المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الشرح الممتع على زاد المستقنع   لفضيلة الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين غفر الله له - الشرح الممتع على زاد المستقنع - جـ ٢

[ابن عثيمين]

فهرس الكتاب

الشرح الممتع

على

زاد المستقنع

لفضيلة الشيخ العلامة

محمد بن صالح العثيمين

غفر الله له ولوالديه وللمسلمين

المجلد الثاني

دار ابن الجوزي

طبع بإشراف مؤسسة الشيخ محمد بن صالح العثيمين الخيرية

الطبعة الأولى 1422 هـ

ص: -1

‌كتابُ الصَّلاة

الصَّلاةُ في اللُّغة: الدُّعاءُ، وشاهد ذلك قوله تعالى:{وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة: 103]، أي: ادعُ لهم.

أمَّا في الشَّرع: فهي التعبُّدُ للَّهِ تعالى بأقوال وأفعال معلومة، مفتتَحة بالتَّكبير، مختتَمة بالتَّسليم.

وإن شئت فقل: هي عبادةٌ ذاتُ أقوال وأفعال، مفتتحة بالتَّكبير، مختتمة بالتَّسليم.

أمَّا قول بعض العلماء: «إنَّ الصَّلاة هي: أقوال وأفعال معلومة، مفتتحة بالتَّكبير، مختتمة بالتَّسليم»

(1)

. فهذا فيه قصور، بل لا بُدَّ أن نقول: عبادةٌ ذات أقوال، أو نقول: التَّعبُّدّ لله تعالى بأقوال وأفعال معلومة، حتى يتبيَّن أنَّها من العبادات.

والصَّلاة مشروعة في جميع المِلَل، قال الله تعالى:{يَامَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَّبِكِ واسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ *} [آل عمران]، وذلك لأهمِّيتها، ولأنَّها صِلَةٌ بين الإنسان وربِّه عز وجل.

وقد فرضها الله سبحانه وتعالى على هذه الأمَّة على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ليلة عُرِجَ به بدون واسطة.

وتأمَّلْ كيف أخَّرَ اللَّهُ تعالى فريضتها إلى تلك الليلة إشادةً بها، وبياناً لأهمِّيتها لأنَّها:

(1)

انظر: «الروض المربع» (1/ 118).

ص: 5

أولاً: فرضت من الله عز وجل إلى رسوله بدون واسطة.

ثانياً: فُرضت في ليلة هي أفضلُ الليالي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما نعلم.

ثالثاً: فُرضت في أعلى مكان يصلُ إليه البشر.

رابعاً: فُرضت خمسين صلاة، وهذا يدلُّ على محبَّة الله لها، وعنايته بها سبحانه وتعالى، لكن خُفِّفَت فجُعِلت خمساً بالفعل وخمسين في الميزان، فكأنَّما صلَّى خمسين صلاة. وليس المراد تضعيف الحسنة بعشر أمثالها؛ لأنَّه لو كان المراد الحسنة بعشر أمثالها؛ لم يكن لها مزيَّة على غيرها من العبادات؛ إذ في كلِّ عبادة الحسنةُ بعشر أمثالها، لكن الظَّاهر أنَّه يُكتَبُ للإنسان أجرُ خمسين صلاة بالفعل، ويؤيِّده: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم وهو إمامُ أمَّتِه ـ قَبِلَ فريضة الخمسين وَرَضِيَها، ثم خفَّفها اللَّهُ تعالى فكتب للأمَّة أجرَ ما قَبِلَه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ورضيَه، وهو خمسون صلاة.

ويدلُّ لذلك: ما رواه البخاريُّ من حديث أنس رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «فراجَعته ـ يعني: الله ـ فقال: هي خمس وهي خمسون»

(1)

، وفي رواية مسلم أنَّ الله قال:«يا محمد، إِنَّهنَّ خمس صلوات كلَّ يوم وليلة، لِكُلِّ صلاة عشر، فذلك خمسون صلاة»

(2)

، وفي رواية النَّسائي: «فخمس بخمسين، فَقُمْ بها أنت

(1)

رواه البخاري، كتاب الصلاة: باب كيف فرضت الصلاة في الإسراء، رقم (349)، ومسلم، كتاب الإيمان: باب الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السماوات، رقم (163) من حديث أنس.

(2)

رواه مسلم في الكتاب والباب السابقين، رقم (162) من حديث أنس.

ص: 6

وأمَّتُك»

(1)

، وهذا فضلٌ عظيم من الله عز وجل بالنِّسبة لهذه الأمَّة، ولا نجدُ عبادةً فُرضت يوميًّا في جميع العُمر إلاَّ الصَّلاة، فالزَّكاة حَوليَّةٌ، والصِّيام حَوْليٌّ، والحَجُّ عُمْريٌّ.

‌تَجبُ .............

قوله: «تجب» ، أي: الصَّلاة، والمراد بالوجوب هنا أعلى أنواع الوجوب وهو الفريضة. وهي في الدِّين في المرتبة الثانية بعد الشَّهادة بالتَّوحيد والرِّسالة، فالإسلام: شهادة أنْ لا إله إلاَّ الله؛ وأنَّ محمَّداً رسول الله، وهذه واحدة، وإِنَّما صارت هاتان الجملتان واحدة؛ لأنَّ كلَّ عبادة لا بُدَّ فيها من إِخلاص تتضمَّنه شهادةُ أنْ لا إله إلاَّ الله، ومتابعةٍ تتضمَّنه شهادةُ أنَّ محمَّداً رسول الله، فلهذا جعلهما النبيُّ صلى الله عليه وسلم شيئاً واحداً. والمرتبة الثَّانية هي الصَّلاة، فهي من أعلى أنواع الفرض.

فقول المؤلِّف: «تجب» ، قد يقول قائل: إنَّ فيه شيئاً من القُصُور؛ لأنَّك لو قلت عن كبيرة من الكبائر: تَحرمُ، لهوَّنْتَ من أمرها، فإذا قلت في مثل الصَّلاة: تجب، قد يقول قائل: إنَّ في هذا شيئاً من التَّهوين بأمرها؟ ولكنَّنا نقول: إنَّ المؤلِّف أراد أن يُبيِّن جنسَ حُكم هذه الصَّلوات، وأنَّها ليست من النَّوافل أو التَّطوعات، بل هي من جنس الواجب.

(1)

رواه النسائي: كتاب الصلاة: باب فرض الصلاة

، (1/ 223) رقم (449) من حديث أنس أيضاً.

ص: 7

والدَّليل على وجوبها: كتاب الله، وسُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإجماع المسلمين على ذلك إجماعاً قطعيًّا معلوماً بالضَّرورة من الدِّين.

أمَّا الكتاب: فقوله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103]. والشَّاهد: قوله: {كِتَابًا} ، لأنَّ كتاباً بمعنى مكتوب، والمكتوب بمعنى المفروض، قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183]، أي: فُرِضَ.

ومن السُّنَّة: قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم وقد بعثَ معاذاً إلى اليمن: «أعْلِمْهُمْ أنَّ الله افترضَ عليهم خمسَ صلواتٍ في كُلِّ يومٍ وليلةٍ»

(1)

.

وأما الإجماع: فهو معلومٌ بالضَّرورة من الدِّين، ولهذا لم يُنكرْ أحدٌ من أهل القِبلة ـ ممَّن ينتسبون إلى الإسلام ـ فَرْضَهَا؛ حتى أهل البدع يقرُّون بفرضِهَا.

‌عَلَى كُلِّ مسلمٍ ..........

وقوله: «على كُلِّ مسلم» ، المسلم هو: الذي يشهد أنْ لا إله إلاَّ الله، وأنَّ محمَّداً رسول الله، ويقيمُ الصَّلاة، ويؤتي الزَّكاة، ويصومُ رمضانَ، ويحجُّ البيتَ.

(1)

رواه البخاري، كتاب الزكاة: باب وجوب الزكاة، رقم (1395)، ورقم (1496).

ومسلم، كتاب الإيمان: باب الدعاء إلى الشهادتين، رقم (19).

ص: 8

هذا هو المسلم الكامل الإسلام، ولكن المراد بالمسلم هنا: من يشهد أن لا إله إلا الله؛ وأنَّ محمداً رسول الله؛ لقول الرَّسول صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل: «إنك تأتي قوماً من أهلِ الكتاب، فادْعُهُمْ إلى شهادة أنْ لا إله إلا الله، وأنِّي رسولُ الله، فإن هم أطاعُوا لذلك؛ فأعْلِمْهُم أنَّ الله افترض عليهم خمسَ صلوات

». الحديث.

فتَجِبُ على هذا الذي شَهِدَ أنْ لا إله إلا الله؛ وأنَّ محمداً رسولُ الله، فالكافر لا تجب عليه، والمراد بنفي الوجوب على الكافر أنَّها لا تَلْزَمُهُ حال كفره، ولا يَلزَمُه قضاؤها بعد إسلامه.

والدَّليل على أنَّها لا تَلزَمُه حال كفره، قوله تعالى:{وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ *} [التوبة].

فهذا دليلٌ على أنَّ الصَّلاة لا تُقبل منه، وإذا لم تُقبل منه فإِنَّها لا تصحُّ، وإذا لم تصحَّ لم تجب؛ لأنَّها لو وجبت وأتى بما يلزم فيها لصحَّت.

وأيضاً: رُبَّما نستدلُّ بحديث معاذ؛ لأنَّه لم يَذْكُرِ افتراضَ الصَّلاة عليهم إِلاَّ بعد الشَّهادتين.

إِذاً؛ الكافر لا تلزمه الصَّلاة؛ ولا يلزمه قضاؤها إذا أسلم؛ لقوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ

ص: 9

سَلَفَ} [الأنفال: 38]، وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:«الإسلامُ يَهْدِمُ ما كان قبلَه»

(1)

، أو «يَجُبُّ ما قبله»

(2)

. ولم يُلزِمِ النبيُّ صلى الله عليه وسلم الذين أسلموا بقضاء صلواتهم الماضية وقال: «أسلمتَ على ما أسلفتَ من خير»

(3)

.

وثَمَّ دليل من النظر، وهو: أننا لو ألزمناه بقضَائِها بعد إسلامه؛ لكان في ذلك مشقَّة وتنفير عن الإسلام.

ولكن يُحَاسَب عليها في الآخرة، واستدلَّ العلماء لذلك بقوله تعالى:{فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ *عَنِ الْمُجْرِمِينَ *مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ *قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ *} [المدثر].

فإن قال قائل: مجرَّد تكذيبهم بيوم الدين يوجب أن يدخلوا النَّار؟.

فالجواب أن يُقال: لولا أنَّ لتركهم الصَّلاة وإِطعامِ المسكين وخوضِهم مع الخائضين تأثيراً في تعذيبهم؛ لكان ذكره من باب العبث.

(1)

رواه مسلم، كتاب الإيمان: باب كون الإسلام يهدم ما قبله، رقم (121). من حديث عمرو بن العاص.

(2)

والطحاوي في «شرح المشكل» رقم (507) وغيرهم، من حديث عمرو بن العاص. قال الهيثمي: «رواه أحمد والطبراني

ورجالهما ثقات». «المجمع» (9/ 351).

وانظر: «تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في تفسير الكشاف» ، للزيلعي (2/ 27).

(3)

رواه البخاري، كتاب الزكاة: باب من تصدق في الشرك ثم أسلم، رقم (1436)، ومسلم، كتاب الإيمان: باب بيان حكم عمل الكافر إذا أسلم بعده، رقم (123) واللفظ له، من حديث حكيم بن حزام.

ص: 10

وأمَّا من حيث النَّظرُ: فيقال: إذا كان المسلم يُعاقَب على ترك هذا الواجب، وهو أكرم عند الله ـ بلا شكٍّ ـ من هذا الكافر، فكيف لا يُعذَّب الكافر؟!.

فإن قلت: لا يُعذَّب الكافرُ؛ لأنَّه غير ملتزم بذلك؛ إذ هو كافر؟

فنقول: وإن لم يلتزم؛ لكنَّه مُلزم شرعاً؛ لكونه عبداً لله، فكونه لا يلتزم عناداً منه واستكباراً. بل أقول: إن الكافر يُحاسَب على كلِّ نعمة أنعمها الله عليه يوم القيامة.

ودليل ذلك من الأثر قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [المائدة: 93]، والذين لم يؤمنوا ولم يتَّقوا ولم يعملوا الصَّالحات عليهم جُناحٌ بالمفهوم، أي: مفهوم وصف ومعنى، وهو الإيمان والعمل، وقال الله تعالى:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف: 32]، أما هؤلاء الكفَّار فهي حرام عليهم ويُحاسَبون عليها، بخلاف المؤمنين، فهي حلال لهم في الدُّنيا، ولا يُحاسَبون عليها يوم القيامة.

فإن قلت: إذا كانت حراماً عليهم، فلماذا لا نمنعهم من الأكل والشُّرب؟

فالجواب على ذلك: أنَّ الله عز وجل يرزق العبادَ الحلالَ والحرامَ؛ لأنَّه تكفَّل بالرِّزق، قال اللَّهُ تعالى:{وَمَا مِنْ دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6].

ص: 11

إذاً؛ صار الكافر في الدُّنيا أشدَّ محاسبة من المؤمن؛ لأنَّ الكافر يُحاسَب على الأكل، والشّرب، واللباس، وكلِّ نعمة.

أما النَّظر الذي يدلُّ على أنَّ الكافر يُعذَّب في الآخرة على ما استمتع به من نِعَمِ الله: فلأنَّ العقل يقتضي أنَّ من أحسن إليك فإنَّك تُقابله بالامتثال والطَّاعة إذا أمرك، ويرى العقلُ أنَّ من أقبح القبائح أن تُنابذَ من أحسن إليك بالاستكبار عن طاعته وتكذيب خبره، ولهذا قال الله عز وجل في الحديث القُدسي:«كَذَّبَني ابنُ آدم ولم يكن له ذلك، وشتَمني ولم يكن له ذلك»

(1)

. فإذا لم يكن ذلك حقاً له دلَّ على أنَّ عمله من أقبح القبائح أن يستمتع بنِعَمِ الله، ثمَّ يُنكر هذا الفضل بالاستكبار عن الطاعة، وتكذيب الخبر.

‌مُكَلَّفٍ ..............

قوله: «مُكلَّف» ، التَّكليف في اللُّغة: إلزامُ ما فيه مشقَّة، ولكن في الشَّرع ليس كذلك؛ لأنَّ الشَّرع ليس فيه مشقَّة، قال تعالى:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286].

وهو في الشَّرع: إلزامُ مقتضى خطاب الشَّرع.

والتَّكليف يتضمَّن وصفين هما: البلوغ والعقل. فمعنى مكلَّف أي: بالغ عاقل، فغير البالغ وغير العاقل لا تلزمه الصَّلاة بالدَّليل الأثري والنَّظري.

أما الأثري: فقوله صلى الله عليه وسلم: «رُفع القلمُ عن ثلاثة: عن المجنون

(1)

رواه البخاري، كتاب التفسير: باب (سورة الإخلاص) قل هو الله أحد، رقم (4974) من حديث أبي هريرة.

ص: 12

حتى يُفيق، وعن الصَّبيِّ حتى يبلُغ، وعن النَّائم حتى يستيقظ»

(1)

.

وأما النَّظر: فلأنَّهما ليسا أهلاً للتَّكليف؛ إذ إنَّ قصدهم قَاصِرٌ مهما كان، ولهذا يختلف غير المكلَّف عن المكلَّف في بعض الأمور؛ فأُبيح للصَبيِّ من اللَّعب واللَّهو ما لم يُبَحْ لغيره، وَوُسِّعَ للصَّبيِّ في الواجبات ما لم يُوسَّع لغيره، حتَّى إنَّ الشَّيء الذي يكون جريمة في البالغ لا يكون جريمة في الصَّغير؛ لأن نظره قاصر، وكذا قصده، والمجنون من باب أولى، فالمجنون البالغ غير مكلَّف. والصَّغير العاقل غير مكلَّف.

فإن قلت: إذا لم يجب على الصَّبيِّ صلاة؛ أَفَلَيْسَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم قد أوجبَ على الإنسان أن يأمرَ ابنه أو ابنتبالصَّلاة لسبعٍ،

(1)

رواه أبو داود، كتاب الحدود: باب في المجنون يسرق أو يصيب حَدّاً، رقم (4401)، والنسائي في «السنن الكبرى» ، أبواب التعزيرات والحدود: باب المجنونة تصيب حدّاً، رقم (7343) من طريق جرير بن حازم، عن سليمان بن مهران، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس، عن علي به مرفوعاً.

قال النووي: «رواه أبو داود والنسائي بإسناد صحيح» . «الخلاصة» رقم (679) إلا أنه قد خالف جرير بن حازم وكيع بن الجراح ومحمدُ بن فضيل؛ فروياه عن علي بن أبي طالب وعُمر بن الخطاب موقوفاً.

ورجَّح النسائيُّ والترمذيُّ والدارقطنيُّ وغيرهم وقْفَهُ على عُمر وعليّ.

ورواه أبو داود، كتاب الحدود: باب في المجنون يسرق أو يصيب حَدّاً، رقم (4398)، وابن حبان رقم (142) بنحوه من حديث عائشة.

قال النسائي: ليس في هذا الباب صحيح إلا حديث عائشة، فإنه حَسنٌ.

قال البخاري: أرجو أن يكون محفوظاً.

قال ابن المنذر: هو ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم.

انظر: «علل الترمذي الكبير» (1/ 593)، «العلل» للدارقطني رقم (291، 354)، «فتح الباري» لابن رجب (5/ 294).

ص: 13

ويضربه عليها لعشر

(1)

؟ وهل يُضرَبُ الإنسان على شيء لا يجب عليه؟

فالجواب على ذلك أن نقول: إِنَّما أُلزم الوالدُ بأمر أولاده وضربهم؛ لأنَّ هذا من تمام الرِّعاية والقيام بالمسؤولية التي حملها، والأب أهلٌ للمسؤولية. لا لأنَّ الصَّبيَّ تجب عليه الصَّلاة، ولذلك لا يلزمه قضاؤها لو تركها. ولو كان الصَّبيُّ له ستُّ سنوات؛ لكنَّه فَطِنٌ وذكيٌّ، فظاهر الحديث أنَّه لا يأمره؛ لأنَّ الشَّارع حدَّها بالسَّبع؛ لأنَّ الغالب أنه يكون بها التَّمييز، والنَّادر لا حكم له.

فإن قلنا: إنَّ التَّمييز ليس محدوداً بسنٍّ وإنَّما هو بالمعنى، وأنَّ التَّمييز هو: أن يفهم الخطاب، ويَرُدَّ الجواب، كما يدلُّ عليه الاشتقاق، فهل يجعل الحكم في أمره بالصَّلاة منوطاً به؛ ولو كان دون السَّبع أم لا؟ هذا محلُّ نظر، قد يُقال: إنَّنا نجعل الحكم منوطاً بالتَّمييز، وقد نقول: إنَّه منوط بالسَّبع كما جاء في السُّنَّة. والشَّارع أحكم منَّا، فيتقيَّد أمْرُه بالصَّلاة وضَرْبُه عليها بما جاءت به السُّنة.

‌لا حَائِضاً وَنُفَسَاءَ،

............

قوله: «لا حائضاً ونُفساء» ، هكذا في النُّسخ بالنَّصب،

(1)

رواه أحمد (2/ 180)، وأبو داود، كتاب الصلاة: باب متى يؤمر الغلام بالصلاة، رقم (495) عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده به مرفوعاً.

قال النووي: «رواه أبو داود بإسناد حسن» ، «الخلاصة» رقم (687).

ورواه أحمد (3/ 404)، وأبو داود ـ الموضع السابق ـ رقم (494)، والترمذي، أبواب الصلاة: باب ما جاء متى يؤمر الصبي بالصلاة، رقم (407)، والحاكم (1/ 201) من حديث سَبرة بن معبد الجُهني.

والحديث صححه: الترمذي، وابن خزيمة، والحاكم وغيرهم.

ص: 14

ووجهه: أنها مفعول لفعل محذوف؛ والتقدير: لا تلزم حائضاً ونُفَسَاء، أي: لا تجب عليهما الصَّلاة بدليل أثريٍّ وإجماعيٍّ. قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم في الحائض: «أليس إذا حاضت لم تُصلِّ ولم تَصُمْ»

(1)

. والنُّفساءُ كالحائضِ في ذلك بالإجماع، والعلماءُ مجمعون على أنَّ الحائضَ والنُّفساءَ لا تلزمهما الصَّلاة، ولا يلزمهما قضاء الصَّلاة.

‌ويَقْضي مَنْ زالَ عقْلُهُ بنومٍ ..........

قوله: «ويقضي مَنْ زالَ عقلُهُ بنومٍ» ، وعندي أنَّ في العبارة شيئاً من التَّساهل؛ لأنَّ النَّائمَ ليس زائلَ العقلِ بل مُغطًّى عقلُهُ، وفاقدٌ لإحساسه الظَّاهريِّ.

والمعنى: أنَّ النَّائمَ يقضي الصَّلاة، وهذا ثابتٌ بالنَّصِّ والإجماع

(2)

.

أمَّا النَّصُّ: فهو قوليٌّ وفعليٌّ، فالقوليُّ: قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «من نسيَ صلاةً أو نَامَ عَنها، فكفَّارتُها أن يصلِّيَهَا إذا ذكرها»

(3)

.

وأمَّا الفعليُّ: فلأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قضى صلاة الفجر حين نام عنها في السَّفر

(4)

. ولأنَّنا لو قلنا بعدم قضائها مع كثرة النَّوم لسقط

(1)

متفق عليه، وقد تقدم تخريجه (1/ 476).

(2)

انظر: «الإفصاح» لابن هبيرة (1/ 100).

(3)

رواه البخاري، كتاب مواقيت الصلاة: باب من نسي صلاة فليصلّ إذا ذكرها، رقم (597)، ومسلم، كتاب المساجد: باب قضاء الصلاة الفائتة، رقم (684) من حديث أنس بن مالك واللفظ لمسلم.

(4)

روى ذلك البخاري، كتاب التيمم: باب الصعيد الطيب وضوء المسلم، رقم (344)، ومسلم، كتاب المساجد: باب قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها، رقم (682) من حديث عمران بن حصين.

ص: 15

منها كثير، ولكان ذلك مَدْعاة للتَّساهل بها في النَّوم عنها.

وأمَّا الإجماع: فقد نقله غيرُ واحد من أهل العلم.

وأفاد قوله: «ويقضي» أنَّ صلاة النَّائم ونحوه بعد خروج الوقت تُعتبر قضاءً، وذهب شيخُ الإسلام ابنُ تيمية إلى أنَّ كلَّ من صَلَّى بعد الوقت معذوراً فصلاتُه أداءً

(1)

، لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وقَّت للنَّائم الصَّلاة عند استيقاظه، والنَّاسي عند ذِكْرِه.

‌أَوْ إِغْمَاءٍ أو سُكْرٍ أَوْ نَحْوِهِ،

...........

قوله: «أو إغماء» ، أي: يقضي من زال عقلُهُ بإغماءٍ، والإغماء: هو التَّطبيق على العقل، فلا يكون عنده إحساس إطلاقاً، فلو أَيْقَظْتَه لم يستيقظ.

فإذا أُغمي عليه وقتاً أو وقتين وجبَ عليه القضاء؛ لورود ذلك عن بعض الصَّحابة رضي الله عنهم كعمار بن ياسر

(2)

، وقياساً على النَّوم، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد بن حنبل.

والأئمةُ الثَّلاثةُ يَرَون عدم وجوب القضاء على المُغمى

(1)

انظر: «مجموع الفتاوى» (22/ 36، 37)، «الاختيارات» ص (35).

(2)

روى عبد الرزاق (2/ 479)، وأبو بكر بن أبي شيبة، كتاب الصلاة: باب ما يعيد المغمى عليه من الصلاة، رقم (6583)، والدارقطني (2/ 81)، رقم (1841)، والبيهقي (1/ 388)، وفي «المعرفة والآثار» (2/ 220) من طريق السُّدِّي، عن يزيد مولى عمار، أن عمار بن ياسر أُغمي عليه في الظُّهر والعصر، والمغرب والعشاء، فأفاق نصف الليل، فصلّى الظهر والعصر، والمغرب والعشاء».

قال الشَّافعي: «ليس بثابتٍ عن عمار» . وضعَّفه البيهقي أيضاً. «المعرفة والآثار» (2/ 221)، وقال ابن التركماني:«سنده ضعيف» . «الجوهر النقي» مع السنن (1/ 387).

ص: 16

عليه

(1)

، لكنَّ أبا حنيفة رحمه الله يقول: إذا كانت خمس صلوات فأقلَّ فإنَّه يقضي

(2)

؛ لأنَّها سهلة ويسيرة، أمَّا إذا زادت على الخمس فلا يقضي، وكلامُ أبي حنيفة مبنيٌّ على شيء من العقل والرَّأي؛ فأخذ بعِلَّةِ مَنْ عَلَّل بالقضاء، وأخذ بسقوط الأمر للمشقَّة. ولكن لا شَكَّ أنَّ مثل هذا التَّقديرِ الدَّقيق يحتاج إلى دليل، وإلاَّ فهو تحكُّمٌ؛ فالإنسان الذي لا يَشُقُّ عليه خمسُ صلوات لا يَشُقُّ عليه ستُّ صلوات.

فإذا نظرنا إلى التَّعليل وجدنا أنَّ الرَّاجح قول من يقول: لا يقضي مطلقاً؛ لأنَّ قياسه على النَّائم ليس بصحيح، فالنَّائم يستيقظ إذا أُوقِظَ، وأمَّا المُغمى عليه فإنَّه لا يشعر.

وأيضاً: النَّوم كثير ومعتاد، فلو قلنا: إنَّه لا يقضي سقط عنه كثير من الفروض. لكن الإغماء قد يمضي على الإنسان طولُ عمره ولا يُغمى عليه، وقد يسقط من شيء عالٍ فيُغمى عليه، وقد يُصاب بمرضٍ فيُغمى عليه.

وأما قضاء عمَّار ـ إن صحَّ عنه ـ فإنَّه يُحمل على الاستحباب، أو التَّورُّعِ، وما أشبه ذلك

(3)

.

(1)

انظر: «المدونة» (1/ 93، 94)، «المجموع شرح المهذب» (3/ 6، 7)، «المغني» (2/ 50، 51).

(2)

انظر: «المبسوط» (1/ 217).

(3)

روى مالك في «الموطأ» ، كتاب وقوت الصلاة: باب جامع الوقوت، رقم (24)، وعبد الرزاق (2/ 479)، وأبو بكر بن أبي شيبة، كتاب الصلاة: باب من قال ليس عليه (المغمى عليه) إعادة، رقم (6599)، والدارقطني (2/ 82) واللفظ له، والبيهقي في «المعرفة والآثار» (2/ 219) عن نافع:«أن ابن عمر أُغمي عليه ثلاثة أيام ولياليهن، فلم يقضِ» . وإسناده غايةٌ في الصِّحة.

ص: 17

قوله: «أو سُكْرٍ» ، أي: يقضي من زال عقله بسُكْر، فإذا كان آثماً بسُكْره فلا شكَّ في وجوب القضاء عليه؛ لأنَّه حصل باختياره، ولأنَّه غير مأذون له بذلك، ولأنَّنا لو أسقطنا عنه قضاء الصَّلاة، وهو من أهل شُرب الخمر، فإنَّه كلَّما أراد ألاَّ يُصلِّي شرب مسكراً، فحصل على جنايتين: على شرب المُسكر، وعلى ترك الصَّلاة.

وإن كان غير آثم بسُكْره كما لو شرب شراباً جاهلاً أنَّه مسكر، فإنَّه يقضي أيضاً؛ لأنَّ هذا حصل باختياره، لكن لا إثم عليه؛ لأنَّه جاهلٌ بكونه مُسْكراً.

وأما قياسه على المُغمى عليه ففيه نظر.

فإن قلت: «أليس الله يقول: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43]، فكيف يُلزم بقضاء ما نُهي عن قِرْبَانه؟ فالجواب: أنَّه ليس في الآية نهي عن قِرْبان الصَّلاة مطلقاً؛ وإنَّما نُهي عن قِرْبَانها حال السُّكْرِ حتى يعلم السَّكران ما يقول، فإذا علم ما يقول لزمته الصَّلاة أداءً إن كان في وقتها، أو قضاءً إن كان بعد الوقت، ولهذا كان الأئمة الأربعة متَّفقين على أنَّ مَنْ زال عقلُهُ بسُكْرٍ فإنَّه يَقضي

(1)

.

قوله: «أو نحوه» ، أي: نحو ما ذُكِرَ مثل البَنْج والدَّواء، وهذا محلُّ خِلاف

(2)

، فمن أهل العلم من قال: إن زالَ عقلُهُ بشيء مباح فلا قضاء عليه؛ لأنَّه معذور. والذي يترجَّحُ عندي:

(1)

انظر: «المغني» (2/ 52)، «المجموع شرح المهذَّب» (3/ 6، 7).

(2)

انظر: «المغني» (2/ 52)، «الإنصاف» (3/ 10).

ص: 18

أنه إن زال عقلُهُ باختياره فعليه القضاء مطلقاً، وإن كان بغير اختياره فلا قضاء عليه.

‌ولا تصحُّ من مجنونٍ ولا كافرٍ، فإِنْ صلَّى فَمُسْلمٌ حُكْماً.

قوله: «ولا تصحُّ من مجنون ولا كافر» ، أي: لا تصحّ الصَّلاة من مجنون؛ لعدم القصد؛ لأنَّ المجنون لا قصد له، ومَنْ لا قصد له لا نيَّة له، ومَنْ لا نيَّة له، لا عمل له؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم:«إنَّما الأعمالُ بالنيَّات»

(1)

، ومثله من زال عقلُهُ ببِرْسَامٍ

(2)

، ومثله الهَرِم الذي لا يعقل.

وقوله: «ولا كافر» ، أي: ولا تصحُّ الصَّلاة من كافر، سواءٌ أكان أصليًّا أم مرتدًّا، فلا تصحُّ الصَّلاة منهما.

والدَّليل قوله تعالى: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ} [التوبة: 54]، مع أنَّ النَّفقات نفعُها مُتَعَدٍّ، فإذا كانت لا تُقبل منه؛ فالتي نفعُها غيرُ مُتَعَدٍّ لا تُقبلُ من باب أولى، ولأنَّه ليس من أهل العبادة حتَّى يُسْلِم؛ لحديث معاذ:«فليكنْ أوَّلَ ما تدعوهم إليه: شهادةُ أنْ لا إله إلا الله؛ وأنَّ محمداً رسول الله، فإن هُمْ أجابوك لذلك، فأَعْلِمْهُم أنَّ الله افترض عليهم خمسَ صلوات»

(3)

.

قوله: «فإن صلَّى فمسلمٌ حُكْماً» ، أي: إذا صلَّى الكافر فإننا نحكم بإسلامه، ولكنَّه مسلم حُكْماً لا حقيقة؛ حتى وإن لم يَنْوِ الإسلامَ بما فعله.

(1)

متفق عليه، وقد تقدم تخريجه (1/ 194).

(2)

البِرْسَام: مرض يسبب الهَذيان. انظر: «القاموس المحيط» مادة: «برسم» .

(3)

تقدم تخريجه ص (8).

ص: 19

وفائدتُه: أنَّنا إذا حكمنا بإسلامه طالبناه بلوازم الإسلام؛ فيَرثُ أقاربَه المسلمين ويرثونَه. وإن قال: «فعلتُه استهزاءً» فنعتبره مرتدًّا. والفرق بين كونه مرتدًّا وبين كفره الأصليِّ: أنَّ كُفْرَ الرِّدَّة لا يُقَرُّ عليه، بخلاف الكفر الأصليِّ فيُقَرُّ عليه، فالكافر بالرِّدَّة يُطَالَبُ بالإسلام؛ فإن أسلم وإلاَّ قتلناه.

‌وَيُؤْمَرُ بها صغيرٌ لِسْبعٍ، ويُضْرَبُ عليها لعشْرٍ، فإِنْ بَلَغَ في أَثْنَائِها، أَوْ بَعْدَهَا في وقتِها أَعَادَ.

قوله: «وَيُؤْمَرُ بها صغيرٌ» ، يُؤمر: مبنيٌّ للمجهول؛ لأنَّ الأمرَ لا يتعيَّن، فكلُّ من له الإمْرَةُ على هذا الصَّبيِّ فإنَّه يأمره بالصَّلاة كالأب، والأخ، والعمِّ، والأمِّ.

قوله: «لِسَبْعٍ» ، أي: لتمامها لا لبلوغها، فلا يُؤْمَرُ إلا إذا دخل الثامنةَ؛ وإذا كنَّا نأمره بالصَّلاة فإنَّنا نأمره بلوازم الصَّلاة من الطَّهارة؛ وغيرها من الواجبات، ويستلزم تعليمَه ذلك.

قوله: «ويُضْرَبُ عليها لعَشرٍ» ، أي: على الصَّلاة، «لعشرٍ» أي: لتمام عشرٍ ليفعلها، ولا يكون ذلك إلاَّ بالتَّرك، فنضربه حتى يصلِّي، في كلِّ وقت، والضَّرب باليد أو الثوب أو العصا، أو غير ذلك، ويُشْتَرطُ فيه ألاَّ يكون ضرباً مُبرِّحاً؛ لأنَّ المقصود تأديبُه لا تعذيبُه.

قوله: «فإن بَلَغَ في أثنائها، أو بَعْدَها في وَقْتِها أعادَ» ، أي: إذا بلغ الصَّغيرُ في أثناء الصَّلاة، أو بعد انتهائها، لكن في وقتها أعاد الصَّلاة، ويحصُلُ هذا إذا حرَّرنا ولادته بالسَّاعة، والسَّاعاتُ موجودةٌ في عَصْرِ مَنْ مضى، ولكنها غير ساعاتنا هذه، ودليل وجودها أنَّ ابنَ حزمٍ الظَّاهريَّ في توقيته المسحَ على الخفَّين ذكر

ص: 20

الدَّقائق، وهذا يدلُّ على أنَّها موجودةٌ من قبلُ.

وتعليلُ وجوبِ إعادة الصَّبيِّ إذا بلغ في أثناء الصَّلاة أنَّه شَرَعَ فيها؛ وهي في حَقِّه نَفْلٌ، والفرض لا يَنْبَنِي على النَّفل. وكذلك إذا بلغ بعدها في وقتها لزمه إعادتها؛ لأنَّه صار من أهل الوجوب قبلَ خروج وقتها فلزمَه فعلُها، وصلاتُه قبل بلوغه نافلة فلا تسقط بها الفريضة. والأصحاب قالوا: إذا بلغ الصَّبيُّ وهو صائمٌ مضى في صومه ولم تلزمه الإعادة

(1)

. ففرَّقوا بين الصَّلاة والصِّيام، ولم يذكروا سبباً مقنعاً للتَّفريق، ولهذا جعل بعضُ الأصحاب حكمهما واحداً، وأوجبَ القضاءَ على مَنْ بلغ أثناء صومه

(2)

.

ولكن الصَّواب: أنَّه يمضي في صلاته وصومه ولا إعادة عليه، وكذلك لو بلغ بعد صلاته لم تلزمه إعادتها، كما لا يلزمه إعادةُ صيام الأيام الماضية من رمضان قولاً واحداً

(3)

؛ لأنَّه قام بفعل الصَّلاة والصِّيام على الوجه الذي أُمِرَ به، فسقط عنه الطَّلبُ، وهذا واضحٌ ولله الحمد.

ويؤيِّد هذا: أنَّه يقع كثيراً، ولم يُحْفَظْ عن الصَّحابة أنَّهم يأمرون من بلغ في أثناء الوقت بالإعادة.

‌ويَحْرُمُ تَأْخيرُها عَنْ وَقْتِها ...............

قوله: «وَيَحْرُمُ تأخيرُها عن وَقْتِها» ، وذلك لقوله تعالى:{إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103]، وإذا

(1)

انظر: «الإقناع» (1/ 490).

(2)

انظر: «الإنصاف» (2/ 22)، (7/ 361).

(3)

انظر: «المغني» (4/ 414).

ص: 21

كانت مفروضةً في وقت معيَّن فتأخيرُها عن وقتها حرامٌ. وكذلك النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وقَّتَ أوقاتَ الصَّلاة، وهذا يقتضي وجوبَ فعلها في وقتها.

وقوله: «تأخيرها» يشمَلُ تأخيرها بالكلِّيَّة؛ أو تأخيرَ بعضها، بحيث يؤخِّر الصَّلاة حتَّى إذا لم يبقَ إلاَّ مقدارُ ركعةٍ صلَّى، فإنَّه حرامٌ عليه؛ لأنَّ الواجبَ أن تقع جميعُها في الوقت.

وقوله: «عن وقتها» يشمَلُ وقت الضَّرورة ووقت الجواز؛ لأنَّ صلاة العصر مثلاً لها وقتان: وقتُ ضرورة؛ ووقتُ جواز، فوقتُ الضَّرورة من اصفرار الشَّمس إلى غروبها، ووقتُ الجواز من دخول وقتها إلى اصفرار الشَّمس، فيحرم أن يؤخِّرها عن وقت الجواز إلاَّ لعذر. ويُستثنى من ذلك مسألتان:

‌إِلاَّ لِنَاوِ الْجَمْعِ، ولمشتغلٍ بشَرْطِها الذي يُحَصِّلُهُ قريباً.

المسألة الأولى: أشار إليها بقوله: «إِلا لِنَاوِ الجَمْعِ» ، ونزيد قيداً: وكان ممَّن يَحِلُّ له أن يجمع. وهذا الاستثناء يشبه أن يكون صُوريًّا، وذلك لأنَّه إذا جاز الجمعُ بين الصَّلاتين صار وقتاهما وقتاً واحداً، ولا يقال:«أخَّرها عن وقتها» .

المسألة الثانية: ذكرها بقوله: «ولمُشْتَغِلٍ بشَرْطها الذي يُحَصِّلُهُ قريباً» .

مثاله: إنسان انشقَّ ثوبه فصار يخيطُه فحانَ خروجُ الوقت، فإن صَلَّى قبل أن يخيطَه صلَّى عُرْياناً، وإن انتظر حتَّى يخيطَه صلَّى مستتراً بعد الوقت، فهذا تحصيلُه قريب، فهنا يجوز أن يؤخِّرها عن وقتها، أمَّا إذا كان بعيداً فلا. ومثله لو وصل إلى الماء عند غروب الشَّمس، فإن اشتغل باستخراجه غربتِ الشَّمسُ؛

ص: 22

فله أن يؤخِّرها عن وقتها، لأنَّه اشتغل بشرطٍ يُحصِّلُه قريباً، وهو استخراج الماء من البئر، وإن كان يحتاج إلى حفر البئر فلا يؤخِّرها؛ لأن هذا الشَّرطَ يُحصِّله بعيداً. هذا ما ذهب إليه المؤلِّف.

والصَّواب: أنَّه لا يجوز أن يؤخِّرها عن وقتها مطلقاً، وأنَّه إذا خاف خروجَ الوقت صَلَّى على حَسَبِ حاله؛ وإن كان يمكن أن يُحصِّل الشَّرطَ قريباً استدلالاً بالآية. ولأنَّه لو جاز انتظار الشُّروط ما صحَّ أن يُشْرَعَ التَّيمُّمُ؛ لأنَّه بإمكان كُلِّ إنسان أن يُؤخِّر الصَّلاةَ حتى يجد الماء. وانفكاكهم عن هذا الإيراد بقولهم:«قريباً» انفكاك لا يؤثِّر؛ لأنَّ الذي أخَّر الصلاة عن وقتها لا فرق بين أن يؤخِّرها إلى وقت طويل أو إلى وقت قصير؛ لأن في كليهما إخراجاً عن وقتها، وهذا اختيار شيخ الإسلام

(1)

. فعلى هذا يصلِّي في الوقت بالتَّيمُّم وعُرياناً. ويكون الذي يُستثنى مسألة واحدة وهي من نوى الجمع، وسبق التنبيه على أنه تأخير صوريٌّ فقط.

مسألة: اختلف العلماء هل يجوز تأخير الصَّلاة لشدَّة الخوف بحيث لا يتمكَّن الإنسانُ من الصَّلاة بوجه من الوجوه؛ لا بقلبه؛ ولا بجوارحه على قولين

(2)

، والصَّحيح منهما أنه يجوز في هذه الحال؛ لأنَّه لو صَلَّى؛ فإنَّه لا يدري ما يقول ولا ما يفعل،

(1)

انظر: «مجموع الفتاوى» (22/ 57)، «الاختيارات» ص (32، 33).

(2)

انظر: «المغني» (3/ 316)، «مجموع الفتاوى» (22/ 28، 29)، «الإنصاف» (5/ 146).

ص: 23

ولأنَّه يدافع الموت. وقد ورد ذلك عن بعض الصَّحابة كما في حديث أنس في فتح تُسْتَر

(1)

، فإنَّهم أخَّروا صلاةَ الفَجر عن وقتها إلى الضُّحى حتى فَتَح اللَّهُ عليهم

(2)

، وعليه يُحمل تأخير النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم يوم الخندق الصلاةَ عن وقتها

(3)

، فإنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:«شَغلونا عن الصَّلاة الوسطى»

(4)

، أي: بحيث لم يستطع أن يصلِّيَها في وقتها.

وغزوة الخندق كانت في السَّنةِ الخامسة، وغزوة ذات الرِّقاع كانت في السَّنة الرَّابعة على المشهور

(5)

، وقد صلَّى فيها صلاة الخوف، فتبيَّن أنَّه أخَّرها في الخندق لشدَّة الخوف، فيكون هذا الاستثناء الثَّاني في التأخير، وعليه يكون تأخير الصَّلاة عن وقتها في موضعين:

(1)

ذكر خليفةُ أنَّ فَتْحها كان في سنة عشرين في خلافة عُمر. «الفتح» لابن رجب، ولابن حَجر شرح حديث رقم (945). «معجم البلدان» (2/ 29)، «التاريخ الإسلامي» لمحمود شاكر (3/ 179).

(2)

رواه البخاري تعليقاً بصيغة الجزم، كتاب الخوف: باب الصَّلاة عند مناهضةِ الحصون ولقاءِ العدو. ووصله خليفة بن خياط في «تاريخه» ص (146) قال: ثنا ابن زُريع، عن سعيد، عن قتادة، عن أنس به، وإسناده صحيح.

ووصله أيضاً ابن سعد، وابن أبي شيبة من وجه آخر عن قتادة. انظر «الفتح» شرح حديث (945).

(3)

رواه البخاري، كتاب مواقيت الصلاة: باب مَنْ صلّى بالناس جماعة بعد ذهاب الوقت، رقم (596)، ومسلم، كتاب المساجد: باب الدليل لمن قال: الصلاة الوسطى هي صلاة العصر، رقم (631) من حديث جابر.

(4)

رواه مسلم، في الكتاب والباب السابقين، رقم (627، 628) من حديث علي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود.

(5)

انظر: «زاد المعاد» (3/ 250)، «فتح الباري» (7/ 417).

ص: 24

أحدهما: عند الجمع.

والثَّاني: في شدَّة الخوف الذي لا يتمكَّن معه من الصَّلاة بأيِّ وَجْهٍ من الوجوه كما سبق.

وهل يجوز تأخير الصَّلاةِ من أجل العمل؛ إذا كان لا يتمكَّن صاحبُه من أداء الصلاة في وقتها فيؤخِّرها؟.

والجواب: إن كان ذلك للضَّرورة كإطفاء الحريق وإنقاذ الغريق فالظَّاهر الجواز، وإن كان لغير الضرورة لا يجوز.

‌ومَنْ جَحَدَ وُجُوبَها كَفَرَ،

...........

قوله: «وَمَنْ جَحَدَ وجُوبها كَفَرَ» ، أي: وجوبَ الصَّلاة المُجمع على وجوبها وهي: الصلوات الخمس والجُمُعة فهو كافر؛ لأنَّه مكذِّبٌ لله ورسوله وإجماع المسلمين القطعيِّ، وحتى لو جَحَدَ وجوبها وصلَّى، وكذا لو جَحَدَ وجوبَ بعضها، وكذا لو جَحَدَ وجوبَ ركعة واحدة، فإنَّه يكفر.

وكذا لو جَحَدَ وجوبَ رُكْنٍ واحد فقط، كفر إذا كان مُجمَعاً عليه. واستثنى العلماءُ من ذلك: ما إذا كان حديثَ عهدٍ بكفر وجَحَدَ وجوبها، فإنَّه لا يكفر

(1)

، لكن يُبيَّنُ له الحق، فإذا عُرض له الحقُّ على وجهٍ بَيِّنٍ ثُمَّ جَحَدَ كفر. وهذه المسألة التي استثناها العلماء تُبَيِّنُ أنَّه لا فرق بين الأمور القطعيَّة في الدِّين وبين الأمور الظنِّيَّة في أنَّ الإنسان يُعْذَر بالجهل فيها، وهذه المسألة ـ أعني العذر بالجهل ـ مهمَّةٌ تحتاج إلى تثبُّتٍ حتى لا نُكفِّر من لم يَدُلَّ الدَّليل على كفره.

(1)

انظر: «المغني» (3/ 351).

ص: 25

‌وَكَذَ تَارِكُهَا تَهَاوُناً وَدَعَاهُ إِمامٌ أو نَائِبُهُ فَأَصَرَّ وَضَاقَ وَقْتُ الثَّانِيَةِ عَنْهَا،

.........

قوله: «وكذا تاركُها تهاوناً، ودَعَاهُ إمامٌ أو نائبُه فأَصرَّ وضَاقَ وَقْتُ الثَّانية عنها» ، فَصَلَ هذه المسألة عن الأولى بقوله:«وكذا» ، لأنَّ هذه لها شروط، فإذا تركها تهاوناً وكسلاً مع إقراره بفرضيتها، فإنَّه كافرٌ كفراً أكبرَ مخرجاً عن المِلَّة ولكن بشرطين:

الأول: ذكره بقوله: «ودَعَاهُ إمامٌ أو نائبُه» ، أي: إلى فعلها. والمراد بالإمام هنا: مَنْ له السُّلطة العُليا في البلد.

والثاني: ذكره بقوله: «وضاقَ وقتُ الثَّانية عنها» فإنَّه يكفرُ. وعليه؛ فإذا ترك صلاة واحدة حتى خرج وقتها، فإنَّه لا يكفر، وظاهره أنَّه سواءٌ كانت تُجمع إلى الثانية أو لا تُجمع، وعلى هذا؛ فمذهب الإمام أحمد المشهور عند أصحابه أنَّه لا يمكن أن يُحْكَمَ بكفر أحد تركَ الصَّلاةَ إذا لم يَدْعُهُ الإمامُ؛ لأننا لم نتحقَّق أنه تركها كسلاً؛ إذ قد يكون معذوراً، بما يعتقده عذراً وليس بعذرٍ، لكن إذا دعاه الإمام وأصرَّ علمنا أنه ليس معذوراً.

وأما اشتراطُ ضِيْقِ وقت الثانية؛ فلأنَّه قد يظنُّ جوازَ الجمع من غير عذرٍ. فلاحتمال هذا الظَّنِّ لا نحكم بكفره.

ولكن القول الصَّحيح ـ بلا شكٍّ ـ ما ذهب إليه بعض الأصحاب من أنه لا تُشترط دعوةُ الإمام

(1)

؛ لظاهر الأدلَّة، وعدم الدَّليل على اشتراطها.

وأيضاً: هل نقول في المسائل التي يُكفَّر بها: إنَّه لا يُكفَّر

(1)

انظر: «الإنصاف» (3/ 30).

ص: 26

إلاَّ إذا دعاه الإمام؟ لأنَّ احتمالَ العُذر فيها كاحتمال العُذر في تارك الصَّلاة تهاوناً وكسلاً، فإما أن نقول بذلك في الجميع؛ أو نترك هذا الشرط في الجميع؛ لعدم الدَّليل على الفرق.

وقال بعض العلماء: يكفرُ بترك فريضةٍ واحدة

(1)

، ومنهم من قال: بفريضتين (38)، ومنهم من قال: بترك فريضتين إن كانت الثَّانية تُجمع إلى الأولى (38). وعليه؛ فإذا ترك الفجر فإنَّه يكفر بخروج وقتها، وإن ترك الظُّهر، فإنَّه يكفر بخروج وقت صلاة العصر.

والذي يظهر من الأدلَّة: أنَّه لا يكفر إلا بترك الصَّلاة دائماً؛ بمعنى أنَّه وطَّنَ نفسَه على ترك الصَّلاة؛ فلا يُصلِّي ظُهراً، ولا عَصراً، ولا مَغرباً، ولا عِشاء، ولا فَجراً، فهذا هو الذي يكفر.

فإن كان يُصلِّي فرضاً أو فرضين فإنَّه لا يكفر؛ لأنَّ هذا لا يَصْدُقُ عليه أنه ترك الصَّلاة؛ وقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «بين الرَّجُلِ وبين الشِّركِ والكفرِ تَرْكُ الصَّلاة»

(2)

، ولم يقل:«تَرَكَ صلاةً» . وأما ما رُوي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مَنْ تَركَ صلاةً مكتوبةً متعمِّداً فقد بَرئت منه الذِّمَّةُ»

(3)

، ففي صحَّته نظر. ولأنَّ الأصلَ

(1)

انظر: «المغني» (3/ 354)، «مجموع الفتاوى» (22/ 60)، «الإنصاف» (3/ 28).

(2)

رواه مسلم، كتاب الإيمان: باب بيان إطلاق اسم الكفر على مَنْ ترك الصَّلاة، رقم (82) من حديث جابر بن عبد الله.

(3)

رواه البخاري في «الأدب المفرد» رقم (18)، وابن ماجه، كتاب الفتن: باب الصبر على البلاء، رقم (4034)، والبيهقي في «الشُّعب» رقم (5589) عن شهر بن حوشب، عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء به مرفوعاً.

قال ابن حجر: «في إسناده ضعف» . «التلخيص الحبير» رقم (810).

قال في موضع آخر: «إسناده حسن موصول» . «الأمالي المطلقة» ص (74).

قال البوصيري: «إسناده حسن، وشهر مختلف فيه» .

قلت: شهر بن حوشب ضعّفه شعبة والنسائي وغيرهما، ووثقه ابن معين ويعقوب بن سفيان، وحَسَّن أحاديثه أحمد بن حنبل والبخاري. وقال ابن حجر:«صدوق كثير الإرسال والأوهام» «تقريب» ص (441).

ورواه ابن أبي شيبة بنحوه في «مصنّفه» ، كتاب الصلوات: باب في التفريط في الصلاة، رقم (3445) عن أبي قلابة عن أبي الدرداء.

وله شاهد من حديث أميمة مولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه الطبراني (24/رقم 479) والحاكم (4/ 41)، قال ابن الملقن:«في إسناده يزيد بن سنان الرهاوي وهو ضعيف» . «خلاصة البدر المنير» (1/ 283).

وله شاهد من حديث أم أيمن رواه البيهقي (7/ 304)، وفي «الشُّعب» رقم (7865) وحسَّنه الحافظ في «الأمالي» .

ومن ثم؛ فإن الحافظ قد قوَّى هذا الحديث بشواهده «الأمالي المطلقة» ص (75).

ص: 27

بقاءُ الإسلام، فلا نخرجه منه إلا بيقين؛ لأنَّ ما ثبت بيقين لا يرتفع إلا بيقين، فأصل هذا الرَّجُل المُعَيَّن أنَّه مسلمٌ؛ فلا نخرجه من الإسلام المتيقَّن إلا بدليل يخرجه إلى الكفر بيقين.

وقال بعض العلماء: لا يكفر تاركها كسلاً

(1)

.

وقول الإمام أحمد بتكفير تارك الصلاة كسلاً هو القول الرَّاجح، والأدلة تدلُّ عليه من كتاب الله وسُنَّةِ الرَّسول صلى الله عليه وسلم، وأقوال السَّلف، والنَّظر الصحيح.

أمَّا الكتاب: فقوله تعالى في المشركين: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة: 11]، فاشترط الله لثبوت الأُخُوَّة في الدِّين ثلاثةَ شروط:

(1)

انظر: «المغني» (3/ 354، 355)، «الإنصاف» (3/ 35 ـ 41).

ص: 28

الأولُ: التوبة من الشِّرك، والثَّاني: إقامة الصَّلاة، والثالث: إيتاء الزَّكاة.

فالآية تدلُّ على أنَّه لا يكون أخاً لنا في الدِّين إذا لم يُصَلِّ ولم يُزكِّ، وإن تاب من الشِّرك. والأُخُوَّة في الدِّين لا تنتفي بالمعاصي وإن عَظُمَتْ، كما في آية القصاص حيث قال تعالى:{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيءٌ} [البقرة: 178]، فجعلَ المقتولَ أخاً للقاتل عمداً، وكما في اقتتال الطَّائفتين من المؤمنين حيثُ قال تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10]، فلم تنتفِ الأُخوة الإيمانية مع الاقتتال؛ وهو من كبائر الذُّنوب.

أمَّا مانعُ الزَّكاة فمن العلماء من التزم بذلك وقال بأنَّه كافر، وهو رواية عن الإمام أحمد رحمه الله

(1)

، ولكن يمنع هذا القول ما ثبت في «صحيح مسلم» فيمن آتاه الله مالاً من الذَّهب والفضَّة ولم يُؤدِّ زكاتَه «أنه يرى سبيله إما إلى الجَنَّة وإما إلى النَّار»

(2)

، وهذا يَدلُّ على أنه ليس بكافر؛ إذ لو كان كذلك لم يجد سبيلاً إلى الجنَّة.

وأما السُّنَّة: فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «بين الرَّجُل وبين الشِّرك والكفر تركُ الصَّلاة»

(3)

، وقال: «العهدُ الذي بيننا وبينهم الصَّلاة،

(1)

انظر: «المغني» (4/ 7، 8)، «الإنصاف» (3/ 34)، (7/ 147، 148)، (27/ 113، 114).

(2)

رواه مسلم، كتاب الزكاة: باب إثم مانع الزكاة، رقم (987)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(3)

تقدم تخريجه ص (27).

ص: 29

فمن تركها فقد كفر»

(1)

. والبَيْنيَّةُ تقتضي التَّمييز بين الشيئين، فهذا في حَدٍّ، وهذا في حَدٍّ.

وقوله في الحديث: «الكفر» ، أتَى بأل الدالة على الحقيقة، وأنَّ هذا كفرٌ حقيقي وليس كفراً دون كُفر، وقد نَبَّه على هذا شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه «اقتضاء الصراط المستقيم»

(2)

، فلم يقل صلى الله عليه وسلم:«كفر» ، كما قال:«اثْنَتَان في النَّاس هُمَا بهم كُفْرٌ: الطَّعن في النَّسب، والنِّياحة على الميِّت»

(3)

، وإنما قال:«بين الرَّجُل والشِّرك والكفر» ، يريد بذلك الكفر المطلق وهو المُخْرج عن المِلَّة.

وأما أقوال الصَّحابة: فإنها كثيرة، رُويت عن سِتَّة عشر صحابياً، منهم عمر بن الخطاب

(4)

. ونقل عبد الله بن شقيق وهو

(1)

رواه أحمد (5/ 346)، والترمذي، كتاب الإيمان: باب ما جاء في ترك الصلاة، رقم (2621)، والنسائي، كتاب الصلاة: باب الحكم في تارك الصلاة، (1/ 231)، رقم (462)، وابن ماجه كتاب إقامة الصلاة: باب ما جاء فيمن ترك الصلاة، رقم (1079)، وغيرهم من حديث بريدة بن الحصيب.

والحديث صحّحه: الترمذي، وابن حبان، والحاكم، والنووي، والذهبي.

وقال هبة الله الطبري: «هو صحيح على شرط مسلم» .

انظر: «شرح أصول الاعتقاد» رقم (1518)، «الخلاصة» رقم (658).

(2)

«اقتضاء الصراط المستقيم» (1/ 208).

(3)

رواه مسلم، كتاب الإيمان: باب إطلاق اسم الكفر على الطعن في النسب، رقم (68).

(4)

ولفظه: «لا حَظَّ في الإسلام لمن ترك الصَّلاة» ، رواه مالك، كتاب الطهارة: باب العمل فيمن غلبه الدم من جرحٍ أو رعاف، رقم (86)، وابن أبي شيبة في «الإيمان» رقم (103)، والبيهقي (1/ 357) من طريق: هشام بن عروة، عن أبيه، عن المسور بن مخرمة عن عمر به.

ورواه عبد الرزاق في «مصنفه» رقم (579) عن هشام، عن أبيه، حدثني سليمان بن يسار، عن المسور بن مخرمة، عن عمر به، وإسناده صحيح.

ورواه ابن سعد (3/ 351)، والآجري في «الشريعة» رقم (271، 272) واللالكائي رقم (1528)، والطبراني في «الأوسط» رقم (8181) عن المسور بن مخرمة أيضاً عن عمر به. قال الهيثمي:«رجاله رجال الصحيح» ، «المجمع» (1/ 295).

ورواه اللالكائي (1529) عن ابن عباس عن عمر به.

وانظر بقية أقوال الصحابة والتابعين في تكفير تارك الصلاة في: «شرح أصول الاعتقاد» (4/ 906)، و «الشريعة» (2/ 644)، و «المصنَّف» (1/ 150)، و «تعظيم قدر الصلاة» (2/ 876 ـ 925).

ص: 30

من التابعين عن أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم عموماً القول بتكفير تارك الصلاة، فقال:«كان أصحابُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لا يَرَونَ شيئاً من الأعمال تركه كفر غير الصلاة»

(1)

، ولهذا حَكى الإجماعَ إِسحاقُ بن راهويه الإمام المشهور فقال: ما زال الناس من عهد الصحابة يقولون: إن تاركَ الصَّلاة كافر

(2)

.

وأما النَّظَر: فإنه يُقال: إنَّ كلَّ إنسان عاقل في قلبه أدنى مثقال ذَرَّة من إيمان لا يمكن أن يُدَاوِمَ على ترك الصَّلاة، وهو يعلَم عِظَمَ شأنها، وأنَّها فُرضت في أعلى مكان وصل إليه البشر، وكان فرضها خمسين صلاة لكنها خُفِّفَت، ولا بُدَّ فيها من طهارة بدون خلاف، ولا بُدَّ للإنسان أن يتَّخذ فيها زينة، فكيف يشهد أنْ لا إله إلا الله، ويُحافظ على ترك الصَّلاة؟ إنَّ شهادةً كهذه تستلزم

(1)

رواه الترمذي، كتاب الإيمان: باب ما جاء في ترك الصلاة، رقم (2622)، وابن نصر في «تعظيم قدر الصلاة» رقم (948)، والحاكم (1/ 7).

قال النووي: رواه الترمذي في الإيمان بإسناد صحيح. «الخلاصة» رقم (660).

(2)

انظر: «تعظيم قدر الصَّلاة» رقم (990)، «المحلَّى» (2/ 242، 243).

ص: 31

أن يعبده في أعظم العبادات، فلا بُدَّ من تصديق القول بالفعل، فلا يمكن للإنسان أن يَدَّعي شيئاً وهو لا يفعله، بل هو كاذب عندنا، ولماذا نكفِّره في النّصوص التي جاءت بتكفيره مع أنه يقول: لا إله إلا الله، ولا نكفره بترك الصَّلاة مع أنَّ النصوصَ صريحةٌ في كفره؟ ما هذا إلا تناقض.

ولا يمكن أنْ نحمل نصوصَ التَّكفير على مَنْ تركها جاحداً، فإن الإنسانَ لو صَلّى الصّلاة كاملة؛ وهو جاحدٌ لوجوبها فإنَّه كافر، ولهذا لما قيل للإمام أحمد في قوله تعالى:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّدًا}

} [النساء: 93] الآية: إنَّ هذا فيمن استحلَّ قتل المسلم؛ قال: سبحان الله! من استحلَّ قتل المسلم فهو في النَّار، سواء قتله أم لم يقتله.

وهذا مثله، وأنت إذا حملتَ الحديثَ على هذا فقد حَرَّفته من وجهين:

أولاً: حملتَ دلالته على غير ظاهره؛ لأن الحديث معلَّق بالتَّرك لا بالجحود.

ثانياً: أبطلتَ دلالته فيما دَلَّ عليه، وهو التَّرك؛ حيث حملته على الجحود.

وهذا من باب الاعتقاد ثم الاستدلال، والذي يحكم بالكفر والإسلام هو اللَّهُ عز وجل.

بقي أن يُقال: هناك أحاديث تُعارض الأحاديثَ الدَّالة على الكفر؟ فنقول: أولاً يجب أن نعرف ما معنى المعارضة قبل أن نقول بها، ولهذا نقول: حَقِّقْ قبل أن تُنَمِّقَ، هل جاء

ص: 32

حديث أو آية تقول: مَنْ ترك الصَّلاة فليس بكافر أو نحوه؟ لو جاءت على مثل هذا الوجه قلنا: هذه معارضة، ولكن ذلك لم يكن، فالنُّصوص التي عارضوا بها تنقسم إلى خمسة أقسام:

القسم الأول: ما لا دليل فيه أصلاً للمسألة، مثل استدلال بعضهم بقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48، 116]، فإن قوله:{مَا دُونَ ذَلِكَ} يدخل فيه تَرْكُ الصَّلاة؛ فيكون داخلاً تحت المشيئة، وما كان كذلك لم يكن كفراً.

فيجاب: بأن معنى قوله: {مَا دُونَ ذَلِكَ} ما هو أقلُّ من ذلك، وليس معناه ما سوى ذلك، بدليل أنَّ من كذَّبَ بما أخبر الله به ورسولُه فهو كافر كفراً لا يُغفر، وليس ذَنْبُه من الشِّرك. ولو سلَّمنا أن معنى:{مَا دُونَ ذَلِكَ} ما سوى ذلك؛ لكان هذا من باب العام المخصوص بالنُّصوص الدَّالَّة على الكفر بما سوى الشِّرك، والكفر المُخرج عن المِلَّة من الذنب الذي لا يُغفر، وإن لم يكن شركاً.

ومن هذا القسم: ما يكون مشتبهاً لاحتمال دلالته، فيجب حمله على الاحتمال الموافق للنصوص المحكمة، كحديث عُبادة بن الصَّامت: «خمسُ صلوات؛ افترضهُنَّ اللَّهُ تعالى، مَنْ أحسن وضوءَهُنَّ، وصَلاَّهُنَّ لوقتهنَّ؛ وأتمَّ رُكوعَهُنَّ وخُشوعَهُنَّ، كان له على الله

ص: 33

عهدٌ أن يغفرَ له، ومَنْ لم يفعلْ؛ فليس له على الله عهدٌ، إن شاء غَفرَ له، وإن شاء عَذَّبه»

(1)

، فإنه يحتَمِلُ أن يكون المراد به: من لم يأتِ بهنَّ على هذا الوصف، وهو إتمام الركوع والسجود والخشوع.

ويحتمل أن يكون: لم يأتِ بهنَّ على هذا الوصف، وهو إتمام الركوع والسجود والخشوع.

ويحتمل أن يكون: لم يأتِ بهنَّ كلِّهنَّ؛ بل كان يُصلّي بعضاً ويترك بعضاً.

ويحتمل أن يكون: لم يأتِ بواحدةٍ منهنّ، بل كان يَتركهُنَّ كلَّهنَّ.

وإذا كان الحديث محتملاً لهذه المعاني كان من المتشابه، فيُحمل على الاحتمال الموافق للنُّصوص المحكمة.

القسم الثاني: عامٌ مخصوص بالأحاديث الدَّالة على كفر تارك الصلاة، مثل قوله صلى الله عليه وسلم في حديث معاذ بن جبل: «ما من عبدٍ يشهدُ أنْ لا إله إلا الله؛ وأنَّ محمداً عبده ورسوله؛ إلا

(1)

رواه مالك في «الموطأ» رقم (320)، وأبو داود، كتاب الصلاة: باب في المحافظة على وقت الصلوات، رقم (425)، والنسائي، كتاب الصلاة: باب المحافظة على الصلوات الخمس، (1/ 230)، وابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة: باب ما جاء في فرض الصلوات الخمس، رقم (1401)، والبيهقي (2/ 215)، عن عبادة به مرفوعاً.

قال ابنُ عبد البر: «حديثٌ صحيحٌ ثابتٌ» . «التمهيد» (23/ 288).

قال النووي: «إسناده على شرط الصحيحين» . «الخلاصة» رقم (661).

قال ابن كثير: «إسناده صحيح» . «إرشاد الفقيه» ص (91).

ص: 34

حَرَّمه اللَّهُ على النَّار»

(1)

. وهذا أحدُ ألفاظه، وورد نحوه من حديث أبي هريرة

(2)

وعُبادة بن الصامت

(3)

وعِتْبَان بن مالك

(4)

رضي الله عنهم.

القسم الثالث: عامٌ مقيَّد بما لا يمكن معه ترك الصَّلاة، مثل قوله صلى الله عليه وسلم في حديث معاذ:«ما من أحدٍ يشهد أنْ لا إله إلا الله؛ وأنَّ محمداً رسول الله ـ صِدْقاً من قلبه ـ إلا حَرَّمه الله على النَّار» (52)، وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عِتْبَان بن مالك:«فإن الله حَرَّم على النَّار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وَجْهَ الله» (52)، رواه البخاري.

فتقييدُ الإتيان بالشهادتين بإخلاص القصد وصدق القلب يمنعه من ترك الصَّلاة، إذ ما من شخص يصدق في ذلك ويُخْلص إلا حمله صدقه وإخلاصه على فعل الصَّلاة ولا بُدّ، فإن الصَّلاة عَمُود الإسلام، وهي الصِّلة بين العبد وربِّه، فإذا كان صادقاً في ابتغاء وجه الله، فلا بُدَّ أن يفعل ما يوصله إلى ذلك، ويتجنَّبَ ما يحول بينه وبينه.

(1)

رواه البخاري، كتاب العلم: باب من خصَّ بالعلم قوماً دون قوم، رقم (128)، ومسلم، كتاب الإيمان: باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنّة، رقم (32) واللفظ له من حديث أنس بن مالك.

(2)

رواه مسلم، كتاب الإيمان: باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنّة قطعاً، رقم (31) عن أبي هريرة عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم:«من لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه فبشره بالجنَّة» .

(3)

رواه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء: باب قوله: {يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم

} رقم (3435)، ومسلم في الكتاب والباب السابقين، رقم (28).

(4)

رواه البخاري، كتاب الرقاق: باب العمل الذي يُبتغى به وجه الله، رقم (6423)، ومسلم في الكتاب والباب السابقين، رقم (33).

ص: 35

وكذلك من شهد أنْ لا إله إلا الله؛ وأنَّ محمداً رسول الله صِدْقاً من قلبه؛ فلا بُدَّ أن يحمله ذلك الصِّدق على أداء الصَّلاة مخلصاً بها لله تعالى متَّبعاً فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن ذلك من مستلزمات تلك الشَّهادة الصَّادقة.

القسم الرابع: ما ورد مقيَّداً بحال يُعذر فيها بترك الصلاة، كالحديث الذي رواه ابنُ ماجه عن حُذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يَدْرُسُ الإسلامُ كما يَدْرُسُ وَشْيُ الثَّوب» الحديث، وفيه:«وتبقى طوائفُ من النَّاس: الشيخُ الكبيرُ والعجوزُ، يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمةِ: لا إله إلا الله، فنحن نقولُها» . فقال له صِلَة: ما تُغْني عنهم: لا إله إلا الله؛ وهم لا يَدْرون ما صلاة؛ ولا صيام؛ ولا نُسُكٌ؛ ولا صَدَقَةٌ. فأعرض عنه حُذيفة، ثم ردَّها عليه ثلاثاً. كُلُّ ذلك يُعْرِضُ عنه حُذيفة، ثم أقبل عليه في الثَّالثة، فقال: يا صِلَةُ، تُنْجِيهم من النَّار. ثلاثاً

(1)

. فإن هؤلاء الذين أنجتهم الكلمةُ من النَّار كانوا معذورين بترك شَرائعِ الإسلام؛ لأنهم لا يَدْرون عنها، فما قَامُوا به هو غايةُ ما يقدرون عليه، وحالهم تُشبه حالَ مَنْ ماتوا قبل فرض الشَّرائع، أو

(1)

رواه ابن ماجه، كتاب الفتن: باب ذهاب القرآن والعلم، رقم (4049)، والحاكم (4/ 473، 545).

قال الحاكم: «حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه» .

قال الذهبي: «على شرط مسلم» .

قال ابن حجر: «سنده قوي» . «الفتح» شرح حديث (7061).

قال البوصيري: «إسناده صحيح. رجاله ثقات» .

ص: 36

قبل أن يتمكَّنُوا من فعلها، كمن مات عُقيب شهادته قبل أن يتمكَّنَ من فعل الشَّرائع، أو أسلم في دار الكفر قبل أن يتمكَّنَ من العلم بالشرائع.

القسم الخامس: أحاديث ضعيفة لا تقاوم أدلَّة كفر تارك الصَّلاة.

والحاصل: أن ما استدلَّ به مَنْ لا يرى كُفْر تارك الصَّلاة لا يقاوم ما استدلَّ به من يرى كفره؛ لأنَّ ما استدلَّ به أولئك: إما ألا يكون فيه دلالة أصلاً، وإما أن يكون مقيَّداً بوصفٍ لا يتأتَّى معه ترك الصَّلاة، أو مقيَّداً بحال يُعذر فيها بترك الصَّلاة، أو عاماً مخصوصاً بأدلَّة تكفيره أو ضعيفاً لا يقاوم الأدلَّة الدَّالة على كفره.

فإذا تَبيَّن كفره بالدَّليل القائمِ السالمِ عن المُعارض المقاوم؛ وجَبَ أن تترتَّبَ أحكام الكُفْر والرِّدَّة عليه؛ ضرورة أن الحكم يدور مع عِلَّته وجوداً وعدماً.

والقولُ بعدم تكفير تارك الصَّلاة يُؤدي إلى تركها والتَّهاونِ بها؛ لأنَّك لو قلت للنَّاس على ما فيهم من ضعف الإيمان: إنَّ ترك الصَّلاة ليس بكُفْر، تركوها. والذي لا يُصلِّي لا يغتسل من الجنابة، ولا يستنجي إذا بال، فيُصبح الإنسان على هذا بهيمة، ليس همُّه إلا أكلٌ وشربٌ وجِمَاعٌ فقط، والدليل على كفره

قائم؛ وهو سالم عن المُعارض القائم المقاوم تماماً ولله الحمد.

ولنا في ذلك رسالة مستقلَّة؛ أوسع من هذا البحث؛ فليُراجعها من أحبَّ؛ لأهميَّةِ الموضوع.

ص: 37

‌وَلَا يُقْتَلُ حتى يُستتاب ثَلَاثاً فِيهِما.

قوله: «وَلَا يُقْتَلُ حتى يُستتاب ثَلاثاً فِيهِما» ، أي: لا يقتل من جَحَد وجوب الصَّلاة أو تركها تهاوناً وكسلاً «حتى يُستتاب» ، أي: يستتيبه الإمام أو نائبه ثلاثة أيام، فيقول له: تُبْ إلى الله وصَلِّ وإلا قتلناك.

وهذه المسألة، فيها خلافٌ بين أهل العلم، وعن الإمام أحمد روايتان

(1)

، هل يُستتابُ كلُّ مرتد أم لا؟ والمذهب: أن المرتدين قسمان

(2)

:

قسم لا تقبل توبتهم، فهؤلاء لا يُستتابون لعدم الفائدة وهم: من سَبَّ الله، أو رسوله، أو تكرَّرت رِدَّتُه، فإن هذا يُقتل حتى لو تاب. والصَّحيح: أنَّه تُقبل توبتهم؛ لعموم الأدلة الدَّالة على قَبُول الله تعالى التَّوبة من كلِّ ذنب؛ بل في خُصوص المستهزئين بالله وآياته ورسوله كما قال تعالى: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ *} [الزمر]، وقال في المستهزئين:{لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً} [التوبة: 66]. لكن من سَبَّ الرَّسول صلى الله عليه وسلم قُتِلَ وجوباً وإِنْ تابَ؛ لأنه حَقُّ آدميٍّ فلا بُدَّ من الثَّأر له صلى الله عليه وسلم.

والقسم الثاني من المرتدين تُقبل توبتهم، وفي استتابتهم روايتان

(3)

:

(1)

انظر: «الفروع» (6/ 169)، «الإنصاف» (27/ 114 ـ 118).

(2)

انظر: «الإقناع» (4/ 291، 293).

(3)

انظر: «الإنصاف» (27/ 114 ـ 118)، «الإقناع» (4/ 291).

ص: 38

الرِّواية الأولى: لا يُستتابون بل يقتلون؛ لأن النصوص الواردة عامَّة، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم قال:«مَنْ بدّلَ دينه فاقتلوه»

(1)

، ولم يقل:«فاستتيبوه» .

والرِّواية الثانية: أنهم يُستتابون ثلاثة أيَّام، واستدلُّوا بأثرٍ عن عمر رضي الله عنه أنه ذُكر له رجلٌ ارتدَّ فقُتِلَ، فقال لهم:«فهلاّ حبستموه ثلاثاً، وأطعمتموه كلَّ يومٍ رغيفاً، واستتبتُموه لَعَلَّه يتوب ويُراجع أمر الله، اللهم إنِّي لم أحضرْ، ولم آمُرْ، ولم أَرْضَ إذ بلغني»

(2)

.

وهناك قول ثالث: أنَّ هذا يرجع إلى اجتهاد الحاكم

(3)

، وهذا لا يُنافي ما قاله عمر، ولا يُخالف الأدلَّة، وهذا القول هو الصَّحيح.

(1)

رواه البخاري، كتاب استتابة المرتدين: باب إثم من أشرك بالله، رقم (6922) من حديث ابن عباس.

(2)

رواه مالك، كتاب الأقضية: باب القضاء فيمن ارتدَّ عن الإسلام، رقم (2152)، وعبد الرزاق رقم (18695)، والبيهقي (8/ 206) عن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن عَبْد القاري، عن أبيه به.

ومحمد بن عبد الله بن عَبْد القاري، ذكره ابن حبان في «الثقات» (7/ 384)، ولم يوثِّقه غيره.

قال الشافعيُّ: «وممن قال لا يُتأنَّى به؛ من زعم أنَّ الحديث الذي رُوي عن عُمر ليس بثابت، ولأنه لا يعلمه متَّصلاً، وإنْ كان ثابتاً كان لم يجعل على مَنْ قتله قبل ثلاث شيئاً» . «المعرفة والآثار» (12/ 258).

(3)

انظر: «فتح الباري» (12/ 269، 272).

ص: 39

‌بابُ الأَذَان والإِقامة

هذا الباب عنوان لمسألتين، لكنهما مسألتان متلازمتان: إحداهما الأذان، والثانية الإقامة.

الأذان في اللُّغة: الإعلامُ، ومنه قوله تعالى:{فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 279]، وقوله:{وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ} [التوبة: 3].

وفي الشَّرع: إعلامٌ خاصٌ يأتي ذكره، وهذا الغالب في التَّعريفات الشَّرعيَّة أنها تكون أخصَّ من المعاني اللُّغويَّة، وقد يكون بالعكس. فالإيمان في اللُّغة: التَّصديق، وفي الشَّرع أعمُّ منه، ولكن الغالب الأول.

أما تعريف الأذان شرعاً: فهو التعبُّد لله بذكرٍ مخصوص؛ بعد دخول وقت الصَّلاة؛ للإعلام به.

وهذا أولى من قولنا: الإعلامُ بدخول وقتِ الصَّلاة؛ لأنَّ الأذان عبادة فينبغي التنويه عنها في التَّعريف، ولأنَّ الأذان لا يتقيَّد بأوَّل الوقت؛ ولهذا إذا شُرع الإبراد في صلاة الظُّهر شُرِعَ تأخير الأذان أيضاً؛ كما وَرَدَ ذلك في الصحيح

(1)

.

والأذان عبادة واجبة؛ لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أمرَ به، ولأنَّ الله أشار إليه في القرآن في قوله:{وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا}

(1)

رواه البخاري، كتاب الأذان: باب الأذان للمسافر إذا كانوا جماعة

، رقم (629)، وانظر رقم (535)، ومسلم، كتاب المساجد: باب استحباب الإبراد بالظهر في شدة الحر، رقم (616) من حديث أبي ذرٍ.

ص: 40

[المائدة: 58] وهذا عام، وقوله:{إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9]، وهذا خاص.

أما الإقامة: فإنها في اللُّغَةِ مصدرُ أقام، من أقام الشيءَ إذا جعله مستقيماً.

أما في الشَّرع: فهي التعبُّد لله بذكرٍ مخصوص عند القيام للصَّلاة. والفرق بينها وبين الأذان: أن الأذان إعلام بالصلاة للتهيُّؤ لها والإقامة إعلامٌ للدُّخول فيها والإحرام بها، وكذلك في الصِّفة يختلفان.

مسألة: واختلف العلماء أيُّها أفضل، الأذان، أم الإقامة، أم الإمامة

(1)

؟

والصَّحيح: أنَّ الأفضل الأذان؛ لورود الأحاديثِ الدَّالة على فضله

(2)

.

ولكن إذا قال قائل: الإمامة رُبطتْ بأوصاف شرعيَّة مثل: «يؤمُّ القوم أقرؤهم لكتاب الله»

(3)

، ومعلومٌ أن الأقرأ أفضل؛ فَقَرْنُها به يدلُّ على أفضليتها؟

(1)

انظر: «المغني» (2/ 54)، «الاختيارات» ص (36)، «الإنصاف» (3/ 43).

(2)

كحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا عليه

»، أخرجه البخاري في كتاب الأذان: باب الاستهام في الأذان رقم (615)، ومسلم في كتاب الصلاة: باب تسوية الصفوف رقم (437) وحديث معاوية بن أبي سفيان عند مسلم، كتاب الصلاة: باب فضل الأذان، رقم (387).

(3)

رواه مسلم، كتاب المساجد: باب من أحق بالإمامة رقم (673)، عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه.

ص: 41

فنجيب عليه: بأننا لا نقول لا أفضليَّة في الإمامة، بل الإمامة ولاية شرعيَّة ذات فضل، ولكننا نقول: إنَّ الأذان أفضل من الإمامة لِمَا فيه من إعلان ذكرِ الله وتنبيه النَّاس على سبيل العموم، فالمؤذِّن إمام لكلِّ من سمعه، حيث يُقتدى به في دخول وقت الصَّلاة؛ وإمساك الصَّائم وإفطاره، ولأنَّ الأذان أشقُّ من الإمامة غالباً، وإنَّما لم يؤذِّن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الرَّاشدون؛ لأنَّهم اشتغلوا بالأهمِّ عن المهم؛ لأنَّ الإمام يتعلَّق به جميع النَّاس، فلو تفرَّغ لمراقبة الوقت لانشغل عن مهمَّات المسلمين، ولا سيَّما في الزَّمن السَّابق حيثُ لا ساعات ولا أدلَّة سهلة.

‌هُمَا فَرْضُ كِفَايةٍ ..............

قوله: «هما فرضُ كِفَاية» ، هذا بيان لحكمهما.

الفرض في اللُّغة: القطع. وشرعاً: ما أُمِرَ به على سبيل الإلزام وهل هو أوكد من الواجب، أم هما بمعنى واحد

(1)

؟

الصحيح: أنهما بمعنى واحد، لكن ينبغي مراعاة ألفاظ الشَّرع، فما جاء بلفظ الفرض فَلْيُعبَّر عنه بالفرض، وإلا فبما عبَّر عنه الشَّارع؛ لأنَّ هذا أَولى في المتابعة.

والدَّليل على فرضيتهما: أَمْرُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بهما في عِدَّة أحاديث

(2)

، وملازمته لهما في الحضر والسَّفر، ولأنه لا يتمُّ العلم بالوقت إلا بهما غالباً، ولتعيُّن المصلحة بهما؛ لأنَّهما من شعائر الإسلام الظَّاهرة.

(1)

انظر: «شرح الكوكب المنير» (1/ 351 ـ 353).

(2)

كحديث مالك بن الحويرث الآتي.

ص: 42

وقوله: «كفاية» وهو الذي إذا قام به من يكفي سقط عن الباقين.

ودليلُ كونه فرض كفاية: قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم لمالك بن الحُويرث: «إذا حضرت الصلاةُ فليُؤذِّنْ لكم أحدُكم»

(1)

، وهذا يدلُّ على أنه يُكتَفَى بأذان الواحد، ولا يجبُ الأذان على كُلِّ واحد.

قال بعض أهل العلم: ما طُلبَ إيجاده من كلِّ شخصٍ بعينه فإنَّه فرضُ عَين، وما طُلبَ إيجاده بقطع النَّظر عن فاعله فهو فرضُ كفاية

(2)

. ففي الأول لوحظ العامل، وفي الثَّاني لوحظ العمل، فإن قيل: أيُّهما أفضل فرض العين أم فرض الكفاية؟ فالجواب: أن الأفضل فرض العين على القول الرَّاجح؛ لأنَّ فرضه على كلِّ أحد بعينه دليل على أهميته، وأنه لا يتمُّ التعبُّد لله تعالى من كلِّ واحد إلا به، بخلاف فرض الكفاية.

‌على الرِّجَال ................

قوله: «على الرِّجال» ، جمع رَجُل، وتُطلق على البالغين، فخرج بذلك الصِّغار والإناث والخُنثى المُشكِل، فلا يجب على الصِّغار؛ لأنهم ليسوا رجالاً، وليسوا من أهل التَّكليف.

أمَّا النِّساء: فعلى المذهب لا يجب عليهنَّ أذان؛ سواء كُنَّ منفردات عن الرِّجال أو كُنَّ معهم، وإذا لم نقل بالوجوب عليهنَّ فما الحكم حينئذ؟ فيه روايات عن الإمام أحمد

(3)

: رواية أنَّهما

(1)

رواه البخاري، كتاب الأذان: باب الأذان للمسافر

، رقم (631)، ومسلم، كتاب المساجد: باب من أحق بالإمامة، رقم (674).

(2)

انظر: «القواعد والفوائد الأصولية» ص (186).

(3)

انظر: «الإنصاف» (3/ 48، 49).

ص: 43

يُكرهان، ورواية أنَّهما يُبَاحان، ورواية أنَّهما يُستحبَّان، ورواية أنَّ الإقامة مستحبَّة دون الأذان. وكلُّ هذا مشروطٌ بما إذا لم يرفعنَ الصَّوت على وجهٍ يُسمَعْنَ، أما إذا رفعن الصَّوت فإما أن نقول بالتَّحريم أو الكراهة.

والمذهب الكراهة مطلقاً؛ لأنهنَّ لَسْنَ من أهل الإعلان فلا يُشرع لهنَّ ذلك، ولو قال قائل بالقول الأخير ـ وهو سُنِّيَّةُ الإقامة دون الأذان؛ لأجل اجتماعهن على الصَّلاة ـ لكان له وجه.

‌المُقِيمِينَ للصَّلَواتِ الخَمْسِ المَكْتُوبَةِ المُؤَدَّاةِ،

.................

قوله: «المقيمين» ، ضِدُّ المسافرين، فالمسافرون لا أذان عليهم ولا إقامة، ولكن يُسَنُّ. هذا هو المذهب، ولكن لا دليل له، بل الدَّليل على خِلافه، وهو أنَّهُمَا واجبان على المقيمين والمسافرين، ودليله: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال لمالك بن الحويرث وصحبِه: «إذا حضرت الصَّلاةُ فليؤذِّن لكم أحدُكُم»

(1)

، وهم وافدون على الرَّسول عليه الصلاة والسلام مسافرون إلى أهليهم، فقد أمر الرَّسول عليه الصلاة والسلام أن يُؤذِّن لهم أحدُهم، ولأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يَدَعِ الأذان ولا الإقامة حَضَراً ولا سَفَراً، فكان يُؤذِّن في أسفاره ويأمر بلالاً رضي الله عنه أن يُؤذِّنَ.

فالصَّواب: وجوبُه على المقيمين والمسافرين.

قوله: «للصَّلوات» ، اللام للتعليل، يعني أنَّ الأذان والإقامة واجبان للصَّلاة وليسا واجبين فيها، والفرق بين الواجب للشيء والواجب فيه: أنَّ الواجب في الشيء من حقيقته وماهيَّتِه،

(1)

تقدم تخريجه، ص (43).

ص: 44

كالتَّشهُّد الأوَّل مثلاً، وأمَّا الواجب للشيء فهو خارجٌ عن الحقيقة والماهيَّة، كالأذان والإقامة للصَّلاة، فهما خارجان عن الصَّلاة واجبان لها؛ فلو صَلَّى بدونهما صحَّت صلاتُه، ولو ترك التَّشهُّد الأوّل عمداً لم تصحَّ.

وقوله: «الخَمْسِ المكتوبة» ، يعني: المفروضة ومنها الجُمُعة؛ لأنها حَلَّت محلَّ الظُّهر.

ودليل وجوبه: قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «إذا حضرت الصَّلاة فليؤذِّن لكم أحدُكم»

(1)

. وهو عامٌ في كلِّ الصَّلوات الخمس، ولأن مؤذِّنَه كان يواظب على أن يؤذِّن للصَّلوات الخمس، فكان واجباً.

وقوله: «المكتوبة» ، أي: المفروضة، والوصف هنا بيان للواقع؛ إذ ليس هناك صلوات خمس غير مكتوبة؛ اللهم إلا أن يريد بقوله:«المكتوبة» المؤدَّاة، أي: التي تُفعل في الوقت، فيكون هذا له مفهوم؛ لأن المقضيَّة لا يجب لها الأذان على المذهب.

وقوله: «للصّلوات الخمس» خرج به ما عداها، فلو أراد الإنسان الوتر فإنه لا يؤذِّن له، ولو كُسِفَت الشمسُ لم يؤذِّنْ لذلك، وكذلك صلاة العيد لا أذان لها، ومثل ذلك المنذورة.

قوله: «المؤدَّاة» ، هكذا في بعض نُسخ «الرَّوض»

(2)

، فخرج بهذا المقضيَّة، وهي التي تُصلَّى بعد الوقت، فلا يجب الأذان لها لكن يُسَنُّ.

(1)

انظر: «الروض المربع» (1/ 123).

(2)

تقدم تخريجه، ص (15).

ص: 45

والصَّواب: وجوبهما للصَّلوات الخمس المؤدَّاة والمقضيَّة، ودليله: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم: «لمَّا نام عن صلاة الفجر في سفره، ولم يستيقظ إلا بعد طُلوع الشَّمس؛ أمر بلالاً أن يُؤذِّنَ وأن يُقيمَ»

(1)

، وهذا يَدلُّ على وجوبهما. ولعموم قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم:«إذا حضرت الصَّلاةُ فليؤذِّنْ لكم أحدُكم»

(2)

، فإنه يشمل حضورَها بعد الوقت وفي الوقت، ولكن إذا كان الإنسان في بلد قد أُذِّنَ فيه للصَّلاة، كما لو نام جماعةٌ في غرفة في البلد؛ ولم يستيقظُوا إلا بعد طلوع الشَّمس؛ فلا يجب عليهم الأذان اكتفاءً بالأذان العام في البلد، لأنَّ الأذان العام في البلد حصل به الكفاية وسقطت به الفريضةُ، لكن عليهم الإقامة.

وقوله: «للصلوات الخمس» هذا ما لم تُجمع الصَّلاة، فإنه يكفي للصَّلاتين أذان واحد، ولكن لا بُدَّ من الإقامة لكلِّ واحدة منهما.

والخُلاصة: أنه لا بُدَّ لوجوب الأذان والإقامة من شروط منها:

1 ـ أن يكونوا رجالاً. 2 ـ أن يكونوا مقيمين.

3 ـ في الصلوات الخمس. 4 ـ المؤدَّاة.

5 ـ أن يكونوا جماعة، بخلاف المنفرد فإنه سُنَّة في حَقِّه؛ لأنَّه ورد فيمن يرعى غنمه ويُؤذِّن للصَّلاة أنَّ الله يَغفر له ويُثيبه على ذلك

(3)

. وهذا يَدلُّ على استحباب الأذان للمنفرد، وأنَّه ليس

(1)

تقدم تخريجه، ص (15).

(2)

تقدم تخريجه، ص (43).

(3)

رواه أحمد (4/ 145، 157، 158)، وأبو داود، كتاب الصلاة: باب الأذان في السفر، رقم (1203)، والنسائي، كتاب الأذان: باب الأذان لمن يصلي وحده (2/ 20) رقم (665) عن أبي عُشَّانة، عن عُقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يعجبُ ربُّك من راعي غنمٍ في رأس شظيَّة الجبل، يؤذِّن بالصَّلاة ويُصلّي، فيقولُ الله عز وجل: انظروا إلى عبدي هذا، يؤذِّنُ ويقيم الصَّلاة، ويخافُ منِّي، قد غفرت لعبدي، وأدخلته الجنَّة» .

والحديث صحَّحه ابنُ حبان رقم (1660)، وقال المنذري:«رجال إسناده ثقات» . «مختصر سنن أبي داود» (2/ 50).

ص: 46

بواجب. فأصبحت الشروط خمسة. وقد يُفهم اشتراط كونهم «جماعة» من كلمة «رجال» .

‌يُقَاتَلُ أَهْلُ بَلَدٍ تَرَكُوْهُمَا،

.............

قوله: «يُقَاتَلُ أَهْلُ بَلَدٍ تَرَكُوْهُمَا» ، والذي يِقاتِلهم الإمام إلى أنْ يُؤذِّنُوا، وهذا من باب التعزير لإقامة هذا الفرض، وليس من باب استباحة دمائهم، ولهذا لا يُتْبَع مُدْبِرُهم، ولا يُجْهَزُ على جَريحِهم، ولا يُغْنَمُ لهم مالٌ، ولا تُسْبَى لهم ذُرِّيَّة؛ لأنَّهم مسلمون، وإنما قُوتلوا تعزيراً، ودليل ذلك: أنَّ الأذان والإقامة هما علامة بلاد الإسلام، فقد كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا غزا قوماً أمسك حتى يأتيَ الوقتُ، فإن سمعَ أذاناً كَفَّ، وإلا قاتلهم

(1)

. فهما من شعائر الإسلام الظَّاهرة.

وقوله: «تركُوهُمَا» ، يحتمل تركوهما جميعاً، أو تركوا واحداً منهما. فإن تركوهما أو تركوا الأذان فقتالهم ظاهر؛ لأن الأذان من العلامات الظَّاهرة، وإن تركوا الإقامة يحتمل أن يقاتلوا؛ لأنَّها علامة ظاهرة، لكنَّها ليست كالأذان؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:

(1)

رواه البخاري، كتاب الأذان: باب ما يُحقن بالأذان من الدماء، رقم (610)، ومسلم، كتاب الصلاة: باب الإمساك عن الإغارة على قوم في دار الكفر إذا سُمع فيهم الأذان، رقم (382) من حديث أنس بن مالك.

ص: 47

«إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصَّلاة»

(1)

.

فدلَّ على أنها علامة ظاهرة تُسْمَعُ. ويحتمل ألاَّ يُقاتَلوا.

فإن قال قائلٌ: كيف يُقَاتَلون، وقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:«لا يَحِلُّ دَمُ امرئٍ مسلمٍ يشهد أنْ لا إله إلا الله، وأنِّي رسولُ الله، إلا بإحدى ثلاث: الثَّيِّبُ الزَّاني، والنَّفس بالنَّفس، والتَّاركُ لدينه؛ المفارقُ للجماعة»

(2)

.

قلنا: المراد بهذا الحديث القتل؛ وهو أخصُّ من القتال، فهناك فرق بين القتل والقتال، فليس كلُّ مَنْ جاز قتاله جاز قتله، ولهذا نقاتل إحدى الطَّائفتين المقتتلتين حتى تفيء إلى أمر الله، مع أنها مؤمنة لا يحلُّ قتلها. أما القتل فليس يلزم منه مقاتلة الجميع، فقد يكون واحدٌ من هؤلاء يستحقُّ القتل فنقتله ولا نقاتل الجميع، فَتبيَّن بهذا أنَّه لا تَلازَم بين القتال والقتل، وأن جواز القتال أوسع من جواز القتل؛ لأنَّ القتل لا يكون إلا في أشياء معيَّنة.

‌وتَحْرُمُ أجْرَتُهُمَا ................

قوله: «وتَحْرُمُ أجرتُهُمَا» ، أي: أن يعقدَ عليهما عقد إجارة، بأن يستأجرَ شخصاً يؤذِّن أو يُقيم؛ لأنهما قُربة من القُرَب وعبادةٌ من العبادات، والعبادات لا يجوز أخذ الأجرة عليها؛ لقوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا

(1)

رواه البخاري، كتاب الأذان: باب لا يسعى إلى الصلاة

، رقم (636) واللفظ له، ومسلم كتاب المساجد: باب استحباب إتيان الصَّلاة بوقار وسكينة

، رقم (602). من حديث أبي هريرة.

(2)

رواه البخاري، كتاب الديَّات: باب قول الله تعالى: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ}

}، رقم (6878)، ومسلم، كتاب القسامة والمحاربين: باب ما يُباح به دم المسلم، رقم (1676) من حديث ابن مسعود.

ص: 48

وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ *أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *} [هود].

ولأنه إذا أراد بأذانه أو إقامته الدُّنيا بطل عملُه، فلم يكن أذانه ولا إقامته صحيحة، قال صلى الله عليه وسلم:«من عَمِل عَمَلاً ليس عليه أمرُنا فهو رَدٌّ»

(1)

.

أما الجُعَالة؛ بأن يقول: من أذَّن في هذا المسجد فله كذا وكذا دُونَ عقدٍ وإلزام فهذه جائزة؛ لأنَّه لا إلزام فيها، فهي كالمكافأة لمن أذَّن، ولا بأس بالمكافأة لمن أذَّن، وكذلك الإقامة.

‌لا رَزْق مِنْ بيتِ المَالِ لِعَدَمِ مُتَطَوِّع.

‌وَيَكُونُ المُؤَذِّنُ صَيِّتاً أَمِيْناً عَالِماً بِالْوقْتِ.

قوله: «لا رَزْقٍ من بيتِ المَالِ» ، الرَّزْق بفتح الراء: الإعطاء، والرِّزْق بكسر الراء: المرزوق، فلا يحرم أن يُعْطَى المؤذِّن والمُقيم عطاءً من بيت المال، وهو ما يُعرفَ في وقتنا بالرَّاتب؛ لأن بيت المال إنما وُضِعَ لمصالح المسلمين، والأذان والإقامة من مصالح المسلمين.

قوله: «لعدم مُتَطَوِّع» ، هذا شرط لأخذ الرَّزْق، فإن وُجِدَ مُتَطَوِّعٌ أَهْلٌ فلا يجوز أن يُعطَى من بيت المال، حمايةً لبيت المال من أن يُصرفَ دُونَ حاجة إلى صرفه. وبهذا الذي قَرَّره الفقهاء يُعرف تحريم استغلال بيت المال بغير مسوِّغ شرعي.

قوله: «ويكون المُؤَذِّنُ صَيِّتاً أميناً عَالماً بالوَقْتِ» ، كلمة

(1)

تقدم تخريجه (1/ 186).

ص: 49

«يكون» تحتمل الوجوب؛ وتحتمل الاستحباب، فيحتمل أنَّ المعنى يُستحب، ويحتمل أن المعنى يجب. ويمكن أن ننظر ما تقتضيه الأدلَّةُ من هذه الصِّفَات، فما دلَّت على وجوبه قلنا بوجوبه، وما دَلَّت على استحبابه قلنا باستحبابه.

فقوله: «صَيِّتاً» هذا مستحبٌ، وليس واجباً، فالواجب أن يُسْمِعَ من يُؤَذِّنُ لهم فقط، وما زاد على ذلك فغير واجب.

وقوله: «صَيِّتاً» يحتمل أن يكون المعنى قويَّ الصَّوتِ، ويحتمل أن يكون حسنَ الصَّوت، ويحتمل أن يكون حسنَ الأداء، ولكن الاحتمال الأخير ليس واضحاً من العبارة.

فهنا ثلاثةُ أوصاف تعود على التلفُّظ بالأذان:

1 -

قوَّة الصَّوت.

2 -

حُسْن الصَّوتِ.

3 -

حُسْن الأدَاءِ.

فهذا كُلُّه مطلوب.

ونستنبط من قوله: «صَيِّتاً» أن مكبِّرات الصَّوت من نعمة الله؛ لأنَّها تزيد صوت المؤذِّن قوَّة وحُسناً، ولا محذور فيها شرعاً، فإذا كان كذلك وكانت وسيلة لأمر مطلوب شرعي، فللوسائل أحكام المقاصد. ولهذا أمرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم العبَّاس بن عبد المطلب أن ينادي يوم حنين:«أين أصحابُ السَّمُرَة»

(1)

، لقوَّةِ صَوته.

فدلَّ على أنَّ ما يُطلبُ فيه قوَّةُ الصَّوت ينبغي أن يُختار فيه

(1)

رواه مسلم، كتاب الجهاد والسير؛ باب في غزوة حنين، رقم (1775).

ص: 50

ما يكون أبلغ في تأديَة الصَّوت. ولكن ما يُتَّخذُ من تفخيم الصوت بما يسمُّونه «الصَّدَى» فليس بمشروع، بل قد يكون منهيًّا عنه إذا لزم منه تكرار الحرف الأخير لما فيه من الزِّيادة.

وقوله: «أميناً» ، الظَّاهر من المذهب: أن كونه أميناً سُنَّة

(1)

. والصَّحيح أنَّه واجب؛ لأنَّ الأمانة أحد الرُّكنين المقصودين في كلِّ شيء، والثاني القوَّة كما قال تعالى:{إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص: 26].

وقال العِفْريت الذي أراد أن يأتي بعرش «بلقيس» إلى سليمان: {وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ} [النمل: 39].

وعدم السَّداد في العمل يأتي من اختلال أحد الوصفين: القوَّة والأمانة. وإذا وُجِدَ ضعيفٌ أمينٌ؛ وقويٌّ غيرُ أمين؛ أيُّهما يقدم؟

فالجواب: أنَّ الصَّحيح حسب ما يقتضيه العمل، فبعض الأعمال تكون مراعاة الأمانة فيه أَولى، وبعضها تكون مراعاة القوَّة أولى، فمثلاً القوَّة في الإمارة قد تكون أولى بالمراعاة، والأمانة في القضاء قد تكون أولى بالمراعاة.

وقوله: «أميناً» ، أي: على الوقت، وعلى عورات النَّاس خصوصاً فيما سبق؛ حيث كان النَّاس يؤذِّنون فوق المنارة.

وقوله: «عالماً بالوقت» ، هذا ليس بشرط إن أراد أن يكون عالماً به بنفسه؛ لأن ابنَ أمِّ مكتوم كان رجلاً أعمى لا يؤذِّن

(1)

انظر: «الإنصاف» (3/ 59، 60)، «منتهى الإرادات» (1/ 53).

ص: 51

حتى يُقال له: «أصبحتَ أصبحتَ»

(1)

، لكن الأفضل أن يكون عالماً بالوقت بنفسه؛ لأنه قد يتعذَّر عليه من يُخبره بالوقت.

وقد يقال: المراد أن يكون عالماً بالوقت بنفسه أو بتقليد ثقة.

والعِلْمُ بالوقت يكون بالعلامات التي جعلها الشَّارع علامة، فالظُّهر بزوال الشَّمس، والعصر بصيرورة ظلِّ كُلِّ شيءٍ مثله بعد فيء الزَّوال، والمغرب بغروب الشَّمس، والعِشاء بمغيب الشَّفق الأحمر، والفجر بطلوع الفجر الثَّاني.

وهذه العلامات أصبحت في وقتنا علامات خفيَّة؛ لعدم الاعتناء بها عند كثير من النَّاس، وأصبح النَّاس يعتمدون على التقاويم والسَّاعات.

ولكن هذه التقاويم تختلف؛ فأحياناً يكون بين الواحد والآخر إلى ست دقائق، وهذه ليست هيِّنة ولا سيَّما في أذان الفجر وأذان المغرب؛ لأنَّهما يتعلَّق بهما الصِّيام، مع أن كلَّ الأوقات يجب فيها التَّحري، فإذا اختلف تقويمان وكلٌّ منهما صادرٌ عن عارف بعلامات الوقت، فإننا نُقدِّم المتأخِر في كلِّ الأوقات؛ لأنَّ الأصل عدم دخول الوقت، مع أن كلًّا من التَّقويمين صادر عن أهلٍ، وقد نصَّ الفقهاء رحمهم الله على مثل هذا فقالوا: لو قال لرَجُلين ارْقُبَا لي الفجر، فقال أحدهما: طلع الفجرُ، وقال الثاني: لم يطلع؛ فيأخذ بقول الثَّاني، فله أن يأكلَ

(1)

رواه البخاري، كتاب الأذان: باب أذان الأعمى إذا كان له من يخبره، رقم (617)، ومسلم، كتاب الصيام: باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر، رقم (1092) من حديث عبد الله بن عمر.

ص: 52

ويشرب حتى يتَّفقا بأن يقول الثَّاني: طلع الفجر

(1)

، أما إذا كان أحد التقويمين صادراً عن أعلم أو أوثق فإنَّه يقدَّم.

‌فَإِنْ تَشَاحَّ فيه اثْنَانِ قُدِّمَ أَفْضَلُهُمَا فيه، ثُمَّ أَفْضَلُهُمَا فِي دِيْنِهِ وعَقْلِهِ،

..........

قوله: «فإن تَشاحَّ فيه اثنان قُدِّمَ أفضلُهُما فيه» ، تشاحَّ: أي: تزاحما فيه، وهذا في مسجد لم يتعيَّن له مؤذِّن، فإن تعيَّن بقي الأمر على ما كان عليه لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم:«لا يَؤُمَّنَّ الرَّجلُ الرَّجلَ في سُلطانه»

(2)

، فيقال: وكذلك أيضاً لا يؤذِّن الرَّجلُ في سلطان مؤذِّن آخر.

وقوله: «قُدِّم أفضلُهُما فيه» ، أي: أقومهما في الأذان من حُسنِ الصَّوت، والأداء، والأمانة، والعلم بالوقت، وذلك لأنَّهما قد تزاحما في عمل فقُدِّم أفضلهما فيه، وقد قال الله:{إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص: 26].

وقوله: «فيه» خرج به ما لو كان أحدُهما أقرأ، لكنَّه دون الآخر فيما يتعلَّق بالأذان؛ فلا يُقدَّم على الآخر.

قوله: «ثم أفضلُهُمَا في دينه وعقلِهِ» ، أي: أطوعهما لله. وقوله: «وعَقْلِهِ» المراد: حُسن التَّرتيب، فيستطيع أن يرتِّبَ نفسه، ويجاري النَّاس بتحمُّلِهم في أذاهم، ولم يذكر المؤلِّف أفضلهما في علمه، وهذا أمرٌ لا بُدَّ منه، فإنَّنا نقدم أعلمهما، ورُبَّما قال قائل: هذا داخل في قوله: «أفضلهما فيه» ، فنقول: إن تَحَمَّلَتْهُ الكلمة فهذا هو المطلوب، وإلا فَيَجِبُ أن نراعيَها.

(1)

انظر: «الإقناع» (1/ 504).

(2)

رواه مسلم، وقد تقدم تخريجه ص (41).

ص: 53

‌ثُمَّ مَنْ يَخْتَارُهُ الجِيْرَان، ثُمَّ قُرْعةٌ".

قوله: «ثم من يختارُهُ الجِيْرَان» ، أي: أهل الحيِّ، وإذا تَعَذَّر إجماع الجيران على اختياره أخذنا بقول الأكثر؛ لأنَّه قَلَّ أن تجد رجلاً يُجْمِعُ النَّاسُ عليه.

وظاهر كلام المؤلِّف: أنه لا اعتبار في اختيار الجهة المسؤولة عن المساجد، لأنَّ الأذان لأهل الحيِّ فهم المسؤولون، ولكن هذا فيه نظر، بل نقول: المسؤول عن شؤون المساجد لا بُدَّ أن يكون له نوع اختيار، لأنَّه هو المسؤول، ولهذا عندما يحصُل إخلال من المؤذِّن يُرجع إلى المسؤول عن شؤون المساجد. ولعل المساجد في زمن المؤلِّف وما قبله ليس لها مسؤول خاصٌّ.

قوله: «ثم قُرْعَةٌ» ، هذا إذا تعادلت جميع الصِّفات، ولم يُرجِّح الجيران، أو تعادل التَّرجيح، فحينئذ نرجع إلى القُرْعة؛ لأنَّه يحصُل بها تَمييز المشتبه وتَبْيين المجمل عند تساوي الحقوق، وقد جاءت القُرْعَة في القرآن والسُّنَّة ففي القرآن قوله تعالى:{وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [آل عمران: 44]، وقال:{وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ *إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ *فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ *} [الصافات]

أما السُّنّة: فوردت في عِدَّةِ أحاديث منها: قوله صلى الله عليه وسلم: «لو يعلمُ النَّاس ما في النداء ـ يعني الأذان ـ والصَّفِّ الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا»

(1)

. وقالت عائشة

(1)

رواه البخاري، كتاب الأذان: باب أذان الأعمى

، رقم (617)، ومسلم، كتاب الصلاة: باب تسوية الصفوف وإقامتها، رقم (437).

ص: 54

رضي الله عنها: «كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفراً أقْرعَ بين نسائه فأيَّتُهُنَّ خرج سهمُها خرج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم معه»

(1)

.

ولأن القُرْعَة يحصُل بها فَكُّ الخصومة والنِّزاع، فهي طريق شرعيٌّ، وأيُّ طريق أقرع به فإنَّه جائز؛ لأنَّه ليس لها كيفيَّة شرعيَّة فيرجع إلى ما اصطلحا عليه.

‌وَهو خَمسَ عَشْرَةَ جُمْلَةً يُرَتِّلُها عَلَى عُلْوٍ .............

قوله: «وَهو خَمْسَ عَشْرَةَ جُمْلَةً يُرَتِّلُها عَلَى عُلْوٍ» ، هو: ضمير منفصل يعود على الأذان مبتدأ، و «خمس عشرة» بالفتح؛ اسم مبني على فتح الجزئين في محل رفع خبر للمبتدأ. و «جملة»: تمييز. فالتَّكبير في أوَّله أربع، والشَّهادتان أربع، والحيعلتان أربع، والتَّكبير في آخره مرَّتان، والتَّوحيد واحدة. فالمجموع خمسَ عشرةَ جملة

(2)

، وهذا أوَّلُ الشروط في الأذان، ألا يَنْقُصُ عن خمسَ عَشْرةَ جملة، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد، والمسألة فيها خلاف

(3)

.

(1)

رواه البخاري، كتاب المغازي: باب حديث الإفك، ومسلم، كتاب التوبة: باب حديث الإفك، رقم (2770) من حديث عائشة.

(2)

ورد ذلك في حديث عبد الله بن زيد بن عبد ربّه رواه أحمد (4/ 43)، وأبو داود، كتاب الصلاة: باب كيف الأذان، رقم (499) والترمذي، أبواب الصلاة: باب ما جاء في بَدء الأذان، رقم (189)، وابن ماجه، كتاب الأذان: باب بدء الأذان، رقم (706).

والحديث صحّحه: البخاري، والترمذي، وابن خزيمة (363)(371)، وابن حبان (1679) والحاكم، وغيرهم.

انظر: «المعرفة والآثار» للبيهقي (2/ 260)، «نصب الراية» (1/ 259)، «التلخيص الحبير» رقم (291).

(3)

انظر: «المغني» (2/ 56)، «الإنصاف» (3/ 64)، «المنتقى من فرائد الفوائد» للمؤلِّف ص (221).

ص: 55

ونقول: كلُّ ما جاءت به السُّنَّة من صفات الأذان فإنه جائز، بل الذي ينبغي: أنْ يؤذِّنَ بهذا تارة، وبهذا تارة إن لم يحصُل تشويش وفتنةٌ.

فعند مالك سبعَ عَشْرةَ جملة، بالتكبير مرتين في أوَّله مع الترجيع

(1)

ـ وهو أن يقول الشهادتين سِرًّا في نفسه ثم يقولها جهراً ـ.

وعند الشافعي تسعَ عَشْرَة جملة، بالتكبير في أوَّله أربعاً مع الترجيع

(2)

، وكلُّ هذا مما جاءت به السُّنَّة، فإذا أذَّنت بهذا مرَّة وبهذا مرَّة كان أولى. والقاعدة:«أن العبادات الواردة على وجوه متنوِّعة، ينبغي للإنسان أن يفعلها على هذه الوجوه» ، وتنويعها فيه فوائد:

أولاً: حفظ السُّنَّة، ونشر أنواعها بين النَّاس.

ثانياً: التيسير على المكلَّف، فإن بعضها قد يكون أخفَّ من بعض فيحتاج للعمل.

ثالثاً: حضور القلب، وعدم مَلَله وسآمته.

(1)

ورد ذلك في حديث أبي مَحذورة عند مسلم، كتاب الصلاة: باب بدء الأذان، رقم (379). وانظر:«حاشية الدسوقي على الشرح الكبير» (1/ 193).

(2)

ورد ذلك في حديث أبي محذورة الذي رواه أحمد (3/ 408) وأبو داود، كتاب الصلاة: باب كيف الأذان، رقم (500، 503)، والترمذي أبواب الصلاة: باب ما جاء في الترجيع في الأذان، رقم (191)، (192)، والدارمي، كتاب الصلاة: باب الترجيع في الأذان، رقم (1178)، وابن ماجه، كتاب الأذان: باب الترجيع في الأذان، رقم (708).

والحديث صحّحه: الترمذي، وابن خزيمة (378)، وابن دقيق العيد، وابن القيم، والبُوصيري.

انظر: «زاد المعاد» (2/ 389)، «التلخيص الحبير» رقم (294، 296).

وانظر أيضاً: «المجموع شرح المهذب» (3/ 91، 93).

ص: 56

رابعاً: العمل بالشَّريعة على جميع وجوهها.

وقوله: «يُرَتِّلُها» ، أي: يقولها جملةً جملةً، وهذا هو الأفضل على المشهور

(1)

. وهناك صفة أخرى: أنه يقرُ ِ نُ بين التَّكبيرتين في جميع التَّكبيرات فيقول: اللَّهُ أكبرُ اللَّهُ أكبرُ، ثم: اللَّهُ أكبرُ اللَّهُ أكبرُ، ويقول في التَّكبير الأخير: اللَّهُ أكبرُ اللَّهُ أكبرُ. والأفضل أن يعمل بجميع الصِّفات الثابتة عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم إلا أن يخاف تشويشاً أو فتنة، فليقتصر على ما لم يحصُل به ذلك؛ لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم تَرَكَ بناءَ الكعبة على قواعد إبراهيم خوفاً من الفتنة

(2)

. ولكن ينبغي أن يُروَّض النَّاسُ بتعليمهم بوجوه العبادة الواردة، فإذا اطمأنت قلوبُهم وارتاحت نفوسُهم؛ قام بتطبيقها عمليّاً؛ ليحصُل المقصود بعمل السُّنَّة من غير تشويش وفتنة.

وقوله: «على عُلْو» ، أي: ينبغي أن يكون الأذان على شيء عالٍ؛ لأنَّ ذلك أبعد للصَّوت، وأوصل إلى النَّاس، ومن هنا نأخذ أن الأذان بالمكبِّر مطلوبٌ؛ لأنَّه أبعد للصَّوت وأوصل إلى النَّاس

(3)

.

‌مُتَطَهِّراً مُسْتَقبلَ القِبْلَةِ ................

قوله: «متطهِّراً» ، أي: من الحَدَث الأكبر والأصغر وهو سُنَّة، ولكن قال الفقهاء رحمهم الله: إنه يُكره أذان الجُنب دون

(1)

انظر: «الإنصاف» (3/ 71)، «الإقناع» (1/ 120).

(2)

رواه البخاري، كتاب العلم: باب من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر، رقم (126)، ومسلم، كتاب الحج: باب نقض الكعبة وبنائها، رقم (1333) من حديث عائشة رضي الله عنها.

(3)

فائدة: يُسَنُّ أن يكون قائماً في الأذان والإقامة، وفي الأذان أوكد. قال ابن المنذر:«وأجمعوا على أن من السُّنَّة أن يؤذِّن قائماً، وانفرد أبو ثور فقال: يؤذِّن جالساً من غير عِلّة» . «الإجماع» ص (39).

ص: 57

أذان المُحْدِث حَدَثاً أصغر

(1)

، هذا إذا لم تكن المنارةُ في المسجد، فإن كانت في المسجد فإنَّه لا يجوز أن يمكُثَ في المسجد إلا بوُضُوء، فالمراتب ثلاث:

1 ـ أن يكون متطهِّراً من الحدثين، وهذا هو الأفضل.

2 ـ أن يكون محدثاً حدثاً أصغر، وهذا مباح.

3 ـ أن يكون محدثاً حدثاً أكبر، وهذا مكروه.

قوله: «مستقبل القِبْلَة» ، أي: يُسَنُّ أن يكون مستقبل القِبلة حال الأذان؛ لأن هذا هو الذي وَرَدَ

(2)

.

ولأنَّ الأذان عبادة

(3)

، والأفضل في العبادة أن يكون

(1)

انظر: «الإنصاف» (3/ 75)، «الإقناع» (1/ 120).

(2)

ن الأعمش، عن عمرو بن مُرّة، عن ابن أبي ليلى قال: جاء عبد الله بن زيد

هكذا دون ذكر معاذ فهو مرسل، وعبد الرحمن بن أبي ليلى لم يسمع من مُعاذ.

قال البيهقي: «وبمعناه رواه جماعة عن عبد الرحمن بن عبد الله المسعودي غير أن عبد الرحمن بن أبي ليلى لم يذكر معاذاً فهو مرسل» . «السنن» (1/ 391).

(3)

قال ابن المنذر في «الإجماع» ص (38): «وأجمعوا على أن من السُّنَّة أن يستقبل القبلة في الأذان» .

ص: 58

الإنسان فيها مستقبل القِبْلَة ما لم يَرِدْ خلافه، على ما قاله صاحب «الفروع» فإنه علَّق على قول الفقهاء رحمهم الله: إنه يُسَنُّ أن يتوضَّأ وهو مستقبل القِبْلَة بقوله: «وهو متوجِّه في كلِّ طاعة إلا بدليل»

(1)

. ولكن هذا فيه مناقشة؛ لأن استحبابه في كلِّ طاعة إلا بدليل يحتاج إلى دليل.

‌جَاعلاً إِصْبَعَيْهِ في أُذُنَيْهِ غَيْرَ مُسْتديرٍ مُلْتَفِتاً فِي الحَيْعَلة يَمِيْناً وشِمَالاً قَائِلاً بَعْدَهما في أَذَانِ الصُّبحِ: الصَّلاةُ خَيرٌ من النَّوْمِ مَرَّتَيْنِ.

قوله: «جَاعلاً إِصْبَعَيْهِ في أُذُنَيْهِ» ، أصبعيه يعني: السَّبَّابتين؛ لحديث أبي محذورة؛ ولأنَّ في ذلك فائدتين:

الأولى: أنه أقوى للصَّوت.

الثانية: ليراه من كان بعيداً، أو مَنْ لا يسمع فيعرف أنه يؤذِّن، والفائدة الأولى لا تزال موجودة حتى الآن، والثانية قد تكون موجودة وقد لا تكون.

قوله: «غيرَ مستدير» ، أي: لا يستدير على المنارة، قاله المؤلِّف رَدًّا على قول بعض الفقهاء: إنه إذا كان في منارة ـ أي: لها طوق ـ فإنه يستدير لكي يُسمِعَ النَّاس من كلِّ جهة

(2)

، فنفى المؤلِّف القول بهذا.

قوله: «ملتفتاً في الحيعلة يميناً وشمالاً» ، الحيعلة: أي: قول «حَيَّ على الصَّلاة» ، وهي مصدر ويُسمَّى مثله: المصدر المصنوع؛ لأنه مركَّب من عِدَّة كلمات: حيعلة: مِنْ حَيَّ على، ومثلها: بسملة، وحوقلة، وحمدلة، وهيللة، ففي الحيعلتين يلتفت يميناً وشمالاً.

(1)

انظر: «الفروع» (1/ 152).

(2)

انظر: «الإنصاف» (3/ 77).

ص: 59

والمؤلِّف رحمه الله أجملَ كيفيَّة الالتفات.

فقال بعضهم: إنه يلتفت يميناً لـ «حيَّ على الصَّلاة» في المرَّتين جميعاً، وشمالاً لـ «حيَّ على الفلاح» في المَرَّتين جميعاً

(1)

.

وقال بعضهم: إنه يلتفت يميناً لـ «حيَّ على الصَّلاة» في المَرَّة الأولى، وشمالاً للمرَّة الثانية؛ و «حيَّ على الفلاح» يميناً للمرَّة الأولى، وشمالاً للمرَّة الثانية ليُعطي كلَّ جهة حَظَّها من «حَيَّ على الصَّلاة» و «حَيَّ على الفلاح»

(2)

.

ولكن المشهور وهو ظاهر السُّنَّة: أنه يلتفت يميناً لـ «حيَّ على الصَّلاة» في المرَّتين جميعاً، وشمالاً لـ «حيَّ على الفلاح» في المَرَّتين جميعاً. ولكن يلتفت في كُلِّ الجملة

(3)

.

وما يفعله بعض المؤذِّنين أنَّه يقول: «حيَّ على» مستقبل القبلة ثم يلتفت، لا أصل له. ومثلها التَّسليم، فإن بعض الأئمة يقول: السَّلام عليكم قبل أن يلتفت، ثم يقول: ورحمة الله حين يلتفت. ولا أصل لهذا ولا لهذا.

تنبيه: الحكمة من الالتفات يميناً وشمالاً إبلاغ المدعوين من على اليمين وعلى الشمال، وبناءً على ذلك: لا يلتفت من أذَّن بمكبر الصَّوت؛ لأنَّ الإسماع يكون من «السَّمَّاعات» التي في المنارة؛ ولو التفت لَضَعُف الصَّوت؛ لأنه ينحرف عن «الآخذة» .

(1)

انظر: «المغني» (2/ 84)، «الإنصاف» (3/ 79).

(2)

انظر: «المغني» (2/ 84)، «الإنصاف» (3/ 79).

(3)

انظر: «منتهى الإرادات» (1/ 54).

ص: 60

قوله: «قَائِلاً بَعْدَهما في أَذَانِ الصُّبحِ: الصَّلاةُ خَيرٌ من النَّوْمِ مَرَّتَيْنِ» ، قائلاً بعدهما ـ أي: بعد الحيعلتين ـ: الصَّلاة خيرٌ من النَّوم في أذان الصُّبْحِ مَرَّتين.

وقوله: «الصَّلاة خيرٌ من النَّوم» مبتدأ وخبر، ولم يذكر العلماء أنه يجوز فيه الوجهان الرَّفع والنَّصب، وكما قالوا في:«الصَّلاةُ َ جامعة» في صلاة الكُسوف.

وقوله: «مَرَّتين» ، أي: يُرَدِّدُها مَرَّتين، ولم يذكر العلماء هل يلتفت يميناً وشمالاً، أو يبقى مستقبل القبلة؟ والأصل إذا لم يُذكر الالتفات أن يبقى على التوجّه إلى القِبلة. وهذا القول يُسمَّى التثويب، من ثاب يثوب إذا رجع؛ لأن المؤذِّنَ ثاب إلى الدَّعوة إلى الصلاة بذكر فضلها.

وقوله: «في أذان الصُّبْح» «أذان» مضاف و «الصُّبْح» مضاف إليه من باب إضافة الشيء إلى سببه، أي: الأذان الذي سببه طلوع الصُّبح، ويجوز أن يكون من باب إضافة الشيء إلى نوعه، أي: الأذان من الصُّبح، وأذان الصُّبْح: هو الأذان الذي يكون بعد طلوع الفجر، واختُصَّ بالتثويب لأن كثيراً من النَّاس يكون في ذلك الوقت نائماً، أو متلهِّفاً للنَّوم.

وقد توهَّمَ بعض النَّاس في هذا العصر أن المُرَاد بالأذان الذي يُقال فيه هاتان الكلمتان هو الأذان الذي قبل الفجر، وشُبهتُهم في ذلك: أنه قد وَرَدَ في بعض ألفاظ الحديث: «إذا أذَّنت الأوَّلَ لصلاة الصُّبْحِ فقل: الصلاة خيرٌ

ص: 61

من النَّوم»

(1)

، فزعموا: أن التثويب إنما يكون في الأذان الذي يكون في آخر الليل؛ لأنهم يُسمُّونه «الأوَّل» ، وقالوا: إن التثويب في الأذان الذي يكون بعد الفجر بدعة.

فنقول: إنَّ الرَّسول عليه الصلاة والسلام يقول: «إذا أذَّنت الأوَّلَ لصلاة الصُّبح» ، فقال:«لصلاة الصُّبح» ، ومعلوم أن الأذان الذي في آخر الليل ليس لصلاة الصُّبْح، وإنما هو كما قال النبيُّ عليه الصلاة والسلام:«ليوقظ النَّائمَ ويرجع القائمَ»

(2)

. أما صلاة الصُّبح فلا يُؤذَّن لها؛ إلا بعد طلوع الصُّبح، فإن أذَّنَ لها قبل طُلوع الصُّبْح فليس أذاناً لها؛ بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا حضرت الصَّلاةُ فليؤذِّنْ لكم أحدُكُم

»

(3)

. ومعلومٌ أنَّ الصَّلاة لا تحضُر إلا بعد دخول الوقت، فيبقى الإشكال في قوله:«إذا أذَّنت الأوَّل» فنقول: لا إشكال، لأنَّ الأذان هو الإعلام في اللُّغة، والإقامةُ إعلامٌ كذلك، فيكون الأذان لصلاة الصُّبحِ بعد دخول وقتها أذاناً أوَّل.

وقد جاء ذلك صريحاً فيما رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها في صلاة النبيِّ صلى الله عليه وسلم في الليل قالت: «كان ينام

(1)

رواه عبد الرزاق رقم (1821)، وأحمد (3/ 408)، وأبو داود، كتاب الصلاة: باب كيف الأذان، رقم (501)، والنسائي، كتاب الأذان: باب الأذان في السفر، (2/ 7) رقم (632)، عن أبي محذورة.

قال النووي: «حديث حسن» ، «الخلاصة» رقم (810).

(2)

رواه البخاري، كتاب الأذان: باب الأذان قبل الفجر، رقم (621)، ومسلم، كتاب الصيام: باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر، رقم (1093) من حديث ابن مسعود.

(3)

تقدم تخريجه ص (43).

ص: 62

أوَّل الليل ويُحيي آخره، ثم إن كان له حاجة إلى أهله قضى حاجته، ثم ينام، فإذا كان عند النداء الأوَّلِ (قالت) وَثَبَ (ولا والله: ما قالت: قام) فأفاض عليه الماءَ (ولا والله: ما قالت اغتسل) وإن لم يكن جُنباً توضَّأ وُضُوءَ الرَّجل للصَّلاة، ثم صلَّى الرَّكعتين»

(1)

. والمراد بقولها: «عند النداء الأوَّل» أذان الفجر بلا شَكٍّ، وسُمِّي أولاً بالنسبة للإقامة، كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:«بين كُلِّ أذانين صلاة»

(2)

، والمراد بالأذانين: الأذان والإقامة. وفي «صحيح البخاري» قال: «زاد عثمان الأذان الثالث في صلاة الجمعة»

(3)

، ومعلوم أنَّ الجمعة فيها أذانان وإقامة؛ وسَمَّاه أذاناً ثالثاً، وبهذا يزول الإشكال، فيكون التثويب في أذان صلاة الصُّبْحِ.

وقالوا أيضاً: إنه قال: «الصَّلاة خيرٌ من النَّوم» ، فدلَّ هذا على أنَّ المراد في الأذان الأوَّل هو ما قبل الصُّبحِ لقوله:«الصَّلاةُ خيرٌ من النَّوم» ، أي: صلاة التهجُّد وليس صلاة الفريضة، إذ لا مفاضلة بين صلاة الفريضة وبين النوم، والخيرية إنما تُقال في باب الترغيب. فقالوا: هذا أيضاً يرجِّحُ أنَّ المراد بالأذان الأذان في آخر الليل.

(1)

رواه البخاري، أبواب التهجد: باب من نام أول الليل وأحيا آخره، رقم (1146)، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين: باب صلاة الليل وعدد ركعات النبي صلى الله عليه وسلم، رقم (739)، واللفظ له.

(2)

رواه البخاري، كتاب الأذان: باب بين كل أذانين صلاة لمن شاء، رقم (627)، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين باب بين كل أذانين صلاة، رقم (838)، من حديث عبد الله بن بريدة.

(3)

رواه البخاري، كتاب الجمعة: باب المؤذن الواحد يوم الجمعة، رقم (913) عن السَّائب بن يزيد.

ص: 63

فنقول لهم: هذا أيضاً يُضاف إلى الخطأ الأوَّل؛ لأن الخيريَّة قد تُقال في أوجب الواجبات كما قال تعالى؛ {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنَجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ *} {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ} [الصف: 10، 11]، فذكر اللَّهُ الإيمانَ والجهادَ بأنه خير؛ أي: خيرٌ لكم مما يُلهيكم من تجارتكم، والخيريَّة هنا بين واجب وغيره.

وقال تعالى في صلاة الجمعة: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ} [الجمعة: 9]، أي: خير لكم من البيع، ومعلومٌ أن الحضور إلى صلاة الجُمعة واجب ومع ذلك قال:{ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ} ففاضل بين واجبٍ وغيره. وعلى هذا؛ لو ثَوَّبَ في الأذان الذي قبل الصُّبْحِ لقلنا: هذا غير مشروع.

‌وَهِيَ إِحْدى عَشْرَةَ يَحْدُرُها، وَيُقِيمُ مَنْ أَذَّنَ في مَكَانَه إِنْ سَهُلَ.

قوله: «وهي إحدى عشرة يَحْدُرُها» ، و «هي» أي: الإقامة إحدى عشرة جملة، وحذفَ التَّمييز؛ لأنه ذُكِرَ في الأذان.

وقوله: «يحدُرُها» ، أي: يُسرع فيها فلا يرتِّلها، وكانت إحدى عشرة؛ لأنَّ «التكبير» في أوَّلاها مرَّتان، و «التَّشهد» للتَّوحيد والرِّسالة مرَّة مرَّة، و «الحيعلتان» مرَّة مرَّة، و «قد قامت الصَّلاة» مرَّتان، و «التكبير» مرَّتان، و «التوحيد» مرَّة، فهذه إحدى عشرة، وهذا ما اختاره الإمام أحمد رحمه الله

(1)

.

ومن العلماء من اختار سوى ذلك، وقال إنها: سبعَ عَشْرَة (110)،

(1)

انظر: «المغني» (2/ 58)، «زاد المعاد» (2/ 390)، «المنتقى من فرائد الفوائد» للمؤلِّف ص (222).

ص: 64

فيجعل «التكبير» أربعاً، و «التشهدين» أربعاً، و «الحيعلتين» أربعاً، و «قد قامت الصلاة» اثنتين، و «التكبير» مرَّتين، و «التوحيد» مرَّة، فيكون المجموع سَبْعَ عَشْرَة.

ومنهم من قال: إنها على جُملة جُملة إلا «قد قامت الصلاة» ، فتكون تسع جُمَل، وهذا هو ظاهر حديث أنس بن مالك رضي الله عنه حيث قال: أُمِرَ بلالٌ أنْ يشفعَ الأذانَ ويُوتِرَ الإقامةَ

(1)

.

ولكن المشهور من المذهب ما ذهب إليه المؤلِّف. وأجابوا عن قوله: «يوتر الإقامة» بأنَّ تكرار التَّكبير في أوَّلها مَرَّتين بمنزلة الوتر بالنسبة لتكراره أربعاً في الأذان. وينبغي أن يُعلم «قاعدة» أشار إليها شيخ الإسلام ابن تيمية

(2)

وغيره من أهل العلم: «بأن العبادات الواردة على وجوه متنوِّعة؛ ينبغي أن تُفعل على جميع الوجوه؛ هذا تارة وهذا تارة، بشرط ألا يكون في هذا تشويش على العامة أو فتنة» .

قوله: «ويقيم من أذَّن» ، أي: يتولَّى الإقامةَ من يتولَّى الأذان؛ لأن بلالاً رضي الله عنه كان هو الذي يتولَّى الإقامة وهو الذي يؤذِّن، وهذا دليل من السُّنَّة.

وأما من النَّظر: فإنه ينبغي لمن تولَّى الأذان وهو الإعلام أولاً أن يتولَّى الإعلام ثانياً، حتى لا يحصُل التباس بين النَّاس

(1)

رواه البخاري، كتاب الأذان: باب الإقامة واحدة

، رقم (607)، ومسلم، كتاب الصلاة: باب الأمر بشفع الأذان، رقم (378): من حديث أنس.

(2)

انظر: «مجموع الفتاوى» (22/ 335 ـ 337).

ص: 65

في هذا الأمر، وحتى يعلم المؤذِّن أنَّه مسؤول عن الإعلامين جميعاً. لكن لا يقيم إلا بإذن الإمام أو عُذْره؛ لأن بلالاً رضي الله عنه كان لا يقيم حتى يخرج النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وحتى كانوا يُراجعونه إذا تأخَّرَ يقولون:«الصَّلاةَ، يا رسولَ الله»

(1)

.

وظاهرُ كلام المؤلِّف: أنَّ المؤذِّنَ يتولَّى الإقامة؛ وإن كان نائباً عن المؤذِّن الرَّاتب، مثل أنْ يوكِّلَ الرَّاتب من يؤذِّن عنه لعُذرٍ ثم يحضُرُ قبل الإقامة فيتولَّى الإقامة المؤذِّن دون الراتب. وقد ورد في ذلك حديث

(2)

إنْ صَحَّ فهو هو؛ وإن لم يصحَّ فيحتمل أن يتولَّى الإقامة المؤذِّن الرَّاتب؛ لأنَّه أصلٌ والوكيل فرع ناب عنه لغيبته، فإذا حَضَرَ زال مقتضى الوكالة.

قوله: «في مكانه إن سَهُلَ» ، أي: يقيم في مكان أذانه. نَصَّ

(1)

رواه البخاري، كتاب مواقيت الصلاة: باب النوم قبل العشاء، رقم (569)، ومسلم، كتاب المساجد، باب وقت العشاء وتأخيرها، رقم (638) من حديث عائشة رضي الله عنها.

(2)

رواه أحمد (4/ 169)، وأبو داود، كتاب الصلاة: باب في الرجل يؤذن ويقيم آخر، رقم (514)، والترمذي، أبواب الصلاة: باب من أذّن فهو يقيم، رقم (199)، وابن ماجه، كتاب الأذان: باب السنة في الأذان، رقم (717) من حديث عبد الرحمن بن زياد الإفريقي، عن زياد بن نعيم الحضرمي، عن زياد بن الحارث بلفظ: «

من أذَّن فهو يُقيم».

والإفريقي هذا ضعيف. والحديث ضعّف إسناده البغوي، وابن التركماني، والنووي.

انظر: «سنن البيهقي» (1/ 399)، «شرح السُّنة» للبغوي (2/ 302)، «الخلاصة» رقم (848).

فائدة: قال النوويُّ: باب: من أذن فهو يقيم، المعتمدُ فيه الأحاديث الصحيحة أن بلالاً كان هو المؤذِّن والمقيم لرسول الله صلى الله عليه وسلم». «الخلاصة» (1/ 296).

ص: 66

عليه الإمام أحمد رحمه الله

(1)

، واستدلَّ بقول بلالٍ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم:«لا تسبقني بآمين»

(2)

. وهو حديثٌ في صحَّته نظر؛ لكن يؤيِّده ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصَّلاة

»

(3)

الحديث. وقيَّد المؤلف رحمه الله ذلك بقوله: «إن سَهُلَ» فعُلِمَ منه أنَّه لو صَعُبَ؛ كما لو أذَّن في منارة فإنه يُقيم حيث تيسَّر.

وفي وقتنا الحاضر يمكن أن يكون من أقام في مكبِّر

(1)

انظر: «المغني» (2/ 71).

(2)

رواه عبد الرزاق رقم (2636)، ومن طريقه الطبراني (1/رقم 1124)، والبيهقي (1/ 56).

ورواه أيضاً الإمام أحمد (6/ 12، 15)، وأبو داود، كتاب الصلاة: باب التأمين وراء الإمام، رقم (937)، والبزار رقم (1375) والطبراني (1/رقم 1125)، (6/رقم 6136)، والطحاوي «شرح مشكل الآثار» رقم (5625، 5626)، والحاكم (1/ 219)، والبيهقي (1/ 23) بأسانيدهم عن أبي عثمان النهدي أن بلالاً قال للنبيِّ صلى الله عليه وسلم فذكره.

أعلَّه البيهقيُّ بالإرسال. فتعقبه ابنُ التركماني بقوله: «أبو عثمان أسلم على عهد النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وسمع جمعاً كثيراً من أصحابه كعمر بن الخطاب وغيره، فإذا روى عن بلال بلفظ «عن» أو «قال» فهو محمول على الاتصال على ما هو المشهور عندهم». (1/ 23).

قال أبو حاتم الرازي: «هذا خطأ؛ رواه الثقات عن عاصم عن أبي عثمان أن بلالاً قال للنبيِّ صلى الله عليه وسلم مرسلاً» . «العلل» لابن أبي حاتم رقم (314).

قال ابن حجر: «رجاله ثقات، لكن قيل إن أبا عثمان لم يلقَ بلالاً، وقد رويَ عنه بلفظ: «إن بلالاً قال» وهو ظاهر الإرسال، ورجَّحه الدارقطني وغيره على الموصول».

انظر: «الفتح» شرح حديث (780).

(3)

رواه البخاري، كتاب الأذان: باب لا يسعى إلى الصلاة

، رقم (636)، ومسلم، كتاب المساجد: باب استحباب إتيان الصلاة بوقار وسكينة

، رقم (602) من حديث أبي هريرة.

ص: 67

الصَّوت كمن أقام في مكان أذانه؛ لأنَّ صوته يُسمع من سمَّاعات المنارة، فيكون إسماع الإقامة من المنارة بمكبر الصَّوت جارياً على ما قاله الفقهاء رحمهم الله: إنه يقيم في مكانه ليُسمعَ النَّاس الإقامة فيحضروا.

‌وَلَا يَصِحُّ إِلا مُرَتَّباً مُتَوَاليِاً ................

قوله: «ولا يصحُّ إلا مرتَّباً» ، أي: لا يصحُّ الأذان إلا مرتَّباً، والترتيب أن يبدأ بالتكبير، ثم التَّشهُّد، ثم الحيعلة، ثم التَّكبير، ثم التَّوحيد، فلو نَكَّسَ لم يجزئ.

والدَّليل: أنَّ الأذان عبادة وردت على هذه الصِّفة؛ فيجب أنْ تُفعَلَ كما وردت؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «من عَمِلَ عملاً ليس عليه أمرُنا فهو رَدٌّ»

(1)

.

وقوله: «لا يصحُّ إلا مرتَّباً» يفيد أنَّه لا يصحُّ إلا بهذا اللفظ، فلو قال:«الله أجلُّ» أو «الله أعظمُ» لم يصحَّ؛ لأنَّ هذا تغيير لماهيَّة الأذان، فإذا كان وصفه ـ وهو التَّرتيب ـ لا بُدَّ منه، فكذلك ماهيَّته لا بُدَّ منها، فعُلِمَ من قوله:«لا يصحُّ إلا مرتَّباً» أنه لو لم يأتِ به على الوجه الوارد مثل أن يقول: «الله الأكبر» فإنه لا يصحُّ، ولو قال:«أُقِرُّ أنْ لا إله إلا الله» لا يصحُّ، وكذلك لو قال:«أَقبِلُوا إلى الصَّلاة» بدل «حَيَّ على الصَّلاة» فإنه لا يصحُّ.

قوله: «متوالياً» ، يعني: بحيث لا يَفْصِلُ بعضَه عن بعض، فإن فَصَلَ بعضَه عن بعض بزمن طويل لم يجزئ، فلا بُدَّ أن يكون متوالياً؛ لأنَّه عبادة واحدة، فلا يصحُّ أن تتفرَّق أجزاؤها، فإن

(1)

تقدم تخريجه (1/ 186).

ص: 68

حَصَل له عُذر مثل إن أصابه عُطاس أو سُعَال، فإنه يبني على ما سبق؛ لأنه انفصل بدون اختياره.

‌من عَدْل ................

قوله: «من عَدْل» ، هذه الكلمة صفة لموصوف محذوف، والتقدير:«من رَجُلٍ واحد عدل» فلا يصحُّ من امرأة، ولا من اثنين فأكثر، ولا يُكمِلُ الأذان إذا حصَل له عُذر بل يستأنف.

واستفدنا من قوله: «عدل» أنه لا بُدَّ أن يكون مسلماً، فلو أذَّنَ الكافر لم يصحَّ؛ لأن الأذان عبادة فاشتُرطَ فيه الإسلام، ولو أذَّن المعلنُ بفسقه كحالق اللحية ومن يشرب الدُّخان جهراً، فإنه لا يَصِحُّ أذانه على كلام المؤلِّف.

والرواية الثانية عن الإمام أحمد صحَّة أذان الفاسق

(1)

؛ لأن الأذان ذِكْرٌ؛ والذِّكْرُ مقبولٌ من الفاسق؛ لكن لا ينبغي أن يتولَّى الأذان والإقامة إلا من كان عدلاً.

وكذلك الأذان بالمُسجِّل غير صحيح؛ لأنَّه حكاية لأذان سابق، ولأنَّ الأذان عبادة، وسَبَقَ أنه أفضل من الإمامة

(2)

، فكما أنَّه لا يصحُّ أن نسجِّل صلاة إمام ثم نقول للناس ائتمُّوا بهذا «المسجِّل» ، فكذلك لا يصح الاعتماد على «المسجِّل» في الأذان، فمن اقتصر عليه لم يكن قائماً بفرض الكفاية.

وأفاد قوله: «عدل» على اشتراط العقل؛ لأن العدالة تستلزم العقل، والمجنون رُفِعَ عنه القلم، فلا يُوصفُ بعدالة ولا فسق.

(1)

انظر: «الإنصاف» (3/ 102 ـ 104).

(2)

انظر: ص (41).

ص: 69

فكلمة «عدل» تضمَّنت أن يكون مسلماً عاقلاً ذَكَراً واحداً عدلاً.

‌وَلَو مُلَحَّناً أَوْ مَلْحُوناً ..............

قوله: «ولو مُلَحَّناً» ، الملحن: المطرَّب به، أي: يؤذِّنُ على سبيل التطريب به كأنما يجرُّ ألفاظ أغنية، فإنه يجزئ لكنه يُكره.

وفي قوله «لو» إشارة إلى الخلاف، فإن من العلماء من قال: لا يصحُّ الأذان الملحَّن

(1)

؛ لأنَّ الأذان عبادة، والتَّلحين يخرجه عن ذلك، ويميل به إلى الطَّرب والأغاني.

قوله: «أو مَلْحُوناً» ، الملحون: هو الذي يقع فيه اللَّحن، أي: مخالفة القواعد العربية. ولكن اللَّحن ينقسم إلى قسمين:

1 -

قسم لا يصحُّ معه الأذان، وهو الذي يتغيَّر به المعنى.

2 -

وقسم يصحُّ به الأذان مع الكراهة، وهو الذي لا يتغيَّر به المعنى، فلو قال المؤذَّن:«الله أكبار» فهذا لا يصحُّ، لأنه يُحيل المعنى، فإن «أكبار» جمع «كَبَر» كأسباب جمع «سبب» وهو الطَّبل.

ولو قال: «الله وكبر» فإنَّه يجوز في اللغة العربية إذا وقعت الهمزة مفتوحة بعد ضَمٍّ أن تَقلب واواً، ولو قال:«أشهد أن محمداً رسولَ الله» بنصب «رسول» فهو لا شكَّ أنَّه لَحْنٌ يُحيل المعنى على اللُّغة المشهورة؛ لأنه لم يأتِ بالخبر، لكن هناك لغة أن خبر «أن» يكون منصوباً فيُقبل هذا. قال عمر بن أبي ربيعة وهو من العرب العرباء:

(1)

انظر: «المغني» (2/ 69)، «الإنصاف» (3/ 104).

ص: 70

إذا اسْوَدَّ جُنْحُ اللَّيلِ فَلْتَأْتِ ولْتَكُنْ

خُطَاكَ خِفَافاً، إنَّ حُرَّاسنا أُسْدَا

(1)

وعلى هذه اللُّغة لا يضرُّ نصب «رسول» إذا اعتقد القائل أنها خبر «إن» ، والمؤذِّنون يعتقدون أن «رسول الله» هو الخبر.

ولو قال: «حيَّا على الصَّلاة» فعلى اللُّغة المشهورة ـ وهي أنَّ اسم الفعل لا تلحقه العلامات ـ فهذا لا يتغيَّر به المعنى فيما يظهر، وحينئذ يكون الأذان صحيحاً؛ لأنَّ غايته أنه أشبع الفتحة حتى جعلها ألفاً.

‌وَيُجْزِئُ مِنْ مُمَيِّزٍ .................

قوله: «ويُجْزِئُ من مُمَيِّز» ، يُجزئ: الفاعل يعود على الأذان.

والمميِّز: من بلغ سبعاً إلى البلوغ، وسُمِّيَ مميِّزاً لأنه يميِّز فيفهم الخطاب ويردُّ الجواب. وقال بعضُ العلماء: إن المميِّز لا يتقيَّد بسنٍّ، وإنما يتقيَّد بوصف

(2)

.

فالذين قالوا: إنه يتقيد بسنٍّ؛ استدلوا بقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «مُرُوا أبناءَكم بالصَّلاة لسبعِ، واضربُوهم عليها لعشرٍ»

(3)

، فجعل أوَّلَ سِنٍ يُؤمر به الصبيُّ سبعَ سنين، وهذا يدلُّ على أنه قبل ذلك لا يصحُّ توجيه الأمر إليه، فقد يُقال: لأنه لا يفهم الأمر، وقد يُقال: لأنه لا يحتمل الأمر، فإن قلنا بالعِلَّة الأُولى صارت سبعَ السنين هي الحَدُّ للتَّمييز، وإن قلنا بالثَّانية لم يكن ذلك حَدًّا للتَّمييز.

(1)

انظر: «مغني اللبيب» (1/ 37).

(2)

انظر: «الإنصاف» (3/ 19).

(3)

تقدم تخريجه ص (14).

ص: 71

والذين قالوا: إنه يتقيَّد بالوصف قالوا: لأن كلمة «مميِّز» اسم فاعل مشتق من التَّمييز، وإذا كان مشتقاً من ذلك، فإذا وُجِدَ هذا المعنى في طفل ثَبَتَ له الوصف، فالمُميِّز هو الذي يفهم الخطاب ويردُّ الجواب. لكن سبع السَّنوات غالباً هي الحدُّ، والمراد: الذي يفهم المعنى بأن تطلب منه شيئاً ـ كماء ـ فيذهب ويحضره لك. وسبق شيءٌ من ذلك في أوَّل كتاب الصَّلاة

(1)

.

فهل يصحُّ أذان المُميِّز أو لا يصحُّ؟ قال المؤلِّف: إنَّه يصحُّ، فلو لم يوجد في البلد إلا هذا الصبيُّ المميِّز وأذَّن فإنه يُكتفى به.

ووجه الإجزاء: أنَّ هذا ذِكْر، والذِّكْر لا يُشترط فيه البلوغ، فإن الصبيَّ يُكْتَبُ له ولا يُكْتَبُ عليه، فإذا ذَكَرَ اللَّهَ، كتبَ اللَّهُ له الأجرَ وصحَّ منه الذِّكْرُ، فإذا أذَّن المُميِّز فإنه يُكتفى بأذانه.

وقال بعض العلماء: لا يجزئ أذان المُميِّز

(2)

؛ لأنه لا يُوثق بقوله ولا يُعتمد عليه، فقد لا يعرف متى تزول الشَّمس، ومتى يكون ظلُّ كلِّ شيء مثله وغير ذلك.

وفَصَّلَ بعض العلماء فقال: إنْ أذَّنَ معه غيرهُ فلا بأس، وإن لم يكن معه غيرُه فإِنَّه لا يُعتمد عليه، إلا إذا كان عنده بالغ عاقل عارف بالوقت ينبِّهه عليه (126). وهذا هو الصَّواب.

‌وَيُبْطِلُهُمَا فَصْلٌ كَثيرٌ،

................

قوله: «ويُبطلُهُما فصلٌ كثيرٌ» ، يبطلهما: الضَّمير يعود على

(1)

انظر: ص (13، 14، 15).

(2)

انظر: «المغني» (2/ 68)، «الإنصاف» (3/ 100 ـ 102).

ص: 72

الأذان والإقامة. والفصل الكثير هو الطويل عُرفاً، وإنما أبطلهما لأن الموالاة شرط؛ حيث إن كلَّ واحد منهما عبادة، فاشترطت الموالاة بين أجزائها كالوُضُوء، فلو كبَّر أربع تكبيرات ثم انصرف وتوضَّأ ثم أتى فأتمَّ الأذان، فإن هذا الأذان لا يصحُّ، بل يجب أن يَبْتَدِئَهُ من جديد.

‌وَيَسيرٌ مُحَرَّمٌ، ولا يُجْزِئُ قَبْلَ الوقتِ ...............

قوله: «ويَسيرٌ مُحَرَّمٌ» ، وذلك لأن المحرَّم يُنافي العبادة، مثل لو كان رجلٌ يؤذِّن وعنده جماعة يتحدَّثون؛ وفي أثناء الأذان التفت إليهم وقال: فلان فيه كذا وكذا يغتابه، فالغيبة من كبائر الذُّنوب، فنقول: لا بُدَّ أن تعيد الأذان؛ لأنه قد بَطَلَ، وهذا رُبَّما يقع كثيراً في الرَّحلات عند بعض النَّاس.

وعُلِمَ من قوله: «يَسيرٌ مُحَرَّم» ، أنَّه إذا كان يسيراً مُباحاً كما لو سأله سائل وهو يؤذِّنُ: أين فلان؟ فقال: ذهب. فهذا يسيرٌ مباح فلا يبطله.

قوله: «ولا يُجزِئُ قبل الوقت» ، لدليل، وتعليل.

فأمَّا الدَّليل: فهو قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «إذا حضرت الصَّلاة فليؤذِّن لكم أحدُكم

»

(1)

، فقال:«إذا حضرت الصَّلاةُ» ، والصَّلاة لا تحضر إلا بدخول الوقت، وقد يُستفاد من قوله:«إذا حضرت» أن المراد دخول وقتها وإرادة فعلها.

ولهذا لما أراد بلال أن يؤذِّن، وكان مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم في سفر في شدَّة الحَرِّ؛ فزالت الشَّمس؛ فقام ليؤذِّن قال:«أبرد» ،

(1)

تقدم تخريجه ص (43).

ص: 73

ثم انتظر، فقام ليؤذِّن فقال:«أبرد» حتى رأوا فيءَ التُلُول، بل حتى سَاوى التَّلُ فيئَهُ

(1)

. أي: قريب العصر، ثم أمره بالأذان، فهذا يدلُّ على أنه ينبغي في الأذان أن يكون عند إرادة فعل الصَّلاة، وينبني على ذلك ما لو كانوا جماعة في سَفر أو في نُزهة؛ وأرادوا صلاة العشاء، وأحبُّوا أن يؤخِّروها إلى الوقت الأفضل وهو آخر الوقت، فيؤذِّنون عندما يريدون فعل الصَّلاة، لا عند دخول وقت العشاء.

وأمَّا التَّعليل: فلأن الأذان إعلام بدخول وقت الصَّلاة؛ والإعلام بدخول الشيء لا يكون إلا بعد دخوله، وعلى هذا؛ فلو أذَّن قبل الوقت جاهلاً قلنا له: إذا دخل الوقت فأعد الأذان، وهذا يقع أحياناً فيما إذا غَرَّت الإنسانَ ساعتُهُ، ويُثَاب على أذانه السَّابق للوقت ثواب الذِّكْرِ المطلق.

‌إِلا الفَجْرَ بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ ...............

قوله: «إلا الفَجْرَ بعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ» ، استثنى المؤلِّف من شرط دخول الوقت أذان الفجر فقال:«إلا الفجر بعد نصف الليل» ، فيصحُّ الأذان وإن لم يؤذِّن في الوقت، وعلى هذا؛ فلو أنَّ المؤذِّنين أذَّنوا للفجر بعد منتصف الليل بخمس دقائق، ولم يؤذِّنوا عند طُلوع الفجر، فهذا على كلام المؤلِّف يجزئ، لقول الرَّسول عليه الصلاة والسلام:«إن بلالاً يؤذِّنُ بليل؛ فكُلُوا واشربُوا حتى يؤذِّن ابنُ أُمِّ مكتوم، فإنه لا يؤذِّنُ حتى يطلع الفجر»

(2)

، فقال:«إن بلالاً يؤذِّنُ بليلٍ» مقرِّراً ذلك. ولكن هذا الحديث لا يصحُّ الاستدلال به لما يلي:

(1)

متفق عليه، وسيأتي تخريجه ص (104).

(2)

متفق عليه، وقد تقدم تخريجه ص (52)، وهذا لفظ البخاري رقم (1918).

ص: 74

أولاً: لأنَّ الرَّسول عليه الصلاة والسلام صَرَّح في الحديث بأنَّ هناك من يؤذِّنُ إذا طلع الفجر، فتحصُل به الكفاية وهو ابنُ أُمِّ مكتوم، ومعلوم أنه إذا كان يوجد من يؤذِّن لصلاة الفجر حصلت به الكفاية.

ثانياً: أنه قد بيَّن في الحديث الذي أخرجه الجماعة: «أن بلالاً يؤذِّن بليلٍ؛ ليوقظ النَّائمَ ويرجع القائمَ»

(1)

، فليس أذانه لصلاة الصُّبح، بل ليوقظ النَّائم ويرجع القائم من أجل السُّحُور، ولهذا قال:«فكُلُوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم» .

وقوله: «بعد نصف الليل» هذا أيضاً فيه نظر، فحديث بلال الذي استدلُّوا به لا يدلُّ على أن الأذان بعد نصف الليل، بل يدلُّ على أن الأذان قريب من الفجر، ووجهه: أنَّه قال: «كُلُوا واشربوا حتى يؤذِّن ابنُ أُمِّ مكتوم» ، وقال:«ليرجع قائمَكم ويوقظ نائمَكم» . وهذا دليل على أنه لم يكن بين أذان بلال والفجر إلا مُدَّة وجيزة بمقدار ما يتسحَّر الصَّائم، ولهذا ربما يتوهَّمُ بعض النَّاس فيمسك عند أذان بلال، فقال لهم الرَّسول عليه الصلاة والسلام: كُلُوا واشربوا حتى يؤذِّنَ ابنُ أُمِّ مكتوم»، وهذا يدلُّ على أن أذان بلال كان قريباً من طلوع الفجر.

والقول الثاني: في هذه المسألة: أنه لا يصحُّ الأذان قبل الفجر إلا إذا وُجِدَ من يؤذِّن بعد الفجر

(2)

، وهؤلاء لهم حَظٌ من حديث بلال.

(1)

متفق عليه، وقد تقدم تخريجه ص (62).

(2)

انظر: «المغني» (2/ 62 ـ 65)، «الإنصاف» (3/ 88).

ص: 75

ووجهه: أن ابنَ أُمِّ مكتوم يؤذِّنُ بعد طلوع الفجر الذي تحِلُّ فيه الصَّلاة ويحرم به الطَّعام على الصَّائم.

والقول الثالث: أنه لا يصحُّ الأذان لصلاة الفجر، ولو كان يوجد من يؤذِّن بعد الفجر، وأن الأذان الذي يكون في آخر الليل ليس للفجر، ولكنه لإيقاظ النُّوَّمِ؛ من أجل أن يتأهَّبوا لصلاة الفجر، ويختموا صلاة الليل بالوتر، ولإرجاع القائمين الذين يريدون الصِّيام

(1)

. وهذا القول أصحُّ.

ودليله: الحديث السَّابق وهو: «إذا حضرت الصَّلاة فليؤذِّن لكم أحدُكم»

(2)

، وهذا عام لا يُستثنى منه شيء، ولا يُعارض حديث:«إنَّ بلالاً يؤذِّن بليل»

(3)

، لأنَّ أذان بلال ليس لصلاة الفجر؛ ولكن ليوقظ النائمَ ويرجع القائمَ.

والخلاصة: أن الأذان له شروط تتعلَّقُ بالأذان نفسه، وشروط تتعلَّقُ بوقته، وشروط تتعلَّقُ بالمؤذِّن. أما التي تتعلق به فيُشترط فيه:

1 -

أن يكون مرتَّباً.

2 -

أن يكون متوالياً.

3 -

ألا يكون فيه لَحْنٌ يُحيل المعنى، سواء عاد هذا اللَّحن إلى علم النحو، أو إلى علم التَّصريف.

4 -

أن يكون على العدد الذي جاءت به السُّنَّة.

(1)

انظر: «المغني» (2/ 62 ـ 65)، «الإنصاف» (3/ 88).

(2)

تقدم تخريجه ص (43).

(3)

تقدم تخريجه ص (52).

ص: 76

أما في المؤذِّن؛ فلا بُدَّ أن يكون:

1 -

ذكراً. 2 - مسلماً. 3 - عاقلاً.

4 -

مميِّزاً. 5 - واحداً. 6 - عدلاً.

أما الوقتُ؛ فيُشترطُ أن يكون بعد دخول الوقت، فلا يُجزئ قبله مطلقاً على القول الرَّاجح، ويُستثنى أذان الفجر على كلام المؤلِّف.

‌وَيُسَنَّ جُلُوسُهُ بَعْدَ أَذَانِ المغربِ يَسِيْراً ...............

قوله: «وَيُسَنَّ جُلُوسُهُ بَعْدَ أَذَانِ المغربِ يَسِيْراً» ، هنا أمران:«جلوسه» و «يسيراً» ففيه سُنَّتَان:

الأولى: أن يجلس بحيث يفصل بين الأذان والإقامة.

والثانية: أن يكون الجلوس يسيراً، وإنما قال المؤلِّفُ ذلك لأنَّ من العلماء من يرى أن السُّنَّة في صلاة المغرب أن تُقرن بالأذان

(1)

، فبيَّن المؤلِّف أن الأفضل أن يجلس يسيراً.

ودليل ذلك: أن الرَّسول عليه الصلاة والسلام قال: «صَلُّوا قبل المغرب، صَلُّوا قبل المغرب، صَلُّوا قبل المغرب، وقال في الثالثة: لمن شاء. كراهية أن يتَّخذها النَّاسُ سُنَّة»

(2)

. وهذا يدلّ على الفصل بين الأذان والإقامة في المغرب. وثبت في «الصَّحيحين» وغيرهما أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا إذا أذَّن المغرب قاموا يُصلُّون والنبيُّ صلى الله عليه وسلم يراهم فلم يَنْهَهُمْ

(3)

، وهذا إقرار

(1)

انظر: «المغني» (2/ 66)، «المجموع شرح المهذب» (3/ 121).

(2)

رواه البخاري، أبواب التهجد: باب الصلاة قبل المغرب، رقم (1183) من حديث عبد الله بن مغفَّل المزني.

(3)

رواه البخاري، كتاب الصلاة: باب الصلاة إلى الأسطوانة، رقم (503)، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين: باب استحباب ركعتين قبل صلاة المغرب، رقم (837) من حديث أنس بن مالك.

ص: 77

منه على هذه الصلاة، فثبت الفصلُ بالسُّنَّة القوليَّة والسنَّة الإقرارية. وعليه، يلزم من الأمر بهذه السُّنَّة وإقرارِها أن يكون هناك فصلٌ بين الأذان والإقامة.

وقوله: «يسيراً» ، أي: لا يطيل؛ لأنَّ صلاة المغرب يُسَنُّ تعجيلُها، وكلُّ صلاة يُسَنُّ تعجيلها فالأفضل أن لا يطيل الفصل بين الأذان والإقامة، لكن مع ذلك ينبغي أن يراعي حديث:«بين كُلِّ أذانين صلاة»

(1)

، ولهذا قال العلماء: ينبغي في هذا أن يفسَّر التَّعجيل بمقدار حاجته، من وُضُوء، وصلاة نافلة خفيفة أو راتبة

(2)

.

ويُسَنُّ تعجيلُ جميعِ الصَّلوات إلا العشاء، وإلا الظُّهر عند اشتداد الحرِّ

(3)

، ولكن الصَّلوات التي لها نوافل قبلها كالفجر والظُّهر؛ ينبغي للإنسان أن يُراعي حال النَّاس في هذه، بحيث يتمكَّنون من الوُضُوء بعد الأذان ومن صلاة هذه الرَّاتبة.

‌وَمَنْ جَمَعَ أَوْ قَضَى فَوائِتَ أَذَّنَ لِلأُولى ثُمّ أَقَامَ لكُلِّ فَرِيضَةٍ.

قوله: «وَمَنْ جَمَعَ أَوْ قَضَى فَوَائِتَ أَذَّنَ لِلأُولى ثُمّ أَقَام لِكُلِّ فَرِيضَةٍ» ، هاتان مسألتان:

الأولى: الجمع، ويُتصوَّر بين الظُّهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، وسيأتي بيان سبب الجمع

(4)

، وأنَّه المشقَّة، فكُلَّما كان

(1)

متفق عليه، وقد تقدم تخريجه ص (63).

(2)

انظر: «الإقناع» (1/ 122).

(3)

انظر: ص (103، 115).

(4)

في الجزء الرابع، في باب صلاة أهل الأعذار.

ص: 78

يَشُقُّ على الإنسان أن يُصلِّي كلَّ صلاة في وقتها؛ فإنَّ له أن يجمع، سواء كان في الحضر أم في السَّفر، فإذا جمع الإنسانُ أذَّن للأُولى؛ وأقام لكلِّ فريضة، هذا إن لم يكن في البلد، أما إذا كان في البلد؛ فإنَّ أذان البلد يكفي؛ وحينئذ يُقيم لكلِّ فريضة.

دليل ذلك: ما ثبت في «صحيح مسلم» من حديث جابر رضي الله عنه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أذَّن في عَرفة، ثم أقام فصَلَّى الظُّهر، ثم أقام فصلَّى العصر، وكذلك في مُزدَلِفَة حيث أذَّن وأقام فصَلَّى المغرب، ثم أقام فَصَلَّى العشاء

(1)

.

وأما التَّعليل: فلأن وقت المجموعتين صار وقتاً واحداً، فاكتُفِي بأذان واحد ولم يُكتَفَ بإقامةٍ واحدة، لأن لكلِّ صلاة إقامة، فصار الجَامِعُ بين الصَّلاتين يؤذِّن مَرَّة واحدة، ويقيم لكلِّ صلاة.

المسألة الثانية: من قضى فوائت فإنه يؤذِّن مرَّة واحدة، ويُقيم لكلِّ فريضة.

يعني: إذا كانت فوائت متعدِّدة، فإنه يؤذِّن لها مرَّة واحدة، ويقيم لكلِّ فريضة كالمجموعات، فإنه ثبت أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أذَّن وأقام في غزوة الأحزاب

(2)

. فالدَّليل بالنَّصِّ، وبالقياس على المجموعة التي ثبت أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم يؤذِّن مرَّة واحدة ويقيم بعدد الصَّلوات.

وقوله: «أو قضى فوائت» ، قال العلماء: أوصاف الصَّلاة ثلاثة: أداء، وإعادة، وقَضاء

(3)

.

(1)

رواه مسلم، كتاب الحج: باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم، رقم (1218).

(2)

يأتي تخريجه ص (143 ـ 146).

(3)

انظر: «شرح الكوكب المنير» (1/ 365 ـ 368).

ص: 79

فالأداء: ما فُعل في وقته لأوّل مرّة.

والإعادة: ما فُعِلَ في وقته مرَّة ثانية كقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا صَلَّيتُما في رِحالِكُما؛ ثم أتيتما مسجدَ جماعة فصلِّيا معهم، فإنَّها لكما نافلة»

(1)

.

والقضاء: ما فُعِلَ بعد وقته، وهذا بناءً على المشهور عند أكثر أهل العلم أنَّ ما فُعِلَ بعد الوقت فهو قَضاء.

ولكن هناك قولاً ثانياً هو الأصحُّ: وهو أنَّ ما فُعِلَ بعد الوقت؛ فإن كان لغير عُذْرٍ لم يقبل إطلاقاً، وإِن كان لعُذْرٍ فهو أداء وليس بقضاء

(2)

. ودليل ذلك قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ نام عن صلاة أو نسيها فليصلِّها إذا ذكرها»

(3)

. فجعل وقتها عند ذكرها، وكذلك في النوم عند الاستيقاظ. والخلاف في هذا قريب من اللفظي؛ لأن الكُلَّ يتَّفقون على أنه يُشرع الأذان والإقامة حتى فيما فُعِلَ بعد الوقت.

‌وَيَسَنُّ لسَامِعِهِ مُتَابَعَتُه سِرًّا ............

قوله: «ويُسَنُّ لسامعه مُتابعتُه سِرًّا» ، السُّنَّة لها إطلاقان:

(1)

رواه أحمد (4/ 160)، وأبو داود، كتاب الصلاة: باب من صلى في منزله ثم أدرك الجماعة يصلي معهم، رقم (575، 576)، والنسائي، كتاب الإمامة: باب إعادة الفجر مع الجماعة لمن صلى وحده، (2/ 112) رقم (54)، والترمذي، كتاب الصلاة: باب في الرجل يصلي وحده ثم يدرك الجماعة، رقم (219) واللفظ له من حديث يزيد بن الأسود.

وصححه: الترمذي، وابن خزيمة (1279)، وابن حبان (1564)، وابن السَّكن، والحاكم (1/ 244)، والنوويُّ وغيرهم.

انظر: «الخلاصة» رقم (770)، «التلخيص الحبير» رقم (564).

(2)

انظر: «مجموع الفتاوى» (22/ 36، 37)، «كتاب الصلاة» لابن القيم ص (72).

(3)

متفق عليه، وقد تقدَّم تخريجه ص (15).

ص: 80

إطلاق اصطلاحي عند الفقهاء، وإطلاق شرعي في لسان الشَّارع.

أما عند الفقهاء: فيطلقون السُّنَّة على ما يُثاب فاعُله، ولا يُعاقبُ تاركُه.

وأما في لسان الشَّارع، فالسُّنَّة هي: الطريقة التي شرعها الرَّسولُ عليه الصلاة والسلام، سواء كانت واجبة يُعاقب تاركها أم لا.

فحديث أنس: «من السُّنَّةِ إذا تزوَّج البكرَ على الثَّيِّبِ أقام عندها سبعاً»

(1)

، من السُّنَّةِ الواجبة. وحديث ابن الزبير:«من السُّنَّةِ وضْعُ اليد اليُمنى على اليد اليسرى في الصَّلاة»

(2)

. هذا من السُّنَّة المستحبَّة، فإذا وجدنا السُّنَّة في كلام الفقهاء فالمُراد به السُّنَّة الاصطلاحيَّة.

وقول المؤلِّف: «يُسَنُّ لسامعه» ، أي لسامع الأذان فيشمل الذَّكر والأُنثى، ويشمل المؤذِّن الأول والثاني إذا اختلف المؤذِّنُون.

فيجيب الأول ويجيب الثَّاني؛ لعموم قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «إذا سمعتم المؤذِّن فقولوا مثل ما يقول»

(3)

. ثم هو ذِكْرٌ يُثاب الإنسان عليه، ولكن لو صَلَّى ثم سمع مؤذِّناً بعد الصَّلاة فظاهر الحديث أنَّه يجيب لعمومه.

(1)

متفق عليه، وقد تقدَّم تخريجه (1/ 168).

(2)

تقدم تخريجه (1/ 168).

(3)

رواه مسلم، كتاب الصلاة: باب استحباب القول مثل قول المؤذن، رقم (384) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص.

ص: 81

وقال الأصحاب: إنه لا يجيب

(1)

؛ لأنه غير مدعو بهذا الأذان فلا يتابعه. وأجابوا عن الحديث: بأن المعروف في عهد النبيِّ صلى الله عليه وسلم أن المؤذِّنَ واحد، ولا يمكن أن يؤذِّن آخر بعد أن تُؤدَّى الصَّلاة، فيُحمل الحديث على المعهود في عهد النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وأنه لا تكرار في الأذان. ولكن لو أخذ أحدٌ بعموم الحديث وقال: إنه ذِكْر؛ وما دام الحديث عاماً فلا مانع من أن أذكر الله عز وجل.

وقوله: «يُسَنُّ لسامعه متابعتُه سِرًّا» ، صريحٌ بأنه لو ترك الإجابة عمداً فلا إثم عليه، وهذا هو الصَّحيح. وقال بعض أهل الظَّاهر: إن المتابعة واجبة، وإنه يجب على من سمع المؤذِّن أن يقول مثلَ ما يقول

(2)

.

واستدلُّوا بالأمر: «إذا سمعتم المؤذِّن فقولوا مثل ما يقول» والأصل في الأمر الوجوب، ولكن الجمهور على خلاف ذلك

(3)

.

واستدلَّ الجمهور بأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم سمع مؤذِّناً يؤذِّن فقال: «على الفِطرة»

(4)

، ولم يُنقل أنه أجابه أو تابعه، ولو كانت المُتابعة واجبة لفعلها الرَّسول عليه الصلاة والسلام ولنُقِلَتْ إلينا.

(1)

انظر: «الإنصاف» (3/ 107)، «كشَّاف القناع» (1/ 245).

(2)

انظر: «المحلَّى» (3/ 148).

(3)

انظر: «المغني» (2/ 85)، «النكت على المحرر» (1/ 38، 39).

(4)

رواه مسلم، وقد تقدَّم تخريجه ص (47)، من حديث أنس بن مالك.

وعندي دليلٌ أصرحُ من ذلك، وهو قولُ النبيِّ عليه الصلاة والسلام لمالك بن الحُويرث ومن معه: «إذا حضرت الصَّلاةُ

ص: 82

فليؤذِّنْ لكم أحدُكم، ثم لِيَؤمَّكُم أكبرُكم»

(1)

، فهذا يدلُّ على أنَّ المتابعة لا تجب. ووجه الدلالة: أن المقام مقام تعليم؛ وتدعو الحاجةُ إلى بيان كلّ ما يُحتاج إليه، وهؤلاء وَفْدٌ قد لا يكون عندهم علم بما قاله النبيُّ صلى الله عليه وسلم في متابعة الأذان، فلمَّا ترك النبيُّ صلى الله عليه وسلم التنبيه على ذلك مع دُعاءِ الحاجة إليه؛ وكون هؤلاء وفداً لَبِثُوا عنده عشرين يوماً؛ ثم غادروا؛ يدلُّ على أنَّ الإجابة ليست بواجبة، وهذا هو الأقرب والأرجح.

وقوله: «يُسَنُّ لسَامعه متابعتُه سِرًّا» ، ظاهره: أنه إذا رآه ولم يسمعه فلا تُسَنُّ المتابعة؛ لأن الرَّسول عليه الصلاة والسلام قال: «إذا سمعتم» فعلَّق الحكمَ بالسَّماع؛ ولأنه لا يمكن أن يتابعَ ما لم يسمعه؛ لأنه قد يتقدَّم عليه.

وظاهر كلامه أيضاً: أنه لو سَمِعَه ولم يَرَهُ؛ تابعه للحديث.

وظاهر الحديث كما هو ظاهرُ كلام المؤلِّف أنه يتابعه على كلِّ حال؛ إلا أن أهل العلم استثنوا مَنْ كان على قضاء حاجته

(2)

؛ لأنَّ المقام ليس مقام ذِكْر، وكذا المصلِّي لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم:«إن في الصَّلاةِ شُغْلاً»

(3)

، فهو مشغول بأذكار الصَّلاة.

وقال شيخ الإسلام: بل يتابع المصلّي المؤذِّنَ؛ لعموم

(1)

متفق عليه، وقد تقدَّم تخريجه ص (43).

(2)

انظر: «النكت على المحرر» (1/ 41)، «الإنصاف» (3/ 108).

(3)

رواه البخاري، كتاب العمل في الصلاة: باب ما يُنهى من الكلام في الصلاة، رقم (1199)، ومسلم، كتاب المساجد: باب تحريم الكلام في الصَّلاة، رقم (538). من حديث عبد الله بن مسعود.

ص: 83

الأمر بالمتابعة

(1)

، ولأنه ذِكْرٌ وُجِدَ سببُه في الصَّلاة، فكان مشروعاً، كما لو عَطَسَ المصلِّي فإنه يحمد الله كما جاءت به السُّنَّة.

لكن قد يقال: إن بينهما فَرْقاً، فإن حَمْدَ العاطس لا يُشْغِلُ كثيراً عن أذكار الصَّلاة، بخلاف متابعة المؤذِّن، وربما يكون ذلك أثناء قراءة الفاتحة فتفوت الموالاة بينها، فالرَّاجح أن المصلِّي لا يتابع المؤذِّن، وكذا قاضي الحاجة.

لكن هل يقضيان أم لا؟ المشهور من المذهب أنهما يقضيان

(2)

؛ لأن السبب وُجِدَ حال وجود المانع؛ فإذا زال المانع ارتفع وقضى ما فاته. وفي النَّفس من هذا شيء، خصوصاً إذا طال الفصلُ والله أعلم.

‌وَحَوْقَلَتُهُ فِي الحَيْعَلَة.

قوله: «وحَوقَلَتُه في الحَيْعَلة» ، هذان مصدران مصنوعان ومنحوتان؛ لأنَّ الحَوقَلَة مصنوعة من «لا حولَ ولا قوَّة إلا بالله» ، والحيعلة من «حيَّ على الصَّلاة» «حيّ على الفلاح» ، فتقول إذا قال المؤذِّنُ:«حَيَّ على الصَّلاة» : لا حولَ ولا قوَّة إلا بالله، وإذا قال:«حَيَّ على الفلاح» : لا حولَ ولا قوَّة إلا بالله.

لو قال قائل: هل ابتُليتُ بمصيبة حتى أقول: لا حولَ ولا قوَّة إلا بالله؟ لأنَّ العامَّة عندهم أن الإنسان إذا أُصيب بمصيبة قال: «لا حولَ ولا قوَّة إلا بالله» . والمشروع عند المصائب أن تقول: «إنَّا لله، وإنَّا إليه راجعون» ، أما هذه الكلمة: «لا حول

(1)

انظر: «الاختيارات» ص (39).

(2)

انظر: «الإنصاف» (1/ 191)، (3/ 108)، «الإقناع» (1/ 123).

ص: 84

ولا قوة إلا بالله» فهي مشروعة عند التحمُّل، وهي كلمة استعانة، وليست كلمة استرجاع.

فالجواب: أن المؤذِّنَ لما قال: «حيَّ على الصلاة» ، فإنما دعاك إلى حضورها؛ فاستعنت بالله، وذلك حيثُ تبرَّأت من حولك وقوَّتك إلى ذي الحَول والقوَّة عز وجل فاستعنت به، وقلت: لا حَول ولا قوَّة إلا بالله، وهذا من باب التوسُّل بذكر حال الدَّاعي وكمال المدعو.

فإن قيل: ما هو الحَول؛ وما هي القوَّة؟

فقد قال العلماء: الحَول بمعنى التحوُّل، أي: لا تحوّل من حال إلى حال إلا بالله عز وجل. والقوَّة أخصُّ من القدرة، فكأنَّك قلت: لا أستطيع ولا أقوى على التَّحوُّل إلا بمعونة الله، ولهذا نقول: إن «الباء» في قوله: «إلا بالله» للاستعانة، فكلُّ إنسان لا يستطيع أن يتحوَّل من حال إلى حال، سواء من معصية إلى طاعة، أو من طاعة إلى أفضل منها إلا بالله عز وجل.

وقوله: «حيَّ على الفلاح» بعد قوله: «حيَّ على الصّلاة» تعميمٌ بعد تخصيص، أو دعاء إلى النتيجة والثَّواب بعد الدُّعاء إلى الصَّلاة، كأنه قال: أقبل إلى الصَّلاة، فإذا صليت نِلْتَ الفلاح.

وفي متابعة المؤذِّنِ دليلٌ على رحمة الله عز وجل، وسِعة فضله؛ لأن المؤذِّنين لما نالوا ما نالوه من أجر الأذان شُرع لغير المؤذِّن أن يتابعه؛ لينال أجراً كما نال المؤذِّن أجراً، ولهذا نظائر، فمن ذلك أنَّ الحُجَّاج يذبحون الهدايا يوم النَّحر، وغيرهم ممن لم يحجَّ شُرِع لهم ذبح الأضاحي، وكذلك الحجَّاج إذا

ص: 85

أحرموا تركوا الترفُّه فلا يحلقون شعر الرَّأس، وغيرهم من أهل الأضاحي لا يأخذون من شعورهم.

‌وَقَوْلُه بَعْدَ فَرَاغِهِ: اللَّهُمَّ رَبَّ هذه الدَّعْوةِ التَّامَّةِ،

....................

قوله: «وقوله بعد فراغه: اللهم رَبَّ هذه الدَّعوةِ التَّامَّة

إلخ»، الحقيقة أن المؤلِّف اقتصر في الدُّعاء الذي بعد الأذان على ما ذكره، وإلا فينبغي بعد الأذان أن تُصلِّي على النبيِّ صلى الله عليه وسلم

(1)

ثم تقول: «اللهم ربَّ هذه الدعوة التامة

إلخ»، وفي أثناء الأذان إذا قال المؤذِّن:«أشهد أنْ لا إله إلا الله، أشهد أنَّ محمداً رسولُ الله» وأجبته تقول بعد ذلك: «رضيت بالله رَبًّا وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً» كما هو ظاهر رواية مسلم حيث قال: «من قال حين سمع النداء: أشهد أنْ لا إله إلا الله، وأشهد أنَّ محمداً رسول الله، رضيت بالله رَبًّا وبمحمد رسولاً، وبالإسلام ديناً، غُفِرَ له ذَنْبه» . في رواية ابن رُمْح ـ أحد رجال الإسناد ـ: «من قال: وأنا أشهد»

(2)

. وفي قوله: «وأنا أشهد» دليلٌ على أنه يقولها عقب قول المؤذِّن: «أشهد أنْ لا إله إلا الله» ، لأنَّ الواو حرف عطف، فيعطف قولَه على قولِ المؤذِّن. فإذاً؛ يوجد ذِكْرٌ مشروع أثناء الأذان.

(1)

روى مسلم، كتاب الصلاة: باب استحباب القول مثل قول المؤذن، رقم (384) عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول:«إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صَلُّوا عليَّ، فإنه من صَلَّى عليَّ صلاة صلَّى الله عليه بها عشراً، ثم سلوا الله لي الوسيلة؛ فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حَلَّت له الشفاعة» .

(2)

رواه مسلم، كتاب الصلاة: باب استحباب القول مثل قول المؤذن، رقم (386) من حديث سعد بن أبي وقاص ....

ص: 86

وقوله: «اللهم رَبَّ هذه الدعوة التَّامة» ، الدعوة التامة: هي الأذان؛ لأنه دعوة، ووَصَفَها بالتَّامة؛ لاشتمالها على تعظيم الله وتوحيده، والشهادة بالرسالة، والدعوة إلى الخير.

وقوله: «اللهُم رَبَّ» ، اللَّهُ بالضم، وربَّ بالفتح، لأنَّ اللَّهَ عَلَمٌ مفردٌ فيُبنى على الضمِّ، و «ربَّ» مضاف، فيكون منصوباً؛ لأن المُنادى أو ما وقع بدلاً منه إذا كان مضافاً فإنه يكون منصوباً.

وقوله: «اللهم» منادى حُذِفَت منه ياءُ النداء، وعُوِّضَ عنها الميم، وجُعِلَت الميم بعد لفظ الجلالة تيمُّناً وتبرُّكاً بالابتداء بلفظ الجلالة، واخْتِيرَ لفظ الميم دون غيره من الحروف للدلالة على الجمع؛ كأن الدَّاعي يجمع قلبه على ربِّه عز وجل، وعلى ما يريد أن يدعوه به.

وقوله: «رَبَّ» ، «ربّ» هنا بمعنى صاحبَ الدَّعوة الذي شرعها، ولو كانت «ربّ» بمعنى خالق أشكل علينا؛ لأنَّ هذه الدَّعوة فيها أسماء الله وهي غير مخلوقة؛ لأنها من الكلام الذي أخبر به عن نفسه، وكلامه غير مخلوق، لكن لو فَسَّرنا «ربّ» بمعنى خالق على إرادة اللفظ الذي هو فعل المؤذِّن، فهذا لا إشكال فيه.

‌والصَّلَاةِ القَائِمَةِ ..............

قوله: «والصَّلاة القائمة» ، أي: وربَّ هذه الصَّلاة القائمة؛ والمشار إليه ما تصوَّره الإنسانُ في ذِهنه؛ لأنك عندما تسمع الأذان تتصوَّر أنَّ هناك صلاة. و «القائمة» : قال العلماء: التي ستقام فهي قائمة باعتبار ما سيكون

(1)

.

(1)

انظر: «فتح الباري» (2/ 95) .........

ص: 87

‌آتِ محمداً الوَسِيْلَةَ والفَضِيْلَةَ، وابْعَثْهُ مَقَاماً مَحْمُوداً الذي وَعَدْتُه.

قوله: «آتِ محمداً الوسيلةَ والفضيلةَ» ، آتِ: بمعنى أعطِ، وهي تنصب مفعولين ليس أصلهما المبتدأ والخبر، والمفعول الأوَّل «محمداً» و «الوسيلة» المفعول الثَّاني. والوسيلة: بيَّنها الرَّسول عليه الصلاة والسلام أنها: «درجة في الجنة، لا ينبغي أن تكون إلا لعبد من عباد الله» ، قال:«وأرجو أن أكون أنا هو»

(1)

. ولهذا نحن ندعو الله ليتحقَّق لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما رجَاه عليه الصلاة والسلام.

وأما الفضيلة: فهي المَنْقبَة العالية التي لا يشاركه فيها أحد.

قوله: «وابْعَثْهُ مَقَامَاً مَحْمُوداً الذي وَعَدْتهُ» ، ابعثه يوم القيامة «مقاماً» أي: في مقام محمود الذي وعدته، وهذا المقام المحمود يشمل كلّ مواقف القيامة، وأَخَصُّ ذلك الشفاعة العُظمى، حينما يلحق الناس من الكرب والغَمِّ في ذلك اليوم العظيم ما لا يُطيقون، فيطلبون الشفاعة من آدم، ثم نوح، ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى عليهم الصَّلاة والسَّلام، فيأتون في النهاية إلى نبيِّنا محمَّد عليه الصلاة والسلام فيسألونه أن يشفع إلى الله فيشفع لهم

(2)

.

وهذا مقام محمود؛ لأن الأنبياء والرُّسل كلهم يعتذرون عن

(1)

تقدم تخريجه ص (86).

(2)

حديث الشفاعة العظمى رواه البخاري، كتاب التفسير: باب (ذرية مَنْ حملنا مع نوح)، رقم (4712)، ومسلم، كتاب الإيمان: باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها، رقم (194) من حديث أنس بن مالك.

ص: 88

الشَّفاعة، إما بما يراه عُذراً كآدم ونوح وإبراهيم وموسى، وإمَّا لأنه يرى أن في المقام مَنْ هو أولى منه كعيسى. وانظر كيف أَلْهَمَ اللَّهُ الناسَ أن يأتوا إلى هؤلاء؛ لأن هؤلاء الأربعة هم أولو العزم، وآدم أبو البشر خلقه الله بيده وأسجد له ملائكته، ثم انظر كيف يُلْهِمُ الله هؤلاء أن يعتذر كُلُّ واحد بما يرى أنَّه حائل بينه وبين الشفاعة، لأن الشافع لا يتقدَّم في الشَّفَاعة، وهو يرى أنه فعل ما يُخِلُّ بمقام الشَّفاعة، وهؤلاء الأربعة: آدم ونوح وإبراهيم وموسى؛ استحيوا أن يتقدَّموا في الشَّفاعة؛ لكونهم فعلوا ما يُخِلُّ بمقام الشَّفاعة في ظَنِّهم، مع أنهم قد تابوا إلى الله تعالى.

أما بالنسبة لإبراهيم عليه السلام فالذي فعله كان تأويلاً، لكن لكمال تواضعه اعتذر به. والخامس لم يذكر شيئاً يُخِلُّ بمقام الشفاعة، ولكن ذَكَرَ مَنْ هو أَولى منه في ذلك، وهو محمَّد عليه الصلاة والسلام لتتمَّ الكمالات لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

وهذا من المقام المحمود الذي قال الله له فيه: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا *} [الإسراء] هذه الدعوات. وقد ثَبَت عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أن من صَلَّى عليه، ثم سأل الله له الوسيلة، فإنها تحلُّ له الشفاعة يوم القيامة»

(1)

. فيكون مستحقًّا لها، وهذا لا شَكَّ أنه من نعمة الله سبحانه علينا وعلى الرَّسول صلى الله عليه وسلم. أما علينا فلِمَا ننالُه من الأجر من هذا الدُّعاء، وأما على الرَّسول صلى الله عليه وسلم. فلأن هذا مما يرفع ذكرَه أن تكون أمته إلى يوم القيامة تدعو الله له.

(1)

رواه مسلم، وقد تقدم تخريجه ص (86).

ص: 89

لكن لو قال قائل: إذا كانت الوسيلة حاصلة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فما الفائدة من أن ندعو الله له بها؟

فالجواب: لعلَّ من أسباب كونها له دُعاءُ النَّاس له بذلك، وإن كان صلى الله عليه وسلم أحقَّ الناس بها. ولأن في ذلك تكثيراً لثوابنا؛ وتذكيراً لحقِّه علينا.

وفي هذا الدُّعاء عِدَّة مسائل:

المسألة الأولى: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم بشرٌ لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضَرًّا، ووجهه: أننا أمرنا بالدُّعاء له.

المسألة الثانية: أن الرَّسول عليه الصلاة والسلام أفضل البشر؛ لأنَّ الوسيلة لا تحصُل إلا له خاصَّة، ومعلومٌ أن الجزاء على قَدْرِ قيمة المجزيِّ، قال تعالى:{يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11].

المسألة الثالثة: الإشكال في قوله: «آتِ محمَّداً» ، ولم يقل:«آتِ رسول الله» ، فكيف نجمع بين هذا وبين قوله تعالى:{لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63] على أحد التفسيرين في أنَّ المعنى لا تنادوه باسمه كما يُنادي بعضكم بعضاً؟

والجواب: أن النهي في الآية عن مناداته باسمه، وأما في باب الإخبار فلا نهيَ في ذلك.

وفي الآية قولٌ آخر؛ وهو أن قوله: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63] من باب إضافة المصدر إلى فاعله لا إلى مفعوله، يعني: لا تجعلوا دُعاءَ الرَّسول إيَّاكم

ص: 90

كدُعاء بعضكم بعضاً، إن شئتم أجبتم، وإن شئتم لم تجيبوا، بل تجب إجابته.

تنبيه: لم يذكر المؤلِّف قوله: «إنك لا تخلف الميعاد» ؛ لأن المحدثين اختلفوا فيها، هل هي ثابتة أو ليست بثابتة؟ فمنهم من قال: إنها غير ثابتة لشُذُوذِها؛ لأن أكثر الذين رَوَوا الحديث لم يرووا هذه الكلمة، قالوا: والمقام يقتضي ألا تُحذف؛ لأنه مقام دُعاء وثناء، وما كان على هذا السبيل فإنه لا يجوز حذفه إلا لكونه غير ثابت؛ لأنه مُتَعَبَّدٌ به.

ومن العلماء من قال: إنَّ سندها صحيح، وإنها تُقال؛ لأنها لا تُنَافي غيرَها، وممن ذهب إلى تصحيحها الشيخ عبد العزيز بن باز، وقال: إن سندَها صحيح، وقد أخرجها البيهقي

(1)

بسند صحيح. وقالوا: إنَّ هذا مما يُختم به الدُّعاء كما قال تعالى: {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ *} [آل عمران] فمن رأى أنَّها صحيحة فهي مشروعة في حقِّه، ومن رأى أنَّها شاذة فليست مشروعة في حقِّه، والمؤلِّف وأصحابُنَا يرون أنها شاذَّة ولا يُعمل بها.

تَنْبِيهات:

الأوَّل: ظاهر كلام المؤلِّف أنه لا تُسَنُّ متابعةُ المقيم، وهو أظهر. وقيل: بل تُسَنُّ

(2)

، وفيها حديث أخرجه أبو داود لكنه

(1)

«سنن البيهقي» (1/ 410)، وانظر:«إرواء الغليل» (1/ 260)، «فتاوى إسلامية» جمع: محمد المسند (1/ 254).

(2)

انظر: «الإنصاف» (3/ 108)، «منتهى الإرادات» (1/ 55).

ص: 91

ضعيف

(1)

؛ لا تقوم به الحُجَّة.

الثاني: ظاهر كلامه: أنَّه إذا قال المؤذِّن في صلاة الصُّبْح: «الصَّلاة خير من النوم» ، فإن السَّامع يقول مثل ما يقول:«الصَّلاةُ خير من النوم» وهو الصَّحيح؛ لأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «إذا سمعتم المؤذِّن فقولوا مثل ما يقول»

(2)

، وهذا عامٌّ في كلِّ ما يقول، لكن الحيعلتين يُقال في متابعتهما:«لا حول ولا قوَّة إلا بالله» كما جاء في الحديث، ولأن السَّامع مدعو لا داع، والمذهب أنه يقول في المتابعة في «الصلاة خير من النوم»:«صدقت وبررت»

(3)

وهذا ضعيف، لا دليل له؛ ولا تعليل صحيح.

التنبيه الثالث: ظاهر كلام المؤلِّف أيضاً: أن المؤذِّن لا يتابعُ نفسَه، وهو الصَّحيح؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم:«إذا سمعتم المؤذِّن فقولوا مثل ما يقول» ، والمذهب أنه يُتابع نفسه (170)، وهو ضعيفٌ مخالف لظاهر الحديث، وللتعليل الصَّحيح وهو: أن المقصود مشاركة السَّامع للمؤذِّن في أصل الثواب.

(1)

رواه أبو داود، كتاب الصلاة: باب ما يقول إذا سمع الإقامة، رقم (528)، وابن السني في «عمل اليوم والليلة» رقم (104) من حديث أبي أُمامة: أن بلالاً أخذ في الإقامة، فلما قال: قد قامت الصلاة، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:«أقامها الله وأدامها» .

والحديث ضعّفه: النَّووي، وابن حجر، وقال ابن كثير:«ليس هذا الحديث بثابتٍ» .

انظر: «الخلاصة» (843)، «إرشاد الفقيه» ص (105)، «التلخيص الحبير» رقم (311).

(تنبيه): زاد بعض الفقهاء في هذا الحديث الضعيف بعد «أقامها الله وأدامها» عبارة: «واجعلني من صالحي أهلها» ، وهي زيادة باطلة لا أصل لها كما قال الحافظُ ابن حجر وغيره.

(2)

تقدم تخريجه ص (86).

(3)

انظر: «الإنصاف» (3/ 108)، «منتهى الإرادات» (1/ 55).

ص: 92

‌بابُ شُرُوط الصَّلاة

الشَّرط لُغةً: العلامة، ومنه قوله تعالى:{فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} [محمد: 18]، أي: علاماتها.

والشَّرطُ عند الأصوليين: ما يلزم من عَدَمِهِ العدمُ، ولا يلزم من وجوده الوجودُ. مثل: الوُضُوء للصَّلاة؛ يلزمَ من عدمه عدم صحَّة الصَّلاة؛ لأنه شرط لصحَّة الصَّلاة، ولا يلزم من وجوده وجود الصَّلاة، فلو توضَّأ إنسان فلا يلزمه أن يُصلِّي، لكن لو لم يتوضَّأ وصلَّى لم تصحَّ.

قوله: «شروط الصَّلاة» ، الإضافة هنا على تقدير اللام، أي: شروط للصَّلاة، وذلك لأن الإضافة تارة تكون على تقدير «في» ، وتارة تكون على تقدير «من» ، وتارة تكون على تقدير اللام.

فتكون على تقدير «من» إذا كان الثاني جنساً للأول مثل: خَاتم حديد، أي: من حديد، وباب خشب، أي: من خشب.

وتكون على تقدير «في» إذا كان الثاني ظرفاً للأول كقوله تعالى: {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [سبأ: 33]، أي: في الليل والنهار.

وما عدا ذلك على تقدير اللام، وهو الأكثر.

تنبيه:

اعترض بعضُ النَّاس على الفقهاء في كونهم يقولون: شروط، وأركان، وواجبات، وفروض، ومفسدات، وموانع،

ص: 93

وما أشبه ذلك، وقالوا: أين الدَّليل من الكتاب والسُّنَّة على هذه التَّسمية، هل قال الرَّسول صلى الله عليه وسلم: إن شروط الصَّلاة كذا، وأركانها كذا، وواجباتها كذا

فإن قلتم: نعم، فأرونا إيَّاه، وإن قلتم: لا، فلماذا تُحْدِثُون ما لم يفعله الرَّسول صلى الله عليه وسلم؟!.

والجواب: أنَّ مثل هذا الإيراد دليلٌ على قِلَّة فَهْمِ مُوْرِدِه، وأنَّه لا يُفَرِّق بين الغاية والوسيلة، فالعلماء لمَّا ذكروا الشُّروط والأركان والوجبات؛ لم يأتوا بشيء زائد على الشَّرع، غاية ما هنالك أنهم صَنَّفوا ما دَلَّ عليه الشَّرع؛ ليكون ذلك أقرب إلى حصر العلوم وجمعها؛ وبالتَّالي إلى فهمها.

فهم يصنعون ذلك لا زيادة على شريعة الله، وإنما تقريباً للشَّريعة، والوسائل لها أحكام المقاصد، كما أنَّ المسلمين لا زالوا ـ وإلى الآن ـ يبنون المدارس، ويؤلِّفون الكتب وينسخونها، وفي الأزمنة الأخيرة صاروا يطبعونها في المطابع، فقد يقول قائل أيضاً: لماذا تطبعون الكتب؛ وفي عهد الرَّسول عليه الصلاة والسلام كان النَّاس يكتبون بأيديهم، فلماذا تفعلون شيئاً محدثاً؟

فنقول: هذه وسائل يَسَّرَها اللَّهُ عز وجل للعباد؛ لتُقَرِّبَ إليهم الأمورَ، ولم يَزدِ العلماء في شريعة الله شيئاً، بل بوَّبوها ورتَّبوها، فمثلاً قول الرَّسول عليه الصلاة والسلام:«لا يقبل اللَّهُ صلاةً بغير طُهُور»

(1)

، فمِنْ هذا الحديث يُفهم أنه إذا صَلَّى الإنسانُ بغير طُهُور فصلاتُه باطلة، إذاً؛ الطُهُور شرط لصحَّة الصَّلاة، فما الفرق بين ذلك وبين أن أقول: يُشترط لصحَّة الصَّلاة

(1)

رواه مسلم، وقد تقدم تخريجه (1/ 324).

ص: 94

الطُهُور، فمَنْ لم يتطهَّر فلا صلاة له. وحينئذ نقول: لا اعتراض على صنيع الفقهاء رحمهم الله، بل هو من الصَّنيع الذي يُشكرون عليه؛ لما فيه من تقريب شريعة الله لعباد الله.

‌شُرُوطُهَا قَبْلَها منها الْوَقْتُ .................

قوله: «شُرُوطُهَا قَبْلَها» ، جملة خبرية مركَّبة من مبتدأ وخبر، ومعناها أن الشرُوط تقع قبلها؛ لكن لا بُدَّ من استمرارها فيها، والأركان توافق الشُّروط في أنَّ الصَّلاة لا تصحُّ إلا بها، لكن تُخالفها فيما يلي:

أولاً: أنَّ الشُّروط قبلها، والأركانَ فيها.

وثانياً: أنَّ الشُّروطَ مستمرَّة من قبل الدّخول في الصَّلاة إلى آخر الصَّلاة، والأركان ينتقل من ركن إلى ركن: القيام، فالرُّكوع، فالرَّفع من الرُّكوع، فالسُّجود، فالقيام من السُّجود، ونحو ذلك.

ثالثاً: الأركان تتركَّبُ منها ماهيَّةُ الصَّلاة بخلاف الشُّروط، فَسَتْرُ العورة لا تتركَّبُ منه ماهيَّة الصَّلاة؛ لكنه لا بُدَّ منه في الصَّلاة.

قوله: «منها الوقت» ، «من» هنا للتبعيض، وهو يدلُّ على أنَّ هناك شروطاً أخرى، وهو كذلك؛ منها: الإسلام، والعقل، والتَّمييز، فهذه ثلاثة شروط لم يذكرها المؤلِّف؛ لأنَّ هذه الشُّروط معروفة، فكلُّ عبادة لا تصحُّ إلا بإسلامٍ وعقلٍ وتمييزٍ إلا الزَّكاة، فإنها تلزم المجنون والصَّغير على القول الرَّاجح، وأما صحَّة الحجِّ من الصَّبي فلورود النصِّ بذلك.

والدَّليل على اشتراط الوقت: قوله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103]، أي: مؤقَّتاً بوقته،

ص: 95

وقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا *} [الإسراء]. والأدلَّة من السُّنَّة كثيرة، منها قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم:«وقت الظُّهر إذا زالت الشمس، وكان ظلُّ الرَّجُلِ كطوله ما لم يحضرِ العصر، ووقت العصر ما لم تصفرَّ الشَّمسُ»

(1)

، الحديث.

والصَّلاة لا تصحُّ قبل الوقت بإجماع المسلمين

(2)

، فإن صلَّى قبل الوقت، فإن كان متعمِّداً فصلاته باطلة، ولا يسلم من الإثم، وإن كان غير متعمِّد لظنِّه أنَّ الوقت قد دخل، فليس بآثم، وصلاته نَفْل، ولكن عليه الإعادة؛ لأنَّ من شروط الصَّلاة دخول الوقت.

وقول المؤلِّف: «منها الوقت» ، هذا التَّعبير فيه تساهل؛ لأن الوقت ليس بشرط، بل الشَّرط دخول الوقت، لأننا لو قلنا: إنَّ الشَّرط هو الوقت، لزم ألا تصحَّ قبله ولا بعده، ومعلوم أنها تصحُّ بعد الوقت لعُذر؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم:«مَنْ نامَ عن صلاةٍ أو نسيها فليصلِّها إذا ذكرها»

(3)

، وثبت عنه أنَّه صَلَّى الفجر بعد طلوع الشَّمس (172)، فتحريرُ العِبارة أن يقول:«منها دخول الوقت» .

وسبقَ أن الصَّلاة قبل الوقت لا تصحُّ بالإجماع.

وهل تصحُّ بعد الوقت؟ نقول: إن كان الإنسان معذوراً فإنها تصحُّ بالنصِّ والإجماع.

(1)

رواه مسلم، كتاب المساجد: باب أوقات الصلوات، رقم (612) من حديث عبد الله بن عمرو.

(2)

انظر: «المغني» (2/ 45).

(3)

تقدم تخريجه ص (15).

ص: 96

أما النصُّ: فالقرآن والسُّنَّة. أما القرآن: فإن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لما ذكر قوله: «من نام عن صلاة

» إلخ، تلا قوله تعالى:{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14]، وتلاوته للآية استشهادٌ بها.

ومن السُّنَّة: الحديث السابق.

وأما الإجماع: فمعلومٌ.

وهل تصحُّ بعد خروج الوقت بدون عُذر؟

جمهور أهل العلم على أنها تصحُّ بعده مع الإثم

(1)

.

والصَّحيح: أنها لا تصحُّ بعد الوقت إذا لم يكن له عُذر، وأنَّ من تعمَّد الصَّلاة بعد خروج الوقت فإن صلاته لا تصحُّ، ولو صَلَّى ألف مَرَّة؛ لأن الدَّليل حدَّد الوقت، فإذا تعمَّد أن تكون صلاتُه خارج الوقت لم يأتِ بأمر الله، وقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:«من عَمِلَ عملاً ليس عليه أمرُنا فهو رَدٌّ»

(2)

، إذاً فتكون الصَّلاةُ مردودة.

وقد يُشكل على بعض الناس فيقول: إذا كان المعذور يلزمه أن يُصلِّي بعد الوقت، وإذا تعمَّد يُقال: لا يصلِّي!! أليس إلزام المتعمِّد بالقضاء أَولى من إلزام المعذور.

فيقال: إن قولنا للمتعمّد: لا يقضي بعد الوقت؛ ليس تخفيفاً عليه، ولكن ردًّا لعَمَلِه؛ لأنه على غير أمر الله وهو آثم، فيكون هذا أبلغ في رَدْعِهِ وأقربُ لاستقامته، والذي صَلَّى وهو

(1)

انظر: «المجموع شرح المهذب» (3/ 71)، «كتاب الصلاة» لابن القيم ص (72)، «نيل الأوطار» (2/ 2، 3).

(2)

تقدم تخريجه (1/ 186).

ص: 97

معذور بعد الوقت غير آثم. إذاً؛ المتعمّد عليه أن يتوبَ إلى الله تعالى مما فعله، ولا يُصلِّي.

‌والطَّهَارةُ مِن الحَدَثِ، والنَّجَسِ .............

قوله: «والطَّهارة من الحدث» ، أي: ومن شروط الصَّلاة: الطهارة من الحدث، ودليل ذلك من القرآن قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} إلى قوله تعالى: {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 6].

ووجه الدلالة: أن الله تعالى أمر ـ إذا قمنا إلى الصَّلاة ـ بالوُضُوء من الحدث الأصغر، والغُسُل من الجنابة، والتيمُّم عند العدم، وبَيَّن أن الحكمةَ في ذلك التطهير. إذاً؛ الإنسان قبل ذلك غيرُ طاهر، ومن كان غيرَ طاهر فإنه غيرُ لائق أن يكون قائماً بين يدي الله عز وجل.

وأما الدَّليل من السُّنَّة: فمنه قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «لا يقبلُ الله صلاةَ أحدِكُم إذا أحدثَ حتى يتوضَّأ»

(1)

، وهذا نصٌّ صريحٌ وقال صلى الله عليه وسلم:«لا صلاة بغير طُهُور»

(2)

.

قوله: «والنَّجَس» ، أي: ومن شروط الصَّلاة الطهارة من النَّجس.

وقد تقدم ـ في باب إزالة النَّجاسة ـ بيانُ الأعيان النجسة

(3)

.

(1)

رواه البخاري، كتاب الوضوء: باب لا تقبل صلاة بغير طهور، رقم (135)، ومسلم، كتاب الطهارة: باب وجوب الطهارة للصلاة، رقم (225) من حديث أبي هريرة.

(2)

تقدم تخريجه (1/ 324).

(3)

انظر: (1/ 414 ـ 463).

ص: 98

والطَّهارةُ من النَّجس يعني: في الثوب، والبقعة، والبدن، فهذه ثلاثة أشياء.

فالدليل على اشتراط الطهارة من النَّجاسة في الثَّوب:

أولاً: ما جاء في أحاديث الحيض أن الرَّسول صلى الله عليه وسلم سُئل عن دم الحيض يصيب الثَّوب فأمر أن «تَحُتَّه ثم تَقْرُصَه بالماء، ثم تَنْضِحَهُ، ثم تصلِّي فيه»

(1)

، وهذا دليل على أنه لا بُدَّ من إزالة النَّجاسة.

ثانياً: أن الرَّسول صلى الله عليه وسلم أُتيَ بصبيٍ لم يأكل الطَّعام؛ فبالَ في حِجْرِه، فدعا بماءٍ فأتبعه إيَّاه

(2)

. وهذا فعل، والفعل لا يقوى على القول بالوجوب، لكن يؤيِّده ما جاء في الحديث السابق.

ثالثاً: أنَّ الرَّسول صلى الله عليه وسلم صلَّى ذات يوم بنعليه، ثم خلع نعليه، فخلع الصحابةُ نِعالهم، فسألهم حين انصرف من الصَّلاة: لماذا خلعوا نعالهم؟ فقالوا: رأيناك خلعت نعليك فخلعنا نعالنا، فقال:«إنَّ جبريل أتاني فأخبرني أنَّ فيهما أذًى أو قذراً»

(3)

، وهذا يدلُّ على وجوب التَّخلي من النَّجَاسة حال الصَّلاة في الثوب.

(1)

رواه البخاري، كتاب الحيض: باب غسل دم المحيض، رقم (307)، ومسلم، كتاب الطهارة: باب نجاسة الدم وكيفية غسله، رقم (291)، واللفظ له عن أسماء بنت أبي بكر.

(2)

متفق عليه، وقد تقدم تخريجه (1/ 29).

(3)

رواه أحمد (3/ 20)، وأبو داود، كتاب الصلاة: باب الصلاة في النعل، رقم (650) والحاكم (1/ 260)، والبيهقي (2/ 431) من حديث أبي سعيد الخدري.

قال الحاكم: «صحيح على شرط مسلم» ، ووافقه الذهبي.

قال النووي: «إسناده صحيح» . «المجموع» (2/ 179).

قال ابن حجر: «هذا حديث صحيح» . «موافقة الخُبر الخَبر» (1/ 91).

وانظر: «العلل» للدارقطني رقم (2316)(11/ 329).

ص: 99

والدَّليل على اشتراط الطَّهارة من النَّجاسة في البدن:

أولاً: كُلُّ أحاديث الاستنجاء والاستجمار

(1)

تدلُّ على وجوب الطَّهارة من النَّجاسة؛ لأن الاستنجاء والاستجمار تطهير للمحلِّ الذي أصابته النَّجَاسة.

ثانياً: أمْرُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بغسل المذي

(2)

يدلُّ على أنَّه يُشترط التَّخلِّي من النَّجاسة في البدن.

ثالثاً: إخباره عن الرَّجُلين اللذين يُعذَّبان في قبريهما؛ لأن أحدهما كان لا يَسْتَنْزِهُ من البول

(3)

.

والدَّليل على اشتراط الطَّهارة من النَّجاسة في المكان:

أولاً: قوله تعالى: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: 125].

ثانياً: أنه لما بال الأعرابيُّ في المسجد؛ أمرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بذَنُوبٍ من ماء فأُهريق عليه

(4)

. إذاً؛ فلا بُدَّ من اجتناب النَّجاسة في هذه المواطن الثلاثة، وسيأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ الكلام على اجتناب النَّجاسة مفصَّلاً في كلام المؤلِّف

(5)

.

‌فَوَقْتُ الظُّهْرِ مِنَ الزَّوَالِ إِلى مُسَاوَاةِ الشَّيءِ فَيْئَه بَعْدَ فَيءِ الزوال.

ثم شرع المؤلِّف رحمه الله في بيان أوقات الصَّلاة تفصيلاً

(6)

فقال: «فوقت الظُّهر من الزَّوال» ، بدأ بها المؤلِّف؛ لأن جبريل بدأ

(1)

تقدم تخريجها (1/ 130 ـ 133).

(2)

متفق عليه، وقد تقدم تخريجه (1/ 139).

(3)

تقدم تخريجه بألفاظه (1/ 133).

(4)

تقدم تخريجه (1/ 415).

(5)

انظر: ص (223) وما بعدها.

(6)

انظر: «رسالة في مواقيت الصلاة» للمؤلف رحمه الله ضمن «مجموع الفتاوى والرسائل» (12/ 235).

ص: 100

بها حين أَمَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم

(1)

، ولأن الله تعالى بدأ بها حين ذكر أوقات الصَّلاة فقال:{أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} الآية [الإسراء: 78]، وبعض العلماء يبدأ بالفجر

(2)

؛ لأنها أوَّل صلاة النَّهار، ولأنَّها هي التي يتحقَّق بالبَدَاءة بها أن تكون صلاة العصر الوسطى من حيثُ العدد. والخَطْبُ في هذا سَهْلٌ، يعني سواء بدأنا بالظُّهر، أو بدأنا بالفجر، المهم أن نعرف الأوقات.

قوله: «إلى مُسَاواةِ الشَّيءِ فيئَه» ، أي: ظِلَّه، «بعد فيءِ الزَّوال» ، يقول بعضُ أهل اللغة: الفيءُ هو الظِلُّ بعد الزَّوال، وأما قبله فيُسمَّى ظلاً، ولا يُسمَّى فيئاً، وما قالوه له وجه، لأنَّ الفيءَ مأخوذ من فاء يفيء، إذا رجعَ، كأن الظِلَّ رجع بعد أن كان ضياء، أما الذي لم يزل موجوداً فلا يُسمَّى فيئاً؛ لأنَّه لم يزل مظلماً.

فقوله: «مساواةِ الشَّيءِ فيئَه بعد فيءِ الزَّوال» ، وذلك أن الشَّمس إذا طلعت صار للشَّاخص ظِلٌّ نحو المغرب ـ والشَّاخص

(1)

رواه عبد الرزاق رقم (2028)، وأحمد (1/ 333، 354)، وأبو داود، كتاب الصلاة، باب في المواقيت، رقم (393)، والترمذي، أبواب الصلاة: باب ما جاء في مواقيت الصلاة، رقم (149)، وابن خزيمة رقم (325)، والحاكم (1/ 193)، من حديث ابن عباس.

والحديث صَحَّحه: الترمذي، وابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، وابن عبد البر، وابن العربي، والنووي، وابن كثير.

انظر: «العلل» لابن أبي حاتم رقم (354)، «التمهيد» لابن عبد البر (8/ 28، 33)، «المجموع» للنووي (3/ 23)، «إرشاد الفقيه» لابن كثير ص (93)، «التلخيص الحبير» رقم (243)، ورُوي أيضاً من حديث جابر بن عبد الله، انظر: ص (108).

(2)

انظر: «الاختيارات» ص (33)، «الإنصاف» (3/ 125).

ص: 101

الشيء المرتفع ـ ثم لا يزال هذا الظِلُّ ينقص بقدر ارتفاع الشمس في الأُفق حتى يتوقف عن النقص، فإذا توقَّف عن النقص، ثم زاد بعد توقُّف النقص ولو شعرة واحدة فهذا هو الزَّوال، وبه يدخل وقت الظُّهر.

وقوله: «بعد فيءِ الزَّوال» ، أي: أنَّ الظِلَّ الذي زالت عليه الشمس لا يُحسب، ففي وقتنا الآن حين كانت الشِّمس تميل إلى الجنوب لا بُدَّ أن يكون هناك ظِلٌّ دائمٌ لكلِّ شاخص من النَّاحية الشِّمالية له، وهذا الظِلُّ لا يُعتبر، فإذا بدأ يزيد فَضَعْ علامةً على ابتداء زيادته، ثم إذا امتدَّ الظِلُّ من هذه العلامة بقدر طول الشَّاخص، فقد خرج وقت الظُّهر، ودخل وقت العصر، ولا فرق بين كون الشَّاخص قصيراً أو طويلاً، لكن تَبَيُّن الزِّيادة والنقص في الظِلِّ فيما إذا كان طويلاً أظهر.

أما علامة الزَّوال بالسَّاعة فاقسمْ ما بين طُلوع الشَّمس إلى غروبها نصفين، وهذا هو الزَّوال، فإذا قدَّرنا أن الشمس تطلع في الساعة السادسة، وتغيب في الساعة السادسة، فالزوال في الثانية عشرة.

‌وَتَعْجِيْلُها أَفْضَلُ إِلاَّ في شِدَّةِ حَرٍّ ............

قوله: «وتعجيلها أفضل» ، أي: تعجيل صلاة الظُّهرِ أفضل لما يلي:

أولاً: لقوله تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148]، أي: سارعوا، ولا شكَّ أن الصَّلاة من الخيرات، فالاستباق إليها معناه المبادرة إليها.

ثانياً: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم حَثَّ على البَدَاءة بالصَّلاة من حين

ص: 102

الوقت؛ فسأله ابن مسعود: أيُّ العمل أحبُّ إلى الله؟ قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «الصَّلاةُ على وقتها»

(1)

، أي: من حين دخول وقتها. وقد قال بعض العلماء: إن معنى قوله: «على وقتها» ، أي: وقتها المطلوب فعلها فيه شرعاً، سواء كان ذلك في أول الوقت أم آخره

(2)

. وهذا حقٌ، لكن الأفضل التقديم؛ حتى يقوم دليلٌ على رُجحان التَّأخير.

ثالثاً: أن هذا أسرع في إبراء الذِّمة؛ لأن الإنسان لا يدري ما يعرض له، فقد يكون في أوَّل الوقت نشيطاً قادراً تَسْهُلُ عليه العِبادة، ثم يمرض، وتصعب عليه الصَّلاة، وربما يموت، فالتَّقديم أسرع في إبراء الذِّمة، وما كان أسرع في إبراء الذِّمة فهو أولى.

فيكون فضل تعجيلها دَلَّ عليه الدَّليل الأثري والنَّظري.

قوله: «إلا في شِدَّة حَرٍّ» ، ففي شدَّة الحَرِّ الأفضل تأخيرها حتى ينكسر الحرُّ؛ لثبوت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله:«إذا اشتدَّ الحرُّ فأبردوا بالصَّلاة، فإنَّ شدَّة الحرِّ من فَيْحِ جهنَّم»

(3)

، ولأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان في سفر فأراد المؤذِّنُ أن يؤذِّنَ فقال:«أبرد» ،

(1)

رواه البخاري، كتاب مواقيت الصلاة: باب فضل الصلاة لوقتها، رقم (527)، ومسلم، كتاب الإيمان: باب بيان كون الإيمان بالله أفضل الأعمال، رقم (85).

(2)

انظر: «مجموع الفتاوى» (22/ 92، 93).

(3)

رواه البخاري، كتاب مواقيت الصلاة: باب الإبراد بالظهر في شدة الحر، رقم (536)، ومسلم، كتاب المساجد: باب استحباب الإبراد بالظهر في شدة الحر، رقم (615) من حديث أبي هريرة.

ص: 103

ثم أراد أن يؤذِّنَ فقال: «أبرد» ، ثم أراد أن يؤذِّنَ فقال:«أبرد» ، ثم أذَّن لمَّا ساوى الظِلُّ التُّلُولَ

(1)

. يعني: قُرب وقت صلاة العصر؛ لأنه إذا ساوى الشيءُ ظِلَّه؛ لم يبقَ ما يسقط من هذا الظلِّ إلا فيء الزَّوال، وفيءُ الزَّوال في أيَّام الصيف وشدَّة الحَرِّ قصير جداً. فقوله في الحديث:«حتى سَاوى الظِلُّ التُّلُولَ» ، يعني: مع فيءِ الزَّوال، وهذا متعيِّن؛ لأنه لو اعتبرت المساواة بعد فيء الزَّوال؛ لكان وقت الظُّهر قد خرجَ؛ فينبغي في شِدَّة الحرِّ الإبرادُ إلى هذا الوقت، يعني: قُرب صلاة العصر.

وقال بعض العلماء: بل حتى يكون للشَّواخص ظِلٌّ يُستظلُّ به

(2)

. لكن هذا ليس بمنضبط؛ لأنه إذا كان البناء عالياً وُجِدَ الظِلُّ الذي يُستظلُّ به قريباً، وإذا كان نازلاً فهو بالعكس. فمتى يكون للنَّاس ظِلٌّ يمشون فيه؟!.

لكن أصحُّ شيء أن يكون ظِلُّ كلِّ شيء مثله مضافاً إليه فيء الزَّوال، يعني: أنه قُرب صلاة العصر، وهذا هو الذي يحصُل به الإبراد، أمَّا ما كان النَّاس يفعلونه من قبلُ، حيث يصلُّون بعد زوال الشَّمس بنحو نصف ساعة أو ساعة، ثم يقولون: هذا إبراد. فليس هذا إبراداً! هذا إحرار؛ لأنه معروف أن الحرَّ يكون أشدَّ ما يكون بعد الزَّوال بنحو ساعة.

فإذا قَدَّرنا مثلاً أن الشَّمس في أيام الصَّيف تزول على

(1)

رواه البخاري، كتاب الأذان: باب الأذان للمسافر، رقم (629)، ومسلم، كتاب المساجد: باب استحباب الإبراد بالظهر، رقم (616). من حديث أبي ذر.

(2)

انظر: «فتح الباري» (2/ 20)، «الإنصاف» (3/ 138).

ص: 104

الساعة الثانية عشرة، وأن العصر على الساعة الرابعة والنصف تقريباً، فيكون الإبراد إلى الساعة الرابعة تقريباً.

‌وَلَو صَلَّى وَحْدَه أَوْ مَعَ غَيْمٍ لمَنْ يصلِّي جَمَاعَةً،

.............

قوله: «ولو صَلَّى وَحْدَه» ، «لو»: إشارة خلاف؛ لأنَّ بعض العلماء يقول: إنَّما الإبراد لمن يصلِّي جماعة

(1)

، وزاد بعضهم: إذا كان منزله بعيداً بحيث يتضرَّرُ بالذَّهاب إلى الصَّلاة (196).

وهذا قيدٌ لما أطلقه النبيُّ صلى الله عليه وسلم بقوله: «إذا اشتدَّ الحرُّ فأبردوا بالصَّلاة» والخطاب للجميع، وليس من حقِّنا أن نقيِّد ما أطلقه الشَّارع، ولم يُعلِّلِ الرَّسول عليه الصلاة والسلام ذلك بأنه لمشقَّة الذَّهاب إلى الصلاة، بل قال:«إنَّ شدَّةَ الحَرِّ من فَيْحِ جهنَّم»

(2)

. وهذا يحصُل لمن يُصلِّي جماعة، ولمن يصلِّي وحده، ويدخل في ذلك النِّساء، فإنه يُسنُّ لهنَّ الإبراد في صلاة الظُّهر في شدَّة الحرِّ.

قوله: «أو مع غَيْمٍ لمَنْ يصلِّي جماعةً» ، أي: يُسنُّ تأخير صلاة الظُّهر مع الغيم لمن يُصلِّي جماعةً، والمُراد: الجماعة في المسجد.

وعلَّلوا ذلك: بأنه أرفق بالنَّاس، حتى يخرجوا إلى صلاة الظُّهر والعصر خروجاً واحداً، لأن الغَالب مع الغيم أن يحصُلَ مطرٌ، وإذا كان كذلك فلا ينبغي أن نشقَّ على النَّاس؛ بل ننتظر ونؤخِّر الظُّهرَ، فإذا قارب العصرَ بحيث يخرج النَّاس من بيوتهم إلى المساجد خروجاً واحداً لصلاة الظُّهر والعصر، صلينا الظُّهر. هذا ما ذهب إليه المؤلِّف، والعِلَّة فيه كما سبق.

(1)

انظر: «المغني» (2/ 36)، «الإنصاف» (3/ 137).

(2)

تقدم تخريجه ص (103).

ص: 105

لكن هذه العِلَّة عليلة من وجهين:

الوجه الأول: أنها مخالفة لعموم الأدلَّة الدَّالَّة على فضيلة أول الوقت.

الوجه الثاني: أنه قد تحصُل غيوم عظيمة، ويتلبَّد الجوُّ بالغمام، ومع ذلك لا تُمطر.

إذاً؛ فالصَّواب: عدم استثناء هذه الصُّورة، وأن صلاة الظُّهر يُسنُّ تقديمها إلا في شدَّة الحرِّ فقط، وما عدا ذلك فالأفضل أن تكون في أوَّل الوقت.

وَيَلِيه وَقْتُ العَصْرِ إِلَى مَصيرِ الفَيءِ مِثْلَيْه بَعْدَ فَيءِ الزَّوَالِ، والضَّرُوْرَةُ إِلى غُرُوبِهَا ..............

قوله: «وَيَليه وَقْتُ العَصْرِ» ، أي: يلي وقتَ الظُّهر وقتُ العصرِ، واستفدنا من قول المؤلِّف:«ويليه» أنه لا فاصل بين الوقتين، إذ لو كان هناك فاصل فلا موالاة، وأنَّه لا اشتراك بين الوقتين؛ إذ لو كان هناك اشتراكٌ لَدَخَلَ وقتُ العصر قبل خروج وقت الظُّهر، وبكلٍّ من القولين قال بعض العلماء.

فقال بعضهم: إن هناك فاصلاً بين وقت الظُّهر ووقت العصر لكنه يسير

(1)

.

وقال آخرون: هناك وقت مشترك بقَدْرِ أربع ركعات بين الظُّهر والعصر (198).

والصَّحيح: أنه لا اشتراك، ولا انفصال، فإذا خرج وقتُ الظُّهر دخل وقتُ العصر.

ص: 106

قوله: «إِلَى مَصيرِ الفَيءِ مِثْلَيْه بَعْدَ فَيءِ الزَّوَالِ» ، يعني: أنَّ فيءَ الزَّوال لا يُحسب، فنبدأُ منه، فإذا صار الظِلُّ طول الشَّاخص فهذا نهاية وقت الظُّهر ودخول وقت العصر؛ وإذا كان طول الشَّاخص مرَّتين؛ فهو نهاية وقت العصر، فوقت الظُّهر من فيء الزَّوال إلى أن يكون ظِلُّ الشَّيءِ مثله، والعصر إلى أن يصير مثليه، وبهذا يكون وقت الظُّهر أطول من وقت العصر بكثير؛ لأن الظِلَّ في آخر النهار أسرع، وكلما دنت الشَّمس إلى الغروب كان الظِلُّ أسرع، فيكاد يكون الفرق الثُّلث.

فوقت الظُّهر طويل بالنسبة لوقت العصر الاختياري، لكن وقت الضَّرورة في العصر إلى غروب الشَّمسِ، فيكون بهذا الاعتبار طويلاً.

فلننظر هذا الأمر بالتوقيت الغروبي:

فالتوقيت الغروبي في أطول يوم من السَّنَة، يُؤذَّنُ للظُّهر الساعة (5.7) ويُؤذَّن للعصر تمام الساعة (8.35). فالفارق بينهما ثلاث ساعات ونصف تقريباً، ومن الساعة (8.35) إلى الغروب ثلاث ساعات وخمس وعشرون دقيقة، إذاً؛ وقت الظُّهر أطول حتى ولو كان وقت العصر مضافاً إليه وقت الضَّرورة.

قوله: «والضَّرُورَة إلى غُرُوبها» ، أي: وقت الضَّرورة إلى غروبها، أي: أنه يمتدُّ وقت الضَّرورة إلى غروب الشَّمس، والدَّليل على جعل الوقت الاختياري إلى مصير ظِلِّ كلِّ شيء

ص: 107

مثله: حديث جابر في قصة جبريل

(1)

.

ولكن الرَّاجح في هذه المسألة: حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن الرَّسول عليه الصلاة والسلام قال: «وقت العصر ما لم تصفرَّ الشمسُ»

(2)

، أي: ما لم تكن صفراء، وهذا في الغالب يزيد على مصير ظِلِّ كلِّ شيء مثليه، وهذه الزيادة تكون مقبولة؛ لأن الحديث في «صحيح مسلم» ، ومن قول الرَّسول صلى الله عليه وسلم.

ويمكن أن يُجاب عن حديث جبريل: بأنه ابتدأ الصَّلاة بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم حين صار ظِلُّ كلِّ شيء مثليه، وأنها إذا صُلِّيت وانتُهيَ منها تكون الشمس قد اصفرَّت؛ ولا سيَّما في أيام الشتاء وقِصَر وقت العصر. وسواءٌ صَحَّ هذا الجمع أم لم يصحَّ فإن الأخذ بالزَّائد متعيِّن؛ لأنَّ الأخذ بالزَّائد أخذٌ بالزَّائد والناقص، والأخذ بالناقص إلغاء للزائد. وعليه فنقول: وقت العصر إلى اصفرار الشمس.

والدَّليلُ على أنَّ وقتها يمتدُّ إلى غروب الشمس: قولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أدرك ركعةً من العصر، قبل أن تَغْرُبَ الشَّمسُ فقد أدرك العصرَ»

(3)

وهذا نصٌ صريحٌ في أن الوقت يمتدُّ إلى

(1)

رواه أحمد (3/ 330)، والنَّسائي، كتاب المواقيت: باب أول وقت العشاء، (1/ 263)، والترمذي، أبواب الصلاة: باب ما جاء في مواقيت الصلاة، رقم (149)، وابن حبان رقم (1472)، والحاكم (1/ 195). من حديث جابر بن عبد الله الأنصاري؛ بنحو حديث عبد الله بن عباس المتقدم ص (101).

قال البخاريُّ: أصحُّ شيءٍ في المواقيت حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم.

(2)

رواه مسلم، وقد تقدم تخريجه ص (96).

(3)

رواه البخاري، كتاب مواقيت الصلاة: باب من أدرك من الفجر ركعة، رقم (579)، ومسلم، كتاب المساجد: باب من أدرك ركعة من الصلاة، رقم (608) من حديث أبي هريرة.

ص: 108

الغروب؛ لكنه يُحمل على وقت الضَّرورة جمعاً بينه وبين النصوص الدَّالَّة على أن وقتها إلى اصفرار الشمس.

فإذا قال قائل: لماذا لم نأخذ بهذا الحديث؛ لأنه زائد على حديث عبد الله بن عمرو ونحوه؛ لأنّ الزيادة يُؤخذ بها؛ لأنها تنتظم النقص ولا عكس؟ فيُجاب عن ذلك بأن الرسول صلى الله عليه وسلم حدَّد وقت العصر في حديث عبد الله بن عمرو وقال: «ما لم تصفرَّ الشَّمسُ» ، فيُجمع بين الحديثين بأن يُقال:«ما لم تصفرَّ الشَّمسُ» هذا وقت الاختيار، و «إلى الغروب» وقت الضَّرورة.

فإن قيل: ما معنى وقت الضَّرورة؟

فالجواب: أن يضطر الإنسان إلى تأخيرها عن وقت الاختيار.

مثاله: أن يشتغل إنسان عن العصر بشغل لا بُدَّ منه، ولنفرض أنه أُصيب بجرح؛ فاشتغل به يُلبِّده ويِضَمّدُه، وهو يستطيع أن يصلِّيَ قبل الاصفرار، لكن فيه مشقَّة، فإذا أخَّر وصَلَّى قُبيل الغروب فقد صَلَّى في الوقت ولا يأثم، لأنَّ هذا وقت ضرورة، فإذا اضطر الإنسان إلى تأخيرها لوقت الضَّرورة فلا حرج، وتكون في حقِّه أداء.

‌وَيُسَنُّ تَعْجِيْلُها.

قوله: «ويُسَنُّ تَعجِيلُها» ، أي: يُسَنُّ في صلاة العصر تعجيلُها في أوَّل الوقت وذلك لما يلي:

1 -

لعموم الأدلة الدَّالة على المبادرة إلى فعل الخير كما في قوله تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148].

2 -

ما ثبت أن الصَّلاة في أوَّل وقتها أفضل.

ص: 109

3 -

ما ثبت عن النبيِّ عليه الصلاة والسلام من حديث أبي بَرْزَةَ الأَسْلَمي أنه كان صلى الله عليه وسلم يُصلِّي العصرَ والشَّمسُ مرتفعة؛ حتى إنهم يذهبون إلى رِحَالِهم في أقصى المدينة والشَّمسُ حَيَّةٌ

(1)

.

وَيَلِيه وَقْتُ المغْرِبِ إِلى مَغِيْبِ الحُمْرَةِ، وَيُسَنُّ تَعْجيلُها إِلا لَيْلَةَ جَمْعٍ لِمَنْ قَصَدَها مُحْرِماً .............

قوله: «ويليه وَقْتُ المَغْرب إلى مَغيب الحُمْرَة» ، أي: يلي وقتَ العصر، بدون فاصل وبدون اشتراك بينهما في الوقت، فوقت المغرب من مغيب الشَّمس إلى مغيب الحُمْرة.

وقوله: «إلى مغيب الحُمْرة» ، أي: الحُمْرة في السَّماء، فإذا غابت الحُمْرة لا البياض، فإنه يخرجُ وقتُ المغرب، ويدخلُ وقتُ العِشَاءِ، ومقداره في السَّاعة يختلف باختلاف الفُصول، فتارة يطول وتارة يقصر؛ لكنه يُعرف بالمشاهدة، فمتى رأيت الحُمْرة في الأُفُقِ قد زالت فهذا دليل على أن وقت المَغْربِ قد انقضى، وهو يتراوح ما بين ساعة وربع، إلى ساعة ونصف وثلاث دقائق تقريباً بعد الغروب.

قوله: «ويُسَنُّ تعجيلُها» ، أي: يُسَنُّ تعجيل صلاة المَغْرب؛ لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يصلِّيها إذا وجبت

(2)

، أي: إذا وجبت الشَّمس وغربت؛ فيُبادر بها، لكن المبادرة ليس معناها أنه حين ما يؤذِّن يقيم، لأنَّه صلى الله عليه وسلم قال:«صَلُّوا قبل المغرب، قالها ثلاثاً، ثم قال في الثالثة: لمن شاء»

(3)

، وكان الصَّحابة رضي الله عنهم إذا أذَّن

(1)

رواه البخاري، كتاب المواقيت: باب وقت العصر، رقم (547)، ومسلم، كتاب المساجد: باب استحباب التبكير في الصبح، رقم (647).

(2)

رواه البخاري، كتاب المواقيت: باب وقت المغرب، رقم (560)، ومسلم، كتاب المساجد: باب استحباب التبكير بالصبح في أول وقتها، رقم (646). من حديث جابر بن عبد الله.

(3)

رواه البخاري، وقد تقدم تخريجه ص (77).

ص: 110

المغربُ يقومون فيُصلّون، وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يراهم ولا ينهاهم

(1)

، وهذا يدلُّ على أن معنى التَّعجيل أن يبادر الإنسان من حين الأذان، ولكن يتأخَّر بمقدار الوُضُوء والركعتين وما أشبه ذلك.

قوله: «إلا ليلة جَمْعٍ» ، جَمْع اسم «مُزْدَلِفة» ، وسُميت جَمْعاً؛ لاجتماع الناس فيها ليلة العيد، من قريش وغيرهم، و «عَرَفة» لا يجتمع فيها الناس؛ لأن قريشاً في الجاهلية كانوا لا يقفون في «عرفة» ، ويقفون في «مزدلفة» .

قوله: «لَمن قَصَدها مُحْرماً» ، أي: قصد «جَمْعاً» محرماً، فالضَّمير هنا يعود على «جَمْع» ، وليس على الصَّلاة، ولو قال المؤلِّف رحمه الله: إلا ليلة مُزْدَلفة للحاجِّ لكان أوضح وأخصر، وهو مؤدَّى العبارة، لكن كثيراً من الفقهاء، ولا سيّما أصحاب المذاهب المقلِّدة، يتناقلون العبارة من أوَّل مَنْ عَبَّر بها إلى آخر من تكلَّم بها، ولا سيَّما وأن هذا الكتاب مختصر من «المقنع» للموفق، فتجده تَبِع في العبارة من سبقه.

وعلى كُلٍّ؛ فالمؤلِّف رحمه الله استثنى في صلاة المغرب مسألة واحدة وهي: الحاجُّ إذا دفع من «عَرَفة» فإنه لا يُصلِّي في «عَرَفة» ولا في الطريق، بل يُصلِّي في «مُزْدَلفة» .

ودليل ذلك: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لما نزل وبَالَ في «الشِّعْبِ» قال له أسامة بن زيد ـ وكان رديفاً له ـ: الصَّلاةَ يا رسول الله، فقال:«الصَّلاةُ أمامك»

(2)

فلم يصلِّ. إذاً؛ يؤخِّرها إلى مُزْدَلِفة. واستثنى

(1)

متفق عليه، وقد تقدم تخريجه ص (77).

(2)

رواه البخاري، كتاب الوضوء: باب إسباغ الوضوء، رقم (139)، ومسلم، كتاب الحج: باب الإفاضة من عرفات، رقم (1280) من حديث أسامة بن زيد.

ص: 111

فقهاؤنا رحمهم الله في الكتب المطوَّلة: إن لم يُوافها وقت الغروب

(1)

، أي: إن لم يَصلْ إليها وقت الغروب، فإن وافاها في ذلك الوقت صلاَّها في وقتها وبادر بها.

فإن قال قائل: لو تأخَّرتُ في الطريق، وخفتُ أن يخرج وقتُ العشاء، فماذا أصنع؟

فالجواب: إذا خاف خروج الوقت وجب عليه أن ينزل فيصلِّي، فإن لم يمكنه النُّزول صَلَّى، ولو على ظهر راحلته.

مُحْرِماً وَيَلِيه وَقْتُ العِشَاءِ إِلى الفَجْرِ الثَّانِي وَهُوَ: البَيَاضُ المُعْتَرِضُ ...........

قوله: «وَيَلِيه وَقْتُ العِشَاءِ إلى الفَجْرِ الثَّانِي وَهُوَ: البَيَاضُ المُعْتَرِضُ» .

أي: يلي وقتَ المَغْرب وقتُ العشاء، وعلى كلام المؤلِّف يمتدُّ إلى طلوع الفجر الثاني، وهو البياض المعترض، وعلى هذا تكون صلاة العشاء أطول الصَّلوات وقتاً؛ لأنها من خروج وقت المَغْرب إلى طلوع الفجر الثَّاني.

والفجر الثاني بيَّنه المؤلِّف بقوله: «وهو البياض المعترض» في الأُفق، يعني: من الشَّمال إلى الجنوب.

وأفادنا المؤلِّف رحمه الله بقوله: «إلى طُلوع الفجر الثاني» أنَّ هناك فجراً أوّل وهو كذلك. والفجر الأوَّل يخرج قبل الثَّاني بنحو ساعة، أو ساعة إلا ربعاً، أو قريباً من ذلك.

وذكر العلماء أن بينه وبين الثاني ثلاثة فُروق

(2)

:

(1)

انظر: «الإنصاف» (3/ 156)، «الإقناع» (1/ 127).

(2)

انظر: «الفروع» (1/ 302، 303).

ص: 112

الفرق الأول: أن الفجر الأوَّل ممتدٌّ لا معترض، أي: ممتدٌّ طولاً من الشَّرق إلى المغرب، والثاني معترض من الشّمال إلى الجنوب.

الفرق الثاني: أن الفجر الأوَّل يُظلم، أي: يكون هذا النُّور لمدَّة قصيرة ثم يُظلم، والفجر الثاني: لا يُظلم بل يزداد نوراً وإضاءة.

الفرق الثالث: أن الفجر الثَّاني متَّصل بالأُفق، ليس بينه وبين الأُفق ظُلمة، والفجر الأوَّل منقطع عن الأُفق، بينه وبين الأُفق ظُلمة.

والفجر الأوَّل لا يترتَّب عليه شيء من الأمور الشرعيَّة أبداً، لا إمساك في صوم، ولا حِلُّ صلاة فجر، فالأحكام مرتَّبة على الفجر الثَّاني.

والدَّليل على دخول وقتها: حديث عبد الله بن عمرو بن العاص

(1)

وحديث جبريل

(2)

، فإنهما يدلاَّن على أنَّ وقت العشاء يدخل بمغيب الشَّفق.

والدَّليل على أنّ آخر وقتها إلى طلوع الفجر قوله صلى الله عليه وسلم: «ليس في النَّوم تفريط، إنَّما التفريط على من أخَّرَ الصَّلاة حتى يدخل وقتُ الصَّلاة الأُخرى»

(3)

. قالوا: فهذا دليل على أن أوقات

(1)

رواه مسلم، وقد تقدم تخريجه ص (96).

(2)

تقدم تخريجه ص (101، 108).

(3)

رواه مسلم، كتاب المساجد: باب قضاء الصلاة الفائتة، رقم (681) من حديث أبي قتادة رضي الله عنه.

ص: 113

الصَّلاة مُتَّصِلة، وإذا كان كذلك فآخِرُ وقتِ العشاء الآخرة وقتُ طلوع الفجر

(1)

.

ولكن هذا ليس فيه دليل؛ لأن قوله: «إنما التفريط على من أخَّرَ الصَّلاة حتى يدخل وقتُ الصَّلاة الأُخرى» ، يعني: فيما وقتاهما متَّصل، ولهذا لا يدخل فيه صلاة الفجر مع صلاة الظُّهر بالإجماع

(2)

، فإن صلاة الفجر لا يمتدُّ وقتُها إلى صلاة الظُّهر بالإجماع. وإذا لم يكن في هذا الحديث دليل؛ فالواجب الرُّجوع إلى الأدلَّة الأخرى، والأدلَّة الأخرى ليس فيها دليل يدلُّ على أن وقت العشاء يمتدُّ إلى طلوع الفجر، بل حديث عبد الله بن عمرو بن العاص

(3)

، وحديث جبريل

(4)

، يدلاَّن على أن وقت العشاء ينتهي عند منتصف الليل.

وهذا الذي دلّت عليه السُّنَّة، هو الذي دلَّ عليه ظاهر القرآن؛ لأن الله عز وجل قال في القرآن:{أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء: 78]، أي: من دُلُوك الشَّمس، لكن أتى باللام للدَّلالة على أن دخول الوقت عِلَّة في الوجوب، أي: سبب، ولهذا قال الفقهاء: الوقت سبب لوجوب الصَّلاة، وشرط لصحَّتها

(5)

. والدليل على أن اللام بمعنى «من» : الغاية «إلى» ، والغاية يكون لها ابتداء كأنَّه قال:«مِنْ دُلُوكِ الشَّمْسِ إلى غَسَقِ اللَّيْل» ، لكن أتى باللام إشارة إلى أنَّ

(1)

انظر: «كشاف القناع» (1/ 254).

(2)

انظر: «التمهيد» لابن عبد البَرِّ (8/ 74).

(3)

تقدم تخريجه ص (96).

(4)

تقدم تخريجه ص (101، 108).

(5)

انظر: «الإنصاف» ص (3/ 123، 124).

ص: 114

دخول الوقت عِلَّة الوجوب، ويكون غَسَقُ الليل عند منتصفه؛ لأن أشدَّ ما يكون الليلُ ظُلمة في النصف، حينما تكون الشَّمس منتصفة في الأُفق من الجانب الآخر من الأرض. إذاً: من نصف النَّهار الذي هو زوالها إلى نصف الليل جعله الله وقتاً واحداً؛ لأن أوقات الفرائض فيه متواصلة، الظُّهر، يليه العصر، يليه المَغْرب، يليه العِشَاء، إذاً ما بعد الغاية خارج، ولهذا فَصَلَ فقال:{وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} فَفَصَل وجعل الفجر مستقلاً، فدلَّ هذا على أن الصَّلوات الخمس أربعٌ منها متتالية، وواحدة منفصلة.

فالصَّواب إذاً: أنَّ وقت العِشَاء إلى نصف الليل.

ولكن ما المراد بنصف الليل؟ هل الليل من غروب الشَّمس إلى طُلوعها؟ أو من غروب الشَّمس إلى طُلوع الفجر؟

أما في اللغة العربية: فكلاهما يُسمَّى ليلاً، قال في «القاموس»:«الليل: من مغرب الشَّمس إلى طُلوع الفجر الصَّادق أو الشمس»

(1)

.

أما في الشَّرع: فالظَّاهر أن الليل ينتهي بطلوع الفجر، وعلى هذا نقول: الليل الذي يُنَصَّفُ من أجل معرفة صلاة العشاء: من مغيب الشَّمس إلى طُلوع الفجر، فنِصْفُ ما بينهما هو آخر الوقت، وما بعد منتصف الليل ليس وقتاً للصَّلاة المفروضة، إنما هو وقت نافلة وتهجُّد.

‌وتَأْخِيْرُهَا إِلى ثُلُثِ اللَّيْلِ أَفْضَلُ إِنْ سَهُلَ.

قوله: «وتأخيرها إلى ثُلُثِ الليل أفضل إن سَهُلَ» ، فإن شَقَّ

(1)

انظر: «القاموس المحيط» ص (1364) مادة «الليل» .

ص: 115

فَتُعَجَّل في أوَّل الوقت، ثم إذا سَهُلَ فالأفضل تأخيرها إلى ثُلُث الليل.

دليل ذلك: حديث أبي بَرْزَة رضي الله عنه قال: «كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يستحبُ أن يؤخِّرَ العشاء»

(1)

، وفي حديث جابر رضي الله عنه:«إذا رآهم اجتمعوا عَجَّلَ، وإذا رآهم أبطؤوا أخَّرَ»

(2)

، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه تأخَّر ذات ليلة حتى ذهب عامةُ الليل، فقامَ إليه عمرُ فقال: يا رسول الله، نامَ النساءُ والصبيانُ، [فخرج ورأسُه يقطرُ ماءً] وقال:«إنه لوقتها لولا أن أشقَّ على أمتي»

(3)

. فهذه أدلَّة واضحة على أن تأخيرها إلى ثُلث الليل أفضل، ولكن إن سَهُلَ، وإن صَلَّى بالنَّاس فالأفضل مراعاة النَّاس، إذا اجتمعوا صَلَّى، وإن تأخَّروا أخَّر. كما في حديث جابر.

وإذا كانوا جماعة محصورين لا يهمهم أن يعجِّل، أو يؤخِّر فالأفضل التأخير. والنساء في بيوتهن الأفضل لهنَّ التَّأخير إن سَهُل.

فإن قال قائل: هل الأَولى مراعاة تأخير الصَّلاة إلى آخر الوقت، أو الصلاة مع الجماعة؟ فالجواب: الصَّلاة مع الجماعة؛

(1)

متفق عليه، وهذا لفظ البخاري، وقد تقدم تخريجه ص (110).

(2)

رواه البخاري، كتاب مواقيت الصلاة: باب وقت العشاء رقم (565)، ومسلم، كتاب المساجد: باب استحباب التبكير بالصبح، رقم (646).

(3)

رواه البخاري، كتاب مواقيت الصلاة: باب فضل العشاء، رقم (566)، ومسلم، كتاب المساجد: باب وقت العشاء وتأخيرها، رقم (638) من حديث عائشة، إلا قوله:«فخرج ورأسه يقطر ماءً» ، فهذه الزيادة في حديث ابن عباس فقط، رواه البخاري في الموضع السابق، رقم (571)، ومسلم، الموضع السابق، رقم (642).

ص: 116

لأن صلاة الجماعة واجبة، والتأخير مستحبٌّ، ولا مقارنة بين مستحبٍّ وواجب. وظاهر كلامه أن تأخيرها إلى ما بعد نصف الليل جائز؛ لأنه لم يُفصح أنه وقت ضرورة، وقد صرَّح غيره بأنه وقت ضرورة

(1)

لا يجوز تأخير الصَّلاة إليه إلا لضرورة، وقد سبق أن الصحيح أن وقتها ينتهي بنصف الليل

(2)

.

‌وَيَليهِ وَقْتُ الفَجْرِ إِلى طُلُوعِ الشَّمسِ.

قوله: «ويليه وقتُ الفَجْرِ إلى طُلُوعِ الشَّمسِ» ، لم يُبيِّن المؤلِّفُ ابتداء وقت الفجر؛ لأنه يرى أن وقت العشاء يمتدُّ إلى طلوع الفجر، ولهذا قال:«ويليه وقتُ الفَجْرِ» فيكون من طلوع الفجر الثَّاني إلى طلوع الشَّمس.

ومقداره بالسَّاعة يختلف، قد يكون ساعة ونصفاً، وقد يكون ساعة وربعاً كالمغرب. يقول شيخ الإسلام رحمه الله:«من ظَنَّ أن حِصَّة الفجر كحِصَّة المغرب فقد أخطأ وغلط»

(3)

، أي: أن بعض النَّاس يجعل ساعة ونصفاً بين طُلوع الفجر وطُلوع الشَّمس، وساعة ونصفاً بين مغيب الشمس ومغيب الشفق شتاءً وصيفاً، يقول شيخ الإسلام: هذا خطأ، وليس بصحيح؛ لأن مقدار ما بين طُلوع الفجر وطُلوع الشَّمس في أيام الشتاء يطول لتصاعد الأبخرة إلى فوق؛ فينعكس عليه ضوءُ الشَّمس مبكِّراً؛ فتطول حِصَّةُ الفجر، وعكس ذلك في الصيف، وإذا طالت حِصَّة الفجر قَصُرَت حِصَّةُ المغرب، والعكس بالعكس. وعلى كُلٍّ؛ هذه ظواهر أُفقيَّة

(1)

انظر: «الإنصاف» (3/ 160)، «الإقناع» (1/ 128).

(2)

انظر: ص (115).

(3)

انظر: «مجموع الفتاوى» (22/ 93، 94)، «الاختيارات» ص (33).

ص: 117

يمكن أن يُطَّلَع على أكثر مما قال شيخ الإسلام رحمه الله.

أما بالنسبة للمُشَاهد، فإذا كنت في بَرٍّ وليس حولك أنوار تمنع الرؤية ولا قَتَرٌ، فإذا رأيت البياض ممتدًّا من الشِّمال إلى الجنوب فقد طلع الفجرُ ودخل وقتُ الصَّلاة، أما قبل أن يتبيَّن فلا تصلِّ الفجر.

وقوله: «إلى طُلوع الشَّمس» ودليل ذلك: حديث عبد الله بن عمرو بن العاص الذي أخرجه مسلم

(1)

وغيره. وبعد طُلوع الشَّمس إلى زوال الشَّمس ليس وقتاً لصلاة مفروضة، كما أن من نصف الليل إلى طُلوع الفجر ليس وقتاً لصلاة مفروضة على القول الرَّاجح

(2)

.

‌وَتَعْجِيْلُها أَفْضَلُ ...........

قوله: «وَتَعْجِيْلُها أَفْضَلُ» ، أي: تعجيل صلاة الفجر في أوَّل وقتها أفضل. دليل ذلك ما يلي:

أولاً: من القرآن: قوله تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148]، {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران: 133]، {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [الحديد: 21]، وهذا يحصُل بالمبادرة بفعل الطَّاعة.

ثانياً: من السُّنَّة: أن الرَّسولَ عليه الصلاة والسلام كان يصلِّيها بغَلَسٍ

(3)

، وينصرف منها حين يعرفُ الرَّجُلُ جليسَه، وكان يقرأ بالسِّتين إلى المائة

(4)

، وقراءة النبيِّ صلى الله عليه وسلم مرتَّلة، يقف عند كلِّ

(1)

تقدم تخريجه ص (96).

(2)

انظر: ص (115).

(3)

متفق عليه، وقد تقدم تخريجه ص (110). والغَلَسُ: بفتحتين، ظلامُ آخرِ الليل.

انظر: «المصباح المنير» (2/ 450).

(4)

متفق عليه، وقد تقدم تخريجه ص (110).

ص: 118

آية مع الرُّكوع والسُّجود وبقيَّة أفعال الصَّلاة، فدلَّ ذلك على أنَّه كان يُبادر بها جداً.

ثالثاً: من حيثُ المعنى: أنَّ المبادرة أفضل، وذلك لأنَّ الإنسان لا يدري ماذا يعرض له، قد يدخل الوقت وهو صحيح معافى، واجدٌ لجميع شروط الصَّلاة، ثم يطرأ عليه ما يمنعه من فعل الصَّلاة، أو من كمالها بمرض أو موت أو حَبْسٍ أو غير ذلك، فكان مقتضى النَّظَرِ أن يتقدَّم بفعلها.

وأما من رأى أن تأخير الفجر أفضل واستدلَّ بحديث: «أسفروا بالفجر فإنه أعظم لأجوركم»

(1)

، فهذا الحديث ـ إن صَحَّ ـ فالمراد به: ألا تتعجَّلوا بها حتى يتبيَّن لكم «السَّفْرُ» ، أي: الإسفار وتتحقَّقُوا منه، وبهذا نجمع بين هدي النبيِّ صلى الله عليه وسلم الرَّاتب الذي كان لا يَدَعُهُ وهو التَّغليس بها، وبين هذا الحديث.

فإن قيل: ما الحكمة في جعلها في هذه الأوقات؟

(1)

سخة دار الكتب المصرية، «نصب الراية» (1/ 238)، «مجموع الفتاوى» (22/ 97)

ص: 119

فالجواب:

أمَّا الفجر: فإن ظُهور الفجر بعد الظَّلام الدَّامس من آيات الله عز وجل التي يستحقُّ عليها التَّعظيم والشُّكر، فإن هذا النُّور السَّاطع بعد الظَّلام الدَّامس لا أحد يستطيع أن يأتيَ به إلا الله؛ لقوله تعالى:{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيَكُمْ بِضِيَاءٍ} [القصص: 71].

وأما الظُّهر: فلأنَّ انتقال الشَّمس من الناحية الشرقية إلى الغربية أيضاً من آيات الله عز وجل، فإنه لا يستطيع أحدٌ أن ينقلها من هذه الجهة إلى هذه الجهة إلا اللَّهُ عز وجل.

وأما العصر: فلا يظهر لنا فيها حكمة، ولكنَّه لا شَكَّ أن لها حكمةً بالغةً.

وأما المغرب: فالحكمة فيها كالحكمة في صلاة الفجر، وهو أن الليل من آيات الله عز وجل العظيمة التي يستحقُّ عليها الشُّكر والتَّعظيم.

وكذلك نقول في العِشَاء: لأنَّ مغيب الشَّفق وزوال آثار الشَّمس، هو أيضاً من الآيات العظيمة الدَّالة على كمال قدرة الله عز وجل وحكمته.

‌وَتُدْرَكُ الصَّلَاةُ بِتَكْبِيْرَةِ الإِحْرامِ في وَقْتِها ............

قوله: «وَتُدْرَكُ الصَّلَاةُ بِتَكْبِيْرَةِ الإِحْرامِ في وَقْتِها» ، قوله:«الصَّلاة» عامَّة لصلاة الفريضة وصلاة النَّافلة المؤقَّتة مثل صلاة الضُحى والوتر، فإنهما مؤقَّتان، وكذلك الرَّواتب فإنها مؤقَّتة، فالرَّواتب القَبليَّة وقتها من دخول وقت الصَّلاة إلى إقامة الصَّلاة، والرَّواتب البعديَّة من انتهاء الصَّلاة إلى خروج الوقت، فكلُّ صلاة مؤقَّتة تُدرك بتكبيرة الإحرام.

ص: 120

وتعليل ذلك: أن من أدرك تكبيرة الإحرام أدرك جُزءاً من الوقت، وإدراك الجُزء كإدراك الكُلِّ، فالصَّلاة لا تتبعَّضُ، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد، سواء كان هذا الإدراك من أوَّل الوقت أم من آخر الوقت.

فمثال ما كان من أوَّل الوقت: لو أنَّ امرأة أدركت مقدار تكبيرة الإحرام من صلاة المغرب، ثم أتاها الحيضُ فنقول: أدركت الصَّلاة، فيجب عليها إذا طَهُرت أن تُصلِّيَ المغربَ، لأنها أدركت مقدار تكبيرة الإحرام من الوقت.

ومثال ما كان من آخره: لو كانت امرأة حائضاً، ثم طَهُرت قبل غروب الشَّمس بقَدْرِ تكبيرة الإحرام، فإنَّ صلاة العصر تلزمها؛ لأنها أدركت من الوقت مقدار تكبيرة الإحرام، هذا من جهة الحكم.

ومن جهة الثَّواب، يُثاب من أدرك تكبيرة الإحرام في الوقت ثواب من أدرك جميع الصَّلاة، وتكون الصَّلاةُ في حقِّه أداء، لكنه لا يجوز أن يؤخِّر الصَّلاة، أو بعضَها عن وقتها، ويأثم بذلك، لكن مع ذلك نقول إنك قد أدركتها أداء. هذا تقرير المذهب.

والقول الثاني: أنها لا تُدرك الصَّلاة إلا بإدراك ركعة

(1)

؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أدرك ركعةً من الصَّلاة فقد أدركَ الصَّلاةَ»

(2)

، وهذا القول هو الصَّحيح، وهو اختيار شيخ الإسلام

(1)

انظر: «المغني» (2/ 47)، «الإنصاف» (3/ 170).

(2)

رواه البخاري، كتاب المواقيت: باب من أدرك من الصلاة ركعة، رقم (580)، ومسلم، كتاب المساجد: باب من أدرك ركعة من الصلاة، رقم (607) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 121

ابن تيمية

(1)

؛ لأن الحديث ظاهر فيه، فهو جملة شرطيَّة «مَنْ أدرك ركعةً فقد أدرك

»، مفهومه: من أدرك دون ركعة فإنه لم يُدركْ، فعلى هذا؛ لو حاضت المرأة بعد دخول الوقت بأقلَّ من مقدار ركعة لم يلزمها القضاء؛ لأنها لم تدرك ركعة، وإن حاضت بعد دخوله بركعة لزمها القضاء.

وقيل: لا يلزمها القضاء إلا أن تحيض قبل خروج الصَّلاة بمقدار الصَّلاة والتطهُّر لها

(2)

، لأنها قبل ذلك لا يلزمها فعل الصَّلاة؛ لكون الوقت مُوسَّعاً، ولو طَهُرت قبل خروج الوقت بأقلَّ من رَكعة فإنّه لا يلزمها قضاء الصَّلاة؛ لأنها لم تدرك ركعة.

ويَنْبَني على هذا أيضاً إدراكات أخرى مثل إدراك الجماعة: هل تُدرك الجماعة بركعة، أو تُدرك بتكبيرة الإحرام

(3)

؟

والصَّحيح: أنها لا تُدرك إلا بركعة، كما أن الجُمعة لا تُدرك إلا بركعة بالاتفاق، فكذلك الجماعة لا تدرك إلا بركعة.

وقوله: «بتكبيرة الإحرام في وقتها» يشمل وقت الضَّرورة ووقت الاختيار، وليس عندنا صلاةٌ لها وقتان إلا صلاةٌ واحدة وهي العصر على القول الرَّاجح. فلو أدرك تكبيرة الإحرام قبل غروب الشَّمس فقد أدرك صلاة العصر، لكن سبقَ أنَّ الإدراك معلَّق بركعة.

‌ولَا يُصَلِّي قَبْلَ غَلَبَةِ ظَنِّهِ بِدُخُولِ وَقْتِهَا .............

قوله: «ولَا يُصَلِّي قَبْلَ غَلَبَةِ ظَنِّهِ بِدُخُولِ وَقْتِهَا» ، أي: لا

(1)

انظر: «مجموع الفتاوى» (23/ 330، 331)، «الاختيارات» ص (34).

(2)

انظر: «الفروع» (1/ 306)، «الإنصاف» (3/ 177، 178).

(3)

انظر: «مجموع الفتاوى» (23/ 330 ـ 335)، «الإنصاف» (3/ 177).

ص: 122

يصلِّي الإنسان، وإن شئت فقل: ولا يصلِّي مصلٍّ؛ لأنه إذا لم يكن عَوْدُ الضَّمير على شيء معلوم؛ فليكنْ عَوْدُ الضَّمير على وصف مشتقٍّ من المصدر الذي اشتُق منه الفعل.

وقوله: «قبل غلبة ظَنِّه بدخول وقتها» ، أفادنا المؤلِّف بقوله: قبل غلبة ظَنِّه» أنه يجوز أن يُصلِّي إذا غلب على ظنِّه دخول الوقت، فإذا كان الجوُّ صحواً وشاهدنا الشَّمس قد غربت نصلِّي المغرب، فهنا تيقَّنَّا دخول الوقت، وإذا كانت السماء مُغَيِّمَة ولم نشاهد الشَّمس، ولكن غلب على ظنِّنَا أنها قد غابت، نُصلِّي، وهذه صلاة بغلبة الظنِّ.

أما الأوّل فدليله ظاهر.

وأما الثَّاني ـ وهو الصَّلاة بناءً على غلبة الظنِّ ـ فلأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أفطر هو وأصحابه بغلبة الظَّنِّ. كما في حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: «أفطرنا على عهد النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في يوم غيم؛ ثم طلعت الشَّمسُ» أخرجه البخاري

(1)

، وهنا أفطروا بغلبة الظنِّ قطعاً لا باليقين، فإذا جاز العمل بغلبة الظَّنِّ في خروج الوقت، وهو هنا وقت الصَّوم جاز العمل بغلبة الظنِّ في دخول الوقت، بل إن لازم ذلك أنهم لو صَلُّوْا المغرب حين أفطروا صحَّت الصلاة إذا لم يتبيَّن الأمر خلاف ذلك.

مسألة:

هل يُصلِّي مع الشَّكِّ في دخول الوقت؟

(1)

رواه البخاري، كتاب الصوم: باب إذا أفطر في رمضان ثم طلعت الشمس، رقم (1959) عن أسماء رضي الله عنها.

ص: 123

الجواب: لا يصلِّي مع الشَّكِّ، وذلك لأنَّ الأصل العدم، فلا يُعدل عن الأصل إلا بمسوِّغ شرعي.

وهل يُصلِّي مع غلبة الظنِّ بعدم دخول الوقت؟

الجواب: لا يُصلِّي من باب أَولى.

وهل يُصلِّي مع اليقين بعدم دخول الوقت؟ الجواب: لا يجوز.

إذاً؛ لا يُصلي في ثلاث صُور، ويصلِّي في صورتين، فالصُّور خمس: تيقُّنُ دخول الوقت، وغلبة الظنِّ بدخوله، فله الصَّلاة في هاتين الصُّورتين، لكن لو تيقَّن في الصّورة الثانية أنه صلَّى قبل الوقت لزمته الإعادة، وتكون الأُولى نَفْلاً.

الصورة الثالثة والرابعة والخامسة: الشكُّ في دخوله، وغلبة الظنِّ بعدم دخوله، واليقين بعدم دخوله فلا يُصلِّي.

واستفدنا من كلام المؤلِّف: أنَّ غلبةَ الظنِّ لها مدخل في العبادات، وإن كان بعض العبادات لا يمكن أن تُفعل إلا باليقين، لكن كثيراً من العبادات مبنيَّة على غلبة الظنِّ، بل هذه قاعدة في العبادات وهي:«البناء على غلبة الظَنِّ» ، ولهذا لو شَكَّ الإنسان كم صَلَّى، فالصَّحيح أنه يعمل بما ترجَّحَ عنده، والمذهب: لا يعمل إلا باليقين

(1)

، وإذا شَكَّ في عدد أشواط الطَّواف، أو أشواط السَّعي، فإنه يبني على غالب ظنِّه إذا كان عنده ترجيح، أمَّا إذا لم يكن عنده ترجيح فيبني على اليقين.

(1)

انظر: «الإنصاف» (4/ 65، 66)، «الإقناع» (1/ 214).

ص: 124

‌أإِمّا باجْتِهَادٍ، َوْ خَبَرِ ثِقَةٍ مُتَيَقِّنٍ .............

قوله: «إمَّا باجتهادٍ أو خبرِ ثقةٍ مُتَيقِّنٍ» ، هنا ذكر المؤلِّف الطُّرق التي يحصُل بها غلبة الظنِّ:

الطريق الأول: الاجتهاد، لكن بشرط أن يكون المجتهد عنده أداة الاجتهاد، بأن يكون عالماً بأدلَّةِ الوقت، فإن لم يكن عالماً فإنه لا يعمل باجتهاده؛ إذ إنه ليس من أهل الاجتهاد، فلو أن شخصاً صَلَّى الظُّهر، وقال: أُصلِّي العصر إذا انتصف ما بين الظُّهر والمغرب، فلما انتصف ما بين الظُّهر والمغرب صَلَّى العصر، فهذا بَنَى على اجتهاد غير صحيح، فتلزمه الإعادة إذا تبيَّن أنه صلَّى قبل الوقت، وكذلك في صلاة العشاء، لو أنَّه اجتهد ولما رأى أنَّ النُّور السَّاطعَ القويَّ قد اختفى صَلَّى العشاء مع وجود الحُمْرة، فهذا لا تصحُّ صلاتُه؛ لأنه صَلَّى قبل الوقت، ولأنه ليس أهلاً للاجتهاد، حيث إنه لا يعرف متى يخرج وقت المغرب ويدخل وقت العشاء.

الطَّريق الثَّاني: خبرُ ثقةٍ مُتيقِّنٍ، وهذا الطريق من عند غيره، أي: رَجُلٌ أخبرك بأن الوقت دخل، ولكنه أخبرك عن يقين بأن قال: رأيت الشمس غربت، أو قال: رأيت الفجر قد طلع، فإن أخبرك عن اجتهادٍ أو عن غلبة ظنٍّ فإنك لا تعمل بقوله، لأن المؤلِّف يقول:«خبر ثقةٍ متيقِّنٍ» لا مجتهد، ولا مَنْ بَنَى على غلبة ظنٍّ، بل لا بُدَّ أن يكون متيقِّناً.

فإن قال قائل: أليس يجوز للإنسان أن يبني على اجتهاد نفسه وغلبة ظنِّ نفسه؟

قلنا: بلى، لكن هنا بَنَى على خبر غيره، والفرع أضعف من

ص: 125

الأصل؛ لأنّه إذا اجتهد لنفسه فهو أصل، وإذا بَنَى على خبر غيره فهو فرع. فلو قال: أظنّها غربت. هل يُعملُ بقوله؟

فالجواب: لا يُعمل به على ما اقتضاه كلام المؤلِّف.

وقوله: «ثقة» ، الثِّقة هو: مَنْ يُوثق بقوله؛ لكونه مُكَلَّفاً صدوقاً.

أي: بالغاً عاقلاً لم يُعرف بالكذب، أو بالعجلة والتَّسرع.

وهذا القول الذي ذهب إليه المؤلِّف بأنَّه لا بُدَّ أن يكون خَبَرُ الثقة عن يقين فيه نظر.

والصَّواب: أنه إذا أَخبرك مَنْ تثقُ به جاز أن تُصلِّي على خبره، سواء كان إخباره عن يقين أم غلبة ظنٍّ، لأنك إذا لم تكن تعرف الوقت، ثم قلنا: لا تعمل بخبر غيرك وهو مجتهد، كان فيه مشقَّة. ولا زال المسلمون يعملون بأذان المؤذِّنين، وكثير من المؤذِّنين يكون أذانهم أحياناً على غلبة الظَّنِّ، لأن الغيوم كثيرة، وليس عندهم ساعات يحرِّرون بها الوقت.

إذاً؛ فنقول: الإنسان يعرف دخول الوقت إما باجتهاد منه؛ لكونه من أهل الاجتهاد؛ لمعرفته بالأوقات ابتداء وانتهاءً، وإما بخبر مَنْ يَثِقُ بقوله؛ سواء أخبر عن ظنٍّ أم يقين.

وقوله: «أو خبر ثقة» يشمل المرأة، فلو أخبرتك امرأة ثقة بدخول الوقت عملت بقولها؛ لأن هذا خبر دينيٌّ، وليس بشهادة.

‌فَإِنْ أَحْرَمَ بِاجْتِهادٍ فَبَانَ قَبْلَه فَنَفْلٌ وإِلاَّ فَفَرضٌ.

قوله: «فإن أحرمَ باجتهاد فَبَانَ قَبْلَه فَنَفْلٌ وإلا فَفَرْضٌ» ، أي: اجتهد في تحرِّي الوقت، فَبَان أنه أحرم ـ أي: كبَّر للإحرام ـ قبل دخول الوقت، فصلاته تكون نَفْلاً لا يُحرَمُ ثوابه.

ص: 126

وقوله: «وإلا ففرض» ، أي: وإلا يتبيَّن أنه أحرم قَبْلَه فصلاتُه فرض، وهذا يَشْمَل صورتين:

الأولى: أن يتبيَّن أنه أحرم بعد دخول الوقت.

والثانية: أن لا يتبيَّن له شيء فتصحُّ فرضاً؛ لأنَّه أتى بالعبادة على وجهٍ أُمِرَ به، ولم يتبيَّن فساده فتكون صحيحة.

فههنا خمسُ صُور في صلاة المجتهد في الوقت:

الصُّورة الأولى: أن يتبيَّن أنها في الوقت، فالأمر واضحٌ؛ تكون فرضاً.

الصُّورة الثَّانية: أن يتبيَّن أنها قبل الوقت، فتكون نَفْلاً.

الصُّورة الثَّالثة: أن يغلبَ على ظنِّه أنها في الوقت فتكون فرضاً.

الصُّورة الرَّابعة: أن يغلبَ على ظنِّه أنها قبل الوقت، فلا يحِلُّ له الدُّخول فيها بنيَّة الفريضة؛ لأنَّه تلاعبٌ.

الصُّورة الخامسة: أن يشكَّ في دخول الوقت، وحكمها كالرَّابعة.

فإن قيل في الصُّورة الثانية التي تكون نَفْلاً: لماذا صارت نَفْلاً وهو لم ينوِها؛ وقد قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمالُ بالنيَّات»

(1)

؟

فالجواب: أن يُقال: صلاة الفريضة تتضمَّن نيَّتين: نيَّةَ صلاة، ونيَّةَ كونها فريضة، فنيَّةُ كونها فريضة بَطَلَت لتبيُّن أنها قبل

(1)

متفق عليه، وقد تقدم تخريجه (1/ 194).

ص: 127

الوقت، فيبقى نيَّةُ كونها صلاة، ولهذا ينبغي أن يُذكر هنا قاعدة، ذكرها الفقهاء في قولهم:«وينقلب نَفْلاً ما بان عَدَمُهُ، كفائتةٍ لم تَكُنْ، وفرضٍ لم يدخلْ وقتُهُ»

(1)

.

مثال ذلك: إنسان ظَنَّ أن عليه صلاةً فائتةً، فصلَّى، ثم تبيَّن أنَّه قد صلاَّها من قبل، فتكون هذه الصلاة نافلة.

ومثال الفرض الذي لم يدخل وقتُهُ: أن يصلِّي المغربَ ظنًّا منه أن الشَّمس قد غربت، ثم يتبيَّن أنها لم تغرب، فتكون هذه نافلة، ويُعيدُها فرضاً بعد الغروب.

‌وَإِنْ أَدْرَكَ مُكَلَّفٌ مِنْ وَقْتِها قَدْرَ التَّحرِيْمَةِ، ثُمَّ زَالَ تَكْلِيْفُه، أَوْ حَاضَتْ، ثُمَّ كُلِّفَ وَطَهُرَتْ؛ قَضَوْها ............

قوله: «وإن أدرك مكلَّفٌ» ، «المكلَّف»: هو البالغ العاقل، ووُصِفَ بذلك للزوم العبادات له، والعبادات نوع إلزام وتكليف، وإن كان ليس فيها مشقَّة، لكن الإنسان ملزمٌ بها.

قوله: «من وقتها قدْرَ التَّحريمة» ، أي: قَدْرَ تكبيرة الإحرام، وهذا مبنيٌّ على أن المعتبر في إدراك الصَّلاة هو إدراك تكبيرة الإحرام.

قوله: «ثم زالَ تكليفُه» ، أي: بأن جُنَّ بعد العقل، أو أُغميَ عليه.

قوله: «أَوْ حَاضَتْ، ثُمَّ كُلِّفَ وَطَهُرتْ؛ قَضَوْها» ، أي: المرأة بعد دخول وقتِ الصَّلاة بِقَدْرِ تحريمة، فزال تكليفُها، لكن لا لفوات شرط، ولكن لوجود مانع الوجوب وهو الحيض، وإلا

(1)

انظر: «الإنصاف» (1/ 371)، «منتهى الإرادات» (1/ 73)

ص: 128

فهي بالغة عاقلة، ولهذا فرَّق المؤلِّف فقال:«ثم كُلِّفَ، وطَهُرَت» ، أي طَهُرَت الحائض. وفي هذا لَفٌّ ونشرٌ مرتَّبٌ.

فقوله: «ثم كُلِّف» ، عائد على قوله:«ثم زال تكليفُه» .

وقوله: «طَهُرت» ، عائد على قوله:«أو حاضت» ، فاللفُّ والنَّشر هنا مرتَّبٌ، ومعنى اللَّفِّ والنَّشرِ المرتَّب: أنك إذا أتيت بالحكم عائداً على ما سبق، فإن كان على ترتيب ما سبق؛ فهو مرتّب، وإن كان على خلافه؛ فهو غير مرتَّب؛ ويُسمَّى «مشوَّشاً» .

مثال غير المرتَّب: قوله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران: 106]، ثم قال:{فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ} [آل عمران: 106]، فبدأ بحكم الثاني قبل الأول.

ومثال المرتَّب: قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} [هود: 105]، {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ} [هود: 106]، فبدأ بحكم الأوَّل .....

وقوله: «ثم كُلِّفَ وطَهُرَت؛ قَضَوها» . كيف قال: «قَضَوها» وقد قال قبل ذلك: «إن أدرك مكلَّف من وقتها» ، وقال:«ثم حاضت» ولم يقل: قضياها؟ لأنَّ المراد بالمكلَّف هنا الجنس، أو العموم؛ لوقوعه بعد الشَّرط، فلهذا صَحَّ أن يعود الضمير على اثنين مجموعاً. «قَضَوها» ، أي: قَضَوا تلك الصَّلاة.

مثال الحائض: امرأة حاضت بعد أن غربت الشَّمسُ، وبعد أن مضى مقدار تكبيرة الإحرام، فنقول لها: إذا طَهُرْتِ وجب عليك قضاء صلاة المغرب، وأما صلاة العشاء فلا يلزمها قضاؤها، لأنَّه أتى عليها الوقتُ وهي حائضٌ.

مثال المكلَّف الذي زال تكليفُه: إنسان بعد أن غربت

ص: 129

الشَّمسُ أُغميَ عليه بعد مُضِيِّ مقدار التَّحريمة، ثم أفاق بعد منتصف الليل؛ يلزمه قضاء صلاة المغرب؛ لأنه أدرك من وقتها قَدْر التَّحريمة، وأمَّا صلاة العشاء ففي لُزومها عليه خلاف

(1)

. فمن قال: إن المُغمَى عليه يقضي الصَّلوات التي فات وقتها وهو في الإغماء قال: تلزمه صلاة العشاء؛ لا لأنَّه أدرك من المغرب قَدْر التَّحريمة، ولكن لأنَّ الإغماء لا يُسقط فرضَ الصَّلاة، ومن قال ـ وهو الصَّحيح ـ: إن الإغماء يُسقط فرضَ الصَّلاة، قال: لا يلزمه في هذه الصُّورة إلا قضاء صلاة المغرب بناءً على أنَّها تُدرك بمقدار تكبيرة الإحرام

(2)

.

مثال آخر: رَجُلٌ غربت عليه الشَّمسُ ثم أُصيب ـ والعياذ بالله ـ بالجُنون، ثم أفاق بعد منتصف الليل فيلزمه قضاءُ صلاة المغرب؛ لأنَّه أدرك من وقتها قَدْر التَّحريمة.

وقال بعض أهل العلم: لا يلزمه قضاء الصَّلاة؛ إلا إذا أدرك من وقتها قَدْر ركعة

(3)

؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «من أدركَ ركعةً من الصَّلاة فقد أدرك الصَّلاة»

(4)

، وهذا لم يُدرك ركعة. هذان قولان.

وقال بعض أهل العلم ـ واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية ـ: لا يلزمه القضاء لا المكلَّف ولا الحائض؛ إلا إذا بقي من وقت ....

(1)

انظر: «المغني» (2/ 47)، «الإنصاف» (3/ 10، 179 ـ 182).

(2)

انظر: ص (16 ـ 18).

(3)

انظر: «المغني» (2/ 46، 47)، «الإنصاف» (3/ 179، 180).

(4)

متفق عليه، وقد تقدم تخريجه ص (121).

ص: 130

الصَّلاة بمقدار فعل الصَّلاة فحينئذ يلزم القضاء

(1)

.

الأدلة:

أما دليل الأوَّل الذي يجعل ذلك منوطاً بتكبيرة الإحرام: فبناءً على التّعليلِ السَّابق: أنَّه أدرك جُزءاً من الصَّلاةِ، والصَّلاةُ لا تتجزَّأ، فيكون كما لو كان أدركها كاملة.

وأما القائلون بإدراك رَكعة فحجَّتُهم الحديث: «من أدرك ركعةً من الصَّلاة فقد أدرك الصَّلاة»

(2)

.

وأما الذين قالوا: إنه لا يلزمه حتى يتضايق الوقت عنها فقالوا: إن الإنسان له أن يؤخِّرَ هذه الصَّلاة حتى يتضايق وقتها، فإذا طرأ المانع فقد طرأ عليه في وقت يجوز له تأخيرها إليه، وهو غير مفرِّط ولا معتدٍ؛ بل فاعل ما يجب عليه، ولأن هذا الأمر يقع كثيراً في حيض النِّسَاء، ولم يُنقل أن المرأة إذا حاضت في أثناء الوقت أُلزِمَت بقضاء الصَّلاة التي حاضت في أثناء وقتها، والأصل براءة الذِّمة، وهذا التَّعليل تعليلٌ قويٌّ جداً.

وبناءً عليه: إذا زال التكليف، أو وُجِدَ المانعُ في وقت واسع، فإنَّ هذه الصَّلاة لا يلزم قضاؤها، فإنْ قضاها احتياطاً فهو على خير، وإن لم يقضها فليس بآثم، والعِلَّة كما ذكرت.

وأجابوا عن الحديث: بأن قوله: «من أدرك ركعةً من الصَّلاة» (243) فالإدراك يكون في الغالب في الأخير لقوله صلى الله عليه وسلم:

(1)

انظر: «مجموع الفتاوى» (23/ 334، 335)، «الاختيارات» ص (34).

(2)

متفق عليه، وقد تقدم تخريجه ص (121).

ص: 131

«

ما أدركتم فصلُّوا»

(1)

، أي: ما أدركتم في آخر صلاة الإمام، فالإدراك غالباً يكون في الأخير. ونقول: إذا أدرك من وقتها قَدْرَ فعلها فإنَّه يكون قد أدركها، أما إذا زال التَّكليف، أو وُجِدَ المانعُ في وقتٍ يجوز له التَّخيُّر فيه فإنه ليس بآثم ولا معتدٍ، فلا يُلزم بالقضاء.

والقول الثَّاني أحوطُ .....

‌وَمَنْ صَارَ أَهْلاً لِوُجُوبِهَا قَبْلَ خُرُوج وَقْتِها لَزِمَتْه ............

قوله: «وَمَنْ صَارَ أَهْلاً لِوُجُوبِهَا» ، أهليَّة الوجوب تكون بالتَّكليف أو زوال المانع، فيصير أهلاً لوجوبها إذا بلغ قبل خروج الوقت، وإذا عَقِلَ قبل خروج الوقت، وإذا زال الإغماءُ قبل خروج الوقت على قول أن المُغمى عليه لا يقضي الصَّلاة

(2)

. وأما زوال المانع فمثاله: إذا طَهُرت قبل خروج الوقت.

فقوله: «من صار أهلاً لوجوبها» يشمل من صار أهلاً لوجوبها لكونه لم يُكلَّف ثم كلِّف، أو لكونه متَّصفاً بمانع ثم زال، فمتى صار أهلاً لوجوبها قبل خُروج الوقت بمقدار تكبيرة الإحرام لزمته على المذهب، وعلى القول الثاني لا تلزمه إلا إذا أدرك من وقتها قَدْرَ رَكعة

(3)

.

قوله: «قَبْلَ خُرُوج وَقْتِها لَزِمَتْه» ، أي: لزمته تلك الصَّلاة التي أدرك من وقتها قَدْرَ التَّحريمة على المذهب، أو قَدْر ركعة على القول الرَّاجح، وهذا واضح أنها تلزمه؛ لأنه خُوطبَ بها في

(1)

رواه البخاري، كتاب الأذان: باب لا يسعى إلى الصلاة (636)، ومسلم، كتاب المساجد: باب استحباب إتيان الصلاة بوقار وسكينة (602) عن أبي هريرة.

(2)

انظر: ص (16 ـ 18، 130).

(3)

انظر: ص (130، 131).

ص: 132

الوقت، ولقول الرسول عليه الصلاة والسلام:«من أدرك ركعةً من الصَّلاة فقد أدرك الصَّلاة»

(1)

.

‌وَمَا يُجْمَعُ إِلَيْهَا قَبْلَها .............

قوله: «وَمَا يُجْمَعُ إلَيْهَا قَبْلَها» ، أي: ولزمه ما يُجمع إليها قبلها، مثال ذلك: إذا أدرك من وقت صلاة العصر قَدْر ركعة أو قَدْرَ التَّحريمة لزمته صلاة العصر، ولزمته صلاة الظُّهر أيضاً، وإن أدرك ذلك من وقت صلاة العشاء لزمته صلاة العشاء وصلاة المغرب أيضاً، وإن أدرك ذلك من وقت صلاة الفجر لا يلزمه إلا الفجر؛ لأنها لا تُجمع إلى ما قبلها.

فإن قيل: ما وجه وجوب صلاة الظُّهر في المثال الأوَّل؛ وصلاة المغرب في المثال الثَّاني؟

فالجواب: الأثرُ، والنَّظرُ.

أما الأثر: فإنَّه رُوي ذلك عن ابن عباس وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم

(2)

.....

(1)

متفق عليه، وقد تقدم تخريجه ص (121).

(2)

رُويَ عن عبد الله بن عباس، وعبد الرحمن بن عوف.

ـ أما أثر عبد الله بن عباس فرواه أبو بكر بن أبي شيبة، كتاب الصلاة: باب الحائض تطهر آخر النهار، رقم (7206)، والدارمي، كتاب الطهارة: باب المرأة تطهر عند الصلاة أو تحيض، رقم (886) عن يزيد بن أبي زياد، عن مقسم، عن ابن عباس في الحائض إذا طهرت قبل غروب الشمس صلّت الظهر والعصر، وإذا طهرت قبل الفجر صلت المغرب والعشاء.

ورواه ابن المنذر في «الأوسط» (2/ 243)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (1/ 387) وفي «المعرفة والآثار» (2/ 217) عن يزيد بن أبي زياد، عن طاوُس، عن ابن عباس به، أي: إن يزيد يرويه تارة عن مقسم، وأخرى عن طاوُس!؟.

وضعَّف إسناده ابنُ التركماني في «الجوهر النقي» بسبب ضعف يزيد بن أبي زياد. ويزيد ضعيف كما في «التقريب» . زِدْ على ذلك أنه اضطراب فيه كما تقدم.

إلا أنه تابعه ليث بن أبي سليم، عن طاوس وعطاء، عن ابن عباس، فيما رواه البيهقي في «السنن الكبرى» (1/ 378)، وفي «المعرفة والآثار» (2/ 217). وليث بن أبي سليم إضافةً لكونه مختلط قد اختُلِفَ عليه أيضاً. فتارة رفعه إلى ابن عباس كما تقدم، وتارة أوقفه على طاوُس وعطاءَ؛ فيما رواه أبو بكر بن أبي شيبة، الموضع السابق، رقم (7208).

وقد ضعَّف هذا الإسناد ابنُ التركماني في «الجوهر النقي» .

ـ أمَّا أثر عبد الرحمن بن عوف، فرواه أبو بكر بن أبي شيبة، كتاب الصلاة: باب في الحائض تطهر آخر النهار، رقم (7204)، ومن طريقه ابن المنذر في «الأوسط» (2/ 243)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (1/ 387)، وفي «المعرفة والآثار» (2/ 217) عن مولى لعبد الرحمن بن عوف، عن عبد الرحمن نحو أثر ابن عباس.

قال ابن التركماني: «هذا المولى مجهول» .

رواه عبد الرزاق رقم (1285) عن ابن جريج قال: حُدِّثت عن عبد الرحمن ابن عوف فذكره. وفيه جهالة من حدَّثه أيضاً. فالإسناد ضعيف.

ص: 133

وأما النَّظر: فلأن وقت الصَّلاة الثانية وقت للأولى عند العُذر الذي يُبيح الجمع، فلما كان وقتاً لها عند العُذر صار إدراك جُزء منه كإدراك جزء من الوقتين جميعاً، وهذا هو المشهور من المذهب

(1)

.

وقال بعض أهل العلم: إنه لا يلزمه إلا الصَّلاة التي أدرك وقتها فقط، فأما ما قبلها فلا يلزمه

(2)

. وهو القول الرَّاجح. واحتجوا بالأثر والنَّظر.

أما الأثر: فقول الرَّسول عليه الصلاة والسلام:

(1)

انظر: «الإنصاف» (3/ 179)، «الإقناع» (1/ 129، 130).

(2)

انظر: «المغني» (2/ 47)، «مجموع الفتاوى» (23/ 334، 335).

ص: 134

«من أدرك ركعةً من الصَّلاة فقد أدرك الصَّلاة»

(1)

. و «أل» في قوله: «الصَّلاة» للعهد، أي: أدرك الصَّلاة التي أدرك من وقتها ركعة، وأما الصَّلاة التي قبلها فلم يدرك شيئاً من وقتها، وقد مَرَّ به وقتها كاملاً، وهو ليس أهلاً للوجوب فكيف نلزمه بقضائها؟!

وقوله صلى الله عليه وسلم: «من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر»

(2)

، ولم يذكر وجوب قضاء الظُّهر.

وأما النَّظر فقالوا: إن هذا مُقتضى القياس الصَّحيح؛ لأننا متَّفقون على أنه لو أدرك ركعةً من صلاة الظُّهر ثم وُجِدَ مانعُ التكليف، لم يلزمه إلا قضاء الظُّهر فقط، مع أن وقت الظُّهر وقتٌ للظُّهر والعصر عند العُذر والجمع، فما الفرق بين المسألتين؟! كلتاهما أتى عليه وقت إحدى الصَّلاتين وهو ليس أهلاً للتكليف، لكن في المسألة الأولى مَرَّ عليه وقت الصَّلاة الأُولى، وفي المسألة الثانية مَرَّ عليه وقت الصَّلاة الثانية، فأنتم إما أن تُلزموه بالقضاء في المسألتين، كما قال به بعض العلماء

(3)

، وإما ألا تُلزموه فيهما كما قاله أيضاً آخرون (253)، أمَّا أن تُفرِّقوا فلا وجه لذلك.

فإن قالوا: فَرَّقنا بناءً على الأثر الوارد عن الصَّحابة

(4)

، فالجواب: الأثر الوارد عن الصَّحابة يُحمل ـ إن صَحَّ ـ على سبيل ....

(1)

متفق عليه، وقد تقدم تخريجه ص (121).

(2)

متفق عليه، وقد تقدم تخريجه ص (108).

(3)

انظر: «المغني» (2/ 46، 47)، «الفروع» (1/ 306).

(4)

تقدم تخريجها ص (133).

ص: 135

الاحتياط فقط؛ خوفاً من أن يكون المانعُ قد زال قبل أن يخرج وقت الأُولى، ولا سيما الحيض، فإن الحيض قد لا تعلم المرأة بطُهْرِها إلا بعد مُدَّة من طهارتها.

‌وَيَجِبُ فَوْراً قضاءُ الفَوَائِتِ ...........

قوله: «ويجب فوراً قضاء الفوائت» ، الواجب: ما أُمِرَ به على وجه الإلزام بالفعل.

وقوله: «فوراً» ، أي: مبادرة بدون تأخير.

وقوله: «قضاء الفوائت» ، القضاء: ما فُعِلَ بعد وقته المحدَّد له.

والفوائت جمع فائتة، وهي كلُّ عبادة مُؤقَّتة خرج وقتها قبل فعلها؛ سواء كانت نَفْلاً أم فرضاً كالصَّلوات الخمس.

دليل وجوب القضاء: قولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ نَامَ عن صلاةٍ أو نسيها فَلْيُصَلِّها إذا ذكرها»

(1)

. واللام في قوله: «فَلْيُصَلِّها» للأمر، والأمر للوجوب.

ولأنَّ الذي فاتته العبادة شُغِلت ذمَّتُه بها، فوجبَ عليه قضاؤها؛ لأنها كانت دَيْناً كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام في المرأة التي سألته هل تحجُّ عن أمِّها قال:«أرأيت إنْ كان على أمِّكِ دَيْنٌ؛ أكنتِ قَاضِيَةً؟ اقضُوا اللَّهَ، فاللَّهُ أحقُّ بالوفاءِ»

(2)

.

وقوله: «يجب فوراً قضاء الفوائت» ، ظاهر كلام المؤلِّف أنَّه لا فرق بين أن يدعها عمداً بلا عُذر، أو يدعها لعُذر، وهذا هو الذي عليه جمهور أهل العلم: أن قضاء الفوائت واجب، سواء

(1)

متفق عليه، وقد تقدم تخريجه ص (15).

(2)

رواه البخاري، كتاب جزاء الصيد: باب الحج والنذور عن الميت، رقم (1852) من حديث ابن عباس.

ص: 136

تركها لعُذر أم لغير عُذر، أي: حتى المتعمِّد الذي تعمَّد إخراج الصَّلاة عن وقتها يقال له: إنك آثم وعليك القضاء، وهذا مذهب الأئمة الأربعة، وجمهور أهل العلم

(1)

.....

والقول الثاني في المسألة: أنَّه إذا فاتت العبادة المؤقَّتة عن وقتها لعُذرٍ قُضيت، وإن فاتت لغير عُذرٍ فلا قضاء

(2)

، ليس تخفيفاً عن المؤخِّر، ولكن تنكيلاً به وسُخطاً لفعله، وهناك فرق بين التخفيف وبين التنكيل والسُّخط، فنحن نقول لمن تركها عمداً: لا تقضِ؛ لأنك لو تقضي ألف مرَّة ما قَبِلَ اللَّهُ منك حتى ولو تُبْتَ، لكن إذا تُبْتَ فأحْسِن العملَ.

حجَّة القائلين بأنه يقضي ولو كان لغير عُذر ما يلي:

أولاً: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «من نامَ عن صلاةٍ أو نسيها فَلْيُصَلِّها إذا ذكرها»

(3)

، فإذا كان المعذور بنوم أو نسيان يلزمه القضاء، فغير المعذور من باب أَولى.

ثانياً: وقالوا أيضاً: إنه لما ترك الصَّلاة حتى خرج وقتها كانت دَيْناً عليه، والدَّين لا وقت له، ويجب على الإنسان أن يؤدِّيه فوراً، ولو خرج وقتُه. أرأيت لو كان بينك وبين شخص معاملة يَحِلُّ الدَّين فيها لأوّل ليلة من شهر ربيع الأول، ثم مضت الليلة ولم توفِ، هل يسقط؟

(1)

انظر: «المجموع شرح المهذَّب» (3/ 71)، «كتاب الصلاة» لابن القيم ص (72)، «نيل الأوطار» (2/ 2، 3)

(2)

انظر: «المحلَّى» (2/ 235)، «مجموع الفتاوى» (22/ 18، 19، 39).

(3)

متفق عليه، وقد تقدم تخريجه ص (15).

ص: 137

الجواب: لا، بل يبقى في ذمَّتك حتى توفّيه، ولو بعد حين، وقد سمَّى النبيُّ صلى الله عليه وسلم العبادات «دَيْناً»

(1)

، فإذا كان سمَّاها «دَيْناً» فإنه يجب قضاؤها، ولو تركها لغير عُذر.

أما دليل الذين قالوا بعدم الوجوب إذا كان لغير عُذر فهو ما يلي:

أولاً: أن هذه الصَّلاة المؤقَّتة محدودة أولاً وآخراً، والمحدود موصوف بهذا الوقت، كما قال تعالى:{إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103]، أي: صلاتها في هذا الوقت، فإذا أخَّرها عنه بلا عُذر فقد صلاَّها على غير الوصف الذي فُرضت عليه، فترك واجباً من واجباتها عمداً فلا تصحُّ، كما لو صَلَّى بغير وُضُوء عمداً بلا عُذر فإنَّها لا تصحُّ .....

ثانياً: إذا أخَّرها عن وقتها لغير عُذر فقد فعلها على وجهٍ لم يُؤمر به، وقد ثبت عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:«من عَمِل عملاً ليس عليه أمرُنا فهو رَدٌّ»

(2)

. وهذا نصٌّ صريحٌ عامٌ، «من عَمِل عملاً» ، عملاً: أيَّ عمل يكون؛ لأنه نكرة في سياق الشَّرط فكان للعموم؛ «فهو ردٌّ» ، أي: مردود.

ثالثاً: أنه لو صلَّى قبل الوقت متعمِّداً فصلاته لا تجزئه بالاتفاق

(3)

، فأيُّ فرق بين ما إذا فعلها قبل الوقت أو فعلها بعده؟ فإن كُلَّ واحد منهما قد تعدَّى حُدودَ الله عز وجل، وأخرج العبادة عن وقتها:{وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 229].

(1)

تقدم تخريجه ص (136).

(2)

تقدم تخريجه (1/ 186).

(3)

انظر: «المغني» (2/ 45).

ص: 138

رابعاً: أن هذا الرَّجُل إذا أخَّرها عن وقتها فإنه ظالمٌ معتدٍ، وإذا كان ظالماً معتدياً فالله لا يحبُّ المعتدين، ولا يحبُّ الظَّالمين، فكيف يُوصف هذا الرَّجُل الذي لا يحبُّه الله لعدوانه وظُلمه بأنه قريب من الله متقرِّب إليه؟! هذا خلاف ما تقتضيه العقول والفِطَر السَّليمة.

أما قولهم: إنَّه وجب على المعذور القضاء بعد الوقت؛ فغير المعذور من باب أَولى؛ فممنوع، لأن المعذور معذور غير آثم، ولا يتمكَّن من الفعل في الوقت، فلما لم يتمكَّن، لم يُكلَّف إلا بما يستطيع، أما هذا الرَّجُل غير المعذور فهو قادر على الفعل مُكلَّف به، فخالف واستكبر ولم يفعل، فقياس هذا على هذا من أبعد القياس، إذاً؛ فهذا قياس فاسد غير صحيح مع مخالفته لعموم النُّصوص:«من عَمِلَ عملاً ليس عليه أمرُنا فهو رَدٌّ»

(1)

، ومع أنَّه مخالف للقياس فيما إذا صَلَّى قبل دخول الوقت.

فالصَّواب: أن من ترك الصَّلاة عمداً ـ على القول بأنه لا يكفر ـ كما لو كان يصلِّي ويخلِّي، فإنه لا يقضيها، ولكن يجب عليه أن تكون هذه المخالفة دائماً نُصْبَ عينيه، وأن يُكثر من الطَّاعات والأعمال الصَّالحة لعلَّها تُكفِّر ما حصل منه من إضاعة الوقت.

وقوله: «قضاء الفوائت» يُستفاد منه أنَّه يقضي الصَّلاة الفائتة على صفتها؛ لأن القضاء يحكي الأداء، هذه القاعدة المعروفة، فعلى هذا إذا قضى صلاة ليل في النَّهار جهر فيها بالقراءة، وإذا قضى صلاة نهار في ليل أسرَّ فيها بالقراءة .....

(1)

تقدم تخريجه (1/ 186).

ص: 139

والدليل على ذلك ما يلي:

1 -

قول الرَّسول عليه الصلاة والسلام: «مَنْ نام عن صلاةٍ أو نسيها فَليُصلِّها إذا ذكرها»

(1)

، فكما أن الأمرَ عائدٌ إلى ذات الصَّلاة فهو عائد إلى صفة الصَّلاة أيضاً، ومن صفاتها الجهرُ بالقِراءة إذا كانت الصَّلاة ليليَّة، والإسرارُ بالقراءة إذا كانت الصَّلاة نهاريَّة.

2 -

حديث أبي قتادة في نومهم عن صلاة الصُّبح مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «فصلَّى الغداة فَصَنَع كما كان يصنع كُلَّ يوم»

(2)

.

3 -

أن القضاء يحكي الأداء.

ويُستفاد من حديث أبي قتادة أيضاً: أنه تُشرع فيها ـ أي: في المقضيَّة ـ الجماعةُ إذا كانوا جَمْعاً، لأن القضاء يحكي الأداء، فكما أنهم لو صلَّوها في الوقت صلَّوها جماعة، فإذا قَضَوها فإنهم يصلُّونها جماعة، وهذا أيضاً جاءت به السُّنَّة في حديث أبي هريرة، فإن الرَّسول صلى الله عليه وسلم أمر بلالاً فأذَّن ثم صلَّى ركعتي الفجر، ثم صَلَّى بهم الفجرَ جماعة

(3)

.

والدَّليل على وجوب القضاء فوراً:

1 -

قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ نَامَ عن صلاة، أو نسيها فَلْيُصلِّها إذا ذكرها»

(4)

، فقوله:«فليصلِّها» اللام للأمر وقد عَلَّقه بقوله: «إذا

(1)

متفق عليه، وقد تقدم تخريجه ص (15).

(2)

رواه مسلم، كتاب المساجد: باب قضاء الصلاة الفائتة، رقم (681).

(3)

رواه مسلم، كتاب المساجد: باب قضاء الصلاة الفائتة، رقم (680).

(4)

متفق عليه، وقد تقدم تخريجه ص (15).

ص: 140

ذكرها»، وهذا يدلُّ على أنها تُقضى فورَ الذِّكر، وفورَ الاستيقاظ، لأن الأصل في الأمر الوجوب والفورية.

2 -

أن هذا دَيْنٌ واجبٌ عليه، والواجب المبادرة به؛ لأن الإنسان لا يدري ما يعرض له إذا أخَّر.

3 -

ولأن الإنسان إذا عَوَّدَ نَفسَهُ التهاون والتكاسل في الطَّاعات اعتادت هذا، وصار ذلك خُلقاً لها، إذاً فلا بُدَّ من المبادرة .....

فإن قلت: أليس النبيُّ صلى الله عليه وسلم لما استيقظ أمرهم أن يرتحلوا من مكانهم إلى مكانٍ آخر؟

فالجواب: بَلى، ولكنَّه علَّل ذلك بأنه:«مكانٌ حَضَرَ فيه الشَّيطانُ»

(1)

، فلا ينبغي أن يُصلَّى في أماكن حضور الشياطين، ولهذا نَهَى عن الصَّلاة في الحَمَّام

(2)

؛ لأنه مَأوى الشَّياطين، وفي

(1)

رواه مسلم، كتاب المساجد: باب قضاء الصلاة الفائتة (680) عن أبي هريرة.

(2)

رواه أحمد (3/ 83، 96)، وأبو داود،. كتاب الصلاة: باب في المواضع التى لا تجوز فيها الصلاة، رقم (492)، والترمذي، أبواب الصلاة: باب ما جاء أن الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام، رقم (317)، وابن ماجه، كتاب المساجد: باب المواضع التي تكره فيها الصلاة، رقم (745) والدارمي رقم (1362) وغيرهم عن حماد بن سلمة، وعبد الواحد بن زياد، وعمارة بن غزيَّة، والدراوردي، ومحمد ابن إسحاق كلهم عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً:«الأرضُ كلُّها مسجد إلا المقبرة والحمَّام» .

والحديثُ صحَّحهُ متَّصلاً: ابنُ خزيمة (791)، وابن حبان (1699)، والحاكم (1/ 251)، والذهبي.

قال ابن تيمية: أسانيده جيدة، ومن تكلَّم فيه مما استوفى طُرقه. «اقتضاء الصراط المستقيم» ص (677).

وقال: «إسناده صحيح» . «شرح العمدة» له (2/ 425).

قال الدارقطني: ورواه جماعةٌ عن عمرو بن يحيى، عن أبيه مرسلاً.

ورجَّح إرساله: الترمذيُّ، والدارميُّ، والدارقطنيُّ، والبيهقيُّ وغيرهم.

قال الترمذي: «هو حديث فيه اضطراب» ، وقال النوويّ: ضعَّفه الترمذيُّ وغيره، قال: هو مضطرب، ولا يُعارضُ هذا بقول الحاكم: أسانيده صحيحة. فإنهم أتقن في هذا منه؛ ولأنه قد تصحُّ أسانيدهُ وهو ضعيفٌ لاضطرابه». «الخلاصة» رقم (938).

انظر: «علل الترمذي الكبير» (1/ 239)، «العلل» للدارقطني (11/ 319) رقم (2310)، «السنن الكبرى» للبيهقي (2/ 434)، «التلخيص الحبير» رقم (434).

ص: 141

الحُشِّ، بل وفي أعطان الإبل

(1)

، لأنها خُلقت من الشَّياطين

(2)

، وليس معناه: مادتها من الشَّياطين، بل لأن فيها خُلُقاً كبيراً من أخلاق الشَّياطين، وإذا كان في المخلوق خُلُقٌ كبير من شيء معين نُسب إليه، ولهذا قال تعالى:{خُلِقَ الإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء: 37] مع أنه خُلق من تُراب، لكن لما كانت طبيعتُه العَجلة صار كأنه ناشئٌ منها، كأنها عنصر وجوده.

وهذا الحديث لا يدلُّ على عدم وجوب الفورية، وإن كان

(1)

رواه مسلم، كتاب الحيض: باب الوضوء من لحوم الإبل، رقم (360) من حديث جابر بن سَمُرة، وانظر: ص (242).

(2)

رواه عبد الرزاق رقم (1602)، وأحمد (5/ 54، 55، 56، 57)، وابن ماجه، كتاب المساجد: باب الصلاة في أعطان الإبل، رقم (769)، وابن حبان رقم (1702) عن الحسن، عن عبد الله بن مُغفَّل به.

قال ابن رجب: وله طُرق متعدِّدة عن الحسن. قال ابنُ عبد البر: رواه عن الحسن خمسة عشر رجلاً. والحسنُ سمع من عبد الله بن مُغفَّل؛ قاله الإمام أحمد.

«فتح الباري» لابن رجب (2/ 420).

وله شاهد من حديث البراء، رواه أحمد (4/ 288)، وأبو داود، كتاب الطهارة: باب الوضوء من لحوم الإبل، رقم (184). وصحَّحه إسحاق بن راهويه وغيره.

انظر: «سنن الترمذي» رقم (81).

ص: 142

بعض العلماء قال بعدم وجوب الفورية لهذا الحديث

(1)

.

‌مُرَتِّباً ..............

قوله: «مرتِّباً» ، أي: يبدأ بها بالتَّرتيب، فإذا كان عليه خمس صلوات تبتدئ بالظُّهر، صَلَّى الظُّهر، ثم العصر، ثم المغرب، ثم العشاء، ثم الفجر.

والدليل على ذلك ما يلي:

1 -

قوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ نام عن صلاة، أو نسيها فَلْيُصلِّها

»

(2)

فهذا يشمل عينَ الصلاة، وكيفيَّة الصَّلاة، وكذلك يشمل مكان الصلاة في موضعها من الصّلوات، فيلزم أن تكون في موضعها الترتيبي، فمثلاً: الظُّهر يصلِّيها ما بين الفجر والعصر، وحينئذ يكون صلاَّها، وكذلك المغرب ما بين العصر والعشاء.

2 -

وكذلك ثبت عن النبيِّ عليه الصلاة والسلام أنه فاته أربعُ صلواتٍ في الخندق فقضاها مرتِّباً

(3)

.

(1)

انظر: «المجموع شرح المهذب» (3/ 69)؛ «الفُروع» (1/ 307).

(2)

متفق عليه، وقد تقدم تخريجه ص (15).

(3)

رواه أحمد (3/ 25)، والنسائي، كتاب الأذان: باب الأذان للفائت من الصلاة، (2/ 17) رقم (660)، والدارقطني في «العلل» له (11/ 300) من حديث عبد الرحمن بن أبي سعيد، عن أبي سعيد الخدري.

والحديثُ صحّحه: ابن خزيمة رقم (996)، وابن حبان رقم (2890)، وابن السَّكن. قال ابن سيد الناس:«إسناده صحيح جليل» .

وله شاهد من حديث عبد الله بن مسعود، رواه أحمد (1/ 375)، والترمذي، كتاب الصلاة: باب في الرجل تفوته الصلوات بأيتهن يبدأ، رقم (179)، والنسائي، كتاب المواقيت: باب كيف يقضي الفائت من الصلاة (1/ 297) من طريق أبي عبيدة عن ابن مسعود. وأبو عبيدة لم يسمع من ابن مسعود كما قال الترمذي وغيره.

انظر: «الفتح» شرح حديث رقم (596)، «التلخيص الحبير» رقم (288)، «نيل الأوطار» كتاب الصلاة: باب الترتيب في قضاء الفوائت، (2/ 37).

ص: 143

3 -

وكذلك في الجَمْع؛ كان يجمع بين الصَّلاتين، فيبدأ بالأُولى

(1)

.

فكلُّ هذه الأدلَّة تدلُّ على أنه يجب الترتيب في قضاء الفوائت.

لكن هل يسقط الترتيب بعُذر من الأعذار؟ .....

وَيَسْقُطُ التَّرتيبُ بِنِسْيَانِه، وبِخَشْيَةِ خُرُوجِ وَقْتِ اختيارِ الحَاضِرةِ ..........

قال المؤلِّف رحمه الله: «ويَسْقطُ التَّرتيبُ بنسْيَانِهِ، وبخَشْيَةِ خُرُوجِ وقت اختيار الحاضرة» ، فذكر أنه يسقط بشيئين:

الأول: النسيان، فلو كان عليه خمس فرائض تبتدئ من الظُّهر، فنسي فبدأ بالفجر مع أنها هي الأخيرة؛ نقول: قضاؤه صحيح؛ لأنه نسي. لو بدأ بالعصر قل الظُّهر نسياناً صَحَّ القضاء؛ لأنه يسقط بالنسيان.

والدليل: عموم قوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِيْنَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286].

الثاني: «خشية خروج وقت اختيار الحاضرة» ، في هذه العبارة أربعُ إضافات، ومثلُ هذا عند البلاغيين خارجٌ عن البلاغة لكثرة الإضافات، لكن نقول: إذا كان لا يتَّضحُ المعنى إلا بذلك؛ فليس بخارج عن البلاغة، ويمكن أن يُعَدَّلَ لفظُ المؤلِّف فيُقال:«وإذا خشي أن يخرجَ وقتُ الحاضرة المختار» ، وعلى كل حال فالمعنى، أنَّه إذا كان يخشى أن يخرجَ وقتُ اختيار الحاضرة

(1)

رواه مسلم، وقد تقدم تخريجه ص (79).

ص: 144

فإنه يسقط التَّرتيب، وإذا خشيَ أن يخرجَ الوقتُ كلُّه من باب أولى، وليس عندنا وقت ضرورة على القول الرَّاجح إلا في صلاة العصر؛ لأنه سبق لنا أن وقت العشاء ينتهي بنصف الليل

(1)

، وأما من جعله ينتهي بطلوع الفجر؛ فيجعل ما بين نصف الليل وطلوع الفجر وقت ضرورة.

مثال ذلك: رَجُل ذكر أن عليه فائتة، وقد بَقِيَ على أن يكون ظِلُّ كلِّ شيء مثليه ما لا يتَّسع للفائتة والحاضرة، ماذا نقول؟

الجواب: نقول: قَدِّم الحاضرةَ.

ورَجُل آخر ذكر فائتة، وقد بقيَ على طُلوع الشَّمس ما لا يتَّسع لصلاة الفائتة والفجر؛ ماذا نقول له؟

الجواب: نقول: قَدِّم الحاضرةَ، وهي الفجر.

ودليل الوجوب ما يلي:

أولاً: أن الله أمر أن تُصلَّى الحاضرةُ في وقتها، فإذا صَلَّيتَ غيرها أخرجتها عن الوقت .....

ثانياً: أنك إذا قدَّمت الفائتة لم تستفدْ شيئاً، بل تضرَّرت؛ لأنَّك إذا قدمت الفائتة صارت كلتا الصَّلاتين قضاء، وإذا بدأت بالحاضرة صارت الحاضرة أداء والثانية قضاء، وهذا أولى بلا شَكٍّ.

مسألة: هل يسقط الترتيب لغير ذلك؟

(1)

انظر: ص (115).

ص: 145

الجواب: نقول: نعم، يسقط، بما لا يمكن قضاؤه على وجه الانفراد كصلاة الجُمعة، فإنه لو ذكر أن عليه فائتة بَعْد أن أُقيمت صلاة الجُمُعة، ولا يتمكَّن من قضائها وإدراك الجُمُعة، فإنه يبدأ بالجُمُعة؛ لأن فوات جماعة الجُمُعة كفوات الوقت؛ لأنها لو فاتت الجماعة عليك فاتتك الجُمُعة، ولا يمكن أن تصلِّيها جُمُعة بعد فوات الجماعة فيها.

مسألة: وهل يسقط التَّرتيبُ بالجهل؟ في هذا خلافٌ بين العلماء

(1)

، وظاهر كلام المؤلِّفِ أنَّه لا يسقط، فلو جاءنا رَجُلٌ يسأل ويقول: عَلَيَّ فوائت الظُّهر والعصر والمغرب.

فبدأت بصلاة المغرب، ثم بالعصر، ثم بالظُّهر جهلاً؟

فالجواب: نقول: كلام المؤلّف يدلُّ على أنَّه لا يسقط التَّرتيب؛ لأنه لم يذكر لسقوطه إلا النسيان، وخروج وقت اختيار الحاضرة، والفرق بين الجاهل والنَّاسي، أن الجاهل قد يكون مفرِّطاً بترك التعلُّم فلا يُعذر. وعلى هذا؛ فنقول لهذا الرجل الذي سألنا فقدَّم المغرب، ثم العصر، ثم الظُّهر: أَعِدِ العصرَ ثم المغربَ، أما الظُّهر فلا يعيدها؛ لأنَّها في مكانها.

وهكذا كلُّ شيء فيه التَّرتيب إذا عكست فآخر شيء لا تعيده؛ لأنه يكون هو أول شيء؛ لأن الذي قدَّمته هو الذي لم يصحَّ، أما الذي كان هو الآخر فيصحُّ؛ ولا يُستثنى شيء من هذه القاعدة.

وقال بعض العلماء: بل يسقط التَّرتيب بالجهل؛ لأن الجهل ....

(1)

انظر: «المغني» (2/ 346)، «الإنصاف» (3/ 191).

ص: 146

أخو النسيان في كتاب الله، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الله تعالى:{رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِيْنَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286]، وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:«إنَّ الله تجاوز عن أُمَّتِي الخطأَ والنسيانَ وما استُكْرِهُوا عليه»

(1)

. فإذا كان هذا جاهلاً فإنه لا يَضرُّه تركُ الترتيب، ونقول: صلاتُك صحيحة، وهذا القول هو الصَّواب.

مسألة: هل يسقطُ التَّرتيب بخوف فَوْتِ الجماعة؟

الجواب: المذهب: لا يسقط التَّرتيب، فنقول: ابدأْ بالفائتة، ثم صَلِّ الحاضرةَ مع الجماعة إنْ أدركتها؛ وإلا فلا شيء عليك.

وذهب بعضُ العلماء إلى أن التَّرتيب يسقطُ بخوف فَوْت الجَماعة

(2)

، ولا سيَّما على القول بأن الجماعة شرط لصحَّة الصَّلاة، فيجب أن تُقدِّمَ الصَّلاة الحاضرة مع الجماعة ثم تُصَلِّي الفائتة.

(1)

رواه ابن ماجه، كتاب الطلاق: باب طلاق المكره والناسي، رقم (2045)، والطبراني في «الصغير» (1/ 270)، والدارقطني (4/ 170)، والبيهقي (7/ 356)، من حديث ابن عباس.

واستنكره الإمامُ أحمد جداً. وقال أبو حاتم: «لا يصحُّ هذا الحديث؛ ولا يثبت إسناده» . وقال محمد بن نصر: «ليس له إسناد يُحتجّ بمثله» .

وللحديث شواهد من حديث أبي الدرداء، وأم الدرداء، وأبي بكرة، وثوبان، وعقبة بن عامر، وأبي ذر، وابن عمر، إلا أن جميعها لا يخلو من مقال وضعف وعلَّة، بل ونكارة.

قال ابن حجر: «بمجموع هذه الطُرق يظهرُ أنَّ للحديث أصلاً» . «موافقة الخُبر الخَبر» (1/ 510) كذا قال، والله أعلم.

انظر: «إرشاد الفقيه» لابن كثير ص (90)، «جامع العلوم والحكم» شرح الحديث رقم (39)، «التلخيص الحبير» رقم (451).

(2)

انظر: «مجموع الفتاوى» (22/ 105 ـ 108)، «الإنصاف» (3/ 188).

ص: 147

والقول بأنه يسقط الترتيب بخوف فَوْت الجماعة، مبنيٌّ على القول بأنه لا يصحُّ أن يُصلِّي خلف من يُصلِّي صلاة أخرى

(1)

، أما على القول بالجواز (280) فنقول: صَلِّ معهم في الجماعة، وانْوِ بها الصَّلاة الفائتة التي عليك.

مثال ذلك: لو كان عليك الظُّهر؛ وجئت وهم يصلُّون العصر، فإنا نقول لك على القول الرَّاجح: ادخلْ معهم بنيَّة الظُّهر؛ واختلاف النيَّة لا يضرُّ، لكن على القول بأن اختلاف النيَّة يضرُّ، فإنهم يقولون: لا يسقط التَّرتيب بخوف فَوت الجماعة كما هو المذهب.

فصار عندنا من مسقطات الترتيب خمسة أشياء وهي:

1 -

النسيان.

2 -

خوف خروج وقت الحاضرة.

3 -

خوف فوات الجمعة.

4 -

خوف فوات الجماعة.

5 -

الجهل.

فالمذهب يُعذر بالثَّلاثة الأُوَلِ وهي: النسيان، وخوف فوت الوقت، وخوف فوت الجُمعة. وأما الرابع والخامس فلا يُعذر فيهما، والصَّحيح أنه يُعذر فيهما .....

‌وَمِنْها سَتْرُ العَوْرَةِ .............

قوله: «وَمِنْها سَتْرُ العَوْرَةِ» ، أي: من شروط الصَّلاة ستر العورة والسَّترُ بمعنى التغطية.

(1)

انظر: «الإنصاف» (4/ 411، 412) .....

ص: 148

والعَوْرة: هي ما يسوءُ الإنسان إخراجه، والنَّظر إليه؛ لأنها من «العَوَر» وهو العيب، وكلُّ شيء يَسُوءُكَ النَّظرُ إليه، فإن النَّظر إليه يُعتبر من العيب.

ولكن سنناقش هذا التعبير «سَتْرُ العَوْرَة» . هل جاء في الكتاب أو السُّنَّة كلمة «سَتْرُ العَوْرَة» فيما يتعلَّق بالصَّلاة أم لا؟.

الجواب: لا، لم تأتِ كلمة «سَتْرُ العَوْرَة» في الكتاب أو السُّنَّة، ومن أجل أنَّه لم تأتِ ينبغي أن لا نعبِّر إلا بما جاء في القرآن والسُّنَّة في مثل هذا الباب، ونظيرُ هذا التعبير الذي أوهم، تعبيرُ بعضهم في باب محظورات الإحرام بلبس المخيط بدلاً عن القميص والسَّرَاويلِ والبَرَانِسِ والعِمَامةِ والخِفَافِ.

ولمَّا قال العلماء: «سَتْرُ العَوْرَة» اشتبه على بعض النَّاس عورة الصَّلاة وعورة النَّظر واختلطت عليهم؛ حتى قال بعضهم: هذه وهذه سواء. والأمر ليس كذلك، فبين عورة الصَّلاة وعورة النَّظر فرق، لا تتَّفقان طرداً ولا عكساً، كما سيتبيَّن إن شاء الله.

إذاً؛ فلو عَبَّرَ بما جاء في القرآن أو السُّنَّة لكان أسلم، والذي جاء في القرآن:{يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31]. فأمر الله تعالى بأخذ الزِّينة عند الصَّلاة، وأقلُّ ما يمكن لباس يُواري السَّوأة، وما زاد على ذلك فهو فَضْل، والسُّنة بيَّنت ذلك على سبيل التفصيل، وإذا كان الإنسان يستحي أن يقابل مَلِكاً من الملوك بثياب لا تستر، أو نصف بدنه ظاهر، فكيف لا يستحي أن يقفَ بين يدي مَلِكَ الملوك عز وجل بثياب غير مطلوب منه أن يلبسها؟! ولهذا قال عبد الله بن عمر لمولاه نافع ....

ص: 149

وقد رآه يصلِّي حاسرَ الرَّأس: «غَطِّ رأسك، هل تخرج إلى النَّاس وأنت حاسر الرَّأس؟ قال: لا. قال: فاللَّهُ أحقُّ أن تتجمَّلَ له»

(1)

، وهذا صحيح لمن عادتهم أنهم لا يحسرون عن رؤوسهم، ولا يمكن أن يخرج حاسر الرَّأس أمام النَّاس.

إذاً؛ فاتِّخاذُ الزِّينة غير سَتْر العَوْرَة، ونقول: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «لا يُصَلِّيَنَّ أحدُكُمْ في الثَّوبِ الواحدِ ليس على عاتِقِهِ منه شيءٌ»

(2)

، وعاتق الرَّجُلِ ليس بعورة بالاتفاق، ومع ذلك أمر النبيُّ عليه الصلاة والسلام بستره في الصَّلاةِ فقال:«ليس على عاتقه منه شيء» ، فدلَّ هذا على أن منَاط الحُكم ليس ستر العورة.

وقال صلى الله عليه وسلم لجابر: «إن كان ضيِّقاً فاتَّزرْ به، وإن كان واسعاً

(1)

ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في «مجموع الفتاوى (22/ 117) دون عزوه لمصدر، ولم أقف عليه ـ بهذا اللفظ ـ سوى عنده. بينما روى عبد الرزاق في «المصنف» (1/ 357)، وأحمد (1/ 17)، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (1/ 377) عن نافع أنَّ ابن عمر كساه ثوبين وهو غلام، فدخل ابنُ عمر المسجد، فوجده يصلِّي متوشِّحاً في ثوب، فقال: أليس لك ثوبان تلبسهما؟ فقلت: بلى، فقال: أرأيت لو أرسلتك إلى وراء الدار، أكنت لابسهما؟ قال: نعم، قال ابن عمر:

فالله أحقُّ أن تزيِّن له

».

قال ابن كثير: «إسناده جيد» . «مسند الفاروق» (1/ 149).

(2)

رواه ـ بهذا اللفظ ـ عبد الرزاق في «المصنف» (1/ 353)، والنسائي، كتاب الصَّلاة: باب صلاة الرجل في الثوب الواحد، (3/ 71) رقم (768) من حديث أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة به. وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين.

ورواه البخاري، كتاب الصلاة: باب إذا صلَّى في الثوب الواحد، رقم (359)، ومسلم، كتاب الصلاة: باب الصلاة في ثوب واحد وصفة لبسه، رقم (516) بلفظ:«لا يُصلِّي أحدُكم في الثوب الواحد، ليس على عاتقيه منه شيء» .

ص: 150

فالتحفْ به»

(1)

. ومعلوم أنه لا يُشترط لسَتْرِ العَوْرَة أن يلتحف الإنسان، بل يُغطِّي ما يجب ستره في غير الصَّلاة.

إذاً؛ فليس مَنَاط الحُكم سَتْر العَورة، إنما مَنَاط الحُكم اتِّخاذ الزِّينة، هذا هو الذي أمرَ الله به، ودلَّت عليه السُّنَّة.

والدَّليل على أنَّ من شَرْط صحَّة الصَّلاة سَتْر العَورة ما يلي:

1 -

قوله تعالى: {يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ *} [الأعراف]، لأن أخذ الزِّينة يلزم منه سَتْر العورة .....

2 -

قول الرَّسول صلى الله عليه وسلم: «إنْ كان واسعاً فالتحفْ به، وإن كان ضيقاً فاتَّزرْ به» فلا بُدَّ من الاتِّزار، وإذا كان واجباً في العبادة، فكلُّ واجب في العبادة شرط لصحَّتها، فالقاعدة الشَّرعية:«أنَّ كلَّ واجب في العبادة هو شرط لصحَّتها» . فإذا تركه الإنسان عمداً بطلت هذه العبادة، ولهذا لو تركَ الإنسانُ التَّشَهُّدَ الأوَّلَ، أو الأخير في الصَّلاة مُتعمِّداً بطلت صلاتُه. وكذلك بقية الواجبات؛ لو تركها متعمِّداً بطلت الصَّلاةُ. ولهذا نقول: إنَّ سَتْرَ العورة شرط لصحَّة الصَّلاة، وأنَّ من صَلَّى من غير أن يلبس ما يستر به العورة، أو ما يجب ستره على الأصحِّ، فإن صلاتَه باطلةٌ.

3 -

نقل ابنُ عبد البَرِّ إجماعَ العُلماء على أنَّ من صَلَّى

(1)

رواه البخاري، كتاب الصلاة: باب إذا كان الثوب ضيقاً، رقم (361)، واللفظ له، ومسلم، كتاب الزهد: باب حديث جابر الطويل، رقم (3010)، ولفظه:«إذا كان واسعاً فخالف بين طرفيه، وإذا كان ضيقاً فاشدُدْهُ على حقوِك» .

ص: 151

عُرياناً مع قُدْرَته على اللباس فصلاتُه باطلة

(1)

. وكذلك نقل شيخ الإسلام ابن تيمية أن العلماء اتفقوا على أن الإنسان الذي يصلِّي عُرياناً وهو قادر على اللباس فصلاته باطلة

(2)

.

‌فَيَجِبُ بما لا يَصِفُ البَشرَة.

قوله: «فيجب بما لا يَصِفُ البَشَرة» ، «يجب» الفاعل يعود على «سَتْرِ العَوْرَة» ، أي: فيجب سَتْر العَوْرَة «بما» أي: بالذي، ويجوز أن نجعل «ما» نكرة موصوفة، أي: بثوب لا يَصِفُ بَشَرَتَه. أي: يُشترط للسَّاتر ألاَّ يصفَ البشرة، لا ألاَّ يبيِّن العُضوَ. ووَصْفُ الشيءِ ذِكْرُ صِفَاتِه، والثوب لا يصف نطقاً، ولكن يصفه بلسان الحال، فإذا كان هذا الثَّوب الذي على البدن يبيِّنُ تماماً لون الجلد فيكون واضحاً، فإنَّ هذا ليس بساتر. أما إذا كان يُبيِّن مُنتهى السِّروال من بقيِّةِ العضو ـ مثلاً ـ فهذا ساتر.

شروط الثَّوب:

يُشترط في الثَّوب السَّاتر أربعة شروط: ....

الشَّرط الأول: ألاَّ يصفَ البشرة كما قال المؤلِّفُ، فإن وَصَفَها لم يجزئ؛ لأن السَّتر لا يحصُل بدون ذلك، وعلى هذا لو لبس ثوباً من «البلاستيك» يمنع وصولَ الماء والهواء، فإنها لا تصحُّ الصَّلاة به؛ لأن ذلك لا يستر؛ بل هو يصفُ البشرة.

الشَّرط الثاني: أن يكون طاهراً. فإذا كان نجساً فإنه لا يصحُّ أن يصلِّي به، ولو صَلَّى به لا تصح صلاتُه، لا لعدم السَّتر، ولكن لأنَّه لا يجوز حمل النَّجس في الصَّلاة، والدليل ما يلي:

(1)

انظر: «التمهيد» لابن عبد البَرِّ (6/ 379).

(2)

انظر: «مجموع الفتاوى» (22/ 116، 117).

ص: 152

1 -

قوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ *} [المدثر]، فـ «ثياب» مفعول مُقدَّم لـ «طَهِّر» ، يعني «طَهِّرْ ثيابك» وهو ظاهر في أنَّ المراد ثياب اللباس.

وقال بعض أهل العلم {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ *} ، أي: عملك طهِّره من الشِّرك

(1)

؛ لأن العمل لباس كما قال تعالى: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف: 26]، فيكون المراد تنقيةُ العمل من الشِّرك، ولهذا قال بعدها:{وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ *} [المدثر]، فنقول: الآية تحتمل هذا وهذا، ولا يمتنع أن تُحمل على المعنيين؛ لأنهما لا يتنافيان، وكلُّ معنيين يحتملهما اللفظ القرآنيُّ أو اللفظ النبويُّ، ولا يتنافيان فإنهما مُرادان باللفظ.

2 -

أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بصبيٍ لم يأكل الطَّعام؛ فأجلسه في حِجْرِه، فَبَالَ الصبيُّ في حِجْرِه، فدعا بماءٍ فأتْبَعَهُ إيَّاه

(2)

، وهذا يَدلُّ على أنه لا بُدَّ أن يكون الثَّوبُ طاهراً، ولهذا بادر النبيُّ عليه الصلاة والسلام بتطهيره.

3 -

أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يُصلِّي ذات يوم بأصحابه؛ فخلع نعليه، فخلع الناسُ نعالَهم، فلما سَلَّمَ سألهم: لماذا خلعوا نِعَالهم؟ قالوا: رأيناك خلعت نعليك فخلعنا نعالنا، فقال:«إنَّ جبريل أتاني فأخبرني أنَّ فيهما أذى»

(3)

، وهذا يدلُّ على وجوب التَّنزُّه مما فيه نجاسة.

4 -

حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم مَرَّ ....

(1)

انظر: «تفسير القرآن العظيم» ، لابن كثير (4/ 531).

(2)

تقدم تخريجه (1/ 30، 437).

(3)

تقدم تخريجه ص (99).

ص: 153

بقبرين يُعذَّبان، فقال:«إنَّ أحدهما كان لا يَسْتَتِرُ من البول»

(1)

، وفي رواية «يَسْتَنْزِهُ» ، وهذا فيه شيءٌ من النَّظَرِ والمُنَاقَشَةِ.

5 -

قوله تعالى: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج: 26]، قالوا: فإذا أمر اللَّهُ تعالى بتطهير المَحَلِّ، وهو منفصل عن المصلِّي، فاللباس الذي هو مُتَّصِلٌ به يكون الأمر بتطهيره من باب أولى.

الشَّرطُ الثَّالثُ: أن يكون مباحاً، أي: ليس بمحرَّمٍ، والمحرَّمُ ثلاثة أقسام: محرَّم لعينه، محرَّم لوَصْفِهِ، محرَّمٌ لكسبه.

أما المحرم لعينه: فكالحرير للرَّجُل، فهو حرام على الرِّجال، فلو صَلَّى رَجُلٌ بثوب حرير، فصلاتُه باطلة بناءً على هذا الشَّرط؛ لأنه سَتَرَ عَوْرَته بثوبٍ غيرِ مأذونٍ فيه، ومن عمل عملاً ليس عليه أمْرُ الله ورسوله فهو رَدٌّ.

وأما المحرَّم لوصفه: فكالثوب الذي فيه إسبال، فهذا رَجُل عليه ثوب مباح من قُطْنٍ، ولكنَّه أنزله إلى أسفلَ من الكعبين، فنقول: إن هذا محرَّم لوَصْفه؛ فلا تصحُّ الصَّلاة فيه؛ لأنه غير مأذونٍ فيه، وهو عاصٍ بِلُبْسه، فيبطل حُكمه شرعاً، ومن عَمِلَ عملاً ليس عليه أمرُنا فهو رَدٌّ.

وأما المحرَّم لكسبه: فأن يكون مغصوباً أو مسروقاً، مثل: رَجُلٌ سرقَ ثوبَ إنسانٍ وصَلَّى فيه، فنقول: الصَّلاة هنا غيرُ صحيحة؛ لأنك سترت عورتك بثوبٍ محرَّمٍ عليك، فلا تصحُّ صلاتُك .....

(1)

تقدم تخريجه بألفاظه (1/ 133).

ص: 154

أما الشَّرطان الأولان فواضحان وأدلتهما ظاهرة.

وأما الثَّالث؛ فمحلُّ خلافٍ بين العلماء

(1)

، فمن أهل العلم من يقول: إن السَّتر يحصُل بالثَوب المحرَّم؛ لأن جهة النَّهي والأمر مختلفة؛ لأن المحرَّم في هذا الثوب ليس هو لُبْسُه في الصَّلاة حتى نقول: إنه يُعارض الأمر بلُبْسِه في الصَّلاة. بل المحرَّم لُبْسُ هذا الثوب مطلقاً، وعلى هذا فيكون مورد النهي غير مورد الأمر، يعني: لو قيل لك: لا تلبس الحرير في الصَّلاة، ثم لَبِستَه، فحينئذ لا تصحُّ صلاتُك؛ لأن مورد الأمر والنهي واحد، والأمر اتِّخاذُ اللباس أو الزِّينة، والنَّهي عن لُبْس الحرير في الصَّلاة، لو كان الأمر كذلك لقلنا: إن الصَّلاة لا تصحُّ لتعارض الأمر والنهي. لكن في مسألتنا النَّهي خارجٌ عن الصَّلاة، لا تلبس الحرير مطلقاً، وهذا الرَّجُل لَبِسَه، فهو آثم بلُبْسِه لا شكَّ؛ لكنه ليس على وجهٍ يختصُّ بالصَّلاة حتى نقول: إنه ينافيها.

وعلى هذا؛ فإذا صَلَّى بثوبٍ مُحَرَّمٍ فصلاتُه صحيحة؛ لكنه آثمٌ؛ لأنه متلبِّسٌ بثوب محرَّم.

الشَّرط الرابع: يُشترط لوجوب السَّتر ألا يضرُّه، فلو كان الثَّوب فيه مسامير، فهل نُلزِمُه بأن يلبس هذا الثَّوب الذي يأكل جلده أو يُدميه؟

الجواب: لا؛ لأن الله تعالى لَمْ يوجب على عباده ما يَشُقُّ عليهم، ثم هو في أثناء صلاته لا يمكن أن يطمئنَّ أبداً.

ولو أنَّ إنساناً في جلده حَسَاسية لا يمكن أن تقبل أيَّ

(1)

انظر: «الإنصاف» (3/ 223).

ص: 155

ثوب، ولو لَبِس ثوباً لكان مشغولاً جداً فماذا يصنع؟

فالجواب: أن يُقال: إن الحرير يُخَفِّفُ هذه الحَسَاسية، وأن الإنسان إذا كان في جلده حَساسية ولبس الحرير، فإن الحَساسية تبرد عليه ما دام عليه هذا الثَّوب. وحينئذ نقول: الْبِسْ ثوباً من حرير إذا تمكَّنت، وإذا لم تتمكَّنْ فصلِّ حَسَبَ الحال .....

‌وَعَوْرَةُ رَجُلٍ، وَأَمَةٍ، وَأُمِّ وَلَدٍ، وَمُعْتَقٍ بَعْضُها مِنَ السُّرَّةِ إِلى الرُّكْبَةِ ...........

قوله: «وعورة رَجُلٍ وأَمَةٍ، وأُمِّ وَلَدٍ، ومُعْتَقٍ بعضُها، من السُّرَّة إلى الرُّكبة

»، بدأ المؤلِّف يفصِّل في العورة. فالعورة في الصَّلاة على المشهور من مذهب الحنابلة تنقسم إلى ثلاثة أقسام: مغلَّظة، ومخفَّفة، ومتوسِّطة.

فالمخفَّفة: عورة الذَّكر من سبع إلى عشر سنوات، وهي الفَرْجَان فقط، أي: إذا سَتَرَ قُبُلَهُ ودُبُرَه فقد أجزأه السَّتْرُ، ولو كانت أفخاذهُ بادية.

والمغلَّظة: عورة الحُرَّة البالغة؛ فكلُّها عَورة إلا وجهها؛ فإنه ليس عورة في الصَّلاة، وإن كان عورة في النَّظر، ونحن نضطر إلى أن نعبِّرَ بكلمة عورة، ولو كُنَّا في باب ما يجب ستره في الصَّلاة تبعاً للمؤلِّف، ولو صَلَّت في بيتها وليس عندها أحد لَوَجَبَ أن تَسْتُرَ كلَّ شيء إلا وجهها.

والمتوسِّطَة: ما سوى ذلك، وحدُّها ما بين السُّرَّة والرُّكبة، فيدخلُ فيها الذَّكر من عشر سنوات فصاعداً، والحُرَّة دون البلوغ، والأَمَةُ ولو بالغة.

وقوله: «وعورة رَجُل» إلى أن قال: «من السُّرَّة إلى الرُّكبة» .

ص: 156

الرَّجل في الأصل: الذَّكر البالغ، والمُراد هنا: من بلغ عشر سنين فما فوق، وقد ذكر المصنِّفُ ـ أي: في العورة المتوسطة ـ أربعة أصناف:

أولاً: الذَّكَر من عشر سنوات فما فوق، فعورته من السُّرَّة إلى الرُّكبة، سواء كان حُرًّا أم عبداً.

ثانياً: الأَمَةُ ـ ولو بالغة ـ وهي المملوكة، فعورتها من السُّرَّة إلى الرُّكبة، فلو صلَّت الأَمَةُ مكشوفة البدن ما عدا ما بين السُّرَّة والرُّكبة، فصلاتها صحيحة، لأنَّها سترت ما يجب عليها سَتْرُه في الصَّلاة .....

وأما في باب النَّظر: فقد ذكر الفقهاءُ رحمهم الله تعالى أن عورة الأَمَة أيضاً ما بين السُّرَّة والرُّكبة

(1)

، ولكن شيخ الإسلام رحمه الله في باب النَّظر عارض هذه المسألة

(2)

، كما عارضها ابن حزم في باب النَّظر، وفي باب الصَّلاة

(3)

، وقال: إن الأمة كالحُرَّة؛ لأن الطَّبيعة واحدة والخِلْقَة واحدة، والرِّقُّ وصف عارض خارج عن حقيقتها وماهيَّتها، ولا دليلَ على التَّفريق بينها وبين الحُرَّة.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إنَّ الإماء في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، وإن كُنَّ لا يحتجبن كالحرائر؛ لأن الفتنة بهنَّ أقلُّ، فَهُنَّ يُشبهنَ القواعدَ من النِّساء اللاتي لا يرجون

(1)

انظر: «الإنصاف» (20/ 54).

(2)

انظر: «مجموع الفتاوى» (22/ 109 ـ 120)، «الاختيارات» ص (40، 41).

(3)

انظر: «المحلَّى» (3/ 218، 219).

ص: 157

نكاحاً، قال تعالى فيهن:{فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} [النور: 60]، يقول: وأما الإماء التركيَّات الحِسَان الوجوه، فهذا لا يمكن أبداً أن يَكُنَّ كالإماء في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، ويجب عليها أن تستر كلَّ بدنها عن النَّظر، في باب النَّظر.

وعلَّل ذلك بتعليل جيِّدٍ مقبولٍ، فقال: إن المقصود من الحجاب هو ستر ما يُخاف منه الفِتنة بخلاف الصَّلاة، ولهذا يجب على الإنسان أن يستتر في الصَّلاة، ولو كان خالياً في مكان لا يطَّلع عليه إلا الله. لكن في باب النَّظر إنما يجب التَّستر حيث ينظر الناس. قال: فالعِلَّة في هذا غير العِلَّة في ذاك، فالعِلَّة في النَّظر: خوف الفتنة، ولا فرق في هذا بين النِّساء الحرائر والنِّساء الإماء. وقوله صحيح بلا شكٍّ، وهو الذي يجب المصير إليه.

وقوله: «وأُمِّ ولد» هذا هو الثالث، وأُمُّ الولد: هي الأَمَة التي أتت من سيِّدها بولد، وهي رقيقة حتى يموت سيِّدُها، فإذا مات سَيِّدُها عُتقت بموته وحُكمها حكم الأَمَة؛ أي: أن عورتها من السُّرَّة إلى الرُّكبة .....

وقوله: «ومُعْتَقٍ بعضُها» هذا هو الرابع، أي: بعضها حُرٌّ وبعضها رقيقٌ.

مثال ذلك: أَمَة بين رَجُلين مملوكةٌ لهما، فإذا أعَتقَ أحدُهما نصيبه عُتِقَ الباقي، وأُخذ من السَّيد المُعْتِق قيمته لمالك النصف، فإذا كان الذي أعتق نصيبه فقيراً فإن المشهور من المذهب أنه لا يُعتق الباقي، وعَلَّلوا ذلك بأنه لو سرى العتقُ إلى الباقي تضرَّر

ص: 158

الشريك بأن خرج من ملكه بدون عِوض

(1)

.

وأيضاً: المُعسر؛ لا نُوجب عليه العِتق وهو مُعسر، ولو كان على المُعسر كفَّارة لم نوجبها عليه فكيف نوجب عليه سريان العِتق؟

فهذا الفقير لا يمكن أن يسريَ عليه العِتق؛ لأنه فقير، ولا يُكلِّف الله نفساً إلا وسعها، فتكون الأَمَة مُبَعّضَة.

ولو قال قائل: لماذا لا يسري العتقُ ويبقى هذا دَيْناً في ذِمَّتهِ؟.

قلنا: في هذا ضرر عليه؛ لأن ذِمَّته تكون مشغولة، وضرر على صاحب النصف؛ لأن عوض نصيبه يبقى مؤخَّراً إلى أجل غير مُسمَّى.

ولكن هناك قولاً آخر في المسألة وهو: أن يُستسعى العبد

(2)

، فيقال له: اعمل لتحرِّر نفسك، فإذا كان العبدُ لا يستطيع أن يعمل؛ فحينئذ يُتصوَّر أن يكون معتقاً بعضها، فهذه تُعطى حكم الرقيق.

فإن قال قائل: لماذا لا تعطونها حكم الحُرَّة تغليباً لجانب الحَظر، واحتياطاً للواجب؟

فالجواب: أن الشرط لم يتحقَّق، فالمسألة هنا ليست لوجود مانع، بل هي لفوات شرط، والشرط هو الحُرِّية الكاملة، وليس هنا حرية كاملة فالشَّرط لم يتمَّ، ولا بُدَّ من استتمام الشُّروط،

(1)

انظر: «الإقناع» (3/ 256، 257).

(2)

انظر: «الإنصاف» (19، 51).

ص: 159

ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتُكم عنه فاجتنبوه»

(1)

.

وعلى هذا؛ فالمرأة المُعْتق بعضُها كالأَمَة الخالصة .....

وقوله: «من السُّرَّة إلى الرُّكبة» ، المعروف أن ابتداء الغاية داخل لا انتهاؤها إذا ذُكِرَ ابتداؤها، مثل أن تقول: لك من الأرض من ههنا إلى ههنا. وعلى هذا تكون السُّرَّة في ظاهر كلام المؤلِّف داخلة في العَوْرَة؛ لأنها ابتداء الغاية فيجبُ سَتْرها، والرُّكبة غير داخلة.

وفي المسألة أقوال

(2)

:

أحدها: أن الرُّكبة داخلة في العَوْرة فيجب سَتْرها.

القول الثاني: أن السُّرَّة والرُّكبة كلتيهما من العَوْرَة فيجب سترهما.

القول الثالث: ـ وهو المشهور من المذهب ـ أن السُّرَّة والرُّكبة لا تدخلان، فلا يجب سترهما، وعلى هذا؛ فالعبارة التي تخرجهما أن يقال:«ما بين السُّرَّة والرُّكبة» .

‌وكُلُّ الحُرَّةِ عَوْرةٌ إِلا وَجْهَهَا،

............

قوله: «وكُلُّ الحُرَّةِ عَوْرَة إلا وَجْهَهَا» ، فيجب ستر جميع بدنها إلا وجهها، وليس هناك دليلٌ واضحٌ على هذه المسألة، ولهذا ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إلى أن الحُرَّة عورة إلا ما يبدو منها في بيتها وهو الوجه والكَفَّان والقدمان. وقال: إن النِّساء في عهد الرَّسول عليه الصلاة والسلام كُنَّ في البيوت يلبسن

(1)

متفق عليه، وقد تقدم تخريجه (1/ 381).

(2)

انظر: «الإنصاف» (3/ 205).

ص: 160

القُمُص، وليس لكل امرأة ثوبان

(1)

، ولهذا إذا أصابَ دَمُ الحيضِ الثوبَ غسلته وصَلَّت فيه

(2)

، فتكون القدمان والكَفَّان غير عورة في الصَّلاة؛ لا في النَّظر .....

وبناءً على أنه ليس هناك دليلٌ تطمئنُّ إليه النفس في هذه المسألة، فأنا أقلِّد شيخ الإسلام في هذه المسألة، وأقول: إن هذا هو الظَّاهر إنْ لم نجزم به؛ لأن المرأة حتى ولو كان لها ثوب يضرب على الأرض، فإنها إذا سجدت سوف يظهر باطنُ قدميها، وعلى كلام المؤلِّف لا بُدَّ أن يكون الثَّوب ساتراً لباطن القدمين وظاهرهما، وكذلك الكَفَّان، ولا يبقى إلا الوجه، والوجه حَدّه كحَدِّ الوجه في الوُضُوء تماماً، أي: من مُنحنى الجبهة من فوق إلى أسفل اللحية من أسفل، ومن الأُذن إلى الأُذن عرضاً، وعلى هذا فيجب عليها أن تتحفَّظ بالنسبة لشعر الرَّأس ألاَّ يخرج؛ بناءً على أنه ما دام متَّصلاً فله حكم المتَّصل. وقد قال ابن رجب في القاعدة الثانية: إن في المذهب خلافاً في هذا، فمنهم من يقول: إن الشَّعر في حكم المُتَّصل، ومنهم من يقول: إنه في حكم المنفصل

(3)

.

وأما في باب النَّظر، فالمقصود منه سَدُّ ذرائع الفتنة، فيجب عليها ستر الوجه عن غير المحارم، وممن يرى وجوب ستر الوجه شيخ الإسلام، وكذلك يرى وجوب ستر الكفَّين والقدمين للمرأة، بناءً على أن العِلَّة الافتتان، بخلاف الصَّلاة (298)، فالمقصود أخذ الزِّينة.

(1)

انظر: «مجموع الفتاوى» (22/ 109 ـ 120).

(2)

تقدم تخريجه (1/ 29).

(3)

انظر: «القواعد» لابن رجب ص (4).

ص: 161

فصار المذهب على أنَّ العورة ثلاثة أقسام:

الحُرَّة البالغة كلُّها عورة إلا وجهها

(1)

.

والذَّكر من سبع سنين إلى عشر عورته الفَرجان فقط

(2)

.

وما سوى ذلك ما بين السُّرَّة والرُّكبة وقد سَبَقَ بيان ذلك.

وعن الإمام أحمد رحمه الله رواية أنَّ عورة الرَّجل الفَرجان فقط (302). وظاهر النَّقل: أنَّه لا فرق بين الصَّلاة والنَّظر، وأن هذه الرِّواية حتى في الصَّلاة، وأنه يمكن للرَّجل أن يُصلِّي وهو لم يستر إلا السَّوأتين فقط، ولكن شيخ الإسلام رحمه الله أَبَى ذلك وقال: أما في الصَّلاة فلا ينبغي أن يكون خلاف في أن الواجب ستر الفخذين

(3)

. وأمَّا في النَّظر؛ فالنَّظر شيء آخر .....

وهذا الذي ذكره هو القول الرَّاجح المتعيِّن، ولهذا كان الصَّحابة رضي الله عنهم إذا كانت عليهم أُزُرٌ قصيرة يعقدونها على مناكبهم حتى لا تنزل

(4)

، وهذا يدلُّ على أنهم يَرَون أنَّ الصَّلاة لا بُدَّ فيها من ستر ما بين السُّرَّة والرُّكبة، حتى وإن قلنا إنَّ الفخذ ليس بعورة. وما قاله رحمه الله صحيح، ولهذا قال الرسول عليه الصلاة والسلام:«إنْ كان ضيِّقاً فاتَّزرْ به»

(5)

، وقال: «لا يُصلينَّ

(1)

انظر: «مجموع الفتاوى» (22/ 109، 120).

(2)

انظر: «الإنصاف» (3/ 200، 201).

(3)

انظر: «مجموع الفتاوى» (22/ 116).

(4)

رواه البخاري، كتاب الأذان: باب عقد الثياب وشدها (814)، ومسلم، كتاب الصلاة: باب أمر النساء المصليات وراء الرجال أن لا يرفعن رؤوسهن من السجود حتى يرفع الرجال (441) من حديث سهل بن سعد.

(5)

متفق عليه، وقد تقدم تخريجه ص (151).

ص: 162

أحدكم في الثَّوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء»

(1)

، فالصَّلاة ليست مبنيَّة لا طرداً ولا عكساً على مسألة النَّظر، ولذلك تجد أن الرَّجل لو خلا بامرأته جاز أن ينظر إلى جميع بدنها، وأن تنظر إلى جميع بدنه، لكن لو صَلَّت بحضرته فقط يجب عليها السَّتر، وكذلك لو صَلَّى هو أيضاً بحضرتها يجب عليه السَّتر.

وبناءً على ذلك فنقول: الفَخِذَان في الصَّلاة لا بُدَّ من سترهما؛ لأنَّ هذا أدنى ما يُقال إنه زينة، والله يقول:{يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] .....

وأما في النَّظر؛ فالمقصود منه سَدُّ ذرائع الفتنة، فالنَّظر إلى ما كان محاذياً للسَّوأتين فله حكمهما، يعني أعلى الفخذ له حكم السوأتين، وما دون ذلك من الفخذ، فإن الذي يظهر من النُّصوص أنه ليس بعورة من حيث النَّظر؛ لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قد حَسَرَ عن فخذه

(2)

، وهو عليه الصلاة والسلام أشدُّ النَّاس حياءً، لكن بالنسبة للشباب أرى أنه لا بُدَّ أن يستر الشاب فخذه كلَّه وما دون السُّرَّة، خوفاً من الفتنة، ولا تقلْ إنه لا فتنة؛ لأنه لا يفتتن ذَكَر بذَكَرٍ مثله، فهذا القول ليس بصواب، وهو خلاف الواقع، فإن من النَّاس من يفتتن بالشاب، ولو كان ذَكَراً، ومن النَّاس من لا يهتمُّ به، وكأنما ينظر إلى أحد أولاده، فلا يمكن أن يتمتَّع بالنَّظر إليه، ومن النَّاس من حكى الله عنهم أنهم يأتون الرِّجَالَ شهوةً فيذهبون

(1)

تقدم تخريجه ص (150).

(2)

رواه البخاري، كتاب الصلاة: باب ما يذكر في الفخذ، رقم (371)، ومسلم، كتاب النكاح: باب فضيلة إعتاق أَمَة ثم يتزوجها، رقم (1365) عن أنس بن مالك رضي الله عنه.

ص: 163

إلى مَحلِّ القَذَر والأَذَى ـ والعياذ بالله ـ ويَدَعُون ما خلق الله لهم من أزواجهم، ولو كانت من أجمل النساء.

وقال شيخ الإسلام: يحرم النَّظر إليه ـ أي: إلى الشَّاب الذي يُخاف من النّظر إليه الفتنة ـ إذا تمتَّع الإنسان بالنَّظر إليه أو تلذَّذ؛ لأن هذا شرٌّ

(1)

، وكم نظرة أوقعت في قلب صاحبها البلابل، كما قاله الإمام أحمد

(2)

.

‌وَتُسْتَحبُّ صَلَاتُه فِي ثَوْبَيْنِ ..........

قوله: «وتُستَحبُّ صلاتُه في ثَوْبَيْن» ، أي: ينبغي للإنسان أن يُصلِّي في ثوبين؛ لأنهما أستر، ومن الثوبين: الإزار والرِّداء .....

والثَّوب الواحد إما أن يكون رداءً سابغاً يلتحف به، وقد ثَبَتَ عن النبيِّ عليه الصلاة والسلام أنه صَلَّى ملتحفاً به

(3)

. وإما أن يكون إزاراً، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لجابر بن عبد الله رضي الله عنهما:«إنْ كان ضيِّقاً فاتَّزرْ به»

(4)

. فالثَّوب الواحد مجزئ، وسواء كان ثوباً سابغاً يلتحف به جميع بدنه أم كان إزاراً، وقد صَلَّى جابرُ بن عبد الله رضي الله عنهما في إزار، ورداؤه على المشجب، فذكَّره رَجُلٌ بذلك، فقال:«فعلت هذا ليراه أحمق مثلك»

(5)

أي: جاهل، لا سيئ التصرف؛ لأن

(1)

انظر: «مجموع الفتاوى» (21/ 249 ـ 253)، «الاختيارات» ص (201).

(2)

انظر: «الإنصاف» (20/ 54).

(3)

رواه البخاري، كتاب الصلاة: باب الصلاة في الثوب الواحد ملتحفاً به، رقم (354)، ومسلم، كتاب الصلاة: باب الصلاة في ثوب واحد، رقم (517) عن عمر بن أبي سلمة.

(4)

متفق عليه، وقد تقدم تخريجه ص (151).

(5)

رواه البخاري، كتاب الصلاة: باب القفا في الصَّلاة، رقم (352)، ومسلم، كتاب الزهد والرقائق: باب حديث جابر الطويل، رقم (3008). من حديث جابر.

ص: 164

الأحمق هو الذي يرتكب الخطأ عن عمد، والمخطئ الذي يرتكبه عن جهل وعدم عمد، ومراد جابر رضي الله عنه بالأحمق: الجاهل؛ لأنه ورَدَ في لفظٍ آخر: «ليراه الجُهَّالُ»

(1)

.

والمشجب: ثلاثة أعواد تُقرن رؤوسُهن، ويُفَرَّج ما بين قوائمها وتثبَّت على الأرض، يستعملها الناس لتعليق الأسقية عليها أو غير ذلك

(2)

.

لكن الأفضل أن يُصلِّي في ثوبين؛ لأنه أبلغُ في السَّتر وأحوط، وصَحَّ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: «إذا وَسَّع الله عليكم فَأوسِعُوا، جَمَعَ رَجُلٌ عليه ثيابَهُ، صَلَّى رَجُل في إزارٍ ورداء، في إزارٍ وقميص

»

(3)

وذكر أشياء، فدلَّ هذا على أنه إذا كان الإنسان في سَعَة فالثَّوبان أفضل، ويؤيِّد ما ذهب إليه عمر رضي الله عنه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ: أيُصلِّي أحدُنا في الثَّوب الواحد؟ فقال: «أوَلِكُلِّكُم ثَوبان»

(4)

؟ وهذا يدلُّ على أن الثَّوب الواحد مجزئ، لكن إذا أوسع الله علينا فلنوسِّع، لأن قوله:«أوَلِكُلِّكُم ثوبان» يدلُّ على أنه ليس لكلِّ أحد من النَّاس ثوبان، ....

(1)

رواه البخاري، كتاب الصلاة: باب الصلاة بغير رداء، رقم (370).

(2)

«القاموس المحيط» ص (127)، وانظر:«الفتح» شرح حديث رقم (352).

(3)

رواه البخاري، كتاب الصلاة: باب الصلاة في القميص والسراويل، رقم (365).

(4)

رواه البخاري، كتاب الصلاة: باب الصلاة في الثوب الواحد، رقم (358)، ومسلم، كتاب الصلاة: باب الصلاة في ثوب واحد، رقم (515) عن أبي هريرة.

ص: 165

بل كثير من النَّاس في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم على ثوب واحد.

وظاهر كلام المؤلِّف: أن سَتْرَ الرَّأس ليس بسُنَّة؛ لأنَّه قال: «صلاته في ثوبين» إزار ورداء، قميص ورداء، وما أشبه ذلك، فظاهره أنه لا يُشرع ستر الرأس، وقد سبق في أثر ابن عمر أنه قال لمولاه نافع:«أتخرجُ إلى النَّاس حاسرَ الرَّأس؟ قال: لا، قال: فالله عز وجل أحقُّ أن يُستحى منه»

(1)

. وهو يدلُّ على أن الأفضل ستر الرأس، ولكن إذا طبَّقنا هذه المسألة على قوله تعالى:{يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] تبيَّن لنا أن ستر الرأس أفضل في قوم يعتبر ستر الرأس عندهم من أخذ الزِّينة، أما إذا كُنَّا في قوم لا يُعتبر ذلك من أخذ الزينة، فإنَّا لا نقول: إنَّ ستره أفضل، ولا إنَّ كشفه أفضل، وقد ثبت عن النبيِّ عليه الصلاة والسلام:«أنه كان يُصلِّي في العِمامة»

(2)

، والعِمَامة ساترة للرَّأس.

‌وَيَكْفِي سَتْرُ عَوْرَتِه في النَّفْلِ ..........

قوله: «ويكفي سَتْرُ عَوْرَته في النَّفل» ، أي: عورة الرَّجُل، وهي ما بين السُّرة والرُّكبة، إلا من سبع إلى عشر فهي الفَرْجان،

(1)

تقدم الكلام عليه ص (150).

(2)

روى البخاري، كتاب الوضوء: باب المسح على الخفين، رقم (205)، عن جعفر بن عمرو عن أبيه قال:«رأيت النبيَّ صلى الله عليه وسلم يمسح على عِمامته» ، وما مسح عليها في الوضوء إلا ليصلي بها.

ـ وروى مسلم، كتاب الحج: باب دخول مكة بغير إحرام، رقم (1359)، عن عمرو بن حريث أنه رأى النبيَّ صلى الله عليه وسلم يخطب على المبنر وعليه عِمامة سوداء

».

ـ وروى البخاري، كتاب الصلاة: باب السجود على الثوب في شدة الحرِّ، معلقاً بصيغة الجزم، ووصله عبد الرزاق (1/ 400)، وابن أبي شيبة عن الحسن: «أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يسجدون على عمائمهم

».

ص: 166

القُبُل والدُّبُر، فيكفي ستر العورة، أما الزيادة فهو سُنَّة.

وقوله: «في النَّفْلِ» ، النَّفْل: كلُّ ما عدا الفرض، كالرَّواتب التَّابعة للمكتوبات؛ ورَكعتي الضُّحى وغيرهما.

والمُهم: أن صلاة النَّافلة يكفي فيها سَتْرُ العورة.

‌وَمَعَ أَحَدِ عَاتِقيْه في الفَرْضِ ............

أما الفريضة فقد قال المؤلِّف: «ومع أحد عاتقيه في الفرض» ، يعني: أنه يجب ستر أحد العاتقين مع العورة في الفرض، وهو ما يأثم بتركه كالصَّلوات الخمس والجُمُعة.

وظاهر كلامه: أنه يشمل الفرض بأصل الشَّرع والواجب بالنَّذر، ويشمل فرضَ العين، وفرضَ الكفاية؛ كصلاة الجنازة، وصلاة العيدين على أحد الأقوال

(1)

.....

والعاتق: هو موضع الرِّداء من الرَّقبة، فالرِّداء يكون ما بين الكَتِف والعُنق، ففي الفريضة لا بُدَّ أن تُضيفَ إلى سترِ العورة ستر أحد العاتقين الأيمن أو الأيسر. والدَّليلُ قولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم:«لا يُصلِّينَّ أحدُكُم في الثَّوب الواحد ليس على عاتِقِه منه شيء»

(2)

، وفي لفظ:«ليس على عاتِقَيْهِ منه شيء»

(3)

بالتثنية، والتثنية لا تُعارض المفرد؛ لأن المفرد مُضاف، والمُضاف يعمُّ.

وهذا الدَّليل أعمُّ من المدلول، فالدَّليل:«لا يُصلِّينَّ أحدُكُم» وهذا يشمل الفرضَ والنَّفلَ، فكوننا نستدلُّ بالأعمِّ على الأخصِّ يُعتبر نقصاً في العمل بالنصِّ؛ لأنه إذا دلَّ النصُّ على حُكم عام؛

(1)

انظر: «الإنصاف» (5/ 416، 317) .....

(2)

تقدم تخريجه ص (150).

(3)

هذا لفظ الصحيحين، وقد تقدم تخريجه ص (150).

ص: 167

ثم قَصَرْتَه على بعض أفراده؛ كان ذلك نقصاً في العمل به؛ إذاً إن العام يجبُ العملَ بعمومه إلا بدليل، ولا دليل هنا، فمقتضى الاستدلال بالحديث العموم في الفرض والنَّفْل:«لا يصلِّي أحدُكُم في الثَّوب الواحد ليس على عاتِقَيْهِ منه شيء»

(1)

، والتفريق بين الفرضِ والنَّفلِ مخالفٌ لظاهرِ الحديث. ثم إن المؤلَّف يقول:«مع أحد عاتقيه» ، والحديث يدلُّ على سَتْرِ العَاتقين جميعاً، وما قاله المؤلِّفُ هو المشهور من المذهب.

والقول الثاني: أنَّ سَتْرَ العاتقين سُنَّة؛ وليس بواجب؛ لا فرق بين الفرضِ والنَّفلِ

(2)

؛ لحديث: «إنْ كان ضيِّقاً فاتَّزِرْ به»

(3)

، وهذا القول هو الرَّاجح، وهو مذهب الجمهور

(4)

، وكونه لا بُدَّ أن يكون على العاتقين شيء من الثَّوب ليس من أجل أن العاتقين عورة، بل من أجل تمام اللباس وشدِّ الإزار؛ لأنه إذا لم تشدَّه على عاتقيك ربما ينسلخُ ويسقطُ، فيكون ستر العاتقين هنا مراداً لغيره لا مراداً لذاته .............

‌وَصَلاتُها في دِرْع، وَخِمَارٍ، ومِلْحَفَةٍ، وَيُجْزِئُ سَتْرُ عَوْرَتِها.

قوله: «وصلاتها في دِرْعٍ وخِمَارٍ ومِلْحَفَة» ، الضمير يعود على المرأة يعني: تُسَنُّ صلاةُ المرأة في دِرْع وخِمار ومِلحفة.

والدِرْعُ هو: القميص السابغ الذي يصل إلى القدمين. والخِمَار: ما يُلَفُّ على الرَّأس. والمِلحَفَة: ما يُلَفُّ على الجسم كلِّه كالعَباءة والجلباب وما أشبههما. فيُسَنُّ للمرأة أن تُصلِّي في

(1)

هذا لفظ الصحيحين، وقد تقدم تخريجه ص (150).

(2)

انظر: «الإنصاف» (3/ 213 ـ 218).

(3)

متفق عليه، وقد تقدم تخريجه ص (151).

(4)

انظر: «المغني» (2/ 289 ـ 292)، «المجموع شرح المهذَّب» (3/ 175).

ص: 168

هذه الأثواب الثلاثة: دِرْع، وخِمار، ومِلحفة. ولم يذكر السَّراويل، بل اقتصر على هذا؛ لأن هذا هو ما رُويَ عن عُمر وعائشة وأم سلمة رضي الله عنهم

(1)

أن المرأة تُصلِّي في الدِّرع والخِمَار، فلو اقتصرت على الدِّرع والخِمَار أجزأ، لكن لا بُدَّ من ستر اليدين بالقُفَّازين، وستر القدمين إمَّا بالجوارب، وإمَّا بأن يُجعل الدِّرعُ سابغاً بناءً على القول بأنه لا بُدَّ من ستر الكفَّين والقدمين. أمَّا على القول الرَّاجح الذي اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية

(2)

وصاحب «الإنصاف»

(3)

فإنه لا يجب ستر الكفَّين والقدمين، وبناءً على ذلك: يكفي إذا كان الدِّرْعُ إلى القدمين وأكمامُه إلى الرُّسغ.

(1)

وب تصلّي، رقم (6167)، والبيهقي (2/ 235) عن عمر بن الخطاب قال:«تصلّي المرأة في ثلاثة أثواب: درع، وخمار، وإزار» . قال ابن كثير: «إسناده صحيح، على شرطهما» . «مسند الفاروق» (1/ 151).

ـ وروى عبد الرزاق الصنعاني (3/ 128)، وأبو بكر بن أبي شيبة، الموضع السابق، رقم (6168) عن علي بن أبي طالب قال:«تصلي المرأة في درع سابغٍ وخِمَار» ، فأقرَّته عائشة وقالت:«صدق» .

ـ وروى عبد الرزاق «الموضع السابق» ، وأبو بكر بن أبي شيبة «الموضع السابق» ، رقم (6171)، وأبو داود، كتاب الصلاة: باب في كم تصلي المرأة، رقم (639)، والبيهقي في المعرفة والآثار» (3/ 145) عن أم سلمة قالت:«تصلِّي في الخِمار، والدرع السَّابغ الذي يُغيِّبُ ظُهورَ قدميها» . وروي نحو ذلك عن عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وأم حبيبة، وميمونة بنت الحارث.

انظر: «المصنف» لعبد الرزاق الصنعاني، و «المصنف» لأبي بكر بن أبي شيبة ـ المواضع السابقة.

(2)

انظر: «مجموع الفتاوى» (22/ 114، 115).

(3)

انظر: «الإنصاف» (3/ 206، 209).

ص: 169

قوله: «ويجزئ سَتْر عورتها» ، أي: يجزئ المرأة ستر عورتها، ولو بثوبٍ واحدٍ، فلو تَلَفْلَفَت المرأةُ بثوب يستر رأسها وكفَّيها وقدميها وبقية بدنها، ولا يخرج منه إلا الوجه أجزأ، ولو لفّت نفسها بثوب يخرج منه الكفَّان والقدمان مع الوجه أجزأ على القول الرَّاجحِ.

وهنا لم يفرِّق المؤلِّفُ في سَتْر المرأة بين الفَرض والنَّفل؛ لعدم الدَّليل، وفَرَّقَ في ستر عورة الرَّجل بناءً على استدلاله بالحديث

(1)

، وسبق بيان ذلك

(2)

، وأنَّ ظاهر الحديث لا فرق بين الفرض والنَّفل .........

‌وَمَن انْكَشَفَ بَعْضُ عَوْرتِه وفَحُشَ،

.............

قوله: «ومن انْكَشَفَ بعضُ عَوْرَتِهِ وفَحُشَ» ، «مَنْ» شرطيَّة «انكَشَفَ» فعل الشَّرط «أعَادَ» جوابه. «انكشف» أي: زال عنه السَّترُ و «بعض العورة» يشمل السَّوأة وغيرها مما قلنا إنه عورة.

وقوله: «فَحُشَ» ، أي: غَلُظَ وعَظُمَ، ولم يُقيِّده المؤلِّفُ رحمه الله بشيء، يعني لم يقلْ: قَدْرَ الدِّرهم، أو قَدْرَ الظُّفْر، أو قَدْرَ جُبِّ الإبرة وما أشبه ذلك، فيُرجعُ إلى العُرف؛ لأن الشيءَ إذا لم يُقيَّد بالشَّرع أُحِيْلَ على العُرف، وعليه قول النَّاظم:

وكلُّ ما أَتَى ولم يُحدَّدْ

بالشَّرع كالحِرْزِ فبالعرف احدُدْ

(3)

وعلى هذا فنقول: «فَحُشَ» أي عُرْفاً، فإذا قال النَّاس: هذا

(1)

تقدم تخريجه ص (150).

(2)

انظر: ص (167، 168).

(3)

انظر: «منظومة في أصول الفقه وقواعد فقهية» ، للمؤلف رحمه الله ص (16).

ص: 170

كبير، كان فاحشاً. وإذا قالوا: هذا يسير، يكون غير فاحش ولا يؤثِّر.

ثم إن الفُحْشَ يختلف باختلاف المنكشف، فلو انكشف شيء من أسفل الفخذ مما يلي الرُّكبة على قَدْر الظُّفر، وانكشف على السَّوأتين نفسِهِما على قَدْر الظُّفر لعُدَّ الثاني فاحشاً، والأول غير فاحش.

فإذاً؛ اختُلف باعتبار المكان الذي انكشف، وبناءً على ذلك يوجد بعض الناس يكون عليهم «بنطلون» ، ثم إذا سجد انكشف بعضُ الظَّهر من أسفل الظَّهر بعيداً عن الدُّبُر، فإذا كان انكشافاً يسيراً في العُرف، كأن يكون كخطِّ الإصبع مثلاً، فهذا يسير لا يضرُّ، أما إذا كان السِّروال قصيراً ثم لمَّا سجد انكشف منه كثيرٌ فهذا فاحش.

وظاهر قوله: «ومن انكشف» ، أن هذا انكشاف دُونَ عمد، وأنَّه لو تعمَّد لم تصحَّ الصَّلاةُ، سواء كان الانكشافُ يسيراً، أم فاحشاً؛ لأن هناك فرقاً بين الانكشافِ وبين الكشف. وعلى هذا فلو تعمَّد أن يَكشِفَ شيئاً من عورته ولو يسيراً، ولو في زمن يسير، فإن صلاته تبطل، فلو رفع سروالَه ليَحُكَّ ركبته، ورفع حتى ظهر الفَخِذُ ـ وقلنا إن الفخذ عورة ـ بطلت صلاته؛ لأنه تعمَّد الكشف .....

فإن فَحُشَ ولكنه في زمن يسير، بحيث انكشف ثم ستره؛ فظاهر كلام المؤلِّف أن صلاته لا تصحُّ، وهذا ليس بصحيح، بل نقول: إذا انكشف كثير وستره في زمن يسير، فإن صلاته

ص: 171

لا تبطل، ويُتَصَوَّرُ ذلك فيما لو هبَّت ريحٌ، وهو راكع وانكشف الثَّوب، ولكن في الحال أعاده، فظاهر كلام المؤلِّف أن الصَّلاة تبطل، والصَّحيح: أنها لا تبطل؛ لأنه ستره عن قُرْب، ولم يتعمَّد الكشف، وقد قال تعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16].

وخلاصة هذه المسألة:

أولاً: إذا كان الانكشاف عَمْداً بطلت الصَّلاة، قليلاً كان أو كثيراً، طال الزَّمنُ أو قَصُرَ.

ثانياً: إذا كان غير عَمْدٍ وكان يسيراً، فالصَّلاة لا تبطل.

ثالثاً: إذا كان غير عَمْد، وكان فاحشاً لكن الزمن قليل، فظاهر كلام المؤلِّف أنها تبطل، والصَّحيح أنها لا تبطل.

رابعاً: إذا انكشف عن غير عَمْد انكشافاً فاحشاً، وطالَ الزَّمن بأن لم يعلم إلا في آخر صَلاتِهِ، أو بعد سلامه، فهذا لا تصحُّ صلاته؛ لأنَّه فاحش والزَّمن طويل.

مثاله: إنسانٌ صَلَّى في سروال أو إزار، وبعد صلاته وَجَدَ أن هناك فتحة كبيرة تُحاذي السَّوأة، ولكن لم يعلم بها إلا بعد أن سَلَّم، فنقول: صلاتُه غير صحيحة ويُعِيد؛ لأن ستر العورة شرط من شروط الصَّلاة، والغالب عليه في مثل الحال أنه مفرِّط. أما إذا انشق الثَّوب في أثناء الصَّلاة، وهذا يقع كثيراً، ولا سيَّما في الثِّياب الضيِّقة، ثم بسرعة أمسكه بيده فالصَّلاة صحيحة؛ لأنه وإن كان فاحشاً فالزَّمن قصير، ولم يتعمَّد.

ص: 172

‌أَوْ صَلَّى في ثَوْب مُحَرَّمٍ عَلَيْه ........

قوله: «أو صَلَّى في ثوب محرَّم عليه» ، أي: لم تصحَّ صلاتُهُ؛ لأنه سبقَ أن من شرط السَّاتر أن يكون مباحاً

(1)

، فإذا صَلَّى في ثوب محرَّم عليه، إما لكَسْبِه، وإما لعَيْنِه، وإما لوصفه، وإمَّا لكون ثمنه المعيَّن حراماً، فصلاته غيرُ صَحيحة .....

مثال المحرَّم لكسبه: أن يكون مغصوباً، أو مسروقاً، أو ما أشبه ذلك.

ومثال المحرَّم لعينه: أن يكون حريراً على رَجُل، أو فيه صُور على رَجُل أو امرأة، لأن الثَّوب الذي فيه صُور حرام لُبْسه على الرِّجال والنِّساء.

ومثال المحرَّمِ لِوَصْفِهِ: صلاة الرَّجل في ثوب امرأة أو بالعكس.

ومثال المحرَّم لكون ثمنه المعيَّن حراماً: لو اشترى بدراهم سرقها ثوباً، ففيه تفصيل: إن وقع العقد على عين الدَّراهم لم تصحَّ الصَّلاة فيه، وإن وقع العقد على غير عين الدَّراهم، أي: في ذمَّة المشتري، فالصَّلاة فيه صحيحة. وهذا من دقَّة الفقهاء رحمهم الله، فإذا جئت لصاحب الثَّوب وقلت: بِعْ عليَّ هذا الثَّوب بهذه الدراهم ـ يَعني المسروقة ـ فَبَاعه، فإنه لا تصحُّ الصَّلاةُ فيه؛ لأن العقد فاسد؛ لوقوعه على عين النقود المحرَّمة المسروقة، لكن لو قلت: بِعْ عليَّ هذا الثوب بعشرة، وبَاعَهُ عليك، وأوفيت الثمن من دراهم مسروقة، فالعقد صحيح مع أن

(1)

انظر: ص (154).

ص: 173

ثمنه محرَّم؛ لكنها لم تُعيَّن الدراهم في العقد، لأن الثَّمنَ ثبت في الذِّمة، وأوفاه المشتري من الدّراهم المسروقة.

والدليل على عدم صحَّة الصَّلاة: أن السَّتر عبادة، والعبادة إذا وقعت على وجه منهيٍّ عنه، فقد وقعت على غير أمر الله وأمر رسوله فتكون مردودة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:«من عَمِلَ عملاً ليس عليه أمرنا فهو رَدٌّ»

(1)

.....

ولأن السَّتر شرطٌ من شروط الصَّلاة، ولُبْسُ هذا الثوب محرَّم، ولا يمكن أن يَرِدَ وجوبٌ وتحريم على عَيْنٍ واحدة، فهذا الثَّوب المحرَّم يلبسه للصَّلاة على سبيل الوجوب، ويحرم لُبْسُه؛ لأنه محرَّم، فيتصادم عندنا الوجوب والتحريم، وإذا تصادما فإن وجود المحرَّم كعدمه شرعاً، فلا يكون قائماً بالواجب عليه، وحينئذ يكون هذا السَّتر كالعدم؛ لأنه جعل المنهيَّ عنه بدلاً عن المأمور به، فاصطدم الأمر والنهي، فبطل الأمر وصار كأنه لم يأتِ بما أُمِرَ به، وهذا تعليلٌ قويٌّ، ويؤيِّده الحديث الذي يُروى عن الرَّسول صلى الله عليه وسلم في الرَّجُلِ المُسبل إزاره أنه أمره بإعادة الصَّلاة

(2)

، وهذا يدلُّ على أنه من شرط الثَّوب الذي تُستر به العورة أن يكون مُباحاً.

وذهب كثيرٌ من أهل العلم: إلى أن الصَّلاة لا تبطل إذا ستر عورته بثوب محرَّم

(3)

؛ لأن السَّترَ حصل به، والجهة منفكَّة؛ لأن تحريم لُبْس الثَّوب ليس من أجل الصَّلاة؛ ولكنه تحريمٌ مطلق،

(1)

تقدم تخريجه (1/ 186).

(2)

تقدم تخريجه (1/ 230).

(3)

انظر: «المغني» (2/ 303)، «المجموع شرح المهذب» (3/ 180).

ص: 174

فلو قال الشَّارع مثلاً: لا تصلِّ في هذا الثَّوب، فَصلَّى فيه، قلنا: إن الصَّلاة باطلة إن صلَّيتَ في هذا الثَّوب؛ لأن الصَّلاة فيه تُناقض نهي الشَّارع عن الصَّلاة فيه، أمَّا والشَّارع لم يَنْهَ عن الصَّلاة في هذا الثوب، وإنما نهى عن لُبْسِ الثَّوب المحرَّم مطلقاً في صلاة أو غيرها، فهذا لا يقتضي بُطلان الصَّلاة؛ لأن الجهة مُنفكَّة، فالأمر بلبْسِ الثَّوب في الصَّلاة من أجل الصَّلاة {يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31]، والنهيُ عن لُبْسِ الثَّوب المحرَّم، لا من أجل الصَّلاة، ولكن من أجل استعمال شيء لا يجوز لك استعماله .....

وهذا القول ـ أعني صحَّة الصّلاة بستر العورة بثوبٍ محرَّم ـ هو الرَّاجح، إلا إذا ثبت الحديث في المُسبل ثوبه بإعادة الصَّلاة، فإن ثبت الحديث تعيَّن القول بموجبه، لكن كثيراً من أهل العلم ضَعَّفه

(1)

، وقالوا: لا تقوم به حُجَّة، ولا يمكن أن نلزم إنساناً بإعادة صلاته بناءً على حديث ضعيف.

ولو صَلَّى في ثوبٍ محرَّم وعليه غيره؟ فظاهر كلام المؤلِّف أن الصَّلاة لا تصحّ؛ لأنه قال: «أو صَلَّى في ثوبٍ محرَّمٍ عليه» ، ولم يقل:«ستر بثوب محرَّم عليه» ، وعلى هذا؛ فلو صَلَّى في ثوب حرير وتحته ثوب قطن أو صوف، فصلاته غير صحيحة على مُقتضى كلام المؤلِّف، وقيل: إن كان الثَّوب المحرَّم شعاراً والمباح دثاراً فإنها لا تصحُّ، وإن كان العكس صحّت

(2)

.

والشِّعار: الذي يلي الجسد، والدِّثار: الفَوقاني، لأنه إذا

(1)

انظر: (1/ 230).

(2)

انظر: «الإنصاف» (3/ 224).

ص: 175

كان شعاراً صار السَّتر به، وإن كان دِثاراً فالسَّتر بالذي تحته، فيُفرَّق بين هذا وهذا، وظاهر كلام المؤلِّف أنه لا فرق.

والرَّاجح: ما سبق من أن الصَّلاة في الثَّوب المحرَّم صحيحة.

مسألة: إذا سألَنَا سائل قد صَلَّى في ثوب محرَّمٍ، فلا يتوجَّه أمره بالإعادة. وأما إذا سألنا قبل أن يُصلِّي فنقول: يجب عليك أن تخلعه، لا من أجل الصَّلاة فحسب، ولكن لأنه ثوب محرَّم لا يجوز استعمالُه، فهناك فرق بين أن يُمَكَّن الإنسان من أن يستعمل المحرَّم فلا نمكِّنه، وبين أن يَسأل عن أمرٍ قد مضى وانقضى، فلا يُؤمر بالإعادة، لكن على المذهب تجب الإعادة.

ويُشترط لبطلان الصَّلاة في الثَّوب المحرَّم أن يكون عالماً ذاكراً، فإن كان جاهلاً أو ناسياً فلا إعادة عليه.

مسألة: إذا لم يجد إلا ثوباً محرَّماً فهل يصلِّي فيه؟ .....

الجواب: ننظر، فإن كان محرَّماً لحق العباد كالمغصوب، فإنه لا يصلِّي فيه، فإذا لم يكن عليه إلا ثوب مغصوب نقول: اخلعِ الثَّوبَ وصَلِّ عُرياناً، ولا يجوز أن تُصلِّي بالثَوب؛ لأنه محرَّم لحقِّ العباد؛ إلا إذا كنت مضطراً لدفع البرد فهنا صَلِّ به؛ لأن لُبْسَه حينئذ مباح. وإن كان محرَّماً لحقِّ الله فلا حرج عليه أن يُصلِّي فيه، كالثَّوب الحرير للرَّجُل إذا لم يجد غيره، فإنه يُصلِّي فيه؛ لأن التَّحريم لحقِّ الله عز وجل يزول عند الضَّرورة، وحينئذ يُصلِّي ولا إعادة عليه، وكذلك لو كان ثوبه فيه صُوَر يُصلِّي فيه إذا لم يجد غيره.

ص: 176

وقال بعض أهل العلم: إذا كان محرَّماً لحقِّ العباد لا بأس أن يُصلِّي فيه؛ لأن هذا استعمال يسير جرت العادةُ والعُرف بالتَّسامح فيه

(1)

. ونحن يَغْلِبُ على ظنِّنا أن صاحب هذا الثوب إذا علم أنك استعملته لعدم وجود غيره فسوف يسمح، هذا هو الغالب إن لم يكن المعلوم. وهذا القول ليس بعيداً من الصَّواب، ولا سيما إذا كنت تعرف أن صاحب هذا الثوب رَجُلٌ كريم جيد، فهنا قد نقول: يتعيَّن عليك أن تُصلِّي فيه؛ لأن مثل هذا يُعلم رضاه.

أو نَجِسٍ أَعَادَ .........

قوله: «أو نجسٍ أعاد» ، أي: أو صَلَّى في ثوبٍ نجس، والمراد بالثَّوبِ النَّجس ما كان نجساً بعينه كجلد السِّباع أو متنجِّساً بنجاسة لا يُعفى عنها، فإن كانت نجاسة يُعفى عنها فلا حرج عليه أن يُصلِّي فيه، مثل: اليسير من الدم المسفوح.

ودليل وجوب الإعادة: ما سبق عند ذكر اشتراط طهارة الثَّوب

(2)

.

وقوله: «أعاد» ظاهره: سواء كان عالماً، أم جاهلاً، أم ذاكراً، أم ناسياً، أم عادماً، أم واجداً. وهذا هو المذهب، فهذه ستُّ صور.

وأمثلتها ما يلي:

1 -

صَلَّى في ثوبٍ نجسٍ يعلم نجاسته؛ مع القُدرة على تطهيره، فلا تصحُّ صلاتُهُ؛ لأنَّه خالف أمر الله ورسوله، فوجب عليه إعادة الصَّلاة.

(1)

انظر: «الفروع» (1/ 332)، «الإنصاف» (3/ 225).

(2)

انظر: ص (152).

ص: 177

2 -

صَلَّى في ثوب نجسٍ جاهلاً النَّجاسة، أو جاهلاً بوجوب تطهيره، ولم يعلم إلا بعد انتهاء الصَّلاة، فيعيد لأنه أخلَّ بشرط في الصَّلاة، والإخلال بالشَّرط لا يُغتفر، قال الرسول عليه الصلاة والسلام للرَّجل الذي لا يطمئن:«إنك لم تُصَلِّ»

(1)

، وقال:«لا يقبلُ اللَّهُ صلاةً بغير طُهور»

(2)

.

3 -

صَلَّى في ثوب نجس وهو يذكر النَّجاسة؛ فيعيدُ.

4 -

صَلَّى في ثوب نجس، فنسيَ أنه نجس، أو نسي أن يغسلها؛ فيعيد.

5 -

صَلَّى في ثوب نجس، وليس عنده ما يغسلها به، وليس عنده غير هذا الثَّوب؛ فيعيد مع أنه يجب عليه أن يُصلِّي به.

6 -

صَلَّى في ثوبٍ نجسٍ وعنده ثوبٌ طاهر ولم يصلِّ به؛ فيعيد.

وقال بعضُ أهل العلم: إنه إذا كان جاهلاً، أو ناسياً، أو عادماً، فلا إعادة عليه

(3)

، واستدلُّوا بقوله تعالى:{رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِيْنَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286]، فقال الله تعالى:«قد فعلتُ» والآية عامَّة، وتُعتبر من أكبر وأعظم قواعد الإسلام، لأن الذي علَّمنا هذا الدُّعاء هو الله عز وجل، وأوجب على نفسه عز وجل أن يفعل، فقال:«قد فعلت» كما صحَّ في الحديث الذي رواه

(1)

رواه البخاري، كتاب الأذان: باب وجوب القراءة للإمام والمأموم، رقم (757)، ومسلم كتاب الصلاة: باب وجوب القراءة في كل ركعة، رقم (397) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

رواه مسلم، وقد تقدم تخريجه (1/ 324).

(3)

انظر: «الفروع» (1/ 333)، «الإنصاف» (3/ 233، 227).

ص: 178

مسلم

(1)

. إذاً؛ هذا الرَّجل الذي صَلَّى في ثوبٍ نجسٍ، وهو لا يدري بالنَّجاسة إلا بعد فراغه مخطئ لا خَاطئ، ولو كان يعلم بالنَّجاسة لقُلنا: إنه خاطئ، ولكن هو الآن مخطئ جاهل، فليس عليه إعادة بمقتضى هذه الآية العظيمة التي تُعتبر أساساً في الدِّين الإسلامي.

وهناك دليل خاصٌّ بالمسألة، وهو أن الرَّسول صلى الله عليه وسلم لما أخبره جبريلُ بأنَّ في نعليه أذى أو قَذَرٌ خلعهما

(2)

واستمرَّ في صلاته، ولو كان الثَّوب النَّجس المجهول نجاسته تبطل به الصَّلاة لأعادها من أوَّلها.

وأما النسيان: بأن نسيَ أن يكون عليه نجاسة، أو نسيَ أن يغسلها فَصَلَّى بالثوب النَّجس؛ فالصَّحيح أنه لا إعادة عليه.

والدليل: قوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِيْنَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286].

ودليل آخر: ما ثبت عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:«مَنْ نسيَ وهو صائمٌ فأكلَ أو شربَ فليُتِمَّ صومَه»

(3)

. والأكل والشّرب في الصِّيام فعل محظور، والصَّلاةُ في ثوب نجس فِعْلٌ محظورٌ أيضاً. فلمَّا سقط حكمه بالنسيان في باب الصِّيام قِيْسَ عليه حُكمه بالنسيان في باب الصَّلاة.

(1)

رواه مسلم، كتاب الإيمان: باب بيانه أنه سبحانه لم يكلف إلا ما يطاق، رقم (125)(126)، عن أبي هريرة رضي الله عنه، وابن عباس رضي الله عنهما.

(2)

تقدم تخريجه ص (99).

(3)

رواه البخاري، كتاب الصوم: باب الصائم إذا أكل أو شرب ناسياً، رقم (1933)، ومسلم كتاب الصيام: باب أكل الناسي وشربه (1155) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 179

فإن قال قائل: أوجبوا عليه الإعادة لظُهور الفرق بينه وبين الجاهل، لأن الجاهل لم يعلم أصلاً بالنَّجاسة؛ فهو معذور، والنَّاسي مفرِّط، فلم يبادر بالغسل فليس بمعذور؟ وكان من هدي الرَّسول عليه الصلاة والسلام أن يُبادر بإزالة النَّجاسة، فالذي بَالَ في المسجد قال:«أريقوا على بولِهِ ذَنُوباً من ماء»

(1)

، فأمر بالمبادرة، والصبيُّ الذي بَالَ في حِجْرِه دعا بماء فأتبعه إيَّاه

(2)

، والإنسان معرَّض للنسيان، ولا سيما إذا كان كثير النسيان، فما هو الجواب؟

الجواب: أننا لم نسقط القضاءَ عن النَّاسي بالقياس على الجاهل حتى يُنْقَض القياس بهذا الفرق، وإنما أسقطناه عن النَّاسي بالدَّليل المستقل وهو قوله تعالى:{رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِيْنَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286].

ثم يقال: إن مبادرة النبيِّ صلى الله عليه وسلم بتطهير النَّجاسة ليس على سبيل الوجوب؛ لأن الله تعالى لم يوجب الوُضُوء، وهو آكد من إزالة النجاسة إلا عند القيام إلى الصَّلاة فقال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} [المائدة: 6]. فلو أحدث الإنسان قبل الصَّلاة بساعة، لم يجب عليه الوُضُوء، مع أن فيه احتمالاً أن يُصلِّي وينسى أنه أحدث، فإذا كان كذلك لم يكن تأخير التَّطهير تفريطاً، فإذا نسيَ النَّجاسة أو تطهيرها كان معذوراً، وأما العدم بمعنى أن لا يكون عنده ثوب طاهر، ولا يتمكَّن من

(1)

متفق عليه، وقد تقدم تخريجه (1/ 415).

(2)

متفق عليه، وقد تقدم تخريجه (1/ 30، 437).

ص: 180

تطهير ثوبه فقد ذكرنا أنَّ المذهب أنه يصلِّي به ويُعيد، وهذه المسألة فيها أقوال أشهرها ثلاثة:

القول الأول: وجوب الصَّلاة مع الإعادة، وهو المذهب

(1)

.

والقول الثاني: أنه يُصلِّي عُرياناً ولا يعيد، وهو قول الشَّافعي

(2)

ورواية عن أحمد

(3)

.

والقول الثالث: أنه يُصلِّي به، ولا إعادة، اختاره الشَّيخان: الموفَّق والمجد (350)، وهو مذهب مالك

(4)

.

أما الذين قالوا يُصلِّي ويعيد، فعلَّلوا قولهم: بأنَّ سَتْرَ العورة واجب، فيجب أن يصلِّي ويجب أن يُعيد؛ لأنه حامل للنَّجاسة الواقعة بهذا الثَّوب.

وأما الذين قالوا: يُصلِّي عُرياناً ولا يُعيد؛ فعلَّلوا ذلك بأن هذا الثَّوب لا يجوز لُبْسُه في الصَّلاة، وكونه مضطراً لِسَتْرِ عورته لا يُبرِّر له أن يلبسه في الصَّلاة وهو نجس، فيجب عليه أن يخلعه ويُصلِّي عُرياناً.

وأما الذين قالوا: يُصلِّي به بلا إعادة فقالوا: إن السَّتر واجب، وإنَّ حَمْله للنَّجسِ حينئذ للضَّرورة؛ لأنه ليس عنده ما يُزيلُ به هذه النَّجاسة، وليس عنده ما يكون بدلاً عن هذا الثَّوب، فيكون مضطراً إلى لُبْسِهِ، وقد قال الله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي

(1)

انظر: «الإنصاف» (3/ 228).

(2)

انظر: ««المجموع شرح المهذَّب» (3/ 142، 143).

(3)

انظر: «المغني» (2/ 315 ـ 316)، «الإنصاف» (3/ 228، 229).

(4)

انظر: «حاشية الدسوقي على الشرح الكبير» (1/ 217).

ص: 181

الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، وهذا هو القول الرَّاجح.

ويلزم على القول الأول: أنه يُصلِّي في ثوب نجسٍ، ويتقرَّب إلى الله وثوبُه ملطَّخ بالنَّجاسة، ثم يُقال: هذه الصَّلاة غير مقبولة، فيجب أن تُعيدها، فأوجبنا عليه صلاتين، صلاةً مردُودة وصلاةً مقبولة، وهذا قول إذا تصوَّره الإنسانُ عرف أنَّه بعيد.

ويلزم على القول الثَّاني؛ وهو أن يُصلِّي عُرياناً: ما هو أقبح، فإن صورة الرَّجل العُريان بين يدي الله عز وجل أقبحُ من أن يكون حاملاً لثوب نجس للضَّرورة، والله تعالى أحقُّ أن يُستحى منه.

‌لا مَنْ حُبِسَ فِي مَحَلٍّ نَجِسٍ،

.........

قوله: «لا مَنْ حُبِسَ في مَحَلٍّ نَجِسٍ» ، معطوف على قوله:«أعاد» ، أي: لا يُعيد من حُبِسَ في مَحَلٍّ نجسٍ، ولم يتمكَّن من الخروج إلى مَحَلٍّ طاهرٍ؛ لأنَّه مُكره على المُكْثِ في هذا المكان، والإكراه حكمه مرفوع عن هذه الأمة، كما قال النبيُّ عليه الصلاة والسلام:«إن الله تجاوز عن أُمَّتي الخطأ والنسيانَ وما استُكرِهُوا عليه»

(1)

.

والفرق بينه وبين مَنْ صَلَّى في ثوبٍ نجس أنَّ مَنْ صَلَّى في ثوبٍ نجسٍ ليس مُكرهاً على الصَّلاة فيه، ولذلك لو أُكره على الصَّلاة في ثوبٍ نجس، فإنه يُصلِّي فيه ولا إعادة.

ولكن كيف يُصلِّي من حُبِسَ في مَحَلٍّ نَجِسٍ؟

الجواب: إن كانت النَّجاسة يابسة صَلَّى كالعادة، وإن كانت

(1)

تقدم تخريجه ص (147).

ص: 182

رطبة صَلَّى قائماً ويركع ويرفع من الرُّكوع، ويجلس على قدميه عند السُّجود، ويومئ بالسُّجود، ولا يضع على الأرض شيئاً من أعضائه؛ لقوله تعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، لأنَّه إذا كانت رَطْبَة يجب أن يتوقَّاها بقَدْرِ الإمكان، وأقلُّ ما يمكن أن يباشر النَّجاسة أن يجلس على القدمين، ولا يقعد مفترشاً ولا متورِّكاً، لأنه لو قَعَد لتلوَّث ساقُه وثوبُه وركبتُه، والواجب أن يُقلِّلَ من مباشرة النَّجاسة.

‌وَمَنْ وَجَدَ كِفَايةَ عَوْرَتِه سَتَرَهَا، وَإِلاَّ فَالفَرْجَينِ، فإِنْ لَمْ يَكْفِهِما فَالدُّبُر.

قوله: «ومَنْ وَجَدَ كِفَاية عورته سَتَرَهَا» ، «مَنْ» شرطية، وفعل الشرط «وَجَدَ» ، وجوابه «سَتَرَها» ، أي: وجوباً، أي: من وَجَدَ كفاية العورة وجب عليه سَتْرها، والعورة سبق بيانُها

(1)

، فإذا وجد كفاية العورة وجب عليه أن يسترَها؛ لما سبق من كون سترها من شروط الصَّلاة

(2)

.

قوله: «وإلا فالفَرْجَين» ، «إلا» هذه مركَّبة، من «إنْ» و «لا» النَّافية لكنها أُدغمت «إنْ» بـ «لا» لوجود شرط الإدغام. وفعل الشرط محذوف، والتقدير: وإلا يجد فالفَرْجَين، أي: فليستر الفَرْجين، فإذا قُدِّرَ أن شخصاً تَعرَّض له قُطَّاع طريق وسلبوا رَحْله وثيابه، ولم يُبقوا معه إلا منديلاً فقط، والمنديل لا يمكن أن يستر به عورته، نقول: استرْ الفَرْجَين، يعني: القُبُل والدُّبُر.

قوله: «فإن لم يكفِهِما فالدُّبُر» ، أي: إن لم يكفِ الموجود الفَرْجَين سَتَرَ الدُّبُر، لأن القُبُل إذا ضَمَّ فخذيه عليه ستره، والدُّبُر

(1)

انظر: ص (156).

(2)

انظر: ص (149).

ص: 183

إذا سجد انفرجَ وبانَ، فيكون سترُ الدُّبُر أولى من ستر القُبُل، والواجب أنْ يخفَّفَ الأمرُ بقَدْر الإمكان، وظاهر كلام المؤلِّف أن ستر الدُّبُر هنا مقدَّم وجوباً، لكن قال في «الإنصاف»

(1)

: «الخلافُ إنما هو في الأولويَّة» . وعن أحمد رواية ثانية: أنَّه يستر القُبُل، وهو أولى؛ لأنه أفحش من الدُّبُر، ولهذا جاز استدبار الكعبة حال قضاء الحاجة في البُنْيَان دون استقبالها.

‌وَإِنْ أُعِيْرَ سُتْرَةً لَزِمَه قَبُولُها.

قوله: «وإن أُعِيْرَ سُتْرَةً لَزِمَه قَبُولُها» ، «إنْ» شرطية، وفعل الشرط «أُعيرَ» ، و «لَزِمَ» جواب الشَّرط. والعَارِيَّةُ: إباحة نفع عين تبقى بعد الاستيفاء.

وقوله: «إن أُعِيرَ» لم يذكر المؤلِّفُ الفاعلَ؛ ليشمل أيَّ إنسان يُعيرُه سواء كان هذا المعير من أقاربه، أم من الأباعد من المسلمين، أم من الكُفَّار.

وتعليل ذلك: أنه قَدِرَ على ستر عورته بلا ضرر ولا مِنَّةٍ، لأن المِنَّةَ في مثل هذا الأمر مِنَّةٌ يسيرة، كلُّ أحد يتحمَّلُها، فالنَّاسُ كُلُّهم يستعير بعضُهم من بعض، وكُلُّ النَّاس يُعير بعضهم بعضاً.

لكن لو أن هذه الإعارة يريد المُعير منها أن تكون ذريعة لنيل مأرب له باطل، فهنا لا يلزمه القَبول؛ لأنه يخشى إذا لم يفعل ما يريد؛ أن يجعل ذلك سُلَّماً للمِنَّةِ عليه وإيذائه أمام النَّاس، لكن الكلام على إعارة سالمة من محظور فيلزمه القَبُول.

(1)

انظر: «الإنصاف» (3/ 234).

ص: 184

وظاهرُ كلام المؤلِّف: أنه لو أُعطيها هِبَة لم يلزمه قَبولها؛ لقوله: «وإن أُعِيرَ» .

وظاهرُ كلامه أيضاً: أنَّه لا يلزمه الاستعارة، أما الهِبَة فلا يلزمه قَبولها، لأن في ذلك مِنَّة عظيمة، فقد يساوي الثوب قيمةً كبيرة، فيكون في ذلك مِنَّة لا يستطيع الإنسان أن يتحمَّلَها، فلا يلزمه قَبول الهبة، وأما الاستعارة فلا تلزمه؛ لأن في طلب العارية إذلالاً للشَّخص، وهذا عادم لما يكون به الواجب، وهو السَّتر، ولا واجب مع العجز، فلا يلزمه أن يستعير؛ مع أنهم ذكروا في باب التيمّم: أنه لو وُهِبَ لعادم الماء ماء لزمه قَبوله

(1)

، ولكنهم يفرِّقون: بأن الماء لا تكون به المِنَّة كالمِنَّة بالثياب

(2)

، فالماء المِنَّة فيه قليلة، بخلاف الثِّياب، ولكن يقال: قد يكون الماء في موضع العدم أغلى من الثياب، فتكون المنَّة فيه كبيرة، فنقول: حتى لو كان في موضع العدم، فإن الإنسان الذي يعطي الماء في موضع العدم يشعر بأنه هو الرَّابح؛ لأنه أنقذ معصوماً بخلاف الثِّياب.

وعَلى كُلٍّ؛ فالقول الرَّاجح في هذه المسألة: أنه يلزمه تحصيل السُّترة بكل وسيلة ليس عليه فيها ضرر ولا مِنَّة، سواء ببيع أم باستعارة، أم بقَبول هِبَة، أم ما أشبه ذلك؛ لقوله تعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، وهذا الإنسان مأمور بستر عورته، فيجب عليه بقَدْرِ الاستطاعة أن يأتي بهذا الواجب.

(1)

انظر: «الإنصاف» (2/ 186).

(2)

انظر: «كشاف القناع» (1/ 272).

ص: 185

والمسألة يختلف النَّاس فيها، قد يكون طلبك من شخص ثوباً لتستر به عورتك بمنزلة المِنَّة عليه لا مِنْهُ، فقد يفرح أن تأتيَ إليه، وتقول: أنا في حاجة إلى سَتْر عورتي في صلاتي، فهذا ليس في إعطائه مِنَّة، ولا في الاستعارة منه مِنَّة، وبعض النَّاس لا يعيرك ولو أعارك لوجدت في ذلك غضاضة عليك لكونه مَنَّاناً.

والصَّواب: أن نأخذَ بقاعدةٍ عامَّة، وهي أنه يجب على المصلِّي تحصيل السُّترة بكلِّ طريقة ليس فيها ضرر عليه ولا غَضَاضة، وهذه القاعدة قد يخرج منها ما ذكره المؤلِّف، وقد يدخل فيها ما أخرجه.

‌وَيُصَلِّي العَارِي قَاعِداً بِالإِيْماءِ اسْتحبَاباً فِيْهِما،

........

قوله: «ويُصلِّي العاري قاعداً بالإيماء» ، أي: إذا كان إنسانٌ عارٍ ليس عنده ثوب، فإنه يُصلِّي قاعداً، ولو كان قادراً على القيام؛ لأنه أستر لعورته؛ لأن القاعد يمكن أن ينضمَّ، فيكون ما ينكشف من عورته أقلَّ.

قوله: «استحباباً فيهما» ، أي: أننا نستحبُّ له ذلك وهو القُعود والإيماء استحباباً لا على وجه الوجوب، وعلى هذا فلو صَلَّى قائماً وركع وسَجَد صَحَّت صلاتُه.

وظاهر كلام المؤلِّف: أن هذا الحكم ثابتٌ، سواء كان حوله أحدٌ أم لم يكن حوله أحد؛ لإطلاق كلامه، فإن كان حولَه أحد فما قاله المؤلِّف وجيه؛ أنه يُصلِّي قاعداً بالإيماء؛ لأن الإنسان يستحي أن يقوم أمام النَّاس فتبدو عورته، وإذا سَجَدَ انفرج دُبُره، لكن إذا لم يكن عنده أحد لا يستحي منه فكلامه فيه

ص: 186

نظر. وما ذكره المؤلِّف هو المذهب

(1)

.

والقول الثاني: لا يجوز أن يُصلِّي قاعداً، بل يجب أن يُصلِّي قائماً مطلقاً ويركع ويسجد

(2)

؛ لقوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] فأوجب الله تعالى القيام، والسَّترُ هنا ساقطٌ عنه لقوله تعالى:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286].

فإذا كان القيام واجباً بالدليل الذي ذكرت، والسَّتر واجباً أيضاً بدليله؛ فإنه يقوم لوجود مقتضى القيام، ويُصلِّي عَارياً لسقوط وجوب السَّتر لكونه عاجزاً.

وقال بعض أهل العلم: في هذا تفصيل؛ فإن كان حولَه أحدٌ صَلَّى قاعداً، وإن لم يكن حوله أحد، أو كان في ظُلْمَة، أو حوله شخص لا يُبْصِرُ، أو شخص لا يستحي من انكشاف عورته عنده كالزوجة فإنه يُصلِّي قائماً ويركع ويسجد؛ لأنه لا عُذْرَ له (359).

وهذا القول أقرب الأقوال إلى الحقِّ؛ لأنه يجمع بين حَقِّ الله وحَقِّ النَّفْسِ، فإن حقَّ الله إذا لم يكن حوله أحد يراه أن يُصلِّي قائماً؛ لأنه قادر، وحقُّ النَّفْسِ إذا كان حوله أحد أن يصلِّي قاعداً؛ لأنه يخجل من القيام ويشُقُّ عليه نفسيًّا.

‌ويكُونُ إِمَامُهُم وَسَطَهُم ..............

قوله: «ويكون إمَامُهُم وَسَطَهُم» ، «إمَامُهُم» أي: إمام العُراة «وَسَطَهم» ، أي: بينهم، أي: لا يتقدَّم؛ لأنه أستر له، وعلى هذا؛ فإذا كان عشرة كلُّهم عُراة، تعرَّض لهم قُطَّاع الطَّريق، وأخذوا ثيابَهم، وحانَ وقتُ الصَّلاة؛ صَلُّوا جماعة صفًّا واحداً،

(1)

انظر: «منتهى الإرادات» (1/ 62).

(2)

انظر: «الإنصاف» (3/ 237، 238).

ص: 187

والإمام بينهم، ولو طال الصفُّ، ويصلُّون على المذهب قُعوداً استحباباً؛ ويُومِئُون بالرُّكوع والسُّجود استحباباً أيضاً

(1)

.

وقال بعض أهل العلم: بل يتقدَّم الإمام؛ لأن السُّنَّة أن يكون الإمام أمامَهم (360)، وتأخُّره لا يفيد شيئاً يُذكر، والإنسان إذا شاركه غيرُه في عيبه خَفَّ عليه، فهو إذا تقدَّم لا يرى في نفسه غَضَاضة، أو حياء، أو خجلاً؛ لأن جميع مَنْ معه على هذ الوجه، ولا ينبغي أن نُفَوِّت موقف الإمام وانفراده في المكان المشروع؛ لأن الإمام مَتْبُوع، فينبغي أن يتميَّز عن أتباعه الذين هم المأمومون، وهذا القول أقربُ إلى الصَّواب.

ويُستثنى من كلام المؤلِّف: ما إذا كانوا في ظُلمة، أو لا يبصرون، فإن إمامهم يتقدَّم عليهم كالعادة؛ لأن المحذور معدوم.

‌وَيُصَلِّي كُلُّ نوعٍ وَحْدَه، فَإِنْ شَقَّ صَلَّى الرِّجَالُ واسْتَدْبَرهُم النِّسَاءُ، ثم عَكسُوا ...........

قوله: «ويُصلِّي كلُّ نوعٍ وحده» ، أي: إذا اجتمع رجالٌ ونساءٌ عُراة، صَلَّى الرِّجَال وحدهم، والنِّساء وحدهنَّ، فلا يُصلُّون جميعاً؛ لأن النِّساء لا يمكن أن يقفن في صَفِّ الرِّجال، فلا بُدَّ لهُنَّ من صَفٍّ مؤخَّر، فإذا صففن وراء الرِّجال صِرْنَ يَرَيْن عورات الرِّجال، فلا تُصلِّي النِّساء مع الرِّجال، بل يُصلِّي الرِّجال في مكان، والنساء في مكان؛ ولا يُصلون جماعة.

قوله: «فإن شقَّ» ، أي: شقَّ صلاةُ كلِّ نوع وحده بحيث لا يوجد مكان آخر «صَلَّى الرِّجال واستدبرهم النِّساء ثم عكسوا» ،

(1)

انظر: «الإنصاف» (3/ 242).

ص: 188

ومعنى تستدبرهم النساء تلقِّيهم ظُهُورُهن، فتكون ظُهُور النِّساء إلى القِبْلة، لئلا يَرَيْن عورات الرِّجَال، ثم بعد ذلك تُصلِّي النِّسَاء. ويستدبرهنَّ الرِّجال، فتكون ظُهُور الرِّجال نحو القِبْلة لئلا يروا عورات النِّساء. فإن قيل: إذا كان المكان ضيِّقاً ولم يتَّسعْ لكونهم صَفاً واحداً فهل يصفُّون صَفَّين أو ينتظر بعضهم حتى يُصلِّي من يتَّسع له الصفُّ؟.

فالجواب: فيه قولان لأهل العلم

(1)

، فبعضهم قال: ينتظر من لا يتَّسع له الصف حتى يُصلِّي من يتَّسع له ثم يُصلِّي، ومنهم من قال: بل يُصلُّون جماعة واحدة، فإذا كان الإنسان يخشى على نفسه الانشغال برؤية هؤلاء فإنه يُغمض عينيه، وإن كان لا يَخشى، ولا يهتمُّ إلا بصلاتِه، وسينظر إلى موضع سجوده، وموضِع إشارته في الجلوس فلا حاجة أن يُغمض عينيه.

‌فَإِنْ وَجَدَ سُتْرةً قَرِيبَةً فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ سَتَرَ وَبَنى وإِلاَّ ابْتَدَأَ.

قوله: «فإن وجد سُتْرة قريبة في أثناء الصَّلاة سَتَر وَبَنَى وإلا ابتدأ» ، إنْ وجد الذي يُصلِّي عُرياناً في أثناء الصَّلاة سُتْرة، فإن كانت قريبة، أي: لم يطل الفصل؛ أخذها وستر وبَنَى على صلاته، وإن كانت بعيدة فإنَّه يقطع صلاته ويبتدئ الصَّلاة من جديد.

مثال القريبة: جاء إليه رَجُلٌ وهو يُصلِّي عُرياناً وقال: خُذْ استُرْ نفسك. فهنا نقول: يأخذها ويستتر ويبني على ما مضى من صلاته.

ومثال البعيدة: أنْ يتذكَّر ثوباً في رَحْلِهِ بعيداً عنه، فنقول له: اقطعْ صلاتك، واستترْ، واستأنف الصلاة.

(1)

انظر: «الإنصاف» (3/ 242)، «المجموع شرح المهذَّب» (3/ 185، 186).

ص: 189

مسألةٌ يُلغز بها:

يقولون: امرأة بطلت صلاتُها بكلام إنسان

(1)

! فكيف ذلك؟

وجواب هذه: أَمَةٌ تُصلِّي ساترة كلَّ بدنها إلا رأسها وساقيها مثلاً، فقال لها سيِّدُها: أنت حُرَّة، فصارت حُرَّة يجب عليها أن تستر جميع بدنها إلا الوجه، ولم تجد شيئاً تستر به؛ فتبتدئ الصَّلاة من جديد، فإن كان سيدُها ذكياً وفقيهاً فجاء بالسُّترة معه وقال: أنت حُرَّة، ثم وضع على رأسها وعلى بقية المنكشف منها سُتْرة؛ بَنَت على ما سَبَقَ من صلاتها؛ لأنها سترت عورتها عن قُرب.

‌مكروهات الصلاة

‌وَيُكْرَه في الصَّلاةِ السَّدْلُ،

...........

قوله: «ويُكره في الصَّلاة السَّدْلُ» ، الكراهة عند الفقهاء: هي النَّهي عن الشيء من غير إلزام بالتَّرك، والمكروه: ما نهي عنه من غير إلزام بالتَّرك.

أما في لُغة القرآن والسُّنَّة وغالب كلام السَّلف: فالمكروه هو المحرَّم. قال تعالى في سورة الإسراء: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا *} [الإسراء]، ومعلومٌ أن المشار إليه ما سبق من المنهيات وفيها الشِّرك والكبائر وسمَّاها الله تعالى:«مكروهاً» ؛ لأنه مُبْغَضٌ عند الله عز وجل، ولهذا قال أصحاب الإمام أحمد: إذا قال الإمام أحمد: «أكره كذا» ، يعني أنه محرَّم

(2)

.

وحكمُه عند الفقهاء: أنه يُثاب تاركه امتثالاً، ولا يُعاقب فاعله، ويجوز عند الحاجة وإن لم يضطر إليه، أما المحرَّم فلا يجوز إلا عند الضّرُورة.

(1)

انظر: «كشَّاف القناع» (1/ 272، 273).

(2)

انظر: «الإنصاف» (30/ 374، 375).

ص: 190

والسَّدلُ: أن يَطّرَح الرِّداءَ على كتفيه، ولا يردَّ طرفَه على الآخر. وقال بعضهم: السَّدْلُ: أن يضع الرِّداء على رأسه ولا يجعل أطرافه على يمينه وشماله

(1)

.

وقال بعضهم: السَّدْلُ: أن يُرسل ثوبه حتى يكون تحت الكعبين

(2)

، وعلى هذا فيكون بمعنى الإسبال.

والمعروف عند فقهائنا هو: أن يطرح الثَّوب على الكتفين، ولا يردَّ طرفه على كتفه الآخر (365)، ولكن إذا كان هذا الثَّوب مما يلبس عادة هكذا، فلا بأس به، ولهذا قال شيخ الإسلام: إنَّ طَرْح القَبَاءَ على الكتفين من غير إدخال الكمَّين لا يدخل في السَّدْلِ

(3)

. والقَبَاء يُشبه ما يُسمَّى عندنا «الكوت» أو «الجُبَّةَ» .

‌واشْتِمَالُ الصَّمَّاءِ وَتَغْطِيَةُ وَجْهِهِ،

قوله: «واشتمال الصَّمَّاء» ، هنا أُضيف الشيءُ إلى نوعه، أي: اشتمال لُبْسة الصَّمَّاء، أي: أن يلتحف بالثوب ولا يجعل ليديه مخرجاً؛ لأن هذا يمنع من كمال الإتيان بمشروعات الصَّلاة، ولأنه لو قُدِّر أنَّ شيئاً صَالَ عليه فإنَّه لا يتمكَّن من المبادرة بردِّه، ولا سيِّمَا إذا كان هذا الثَّوب قميصاً، فهو أشدُّ، أي: بأن يلبس القميص، ولا يدخل يديه في كُمَّيْه، فهذا اشتمال أصمّ، وأصمّ من الصمَّاء؛ لأن الرِّداء مع الحركة القويّة قد ينفتح، وهذا لا ينفتح.

وقال بعض العلماء: إن اشتمال الصمَّاء أن يضطبع بثوب ليس عليه غيره وهو المذهب

(4)

، أي: أن يكون عليه ثوب واسع ثم يضطبع فيه.

(1)

انظر: «الإنصاف» (3/ 247).

(2)

انظر: «الإقناع» (1/ 138).

(3)

انظر: «مجموع الفتاوى» (22/ 144).

(4)

انظر: «الإنصاف» (3/ 248).

ص: 191

أما إذا كان عليه ثوب آخر فلا كراهة؛ لأنه لُبْسة المُحْرِم

(1)

، وفَعَلَها النبيُّ صلى الله عليه وسلم

(2)

.

والاضطباع: أن يُخرج كتفه الأيمن، ويجعل طرفي الرِّداء على الكتف الأيسر.

ووجه الكراهة هنا: أن فيه عُرضَةً أن يسقطَ فتنكشف العورة، فإنْ خِيْفَ من انكشاف العورة حقيقة كان حراماً.

وقيل هو: أن يجعل الرِّداء على رأسه ثم يسدل طرفيه إلى رجليه

(3)

. فهذه ثلاث صفات لاشتمال الصمَّاء، وكلُّ هذه الصِّفات إذا تأمَّلتها وجدت أنها تُخَالف قول الله تعالى:{يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31]، فإن أخذ الزِّينة على هذا الوجه فيه شيء من التقصير؛ لأن أخذ الزِّينة كاملة أن يلبسها على ما يعتاد النَّاس لُبْسها بحيث تكون ساترة، وتكون

(1)

روى أحمد (2/ 33)، وابن خزيمة رقم (2601)، وابن الجارود رقم (416) وغيرهم عن: عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر مرفوعاً: «

وَلْيُحْرمْ أحدُكم في إزار ورداء ونعلين

».

قال ابن المنذر: ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. «المغني» (5/ 76).

قلت: وهذا إسناد صحيح. وأصله في «الصحيحين» من حديث مالك، عن نافع، عن ابن عمر به سواء، وزاد عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن سالم هذه الزيادة. قال ابن حجر:«وهي زيادة حسنة» . «الفتح» شرح حديث (1542).

(2)

روى مسلم، كتاب الصلاة: باب وضع اليمنى على اليسرى، رقم (401) عن وائل بن حُجْر؛ أنه رأى النبيَّ صلى الله عليه وسلم رفع يديه حين دخل في الصلاة، كَبَّرَ؛ ثم التحف بثوبه. ثم وضع يدَهُ اليُمنى على اليُسرى، فلما أراد أن يركعَ أخرجَ يَديَه من الثَّوب، ثم رَفَعَهُمَا

الحديث.

(3)

انظر: «الإنصاف» (3/ 249، 250).

ص: 192

معهودة مألوفة بخلاف الشيء الذي لا يكون معهوداً ولا مألوفاً.

قوله: «وتغطيةُ وجهِهِ» ، أي: يُكره أن يغطِّيَ الإنسانُ وجهه وهو يُصلِّي؛ لأن هذا قد يُؤدِّي إلى الغَمِّ، ولأنه إذا سجد سيجعل حائلاً بينه وبين سجوده؛ فلذلك كُره هذا الفعل، لكن لو أنَّه احتاج إليه لسبب من الأسباب، ومنه العُطاس مثلاً ـ لأن الأفضل عند العطاس تغطية الوجه ـ فإن المكروه تُبيحه الحاجة.

ويُستثنى من ذلك: المرأة إذا كان حولها رجال ليسوا من محارمها، فإن تَغْطِيَة وجهها حينئذ واجب، ولا يجوز لها كشفه.

‌واللِّثَامُ على فَمِه وأَنْفِه،

.........

قوله: «واللِّثَامُ على فَمِه وأَنْفِه» ، أي: يُكره اللِّثام على فَمِهِ وأنفه بأن يضع «الغُترة» أو «العِمَامة» ، أو «الشِّماغ» على فمه، وكذلك على أنفه؛ لأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى أن يُغطِّيَ الرَّجلُ فَاه في الصَّلاة

(1)

، ولأنه قد يؤدِّي إلى الغمِّ وإلى عدم بيان الحروف عند القِراءة والذِّكر. ويُستثنى منه ما إذا تثاءب وغَطَّى فمه ليكظم

(1)

رواه أبو داود، كتاب الصلاة: باب ما جاء في السَّدل في الصَّلاة، رقم (643)، وابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة: باب ما يُكره في الصلاة، رقم (966) وابن خزيمة رقم (772)، وابن حبان رقم (2353)، والحاكم (1/ 253)، عن الحسن بن ذكوان، عن سليمان الأحول، عن عطاء بن أبي رباح، عن أبي هريرة به مرفوعاً.

قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجا فيه تغطية الرَّجل فاه في الصّلاة. تعقبه الحافظ ابن حجر بقوله:«لم يحتجَّ مسلمٌ بالحسن بن ذَكوان، وهو ضعيفٌ لم يُخرج له البخاريُّ سوى شيء يسير في غير الاحتجاج؛ فيما أظنُّ» . «إتحاف المهرة» (15/ 375).

قلت: أضفْ إلى ذلك أنه قد اختُلف على الحسن بن ذكوان في هذا الحديث.

انظر: «العلل» للدارقطني (8/ 338) رقم (1608).

ص: 193

التثاؤب فهذا لا بأس به، أما بدون سبب فإنه يُكره، فإن كان حوله رائحة كريهة تؤذيه في الصَّلاة، واحتاج إلى اللِّثام فهذا جائز؛ لأنه للحاجة، وكذلك لو كان به زُكام، وصار معه حَساسية إذا لم يتلثَّم، فهذه أيضاً حاجة تُبيح أن يتلثَّم.

‌وكَفُّ كُمِّه وَلَفُّه ..............

قوله: «وكَفُّ كُمِّه وَلَفُّه» ، أي: يُكره أن يكفَّ الإنسانُ كُمَّه في الصَّلاة، أو يَلُفَّه.

وكفُّ الكُمِّ: أن يجذبه حتى يرتفع. وَلَفُّهُ: أن يطويه حتى يرتفع. قال فقهاؤنا: ولا فرق بين أن يفعل ذلك عند الصَّلاة من أجل الصَّلاة، أو أن يفعل ذلك لعمل قبل الصَّلاة

(1)

. كما لو كان يشتغل، وقد كفَّ كُمَّه أو لَفَّه ثم جاء يُصلِّي، نقول له: أطلق الكُمَّ وفُكَّ اللفَّة.

والدليل: قولُ الرَّسولِ صلى الله عليه وسلم: «أُمِرْتُ أن أسجُد على سَبْعَة أَعْظُم، ولا أكُفَّ شَعْراً ولا ثَوْباً»

(2)

، قالوا: ونهيه يشمل كفّ الثوب كلِّه، كما لو كفَّه من أسفل، أو كفَّ بعضه كالأكمام، ويا ليت المؤلِّف ذكر كفَّ الثوب؛ ليكون موافقاً للفظ الحديث، إذ يُكره كفُّ الثَّوبِ بأن يرفع الثوب من أسفل، ولفُّ الثوب أيضاً بأن يطويه حتى يحزمه على بطنه، كلُّ هذا مكروهٌ للحديث، ولأنه ليس من تمام أخذ الزِّينة، فإنَّ أخذ الزِّينة عند الناس أن يكون الثَّوب مرسلاً غير مكفوف، ثم إن الإنسان قد يفعله ترفُّعاً؛ لئلا

(1)

انظر: «الإنصاف» (3/ 250، 252).

(2)

رواه البخاري، كتاب الأذان: باب السجود على سبعة أعظم، رقم (810)، ومسلم، كتاب الصلاة: باب أعضاء السجود والنهي عن كفّ الشعر والثوب، رقم (490) عن ابن عباس رضي الله عنهما.

ص: 194

يتلوَّث ثوبُه بالتُّراب فيكون في هذا نوعٌ من الكبرياء. ثم إنه ينبغي أيضاً أن ينتشر الثوبُ ولا يُكفَّ؛ لأنه ربما يُؤجَر الإنسان على كلِّ ما يتَّصل به مما يُباشر الأرض، فلهذا يُكره كَفُّ الثَّوب.

مسألة: فإن قيل: هل من كَفِّ الثَّوب ما يفعله بعض الناس بأن يكفَّ «الغُتْرَة» بأن يردَّ طرف «الغُتْرَة» على كتفه حول عنقه؟

فالجواب: هذا ليس من كفِّ الثَّوب؛ لأن هذا نوع من اللباس، أي: أن «الغُتْرة» تُلبس على هذه الكيفيَّة، فَتُكفُّ مثلاً على الرَّأس، وتُجعل وراءه، ولذلك جاز للإنسان أن يُصلِّي في العِمَامة، والعِمَامة مكوَّرة على الرَّأس غير مرسلة، فإذا كان من عادة الناس أن يستعملوا «الغُتْرة» و «الشِّمَاغ» على وجوه متنوِّعة فلا بأس، ولهذا قال شيخ الإسلام رحمه الله: إنَّ طرح «القَبَاء» على الكتفين بدون إدخال الأكمام لا يُعدُّ من السَّدل

(1)

لأنه يُلبس على هذه الكيفيَّة أحياناً.

لكن لو كانت «الغُتْرة» مرسلة؛ ثم كفَّها عند السُّجود؛ فالظَّاهر أن ذلك داخل في كَفِّ الثَّوب.

‌وَشَدُّ وَسَطِهِ كَزُنَّار ............

قوله: «وشَدُّ وسَطِهِ كزُنَّار» ، أي: يُكره أيضاً للإنسان أن يَشُدَّ وسَطَهُ لكن لا مطلقاً، بل بما يُشبه الزُّنَّار.

وشَدُّ الوسط، أي: أن يربط على بطنه حَبلاً، أو سَيراً، أو ما أشبه ذلك، وهذا يُفعل كثيراً، فهو يُكره إن كان على وجه يُشبه الزُّنَّار، والزُّنَّار سَيْر معروف عند النَّصَارى يشدُّون به أوساطهم، وإنما كُرِه ما يشبه شَدَّ الزُّنَّار؛ لأنه تشبُّه بغير المسلمين، وقد قال

(1)

انظر: «مجموع الفتاوى» (22/ 144).

ص: 195

النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ تَشبَّه بقومٍ فهو منهم»

(1)

.

قال شيخ الإسلام رحمه الله: «أقلُّ أحوال هذا الحديث التحريم، وإن كان ظاهره يقتضي كُفْرَ المُتشبِّه بهم»

(2)

. إذاً؛ فلا يقتصر على الكراهة فقط، لأننا نقول: إن العِلَّة في ذلك أن يُشَابه زُنَّار النَّصارى، وهذا يقتضي أن يكون حراماً؛ لقول الرَّسول عليه الصلاة والسلام:«مَنْ تَشَبَّه بقوم فهو منهم» وليس المعنى أنه كافر، لكن منهم في الزِّيِّ والهيئة المشابهة لهم، ولهذا لا تكاد تُفرِّقُ بين رَجُل متشبِّه بالنَّصارى في زِيِّه ولباسه وبين النَّصْرَاني، فيكون منهم في الظَّاهر.

قالوا: وشيء آخر، وهو: أن التشبّه بهم في الظَّاهر يجرُّ إلى التشبّه بهم في الباطن (376). وهو كذلك، فإن الإنسان إذا تشبَّه بهم في الظَّاهر؛ يشعر بأنه موافق لهم، وأنه غير كاره لهم، ويجرُّه ذلك إلى أن يتشبَّه بهم في الباطن، فيكون خاسراً لدينه ودُنياه، فاقتصار المؤلِّف على الكراهة فيما يُشبه شَدَّ الزنَّار فيه نظر، والصَّواب: أنه حرام.

فإن قال قائل: أنا لم أقصد التشبُّهَ؟ قلنا: إن التشبُّهَ لا يفتقر إلى نيَّة؛ لأن التشبُّهَ: المشابهة في الشَّكلِ والصُّورة، فإذا حصلت، فهو تشبُّه سواء نويت أم لم تنوِ، لكن إن نويت صار أشَدَّ وأعظم؛ لأنك إذا نويت، فإنما فعلت ذلك محبَّةً وتكريماً وتعظيماً لما هم عليه، فنحن ننهى أيَّ إنسان وجدناه يتشبَّهُ بهم في

(1)

تقدم تخريجه (1/ 168).

(2)

انظر: «اقتضاء الصراط المستقيم» (1/ 241، 488).

ص: 196

الظَّاهر عن التشبه بهم، سواء قصد ذلك أم لم يقصده، ولأن النيَّة أمر باطن لا يمكن الاطلاع عليه، والتشبُّه أمرٌ ظاهر فيُنهى عنه لصورته الظَّاهرة.

‌وَتَحْرُمُ الخُيَلاءُ في ثوبٍ وَغَيْرِهِ ..........

قوله: «وتَحْرمُ الخُيَلاءُ في ثوبٍ وغيرهِ» ، الخُيَلاء: مأخوذة في الأصل من الخَيل، لأن الخَيل تجلب التَّباهي والترفُّع والتَّعالي.

فالخُيَلاء: أن يجدَ الإنسانُ في نفسه شيئاً من التَّعاظُم على الغَير، وهذا حرام في الثَّوب وغيره، فالثَّوب كالقميص والسَّراويل والإزار، وغير الثوب كالخَاتم، فبعض النَّاس يلبس الخَاتم، ويضع عليه فَصًّا كبيراً جداً، وأحياناً تشعر بأنه يتخايل به، كأن يحرِّك أصبعه بالخَاتم خُيلاء، ولهذا قال المؤلِّف:«في ثَوبٍ وغَيْرِه» فأطلقَ.

فإن قال قائل: إن النبيَّ عليه الصلاة والسلام يقول: «مَنْ جَرَّ ثَوبه خُيَلاء لم ينظر الله إليه» ، فخصَّ ذلك بالثَّوب؟

فالجواب: أنَّ الحكم يدور مع علَّته، وذِكْرُ الثوب مقروناً بالوصف الذي هو عِلَّة الحكم يكون كالمثال؛ فكان المحرّم في الأصل هو الخُيلاء، وذَكَر النبيُّ صلى الله عليه وسلم مثالاً مما تكون فيه الخُيلاء وهو الثَّوب، ولهذا قال بعضُ العلماء: إن الخُيَلاء ليست في جَرِّ الثَّوب فقط، بل في كُلِّ هيئة للثَّوب حتى يقول: إن توسيع الأكمام من الخُيَلاء

(1)

. والمُهِمُّ: أن الخُيلاء إنما ذُكِرَت في الحديث بالإزار أو الثَّوب من باب ضرب المثال.

(1)

انظر: «زاد المعاد» (1/ 135).

ص: 197

والخُيَلاء في الثَّوب منها: ما ذكره الرَّسول صلى الله عليه وسلم أن يَجُرَّه خُيَلاء، أي: يجعله يضرب على الأرض خُيَلاء. عقوبة هذا ـ والعياذ بالله ـ: «أن الله لا يُكلِّمه يوم القيامة، ولا ينظر إليه، ولا يزكِّيه، وله عذابٌ أليم»

(1)

، فعُوقِبَ بأمرين: عذابٌ مؤلم، وإعراضٌ من الله عز وجل، ولهذا لما قال الرَّسول عليه الصلاة والسلام:«ثلاثةٌ لا يُكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يُزَكِّيهم، ولهم عذاب أليم» كرَّرها ثلاثاً، قال أبو ذَرٍّ: مَنْ هم يا رسول الله؟ خَابوا وخَسِروا، قال:«المُسْبِلُ، والمَنَّانُ، والمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بالحَلِفِ الكَاذِب»

(2)

. فإذا جَرَّ ثوبه خُيَلاء، فهذه عقوبته والعياذ بالله، وإن لم يجرَّه خُيَلاء، فلا يستحقُّ هذه العقوبة، ولكن عقوبة ثانية وهي قوله صلى الله عليه وسلم:«ما أسفلَ من الكعبين مِنَ الإزارِ ففي النَّار»

(3)

فيُقال: إنك تُعذَّبُ في النَّار بقَدْرِ ما نزل من ثوبك عن كعبيك. وأما ما بين الكعب إلى نصف السَّاق فهذا محلُّ جواز، فللرَّجل أن يجعله إلى الكعب، أو أرفع إلى نصف السَّاق، أو أرفع قليلاً أيضاً.

‌والتَّصْوِيرُ .......

قوله: «والتَّصويرُ» ، التَّصوير محرَّم، والتصوير أنواع ثلاثة:

النَّوع الأول: تصوير ما يصنعه الآدمي، فهذا جائز؛ مثل: أن يُصوِّرَ إنسانٌ سيَّارةً، فإذا رأيتها قلت: هذه طِبْقُ الأصل،

(1)

رواه مسلم، كتاب الإيمان: باب بيان غِلَظ تحريم إسبال الإزار، رقم (106) من حديث أبي ذَرٍّ.

(2)

انظر الأعلى.

(3)

رواه البخاري، كتاب اللباس: باب ما أسفل من الكعبين فهو في النار، رقم (5787) عن أبي هريرة.

ص: 198

فنقول: هذا جائز؛ لأنَّ الأصل من صُنْعِ الآدمي، فإذا كان الأصلُ جائزاً فالصُّورة من باب أولى.

النَّوع الثاني: أن يُصوِّر ما لا روح فيه مما لا يخلقه إلا الله؛ وفيه حياة، إلا أنها ليست نَفْساً، كتصوير الأشجار والزُّروع، وما أشبه ذلك.

فجمهور أهل العلم: أن ذلك جائز لا بأس به

(1)

.

وقال مجاهد: إنَّه حرام (381). فلا يجوز للإنسان أن يصوِّر شجرة، أو زرعاً، أو برسيماً، أو غير ذلك من الأشياء التي فيها حياة لا نَفْس.

النَّوع الثالث: أن يُصوِّر ما فيه نَفْسٌ من الحيوان مثل: الإنسان والبعير والبقر والشَّاة والأرانب وغيرها، فهذه اختلف السَّلف فيها (381)، فمنهم من قال: إنها حَرام إن كانت الصُّورة مُجسَّمة؛ بأن يصنع تمثالاً على صورة إنسان أو حيوان، وجائزة إن كانت بالتلوين، أي: غير مجسَّمة.

ومنهم من قال وهم الجمهور ـ وهو الصَّحيح ـ: إنها محرَّمة سواء كانت مجسَّمة، أم ملوَّنة

(2)

، فالذي يخطُّ بيده ويصنع صُورة كالذي يعملها ويصنعها بيده ولا فرق، بل هي من كبائر الذُّنوب؛ لحديث عليِّ بن أبي طالب أنه قال لأبي الهيَّاج الأسدي: «ألا أبعثُك على ما بعثني عليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم؛ أنْ لا تَدَعَ صُورةً إلا

(1)

انظر: «فتح الباري» (10/ 385، 388، 391، 394، 395)، «الإنصاف» (3/ 257).

(2)

انظر: المصدر السابق.

ص: 199

طَمسْتَها»

(1)

وظاهر هذا أنه في الملوَّن، وليس في المجسَّم، لأنه لو كان في المجسَّم لقال: إلا كسرتها أو نحو ذلك.

ومع الأسف؛ أصبح هذا في عصرنا الحاضر فنًّا يُدرَّس ويُقَرُّ ويُمدحُ عليه الإنسانُ، فإذا صَوَّرَ الإنسانُ بقرةً أو بعيراً أو إنساناً، قالوا: ما أحْذَقَهُ! وما أقْدَرَه!، وما أشبه ذلك، ولا شَكَّ أن هذا رِضاً بشيءٍ من كبائر الذُّنوبِ، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم قال ـ فيما يرويه عن الله سبحانه وتعالى:«ومَنْ أظلمُ ممن ذهبَ يخلقُ كخلقي»

(2)

، أي: لا أحد أظلم ممن أراد أن يُشَارك الخالق في صنعه، هذا ظلم واجتراء على الله عز وجل، تُريد أن تشبِّه نفسك ـ وأنت مخلوق ـ بالخالق، ثم تحدَّاهم الله فقال:«فليخلقوا ذَرَّة أو ليخلقوا شعيرة» ، تحدَّاهم الله بأمرين: بما فيه رُوح، وهو من أصغر المخلوقات وهو الذَّرُّ، وبما لا رُوح فيه وهو الشَّعيرة، فهم لا يقدرون على هذا لو اجتمعوا من آدم إلى يوم القيامة.

فإن قيل: الآن يوجد أَرُز صناعي يشبه الحقيقي، فهل صناعته محرَّمة؟ فالجواب: ليس هذا كالأَرُز الحقيقي، فإنك لو ألقيته في الأرض وصَبَبْتَ عليه الماء ليلاً ونهاراً ما نبت. لكن ما الذي ينبت؟

الجواب: الذي ينبت هو صُنْع الله عز وجل كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} [الأنعام: 95] فإذاً؛ ليس هذا كسراً

(1)

رواه مسلم، كتاب الجنائز: باب الأمر بتسوية القبر، رقم (969).

(2)

رواه البخاري، كتاب اللباس: باب نقض الصور، رقم (5953)، ومسلم، كتاب اللباس: باب تحريم تصوير صورة الحيوان، رقم (2111) من حديث أبي هريرة.

ص: 200

للتَّحدِّي الذي تحدَّى اللَّهُ به الخلق: «فليخلقوا ذَرَّة أو ليخلقوا شعيرة» .

والحاصل: أنَّ التَّصوير حرامٌ، سواء كان ذلك مجسَّماً أم ملوَّناً، وهو من كبائر الذُّنوب، وفاعلُه ولو مرَّة واحدة يخرج به عن العدالة، ويكون فاسقاً إلا أن يتوب.

وأما الصُّور بالطُّرقِ الحديثةِ فهي قسمان:

القسم الأول: ما لا يكون له منظرٌ ولا مشهدٌ ولا مظهر، كما ذُكِرَ لي عن التصوير بأشرطة «الفيديو» ، فهذا لا حُكم له إطلاقاً، ولا يدخلُ في التَّحريم مطلقاً، ولهذا أجازه أهل العلم الذين يمنعون التَّصوير بالآلة «الفتوغرافيَّة» على الورق، وقالوا: إن هذا لا بأس به، حتى حصل بحثٌ: هل يجوز أن تُصوَّر المحاضرات التي تُلقى في المساجد؟ فكان الرَّأي ترك ذلك؛ لأنه ربما يُشوِّش على المصلِّين، وربما يكون المنظرُ غيرَ لائقٍ، وما أشبه ذلك.

القسم الثاني: التَّصوير الثَّابت على الورق. وهذا إذا كان بآلة «فوتوغرافية» فورية، فلا يدخل في التَّصوير، ولا يستطيع الإنسان أن يقول: إن فاعله ملعونٌ؛ لأنه لم يُصَوِّرْ في الواقع، فإن التَّصوير مصدر «صَوَّرَ يُصوِّر» ، أي: جعل هذا الشيءَ على صورة معيَّنة، كما قال الله تعالى:{هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} [آل عمران: 6]، وقال:{وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} [التغابن: 3]. فالمادة تقتضي أن يكون هناك فعل في نفس الصُّورة؛ لأن «فَعَّلَ» في اللغة العربية تقتضي هذا، ومعلوم أن نقل الصُّورة

ص: 201

بالآلة ليس على هذا الوجه، وإذا كان ليس على هذا الوجه فلا نستطيع أن نُدخِلَه في اللَّعن، ونقول: إنَّ هذا الرَّجل ملعونٌ على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1)

، لأنه كما يجب علينا التورُّعُ في إدخال ما ظاهر اللفظ عدم دخوله فيه، يجب علينا أيضاً التورُّعُ في منع ما لا يتبيَّن لنا دخوله في اللفظ؛ لأن هذا إيجاب وهذا سلب، فكما نتورَّعُ في الإيجاب نتورَّع أيضاً في السَّلب، وكذلك كما يجب أن نتورَّعَ في السَّلب يجب أن نتورَّعَ في الإيجاب، فالمسألة ليست مجرد تحريم، ولكن سيترتَّبُ عليها العقوبة، فهل نشهد أن هذا معاقب باللَّعن وشدَّة الظُّلم، وما أشبه ذلك؟ لا نستطيع أن نجزَم إلا بشيء واضح؛ ولهذا يُفَرَّقُ بين رجلٍ أخذ الكتاب الذي خطته يدي، وألقاه في الآلة «الفوتوغرافية» وحرَّكَ الآلة فانسحبت الصُّورةُ، فيُقال: إنَّ هذا الذي خرج بهذا الورق رَسْمُ الأول، ويقال: هذا خَطُّه، ويشهد النَّاس عليه، وبين أن آتي بخطك أقلِّدُه بيدي، أرسم مثل حروفه وكلماته، فأنا الآن حاولت أن أقلِّدَك، وأن أكتبَ ما كتبْتَ، وأصوِّر كما صوَّرت. أما المسألة الأولى فليس منِّي فعلٌ إطلاقاً، ولهذا يمكن أن أصوِّر في الليل، ويمكن أن يصوِّر الإنسانُ وقد أغمض عينيه، ويمكن أن يُصوِّر الرَّجلُ الأعمى، فكيف نقول: إن هذ الرَّجل مصوِّر؟!.

فالذي أرى: أن هذا لا يدخل تحت اشتقاق المادة «صَوَّر» بتشديد الواو، فلا يستحقُّ اللعنة.

(1)

وَرَدَ لَعْنُ «المُصَوِّر» في حديث أبي جحيفة، رواه البخاري، كتاب اللباس: باب من لعن المصوِّر، رقم (5962).

ص: 202

ولكن يبقى النَّظر: إذا أراد الإنسان أن يصوِّر هذا التصوير المباح، فإنه تجري فيه الأحكام الخمسة بحسب القصد، فإذا قصد به شيئاً محرَّماً فهو حرامٍ، وإن قصد به شيئاً واجباً كان واجباً، فقد يجب التَّصوير أحياناً، فإذا رأينا مثلاً إنساناً متلبِّساً بجريمة من الجرائم التي هي من حَقِّ العباد؛ كمحاولة أن يقتلَ، وما أشبه ذلك، ولم نتوصَّلْ إلى إثباتها إلا بالتَّصوير، كان التَّصويرُ حينئذ واجباً، خصوصاً في المسائل التي تضبط القضيَّة تماماً؛ لأنَّ الوسائل لها أحكام المقاصد، وإذا صَوَّرَ إنسانٌ صورةً ـ يحرم تمتُّعُه بالنَّظر إليها ـ من أجل التَّمتُّع بالنَّظر إليها فهذا حرام بلا شكٍّ، وكالصُّورة للذِّكرى؛ لأننا لا نقول: إنها غير صورة؛ بل هي صورة لا شَكَّ، فإذا اقتناها فقد جاء الوعيد فيمن كان عنده صورة أن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة، كما سيأتي إن شاء الله

(1)

.

‌واسْتِعْمَالُهُ ..........

قوله: «واسْتِعْمَالُهُ» ، هذه الجُملة فيها شيء من التجوُّز، لأننا لو أخذناها بظاهرها لكان المعنى: واستعمال التصوير، لأن الضمير يعود على التَّصوير، وليس هذا بمراده قطعاً. وقال في «الرَّوض»: واستعمال المصوَّر

(2)

. فالتَّصوير المراد به المصوَّر، فالضَّمير عاد على مصدر يُراد به اسم المفعول، يعني: أن استعمال المصوَّر حرام.

وظاهر إطلاق المؤلِّف العموم، أنه يحرم على أي وجهٍ كان، ولكن ينبغي أن نعلم التَّفصيل في هذا.

(1)

انظر: ص (205).

(2)

انظر: «الروض المربع» (1/ 146).

ص: 203

فاستعمالُ المُصَوَّرِ ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: أن يستعمله على سبيل التَّعظيم، فهذا حرام سواء كان مجسَّماً أم ملوَّناً، وسواء كان التَّعظيم تعظيم سلطان، أم تعظيم عبادة، أم تعظيم عِلْمٍ، أم تعظيم قَرابة، أم تعظيم صُحبة، أيًّا كان نوعُ التعظيم. وفي الحقيقة؛ إنه ليس فيه تعظيم، فمثلاً: إذا أراد أن يصوِّر أباه، فإن كان أبوه حيًّا فالتَّعظيم بإعطائه ما يلزمه من البِرِّ القولي والفعلي والمالي والجاهي وغير ذلك، وإن كان ميِّتاً فلا ينتفع بهذا التَّعظيم، بل فيها كسب الإثم وتجديد الأحزان، ولذلك يجب على مَنْ كان عنده صورة من هذا النوع أن يمزِّقها، أو يحرقها، ولا يجوز له إبقاؤها؛ لأن هذا فيه خطورتان:

الخطورة الأولى: تجنّب الملائكة لدخول البيت.

والخطورة الثانية: أن الشيطان قد يدخل على الإنسان من هذا التعظيم، حتى يستولي تعظيمهم على قلبه، ويسيطر عليه، ولا سيَّما فيما يَتَعَلَّق بالعِلْم والعبادة، فإن فتنة قوم نوح كانت في الصُّور، وهذا لا فرق فيه بين الملوَّن والمجسَّم، أي: سواء كان صورة على ورقة، أم على خِرقة، أم كانت صورة مجسَّمة.

القسم الثاني: أن يتَّخذه على سبيل الإهانة مثل: أن يجعله فراشاً، أو مِخَدَّة، أو وسادة، أو ما أشبه ذلك، فهذا فيه خلاف بين أهل العلم

(1)

:

فأكثر أهل العلم على الجواز، وأنه لا بأس به؛ لأن

(1)

انظر: «فتح الباري» (10/ 388، 391)، «الإنصاف» (3/ 257).

ص: 204

الرَّسول صلى الله عليه وسلم اتَّخذ وسادة فيها صورة

(1)

، ولأن هذا ضِدُّ السبب الذي من أجله حُرِّم استعمال الصُّور؛ لأن هذا إهانة.

وذهب بعضُ أهل العلم إلى التَّحريم، واستدلَّ هؤلاء بأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم جاء إلى بيته ذات يوم فرأى «نُمْرُقَةً» ـ أي: مِخَدَّة ـ فيها صُوَر؛ فوقف ولم يدخل، قالت عائشة: فعرفتُ الكراهيةَ في وجهه، فقلت: أتوب إلى الله ورسوله ممَّا صنعتُ؟ فقال: «إنَّ أهل هذه الصُّور يُعذَّبون؛ يُقال لهم: أحْيُوا ما خلقتم»

(2)

. قالوا: فنكرهُهَا؛ لأن الرَّسول صلى الله عليه وسلم كرهها وقال: «إِنَّ أهل هذه الصُّور يعذَّبُون» ، وقال:«إنَّ الملائكةَ لا تدخل بيتاً فيه صُورة»

(3)

ويُحمل ما ذُكر عنه أنه اتَّكأ على مِخَدَّة فيها صورة

(4)

بأن هذه الصورة قُطِعَ رأسُها، وإذا قُطِعَ رأس الصُّورة فهي جائزة.

ولا شكَّ أن تجنُّبَ هذا أورع وأحوط، فلا تستعمل الصُّور، ولو على سبيل الامتهان كالفراش والمخدَّة، والسَّلامة أسلم، وشيء كَرِه الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم أن يدخل البيت من أجله، فلا ينبغي لك أن ينشرح صدرُك به، فمن يستطيع أن ينشرح صدرُه في مكان

(1)

رواه البخاري، كتاب المظالم: باب هل تكسر الدنان التي فيها خمر، رقم (2479)، ومسلم، كاتب اللباس والزينة: باب تحريم تصوير صورة الحيوان، رقم (2107) عن عائشة رضي الله عنها.

(2)

رواه البخاري، كتاب بدء الخلق: باب إذا قال أحدكم آمين، رقم (3224)، ومسلم، كتاب اللباس والزينة: باب تحريم تصوير صورة الحيوان، رقم (2107) من حديث عائشة رضي الله عنها.

(3)

رواه البخاري، كتاب اللباس: باب التصاوير، رقم (5949)، ومسلم، الموضع السابق، رقم (2106) من حديث أبي طلحة، ورقم (2107) من حديث عائشة.

(4)

ورد ذلك في حديث عائشة عند مسلم المتقدم تخريجه.

ص: 205

كَرِهَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم دخوله. لهذا فالقول بالمنع إن لم يكن هو الصَّواب فإنه هو الاحتياط.

القسم الثالث: ألا يكون في استعمالها تعظيم ولا امتهان، فذهب جمهور أهل العلم إلى تحريم استعمال الصُّور على هذا الوجه

(1)

، ونُقل عن بعض السَّلف الإباحة إذا كان ملوَّناً، حتى إن بعض السَّلف كان عندهم في بيوتهم السَّتائر يكون فيها صُور الحيوان، ولا يُنكرون ذلك، ولكن لا شَكَّ أن هؤلاء الذين فعلوه من السَّلف كالقاسم بن محمد

(2)

رحمه الله لا شكَّ أنه يُعتَذر عنهم بأنهم تأوَّلوا، ولا يحتجُّ بفعلهم؛ لأن الحُجَّة قولُ الله ورسوله، أو لم يبلغهم الخبر، أو ما أشبه ذلك من الأعذار.

مسألتان:

المسألة الأولى: ما عمَّت به البلوى الآن من وجود هذه الصُّور في كلِّ شيء إلا ما ندر، فتوجد في أواني الأكل والشُّرب، وفي «الكراتين» الحافظة للأطعمة، وفي الكُتُب، وفي الصُّحف، فتوجد في كلِّ شيءٍ إلا ما شاء الله.

(1)

انظر: «فتح الباري» (10/ 388).

(2)

روى ابنُ أبي شيبة في «المصنَّف» ، كتاب اللباس والزينة: باب الرجل يتكئ على المرافق المصوَّرة، رقم (25292) عن أزهر، عن ابن عون قال:«دخلتُ على القاسم وهو بأعلى مكَّة في بيته، فرأيتُ في بيته حجلة فيها تصاوير القُندس والعنقاء» .

قال الحافظُ ابن حجر: سنده صحيح. «الفتح» شرح حديث رقم (5954).

والقاسم هو: ابن محمد بن أبي بكر الصِّدِّيق، القرشي، التيمي، أحد الفقهاء السَّبعة، كان عالماً ورعاً، كثير الحديث، ثقة. توفي سنة (106) اهـ.

«سير أعلام النبلاء» (5/ 53 ـ 60).

ص: 206

فنقول: إن اقتناها الإنسان لما فيها من الصُّور فلا شكَّ أنه محرَّم، أي: لو وَجَدَ صورةً محرّمة في هذه «المجلة» أو في هذه «الجريدة» فأعجبته؛ فاقتناها لهذا الغرض فهذا حرام لا شكَّ. أو كان يشتري «المجلات» التي تُنشر فيها الصُّور للصُّور فهذا حرام، أما إذا كانت للعلم والفائدة والاطلاع على الأخبار؛ فهذه أرجو ألاَّ يكون بها بأس، نظراً للحرج والمشقَّة، وقد قال الله تعالى:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، فهذه الصُّور ليست مقصودة للإنسان، لا حال الشراء، ولا حال القراءة، ولا تهُمُّهُ.

لكن لو فُرض أنَّ الإنسان عنده أهل؛ ويخشى أن يكون في هذه الصُّور من هو وسيم وجميل تُفْتَتَنُ به النِّساء، فحينئذٍ لا يجوز أن تكون هذه «المجلة» أو «الصحيفة» في بيته، لكن هذا تحريم عارض، كما أن مسألة الأواني و «الكراتين» الحافظة للأطعمة وشِبْهِ ذلك قد يُقال: إنَّ فيها شيئاً من الامتهان، فلا تكون من القسم المحرَّم.

المسألة الثانية: وهي الصُّور التي يلعب بها الأطفال، وهذه تنقسم إلى قسمين:

الأول: قسم من الخِرَق والعِهْن وما أشبه ذلك، فهذه لا بأس بها؛ لأنَّ عائشة رضي الله عنها كانت تلعبُ بالبنات على عَهْد النبيِّ صلى الله عليه وسلم ولم يُنكر عليها

(1)

.

(1)

رواه البخاري، كتاب الأدب: باب الانبساط إلى الناس، رقم (6130)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة: باب فضل عائشة، رقم (2440) عن عائشة رضي الله عنها.

ص: 207

الثاني: قسم من «البلاستيك» وتكون على صورة الإنسان الطبيعي إلا أنها صغيرة، وقد يكون لها حركة، وقد يكون لها صوت، فقد يقول القائل: إنها حرام؛ لأنها دقيقة التَّصوير، وعلى صورة الإنسان تماماً، أي: ليست صورة إجماليَّة ولكن صورة تفصيليَّة، ولها أعين تتحرَّك، وقد نقول: إنها مباحة؛ لأن عائشة كانت تلعب بالبنات، ولم يُنكر عليها النبيُّ صلى الله عليه وسلم.

ولكن قد يقول القائل: إن الصُّور التي عند عائشة ليست كهذه الصُّور الموجودة الآن، فبينهما فرقٌ عظيم، فمن نظر إلى عموم الرُّخصة وأنَّه قد يُرخَّص للصِّغار ما لا يُرخَّص للكبار، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في باب السَّبْق، لما ذكر بعض آلات اللهو قال:«إنه يُرخَّصُ للصِّغار ما لا يُرخَّصُ للكبار»

(1)

، لأن طبيعة الصِّغار اللهو، ولهذا تجد هذه الصُّور عند البنات الصِّغار كالبنات حقيقة، كأنها ولدتها، وربما تكون وسيلة لها لتربِّي أولادها في المستقبل، وتجدها تُسمِّيها أيضاً هذه فلانة وهذه فلانة، فقد يقول قائل: إنه يُرَخَّصُ لها فيها. فأنا أتوقَّفُ في تحريمها، لكن يمكن التخلُّص من الشُّبهة بأن يُطمس وجهها.

‌وَيَحْرمُ اسْتِعْمَالُ مَنْسُوجٍ أَوْ مُمَوَّهٍ بِذَهَبٍ قَبْلَ اسْتِحَالَتِه،

........

قوله: «ويحرمُ استعمالُ مَنْسوجٍ أو مُمَوَّهٍ بذَهَبٍ قبل استِحَالَتِه» .

قوله ـ فيما بعد ـ: «على الذُّكور» متعلِّق بقوله «يَحْرُم» ، يعني: يحرم على الذَّكر استعمال منسوج بذهب أو مُموَّه به.

والمنسوج بذَهَبٍ: هو أن يكون فيه خيوط من الذَّهب

(1)

انظر: «مجموع الفتاوى» (30/ 216)، «الاختيارات» ص (160).

ص: 208

تُنْسج؛ سواء كانت هذه الخيوط على جميع الثَّوب، أو في جانب منه كالطَّوق مثلاً أو طرف الكُمِّ، أو في أيِّ موضع؛ لعموم قول النبيِّ (ص):«أُحِلَّ الذَّهب والحرير لإناث أمتي وحُرِّم على ذكورها»

(1)

، ولأن الرَّجُل ليس بحاجة إلى أن يتحلَّى بذهبٍ؛ إذ

(1)

رواه الطيالسي رقم (506)، وأحمد (4/ 392، 394، 407)، والنسائي، كتاب الزينة: باب تحريم الذهب على الرجال (8/ 161) رقم (5163)، والترمذي، كتاب اللباس: باب ما جاء في الحرير والذهب، رقم (1720) وغيرهم، من حديث أبي موسى الأشعري.

وأعلَّهُ: الدارقطني، وابن حبان، وابن حجر، وغيرهم بالانقطاع.

انظر: «العلل» للدراقطني (7/ 241)، «صحيح ابن حبان» رقم (5434)، «التلخيص الحبير» رقم (51).

وللحديث شواهدُ كثيرةٌ من حديث عمر بن الخطاب، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو، وعبد الله بن عباس، وعلي بن أبي طالب، وعقبة بن عامر، وزيد بن أرقم. لكنها ضعيفة وغالبها معلول.

قال البزار: «لا نعلم فيما يُروى في ذلك حديثاً ثابتاً عند أهل النقل» . «البحر الزخار» (1/ 467).

وأمثلُ هذه الشواهد حديث عقبة بن عامر، وعلي بن أبي طالب.

فأما حديث عقبة بن عامر فرواه الطحاوي (4/ 251)، والبيهقي (2/ 275) من طريق: يحيى بن أيوب الغافقي، عن عمرو بن الحارث والحسن بن ثوبان، عن هشام ابن أبي رقية، عن عقبة بن عامر مرفوعاً:«من كذب عليَّ متعمداً؛ فليتبوَّأ بيته من جهنم» ، ثم قال

فذكره بلفظه سواء.

يحيى بن أيوب؛ قال أحمد: سيء الحفظ. قال النسائي: ليس بالقوي. قال ابن حجر: صدوق ربما أخطأ. انظر: «تهذيب الكمال» (31/ 236).

وخالفه: عبد الله بن وهب ـ وهو ثقة حافظ ـ فرواه عن عمرو بن الحارث بإسناده ومتنه؛ إلا أنه قال في آخره (وهو موضع الشاهد): «مَنْ لبس الحرير في الدنيا حُرمه أن يلبسه في الآخرة» ، انظر:«شرح مشكل الآثار» (12/ 309، 310).

وهشام بن أبي رقية ذكره ابن حبان في «الثقات» (5/ 501) ولم يوثقه غيره.

وأما حديث عليّ بن أبي طالب فرواه أحمد (1/ 115)، وأبو داود، كتاب اللباس: باب في الحرير للنساء، رقم (4057)، والنسائي، كتاب الزينة: باب تحريم الذهب على الرجال (8/ 159)، وابن ماجه، كتاب اللباس: باب لبس الحرير والذهب للنساء، رقم (3595) من طريق أبي أفلح، عن عبد الله بن زُرَير الغافقي، عن عليّ به.

أبو الأفلح: وثَّقه العجليُّ، وقال الذهبي في «الميزان»: قال ابن القطان: مجهول. وقال في «الكاشف» : صدوق، وقال ابن حجر في «التقريب»: مقبول.

وعبد الله بن زرير: وثقة العجلي وابن سعد. وقال ابن حجر: ثقة رُمي بالتشيع.

قال عليُّ بن المديني: هو حديث حسن، رجاله معروفون، ولا يجيء عن علي إلا من هذا الوجه.

انظر: «العلل» للدارقطني (3/ 260)، «التمهيد» لابن عبد البر (14/ 248)«الأحكام الوسطى» لعبد الحق (4/ 184)، «نصب الراية» (4/ 223)، «التلخيص الحبير» رقم (51).

ص: 209

إنَّهُ يُتَحَلَّى له ولا يَتحلَّى هو لأحد، كما قال الله تعالى في وصف الأنثى:{أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ *} [الزخرف]، أي: يُربَّى في الحِلْيَة، فالمرأة هي التي تحتاج إلى أن تتزيَّن وتتحلَّى، وأما الرَّجل فلا ينبغي له أن يكسر رُجولَتَه حتى يتنزَّل إلى أن يكون على صفات الإناث في النعومة ولباس الذَّهب وما أشبه ذلك.

وتحريمُ لباس الخالص من الذهب بالنسبة للرَّجل من باب أولى، ولهذا يحرم عليه أن يلبس خاتماً من الذَّهب، أو قِلادةً، أو سِلسِلةً، أو خُرْصاً، أو ما أشبه ذلك.

وفي «صحيح مسلم» عن عبد الله بن عَبَّاس؛ أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم رَأَى خَاتماً من ذَهَبٍ في يَدِ رَجُلٍ. فَنَزَعَهُ فَطَرَحَهُ وَقَالَ: «يعْمِدُ أَحدُكُم إلى جَمْرَةٍ مِنْ نَارٍ فَيَجْعَلُهَا فِي يَدِهِ» ، فَقيلَ لِلرَّجُلِ بعَدَ مَا

ص: 210

ذَهَبَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: خُذْ خَاتَمَكَ انْتَفِعْ به. قَالَ: لا، والله! لَا آخُذُهُ أَبَداً، وقَدْ طَرَحَهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم

(1)

.

وقوله: «أو مُمَوَّهٍ بذهبٍ قبل استحالتِه» ، أي: ويحرُم مموَّهٌ بذهبٍ، وهو المطليُّ بالذَّهب على الرَّجل؛ لعموم الحديث، إلا أن المؤلِّف استثنى إذا استحال هذا الذهب وتغيَّر لونُه. وصار لو عُرِضَ على النَّار لم يحصُل منه شيءٌ، فهذا لا بأس به؛ لأنه ذهب لونُه، فمثلاً: لو أنه مع طول الزَّمن تآكل، وذهب لونُه، ولم يكن لونُه كلون الذَّهب، وصار لو عُرِضَ على النار وصُهِرَ لم يحصُل منه شيءٌ، فحينئذ نقول: هذا جائز؛ لأنه ذهب عنه لونُ الذَّهب ما بقي إلا أنه كان قد مُوِّه به.

‌وثِيَابُ حَرَيْرٍ، وما هو أكْثَرُهُ ظُهُوراً على الذُّكُورِ .........

قوله: «وثِيَابُ حَرِيْرٍ» ، أي: ويَحرُم ثيابُ حرير خَالصة.

والمراد بالحرير هنا الحريرُ الطبيعي دون الصناعي، والحرير الطبيعي يخرج من دودة تُسمَّى «دودة القَزِّ» وهو غالٍ وناعم، ولهذا حُرِّم على الرَّجل؛ لأنه يشبه من بعض الوجوه الذهب؛ لكونه مما يُتَحلَّى به، وإن كان ملبوساً على صفة الثياب، ولكنه لا شَكَّ أنه يُحرِّك الشَّهوة بالنسبة للمرأة، فلا يليقُ بالرَّجُل أن يلبس مثل هذا الثَّوب لهذه العِلَّة وللحديث السابق

(2)

.

قوله: «وما هو أكْثَرُهُ ظُهُوراً على الذُّكُورِ» ، «ما» هنا نكرة موصوفة، أي: ويحرمُ ثوبٌ، «هو» أي: الحرير، «أكثره» أي:

(1)

رواه مسلم، كتاب اللباس والزينة: باب تحريم خاتم الذهب على الرجال

رقم (2090).

(2)

تقدم تخريجه ص (209).

ص: 211

أكثر هذا الثَّوب، «ظهوراً» أي: بُرُوزاً للنَّاس، أي: يحرم على الذُّكور ثوبٌ يكون الحرير أكثره ظهوراً.

مثال ذلك: لو كان هناك ثوب فيه أعلام، ثُلُثَاه من الحرير وثُلُثُه من القطن، أو الصُّوف، فهو حرام؛ لأن أكثره الحرير.

وظاهرُ كلامِ المؤلِّفِ: أنه لو كان الحرير أقلَّ، فليس بحرامٍ، مثل لو كان فيه أعلام حرير أعني خُطُوطاً، وهذه الخطوط إذا نُسِبَتْ إلى ما معها من القُطن أو الصُّوف وجدنا أنها الثُّلُث، فالثَّوب حينئذ حلال اعتباراً بالأكثر، فإن تساويا فسيأتي في كلام المؤلِّف أنه ليس بحرام، وقيل: إنَّه حرام

(1)

.

وقوله: «على الذُّكور» ، أي: دون النِّساء لما علمنا من قبل من الدَّليل والتعليل

(2)

.

وهل لُبْسُ الحرير من باب الصَّغائر؟.

الجواب: نقول هو من باب الكبائر؛ لأن الرَّسول صلى الله عليه وسلم قال: «من لَبِس الحريرَ في الدُّنيا لم يلبسه في الآخرة»

(3)

، وهذا وعيد.

وقد اختلف العلماء رحمهم الله في معنى هذا الوعيد

(4)

، فقيل: المعنى أنه لا يدخل الجَنَّة؛ لأنَّ لِبَاسَ أهل الجنَّة الحرير، ومن لازم حرمان اللباس أن لا يدخل، وعلى هذا فيكون فيه

(1)

انظر: «الإنصاف» (3/ 261).

(2)

انظر: ص (211).

(3)

رواه البخاري، كتاب اللباس، باب لبس الحرير للرجال، رقم (5834)، ومسلم، كتاب اللباس: باب تحريم استعمال إناء الذهب والفضة على الرجال والنساء، رقم (2068) عن عمر بن الخطاب.

(4)

انظر: «فتح الباري» (10/ 32، 289).

ص: 212

تحذير شديد أن ينسلخ الإيمان من قلب هذا الرَّجُل حتى يموت على الكفر فلا يدخل الجنَّة.

وقيل: المعنى أنه وإن دخل الجنَّة؛ فإنه لا يلبس الحرير، فيُحْرَم من ذلك.

فإن قال قائل: يَرِدُ على هذا المعنى أن الله سبحانه وتعالى قال: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ} [الزخرف: 71]، ومن المعلوم أن لِبَاس الحرير لِبَاسٌ تشتهيه النَّفس، فكيف الجواب؟

نقول: الجواب: ـ والعلم عند الله ـ إما أنه يُحْرَمُ من لباس الحرير إلى مُدَّةٍ؛ الله أعلمُ بها، وإما ألا تشتهي نفسُه هذا الحرير، ويكون هذا نقصاً في نعيمه، فلا يتنعَّم كمال التَّنعُّم، كما أن المريض قد لا يشتهي نوعاً من الطَّعام، ويكون هذا نقصاً في مأكله.

‌لَا إِذَا اسْتَوَيَا .........

قوله: «لا إذَا اسْتَوَيَا» ، أي: لا يحرم الحرير إذا استويا.

والضَّمير يعود على الحرير وما معه، لأنه قد اجتمع مبيحٌ وحاظر، والأصلُ الإباحة حتى نعلم أن هذا مما يدخله التَّحريم، فنحن في شك من دخوله في تحريم الحرير والأصل الإباحة.

وقال بعض أصحابنا رحمهم الله: بل إذا استويا يَحرُم

(1)

، وعلَّلوا بالقاعدة المشهورة:«أنه إذا اجتمع مبيح وحاظر غُلِّبَ جانب الحظر» ولكلٍّ منهما وجه، فكلٌّ من التعليلين صحيح؛ لأن الذين يقولون: إنه إذا استويا لا يحرم يقولون: إن المحرَّم هو الحرير، وألحقنا الأكثر بالكُلِّ، أما أن نُلحق المساوي بالكُلِّ،

(1)

انظر: «الإنصاف» (3/ 261).

ص: 213

فهذا بعيدٌ من القواعد الشَّرعيَّة. والذين قالوا بالتَّحريم قالوا: إنما اجتمع مبيح وحاظر فغُلِّبَ جانبُ الحظر، وهذه قاعدة شرعية مُطَّرِدَة في مثل هذه الأشياء التي تتعارض فيها الأدلَّة، وموقفنا منها الاحتياط، والاحتياطُ في مقام الطَّلب: الفعلُ، وفي مقام النهي: التركُ.

والحاصل: أن المحرَّم هو الحريرُ الخالص أو الذي أكثره الحرير، وأما ما أكثره غير الحريرُ فحلال، وأما ما تساوى فيه الحرير وغيره فمحلُّ خلاف.

‌وَلِضَرُورَةٍ أَوْ حِكَّةٍ .........

قوله: «ولضرورة» ، هذا عائد على الحرير، أي: أو لُبْسه لضرورة، ومن الضَّرورة ألا يكون عنده ثوب غيره، ومن الضَّرورة أيضاً أن يكون عليه ثوب، ولكنه احتاج إلى لُبْسِهِ لدفع البرد، ومن الضَّرورة أيضاً أن يكون عليه ثوب لا يستر عورته لتمزُّقٍ فيه، فكلُّ ما دعت إليه الضَّرورة جاز لُبْسُهُ.

قوله: «أو حِكَّةٍ» ، أي: أنه إذا كان فيه حِكَّة جاز لُبْسه.

والحكمة: أن الحرير لنعومته ولينه يطفئ الالتهاب من الحِكَّة فلهذا أجازه الشَّارع. فقد رَخَّصَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بنِ عَوف والزُّبير رضي الله عنهما أن يلبسا الحرير من حِكَّة كانت بهما

(1)

. فالحِكَّة إذاً تُبيح لُبْس الحرير.

فإذا قال قائل: لدينا قاعدة شرعية وهي: أن المحرَّم لا

(1)

رواه البخاري، كتاب الجهاد: باب الحرير في الحرب. رقم (2920)، ومسلم، كتاب اللباس: باب إباحة لبس الحرير للرجل إذا كان به حكة، رقم (2076) عن أنس بن مالك رضي الله عنه.

ص: 214

تُبيحه إلا الضَّرورة، وهنا الحِكَّة هل هي ضرورة؟

فالجواب: أنها قد تكون ضرورة، فأحياناً يُبتلى الإنسان بحِكَّة عظيمة لا تجعله يستقر، وعلى هذا فلا إشكال، لكن إذا كان لُبْسُه لحاجة فكيف يجوز ولا ضرورة؟ فالجواب: أن تحريم لُبْسِ الحرير من باب تحريم الوسائل، وذلك لأن الحريرَ نفسَه من اللباس الطيِّب ولِبَاس الزِّينة، ولكن لما كان مدعاة إلى تنعُّم الرَّجل كتنعُّم المرأة؛ بحيث يكون سبباً للفتنة؛ صار ذلك حراماً، فتحريمه إذاً من باب تحريم الوسائل، وقد ذكر أهلُ العلم أن ما حُرِّمَ تحريم الوسائل أباحته الحاجة، وضربوا لذلك مثلاً بالعَرَايا

(1)

، وهي بيع الرُّطب بالتَّمر، وبيع الرُّطب بالتَّمر حرام؛ لأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لما سُئل عن بيع التمر بالرطب، قال:«أينقص الرُّطب إذا يَبسَ؟» ، قالوا: نعم، فنهى عن ذلك

(2)

لأنه رِبَا؛ إذ إن الجهل بالتساوي كالعلم بالتَّفاضل، لكن العَرَايا أُبيحت للحاجة، والحاجة هي أن الإنسانَ الفقيرَ الذي ليس عنده نقودٌ إذا كان عنده

(1)

انظر: «مجموع الفتاوى» (20/ 539)، (23/ 186، 187)، «إعلام الموقعين» (2/ 140).

(2)

رواه مالك، كتاب البيوع: باب ما يكره من بيع التمر، رقم (1352)، وأبو داود، كتاب البيوع: باب في التمر بالتمر، رقم (2359)، والنسائي، كتاب البيوع: باب اشتراء التمر بالرطب (7/ 269) رقم (4559)، والترمذي كتاب البيوع: باب ما جاء في النهي عن المحاقلة والمزابنة، رقم (1225)، وابن ماجه، كتاب التجارات: باب بيع الرطب بالتمر، رقم (2264).

من طريق عبد الله بن يزيد، عن زيد أبي عياش، عن سعد بن أبي وقاص به.

والحديث صحّحه: عليُّ بن المديني، والترمذيُّ، وابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، والذهبي، وغيرهم.

انظر: «بلوغ المرام» رقم (845).

ص: 215

تمر، واحتاج إلى التَّفكُّة بالرُّطب، كما يتفكَّهُ النَّاسُ أباح له الشَّارع أن يشتري بالتَّمر رُطباً على رؤوس النخل، بشرط ألا تزيد على خمسة أوسق، وأن يكون بالخَرْصِ، أي: أننا نَخْرِصُ الرُّطب لو كان تمراً بحيث يساوي التَّمر الذي أبدلناه به.

فهذا شيء من الرِّبا، ولكن أُبيح للحاجة. لماذا؟ لأن تحريم رِبَا الفضل من باب تحريم الوسائل، بخلاف رِبَا النسيئة، فإن تحريم رِبَا النسيئة من باب تحريم المقاصد، ولهذا جاء في حديث أسامة بن زيد «لا رِبا إلا في النَّسيئة. أو: إنما الرِّبَا في النَّسيئة»

(1)

، قال أهل العلم: المراد بهذا الرِّبَا الكاملُ المقصودُ، أما رِبَا الفضل فإنه وسيلة

(2)

.

‌أَوْ مَرَضٍ، أَوْ قَمْلٍ، أو حَرْبٍ أَو حَشْواً،

........

قوله: «أو مَرضٍ» ، أي: يجوز لُبْس الحرير إذا كان فيه مرض يخفِّفُه الحرير أو يُبرئه، والمرجع في ذلك إلى الأطباء، فإذا قالوا: هذا الرَّجل إذا لَبِسَ الحرير شُفي من المرض، أو هان عليه المرض، فله أن يَلْبَسَه.

قوله: «أو قَمْلٍ» ، أي: يجوز لُبْسُ الحرير لطرد القمل، لأنَّه محتاج لذلك إمَّا حاجة نَفْسيَّة؛ إذ إنَّ الإنسان لا يُطيق أن يخرج إلى النَّاس وعلى ثيابه القمل، وإمَّا حاجةً جسدية؛ لأن هذا القمل يقرصُ الإنسانَ ويتعبه، والحرير للُيُونته ونظافته ونعومته يطرد القملَ؛ لأنه أكثر ما يكون مع الوسخ.

(1)

رواه البخاري، كتاب البيوع: باب بيع الدينار بالدينارين، رقم (2178)، ومسلم: كتاب المساقاة: باب بيع الطعام مثلاً بمثل، رقم (1596).

(2)

انظر: «إعلام الموقعين» (2/ 135).

ص: 216

قوله: «أو حرب» ، أي: ويجوزُ لُبْس الحرير لحربٍ مع الكُفَّار، وفي بعض النُّسخ «أو جَرَبٍ» . أمَّا على نسخة «أو جَرَب» فعطفه على الحِكَّة من باب عطف الخاصِّ على العام؛ لأن الجَرَب حِكَّة. وأمَّا على نسخة «أو حَرْب» فإنه عطف مباين على مباين، وإذا تعارض عندنا أن يكون العطف مبايناً على مباين، أو عطف خاصٍّ على عام فالأَوْلى عطف مباين على مباين؛ لأن عطف الخاصِّ على العام شبه تكرار لبعض أفراده، وقد استُفيد هذا الفرد الذي عُطف من صيغة العموم، وعلى هذا فالنسخة الأُولى أَوْلَى.

فالحرب يجوز فيه لِبَاس الحرير لما في ذلك من إغاظة للكفَّار، فإن الكُفَّار إذا رأوا المسلمين بهذا اللباس اغتاظوا، وانكسرت معنويَّاتهم، وعرفوا أن المسلمين في نعمة، وأن المسلمين أيضاً غير مبالين بالحَرب؛ لأن الرَّجل الذي يتجمَّل بالحرير، كأنه يقول بلسان الحال: أنا لا أهتمُّ بالحرب، ولهذا ذَهَبْتُ ألبسُ هذا الثوب الناعم، ولهذا كانوا في الحرب، ربما يجعلون على عمائمهم ريش النَّعام؛ ليُعرف الرَّجُلُ أنَّه شُجَاع، وأنه غير مبالٍ بالحرب.

ورأى النبيُّ صلى الله عليه وسلم أبا دُجَانة «سِماكَ بن خَرَشَة» يختال في مشيته بين الصفَّين في معركة أُحد، يعني يتبختر، فقال صلى الله عليه وسلم:«إنها لَمِشْيَةٌ يُبْغِضُها الله إلا في مثل هذا الموطن»

(1)

، لأجل أن يُظهر العلوَّ والفخرَ على هؤلاء الكُفَّار.

(1)

رواه محمد بن إسحاق (انظر مختصر السيرة لابن هشام: 3/ 16)، ومن طريقه: الطبري في «التاريخ» (2/ 511)، والبيهقي في «دلائل النبوة» (3/ 233). بسندٍ فيه جهالة وانقطاع.

وله شاهد رواه البخاري في «التاريخ الكبير» (3/ 54). والطبراني في «المعجم الكبير» (7/رقم 6508) عن خالد بن سليمان بن عبد الله بن خالد بن سماك، عن أبيه، عن جده: أن سماك فذكره.

قال الهيثمي: «فيه مَنْ لم أعرفه» . «المجمع» (6/ 109).

ص: 217

وكلُّ شيء يغيظ الكافر فإنه يُرضي الله عز وجل، وكلُّ شيء فيه إكرام للكافر فإنه يُغضبُ الله عز وجل؛ لأن إكرام الكافر معناه إظهار الإكرام لمن أهانه الله، وهذه مراغمة لله عز وجل، ولهذا قال النبيُّ عليه الصلاة والسلام في اليهود والنَّصارى:«لا تَبْدَؤوا اليهودَ ولا النَّصارى بالسَّلام، وإذا لقيتم أحدَهُم في طريقٍ فاضْطَرُّوهُ إلى أضيقِهِ»

(1)

، فإذا تقابل المسلمون والكُفَّار في الطَّريق فلا بُدَّ أن يتمايز بعضُهم عن بعض، فهل نحن نتمايزُ حتى يَجتازوا؟ فالجواب: لا، بل نبقى نحن صامدين ونجعل الضِّيق عليهم، فهم الذي يتمايزون، وهذا معنَى الحديث، وليس معنى الحديث أن الإنسان إذا رأى الكافر ضايقه حتى يكون على الجدار، هذا لم يكن معروفاً في عهد الرَّسول عليه الصلاة والسلام، ولا أراده النبيُّ عليه الصلاة والسلام.

فكلُّ شيء فيه إكرام الكافر فإنه حرام لا يجوز، ولهذا قال الله عز وجل:{وَلَا يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [التوبة: 120]. وقال في وصف النبيِّ عليه الصلاة والسلام وأصحابه: {يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح: 29].

(1)

رواه مسلم، كتاب السَّلام: باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسَّلام، رقم (2167) من حديث أبي هريرة.

ص: 218

وأما بِرُّ الكافر والإحسان إليه فلا حرج فيه، إذا كانوا لا يقاتلوننا في الدِّين، ولا يخرجوننا من ديارنا؛ لقوله تعالى:{لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ *} [الممتحنة].

قوله: «أو حَشْواً» ، بالنصب خبراً لكان المحذوفة، والتقدير: أو كان حشواً، أي: يجوز أن يلبس الإنسان ثوباً محشوًّا بالحرير، فإذا قُدِّر أن رجلاً رأى ثوباً يُبَاع، وفيه حشوُ حرير، واشتراه ليلبسه، فلا بأس بذلك، وإنْ رَأى فراشاً حَشْوه حرير واشتراه لينامَ عليه، فلا بأس بذلك.

‌أو كَانَ عَلَماً أَرْبعُ أَصابِع فَمَا دُونَ ...........

قوله: «أو كان عَلَماً» ، هذه معطوفة على ما قبلها، أي: يجوز لُبْس الحرير إذا كان عَلَماً في ثوبٍ، والعَلَمُ معناه: الخَطُّ يُطرَّز به الثَّوب. وتطريزُ الثَّوب قد يكون من أسفل، وقد يكون في الجَيْبِ، وقد يكون في الأكمام، وقد يكون ثوباً مفتوحاً فيكون التَّطريز من جوانبه.

المهمُّ: إذا كان في الثَّوب عَلَم، أي: خطٌّ من الحرير، فهو جائز لكن بشرطٍ ذكره المؤلِّف في قوله:«أربعُ أصابِع فما دونَ» ، أي: أن العَلَمَ يكون قدْرَ أربعة أصابع فما دون، والمرادُ أصابع إنسان متوسِّط، ومثلُ هذا يُرجع فيه إلى الوسط، ولهذا قال الرَّسول صلى الله عليه وسلم:«إيَّاك وكرائمَ أموالهم»

(1)

، حتى لا تأخذ الأعلى، ولا تأخذ الأدنى أيضاً، فنأخذ بالوسط.

فإذا كان العَلَمُ أربعة أصابع في مكان واحد فما دون فهذا

(1)

متفق عليه، وقد تقدم تخريجه ص (8)، من حديث بَعْث معاذ إلى اليمن.

ص: 219

لا بأس به؛ لحديث عمر رضي الله عنه: «أنَّه لم يُرخِّصْ في الحرير إلا إذا كان عَلَماً أربع أصابعٍ فما دون»

(1)

، ولا فرق بين أن يكون عَلَماً مستطيلاً في الثَّوب أو في بُقْعَةٍ منه.

فإن قيل: كيف نجمع بين هذا وبين قوله فيما سبق: «وما هو أكثرُه ظُهوراً» ؟ لأنَّنا لو أخذنا بظاهر العبارة السَّابقة لقلنا: إذا كان عَلَماً عرضه خمس أصابع، وإلى جنبه عَلَم من القُطن عرضه ستَّة أصابع، فإن نظرنا إلى ظاهر ما سبق قلنا: إنَّه جائز. ولكن ما سبق مقيَّد بما يلحق، فيكون مراده فيما سبق إذا كان الثَّوب مشجَّراً، أو إذا كان فيه أعلام أقلُّ من أربع أصابع، أو أعلامٌ كثيرةٌ مفرَّقة، فهنا نعتبر الأكثر، أما إذا كان عَلَماً متَّصِلاً فإن الجائز ما كان أربع أصابع فما دونها.

‌أو رِقَاعاً، أَوْ لَبِنَةَ جَيْبٍ وَسُجُفِ فِرَاءٍ. وَيُكْرَهُ الْمُعَصْفَرُ والمُزَعْفَرُ للرِّجَال .......

قوله: «أو رِقَاعاً أو لَبنة جَيْبٍ» ، الرِّقَاع: جمع رُقْعَة، أي: لو رَقَّعَ الثَّوبَ بالحرير فإنَّه يجوز، لكن يجب أن نلاحظ أنه يُقيد بأن يكون أربع أصابع فما دون، وكذلك «لَبنة الجَيْب». والجَيْبُ: هو الذي يدخل معه الرَّأس، و «لَبِنَتهُ» هي: ما يُوضع من حرير على هذا الطَّوق وهو معروف في بعض الثِّياب الآن.

قوله: «وسُجُفِ فِرَاءٍ» ، الفِراء: جمع فروة، و «سُجُفها»

(1)

رواه مسلم، كتاب اللباس: باب تحريم استعمال أواني الذهب

، رقم (15 ـ 2069) عن عمر بن الخطاب قال:«نهى نبيُّ الله عن لُبس الحرير، إلا موضع إصبعين أو ثلاث أو أربع» ، ورواه النسائي كتاب الزينة باب الرخصة في لبس الحرير (2/ 202) رقم (5328) بلفظ:«أنه لم يرخص في الديباج إلا موضع أربع أصابع» .

وانظر: «صحيح البخاري» كتاب اللباس: باب لبس الحرير وافتراشه للرجال، رقم (5828 ـ 5835).

ص: 220

أطرافها، والفروة مفتوحة من الأمام، «فسجفُها» أي: أطرافها. فهذا لا بأس به، لكن بشرط أن يكون أربع أصابع فما دون.

قوله: «ويُكره المُعَصْفَر والمُزَعْفَر للرِّجَال» ، أي: كراهة تنزيه، ويجب أن نعلم أنَّ الفقهاء المتأخِّرين رحمهم الله إذا قالوا:«يُكره» فالمُراد كراهة التَّنزيه، ولا يَقْصِدُون بذلك كراهة التَّحريم.

والمُزَعْفَرُ: هو المصبوغ بالزَّعفران، والمُعَصْفر: هو المصبوغ بالعُصْفر، مكروه للرِّجال.

ودليل ذلك: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم رأى على عبد الله بن عمرو بن العاص ثوبين مُعَصْفَرين فنهاه أن يلبسهما وقال: «إنَّ هذه من ثِيابِ الكُفَّار، فلا تَلْبَسْهَا»

(1)

، فنهاه وعلَّل.

وإذا استدللنا بهذا الحديث على هذا الحُكم وجدنا أنَّ الحُكم بالكراهة التّنزيهيَّة فيه نَظَر؛ لأنَّ هذا الحديث يقتضي أنَّه حرامٌ، وهذا هو القَوْل الصَّحيحُ: أنَّ لُبْسَ المُعَصْفَر حرامٌ على الرَّجُل، والمُزَعفر مثله؛ لأنَّ اللون واحد أو متقارب، فلا يجوز للرَّجُل أن يَلبسَ ثياباً مُزَعفرة أو ثياباً معصفرة؛ لأنَّ الرَّسول صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ هذه من ثيابِ الكُفَّار

»، ولا يمكن أن نقول: إنَّها مكروهة كراهة تنزيه، والرَّسول عليه الصلاة والسلام جعلها من لِبَاس الكُفَّار.

ولكن يَرِدُ على هذا: أنَّ الرَّسول عليه الصلاة والسلام كان

(1)

رواه مسلم، كتاب اللباس: باب النهي عن لبس الرجل الثوب المعصفر، رقم (2077)، من حديث عبد الله بن عمر.

ص: 221

يَلْبَسُ الحُلَّةَ الحمراء

(1)

، والحمراء أغلظ حمرة من المُعَصْفر، فكيف ينهى عن المُعْصْفَر ويقول: إنه من لِبَاسِ الكُفَّار، ثم يلبسُ الأحمر؟

أُجيب عن ذلك بثلاثة أجوبة

(2)

:

الجواب الأول: أنَّ الأحمر الخالص ليس هو لِبَاس الكُفَّار، فلباس الكفار هو المُعْصْفَر، والمُعَصْفَر يميل إلى الحُمْرَة، ولكن ليس خالصاً، والحُلَّة الحمراء التي كان الرَّسول صلى الله عليه وسلم يلبسها كانت حمراء خالصة. وهذا الجواب فيه نظر، لأنَّ الأحمر الخالص أشدُّ من المعصفر.

الجواب الثاني: أنَّ هذا فعل، والفعل لا يُعارض القول؛ لاحتمال الخُصوصية، وهذه القاعدة مشى عليها الشَّوكاني في «شرح المنتقى»

(3)

فيجعل فعلَ الرَّسول عليه الصلاة والسلام المعارض لعموم قوله من خصائصه، ولا يحاول أن يجمع، ولكن هذه الطريقة ليست بصواب؛ لأن فعلَ الرَّسول سُنَّةٌ وقولَه سُنَّة، ومتى أمكن الجمع بينهما وَجَبَ؛ لئلا يكون التَّناقض، ولأنَّ الأصل عدم الخُصوصيَّة.

الجواب الثَّالث: أنَّ الحُلَّة الحمراء هي التي خُطوطها حُمْر، وليست حمراء خالصة، وإلى هذا ذهب ابنُ القيم

(4)

رحمه الله. كما

(1)

رواه البخاري، كتاب اللباس: باب الثوب الأحمر، رقم (5848)، ومسلم، كتاب الفضائل: باب صفة النبيِّ صلى الله عليه وسلم، رقم (2337)؛ عن البراء قال:«كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم مربوعاً، وقد رأيته في حُلَّةٍ حمراءَ، ما رأيت شيئاً أحسنَ منه» .

(2)

انظر: «فتح الباري» (10/ 305، 306).

(3)

انظر: «نيل الأوطار» (2/ 88).

(4)

انظر: «زاد المعاد» (1/ 137).

ص: 222

يُقال: هذا الرَّجل «شِماغه»

(1)

أحمر، وهذا الرَّجل «شِمَاغه» أسود، وليس المُراد أنَّ كلَّه أحمر أو كلَّه أسود، فيقول رحمه الله: إن هذه الحُلَّة الحمراء لا تُعارض نهيه؛ لأنها حُلَّة حمراء لكن ليست خالصة، وإذا كان مع الأحمر شيء يُزيل عنه الحُمرة الخالصة فإن هذا لا بأس به.

وهذا الجواب أظهر الأجوبة.

‌ومنها: اجْتِنَابُ النَّجَاسَاتِ ...........

قوله: «ومنها اجتنابُ النَّجَاسات» ، أي: ومن شروط صحّة الصَّلاة اجتنابُ النَّجاسات، أي: التنزُّه منها، وهذا في البدن والثوب والبقعة، ونحتاج إلى دليل لكلِّ هذه الثَّلاثة فنقول:

أما البدن؛ فالدّليل على اشتراط الطّهارة فيه، ووجوب التنزُّه من النَّجاسة: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بقبرين يُعذَّبَان، وأحدُهما كان لا يستتر من البول

(2)

. وهذا دليل على أنَّه يجبُ التنزُّه من البول، وكذلك أحاديث الاستنجاء والاستجمار

(3)

كلُّها تفيد أنه يجب التنزُّه من النَّجاسة في البدن.

وأما دليلها في الثَّوبِ فمن أدلتها:

1 -

قوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ *} [المدثر]، على أحد التَّفاسير

(4)

.

2 -

أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أمر الحائض إذا أصابها دم الحيض أن تغسله ثم تُصلِّي فيه

(5)

.

(1)

الشِّماغ: ما يُلبس على الرأس.

(2)

تقدم تخريجه (1/ 133).

(3)

تقدم تخريجها في (1/ 130، 131).

(4)

انظر: «تفسير القرآن العظيم» لابن كثير (4/ 531)، «الفروع» (1/ 367).

(5)

متفق عليه، وقد تقدم تخريجه (1/ 29).

ص: 223

3 -

خَلْعُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم نعليه لمَّا أخبره جبريلُ أنَّ فيهما أذى

(1)

، وهذا يدلُّ على أنَّه لا يجوز استصحاب النَّجَاسة في حال الصَّلاة.

وأما الدَّليل على طهارة المكان: فمنها قوله تعالى في سورة البقرة: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: 125].

ومنها أيضاً: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال في المساجد: «إنَّه لا يصلُح فيها شيءٌ من الأذى والقَذَر» ، وأمر أن يُصبَّ على بول الأعرابي ذَنوبٌ من ماء ليطهِّرَه

(2)

.

وجمهور أهل العلم على أنَّ التنزُّهَ من النَّجاسة شَرطٌ لصحَّةِ الصَّلاة، وأنَّه إذا لم يتنزَّه من ذلك فصلاتُه باطلة

(3)

.

وذهب بعض أهل العلم إلى أنها ليست شرطاً للصِّحَّةِ، ولكنها واجبة، فلو صَلَّى وعليه نجاسة فهو آثم، وصلاته صحيحة

(4)

.

والقول الرَّاجح: هو قول الجمهور؛ لأنَّ هذا الواجب خاصٌ بالصَّلاة، وكلُّ ما وجب في العِبَادة، فإن فواته مبطل لها إذا كان عمداً، وعلى هذا فنقول: إن القول الرَّاجح أنَّ صلاتَه باطلةٌ، فكأنه قيل: لا تُصلِّ وأنت متلبِّس بهذه النَّجاسة، فإذا

(1)

تقدم تخريجه ص (99).

(2)

متفق عليه، وقد تقدم تخريجه (1/ 415).

(3)

انظر: «المغني» (2/ 464)، «الإنصاف» (3/ 279 ـ 281)، «المجموع شرح المهذب» (3/ 132).

(4)

انظر: «المغني» (2/ 464)، «الإنصاف» (3/ 279 ـ 281)، «المجموع شرح المهذب» (3/ 132).

ص: 224

صَلَّى وهو متلبِّسٌ بها، فقد صَلَّى على وجه ما أراده الله ورسوله، ولا أمره به الله ورسوله، وقد ثَبَتَ عنه عليه الصلاة والسلام أنَّه قال:«مَنْ عَمِلَ عملاً ليس عليه أمرُنَا فهو رَدٌّ»

(1)

، فهذا وجه تقرير كون اجتناب النَّجَاسة من شُروط الصَّلاة.

‌فَمَنْ حَمَلَ نَجَاسَةً لا يُعْفَى ...........

قوله: «فمن حَمَل نجاسةً لا يُعفى عَنها» ، الفاء هنا للتفريع، وأفادنا رحمه الله بقوله:«لا يُعفى عنها» أنَّ من النَّجاسات ما يُعفى عنه، وهو كذلك، وقد سَبَقَ أنه يُعفى عن يسير الدَّم إذا كان من حيوان طاهر كدم الآدمي مثلاً، ودم الشَّاة والبعير وما أشبهها

(2)

، وسَبَقَ أيضاً: أنَّ شيخ الإسلام رحمه الله يرى العفوَ عن يسير جميع النَّجَاسات، ولا سيَّما إذا شَقَّ التَّحرُّزُ منها مثل أصحاب الحمير الذين يلابسونها كثيراً، فلا يَسلمُ من رشاش بول الحمار أحياناً بل غالباً، فشيخُ الإسلام يرى أنَّ العِلَّة المشقَّة، فكلَّما شَقَّ اجتناب النَّجَاسة فإنَّه يُعفى عن يسيرها

(3)

، وكذا يقال في مثل أصحاب «البويات» إنَّه يُعفى عن يسيرها إذا أصابت أبدانهم مما يحول بينها وبين الماء؛ لأنَّ الدِّين يُسر، ومثل هذه المسائل تحصُل غالباً للإنسان، وهو لا يشعر بها أحياناً أو يشعر بها، ولكن يشقُّ عليه التَّحرُّز منها.

مثال حمل النَّجَاسة: إذا تلطَّخ ثوبُه بنجاسةٍ، فهذا حامل لها في الواقع؛ لأنَّه يَحمِلُ ثوباً نجساً، وإذا جعل النَّجَاسة في قارورة في جيبه، فقد حَمَل نجاسة لا يُعفى عنها، وهذا يقع أحياناً في

(1)

تقدم تخريجه (1/ 186).

(2)

انظر: (1/ 438 ـ 443).

(3)

انظر: «مجموع الفتاوى» (21/ 578، 579)، «الاختيارات» ص (12، 26).

ص: 225

عصرنا فيما إذا أراد الإنسان أن يحلِّلَ البِرَاز أو البول؛ فحَمَله في قارورة وهو يُصلِّي، فهذا صلاته لا تصحُّ؛ لأنَّه حَمَل نجاسة لا يُعفى عنها.

فإن قال قائل: يَرِدُ عليكم على هذا التقرير ما ثَبَت عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه حَمَل أُمَامة بنت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يُصلِّي

(1)

والطِّفلة بطنها مملوء من النَّجَاسات، بل إن شاء أورد عليك أنك أنت تحمل النَّجاسة في بطنك، فما جوابك على هذا؟

أجاب العلماء على ذلك فقالوا: إنَّ النَّجاسة في معدنها لا حُكم لها، فلا تَنْجُسُ إلا بالانفصال

(2)

، وما في بطن الإنسان لم ينفصل بعد، فلا حُكم له، وهذا الجواب صحيحٌ، ولهذا قال بعض العلماء: إن العَلَقَة في الرَّحم إذا استحالت إلى مُضغة، ثم إلى حيوان طاهر؛ لم يصحَّ أن نقول: إن هذه طَهُرت بالاستحالة، وإن كان المعروف عند الفقهاء رحمهم الله أنهم يستثنون ـ مما يطهر بالاستحالة ـ العَلقَةَ تصير حيواناً طاهراً

(3)

. لكن بعض العلماء رَدَّ هذا الاستثناء وقال: إنَّ العَلقَة في معدِنها في الرَّحم ليس لها حُكم، فهي ليست بنجسة، ولا طاهرة، ولا حُكم لها (433)، بناءً على هذه القاعدة، وهو أنَّ الشَّيءَ في معدنه لا حُكم له

(1)

رواه مسلم، كتاب المساجد: باب جواز حمل الصبيان في الصَّلاة (543) عن أبي قتادة رضي الله عنه.

(2)

انظر: «كشَّاف القناع» (1/ 290).

(3)

انظر: «الإنصاف» (2/ 324، 325).

ص: 226

‌عَنْهَا أَوْ لَاقَاهَا بِثَوْبِهِ، أَوْ بَدَنِه لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ.

وإِنْ طَيَّنَ أَرْضاً نَجِسةً، أَوْ فَرَشَها طَاهِراً كُرِه وَصَحَّتْ.

قوله: «أَوْ لَاقَاهَا بِثَوْبِهِ، أوْ بَدَنِه لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ» ، أي: باشر المصلِّي النَّجاسة بثوبه؛ أو بدنه؛ لم تصحَّ صلاتُه.

مثاله: استند رجلٌ إلى جدار نجس، نقول: هذا لاقى النَّجاسة، أو كان جالساً في التَّشهُّد أو بين السَّجدتين، وحوله شيء نجس قد وضع يده عليه، فإنه قد لاقاها، فلا تصحّ صلاتُه.

فإن مسَّ ثوبُه شيئاً نجساً؛ لكن بدون اعتماد عليه، فقد قال أهل العلم: لا يضرُّ

(1)

؛ لأن هذا ليس بثابتٍ. فإذا قُدِّرَ أنَّ الإنسان المصلِّي لمَّا رَكَعَ مسَّ ثوبُه الجدارَ النَّجس، ولم يستندْ عليه، فإن هذا لا يؤثِّرُ، لأنَّه لم يعتمدْ عليه، فلا يُعدُّ ذلك ملاقاة.

ولو صَلَّى رجلٌ على بساط فيه بُقْعَةٌ نجسة؛ فإذا سجد صارت البقعة بين ركبتيه ويديه، فتصحُّ صلاتُه، لأنَّه لم يُلاقِها، ولم يحملْهَا وبالأَوْلَى أيضاً: لو كانت النَّجاسة على جانب من زاوية البساط فإنَّه تصحُّ صلاتُه؛ لأنَّه لم يُلاقِها.

قوله: «وإن طَيَّن أرضاً نَجِسةً أو فرشها طاهِراً كُرِه وصَحَّتْ» ، هذان حُكمان: إذا طيَّن أرضاً نَجِسَة، أي: كساها بالطِّين، وإن سُمِّتَتْ أو زُفِّتَتْ فمثله، فإذا صلَّى على هذا الطِّين الذي كُسيتْ به هذه الأرض، فَذَكر المؤلِّف فيه حكمين:

الأول: كُرِه.

(1)

انظر: «كشَّاف القناع» (1/ 289، 290).

ص: 227

والثَّاني: صَحَّت.

فالصَّلاة إذاً صحيحة، والفعل مكروه، والمكروه معناه: أنه لا يُعاقب فاعله، ويُثاب تاركه امتثالاً.

وصحَّت الصَّلاةُ؛ لأنَّ هذا الرَّجُل لم يحمل النَّجَاسة، ولم يُلاقِ النَّجاسة؛ فأتى بالشَّرط، وإذا أتى بالشَّرط فصلاتُه صَحيحة.

وكُرِهَ الفعلُ: لأنَّه اعتمد على ما لا تصحُّ الصَّلاةُ عليه. هكذا علَّلوا، ولكن هذا التَّعليل عليل في الواقع! لأنَّنا نقول: هذا الذي لا تصحُّ صلاتُه عليه حال بينه وبينه حائل صَفيق، لا يمكن أن يَمسَّ أو يُلاقيَ النَّجاسة من ورائه، ولو أنَّنا أخذنا بهذا لقلنا: لا تسلم صلاة أحد من الكراهة، ولا سيَّما في البيوت التي يكثر فيها الصِّبيان والبول، وما أشبه ذلك، فكلُّهم يفرشون مصلياتهم ويُصلُّون عليها. وهذا فيه نظر ظاهر.

والصَّواب: أنَّها تصحُّ ولا تُكره؛ لأنَّه ليس على الكراهة دليل صحيح.

وقوله: «أو فَرَشَها طاهراً» ، أي: فرش عليها، أي: على الأرض النَّجسة شيئاً طاهراً، مثل: ثوب أو سَجَّادة وصَلَّى عليه؛ فالصَّلاة صحيحة لكن مع الكراهة.

فإذا فرشَ شيئاً طاهراً؛ فإنَّ صلاتَه تصحُّ لعدم مباشرته النَّجاسة؛ لأنَّه ليس بحاملٍ لها؛ ولا ملاقٍ لها، وتُكره لاعتماده على ما لا تصحُّ الصَّلاة عليه.

ولكن الصَّحيح: أنها لا تُكره؛ لأنه صَلَّى على شيءٍ طاهر يحول بينه وبين النجاسة.

ص: 228

فإن قيل: لو فرشَها تُراباً، فهل تصحُّ صلاته؟

فالجواب: إنْ كان كثيراً؛ بحيثُ لا يُلاقي النَّجاسة إذا كَبَسَ عليه؛ فالصَّلاةُ صحيحة، وإنْ كان قليلاً؛ بحيثُ يَمُسُّ النَّجاسةَ إذا كَبَسَ عليه؛ فالصَّلاةُ غيرُ صحيحة.

‌وَإِنْ كَانَتْ بِطَرفِ مُصَلَّى مُتَّصلٍ صَحَّتْ إِنْ لَمْ يَنْجَرَّ بِمَشْيِهِ

قوله: «وإن كانت» ، الضَّمير يعودُ على النجاسة.

قوله: «بطرفِ مُصَلَّى مُتَّصلٍ صَحَّتْ» ، مثاله: رجلٌ يُصلِّي على سَجَّادَة وطرفُها نَجِسٌ، وهذا الطَّرف متَّصلٌ بالذي يُصلِّي عليه، ولكنَّه لا يُباشر النَّجاسة، ولا يُلاقيها، فنقول: إنَّ صلاتَه صحيحةٌ.

قوله: «إنْ لم يَنْجَرَّ بمشيه» ، هذه العبارة فيها رَكَاكَة، فهي لا تَتَّفقُ مع الأُولى إلا على تقدير؛ لأن قوله:«وإنْ كان بطرفِ مُصَلَّى» فالمُصَلَّى لا ينجرُّ بالمشي، فلو مَشَيت فإنَّه يبقى في مكانه، ولكن يُشير المؤلِّف إلى مسألة أخرى، وهي إذا كانت النَّجاسة متَّصلة بشيءٍ مُتعلِّقٍ بالمُصلِّي، فإن كانت تنجرّ بمشيه لم تصحَّ صلاتُه، وإن كانت لا تنجرُّ صحَّت صلاتُه.

مثال ذلك: رَجُل معه حبل، وربطه على رقبة حمار، وقد أمسكه بيده أو ربطه على بطنه، فهنا صلاتُه تصحُّ؛ لأنَّ الحِمَار لو استعصى عليه لم ينجرَّ إذا مشى، وهذا في الغالب، فالصَّلاة هنا صحيحة؛ لأنَّ الرَّجُلَ غير حامل للنَّجَاسة، ولا النَّجاسة تتبعه، وليس مباشراً لها، وهذا على القول بأنَّ الحِمَار نجسٌ.

مثالٌ ثانٍ: رَجُلٌ آخر ربط حَبْلاً بيده أو ببطنه، وربطَ طرَفَهُ الآخر في رقبة كلب صغير، فهذا الرَّجُل صلاته لا تصحُّ؛ لأنَّه إذا مشى انجرَّ الكلب فهو مستتبع للنجاسة الآن.

ص: 229

مثالٌ ثَالِثٌ: رَجُلٌ ربط حبلاً بحجرٍ كبيرٍ متلوِّثٍ بالنَّجاسة، وربط الحبلَ بيده، أو على بطنه؛ فصلاتُه صحيحة؛ لأن الحجر الكبير لا ينجرُّ بمشيه.

مثال رابع: رَجُلٌ ربط حبلاً بحجرٍ صغير متنجِّس، وربط الحبل بيده أو على بطنه، فلا تصحُّ صلاتُه؛ لأنَّه ينجرُّ بمشيه فهو مُسْتَتْبَعٌ له، فيكون كالحامل للنَّجاسة. وهذا قد يُلغَزُ به فيُقالُ: رَجُل اتَّصلَ بنجاسةٍ كبيرة عظيمة، وقلنا: إنَّ صلاتَه صحيحة، ورَجُل اتَّصلَ بنجاسة صغيرة قليلة وقلنا: إنَّ صلاتَه باطلة.

وهذا ما ذهب إليه المؤلِّفُ رحمه الله.

والصَّحيحُ: أنَّها لا تبطلُ الصَّلاة في كلتا الصُّورتين؛ لأنَّ النَّجاسة هنا لم يُبَاشِرها ثوبه الذي هو سُتْرَةُ صلاته، ولا بُقعة صلاته، ولا بدنه، والحاجة تدعو إلى ذلك، ولا سيَّما في الزَّمن السَّابق، فقد يكون الإنسان في البَرِّ ومعه كلبٌ صغير؛ يَخشى إن أطلقه أن يهربَ ولا يجيء، وليس حوله شجرة يربطه بها؛ فأمسكه بيده وصَلَّى، فما الذي يُبطِلُ صلاتَه؟!

وقولهم: إنه مُسْتَتْبَعٌ للنَّجَاسة، نقول: لكنَّها منفصلةٌ عنه في الواقع، وبينه وبينها فاصل؛ وهو هذا الحبل.

‌وَمَنْ رَأَى عَلَيه نَجَاسَةً بَعْدَ صَلَاتِهِ، وَجَهِلَ كَوْنَهَا فيها لَمْ يُعِدْ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهَا كَانَتْ فِيهَا، لَكِنْ نَسِيهَا أَوْ جَهِلَها أَعَادَ

قوله: «وَمَنْ رَأَى عَلَيه نَجَاسَةً بَعْدَ صَلَاتِهِ، وَجَهِلَ كَوْنَهَا فيها لَمْ يُعدْ، وإنْ عَلِمَ أنَّهَا كَانَتْ فِيهَا، لَكِنْ نَسِيهَا أَوْ جَهِلها أَعَادَ» ، المراد بالنَّجاسة ما لا يُعفى عنه من النجاسات؛ لأنَّ ما يُعفى عنه لا يضرُّ وجوده.

ص: 230

وقوله: «عليه» ، أي: على بدنه أو ثوبه. وقد ذكر المؤلِّفُ هنا صورتين:

الصُّورة الأُولى: أشار إليها بقوله: «وجهل كونها فيها» ، أي: لا يدري هل كانت عليه وهو في صلاته، أم أصابته بعد الصَّلاة، ففي هذه الصُّورة لا إعادة عليه لوجهين:

الوجه الأول: أنَّ صلاتَه قد انقضت من غير تيقُّن المفسد، والأصلُ عَدمُه، ولهذا لو شَكَّ إنسانٌ بعد الصَّلاة هل صَلَّى ثلاثاً أم أربعاً؟ فلا يضرُّه؛ لأنَّه فَرَغَ من الصَّلاة.

الوجه الثَّاني: أنَّه لا يدري؛ أحصلت تلك النَّجاسة قبل سلامه أو بعد سلامه، والأصل عدم الحصُول فلا إعادة.

وإن غلب على ظنِّه أنَّها كانت قبلَ الصَّلاة فلا إعادة عليه أيضاً؛ لأنَّ غلبة الظَّنِّ هنا كالشَّكِّ، والشَّكّ كالعدم، ولهذا لمَّا سُئِل الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم عن الرَّجُلِ يُشكِلُ عليه ـ وهو في صلاته ـ أخرج منه شيء؟ قال:«لا يخرجُ حتى يسمعَ صوتاً؛ أو يجدَ ريحاً»

(1)

. ولأنَّ القاعدة: أنَّ اليَقين لا يزولُ إلا بيقين، فلا يزول بشيءٍ مظنون أو مشكوكٍ فيه.

الصُّورة الثَّانية: عَلِمَ أنَّ النَّجاسة كانت في الصَّلاة؛ لكن جهلها فلم يعلم إلا بعد صلاته، فعليه الإعادة على كلام المؤلِّف.

مثاله: رَجُل صَلَّى؛ فلما سَلَّم وَجَدَ على ثوبه نجاسة يابسة؛ يتيقَّن أنها أصابته قبل الصَّلاة، ولكن لم يعلم بها.

(1)

متفق عليه، وقد تقدم تخريجه (1/ 59، 269).

ص: 231

واعلمْ أنَّ الجهل ثلاثة أقسام:

الأول: أن يعلم أن النَّجاسة كانت في الصلاة لكن بعد أن سلَّم، وهذا ما ذكره المؤلِّف.

الثاني: أن يعلم وجودها في الصلاة، لكن لا يدري أهي من النَّجاسات المانعة من صحة الصَّلاة أم لا.

مثاله: رَجُل صلَّى وفي ثوبه بُقعٌ؛ لا يدري أهي من النجاسات المعفوِّ عنها أم لا؟ فتبيَّن أنها من النَّجاسات التى لا يُعفى عنها.

الثالث: أن يعلمَ وجودها في الصَّلاة؛ لكن لا يدري أنَّ إزالتها شرطٌ لصحَّة الصَّلاة. والمثال واضح.

ففي هذه الأقسام كلِّها تلزمه إعادة الصَّلاة؛ لإخلاله بشرطِ الصَّلاة، وهو اجتناب النَّجاسة، فهو كما لو صَلَّى بغير وُضُوء جاهلاً بالحدث.

وقوله: «أو نَسيَها» ، أي: نَسيَ أنَّ النَّجاسة أصابته، ولم يذكر إلا بعد سلامه فعليه الإعادة على كلام المؤلِّف؛ لإخلاله بشرط الصَّلاة؛ وهو اجتناب النجاسة؛ فهو كما لو صَلَّى محدثاً ناسياً حدثه.

ومثل ذلك لو نسيَ أن يغسلها.

والرَّاجح في هذه المسائل كلِّها: أنه لا إعادة عليه سواء نسيها، أم نسي أن يغسلها، أم جهل أنها أصابته، أم جهل أنها من النَّجاسات، أم جهل حكمها، أم جهل أنها قبل الصَّلاة، أم بعد الصلاة.

ص: 232

والدَّليل على ذلك: القاعدة العظيمة العامة التي وضعها الله لعباده وهي قوله: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِيْنَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286]، وهذا الرَّجُل الفاعل لهذا المحرَّم كان جاهلاً أو ناسياً، وقد رفع الله المؤاخذة به، ولم يبقَ شيء يُطالب به.

وهناك دليل خاصٌّ في المسألة، وهو أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صَلَّى في نعلين وفيهما قَذَرٌ؛ وأعلمه بذلك جبريل لم يستأنف الصَّلاة

(1)

وإذا لم يُبْطِل هذا أولَ الصَّلاة، فإنه لا يُبْطِلُ بقيَّة الصَّلاة.

ولو قال قائل: ما الذي منع قياسها على ما إذا صَلَّى محدثاً وهو جاهل أو ناسٍ؟

فالجواب: أنَّ ترك الوُضُوء من باب ترك المأمور، فالوُضُوء شيء مأمور به؛ يُطلب من الإنسان أن يقوم به، والنجاسة شيء منهيٌّ عنه؛ يُطلب من الإنسان أن يتخلَّى عنه، فلا يمكن قياس فعل المحظور على ترك المأمور؛ لأن فعل المحظور إذا عُفي عنه مع الجهل والنسيان كان فاعله كمن لم يفعله سَوَاء؛ لعدم الإثم به. أمَّا ترك المأمور مع الجهل والنسيان فيُعفى عنه حال تركه؛ فليس في الإثم كمن تركه عامداً؛ لكنه يمكن تدارك مصلحته بإعادته على الوجه المأمور به، فتنبَّه للفرق فإنه واضح.

وعلى هذا؛ لو أن أحداً أكل لحم إبل، وهو لم يعلم أنه

(1)

تقدم تخريجه ص (99).

ص: 233

لحم إبل، أو أنه ناقض للُوضُوء، أو علم بذلك لكن نسيَ أن يتوضَّأ؛ أو نسيَ أنه أكله؛ وقام وصلَّى بلا وُضُوء ثم علم، فعليه الإعادة؛ لأن هذا من باب ترك المأمور؛ بخلاف النَّجاسة، فهي من باب فعل المحظور، هذا هو الصَّحيح في هذه المسألة، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله

(1)

، وهو رواية عن الإمام أحمد

(2)

.

‌وَمَنْ جُبِرَ عَظْمُهُ بِنَجِسٍ لَمْ يَجِبْ قَلْعُهُ مَعَ الضَّرَرِ .........

قوله: «ومن جُبر عظمُه بنجس لم يجبْ قَلْعُه مع الضَّرر» .

مثال ذلك: رجل انكسر عظمه وسقط أجزاء من العظم، فلم يجدوا هذه الأجزاء، وعندهم كلب، فكسروا عظم الكلب، وجَبَروا به عظمَ الرَّجل. فقد جُبِرَ الآن بعظم نجس، فإذا صَلَّى فسيكون حاملاً نجاسة؛ فنقول له: اقلعْ هذا العظم النَّجس؛ لأنه لا يجوز لك أن تُصلِّي وأنت حامل للنَّجاسة، فإن قال الأطباء: إذا قلعه تضرَّر وعاد الكسر وربما لا يُجبر. فنقول: لا يجب قلعه حينئذ؛ لأن الله عز وجل أباح ترك الوُضُوء عند خوف الضَّرر؛ فترك اجتناب النَّجاسة من باب أولى عند خوف الضَّرر.

لكن هل يتيمَّم لحمله هذه النجاسة؟ الجواب: الصَّحيح أنه لا يجب التيمم؛ بل ولا يُشرع لهذه النَّجاسة. والمذهب: إن كان قد غطَّاه اللحم لم يجب التيمُّم؛ لأنه غير ظاهر، وإن كان لم يغطِّه وجب التيمُّم؛ لأن النَّجاسة ظاهرة

(3)

. ولكن الصَّحيح كما

(1)

انظر: «مجموع الفتاوى» (22/ 184)، «الاختيارات» ص (43، 44).

(2)

انظر: «الإنصاف» (3/ 289، 290).

(3)

انظر: «الإقناع» (1/ 146).

ص: 234

سبق في باب التيمُّم أن النَّجاسات لا يُتَيمَّمُ عنها؛ وأنَّ من كان على بدنه نجاسة وتعذَّر عليه غسلها فليُصلِّ بدون تيمم؛ لأنَّ التَّيمُّم إنما ورد في طهارة الحدث، لا في طهارة الخَبَث

(1)

.

‌وَمَا سَقَطَ مِنْهُ مِنْ عُضْوٍ أَوْ سِنٍّ فَطاهِرٌ ...........

قوله: «وما سقط منه من عُضوٍ أو سِنٍّ فطاهرٌ» ، أي: إذا سقط من الإنسان عضو؛ أو سِنٌّ فهو طاهر.

مثال العضو: قطع الأصبع. مثال السِّنِّ: واضح.

ودليل ذلك قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «إنَّ المؤمن لا ينجس»

(2)

، أي: لا حيًّا ولا ميْتاً. وقوله عليه الصلاة والسلام: «ما قُطع من البهيمة وهي حَيَّة فهو ميِّتٌ»

(3)

.

(1)

انظر: (1/ 375، 376).

(2)

متفق عليه، وقد تقدم تخريجه (1/ 25).

(3)

والحاكم (4/ 239) من طريق المسور بين الصلت، عن زيد بن أسلم، عن عطاء، عن أبي سعيد الخدري به مرفوعاً.

قال البزار: لا نعلم أحداً أسنده إلا المسور، وليس هو بالحافظ.

قال الهيثمي: فيه مسور بن الصلت وهو متروك. «المجمع» (4/ 32).

ورواه ابن ماجه، كتاب الصيد: باب ما قُطع من البهيمة وهي حيَّة، رقم (3216).

عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن ابن عمر به مرفوعاً.

هشام بن سعد، قال ابن حجر: صدوق له أوهام ورُمي بالتشيع.

ونصّ أبو زرعة الرازي على أن هذه الرواية وَهْمٌ أيضاً.

ورجَّح أبو زرعة الرازي والدارقطني ـ من ذلك كلِّه ـ المرسلَ. والله أعلم.

انظر: «العلل» لابن أبي حاتم رقم (1479)، (1526)، «العلل» للدارقطني (6/ 297) رقم (1152)، «نصب الراية» (4/ 317)، «التلخيص الحبير» رقم (14).

ص: 235

وأخذ العلماء من ذلك قاعدة: وهي ما أُبين من حيٍّ فهو كميتته حِلًّا وحُرمة؛ وطهارة ونجاسة

(1)

، وميتة الآدمي طاهرة، إذاً؛ فالعضو المنفصل منه طاهر، ولكن الغريب أنَّ أهل العلم رحمهم الله يقولون: ما انفصلَ من الإنسان فهو طاهرٌ إلا شيئاً واحداً، وهو الدَّمُ فهو نجس يُعفى عن يسيره

(2)

؛ لأن الدَّم ليس بولاً ولا غائطاً، إذ البول والغائط هما فضلات الطعام والشراب التي ليس فيها فائدة للجسم، وقالوا: إن الدَّم لا هو من الفضلة التي ليس فيها فائدة، وليس من الجسم نفسِهِ الذي يغذِّيه الدَّم، فهو بين هذا وهذا، ولهذا أعطيناه الحكم بين بين، فقلنا ليس كالعضو الذي ينفصل، وليس كالبول والغائط، فهو نجس يُعفى عن يسيره.

ولكن ذهب كثيرٌ من أهل العلم، إلى أن دم الآدمي طاهر، وقالوا: إذا كان العضو لا يَنْجُسُ بالبينونة، فالدَّم من باب أَولى، وليس هناك دليلٌ على نجاسة دم الآدمي؛ إلا ما خرج من السَّبيلين كالحيض؛ فقد قام الدَّليل على نجاسته

(3)

.

فإن قيل: ما مناسبة هذه المسألة: «وما سقط منه من

(1)

انظر: (1/ 441).

(2)

انظر: «الإنصاف» (2/ 317).

(3)

انظر: (1/ 438 ـ 442).

ص: 236

عضو

»، لشرط اجتناب النَّجاسة في باب شروط الصَّلاة؟

فالجواب: أن المناسبة أنه لو سقط منه عضو، ثم أعاده في الحال فَالْتَحَمَ يكون طاهراً لا يلزمه أن يزيله إذا أراد الصَّلاة.

‌وَلَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ في مَقْبَرةٍ وَ ُحِشٍّ،

..........

قوله: «ولا تصحُّ الصَّلاةُ في مَقْبَرة» ، نفيُ الصِّحَّة يقتضي الفساد؛ لأنَّ كلَّ عبادة إما أن تكون صحيحة، وإما أن تكون فاسدة، ولا واسطة بينهما، فهما نقيضان شرعاً، فإذا انتفت الصِّحَّة ثبت الفساد.

وقوله: «الصَّلاة» يعمُّ كلَّ ما يُسمَّى صلاة، سواءٌ كانت فريضةً أم نافلة، وسواء كانت الصلاة ذات ركوع وسجود أم لم تكن؛ لأنه قال:«الصلاة» وعليه فيشمل صلاة الجنازة فلا تصح في المقبرة. لكن قد دلَّت الأدلَّةُ على استثناء صلاة الجنازة، كما سنذكره إن شاء الله

(1)

، وعلى هذا؛ فالمراد بالصَّلاة ما سوى صلاة الجنازة.

وهل يجوز السُّجود المجرَّد كسجود التِّلاوة مثلاً؛ كما لو كان الإنسان يقرأ في المقبرة ومرَّ بآية سجدة؟ ينبني هذا على اختلاف العلماء في سجود التلاوة، فمنهم من قال: إنه صلاة. ومنهم من قال: إنَّه ليس بصلاة

(2)

.

فالذين قالوا: ليس بصلاة يقولون: إنه يجوز أن يسجد الإنسان سجود التلاوة في المقبرة، والذين قالوا: إنه صلاة يقولون لا يجوز

(3)

.

(1)

انظر: ص (240).

(2)

انظر: «الإنصاف» (4/ 209).

(3)

سيأتي بحث هذه المسألة في باب صلاة التطوع في المجلد الرابع.

ص: 237

وهل المراد بالمقبرة هنا ما أُعِدَّ للقبر، وإن لم يدفن فيه أحد، أم ما دُفِنَ فيه أحد بالفعل؟

الجواب: المراد ما دُفِنَ فيه أحد، أمَّا لو كان هناك أرض اشتُريت؛ لتكون مقبرة، ولكن لم يُدْفَنْ فيها أحد، فإن الصَّلاة فيها تصحُّ، فإن دُفِنَ فيها أحد، فإن الصَّلاة لا تصحُّ فيها؛ لأنها كلّها تُسمَّى مقبرة.

والأصل صحَّة الصَّلاة في كلِّ الأراضي؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: «جُعِلت ليَ الأرضُ مسجداً وطَهُوراً»

(1)

، ولهذا لا بُدَّ أن يُؤتى بدليل للأماكن التي لا تصحُّ فيها الصَّلاة.

فإذا قال قائل: ما الدَّليل على عدم صحَّة الصَّلاة في المقبرة؟.

قلنا: الدليل:

أولاً: قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «الأرضُ كلُّها مسجدٌ إلا المقبرة والحَمَّام»

(2)

، وهذا استثناء، والاستثناء معيار العموم.

ثانياً: قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «لعن اللَّهُ اليهودَ والنَّصارى، اتَّخَذُوا قُبُورَ أنبيائهم مَسَاجدَ»

(3)

. والمساجد هنا قد تكون أعمَّ من البناء؛ لأنه قد يُراد به المكان الذي يُبنى، وقد يُراد به المكان الذي يُتَّخذ

(1)

متفق عليه، وقد تقدَّم تخريجه (1/ 29).

(2)

تقدم تخريجه ص (141).

(3)

رواه البخاري، كتاب الصلاة: باب الصلاة في البيعة، رقم (435)، ومسلم، كتاب المساجد: باب النهي عن بناء المساجد على القبور، رقم (529) ـ واللفظ له ـ من حديث عائشة.

ص: 238

مسجداً وإنْ لم يُبْنَ؛ لأنَّ المساجد جمع مَسْجِد، والمسْجِد مكان السُّجود، فيكون هذا أعمَّ من البناء.

ثالثاً: تعليل؛ وهو أنَّ الصَّلاة في المقبرة قد تُتَّخذ ذريعة إلى عبادة القبور، أو إلى التشبُّه بمن يعبدُ القُبور، ولهذا لمَّا كان الكُفَّار يسجدون للشَّمس عند طلوعها وغروبها، نَهى النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن الصَّلاة عند طلوعها وغروبها

(1)

لئلا يُتَّخَذَ ذريعة إلى أن تُعبد الشَّمس من دون الله، أو إلى أن يُتَشبَّه بالكُفَّار.

وأمَّا مَنْ علَّل ذلك بأن عِلَّة النَّهي عن الصلاة في المقبرة خشية أن تكون المقبرة نجسة، فهذا تعليل عليل، بل ميِّت لم تَحُلَّ فيه الرّوحُ.

قالوا: لأنها ربما تُنبش وفيها صديد من الأموات ينجِّسُ التُّراب

(2)

.

فيُجابُ عنه بما يلي:

أولاً: أنَّ نبش المقبرة الأصل عدمُه.

ثانياً: من يقول إنك ستُصلِّي على تُراب فيه صديد؟

ثالثاً: مَنْ يقول: إنَّ صديد ميتة الآدمي نجس؟

رابعاً: أنه لا فرق عند هؤلاء بين المقبرة القديمة؛ والمقبرة الحديثة التي يُعلم أنها لم تُنبش؛ فكلُّ هذه المقدمات لا يستطيعون الجواب عنها؛ فيبطُل التَّعليل بها.

(1)

رواه مسلم، كتاب صلاة المسافرين: باب إسلام عمرو بن عبسة رقم (832) عن عمرو بن عبسة.

(2)

انظر: «المغني» (2/ 471)، «مجموع الفتاوى» (21/ 321).

ص: 239

فإن قال قائل: هل القبر الواحد يمنعُ صِحَّة الصَّلاة أو لا بُدَّ من ثلاثة فأكثر؟

فالجواب: أنَّ في ذلك خلافاً

(1)

، فمن العلماء مَنْ قال: إنَّ القبر الواحد والاثنين لا يمنعُ صحَّة الصَّلاة، ومنهم من قال: بل يمنعُ. والصَّحيح: أنه يمنع حتى القبر الواحد؛ لأنَّ المكان قُبِرَ فيه فصار الآن مقبرة بالفعل، والنَّاس لا يموتون جملة واحدة حتى يملؤوا هذا المكان، بل يموتون تِباعاً واحداً فواحداً.

فإن قال قائل: إذا جعلتم الحكمَ منوطاً بالاسم، فقولوا: إذا أُعِدَّتْ أرضٌ لأن تكون مقبرة فلا يُصلَّى فيها؟.

فالجواب: أن هذه لم يتَحقَّق فيها الاسم، فهي مقبرة باعتبار ما سيكون؛ فتصحُّ الصَّلاة فيها؛ لكن التي دُفِنَ فيها ولو واحد أصبحت مقبرة بالفعل.

مسألة:

يُستثنى من ذلك صلاة الجنازة، فإن كانت الصلاة على القبر فلا شَكَّ في استثنائها؛ لأنه ثبت عن النبيِّ عليه الصلاة والسلام أنَّه فَقَدَ المرأة التي كانت تَقُمُّ المسجد، فسأل عنها، فقالوا:«إنَّها ماتت» ، وكانت قد ماتت بالليل، والصَّحابةُ رضي الله عنهم كرهوا أنْ يُخبروا النبيَّ صلى الله عليه وسلم بالليل فيخرُجَ، فقال لهم: هلاَّ آذنتموني»، أي: أخبرتموني، ثم قال عليه الصلاة والسلام:«دُلُّوني على قبرها» فدلُّوه على القبرِ، فقامَ وصَلَّى عليها عليه الصلاة والسلام

(2)

.

(1)

انظر: «الإنصاف» (3/ 298)، «الاختيارات» ص (44).

(2)

رواه البخاري، كتاب الصلاة: باب كنس المسجد والتقاط الخرق، رقم (458)، ومسلم، كتاب الجنائز: باب الصلاة على المقبرة، رقم (956) من حديث أبي هريرة.

ص: 240

لكن لو جِيءَ بالميت وصُلِّيَ عليه في المقبرة، قبل الدَّفن فما الحكم؟

فالجواب أن نقول: لدينا الآن عموم: «الأرضُ كلُّها مسجدٌ إلا المقبرة والحمَّام»

(1)

، والصَّلاة على الميِّت صلاة بلا شَكٍّ. ولهذا تُفتتح بالتكبير، وتُختتم بالتَّسليم، ويُشترط لها الطَّهارة والقراءة؛ فهي صلاة، فما الذي يُخرجُها من عموم قوله:«إلا المقبرة؟» ، لكن ربما يسوغ لنا أن نقيسها على الصَّلاة على القبر، وما دام أنه قد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صَلَّى على القبر؛ فلا فرق بين أن يُصلَّى على جنازة مدفونة، أو على جنازة غير مدفونة؛ لأن العِلَّة واحدة، وهي أن هذا الميِّت الذي يُصلَّى عليه كان في المقبرة، وعَمَلُ الناس على هذا، أنه يُصلَّى على الميت، ولو قبل الدَّفن في المقبرة.

ورُبَّما يقال: إن الصَّلاة على الميت لا تدخل في ذلك أصلاً؛ لأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «الأرض كلُّها مسجد» ، أي: مكان للصَّلاة ذات السُّجود، وصلاة الجنازة لا سُجود فيها.

قوله: «وحُشٍّ» ، الحُش: المكان الذي يَتخلَّى فيه الإنسان من البول أو الغائط؛ وهو الكَنيف، فلا تصحُّ الصلاة فيه، لأنه نجس خبيث، ولأنَّه مأوى الشياطين، والشياطين خبيثة، فأحبُّ الأماكن إلى الشياطين أنجس الأماكن قال تعالى: {الْخَبِيثَاتُ

(1)

تقدم تخريجه ص (141).

ص: 241

لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ} [النور: 26] وهذا من حكمة الله عز وجل.

فالمساجد بيوت الله ومأوى الملائكة، أما الحُشوش فهي مأوى الشَّياطين، فلهذا يُشرع للإنسان عند دخول الخلاء أن يقول:«أعوذ بالله من الخُبْثِ والخَبَائث»

(1)

، فلا ينبغي أن يكون هذا المكان الخبيث الذي هو مأوى الخبائث مكاناً لعبادة الله عز وجل. وكيف يستقيم هذا وأنت تقول في الصَّلاة: أعوذ بالله من الشيطان الرَّجيم، وأنت في مكان الشَّياطين؟!.

‌وحَمَّامٍ وَأَعْطَانِ إِبِلٍ ...........

قوله: «وحمَّام» ، كلُّ ما يُطلق عليه اسم الحَمَّام يدخل في ذلك؛ حتى المكان الذي ليس مبالاً فيه فإنه لا تصحُّ فيه الصَّلاة، للحديث:«الأرضُ كلُّها مسجدٌ إلا المقبرة والحَمَّام»

(2)

، ولأن الحمَّام، مكان كشف العورات.

والحَمَّام هو المغتسل، وكانوا يجعلون الحمَّامات مغتسلات للنَّاس يأتي النَّاس إليها ويغتسلون، يختلط فيه الرِّجال والنساء، وتنكشف العورات، وليس المقصود به «المرحاض» ، ولهذا نهى الشَّرع عن الصَّلاة فيه. وظاهر الحديث: أنه لا فرق بين أن يكون الحَمَّام فيه ناس يغتسلون، أو لم يكن فيه أحد، فما دام يُسمَّى حَمَّاماً فالصَّلاة لا تصحُّ فيه.

قوله: «وأعطان إبِلٍ» ، جمع عَطَن، ويُقال: مَعَاطِن جمع مَعْطَنٌ، وأعطان الإبل فُسِّرتْ بثلاثة تفاسير

(3)

:

(1)

تقدم تخريجه (1/ 104).

(2)

تقدم تخريجه ص (141).

(3)

انظر: «الإنصاف» (3/ 299، 300).

ص: 242

قيل: مباركها مطلقاً، وقيل: ما تُقيم فيه وتأوي إليه، وقيل: ما تبرك فيه عند صدورها من الماء؛ أو انتظارها الماء. فهذه ثلاثة أشياء، والصَّحيح: أنَّه شاملٌ لما تقيم فيه الإبل وتأوي إليه، كمَرَاحِها، سواءٌ كانت مبنيَّة بجدران أم محوطة بقوس أو أشجار أو ما أشبه ذلك، وكذلك ما تعطن فيه بعد صدورها من الماء.

وإذا اعتادت الإبِلُ أنها تبرك في هذا المكان، وإن لم يكن مكاناً مستقراً لها فإنه يعتبر معطناً. أما مبرك الإبل الذي بركت فيه لعارض ومشت، فهذا لا يدخل في المعاطن؛ لأنه ليس بمبرك.

والدَّليل قول الرَّسول صلى الله عليه وسلم: «صلُّوا في مرابضِ الغنم، ولا تُصَلّوا في أعطان الإبل»

(1)

، والحديث في «الصَّحيح» . ووجه

(1)

رواه ـ بهذا اللفظ ـ أحمد (2/ 451، 491، 509)، والترمذي، أبواب الصلاة: باب ما جاء في الصلاة في مرابض الغنم

، رقم (348)، وابن ماجه، كتاب المساجد: باب الصلاة في أعطان الإبل، رقم (768) عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة به.

قال الترمذيُّ: «حسن صحيح» .

قال ابنُ رجب: إسنادُه كلهم ثقات، إلا أنه اختُلف على ابن سيرين في رفعه ووقفه.

انظر: «علل الترمذي الكبير» ص (247)، «العلل» للدارقطني رقم (1434)(8/ 109)، «فتح الباري» لابن رجب (2/ 419).

ورواه أحمد (4/ 150) من حديث عقبة بن عامر.

قال ابن رجب: إسناده جيد. «فتح الباري» له (2/ 421).

ورواه البيهقي (2/ 449) من حديث عبد الله بن مغفل.

قال النوويُّ: «حديث حسن» . «الخلاصة» رقم (922).

وأصله في «صحيح مسلم» رقم (360) من حديث جابر ابن سَمُرة دون صيغة الأمر.

ص: 243

الدَّلالة من كون الصَّلاة لا تصحُّ في معاطن الإبل: النهي عن الصلاة فيها، فإذا صلَّيت فيها فقد وقعت فيما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك معصية، ولا يمكن أن تنقلب المعصية طاعة. وإذاً؛ لا تصحُّ الصلاة.

فإن قال قائل: قوله: «صَلُّوا في مرابض الغنم» أمرٌ، والأمر للوجوب، فهل هذا يقتضي أن أبحث عن مرابض غنم لأُصَلِّيَ فيها؟

فالجواب: لا؛ فإن الأمر هنا للإباحة؛ لأنه في مقابل النهي عن الصَّلاة في معاطن الإبل، ولهذا قال العلماء إن الأمر بعد الحظر للإباحة

(1)

، فلما كان يُتوهَّم أنه لما نُهي عن الصَّلاة في أعطان الإبل أنَّه يُنهى كذلك عن الصَّلاة في مرابض الغنم. قال:«صَلُّوا في مرابض الغنم» ، كأنه قال: لا تُصلّوا في أعطان الإبل، ولكم أن تُصلُّوا في مرابض الغنم.

والحكمة من عدم صحَّة الصلاة في أعطان الإبل: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم نهى عنه، فنهيُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأمره الشَّرعي هو العِلَّة بالنسبة للمؤمن بدليل قوله تعالى:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36].

فالمؤمن يقول: سمعنا وأطعنا.

ويدلُّ لذلك أن عائشة سُئِلت: ما بالُ الحائض تقضي الصَّوم ولا تقضي الصَّلاة؟ قالت: «كان يُصيبنا ذلك؛ فنُؤمر بقضاء الصوم ولا نُؤمر بقضاء الصَّلاة»

(2)

، فبيَّنت أنَّ العِلَّة في ذلك هو الأمر.

(1)

انظر: «شرح الكوكب المنير» (3/ 56).

(2)

متفق عليه، وقد تقدم تخريجه (1/ 307).

ص: 244

لكن لا يمنع أن الإنسان يتطلَّبُ الحكمةَ المناسبة، لأنه يعلم أن أوامر الشَّرع ونواهيه كلها لحكمة، فما هي الحكمة؟ وسؤال الإنسان عن الحكمة في الأحكام الشرعية أو الجزائية أمرٌ جائز، بل قد يكون مطلوباً إذا قُصِدَ به العلم، ولهذا لمَّا قال الرسول صلى الله عليه وسلم في النساء:«إنَّكُنَّ أكثرُ أهلِ النَّارِ» ، قُلْن: بِمَ يا رسولَ الله؟ فسألن عن الحِكمة؟ قال: «لأنَّكُنَّ تُكثِرْنَ اللَّعنَ وتَكْفُرْنَ العَشير»

(1)

.

وأما إذا قصد أنَّه إن بانت العِلَّة امتثل وإلا فلا، فالسؤال حينئذ حرام؛ لأنه لازمُه قَبُول الحقِّ إنْ وافق هواه، وإلا فلا

وقد اختلف العلماء رحمهم الله في التَّعليل للنَّهي عن الصَّلاة في أعطان الإبل من حيثُ النظرُ

(2)

، فقال بعضهم: إننا لا نعلم الحكمة، والحكم الشرعي الذي لا تُعلم حكمته يُسمَّى عند أهل العلم تعبُّديًّا. إذاً؛ الحكمةُ تحقيق العبادة بالتسليم لله، سواء علمنا الحكمة في ذلك أم لم نعلم، وهذه والله حكمة عظيمة. فرميُ الحصى في محلِّ الجمرات في الحَجِّ، لو قال قائل ما حكمته؟ قلنا: حكمته التعبُّد لله: «إنَّما جُعلَ الطَّوافُ بالبيت، وبالصَّفا والمروة، ورميُ الجِمَار؛ لإقامة ذِكْرِ الله»

(3)

. فالتعبُّد لا

(1)

رواه مسلم، كتاب الإيمان: باب بيان نقصان الإيمان بنقص الطاعات

، رقم (79) من حديث عبد الله بن عمر ..

(2)

انظر: «إعلام الموقعين» (1/ 396)، «نيل الأوطار» (2/ 141).

(3)

سخة دار الكتب المصريَّة، «سنن البيهقي» (5/ 145)، «تحفة أشراف» (12/ 279).

ص: 245

شَكَّ أنَّه من أعظمِ الحِكَمِ، ولهذا قال بعض العلماء: إنَّ النهيَ عن الصَّلاة في أعطان الإبلِ تعبُّديٌّ، أي: أنَّنا لا نعلم عِلَّته، ولكن نتعبَّدُ لله به.

فأيُّهما أعظمُ استسلاماً وانقياداً؟ أن يستسلمَ الإنسانُ للأمر إذا لم يعلم حكمته، أو يستسلم له إذا علم حكمته؟ الأوَّلُ أعظمُ.

وقال بعضُ العلماء: بل لأنَّ أرواثها وأبوالها نجسة

(1)

، وهذا مبنيٌّ على أنَّ الأبوال والأرواث نجسة؛ ولو من الحيوان الطَّاهر، والصَّحيح خلافه كما تقدَّم في باب إزالة النَّجاسة

(2)

، ولكن هذه العِلَّة باطلة، إذ لو كانت هذه هي العِلَّة ما جازت الصَّلاة في مرابض الغنم، لأنَّ القائلين بنجاسة أبوال الإبل وأرواثها يقولون بنجاسة أرواث الغنم وأبوالها.

وقيل: لأنَّ الإبل شديدة النُّفور، ورُبَّما تنفر وهو يُصلِّي، فإذا نفرت ربما تصيبه بأذى، حتى وإن لن تصبه فإنه ينشغل قلبه إذا كانت هذه الإبل تهيج؛ فيكون النهي عن الصَّلاة في أعطانها

(1)

انظر: «المجموع شرح المهذَّب» (3/ 161).

(2)

انظر: (1/ 447).

ص: 246

لئلاَّ ينشغل قلبُه

(1)

، لكن هذه العِلَّة أيضاً فيها نظر؛ لأن مقتضاها ألا يكون النَّهيُ إلا والإبل موجودة، ثم قد تنتقض بمرابض الغنم. فالغنم تهيج وتُشغل، فهل نقول: إنها مثلها؟ لا.

وقال بعضُ أهل العلم: إنما نُهي عن الصلاة في مبارك الإبل أو أعطانها؛ لأنها خُلقت من الشياطين، كما جاء ذلك في الحديث الذي رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح

(2)

، فإذا كانت مخلوقة من الشياطين، فلا يبعد أن تصحبها الشياطين، وتكون هذه الأماكن مأوى للإبل ومعها الشياطين، وتكون الحكمة في النهي عن الصلاة فيها كالحكمة في النهي عن الصلاة في الحمَّام، وهذا الذي اختاره شيخُ الإسلام ابن تيمية

(3)

رحمه الله، وهو أقرب ما يُقال في الحكمة، ومع ذلك فالحكمة الأصيلة هي التعبُّد لله بذلك.

ويُشبهُ في السؤال عن الحكمة ما يفعله بعض الناس إذا وَرَدَ عليه الأمر قال: هل هو للوجوب؟ وإذا وَرَدَ عليه النَّهيُ قال: هل هو للتَّحريم؟ ومثلُ هذا السؤال لا ينبغي؛ لأنه ينبئ عن التَّردُّد في الامتثال؛ ولأنَّ الصحابة رضي الله عنهم وهم أشدُّ الناس حرصاً على التزام حدود الله؛ لم يكونوا يسألون رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن الأمر إذا ورد عليهم؛ هل هو للاستحباب أو للوجوب؟ ولا عن النَّهي؛ هل هو للتنزيه أو التحريم؟ بل يمتثلون الأمر؛ ويجتنبون النَّهيَ دون سؤال، ولا ريب أن هذا أكمل في التعبُّد والامتثال.

(1)

انظر: «المجموع شرح المهذَّب» (3/ 161).

(2)

تقدم تخريجه ص (142).

(3)

انظر: «مجموع الفتاوى» (19/ 41)، (21/ 320).

ص: 247

نعم، إذا تورَّط العبد في المخالفة؛ حَسُنَ أن يسأل ليتوبَ من الوقوع في الإثم ويستدرك الواجب؛ إن كان خالف في واجب؛ أو فِعْلِ محرَّم، ويكون في حِلٍّ إذا لم يكن وقع في إثم بأن كان الأمر للاستحباب والنهيُ للتنزيه.

‌وَمَغْصُوبٍ،

............

قوله: «ومغصوبٍ» ، أي: ولا تصحُّ الصلاة في مغصوب، والمغصوب: كلُّ ما أُخِذَ من مالكه قهراً بغير حقٍّ، سواءٌ أُخِذَ بصورة عقد أو بدون صورة عقد.

فمثلاً: لو جاء إنسان لآخر وغصب منه أرضاً وصَلَّى فيها؛ فصلاته لا تصحُّ؛ لأنها مغصوبة.

ولو جاء إنسانٌ إلى آخر وقال: بِعْنِي أرضك، قال: لا أبيعها، قال: بِعْهَا وإلا قتلتك، فباعها إكراهاً، وصَلَّى فيها المُكْرِه فلا تصحُّ؛ وإن كانت مأخوذة بصورة عقد.

ولا أعلم دليلاً أثريّاً يدلُّ على عدم صحَّة الصَّلاة في الأرض المغصوبة، لكن القائلين بذلك علَّلوا بأن الإنسان منهيٌّ عن المقام في هذا المكان؛ لأنه مُلْك غيره، فإذا صَلَّى فصلاتُه منهيٌّ عنها؛ والصَّلاة المنهيُّ عنها لا تصحُّ؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم:«من عَمِلَ عملاً ليس عليه أمرُنا فهو رَدٌّ»

(1)

، ولأنها مضادَّة للتعبُّد، فكيف يُتعبَّد لله بمعصيته؟

والقول الثَّاني في المسألة: أنها تصحُّ في المكان المغصوب مع الإثم

(2)

؛ لأن الصلاة لم يُنْهَ عنها في المكان المغصوب، بل

(1)

تقدم تخريجه (1/ 186).

(2)

انظر: «مجموع الفتاوى» (19/ 302)، (21/ 89، 90)، «الإنصاف» (3/ 302).

ص: 248

نُهيَ عن الغصب، والغصب أمر خارج، فأنت إذا صَلَّيت فقد صَلَّيت كما أُمرت، وإقامتك في المغصوب هي المحرَّمة.

وأما قوله صلى الله عليه وسلم: «من عَمِلَ عملاً ليس عليه أمرُنا فهو رَدٌّ» ، فلا دليل فيه على عدم صحَّة الصلاة في المكان المغصوب إلا لو قال: لا تصلُّوا في الأرض المغصوبة، فلو قال ذلك لقلنا: إن صلَّيت في مكان مغصوب، فصلاتُك باطلة، لكنه قال في النَّهي عن الغصب:{لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]، وهذا يدلُّ على تحريم الغصب لا على بُطلان الصَّلاة في المغصوب. والقول الثاني في هذه المسألة هو الرَّاجح.

‌وَأَسْطِحَتِهَا ...........

قوله: «وأسطحتها» ، يعني: لا تصحُّ الصلاة في أسطحة هذه الأماكن، فيكون هذا الموضع السادس، والأسطحة هي ما يلي:

أولاً: سطح المقبرة، لا تصحُّ الصلاة فيه، فلو وجدنا حجرة مبنيَّة في المقبرة، فهل يجوز أن نُصلِّيَ على سطحها؟ لا؛ لأنَّ الهواء تابع للقرار، والهواء وما فوق هذا القرار إلى سماء الدُّنيا تابع للقرار.

ولكن هنا عِلَّة أقوى من هذه بالنسبة للمقبرة وهي: أن عِلَّة النَّهي بالنسبة للصلاة في المقبرة خوفُ أن تكون ذريعة لعبادة القبور، والصَّلاة على سطح الحجرة التي في المقبرة قد تكون ذريعة، ولا سيَّما أنَّ البناء على المقابر أصله حرام فيكون صَلَّى على بناء محرَّم للعِلَّة التي نُهيَ عن الصلاة في المقبرة من أجلها.

ثانياً: سطح ِ الحُشِّ، لا تصحُّ الصلاة فيه؛ لأن الهواء تابع

ص: 249

للقرار، ولكن هذا التَّعليل عليل، فالهواء تابع للقرار في المُلْكِ، أما في الحُكم فلا؛ فقد نُهيَ عن الصلاة في الحُشِّ من أجل النَّجاسة، فإذا لم يكن نجاسة في سطحه فلا مانع، وهذا هو القول الصَّحيح الذي اختاره صاحب «المغني»

(1)

.

والدَّليل على أنها صحيحة: عموم قوله صلى الله عليه وسلم: «جُعلت لي الأرضُ مسجداً وطَهُوراً»

(2)

، وبناءً على ذلك فإن الصلاة على «البيَّارة» و «البلاَّعة» لا بأس بها؛ لأنها أقلُّ من سطح الحُشِّ، فإن سطح الحُشِّ قد يقول قائل: إنه داخل في اسم الحُشِّ؛ فلا تصحُّ الصَّلاة فيه، أما سطح «البيَّارة» فليس تابعاً لها، بل هو مستقلٌّ، وهذا هو الذي عليه عمل الناس، فإن «البيَّارات» أو أنابيب المجاري الوسخة تمرُّ من الأحواش ويُصلِّي الناس عليها.

ثالثاً: سطح الحَمَّام، لا تصحُّ الصلاة عليه، وعلَّلوا ذلك بأن الهواء تابع للقرار، وبأن سطح الحَمَّام داخل في مُسمَّاه.

والقول الثَّاني في المسألة: أنَّ الصلاة على سطح الحَمَّام صحيحة

(3)

؛ لأن الحَمَّام إنْ كانت العِلَّة فيه أنه مأوى الشياطين؛ فإن الشياطين لا تأوي إلا إلى المكان الذي تُكشف فيه العورات، وإن كانت العِلَّة فيه خوف النجاسة؛ فالسطح بعيد من هذه العِلَّة، وعلى هذا فتصحُّ الصلاة على سطح الحمَّام.

رابعاً: سطح أعطان الإبل، لا تصحُّ الصلاة عليه، وعلَّلوا

(1)

انظر: «المغني» (2/ 474).

(2)

متفق عليه، وقد تقدم تخريجه (1/ 29).

(3)

انظر: «المغني» (2/ 474)، «الإنصاف» (3/ 305).

ص: 250

ذلك: بأن الهواء تابع للقرار، فلو كان هناك حوشٌ للإبل تقيم فيه وتأوي إليه، وجانب منه مُسقَّف كما يُفعل كثيراً في أحواش الإبل، فالسَّقف الذي فوق هذا الحوش ـ على المذهب ـ لا تصحُّ الصلاة فيه.

والصَّحيح: صحَّة الصلاة؛ في سطح أعطان الإبل؛ لأنَّ هذا لا يدخل في قوله عليه الصلاة والسلام: «لا تصلُّوا في أعطان الإبل»

(1)

فإن الإبل لا تبرك فوق السطح، إنما تبرك في أسفله.

خامساً: سطح المغصوب، فالصَّلاة على سطح المغصوب كالصَّلاة في المغصوب إن كان السطح مغصوباً، فإن لم يكن مغصوباً فإنه لا شَكَّ في صحة الصَّلاة فيه.

فإن قُلت: كيف صورة كون الأسفل مغصوباً والسَّطح غير مغصوب؟ قلنا: يأتي رَجُلٌ فيغصب أسفل البيت ويدع أعلاه لصاحبه، فالسطح غير مغصوب، لكن نقول: إذا غصب الإنسانُ البيتَ كلَّه، فإنه يكون كلُّه مغصوباً، وإذا كان مغصوباً فإنه لا تصحُّ الصلاة فيه على قاعدة المذهب

(2)

.

والحاصل: أن سطح المغصوب في تصويره نظر؛ لأننا نقول: إذا كان سطح المغصوب داخلاً في الغصب فهو مغصوب، وإن كان خارجاً عن الغصب فهو ملك لصاحبه، ولا نظنُّ أنَّ أحداً من أهل العلم قال: إن الصلاة لا تصحُّ فيه.

(1)

تقدم تخريجه ص (243).

(2)

انظر: «كشاف القناع» (1/ 295، 296).

ص: 251

وعلى هذا؛ فالقول الرَّاجح: أن جميع هذه الأسطحة تصحُّ الصلاة فيها إلا سطح المقبرة وسطح الحَمَّام. أمَّا المقبرة، فلأنَّ البناء على المقبرة كالمقبرة في كونه ذريعة إلى عبادة القبور، ولهذا نُهيَ عن البناء على القبر، وأما سطح الحَمَّام فلأنه داخل في مسمَّاه؛ لكن سبق البحث في ذلك

(1)

، فهو محل تردُّدٍ عندي.

‌وَتَصِحُّ إِلَيْهَا ...........

قوله: «وتصحُّ إليها» ، أي: تصحُّ الصلاة إلى هذه الأماكن، ومعنى تصحُّ إليها يعني تصحُّ الصلاة إذا كانت في قبلتك، فلو كان في قِبْلة الإنسان حَمَّامٌ؛ أو أعطان إبل؛ أو مغصوب، أو قبر؛ فصلاتُه صحيحة؛ هذا مقتضى كلام المؤلِّف.

إلا أنهم قالوا: إنها تُكره إذا لم يكن حائل، ولو كمُؤْخِرَة الرَّحْل

(2)

، ومُؤْخِرَة الرَّحْل يكون نصف متر في نصف متر.

أما دليل الصحة: فعموم قول الرَّسول صلى الله عليه وسلم:

(1)

انظر: ص (250).

(2)

انظر: «الإنصاف» (3/ 311).

ص: 252

«جُعلت لي الأرضُ مسجداً وطَهُوراً»

(1)

وهذه من الأرض، وهي طَهُور وليس فيها ما يمنع الصَّلاة.

وأما دليل الكراهة فقالوا: لأنها أماكن نُهيَ عن الصلاة فيها فكُرِه استقبالها

(2)

.

وربما يُعلِّلُ مُعَلِّلٌ: بأن هذا موضع اختلف العلماء في صِحَّة الصلاة فيه؛ فكُرهت الصلاةُ إليها خروجاً من الخلاف.

وكلا التَّعليلين عليل. أما الأوَّل فيُقال: إن عموم قوله صلى الله عليه وسلم: «جُعلت لي الأرضُ مسجداً وطَهُوراً»

(3)

يشمل هذه المواضع؛ فيحتاج إخراج شيء منها إلى دليل؛ لكن ربما نقول: إن الحُشَّ والحَمَّام تُكره الصَّلاة إليهما؛ لأنَّ فيهما رائحة كريهة قد تؤثِّر على المُصلِّي بأذيَّة أو تشويش، والشيء الذي يؤثِّر على المُصلِّي ويُشَوِّشُ عليه مكروه.

وأما أعطان الإبل؛ فربما نقول: إذا كانت الإبل موجودة باركة فرُبَّما تُكره الصلاة إليها؛ لأنه ربما تتحرَّك أو ترغو، أو ما أشبه ذلك فيؤثِّر عليه في صلاته، فيكون في ذلك تشويش عليه، وإذا كانت غير موجودة فلا وجه للكراهة؛ إلا إن كانت هناك رائحة.

وأمَّا المغصوب: فلا وجه للكراهة في الصلاة إليه.

وأما المقبرة: فالصَّحيح تحريم الصلاة إليها، ولو قيل بعدم الصِّحَّة لكان له وجه

(4)

؛ وذلك لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم صَحَّ عنه في حديث أبي مَرْثَد الغَنَويِّ أنه قال: «لا تجلِسُوا على القُبُور، ولا تُصَلُّوا إليها»

(5)

، فهذا يدلُّ على تحريم الصلاة إلى المقبرة؛ أو إلى القبور؛ أو إلى القبر الواحد.

ولأن العِلَّة من منع الصلاة في المقبرة موجودة في الصلاة إلى القبر، فما دام الإنسان يتَّجه إلى القبر أو إلى المقبرة اتِّجاهاً يُقال: أنه يُصلِّي إليها؛ فإنه يدخل في النَّهي، وإذا كان داخلاً في

(1)

متفق عليه، وقد تقدم تخريجه (1/ 29).

(2)

انظر: «المغني» (2/ 273، 274).

(3)

متفق عليه، وقد تقدم تخريجه (1/ 29).

(4)

انظر: «المغني» (2/ 473)، «الإنصاف» (3/ 310، 311).

(5)

رواه مسلم، كتاب الجنائز: باب النهي عن الجلوس في القبر، رقم (972).

ص: 253

النَّهي فلا تصحُّ؛ لقوله: «لا تُصلُّوا» ، فالنَّهي هنا عن الصلاة، فإذا صَلَّى إلى القبر، فقد اجتمع في فعله هذا طاعة ومعصية، وهذا لا يمكن أن يُتقرَّب إلى الله تعالى به.

فإذا قال قائل: ما هو الحَدُّ الفاصل في الصلاة إليها؟

قلنا: الجدار فاصل، إلا أن يكون جدارَ المقبرة ففي النفس منه شيء، لكن إذا كان جداراً يحول بينك وبين المقابر، فهذا لا شَكَّ أنه لا نهي، كذلك لو كان بينك وبينها شارع فهنا لا نهي، أو كان بينك وبين المقبرة مسافة لا تُعَدُّ مصلِّياً إليها، حدَّها بعضُهم بمسافة السُّترة للمصلِّي

(1)

، وعلى هذا فتكون المسافة قريبة، لكن لا شَكَّ أن هذا يُوهم، فإن أحداً من النَّاس لو رآك تُصلِّي وبينك وبين المقبرة ثلاثة أذرع بدون جدار لأَوهم ذلك أنك تُصلِّي إلى القبور. فإذاً؛ لا بُدَّ من مسافة يُعلم بها أنك لا تُصلِّي إلى القبر.

وظاهر كلام المؤلِّف: أن ما عداها تصحُّ الصلاة فيه فرضاً أو نَفْلاً، فتصحُّ في المجزرة إلا إذا صَلَّى على المكان النَّجس منها.

وتصحُّ في المزبلة: إذا كان الزِّبل طاهراً، أما إذا كان نجساً فقد دخل في كلام المؤلِّف في المنع.

وتصحُّ في قارعة الطريق، يعني: لو صلَّى في قارعة الطريق فصلاتُه صحيحة، لكن إذا كان الطريق مسلوكاً فالصلاة فيه حال

(1)

انظر: «الإنصاف» (3/ 311، 312).

ص: 254

سلوك الناس فيه مكروهة؛ من أجل الانشغال والتشويش، فإن كان مسلوكاً بالسيارات فقد نقول بالتَّحريم؛ لأنَّه لا يمكن أن يقيم الصَّلاة والسيارات تمشي، أو يُعطِّل الناس فيعتدي عليهم؛ لأن وقوف الناس بأماكن الطُّرق يمنع الناس من التَّطرُّق؛ ففيه عُدوان عليهم، والحقُّ لهم.

‌وَلَا تَصِحّ الفَرِيْضَةُ فِي الكَعْبَةِ، ولا فَوْقَهَا ...........

قوله: «ولا تصحُّ الفريضة في الكعبة» ، الفريضة إذا أُطلقت فالمراد ما وجب بأصل الشَّرع، والفرائض ست: الفجر، والظُّهر، والعصر والمغرب، والعشاء، والجمعة. وإن شئنا قلنا خمس؛ لأن الجُمعة فرض وقت الظُّهر.

والدَّليل على عدم صحَّة الفريضة في الكعبة قول الله تعالى: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 149]، والمُصلِّي في الكعبة لا يكون مستقبلاً للبيت كلِّه؛ لأن بعض البيت يكون خلفه وعن يمينه وعن شماله فلا تصحُّ.

قوله: «ولا فَوْقَهَا» ، أي: ولا تصحُّ الفريضة فوق الكعبة، أي: على السطح، فلا تصحُّ داخلها ولا فوقها على سطحها؛ للعِلَّة التي ذكرنا أنَّه لم يستقبل جميع البيت؛ وإنما يستقبل جانباً؛ إلا إذا وقف على مُنتهى الجدار بحيث تكون الكعبة كلُّها أمامه فتصحُّ؛ مثل لو وقف على آخر العَتَبَةِ من الباب، أو وقف على آخر الجدار من السَّطح فإن الصلاة تصحُّ؛ لأنَّ الكعبة كلَّها حينئذ بين يديه، هكذا عَلَّلوا

(1)

.

وعُلم من كلام المؤلِّف: صحَّة صلاة النَّفْل في الكعبة وفوقها.

(1)

انظر: «المغني» (2/ 476).

ص: 255

والدَّليل: ما ثبت في «الصحيحين» وغيرهما من أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم صلَّى في جوف الكعبة ركعتين نافلة

(1)

.

وهل تصحُّ المنذورة في الكعبة؟ أي: إذا نَذَرَ أحدٌ أن يُصلِّي ركعتين، فهل يصحُّ أن يصلِّيهما في الكعبة؟.

نقول: كلام المؤلِّف اشتمل على منطوق ومفهوم، فالفريضة عرفنا حكمها بالمنطوق وأنها لا تصحُّ، والنَّافلة عرفنا حكمها بالمفهوم أنها تصحُّ، بقي المنذورة.

فالمنذورة يمكن أن نقول: إن كلام المؤلِّف يقتضي أن يكون مسكوتاً عنها؛ لأنها لا تدخل في الفريضة؛ ولا تدخل في النَّافلة، وقد يقول قائل: نلحقها بالأقرب إليها، فإن نظرنا إلى أنها لم تجب بأصل الشَّرع؛ وإنما أوجبها المكلَّف على نفسه قلنا: إلحاقها بالنافلة أقربُ؛ لأنَّ الشَّرع لم يلزمه بها. وإن نظرنا إلى أنَّ الشَّرع ألزمه بها إذا وُجِدَ سَبَبُها وهو النَّذر؛ لقول الرَّسول صلى الله عليه وسلم: «مَنْ نَذَرَ أنْ يُطيعَ اللَّهَ فليُطعْهُ»

(2)

. قلنا: إنها أقرب إلى الفريضة، ولذلك اختلف العلماء فيها

(3)

.

فمنهم من قال: إنَّ المنذورة تلحق بالفريضة؛ فلا تصحُّ في الكعبة.

(1)

رواه البخاري، كتاب الحج: باب إغلاق البيت، رقم (1598)، ومسلم، كتاب الحج: باب استحباب دخول الكعبة للحاج، رقم (1329) عن ابن عمر رضي الله عنهما.

(2)

رواه البخاري، كتاب الإيمان والنذور: باب النذر فيما لا يملك رقم (6700) عن عائشة رضي الله عنها.

(3)

انظر: «الاختيارات» ص (45)، «شرح منتهى الإرادات» (1/ 158).

ص: 256

ومنهم من قال: تلحق بالنَّافلة؛ لأنها غير واجبة بأصل الشَّرع، وتصحُّ في الكعبة.

هذا الحكم في النَّذر المطلق الذي قال فيه الناذر: لله عَليَّ نذرٌ أن أُصلِّي رَكعتين.

أما النَّذر المقيَّد في الكعبة فيصحُّ فيها؛ مثل أن يقول: لله عَلَيَّ نذرٌ أن أصلِّيَ ركعتين في الكعبة، فتصحُّ صلاتُه في الكعبة قولاً واحداً

(1)

؛ لأنَّه نذرها نذراً مقيَّداً في الكعبة.

والقول الثاني في أصل المسألة: أنَّ الفريضة تصحُّ في الكعبة كما تصحُ النَّافلة (490)، وحديث ابن عمر أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يُصلِّي في سبعة مواطن ذكر منها:«فوقَ ظهر بيت الله»

(2)

، ضعيفٌ لا تقوم به حُجَّة.

وأيضاً: الأصل تساوي الفرض والنَّفْل في جميع الأحكام إلا بدليل، فكلُّ ما ثبت في النَّفْل ثبت في الفرض، وكلُّ ما انتفى في النَّفْل انتفى في الفرض إلا بدليل، ويُستدلُّ لهذا الأصل بأن الصَّحابة لمَّا ذكروا أنَّ الرَّسول صلى الله عليه وسلم كان يُصلِّي على راحلته حيثما توجَّهت به، قالوا: غير أنَّه لا يُصلِّي عليها المكتوبة

(3)

.

(1)

انظر: «الإنصاف» (3/ 313، 314).

(2)

رواه ابن ماجه، كتاب المساجد والجماعات: باب المواضع التي تُكره فيها الصلاة، رقم (747) من حديث ابن عمر، عن عمر بن الخطاب به.

قال أبو حاتم الرازي: «حديث واهٍ» . «العلل» لابنه (1/ 148).

وضعَّفه أيضاً الحافظ ابن حجر في «التلخيص الحبير» رقم (321).

وانظر: «مسند الفاروق» لابن كثير (1/ 160).

(3)

رواه البخاري، كتاب الصلاة: باب ينزل للمكتوبة، رقم (1098)، ومسلم، كتاب الصلاة المسافرين: باب جواز صلاة النافلة على الدابة، رقم (700) عن ابن عمر رضي الله عنهما بلفظ:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسبِّح على الراحلة قِبَل أي وجهة توجَّه، ويوتر عليها، غير أنه لا يُصلِّي عليها المكتوبة» .

ص: 257

استثنوا: «غير أنَّه لا يُصلِّي عليها المكتوبة» ، وهذا يَدلُّ على أنَّهم لو لم يستثنوا لكانت المكتوبة كالنَّافلة تُصلَّى على الرَّاحلة.

ولأن الله عز وجل يقول: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 149] وشطره بمعنى جهته، وهذا يشمل استقبال جميع الكعبة أو جزء منها، كما فَسَّرت ذلك السُّنَّة بصلاة الرَّسول صلى الله عليه وسلم في الكعبة

(1)

.

إذاً؛ فالصَّحيح في هذه المسألة: أنَّ الصلاة في الكعبة صحيحة فرضاً ونَفْلاً.

فإن قال قائل: أنَّى لنا أن نُصلِّيَ في الكعبة؟

فالجواب: أن ذلك غير ممتنع عقلاً ولا حِسًّا؛ بإمكان الإنسان أن يُفتحَ له باب الكعبة ويُصلِّيَ في جوفها، ثم إذا لم يمكن أن يُفتح له الباب فالحِجْر «بكسر الحاء» مفتوح، والحِجْر منه ستة أذرع وشيء، من الكعبة

(2)

، فمن الممكن أن يُصلِّيَ الإنسان الفريضة في الحِجْر.

‌وَتَصِحُّ النَّافِلَةُ باسْتِقْبَالِ شَاخِصٍ مِنْهَا ........

قوله: «وتصحُّ النَّافلة باستقبال شاخص منها» ، يعني: تصحُّ النَّافلة في الكعبة باستقبال شاخص منها، أي: لا بُدَّ أن يكون بين يديه شيءٌ شاخصٌ حتى في النَّافلة، والشَّاخص: الشيء القائم

(1)

متفق عليه، وقد تقدَّم تخريجه ص (256).

(2)

انظر: «صحيح البخاري» ، كتاب الحج: باب فضل مكة وبنيانها، رقم (1586)، و «صحيح مسلم» ، كتاب الحج: باب نقض الكعبة وبنائها، رقم (1333).

ص: 258

المتَّصل بالكعبة، المبنيُّ فيها، وعلى هذا فلو صَلَّى نافلة إلى جهة الباب وهو مفتوح، وهو داخل الكعبة لم تصحَّ؛ لأنه ليس بين يديه شاخص منها، فإن وضع لَبِنةً أو لَبِنتين بين يديه لم تصحَّ أيضاً؛ لأنا ليست منها، وليست متَّصلة.

وقال بعض أهل العلم: تصحُّ النَّافلة في الكعبة؛ وإن لم يكن بين يديه شيء منها شاخص

(1)

، واستدلُّوا لذلك: بأن الواجب استقبال الهواء، والهواء تابع للقرار، قالوا: ولذلك لو صَلَّى على جبل أعلى من الكعبة كجبل «أبي قُبيس» ، الذي في أسفله الصَّفا، فلا شَكَّ أن الكعبة تحته، وليس بين يديه شاخص منها، ومع ذلك تصحُّ بالاتفاق

(2)

. فكذلك إذا صلَّى نافلة في جوف الكعبة؛ لا يُشترط أن يكون بين يديه شاخص منها.

ولكن هذا القياس فيه نظر؛ لأن المُصلِّي إلى الكعبة في مكان أعلى يشاهد شيئاً شاخصاً بين يديه، وإن كان غير محاذٍ له، فلا يصحُّ القياس، بخلاف الإنسان الذي ليس بين يديه شيء أبداً؛ وهو في نفس الكعبة. فبينهما فرق. ولا شَكَّ أن الاحتياط أن يكون بين يديه شاخص منها، ولكن لو أن الإنسان صَلَّى، وجاء يستفتينا فلا نستطيع أن نقول: إن صلاتك ليست صحيحة، وإنما نأمره قبل أن يُصلِّيَ ألا يُصلِّيَ في جوف الكعبة إلا إلى شيء شاخص منها.

ولهذا لمَّا هُدِمت الكعبة في عهد عبد الله بن الزُّبير بَنَى أخشاباً وأرخى عليها السُّتُورَ

(3)

من أجل أن يُصلِّيَ الناس إليها، قال شيخ الإسلام: وهذا دليل على أنه لا بُدَّ أن يكون هناك شاخص يُصلَّى إليه

(4)

.

(1)

انظر: «المغني» (2/ 476)، «الإنصاف» (3/ 314، 315).

(2)

انظر: «المغني» (2/ 476)، «الإنصاف» (3/ 314، 315).

(3)

رواه مسلم، كتاب الحج: باب نقض الكعبة وبنائها، رقم (402 ـ 1333).

(4)

انظر: «الاختيارات» ص (47).

ص: 259

وخلاصة ما ذكره المؤلِّف؛ من المواضع التي لا تصحُّ الصلاة فيها ما يلي:

1 -

المكان النَّجس إذا باشر النجاسة. 2 ـ المقبرة.

3 -

الحِش. 4 - الحَمَّام.

5 -

أعطان الإبل. 6 - المكان المغصوب.

7 -

أسطحتها. 8 - الكعبة وسطحُها في الفريضة خاصَّة.

‌وَمِنْهَا اسْتِقْبَالُ القِبْلَةِ .........

قوله: «ومنها استقبال القِبلة» ، أي: من شروط الصَّلاة استقبال القبلة، والمراد بالقِبلة الكعبة، وسُمِّيَت قِبْلة؛ لأن النَّاس يستقبلونها بوجوههم ويؤمُّونها ويقصدونها، وهو من شروط الصَّلاة بدلالة الكتاب، والسُّنَّة، والإجماع.

أما الكتاب: فقوله تعالى: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 150].

وأما السُّنَّة: فكثيرة؛ منها: قوله صلى الله عليه وسلم للمسيء في صلاته: «إذا قمت إلى الصَّلاة فأسبغ الوُضُوء، ثم استقبل القِبْلة فكبِّر»

(1)

.

(1)

رواه البخاري، كتاب الاستئذان: باب من رد فقال: عليك السلام، رقم (6251)، ومسلم، كتاب الصلاة: باب وجوب قراءة الفاتحة، رقم (397) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 260

وأما الإجماع: فقد أجمع المسلمون على وجوب استقبال القِبْلَة في الصَّلاة

(1)

.

والحكمة من ذلك هي: أن يتَّجه الإنسان ببدنه إلى مُعَظَّمٍ بأمر الله وهو البيت، كما يتَّجه بقلبه إلى ربِّه في السَّماء، فهنا اتجاهان: اتجاهٌ قلبي واتجاهٌ بدني، الاتجاه القلبي إلى الله عز وجل، والاتجاه البدني إلى بيته الذي أُمِرَ بالاتِّجاه إليه وتعظيمه، ولا ريب أنَّ في إيجاب استقبال القِبْلة من مظهر اجتماع الأمَّة الإسلامية ما لا يخفى على الناس، لولا هذا لكان النَّاس يُصلُّون في مسجد واحد، أحدهم يُصلِّي إلى الجنوب، والثاني إلى الشمال، والثالث إلى الشرق، والرابع إلى الغرب، وقد تتعذَّر الصفوف في الجماعة، لكن إذا كانوا إلى اتجاه واحد صار ذلك من أكبر أسباب الائتلاف.

وكان الرّسول عليه الصلاة والسلام يُصلِّي إلى بيت المقدس، ولكن الكعبة بينه وبين بيت المقدس

(2)

، فيكون مقامه

(1)

انظر: «مراتب الإجماع» لابن حزم ص (26).

(2)

رواه أحمد (1/ 325)، والبزار «كشف الأستار رقم (418)، والطبراني (11/رقم 11066)، والبيهقي (2/ 3) من طريق يحيى بن حماد، ثنا أبو عوانة، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس به.

قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح. «المجمع (2/ 12).

قلت: وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين؛ إلا أن في رواية الأعمش عن مجاهد مقالاً. قال أبو حاتم الرازي: الأعمش قليل السَّماع من مجاهد، وعامة ما يروي عن مجاهد مدلَّس. «العلل» لابن أبي حاتم رقم (2119)(2/ 210).

قال الترمذيُّ: قلت لمحمد ـ يعني البخاري ـ يقولون: لم يسمع الأعمش من مجاهد إلا أربعة أحاديث؟

قال: ريح؛ ليس بشيء، لقد عددت له أحاديث كثيرة؛ نحواً من ثلاثين أو أقل أو أكثر؛ يقول فيها: حَدَّثنا مجاهد. «علل الترمذي الكبير» (2/ 966).

ص: 261

في صلاته، بين الرُّكن اليماني والحَجَر الأسود؛ لتكون الكعبة بينه وبين بيت المقدس، ولما هاجر إلى المدينة بقيَ بأمر الله عز وجل يُصلِّي إلى بيت المقدس ستة عشر شهراً وبعض السَّابع عشر، ثم بعد ذلك أُمِرَ بالتَّوجه إلى الكعبة

(1)

.

‌فَلَا تَصِحُّ بِدُونِه إِلاَّ لِعَاجِزٍ وَمُتَنَفِّلٍ رَاكبٍ سَائِرٍ في سَفَرٍ .........

قوله: «فَلَا تَصِحُّ بِدُونِه» ، أي: لا تصحُّ الصلاة بدون استقبال القِبلة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من عَمِل عملاً ليس عليه أمرُنا فهو رَدٌّ»

(2)

، ولأن استقبال القبلة شرط، والقاعدة: أنه إذا تخلَّف الشرط تخلَّف المشروط، فلا تصحُّ الصَّلاة بدونه لهذه العِلَّة.

قوله: «إلا لعاجز» ، أي: لعاجز عن استقبال القبلة فيسقط عنه وجوب الاستقبال، وقد استثنى المؤلِّف مسألتين:

الأولى: العاجز؛ تصحُّ صلاته بدون استقبال القِبلة، وله أمثلة منها: أن يكون مريضاً لا يستطيع الحركة، وليس عنده أحد يوجِّهه إلى القبلة، فهنا يتَّجه حيث كان وجهه؛ لأنَّه عاجز.

ودليل ذلك قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، وقوله تعالى:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة:

(1)

رواه البخاري، كتاب أخبار الآحاد: باب ما جاء في إجازة خبر الواحد، رقم (7252)، ومسلم، كتاب المساجد: باب تحويل القبلة، رقم (525) عن البراء بن عازب رضي الله عنه.

(2)

تقدم تخريجه (1/ 186).

ص: 262

286]، وقوله تعالى:{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [الأعراف: 42]. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم»

(1)

.

ومن القواعد المقرَّرة عند أهل العلم المأخوذة من نصوص الكتاب والسُّنة: أنه لا واجبَ مع عَجزٍ، ولا محرَّمَ مع ضَرورة

(2)

.

ومن الأمثلة: حال اشتداد الحرب، فيسقط استقبال القِبْلة، مثل لو كانت الحرب فيها كَرٌّ وفَرٌّ؛ فإنه يسقط عنه استقبال القِبْلة في هذه الحال.

ومنها: لو هرب الإنسان من عدوٍ، أو من سيل، أو من حريق، أو من زلازل، أو ما أشبه ذلك، فإنه يسقط عنه استقبال القِبْلة.

قوله: «ومتنفِّلٍ راكبٍ سَائرٍ في سَفَرٍ» ، هذه هي المسألة الثَّانية، «المتنفِّل» أي: المصلِّي نافلة إذا كان راكباً، واشترط المؤلِّف شرطين:

أحدهما: أن يكون سائراً.

الثاني: أن يكون في سفرٍ.

فأمَّا الماشي فسيأتي حكمُه.

وعُلِمَ من كلامه أن النَّازل في السَّفر يلزمه استقبال القِبْلة، وأنَّ السَّائر في الحضر يلزمه استقبال القِبْلة.

(1)

متفق عليه، وقد تقدم تخريجه (1/ 217).

(2)

انظر: «تهذيب السنن» (1/ 47، 48)، «إعلام الموقعين» (2/ 22).

ص: 263

فإذا قال قائل: هذا استثناء من عموم نصوص الكتاب والسُّنَّة، فقد قال الله تعالى:{وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 150]. وهذا عموم من أقوى العمومات، فإنَّ {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ} جملة شرطيَّة من أقوى العمومات؛ فما الذي أخرج هذه الحال من هذا العموم؟

فالجواب: أخرجتها السُّنَّة؛ بفعل الرَّسول عليه الصلاة والسلام، فقد ثبت في «الصَّحيحين» وغيرهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُصلِّي النَّافلة على راحلته حيثما توجَّهتْ به، غير أنَّه لا يُصلِّي عليها المكتوبة

(1)

، فهذه السُّنَّة خصَّصت عموم الآيات والحديث.

فإن قال قائل: أفلا يُمكن أن يكون هذا قبل وجوب استقبال القِبْلة؟

قلنا: لا يمكن؛ لأنَّ الصحابة استثنوا الفرائض، فدلَّ هذا على أنَّه بعد وجوب استقبال القِبْلة.

فإذا قال قائل: ما نوع هذا التَّخصيص؟ قلنا: هذا في الحقيقة من غرائب التَّخصيصات؛ لأنه قرآنٌ خُصَّ بسُنَّةٍ، وقولٌ خُصَّ بفعلٍ، يعني: لم يقل الرَّسول صلى الله عليه وسلم: من تنفَّلَ في السَّفر فلا يستقبل. ومعلومٌ أن تخصيص قول بفعلٍ، أضعف من تخصيص قول بقول؛ لاحتمال الخصوصية، ولاحتمال العُذر، بخلاف القول.

(1)

متفق عليه، وقد تقدم تخريجه ص (257).

ص: 264

وأيضاً: تخصيص القرآن بالسُّنَّة أضعف من تخصيص القرآن بالقرآن.

ولكن نقول: إن السُّنَّة تكون من الرَّسول صلى الله عليه وسلم بأمر الله الصَّريح؛ أو بأمره الحُكمي الذي يُقِرُّ الله سبحانه وتعالى فيه نبيَّه على ما قالَ أو على ما فعلَ، ولهذا إذا فعل الرَّسول عليه الصلاة والسلام شيئاً لا يُقِرُّهُ الله عليه بَيَّنَه، كما قال الله تعالى له:{عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ *} [التوبة]، وقال تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1]، وقال عز وجل:{وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب: 37].

فإذاً؛ نقول: إن فعل الرَّسول عليه الصلاة والسلام في تَرْكِ استقبال القِبْلة في التنفُّل في السَّفر كان بأمر الله الحُكمي؛ لأنه أقرَّه، فيكون ما جاءت به السُّنَّة كالذي جاء به القرآن تماماً في أنه حُجَّة.

فإن قيل: هل تجوز الفريضة للرَّاكب السَّائر في السَّفر بدون استقبال القِبْلة؟

فالجواب: لا؛ إلا في الحال التي يتعذَّر فيها استقبال القِبْلة.

فإن قيل: إذا كان المسافرُ نازلاً في مكان، فهل يجوز أن يتنفَّل إلى غير القبلة؟

فالجواب: لا؛ لأنَّ تخصيص العام يُقتصر فيه على الصُّورة التي وقع فيها التَّخصيص فقط.

ص: 265

فإن قيل: إذا كان الإنسانُ في بلده، لكن البلد متباعد الأحياء؛ فهل له أن يتنفَّل في هذه الحال إلى جهة سيره؟

فالجواب: ليس له ذلك؛ لأنه غير مسافر.

ولو قال قائل: رجل في مَكَّة يتنقَّل في سيارته، هل يجوز له أن يتنفَّل عليها غير مستقبل القبلة أو لا؟

فالجواب: إن كان من أهل مَكَّة فلا يجوز، وإن كان من غيرهم فيجوز، إذاً؛ لو ذهبت إلى مَكَّة في العُمرة، وصرت تتنقَّل من المسجد الحرام إلى بيتك على السيَّارة جاز؛ ولو كانت الكعبة خلف ظهرك؛ لأنَّك مسافر، هذا هو الظَّاهر من عمومات الأدلَّة، وفيه شيء من البحث والنَّظر.

وظاهر كلام المؤلِّف: أنه يجوز أن يتنفَّلَ على راحلته، ولو كان السَّفر قصيراً؛ فإذا خَرجتَ من البلد؛ ولو إلى بلد قريب منك لا يُعَدُّ الخروج إليه سفراً تُقصر فيه الصلاة؛ جاز لك التنفُّل على الرَّاحلة غير مستقبل القِبْلة للعموم، ولكن بعض الأصحاب رحمهم الله قالوا: لا يجوز التنفُّل على الرَّاحلة إلا في سفر يقصر فيه، فإن كان لا يقصر فيه فإنه لا يجوز

(1)

.

‌ويَلْزَمُهُ افتِتاحُ الصَّلاةِ إليها .........

قوله: «ويلزمه افتتاحُ الصَّلاةِ إليها» ، «يلزمه» ، أي: الرَّاكب «افتتاح الصَّلاة إليها» ، أي: إلى الكعبة، ثم بعد ذلك يكون حيث كان وجهه.

ودليل هذا: حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الذي

(1)

انظر: «الإنصاف» (3/ 320، 321).

ص: 266

أخرجه أبو داود وغيره أنَّ الرَّسول صلى الله عليه وسلم كان إذا سافر؛ فأراد أن يتطوَّع؛ استقبل بناقته القِبْلة؛ فكبَّر، ثم صَلَّى حيث وجَّهه رِكابُه

(1)

. قالوا: فهذا دليل على أنه يجب افتتاح الصَّلاة إلى القِبْلة، لأن تكلُّفَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ومعاناته لإيقاف البعير واتجاهه إلى القِبْلة وقطع المسير يدلُّ على أنه أمر واجب

(2)

.

وقال بعض أهل العلم: إنه ليس بواجبٍ (509). وأجابوا عن هذا الحديث بأمرين:

أولاً: أنَّه ليس إلى ذاك في الصِّحَّة، وغاية ما قيل فيه: إنه حسن.

والثاني: أنه فعل، ومجرد الفعل لا يدلُّ على الوجوب. وحديث ابن عمر وغيره من الأحاديث عامة:«أنَّه كان يُصلِّي حيث كان وجهه»

(3)

. وظاهرها أنه من ابتداء الصلاة إلى انتهائها.

(1)

رواه أحمد (3/ 203)، وأبو داود، كتاب الصلاة: باب التطوع على الراحلة والوتر، رقم (1225)، والطبراني في «الأوسط» رقم (2557)، والدارقطني (1/ 395)، والبيهقي (2/ 5). من طُرقٍ عن ربعي بن عبد الله بن الجارود، عن عمرو بن أبي الحجاج، عن الجارود بن أبي سبرة، عن أنس به.

قال الطبراني: لا يُروى عن الجارود إلا بهذا الإسناد، تفرَّد به ربعي.

قال ابنُ كثير: إسناده غريب. «إرشاد الفقيه» (1/ 116).

قلتُ: ربعيُّ هذا؛ قال ابن معين: صالح، قال أبو حاتم: صالح الحديث، وقال الذهبي وابن حجر: صدوق. انظر: «تهذيب الكمال» (9/ 57).

والحديث صحَّحه ابن السكن. وحسَّنه المنذري في «مختصر السنن» (1179).

قال ابن الملقن: «رواه أبو داود بإسناد صحيح» ، «خلاصة البدر المنير» (1/ 110).

قال ابن حجر: «إسناده حسن» . «بلوغ المرام» رقم (214) والله أعلمُ.

(2)

انظر: «المغني» (2/ 98)، «الإنصاف» (3/ 327).

(3)

تقدم تخريجه ص (257).

ص: 267

وعليه فنقول: إن الصَّحيح في هذه المسألة أن الأفضل أن يبتدئ الصَّلاة متَّجهاً إلى القِبْلة، ثم يتَّجه حيث كان وجهه، أمَّا أن يكون واجباً بمقتضى هذا الدَّليل المُعَارِضِ للأدلَّة التي هي أصحُّ منه ففي النَّفس منه شيء.

‌وماشٍ وَيَلْزَمُهُ الافْتِتَاحُ والرُّكُوعُ والسّجُود إلَيْهَا ..........

قوله: «وماشٍ» ، هذا معطوف على قوله:«راكب» ، يعني: ولمتنفِّلٍ ماشٍ، يعني: يمشي على قدميه. فيجوز للإنسان المسافر إذا كان يمشي على قدميه؛ أن يكون اتِّجاهُه حيث كان وجهه في صلاة النَّفل، ويسقط عنه استقبال القبلة.

قوله: «وَيَلْزَمُهُ الافْتِتَاحُ والرُّكُوعُ والسّجُودُ إلَيْهَا» ، «يلزمه» أي: الماشي. «الافتتاح» أي: إلى القِبْلة؛ لأنه إذا لزم الرَّاكب مع معاناةِ صَرْفِ المركوب؛ فلزُومُه في حقِّ الماشي من باب أَولى؛ لأنَّ انصراف الماشي إلى القِبْلة أسهل من انصراف مركوبِهِ لو كان راكباً.

وكذلك يلزمه الرُّكوع والسُّجود إليها أيضاً، أما الرَّاكب فلا يلزمه رُكوع ولا سجود، وإنما يومئ إيماء فيختلف الماشي عن الرَّاكب في أمرين:

الأول: أنه يلزمه الرُّكوع والسُّجود، والرَّاكب يكفيه الإيماء.

الثَّاني: أنه يجب أن يكون الرُّكوع والسُّجود إلى القبلة بخلاف الرَّاكب، والعِلَّة في ذلك قالوا: لأن هذا سهل على الماشي، أما الراكب فلا يتحقَّقُ له الرُّكوع والسُّجود إلى القِبْلة إلا إذا نزل، ونزوله من مركوبه فيه صعوبة ومشقَّة

(1)

.

(1)

انظر: «المغني» (2/ 99).

ص: 268

ولكن الصَّحيح: أننا إن جوَّزنا للماشي التَّنفُّل فإنه لا يلزمه الرُّكوع والسُّجود إلى القِبْلة؛ لأنَّ في ذلك مشقَّة عليه؛ لأنه يستلزم الوقوف للرُّكوع والسجود والجلوس بين السَّجدتين، وهذا يعيقُه بلا شَكٍّ، لكن لو قلنا يومئُ إيماء؛ أمكنه أن يومئ وهو ماشٍ في ركوعه وسجوده، فحكمه حكم الرَّاكب في أنه يلزمه الافتتاح فقط؛ لأن الافتتاح مدَّتُه وجيزة والانحراف إلى القِبْلة فيه سهل فلا يضرُّه.

وقولنا: إن جوَّزنا للماشي التَّنفُّل، فيه إشارة إلى أنَّ في المسألة خلافاً

(1)

، فإن من العلماء من يقول: إن المسافر الماشي لا يجوز أن يتنفَّل حال مشيه، لأنَّ الماشي سوف يعمل أعمالاً كثيرة بالمشي، والرَّاكب ساكن لا يعمل، فلا يُلحق هذا بهذا.

ولأن تنفُّل المسافر الرَّاكب على خلاف الأصل، وما جاء على خلاف الأصل فهو خارجٌ عن الأصل، ولا يُقاس عليه.

ولكن الذي يظهر ـ والله أعلم ـ أن القول الرَّاجح: ما قاله المؤلِّف في إلحاق الماشي بالرَّاكب، لأن العِلَّة في جواز التنفُّل على الرَّاحلة بدون عُذْر هو حمل الإنسان وتشجيعه على كثرة النَّوافل، وهذا حاصل للمسافر الماشي، كما هو حاصل للمسافر الرَّاكب.

وقولهم: إن هذا خلافُ الأصل، وما كان خلافَ الأصل

(1)

انظر: «الإنصاف» (3/ 324، 325).

ص: 269

فلا يُقاس عليه، نقول في جوابه: ما خرج عن الأصل لعِلَّة معقولة فلا مانع من أن يُقاس عليه؛ لأنَّ القاعدة العامَّة في هذه الشَّريعة: «أنها لا تُفرِّقُ بين متماثلين، ولا تجمع بين متفرِّقين» . فإذا علمنا أنَّ الشَّارع إنما رَخَّص في الصَّلاة حيث كان وجهه على بعيره من أجل أن يحمل النَّاسَ على كَثْرَة النَّوافل ولا يحرمهم، نقول: هذا أيضاً في الماشي. وكثيرٌ من النَّاس المسافرين لا يجدون مركوباً فتجدهم يمشون مع الرُّكبان على أقدامهم من بلادهم، إلى أن يرجعوا إلى بلادهم، وهذا شيء معلوم يعرفه النَّاس من قَبْلُ لمَّا كانوا يسافرون على الإبل.

لكن ماذا يستقبل؟ بيَّنت السُّنَّة أنَّ قِبْلَتَهُ جهةُ سيره، فلا بُدَّ أن يكون متَّجهاً إمَّا إلى القِبْلة، وإما إلى جهة سيره، فلو حَرَفَ البعيرَ عن جهة سيره إلى جهة القِبْلة صَحَّ؛ لأنَّها الأصل، ولو حَرَفَها عن جهة سيره لغير القِبلة فقد قال العلماء: لا يجوز

(1)

، لأنَّه خرج عن استقبال القِبْلة؛ وخرج عن استقبال جهة سيره التي أباح الشَّارع أن تكون قِبْلته من أجل تسهيل سيره، فإذا عدل بها عن جهة سيره فإنها تبطل.

أما إذا عَدَلت به الدَّابة؛ فقال بعض أهل العلم: إن طال الفصل بطلت صلاته، وإن لم يطلْ لم تبطل صلاته

(2)

.

والصَّحيح: أنه إذا عَجَزَ عن ردِّها لم تبطل مطلقاً، لأنه يدخل في العاجز عن استقبال القِبْلة، ولو طال الفصلُ.

(1)

انظر: «المغني» (2/ 98).

(2)

انظر: «الإنصاف» (3/ 328).

ص: 270

‌وَفَرْضُ مَنْ قَرُبَ مِنْ القِبْلَةِ إِصَابَةُ عَيْنِهَا، وَمنْ بَعُدَ جِهَتُها

قوله: «وفَرْضُ من قَرُبَ من القِبْلَة إصابَةُ عينها، ومَنْ بَعُدَ جهتُها» .

بيَّنَ المؤلِّف رحمه الله كيف يكون استقبال القِبْلة، وذَكَرَ أنه على وجهين:

الوجه الأول: أنه يلزمُه استقبالُ عينِ الكعبة.

والوجه الثاني: أنه يلزمُه استقبالُ جهةِ الكعبة.

فالأول إذا كان قريباً من الكعبة؛ وهو الذي يمكنه مشاهدتها.

والثاني إذا كان بعيداً عنها أو قريباً لا يمكنه المشاهدة.

وظاهر كلامهم: أنَّ المراد الإمكان الحسيّ، وأنه إذا أمكنه المشاهدة حِسًّا وجب عليه إصابةُ العين، وإن كان لا يمكن شرعاً، وعلى هذا؛ فمن كان في صحن المسجد، فاستقبالُ عين الكعبة عليه فرض، وهذا سهل.

ومَنْ كان في السَّطح الأعلى أو الأوسط فهذا قد تكون إصابة عين الكعبة سهلة عليه، وقد تكون صعبة، فإذا كانت الصُّفوف متراصَّة أو أمامه أعمدة تمنعه من مشاهدة الكعبة، فهنا قد لا يستطيع الرُّؤية، ولا يستطيع أن يتحوَّل عن مكانه، لأنَّ الصُّفوف متراصَّة والتَّعذُّر هنا شرعي.

وظاهر كلامهم: أنها لا تصحُّ صلاته حتى يكون مصيباً للعين

(1)

، وإذا أخذنا بهذا الرَّأي فإن كثيراً من الذين يصلُّون في

(1)

انظر: «كشَّاف القناع» (1/ 304، 305).

ص: 271

المسجد الحرام لا تصحُّ صلاتهم؛ لأنَّ كثيراً منهم نشاهدهم بأعيننا لا يصيبون عينَ الكعبة، يتَّجهون إلى جهتها ولا يُصيبون عينها، فتجد الصَّفَّ مستطيلاً، وبعضهم يتَّجه عن يمين الكعبة، وبعضهم عن يسار الكعبة، وبعضهم يتَّجه إلى الكعبة تماماً، وهذه المسألة مشكلة باعتبار أن الإنسان إذا كان بآخر الصفوف لا يتمكَّن من مشاهدة الكعبة قطعاً، ولا يقول: إنه أصاب عينها، وأحياناً يرى الظُّلْمَة والسَّواد ويقول: هذا عينُ الكَّعبة، ثم يُصلِّي، وإذا سَلَّم يجد الكعبة عن يمينه أو عن يساره، وهذا كثير.

ولكنِّي ما رأيت أحداً من أهل العلم قال: إنَّ مَنْ كان بداخل المسجد فإن فرضه استقبال الجهة إلا قولاً في «سُبُل السَّلام شرح بلوغ المرام» لم يعزُه لأحد

(1)

، ولكنَّه قاله تَفَقُّهاً من عنده، وإذا لم يكن أحد قال به قَبْله فهو غير مُسَلَّم؛ لأن المعروف من كلام أهل العلم قاطبة أنه من كان يمكنه مشاهدتها ففرضُه إصابةُ العين

(2)

.

ويجب أن يصيبَ عينَ الكعبة بكلِّ بدنه، فلو فُرِضَ أن جانبَ الوجه الأيمن مساوٍ للكعبة؛ والجانبَ الأيسر خارج عن الكعبة؛ لم تصحَّ صلاته، فلا بُدَّ أن يكون اتجاهُه كلُّه إلى عين الكعبة، وذلك لأنَّه أمكن الاتجاه عن يقين، فوجب عليه، ولأنَّ الأصل وجوب الاستقبال إلى البيت الذي هو البناء وليس إلى المسجد كلِّه، وإلا لصحَّ أن نقول: إن الذي يصلِّي إلى الجانب

(1)

انظر: «سبل السلام» (1/ 260).

(2)

انظر: «المغني» (2/ 100)، «الإنصاف» (3/ 330).

ص: 272

الجنوبي منه مثلاً له أن يستقبل الجانب الشمالي منه، ولو كانت الكعبة عن يمينه أو عن يساره، ولا أحد يقول بهذا، فالمقصود الأول هو عينُ الكعبة، فإذا أمكن وجب.

وقوله: «ومَنْ بَعُدَ جهتُها» ، أي: من بَعُدَ عن الكعبة بحيث لا يمكنه المشاهدة؛ فيجب عليه إصابةُ الجهة، والجهة حدَّدها النبيُّ صلى الله عليه وسلم فقال:«لا تستقبلوا القِبْلة بغائطٍ ولا بولٍ، ولا تستدبرُوها، ولكن شَرِّقُوا أو غَرِّبُوا»

(1)

. لمَّا قال: «شَرِّقُوا أو غَرِّبُوا» يريد بذلك عكس القِبْلة، وعلى هذا فيكون ما بين المشرق والمغرب بالنسبة لأهل المدينة كلُّه قِبْلة، فالجنوب كلُّه قِبْلة لهم، ليس قِبْلتهم ما سامت الكعبةَ فقط، وبهذا نعرف أنَّ الأمر واسع، فلو رأينا شخصاً يُصلِّي منحرفاً يسيراً عن مُسامَتَةِ القِبْلة، فإن ذلك لا يضرُّ، لأنَّه متَّجه إلى الجهة وهذا فرضه.

وجهة القِبْلة لمن كانوا شمالاً عن الكعبة ما بين الشَّرق والغرب، ولمن كانوا شرقاً عن الكعبة ما بين الشَّمال والجنوب. ولمن كانوا غرباً ما بين الشَّمال والجنوب، ولمن كانوا جنوباً عن الكعبة ما بين الشرق والغرب، فالجهات إذاً أربع، وهذا مقتضى حديث أبي أيوب.

واعلمْ أنه كلَّما قَرُبتَ من الكعبة صَغُرت الجهة، فإذا صِرتَ تحت جدار الكعبة تكون الجهة بقَدْر بدنك فقط، أي: لو انحرفت أقلَّ انحراف عن الكعبة، إما عن يسارك أو عن يمينك بطلت.

(1)

متفق عليه من حديث أبي أيوب، وقد تقدم تخريجه (1/ 123).

ص: 273

‌أَخْبَرَه ثِقَةٌ بِيَقِينٍ،

..........

قوله: «فَإنْ أَخْبَرَه ثِقَةٌ بِيَقِينٍ» ، شرع المؤلِّف في بيان ما يُستدلُّ به على القِبْلة. فذكر أشياء:

الأول: خبرُ ثقة؛ لكن عن يقين، فلو أخبره ثقة بيقين ـ رَجُل أو امرأة ـ أن هذه هي القِبْلة، لَزِم الأخذ بقوله.

والثقة: تستلزم العدالة والخبرة، فإن لم يكن عدلاً فليس بثقة؛ لقول الله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] فأوجب الله سبحانه وتعالى أن نَتَبَيَّن، وأن نتثبَّت في خبر الفاسق، ولم يوجب ردَّه مطلقاً؛ ولا قَبُوله مطلقاً، فإذا قال لنا إنسانٌ فاسقٌ: القِبْلة هنا، وإنْ كان ذا خبرة، فإننا لا نعمل بقوله؛ لأنه ليس بعدل، وكذلك إذا قال لنا إنسانٌ عدل ظاهراً وباطناً صاحب عبادة وزهد وورع: هذه هي القِبْلة، ولكنه ليس ذا خبرة، فإنَّنا لا نأخذ بقوله؛ لعدم الثِّقة بقوله؛ لكونه ليس ذا خبرة.

وأفاد المؤلِّف بقوله: «فإن أخبره ثقة» أنه لا يُشترط التَّعدد، يعني: لا يُشترط أنه يخبره ثقتان، وهذا بخلاف الشَّهادة؛ لأن هذا خبر ديني فاكتُفيَ فيه بقول الواحد، كما نعمل بقول المؤذِّن بدخول الوقت.

وأفادنا أيضاً بقوله: «ثقة» أنه لو كان المخبر امرأة يُوثق بقولها؛ لكونها عدلاً وذات خِبرة، فإننا نأخذ بقولها.

والعِلَّة: أن هذا خبر ديني فيُقبل فيه خبر المرأة كالرِّوَاية، فإنَّا نقبل فيها قول المرأة إذا كانت عدلاً حافظة.

وقول المؤلِّف: «بيقين» ، أي: بأن أخبره عن مشاهدة،

ص: 274

وأفادنا أنَّه لو أخبره الثقة عن اجتهاد، فإنه لا يعمل بقوله، مثل: جماعة في سفر، كلُّهم لا يعرفون القِبْلة، ولا يستطيعون الاجتهاد إلى جهتها، لكن واحداً منهم يعرف ذلك عن اجتهاد، فظاهر كلام المؤلف أننا لا نأخذ بقوله، ولكن هذا فيه نظر.

والصَّواب: أنه لو أخبره ثقة سواءٌ أخبره عن يقين أم عن اجتهاد، فإنه يعمل بقوله كما نعمل بقول الثِّقة بالاجتهاد في مسائل الدِّين؛ الحلال والحرام والواجب، فكيف لا نعمل به في إخباره بالقِبْلة؟

‌أَوْ وَجَدَ مَحَارِيْبَ إِسْلامِيّةً ..........

قوله: «أو وَجَدَ محاريبَ إسلاميَّة» ، هذا هو الثاني مما يُستدلُّ به على القِبْلة: المحاريب الإسلامية، فإذا وجد محاريبَ إسلاميَّة فإنه يعمل بها؛ لأن الغالب بل اليقين أن لا تُبنى إلا إلى جهة القِبْلة. والمحاريب: جمعُ مِحْرَاب، وهو طَاقُ القِبْلة الذي يقف نحوه الإمام في الجماعة.

وقوله: «محاريب إسلامية» ، يُفهم منه أن المسلمين لا زالوا يستعملون المحاريب، وأن لهم محاريبَ خاصَّة تتميَّز عن محاريب النَّصارى وغيرهم، وهو كذلك.

وقد اختلف العلماء رحمهم الله في اتِّخاذ المِحراب؛ هل هو سُنَّة؛ أم مستحبٌّ؛ أم مباح

(1)

؟ والصَّحيح أنَّه مستحبٌّ، أي: لم تَرِدْ به السُّنَّة، لكن النُّصوص الشَّرعيَّة تدلُّ على استحبابه؛ لما فيه من المصالح الكثيرة، ومنها بيان القِبْلة للجاهل.

وأما ما رُويَ عن النبيِّ عليه الصلاة والسلام من النَّهي عن

(1)

انظر: «الفروع» (2/ 37، 38)، «الإنصاف» (4/ 458).

ص: 275

مذابح كمذابح النَّصارى

(1)

أي: المحاريب، فهذا النَّهيُ فيما إذا اتُّخِذَت محاريب كمحاريب النَّصارى، أما إذا اتُّخِذت محاريب متميّزة للمسلمين، فإن هذا لا نهي عنه.

وعُلِمَ من كلامه: أنه لو وجد محاريبَ غير إسلاميَّة لم يَعملْ بها؛ لأنه لا يُوثق ببنائهم، كما أنه لا يُوثق بكلامهم في مسائل الدِّين، وإلا فيُمكن أن يُقال: إنَّ المعروف عند غير المسلمين من أهل الكتاب أنهم يتَّجهون إلى بيت المقدس، فإذا وجدنا محاريبَ لهم متَّجهة إلى بيت المقدس، ونحن مثلاً في جهة بين بيت المقدس وبين الكعبة فإننا نعرف أن القِبْلة في استدبار محاريبهم، ولكننا لا نثق بمحاريبهم؛ لأننا نخشى أن يكونوا قد بدَّلُوا أو غيَّروا، فلهذا قيَّدَ المؤلِّف هذا بقوله:«أو وَجَدَ محاريبَ إسلاميَّة» .

قال في «الرَّوض»

(2)

: «لأنَّ اتفاقهم عليها مع تكرار الأعصار إجماع عليها، فلا تجوز مخالفتُها حيثُ عَلِمَهَا للمسلمين» .

‌وَيُسْتَدلُّ عَلَيْهَا في السَّفَرِ بالقُطْبِ ..........

قوله: «ويُستدلُّ عليها في السَّفرِ بالقُطْبِ» ، هذا هو الثَّالث مما يُستدلُّ به على القِبْلة: القُطْب؛ وهذا دليل آفاقي، أي: دليل

(1)

روى ابن أبي شيبة في «مصنفه» ، كتاب الصلوات: باب الصلاة في الطاق، رقم (4699) عن أبي إسرائيل، عن موسى الجهني عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم:«لا تزال أمتي بخير ما لم يتَّخذوا في مساجدهم مذابح كمذابح النصارى» .

وهذا إسناد ضعيف، موسى الجهني لم يسمع أحداً من الصحابة؛ فضلاً عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأبو إسرائيل فيه ضعف.

وروى ابن أبي شيبة، «الموضع السابق» عن إبراهيم النخعي قال: قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «اتقوا هذه المحاريب» ، وكان إبراهيم لا يقوم بها.

(2)

انظر: «الروض المربع» (1/ 158).

ص: 276

على الأُفق. والقُطْبُ: هو الشيء الذي تدور عليه الأشياء، وهو أصل الشيء، وهو نجم خفيٌّ جداً من جهة الشَّمال الشَّرقي بالنسبة لنا في «القصيم» ، قال العلماء: لا يراه إلا حديد البَصَر في غير ليالي القمر، إذا كانت السماء صافية

(1)

، لكن له جار بيِّنٌ واضح يُستدلُّ به عليه وهو «الجَدي» ، فإن «الجَدي» قريب منه، ولهذا يظنُّ بعض النَّاس أن «الجدي» ، ثابت لا يتغيَّر، وليس كذلك، بل «الجَدي» يتحرَّك يسيراً، لكن لقربه من القُطْبِ لا تتبيَّنُ حركته، أما القُطْب نفسه فلا يتغيَّر ولا يتحرَّك، كقُطْبِ الرَّحا، والرَّحا إذا دارت فيما كان حول قطبها فإن دورانها يَسيرٌ خفيٌّ جداً، وكلما قَرُبَ كان أخفى، والبعيد تكون دورته واسعة بَيِّنة، وهكذا النجوم على القُطْب، ما كان قريباً من القُطْب فدورته يسيرةٌ جداً؛ حتى إن بعض الناس يظنُّ أنَّه لا يدور، وما كان بعيداً فإنه يدور دوراناً كبيراً بيِّناً.

وأضربُ لكَ مثلاً ببنات نعش الكُبرى والصُّغرى، وهي سبعة نجوم كبيرة، وسبعة نجوم صغيرة. فبنات نعش الصُّغرى في أحد طرفيها «الجَدي» ، وفي الآخر «الفَرقدان» اللذان قال فيهما الشاعر:«وفرقدا السَّماء لن يفترقا» . وهي لا تغيب أبداً، نُشاهدُها وهي تدور، فأحياناً يكون «الفرقدان» في الجنوب و «الجَدي» في الشِّمال، وأحياناً يكون «الفرقدان» في الشمال و «الجَدي» في الجنوب لا يغيب، أما «بنات نعش الكُبرى» فإنها تغيب؛ لكن لا تكاد تمضي ساعة أو ساعة ونصف إلا وقد طلع

(1)

انظر: «الإقناع» (1/ 156).

ص: 277

أوَّلها من الشرق بعد أن يغيب آخرها من الغرب؛ لأن المسافة غير بعيدة.

والدَّليل على اعتبار النُّجوم دليلاً قوله تعالى: {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل: 16]، فإن الله سبحانه وتعالى أطلق الاهتداء بالنَّجم، فالنَّجم يُهتدى به على الجهات لكلِّ غرض.

والشَّمْسِ والقَمَرِ ..........

قوله: «والشمس والقمر» ، هذا هو الرَّابع مما يستدلُّ به على القِبْلة؛ لأنَّ الشمس والقمر كلاهما يخرج من المشرق ويغرب من المغرب، فإذا كنت عن الكعبة غرباً فالقِبْلة شرقاً، وإذا كنت عن الكعبة شرقاً، فالقِبْلة غرباً، وإذا كنت عن الكعبة شمالاً فالقِبْلة جنوباً، وإذا كنت عن الكعبة جنوباً فالقِبْلة شمالاً، «وما بين المشرق والمغرب قِبْلة» كما قال النبيُّ عليه الصلاة والسلام

(1)

، وذلك لأهل المدينة ومن ضاهاهم.

(1)

رواه الترمذي، أبواب الصلاة: باب ما جاء أن بين المشرق والمغرب قِبلة، رقم (344)، والطبراني في «الأوسط» رقم (794)، (9140) عن عبد الله بن جعفر المخرمي، عن عثمان بن محمد الأخنسي، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«ما بين المشرق والمغرب قبلة» .

قال الترمذيُّ: هذا حديث حسن صحيح!.

قال الإمام أحمد بن حنبل: ليس له إسنادٌ. وقال مرَّة: ليس بالقوي.

قال أبو داود: يريد ـ أي أحمد ـ بقوله: «ليس له إسناد» لحال عثمان الأخنسي، لأن في حديثه نكارة. «مسائل أبي داود» ص (300).

قال ابن رجب: يعني: أنَّ في أسانيده ضعفاً

والأخنسي: وثَّقهُ ابنُ معين وغيره. والمخرمي: خرَّج له مسلم، وقال ابن المديني: روى مناكير. «فتح الباري» له (2/ 289 ـ 290).

ورواه الترمذي أيضاً ـ الموضع السابق ـ رقم (342)، وابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة: باب القبلة، رقم (1011) من طريق أبي معشر، عن محمد بن عمر، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة به مرفوعاً.

قال النسائي: منكر. «السُّنن» له (4/ 171 ـ 172).

وله شاهد من حديث ابن عمر، رواه الدارقطني (1/ 271)، والحاكم (1/ 206)، والبيهقي (2/ 9) من طريق محمد بن عبد الرحمن بن المجبَّر، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعاً.

قال أبو زرعة: هذا وهمٌ، والحديث حديث ابن عمر موقوف. «العلل» لابن أبي حاتم (1/ 184) رقم (528).

ورواه الدارقطني (1/ 271)، وفي «العلل» له (2/ 32)، والحاكم (1/ 205) من طريق عبيد الله بن عمر، عن نافع به.

لكن؛ رَفْعُه غير صحيح عند الدارقطني والبيهقي وغيرهما من الحفّاظ.

إلا أنَّ هذا المعنى قد صَحَّ عن عمر بن الخطاب من قوله، كما قال الإمام أحمد.

ورُويَ عن: عثمان، وعليِّ، وابن عمر، وابن عباس، وغيرهم من الصحابة.

قال ابن رجب: ولا يُعرف عن صحابيٍّ خِلافُ ذلك.

ص: 278

وَمَنَازِلِهِمَا .........

قوله: «ومنازلهما» ، أي: منازل الشمس والقمر، يعني: منازل النجوم الصيفيَّة والشتوية، وهي ثمان وعشرون منزلة ينزلها القمر كلَّ ليلة له منزلة منها، وليلتان أو ليلة واحدة يكون مستتراً لا يُرى، ولهذا تُسمَّى ليلة التاسع والعشرين والثلاثين، أو الثامن والعشرين والتاسع والعشرين «ليالي الاستسرار» ، أي: أنَّ القمر يستتر فيها ولا يُرى.

والثمان والعشرون منزلة هذه تنزلها الشمس على مدى سَنَة كاملة، أما القمر فيطوف بها خلال شهر، وفي السَّنَة اثنتي عشرة مَرَّة. أما الشمس فتطوف بها في السَّنَة مرَّة واحدة.

وكيف نستدلَّ بمنازلهما؟

الجواب: ننظر مثلاً إلى النجوم الشَّمالية التي تقسم المشرق

ص: 279

نصفين والمغرب نصفين. والنُّجوم الجنوبية التي تقسم المشرق نصفين والمغرب نصفين. فالجنوبية من جهة الجنوب، والشمالية من جهة الشمال، لكن هذه لا يعرفها إلا من تَمَرَّسَ وكان في البَرِّ، وليس حوله أنوار كهرباء بحيث يعرف هذه النُّجوم، والذين يعرفونها يستطيعون أن يحكموا على الليل والنهار بالسَّاعات، بل بأقلَّ من السَّاعات، فيقولون: الآن ذهب من الليل نصفُه، ذهب رُبعُه، ذهب ثُمنُه، ذهب عُشرهُ، ويستدلُّون على ذلك بهذه المنازل.

وقال بعضُ العلماء: يُستدلُّ أيضاً بالجبال الكِبَار

(1)

.

وقال بعضهم: يُستدلُّ بالأنهار ومصابِّها (524).

وقال بعضهم: يُستدلُّ بالرِّياح (524).

لكن هذه الثلاثة دلالتها خفيَّة، ولهذا أغفلها المؤلِّف رحمه الله ولم يذكرها، فإن من النَّاس من يكون عنده قوَّة إحساس؛ بحيث يقول لك: الهواءُ جنوبي، الهواءُ شرقي، الهواءُ غربي ـ ولو كان أعمى ـ، ويَستدلُّ بالرِّياح على الجهات.

وفي زمننا هذا أنْعَمَ اللَّهُ سبحانه وتعالى بالآلات الدَّقيقة التي يُستدلُّ بها على جهة القِبْلة، بل إنني سمعت أنه يوجد آلات يُستدلُّ بها على عين القِبْلة؛ لأنهم يقولون: إن الكعبة هي مركز الكُرَة الأرضيَّة، وأنهم الآن توصَّلُوا إلى آلات دقيقة يكون اتجاهُها دائماً إلى مركز الأرض وهو وسطها.

(1)

انظر: «الإنصاف» (3/ 343، 344).

ص: 280

‌وَإِنْ اجْتَهَدَ مُجْتَهِدَانِ فَاخْتَلَفَا جِهَةً ..........

قوله: «وَإنْ اجتَهَدَ مُجْتَهِدَانِ فَاخْتَلَفَا جِهَةً» ، أي: بذلا الجُهد في معرفة القِبْلة.

والمجتهد في جهة القِبْلة هو: الذي يعرف أدلَّتها، كما أنَّ المجتهد في باب العِلْم هو الذي يعرف أدلَّة العلم، فالنَّاس بالنسبة للقِبْلة إمَّا مجتهدٌ يعرف كيف يستدلُّ بأدلَّتها، وإما مقلِّدٌ لا يعرف ولا يدري.

والمقلِّدُ فرضُه التَّقليد، ولكن سبق أنَّه لا بُدَّ أن يكون المُقَلِّد يخبر عن يقين على المذهب

(1)

.

والصَّحيح: أنه يُقَلَّد؛ سواء أَخْبَرَ عن يقين أم عن اجتهاد.

وقوله: «فاختلفا جِهَةً» ، أي: قال أحدُهما: إنَّ القِبْلة هنا؛ ويُشير إلى الشِّمال؛ والثَّاني يقول: القِبْلة هنا؛ ويشير إلى الجنوب، فلا يجوز أن يَتْبَعَ أحدُهما الآخر.

لأنَّ كُلَّ واحد منهما يعتقد خطأ الآخر، وهذا فيما إذا كان الاختلاف في جهتين.

أما إذا اختلفَا في جهةٍ واحدة؛ بأن اختلفا في الانحراف في جهة واحدة، فهنا لا بأس أن يَتْبَعَ أحدُهما الآخر، مثل: أن يتَّجِهَا إلى الجنوب لكن أحدهما يميل إلى الغرب، والآخر يميل إلى الشَّرق فلا يأس للذي يميل إلى الغرب أن يَتْبَع الذي يميل إلى الشَّرق، ويميل معه إلى الشَّرق أو العكس؛ لأن الانحراف في الجهة لا يضرُّ؛ ولا يُخِلُّ بالصَّلاة.

(1)

انظر: ص (274).

ص: 281

‌لَمْ يَتْبَعْ أَحَدُهُمَا الآخَرَ .........

قوله: «لم يَتْبَع أحدُهُما الآخر» ، المراد بالاتِّباع هنا في القِبْلة، فلا يجوز أن يَتْبَع أحدُهما الآخر؛ حتى ولو كان أعلمَ منه وأعرف، ما دام أنَّه خالفه، فإن كان المجتهدُ حين اجتهد؛ واجتهد الآخر الذي هو أعلمُ منه صار عنده تردُّد في اجتهاده، وغلبة ظنِّه في اجتهاد صاحبه. فعلى المذهب لا يتبعه؛ لأنهم يقولون: لا بُدَّ أن يكون خبر الثّقة عن يقين

(1)

.

والصَّحيح: أنه يَتْبَعه؛ لأنَّه لمَّا تردَّدَ في اجتهاده بطل اجتهاده، ولمَّا غلب على ظَنِّه صحَّة اجتهاد صاحبه وجب عليه أن يَتْبَع ما هو أَحْرَى، وقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن مسعود في الشَّكِّ في عدد الرَّكعات:«فَلْيَتَحَرَّ الصَّواب، ثم لِيَبْنِ عليه»

(2)

، وهذا دليل على أنَّ من كان عنده غلبة ظنٍّ في أمر من أمور العبادة فإنه يَتْبَع غلبة الظَّنِّ.

وهذا أيضاً له أصلٌ في الكتاب، قال الله تعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، وهذه استطاعته.

وقوله: «لم يَتْبَع أحدُهما الآخر» يشمل متابعة الائتمام، فلا يأتمُّ به؛ لأنَّ كُلَّ واحد منهما يعتقد أنَّ هذا أخطأ القِبْلة، فالإمام يرى أن القِبْلة جنوب، والمأموم يرى أن القِبْلة شمال؛ فيتَّجِه الإمامُ إلى الجنوب والمأموم إلى الشَّمال، فصار المأموم قد استدبر الإمام، فإذا ركع الإمامُ إلى الجنوب ركع المأموم إلى الشَّمال، وهذا تضادٌّ.

(1)

انظر: «الإنصاف» (3/ 335، 336).

(2)

رواه البخاري، كتاب الصلاة: باب التوجه نحو القبلة حيث كان، رقم (401)، ومسلم، كتاب المساجد: باب السهو في الصلاة، رقم (572).

ص: 282

والمقصود من الجماعة هو الائتلاف.

وقال بعض أهل العلم: بل يجوز أن يتبعه في الائتمام

(1)

، وإذا كانت الصَّلاة صلاةَ جماعة واجبة وجب أن يَتْبَعه ويأتمَّ به، لأن كلَّ واحد منهما يعتقد خطأ الآخر بالنسبة لاجتهاده، ويعتقد صوابه بالنسبة لاجتهاده نفسه، فأنا أعتقد أن الإمام مخطئ لما اتَّجَه إلى الجنوب باعتقادي أنا، لكن باجتهاده هو أعتقد أنه مُصيب وأنَّه لو تابعني لبطلت صلاتُه.

قالوا: ونظير ذلك لو أنَّ رَجُلَين أكلا من لحم إبل، أحدهما يعتقد أنَّ لحم الإبل ناقض، والثاني يعتقد أن لحم الإبل غير ناقض، فَأْتمَّ أحدُهما بالآخر، فهنا أحدهما يعتقد بطلان صلاة الآخر، ومع ذلك يجوز أن يَأْتمَّ أحدُهما بالآخر، قالوا: فهذا مثل هذا، واعتقاد الخطأ في الحكم كاعتقاد الخطأ في الحال

(2)

، فالذي خالفني في القِبْلة قد اتفقت معه على الحكم؛ وهو أن استقبال القِبْلة شرط، لكن اختلفنا في الحال، أنا أعتقد أن هذه القِبْلة، وهو يعتقد أن القِبْلة مخالفة لذلك، فلا فرق بين أن أعتقد أن هذا اللحم ناقض للوُضُوء، وهو يعتقد أنه ليس بناقض.

وهذا القول أقرب للصَّواب، وهو جواز اتِّباع أحدهما الآخر في الائتمام مع اختلافهما في جهة القِبْلة. والتضاد هنا لا يمنع من الائتمام كما لو ائتمَّ أحدُهما بالآخر في جوف الكعبة، وأحدهما مستقبل الجدار الشِّمالي؛ والثاني مستقبل الجدار الجنوبي.

(1)

انظر: «الإنصاف» (3/ 346).

(2)

انظر: «المغني» (2/ 108، 109).

ص: 283

بقي علينا إذا كان هناك ثالث ليس بمجتهد، أي: لدينا رجلان اجتهدا، وعندهما ثالث ليس بمجتهد، وقد بيَّنه المصنف بقوله:

‌وَيَتْبَعُ المُقَلِّدُ أَوْثَقَهُمَا عِنْدَهُ.

‌وَمَنْ صَلَّى بِغَيْرِ اجْتِهَادٍ وَلَا تَقْلِيدٍ قَضَى إِنْ وَجَدَ مَنْ يُقَلِّدُه.

قوله: «وَيَتْبَعُ المُقَلِّدُ أَوْثَقَهُمَا عِنْدَهُ» ، يعني: إذا اجتهد مجتهدان إلى القِبْلة؛ فقال: أحدهما: القِبْلة هنا وأشار إلى ناحية، وقال الثاني: القِبْلة هنا وأشار إلى ناحية مخالفة، وعندهما رجل ثالث فَيَتْبع أوثقهما، فإن تَبِعَ غير الأوثق مع وجود الأوثق، فصلاته باطلة؛ لأنه يعتقد بطلانها، ويكون كالمتلاعب في صلاته.

قوله: «وَمَنْ صَلَّى بِغَيْرِ اجْتِهَادٍ وَلَا تَقْلِيْدٍ قَضَى إنْ وَجَدَ مَنْ يُقَلِّدُه» ، يعني:«من صَلَّى بغير اجتهادٍ» إن كان يحسنه، «ولا تقليد» إن كان لا يُحسنه فإنه يقضي؛ لأنَّه لم يأتِ بما يجب عليه، فكان بذلك مفرِّطاً فوجب عليه القضاء.

مثال ذلك: رَجُلٌ يُحسنُ الاجتهاد، ويعرف دلائل القِبْلَة بالقُطْبِ، أو الشمس، أو القمر، وصَلَّى بغير اجتهاد فإنه يجبُ عليه القَضاء.

وظاهر كلام المؤلِّف أنه يقضي ولو أصاب، وذلك لأنَّه لم يَقُمْ بالواجب عليه من الاجتهاد، وإصابته وقعت على سبيل الاتفاق، لا على سبيل الرُّكُون إلى هذه الجهة؛ لأنه لم يج

ص: 284

كذلك لو كان ليس من أهل الاجتهاد، ففرضه التَّقليد، لكنَّه لم يُقلِّد، فلم يسأل أحداً من النَّاس وصَلَّى، فإنَّه يقضي ولو أصاب؛ لأنه ترك ما يجب عليه، إذ الواجب أن يعرف أن هذه هي القِبْلَة، إما باجتهاده إن كان يُحسنُه وإما بتقليد إذا كان لا يحسنه، وهذه الأخيرة تقع كثيراً، فمثلاً: يأت رَجُل إلى شخص فينزل ضيفاً عليه، ثم يقوم يُصلِّي، ولا يسأل صاحب البيت أين القبلة، فيصلِّي وهو ليس من أهل الاجتهاد الذين يعرفون القِبْلة بالأدلَّة، فيجب عليه أن يُعيد الصَّلاة ولو أصاب؛ لأنَّه لم يأتِ بالواجب من الاجتهاد، ولا من التَّقليد، فالواجب على هذا الضَّيف إذا أراد أن يُصلِّي أن يسأل صاحب البيت؛ لأن صاحب البيت عنده عِلْم بالقِبْلة.

وقال بعض العلماء: إنه إذا أصاب أجزأ

(1)

؛ لأنه لن يُصلِّي إلا إلى جهة تميلُ إليها نفسُه، وهذا الميل يوجب غلبة الظَّنِّ، وغلبةُ الظَّنِّ يُكتفى به في العبادات؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:«فَلْيتحَرَّ الصَّواب ثم لِيَبْنِ عليه»

(2)

. فإذا أصاب فلماذا نُلزمه بالقضاء؟ وهذا القول أصحُّ، فإن أخطأ وجبت عليه الإعادة؛ لأنَّه لم يأتِ بما يجب عليه من السُّؤال ولا من الاجتهاد.

وهل الحضر محلٌّ للاجتهاد أم لا؟ الجواب: أمَّا المذهب عند الأصحاب فليس محلًّا للاجتهاد

(3)

، ولا ريب أنَّ هذا القول ضعيف.

(1)

انظر: «الإنصاف» (3/ 353، 354).

(2)

تقدم تخريجه ص (282).

(3)

انظر: «المغني» (2/ 114)، «الإنصاف» (3/ 351).

ص: 285

والصَّواب: أنَّ الحضر والسَّفر كلاهما محلٌ للاجتهاد، فإن الإنسان في الحضر قد يصعد إلى السَّطح في الليل، وينظر إلى القُطب ويَستدلُّ به، وفي النهار ينظر إلى الشمس تشرق من المشرق وتغرب من المغرب، والعلامات التي في السَّفر هي علامات في الحضر.

وأما قولهم: إنه لا اجتهاد في الحضر؛ لأنه يَستدلُّ على ذلك بخبر أهل البلد وبالمحاريب الإسلامية، فنقول: إذا كان من أهل الاجتهاد فلا مانع أن يجتهد في الحضر كما يجتهد في السَّفر.

فالصَّواب: أنه إذا اجتهد في الحضر فإنه تصحُّ صلاته، فإن أصاب فالأمر ظاهر، وإن لم يُصب فإنه اجتهد وأخطأ وله أجر، وإذا اجتهد فلا إعادة عليه مطلقاً؛ سواء أصاب أم لم يصب؛ لأنه فعل ما يجب عليه، ومن فعل ما وجب عليه فقد اتّقى الله ما استطاع، ومن اتَّقى الله ما استطاع فليس عليه أن يُصلِّي مرَّتين؛ لأن الله لم يوجب على عباده العبادة مرَّتين إذا أَتَوا بها على الوجه الذي أُمِرُوا به.

مسألة: إذا كان من غير أهل الاجتهاد في الحضر، واستند إلى قول صاحب البيت، وتبيَّن أنَّ قول صاحب البيت خطأ، فالمذهب أنه يُعيد

(1)

؛ لأنه سبقَ أنه لا بُدَّ أن يستند إلى قول ثقة بيقين

(2)

.

والصَّحيح: أنه لا يُعيد، لأن هذا الإنسان استند إلى خبر

(1)

انظر: «الإنصاف» (3/ 335).

(2)

انظر: ص (274).

ص: 286

ثقة، وفعل ما يجب عليه، ومن فعل ما يجب عليه فإنه لا إعادة عليه، كما لو أفتاه مُفْتٍ بحكم فتبيَّن خطؤه فيه.

وخُلاصة المسألة:

أولاً: مَنْ صَلَّى باجتهاد، فصلاتُه صحيحة؛ سواءٌ أخطأ أم أصاب، وسواء في السَّفر أم في الحضر على القول الرَّاجح.

ثانياً: إذا صَلَّى بغير اجتهاد ولا تقليد، فإن أخطأ أعاد، وإن أصاب لم يُعِدْ على الصَّحيح.

وقوله: «إن وجد مَنْ يقلِّده» ، عُلِمَ منه أنه إذا لم يجد من يُقلِّده وتحرَّى؛ فإنه لا تلزمه الإعادة.

‌وَيَجْتَهِدُ العَارِفُ بِأَدِلَّةِ القِبْلَةِ لِكُلِّ صَلَاةٍ،

...........

قوله: «وَيَجْتَهِدُ العَارِفُ بِأَدِلَّةِ القِبْلَةِ لِكُلِّ صَلَاةٍ» ، العارف بأدلَّة القِبْلة هو المجتهد، وسُمِّيَ بذلك لأنَّه أهل للاجتهاد؛ لمعرفته بأدلَّة القِبْلة، فيجب عليه أن يجتهد لكلِّ صلاة، فإذا اجتهد مثلاً لصلاة الظُّهر؛ وتبيَّن له أن القِبْلة أمامه؛ ووضع العلامة على القِبْلة؛ وصَلَّى فصلاته صحيحة، فإذا جاء العصر فلا يعتمد على الاجتهاد الأوَّل، ويجب أن يعيد الاجتهاد مرَّة ثانية، وينظر إلى الأدلَّة مرَّة ثانية، فلكلِّ صلاة اجتهاد؛ لاحتمال الخطأ في الاجتهاد الأوَّل. لكن هذا القول ضعيف أيضاً.

والصَّواب: أنه لا يلزمه أن يجتهد لكلِّ صلاة، ما لم يكن هناك سبب، مثل أن يطرأ عليه شَكٌّ في الاجتهاد الأوَّل، فحينئذ يعيد النَّظر، وسواءٌ كان الشَّكُّ بإثارة الغير أم بإثارة من نفسه.

ونظير ذلك: المجتهد في المسائل العلميَّة، إذا حقَّق مسألة من المسائل مثلاً، واجتهد فيها ورأى أن الحكم فيها كذا وكذا؛

ص: 287

ثم حدثت مرَّة أخرى فإنه لا يلزمه أن يُعيد البحث والمناقشة، بل يكتفي بالأوَّل ما لم يكن هناك سبب لإعادة النَّظر.

‌وَيُصَلِّي بالثَّانِي، وَلَا يَقْضِي ما صَلَّى بالأوَّلِ وَمِنْهَا النِّيَّةُ ....

قوله: «وَيُصَلِّي بالثَّانِي، وَلَا يَقْضِي ما صَلَّى بالأَوَّلِ» ، «يُصلِّي» أي: المجتهد «بالثاني» ، أي: بالاجتهاد الثاني «ولا يقضي ما صَلَّى بالأول» أي: إذا تبيَّن له خطؤه؛ لأن الأول مبنيٌّ على اجتهاد قد أتى الإنسان بما يجب عليه فيه، ومن أتى بما يجب عليه لم يُلزم بإعادة العبادة، لأننا لو قلنا بلزوم الإعادة لأوجبنا عليه العبادة مرَّتين.

فإذا صَلَّى الظُّهر إلى الشمال معتقداً بحسب اجتهاده أن هذه هي القِبْلة، وفي العصر تبيَّن له أن القِبْلة نحو الجنوب فلا يُعيد الظُّهر؛ لأنه صلاَّها باجتهاد حسب ما أُمِرَ، والاجتهاد لا يُنقض باجتهاد

ومثله: المسائل العِلميَّة، لو كان الإنسان يرى رأياً بناءً على أن هذا مقتضى النُّصوص، ثم بعد البحث والمناقشة والاطِّلاع تبيَّن له خلاف رأيه الأول، فإنه لا يلزمه نقض الحكم إن كان حاكماً به، ولا نقض الفتوى، فلا يلزمه أن يذهب إلى الذي أفتاه في الأول، ويقول: إني أفتيتك بكذا وتبيَّن لي أني أخطأت. لأنَّ الأول صادر عن اجتهاد، فلا يُنقض بالاجتهاد الثاني.

وإنما قلنا: لا يُنقض؛ لأنه كما كان الخطأ في اجتهاده الأول يمكن أن يكون الخطأ في الثاني، فربما يكون الأول هو الصَّواب؛ وقد ظَنَّ أنَّ الثاني هو الصَّواب فلهذا قالوا: لا يُنقض الاجتهاد بالاجتهاد.

ص: 288

ورُويَ عن عمر رضي الله عنه في مسألة «الحِمَاريَّة» أنَّه قضى فيها بحرمان الإخوة الأشقاء، ثم حدثت مرَّة أخرى وقضى فيها بالتَّشريك، فقيل له في ذلك، فقال:«ذلك على ما قضينا، وهذا على ما نقضي»

(1)

، ولم ينقض الحكمَ الأولَ.

قوله: «ومنها النِّيَّةُ» ، أي: ومن شروط الصَّلاة النيَّة، وهذا هو الشَّرط التَّاسع وهو الأخير.

فَشُروط الصَّلاة: الإسلام، والعقل، والتَّمييز، ودخول الوقت، وستر العورة، والطَّهارة من الحدث، واجتناب النَّجاسة، واستقبال القِبْلة، والنِّيَّة.

ففي أوَّل الباب قال: «منها الوقت»

(2)

، و «من» للتبعيض، فيُفيد أنه لم يذكر كلَّ الشُّروط؛ وهو كذلك؛ فقد أسقط: الإسلام، والعقل، والتَّمييز، وذلك لأنَّ هذه الثلاثة شرط في كلِّ عبادة سوى ما اسْتُثني.

و «النيَّة» بمعنى القصد، وأمَّا في الشَّرع: فهي العزم على فعل العبادة تقرُّباً إلى الله تعالى.

(1)

رواه عبد الرزاق في «مصنفه» رقم (19005)، وسعيد بن منصور رقم (62)، وأبو بكر بن أبي شيبة في «مصنفه» ، كتاب الفرائض: باب في زوج وأم وإخوة وأخوات لأب وابن وإخوة لأم، من أشرك بينهم، رقم (31088) ـ وهذا لفظه ـ والبخاري في «التاريخ الكبير» (2/ 332) والدارقطني (4/ 87)، والبيهقي (6/ 255) من طريق وهب بن منبّه، عن الحكم بن مسعود الثقفي، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه به.

قال البخاري: لم يتبيَّن سماع وهب من الحكم. «التاريخ الكبير» (2/ 332).

قال الذهبي: هذا إسناد صالح. «الميزان» (2/ 346).

(2)

انظر ص (95).

ص: 289

وتنقسم إلى قسمين:

1 -

نيَّة المعمول له. 2 - ونيَّة العمل.

أما نيَّة العمل فهي التي يتكلَّم عنها الفقهاء؛ لأنهم إنَّما يقصدون من النيَّةِ النيَّةَ التي تتميَّز بها العبادة عن العادة، وتتميَّز بها العبادات بعضها عن بعض.

وأما نيَّة المعمول له فهي التي يتكلَّم عليها أرباب السُّلوك؛ فتُذكر في التَّوحيد، وهي أعظم من الأُولى، فنيَّة المعمول له أَهمُّ من نيَّة العمل؛ لأنَّ عليها مدار الصحَّة، قال تعالى في الحديث القُدسي:«أنا أغنى الشُركاء عن الشِّركِ، مَنْ عَمِلَ عملاً أشرك فيه معي غيري؛ تَركْتُهُ وشِرْكَهُ»

(1)

.

ونيَّة العمل: تتميَّز بها العبادات من غير العبادات، وتتميَّز العبادات بعضها عن بعض، فينوي أن هذه عبادة، وينوي أنَّها صلاة، وينوي أنها فريضة، أو نافلة، وهكذا، وقد أشار النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى اعتبار النيَّة بقوله:«إنَّما الأعمال بالنيَّات، وإنَّما لكُلِّ امرئٍ ما نوى»

(2)

.

ولا بُدَّ من ملاحظة الأمرين جميعاً.

أولاً: نيَّة المعمول له؛ بحيث تكون نيَّته خالصة لله عز وجل، فإن خالط هذه النيَّة نيَّةٌ لغير الله بطلت، فلو قام رَجُل يُصلِّي ليراه النَّاس فالصلاة باطلة؛ لأنه لم يُخلص النيَّة للمعمول له، وهو الله عز وجل.

(1)

رواه مسلم، كتاب الزهد والرقائق: باب من أشرك في عمله غير الله، رقم (2985) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

متفق عليه، وقد تقدم تخريجه (1/ 194).

ص: 290

وثانياً: نيَّة تمييز العبادات عن غيرها، وتمييز العبادات بعضها عن بعض.

واعلمْ أن النيَّة محلُّها القلب، ولهذا قال الرَّسول صلى الله عليه وسلم:«إنَّما الأعمال بالنيَّات، وإنَّما لكلِّ امرئٍ ما نوى» ، فليست من أَعمال الجوارح، ولهذا نقول: إن التلفّظَ بها بدعة، فلا يُسَنُّ للإنسان إذا أراد عبادة أن يقول: اللهم إني نويت كذا؛ أو أردت كذا، لا جهراً ولا سِرًّا؛ لأن هذا لم يُنقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأنَّ الله تعالى يعلم ما في القُلوب، فلا حاجة أن تنطق بلسانك ليُعْلم ما في قلبك، فهذا ليس بِذِكْرٍ حتى يُنطق فيه باللسان، وإنَّما هي نيَّة محلُّها القلب، ولا فرق في هذا بين الحَجِّ وغيره؛ حتى الحجُّ لا يُسَنُّ للإنسان أن يقول: اللهم إني نويت العُمْرَة؛ أو نويت الحجَّ، لأنه لم يُنقل عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ولكن يُلبِّي بما نوى، والتلبية غير الإخبار بالنيَّة؛ لأن التلبية تتضمَّن الإجابة لله، فهي بنفسها ذِكْرٌ ليست إخباراً عمَّا في القلب، ولهذا يقول القائل: لبَّيك عُمرة أو لبَّيك حَجّاً.

نعم؛ لو احتاج إلى الاشتراط فله أن يتلفَّظ بلسانه، بل لا بُدَّ أن يتلفَّظ فيقول مثلاً: لبَّيك اللهمَّ عُمرة، وإن حَبَسَني حابسٌ فَمَحِلِّي حيث حبستني.

‌فَيَجِبُ أَنْ يَنْوِيَ عَيْنَ صَلَاةٍ مُعَيَّنَةٍ ..........

قوله: «فَيَجِبُ أنْ يَنْوِيَ عَيْنَ صَلَاةٍ مُعَيَّنَةٍ» ، أي: يجب على من أراد الصَّلاة أن ينويَ عينَها إذا كانت معيَّنة، مثل: لو أراد أن يُصلِّي الظُّهر يجب أن ينوي صلاةَ الظُّهر، أو أراد أن يُصلِّي الفجر فيجب أن ينويَ صلاة الفجر، أو أراد يُصلِّي الوِتر فيجب أن ينويَ صلاة الوِتر.

ص: 291

فإن كانت غير معيَّنة كالنَّفل المطلق، فينوي أنه يريد أن يُصلِّي فقط بدون تعيين.

وأفادنا المؤلِّف: أنه لا بُدَّ أن ينويَ عين المعيَّن كالظُّهر، فلو نوى فرض هذا الوقت أو الصَّلاة مطلقاً، كأن جاء إلى المسجد والنَّاسُ يُصلُّون، فدخل وغاب عن ذِهْنِه أنها الظُّهر أو العصر، أو أنها فرضٌ أو نَفْلٌ، فعلى كلام المؤلِّف: صلاتُه غير صحيحة؛ لأنه لم ينوِ الصَّلاة المعيَّنة، وتصحُّ على أنها صلاةٌ يؤجَرُ عليها.

وقيل: لا يُشترط تعيين المعيَّنة، فيكفي أن ينويَ الصلاة؛ وتتعيَّن الصلاة بتعيُّن الوقت

(1)

، فإذا توضَّأ لصلاة الظُّهر ثم صَلَّى، وغاب عن ذهنه أنَّها الظُّهر أو العصر أو المغرب أو العشاء فالصَّلاة صحيحة؛ لأنه لو سُئِل: ماذا تريد بهذه الصَّلاة؟ لقال: أريد الظُّهر، فيُحمل على ما كان فرضَ الوقت، وهذا القول هو الذي لا يسعُ النَّاس العمل إلا به؛ لأن كثيراً من الناس يتوضَّأ ويأتي ليُصلِّي، ويغيب عن ذهنه أنها الظُّهر أو العصر، ولا سيَّما إذا جاء والإمام راكع؛ فإنه يغيب عنه ذلك لحرصه على إدراك الرُّكوع.

ويَنْبَني على هذا الخلاف: لو كان على الإنسان صلاة رباعية؛ لكن لا يدري هل هي الظُّهر أو العصر أو العشاء؟ فصلَّى أربعاً بنيَّة الواجب عليه، فعلى القول بأنه لا يجب التعيين: تصحُّ، وتكون عن الصلاة المفروضة التي عليه. وعلى القول بوجوب

(1)

انظر: «الإنصاف» (3/ 360، 361).

ص: 292

التَّعيين: لا تصحُّ؛ لأنه لم يعيِّنها ظُهراً ولا عصراً ولا عشاءً، وعليه؛ لا بُدَّ أن يُصلِّي أربعاً بنيَّة الظُّهر، ثم أربعاً بنيَّة العصر، ثم أربعاً بنية العشاء

(1)

.

والذي يترجَّحُ عندي: القول بأنه لا يُشترط التَّعيين، وأن الوقت هو الذي يُعيِّنُ الصَّلاة، وأنه يصحُّ أن يُصلِّي أربعاً بنيَّة ما يجب عليه، وإنْ لم يعينه، فلو قال: عليَّ صلاة رباعيَّة لكن لا أدري: أهي الظُّهر أم العصر أم العشاء؟ قلنا: صَلِّ أربعاً بنيَّة ما عليك وتبرأ بذلك ذِمَّتُك.

وعليه؛ فلو قال: أنا عليَّ صلاة من يوم؛ ولا أدري: أهيَ الفجر؛ أم الظُّهر؛ أم العصر؛ أم المغرب؛ أم العشاء؟ فعلى القول بعدم اشتراط التَّعيين نقول: صَلِّ أربعاً وثلاثاً واثنتين، أربعاً تجزئ عن الظُّهر أو العصر أو العشاء، وثلاثاً عن المغرب، واثنتين عن الفجر.

وعلى القول الثَّاني: يُصلِّي خمس صلوات؛ لأنه يُحتمل أنَّ هذه الصَّلاة الظُّهر؛ أو العصر؛ أو المغرب؛ أو العشاء؛ أو الفجر، فيجب عليه أن يحتاط ليبرئَ ذِمَّته بيقين ويُصلِّي خمساً.

مسألة: يقول بعض الناس: إن النيَّة تَشُقُّ عليه.

وجوابه: أنَّ النيَّة سهلة، وتركها هو الشَّاقُّ، فإنه إذا توضَّأ وخرج من بيته إلى الصلاة، فإنه بلا شَكٍّ قد نوى، فالذي جاء به إلى المسجد وجعله يقف في الصَّف ويكبِّر هو نيَّة الصلاة، حتى

(1)

انظر: «الإنصاف» (3/ 194، 195، 360).

ص: 293

قال بعض العلماء: لو كلَّفنا الله عملاً بلا نيَّة لكان من تكليف ما لا يُطاق

(1)

. فلو قيل: صَلِّ ولكن لا تنوِ الصَّلاة. توضَّأ ولكن لا تنوِ الوُضُوء؛ لم يستطع. ما من عمل إلا بنيَّة. ولهذا قال شيخ الإسلام: «النيَّة تتبع العلم؛ فمن علم ما أراد فِعْلَه فقد نواه، إذ لا يمكن فعله بلا نيَّة»

(2)

، وصَدَق رحمه الله. ويدلُّك لهذا قوله عليه الصلاة والسلام:«إنَّما الأعمال بالنيَّات»

(3)

، أي: لا عمل إلا بنيَّة.

‌وَلَا يُشْتَرطُ في الفَرْضِ، والأداءِ، والقَضَاءِ، والنَّفْلِ، والإِعَادَةِ نِيَّتَهُنَّ وَيَنْوِي مَعَ التَّحْرِيمَةِ،

..........

قوله: «ولا يُشترطُ في الفرضِ، والأداءِ، والقضاءِ، والنَّفلِ، والإعادةِ نيَّتَهُنَّ» ، أي: لا يُشترط في الفرض نيَّة الفرض، والأداء والقضاء والنَّفْل والإعادة نيَّتهُنَّ اكتفاء بالتعيين.

فمثلاً: إذا نوى أنها صلاة الظُّهر، لا يُشترط أن ينوي أنها فرض؛ لأن نيَّة الظُّهر تتضمَّن نيَّة الفرض، فإن صلاة الظُّهر فرض. ولذلك قال:«لا يُشترط في الفرض نيَّة الفرض» ، ولا يُشترط أيضاً في الأداء نيَّته، والأداء ما فُعل في وقته؛ لأنه متى صَلَّى في الوقت فهي أداء.

ولا يُشترط في القضاء نيَّة القضاء. والقضاء: هو الذي فُعِلَ بعد وقته المحدَّد له شرعاً؛ كصلاة الظُّهر إذا نام عنها حتى دخل وقتُ العصر، فصَلَّى الظُّهر، فهذه قضاء؛ لأنها فُعِلت بعد الوقت.

(1)

انظر: «مجموع الفتاوى» (18/ 262)، «إغاثة اللهفان» (1/ 134).

(2)

انظر: «مجموع الفتاوى» (22/ 219، 220، 232).

(3)

متفق عليه، وقد تقدم تخريجه (1/ 194).

ص: 294

ولا يُشترط مع نيَّة الظُّهر أن ينويَ أنَّها قضاء؛ لأن صلاتها بعد الوقت يكفي عن نيَّة القضاء.

وقوله: «النَّفْل» ، يعني: في النَّفْل المطلق، أو النَّفْل المعيَّن أن ينويه نفلاً. أما في النَّفْل المعيَّن فالتعيين يكفي.

مثال ذلك: إذا أراد أن يوتر، لا يُشترط أن ينويَ أنه نَفْل، وإذا أراد أن يُصلِّيَ راتبة الظُّهر مثلاً، لا يُشترط أن ينويها نَفْلاً؛ لأن تعيينها يكفي عن النَّفل، ما دام أنه قد نوى أنَّها راتبة الظُّهر، فإن راتبة الظُّهر نَفْل، وما دام أنه نوى الوِتر فإن الوِتر نَفْل.

وكذلك النَّفْل المطلق لا يُشترط أن ينويه نَفْلاً.

مثال ذلك: قام يُصلِّي من الليل، فلا حاجة أن ينويَ أنها نَفْل؛ لأنَّ ما عدا الصَّلوات الخمس نَفْل.

وقوله: «الإعادة» ، أي: لا يُشترط في الإعادة نيَّة الإعادة.

والإعادة: ما فُعِلَ في وقته مرَّة ثانية، سواء كان لبطلان الأُولى أم لغير بُطلانها.

فمثلاً: إذا صَلَّى الظُّهر؛ ثم ذكر أنه محدث، فتجب عليه الإعادة ولا يجب أن ينويَ أنها إعادة. ومثلاً: إذا صَلَّى الظُّهر في مسجد ثم حضر إلى مسجد ثانٍ وأُقيمت الصَّلاة؛ فيُشرع أن يعيدَ، ولا يُشترط أن ينويَ أنها إعادة؛ لأنَّه قد فعل الأُولى، واعتقد أن هذه الثانية نَفْلٌ فلا يُشترط أن ينويها مُعَادة.

قوله: «وَيَنْوِي مَعَ التَّحْرِيمَةِ» ، ذكر المؤلِّف هنا محلَّ النيَّة متى تكون؟ الأَوْلَى أن تكون مقارِنَةً للتَّحريمة أو قبلها بيسير؛

ص: 295

ولهذا قال: «ينوي مع التَّحريمة» ، أي: يجعل النيَّة مقارنة لتكبيرة الإحرام، فإذا أراد أن يكبِّر كبَّر وهو ينوي في نفس التَّكبير أنها صلاة الظُّهر مثلاً.

‌وَلَهُ تَقْدِيمُهَا عَلَيْهَا بِزَمنٍ يَسيرٍ فِي الوقْتِ فإِنْ قَطَعَهَا في أَثْنَاءِ الصَّلاةِ، أَوْ تَرَدَّدَ بَطَلَتْ ............

قوله: «وَلَهُ تَقْدِيمُهَا عَلَيْهَا بِزَمنٍ يَسيرٍ في الوقْتِ» ، أي: له أن يقدِّم النيَّة قبل التَّحريمة لكن بزمنٍ يسير، وشرط آخر «في الوقت» ، فلو نوى الصَّلاة قبل دخول وقتها، ولو بزمنٍ يسير، ثم دخل الوقت وصَلَّى بلا تجديد نيَّة، فصلاتُه غيرُ صحيحة؛ لأن النيَّة سبقت الوقت، وإن نوى في الوقت ثم تشاغل بشيء في زمن يسير، ثم كبَّر، فصلاتُه صحيحة؛ لأنَّ الزَّمن يسير، فإن طال الوقت فظاهر كلام المؤلِّف أنَّ النيَّة لا تصحُّ؛ لوجود الفصل بينها وبين المنوي.

وقال بعض العلماء: بل تصحُّ ما لم ينوِ فَسْخَها

(1)

؛ لأن نيَّتَه مستصحبَةُ الحكم ما لم ينوِ الفسخ، فهذا الرَّجُل لما أذَّن قام فتوضَّأ ليُصَلِّيَ، ثم عزبت النيَّة عن خاطره، ثم لمَّا أُقيمت الصلاة دخل في الصَّلاة بدون نيَّة جديدة، فعلى كلام المؤلِّف لا تصحُّ الصَّلاة؛ لأنَّ النيَّة سبقت الفعل بزمن كثير، وعلى القول الثاني تصحُّ الصَّلاة؛ لأنه لم يفسخ النيَّة الأولى، فحكمها مستصحب إلى الفعل. وهذا القول أصحُّ؛ لعموم قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم:«إنما الأعمال بالنيَّات»

(2)

، وهذا قد نوى أن يُصلِّي، ولم يطرأ على نيَّته ما يفسخها.

(1)

انظر: «الإنصاف» (3/ 365).

(2)

متفق عليه، وقد تقدم تخريجه (1/ 194).

ص: 296

قوله: «فإنْ قَطَعَهَا في أَثْنَاءِ الصَّلاةِ، أوْ تَرَدَّدَ بَطَلَتْ» ، «فإن قطعها» أي: النيَّة «في أثناء الصَّلاة أو تردَّد بطلت» ، أي: إذا قطعها في أثناء الصَّلاة بطلت صلاتُه.

مثاله: رَجُلٌ قام يتنفَّل، ثم ذكر أن له شُغلاً فقطع النيَّة، فإن الصَّلاة تبطل ولا شكَّ؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم:«إنَّما الأعمالُ بالنيَّات، وإنَّما لكلِّ امرئٍ ما نوى» ، وهذا قد نوى القطع فانقطعت.

وقوله: «أو تردَّد» ، أي: تردَّد في القطع.

مثاله: سمع قارعاً يقرع الباب فتردَّد؛ أأقطعُ الصلاةَ أو أستمرُّ؟ يقول المؤلِّف: إن الصلاة تبطل، وإن لم يعزم على القطع، وكذلك لو سمع جرسَ الهاتف فتردَّد؛ هل يقطع الصلاةَ ويُكلِّم أو يستمرُّ؟ فالمؤلِّف يقول: إن صلاته تبطل؛ لأنَّ استمرار العزم شرط عنده.

وقال بعض أهل العلم: إنها لا تبطل بالتردُّد

(1)

؛ وذلك لأن الأصل بقاء النيَّة، والتردُّد هذا لا يبطلها، وهذا القول هو الصَّحيح، فما دام أنه لم يعزم على القطع فهو باقٍ على نيَّته، ولا يمكن أن نقول: إن صلاتك بطلت للتردُّد في قطعها.

مسألة: إذا عزم على مبطل ولم يفعله، مثاله: عزم على أن يتكلَّم في صلاته ولم يتكلَّم، عزم على أن يُحْدِث ولم يُحْدِث، فقال بعض العلماء: إنها تبطل

(2)

، لأن العزمَ على المفسد عزمٌ على قطع الصَّلاة، والعزمُ على قطع الصَّلاة مبطلٌ لها.

(1)

انظر: «الإنصاف» (3/ 368 ـ 370)، «منتهى الإرادات» (1/ 72).

(2)

انظر: «الإنصاف» (3/ 368 ـ 370)، «منتهى الإرادات» (1/ 72).

ص: 297

ولكن المذهب: أنها لا تبطل بالعزم على فعل مبطل إلا إذا فعله

(1)

؛ لأن البطلان متعلِّق بفعل المبطل، ولم يوجد، وهو الصَّحيح.

وكذلك لو عزم الصَّائم على الأكل، ولم يأكل لكنه لم يقطع الصَّوم، فإن صومه لا يبطل.

مسألة: هل جميع العبادات تبطل بالعزم على القطع؟

الجواب: نعم، إلا الحجَّ والعمرة، فإن الحجَّ والعمرة لا يبطلان بإبطالهما؛ حتى لو صرَّح بذلك وقال: إني قطعت نُسكي، فإنه لا ينقطع ولو كان نَفْلاً، بل يلزم المضي فيه ويقع صحيحاً، وهذا من خصائص الحجِّ والعمرة أنهما لا يبطلان بقطع النيَّة؛ لقول الله تعالى:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالَعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196].

ولو علَّق القطعَ على شرطٍ فقال: إن كلَّمني زيد قطعت النيَّة أو أبطلت صلاتي؟ فإنها تبطل على كلام الفقهاء

(2)

، والصَّحيح أنها لا تبطل؛ لأنه قد يعزم على أنه إنْ كلَّمه زيد تكلَّم؛ ولكنه يرجع عن هذا العزم.

فعندنا الآن قطعٌ مجزومٌ به، وقطعٌ معلَّق على شرط، وقطعٌ متردَّدٌ فيه، وعزم على فعل محظور هذه أربعة.

أما الأول: فإذا قطع النيَّة جازماً، فلا شكَّ أن الصَّلاة تبطل.

(1)

انظر: «الإنصاف» (3/ 368 ـ 370)، «منتهى الإرادات» (1/ 72).

(2)

انظر: «الإنصاف» (3/ 369).

ص: 298

وأما الثاني: فإذا علَّق القطع على شرط، فالمذهب: أنها تبطل.

وأما الثالث: فإذا تردَّد هل يقطعها أم لا؟ فالمذهب أنها تبطل، والصَّحيح في المسألتين: أنها لا تبطل.

الرَّابع: إذا عزم على فعل محظور ولم يفعله، فهنا لا تبطل؛ لأن البطلان هنا معلَّق بفعل المحظور ولم يوجد.

وإِذَا شَكَّ فِيهَا استَأْنَفَها.

قوله: «وإذا شَكَّ فيها استأنفَها» ، أي: إذا شكَّ هل نوى أم لم ينوِ، فإنه يستأنفها؛ أي: الصَّلاة؛ وذلك لأنَّ الأصل العدم.

ولكن يبقى: هل هذه الصُّورة واردة، بمعنى: هل يمكن أن يأتي إنسان ويتوضَّأ ويقدم إلى المسجد ويكبِّر ويقول: أنا أشكُّ في النيَّة؟ الظاهر: أن هذا لا يمكن، وأن المسألة فرضيَّة، إلا أن يكون موسوساً والموسوس لا عِبْرَة بشكِّه، ولهذا قال الناظم:

والشكُّ بعد الفعل لا يؤثِّر

وهكذا إذا الشكوك تكثر

(1)

فإذا كثُرت الشكوك فهذا وسواس لا يُعتدُّ به، ولهذا فإنَّ تَصوُّرَ هذه المسألة صعب؛ لأنه من المستحيل أن يكون إنسان عاقل يدري ما يفعل؛ أن يأتي ويدخل في الصلاة، ويكبِّر ويقرأ؛ ثم يقول: أنا شككتُ في النيَّة، ولهذا قال بعض أهل العلم: لو كلَّفنا الله عملاً بلا نيَّة لكان من تكليف ما لا يُطاق

(2)

. لكن على تقدير وجوده ـ ولو نظريًّا ـ فإننا نقول: إذا شكَّ في النيَّة وجب أن يستأنف العبادة؛ لأن الأصل عدم الوجود، وهو قد شكَّ في

(1)

انظر: «منظومة في أصول الفقه وقواعد فقهية» للمؤلف رحمه الله ص (10).

(2)

انظر: «مجموع الفتاوى» (18/ 262)، «إغاثة اللهفان» (1/ 134)

ص: 299

الوجود وعدمه، فوجب الرُّجوع إلى الأصل، وهو أن النيَّة معدومة، وحينئذ لا بُدَّ من الاستئناف، لكن على كلام المؤلِّف: يقيَّد بما إذا لم يكن كثير الشُّكوك، فإذا كان كثيرَ الشُّكوك بحيث لا يتوضَّأ إلا شكَّ، ولا يصلِّي إلا شَكَّ، فإن هذا لا عِبْرَة بشكِّه، لأن شكَّه حينئذ يكون وسواساً.

مسألة: لو تيقَّن النيَّة وشكَّ في التَّعيين، فإن كان كثيرَ الشُّكوك فلا عِبْرة بشكِّه، ويستمرُّ في صلاته، وإن لم يكن كثيرَ الشُّكوك؛ لم تصحَّ صلاتُه عن المعينة؛ إلا على قول من لا يشترط التعيين، ويكتفي بنيَّة صلاة الوقت

(1)

.

‌وَإِنْ قَلَبَ مُنْفَردٌ فَرْضَهُ نَفْلاً في وَقْتِه المُتَّسع جَازَ ..........

قوله: «وَإِنْ قَلَبَ مُنْفَردٌ فَرْضَهُ نَفْلاً في وَقْتِه المُتَّسع جَازَ» ، شرع المؤلِّف في بيان حكم الانتقال من نيَّة إلى نيَّة، والانتقال من نيَّة إلى نيَّة له صُور متعددة:

منها: ما ذكره المؤلِّف: «قَلَبَ منفردٌ فرضَه نَفْلاً في وقته المتَّسع جاز» .

مثال ذلك: دخل رَجُلٌ في صلاة الظُّهر وهو منفرد، وفي أثناء الصَّلاة قَلَبَ الفرض إلى نَفْلٍ، فهذا جائز؛ بشرط أن يكون الوقت متَّسعاً للصلاة، فإن كان الوقت ضيِّقاً؛ بحيث لم يبقَ منه إلا مقدار أربع ركعات فإن هذا الانتقال لا يصحُّ؛ لأن الوقت الباقي تعيَّن للفريضة، وإذا تعيَّن للفريضة لم يصحَّ أن يشغله بغيرها، فإن فعل فإن النَّفْل يكون باطلاً؛ لأنه صَلَّى النَّفْل في

(1)

انظر: ص (291، 292).

ص: 300

وقت منهيٍّ عنه، كما لو صَلَّى النَّفل المطلق في أوقات النَّهي فإنه لا يصحُّ.

وقول المؤلِّف: «وإن قَلَبَ منفردٌ» خرج بذلك المأموم، وخرج بذلك الإمام، فظاهر كلام المؤلِّف: أن المأموم لا يصحُّ أن يقلب فرضه نَفْلاً، وأنَّ الإمام لا يصحُّ أن يقلب فرضه نَفْلاً؛ لأن المأموم لو قَلَب فرضه نَفْلاً فاتته صلاة الجماعة في الفرض، وصلاة الجماعة في الفرض واجبة، وحينئذ يكون انتقاله من الفريضة إلى النَّفْل سبباً لفوات هذا الواجب، فلا يحلُّ له أن يقلب فرضه نَفْلاً، ولأن الإمام إذا قلب فرضه نَفْلاً لزم من ذلك أن يأتمَّ المأموم المفترض بالإمام المتنفِّل، وائتمام المفترض بالمتنفِّل غير صحيح. فيلزم أن تبطل بذلك صلاة المأموم، فيكون في هذا عُدوان على غيره.

فإن قيل: هل قَلْبُ الفرض إلى نَفْل، مستحبٌّ أم مكروه؟ أم مستوي الطرفين؟

فالجواب: أنه مستحبٌّ في بعض الصُّور، وذلك فيما إذا شَرَع في الفريضة منفرداً ثم حضر جماعة؛ ففي هذه الحال هو بين أمور ثلاثة: إمَّا أن يستمرَّ في صلاته يؤدِّيها فريضة منفرداً، ولا يُصلِّي مع الجماعة الذين حضروا، وإمَّا أن يقطعها ويُصلِّي مع الجماعة، وإما أن يقلبها نَفْلاً فيكمل ركعتين، وإن كان صَلَّى ركعتين، وهو في التشهد الأوَّل فإنه يتمُّه ويُسلِّم، ويحصُل على نافلة، ثم يدخل مع الجماعة، فهنا الانتقال من الفرض إلى النَّفْل مستحبٌّ من أجل تحصيل الجماعة، مع إتمام الصلاة نَفْلاً، فإن

ص: 301

خاف أن تفوته الجماعة فالأفضل أن يقطعها من أجل أن يُدرك الجماعة.

وقد يقول قائل: كيف يقطعها وقد دخل في فريضة، وقطع الفريضة حرام؟

فنقول: هو حرامٌ إذا قطعها ليترُكَهَا، أما إذا قطعها لينتقل إلى أفضل، فإنه لا يكون حراماً، بل قد يكون مأموراً به، ألم تَرَ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه الذين لم يسوقوا الهديَ أن يجعلوا حجَّهم عُمْرة

(1)

من أجل أن يكونوا متمتِّعين، فأمرهم أن يقطعوا الفريضة نهائياً؛ لأجل أن يكونوا متمتِّعين؛ لأن التَّمتُّع أفضل من الإفراد، ولهذا لو نَوى التَّحلل بالعُمْرة ليتخلَّص من الحجِّ لم يكن له ذلك، فهذا لم يقطع الفرض رغبة عنه؛ ولكنه قطع الفرض إلى ما هو أكمل وأنفع.

‌وَإِنِ انْتَقَلَ بِنِيَّةٍ مِنْ فَرْضٍ إِلى فَرْضٍ بَطَلا ...........

قوله: «وَإنِ انْتَقَلَ بِنِيَّةٍ مِنْ فَرْضٍ إلى فَرْضٍ بَطَلا» ، هذه هي الصورة الثانية من صور الانتقال من نيَّة إلى نية، وهي أن ينتقل من فرض إلى آخر.

مثال ذلك: شَرَعَ يُصلِّي العصر، ثم ذكر أنه صَلَّى الظُّهر على غير وُضُوء؛ فنوى أنها الظُّهر، فلا تصحُّ صلاة العصر، ولا صلاة الظُّهر؛ لأن الفرض الذي انتقل منه قد أبطله، والفرض الذي انتقل إليه لم ينوِه من أوِّلهِ.

(1)

رواه البخاري، كتاب الحج: باب التمتع والإقران بالحج، رقم (1566. 1567، 1568)، ومسلم، كتاب الحج: باب بيان وجوه الإحرام، رقم (1216) من حديث جابر.

ص: 302

وقوله: «بنيَّة» خرج ما لو انتقل من فرض إلى فرض بتحريمة، والتَّحريمة بالقول، ففي المثال الذي ذكرنا ذكر أنه صَلَّى الظُّهر على حَدَث فانتقل من العصر وكبَّر للظُّهر؟ نقول: بطلت صلاةُ العصر؛ لأنه قطعها وصحَّت الظُّهر؛ لأنه ابتدأها من أوَّلها، ولهذا قيَّده المؤلِّف بقوله:«بنيَّة» ، أي: لا بتحريمة.

وقوله: «بَطَلا» هذه العبارة فيها تسامح وتغليب، والصَّواب أن يُقال: بطلت الأُولى، ولم تنعقد الثَّانية؛ لأن البُطلان يكون عن انعقاد، فالبُطلان يَرِدُ على شيء صحيح فيُبطله، لكن هذا من باب التَّسامح والتغليب، كما يُقال: العُمَرَان لأبي بكر وعُمر، والقَمَران للشَّمس والقمر. والخلاف في هذا سهل.

وعُلِمَ من قول المؤلِّف: «انتقل من فرض إلى فرض» ، أنَّه إن انتقل من نَفْل إلى نَفْل لم يبطلا، وهذه الصُّورة الثالثة، لكن هذا غير مُراد على إطلاقه؛ لأنَّه إذا انتقل من نَفْل معيَّن إلى نَفْل معيَّن؛ فالحكم كما لو انتقل من فَرْض إلى فَرْض، فلو انتقل مثلاً من راتبة العشاء إلى الوِتر، فالرَّاتبة معيَّنة والوِتر معيَّنة، بطل الأول ولم ينعقد الثاني؛ لأن الانتقال من معيَّن إلى معيَّن يُبطل الأول ولا ينعقد به الثَّاني، سواء أكان فريضة أم نافلة.

وإن انتقل من فَرض معيَّن، أو من نَفْل معيَّن إلى نَفْل مطلق؛ صحَّ. وهذه الصُّورة الرابعة، لكن يُشترط في الفرض أن يكون الوقت متَّسعاً.

والتَّعليل: لأن المعيَّن اشتمل على نيَّتين: نيَّة مطلقة، ونيَّة معيَّنة، فإذا أبطل المعيَّنة بقيت المطلقة.

ص: 303

مثال ذلك: دخل يُصلِّي الوِتر ينوي صلاة الوتر، فألغى نيَّة الوِتر فتبقى نيَّة الصلاة.

فالصُّور إذاً أربع:

1 -

انتقل من مُطلق إلى مُطلق، فصحيح؛ إن تُصُوِّرَ ذلك.

2 -

انتقل من مُعيَّن إلى مُعيَّن، فلا يصحُّ.

3 -

انتقل من مُطلق إلى معيَّن، فلا يصحُّ.

4 -

انتقل من مُعيَّن إلى مُطلق؛ فصحيحٌ.

‌وَيَجِبُ نِيَّةُ الإِمَامَةِ والائتِمَام .........

قوله: «وَيَجِبُ نيَّةُ الإمَامَةِ والائتِمَام» ، الجماعة وصفٌ زائد على أصل الصَّلاة، لأنها اجتماع على هذه الصَّلاة، ولهذا نقول: الجماعة تجب للصَّلاة؛ لا في الصَّلاة، فهل تُشترط نيَّة هذا الوصف، أو تكفي الموافقة في الأفعال؟ هذا ما سيبحثه المؤلِّف بقوله:«يجب نيَّة الإمامة والائتمام» ، يعني: تجب نيَّة هذا الوصف؛ فتجب نيَّة الإمامة على الإمام، ونيَّة الائتمام على المأموم، أي: يجب أن ينوي الإمامُ الإمامة، وينوي المأمومُ الائتمامَ، وذلك لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم:«إنَّما الأعمالُ بالنيَّات، وإنما لكلِّ امرئٍ ما نوى»

(1)

.

ولا شكَّ أن هذا شرط لحصول ثواب الجماعة لهما، فلا ينال ثواب الجماعة إلا بنيَّة الإمام الإمامةَ، ونيَّة المأموم الائتمامَ، لكن هل هو شرط لصحَّة الصلاة؟

كلام المؤلِّف صريحٌ في أنَّه شرط لصحَّة الصَّلاة، وأن

(1)

متفق عليه، وقد تقدم تخريجه (1/ 194).

ص: 304

الإمام إذا لم ينوِ الإمامةَ أو المأموم لم ينوِ الائتمام فصلاتُهما باطلة، لكن في المسألة خلافٌ

(1)

يتبيَّن في الصُّور الآتية:

الصُّورة الأولى: أن ينويَ الإمامُ أنه مأموم، والمأموم أنه إمام، فهذه لا تصحُّ؛ للتضاد؛ ولأنَّ عمل الإمام غير عمل المأموم.

الصُّورة الثانية: أن ينويَ كلُّ واحد منهما أنه إمام للآخر، وهذه أيضاً لا تصحُّ؛ للتضاد؛ لأنه لا يمكن أن يكون الإمام في نفس الوقت مأموماً.

الصُّورة الثالثة: أن ينويَ كلُّ واحد منهما أنه مأموم للآخر، فهذه أيضاً لا تصحُّ؛ للتضاد، ولأنَّه إذا نوى كلٌّ منهما أنه مأموم للآخر فأين الإمام.

الصُّورة الرابعة: أن ينويَ المأمومُ الائتمامَ، ولا ينويَ الإمامُ الإمامة فلا تصحّ؛ صلاة المؤتمِّ وحدَه، وتصحُّ صلاة الأول.

مثاله: أن يأتي شخصٌ إلى إنسان يُصلِّي فيقتدي به على أنه إمامه، والأول لم ينوِ أنه إمام؛ فتصحُّ صلاة الأوَّل دون الثَّاني؛ لأنَّه نوى الائتمام بمن لم يكن إماماً له. هذا المذهب، وهو من المفردات كما في «الإنصاف»

(2)

.

والقول الثاني في المسألة: أنَّه يصحُّ أن يأتمَّ الإنسان بشخص لم ينوِ الإمامة (556).

(1)

انظر: «المغني» (3/ 73 ـ 76)، «الإنصاف» (3/ 374 ـ 380).

(2)

انظر: «الإنصاف» (3/ 374، 375).

ص: 305

واستدلَّ أصحاب هذا القول: بأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قام يُصلِّي في رمضان ذات ليلة فاجتمع إليه ناس فصلُّوا معه، ولم يكن قد عَلِمَ بهم، ثم صَلَّى في الثَّانية والثَّالثة وعَلِمَ بهم، ولكنه تأخَّر في الرَّابعة خوفاً من أن تُفرض عليهم

(1)

، وهذا قول الإمام مالك

(2)

وهو أصحُّ.

ولأن المقصود هو المتابعة، وقد حصلت، وفي هذه الحال يكون للمأموم ثواب الجماعة، ولا يكون للإمام؛ لأن المأموم نوى فكان له ما نوى، والإمام لم ينوِ فلا يحصُل له ما لم ينوه.

الصُّورة الخامسة: أن ينويَ الإمامُ دون المأموم، كرَجُلٍ جاء إلى جَنْبِ رَجُل وكبَّر، فظنَّ الأول أنه يريد أن يكون مأموماً به فنوى الإمامة، وهذا الرَّجُل لم ينوِ الائتمام، فهنا لا يحصُل ثواب الجماعة لا للإمام ولا للمأموم؛ لأنَّه ليس هناك جماعة، فالمأموم لم يأتمَّ بالإمام ولا اقتدى به، والإمام نوى الإمامة لكن بغير أحد، فلا يحصُل ثواب الجماعة من غير أن يكون هناك جماعة.

ولو قال قائلٌ بحصول الثواب للإمام في هذه الصُّورة لم يكن بعيداً؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «إنَّما الأعمالُ بالنيَّات، وإنما لكلِّ امرئ ما نوى»

(3)

.

(1)

رواه البخاري، كتاب الجمعة: باب من قال في الخطبة بعد الثناء. أما بعد، رقم (924)، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين: باب الترغيب في قيام رمضان، رقم (761) عن عائشة رضي الله عنها.

(2)

انظر: «مواهب الجليل» (1/ 376، 377).

(3)

متفق عليه، وقد تقدم تخريجه (1/ 194).

ص: 306

وكلام المؤلِّف يقتضي أنه لا يصحّ شيء من هذه الصُّور الخمس، وقد سبق بيان الصَّحيح في ذلك.

الصُّورة السادسة: أن يتابعه دُون نيَّة، وهذه لا يحصُل بها ثواب الجماعة لمن لم ينوِها؛ وصورتها ممكنة فيما لو أنَّ شخصاً صَلَّى وراء إمام لا تصحُّ صلاتُه، لكن تابعه حياءً دون نيَّة أنه مأموم، أو يُحْدِث وهو مأموم، ويخجل أن ينطلق ليتوضَّأ فيتابع مع النَّاس، وهو لم ينوِ الصَّلاة لأنه محدث، وهذه تقع مع أن هذا لا يجوز، والواجب أن ينصرف فيتوضَّأ ثم يستأنف الصَّلاة.

ثم ذكر المصنف رحمه الله أنواع الانتقالات في النيَّة.

‌وَإِنْ نَوَى المُنْفَردُ الائْتِمَامَ لَمْ تَصِحَّ ........

النوع الأول: ما ذكره في قوله: «وَإنْ نَوَى المُنْفَردُ الائْتِمَامَ لَمْ تَصِحَّ» ، يعني: إذا انتقل من انفراد إلى ائتمام لا تصحُّ الصلاة.

مثاله: شخصٌ ابتدأ صلاته منفرداً؛ ثم حضرت جماعة فصلُّوا جماعة؛ فانتقل من انفراده إلى الائتمام بالإمام الذي حضر، فإن صلاتَه لا تصحُّ، لأنه نوى الائتمام في أثناء الصَّلاة فتبعَّضت النيَّة؛ حيث كان في أول الأمر منفرداً ثم كان مؤتمّاً، فلما تبعّضت النيَّة بطلت الصلاة، كانتقاله من فَرْض إلى فَرْض، وهذا هو المذهب.

والقول الثاني: وهو رواية عن أحمد: أنه يصحُّ أن ينويَ المنفرد الائتمام

(1)

؛ لأن الاختلاف هنا اختلاف في صفة من صفات النيَّة، فقد كان بالأوَّل منفرداً ثم صار مؤتمّاً، وليس تغييراً لنفس النيَّة فكان جائزاً، وهذا هو الصَّحيح.

(1)

انظر: «الإنصاف» (3/ 376).

ص: 307

قالوا: والدليل على هذا: أنه ثبت في السُّنَّة صحَّة انتقال الإنسان من انفراد إلى إمامة كما سيأتي

(1)

ـ إن شاء الله ـ فدلَّ هذا على أن مثل هذا التَّغيير لا يؤثِّر، فكما يصحُّ الانتقال من انفرادٍ إلى إمامة؛ يصحُّ الانتقال من انفرادٍ إلى ائتمام ولا فرق، غاية ما هنالك أنَّه في الصُّورة الأُولى صار إماماً، وفي الصُّورة الثانية صار مؤتمّاً.

فإذا قال قائل: على القول بالصِّحَّة، إذا كان قد صَلَّى بعضَ الصلاة، وحضر هؤلاء لأداء الجماعة مثلاً في صلاة الظُّهر، وكان قد صَلَّى ركعتين قبل حضورهم، فلما حضروا دخل معهم، فسوف تتمُّ صلاته إذا صَلُّوا ركعتين، فماذا يصنع؟

فالجواب: يجلس ولا يتابع الإمام؛ لأنه لو تابع الإمام للزم أن يُصلِّي ستًّا، وهذا لا يجوز، فيجلس وينتظر الإمام ويُسلِّم معه، وإن شاء نوى الانفراد وسلَّم، فهو بالخيار.

النوع الثاني: الانتقال من انفراد إلى إمامة، وقد ذكره بقوله:«كنيَّة إمامته فرضاً» ، أي: كما لا يصحُّ أن ينتقل المنفرد إلى إمامة في صلاة الفرض.

مثاله: رَجُلٌ ابتدأ الصَّلاة منفرداً، ثم حضر شخصٌ أو أكثر فقالوا: صلِّ بنا، فنوى أن يكون إماماً لهم، فقد انتقل من انفراد إلى إمامة، فلا يصحُّ؛ لأنه انتقل من نيَّة إلى نيَّة، فتبطل الصَّلاة كما لو انتقل من فَرْض إلى فَرْض

(1)

انظر: ص (309).

ص: 308

‌كَنِيَّةِ إِمَامَتِه فَرْضاً ..........

وعُلِمَ من قول المؤلِّف: «كنيَّة إمامته فرضاً» ، أنه لو انتقل المنفردُ إلى الإمامة في نَفْل فإن صلاته تصحُّ.

والدَّليل على ذلك: أن ابن عباس رضي الله عنهما باتَ عند النبيِّ صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فقام النبيُّ صلى الله عليه وسلم من الليل، فقام ابنُ عباس فوقف عن يساره، فأخذَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم برأسِهِ من ورائه فجعله عن يمينه

(1)

. فانتقل النبيُّ صلى الله عليه وسلم هنا من انفراد إلى إمامة في نَفْل.

وعلى هذا؛ فيكون في انتقال المنفرد من انفراد إلى إمامة في النَّفْلِ نصٌّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

والقول الثاني في المسألة: أنه يصحُّ أن ينتقل من انفراد إلى إمامة في الفرض والنَّفْل

(2)

.

واستدلَّ هؤلاء: بأن ما ثبت في النَّفْل ثبت في الفرض إلا بدليل، وهذا ثابتٌ في النَّفْل فيثبت في الفرض.

والدَّليل على أن ما ثبت في النَّفْل ثبت في الفرض إلا بدليل: أن الصَّحابة رضي الله عنهم الذين رَوَوْا أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يُصلِّي على راحلته في السَّفر حيثما توجَّهت به، قالوا: غير أنه لا يُصلِّي عليها الفريضة

(3)

، فدلَّ هذا على أنه من المعلوم عندهم أن ما ثَبَتَ في النَّفل ثَبَتَ في الفرض، ولولا ذلك لم يكن لاستثناء الفريضة وَجْهٌ.

(1)

رواه البخاري، كتاب الأذان: باب إذا قام الرجل عن يسار الإمام، رقم (698)، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين: باب الدعاء في صلاة الليل، رقم (763) عن ابن عباس رضي الله عنهما.

(2)

انظر: «الإنصاف» (3/ 379).

(3)

متفق عليه، وقد تقدم تخريجه ص (257).

ص: 309

القول الثَّالث في المسألة: أنه لا يصحُّ أن ينتقل من انفراد إلى إمامة؛ لا في الفرض ولا في النَّفْل، كما لا يصحُّ أن ينتقل من انفراد إلى ائتمام لا في الفرض ولا في النَّفْل، وهذا هو المذهب

(1)

. فيكون قول المؤلِّف هنا وسطاً بين القولين.

ولكن الصَّحيح: أنه يصحُّ في الفرض والنَّفْل، أما النَّفْل فقد وَرَدَ به النَّصُّ كما سبق، وأما الفرض فلأن ما ثبت في النَّفْل ثبت في الفرض إلا بدليل.

فإذا قال قائل: بماذا يجيب القائلون بأنه لا يصحُّ في الفرض ولا في النَّفْل عن حديث ابن عباس؟

فالجواب: يُجيبون عنه بأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى منفرداً، وهو يغلب على ظَنِّه أن ابن عباس سيُصلِّي معه، وبَنَوا على ذلك أنه إذا انتقل المنفرد من انفراد إلى إمامة، وكان قد ظَنَّ قبل أن يدخل الصَّلاة أنه سيأتي معه شخص يكون إماماً له، فإن ذلك صحيح، قالوا: لأنه لما ظَنَّ أنه سيحضر معه شخص؛ فقد نوى الإمامة في ثاني الحال من أوَّل الصلاة فلا يضرُّ

(2)

.

والردُّ عليهم من وجهين:

الوجه الأول: يبعد أن يظنَّ الرَّسول عليه الصلاة والسلام أن ابن عباس سيُصلِّي معه وهو غلام صغير نائم.

الثاني: أننا نقول: حتى وإن لم يكن ذلك بعيداً، فمن الذي يقول إنَّ الرَّسول صلى الله عليه وسلم ظن ذلك، فهذا يحتاج إلى دليل؛ لأن

(1)

انظر: «الإنصاف» (3/ 377)، «الإقناع» (1/ 164).

(2)

انظر: «كشاف القناع» (1/ 319، 320).

ص: 310

الأصل عدم ظَنِّه، فيبقى حديث ابن عباس محكماً سالماً من المعارضة، ويُقاس على النَّفْلِ الفرضُ قياساً لا شُبهة فيه.

النوع الثالث من الانتقالات: ما ذكره المؤلِّف بقوله:

‌وَإِنْ انْفَرَدَ مُؤْتَمٌّ بلا عُذْرٍ بَطَلتْ .........

«وَإِنْ انْفَرَدَ مُؤْتَمٌّ بلا عُذْرٍ بَطَلتْ» ، وهذا يُعَبَّر عنه بالانتقال من ائتمام إلى انفراد، وفي هذا تفصيل: إن كان هناك عُذْر جاز، وإن لم يكن عُذْر لم يَجُزْ.

مثال ذلك: دخل المأموم مع الإمام في الصَّلاة؛ ثم طرأ عليه أن ينفرد؛ فانفرد وأتمَّ صلاته منفرداً، فنقول: إذا كان لعُذر فصحيح، وإن كان لغير عُذْرٍ فغير صحيح.

مثال العُذْر: تطويل الإمام تطويلاً زائداً على السُّنَّة، فإنه يجوز للمأموم أن ينفرد، ودليل ذلك: قصَّة الرَّجُل الذي صَلَّى مع معاذ رضي الله عنه وكان معاذ يُصلِّي مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم العشاءَ، ثم يرجع إلى قومه فيُصلِّي بهم تلك الصَّلاة، فدخل ذات ليلة في الصَّلاة فابتدأ سُورةً طويلة «البقرة» فانفرد رَجُلٌ وصَلَّى وحده، فلما عَلِمَ به معاذ رضي الله عنه قال: إنه قد نافق، يعني: حيث خرج عن جماعة المسلمين، ولكن الرَّجُل شكا ذلك إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم لمعاذ:«أتريدُ أنْ تكون فتَّاناً يا مُعَاذُ»

(1)

ولم يوبِّخِ الرَّجُلَ، فَدلَّ هذا على جواز انفراد المأموم؛ لتطويل الإمام، لكن بشرط أن يكون تطويلاً خارجاً عن السُّنَّة؛ لا خارجاً عن العادة.

(1)

رواه البخاري، كتاب الأدب: باب من لم يرَ إكفار من قال ذلك متأولاً، رقم (6106)، ومسلم، كتاب الصلاة: باب القراءة في العشاء، رقم (465) عن جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما.

ص: 311

ولذلك لو أمَّ رَجُلٌ جماعةً؛ وكان إمامُهم الرَّاتب يُصلِّي بهم بقراءة قصيرة ورُكوع وسُجود خفيفين؛ فصلَّى بهم هذا بقراءة ورُكوعٍ وسُجودٍ على مقتضى السُّنَّة، فإنه لا يجوز لأحد أن ينفرد؛ لأن هذا ليس بعذر.

ومن الأعذار أيضاً: أن يطرأ على الإنسان قَيْئٌ في أثناء الصَّلاة؛ لا يستطيع أن يبقى حتى يكمل الإمام؛ فيخفِّف في الصَّلاة وينصرف.

ومن الأعذار أيضاً: أن يطرأ على الإنسان غازاتٌ «رياح في بطنه» يَشُقُّ عليه أن يبقى مع إمامه فينفرد ويخفِّف وينصرف.

ومن الأعذار أيضاً: أن يطرأ عليه احتباسُ البول أو الغائط فيُحصر ببول أو غائط.

لكن إذا قُدِّرَ أنه لا يستفيد من مفارقة الإمام شيئاً؛ لأن الإمام يخفِّف، ولو خفَّف أكثر من تخفيف الإمام لم تحصُل الطُّمأنينة فلا يجوز أن ينفردَ؛ لأنه لا يستفيد شيئاً بهذا الانفراد.

ومن الأعذار أيضاً: أن تكون صلاة المأموم أقلَّ من صلاة الإمام، مثل: أن يُصلِّي المغرب خلف من يصلِّي العشاء على القول بالجواز؛ فإنه في هذه الحال له أن ينفرد ويقرأ التشهد ويُسَلِّمَ وينصرف، أو يدخل مع الإمام إذا كان يريد أن يجمع مع الإمام فيما بقي من صلاة العشاء، ثم يُتمُّ بعد سلامه. وهذا القولُ رواية عن الإمام أحمد

(1)

رحمه الله.

(1)

انظر: «الإنصاف» (4/ 411 ـ 413).

ص: 312

وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية

(1)

رحمه الله وهو الحقُّ، ونوعُ العُذر هنا عُذر شرعيّ؛ لأنَّه لو قام مع الإمام في الرَّابعة لبطلت صلاتُه.

وإن انفرد بلا عُذر؛ فصريح كلام المؤلِّف أنها تبطل، وهو المذهب، والقول الثاني: أنها لا تبطل

(2)

، لكن إن قلنا به فيجب أن يقيَّد بما إذا أدرك الجماعة بأن يكون قد صَلَّى مع الإمام رَكعةً فأكثر، أما إذا لم يكن أدرك الجماعة فإنه لا يَحِلُّ له الانفراد؛ لأنه يُفضي إلى ترك الجماعة بلا عُذر، لكن لو صَلَّى ركعةً، ثم أراد أن ينفرد فإنه حينئذ يجوز له، لكن القول بجواز الانفراد بلا عُذر في النَّفس منه شيء، أما مع العُذر الحسِّي أو الشرعي فلا شَكَّ في جوازه.

مسألة: هل من العُذر أن يكون المأموم مسافراً والإمام مقيماً، فينفرد المأموم إذا صَلَّى ركعتين ثم يُسلِّم؟

الجواب: لا، لأن المأموم المسافر إذا اقتدى بإمام مقيم وجب عليه الإتمام؛ لقول النبيِّ عليه الصلاة والسلام:«إنما جُعِلَ الإمامُ ليُؤتَمَّ به»

(3)

، وقوله:«ما أدركتم فصلُّوا، وما فاتكم فأتمُّوا»

(4)

.

(1)

انظر: «الاختيارات» ص (68).

(2)

انظر: «الإنصاف» (3/ 382).

(3)

رواه البخاري، كتاب الأذان: باب إنما جعل الإمام ليؤتم به، رقم (689) ومسلم، كتاب الصلاة: باب ائتمام المأموم، رقم (411) عن أنس رضي الله عنه.

(4)

رواه البخاري، كتاب الأذان: باب لا يسعى إلى الصلاة، رقم (636)، ومسلم، كتاب المساجد: باب استحباب إتيان الصلاة بوقار وسكينة، رقم (602) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 313

وسُئل ابن عباس رضي الله عنهما: ما بالُ المسافر يُصلِّي ركعتين إذا انفردَ، وأربعاً إذا ائتمَّ بمقيم؟ فقال:«تلك السُّنَّة»

(1)

.

مسألة: إذا انفردَ المأمومُ لِعُذر؛ ثم زال العُذرُ، فهل له أنْ يرجعَ مع الإمام أو يستمرَّ على انفراده؟ قال الفقهاء: يجوزُ أنْ يرجعَ مع الإمام، وأن يستمرَّ على انفراده

(2)

.

فإذا قدرنا أنه انفردَ وصَلَّى ركعةً؛ ثم رجع مع إمامه، والإمامُ لم يزل في ركعته التي انفرد عنه فيها، فسيكون الإمام ناقصاً عنه بركعة. فإذا قام الإمام ليكمل صلاته فله أن يجلسَ وينتظره، أو ينفردَ ويتمَّ. وهذا يَرِدُ أحياناً فيما إذا سَلَّم الإمام قبل تمام صَلاتِهِ، ثم قام المأمومُ المسبوق ليقضيَ ما فاته، ثم قيل للإمام: إنه بقي عليه رَكعة، فقامَ الإمامُ ليُكملَ هذه الرَّكعة. فنقول: إنَّ المأموم انفردَ الآن بمقتضى الدَّليل الشَّرعيِّ، فهو معذورٌ في هذا الانفراد، فإذا عادَ الإمامُ لإكمال صلاته فهو بالخِيار، إنْ شاء استمرَّ في صلاته، وإنْ شاء رجعَ مع الإمام.

النوع الرابع: الانتقال من إمامة إلى انفراد، وهذا لم يذكره المؤلِّف، وله صُورتان:

الأُولى: أنْ تَبْطُلَ صلاة المأموم، بأن تكون الجماعة من إمام ومأموم؛ فتَبْطُل صلاة المأموم، فهنا يتعيَّن أن ينتقل من إمامة إلى انفراد؛ لأن مأمومه بطلت صلاتُه.

(1)

رواه أحمد (1/ 216). قال ابن حجر: «أصله في مسلم والنسائي» .

انظر: «صحيح مسلم» رقم (688)، «التلخيص الحبير» رقم (612).

(2)

انظر: «الإنصاف» (3/ 382).

ص: 314

الصُّورة الثانية: أنْ ينفردَ المأموم عن الإمام لعُذر؛ فهنا ينتقل من إمامة إلى انفراد؛ بأن يكون للمأموم عُذر شرعيٌّ أو حسيٌّ؛ فينفرد عن إمامه، ويبقى الإمامُ وحدَه، فهنا يكون قد انتقل من إمامة إلى انفراد.

النوع الخامس: الانتقالُ من إمامة إلى ائتمام، وقد ذكره في قوله:«وإِنْ أَحْرَمَ إِمَامُ الحَيِّ بِمَنْ أَحْرَمَ بِهِمْ نَائِبُهُ وَعَادَ النَّائِبُ مُؤْتَمّاً صَحَّ» ، إمام الحيِّ هو الإمام الرَّاتب.

وصورة ما ذكر المؤلِّف: أحرمَ شخصٌ بقوم نائباً عن إمام الحَيِّ الذي تخلَّف، ثم حضر إمامُ الحيِّ، فتقدَّم ليُكمل بالنَّاس صلاة الجماعة، فنائبه يتأخَّر إنْ وجد مكاناً في الصَّفِّ، وإلا بقي عن يمين الإمام، فهنا ينتقل الإمام النَّائب من إمامة إلى ائتمام، وهذا جائز.

ودليله: ما وقع لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين أمرَ أبا بكر أن يُصلِّيَ بالنَّاس؛ فوجدَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم خِفَّةً؛ فخرج إلى النَّاس فصَلَّى بهم، فجلس عن يسار أبي بكر؛ وأبو بكر عن يمينه، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم يكبِّر، ولكن صوته خفيّ؛ فكان يكبِّر، وأبو بكر يكبِّر بتكبيره؛ ليُسمع النَّاسَ

(1)

. فهنا انتقل أبو بكر من إمامة إلى ائتمام، والمأمومون انتقلوا من إمام إلى إمام آخر، ولكنهم ما زالوا مؤتمِّين.

(1)

رواه البخاري، كتاب الأذان: باب إنما جُعل الإمام ليؤتم به، رقم (687)، ومسلم، كتاب الصلاة: باب استخلاف الإمام

، رقم (418) عن عائشة رضي الله عنها.

ص: 315

‌وإِنْ أَحْرَمَ إِمَامُ الحَيِّ بِمَنْ أَحْرَمَ بِهِمْ نَائِبُهُ وَعَادَ النَّائِبُ مُؤْتَمّاً صَحَّ .........

وقول المؤلِّف: «وإن أحرم إمامُ الحيِّ بمَنْ أحرم بهم نائبُه» ظاهره: أنه لو وقع ذلك لغير إمام الحيِّ لم يصحَّ؛ لأن إمام الحيِّ هو الأصل في الإمامة؛ فإمامته رجوع إلى الأصل بخلاف غيره، ولكن الظاهر أنه لا فرق إذا كان للإمام الثاني مزيَّة حُسْن القراءة، أو زيادة في العِلْم؛ أو العبادة، فإن لم يكن له مزيَّة لم يصحَّ.

النوع السَّادس: الانتقال من ائتمام إلى إمامة، أي: كان مؤتمّاً ثم صار إماماً، وله صُور منها.

الصُّورة الأُولى: أن يُنيبه الإمام في أثناء الصَّلاة؛ بأن يُحسَّ الإمام أن صلاته ستبطل؛ لكونه أحسَّ بانتقال البول مثلاً، وعرف أنه سيخرج، فقدَّم شخصاً يُكمل بهم الصلاة، فقد عاد المؤتمُّ إماماً، وهذا جائز.

الصُّورة الثَّانية: دخل اثنان مسبوقان، فقال أحدُهما للآخر: إذا سلَّم الإمامُ فأنا إمامُك؛ فقال: لا بأس، فلما سلَّمَ الإمامُ صار أحد الاثنين إماماً للآخر، فقد انتقل هذا الشَّخص من ائتمام إلى إمامة، وانتقل الثَّاني من إمامة شخص إلى إمامة شخص آخر.

فالمذهب: أن هذا جائز؛ وأنه لا بأس أن يتَّفق اثنان دخلا وهما مسبوقان ببعض الصَّلاة على أن يكون أحدُهما إماماً للآخر، وقالوا: إن الانتقال من إمام إلى إمام آخر قد ثبتت به السُّنَّة كما في قضيَّةِ أبي بكر مع الرَّسول عليه الصلاة والسلام.

وقال بعض أصحاب الإمام أحمد: إن هذا لا يجوز

(1)

؛

(1)

انظر: «الإنصاف» (3/ 389، 390).

ص: 316

لأن هذا تضمَّن انتقالاً من إمام إلى إمام، وانتقالاً من ائتمام إلى إمامة بلا عُذر، ولا يمكن أن ينتقل من الأدنى إلى الأعلى، فكون الإنسان إماماً أعلى من كونه مأموماً.

قالوا: ولأنَّ هذا لم يكن معروفاً في عهد السَّلف، فلم يكن الصَّحابة إذا فاتهم شيء من الصَّلاة يتَّفقون أن يتقدَّم بهم أحدُهم؛ ليكون إماماً لهم، ولو كان هذا من الخير لسبقونا إليه.

لكن القائلين بجوازه لا يقولون: إنه مطلوب من المسبوقين أن يتَّفِقَا على أن يكون أحدهما إماماً. بل يقولون: هذا إذا فُعل فهو جائز، وفرق بين أن يُقال: إنه جائز وبين أن يُقال بأنه مستحبٌّ ومشروع، فلا نقول بمشروعيَّته ولا نندب النَّاس إذا دخلوا؛ وقد فاتهم شيء من الصَّلاة؛ أن يقول أحدُهم: إني إمامُكم. لكن لو فعلوا ذلك فلا نقول: إن صلاتَكم باطلة. وهذا القول أصحُّ، أي: أنه جائز، ولكن لا ينبغي؛ لأن ذلك لم يكن معروفاً عند السَّلف، وما لم يكن معروفاً عند السَّلف فإن الأفضل تركه؛ لأننا نعلم أنهم أسبق منَّا إلى الخير، ولو كان خيراً لسبقونا إليه.

تَتِمَّة: تلخيص ما سبق من أنواع الانتقالات كما يلي:

الأول: الانتقال من انفراد إلى ائتمام، وفي الصِّحَّة روايتان عن الإمام أحمد، والمذهب عدم الصِّحَّة

(1)

.

الثاني: الانتقال من انفراد إلى إمامة، وفي صِحَّة ذلك أقوال، أحدها الصِّحَّة في النَّفْلِ دون الفرض

(2)

.

(1)

انظر: ص (307 ـ 309).

(2)

انظر: ص (309).

ص: 317

الثالث: الانتقال من ائتمام إلى انفراد، فإن كان لعُذر جاز، وإن كان لغير عُذر ففيه عن أحمد روايتان، والمذهب عدم الصِّحَّة

(1)

.

الرابع: الانتقال من إمامة إلى انفراد، وله صُورتان صحيحتان

(2)

.

الخامس: الانتقال من إمامة إلى ائتمام، وله صُورة صحيحة

(3)

.

السادس: الانتقال من ائتمام إلى إمامة، وله صُورتان جائزتان على خلاف في الثانية، وتفاصيل ذلك وأدلَّته مذكورةٌ في الأصل

(4)

.

‌وتَبْطُلُ صَلَاةُ مَأْمُومٍ ببُطْلَانِ صَلَاةِ إِمَامِهِ فَلا اسْتِخْلَافٍ.

قوله: «وتَبْطُلُ صَلَاةُ مَأْمُومٍ بِبُطْلَانِ صَلَاةِ إِمَامِهِ فَلا اسْتِخْلَافٍ» .

صلاةُ المأموم مرتبطة بصلاة الإمام، ولهذا يتحمَّل الإمام عن المأموم أشياء كثيرة منها: التَّشهُّد الأوَّل إذا قام الإمام عنه ناسياً؛ فإن المأموم يلزمه أن يتابع إمامه؛ لحديث عبد الله بن بُحَيْنَة رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم صلَّى بهم الظُّهر؛ فقام من الرَّكعتين فلم يجلس، فقام النَّاس معه

(5)

.

ومنها: الجلوس الذي يُسمَّى جلسة الاستراحة، فإن الإمام

(1)

انظر: ص (311).

(2)

انظر: ص (315).

(3)

انظر: ص (315).

(4)

انظر: ص (316).

(5)

رواه البخاري، كتاب السهو: باب ما جاء في السهو إذا قام من ركعتي الفريضة، رقم (1224، 12252)، ومسلم، كتاب المساجد: باب السهو في الصلاة، رقم (570).

ص: 318

يتحمَّلها عن المأموم، فإذا كان الإمامُ لا يجلس فإن المشروع في حَقِّ المأموم ألا يجلس؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم:«إنما جُعِلَ الإمامُ ليؤتمَّ به»

(1)

، ولأن المأموم يجلس في ثانية الإمام، وهي له أُولى من أجل متابعة الإمام، ولأن المأموم يدع الجلوس للتشهُّد الأوَّل وهو واجب من أجل متابعة الإمام، ولأن المأموم يجلس في ثانية الإمام، وهي له أُولى من أجل متابعة الإمام، يعني: لو دخل في الرَّكعة الثَّانية من الظُّهر أو العصر جلس في الرَّكعة الأُولى التي هي ثانية الإمام، ولأن المأموم يدع التَّشهُّد الأوَّل في ثانيته التي هي للإمام ثالثة، كل ذلك من أجل متابعة الإمام، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه إذا كان الإمام لا يجلس للاستراحة فإن الأَوْلَى للمأموم ألاَّ يجلس؛ لتحقيق المتابعة

(2)

، كما أنه إذا كان الإمام يجلس للاستراحة فالأَوْلَى للمأموم أن يجلس، بل يجب عليه؛ لئلا يسبق الإمام، وإن كان هو لا يرى مشروعيَّة الجلوس من أجل متابعة الإمام؛ لأن الشَّارع يَحْرِصُ على أن يتَّفقَ الإمامُ والمأموم.

أما الشيء الذي لا يقتضي التَّأخُّر عن الإمام ولا التَّقدُّم عليه، فهذا يأخذ المأموم بما يراه.

مثاله: لو كان الإمام لا يرى رفع اليدين عند التَّكبير للرُّكوع، والرَّفع منه، والقيام من التَّشهد الأوَّل، والمأموم يرى أن ذلك مستحبٌّ، فإنه يفعل ذلك؛ لأنه لا يستلزم تأخراً عن الإمام

(1)

تقدم تخريجه ص (313).

(2)

انظر: «مجموع الفتاوى» (22/ 451، 452)، (23/ 352، 377).

ص: 319

ولا تقدُّماً عليه. ولهذا قال الرَّسول صلى الله عليه وسلم: «إذا كَبَّر فكبِّروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا سجد فاسجدوا»

(1)

، و «الفاء» تدلُّ على التَّرتيب والتَّعقيب، وكذلك أيضاً: لو كان الإمام يَتورَّكُ في كلِّ تشهُّد يعقبه سَلام حتى في الثُّنائيَّة، والمأموم لا يرى أنه يَتورَّك إلا في تشهُّد ثانٍ فيما يُشرع فيه تشهُّدان، فإنه هنا له ألا يتورَّك مع إمامه في الثُّنائيَّة؛ لأن هذا لا يؤدِّي إلى تخلُّف ولا سبق.

ويتحمَّل الإمام عن المأموم سُجود السَّهو؛ بشرط أن يدخل المأموم مع الإمام من أوَّل الصلاة، فلو قُدِّرَ أن المأموم جلس للتَّشهُّد الأوَّل، وظَنَّ أنه بين السَّجدتين، فصار يقول:«رَبِّ اغفرْ لي وارحمني» فقام مع إمامه، فهنا يتحمَّل عنه الإمامُ سجود السَّهو؛ إن كان لم يَفُتْهُ شيء من الصَّلاة؛ وذلك لأنه لو سجد في هذه الحال لأدَّى إلى مخالفة الإمام، أما لو فاته شيء من الصلاة فإن الإمام لا يتحمَّل عنه.

ومن ذلك: أن الإمام يتحمَّل عن المأموم قراءة غير الفاتحة في الصَّلاة التي تُشرع فيها قراءة زائدة على الفاتحة في الجهرية، مثل: لو قرأ الإمام في الجهرية الفاتحة، وقرأ المأموم الفاتحة، ثم قرأ آيات أُخرى فإنه يتحمَّل ذلك، بمعنى: أنه لا يُشرع للمأموم أن يقرأ شيئاً من الآيات سوى الفاتحة.

ومنها السُّترة؛ فإن سُترة الإمام سُترة للمأموم.

(1)

رواه البخاري، كتاب الأذان: باب إيجاب التكبير وافتتاح الصلاة، رقم (733)، ومسلم، كتاب الصلاة: باب ائتمام المأموم بالإمام، رقم (411) عن أنس بن مالك رضي الله عنه.

ص: 320

وبناءً على هذا الارتباطِ بين صلاة الإمام والمأموم قال الأصحابُ: إنَّ صلاة المأموم تبطل بصلاة الإمام، أي: إذا حَدَثَ للإمام ما يُبطل صلاته بطلت صلاتُه وصلاة المأمومين، وإن لم يوجد منهم مبطل، ولا يُستثنى من ذلك شيء، إلا إذا صَلَّى الإمام مُحْدثاً ونسيَ، أو جهل ولم يعلم بالحَدَث، أو لم يذكر الحدث إلا بعد السَّلام، فإنه في هذه الحال يلزم الإمام إعادة الصلاة، ولا يلزم المأموم إعادتها حتى على المذهب

(1)

.

وعلى هذا؛ فيقول المؤلِّف: «فلا استخلاف» ، أي: فلا يستخلف الإمام من يتمُّ بهم الصلاة إذا بطلت صلاته.

ومثال ذلك: إمام في أثناء صلاته سَبَقَه الحدَثُ، ومعنى سَبَقَه الحَدَث: أنه أحدث ببول أو ريح أو غير ذلك من الأحداث، فإن صلاته تبطل، وتبطل صلاة المأمومين فيلزمهم إعادة الصَّلاة، فإن أحسَّ بالحدث واستخلف قبل أن تبطل صلاتُه، فهذا جائز ولا تبطل صلاة المأمومين؛ لأنه استخلف بهم من يُتمُّ الصَّلاة قبل أن تبطل صلاتُه، فلمَّا استخلف بهم من يُتمُّ الصَّلاة قبل بطلان الصَّلاة صار مستخلفاً لهم وصلاتُه صحيحة، والإمام النَّائب شَرَعَ بهم وهم في صلاة صحيحة فيتمُّها بهم، فيكون قول المؤلِّف:«فلا استخلاف» ، أي: بعد بطلان الصَّلاة.

ومن ذلك: إذا شَرَعَ في الصَّلاة ثم ذكر في أثنائها أنه ليس على وُضوُء فإن صلاتَه غير منعقدة؛ لأنه محدث، والمحدث لا تنعقد صلاته، فلا يستخلف، بل يستأنف المأمومون صلاتهم؛

(1)

انظر: «الإنصاف» (3/ 383).

ص: 321

لأنه تبيَّن في أثناء الصلاة أن صلاته باطلة، أي: غير منعقدة، وإذا بطلت صلاةُ الإمام بطلت صلاة المأموم؛ لارتباط صلاة المأموم بصلاة الإمام؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:«إنما جُعل الإمامُ ليؤتمَّ به»

(1)

، ولا يمكن أن يبني خليفتُه على صلاة باطلة، وهذا الذي قاله المؤلِّف هو المشهور من المذهب

(2)

.

والقول الثاني في المذهب الذي اختاره شيخ الإسلام وجماعة من أهل العلم: أنه يستخلف، وأن صلاة المأموم لا تبطل بصلاة الإمام (589)، بل إذا بطلت صلاةُ الإمام بطلت صلاته فقط، وبقيت صلاةُ المأموم صحيحة، وهذا القول هو الصَّحيح.

ووجه ذلك: أن الأصل صِحَّة صلاة المأموم، ولا يمكن أن نُبْطِلها إلا بدليل صحيح، فالإمام بطلت صلاتُه بمقتضى الدَّليل الصَّحيح، لكن المأموم دخل بطاعة الله، وصَلَّى بأمر الله، فلا يمكن أن نُفْسد صلاته إلا بأمر الله. فأين الدَّليل من كتاب الله، أو سُنَّة رسوله، أو إجماع المسلمين على أن صلاة المأموم تبطل بصلاة الإمام؟ والارتباطات المذكورة لا تستلزم أن تبطل صلاة المأموم ببطلان صلاة الإمام.

واستدلَّ بعضُ أهل العلم: أن عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه لما طُعِنَ في صلاة الفجر؛ أمرَ عبد الرحمن بن عَوف أن يُصلِّي بالنَّاس؛ ولم يَرِدْ أنه استأنف الصَّلاة

(3)

، ومعلومٌ أنَّ عمرَ

(1)

تقدم تخريجه ص (313).

(2)

انظر: «الإنصاف» (3/ 383 ـ 385)، «مجموع الفتاوى» (20/ 364)(23/ 352)، «الاختيارات» ص (69).

(3)

انظر: «المغني» (2/ 504)، «المختارات الجلية» ص (33 ـ 34).

ص: 322

رضي الله عنه سبقه الحَدَثُ وتكلَّم، وقال:«أكَلَنِي الكلبُ»

(1)

.

وأيضاً: فإن عثمان رضي الله عنه صَلَّى بالنَّاس وهو جُنب ناسياً، فأعَاد ولم يعيدوا

(2)

.

وأُورِدَ على أثر عثمان: بأن عثمان لم يذكر إلا بعد سلامه.

فنقول: إذا قلتم بأن جُملة الصَّلاة صحيحة لعدم عِلم المأموم، فصحَّة بعضها من باب أَولى، فلا فرق بين عِلم المأموم قبل السَّلام أو بعده، أما من عَلِمَ أن إمامه على غير وُضُوء فلا يجوز له الدُّخول مع الإمام؛ لأنه ائتم بمن لا تصحُّ صلاتُه، وهذا تلاعب.

وبناءً على هذا القول؛ فإنه إذا سبق الإمامَ الحَدَثُ، أو ذَكَرَ أنه ليس على وُضُوء، فإنه يقدِّم أحدَ المأمومين ليتمَّ بهم الصَّلاة، ولا يَحِلُّ له أن يقول لهم: استأنفوا الصَّلاة؛ لأنه إذا قال:

(1)

رواه البخاري، كتاب فضائل الصحابة: باب قصة البيعة، رقم (3700).

(2)

والدارقطني (1/ 364)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (2/ 400)، وفي «المعرفة والآثار» (3/ 348) عن هشيم، عن خالد بن سلمة، عن محمد بن عمرو بن الحارث فذكره.

وروى الدارقطني (1/ 363)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (2/ 399)، وفي «المعرفة والآثار» (3/ 348) عن ابن المنكدر، عن الشريد الثقفي:«أن عمر صلَّى بالناس وهو جنب، فأعاد ولم يعيدوا» .

ورواه مالك، كتاب الطهارة: باب إعادة الجنب الصلاة، رقم (115، 116، 117، 118)، وعنه عبد الرزاق في «المصنف» رقم (3644) عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن زييدصح بن الصلت، عن عمر بن الخطاب به.

قلت: إسناده صحيح، وزُييد بن الصلت، قال ابن معين: ثقة. قال البخاري: سمع عُمرَ بن الخطاب. «التاريخ الكبير» (3/ 447). «الجرح والتعديل» (3/ 622).

ص: 323

استأنفوا الصَّلاة أخرجهم من فرض، والخروج من الفرض لا يجوز إلا بسبب شرعي يُبيح ذلك، وليس هذا سبباً شرعيًّا، ولهذا قال العلماء: من دخل في فرض حَرُمَ عليه قطعه إلا بعُذر

(1)

، وهذا ليس بعُذر؛ فالأصل صحَّة صلاتهم، وعدم جواز الخروج منها، فإن لم يستخلفْ فلهم أن يقدِّموا أحدَهم ليتمَّ بهم الصَّلاة، فإن لم يفعلوا أتمُّوها فُرادى، ولكن الأَوْلَى أن يستخلفَ؛ لئلا يحصُل عليهم تشويش.

تنبيه: ليس هناك شيءٌ تبطلُ به صلاةُ المأموم ببطلان صلاة الإمام على القول الرَّاجح؛ إلا فيما يقوم فيه الإمامُ مقامَ المأموم، والذي يقوم فيه الإمامُ مقامَ المأموم هو الذي إذا اختلَّ اختلت بسببه صلاةُ المأموم؛ لأنَّ ذلك الفعل من الإمام للإمام وللمأمومين، مثل: السُّترة؛ فالسُّترة للإمام سُتْرَة لمن خلفه، فإذا مرَّت امرأة بين الإمام وسُترته بطلت صلاة الإمام وبطلت صلاة المأموم؛ لأنَّ هذه السُّترة مشتركة، ولهذا لا نأمر المأموم أن يتَّخِذَ سُترة، بل لو اتَّخذ سُترة لعُدَّ متنطِّعاً مبتدعاً، فصار انتهاك السُّترة في حَقِّ الإمام انتهاكاً في حَقِّ المأموم، فبطلت صلاة المأموم كما بطلت صلاة الإمام.

وهنا قاعدة مهمَّة وهي: أنَّ من دخل في عبادة فأدَّاها كما أُمِرَ؛ فإننا لا نُبْطِلُها إلا بدليل؛ لأن الأصلَ الصِّحةُ وإبراءُ الذِّمة؛ حتى يقوم دليل البطلان.

انتهى بحمد الله تعالى المجلَّدُ الثَّاني

ويليه بمشيئة الله عز وجل المجلَّدُ الثالث

وأوَّله: «باب صفة الصَّلاة» .

(1)

انظر: «الإنصاف» (7/ 549، 550)، «الإقناع» (1/ 511).

ص: 324