ثم قال: إن من توبتي أن أنخلع من مالي، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:«يجزئك الثلث» ، ففي هذا دليل على أنه إذا نذر الصدقة بماله فإنه يجزئه الثلث.
وذهب بعض العلماء إلى أنه يجب عليه أن يتصدق بجميع ماله؛ لأن الصدقة بجميع المال لمن علم من نفسه التوكل جائزة، بل هي سنة فعلها أبو بكر رضي الله عنه
(1)
، فتدخل في عموم قوله صلى الله عليه وسلم:«من نذر أن يطيع الله فليطعه»
(2)
، وأجابوا عن حديث كعب بن مالك وأبي لبابة رضي الله عنهما بأنه ليس فيهما التصريح بالنذر، بل قد يكون ذلك من باب شكر النعمة، وهي توبة الله عليهما، وليس فيه أن كلاًّ منهما قال: إن لله عليَّ نذراً، بل قال: إن من توبتي ـ أي: من شكر توبتي ـ أن أفعل كذا وكذا، فهو من
(1)
سبق تخريجه ص (227).
(2)
سبق تخريجه ص (215).
باب نية الخير شكراً لله عز وجل، وفرق بين من يلتزم بالنذر، وبين من يريد بدون التزام.
والحقيقة أن هذه المناقشة قوية، بمعنى أنه ليس في الحديثين دلالة صريحة على أنهما نذرا لله بذلك، فلا شك أن الإنسان إذا أوفى بنذره وتصدق بجميع ماله مع حسن ظنه بربه، وصدق اعتماده عليه، وأن له جهات يُمكن أن يقوم بواجب كفايته وكفاية عائلته، لا شك أن صدقته بجميع ماله أبرأ لذمته وأحوط، وأما الاقتصار على الثلث مطلقاً ففي النفس منه شيء.
وقوله: «أو بمسمى منه يزيد على ثلث الكل» (مسمى منه) يعني مُعَيَّناً من ماله يزيد على ثلث الكل.
وقوله: «فإنه يجزئه قدر الثلث» يعني ثلث الكل، مثال ذلك قال: لله عليَّ نذر أن أتصدق بهذه السيارة، فنظرنا ما عنده من المال فإذا السيارة تساوي عشرين ألفاً، وعنده عشرة آلاف فقط، فيجزئه ثلث الكل وهو عشرة آلاف، وتبقى السيارة له، أو نقول: بعها ثم تصدق بنصف قيمتها، ولا يلزمه أن يبيعها؛ لأنه لو باعها سوف يأخذ نصف القيمة، لكن إذا باعها فهو أحسن من جهة؛ لأنه أخرجها لله وطابت نفسه بها، فكونها لا تدخل ملكه أحسن.
وقوله: «أو بمسمى منه يزيد على ثلث الكل فإنه يجزئه قدر الثلث» هذا أحد القولين في مذهب الإمام أحمد، ولكن المذهب المشهور عند المتأخرين أنه يلزمه أن يتصدق بالمسمى، وإن زاد على الثلث، ففي مثالنا هذا يلزمه أن يتصدق بالسيارة كلها، ويقولون: إن الفرق بينه وبين الكل، أن الكل عبارة عن كل
المال، وليس ذلك بالأمر المشروع؛ بخلاف الصدقة بشيء معين فإنه مشروع ولو كان أكثر من الثلث، فالمسألة فيها ثلاثة أشياء:
أولاً: أن ينذر الصدقة بجميع ماله، فمذهب الحنابلة يجزئه الثلث، وقول أكثر أهل العلم أنه لا بد أن يتصدق بماله كله.
ثانياً: أن ينذر الصدقة بشيء معين يزيد على الثلث، فالمذهب يلزمه أن يتصدق به ولو زاد على الثلث، والذي مشى عليه المؤلف أنه لا يلزمه أكثر من الثلث.
ثالثاً: أن ينذر الصدقة بشيء من ماله مشاع، مثل أن يقول: ثلث مالي، نصف مالي، وما أشبه ذلك، فيتعين ما قاله على ظاهر المذهب، وعلى كلام المؤلف لا يلزمه أكثر من الثلث.
وهل إذا تصدق بالثلث عليه كفارة؟
ليس عليه كفارة؛ لأنه يقول: «يجزئه» ، وما دام يجزئه فقد أوفى بنذره فلا كفارة عليه.
وَفِيمَا عَدَاهَا يَلْزَمُهُ الْمُسَمَّى، وَمَنْ نَذَرَ صَوْمَ شَهْرٍ لَزِمَهُ التَّتَابُعُ، وَإِنْ نَذَرَ أَيَّاماً مَعْدُودَةً لَمْ يَلْزمْهُ إِلاَّ بِشَرْطٍ أَوْ نِيَّةٍ.
قوله: «وفيما عداها يلزمه المسمى» أي: في ما عدا المسألة المذكورة، وهي إذا نذر الصدقة بماله كله، أو بمسمى منه يزيد على الثلث، فإنه يلزمه المسمى؛ أي: المعين ولو كثر، فلو فرضنا أن رجلاً عنده مليون ريال، وقال: لله عليّ نذر أن أتصدق بثلاث مائة ألف، فهل يلزمه أو لا؟
يلزمه؛ لأنه أقل من الثلث، ودليله عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم:«من نذر أن يطيع الله فليطعه»
(1)
.
(1)
سبق تخريجه ص (153).
قوله: «ومن نذر صوم شهر لزمه التتابع» يعني لزمه أن يصوم متتابعاً، ونذر صوم الشهر على قسمين:
الأول: أن ينذر شهراً بعينه، كربيع الأول ـ مثلاً ـ فهذا يلزمه التتابع؛ لضرورة التعيين فما يمكن أن يصومه إلا متتابعاً.
الثاني: أن ينذر شهراً مطلقاً، فيقول: لله علي نذر أن أصوم شهراً، فالمؤلف يرى أنه يلزمه التتابع، وهو المذهب، وذهب بعض العلماء إلى أنه لا يلزمه التتابع، وهذه المسألة فيما إذا لم يكن له نية، أما إن كان له نية فعلى ما نوى، أو يكون له شرط، فعلى ما شرط، يعني لو قال: أنا من نيتي أن أصوم شهراً متتابعاً، قلنا: يلزمك التتابع، أو صرح بالشرط فقال: لله علي نذر أن أصوم شهراً متتابعاً، فيلزمه التتابع.
والصحيح في القسم الثاني أنه لا يلزمه التتابع، ودليل ذلك أنه لو كان الشهر عند الإطلاق يستلزم التتابع لكان اشتراط التتابع في قوله تعالى:{شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} لغواً لا حاجة إليه، فلما اشترط الله التتابع في الشهرين علمنا بأن الشهر عند الإطلاق لا يستلزم التتابع، وهذا هو الصحيح، فإذا نذر قال: إن شفى الله مريضي فلله علي نذر أن أصوم شهراً، وشفى الله مريضه، فإننا نقول له: صم شهراً، فإذا سألنا: هل أتابع الصوم؟ قلنا: لا يلزمك إلا إن كنت نويت أو اشترطت.
وقوله: «لزمه التتابع» هل يلزمه أن يصوم ثلاثين يوماً، أو لا يلزمه إلا تسعة وعشرون يوماً؟ نقول: إن ابتدأ الصوم من أول يوم من الشهر لم يلزمه إلا الشهر، سواء كان تسعة وعشرين يوماً
أم ثلاثين يوماً؛ لقوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185]، فسماه الله شهراً مع أنه قد يكون تسعة وعشرين، وقد يكون ثلاثين يوماً، وإن ابتدأه من أثنائه، مثل أن يبتدئ الصوم في الخامس عشر، فقيل: يلزمه ثلاثون يوماً؛ لتعذر البناء على الشهر، وقيل: بل يلزمه ما كان عليه الشهر ولا يلزمه ثلاثون يوماً، وعلى هذا القول فإذا ابتدأ الصوم في اليوم الخامس عشر من هذا الشهر انتهى في اليوم الرابع عشر من الشهر الذي يليه، فإذا فرضنا أن هذا الشهر الذي ابتدأ فيه الصوم كان ناقصاً فإنه يصوم تسعة وعشرين يوماً، وهذا القول هو الصحيح، أنه لا يلزمه إلا شهر هلالي، سواء ابتدأ من أثناء الشهر، أو من أول الشهر.
وإذا قلنا بلزوم التتابع، يعني في الحال التي يلزمه التتابع إذا قطع التتابع، بأن أفطر يوماً من الشهر، فهل يستأنف أو يتم؟
الجواب: فيه تفصيل، إن كان لعذر لم يستأنف وبنى على ما مضى، مثل رجل شرع في الصوم فصام عشرة أيام ثم مرض مرضاً يبيح له الفطر، فأفطر خمسة أيام، فيكمل على العشرة الأولى؛ لأنه أفطر لعذر، وكذلك لو سافر بعد أن صام عشرة أيام وأفطر في السفر، ثم عاد من السفر، فإنه يبني على ما مضى؛ لأن السفر عذر يبيح الفطر حتى في الصيام الواجب بأصل الشرع، وهو رمضان، فإن سافر ليفطر، نقول: يحرم عليك أن تفطر؛ لأنه يلزمك التتابع، ولا تتابع مع الفطر؛ فإذا أفطر يلزمه الاستئناف؛ لأنه أفطر لعذر لا يبيح الفطر.
في مثل هذه الحال، لو أن أحداً استفتاك: هل يلزمك الاستفصال؟ أو تقول: ابنِ؟ أو تقول: استأنف؟
هنا يجب على المفتي الاستفصال؛ لأنه لا يتم الحكم إلا بمعرفة الحال، كما لو سألك سائل فقال: هلك هالك عن بنت، وأخ، وعم شقيق، فالبنت ما يحتاج أن نستفصل عنها، والأخ نستفصل، نقول: هل هو لأم أو لغير أم؟ والعم معروف أنه شقيق؛ لأنه إذا قال: الأخ لأم، قلنا: ليس له شيء، والذي أسقطه البنتُ، الفرعُ الوارثُ، والباقي للعم؛ لأنه عاصب وهو «أولى رجل ذكر» ، وإن قال: إن الأخ شقيق، أو لأب، قلنا: المال الباقي للأخ، والعم يسقط.
ولو سألني سائل قال: هلك هالك عن ابن وأب، فما يحتاج أن أستفصل: هل الابن رقيق، أو حر، أو قاتل، أو غير قاتل؟
إذن نأخذ من هذا قاعدة: أنه لا يلزمني السؤال عن وجود المانع، لكن يلزمني السؤال عن تحقق الشرط؛ لأن المانع الأصل عدمه، والشرط الأصل عدمه، ولهذا أتحقق من وجوده، وهذه مسألة في الحقيقة يحتاج إليها طالب العلم عند الفتوى، فنقول: السؤال عن وجود المانع ليس بواجب، والسؤال عن وجود الشرط واجب؛ لأن الأصل فيهما العدم.
قوله: «وإن نذر أياماً معدودة لم يلزمه» أي: التتابع «إلا بشرط أو نية» الدليل على أنه يلزمه إذا اشترط قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]، وإن لم يتضح
لك ذلك، فقوله تعالى:{وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} [الإسراء: 34]، وهذا شيء عاهدت الله عليه أن يكون متتابعاً، فتابعه.
فإذا قال قائل: لماذا لا تجوِّزون لي التفريق؛ لأنه أسهل؟ ومن الذي قال لكم: إن التتابع من البر حتى تلزموني به؟
فالجواب: لو راعيت أيها الناذرُ الأسهلَ لم تنذر أصلاً، أنت الذي ألزمت به نفسك، وأما التتابع فإنه من البر؛ لأن الله تعالى اشترطه في الكفارة، ولولا أنه محبوب إلى الله عز وجل ما اشترطه، ثم على فرض أنه ليس من البر فأنت نذرت لله عز وجل عبادة موصوفة بصفة غير محرمة، فتكون الصفة تابعة للموصوف، فإذا نذرت شهرين متتابعين، والتتابع غير محرم، وصوم الشهرين مشروع بالنذر فالتتابع مشروع، فيلزمك الوفاء به على ما شرطت.
والدليل على أنه يلزمه التتابع إذا كان بنية الحديث الأصل الذي يعتبر عمدة وعماداً لكل الأعمال الصالحة، وهو قول الرسول عليه الصلاة والسلام:«إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى»
(1)
.
(1)
سبق تخريجه
صفحة فارغة
كِتَابُ القَضَاءِ
قوله: «القضاء» في اللغة إحكام الشيء والفراغ منه، ويطلق بمعنى التقدير، فإذا كان أمراً شرعياً فالقضاء بمعنى الإحكام، وإذا كان أمراً مُقدراً فإما أن يراد به التقدير الأزلي، أو الفراغ من الشيء، فقوله تعالى:{فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [فصلت: 12]، أي: فرغ منهن، وقوله:{وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ} [الإسراء: 4] أي: قدرناه في الأزل، وقوله:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ} [الإسراء: 23]، أي: شرع شرعاً محكماً، فرضاً على العباد.
أما في الشرع فالقضاء يتضمن ثلاثة أمور: تبيين الحكم الشرعي، والإلزام به، وفصل الحكومات أو الخصومات.
فقولنا: «تبيين الحكم الشرعي» جنس يدخل فيه الفتيا؛ لأن المفتي يبين الحكم الشرعي، ولهذا لو قلت: القضاء شرعاً تبيين الحكم الشرعي، ما صح الحد والتعريف؛ لأنه غير مانع فيدخل في المُعرَّف ما ليس منه كالفتيا، فإن المفتي يبين الحكم الشرعي.
وقولنا: «الإلزام به وفصل الخصومات» يخرج به الفتيا، فإن المفتي لا يُلزم، وهل يفصل الحكومات أو لا؟ لا يفصلها، لكن لو أن المفتي حُكِّمَ ـ أي: تحاكم إليه اثنان ـ وقالا: رضيناك حكماً بيننا، وحكم بينهما صار حكمه كحكم القاضي ملزماً،
ولكنه إذا لم يُحكَّم، ولم ينصب من قبل ولي الأمر، فإنه مُبيِّن لا ملزم، هذا هو الفرق بين المفتي والقاضي.
وَهُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ يَلْزَمُ الإِمَامَ أَنْ يَنْصِبَ فِي كُلِّ إِقْلِيمٍ قَاضِياً،
.......
قوله: «وهو فرض كفاية» أما كونه
فرضاً فلأن الله سبحانه وتعالى أمر به، فقال:{يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ} [ص: 26]، وقال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58]، فأمرنا إذا حكمنا أن نحكم بالعدل، وأمر نبيه داود عليه الصلاة والسلام أن يحكم بين الناس، وهذا يدل على أنه فرض، وأما كونه فرض كفاية فلأن المقصود به الفعل دون الفاعل، وقد بيناه في نظم القواعد
(1)
، وأنه إذا كان المقصود الفعل فهو فرض كفاية، وإن كان المقصود الفاعل فهو فرض عين، أو سنة كفاية وسنة عين، حسب الأمر، فالقضاء فرض كفاية؛ لأن المقصود إيجاد قاضٍ يحكم بين الناس، وليس المقصود أن كل واحد من الناس يكون قاضياً، فالمقصود به الفعل، أي: أن يوجد الحكم بين الناس، بقطع النظر عن عين الفاعل.
قوله: «يلزم الإمام» انتقل المؤلف إلى من يوجه إليه هذا الفرض، فيوجه إلى طائفتين: إلى الإمام، وإلى المأمور، يعني إلى الإمام الذي هو الآمر، وإلى المأمور الذي هو المُولَّى، فإذا قال الإمام لشخص: كن قاضياً في هذا البلد، صار القضاء في حق هذا الشخص فرض عين كما سيأتي.
(1)
منظومة أصول الفقه وقواعده ص (7).
وقوله: «يلزم الإمام» فمن الإمام؟
الإمام ولي الأمر، يعني السلطان الأعلى في الدولة، والآن الدول تختلف، بعضها السلطان الأعلى في الدولة يُسمى ملكاً، وبعضها يسمى رئيساً، وبعضها أميراً، وبعضها سلطاناً، وبعضها شيخاً، فالمهم المعاني، فإذا كان هذا هو السلطة العليا في الدولة فهو الإمام.
وقوله: «يلزم الإمام» لأن الإمام في الحقيقة خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، واختلف العلماء، هل يجوز أن أقول: خليفة الله أو لا يجوز؟
فقال بعض العلماء: يجوز أن تقول: خليفة الله، لكنه من باب إضافة الشيء إلى فاعله، بمعنى مخلوف الله، يعني أن الله استخلفك في الأرض، وجعلك خليفةً، وليس المعنى أن الله ـ تعالى ـ وكَّلك على عباده؛ لأنه عاجز عن تدبيرهم، كلا، لكن المعنى أن الله جعلك خليفة في الأرض، تخلفه في عباده، بمعنى أن تقيم شرعه فيهم، وقد قال الله تعالى لداود عليه السلام:{يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ} [ص: 26].
وقال الشاعر يخاطب عمر بن عبد العزيز رحمه الله:
خليفة الله ثم اللَّه يحفظه
واللَّه يصحبك الرحمن في سفر
إنّا لنرجو إذا ما الغيث أخلفنا
من الخليفة ما نرجو من المطرِ
فقال: خليفة الله، وأقره ـ حسب الرواية ـ وما أنكره.
وقال بعض العلماء: لا يجوز؛ لأن خليفة الإنسان لا يكون إلا عند غيبة الإنسان المُخلِّف، ولهذا قال موسى لهارون ـ عليهما
الصلاة والسلام ـ: {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي} [الأعراف: 142]؛ لأنه عليه الصلاة والسلام غاب لميقات ربه.
ولكن الصحيح الأول، وأنه يجوز أن نقول: خليفة الله، لأن الله استخلفه في عباده ليقوم بعدله، ولا يعني ذلك أن الله تعالى ليس بحاضر، فالله عز وجل فوق عرشه، ويعلم كل شيء، وفرق بين استخلاف موسى لهارون عليهما السلام، وبين استخلاف الله ـ تعالى ـ هذا الخليفة في الأرض.
والذين يقولون: لا يجوز، يقولون: إنك تقول: خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنك خلفت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمته علماً، وعملاً، ودعوة، وسياسة، يعني أن الخليفة يجب أن يكون خالفاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الأمور الأربعة، العلم، والعمل، والدعوة، والسياسة، فمسؤولية الخليفة ليست هينة.
فالعلم بمعنى أن يكون عالماً بالشريعة، ولهذا كان الخلفاء في عهد السلف الصالح هم العلماء، فإن عجز فإنه يجب أن يكون له بطانة ذات علم بشريعة الله، ويجب أن تكون هذه البطانة عالمةً بأحوال العصر، وأن يكون لها قدرة على تطبيق الحوادث العصرية على الأصول الشرعية؛ لأن بعض الناس عالم، لكن لا يعلم أحوال الناس ومتطلبات العصر، فتجده يريد أن يفرض ما يعلمه دون النظر إلى الواقع، وهذا خطأ، بل الواجب على العالم أن يكون مع علمه مربياً، بمعنى أنه ينظر إلى الواقع ليطبقه على الأصول الشرعية، ولسنا نقول: ينظر إلى الواقع ليلوي أعناق الأصول الشرعية إليه، بل ليحمل الواقع على الأصول الشرعية،
والحمد لله، فإن الدين الإسلامي لا يمكن أن تحدث أي حادثة إلى يوم القيامة إلا وفيها حَلٌّ في الدين الإسلامي، علمه من علمه، وجهله من جهله، لكن الذي يفوتنا إما القصور وإما التقصير، أما أن توجد حادثة إلى يوم القيامة لا يوجد لها حل في الشريعة! فهذا مستحيل؛ لأن الله جعل هذا الدين باقياً إلى قيام الساعة، فلا بد أن يكون فيه حلول لمشاكل العالم، وإلا ما صح أن يكون ديناً، أو شريعة إلى يوم القيامة.
وأما أن يخلف النبي صلى الله عليه وسلم في العمل، يعني أن يكون قدوة صالحة في عمله، وعباداته، ومعاملاته، وأخلاقه، وسلوكه؛ ليكون أسوة؛ لأن اسمه خليفة وإمام، خليفة لمن سبقه، وإمام لمن لحقه.
وأما الدعوة فأن يكون إماماً في الدعوة إلى الإسلام، فيكاتب زعماء الكَفرة، يدعوهم إلى الإسلام، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يكاتبهم يدعوهم إلى الإسلام.
فإنه كاتب الملوك والزعماء والأمراء في عهده، كتب إلى المقوقس في مصر، وإلى هرقل في الشام، وإلى كسرى في العراق
(1)
، وإلى غيرهم، وهذا من وظائف الإمام، فإن لم يباشره بنفسه فليجعل من يباشره وينوب عنه، بأن يكوِّن لجنةً من أهل العلم يتولون هذا الأمر، ويكون لديهم العلم بالشرع والواقع، وسعة الأفق، وحسن الأسلوب، وعرض الدين
(1)
انظر: المصنف لابن أبي شيبة (7/ 347)، والسيرة لابن هشام (4/ 253، 254)، والطبقات الكبرى لابن سعد (1/ 134)، والسيرة لابن حبان (292).
الإسلامي على الوجه الأكمل، الذي يجعل القلوب تميل إليه؛ لأنه دين الفطرة.
كذلك ـ أيضاً ـ مما يتصل بالدعوة حماية الإسلام، بالدفاع عنه بكل ما يستطيع، أولاً: بمنع ما ينقص الإسلام أو ينقضه، وذلك بمنع الحرب التي تقام بين حين وآخر، إن صح أن أقول: بين حين وآخر؛ لأن الصواب أن الحرب قائمة بين الإسلام والكفر منذ بدأ الإسلام.
والحرب التي حورب بها الإسلام تنقسم إلى قسمين: حرب مادية بالسلاح والعتاد، وهذا لا أعتقد أن أحداً من المسلمين يتقاعس عنه، بل لو رأوا العدو يأتي الأرض ينقصها من أطرافها، لقاموا إليه وعرفوا عداوته، وهذا واجب على الإمام والخليفة أن يكوِّن جيشاً قادراً على دفاع العدو بقدر المستطاع؛ لقوله تعالى:{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60].
وهناك حرب بسلاح أخفى وأنكى وأشد، وهي الحرب في الفكر والعقيدة والأخلاق، في الفكر يغزون المسلمين بأفكار هدامة يأخذونها، إما من ملحدين، وإما من منافقين.
في العقيدة ـ أيضاً ـ هناك عقائد تنتمي إلى الإسلام غير الأفكار التي ترد من الملاحدة والزنادقة، عقائد منحرفة كما ذكرها شيخ الإسلام في العقيدة الواسطية في الأصول الخمسة التي كان أهل السنة وسطاً فيها بين طوائف هذه الأمة، فلا بد أن تحارب هذه العقائد الفاسدة.
الحرب بالأخلاق هذا ـ أيضاً ـ صعب؛ لأن النفوس ميالة
إلى ما تدعو إليه هذه الفئة، التي تسلِّط شررها ـ ولا أقول: أضواءها ـ على أهل المروءة والأخلاق العالية؛ لتهدم مروءتهم وأخلاقهم، ويتمثل هذا في وسائل الإعلام المرئية والمقروءة والمسموعة، ولذلك تجد أعداء المسلمين يغزون المسلمين بمثل هذا، تأمَّل صحفهم، تأمَّل إذاعاتهم، وتأمَّل ـ أيضاً ـ ما ينشرونه بين المسلمين من المجلات التي فيها أزياء، لا أقول: إنها جديدة على أزيائنا، واستعمالها مخالف لعاداتنا، ولكني أقول: إنها أحياناً تخالف اللباس الشرعي، فيجب أن يحمى الإسلام من هذه الأشياء.
هناك ـ أيضاً ـ شيء آخر يغزون المسلمين به وهو الاكتساب، بحيث يغرون الناس على الميسر والربا وغير ذلك، بطرق كثيرة، فيدخل في حماية الدين الإسلامي أن نبين هذا القسم الثاني، الذي هو حرب الفكر والعقيدة والأخلاق والمعاملات، وذلك بأن نبين فساد هذه الأشياء؛ لأن بيان فسادها كسر لهذه الأسلحة، ثم نأتي بما هو أحسن منها فيما جاء به الإسلام؛ لأن كوننا نهاجم هذه الأسلحة بدون ذكر البديل خطأ؛ لأن الناس يقولون: أين البديل؟ ولهذا جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية ما يرشد إلى هذه الطريق، وهي أنك إذا أبطلت منكراً فاذكر ما يحل محله من المعروف، قال الله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا} ، هذا منكر، والبديل:{وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا} [البقرة: 104]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمن جاءه بالتمر الجيد الذي كان يأخذ الصاع منه بالصاعين، والصاعين بالثلاثة ـ
قال: «لا تفعل» ، وفي رواية:«عينُ الربا»
(1)
رده، ثم أرشده قال: بع التمر الجمع ـ أي: الرديء ـ بالدراهم، ثم اشتر «بالدراهم جنيباً»
(2)
ـ يعني تمراً طيباً ـ فهكذا ينبغي للداعية إذا سد على الناس باب الشر أن يفتح بدله من أبواب الخير، حتى لا يقع الناس في حيرة.
كذلك ـ أيضاً ـ مما يتصل بالدعوة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بأن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، هذا من وظيفة الإمام، والمعروف كل ما أمر به الشرع، والمنكر كل ما نهى عنه الشرع، هذا هو الضابط، وسمي الأول معروفاً؛ لأن الشرع عرفه وأقره، والثاني منكراً؛ لأن الشرع أنكره، فإن لم يقم بذلك بنفسه وكله إلى من به الكفاية، فيكون نائباً عنه في ذلك، ولا يمكن أبداً أن تقوم الأمة الإسلامية، أو تتحد إلا بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، قال الله تعالى:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110]، وقال تعالى:{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ *} {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران: 104، 105].
(1)
أخرجه البخاري في الوكالة/ باب إذا باع الوكيل شيئاً فاسداً فبيعه مردود (2312)، ومسلم في المساقاة/ باب بيع الطعام مثلاً بمثل (1594) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(2)
أخرجه البخاري في البيوع/ باب إذا أراد بيع تمر بتمر خير منه (2201)(2202)، ومسلم في المساقاة/ باب بيع الطعام مثلاً بمثل (1593)(95) عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما.
فأشار بقوله: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا} ، بعد قوله:{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَةٌ} ، إلى أنه إذا لم يكن ذلك تَفرَّق الناس، وهذا واضح، فإذا لم يكن أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، كل واحد يسلك سبيلاً، حينئذ تتفرق الأمة، ولا يجمع الأمة إلا شريعة ربها عز وجل، وذلك لا يكون إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ولا بد أولاً: أن تكون الأمة أو الطائفة التي يقيمها الإمام للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لها علم بأن هذا معروف وهذا منكر، وتعلم ذلك عن طريق الشرع.
ثانياً: أن يكون لديها علم بأن هذا الرجل ترك المعروف أو فعل المنكر، فإن لم تعلم فإنه لا يجوز أن تنكر لا أمراً ولا نهياً، فلو أنك رأيت رجلاً يمشي مع امرأة في السوق فقلت له: ألا تخاف الله؟ تمشي مع الحريم بالسوق! فهذا لا يسوغ ولا يجوز! اسأله أولاً: من هذه المرأة؟ ما علاقتك بها؟ فإذا قال: هذه أختي، هذه أمي، هذه بنتي، كُفْ وانتهِ، اللهم إلا أن يكون هناك قرائن قوية تخالف ما ادعاه، فهذا شيء آخر، ولهذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام لا ينكر الشيء إلا بعد أن يعلم أنه منكر، ولما دخل رجل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة جلس، فهل قال له: قم صلِّ ركعتين؟ لا، بل قال:«أصليت؟» لأن فيه احتمالاً أنه صلى، والرسول صلى الله عليه وسلم ما رآه، فلما قال: لا، قال:«قم فصلِّ ركعتين»
(1)
.
(1)
أخرجه البخاري في الجمعة/ باب إذا رأى الإمام رجلاً وهو يخطب
…
(930)، ومسلم في الصلاة/ باب التحية والإمام يخطب (975) عن جابر رضي الله عنه.
ولو خرجت من المسجد ووجدت شخصاً يمشي في السوق، هل تقول له: تعالَ، أنت ما تخاف الله، الناس يصلون بالمسجد، وأنت تمشي بالأسواق! هذا خطأ، بل تقول: أصليت يا أخي؟ فإذا قال: ما صليت! جئت الآن من العمل، تقول: يا أخي الصلاة مهمة، وتنصحه بلطف.
ثالثاً: لا بد أن يكون عند الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر حكمة، بأن يدفع الأشر بالشر، والشر بالخير؛ لأن دفع الأشر بالشر أهون، يعني ارتكاب أدنى المفسدتين لدفع أعلاهما، وهذه قاعدة عند أهل العلم، مثل لو رأى رجلاً يشرب الدخان فنهاه عنه، فترك شرب الدخان وذهب يشرب خمراً، فهذا لو تُرك يشرب الدخان لكان أفضل من أن يشرب الخمر، فإذا علمت أنني إذا نهيته عن الدخان راح ليشرب الخمر، أتركُه يشرب الدخان، وإذا انتهى قلت له: هذا يا أخي حرام، ولا يجوز، ولعل الله أن يهديه، ولهذا يذكر أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لما دخل التتار الشام مرّ هو وصاحب له بقومٍ يشربون الخمر من التتار، ولم ينههم شيخ الإسلام، فقال له صاحبه في ذلك، فقال له: لو نهيناهم عن هذا تركوا الخمر، وراحوا يهتكون أعراض المسلمين؛ لأنهم قوم مفسدون، فدعهم يلهون بخمرهم التي هي عليهم ولا يتعدون، فانظر كيف الحكمة؟ فاستعمال الحكمة أمر ضروري للإنسان الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر.
رابعاً: استعمال الرفق، وهو ـ أيضاً ـ كمال للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، ومرّ رجل يهودي على النبي صلى الله عليه وسلم
وعنده عائشة رضي الله عنها، فقال: السام عليك يا محمد! فقالت عائشة رضي الله عنها غيرةً لله ورسوله صلى الله عليه وسلم: عليك السام واللعنة! فقال الرسول عليه الصلاة والسلام: «إن الله رفيقٌ يحب الرفق»
(1)
، وقال:«إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم»
(2)
، فإن كانوا قالوا: السلام فهو عليهم، وإن كانوا قالوا: السام فهو عليهم، هذا هو العدل، وقال:«إن الله رفيق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف»
(3)
، الله أكبر! غيرتنا تأبى إلا أن نعنف ونستعمل العنف، ونظن أن هذا هو الذي يحل المشكلة! ولكن الأعلم منا والأنصح محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ـ وهو صادق بار ـ:«إن الله يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف» .
ويذكر أن رجلاً مر على صاحب نخل وأذَّن المغرب، والعامل يغني على إبله؛ لأن الإبل تطرب للغناء فوقف عليه وقال: أما تستحي؟ كيف لا تصلي؟ فغضب العامل وشتمه، وقال له: لن أصلي، وصلاتي لي! فجاءه أحد العلماء ـ جزاه الله خيراً وغفر له ـ وكلمه بكلام لين هادئ، وقال: الصلاة خير من هذا
(1)
أخرجه البخاري في استتابة المرتدين/ باب إذا عرَّض الذمي وغيره بسب النبي صلى الله عليه وسلم
…
(6927) عن عائشة رضي الله عنها.
(2)
أخرجه البخاري في الاستئذان/ باب كيف يرد على أهل الذمة السلام (6258)، ومسلم في السلام/ باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب السلام
…
(2163) عن أنس رضي الله عنه.
(3)
أخرجه مسلم في البر والصلة والآداب/ باب فضل الرفق (2593) عن عائشة رضي الله عنها.
العمل، وأنت تصلي ـ إن شاء الله ـ وترجع إلى عملك، فقال له العامل: جزاك الله خيراً، أنت الوجه المبارك، فترك عمله وراح وصلى، فهذا شاهد واقعي يصدق ذلك، وإن كان قول الرسول صدقاً بلا تصديق؛ لأنه الصادق المصدوق، لكن الواقع يزيدك إيماناً بأن الرفق خير من العنف، لكن ـ الله يعفو عنا ـ فالحقيقة أننا أحياناً تأخذنا الغيرة، ونعجز أن نملك أنفسنا، فنعنف ونغضب وتتوتر أعصابنا، ولكن الأولى لنا أن نهدأ وننظر.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه»
(1)
مثال ذلك: رجل مر بصاحب عود يعزف به، فأول ما يجب عليه أن يكسره، فليغيره بيده، إذا لم يستطع فبلسانه، بمعنى أن يتكلم عند من يمكنه أن يكسره، فإن لم يستطع فبقلبه، يكرهه، وينكره، ولا يصاحبُ صاحبَه، وهذه المسألة تخفى على كثير من الناس، يظنون أنك إذا كرهت المنكر بقلبك فاجلس مع أهله! وهذا خطأ؛ لأن الله عز وجل يقول:{وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَئُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} ، ثم قال تعالى:{إِنَّكُمْ إِذًا} يعني إن قعدتم {مَثَلُهُمْ} [النساء: 140] فالمُنكِر بالقلب ما يقعد، وهل يُعقل أن إنساناً يكره شيئاً ويجلس عند من يفعله؟! ما يعقل أبداً.
هذه ثلاثة أمور: دعوة، وأمر، وتغيير، تشتبه على بعض
(1)
أخرجه مسلم في الإيمان/ باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان (49) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
طلبة العلم، يظنون أنها واحدة ولكنها مختلفة، فالدعوة عرض وترغيب وترهيب، والأمر توجيه الأمر أي: طلب الفعل، أو الكف على وجه الاستعلاء، والتغيير مباشرة إزالة المنكر باليد، فبينها فرق يجب على طالب العلم أن يعرفه؛ حتى لا تختلط عليه الأشياء.
وعلى الإمام أن يكون قائماً بالسياسة، وهي سلوك كل ما يصلح به الخلق، وهي إما داخلية، وإما خارجية.
أما الداخلية فأن يسوس رعيته بالعدل واجتناب الجَوْرِ، والعمل بالقرائن والبيِّنات وغير ذلك، فمثلاً لا يفرق بين القريب والبعيد، والغني والفقير، والشريف والوضيع، وما أشبه ذلك، إلا إذا اقتضت المصلحة أن يعفو ـ مثلاً ـ عن رجل له شرف وجاه، وهذا في غير الحدود، وأن يقيم التعزير على آخر مجرم يعتدي على الناس دائماً، ولا ينفع فيه أن يمن عليه بالعفو، ولهذا قال الله تعالى:{فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40] والسياسة انقسم الخلفاء فيها إلى ثلاثة أقسام:
قسم أخذ بسياسة الجور، وكان كلما قرأ أن هذا مما يصلح الناس عمل به ولو خالف الشرع، مثل أئمة الجور الذين يعتدون على الناس بالضرب والحبس في أمور بسيطة، لا يجيز الشرع أن يعزر فيها بهذا التعزير.
وقسم ثانٍ: أهمل السياسة نهائياً، ولم يعملوا بقرائن الأحوال، ولا عملوا بالمصالح العامة التي راعاها الشرع، فالأولون أفرطوا، وهؤلاء فرّطوا.
وقسم ثالث: أخذ بالسياسة، وهي رعاية المصالح التي لا تخالف الشرع، مع أننا نقول: لا يمكن لأي شيء يسمى مصالح أن يخالف الشرع، بل كل ما خالف الشرع فهو مفسدة، لكننا نقول ذلك من حيث يتراءى للناظر أن هذا مصلحة، ويخفى عليه أنها داخلة في الشرع.
فالسياسة الداخلية يجب على الإمام أو الخليفة أن ينظر إلى ما فيه المصلحة فيتبعه.
أما السياسة الخارجية فهي معاملة غير المسلمين، وله معهم مقامات أربعة: عهد، وأمان، وذمة، وحرب.
أولاً: الحربيون وأمرهم ظاهر، يجب عليه أن يقاتلهم حتى يكون الدين لله عز وجل، بأن يسلموا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، ولا فرق في ذلك على القول الراجح بين أهل الكتاب وغيرهم، فأما قوله تعالى:{قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29]، فإن هذا لا يمنع أن يتعدى الحكم إلى غيرهم، لا سيما أنه قد ثبت في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر
(1)
، وثبت في صحيح مسلم
(2)
أن
(1)
أخرجه البخاري في الجزية/ باب الجزية والموادعة (3157) عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه.
(2)
أخرجه مسلم في الجهاد/ باب تأمير الإمام الأمراء على الجيوش (1731) عن بريدة رضي الله عنه.
الرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا أمّر أميراً على جيش أو سرية أوصاه بمن معه من المسلمين خيراً، وذكر الحديث، وفيه أنه إذا لقي عدوه دعاه إلى الإسلام، فإن أبى أخذ منه الجزية، فإن أبى قاتله، وهذا عام، بل قال صلى الله عليه وسلم:«إذا لقيت عدوك من المشركين» ، وهذا هو الصحيح أن الجزية تؤخذ من كل كافر، فصار الحربيون ما لنا معهم إلا حالان: القتال، أو الاستسلام للجزية، إلا إذا أسلموا.
ثانياً: المعاهدون، وهم الذين نعقد بيننا وبينهم عهداً أن لا يعتدوا علينا، ولا نعتدي عليهم، وأن لا يعينوا علينا ولا نعين عليهم، وهؤلاء لا يخلو أمرهم من ثلاث حالات:
الأولى: أن يستقيموا على العهد وينفذوه تماماً، وفي هذه الحال يجب علينا أن نستقيم لهم؛ لقوله تعالى:{إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُّمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 7]، والوفاء بعهدهم لا شك أنه من محاسن الإسلام.
الثانية: أن يخونوا وينقضوا العهد، وفي هذه الحال يكونون حربيين، يعني ينتقض عهدهم، ودليل ذلك ما جرى لقريش حين عاهدهم النبي صلى الله عليه وسلم في الحديبية، ومن جملة شروط العهد أن لا يعينوا عليه وعلى حلفائه أحداً، فنقضوا العهد بأن أعانوا حلفاءهم على حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم
(1)
.
الثالثة: أن لا ينقضوا العهد، ولكننا لا نأمنهم، ونخاف
(1)
انظر: تفسير الطبري (10/ 91) ط. دار إحياء، وتفسير ابن كثير (2/ 339) ط. دار الفكر.
منهم نقض العهد، فهؤلاء نعاملهم معاملة وسطاً، بأن ننبذ إليهم عهدهم، فنقول: ليس بيننا وبينكم عهد، والعهد الذي بيننا وبينكم مفسوخ منبوذ، ودليل ذلك قوله تعالى:{وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ *} [الأنفال: 58].
ثالثاً: أهل الذمة، وهم الذين عقدنا لهم الذمة التي تتضمن حمايتهم وإعطاءهم حقوقهم الشرعية على أن يبذلوا لنا الجزية، وهي شيء يجعله الإمام على كل واحد منهم، وتفصيلها معروف في كتب الفقه، فهؤلاء يجب علينا نحوهم أن نعطيهم كل الحق الذي يقتضيه عقد الذمة.
رابعاً: المستأمنون الذين طلبوا الأمان على أنفسهم وعلى أموالهم لمدة معينة، فهؤلاء دون المعاهدين، ودون أهل الذمة، وفوق الحربيين، ولهذا يصح الأمان حتى من غير الإمام؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام:«قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ»
(1)
، فيمكن لأي واحد من الناس أن يدخل أحداً من الكفار إلى بلاد الإسلام بأمان، وما دام مُؤمِّناً له فإنه لا يجوز لأحد أن يعتدي عليه، ودليل هذا قوله تبارك وتعالى:{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة: 6].
والمهم أن الإمام يقوم بهذه الأمور الأربعة: العلم، والعمل، والدعوة، والسياسة.
(1)
أخرجه البخاري في الصلاة/ باب الصلاة في الثوب الواحد ملتحفاً به
…
(357)، ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها/ باب تستر المغتسل بثوب ونحوه (336) عن أم هانئ رضي الله عنها.
ويكون نصب الإمام بواحد من أمور ثلاثة، إما أن يعهد به الخليفة السابق، وإما أن يجتمع عليه أهل الحلِّ والعقد، وإما أن يأخذ ذلك بالقوة والقهر.
مثال الأول: عهد أبي بكر رضي الله عنه إلى عمر رضي الله عنه بالخلافة
(1)
، فإذا قال قائل: من خلّف أبا بكر رضي الله عنه؟
نقول: خلّف أبا بكر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، ولكن يشكل على هذا أن يقول قائل: أين النص من الرسول عليه الصلاة والسلام؟ وهل قال لأبي بكر: أنت خليفتي على أمتي بهذا اللفظ؟ لا، لكن قال بعضهم: خلّفه بالإشارة، يعني فعل أفعالاً تشير إلى أنه الخليفة من بعده، وقال آخرون: بل ثبتت خلافته بإجماع أهل الحل والعقد؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على ذلك.
والصحيح أن خلافته ثبتت بالنص إما صريحاً، وإما إيماء وإشارة.
أولاً: خلّف النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر إماماً للناس في مرض موته في الصلاة، حتى أنه لما دعوا عمر رضي الله عنه غضب، وقال:«إنكن صواحبات يوسف» ، يعني زوجاته اللاتي دعون عمر، ثم أمر أن يدعى أبو بكر، فجاء فخلّفه على أمته في الصلاة
(2)
.
(1)
أخرجه البخاري في الأحكام/ باب الاستخلاف (7218)، ومسلم في الإمارة/ باب الاستخلاف وتركه (1823) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
(2)
أخرجه البخاري في الأذان/ باب حدِّ المريض أن يشهد الجماعة (664) ومسلم في الصلاة/ باب استخلاف الإمام إذا عرض له عذر
…
(418) عن عائشة رضي الله عنها.
ثانياً: خلّفه على الناس أميراً في الحج في السنة التاسعة من الهجرة
(1)
؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحج، وهذه إمامة أكبر من الإمامة الأولى وأوسع؛ لأنها إمامة لجميع المسلمين، كل من حج، ومعلوم أن الذين حجوا أكثر من الذين يصلون في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه إشارة إلى أنه الخليفة من بعده.
ثالثاً: قال في مرض موته: «لا يبقين في المسجد باب إلا سُدَّ، إلا باب أبي بكر»
(2)
، إشارةً إلى أنه الخليفة من بعده؛ ليكون بيته قريباً من المسجد الذي هو مثابة الناس.
رابعاً: أن امرأة أتته في حاجة لها فقال: «إيتيني في العام المقبل» ، فقالت: إن لم أجدك، قال:«إيتي أبا بكر»
(3)
، وهذا كالنص الصريح على أنه الخليفة من بعده.
خامساً: أنه قال صلى الله عليه وسلم: «يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر»
(4)
(1)
أخرجه البخاري في الحج/ باب لا يطوف بالبيت عريان ولا يحج مشرك (1622)، ومسلم في الحج/ باب لا يحج البيت مشرك ولا يطوف بالبيت عريان
…
(1347).
(2)
أخرجه البخاري في الصلاة/ باب الخوخة والممر في المسجد (466)، ومسلم في فضائل الصحابة/ باب من فضائل أبي بكر رضي الله عنه (2382) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، واللفظ للبخاري.
(3)
أخرجه البخاري في المناقب/ باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لو كنت متخذاً خليلاً» (3659)، ومسلم في فضائل الصحابة/ باب من فضائل أبي بكر رضي الله عنه (2386) عن جبير بن مطعم رضي الله عنه.
(4)
أخرجه البخاري في المرض/ باب قول المريض إني وجع
…
(5666)، ومسلم في فضائل الصحابة/ باب من فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه (2378) عن عائشة رضي الله عنه، وهذا لفظ مسلم.
وهذا نص أو شبه نص على أنه سيكون الإجماع عليه، وعلى هذا فنقول: إن خلافة أبي بكر ثبتت بنص إيمائي أو صريح، حسب ما يفهمه العلماء من هذه النصوص.
فإن قال قائل: هذه النصوص يهدمها نص واحد، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم خلّف علي بن أبي طالب رضي الله عنه على أهله حين غزا تبوكاً، فقال: يا رسول الله تجعلني في النساء والصبيان؟ قال له: «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي»
(1)
؟ وقد قال موسى لهارون: {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ} [الأعراف: 142]، وهذا يدل على أن الخليفة بعد الرسول عليه الصلاة والسلام هو علي بن أبي طالب، وأن أبا بكر رضي الله عنه ليس الخليفة.
فالجواب على هذا أن نقول: هذا نص من النصوص المتشابهة، والأدلة التي ذكرناها لأبي بكر من النصوص المحكمة، وأهل العلم الراسخون فيه، يردون المتشابه إلى المحكم؛ لتكون النصوص كلها محكمة، ولا يتبع المتشابه ويعرض عن المحكم إلا من كان في قلبه زيغ؛ لقول الله تعالى:{فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران: 7].
فإذا قال قائل: كيف نزيل مشتبه هذا الحديث؟
(1)
أخرجه البخاري في المناقب/ باب مناقب علي بن أبي طالب القرشي
…
(3706)، ومسلم في فضائل الصحابة/ باب من فضائل علي بن أبي طالب (2404) عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، واللفظ للبخاري.
فالجواب: أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يصرح بأن علياً هو الخليفة من بعده، بل قال:«أنت مني بمنزلة هارون من موسى» ، حين خلّفه على أهله، كما خلف موسى هارون على قومه في حياته، وهذا كالاستنابة والوكالة، يعني كما لو غاب إنسان إلى بلد، وقال لشخص آخر: اخلفني في أهلي، اقضِ حوائجهم، فإن هذا لا يعني أنه وصيٌّ من بعده، وإنما يدل على أنه نائبه في حياته لمدة محدودة، أما الخلافة فإنها تكون بعد موت الأول نهائياً ومفارقته الدنيا، ولا يمكنه أن يعزل الخليفة من بعده؛ لأنه ميت، أما هذا فيمكن أن يعزله، فيرسل له ويقول: رفعتُ خلافتك على أهلي.
وإذا ثبتت خلافة أبي بكر ثبتت خلافة عمر، وإذا ثبتت خلافة عمر ثبتت خلافة عثمان رضي الله عنهم، ولذلك فالرافضة لا يقرون بخلافة أبي بكر؛ لأجل أن يهدموا خلافته، وخلافة عمر، وخلافة عثمان، وينتهوا إلى خليفة لم يُخلَّف، إلى خليفة هو بنفسه رضي الله عنه بايع أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، وكان يقول رضي الله عنه:«إن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر»
(1)
.
إذاً تثبت الخلافة بالنص، يعني نص الخليفة الأول على أن الخليفة بعده فلان.
(1)
أخرجه البخاري في المناقب/ باب قوله النبي صلى الله عليه وسلم: «لو كنت متخذاً خليلاً» (3671) عن محمد بن الحنفية، ولفظه:«قلت لأبي: أي الناس خير بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أبو بكر، قلت: ثم من؟ قال: ثم عمر، وخشيت أن يقول: عثمان، فقلت: ثم أنت؟ قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين» .
الثاني: اجتماع أهل الحل والعقد، وهذا له صورتان:
الأولى: أن يعين الخليفةُ السابقُ أهلَ الحلِّ والعقدِ، فيقول مثلاً: فلان وفلان وفلان وفلان يتشاورون في الخليفة، كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فإن عمر انتخب من الصحابة الستة الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راضٍ
(1)
، وجعل الخلافة دائرةً بينهم على أن يختاروا لأنفسهم من يختارونه من هؤلاء.
الثانية: أن يدع الخليفة الوصية بالخلافة لأحد، يعني لا يوصي لأحد بالخلافة، ولكن الناس بعده يجتمعون ويولون خليفة، وهذا جائز؛ لأن الأمر يرجع إلى الناس، فإذا اختاروا أحداً من بينهم يكون خليفة عليهم تمت خلافته.
الثالث: القهر، فإذا قهر إنسان خليفةً واستولى عليه وقتله أو حبسه، وزالت خلافته نهائياً، واستولى هذا على الخلافة صار خليفةً، ووجب على الناس أن يبايعوه ويطيعوه؛ لأنهم لو نابذوه في تلك الحال لحصل بذلك من الشر والفساد، وسفك الدماء، وانتهاك الأعراض ما يربو على مبايعة هذا الرجل.
والإمام أو الخليفة عليه مسؤوليات عظيمة؛ لأنه مسؤول عن كل من ولاه الله عليهم في جميع أحوالهم العامة، أما الأحوال الخاصة فهذه ليست إليه، اللَّهم إلا إذا كانت من الأمور التي لا بد من النظر فيها كالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. ومن
(1)
أخرجه البخاري في فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم/ باب قصة البيعة والاتفاق على عثمان بن عفان رضي الله عنه (3700).
مسؤوليات الإمام العظيمة ما ذكره المؤلف رحمه الله تعالى بقوله:
«أن ينصب في كل إقليم قاضياً» فيلزم الإمام أن ينصب في كل إقليم قاضياً، والأقاليم في الدنيا كلها سبعة، فيجب عليه أن ينصب في الدنيا كلها سبعة قضاة، في كل إقليم قاضٍ، والناس الآن يريدون في كل حي قاضياً! ولكن هؤلاء القضاة يجب أن يجعلوا لهم نواباً بمقدار الحاجة.
والعلماء ذهبوا هذا المذهب؛ لئلا تكون المسألة مركزية، ترجع إلى أصل واحد؛ لأن رجوعها إلى أصل واحد لا سيما في ذلك الزمن متعب وشاق، قالوا: فنجعل في كل إقليم قاضياً، هذا القاضي يجعل له نواباً في كل مدينة، أو في كل قرية، حسب الحاجة، فمثلاً إذا قدرنا أن الإقليم واسع، قد يحتاج إلى عشرة نواب، أو عشرين نائباً يرجعون إلى القاضي الإقليمي، والقاضي الإقليمي إن جرى مشكل يرفعه إلى الإمام؛ لأنه المسؤول، فحينئذ يزول الإشكال؛ لأننا لو قلنا: إنه لا يجب أن ينصب في كل إقليم إلا قاضياً ضاعت المصالح، لا سيما في الزمن الأول، فإذا كان بين اثنين خصومة، وكان بينهما وبين القاضي الإقليمي مسيرة شهر، لاحتاجوا إلى شهرين، وربما إذا وصلوا إليه وجدوه مشغولاً بقضايا قبلهما، انتظرا، ثم إذا كان الشهود فيهم نظر، وطلب تعديلهم، يرجعان شهراً يبحثان عمن يزكيهم في بلادهم؛ لأنهم في البلاد الأخرى لا يُعرفون، وهكذا، لكنهم قالوا: إنه يجب على هؤلاء القضاة الإقليميين أن يجعلوا لهم نواباً في كل قرية.
وعمل الناس الآن يشبه هذا في الواقع، فهناك مثلاً فروع لوزارة العدل في كل منطقة، يرجع إليها، وهناك محاكم وكل محكمة لها رئيس، وهناك محكمة كبرى ومحكمة مستعجلة صغرى.
وَيُختَارَ أَفْضَلَ مَنْ يَجِدُهُ عِلْماً، وَوَرَعاً، وَيَأْمُرُهُ بِتَقْوَى اللهِ، وَأَنْ يَتَحَرَّى الْعَدْلَ، وَيَجْتَهِدَ فِي إقَامَتِهِ فَيَقُولُ: وَلَّيْتُكَ الْحُكْمَ، أَوْ قَلَّدْتُكَ وَنَحْوَهُ، وَيُكَاتِبُهُ فِي الْبُعْدِ،
.....
قوله: «ويختار» بالنصب، يعني ويلزمه أن يختار.
قوله: «أفضل من يجده علماً» أي: بالأحكام الشرعية، بل نقول: بالأحكام الشرعية وبأحوال الناس، بل ولنا أن نزيد الذكاء والفراسة؛ لأن الذكاء والفراسة مهمان في مسألة القضاء؛ لأن الناس فيهم المحق وفيهم المبطل، وفيهم من يعجز عن التعبير، وفيهم من هو فصيح بليغ، فيضيع الحق إذا لم يكن عند القاضي علمٌ بأحوال الناس، وفراسةٌ وذكاء، ولا يخفى ما في قصة سليمان وداود عليهما السلام في المرأتين اللتين خرجتا إلى البر ومعهما ابنان لهما، فأكل الذئب ابن الكبيرة، فجاءتا إلى داود عليه الصلاة والسلام تحتكمان إليه، فحكم بالابن للكبيرة، لعله ظن عليه الصلاة والسلام أنها أقرب إلى الصدق، أو قال: هذه صغيرة يمكن أن تلد فيما بعد، وهذه كبيرة قد تتوقف عن الولادة وهي أحق بالشفقة، ثم خرجتا من عنده وصادفهما سليمان عليه الصلاة والسلام وسألهما فقالتا: كذا وكذا، فقال: لا، الحكم أن آتي بالسكين فأشقه نصفين فتأخذ الكبيرة نصفه، والصغيرة نصفه، فقالت الكبيرة: لا مانع، وأما الصغيرة فقالت له: يا رسول الله لا تشقه هو لها، فالفراسة تقضي أنه للصغيرة، والدليل الحنان والشفقة فحكم به
للصغيرة
(1)
، وقصص الذكاء في القضاة كثيرة، ذكر ابن القيم رحمه الله في الطرق الحكمية جملةً صالحة منها في أقضية القضاة.
قوله: «وورعاً» الورع والزهد كلاهما ترك، لكن الورع ترك ما يضر في الآخرة، والزهد ترك ما لا ينفع في الآخرة، وبينهما فرق، فالورع أن يدع الإنسان كل ما يضره، فلا يأكل ما لا ينبغي بحق، ولا يظلم أحداً، ولا يضيع شيئاً من عمله، وما أشبه ذلك، والزهد ترك ما لا ينفع، فيدع المباحات من أجل أن يرتقي إلى الكمالات، وعلى هذا فيكون الزهد أعلى من الورع، يعني مقام الزهد أعلى من مقام الورع؛ لأن الزهد ترك ما لا ينفع، مثال ذلك لدينا ثلاث حالات:
الأولى: رجل يأكل الحرام.
الثانية: رجل لا يأكل الحرام، لكنه لا يتورع من الأشياء التي ليس فيها خير ولا ضرر.
الثالث: رجل يدع كل شيء لا نفع فيه فلا يأكله.
فالأول ليس فيه ورع ولا زهد، والثاني فيه ورع لا زهد، والثالث فيه ورع وزهد؛ لأن من زهد فيما لا ينفع كان لتركه ما يضر من باب أولى، والشيء الذي يجب أن يكون في القاضي أن يكون ورعاً، أما الزهد فهو من الكمال، وأما الورع فإنه لا بد
(1)
أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء/ باب {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأَيْدِ} (3427)، ومسلم في الأقضية/ باب اختلاف المجتهدين (1720) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
منه، فلا بد أن يكون القاضي ورعاً ـ أي: بعيداً عن أكل الحرام ـ كالرِّشوة، والمحاباة، وما أشبه ذلك.
وقوله: «علماً وورعاً» إكمالٌ لركني الولاية، بل لركني كل عمل، وهما: القوة، والأمانة؛ لأن جميع الأعمال تنبني على هذين الركنين: القوة على أداء العمل، والأمانة في أداء العمل، قال الله تبارك وتعالى:{إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص: 26]، وقال:{قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ *} [النمل] وفي تقديم القوة على الأمانة دليل على أنها أهم من الأمانة؛ لأنه كم من إنسان أمين ولا يخشى منه الخيانة أبداً، لكنه ضعيف لا ينتج ولا يثمر، وكم من إنسان قوي في أداء عمله لكنه ضعيف في أمانته، فالثاني أحسن لإقامة العمل، ولهذا تجد كثيراً من الناس الذين لديهم قوة وحزم وتصرف، تجدهم ينتجون من الأعمال أكثر بكثير من قوم ضعفاء، وعندهم أمانة، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام لأبي ذر:«إني أراك ضعيفاً، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمَّرَنَّ على اثنين، ولا تولين مال يتيم»
(1)
، فالإنسان لا بد أن يكون قوياً، وأن يكون أميناً، ولهذا بدأ المؤلف هنا بالعلم؛ لأن به القوة على القضاء، ثم ثنَّى بالورع الذي هو الأمانة فقال:
«ويأمرُهُ بتقوى الله» «يأمرُهُ» بالضم على الاستئناف؛ لأنه لا يجب عليه أن يأمره، ولكنه ينبغي له أن يأمر القاضي بتقوى الله
(1)
أخرجه مسلم في الإمارة/ باب كراهة الإمارة بغير ضرورة (1826) عن أبي ذر رضي الله عنه.
عز وجل؛ لأن تقوى الله وصية الله سبحانه وتعالى للأولين والآخرين: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء: 131]؛ ولأن في تقوى القاضي لله عز وجل تيسيراً لأمره، وتسهيلاً لمهمته، لقوله تعالى:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق]؛ ولأن في تقوى القاضي لله عز وجل سبباً لمعرفة الحق، ومعرفة المحق لقول الله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ *} [الأنفال] والقاضي محتاج إلى ذلك، ولأن في تقوى القاضي لله عز وجل سبباً لأن يجعل الله له من كل همٍّ فرجاً، قال تعالى:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2، 3] فمن ثَمَّ قلنا: إنه ينبغي للإمام أن يكتب في تسطير التولية، أو أن يصدر وثيقة التولية بالأمر بتقوى الله عز وجل.
قوله: «وأن يتحرى العدل» تحري العدل من تقوى الله عز وجل، لكن عطفه على التقوى من باب عطف الخاص على العام؛ لأهمية العدل في باب الحكومة؛ لقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58].
قوله: «ويجتهدَ في إقامته» لأنه ليس كل من تحرى العدل وعرف العدل يقيم العدل، إذاً يأمره بأمرين: الأول: تحري العدل، الثاني: الاجتهاد في إقامته.
والعدل يشمل أمرين: العدل في الحكم، والعدل في المحكوم عليه.
أولاً: العدل في الحكم بأن يحكم بما تقتضيه شريعة الله؛ لأن كل ما تقتضيه شريعة الله فهو عدل بلا شك، وبناء على ذلك يرفض جميع الأحكام القانونية التي تخالف شريعة الله، مهما كانت قوتها، فإنه يجب على القاضي رفضها وطرحها؛ لأنه خلاف العدل، فكل ما خالف شرع الله فإنه خلاف العدل.
ثانياً: العدل في المحكوم عليه، بأن لا يفرق بين صغير وكبير، وشريف ووضيع، وغني وفقير، وقريب وبعيد، وسيأتينا ـ إن شاء الله تعالى ـ بيان أنه يجب أن يعدل بين الخصمين في لحظه، ولفظه، ومجلسه، ودخولهما عليه، فلا يكون القاضي ممن إذا رفعت إليه قضية تتعلق بأحد من أقاربه حاول أن يتخلص من الحكم عليه، وإذا رفعت إليه قضية تتعلق بأحد ممن بينه وبينهم عداوة شخصية حاول أن يحكم بها عليه، فإن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم حين رفع إليه أمر المخزومية التي كانت تستعير المتاع وتجحده، أمر بقطع يدها، والمخزومية من بني مخزوم من أشراف قريش، فأَهَمَّ قريشاً شأنها، وقالوا: كيف تقطع يد امرأة من بني مخزوم، وتصبح أمام الناس عاراً؟! فطلبوا من يشفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فاستقر رأيهم على ندب أسامة بن زيد، فانتدب لذلك وطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يرفع الحكم عنها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:«أتشفع في حد من حدود الله» ؟! والاستفهام هنا للإنكار، فأنكر، وأشار إلى العلة، أنكر في قوله:«أتشفع؟» ، وأشار إلى العلة في قوله:«في حد من حدود الله» ، كأنه يقول: أنا لا أملك أن أغير حدّاً من حدود الله، فلا شفاعة في حد من حدود الله؛ لأن الحكم كله لله عز وجل،
ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم فخطب وقال: «أيها الناس إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الوضيع أقاموا عليه الحد، وأيم الله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها»
(1)
، اللهم صل وسلم عليه، أقسم وهو الصادق البار بدون قسم لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع يدها، مع أنها سيدة نساء أهل الجنة، وأفضل النساء نسباً، وذكر فاطمة رضي الله عنها دون غيرها؛ لأن القضية في امرأة.
ثم بيَّن المؤلف صيغة التولية فقال:
«فيقول» أي: الإمام، أو من ينيبه الإمام، كوزير العدل ـ مثلاً ـ في زمننا هذا.
قوله: «ولَّيتك الحكم، أو قلدتك، ونحوه» أي: ما يشبهه مما يدل على التولية، فلو قال مثلاً: نصبتك قاضياً في المكان الفلاني، انعقدت الولاية، ولو قال: جعلتك حاكماً في البلد الفلاني، كذلك؛ وذلك لأن العبرة بالمعاني لا بالألفاظ، فالألفاظ جُعلت قوالب للمعاني، فكل ما دل على المعنى فهو مما تنعقد به العقود، وليس هناك لفظ يتعبد به، بحيث لا يجزئ الناس إلا العقد به، حتى النكاح على القول الصحيح، فكل لفظ يدل على العقد فإن العقد ينعقد به.
قوله: «ويكاتبه في البعد» يعني إذا كان بعيداً يكتب إليه
(1)
أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء/ باب {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ}
…
(3475)، ومسلم في الحدود/ باب قطع السارق الشريف وغيره
…
(1688) عن عائشة رضي الله عنها.
بالولاية: «من فلان إلى فلان، السلام عليكم ورحمة الله وبعد، فقد وليتك كذا وكذا» ، والبرقية تقوم مقام الكتابة، والهاتف يقوم مقام اللفظ؛ لأنه يشافهه مشافهة.
واستفدنا من قول المؤلف: «يكاتبه في البعد» أنه لا يحتاج الإمام أن يُشهد على تولية القاضي، ولكن لا بد أن نعلم بأن هذا صادر من الإمام، ونعلم ذلك إما بالختم، أو التوقيع المعروف، أو ما أشبه ذلك.
إذاً ينعقد القضاء باللفظ والكتابة، واللفظ ليس له لفظ محدد شرعاً، بل كل ما دل على التولية فإنه تثبت به الولاية، أما الكتابة فيكتب له بما يدل على التولية.
والمؤلف رحمه الله هنا لم يذكر أنه يشترط فيها الإشهاد، وستأتي المسألة ـ إن شاء الله تعالى ـ في باب كتاب القاضي إلى القاضي، هل يشترط الإشهاد أو لا؟ والصحيح أنه لا يشترط، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكتب الكتب إلى الملوك والرؤساء ولا يشهد شاهدين.
ثم انتقل المؤلف إلى بيان ما تفيده ولاية الحكم فقال:
وَتُفِيدُ وِلَايَةُ الْحُكْمِ الْعَامَّةُ الْفَصْلَ بَيْنَ الْخُصُومِ، وَأَخْذَ الْحَقِّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ، وَالنَّظَرَ فِي أَمْوَالِ غَيْرِ الْمُرْشِدِينَ، وَالْحَجْرَ عَلَى مَنْ يَسْتَوْجِبُهُ لِسَفَهٍ أَوْ فَلَسٍ، وَالنَّظَرَ فِي وُقُوفِ عَمَلِهِ لِيَعْمَلَ بِشَرْطِهَا، وَتَنْفِيذَ الْوَصَايَا، وَتَزْوِيجَ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهَا، وَإِقَامَةَ الْحُدُودِ، وَإِمَامَةَ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدِ، وَالنَّظَرَ فِ
ي مَصَالِحِ عَمَلِهِ، بِكَفِّ الأَذَى عَنِ الطُّرُقَاتِ، وَأَفْنِيَتِهَا، وَنَحْوِهِ،.0 .........
«وتفيد ولاية الحكم العامة» احترز بقوله: «العامة» من الخاصة، فإن الخاصة تختص بما خصصت به، لكن العامة تفيد أولاً:
قوله: «الفصل بين الخصوم» ، و «الخصوم» جمع خصم، والمراد المتخاصمون، سواء كانوا اثنين أو أكثر.
والفصل بينهما أي التمييز بينهما، بأن الحق لفلان على فلان.
ثانياً: قوله: «وأخذ الحق لبعضهم من بعض» فالذي يتولى التنفيذ هو القاضي، فيجبر المحكوم عليه بأن ينفذ الحكم، هذا من مسؤوليات القاضي في عهد المؤلف رحمه الله ومن سبقه، لكن في عهدنا صار التنفيذ للأمير، القاضي يفصل ويبين، وأما الذي ينفذ فهو الأمير، ثم أظنها الآن تحولت إلى الشرطة.
ثالثاً: قوله: «والنظر في أموال غير المرشدين» وغير المرشدين، إما لصغرهم أو جنونهم، أو سفههم؛ لأن الرشد يتضمن ثلاثة أمور: البلوغ، والعقل، وحسن التصرف، فغير المرشد إما الصغير، وإما المجنون، وإما السفيه الذي لا يحسن التصرف في ماله، فالذي ينظر في ماله هو القاضي.
رابعاً: قوله: «والحجر على من يستوجبه لسفه، أو فلس» الحجر هو منع الإنسان من التصرف في ماله، وأشار المؤلف بقوله:«سفه أو فلس» إلى أن الحجر نوعان: حجر لسفه، وحجر لفلس، أما السفه فهو عدم الرشد، وأما الفلس فهو أن تكون ديون الإنسان أكثر مما عنده من المال، فإذا كان الإنسان مديناً وديونه أكثر من ماله، فإنه يحجر عليه لفلس، والفرق بينهما: أن الحجر للسفه لا يتصرف المحجور عليه لا في ماله ولا في ذمته، والحجر للفلس يتصرف في ذمته لا في ماله.
فمن لم يكن رشيداً فهو سفيه، فلا يصح تصرفه لا في ماله ولا في ذمته، يعني لا يصح أن يبيع شيئاً من ماله، ولا أن يشتري
شيئاً في ذمته، كأن يشتري من شخص سلعة، ويقول: الثمن في الذمة، فهذا محجور عليه في ذمته وماله.
والذي لفلس محجور عليه في ماله لا في ذمته، فلا يصح أن يتصرف في أعيان ماله، أما في ذمته بأن يشتري شيئاً بثمن مؤجل يحل بعد فك الحجر عنه، فإن هذا جائز ولا بأس به.
خامساً: قوله: «والنظر في وقوف عمله ليعمل بشرطها» «وقوف» جمع وقف، والوقف هو المال الذي حُبِس أصله وسبِّلت ثمرته ومَغله، مثاله: رجل قال: وقفت هذا البيت على الفقراء، فأصله محبوس ما يمكن أن يباع، وثمرته مسبَّلة تكون للفقراء يتصرفون فيها كما شاؤوا إذا ملكوها.
وقوله: «في وقوف عمله» المراد بعمل القاضي المكان الذي فيه ولايته، ولنفرض أنه قاضٍ في المدينة، فعمله ومحل ولايته المدينة، فينظر في أوقاف المدينة ليعمل بشرطها، سواء كانت هذه الأوقاف خاصة أم عامة، فالخاصة كما لو قال: هذا وقف على ذريته، والناظر فلان ومن بعده القاضي، فإذا مات الناظر الأول صار النظر للقاضي.
والعام مثل أن يقول: هذا وقف على المساجد، فالناظر القاضي، وله الحق أن يطلع على تصرف الناظر؛ لينظر هل هو يعمل بالشرط أو لا يعمل به؟ لأنه ليس كل ناظر على وقف يؤدي الأمانة، قد يخون، ويصرف الوقف إلى غير ما شرط له، فلهذا نقول: إن القاضي له النظر في الوقوف ليعمل بشرطها.
سادساً: قوله: «وتنفيذ الوصايا» كأن يوصي شخص بعشرة
آلاف بعد موته يُبنى بها مسجد، فالذي ينظر في التنفيذ القاضي، إلا إذا كان لها وصي خاص، فالوصي الخاص هو الذي ينظر.
سابعاً: قوله: «وتزويج من لا ولي لها» أي: من النساء، أو لها ولي ليس أهلاً للولاية.
مثال الأول: امرأة ليس لها إلا أخوالها وإخوانها من الأم، وليس لها إخوان أشقاء، ولا لأب، ولا أعمام، ولا بنو أعمام، فالذي يزوجها القاضي؛ لأنها ليس لها ولي.
مثال الثاني: أن يكون لها عم، أو أخ لكن لا يصلي، فالذي لا يصلي ليس أهلاً لأن يزوج؛ لأنه كافر، ولا ولاية لكافر على مسلم، فإذاً يزوج القاضي من لا ولي لها، سواء كان الولي معدوماً أو ليس أهلاً.
ثامناً: قوله: «وإقامة الحدود» يعني الذي يتولى إقامة الحدود هو الحاكم الشرعي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي كان يقيم الحد، وأحياناً يوكل، كما قال لأنيس:«واغد يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها»
(1)
، وهنا يجوز أن يوكل القاضي من يقيم الحد عنه.
وقوله: «الحدود» هي عقوبات مقدرة شرعاً في معصية؛ لتمنع من الوقوع في مثلها وتُكفِّر عن صاحبها، والحدود هي حد الزنا، وحد القذف، وحد السرقة، وحد قطاع الطريق، والمهم معرفة الضابط.
(1)
أخرجه البخاري في الوكالة/ باب الوكالة في الحدود (2315)، ومسلم في الحدود/ باب من اعترف على نفسه بالزنا (1698) عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني رضي الله عنهما.
تاسعاً: قوله: «وإمامة الجمعة والعيد» يعني هو الذي يتولى إمامة الجمعة والعيد، إلا إذا كانا لهما إمام خاص، فإمامهما أولى من غيره، لكن إذا لم يكن لهما إمام فالذي يُخاطب بإمامة الجمعة والعيد هو القاضي، فإن تعددت الجُمَع يوكل.
عاشراً: قوله: «والنظر في مصالح عمله» أي: مصالح مكان عمله.
قوله: «بكف الأذى عن الطرقات وأفنيتها ونحوه» يعني هو الذي يتولى ما تتولاه البلدية، فيكف الأذى عن الطرقات وأفنيتها، فهو المسؤول، فإذا وجدنا شيئاً في السوق ذهبنا إلى القاضي، وقلنا له: في السوق الفلاني أذى فأزله.
وقوله: «الطرقات وأفنيتها» الطرقات معروفة، والأفنية هي المتسعات التي تكون في الطرقات تلقى فيها الكناسة، والقمامة، وما أشبه ذلك، فالذي ينظر فيها هو القاضي.
هذه عشرة أمور يستفيدها القاضي من ولايته، ولكن لاحِظ أن هذه الأمور العشرة التي ذكرها المؤلف ليست أموراً منصوصاً عليها من الشرع، بحيث لا نتجاوزها ولا نقصر عنها، لكنها أمور عُرفية، أي: جرى العرف أن القاضي يتولى هذه الأمور من قبل الإمام، فإذا تغيرت الأحوال وصار مقتضى أو موجَب عقد القضاء أن القاضي لا يُلزم أن يقوم بهذه الأعمال كلها، فعلى حسب العرف، فالآن الفصل بين الخصوم لا زال باقياً، وأما أخذ الحق لبعضهم من بعض ليس على القاضي، فليس عليه إلا أن يفصل
بينهم، وأما أخذ الحق لبعضهم من بعض فعلى جهة أخرى، فالنظر في أموال غير المرشدين له إلى الآن، والحجر على من يستوجبه له وليس لوزارة التجارة، والنظر في وقوف عمله ليس له، فالآن هناك وزارة الأوقاف هي التي تتولى هذا، وتنفيذ الوصايا الظاهر أنه للأوقاف أيضاً، وليس للقاضي، وتزويج من لا ولي لها، الآن جعل مأذونون شرعيون، وهم على قسمين: مأذون يسمى قاضي أنكحة، هذا يتولى تزويج من لا ولي لها، ومأذون لمجرد العقد فهذا لا يتولى التزويج، وإقامة الحدود الآن ليس له، فهو يحكم ويقيم غيره، وإمامة الجمعة والعيد ليس له الآن، وبعض العلماء ما يجيزون غير القاضي، والنظر في مصالح العمل بكف الأذى عن الطرقات الآن ليس له، ولكن للبلدية.
إذاً موجَب ولاية القضاء ليس أمراً شرعياً متلقى من الشرع بحيث نُلزم القاضي به، لكنه أمر عرفي حسب ما تقتضيه الولاية في العرف.
وَيَجُوزُ أَنْ يُوَلَّى عُمُومَ النَّظَرِ فِي عُمُومِ العَمَلِ،
..........
قوله: «ويجوز أن يُولى» الذي يتولى تولية القاضي السلطان والوالي العام.
قوله: «عموم النظر» «النظر» أي: القضايا التي ينظر فيها، كأن يوليه جميع الأحكام في البيوع، والرهون، والإجارات، والأنكحة، والفرائض، وكل ما يتعلق بالخصومات.
قوله: «في عموم العمل» أي: المكان الذي يعمل فيه، وعموم العمل لا يمكن أن يكون عموماً مطلقاً؛ لأن العموم المطلق لا يتصور، لكنه عموم نسبي، فعموم العمل أن يقول:
ولَّيتك الحكم في جميع أقطار الدنيا، وهذا لا يمكن؛ لأنه يتعذر الإحاطة به، إذاً عموم العمل عموم نسبي، مثل أن يقول: وليتك الحكم في منطقة القصيم، هذا عموم بالنسبة لكلِّ بلد على حدة، لكنه ليس عموماً مطلقاً، أعم منه أن يقول: ولَّيتك الحكم في نجد، هذا أعم، لكن هل هو عموم مطلق؟ لا.
وليتك الحكم في منطقة المدينة هذا عموم، أعم منه في منطقة الحجاز، أعم من ذلك كله وليتك الحكم في جميع الحجاز ونجد، فالمهم أن عموم العمل معناه المكان الذي يحكم فيه القاضي، فيجوز أن يولى العموم، وأن يولى الخصوص، فإذا قال: وليتك جميع الأحكام في عموم القصيم، فهذا عموم نظر في عموم عمل.
وَأَنْ يُوَلَّى خَاصّاً فِيهِمَا أَوْ فِي أَحَدِهِمَا،
.......................
قوله: «وأن يُولّى خاصاً فيهما» الضمير في قوله: «فيهما» يعود على النظر والعمل، أي: خاصاً في النظر وفي العمل، النظر مثل أن يقول: وليتك الأنكحة والعمل في عنيزة، هذا خصوص نظر وعمل، خصوص النظر؛ لأنه خص القضاء في الأنكحة، وخصوص العمل؛ لأنه خصه في بلد معين.
أو يقول: وليتك الفرائض في بريدة، هذا خصوص نظر في خصوص عمل، خصوص نظر؛ لأنه في الفرائض فقط، فلو جاء اثنان يتحاكمان إلى هذا الذي ولي الفرائض في النكاح فإنه لا يقضي بينهما، بل لو قضى بينهما من غير تحكيم لم ينفذ حكمه؛ لأنه خص بالنظر في الفرائض، كما أنه لا يملك أن يقضي بين اثنين في مسألة فرضية في عنيزة؛ لأن العمل خاص في بريدة، هاتان صورتان متقابلتان:
الأولى: عموم النظر في عموم العمل.
الثانية: خصوص النظر في خصوص العمل.
قوله: «أو في أحدهما» نبدأ بالنظر، خصوص النظر في عموم العمل: أن يقول: وليتك الفرائض في منطقة الحجاز، فكل منطقة الحجاز ترجع إلى هذا الرجل في الفرائض فقط، وعموم النظر في خصوص العمل: أن يقول: ولّيتك جميع الأحكام في مكة، فيدخل فيها البيوع والإيجارات، والأوقاف، والأنكحة، والفرائض، والجنايات، والحدود وغير ذلك؛ لأنه قال له: وليتك عموم النظر في مكة، يعني جميع الأحكام في مكة، إذاً ينظر في جميع الأحكام لكن في مكة خاصة، فلو ذهب إلى جدة فما يكون حاكماً فيها، فكانت الصور أربعاً.
وهل يجوز أن يوليه خاصاً في الخاص، بمعنى أن يقول له: وليتك الحكم في المناسخات من علم الفرائض؟ يجوز، فيكون هذا الرجل مثلاً قد بلغ القمة في علم الفرائض، فيقول: وليتك النظر في المناسخات فقط، وهذا أكثر ما يكون في الانتدابات، تكون مسائل معقدة في أملاك موروثة من قديم وفيها مناسخات، فينتدب لها شخص معين ينظر فيها، أما على سبيل أنه ولي دائم، فهذا قليل، لكن مع ذلك يصح.
الآن هناك قضاة يولون خصوص النظر في خصوص العمل، مثل أن يقال: قاضي الأنكحة في الرياض، فيتولى الأنكحة عقدها وفسخها، لكن تأتيه مسألة في البيع يقول: ما لي فيها نظر.
والفائدة من ذكر هذه الصور الأربع أن من وُلي في صورة
منها لم يملك غيرها، فمن وُلي في الأنكحة ونظر في الفرائض لم ينفذ حكمه ولو حكم بالشرع، وهذا يدلك على أن الإسلام ينظر إلى هذه المسائل على وجه الضبط؛ لأنه لو خلي الأمر متفلتاً، كلٌّ يتكلم ويحكم بما شاء، ضاعت الأمور، اللهم إلا في مسألة التحكيم، يعني لو أن رجلين رضيا أن يُحكما فلاناً في مسألة بينهما، وإن لم تكن مما وُلي فيه، فهذا لا بأس به، حتى ولو رضيا أن يحكِّما شخصاً غير قاضٍ كما سيأتي، لكن القضاء الذي يكون مستنداً إلى تولية ولي الأمر لا يمكن أن ينفذ حكمه إلا على حسب ما خط له.
وَيُشْتَرَطُ فِي القَاضِي عَشْرُ صِفَاتٍ، كَوْنُهُ بَالِغاً، عَاقِلاً، ذَكَراً، حُرّاً، مُسْلِماً، عَدْلاً، سَمِيعاً، بَصِيرَاً، مُتَكَلِّماً، مُجْتَهِداً، وَلَوْ فِي مَذْهَبِهِ،
...........
قوله: «ويشترط في القاضي عشر صفات» قبل أن نتكلم عن هذه الصفات، يجب أن نعرف أن كل ولاية وعمل لا بد فيه من ركنين: القوة والأمانة، القوة، على ذلك العمل، والأمانة فيه، فالعمل الذي يتطلب العلم لا بد أن يكون المتولي له عالماً، والذي يعتمد قوة البدن لا بد أن يكون متوليه قوي البدن، ولا بد أن يكون أميناً؛ لأن من ليس بأمين لا يمكن أن ينفذ العمل على الوجه المرضي، ويدل على هذين الركنين قول العفريت من الجن لسليمان عليه السلام لما قال:{أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} {قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ *} [النمل]، أيضاً قوله تعالى عن ابنة صاحب مدين:{يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص: 26]، فكل عمل وكل ولاية لا بد فيها من هذين الركنين: القوة والأمانة، ومن الأعمال الهامة التي هي من أجَلِّ
الأعمال في الإسلام القضاء، فلا بد أن يكون القاضي قوياً وأميناً، ولننظر في الأوصاف التي ذكرها المؤلف على أي الأمرين تنطبق؟ وهل هي وافية بالمقصود، أو زائدة عن المقصود؟ لأن الأصل يرجع إليه في الجزئيات.
الأولى: قوله: «كونه بالغاً» .
الثانية: قوله: «عاقلاً» .
الكمال البلوغ والعقل، والنقص في الصغر والجنون، فالصغير الذي دون البلوغ لا يكون قاضياً ولو بلغ من العلم ما بلغ، ولو بلغ من الذكاء ما بلغ، فلا يمكن أن يكون قاضياً أبداً، والناقص فيه القوة، فلا يقوى على الحكم بين الناس.
وقوله: «عاقلاً» ضده المجنون، فالمجنون لا يصلح أن يكون قاضياً؛ لأنه لا عقل له، وعلى أي الوصفين يدور هذا؟
على القوة إذاً لا بد أن يكون بالغاً عاقلاً؛ لأن بفواتهما فوات القوة التي هي أحد ركني الكفاءة، لأنهما يحتاجان إلى ولي هما بأنفسهما، فلا يمكن أن يكونا وليين على غيرهما.
الثالثة: قوله: «ذكراً» ضد الذكر الأنثى والخنثى، فلا بد أن يكون القاضي ذكراً، والدليل على اشتراط الذكورة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لن يفلح قومٌ ولوا أمرهم امرأة»
(1)
، فكلمة «قوم» نكرة تشمل كل قوم، فكل قوم ولوا أمرهم امرأة فإنهم لن يفلحوا، وهذا الحديث له سبب وهو أنه لما مات كسرى ولت الفرس
(1)
أخرجه البخاري في المغازي/ باب كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر (4425) عن أبي بكرة رضي الله عنه.
عليهم ابنته، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال:«لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة» ، فقيل في الحديث: إنه عام؛ لأن كلمة «قوم» نكرة في سياق النفي فتكون عامة، والقوم هم الرجال؛ لقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ} [الحجرات: 11] وإذا أطلق القوم وحدهم ربما يدخل فيه النساء كقول الرسل لأقوامهم: {يَاقَوْمِ} [نوح: 2] و {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ} [البقرة: 54] وما أشبه ذلك، ويرى آخرون أنه خاص، يعني كأنه قال: هؤلاء القوم لا خير فيهم ولن يفلحوا؛ لأنهم ولوا أمرهم امرأة، وبناء على هذا القول يقول مدعوه: إنه لا يلزم أن لا يفلح كل قوم ولوا أمرهم امرأة؛ لأننا نرى أقواماً ولوا أمرهم امرأة ونجحت! وهؤلاء هم الدعاة الذين يدعون إلى أن تكون المرأة وزيراً، ورئيساً، وما أشبه ذلك، ويقولون: هذا الحديث لا يمنع، فهو ورد في قوم معينين، يعني لن يفلح هؤلاء القوم؛ لأنهم ولوا أمرهم امرأة.
ولكن نحن نقول: إن هذا الحديث وإن تنازلنا وقلنا: إنه يراد به هؤلاء القوم الذين ولوا أمرهم امرأة، فإننا نقول: ومن سواهم مثلهم، يقاس عليهم، فأي: فرق بين الفرس وغيرهم؟! المقصود أن عدم الفلاح رتب على كون الوالي امرأة، ولا فرق فيه بين الفرس والعرب والروم وغيرهم، فإذا كان لا يشمل من سوى الفرس بمقتضى اللفظ فإنه يشمله بمقتضى المعنى، وكيف لا يفلح هؤلاء القوم لما ولوا أمرهم امرأة، ويفلح أقوام آخرون ولوا أمرهم امرأة؟!
فإن قال قائل: بماذا تجيبون عن الواقع، فرئيسة وزراء بريطانيا امرأة، ورئيسة الفلبين امرأة، وغيرهم من الأمم الكافرة؟
قلنا: نحن نقول: إن هؤلاء إن كانوا قد أفلحوا فلأن الذين يديرون الحكم في الواقع رجال يساعدونها ويعينونها، ولم تستبد هي كما تستبد الملكة في عهد كسرى.
جواب آخر نقول: لعلهم لو ولوا أمرهم رجلاً لكانوا أفلح منهم الآن، وما يدرينا؟ فلعل تولية المرأة على هؤلاء القوم نقص من فلاحهم، ولم يفقد الفلاح مطلقاً ولكن نقص، أما الرسول عليه الصلاة والسلام فإنه قال:«لن يفلح قومٌ ولوا أمرهم امرأة»
(1)
.
إذاً في الإسلام لا يصح أن تتولى امرأة القضاء؛ لأنه يشترط في القاضي أن يكون ذكراً، والدليل هو ما سبق.
وأما التعليل فقالوا: لأن المرأة ضعيفة العقل والتدبير والتصرف، وضعيفة الإدراك، فلا تدرك الأمور على ما ينبغي، صحيح أنه يوجد من النساء من تدرك، لكن غالب النساء لا تدرك.
أيضاً فيها وصف ثالث وهو أن المرأة قريبة العاطفة، كل شيء يبعدها، وكل شيء يدنيها، يقول النبي عليه الصلاة والسلام:«لو أحسنت إلى إحداهن الدهر كله، ثم رأت منك سوءاً لقالت: ما رأيت خيراً قط»
(2)
، فهي سريعة العاطفة، تنعطف
(1)
سبق تخريجه ص (272).
(2)
أخرجه البخاري في الجمعة/ باب صلاة الكسوف جماعة
…
(1052)، مسلم في الكسوف/ باب ما عرض على النبي في صلاة الكسوف
…
(907) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
بكل سهولة، ولهذا تخدع كثيراً، يأتي رجل من المتحاكمين إليها، يكون قوياً ومؤثراً، فيؤثر على هذه المرأة ويقلبها رأساً على عقب، وعقباً على رأس، فيتوجه الحكم إلى زيد، فإذا تكلم الثاني تحول الحكم إلى عمرو؛ فهي ضعيفة، والذي فات فيها القوة، فلا تتحمل أن تتولى أمور المسلمين.
فإن قيل: قد وُليت عائشة رضي الله عنها القضاء في معركة الجمل.
فالجواب: أن ذلك يحمل على أنه من خصائص أمهات المؤمنين رضي الله عنهن، وإذا شئنا قلنا: إنه انطبق عليها الحديث: «لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة»
(1)
، فقد حصل بذلك شيء عظيم، وسيأتينا ـ إن شاء الله ـ في مسألة التحكيم أنه لو حُكِّمت امرأة فلا بأس، لكن أن تولى منصباً عاماً فهذا لا يجوز.
وأما الخنثى فلأنه فقد شرط الذكورة، ولأنه لا يعلم أذكر هو أو أنثى؟ فلا نتحقق الفلاح الذي يكون بتولية الرجل.
وظاهر كلام المؤلف أن الأنثى لا تكون قاضية حتى في حق الإناث، وهو كذلك فلا تتولى القضاء بينهن، وأما سوى القضاء من الشهادات، أو أن تكون حَكَماً في صلح، أو أن تكون قايفة وتحكم بالقيافة التي تعرفها، وما أشبه ذلك فإنه لا بأس به، لكن في القضاء لا يصح ولو كان القضاء بين نساء.
(1)
سبق تخريجه ص (272).
الرابعة: قوله: «حراً» وضده المملوك، ولا بد أن يكون حراً كامل الحرية، والتعليل:
أولاً: أن الرقيق غالباً يكون قاصراً؛ لأنه يشعر بأنه دون غيره فلا تجده يستوعب الأشياء، ولا ينظر إليه نظر الجد.
ثانياً: أن الرقيق مشغول بخدمة سيده، والقضاء يحتاج إلى تفرغ للنظر في الحكم بين الناس.
وليس هناك دليل من الكتاب، ولا من السنة يمنع أن يكون الرقيق قاضياً، ولهذا فالقول الراجح أن الرقيق يصح أن يكون قاضياً إذا توفرت فيه شروط القضاء، وهي القوة والأمانة، فإذا كان عنده علم، وعنده أمانة وصدق، فما المانع من أن يكون قاضياً؟!
أما التعليل بأنه مشغول بخدمة سيده، فإننا نقول: إذا أذن سيده أن يكون قاضياً فأين الشغل؟! نعم لو أبى سيده أن يكون قاضياً فله الحق، وحينئذٍ يمتنع أن يولى الرقيق، لا من جهة أنه غير صالح، لكن من جهة أنه مملوك لغيره.
إذاً هذا الوصف الصحيح أنه ليس بشرط، وأن الرق مانع لكونه مشغولاً بخدمة سيده فقط، وأما أنه يرى نفسه قاصراً عن غيره وما أشبه ذلك، فهذا تعليل لكن ليس مطرداً، فإن من الأرقاء من إذا آتاه الله العلم عرف مكانه بين الناس، وصار مفتياً ومعلماً ونافعاً لعباد الله.
الخامسة: قوله: «مسلماً» وضده الكافر، سواء كان من أهل الكتاب أم من غير أهل الكتاب، فلا يصح أن يولى غير المسلم
القضاء؛ لأن غير المسلم إذا تولى القضاء فبأي حكم يحكم؟ بغير ما أنزل الله، والله عز وجل أمر أن نحكم بين الناس بما أنزل، وهو الحق.
وظاهر كلام المؤلف أنه لا يجوز أن يولى القضاء ولو على أمة كافرة، فمثلاً إذا كان أهل الذمة تحت ولاية المسلمين، فإنه لا يجوز لولي الأمر أن ينصب فيهم قاضياً منهم، بل ينصب قاضياً من المسلمين، أما إذا تحاكموا هم إلى واحد منهم، ونصبوا حكماً بينهم فإننا لا نتعرض لهم، لكن كوننا نولي عليهم قاضياً باسم خليفة المسلمين، فهذا لا يجوز.
السادسة: قوله: «عدلاً» وضده الفاسق، وهو من أصر على صغيرة، أو فعل كبيرة، ولم يتب منها، فإذا وجدنا شخصاً يحلق لحيته لكنه عالم وقوي، فإننا لا نوليه لفسقه، وإذا وجدنا شخصاً مسبلاً ثوبه فإننا لا نوليه القضاء؛ لأنه فاسق، وإذا وجدنا شخصاً يغتاب الناس، ويأكل لحومهم فلا نوليه القضاء، وإن كان عالماً وقوياً؛ وذلك لفسقه، والدليل قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6]، فأمر الله عز وجل أن نتبين خبر الفاسق، وهذا يدل على أن خبره لا يقبل على سبيل الإطلاق، وإنما يُتَبين فيه، ومعلوم أن القضاء يتضمن الخبر؛ لأن القاضي يقول للمدعي والمدعى عليه: هذا حكم الله، فحكمه متضمن الخبر، فلا يقبل.
وأما التعليل؛ فلأن الفاسق لا يؤمن أن يحيف لفسقه، وأضرار المعاصي على القلب والاتجاه والسلوك ظاهرة جداً، فلا
يصح أن يكون قاضياً، ولكن يجب أن نعلم أن هذا الشرط يطبق، أو يعمل به بحسب الإمكان، فإذا لم نجد إلا حاكماً فاسقاً فإننا نوليه، ولكن نختار أخف الفاسقين فسقاً، لقول الله تعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، وإلا فلو نظرنا لمجتمعنا اليوم لم نجد أحداً يسلم من خصلة يفسق بها، إلا مَنْ شاء الله، فالغِيبة فسق وموجودة بكثرة، والتغيب عن العمل، والإصرار على ذلك، وكونه لا يأتي إلا بعد بداية الدوام بساعة، ويخرج قبيل نهاية الدوام بساعة مثلاً، فالإصرار على ذلك فسق؛ لأنه ضد الأمانة، وخيانةٌ، وأكلٌ للمال بالباطل؛ لأن كل راتب تأخذه في غير عمل، فهو من أكل المال بالباطل، ولو نظرنا ـ أيضاً ـ لمجتمعنا لوجدنا كثيراً من الناس يتهاون في إسبال الثوب، ولا يهمه إذا أسبل، ونجد ـ أيضاً ـ كثيراً من الناس يتهاون بالنيل من لحيته، إما حلقاً أو تقصيراً، فإذا كنا لا نجد في الناس من يتصف بصفات العدالة، فإننا نولي أخف الفاسقين فسقاً.
والمعصية وإن كانت تفسق فهل تزيل الولاية، أو نقول: إن الولاية شيء والفسق شيء آخر؛ لأن من الناس من يكون فاسقاً، لكن ولايته من أتم ما يكون من الولايات؟
السابعة: قوله: «سميعاً» وضده الأصم الذي لا يسمع، فلو وقع عند أذنه أقوى صوت في الدنيا ما سمعه، فهذا لا يصح أن يكون قاضياً، قالوا: لأنه لا يسمع كلام الخصمين، وظاهر كلامهم أنه لا يصح أن يكون قاضياً ولو أمكن إيصال كلام الخصمين إليه عن طريق الكتابة، أو الإشارة، وقد أدركت رجلاً
كان لا يسمع أبداً، ولو أطلقت الرصاص جنب أذنه ما سمع، لكنه يكتب، ويعرف الإشارة معرفة عظيمة، وكان عنده لوح من حجر صغير يضعه في مِخباته، فإذا لاقاك أشار أَنِ السلام عليكم، ثم أخرج اللوح وقال: اكتب، يعني إن جاءك أخبار ونحو ذلك، ولهذا كان من أعلم الناس بالأخبار، حتى أخبار الدول وغيرها يعلمها؛ لأنه حريص على تلقي الأخبار.
إذاً كلام الفقهاء يقتضي أن الأصم لا يصح أن يكون قاضياً، ولو فهم كلام الخصمين بالإشارة، أو بالكتابة، أما بالإشارة فقالوا: إنه لو فهم بالإشارة فقد لا يحسن الخصم الإشارة، قد يشير بشيء يتصوره القاضي شيئاً آخر، والإشارات تختلف، لكن الكتابة بحروف واضحة مقروءة، يكتب الخصم ثم يعرض على القاضي، ويطلب من المدعى عليه الدفاع، أو الإقرار، فهذا ممكن، فإذا كانت العلة في منع نصب الأصم قاضياً هي عدم سماع الخصمين، فإننا نقول: إذا أمكن أن تصل حجة الخصمين إلى هذا القاضي بأي وسيلة، زالت العلة، وإذا زالت العلة زال الحكم.
الثامنة: قوله: «بصيراً» يعني غير أعمى، فالأعمى لا يصلح أن يكون قاضياً؛ قالوا: لأنه لا يعرف المدعي من المدعى عليه، فربما يتكلم أحدهما مقلداً للآخر، فيحسب أنه هو ذلك المُقلَّد؛ لأنه لا يميز الأشياء إلا بالصوت، والصوت يمكن تقليده، فيمكن أن يقول المدعي: أنا أدعي على فلان بعشرة آلاف ريال، فيقول القاضي: ماذا تقول؟ فيقلد ذاك صوت المدعى عليه يقول: نعم،
عندي له عشرة آلاف ريال، فبناء عليه يحكم القاضي، ولذلك قالوا: إنه لا يعرف المدعي من المدعى عليه، وتشتبه عليه الأصوات، فربما يحكم لمن ليس له الحق بسبب ذلك.
ولكن هذا التعليل عليل في الواقع؛ لأننا نشاهد أن الأعمى يدرك بحسه السمعي، أكثر مما يدرك البصير بحسه السمعي، فعنده إدراك قوي بحاسة السمع، ويعرف الأصوات، وأما معرفة من هو المدعي من المدعى عليه، فهذا حاصل لكل أحد، فالمدعي من إذا سكت تُرك، والمدعى عليه إذا سكت لم يُترك، فالصحيح أنه لا يشترط أن يكون بصيراً، وأن الأعمى يصح أن يكون قاضياً، صحيح أن البصير أكمل، لكن كونه شرطاً، بحيث إذا لم نجد إلا أعمى فإننا لا نوليه، فهذا غير صحيح.
التاسعة: قوله: «متكلماً» لأن الأخرس إذا كان قاضياً فكيف يكلم الخصمين؟! فلا بد أن ينطق؛ لأن المسألة تحتاج إلى تصريح مفهوم، والإشارة قد تكون مفهومة، وقد تكون غير مفهومة، ولكن إذا كان يكتب فإنه يزول المانع في الواقع؛ لأن الكتابة تعبر عما في القلب، كما يعبر اللسان عما في القلب، فإذا كان يستطيع أن يكتب فلا شك أنه يجوز أن يكون قاضياً، صحيح أن النطق أسرع من الكتابة، لكن إذا وجدنا هذا الرجل أهلاً للقضاء، ولم يبقَ عليه إلا النطق، فلا يمكن أن نمنعه القضاء من أجل أنه لا ينطق، ونقول: يكتب ويشير، والإنسان الملازم للشخص يعرف إشارته كما يعرف نطقه بلسانه، فالعارف بالإشارة إذا كان إلى جانب القاضي يكون كالمترجم عنه، فالمترجم يترجم
العبارة وهذا يترجم الإشارة ولا فرق، إذاً نقول: إن اشتراط كون القاضي متكلماً فيه نظر، وأنه يجوز أن يولى الأخرس بشرط أن تكون إشارته معلومة، أو كتابته مقروءة فإذا حصل هذا أو هذا صح أن يكون قاضياً.
العاشرة: قوله: «مجتهداً ولو في مذهبه» فلا بد أن يكون القاضي مجتهداً، والاجتهاد نوعان:
الأول: اجتهاد مطلق، وهو الاجتهاد في أقوال العلماء كلهم، بحيث يطبق هذه الأقوال على النصوص، ويختار ما هو الصواب.
الثاني: اجتهاد في المذهب، فهو لا يخرج عن المذهب ولا يطالع أقوالاً سوى المذهب، لكنه في المذهب مجتهد يقارن بين الأقوال، ويعرضها على الكتاب والسنة، ويعرف الراجح من المرجوح، بل ظاهر كلامهم أنه إذا عرف الراجح من المرجوح، ولو باعتبار كلام فقهاء المذهب فإنه يسمى مجتهداً في مذهبه، فالمجتهد في مذهبه، إما أن يكون ممن يعرض أقوال أصحاب المذهب على الكتاب والسنة ويعرف الراجح، أو يكون ممن يعرض أقوال أصحاب المذهب على أئمة المذهب، وينظر ما عليه الأئمة فيختاره.
وقوله: «مجتهداً» خرج بذلك المقلد الذي لا يجتهد أبداً، يأخذ مثلاً:«الروض المربع» أو «منتهى الإرادات» أو «الإقناع» ويمشي عليه، ولا ينظر في الأقوال ولا يقارن بينها، فهذا لا يصح أن يكون قاضياً؛ لأنه مقلد غير مجتهد، فلا يقارن بين
الأقوال ويختار الأرجح، والمقلد، قال ابن عبد البر: إنه ليس من العلماء بإجماع العلماء، وصدق؛ لأن الله يقول:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء: 7] فمن احتاج إلى الرجوع إلى غيره فليس من أهل الذكر، وليس من أهل العلم، وعلى هذا نقول: يشترط في القاضي أن يكون مجتهداً.
وأما المقلد فلا حظَّ له في القضاء، ولا يجوز أن يولى القضاء؛ كما أنه لا يجوز له أن يفتي، وإنما إذا أراد أن يفتي، ودعت الضرورة لسؤاله، يقول: قال الإمام أحمد، أو صاحب الكافي، أو صاحب الإقناع، فينسب القول إلى قائله، كما أن العامي إذا سمع عالماً من العلماء يتكلم بشيء فإنه لا يفتي به، وإنما يقول: قال العالم الفلاني: كذا وكذا؛ لأنه لم يصل إلى درجة الفتوى حتى يصدر القول من عند نفسه، ولكن ينسب القول إلى قائله، كالصحابي يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كذا وكذا، فينسب الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا الشرط الأخير الاجتهاد ولو في المذهب، نقول: هو شرط لكن بحسب الإمكان، فإذا لم نجد إلا قاضياً مقلداً فإنه خير من العامي المحض؛ لأن العامي المحض ما يستفيد شيئاً ولا يفيد، والمقلد معتمد على بعض كتب المذهب الذي يقلده، فعنده شيء من العلم، ولكن يقدم المجتهد في النصوص على المجتهد في أقوال الأئمة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وهذه الشروط تعتبر حسب الإمكان، وتجب ولاية الأمثل فالأمثل، وعلى هذا
يدل كلام أحمد وغيره، فيولى لعَدَمٍ أنفعُ الفاسقين، وأقلُّهم شراً، وأعدلُ المقلدين، وأعرفهما بالتقليد، قال في الفروع:«وهو كما قال» أي: كما قال الشيخ، وصدق الشيخ رحمه الله فهذه الشروط العشرة شروط إذا أمكن تطبيقها، فإذا لم يمكن، يُولى الأمثل فالأمثل، وعلى هذا يدل كلام الله عز وجل، قال الله تعالى:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، وقال الله تعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، فإذا لم نجد أحداً يتصف بهذه الصفات وإنما يتصف ببعضها أخذنا بقدر الإمكان.
مسائل: هل يجوز تولية أهل البدع القضاء؟
أهل البدع ينقسمون إلى قسمين: أهل بدع مكفرة، فهؤلاء انتفى عنهم شرط الإسلام، وأهل بدع مفسقة انتفى عنهم شرط العدالة، فإذا كانت البدعة مفسقة فلا يولى، ولو على أهل بدعته، وكل بدعة تكفر المجتهد فهي تفسق المقلد. ولو ترك الرجل الوتر فهل يولى القضاء؟ قال الإمام أحمد رحمه الله من ترك الوتر فهو رجل سوء لا ينبغي أن تقبل له شهادة. قال لأن تهاونه بالوتر يدل على تهاونه بالشهادة فأتي من عدم الأمانة.
وهل المتعصب لأقوال إمامه يولى القضاء؟ إن كان يوجد مجتهد في النصوص والعمل بالأدلة فلا يولى المجتهد في أقوال الأئمة فقط وهو الذي يهمه تطبيق أقوال إمامه دون الالتفات للأدلة، لكن إذا لم يوجد مجتهد في النصوص فإنه يولى المجتهد في المذهب.
وَإِذَا حَكَّمَ اثْنَانِ بَيْنَهُمَا رَجُلاً يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ نَفَذَ حُكْمُهُ فِي الْمَالِ وَالْحُدُودِ وَاللِّعَانِ وَغَيْرِهَا.
قوله: «وإذا حَكَّم اثنان بينهما رجلاً يصلح للقضاء» «إذا حكم» أي: جعلاه حكماً، وتحكيم غير القاضي ثابت في القرآن، قال الله تعالى:{وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} [النساء: 35] فأصل التحكيم ثابت في القرآن، كذلك عمر وأبي بن كعب رضي الله عنهما تحاكما إلى زيد بن ثابت
(1)
رضي الله عنه فحكم بينهما.
وقوله: «وإذا حكَّم اثنان» هذا على سبيل المثال، فلو حَكَّم أربعةٌ رجلاً جاز.
وقوله: «رجلاً» وصف طردي وليس بقيد، فلو حُكمت امرأةٌ، أو حكمت امرأتان امرأةً فإن ذلك لا بأس به، وهو جائز، فلو فرض أن امرأةً عندها علم وأمانة وثقة ومعرفة، فتحاكم إليها رجلان فحكمت بينهما فلا بأس، ولا مانع؛ لأن هذه الولاية ليست ولاية عامة حتى نقول: لا بد فيه من الذكورية، إنما هو رجلان أو خصمان اتفقا على أن يكون الحكم بينهما هذه المرأة، وهذا التحكيم يشبه المصالحة من بعض الوجوه.
وقوله: «إذا حكم اثنان بينهما رجلاً» لو حَكَّم أحدُ الخصمين صاحبه أي: لو أن أحد المدعيين حَكَّم الآخر، أيجوز ذلك أو لا؟
الصحيح: أنه يجوز، وإن كان ظاهر كلام المؤلف عدم الجواز، فلو أن رجلاً ادعى على شخص شيئاً ما، وقال له هذا
(1)
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (10/ 145).
الشخص: حكم نفسك، أنا أرضى أن تحكم لي أو عليّ، فلا مانع.
فإذا قال قائل: إن فيه مانعاً؛ لأن المدعي قد حكم لنفسه بالحق؛ لأنه ادعاه، قلنا: إن الإنسان قد تختلف حاله عند التحكيم عن حاله عند الدعوى، فيدعي على إنسان شيئاً، فإذا قال له: أنا أحكمك، لا شك أنه سيتراجع عن دعواه، إما لكونه يخجل ويستحيي، أو لكونه يخاف الله عز وجل، ويهاب الحكم بغير الحق، بخلاف الدعوى، فعلى كل حال لا مانع من أن أحد الخصمين يقول للآخر: أنت الحكم، وإذا جعله حكماً لنفسه أو عليها فلا بأس.
وقوله: «يصلح للقضاء» أي: تتوافر فيه صفات القاضي العشر، فلا يصلح للقضاء إلا من اتصف بتلك الصفات، وهذا الشرط الذي اشترطه المؤلف فيه نظر ظاهر، والفرق بين المُحكَّم والمنصوبِ من قِبل ولي الأمر ظاهر؛ لأن المُحكَّم إنما يحكم في قضية معينة لخصم معين، ليست ولايته عامة حتى نقول: لا بد فيه من توافر الشروط السابقة، أما القاضي المنصوب من قبل ولي الأمر فحكمه عام، يتحاكم الناس إليه سواء حكَّموه أم لم يحكِّموه، فكيف نشترط الشروط العشرة؟! فإذا قال رجلان: نحن نرضى هذا الإنسان وإن كان عبداً، فكيف نقول: لا يصلح للحكم؟!
وإذا قال الخصمان: نحن نرضى أن نحكِّمه، وإن كان أعمى، فما المانع؟!
وإذا قال الخصمان: نحن نرضى أن نحكِّمه ولو كان مقلداً فما المانع؟! لأن غاية ما فيه أنهما رضياه مصلحاً بينهما، أو كالمصلح بينهما، ولهذا نص على هذه المسألة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وقال: إنه لا يشترط في المُحكَّم ما يشترط في القاضي، والفرق بينهما كما ذكرنا: أن الحاكم منصوب من قِبل ولي الأمر فحكومته ولاية، وأما هذا فهو مُحكَّم من قبل خصم معين في قضية معينة، فهو يشبه المُصلح بين خصمين.
قوله: «نفذ حكمه في المال» مثل أن يقول شخص لآخر: في ذمتك لي مائة درهم، والثاني يقول: ليس لك عندي شيء، فرضيا أن يحكم بينهما فلان، فذهبا إليه وحكم بينهما بما تقتضيه الشريعة، فهذا يجوز ويَنْفُذُ الحكم، فإن اتفقا على أن يحكم بينهما فلان، ثم رجع أحدهما عن ذلك وامتنع، وقال: أنا تراجعت عن ذلك، وأريد أن يحكم بيننا القاضي، فهل له ذلك؟
نقول: ينظر في هذا، إن كان المُحكَّم قد شرع في الحكم فإنه لا يحق لأحدهما أن يملك الرجوع؛ لأنه ربما يتراجع إذا تبين له من كلام المُحكَّم أن الحق عليه، أما إذا كان قبل أن يتحاكما، أي: قبل أن يصلا إلى مجلس الحكم فلا بأس في هذا.
قوله: «والحدود» هل هناك حد يكون بين المتخاصمين؟ الجواب: نعم، مثل حد القذف، فإن حد القذف يكون بين المتخاصمين، كرجل قذف رجلاً فادعى عليه المقذوف أنه قذفه، فقال: ما قذفتك، قال: من يحكم بيننا؟ قال: فلان، فذهبا إلى
فلان وحكم بحد القذف، وأن القاذف يجلد ثمانين جلدة إذا كان المقذوف محصناً، أو يُعزر إن كان المقذوف غير محصن، فينفذ، ونفس المُحكَّم يقوم بتنفيذه، سواء كان في بيت المقذوف، أو في بيت القاذف، إنما لا يمكن أن يقيمه علناً؛ لأن هذا يحصل فيه تلاعب وفوضى.
قوله: «واللعان» اللعان حقيقته أن الرجل يقذف زوجته بالزنا، والعياذ بالله، فيقول: إنها زنت، فهذا لا يخلو من أحوال:
الأولى: أن تقر.
الثانية: أن تنكر ويأتي بالشهود.
الثالثة: تنكر ولا يأتي بالشهود.
الرابعة: أن تسكت، فلا تقر ولا تنكر.
في الحال الأولى: إذا أقرت نقيم عليها حد الزنا.
في الحال الثانية: إذا أنكرت، ولكن أتي بشهود يقام عليها الحد.
في الحال الثالثة: إذا أنكرت ولم يأت بالشهود نقول له: إما أن تُلاعن، أو تُحَدَّ حد القذف ثمانين جلدة.
في الحال الرابعة: إذا سكتت، على القول الراجح نقيم عليها الحد؛ لقوله تعالى:{وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ}
…
} إلخ [النور: 8]، وقيل: تحبس إلى أن تُقر، أو تلاعن، أو يأتي ببينة.
على كل حال في الحال الثالثة لو أن رجلاً قذف امرأته
بالزنا، فطلبت أن تحاكمه، فقال: إلى أي أحدٍ تريدين أن نرجع؟ فقالت: نرجع إلى فلان، فتحاكما عنده وقضى باللعان بينهما فإن هذا يجوز.
قوله: «وغيرها» كالحقوق الزوجية، والميراث، والودائع، والرهون، والأوقاف، كل شيء، المهم أنهما إذا حَكَّما رجلاً صار هذا المُحكم كالقاضي المنصوب من قبل ولي الأمر، ينفذ حكمه في كل شيء.
بَابُ آدَابِ القَاضِي
يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ قَوِيّاً مِنْ غَيْرِ عُنْفٍ، لَيِّناً مِنْ غَيْرِ ضَعْفٍ، حَلِيماً ذَا أَنَاةٍ وَفِطْنَةٍ، وَلْيَكُنْ مَجْلِسُهُ فِي وَسْطِ الْبَلَدِ فَسِيحَاً، وَيَعْدِلُ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ فِي لَحْظِهِ، وَلَفْظِهِ، وَمَجْلِسِهِ، وَدُخُولِهِمَا عَلَيْهِ،
......
قوله: «آداب القاضي» يعني أخلاقه التي يطالب أن يكون عليها، إما وجوباً وإما استحباباً، والقاضي هو المنصوب من قبل ولي الأمر ليقضي بين الناس، ولا يزال يسمى بهذا الاسم إلى يومنا هذا.
قوله: «ينبغي أن يكون قوياً من غير عنف» كلمة «ينبغي» إذا جاءت بصيغة النفي في كلام الله، أو في كلام الرسول صلى الله عليه وسلم فمعناها الممتنع، مثاله قوله تعالى:{وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَانِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} [مريم:92]، يعني أنه يمتنع غاية الامتناع، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:«إن الله لا ينام ولا ينبغي أن ينام»
(1)
، يعني يمتنع عليه النوم.
أما في كلام الفقهاء، فهي بمعنى يستحب فإذا قالوا: لا ينبغي، يعني لا يستحب، وإذا قالوا ينبغي فمعناه: يستحب لكن هذا في اصطلاح الفقهاء على سبيل العموم، أما الإمام أحمد رحمه الله فأصحابه يقولون: إذا قال: لا ينبغي، فهو للكراهة، وقد يكون للتحريم.
وقوله: «ينبغي أن يكون قوياً من غير عنف» هذان وصفان أحدهما: ثبوتي، والثاني: سلبي، الثبوتي أن يكون قوياً، يعني له
(1)
أخرجه مسلم في الإيمان/ باب في قوله عليه السلام: «إن الله لا ينام
…
» (179) عن أبي موسى رضي الله عنه.
شخصية وله سلطان، فلا يكون ضعيفاً أمام الخصوم.
والسلبي «من غير عنف» يعني لا يكون بقوته عنيفاً؛ لأنه إذا كان ضعيفاً ضاعت الحقوق، وإن كان عنيفاً هابه صاحب الحق، ولم يستطع أن يدلي بحجته، ولهذا قال بعدها:
«ليناً من غير ضعف» فينبغي أن يكون ليناً؛ لأنه لو كان غليظ القلب فظاً لهابه صاحب الحق، وتلعثم وعجز عن إظهار حجته، ولو كان ضعيفاً لضاعت الحقوق، ولعب عليه أهل الباطل، وصار الخصوم عنده يتناقرون كما تتناقر الديكة، فإذا حضرت مجلسه، وإذا الصخب، واللغط، والشتم، والسب، وهو ساكت يتفرج، فهذا ضعيف، ولا ينبغي أن يكون القاضي على هذا الوجه، وإذا كان عنيفاً فالأمر مشكل؛ لأن العنيف يهابه صاحب الحق، ولا يستطيع أن يتكلم، فيكون الإنسان بين بين، قوياً من غير عنف، وليناً من غير ضعف.
فإن قال قائل: هذه صفات يجبل الله العبد عليها، وليست أمراً مكتسباً، بل هي أمر غريزي، فكيف تطالبونه بأمر غريزي لا يستطيع أن يتخلق به؟!
فالجواب: أن جميع الأخلاق والصفات الغريزية يمكن أن تتغير بالاكتساب، فكثير من الناس يكون شديداً عنيفاً، ثم يصاحب رجلاً ليناً فيأخذ من أخلاقه ويلين، وكثير من الناس يكون ضعيف الشخصية، ولكنه يتمرن على تقوية شخصيته حتى تكون قوية، فالفقهاء لم يطلبوا شيئاً مستحيلاً، وإنما طلبوا أمراً، إن كان الإنسان قد جُبل عليه فذلك المطلوب، وإن لم يكن
قد جبل عليه فإنه يحاول اكتسابه، وعلى هذا يحمل قوله عليه الصلاة والسلام لمن قال له: أوصني، قال:«لا تغضب»
(1)
، فهل الرسول عليه الصلاة والسلام نهاه عن أمر جِبِلِّي مطبوع عليه الإنسان؟
الجواب: لا؛ لأن النهي عما لا يمكن تنفيذه طلب محال، وتكليف بما لا يستطاع، ولكن معنى قوله:«لا تغضب» أي: لا تعوِّد نفسك الغضب، فأيضاً هذا القاضي الذي طلبنا منه أن يكون قوياً من غير عنف، ليناً من غير ضعف، إذا قال: هذه جبلَّتي، أنا غضوب وعنيف، نقول له: عَوِّدْ نفسك، والضعيف نقول له: عوِّد نفسك القوة، واجعل لك هيبة عند الخصم، حتى يكون مجلسك محترماً غير ملعوب فيه.
قوله: «حليماً» أي: بعيد الغضب وبطيء الغضب، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«لا تغضب» وأحق الناس بهذه الوصية القضاة؛ لأنه إذا كان سريع الغضب، فإن الغضب جمرة يلقيها الشيطان في قلب ابن آدم، فتنتفخ أوداجه وتحمر عيناه، ويقف شعره، فلا يستطيع أن يتصور المسألة، ولا تطبيق الأحكام الشرعية عليها، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم:«لا يقضي القاضي وهو غضبان»
(2)
، فالذي ينبغي أن يكون حليماً، ولكن يكون حليماً في موضع الحلم، ومعاقباً
(1)
أخرجه البخاري في الأدب/ باب الحذر من الغضب لقول الله: {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ}
…
} (6116) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
أخرجه البخاري في الأحكام/ باب يقضي القاضي أو يفتي وهو غضبان (7158)، ومسلم في الأقضية/ باب كراهة قضاء القاضي وهو غضبان (1717) عن أبي بكرة رضي الله عنه.
في موضع العقوبة؛ لأنه إذا قلنا: كن حليماً في كل شيء، فمعناه أنا قيدناه فلا يتحرك، فينبغي أن يكون حليماً في الموضع الذي يكون فيه الحلم من الحكمة.
فإذا كان الإنسان حليماً في موضع الحلم، وأخاذاً بالعقوبة في موضع الأخذ، فهذا هو الكمال، ولهذا قال ربنا عز وجل:{اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:98].
قوله: «ذا أناة» الأناة هي التؤدة وعدم التسرع، فيكون القاضي متأنياً فلا يتعجل في الحكم، بل يدرس القضية من جميع الجوانب وخصوصاً في القضايا المعقدة كالمواريث من زمن طويل ومسائل الدماء، وضد ذلك المتسرع في الحكم؛ لأن المقام يحتاج إلى تأنٍ وعدم تسرع ليتصور المسألة من كل الجوانب، ثم يطبقها على الأدلة الشرعية.
وهذه الصفة نقول فيها ما قلنا في الحلم: فإذا كان التأني يفوِّت الفرصة فلا ينبغي أن يتأنى في بعض الأحوال، لأنه سيضيع الحزم، قال الشاعر:
وربما فات قوماً جُلُّ أمرهم
مع التأني وكان الرأي لو عجلوا
فقد يكون الحزم والرأي أن يبادر الإنسان.
قوله: «وفطنة» فلا بد أن يكون ذا فطنة ونباهة، وفراسة، وهذه من الآداب المستحبة على ما قال المؤلف، وانظر إلى سليمان عليه الصلاة والسلام لما تحاكمت إليه المرأتان في ابن إحداهما وكان داود عليه الصلاة والسلام قضى به للكبرى، فدعا بالسكين لكي يشقه، فقالت الكبرى: نعم، يا
نبي الله أرضى بهذا الحكم، وقالت الصغرى: لا، هو ولدها يا نبي الله، ولا تشقه! فقضى به للصغرى
(1)
، وهذا من الانتباه والفطنة، وقد ذكر ابن القيم في كتابه «الطرق الحكمية» قضايا كثيرة من هذا النوع، تدل على فطنة بعض القضاة وذكائهم، ومنها أن رجلين اختصما في أرض، فقال أحدهما للقاضي: إنه قد أعطاني الأرض مزارعة بالنصف، وقال صاحبه: ما أعطيتها إياه، فرأى القاضي بفراسته أن الصواب مع المدعي، فقال للمدعي: هل لك عليه بينة؟ قال: لا، فقال القاضي: ما دام ليس لك بينة فلا حقَّ لك عليه، ثم إن الرجل حتى لو ثبت أنه قد عقد لك المزارعة فهذه الأرض وقف، والرجل اختار للوقف ما هو أنفع، فهو أعطاك إياها بالنصف، وجاء آخر وقال: أنا يكفيني الثلث، فالأحسن لصاحب الوقف الثلثان لأنه خير له من النصف، والرجل ناظر على الوقف فهو يحتاط له، فقال القاضي لصاحب الأرض: أليس الأمر كذلك؟ فقال الرجل: بلى، فقال القاضي: إذاً أعط الأرض للمزارع، فمثل هذه الأشياء من الفطنة التي ينبغي أن يكون القاضي متصفاً بها.
قوله: «وليكن مجلسه في وَسْط البلد» «وسط» بمعنى متوسط الشيء، والوسَط بالفتح الخيار، فيكون مجلسه في وسط البلد؛ لأنه قاضٍ لأهل البلد كلهم، فلو كان في جانب منه، لشق على أهل الجانب الآخر، وعلى هذا فينظر إلى قصبة البلد، يعني وسطها، فيكون مجلس القاضي فيه سواء في بيت القاضي، أو مكتب آخر.
(1)
سبق تخريجه ص (257 ـ 258).
قوله: «فسيحاً» خبر آخر لـ «يكن» ، يعني ليكن مجلسه فسيحاً، لأنه قد تكثر الخصوم فيضيق بهم، ولأن المكان الفسيح أوسع للصدر وأشرح، فكلما كان المكان فسيحاً كان انبساط الإنسان فيه أكثر، وصدره أرحب وأوسع.
فإن قيل: وهل يجوز للقاضي أن يطلب أجرة من الخصمين؟
فالجواب: إن كان له رزق من بيت المال فإنه يحرم عليه لأنه يشبه هدايا الغلول، وإن لم يكن له شيء من بيت المال فقال الفقهاء يجوز أن يسأل ما يدفع به حاجته فقط. والصحيح أنه لا يجوز حتى هذا لأنه يفتح باب المفاسد والشرور.
ثم بدأ المؤلف بذكر الآداب الواجبة، فقال:
«ويعدل» الجملة استئنافية، وهي خبر بمعنى الأمر، يعني يجب عليه أن يعدل بين الخصمين، لقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} [النحل: 90]، وقوله:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا} [النساء: 58]، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم:«اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم»
(1)
، فأمر بالعدل بين الأولاد، ومثلهم غيرهم ممن يتساوون في الحقوق.
قوله: «بين الخصمين» يشمل ما إذا كانا كافرين أو مسلمين، أو أحدهما كافراً والآخر مسلماً، فيجب أن يعدل
(1)
أخرجه البخاري في الهبة/ باب الإشهاد في الهبة (2587)، ومسلم في الهبات/ باب كراهة تفضيل بعض الأولاد في الهبة (1623) عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما.
بينهما؛ لأن المقام مقام حكم يستوي فيه جميع الأفراد المحكوم عليهم، أو لهم، فيجب أن يعدل بين الخصمين أياً كانت ديانتهما.
قوله: «في لحظه» أي: يجب أن يعدل بينهما في النظر إليهما، فلا ينظر إلى أحدهما نظرة رضا وإلى الآخر نظرة غضب، بل يجب عليه أن ينظر إليهما نظرة واحدة، سواء اقتضت الحال أن ينظر إليهما نظر غضب، أو نظر رضا، المهم أن لا يختلف نظره للخصمين.
قوله: «ولفظه» كذلك يجب عليه العدل في لفظه، فلا يلينه لأحدهما، ويغلظه للآخر، فلا يقول لأحدهما إذا سلم: أهلاً، وعليكم السلام، مرحباً، كيف الأولاد والأهل؟ وما أشبه ذلك، والآخر إذا سلم رد بقوله: وعليكم السلام بصوت لا يكاد يسمع، أو يتأفف وما أشبه ذلك، فهذا لا يجوز، وأيضاً لا يجوز أن يحتفي بأحدهما، فيسأله عن أصله وولده وماله، والثاني لا يسأله، حتى لو كان قريباً له ولم يره من زمن بعيد، فلا يجوز؛ لأنه يمكن أن يسأله في مكان آخر، أما هنا فالناس سواء لا يجوز أن يفضل أحدهما على الآخر في اللفظ، كذلك ـ أيضاً ـ يجب عليه أن يعدل بينهما حتى في نبرات الصوت، فلا يكلم أحدهما برفق ولين، والآخر بغلظة وشدة، بل يجب عليه العدل في اللفظ من حيث عدد الكلمات، ومن حيث كيفية اللفظ، ونبرات الصوت.
لكن إذا أساء أحد الخصمين الأدب في مجلس الحكم
فللقاضي أن يوبخه، وأن يطلب ـ مثلاً ـ من الشرطي أن يعاقبه، أو ما أشبه ذلك.
قوله: «ومجلسه» يعني يكون مجلس الخصمين واحداً في الدنو منه، وفي نوع ما يجلسان عليه، فلا يفضل أحدهما على الآخر، فلا يجوز أن يدني أحدهما دون الآخر، أو يجلس أحدهما على فراش وثير والآخر على بساط عادي.
قوله: «ودخولهما عليه» فلا يقدم أحدهما على الآخر، بل يدخلان جميعاً، فلا يقل لأحدهما إذا وقف عند الباب: تفضل يا فلان، إلا إذا قدم أحدهما الآخر، أما أن يدخل القاضي أحدهما قبل الآخر فهذا لا يجوز؛ لأن هذا خلاف العدل، ولا شك أن المقام مقام عدل، وأنه إذا خولف العدل في هذا المكان لأفضى إلى بطلان حجة من له حجة، وانتصار من ليس له حجة، فالواجب العدل.
فإن كان الباب لا يسع إلا واحداً فيقرع بينهما، إلا إذا اختار أحدهما أن يقدم صاحبه فالحق لهما.
فإن قيل: ألا نقدم الأكبر؟ قلنا: لا، المقام مقام عدل، فلا نقدم الأكبر، ولا الأقرب، ولا الأشرف، ولا الأوضع، بل نقول: الحق لكما أن تدخلا جميعاً، أو تختصما فيما بينكما.
مسألة: لو سبق أحدهما بالسلام على القاضي، فهل يرد السلام أو ينتظر حتى يسلم الآخر؟
الجواب: لا ينتظر، بل يرد السلام؛ لأن هذا الذي سلّم سبق حقه بفعله لا بفعل القاضي، والأولى للقاضي أن يباشرهما
بالسؤال بعد دخولهما عليه قائلاً: ما قضيتكما؟ حتى لا يضيع عليه الوقت أو يحرج نفسه بإسكات المتكلم. فصار يجب العدل في هذه الأمور الأربعة، وفي غيرها أيضاً، وإنما نص المؤلف على هذه الأربعة لأنها دقيقة، وربما لا يلقي لها بعض القضاة بالاً، ولا يهتم بها، وأما العدل في كيفية الحكم، وفي تلقي الحجة، وفي المحاجة، فهذا أمر لا شك في وجوبه، ولكنه ذكر هذه الأشياء؛ لأنه إذا وجب العدل فيها وجب فيما هو أولى منها.
قوله: «وينبغي أن يحضر مجلسه فقهاء المذاهب ويشاورهم فيما يشكل عليه» فإذا كان في البلد عدة مذاهب فينبغي أن يحضر مجلسه فقهاء المذاهب، فإذا كان في البلد خمسة مذاهب، حنفي، ومالكي، وشافعي، وحنبلي، وظاهري، أحضر من كل مذهب فقيهاً، حتى إذا أشكل عليه شيء شاورهم، هكذا قال المؤلف تبعاً لغيره من فقهاء المذهب، والصحيح أن هذا ليس بمستحب، بل تركه هو المستحب؛ لأن إحضار الفقهاء فيه عدة محاذير:
الأول: أن من القضايا ما يحب الخصمان أن يكون سراً، لا يطلع عليه أحد، فإذا أحضر القاضي أناساً، وقد لا يحتاج إليهم فإن الخصمين يخجلان من ذلك.
الثاني: أنه قد يكون بعض الفقهاء من الثرثارين المتكلمين، فتنتشر قضايا المسلمين بين الناس.
الثالث: أن في ذلك إضعافاً لجانب القاضي؛ لأن الناس يقولون: إن هذا القاضي لا يقضي إلا والفقهاء عنده، ومعنى ذلك أنه لا علم عنده، وإذا ضعف جانب القاضي أمام الناس أصبحت أحكامه مهلهلة، وكل إنسان يستطيع أن يعترض عليه.
الرابع: أن في ذلك إظهاراً للفرقة بين الناس؛ لأن المطلوب تقليل الخلاف ما استطعنا، وأن لا نقول: ما مذهب فلان؟ وأنت على أي مذهب؟ وما أشبه هذا، فإن الواجب أن يحشر الناس كلهم بقدر الاستطاعة على قول واحد، وهو ما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أما أن نظهر الفرقة بين الناس بالفِرَق وتعدد المذاهب فهذا أمر لا ينبغي.
وواحد من هذه المحاذير يكفي في أن نقول: لا ينبغي أن يحضر في جملة الفقهاء، وأما ما يشكل عليه فإنه يرجئ النظر فيه، ويقول للخصمين: اذهبا وارجعا بعد يوم، أو يومين، أو ثلاثة، حسب ما يظن أن المسألة تتطلبه من وقت، ثم يراجعها بنفسه، ويشاور العلماء الذين في بلده، أو خارج بلده كما في وقتنا الحاضر، إذ يستطيع القاضي وهو في مجلس الحكم أن يتصل بأي عالم يثق بعلمه، فيشاوره ويحكم. والحاصل أن ما قاله المؤلف رحمه الله من إحضار فقهاء المذاهب فيه نظر بل هو ضعيف.
وَيَحْرُمُ الْقَضَاءُ وَهُوَ غَضْبَانُ كَثِيراً، أَوْ حَاقِنٌ، أَوْ فِي شِدَّةِ جُوعٍ، أَوْ عَطَشٍ، أَوْ هَمٍّ، أَوْ مَلَلٍ، أَوْ كَسَلٍ، أَوْ نُعَاسٍ، أَوْ بَرْدٍ مُؤْلِمٍ، أَوْ حَرٍّ مُزْعِجٍ،
.............................
قوله: «ويحرم القضاء وهو غضبان كثيراً» هذا من الآداب الواجبة، وهو تجنب القضاء في حال الغضب الشديد، فالقضاء في حال الغضب الشديد محرم.
والغضب انفعال يحدث للنفس بسبب ما يثير من مخالفة الهوى، فتجد الرجل تنتفخ أوداجه، وتحمر عيناه ووجهه، ويقف شعره، ويفقد وعيه أحياناً، إذ تصل الحال بالغضبان أحياناً حتى لا يدري أفي السماء هو أم في الأرض؟ ولا يدري ما يتكلم به.
والغضب ثلاثة أقسام: غاية، وابتداء، ووسط، فالابتداء لا يضر؛ لأنه ما من إنسان يخلو منه إلا نادراً، والغاية لا حكم لمن اتصف به في أي قول يقوله، والوسط محل خلاف بين العلماء.
ولنضرب لذلك مثلاً برجل طلق وهو غضبان، فإن كان من أول الغضب فطلاقه واقع نافذ، وإن كان في غايته، فطلاقه غير واقع، ولا نافذ، وهذان موضعان متفق عليهما، وإن كان في وسط الغضب فللعلماء في ذلك قولان مشهوران، أصحهما أن الطلاق لا يقع؛ لأن هذا الرجل الغضبان يجد في نفسه شيئاً يرغمه، ويضطره إلى أن يطلق، مع أنه يدري ما يقول، وقد جاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم:«لا طلاق في إغلاق»
(1)
.
فالغضب الذي يحرم على القاضي أن يقضي فيه هو الغاية والوسط، والدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم:«لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان»
(2)
، والتعليل أن الغضبان لا يتصور القضية تصوراً تاماً،
(1)
أخرجه الإمام أحمد (6/ 276)، وأبو داود في الطلاق/ باب في الطلاق على غلط (2193)، وابن ماجه في الطلاق/ باب طلاق المكره والناسي (2046) عن عائشة رضي الله عنها.
انظر: التلخيص (1598)، والإرواء (2047).
(2)
أخرجه البخاري في الأحكام/ باب هل يقضي القاضي أو يفتي وهو غضبان؟ (7158)، ومسلم في الأقضية/ باب كراهة قضاء القاضي وهو غضبان (1717) عن أبي بكرة رضي الله عنه.
ولا يتصور تطبيقها على النصوص الشرعية تطبيقاً تاماً، والحكم لا بد فيه من تصور القضية، ثم تصور انطباق الأدلة عليها؛ لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، والحكم على الشيء لا بد فيه من معرفة الموجِب للحكم، والغضبان لا يتصور ذلك، لا القضية ولا انطباق الأحكام عليها، ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يقضي بين اثنين وهو غضبان
(1)
.
وأيضاً فإنه إذا كان أحد الخصمين هو الذي أثار غضب القاضي فهنا محذور ثالث، وهو أنه قد يحمله غضبه على هذا الخصم أن يحكم عليه مع أن الحق له.
وقوله: «وهو غضبان كثيراً» يفيد أنه إذا كان الغضب يسيراً في ابتدائه فلا يحرم القضاء، وقد قضى النبي صلى الله عليه وسلم وهو غضبان في قصة الأنصاري مع الزبير بن العوام رضي الله عنه في المسيل الذي تنازعا فيه عند النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ كان المسيل يأتي على حائط الزبير قبل حائط الأنصاري، فكان الزبير رضي الله عنه يسقي منه ويدع البقية لجاره الأنصاري، فاشتكى الأنصاري إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فترافعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:«اسق يا زبير، ثم أرسل الماء إلى جارك» .
فقوله: «اسق» أمر مطلق يقتضي أنه يسقي زرعه مجرد سقي، ثم يرسل الماء لجاره، فقال الأنصاري ـ عفا الله عنه ـ: أن كان ابن عمتك يا رسول الله؟! فأخذته العزة بالاثم، والإنسان
(1)
سبق تخريجه ص (291).
بشر، وإلا فمن يتهم الرسول صلى الله عليه وسلم بمثل هذا الاتهام؟! فغضب النبي صلى الله عليه وسلم انتقاماً لله؛ لأنه يحكم بأمر الله وشرعه، ثم قال:«يا زبير، اسق حتى يصل إلى الجَدْر، ثم أرسله إلى جارك»
(1)
، فاحتفظ النبي صلى الله عليه وسلم بحق الزبير لما أغضبه الأنصاري، لكن هذا الغضب يسير لا يمنع تصور القضية، وانطباق الحكم الشرعي عليها.
قوله: «أو حاقن» يعني لا يقضي وهو حاقن، وهو المحصور بالبول، وأما الحاقب فهو المحصور بالغائط، فلا يقضين بين اثنين في هذه الحال؛ لأن هذه الحال تشبه حال الغضب في عدم تصور القضية وانطباق الحكم الشرعي عليها.
قوله: «أو في شدة جوع» أي: يحرم عليه القضاء في شدة جوع، حتى وإن كان سببه الصيام، فلو جاءا يتحاكمان إليه في آخر النهار وهو جائع جوعاً شديداً، نقول: لا تقضِ بينهما، فإذا صرفهما، فهل يستفيد من ذلك بأن يأكل؟ لا يستفيد ذلك؛ لأنه لن يأكل حتى تغرب الشمس، ولكنه يستفيد أن لا يخطئ في الحكم، بخلاف المصلي إذا أراد أن يصلي وهو جائع فلا نقول له: لا تصل حتى تفطر وتأكل؛ لأن الصلاة يفوت وقتها، أما الحكم بين اثنين فلا يفوت وقته.
قوله: «أو عطش» كذلك لا يقضي في شدة العطش؛ لأن ذهنه مُشوش، حتى يشرب ثم يقضي بينهما.
(1)
أخرجه البخاري في المساقاة/ باب سكر الأنهار (2360)، ومسلم في الفضائل/ باب وجوب اتباعه صلى الله عليه وسلم (2357) عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما.
قوله: «أو هَمٍّ» أي: شدة هَمٍّ، وهذا أمر خفي، لأن الإنسان بشر تعتريه هموم في بعض الأحيان، لأسباب خارجية، أو أهلية، أو داخلية في نفسه، فإذا كان في شدة همٍّ وجاءه اثنان يريدان أن يقضي بينهما، فيقول: أنا فكري مشغول، وعندي هموم كثيرة، فلا يقضي بينهما، ومثل ذلك لو كان شخص من أهله مريضاً مرضاً مدنفاً، أو سمع بانتصار بعض الكفار، فانشغل ذهنه بذلك، فحينئذ ينتظر حتى يزول ذلك الهم. فمن كان مهموماً هما خارجياً أو داخلياً فلا يحل له القضاء في هذه الحال.
قوله: «أو ملل» أي: لا يقضي في شدة ملل، كأن يكون من الساعة السابعة صباحاً وهو يقضي بين الناس، وصابر على أذاهم وأصواتهم وصخبهم، فلما وصلت الساعة الثانية إلا ربعاً مساء جاءه خصمان ليقضي بينهما، فقال: أنا مللت، ولا أستطيع أن أقضي بينكما، فله ذلك، بل يجب عليه أن يعتذر؛ لأن الإنسان بشر، ويحرم عليه القضاء، والعلة هي علة تحريم القضاء في حال الغضب.
قوله: «أو كسل» أي: شدة كسل، كأن يكون به نوم أو نعاس، فلا يجوز له أن يقضي بين الخصوم في هذه الحال، ولو رضي الخصوم؛ لأن هذا حق لله تبارك وتعالى.
قوله: «أو نعاس» أي: شدة نعاس، فلا يجوز أن يقضي في شدة نعاس حتى يزول.
قوله: «أو برد مؤلم» أي: يحرم عليه القضاء في برد مؤلم، كأن يأتيه الخصوم زمن شتاء بارد ليقضي بينهم، فيقول: لا أقضي
بينكم، بل أذهب وأتدفأ، أو ألبس ثياباً أكثر، ثم أقضي بينكم.
قوله: «أو حر مزعج» أي: يحرم عليه القضاء في حر مزعج، فإذا كان في حر شديد جداً ليس عنده مكيف ولا مروحة، يقول للخصوم: انتظروا إلى آخر النهار، أو حتى أغتسل وأتبرد؛ لأن الحر مزعج لا يجوز معه القضاء.
كل هذه الأحوال التي ذكرها المؤلف مقيسة على قول الرسول عليه الصلاة والسلام: «لا يقضي أحد بين اثنين وهو غضبان»
(1)
، إذاً كل حال تعتري القاضي تكون حائلاً بينه وبين تصور القضية، أو انطباق الأحكام الشرعية عليها، فإنه يحرم عليه القضاء فيها حتى يزول هذا السبب، لأن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً.
وَإِنْ خَالَفَ فَأَصَابَ الْحَقَّ نَفَذَ، وَيَحْرُمُ قَبُولُ رَشْوَةٍ وَكَذَا هَدِيَّةٍ، إِلاَّ مِمَّنْ كَانَ يُهَادِيهِ قَبْلَ وِلَايَتِهِ إِذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ حُكُومَةٌ، ..............
قوله: «وإن خالف» أي: القاضي، وحكم في هذه الأحوال التي لا يحل له فيها الحكم.
قوله: «فأصاب الحق نفذ» أي: حكمه، فإن قال قائل: كيف ينفذ وهو محرم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد»
(2)
، أفليست القاعدة أن مثل هذا يوجب بطلان الحكم، كما لو عقد على امرأة عقداً محرماً فإن العقد يبطل؟
فالجواب: أن يقال: إنه إنما نهي عن ذلك خوفاً من مخالفة الصواب، فإذا وقعت الإصابة فهذا هو المطلوب، إذاً هنا نقول: هذا لم يخرج عن القاعدة، وهي أن الشيء المحرم لا ينفذ ولا
(1)
سبق تخريجه ص (291).
(2)
سبق تخريجه ص (67).
يصح؛ لأن العلة التي من أجلها حرم انتفت، حيث إنه أصاب الصواب، فإن لم يصب الحق فإنه لا ينفذ؛ لأنه على غير حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فهذا الرجل أساء فحكم في حال الغضب، أو الجوع أو ما أشبه ذلك، ولم يصب الحق، فهو ليس مصيباً لا في إقدامه على الحكم ولا في حكمه، فيكون حكمه باطلاً. وهل لأحد الخصمين أن يطالب القاضي بالدليل؟
نقول: ليس لأحد الخصمين أن يطالب القاضي بالدليل لأنه لو فتح هذا الباب لم ينفذ أي حكم من الأحكام.
قوله: «ويحرم قبول رشوة» وهي مثلثة الراء، يقال: رِشوة، ورَشوة، ورُشوة، وهي مأخوذة من الرشاء وهو الحبل الذي يعقد به الدلو لاستخراج الماء، والرشاء يتوصل به الإنسان إلى مقصوده وهو الماء، والرِّشوة بذل شيء يتوصل به الإنسان إلى المقصود، فكل من بذل شيئاً يتوصل به إلى المقصود فهو راشٍ، لكن الرشوة في الحكم لا تجوز، وهي أن يبذل الخصم للقاضي شيئاً يتوصل به إلى أن يحكم له القاضي بما ادعاه، أو يرفع عنه الحكم فيما كان عليه؛ لأن الراشي ـ الذي يعطي الرشوة ـ تارة يريد أن يُحكم له بما ادعاه، وتارة يريد أن يرفع عنه ما ادعي عليه، وبينهما فرق، إذا كان الخصم يدعي أنه يطلب فلاناً مائة ألف، ودفع إلى القاضي رشوة، فهذا يريد من القاضي أن يحكم له بما ادعاه، وإذا كان الخصم قد ادعي عليه بمائة ألف وأعطى القاضي دراهم، فهذا يريد من القاضي أن يرفع عنه ما ادعي عليه، وفي كلتا الصورتين الرشوة محرمة للتالي:
أولاً: للحديث الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن الراشي والمرتشي
(1)
، واللعن هو الطرد والإبعاد عن رحمة الله، وهذا يقتضي أن تكون الرشوة من كبائر الذنوب.
ثانياً: أن فيها فساد الخلق؛ فإن الناس إذا كانوا يُحكم لهم بحسب الرشوة فسد الناس، وصاروا يتباهون فيها أيهم أكثر رشوة، فإذا كان الخصم إذا أعطى ألفاً حكم له، وإذا أعطى ثمانمائة لم يحكم له، فسيعطي ألفاً، وإذا ظن أن خصمه سيعطي ألفاً أعطى ألفين، وهكذا فيفسد الناس.
ثالثاً: أنها سبب لتغيير حكم الله عز وجل؛ لأنه بطبيعة الحال النفس حيّافة ميّالة، تميل إلى من أحسن إليها، فإذا أعطي القاضي رشوة حكم بغير ما أنزل الله، فكان في هذا تغيير لحكم الله عز وجل.
رابعاً: أن فيها ظلماً وجَوراً؛ لأنه إذا حكم للراشي على خصمه بغير حق فقد ظلم الخصم، ولا شك أن الظلم ظلمات يوم القيامة، وأن الجور من أسباب البلايا العامة، كالقحط وغيره.
خامساً: أن فيها أكلاً للمال بالباطل، أو تسليطاً على أكل
(1)
أخرجه الإمام أحمد (2/ 164)، وأبو داود في الأقضية/ باب في كراهية الرشوة (3580)، والترمذي في الأحكام/ باب ما جاء في الراشي والمرتشي في الحكم (1336)، وابن ماجه في الأحكام/ باب التغليظ في الحيف والرشوة (2313)، وابن حبان (11/ 467)، والحاكم (4/ 115)، والبيهقي (10/ 138). قال الترمذي:«حديث حسن صحيح» ، وصححه الحاكم.
المال بالباطل، لأنه ليس من حق القاضي أن يأخذ شيئاً على حكمه؛ لأننا نقول: هذا الذي أخذه القاضي إما أن يحمله على الحكم بالحق، والحكم بالحق لا يجوز أن يأخذ عليه عوضاً دنيوياً، وإما أن يحمله على الحكم بخلاف الحق، وهذا أشد وأشد، فكان أخذ الرشوة أكلاً للمال بالباطل، وبذلها أعانةً لأكل المال بالباطل.
سادساً: أن فيها ضياع الأمانات، وأن الإنسان لا يؤتمن، والإنسان لا يدري أيحكم له بما معه من الحق، أو يحكم عليه؟ وهذا فساد عظيم، ولذلك استحق الراشي والمرتشي لعنة الله ـ والعياذ بالله ـ.
ولكن لو تعذر إعطاء المستحق حقه إلا ببذل الدراهم، فهل يدخل هذا في الرشوة أو لا؟ نقول: نعم، هي رشوة، لكن إثمها على الآخذ دون المعطي؛ لأن المعطي إنما بذلها ليستخرج حقه؛ لأن حقه يضيع إذا لم يبذل ذلك، ويكون اللعن على المرتشي ـ الآخذ ـ وقد نص على ذلك أهل العلم رحمهم الله، وبينوا أن من بذل شيئاً للوصول إلى حقه فليس عليه شيء، ويوجد الآن من يقول للإنسان المطالب بحقه: إما أن تعطيني كذا وكذا ـ صراحةً ـ وإلا فاصبر، وهكذا حتى يمل ويعطيه غصباً عليه، وهذا في الحقيقة أمرٌ مُرٌّ ومفسد للخلق، لأديانهم وأبدانهم؛ لأنهم يأكلون السحت ـ والعياذ بالله ـ.
فإن كان القاضي ليس له رزق ـ أي: راتب ـ من بيت المال، من الدولة، وهو إنسان ليس له مال، وقال للخصمين:
لا أقضي بينكما إلا بكذا وكذا، حسب القضية إن كانت كبيرة قال: أقضي بينكما بشيء كثير، وإذا كانت صغيرة بشيء قليل، فهل يجوز ذلك أو لا؟
في ذلك خلاف، المشهور من المذهب أنه يجوز، والصحيح أنه لا يجوز؛ لأن هذا أخذُ عوض على أمر واجب عليه، فإن الحكم بين الناس واجب، وهو إذا عود نفسه هذا، هل سيقتصر على مقدار الكفاية؟ أبداً سيطمع، وإذا جعل الجُعل مثلاً على الألف خمسة في اليوم الأول، جعل على الألف في اليوم الثاني عشرة وازداد طمعاً، فالصواب أن هذا لا يجوز، ويقال له: اتق الله بقدر ما تستطيع، اعمل في السوق، واقض بين الناس في وقت آخر، لكن هذه المسألة نادرة الوقوع جداً، وفي زماننا هذا ـ ولله الحمد ـ القضاة لهم أرزاق من بيت المال أكثر من كفايتهم.
قوله: «وكذا هدية، إلا ممن كان يهاديه قبل ولايته، إذا لم تكن له حكومةٌ» يعني يحرم على القاضي أن يقبل هدية، فإذا أهدى له إنسان فلا يجوز أن يقبلها، سواء كان لهذا المُهدي حكومة أم لم يكن، وعلى هذا فإذا انتصب رجل للقضاء اليوم الثلاثاء، ففي يوم الاثنين ـ أمس ـ يجوز أن يقبلها، أما اليوم فلا يجوز أن يقبلها إلا بشرطين:
الأول: أن يكون لهذا المُهدي عادة أن يُهدي إلى هذا القاضي قبل أن يتولى القضاء.
الثاني: أن لا يكون له حكومة، فإن كان له حكومة فلا يجوز أن يقبل هديته، ولو كان ممن يهاديه قبل ولايته.
فعندنا أربع مراتب:
الأولى: هدية من شخص يهاديه قبل ولايته، وليس له حكومة، يعني جرت العادة أنه إذا قدم من سفر أهدى إليه هدية، وإذا حصلت عنده مناسبة أهدى إليه هدية، وما أشبه ذلك، فهذا لا بأس به لبعده بعداً تاماً عن الرشوة، والأصل الحل.
الثانية: رجل أهدى عليه هدية، وليس ممن عادته أن يهاديه، وليس له حكومة، فالمذهب لا يجوز كما صرح به المؤلف؛ لأنه ليس له عادة، والقول الثاني: أنه يجوز.
الثالثة: أن يهاديه وله حكومة ولم تكن عادته أن يهاديه، فهذا حرام ولا يجوز.
الرابعة: أن يكون له حكومة، ويهاديه وهو ممن جرت عادته بمهاداته من قبل، فهذا أيضاً لا يجوز.
فالمراتب إذاً أربعة، واحدة تجوز وهي أن يكون ممن يهاديه قبل ولايته وليس له حكومة، والثلاثة الباقية على المذهب لا تجوز، والصحيح أن الهدية إذا لم تكن ممن له حكومة، وإن لم يهاده من قبل فلا بأس بها.
بقي علينا إذا كان هذا الرجل ممن يهاديه قبل ولايته، وأهدى له هدية، وكان له حكومة، لكن ما علم بها القاضي، ثم علم بعد ذلك، فهل يجب على القاضي أن يردها؟
الجواب: نعم.
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَحْكُمَ إِلاَّ بِحَضْرَةِ الشُّهُودِ، وَلَا يَنْفُذُ حُكْمُهُ لِنَفْسِهِ، وَلَا لِمَنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ، وَمَنِ ادَّعَى عَلَى غَيْرِ بَرْزَةٍ لَمْ تَحْضُرْ وَأُمِرَتْ بِالتَّوْكِيلِ، وَإِنْ لَزِمَهَا يَمِينٌ أَرْسَلَ مَنْ يُحَلِّفُهَا وَكَذَا الْمَرِيضُ.
قوله: «ويستحب أن لا يحكم إلا بحضرة الشهود» يستحب للقاضي أن لا يحكم إلا بحضرة الشهود، ويجوز أن يحكم في غيبتهم، فإذا أدوا الشهادة وحكم في غيبتهم فلا بأس، لكن الأفضل أن لا يحكم إلا بحضرتهم؛ لأن الشهود هم الطريق التي توصل للحكم ويستخرج بهم الحق، فلولا شهادتهم ما حكم، فينبغي أن يكون حكمه في حال حضورهم، ولأن هذا أضبط؛ حتى لا يميل يميناً أو شمالاً؛ لأنه ربما ينسى بعض فقرات الشهادة، ولأن هذا ـ أيضاً ـ أقرب إلى ثبوت الشهود؛ إذ إن الشهود قد يكون بعضهم شهد بزور، فإذا رأى أن الحكم سيثبت بناء على شهادته فربما يتراجع.
فهذه ثلاث علل لاستحباب حضور الشهود لحكم القاضي.
قوله: «ولا ينفذ حكمه لنفسه» حكم القاضي لنفسه لا يقبل، وكيف يحكم القاضي لنفسه؟!
الجواب: مثل أن يكون بينه وبين شخص خُصومة، فيقول: نتحاكم أنا وأنت لنفسي عند نفسي، فلا يصلح هذا، فإن رضي الخصم وقال: أنت الحَكَمُ وفيك الخصومة، فإن ذلك يجوز؛ لأن الحق له، وهذه أحياناً ترد، يعني يكون خصمُ القاضي واثقاً من القاضي، فيقول: أنت الحكم، وأنا أثق بأمانتك ودينك وعلمك، فإذا رضي بذلك فلا حرج.
قوله: «ولا لمن لا تقبل شهادته له» مثل أبيه، وولده، وزوجته، فلا يقبل أن يحكم لهم؛ لأن الحكم ـ كما سبق ـ
يتضمن الشهادة؛ لأن الحاكم كأنه يقول: أشهد أن الحق لفلان على فلان، فإذا حكم لأبيه، أو أمه، أو زوجته، أو غيرهم ممن لا تقبل شهادته لهم، فإن هذا كالشهادة لهم، فلا ينفذ حكمه، وهل ينفذ حكمه على نفسه؟
الجواب: نعم؛ لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النساء: 135].
وهل ينفذ حكمه على من لا تقبل شهادته له؟
الجواب: نعم، كما تقبل شهادته عليهم، فيقبل حكمه عليهم.
قوله: «ومن ادعى على غير برزة لم تحضر» يعني من ادعى على امرأة غير برزة، وهي التي لا تبرز للرجال، والنساء بعضهن صاحبة خباء، لا تبرز للرجال، وبعضهن تبرز للرجال، وتتكلم مع الناس، فمن ادعى على برزة فإنها تُحضر كالرجل، ومن ادعي على غير برزة فإنها لا تحضر؛ لأن ذلك يشق عليها، ولأنها ربما مع الحياء والخجل لا تستطيع أن تعبر عما في نفسها من الحجة.
قوله: «وأُمرت بالتوكيل» يعني أن القاضي يرسل لها، وفي عصرنا يكلمها بالهاتف أن توكل شخصاً يخاصم عنها.
وأفادنا المؤلف رحمه الله أنه يجوز التوكيل في الخصومة، وقد سبق ذلك في باب الوكالة.
وهل لها أن تختار رجلاً ألحن من خصمها؟
الجواب: نعم؛ لأنها تريد أن تدافع عن نفسها ما ادعى عليها، أو تثبت لنفسها ما ادعته، فلها أن تختار رجلاً ألحن من
خصمها وأقوى حجة، بشرط أن تعتقد أنها على حق، أما إذا كانت تعلم أنها على باطل، فلا تجوز الخصومة أصلاً.
قوله: «وإن لزمها يمين أرسل من يحلفها» أي: غير البرزة إن وكلت، وحضر الوكيل، وتخاصم مع خصمها، فقال خصمها: أدعي على فلانة بعشرة آلاف ريال، فقال له القاضي: أين البينة؟ قال: ما عندي بينة، فتبقى اليمين، فهل يُحَلَّف الوكيل؟ لا؛ لأن الأيمان لا تدخلها النيابة والوكالة، لكن يرسل القاضي إنساناً ثقةً يُحلِّف المرأةَ، ولا بد أن يكون هذا الرسول ممن تقبل شهادته عليها ولها، فلا يرسل والدها؛ لأن والدها متهم، فربما يقول والدها: إنها حلفت وهي لم تحلف، فإذا حلفت يحكم ببراءتها، فيقول: حضر عندي فلان وكيلاً لفلانة، وفلان أصيلاً عن نفسه، وادعى الثاني على موكلة الأول كذا وكذا، ولم يأت ببينة، وأَرْسَلْتُ من يُحلفها فحَلفت أمامه، وبناء على ذلك أحكم ببراءتها.
قوله: «وكذا المريض» يعني أن المريض لو لزمه يمين، ولا يستطيع أن يحضر بنفسه إلى مجلس الحكم فإن القاضي يُرسل من يُحلفه، وليس كل مريض يُفعل به هكذا، بل المريض الذي لا يستطيع الحضور إلى مجلس الحكم، فالمرض إذاً نوعان:
الأول: يستطيع معه أن يحضر إلى مجلس الحكم، فيلزمه الحضور.
الثاني: لا يستطيع معه الحضور فلا يلزمه، ويقال له: وُكِّل، فإذا لزمه اليمين أرسل إليه من يحلفه.
بَابُ طَرِيقِ الحُكْمِ وَصِفَتِهِ
إِذَا حَضَرَ إِلَيْهِ خَصْمَانِ قَالَ: أَيُّكُمَا الْمُدَّعِي، فَإِنْ سَكَتَ حَتَّى يُبْدَأَ جَازَ، فَمَنْ سَبَقَ بِالدَّعْوَى قَدَّمَهُ، فَإِنْ أَقَرَّ لَهُ حَكَمَ لَهُ عَلَيْهِ،
....
قوله: «طريق» طريق الشيء ما يوصل إليه، ومنه طريق البلد؛ لأنه يوصل للبلد.
قوله: «الحكم» وهو الفصل في الخصومات، يعني باب الطريق الذي نتوصل به إلى الحكم بين الناس.
سبق لنا أن الخصمين يدخلان على القاضي، وأنه يجب أن يعدل بينهما، في لفظه، ولحظه، ودخولهما عليه، ومجلسه، أي: في أربعة أشياء، فإذا دخلا عليه على هذه الصفة، فكيف يتوصل إلى الحكم بينهما؟ يقول المؤلف:
«إذا حضر إليه خصمان قال: أيكما المدعي؟ فإن سكت حتى يُبدأ جاز» إذا حضر الخصمان وجلسا يبن يدي القاضي، فهو يُخير إن شاء قال: أيكما المدعي؟ ولو قال إيش عندكما؟ يجوز؛ لأن هذه الألفاظ ليست للتعبد، المهم أن يسألهما أيكما المدعي؟ فإن قال كلمة سواها تؤدي معناها فلا بأس، أو يسكت حتى يبدأ أحدهما، فصار إذا حضر إليه الخصمان يخير القاضي بين أن يسألهما أو يسكت، لكن إذا سكتوا، فإلى متى الانتظار؟ لأن القاضي قد يكون عنده معاملات ينظر فيها، فإن خاف أن يظن المدعيان أنه مشغول عنهما فليترك النظر؛ ليفسح لهما المجال في
الكلام، المهم إذا سكت فلا بأس، ولكن لا شك أن المؤلف لا يريد من القاضي أن يسكت إلى ما لا نهاية له؛ لأن هذا ضياع لوقته ولوقتهما، لكن يسكت مدة يرى أنهما لو أرادا أن يتكلَّما تكلَّما، فإذا مضت مدة إذا أرادا أن يتكلَّما تكلَّما ولم يتكلَّما، قال لهما: ماذا عندكما؟ لأنهما قد يسكتان هيبة للمقام، لا سيما إذا كان القاضي مهيباً.
قوله: «فمن سبق بالدعوى قدمه» وهذا إذا ما كانت الدعوى من الجانبين، أي: أن كل واحد منهما يدعي على الآخر، فإن من سبق بالدعوى يقدمه، والغالب أن الدعوى تكون من جانب واحد، فأحد الخصمين مدعٍ والآخر مدعى عليه، وفي هذه الحال معلوم أن المدعي هو الذي سيتكلم.
قوله: «فإن أقر له حكمَ له عليه» «إن أقر» الفاعل يعود على المدعى عليه، «له» الضمير يعود على المدعي، أي: فإن أقر المدعى عليه للمدعي حكم القاضي للمدعي على المدعى عليه.
مثال ذلك: حضر إلى القاضي زيد وعمرو، فقال: أيكما المدعي؟ أو سكت حتى بدأ أحدهما، فقال زيد: أدعي على عمرو بمائة ألف ريال، فقال القاضي: ما تقول يا عمرو؟ قال: نعم، صحيح، له علي مائة ألف ريال، فإنه يحكم له عليه، وهذا ما يقع إلا نادراً؛ لأنه لو كان يريد أن يقر ما احتاج إلى أن يأتي إلى القاضي، إلا في مسألة ذكرها ابن القيم في «الطرق الحكمية» ، وهي أن شخصاً كلما ادُّعِيَ عليه عند القاضي أقر، وقال: أنا ما أقدر، ما عندي شيء، ثم يؤمر به فيحبس، ثم
[*] يجيء أبوه ويفديه، ويعطي المدعي ما ادعاه، ويخرج الولد من السجن ويفعل ذلك مراراً، فجاء شخص ذات يوم إلى قاضٍ من القضاة وادعى عليه بدراهم كثيرة، وأقر، لكن القاضي اشتبه عليه الأمر، كيف يقر بهذه السرعة بهذه الدعوى؟! فما لبث أن جاء أبوه يشكو، يقول: هذا ابني، أنفد مالي، يقيم من يدعي عليه بدعوى كبيرة، ثم يقر، ثم يحبس ليسلم المدعى به، فأفتديه ويأخذ المال، نصفه له ونصفه للمدعي، فأتعبني، فقال: الحمد لله، إذاً فراستي ما خابت.
على كل حال، نقول: هذا الأمر نادر الوقوع، اللَّهم إلا لحيلة، لكن قد يقول إنسان: يمكن أن يقع هذا، مثل أن يكون الرجل في أول أمره يريد أن يأكل المال بالباطل، فلما حضر للقاضي تذكر حضوره بين يدي الله مع خصمه، فَلَانَ قلبُهُ، وقال: إذاً أقر بالحق هنا؛ ليؤخذ مني قبل أن يؤخذ من عملي الصالح، وربما يكون هذا المدعى عليه قد نسي فأنكر، أو ادعى الوفاء مثلاً، ثم أثناء جلوسه عند القاضي تذكر، المهم على كل حال، إذا أقر حكم القاضي للمدعي على المدعى عليه بإقراره.
وَإِنْ أَنْكَرَ قَالَ لِلْمُدَّعِي: إِنْ كَانَ لَكَ بَيِّنَةٌ فَأحْضِرْهَا إِنْ شِئْتَ، فَإِنْ أَحْضَرَهَا سَمِعَهَا وَحَكَمَ بِهَا، وَلَا يَحْكُمُ بِعِلْمِهِ،
..........
قوله: «وإن أنكر» أي: المدعى عليه.
قوله: «قال للمدعي» أي: قال الحاكم للمدعي:
«إن كان لك بينة فأحضرها إن شئت» إذا أنكر المدعى عليه، يقول القاضي للمدعي: إن كان لك بينة فأحضرها إن شئت، وانظر إلى التلطف مع الخصوم لا يقول: أحضر بينتك، بل يقول:
أحضرها إن شئت؛ لئلا يكون في ذلك إلزام للمدعي، بل يقول: إن شئت، وإن قال كلمة غير هذه، بأن قال: يا فلان إن كان عندك بينة فهاتها، فلا بأس؛ لأن المقصود المعنى، إذ إن هذه ألفاظ ليست للتعبد، فأي لفظ حصل به المعنى كفى.
قوله: «فإن أحضرها» أي: المدعي.
قوله: «سمعها» أي: القاضي، بمعنى أنه يقبل الكلام، ويقول: شهادتكما صحيحة.
قوله: «وحكم بها» يعني يقول: ثبت لدي أن لفلان على فلان كذا وكذا. فالسماع سابق على الحكم.
وقوله: «فإن أحضرها سمعها» ظاهره أنه يسمعها مطلقاً، ولكنه مقيد بما إذا كانت البينة ذات عدل، فإن كان القاضي يعلم أن هذه البينة ليست ذات عدل، فإنه لا يسمعها أصلاً، وإذا لم يسمعها لم يحكم بها، وهنا هل يجوز للقاضي أن يحكم بعلمه، أو يعتمد على علمه في عدالة الشهود إذا كان يعرفهما، أو لا يعتمد على علمه ويطلب تزكيتهما؟
الجواب: يعتمد على علمه، فإذا كان يعرف الشاهدين، وأنهما عدلان فلا يحتاج إلى طلب تزكيتهما من المدعي، أما إذا كان يعلم أنهما غير عدلين فإنه لا يسمعهما، بل يردهما.
وهل يجوز أن يمتحنهما، بأن يكرر عليهما السؤال؟ مثل أن يقول: كيف باع عليه؟ وفي أي وقت؟ وفي أي مكان؟ وهل هو غضبان؟ أو راضٍ؟ وما أشبه ذلك.
نقول: لا يجوز أن يعنت الشاهدين؛ لأن هذا يؤدي إلى
كراهة الناس الشهادة، ولأنه إذا عنتهما فإن بعض الناس ليس عنده تلك القوة، فربما يتضعضع، ويضعف في أداء الشهادة، فلا يجوز تعنيتهما، ولا انتهارهما، ولا امتحانهما، إلا إذا صار عنده شك، فلا بأس أن يفرق الشهود، ويطلب من كل واحد شهادة، وينظر هل تتناقض الشهادة أو لا؟
وقوله: «وحكم بها» أي: بعد تمام شروط الحكم، بعد أن يتضح له الحكم الشرعي، وإلا فلينتظر.
قوله: «ولا يحكم بعلمه» يعني لو تخاصم إليه اثنان، وهو يعلم أن المدعي صادق فيما ادعاه، فهل يحكم بعلمه؟ المؤلف يقول: لا يحكم بعلمه، ولو كان يعلم مثل الشمس أنه صادق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول:«إنما أقضي بنحو ما أسمع»
(1)
، ولم يقل: بنحو ما أعلم، فجعل الحكم مبنياً على الأمور الحسية الظاهرة؛ لئلا يكون القاضي محل تهمة؛ لأنه إذا حكم بعلمه قال الناس: حكم لفلان على فلان، وهو مدعٍ بدون شهود فيتهمونه.
ثم لو فتحنا الباب وقلنا: إن هذا القاضي من أعدل عباد الله ولا يحكم إلا بالحق، يأتي قاضٍ آخر ويحكم بالباطل، ويقول: هذا الذي أعلمه! وهذا ممكن، فلو فتح الحكم للقاضي بعلمه لفسدت أحوال الناس؛ لأنه ليس كل إنسان ثقة، فَسدُّ الباب هو الأولى.
(1)
أخرجه البخاري في الحيل/ باب إذا غصب جارية فزعم أنها ماتت
…
(6967)، ومسلم في الأقضية/ باب الحكم بالظاهر واللحن بالحجة (1713) عن أم سلمة رضي الله عنها.
فإذا تحاكم إليَّ خصمان وأنا أعلم أن الحق مع المدعي علم اليقين؛ لأن المدعى عليه جاء عندي البارحة وأقر، فماذا أعمل؟ أحوِّل القضية إلى قاضٍ آخر، وأكون شاهداً.
وظاهر كلام المؤلف أن القاضي لا يحكم بعلمه مطلقاً، ولكن هنا ثلاث مسائل استثناها العلماء، قالوا: إنه يحكم بعلمه فيها:
الأولى: عدالة الشهود وجرح الشهود، فإذا كان يعلم عدالة الشاهدين حكم بشهادتهما بدون طلب تزكية، وإذا كان يعلم جرحهما رد شهادتهما بدون جارح؛ لأن هذا ليس حكماً مباشراً حتى يتهم القاضي فيه، وإنما هو حكم بسبب الحكم، أو حكم بالذي ينبني عليه الحكم.
الثانية: ما علمه في مجلس الحكم فإنه يحكم به، مثل أن يتحاكم إليه اثنان، وفي أول الجلسة أقر المدعى عليه بالحق، ثم بعد ذلك أنكر، فيحكم عليه؛ لأنه ما زال في مجلس الحكم، وقد سمع من المدعى عليه الإقرار فوجب عليه أن يحكم به، حتى لو أنكر بعد ذلك ما يقبل.
الثالثة: إذا كان الأمر مشتهراً واضحاً بيناً، يستوي في علمه الخاص والعام، القاضي وغيره، فهنا يحكم بعلمه، مثال ذلك: اشتهر في البلد أن هذا الملْك وَقْفٌ على الفقراء من أزمان طويلة، فجاءت ذرية الواقف، وقالوا: هذا لنا، هذا لأبينا ولجدنا، وكان القاضي يعلم كما يعلم سائر الناس أن هذا الملْك وقف، فهنا يحكم بعلمه؛ لأنه مشتهر والاتهام منتفٍ، ودخول من لا يوثق فيه ـ أيضاً ـ منتفٍ.
وَإِنْ قَالَ الْمُدَّعِي: مَا لِي بَيِّنَةٌ، أَعْلَمَهُ الْحَاكِمُ أَنَّ لَهُ الْيَمِينَ عَلَى خَصْمِهِ، عَلَى صِفَةِ جَوَابِهِ، فَإِنْ سَأَلَ إِحْلَافَهُ أَحْلَفَهُ وَخَلَّى سَبِيلَهُ، وَلَا يُعْتَدُّ بِيَمِينِهِ قَبْلَ مَسْأَلَةِ الْمُدَّعِي، وَإِنْ نَكَلَ قَضَى عَلَيْهِ، فَيَقُولُ: إِنْ حَلَفْتَ وَإِلاَّ قَضَيْتُ عَلَيْكَ، فَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ قَضَى عَلَيْهِ، وَإِنْ حَلَفَ المُنْكِرُ ثُمَّ أَحْضَرَ المُدَّعِي بَيِّنَ
ةً حَكَمَ بِهَا، وَلَم تَكُنِ الْيَمِينُ مُزِيْلَةً لِلْحَقِّ.
قوله: «وإن قال المدعي: ما لي بينة» «ما» نافية، يعني ليس لي بينة، والبينة سيأتي ـ إن شاء الله ـ أنها تختلف باختلاف المشهود به، فقد تكون رجلاً وامرأتين، وقد تكون رجلين، وقد تكون امرأةً واحدةً، حسب المشهود به كما سيأتي إن شاء الله.
وقوله: «ما لي بينة» هنا نقول: إنه ينبغي للمدعي أن يقول: لا أعلم لي بينة؛ لأنه قد يكون هناك بينة لم يعلم بها، أو نسيها، ثم إذا أقامها بعد أن قال: ما لي بينة، فإنها لا تسمع على المشهور من المذهب كما سيأتي إن شاء الله، فالأحسن أن يقول: لا أعلم لي بينة.
قوله: «أعلمه الحاكم أن له اليمين على خصمه على صفة جوابه» لا على حسب دعوى المدعي، فإذا لم يكن لك بينة وأنكر المدعى عليه نقول: إن لك اليمين على خصمك على صفة جوابه، لا على ما ادعيت، فمثلاً إذا قال: أدعي بمائة، وقال الخصم: إنه لا يستحق عليَّ إلا خمسين فكيف يحلف؟ يقول: والله لا يستحق عليَّ إلا خمسين، ولا حاجة إلى أن يقول: والله لا يطلبني مائةً؛ لأنه ما يُلزم باليمين إلا على صفة ما أجاب به، فيُحلّف على صفة ما أجاب به، والدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم:«البينة على المدعي واليمين على من أنكر»
(1)
، والتعليل أن اليمين في
(1)
أخرجه البيهقي (10/ 252)، وأخرجه الترمذي والدارقطني بلفظ:«البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه» . وأصله في الصحيحين بدون قوله: «البينة على المدعي» .
الخصومات تكون في جانب أقوى المتداعيين، وهنا لدينا مدعٍ ومدعى عليه، وجانب المدعى عليه أقوى؛ لأن الأصل معه، فالأصل عدم ثبوت ما ادعى به المدعي، إذاً ترجح جانب المدعى عليه لكون الأصل معه، فكانت اليمين في حقه لا في حق المدعي.
وهذه القاعدة لها فروع تؤيدها، فمثلاً: إذا ادعى شخص بشيء على آخر، وأتى بشاهد وحلف مع الشاهد، حُكم له بذلك؛ لأن الشاهد الواحد لا يكفي لكن يقوى جانبه به، فتشرع اليمين في حقه، فإذا حلف حُكم له.
في باب القسامة جانب المدعي أقوى من جانب المدعى عليه.
كذلك ـ أيضاً ـ لو ادعت المرأة بعد أن فارقها زوجها أن الثياب التي في الغرفة لها، وهي ثياب امرأة، وقال الزوج: بل هي لي، فهنا جانب المرأة أقوى، فتأخذ ذلك بيمينها.
ومثله ـ أيضاً ـ رجل أصلع، يركض وراء رجل هارب، وعليه غترة وبيده غترة، والأصلع يقول: هذه غترتي، فالأصلع مدعٍ، فتكون الغترة له بيمينه؛ لأن جانبه أقوى.
قوله: «فإن سأل إحلافه أحلفه وخلى سبيله» «إن سأل» الفاعل المدعي، «إحلافه» الضمير يعود على المدعى عليه، والمسؤول إحلافه القاضي، يعني إن سأل المدعي القاضي إحلاف المدعى عليه، فقال له القاضي: احلف، فحلف، فإنه يخلي سبيله وتنتهي القضية، وتنفك الخصومة.
قوله: «ولا يعتد بيمينه قبل مسألة المدعي» أي: لا يعتد بيمين المنكر قبل سؤال المدعي الحاكمَ أن يحلفه، فلو أن الحاكم تعجل لما رأى المدعى عليه أنكر، قال: احلف، قبل أن يقول خصمه: حلِّفه، فإن اليمين هنا لا يعتد بها؛ لأن هذه اليمين صارت قبل وجود السبب، وتقدم الشيء على سببه لا يعتد به، كما قرره ابن رجب رحمه الله في القواعد، فالحق للمدعي، فإذا حلّفه قبل سؤاله، فقد حلفه قبل وجود السبب، فلا يعتد بهذه اليمين.
ولكن إذا جرى عرف القضاة بأنه لا يحتاج إلى مسألة المدعي، وحَلَّفوه بدون مسألته، فإن الطلب العرفي كالطلب اللفظي.
قوله: «وإن نكل قضى عليه» «إن نكل» يعني امتنع المدعى عليه عن اليمين، قضي عليه القاضي.
لكن هل يقضي عليه فوراً؟ لا، يقول المؤلف.
«فيقول: إن حلفت وإلا قضيت عليك» «إن حلفت» فعل الشرط وجواب الشرط محذوف تقديره خليت سبيلك، وإلا تحلف قضيت عليك، فربما إذا قال له هذا القول يخاف فيحلف، ولهذا لا بد أن يقول له القاضي هذا القول، ولا يكتفي بمجرد نكوله.
قوله: «فإن لم يحلف قضى عليه» وإن حلف خلى سبيله.
وظاهر كلام المؤلف أن اليمين لا ترد على المدعي، بل يُحكم للمدعي بمجرد نكول المدعى عليه، فمثلاً ادعى زيد على عمرو بمائة ريال، فقيل لزيد: هات البينة، فقال: ليس عندي بينة، وطلب أن يحلف المُنكر ـ الذي هو عمرو ـ فقال عمرو: لا أحلف، فظاهر كلام المؤلف أنه يحكم عليه ولا نقول لزيد ـ المدعي ـ: احلف أنك تطلبه كذا وكذا؛ لقول الرسول عليه الصلاة والسلام: «البينة على المدعي واليمين على من أنكر»
(1)
، فلم يجعل في جانب المدعي إلا البينة، وجعل اليمين في جانب المنكر، إذاً لا نرد اليمين؛ لأن المدعي إذا قلنا له: احلف، قال: لا أحلف، أنا ما علي إلا البينة وما عندي بينة، فبيِّنتي نُكُولُ هذا الرجل، وهذا هو المشهور من المذهب.
القول الثاني: أن اليمين ترد على المدعي؛ لأنه لما نكل المدعى عليه قوي جانب المدعي، والمدعي إذا كان صادقاً في دعواه فالحلف لا يضره، وإن كان كاذباً فقد يهاب الحلف ولا يحلف، فعلى القول بالرد إذا نكل المدعي نقول: إذاً لا شيء لك، ما الذي يجعلك تأبى أن تحلف وأنت محق؟ لو كنت محقاً حقيقة لحلفت، والحلف على الحق لا يضر.
القول الثالث: التفصيل، وهو أنه إذا كان المدعي يحيط بالشيء دون المدعى عليه، فترد عليه اليمين، وإن كان العكس فلا ترد عليه اليمين، مثلاً إذا جاء رجل إلى ورثة ميت، وقال: أنا أدعي على مورثكم ألف ريال، فتكون ألف الريال في التركة، وإذا
(1)
سبق تخريجه ص (318).
أخذت من التركة نقص حق الورثة، والورثة قالوا: ليس لك حق أبداً، فقلنا للمدعي: هات بينة، قال: ما عندي بينة، وليحلف الورثة أنه ليس في ذمة مورثهم لي شيء، فقال الورثة: لا نحلف، ولا ندري عن مورثنا، فقد يكون اشترى منك شيئاً، ولا أوفاك، ويمكن أنه مستقرض شيئاً ولا أوفاك فلا نحلف، أنت أعلم بذلك منا.
فظاهر كلام المؤلف أنه يحكم عليهم، ويقال: احلفوا على الأقل على نفي العلم، فإن أبوا يحكم عليهم، وعلى القول الثالث يقال للمدعي: هذا الشيء أنت تحيط به علماً، والمدعى عليهم لا يحيطون به علماً، فعليك اليمين، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، أنه إذا كان المدعي يحيط علماً بالمدعى به دون المدعى عليه، فإن اليمين ترد عليه، وإن كانا جميعاً يحيطان به علماً فلا ترد، وإن كان كلُّ منهما لا يحيط به علماً فلا ترد أيضاً، كما لو ادعى ورثة زيد على ورثة عمرو بأن لمورثهم على مورث الآخرين كذا وكذا.
ولو قال قائل بأن هذا يرجع إلى نظر الحاكم واجتهاده، لا إلى ما يحيط به المدعي أو المدعى عليه علماً، ولا إلى ما لا يحيطان به علماً، لكان له وجه قوي؛ لأن القاضي قد يعلم من قرائن الأحوال أن المدعي مبطل، فيرى أن رد اليمين عليه متأكد؛ والمدعى عليه رجل بريء، وهَابَ أن يقول: واللهِ ما عندي له شيء؛ خشية أن يكون ناسياً، فهنا يمكن للقاضي أن يرد اليمين على هذا المدعي؛ لأنه يترجح عنده كذب المدعي، وصدق المدعى عليه.
وهذا القول عندي هو الأرجح، وإن كنت لم أطلع على قائلٍ به، ولكن ما دام قولاً مفصلاً يأخذ بقول من يقول بالرد من وجه، وبقول من لا يقول بالرد من وجه، فيكون بعضَ قول هؤلاء، وبعضَ قولِ هؤلاء.
وهو لا ينافي قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله؛ لأن حقيقة الأمر أنه إذا كان المدعي يحيط بالشيء دون المدعى عليه، فإنه يترجح أن نرد اليمين عليه؛ لأن هذا المنكر إنما امتنع من اليمين تورعاً، وهذا يمكنه الإحاطة، فلماذا لا نرده عليه؟!
فهذه المسألة فيها أربعة أقوال:
الأول: أنها لا ترد مطلقاً، وهذا هو المذهب.
الثاني: أنها ترد مطلقاً، وهو قول آخر في المذهب.
الثالث: أنها ترد على من كان محيطاً بالشيء دون من لم يكن محيطاً به، وهذا اختيار شيخ الإسلام.
الرابع: وهو احتمال أن يقال: يرجع هذا إلى اجتهاد القاضي، فإن رأى أن ترد اليمين على المدعي فعل، وإن لم يرَ لم يفعل.
قوله: «وإن حلف المنكرُ ثم أحضر المدعي بينةً حكم بها» يعني عقب ما حلف المدعى عليه عند القاضي، وخلى سبيله، جاء المدعي ببينة عند القاضي، وقال: وجدت شاهدين مُزكَّيين فيحكم القاضي بالبينة؛ لأن اليمين يُقصد بها فكُّ الخصومة، بحيث لا يتعرض المدعي للمدعى عليه، فما تبرئ الإنسان إبراء تاماً، والبينة تثبت الحق، ولهذا قال المؤلف:
«ولم تكن اليمين مزيلةً للحق» فاليمين لا تزيل الحق، لكنها ترفع الخصومة فقط.
وظاهر كلام المؤلف أنه إذا قال المدعي: ما لي بينة، ثم أحلفنا خصمه وحلف، ثم أتي بالبينة فإنها تقبل، وهذا القول الذي ذهب إليه المؤلف هو الحق في هذه المسألة، أما المذهب فيقولون: لا تقبل البينة؛ لأنه هو نفسه يكذب البينة؛ لأنه قال: ما لي بينة، فما دام ما لك بينة، فكيف جاءت البينة؟! فأنت أول من يشهد بكذبها، فكيف تدعي بما تشهد أنه كذب؟! هذا هو تعليلهم وهو ضعيف.
لكن الذي مشى عليه المؤلف ـ وهو القول الثاني، في المسألة ـ يقولون: إن قول المدعي: (ما لي بينة) قد يكون بحسب اعتقاده، ويكون له بينة لم يعلم بها، أو يكون له بينة لكن نسيها، أو يكون له بينة ظن أنها ماتت، فقوله: ما لي بينة، ثم إتيانه بعد ببينة لا يستلزم تكذيب البينة أبداً، وليس هنالك لزوم عقلي ولا لزوم شرعي.
ثم لو تنازلنا وقلنا: إن هذا الكلام وهو احتمال النسيان أو الموت مجرد احتمال، فهل العامي يفرق بين قوله: ما لي بينة، وقوله: وما أعلم لي بينة؟!
أبداً، العامي لا يفرق، ولو قيل له: ألست طلقت امرأتك، فقال: نعم، تطلق، ولو كان لغوياً لم تطلق؛ لأنه يفهم «نعم» بمعنى «بلى» ، فالعامي في الواقع لا يفرق بين قوله: ما لي بينة، وبين قوله: ما أعلم لي بينة، اللَّهم إلا إذا كان المدعي رجلاً
متمرساً في الدعاوى، كالذي يسمونه المحامي، فإن المحامين يدرسون الدعاوى على أنها فن من الفنون، كالمهندس يدرس الهندسة على أنها فن، فهو مهندس دعاوى، فتجد المحامي يأتي بحجج أكبر من الجبال، ولو كان مبطلاً وكاذباً؛ لأنه يكسب بهذا أمرين:
الأول: المال المجعول له.
الثاني: مهارته في المحاماة وقدرته عليها.
فما ذهب إليه المؤلف هو الصواب، وهو أنه إذا قال: ما لي بينة، ثم أحضر بينة فإنها تقبل.
وإذا لزم الأخرس يمين فكيف يحلف؟
يحلف بالإشارة، والأخرس له إشارة يعرفها الناس، فإشارته تقوم مقام عبارته.
ويتخوف الناس من اليمين في الخصومة إذا كان صاحبها كاذباً فإن العقوبة أسرع إليه من ظله، وقد حكيت حالات تؤيد هذا التخوف، وكما قال بعض السلف: اليمين الكاذبة تدع الديار بلاقع يعني خالية من الناس.
* * *
فَصْلٌ
وَلَا تَصِحُّ الدَّعْوَى إِلاَّ مُحَرَّرَةً، مَعْلُومَةَ المُدَّعَى بِهِ إِلاَّ مَا نُصَحِّحُهُ مَجْهُولاً كَالْوَصِيَّةِ وَبِعَبْدٍ مِنْ عَبِيدِهِ مَهْراً وَنَحْوِهِ،
...........
قوله: «ولا تصح الدعوى» وهي ادعاء الإنسان على غيره حقاً، أو براءة من حق، كأن يدعي على غيره حقاً، فيقول: أنا أطلب فلاناً كذا وكذا، أو براءة منه بأن يُدعى عليه فينكر، فهذه ـ أيضاً ـ نوع من الدعوى، وإن كانت تسمى إنكاراً.
فالدعوى أولاً ينظر إليها من ناحية الجواز، فهل يجوز للإنسان أن يدعي على غيره حقاً؟
الجواب: نعم، إذا كان ثابتاً فله أن يدعي عليه الحق، وأما إذا كان ظلماً فإن النصوص كثيرة في عقوبة من ادعى على غيره شيئاً باطلاً، يقول النبي عليه الصلاة والسلام:«من اقتطع مال امرئ مسلم بيمين كاذبة لقي الله وهو عليه غضبان»
(1)
، فإذا جازت الدعوى فلا بد لها من شروط:
الأول: ذكره المؤلف بقوله:
«إلا محررةً» وتحرير الشيء بمعنى تنقيته عن كل الشوائب، وذلك بأن يذكر جنس المُدعى به، ونوعه، وصفته، وقدره، حتى يبقى متميزاً، ظاهراً، محرراً، مخلصاً من شوائب الجهل، وهذا معنى قوله:
«معلومة المدعى به» فلا يكفي أن يقول المدعي: أنا أدعي عليه طعاماً، فهذه دعوى غير مسموعة ولا تصح حتى يحررها،
(1)
أخرجه البخاري في التوحيد/ باب قول الله تعالى: {وَجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ *}
…
(7445)، ومسلم في الإيمان/ باب وعيد من اقتطع حق مسلم
…
(138) عن ابن مسعود رضي الله عنه.
فيقول: بُرّاً، أو رزاً، أو ما أشبه ذلك، ولا يكفي هذا ـ أيضاً ـ حتى يقول: إن قدره كذا وكذا، مائة صاع، مائتا صاع، وما أشبه ذلك، ولا يكفي هذا ـ أيضاً ـ حتى يضيف إليه ذكر الوصف، الجودة، والرداءة، وما أشبه ذلك، فالمهم لا بد أن تكون محررة من جميع الجوانب، ومن كل وجه، فلو ادعى عليه بعيراً لم تثبت؛ لأنها مبهمة حتى يبين، فيقول: بعيراً رباعية، ثنياً وما أشبه ذلك، صفتها كذا وكذا، جنسها كذا وكذا، هذا ما ذهب إليه المؤلف.
وقيل: تصح الدعوى غير محررة ويسمعها القاضي، ويطلب من المدعي تحريرها، فإذا قال: أدعي عليه بعيراً، يسمع، ولكن يقول: صفها، اذكر نوعها، جنسها، وما أشبه ذلك، وهذا أصح، لا سيما في الأمور التي تحتاج إلى دقة وصف، مثل لو قال: أنا أدعي عليه أرضاً، أدعي أن هذا الملك الذي بيده يتصرف فيه لي، فتسمع الدعوى، ثم بعد ذلك يطلب من المدعي أن يحررها ويميزها؛ لأنه لا يمكن الحكم إلا بتحريرها.
واستدل الفقهاء رحمهم الله على ذلك بقول الرسول عليه الصلاة والسلام: «إنما أقضي بنحو ما أسمع»
(1)
، والقضاء لا يمكن إلا بعد معرفة المقضي به، وإلا فإنه لا يمكن القضاء بشيء مبهم.
قوله: «إلا ما نصحِّحه مجهولاً كالوصية» فتصح الدعوى به، ويحكم القاضي بها، ثم يُعطى ما يترتب على ذلك، فالوصية
(1)
سبق تخريجه ص (316).
بالمجهول تصح، مثل لو أوصى له من ماله بشيء، فشيء مجهول، فتصح.
لكن ماذا نعطيه من المال؟ قالوا: يعطيه الوارث ما شاء مما يطلق عليه أنه مال، فلو أعطاه درهماً من مائة مليون درهم صح، لأنه يطلق عليه شيء، ولو أعطاه ثوباً من ثيابه صح؛ لأنه يطلق عليه أنه شيء.
فلو قال: أنا أدعي على الورثة بأن مورثهم أوصى لي بشيء، فلا يقول القاضي: لا نسمع الدعوى، بل يقول: نسمعها، وإذا أتيت بشهود حكمنا لك بأن لك وصية في ماله بشيء، فلو أوصى له بسهم من ماله فإنه يصح لكن الفقهاء قالوا: إنه يعطى السدس بناءً على آثار وردت في ذلك.
قوله: «وبعبدٍ من عبيده مهراً ونحوه» بأن تدعي المرأة بأن زوجها أمهرها عبداً من عبيده، فهذه الدعوى تصح؛ لأن المهر يصح بالمبهم، إذاً ما صح أن يكون عوضاً أو أن يكون مُستحقاً صحت الدعوى به؛ لأن الدعوى فرع على صحة العقد.
وإذا خالعت على عبد من عبيدها، أو شاة من قطيعها، فادعى الزوج بأن الزوجة خالعته على ذلك، صحت دعواه، وتُلزم المرأة بإعطائه عبداً من عبيدها، وحينئذ يرجع في ذلك إلى ما ذكره أهل العلم.
الشرط الثاني: أن تكون الدعوى منفكة عما يكذبها، وهذا الشرط مجمع عليه، فلو ادعى على شخص أنه سرق منذ عشرين سنة، وعُمْرُ هذا المدعى عليه سبع عشرة سنة فإن الدعوى لا
تصح؛ لأننا لو سمعناها لكان معنى ذلك أننا حكمنا على هذا الإنسان بأنه سرق قبل أن يولد بثلاث سنين، وهذا شيء مستحيل! فإن قرن بها ما يكذبها لم تسمع ولا تصح.
الشرط الثالث: أن تمكن المطالبة بالحق حالاً، فلو ادعى عليه بمؤجل من أجل إثباته، قال: أنا أدعي عليه بمائة تحل بعد سنة، فإن ذلك لا يصح؛ لأن المدعي لا يمكن أن يطالب بذلك، حتى لو ثبت له ما أمكنه المطالبة؛ لأنه مؤجل، فيقال له: اصبر حتى يحل، ثم بعد ذلك ادعِ عليه وطالب، أما قبل أن يحل فإننا لا نسمع منك هذه الدعوى.
وهذا الشرط فيه خلاف، والصحيح أنه تجوز الدعوى بالمؤجل لإثباته؛ لأن هذا المدعي يقول للقاضي: أثبته لي، وأنا ما أطالبه الآن، ولكني أريد بالمطالبة إثباته؛ خوفاً من أن يموت الشهود، أو ينسوا، أو ما أشبه ذلك، وهذه لا شك أنها وجهة نظر صائبة، فإن المدعي له وجهة نظر، وله حق في ذلك.
الشرط الرابع: ذكر سبب الاستحقاق، فلا تصح الدعوى بدون ذكر السبب، وهذا ـ أيضاً ـ محل وفاق، فلو ادعى الإرث، وقال: أنا وارث هذا الرجل الميت، قلنا: ما علاقتك به؟ ما صلتك به؟ فإن لم يذكر السبب لم تصح الدعوى.
ولو قال قائل: اسمعوها واطلبوا السبب، لكان وجيهاً؛ لأننا نقول: صحيح أنه لا بد من ذكر السبب، ولا يستحق إلا بذكر السبب، لكن جَعْلُنا ذلك شرطاً في سماع الدعوى فيه نظر، وإن كان بعض الفقهاء قالوا: هذا لا نزاع فيه، لكن ينبغي أن
يكون فيه نزاع؛ لأننا نقول: نسمع الدعوى ثم نطالبه بالسبب.
الشرط الخامس: ذكر الشروط، فلو ادعى عقد بيع، أو إجارة، أو نكاح، أو وقف، أو غير ذلك، فلا بد من ذكر الشروط، وأشار إليه المؤلف بقوله:
وَإِنِ ادَّعَى عَقْدَ نِكَاحٍ أَوْ بَيْعٍ أَوْ غَيْرِهِمَا فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ شُرُوطِهِ، وَإِن ادَّعَتِ امْرأَةٌ نِكَاحَ رَجُلٍ لِطَلَبِ نَفَقَةٍ، أَوْ مَهْرٍ، أَوْ نَحْوِهِمَا سُمِعَتْ دَعْوَاهَا، وَإِنْ لَمْ تَدَّعِ سِوَى النِّكَاحِ لَمْ تُقْبَلْ،
......
«وإن ادعى عقد نكاح، أو بيع، أو غيرهما، فلا بد من ذكر شروطه» فلا يكفي أن يقول: أدعي أن هذا الرجل باع عليَّ ملكه، حتى يبين شروط صحة البيع، فيقول: باعه علي وهو مالك له، بثمن معلوم، ويذكر بقية الشروط؛ لأن الحكم بالشيء فرع عن تصوره، وإذا لم نتصور هذا الشيء كيف وقع فإننا لا نحكم به، وكيف نحكم بالبيع بدون أن تذكر شروطه؟! وهذا هو المذهب.
والصحيح أنه ليس بشرط، وأنها تصح الدعوى بالعقد بدون ذكر الشروط، فيقول: أنا أدعي عليه أنه باع عليَّ، ثم يأتي بالشهود ويحكم له بالبيع، ولا حاجة أن يذكر الشروط.
ولو ادعى المدعى عليه اختلال شرط من الشروط، أو وجود شيء من الموانع، فحينئذ تكون دعوى جديدة، والأصل الصحة، وأن هذا العقد جارٍ على مقتضى الشرع، وأنه لا مانع، فنطالب المدعي ـ بعد أن نحكم بصحة البيع ـ بما يدعيه من انتفاء شرط، أو وجود مانع.
مثال ذلك: ادعى شخص على آخر بأنه باع عليه الأرض الفلانية، وأتى بالشهود، وحكم القاضي بصحة البيع، فعلى
المذهب الحكم غير صحيح، فلا بد أن يعرف أن هذا البيع وقع من أهله بشروطه، والصحيح أنه يصح، لكن للمحكوم عليه ـ صاحب الأرض ـ أن يدعي انتفاء شرط من الشروط، أو وجود مانع، فله ـ مثلاً ـ أن يقول: نعم، أنا بعت هذه الأرض، لكن لم يكن قد رآها، ومن شروط صحة البيع في الأرض ونحوها رؤية المبيع، فهنا نقول: هذه دعوى جديدة، والأصل الصحة حتى يقوم دليل الفساد، فنقول: البيع تم، والأصل فيه الصحة، ولا يمكن أن ينقض.
كذلك لو ادعى وجود مانع، بأن قال: نعم، أنا بعت عليه، لكن بعد أذان الجمعة الثاني، والبيع بعد أذان الجمعة الثاني ممن تلزمه الجمعة لا يصح.
نقول: هذه دعوى جديدة، والأصل الصحة وعدم وجود المانع.
المهم أن هذا الشرط الخامس في الدعوى مختلف فيه فالمذهب أنه لا بد من ذكر الشروط، والصحيح أنه ليس بشرط، وهذا اختيار صاحب أصل هذا الكتاب ـ أي: المقنع ـ وهو الموفق أبو محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة رحمه الله من أئمة المذهب، وكذلك شارح المقنع.
وفصل بعض العلماء فقال: يشترط في النكاح ذكر الشروط، وفي غيره كالبيع، والإجارة، والرهن، وغيرها لا يشترط، والصحيح أنه لا فرق، وأن من ادعى عقداً فأقام بينة حكم له بمقتضى هذه البينة، والأصل الصحة والسلامة.
قوله: «وإن ادعت امرأةٌ نكاحَ رجلٍ لطلبِ نفقة، أو مهر، أو نحوهما سُمعت دعواها، وإن لم تدعِ سوى النكاح لم تقبل» «لم تقبل» هنا بمعنى لم تسمع، أي: لم تسمع دعواها.
وفرق بين القبول والسماع، السماع معناه أن يتقبل القاضي الدعوى، وينظر فيها، والقبول أن يقبل قول الخصم، كامرأة ادعت على رجل أنه زوجها، فقال: أبداً ما أعرفك ولا تعرفيني، قالت بل أنت زوجي فحضرا عند القاضي، فقال القاضي: لماذا ادعيتِ أنك زوجته؟ قالت: لأطالبه بالمهر، فيسمع الدعوى وينظر فيها، ولكن لا يقبل قولها إلا بشهود؛ لأنها مدعية.
كذلك في النفقة، قال القاضي: لماذا ادعيت عليه النكاح؟ قالت: لأني منذ تزوجته ما أنفق عليّ، فتسمع الدعوى.
وقوله: «أو نحوهما» أي: من الأمور المالية كالسكنى وغير ذلك، فإننا نقبل دعواها، قالت مثلاً: أنا أدعي عليه النكاح؛ لأجل أن يستأجر لي بيتاً، أو ما أشبه ذلك، نقول: هذه الدعوى مسموعة، فإن أتت ببينة حكمنا بما تدعي، وإلا قلنا للزوج المدعى عليه: احلف، فإذا حلف خُلِّيَ سبيله كما سبق.
أما إذا لم تدعِ إلا النكاح أحضرته عند القاضي وادعت أنها زوجته، أو أنه تزوجها، فقال القاضي: لماذا تدَّعين عليه؟ هل تريدين المهر؟ قالت: أنا لا أريد نفقةً ولا مهراً، لكن أدعي على هذا الرجل أنه زوجي، يقول المؤلف: فلا تسمع دعواها؛ لأن
الحق في النكاح للزوج، فهو الذي يطالب به، وهو الذي يختار المرأة، ويُعقد له عليها.
ولكن في هذه الصورة لو قالت: أنا أدعي عليه ليفارقني، أنا ما أريد منه نفقة، ولا مهراً، ولا غيرهما لكن أنا زوجته، أدعي بذلك لأجل أن يفارقني، فهل تسمع الدعوى أو لا؟
الجواب: نعم، تسمع، وهذه غريبة!! ادعت شيئاً لتفر منه، ادعت الزواج من أجل الفراق؛ لأنها تقول: هذا الرجل لا يقر بأني زوجته، لكن أنا أريد أن يطلقني؛ لأني أعتقد أني زوجته، وإذا كنت أعتقد أني زوجته، فلا يمكن أن أتزوج، وأنا امرأة أريد الزواج.
فنقول: في هذه الحال تسمع الدعوى، ويؤمر الزوج بالطلاق، فيقال للزوج: طلق، وأنت لا يضرك شيء، فلن يؤخذ منك لا مهر، ولا نفقة، ولا شيء، لكن طلق بناء على دعواها، فيقولون: لا بد أن يطلق في هذه الحال ليفك أسرها.
والحقيقة أن هذا الكلام ذكروه في باب الإقرار، ولا شك أن فيه راحة للمرأة، لكن فيه مشكلة أخرى، وهي أن كل امرأة تريد إيذاء شخص تدعي عليه أنها زوجته؛ من أجل أن توصله إلى القاضي، وتجره إلى المحاكم لتتعبه عند المحاكم! فهي من وجه تقوي القول بأنه لا بأس أن تسمع الدعوى، ويؤمر الرجل بالفراق، ومن وجه آخر يقال: إن عدم سماع الدعوى أولى، ويقال: أنت الآن لست مزوجة، بحسب الحكم الظاهر عند الله، فلك أن تتزوجي، فأيهما أولى، أن نعتبر هذه المسألة وأن بعض
النساء قد يتخذ من هذا القول وسيلة إلى الإضرار بالرجال؟ أو أن نعتبر الجهة الأخرى، وهي أن هذه المرأة جاءت معترفة بأنها زوجة فلان، تريد أن تبرئ ذمتها وأن تتخلص منه؛ لتتمكن من الزواج؟ إذا قارنا بين الجهتين، فإننا نرى أن الأقرب أن يلزم الزوج في هذه الحال بالفراق، واحتمال أن يكون قصدها الأذى وارداً، لكن احتمال أن تكون زوجته حقاً وارد أيضاً، ودفع هذه المضرة أعظم من دفع الأولى التي هي الأذية، وهذا الرجل نقول له: إذا كانت هذه المرأة قصدها الأذية فإنها لا شك سوف تجد عقابها، إما في الدنيا، وإما في الآخرة، أما أنت ففك خلاصها؛ لأن احتمال صدقها وارد.
والخلاصة: أنه إذا ادعت المرأة أن فلاناً زوجها ففي ذلك تفصيل، إن كان لأمر مالي كالمهر، والنفقة والسكنى وغير ذلك سمعت دعواها، وإن كان لمجرد أنها زوجته فإنها لا تسمع دعواها، ولكن لو طلبت أن يلزم بالطلاق فلها ذلك من أجل أن تتخلص من هذا الأمر، وللقاضي في مثل هذا إذا علم من قرائن الأحوال أن المرأة كاذبة، أن يصرف النظر عن هذه الدعوى، ويقول: ما دام لم يثبت عندي أنه قد تزوجها فلا أحكم عليه بإلزامه بطلاقها.
وَإِنِ ادَّعَى الإِرْثَ ذَكَرَ سَبَبَهُ، وَتُعْتَبَرُ عَدَالَةُ الْبَيِّنَةِ ظَاهِراً وَبَاطِناً،
.......
قوله: «وإن ادعى الإرث ذكر سببه» يعني قال: أنا وارث فلان، فلا بد من ذكر السبب، وأسباب الإرث ثلاثة: القرابة، والنكاح، والولاء، فلا بد أن يقول: أنا وارثه؛ لأنني قريبه، ولا بد أن يذكر جهة القرابة إن كان هناك مدعٍ آخر، يعني لو كان
رجلان كل منهما يقول: أنا قريب فلان، فلا بد في الدعوى أن يذكر جهة القرابة، فيقول: أنا عم، أخ، ابن أخ، وما أشبه ذلك، وإن لم يكن له منازع يكفي أن يقول: أنا قريبه، ولكن هذا شرط لسماع الدعوى؛ لأن ذكر السبب من تحرير الدعوى، لا لثبوت الإرث؛ لأنه لا بد أن نطالبه ببينة تشهد بأنه قريب لهذا الرجل.
ولو ماتت امرأة فجاء رجل وقال: أنا وارثها بالزوجية سمعت دعواه، فإن قال: أنا وارثها فقط، فإننا لا نسمع دعواه حتى يعين السبب.
ولو مات عبد مملوك مولى لبعض الناس، فجاء رجل فقال: أنا وارثه، نقول له: بيِّن السبب، فإن قال: أنا مولى له، فإننا نسمع دعواه، ثم نطلب البينة.
وهل يشترط ذكر الشروط وانتفاء الموانع؟ هذا ينبني على ما سبق، والصحيح أنه لا يشترط.
قوله: «وتعتبر عدالة البينة ظاهراً وباطناً» سبق لنا أنه إذا ادعى شخص على شخص بشيء طولب بالبينة، والبينة في الشرع كل ما أبان الحق وأظهره، ولهذا تسمى الكتب النازلة من السماء بينات؛ لأنها تظهر الحق وتبينه، كذلك ـ أيضاً ـ في باب القسامة في كتاب الجنايات تسمى العداوة الظاهرة لوثاً وبينة، ولهذا يكتفى فيها بيمين المُدَّعِين، لكن البينة في دعوى الأموال رجلان، أو رجل وامرأتان، أو رجل ويمين المدعي؛ لقوله تعالى:{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282]، وثبت بالسنة الصحيحة الصريحة أن
النبي صلى الله عليه وسلم «قضى بالشاهد ويمين المدعي»
(1)
.
فهذه البينة وهي الرجلان، أو الرجل والمرأتان، يعتبر فيها العدالة ظاهراً وباطناً، فظاهراً فيما يظهر للناس، بحيث لا يظهر على الإنسان ريبة، ولا تهمة، كرجل يصلي، ومتستر، وما تجد عليه الكذب، وأما باطناً أي: في باطن حاله، وأمره الخفي، وهذا لا يعرف إلا بمعاملته معاملةٍ يَخبُر بها المعاملُ باطن هذا الرجل؛ لأنه يوجد كثير من الناس ظاهرهم الاستقامة، لكن عند المعاملة تجدهم ظلمة، غششة، كذبة، يحلفون الأيمان الكاذبة من أجل الدنيا، وهذا كثير، فلا بد من العدالة ظاهراً وباطناً، ولا يكتفى بالظاهر، فهذا دليل من النظر.
وأما الدليل من الأثر فقالوا: إن الأصل في المسلم عدم العدالة؛ لأن الله قال: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2]، ولم يقل: أشهدوا اثنين منكم، فتخصيص الشاهدين بذوي العدل، يدل على أن هذا وصف زائد على مطلق الإسلام، فلا بد من ثبوت العدالة؛ لأن عندنا إسلام، وعندنا عدالة، والعدالة وصف زائد على الإسلام، والأصل في الوصف عدمه لا وجوده؛ ولهذا قال أكثر أهل العلم: إن الأصل في المسلم عدم العدالة، وهذا قد نقول: إنه لا شك فيه بالنسبة لحق الآدمي، فلا نستبيح أموال الآدميين إلا بمن عرف بالعدالة ظاهراً وباطناً، أما فيما يتعلق بحق الله فإنه ينبغي أن يكتفى بالعدالة ظاهراً.
(1)
أخرجه مسلم في الأقضية/ باب القضاء باليمين والشاهد (1712) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وقد ذكر الفقهاء رحمهم الله اعتبار العدالة ظاهراً في عدة مسائل، منها: ولاية النكاح، والأذان؛ لأن هذا يغلب فيه جانب حق الله، فلو تقدم لنا إنسان ليكون إماماً، وظاهره الصلاح، فإننا لا نحتاج أن نقول: لا بد من إقامة بينة على عدالته باطناً، بل تكفي العدالة ظاهراً في حق الله، لكن في حقوق الآدميين المبنية على التحري والمشاحة، نقول: الأصل عدم العدالة حتى يتبين أنه عدل، قال شيخ الإسلام رحمه الله: الأصل في بني آدم الظلم والجهل؛ لقوله تعالى: {وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً} [الأحزاب: 72]، والظلم والجهل هما السببان المنافيان للعدالة؛ لأن الإنسان لا يخالف الاستقامة، ولا يخرج عنها، إلا لظلمه، أو لجهله، فإن كان عالماً وخرج عن حد الاستقامة فهو ظالم، وإن كان جاهلاً وخرج عن حد الاستقامة فهو جاهل، فالمهم أن المذهب أنه لا بد من عدالة البينة ظاهراً وباطناً، واستدلوا بالنص وبالنظر.
وعن أحمد رواية أن المسلم عدل ما لم تظهر عليه الريبة، وهذه الرواية تومئ إلى أن الأصل في المسلمين العدالة، حتى يتبين ما يجرحهم، ولهذا قال العلماء: إن الخصم إذا جرح الشهود كُلِّف البينة به، ولو كان الأصل عدم العدالة لكان جرحه لا يحتاج إلى إقامة بينة، لكن سيأتي الجواب عن هذا إن شاء الله.
ولشيخ الإسلام رحمه الله رأي آخر في الموضوع، يقول: إن العدالة الشرعية التي يشترط فيها فعل الطاعات وترك المحرمات، ليست شرطاً في الشهود، بل من رضيه الناس في
الشهادة فهو مقبول الشهادة، ويُفرَّقُ بين التحمل والأداء، فعند التحمل لا نشهد إلا من هو عدل شرعاً وعُرفاً، حتى لا نقع في ورطة فيما بعد، وعند الأداء نقبل من يرضاه الناس، وإن لم يكن عدلاً في دينه.
فعلى رأي الشيخ تقبل شهادة الرجل المعروف بالغيبة، إذا كان مأموناً في شهادته غير متهم، وعلى المذهب لا تقبل.
وعلى رأي الشيخ تقبل شهادة حالق اللحية إذا كان غير متهمٍ في شهادته، وعلى المذهب لا تقبل.
وعلى رأي الشيخ تقبل شهادة من يأكل بالسوق، في بلد لم تجرِ العادة فيه بالأكل في السوق، وعلى المذهب لا تقبل؛ لأنه خالف المروءة، فخرج عن العدالة.
وعلى كل حال، كلام الشيخ رحمه الله جيد عند الضرورة؛ وإلا ضاعت حقوق كثير من الناس، فاليوم من الذي لا يغتاب أحداً؟! إلا من رحم الله، فالغيبة في الناس كثيرة جداً! حتى في الناس الذين هم أهل خير، ويتقدمون إلى المساجد ويصلون الجمعات، ويتهجدون في الليل، تجدهم يغتابون الناس! فأقول: إن المسألة عظيمة، لو اعتبرنا العدالة التي حددها الفقهاء؛ إذ لا يخلو أحد من الناس من خدش في عدالته. والحاصل أن العدالة معتبرة ظاهراً وباطناً على المذهب إلا في مسائل محدودة كعقد النكاح والأذان، وعلى القول الثاني العدالة معتبرة ظاهراً فقط إذا لم يكن متهماً في ريبة فلا تقبل شهادته حتى يتبين زوال هذا الاتهام.
وَمَنْ جُهِلَتْ عَدَالَتُهُ سُئِلَ عَنْهُ، وَإِنْ عَلِمَ عَدَالَتَهُ عَمِلَ بِهَا، وَإِنْ جَرَحَ الْخَصْمُ الشُّهُودَ كُلِّفَ الْبَيِّنَةَ بِهِ وَأُنْظِرَ لَهُ ثَلَاثاً إِنْ طَلَبَهُ، وَلِلْمُدَّعِي مُلَازَمَتُهُ، فَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِبَيِّنَةٍ حَكَمَ عَلَيْهِ، وَإِنْ جَهِلَ حَالَ الْبَيِّنَةِ طَلَبَ مِنَ الْمُدَّعِي تَزْكيَتَهُمْ،
...............
قوله: «ومن جُهلت عدالته سئل عنه، وإن عَلِم عدالته عمل بها» أحوال الشهود عند القاضي ثلاث:
الأولى: أن يجهل عدالة الشهود، وإلى هذا أشار المؤلف بقوله:«ومن جهلت عدالته سئل عنه» فإذا كان الشهود غير معلومي العدالة فإنه لا يجوز للحاكم أن يحكم بشهادتهم، ولا أن يرد شهادتهم، وماذا يصنع؟ يسأل ويبحث، وقد ذكر الفقهاء رحمهم الله أنه ينبغي للحاكم أن يرتب من يسألون عن حال الشهود، يعني يجعل له لجنة همهم وشأنهم البحث عن حال الشهود، ليكون هذا أيسر وأسرع في الحكم، وفي عهدنا لا يوجد هذا، لكن يمكن للقاضي بطرقه الخاصة أن يسأل عن حال الشهود إذا جهل عدالتهم.
الثانية: أن يعلم عدالته، قال المؤلف:«وإن علم عدالته عمل بها» ولا يحتاج إلى تزكية، ولهذا من اللغو أن يشهد رجلان يعرف القاضي عدالتهما، ثم يقول: شهد فلان وفلان بكذا وكذا، وزكاهما فلان وفلان، وربما يكون المزكون أجهل وأظلم وأفسق عند القاضي من الشاهدين، لكن أصبح هذا عملاً إجرائياً.
الثالثة: أن يعلم القاضي فسقه فلا يعمل بشهادته، بل يردها، ولا حاجة إلى أن يطلب شهود الجرح؛ لأنه يعلم فسقه. فإن قيل وما حكم شهادة الذين يشربون الدخان؟
فعلى المذهب ترد شهادتهم، وأما على القول الثاني القائل: بأن العبرة بما يرضاه الناس فإنهم يقبلون إذا رضيهم الخصم.
قوله: «وإن جَرحَ الخصمُ الشهود» أي: وصفهم بما ترد به شهادتهم، بأن قال: هذا يشرب الخمر، هذا يسرق، هذا يزني، وما أشبه ذلك مما ترد به الشهادة.
قوله: «كُلِّفَ البينة به» أي: ألزم بإقامة البينة؛ لسببين:
الأول: حمايةً لأعراض الناس، حتى لا يستطيل أحد على أحد بالجرح والسب.
الثاني: من أجل منع الحكم بشهادة هؤلاء الشهود.
وهل بينة الجرح لا بد أن تشاهد ما يجرح الشهود، بأن تقول: أشهد أني رأيته يفعل كذا وكذا، أو تقول: كذا وكذا، أو تكفي الاستفاضة؟ نقول: إما أن يشهد الجارح عن رؤية، أو سماع، أو مباشرة، أو عن استفاضة، ولهذا كثير من الناس ما نعلم عن فسقهم بما فعلوا بعينه، لكن يستفيض عند الناس أنهم فسقة، فللجارح أن يشهد بالاستفاضة، فإذا أتى بشهود الجرح قبلت شهادتهم، ولم يحكم بشهادة الشهود في الدعوى التي ادعاها الخصم؛ لانتفاء العدالة في حقهم؛ لأنه لما ثبت جرحهم انتفت عدالتهم.
قوله: «وأنظِرَ له» أي: لإثبات الجرح.
قوله: «ثلاثاً إن طلبه» إذا قال المدعى عليه، وهو الخصم: أنا أجرح هؤلاء بأنهم فسقة يشربون الخمر، يسرقون، يزنون، وما أشبه ذلك، يطالب بالبينة، ونقول: لك ثلاثة أيام، إن طلب الإنظار، وإن لم يطلب الإنظار، فإننا نطالبه بإحضارهم فوراً، وإن
طلب أكثر من ثلاثة أيام فإنه لا يقبل ولا يطاع؛ لما في ذلك من الإضرار بخصمه، إلا إذا رضي خصمه فالحق له.
قوله: «وللمدعي ملازمته» أي: للمدعي ملازمة الخصم الذي جرح الشهود، بمعنى أن يبقى معه لا ينفك عنه، يروح معه ويتابعه، إذا خرج للمسجد يمشي معه، ويصلي بجنبه، وإذا راح للبيع والشراء يروح معه، وإذا راح الجامعة يروح معه، ويجلس إلى جنبه، وإذا دخل بيته يقف عند الباب، لماذا؟ قالوا: لئلا يهرب؛ لأنه يمكن أن يدعي الجرح ويقول: هؤلاء مجروحون، فيهم كذا وكذا من الفسق، ثم إذا خرج من المحكمة يختفي، فللمدعي أن يلازمه.
والملازمة في الحقيقة صعبة جداً إذا كان الحق يسيراً، كعشرة ريالات مثلاً، فقد لا يلازمه، لكن إذا كان الشيء كبيراً فإنه يلازمه، إما بنفسه، وإما بمن يقيمه مقام نفسه.
قوله: «فإن لم يأت ببينة حَكَمَ عليه» إذا لم يأتِ ببينة تشهد بما ادعاه من الجرح فإنه يُحكم عليه؛ لأن الحكم تمَّت شروطه، وانتفت موانعه، فلا بد من إقامته، ولا يجوز للقاضي أن يتخلف.
قوله: «وإن جَهِلَ حالَ البينة طلبَ من المدعي تزكيتهم» لتثبت عدالتهم فيحكم له، وقد سبق الكلام على هذا عند قول المؤلف:«ومن جهلت عدالته سُئل عنه» فإما أن يسأل بنفسه، وإما أن يطلب من المدعي تزكيتهم.
وَيَكْفِي فِيهَا عَدْلَانِ يَشْهَدَانِ بِعَدَالَتِهِ، وَلَا يُقْبَلُ فِي التَّرْجَمَةِ والتَّزْكِيَةِ وَالْجَرْحِ وَالتَّعْرِيفِ وَالرِّسَالَةِ إِلاَّ قَوْلُ عَدْلَيْنِ، وَيُحْكَمُ عَلَى الْغَائِبِ إِذَا ثَبَتَ عَلَيْهِ الْحَقُّ، وَإِنِ ادَّعَى عَلَى حَاضِرٍ بِالْبَلَدِ غَائِبٍ عَنْ مَجْلِسِ الحُكْمِ، وَأَتَى بِبَيِّنَةٍ لَمْ تُسْمَعِ الدَّعْوَى، وَلَا الْبَيِّنَةُ.
قوله: «ويكفي فيها» أي: في التزكية.
قوله: «عدلان يشهدان بعدالته» يعني أنه لا بد أن يكونا رجلين، فلا يقبل في التزكية رجل وامرأتان، أو أربع نساء مثلاً، ولا بد أن يكونا عدلين؛ لأن الفاسقين لا يقبل تعديلهما ولا تزكيتهما؛ لأنهما نفسهما يحتاجان إلى تزكية.
قوله: «ولا يقبل في الترجمة، والتزكية، والجرح، والتعريف، والرسالة، إلا قول عدلين» هذه خمس مسائل: الترجمة، والتزكية، والجرح، والتعريف، والرسالة، لا يقبل فيها إلا قول عدلين.
أما الترجمة فهي نقل معنى الكلام من لغة إلى لغة أخرى، ويشترط فيها ثلاثة شروط:
الأول: علم المترجم باللغتين جميعاً، بأن يعلم معنى المنقول منها، والمنقول إليها.
الثاني: علمه بالموضوع؛ لأن العلم بالموضوع مهم بالنسبة للترجمة، فمن لم يكن عنده علم بالموضوع ربما يترجم اللفظ على غير المراد وهذا غير العلم بالمعنى.
الثالث: أن يكون أميناً، والأمانة تؤخذ من قول المؤلف:«عدلين» فإن كان غير أمين فلا تقبل ترجمته.
فإذا تخاصم إلى القاضي رجلان، أحدهما يعرف القاضي لغته، والثاني لا يعرف لغته، فيحتاج القاضي إذاً إلى مترجم، فهل يكفي مترجم واحد؟ يقول المؤلف: لا بد من مترجمين؛ لأن الترجمة شهادة، فإن المترجم يشهد بأن هذا المتكلم أراد كذا وكذا، والشهادة لا بد فيها من عدلين.
قلنا: إذا قلت كذلك فاجعل الترجمة مبنية على الشهادة، وقل: إذا كانت الترجمة في أمر يحتاج إلى أربعة رجال كالزنا، فقل: لا يقبل إلا أربعة.
قال أصحابنا ـ أهل المذهب ـ: نعم، نلتزم بذلك، ونقول: الترجمة فيما يشترط فيه أربعة لا بد فيها من أربعة؛ لأنها مبنية على الشهادة، فالإقرار بالزنا مثلاً، إذا كان المقر لا يعرف القاضي لغته لا بد فيه من أربعة مترجمين يترجمون إقراره؛ ليثبت عند القاضي، كما أن الزنا لا يثبت إلا بأربعة شهود، وهذا هو المشهور من المذهب.
والذي مشى عليه المؤلف قول على خلاف المذهب؛ لأن المؤلف رحمه الله مشى على أن الترجمة يكفي فيها قول عدلين مطلقاً، حتى فيما لا يقبل فيه إلا شهادة أربعة؛ لأن الترجمة شهادة ليست على الفعل الذي لا بد فيه من أربعة، بل شهادة على ثبوت هذا القول، وثبوت هذا القول يحصل بشهادة اثنين.
وما ذهب إليه المؤلف أقرب من المذهب، وهناك قول ثالث لبحر العلوم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: يكفي في الترجمة واحد فقط، لكن بالشروط الثلاثة التي ذكرناها؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم اتخذ مترجماً واحداً في أمور عظيمة هامة، فقد اتخذ زيد بن ثابت رضي الله عنه مترجماً للكتب الواردة من اليهود والصادرة إليهم، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام أمر زيد بن ثابت رضي الله عنه أن يتعلم لغة اليهود، فتعلمها في
ستة عشر يوماً
(1)
، إلا أن شيخ الإسلام يقول: سبب ذلك أن اللغة العبرية قريبة من اللغة العربية، فلذلك سهلت على زيد بن ثابت رضي الله عنه، على كل حال، يرى شيخ الإسلام رحمه الله أنه يكفي في الترجمة قول عدل واحد، وهذا هو الصحيح.
وأفادنا المؤلف أنه ينبغي للإنسان أن يتعلم لغة غيره، مما تدعو الحاجة إلى تعلمه، فالقاضي إذا كان في أمة فيهم أناس كثيرون لغتهم غير عربية، وهو عربي، ينبغي له أن يتعلم لغتهم ليعرف خطابهم بنفسه؛ لأنه مهما كان الإنسان ثقة فلا يمكن أن تكون ثقتك به كثقتك بنفسك.
أما تعلمها بدون حاجة فهو من إضاعة الوقت، كما أنه يترتب عليه الميل إلى أصحاب هذه اللغة، وأما إذا اعتاد التخاطب بها وأغفل اللغة العربية، فهذا إما مكروه، وإما محرم، فتعلم اللغات غير العربية إذا كان لحاجة لا بأس به، وإذا كان لغير حاجة فهو لغو وإضاعة وقت، ويخشى منه محبة أصحاب هذه اللغة، وإذا كان ليستبدل به اللغة العربية، فهذا إما مكروه، وإما محرم.
والأول المباح قد يجب أحياناً، كما إذا كان تعلم هذه اللغة
(1)
أخرجه أحمد (5/ 182)، وأبو داود في العلم/ باب رواية حديث أهل الكتاب (3645)، والترمذي في الاستئذان في الآداب/ باب ما جاء في تعليم السريانية (2715)، والبخاري في التاريخ الكبير (3/ 380)، والحاكم (1/ 147)، والبيهقي (10/ 127)، والحديث صححه الحاكم، ووافقه الذهبي.
وسيلة إلى إبلاغهم دين الله؛ فإن التعلم حينئذٍ يكون واجباً؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
وقوله: «والتزكية» نسبة الشيء إلى الزكاء، فالتزكية معناها أن ينسب الإنسان إلى الزكاء، فيقال: هذا زكي والزكاء هو العدالة.
ولا بد فيها من عدلين على كلام المؤلف، وعلى المذهب حسب الشهادة، فإن كان شهد في أمر لا بد فيه من أربعة، فلا بد في التزكية من أربعة، وعلى القول الثالث وهو اختيار شيخ الإسلام أنه يكفي فيها واحد؛ لأن التزكية تعريف بحال المُزكى، وليست شهادة، فإذا زُكي كفى في ذلك واحد، ثم يُحكم بشهادته.
والتزكية مثل أن يقول: فلان عدل، فلان ثقة، وما أشبه ذلك، فإن قال: لا أعلم عليه إلا خيراً، ففي كون هذا تزكية قولان لأهل العلم، منهم من قال: إن هذا ليس بتزكية؛ لأنه نفى علم الشر، ونفيُ العلم لا يدل على العدم، فقد يكون يعمل شراً لا يطلع عليه هذا الذي قال: لا نعلم عليه إلا خيراً.
وقال بعض العلماء: إنها تزكية، اعتباراً بظاهر الحال، ولعل هذا الخلاف يومئ إلى الخلاف في هل الأصل في المسلم العدالة، أو الأصل عدم العدالة؟ وقد سبق الخلاف في هذا.
أما إذا قال: ثقة، أو مقبول الشهادة، أو عدل، أو ثبت، أو ما أشبه ذلك، فهذه تزكية بلا شك.
ويشترط في المزكي شروط منها:
الأول: أن يكون أميناً، فإن لم يكن أميناً فإن تزكيته لا تقبل؛ لأنه هو نفسه يحتاج إلى من يزكيه.
الثاني: أن يكون ذا خبرة بباطن حال المُزكى، بحيث نعلم أن بينه وبينه رابطة، إما صحبة، وإما جوار، وإما معاملة طويلة، يعرف بها حال المُزكى.
وهل يزكي بالاستفاضة؟ الجواب: نعم، له أن يزكي بالاستفاضة، مثل أن يستفيض عند الناس أن هذا الرجل رجل مستقيم الخلق والدين، فيشهد هو بعدالته بناء على الاستفاضة.
ولا بد من القول بجواز التزكية بالاستفاضة؛ لأننا نزكي الإمام أحمد بن حنبل، والإمام الشافعي، والإمام أبا حنيفة، والإمام مالكاً رحمهم الله فهل نحن عاشرناهم؟ لا، ولا صاحبناهم، ولكن بالاستفاضة، حتى لو لم نرجع إلى كلام الناس فيهم فإنهم عندنا ثقات عدول؛ بناء على الاستفاضة، فلا بد ـ أيضاً ـ في الجرح من عدلين يشهدان بجرحه.
والجرح نوعان: نوع مُفَسَّر، ونوع مُجمل مبهم، فالجرح المبهم أن يقول: فلان فاسق، فلان غير مقبول الشهادة، وما أشبه ذلك، والجرح المفسر أن يقول: فلان يشرب الخمر، أو فلان يزني، أو فلان يغش الناس، أو فلان يغتاب الناس، فالجرح بنوعيه لا يقبل إلا من ثقة، فلا بد أن يكون أميناً، وأن يكون عالماً بحال المجروح، أي: ذا خبرة بحاله، أو شاهداً بما اشتهر من جرح، يعني أن الشهادة بالجرح كالشهادة بالتزكية، فلا بد فيها من عدلين، والخلاف في التزكية كالخلاف في الترجمة؛ لأن كلاً
منهما شاهد بما يقول، لأن المترجم يشهد أن هذا المتكلم أراد كذا وكذا باللغة المترجم بها عن المترجم عنها، والمزكي والجارح كذلك يخبران بحال هذا الشيء فهما مُعرِّفان في الواقع، ولهذا اختار شيخ الإسلام في هذه المسائل كلها أن الواحد العدل يكفي.
وقوله: «والتعريف» أي: يكفي في التعريف أيضاً ـ على كلام المؤلف ـ شاهدان.
وقوله: «والتعريف» أي: التعريف بأن هذا فلان بن فلان، وهو في الحقيقة تعريف عند الحاكم بالمحكوم له، والمحكوم عليه، والمحكوم به.
المحكوم له هو الذي يثبت له الحق، والمحكوم عليه هو من عليه الحق، والمحكوم به أي: المدعى به، فمثلاً: تخاصم رجلان في كتاب، فالمحكوم له هو الذي يستحق هذا الكتاب، والمحكوم عليه الذي لا يستحقه، والمحكوم به هذا الكتاب.
وكيف سيكون التعريف؟ أن يقول الحاكم: كيف أكتب تخاصم عندي فلان وفلان، وأنا ما أعرفكم؟! فيأتون بمن يعرفهم يقول: هذا المدعي اسمه فلان ابن فلان، والمدعى عليه اسمه فلان ابن فلان، والمدعى به يقول مثلاً: هذا الكتاب هو الذي حصل النزاع بينهما عليه.
فصار التعريف عند الحاكم له ثلاثة أطراف: محكوم له، وعليه، وبه، وكل هذه تحتاج إلى تعريف، فإذا عرفها واحد على رأي شيخ الإسلام كفى، وعلى ما مشى عليه المؤلف لا بد من
اثنين، وعلى المذهب ينبني على الشهادة، فإن كان التعريف فيما يشترط فيه أربعة من الشهود فلا بد من أربعة، إلى آخره.
وقوله: «والرسالة» لها عدة صور منها ما سيأتي ـ إن شاء الله ـ في باب كتاب القاضي إلى القاضي، أن يرسل أحد القضاة كتاباً إلى قاضٍ آخر، فلا بد فيها من عدلين يحملان الكتاب ويوصلانه إلى المكتوب إليه، ويشهدان به.
وهذا فيما سبق لما لم يكن بريد، فإذا أراد القاضي أن يكتب إلى قاضٍ آخر، كتب الكتاب، ثم أتى باثنين وقرأه عليهما وأشهدهما على ما فيه، ثم يقول: خذوه لفلان القاضي، فإذا وصلا إليه يشهدان بأن هذا كتاب فلان القاضي الأول إلى القاضي الثاني.
صورة ثانية للرسالة، إذا بعث الحاكم من يبحث عن حال الشهود، فإنه لا بد فيه من عدلين، وسبق لنا أن القاضي إذا جهل حال الشهود أنه يسأل عنهم، فإذا بعث من يسأل عنهم فلا بد أن يكون المبعوث رجلين على ما مشى عليه المؤلف، واختار شيخ الإسلام رحمه الله أنه يكفي واحد.
فالترجمة، والتزكية، والجرح، والتعريف، والرسالة، هذه خمسة أشياء، المذهب أن حكمها في التعدد حكم الشهادة، والذي مشى عليه المؤلف أنه يكفي فيها رجلان، والذي اختاره شيخ الإسلام أنه يكفي فيها واحد؛ لأن المقصود فيها البيان والتعريف، فهي خبر وليست بشهادة، ولهذا تصح حتى بالكتابة، وعلى القول بأنها شهادة لا بد من المشافهة، يعني أنه لو كتب
أحد معروف الخط إلى القاضي، بأني أزكي فلاناً كفى عند شيخ الإسلام، وعلى المذهب لا يكفي؛ لأن الشهادة لا بد فيها من المشافهة.
وقوله: «إلا قول» قول: نائب فاعل، فالاستثناء مفرغ.
وقوله: «عدلين» العدل في اللغة: الاستقامة، ويطلق على المستقيم نفسه؛ لأنه مصدر، والمصدر يصح أن ينعت به، ويوصف به، كما قال ابن مالك:
ونعتوا بمصدرٍ كثيرا
فالتزموا الإفرادَ والتذكيرا
وكذلك يخبر به مفرداً ولو عن جماعة.
وأما المراد بالعدل في الاصطلاح: فهو من استقام في دينه ومروءته، أما في دينه فأن يؤدي الفرائض، ويجتنب الكبائر والإصرارَ على الصغائر فهو شامل لثلاثة أمور.
فلو فعل كبيرة واحدة ولم يتب منها لم يكن عدلاً، وإن فعل صغيرة فقط ولم يصِرَّ فهو عدل، فإن أصر فليس بعدل، وإن ترك شيئاً من الفرائض فليس بعدل، والفرائض، كبِرِّ الوالدين، وصلة الأرحام، والصلوات الخمس، فإذا ترك واحدة وقلنا بأنه لا يكفر فإنه ليس بعدل.
وبناءً على هذا القول في تعريف العدل يكون الذي يحلق لحيته ليس بعدل، فإذا شهد فلا تقبل شهادته؛ لأنه مصِرٌّ على صغيرة، والذي يشرب الدخان ليس بعدل؛ لأنه مُصِرٌّ على صغيرة، والذي يغتاب الناس ـ ولو مرة واحدة ولم يتب ـ ليس بعدل؛ لأنه فعل كبيرة.
وإذا طبقنا هذا التعريف في العدالة على حال الناس اليوم فأظنك لا تكاد تجد إلا واحداً في المائة، يعني عشرة في الألف! المهم أنه نادر أن يوجد من يتصف بالعدالة على هذا التفسير، ولكن الذي يقلد المذهب لا بد أن يمشي على هذا.
والاستقامة في المروءة ألا يفعل ما يخل بالمروءة، يعني بالشرف والعادات، فإن فَعَلَ ما يخل بذلك فليس بعدل، ولو كان مستقيم الدين، ومثَّلوا له بالذي يأكل في السوق، ويشرب في السوق، ويمشي جاعلاً مشلحه على طرف، يسحبه من طرف ويرفعه من طرف آخر، والذي لا يكون عليه غترة ولا طاقية، لكن طبعاً في بلد هذا عُرفهم، فكل هؤلاء مخالفون للمروءة، ومنه ـ أيضاً ـ الذي يمضغ اللبان في مجالس ذوي الهيئات والمروءة.
وعلى كل حال، إذا كانت المروءة مقيدة بالعادات، فإنها سوف تتغير بتغير العادات، بخلاف المعلق بالشرع فإنه لا يتغير، فهو ثابت إلى يوم القيامة.
قوله: «ويحكم على الغائب إذا ثبت عليه الحق» الغائب إما أن يكون في البلد، أو خارج البلد، والذي في البلد، إما أن يكون مستتراً مختفياً، أو غير مستتر، يعني يخرج ويأتي مع الناس، فالأقسام ثلاثة:
الأول: غائب في البلد غير مستتر، يعني ليس حاضراً في مجلس الحكم لكنه غير مستتر.
الثاني: غائب في البلد، لكنه مستتر متخفٍّ عن الناس.
الثالث: غائب عن البلد خارج البلد.
وقوله: «ويحكم على الغائب» المراد بالغائب هنا، الغائب عن البلد، أو الذي في البلد لكنه مستتر متخفٍّ، لا يمكن الوصول إليه، ففي هذين الحالين يحكم على الغائب إذا ثبت عليه الحق، فإذا جاء رجل إلى القاضي، وقال: أنا أدعي على فلان ابن فلان بمائة ريال مثلاً، فقال: أين هو؟ قال: في مكة، فإنه يحكم عليه إذا جاء المدعي بشاهدين، لأن الغَيْبة هنا بعيدة، مسافة قصر، وإذا كانت بعيدة مسافة قصر حُكم عليه إذا ثبت عليه الحق.
فإن ادعى على هذا الغائب بمائة ريال، فقال القاضي: أين الشهود؟ فقال: ما عندي شهود، لكن حلِّفْه، يقول القاضي: أَحْضِرْهُ وأُحَلِّفْهُ، فلا يحكم عليه إلا إذا ثبت عليه الحق.
فإذا كان المدعى به عيناً بأن قال: أنا أدعي على فلان أنه باع عليَّ بيته، فقال القاضي: إيت بالشهود، فقال: هؤلاء الشهود قد حضروا، فيحكم عليه؛ لأن الحق ثبت، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام:«البينة على المدعي»
(1)
.
وهذا الذي ذكر المؤلف حكمٌ يحتاج إلى دليل، والدليل قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم حكم لهند بنت عتبة رضي الله عنها أن تأخذ من مال أبي سفيان رضي الله عنه ما يكفيها وولدها بالمعروف، حيث جاءت إليه تقول: إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي، فقال صلى الله عليه وسلم: «خذي ما يكفيك
(1)
سبق تخريجه ص (318).
وولدك بالمعروف»
(1)
، فحكم عليه وهو غائب، قالوا: فهذا دليل على أنه يحكم على الغائب.
أما التعليل فلأننا لو لم نحكم له لضاع حقه؛ لأن هذا غائب، ما ندري هل يحضر، أو لا يحضر، أو يموت؟
وكذلك إذا كان في البلد، لكنه مستتر ومتخفٍّ عن الناس، فإن استتاره يدل على أنه مبطل، فلهذا لا نضيِّع حق هذا الرجل الذي ثبت له الحق، بل نحكم له به، وهذا هو المذهب.
وفي المسألة خلاف، فهناك من يقول: إنه لا يقضى على الغائب لدليل من القرآن، ومن السنة، ومن النظر، فزادوا على الأولين بدليل القرآن، أما القرآن فقالوا: إن الظاهر من قصة داود عليه الصلاة والسلام أن الله سبحانه وتعالى لَامَهُ حيث حكم لأحد الخصمين قبل أن يسمع حجة الآخر، في قوله تعالى:{وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ *إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ *} [ص]، ثم قال المدعي {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِي نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ *} [ص] هذه صورة الدعوى، الحكم:{قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ} [ص: 24]، ولم يسمع حجة الخصم.
ففي هذ القصة أن داود عليه الصلاة والسلام احتجب
(1)
أخرجه البخاري في النفقات/ باب إذا لم ينفق الرجل فللمرأة أن تأخذ بغير علمه
…
(5364)، ومسلم في الأقضية/ باب قضية هند (1714) عن عائشة رضي الله عنها.
عن رعيته بعبادته الخاصة، بدليل قوله:{إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} ، مع أن الله ـ تعالى ـ جعله خليفة يحكم بين الناس، والموظف لا يشتغل بما يشغله عن وظيفته، فإذا كان الله عز وجل قد كلفه أن يقوم بهذه المهمة، فلا ينبغي أن يختص الوقت لنفسه، ولهذا لما جاؤوا ووجدوا المحراب مغلقاً تسوَّروه؛ لأنهم أصحاب حاجة، كما أن داود عليه الصلاة والسلام حكم قبل أن يدلي الخصم بحجته التي يدافع بها عن نفسه، فبمجرد ما قال المدعي:{إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً} إلى آخره، قال:{لَقَدْ ظَلَمَكَ} ، وهذا يدل على أنه لا يحكم لأحد إلا بسماع حجة صاحبه.
ولكن قد يقول القائلون بالحكم على الغائب: إن هذا حاضر، فسماع حجته سهل، بخلاف الغائب، لكن قد ورد في حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إذا تقاضى إليك رجلان فلا تقضي للأول حتى تسمع كلام الآخر، فسوف تدري كيف تقضي» قال علي: فما زلت قاضياً بعد
(1)
، وهذا الحديث فيه مقال، لكن بعضهم حسَّنه.
أما النظر فقالوا: إنه لا يمكن أن يحكم لهذا الحاضر على الغائب؛ لاحتمال أن يكون قد قضاه حقه، فإذا قال: أنا أدعي عليه بمائة ريال، وأتى بالشهود، فمن الجائز أن يكون المدعى
(1)
أخرجه أحمد (1/ 143)، وأبو داود في الأقضية/ باب كيف القضاء (3582)، والترمذي في الأحكام/ باب ما جاء في القاضي لا يقضي بين الخصمين
…
(1331)، وحسنه، والحاكم (4/ 105)، والبيهقي (10/ 137) والحديث صححه الحاكم، ووافقه الذهبي.
عليه قد أوفى هذه المائة، وإذا كان جائزاً فإنه إذا وجد الاحتمال بطل الاستدلال، فهذه البينة صادقة فيما شهدت به، لكن احتمال القضاء وارد، إذاً يجب الانتظار في الحكم حتى ننظر ما عنده.
والحقيقة أن القولين كليهما له وجهة نظر، والذي أرى أن يرجع إلى رأي الحاكم في هذه المسألة، فقد يجد الحاكم من القرائن ما يقتضي الحكم على الغائب؛ لكون هذا المدعي رجلاً ثقة عدلاً، لا يمكن أن يدعي ما ليس له، والمدعى عليه بخلاف ذلك، فإذا كان عنده من القرائن ما يدل على صحة دعوى المدعي فليحكم بذلك، وإذا لم يكن عنده قرائن فالواجب أن يمسك ولا يحكم حتى ينظر حجة الخصم؛ لاحتمال أنه قضاه.
فإن قلت: نحتاج إلى الجواب عن حديث هند بنت عتبة رضي الله عنها، فالجواب عن ذلك سهل جداً، وهو أن يقال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم أفتاها ولم يحكم لها، والفتوى غير الحكم، ويدل على أن ذلك ليس بحكم التالي:
أولاً: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يطالبها بالبينة، ولو كان من باب الحكم لطالبها بالبينة؛ لأن البينة على المدعي، فلما لم يطالبها علم أنه أفتاها بمقتضى قولها.
ثانياً: أن ذلك كان في مكة، وكان أبو سفيان رضي الله عنه حاضراً في مكة ولم يكن مختفياً، فلو كان قضاء لأحضره النبي صلى الله عليه وسلم، وبهذا أجاب النووي رحمه الله وهو جواب صحيح.
ولا يقال: لعل الرسول صلى الله عليه وسلم حكم بعلمه في قضية أبي
سفيان؛ لأنه كان مشهوراً في قومه بالبخل؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «إنما أقضي بنحو ما أسمع»
(1)
، فحديث هند ليس فيه دليل على القضاء على الغائب.
فإذا قال قائل: كيف يستدل هؤلاء العلماء بهذا الحديث، وعدم الدلالة فيه واضحة؟
فالجواب: أن هذه المسألة ليست أول مسألة يكون فيها الدليل واضحاً، ويحصل فيها الخلاف، فما أكثر المسائل التي فيها الخلاف، والأدلة فيها واضحة، وما أكثر المسائل التي يستدل بها قائلوها بأدلة من الكتاب والسنة وليس فيها دليل؛ لأن الله عز وجل يؤتي فضله من يشاء، فكما أن هذا غني وهذا فقير، وهذا حسن الخلق وهذا سيء الخلق، وهذا طويل وهذا قصير، وهذا جميل وهذا قبيح، فكذلك في الفهم، وإلا فإن الإنسان بأدنى تأمل يتبين له أن قصة هند رضي الله عنها لا تدل على الحكم بظاهرها، لا سيما أن الصورة التي وقعت لا يحكم فيها على الغائب من استدل بها؛ لأنهم لا يحكمون على الغائب إلا ببينة؛ لأنه لا يمكن ثبوت الحق مع غيبة المدعى عليه إلا ببينة؛ لأن الإقرار متعذر، فالمدعى عليه ليس حاضراً، فكان لا بد من البينة والرسول صلى الله عليه وسلم لم يطلبها.
وإذا قلنا بجواز القضاء على الغائب، سواء مطلقاً كما هو المذهب، أو بحسب القرائن كما هو المختار عندي، فإنه يجب أن نحتاط للمدعى عليه، وكيف نحتاط؟ نقول للمدعي: احلف أنه
(1)
سبق تخريجه ص (316).
ما قضاك؛ لاحتمال القضاء، نعم، الشهود شهدوا بأصل الحق، لكن هناك احتمال أنه قضاك من غير علم الشهود، فاحتياطاً لحق الغائب نقول: احلف أنه لم يقضك.
وإذا كان المدعى به عيناً نحتاط أيضاً، ونقول للمدعي: نحن نحكم لك، لكن نريد منك كفيلاً مليئاً، أو رهناً محرزاً، ثم نسلمك العين، فائت بواحد غني يضمنك أنه إذا تبين أن العين ليست لك، فإما أن تسلمها أو تسلم بدلها، وإذا لم تجد كفيلاً أعطنا رهناً من مالك يُحرز العين، ويكفي لإيجاد بدلها، ونسلمك إياها، وفي هذا حماية لحق المدعى عليه؛ لاحتمال أن تكون الدعوى غير صحيحة.
قوله: «وإن ادعى على حاضر بالبلد غائب عن مجلس الحكم وأتى ببينة لم تسمع الدعوى ولا البينة» يعني إن ادعى شخص على حاضر في البلد لكنه غائبٌ عن مجلس الحكم، كرجل في أطراف البلد، فقال: أنا أطلب فلاناً ألف درهم وأتى ببينة، وفلان في طرف البلد الآخر، فهنا لا نسمع الدعوى، ولا نسمع البينة، فيقول القاضي للمدعي: لا أسمع دعواك، أحضر خصمك لأنظر في الدعوى؛ لأن المدعى عليه لا يصعب إحضاره، فإما أن يذهب إليه ويقول: أنا وأنت إلى الحاكم، أو يستدعي عليه الشُّرَطَ، أو ما أشبه ذلك.
المهم أن إحضار المدعى عليه في هذه الصورة غير متعذر ولا متعسر، فلهذا لا تسمع الدعوى ولا البينة؛ لأن سماع
الدعوى ليس فيه إلا إضاعة الوقت، وشغل القاضي بما لا فائدة فيه، فالقاضي لو سمع الدعوى ماذا يستفيد؟ وهل يمكن أن يقضي عليه؟!
ما يمكن؛ لأنه حاضر في البلد، إلا إذا كان مستتراً ومختفياً، بأن ذهبنا إلى بيته فلم نجده، ذهبنا إلى مكان عمله فلم نجده، ذهبنا إلى مسجده فلم نجده، فالمستتر في حكم الغائب، فتسمع الدعوى والبينة ويحكم عليه؛ لأن غيابه يدل على أن الدعوى عليه صحيحة، وأنه تغيب لئلا يدركه الحق، وهذا يرد كثيراً فيما إذا كسدت الأسواق، وضرَّت ببعض الناس، تجدهم لكثرة ديونهم لا يستطيعون مقابلة الناس، يهربون من مكان إلى مكان، فمثل هؤلاء ما نقول: إنهم حاضرون، فلا نحكم عليهم، ولا نسمع الدعوى عليهم إلا بحضورهم فهذا إضاعة للوقت.
وقوله: «وأتى ببينة لم تسمع الدعوى ولا البينة» وكلام المؤلف رحمه الله هنا واضح بأن إخضاره ليس بصعب ولا متعذر.
بَابُ كِتَابِ الْقَاضِي إِلَى الْقَاضِي
.................................................
قوله: «كتاب القاضي إلى القاضي» أي: كتاب القاضي إلى القاضي فيما يتعلق بالقضاء، وتسمى في عرف المتأخرين استخلافاً، يعني أن القاضي الكاتب استخلف القاضي المكتوب إليه، كما يستخلف الإمام في الصلاة من يتم الصلاة بدلاً عنه، وله صورتان:
الأولى: أن يكتب إلى القاضي فيما ثبت عنده ليحكم به القاضي المكتوب إليه.
الثانية: أن يكتب إلى القاضي فيما حكم به لينفذه المكتوب إليه.
وهذا في الغالب لا تدعو الحاجة إليه، إلا إذا كانت العين المدعى بها عقاراً، وكانت في بلد المكتوب إليه مثلاً، فإن القاضي قد يحتاج إلى ذلك، أو يكون أحد المدعيين في بلد القاضي المكتوب إليه، فيثبت عند القاضي دعوى المدعي، ويحكم بالثبوت إلى القاضي الآخر ليحكم بذلك.
فإذا قال قائل: ما فائدة شَغْل القاضي الكاتب بالكتابة؟ لماذا لا نقول: حولهم على المكتوب إليه من الأصل، قبل أن تثبت الحكم.
نقول: الفائدة أنه قد يكون القاضي المكتوب إليه أكثر عملاً
من الكاتب، ويكون هذا أكثر فراغاً، فيطلب الشهود ويحرر الدعوى، ويكتب كل ما تحتاج إليه القضية؛ لأجل أن تقدم إلى القاضي المكتوب إليه، وما بقي عليها إلا الحكم، وهذا لا شك أن فيه مصلحة للمكتوب إليه ظاهرة، وفيه ـ أيضاً ـ راحة للخصوم، فبدلاً من أن يذهبوا إلى القاضي المكتوب إليه، وتبقى معاملتهم أسبوعاً أو أسبوعين، أو شهراً أو شهرين، أو سنة أو سنتين، فقد تنتهي في ساعة أو ساعتين، وهذا أسهل للناس.
يُقْبَلُ كِتَابُ الْقَاضِي إِلَى الْقَاضِي فِي كُلِّ حَقٍّ حَتَّى القَذْفِ، لَا فِي حُدُودِ اللهِ، كَحَدِّ الزِّنَا وَنَحْوِهِ،
............
ولكن لكتابة القاضي إلى القاضي شروط، يقول المؤلف رحمه الله:«يقبل كتاب القاضي إلى القاضي في كل حق» يعني في كل حق لآدمي.
مثال ذلك: تداعى فلان وفلان في عين، وادعى أحدهما أنه باعها على الآخر، وذاك منكِر، فأتى المدعي ببينة، فثبتت الدعوى عند القاضي، وحررها، وكتب الشهود، ثم دفع الخصمين إلى القاضي المكتوب إليه، فيقبل؛ لأن هذا حق آدمي، فإذا وصلت القضية إلى القاضي المكتوب إليه نظر فيها، والخصمان بين يديه، ثم حكم بما تقتضيه الحال.
مثال آخر: تداعيا عيناً، وأتى المدعي ببينة أنها له، ولكن العين لم تُحضر في مجلس الحكم، فحكم القاضي بأن العين للمدعي بمقتضى البينة، ولكن ليست العين حاضرة حتى يلزم المدعى عليه بتسليمها للمدعي، فكتب إلى القاضي بأنه تداعى عندي فلان وفلان بكذا وكذا، وأن البينة قامت للمدعي بما ادعى به، وحَكَمْتُ بأن العين للمدعي فنفِّذْ حكمي هذا، فإذا وصلت
إلى القاضي ينفذ، وليس له الحق أن ينظر في القضية، وتكون على ذمة القاضي الأول.
قوله: «حتى القذف» هذا إشارة خلاف، لكن ذكر بعض المتأخرين أن العلماء إذا قالوا:«حتى» فالخلاف ضعيف، وإذا قالوا:«إن» فالخلاف قوي، وإذا قالوا:«لو» فالخلاف أقوى، وهذا اصطلاح أغلبي وليس دائماً.
وقوله: «القذف» هل هو حق لله، أو للآدمي؟ اختلف فيه العلماء، فقيل: إنه حق للآدمي، وقيل: إنه حق لله عز وجل، فمن قال: إنه حق لآدمي، قال: هو كسائر الحقوق، يقبل فيه كتاب القاضي إلى القاضي، ومن قال: هو حق لله، قال: لا يقبل فيه كتاب القاضي إلى القاضي، ولكن المؤلف يقول: إنه يقبل فيه كتاب القاضي إلى القاضي؛ لأن فيه شائبتين: شائبة حق الله، وشائبة حق الآدمي، وهي في حق الآدمي أظهر؛ لأن الذي يتلطخ بالقذف وتساء سمعته هو الآدمي.
مثال ذلك: ادعى زيد على عمرو بأنه قذفه، فطلب القاضي من المدعي البينة، فأتى بشاهدين يشهدان بأنه قذفه، ولكنه كره أن يحكم عليه؛ لأن المدعى عليه ابن عمه، وقال: لو أحكم عليه لصار بيني وبينه قطيعة رحم، فأنا أرفع القضية إلى القاضي الثاني، بأنه ثبت عندي كذا وكذا فاحكم، فإذا وصلت إلى القاضي المكتوب إليه، ينظر فيها، فإذا اقتضى نظره أن يحكم حكم، هذه الصورة الأولى.
الصورة الثانية: فيما حكم له لينفذه القاضي المكتوب إليه،
بأن ثبت الحكم عنده، وحكم على فلان بأنه يجب عليه ثمانون جلدة، حد القذف، لكن لا يحب أن ينفذه هو، أو يخشى أن ينفذه من سطوة المحكوم عليه، فكتب إلى القاضي الثاني: قد ثبت عندي كذا كذا، وحكمت به، فنفِّذْه، فينفذه القاضي الثاني، ويشبه هذا من بعض الوجوه كتابة القضاة اليوم إلى الأمراء، أو إلى الشُّرَط، لتنفيذ ما حكموا به.
قوله: «لا في حدود الله، كحد الزنا، ونحوه» فهذا لا يقبل فيه كتاب القاضي للقاضي، فلو ثبت عند القاضي لا يكتب به إلى القاضي الثاني؛ لأن في هذا نشراً للفواحش، فبدلاً ما كانت القضية لا يعلمها إلا القاضي الكاتب، فإنها ستصل إلى القاضي الثاني، وتكتب في سجلاته، فيكون في هذا نشر للجرائم، وإشاعة للفاحشة، وحينئذٍ فلا يقبل كتاب القاضي إلى القاضي فيما هو من حق الله عز وجل، كحد الزنا، وشرب الخمر، وما أشبه ذلك.
وظاهر كلام المؤلف أن التعزيرات يقبل فيها كتاب القاضي إلى القاضي، والحقيقة أن الذي يوجب التعزير فيه ـ أيضاً ـ إشاعة، فالقذف بغير الزنا يوجب التعزير، ترك صلاة الجماعة يوجب التعزير، وما أشبه ذلك، وإذا نشرناها بين الناس انتشرت، ولهذا كان القول الثاني في هذه المسألة وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ومذهب مالك أن كتابة القاضي إلى القاضي تجوز حتى في حقوق الله، حتى في حد الزنا، وشرب الخمر، والسرقة، وترك الصلاة، وغير ذلك مما يوجب التعزير، وأجابوا عن القول
بأن الحدود ينبغي فيها الستر: أن هذا الرجل الذي فعل ما يقتضي الحكم عليه هو الذي فضح نفسه، وإقامة الحد عليه أمام الناس فيه نشر لجريمته.
والحاجة إلى كتابة القاضي إلى القاضي فيما هو من حقوق الله واقعة، كما هي في حقوق الآدميين، وقد يكون هذا الذي شرب الخمر ابن عم للقاضي، وثبت عليه شرب الخمر، ولا يستطيع أن يحكم هو على ابن عمه بالجلد، أو يستطيع أن يحكم لكن لا يستطيع أن ينفذ، فيرفع الأمر إلى قاضٍ أقوى منه مركزاً وسلطة، فالصواب ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية أن كتاب القاضي إلى القاضي مقبول في كل ما ينفذ فيه حكم القاضي من الحقوق التي لله، والتي لعباد الله.
وَيُقْبَلُ فِيمَا حَكَمَ بِهِ لِيُنَفِّذَهُ، وَإِنْ كَانَ فِي بَلَدٍ وَاحِدٍ، وَلَا يُقْبَلُ فِيمَا ثَبَتَ عِنْدَهُ لِيَحْكُمَ بِهِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُما مَسَافَةُ قَصْرٍ،
.............
قوله: «ويقبل فيما حكم به لينفذه وإن كان في بلد واحد، ولا يقبل فيما ثبت عنده ليحكم به إلا أن يكون بينهما مسافة القصر» ذكرنا فيما سبق أن كتاب القاضي إلى القاضي له صورتان:
الأولى: أن يكتب فيما ثبت عنده ليحكم به القاضي المكتوب إليه.
الثانية: أن يكتب فيما حكم به لينفذه.
فيشترط في الكتابة فيما ثبت عنده ليحكم به القاضي المكتوب إليه، أن يكون بين القاضي الكاتب والمكتوب إليه مسافة
قصر، فلا تقبل كتابة القاضي إلى القاضي فيما ثبت عنده ليحكم به إذا كانا في بلد واحد، أو في بلدين متقاربين ليس بينهما مسافة قصر، وفيما حكم به لينفذه تقبل الكتابة ولو لم يكن بينهما مسافة القصر، ولو كانا في بلد واحد، ولو كان أحدهما في المحكمة الكبرى، والثاني في المحكمة المستعجلة مثلاً، فصار بين الصورتين فرق.
مثال ذلك: قاضٍ كتب إلى قاضٍ آخر فيما ثبت عنده ليحكم به، يعني سمع القضية وأثبتها ولم يبق إلا الحكم، فكتب بالثبوت إلى قاض آخر في طرف البلد، فلا يصح ولا يقبل؛ لماذا؟ قالوا: لإمكان الخصمين أن يذهبا إلى القاضي المكتوب إليه ويحتكمان عنده.
ولو كتب إلى قاضٍ في الرياض فيما ثبت عنده ليحكم به وهو في عنيزة فإنه يقبل؛ لأن بينهما مسافة قصر، وذهاب المتخاصمين إلى ذاك قد يكون فيه مشقة وتعطيل.
فإذا قال قائل: هذا التعليل يصدق ـ أيضاً ـ على ما إذا كتب فيما حكم به لينفذه.
فالجواب عن ذلك: قالوا: لأنه إذا كتب فيما حكم به صار هذا من باب حكم القاضي، وحكم القاضي يجب تنفيذه على القريب والبعيد، والقضية منتهية، فلم يبقَ إلا التنفيذ، فلا فرق بين القريب والبعيد.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله: يجوز أن يكتب فيما ثبت عنده ليحكم به، وإن كانا في بلد واحد، وقال: إن العلة في
جواز الكتابة هي التخفيف على القاضي المكتوب إليه، وعلى الخصمين، ثم فيه ـ أيضاً ـ دفع إحراج بالنسبة للقاضي الكاتب؛ لأنه كما أشرنا قد يتحرج أن يحكم على ابن عمه، أو على أخيه، أو على أبيه، أو ما أشبه ذلك، فيكتب القضية ويدفعها إلى قاضٍ آخر يحكم بها، فكيف نقول: إنه لا يصح ذلك إذا كانا في بلد واحد، أو في بلدين متقاربين ليس بينهما مسافة قصر؟! وهذا هو الصحيح، وأنه لا فرق بين الصورتين، وأن كتابة القاضي إلى القاضي جائزة، وإن كانا في بلد واحد مطلقاً.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكْتُبَ إِلَى قَاضٍ مُعيَّنٍ، وَإِلَى كُلِّ مَنْ يَصِلُ إِلَيْهِ كِتَابُهُ مِنْ قُضَاةِ المُسْلِمِينَ، وَلَا يُقْبَلُ إِلاَّ أَنْ يُشْهِدَ بِهِ الْقَاضِي الْكَاتِبُ شَاهِدَيْنِ، فَيَقْرَؤُهُ عَلَيْهِمَا، ثُمَّ يَقُولُ: اشْهَدَا أَنَّ هَذَا كِتَابِي إِلَى فُلَانٍ ابْنِ فُلَانٍ ثُمَّ يَدْفَعُهُ إِلَيْهِمَا.
قوله: «ويجوز أن يكتب إلى قاض معين، وإلى كل من يصل إليه كتابُه من قضاة المسلمين» يعني أن كتابة القاضي إلى القاضي قد تكون عامة، فيكتب من فلان ابن فلان القاضي في المحكمة الفلانية إلى كل من يصل إليه كتابي من قضاة المسلمين، أو يكتب من فلان ابن فلان القاضي من المحكمة الفلانية إلى فلان ابن فلان القاضي في المحكمة الفلانية، وهذه خاصة أي: إلى قاضٍ معين، والتعيين قد يكون بالاسم وقد يكون بالوصف، فإذا قال: للقاضي في المحكمة الفلانية، وهذا تعيين بالوصف، فإن القاضي الذي فيها ينفذ الحكم، أو يحكم كما في الصورتين السابقتين، وقد يكون معيناً بشخصه، فيقول: إلى فلان ابن فلان القاضي في المحكمة الفلانية، فإذا قدر أن في المحكمة المكتوب إليها عدة قضاة، وقد قال القاضي الكاتب: فلان ابن فلان القاضي بالمحكمة الفلانية فإنه يختص به، أما إذا قال: إلى القاضي في
المحكمة الفلانية وفيها عدة قضاة، فإن أي قاضٍ منهم يصل إليه الكتاب يجب عليه العمل به، ونظير هذا في الحديث إجازة الرواية عن الشخص، تكون عامة وتكون خاصة، فالعامة أن يقول: أجزت كل من سمع مروياتي أن يرويها عني، والخاصة أن يقول: أجزت لفلان ابن فلان أن يروي عني جميع مسموعاتي، فالمهم أن هذا شيء معمول به لدى القضاة الحكام، ولدى الرواة، أي أنه قد يكون الشيء عاماً، وقد يكون خاصاً.
وإذا وصل كتاب القاضي إلى القاضي فإنه يجب عليه أن ينفذه؛ لأنه كالقضية التي وصلت إليه فلا يجوز أن يتخلف عنها، ولأنه لو جاز أن يرفض لتعطلت أحكام الناس، وصار هذا يكتب وهذا يرفض، ولأنه لو جاز أن يرفض لساءت ظنون الناس بالقضاة، فقالوا: إن القضاة لا يثق بعضهم ببعض، ولهذا يرفض كل واحد منهم كتابة الآخر إليه، فلهذا إذا وصل كتاب القاضي إلى القاضي لزمه العمل به، لكن لو فرض أن القاضي المكتوب إليه عجز عن ذلك فله أن يحيلها ويردها على صاحبها.
قوله: «ولا يقبل إلا أن يشهد به القاضي الكاتب شاهدين، فيقرؤه عليهما، ثم يقول: اشهدا أن هذا كتابي إلى فلان ابن فلان، ثم يدفعه إليهما» يعني أن القاضي إذا كتب الكتاب إلى القاضي الآخر، فلا بد من اعتبار هذه الأمور:
أولاً: أن يشهد عليه شاهدين، فيأتي برجلين ويقرؤه عليهما حتى يضبطا معناه، فإن أشكلت عليهما كلمة فيه وجب عليهما الاستفسار، فيقولان للقاضي: ما معنى هذه الكلمة؟ فإذا ضبطا الكتاب ومعناه، قال: اشهدا أن هذا كتابي إلى فلان ابن فلان، فيشهدان بذلك ثم يدفعه إليهما، ويقول: اذهبا به، والأولى ألا يدفعه إلا مختوماً؛ لأنه أولى وأسلم من التغيير، فإذا غلفه ووضع عليه الختم كان هذا أسلم من التغيير؛ إذ من الجائز أن هذين الشاهدين يغيران فيه، فالاحتياط أن يختمه ويسلمه إليهما.
فإن بعث به واحداً فقط فإنه لا يصح، إلا على قول سبق أن ذكرناه، وهو قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أنه يكفي إرسال واحد، كذلك لو أعطاهما إياه مختوماً ولم يقرأه عليهما، وقال: خذا هذا الكتاب إلى فلان ابن فلان، فإنه لا يصح على المذهب، ولا يقبل حتى يقرأه عليهما؛ لأنهما بمنزلة الشاهدين، والشاهد لا بد أن يعلم بما شهد به.
ولكن الصحيح بلا شك أنه يكفي أن يعطيهما إياه مختوماً، بل لو قيل: إن هذا أولى لكان أولى؛ لأجل ألا يطلع على ما فيه، فإن بعض الناس إذا اطلع على شيء من مثل هذه الأمور يذهب يتزين به في المجالس، ويقول: كتب القاضي فلان إلى القاضي فلان بكذا وكذا، يعني اسمعوا يا ناس بأنني أتصل بالقضاة، وأعرف أحوالهم! المهم أنه لو قيل: لا يقرأ عليهما الكتاب، لكان ذلك أولى.
ثم إن هذه الأمور التي ذكرها الفقهاء رحمهم الله الظاهر
أنه عفا عليها الدهر، وأصبحت الكتب ترسل بطريق البريد المسجل تسجيلاً رسمياً، بعددٍ وتاريخ، وهذا من أحفظ ما يكون، وأسلم من الضياع، وأسلم من التعديل أو التبديل، وأسرع، والحمد لله الذي علم الإنسان ما لم يعلم، فالآن أصبحت الأمور ـ ولله الحمد ـ فيها سهولة في كل شيء، والفقهاء رحمهم الله إنما قالوا هذه الأمور والتحرزات بناء على الزمن الذي كانوا فيه ولكل زمان رجال ودولة.
بَابُ القِسْمَةِ
لَا تَجُوزُ قِسْمَةُ الأَمْلَاكِ الَّتِي لَا تَنْقَسِمُ إِلاَّ بِضَرَرٍ، أَوْ رَدِّ عِوَضٍ، إِلاَّ بِرِضَا الشُّرَكَاءِ، كَالدُّورِ الصِّغَارِ، وَالْحَمَّامِ، وَالطَّاحُونِ الصَّغِيرَيْنِ،
...............
قوله: «القسمة» اسم من قسمت الشيء، إذا جعلته أقساماً، فالواحد يمكن أن يجعل اثنين، أو ثلاثة، أو أربعة، أو خمسة، المهم إذا جعلت الشيء أقساماً فهذه هي القسمة، وهي تنقسم إلى أقسام كما سيذكر المؤلف، ولكن هنا سؤال: لماذا جعل المؤلف باب القسمة هنا؟ أليس من الأجدر أن تجعل في باب الشركة، لمناسبة قسم الشريكين ما بينهما، أو أن يجعل في باب الأضحية؛ لأنه قد يشترك اثنان في بقرة، أو في بعير ويحتاجان إلى القسم، أو في باب الفرائض، أو ما أشبه ذلك؟
الجواب: الواقع أن له مناسبة في عدة أبواب، في الأضحية، والفرائض، والوصايا، والأوقاف، والشركات، فله مناسبات في كثير من أبواب الفقه، لكن ذكروه هنا؛ لأن القسمة تحتاج إلى قاسم في الغالب، وهذا القاسم إما أن يكون منصوباً من قبل الشريكين، فيكون كالرجل الذي يحكمه الخصمان، وقد سبق لنا في كتاب القضاء، في أوله، أنه إذا حكّم اثنان رجلاً بينهما يصلح للقضاء فإنه ينفذ حكمه، وإما أن يكون القاسم عن طريق القاضي، هو الذي ينصبه، فتكون المسألة لها علاقة بالقضاء، ولهذا غالب الفقهاء جعلوا باب القسمة في طي كتاب القضاء؛ لأن مناسبته فيه ظاهرة، وليست الأبواب التي لها مساس
بالقسمة، بعضها أولى من بعض، فلذلك نقلوه إلى هذا المكان.
إذاً المناسبة أن القسمة بين المشتركين، كالقضاء بين الخصمين؛ لأنه فُصِل بينهما، ومُيِّزَ حق كل واحد من الآخر، ثم إن كانت بقاسم منصوب من قبلهما، فهي كالرجل يُحكِّمه الخصمان، وإن كانت بقاسم منصوب من قبل القاضي، فلها ارتباط بالقضاء.
يقول المؤلف: إنها تنقسم إلى قسمين:
الأول: قسمة تراضٍ، وهي القسمة التي لا تنفذ إلا برضا الشركاء كلهم.
الثاني: قسمة إجبار، وهي القسمة التي لا يشترط فيها التراضي، بل من امتنع من الشركاء أجبر.
بدأ المؤلف بقسمة التراضي فقال:
«لا تجوز قسمة الأملاك التي لا تنقسم إلا بضرر، أو ردِّ عوض إلا برضا الشركاء» هذا الضابط لما قسمته قسمة تراضٍ، فكل مشترك بين شخصين فأكثر لا ينقسم إلا بضرر أو برد عوض فإنه لا ينفذ إلا برضا الشركاء كلهم؛ لأنه إذا كان فيها ضرر فلا يمكن أن يضار أحد إلا إذا رضي بالضرر على نفسه، وهو عاقل بالغ رشيد، ولأنها إذا احتاجت إلى رد عوض صارت بمنزلة البيع، لأن فيها عوضاً ومعوضاً، والبيع لا بد فيه من التراضي.
فإذا قال قائل: ما هو الضرر؟ هل هو الضرر البدني أو الضرر المالي؟ اختلف الفقهاء في الضرر المانع من القسمة، فقال
بعضهم ـ وعليه كلام المؤلف ـ: الضرر هو أن لا ينتفع أحدهم بنصيبه إذا قسم، سواء اختلفت القيمة أم لم تختلف، وقال بعضهم: بل الضرر هو نقص القيمة بالقسمة.
مثال ذلك: أرض مشتركة بين شخصين، مساحتها أربعة وعشرون متراً، وقيمتها ستة آلاف، لأحدهما سدس وللآخر خمسة أسداس، إذا قسمناها أسداساً فإن صاحب السدس لا ينتفع بسدسه؛ لأن السدس عبارة عن أربعة أمتار، فهل هذه قسمة إجبار أو تراضٍ؟ هي قسمة تراضٍ عند من يقول: إن الضرر هو ألا ينتفع أحدهم بنصيبه إذا قسم، وقسمة إجبار عند من يقول: إن الضرر نقص القيمة بالقسمة، وهذه لم تنقص قيمتها، فهذا السدس الذي قسم لو بيع يساوي ألفاً، ولو بيعت الأرض جميعاً تساوي ستة آلاف، ولو فرض أن هذه الأرض ستمائة متر، فصاحب السدس إذا قسم له نصيبه يكون له مائة متر، فيمكن أن ينتفع بها، لكن القسمة أنقصت قيمتها، فلما كانت ستمائة متر كانت تساوي ستين ألفاً، ولما قسمت صار هذا السدس لا يساوي إلا خمسة آلاف، فنقص النصف.
فعلى الرأي الذي يقول: إن الضرر هو ألا ينتفع أحدهم بنصيبه بعد القسمة تكون القسمة هنا إجباراً؛ لأنه ينتفع بنصيبه، وعلى القول الثاني الذي يقول: إن الضرر المانع من القسمة هو نقص القيمة بالقسمة، نقول: القسمة هنا من باب قسمة التراضي، إن رضي صاحب السدس أن يخرج له مائة متر فإننا نقسم له، وإن لم يرضَ فلا قسمة، وإذا كان السدس مائة متر ولا تنقص القيمة بذلك، فهي قسمة إجبار على القولين جميعاً، والمذهب أن الضرر
المانع من الإجبار هو نقص القيمة بالقسمة، ولا يلتفتون إلى الانتفاع وعدم الانتفاع.
وقوله: «أو رد عوض» مثال ذلك: أرض بين شريكين لا يمكن أن تتعدل بأجزاء ولا قيمة، إلا برد عوض، يعني مثلاً فيها جبال، فيها أودية، فيها أشجار، ما يمكن أن نعدلها أبداً بالسهام، إن قسمناها نصفين صارت هذه الأرض أحسن من هذه، وإن قسمناها ثلثين، وقلنا: نعطي الرديئة ثلثين ما تعدلت أيضاً، فما تتعدل إلا إذا جعلنا للناقص عوضاً عن الكامل، فهذه ـ أيضاً ـ قسمتها قسمة تراضٍ، إذا رضي الطرفان وإلا تبقى وتباع جميعاً، فلا يمكن أن تتعدل إلا إذا أضفنا للناقص دراهم، فهي شبيهة بالبيع؛ لأن فيها عوضاً ومعوضاً، ولا يجوز البيع إلا بالتراضي.
قوله: «كالدور الصغار» الدور الصغار ما تنقسم بلا ضرر، فإذا كان بيت فيه حجرة نوم، وحجرة أكل، ومطبخ، والشريكان اثنان، وغرفة النوم عرضها متران، والطول متران ونصف، والمطبخ متر في متر، وغرفة الطعام متران في مترين! فهذه الدار صغيرة لا يمكن قسمها أبداً.
قوله: «والحمام» أيضاً لا يمكن قسمه، كحمام مشترك بين دارين؛ لأن الغالب أن الحمام صغير.
قوله: «والطاحون» الطاحون صغير، فلا يمكن أن يقسم لكن المؤلف يقول:
«الصغيرين» فإذا كان الطاحون والحمام كبيرين فيمكن قسمهما.
وَالأَرْضِ الَّتِي لَا تَتَعَدَّلُ بِأَجْزَاءٍ، وَلَا قِيمَةٍ، كَبِنَاءٍ، أَوْ بِئْرٍ فِي بَعْضِهَا، فَهَذِهِ القِسْمَةُ فِي حُكْمِ الْبَيْعِ، وَلَا يُجْبَرُ مَنِ امْتَنَعَ مِنْ قِسْمَتِهَا، وأَمَّا مَا لَا ضَرَرَ، وَلَا رَدَّ عِوَضٍ فِي قِسْمَتِهِ، كَالقَرْيَةِ، وَالبُسْتَانِ، وَالدَّارِ الكَبِيرَةِ، وَالأَرْضِ، وَالدَّكَاكِينِ الوَاسِعَةِ، وَالمَكِيلِ، والْمَوْزُونِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، كَا
لأَدْهَانِ، وَالأَلْبَانِ وَنَحْوِهَا، إِذَا طَلَبَ الشَّرِيكُ قِسْمَتَهَا أُجْبِرَ الآخَرُ عَلَيْهَا.
قوله: «والأرض التي لا تتعدل بأجزاء ولا قيمة» يعني ما تتعدل إلا بعوض، وأفادنا المؤلف أن تعديل السهام في الأرض، تارة يكون بالأجزاء، وتارة يكون بالقيمة.
يكون التعديل بالأجزاء، بأن يكون كل واحد منهما له جزء معين منها، ويمكن قسمها على حسب الأجزاء.
ويكون التعديل بالقيمة بأن يقال مثلاً: جانب الأرض هذا طيب، وجانب الأرض هذا رديء، وهي أنصاف بيننا، ولو عدلناها بالأجزاء لم نتمكن، ولا يمكن أن نعدلها إلا إذا أضفنا إلى أحد السهام شيئاً من المال، فقسمته قسمة تراضٍ.
مثال التعديل بالقيمة: أرض مساحتها ستمائة متر، وهي بيننا نصفان، لو عدلناها بالأجزاء كان لكل واحد ثلاثمائة، ولكنها ما تتعدل؛ لأن بعضها طيب وبعضها غير طيب، بعضها فيه بئر وبعضها ليس فيه بئر، فنعدلها بالقيمة، قالوا: الأرض الطيبة نجعلها ثلثاً والرديئة ثلثين، التي فيها البئر نجعلها ثلثاً، والتي ليس فيها بئر نجعلها ثلثين.
قوله: «كبناء أو بئر في بعضها» الكاف هنا الظاهر أنها للتعليل، قال ابن مالك:
شَبِّهْ بكافٍ وبها التعليلُ قد
…
يعنى ................
فقوله: «لا تتعدل بأجزاء ولا قيمة» كأنه قيل: لماذا؟ قال: «لبناء أو بئر في بعضها» يعني هذه الأرض مشتركة بيننا، بنينا في طرف منها مما يلي الشارع داراً، فلا يمكن أن نعدلها إلا بإضافة
دراهم على الجزء الثاني الذي ليس فيه الدار، فهذه قسمتها قسمة تراضٍ.
كذلك إذا كان في بعضها بئر، ولا يمكن أن تتعدل بالأجزاء بأن نقسم البئر، ويكون لكل واحد منا النصف، فهذه ـ أيضاً ـ قسمتها قسمة تراضٍ، والحاصل أن كل شيء يحتاج إلى زيادة عوض فقسمته قسمة تراضٍ، ولهذا قال المؤلف:
«فهذه القسمة في حكم البيع، ولا يجبر من امتنع من قسمتها» .
ثم انتقل المؤلف إلى القسم الثاني وهو قسمة الإجبار فقال:
«وأما ما لا ضرر ولا رد عوض في قسمته، كالقرية، والبستان، والدار الكبيرة، والأرض، والدكاكين الواسعة، والمكيل، والموزون من جنس واحد، كالأدهان، والألبان، ونحوها، إذا طلب الشريك قسمتها أجبر الآخر عليها» وسميت قسمة الإجبار؛ لأنها لا تتوقف على رضا الشركاء، بل يُجبر من امتنع، وضابطها كل قسمة ليس فيها ضرر ولا رد عوض.
وضرب المؤلف لهذا أمثلة فقال: «كالقرية» وهل يمكن أن تكون القرية بين شركاء؟ نعم، يمكن أن يجتمع جماعة، ويشتروا أرضاً، ويخططوها، ويبنوها ثم يسكنها الناس، فتكون قرية بين شركاء، فهذه القرية كبيرة يمكن أن يقول الشريك لشريكه: لك النصف، ولي النصف.
وقوله: «والبستان» أي: البستان الكبير الذي إذا قسم لا يتضرر أحد بقسمته؛ بحيث لو قسمناه ما تنقص قيمته على القول بأن الضرر هو نقص القيمة، أو بحيث إذا قسمناه لم يفت الانتفاع بما قسم، على القول الثاني الذي يقول: إن الضرر هو فوت الانتفاع.
وقوله: «والدار الكبيرة» فهذه تنقسم بلا ضرر، لكن بشرط أن تكون حجراتها متساوية، أما إن كانت حجراتها غير متساوية، مثل أن يكون بعضها مجلساً للرجال، وبعضها مطعماً، وبعضها مطبخاً، أو بعضها صالة للنساء، فهذه لو قسمت لحصل الضرر، ولو جُعل أحدهما للآخر لاحتاجت إلى رد عوض، فهنا نقول: القسمة قسمة تراضٍ، إنما لو كانت دار كبيرة يمكن أن نقسمها، وفي كل جانب منها منافعه، فالقسمة قسمة إجبار.
وقوله: «والأرض، والدكاكين الواسعة» كذلك يمكن قسمتها بلا ضرر.
وقوله: «والمكيل، والموزون من جنس واحد، كالأدهان، والألبان» الأدهان والألبان مكيلة، فمثلاً: بيني وبينك كمية من السمن، وأردنا أن نقسمها فإنه يجبر الممتنع على القسمة؛ لأن
هذه يمكن تعديلها بالكيل، فيؤتى بإناء ويغرف لك غرفة ولي غرفة حتى تنتهي، والألبان مثلها، فلو كان بيننا سطل لبن فإنه يمكن قسمته، يؤخذ إناء لي وإناء لك، وهكذا حتى تنتهي.
وقوله: «ونحوها» مثل البر، والرز، والقهوة، والسكر، واللحم، كل هذه يمكن قسمتها بالكيل إن كانت مكيلة، وبالوزن إن كانت موزونة.
ولو كان بينهما سيارة فلا يجبر الممتنع على القسمة؛ لأن القسمة ولو رضيا بقسمتها فما نوافقهما؛ لأنه لا يمكن قسمة السيارة إلا بإتلافها، وهذا سفه! فما الطريق إلى فك الشركة؟ الطريق إلى فك الشركة أن تباع.
ولو كان بينهما سيارات متعددة، نقول: هذه السيارات إذا كانت من جنس واحد، وليس فيها عيب، وكلها جديدة، فقسمتها إجبار؛ لأنه لا ضرر على أحدهما، وإن كانت مختلفة الأجناس أو بعضها معيباً وبعضها سليماً، ولا يمكن قسمتها بالإفراز فإنها تراضٍ.
وَهَذِهِ القِسْمَةُ إِفْرَازٌ لَا بَيْعٌ، وَيَجُوزُ لِلشُّرَكَاءِ أَنْ يَتَقَاسَمُوا بِأَنْفُسِهِمْ، وَبِقَاسِمٍ يَنْصِبُونَهُ، أَوْ يَسْأَلُوا الْحَاكِمَ نَصْبَهُ، وَأُجْرَتُهُ عَلَى قَدْرِ الأَمْلَاكِ، فَإِذَا اقْتَسَمُوا، أَوِ اقْتَرَعُوا لَزِمَتِ القِسْمَةُ، وَكَيْفَ اقْتَرَعُوا جَازَ.
قوله: «وهذه القسمة إفراز لا بيع» الإشارة تعود إلى أقرب مذكور، وهو قسمة الإجبار.
فقوله: «إفراز» يعني تمييز لحق كل شريك من حق شريكه.
وقوله: «لا بيع» ولهذا لم نشترط فيها التراضي، ولا يثبت لها أحكام البيع، فليس فيها خيار مجلس، وتجوز بعد أذان الجمعة الثاني؛ لأنها ليست ببيع ما دامت لا تشغله، وتجوز في المسجد مثل لو كان بيني وبينك كيس من الرز، وقسمناه في
المسجد فلا مانع؛ لأن هذه ليست بيعاً، وإنما إفراز نصيب كل واحد من الآخر، ويجوز قسم لحم الأضاحي والهدايا مع أن بيع لحم الأضاحي والهدايا لا يجوز، لكن هنا تجوز القسمة؛ لأن هذه ليست بيعاً.
قوله: «ويجوز للشركاء أن يتقاسموا بأنفسهم» لكن بشرط أن يكون لديهم معرفة بالقسمة لتخرج عن شبه القمار؛ لأنه لو لم يكن عندهما معرفة بالقسمة لاحتمل احتمالاً كبيراً أن تكون الأرض بينهما نصفين، ثم يقسمانها أثلاثاً؛ لأنهم ما يعرفون القسمة وحينئذٍ عندما نقرع للتمييز يكون أحدهما إما غانماً وإما غارماً، فإن حصل له الثلثان فهو غانم، وإن حصل له الثلث فهو غارم.
فإن قالا: نحن راضيان بذلك، قلنا: هذا لا يجوز حتى لو رضيتما، حتى المتسابقان فيما لا يجوز فيه السبق يقولان: نحن متراضيان، والمتبايعان بيعاً ربوياً يقولان: نحن متراضيان، ونحن لا يمكن أن يكون رضانا مخالفاً لرضا الشرع، بل لا بد أن يكون تابعاً له.
قوله: «وبقاسم ينصبونه» يعني ويجوز ـ أيضاً ـ أن يتقاسموا بقاسم ينصبونه.
قوله: «أو يسألوا الحاكم نصبه» في كلام المؤلف لحن في قوله: «يسألوا» حيث حذف النون بدون سبب؛ لأنها صفة لـ «قاسم» والتقدير «وبقاسم ينصبونه أو بقاسم يسألون الحاكم
نصبه»، ولكن سبق لنا أن الأفعال الخمسة يجوز حذف تنوينها للتخفيف، ولو بدون ناصب أو جازم، ومنه قول الرسول صلى الله عليه وسلم:«والله لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا»
(1)
، ولو كانت على الأصل لقال:«لا تدخلون» «ولا تؤمنون» ، وأما «تؤمنوا» الأولى و «تحابوا» فحذف النون فيهما على الأصل؛ لأنهما منصوبتان بأن مضمرة بعد حتى. فيجوز حذف النون تخفيفا.
وقوله: «وبقاسم ينصبونه أو يسألوا الحاكم نصبه» يعني يجوز أن يختاروا قاسماً ينصبونه هم بأنفسهم، فيذهبون إلى القاسم المعروف ـ والغالب أن القسامين يكونون معروفين ـ ويقولون: تعالَ اقسم لنا هذه الأرض، اقسم لنا هذا البيت، اقسم لنا كذا وكذا، أو يسألون الحاكم نفسه، ويذهبون إلى القاضي ويقولون: نحن بيننا شركة في أرض، أرسل لنا قاسماً يقسم لنا.
فإذا قال قائل: أين الدليل على هذا؟
قلنا: لدينا قاعدة (لا يطالب المبيح في المعاملات بالدليل) فكل من قال: هذا مباح في معاملة، ما نقول: ما دليلك؟ لأن هذا هو الأصل، فالأصل في المعاملات، والمأكولات، والمشروبات، والملبوسات، والمسكونات، والمنتفع بها، الأصل
(1)
أخرجه أحمد (2/ 512)، وأبو داود في الأدب/ باب في إفشاء السلام (5193)، والترمذي في الاستئذان والآداب/ باب ذكر في فضل السلام (2688)، وابن ماجه في المقدمة/ باب في الإيمان (68) قال الترمذي: حسن صحيح، والحديث صححه الألباني كما في صحيح ابن ماجه (2/ 300).
فيها الحل حتى يقوم دليل التحريم، بخلاف العبادات، فالعبادات الأصل فيها الحظر حتى يقوم دليل التشريع، ولهذا من تعبد لله بعبادة وقال: هذا مسنون، هذا مشروع، نقول له: هات الدليل وإلا فهي مردودة، لقوله صلى الله عليه وسلم:«من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد»
(1)
.
وقوله: «قاسم» يقتضي أن يكون له نوع من الحكم، ولهذا لا بد أن يكون عالماً بالقسمة وأميناً، أما الإنسان الجاهل فلا يصلح للقسمة وكذلك لا يصلح من ليس أميناً ولو كان عالماٌ لأنه قد يحابي بعض المتقاسمين على بعض.
قوله: «وأجرته على قدر الأملاك» مطلقاً، أو على قدر المُلاَّك، أو على الشرط، أقوال ثلاثة، المذهب ـ كما قال المؤلف ـ على قدر الأملاك، فمثلاً: إذا استأجرنا هذا القاسم بستمائة، وكان المال أرضاً مشتركة، لواحد سهمان، وللآخر أربعة، فعلى صاحب الأربعة أربعمائة، وعلى صاحب السهمين مائتان؛ لأن صاحب السهمين له ثلث، وصاحب الأربعة له ثلثان، فلهذا صارت الأجرة على قدر الأملاك، ثم يقرع.
وعلى قول من يقول: على قدر المُلاَّك في المثال الذي ذكرنا لأحدهما ثلثا الأرض، وللآخر الثلث، والأجرة ستمائة نوزعها مناصفة؛ لأن المالكين اثنان.
والقول الثالث على الشرط، وبدون الشرط على قدر
(1)
سبق تخريجه ص (67).
الأملاك، فإذا قال أحدهما للآخر: الأجرة أنصاف؛ لأننا اثنان، فرضي بذلك جاز، وإلا فعلى قدر الأملاك، وهذا القول أصح، أما قوله على قدر الأملاك فقد سبق بيان وجهه، وأما كونها على حسب الشرط فلعموم قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]، وقوله:{وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ} [الإسراء: 34]، وقول النبي عليه الصلاة والسلام:«كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط»
(1)
، وقوله:«المسلمون على شروطهم»
(2)
، وقوله:«إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج»
(3)
، فهذا يدل على أن الشروط يوفى بها.
قوله: «فإذا اقتسموا أو اقترعوا لزمت القسمة، وكيف اقترعوا جاز» إذا كانت القسمة قسمة إجبار، واقتسموا ورضي كل واحد منهم بها لزمت القسمة، ولا خيار ولو كانوا في مجلس القسمة؛
(1)
أخرجه البخاري في البيوع/ باب إذا اشترط في البيع شروطاً لا تحل (2168)، ومسلم في العتق/ باب بيان أن الولاء لمن أعتق (1504)(8) عن عائشة رضي الله عنها.
(2)
رواه البخاري معلقاً بصيغة الجزم في الإجارة/ باب أجرة السمسرة، وقد وصله أبو داود في القضاء/ باب في الصلح (3594)، والحاكم (2/ 92) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وقد أخرجه الترمذي في الأحكام/ باب ما ذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلح بين الناس (1352) عن كثير بن عبد الله المزني عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً حرم حلالاً أو أحل حراماً، والمسلمون على شروطهم إلا شرطاً حرم حلالاً أو أحل حراماً» وقال: «حسن صحيح» انظر: المجموع (9/ 464)، والإرواء (5/ 142).
(3)
أخرجه البخاري في الشروط/ باب الشروط في المهر عند عقد النكاح (2721)، ومسلم في النكاح/ باب الوفاء بالشروط في النكاح (1418) عن عقبة بن عامر رضي الله عنه.
لأنها إفراز لا بيع، أما إذا كانت قسمة تراضٍ فإنها لا تلزم بمجرد القسمة، بل لهم الخيار ما داموا في المجلس؛ لأنها بيع، والبيع فيه الخيار، قال النبي عليه الصلاة والسلام:«المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا»
(1)
.
وإذا اقتسموا وتمت القسمة فلتمييز نصيب أحدهما طريقان: إحداهما: التخيير، والثانية: القرعة.
التخيير مثاله: لما قسمنا الأرض المشتركة قلت لك: اختر، فتخيرت، فالمسألة هنا واضحة، فإذا أبى كل واحد منا أن يخير الآخر نلجأ إلى القرعة، وكيفما اقترعنا على أي صفة جاز، فإذا اقترعنا لزمت القرعة، وهذا في قسمة الإجبار، وأما في قسمة التراضي فكما سبق لكلٍّ منا الخيار ما دمنا في المجلس.
فلو قسمنا بيننا ثمر نخل خرصاً على رؤوس النخل، فإنه يجوز؛ لأن هذا إفراز وليس ببيع، ولو كان بيعاً ما جاز؛ لأنه لا يجوز أن يبيع عليك ثمر نخل على رؤوس النخل خرصاً، فإذا قسمناه خَيَّر أحدنا الآخر، فاختار المخير نصيبه، ثم بعد ذلك رجع وقال: القسمة فيها خطأ فلا يقبل.
وهنا قصة غريبة وقعت هنا في البلد، اقتسم رجلان ثمر نخل بينهما، وكان ذلك في شهر رمضان، فقال أحدهما للآخر: اختر، فتمشى المخير بين النخل وقال: أختار هذا الجانب، فقال: خذه، ثم قال للذين يصرمون الثمرة: أحب أن تأتوا إليّ
(1)
أخرجه البخاري في البيوع/ باب إذا بيَّن البيعان ولم يكتما (2079)، ومسلم في البيوع/ باب الصدق في البيع (1532) عن حكيم بن حزام رضي الله عنه.
في النهار؛ لئلا يأتي المساكين فيأكلوا، فجاءوا في النهار وصرموا التمر وأدخلوه إلى بيته.
وأما الآخر فأعلن عند باب المسجد وقال: إنه سيصرم نخله بعد عيد الفطر في النهار، فمن أحب أن يأتي فنحن نتشرف بذلك، أو قال: حياه الله، ولما أفطر الناس، وكان الناس في ذلك الوقت في جوع شديد، فالفقراء لما أفطروا من رمضان وصار اليوم الثاني ذهبوا إلى هذا الرجل وجعلوا يصرمون ثمر النخل ويأكلون ويشبعون.
وسبحان الله العظيم! أدخل أكثر من حمولة شريكه الذي صرم في النهار في رمضان، فادعى الشريك الأول المُخَيَّر الغبن، والخطأ في القسمة، فقال الثاني: نحن قسمنا جميعاً وخيرتك واخترت، فتحاكموا إلى القاضي، فقال لهم: ما القصة؟ فأخبروه بالقصة، فقال للذي صرم تمره في رمضان: الحمد لله أن تمرك ما صار حشفاً، وهذه مثل قصة أصحاب الجنة.
بَابُ الدَّعَاوَى وَالبَيِّنَاتِ
الْمُدَّعِي مَنْ إِذَا سَكَتْ تُرِكَ، وَالْمُدَّعَى عليه مَنْ إِذَا سَكَتَ لَمْ يُتْرَكْ،
وَلَا تَصِحُّ الدَّعْوَى وَالإِنْكَارُ إِلاَّ مِنْ جَائِزِ التَّصَرُّفِ.
قوله: «الدعاوى» أو الدعاوي جمع دعوى، وهي في اللغة الطلب، قال الله تعالى:{وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ} [يس: 57] أي: ما يطلبون، وأما في الاصطلاح فهي إضافة الإنسان لنفسه شيئاً على غيره، سواء كان هذا الشيء عيناً، أو منفعة، أو حقاً، أو ديناً.
والإضافة ثلاثة أقسام:
الأول: أن يضيف الإنسان شيئاً لنفسه على غيره، وهذه دعوى. كأن يقول: لي على فلان كذا، سواء كان عيناً أو منفعة، أو حقاً أو ديناً أربعة أشياء.
الثاني: أن يضيف الإنسان شيئاً لغيره على نفسه، وهذا إقرار.
الثالث: أن يضيف الإنسان شيئاً لغيره على غيره، وهذه شهادة. فهذه أنواع الإضافات
ونحن في النوع الأول، وهو أن يضيف الإنسان شيئاً لنفسه على غيره، وهذا الشيء، إما عين، وإما منفعة، وإما دين، وإما حق.
مثال العين: أن يقول: أدعي على فلان أن هذا الذي بيده من كتاب، أو حقيبة، أو غيرهما لي.
مثال المنفعة: أدعي عليه أنني أجرته بيتاً لمدة شهر.
مثال الدين: أن يقول: أدعي عليه أن في ذمته لي مائة ريال.
مثال الحق: أن يدعي فلان على فلان أنه قذفه، وكذلك لو قال: أدعي عليه استحقاق شفعة أو ما أشبه ذلك.
قوله: «والبينات» جمع بينة، وهي ما أبان الشيء وأظهره، وهي أنواع، وفي كل موضع بحسبه، فبينات الرسل آياتهم التي تدل على رسالتهم، قال الله تعالى:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ} [الحديد: 25]، وبينة اللقطة أن يصفها مدعيها، وبينة القسامة أن يحلف المدعون خمسين يميناً، وهكذا، فالبينة كل ما أبان الشيء وأظهره، سواء كان قرينة يباح الأخذ بها، أم حجة شرعية يجب قبولها كالشهادة.
وسليمان بن داود ـ عليهما الصلاة والسلام ـ لما تخاصمت إليه المرأتان في ولد إحداهما دعا بالسكين ليشقه بينهما نصفين، فرضيت الكبيرة، وقالت الصغيرة: لا تشقه، هو ولدها، فقضى به للصغيرة
(1)
، فهذه القرينة القوية بينة، فلهذا حكم به للصغيرة بدون يمين، وبدون أي شيء؛ لأن امتناعها من أن يشق الولد نصفين دليل على أنها أمه.
ثم فسر المؤلف المدعي والمدعى عليه فقال:
«المدعي من إذا سكت ترك، والمدعى عليه من إذا سكت لم يترك» مثال ذلك: ادعيت عليك مائة ريال، فأنا إذا سكت عن
(1)
أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء/ باب قوله الله تعالى: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ}
…
} (3427)، ومسلم في الأقضية/ باب بيان اختلاف المجتهدين (1720) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
الدعوى تتركني أنت، ولكن أنت إذا سكت هل أتركك؟ لا أتركك، هكذا يقول المؤلف، والمسألة فيها شيء من النظر؛ لأن المدعى عليه قد يترك لزهادة المدعى به، كعشرة ريالات، فلا تستحق أن يطالبه ويذهب إلى المحكمة، وإلى الشرطة، وما أشبه ذلك.
لكن أضاف بعض العلماء إلى هذا قيداً وقالوا: المدعى عليه إذا سكت لم يترك بعد المطالبة؛ لأن المدعى عليه إذا كان المدعى به شيئاً زهيداً يمكن أن يتركه ولا يطالبه.
وقال بعضهم: المدعي من يضيف الشيء إلى نفسه، والمدعى عليه من ينكره، سواء ترك أم لم يترك، فإذا أضفت شيئاً لنفسك على غيرك وأنكر، فأنت المدعي وهو المدعى عليه، وهذا هو الذي يوافق الحديث:«البينة على المدعي، واليمين على من أنكر»
(1)
، وعليه فيكون هذا التعريف أقرب من تعريف المؤلف؛ لما يرد على تعريف المؤلف من الانتقاض من أن المدعى عليه قد يُترك.
قوله: «ولا تصح الدعوى والإنكار إلا من جائز التصرف» جائز التصرف هو: البالغ، العاقل، الحر، الرشيد.
فضد البالغ الصغير، فهذا لا تصح منه الدعوى ولا الإنكار، إلا فيما يجوز له التصرف فيه؛ لأنه سبق لنا في البيع أنه يجوز تصرف الصبي والصغير بإذن وليهما في الشيء الزهيد
(1)
سبق تخريجه ص (318).
اليسير، لكن الشيء الذي لا يصح تصرفه فيه لا تصح الدعوى منه، ولا الإنكار، فمن يدعي عنه ومن ينكر؟
الجواب: وليه هو الذي يقيم الدعوى على من عليه حق لهذا الصغير، ووليه ـ أيضاً ـ هو الذي يتولى الإنكار فيما لو ادعي عليه.
والعاقل ضده المجنون، فالمجنون لا يصح منه دعوى ولا إنكار، لكن الدعوى منه تصح كالصغير، ويتولى ذلك وليه.
والحر ضده العبد الرقيق، فلا تصح منه دعوى ولا إنكار فيما لا يصح تصرفه فيه، أما ما يصح تصرفه فيه كطلاق امرأته مثلاً، فتصح الدعوى منه والإنكار، لكن الأمور المالية لا يصح منه دعوى ولا إنكار؛ لأن العبد لا يملك، والمال الذي بيده لسيده، قال النبي صلى الله عليه وسلم:«من باع عبداً له مال فماله لبائعه إلا أن يشترطه المبتاع»
(1)
فإذا كان المال الذي بيده ليس له، وإنما هو لوليه فإنه لا يصح منه دعوى ولا إنكار؛ لأنه لا يملك هذا المال.
والرشيد في هذا الموضع هو الذي يحسن التصرف في ماله، وضده السفيه الذي يبذل ماله في المحرم، أو في غير فائدة، فالمحرم كالدخان، وفي غير فائدة مثَّل له العلماء بأن يشتري نفطاً ويشعله، فهذا ليس برشيد؛ لأنه يبذل ماله فيما لا فائدة فيه، والنبي عليه الصلاة والسلام نهى عن إضاعة المال
(2)
، وإضاعة المال صرفه في محرم، أو فيما لا فائدة فيه.
(1)
أخرجه البخاري في المساقاة/ باب الرجل يكون له ممر أو شرب في حائط أو في نخل (2379)، ومسلم في البيوع/ باب من باع نخلاً عليها تمر (1543)(80) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
(2)
أخرجه البخاري في الزكاة/ باب قول الله عز وجل: {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} (1477)، ومسلم في الأقضية/ باب النهي عن كثرة المسائل (1715) عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.
إذاً لا تصح الدعوى إلا من جائز التصرف، وكذلك الإنكار، وغير جائز التصرف يقوم وليه مقامه.
وَإِذَا تَدَاعَيَا عَيْناً بِيَدِ أَحَدِهِمَا فَهِيَ لَهُ مَعَ يَمِينِهِ، إلاَّ أَنْ تَكُونَ لَهُ بَيِّنَةٌ فَلَا يَحْلِفُ، وَإِنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ بَيِّنَةً أَنَّهَا لَهُ، قُضِيَ لِلْخَارِجِ بِبَيِّنَتِهِ، وَلَغَتْ بَيِّنَةُ الدَّاخِلِ.
قوله: «وإذا تداعيا عيناً بيد أحدهما فهي له مع يمينه، إلا أن تكون له بينة فلا يحلف» مثال ذلك: رجلان تداعيا عيناً كل واحد منهما يقول: هي لي، وهي بيد أحدهما فهي له بيمينه، إلا إذا كان له بينة فإنه لا يحلف اكتفاء بالبينة، مثال ذلك: ادعى زيد على عمرو أن المسجل الذي معه له، فقال: عمرو ليس لك، والعين بيد عمرو، فنقول: هي لك بيمينك، فإذا حلف وقال: والله إن هذا المسجل لي وليس لفلان فهو له، إلا إذا كان عنده بينة فلا حاجة لليمين؛ لأن البينة أقوى من اليمين، ولا يرد الأضعف على الأقوى بل يدخل فيه، وحينئذٍ يكتفى بالبينة.
وقد يقول قائل: كيف يعمل بالبينة وهو مدعى عليه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«البينة على المدعي واليمين على من أنكر»
(1)
، فجعل البينة في جانب المدعي وجعل اليمين في جانب المدعى عليه؟
فالجواب أن يقال: الرسول عليه الصلاة والسلام قال هذا اكتفاءً بأدنى موجب ومثبت وهو اليمين؛ لأنه لما كانت العين بيده ترجح جانبه فاكتفي فيه باليمين، فإذا وجد ما هو أعلى وهو البينة اكتفي بها.
(1)
سبق تخريجه ص (318).
فإن أقام المدعي بينة فالعين له ولو حلف المدعى عليه، ولم يعتد بيمينه.
قوله: «وإن أقام كل واحد بينة أنها له قضي للخارج ببيِّنته، ولغت بينة الداخل» أقام المدعي البينة أنها له، وأقام المدعى عليه بينة أنها له، يقولون: يقضى ببينة الخارج دون بينة الداخل.
والداخل من هي بيده والخارج المدعي، فيقضى للخارج ببينته وتلغى بينة الداخل، مثال ذلك: ادعى زيد على عمرو بأن هذا المال الذي بيد عمرو له، فقال عمرو: هو لي، وكل منهما جاء ببينة، فيقضى به للمدعي أي: لزيد؛ لأنه هو الخارج لدليل وتعليل، أما الدليل فإن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل البينة في جانب المدعي فقال:«البينة على المدعي»
(1)
، وقد أتى بها فيحكم له بها، وأما التعليل قالوا: لأن بينة الخارج قد تكون أقرب لانتقال الملك، وبينة الداخل ربما تشهد بناءً على ملكه السابق، وانتقال الملك كثير، والشهود ربما شهدوا بأنها عند الداخل؛ لأنها كانت في يده بالأول، ثم باعها على الخارج فانتقل الملك له، فتكون بينة المدعي كأن معها زيادة علم فقدمت.
وقال بعض العلماء: بل تكون للداخل مع يمينه، بناءً على أن البيِّنتين تعارضتا، وليست إحداهما بأولى من الأخرى، فتساقطتا، كما لو اختلف الجماعة على الإمام فقال بعضهم:
(1)
سبق تخريجه ص (318).
سبحان الله، يريدون أن يقوم، وقال آخرون: سبحان الله، يريدون أن يجلس، قال العلماء: يسقط قولهما جميعاً، ويرجع الإمام إلى ما في نفسه، وهنا لما تعارضت البينتان تساقطتا، فقلنا للخارج: نلغي بينتك وللداخل نلغي بينتك، ويبقى اليمين على من أنكر، فيحلف المدعى عليه بأنها له ولم ينتقل ملكه عنها، وتكون له.
وأجابوا عن قول الرسول عليه الصلاة والسلام: «البينة على المدعي واليمين على من أنكر» أن هذا يقتضي أنه ليس للمدعى عليه بينة، ولو أخذنا بظاهر الحديث لقلنا في المسألة التي ذكرتم: إنه إذا كان للمدعى عليه بينة سقطت اليمين.
نقول: هذا لا يصح؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل اليمين على المدعى عليه، وأنتم تقولون: إذا كان له بينة لا حاجة لليمين، فتبين أن الرسول عليه الصلاة والسلام أراد دعوى فيها بينة للمدعي، وليس فيها بينة للمدعى عليه، وحينئذٍ ما يبقى إلا اليمين إذا لم يكن لديه بينة. ولم يُرد الرسول عليه الصلاة والسلام إذا تعارضت البينتان، فإن مقتضى الشرع القيام بالعدل، والقيام بالعدل أن نقول: كل بينة عارضت الأخرى أسقطتها، فيبقى كأن الرجلين ليس معهما بينة، وحينئذٍ نرجع إلى الأصل، ونقول للمدعى عليه وهو الداخل: احلف، فإذا حلف قُضي بأن العين التي بيده له، وألغيت الدعوى.
وهذا القول عليه كثير من أهل العلم، وهو أقرب في النظر من الأول، بقي أن يقال في دعوى أنه انتقل الملك: الأصل عدم الانتقال، وحينئذٍ تبقى العين في يد المدعى عليه مع اليمين.
كِتَابُ الشَّهَادَاتِ
قوله: «الشهادات» جمع شهادة، وأصلها من شهد يشهد الشيء إذا حضره، ونظر إليه بعينه، قال الله تعالى:{إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86]، فلا بد من علم.
واصطلاحاً: إخبار الإنسان بما على غيره لغيره بلفظ أشهد ونحوها، فيرون أنه لا بد من إخبار بلفظ أشهد، وقد يكون الإخبار بما علمه مطلقاً، كشاهد الهلال ـ مثلاً ـ بلفظ أشهد.
وقيل: إن الشهادة إخبار الإنسان بما يعلمه مطلقاً، سواء بلفظ أشهد أو بدونه؛ ولهذا لما قيل للإمام أحمد رحمه الله: إن علي بن المديني ـ فيما أظن ـ يقول: أقول: إن العشرة بالجنة ولا أشهد، قال: إذا قال ذلك فقد شهد، فالصحيح أن الشهادة أن يخبر الإنسان بما يعلمه، سواء بلفظ أشهد أو بغيره.
والشهادة أمرها عظيم وخطرها جسيم؛ ولهذا لما قال النبي عليه الصلاة والسلام: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟» فذكر الإشراك بالله وعقوق الوالدين، وكان متكئاً فجلس، فقال:«ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور» ، وكررها حتى قالوا: ليته سكت
(1)
، وهي خطيرة في التحمل وفي الأداء، أما التحمل
(1)
أخرجه البخاري في الشهادات/ باب ما قيل في شهادة الزور
…
(2654)، ومسلم في الإيمان/ باب بيان الكبائر وأكبرها (87) عن أبي بكرة رضي الله عنه.
فيجب ألا يتحمل الإنسان شهادة إلا وقد علمها علم اليقين، حتى إنه روي عن النبي عليه الصلاة والسلام: أنه قال لرجل: «ترى الشمس؟» قال: نعم، قال:«على مثلها فاشهد أو دع»
(1)
، أي: على مثل الشمس، حتى لو وَجَدْتَ قرائن تدل على الأمر، لا تشهد به، لكن اشهد بالقرائن التي رأيت، أما أن تشهد بما تقتضيه هذه القرائن فهذا لا يجوز؛ لأن الشهادة لا بد أن تكون عن علم، ومع الأسف أن شهادة الزور كثرت في هذا الزمن، حتى أصبحت رخيصة، يجد الإنسان في السوق من يشهد له بعشرة ريالات، بل بأقل، وأحياناً ربما يقول: كم مقدار الدعوى التي تدعي؟ فإن قال: أدعي مليون ريال، قال: مليون ريال كثيرة، أشهد بألف ريال، وإذا قال: مائة ألف، قال: يكفيني مائة ريال، على حسب الدعوى، كِبَرها من صغرها، وكل هذا ـ والعياذ بالله ـ تلاعب، وظلم، وعدوان.
والشهادة نوعان: تحمُّل، وأداء، التحمُّل معناه التزام الإنسان بالشهادة، والأداء أن يشهد بها عند الحاكم، وكل منهما صعب؛ لأن التحمل لا بد أن يكون عن علم، وتأتي ـ إن شاء الله ـ أنواع طرق العلم، والأداء لا بد أن يكون عن ذكر مع العلم،
(1)
أخرجه الحاكم في المستدرك (4/ 110)، والبيهقي في شعب الإيمان (7/ 455)، وضعفه، وعزاه الحافظ إلى أبي نعيم في الحلية وابن عدي في الكامل، وفي إسناده محمد بن سليمان بن مسمول وهو ضعيف، يرويه عن عبيد الله بن سلمة وهو ضعيف أيضاً، قال البيهقي: لم يرو من وجه يعتمد عليه، والحديث صححه الحاكم، وتعقبه الذهبي فقال: بل هو ـ يعني محمد بن سليمان ـ واهي الحديث. انظر: التلخيص الحبير (4/ 198)، وخلاصة البدر المنير (2/ 439).
والذي يرد على التحمل الجهل، والذي يرد على الأداء النسيان، وكلاهما يجب على الإنسان أن يحترز منه، أما تحملها فيقول المؤلف:
تَحَمُّلُ الشَّهَادَةِ فِي غَيْرِ حَقِّ اللهِ فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ إِلاَّ مَنْ يَكْفِي تَعَيَّنَ عَلَيْهِ، وَأَدَاؤُهَا فَرْضُ عَيْنٍ عَلَى مَنْ تَحَمَّلَهَا، مَتَى دُعِيَ إِلَيْهِ،
..........................................
«تحمل الشهادة في غير حق الله فرض كفاية» تحمل الشهادة الالتزام بها، وهو في غير حق الله فرض كفاية، فإذا طلب منك شخص أن تشهد على إقرار زيد بحق له فالشهادة فرض كفاية، إن قام بها من يكفي سقطت عنه وإلا وجب عليه؛ ولهذا قال:
«وإن لم يوجد إلا من يكفي تعين عليه» دعاك شخص لتشهد على إقرار زيد بحق له، وليس في المكان غيرك فيجب أن تجيب؛ لأنه لا يوجد من يقوم بالكفاية، أو دعوته إلى أن يشهد معك وليس معك إلا شاهد واحد، فيجب عليه، فالفرق بين تحمل الشهادة وأدائها أن التحمل لم يلتزم به الإنسان ولا يلزم به إلا إذا لم يوجد سواه، أما الأداء فقد التزم بها الإنسان أوّلاً وتحملها فيلزمه الأداء. فإذا قال: معك شاهد، فقل: نعم، لكن الشاهد ما يكفي، فإذا قال لك: الشاهد مع يمينك كافٍ، فماذا تقول؟ فقل:
أولاً: هذه مسألة فيها خلاف، وأخشى أن نتحاكم إلى قاضٍ لا يرى هذا الرأي فيضيع حقي.
الثاني: أن اليمين الذي يُحكم به لا يكون إلا عند الضرورة، فإذا وجد من يشهد فلا حاجة لليمين.
أو دعاك لتشهد له، فقلت: هذا أبوك عندك، يشهد لك، نقول: ما تقبل شهادته له.
إذن يتعين عليك هذا في حقوق الآدميين.
أما في حقوق الله فلا يتعين التحمل، فلو دعاك شخص وقال: تعال اشهد على فلان أنه يشرب الخمر، فإنه لا يجب عليك أن تتحمل الشهادة؛ لأن هذا حق لله عز وجل وبإمكانك أن تقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دون أن تَشْهد، لكن لو فرض أن امتناعك يتضمن ضرراً على هذا الذي دعاك، فربما نقول: يجب؛ دفعاً للضرر، أما إذا لم يكن ضرر فإن تحملها في حق الله ليس بواجب؛ لأن هذا لا يضيع حق آدمي، إنما هو من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والسِّتر على فاعل المحرم أو على العاصي قد يكون أفضل من إظهاره وإعلانه، وهذا يختلف بحسب الحال.
وقوله: «وإن لم يوجد إلا من يكفي تعيَّن عليه» لقول الله تعالى: {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282]، وهذه الآية قد يعارض فيها معارض يقول: هذا في الأداء واضح؛ لأن الرجل المدعو شاهد لا شك، ولكن قد يقول قائل ـ كما استدل به الأصحاب ـ: إن الشهيد هنا يشمل من شهد بالفعل، ومن دعي ليشهد؛ لأنه دعي للشهادة، ولنا أن نثبت هذا ـ أيضاً ـ بالقياس؛ لأن الله تعالى قال:{وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ} [البقرة: 282]، وأيهما أشد الكاتب أم الشاهد؟ الكاتب؛ لأنه يحتاج إلى تعب وعمل، وهذا ما يحتاج إلى تعب ولا عمل، بل غاية ما هنالك أن يطلع فيضبط الشهادة.
الأداء إثبات الشهادة عند القاضي، فإذا تحمل الشهادة وجب عليه أن يشهد لقوله تعالى:{وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283]، فحكم الله عز وجل بإثم قلب الإنسان الذي كتم، وأضاف الإثم إلى القلب؛ لأن شهادته لا يعلمها إلا الله عز وجل؛ إذ من الجائز أن ينكر، فلما كان إنكار الشهادة ـ وهو يعلم أنه شاهد ـ محله القلب قال:{وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} . فلما كانت الشهادة محفوظة في القلب، والكتمان إنما يكون في القلب أضاف الله تعالى الإثم إلى القلب الذي هو محل حفظ الشهادة.
وقال بعض العلماء: أداؤها فرض كفاية، ويظهر أثر الخلاف فيما لو أشهد عشرة وتحملوا الشهادة وتحاكم مع خصمه للقاضي، فذهب إلى اثنين من العشرة وقال: إني حاكمت خصمي، فاذهبا معي لأداء الشهادة، على رأي المؤلف يتعين أن يذهبا معه، وعلى القول بأنه فرض كفاية لا يتعين، لأنهما يقولان له: اذهب إلى الثمانية الآخرين، واطلب اثنين منهم، ولكن الصحيح ما ذهب إليه المؤلف، أنه إذا دُعي إليها وجب عليه عيناً أن يشهد؛ لأننا لو قلنا بجواز أن يحوِّل الشهادة إلى الآخرين، وذهب إلى اثنين من الثمانية قالا: معنا ستة باقون، فذهب لاثنين قالا: الباقي أربعة، فذهب لاثنين فقالا: الباقي اثنان فذهب للاثنين، فقالا: ولماذا تسلطت علينا؟! فيضيع حق المسكين!
فالصواب أنه إذا تحمل ودعي وجب عليه عيناً أن يؤدي الشهادة، ولو لم يكن فيها إلا قوله تعالى:{وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283].
مسألة: وهل تتساقط البيِّنتان إذا كانت إحداهما مؤرخة أو كانتا مؤرختين؟ نعم إذا كانتا مؤرختين وعرفنا تأخر تاريخ إحداهما على الأخرى فإنه يحكم بآخرهما تأريخا والحكم بتساقطهما فيما إذا كان تعارضهما من كل وجه.
وقوله: «وأداؤها فرض عين على من تحملها» لكن بشروط، قال:
قوله: «متى دعي إليها» هذا هو الشرط الأول، أن يدعى إلى أدائها فإن لم يدعَ إليها لم يلزمه الأداء، ولكن لو أدى بدون أن يدعى إليها، فهل هذا محمود أو هو مذموم؟
اختلف العلماء في ذلك، فمنهم من قال: إنه مذموم لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يأتي قوم يشهدون ولا يُستشهدون»
(1)
، وفي رواية:«يشهدون قبل أن يستشهدوا»
(2)
، فقالوا: إن هذا ذم لمن يشهد قبل أن يستشهد؛ وعللوا ذلك ـ أيضاً ـ بأن الإنسان الذي يبادر إلى الشهادة قبل أن يستشهد قد يتهم، ويظن أن معه تحيُّزاً للمشهود له، أو للمشهود عليه، وإلا فما الذي جعله يشهد قبل أن تطلب منه الشهادة؟!
وقال بعض العلماء: بل الأفضل أن يشهد، وإن لم يستشهد
(1)
أخرجه البخاري في الشهادات/ باب لا يشهد على شهادة جور إذا أشهد (2651)، ومسلم في فضائل الصحابة/ باب فضل الصحابة رضي الله عنهم ثم الذين يلونهم
…
(2533) عن ابن مسعود رضي الله عنه.
(2)
أخرجه مسلم في فضائل الصحابة/ باب فضل الصحابة رضي الله عنهم ثم الذين يلونهم
…
(2534) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
لقول النبي عليه الصلاة والسلام: «ألا أخبركم بخير الشهداء؟ الذي يأتي بالشهادة قبل أن يسألها»
(1)
، وهذا يدل على فضيلة من شهد قبل أن يستشهد.
والصحيح أن في ذلك تفصيلاً: فإن كان المشهود له لا يعلم بالشهادة فإن الشاهد يؤديها وإن لم يسألها، مثل أن يكون الشاهد قد استمع إلى إقرار المشهود عليه، من غير أن يعلم به المشهود له، فيكون قد أقر عنده في مجلس بأن فلاناً يطلبني كذا وكذا، أو بأن العين التي في يدي لفلان، أو ما أشبه ذلك، والمشهود له لم يعلم، فهنا إذا علم الإنسان أن المسألة وصلت إلى المحكمة، فالواجب عليه أن يشهد ويبلغ؛ لئلا يفوت حق المشهود له، أما إذا كان المشهود له عالماً وذاكراً فإنه لا يشهد حتى تطلب منه الشهادة؛ لأنه إذا تعجل فقد يتهم في شدة محاباته للمشهود له، أو معاداته للمشهود عليه، وأما الحديث في ذم قوم يشهدون ولا يستشهدون، فإنه لا يتعين أن يكون المراد به أداء الشهادة، إذ يحتمل أن المعنى يشهدون دون أن يتحملوا الشهادة، فيكون هذا وصفاً لهم بشهادة الزور، ولا شك أن شهادة الزور من أكبر الكبائر، وهذا هو المتعين في قوله صلى الله عليه وسلم:«يشهدون ولا يستشهدون» ، وأما قوله صلى الله عليه وسلم:«يشهدون قبل أن يستشهدوا» فتحمل على قوله صلى الله عليه وسلم: «يشهدون ولا يستشهدون» ، فالتفصيل الذي ذكرنا هو المتعين.
(1)
أخرجه مسلم في الأقضية/ باب بيان خير الشهود (1719) عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه.
وَقَدِرَ بِلَا ضَرَرٍ فِي بَدَنِهِ، أَوْ عِرْضِهِ، أَوْ مَالِهِ، أَوْ أَهْلِهِ، وَكَذَا فِي التَّحَمُّلِ، وَلَا يَحِلُّ كِتْمَانُهَا،
.......
قوله: «وقدر» هذا هو الشرط الثاني: أن يكون قادراً على الأداء، فإن كان عاجزاً فإنه لا يلزمه لقوله تعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، وقوله:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، ومن القواعد المقررة المأخوذة من هذه الآية أنه لا واجب مع عجز، وعلى هذا فإذا كان عاجزاً عن أدائها فإنه لا يلزمه للعجز.
الشرط الثالث: انتفاء الضرر، ولهذا قال:
«بلا ضرر في بدنه» بأن خاف أن يضرب حتى يتضرر.
قوله: «أو عرضه» بأن خاف أن يغتابه المشهود عليه، أو ما أشبه ذلك.
قوله: «أو ماله» بأن خاف أن يحرق دكانه، أو يكسر زجاج سيارته، أو ما أشبه ذلك.
قوله: «أو أهله» بأن خاف أن يؤذى ولده أو زوجته، أو أباه، أو ما أشبه ذلك.
فإذا خاف الضرر فإنه لا يلزمه لا التحمل ولا الأداء في ظاهر كلام المؤلف، ونحن نقول: أما في البدن والمال والأهل فمسلَّم أنه إذا خاف الضرر في هذه الأشياء الثلاثة فإنه يسقط عنه واجب الشهادة تحملاً أو أداء؛ لما أشرنا إليه من الآية وهي: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، وقوله:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16].
وأما العِرْض، فينظر إذا كان الضرر من المشهود عليه حاصلاً أو غير حاصل؛ فإن الغالب أنه لا يتضرر به، حتى إذا اغتابه
عند الناس فإن الناس لا يقيمون وزناً لغيبته؛ لأنه مشهود عليه فيقال: ما اغتابه إلا لأنه شهد عليه، أما إذا كان الضرر كبيراً بحيث يتأثر عرضه، وتسقط عدالته عند الناس، وما أشبه ذلك، فقد يسلم كلام المؤلف رحمه الله فالعرض إذاً فيه تفصيل: إذا كان الضرر محققاً وكبيراً، فهذا قد يسقط الواجب من أداء الشهادة أو تحملها، وإذا كان الضرر ليس كبيراً، أو قد لا يوجد ضرر أبداً، مثل أن يكون انتهاك العرض من المشهود عليه، فإن ذلك لا يمنع من وجوب الشهادة تحملاً أو أداء.
فالشروط إذاً ثلاثة: أن يدعى إليها، وأن يكون قادراً، وانتفاء الضرر.
قوله: «وكذا في التحمل» يعني أنه يشترط انتفاء الضرر، وهل يشترط القدرة في التحمل؟ نعم، يشترط فلو دعاك شخص لتشهد له وأنت لا تستطيع، أو أنت مريض، أو تخشى إن ذهبت أن يضيع مالك، أو ما أشبه ذلك، فلا يلزمك، لكن هل يشترط أن يدعى إليها في التحمل أو لا يشترط؟ يعني هل يشترط أن أدعوك وأقول: تعالَ اشهد على نطق فلان، أو على فعل فلان، أو لا يشترط، بحيث إنك إذا سمعت أو رأيت وجب عليك أن تتحمل؟ الظاهر الثاني، فالإنسان متى رأى أو سمع وجب عليه أن يحفظ ما سمعه أو شهده؛ من أجل أن يؤديه إذا دعي إلى ذلك.
قوله: «ولا يحل كتمانها» أي: الشهادة؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283].
فإن لم يمكن أداء الحق بدونها فإنه لا يحل كتمانها، مثل
لو شهد شاهدان على زيد بحق، ثم أدى شاهد الشهادة، وطُلب من الثاني أن يشهد، فقال لصاحب الحق: يكفي يمينك مع الشاهد؛ لأنه يُقضى في المال بالشاهد واليمين، فهل يحل للشاهد الثاني أن يقول لصاحب الحق: عندك شاهد، واحلف معه، وسيقضى لك بيمينك؟ نقول: لا يحل له أن يمتنع عن الشهادة؛ لعموم قوله تعالى: {وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283].
ويشترط ـ أيضاً ـ شرط لم يذكره المؤلف، وهو أن تكون الشهادة مقبولة لدى الحاكم، فإن لم تكن مقبولة لم يلزمه أن يشهد لا تحملاً ولا أداء، فلو طلب الأب من ابنه أن يشهد له بحق فإنه لا يلزمه أن يشهد له؛ لأن شهادته غير مقبولة عند الحاكم، فإن شهادة الولد لوالده لا تقبل، وكذلك العكس لو قال الولد لأبيه: تعال اشهد، فإنه لا يلزم الوالد أن يشهد؛ وذلك لأن شهادته غير مقبولة، فلا فائدة من الشهادة.
وكذلك لو كان معروفاً بالفسق، وأن القاضي سيرد شهادته، كحالق اللحية ـ مثلاً ـ بحيث يُعرف هذا القاضي بردِّ شهادة حالق اللحية، وجاء إنسان وقال: تعال اشهد، فهل يلزمه أو لا؟ لا يلزمه، فإذا قال له صاحب الحق: تعال اشهد، قال: ما يلزمني؛ لأنني لو شهدت عند القاضي ما قبلني؛ لأني حالق اللحية، فقال له صاحب الحق: اشهد لعل الله يتوب عليك وتوفر لحيتك، فهل يلزمه حينئذٍ؟ الجواب: الاحتمال وارد، ونقول: يلزمه الإعفاء، سواء قبلت شهادته أم لم تقبل، لكن هذا الرجل غير معفٍ لحيته، فربما نقول: إذا كانت الشهادة فورية بحيث لو تاب الإنسان لم
يبق للحيته وقت تتوافر فيه، فإنه لا يلزمه، أما إذا كانت القضية ربما تتأخر فقد يقال: بلزومها.
ولو دعي كافر إلى شهادة فهل يلزمه؟ الجواب: يلزمه لحق الآدمي؛ أليست حقوق الجار تلزم الكافر؟! نعم تلزمه فله حق الشفعة ـ مثلاً ـ على رأي بعض العلماء، فلو قال له الطالب للشهادة: اشهد ربما تُسْلِم؛ لأن الإنسان إذا تحمل الشهادة وهو كافر وأداها وهو مسلم تقبل منه، نقول: العبرة بالحال، وأما المستقبل فلا يحكم به؛ لأنه غير معلوم، فلا يجبر على الشهادة.
وَلَا أَنْ يَشْهَدَ إِلاَّ بِمَا يَعْلَمُهُ بِرُؤْيَةٍ، أَوْ سَمَاعٍ، أَوْ بِاسْتِفَاضَةٍ فِيْمَا يَتَعَذَّرُ عِلْمُهُ بِدُونِهَا، كَنَسَبٍ، وَمَوْتٍ، وَمُلْكٍ مُطْلَقٍ، وَنِكَاحٍ، وَوقْفٍ، وَنَحْوِهَا، وَمَنْ شَهِدَ بِنِكَاحٍ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ العُقُودِ فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ شُرُوطِهِ،
........
قوله: «ولا أن يشهد إلا بما يعلمه» هذه معطوفة على قوله: «كتمانها» يعني ولا يحل أن يشهد إلا بما يعلمه، والعلم إدراك الشيء على ما هو عليه إدراكاً جازماً، فلا بد أن يكون قد أدرك ما شهد عليه، أو به إدراكاً جازماً.
وقوله: «إلا بما يعلمه» يعني ولمن يعلمه، وعلى من يعلمه، فبما يعلمه هذا المشهود به، ولمن يعلمه هذا المشهود له، وهو الطالب، وعلى من يعلمه هو المشهود عليه، وهو المطلوب، فهل يشترط العلم بالطالب أو لا يشترط؟ فلو شهد شخص بما يعلمه، ثم توفي وطالب الورثة، وقالوا: أنت تشهد لمورثنا، قال: أنا ما أعرف مورثكم، ولا أدري هل أنتم ورثته أم لا؟ لكن أنا أشهد لإنسان صفته، كَيْت، وكَيْت، فإنه تحصل الشهادة، ونقول: هذا علم بالوصف لا بالعين، والعلم بمن يشهد عليه يشترط باسمه، أو بوصفه إن كان يراه، أما أن يقال له ـ مثلاً ـ: اشهد على امرأة محجبة، وأتوا بامرأة وقالوا: هذه فلانة بنت فلان، فقال لها: هل
أنت هي؟ قالت: نعم، فقال: هل عندك لفلان عشرة آلاف؟ قالت: نعم، قال: أشهد أن فلانة بنت فلان عندها لفلان عشرة آلاف ريال، فهذا لا يمكن؛ لأن أي إنسان يمكن أن يحضر امرأة محجبة، ويقول: هذه فلانة بنت فلان، ويشهدك عليها! إذن لا بد أن يكون عالماً بمن يشهد عليه، إما باسمه، أو وصفه.
كذلك ما يشهد به من المال أو الحق أو الدَّيْن، يعني كما سبق لنا في الدعاوي، لا يشهد إلا بما يعلمه، فلا يجوز أن يشهد بالقرينة، ولا يجوز أن يشهد بغلبة الظن، بل لا بد من العلم، فلو رأى شخصاً خرج من بيتٍ هارباً وآخر يلحقه يقول: هذا الرجل سرق مني، ردوا السارق، ردوا السارق، فهل يشهد بأن هذا الرجل سارق؟ لا يجوز أن تشهد بالسرقة؛ لأنك ما تعلم، ربما أن صاحب البيت دعاه، ولما دعاه أراد منه شيئاً فأبى، فهدده بالقتل، فهرب، إذن لا تشهد بأنه سارق، لكن هل تشهد بما رأيت، بأنك رأيته هارباً، وصاحب البيت وراءه، يقول: السارق السارق؟ نعم، هذا يجوز، ويبقى النظر للحاكم، فله أن يحكم بما تدل القرائن عليه.
قوله: «برؤية أو سماع» طرق العلم خمسة، ذكر المؤلف أكثرها وقوعاً، وهي الرؤية والسماع، وبقي من الحواس ثلاث: الشم، والذوق، واللمس، إذن قوله:«برؤية أو سماع» إنما خص هذين النوعين من الحواس؛ لأن الغالب هو هذا، وإلا فيجوز أن يشهد بما يعلمه عن طريق الشم، بأن يشهد بأن هذا طِيب طيِّب، أو طِيب رديء، أو أن هذا اللحم منتن متغير، أو غير متغير، مثلاً
تخاصم البائع والمشتري في اللحم، فقال المشتري: هذا اللحم متغير مخنز، وقال البائع: لا، فشهد رجل عن طريق الشم بأنه متغير.
مثال الذوق: قال المشتري: هذا تمر عتيق متغير الطعم، وقال البائع: لا، بل هو تمر جديد غير متغير، فيمكن أن يشهد شخص عليه بالذوق، أو قال المشتري: هذا عنب لم ينضج فهو حامض، وقال البائع: بل هو ناضج حلو، بأي طريق نعلم؟ بالذوق. كما تجوز الشهادة باللمس أيضاً كأن يكون يابساً أو رطباً، ليناً أو خشناً.
على كل حال، لا يجوز أن يشهد إلا بما علمه بإحدى الحواس الخمسة، والدليل قوله تعالى:{إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86]، ولأن الشهادة خبر عن أمر واقع فلا بد أن يعلم هذا الأمر الواقع، فالشهادة خبر محض ليست حكماً حتى نقول: يجوز الحكم بالقرائن، فالحكم بالقرائن سبق لنا أنه يجوز، لكن الشهادة خبر محض، والخبر لا يجوز إلا إذا تيقن المخبر وقوع الخبر، أو صحة ما أخبر به
وهل يشترط علم المشهود عليه بوجود الشاهد؟ ما يشترط، فلو أن صاحب الحق أتى بالمطلوب في مكانه، وجعل شخصاً يشهد مختفياً فإنه يجوز؛ لأن هذا الذي عليه الحق، إذا كان منفرداً بصاحب الحق أقر له، وإذا كان عنده أحد أنكر، فتحيَّل صاحب الحق ودعاه ـ مثلاً ـ على قهوة، فلما حضر قال له: الآن لا نشاهد أحداً، أنت ما تذكر لما أقرضتك كذا وكذا، في يوم
كذا وكذا، بالمكان الفلاني؟ قال: بلى، أذكر، ولكن اصبر علي، هذا بيني وبينك، قال له: لماذا إذا صار عندنا أحد تنكر؟ قال: أخاف أن تطالبني، ثم يسجنني القاضي فهذه الحيلة جائزة؛ لأن المقصود بها التوصل إلى الحق.
قوله: «أو باستفاضة» الاستفاضة من فاض الماء إذا ظهر، وبان، وانتشر في الأرض، فمعنى الاستفاضة أن يستفيض الخبر وينتشر، ولكن يقول المؤلف:
«فيما يتعذر علمه بدونها» فالاستفاضة خاصة في الأشياء التي يتعذر العلم بها بدون الاستفاضة في الغالب، أما ما يمكن العلم به مباشرة فلا يجوز تحمل الشهادة فيه بالاستفاضة.
قوله: «كنسب» فأنا مثلاً أشهد بأن فلان ابن فلان، فهل حضرت والده عند غشيان أمه، وأنها حملت به من هذا الوطء، وأنها ولدت به على فراشه؟!
الجواب: أبداً ما شهدت، لكن استفاض عند الناس أن هذا فلان ابن فلان، فأشهد أن هذا فلان ابن فلان، قال العلماء: ولا بد للاستفاضة أن تكون عن عدد يقع العلم بخبرهم، يعني بأن يشهد بها أربعة فأكثر، فلو أخبره شاهد بالاستفاضة فإنه لا يشهد بها، بل يكون فرعاً عن شهادة هذا الشاهد.
مثال ذلك: جاءني رجل وتكلم معي بكلام، ثم انصرف، وإلى جنبي رجل آخر، قلت: من هذا؟ قال: هذا فلان ابن فلان، الرجل الذي أخبرني بأن فلان ابن فلان شاهد بالاستفاضة، هل لي أنا أن أشهد بأن هذا الرجل فلان ابن فلان؟ على كلام
المؤلف ما أشهد، لكني أشهد على شهادة الرجل، ولكن اختار شيخ الإسلام وجدّه المجد ـ رحمهما الله ـ: أنه يجوز أن يشهد بما طريقه الاستفاضة بخبر الواحد الثقة، فيقول: هذا فلان ابن فلان، وقد سبق لنا هذا في التعريف أن شيخ الإسلام رحمه الله يرى جواز التعريف بواحد.
قوله: «وموت» مرت جنازة قلت: من هذا؟ قالوا: هذا فلان ابن فلان، هل لي أن أشهد أن فلان ابن فلان مات؟ يجوز، فهل أنا حضرت هذا الرجل وهو يُحتَضَر حين خرجت روحه؟ لا، لكن عرفت بالاستفاضة.
قوله: «وملك مطلق» الملك نوعان: ملك مقيد، وملك مطلق، الملك المقيد بأن أشهد أن هذا ملك فلان، اشتراه من فلان، هذا ما يكفي فيه الاستفاضة، والملك المطلق أن أشهد بأن هذا ملك فلان، ومشهور أن هذا بيته، فهل أنا شاهد يوم يشتريه؟ أبداً يوجد احتمال أنه مستأجر، لكن مشتهر عند الناس كلهم، عند أهل الحي، وربما غيرهم، أن هذا البيت ملك فلان، فأشهد به حتى في المحكمة.
وكذلك ـ أيضاً ـ اليد التي على هذا البيت، مثلاً: إنسان في هذا البيت، له مدة يتصرف فيه
تصرف الملاك في أملاكهم، يفتح باباً ويغلق باباً، يفتح طاقة ويغلق طاقة، يأتي بالعمال يصلحون فيه أشياء، يؤجره أحياناً، هل أشهد بأنه ملكه؟ الصحيح أن لي أن أشهد بأنه ملكه، وإن كان بعض العلماء قالوا: لا يشهد؟ وإنما يشهد باليد، فيقول: أشهد أن يده عليه، وأنه يتصرف فيه تصرف الملاك في أملاكهم، قالوا: لجواز أن يكون وكيلاً لا مالكاً، وأنت إذا شهدت باليد فهو أسلم وأبرأ لذمتك، لكن المذهب: يجوز أن تشهد بالملك.
قوله: «ونكاح» يشهد بالاستفاضة في النكاح، مررت بقصر من قصور الأفراح وإذا هو منار، قلت: من المتزوج الليلة؟ قالوا: فلان ابن فلان، فاشتهر أن فلان ابن فلان تزوج الليلة، هل أنت حضرت العقد؟ لا، لكن استفدت ذلك بالاستفاضة.
قوله: «ووقف» الوقف نوعان ـ أيضاً ـ:
الأول: وقف خاص، وهذا لا نشهد عليه بالاستفاضة، فلا أشهد بأن هذا البيت وقف على فلان؛ لأن هذا خاص.
الثاني: وقف مطلق بأن يعرف أن هذا البيت موقف لأعمال البر، موقف على تكفين الموتى، على أجرة القبور، على طلبة العلم، وما أشبه ذلك، فهذا الوقف يشهد الإنسان فيه بالاستفاضة.
كذلك ـ أيضاً ـ يشتهر بين الناس أن هذا المسجد بناه فلان ابن فلان، فأنا ما حضرت العقد الذي تم بين المقاول والرجل، لكن اشتهر عند الناس أن فلاناً هو الذي بنى هذا فيجوز أن أشهد، المهم ما كان طريق العلم به الاستفاضة فإنه يشهد فيه بالاستفاضة.
وهل إذا كان من عادات بعض القبائل أن القريب إذا شهد على قريبه حصلت قطيعة رحم، تكون الشهادة في هذه الحال واجبة عليه؟ أكثر العلماء أن الشهادة في هذه الحال غير واجبة
عليه ولكن عندي فيها نظر، لأنه يجب عليه أداء الشهادة إذا كانت متعينة عليه؛ حتى لا تضيع الحقوق بامتناعه من الشهادة تحملاً وأداءاً.
وهل يعتبر التسجيل الصوتي بيِّنة على الخصم ضد إنكاره؟
إن كان صوته متميزاً فإنه يعد بينة وإقراراً، وإن كان غير متميز فلا يعد بينة ولا يحكم به ولكن يكون قرينة. وهذا التفصيل يكون أيضاً في الكتابة فما كان منها متميزاً فهو بينة وما كان منها غير متميز فلا يعمل بها إلا إذا أشهد عليها.
قوله: «ونحوها»
(1)
.
قوله: «ومن شهد بنكاح أو غيره من العقود فلا بد من ذكر شروطه» هذه المسألة تكاد تكون مبنية على ما سبق في الدعوى، حيث ذكر المؤلف أنه إذا ادعى عقداً فلا بد من ذكر شروطه، وذكرنا هناك الخلاف في المسألة، فهذه تشبه تلك، فإذا شهد بعقد نكاح، يقول: أنا أشهد أن فلاناً عقد على بنت فلان، فلا بد أن يذكر الشروط، فيقول مثلاً: بولي، وشاهدين، ورضا معتبر، وتعيين، فلو قال: أشهد أن فلاناً عقد لفلان على ابنته فقط، ولم يذكر الشروط فإن الشهادة لا تقبل حتى يبين الشروط، لماذا؟ قالوا: لأنه قد يشهد بعقد نكاح يظنه صحيحاً، وهو فاسد، وعقد النكاح يحتاط له ولا يتهاون به، فلا بد من ذكر الشروط، كذلك
(1)
قال في الروض: كعتق وخلع وطلاق (7/ 587).
ـ أيضاً ـ البيع، قال: أنا أشهد أن فلاناً باع على فلان بيته، فما تكفي هذه الشهادة، فلا بد أن يذكر جميع شروط البيع وهي سبعة، فإن لم يذكر الشروط السبعة فإن شهادته لا تقبل، وكذلك ـ أيضاً ـ لو شهد بوقف، بأن فلاناً وقف بيته، فلا بد من ذكر شروط الوقف الخمسة السابقة، فكل عقد لا بد فيه من هذه الشروط.
وهل يشترط ذكر انتفاء الموانع؟ لا يشترط، ففي النكاح ـ مثلاً ـ لا يشترط أن يقول: وهي ممن تحل له؛ لأن الأصل في العقد الصحة وعدم المانع، كذلك في البيع لا يشترط أن يقول: وأن هذا البيع لم يقع بعد نداء الجمعة الثاني، ولا في مسجد، ولا بيعاً على بيع أخيه، وما أشبه ذلك، ولو أننا قلنا: لا بد للشاهد من ذكر الشروط والموانع، لكانت الشهادة أحياناً تستوعب مجلدات؛ لأنه لا بد أن يذكر الشروط، وقد تكون كثيرة، والموانع قد تكون كثيرة أيضاً، فإذا قلنا باشتراط هذا وهذا لصَعُبَ على الناس.
وقال بعض أهل العلم: إنه لا يشترط ذكر الشروط، ولكن للمدعى عليه أن يبين إن كان هناك فوات شرط؛ وذلك لأن الأصل في العقود الصحة والسلامة، ويدل لهذا حديث عائشة رضي الله عنها في البخاري: أن قوماً قالوا: يا رسول الله إن قوماً يأتوننا باللحم، لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا؟ فقال صلى الله عليه وسلم:«سموا أنتم وكلوا»
(1)
، فحكم بحل الذبح مع عدم
(1)
أخرجه البخاري في البيوع/ باب من لم ير الوساوس ونحوها من الشبهات (2057) عن عائشة رضي الله عنها.
تحقق الشرط وهو التسمية؛ لأن الأصل صحة الفعل، فإن وجد فقد شرط، أو حصل مانع فإن للخصم أن يدعي ذلك وينظر فيه، فلو قال المدعى عليه البيع: إن البيع وقع على وجه مجهول في الثمن، أو المثمن، حينئذٍ نقول: ما نحكم بصحة البيع حتى ننظر في دعوى هذا المدعي أن هناك شرطاً من الشروط لم يتم، كذلك لو ادعى المدعى عليه أن البيع وقع بعد نداء الجمعة الثاني، ما نحكم بالشهادة حتى ننظر في دعوى المدعي، أنه وقع بعد نداء الجمعة الثاني ممن تجب عليه الجمعة، وهذا القول هو الراجح، ويدل لرجحانه حديث عائشة رضي الله عنها الذي أشرنا إليه، والتعليل ـ أيضاً ـ وهو أن الأصل في العقود السلامة والصحة حتى يوجد دليل الفساد، من فوات شرط، أو وجود مانع وهناك من العقود التي لم تذكر ففيه عقد الرهن والهبة والإجارة والمساقاة والمزارعة والشركات وغيرها، والمهم أن هذه القاعدة التي أشرنا إليها سارية في جميع العقود.
وإِنْ شَهِدَ بِرَضَاعٍ، أَوْ سَرِقَةٍ، أَوْ شُرْبٍ، أَوْ قَذْفٍ فَإِنَّهُ يَصِفُهُ، وَيَصِفُ الزِّنَا بِذِكْرِ الزَّمَانِ، وَالْمَكَانِ، وَالْمَزْنِي بِهَا،
.......................
قوله: «وإن شهد برضاع» فلا بد من ذكر شروطه ووصفه أيضاً، فيقول: إن هذا الطفل رضع من هذه المرأة خمس رضعات فأكثر، في زمن الإرضاع، فإن قال: أشهد أنه رضع من هذه المرأة فقط، ولم يذكر شيئاً سوى ذلك، فإن الشهادة لا تقبل، وقيل: بل تقبل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر له الرجل قول المرأة التي قالت عنه وعن زوجته: إني أرضعتكما، فقال صلى الله عليه وسلم:«كيف وقد قيل؟!»
(1)
(1)
أخرجه البخاري في العلم/ باب الرحلة في المسألة النازلة وتعليم أهله (88) عن عقبة بن الحارث رضي الله عنه.
وفارقها الرجل وهي لم تزد على قولها: إني قد أرضعتكما، وعلى هذا فلا حاجة إلى ذكر الشروط إلا إذا علمنا أن هذا الإنسان يخفى عليه الشرط، أو غلب على ظننا أن الشروط تخفى عليه فإننا نستفصل، فإذا جاءت امرأة وقالت: إني أرضعت هذا الرجل وهذه المرأة، ونحن نعلم أو يغلب على ظننا أن مثل هذه المرأة يخفى عليها شروط الرضاعة فحينئذٍ لا بد أن نستفصل، وهذا لا ينافي ما سبق من قولنا: إن من شهد بعقد نكاح أو غيره فلا حاجة لذكر الشروط؛ وذلك لأنها إذا قالت: أرضعتكما، فالفعل يدل على مرة واحدة، فلهذا نقول: إذا علمنا، أو غلب على ظننا أن هذه المرأة لا تعرف شروط الرضاع المحرِّم، فلا بد من الاستفصال لما ذكرنا، وهو أن الأصل في الفعل الإفراد وعدم التعدد.
قوله: «أو سرقة» كذلك لو شهد بسرقة فلا بد أن يصفها، ويذكر الشروط، فيصف كيف سرق؟ ومتى سرق؟ ومن أي مكان سرق؟ وما الذي سرق؟ احتياطاً للحدود، والواقع أن هذا فيه ما يحتاط له من وجهين: من جهة الحدود، ومن جهة حقوق الآدمي؛ لأن السارق يترتب على سرقته شيئان: الأول: ضمان المال المسروق، الثاني: القطع، ولكن ينبغي أن يستفصل في هذا، فيقال: إذا شهد بالسرقة، بأن قال: أشهد أن فلاناً سرق من مال فلان كذا وكذا، أو سرق بعير فلان أو شاة فلان فإنه يحكم عليه بمجرد هذه الشهادة بدون أن يصف احتياطاً لحقوق الآدميين، ولكن لا نقيم عليه الحد حتى يصف هذه السرقة، وأنه سرقها من حرز ـ مثلاً ـ درءاً للحد بالشبهات.
قوله: «أو شرب» لو شهد ـ أيضاً ـ بشرب خمر، قال: أشهد أن فلاناً شرب خمراً، يقول المؤلف: لا بد أن يصف ذلك الخمر، فيقول: شرب من النوع الفلاني، شرب في المكان الفلاني، في الوقت الفلاني، المهم يصف كل ما يتعلق بهذه الشهادة، ولا يكفي أن يقول: أشهد أنه شرب الخمر.
والصواب أنه يكفي ذلك؛ لأن العقوبة مرتبة على مجرد شرب الخمر، فإن كان هناك مانع من العقوبة، كإكراه ـ مثلاً ـ فليدع ما شهد عليه.
لو قال قائل: يحتمل أن هذا الشاهد رآه يشرب الخمر، لكنه مكره، أو غير عالم بأنه خمر، نقول: الإكراه مانع وعدم العلم بأنه خمر مانع، فنحن نحكم بأنه شرب الخمر، ونحكم بمقتضى هذا الشرب، فإن ادعى الشارب ما يمنع هذه العقوبة، وقال: إنه مكره، أو إنه شرب هذا الشراب ولم يعلم أنه خمر، فحينئذٍ نسقط عنه العقوبة.
قوله: «أو قذف فإنه يصفه» كذلك لو شهد بقذف فلا بد من أن يصفه، والقذف هو الرمي بالزنا أو اللواط نسأل الله العافية، فيترتب عليه ثلاثة أشياء ذكرها الله في قوله:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} هذا الأول، {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} هذا الثاني، {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] هذا الثالث، فإذا شهد بقذف فلا بد أن يصفه؛ لأنه قد يظن ما ليس بقذف قذفاً، كأن يشهد أنه قال لفلان: أنت زانٍ، أنت لوطي، وما أشبه ذلك، أما إذا قال: إنه قذفه فقط فلا يكفي؛ لاحتمال
أن يكون قذفه بغير الزنا، فلا بد من أن يذكر نوع القذف الذي وقع منه.
قوله: «ويصف الزنا بذكر الزمان والمكان والمزني بها» فيشترط ذكر ثلاثة أشياء، ذكر الزمان بأن يقول: إنه في الليل، في أول الليل، في النهار، في آخر النهار، وما أشبه ذلك، والمكان يقول: في البيت الفلاني في الحجرة الفلانية، وإذا كان في البر يقول: في النقرة الفلانية، في الوادي الفلاني، وما أشبه ذلك، والمزني بها يذكرها، ولكن كيف يذكرها؟ فهل يذكرها باسمها أو بوصفها؟ إن كان لا يعلم اسمها، فيذكرها بوصفها، وإن كان يعلم اسمها فباسمها؛ لأنه قد يجامع امرأته، فيظن الرائي أنها أجنبية، فيشهد بأنه زنا.
وقال بعض أهل العلم: إن الزنا فاحشة يعاقب عليه بالحد الشرعي، ولا ضرورة إلى ذكر المزني بها، فمتى ثبت الزنا فقد ثبتت الفاحشة، وعلى هذا فلا يشترط ذكر المزني بها، ولأن العلم بالمزني بها قد يعسر أو يتعذر، بخلاف الزاني، فإن العلم بالرجال أكثر من العلم بالنساء، وهذا القول أرجح.
ولا بد ـ أيضاً ـ أن يصف الزنا؛ لأنه حد من الحدود، فيقول ـ مثلاً ـ: إنه رأى ذكره في فرجها داخلاً، كما يدخل الميل في المكحلة، فإن شهد بأنه فوقها، وأنه يهزها ـ مثلاً ـ فهل يكفي ذلك أو لا؟ لا يكفي؛ لأن مثل هذا لا يثبت به حد الزنى، فلو أن شخصاً رأى إنساناً على امرأة، ورأى منه حركة تدل على الجماع، فإنه لا يشهد بالجماع، ولكن إذا اعتبرنا هذا الشرط في
الشهادة بالزنا، فلا أظن أن زناً يثبت بشهادة، فمتى يمكن أن يشهد الإنسان بأن ذكر الرجل في فرج المرأة؟! ولهذا لما قيل للذين شهدوا على رجل في عهد عمر رضي الله عنه بالزنا: هل رأيت ذكره في فرجها؟ قال: نعم، قال المشهود عليه: والله لو كنت بين أفخاذنا ما شهدت هذه الشهادة، وهذا صحيح؛ لأن هذا فيه صعوبة؛ ولهذا قال شيخ الإسلام رحمه الله في كتاب المنهاج في الرد على الرافضة، قال: لم يثبت في الإسلام الزنا بالشهادة على الفعل أبداً، إنما ثبت بالإقرار، لكن أن يأتي أربعة يشهدون بأن ذكره في فرجها بزناً واحد!! فهذا صعب جداً.
وعلى كل حال هذا القيد قد يكون فيه رحمة، وهو حفظ أعراض الناس حتى لا يجرؤ أحد على الشهادة بالزنا بدون أن يتحقق هذا التحقق العظيم.
وهل يجوز الوصف بالإشارة أو بالتصوير؟ الوصف بالإشارة، كأن يصف السرقة، فيغلق الباب، ويقف، ثم يقول: رأيت هذا، ثم يفتح الباب، ثم يدخل ويأخذ الدراهم، ويغلق الباب، ويخرج وما يتكلم؟ نقول: إذا كان من أخرس ربما تصلح بالإشارة كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وإذا كان من غير أخرس فنقول: تكلم، يجب أن تصرح، وكذلك لو وصف هذا بالتصوير، فهل تمكن الشهادة عن طريق التصوير؟ أما في بعض الدول فيمكن، لكنه التصوير المتحرك الذي يحكي الفعل، مثل الفيديو، وقد ذكر لي منذ قرابة سبع سنوات أنه اختُرِعَ جهاز إذا سلط على مكان الحادث قبل مضي عشر دقائق صور ما وقع، فإذا جاؤوا
إلى مكان الحادث قبل أن يمضي عشر دقائق ووجهوا هذه الآلات إلى هذا المكان التقطت صور ما وقع، وهذا مستعمل في البلاد الغربية، على كل حال، لو جاءت هذه الآلة وصورت الواقع تقبل؛ لأن هذا أمر حسي معلوم؛ لأن الناس يشاهدونها تعرض على القاضي مثلاً، أو على الحاكم الذي يريد النظر في القضية وتثبت.
وَيَذْكُرُ مَا يُعْتَبَرُ لِلحُكْمِ، وَيَخْتَلِفُ بِهِ فِي الْكُلِّ.
قوله: «ويذكر ما يعتبر للحكم، ويختلف به في الكل» أي: في كل ما يشهد به، فلا بد أن يذكر من الأوصاف والشروط وما يختلف الحكم به، ويذكر كذلك كل ما يعتبر للحكم، كل هذا ذكره العلماء رحمهم الله تحرياً للشهادة، ولكن سبق لنا أن الأصل في الأشياء الواقعة من أهلها الصحة، فيكتفى فيها بالشهادة على الوقوع، ثم إن ادعي فَقْدُ شرط أو وجود مانع، فحينئذٍ ينظر في القضية من جديد.
* * *
فَصْلٌ
وشُرُوطُ مَنْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ سِتَّةٌ: البُلُوغُ، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الصِّبْيَانِ،
......
قوله: «وشروط من تقبل شهادتُهُ ستة» الفصل الأول ذكر فيه المؤلف شروط الشهادة تحملاً، وأداء، ومتى يشهد؟ وماذا يعتبر للشهادة؟ أما هذا الفصل ففي شروط من تقبل شهادته؛ وذلك أن الشهادة لا بد فيها من أركان: شاهد، ومشهود به، ومشهود له، ومشهود عليه، وهنا نذكر شروط الشاهد:
قوله: «البلوغ» هذا الشرط الأول، لكنه شرط للأداء لا للتحمل، فلو تحمل وهو صغير وأدى وهو كبير قبلت شهادته، كما تقبل رواية الصغير إذا تحمل وهو صغير وأداها بعد البلوغ، قال محمود بن الربيع رضي الله عنه:«عقلت مجة مجها النبي صلى الله عليه وسلم في وجهي، وأنا ابن خمس سنين»
(1)
، فالبلوغ شرط للأداء، ولهذا قال:
«فلا تقبل شهادة الصبيان» يعني إذا أدَّوْها، فلو شهد صبي له ثلاث عشرة سنة على صبي آخر أنه فعل كذا وكذا، فالشهادة لا تقبل حتى في المكان الذي لا يطلع عليه إلا الصبيان غالباً، مثل الأسواق، وملاعب الصبيان، فلو جاء صبيّ، بل لو جاء عشرة صبيان، وقالوا: نشهد أن هذا الصبي هو الذي جرح هذا الصبي، رماه بحصاة حتى انجرح، فلا نقبل، أو جاء كل الصبيان يشهدون وهم خمسون صبياً فشهد ثمانية وأربعون صبياً على أن
(1)
أخرجه البخاري في العلم/ باب متى يصح سماع الصغير (77)، ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة/ باب الرخص في التخلف عن الجماعة بعذر (265)(33) واللفظ للبخاري.
التاسع والأربعين رمى الخمسين بحصاة وشجه لا يقبل، قالوا: لأن الصبي لم يتم عقله بعد، وأيضاً هو عاطفي، فيمكن الثمانية والأربعون يهجرون الخمسين، والهجر عند الصبيان، يقول: أنا هاجرك، فيهجره حتى ما يذكر ولا اسمه، ويكونون كلهم مع التاسع والأربعين ويشهدون عليه.
وأيضاً ظاهر كلام المؤلف ولو في المكان نفسه قبل أن يتفرقوا؛ لأنهم إذا تفرقوا يمكن أن يلقنوا ويشهدوا، لكن إذا كانوا لم يتفرقوا بعد عن المكان الذي شهدوا فيه، يقول ـ أيضاً ـ: لا تقبل شهادة الصبيان.
وقال بعض أهل العلم: بل شهادة الصبيان فيما لا يطلع عليه إلا الصبيان غالباً مقبولة، إذا لم يتفرقوا، وما قاله هؤلاء أصح، كما قال الفقهاء رحمهم الله: إنه في المكان الذي لا يطلع عليه إلا النساء تقبل شهادة المرأة الواحدة، فهؤلاء الصبيان إذا كانوا في مكان لم يطلع عليه إلا الصبيان ولم يتفرقوا بعد، لماذا لا نقبل؟! واحتمال أن يكونوا قد هجروا المشهود عليه الأصل عدمه، ولو أننا عملنا بهذا الاحتمال لكان كل شاهد ولو بالغاً يمكن أن يكون عدواً للمشهود عليه، ونقول: لا تقبل شهادته، فإن تفرقوا فإنها لا تقبل لاحتمال أن يلقنوا، وهذا ـ أيضاً ـ محل نظر، فينبغي أن يقال: حتى وإن تفرقوا فإن بعض الصبيان يكون عنده من الذكاء، ومن الخوف من الله عز وجل ما لا يقبل معه التلقين، فلو كان صبي له أربع عشرة سنة، ومتدين، وعاقل، ولا يمكن أن يَدخُلَ ذمتَه شيءٌ، فإن هذا ـ وإن
فارق مكان الحادث ـ يبعد جداً أن يفتري الكذب في شهادته، ومثل هذا ـ أيضاً ـ يمكن للقاضي أن يخوفه، فيقول: إذا شهدت شهادة زور فإنك تصاب بعذاب، وحينئذٍ يرتدع، فإذاً نقول: الأصل أن شهادة الصبيان فيما لا يطلع عليها إلا الصبيان غالباً مقبولة ما لم يتفرقوا، فإن تفرقوا كان ذلك محل نظر، قد تقوم القرينة بصدق شهادتهم، وقد تقوم القرينة بعدم صدق الشهادة، وقد تكون الحال احتمالاً بدون ترجيح.
الثَّانِي: الْعَقْلُ، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ مَجْنُونٍ، وَلَا مَعْتُوهٍ، وَتُقْبَلُ مِمَّنْ يُخْنَقُ أَحْيَاناً فِي حَالِ إِفَاقَتِهِ.
قوله: «الثاني: العقل» أي: الشرط الثاني: العقل، وهو مصدر عقل يعقل عقلاً، وعقل الشيء بمعنى حبسه وحجره حتى لا ينطلق، ومنه عقال الناقة؛ لأنه يعقلها، ومنها العقال الذي يوضع على الرأس، والعقل نوعان: عقل إدراك، وهو ما يحصل به التمييز بين الأشياء، وقد سبق لنا أنه غريزة ومكتسب، وعقل رشد، وهو ما يكون به حسن التصرف، فما هو العقل الذي نفاه الله سبحانه وتعالى عن المشركين، أهو عقل الإدراك، أم عقل الرشد؟ الجواب: عقل الرشد، أما عقل الإدراك فإنهم عقلاء من حيث الإدراك، ولهذا يطالبون بالإسلام وتقوم عليهم الحجة، ولو كانوا مجانين لم تقم عليهم الحجة.
والعقل هنا هل المراد به عقل الإدراك، أو عقل الرشد؟ المراد به هنا عقل الإدراك، ولهذا تقبل شهادة الإنسان ولو كان سفيهاً، وإنما اشترط العقل في الشهادة؛ لأنه لا يمكن إدراك الأشياء حفظاً، ولا إنهاء إلا بالعقل؛ لأنه هو الذي يحصل به الميز، وضده الجنون والعته؛ ولهذا قال:
«فلا تقبل شهادة مجنون ولا معتوه» المجنون مسلوب العقل، الذي ليس له عقل بالكلية، والمعتوه الذي له عقل، لكنه مغلوب عليه، ما يميز ذاك التمييز البين، فهو كالطفل الذي لا يميز، أو ربما نقول: كالطفل الذي يميز، لكن ليس عنده ذاك الإدراك الجيد، فلا تقبل شهادة المجنون الذي ليس له عقل بالكلية، ولا تقبل شهادة المعتوه الذي له شيء من العقل لكنه مختل، ما يستطيع أن يتصرف التصرف الكامل؛ وذلك لأنهم ليس عندهم ما يعقلون به الإدراك ولا الإنهاء، وهو الأداء؛ فلهذا لا تقبل شهادة المجانين ولا المعتوهين.
قوله: «وتقبل» الضمير يعود على الشهادة.
قوله: «ممن يخنق أحياناً» يعني يجن أحياناً.
قوله: «في حال إفاقته» أداءً وتحملاً؛ لأنه لا يمكن أن يتحمل وهو مجنون، ولا يمكن أن يؤدي وهو مجنون، لكن إذا تحمل في حال الصحو وأدَّى في حال الصحو فشهادته مقبولة؛ لزوال المانع الذي به ترد الشهادة.
والسكران لا تقبل شهادته؛ لأنه ليس له عقل لا تحملاً ولا أداءً، ولكن إذا أصحى فإنها تقبل شهادته إن تحمل وهو صاحٍ، والمسحور مثله، فما دام فاقد العقل بأي شيء من الأسباب فإنه لا تقبل شهادته، لا تحملاً ولا أداء.
الثَّالِثُ: الْكَلَامُ، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الأَخْرَسِ، وَلَوْ فُهِمَتْ إِشَارَتُهُ، إِلاَّ إِذَا أَدَّاهَا بِخَطِّهِ.
قوله: «الثالث: الكلام» هذا الشرط الثالث: الكلام، وهو
النطق وضده الخرس، واشترط الكلام؛ لأن الشهادة تحتاج إليه في حال الأداء، وإذا لم يكن متكلماً كيف يؤدي؟! فإن قلت: يؤدي بالإشارة، قلنا: الإشارة لا تعطي الأمر اليقيني، والشهادة يشترط فيها اليقين، ولهذا قال المؤلف:
«فلا تقبل شهادة الأخرس» وهو الذي لا ينطق، والغالب أن الأخرس لا يسمع، وعلى هذا فلا يمكن أن يشهد بالمسموع، لكن يمكن أن يشهد بالمرئي، ومع ذلك قال المؤلف:«فلا تقبل شهادة الأخرس» .
«ولو فهمت إشارته» «لو» إشارة خلاف، فإن من أهل العلم من يقول: إذا فهمت إشارة الأخرس فإنها تقبل؛ لأن الشارع اعتبر الإشارة في الأمور كلها، كما ذكر ذلك البخاري في ترجمة له
(1)
، فكل الأمور تدخل فيها الإشارة، العبادات والمعاملات، فإذا فهمت الإشارة حصل اليقين، أرأيت لو قيل للأخرس: أتشهد أن لهذا على هذا عشرة ريالات، فقال برأسه: نعم، فهذا يقين كما لو نطق هو، فالقول بأن اليقين يتعذر في شهادة الأخرس غير صحيح، بل يمكن أن يتيقن حتى في شهادة الأخرس، وحتى لو لم نقل: عنده عشرة، بل لو كان يشير لهذا على هذا، ثم قال بيده: عشرة عشر مرات، فنفهم مائة ريال، فيؤتى بريال ويشار له به وتفهم الإشارة، المهم أن القول الراجح المتعين أن شهادة الأخرس تقبل إذا فهمت إشارته، ويدل لذلك أننا لو قلنا: لا
(1)
فقال: باب الإشارة في الطلاق والأمور، صحيح البخاري/ كتاب الطلاق (946) ط. دار السلام.
تفهم لضاع الحق، فنحن عندنا جانبان في الواقع، جانب المدعى عليه وجانب المدعي، فلو قال قائل: إذا عملت بشهادة الأخرس أضررت بالمدعى عليه؛ لأنك حكمت عليه بما لا يتيقن، نقول: وإذا لم نقبل شهادته أضررنا بجانب المدعي فأهملنا حقه، فعندنا جانبان، كلاهما لا بد من مراعاته، فإذا فهمت إشارة الأخرس فما المانع من قبولها؟! الحقيقة أنه لا مانع، وأنه يتعين على القاضي، وعلى غير القاضي ممن حكم بين الناس أن يحكم بشهادة الأخرس إذا فهمت إشارته.
قوله: «إلا إذا أداها بخطه» فإنها تقبل؛ لأن الخط يفيد اليقين ويعمل به شرعاً، قال الله تعالى:{وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ} [البقرة: 282]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:«ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين، إلا ووصيته مكتوبة عنده»
(1)
، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقيم بالكتابة الحجة على ملوك الكفار، فكتب إلى كسرى وقيصر والنجاشي يدعوهم إلى الله تعالى
(2)
، إذاً فالكتابة حجة شرعية بالقرآن والسنة، فهذا الأخرس إذا أدى شهادته بخطه نقبلها؛ لأن الخط يفيد اليقين، وهذا واضح فصار الأخرس له ثلاث مراتب:
الأولى: ألا يكون ممن تفهم إشارته ولا كتابته، فهذا لا تقبل قولاً واحداً للشك في مدلول هذه الشهادة.
(1)
أخرجه البخاري في الوصايا/ باب الوصايا (2738)، ومسلم في الوصية/ باب وصية الرجل مكتوبة عنده (1627) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
(2)
أخرجه مسلم في الجهاد/ باب كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى ملوك الكفار يدعوهم إلى الله (1774) عن أنس رضي الله عنه.
الثانية: أن يكون ممن يعرف خطه ويؤدي الشهادة بخطه، فهذا يقبل قولاً واحداً.
الثالثة: أن يكون ممن تعرف إشارته وتفهم، فهذا محل خلاف بين العلماء، فالمشهور من المذهب أنها لا تقبل، والصحيح الذي لا شك فيه أنها تقبل.
الرَّابِعُ: الإِسْلَامُ، الْخَامِسُ: الْحِفْظُ، السَّادِسُ: الْعَدَالَةُ: وَيُعْتَبَرُ لَهَا شَيْئَانِ: الصَّلَاحُ فِي الدِّينِ: وَهُوَ أَدَاءُ الْفَرَائِضِ بِسُنَنِهَا الرَّاتِبَةِ، وَاجْتِنَابُ الْمَحَارِمِ بِأَنْ لَا يَأْتِي كَبِيرَةً، وَلَا يُدْمِنُ عَلَى صَغِيرَةٍ، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ فَاسِقٍ.
قوله: «الرابع: الإسلام» أي: الشرط الرابع، فالإسلام شرط لقبول الشهادة؛ لأنه إذا كانت العدالة شرطاً فالإسلام أساس العدالة، ولهذا فإن الله تعالى دائماً يضيف الشهود إلى ضمير المخاطبين وهم المؤمنون فيقول:{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282]، {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2]، وقال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6]، وإذا كان الفاسق يجب علينا أن نتبين في خبره ولا نقبله، فما بالك بالكافر؟! فلا بد من أن يكون الشاهد مسلماً بدلالة القرآن والنظر الصحيح؛ لأن الكافر محل الخيانة، وهو غير مأمون قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ} [آل عمران: 118]، {لَا يَأْلُونَكُمْ} ، يعني لا يألونكم جهداً، {خَبَالاً} ، يعني أن تقعوا في الخبال، وهو التصرف بغير عقل، {وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ} ما شق عليكم، فالكفار يسعون بكل جهد أن يكون عملنا خبالاً ضائعاً لا خير فيه.
فإذا كان الكافر مبرزاً في الصدق ـ والكافر قد يكون صدوقاً ـ فلا نقبل شهادته، فلو جاءت شهادة الكافر بواسطة التصوير، ككافر معه كاميرا وصوَّر المشهد، وأنا عندي أن
التصوير في الواقع عرضٌ لصورة الحال، فلو أعطانا الصورة ولم يتكلم، فكأنه رفع لنا القضية برمتها، يعني رفع لنا صورة الواقع، فهنا لا نعتمد على خبره، بل نعتمد على الصورة التي أمامنا، وقد قال الله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6]، ونحن إذا تبينا بواسطة الصورة فما المانع؟! فهذا كافر معه آلة فيديو، سلطها على هؤلاء القوم الذين يتقاتلون، وأعطانا الصورة، نراهم يتقاتلون بعضهم مع بعض، ونعرف وجوههم، ثم نقول: هذا غير مقبول؛ لأن الذي التقط الصورة كافر!! ونقول: هذا مقتضى دين الإسلام، أعوذ بالله لو نقول هذا الكلام صاحت علينا الأمم، ما هذا الدين الذي لا يقبل الحقائق المنقولة؟!
إذاً شهادة الكافر إذا كانت مستندة على مجرد خبره فهي غير مقبولة لا شك وليس مؤتمناً، لكن إذا كان يصور لنا الواقع صورة لا ارتياب فيها، فنحن لا نقبل خبره هو، لكن نقبل الذي أمامنا، ولهذا لو جاء صبي صغير له أربع عشرة سنة ولكن جسمه كبير، إلا أنه ما أنبت، ولا أنزل، وجاء يشهد ما نقبل شهادته، لكن لو صور لنا الواقع بالفيديو، وأحضره لنا نقبله، لكن ليس من أجل خبره، إنما من أجل أن الواقع أمامنا نشاهده، ولهذا في القرآن:{فَتَبَيَّنُوا} يعني اطلبوا البيان؛ حتى يتبين لكم الأمر، فإذا تبين الأمر فما المانع من القبول؟!
فإذا قال قائل: وجدنا في القرآن قبول شهادة غير المسلم قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ
حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} يعني من المسلمين {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} أي: غير المسلمين، فقوله تعالى:{اثْنَانِ} خبر المبتدأ، وقوله:{أَوْ آخَرَانِ} معطوف عليه يعني أو شهادة هذه الوصية {آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} بشرط: {إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ} يعني سافرتم {فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ} [المائدة: 106]، يعني جاءكم الموت، وهذان الآخران من غيركم موجودان عندكم فأشهدوهما على الوصية، مع أن الوصية فيها ضرر على الورثة؛ لأنه سيقتطع جزء من المال لهذه الوصية، كرجل كان في السفر ومات وكان معه اثنان غير مسلمين، فأوصاهم، وقال: إني أشهدكما أني أوصيت بثلث مالي يصرف في كذا وكذا، نقبل شهادتهما وهما كافران مع أنه يوجد إضرار بالورثة، لكن الآية فيها احتياطٌ:{إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ} ، لكن متى؟ {إِنِ ارْتَبْتُمْ} [المائدة: 106]، يعني فإن لم ترتابوا فلا حاجة إلى الحبس، وهذا يدل على أننا قد لا نرتاب في شهادة الكافر، فيكون في هذا تأييد لما أسلفنا من قبل في مسألة ما لو نقل الحادث بالصورة.
وقوله تعالى: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ} أي: من بعد صلاة العصر، والمراد بالحبس أن نأتي بهما ونوقفهما {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ} [المائدة: 106]، يعني أننا ما شهدنا من أجل حظ من الدنيا، ولو كان أقرب قريب إلينا ولا نكتم شهادة الله:{إِنَّا إِذًا لَمِنَ الآثِمِينَ} [المائدة: 106]، ففي هذه الآية دليل واضح على قبول شهادة غير
المسلم في وصيةٍ في سفر لم يحضرها غيرهما من المسلمين، فهل نحكم بهذا؟
الجواب: نعم نحكم شرعاً، ويجب أن نرضى به شرعاً؛ لأن الذي قال ذلك هو الله عز وجل، وإذا حصل منا ارتياب نلجأ إلى الإقسام الذي ذكره الله عز وجل، فهذه المسألة مستثناة، ولكن القضية التي وقعت في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام كان الشاهد رجلين يهوديين، فهل يشترط أن يكون هذا الغير من أهل الكتاب؛ لأنه قال: من غيركم، أو لا يشترط؟ إذا نظرنا إلى القرآن الكريم وجدنا أنه لا يشترط، قال الله تعالى:{مِنْ غَيْرِكُمْ} ، وأطلق ولم يقل: من أهل الكتاب، مع أن الله عز وجل إذا أراد تخصيص أهل الكتاب بالحكم خصص:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5]، {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5].
قوله: «فلا تقبل شهادة فاسق» الفاء للتفريع، والجملة مفرعة
على ما سبق من قوله: «بأن لا يأتي كبيرة ولا يدمن على صغيرة» ، وسواء كان فسقه بالأفعال، أو بالأقوال، أو بالاعتقاد؛ لأن الفسق قد يكون بالأقوال كالقذف ـ مثلاً ـ فإن القذف من كبائر الذنوب كما قال الله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ *} [النور]، والفسق بالفعل كالزنا، وشرب الخمر، والسرقة فهذه من الأفعال المفسقة، والفسق بالاعتقاد ذكر بعض العلماء ضابطاً في هذا، فقال: كل بدعة مكفرة للمجتهد فهي مفسقة للمقلد، وهذا ضابط واضح؛ لأن المجتهد يقولها ويناظر عليها وربما يدعو إليها، والمقلد لا يعلم فنقول: هو فاسق، هكذا أطلق بعض العلماء وهي كما ذكرت عبارة جميلة وخالف آخرون فقالوا: إن المقلد لا يخلو إما أن يعتقد أن ما قاله هذا المجتهد هو الحق؛ لأنه لا يعرف غيره فهذا لا يمكن أن نحكم بفسقه؛ لأنه اتقى الله ما استطاع، ولا يستطيع أكثر من ذلك، وليس عنده في بلده إلا هؤلاء العلماء، ولا يسمع قولاً يخالف قولهم، أو قولاً يُدَّعى أنه الحق وهو مخالف لقولهم، فكيف نفسقه، وهو قد اتقى الله ما استطاع؟! ولكن نقول: من تعصب لهم فحينئذٍ نفسقه، يعني لو قيل له: الحق كذا، قال: لا، مشايخي يقولون: كذا وكذا، فهذا لا شك أننا نفسقه، لأنه يشبه قول المشركين الذين يقولون:{إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف: 22]، والآية الثانية:{وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف: 23]، مثلاً: لو قال قائل بخلق القرآن، وأن القرآن مخلوق بائن من الله
عز وجل، فإن كثيراً من السلف أطلق عليه القول بالكفر، وقال: إنه إذا قال: إن القرآن مخلوق فقد كذب قول الله تعالى: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء: 166]، فجعله سبحانه وتعالى نازلاً بالعلم لا مخلوقاً بالقدرة، وإذا كان نازلاً بالعلم لم يكن مخلوقاً بالقدرة وإذا قلنا: إنه مخلوق صار تكذيباً لقوله تعالى: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} ، وحينئذٍ يكون كافراً، كذلك من قال: إن الله تعالى بذاته في كل مكان، فهذا كافر ولا شك في كفره، فيكون الذي يقلده في هذا فاسقاً بشرط أن يعرض عليه الحق، ولكنه يصر ويتعصب لرأي متبوعه، كذلك من قال: إن الله سبحانه وتعالى ليس فوقاً، ولا تحتاً، ولا يميناً، ولا شمالاً، ولا متصلاً، ولا منفصلاً، فهو ـ أيضاً ـ كافر؛ لأن هذا حقيقة العدم، المهم أننا نتتبع أقوال أهل العلم في البدعة المكفرة، فإذا صار الإنسان المجتهد أي: الذي نصب نفسه للفتوى والتعليم يقول بهذه البدعة المكفرة فالمقلد له بعد أن يعرض عليه الحق ويرده يكون فاسقاً.
الثَّانِي: اسْتِعْمَالُ الْمُرُوءَةِ، وَهُوَ فِعْلُ مَا يُجَمِّلُهُ، وَيَزِينُهُ، وَاجْتِنابُ مَا يُدَنِّسُهُ وَيَشِينُهُ.
قوله: «الثاني: استعمال المروءة» أي: الثاني مما يعتبر في العدالة استعمال المروءة، والمروءة التخلق بالأخلاق الفاضلة، وإن كان في الروض
(1)
يقول: المروءة هي الإنسانية، فيكون الإنسان متخلقاً بالأخلاق التي ليس عليه فيها مثلب، ولا أحد ينتقده، وهذه ترجع للعادة، وقد يكون بعضها ديناً، لكن أصلها العادة، فالمروءة هي ما تعارف الناس على حسنه، وما تعارفوا على قبحه فهو خلاف المروءة، وإذا كان هذا فإن مرجع المروءة
(1)
الروض المربع مع حاشية ابن قاسم (7/ 598).
إلى العادة في الواقع، فقد يكون هذا العمل ـ مثلاً ـ مخلاً بالمروءة عند قوم، غير مخلٍّ بالمروءة عند آخرين، وقد يكون مخلاً بالمروءة في زمن غير مخلٍّ بها في زمن آخر، فما دمنا أرجعنا المروءة إلى العادة، وهي ما تعارف الناس على حسنه، فحينئذٍ تكون المسألة بحسب عادات الناس، مثلاً قال العلماء: من الإخلال بالمروءة أن ينام الإنسان بين الجالسين، فإذا نام بين الجالسين سقطت مروءته؛ لأن هذا خلاف المعتاد، وإذا خرج عن مستوى الجالسين سقطت مروءته، مثلاً: تقدم أو تأخر عن الصف تسقط مروءته، وإذا مضغ العلك أمام الناس سقطت مروءته، وإذا أكل في السوق سقطت مروءته، وما دمنا عرفنا أن الضابط في المروءة هو ما تعارف الناس على حسنه فهو مروءة، وما تعارف الناس على قبحه فهو خلاف المروءة.
ولننظر في هذه الأمثلة هل هي مخالفة لما يعتاده الناس؟ فالواحد بين أصحابه في نزهة يمكن أن ينام، ولا يقال: هذا خلاف المروءة، لكن لو يأتي في مجلس علم وينام فإن هذا خلاف المروءة، فالمسألة تختلف، ويقولون: عند الأحباب تسقط الكلفة في الآداب، فقد تكون بين إخوانك وأصحابك وتمد رجلك، وقد تكون في مجلس موقر ما تمد رجلك، ولو مددت رجلك لكان كل الناس يعيبونك، فالمسألة تختلف، ويذكر أن أبا حنيفة رحمه الله كان يدرِّس، فجاء ذلك الرجل المهيب بهيئته، وكان الإمام قد مد رجله بين أصحابه فلما رآه كف رجله؛ ظناً منه أن ذلك الرجل من أكابر العلماء، وجعل يقرر في صيام رمضان،
فقال هذا الذي يظن أنه شيخ: أرأيت لو طلعت الشمس قبل الفجر؟! يقولون: إنه مد رجله، وقال: إذاً يمد أبو حنيفة رجله ولا يبالي، الله أعلم هل هذا صحيح أو لا؟ على كل حال هذه المسألة ما دمنا ربطناها بالعرف فهي تختلف باختلاف الأعراف، وحد المؤلف المروءة فقال:
«وهو فعل ما يجمله ويزينه واجتناب ما يدنسه ويشينه» فعل ما يجمله عند الناس ويزينه، مثل: الكرم، والجود بالنفس وهو الشجاعة، وطلاقة الوجه، والانبساط إلى الناس، وما أشبه ذلك، فكل ما يجمل فهو من المروءة بلا شك، ويختلف، فربما نقول لهذا الرجل: إذا لم يفعل هذا فقد فعل ما يشينه، والآخر لا نقول: فعل ما يشينه، كما لو رأينا رجلاً متصدراً للبلد، ومن أعيانه، ولكن لا يعطي البلد حقها من استقبال الزائرين ولا سيما الكبراء، نقول: هذا مخالف للمروءة، لكن لو يأتي شخص من عامة الناس، ولا يسلم على من قدم للبلد من الوجهاء والأعيان فإنه لا يعد مخالفاً للمروءة، المهم كل شيء يجمل الإنسان ويزينه بين الناس فهو من المروءة.
وقوله: «ما يجمله ويزينه» قال في الروض
(1)
: عادة، كالسخاء وحسن الخلق.
وقوله: «واجتناب ما يدنسه ويشينه» عادة من الأمور الدنيئة، فلا شهادة لمصافع، من الصفع، ومن ذلك الملاكمة فهي مثلها أو أشد منها، فهي خلاف المروءة.
(1)
الروض المربع مع حاشية ابن قاسم (7/ 598).
قال في الروض: «ومتمسخر» أي: بالناس، يتمسخر بهم، ويحاكيهم بالقول أو بالفعل، فإن كان متمسخراً بالنساء يحاكيهن فهو مع مخالفة المروءة واقع في المحرم، في كبائر الذنوب.
قال في الروض: «ورقاص» وهو الذي يرقص، «ومغنٍّ» فالمغني قد سقطت مروءته، بل فيه شيء آخر من الناحية الدينية، أنه إذا كان الغناء محرماً فإنه لم يستقم دينه وفيه محذوران هما عدم الصلاح في الدين وعدم المروءة، أما إذا كان الغناء غير محرم، وغنى في موضع لا ينبغي أن يغني فيه، فهو خلاف المروءة، يعني لو جاء حادي الإبل الذي يحدو على الإبل، وصار يحدو في السفر فهذا جائز، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أقره
(1)
، ولو جاء عامل ينقل الحصى ويحفر الأرض ويغنِّي على عمله ليتقوى جاز أيضاً، فالصحابة رضي الله عنهم كانوا يحفرون الخندق وينشدون، والرسول عليه الصلاة والسلام معهم ينشد:
اللهم لولا أنت ما اهتدينا
ولا تصدّقنا ولا صلّينا
حتى إنه يقول:
وإن أرادوا فتنة أبينا
ويمد بها صوته
(2)
، وهم يقولون:
(1)
أخرجه البخاري في الأدب/ باب ما جاء في قول الرجل: ويلك (6161)، ومسلم في الفضائل/ باب رحمة النبي صلى الله عليه وسلم للنساء
…
(2323) عن أنس رضي الله عنه.
(2)
أخرجه البخاري في الجهاد والسير/ باب حفر الخندق (2837)، ومسلم في الجهاد والسير/ باب غزوة الأحزاب وهي الخندق (1803) عن البراء بن عازب رضي الله عنه.
لئن قعدنا والنبي يعمل
…
لذاك منا العمل المضلل
ينشدون بها، لكن لو جاء هذا المغني الحادي، أو العامل، وهو جالس مع الناس، ثم رفع صوته بالحداء وهم يتغدون ـ مثلاً ـ فهذا خلاف المروءة.
فتبين الآن أن قول صاحب الروض: «ومغنٍّ» ليس على إطلاقه، بل فيه تفصيل، وكذلك الأغنية إذا كانت محرمة من أجل موضوعها، كأن يكون موضوعاً ساقطاً هابطاً، فهذا مخالف للمروءة، ومخالف للدين، أما المغني غناء مباحاً، إذا استعمله في موضع لا يذم عليه فإنه لا يسقط المروءة، وإن كان في موضع غير مناسب فإنه يسقط المروءة.
قال في الروض: «وطفيلي» وهو الذي يدخل على الناس بدون دعوة، سمع أن فلاناً عنده وليمة فذهب إليه، هذا نسميه طفيلياً، فلا تقبل شهادته لمخالفة المروءة، لكن إذا علمت من صاحبك أنه يفرح بمجيئك فهذا ليس بطفيلي، بل هو من المروءة والتواضع، وكثيراً من الناس ـ كما قيل: رب صدفة خير من ميعاد ـ إذا جئت إليه بدون دعوة يكون أحب إليه ويفرح كثيراً، ويظهر عليه أثر الفرح، إذاً الطفيلي هو الذي يفاجئ القوم بدون دعوة.
ولا فرق بين أن يكونوا على الطعام أو على غير الطعام، فمثلاً: ناس في البر جالسون على الطعام، فإذا بالطفيلي يأتي، فهذا طفيلي وإن لم يكن هناك أبواب؛ لأنه يفاجئ القوم عند تقديم الطعام ليضيق عليهم.
قال في الروض: «ومتزيٍّ بزيٍّ يسخر منه» هذا موجود وهو كثير، كرجل يضع قروناً على رأسه، أو جناحين على يمينه ويساره، ويوجد هذا أظن فيما يسمى بأفلام الكرتون.
قال: «ولا لمن يأكل بالسوق» إلا في المواضع المعدة للأكل مثل المطاعم، قال:«إلا شيئاً يسيراً كلقمة وتفاحة» ، هذا لا بأس به، مع أنه في الحقيقة بالنسبة لنا تسقط مروءته، فلو جئت تمشي إلى المسجد ومعك تفاحة تأكلها أمام الناس، يمكن يقال: هذا الرجل أصابه جنون، لكن لو في مطعم ما يعد هذا مخالفاً للمروءة.
قال: «ولا لمن يمد رجله بمجمع الناس، أو ينام بين الجالسين ونحوه» لكن في الكتب الأخرى يقولون: إن من خرج عن مستوى الجلوس فإنه تسقط مروءته.
وَمَتَى زَالَتِ الْمَوَانِعُ، فَبَلَغَ الصَّبِيُّ، وَعَقَلَ الْمَجْنُونُ، وَأَسْلَمَ الْكَافِرُ، وَتَابَ الْفَاسِقُ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمْ.
قوله: «ومتى زالت الموانع، فبلغ الصبي، وعقل المجنون، وأسلم الكافر، وتاب الفاسق قبلت شهادتهم» الشروط السابقة إنما تعتبر حال الأداء، فمتى بلغ الصبي وهو متحمل في حال الصغر قبلت شهادته، فالذي يشترط في التحمل في جانب هذا الشرط التمييز، فالبلوغ شرط للأداء، فهذا صبي تحمل وله عشر سنوات، وضبط القصة، ولم يؤدِّ إلا بعد أن بلغ وقد بلغ بإنبات العانة وله اثنتا عشرة سنة، تقبل شهادته.
وقوله: «وعقل المجنون» لكن العقل شرط في التحمل والأداء، إذاً كيف يقول: عقل المجنون؟
نقول: هذا شخص تحمل وهو عاقل ثم جن ثم عقل، فلا نقول: إن هذا الجنون يبطل شهادته، بل نقول: إذا أدى بعد عقله قبلنا شهادته، ومثله رجل أصيب بحادث فاختل عقله ثم عافاه الله عز وجل، لا نقول: إن هذا الاختلال ينسخ الذاكرة السابقة ولا نقبل شهادته، بل نقول: إنها تقبل؛ لأن هذا الشاهد تحمل وهو عاقل، وأدَّى وهو عاقل.
وقوله: «وأسلم الكافر» تحمل وهو كافر وأدى وهو مسلم فتقبل شهادته، ولو تحمل وهو مسلم وأدى وهو كافر فإنها لا تقبل.
وقوله: «وتاب الفاسق» فإنها تقبل شهادته، يعني رجلاً تحمل وهو فاسق، لا يصلي مع الجماعة مثلاً، لكن هداه الله عز وجل، وصار يصلي مع الجماعة، تقبل شهادته، إذاً العدالة والإسلام والبلوغ شرط للأداء لا للتحمل، وشرط الكلام ينبغي أن نقول: هو ـ أيضاً ـ شرط للأداء فقط، أما التحمل فلو تحمل وهو أخرس، وأدى وهو ناطق فشهادته مقبولة، حتى على المذهب، أما على القول الصحيح فقد تقدم التفصيل في ذلك، فصار الكلام إذاً شرطاً للأداء فقط، إذاً فشروط التحمل أربعة من ستة، أما الأداء فكل الستة شروط له.
والخلاصة: أن من تحمل صغيراً وأدى بالغا قبلت شهادته، ومن تحمل فاسقاً وأدى عدلاً قبلت شهادته ولا تقبل شهادته إن تحمل عدلاً وأدى فاسقاً ومن تحمل عاقلاً فلا تقبل شهادته حال جنونه فإن عقل بعد جنونه قبلت شهادته التي تحملها قبل الجنون.
وأهم شيء في هذا الباب مسألة العدالة، لأننا لو طبقنا ما ذكره الفقهاء رحمهم الله فيما يعتبر للعدالة لو طبقناه على مجتمع المسلمين اليوم لم نجد أحداً إلا نادراً، وحينئذٍ تضيع الحقوق، وإذا رجعنا إلى مستند الفقهاء في اشتراط العدالة وجدنا ذلك في آيتين أو أكثر، لكن معناهما واحد {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2]، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6]، وعند التأمل قد لا يكون في الآيتين دليل على ما اشترطه الفقهاء؛ لأن الله قال:{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} ، أي: صاحبي عدل، ولا يلزم من كونهما صاحبي عدل أن يتصفا بالعدالة المطلقة، بل يمكن أن نقول: إن معنى الآية {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ} في شهادته، فمتى كان ذا عدل في الشهادة فإنه يقبل، ودينه لله عز وجل؛ ولهذا لو كان الإنسان مخالفاً للعدالة في الكذب فإننا لا نقبله بلا شك؛ لأن الشهادة تعتمد اعتماداً كلياً على الصدق في النقل، وإذا كان هذا الإنسان معروفاً بالكذب فهذا لا نقبل شهادته؛ لأن هذا الوصف ـ وهو الكذب ـ مخلٌّ بأصل الشهادة، فإن الشهادة مبنية على الصدق في الخبر، وهي خبر في الواقع، فإذا كان كاذباً فلا شك أن هذا يخل بشهادته ولا نقبلها، أما لو كان الرجل يحلق لحيته لكن نعلم أنه في باب الأخبار صدوق لا يمكن أن يكذب، وقد ماشيناه وتتبعنا أخباره، فكيف نرد خبره؟! أو رجل يغتاب الناس، والغيبة من كبائر الذنوب تخدش العدالة ولو مرة واحدة، لكن مع كونه يغتاب الناس صدوق الخبر لا يمكن أن يكذب، فعلى المذهب ترد
شهادته، ولكن على القول الراجح: تقبل، وحينئذٍ نقول:{ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} أي: في الشهادة.
على أنه يمكن أن يقال ـ وهو وجه آخر رد به من رد على كلام الفقهاء ـ قال: إن الله يقول: «{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} ، هذا في ابتداء الشهادة، أي: التحمل، فلا تختر إلا عدلاً، لكن عند الأداء نقبل كل من قامت القرينة على صدقه، وفرق بين التحمل الذي يريد أن يختار شهوداً يعتمد عليهم، وبين إنسان أتى بشهود فيما بعد ليثبت بهم الحق، فيفرق هؤلاء العلماء بين التحمل والأداء، فالتحمل لا بد أن يختار ذوي العدل لئلا يقع إشكال في المستقبل، أو ردٌّ للشهادة، لكن عند الأداء فينظر في القضية المعينة.
أما بالنسبة للفاسق، فالفاسق لم يأمر الله بردِّ خبره، لكن قال:{فَتَبَيَّنُوا} ، فإذا شهد الفاسق بما دلت القرينة على صدقه، فقد تبينا وتبين لنا أنه صادق، وإذا شهد فاسقان يقوى خبرهما، إذ لم يكن بينهما مواطأة، بأن كان كل واحد منهما بعيداً عن الآخر، فشهدا في قضية معينة، فلا شك أن خبرهما يقوي بعضه بعضاً، ولهذا حتى عند علماء المصطلح إذا روى اثنان ضعيفان فإنه يقوى الحديث.
فالحاصل أن الآيتين ليس فيهما دليل على أن العدالة في الشهادة هي ما ذكره الفقهاء رحمهم الله، أما العدالة في الولاية فهي شيء آخر؛ لأن الولي منفذ وآمر، والشاهد طريق إلى الحق فقط، وليس عنده التنفيذ، فيجب أن نشترط في الولي أكثر مما نشترط في الشاهد.
مسألة: وهل هذه الشروط عامة في جميع أبواب الشهادات؟
لا تشترط العدالة ظاهراً وباطناً في جميع المواضع، يعني أن في بعضها تشترط العدالة ظاهراً فقط، كولاية النكاح، والشهادة به، والأذان والشهادة بثبوت رمضان، وغير ذلك من المواضع التي قد تبلغ سبع أو ثمان صور، يكتفى فيها بالعدالة الظاهرة فقط.
وإن قيل: لماذا وضع الفقهاء ـ رحمهم الله تعالى ـ القسمة في باب القضاء؟ نقول: لأن القاسم يعين من قبل القاضي، ولأن القاسم كالحاكم.
صفحة فارغة
بَابُ مَوَانِعِ الشَّهَادَةِ وَعَدَدِ الشُّهُودِ
لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ عَمُودَيِ النَّسَبِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، وَلَا شَهَادَةُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ لِصَاحِبِهِ، وَتُقْبَلُ عَلَيْهِمْ، وَلَا مَنْ يَجُرُّ إِلَى نَفْسِهِ نَفْعاً، أَوْ يَدْفَعُ عَنْهَا ضَرَراً، وَلَا عَدُوٍّ عَلَى عَدُوِّهِ،
........
هذا الباب تضمن مسألتين: المسألة الأولى: موانع الشهادة، الثانية: عدد الشهود، أما موانع الشهادة، فيعني الموانع التي تمنع من قبول شهادة الشاهد مع استكمال الشروط، والموانع في اللغة جمع مانع، وهو الشيء الحائل دون الشيء.
وأما في الاصطلاح فإن المانع هو الذي يلزم من وجوده العدم ولا يلزم من عدمه العدم، عكس الشرط؛ فالشرط يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده الوجود، فإذا تمت شروط الشاهد السابقة الستة بقي شيء آخر، وهو انتفاء الموانع، فإذا انتفت الموانع قبلنا شهادته وحكمنا بها، وإن وجد مانع من الموانع رددنا شهادته.
وهل الأصل وجود المانع أو عدم المانع؟ الأصل عدم المانع، وعندنا نصوص عامة للشروط التي تجب في الشاهد، وننظر في هذه الموانع التي ذكرها المؤلف هل هي وجيهة بحيث يمكن أن نخصص بها تلك العمومات أو لا؟ يقول المؤلف:
«لا تقبل شهادة عمودي النسب بعضهم لبعض» يريد بعمودي النسب الأصول والفروع، الأصول من الأمهات، والآباء، والأجداد، والجدات، وسموا أصولاً؛ لأن الإنسان يتفرع منهم، والعمود الثاني الفروع وهذا هو العمود النازل، والأول العمود
الصاعد، هذا العمود النازل هم الفروع، يعني الأبناء، والبنات، وأولاد الأبناء، وأولاد البنات وإن نزلوا، هؤلاء لا تقبل شهادة بعضهم لبعض وإن كانوا عدولاً، وإن تمت فيهم الشروط الستة السابقة، فلو شهد أب لابنه لم تقبل شهادته، أو ابن لأبيه لم تقبل شهادته، أو شهد ولد لأمه لم تقبل شهادته، أو أم لولدها لم تقبل شهادتها، المهم أن هذا مانع، فما الدليل على كونه مانعاً؟
الدليل قوة التهمة؛ لأن الإنسان متهم إذا شهد لأصله، أو شهد لفرعه، فإذا كان متهماً فإن ذلك يمنع من قبول شهادته لاحتمال أن يكون قد حابى أصوله أو فروعه، فالدليل على أن هذا مانع تعليل، وليس دليلاً من الكتاب والسنة، بل هو قوة التهمة، فإذا علمنا أن التهمة معدومة لكون الأب أو الأم مبرزاً في العدالة لا يمكن أن تلحقه تهمة، فهل نقبل الشهادة أو لا؟ المؤلف يقول: لا نقبل الشهادة حتى لو كان الأب من أعدل عباد الله، أو الابن من أعدل عباد الله؛ لأن كونه في هذه المرتبة من العدالة أمر نادر، والنادر لا حكم له، فالعبرة بالأغلب، والأغلب أن الإنسان تلحقه التهمة فيما إذا شهد لأصوله أو فروعه، ولا سيما في عصرنا الحاضر الذي غلبت فيه العاطفة على جانب العقل والدين عند كثير من الناس.
وهناك قول آخر في المسألة: أنها تقبل شهادة الأصول لفروعهم، والفروع لأصولهم إذا انتفت التهمة، وأن العبرة في كل قضية بعينها؛ وجه ذلك أن العمومات الدالة على قبول شهادة العدل لا يستثنى منها شيء، إلا بدليل واضح بيِّن يمكننا أن نقابل
به عند السؤال، وإلا فإن الله ـ جلَّ وعلا ـ يقول:{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282]، وهؤلاء من رجالنا، {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2]، وهؤلاء من ذوي العدل، سواء قلنا: إن العدل استقامة الدين والمروءة مطلقاً، أو قلنا: إن العدل هو العدل في تلك الشهادة المعينة كما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فنقول: إذا كان هذا الأب مبرزاً في العدالة، لا يمكن أن يشهد لابنه إلا بشيء هو الواقع، ونعلم هذا من حاله، فنقول: هذا الرجل ذو عدل في هذه الشهادة؛ لأنه غير متهم، فننظر إلى كل قضية بعينها، لا سيما إذا وجدت قرائن تؤيد ما شهدوا به فإن هذا يكون نوراً على نور، فعلى هذا القول نقول: هل الأصل القبول أو الأصل المنع؟ إذا قلنا: الأصل القبول صرنا لا نرد شهادتهم حتى نعلم التهمة، وإذا قلنا: الأصل المنع صرنا نمنع شهادتهم حتى توجد قرينة قوية، وهي بروزه في العدالة بحيث لا يشهد إلا بما هو حق، والظاهر أن الأصل التهمة لا سيما في زمننا هذا، وبناءً على ذلك نقول: إذا ثبت أنه مبرز في العدالة، وأنه لا يمكن أن يشهد إلا بحق فحينئذٍ تقبل الشهادة.
وهل تقبل الشهادة على الأصول والفروع؟ نعم، تقبل الشهادة عليهم بنص القرآن قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} [النساء: 135]، وليس في هذا إشكال ولأن التهمة منتفية غالباً، وإلا فيمكن أن يشهد شخص على ابنه بالزور، كأن يكون بينه وبين ولده سوء تفاهم ـ مثلاً ـ وخصام، وعداوة شديدة، ويشهد عليه.
إذن شهادة الأصول للفروع وبالعكس على القول الراجح، أنه إذا صار الأصل أو الفرع مبرِّزاً في العدالة لا تلحقه تهمة فإن الواجب قبول شهادته إذا تمت الشروط؛ لأنه لا يوجد إلا التعليل، والتعليل إذا انتفى انتفى الحكم ولا يوجد دليل على رد الشهادة في عمودي النسب مطلقاً.
قوله: «ولا شهادة أحد الزوجين لصاحبه» الزوجة لا تشهد لزوجها، والزوج لا يشهد لزوجته، فالزوج رجل ذو عدل، والمرأة امرأة ذات عدل، نقول: لا تقبل؛ للتهمة لأن شهادة الزوج لزوجته متهم بها، وشهادة الزوجة لزوجها متهمة بها، وهذا هو الغالب، وغلبته أقل من غلبة الأصول والفروع؛ لأن العداوة بين الأزواج كثيرة أكثر من العداوة بين القرابات، فهي كثيرة جداً، فإذا شهد أحد الزوجين لصاحبه لم يقبل، ونقول في هذه المسألة كما قلنا في المسألة الأولى، بل أولى: إنه إذا كان الزوج أو الزوجة مبرزاً في العدالة فإن الشهادة تقبل، فلو علمنا أن هذا الرجل لا يمكن أن يشهد لزوجته إلا بما هو الحق فإننا نقبل شهادته لها، أو علمنا أن هذه الزوجة لا يمكن أن تشهد لزوجها إلا بما هو الحق فإننا نقبل شهادتها له.
وهل الأصل المنع أو عدمه؟ نقول: كما سبق؛ الأصل عدم المنع، حتى يوجد دليل يدل على امتناع شهادة الزوج لزوجته بغير الحق وبالعكس.
وقوله: «أحد الزوجين» هل يشترط الدخول، أو وإن كان قبل الدخول؟
الجواب: وإن كان قبل الدخول، فإذا شهد لها وقد عقد عليها فإنها لا تقبل، والمخطوبة هل يقبل أن يشهد لها وهي ليست زوجة؟ ربما تكون التهمة أقوى، فقد يشهد لها من أجل أن تمضي في القبول، نقول: ولو كان هذا أمراً واقعاً فإننا نقبله، نعم، لو وجدت قرائن تكذبه فهذا شيء آخر، لكن من حيث هو خاطب فإن ذلك لا يمنع قبول شهادته لمخطوبته ولا شهادتها له ـ أيضاً ـ.
والمطلقة إن كانت قد انتهت عدتها فلا شك في قبول شهادته لها؛ لأنه لا علاقة بينه وبينها، وإن كانت في العدة فإن كانت رجعية فحكمها كالزوجة لا تقبل شهادته لها، وإن كانت بائناً فمحل نظر؛ لأنك إن نظرت إلى أنها معتدة له قلت: إنها مشتغلة ببعض متعلقات النكاح، ولها نوع صلة بالزوج، وإن قلت: إنها بائن قلت: انقطعت العلاقة بينهما.
فإذا كانت الزوجة قد ماتت فهل تقبل شهادته لها؟ يوجد تهمة من جهة الإرث، إذا كان سيشهد بمال فإنه سيجرُّ إلى نفسه نفعاً، أو يدفع عنها ضرراً.
قوله: «وتقبل عليهم» أي: على الأصول، والفروع، والزوجين، فتقبل شهادة الزوج على زوجته، والزوجة على زوجها، مثل أن يشهد على زوجته أنها اعْتَدَتْ على فلان وأتلفت ماله، أو ما أشبه ذلك، نقول: هذا جائز؛ وهل يشهد أنها باعت ملكها على فلان؟ لا يشهد؛ لأن البيع قد يكون للإنسان، وقد يكون عليه؛ فهو له حيث سيطالب المشتري بالثمن، وعليه حيث سيطالبه المشتري بالسلعة.
قوله: «ولا من يجر إلى نفسه نفعاً» فلا تقبل شهادته، كشريكين في مال، فباع أحدهما المال المشترك، ثم إن الأسعار نزلت فادعى المشتري أنه ما اشترى، والشريك يدعي أنه باع على هذا الذي أنكر، فشهد الشريك لشريكه فلا يقبل؛ لأنه يجر إلى نفسه نفعاً؛ لأنه إذا تم البيع استفاد هو؛ لأنه شريك فلا تقبل شهادة الشريك لشريكه فيما هو شريك فيه، كذلك لو شهد الورثة بجُرْح الموروث قبل اندماله يعني برئه، ثم مات المجروح من الجرح فإن شهادتهم لا تقبل؛ لأنهم سيجرون إلى أنفسهم نفعاً بهذه الشهادة وهو الدية، فستكون لهم، أو شهدوا أن زيداً هو الذي جرح مورثهم جرحاً مميتاً، ومات المشهود له، نقول: شهادتكم لا تقبل؛ لأنهم لما شهدوا فهم يجرون إلى أنفسهم نفعاً، إذ سيلزم الجارح دية الميت، وإذا لزمته الدية سيرثها هؤلاء الذين شهدوا، فلا تقبل شهادتهم؛ لأنهم يجرون إلى أنفسهم نفعاً.
قوله: «أو يدفع عنها ضرراً» فلو شهد إنسان شهادة تستلزم أن يدفع ضرراً عن نفسه فما تقبل؛ لأنه متهم، وكل الموانع العلة فيها التهمة، مثاله: جَرْحُ العاقلةِ شهودَ قتلِ الخطأ، كإنسان قتل شخصاً خطأ، يريد أن يرمي صيداً ورماه فأصاب إنساناً ومات، فالجناية الآن خطأ، فالدية على العاقلة، رفعت الدعوى عند الحاكم فأنكر القاتل، فجاء أولياء المقتول بشهود يشهدون بأن فلاناً هو الذي قتله خطأ، فقالت عاقلة القاتل: هؤلاء الشهود فسقة، فما تقبل شهادتهم؛ لأنهم يشهدون بهذه الشهادة لئلا يثبت
القتل فتلزمهم الدية، فشهادتهم هذه تتضمن دفع ضرر عنهم فلا تقبل. والمراد بالعاقلة هنا هم عصبة القاتل خطأ، يعني أبناءه وآباءه وإخوانه وأعمامه وبنوهم.
قوله: «ولا عدوٍّ على عدوه» فلا تقبل شهادة العدو على عدوه؛ لأنه متهم، لكن المراد بالعداوة هنا عداوة الدنيا لا عداوة الدين؛ لأنها لو كانت عداوة الدين لم نقبل شهادة السني على البدعي؛ لأن السني عدو للبدعي ومع ذلك تقبل شهادته عليه، فالمراد العداوة لغير الدين فلا تقبل شهادة العدو على عدوه؛ لأنه متهم، فكل إنسان عدو لشخص يحب أن يلحقه الضرر؛ فلهذا لا نقبل شهادته، وإذا كان السبب في ذلك التهمة فإننا نرجع إلى ما قلنا في الأصول والفروع، وهو إذا كان هذا العدو مبرِّزاً في العدالة، لا يمكن أن يشهد على أي إنسان إلا بحق حتى ولو كان عدوه فإننا نقبل شهادته؛ لعمومات الكتاب والسنة.
وهل تقبل شهادة العدو لعدوه؟ تقبل لزوال التهمة، وقال بعض أهل العلم: لا تقبل شهادة العدو لعدوه؛ لأنه يخشى أن يحابيه ليسلم من شره، وما قول الشاعر عنا ببعيد:
لكن قومي وإن كانوا ذوي عددٍ
…
ليسوا من الشر في شيء وإن هانا
يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرةً
…
ومن إساءة أهل السوء إحسانا
فمن أساء إليهم أحسنوا إليه، ومن ظَلَمَهُم غفروا له، فإن قال قائل: أليست الشريعة المطهرة قد أتت بدفع الأموال للأعداء الذين يخاف شرهم من الزكاة؟
فالجواب: بلى، إذن يمكن للإنسان أن يشهد لعدوه بقصد دفع شره، لهذا لا تقبل لعدوه ولا على عدوه.
ولكن على كل حال هذا التعليل وإن كان مليحاً، لكن فيه شيء من النظر؛ لأننا نقول: احتمال أن يشهد لعدوه من باب المحاباة ودفع الضرر هذا شيء بعيد، وإن كان يقع، والأشياء والاحتمالات العقلية لا تأتي في مثل المسائل العلمية والعملية، فلو أردنا أن نأتي بالاحتمالات العقلية كنا نقول: حتى الشهود العدول الذين ليس فيهم موانع يمكن أن يخطئوا، يمكن أن ينسوا، يمكن أن تحدث عداوة بينهم وبين المشهود عليه.
ولو شهد الصديق لصديقه هل تقبل؟ إن قلنا: لا تقبل شهادة الصديق لصديقه، قلنا للناس: لا يكن بعضكم صديقاً لبعض؛ لأن الصديق لا تقبل شهادته لصديقه! وهذا مشكل؛ لأن معناه أننا نحث الناس على ألا يتصادقوا، وهذا لا يمكن أن يقوله قائل؛ ولذلك ذهب بعض العلماء، ومنهم ابن عقيل من أصحاب الإمام أحمد رحمه الله إلى أنه إذا كانت الصداقة صداقة قوية تصل إلى حد العشق أو ما أشبه ذلك، فإنها لا تقبل شهادته له، قياساً عكسياً على شهادة العدو على عدوه، فالعدو مع عدوه ليس بينهما صلة، والصديق الحميم الشديد الصداقة بينه وبين صديقه صلة قوية؛ لأن بعض الناس مع صديقه ينسى كل شيء، ولا يبالي أن يشهد له بالباطل ولا يهمه، لا سيما إذا وصل الأمر إلى حد العشق، وهذا القياس قوي جداً، أما مطلق الصداقة السائدة بين الناس فلا شك أنها ليست بمانع.
ثم اعلم أن هذا الباب كما قلنا سابقاً: مستثنى من عمومات بعللٍ لا بمسموعات، وهذه العلل قد تقوى على تخصيص العموم، وقد تضعف، وقد تتوسط، فهي مع قوة التخصيص مُخصِّصة، ومع ضعف التخصيص لا تُخصِّص قطعاً، ومع التساوي محل نظر، والقاضي في القضية المعينة يمكنه أن يحكم بقبول الشهادة، أو ردها بهذه الأمور.
وقوله: «ولا عدو على عدوه» فلا تقبل للتهمة، لكن إذا كان مبرزاً في العدالة في جميع الموانع المذكورة فإنها تقبل لزوال التهمة، ودليل ذلك في العدو قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8]، وشنآن بمعنى بغض وعداوة، فلا تحملكم العداوة والبغض على ترك العدل {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} ، فإذا علمنا أن هذا الرجل عادل فإنه إذا شهد على عدوه تكون شهادته مقبولة، كما إذا حكم عليه.
كَمَنْ شَهِدَ عَلَى مَنْ قَذَفَهُ، أَوْ قَطَعَ الطَّرِيقَ عَلَيْهِ، وَمَنْ سَرَّهُ مَسَاءَةُ شَخْصٍ، أَوْ غَمَّهُ فَرَحُهُ فَهُوَ عَدُوُّهُ.
قوله: «كمن شهد على من قذفه، أو قطع الطريقَ عليه» هذان مثالان للعداوة، فما ذكره المؤلف مثالاً لا حصر، رجل مقذوف والمقذوف هو الذي رُمِيَ بزنا أو لواط، ومعروف أن الزنا واللواط يخدشان كرامة الإنسان، ويسقطانه من أعين الناس، ويستبيحان عرضه، فإن الناس يتكلمون فيه، فإذا قذف رجل شخصاً بالزنا، ثم في يوم من الأيام شهد المقذوف على من قذفه بالزنا، فإن الشهادة لا تقبل؛ لأن قذفه إياه بالزنا سببٌ للعداوة، أما من شهد بأن فلاناً قذفه فليس هذا مراد المؤلف؛ لأن هذا ليس بشاهد ولكنه مدعٍ.
وقوله: «أو قطع الطريق عليه» قطع الطريق أن يتعرض الإنسان للناس بالسلاح، سواء في البر أو في البلد؛ لأجل أخذ المال منهم غصباً ومجاهرة لا سرقة فهؤلاء هم قطاع الطريق، كما كان في البادية في الزمن السابق يقفون للناس على الطرقات ثم يغصبونهم المال غصباً مجاهرة، وإذا مانع أحد فإنهم ربما يقتلونه، وقد سبق لنا بيان حدهم الذي أوجب الله ـ تعالى ـ عليهم، فإذا شهد رجل على من قطع الطريق عليه، نقول: إن شهادته لا تقبل؛ من أجل التهمة، ولكن كما أسلفنا إذا كان الإنسان عدلاً مبرزاً في العدالة لا يمكن أن يشهد إلا بالحق فإن شهادته تقبل. وقول المؤلف رحمه الله (كمن شهد) الكاف للتشبيه وعلى هذا فما ذكره مثال لا حصر.
ثم قال مبيناً حد العداوة: «ومن سره مساءةُ شخص أو غَمَّه فرحُه فهو عدوه» هذه العبارة تعتبر ضابطاً في تعريف العداوة، لكن بشرط أن يكون هذا الشيء لشخص معين إذا أتاه ما يسره أساء الآخر، وإذا فرح فإنه يغتم، وليس المراد إذا كان هذا عادة الإنسان مع جميع الناس؛ لأنه لو كان كذلك لكان الحاسد لا تقبل شهادته؛ لأن الحاسد ـ نعوذ بالله من الحسد ـ يسره مساءة الناس، ويغمه فرحهم، كما قال الله تعالى:{أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 54]، وقال تعالى:{وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء: 32]، فكثير من الناس ـ والعياذ بالله ـ قلبه مملوءٌ من الحسد، إذا أتى الناس ما يسوؤهم ـ وإن كان لا علاقة له بهم ـ فإنه يُسَرُّ، وإذا حصل لهم فرح فإنه
يساء ويغتم، فهذا ليس مراد المؤلف، بل مراده إذا كان شخصاً معيناً؛ ولهذا قال:«مساءة شخص» ولم يقل: مساءة الشخص على سبيل العموم، إذاً إذا علمنا أن هذا الرجل إذا أصاب فلاناً ما يسوؤه فرح وسُرَّ بذلك وصار يتحدث للناس: أفرأيتم ما حصل لفلان، وما حصل لفلان، وما حصل لفلان، وإذا حصل له سرور وفرح اغتم، فهذا عدو؛ لأن الصديق يفرح لفرحك ويغتم لغمك.
على كل حال هذه المسألة في الحقيقة لو أنها وكلت إلى القضاة وقيل: إن الحاكم بإمكانه أن يعرف الأمور بالقرائن لكان هذا له وجه؛ لأن الضابط هنا مشكل، فإذا قلنا: إن التهمة هي المانع فالتهمة قد تقوى وقد تضعف وضبطها مشكل، لكن لو قلنا: إن القاضي ينظر في كل مسألة وفي كل قضية بعينها ويحكم بما أراه الله عز وجل لكان هذا له وجه.
قال في الروض
(1)
: «ولا ـ أي: لا تقبل ـ شهادة من عرف بعصبية، وإفراط في حمية، كتعصب قبيلة على قبيلة، وإن لم تبلغ رتبة العداوة» ، هذه كثيراً ما تقع خصوصاً في البادية، بعض الناس ـ والعياذ بالله ـ عنده عصبية وحمية لقبيلته، وعصبية وحمية على قبيلة آخرين، فتجده يشهد لقبيلته سواء كان عالماً بما شهد به أم لم يعلم، ويشهد على قبيلة أخرى سواء كان عالماً أو لم يعلم، هذا يقول المؤلف: لا تقبل شهادته، فإذا عرف أن هذا الرجل متعصب لقبيلته يشهد لها بالحق، وبالباطل، ومتعصب على قبيلة أخرى يشهد عليها بالحق وبالباطل، فإن شهادته لا تقبل.
* * *
(1)
الروض المربع مع حاشية ابن قاسم (7/ 605).
فَصْلٌ
وَلَا يُقْبَلُ فِي الزِّنَا وَالإِقْرَارِ بِهِ إِلاَّ أَرْبَعَةٌ، وَيَكْفِي عَلَى مَنْ أَتَى بَهِيمَةً رَجُلَانِ، وَيُقْبَلُ فِي بَقِيَّةِ الْحُدُودِ، وَالْقِصَاصِ، وَمَا لَيْسَ بِعُقُوبَةٍ وَلَا مَالٍ، وَلَا يُقْصَدُ بِهِ الْمَالُ، وَيَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ غَالِباً، كَنِكَاحٍ، وَطَلَاقٍ، وَرَجْعَةٍ، وَخُلْعٍ، وَنَسَبٍ، وَوَلَاءٍ، وَإِيْصَاءٍ إِلَيْهِ يُقْبَلُ فِيهِ رَجُلَانِ،
................
هذا الفصل عقده المؤلف لبيان عدد الشهود، وعدد الشهود إما أن يكون أربعة، أو ثلاثة، أو اثنين، أو واحداً، أو رجلاً وامرأتين، أو رجلاً واحداً ويمين المدعي، كل هذا سيذكره المؤلف، فالذي لا بد فيه من أربعة هو الزنا، قال رحمه الله:
«ولا يقبل في الزنا والإقرار به إلا أربعة» قوله: «أربعة» مؤنثة فيكون المعدود مذكراً، يعني إلا أربعة رجال، فالزنا لا يقبل فيه إلا أربعة رجال، دليل ذلك قوله تعالى:{لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ} ، أي: الأربعة، {فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور: 13]، فلو شهد ثلاثة وتوقف الرابع فإن الشهادة لا تتم، ونجلد أولئك الشهود الثلاثة حد القذف، أما المتوقف فإننا لا نجلده ولكن لنا أن نعزره، فلو جاء أربعة يريدون أن يشهدوا على رجل بزنا، وسبق أنه لا بد من التصريح بالزنا، فصرح ثلاثة، قالوا: رأينا ذكر الرجل في فرج هذه المرأة، أما الرابع فتوقف، فإن الثلاثة الأولين قذفة يجلدون كل واحد ثمانين جلدة، والرابع يعزر؛ لأنه لم يصرح بالزنا.
ولو شهدت ثماني نساء لا تقبل شهادتهن؛ لأنه لا مدخل للنساء في الحدود، فالحدود لا يقبل فيها إلا شهادة الرجال فقط، ولو شهد أربعة غير بالغين فلا تقبل شهادتهم لفوات الشرط وهو البلوغ.
وقوله: «والإقرار به» الإقرار بالزنا لا بد فيه من أربعة رجال يشهدون بأن فلاناً أقر بالزنا عندهم، فلا يقبل رجلان ولا ثلاثة؛
لأن الإقرار بالزنا موجب للحد، والشهادة تثبت الإقرار، وإذا كانت الشهادة هي التي تثبت الإقرار ـ وهو موجب للزنا ـ فلا بد من أربعة رجال يشهدون به.
قوله: «ويكفي على مَنْ أتى بهيمةً رجلان» يعني لو شهد رجلان على شخص بأنه أتى بهيمة كفى، وماذا نصنع بهذا الشخص؟ يعزر وتقتل البهيمة، فإن كانت له فقد فاتت عليه، وإن كانت لغيره لزمه ضمانها لصاحبها.
قوله: «ويقبل في بقية الحدود، والقصاص، وما ليس بعقوبة، ولا مال، ولا يقصد به المال، ويطلع عليه الرجال غالباً، كنكاح، وطلاق، ورجعة، وخلع، ونسب، وولاء، وإيصاء إليه يقبل فيه رجلان» العدد المطلوب في هذه الأشياء رجلان اثنان، فالنساء لا مدخل لهن فيه، لكن انتبه للشروط، يقول:«الحدود والقصاص» هذان اثنان «وما ليس بعقوبة ولا مال ولا يقصد به المال ويطلع عليه الرجال» وهذه ثلاثة «ما ليس بعقوبة» لأن العقوبة سبق أنها إن كانت زنا يشترط أربعة رجال «ولا مال» لأن المال سيأتي ما يكفي فيه من الشهود «ولا يقصد به المال» كذلك سيأتي ما يكفي فيه، «ويطلع عليه الرجال» ؛ وسيأتي ما يكفي فيه، فالمال وما
يقصد به يكفي فيه رجلان أو رجل وامرأتان، أو رجل ويمين المدعي، وسيأتي، والذي يطلع عليه النساء غالباً يكفي فيه امرأة واحدة، كالطلاق والرجعة، وبعضهم يقول: الطلاق والرجعة لا بد من شهود وسيأتي في كلام المؤلف أيضاً، ولا بد أن نعرف محترزات هذه القيود.
فقوله: «ما ليس بعقوبة» خرج به ما كان عقوبة، وبينته رجلان، كالحدود، والقصاص.
وقوله: «ولا مال» خرج به ما كان مالاً.
وقوله: «لا يقصد به المال» أيضاً خرج به ما يقصد به المال فبينته بينة المال وسيأتي.
وقوله: «ويطلع عليه الرجال غالباً» خرج به ما يطلع عليه النساء غالباً، وستأتي بينته في كلام المؤلف.
وقوله: «كنكاح» النكاح لا بد فيه من رجلين، فلو شهد به أربعة نساء، وقالوا: نشهد أن فلاناً عقد له على فلانة، فإن ذلك لا يقبل، وكذلك رجل وامرأتان لا يقبل.
وقوله: «وطلاق» فلا بد فيه من رجلين فلو شهد به امرأتان لم يحكم به، حتى وإن كانت المرأتان في البيت، فلو شهدت امرأتان بأن فلاناً طلق زوجته وليس عنده إلا المرأتان، فإن الطلاق لا يقع إذا أنكره الزوج؛ لأنه لا بد فيه من رجلين، قالوا: الدليل قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2]، وأما النساء فيقال ذواتي كما قال الله تعالى:{ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ} [سبأ: 16]، فهذا يدل على أن لا بد فيه من الرجال.
وقوله: «ورجعة» كذلك ـ أيضاً ـ الرجعة، وهي إعادة المطلقة إلى النكاح تكون في الطلاق الأول وفي الثاني، لا في الثالث، ولا في الطلاق على عوض، ولا في الفسخ لعيب، فلا تكون إلا في الطلاق الذي لم يتم به العدد.
وقوله: «وخلع» وهو مفارقة الزوجة بعوض منها أو من غيرها فيكفي فيه رجلان.
وقوله: «كنكاح وطلاق ورجعة وخلع ونسب وولاء وإيصاء إليه» يعني في غير مال يقبل فيه رجلان، وأكثر المؤلف من الأمثلة للأهمية، فالنكاح ليس عقوبة، ولا مالاً، ولا يقصد به المال، ويطلع عليه الرجال، والطلاق كذلك، والرجعة كذلك، والخلع كذلك، وهذا ما مشى عليه المؤلف، على أن بعض أهل العلم يقول: إن الطلاق والرجعة مما يطلع عليه النساء غالباً.
وقوله: «ونسب» النسب يعني القرابة وهي الصلة بين إنسانين بولادة، فالأخوة نسب، والأبوة نسب، والأمومة نسب، والعمومة نسب، فإذا قال رجل: إن هذا ولدي، أي: ادعى أنه ولده وليس للولد نسب معروف، فلا تقبل دعوى هذا الرجل إلا برجلين شاهدين؛ لأن النسب ليس مالاً، ولا عقوبة، ولا يقصد به المال، ويطلع عليه الرجال غالباً.
وقوله: «وولاء» الولاء سببه العتق، فإذا أعتق الإنسان عبداً مملوكاً صار ولاؤه له، فإذا ادعى شخص أن هذا العتيق ولاؤه له، فقال: ولاء هذا العتيق لي، وليس له مولى معروف، ماذا نقول لهذا المدعي؟ نقول: ائتِ برجلين يشهدان بأن الولاء لك، ويكون لك.
وقوله: «وإيصاء إليه» المؤلف رحمه الله أطلق الإيصاء، وصاحب الروض قيدها في غير مال
(1)
، وهذا القيد قد ندعي أنه معلوم من كلام المؤلف؛ لأنه قال:«ليس بمال ولا يقصد به المال» وعلى هذا يكون إيصاء في غير المال، مثل أن يوصي إليه بالنظر في حق أولاده الصغار، قال: أوصيت إلى فلان يلاحظ أولادي الصغار ويقوم بتربيتهم، أو يوصي إليه بتزويجه بناته على القول بأن ولاية النكاح تستفاد بالوصاية، والمسألة سبق لنا أن فيها خلافاً، وأن الصحيح أن الولي في النكاح إذا مات سقطت ولايته أصلاً وفرعاً، وأن ولاية النكاح لا تستفاد بالوصاية، فيكون قول المؤلف «إيصاء» يعني في غير المال، مثل إيصاء في النكاح، إيصاء في النظر على الأولاد، فلا بد فيه من رجلين، فإذا جاءنا إنسان بعد الموت، وقال: إن ميتكم أوصى إلي بأن أزوج أخواتكم ـ أي: بناته ـ فإذا طلبنا البينة منه نطلب رجلين، فلو أتى برجل واحد ما نقبل.
وَيُقْبَلُ فِي الْمَالِ وَمَا يُقْصَدُ بِهِ كَالْبَيْعِ، وَالأَجَلِ، وَالْخِيَارِ فِيهِ، وَنَحْوِهِ رَجُلَانِ، أَوْ رَجُلٌ وامْرَأَتَانِ، أَوْ رَجُلٌ وَيَمِينُ الْمُدَّعِي،
.......
قوله: «ويقبل في المال وما يقصد به كالبيع، والأجل، والخيار فيه ونحوه» يعني وشبهه مثل القرض، والرهن، والغصب، والإجارة، والوقف، والمساقاة، والمزارعة، والشركة، كل المعاملات المالية، أو ما يتعلق بها من شروط، أو أوصاف كلها تسمى مالاً، أو يقصد بها المال، فهذه بينتها أوسع البينات؛
(1)
الروض المربع من حاشية ابن قاسم (7/ 609).
والحكمة أن التعامل بها أكثر المعاملات، ولو نسبت المعاملات في الأنكحة إلى المعاملات في البيوع لوجدت البيوع أكثر بلا شك، ولهذا من حكمة الله عز وجل ورحمته أنه وسع البيِّنة في الأموال لكثرة تلبس الناس بها.
قوله: «رجلان أو رجل وامرأتان أو رجل ويمين المدعي» ثلاثة أنواع من البينات: رجلان، أو رجل وامرأتان، أو رجل ويمين المدعي، والدليل قوله تعالى:{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] أما رجل ويمين المدعي فلحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالشاهد ويمين المدعي
(1)
، وحكم الرسول عليه الصلاة والسلام حكم ودليل؛ لأنه مشرِّع عليه الصلاة والسلام.
وهل يقدم الشاهد أو تقدم اليمين؟ يقدم الشاهد فنقول للمدعي: أحضر الشاهد، فإذا شهد نقول: احلف، فلو حلف قبل إحضار الشاهد لم يجزئ، وإنما كان الأمر كذلك؛ لأنه إذا أتى بشاهد فنصاب الشهادة لم يتم، لكن ترجح جانب المدعي بإحضار هذا الشاهد، ولما ترجح جانبه صارت اليمين في جانبه؛ لأن اليمين إنما تشرع في جانب أقوى المتداعيين، ولهذا سبق في القسامة أن اليمين تكون في جانب المدعي؛ لأن معه قرينة ظاهرة تدل على صدقه، فهذه ثلاثة أنواع من البينات كلها تثبت الدعوى في المال.
(1)
سبق تخريجه ص (336).
ولننظر أمثلة المؤلف:
البيع: ادعى شخص أن فلاناً باع عليه سيارته وأنكر فلان أنه باع، نقول للمدعي: هات البينة، وهي رجلان، أو رجل وامرأتان، أو رجل ويمين المدعي، فإن أتى برجلين يشهدان على وقوع البيع يحكم له بذلك، أو أتى برجل وامرأتين يحكم له بذلك.
فإذا قال قائل: كيف تشهد المرأتان؟ كيف تتكلم المرأة عند القاضي؟ فالجواب: تتكلم عند القاضي؛ لأن صوتها ليس بعورة.
فإذا لم يأتِ لا برجلين، ولا برجل وامرأتين، لكن أتى برجل واحد، وقال: ما عندي غير هذا الرجل، نقول: يحتاج هذا الرجل إلى تقوية وهي اليمين، دعه يشهد وأنت تقوي شهادته بيمينك؛ لأن اليمين ـ كما قررنا سابقاً ـ تكون في جانب أقوى المتداعيين، والمدعي الآن جانبه صار أقوى من المنكر؛ لأن المنكر ليس معه إلا الأصل وهو عدم البيع، لكن المدعي صار معه شاهد، والشاهد أقوى من الأصل، فلما قوي جانبه بالشاهد قلنا له: احلف، ولهذا لو حلف قبل إقامة الشاهد ما نفع، فلا بد أن يأتي أولاً بالشاهد ويشهد ثم يحلف.
وهل يلزمه أن يحلف أن شاهده صادق، فيقول: والله لقد باع عليَّ فلان كذا وكذا، ووالله إن شاهدي لصادق؟ الجواب: لا يلزم؛ لأن تصديق الشاهد، أو عدمه يرجع إلى القاضي وليس إليه.
فصارت البينات في المال وما يقصد به ثلاثاً، فلو أتى
بأربع نساء فإنه لا يقبل على المشهور من المذهب، ولو أتى بامرأتين ويمين فإنه لا يقبل، ولو أتى بامرأة ويمين من باب أولى ألا يقبل، وقال بعض أهل العلم: بل إن المرأتين تقومان مقام الرجل إلا في الحدود؛ من أجل الاحتياط لها، واستدل هؤلاء بعموم قول الرسول صلى الله عليه وسلم:«أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل»
(1)
وأطلق ولم يفصل، ثم إن الله ـ تعالى ـ ذكر العلة في اشتراط العدد في النساء، وهي أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى، ولم يذكر أن العلة المال، بل العلة أن تقوى المرأة بالمرأة فتذكِّرَها إذا نسيت، وهذا يكون في الشهادة في الأموال وفي غير الأموال، إلا ما سُلِكَ فيه طريق الاحتياط، ويكون كذلك في المرأة معها رجل أو ليس معها رجل، وهذا القول هو الراجح، فالقول الصحيح أن المرأتين تقومان مقام الرجل مطلقاً، إلا في الحدود للاحتياط لها؛ لقوله تعالى:{ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] فهو نص صريح في وجوب الذكورية، إذاً المال يثبت برجلين، وأربع نساء، ورجل وامرأتين، ورجل ويمين المدعي، وامرأتين ويمين المدعي، واختار شيخ الإسلام ـ أيضاً ـ وامرأة ويمين المدعي، فقال: إن المرأة إذا كانت ذاكرة للشهادة ومتيقنة، فالعلة التي ذكرها الله عز وجل وهي أن تضل إحداهما انتفت، فتكون طرق إثبات المال ستة، والسابعة القرائن الظاهرة،
(1)
أخرجه البخاري في الحيض/ باب ترك الحائض الصوم (304)، ومسلم في الإيمان/ باب بيان نقصان الإيمان بنقص الطاعات
…
(80) وهذا لفظ البخاري.
وسبق لنا منها أمثلة: كرجل هارب بيده غترة وعلى رأسه غترة، وآخر يلحقه يرفع صوته وليس على رأسه شيء، يقول: أعطني غترتي، فهنا الظاهر مع المدعي فيحلف مع القرينة الظاهرة، أو تنازع الرجل والمرأة في أواني البيت، فقال الرجل: الدلال لي، وقالت المرأة: بل هي لي، فالظاهر مع الرجل، فهو صاحب الدلال، لكن لو تنازع في أمر يحتمل أن يكون مما تأتي به النساء، ومما يأتي به الرجال، كالفرش فأحياناً يحضرها الرجل، وأحياناً تحضرها المرأة، تحب أن يكون مجلسها أمام النساء جيداً وطيباً، فإذا تنازع الرجل والمرأة فيها، فهنا إذا كان يغلب على الظن أنها للمرأة تحلف وتأخذه، فتبين أن المال أوسع الأشياء في البينات.
وقوله: «والأجل» الأجل في البيع إما أن يدعيه البائع أو المشتري، كما لو اشترى شخص من فلان بيتاً، وادعى أن الثمن مؤجل إلى سنة وأنكر البائع، فالمدعي هنا المشتري، نقول: هات بينة، وبينتك كما ذكر المؤلف، وقد يكون الذي يدعي التأجيلَ البائعُ، كما في السلم ـ مثلاً ـ وهو تعجيل الثمن وتأخير المثمن، فالذي يدعي الزيادة في الأجل ـ مثلاً ـ البائع، ويقول المشتري: إن أجل السلم إلى سنة، ويقول البائع: بل أجل السلم إلى سنتين، وعلى كلٍّ، فمدعي الأجل سواء البائع، أو المشتري، أو المستأجر، أو المؤجر بينته أحد ثلاثة الأمور التي ذكرها المؤلف؛ لأنه مما يقصد به المال.
مثال آخر: القرض: ادعى زيد أنه أقرض شاكراً مائة ريال
وأنكر شاكر، فنقول للمدعي: هات البينة، وهي أحد ثلاثة الأمور التي ذكرها المؤلف: رجلان، أو رجل وامرأتان، أو رجل ويمين المدعي.
وقوله: «والخيار فيه» أي: في البيع، يعني بأن يدعي المشتري أو البائع أنه شرط الخيار ليفسخ فينكر صاحبه، فهنا تكون البينة إما رجلين، أو رجلاً وامرأتين، أو رجلاً ويمين المدعي؛ لأن الخيار مما يقصد به المال.
وقوله: «ونحوه» يعني نحو هذه الأشياء التي تتعلق بالمال، كالقرض، والسلم، والإجارة، والرهن، والوقف، وغير ذلك، فكل ما يتعلق بالمال بينته واحد من أمور ثلاثة، وهي: رجلان، أو رجل وامرأتان، أو رجل ويمين المدعي، وسبق لنا هل تجزئ المرأتان عن الرجل فيما إذا كان هناك يمين للمدعي؟ ذكرنا أن شيخ الإسلام يرى أنها تجزئ، وكذلك لو كان أربع نساء، هل تجزئ شهادتهن بدل الرجلين؟ ذكرنا أن في ذلك خلافاً وأن الراجح قبول ذلك، وأنها تجزئ وهل تقبل دعوى المدعي إذا أتى بشاهدين بكل حال؟
نقول: لا تقبل بكل حال وقد سبق أن ذكرنا أن لدعوى المدعي شروطاً ستة منها: إمكان صحة الدعوى، فإذا لم يمكن فلا تقبل كما لو قال رجل: إن فلاناً باع علي بيته منذ أربعين سنة والبائع ليس له من العمر إلا عشرين سنة، فهذه الدعوى لا تسمع.
وهل الحالف في القسامة آثم؟
لا يأثم لأن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل القرينة الظاهرة مجوزة لليمين.
ومَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ، كَعُيُوبِ النِّسَاءِ تَحْتَ الثِّيَابِ، وَالْبَكَارَةِ وَالثُّيُوبَةِ، وَالْحَيْضِ، وَالْوِلَادَةِ، وَالرَّضَاعِ، وَالاِسْتِهْلَالِ وَنَحْوِهِ تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ امْرَأَةٍ عَدْلٍ. وَالرَّجُلُ فِيهِ كَالْمَرْأَةِ، وَمَنْ أَتَى بِرَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، أَوْ شَاهِدٍ وَيَمِينٍ فِيْمَا يُوجِبُ الْقَوَدَ لَمْ يَثْبُتْ بِهِ قَوَدٌ وَلَا مَالٌ، وَإِنْ أَتَى بِذَلِكَ فِ
ي سَرِقَةٍ ثَبَتَ الْمَالُ دُونَ الْقَطْعِ، وَإِنْ أَتَى بِذَلِكَ فِي خُلْعٍ ثَبَتَ لَهُ الْعِوَضُ، وَتَثْبُتُ الْبَيْنُونَةُ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ.
قوله: «وما لا يطلع عليه الرجال» أي: غالباً؛ لأن الرجال قد يطلعون على ما ذكره، لكن الغالب أن الذي يطلع على هذه الأمور النساء، وقوله:«ما» اسم موصول خبره قوله: «تقبل فيه شهادة امرأة» .
قوله: «كعيوب النساء تحت الثياب» مثل برص أو نحوه، فعيوب النساء تحت الثياب لا يطلع عليها إلا النساء غالباً، فإذا شهدت امرأة أن هذه الزوجة التي تزوجها الرجل فيها برص تحت ثيابها حكم بثبوته، وحينئذٍ يكون للزوج الفسخ، ويرجع بالمهر على من غرَّه كما سبق.
قوله: «والبكارة، والثيوبة» قد يحصل نزاع بين الزوج والزوجة في كونها بكراً أو ثيباً، فشهدت امرأة بوجود البكارة فتقبل شهادتها في ذلك؛ لأن هذا لا يطلع عليه إلا النساء غالباً، أو شهدت بأنها ثيب فإنها تقبل شهادتها؛ لأن هذا لا يطلع عليه إلا النساء غالباً، فلو ادعت المرأة أن زوجها لا يقدر على الجماع، فقال الزوج: إنه يقدر وأنه جامع فعلاً، نأتي بامرأة تطلع على المرأة، فإذا وجدتها ثيباً نحكم بأنها موطوءة، كذلك العكس لو ادعى الرجل أن المرأة ليست بكراً وقد اشترط أنها بكر، فقالت هي: بل هي بكر، فأتت بامرأة تشهد فإننا نقبل شهادتها.
قوله: «والحيض» فالحيض لا يطلع عليه إلا النساء غالباً،
ولهذا الإنسان لا يعرف أن أمه حائض، ولا أن أخته حائض، ولا عمته ولا جدته، فالذي يطلع هن النساء، تجد المرأة تعرف أن هذه المرأة حائض.
فالحيض نحتاج إلى الشهادة فيه عندما تدعي المرأة أن عدتها انقضت في وقت قصير يبعد أن تنقضي العدة بمثله، فهنا نحتاج إلى بينة تشهد بأن عدتها انقضت بالحيض.
قوله: «والولادة» أيضاً لا يطلع على الولادة إلا النساء غالباً، مثل أن تدعي المرأة أنها ولدت وأسقطت، والزوج يقول: لا، وتأتي بامرأة تشهد بأنها أسقطت ولداً، فتقبل شهادة امرأة واحدة.
قوله: «والرضاع» بأن تشهد امرأة على أن هذا الطفل رضع من فلانة خمس رضعات، فتقبل شهادة المرأة الواحدة، حتى وإن كان على فعلها، فلو شهدت امرأة بأنها أرضعت فلاناً فإنها تقبل شهادتها.
قوله: «والاستهلال» أي صُراخ المولود، فإذا ادعت أن الولد استهل وأنكر غيرها، وأتت بامرأة تشهد بذلك قبلت شهادتها، مثاله: امرأة مات عنها زوجها وهي حامل، ولزوجها أخ شقيق فولدت هذه المرأة ذكراً، وإن استهل حجب الأخ الشقيق، فإن لم يستهل فإن التعصيب للأخ الشقيق، وإذا استهل يكون للزوجة الثمن، وللمولود الباقي ثم ترجع ترث منه؛ لأنها أمه، وإن لم يستهل فللزوجة الربع والباقي للأخ الشقيق الذي هو عم الجنين، فأتت بامرأة تشهد بأن هذا الطفل لما نزل من بطن أمه صرخ، فتقبل الشهادة ويرث الطفل.
قوله: «ونحوه» مثل عيوب النساء كالقرن، والعفل، والفتق، والاستحاضة، وغير ذلك مما لا يطلع عليه إلا النساء.
قوله: «تقبل فيه» أي: في هذا الذي لا يطلع عليه إلا النساء غالباً.
قوله: «شهادة امرأة عدل» ولماذا لم يقل: عدلة؟ لأن «عدل» مصدر، والمصدر لا يؤنث، قال ابن مالك ـ رحمه الله تعالى ـ:
ونعتوا بمصدرٍ كثيرا
فالتزموا الإفراد والتذكيرا
وكذلك: الجراحة، أو الضرب، أو العدوان في حفل عرس ليس فيه إلا النساء تقبل فيه شهادة امرأة.
ودليل هذه المسألة: قصة المرأة التي شهدت أنها أرضعت المرأةَ وزوجَها، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بفراقها، وقال:«كيف وقد قيل»
(1)
؟!
قوله: «والرجل فيه كالمرأة» إذا شهد الرجل في هذه الأشياء قُبِل من باب أولى؛ لأن شهادة الرجل أقوى من شهادة المرأة، وإنما سومح بشهادة المرأة؛ لأن الغالب أن الرجال لا يطلعون على ذلك، فإذا قُدِّر أن رجلاً اطلع على هذا فإنه يقبل.
ثم ذكر المؤلف ثلاث مسائل: واحدة يتبعض فيها الحكم بمقتضى الشهادة، والثانية يتبعض بمقتضى الإقرار والشهادة أيضاً، والثالثة لا يتبعض، فقال:
(1)
سبق تخريجه ص (407).
«ومن أتى برجل وامرأتين أو شاهدٍ ويمينٍ فيما يوجب القود لم يثبت به قود ولا مال» كشخص أتى برجل وامرأتين يشهدون بأن فلاناً قاتِلُ هذا الرجل عمداً، فهنا لا نقبل شهادتهم، ولا يثبت المال؛ لأن هذا من باب القصاص الذي لا يقبل فيه إلا رجلان، والمال فرع عن القصاص، فالأصل في العمد القصاص، فلو أتى برجل وامرأتين في موضِحة وهي الشجة في الرأس، أو في الوجه التي تبرز العظم؛ أي: توضحه، ففيها قصاص؛ لأنه يمكن أن نقتص من الجاني فلا تقبل شهادتهم لأن الموضحة فها قصاص والقصاص ليس بمال.
لكن لو أتى برجل وامرأتين أو شاهد ويمين المدعي في دامغة وهي التي توضح العظم، وتهشمه، وتكسره حتى تصل إلى أم الدماغ، فهذه ليس فيها قصاص، فإن الشهادة تقبل، وهذا من الغرائب، فلو قيل لك: أيهما أعظم الموضحة، أو المأمومة؟ الجواب: المأمومة أشد، ومع ذلك المأمومة تقبل الشهادة فيها والموضحة لا تقبل.
قوله: «وإن أتى بذلك في سرقة ثبت المال دون القطع» هنا تبعَّض الحكم «إن أتى بذلك» أي برجل وامرأتين، أو رجل ويمين المدعي ثبت المال دون القطع، قال: إن فلاناً سرق مني مائة درهم، قلنا له: هات الشهود، فأتى برجل وامرأتين يشهدون بأن فلاناً سرق منه مائة درهم، والسرقة توجب شيئين: الحد وهو قطع
اليد، وضمان المال للمسروق منه، فهذا الرجل المسروق منه أتى برجل وامرأتين يشهدون بأن فلاناً سرق منه، نقول: يثبت المال دون القطع، يعني أننا لا نقطع السارق ونضمِّنه المال، كيف يكون فعل واحد يوجب شيئين فنثبت أحدهما دون الآخر؟! الجواب: لأن هذا الفعل يوجب الحد لله، والضمان للمسروق منه، وهنا قلنا: إنه يثبت المال ولا يثبت القطع؛ لأن المال وجد فيه نصاب البينة وهي رجل وامرأتان، فثبت، وأما القطع فهو حد لا يثبت إلا برجلين ولم يوجد رجلان، وعلى هذا فنصاب الشهادة لم يتم فيتبعض الحكم، وهكذا القواعد الشرعية فإن الأحكام قد تتبعض، فما وجد سببه ثبت وما لم يوجد لم يثبت.
قوله: «وإن أتى بذلك في خلعٍ ثبت له العوض، وتثبت البينونة بمجرد دعواه» كرجل ادعى أن زوجته خالعته بعشرة آلاف، قلنا له: هات البينة، فأتى برجل وامرأتين، نقول: يثبت المال ولا يثبت الخلع، فيثبت المال لوجود بينة المال، وهي رجل وامرأتان، ولا يثبت الخلع؛ لأن الخلع لا بد فيه من رجلين، ولكن يثبت بطريق آخر وهو إقراره به؛ لأنه ادعى أنها خالعته فيكون مقراً بذلك، ولهذا قال:«تثبت البينونة بمجرد دعواه» ؛ لأنه لما قال: إنها خالعته اقتضى البينونة، وأنها لا تحل له إلا بعقد، فهنا الحكم ثبت لكن بسببين: المال ثبت بسبب الشهود، الرجل والمرأتين، والبينونة ثبتت بإقراره؛ لأن دعواه إقرار، فلو ادعى أنها خالعته بعشرة آلاف ريال، وليس عنده إلا
امرأتان وأتى بهما، فلا يثبت المال؛ لأنه لم تتم بينته، وعلى المذهب المرأتان لا تكفيان مع اليمين، والخلع يثبت بإقراره؛ لأنه أقر أن المرأة مخالعة، وأنها لا تحل له، انظر الدقة في الأحكام؛ لأنه يمكن لأحد أن يقول: كيف تقولون: يثبت الخلع وهو ما أُعطي شيئاً؟! نقول: دعواه الخلع تتضمن شيئين: تتضمن إقراراً على نفسه بالبينونة، ودعوى على المرأة بالعوض، الدعوى على المرأة بالعوض ما وجدنا لها بينة، والإقرار بأنها بانت منه نحكم به لأن دعواه بأنها خالعته هو إقرار على نفسه.
ولو ادعت أن زوجها خالعها بعشرة آلاف ريال، وأتت برجل وامرأتين فلا يقبل ولا يثبت الخلع ولا المال؛ لأن ثبوت المال عليها فرع عن ثبوت الخلع، والخلع هنا لم يثبت.
* * *
فَصْلٌ
هذا الفصل عقده المؤلف رحمه الله للشهادة على الشهادة، ولا يبعد عن ذهنك تذكر كتاب القاضي إلى القاضي، فهنا فرعان: فرع في الحكم في كتاب القاضي إلى القاضي، وفرع في الشهادة وهو الشهادة على الشهادة.
والشهادة على الشهادة نحتاج إليها للأمور الآتية:
أولاً: لنفرض أن الشهود في مكان بعيد عن مكان القضاء، في بادية، والشهود لا يتمكنون من أن يذهبوا إلى القاضي.
ثانياً: ربما يكون الشهود في البلد لكنهم مرضى لا يستطيعون الحضور، فنحتاج إلى الشهادة على الشهادة.
ثالثاً: ربما يكون الشهود الأصل يخافون على أنفسهم إذا شهدوا، فنحتاج إلى الشهادة على الشهادة.
رابعاً: ربما يكون المشهود عليه من أقارب الشاهد الأصلي، ولا يحب أن يظهر أمام الناس أنه شاهد عليه، فيحمِّلُ الشهادةَ غيرَهُ.
هذه أربعة أسباب وربما يكون هناك أسباب أخر، المهم أن الحاجة بل الضرورة أحياناً تدعو إلى الشهادة على الشهادة.
مثال الشهادة على الشهادة: أنا أشهد أن زيداً يطلب عمراً مائة ريال، فقلت لآخر: اشهد على أني أشهد أن لزيد على عمرو مائة ريال، أو اشهد على شهادتي على عمرو؛ لأن المقصود المعنى، والصيغة لا تهم، وهل الشهادة على الشهادة تجوز في كل شيء؟ الجواب: لا، بل لا بد فيها من شروط، ولهذا يقول المؤلف:
وَلَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ، إِلاَّ فِي حَقٍّ يُقْبَلُ فِيهِ كِتَابُ الْقَاضِي إِلَى الْقَاضِي، وَلَا يُحْكَمُ بِهَا إِلاَّ أَنْ تَتَعَذَّرَ شَهَادَةُ الأَصْلِ بِمَوْتٍ، أَوْ مَرَضٍ، أَوْ غَيْبَةٍ مَسَافَةَ قَصْرٍ، وَلَا يَجُوزُ لِشَاهِدِ الْفَرْعِ أَنْ يَشْهَدَ إِلاَّ أَنْ يَسْتَرْعِيَهُ شَاهِدُ الأَصْلِ،
............
«ولا تقبل الشهادة على الشهادة إلا في حق يُقبل فيه كتاب القاضي إلى القاضي» هذا الشرط الأول، فيشترط للشهادة على الشهادة أن تكون فيما يقبل فيه كتاب القاضي إلى القاضي، وقد سبق أن كتاب القاضي إلى القاضي لا يكون إلا في حقوق الآدميين، أما حقوق الله كالحدود فلا يقبل أن يكتب القاضي إلى القاضي، وسبق ـ أيضاً ـ هناك أن القول الراجح صحة كتاب القاضي إلى القاضي حتى في الحدود، وأن هذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وإذا كان هذا فرعاً على ذاك فيكون الصحيح هنا صحة الشهادة على الشهادة في الحدود وغيرها، فلو أن رجلاً شهد بقذف، شهد أن فلاناً قذف فلاناً فقال: أنت زانٍ، وأراد أن يحمل غيره هذه الشهادة فلا تقبل على المذهب؛ لأنه لا يقبل فيه كتاب القاضي إلى القاضي، ودليل ذلك قوله عليه الصلاة والسلام:«ادرؤوا الحدود بالشبهات»
(1)
، ولكن سبق في كتاب الحدود أن هذا الحديث فيه مقال، وأن الشبهات التي أمر بدرء الحدود فيها هي التي يشتبه في ثبوت مقتضى الحد، وأما أنها كل شبهة فلا.
(1)
عزاه بهذا اللفظ في الخلاصة إلى البيهقي في المعرفة، وعزاه في الإرواء إلى تاريخ دمشق، ورواه الترمذي والحاكم والبيهقي بلفظ:«ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخلوا سبيله» ورواه ابن ماجه بلفظ: «ادفعوا الحدود ما وجدتم له مدفعاً» والحديث في إسناده مقال. انظر: الخلاصة (2/ 302)، والتلخيص (4/ 56)، والإرواء (7/ 343 ـ 344).
قوله: «ولا يحكم بها إلا أن تتعذر شهادة الأصل بموت أو مرض أو غيبةٍ مسافةَ قصر» هذا الشرط الثاني أن تتعذر شهادة الأصل، فإن أمكن أن يشهد فلا تقبل الشهادة على الشهادة؛ لسببين:
الأول: التطويل؛ لأنك في الشهادة على الشهادة ستحتاج إلى تعديل الأصل والفرع، بينما في الشهادة الأصلية تحتاج إلى تعديل الأصل فقط، مثلاً: زيد وعمرو يشهدان ويريدان أن يحمِّلا الشهادة بكراً وخالداً، فعند الحكم سنحتاج إلى تعديل الأصل وهما زيد وعمرو، والفرع وهما بكر وخالد، فتطول المسألة، ومعلوم أنه إذا أمكن الاختصار فلا حاجة للتطويل.
الثاني: أنه في التحمل ربما يزاد في الشهادة أو ينقص، فاحتمال السهو من أربعة أقرب من احتماله من اثنين؛ فلهذا يكون مع التطويل احتمال تغيير الشهادة؛ لأن الاثنين اللذين حُمِّلا الشهادة قد يخطئان؛ ولهذا لا يعدل إلى الفرع مع وجود الأصل، فلا بد من أن تتعذر شهادة الأصل، ويمكن أن نشبه هذا بالماء والتراب في الطهارة، فنقول: إذا وجد الماء فلا تيمم.
قوله: «ولا يجوز لشاهد الفرع أن يشهد إلا أن يسترعيه شاهدُ الأصل» هذا الشرط الثالث أن يسترعيه شاهد الأصل، والاسترعاء مأخوذ من الرعاية، ومعناه أن يطلب منه أن يشهد
على شهادته، وهو مأخوذ من قولهم: أرعني سمعك، فلا بد أن يسترعي شاهدُ الأصل شاهدَ الفرع؛ بأن يقول: اشهد على شهادتي على فلان بكذا، فإن سمعه يتحدث بالشهادة دون أن يقول: اشهد على شهادتي فإنها لا تقبل، ولا يجوز لشاهد الفرع أن يشهد على شاهد الأصل؛ لأنه من الجائز أن يكون قد تحدث عن شهادته، ولكنه يتحدث عن أمر مضى وانقضى، وصاحب الحق استوفى حقه وما أشبه ذلك، وما دام هذا الاحتمال موجوداً فإنه يمنع القطع بالشهادة، فلا يجوز أن يشهد على شهادته.
وقال بعض أهل العلم: لا يشترط أن يسترعيه، وأنه إذا سمع شخصاً يقول: أشهد أن فلاناً له عند فلان كذا وكذا، ثم مات هذا القائل وقد سمعه بعض الناس، فللسامع أن يشهد مع أنه لم يسترعِه، وردوا التعليل الأول بأن الأصل بقاء ما كان على ما كان، وما دام سمع هذا الرجلُ فلاناً يشهد بحقٍّ على فلان فله أن يشهد عليه، فيقول: أشهد أن فلاناً يشهد بأن على فلان كذا وكذا، ولا يقول: أَشْهَدَني؛ لأنه لم يشهده، فإن استرعاه غير الأصل، بأن قال صاحب الحق لشخص: اسمع شهادة فلان بحقي على فلان، ثم جاء وشهد الشاهد بحق فلان على فلان، وتوفي أو غاب، فعلى المذهب ليس له أن يشهد؛ لأن شاهد الأصل لم يسترعه، وعلى القول الثاني له أن يشهد، بل القول هنا أقوى من القول بما إذا لم يسترعِه أحد، فصارت الصور ثلاثاً:
الأولى: أن يسترعيه شاهد الأصل، وفي هذه الصورة له أن يشهد قولاً واحداً.
الثانية: أن يسترعيه صاحب الحق ليس الشاهد، وهذه على المذهب لا تجوز، وعلى ما اختار صاحب المغني، والشرح تجوز، يعني الموفق وابن أخيه عبد الرحمن أبي عمر تجوز.
الثالثة: ألا يسترعيه أحد لكنه يسمع أن فلاناً يشهد، فهذه الحال فيها خلاف، لكن الخلاف فيها أضعف من الخلاف في المسألة الثانية، والذي يظهر في المسألة الأخيرة أنه يجوز أن يشهد، لكن لا يقل: أَشْهَدَني فلان، وإنما يقول: أشهد على شهادة فلان بكذا وكذا؛ لأن الأصل بقاء ما كان على ما كان، وهذا لم يشهد بباطل، وأحياناً ربما لا نجد ما يثبت الحق إلا هذه الشهادة.
فَيَقُولُ: اشْهَدْ عَلَى شَهَادَتِي بِكَذَا، أَوْ يَسْمَعُهُ يُقِرُّ بِهَا عِنْدَ الْحَاكِمِ، أَوْ يَعْزُوهَا إلَى سَبَبٍ، مِنْ قَرْضٍ، أَوْ بَيْعٍ، أَوْ نَحْوِهِ، وَإِذَا رَجَعَ شُهُودُ الْمَالِ بَعْدَ الْحُكْمِ لَمْ يُنْقَضْ، وَيَلْزَمُهُمُ الْضَّمَانُ دُوْنَ منْ زَكَّاهُمْ، وَإِنْ حَكَمَ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ، ثُمَّ رَجَعَ الشَّاهِدُ غَرِمَ الْمَالَ كُلَّهُ.
قوله: «فيقول: اشهد على شهادتي بكذا» أي: أن شاهد الأصل يقول: اشهد على شهادتي، أو يقول: اشهد أني أشهد على أن لفلان على فلان كذا، أو ما أشبه ذلك من العبارات، المهم أن يأتي بلفظ يدل على أن شاهد الأصل حمَّل شاهد الفرع الشهادة، وهل يشترط أن يكون الفرع رجلين فأكثر على أصل واحد، أو يكفي على كل أصل فرع؟
نقول: يكفي على كل أصل فرع، فزيد وعمرو أصلان، يشهد على زيدٍ بكرٌ، وعلى عمرٍو خالدٌ فيجوز، ويجوز أن يكون لكل أصل فرعان من باب أولى، ويجوز أن يشهد الفرعان على كل أصل، بمعنى أن حجَّاجاً وياسراً يشهدان على عبد الرحمن ويشهدان على خليل، هاتان صورتان، وهل يجوز أن يشهد على الأصلين فرع واحد؟ الجواب: لا، فلا يكتفى بشهادة واحدة
متحملة عن أصلين، مثل أن يشهد حجاج على عبد الرحمن وخليل، فهنا ما نحكم بالشهادة؛ لأنه واحد، وقيل: يجوز، لأن شهادة الفرع خبر وليست أصلاً، فحجاج ـ مثلاً ـ يقول: أخبرني عبد الرحمن وأخبرني خليل؛ بأنهما يشهدان على فلان بكذا، قالوا: فيحكم بها، لكن في النفس من هذا شيء.
فتكون الصور أربعاً: الأولى: فرعان على أصلين، على كل أصل فرع، الثانية: فرعان على أصلين على كل واحد منهما، الثالثة: فرع على أصلين فيها خلاف، والمذهب لا يجوز وهو أقرب، الرابعة: فرعان على كل أصل فيجوز من باب أولى.
قوله: «أو يسمعه يقر بها عند الحاكم» يعني ينوب عن الاسترعاء إذا سمع الفرعُ شاهدَ الأصل يشهد بها عند القاضي، فيشهد وإن لم يسترعه، وهذا ممكن، كأن يدعي زيد على عمرو دعوى، فيطلب القاضي من زيد بينة فأتى بشاهد عند القاضي، وشهد بأن لزيد على عمرو كذا وكذا، وهناك رجل حاضر، ولم يحكم القاضي، وتفرق الخصمان، ومات الشاهد أو تغيب، فهل لمن سمعه يشهد بها عند القاضي أن يشهد؟ يقول المؤلف: نعم، إذا سمعه يقر بها عند الحاكم فليشهد؛ لأن احتمال أن يكون المشهود عليه قد برئ بعيد؛ لأنهما وصلا إلى القاضي.
قوله: «أو يعزوها إلى سبب» يعني يسمع شاهدُ الفرع شاهدَ الأصل يشهد بأن لفلان على فلان مائة ريال، ثمن ناقة، إذن الأصل شهد وعزا شهادته إلى سبب وهو أنه ثمن شراء الناقة، إذن يجوز أن يشهد؛ لأنه لما عزاها إلى سبب ثبتت بهذا السبب،
والأصل بقاء السبب وعدم زواله، فصار هذا الشرط لا بد فيه من أحد أمور ثلاثة: الاسترعاء، أو السماع عند القاضي، أو أن يعزوها إلى سبب.
قوله: «من قرض» بأن يسمع شاهدُ الفرع شاهدَ الأصل يقول: أشهد أن لفلان على فلان ألف درهم قرضاً ثم مات الشاهد، فهل لمن سمعه أن يشهد بشهادته؟ الجواب: نعم؛ لأنه عزاها إلى سبب، قال: قرضاً.
قوله: «أو بيع» كما إذا قال: أشهد أن لفلان على فلان ألف درهم ثمن بعير، فيجوز؛ لأنه عزاها إلى سبب.
قوله: «أو نحوه» كما إذا قال: أشهد أن لفلان على فلان ألف درهم أجرة بيت فيجوز.
قوله: «وإذا رجع شهود المال بعد الحكم لم ينقض، ويلزمهم الضمان دون من زكاهم» إذا رجع شهود المال يعني الذين شهدوا بمال لشخص على آخر، رجعوا بعد أن شهدوا، فلا يخلو إما أن يكون قبل الحكم، أو بعد الحكم، وهناك حال ثالثة بعد الاستيفاء، فهنا ثلاثة أحوال:
الأولى: إذا رجعوا قبل الحكم، فهؤلاء لا ضمان عليهم ولا يحكم بشهادتهم، مثل أن يدعي زيد على عمرو عشرة آلاف ريال وأتى بالشاهدين عند القاضي، ولما أراد القاضي أن يكتب شهادتهما رجعا، كأنهما كانا شاهدي زور، ثم لما رأيا أن الأمر خطير رجعا عن الشهادة قبل حكم القاضي، فقالا، مثلاً:
توهمنا، أو نسينا أنه قد أوفاه، أو ما أشبه ذلك فهنا لا يجوز للقاضي أن يحكم بشهادتهما، ولكن هل يعزر هذان الشاهدان الراجعان؟ ينظر؛ لأنهما قد يتوهمان، وقد ينسيان، المهم إذا لم يعلم أنهما شهدا بزور فلا يعزَّران.
الثانية: إذا شهدا بالمال وحكم القاضي بشهادتهما، وقال للمدعي: حَكمت لك على خصمك بكذا وكذا، ثم رجع الشاهدان، فهنا لا ينقض؛ لأنه تم، ولو أننا نقضنا أحكام الحكام بمثل هذا لصارت أحكام الحكام لعبة، لا سيما في زمننا الحاضر، ولكان كُلُّ من حُكِمَ عليه يذهب إلى الشاهدين، ويقول: هل أعطاكما شيئاً؟ قالوا: ما أعطانا شيئاً لكن شهدنا بالحق، قال: أنا سأعطيكما كذا وكذا من الدراهم، فلما قال هذا الكلام تراجعا عن الشهادة، فكما يمكن لشهداء الزور أن يشهدوا بما لم يكن، يمكن أن يرجعوا عما شهدوا به، فلو أننا نقضنا الحكم برجوع الشهود لصارت أحكام القضاة ألعوبة بيد الشهود، فلا ينقض الحكم.
الثالثة: إذا كان بعد الاستيفاء، يعني شهد الشاهدان وحكم القاضي واستوفى المحكوم له حقه فلا ينقض من باب أولى؛ لأنه إذا كان لا ينقض بعد الحكم وقبل الاستيفاء، فألا ينقض بعد الاستيفاء من باب أولى.
لكن قال الفقهاء: لو رجع الشاهدان بقصاص بعد الحكم وقبل الاستيفاء لم يقتص من المشهود عليه؛ لأن القصاص خطير، لكن تجب الدية، فصار هنا ينقض من وجه ولا ينقض من وجه
آخر، فمن جهة القصاص ينقض لعظمه وخطره، ومن جهة المال التي هي الدية لا ينقض، وهذا هو الذي جعلني أقول: إن الرجوع إما أن يكون قبل الحكم، أو بعده، وقبل الاستيفاء، أو بعد الاستيفاء، والذي يختلف فيه الحكم فيما إذا رجعا بعد الحكم وقبل استيفاء القصاص، فإذا شهدا بما يوجب القصاص ثم رجعا ولو بعد الحكم فلا قصاص، لكن تلزم دية ذلك العضو الذي شهدا بأنه مستحق في القصاص.
وقوله: «ويلزمهم الضمان» يعني يلزم الشاهدين الضمان في الحال التي يحكم فيها، إن كان مالاً فمال، وإن كان غير مال فغير مال، لكن إذا رجعا قبل الحكم في القصاص فإنه لا ضمان، وإذا رجعا بعد الاستيفاء في القصاص فإنه يقتص منهما، لكن بشرط أن يقولا: عَمَدْنا ذلك لتقص يد هذا الرجل، فحينئذٍ يقتص منهما، فتقص أيديهما.
إذاً إذا رجع شهود المال قبل الحكم فلا حكم ولا ضمان، وإذا رجعوا بعد الحكم وقبل الاستيفاء ثبت الحكم وعليهم الضمان، وصاحب الحق يأخذ منهم، لا ممن حكم عليه، وإذا رجعوا بعد الحكم والاستيفاء فالحكم لا ينقض، وعليهم الضمان والذي يضمِّنهم في هذه الحال المحكوم عليه؛ لأن صاحب الحق استوفى حقه.
وقوله: «دون من زكاهم» يعني أما من زكى الشهود فلا يضمن؛ لأن المباشر للتلف أو الغرم الشهود، ولهذا فالمزكون يقولون: نحن لا نشهد بهذا لكن نزكي الشهود، مثاله: ادعى زيد
على عمرو بألف ريال، وتحاكما عند القاضي، وشهد شاهدان بأن زيداً له على عمرو ألف ريال، ولما أدلى الشاهدان بشهادتهما قال القاضي: من يزكيكما؟ فجاء رجلان فزكياهما، ثم حكم القاضي، ثم رجع الشهود، فالذي يُضمَّن الشهود، وأما المزكون فلا يضُمَّنون؛ لأن الحكم إنما حصل مباشرة بشهادة الشهود، أما المزكون فيقولون: كيف تضمنوننا، ونحن ما شهدنا؟! نحن مزكون فقط، وحينئذٍ يكون الضمان على الشهود دون من زكاهم.
لكن لو فرض أن المشهود له صَدَّق الشهود، فهل يرجع عليهم؟ يعني مثلاً لما شهد الرجلان للمشهود له، وحكم له، ثم رجعا، وصدقهما المشهود له في الرجوع، فالمال الذي حكم له به يكون حراماً عليه بإقراره، وحينئذٍ فلا يرجع، فلو قال: أنا أشهد أن شهادتكما ليست صحيحة، نقول: إذاً لا ترجع عليهما؛ لأنك الآن صدقتهما بالرجوع.
كذلك لو فرض أنه حين حُكم لفلان على فلان، جاء المحكوم له فأبرأه، ثم بعد ذلك رجع الشهود فلا يرجع المبرَأ؛ لأن صاحب الحق أبرأه، ولا يضمن شيئاً، ولا يرجع عليهما؛ لأنه هو الذي أسقطه ولم يخسر المشهود عليه شيئاً.
إذاً إذا رجع الشهود بعد الحكم، سواء قبل الاستيفاء أو بعده، لم ينقض الحكم ويبقى كما هو، ولكن الضمان يكون على الشهود إلا في صورتين:
الأولى: إذا صدقهم المشهود له بالرجوع، فلا يجوز أن يأخذ شيئاً يعتقد أنه ليس له.
الثانية: إذا أبرئ المشهود عليه فإنه لا يرجع عليهما؛ لأننا نقول: أنت لم تضمن شيئاً حتى تضمنهما وما دمت لم تضمن شيئاً لغيرك فلا شيء لك.
قوله: «وإن حكم بشاهد ويمين ثم رجع الشاهد غرم المال كلَّه» إن حكم القاضي بشاهد ويمين، فالشاهد إن رجع قبل الحكم فعلى ما سبق لا يحكم به أصلاً، وبعد الحكم لا ينقض الحكم، ويكون الضمان كله على الشاهد، ولا يتوهم واهِمٌ أن الضمان يكون نصفين؛ لأن الحكم ثبت بالشاهد واليمين فنقول: بينهما فرق، فالشهود يلزمهم الضمان كل واحد يأخذ حصته، لكن هنا يكون الضمان كله على الشاهد؛ لأن يمين المدعي لا يثبت بها شيء، فلو يحلف المدعي ألف يمين بدون شاهد ما ثبت بها شيء، إذن الثبوت إنما كان للشاهد، واليمين تقوي جانبه فقط، وليست هي التي توجب الحق، لهذا قالوا: إنه يضمن المال كله.
وذهب بعض أهل العلم إلى أنه يضمن النصف فقط بناءً على جعل اليمين كالشاهد الثاني، ولكن المذهب أَقْيسَ أن الشاهد يضمن المال كله.
بَابُ الْيَمِينِ فِي الدَّعَاوَى
لَا يُسْتَحْلَفُ فِي الْعِبَادَاتِ، وَلَا فِي حُدُودِ اللهِ، وَيُسْتَحْلَفُ الْمُنْكِرُ فِي كُلِّ حَقٍّ لآدَمِيٍّ، إِلاَّ النِّكَاحَ، وَالطَّلَاقَ، وَالرَّجْعَةَ، وَالإِيْلَاءَ، وَأَصْلَ الرِّقِّ، وَالْوَلَاءَ، وَالاِسْتِيْلَادَ، وَالنَّسَبَ، وَالْقَوَدَ، وَالْقَذْفَ،
......
قوله: «اليمين» اليمين سبق لنا أنها تأكيد الشيء بذكر معظَّم بلفظ مخصوص، فاليمين، والحلف، والقَسَم، والإيلاء، وما أشبه ذلك كلها معناها واحد وهو تأكيد الشيء بذكر معظَّم بصيغة مخصوصة، هي: والله وما أشبهها.
قوله: «الدعاوى» جمع دعوى، وهي إضافة الإنسان إلى نفسه شيئاً على غيره، عكس الإقرار؛ لأن الإقرار إضافة الإنسان لغيره شيئاً على نفسه، والشهادة إضافة الإنسان شيئاً لغيره على غيره، فالدعوى أن يضيف الإنسان شيئاً لنفسه على غيره، فيقول: لي على فلان كذا وكذا.
والمراد بهذا الباب بيان الدعاوى التي يُحلف فيها، والتي لا يُحلف، والقاعدة العامة أن ما كان من حقوق الآدميين فإنه يحلف فيه، وما كان من حقوق الله فإنه لا يحلف فيه؛ لأن حقوق الآدميين فيها خصم وهو الآدمي، فيحتاج إلى التبرئة إن كان مدعًى عليه وهو ينكر. أو التقوية إن كان مدعي ومعه شاهد فيحتاج إلى التبرئة أو التقوية باليمين، أما إذا كان الحق لغير الآدمي فهذا لا يستحلف فيه ولا نتعرض له؛ لأن هذا الحق بين الإنسان وبين ربه، لكن نأمره، فإذا قال: إنه فعل، أو إنه ترك فلا نستحلفه؛ لأن حق الآدمي يقضى فيه بالنكول، وحق الله لا يقضى فيه بالنكول، فلو قيل للإنسان: احلف أنك أديت زكاتك، فقال:
لا أحلف، فلا نقضي عليه، ولا نقول: يجب أن تعطي الزكاة؛ لأن هذا حق الله، والإنسان عبادته بينه وبين ربه، وهذه هي القاعدة العامة: أن ما كان من حقوق الله فلا استحلاف فيه وما كان من حقوق الآدميين ففيه استحلاف. وهناك شيء متردد بين حق الله وحق الآدمي، وهذا فيه خلاف بين العلماء في الغالب.
واليمين في الدعاوى هل هي لفصل الخصومة، أو للبراءة من الحق؟ سبق لنا أنها لفصل الخصومة، وأن المنكر لو حلف ثم أقام المدعي بينة حكم له ببينته، ولم تكن اليمين مزيلة للحق، فهي إذن تقطع الخصومة فقط.
قوله: «لا يستحلف في العبادات» الأصل أن جميع العبادات لا يستحلف فيها، فلو قيل لشخص: أنت ما صليت، قال: صليت، فلا نحلِّفه؛ لأن هذا لحق الله، أو قيل لإنسان: أنت صمت؟ قال: نعم، قلنا: ما صمت، قال: بل صمت، فلا نحلِّفه، وفي الزكاة كذلك، قلنا: أديت الزكاة؟ قال: أديتها، فلا نحلفه، وهل نقول: إلى مَنْ أديت؟ الجواب: لا، لكن إن قال: أديتها إلى فلان، ونحن نعلم أنه غني في ذلك الوقت نقول: ردها منه.
قوله: «ولا في حدود الله» أيضاً ما يحلف الإنسان فيها، والمراد بحدود الله ما يوجب الحد، فلو قيل لشخص: أنت زنيت، فقال: ما زنيت، فلا نقول: احلف؛ لأنه لو لم يحلف لم نحُدَّه؛ لأننا لا نحده حتى يقر، ويبقى على إقراره إلى أن يقام عليه الحد.
إذن كل ما يوجب الحدود لا نستحلفه فيه، وأما ما يوجب التعزير فإن كان حقاً لله فلا يستحلف، وإن كان حقاً لآدمي فربما نستحلفه، حق الله مثل لو قيل له: إنك أنت غازلت امرأة، ومغازلة المرأة توجب التعزير ولا توجب الحد، قال: ما غازلت أبداً، فهذا ما نحلفه، نعم لو ادعت عليه هي أنه فعل ذلك، فربما نحلفه من أجل أنه تعلق به حق آدمي.
قوله: «ويستحلف المنكِر في كل حق لآدمي» من بيع وشراء وإجارة ووقف ورهن وغير ذلك، كل حقوق الآدميين يستحلف فيها المنكر، ودليل ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم:«البينة على المدعي واليمين على من أنكر»
(1)
، وفي الحديث إشارة إلى أن المراد حقوق الآدميين، لأنه ليس هناك مدعٍ ومدعى عليه إلا في حقوق الآدميين، واستثنى المؤلف فقال:
«إلا النكاح، والطلاق، والرجعة، والإيلاء، وأصل الرق، والولاء، والاستيلاد، والنسب، والقود، والقذف» هذه عشرة استثنوها على خلاف فيها بين أهل العلم، لكن المذهب أنها مستثناة.
أولاً: النكاح: من الذي يدَّعي النكاح؟ المرأة سبق أنها إن ادعت النكاح لمجرد النكاح لم تسمع دعواها أصلاً، وإن ادعته لطلب مهر أو نفقة سمعت دعواها، ولم تقبل إلا ببينة، فإذا ادعت
(1)
سبق تخريجه ص (318).
على زوج النكاح؛ لأنها تريد المهر أو النفقة فلا يستحلف الزوج على المذهب، فإن ادعاه هو، قال: أنا زوج هذه المرأة، فقالت هي: لست بزوجتك، فذهبوا للقاضي، فطلب القاضي من المدعي الشهود فلم يأتِ بشهود، فهل يتوجه عليها اليمين؟ الجواب: لا يتوجه اليمين عليها؛ وعلة ذلك أنها لو نكلت لم يقضَ عليها بالنكول؛ لأن النكاح لا بد فيه من شهادة، ولا بد فيه من ولي، فلا يقضى فيه بالنكول، بل نقول: إما أن تأتي أيها الزوج بالشهود، وإلا فانصرف ولا نقبل دعواك.
ثانياً: الطلاق: مَنْ المدعي؟ كلاهما، فهي تريد أن تتخلص منه فتدعي أنه طلقها، أو هو يريد أن يتخلص منها فيدعي أنه طلقها منذ زمن، يريد أن ينفي النفقة، فالذي يدعي الطلاق، نقول له: عليك البينة، فإن لم يأتِ بالبينة فهل يحلف الآخر؟ الجواب: إذا ادعت هي أنه طلق، وقال: ما طلقت، ولم تأتِ ببينة فنقول للزوج: الزوجة زوجتك، وإذا ادعى هو أنه طلقها نقول: ائتِ بالشهود، فإن لم يكن عنده شهود فلا نحلفها أنه لم يطلقها؛ لأن الأصل بقاء النكاح.
ثالثاً: الرجعة: من مدعي الرجعة؟ يمكن أن يكون الزوج، ويمكن أن تكون الزوجة، فالزوج يدعي عليها أنه راجعها وهي تنكر، فهنا نقول: إما أن يقبل قوله، أو لا يقبل، لكن إذا لم يقبل فلا يمين، سواء كان هو المدعي أو هي المدعية.
رابعاً: الإيلاء: وهو أن يحلف الزوج على ترك وطء امرأته، فنقول: هذا الرجل آلى مني، اضربوا له مدة وهي أربعة
أشهر فهي المدعية، فإذا قال: ما آليت، فلا نحلفه، لكن إذا لم يقم بالحق الواجب عليه فله حكم آخر، ويمكن أن يكون هو المدعي، لكن نقول: إذا قال: هو مولٍ، فهو ليس بمدعٍ بل مقرٌّ؛ لأن الحق له.
خامساً: أصل الرق: كإنسان التقط لقيطاً، وهو الطفل المنبوذ الذي لا يعرف نسبه، وقال: هذا مملوك لي، فادعى أصل الرق؛ لأن الأصل أن اللقيط حر، والآن هو يريد أن يثبت أنه رقيق، نقول: ما يمكن، الأصل الحرية، فإذا ادعى على هذا الشخص أنه رقيقه، وقال: أنا لست رقيقاً له، أنا ما زلت أعرف نفسي أني لقيط، فهو حر، ولا يحلف.
أما لو كان عبداً مملوكاً قد ثبت رقه، وادعى شخص أنه ملكه، وأنكر سيد العبد، فحينئذٍ يحلف المنكر ويكون العبد له؛ لأن النزاع هنا ليس في أصل الرق، فالرق هنا ثابت، لكن الخلاف في المالك من هو؟ هل هو هذا أو هذا؟.
سادساً: الولاء: أي: أصل الولاء؛ لأن الولاء متفرع عن الرق، فإذا ادعى شخص على إنسان معروف أنه حر، لم يملكه أحد، فقال: هذا ولاؤه لي، قيل: من أين جاءك؟ قال: لأن جدي معتق جده، فقال المدعى عليه: أبداً أنا حر، ولا لأحد علي ولاء، وليس هناك بينة، فلا يحلف.
سابعاً: الاستيلاد: يعني دعوى أن أمة السيد ولدت منه، فمن المدعي السيد أو الأمة؟ شيخ الإسلام يقول: هي المدعية، والقاضي أبو يعلى يقول: هو المدعي، والحقيقة أن الادعاء يكون
منه ومنها، فهي المدعية؛ لأنها تريد أن تكون أم ولد فتعتق بعد موت سيدها، ولا يبيعها ـ أيضاً ـ على المشهور من المذهب، فإذا ادعت أن سيدها أولدها، فقال: ما أولدتُها، فهنا لا يحَلَّف السيد؛ لأن الأصل عدم الإيلاد، ولأن هذا فيه شائبة حق الله؛ لأن الحرية والرق فيهما شائبة حق لله، وقد يكون هو المدعي، فيدعي ذلك من أجل أن تعتق بعد موته ولا تباع في دَيْنه؛ لأنه إذا مات تعتق من رأس المال، لا من الثلث، فيقول: هكذا لتعتق، ولا تباع في دَيْنه، أو من أجل ألا يسلط عليها الغرماء فيبيعوها في حياته؛ لأن أمهات الأولاد لا يجوز بيعهن، فصار الادعاء قد يكون منه وقد يكون منها.
ثامناً: النسب: شخص نسبه مجهول، أمسكه آخر وقال: أنت ولدي، فقال: لست بولدك، فلا يحلف؛ لأن النسب فيه شائبة حق كبيرة لله عز وجل، ويقال لمن ادعى أنه ولده: هاتِ البينة على أنه ولدك، وإلا فلا شيء لك. والسبب في عدم تحليف المنكر أنه لا يقضى على المنكر بالنكول ويعللون بهذا في جميع المسائل.
تاسعاً: القود: وهو القصاص، يعني ادعى على شخص بقصاص قال: هذا لي عنده قصاص، مثلاً قطع يدي إن كان في القصاص فيما دون النفس، أو قتل أبي إن كان القصاص في النفس، وقال: أبداً ما علي قصاص، فهنا لا يُحلَّف أنه لا قصاص عليه، ولكن يبقى النظر هل يحلف على نفي الدية؟ هذا ينبني على الخلاف في الواجب بقتل العمد، هل هو القود عيناً أو
القود والدية؟ إذا قلنا: القود والدية يحلف؛ لأنها حق مالي.
عاشراً: القذف: يعني ادعى شخص على آخر أنه قذفه، رماه بالزنا أو اللواط، فقال: ما قذفته، فالمدعي إن أتى ببينة حكم له بها، وإذا لم يأتِ ببينة، فلا نقول للقاذف: احلف.
وعلى كل حال هذه المسائل غالبها خلافية؛ لأن من أهل العلم من يقول بعموم حديث: «البينة على المدعي واليمين على من أنكر»
(1)
، وهذا المنكر إن كان صادقاً لم يضره اليمين، وإذا امتنع من اليمين كان ذلك قرينة على أن المدعي صادق، فحينئذٍ نرد اليمين على المدعي فإذا حلف حكم له.
وَالْيَمِينُ الْمَشْرُوعَةُ الْيَمِينُ بِاللهِ. وَلَا تُغَلَّظُ إِلاَّ فِيْمَا لَهُ خَطَرٌ.
قوله: «واليمين المشروعة اليمين بالله» هذه هي اليمين المشروعة، وما عدا ذلك فليس بمشروع، ولا يعد الممتنع منه ناكلاً، فأنواع الأيمان: اليمين بالله، اليمين بالنذر، اليمين بالتحريم، اليمين بالطلاق، كل هذه تكون يميناً.
اليمين بالنذر: مثلاً يقول: إن فعلت هذا فللَّه عليَّ نذر أن أصوم سنة، واليمين بالطلاق: إن فعلت كذا فزوجتي طالق، واليمين بالتحريم: إن فعلت كذا فزوجتي حرام، اليمين بالله: والله لا أفعل كذا، فاليمين المشروعة هي اليمين بالله عز وجل، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت»
(2)
، فهذه هي اليمين المشروعة لدى الحالف والمحلِّف.
فالمحلِّف كالقاضي ـ مثلاً ـ لا يجوز له أن يحلِّف
(1)
سبق تخريجه ص (318).
(2)
سبق تخريجه ص (121).
بالطلاق، أو بالتحريم، أو ما أشبه ذلك؛ لأن اليمين المشروعة هي اليمين بالله، يوجد ـ والعياذ بالله ـ بعض الحكام أو بعض الأمراء، يحلفون الإنسان بالطلاق ولا يرضون أن يحلف بالله، يقولون: إذا قلنا: احلف بالله حلف، ولا يبالي، وإذا قلنا: احلف بالطلاق يقول: إن كان كذا وكذا فزوجتي طالق، فيخاف من طلاق زوجته، وهذا لا ننكر أن يكون واقعاً، وربما بعض الناس يهون عليه الحلف بالله، ولا يهون عليه اليمين بالطلاق، لكن مع ذلك لا يجوز للقاضي أن يحلِّف بالطلاق لا في الخصومات ولا غيرها لقول الرسول صلى الله عليه وسلم:«من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت»
(1)
. فاليمين المشروعة هي اليمين بالله عز وجل.
قوله: «ولا تغلظ إلا فيما له خطر» لا تغلظ اليمين إلا فيما له خطر، يعني فيما له شأن كبير، فالشيء البسيط لا يجوز أن تغلظ فيه، والذي يطلب التغليظ القاضي أو المدعي، فإذا طلب المدعي التغليظ ورأى القاضي أن الأمر خطير فله أن يغلظ، مثلاً ادعى عليه بمليون ريال، وهذا له خطر كبير، ولو ادعى عليه بعشرة ريالات فليس لها خطر، أو تداعى زيد وعمرو عند القاضي في نعل يساوي خمسة ريالات، فقال المدعى عليه: ليس عندي ولا رأيته، فقال القاضي للمدعي: هل لك بينة؟ قال: ما لي بينة، قال: إذن لك يمينه قال: لكن غلظ عليه اليمين، فلا يجيبه إلى طلبه؛ لأن هذا شيء يسير، فإذا قال المدعي: هو شيء يسير عليك، لكن أنا ليس يسيراً علي، نقول: العبرة بأوساط الناس
(1)
سبق تخريجه ص (121).
فالذي له خطر يعني المال الكثير، فالقصاص، والسرقة، وما أشبه ذلك، هذا الذي له خطر، أما الشيء اليسير فلا تغليظ فيه.
وقال بعض أهل العلم: حيث رأى القاضي التغليظ غلظ، وحيث لم يرَ التغليظ لم يغلظ، يعني أن المسألة ترجع إلى اجتهاد القاضي، فقد يرى التغليظ؛ لأن هذا المنكر رجل مبطل لا يهمه أن يقول: والله ليس له علي شيء، لكن لو غلظنا عليه ربما لا يحلف ويتراجع، وربما يرى القاضي عدم التغليظ؛ لأن المنكِر رجل صدوق، لا يمكن أن يقول: ليس عندي شيء حتى وإن لم يحلف إلا وهو صادق، والصحيح أن هذا يرجع إلى اجتهاد الحاكم، فإن رأى التغليظ غلظ وإلا فلا.
والتغليظ يكون بالصيغة، والزمان، والمكان، والهيئة على القول الراجح.
بالزمان بعد العصر، وقيل: بين الأذان والإقامة، لكن الصحيح أنه بعد العصر لقوله تعالى:{تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ} [المائدة: 106]، أي: بعد صلاة العصر.
والتغليظ في المكان: في المسجد الحرام قالوا: بين الركن والمقام، وفي بيت المقدس، قالوا: عند الصخرة، وفي بقية المساجد عند المنبر؛ لأنه المكان الذي يعلن فيه الذكر والدعوة إلى الله، ولكن شيخ الإسلام يقول في بيت المقدس: إنه كغيره يكون عند المنبر، وأن الصخرة ليس لها حرمة في حد ذاتها، وأن أصل تعظيمها من النصارى؛ لأن الذي احتله أساء فيه، فلما انتصر عليه الآخر ذهب يعظم هذه الصخرة، ويزيل عنها الأذى
والقمامة التي كانت عليها؛ فمن أجل ذلك عظمت، وإلا فلا أصل لتعظيمها إطلاقاً، وعلى هذا فيكون التغليظ في المكان في بيت المقدس كغيره من المساجد عند المنبر.
والتغليظ في الصيغة أن يقول مثلاً: والله الذي لا إله إلا هو، عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم، الغالب الطالب، وما أشبه ذلك من الكلمات التي فيها زجر ووعيد.
والتغليظ في الهيئة: أن يكون قائماً لا جالساً فتغلظ اليمين في الأشياء التي فيها خطر، والصحيح أن التغليظ راجع إلى الإمام. وإذا أراد القاضي تغليظ اليمين على الحالف فأبى المنكر اليمين المغلظه فهل يقضى عليه بالنكول؟
المذهب لا يقضى عليه بالنكول وقالوا إذا أبى التغليظ فليس بناكل، والقول الثاني: يعد ناكلاً؛ لأن امتناعه عن التغليظ يدل على أن هناك ريبة، فامتناعه يكون قرينة على أنه كاذب في إنكاره وهذا القول أقوى.
كِتَابُ الإِقْرَارِ
يَصِحُّ مِنْ مُكَلَّفٍ، مُخْتَارٍ، غَيْرِ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ، وَلَا يَصِحُّ مِنْ مُكْرَهٍ، وَإِنْ أُكْرِهَ عَلَى وَزْنِ مَالٍ فَبَاعَ مُلْكَهُ لِذَلِكَ صَحَّ، وَمَنْ أَقَرَّ فِي مَرَضِهِ بِشَيْءٍ فَكَإِقْرَارِهِ فِي صِحَّتِهِ، إِلاَّ فِي إِقْرَارِهِ بِالْمَالِ لِوَارِثٍ فَلَا يُقْبَلُ، وَإِنْ أَقَرَّ لاِمْرَأَتِهِ بِالصَّدَاقِ فَلَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ بِالزَّوْجِيَّةِ لَا بِإِقْرَارِهِ،
..............
قوله: «الإقرار» مصدر أقر يقر، وهو اعتراف الإنسان بما عليه لغيره من حقوق مالية، أو بدنية، أو غير ذلك، وأخَّر المؤلف الكلام على الإقرار وإن كان له علاقة بالبيع وغيره؛ تفاؤلاً بأن يختم له بالإقرار بالتوحيد، وسلك كثير من الفقهاء هذا المسلك، وبعضهم ختم كتاب الفقه بكتاب العتق تفاؤلاً بأن يعتقه الله تعالى من النار، ولكلٍّ وجه، لكن الإقرار أتم؛ لأن من كان آخر كلامه من الدنيا: لا إله إلا الله دخل الجنة
(1)
، فمن كان أخر كلامه الإقرار بالتوحيد دخل الجنة، ودخول الجنة أبلغ من العتق من النار، وإن كان يلزم من العتق من النار دخول الجنة.
وللإقرار شروط أشار إليها المؤلف بقوله:
«يصح من مكلف» هذا الشرط الأول، فلا يصح إلا من مكلف، وهو البالغ العاقل، فالمجنون لا يصح إقراره؛ سواء أقر بمال، أو بعقد، أو بطلاق، أو بغير ذلك؛ لأنه لا حكم لقوله، إذ هو صادر بغير قصد، وكذلك الصغير لا يصح إقراره؛ لأنه غير مكلف إلا فيما يصح تصرفه فيه فإنه يصح إقراره ويؤاخذ به، فالضابط في إقرار الصغير أن ما صح منه إنشاؤه صح به إقراره
(1)
أخرجه أحمد (5/ 233)، وأبو داود في الجنائز/ باب في التلقين (3116) عن معاذ رضي الله عنه.
مثل: إذا أُعطي شيئاً يتصرف فيه ببيع من الأمور التي جرت العادة بأنه يتصرف فيها، كالتصرف في الدجاجة ـ مثلاً ـ، والبيضة، والشيء اليسير، فالإقرار هنا يصح؛ لأنه واقع ممن يصح منه العقد فصح الإقرار به، فإطلاق المؤلف رحمه الله كلمة «مكلف» فيه شيء من النظر، وقد يقال: إن صحة تصرف الصغير بما ذُكر لا يمنع من الإطلاق؛ وذلك لأنه مفهوم، والمفهوم كما يقولون: ليس له عموم؛ لأن قوله: «من مكلف» مراده مَنْ يصح منه، فمفهومه أن غير المكلف لا يصح، وحكم المخالفة يصدق بصورة واحدة، فإذا وجدت صورة واحدة يصدق عليها حكم المخالفة فلا ضرر، المهم أن هذا النقاش يتعلق بأصول الفقه، وهو أن يقال: مفهوم قول المؤلف «من مكلف» أن غير المكلف لا يصح إقراره، فيشمل المجنون والصغير، أما المجنون فلا استثناء فيه، وأما الصغير ففيه استثناء.
فإذا قال قائل: إذا كان فيه استثناء، فلماذا لم يستثنِ المؤلف؟ فالجواب من وجهين: إما أن يقال: بأن المفهوم لا عموم له، ويصدق حكمه بصورة واحدة، فإذا وجدت صورة واحدة يختلف فيها الحكم عن المنطوق كفى، أو يقال: إن المؤلف أطلق؛ لأن الأمر معلوم بأن من صح تصرفه في شيء صح إقراره به وعليه، وقد مَرَّ علينا في كتاب البيع أنه يصح البيع من صغير بما جرت به العادة كالأشياء اليسيرة.
قوله: «مختار» هذا الشرط الثاني، وضده المكره، فلا بد أن يكون المقر مختاراً لإقراره ولما أقر به، فإن كان أقر باختياره
بمائة وأكره على أن يقر بمائتين، فالإقرار لا يصح بالمائتين لكن يصح بالمائة، وإن كان لا يقر بشيء فأكره على أن يقر بمائة لم يصح إقراره مطلقاً؛ لأنه لا بد أن يكون مختاراً، والدليل قوله تعالى:{إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]، فكل العقود لا بد فيها من التراضي، فالمكره لا يقع منه أي عقد أو إقرار.
قوله: «غير محجور عليه» هذا هو الشرط الثالث، والمحجور عليه هو الممنوع من التصرف، ثم هو قسمان: محجور عليه لحظ نفسه، وهم ثلاثة: الصغير، والمجنون، والسفيه، وقد سبق الكلام عليهم، الثاني: المحجور عليه لحظ غيره، وهو المفلس، الذي دَيْنُهُ أكثر من موجوداته، كرجل عليه مائة ألف درهم ديناً، وماله ثمانون ألف درهم يعني عنده أثاث وموجودات تساوي قيمتها ثمانون ألف درهم، وطلب الغرماء الحجر عليه من أجل توزيع موجوداته عليهم، فهذا يحجر عليه.
هذا المحجور عليه لا يصح إقراره في أعيان ماله؛ لأنه ممنوع من التصرف فيها، ويصح إقراره في ذمته؛ لأنه لا ضرر على الغرماء في هذا الإقرار.
فلو قال مثلاً بعد أن حجر عليه: هذه السيارة لفلان، لا نقبل منه؛ لأنها تعلق بها حق الغير، فالآن هي محبوسة لحق الغرماء، أما لو قال: في ذمتي لفلان، نقول: هي في ذمتك، وبعد الحجر يطالبك من أقررت بها له.
قوله: «ولا يصح من مكره» أي: لا يصح الإقرار من مكره،
وهذا تصريح بمفهوم قوله: «مختار» فلا يصح من مكره؛ لما سبق من قوله تعالى: {إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]، ولأن الله رفع حكم الكفر عن المكره في قوله:{إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل: 106] فكذلك نفوذ تصرفه مرفوع عنه؛ لأنه مكره.
ولكن لو أكره على شيء فأقر بخلافه عيناً أو وصفاً فإنه يؤاخذ بإقراره، ما لم نعلم أنه أراد المبالغة؛ فلو أكره على أن يقر بمائة فأقر بثمانين ثبت الإقرار؛ لأنه ما أكره على الثمانين، بل أكره على المائة، ولو أكره على أن يقر بمائة فأقر بمائتين أخذ بذلك؛ لأنه على خلاف ما أكره عليه، ولو أُكره على أن يقر بهذه السيارة لفلان فأقر بالسيارة الأخرى يؤْخذ بها، ولو أكره على أن يقر بمائة صاع بر رديء فأقر بمائة صاع بر نقي أخذ به، المهم إذا أُكره على شيء فأقر بخلافه عيناً أو وصفاً أخذ بإقراره، ما لم نعلم أنه يريد المبالغة، مثل أن يكرهوه على أن يقر بمائة ويضربوه، فإذا ضربوه وآلموه بالضرب قال: إن أردتم أقر لكم بأن في ذمتي له ألفاً، فهذا خلاف ما أكره عليه، لكن للمبالغة من أجل الفكاك والخلاص من هؤلاء الذين أكرهوه، وصاروا يؤلمونه بالضرب أقر بأكثر مما قالوا.
كذلك لو قالوا: هذه السيارة داتسون موديل سبعة وسبعين وأكرهوه على أن يقر بها لفلان، فقال: أنا أقر أن هذه السيارة «البيوك» لفلان، فإذا علمنا من قرينة الحال أنه أراد المبالغة فهذا لا يؤخذ به؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل
امرئ ما نوى»
(1)
وقوله: «إنما أقضي بنحو ما أسمع»
(2)
، والإنسان الذي يسمع مثل هذا ويعلم أن الرجل أراد المبالغة لا يمكن أن يقضى عليه.
وهل يصح الإقرار من السكران؟ المذهب أنه يصح، مع أنه غير مختار، لكنهم يقولون: إن الإقرار ناتج عن شرب محرم، ولا ينبغي أن نتساهل مع هذا الرجل، بل نعامله بأقسى المعاملتين، فإذا كان سكران وجاءه شخص يُضحكه، ويزيد في نشوته، قال: ألم أسلفك عشرة آلاف، قال: بلى أنت صاحبي، وسلفتني عشرة آلاف، فالمذهب يؤاخذ به، والصحيح أنه لا يؤاخذ بذلك؛ لأنه لا عقل له، ولهذا لم يؤاخذ النبي صلى الله عليه وسلم عمه حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه حين قال له: هل أنتم إلا عبيد لآبائي؟!
(3)
.
قوله: «وإن أكره على وزنِ مالٍ فباعَ ملكَهُ لذلك صح» هذه مسألة فيها نوع شبه ممن أكره على إقرار بشيء، فقوله:«أكره على وزن مال» يعني على دراهم، وعبَّر عنها بالوزن؛ لأن الدراهم يتعامل بها وزناً وعدداً، فإذا أكره على وزن نقدٍ، ذهبٍ أو فضةٍ، بأن قالوا له: سلِّم لفلان خمسين أوقية من الفضة، قال: ما عندي شيء، قالوا: سلِّم وإلا حبسناك، فباع ملكه ليسدد ما أكره عليه، فهل يصح البيع؟ يقول المؤلف: يصح؛ لأنه ما أكره على البيع،
(1)
سبق تخريجه ص (153).
(2)
سبق تخريجه ص (316).
(3)
أخرجه البخاري في المساقاة/ باب بيع الحطب والكلأ (2375)، ومسلم في الأشربة/ باب تحريم الخمر وبيان أنها تكون من عصير العنب
…
(1979) عن علي رضي الله عنه.
إنما أكره على مال، فباع لدفع الإكراه؛ ووجه ذلك أنه لو أتى بهذه الخمسين الأوقية من شخص قرضاً، ودفعها يجزئ، فهم يقولون: هو ما أكره على البيع، إنما أكره على أن يدفع خمسين أوقية من الفضة، سواء جاء بها من بيع، أم من قرض، أم من أي شيء.
ولكن هل يصح الشراء منه؟ نعم، إذا صح البيع صح الشراء.
وهل يكره الشراء منه؟ الفقهاء رحمهم الله يقولون: إن الشراء منه مكروه؛ لأن بيعه بيع اضطرار، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع المضطر
(1)
، وهذا الرجل مضطر إلى بيعه، ولكن الصحيح أنه لا كراهة؛ لأننا لو كرهنا ذلك لكان هذا سبباً لزيادة العقوبة عليه، فإذا قلنا للناس: لا تشتروا منه، وهؤلاء يضربونه صباحاً ومساءً على أن يسدد لهم خمسين أوقية من الفضة، فستبقى عليه عقوبة الإكراه دائماً، فالصحيح أنه لا يكره الشراء منه، بل لو قيل باستحباب الشراء منه؛ من أجل فكاكه من هذا الألم لكان له وجه، وأما النهي عن بيع المضطر، فالمراد به أن يُضطر إنسانٌ لشيء يجب عليك بذله له، فلا تعطه إلا ببيع، فيكون من باب إضافة المصدر إلى مفعوله، لا من باب إضافة المصدر إلى فاعله.
قوله: «ومن أقرَّ في مرضه بشيء فكإقرارِهِ في صحته» المرض مرضان: مرض مخوف، ومرض غير مخوف، فالمرض المخوف ما لا يستغرب الناس الموتَ به، وغير المخوف عكس ذلك، فمثلاً: المرأة إذا أخذها الطلق فمرضها مخوف؛ لأنها لو ماتت من هذه الولادة ما استغرب الناس، والإنسان المصاب بذات الجنب، وبالكوليرا، وبالسرطان وما أشبهها، لو مات الإنسان بهذا المرض لقال الناس: هذا مرض يقتل عادة فلا يستغرب، أما مَنْ مرضه غير مخوف كصداع يسير، وزكام، ورشح، وما أشبه ذلك، فهذا تصرفه كتصرف الصحيح تماماً، في الإقرارات، في البيوع، في الوقف، في الرهن، في كل شيء؛ لأن هذا الإنسان المتصرف يتصرف وهو يشعر بأنه حي لا ميت أو قريب من الموت، أما الذي مرضه مخوف فهذا هو الذي تصرفه مقيد، فلا يتصرف بأزيد من الثلث على سبيل التبرع، ولا يعطي أحداً من الورثة؛ لأنه في حكم الميت، فهو المراد بقول الرسول عليه الصلاة والسلام:«خير الصدقة أن تتصدق وأنت صحيح شحيح تأمل البقاء وتخشى الفقر، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد كان لفلان»
(2)
. فالمراد بقول المؤلف: «إذا أقر في مرضه» المرض المخوف بدليل الاستثناء الآتي.
(1)
أخرجه أحمد (1/ 116)، وأبو داود في البيوع/ باب في بيع المضطر (3382)، والبيهقي (6/ 17) عن علي رضي الله عنه.
(2)
أخرجه البخاري في الزكاة/ باب فضل صدقة الشحيح الصحيح (1419)، ومسلم في الزكاة/ باب بيان أن أفضل الصدقة صدقة الصحيح الشحيح (1032) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وعند البخاري «تأمل الغنى» بدل «تخشى الفقر» .
وقوله: «فكإقراره في صحته» إذا أقر بدين عليه أثبتناه، وإذا أقر ببيع أثبتناه، وإذا أقر بإجارة أثبتناه، وإذا أقر برهن أثبتناه،
هكذا كل ما يقر به، فإقراره كإقرار الصحيح، واستثنى المؤلف فقال:
«إلا في إقراره بالمال لوارث فلا يقبل» إذا أقر لوارثه بمال فإنه لا يقبل، سواء كان هذا الوارث يرث بفرض، أو تعصيب، أو رحم، وسواء كان بسبب الزوجية، أو القرابة، أو الولاء، فأي وارث لا يقبل إقراره له بالمال، مثاله: شخص مريض مرضاً مخوفاً، فقال: اشهدوا بأن في ذمتي لولدي فلان عشرة آلاف ريال، وله عدة أولاد، فإقراره هنا غير مقبول؛ لأنه متهم، ولأننا لو أثبتنا هذا الإقرار لكان في ذلك تعدٍّ لحدود الله عز وجل في قسمة المواريث؛ لأن هذا الابن سوف يزيد على إخوته بما أقر به والده.
وظاهر كلام المؤلف ولو كان لسبب معلوم، مثل أن يُعلم بأن هذا الرجل اشترى من أحد ورثته سيارة بعشرة آلاف ريال، ونعلم ذلك باستمارتها، وشهودها، فظاهر كلام المؤلف أنه لو أقر لهذا الوارث بعشرة آلاف ريال فإنه لا يقبل، ولكن في هذا نظر؛ لأن إقراره هنا مبني على سبب معلوم، والأصل عدم التسليم، فنقول: هذا الإنسان أقر للوارث بشيء أحاله على سبب معلوم، والأصل بقاء الثمن في ذمته وعدم قبضه، فالصحيح هنا أنه يصح؛ لأن الأصل في علة منع الإقرار للوارث في مرض الموت المخوف التهمة، والتهمة هنا مفقودة.
وظاهر قوله: «فكإقراره في صحته» أنه لو أقر لأجنبي بما
زاد على الثلث ثبت الإقرار، مثال ذلك: قال: أشهدكم بأن نصف مالي لفلان، وهو غير وارث، فظاهر كلام المؤلف أن ذلك صحيح، وذهب بعض أهل العلم إلى أن إقراره بما زاد على الثلث لا يصح، كما أنه لو أقر لوارث لم يصح؛ وذلك بناء على أن الوصية بما زاد على الثلث لا تصح، وللوارث لا تصح، فالإنسان في مرض موته المخوف ممنوع من التصرف أو التبرع بما زاد على الثلث.
ولكن ما ذهب إليه المؤلف أولى؛ لأن الإنسان ربما يكون في حياته وفي صحته جاحداً لما يجب عليه لشخص من الناس، فإذا رأى أن الأجل قريب تاب إلى الله وأقر، ولنفرض أن هذا الرجل قد عقد مشاركة مع شخص مناصفة، ثم إن الرجل أنكر الشركة، ولما مُرِضَ مرض الموت ندم وتاب وأقر بشركة هذا الرجل، وهذا أمر واقع، فما ذهب إليه المؤلف من صحة الإقرار لغير الوارث مطلقاً صحيح، إلا إذا علمنا بقرينة قوية أن الرجل أراد حرمان ورثته، فحينئذٍ نقول: ما زاد على الثلث لا ينفذ، مثل أن يكون ورثته بني عمه، وبينه وبين بني عمه عداوة، وله صديق حميم، رجل طيب، وماله مائة ألف، فقال: أشهدكم بأن تسعة وتسعين ألفاً وتسعمائة وتسعة وتسعين لفلان صديقي، فهذا الرجل يظهر من إقراره حرمان الورثة، أولاً: لأنه ما أبقى من المائة ألف إلا ريالاً واحداً، ثانياً: لأنه معروف أن بينه وبين بني عمه عداوة وشحناء وبغضاء، ففي هذه الحال نقول: لا يصح الإقرار إلا بالثلث فقط؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم منع سعد بن أبي وقاص
رضي الله عنه أن يتصدق بما زاد على الثلث
(1)
.
وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ كَانَ أَبَانَهَا فِي صِحَّتِهِ لَمْ يَسْقُطْ إِرْثُهَا. وَإِنْ أَقَرَّ لِوَارِثٍ فَصَارَ عِنْدَ الْمَوْتِ أَجْنَبِيّاً لَمْ يَلْزَمْ إِقْرَارُهُ لا أَنَّهُ بَاطِلٌ، وَإِنْ أَقَرَّ لِغَيْرِ وَارِثٍ أَوْ أَعْطَاهُ صَحَّ، وَإِنْ صَارَ عِنْدَ الْمَوْتِ وَارِثاً،
....
قوله: «وإن أقر لامرأته بالصداق فلها مهر المثل بالزوجية لا بإقراره» «أقر» الفاعل يعود على الزوج المريض مرضاً مخوفاً، قال: أشهدكم بأن في ذمتي مهر زوجتي، فلها مهر المثل بالزوجية، لكن قوله:«مهر زوجتي» إن عيَّن بأن قال: في ذمتي خمسون ألفاً مهراً للزوجة، فإن كان أقل من مهر المثل وصدقت أعطيت الخمسين، وإن كان مثل مهر المثل وصدقت أعطيت الخمسين، وإن زاد على مهر المثل فليس لها إلا مهر المثل؛ لأن إقراره غير معتبر؛ لأن الزوجة وارثة، لكننا أوجبنا مهر المثل؛ لأن النكاح لا يصح إلا بمهرٍ، وإذا تزوجت امرأة ثبت لها ما عُيِّن وإن لم يثبت المعين ثبت مهر المثل، ولهذا قلنا: إن هذا الرجل إما أن يقول: أشهدكم بأن في ذمتي مهر امرأتي، أو يقول: في ذمتي كذا وكذا مهراً للمرأة، فعلى الأول يلزمه مهر المثل؛ لأنه لم يعين شيئاً، وعلى الثاني نقول: إن كان ما عيَّنه أقل من مهر المثل، أو مساوياً لمهر المثل أعطيته المرأة، وإن كان أكثر لم تعطه؛ لأنه إقرار بالمال لوارثه، وهذه المسألة تدل على ما سبق من قولنا: إنه إذا وجد لإقراره بالمال للوارث سبب يمكن إحالة الحكم عليه فإنه يقبل إقراره بالمال للوارث. كما لو عرف بأن هذه السيارة منتقلة من أحد ورثته.
(1)
سبق تخريجه ص (226).
قوله: «ولو أقر أنه كان أبانها في صحته لم يسقط إرثها» «ولو أقر» الفاعل يعود على المريض؛ لأنه قال: «ومن أقر في مرضه» يعني إن أقر المريض لامرأته أنه كان أبانها في صحته أي: قبل أن يُمْرَضَ، والبينونة أن يفارقها مفارقة تبين بها، إما أن يكون بطلاقٍ ثلاث، يعني آخر تطليقات ثلاث، وإما بفسخ، وإما بغير ذلك، فيقول المؤلف:«لم يسقط إرثها» ؛ لأنه متهم، بل يبقى إرثها في ماله إلا إذا صدَّقته، والأمر ظاهر؛ لأنه متهم، فهذا الرجل أقر بأنه أبان زوجته قبل أن يمرض من أجل أن يحرمها من الإرث، نقول: هذا الإقرار لا يقبل؛ لأنه متهم بقصد حرمانها، فكما أنه لو طلقها في هذه الحال طلاقاً بائناً لم يسقط إرثها، فكذلك إذا أقر بأنه أبانها في صحته لم يسقط إرثها، فإن أتى ببينة، أو أقرت هي بما أقر به الزوج فإن إرثها يسقط.
قوله: «وإن أقر لوارث فصار عند الموت أجنبياً لم يلزم إقراره، لا أنه باطل» «إن أقر» الفاعل يعود على المريض مرض الموت المخوف، فإذا أقر لوارث فصار عند الموت أجنبياً، يعني غير وارث، فإن إقراره لا يلزم اعتباراً بحال الإقرار لا بحال الموت، مثاله: رجل مات عن زوجة وعم شقيق وأم، فللزوجة الربع، وللأم الثلث، والباقي للعم الشقيق، فهذا المريض أقر لعمه الشقيق بمال، ثم إن أمه ولدت لهذا المريض أخاً شقيقاً، ثم مات المريض بعد أن ولد أخوه الشقيق، فالذي يرثه بالتعصيب
الأخ الشقيق، فهل نقول في هذه الحال: إن العم يعطى ما أقر له به أو لا؟ يقول المؤلف: إنه لا يعطى اعتباراً بحال الإقرار؛ لأن حال الإقرار هي حال التهمة فإن بقي العم هو الوارث، فهل يعطى أو لا يعطى؟ لا يعطى من باب أولى؛ لأنه أقر لوارث، فالمهم إذا أقر المريض لوارث ثم صار عند الموت غير وارث فإن الإقرار لا يصح، لكن المؤلف يقول:
«لم يلزم إقراره لا أنه باطل» يعني لا يلزم أن يعطى ما أقر به، ولكنه ليس بباطل، بمعنى أن الورثة لو أجازوا له ذلك فإنه يجوز، ويعطى إياه بالإقرار، ولو قلنا: إنه باطل ما صح إقراره ولو بإجازة الورثة، ولهذا يجب أن نعرف الفرق بين أن نقول: إن إقراره باطل، أو نقول: إن إقراره غير لازم؛ لأننا إذا قلنا: إنه غير لازم، صار موقوفاً على إجازة الورثة، فإن أجازوه أعطي، وإن قلنا: إنه باطل صار غير صحيح ولو أجازوه؛ لأنه بطل.
قوله: «وَإِنْ أَقَرَّ لِغَيْرِ وَارِثٍ أَوْ أَعْطَاهُ صَحَّ وَإِنْ صَارَ عِنْدَ الْمَوْتِ وَارِثاً» هاتان مسألتان:
الأولى: شخص أقر لأخيه وله ابن، ثم مات ابنه فصار الأخ وارثاً، فيصح هذا الإقرار ويعطى أخوه ما أقر به له.
الثانية: إذا أعطاه وهو غير وارث فصار عند الموت وارثاً، أعطاه يعني وهبه، لكن العلماء يسمون الهبة في مرض الموت المخوف عطية، مثاله: مُرض هذا الرجل مرض الموت فكلم أخاه وقال: خذ يا أخي هذه عشرة آلاف ريال، عطية، ثم إن ابنه مات
فهل تصح هذه العطية أو لا؟ المؤلف يرى أنها تصح كالإقرار.
والقول الثاني ـ وهو المذهب ـ: أن العطية كالوصية، والمعتبر في الوصية حال الموت لا حال الإيصاء، وبناء على المذهب فإن عطيته لأخيه لا تلزم إلا بإجازة الورثة بناء على أن المعتبر في العطية حال الموت لا حال الإعطاء فالإقرار، إذا أقرَّ لغير وارث ثم صار عند الموت وارثا فحكمه: أنه صحيح ولازم ويعطى ما أقر به الميت، أما العطيه فهي كالإقرار على ما مشى عليه المؤلف رحمه الله وإذا كانت كالإقرار فمقتضاه: أنها تصح وتسلم لهذا المعطى، والقول الثاني: أنها لا تلزم إلا بإجازة الورثة، مثاله: مريض مرض الموت دعا أخاه، وقال له: يا أخي بلغني أنك ستتزوج، خذ هذه عشرة الآلاف مساعدة، ثم إن المريض توفي ابنه فصار الوارثَ الأخُ فعلى ما مشى عليه المؤلف العطية صحيحة وتكون من رأس المال، وليس للورثة فيها تصرف كالإقرار؛ لأن المعتبر حال الإعطاء، أما المذهب فيقولون: لا، المعتبر حال الموت، وعلى هذا فنقول: لما مات ابن المعطي وصار الأخ وارثاً، فإن هذه العطية لا تلزم إلا بإجازة الورثة كالوصية.
فعندنا ثلاثة أشياء: إقرار، ووصية، وعطية، فالإقرار المعتبر به حال الإقرار قولاً واحداً؛ لأن الإقرار إنما ينسب الشيء إلى أمر سابق لا إلى أمر حدث في مرض موته، والوصية المعتبر بها حال الموت، قولاً واحداً؛ لأن الوصية ما تكون إلا بعد الموت، والعطية فيها خلاف، المذهب أنها ملحقة بالوصية، وكلام
المؤلف أنها ملحقة بالإقرار؛ لأنها لمَّا كانت بَيْنَ بَيْنَ يحتمل أنه إنشاء عطية، ويحتمل أنه عطية لأمرٍ سابق، صار فيها الخلاف، والأرجح أنها كالوصية؛ لأنها يحتمل أنه أراد أن يبره بذلك الشيء، وقد يقول قائل: كيف ترجحون أنها كالوصية وهو حين الإعطاء غير وارث، فالتهمة منتفية في الواقع، أما الوصية فلا تكون وصية إلا بعد الموت والتهمة موجودة؟ وهذا يجعلنا نتوقف في ترجيح أن تكون العطية كالوصية، وكونها عطاء في مرض الموت يرجح أن نجعلها كالوصية.
إذاً القاعدة الأولى: إذا أقر المريض لوارث لم يقبل إقراره، وإن شئت فقل: لم يلزم إلا بإجازة الورثة، وقيل: لا يقبل مطلقاً.
ثانياً: إذا أقر لوارث فصار عند الموت أجنبياً لا يتغير الحكم، فلا يصح إقراره اعتباراً بحال الإقرار.
ثالثاً: إذا أقر لغير وارث فصار عند الموت وارثاً صح إقراره؛ لأن العبرة حال الإقرار.
فإن قال قائل: لماذا لا تعتبرون الحال بالموت؟ قلنا: لأن حال الإقرار هي حال التهمة، أما إذا تغيرت فالإنسان لا يعلم الغيب فلا يكون متهماً في عمل لم يوجد سببه.
وَإِنْ أَقَرَّتْ امْرَأَةٌ عَلَى نَفْسِهَا بِنِكَاحٍ وَلَمْ يَدَّعِهِ اثْنَانِ قُبِلَ، وَإِنْ أَقَرَّ وَلِيُّهَا الْمُجْبِرُ بِالنِّكَاحِ، أَوِ الَّذِي أَذِنَتْ لَهُ صَحَّ، وَإِنْ أَقَرَّ بِنَسَبِ صَغِيرٍ أَوْ مَجْنُونٍ مَجْهُولِ النَّسَبِ أَنَّهُ ابْنُهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ، فَإِنْ كَانَ مَيْتاً وَرِثَهُ، وَإِذَا ادَّعَى عَلَى شَخْصٍ بِشَيْءٍ فَصَدَّقَهُ صَحَّ.
قوله: «وَإِنْ أَقَرَّت امْرَأَةٌ على نفسها بِنِكَاحٍ وَلَمْ يَدعِهِ اثْنَانِ قُبِلَ» كإنسان أمسك امرأة وقال: هذه زوجتي، فقالت: نعم، فإنها تكون زوجته، ويقبل إقرارها؛ لأن النكاح حق على الزوجة، فإذا أقرت به قبل إقرارها، والدليل على أنه حق عليها قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ
تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً *} [الأحزاب]، هذا إذا كان المدعي واحداً.
وقوله: «ولم يدعه اثنان» مفهومه أنه إذا ادعاه اثنان لم يقبل إقرارها؛ لأن في إقرارها إبطالاً لحق المدعي الثاني، فهذه امرأة أمسكها رجلان، كل واحد منهما يقول: هذه زوجتي، زيد يقول: هذه زوجتي، وعمرو يقول: هذه زوجتي، فذهبوا إلى القاضي فأقرت بأنها زوجة زيد، فعلى المذهب لا يقبل إقرارها لزيد؛ لأن في ذلك إبطالاً لحق المدعي الثاني.
ومعلوم أن هذا الحكم إذا لم يكن هناك بينة، أما إذا وجدت بينة لإحداهما فهي لصاحب البينة، وإن أقام كل واحد بينة بأنها زوجته، ينظر التاريخ فالسابق هو الزوج، ولهذا قال في الروض
(1)
: «إن أقاما بينتين قدم أسبق النكاحين فإن جهل فقول وليها فإن جهل الولي فسخا ولا ترجيح بيد» هذه ادعاها اثنان إن لم يكن لهما بينة فعلى كلام المؤلف لا يقبل، أما إن أقرت لهما جميعاً، أو لم تقر بشيء فلا بد من البينة على ما قاله صاحب الروض، ولا تستغرب هذا الأمر، فهذا ربما يقع، ويقال: إن بعض النساء ـ والعياذ بالله ـ تتزوج وهي ذات زوج.
قوله: «وَإِنْ أقَرَّ وَلِيُّهَا المجبر بِالنِّكَاحِ أَو الَّذِي أَذِنَتْ لَهُ صَح» يعني ادعِيَ على امرأة أنها زوجة فلان، وقد سبق أنها إذا أقرت يقبل إقرارها، فإذا أقر وليها فالولي قسمان على المذهب ـ أيضاً ـ قسم مُجْبِر وهو أبو البكر، وقسم لا يُجْبِر وهو من سواه، فإذا
(1)
الروض المربع مع حاشية ابن قاسم مع الروض المربع (7/ 637).
كانت من النساء اللاتي يجبَرن، وأقر وليها المجبِر فكإقرارها؛ وذلك لأنه يملك إنشاء العقد فَمَلَكَ الإقرارَ عليه؛ فالأب له أن يزوج ابنته وإن لم ترضَ وإن لم تعلم على المذهب، فإذا أقر أن فلانة زوجة فلان، فإن الزوجية تثبت، سواء أقرت ووافقت على هذا، أم لم تقر؛ لأنه يملك إنشاء العقد فملك الإقرار عليه.
أما إذا كان غير مجبِر وهو غير الأب، فننظر إن كانت قد أذنت له صح إقراره وإلا فلا، فإذا أقر هذا الولي كالأخ ـ مثلاً ـ بأنها زوجة فلان، زوَّجَها إياه، فإننا نسألها: هل أنت أذنتِ له؟ إن قالت: نعم، قلنا: إقراره صحيح، ونعلل بما عللنا من قبل؛ لأنه يملك إنشاء العقد لكونه قد أُذن له فملك الإقرار عليه، فإن قالت: ما أذنت له لم نقبل إقراره ـ يعني الولي ـ؛ لأنه لا يملك إنشاء العقد فلم يملك الإقرار عليه، فصار عندنا ثلاثة أشخاص: المرأة، والولي المجبِر، والولي غير المجبر، فالذي يصح إقراره بالنكاح من هؤلاء المرأة بكل حال إلا أن المؤلف اشترط ألا يدعيه اثنان، والولي المجبِر يقبل إقراره بكل حال سواء أذنت أم لم تأذن، والولي غير المجبر يقبل إقراره إن ثبت أنها أذنت له؛ وذلك لأنه لا يملك العقد عليها إلا بإذنها.
قوله: «وَإِنْ أَقَرَّ بِنَسَبِ صَغِيرٍ أَوْ مَجْنُونٍ مَجْهُولِ النَّسَبِ أَنَّهُ ابْنُهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ» «إن أقر» الفاعل «مُقِرٌّ» لأنه إذا لم يوجد مرجع بَيِّن أخذ اسم فاعل من مصدر الفعل، فنقول: إن أقر مُقِرٌّ بنسب صغير أو مجنون لحقه، كإنسان معه ولد صغير لم يبلغ، فقال:
هذا ابني، يقول المؤلف: يلحقه النسب، أو قال: هذا أخي، يلحقه النسب، أو قال: هذا عمي، يلحقه النسب، لكن المؤلف يقول:«بنسبِ صغيرٍ أو مجنون» فإذا كان بنسب بالغ عاقل يختلف الحكم، ولذلك نقول في تقرير هذه المسألة: الإقرار بالنسب يثبت به النسب بشروط أربعة:
الأول: إمكان ذلك.
الثاني: ألا يدفع به نسباً معروفاً. يعني لا يمسك أحد من الناس فلان بن فلان المعروف نسبه ويقول: هذا ابني.
الثالث: أن يصدقه المُقَرُّ بِهِ إن كان بالغاً عاقلاً، وإن لم يكن بالغاً عاقلاً فإنه لا يشترط.
الرابع: أن يكون مجهول النسب.
فالشرط الأول: إمكان ذلك، فإن لم يمكن فإنه لا يقبل، فلو ادعى شخص قال: هذا ابني وعمره عشرون سنة، وعمر المُقِر خمس وعشرون سنة فلا يقبل؛ لأنه لا يمكن للذي له خمس سنين أن ينجب ولداً.
الثاني: ألا ينفي به نسباً معروفاً، وذلك بأن لا يعرف أن هذا الرجل فلان ابن فلان، فإن عرف بأنه فلان ابن فلان فإن المقر لا يمكن أن يقبل إقراره؛ لأن هذا يبطل نسباً معروفاً، ولو فتح الباب لكان كل واحد يعجبه شخص من الناس، يقول: هذا ابني.
الثالث: أن يصدقه المقَرُّ به بشرط أن يكون بالغاً عاقلاً، فإن كان غير بالغ ولا عاقل فإنه لا يشترط أن يصدقه، ولكن إذا
أنكر الصغير أو المجنون بعد البلوغ والعقل فهل يقبل إنكارهما أو لا؟ فيه خلاف بين العلماء، فمنهم من قال: لا يقبل إنكارهما؛ لأن النسب ثبت والنسب لحمة لا يتغير، وإذا كان الولاء الذي يُلحق بالنسب لا يمكن أن ينقل إلى غير من هو له، فكذلك النسب لما ثبت لهذا الصغير أو المجنون لا يمكن رفعه.
ويرى بعض العلماء أنهما إذا أنكرا بعد البلوغ والعقل لم يثبت النسب؛ لأننا اشترطنا تصديق البالغ العاقل، وهذان لا يعتبر تصديقهما فإذا حصل البلوغ والعقل وجب التصديق، لكن المذهب أنه ليس بشرط.
الرابع: أن يكون مجهول النسب، فإن كان معلوم النسب، بأن عرف أن هذا الرجل من قبيلة كذا، والآخر من قبيلة أخرى، فإنه لا يصدق لأنه يدفع به نسباً معروفاً.
فإذا كان المقِرُّ حياً ولكن المقر به ميت فهل يرثه أو لا؟ يقول المؤلف:
«فَإِنْ كَانَ مَيِّتاً وَرِثَهُ» وإنما نَصَّ على ذلك مع أنه إذا ثبت النسب ثبت الإرث؛ لأن من العلماء من يقول: إنه إذا كان ميتاً لا يرثه؛ لأنه متهم، فهذا رجل مجهول النسب ولا يعرف له نسب مات وخَلَّفَ خمسين مليون ريال فجاء رجل بعد موته، وقال: هذا أخ شقيق لي، ما لي فيه منازع يقول المؤلف: يثبت النسب ويرثه، وهو متهم غاية الاتهام، أعتقد أن لو لم يخلف إلا الكفن، ما قال: إنه أخي يخشى أن ينقص الكفن ويلزم بتتميمه، لكن إذا خلف خمسين مليون ريال ففيه اتهام قوي، وهم يقولون رحمهم الله:
الإرث هنا فرع عن النسب، والشارع يتشوف إلى ثبوت النسب وعدم ضياع الأنساب، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:«الولد للفراش وللعاهر الحجر»
(1)
، حتى لو كان الإنسان يغلب على ظنه أن هذا الولد من الزنا، وهي ذات زوج فهو لزوجها، حتى لا يكون الناس أولاد زنا وبغاء والشارع له تشوف إلى إلحاق الناس في أنساب معلومة.
والقول الثاني: أنه إذا كان ميتاً لا يرثه؛ لأنه متهم، لا سيما إذا كان يشاهده كل يوم وليلة، وربما لا يسلم عليه وليس بينهما صلة، ولا يعرف أحدهما الآخر، ثم لما مات جاء يقول: هذا أخي؛ لأننا نقول: أين أنت هذه المدة؟! ما عرفته إلا لما مات، وخَلَّف هذا المال العظيم، جئت تقول: إنه أخي، وبناء على هذا ينبغي أن يتوسط بين القولين، ويقال: إن وجدت قرينة تدل على أن متهم فإنه لا يرثه، وإلا ورث، فلو كان هذا الإنسان غائباً في بلد، والشخص الذي ادعى أنه أخوه في بلد آخر، ولم يتصل به، ولكن لما مات أراد أن يأخذ نصيبه منه ولا يذهب المال إلى بيت المال، فهذا ربما يقال: إن هذا الإقرار صحيح، لكن لو أنه في البلد وربما كان قريباً منه في المكان، وفي الجوار، وفي المسجد وما أشبه ذلك، ولا يعرفه ولا يسلم أحدهما على الآخر، فإذا مات قال: هذا أخي!! فلا شك أن التهمة قوية جداً، فيقال له: أين أنت هذه المدة؟! ما عرفت أخاك؟ فيكون هذا قولاً وسطاً بين القولين.
(1)
أخرجه البخاري في الفرائض/ باب القائف (6770)، ومسلم في الرضاع/ باب العمل بإلحاق القائف الولد (1459) عن عائشة رضي الله عنها.
فإذا قال قائل: هل يجوز إحداث مثل هذا القول؟
الجواب: نعم، يجوز إحداث مثل هذا القول، ولا يعتبر هذا خارجاً من الإجماع، يعني لو فرض أن هذه المسألة إجماعية، إما كذا وإما كذا، ولا يوجد قول ثالث، فإن التفصيل لا يعتبر خرقاً للإجماع؛ لأنه يوافق من أبطل الإقرار في وجه، ويوافق من أقر الإقرار من وجه آخر، وهذه الطريق يستعملها شيخ الإسلام رحمه الله أحياناً، فمثلاً يقول: الوِتْر اختلف فيه العلماء، هل هو واجب، أو سنة؟ ثم يقول: من كان له ورد من الليل فيجب عليه الوتر، ومن لم يكن له ورد فلا يجب، ثم قال: وهو بعض قول من يوجبه مطلقاً؛ لأنه لا يجب إلا في حال دون أخرى، فالمهم أنه إذا ورد خلاف بين العلماء، وتوسط أحد من الناس بتفصيل يوافق هؤلاء من وجه ويوافق الآخرين من وجه، فإن هذا ليس خرقاً للإجماع، ولا خروجاً عن أقوال أهل العلم.
قوله: «وإِذا ادَّعى عَلَى شَخْصٍ بِشَيْءٍ فَصَدَّقَهُ صَحَّ» هذه مسألة قد يقول قائل: إنها كقول الإنسان: السماء فوقنا والأرض تحتنا، أو قول الآخر:
كأننا والماء من حولنا
قوم جلوس حولهم ماء
وهذا تحصيل حاصل يعني يأتي إنسان ويقول: أنت عندك لي عشرة دراهم، فقال: نعم.
يقول المؤلف إذا صار الأمر كهذا صح الإقرار، ولكن أراد المؤلف بذلك أن الإقرار يصح بأي لفظ كان، فسواء قلت: أقر أن لفلان عندي كذا وكذا، أو يأتي فلان ويقول: عندك لي كذا
وكذا فتقول: نعم، وليس مراد المؤلف أن يبين أن الإنسان إذا ادُّعِيَ عليه فأقر بما ادعي عليه أنه تصح الدعوى ويعطى المدعي ما ادعاه؛ لأن هذا أمر واضح، ولا إشكال فيه. لكن قصده أنه يصح إقراراً.
مسألة: إذا ألحقت القافة الولد بأبوين فهل يلحق بهما؟
على المذهب يمكن أن يلحق بأبوين إن رأت القافة ذلك، لكن إن ألحقته بأحدهما لحقه.
وصورة المسألة أن يطأ المرأة رجلان بشبهة كل منهما يظنها زوجته فحملت من هذا الوطء فإذا ألحقته القافة بهما لحقهما.
وكيف يسمى الولد الذي ألحق بأبوين؟
إن كان اسم الأبوين واحداً مثل: محمد ومحمد فنسميه ـ مثلاً ـ عبد الله ابن المحمدين، وإن كان يختلف فلا بد من ذكر اسم كل أب منهما على حدة فنقول ـ مثلاً ـ عبد الله بن محمد وصالح، وهكذا.
* * *
فَصْلٌ
إِذَا وَصَلَ بِإِقْرَارِهِ مَا يُسْقِطُهُ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ لَا تَلْزَمُنِي وَنَحْوُهُ لَزِمَهُ الأَلْفُ، وَإِنْ قَالَ: كَانَ لَهُ عَلَيَّ وَقَضَيْتُهُ فَقَوْلُهُ بِيَمِينِهِ مَا لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ، أَوْ يَعْتَرِفُ بِسَبَبِ الْحَقِّ، وإِنْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ مِائَةٌ ثُمَّ سَكَتَ سُكُوتاً يُمْكِنُهُ الْكَلَامُ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ زُيُوفاً أَوْ مؤجَّلَةً لَزِمَهُ مِائَةٌ جيِّدَةٌ حالَّةٌ،
......
قوله: «إِذَا وَصَلَ بِإِقْرَارِهِ مَا يُسْقِطُهُ» «إذا وصل» يعني ضم إلى إقراره ما يسقطه من الوصل، وهو وصل الشيء بالشيء وليس من الوصول، يعني إذا قرن بإقراره ما يسقطه، فهل يقبل أو لا يقبل؟
قال: «مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ لا تَلْزَمُنِي وَنحوه لزمه الألف» لأن قوله: «له علي» إقرار، وقوله:«ولا تلزمني» رفع لهذا الإقرار، ولا يقبل أن يرفع ما أقر به، فلهذا نقول: يلزمه الألف.
ولكن لو أضاف الألف إلى شيء لا يثبت له عوض، مثل أن يقول: له علي ألف، ثمن ميتة، أو ثمن خمر، أو ثمن آلة لهو، وما أشبه ذلك، فهل هو كقوله: لا يلزمني، أو نقول: إن هذا ليس كقوله: لا يلزمني، لكن لا يلزم؛ لأن المعوض ليس له قيمة شرعاً؟
الجواب: الثاني، وهذا هو الأقرب أن يقال: إنه ليس كقوله: لا تلزمني؛ لإمكانه أن يبيع عليه خمراً، ثم يتوب ويقر قبل أن يسلم الثمن، وعليه فلو أضافه إلى خمر باعه عليه وهو ذمي فإنه يلزمه الألف؛ لأن هذا عوض عن شيء يصح التعويض عنه حيث كان في زمن الكفر.
فإن أقام بينة على أنه له عليه ألف، وأنه أوفاه إياه أو ما أشبه ذلك، بحيث يصح قوله:«لا تلزمني» ويكون قوله: «له علي ألف» باعتبار أول الأمر، وقوله:«لا تلزمني» باعتبار ثاني الحال فإذا أقام بينة بهذا فإنه يقبل.
قوله: «وَإِنْ قَالَ: كَانَ لَهُ عَلَيَّ وَقَضَيْتُهُ» فهذا إقرار ودعوى، فالإقرار «كان له علي» والدعوى «وقضيته» فهل نقول: إن الرجل ثبت عليه الألف بإقراره ولم يثبت القضاء؛ لأنه ادعاه وعلى المدعي البينة؟ المؤلف يقول: لا يلزمه الألف؛ لأن هذا لا يتناقض فقد يكون له عليه وقضاه، فلما لم يكن قوله متناقضاً أخذنا بقوله.
قوله: «فقوله: بيمينه» أي: يحلف أنه قضاه ويبرأ، وهل يطالب بالبينة أنه قضى؟ لا يطالب؛ لأنه لم يلزم هذا الحق إلا بإقراره فوجب أن يكون على صفة ما أقر به، وهذا هو المذهب وهو الصحيح.
وقال بعض أهل العلم: بل إنه يكون مقراً مدعياً، فيلزمه ما أقر به ويطالب بالبينة بما ادعاه، يكون مقراً بالألف ومدعياً للقضاء، فيقال: أنت الآن لزمك الألف بإقرارك، هاتِ بينة على أنك قضيته، وهذا قول أبي الخطاب من أصحاب الإمام أحمد رحمه الله، ولكن المذهب في هذا أصح، وحجتهم ما سبق؛ ولهذا قال المؤلف:
«مَا لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ» فحينئذٍ يكون مدعياً للقضاء، فإن أتى ببينة عليه وإلا لزمه الألف؛ لأن الألف هنا ثبت ببينة، كما لو جاء شهود يشهدون بأن فلاناً استقرض من زيد ألف ريال، ثم قال زيد: كان له علي وقضيته، نقول: الآن لا نقبل قولك؛ لأن الأصل ثبت ببينة، فعليك البينة أنك قضيته، أما في الصورة الأولى فلم يثبت الأمر إلا من قِبَلك فلا يلزمك إلا ما أقررت به.
قوله: «أَوْ يَعْتَرِفُ بِسَبَبِ الحَقِّ» فيقول: كان له علي ألف قرضاً، فنقول: إذا قلت: وقضيته، يلزمك الألف؛ لأنك أقررت بشيء يوجب الدين، وهو القرض، أو ثمن البيع، أو أجرة البيت أو ما أشبه ذلك، فصارت هذه المسألة لها ثلاث صور:
الأولى: أن يقول: كان له علي ألف فقضيته، ولا يثبت ببينة ولا يعزوه إلى سبب، فهنا القول قوله بيمينه أنه قضاه.
الثانية: أن يثبت أصل الألف ببينة ثم يدعي القضاء فلا يقبل إلا ببينة؛ لأن الأصل ثبت بغير إقراره.
الثالثة: ألا يثبت ببينة، ولكن يعزوه إلى سبب، فيقول: له علي ألف قرضاً، أو ثمن مبيع، أو أجرة أو ما أشبه ذلك، فلما اعترف بسبب الحق اعترف أن في ذمته شيئاً لم يؤخذ عنه عوض، فالألف لزمته بإقراره بسبب الحق، وهو عوض عن شيء أخذه من المُقَرِّ له، بخلاف الذي هو مجرد إقرار فقط، فنقول في هذه الصورة: لا تقبل دعواه أنه قضى إلا ببينة، لأنه اعترف بسبب الحق، والسبب موجب بذاته كالبينة موجبة بذاتها، وحينئذٍ يلزمك أن تقيم بينة، أما في الأولى فإنه لم يعترف أن شيئاً دخل عليه، فقد يكون هذا هبة منه أو عدة أو غير ذلك.
قوله: «وَإِنْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ مِائَةٌ ثُمَّ سَكَتَ سُكُوتاً يُمْكِنُهُ الكَلَامُ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: زُيُوفاً أَوْ مُؤَجَّلَةً لَزِمَهُ مِائَةٌ جَيِّدَةٌ حَالَّةٌ» «زيوفاً» أي: معيبة؛ لأنها تقابل «جيدة» ، هذا رجل قال: له علي مائة درهم،
وسكت سكوتاً يمكنه أن يتكلم، ثم قال: مؤجلة، أو قال: له علي مائة ثم سكت، ثم قال: زيوفاً، يلزمه في المسألة الأولى مائة حالة، وفي المسألة الثانية مائة جيدة، فإن قال: له علي مائة ثم سكت، ثم قال: مؤجلة زيوفاً، يلزمه حالة جيدة، وكيف نلزمه بمائة حالة جيدة، والرجل وصف كلامه بضد ذلك، والمسألة لم تثبت إلا بإقراره، فلماذا لا نقول: إنه لا يلزمه إلا ما أقر به؟
فالجواب: أن يقال: إن الصفة يشترط لتخصيصها الموصوف أن تكون متصلة وهنا لم تتصل.
كذلك لو قال: له علي مائة، والمُقَرُّ له فقيه، ويعرف أنها مائة زيوف ومؤجلة لكن لما قال: له علي مائة، تكلم معه بكلام أجنبي، ثم قال: زيوف أو مؤجلة، فهل نقول هنا: إن الرجل تحيل عليه حتى جعله يفصل بين الموصوف والصفة؟ نقول: إذا علمنا أن الرجل تحيَّل عليه وتكلم معه بكلام أجنبي بهذا القصد، فإن هذه الصفة معتبرة وتخصص الموصوف.
ولو فرضنا أن الرجل عَيِيٌّ، إما تمتام، أو فأفاء، أو ما أشبه ذلك، وسكت، ونحن نشاهد أنه يريد أن يتكلم لكنه عجز فهنا الصفة معتبرة، لا يضرها هذا السكوت، ولهذا قال المؤلف:«يمكنه الكلام فيه» فعلم أنه إن لم يمكن فإن الصفة تقبل.
وهل إذا قال: «مائة مؤجلة أو مائة زيوف» ، هل هذا رافع لأصل المُقَرِّ به أو لوصفه؟
الجواب: لوصفه، ورفع الوصف ليس كإسقاط الأصل، ولهذا في المسألة الأولى في أول الفصل قلنا: لا يقبل قوله: «لا
تلزمني»؛ لأن ذلك رفع للأصل، أما هذا فهو رفع للوصف، ويسمى تخصيصاً لا رفعاً.
وَإِنْ أَقَرَّ بِدَيْنٍ مُؤَجَّلٍ، فَأَنْكَرَ الْمُقَرُّ لَهُ الأَجَلَ فَقَوْلُ الْمُقِرِّ مَعَ يَمِينِهِ، وَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهُ وَهَبَ أَوْ رَهَنَ وَأَقْبَضَ، أَوْ أَقَرَّ بِقَبْضِ ثَمَنٍ أَوْ غَيْرِهِ، ثُمَّ أَنْكَرَ الْقَبْضَ، وَلَمْ يَجْحَدِ الإِقْرَارَ، وَسَأَلَ إِحْلَافَ خَصْمِهِ فَلَهُ ذَلِكَ،
..............
قوله: «وَإِنْ أَقَرَّ بِدَيْنٍ مُؤَجَّلٍ فَأَنْكَرَ الْمُقَرُّ لَهُ الأَْجَلَ فَقَوْلُ الْمُقِرِّ مَعَ يَمِينِهِ» إذا أقر مُقِرٌّ بدين مؤجل فأنكر المُقَر له الأجل، فعندنا أصلان متعارضان: أحدهما: أن الأصل الحلول دون التأجيل، والرجل أقر بدين وادعى أنه مؤجل، الثاني: أن المقِر غارم، والغارم قوله مقبول؛ لأنه مدعى عليه، فأي الأصلين نقدم؟ نقدم الثاني، وهو أن المُقِرَّ غارم، ويدل لصدقه أنه أقر، ولو شاء لأنكر؛ لأن المدعي ليس عنده بينة، فلو أن رجلاً قال: لي عند هذا الرجل مائة ريال، وقال: نعم، عندي لك مائة مؤجلة سنة أو إلى شهر، فهنا القول قول المُقِرِّ؛ لأن ذلك لم يثبت إلا بإقراره، وهو لم يقر إلا على هذه الصفة، فلم يلزمه أكثر مما أقر به، ثم هو في الواقع غارم، والغارم قوله مقبول، أما لو قال: بعت عليك شيئاً بمائة فقال: نعم، بعتنيه بمائة، ولكن الثمن مؤجل، فالقول قول البائع؛ لأن الأصل عدم التأجيل، وهذا الرجل أقر بأنه باعه عليه، ولكنه ادعى أن الثمن مؤجل فلا يقبل.
وقوله: «فقول المقر مع يمينه» كل من قلنا: القول قوله فقوله بيمينه، لعموم الحديث:«البينة على المدعي واليمين على ما أنكر»
(1)
.
(1)
سبق تخريجه ص (318).
الأولى: إن أقر أنه وهب وأقبض، قال: إني وهبت هذا الكتاب زيداً وأقبضته إياه، وإنما أردف قوله: وأقبضته إياه؛ من أجل أن تكون الهبة لازمة؛ لأن الهبة لا تلزم إلا بالقبض، ولو قال: وهبته ولم يقل: وأقبضته، ما لزمت الهبة؛ لأن الواهب إذا لم يُقْبِض الهبة فله أن يرجع، فلو قال: يا فلان أنا وهبتك هذا الكتاب، ولكن ما أقبضه إياه فله أن يمنع الهبة، ولا يُقْبِضَها، ولكن إذا أقبضها صارت لازمة، فهذا الرجل أقر أنه وهب وأقبض، ثم بعد ذلك قال: ما أقبضت، وقال: حَلِّفوا الموهوب له أنه قبض؛ لأن الموهوب له يدعي أنه قابض من أجل أن تلزم الهبة، والمُقِر يدعي أنه لم يُقبض من أجل ألا تلزم، فقال المقِر: حلفوه أني أقبضته حتى تكون الهبة لازمة، يقول المؤلف: له ذلك، فإن قال الخصم: لا أحلف، كيف أحلف على شيء هو أقر به؟ ألم يقر أنه وهب وأقبض، إذن فلماذا تحلفونني على شيء أَقر به خصمي؟! فنقول: إن كان صادقاً أنه لم يُقْبضك فأنت حلفت واستحققت الموهوب له، وإن كنت صادقاً في أنه وهب وأقبض فاليمين لا يضرك؛ بل هو نافع لك على كل حال، فلماذا لا تحلف؟!
والمسألة فيها خلاف لكن الكلام على المذهب يقولون: لأن العادة جرت بمثل هذا الأمر أن يقال: نكتب أنك وهبت وأقبضت؛ لئلا يبقى في المسألة تعلقات، فيقول: نعم اكتب أنني وهبت، وأقبضت، وهو ما أقبض، ولنفرض أنه وهبه بيته وهو ساكن فيه، وقال: أَقِرْ بأنك وهبت وأقبضت، فأقر أنه وهب وأقبض؛ لأجل أن تنتهي المسألة، ولا يكون فيها تعلقات، وهذه دائماً تقع، وتقع أيضاً في مسألة ثانية سيذكرها المؤلف إذا أقر أنه باع وقبض الثمن.
على كل حال يقول المؤلف: «إذا سأل إحلاف خصمه فله ذلك» ويحلفه القاضي، وإذا لم يحلف فقال بعض الأصحاب: يُقضى عليه بالنكول من غير رد اليمين على المُقِر، فيقال: ما دام أنك ما حلفت فليس لك شيء، ويحكم عليه بالنكول، ويقال للواهب: خذ ما وهبت ولا يلزمك شيء.
القول الثاني: أنها ترد اليمين على المُقِر، فيقال للمُقر: احلف أنك لم تُقْبِضه، وهذا القول أقيس، وقد سبق لنا أن القول الراجح: أنه إذا نكل من عليه اليمين ردت على خصمه، وهذا من باب أولى؛ لأن خصمه ادعى أنه أقبض، ولا ترفع هذه الدعوى إلا إذا حلف الواهب بأنه لم يُقبض، ولا يضره شيء إذا حلف على شيء هو صادق فيه. فإن كان صادقاً فهو بار، وإن كان كاذباً فلن يحلف، فعلى كل حال: إذا حلف استحق، وإذا نكل فإنه لا يستحق الموهوب، أما رد اليمين على الواهب ففيها الخلاف المذكور، والراجح أن اليمين ترد على الواهب إذا تكل الموهوب له عن اليمين.
الثانية: يقول: «رهن وأقبض» نقول فيها مثل الهبة، ولماذا أقر بالإقباض؟ لأن الرهن على المشهور من المذهب لا يلزم إلا بالقبض، يقبضه المرتهن، أو من يقوم مقامه، مثل لو اتفقا على أن يجعلاه عند رجل ـ وهو ما يعرف عند الفقهاء بالعدل ـ فالأمر ظاهر، المهم أقر بأنه رهن سيارته وأقبضها، إذن أقر برهن لازم، ثم إن المرتهن قال: أنا قابض السيارة والرهن لازم، فقال المقر: إنني لم أقبضك إياها، فقال: ألم تكن قد أقررت؟ قال: بلى، أقررت بأني رهنتك وأقبضتك، لكن الآن أنكرت الإقباض، فهل نقول: إن إنكاره غير مقبول؛ لأنه يرفع إقراره الأول، أو نقول: إنه مقبول؟ نقول: إنه مقبول؛ لأن الأمر ممكن، فقد يُقر بالرهن والإقباض من أجل أن يتم العقد، والإقباض لم يكن، وعلى كل حال، فالمرتهن يطالب بأن الرهن لازم؛ والراهن يقول: لم أقبضك فالرهن غير لازم، فإذا قال المقر: احلف أنني قد أقبضتك إياه فحلف، يلزم الرهن ويكون قابضاً، فإن أبى أن يحلف ترد اليمين على الراهن الذي ادعى أنه الذي أقر بأنه أقبض ثم أنكر، نقول: احلف أنك لم تقبضه فحلف، فلا يلزم الرهن؛ لأنه رهنٌ غير مقبوض، وقد سبق لنا أن القول الراجح: أن الرهن لا يشترط قبضه، وأنه يلزم بالتعيين، سواء قبض أم لم يقبض، وأن العمل عند القضاة منذ أزمنة على هذا، يرهن الإنسان سيارته لشخص وهو يستخدمها تحت يده، أو يرهن فلاحته وهو يشتغل فيها، أو يرهن بيته وهو ساكن فيه.
المسألة الثالثة: «أو أقر بقبض ثمن أو غيره» باع عليه بيته
بعشرة آلاف ريال وذهب إلى كاتب العدل، وكان من عادة كاتب العدل ألا يكتب حتى يكون الثمن قد استلم؛ لئلا تبقى المسألة معلقة، فقال البائع: اكتب أنني بعت وقبضت الثمن كاملاً فكتب كاتب العدل، ثم بعد أسبوع أو عشرة أيام جاء البائع إلى المشتري وقال: أعطني القيمة، قال: انتظر، وبعد مدة جاء وقال: أعطني القيمة، قال: انتظر، ذهب وانتظر، وبعد مدة جاء قال: أعطني القيمة، فلما طالت المدة جاء إليه وقال: أعطني ثمن البيت عشرة آلاف، قال ـ أعوذ بالله ـ: ما تقول بهذا الصك، أتقدح بكاتب العدل؟! فبُهت الرجل؛ لأنه أقر بأنه استلم الثمن، ومن كاتب عدل ـ أي: من جهة مسؤولة ـ فسقط في يده، ماذا يصنع؟ قال: تعال أنا وأنت والقاضي، أو أحد الناس من أهل الخير والصلاح، احلف عندهم أنك أقبضتني، فله الحق أن يحلفه، فلما طلب تحليفه وقال: كيف أحلف على شيء وبيدي وثيقة من كاتب العدل أنك قابض الثمن، لو أحلف أنك قابض الثمن قالوا: هذا إنسان مجنون، يحلف على شيء ثابت لا يحتاج أن يحلف عليه!! قال: نعم، أنا أقررت بأنني قبضت الثمن ثقة بك، ولأجل أن ننهي المعاملة والإفراغ، والآن ما قبضت، فاحلف، فإذا أبى أن يحلف، فالقاضي يرد اليمين على البائع، ويقول: احلف أنك لم تقبض الثمن، فإذا حلف ألزم المشتري أن يدفع الثمن، وإن لم تحلف فإننا لا نحكم لك، ولولا أن العادة جرت بأن الإنسان يقر وهو ما قَبَضَ، لم نقبل رجوعك إطلاقاً؛ لأن هذا رجوع عن إقرار لآدمي، والرجوع عن الإقرار لآدمي غير مقبول.
وهذه المسألة التي ذكرتُها واقعة، فقد كتب أحد أئمة المساجد ـ قبل أن تأتي كتابات العدل ـ بين بائع وامرأة باعت بيتها على هذا الرجل، وحضر الرجل، وقال للكاتب: إن شاء الله يأتي ولدها لديَّ في الدكان وأعطيه الثمن، اُكْتُب أن الثمن مقبوض، ولم يبقَ للبائع حق ولا عُلقة بالمبيع، وقال للمرأة: ما تقولين؟ قالت: نعم، إن شاء الله يفي، فكتب أنها باعت بيتها على فلان ابن فلان وقَبضَت الثمن تاماً، ولم يبقَ لها علقة بوجه من الوجوه، وهذه المرأة سليمة القلب، فلما كان العصر أرسلت ولدها إلى الرجل، قال: يا ولدي اليوم ما عندي شيء، ثم جاء ثانياً وثالثاً، وبعد مضي عدة أيام، قال: هذا كتاب فلان ابن فلان بأنكم قابضون الثمن، أبداً ما لكم شيء، فذهب الولد إلى أمه وأخبرها بالخبر، فالمسكينة سُقِط في يدها، فلما ترافعوا إلى القاضي وكان قاضياً حازماً ذا فراسة وعرف أن المرأة ضعيفة، وأن الإنسان مهما بلغ قد يغويه الشيطان، فقال للرجل: أعطني المكتوب، وإذا كتابة فلان ابن فلان وهو ثقة، ففكر وقال لهم: انصرفوا وتعالوا بعد يومين، وأخذ المكتوب ودعا الكاتب، وقال له: هذا خطك؟ قال: نعم، قال: هل رأيت الثمن معدوداً بيدها؟ قال: لا، لكن أقرت عندي، فلما أقرت كتبت: الثمن واصلاً، فقال: لا تَعُدْ، ولا تكتب أنه قبض الثمن إلا إذا شاهدت البائع قد قبضه، أما مجرد إقرار فلا، فصار في هذا مصلحة عامة، ولما جاء الغد قال للمشتري مباشرة: أما تخاف الله؟! تأكل حق هذه المرأة لما وثقت بك وأمنتك، اتق الله وخف من الله، فخوفه
من الله، فقال: يا شيخ، الله يجزاك خيراً وينقذك من النار، الحقيقة أني ما أعطيتها شيئاً، فأخذ القاضي الورقة وقطعها أمامهم، وقال: اذهب أعطها حقها ويكتب الكاتب وهو يراك تَعُدُّ لها الثمن.
المهم أن هذه مسألة يمكن أن تقع، أن الإنسان يبيع ويقر بقبض الثمن وهو ما قبض شيئاً، فإذا طلب إحلاف المشتري فله ذلك، فإن نكل ردت على المقر وأخذ الثمن.
وقوله: «أو غيره» كصداق أو أجرة، فكل إنسان أقر بقبض شيء ثم أنكر القبض دون الإقرار فله إحلاف خصمه، فإن حلف استحق وإن لم يحلف ردت على المقر المنكر يعني المقر بالقبض، ثم أنكره، ثم انتقل المؤلف إلى مسألة أخرى فقال:
وَإِنْ بَاعَ شَيْئاً، أَوْ وَهَبَهُ أَوْ أَعْتَقَهُ، ثُمَّ أَقَرَّ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ لِغَيْرِهِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ وَلَمْ يَنْفَسِخِ الْبَيْعُ، وَلَا غَيْرُهُ، وَلَزِمَتْهُ غَرَامَتُهُ،
.....
«وَإِنْ بَاعَ شَيْئاً، أَوْ وَهَبَهُ أَوْ أَعْتَقَهُ، ثُمَّ أَقَرَّ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ لِغَيْرِهِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ، وَلَمْ يَنْفَسِخ الْبَيْعُ، وَلَا غَيْرُهُ وَلَزِمَتْهُ غَرَامَتُهُ» هذه ثلاث مسائل أيضاً:
الأولى: البيع: إذا باع شيئاً ثم قال: إن هذا ليس ملكاً لي، فلا يقبل قوله؛ لأن كل إنسان يستطيع أن يتحيل بعدما يبيع ملكه، ثم يقول: ليس ملكاً لي.
مثال ذلك: بعت على شخص سيارة وبعد أن بعت عليه، قلت: إن السيارة ليست ملكاً لي، وإنما قلت: هذا من أجل أن
يبطل البيع؛ لأن من باع ملك غيره لم يصح البيع، فتعلق بالسيارة حقان: حق المشتري، وحق المُقَر له، فلو أننا قبلنا الإقرار وَفَيْنَا بحق المقَر له، لكن على حساب المشتري، ولو أننا أمضينا حق المشتري فإن حق المقَر له لا يضيع، ولهذا قال المؤلف:«ولم ينفسخ البيع» فيبقى البيع على ما هو عليه، ولكن يلزمني قيمة السيارة للمُقَر له؛ لأنني أقررت أن هذه السيارة له، وأنى تصرفت فيها، وليست ملكاً لي، فيلزمني ضمانها.
فإذا قال قائل: لماذا لا يفسخ البيع؟ فالجواب: لأنه إقرار على حق الغير، فإن المشتري ملك السيارة ظاهراً فلا يقبل إقراره عليه.
لكن إذا صدق المشتري البائعَ فحينئذٍ ينفسخ البيع؛ لأن المشتري أقر بأنه ليس له حق في السيارة، إذ إن البائع باع عليه ما لا يملك، وهذه الصورة الأولى التي ينفسخ فيها البيع.
والصورة الثانية: إذا أتى البائع ببينة قال: أنا آتي ببينة أنها ذلك اليوم الذي بعتها فيه عليك كانت لفلان فإنه ينفسخ البيع.
فصار الرجل إذا باع على غيره شيئاً ثم ادعى أنه كان ملكاً لغيره، فإن أتى ببينة قبلت البينة، وانفسخ البيع، وإن لم يأت ببينة فإن صدقه المشتري انفسخ البيع، وإن لم يصدقه لم ينفسخ، وبقي البيع على ما هو عليه، ولزم المُقِرَّ الضمانُ للمُقَرِّ له، وهذا لا شك أنه عين المصلحة؛ لأن بعض من لا يخاف الله عز وجل إذا باع شيئاً، وندم على بيعه، وعرف أنه لا طريق له إلى فسخ البيع، أتى برجل وقال: أريد أن أقر بأن المبيع لك؛ من أجل أن ينفسخ البيع، أو يقول له أكثر من هذا، يقول: ادَّعِ عليَّ أن السيارة التي
بعتُها لك، وأتخاصم أنا وإياك أمام الناس وتذهب للقاضي، والقاضي إذا وَجَّهْتَ الدعوى إليَّ سوف يقول: ما جوابك؟ سأقول: جوابي: أن السيارة له، وأني معتدٍ، وبعتها على فلان، ولهذا نقول: لا يمكن أن نبطل حق هذا الرجل المشتري الذي سلم الثمن، وأنهى كل شيء لمجرد إقرار هذا الرجل، لكن إذا أتى ببينة قبلت وانفسخ البيع، وإذا صدق المشتري كذلك انفسخ البيع؛ مؤاخذة له بإقراره؛ لأنه هو الذي اعترف بأن البيع غير صحيح.
المسألة الثانية: الهبة: بعد أن وهب هذا الشيء وأقبض كأنه ندم على الهبة، وقال: إن رجعت في هبتي ما أتمكن؛ لأن الهبة مقبوضة، ولكن سأقر بأن هذه العين ملك لغيري، نقول: لا يقبل قولك إلا ببينة أو تصديق من الموهوب له.
المسألة الثالثة: العتق: كذلك بعد أن أعتق عبداً وكتب وثيقة بعتقه، قال: العبد ليس لي، العبد لفلان، فإن صَدَّقَ العبدُ فالعتق لا ينفذ، وإن كذَّب نفذ العتق، ولزمته غرامتُه للمُقَرِّ له، وإذا ثبت ببينة أنه ليس له كذلك لا ينفذ العتق بل يبطل العتق؛ لأنه ثبت أنه ليس ملكه.
وَإِنْ قَالَ: لَمْ يَكُنْ مُلْكِي ثُمَّ مَلَكْتُهُ بَعْدُ وَأَقَامَ بَيِّنَةً قُبِلَتْ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَقَرَّ أَنَّهُ مُلْكُهُ، أَوْ أَنَّهُ قَبَضَ ثَمَنَ مُلْكِهِ لَمْ يُقْبَلْ.
قوله: «وَإِنْ قَالَ لَمْ يَكُنْ مُلْكِي ثُمَّ مَلَكْتُهُ بَعْدُ وَأَقَامَ بَيِّنَةً قُبِلَتْ» لأنه يمكن أن يكون حين البيع ليس ملكاً له، ثم اشتراه من صاحبه بعد، فإذا أقام بينة بذلك قبلت.
قوله: «إلاَّ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَقَرَّ أَنَّهَ مُلْكُهُ أَوْ أَنَّهُ قَبَضَ ثَمَنَ مُلْكِهِ لَمْ يُقْبَلْ»
يعني ولو ببينة، فهذا رجل باع هذا الشيء، وبعد أن باعه قال: لم يكن ملكي حين البيع، وأقام بينة على ذلك فإنه يقبل، والبيع ينفسخ، إلا إذا كان قد أضافها لنفسه وقال للمشتري: أتشتري سيارتي؟ أو قال للناس: بعت على فلان سيارتي، أو قال: هذه ملك لي يا فلان أتشتريها؟ فهنا لا يقبل قوله أنها لغيره ولو أقام بينة؛ لأن قوله: «ملكي» يكذب البينة، فالبينة تقول: ليس ملكه، وهو يقول: هو ملكي، والبينة إنما تؤيد المدعي وليست تكذبه، فالآن هو نفسه يكذب البينة فلهذا لا تقبل، ولذلك إذا أراد أن يبيعها فإنه يقول للمشتري: تشتري هذه السيارة ولا يقول: سيارتي.
إذن حصراً لهذه المسألة نقول:
أولاً: الشيء الذي ينفسخ به البيع مطلقاً إذا صدق المشتري البائع؛ لأن المشتري يقر بأنه لا حق له في هذا المبيع.
ثانياً: لا يقبل مطلقاً إذا أضاف البائع المبيع لنفسه، بأن قال: هذا ملكي، أو هذه سيارتي، أو ما أشبه ذلك، فهذا لا يقبل ولو ببينة؛ لأنه هو نفسه يكذب البينة، هاتان حالان متقابلتان.
ثالثاً: إذا لم يضفه إلى نفسه، وأتى ببينة فالبينة مقبولة، ولكن كيف لا يضيفه إلى نفسه؟ يقول في عرضه للبيع: أتشتري هذه السيارة؟ من يشتري هذه السيارة؟ وما أشبه ذلك، فلا يقول: سيارتي أو ملكي، فحينئذٍ إذا ادعى أنها ملك غيره، فإن أقام بينة قبلت وانفسخ البيع، وإن لم يقم بينة لم يقبل قوله ولم ينفسخ البيع، لكن بقينا في المُقَرِّ له فيلزمه له غرامة هذا الشيء الذي باعه؛ لأنه فوَّته عليه.
* * *
فَصْلٌ
إِذَا قَالَ: لَهُ عَلَيَّ شَيْءٌ، أَوْ كَذَا، قِيلَ لَهُ: فَسِّرْهُ، فَإِنْ أَبَى حُبِسَ حَتَّى يُفَسِّرَهُ، فإِنْ فَسَّرَهُ بِحَقِّ شُفْعَةٍ أَوْ بِأَقَلِّ مَالٍ قُبِلَ، وَإِنْ فَسَّرَهُ بِمَيْتَةٍ أَوْ خَمْرٍ أَوْ قِشْرِ جَوْزَةٍ لَمْ يُقْبَلْ،
....
هذا الفصل عقده المؤلف للإقرار بالشيء المجمل المبهم، والتابع لغيره.
قوله: «إِذَا قَالَ لَهُ: عَلَيَّ شَيْءٌ» «شيءٌ» كلمة، مطلقة مجملة، غير مبينة، ما ندري هذا الشيء؟
قوله: «أو كذا» أي: قال: له عليَّ كذا، وكلمة «كذا» أو «كذا كذا» ـ أيضاً ـ مجملة غير مبينة، فهنا ثبت إقرار، ولم يُبِيَّن المُقَرُّ به، فماذا نصنع؟ قال المؤلف:
«قِيلَ لَهُ: فَسِّرْهُ» أي قيل للمقر: فسره، ما هذا الشيء الذي قلت: إنه لفلان عليك؟ قال: الشيء الذي له علي مائة درهم، فيلزمه مائة درهم، أو قال: له علي كذا، قيل: فسِّر هذا المبهم، قال: مائة دينار، فيلزمه مائة دينار، فإن ادعى المُقَر له أنه مائة دينار في المسألة الأولى، ومائتا دينار في المسألة الثانية، فإن أتى ببينة، وإلا فالقول قول المقر؛ لأنه غارم ولم يثبت الحق إلا من قِبَلِه، فكان مرجع تفسيره إليه.
قوله: «فَإِنْ أَبَى حُبِسَ حَتَّى يُفَسِّرَهُ» يعني منع من الذهاب والمجيء حتى يفسره؛ لأنه لما قال: له علي كذا، تعلق به حق للغير، وهذا الحق مبهم فيجب عليه أن يفسره.
فإذا فسره فتارة يقبل تفسيره، وتارة لا يقبل، فإن فسره بأمر يعتبر ويُقَرُّ به عادة ويلتزم به الإنسان لغيره قبل؛ ولهذا قال:
«فَإِنْ فَسَّرَهُ بِحَقِّ شُفْعَةٍ أَوْ بِأَقَلِّ مَالٍ قُبِلَ» إذا فسره بحق شفعة قبل، مثال ذلك: بعتُ نصيبي من هذه الأرض على زيد، وشريكي عمرو، فقال زيد الذي اشترى نصيبي لعمرو: لك علي شيء، قيل له: ما الشيء الذي لي عليك؟ قال: حق الشفعة، والشفعة أن عمرواً له الحق أن ينتزع ما بعته على زيد فإذا فسره بحق الشفعة قبل.
أو فسره بحق خيار قُبِل، مثاله: اشترى زيد من عمرو سلعة على أن للمشتري الخيار ثلاثة أيام، فقال البائع: له علي شيء، قلنا: فسره، قال: حق خيار، يصح؛ لأن هذه حقوق تتعلق بالأموال.
وإذا فسره بأقل مال قبل، قال: له علي شيء، قلنا: فسره، قال: خمس وعشرون هللة، يصح؛ لأنها تعتبر مالاً.
قوله: «وَإِنْ فَسَّرَه بِمَيْتَةٍ أَوْ خَمْرٍ أَوْ قِشر جَوْزَةٍ لَمْ يُقْبَلْ» قال: له عندي شيء، أو له علي شيء، قلنا: ما هو؟ قال: جيفة شاة، لا يقبل هذا؛ لأنها غير متموَّلة فلا تثبت في الذمة، أو فسره بخمر فلا يقبل؛ لأنه غير متموَّل، فليس بمال شرعي، أو فسره بقشرة جوزة، والجوز معروف، قال: له عندي شيء، ما هذا الشيء؟ قال: قشرة جوزة، هذا لا يقبل؛ لأنه غير متموَّل، قال: عندي له شيء، فقيل: ما هو؟ فقال: حبة ذرة، فلا يقبل؛ لأنه غير متموَّل، مع أنه بالإمكان أنه يبذر هذه الحبة وتأتي بسبع سنابل، في كل سنبلة مائة حبة، لكن نقول: هذه ما جرت العادة
بأن الإنسان يلتزم لغيره بمثلها، ولو فسره بتمرة فالظاهر أن هذه يرجع فيها للحال الواقعة، فمثلاً إذا كنا في زمن مجاعة ـ نسأل الله السلامة ـ فالتمرة لا شك أنها شيء، وكم أنقذت من عاطب وهالك، أما إذا كان في زمن رخاء فإنها ليست بشيء، والرسول عليه الصلاة والسلام قال:«اتقوا النار ولو بشق تمرة»
(1)
.
الخلاصة: إذا فسره بما يتمول قُبِل، وإذا فسر بما لا يتمول عادة كقشر الجوزة، أو شرعاً كالخمر، أو لخبثه والرغبة عنه كالميتة فإن ذلك لا يقبل، ولهذا نقول: الميتة غير متمولة من أجل خبثها والرغبة عنها، وإلا فمن الممكن دبغ جلدها، ويطهر بالدبغ، فيمكن أن تكون متمولة.
وكذلك إذا لم يكن من الحقوق المالية، ولا يتعلق بالمال فلا يقبل تفسيره به، فلو قال: له علي شيء، فقيل: فسره؟ قال: له علي إذا عطس فحمد الله أن أقول له: يرحمك الله، أو له علي إذا سلم أن أرد السلام، نقول: هذا لم تجرِ العادة بالإقرار به والتزام الإنسان إياه في ذمته، وعلى هذا فلا يقبل تفسيره بذلك، إنما يقبل في المال والحقوق المالية كحق الشفعة.
قوله: «وَيُقْبَلُ بِكَلْبٍ مُبَاحٍ نَفْعُهُ أَوْ حَدِّ قَذْفٍ» فإذا قال: له علي شيء، قيل: فسره، قال: كلب صيد، أو كلب ماشية، أو كلب حراسة، فيقبل؛ لأنه يجب رده على صاحبه، فلو أن أحداً
(1)
أخرجه البخاري/ باب اتقوا النار ولو بشق تمرة
…
(1417)، وأخرجه مسلم في الزكاة/ باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة
…
(67)(1016) عن عدي بن حاتم رضي الله عنه.
غصب كلباً مباح النفع وجب عليه أن يرده إلى صاحبه، وإن كان لو أتلفه لم يضمن، لكن من أجل انتفاع صاحبه به يجب عليه رده.
كذلك يقبل بحد قذف؛ لأن هذا حق لآدمي فهو كالحق المالي، فإذا قال: له علي شيء، قيل: ما هو؟ قال: حد قذف؛ لأنني قذفته، وحقه عليَّ أن أجلد ثمانين جلدة، فهذا يقبل.
وقيل: إنه لا يقبل أي: في الأمرين جميعاً، قالوا: لأنه لا يتموَّل.
وإن ادعى المُقَر له شيئاً، قيل له: أثبت البينة، وإلا فلا شيء لك.
قوله: «وَإِن قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ رجع في تفسير جنسه إليه» «ألف» عدد مبهم، لا يعرف جنسه، نقول: فسره، ألف درهم؟ ألف دينار؟ ألف ثوب؟ فنرجع في تفسيره إليه.
قوله: «فَإِن فَسَّرَهْ بِجِنْسٍ أَوْ أَجْنَاسٍ قُبِلَ مِنْهُ» بجنس واحد بأن قال: ألف دينار، فإذا قال: ألف دينار ودرهم فهذان جنسان، لكن هل نقول: يلزمه في هذا المثال ألف دينار وزيادة درهم، أو نقول: ألف دينار ودرهم، يعني ألف من الدنانير والدراهم؟ الظاهر الأول ألف دينار ودرهم، لكن لو قال: ألف دنانير ودراهم، فحينئذ يلزمه من الجنسين ما لا يزيد على الألف، ولكن نقول: إذا لم يبين النسبة فهما أنصاف يعني مناصفة، فيلزمه خمسمائة دينار وخمسمائة درهم، ومثله ـ أيضاً ـ ألفٌ قمصٌ
وسراويل، أما ألف قميص وسروال، فكالأولى، يعني يلزمه ألف قميص زائداً السروال.
وَيُقْبَلُ بِكَلْبٍ مُبَاحٍ نَفْعُهُ، أَوْ حَدِّ قَذْفٍ، وَإِنْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ رُجِعَ فِي تَفْسِيرِ جِنْسِهِ إِلَيْهِ، فَإِنْ فَسَّرَهُ بِجِنْسٍ أَوْ أَجْنَاسٍ قُبِلَ مِنْهُ، وَإِنْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ مَا بَيْنَ دِرْهَمٍ وَعَشَرَةٍ لَزِمَهُ ثَمَانِيَةٌ، وَإِنْ قَالَ: مَا بَيْنَ دِرْهَمٍ إِلَى عَشَرَةٍ، أَوْ مِنْ دِرْهَمٍ إِلَى عَشَرَةٍ لَزِمَهُ تِسْعَةٌ،
.....
قوله: «وإِنْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ مَا بَيْنَ دِرْهَمٍ وَعَشَرةٍ لَزِمَهُ ثَمَانِيَةٌ» لأن الذي بين الواحد والعشرة ثمانية.
قوله: «وإن قَالَ مَا بَيْنَ دِرْهَمٍ إلى عَشَرَةٍ أو مِنْ دِرْهَمٍ إلَى عَشَرَةٍ لَزِمَهُ تِسْعَةً» هاتان صورتان ما بين درهم إلى عشرة هذه صورة، والثانية من درهم إلى عشرة يلزمه تسعة، الصورة الثانية الأمر فيها ظاهر؛ لأنه ذكر ابتداء الغاية وانتهاءها، وابتداء الغاية داخل لا انتهاؤها، فالدرهم داخل والعشرة خارجة، فيلزمه تسعة.
لكن قوله: ما بين درهم إلى عشرة مشكل؛ لأنك إن قلت: إن انتهاء الغاية خارج أخرجت العشرة، والبينونة تقضي أن الطرفين خارجان، فإذا قال: ما بين درهم إلى عشرة، فعلى القاعدة يلزمه ثمانية، وهذا أحد القولين في هذه الصورة، أنه إذا قال: ما بين درهم إلى عشرة لا تلزمه إلا ثمانية؛ لأن «درهم» الأول خرج و «عشرة» خرجت؛ لأن «إلى» للغاية، وما بعدها غير داخل، لكن الذين يقولون بأنه تلزمه تسعة، يقولون: إن الغاية لا يدخل فيها المُغَيَّا إذا ذكر الابتداء، يعني إذا جاءت «من» ، أما إذا لم يذكر الابتداء فإن المُغَيَّا داخل، وعلى هذا نقول:«ما بين درهم» يخرج الدرهم وتدخل العشرة، فيلزمه تسعة، واستدل
بعضهم بأن المرافق داخلة في الغسل في قوله تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6]؛ لأنها لم تذكر «من» ، فلما قال: إلى المرافق بدون ذكر ابتداء الغاية، صارت الغاية داخلة.
وينبغي أن يقال: إن مسألة الإقرارات يرجع فيها إلى العرف لا إلى ما تقتضيه اللغة؛ لأن الإقرارات مبنية على ما يتعارفه الناس في عاداتهم ونطقهم، وقد سبق لنا في كتاب الأيمان وفي كتاب الوصايا أن العرف مقدم على الحقيقة اللغوية، فإذا كان عرف الناس أنه إذا قال: له ما بين درهم إلى عشرة، يعني ثمانية، فإنه يلزمه ثمانية، وإذا قال: ما بين درهم إلى عشرة، يعني أنه لا يدري فهو من ريال إلى عشرة، فهنا لا يلزمه إلا ما عيَّنه المتكلم، وهذه تقع كثيراً، يقول: أنا لست متأكداً، فإنه يجب له علي شيء، لكنه من ريال إلى عشرة، فقد يكون ريالاً، ريالين، ثلاثة، أربعة، خمسة، ستة، سبعة، ثمانية، تسعة، أو عشرة، فيرجع في هذا إلى العرف، ولهذا لو أراد مجموع العدد في قوله: من درهم إلى عشرة لزمه خمسة وخمسون، فصارت المسألة الآن مبنية على ما يراد، وعلى ما جرى به العرف، فعندنا ثلاث مراتب، ما أراده، وما جرى به العرف، ثم بعد ذلك الحقيقة اللغوية، وهذا هو الصحيح في هذه المسائل.
قوله: «وَإِنْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ أَوْ دِينَارٌ لَزِمَهُ أَحَدُهُما» لأن «أو» للشك لم تعين أحد الأمرين، فيرجع في التعيين إلى نفس المقر، مثاله: سئل رجل: ما الذي يطلبك فلان؟ قال: ما أدري، إما درهم أو دينار، نقول: يرجع في التعيين إلى المقر، ومن
الناحية العملية لو قال المقر له: أنا متأكد أنه دينار، فالورع في هذا الباب أن يدفع له ديناراً؛ لأنه هو شاكٌّ وصاحبه متيقن، لا سيما إذا كان المقر له رجلاً صدوقاً ثقة وأميناً، فإنه يتأكد عليه حينئذ أن يدفع إليه الدينار.
وَإِنْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ أَوْ دِيْنَارٌ لَزِمَهُ أَحَدُهُمَا. وَإِنْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ تَمْرٌ فِي جِرَابٍ، أَوْ سِكِّينٌ فِي قِرَابٍ، أَوْ فَصٌّ فِي خَاتَمٍ، وَنَحْوُهُ فَهُوَ مُقِرٌّ بِالأَْوَّلِ، والله سبحانه وتعالى أعلم.
قوله: «وإن قَالَ: لَهُ عَلَيَّ تَمْرٌ فِي جِرَابٍ، أَوْ سِكِّينٌ فِي قِرَابٍ، أَوْ فَصٌّ فِي خَاتَمٍ ونَحْوُه فهُوَ مُقِرٌّ بِالأَوَّلِ» إذا قال: له علي تمر في جراب، والجراب وعاء يجعل فيه التمر، فهل هو مقر بالجراب، أو بالتمر وحده أو بهما جميعاً؟ يقول: بالأول أي: بالتمر، فإذا قال: له علي تمر في جراب، قلنا: ما عليك إلا التمر، ثم عيِّن التمر كثيراً أو قليلاً؛ لأنه كثيراً ما تجري العادة بأن يأتي الإنسان بتمر من شخص يسرقه أو يأخذه خطأ أو ما أشبه ذلك، ويضعه في جراب عنده، هو مالكه.
أو «سكين في قراب» يلزمه السكين فقط، أما القراب فلا؛ لأنه ربما يأخذ سكين شخص خطأ، أو سرقة، أو غصباً ثم يضعها في قراب عنده، وهذا كثير، فهو لا يقر إلا بالأول، بخلاف ما لو قال: سيف في قراب، فإنه مُقِرٌّ بهما جميعاً، والفرق أن القراب ملازم للسيف غالباً أو دائماً ولا تكاد تجد سيفاً صلتاً، لكن السكين غالباً أنه في غير قراب، مثل ما لو قال: سكين في كرتون، لا يدخل الكرتون، أو سكين في صندوق، فما يدخل الصندوق، إذن هناك فرق بين الملازم وغير الملازم.
«أو فص في خاتم ونحوه فهو مقر بالأول» وهو الفص، والخاتم غير مقر به؛ لأنه ربما يسرق فصاً ويضعه في خاتمه، وهذا كثير، ولأن الفص تابع للخاتم ولا عكس، فلو قال: خاتم في فص، يمكن أن نجعل «في» بمعنى «مع» ، فيلزمه خاتم ذو فص، وإذا قال: خاتم فيه فص يلزمه الأمران، والله أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
* * *
انتهت بفضل الله تعالى وعونه وتوفيقه الدروس العلمية التي عقدها فضيلة الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين المتوفى رحمه الله تعالى عام 1421 هـ لشرح كتاب «زاد المستقنع في اختصار المقنع» لمؤلفه الشيخ الفقيه الفاضل شرف الدين أبو النجا الحجاوي المتوفى رحمه الله تعالى عام 960 هـ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.