المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الشرح الممتع على زاد المستقنع   لفضيلة الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين غفر الله له - الشرح الممتع على زاد المستقنع - جـ ٥

[ابن عثيمين]

فهرس الكتاب

الشرح الممتع

على

زاد المستقنع

لفضيلة الشيخ العلامة

محمد بن صالح العثيمين

غفر الله له ولوالديه وللمسلمين

المجلد الخامس

دار ابن الجوزي

طبع بإشراف مؤسسة الشيخ محمد بن صالح العثيمين الخيرية

الطبعة الأولى 1423 هـ

ص: -1

‌باب صلاة الجمعة

‌تَلْزَمُ كُلَّ ذَكَرٍ حُرٍّ مُكَلَّفٍ مُسْلِمٍ .............

قوله: «صلاة الجمعة» أي: الصلاة التي تجمع الخلق، وذلك أن المسلمين لهم اجتماعات متعددة، اجتماعات حي في الصلوات الخمس في مسجد الحي، واجتماعات بلد في الجمعة والعيدين، واجتماعات أقطار في الحج بمكة، هذه اجتماعات المسلمين صغرى وكبرى ومتوسطة، كل هذا شرعه الله من أجل توطيد أواصر الألفة والمحبة بين المسلمين.

وليعلم أن يوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع، وما طلعت الشمس على يوم خير منه، وأن الله خصّ به هذه الأمة بعد أن أضل عنه الأمم السابقة، فإن اليهود اختلفوا فيه فصارت جمعتهم السبت، والنصارى أشد اختلافاً فصارت جمعتهم الأحد، فصاروا ـ والحمد لله ـ تبعاً لنا ونحن متأخرون عنهم زمناً لكنهم متأخرون عنا رتبة؛ لأن هذه الأمة أفضل أمة عند الله وأكرمها

(1)

.

وليوم الجمعة خصائص ذكرها ابن القيم في زاد المعاد.

قوله: «تلزم كل ذكر» الضمير يعود على صلاة الجمعة، أي:

(1)

روى أبو هريرة، وحذيفة رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا، فكان لليهود يوم السبت، وكان للنصارى يوم الأحد، فجاء بنا فهدانا الله ليوم الجمعة، فجعل الجمعة والسبت والأحد، وكذلك هم تبع لنا يوم القيامة

».

أخرجه مسلم (856).

ص: 5

تلزم صلاة الجمعة كل من اتصف بالشروط الآتية:

الأول: كونه ذكراً فخرج به الأنثى والخنثى، فلا تلزمهم صلاة الجمعة، [والدليل على اشتراط الذكورية أن صلاة الجمعة صلاة جمع؛ لهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:«لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، وبيوتهن خير لهن»

(1)

، هذا إن لم يصح الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الجمعة حق واجب على كل مسلم إلا على أربعة

»، فإن صح فالأمر فيه واضح].

أما عدم وجوبها على الخنثى فلعدم تحقق الشرط فيه؛ لأنه لا يدرى أذكر هو أم أنثى، والأصل براءة الذمة حتى يتيقن شرط وجوبها، وهذا لم يتيقن.

وأما الأنثى فلأنها ليست من أهل الجماعة.

قوله: «حر» ، هذا هو الشرط الثاني.

وضد الحر العبد، والمراد بالعبد المملوك، ولو كان أحمر، أو قبلياً، فالعبد لا تلزمه الجمعة وذلك لما يلي:

1 ـ قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الجمعة حق واجب على كل مسلم إلا أربعة: عبد مملوك أو امرأة أو صبي أو مريض»

(2)

.

2 ـ ولأنه مشغول في خدمة سيده.

وقال بعض العلماء:

(1)

أخرجه البخاري (900)؛ ومسلم (442)(136) عن ابن عمر رضي الله عنهما دون قوله: «وبيوتهن خير لهن» ؛ وأخرجه أحمد (2/ 76، 77)؛ وأبو داود (567)؛ والحاكم (1/ 209)؛ والبيهقي (3/ 131)؛ وقال الحاكم: «صحيح على شرط الشيخين» .

(2)

أخرجه أبو داود (1067)؛ والدارقطني (2/ 3)؛ والطبراني في الكبير (8206)؛ والبيهقي (3/ 172) عن طارق بن شهاب.

ص: 6

تلزمه الجمعة؛ لأنه داخل في عموم قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9]، والحديث الوارد في نفي وجوب صلاة الجمعة عن العبد ضعيف.

والتعليل بأنه مشغول في خدمة سيده أضعف؛ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

وقال بعض العلماء:

إذا أذن له سيده لزمته؛ لأنه لا عذر له؛ [لزوال العلة التي هي سبب منع الوجوب]، وإن لم يأذن له لم تلزمه.

وهذا قول وسط؛ لأن حال العبد في الحقيقة إذا تصوره الإنسان حال شخص ضعيف مملوك، لا يستطيع أن يقول: سأذهب إلى الجمعة يا سيدي رضيت أم كرهت، فيكون في إلزامه بشيء لا يستطيعه حرج، وقد نفى الله سبحانه وتعالى في هذا الدين الحرج عن الأمة فقال:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] وهذا القول قول وسط بين قول من يلزمه الجمعة مطلقاً، وقول من لا يلزمه مطلقاً، ووجهه قوي جداً، ويمكن أن يحمل الحديث عليه فيقال: قوله صلى الله عليه وسلم: «عبد مملوك» ، ليس على إطلاقه، بل العبد المملوك هو الذي يشغل بمالكه، وربما يقال: إن قوله صلى الله عليه وسلم: «مملوك» إشارة إلى علة الحكم، وهي أنه ملك، فسيده يتصرف فيه فيشغله.

والعجيب أن الذين قالوا: إن الجمعة لا تجب على العبد قالوا: إن الجماعة تجب عليه، وعندي أنه لو صح حديث طارق أن الرسول صلى الله عليه وسلم استثنى العبد لكان عدم وجوب الجماعة من باب

ص: 7

أولى؛ لأن الجماعة تكرر خمس مرات، فإذا أسقط عنه ما يجب في الأسبوع مرة فما يجب في اليوم خمس مرات من باب أولى، وإذا أوجبنا عليه الجماعة فالجمعة من باب أولى.

قوله: «مكلف» هذا هو الشرط الثالث، والمكلف عند العلماء من جمع وصفين:

أحدهما: البلوغ.

والثاني: العقل.

والدليل قوله صلى الله عليه وسلم: «رفع القلم عن ثلاثة: عن الصغير حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ»

(1)

، ولكن [الصغير تصح منه الجمعة والمجنون لا تصح منه؛ لأن المجنون لا عقل له، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«إنما الأعمال بالنيات»

(2)

، ومن لا عقل له لا نية له، بخلاف الصبي المميز فإن له نية].

ولكن هل يؤمر بها الصغير؟

الجواب: يؤمر بها لسبع، ويضرب عليها لعشر؛ لدخوله في عموم قوله صلى الله عليه وسلم:«مروا أبناءكم عليها لسبع واضربوهم عليها لعشر»

(3)

.

قوله: «مسلم» ، هذا هو الشرط الرابع.

وضده الكافر، فالكافر لا تجب عليه الجمعة، بل ولا تصح منه، ودليل هذا:

(1)

سبق تخريجه (2/ 13).

(2)

سبق تخريجه (1/ 194).

(3)

سبق تخريجه (2/ 14).

ص: 8

1 ـ قوله تعالى: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ} [التوبة: 54]، فإذا كانت النفقات مع كون نفعها متعدياً لا تقبل منهم، فالعبادات التي نفعها غير متعدٍ من باب أولى لا تقبل منهم.

2 ـ قول النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذاً إلى اليمن: «ليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فإن هم أجابوك لذلك، فأعلمهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة»

(1)

، فجعل فرض الصلوات بعد الشهادتين.

فإن قال قائل: إذا كان من شرط وجوب الجمعة الإسلام، فهل يسلَم الكافر من الإثم؛ لأن الجمعة غير واجبة عليه؟

فالجواب: أنه لا يسلَم من الإثم؛ لأن القول الراجح من أقوال أهل العلم أن الكافر مخاطب بفروع الإسلام، كما هو مخاطب بأصوله، والدليل على ذلك قوله تعالى:{إِلاَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ *فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ *عَنِ الْمُجْرِمِينَ *مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ *قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ *وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ *وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ *وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ *حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ *} [المدثر]، ووجه الدلالة من الآية: أنهم ذكروا من أسباب دخولهم النار أنهم لم يكونوا من المصلين، ولا من المطعمين للمسكين، بل أقول: إن الكافر معاقب على أكله وشربه ولباسه، لكنه ليس حراماً عليه بحيث يمنع منه إنما هو معاقب عليه.

(1)

سبق تخريجه (2/ 8).

ص: 9

ودليل ذلك قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة: 93]، فقوله:{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ} يدل بمفهومه على أن غيرهم عليهم جناح فيما طعموا، والطعام يشمل الأكل والشرب؛ لقوله تعالى:{فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} [البقرة: 249]، ودليل اللباس قوله تعالى:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف: 32]، فقوله:{لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} يفهم منه أنها ليست للذين كفروا، وقوله:{خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} يفهم منه أنها لغير المؤمنين ليست خالصة لهم، بل يعاقبون عليها.

والمعنى يقتضي ما دلت عليه النصوص من معاقبة الكافر على الأكل والشرب واللباس والنعمة والصحة، وكل شيء؛ وذلك لأن العقل يقتضي طاعة من أحسن إليك، وأنك إذا بارزته بالمعصية وهو يحسن إليك، فإن هذا خلاف الأدب والمروءة، وبه تستحق العقوبة، فصارت النصوص مؤيدة لما يقتضيه العقل.

‌مُسْتَوْطِنٍ ..........

قوله: «مستوطن» ، هذا هو الشرط الخامس.

وضد المستوطن المسافر والمقيم.

فالمسافر لا جمعة عليه، ودليل ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم في أسفاره لم يكن يصلي الجمعة، مع أن معه الجمع الغفير، وإنما يصلي ظهراً مقصورة.

فإذا قال قائل: ألا يمكن أن يكون جمعه وقصره في غير يوم الجمعة، وأنه يقيم صلاة الجمعة في السفر؟

ص: 10

فالجواب على هذا من وجهين:

الوجه الأول: أن لدينا نصاً ظاهراً جداً في أنه لا يصلي الجمعة في سفره، وذلك في يوم عرفة، فإن يوم عرفة كان يوم الجمعة في حجة الوداع، وفي صحيح مسلم من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم:«لما وصل بطن الوادي يوم عرفة نزل فخطب الناس، ثم بعد الخطبة أذَّن بلال، ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر»

(1)

. وهذه الصفة تخالف صلاة الجمعة من وجوه:

1 ـ لأن صلاة الجمعة الخطبة فيها بعد الأذان، وهنا الخطبة قبل الأذان.

2 ـ صلاة الجمعة يتقدمها خطبتان، وحديث جابر ليس فيه إلا خطبة واحدة.

3 ـ صلاة الجمعة يجهر فيها بالقراءة، وحديث جابر يدل على أنه لم يجهر، لأنه قال:«صلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر» .

4 ـ صلاة الجمعة تسمى صلاة الجمعة، وفي حديث جابر قال:«صلى الظهر» .

5 ـ صلاة الجمعة لا تجمع إليها العصر، وحديث جابر يقول:«صلى الظهر ثم أقام فصلى العصر» ، وهذا نص صريح واضح في هذا الجمع الكثير الذي سيتفرق فيه المسلمون إلى بلادهم فيقولون: صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة ظهراً يدل دلالة قطعية على أن المسافر لا يصلي الجمعة.

الوجه الثاني: لو كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الجمعة في أسفاره

(1)

أخرجه مسلم (1218).

ص: 11

لكان ذلك مما تتوافر الدواعي على نقله، ولنقل إلينا.

ولو كانت واجبة لصلاها، بل لو كانت جائزة لصلاها، فإذا صلى الإنسان الجمعة وهو في السفر، فصلاته باطلة، وعليه أن يعيدها ظهراً مقصورة؛ لأن المسافر ليس من أهل الجمعة.

فإذا قال قائل: تَرْك النبي صلى الله عليه وسلم للجمعة لا يدل على أنها غير مشروعة؟

فالجواب: بلى؛ لأنها لو كانت مشروعة لكانت عبادة، وهي فريضة واجبة، ولا يمكن أن يدع النبي صلى الله عليه وسلم الواجب، فإذا كان سبب الفعل موجوداً، ولم يفعل الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك علم أن فعله يكون بدعة، وقد قال صلى الله عليه وسلم:«من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردّ»

(1)

. وهذه قاعدة مفيدة لطالب العلم (كل شيء سببه موجود في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يفعله، فالتَّعبُّد بِهِ بدعة)، فالجمعة في السفر سببها موجود في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه لم يفعلها، فإذا فعلها إنسان قلنا له: عملت عملاً ليس عليه أمر الله ورسوله، فيكون عملاً مردوداً.

أما المسافر في بلد تقام فيه الجمعة، كما لو مرَّ إنسان في السفر ببلد، ودخل فيه ليقيل، ويستمر في سيره بعد الظهر فإنها تلزمه الجمعة؛ لعموم قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9]، وهذا عام، ولم نعلم أن الصحابة الذين يفدون على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبقون إلى يوم الجمعة يتركون صلاة الجمعة، بل إن ظاهر السنة أنهم يصلون مع النبي صلى الله عليه وسلم.

وقالت الظاهرية: إن المسافر تلزمه الجمعة.

(1)

سبق تخريجه (1/ 186).

ص: 12

واستدلوا على ذلك: بعمومات الأدلة الدالة على وجوب صلاة الجمعة، وهذا الاستدلال مردود بالأدلة المخصصة للعمومات.

فالمسافر لا جمعة عليه، والمقيم أيضاً لا جمعة عليه، لكن إن أقامها مستوطنون في البلد لزمته بغيره لا بنفسه، ومعنى قولنا بغيره أنه إذا أقامها من تصح منهم إقامتها لزمته تبعاً لغيره، لكن لا يحسب من العدد المشروط.

وبناء على هذا ينقسم الناس إلى ثلاثة أقسام:

1 ـ مستوطن.

2 ـ مسافر.

3 ـ مقيم لا مسافر ولا مستوطن.

مثال ذلك:

رجل وصل إلى بلد، ونوى أن يقيم فيها أكثر من أربعة أيامٍ، هذا ليس مستوطناً؛ لأنه لم يتخذ هذا البلد وطناً، وليس مسافراً؛ لأنه نوى إقامة تقطع السفر فهو مقيم، فإن أقيمت الجمعة في البلد بأناس مستوطنين لزمته، وإن لم تقم لم تلزمه، وبناء على هذا لو وُجِدَ جماعة مسلمون سافروا إلى بلاد كفر، وهم مائة رجل يريدون أن يدرسوا فيها لمدة خمس سنوات أو ست أو عشر، فإن الجمعة لا تلزمهم، بل ولا تصح منهم لو صلوا جمعة؛ لأنه لا بد من استيطان، وهؤلاء ليسوا بمستوطنين، فلا تصح منهم الجمعة، ولا تلزمهم، لكن لو وجد في هذه القرية أربعون مستوطناً لزمت الجمعة الأربعين، ثم تلزم هؤلاء تبعاً لغيرهم، هذا هو تقرير المذهب؛ وعليه يكون من نوى إقامة أكثر من أربعة أيام مسافراً من بعض

ص: 13

الوجوه غير مسافر من بعض الوجوه فيلزمه إتمام الصلاة، ولا يترخص برخص السفر؛ لانقطاع حكم السفر في حقه، ولا يصح أن يكون إماماً في الجمعة ولا خطيباً فيها ولا يكمل به العدد المشروط، ولكن تلزمه الجمعة إذا أقيمت، وهذا تناقض.

ولهذا كان الصحيح أن حكم السفر لا ينقطع في حقه، وأنه يصح أن يكون إماماً وخطيباً في الجمعة، ويكمل به العدد المشروط.

‌بِبِنَاءٍ اسمُهُ وَاحِدٌ، وَلَوْ تَفَرَّقَ.

.............

قوله: «ببناء» أي بوطن مبني، ولم يبين المؤلف بأي شيء بني، فيشمل ما بني بالحجر، والمدر، والإِسمنت، والخشب، وغيرها، وهو يحترز بذلك مما لو كانوا أهل خيام كأهل البادية، فإنه لا جمعة عليهم؛ لأن البدو الذين كانوا حول المدينة لم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بإقامة الجمعة مع أنهم مستوطنون في أماكنهم؛ لكونها ليست ببناء، ولهذا إذا ظعنوا عن هذا الموطن ظعنوا ببيوتهم، ولم يبق لها أثر؛ لأنها خيام.

قوله: «اسمه واحد، ولو تفرق» ، أي: أن يكون مستوطناً ببناء، اسم هذا البناء واحد، مثل: مكة، المدينة، عنيزة، بريدة، الرياض، المهم أن يكون اسمه واحداً، حتى لو تباعد، وتفرق بأن صارت الأحياء بينها مزارع، لكن يشملها اسم واحد، فإنه يعتبر وطناً واحداً، وبلداً واحداً؛ ولهذا قال المؤلف:«ولو تفرق» مشيراً بذلك للخلاف في هذه المسألة.

وقال بعض العلماء:

لو تفرق، وفرقت بينه المزارع، فليس بوطن واحد، وعلى هذا القول يكون كل حي وحده مستقلاً.

ص: 14

ولكن الصحيح أنه ما دام يشمله اسم واحد فهو بلد واحد، ولو فرض أن هذا البلد اتسع وصار بين أطرافه أميال أو فراسخ فهو وطن واحد تلزم الجمعة من بأقصاه الشرقي كما تلزم من بأقصاه الغربي، وهكذا الشمال والجنوب؛ لأنه بلد واحد.

‌لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ المَسْجِدِ أَكْثَرُ مِنْ فَرْسَخٍ ........

قوله: «ليس بينه وبين المسجد أكثر من فرسخ» .

هذا الشرط السادس أي: ليس بين الإنسان وبين المسجد أكثر من فرسخ، والفرسخ سبق لنا: أنه ثلاثة أميال، والميل: اثنا عشر ألف ذراع، فعلى هذا لا يلزم الشخص الذي يكون بينه وبين البلد أكثر من فرسخ جمعة، هذا إذا كان خارج البلد، أما إذا كان البلد واحداً فإنه يلزمه، ولو كان بينه وبين المسجد فراسخ.

وذكر علماؤنا أن مسيرة الفرسخ ساعة ونصف الساعة في سير الإبل والقدم، لا بسير السيارة؛ فإن كان بينه وبين المسجد أكثر من فرسخ قالوا: فإنها تلزمه بغيره أي: إن أقيمت الجمعة وهو في البلد لزمته وإلا فلا، فصارت الشروط ستة في وجوب الجمعة عيناً.

[فإن قال قائل: ما الدليل على التقييد بالفرسخ؟ فالجواب: يقولون الغالب أن من كان بينه وبين المسجد أكثر من فرسخ فالغالب أنه لا يسمع النداء، مع أن بعض العلماء قدَّره بالأذان، والذين قدَّروه بالفرسخ قالوا: الأذان يختلف بحسب صوت المؤذن والرياح وارتفاع المؤذن وهدوء الأصوات، فلا يمكن انضباطه، والفرسخ منضبط، إذاً ليس هناك دليل بل هو تعليل، والدليل الذي دلت عليه السنة هو سماع الأذان؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:«هل تسمع النداء» ؟ قال: نعم، قال:«فأجب»

(1)

].

(1)

سبق تخريجه (4/ 122).

ص: 15

‌وَلَا تَجِبُ عَلَى مُسَافِرٍ سَفَرَ قَصْرٍ وَلَا عَلَى عَبْدٍ وَامْرَأَةٍ، وَمَنْ حَضَرَهَا مِنْهُمْ أَجزَأَتْهُ، وَلَمْ تَنْعَقِدْ بِهِ ..........

وقوله: «ولا تجب على مسافر سفر قصر» ، الضمير يعود على الجمعة، فلا تجب على مسافر سفر قصر، وقد سبق بيان هذا وذكر الأدلة عليه.

وقوله: «على مسافر سفر قصر» أي: سفراً يحل فيه القصر، فلا تجب عليه، لكن تجب عليه بغيره كما سبق، [ومعنى ذلك أنها إن أقيمت الجمعة وجبت عليه وإلا فلا].

فلو أن رجلاً من أهل عنيزة سافر إلى بريدة، فالسفر على المشهور من المذهب ليس سفر قصر؛ لأنه دون المسافة، فإذا أقيمت الجمعة هناك يجب عليه أن يصلي؛ لأن السفر ليس سفر قصر.

ولو أن رجلاً سافر إلى بلد يبلغ المسافة، ولكن سفره محرّم أي سافر ـ والعياذ بالله ـ ليفعل الفواحش، ويشرب الخمر، وما أشبه ذلك، فلا تسقط عنه الجمعة؛ لأن السفر ليس سفر قصر، لأن من شروط سفر القصر أن يكون السفر مباحاً.

ولو أن رجلاً دخل بلداً ليقيم فيه خمسة أيام مثلاً، ثم يسافر فتلزمه الجمعة بغيره؛ لأنه ليس مسافراً سفر قصر، بل هو مقيم إقامة تمنع القصر، فتلزمه الجمعة.

قوله: «ولا على عبد ولا امرأة» ، لأن من شرط الوجوب أن يكون حراً ذكراً.

وقد سبق الكلام عليه.

قوله: «ومن حضرها منهم أجزأته ولم تنعقد به» ، أي:

ص: 16

المسافر سفر قصر، والعبيد، والنساء، من حضر الجمعة منهم، وصلى مع الإمام أجزأته جمعة.

فإن قيل: كيف تجزئهم وليسوا من أهل الوجوب؟

فالجواب: أن إسقاطها عنهم تخفيف، فإذا حضروا وصلوا فهم الذين اختاروا ذلك لأنفسهم فتصح، ولكن لو قيل بتعليل سوى هذا، وهو: أنهم ائتموا بمن يصلي الجمعة، فأجزأتهم تبعاً لإمامهم، وقد يثبت تبعاً ما لا يثبت استقلالاً، لكان أولى.

وقوله: «ولم تنعقد به» أي: لم تنعقد بواحد من هؤلاء، ومعنى لم تنعقد به أي: لا يحسب من العدد المعتبر؛ لأنهم ليسوا من أهل الوجوب، والعدد كما سيأتينا إن شاء الله على المذهب أربعون رجلاً.

مثال ذلك: لو حضر تسعة وثلاثون رجلاً حرّاً، وجاء عبد فإنه لا يتمم به العدد فيصلون ظهراً؛ لأنها لا تنعقد به.

مثال آخر:

قدم شخص قرية صغيرة فيها تسعة وثلاثون رجلاً، وهو مسافر فلا يكمل به العدد؛ لأنه مسافر.

‌وَلَمْ يَصِحَّ أَنْ يَؤُمَّ فِيهَا .......

قوله: «ولم يصح أن يؤم فيها» ، أي لا يصح أن يكون أحد من هؤلاء إماماً في الجمعة.

أما المرأة فلا شك أنه لا يصح أن تؤم فيها، ولا تنعقد بها؛ لأن المرأة لا تكون إماماً للرجال، وليست من أهل الوجوب.

وأما العبد فلا يصح أن يكون إماماً فيها؛ لأنه ليس من أهل الوجوب، فلو كان هذا العبد قارِئاً عالماً فقيهاً عابداً، والذين في

ص: 17

القرية أربعون رجلاً كل واحد منهم يحسن القراءة الواجبة، ولكنهم دون العبد في القراءة والعلم والفقه والعبادة فإنه لا يؤمهم في الجمعة.

هذا ما يقتضيه كلام المؤلف؛ لأنه ليس من أهل الوجوب.

ومذهب أبي حنيفة والشافعية أن العبد يصح أن يكون إماماً في الجمعة.

هذا إذا قلنا: إن العبد لا تلزمه الجمعة، أما إذا قلنا: بأن العبد تلزمه الجمعة فإنها تنعقد به أي: يكمل به العدد، ويصح أن يكون إماماً فيها.

وأما المسافر فلا يصح أن يكون إماماً في الجمعة ولا خطيباً فيها، مثاله:

مسافر قدم إلى بلد أهله كلهم عوام، والخطيب فيهم واحد منهم، فقدم البلد هذا الرجل العالم المتضلع في العلم العابد، وصلى بهم فلا تصح صلاتهم على قول المؤلف؛ لأنه مسافر، ولو خطب بهم وصلى أحدهم، فلا تصح؛ لأن من شرط الخطبة أن تكون ممن تصح إمامته في الجمعة، والعمل الآن على خلاف ذلك، وهو مذهب الأئمة الثلاثة وهو الراجح.

يأتي الرجل الداعية إلى قرية من القرى ويخطب فيهم الجمعة، ويصلي بهم وينصرفون وهم يعتقدون أن صلاتهم صحيحة، لكن المذهب أن صلاتهم غير صحيحة فيلزمهم أن يعيدوها جمعة إن كان وقتها باقياً وإلا صلوها ظهراً.

والخلاصة أن المرأة كما قال المؤلف لا يصح أن تكون خطيباً، ولا أن تكون إماماً، ولا تحسب من الأربعين.

ص: 18

وأما العبد والمسافر، فالصحيح أنها تنعقد بهما، ويصح أن يكونا أئمة فيها وخطباء أيضاً؛ لأن القول بعدم صحة ذلك لا دليل عليه، فالعبد من أهل التكليف، والمسافر من أهل التكليف، وكيف يقال: إنه إذا صلى العبد خلف الإمام جمعة صحت، ولو كان هو الإمام لم تصح؟! فلا يظهر الفرق، والقول بأن صلاته صحت تبعاً ويثبت تبعاً ما لا يثبت استقلالاً لا يسلم في كل موضع.

‌وَمَنْ سَقَطَتْ عَنْهُ لِعُذْرٍ وَجَبَتْ عَلَيْهِ، وَانعَقَدَتْ بِهِ،

.........

قوله: «ومن سقطت عنه» ، أي الجمعة.

قوله: «لعذر» كمرض.

قوله: «وجبت عليه وانعقدت به» ، يعني إذا حضرها وجبت عليه وانعقدت به؛ لأنه من أهل الوجوب، لكن سقط عنه الحضور للعذر، فإذا حضر ثبت الوجوب.

مثال ذلك:

مريض سقطت عنه الجمعة من أجل المرض، ولكنه تحمل المشقة وحضر إلى الجمعة، فإنها تنعقد به، فيحسب من الأربعين ويصح أن يكون إماماً، وأن يخطب فيها؛ لأنه أهل للوجوب، ولكن وجد فيه مانع الوجوب؛ وفرق بين من فقد منه شرط الوجوب، ومن وجد فيه مانع الوجوب؛ لأن من فقد منه شرط الوجوب ليس أهلاً للعبادة أصلاً، ومن وجد فيه مانع الوجوب فهو في الأصل أهل للوجوب، فإذا وصل إلى محل الجمعة زال مانع الوجوب؛ لأن مانع الوجوب مشقة الوصول إلى المسجد فصار الآن من أهل الوجوب فتلزمه، وتنعقد به، ويصح أن يؤم فيها.

ص: 19

وكذا الخائف: تسقط عنه الجمعة، لكنه إذا حضرها تلزمه وتنعقد به، ويصح أن يكون إماماً فيها.

فإذا قال قائل: ما الفرق بينه وبين المسافر والعبد؟

فالجواب: أن المسافر والعبد لم يوجد فيهما شرط الوجوب، فليسا من أهله، وأما من سقطت عنه لعذر ففيه مانع الوجوب وهو من أهله، فإذا حضر إلى مكانها زال المانع، فصار كالذي ليس فيه مانع.

‌وَمَنْ صَلَّى الظُّهْرَ مِمَّنْ عَلَيْهِ حُضُورُ الجُمُعَةِ قَبْلَ صَلَاةِ الإِْمَامِ لَمْ تَصِحَّ.

.......

قوله: «ومن صلى الظهر ممن عليه حضور الجمعة قبل صلاة الإمام لم تصح» ، أي: من صلى الظهر وهو ممن يلزمه الحضور، فإن صلاته لا تصح، وتأمل قول المؤلف:«ممن عليه حضور الجمعة» ولم يقل: ممن تجب عليه الجمعة، وذلك من أجل أن يكون كلامه رحمه الله شاملاً للذي تجب عليه بنفسه، والذي تجب عليه بغيره؛ لأن الفقهاء رحمهم الله يقسمون الناس إلى قسمين:

الأول: من تلزمه الجمعة بغيره، وهذا لا تنعقد به ولا يصح أن يكون إماماً فيها.

والثاني: من تلزمه بنفسه، وهذا يصح أن يكون إماماً فيها وتنعقد به.

مثال ذلك: مسافر حلَّ بلداً تقام فيه الجمعة، وأذِّن لصلاة الجمعة، فهذا عليه الحضور، وليست واجبة عليه بنفسه، بل بغيره، فإذا صلى هذا المسافر قبل صلاة الإمام فإن صلاته لا تصح؛ لأنه فعل ما لم يؤمر به، وترك ما أمر به، فيكون هذا الرجل عمل عملاً ليس عليه أمر الله ورسوله؛ لأنه مأمور أن يحضر الجمعة ويصليها، وقد صلى ظهراً فلا تقبل منه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» ، أي مردود عليه؛ ولأن صلاته الظهر مع وجوب الحضور عليه يكون كالذي غصب الزمن؛ لأن هذا الزمن الأصل فيه أن يكون للجمعة.

مثال آخر:

رجل مقيم في البلد، وكان معه أصحابه في البيت فجاء وقت الظهر فصلوا الظهر قبل صلاة الجمعة، فلا تصح.

مثال ثالث:

ص: 20

رجل في أقصى البلد، ـ ويعلم أنه لو ذهب لم يدرك الجمعة ـ فصلى الظهر قبل صلاة الإمام الجمعة فلا تصح على مقتضى كلام المؤلف؛ لعموم قوله:«من صلى الظهر قبل صلاة الإمام» أي: حتى في الحال التي يعلم أنه لو سعى لم يدرك الجمعة، فإنه ينتظر حتى يفرغ الإمام من الجمعة، فيقدر ذلك.

وقيل: له أن يصلي الظهر إذا علم أنه لن يدرك الجمعة؛ لأنه في هذه الحال لا يلزمه السعي إليها، فلا فائدة في الانتظار.

‌وَتَصِحُّ مِمَّنْ لَا تَجِبُ عَلَيه .........

قوله: «وتصح ممن لا تجب عليه» ، أي: تصح الظهر ممن لا تجب عليه الجمعة، وإن لم يُصلِّ الإمام.

مثال ذلك: مريض مرضاً تسقط به عنه الجمعة صلى الظهر قبل صلاة الإمام الجمعة فتصح؛ لأنه لا تلزمه الجمعة.

مثال آخر:

ص: 21

لو صلّت امرأة الظهر قبل صلاة الإمام الجمعة صحت؛ لأن الجمعة لا تلزمها.

‌وَالأَْفْضَلُ حَتَّى يُصَلِّي الإِمَامُ، وَلَا يَجُوزُ لِمَنْ تَلْزَمُهُ السَّفَرُ فِي يومِهَا بَعْدَ الزَّوَالِ.

قوله: «والأفضل حتى يصلي الإمام» ، أي: أن الأفضل لمن لا تلزمه الجمعة أن يؤخر صلاة الظهر حتى يصلي الإمام، وعلى هذا نقول للنساء: الأفضل في يوم الجمعة ألا تصلين الظهر حتى يصلي الإمام. قالوا: ربما يزول عذره فيدرك صلاة الجمعة، وإذا كان هذا هو التعليل، فإنه لا ينطبق على النساء؛ إذ إن النساء لا يمكن أن يزول عذرهن، فالمرأة امرأة، وعليه فنقول للمرأة: الأفضل أن تصلي الظهر في أول الوقت، ولو قبل صلاة الإمام؛ لأن الصلاة في أول الوقت أفضل من الصلاة في آخر الوقت، وحينئذٍ نقول: إذا كان من لا تلزمه الجمعة ممن يرجى أن يزول عذره ويدركها، فالأفضل أن ينتظر، وإذا كان ممن لا يرجى أن يزول عذره فالأفضل تقديم الصلاة في أول وقتها؛ لأن الأفضل في الصلوات تقديمها في أول الوقت إلا ما استثني بالدليل.

قوله: «ولا يجوز لمن تلزمه السفر في يومها بعد الزوال» ، السفر: فاعل يجوز، أي: لا يجوز السفر في يوم الجمعة بعد الزوال لمن تلزمه، سواء كانت تلزمه بنفسه، أو بغيره؛ وذلك أنه بعد الزوال دخل الوقت بالاتفاق، والغالب أنه إذا دخل الوقت يحضر الإمام فيؤذن للجمعة وتصلى، فيحرم أن يسافر.

فإذا قال قائل: ما الدليل على التحريم؟

فالجواب: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ

ص: 22

مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9]، فأمر بالسعي إليها، وترك البيع، وكذا يترك السفر؛ لأن العلة واحدة، فالبيع مانع من حضور الصلاة، والسفر كذلك مانع من حضور الصلاة، لكن المؤلف علق الحكم بالزوال؛ لأن الزوال هو سبب وجوب الجمعة؛ إذ إنه يدخل به الوقت، ودخول الوقت سبب، فعلق الحكم بالسبب.

والأَوْلَى: أن يعلق الحكم بما علقه الله به وهو النداء إلى الجمعة؛ لأنه من الجائز أن يتأخر الإمام عن الزوال، ولا يأتي إلا بعد الزوال بساعة، فلا ينادى للجمعة إلا عند حضور الإمام، لذلك نقول: المعتبر النداء، وما مشى عليه المؤلف يشبه من بعض الوجوه قولهم: من باع نخلاً بعد أن تشقق فثمرته للبائع، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«من باع نخلاً بعد أن تؤبر ـ أي: تلقح وذلك بوضع اللقاح فيها ـ فثمرتها للبائع»

(1)

. فعلقوا الحكم على التشقق، قالوا: لأن التشقق هو سبب التأبير فعلق الحكم به.

والجواب: أن النبي صلى الله عليه وسلم علق الحكم بالتأبير، فلا يمكن أن نلغي ما علق الشارع الحكم عليه، ونعتبر شيئاً آخر، كذلك هنا علق الحكم بالأذان، فإذا علق الحكم بالأذان، فلا يمكن أن نتجاوز ونعلقه بالزوال، ولكن الغالب أن الإمام يحضر إذا زالت الشمس.

ويفهم من قول المؤلف: «بعد الزوال» أن السفر قبل الزوال يوم الجمعة جائز وهو كذلك؛ وذلك لأنه لم يؤمر بالحضور فلم يتعلق الطلب به، فجاز له أن يسافر قبل الزوال.

(1)

سبق تخريجه (1/ 226).

ص: 23

لكن بعض العلماء كرهه، وقال: لئلا يفوت على نفسه فضل الجمعة؛ لأن الجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهما ما اجتنبت الكبائر، فمن أجل أن لا يفوت فضل الجمعة كرهوا له أن يسافر قبل الزوال، ويستثنى من تحريم السفر مسألتان:

الأولى: إذا خاف فوات الرفقة، أي: أن له رفاقاً يريدون أن يسافروا قبل صلاة الجمعة فزالت الشمس، وخاف أن تفوته الرفقة فإن له أن يسافر؛ لأن هذا عذر في ترك الجمعة نفسها، فكذلك يكون عذراً في السفر بعد الزوال.

الثانية: إذا كان يمكنه أن يأتي بها في طريقه.

فمثلاً: لو قدرنا أن شخصاً يريد أن يسافر من عنيزة إلى حائل، وسيمر ببريدة، فهنا يمكن أن يأتي بها في طريقه، فلا يحرم عليه السفر؛ لأن علة التحريم هي خوف فوات الجمعة، وهنا الجمعة لن تفوت.

مسألة: هل مثل ذلك خوف إقلاع الطائرة؟

الجواب: نعم، فلو فرض أن الطائرة ستقلع في وقت صلاة الجمعة، ولو جلس ينتظر فاتته، فهو معذور وله أن يسافر ولو بعد الزوال.

ص: 24

‌فَصْلٌ

‌يُشْتَرَطُ لِصِحَّتِهَا شُرُوطٌ لَيْسَ مِنْهَا إِذْنُ الإِْمَامِ ........

قوله: «يشترط لصحتها شروط»

الشروط: جمع شرط، وهو في اللغة: العلامة.

وفي الشرع: ما يتوقف عليه الشيء، إن كان شرطاً للوجوب فهو ما يتوقف عليه الوجوب، وإن كان شرطاً للصحة فهو ما تتوقف عليه الصحة، وإن كان شرطاً للإجزاء فهو ما يتوقف عليه الإجزاء، هذه ثلاثة أنواع كلها موجودة في شروط الحج.

وهنا يجب أن تعرف الفرق بين شروط الشيء والشروط في الشيء، فمنها:

1 ـ شروط الشيء موضوعة من قبل الشرع، فلا يمكن لأحد إسقاطها، والشروط في الشيء موضوعة من قبل العبد فيجوز لمن هي له أن يسقطها.

2 ـ شروط الشيء ما يتوقف عليه الشيء صحة أو وجوباً أو إجزاء، أو وجوداً في أمور العقليات، والشروط في الشيء ما يتوقف عليه لزوم الشيء.

مثال ذلك: العلم بالمبيع شرط للصحة، فلو باع مجهولاً لم يصح البيع ولو رضي الطرفان؛ لأنه من وضع الشرع.

مثال آخر:

باع شخص بيتاً، واشترط سكناه لمدة سنة، فهذا شرط في البيع لو أسقطه من له الشرط جاز، ولو لم يشترط البائع سكنى الدار لم يثبت له سكنى الدار، فهو لم يثبت إلا من وضع البشر، لمن له الحق أن يسقطه.

ص: 25

فشروط صحة الجمعة ما يتوقف عليها صحة الجمعة، أي: إذا فقد واحد من الشروط لم تصح الجمعة.

قوله: «ليس منها إذن الإمام» ، إذا قال العلماء:(إمام) فهو صاحب أعلى سلطة في البلد، سواء سمي إماماً أو خليفة أو أميراً أو رئيساً أو شيخاً أو غير ذلك.

أي: لو صلى الناس بدون إذن الإِمام فصلاتهم صحيحة.

فإذا قال قائل: لماذا نص المؤلف على نفي هذا الشرط، مع أن السكوت عنه يقتضي انتفاءه؟

فالجواب: لأن في ذلك خِلافاً، فالمذهب: لا يشترط إذن الإمام.

وقال بعض العلماء: لا تقام الجمعة إلا بإذن الإمام؛ وذلك لأنها صلاة جامعة لكل أهل البلد، فلا يجوز أن تقام إلا بإذن الإمام، والإمام إذا استؤذن يجب عليه أن يأذن، ولا يحل له أن يمنع، فلو فرض أنه امتنع ومنعهم من إقامة الجمعة مع وجوبها فحينئذٍ يسقط استئذانه.

ولكن لو قيل بالتفصيل، وهو: أن إقامة الجمعة في البلد لا يشترط لها إذن الإمام، وأنه إذا تمت الشروط وجب إقامتها، سواء أذن أم لم يأذن، وأما تعدد الجمعة فيشترط له إذن الإمام؛ لئلا يتلاعب الناس في تعدد الجمع، فلو قيل بهذا القول لكان له وجه، والعمل عليه عندنا لا تقام الجمعة إلا بعد مراجعة دار الإفتاء، وهذا القول لا شك أنه قول وسط يضبط الناس؛ لأننا لو قلنا: إن كل من شاء من أي حي أقام الجمعة بدون مراجعة الإمام، أو نائبه؛ لأصبح الناس فوضى، وصار كل عشرة في حي، ولو صغيراً يقيمون الجمعة.

ص: 26

‌أَحَدُهَا: الوَقْتُ وَأَوَّلُهُ أَوَّلُ وَقْتِ صَلَاةِ العِيدِ وَآخِرُهُ آخِرُ وَقْتِ صَلَاةِ الظُّهْرِ .....

قوله: «أحدها الوقت» ، هذا هو الشرط الأول وبدأ به المؤلف؛ لأن الوقت آكد شروط الصلاة، سواء هنا أو في أوقات الصلوات الخمس، ولهذا إذا دخل الوقت يصلي الإنسان على حسب حاله، ولو ترك ما لا يقدر عليه من الشروط والأركان، فلو دخل الوقت والإنسان عارٍ ليس عنده ما يستر عورته، أو ليس عنده ماء ولا تراب، أو لا يستطيع أن يتطهر، أو لا يستطيع القيام، أو لا يستطيع التوجه إلى القبلة، أو ببدنه نجاسة لا يستطيع غسلها، فلا نقول: انتظر حتى تتحقق الشروط، بل يصلي إذا خاف فوت الوقت على حسب الحال.

والمؤلف قال هنا: «أحدها الوقت» ، وفي شروط الصلاة، قال:«دخول الوقت» ، فهل هذا اختلاف تعبير لا يختلف به الحكم، أو اختلاف تعبير يختلف به الحكم؟

الجواب: الثاني، أي: أنه اختلاف حكم؛ لأن الشرط السابق في شروط الصلاة هو: دخول الوقت، فتصح الصلاة ولو بعد وقتها، أما هنا فلا تصح الصلاة إلا في وقتها، فلو خرج الوقت ولم يصل ولو لعذر كالنسيان والنوم، فإنه لا يصلي الجمعة، بل يصلي ظهراً، والصلاة قبل الوقت في الجمعة وغيرها لا تصح؛ لأنه في غير الجمعة نقول: لم يدخل الوقت، وفي الجمعة نقول: ليست في الوقت، والصلاة بعد خروج الوقت في غير الجمعة صحيحة إما مطلقاً، وإما لعذر على القول الراجح، وصلاة الجمعة بعد الوقت لا تصح مطلقاً.

والدليل على اشتراط الوقت: الإِجماع على أنها لا تصح إلا فيه، فلا تصح قبله ولا بعده.

ص: 27

قوله: «وأوله أول وقت صلاة العيد» هذه إحالة على معدم؛ لأن طالب العلم الذي ابتدأ الكتاب، ومشى عليه لم يعرف وقت صلاة العيد، فباب صلاة العيدين بعد صلاة الجمعة، فإذاً تكون الإِحالة على معدم.

وإن قلنا: إن باب العبادات يعتبر شيئاً واحداً فالإحالة على مليء؛ لأن أول العبادات وآخرها واحد.

وعلى كلِّ حال فالذي ينبغي لمن يؤلف أن لا يحيل إلا على شيء معلوم سابق، فلا يحيل على شيء لم يأت بعد.

وعلى كل حال، أول وقت صلاة الجمعة بعد ارتفاع الشمس قِيد رمح أي: قدر رمح، والرمح حوالي متر، فلنا أن نصليها من حين أن ترتفع الشمس قدر رمح.

ولو قال قائل: لماذا خص الوقت بما بعد ارتفاع الشمس قيد رمح، ولم يكن من حين طلوع الشمس؟

فالجواب: لأن الشمس كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: «تطلع بين قرني شيطان ـ أي: الشيطان يقارنها حقيقة ـ فإذا رآها المشركون سجدوا»

(1)

. فاهتز الشيطان طرباً، وقال: سجدوا لي، مع أنهم إنما يسجدون للشمس، لكنهم في الحقيقة إذا سجدوا للشمس فقد أطاعوا الشيطان، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة حين طلوع الشمس حتى ترتفع قيد رمح، وقدره عشر دقائق إلى ربع ساعة، وفي هذه المدة يكون سجود المشركين

(1)

سبق تخريجه (4/ 115).

ص: 28

للشمس قد انتهى، وكل هذا من أجل البعد عن مشابهة المشركين، حتى في العبادات يجب أن نبتعد عن مشابهتهم، وإن كان الوارد الذي يرد على القلب في المشابهة في العبادات أمراً بعيداً، فإذا كنا نهينا أن نتشبه بالمشركين في العبادات التي يكون التشبه فيها بعيداً، فالعادات من باب أولى؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:«من تشبه بقوم فهو منهم»

(1)

، وإسناد الحديث جيد، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه ـ الذي هو من أفيد ما يكون، ولا سيما في الوقت الحاضر ـ «اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم»:(أقل أحوال هذا الحديث التحريم، وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم)؛ لأنه قال: «من تشبه بقوم فهو منهم» فظاهره أنه كافر، لكن هو منهم فيما تشبه به فيهم، فيكون هذا الحديث دالًّا على التحريم، وهو القول الراجح الذي لا شك فيه أن التشبه بالكفار حرام، ولكن لا بد أن نعرف ما هو التشبه، وهل يشترط قصد التشبه؟

فالجواب: أن التشبه أن يأتي الإنسان بما هو من خصائصهم بحيث لا يشاركهم فيه أحد كلباس لا يلبسه إلا الكفار، فإن كان اللباس شائعاً بين الكفار والمسلمين فليس تشبهاً، لكن إذا كان لباساً خاصاً بالكفار، سواء كان يرمز إلى شيء ديني كلباس الرهبان، أو إلى شيء عادي لكن من رآه قال: هذا كافر بناء على لباسه فهذا حرام.

وهل يشترط قصد التشبه أو لا؟

(1)

سبق تخريجه (1/ 168).

ص: 29

الجواب: قد يقول قائل: إنه يشترط قصد التشبه؛ لأنه قال: «من تشبه» وتفعّل تقتضي فعلاً وقصداً، ولكن من نظر إلى العلة عرف أنه متى حصل التشابه ثبت الحكم، ولهذا نص شيخ الإسلام رحمه الله على أنه متى حصلت المشابهة، ولو بغير قصد، ثبت الحكم؛ وذلك لأن العلة لا تختلف بالقصد وعدمه، فالعلة أن من رأى هذا الرجل قال: هذا كافر، وهذا لا يشترط فيه القصد.

لكن لو فرض أن الإنسان في بلد ليس فيه من الكفار من يلبس هذا اللباس، وهو لا يعرف عن لباس الكفار في بلادهم، ولبس لباساً يشبه لباس الكفار في بلادهم، وهو لم يقصد، فهنا قد نقول: إنه لا تشبه؛ لأن العلة قد زالت تماماً.

فإن قال قائل: على قولكم حرموا قيادة الطائرات التي تحمل الصواريخ، وما أشبه ذلك؛ لأن الذين يقودونها كفار؟

فالجواب: أن هذه ليست من أزيائهم التي يتحلون بها، ويتخذونها شعاراً لهم، فهذه آلة يقودها الكفار، ويقودها المسلمون، والصحابة رضي الله عنهم لما فتحوا البلاد ركبوا السفن التي يصنعها الكفار، والتي هم بها أدرى، ولم يقولوا: إذا ركبنا السفينة صرنا متشبهين.

قوله: «وآخره آخر وقت صلاة الظهر» ، أي آخر وقت صلاة الجمعة، آخر وقت صلاة الظهر، وذلك إذا كان ظل الشيء كطوله بعد فيء الزوال.

وعلامة ذلك: أن الشمس إذا طلعت يكون لكل شاخص

ص: 30

ـ أي: لكل شيء قائم ـ ظل من جهة المغرب، ثم لا يزال هذا الظل ينقص شيئاً فشيئاً، كلما ارتفعت الشمس نقص إلى أن يقف، فإذا وقف وزاد أدنى زيادة زالت الشمس، فاجعل علامة على المحل الذي بدأ يزيد منه وسيزداد الظل، فإذا كان من العلامة التي زالت عليه الشمس إلى منتهى الظل طول الشاخص، فهنا يخرج وقت الظهر، ويدخل وقت العصر.

فإن قيل: ما هو الدليل على هذا التحديد ابتداء وانتهاء؟ فالجواب: أن عندنا قاعدة مفيدة (أن كل تحديد بمكان أو زمان أو عدد، فإنه لا بد له من دليل)؛ لأن التحديد يحتاج إلى توقيف، فمثلاً: الذين حددوا الحيض بأن أقله يوم وليلة، وأكثره خمسة عشر يوماً فلا بد لهم من الدليل، وإلا فلا قبول، والذين حددوا مسافة القصر بيومين لا بد لهم من الدليل، والذين حددوا الإقامة التي تقطع حكم السفر بأربعة أيام لا بد لهم من الدليل، والذين حددوا الفطرة بصاع لا بد لهم من الدليل، والذين حددوا دخول وقت الجمعة بارتفاع الشمس بقيد رمح نقول: أين الدليل؟ لأن المعروف أن الجمعة تكون عند الزوال، أو بعد الزوال، فحديث أبي هريرة:«من اغتسل، ثم راح في الساعة الأولى، ثم قال: في الثانية، ثم قال: في الثالثة، ثم قال: في الرابعة، ثم الخامسة»

(1)

، يدل على أن هناك فسحة طويلة بين طلوع الشمس ووقت الصلاة، وعليه فالدليل على ابتداء وقت صلاة الجمعة أثر عبد الله بن سيدان رحمه الله قال: «شهدت

(1)

أخرجه البخاري (881)؛ ومسلم (850).

ص: 31

الجمعة مع أبي بكر فكانت خطبته وصلاته قبل نصف النهار، ثم شهدتها مع عمر فكانت خطبته وصلاته إلى أن أقول: قد انتصف النهار، ثم شهدتها مع عثمان فكانت خطبته وصلاته إلى أن أقول: قد زال النهار، فما رأيت أحداً عاب ذلك ولا أنكره». رواه الدارقطني، وأحمد، واحتج به

(1)

. ولكن هذا الحديث لا يستقيم الاستدلال به على أن وقت صلاة الجمعة يكون من ارتفاع الشمس قيد رمح لما يلي:

أولاً: الأثر ضعيف كما قاله النووي وغيره، وراويه يقول عنه البخاري: إنه لا يتابع على حديثه.

ثانياً: لو صح هذا الأثر فليس فيه دليل على دخول وقت الجمعة بارتفاع الشمس قيد رمح؛ لأن قوله: «كانت خطبته وصلاته قبل نصف النهار» ، يدل على أنها قريبة من النصف وهو الزوال، ولو كانت في أول النهار لقال: كانت صلاته وخطبته في أول النهار، فهناك فرق بين أن يقال: قبل النصف وأن يقال: من أول النهار؛ لأن قبل النصف يعني أنها قريبة؛ ولهذا قال: «ثم شهدتها مع عمر، فكانت خطبته وصلاته إلى أن أقول: قد انتصف النهار ثم شهدتها مع عثمان فكانت خطبته وصلاته إلى أن أقول: قد

(1)

أخرجه الدارقطني (2/ 17)؛ وابن أبي شيبة (2/ 107)؛ وعبد الرزاق (5210)، ولم نقف عليه في مسند الإمام أحمد ولكن في رواية عبد الرزاق دون قوله: «ثم شهدنا مع عثمان

». و «إسناده صحيح إلى ابن سيدان» . وقال البخاري في «التاريخ الكبير» عن عبد الله بن سيدان: «لا يتابع على حديثه» .

انظر: «الجرح والتعديل» (5/ 68)؛ و «فتح الباري» (2/ 387)؛ و «التعليق المغني» (2/ 17).

ص: 32

زال النهار»، وهذا يدل على أن صلاة أبي بكر رضي الله عنه كانت قريبة من الزوال، والقول بأن صلاة الجمعة تصح قبل الزوال هو المذهب، وهو من المفردات.

القول الثاني: أنها لا تصح إلا بعد الزوال، وهذا مذهب الأئمة الثلاثة.

القول الثالث: أنها تصح في الساعة السادسة قبل الزوال بساعة استناداً إلى حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «من راح في الأولى، ثم الثانية، ثم الثالثة، ثم الرابعة، ثم الخامسة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر»

(1)

، فيكون حضور الإمام على مقتضى حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الساعة السادسة، ولهذا رجح الموفق رحمه الله في المغني ـ وهو من أكابر أصحاب الإمام أحمد ـ أنها لا تصح قبل السادسة، ولا في أول النهار كما ذهب إليه كثير من الأصحاب، ومنهم الخرقي، وهذا القول هو الراجح أنها لا تصح في أول النهار، إنما تصح في السادسة، والأفضل على القول بأنها تصح في السادسة، أن تكون بعد الزوال وفاقاً لأكثر العلماء.

‌فَإِن خَرَجَ وَقْتُها قَبلَ التَّحْرِيمَةِ صَلَّوا ظُهْراً، وَإِلاَّ فَجُمُعَةً.

قوله: «فإن خرج وقتها قبل التحريمة صلوا ظهراً، وإلا فجمعة» ، أي: إن خرج وقت الجمعة قبل أن يدركوا تكبيرة الإحرام في الوقت فإنهم يصلون ظهراً، وهذه المسألة تكاد تكون فرضية لا واقعية؛ لأنه يبعد أن يترك أهل بلد كامل صلاة الجمعة إلى ألا يبقى من الوقت إلا مقدار ما يجب من الخطبة وتكبيرة الإحرام.

(1)

سبق تخريجه ص (31).

ص: 33

وأيضاً من الذي يقدر أنه بقي مقدار تحريمة قبل أن يصير ظل الشاخص مثله، فهذا صعب جداً، وفي الزمن السابق ليس عندهم دقة هذا الحساب، فهذه المسألة في الحقيقة من الأمور التي تكون فرضية، ولكن الفقهاء رحمهم الله وجزاهم عن أمة محمد خيراً ـ يفرضون المسائل المتوقعة خوفاً من أن تقع ولو في ألف سنة مرة؛ من أجل تمرين الذهن على تطبيق المسائل على أصولها، وهذا من حسن التربية والتعليم أن يذكر المعلم الأصول، ثم يفرع عليها التفريعات، وإن كانت نادرة الوقوع أو فرضية الوقوع، فقول المؤلف:«إذا خرج وقتها قبل أن يكبروا تكبيرة الإحرام صلوها ظهراً» ؛ لأن الظهر تقضى والجمعة لا تقضى، ولكن لا بد أن يتقدم تكبيرةَ الإحرام واجبٌ الخطبة أي: خطبتان بأركانهما، ثم تكبيرة الإحرام، هذا ما ذهب إليه المؤلف بناء على أن إدراك تكبيرة الإحرام معتبر كما هو المذهب. والمذهب جميع الإدراكات تعتبر تكبيرة الإحرام إلا إدراكاً واحداً، وهو إدراك الرجل صلاة الجمعة لا يكون إلا بإدراك ركعة كاملة كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

والصحيح: أن جميع الإدراكات لا تكون إلا بركعة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة»

(1)

، هذا منطوق الحديث، ومفهومه أن من لم يدرك ركعة لم يدرك الصلاة، وهذا عام في جميع الإدراكات، فمن ذلك:

1 ـ لو حاضت المرأة بعد غروب الشمس بمقدار تكبيرة

(1)

سبق تخريجه (2/ 121).

ص: 34

الإحرام، فعلى المذهب أدركت المغرب، وعلى القول بأنه لا بد من ركعة لم تدرك، وينبني عليه هل إذا طهرت من الحيض تقضي هذه الصلاة أو لا تقضيها؟

والجواب: على المذهب أنها تقضيها، وعلى القول الثاني لا تقضيها.

وهناك قول ثالث في هذه المسألة بالذات: أنه لا قضاء عليها إلا إذا أخرت الصلاة حتى ضاق وقتها، ثم حاضت فحينئذٍ يلزمها القضاء، ويعللون ذلك: بأن هذه المرأة لها الحق في تأخير الصلاة إلى أن يضيق الوقت عن فعلها، فهي إذا أخرت غير آثمة، فإذا جاءها المانع في وقت هي غير آثمة فيه فإنها لا تعد مفرطة، ثم الظاهر من نساء الصحابة أنهن إذا حضن في الوقت لا يقضين صلاة الوقت، وإن كان يحتمل أنهن عند تحري الحيض يقدمن الصلاة في أول الوقت خشية أن يحدث لهن حيض، فالله أعلم.

2 ـ امرأة طهرت من الحيض قبل غروب الشمس بمقدار تكبيرة الإحرام؟

فعلى المذهب يلزمها صلاة العصر، وكذلك الظهر أيضاً؛ لأنها تجمع إليها.

وعلى القول الثاني لا تلزمها صلاة العصر ولا الظهر؛ لأن الظهر تلزمها تبعاً ولا تلزمها صلاة العصر؛ لأنها لم تدرك من الوقت مقدار ركعة.

مسألة: امرأة طهرت من الحيض قبل غروب الشمس بمقدار ركعة فتلزمها صلاة العصر على القولين.

ص: 35

والصحيح: أن صلاة الظهر لا تلزمها.

قوله: «فإن خرج وقتها قبل التحريمة صلوا ظهراً، وإلا فجمعة» ، «إن خرج وقتها» أي: وقت الجمعة.

«قبل التحريمة» أي: قبل تكبيرة الإحرام، فإنهم يصلونها ظهراً؛ لأن الوقت قد فات، فإن الوقت لا يدرك إلا بتكبيرة الإحرام، فمن فاتته تكبيرة الإحرام قبل خروج الوقت فقد فاته الوقت، وهذا الذي مشى عليه المؤلف رحمه الله مبني على أن الإدراك يكون بتكبيرة الإحرام.

والصحيح: أن الإدراك لا يكون إلا بركعة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من أدرك ركعة من الصلاة، فقد أدرك الصلاة»

(1)

.

وعلى هذا فنقول: إن خرج وقتها قبل إدراك ركعة قبل خروجه فإنهم يصلون ظهراً.

مسألة: إذا بقي من الوقت مقدار الواجب من الخطبة فماذا تصلي؟

الجواب: تصلي ظهراً؛ لأنه لا يمكن إقامة الجمعة؛ لأن الجمعة لا بد أن يتقدمها خطبتان، فإذاً لا بد أن يبقى من وقت الجمعة مقدار الواجب من الخطبتين، ومقدار تكبيرة الإحرام على قول المؤلف، أو ركعة على القول الذي رجحناه.

ولو قال قائل: هل يمكن أن يخرج وقت صلاة الجمعة على الناس جميعاً؟

(1)

سبق تخريجه ص (34).

ص: 36

فالجواب: يمكن، لكنه نادر، وصورة إمكانه: أن يكون الجو ملبداً بالغيوم، وليس عندهم ساعات، فيظنون أن الوقت مبكر، ثم تتجلى الغيوم وإذا هم قرب صلاة العصر.

‌الثاني: حُضُورُ أَرْبَعِينَ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِها.

قوله: «الثاني: حضور أربعين من أهل وجوبها» ، يعني أن الشرط الثاني لصحة الجمعة حضور أربعين، والمراد حضورهم الخطبتين والصلاة، وسبق بيان من هم أهل الوجوب، فلو حضر ثلاثون من أهل الوجوب الخطبة دون الصلاة لم تصح، ولو حضروا الصلاة دون الخطبة لم تصح الصلاة.

وسبق بيان من هم أهل وجوبها، وهو: كل ذكر، حر، مكلف، مسلم، مستوطن ببناء ليس بينه وبين المسجد أكثر من فرسخ ـ ستة شروط ـ فلا بد أن يكون هؤلاء الأربعون متصفين بهذه الصفات.

فإن حضر تسعة وثلاثون حراً وعبد، فإنها لا تصح؛ لأن العبد ليس من أهل الوجوب، وبه تمام الأربعين، فإن حضر تسعة وثلاثون مستوطناً ومسافر مقيم فلا تصح؛ لأن المسافر المقيم غير مستوطن، ونحن اشترطنا أن يكون مستوطناً، فإن حضرت امرأة وتسعة وثلاثون رجلاً فلا تصح؛ لأنها ليست من أهل الوجوب، ولو اجتمع في بلد من بلاد الكفار طلبة يبلغون مائة، وليس فيهم أحد من أهل البلد، فإنهم لا يقيمون الجمعة؛ لأنهم غير مستوطنين.

واستدلوا على اشتراط الأربعين بما يلي:

1 ـ قال أحمد: «بعث النبي صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير إلى أهل المدينة، فلما كان يوم الجمعة جمع بهم وكانوا أربعين، وكانت أول جمعة جمعت بالمدينة» ، ويجاب: إن صح هذا الأثر فإنه لا يصح

ص: 37

الاستدلال به؛ وذلك لأن بلوغهم هذا العدد وقع اتفاقاً لا قصداً، فلم يقل: إنهم أمروا أن يجمعوا فلما بلغوا أربعين أقاموا جمعة، فلو كان لفظ الحديث هكذا لكان فيه شيء من الاستدلال.

2 ـ قال جابر: «مضت السنة أن في كل أربعين فما فوق جمعة، وأضحى، وفطراً»

(1)

.

لكن هذا الحديث لا يصح، وبهذا يتبين أن دليل المؤلف إما صريح غير صحيح مثل حديث جابر، وإما صحيح غير صريح مثل حديث مصعب بن عمير، والحديث الذي تثبت به الأحكام لا بد أن يكون صحيحاً وصريحاً؛ لأن الضعيف ليس بحجة، وكذا الصحيح غير الصريح يكون محتملاً، ومن القواعد المقررة عند العلماء في الاستدلال «أنه إذا وجد الاحتمال سقط الاستدلال» ، وعلى هذا فاشتراط الأربعين لإقامة الجمعة غير صحيح؛ لأن ما بني على غير صحيح فليس بصحيح، ثم يقال: إنه ثبت في صحيح مسلم «أن الصحابة رضي الله عنهم لما قدمت العير من الشام إلى المدينة وكانوا في شفقة لقدومها لشدة حاجتهم انفضوا إليها، والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، ولم يبق معه إلا اثنا عشر رجلاً ـ أقل من الأربعين ـ وبقي مقيماً لصلاة الجمعة»

(2)

.

لكن قالوا: لعل هؤلاء الذين خرجوا رجعوا فوراً قبل أن يمضي النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته.

(1)

أخرجه الدارقطني (2/ 4)؛ والبيهقي (3/ 177).

وقال البيهقي: تفرد به عبد العزيز القرشي، وهو ضعيف.

(2)

أخرجه مسلم (863) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه.

ص: 38

ويجاب: أن هذا الاحتمال خِلاف الأصل والظاهر.

فهو خلاف الأصل؛ لأن الأصل أن من خرج لا يعود حتى يثبت دليل أنه عاد.

وخلاف الظاهر؛ لأنه ليس من الظاهر أنهم يخرجون ينظرون فقط، ثم يرجعون، بل سيبقون هناك يشترون من المتاع الذي حضر؛ ولهذا عاتبهم الله عز وجل فقال:{وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} [الجمعة: 11]، فصعبٌ على النفوس أن الرسول صلى الله عليه وسلم يترك {قائماً} فيهم يعظهم، ويرشدهم ثم يتركونه قبل فراغ الخطبة، فوبخهم بما هو أشد في قوله:{قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} .

القول الثاني: أنه لا بد من اثني عشر رجلاً من أهل الوجوب.

واستدلوا: بحديث جابر السابق

(1)

، وأجيب: بأن هذا وقع اتفاقاً فلم يكن قصداً، فربما يبقى أكثر، وربما يبقى أقل، [ولا يصح الاستدلال به].

القول الثالث: أنه يشترط أربعة رجال، [إمام وثلاثة يوجه إليهم الخطاب]، وهذا مذهب أبي حنيفة؛ لقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] و «آمنوا» جمع، وأقل الجمع ثلاثة، والإمام هو الذي يُسعى لخطبته.

(1)

سبق تخريجه ص (38).

ص: 39

وأجيب: بأن الاستدلال ليس بصحيح؛ لأن قوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [الجمعة: 9] وإن كان جمعاً، فالمراد به الجنس، ولهذا يؤمر بالحضور إلى الجمعة، ولو كان واحداً.

القول الرابع: أنه يشترط أن يكونوا ثلاثة: خطيب ومستمعان، واستدلوا:

1 ـ أن الثلاثة أقل الجمع.

2 ـ أنه روى الإمام أحمد وأبو داود والنسائي من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من ثلاثة في قرية لا تقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان»

(1)

، والصلاة عامة تشمل الجمعة وغيرها، فإذا كانوا ثلاثة في قرية لا تقام فيهم الصلاة، فإن الشيطان قد استحوذ عليهم، وهذا يدل على وجوب صلاة الجمعة على الثلاثة، ولا يمكن أن نقول: تجب على الثلاثة، ثم نقول: لا تصح من الثلاثة؛ لأن إيجابها عليهم ثم قولنا: إنها غير صحيحة تضاد، معناه: أمرناهم بشيء باطل، والأمر بالشيء الباطل حرام، هذا القول قوي، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.

القول الخامس: أن الجمعة تجب على اثنين فما فوق؛ لأن

(1)

أخرجه الإمام أحمد (5/ 196)(6/ 446)؛ وأبو داود (547)؛ والنسائي (2/ 106)؛ وابن خزيمة (1476)؛ وابن حبان (2101) إحسان؛ والحاكم (1/ 211)؛ والبيهقي (3/ 54). وقال الحاكم: «هذا حديث صدوق

متفق على الاحتجاج برواته إلا السائب بن حبيش وقد عرف من مذهب زائدة أنه لا يحدث إلا عن الثقات».

ص: 40

الاثنين جماعة فيحصل الاجتماع، ومن المعلوم أن صلاة الجماعة في غير الجمعة تنعقد باثنين بالاتفاق، والجمعة كسائر الصلوات، فمن ادعى خروجها عن بقية الصلوات، وأن جماعتها لا بد فيها من ثلاثة فعليه الدليل، وهذا مذهب أهل الظاهر، واختاره الشوكاني في شرح المنتقى، وهو قول قوي، لكن ما ذهب إليه شيخ الإسلام أصح؛ إذ لا بد من جماعة تستمع، وأقلها اثنان، والخطيب هو الثالث، وحديث أبي الدرداء

(1)

يؤيد ما قاله الشيخ.

القول السادس: أن الجمعة تصح حتى من واحد؛ لأن الجمعة فرض الوقت، فما الفرق بين الجماعة والواحد، كما أن الظهر فرض الوقت ولا فرق بين الواحد والجماعة، ومن ادعى شرطية العدد في الجمعة فعليه الدليل، ولكن هذا قول شاذ، وهناك أقوال أخرى.

وأقرب الأقوال إلى الصواب: أنها تنعقد بثلاثة، وتجب عليهم، وعلى هذا فإذا كانت هذه القرية فيها مائة طالب، وليس فيها من مواطنيها إلا ثلاثة فتجب على الثلاثة بأنفسهم، وعلى الآخرين بغيرهم، وإذا كان فيها مواطنان ومائة مسافر مقيم لا تجب عليهم.

مسألة: إذا حضر تسعة وثلاثون، والإمام يرى أن الواجب أربعون، والتسعة والثلاثون يرون أن الواجب ثلاثة فنقول: الإمام لا يصلي بهم، ويصلي واحد من هؤلاء الذين لا يرون الأربعين، ثم يلزم الإمام أن يصلي؛ لأنها أقيمت صلاة الجمعة.

وإذا كان بالعكس الإمام لا يرى العدد أربعين، والتسعة

(1)

سبق تخريجه ص (40).

ص: 41

والثلاثون يرون العدد أربعين فلا يصلون جمعة؛ لأن التسعة والثلاثين يقولون: نحن لن نصلي فيبقى واحد، فلا تنعقد به الجمعة فيصلون ظهراً.

وهذه المسألة التي ذكرها العلماء رحمهم الله تدلنا على أن الإنسان ينبغي أن يكون واسع الأفق، فالعلماء أسقطوا الجمعة من أجل الخلاف، وأوجبوها من أجل الخلاف، فالمسائل الخلافية التي يسوغ فيها الاجتهاد لا ينبغي للإنسان أن يكون فيها عنيفاً بحيث يضلل غيره، فمن رحمة الله عز وجل أنه لا يؤاخذ بالخلاف إذا كان صادراً عن اجتهاد، فمن أصاب فله أجران، ومن أخطأ فله أجر واحد، وأهل السنة والجماعة من هديهم وطريقتهم ألا يضللوا غيرهم ما دامت المسألة يسوغ فيها الاجتهاد، حتى إنهم قالوا: الخلفاء أربعة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي من خالف ترتيبهم في الخلافة فهو ضال، أي من قال: إن علياً أولى من أبي بكر بالخلافة فهو ضال، حتى قال الإمام أحمد رحمه الله:«هو أضل من حمار أهله» ، ومن خالف في التفضيل بين عثمان وعلي، فقال: علي أفضل من عثمان فإنه لا يضلل؛ لأن هذه مسألة فيها خلاف بين أهل السنة، لكن استقر أمر أهل السنة على تفضيل عثمان تبعاً للخلافة، فإذا كان يرى أن الأحاديث الواردة في فضل علي رضي الله عنه تفوق الأحاديث الواردة في فضل عثمان رضي الله عنه فلا يضلل، لكن من فضَّل عليًّا على أبي بكر وعمر فقد قدح في علي نفسه؛ لأن علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول على منبر الكوفة، وهو يخطب الناس: «خير

ص: 42

هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر»

(1)

.

‌الثالث: أَنْ يَكُونُوا بِقَرْيَةٍ مُسْتَوْطِنِينَ.

قوله: «الثالث أن يكونوا بقرية مستوطنين» ، أي: يشترط لصحة صلاة الجمعة أن يكون العدد المشروط مستوطنين بقرية، وهذا هو الشرط الثالث لصحة صلاة الجمعة، فإن كانوا في خيام كالبادية، فإنه لا جمعة عليهم، ولا تصح منهم الجمعة.

ودليل هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر البدو الذين حول المدينة بإقامة جمعة؛ لأنهم ليسوا مستوطنين، فربما يكونون هذا العام في هذا المكان، وفي العام الثاني أو الثالث في مكان آخر؛ لأنهم يتبعون الربيع والعشب.

والقرية في اللغة العربية: تشمل المدينة والمصر؛ لأنها مأخوذة من الاجتماع.

وانظر إلى مكة أم القرى سماها الله قرية، قال الله تعالى:{وَكَأَيِّن مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ} [محمد: 13]، مع أن الله قال:{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} [الشورى: 7].

والقرية في اللغة غير المفهوم في عرفنا.

فالمراد بالقرية: المدينة سواء كانت صغيرة أو كبيرة.

وقوله: «مستوطنين» ، أي: لا بد أن يكونوا مستوطنين، أي: متخذيها وطناً، سواء كانت وطنهم الأول أم وطنهم الثاني، فالمهاجرون من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه اتخذوا المدينة وطناً ثانياً.

(1)

أخرجه الإمام أحمد (1/ 110)؛ وابن ماجه (106).

ص: 43

وضد المستوطن: المسافر والمقيم، فالمسافر هو الذي على جناح سفر مرَّ في البلد، ليقضي حاجة ويمشي، والمقيم من أقام يوماً أو ثلاثة أيام، أو خمسة أيام، أو أكثر لشغل ثم يرجع، ومن أقام بقرية وهو عازم على السفر، فهل هو مقيم أو مسافر؟

الجواب: شيخ الإسلام يرى أنه مسافر، ويقول: ليس في الكتاب ولا في السنة تقسيم الناس إلى مستوطن ومقيم ومسافر، وليس فيهما إلا مسافر ومستوطن، والمستوطن هو المقيم.

‌وَتَصِحُّ فِيمَا قَارَبَ الْبُنْيَانَ مِن الصَّحْرَاءِ ....................

قوله: «وتصح» أي: الجمعة.

قوله: «فيما قارب البنيان من الصحراء» .

أي: إن أهل القرية لو أقاموا الجمعة خارج البلد في مكان قريب، فإنها تصح، فلا يشترط أن تكون في نفس البلد، بشرط أن يكون الموضع قريباً، مثل: مصلى العيد يكون في الصحراء من البلد؛ لأنّهم في الحقيقة لم يخرجوا من القرية.

وقول المؤلف رحمه الله: «فيما قارب البنيان من الصحراء» يفهم منه أن ما كان بعيداً لا تصحُّ فيه الجمعة، أي: لو أن أهل القرية خرجوا في نزهة بعيداً عن البلد، وأقاموا الجمعة هناك في مكان النزهة البعيد عن البلد، فإنها لا تجزئ؛ لأنهم انفصلوا عن البلد.

فإذا قال قائل: هل القرب هنا محدد بالعرف أو محدد بالمسافة؟

فالجواب: أن العلماء إذا أطلقوا الشيء، ولم يحددوه يرجع في ذلك إلى العرف، كما (أن الكتاب والسنة إذا أطلق الشيء فيهما، وليس له حد شرعي فإن مرجعه إلى العرف) هذه قاعدة مفيدة، وعلى ذلك قال الناظم:

ص: 44

وكل ما أتى ولم يحدد بالشرع كالحرز فبالعرف احدد

(1)

وقول الناظم: (كالحرز) أي حرز الأموال، فمثلاً: أودعتك وديعة، ووضعتها في مكان غير محرز، وسرقت فعليك الضمان، فإذا قال الناس: هذا الرجل مفرط في وضعه المال في هذا المكان، فهذا غير محرز فعليه الضمان، [والذي يدلنا على أن المكان محرز أو غير محرز العرف].

وفي السرقة أيضاً يشترط للقطع أن تكون من حرز، فلو سرقها من غير حرز فلا قطع عليه؛ لأن المفرط صاحب المال.

مثاله: وضع الدراهم عند باب الدكان، ونسي أن يدخلها الدكان، فجاء رجل بالليل وسرقها فلا تقطع يده؛ لأنه ليس من حرز.

ولو وضعها داخل البيت على الصندوق، لكن لم يدخلها، والبيت دائماً مفتوح الباب فسرقت، فهو مفرط، لا سيما إذا ضعف الأمن، والحرز يختلف باختلاف الأمن، فقد تكون السلطة ضعيفة فيتجرأ السراق، وقد تكون السلطة قوية فيرتدع الناس.

فالمؤلف هنا أطلق القرب من البنيان، وإذا أطلق يرجع فيه إلى العرف، فلو أن أهل القرية ـ مثلاً ـ ذهبوا إلى عشرة كيلومترات وأقاموا الجمعة فإن هذا بعيد، ولا ينسب إلى البلد، لكن لو أقاموها على طرف البنيان، فكل يعرف أن هؤلاء هم أهل البلد.

وقال بعض العلماء: لا يجوز أن تقام الجمعة إلا في البنيان

(1)

«منظومة أصول الفقه وقواعده» ، لشيخنا رحمه الله ص (3).

ص: 45

فلو خرجوا قريباً من البنيان فإنها لا تجزئ، لكن ما ذهب إليه المؤلف هو الصحيح، بدليل أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى

(1)

.

‌فَإِن نَقَصُوا قَبْلَ إِتْمَامِها اسْتَأْنَفُوا ظُهْراً .......

قوله: «فإن نقصوا قبل إتمامها استأنفوا ظهراً» ، «نقصوا» الضمير يعود على العدد المشترط أي: إن نقصوا واحداً فأكثر استأنفوا ظهراً، أي: بطلت صلاتهم، ووجب عليهم أن يستأنفوا ظهراً. مثاله:

دخلوا في الجمعة على أنهم أربعون، ثم أحدث أحدهم وخرج فيستأنفون ظهراً؛ لأنه يشترط أن يكون العدد المطلوب من أول الصلاة إلى آخرها.

وقوله: «استأنفوا ظهراً» يستثنى من ذلك ما إذا كان الوقت متسعاً لإعادتها جمعة، فإن اتسع الوقت لإعادتها جمعة بحيث حضر الرجل الذي ذهب ليتوضأ، والوقت متسع فإنه يلزمهم إقامتها جمعة؛ لأن الجمعة فرض الوقت، وقد أمكن إقامتها، فكلام المؤلف ليس على إطلاقه، [بل نقيده بما إذا لم تمكن إعادتها جمعة].

وقال بعض العلماء: بل يتمونها جمعة؛ لأن الصلاة انعقدت على وجه صحيح، فإبطالها بعد انعقادها يحتاج إلى دليل، وإذا لم يكن هناك دليل فإنه يبنى آخرها على أولها.

القول الثالث: قول وسط ـ والغالب أن الوسط من أقوال

(1)

أخرجه البخاري (956)؛ ومسلم (889) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

ص: 46

العلماء هو الصحيح الراجح ـ أنهم إن نقصوا بعد أن أتموا الركعة الأولى أتموا جمعة، فإذا كان النقص في الركعة الثانية فما بعد أتموا جمعة، وإن نقصوا في الركعة الأولى استأنفوا ظهراً ما لم يمكن إعادتها جمعة، وهذا اختيار الموفق رحمه الله، وهذا القول هو الراجح.

ودليله قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة»

(1)

، وكما أنه لو أدرك من الجمعة ركعة أتمها جمعة مع أنه يصلي الثانية وحده.

أما القول بأنهم يتمونها جمعة مطلقاً؛ لأنهم ابتدؤوا الصلاة على وجه صحيح فنحتاج إلى دليل على بطلانها.

فجوابه: أن هذه الصلاة من شرط صحتها العدد، فإذا فقد الشرط في أثنائها بطلت، كما لو أحدث في أثنائها، أو انكشفت عورته، أو ما أشبه ذلك.

‌وَمَنْ أَدْرَكَ مَعَ الإِْمَامِ مِنْهَا رَكْعَةً أَتَمَّهَا جُمُعَةً، وَإِنْ أَدْرَكَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ أَتَمَّهَا ظُهْرا ...........

قوله: «ومن أدرك مع الإمام منها ركعة أتمها جمعة» «مع الإمام» أي: إمام الجمعة.

«منها» أي: الجمعة.

«ركعة» أي: ركعة تامة بسجدتيها أتمها جمعة.

ودليله: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة»

(2)

.

قوله: «وإن أدرك أقل من ذلك أتمها ظهراً» ، أي: بأن جاء

(1)

و

(2)

سبق تخريجه ص (34).

ص: 47

بعد رفع الإمام رأسه من ركوع الركعة الثانية فهنا لم يدرك ركعة فيتمها ظهراً لما سبق من الحديث.

‌إِذَا كَانَ نَوَى الظُّهْرَ .........

قوله: «إذا كان نوى الظهر» أي: يشترط لإتمامها ظهراً أن ينوي الظهر، وأن يكون وقتها قد دخل، وإنما أضفنا هذا الشرط؛ لأن فيه احتمالاً أن تُصلَّى الجمعة قبل الزوال، فإذا صليت قبل الزوال وأدرك منها أقل من ركعة فإنه لا يتمها ظهراً، بل يتمها نفلاً، ثم إذا دخل وقت الظهر صلى الظهر، فيشترط إذاً لمن أدرك مع الإمام أقلّ من ركعة لإتمامها ظهراً شرطان هما:

1 ـ أن ينوي الظهر.

2 ـ أن يكون وقت الظهر قد دخل.

فإن لم ينو الظهر بأن دخل مع الإمام بنية الجمعة؛ لأنه يظن أن هذه هي الركعة الأولى، وذلك بأن جاء والإمام قد قال:«سمع الله لمن حمده» في الركعة الثانية، فظن أنها الركعة الأولى، ثم تبين أنها الركعة الأخيرة، فعلى كلام المؤلف يتمها نفلاً؛ لأنه لم ينو الظهر، وعلى هذا يحتاج المسبوق إذا جاء إلى الجمعة وهو لا يدري هل هي الركعة الأولى أو الثانية؟ أن ينتظر فإن جلس الإمام للتشهد دخل معه بنية الظهر، وإن قام دخل معه بنية الجمعة.

القول الثاني: أنه إذا دخل معه بنية الجمعة، فتبين أنه لم يدرك ركعة، فلينوها ظهراً بعد سلام الإمام، وهذا هو الذي لا يسع الناس إلا العمل به، خصوصاً العامة؛ لأن العامي ولو علم أنها الركعة الثانية وقد فاته ركوعها، فإنه سينوي الجمعة، ثم إذا سلم الإمام، فمن العامة من يتمها جمعة أيضاً، ومنهم من يتمها

ص: 48

ظهراً، لكن لا ينوي الظهر إلا بعد أن يسلم الإمام، وهذا القول هو الصحيح؛ لأن الظهر فرع عن الجمعة، فإذا انتقل من الجمعة إلى الظهر، فقد انتقل من أصل إلى بدل، وكلاهما فرض الوقت، وفي هذه المسألة قد تنخرم القاعدة التي يقال فيها:(إن الانتقال من معين إلى معين يبطل الأول، ولا ينعقد الثاني به).

مثاله: إنسان دخل في الصلاة بنية الظهر ناسياً، ثم ذكر أنه في وقت العصر، وأنه قد صلى الظهر من قبل، وفي أثناء الصلاة نواها عصراً.

فنقول: الظهر بطلت؛ لأنك أبطلتها، والعصر لم تنعقد؛ لأنك لم تنوها عصراً من أولها، والمعين لا بد أن تنويه من أوله، ولكن نقول: هذه المسألة يمكن أن تستثنى من القاعدة بناء على أن الظهر بدل عن الجمعة إذا فاتت فهي فرع لها، وهو لم ينتقل من شيء مغاير من كل وجه.

مسألة مهمة تعتري الناس في أيام موسم الحج والعمرة في المسجد الحرام وهي:

ما إذا زحم الإنسان عن السجود. قال في الروض: «ومن أحرم مع الإمام، ثم زحم عن السجود لزمه السجود على ظهر إنسان أو رجله» .

مثاله: إنسان دخل مع إمام الجمعة، لكن الناس متضايقون، فلما أراد السجود ما وجد مكاناً يسجد فيه، نقول: يجب عليك أن تسجد على ظهر إنسان، أو على رجله.

وقال بعض العلماء: إذا زحم فإنه ينتظر حتى يقوم الناس،

ص: 49

ثم يسجد، ويكون التخلف هنا عن الإمام لعذر.

وقال بعض العلماء: يومئ إيماء أي: يجلس ويومئ بالسجود إيماء؛ لأن الإيماء في السجود قد جاءت به السنة عند التعذر بخلاف التخلف عن الإمام فإنه لم يأت إلا لعذر، وهذا القول أرجح، ويليه القول بأنه ينتظر، ثم يسجد، بعد الإمام، وأما القول بأنه يسجد على ظهر إنسان أو رجله فإنه ضعيف؛ لما يلزم عليه من التشويش التام على المسجود عليه، وقد يقاتل المسجود عليه الساجد، وقد يكون الذي أمامه امرأة.

وأيضاً السجود على ظهر إنسان لا تتأتى معه صورة السجود، لعلو الإنسان في السجود فيكون وجهه محاذياً لرجليه، وهنا الساجد أيضاً يكون رفيعاً.

قال في الروض: «وإن أحرم، ثم زحم، وأخرج عن الصف فصلى فذاً لم تصح» أي: لو أنه زحم، وعجز عن أن يطيق الوقوف في الصف حتى خرج، فإنه على المذهب لا تصح صلاته؛ لأنه فذ.

والصحيح: أن صلاته تصح؛ لأنه معذور في الفذية.

فإذا كان قد صلى الركعة الأولى في الصف فإنه إذا زحم حتى خرج من الصف ينوي الانفراد ويتمها جمعة؛ لأنه أدرك ركعة كاملة فيتمها جمعة هذا على المذهب، والقول الراجح أنه يتمها جمعة مع الإمام؛ لأن انفراده هنا للعذر.

‌وَيُشْتَرَطُ تَقَدُّمُ خُطْبَتَيْنِ ........

قوله: «ويشترط تقدم خطبتين» ، بضم الخاء؛ لأن الخِطبة بالكسر: خطبة النكاح أي: أن يخطب الرجل المرأة، والخُطبة بالضم: خطبة الوعظ، وما أشبه ذلك.

ص: 50

أي: يشترط لصحة الجمعة أن يتقدمها خطبتان، وهذا هو الشرط الرابع، فإن لم يتقدمها خطبتان لم تصح.

ولو تأخرت الخطبتان بعد الصلاة لم تصح والدليل على اشتراط تقدم الخطبتين ما يلي:

1 ـ قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9]، فأمر بالسعي إلى ذكر الله من حين النداء، وبالتواتر القطعي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أذن المؤذن يوم الجمعة خطب، إذاً فالسعي إلى الخطبة واجب، وما كان السعي إليه واجباً فهو واجب؛ لأن السعي وسيلة إلى إدراكه وتحصيله، فإذا وجبت الوسيلة وجبت الغاية.

2 ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قلت لصاحبك: أنصت يوم الجمعة، والإمام يخطب فقد لغوت»

(1)

، وهذا يدل على وجوب الاستماع إليهما، ووجوب الاستماع إليهما يدل على وجوبهما.

3 ـ مواظبة النبي صلى الله عليه وسلم عليهما مواظبة غير منقطعة، فلم يأتِ يوم من أيام الجمعة لم يخطب فيه النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الدوام المستمر صيفاً وشتاءً، شدةً ورخاءً يدل على وجوبهما.

4 ـ أنه لو لم تجب لها خطبتان لكانت كغيرها من الصلوات، ولا يستفيد الناس من التجمع لها، ومن أهم أغراض التجمع لهذه الصلاة الموعظة وتذكير الناس.

(1)

أخرجه البخاري (934)؛ ومسلم (851) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 51

‌مِنْ شَرْطِ صِحَّتِهِمَا: حَمْدُ اللهِ، وَالصَّلَاةُ عَلَى رَسُولِهِ مُحمَّد صلى الله عليه وسلم ...........

قوله: «من شرط صحتهما: حمد الله، والصلاة على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم» ، أي: أن الخطبتين لهما شروط لا تصحان بدونها، ذكر منها المؤلف:«حمد الله» ، وهذا هو الشرط الأول بأن يحمد الله بأي صيغة، سواء كانت الصيغة اسمية أم فعلية، أي: سواء قال: الحمد لله، أو قال: أحمد الله، أو قال: نحمد الله، وسواء كان الحمد في أول الخطبة، أم في آخرها، والأفضل أن يكون في أول الخطبة.

والدليل على اشتراط حمد الله تعالى:

1 ـ قول النبي عليه الصلاة والسلام: «كل أمر لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أقطع»

(1)

، والأقطع: الناقص البركة والخير.

2 ـ حديث جابر في صحيح مسلم: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب حمد الله وأثنى عليه»

(2)

، وهذا استدلال قد يعارض؛ لأنه مجرد فعل، والفعل المجرد لا يدل على الوجوب، لكن لا شك أنه أفضل وأحسن.

الشرط الثاني: من شروط صحة الخطبة الصلاة على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، أي: أن يصلي على الرسول صلى الله عليه وسلم بأي اسم من أسمائه أو صفة تختص به فيقول: اللهم صلِّ على محمد، أو اللهم صل على أحمد، أو اللهم صل على العاقب، أو اللهم صل على الحاشر،

(1)

أخرجه الإمام أحمد (2/ 359)؛ وأبو داود (4840)؛ وابن ماجه (1894)؛ وابن حبان (1) الإحسان، عن أبي هريرة رضي الله عنه. قال الدارقطني في «العلل» (8/ 30):«الصحيح عن الزهري المرسل» .

(2)

أخرجه مسلم (867)(44).

ص: 52

أو اللهم صل على خاتم النبيين، أو المرسل إلى الناس أجمعين.

قال بعض العلماء: ولا بد أن يصلى عليه باسم مُظهر، فإن صلى عليه مضمراً لا مظهراً لم تصح، كما لو قال: أشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، مكتفياً بذلك، ولكن هذا غير صحيح فإن المضمر يحل محل المظهر متى علم مرجعه.

والدليل على اشتراط الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: أن كل عبارة افتقرت إلى ذكر الله افتقرت إلى ذكر رسوله صلى الله عليه وسلم، هكذا علل بعض العلماء.

وهذا التعليل عليل، وليس بصحيح، وما أكثر العبادات التي لا تفتقر إلى ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي تفتقر إلى ذكر الله. مثلاً: لو أراد الإنسان أن يتوضأ يقول: باسم الله، ولا يقول: الصلاة والسلام على رسول الله.

ولو أراد الإنسان أن يذبح يقول: بسم الله، دون أن يصلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل كره بعض العلماء: أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم عند الذبح، وقال: لأن هذا يؤدي إلى الشرك، وحتى لا يكون الإنسان يذبح لله ولرسول الله صلى الله عليه وسلم.

والأذان يفتقر إلى ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن لا يفتقر إلى ذكر الصلاة عليه، فالعلة هنا منتقضة، وانتقاض العلة يدل على بطلانها، ولهذا ليس هناك دليل صحيح يدل على اشتراط الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الخطبة.

والصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم تكون بلفظ الطلب، أو بلفظ الخبر الذي بمعنى الطلب، مثالها بلفظ الطلب: اللهم صل على محمد.

ص: 53

ومثالها بلفظ الخبر الذي بمعنى الطلب: صلى الله على محمد.

‌وَقِرَاءةُ آيَةٍ والوَصِيَّةُ بِتَقْوَى اللهِ عز وجل،

........

قوله: «وقراءة آية» .

هذا هو الشرط الثالث لصحة الخطبة، وهو قراءة آية فأكثر من كتاب الله، فإن لم يقرأ آية لم تصح الخطبة، ولكن يشترط في الآية أن تستقل بمعنى، فإن لم تستقل بمعنى لم تجزئ، فلو قرأ {ثُمَّ نَظَرَ *} [المدثر] فلا تستقل بمعنى، من الذي نظر؟ لا يعلم.

ولو قرأ {مُدْهَآمَّتَانِ *} [الرحمن] فلا تجزئ، ما معنى مدهامتان؟ أي: سوداوان، يفهم منها معنى، لكن ما هما الموصوفتان بهذه الصفة؟

ولو قرأ: {فَصَلِّ لِرَّبِكَ وَانْحَرْ *} [الكوثر] صحت؛ لأنه كلام مستقل مفهوم واضح، والدليل على اشتراط قراءة الآية: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ يوم الجمعة بـ «ق والقرآن المجيد»

(1)

يخطب بها، ولكن هذا ليس بدليل؛ لأن الفعل المجرد لا يدل على الوجوب.

ولهذا ذهب بعض أهل العلم إلى أنه لا تشترط لصحة الخطبة قراءة شيء من القرآن متى تضمنت الموعظة المؤثرة في إصلاح القلوب وبيان الأحكام الشرعية، وهذه الرواية الثانية عن أحمد رحمه الله.

قوله: «والوصية بتقوى الله عز وجل» .

(1)

أخرجه مسلم (872) عن عمرة بنت عبد الرحمن عن أخت لعمرة رضي الله عنهما.

ص: 54

هذا هو الشرط الرابع لصحة الخطبة، وهو الوصية بتقوى الله عز وجل.

والوصية: هي أن يوصي الخطيب المستمعين بتقوى الله سواء قال: أوصيكم بتقوى الله، أو قال: يا أيها الناس اتقوا الله، فلا بد أن يوصي بتقوى الله؛ لأن هذا هو لبُّ الخطبة الذي يحصل به وعظ الناس، ويذكرهم ويلين قلوبهم، ويوصيهم بما ينفعهم.

فإن أتى بمعنى التقوى دون لفظها بأن قال: يا أيها الناس افعلوا أوامر الله، واتركوا نواهي الله فيصح، أو قال: يا أيها الناس أطيعوا الله، وأقيموا أوامره، واتركوا نواهيه فيجزئ.

‌وحضور العدد المشترط ...........

قوله: «وحضور العدد المشترط» .

هذا هو الشرط الخامس لصحة الخطبة، وهو أن يحضر الخطبتين العدد المشترط، فلا بد أن يحضر أربعون من أهل وجوبها، فإن حضر الخطبة عشرون، ثم لما أقيمت الصلاة قبل أن يشرع في الصلاة تموا أربعين، فإنه لا تجزئ الخطبتان، وعليه إعادتهما.

ولو حضر أربعون نصف الخطبة لم يجزئ.

والصحيح: أن تقدير العدد بأربعين ليس بصواب كما سبق، لكننا إذا قلنا يشترط حضور ثلاثة صار لا بد من حضور الثلاثة.

وقوله: «من شرط صحتهما» ، «من» هذه تدل على التبعيض، والتبعيض يدل على أن بعضاً من الشروط لم يذكر، وأن المذكور بعضها، لا كلها، فهناك شروط أخرى تضاف إلى ما ذكر.

ص: 55

الشرط السادس: أن تكون الخطبتان بعد دخول الوقت، فإن خطب قبل دخول الوقت لم تصح الخطبتان، ثم لا تصح الجمعة بعد ذلك.

وقال بعض أهل العلم: إن الشرط الأساسي في الخطبة أن تشتمل على الموعظة المرققة للقلوب، المفيدة للحاضرين، وأن الحمد لله، أو الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وقراءة آية، كله من كمال الخطبة.

ولكن هذا القول وإن كان له حظ من النظر لا ينبغي للإنسان أن يعمل به إذا كان أهل البلد يرون القول الأول الذي مشى عليه المؤلف؛ لأنه لو ترك هذه الشروط التي ذكرها المؤلف لوقع الناس في حرج، وصار كلٌّ يخرج من الجمعة، وهو يرى أنه لم يصل الجمعة، وإذا أتيت بهذه الشروط لم تقع في محرم، ومراعاة الناس في أمر ليس بحرام هو مما جاءت به الشريعة، فقد راعى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في الصوم والفطر في رمضان في حال السفر، وراعاهم عليه الصلاة والسلام في بناء الكعبة حيث قال لعائشة رضي الله عنها:«لولا أن قومك حديثو عهد بكفر لهدمت الكعبة وبنيتها على قواعد إبراهيم»

(1)

، وهذه القاعدة معروفة في الشرع.

أما إذا راعاهم في المحرم فهذه تسمى مداهنة لا تجوز، وقد قال الله تعالى:{وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ *} [القلم].

‌وَلَا يُشْتَرَطُ لَهُمَا الطَّهَارَةُ ...........

قوله: «ولا يشترط لهما الطهارة» أي: لا يشترط للخطبتين أن يكون على طهارة، فلو خطب وهو محدث فالخطبة صحيحة؛ لأنها ذكر وليست صلاة.

(1)

أخرجه البخاري (1585)(1586)؛ ومسلم (1333).

ص: 56

وإذا خطب وهو جنب ففيه مشكلتان:

المشكلة الأولى: اللبث في المسجد، وزوالها أن يقال: إنه يتوضأ فتزول المشكلة بهذا الوضوء.

المشكلة الثانية: قراءة القرآن وهو جنب، والمذهب أن قراءة الآية شرط لصحة الخطبة، وقراءة الجنب للقرآن حرام، فكيف تصح هذه القراءة، وليس عليها أمر الله ورسوله؟ بل الذي عليها النهي، لكن قالوا: إن النهي هنا لا يتعلق بقراءة الآية في الخطبة، بل هو عام، فلو ورد نهي: لا تقرأ القرآن وأنت جنب حال الخطبة، ثم قرأ قلنا: إن الخطبة لا تصح؛ لأنه فعل فعلاً محرماً في نفس العبادة.

وهذا صحيح، لكنه أحياناً ينتقض على المذهب، فقد قالوا: إن الرجل لو صلى بثوب مغصوب فصلاته باطلة، مع أن تحريم لباس المغصوب ليس خاصاً في الصلاة، بل عام، ومع ذلك يقولون: إنها لا تصح الصلاة؛ لأنه ثوب محرم، ولكن الصحيح أن الصلاة تصح بالثوب المغصوب.

ولو توضأ بماء مغصوب فلا يصح الوضوء على المشهور من المذهب؛ لأن الماء المغصوب يحرم استعماله.

والقول الثاني: وهو الراجح: أنه يصح أن يتوضأ بماء مغصوب مع الإثم، وعليه ضمانه لصاحبه.

وهذه المسألة أي: صحة قراءة الآية من القرآن وهو جنب مع الإثم مما يقوي القول الذي رجحناه، وهو صحة الوضوء بالماء المغصوب، وصحة الصلاة بالثوب المغصوب، وصحة الصلاة بالبقعة المغصوبة أيضاً.

ص: 57

وقد سبق أن بعض أهل العلم لا يشترط قراءة آية، وعليه لا يرد هذا الإشكال أصلاً.

‌وَلَا أَنْ يَتَوَلاَّهُمَا مَنْ يَتَوَلَّى الصَّلَاةَ.

.......

قوله: «ولا أن يتولاهما من يتولى الصلاة» أي: لا يشترط أن يتولى الخطبتين من يتولى الصلاة، فلو خطب رجل وصلى آخر فهما صحيحتان، والصلاة صحيحة.

لكن هل يشترط أن يتولاهما واحد، أو يجوز أن يخطب الخطبة الأولى واحد والثانية آخر؟

الجواب: يجوز، أي: لا يشترط أن يتولاهما واحد، فلو خطب رجل، وخطب الثانية رجل آخر صح.

ولكن هل يشترط أن يتولى الخطبة الواحدة واحد؟ أي: لو أن رجلاً خطب الخطبة الأولى في أولها، وفي أثنائها تذكر أنه على غير وضوء مثلاً فنزل، ثم قام آخر وأتم الخطبة، لم أر حتى الآن من تكلم عليها، ولكنهم ذكروا في الأذان أنه لا يصح من رجلين أي: لا يصح أن يؤذن الإنسان أول الأذان، ثم يكمله الآخر؛ لأنه عبادة واحدة، فكما أنه لا يصح أن يصلي أحد ركعة، ويكمل الثاني الركعة الثانية، فكذلك لا يصح أن يؤذن شخص أول الأذان ويكمله آخر، أما الخطبة فقد يقال: إنها كالأذان أي: لا بد أن يتولى الخطبة الواحدة واحد، فلا تصح من اثنين، سواء لعذر أو لغير عذر، فإن كان لغير عذر فالظاهر أن الأمر واضح؛ لأن هذا شيء من التلاعب.

وإذا كان لعذر مثل: أن يذكر الذي بدأ الخطبة أنه على غير وضوء، ثم ينزل ليتوضأ، فهنا نقول: الأحوط أن يبدأ الثاني

ص: 58

الخطبة من جديد، حتى لا تكون عبادة واحدة من شخصين.

مسألة: هل يشترط أن يكون العدد الحاضر لهما هو العدد الحاضر للصلاة.

مثلاً: بأن خطب بأربعين، ثم خرج الأربعون، وجاء أربعون غيرهم وصلوا الجمعة.

فالجواب: أنه يشترط؛ لأنه لا بد أن يحضروا الخطبتين والصلاة.

مسألة: لم يذكر صاحب المتن ما يبطل الخطبتين، لكن ذكر الشارح في الروض أنهما تبطلان بالكلام المحرم، أي: لو أن الخطيب في أثناء الخطبة تكلم كلاماً محرماً، كقذف أو لعن، أو ما أشبه ذلك، فإنها تبطل؛ لأن ذلك ينافي مقتضى الخطبة.

فالمقصود بالخطبة وعظ الناس وزجرهم عن الحرام، فإذا كان الخطيب نفسه يفعل الحرام فإنها تبطل.

مسألة: لم يذكر الماتن أيضاً هل يشترط أن تكون الخطبتان باللغة العربية أم لا؟

والجواب: إن كان يخطب في عرب، فلا بد أن تكون بالعربية، وإن كان يخطب في غير عرب، فقال بعض العلماء: لا بد أن يخطب أولاً بالعربية، ثم يخطب بلغة القوم الذين عنده.

وقال آخرون: لا يشترط أن يخطب بالعربية، بل يجب أن يخطب بلغة القوم الذين يخطب فيهم، وهذا هو الصحيح؛ لقوله تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم: 4]. ولا يمكن أن ينصرف الناس عن موعظة، وهم لا يعرفون ماذا قال الخطيب؟ والخطبتان ليستا مما يتعبد بألفاظهما

ص: 59

حتى نقول: لا بد أن تكونا باللغة العربية، لكن إذا مرَّ بالآية فلا بد أن تكون بالعربية؛ لأن القرآن لا يجوز أن يغير عن اللغة العربية.

‌وَمِنْ سُنَنِهِمَا: أَنْ يَخْطُبَ عَلَى مِنْبَر، أَوْ مَوْضِعٍ عَالٍ، وَيُسَلِّمَ عَلَى المَأْمُومِينَ إِذَا أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ يَجْلِسَ إِلَى فَرَاغِ الأَذَانِ ..........

قوله: «ومن سننهما أن يخطب على منبر» أي: من سنن الخطبتين أن يخطب على منبر، والمنبر: على وزن مفعل من النبر، وهو الارتفاع، أي: على شيء مرتفع، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب في أول الأمر إلى جذع نخلة في مسجده، ثم صنع له منبر من خشب الغابة (الأثل) فصار يخطب عليه، ولما خطب عليه أول جمعة صاح جذع النخلة كما تصيح الإبل العشار، حتى نزل النبي صلى الله عليه وسلم وسكته فسكت، والناس يسمعون

(1)

، وإنما كان ذلك سنة اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ ولأن ذلك أبلغ في إيصال الخطبة إلى الناس؛ لأنه إذا كان مرتفعاً سمعه الناس أكثر، وكذلك إذا كان مرتفعاً رآه الناس بأعينهم، ولا شك أن تأثر السامع إذا رأى المتكلم أكثر من تأثره وهو لا يراه، وهذا أمر مشاهد، ولهذا كان من هدي الصحابة ـ على ما ذكر ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب استقبلوه بوجوههم

(2)

؛ ليكون ذلك أبلغ في حضور القلب والانتفاع بالخطبة، قال العلماء: ينبغي أن يكون المنبر على يمين مستقبل القبلة في المحراب كما هو معمول به الآن؛ من أجل أن الإمام إذا نزل منه ينفتل عن يمينه.

قوله: «أو موضع عال» أي: إذا لم يوجد منبر، خطب على

(1)

أخرجه البخاري (918) عن جابر رضي الله عنه.

(2)

أخرجه الترمذي (509) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وقال الترمذي: لا يصح في هذا الباب عن النبي (ص) شيء، وقال الحافظ في «البلوغ» (472): رواه الترمذي بإسناد ضعيف.

ص: 60

موضع مرتفع، ولو كومة من التراب، من أجل أن يبرز أمام الناس، وكما ذكرنا سابقاً؛ لأن ذلك أبلغ في الصوت، وأبلغ في التلقي عن الخطيب؛ لأن من يُشَاهَدُ يتلقى منه أكثر.

قوله: «ويسلم على المأمومين إذا أقبل عليهم» أي: يسن إذا صعد المنبر أن يتجه إلى المأمومين، ويسلم عليهم؛ لأن ذلك روي عن النبي صلى الله عليه وسلم

(1)

، وإن كان الحديث المرفوع فيه ضعف، لكن الأمة أجمعت على العمل به، واشتهر بينها أن الخطيب إذا جاء وصعد المنبر استقبل الناس وسلم عليهم، وهذا التسليم العام.

أما الخاص فإنه إذا دخل المسجد سلم على من يمر عليه أولاً، وهذا من السنة بناء على النصوص العامة أن الإنسان إذا أتى قوماً فإنه يسلم عليهم، فيكون إذاً للإمام سلامان:

السلام الأول: إذا دخل المسجد سلم على من يمر به.

والسلام الثاني: إذا صعد المنبر، فإنه يسلم تسليماً عاماً على جميع المصلين.

قوله: «ثم يجلس إلى فراغ الأذان» ، أي: يسن إذا سلم على المأمومين أن يجلس حتى يفرغ المؤذن، وفي هذه الحال يتابع المؤذن على أذانه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول المؤذن»

(2)

، وهذا عام فينبغي للإمام وهو على المنبر

(1)

أخرجه ابن ماجه (1109)؛ والبيهقي (3/ 204) من حديث جابر، وفيه ابن لهيعة وهو ضعيف. وأخرجه الطبراني في «الأوسط» (6677)؛ والبيهقي (3/ 205) عن ابن عمر، وفيه عيسى بن عبد الله وهو ضعيف.

انظر: «لسان الميزان» (4/ 462).

(2)

سبق تخريجه (2/ 81).

ص: 61

أن يجيب المؤذن، وكذلك المأمومون يجيبون المؤذن، فيقولون مثل ما يقول إلا في الحيعلتين، فإنهم يقولون: لا حول ولا قوة إلا بالله.

‌وَيَجْلِسَ بَيْنَ الخُطْبَتَيْنِ، وَيَخْطُبَ قَائِماً، وَيَعْتَمِدَ عَلَى سَيْفٍ أَوْ قَوْسٍ، أَوْ عَصَا ......

قوله: «ويجلس بين الخطبتين» أي: يسن أن يجلس بين الخطبتين؛ لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه كان يجلس بين الخطبتين»

(1)

، ولأنه لو لم يجلس لم يتبين التمييز بينهما؛ إذ قد يظن الظان أنه سكت لعذر منعه من الكلام، لكن إذا جلس تميزت الخطبة الأولى عن الثانية.

وعلى هذا يكون للخطيب جلستان: الأولى عند شروع المؤذن في الأذان، والثانية بين الخطبتين.

قوله: «ويخطب قائماً» أي: يسن أن يخطب قائماً؛ لفعل النبي صلى الله عليه وسلم

(2)

؛ ولأن ذلك أبلغ بالنسبة للمتكلم؛ لأن القائم يكون عنده من الحماس أكثر من الجالس؛ ولأنه أبلغ أيضاً في إيصال الكلام إلى الحاضرين، لا سيما في الزمن السابق، إذ ليس فيه مكبر صوت.

قوله: «ويعتمد على سيف أو قوس أو عصا» أي: يسن أن يعتمد حال الخطبة على سيف، أو قوس، أو عصا.

واستدلوا بحديث يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم في صحته نظر

(3)

، وعلى تقدير صحته قال ابن القيم: إنه لم يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم بعد اتخاذه المنبر أنه اعتمد على شيء.

(1)

و

(2)

سبق تخريجه ص (52).

(3)

أخرجه أبو داود (1096) عن الحكم بن حزن، وفيه:«فقام متوكئاً على عصا أو قوس» .

ص: 62

ووجه ذلك: أن الاعتماد إنما يكون عند الحاجة، فإن احتاج الخطيب إلى اعتماد، مثل أن يكون ضعيفاً يحتاج إلى أن يعتمد على عصا فهذا سنة؛ لأن ذلك يعينه على القيام الذي هو سنة، وما أعان على سنة فهو سنة، أما إذا لم يكن هناك حاجة، فلا حاجة إلى حمل العصا.

ثم إن تعليلهم بأنه إشارة إلى أن هذا الدين قام بالسيف فيه نظر أيضاً.

فالدين لم يفتح بالسيف؛ لأن السيف لا يستعمل للدين إلا عند المنابذة، فإذا أبى الكفار أن يسلموا أو يبذلوا الجزية فإنهم يقاتلون، أما إذا بذلوا الجزية فإنهم يتركون، وهذا هو القول الذي تدل عليه الأدلة.

ثم إن المسلمين لم يفتحوا البلدان إلا بعد أن فتحوا القلوب أولاً بالدعوة إلى الإسلام، وبيان محاسنه بالقول وبالفعل، وليس كزمننا اليوم نبيّن محاسن الإسلام بالقول إن بيّناه، أما بالفعل فنسأل الله أن يوفق المسلمين للقيام بالإسلام، فإذا رأى الإنسان الأجنبي البلاد الإسلامية، ورأى ما عليه بعض المسلمين من الأخلاق التي لا تمت إلى الإسلام بصلة، من شيوع الكذب فيهم، وكثرة الغش، وتفشي الظلم والجور استغرب ذلك، ويقول: أين الإسلام؟! فالإسلام في الحقيقة إنما فتحت البلاد به، لا بالسيف، والسيف يستعمل عند الضرورة إليه، إذا لم يسلموا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، كما سبق.

وأيضاً: لا نستعمل السيف إلا بعد القدرة، أما إذا كان

ص: 63

أعداؤنا أكثر منا بكثير وأقوى منا فإن استعمال السيف يعتبر تهوراً، ولهذا أباح الله لنا ألا نقابل أكثر من مثلينا قال تعالى:{الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِئَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ *} [الأنفال].

وفيه أيضاً: حجة للكفار حيث يقولون: إنكم أنتم أيها المسلمون فتحتم بلادنا في الأول بالقوة، لا بالدعوة.

‌وَيَقْصِدَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ، وَيَقْصُرَ الخُطْبَةَ، وَيَدْعُوَ لِلْمُسْلِمِينَ.

قوله: «ويقصد تلقاء وجهه» أي: يسن للخطيب أن يتجه تلقاء وجهه، فلا يتجه لليمين أو لليسار، بل يكون أمام الناس؛ لأنه إن اتجه إلى اليمين أضر بأهل اليسار، وإن اتجه إلى اليسار أضر بأهل اليمين، وإن اتجه تلقاء وجهه لم يضر بأحد، والناس هم الذين يستقبلونه مع الإمكان.

فإن قال قائل: هل من السنة أن يلتفت يميناً وشمالاً؟

فالجواب: أن هذا ليس من السنة فيما يظهر، وأن الخطيب يقصد تلقاء وجهه، ومن أراده التفت إليه.

وهل من السنّة أن يحرك يديه عند الانفعال؟

الجواب: ليس من السنّة أن يحرك يديه، وإن كان بعض الخطباء بلغني أنهم يفعلون ذلك، لكن يشير في الخطبة بأصبعه عند الدعاء.

أما الخطبة التي هي غير خطبة الجمعة فقد نقول: إنه من المستحسن أن الإنسان يتحرك بحركات تناسب الجمل التي يتكلم بها، أما خطبة الجمعة فإن المغلَّب فيها التعبد، ولهذا أنكر

ص: 64

الصحابة على بشر بن مروان حين رفع يديه في الدعاء

(1)

، مع أن الأصل في الدعاء رفع اليدين، فلا يشرع فيها إلا ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم.

قوله: «ويقصر الخطبة» أي: يسن أن يجعلها قصيرة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مَئِنَّة من فقهه»

(2)

، فالأولى أن يقصر الخطبة؛ لأن في تقصير الخطبة فائدتين:

1 ـ ألا يحصل الملل للمستمعين؛ لأن الخطبة إذا طالت لا سيما إن كان الخطيب يلقيها إلقاءً عابراً لا يحرك القلوب، ولا يبعث الهمم فإن الناس يملون ويتعبون.

2 ـ أن ذلك أوعى للسامع أي: أحفظ للسامع؛ لأنها إذا طالت أضاع آخرها أولها، وإذا قصرت أمكن وعيها وحفظها، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام:«إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه»

(3)

، أي: علامة ودليل على فقهه، وأنه يراعي أحوال الناس، وأحياناً تستدعي الحال التطويل، فإذا أطال الإنسان أحياناً لاقتضاء الحال ذلك، فإن هذا لا يخرجه عن كونه فقيهاً؛ وذلك لأن الطول والقصر أمر نسبي، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يخطب أحياناً بسورة {ق}

(4)

وسورة «ق» مع الترتيل والوقوف على كل آية تستغرق وقتاً طويلاً.

قوله: «ويدعو للمسلمين» أي: يسن أيضاً في الخطبة أن

(1)

أخرجه مسلم (874).

(2)

و

(3)

أخرجه مسلم (869) عن عمار بن ياسر رضي الله عنهما.

(4)

سبق تخريجه ص (54).

ص: 65

يدعو للمسلمين الرعية والرعاة؛ لأن ذلك الوقت ساعة ترجى فيه الإجابة، والدعاء للمسلمين لا شك أنه خير، فلهذا استحبوا أن يدعو للمسلمين.

ولكن قد يقول قائل: كون هذه الساعة مما ترجى فيها الإجابة، وكون الدعاء للمسلمين فيه مصلحة عظيمة موجود في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وما وجد سببه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يفعله فتركه هو السنة؛ إذ لو كان شرعاً لفعله النبي صلى الله عليه وسلم، فلا بد من دليل خاص يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو للمسلمين، فإن لم يوجد دليل خاص فإننا لا نأخذ به، ولا نقول: إنه من سنن الخطبة، وغاية ما نقول: إنه من الجائز، لكن قد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم «كان يستغفر للمؤمنين في كل جمعة»

(1)

، فإن صح هذا الحديث فهو أصل في الموضوع، وحينئذٍ لنا أن نقول: إن الدعاء سنّة، أما إذا لم يصح فنقول: إن الدعاء جائز، وحينئذٍ لا يتخذ سنّة راتبة يواظب عليه؛ لأنه إذا اتخذ سنّة راتبة يواظب عليه فهم الناس أنه سنّة، وكل شيء يوجب أن يفهم الناس منه خلاف حقيقة الواقع فإنه ينبغي تجنبه.

(1)

أخرجه البزار (2/ 307)«كشف الأستار» عن سمرة بن جندب رضي الله عنه.

قال البزار: «لا نعلمه عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا بهذا الإسناد» . وقال الهيثمي في «المجمع» (2/ 190): «وفي إسناد البزار يوسف بن خالد السمتي وهو ضعيف» . وقال الحافظ في «البلوغ» (492): «بإسناد فيه لين» .

ص: 66

‌فَصْلٌ

‌وَالْجُمُعَةُ رَكْعَتَانِ يُسَنُّ أَنْ يَقْرَأَ جَهْراً .......

فصل

قوله: «والجمعة ركعتان» وهذا بالنص، والإجماع.

أما النص: فإن هذا أمر متواتر مشهور عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي الجمعة ركعتين فقط.

وأما الإجماع: فهو أيضاً إجماع متواتر لم يختلف أحد من المسلمين فيه.

وفي هذا دليل على أن الجمعة صلاة مستقلة، وليست ظهراً، ولا بدلاً عن الظهر، ومن زعم أنها ظهر مقصورة، أو بدل عنها فقد أبعد النجعة، بل الجمعة صلاة مستقلة لها شرائطها وصفتها الخاصة بها، ولذلك تصلى ركعتين، ولو في الحضر.

وقوله: «يسن أن يقرأ جهراً» هذا مما تختلف فيه عن صلاة الظهر، أنها تسنّ القراءة فيها جهراً من بين سائر الصلوات النهارية، ونحن إذا تأملنا الصلوات الجهرية وجدنا أنها الصلوات الليلة المكتوبة: المغرب، والعشاء، والفجر، وأنها أيضاً الصلاة ذات الاجتماع العام، ولو نهاراً مثل: الجمعة، والعيد، والكسوف، والاستسقاء؛ لأن هذه يجتمع فيها الناس اجتماعاً عاماً، فالسنة في الكسوف مثلاً أن يصليها أهل البلد كلهم في مسجد واحد في الجامع، وكذلك صلاة الاستسقاء، وصلاة العيد، وصلاة الجمعة.

والحكمة من ذلك ـ أنه يجهر في هذه الصلوات ذوات الاجتماع العام ـ هي إظهار الموافقة والائتلاف التام؛ لأنه إذا كان الإمام يجهر صارت قراءته قراءة للجميع، فكأنه عنوان على ائتلاف أهل البلد كلهم.

ص: 67

أما في الليل فالحكمة من ذلك هي أنه قد يكون أنشط للمصلين إذا استمعوا القراءة، لا سيما إذا كان الصوت جيداً، والقراءة لذيذة، ولأجل أن يتواطأ القلب واللسان من جميع الحاضرين.

وقوله: «يسن أن يقرأ جهراً» ، يؤخذ منه أنه لو قرأ سراً لصحّت الصلاة، لكن الأفضل الجهر.

‌فِي الأُْولَى بِالجُمُعَةِ، وَفِي الثَّانِيَةِ بِالْمُنَافِقِينَ.

قوله: «في الأولى بالجمعة، وفي الثانية بالمنافقين» أي: يقرأ في الأولى بالجمعة، وفي الثانية بالمنافقين، ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم

(1)

، والمناسبة فيهما ظاهرة.

أما «سورة الجمعة» فالمناسبة أظهر من الشمس؛ لأن فيها ذكر الأمر بالسعي إلى صلاة الجمعة، وأيضاً ذكر الله فيها الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها ـ أي: لم يعملوا بها ـ أن مثلهم كمثل الحمار، ففيه تحذير للمسلمين أن يتركوا العمل بالقرآن، فيصيروا مثل اليهود أو أخبث؛ لأن من ميّز عن غيره بفضل كان تكليفه بالشكر أكثر.

وأما «المنافقون» فالمناسبة ظاهرة أيضاً: من أجل أن يصحح الناس قلوبهم ومسارهم إلى الله تعالى كل أسبوع، فينظر الإنسان في قلبه، هل هو من المنافقين أو من المؤمنين؟ فيحذر ويطهر قلبه من النفاق، وفيه أيضاً فائدة أخرى أن يقرع أسماع الناس التحذير من المنافقين كل جمعة؛ لأن الله قال فيها عن المنافقين:{هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ} [المنافقون: 4].

وله أن يقرأ بـ {سَبِّحِ} و {الْغَاشِيَةِ} ثبت ذلك أيضاً في

(1)

أخرجه مسلم (877) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 68

صحيح مسلم

(1)

، فالسنة: أن يقرأ مرة بهذا، ومرة بهذا، ولكن لو أن الإنسان راعى أحوال الناس ففي أيام الشتاء البارد يقرأ بسبح والغاشية؛ لأن الناس ربما يحتاجون إلى كثرة الخروج للتبول بسبب البرودة، وكذا في أيام الحر الشديد أيضاً يقرأ بسبح والغاشية، لا سيما إذا كان المسجد ليس فيه تبريد كافٍ؛ لأجل التسهيل على الناس، وذلك أن من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه ما خيّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً

(2)

.

والقاعدة العامة في الشريعة الإسلامية هي (التيسير)، فإذا علمنا أن الأيسر على المصلين أن نقرأ بسبّح والغاشية، وذلك في شدة البرد والصيف، فالأفضل أن نقرأ بهما، وأما في الأيام المعتدلة الجو فينبغي أن يقرأ بهذا أحياناً، وبهذا أحياناً؛ لئلا تهجر السنّة، والمناسبة فيهما ظاهرة؛ لأن في «سبّح» أمر الله تعالى بالتذكير فقال:{فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى *سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى *} [الأعلى]، والإمام قد ذكر في الخطبة، فينبّه الناس على أنهم إن كانوا من أهل خشية الله فسوف يتذكرون.

وفي «الغاشية» ذكر يوم القيامة وأحوال الناس فيها، قال تعالى:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ *عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ *} [الغاشية]، وقال:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ *لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ *} [الغاشية]، وفيها أيضاً التذكير:{فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ *لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ *} [الغاشية].

(1)

أخرجه مسلم (878) عن النعمان بن بشير رضي الله عنه.

(2)

أخرجه البخاري (3560)؛ ومسلم (2327) عن عائشة رضي الله عنها.

ص: 69

‌وَتَحْرمُ إِقَامَتُهَا فِي أَكْثَرَ مِنْ مَوْضِعٍ مِن الْبَلَدِ إِلاَّ لِحَاجَةٍ .........

قوله: «وتحرم إقامتها في أكثر من موضع من البلد إلا لحاجة» أي: تحرم إقامة صلاة الجمعة في أكثر من موضع من البلد إلا لحاجة، ويأتي دليل ذلك.

وهذا أيضاً من خصائص الجمعة، أما غير الجمعة فإنها تصلى في الدور (الأحياء)، ففي حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم:«أمر ببناء المساجد في الدور، وأن تنظف وتطيب»

(1)

أي الأحياء، ولهذا يقال: دار بني فلان، ودار بني فلان أي: حيّهم، فالجمعة يجب أن تكون في مسجد واحد؛ لأنها لو فرقت في مساجد الأحياء لانتفى المعنى الذي من أجله شرعت الجمعة، ولتفرق الناس، وصار كل قوم ينفضون عن موعظة تختلف عن موعظة الآخر، فيتفرق البلد، ولا يشربون من نهر واحد.

وأيضاً لو تعددت الجمعة لفات المقصود الأعظم، وهو اجتماع المسلمين وائتلافهم؛ لأنه لو ترك كل قوم يقيمون الجمعة في حيّهم ما تعارفوا ولا تآلفوا، وبقي كل جانب من البلد لا يدري عن الجانب الآخر، ولهذا لم تقم الجمعة في أكثر من موضع، لا في زمن أبي بكر، ولا عمر، ولا عثمان، ولا علي، ولا الصحابة كلهم، ولا في زمن التابعين، وإنما أقيمت في القرن الثالث بعد سنة (276 هـ) تقريباً، فكان المسلمون إلى هذا الزمن

(1)

أخرجه الإمام أحمد (6/ 279)؛ وأبو داود (455)؛ والترمذي (594)؛ وابن ماجه (759)؛ وابن حبان (1634) الإحسان؛ وابن خزيمة (1294).

ص: 70

يصلون على إمام واحد، حتى إن الإمام أحمد سئل عن تعدد الجمعة؟ فقال: ما علمت أنه صلي في المسلمين أكثر من جمعة واحدة، والإمام أحمد توفي سنة (241 هـ)، إلى هذا الحد لم تقم الجمعة في أكثر من موضع في البلد، وأقيمت في بغداد أول ما أقيمت لما صار البلد منشقاً بسبب النهر في الشرقي منه والغربي، فجعلوا فيها جمعتين؛ لأنه يشق أن يعبر الناس النهر كل أسبوع.

وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه أقام صلاة العيد في الكوفة في الصحراء، وجعل واحداً من الناس يقيمها في المسجد الجامع داخل البلد للضعفاء

(1)

، فمن هنا ذهب الإمام أحمد رحمه الله إلى أن صلاة الجمعة يجوز تعددها للحاجة.

والدليل على التحريم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «صلوا كما رأيتموني أصلي»

(2)

، وحافظ النبي صلى الله عليه وسلم على صلاته الجمعة في مسجد واحد طول حياته، والخلفاء من بعده، والصحابة من بعدهم، وهم يعلمون أن البلاد اتسعت، ففي عهد عثمان اتسعت المدينة فزاد أذاناً ثالثاً

(3)

فصار أذان أول، ثم أذان عند حضور الإمام، ثم الإقامة، ولم يعدد الجمعة، وكانت أحياء العوالي في عهده صلى الله عليه وسلم بعيدة عن مكان الجمعة، ومع ذلك يحضرون إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن مع الأسف الآن أصبح كثير من بلاد المسلمين لا يفرقون بين الجمعة وصلاة الظهر، أي: أن الجمعة تقام في كل مسجد، فتفرقت الأمة، وصار الناس يقيمون صلاة الجمعة،

(1)

أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 184، 185)؛ والبيهقي (3/ 310).

(2)

سبق تخريجه (3/ 27).

(3)

سبق تخريجه (2/ 63).

ص: 71

وكأنها صلاة ظهر، وهذا لا شك أنه خلاف مقصد الشرع وهدي الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا جزم المؤلف بتحريم إقامتها في أكثر من موضع في البلد.

وقوله: «إلا لحاجة» ، والمراد بالحاجة هنا: ما يشبه الضرورة؛ لأن هناك ضرورة وحاجة، والفرق بين الحاجة والضرورة:

أن الحاجة: هي التي يكون بها الكمال.

والضرورة: هي التي يندفع بها الضرر؛ ولهذا نقول: المحرَّم لا تبيحه إلا الضرورة، قال الله تعالى:{وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119].

مثال الحاجة: إذا ضاق المسجد عن أهله، ولم يمكن توسيعه؛ لأن الناس لا يمكن أن يصلوا في الصيف في الشمس، ولا في المطر في أيام الشتاء.

وكذا إذا تباعدت أقطار البلد، وصار الناس يشق عليهم الحضور فهذا أيضاً حاجة، لكن في عصرنا الآن ليس هناك حاجة من جهة البعد، بل هناك حاجة من جهة الضيق؛ لأن الذين يأتون بالسيارات من أماكن بعيدة يحتاجون إلى مواقف، وقد لا يجدون مواقف، لكن إذا كان هناك مواقف، أو كانت السيارات قليلة فإنه يجب على الإنسان أن يحضر ولو بعيداً، ويقال للقريبين: لا تأتوا بالسيارات؛ لأجل أن يفسحوا المجال لمن كانوا بعيدين.

ومن الحاجة أيضاً: أن يكون بين أطراف البلد حزازات وعداوات، يخشى إذا اجتمعوا في مكان واحد أن تثور فتنة، فهنا

ص: 72

لا بأس أن تعدد الجمعة، لكن هذا مشروط بما إذا تعذر الإصلاح، أما إذا أمكن الصلح وجب الإصلاح، وتوحيدهم على إمام واحد.

وليس من الحاجة أن يكون الإمام مسبلاً أو فاسقاً؛ لأن الصحابة صلوا خلف الحجاج بن يوسف

(1)

، وهو من أشد الناس ظلماً وعدواناً، يقتل العلماء والأبرياء، وكانوا يصلون خلفه، بل الصحيح أنه يجوز أن يكون الإمام فاسقاً، ولو في غير الجمعة، ما لم يكن فسقه إخلالاً بشرط من شروط الصلاة يعتقده هو شرطاً فحينئذٍ لا نصلي خلفه، وإن كان الإخلال بشرط من شروط الصلاة نعتقده نحن شرطاً وهو لا يعتقده فهذا لا يضر.

مثاله: أن نعتقد أن أكل لحم الإبل ناقض للوضوء، والإمام يعتقد أنه لا ينقض فأكل منه ولم يتوضأ ثم صلى بنا، فإننا نصلي خلفه؛ لأن هذا اختلاف اجتهاد.

‌فَإِنْ فَعَلُوا فَالصَّحيحَةُ مَا بَاشَرَهَا الإِمَامُ،

..........

قوله: «فإن فعلوا فالصحيحة ما باشرها الإمام» ، أي: صلوا الجمعة في موضعين فأكثر بلا حاجة فالصحيحة ما باشرها الإمام وأذن فيها، وإذا قال العلماء:«الإمام» فمرادهم من له أعلى سلطة في الدولة؛ وذلك لأن الإمام العام فقد منذ نشأ النزاع بين الخلفاء في أول خلافة بني أمية، وصارت الأمة الإسلامية مع الأسف دويلات، فإن تعددت الجمعة في موضع واحد لغير حاجة، فالصحيحة ما باشرها الإمام أي: ما صلى فيها، سواء كان هو الإمام، أو كان مأموماً، وكانوا فيما سبق لا يصلي الجمعة إلا

(1)

سبق تخريجه (4/ 217).

ص: 73

الإمام يتولى الإمامة في صلاة الجمعة، وصلاة العيدين، وقيادة الحجيج.

‌أَوْ أَذِنَ فِيهَا، فَإِن اسْتَوَتَا فِي إِذْنٍ أَوْ عَدَمِهِ، فَالثَّانِيَةُ بَاطِلَةٌ،

.........

قوله: «أو أذن فيها» ، أي: إن لم يباشرها، مثل: أن يكون بلد الإمام في محل آخر وهذا البلد الذي فيه تعدد الجمعة لم يكن فيه الإمام حاضراً، لكنه قال: أذنت لكم أن تقيموا جمعتين فأكثر، وهذه المسألة ليست مبنية على ما سبق في قول المؤلف:«لا يشترط لها إذن الإمام» ؛ لأن إذن الإمام هناك لا يشترط في إقامة الجمعة الواحدة، أما في التعدد فلا بد من إذن الإمام، والفرق بينهما ظاهر، فالأولى لو قلنا: إنه يشترط لإقامة الجمعة إذن الإمام لكانت الفرائض باختيار الأئمة، أما تعدد الجمعة فلا بد من إذن الإمام؛ لئلا يفتات عليه وتتفرق الأمة، وهذا أمر يرجع إلى الدين من جهة، وإلى نظام الدولة من جهة أخرى.

فرجوعه إلى الدين؛ لأن الدين ينهانا عن التفرق في دين الله قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103]، وقال تعالى:{أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13].

وأما رجوعه إلى نظام الدولة فإن ولي الأمر هو الذي له الكلمة فيكون في إقامة الجمعة الثانية افتيات على الإمام، فتكون كل طائفة من الناس تود أن تتزعم البلد فتجعل في محلها جمعة.

قوله: «فإن استوتا في إذن أو عدمه فالثانية باطلة» ، فإن استوتا، أي: الجمعتان في إذن أو عدمه بأن يكون الإمام قد أذن فيهما جميعاً، أو لم يأذن فيهما جميعاً، وبهذا نعرف أن القسمة ثلاثية:

ص: 74

1 ـ يأذن في إحداهما.

2 ـ يأذن فيهما.

3 ـ لا يأذن في واحدة منهما.

فإن أذن في إحداهما فهي الصحيحة، سواء تأخرت أو تقدمت.

وإن أذن فيهما جميعاً، أو لم يأذن فيهما جميعاً فالثانية باطلة على ما يقتضيه كلام المؤلف.

والمراد بالثانية ما تأخرت عن الأخرى بتكبيرة الإحرام، وإن كانت الأخرى أسبق منها إنشاء، ولكن كيف نعلم ذلك؟

الجواب: أما في الزمن السابق فالعلم بتقدم إحداهما بالإحرام قد يكون صعباً، أما في الزمن الحاضر فالعلم بتقدم إحداهما بالإحرام قد يكون سهلاً بوسيلة مكبر الصوت إذا سمعنا قول الإمام في الأولى:«الله أكبر» ، ثم قال الإمام في الثانية بعده مباشرة:«الله أكبر» ، قلنا للثاني: صلاتك باطلة، وللأول: صلاتك صحيحة؛ لأن الأول لما سبق بالإحرام تعلق بها الفرض؛ لأنها سبقت، وعلى المذهب تدرك الصلاة بتكبيرة الإحرام، فإذا سبقت بتكبيرة الإحرام تعلق الفرض بها وصارت هي الصلاة المفروضة، والثانية باطلة.

وقال بعض العلماء: المعتبر السبق زمناً، فالتي قد أنشئت أولاً فالحكم لها؛ لأن الثانية هي التي حدثت على الأولى، فهي تشبه مسجد الضرار الذي بناه المنافقون عند مسجد قباء، وقال الله لنبيه:{لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا} [التوبة: 108].

ص: 75

وهذا القول هو الصحيح، أن المعتبر السابقة زمناً وإنشاء ولو تأخرت عملاً، فلو فرضنا أن الجديدة ـ التي أنشئت حديثاً، وبدون إذن الإمام ـ صلوا ركعة قبل أن تقام الثانية ـ التي هي الأولى إنشاءً ـ فإن صلاتهم لا تصح جمعة؛ لأن الناس مجتمعون على الأولى، فجاء هؤلاء وأنشؤوا مسجداً جامعاً وفرقوا الناس.

‌وَإِنْ وَقَعَتَا مَعاً، أَوْ جُهِلَتِ الأُولَى بَطَلَتَا .......

قوله: «وإن وقعتا معاً» أي: إن وقعتا معاً بطلتا معاً، فمثلاً إذا كنا نحن نستمع إلى المسجد الشمالي والمسجد الجنوبي فقال إمام كل مسجد منهما:«الله أكبر» في نفس الوقت فنقول لهم: صلاتكم جميعاً باطلة؛ لأنه لم تتقدم إحداهما حتى يكون لها مزية، وإذا لم يكن لها مزية صارت كل واحدة منهما تبطل الأخرى، كالبينتين إذا تعارضتا تساقطتا، وعلى هذا يلزم الجميع إعادتها جمعة في مكان واحد مع بقاء الوقت، وإلا صلوا ظهراً.

وعلى القول الذي رجحناه نقول: أهل المسجد الشمالي صحت جمعتهم، وأهل المسجد الجنوبي لم تصح جمعتهم؛ لأن الجمعة في الشمالي هي الأولى إنشاءً.

قوله: «أو جهلت الأولى بطلتا» أي: لو أقيمت جمعتان بلا حاجة، واستوتا في إذن الإمام وعدمه. وجهلت الأولى منهما، ولم يعلم أيهما أسبق بتكبيرة الإحرام بطلتا أي: الجمعتان، ولزمهم صلاة الظهر، ولا يصح استعمال القرعة هنا؛ لأنها عبادة، وهنا تلزمهم صلاة الظهر، ولا تصح إعادتها جمعة.

وقد سبق في المسألة التي قبلها أنه يلزمهم إعادتها جمعة إن أمكن.

ص: 76

والفرق بين المسألتين ظاهر: لأنه في المسألة الأولى بطلت الجمعتان جميعاً، كل واحدة أبطلت الأخرى فلم تصح واحدة منهما، فيجب إعادة الجمعة إن استطاعوا، وإلا صلوا ظهراً، وفي المسألة الثانية إحداهما صحيحة وهي التي سبقت لكنها مجهولة، والجمعة لا تعاد مرتين، فحينئذٍ لا تعاد الصلاة، ولو اجتمعوا في مسجد واحد، فيجب على الجميع إعادة الصلاة ظهراً.

‌وَأَقَلُّ السُّنَّةِ بَعْدَ الجُمُعَةِ رَكْعَتَانِ، وَأَكْثَرُهَا سِتٌّ،

..........

قوله: «وأقل السنّة بعد الجمعة ركعتان، وأكثرها ست» ، شرع المؤلف في بيان السنن التوابع للجمعة، فأقلها ركعتان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم «كان يصلي بعد الجمعة ركعتين في بيته»

(1)

، ثبت ذلك عنه في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

وأكثرها ست؛ لأنه ورد عن عبد الله بن عمر بإسناد صححه العراقي

(2)

أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بعد الجمعة ستاً، فقد كان ابن عمر «إذا صلى في مكة تقدم بعد صلاة الجمعة فصلى ركعتين، ثم صلى أربعاً، وفي المدينة يصلي ركعتين في بيته، ويقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يفعله»

(3)

.

أما الأربع فلأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذلك فقال: «إذا صلّى أحدكم الجمعة فليصل بعدها أربعاً»

(4)

.

فصارت السنة بعد الجمعة، إما ركعتين، أو أربعاً، أو ستاً،

(1)

أخرجه البخاري (937)؛ ومسلم (882).

(2)

«نيل الأوطار» (3/ 280).

(3)

أخرجه أبو داود (1130)؛ والبيهقي (3/ 240، 241).

(4)

أخرجه مسلم (881) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 77

ولكن هل هذا مما وردت به السنة على وجوه متنوعة، أو على أحوال متنوعة، فيه أقوال:

القول الأول: أنها على أحوال متنوعة.

وهذا قول شيخ الإسلام ابن تيمية فيقال: إن صليت راتبة الجمعة في المسجد فصل أربعاً، وإن صليتها في البيت فصل ركعتين.

القول الثاني: أنها متنوعة على وجوه فصلِّ أحياناً أربعاً، وأحياناً ركعتين.

القول الثالث: أنها أربع ركعات مطلقاً؛ لأنه إذا تعارض قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله يقدم قوله.

والأولى للإنسان ـ فيما أظنه راجحاً ـ أن يصلي أحياناً أربعاً، وأحياناً ركعتين.

أما الست فإن حديث ابن عمر يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم «كان يفعلها» . لكن الذي في الصحيحين أنه كان يصلي ركعتين، ويمكن أن يستدل لذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في بيته ركعتين، وأمر من صلى الجمعة أن يصلي بعدها أربعاً، فهذه ست ركعات: أربع بقوله وركعتان بفعله، وفيه تأمل.

وعُلم من قول المؤلف: «أقل السنة بعد الجمعة ركعتان» أنه ليس للجمعة سنّة قبلها، وهو كذلك، فيصلي ما شاء بغير قصد عدد، فيصلي ركعتين أو ما شاء، لكن إذا دخل الإمام أمسك.

فإن قال قائل: هل تختارون لي إذا جئت يوم الجمعة أن أشغل وقتي بالصلاة، أو أشغل وقتي بقراءة القرآن؟

فالجواب: نرى أن ركعتين لا بد منهما، وهما تحية

ص: 78

المسجد، وما عدا ذلك ينظر الإنسان ما هو أرجح له، فإذا كنت في مسجد يزدحم فيه الناس، ويكثر المترددون بين يديك، فالظاهر أن قراءة القرآن أخشع لقلب الإنسان وأفيد، وإذا كنت في مكان سالم من التشويش، فلا شك أن الصلاة أفضل من القراءة؛ لأن الصلاة تجمع قراءة وذكراً ودعاء وقياماً وقعوداً وركوعاً وسجوداً، فهي روضة من رياض العبادات فهي أفضل.

فمثلاً: المسجد الحرام في أيام المواسم إذا صلى الإنسان تعب بمضايقة الناس، فهنا قد تكون قراءة القرآن بتدبر وتمهل يحصل فيها من خشوع القلب، ورقته، وقوة الإيمان ما لا يحصل بالصلاة، لكن لا بد من تحية المسجد.

والإمام أحمد رحمه الله سئل عن مسألة من مسائل العلم، فقال للسائل:«انظر ما هو أصلح لقلبك فافعله» ، وهذه كلمة عظيمة، ولا شك أن الإمام أحمد إنما يريد ما لم يرد فيه التفضيل، أما ما ورد فيه التفضيل فالقول ما قال الله ورسوله، لكن مع ذلك نحن نشاهد من فعل الرسول صلى الله عليه وسلم وحاله أنه يقدم أحياناً المفضول على الفاضل، فأحياناً يصوم حتى يقال: لا يفطر، وأحياناً يفطر حتى يقال: لا يصوم

(1)

، وكذلك في قيام الليل، وأحياناً يأتيه الوفود يشغلونه عن الراتبة فيجلس معهم، ولا يصلي الراتبة إلا بعد صلاة أخرى، كما أخر راتبة الظهر إلى ما بعد العصر

(2)

، فالإنسان العاقل الموفق يعرف كيف يتصرف في العبادات غير الواجبة،

(1)

أخرجه البخاري (1969)؛ ومسلم (1156)(175) عن عائشة رضي الله عنها.

(2)

أخرجه البخاري (1233)؛ ومسلم (834) عن أم سلمة رضي الله عنها.

ص: 79

فيقارن، ويوازن بين المصالح، ويفعل ما هو أصلح.

‌وَيُسَنُّ أَنْ يَغْتَسِلَ،

........

قوله: «ويسن أن يغتسل» ، يعبر الفقهاء بيُسن، ويجب، ويشرع.

فإذا قالوا: يشرع فهو لفظ صالح للوجوب، والاستحباب.

وإذا قالوا: يجب فهو للوجوب.

وإذا قالوا: يسن فهو للاستحباب.

والسنّة في تعبير الفقهاء: هي ما أثيب فاعله، ولم يعاقب تاركه، فهي بين الواجب والمباح.

فقوله: «يسن أن يغتسل» أي: أنه إذا اغتسل ليوم الجمعة فهو أفضل، وإن لم يغتسل فلا إثم عليه.

وقوله: «أن يغتسل» لم يبيّن كيفية الاغتسال، ولكنه إذا أطلق في لسان الشارع، أو في لسان أهل الشرع وهم الفقهاء، فإنه يحمل على الاغتسال الشرعي، لا على مجرد أن يغسل الإنسان بدنه، والغسل الشرعي له صفتان:

1 ـ واجبة: وهي أن يعم جميع بدنه بالماء، ولو بانغماس في بركة أو نهر أو بحر.

2 ـ مستحبة: وهي أن يتوضأ أولاً، كما يتوضأ للصلاة، ثم يفيض الماء على رأسه، ويخلل شعره ثلاث مرات، ثم يفيض الماء على سائر جسده.

وقول المؤلف: «يسن أن يغتسل» لم يبيّن متى يكون الاغتسال.

فقال بعضهم: إن أول وقته من آخر الليل.

ص: 80

وقال آخرون: بل من طلوع الفجر؛ لأن النهار لا يدخل إلا بطلوع الفجر.

وقال آخرون: بل من طلوع الشمس؛ لأن ما بين الفجر وطلوع الشمس وقت لصلاة خاصة، وهي الفجر، ولا ينتهي وقتها إلا بطلوع الشمس، وعلى هذا فيكون ابتداء الاغتسال من طلوع الشمس، وهذا أحوط الأقوال الثلاثة؛ لأن من اغتسل بعد طلوع الشمس فقد أتى على الأقوال كلها. وينتهي وقت الاغتسال بوجوب السعي إلى الجمعة على الأقوال كلها.

وقوله: «يسن أن يغتسل» ، لم يبيّن من الذي يغتسل، هل هم الرجال أو النساء؟

والسنّة تدل على أن الاغتسال خاص بمن يأتي إلى الجمعة؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل»

(1)

، ولقوله:«غسل الجمعة واجب على كل محتلم»

(2)

، وكلمة «الجمعة» هنا يحتمل أن يكون المراد بها الصلاة، أو اليوم، لكن قوله:«إذا أتى أحدكم الجمعة» يعين أن المراد بها الصلاة، وعلى هذا فالنساء لا يسنّ لهن الاغتسال، وكذلك من لا يحضر لصلاة الجمعة لعذر، فإنه لا يسنّ له أن يغتسل للجمعة.

وقول المؤلف: «يسنّ أن يغتسل» هو المذهب، وعليه جمهور العلماء.

وذهب بعض أهل العلم إلى أن الاغتسال واجب.

(1)

أخرجه البخاري (877)؛ ومسلم (844) عن ابن عمر رضي الله عنهما.

(2)

يأتي تخريجه ص (82).

ص: 81

وهذا القول هو الصحيح لما يلي:

1 ـ قول أفصح الخلق وأنصحهم محمد صلى الله عليه وسلم: «غسل الجمعة واجب على كل محتلم»

(1)

، فصرّح النبي صلى الله عليه وسلم بالوجوب، ومن المعلوم أننا لو قرأنا هذه العبارة في مؤلف كهذا الذي بين أيدينا لم نفهم منها إلا أنه واجب يأثم بتركه، فكيف والتعبير من رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو أعلم الخلق بشريعة الله وأفصح الخلق وأنصح الخلق وأعلمهم بما يقول؟

ثم إنه علق الوجوب بوصف يقتضي الإلزام، وهو الاحتلام الذي يحصل به البلوغ، فإذا تأملنا ذلك تبيّن لنا ظاهراً أن غسل الجمعة واجب، وأن من تركه فهو آثم، لكن تصح الصلاة بدونه؛ لأنه ليس عن جنابة.

2 ـ أن عثمان بن عفان رضي الله عنه دخل وعمر بن الخطاب رضي الله عنه يخطب الناس على المنبر يوم الجمعة، فأنكر عليه تأخّره، فقال: والله يا أمير المؤمنين كنت في شغل، وما زدت على أن توضأت، ثم أتيت، فقال له ـ موبخاً ـ: والوضوء أيضاً؟ ـ أي: تفعل الوضوء أيضاً ـ، وقد علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر بالغسل

(2)

، فأنكر عمر رضي الله عنه عليه اقتصاره على الوضوء.

وأما ما روي عن سمرة بن جندب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل»

(3)

،

(1)

أخرجه البخاري (879)؛ ومسلم (846) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

(2)

أخرجه البخاري (878)؛ ومسلم (845).

(3)

أخرجه الإمام أحمد (5/ 15، 16)؛ وأبو داود (354)؛ والترمذي (495) وحسنه؛ والنسائي (3/ 94)؛ وابن خزيمة (1757).

ص: 82

فهذا الحديث لا يقاوم ما أخرجه الأئمة السبعة وغيرهم، وهو حديث أبي سعيد الذي ذكرناه آنفاً:«غسل الجمعة واجب على كل محتلم» ، ثم إن الحديث من حيث السند ضعيف؛ لأن كثيراً من علماء الحديث يقولون: إنه لم يصح سماع الحسن عن سمرة إلا في حديث العقيقة، وإن كنا رجّحنا في المصطلح: أنه متى ثبت سماع الراوي من شيخه، وكان ثقة ليس معروفاً بالتدليس، فإنه يحمل على السماع، على أن الحسن رحمه الله رماه بعض العلماء بالتدليس، ثم إن هذا الحديث من حيث المتن إذا تأملته وجدته ركيكاً ليس كالأسلوب الذي يخرج من مشكاة النبوة «من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت»

«بها» أين مرجع الضمير؟ ففيه شيء من الركاكة أي: الضعف في البلاغة «ومن اغتسل فالغسل أفضل» فيظهر عليه أنه من كلام غير النبي صلى الله عليه وسلم.

فالذي نراه وندين الله به، ونحافظ عليه أن غسل الجمعة واجب، وأنه لا يسقط إلا لعدم الماء، أو للضرر باستعمال الماء، ولم يأت حديث صحيح أن الوضوء كاف، وأما ما ورد في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«من توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت غفر له ما بينه وبين الجمعة وزيادة ثلاثة أيام»

(1)

، فإنه مرجوح، لاختلاف الرواة، فبعضهم قال:«من اغتسل» وهذه أرجح، وبعضهم قال:«من توضأ» .

مسألة: بقي أن يقال: إذا لم يجد الماء، أو تضرر

(1)

أخرجه مسلم (857)(26)(27)، وقدم لفظ «من اغتسل» ، وهو عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 83

باستعماله .. فهل يتيمم لهذا الغسل، أو نقول: إنه واجب سقط بعدم القدرة عليه؟

الجواب أن نقول: الثاني، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، ويقول شيخ الإسلام: جميع الأغسال المستحبة إذا لم يستطع أن يقوم بها فإنه لا يتيمم عنها؛ لأن التيمم إنما شرع للحدث؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة: 6].

ومعلوم أن الأغسال المستحبة ليست للتطهير؛ لأنه ليس هناك حدث حتى يتطهر منه، وعلى هذا فلو أن الإنسان وصل إلى الميقات وهو يريد العمرة أو الحج، ولم يجد الماء، أو وجده وكان بارداً لا يستطيع استعماله، أو كان مريضاً، فلا يتيمّم بناء على هذا.

والفقهاء رحمهم الله يقولون: يتيمّم، والصحيح خلاف ذلك.

‌وَتَقَدَّمَ،

...........

قوله: «وتقدم» ، أي: سبق ذكر استحباب الغسل ليوم الجمعة.

لكن صاحب الروض قال: «فيه نظر» ، وإذا قال العلماء:«فيه نظر» فيعنون أنه غير مسلم، والعلماء يعبرون أحياناً بقولهم:«فيه شيء» ، إذا نقلوا كلام غيرهم.

وقولهم: «فيه شيء» ، أخف من قولهم:«فيه نظر» ، وقول صاحب الروض:«فيه نظر» ، أي: في قول الماتن: «وتقدم» نظر،

ص: 84

وكأن صاحب الروض غفل عن قول صاحب المتن؛ لأن صاحب المتن في أقسام المياه قال: «وإن استعمل في طهارة مستحبة كتجديد وضوء وغسل جمعة» ، فهذا صريح في أن غسل الجمعة مستحب، وكأن صاحب الروض إنما قال:«فيه نظر» لما رأى المؤلف لم يذكره في باب الغسل، كما جرت به عادة الفقهاء في ذكر الأغسال المستحبة في باب الغسل.

‌وَيَتَنَظَّفَ، وَيَتَطَيَّبَ .........

قوله: «ويتنظف» أي: ويسنّ أن يتنظف كما جاءت به السنّة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع من طهر

»

(1)

، والتنظّف أمر زائد على الاغتسال، فالتنظّف بقطع الرائحة الكريهة وأسبابها، فمن أسباب الرائحة الكريهة الشعور والأظفار التي أمر الشارع بإزالتها، وعلى هذا فيسنّ حلق العانة، ونتف الإبط، وحف الشارب، وتقليم الأظفار، لكن من المعلوم أن هذا لا يكون في كل جمعة، فقد لا يجد الإنسان شيئاً يزيله، من هذه الأمور الأربعة، وقد وقّت النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأشياء الأربعة ألا تزيد على أربعين يوماً

(2)

، وقد قال الفقهاء: إن حف الشارب في كل جمعة.

قوله: «ويتطيّب» أي: ويسنّ أيضاً أن يتطيّب، كما جاءت به السنة

(3)

، بأي طيب سواء من الدهن أو من البخور، في ثيابه وفي بدنه؛ وذلك من أجل اجتماع الناس في مكان واحد؛ لأن العادة

(1)

أخرجه البخاري (883) عن سلمان رضي الله عنه.

(2)

أخرجه مسلم (258) عن أنس رضي الله عنه.

(3)

أخرجه البخاري (883) عن سلمان رضي الله عنه.

ص: 85

أنه إذا كثر الجمع ضاق النفس، وكثر العرق، وثارت الرائحة الكريهة، فإذا وجد الطيب، وقد سبقه التنظّف، فإن ذلك يخفف من الرائحة؛ ولهذا نهى الرسول عليه الصلاة والسلام من أكل بصلاً أو ثوماً أن يقرب المسجد

(1)

، وكانوا إذا رأوا إنساناً أكل بصلاً أو ثوماً، أمروا به فأخرج من المسجد إلى البقيع، ومن الأسف أن بعض الناس اليوم يأتي إلى الجمعة، وثيابه وجسمه لهما رائحة كريهة، ثم لا يستطيع أحد أن يصلي إلى جنبه، وليس هذا من عند الله، بل من نفسه، فهو الذي يجلب لنفسه الأوساخ والأدران، ولا يهتم بنفسه، وفي هذا أذية للمصلين، وأذية للملائكة.

بل إن العلماء قالوا: إن ما كان من الله، ولا صنع للآدمي فيه إذا كان يؤذي المصلين فإنه يخرج، كالبخر في الفم، أو الأنف، أو من يخرج من إبطيه رائحة كريهة، فإذا كان فيك رائحة تؤذي فلا تقرب المسجد.

فإن قال: هذا من الله؟ فيقال: إذا ابتلاك الله به فلا تؤذ العباد، ولا تؤذ الملائكة، وأنت مأجور على الصبر على هذا الشيء واحتساب الأجر من الله، ولست آثماً إذا لم تصل مع الناس؛ لأنك إنما تركت ذلك بأمر الله.

فإذا قال: هذا ينقص إيماني؛ لأن صلاة الجماعة أفضل؟

قلنا: إنك لا تلام على هذا النقص؛ كما أن الحائض لا

(1)

سبق تخريجه (4/ 323).

ص: 86

تصلي، وينقص إيمانها بذلك ولا تلام على النقص؛ لأن النقص الذي ليس بسبب الإنسان لا يلام عليه.

‌وَيَلْبَسَ أَحْسَنَ ثِيَابِهِ وَيُبَكِّرَ إِلَيْهَا مَاشِياً،

..........

قوله: «ويلبس أحسن ثيابه» أي: ويسنّ لبس أحسن ثيابه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُعد أحسن ثيابه للوفد والجمعة

(1)

.

وانظر كيف كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعامل الناس، فإذا جاء الوفد لبس أحسن ثيابه؛ ليظهر أمام الوفد بالمظهر اللائق، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام محذراً من الكبر:«لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال حبة خردل من كبر» ، قالوا: يا رسول الله، الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسناً؟ فقال:«إن الله جميل يحب الجمال»

(2)

، أي: يحب التجمل، وليس الجمال الطبيعي الخَلْقي؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم بنى هذا الكلام على قولهم:«يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسناً» ؛ ولأن هذا هو الذي يستطيعه الإنسان، فيثاب عليه إذا فعله، أما الجمال الخَلْقي فهذا ليس من اختيار الإنسان.

فدل ذلك على أنه ينبغي أيضاً أن يحسّن الإنسان ثيابه، ويحسّن نعله، لكن بشرط ألا يؤدي ذلك به إلى الإسراف والفخر والخيلاء، ولهذا وردت أحاديث تدل على فضل التواضع في

(1)

لما روى عبد الله بن عمر: «أن عمر بن الخطاب رأى حلة سيراء عند باب المسجد، فقال: يا رسول الله لو اشتريت هذه فلبستها يوم الجمعة، وللوفد إذا قدموا عليك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة

».

أخرجه البخاري (886).

(2)

سبق تخريجه (1/ 157).

ص: 87

اللباس، وهذا في مكانه، أي: لو كان الإنسان يريد أن يأتي إلى قوم فقراء، ويخشى إذا جاء بلباسه الزاهي أن تنكسر قلوبهم، فهنا الأفضل أن يلبس ما يناسب الحال، ويكون مأجوراً على ذلك.

قال في الروض: «وأفضلها البياض، ويعتم، ويرتدي» أي: أفضلها البياض، ولا شك أن أفضل الثياب للرجال البياض، لكن أحياناً لا يجد الإنسان البياض مناسباً للوقت، مثل: أيام الشتاء فإنه يندر أن تجد ثياباً بيضاء تناسب الوقت، فهنا نقول: ارفق بنفسك، ويمكن أن تلبس ثياباً متعددة، ويكون الأعلى هو الأبيض.

قوله: «ويعتم» أي: يلبس العمامة.

والعمامة: هي ما يطوى على الرأس، ويكور عليه.

والدليل: فعل النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان يلبس العمامة، ويمسح عليها

(1)

، ولكن هل لباسه إياها كان تعبداً، أو لباسه إياها؛ لأنها عُرف؟

الجواب: الثاني هو الصحيح، واتباع العرف في اللباس هو السنة ما لم يكن حراماً؛ لأنّا نعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما لبس ما يلبسه الناس، والإنسان لو خالف ما يلبسه الناس لكانت ثيابه ثياب شهرة.

قوله: «ويرتدي» أي: يلبس الرداء، وظاهر كلام المؤلف: ولو كان عليه قميص وهذا فيه نظر.

لكن بدل الرداء عندنا المشلح، وأكثر الناس اليوم لا

(1)

سبق تخريجه (1/ 236).

ص: 88

يلبسونه، ولو لبسه الإنسان أمام الناس لاستنكروه، بينما كانوا في الأول يستنكرون من لا يلبسه.

قوله: «ويبكّر إليها» أي: يسنّ أن يبكّر إلى الجمعة.

ودليله: حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «من اغتسل يوم الجمعة، ثم راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة»

(1)

.

وهذا يدل على أن الأفضل التبكير، ولكن بعد الاغتسال، والتنظّف والتطيّب، ولبس أحسن الثياب.

قوله: «ماشياً» ، أي: يسن أن يذهب إلى الجمعة ماشياً على قدميه، ودليله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«من غسل واغتسل، وبكّر وابتكر، ودنا من الإمام، ومشى ولم يركب»

(2)

. فقال: «مشى ولم يركب» ؛ ولأن المشي أقرب إلى التواضع من الركوب، ولأنه يرفع له بكل خطوة درجة، ويحط عنه بها خطيئة، فكان المشي أفضل من الركوب.

ولكن لو كان منزله بعيداً، أو كان ضعيفاً أو مريضاً،

(1)

أخرجه البخاري (881)؛ ومسلم (850).

(2)

وتمامه: «واستمع، ولم يلغ كان له بكل خطوة عمل سنة أجر صيامها وقيامها» .

أخرجه الإمام أحمد (4/ 104)؛ وأبو داود (345)؛ والترمذي (494) وحسنه؛ والنسائي (3/ 95)؛ وابن ماجه (1087)؛ وابن خزيمة (1758)؛ وابن حبان (2781) الإحسان؛ والحاكم (1/ 281) وصححه.

ص: 89

واحتاج إلى الركوب، فكونه يرفق بنفسه أولى من أن يشق عليها.

‌ويدنو مِنَ الإِمَامِ،

...............

قوله: «ويدنو من الإمام» ، وهذا أيضاً من السنّة أن يدنو من الإمام.

ودليل ذلك: قول النبي عليه الصلاة والسلام: «ليلني منكم أولو الأحلام والنهى»

(1)

، ولما رأى قوماً تأخروا في المسجد عن التقدم قال:«لا يزال قوم يتأخرون، حتى يؤخرهم الله»

(2)

، فأقل أحواله أن يكون التأخّر عن الأول فالأول مكروه؛ لأن مثل هذا التعبير يعد وعيداً من النبي عليه الصلاة والسلام وليس في هذا العمل فقط، بل في جميع الأعمال؛ لأن الإنسان إذا لم يكن في قلبه محبة للسبق إلى الخير بقي في كسلٍ دائماً، كما قال الله عز وجل:{وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ *} [الأنعام]. ولهذا ينبغي للإنسان كلما سنحت له الفرصة في العبادة أن يفعل، ويتقدم إليها، حتى لا يعوّد نفسه الكسل، وحتى لا يؤخّره الله عز وجل.

مسألة: دلّت السنّة على أن يمين الصف أفضل من اليسار، والمراد عند التقارب، أو التساوي، وأما مع البعد فقد دلّت السنّة على أن اليسار الأقرب أفضل.

ودليل ذلك: أن الناس كانوا إذا وجد جماعة ثلاثة، فإن الإمام يكون بين الرجلين

(3)

، ثم نسخ ذلك فصار الإمام يتقدم

(1)

سبق تخريجه (2/ 15).

(2)

أخرجه مسلم (438) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

(3)

سبق تخريجه (3/ 16).

ص: 90

الاثنين فأكثر، ولو كان اليمين أفضل على الإطلاق لصار مقام الرجلين مع الرجل عن اليمين. وأيضاً لو كان اليمين أفضل مطلقاً لقال النبي صلى الله عليه وسلم:«أكملوا الأيمن فالأيمن» ، كما كان الصف يكمل فيه الأول فالأول.

فلو فرض أن في اليمين عشرة رجال، وفي اليسار رجلين، فاليسار أفضل، لأنه أقرب إلى الإمام.

وطرف الصف الأول من اليمين أو اليسار أفضل من الصف الثاني، وإن كان خلف الإمام.

ودليل ذلك: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها؟ قالوا: كيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: يتراصون، ويتمون الأول فالأول»

(1)

.

وعلى هذا فنكمل الأول فالأول، فالأول قبل الثاني، والثاني قبل الثالث، والثالث قبل الرابع

وهكذا.

‌وَيَقْرَأَ سُورَةَ الكَهْفِ فِي يَوْمِهَا .........

قوله: «ويقرأ سورة الكهف في يومها» ، أي: يسنّ أن يقرأ سورة الكهف في يوم الجمعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين»

(2)

وهذا روي مرفوعاً وموقوفاً.

وقد أعل بعض العلماء المرفوع بأن الحديث روي موقوفاً.

(1)

سبق تخريجه (3/ 12).

(2)

أخرجه الحاكم (2/ 368) وقال: «صحيح على شرط مسلم» ووافقه الذهبي؛ والبيهقي (3/ 249) عن أبي سعيد رضي الله عنه.

وأخرجه الدارمي (2/ 454) موقوفاً على أبي سعيد.

ص: 91

ونحن نقول: إذا كان الرافع ثقة، فهذه العلة غير قادحة، فلا توجب ضعف الحديث، والذي يوجب ضعف الحديث العلة القادحة، وهذا لا يقدح؛ لأن من روى الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ربما يحدّث به غير منسوب إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، وهذا يقع كثيراً، لا سيما في غير مقام الاستدلال، أما في مقام الاستدلال فلا بد أن يرفعه، وعلى فرض أنه من قول أبي سعيد، فمثل هذا لا يقال بالرأي، فيكون له حكم الرفع؛ لأن أبا سعيد لا يعرف هذا الثواب، فيكون مرفوعاً حكماً إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

وسورة الكهف لها مزايا منها: أن من قرأ فواتحها على الدجال عصم من فتنته

(1)

، والدجال هو الأعور الذي يبعثه الله في آخر الزمان يبقى في الأرض أربعين يوماً، اليوم الأول كسنة، والثاني كشهر، والثالث كجمعة، والرابع كسائر الأيام، فتنته عظيمة جداً، ولهذا ما من نبي إلا أنذر قومه منه

(2)

، وأمرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن نتعوذ بالله من فتنته في كل صلاة بعد التشهد الأخير قبل السلام

(3)

، وجاء في بعض الأحاديث أن من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من فتنته

(4)

، وفي بعض روايات

(1)

أخرجه مسلم (2937) عن النواس بن سمعان وفيه قال رسول الله (ص): «فمن أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف» .

(2)

سبق تخريجه (3/ 191).

(3)

سبق تخريجه (3/ 200).

(4)

أخرجه مسلم (809) من حديث أبي الدرداء ولفظه: «من حفظ عشر آيات من سورة الكهف عصم من الدجال» .

ص: 92

الحديث: «من آخر الكهف»

(1)

، والجمع بينهما: أن يحتاط الإنسان فيقرأ عشراً من أولها، وعشراً من آخرها وفيها عبر:

منها: قصة أصحاب الكهف.

ومنها: قصة الرجلين ذوي الجنتين.

ومنها: قصة موسى مع الخضر.

ومنها: قصة ذي القرنين.

ومنها: قصة يأجوج ومأجوج.

ولهذا ورد الترغيب في قراءتها في يوم الجمعة قبل الصلاة أو بعد الصلاة.

‌وَيُكْثِرَ الدُّعَاءَ وَيُكْثِرَ الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم .......

قوله: «ويكثر الدعاء» أي: يسن أن يكثر الدعاء يوم الجمعة؛ وذلك لأن في يوم الجمعة ساعة لا يوافقها عبد مسلم، وهو قائم يصلي يسأل الله شيئاً إلا أعطاه إياه؛ [لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«إن في الجمعة لساعة لا يوافقها عبد مسلم، وهو قائم يصلي يسأل الله شيئاً إلا أعطاه إياه» ]

(2)

، فينبغي أن يكثر من الدعاء رجاء ساعة الإجابة.

ولم يذكر المؤلف رحمه الله نوع الدعاء الذي يكثره فهو راجع إليك، وكل إنسان له حاجات خاصة إلى ربه، فليسأل ربه ما شاء.

قوله: «ويكثر الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم» أي: يسن أن يكثر الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإكثار

(1)

أخرجه مسلم (809)(257).

(2)

أخرجه البخاري (935)؛ ومسلم (852) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 93

الصلاة عليه يوم الجمعة

(1)

، كما أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم مشروعة كل وقت بالاتفاق؛ لأن الله قال:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56]، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم معناها: أنك تسأل الله أن يثني عليه في الملأ الأعلى.

وقال بعض العلماء: صلاة الله على نبيه صلى الله عليه وسلم رحمته إياه، وهذا فيه نظر؛ لأن الله تعالى فرق بين الصلاة والرحمة فقال:{أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 157]، والأصل في العطف المغايرة؛ ولأن العلماء مجمعون على أنه يجوز للإنسان أن يدعو بالرحمة لمن شاء من المؤمنين فيقول: اللهم ارحم فلاناً، ومختلفون في جواز الصلاة على غير الأنبياء، ولو كانت الصلاة هي الرحمة لم يختلف العلماء في جوازها.

إذاً فالصلاة أخص من الرحمة، فإذا صلى الإنسان على النبي صلى الله عليه وسلم مرة واحدة صلى الله عليه بها عشراً، فلنكثر من الصلاة على نبينا صلى الله عليه وسلم حتى يكثر ثوابنا.

‌وَلَا يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ .........

قوله: «ولا يتخطى رقاب الناس» الواو للاستئناف، وليست للعطف على ما سبق؛ لأننا لو جعلناها للعطف على ما سبق لكان تقدير الكلام:«ويسن أن لا يتخطى» ، وليس الأمر كذلك، بل «لا» نافية وليست ناهية؛ لأن الألف لم تحذف، ولو كانت ناهية

(1)

أخرجه الإمام أحمد (4/ 8)؛ وأبو داود (1047)؛ والنسائي (3/ 91)؛ وابن ماجه (1085)؛ وابن خزيمة (1733)؛ وابن حبان (910) الإحسان؛ والحاكم (1/ 278) عن أوس بن أوس رضي الله عنه، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وصححه النووي في «الأذكار» ص (97).

ص: 94

لحذفت الألف للجزم، والنفي يحتمل أنه للكراهة، ويحتمل أنه للتحريم، وهذه المسألة خلافية، فالمشهور من المذهب أن تخطي الرقاب مكروه.

والصحيح: أن تخطي الرقاب حرام في الخطبة وغيرها؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم لرجل رآه يتخطى رقاب الناس: «اجلس فقد آذيت»

(1)

، ولا سيما إذا كان ذلك أثناء الخطبة؛ لأن فيه أذية للناس، وإشغالاً لهم عن استماع الخطبة، إشغال لمن باشر تخطي رقبته، وإشغال لمن يراه ويشاهده، فتكون المضرة به واسعة.

‌إِلاَّ أَنْ يَكُونَ إِمَاماً، أَوْ إِلَى فُرْجَةٍ ........

قوله: «إلا أن يكون إماماً» أي: فإن كان إماماً، فلا بأس أن يتخطى؛ لأن مكانه متقدم، ولكن بشرط أن لا يمكن الوصول إلى مكانه إلا بالتخطي، فإن كان يمكن الوصول إلى مكانه بلا تخط بأن كان في مقدم المسجد باب يدخل منه الإمام، فإنه كغيره في التخطي؛ لأن العلة واحدة، وقد اعتاد الناس اليوم ـ والحمد لله ـ أن يجعلوا للإمام باباً في مقدم المسجد حتى يدخل منه، وكانوا في الزمن السابق لما كانت البيوت ملاصقة للمساجد من القبلة كان الإمام يدخل من الباب الخلفي ويتخطى الرقاب، ولكن الناس لا يرون في هذا بأساً؛ لأنه إمامهم فلا يتأذون بذلك.

قوله: «أو إلى فرجة» أي: مكان متسع في الصفوف المقدمة، فإن كان هناك فرجة، فلا بأس أن يتخطى إليها.

(1)

أخرجه الإمام أحمد (4/ 118، 190)؛ وأبو داود (1118)؛ والنسائي (3/ 103)؛ وابن خزيمة (1811)؛ وابن حبان (2790) إحسان؛ والحاكم (1/ 288) وصححه ووافقه الذهبي، عن عبد الله بن بسر رضي الله عنه.

ص: 95

فإن قال قائل: الحديث عام «اجلس فقد آذيت»

(1)

؛ لأن ظاهر الحال أن هناك فرجة؛ لأنه ليس من العادة أن يتخطى الإنسان الرقاب إلا إلى فرجة.

ولكن الفقهاء رحمهم الله استثنوا هذه المسألة، فقالوا: لأنه إذا كان ثمة فرجة فإنهم هم الذين جنوا على أنفسهم؛ لأنهم مأمورون أن يكملوا الأول فالأول، فإذا كان ثمة فرجة فقد خالفوا الأمر، وحينئذٍ يكون التفريط منهم، وليس من المتخطي.

ولكن الذي أرى: أنه لا يتخطى حتى ولو إلى فرجة؛ لأن العلة وهي الأذية موجودة، وكونهم لا يتقدمون إليها قد يكون هناك سبب من الأسباب، مثل: أن تكون الفرجة في أول الأمر ليست واسعة، ثم مع التزحزح اتسعت، فحينئذٍ لا يكون منهم تفريط، فالأولى الأخذ بالعموم وهو ألا يتخطى إلى الفرجة لكن لو تخطى برفق واستأذن ممن يتخطاه إلى هذه الفرجة فأرجو أن لا يكون في ذلك بأس.

‌وَحَرُمَ أَنْ يُقِيمَ غَيْرَهُ فَيَجْلِسَ مَكَانَهُ .......

قوله: «وحرم أن يقيم غيره فيجلس مكانه» أي: يحرم أن يقيم غيره من المكان الذي كان جالساً فيه ويجلس مكانه.

قوله: «فيجلس مكانه» هذا قيد أغلبي؛ لأن الغالب أن الإنسان يقيم غيره من أجل أن يجلس في مكانه، ومع ذلك لو أقام غيره لا ليجلس في مكانه فقال: قم عن هذا ولم يجلس فيه كان حراماً.

(1)

سبق تخريجه ص (95).

ص: 96

ودليل هذا:

1 ـ قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به»

(1)

.

2 ـ نهيه صلى الله عليه وسلم أن يقيم الرجل أخاه فيجلس مكانه

(2)

.

ففي الحديث الأول بيان الأحقية، وفي الحديث الثاني تحريم أن يقيم غيره فيجلس مكانه.

3 ـ أن ذلك يحدث العداوة والبغضاء بين المصلين، وهذا ينافي مقصود الجماعة، إذ إن من المقصود من الجماعة هو الائتلاف والمحبة، فإذا أقام غيره، ولا سيما أمام الناس، فلا شك أن هذا يؤذيه، ويجعل في قلبه ضغينة على هذا الرجل الذي أقامه.

‌إِلاَّ مَنْ قَدَّمَ صَاحِباً لَهُ فَجَلَسَ فِي مَوْضِعٍ يَحْفَظهُ لَهُ.

قوله: «إلا من قدم صاحباً له في موضع يحفظه له» أي: إلا شخصاً قدم صاحباً له في موضع يحفظه له، مثل: أن يقول لشخص ما: يا فلان أنا عندي شغل، ولا ينتهي إلا عند مجيء الإمام، فاذهب واجلس في مكان لي في الصف الأول. فإذا فعل وجلس في الصف الأول فله أن يقيمه؛ لأن هذا الذي أقيم وكيل له ونائب عنه.

وظاهر كلام المؤلف أن هذا العمل جائز، أي يجوز لشخص أن ينيب غيره ليجلس في مكان فاضل، ويبقى هذا المنيب حتى يفرغ من حاجاته، ثم يتقدم إلى المسجد.

(1)

سبق تخريجه (4/ 279).

(2)

سبق تخريجه (4/ 279).

ص: 97

وفي هذا نظر لما يلي:

أولاً: أن هذا النائب لم يتقدم لنفسه، وربما يراه أحد فيظنه عمل عملاً صالحاً، وليس كذلك.

ثانياً: أن في هذا تحايلاً على حجز الأماكن الفاضلة لمن لم يتقدم، والأماكن الفاضلة أحق الناس بها من سبق إليها.

وظاهر كلام المؤلف أنه يحرم أن يقيم غيره، ولو كان صغيراً.

والمذهب أنه يجوز أن يقيم الصغير، ويجلس مكانه، ولكن الصحيح أنه لا يجوز أن يقيم الصغير لما يلي:

أولاً: لعموم النهي: «لا يقيم الرجل أخاه»

(1)

.

ثانياً: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به»

(2)

.

وهذا الصبي سابق فلا يجوز لنا أن نهدر حقه، وأن نظلمه ونقيمه.

ودليل المذهب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ليلني منكم أولو الأحلام والنهى»

(3)

، وهذا استناد إلى غير مستند؛ لأن المراد بقوله صلى الله عليه وسلم:«ليلني منكم أولو الأحلام والنهى» حث أولي الأحلام والنهى أن يتقدموا، ولو قال:«لا يلني منكم إلا أولو الأحلام» لكان لنا الحق أن نقيم الصغير.

(1)

سبق تخريجه ص (97).

(2)

سبق تخريجه ص (97).

(3)

سبق تخريجه ص (90).

ص: 98

ثم نقول: إن في إقامة الصغير عن مكانه مفسدة عظيمة بالنسبة للصغير؛ إذ يبقى في قلبه كراهة للمسجد والتقدم إليه، وكراهة لمن أقامه من مجلسه أمام الناس، ولا سيما إذا كان له تمييز كالسابعة والثامنة.

وهناك مفسدة أخرى غير ما سبق، وهي أننا إذا أقمنا الصغار من الصف الأول، وجعلناهم في صف واحد مستقل فسيلعبون لعباً عظيماً، لكن إذا أبقيناهم في الصف الأول، وصار كل طفل إلى جنب رجل قلَّ لعبهم بلا شك، وهذا القول الراجح هو الذي صوَّبه صاحب الإنصاف، ومال إليه صاحب الفروع، وصرح به المجد جد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمهم الله.

وفي الروض يقول رحمه الله: «وكره إيثار غيره بمكانه الفاضل، لا قبوله، وليس لغير المُؤْثَر سبقه» .

مثاله: أن تكون في الصف الأول، فأردت أن تتأخر إكراماً لشخص حضر ليجلس في مكانك، فيقول صاحب الروض: إن هذا مكروه.

والدليل على هذا: قول النبي عليه الصلاة والسلام: «لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا»

(1)

، فبيَّن الرسول عليه الصلاة والسلام أن من أهمية الصف الأول أن الناس لو لم يجدوا إلا المساهمة ـ يعني القرعة ـ لاقترعوا عليه، فكيف تؤثر غيرك بهذا المكان،

(1)

سبق تخريجه (2/ 41).

ص: 99

وتتأخر؛ ولأن هذا يدل على أنه ليس عندك رغبة في الخير ولا اهتمام بالشيء الفاضل.

والصحيح في هذه المسألة: أن إيثار غيره إذا كان فيه مصلحة كالتأليف فلا يكره، مثل: لو كان الأمير يعتاد أن يكون في هذا المكان من الصف الأول وقمت فيه، ثم حضر الأمير، وتخلفت عنه، وآثرت به الأمير فلا بأس، بل ربما يكون أفضل من عدم الإيثار.

وما دمنا في الإيثار فإنه ينبغي أن نتكلم عليه فنقول: الإيثار أقسام هي:

1 ـ الإيثار بالواجب: حرام.

2 ـ الإيثار بالمستحب: مكروه.

3 ـ الإيثار بالمباح: مطلوب.

4 ـ الإيثار بالمحرم: حرام على المؤثِر والمؤثَر.

مثال الإيثار بالواجب: رجل عنده ماء لا يكفي إلا لوضوء رجل واحد، وهو يحتاج إلى وضوء، وصاحبه يحتاج إلى وضوء، فهنا لا يجوز أن يؤثره بالماء ويتيمم هو؛ لأن استعمال الماء واجب عليه وهو قادر، ولا يمكن أن يسقط عن نفسه الواجب من أجل أن يؤثر غيره به.

مثال آخر: لو كان شخص في مفازة، ومعه صاحب له، وأتاهما العدو وسلب ثيابهما ولم يبق إلا ثوب واحد، فهنا لا يجوز أن يؤثر صاحبه به، لكن هذه المسألة ليست كالأولى؛ لأنه من الممكن أن يصلي به أولاً، ثم يعطيه صاحبه.

ص: 100

ومثال الإيثار بالمستحب: الإيثار بالمكان الفاضل كما لو آثر غيره بالصف الأول فهذا غايته أن نقول: إنه مكروه، أو خلاف الأولى.

ومثال الإيثار بالمباح: أن يؤثر شخصاً بطعام يشتهيه وليس مضطراً إليه، وهذا محمود؛ لأن الله مدح الأنصار رضي الله عنهم بقوله:{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} .

وقوله: «لا قبوله» أي: لا يكره قبول الإيثار، فلو قلت لشخص: تقدم في مكاني في الصف الأول، فإنه لا يكره له أن يقبل ويتقدم.

وقوله: «وليس لغير المؤثر سبقه» ، أي: لا يحل لغير المؤثر ـ بفتح التاء ـ سبقه، أي سبق المؤثر.

مثاله: لو آثر زيد عمراً بمكانه فسبق إليه بكر، فإنه لا يحل ذلك لبكر؛ لأن زيداً إنما آثر عمراً.

وأشد منه ما يفعله بعض الناس إذا جاء والصف تام جذب واحداً من الصف، فيتأخر المجذوب من أجل أن يصف معه، فيتقدم ذاك في مكانه؛ لأنه سيؤدي إلى بطلان صلاة المجذوب، ثم هو أحسن إليك وتأخر معك فتسيء إليه هذه الإساءة.

‌وَحَرُمَ رَفْعُ مُصَلًّى مَفْرُوشٍ مَا لَمْ تَحْضُرِ الصَّلاةُ ..........

قوله: «وحرم رفع مصلى مفروش ما لم تحضر الصلاة» ، يعني أن رفع المصلى الذي وضعه صاحبه ليصلي عليه ثم انصرف حرام، و «المصلى»: ما يصلى عليه، مثل: السجادة.

وصورة المسألة: رجل وضع سجادته في الصف، وخرج من المسجد فلا يجوز أن ترفع هذا المصلى.

ص: 101

التعليل: أن هذا المصلى نائب عن صاحبه، قائم مقامه، فكما أنك لا تقيم الرجل من مكانه فتجلس فيه، فكذلك لا ترفع مصلاه.

ومقتضى كلام المؤلف أنه يجوز أن يضع المصلى ويحجز المكان؛ لأنه لو كان وضع المصلى وحجز المكان حراماً لوجب رفع المصلى، وإنكار المنكر، فلما جعل المؤلف للمصلى حرمة دل ذلك على أن وضعه جائز، وهذا هو المذهب.

ولكن الصحيح في هذه المسألة أن الحجز والخروج من المسجد لا يجوز، وأن للإنسان أن يرفع المصلى المفروش؛ لأن القاعدة:(ما كان وضعه بغير حق فرفعه حق)، لكن لو خيفت المفسدة برفعه من عداوة أو بغضاء، أو ما أشبه ذلك، فلا يرفع (لأن درأ المفاسد أولى من جلب المصالح)، وإذا علم الله من نيتك أنه لولا هذا المصلى المفروش لكنت في مكانه، فإن الله قد يثيبك ثواب المتقدمين؛ لأنك إنما تركت هذا المكان المتقدم من أجل العذر.

وقوله: «ما لم تحضر الصلاة» أي: فإن حضرت الصلاة بإقامتها فلنا رفعه؛ لأنه في هذه الحال لا حرمة له، ولأننا لو أبقيناه لكان في الصف فرجة، وهذا خلاف السنة. لكن هل لنا أن نصلي عليه بدون رفع؟

الجواب: ليس لنا أن نصلي عليه بدون رفع؛ لأن هذا مال غيرنا، وليس لنا أن ننتفع بمال غيرنا بدون إذنه، ولكن نرفعه.

مسألة: يستثنى من القول الراجح من تحريم وضع المصلى؛

ص: 102

ما إذا كان الإنسان في المسجد، فله أن يضع مصلى بالصف الأول، أو أي شيء يدل على الحجز، ثم يذهب في أطراف المسجد لينام، أو لأجل أن يقرأ قرآناً، أو يراجع كتاباً، فهنا له الحق؛ لأنه ما زال في المسجد، لكن إذا اتصلت الصفوف لزمه الرجوع إلى مكانه؛ لئلا يتخطى رقاب الناس.

وكذلك يستثنى أيضاً ما ذكره المؤلف:

‌وَمَنْ قَامَ مِنْ مَوْضِعِهِ لِعَارِضٍ لَحِقَهُ ثُمَّ عَادَ إِلَيْهِ قَرِيباً فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ ......

بقوله: «ومن قام من موضعه لعارض لحقه، ثم عاد إليه قريباً فهو أحق به» ، فإذا حجز الإنسان المكان، وخرج من المسجد لعارض لحقه، ثم عاد إليه فهو أحق به، والعارض الذي يلحقه مثل أن يحتاج للوضوء، أو أصيب بأي شيء اضطره إلى الخروج، فإنه يخرج، وإذا عاد فهو أحق به.

ولكن المؤلف اشترط فقال: «ثم عاد إليه قريباً» ولم يحدد القرب؛ وكل شيء أتى ولم يحدد يرجع فيه إلى العرف كما قال الناظم:

وكل ما أتى ولم يحدد

بالشرع كالحرز فبالعرف احدد

(1)

وظاهر كلام المؤلف أنه لو تأخر طويلاً فليس أحق به، فلغيره أن يجلس فيه.

وقال بعض العلماء: بل هو أحق، ولو عاد بعد مدة طويلة إذا كان العذر باقياً، وهذا القول أصح؛ لأن استمرار العذر

(1)

«منظومة أصول الفقه وقواعده» . لشيخنا رحمه الله ص (3).

ص: 103

كابتدائه، فإنه إذا جاز أن يخرج من المسجد، ويُبقي المصلى إذا حصل له عذر، فكذلك إذا استمر به العذر، لكن من المعلوم أنه لو أقيمت الصلاة، ولم يزل غائباً فإنه يرفع.

مسألة: لو فرض أنه رجع قريباً ـ أو بعيداً على قولنا: إنه ما دام العذر فهو معذور ـ، ووجد في مكانه أحداً فأبى أن يقوم، فحصل نزاع، فالواجب أن يدرأ النزاع وله أجر، ويطلب مكاناً آخر إلا إذا أمكن أن يفسح الناس بأن كان الصف فيه شيء من السعة، فهنا يقول: افسحوا قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ} [المجادلة: 11].

وقوله: «فهو أحق به» دليله قوله صلى الله عليه وسلم: «من قام من مجلسه ثم رجع إليه فهو أحق به» ، رواه مسلم

(1)

.

قال في الروض: «ولم يقيده الأكثر بالعود قريباً» . أي: أكثر أصحاب الإمام أحمد لم يقيدوه بالعود قريباً، كما هو ظاهر الحديث.

ولكن الذي ذكرناه قول وسط، وهو: أنه إذا عاد بعد مدة طويلة بناء على استمرار العذر فهو أحق به، أما إن انتهى العذر، ولكنه تهاون وتأخر، فلا يكون أحق به.

‌وَمَنْ دَخَلَ وَالإِْمَامُ يَخْطُبُ لَمْ يَجْلِسْ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ يُوجِزُ فِيهِمَا.

......

قوله: «ومن دخل والإمام يخطب» ، «من»: هذه شرطية، وجملة «والإمام يخطب» في موضع نصب على الحال.

قوله: «لم يجلس» ، أي: بمكانه.

(1)

أخرجه مسلم (2179) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 104

قوله: «حتى يصلي ركعتين يوجز فيهما» ، والدليل على ذلك:

1 ـ قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين»

(1)

، وهذا عام.

2 ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم: «رأى رجلاً دخل المسجد فجلس، والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، فقال: أصليت؟ قال: لا، قال: قم فصلِّ ركعتين»

(2)

، وفي رواية:«وتجوَّز فيهما» .

3 ـ قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا جاء أحدكم يوم الجمعة، وقد خرج الإمام فليصل ركعتين وليتجوز فيهما»

(3)

. فالسنة في هذا ظاهرة.

وقد استنبط بعض العلماء من هذا أن تحية المسجد واجبة، ووجه الاستنباط أن استماع الخطبة واجب، والاشتغال بالصلاة يوجب الانشغال عن استماع الخطبة، ولا يشتغل عن واجب إلا بواجب، وقد ذهب إلى هذا كثير من أهل العلم، ولكن بعد التأمل في عدة وقائع تبين لنا أنها سنة مؤكدة، وليست بواجبة، ويمكن الانفكاك عن القول بأنه ينشغل بأن يقال: قد ينشغل، وقد يسمع بعض الشيء وهو يصلي، والإنسان يسمع وهو يصلي، ويفهم وهو يصلي؛ ولهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس فإذا سمع بكاء الصبي تجوَّز في صلاته

(4)

، وهذا دليل على أن

(1)

سبق تخريجه (4/ 124).

(2)

أخرجه البخاري (930)؛ ومسلم (875) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.

(3)

أخرجه مسلم (875)(59) عن جابر رضي الله عنه.

(4)

سبق تخريجه (4/ 192).

ص: 105

المصلي لا ينشغل انشغالاً كاملاً، فالذي ترجح عندي أخيراً أن تحية المسجد سنة مؤكدة، وليست بواجبة.

وقال بعض العلماء: تسن تحية المسجد لكل داخل مسجد إلا المسجد الحرام، فإن تحيته الطواف، ولكن هذا ليس على إطلاقه، بل نقول: إلا المسجد الحرام، فإن تحيته الطواف لمن دخل ليطوف، فإنه يستغنى بالطواف عن الركعتين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل المسجد الحرام لطواف العمرة والحج لم يصل ركعتين، أما من دخل ليصلي، أو ليستمع إلى علم أو ليقرأ القرآن، أو ما أشبه ذلك فإن المسجد الحرام كغيره من المساجد تحيته ركعتان؛ لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم:«إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين»

(1)

.

‌وَلَا يَجُوزُ الكَلَامُ وَالإِْمَامُ يَخْطُبُ إِلاَّ لَهُ، أَوْ لِمَنْ يُكَلِّمُهُ لِمَصْلَحَةٍ ..........

قوله: «ولا يجوز الكلام والإمام يخطب إلا له أو لمن يكلمه» ، إذا قيل: لا يجوز فهي عند العلماء بمعنى يحرم، وعلى هذا فالكلام والإمام يخطب حرام.

وقول المؤلف: «والإمام يخطب» جملة حالية كما سبق في قوله: «ومن دخل والإمام يخطب» .

وقوله: «والإمام يخطب» ، التعبير الدقيق أن يقال:«والخطيب يخطب» ؛ لأنه قد يخطب غير الإمام فربما يكون الإمام لا يجيد الخطبة فيقوم بالخطبة واحد ويصلي آخر، وهذا هو مراد المؤلف رحمه الله لكن ذكر الإمام بناء على الغالب.

(1)

سبق تخريجه ص (105).

ص: 106

والدليل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيما أخرجه الإمام أحمد: «من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب فهو كمثل الحمار يحمل أسفاراً ـ وهذا التشبيه للتقبيح والتنفير ـ والذي يقول له: أنصت، ليست له جمعة»

(1)

، مع أن الذي يقول له: أنصت، ينهى عن منكر، ومع ذلك يلغو، ومن لغا فلا جمعة له.

ومعنى «ليست له جمعة» أي: لا ينال أجر الجمعة، وليس معناه أن جمعته لا تصح، وأجر الجمعة أكثر من أجر بقية الصلوات.

وكذلك أيضاً جاء في الصحيحين: «إذا قلت لصاحبك: أنصت يوم الجمعة والإمام يخطب فقد لغوت»

(2)

.

وقوله: «إلا له» أي: للإمام.

وقوله: «أو لمن يكلمه» ، أي: لمن يكلم الإمام أو يكلمه الإمام.

قوله: «لمصلحة» قيد للمسألتين جميعاً، وهما من يكلم الإمام أو يكلمه الإمام، فلا يجوز للإمام أن يتكلم كلاماً بلا مصلحة، فلا بد أن يكون لمصلحة تتعلق بالصلاة، أو بغيرها مما يحسن الكلام فيه، وأما لو تكلم الإمام لغير مصلحة، فإنه لا يجوز.

وإذا كان لحاجة فإنه يجوز من باب أولى، فمن الحاجة أن يخفى على المستمعين معنى جملة في الخطبة فيسأل أحدهم عنه، ومن الحاجة أيضاً أن يخطئ الخطيب في آية خطأ يحيل المعنى، مثل: أن يسقط جملة من الآية، أو يلحن فيها لحناً يحيل المعنى.

(1)

سبق تخريجه (3/ 231).

(2)

أخرجه البخاري (934)؛ ومسلم (851) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 107

والمصلحة دون الحاجة، فمن المصلحة مثلاً إذا اختل صوت مكبر الصوت فللإمام أن يتكلم، ويقول للمهندس: انظر إلى مكبر الصوت ما الذي أخله؟ وكذلك من يكلم الإمام للمصلحة والحاجة يجوز له ذلك. ودليل هذا: «أن رجلاً دخل المسجد والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة، فقال: يا رسول الله، هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادع الله يغيثنا فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه، وقال: اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا» .

يقول أنس راوي الحديث: «والله ما نرى في السماء من سحاب ولا قزعة، وما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار ـ وسلع: جبل صغير في المدينة تأتي من قبله السحاب أي إن السماء صحو ـ فخرجت من وراء سلع سحابة مثل الترس ـ والترس: هو مثل الصاج الذي يخبز فيه يتخذ من جلد قوي أو من حديد يتقي به المقاتل سهام العدو يتترس به ـ فارتفعت في السماء، وانتشرت ورعدت، وبرقت، ثم نزل المطر فما نزل النبي صلى الله عليه وسلم من المنبر إلا والمطر يتحادر من لحيته» .

سبحان الله!! آية من آيات الله، ومن آيات الرسول صلى الله عليه وسلم.

من آيات الله هذه القدرة العظيمة، ومن آيات الرسول صلى الله عليه وسلم أن الله استجاب دعاءه، وبقي المطر ينزل أسبوعاً كاملاً لم يروا الشمس، فلما كانت الجمعة الثانية دخل الرجل أو رجل آخر فقال: يا رسول الله «تهدَّم البناء وغرق المال فادع الله يمسكها» ، لكن النبي عليه الصلاة والسلام لم يدع الله أن يمسكها، بل قال: «اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام، والظراب، وبطون

ص: 108

الأودية ومنابت الشجر»، أي: دعا الله تعالى أن يكون المطر على الأماكن التي فيها مصلحة، وليس فيها مضرة، يقول أنس:«فجعل يشير إلى السماء كلما أشار إلى ناحية انفرج السحاب» ؛ لأن الله عز وجل يأمره بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم، فخرج الناس يمشون في الشمس بعد الجمعة

(1)

، فهذا الأعرابي الأول سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو الله بالغيث، والثاني سأل الرسول صلى الله عليه وسلم أن يدعو الله بالإمساك، فهذا لحاجة ومصلحة فلا بأس به.

وفي هذا الحديث دليل على أن صلاة العصر لا تجمع إلى الجمعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجمعها إلى الجمعة مع وجود المبيح للجمع، وهو المطر في الجمعة الأولى، والوحل في الجمعة الثانية.

[مسألتان:

الأولى: إذا عطس المأموم يوم الجمعة فإنه يحمد الله خفية، فإن جهر بذلك فسمعه من حوله فلا يجوز لهم أن يشمِّتوه.

الثانية: إذا عطس الإمام وحمد الله جهراً فهل يجب على من سمعه أن يشمِّته؟

الجواب: على القول بأنه يجب أن يشمِّته كل من سمعه كما قال ابن القيم، فالظاهر أنه إن سكت الإمام من أجل العطاس فلا بأس أن يشمَّت، وإن لم يسكت فلا؛ لأن الخطبة قائمة.

والذي أراه في هذه المسألة أنه ينبغي للإمام أن يحمد سراً حتى لا يوقع الناس في الحرج، فإن حمد جهراً فإن استمر في

(1)

أخرجه البخاري (933)؛ ومسلم (897).

ص: 109

الخطبة فلا يشمت؛ لأجل ألا يشغل عن استماع الخطبة، وإلا فلا بأس].

‌وَيَجُوزُ قَبْلَ الخُطْبَةِ وَبَعْدَهَا.

قوله: «ويجوز قبل الخطبة وبعدها» أي: يجوز الكلام قبل الخطبة، وبعد الخطبة، ولو بعد حضور الخطيب، ولو بعد الأذان ما دام لم يشرع في الخطبة، ويجوز كذلك بعد انتهاء الخطبة، وسواء كان ذلك بعد انتهاء الخطبة الأولى، أو بعد انتهاء الخطبة الثانية؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قيد الحكم بما إذا كان الإمام يخطب، والمقيد ينتفي الحكم به بانتفاء القيد، ولكن ليس هذا الجواز على حد سواء؛ لأن الإنسان لو شرع يتكلم قبل أن يبدأ الإمام بالخطبة، فربما يستمر به الأمر حتى يتكلم والإمام يخطب، فالأفضل عدم الكلام؛ لئلا يستمر به الكلام والإمام يخطب.

مسألة: بعض الفقهاء رحمهم الله قالوا: إذا شرع الإمام في الدعاء في حال الخطبة يجوز الكلام؛ لأن الدعاء ليس من أركان الخطبة، والكلام في غير أركان الخطبة جائز، ولكنه قول ضعيف؛ لأن الدعاء ما دام متصلاً بالخطبة فهو منها، وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم:«كان يستغفر للمؤمنين في كل جمعة في الخطبة»

(1)

.

فالصحيح: أنه ما دام الإمام يخطب، سواء في أركان الخطبة، أو فيما بعدها فالكلام حرام.

(1)

سبق تخريجه ص (66).

ص: 110

‌باب صلاة العيدين

قوله: «صلاة العيدين» من باب إضافة الشيء إلى وقته وإلى سببه، فهذه الصلاة سببها العيدان، وهي أيضاً لا تصلى إلا في العيدين.

وقوله: «العيدين» تثنية عيد، وهما عيد الأضحى وعيد الفطر، وكلاهما يقعان في مناسبة شرعية.

أما عيد الفطر ففي مناسبة انقضاء المسلمين من صوم رمضان.

وأما الأضحى فمناسبته اختتام عشر ذي الحجة التي قال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من أيام العمل الصالح فيهنّ أحب إلى الله من هذه الأيام العشر، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله ولم يرجع من ذلك بشيء»

(1)

. فالمناسبة لهذين العيدين مناسبة شرعية، وهناك عيد ثالث وهو ختام الأسبوع وهو يوم الجمعة، ويتكرر في كل أسبوع مرة، وليس في الإسلام عيد سوى هذه الأعياد الثلاثة: الفطر، والأضحى، والجمعة، فليس فيه عيد بمناسبة مرور ذكرى غزوة بدر، ولا غزوة الفتح، ولا غزوة حنين ولا غيرها من الغزوات العظيمة التي انتصر فيها المسلمون انتصاراً باهراً، ناهيك عمّا يقام

(1)

أخرجه البخاري (669) عن ابن عباس رضي الله عنهما؛ وأبو داود (2438)؛ والترمذي (757) وهذا لفظهما. وقال الترمذي: «حديث حسن غريب صحيح» .

ص: 111

من الأعياد لانتصارات وهمية، بل إني أعجب لقوم يجعلون أعياداً للهزائم ذكرى يوم الهزيمة، أو ذكرى احتلال العدو البلد الفلاني، مما يدل على سفه عقول كثير من الناس اليوم؛ لأنهم لما حصل لهم شيء من البعد عن دين الإسلام صاروا حتى في تصرفهم يتصرفون تصرف السفهاء، وليس هناك أعياد لمناسبة ولادة أحد من البشر، حتى النبي عليه الصلاة والسلام لا يشرع العيد لمناسبة ولادته، وهو أشرف بني آدم فما بالك بمن دونه؟!

فإذا قال قائل: هذه المناسبات نقيمها من أجل الذكرى.

قلنا: أما بالنسبة للرسول عليه الصلاة والسلام، فإن المسلمين فرض على أعيانهم أن يذكروه في اليوم والليلة خمس مرات على الأقل، وفرض على الكفاية أن يذكروه أيضاً خمس مرات في اليوم والليلة على الأقل، فالأذان يقول المسلمون فيه: أشهد أن محمداً رسول الله، وفي الصلاة في التشهد يقولون: أشهد أن محمداً عبده ورسوله، بل إن كل عبادة يتعبد بها الإنسان فهي ذكرى للرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأن المتعبد يجب عليه أن يلاحظ في عبادته شيئين:

1 ـ الإخلاص لله عز وجل، وأنه فعل العبادة تقرباً إليه، وامتثالاً لأمره.

2 ـ المتابعة للرسول عليه الصلاة والسلام، وأنه فعل العبادة اتباعاً للرسول صلى الله عليه وسلم، وكأن النبي صلى الله عليه وسلم أمامه فيها لتتم هذه العبادة، حتى لو تسوك الإنسان اتباعاً للسنة فهذه ذكرى، ولو قدم رجله اليمنى عند دخول المسجد اتباعاً للسنّة فهذه ذكرى، ولو قدم

ص: 112

إدخال يده اليمنى في الكم قبل اليسرى اتباعاً للسنّة فهذه ذكرى.

فالمسلمون في كل أحوالهم يذكرون النبي صلى الله عليه وسلم، أما الذكرى بهذه الطقوس المبتدعة التي ما أنزل الله بها من سلطان فإنها تدمر أكثر مما تعمر؛ لأن القلب يجد فراغاً واسعاً عندما تنتهي هذه المناسبة، أو الاحتفال بهذه المناسبة، ولهذا فإنه من حكمة الله أنه ما من بدعة تقام إلا وينهدم من السنّة مثلها أو أكثر.

إذاً كل من أقام عيداً لأي مناسبة، سواء كانت هذه المناسبة انتصاراً للمسلمين في عهد النبي عليه الصلاة والسلام، أو انتصاراً لهم فيما بعد، أو انتصار قومية فإنه مبتدع، وقد قَدِمَ النبي عليه الصلاة والسلام المدينة فوجد للأنصار عيدين يلعبون فيهما فقال:«إن الله قد أبدلكم بخير منهما عيد الفطر وعيد الأضحى»

(1)

، مما يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يحب أن تحدث أمته أعياداً سوى الأعياد الشرعية التي شرعها الله عز وجل.

مسألة: أسبوع المساجد والشجرة ونحوهما مما يقام ما القول فيها؟

أما أسبوع المساجد فبدعة؛ لأنه يقام باسم الدين ورفع شأن المساجد، فيكون عبادة تحتاج إقامته إلى دليل، ولا دليل لذلك.

(1)

أخرجه الإمام أحمد (3/ 103، 178، 235)؛ وأبو داود (1134)؛ والنسائي (3/ 179)؛ والحاكم (1/ 294)؛ والبيهقي (3/ 377)؛ والبغوي في «شرح السنة» (4/ 292) عن أنس بن مالك رضي الله عنه وصححه الحاكم على شرط مسلم ووافقه الذهبي، وصححه البغوي في «شرح السنة» ، والحافظ في «الفتح» (2/ 442).

ص: 113

وأما أسبوع الشجرة فالظاهر أنه لا يقام على أنه عبادة، فهو أهون، ومع ذلك لا نراه.

وأما أسبوع أو مؤتمر الشيخ محمد بن عبد الوهاب فهذا ليس عيداً؛ لأنه لا يتكرر، وفائدته واضحة وهي جمع المعلومات عن حياة هذا الشيخ ومؤلفاته، فحصل فيها نفع كبير.

مسألة: الحفلات التي تقام عند تخرُّج الطلبة، أو عند حفظ القرآن لا تدخل في اتخاذها عيداً لأمرين:

الأول: أنها لا تتكرر بالنسبة لهؤلاء الذين احتفل بهم.

الثاني: أن لها مناسبة حاضرة، وليست أمراً ماضياً.

قوله: «وهي فرض كفاية» ، أفاد المؤلف رحمه الله أنها فرض، وهذا القول الأول في المسألة، ومعلوم أن الفرض يحتاج إلى دليل، والدليل على هذا ما يلي:

1 ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم: «أمر النساء أن يخرجنَ لصلاة العيد، حتى إنه أمر الحيَّض، وذوات الخدور أن يخرجن يشهدن الخير، ودعوة المسلمين، وأمر الحيَّض أن يعتزلنَ المصلى»

(1)

، والأمر يقتضي الوجوب، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أمر النساء، فالرجال من باب أولى، لأن الأصل في النساء أنهنّ لسن من أهل الاجتماع، ولهذا لا تشرع لهن صلاة الجماعة في المساجد، فإذا أمرهن أن يخرجن إلى مصلى العيد ليصلين العيد ويشهدن الخير ودعوة المسلمين دلّ هذا على أنها على الرجال أوجب، وهو كذلك.

(1)

أخرجه البخاري (980)؛ ومسلم (890) عن أم عطية رضي الله عنها.

ص: 114

2 ـ مواظبة النبي صلى الله عليه وسلم، وخلفائه الراشدين على هذا العمل الظاهر، [وهذا يجعله بعض العلماء دليلاً] على الوجوب، فيقولون: إن مواظبة النبي صلى الله عليه وسلم على هذا العمل الظاهر، وعدم تخلفه عنه يدل على تأكده ووجوبه، وإن كان هذا فيه نظر؛ لأن الأصل في المداومة على الشيء إذا لم يكن فيه أمرٌ الاستحباب.

3 ـ أنها من شعائر الدين الظاهرة، وشعائر الدين الظاهرة فرض كالأذان، فالأذان والإقامة من فروض الكفاية؛ لأنهما من شعائر الدين الظاهرة المعلنة، هكذا قال بعض أهل العلم.

ولكن أصح طريق للاستدلال على وجوب صلاة العيدين هو أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وأما مواظبته على هذا، وكونها من شعائر الدين الظاهرة فهي تؤيد الوجوب ولا تعينه.

‌وَهِيَ فَرْضُ كِفَايَةٍ .........

قوله: «فرض كفاية» ، فرض الكفاية هو: ما قصد بالذات بقطع النظر عن الفاعل، أي: قصد به الفعل بقطع النظر عن الفاعل كالأذان، وعلى هذا فيكون فرض الكفاية مطلوباً من المجموع لا من الجميع، أي: مجموع الناس يلزمهم أن يقوموا بفرض الكفاية، لا من الجميع، فيلزم كل واحد بعينه إذاً فإذا قام به من يكفي سقط عن الباقين، فلو أقام صلاة العيد أربعون رجلاً، فإن بقية أهل البلد لا تلزمهم صلاة العيد، هذا معنى كونها فرض كفاية.

القول الثاني: أنها سنّة.

واستدل هؤلاء بأن النبي صلى الله عليه وسلم لما علم الأعرابي فرائض الإسلام، ومنها الصلوات الخمس، عندما قال الأعرابي: هل

ص: 115

عليّ غيرها؟ قال: «لا إلا أن تطوع»

(1)

، وهذا عام فإن كل صلاة غير الصلوات الخمس داخلة في هذا، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم:«لا» أي: ليست واجبة «إلا أن تطوع» ، أي: إلا أن تفعلها على سبيل التطوع، وهذا مذهب مالك والشافعي.

القول الثالث: أنها فرض عين على كل أحد، وأنه يجب على جميع المسلمين أن يصلوا صلاة العيد، ومن تخلف فهو آثم، وإلى هذا ذهب أبو حنيفة واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.

واستدل هؤلاء بأن النبي صلى الله عليه وسلم: «أمر النساء حتى الحيَّض، وذوات الخدور أن يخرجنَ إلى المصلى ليشهدن الخير ودعوة المسلمين»

(2)

، وهذا يدل على أنها فرض عين؛ لأنها لو كانت فرض كفاية لكان الرجال قد قاموا بها، وهذا عندي أقرب الأقوال [وهو الراجح].

‌إِذَا تَرَكَهَا أَهْلُ بَلَدٍ قَاتَلَهُمُ الإِمَامُ ..........

قوله: «إذا تركها أهل بلد قاتلهم الإمام» أي: إذا ترك صلاة العيد أهل بلد فإن الإمام يقاتلهم، أي: إن لم يفعلوها، فإذا علم الإمام أن هؤلاء تركوها، ودعاهم إلى فعلها، ولكنهم أصروا على الترك، فإنه يجب عليه أن يقاتلهم حتى يصلوا.

والمقاتلة غير القتل، فهي أوسع، فليس كل من جازت مقاتلته جاز قتله، ولا يلزم من وجوب المقاتلة أن يكون المقاتل كافراً، بل قد يكون مؤمناً ويقاتل كما قال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ

(1)

أخرجه البخاري (2678)؛ ومسلم (11) عن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه.

(2)

سبق تخريجه ص (114).

ص: 116

مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ *} {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 9، 10]، فأوجب قتال الفئة الباغية مع أنها مؤمنة لا تخرج عن الإيمان بالقتال.

فإذا قال قائل: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر»

(1)

، وهذا يدل على أنهم ما داموا مسلمين فقتالهم حرام، فما الجواب؟

فالجواب: أن قتال المسلم كفر ما لم يوجد في الشرع ما يبيحه أو يوجبه.

وأجاب بعض العلماء: بأن هذه من شعائر الإسلام الظاهرة البارزة التي يتميز بها الشعب المسلم عن غيره، فهي كالأذان، وكان من هدي النبي عليه الصلاة والسلام:«أنه إذا نزل بقوم فسمع الأذان تركهم وإلا قاتلهم»

(2)

، هكذا قالوا. والمسألة فيها شيء من النظر؛ لأن القتال قد يستلزم القتل فقد يدافع هؤلاء عن أنفسهم، فيحصل اشتباك وقتل، لكن هذا القتل ليس مقصوداً بالذات. والحديث المذكور لا يدل على المطلوب؛ لأن قتال النبي صلى الله عليه وسلم لمن لم يسمع الأذان منهم ليس من أجل ترك الأذان، ولكن من أجل أن عدم أذانهم دليل على أنهم غير مسلمين فيقاتلهم على الكفر لا على ترك الأذان.

(1)

أخرجه مسلم (64) عن ابن مسعود رضي الله عنه.

(2)

سبق تخريجه (2/ 47).

ص: 117

مسألة: وإن ترك صلاة عيد من ليسوا أَهْلَ بلدٍ أي: جماعة في البر، وهم قريبون من المدينة، فإنهم لا يقاتلون؛ لأنها إنما تجب على أهل القرى والأمصار كالجمعة، أما البدو الرحّل وما أشبههم فلا تقام فيهم صلاة العيد كما لا تقام فيهم صلاة الجمعة.

وقوله: «قاتلهم الإمام» ، المراد بالإمام عند الفقهاء هو أعلى سلطة في البلد، وكان المسلمون فيما سبق إمامهم واحد، لكن تغيّرت الأحوال.

مسألة: هل يقاتلهم غير الإمام؟

الجواب: لا يجوز أن يقاتلهم؛ لأن هذا افتيات على ولي الأمر، ولو فتح الباب للناس، وصار كل من رأى منكراً أنكره بالفعل والتغيير باليد لحصل في هذا فوضى كثيرة؛ لأن كثيراً من الناس، لا يدركون مدى الخطورة في مثل هذا الأمر فربما يعتقد أن هذا الشيء حرام فيحاول تغييره، وهو حلال، ويسطو على من فعله بحجة أنه حرام، وأن من رأى منكراً فليغيره بيده، فيحصل في هذا شر كثير؛ ولهذا قال العلماء: إن الحدود لا يقيمها إلا الإمام أو نائبه، وكذلك التعزيرات لا يقوم بتقديرها إلا الإمام أو نائبه، والمقاتلة في هذا وشبهه لا يقوم بها إلا الإمام أو نائبه، وليس لكل أحد أن يفعل ما شاء.

‌وَوَقْتُهَا كَصَلَاةِ الضُّحَى،

...........

قوله: «ووقتها كصلاة الضحى» أي: صلاة العيد وقتها كوقت صلاة الضحى، ومعلوم أن صلاة الضحى تكون من ارتفاع الشمس قيد رمح بعد طلوعها، وهو بمقدار ربع ساعة تقريباً.

ص: 118

فإذا قال قائل: لماذا لم يقل المؤلف: ووقتها من ارتفاع الشمس قيد رمح، حتى يريح الإنسان من الرجوع إلى وقت صلاة الضحى؟

فالجواب: أن في هذا فائدة، فالعلماء يحيلون على ما مضى، أو على ما يستقبل من أجل أن يحملوا طالب العلم على البحث، فمثلاً هنا قال: كصلاة الضحى؛ لأرجع إلى صلاة الضحى، وأنظر متى وقتها فأجمع الآن بين معلومين: معلوم عن صلاة الضحى، ومعلوم عن صلاة العيد، لكن لو قال: من ارتفاع الشمس قيد رمح لم يحصل ذلك.

فإذا قال قائل: ما الدليل على أن وقتها كصلاة الضحى؟

فالجواب: الدليل على هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاءه الراشدين لم يصلوها إلا بعد ارتفاع الشمس قِيد رمح

(1)

. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «صلوا كما رأيتموني أصلي» ، وقال:«من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» ، وفي رواية:«من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» .

(1)

لما روى يزيد بن خمير الرحبي قال: «خرج عبد الله بن بسر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم عيد فطر أو أضحى، فأنكر إبطاء الإمام، وقال: إنا كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم قد فرغنا ساعتنا هذه، وذلك حين التسبيح» .

أخرجه أبو داود (1135)؛ وابن ماجه (1317)؛ والبيهقي (3/ 282)؛ والحاكم (1/ 295) وصححه. وقال النووي في «الخلاصة» (2/ 827)«بإسناد صحيح على شرط مسلم» . وقد علقه البخاري (2/ 529 فتح الباري) فقال: «وقال عبد الله بن بسر: إنا كنا فرغنا في هذه الساعة، وذلك حين التسبيح» . وقوله: «حين التسبيح» أي وقت حل النافلة، وذلك بعد ارتفاع الشمس.

انظر: «نيل الأوطار» (3/ 293)؛ و «بذل المجهود» (6/ 163).

ص: 119

‌وَآخِرُهُ الزَّوَالُ، فَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ بِالْعِيدِ إِلاَّ بَعْدَهُ صَلَّوا مِنَ الغَدِ وَتُسَنُّ فِي صَحْرَاءَ وَتَقْدِيمُ صَلَاةِ الأَضْحَى، وَعَكْسُهُ الفِطْرُ،

..........

قوله: «وآخره الزوال» أي: آخر وقت العيد زوال الشمس عن كبد السماء، وذلك أن الشمس إذا طلعت صار لكل شاخص ـ أي: لكل شيء مرتفع ـ ظل من جهة الغرب، وكلما ارتفعت نقص الظل، فإذا انتهى نقصه وبدأ بالزيادة، فهذه علامة زوال الشمس.

قوله: «فإن لم يعلم بالعيد إلا بعده صلوا من الغد» أي: فإن لم يعلم بالعيد إلا بعد الزوال فإنهم لا يصلون، وإنما يصلون من الغد في وقت صلاة العيد، ودليل ذلك ما رواه أبو عمير بن أنس عن عمومة له من الأنصار قالوا:«غُمَّ علينا هلال شوال فأصبحنا صياماً، فجاء ركب في آخر النهار، فشهدوا أنهم رأوا الهلال بالأمس، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم الناس أن يفطروا من يومهم، وأن يخرجوا غداً لعيدهم» ، رواه أحمد، وأبو داود، والدارقطني وحسّنه

(1)

، فإذا لم يعلم الناس بالعيد إلا بعد الزوال، فإنه في عيد الفطر يفطرون؛ لأنه تبين أن هذا يوم عيد، ويوم العيد صومه حرام، وفي عيد الأضحى ينتظرون الصلاة فلا يضحون إلا بعدها من الغد، وهنا يتم التقسيم بالنسبة لقضاء الصلوات، فإن الصلوات تنقسم في قضائها إلى أقسام:

الأول: ما يقضى على صفته إذا فات وقته من حين زوال العذر الشرعي، مثل الصلوات الخمس إذا فاتت، فإنك تقضيها

(1)

أخرجه الإمام أحمد في «المسند» (5/ 57، 58)؛ وأبو داود (1157)؛ والنسائي (3/ 180)؛ وابن ماجه (1653)؛ والدارقطني (2/ 170) وقال: «هذا إسناد حسن» ؛ والبيهقي (3/ 316) وقال: «هذا إسناد صحيح» . وقال الخطابي في «معالم السنن» (1/ 252): «وحديث أبي عمير صحيح» . وقال النووي في «المجموع» (5/ 27): «إسناده صحيح» ، وصححه الحافظ ابن حجر في «البلوغ» (483).

ص: 120

بعد زوال العذر، فإن كان العذر نوماً فتقضيها إذا استيقظت، وإن كان نسياناً قضيتها إذا ذكرت.

الثاني: ما لا يقضى إذا فات كالجمعة، فإن خرج وقتها قبل أن يصليها الناس لم يقضوها وصلوا ظهراً، وإن فاتت الإنسان مع الجماعة فهو لا يقضيها أيضاً، وإنما يصلي بدلها ظهراً.

الثالث: ما لا يقضى إذا فات وقته إلا في وقته من اليوم الثاني، وهو صلاة العيد، فإنها لا تقضى في يومها، وإنما تقضى في وقتها من الغد.

[الرابع: ما لا يقضى أصلاً كصلاة الكسوف، فلو لم يعلموا إلا بعد انجلاء الكسوف لم يقضوا، وهكذا نقول: كل صلاة ذات سبب إذا فات سببها لا تقضى].

قوله: «وتسن في صحراء» أي: يسن إقامتها في الصحراء خارج البلد، وينبغي أن تكون قريبة؛ لئلا يشق على الناس.

والدليل: فعل النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، فإنهم كانوا يصلونها في الصحراء

(1)

، ولولا أن هذا أمر مقصود لم يكلفوا أنفسهم ولا الناس أن يخرجوا خارج البلد.

[والتعليل: أن ذلك أشد إظهاراً لهذه الشعيرة].

قوله: «وتقديم صلاة الأضحى وعكسه الفطر» أي: ويسنّ تقديم صلاة الأضحى، وعكسه الفطر، أي: تأخير صلاة الفطر.

ودليل هذا أثر ونظر.

(1)

سبق تخريجه ص (114).

ص: 121

أما الأثر:

1 ـ ما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام «أنه كان يصلي صلاة عيد الأضحى إذا ارتفعت الشمس قيد رمح، وصلاة الفطر إذا ارتفعت قيد رمحين»

(1)

.

2 ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى عمرو بن حزم: «أن عجّل الأضحى، وأخّر الفطر، وذكِّر الناس في الخطبة»

(2)

.

أما النظر: فلأن الناس في صلاة عيد الفطر محتاجون إلى امتداد الوقت ليتسع وقت إخراج زكاة الفطر؛ لأن أفضل وقت تخرج فيه زكاة الفطر صباح يوم العيد قبل الصلاة؛ لحديث ابن عمر: «أمر أن تؤدّى قبل خروج الناس إلى الصلاة»

(3)

، ومعلوم أنه إذا تأخرت الصلاة، صار هذا أوسع للناس.

وأما عيد الأضحى فإن المشروع المبادرة بالتضحية؛ لأن التضحية من شعائر الإسلام، وقد قرنها الله عز وجل في كتابه بالصلاة فقال:{فَصَلِّ لِرَّبِكَ وَانْحَرْ *} [الكوثر]، وقال:{قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ *} [الأنعام]، ففعلها مبادراً بها في هذا اليوم أفضل، وهذا إنما يحصل إذا قدمت الصلاة؛ لأنه لا يمكن أن تذبح الأضحية قبل الصلاة.

‌وَأَكْلُهُ قَبْلَهَا، وَعَكْسُهُ فِي الأَْضْحَى إِنْ ضَحَّى ...........

قوله: «وأكله قبلها، وعكسه في الأضحى إن ضحى» ، أي: يسن أكل الإنسان قبل صلاة عيد الفطر، اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، فإنه صلى الله عليه وسلم

(1)

أخرجه الحسن بن أحمد البناء في كتاب الأضاحي كما في «التلخيص» رقم (144).

(2)

أخرجه الشافعي في «مسنده» ص (74).

(3)

أخرجه البخاري (1509)؛ ومسلم (986).

ص: 122

«كان لا يخرج يوم الفطر حتى يأكل تمرات، ويأكلهنّ وتراً»

(1)

لكن الواحدة لا تحصل بها السنة؛ لأن لفظ الحديث: «حتى يأكل تمرات» ، وعلى هذا فلا بد من ثلاث فأكثر: ثلاث، أو خمس، أو سبع، أو تسع، أو إحدى عشرة، المهم أن يأكل تمرات يقطعها على وتر، وكل إنسان ورغبته فليس مقيداً فله أن يشبع، وإن أكل سبعاً فحسن، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«من تصبّح بسبع تمرات من تمرات العالية ـ وفي لفظ: من العجوة ـ فإنه لا يصيبه ذلك اليوم سم ولا سحر»

(2)

.

سبحان الله حماية ووقاية بسبع تمرات من تمر العالية ـ مكان معروف بالمدينة ـ أو من العجوة، بل إن شيخنا ابن سعدي رحمه الله يرى أن ذلك على سبيل التمثيل، وأن المقصود التمر مطلقاً، فعلى هذا يتصبّح الإنسان كلَّ يوم بسبع تمرات، فإن كان النبي صلى الله عليه وسلم أرادها فقد حصل المطلوب، وإن لم يردها فلا شك أن إفطار الإنسان على هذا التمر الجامع بين ثلاثة أمور من أفضل الأغذية: الحلوى، والفاكهة، والغذاء؛ لأن التمر يشتمل على هذا كله: هو حلوى، وفاكهة يتفكّه به الإنسان، وغذاء، ولهذا لا تجد مثل التمر شيئاً من الثمر لا يفسد إذا أبطأ، بل هو دائماً صالح للأكل، إلا إذا أساء الإنسان كنزه، أو ما أشبه ذلك.

(1)

أخرجه البخاري (953) عن أنس رضي الله عنه.

(2)

أخرجه البخاري (5445)؛ ومسلم (2047)(155) عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.

ص: 123

وعلى كلٍّ يأكل تمرات أقلها ثلاث قبل أن يخرج لصلاة عيد الفطر.

وقوله: «وعكسه في الأضحى إن ضحى» أي: عكس الأكل، وهو ترك الأكل في الأضحى، فلا يأكل قبل صلاة الأضحى حتى يضحي؛ لحديث بريدة:«كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يخرج يوم الفطر حتى يفطر، ولا يطعم يوم النحر حتى يصلي» رواه أحمد

(1)

.

ولأن ذلك أسرع إلى المبادرة في الأكل من أضحيته، والأكل من الأضحية واجب عند بعض العلماء؛ لقول الله تعالى:{فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا} [الحج: 28، 36]، فبدأ بالأمر بالأكل، فالأفضل إذاً أن يمسك عن الأكل في عيد الأضحى حتى يأكل من أضحيته التي أمر بالأكل منها.

أما الحكمة من تقديم الأكل في عيد الفطر فمن أجل تحقيق الإفطار من أول النهار؛ لأن اليوم الذي كان قبله يوم يجب صومه، وهذا اليوم يوم يجب فطره، فكانت المبادرة بتحقيق هذا أفضل، وعليه فلو أكل هذه التمرات قبل أن يصلي الفجر حصل المقصود؛ لأنه أكلها في النهار، والأفضل إذا أراد أن يخرج.

وقوله: «إن ضحى» ، فُهم منه أنه إذا لم يكن لديه أضحية فإنه لا يشرع له الإمساك عن الأكل قبل الصلاة، بل هو بالخيار،

(1)

أخرجه الإمام أحمد (5/ 352)؛ والترمذي (542)؛ وابن ماجه (1756)؛ وابن خزيمة (1426)؛ وابن حبان (2812) الإحسان؛ والحاكم (1/ 294) وصححه. وقال النووي في «الخلاصة» (2/ 826): «حديث حسن رواه الترمذي وابن ماجه والحاكم بأسانيد صحيحة» اهـ.

ص: 124

فلو أكل قبل أن يخرج إلى الصلاة فإننا لا نقول له: إنك خالفت السنّة.

‌وَتُكْرَهُ فِي الْجَامِعِ بِلَا عُذْرٍ ...........

قوله: «وتكره في الجامع بلا عذر» أي: تكره إقامة صلاة العيد في جامع البلد بلا عذر. وظاهر كلام المؤلف أنها تكره في الجامع، سواء في مكة، أو المدينة، أو غيرهما من البلاد.

أما في المدينة فظاهر أن المدينة كغيرها، يسنّ لأهل المدينة أن يخرجوا إلى الصحراء، ويصلوا العيد، هذا هو الأفضل كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله، ويكره أن يصلوا في المسجد النبوي إلا لعذر، لكن ما زال الناس من قديم الزمان يصلون العيد في المسجد النبوي.

أما في مكة فلا أعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم أو أحداً من الذين تولوا مكة كانوا يخرجون عن المسجد الحرام، ولهذا استثنى في «الروض المربع» مكة المشرفة، ولعل الحكمة من ذلك ـ والله أعلم ـ أن الصلاة في الصحراء في مكة صعبة؛ لأنها جبال وأودية، فيشق على الناس أن يخرجوا، فلهذا كانت صلاة العيد في نفس المسجد الحرام.

وقوله: «بلا عذر» ، أفادنا رحمه الله أنه إذا صلوا في الجامع لعذر فلا كراهة.

والعذر مثل: المطر، والرياح الشديدة، والخوف كما لو كان هناك خوف لا يستطيعون أن يخرجوا معه عن البلد.

وإذا قال قائل: ما الدليل على الكراهة وأنتم تقولون: إن ترك السنّة لا يلزم منه الكراهة إلا بدليل؟

ص: 125

فالجواب على ذلك أن نقول: إنما كره هذا؛ لأنه يفوت به مقصودٌ كبيرٌ، وهو إظهار هذه الشعيرة وإبرازها، وهذا شيء مقصود للشارع، وكما أسلفنا فيما سبق أن الرسول عليه الصلاة والسلام أمر بالخروج إليها مع المشقة، وهذا يدل على العناية بهذا الخروج.

‌وَيُسَنُّ تَبْكِيرُ مَأْمُومٍ إِلَيْهَا مَاشِياً بَعْدَ الصُّبْحِ ............

قوله: «ويسنّ تبكير مأموم إليها ماشياً بعد الصبح» ، أي: يسنّ أن يبكّر المأموم إلى صلاة العيد من بعد صلاة الفجر، أو من بعد طلوع الشمس إذا كان المصلى قريباً، كما لو كانت البلدة صغيرة والصحراء قريبة.

وكان ابن عمر رضي الله عنهما: «لا يخرج إلا إذا طلعت الشمس»

(1)

، لكن مصلى العيد في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عهد الصحابة كابن عمر كان قريباً يمكن للإنسان أن يخرج بعد طلوع الشمس ويدرك الصلاة.

والدليل على سنية الخروج بعد صلاة الصبح ما يلي:

1 ـ عمل الصحابة رضي الله عنهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج إلى المصلى إذا طلعت الشمس، ويجد الناس قد حضروا وهذا يستلزم أن يكونوا قد تقدموا.

2 ـ ولأن ذلك سبق إلى الخير.

3 ـ ولأنه إذا وصل إلى المسجد وانتظر الصلاة، فإنه لا يزال في صلاة.

(1)

أخرجه الشافعي في «مسنده» ص (73).

ص: 126

4 ـ ولأنه إذا تقدم يحصل له الدنو من الإمام.

كل هذه العلل مقصودة في الشرع.

وقوله: «ماشياً» ، أي: يسنّ أن يخرج ماشياً، لا على سيارة، ولا على حمار، ولا على فرس، ولا على بعير كما جاء عن علي رضي الله عنه:«السنّة أن يخرج إلى العيد ماشياً»

(1)

، ولكن إذا كان هناك عذر كبعد المصلى، أو مرض في الإنسان، أو ما أشبه ذلك، فلا حرج أن يخرج إليها راكباً.

وقوله: «بعد الصبح» أي: بعد صلاة الصبح، فلا يخرج بعد الفجر؛ لأنه لو خرج بعد طلوع الفجر لم يصلِّ الجماعة مع الناس، وهذا حرام.

‌وَتَأَخّرُ إِمَامٍ إِلَى وَقْتِ الصَّلَاةِ ..........

قوله: «وتأخر إمام إلى وقت الصلاة» أي: يسنّ أن يتأخر الإمام إلى وقت الصلاة.

ودليل ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم «كان إذا خرج إلى العيد فأول شيء يبدأ به الصلاة»

(2)

، وهذا يدل على أنه لا يحضر فيجلس، بل يحضر ويشرع في الصلاة.

وكذلك نقول في الجمعة: إن السنّة للإمام أن يتأخر، وأما ما يفعله بعض أئمة الجمعة الذين يريدون الخير فيتقدمون ليحصلوا على أجر التقدم الوارد في قوله صلى الله عليه وسلم:«من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة»

(3)

، فهؤلاء يثابون على نيتهم، ولا يثابون على عملهم؛ لأنه خلاف هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فالنبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الجمعة

(1)

رواه الترمذي (530) وحسنه؛ وابن ماجه (1296).

(2)

سبق تخريجه ص (46).

(3)

سبق تخريجه ص (89).

ص: 127

إنما يأتي عند الخطبة ولا يتقدم، ولو كان هذا من الخير لكان أول فاعل له رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وكذلك أيضاً هنا دليل نظري وهو: أن الإمام يُنتظر ولا ينتظر، أي: الناس ينتظرونه، أما هو فلا ينتظر الناس فإذا جاء شرع في الصلاة.

‌عَلَى أَحْسَنِ هَيْئَةٍ إِلاَّ المُعْتَكِفَ فَفِي ثِيَابِ اعتِكَافِهِ.

قوله: «على أحسن هيئة» ، أي: يسنّ أن يخرج على أحسن هيئة، وهذا يشمل الإمام والمأموم، في لباسه وفي هيئته كأن يحف الشارب، ويقلّم الأظفار، ويتنظّف، ويلبس أحسن ثيابه. وهذا يختلف باختلاف الناس، فمن الناس من أحسن ثيابهم القمص، ومن الناس من أحسن ثيابهم الثياب الفضفاضة، ومن الناس من أحسن ثيابهم المشالح مع ما تحتها، وذلك إظهاراً للسرور والفرح بهذا اليوم، وتحدثاً بنعمة الله تحدثاً فعلياً؛ لأن الله إذا أنعم على عبده نعمة يحب أن يرى أثر نعمته على عبده.

قوله: «إلا المعتكف ففي ثياب اعتكافه» أي: ينبغي أن يخرج المعتكف في ثياب اعتكافه، ولو كانت غير نظيفة، [قالوا]: لأن هذه الثياب أثر عبادة فينبغي أن يبقى أثر العبادة عليه، كما يشرع في دم الشهيد أن يبقى عليه؛ لأنه أثر عبادة، ولكن هذا القول في غاية الضعف أثراً ونظراً.

أما الأثر: فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف، ومع ذلك يلبس أحسن الثياب

(1)

، فهذا القول مخالف للسنّة.

(1)

لما روى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: «كان يعتم ويلبس برده الأحمر في العيدين والجمعة» .

أخرجه الشافعي في «الأم» (1/ 206)؛ وعبد الرزاق (5331)؛ وابن خزيمة (1766)؛ والبيهقي (3/ 247، 280).

ص: 128

وأما النظر: فلأن توسخ ثياب المعتكف ليس من أثر اعتكافه، ولكن من طول بقائها عليه؛ ولهذا لو لبس ثوباً نظيفاً ليلة العيد، أو في آخر يوم من رمضان ما أثر، ولا يصح قياسه على دم الشهيد؛ لأن الشهيد يأتي يوم القيامة، وجرحه يثعب دماً، اللون لون الدم، والريح ريح المسك.

فالصحيح أن المعتكف كغيره يخرج إلى صلاة العيد متنظّفاً لابساً أحسن ثيابه.

‌وَمِنْ شَرْطِهَا: اسْتِيطَانٌ،

............

قوله: «ومن شرطها» ، أي: من شرط صلاة العيد.

قوله: «استيطان» ، أي: أن تقام في جماعة مستوطنين، فخرج بذلك المسافرون والمقيمون؛ لأن الناس على المشهور من المذهب ثلاثة أقسام:

1 ـ مسافر.

2 ـ مقيم.

3 ـ مستوطن.

أما المسافر فواضح.

وأما المقيم فهو: المسافر إذا نوى إقامة تقطع حكم السفر، وهي على المذهب أكثر من أربعة أيام، فهذا يسمونه مقيماً لا مسافراً ولا مستوطناً.

ص: 129

وأما المستوطن: فهو من كان في وطنه سواء كان وطناً أصلياً أو استوطنه فيما بعد.

فيشترط لصحة صلاة العيد أن تكون من قوم مستوطنين، وعلى هذا فإذا جاء العيد ونحن في سفر فإنه لا يشرع لنا أن نصلي صلاة العيد.

والدليل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقم صلاة العيد إلا في المدينة، وسافر إلى مكة عام غزوة الفتح، وبقي فيها إلى أول شوال، وأدركه العيد، ولم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم صلّى صلاة العيد، وفي حجة الوداع صادفه العيد وهو في منى، ولم يقم صلاة العيد؛ لأنه مسافر، كما أنه لم يقم صلاة الجمعة في عرفة؛ لأنه مسافر.

إذاً المسافرون لا يشرع في حقهم صلاة العيد، وهذا واضح؛ لأن هذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم.

وأما المقيمون فكذلك على المذهب؛ لأنهم ليسوا من أهل إقامة الجمعة فلا يكونون من أهل إقامة العيد.

فلو فرضنا أن جماعة تبلغ مائتين في بلد غير إسلامي، وكانوا قد أقاموا للدراسة لا للاستيطان، وصادفهم العيد فإنهم لا يقيمون صلاة العيد؛ لأنهم ليسوا مستوطنين، ولكن في هذا القول نظراً، ولهذا كان الناس الآن على خلاف هذا القول، فالذين أقاموا للدراسة في بلاد الكفر التي لا تقام فيها صلاة العيد يقيمون الجمعة، ويقيمون صلاة العيد، ويرون أنهم لو تخلفوا عن ذلك لكان في هذا مطعن عليهم في أنهم لا يقيمون شعائر دينهم في مناسباتها.

ص: 130

‌وَعَدَدُ الجُمُعَةِ، لَا إِذْنُ إِمامٍ، وَيُسَنُّ أَنْ يَرْجِعَ مِن طَرِيقٍ آخَرَ .........

قوله: «وعدد الجمعة» أي: ومن شرطها أيضاً عدد الجمعة، وعدد الجمعة على المشهور من المذهب أربعون رجلاً من المستوطنين أيضاً، وقد سبق لنا أن القول الراجح في العدد المعتبر للجمعة ثلاثة، فهذا يبنى على ذاك، فلا بد من عدد يبلغون ثلاثة، فإن لم يوجد في القرية إلا رجل واحد مسلم، فإنه لا يقيم صلاة العيد، أو رجلان فلا يقيمان صلاة العيد، أما الثلاثة فيقيمونها.

قوله: «لا إذن إمام» أي: لا يشترط إذن الإمام لإقامة صلاة العيد، فلو أن أهل بلد ثبت عندهم الهلال وأفطروا، فلا يلزمهم أن يستأذنوا الإمام في إقامة صلاة العيد، حتى لو قال الإمام: لا تقيموها. فإنه يجب عليهم أن يقيموها وأن يعصوه؛ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وقد سبق لنا في الجمعة أنه ينبغي أن يشترط إذن الإمام لتعدد الجمعة، فكذا العيد أيضاً نقول فيه ما نقول في الجمعة، أي: أنه لو احتاج الناس إلى إقامة مصلى آخر للعيد فإنه لا بد من إذن الإمام أو نائب الإمام، حتى لا يحصل فوضى بين الناس، ويصير كل واحد منهم يقيم مصلى عيد.

قوله: «ويسنّ أن يرجع من طريق آخر» ، أي: يسن إذا خرج من طريق لصلاة العيد أن يرجع من طريق آخر اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم، «فإنه كان إذا خرج يوم العيد خالف الطريق»

(1)

.

والحكمة من هذا متابعة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه الحكمة أعلى حكمة يقتنع بها المؤمن، أن يقال: هذا أمر الله ورسوله، ودليل

(1)

أخرجه البخاري (986) عن جابر رضي الله عنه.

ص: 131

ذلك قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]، أي: يقتنعون غاية الاقتناع، وقول عائشة رضي الله عنها وقد سُئلت: لماذا تقضي الحائض الصوم ولا تقضي الصلاة؟ قالت: «كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم، ولا نُؤْمر بقضاء الصلاة»

(1)

، ولم تذكر سوى هذا؛ لأن المؤمن لسانه وحاله: سمعنا وأطعنا، [فالخلاصة أن الحكمة بالنسبة لنا اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم أما بالنسبة لفعل النبي صلى الله عليه وسلم فقد اختلف العلماء رحمهم الله في حكمته وعلته:]

فقال بعض العلماء: إن العلة إظهار هذه الشعيرة في أسواق البلد؛ لأن الناس إذا جاؤوا من هذا الطريق زرافات ووحداناً، وهجروا الطريق الثاني لم تتبيّن هذه الشعيرة في الطريق الثاني، وصارت منحصرة في الطريق الأول، فإذا خرجوا من هنا ورجعوا من هناك صار في هذا إظهار لهذه الشعيرة في الطريقين.

وقال بعض العلماء: إنه قد يكون في الطريق الثاني فقراء ليسوا في الطريق الأول فيجودون عليهم ويدخلون عليهم السرور؛ لأنه في يوم العيد ينبغي للإنسان أن يوسع على أهله وإخوانه، ويدخل السرور عليهم، ويبسط لهم في الرزق؛ لأن العيد يوم فرح وسرور.

وقال بعض العلماء: من أجل أن يشهد له الطريقان الأول والثاني؛ لأن الأرض يوم القيامة تحدث أخبارها، أي: تخبر بما

(1)

سبق تخريجه (1/ 307).

ص: 132

عُمل عليها من خير وشر ـ سبحان الله ـ الأرض التي تطأ الآن عليها يوم القيامة ستكون شهيداً عليك أو لك، تشهد بما عملت من قول مسموع تسمعه وتعبر عنه، ومن فعل مرئي تراه وتعبر عنه، لا أعين لها، ولا آذان، لكن أنطقها الله الذي أنطق كل شيء.

ولهذا عدَّى بعضهم هذا الحكم إلى الجمعة، وقالوا: يسنّ أن يأتي إلى الجمعة من طريق، ويرجع من طريق أخرى؛ لأنها صلاة عيد واجتماع، فيسنّ فيها مخالفة الطريق.

وعدَّى بعض العلماء هذا الحكم إلى سائر الصلوات، فقال: يسنّ أن يأتي للصلاة من طريق، ويرجع من طريق آخر.

وقال بعض العلماء: يسنّ لكل من قصد أمراً مشروعاً أن يذهب من طريق، ويرجع من طريق آخر.

فلو ذهبت لعيادة مريض، فإنه يسنّ لك أن تذهب إليه من طريق وترجع من طريق آخر، ولو ذهبت لصلة قريب فكذلك، ولكن التوسع في القياس إلى هذا الحد أمر ينظر فيه، بمعنى أن هذا لا يُسلم لمن قاس، لا سيما وأن هذه الأشياء التي ذكروها موجودة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم ينقل عنه أنه خالف الطريق إلا في العيد، ولدينا قاعدة مهمة لطالب العلم وهي:«أن كل شيء وجد سببه في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، فلم يحدث له أمراً، فإن من أحدث له أمراً فإحداثه مردود عليه» .

لأننا نقول: هذا السبب الذي جعلته مناط الحكم موجود في

ص: 133

عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، فلماذا لم يفعله؟ فترك النبي صلى الله عليه وسلم الشيء مع وجود سببه يكون تركه سنّة، والتعبُّد به غير مشروع.

فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يأتي إلى الجمعة ولا يخالف الطريق، وكان يزور أصحابه ويعود المرضى ولا يخالف الطريق، وكان يأتي إلى الصلوات الخمس ولا يخالف الطريق.

فإن قالوا: ورد عنه أنه خالف الطريق في الحج دخل مكة من أعلاها، وخرج من أسفلها

(1)

، وفي عرفة ذهب من طريق، ورجع من طريق آخر

(2)

؟

فالجواب: أن نقف على ما جاءت به السنّة، فالحج نخالف فيه الطريق؛ لأنه وردت به السنّة، على أن بعض العلماء قال: إن مخالفات الطريق في الحج غير مقصودة، بل لكون ذلك أسهل لخروج النبي صلى الله عليه وسلم ودخوله، كما قالوا في نزول المحصَّب، والمحصَّب حسب وصف الناس أنه في المكان الذي فيه الآن قصر الملك فيصل في مكة، فنزل صلى الله عليه وسلم في المحصب ليلة أربعة عشر، وفي آخر الليل أمر بالرحيل فارتحل، ونزل إلى المسجد الحرام وطاف طواف الوداع، وصلى الفجر وقرأ بالطور، ثم انصرف صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.

وهذا النزول قال بعض العلماء: إنه سنّة.

(1)

أخرجه البخاري (1533)؛ ومسلم (1257) عن ابن عمر رضي الله عنهما.

(2)

أخرجه الإمام أحمد (1/ 131) عن ابن عمر رضي الله عنهما.

ص: 134

وقالت عائشة رضي الله عنها: «ليس بسنّة إنما نزله النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه كان أسمح لخروجه»

(1)

، فيكون هذا النزول على كلام عائشة رضي الله عنها غير مُتعبّد به، ولكنه أيسر للخروج.

فالصواب مع من يرى أن مخالفة الطريق خاصةٌ بصلاة العيدين فقط، وهذا هو ظاهر كلام المؤلف رحمه الله؛ لأنه لم يذكر مخالفة الطريق في الجمعة، وذكره في العيدين، فدل ذلك على أن اختياره أنه لا تسن مخالفة الطريق إلا في صلاة العيدين.

‌وُيَصَلِّيهَا رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الخُطْبَةِ، يُكَبِّرُ فِي الأُْولَى بَعْدَ الإِْحْرَامِ والاسْتِفْتَاحِ وَقَبْلَ التَّعَوُّذِ وَالْقِرَاءَةِ سِتّاً،

.........

قوله: «ويصليها ركعتين قبل الخطبة» ، أي: يصلى صلاة العيد ركعتين قبل الخطبة، فلا يقدم الخطبة على الصلاة.

قوله: «يكبر في الأولى بعد الإحرام والاستفتاح وقبل التعوذ والقراءة ستاً» ، أي: يكبر تكبيرة الإحرام، ثم يستفتح بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد مرّ بنا أن أصح حديث في الاستفتاح، حديث أبي هريرة رضي الله عنه:«اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقّني من خطاياي كما ينقّى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرَد»

(2)

، فإذا استفتح بهذا أو بغيره مما ورد، فإنه يكبّر ست تكبيرات: الله أكبر، الله أكبر، إلى أن يكمل ستاً، ثم يستعيذ ويقرأ، فالاستفتاح إذاً مقدم على التكبيرات الزوائد.

(1)

أخرجه البخاري (1765)؛ ومسلم (1311).

(2)

سبق تخريجه (3/ 48).

ص: 135

‌وَفِي الثَّانِيَةِ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ خَمْساً ........

قوله: «وفي الثانية قبل القراءة خمساً» ، أي: يكبّر في الركعة الثانية قبل القراءة خمس تكبيرات، ليست منها تكبيرة القيام؛ لأن تكبيرة القيام قبل أن يستتم قائماً، فلا تحسب، فيكبّر خمساً بعد القيام، ولهذا قال:«وفي الثانية قبل القراءة خمساً» ، أي: وبعد أن يستتم قائماً، أما التكبير الذي عند النهوض من السجود فإنه يكون قبل أن يستتم قائماً، وقد مرّ بنا أن المذهب التشديد في هذه المسألة، وأنهم يقولون: لو أكمل التكبير بعد وقوفه لم يصح التكبير، فلا بد أن يكون التكبير فيما بين الانتقال والانتهاء، وقد سبق لنا بيان الخلاف في هذه المسألة وأنه ينبغي أن يكون الأمر في هذا واسعاً، وأنه لو ابتدأ التكبير قبل أن يستتم قائماً وكمّله بعد أن استتم قائماً فلا بأس.

والدليل على هذه التكبيرات الزوائد: أنه ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعل ذلك

(1)

وإسناده حسن كما قال في الروض، ولكن لو أنه خالف فجعلها خمساً في الأولى والثانية، أو سبعاً في الأولى والثانية حسب ما ورد عن الصحابة، فقد قال الإمام أحمد رحمه الله: اختلف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في التكبير، وكله جائز، أي: أن الإمام أحمد يرى أن الأمر في هذا واسع، وأن الإنسان لو كبّر على غير هذا الوجه مما جاء عن الصحابة، فإنه

(1)

لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كبّر ثنتي عشرة تكبيرة سبعاً في الأولى، وخمساً في الأخرى» .

أخرجه الإمام أحمد (2/ 180)؛ وأبو داود (1152)؛ وابن ماجه (1278)، وقال الحافظ في «التلخيص» (692):«صححه أحمد، وعلي، والبخاري فيما حكاه الترمذي» .

ص: 136

لا بأس به، وهذه جادة مذهب الإمام أحمد نفسه رحمه الله أنه يرى أن السلف إذا اختلفوا في شيء، وليس هناك نص فاصل قاطع، فإنه كله يكون جائزاً؛ لأنه رحمه الله يعظم كلام الصحابة ويحترمه، فيقول: إذا لم يكن هناك نص فاصل يمنع من أحد الأقوال فإن الأمر في هذا واسع.

ولا شك أن هذا الذي نحا إليه الإمام أحمد من أفضل ما يكون لجمع الأمة واتفاق كلمتها؛ لأن من الناس من يجعل الاختلاف في الرأي الذي يسوغ فيه الاجتهاد سبباً للفرقة والشتات، حتى إنه ليضلل أخاه بأمر قد يكون فيه هو الضال، وهذا من المحنة التي انتشرت في هذا العصر على ما في هذا العصر من التفاؤل الطيب في هذه اليقظة من الشباب خاصة، فإنه ربما تفسد هذه اليقظة، وتعود إلى سبات عميق بسبب هذا التفرق، وأن كل واحد منهم إذا خالفه أخوه في مسألة اجتهادية ليس فيها نص قاطع ذهب ينفر عنه ويسبّه ويتكلم فيه، وهذه محنة أفرح من يفرح بها أعداء هذه اليقظة؛ لأنهم يقولون: سقينا بدعوة غيرنا، جعل الله بأسهم بينهم، حتى أصبح بعض الناس يبغض أخاه في الدين، أكثر مما يبغض الفاسق والعياذ بالله، وهذا لا شك أنه ضرر، وينبغي لطلبة العلم أن يدركوا ضرر هذا علينا جميعاً، وهل جاءك وحي من الله أن قولك هو الصواب؟ وإذا لم يأته وحي أن قوله هو الصواب، فما الذي يدريه؟ لعل قول صاحبه هو الصواب، وهو على ضلال، هذا هو الواقع، والآن ليس أحد من الناس يأتيه الوحي، فالكتاب والسنّة بين أيدينا، وإذا كان الأمر

ص: 137

قابلاً للاجتهاد، فليعذر أحدنا أخاه فيما اجتهد فيه.

ولا بأس من النقاش المفيد الهادئ بين الإخوة، وأُفضِّل أن يكون النقاش بين المختلفين في غير حضور الآخرين؛ لأن الآخرين قد يحملون في نفوسهم من هذا النقاش ما لا يحمله المتناقشان، فربما يؤول الأمر بينهما إلى الاتفاق، لكن الآخرين الذين حضروا مثلاً قد يكون في قلوبهم شيء يحمل حتى بعد اتفاق هؤلاء، فيجري الشيطان بينهم بالعداوة، وحينئذٍ نبقى في بلائنا، فأقول: جزى الله الإمام أحمد خيراً على هذه الطريقة الحسنة: (أن السلف إذا اختلفوا في شيء، وليس هناك نص فاصل، فإن الأمر يكون واسعاً كله جائز).

‌يَرْفَعُ يَدَيْهِ مَعَ كُلِّ تَكْبِيرَةٍ، وَيَقُولُ: اللهُ أَكْبَرُ كَبِيراً وَالْحَمْدُ للهِ كَثِيراً،

........

قوله: «يرفع يديه مع كل تكبيرة» ، أما تكبيرة الإحرام، فلا شك أنه يرفع يديه عندها؛ لأن هذا ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما وغيره

(1)

، وأما بقية التكبيرات فهي موضع خلاف بين العلماء:

القول الأول: يرفع يديه.

القول الثاني: لا يرفع يديه.

والصواب أنه يرفع يديه مع كل تكبيرة، وفي تكبيرات الجنازة أيضاً؛ لأن هذا ورد عن الصحابة رضي الله عنهم، ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم خلافه، ومثل هذا العمل لا مدخل للاجتهاد فيه؛ لأنه عبادة فهو حركة في عبادة، فلا يذهب إليه ذاهب من الصحابة إلا وفيه أصل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد صح عن ابن عمر رضي الله عنهما: «أنه

(1)

سبق تخريجه (3/ 26).

ص: 138

كان يرفع يديه في تكبيرات الجنازة مع كل تكبيرة»، بل إنه روي عنه مرفوعاً، ومنهم من صحّحه مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

تنبيه: لم يبين المؤلف كيفية رفع اليدين وقد سبق ذلك في أول صفة الصلاة، وأما في صلاة العيد فورد عن عمر رضي الله عنه:«أنه كان يرفع يديه مع كل تكبيرة في الجنازة والعيد» ، وكذلك عن زيد بن ثابت رضي الله عنه رواهما الأثرم

(1)

.

قوله: «ويقول: الله أكبر كبيراً

»، أي: ويقول بين كل تكبيرة وأخرى: الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً

إلخ.

وهذا الذكر يحتاج إلى نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ذكر معين محدد في عبادة، ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول ذلك، وإنما أثر عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال:«يحمد الله، ويثني عليه، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم»

(2)

.

والحمد والثناء على الله يمكن أن يكون بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ *الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ *} ، هذا حمد، وثناء بنص الحديث الذي جاء فيه:«إذا قال المصلي: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ *} قال الله: «حمدني عبدي» ، وإذا قال:{الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ *} قال: «أثنى عليّ عبدي»

(3)

، أما بهذا الذكر الطويل فهذا يحتاج إلى نص، ولا نص في ذلك.

وقال بعض العلماء: يكبّر بدون أن يذكر بينهما ذكراً.

(1)

أما أثر عمر فأخرجه البيهقي (3/ 293). وأما أثر زيد بن ثابت فلم نقف عليه.

(2)

أخرجه الطبراني في «الكبير» (95151)؛ والبيهقي (3/ 291).

(3)

سبق تخريجه (3/ 57).

ص: 139

وهذا أقرب للصواب، والأمر في هذا واسع، إن ذكر ذكراً فهو على خير، وإن كبّر بدون ذكر، فهو على خير.

وقوله: «الله أكبر كبيراً» ، كلمة «أكبر» هنا مطلقة غير مقيدة، ومعلوم أن دلالتها على الكمال عند الإطلاق أقوى من دلالتها على الكمال عند التقييد، أي: لو قلت: «الله أكبر من كذا» صارت مقيدة، وإذا قلت:«الله أكبر» صارت مطلقة، أي: أكبر من كل شيء مهما بلغ عندك من التصور فالله أكبر عز وجل، وله الكبرياء في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم، والسماوات السبع والأرضون السبع في كفه عز وجل كخردلة في كف أحدنا، فلا أحد يتصوره فالله أكبر من كل شيء، أما التقييد فلا شك أنه ينقص من تصور الكمال من هذه الكلمة، ولهذا يوجد في بعض المقررات للصبيان الصغار: الله أكبر من أبيك، أكبر من التلفاز، أكبر من الحجرة، فالصبي إذا قلت له: الله أكبر من التلفاز، يتصور كبر الله داخل الحجرة فقط، وهذا خطأ عظيم قد يكون مخلاً بالعقيدة، وهؤلاء صبيان لا يتصورون الشيء إلا على حسب ما يشاهدون، فليس لهم عقول كبيرة ولهذا ينبغي أن ينظر في المقررات من طلبة العلم، ولا يحقرنّ أحد نفسه، ولكن لا يتكلم حتى يعرضه على من هو أكبر منه في العلم ليتبين الأمر، ودعونا نتعاون، ونعاون المسؤولين على مثل هذه الأمور؛ لأنهم قد يكلون الشيء إلى شخص لا يقدر هذه التقديرات، ويظن أن هذا هو الأسلوب الذي يناسب عقل الصبي، صحيح أنه يناسب عقله من جهة أن تقرن شيئاً بشيء يفهمه، لكن بالنسبة للرب عز وجل لا تجعل عقله يقرن الرب عز وجل بشيء من المخلوقات فيقع في الهاوية.

ص: 140

نعم، لو أن أحداً جادلك في كبر شخص، أو كبريائه، وقلت: إن كان صاحبك كبيراً فالله أكبر منه، فهذا لا بأس به كقوله تعالى:{وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30] وكقوله: {آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل: 59].

أما عند الثناء المطلق، فهذا لا ينبغي أن يقيد بشيء.

وقوله: «كبيراً» هذه حال من الضمير المستتر في «أكبر» ؛ لأن «أكبر» اسم تفضيل خلافاً لمن قال: «الله أكبر» بمعنى كبير، أي: بمعنى اسم الفاعل، فإن هذا غلط؛ لأن اسم الفاعل أقل في الدلالة على الكمال من اسم التفضيل؛ لأن اسم التفضيل يمنع تساوي المفضل والمفضل عليه في الوصف، واسم الفاعل لا يمنع ذلك، فإذا قلت:«زيد عالم» لم يمنع أن يساويه عمرو في العلم إذا كان عالماً، وإذا قلت:«زيد أعلم من عمرو» دلّ على أنه لا يساويه وأن زيداً أعلم.

وبعض العلماء رحمهم الله: يفسرون الله أعلم، والله أكبر، وما أشبه ذلك باسم الفاعل حذراً من أن يكون هناك مفاضلة بين الخالق والمخلوق، ولا شك أن هذا خطأ، فالمفاضلة حاصلة ولا تستلزم تساوي المفضل والمفضل عليه، بل لا تقتضي ذلك بخلاف اسم الفاعل.

قوله: «والحمد لله كثيراً» ، الحمد تفسيره: وصف المحمود بالكمال، وليس الثناء على المحمود بالكمال؛ لأن الثناء إنما يقال عند التكرار، وقد فرّق الله بينهما في الحديث القدسي في قوله: «إذا قال ـ أي المصلي ـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ *} قال:

ص: 141

حمدني عبدي، وإذ قال:{الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ *} قال: أثنى عليَّ عبدي»

(1)

، فجعل الثناء بتكرار الوصف ـ أي: وصف الكمال ـ.

وقوله: «كثيراً» حال من الحمد، أي: الحمد لله حال كونه أي: الحمد كثيراً، ويجوز أن يكون صفة لمصدر محذوف، والتقدير حمداً كثيراً.

‌وَسُبْحَانَ اللهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ........

قوله: «وسبحان الله» ، «سبحان» بمعنى تسبيح، فهي اسم مصدر، وهنا قاعدة في اسم المصدر يقولون: اسم المصدر هو: (ما دل على معنى المصدر دون حروفه).

فسبحان مأخوذة من سبّح، والمصدرُ من سبّح (تسبيحٌ).

إذاً سبحان بمعنى تسبيح، لكن ليس فيه حروف المصدر فيكون اسم مصدر، ومثله (كلام) اسم مصدر، والمصدر (تكليم)، و (سلام) اسم مصدر، والمصدر (تسليم).

قوله: «بكرة» ، أي: في الصباح.

قوله: «أصيلاً» ، أي: في المساء.

قال الله تعالى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ *} [الروم].

وتنزيه الله يكون بأمور ثلاثة:

الأول: تنزيهه عن كل عيب.

الثاني: تنزيهه عن كل نقص في صفات كماله.

الثالث: تنزيهه عن مماثلة المخلوقين.

(1)

سبق تخريجه ص (139).

ص: 142

مثال الأول: العمى، والصمم، والجهل، وما أشبه ذلك.

ومثال الثاني: التعب عند الفعل، أي: يقدر على الفعل لكن مع تعب، فهذا ينزّه الله عنه، قال الله تعالى:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ *} [ق].

ومثال الثالث: قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، ولأنه لو ماثل المخلوق لكان ناقصاً، فإلحاق الكامل بالناقص يجعله ناقصاً، بل محاولة المقارنة بين الناقص والكامل يجعل الكامل ناقصاً على حد قول الشاعر:

ألم تر أن السيف ينقص قدره

إذا قيل: إن السيف أمضى من العصا

‌وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ وَآلِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيماً كَثِيراً،

.......

قوله: «وصلى الله على محمد» ، صلاة الله على عبده ثناؤه عليه في الملأ الأعلى، هكذا اشتهر عن أبي العالية رحمه الله.

وفي نسخة: «وصلى الله على سيدنا» ، ولا شك أنه سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم، وأنه سيدنا وإمامنا وقدوتنا وأسوتنا، ولكن لا أعلم حديثاً عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه وصف نفسه بالسيادة في الصلاة عليه، وإذا علمتم بحديث فدلونا عليه جزاكم الله خيراً. فكل الأحاديث:«اللهم صلّ على محمد» ، والصحابة يقولون: قال النبي صلى الله عليه وسلم، وما سمعنا أحداً يقول: قال: سيدنا، ولكن المتأخرين صاروا يقولون:«سيدنا» ونحن نقول: هو سيدنا لا شك، ولكن يحتاج في صيغة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم إلى توقيف في هذا.

قوله: «النبي» أي: محمد صلى الله عليه وسلم.

ص: 143

قوله: «وآله» ، آله: أتباعه على دينه؛ لأن الآل إن ذكر معهم الأتباع والأصحاب، فهم المؤمنون من قرابته، وإن لم يذكر معهم ذلك فهم أتباعه على دينه، هذا هو الصحيح.

قوله: «وسلّم تسليماً كثيراً» ، أي: سلامة من كل آفة. والجملة في «صلى وسلم» خبرية بمعنى الدعاء.

‌وَإِنْ أَحَبَّ قَالَ غَيْرَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَقْرَأُ جَهْراً فِي الأُْولَى بَعْدَ الْفَاتِحَةِ: بـ (سَبِّحْ) وبـ (الْغَاشِيَةِ) فِي الثَّانِيَةِ ........

قوله: «وإن أحب قال غير ذلك» ، أي: أن الأمر واسع، إن أحب قال غير ذلك، وإن أحب أن لا يقول شيئاً فلا بأس، المهم أن يكبّر التكبيرات الزوائد.

قوله: «ثم يقرأ جهراً» ، أي: يقرأ الفاتحة وما بعدها من السور جهراً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك، وهكذا كان يقرأ جهراً في كل صلاة جامعة، كما جهر في صلاة الجمعة، وجهر في صلاة الكسوف؛ لأنها جامعة، وكذلك في الاستسقاء.

قوله: «في الأولى بعد الفاتحة بسبّح، وبالغاشية في الثانية» ، لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه كان يقرأ بالأولى بسبّح، وبالثانية بالغاشية»

(1)

، كما ثبت عنه أنه كان يقرأ في الأولى بـ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ *} ، وفي الثانية بـ {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ *}

(2)

، ولهذا ينبغي للإمام إظهاراً للسنّة وإحياء لها، أن يقرأ مرة بهذا،

(1)

أخرجه مسلم (878) عن النعمان بن بشير رضي الله عنه.

(2)

أخرجه مسلم (891) عن أبي واقد الليثي رضي الله عنه.

ص: 144

ومرةً بهذا، ولكن يراعي الظروف، مثل لو كان الوقت بارداً، وكان انتظار الناس يشق عليهم فالأفضل أن يقرأ بسبح والغاشية، وكذلك لو كان الوقت حاراً، وكذلك في عيد الأضحى؛ لأن الناس يحبون العجلة من أجل ذبح ضحاياهم.

وإذا لم يكن هناك مشقة، فالأفضل أن يقرأ بهذا مرة، وبهذا مرة.

فالسنن الميتة أي المهجورة ينبغي لطلبة العلم أن يحيوها، لكن إذا خافوا استنكار الناس لها، فليمهدوا لها أولاً، لا سيما إذا كان طالب العلم صغيراً لا يُهْتَمُّ بكلامه وينتقد، فهنا ينبغي أن يمهد أولاً؛ لأجل أن يروّض أفكار الناس على قبول هذا الشيء.

فمثلاً: لو أن واحداً من علمائنا الكبار المشهود لهم بالثقة والعلم والأمانة في الدين فعل سنّة لا يعلم عنها الناس لوجدت الناس يقولون: سبحان الله! ما كنّا علمنا أن هذه سنّة، جزاه الله خيراً فتح لنا باباً من العلم، لكن لو فعلها أو قالها طالب علم صغير لقالوا: ما هذا الدين الجديد؟ وأخذوه والعياذ بالله بالسب والشتم، فينبغي للإنسان أن يكون حكيماً.

‌فَإِذَا سَلَّمَ خَطَبَ خُطْبَتَيْنِ ..........

قوله: «فإذا سلم خطب خطبتين» ، أي: إذا سلم الإمام من الصلاة يخطب خطبتين، وإن خطب غيره فلا بأس كالجمعة، فيجوز أن يخطب واحد، ويصلي آخر.

وقوله: «خطبتين» هذا ما مشى عليه الفقهاء رحمهم الله أن خطبة العيد اثنتان؛ لأنه ورد هذا في حديث أخرجه ابن ماجه

ص: 145

بإسناد فيه نظر، ظاهره أنه كان يخطب خطبتين

(1)

، ومن نظر في السنّة المتفق عليها في الصحيحين وغيرهما تبين له أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخطب إلا خطبة واحدة

(2)

، لكنه بعد أن أنهى الخطبة الأولى توجه إلى النساء ووعظهنّ، فإن جعلنا هذا أصلاً في مشروعية الخطبتين فمحتمل، مع أنه بعيد؛ لأنه إنما نزل إلى النساء وخطبهنّ لعدم وصول الخطبة إليهن وهذا احتمال.

ويحتمل أن يكون الكلام وصلهن ولكن أراد أن يخصهنّ بخصيصة، ولهذا ذكرهنّ ووعظهنّ بأشياء خاصة بهنّ.

‌كَخُطْبَتَي الجُمُعَةِ ..........

قوله: «كخطبتي الجمعة» ، أي: يخطب خطبتين كخطبتي الجمعة في الأحكام حتى في تحريم الكلام، لا في وجوب الحضور، فخطبة الجمعة يجب الحضور إليها؛ لقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9]، وأما خطبتا العيد فلا يجب الحضور إليهما؛ بل للإنسان أن ينصرف من بعد الصلاة فوراً لكن الأفضل أن يبقى [لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«إنا نخطب فمن أحب أن يجلس للخطبة فليجلس، ومن أحبّ أن يذهب فليذهب»

(3)

] وإذا بقي حرم عليه الكلام.

(1)

ولفظه عن جابر: «خرج النبي صلى الله عليه وسلم يوم فطر أو أضحى، فخطب قائماً، ثم قعد قعدة ثم قام» .

أخرجه ابن ماجه في «سننه» (1289)، وضعفه البوصيري في «زوائده» .

(2)

سبق تخريجه ص (114).

(3)

أخرجه أبو داود (1155)؛ والنسائي (3/ 185)؛ وابن ماجه (1290)؛ وابن خزيمة (1462)؛ والحاكم (1/ 295)؛ والبيهقي (3/ 301) عن عبد الله بن السائب رضي الله عنه. وقال الحاكم: «صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه» . وصححه ابن التركماني في «الجوهر النقي» (3/ 301).

ص: 146

وقال بعض أهل العلم: لا يجب الإنصات لخطبتي العيدين؛ لأنه لو وجب الإنصات لوجب الحضور، ولحرم الانصراف، فكما كان الانصراف جائزاً، وكان الحضور غير واجب، فالاستماع ليس بواجب.

ولكن على هذا القول لو كان يلزم من الكلام التشويش على الحاضرين حرم الكلام من أجل التشويش، لا من أجل الاستماع، وبناء على هذا لو كان مع الإنسان كتاب أثناء خطبة الإمام خطبة العيد فإنه يجوز أن يراجعه؛ لأنه لا يشوش على أحد.

أما على القول الذي مشى عليه المؤلف: فالاستماع واجب ما دام حاضراً.

‌يَسْتَفْتِحُ الأُْولَى بِتِسْعِ تَكْبِيراتٍ، والثَّانِيَةَ بِسَبْعٍ ..........

قوله: «يستفتح الأولى بتسع تكبيرات والثانية بسبع» ، يعني: يستفتح الخطبة الأولى بتسع تكبيرات متتابعات والخطبة الثانية بسبع تكبيرات متتابعات.

والدليل على ذلك ما يلي:

1 ـ روي في هذا حديث، لكنه أعلّ بالانقطاع أن النبي صلى الله عليه وسلم «كان يستفتح الأولى بتسع تكبيرات والثانية بسبع»

(1)

، وصارت

(1)

لما روى عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: «السنّة التكبير على المنبر يوم العيد يبتدئ خطبته الأولى بتسع تكبيرات قبل أن يخطب، ويبدأ الآخرة بسبع» .

أخرجه عبد الرزاق (5672 ـ 5674)؛ وابن أبي شيبة (2/ 190)؛ والبيهقي (3/ 299)، وعبيد الله من التابعين. قال النووي في «الخلاصة» (2/ 338):«ضعيف الإسناد غير متصل» .

ص: 147

الأولى أكثر؛ لأنها أطول، وخُصّت بالتسع والسبع؛ من أجل القطع على وتر.

2 ـ أن الوقت وقت تكبير، ولهذا زيدت الصلاة بتكبيرات ليست معهودة، وكان هذا اليوم يوم تكبير، فمن أجل هذا شُرع أن يبدأ الخطبتين بالتكبير، فصار لهذا الحكم دليل وتعليل.

وقال بعض العلماء: إنه يبتدئ بالحمد كسائر الخطب، وكما هي العادة في خطب النبي صلى الله عليه وسلم أنه يبدأ خطبه بحمد الله، ويثني عليه.

وعلى هذا فيقول: الحمد لله كثيراً، والله أكبر كبيراً، فيجمع بين التكبير والحمد.

‌يَحُثُّهُمْ فِي الفِطْرِ عَلَى الصَّدَقَةِ، وَيُبَيِّنُ لَهُمْ مَا يُخْرِجُونَ، وَيُرَغِّبُهُم فِي الأَْضْحَى فِي الأُْضْحِيَةِ وَيُبَيِّن لَهُمْ حُكْمَهَا.

قوله: «يحثهم» الفاعل الخطيب، والمفعول به يعود على الناس، أي: يحث الناس.

قوله: «على الصدقة» أي: صدقة الفطر، فـ (ال) هنا للعهد الحضوري؛ لأن هذا الوقت وقت صدقة الفطر.

قوله: «ويبين لهم ما يخرجون» أي: يبيّن لهم ما يخرجون، فيبيّن لهم النوعية من أنها تخرج من الطعام من البر، والتمر، والرز، والذرة لمن كانت طعامه، والشعير لمن كان طعامه، وما أشبه ذلك.

ويبيّن لهم القدر وهو صاع بالصاع النبوي، وهو أقل من الصاع المعهود عندنا «بخمس وخمس الخمس» ، يقول شيخنا ابن سعدي رحمه الله: إن الصاع النبوي زنته ثمانون ريالاً فرنسياً، وزنة الصاع عندنا مئة وأربعة ريالات، فيكون الصاع عندنا زائداً على الصاع النبوي «الربع وخُمس الربع» .

ص: 148

ويبيّن لهم الصفة فيقول: أخرجوا من الجيد؛ لأنه أفضل، ويبين أن الرديء كالمسوس والمبلول والمعفن لا يجزئ.

هكذا ذكر المؤلف أنه يبيّن زكاة الفطر في خطبة العيد، ولكن الصواب أنه يبين ذلك في خطبة آخر جمعة من رمضان، ويبين في خطبة العيد حكم تأخير صدقة الفطر عن صلاة العيد، وفي الحديث عن ابن عباس في السنن:«من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعدها فهي صدقة من الصدقات»

(1)

.

قوله: «ويرغبهم في الأضحى

» إلخ، أي: يرغِّب الناس في خطبة عيد الأضحى في الأضحية، ويبيّن لهم فضلها، وأجرها وثوابها.

قوله: «ويبيّن لهم حكمها» ، يعني: هل هي سنّة أو واجبة، وسيأتي إن شاء الله بيان ذلك في بابه.

وكذلك يبيّن لهم ما يضحَّى به، وهو ثلاثة أنواع: الإبل والبقر والغنم.

ويبيّن لهم أيضاً مقدار السن مما يضحّى به، وهو أن تكون جذعة من الضأن أو ثنية من الإبل، والبقر، والمعز.

فإن ضحّى بثني من الضأن، فقال جمهور العلماء: إنها تجزئ.

وقال أهل الظاهر: إنها لا تجزئ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا

(1)

أخرجه أبو داود (1609)؛ وابن ماجه (1827)؛ والدارقطني (1/ 219)؛ والحاكم (1/ 409) وقال الحاكم: «صحيح على شرط البخاري، ولم يخرجاه» .

ص: 149

تذبحوا إلا مسنة إلا أن تعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن»

(1)

، والثنية أكبر من الجذعة فلا تجزئ، اتباعاً لظاهر اللفظ.

ويبيّن لهم في خطبة الأضحى وقت الأضحية، وأنه من بعد صلاة العيد إلى تمام أربعة أيام، أي: يوم العيد وثلاثة أيام بعده، وهي: أيام التشريق على القول الراجح.

وما ذكره المؤلف من أنه يبيّن الأضحية وما يتعلق بها في خطبة عيد الأضحى مناسب؛ كما جاءت به السنّة.

‌وَالتَّكْبِيرَاتُ الزَّوَائِدُ، والذِّكْرُ بَيْنَهَا، والخُطْبَتَانِ سُنَّةٌ، وَيُكْرَهُ التَّنَفُّل قَبْلَ الصَّلَاةِ وَبَعْدَهَا فِي مَوْضِعِهَا ...........

قوله: «والتكبيرات الزوائد» الزوائد أي: على الواجبة في الصلاة، وهي في الركعة الأولى ست على ما مشى عليه المؤلف، وفي الثانية خمس، وسماها زوائد، لأنها زائدة على الركن في الأولى، وفي الثانية زائدة على الواجب.

والدليل على سنية هذه التكبيرات الزوائد: أن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث المسيء في صلاته لم يذكر شيئاً من التكبيرات إلا تكبيرة الإحرام

(2)

.

قوله: «والذكر بينها» سواء في ذلك ما ذكره المؤلف من قوله: «الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً

» إلخ، أو أي ذكر آخر يقوله الإنسان من عند نفسه هو سنّة. وقد سبق البحث في كونه سنّة أو ليس بسنة.

قوله: «والخطبتان سنّة» ، يعني: أن خطبتي العيد سنّة.

(1)

أخرجه مسلم (1963) عن جابر رضي الله عنه.

(2)

سبق تخريجه (3/ 19).

ص: 150

واستدلوا على كونها سنّة بأن النبي صلى الله عليه وسلم رخّص لمن حضر العيد أن يقوم ولا يحضر الخطبة

(1)

، ولو كانت واجبة لوجب حضورها، هكذا قالوا.

ولكن هذا التعليل عليل في الواقع؛ لأنه لا يلزم من عدم وجوب حضورها عدم وجوبها، فقد يكون النبي عليه الصلاة والسلام أذن للناس بالانصراف، وهي واجبة عليه فيخطب فيمن بقي، ثم إن الغالب ولا سيما في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لا ينصرف أحد إلا من ضرورة، ولهذا لو قال أحد بوجوب الخطبة، أو الخطبتين في العيدين لكان قولاً متوجهاً؛ ولأن الناس في صلاة العيد في اجتماع كبير لا ينبغي أن ينصرفوا من غير موعظة وتذكير.

قوله: «ويكره التنفل قبل الصلاة وبعدها في موضعها» ، أي: يكره لمن حضر صلاة العيد أن يتطوع بنفل قبل الصلاة أو بعدها في موضعها، أي: موضع صلاة العيد، فيكره التنفل قبل الصلاة أو بعدها في الموضع، أما في بيته فلا كراهة.

وقول المؤلف: «يكره» ، ظاهره أنه مكروه للإمام وغير الإمام.

والدليل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى مصلى العيد وصلى العيد ركعتين لم يصلِّ قبلها ولا بعدها

(2)

.

وفي هذا الاستدلال نظر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى مصلى العيد ليصلي بالناس فصلى بهم، ثم انصرف، كما أنه يوم الجمعة

(1)

سبق تخريجه ص (146).

(2)

أخرجه البخاري (964)؛ ومسلم (884)(13) عن ابن عباس رضي الله عنهما.

ص: 151

يخرج إلى المسجد ويخطب ويصلي وينصرف ويصلي في بيته، فهل يقول أحد: إنه يكره أن يصلي الإنسان في يوم الجمعة في المسجد قبل الصلاة وبعدها؟ ما سمعنا أحداً قال بهذا، فكذلك نقول في صلاة العيد، ولا فرق، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم إمام يُنتظر ولا يَنْتَظِر، فجاء فصلى بالناس، ثم انصرف.

وكوننا نأخذ الكراهة من مجرد هذا الترك فيه نظر، ولو قالوا: إن السنّة أن لا يصلي لكان أهون من أن يقال: إنه يكره؛ لأن الكراهة حكم شرعي يحتاج إلى دليل نهي؛ إذ إن الكراهة لا تثبت إلا بنهي، إما نهي عام مثل:«كل بدعة ضلالة»

(1)

، وإما نهي خاص، ثم إن ترك النبي عليه الصلاة والسلام التنفل قبل الصلاة واضح السبب؛ لأنه إمام منتظر فجاء فصلى وانصرف، لكن نهي المأموم عن التنفل، والقول بكراهته له لا يخلو من نظر.

وقال بعض العلماء رحمهم الله: إن الصلاة غير مكروهة في مصلى العيد لا قبل الصلاة ولا بعدها، وقال: بيننا وبينكم كتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، فأين الدليل على الكراهة؟ وهذا خير وتطوع، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام:«عليك بكثرة السجود»

(2)

، وقال:«أعِنِّي على نفسك بكثرة السجود»

(3)

، فكيف تقولون بالكراهة؟

وهذا مذهب الشافعي رحمه الله في هذه المسألة، وهو الصواب.

(1)

أخرجه مسلم (867) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.

(2)

أخرجه مسلم (488) عن ثوبان وأبي الدرداء رضي الله عنهما.

(3)

أخرجه مسلم (489) عن ربيعة بن كعب الأسلمي رضي الله عنه.

ص: 152

وقال بعض العلماء: تكره الصلاة بعدها لا قبلها؛ [لأن المشروع أن ينصرف].

وقال بعض العلماء: تكره قبلها لا بعدها.

وبعض العلماء قال: يكره للإمام دون المأموم، وهذا قول للشافعي، أعني التفريق بين الإمام وغيره.

والصحيح أنه لا فرق بين الإمام وغيره، ولا قبل الصلاة ولا بعدها، فلا كراهة، لكن لا نقول: إن السنّة أن تصلي، فقد يقال: إن بقاء الإنسان يكبّر الله قبل الصلاة أفضل، إظهاراً للتكبير والشعيرة، وهذا في النفل المطلق.

وأما تحية المسجد فلا وجه للنهي عنها إطلاقاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بها، حتى إن كثيراً من العلماء قال: إنها واجبة، فإذا كانت سنّة مؤكدة كما تدل على ذلك السنّة، فكيف نقول لمن دخل مصلى العيد، لا تصل يكره لك ذلك؟

فإن قال قائل: مصلى العيد ليس بمسجد، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين»

(1)

.

قلنا: بل إن مصلى العيد مسجد، ودليل ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر النساء أن يخرجن إلى صلاة العيد، وأمر الحيض أن يعتزلنَ المصلى

(2)

. والمرأة لا تعتزل إلا المسجد، أما مصلاها في بيتها، أو مصلى رجل في بيته فإن الحائض لا يحرم عليها أن تمكث

(1)

سبق تخريجه (4/ 124).

(2)

سبق تخريجه ص (114).

ص: 153

فيه، فكون النبي صلى الله عليه وسلم يعطي مصلى العيد حكم المسجد بالنسبة لمنع الحائض منه دليل على أنه مسجد، وعلى هذا نص فقهاؤنا، فقال صاحب المنتهى

(1)

: «ومصلى العيد مسجد لا مصلى الجنائز» ، وهو عمدة فقهاء الحنابلة المتأخرين.

قوله: مصلى الجنائز فإنهم كانوا فيما سبق يجعلون للجنائز مصلى خاصاً يصلى فيه على الجنائز، وقد اقترح بعض الناس الآن أن يجعل مصلى خاص عند المقبرة يصلى فيه على الجنائز، وهذا محل دراسة، هل يوافق على هذا، أو يبقى الناس على ما هم عليه يصلون على جنائزهم في مساجدهم؛ لأنه المعتاد؛ ولأنه قد يكثر الجمع، فلا يسعهم المصلى الذي يجعل عند المقبرة.

فالمهم أن مصلى العيد مسجد له أحكام المساجد، وأنه إذا دخله الإنسان لا يجلس حتى يصلي ركعتين، وأنه لا نهي عنهما بلا إشكال، وأما أن يتنفل بعدهما فنقول: لا بأس به، لكن الأفضل للإمام أن يبادر بصلاة العيد إن كان قد دخل وقتها لئلا يحبس الناس، وأما المأموم فالأفضل له إذا صلى تحية المسجد أن يتفرغ للتكبير والذكر.

والسنّة للإمام أن لا يأتي إلا عند الصلاة، وينصرف إذا انتهت فلا يتطوع قبلها ولا بعدها اقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم، أما المأموم فالأفضل له أن يتقدم ليحصل له فضل انتظار الصلاة.

(1)

«المنتهى» (1/ 199).

ص: 154

‌وَيُسَنُّ لِمَنْ فَاتَتْهُ أَوْ بَعْضُهَا قَضَاؤُهَا عَلَى صِفَتِهَا.

قوله: «ويسنّ لمن فاتته أو بعضها قضاؤها على صفتها» السنّة عند الفقهاء: ما أثيب فاعلها، ولم يعاقب تاركها، فمن فاتته صلاة العيد سُنّ له أن يقضيها، وهذا لا ينافي قولنا: إن صلاة العيد فرض كفاية، لأن الفرض سقط بالصلاة الأولى.

[وقوله: «أو بعضها» بالرفع عطفاً على الضمير المستتر في فاتته.

وقوله: «قضاؤها» نائب فاعل يسنّ].

وقوله: «على صفتها» ، أي: صفة الصلاة ركعتين بالتكبيرات الزوائد.

هذا هو المذهب أن قضاءها سنّة، وأن الأفضل أن يكون على صفتها.

وعلى هذا فلو ترك القضاء فلا إثم عليه.

ولو قضاها كراتبة من الرواتب فجائز؛ لأن كونها على صفتها على سبيل الأفضلية وليس بواجب.

والدليل على سنيّة القضاء قوله صلى الله عليه وسلم: «من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها»

(1)

، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم:«فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا»

(2)

. ولكن في هذا الاستدلال نظر؛ لأن المراد بالحديثين الفريضة، أما هذه فصلاة مشروعة على وجه الاجتماع، فإذا فاتت فإنها لا تقضى إلا بدليل يدل على قضائها إذا فاتت، ولهذا إذا فاتت الرجل صلاة الجمعة لم يقضها، وإنما يصلي فرض الوقت وهو الظهر.

(1)

سبق تخريجه (2/ 15).

(2)

سبق تخريجه (2/ 313).

ص: 155

ولهذا ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إلى أنها لا تقضى إذا فاتت، وأن من فاتته، فلا يسنّ له أن يقضيها؛ لأن ذلك لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولأنها صلاة ذات اجتماع معين، فلا تشرع إلا على هذا الوجه.

فإن قال قائل: أليست الجمعة ذات اجتماع على وجه معين، ومع ذلك تقضى؟

فالجواب: الجمعة لا تقضى، وإنما يصلى فرض الوقت، وهو الظهر، وصلاة العيد أيضاً نقول: فات الاجتماع فلا تقضى، وليس لهذا الوقت فرض، ولا سنّة أيضاً.

فهي صلاة شُرعت على هذا الوجه، فإن أدركها الإنسان على هذا الوجه صلاها، وإلا فلا.

وبناءً على هذا القول يتضح أن الذين في البيوت لا يصلونها، ولهذا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس أن يخرجوا إليها، وأمر النساء العواتق، وذوات الخدور، وحتى الحيَّض أن يشهدن الخير ودعوة المسلمين

(1)

، ولم يقل: ومن تخلف فليصلِّ في بيته.

فإذا قال قائل: لماذا لا نقضيها فإن كنا مصيبين فهذا هو المطلوب، وإن كنا غير مصيبين فإننا مجتهدون؟

فالجواب: نعم، الإنسان إذا اجتهد وفعل العبادة على اجتهاد فله أجر على اجتهاده وعلى فعله أيضاً، لكن إذا تبيّنت السنّة، فلا تمكن مخالفتها.

(1)

سبق تخريجه ص (114).

ص: 156

‌وَيُسَنُّ التَّكْبِيرُ المُطْلَقُ فِي لَيْلَتَي الْعِيدَيْنِ ........

قوله: «ويسنّ التكبير المطلق في ليلتي العيدين» ، أي: يسنّ التكبير المطلق أي المشروع في كل وقت للرجال والنساء والصغار والكبار في البيوت والأسواق والمساجد وغيرها إلا في الأماكن التي ليست محلاً لذكر الله تعالى.

وأفادنا المؤلف رحمه الله أن التكبير ينقسم إلى قسمين:

1 ـ مطلق.

2 ـ مقيد.

فالمطلق سبق القول فيه.

والمقيد هو الذي يتقيد بأدبار الصلوات، وسيأتي إن شاء الله الكلام عليه.

وقوله: «في ليلتي العيدين» ، أي: عيدي الفطر والأضحى وذلك من غروب الشمس.

ودليل ذلك في ليلة عيد الفطر قوله تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 185]، فقال:{وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ} وإكمال العدة يكون عند غروب الشمس آخر يوم من رمضان، إما بإكمال ثلاثين، وإما برؤية الهلال، فإذا غابت الشمس آخر يوم من رمضان سنّ التكبير المطلق من الغروب إلى أن تفرغ الخطبة، لكن إذا جاءت الصلاة فسيصلي الإنسان ويستمع الخطبة بعد ذلك.

ولهذا قال بعض العلماء: من الغروب إلى أن يكبّر الإمام للصلاة.

ولم يفصح المؤلف رحمه الله بحكم الجهر والإسرار في

ص: 157

هذا التكبير ولكن نقول: إن السنّة أن يجهر به إظهاراً للشعيرة، لكن النساء يكبرن سراً إلا إذا لم يكن حولهن رجال فلا حرج في الجهر.

وقوله: «في ليلتي العيدين» أي: عيد الأضحى، وعيد الفطر. والشريعة الإسلامية ليس فيها إلا ثلاثة أعياد فقط:

عيد الفطر، وعيد الأضحى، وعيد الأسبوع يوم الجمعة.

وفي كلٍّ منها مناسبة.

أما مناسبة عيد الفطر، فلأن الناس أدوا فريضة من فرائض الإسلام، وهي الصيام، فجعل لهم الله عز وجل هذا اليومَ يومَ عيدٍ يفرحون فيه، ويفعلون فيه من السرور واللعب المباح ما يكون فيه إظهار لهذا العيد، وشكر لله عز وجل لهذه النعمة، لكنهم لا يفرحون بأنهم تخلصوا من الصوم، وإنما يفرحون بأنهم تخلصوا بالصوم، والفرق أن من نوى التخلص من الصوم يشعر أن الصوم ثقيل عليه، وأنه فرح أنه تخلص منه، وأما من نوى التخلص به فيفرح بأنه تخلص به من الذنوب؛ لأن من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر الله له ما تقدم من ذنبه، ومن قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر الله له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه. فالموفق يفرح بعيد الفطر؛ لأنه تخلص به من الذنوب حيث قد يغفر له ما تقدم من ذنبه، والغافل يفرح بعيد الفطر؛ لأنه تخلص من الصوم الذي يجد فيه العناء والمشقة، وفرق بين الفرحين.

أما عيد الأضحى فمناسبته أيضاً ظاهرة؛ لأنه يأتي بعد عشر

ص: 158

ذي الحجة التي يسنّ للإنسان فيها الإكثار من ذكر الله عز وجل، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«ما من أيام العمل الصالح فيهنّ أحبّ إلى الله من هذه الأيام العشر» ؛ قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: «ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله ولم يرجع من ذلك بشيء»

(1)

. كما أنه بالنسبة للحجاج مناسبته ظاهرة؛ لأن الواقفين بعرفة يطلع الله عليهم، ويشهد ملائكته بأنهم يرجعون مغفوراً لهم فيتخلصون من الذنوب، فكان يوم العيد الذي يلي يوم عرفة كيوم العيد في الفطر الذي يلي رمضان، ففيه نوع من الشكر لله عز وجل على هذه النعمة.

أما يوم الجمعة فمناسبته ظاهرة أيضاً؛ لأن هذا اليوم فيه المبدأ والمعاد، ففيه خلق آدم، وفيه أخرج من الجنة، ونزل إلى الأرض لتعمر الأرض ببنيه، وفيه أيضاً تقوم الساعة، فهو يوم عظيم؛ ولهذا صار يوم عيد للأسبوع، وما عدا ذلك فليس في الشريعة الإسلامية أعياد، حتى ما يفعله بعض المسلمين اليوم من عيد لغزوة بدر في السابع عشر من رمضان، وما يفعله بعض المسلمين من عيد لميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم، وما يفعله بعض المسلمين من عيد للمعراج ليلة سبع وعشرين من رجب، كل هذا لا أصل له، بل بعضه ليس له أصل حتى من الناحية التاريخية، فإن المعراج ليس في ليلة سبع وعشرين من رجب، بل إنه في ربيع الأول قبل الهجرة بنحو سنة أو سنتين أو ثلاث حسب الاختلاف بين العلماء، والميلاد أيضاً ليس في يوم الثاني عشر من ربيع الأول، بل حقّق

(1)

سبق تخريجه ص (111).

ص: 159

الفلكيون المتأخرون بأنه يوم التاسع من ربيع الأول.

أما بدر فالمشهور عند المؤرخين أنها في السابع عشر من رمضان، ولكن مع ذلك لا يهمنا أن يصح التاريخ، أو لا يصح، فالذي يهمنا هل كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يتخذون مثل هذه الأيام أعياداً؟

الجواب: لا، إذاً إذا اتخذناها نحن أعياداً، فإن مضمون ذلك أحد أمرين:

الأول: أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه جاهلين ما في هذه الأيام من فضل.

الثاني: أن يكونوا عالمين، ولكنهم لم يظهروا فضلها، وكتموه عن الناس، وكلا الأمرين شر، أي: لو اتهمنا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بأنهم لم يعلموا فضل هذه الأيام لوصفناهم بالجهل، وكان هؤلاء المتأخرون أعلم منهم بما جعل الله تعالى لهذه المناسبات من الفضل، وإن قلنا: إنهم يعلمون، ولكنهم لم يفعلوا ذلك كتماناً للحق وتلبيساً على الناس لكان هذا أيضاً شراً عظيماً، فكيف يعلم الرسول عليه الصلاة والسلام أن لهذه المناسبات أعياداً ثم لا يشرعها للأمة، والله تعالى قد قال له:{يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67]، فإذا كانت هذه المناسبات العظيمة من ولادة النبي عليه الصلاة والسلام وغزوة بدر والمعراج وغيرها، ليس لها أعياد، فما دونها من باب أولى ألاّ يكون لها أعياد، ويكفينا في هذا هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فإن هدي النبي صلى الله عليه وسلم خير الهدي، كما كان عليه الصلاة والسلام يعلنه في كل خطبة جمعة يقول: «خير الهدي

ص: 160

هدي محمد صلى الله عليه وسلم»

(1)

.

‌وَفِي فِطْرٍ آكَدُ،

...........

قوله: «وفي فطر آكد» ، أي: التكبير في عيد الفطر آكد من التكبير في عيد الأضحى؛ لأن الله نص عليه في القرآن فقال: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185]، وشيء نص عليه القرآن بعينه يكون آكد مما جاء على سبيل العموم.

أما عيد الأضحى فإنه داخل في عموم العمل الصالح الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من أيام العمل الصالح فيهن أحبّ إلى الله من هذه الأيام العشر»

(2)

، وهو داخل في عموم قوله تعالى:{وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج: 28].

وقال بعض العلماء: إن التكبير في الأضحى أوكد من وجهين:

الوجه الأول: أنه متفق عليه بين العلماء، والفطر مختلف فيه.

الوجه الثاني: أن في الأضحى تكبيراً مقيداً عقب الصلوات، والفطر ليس فيه تكبير مقيد على رأي أكثر العلماء.

فكل واحد منهما أوكد من الثاني من وجه؛ فمن جهة أن تكبير الفطر مذكور في القرآن يكون أوكد، ومن جهة أن التكبير في عيد الأضحى متفق عليه، وأنَّ فيه تكبيراً مقيداً يقدم على أذكار الصلاة، يكون من هذه الناحية أوكد.

(1)

سبق تخريجه ص (52).

(2)

سبق تخريجه ص (111).

ص: 161

‌وَفِي كُلِّ عَشْرِ ذِي الحِجَّةِ ........

قوله: «وفي كل عشر ذي الحجة» ، أي: ويسنّ التكبير المطلق في كل عشر ذي الحجة.

وتبتدئ من دخول شهر ذي الحجة إلى آخر اليوم التاسع، وسميت عشراً، وهي تسع من باب التغليب.

والدليل على مشروعية التكبير في عيد الأضحى قوله صلى الله عليه وسلم: «ما من أيام العمل الصالح

»، فتدخل في عموم الحديث.

وكذلك عموم قوله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} .

ولو قال قائل: الذكر في الآية أعم من التكبير؟

فيقال: الدليل الخاص: حديث أنس «أنه سئل كيف كنتم تصنعون في الدفع من منى إلى عرفات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: منّا المكبِّر ومنّا المُهِلّ»

(1)

. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقرهم على ذلك، فيدل هذا على أن التكبير المطلق سنّة.

ويدل لذلك أيضاً: فعل الصحابة، فقد كان أبو هريرة وابن عمر يخرجان إلى السوق يكبران فيكبر الناس بتكبيرهما

(2)

.

قال في الروض: «ولو لم يرَ بهيمة الأنعام» ، و «لو» هنا إشارة خلاف؛ لأن بعض العلماء يقول: لا يسنّ التكبير في هذه الأيام إلا إذا رأى بهيمة الأنعام؛ لأن الله تعالى قال: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج: 28]

(1)

أخرجه البخاري (1659)؛ ومسلم (1285).

(2)

أخرجه البخاري معلقاً (2/ 458 فتح الباري) وقال الحافظ: لم أره موصولاً عنهما.

ص: 162

فإذا رأيت بهيمة الأنعام فاذكر الله، وإذا لم ترها فلا.

لكن المشهور عندنا؛ مذهب الحنابلة: أنه يكبر وإن لم يرها.

واختلف في محل هذا التكبير المقيد، هل هو قبل الاستغفار وقبل «اللهم أنت السلام ومنك السلام» ، أو بعدهما؟

قال بعض العلماء: يكون قبل الاستغفار وقبل «اللهم أنت السلام ومنك السلام» ، فإذا سلم الإمام وانصرف، كبّر رافعاً صوته حسب ما سيذكر المؤلف، ثم يستغفر ويقول:«اللهم أنت السلام ومنك السلام» .

والصحيح أن الاستغفار، وقول:«اللهم أنت السلام» مقدم؛ لأن الاستغفار وقول: «اللهم أنت السلام» ألصق بالصلاة من التكبير، فإنَّ الاستغفار يسنّ عقيب الصلاة مباشرة؛ لأن المصلي لا يتحقق أنه أتقن الصلاة، بل لا بد من خلل، ولا سيما في عصرنا هذا، فالإنسان لا يأتيه الشيطان إلا إذا كبّر للصلاة.

فالشيطان ـ أعاذنا الله وإياكم منه ـ إذا دخل الإنسان في الصلاة فتح عليه باب الوسواس، والعجيب أنه مع انتهاء الصلاة تذهب عنه هذه الهواجيس، ولكن هل لهذا الداء من دواء؟

الجواب: نعم، فلقد شُكي إلى النبي صلى الله عليه وسلم هذا الداء بعينه، فقال للذي اشتكى: «ذاك شيطان يقال له: خنزب، فإذا أحسست به فاتفل عن يسارك ثلاث مرات، وقل: أعوذ بالله من الشيطان

ص: 163

الرجيم، ثلاث مرات، فيذهب الله ذلك عنك، ففعل فأذهب الله ذلك عنه»

(1)

.

‌والمُقَيَّدُ عَقِبَ كُلِّ فَرِيضَةٍ فِي جَمَاعَةٍ ..........

قوله: «والمقيد عقب كل فريضة في جماعة» ، أفادنا المؤلف رحمه الله أن المقيد يختص بالفرائض، وهي الصلوات الخمس، والجمعة؛ لقوله:«عقب كل فريضة» ، وعلى هذا فالنافلة لا يسنّ بعدها تكبير مقيد.

وأفادنا قوله: «في جماعة» أنه لو صلاها منفرداً، فلا يسن له التكبير المقيد. وكذا النساء في بيوتهن لا يسن لهن تكبير مقيد؛ لأنهن غالباً لا يصلين جماعة.

والإنسان الذي تفوته الصلاة في الجماعة ويصليها منفرداً لا يسنّ له أن يكبر التكبير المقيد.

وكذلك قيدوا ذلك بالمؤداة فخرج به المقضية. فالشروط ثلاثة:

1 ـ أن تكون الصلاة فريضة.

2 ـ أن تكون جماعة.

3 ـ أن تكون مؤداة.

فلو صلى وحده، أو صلى نافلة، أو صلى قضاءً لم يشرع له التكبير المقيد، حتى ولو كانوا جماعة.

وقال بعض العلماء: إن التكبير المقيّد سنّة لكل مصلٍّ،

(1)

سبق تخريجه (3/ 225).

ص: 164

فريضة كانت الصلاة أو نافلة، مؤداة أو مقضية، للرجال وللنساء في البيوت.

والقول الأول أخص، وهذا أعم.

وقال بعض العلماء: إنَّه سنّة في الفرائض، مؤداة كانت أم مقضية، انفراداً كانت أو جماعة، دون النوافل.

والمسألة إذا رأيت اختلاف العلماء رحمهم الله فيها بدون أن يذكروا نصاً فاصلاً فإننا نقول: الأمر في هذا واسع.

فإن كبّر بعد صلاته منفرداً فلا حرج عليه، وإن ترك التكبير ولو في الجماعة فلا حرج عليه؛ لأن الأمر في هذا واسع والحمد لله.

‌مِنْ صَلَاةِ الفَجْرِ يَوْمَ عَرَفَةَ، ولِلْمُحْرِم مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ يَوْمَ النَّحْرِ إِلَى عَصْرِ آخِرِ أيَّامِ التَّشْرِيقِ .............

قوله: «من صلاة الفجر يوم عرفة، وللمحرم من صلاة الظهر يوم النحر إلى عصر آخر أيام التشريق» .

بيّن المؤلف في هذا وقت ابتداء التكبير المقيد، فابتداؤه من فجر يوم عرفة إلى عصر آخر أيام التشريق، فيكبّر ثلاثاً وعشرين صلاة.

أما المُحْرِم فمن ظهر يوم النحر؛ لأن المُحْرِم مشغول قبل ذلك بالتلبية؛ فالفقهاء رحمهم الله يرون أن التلبية ذكر يشرع عقب الفرائض، ويستدلون بعموم ما جاء في الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم «أهلَّ دبر الصلاة»

(1)

. فقالوا: إن المحرم إذا سلم من

(1)

أخرجه الإمام أحمد (1/ 285)؛ والترمذي (819)؛ والنسائي (5/ 162) عن ابن عباس رضي الله عنهما.

ص: 165

الصلاة، ولم يحل التحلل الأول فإنه يسن له أن يلبي تلبية مقيدة دبر الصلاة، ويحل من التحلل الأول ضحى يوم النحر، ولهذا قالوا: التكبير للمحرم من ظهر يوم النحر؛ لأنه إلى فجر يوم النحر وهو لم يحل؛ إذ إن المحرم لا يحل إلا إذا رمى جمرة العقبة يوم العيد، وحلق أو قصر، فإذا رمى جمرة العقبة انقطعت التلبية.

وحينئذ إذا صلى الظهر يوم النحر على كلام المؤلف: يبتدئ التكبير المقيد؛ لأن التلبية انتهت.

فالتكبير باعتبار التقييد والإطلاق على المذهب ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

الأول: ما فيه تكبير مطلق فقط.

الثاني: ما فيه تكبير مقيد فقط.

الثالث: ما اجتمع فيه الأمران المقيد والمطلق.

فالتكبير المطلق: في عيد الفطر، وفي عيد الأضحى في عشر ذي الحجة إلى أن ينتهي الإمام من خطبته.

ويجتمع المقيد والمطلق من فجر يوم عرفة إلى أن تنتهي خطبة صلاة العيد يوم النحر.

والتكبير المقيد: من ظهر يوم النحر إلى عصر آخر أيام التشريق.

والصحيح في هذه المسألة: أن التكبير المطلق في عيد الأضحى ينتهي بغروب الشمس من آخر يوم من أيام التشريق،

ص: 166

وعلى هذا فيكون فيه مطلق ومقيد من فجر يوم عرفة إلى غروب الشمس من آخر يوم من أيام التشريق، والدليل على ذلك:

1 ـ قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203] والأيام المعدودات هي أيام التشريق.

2 ـ قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله»

(1)

، ولم يقيده بأدبار الصلوات بل قال:«وذكر لله» فأطلق.

3 ـ أن عمر رضي الله عنه كان يكبّر في منى بقبته فيكبّر الناس بتكبيره حتى ترتج منى تكبيراً، وكان ابن عمر يكبّر بمنى تلك الأيام

(2)

.

فالصواب أن أيام التشريق ويوم النحر فيها ذكر مطلق، كما أن فيها ذكراً مقيداً.

وعلى هذا فالتكبير ينقسم إلى قسمين فقط:

1 ـ مطلق.

2 ـ مطلق ومقيد.

فالمطلق: ليلة عيد الفطر، وعشر ذي الحجة إلى فجر يوم عرفة.

والمطلق والمقيد: من فجر يوم عرفة إلى غروب الشمس من آخر يوم من أيام التشريق.

(1)

أخرجه مسلم (1141) عن نبيشة رضي الله عنه.

(2)

علّقه البخاري بصيغة الجزم في كتاب العيدين، باب التكبير أيام منى وإذا غدا إلى عرفة. «الفتح» (2/ 534).

ص: 167

‌وإن نَسِيَهُ قَضَاهُ مَا لَمْ يُحْدِثْ، أَوْ يَخْرُجْ مِنَ الْمَسْجِدِ ..........

قوله: «وإن نسيه قضاه ما لم يحدث أو يخرج من المسجد» وقوله: «نسيه» أي التكبير المقيد، فالضمير هنا يعود على بعض مرجعه؛ لأن مرجعه يعود على التكبير، لكن المراد بعض التكبير وهو المقيد، أي: إن نسي التكبير المقيد بعد الصلاة قضاه، فلو أنه لما سلم من صلاته استغفر، وقال:«اللهم أنت السلام ومنك السلام» وسبّح ناسياً التكبير، فنقول: يقضيه إلا في ثلاث أحوال:

1 ـ ما لم يحدث.

2 ـ أن يخرج من المسجد.

3 ـ أن يطول الفصل.

فإذا أحدث لا يقضيه، فلو سلم ثم أحدث بعد السلام مباشرة ثم ذكر التكبير فلا يقضيه الآن؛ لأن الحدث يمنع من بناء الصلاة بعضها على بعض، فيمنع من بناء ما كان تابعاً لها عليها.

والصحيح أنه لا يسقط بالحدث، والفرق بينه وبين الصلاة أن الصلاة يشترط لها الطهارة، وأما الذكر فلا تشترط له الطهارة، بل نقول: اقضه ولو أحدثت، إلا إذا طال الفصل، فإن لم يطل الفصل فاقضه.

وكذا إذا خرج من المسجد، فإنه لا يقضيه، وعللوا ذلك بأنه سنّة فات محلها، وهذا أيضاً فيه نظر.

والصحيح أنه إذا خرج من المسجد، فإن كان بعد طول مكث، فإنه يسقط لا بخروجه، ولكن بطول المكث، وإن خرج سريعاً فإنه لا يسقط فيكبر؛ لأنه إذا كانت الصلاة لو سلم منها

ص: 168

ناسياً وخرج من المسجد وذكر قريباً رجع وأتم صلاته فبنى بعضها على بعض مع الخروج من المسجد، فهذا من باب أولى.

فالقول الراجح أن هذا التكبير المقيد يسقط بطول الفصل لا بخروجه من المسجد، ولا بحدثه؛ لأنها سنّة مشروعة عقب الصلاة، وقد فاتت بفوات وقتها، ولأنه إذا طال الفصل لم يكن مقيداً بالصلاة.

‌وَلَا يُسَنُّ عَقِبَ صَلَاةِ عِيدٍ، وَصِفَتُهُ شَفْعاً:«اللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ، لَا إلهَ إِلاَّ اللهُ، واللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ، وَلِلَّهِ الحَمْدُ» .

قوله: «ولا يسن عقب صلاة عيد» الضمير يعود على التكبير المقيد؛ لأننا نتكلم عن المقيد، فلو صلى العيد، وقال: أريد أن أكبِّر، قلنا: لا تكبر؛ لأنه إذا سلم الإمام من صلاة العيد قام إلى الخطبة وتفرغ الناس للاستماع والإنصات، ولا يكبرون.

ودليل هذا: أنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن أصحابه أنهم كانوا يكبرون عقب صلاة العيد، وما لم يرد عن الشارع من العبادات، فالأصل فيه المنع؛ لأن العبادة لا بد من العلم بأنها مشروعة.

قوله: «وصفته شَفْعاً: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد» .

قوله: «صفته» الضمير يعود على التكبير.

وقوله: «شفعاً» ، أي: الله أكبر مرتين، والثانية مرتين، وتختم الأولى بالإخلاص، والثانية بالحمد.

وهذه المسألة ـ أي: صفة التكبير ـ فيها أقوال ثلاثة لأهل العلم:

ص: 169

الأول: أنه شفع كما قال المؤلف: «الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد» .

وعللوا ذلك أنه بـ «لا إله إلا الله» يختم بوتر، وكذلك إذا قال:«ولله الحمد» .

الثاني: أنه وتر، «الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد» .

وعللوا ذلك بأن يكون تكبيره وتراً، فيوتر التكبير في المرة الأولى والثانية بناء على أن كل جملة منفردة عن الأخرى، ولا يصح أن يقال: إن الوتر حصل بقوله: «لا إله إلا الله» أو بقوله: «ولله الحمد» ؛ لأنه من غير جنس التكبير، أو يقال: إن النوع مختلف.

الثالث: أنه وتر في الأولى، شفع في الثانية، «الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد» .

وعللوا أن التكبير جنس واحد، والجملتان بمنزلة جملة واحدة، فإذا كبّر ثلاثاً واثنتين صارت خمساً وتراً، فيكون الإيتار بالتكبير بناء على أن الجملتين واحدة.

وهذا القول والذي قبله من حيث التعليل أقوى من قول من يقول: إنه يكبر مرتين مرتين؛ لأننا إذا اعتبرنا أن كل جملة منفصلة عن الأخرى صار الإيتار في الثنتين أولى، وإن اعتبرنا أن الجملتين واحدة صار الإيتار في الأولى والشفع في الثانية هو الذي ينقطع به التكبير على وتر.

ص: 170

والمسألة ليس فيها نص يفصل بين المتنازعين من أهل العلم، وإذا كان كذلك فالأمر فيه سعة، إن شئت فكبر شفعاً، وإن شئت فكبر وتراً، وإن شئت وتراً في الأولى وشفعاً في الثانية.

مسألة: قال في الروض: «ولا بأس بقوله لغيره: تقبّل الله منا ومنك كالجواب» ، أي: في العيد، لا بأس أن يقول لغيره: تقبّل الله منّا ومنك، أو عيد مبارك، أو تقبّل الله صيامك وقيامك، أو ما أشبه ذلك؛ لأن هذا ورد من فعل بعض الصحابة

(1)

رضي الله عنهم وليس فيه محذور.

قال: «وكذلك لا بأس بالتعريف عشية عرفة بالأمصار؛ لأنه ذكر ودعاء، وأول من فعله ابن عباس وعمرو بن حريث»

(2)

. والتعريف عشية عرفة بالأمصار أنهم يجتمعون آخر النهار في المساجد على الذكر والدعاء تشبهاً بأهل عرفة.

والصحيح أن هذا فيه بأس وأنه من البدع، وهذا إن صح عن ابن عباس فلعله على نطاق ضيق مع أهله وهو صائم في ذلك

(1)

رواه الطبراني في «المعجم الكبير» كما في «مجمع الزوائد» (2/ 209)؛ والبيهقي في «سننه» (3/ 319) عن واثلة بن الأسقع، وقال ابن التركماني في «الجوهر النقي على سنن البيهقي»:«وفي الباب حديث جيد أغفله البيهقي، وهو حديث محمد بن زياد قال: كنت مع أبي أمامة الباهلي وغيره من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فكانوا إذا رجعوا يقول بعضهم لبعض: «تقبل الله منا ومنك» ، قال أحمد بن حنبل: إسناده جيد» اهـ.

(2)

فعل ابن عباس رضي الله عنهما أخرجه البيهقي في «سننه» (5/ 118)، أما عمرو بن حريث فأخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (4/ 1/310 الجزء الملحق).

ص: 171

اليوم، ودعاء الصائم حري بالإجابة، فلعله جمع أهله ودعا عند غروب الشمس، وأما أن يفعل بالمساجد ويظهر ويعلن، فلا شك أن هذا من البدع؛ لأنه لو كان خيراً لسبقونا إليه، أي: الصحابة، ولكان هذا مما تتوافر الدواعي على نقله.

والعبادة لا يصح أن يقال فيها: لا بأس بها؛ لأنها إما سنّة فتكون مطلوبة، وإما بدعة فيكون فيها بأس. أمَّا أنْ تكون عبادة لا بأس بها، فهذا محل نظر.

ص: 172

‌باب صلاة الكسوف

قوله: «باب صلاة الكسوف» العلماء يعبرون بكتاب، وباب، وفصل، ولكل واحد منها اصطلاح.

فإذا كان الكلام جنساً واحداً عبروا بكتاب.

وإذا كان الكلام نوعاً من جنس عبروا بباب.

وإذا كانت مسائل من باب واحد عبروا بفصل.

فإذا كان الموضوع الطهارة، والصلاة

، يعبر بكتاب الطهارة، وكتاب الصلاة، وكتاب الزكاة، وكتاب الصيام، وكتاب الحج لأن كل واحد جنس.

وإذا كان الموضوع باب الوضوء، أو باب الغسل، أو باب التيمم، أو باب الحيض، أو باب إزالة النجاسة، فهذا يعبر عنه بباب؛ لأن الجنس واحد وهو الطهارة، والنوع مختلف لأن هذا وضوء، وهذا غسل، وهذا حيض، وهذه نجاسة.

وإذا كان نوع الموضوع واحداً لكنه مسائل مختلفة، فيعبر بالفصل.

فمثلاً: الغسل تحته مسائل مختلفة يقال:

فصل: موجبات الغسل، ثم يقال: فصل: وصفة الغسل، فصل: والأغسال المستحبة

وهكذا، هذا هو المعروف من اصطلاح العلماء.

وهنا قال: باب صلاة الكسوف، ولم يقل: كتاب صلاة

ص: 173

الكسوف؛ لأن هذا نوع من الصلاة، فالصلاة جنس، وهذا نوع.

وقوله: «صلاة الكسوف» من باب إضافة الشيء إلى سببه، أي باب الصلاة التي سببها الكسوف.

والكسوف والخسوف بمعنى واحد، يقال: كسفت الشمس، وخسفت، وكسف القمر وخسف.

وقال بعضهم: الكسوف للشمس، والخسوف للقمر، ولعل هذا إذا اجتمعت الكلمتان فقيل: كسوف وخسوف، أما إذا انفردت كل واحدة عن الأخرى فهما بمعنى واحد، ولهذا نظائر في اللغة العربية.

والكسوف عرّفه الفقهاء بقولهم: ذهاب ضوء أحد النيرين أو بعضه.

والحقيقة أنه لا يذهب، وإنما ينحجب، ولهذا نقول: التعبير الدقيق للكسوف: «انحجاب ضوء أحد النيرين» ، أي: الشمس أو القمر «بسبب غير معتاد» .

فسبب كسوف الشمس أن القمر يحول بينها وبين الأرض فيحجبها عن الأرض، إما كلها أو بعضها، لكن لا يمكن أن يحجب القمرُ الشمسَ عن جميع الأرض؛ لأنه أصغر منها، حتى لو كسفها عن بقعة على قدر مساحة القمر لم يحجبها عن البقعة الأخرى؛ لأنها أرفع منه بكثير، ولذلك لا يمكن أن يكون الكسوف كلياً في الشمس في جميع أقطار الدنيا أبداً، إنما يكون في موضع معين، مساحته بقدر مساحة القمر.

وإذا قلنا بهذا القول المحقق المتيقن: إنَّ سبب كسوف

ص: 174

الشمس هو حيلولة القمر بينها وبين الأرض تبيّن أنه لا يمكن الكسوف في اليوم السابع أو الثامن أو التاسع أو العاشر لبعد القمر عن الشمس في هذه الأيام، إنما يقرب منها في آخر الشهر.

ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: لا يمكن أن تكسف الشمس إلا في التاسع والعشرين أو الثلاثين أو آخر الثامن والعشرين؛ لأنه هو الذي يمكن أن يكون القمر فيه قريباً من الشمس فيحول بينها وبين الأرض.

كذلك القمر سبب كسوفه حيلولة الأرض بينه وبين الشمس؛ لأن القمر يستمد نوره من الشمس كالمرآة أمام القنديل.

فالمرآة أمام القنديل يكون فيها إضاءة نور، لكن لو أطفأت القنديل أصبحت ظلمة، ولهذا سمى الله القمر نوراً، فقال عز وجل:{تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا *} [الفرقان]، وقال تعالى:{وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا *} [نوح]، وعلى هذا التقدير الواقعي لا يمكن أن يكسف القمر في الليلة العاشرة، أو الثامنة، أو التاسعة، أو الحادية عشرة، أو السابعة عشرة، أو العشرين، أو الخامسة والعشرين، أو السابعة والعشرين، فلا يمكن أن يكسف إلا في ليالي الإبدار أي: الرابعة عشرة، والخامسة عشرة؛ لأنها هي الليالي التي يمكن أن تحول الأرض بينه وبين الشمس؛ لأنه في جهة والشمس في جهة، فهو في جهة الشرق، والشمس في جهة الغرب فيمكن أن تحول الأرض بينهما وحينئذٍ ينكسف القمر، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ

ص: 175

مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً *} [الإسراء].

فالشمس منيرة مبصرة بنفسها، وآية الليل القمر ممحو ليس فيه نور.

إذاً هذا هو سبب كسوف الشمس والقمر، وبه نعرف أنه لا يصح التعبير بقولنا: ذهاب ضوء الشمس.

لكن يمكن أن يصح التعبير في هذا بالنسبة للقمر؛ لأنه إذا حالت الأرض بينه وبين الشمس ذهب نوره؛ لأن أصله جرم مظلم امّحى النور الذي فيه.

ويمكن أن نوجه كلام الفقهاء رحمهم الله بأنه ذهاب ضوء أحد النيرين، باعتبار الرؤية، أي: رؤية الناس؛ لأن الناس لا يرون الحاجز بين جرم الشمس أو جرم القمر وهم في الأرض، بخلاف ما لو انحجب ضوؤهما بغمام أو سحاب، فهو معروف.

هذا السبب الذي ذكرته هو السبب الحسي.

لكن هناك سبب شرعي لا يعلم إلا عن طريق الوحي، ويجهله أكثر الفلكيين ومن سار على منهاجهم.

والسبب الشرعي هو تخويف الله لعباده، كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، وإنما يخوف الله بهما عباده»

(1)

؛ ولهذا أمرنا بالصلاة والدعاء والذكر وغير ذلك كما سيأتي إن شاء الله.

(1)

أخرجه البخاري (1048)؛ ومسلم (911).

ص: 176

فهذا السبب الشرعي هو الذي يفيد العباد؛ ليرجعوا إلى الله، أما السبب الحسي فليس ذا فائدة كبيرة، ولهذا لم يبينه النبي صلى الله عليه وسلم، ولو كان فيه فائدة كبيرة للناس لبيّنه عن طريق الوحي؛ لأن الله سبحانه وتعالى يعلم سبب الكسوف الحسي، ولكن لا حاجة لنا به، ومثل هذه الأمور الحسية يكل الله أمر معرفتها إلى الناس، وإلى تجاربهم حتى يدركوا ما أودع الله في هذا الكون من الآيات الباهرة بأنفسهم.

أما الأسباب الشرعية، أو الأمور الشرعية التي لا يمكن أن تدركها العقول ولا الحواس، فهي التي يبيّنها الله للعباد.

فإن قال قائل: كيف يجتمع السبب الحسي والشرعي، ويكون الحسي معلوماً معروفاً للناس قبل أن يقع، والشرعي معلوم بطريق الوحي، فكيف يمكن أن نجمع بينهما؟

فالجواب: أن لا تنافي بينهما؛ لأن الأمور العظيمة كالخسف بالأرض، والزلازل، والصواعق، وشبهها التي يحس الناس بضررها، وأنها عقوبة، لها أسباب طبيعية، يقدرها الله حتى تكون المسببات، وتكون الحكمة من ذلك هي تخويف العباد، فالزلازل لها أسباب، والصواعق لها أسباب، والبراكين لها أسباب، والعواصف لها أسباب، لكن يقدر الله هذه الأسباب من أجل استقامة الناس على دين الله. قال تعالى:{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ *} [الروم]، ولكن تضيق قلوب كثير من الناس عن الجمع بين السبب الحسي والسبب الشرعي، وأكثر الناس

ص: 177

أصحاب ظواهر لا يعتبرون إلا بالشيء الظاهر، ولهذا تجد الكسوف والخسوف لما علم الناس أسبابهما الحسية ضعف أمرهما في قلوب الناس حتى كأنه صار أمراً عادياً، ونحن نذكر قبل أن نعلم بهذه الأمور أنه إذا حصل الكسوف رعب الناس رعباً شديداً، وصاروا يبكون بكاءً شديداً، ويذهبون إلى المساجد خائفين مذعورين، كما وقع ذلك للنبي عليه الصلاة والسلام لما كسفت الشمس أول مرة في عهده وكان ذلك بعد أن ارتفعت بمقدار رمح بعد طلوعها وأظلمت الدنيا، ففزع الناس، وفزع النبي عليه الصلاة والسلام فزعاً عظيماً حتى إنه أدرك بردائه

(1)

، أي: من شدة فزعه قام بالإزار قاصداً المسجد حتى تبعوه بالرداء، فارتدى به، وجعل يجره، أي: لم يستقر ليوازن الرداء من شدة فزعه، وأمر أن ينادى الصلاة جامعة

(2)

؛ من أجل أن يجتمع الناس كلهم. فاجتمعت الأمة من رجال ونساء، وصلى بهم النبي عليه الصلاة والسلام صلاة لا نظير لها؛ لأنها لآية لا نظير لها.

آية شرعية لآية كونية، أطال فيها إطالة عظيمة، حتى إن بعض الصحابة ـ مع نشاطهم وقوتهم ورغبتهم في الخير ـ تعبوا تعباً شديداً من طول قيامه عليه الصلاة والسلام، وركع ركوعاً طويلاً، وكذلك السجود، فصلى صلاة عظيمة، والناس يبكون يفزعون إلى الله، وعرضت على النبي عليه الصلاة والسلام الجنة

(1)

أخرجه مسلم (906) عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما.

(2)

أخرجه البخاري (1045)، ومسلم (910) عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.

ص: 178

والنار في هذا المقام، يقول:«فلم أرَ يوماً قط أفظع من هذا اليوم»

(1)

؛ حيث عرضت النار عليه حتى صارت قريبة فتنحى عنها، أي: رجع القهقهرى خوفاً من لفحها

(2)

، سبحان الله! فالأمر عظيم! أمر الكسوف ليس بالأمر الهين، كما يتصوره الناس اليوم، وكما يصوره أعداء المسلمين حتى تبقى قلوب المسلمين كالحجارة، أو أشد قسوة والعياذ بالله.

يكسف القمر أو الشمس والناس في دنياهم، فالأغاني تسمع، وكل شيء على ما هو عليه لا تجد إلا الشباب المقبل على دين الله أو بعض الشيوخ والعجائز، وإلا فالناس سادرون لاهون، ولهذا لا يتعظ الناس بهذا الكسوف لا بالشمس ولا بالقمر مع أنه أمر هام، ويجب الاهتمام به.

مسألة: هل من الأفضل أن يخبر الناس به قبل أن يقع؟

الجواب: لا شك أن إتيانه بغتة أشد وقعاً في النفوس، وإذا تحدث الناس عنه قبل وقوعه، وتروضت النفوس له، واستعدت له صار كأنه أمر طبيعي، كأنها صلاة عيد يجتمع الناس لها.

ولهذا لا تجد في الإخبار به فائدة إطلاقاً بل هو إلى المضرة أقرب منه إلى الفائدة.

ولو قال قائل: ألا نخبر الناس ليستعدوا لهذا الشيء؟

فالجواب: نقول: لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، بل إذا وقع ورأيناه بأعيننا فحينئذٍ نفعل ما أمرنا به.

(1)

أخرجه البخاري (1052)؛ ومسلم (907) عن ابن عباس رضي الله عنهما.

(2)

أخرجه مسلم (904) عن جابر رضي الله عنه.

ص: 179

مسألة: إذا قال الفلكيون: إنه سيقع كسوف أو خسوف فلا نصلي حتى نراه رؤية عادية؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «إذا رأيتم ذلك فصلوا»

(1)

، أما إذا منّ الله علينا بأن صار لا يرى في بلدنا إلا بمكبر أو نظارات فلا نصلي.

‌تُسَنُّ جَمَاعَةً، وَفُرَادَى ..........

قوله: «تسن جماعة، وفرادى» ، صلاة الكسوف مشروعة بالسنة والإجماع، وقال بعض العلماء: إنها مشروعة بالكتاب أيضاً، واستنبطها من قوله تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ} [فصلت: 37]، وقال: إن الناس لا يسجدون للشمس ولا للقمر وهما على مجراهما الطبيعي العادي، وإنما يسجدون لهما إذا حصل منهما هذا الكسوف خوفاً منهما، فأمر الله عز وجل أن يكون السجود له.

وهذا الاستنباط وإن كان له شيءٌ من الوجاهة، لكن لولا ثبوت السنة لم نعتمد عليه.

وأفادنا المؤلف رحمه الله بقوله: «تسن» أن صلاة الكسوف سنة ليست فرض عين، ولا فرض كفاية، وأن الناس لو تركوها لم يأثموا؛ لأن السنة عند الفقهاء هي: ما أثيب فاعله، ولم يعاقب تاركه.

وقد جزم المؤلف رحمه الله بهذا، وهو المشهور عند العلماء.

(1)

أخرجه البخاري (1058)؛ ومسلم (901) عن عائشة رضي الله عنها.

ص: 180

وقال بعض أهل العلم: إنها واجبة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا رأيتم ذلك فصلوا» .

قال ابن القيم في كتاب «الصلاة» : وهو قول قوي

(1)

، أي: القول بالوجوب، وصدق رحمه الله لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بها وخرج فزعاً، وقال: إنها تخويف، وخطب خطبة عظيمة، وعُرضت عليه الجنة والنار، وكل هذه القرائن العظيمة تشعر بوجوبها؛ لأنها قرائن عظيمة، ولو قلنا: إنها ليست بواجبة، وإن الناس مع وجود الكسوف إذا تركوها مع هذا الأمر من النبي عليه الصلاة والسلام والتأكيد فلا إثم عليهم لكان في هذا شيء من النظر، كيف يكون تخويفاً ثم لا نبالي وكأنه أمر عادي؟ أين الخوف؟

التخويف يستدعي خوفاً، والخوف يستدعي امتثالاً لأمر النبي عليه الصلاة والسلام.

واستدل الذين قالوا بأنها سنة بما يلي:

1 ـ الحديث المشهور في قصة الذي جاء يسأل عن الإسلام؛ وذكر له النبي صلى الله عليه وسلم الصلوات الخمس، قال:«هل عليَّ غيرها؟» ، قال:«لا إلا أن تطوع»

(2)

.

2 ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذاً إلى اليمن في آخر حياته في السنة العاشرة، وقال:«أخبرهم بأن الله فرض عليهم خمس صلوات»

(3)

، ولم يذكر سواها.

(1)

ص (15).

(2)

أخرجه البخاري (2678)؛ ومسلم (11) عن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه.

(3)

سبق تخريجه ص (9).

ص: 181

قالوا: هذان الحديثان، وأمثالهما يدلان على أن الأمر بالصلاة في الكسوف للاستحباب، وليس للوجوب.

والذين قالوا بالوجوب قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الصلوات الخمس؛ لأنها اليومية التي تتكرر في كل زمان وفي كل مكان، أما صلاة الكسوف، وتحية المسجد على القول بالوجوب، وما أشبه ذلك، فإنها تجب بأسبابها، وما وجب بسبب فإنه ليس كالواجب المطلق.

قالوا: ولهذا لو نذر الإنسان أن يصلي ركعتين لوجب عليه أن يصلي مع أنها ليست من الصلوات الخمس، لكن وجبت بسبب نذره، فما وجب بسبب ليس كالذي يجب مطلقاً.

وهذا القول قوي جداً، ولا أرى أنه يسوغ أن يرى الناس كسوف الشمس أو القمر ثم لا يبالون به، كل في تجارته، كل في لهوه، كل في مزرعته، فهذا شيء يخشى أن تنزل بسببه العقوبة التي أنذرنا الله إياها بهذا الكسوف.

فالقول بالوجوب أقوى من القول بالاستحباب.

وإذا قلنا بالوجوب؛ الظاهر أنه على الكفاية.

وقوله: «جماعة وفرادى» ، أي: تسن جماعة، وتسن فرادى.

أي: أن الجماعة ليست شرطاً لها، بل يسن للناس في البيوت أن يصلوها.

ودليل ذلك: عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا رأيتم ذلك

ص: 182

فصلوا»

(1)

، فهذا عام، ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: فصلوا في مساجدكم، مثلاً، فدل ذلك على أنه يؤمر بها حتى الفرد، ولكن لا شك أن اجتماع الناس أولى، بل الأفضل أن يصلوها في الجوامع؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام صلاها في مسجد واحد ودعا الناس إليها، ولأن الكثرة في الغالب تكون أدعى للخشوع وحضور القلب، ولأنها ـ أي: الكثرة ـ أقرب إلى إجابة الدعاء.

فهي تسن في المساجد والبيوت، لكن الأفضل في المساجد، وفي الجوامع أفضل.

‌إِذَا كَسَفَ أَحَدُ النَّيِّرين رَكْعَتَيْنِ يَقْرَأُ فِي الأُْولَى جَهْراً ..........

وقوله: «إذا كسف أحد النيرين» ، «إذا»: ظرف متعلقة بـ «تسن» أي: تسن إذا كسف أحد النيرين وهما: الشمس والقمر.

قوله: «ركعتين يقرأ في الأولى جهراً

»، بيَّن المؤلف رحمه الله في هذه الجملة صفة صلاة الكسوف، وأنها تصلى ركعتين بلا زيادة، لكن هاتين الركعتين كل واحدة فيها ركوعان.

وقوله: «ركعتين» منصوب على الحالية، وهذا من المواضع التي تأتي فيها الحال جامدة مؤولة بالمشتق، أي: تسنّ حال كونها ركعتين.

وقوله: «يقرأ في الأولى جهراً» أطلق قوله: «جهراً» ولم يقل: في الليل، فدل هذا على أن السنّة في صلاة الكسوف الجهر سواء في الليل أو في النهار، وهو كذلك لحديث عائشة رضي الله عنها: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جهر في صلاة الخسوف

(1)

سبق تخريجه ص (180).

ص: 183

بقراءته»

(1)

، وهي مبنية أيضاً على القاعدة التي سبقت لنا:(أن الصلاة الجهرية في النهار إنما تكون فيما يجتمع الناس عليه).

‌بَعْدَ الْفَاتِحَةِ سُورةً طَوِيلَةً، ثُمَّ يَرْكَعُ طَوِيلاً ثُمَّ يَرْفَعُ،

............

قوله: «بعد الفاتحة سورة طويلة» لم يعيّن، سورة البقرة، أو آل عمران، أو النساء، فالمهم أن تكون سورة طويلة؛ لأن الذي جاء في الحديث أنها طويلة

(2)

أي: يختار أطول ما يكون، وقد سبق أن بعض الصحابة كان يسقط مغشياً عليه من طول القيام

(3)

.

قوله: «ثم يركع طويلاً» أي: من غير تقدير، المهم أن يكون طويلاً.

وقال بعض العلماء: يكون بقدر نصف قراءته أي: الركوع يكون نصف القيام، ولكن الصحيح: أنه بدون تقدير، فيطيل بقدر الإمكان.

فإن قال قائل: طول القيام فهمنا ما يفعل فيه وهو القراءة، لكن إذا أطال الركوع فماذا يصنع؟

فالجواب: يكرر التسبيح «سبحان ربي العظيم» ، «سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي» ، «سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم» ، «سبحان الله وبحمده عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته» ، لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم:«أما الركوع فعظموا فيه الرب»

(4)

، فكل ما حصل من تعظيم في الركوع فهذا هو المشروع.

قوله: «ثم يرفع» ، أي: ثم يرفع رأسه من الركوع.

(1)

أخرجه البخاري (1065)؛ ومسلم (901)(5).

(2)

سبق تخريجه ص (180).

(3)

كما في حديث جابر، وقد سبق تخريجه.

(4)

سبق تخريجه (3/ 87).

ص: 184

‌وَيُسَمِّعُ، وَيُحَمِّدُ، ثُمَّ يَقْرَأُ الْفَاتِحَةَ وَسُورَةً طَوِيلَةً دُونَ الأُْولى، ثُمَّ يَرْكَعُ فَيُطِيلُ وَهُوَ دُونَ الأَوَّلِ، ثُمَّ يَرْفَعُ،

.........

قوله: «ويسمع» ، أي: يقول: سمع الله لمن حمده.

قوله: «ويحمد» ، أي: يقول: ربنا ولك الحمد، بعد أن يعتدل كسائر الصلوات.

قوله: «ثم يقرأ الفاتحة وسورة طويلة دون الأولى» ، ومن هنا جاءت الغرابة في هذه الصلاة؛ لأن غيرها من الصلوات لا تقرأ الفاتحة بعد الركوع، بل الذي بعد الركوع هو السجود، أما هذه الصلاة فيقرأ الفاتحة، وسورة طويلة.

لكن هل هي دون الأولى بكثير أو بقليل؟

الجواب: جاء في الحديث «دون الأولى»

(1)

، فينظر إلى هذا الدون.

والظاهر: أنه ليس دونها بكثير، لكنه دون يتميّز به القيام الأول عن القيام الثاني.

قوله: «ثم يركع فيطيل، وهو دون الأول» ، ونقول هنا في قوله:«دون الأول» كما قلنا في القراءة.

قوله: «ثم يرفع» أي: ويسمع ويحمد.

وظاهر كلام المؤلف: أنه في الرفع الذي يليه السجود لا يطيل القيام، بل يكون كالصلاة العادية، ولكن هذا الظاهر فيه نظر، والصحيح: أنه يطيل هذا القيام بحيث يكون قريباً من الركوع؛ لأن هذه عادة النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته، قال البراء بن عازب

(1)

سبق تخريجه من حديث عائشة ص (180).

ص: 185

رضي الله عنه: «رمقت صلاة النبي عليه الصلاة والسلام فرأيت قيامه، وقعوده، وركوعه، وسجوده قريباً من السواء»

(1)

، والمراد بقيامه هنا قيامه بعد الركوع؛ لأن قيام القراءة أطول بكثير من الركوع، ولأجل تناسب الصلاة.

‌ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ، ثُمَّ يُصَلِّي الثَّانِيَةَ كَالأُْولَى لَكِنْ دُونَهَا فِي كُلِّ مَا يَفْعَلُ ثُمَّ يَتَشَهَّدُ وَيُسَلِّمُ،

...........

قوله: «ثم يسجد سجدتين طويلتين» ، أي: بقدر الركوع.

وظاهر كلامه: أنه لا يطيل الجلوس بينهما؛ لأنه لو أراد إطالة الجلوس بينهما لنبّه عليه، فكونه يقول:«يسجد سجدتين» ويسكت عن الجلوس بينهما، كأنه يقول: والجلوس بينهما معروف، وأنه جلوسٌ لا إطالة فيه.

والصواب: أنه يطيل الجلوس بقدر السجود.

قوله: «ثم يصلي الثانية كالأولى، لكن دونها في كل ما يفعل» أي: من القراءة والركوع، والقيام بعده، والسجود، فالثانية تكون دون الأولى.

ولكن هل معناه أن القيام الأول في الثانية كالقيام الثاني في الأولى، والقيام الثاني في الثانية دون ذلك، أو معناه: أن كل ركعة وركوع دون الذي قبله؟

الجواب: أن السنّة ليس فيها ما يدل لهذا ولا لهذا. فليس لدينا دليل واضح في هذه المسألة، فيحتمل أن القيام الأول في الثانية كالقيام الثاني في الأولى، وهو إذا جعل القيام

(1)

سبق تخريجه ص (180).

ص: 186

الثاني في الثانية دون القيام الأول صارت الركعة الثانية دون الأولى.

لكن الذي يظهر ـ والله أعلم ـ أن كل قيام وركوع وسجود دون الذي قبله.

ونضرب لهذا مثلاً: قرأ في القيام الأول من الأولى مائة آية، وفي الثاني ثمانين آية، وفي القيام الأول من الركعة الثانية هل يقرأ ثمانين آية، وفي القيام الثاني ستين آية، أو يقرأ في القيام الأول في الركعة الثانية ستين آية، وفي القيام الثاني أربعين آية؟

الجواب: هذا هو محل التردد والاحتمال، والذي يظهر الثاني، أي: أنه يجعل قراءته في القيام الأول من الركعة الثانية دون قراءته في القيام الثاني من الركعة الأولى؛ لتكون الصلاة بالتنزل كل ركعة دون التي قبلها.

وفي هذا من الحكمة مراعاة حال المصلي؛ لأن المصلي أول ما يدخل في الصلاة يكون عنده نشاط وقوة، ثم مع الاستمرار يضعف؛ فلهذا روعيت حاله، فكان القيام الأول أطول، ثم الثاني، ثم الثالث، ثم الرابع.

قوله: «ثم يتشهد ويسلم» ، أي: كغيرها من الصلوات، وبهذا انتهت هذه الصلاة.

وهذه الصفة اتفق عليها البخاري ومسلم

(1)

، أي: أنه يصلي

(1)

سبق تخريجه ص (180).

ص: 187

ركعتين، في كل ركعة ركوعان وسجودان صح ذلك عن عائشة وغيرها عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن تكون الصلاة طويلة.

وظاهر كلامه: أنه لا يشرع لها خطبة؛ لأنه لم يذكرها، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة.

وقال بعض العلماء: بل يشرع بعدها خطبتان؛ لأنها صلاة رهبة فشرع لها خطبتان كالاستسقاء، ولكن هذا قياس غير صحيح؛ لأن الاستسقاء ليس فيه إلا خطبة واحدة، إلا على قول بعض العلماء الذي قال: إنها كصلاة العيد، وسيأتي إن شاء الله، ولا يصح قياسها على صلاة العيدين؛ لأن صلاة العيدين صلاة فرح وسرور.

وقال بعض العلماء: يسنّ لها خطبة واحدة، وهذا مذهب الشافعي، وهو الصحيح.

وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما انتهى من صلاة الكسوف «قام فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، ثم وعظ الناس»

(1)

. وهذه الصفات صفات الخطبة.

وقولهم: إن هذه موعظة؛ لأنها عارضة. نقول: نعم، لو وقع الكسوف في عهد النبي صلى الله عليه وسلم مرة أخرى، ولم يخطب لقلنا: إنها ليست بسنة، لكنه لم يقع إلا مرة واحدة، وجاء بعدها هذه الخطبة العظيمة التي خطبها وهو قائم، وحمد الله وأثنى عليه، وقال: أما بعد، ثم إن هذه المناسبة للخطبة مناسبة قوية من أجل تذكير الناس وترقيق قلوبهم، وتنبيههم على هذا الحدث الجلل العظيم.

(1)

أخرجه البخاري (1053)؛ ومسلم (905) عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما.

ص: 188

‌فَإِنْ تَجَلَّى الكُسُوفُ فِيهَا أَتَمَّهَا خَفِيفَةً ............

قوله: «فإن تجلى الكسوف فيها» أي: كسوف الشمس، أو القمر؛ لأنَّ الكسوف عند الإطلاق يشمل الشمس والقمر، أما إذا اقترنا فالكسوف للشمس والخسوف للقمر.

وقوله: «فيها» أي: في الصلاة.

ويعلم التجلي بالرؤية، فإن كان في النهار فالأمر واضح، وإن كان في الليل فكذلك، وإن كان تحت السقف فبالخبر.

قوله: «أتمها خفيفة» ، ظاهر كلامه: حتى لو كانت خفة الركعة الثانية بالنسبة للأولى بعيدة جداً؛ فمثلاً: الركعة الأولى استغرقت نصف ساعة، والثانية إذا أتمها خفيفة تستغرق خمس دقائق.

فظاهر كلامه: أن الأمر يكون كذلك، وحينئذٍ تكون الصلاة وكأنها صلاة جذماء مقطوعة بعض الأعضاء.

وحجتهم في هذا:

1 ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «صلوا حتى ينكشف ما بكم»

(1)

، و «حتى» للغاية.

وهذا الحديث كما يمنع ابتداء الصلاة مرة أخرى يمنع أيضاً الاستمرار فيها واستدامتها.

2 ـ أن السبب الذي من أجله شرعت الصلاة قد زال.

مسائل:

الأولى: لو حصل كسوف ثم تلبدت السماء بالغيوم فهل نعمل بقول علماء الفلك بالنسبة لوقت التجلي؟

(1)

أخرجه البخاري (1060)؛ ومسلم (915) عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.

ص: 189

الجواب: نعمل بقولهم؛ لأنه ثبت بالتجارب أن قولهم منضبط.

الثانية: إذا لم يعلم بالكسوف إلا بعد زواله فلا يقضى؛ لأننا ذكرنا قاعدة مفيدة، وهي (أن كل عبادة مقرونة بسبب إذا زال السبب زالت مشروعيتها). فالكسوف مثلاً إذا تجلت الشمس، أو تجلى القمر، فإنها لا تعاد؛ لأنها مطلوبة لسبب وقد زال.

ويعبر الفقهاء رحمهم الله عن هذه القاعدة بقولهم: (سنة فات محلها).

الثالثة: إذا شرع في صلاة الكسوف قبل دخول وقت الفريضة ثم دخل وقت الفريضة، فماذا يفعل؟

الجواب: إن ضاق وقت الفريضة وجب عليه التخفيف؛ ليصليها في الوقت، وإن اتسع الوقت فيستمر في صلاة الكسوف.

‌وَإِنْ غَابَت الشَّمْسُ كَاسِفَةً،

..........

قوله: «وإن غابت الشمس كاسفة» ، إذا غابت الشمس كاسفة، فإنه لا يصلى؛ لأنها لما غابت ذهب سلطانها، وكونها كاسفة أو غير كاسفة بالنسبة لنا حين غابت لا يؤثر شيئاً، فلما زال سلطانها سقطت المطالبة بالصلاة لكسوفها.

مسائل:

الأولى: إذا كسفت في آخر النهار، فلا يصلى الكسوف بناء على أنها سنّة، وأن ذوات الأسباب لا تفعل في وقت النهي وهذا هو المذهب.

ولكن الصحيح في هذه المسألة: أنه يصلى للكسوف بعد العصر، أي: لو كسفت الشمس بعد العصر فإننا نصلي؛ لعموم

ص: 190

قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا رأيتم ذلك فصلوا»

(1)

، فيشمل كل وقت.

فإن قال قائل: عموم قوله صلى الله عليه وسلم: «لا صلاة بعد العصر»

(2)

يشمل كل صلاة، فعندنا الآن عمومان، وهما: عموم النهي عن كل صلاة في زمن معين وهو العصر مثلاً، وعموم الأمر بصلاة الكسوف في كل وقت، ومثل هذا يسمى العام والخاص من وجه، فأيهما نقدم عموم النهي أو عموم الأمر؟ إذا قلنا: نقدم عموم الأمر، قيل: بل عموم النهي؛ لأنه أحوط، لأنك تقع في معصية.

وذكر شيخ الإسلام قاعدة قال: (إذا كان أحد العمومين مخصصاً، فإن عمومه يضعف). أي: إذا دخله التخصيص صار ضعيفاً، فيقدم عليه العام الذي لم يخصص؛ لأن عمومه محفوظ، وعموم الأول الذي دخله التخصيص غير محفوظ، وهذا الذي قاله صحيح.

بل إن بعض العلماء رحمهم الله قال: إن العام إذا خصّص صارت دلالتُهُ على العموم ذاتَ احتمال، فأي فرد من أفراد العموم يستطيع الخصم أن يقول: يحتمل أنه غير مراد، كما خصّص في هذه المسألة التي وقع فيها التخصيص.

لكن الراجح: أن العام إذا خصص يبقى عاماً إلا في المسألة التي خصّص فيها فقط.

فحديث الأمر بالصلاة عند رؤية الكسوف لم يخصّص، وحديث الصلاة بعد العصر مخصّص بقول النبي عليه الصلاة والسلام: «إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا

(1)

سبق تخريجه ص (180).

(2)

سبق تخريجه (4/ 111).

ص: 191

معهم، فإنها لكما نافلة»

(1)

.

فإن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر هذا للرجلين اللذين تخلفا عن صلاة الفجر، ولا صلاة بعد صلاة الفجر.

كذلك أيضاً مخصّص بركعتي الطواف، فإن الإنسان إذا طاف ولو بعد العصر يسنّ أن يصلي ركعتين.

ومخصّص بقضاء الفريضة إذا نسيها، فمن نام عن صلاة أو نسيها، وذكرها ولو بعد العصر فإنه يصليها.

فعموم النهي إذاً مخصّص بعدة مخصّصات، فيكون عمومه ضعيفاً، ويقدم حديث الأمر، ومن ثمَّ صار القول الراجح في هذه المسألة: أن كل صلاة لها سبب تصلى حيث وجد سببها، ولو في أوقات النهي، وهي الرواية الثانية عن الإمام أحمد.

الثانية: إذا شرع في صلاة الكسوف بعد العصر ثم غابت كاسفة فإنه يتمها خفيفة؛ لأنها إذا غابت فهي كما لو تجلى.

الثالثة: إذا طلعت الشمس كاسفة فعلى المذهب لا يصلى إلا إذا ارتفعت قيد رمح، فإن تجلى قبل أن ترتفع قيد رمح سقطت، وعلى القول الصحيح تصلى مباشرة، فإذا تجلى قبل زوال وقت النهي أتمها خفيفة.

الرابعة: لو لم نعلم بكسوفها إلا حين غروبها فلا نصلي، ونعلل: بأن سلطانها قد ذهب، فنحن الآن في الليل لا في النهار، وهي آية النهار.

(1)

سبق تخريجه (2/ 80).

ص: 192

‌أَوْ طَلَعَتْ والقَمَرُ خَاسِفٌ، أَوْ كَانَتْ آيَةٌ غَيْرَ الزَّلْزَلَةِ لَمْ يُصَلِّ.

قوله: «أو طلعت والقمر خاسف» ، هل يمكن أن تطلع والقمر خاسف؟

الجواب: يمكن، ففي نصف الشهر: يكون القمر في الغرب، والشمس في الشرق فربما يكسف بعدما تطلع الشمس، وهذا شيء قد وقع.

فإذا طلعت والقمر خاسف فإنه لا يصلي؛ لأنه ذهب سلطانه فإن سلطان القمر الليل، كما لو غابت الشمس، وهي كاسفة.

مسألة: لو طلع الفجر وخسف القمر قبل طلوع الشمس هل يصلى؟

الجواب: قد نقول: إن مفهوم قوله: «أو طلعت والقمر خاسف» إنها تصلى، ولكن المشهور من المذهب أنها لا تصلى بعد طلوع الفجر إذا خسف القمر؛ لأنه وقت نهي.

والصحيح: أنها تصلى إن كان القمر لولا الكسوف لأضاء، أما إن كان النهار قد انتشر، ولم يبق إلا القليل على طلوعٍ الشمس فهنا قد ذهب سلطانه، والناس لا ينتفعون به، سواء كان كاسفاً أو مبدراً.

قوله: «أو كانت آية غير الزلزلة لم يصل» ، أي: إذا وُجدت آية تخويف كالصواعق، والرياح الشديدة، وبياض الليل، وسواد النهار، والحمم، وغير ذلك فإنه لا تصلى صلاة الكسوف إلا الزلزلة، فإنه إذا زلزلت الأرض فإنهم يصلون صلاة الكسوف حتى تتوقف. والمراد بالزلزلة: الزلزلة الدائمة.

وهذه المسألة اختلف فيها العلماء على أقوال ثلاثة:

ص: 193

القول الأول: ما مشى عليه المؤلف أنه لا يصلى لأي آية تخويف إلا الزلزلة.

وحجة هؤلاء أن النبي صلى الله عليه وسلم كانت توجد في عهده الرياح العواصف، والأمطار الكثيرة، وغير ذلك مما يكون مخيفاً ولم يصل، وأما الزلزلة فدليلهم في ذلك أنه روي عن عبد الله بن عباس

(1)

، وعلي بن أبي طالب

(2)

رضي الله عنهم: أنهما كانا يصليان للزلزلة، فتكون حجة الصلاة في الزلزلة هي فعل الصحابة.

القول الثاني: أنه لا يصلى إلا للشمس والقمر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «فإذا رأيتموهما فصلوا» ، ولا يصلى لغيرهما من آيات التخويف.

وما يروى عن ابن عباس أو علي فإنه ـ إن صح ـ اجتهاد في مقابلة ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من ترك الصلاة للأشياء المُخيفة.

القول الثالث: يصلى لكل آية تخويف.

واستدلوا بما يلي:

1 ـ عموم العلة وهي قوله صلى الله عليه وسلم: «إنهما آيتان من آيات الله يخوِّف الله بهما عباده» ، قالوا: فكل آية يكون فيها التخويف، فإنه يصلى لها.

ص: 194

2 ـ أن الكربة التي تحصل في بعض الآيات أشد من الكربة التي تحصل في الكسوف.

3 ـ أن ما يروى عن ابن عباس وعلي

(1)

رضي الله عنهم يدل على أنه لا يقتصر في ذلك على الكسوف وأن كل شيء فيه التخويف فإنه يصلى له.

4 ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة»

(2)

، أي: إذا كربه وأهمه؛ وإن كان الحديث ضعيفاً لكنه مقتضى قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة: 45].

وأما ما ذكر من أن النبي صلى الله عليه وسلم كانت توجد في عهده العواصف، وقواصف الرعد، فإن هذا لا يدل على ما قلنا؛ لأنه قد تكون هذه رياحاً معتادة، والشيء المعتاد لا يخوِّفُ وإن كان شديداً، فمثلاً في أيام الصيف اعتاد الناس أن الرياح تهب بشدة وتكثر، ولا يعدُّون هذا شيئاً مخيفاً.

صحيح أنه أحياناً قد توجد صواعق عظيمة متتابعة تخيف الناس، فهل الصواعق التي وقعت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كهذه؟ لا يستطيع أحد أن يثبت أن هناك صواعق في عهد النبي عليه الصلاة والسلام خرجت عن المعتاد، لكن لو وجدت صواعق عظيمة متتابعة، فإن الناس لا شك سيخافون، وفي هذه الحال يفزعون إلى ربهم عز وجل بالصلاة.

وهذا الأخير هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، له قوة عظيمة. وهذا هو الراجح.

(1)

سبق تخريجه ص (194).

(2)

أخرجه الإمام أحمد (5/ 388)؛ وأبو داود (1319).

ص: 195

مسألة: فعلى القول بأنه يصلى لكل آية تخويف، فهل ذلك على سبيل الوجوب كالكسوف؟

الجواب: مقتضى القياس أن ذلك واجب، ولكن لا أظن أن ذلك يكون على سبيل الوجوب.

‌وَإِنْ أَتَى فِي كُلِّ رَكْعَةٍ بِثَلَاثِ رُكُوعَاتٍ، أَوْ أَرْبَعٍ، أَوْ خَمْسٍ جَازَ.

قوله: «وإن أتى» ، أي: المصلي.

قوله: «في كل ركعة بثلاث ركوعات أو أربع أو خمس جاز» ، لأنه ورد عن النبي عليه الصلاة والسلام:«أنه صلى ثلاث ركوعات في ركعة واحدة» ، أخرجه مسلم

(1)

، لكن هذه الرواية شاذة، ووجه شذوذها: أنها مخالفة لما اتفق عليه البخاري ومسلم من أن النبي صلى الله عليه وسلم: «صلى صلاة الكسوف في كل ركعة ركوعان فقط»

(2)

، ومن المعلوم بالاتفاق أن الكسوف لم يقع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يصلِّ له إلا مرة واحدة فقط.

وعلى هذا فالمحفوظ أنه صلّى في كل ركعة ركوعين، وما زاد على ذلك فهو شاذ؛ لأن الثقة مخالف فيها لمن هو أرجح.

ولكن ثبت عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «أنه صلّى في كل ركعة أربع ركوعات»

(3)

، وعلى هذا فيكون من سنّة الخلفاء الراشدين، وهذا ينبني على طول زمن الكسوف، فإذا علمنا أن زمن الكسوف سيطول فلا حرج من أن نصلي ثلاث

(1)

(904)(10) عن جابر رضي الله عنه.

(2)

سبق تخريجه ص (180).

(3)

أخرجه الإمام أحمد (1/ 143)؛ والبيهقي (3/ 330).

ص: 196

ركوعات في كل ركعة، أو أربع ركوعات، كما قال المؤلف، أو خمس ركوعات؛ لأن كل ذلك ورد عن الصحابة رضي الله عنهم وهو يرجع إلى زمن الكسوف إن طال زيدت الركوعات، وإن قصر فالاقتصار على ركوعين أولى.

وإن اقتصر على ركوعين وأطال الصلاة إذا علم أن الكسوف سيطول فهو أولى وأفضل، والكلام في الجواز، أما الأفضل فلا شك أن الأفضل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو أنه يصلي ركوعين في كل ركعة.

مسائل:

الأولى: ما بعد الركوع الأول هل هو ركن أو لا؟

يقول العلماء: إنه سنّة وليس ركناً، وبناء على ذلك لو صلاها كما تصلى صلاة النافلة، في كل ركعة ركوع فلا بأس؛ لأن ما زاد على الركوع الأول سنة.

الثانية: هل تدرك الركعة بالركوع الثاني؟

الجواب: لا تدرك به الركعة، وإنما تدرك الركعة بالركوع الأول، فعلى هذا لو دخل مسبوق مع الإِمام بعد أن رفع رأسه من الركوع الأول فإن هذه الركعة تعتبر قد فاتته فيقضيها.

وقال بعض العلماء: إنه يعتد بها؛ لأنها ركوع.

وفصل آخرون فقالوا: يعتد بها إن أتى الإمام بثلاث ركوعات؛ لأنه إذا أدرك الركوع الثاني وهي ثلاث ركوعات فقد أدرك معظم الركعة فيكون كمن أدركها كلها.

والقول الصحيح الأول، لأن الركوع الأول هو الركن.

الثالثة: لو انتهت الصلاة والكسوف باق، فهل تعاد الصلاة

ص: 197

أو لا؟ وإذا قلنا بالإعادة فهل تعاد كسائر النوافل، أو كصلاة الكسوف؟

والجواب: في هذا ثلاثة أقوال للعلماء:

القول الأول: أنها لا تعاد.

القول الثاني: أنها تعاد على صفتها.

القول الثالث: أنها تعاد على صفة النوافل الأخرى، أي: ركعتين.

فمن نظر لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «فصلوا حتى ينكشف ما بكم» قال: إن المشروع أن تصلى كسائر النوافل؛ لأن الصلاة الأولى انقضت وامتثل بها الأمر.

ومن نظر إلى قوله: «فصلوا وادعوا .. »

(1)

، قال: إن الصلاة حصلت فيبقى الدعاء. وعمل الناس على أنها لا تعاد، وأنا لم يترجح عندي شيء لكني أفعل الثاني، وهو: عدم الإعادة.

الرابعة: يسن النداء لصلاة الكسوف، ويقال:«الصلاة جامعة» مرتين أو ثلاثاً. بحيث يعلم أو يغلب على ظنه أن الناس قد سمعوا.

وإذا قلنا بهذا فإنه يختلف بين الليل والنهار، ففي الليل قد يكون الناس نائمين يحتاجون لتكرار النداء، وفي النهار لا سيما مع هدوء الأصوات يمكن أن يكفيهم النداء مرتين أو ثلاثاً.

ولا ينادى لغيرها من الصلوات بهذه الصيغة؛ لأن الصلوات الخمس ينادى لها بالأذان.

(1)

سبق تخريجه ص (189).

ص: 198

وقال بعض العلماء؛ وهو المذهب: إنه ينادى للاستسقاء، والعيدين «الصلاة جامعة» .

لكن هذا القول ليس بصحيح، ولا يصح قياسهما على الكسوف؛ لوجهين:

الوجه الأول: أن الكسوف يقع بغتة، خصوصاً في الزمن الأول لما كان الناس لا يدرون عنه إلا إذا وقع.

الوجه الثاني: أن الاستسقاء والعيدين لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ينادي لهما؛ وكل شيء وجد سببه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يفعله ففعله بدعة؛ لأنه ليس هناك مانع يمنع الرسول صلى الله عليه وسلم من النداء، ولو كان هذا السبب يشرع له النداء لأمر المنادي أن ينادي لها.

فالصواب: أن العيدين والاستسقاء لا ينادى لهما.

مسألة: تميزت صلاة الكسوف عن بقية الصلوات بأمور هي:

1 ـ زيادة ركوع في كل ركعة على الركوع الأول.

2 ـ أن فيها بعد الركوع قراءة.

3 ـ تطويل القراءة فيها والركوع والسجود.

4 ـ الجهر فيها بالقراءة ليلاً أو نهاراً.

5 ـ يشرع إذا انتهت الصلاة، ولم يتجل الكسوف: الذكر والاستغفار والتكبير والعتق. وهذا فرق خارج عن نفس الصلاة لكنه فرق صحيح.

ص: 199

‌باب صلاة الاستسقاء

‌إِذَا أجْدَبَتِ الأَرْضُ وَقَحَطَ المَطَرُ ..........

قوله: «باب صلاة الاستسقاء» ، من باب إضافة الشيء إلى نوعه، أي: باب الصلاة التي تكون للاستسقاء، وقد يجوز أن تكون من باب إضافة الشيء إلى سببه، أي: الصلاة التي سببها استسقاء الناس.

والاستسقاء: استفعال من سقى وهو: طلب السُقيا، سواء كان من الله، أو من المخلوق، فمن الممكن أن تقول لفلان: اسقني ماء فَيُسَمَّى هذا استسقاء أي طلب سُقيا، ومن الله عز وجل تسأل الله أن يغيثك، هذا طلب سُقيا أيضاً، لكن في عُرف الفقهاء إذا قالوا صلاة الاستسقاء: فإنما يعنون بها استسقاء الرب عز وجل لا استسقاء المخلوق.

وصلاة الاستسقاء لها سبب بيّنه المؤلف بقوله: «إذا أجدبت الأرض وقحط المطر صلوها جماعةً وفرادى» .

قوله: «إذا أجدبت الأرض» أي: خلت من النبات، وضده الإخصاب إذا أخصبت، أي: ظهر نباتها وكثر.

قوله: «وقحط المطر» أي: امتنع، ولم ينزل، ولا شك أنه يكون في ذلك ضرر عظيم على أصحاب المواشي، وعلى الآدميين أيضاً، فلهذا صارت صلاة الاستسقاء في هذه الحال سنة مؤكدة.

ص: 200

قوله: «إذا أجدبت الأرض وقحط المطر» ، ظاهره ولو كان ذلك في غير أرضهم.

وذهب بعض أهل العلم إلى أنه لا يستسقي إلا لأرضه وما حولها مما يتضرر به البلد، أما ما كان بعيداً فإنه لا يضرهم، وإن كان يضر غيرهم، ما لم يأمر به الإمام فتصلى.

والاستسقاء الذي ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم ورد على أوجه متعددة منها:

الأول: «أنه دخل رجل يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب الناس، فقال: يا رسول الله هلكت الأموال، وانقطعت السبل فادع الله يغيثنا، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه، ورفع الناس أيديهم، وقال: اللهم أغثنا ثلاث مرات، وكانت السماء صحواً فأنشأ الله سحابة فرعدت وبرقت وأمطرت، ولم ينزل النبي صلى الله عليه وسلم من المنبر إلا والمطر يتحادر من لحيته»

(1)

.

الثاني: «أنه كان في غزوة ونقص عليهم الماء، فاستغاث الله عز وجل فأنشأ الله مزناً فأمطرت وسقاهم وارتووا» .

الثالث: «دعا الله سبحانه وتعالى بأن يسقيهم فقام أبو لبابة رضي الله عنه وكان فلاحاً ـ فقال: يا رسول الله إن التمر في البيادر» ـ والبيدر ما يجمع فيه التمر لييبس، وكانوا إذا جذُّوا النخل يضعونه في مكان معد لهذا حتى ييبس، ثم يدخلونه في البيوت يسمى «البيدر» ، ويسمى «الجرين» أيضاً ـ فقال

(1)

سبق تخريجه ص (109).

ص: 201

رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم اسقنا حتى يقوم أبو لبابة فيسد ثعلب مربده بإزاره» ، أي: الفجوة التي يدخل منها السيل إلى البستان فأمطرت السماء، وخاف الناس من فساد التمر فجاؤوا إلى أبي لبابة، وقالوا: اذهب إلى مربدك وسده بإزارك ليقف المطر، فذهب فسده بإزاره فوقف المطر

(1)

، فهذا من آيات الله عز وجل، وحينئذٍ سلم الناس من الضرر الكثير الذي يحصل لهم بالمطر في بيادرهم.

وهناك أيضاً صفات أخرى، وليس لازماً أن تكون على الصفة التي وردت عن النبي عليه الصلاة والسلام أي: طلب السُقيا، فللناس أن يستسقوا في صلواتهم، فإذا سجد الإنسان دعا الله، وإذا قام من الليل دعا الله عز وجل.

‌صَلَّوْهَا جَمَاعَةً وَفُرَادَى. وَصِفَتُهَا فِي مَوْضِعِهَا، وَأَحْكَامُهَا كَعِيدٍ. وَإِذَا أَرَادَ الإِْمَامُ الخُرُوجَ لَهَا وَعَظَ النَّاسَ، وَأَمَرَهُمْ بِالتَّوْبَةِ مِنَ الْمَعَاصِي

قوله: «صلوها جماعة وفرادى» ، أي: صلاة الاستسقاء وستأتي صفتها، والأفضل أن تكون جماعة كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم. قوله:«وصفتها في موضعها وأحكامها كعيد» .

وعلى هذا فتسنّ في الصحراء؛ لأن صلاة العيد تسنّ في الصحراء.

ويكبر في الأولى بعد التحريمة والاستفتاح ستاً، وفي الثانية خمساً، ويقرأ بسبّح والغاشية؛ لأن المؤلف قال:«صفتها في موضعها» أي: مكانها «وأحكامها كعيد» .

والدليل على هذا حديث ابن عباس رضي الله عنهما:

(1)

أخرجه الطبراني في «الصغير» (1/ 137 ـ 138).

ص: 202

أن النبي صلى الله عليه وسلم صلاها كما يصلي العيد

(1)

.

ولكنها تخالف العيد في أنها سنّة، والعيد فرض كفاية.

قوله: «وإذا أراد الإمام الخروج لها» ، يحتمل أن يريد به الإمام الذي يصلي بهم صلاة الاستسقاء، ويحتمل أن يراد به الإمام الأعظم وهو السلطان، والمعنى الأول أقرب.

قوله: «وعظ الناس» الموعظة هي: التذكير المقرون بترغيب أو تخويف، فيرغبهم في فعل الواجبات، ويحذّرهم من انتهاك الحرمات.

ولهذا قال: «وأمرهم بالتوبة من المعاصي» التوبة: الرجوع إلى الله عز وجل من معصيته إلى طاعته، وقد ذكر العلماء للتوبة شروطاً يحسن أن نذكرها الآن:

الأول: الإخلاص لله عز وجل بأن يقصد بتوبته إلى ربه رضا ربه، لا أن يتوب أمام الناس رياء وسمعة.

الثاني: أن يندم على ما حصل له من الذنب، وهذا الشرط قال بعض العلماء: إنه لا يمكن تحقيقه؛ لأن الندم انفعال في النفس، والانفعال لا يملكه الإِنسان.

ولكن الصحيح: أنه يمكن أن يملكه؛ لأن معنى الندم إظهار الغم والهم لما أصابه ووقع منه من الذنب، وهذا أمر يمكن أن يقع.

(1)

يأتي تخريجه ص (212).

ص: 203

الثالث: أن يقلع عن المحرم، فإذا كانت التوبة من ترك الزكاة مثلاً، فلا بد أن يخرج الزكاة، وإذا كانت من التهاون بصلاة الجماعة فلا بد أن يصلي مع الجماعة، وإذا كانت من الغيبة فلا بد أن يقلع عن الغيبة، وإذا كانت أخذ مال لا يستحقه فلا بد أن يرده إلى صاحبه، وإذا كانت من ضرب إنسان اعتدى عليه بالضرب فلا بد أن يستحله أو يقول: اضربني كما ضربتك.

الرابع: أن يعزم على ألا يعود فلا يتوب توبة مؤقتة، وهنا نقول: يعزم على ألا يعود، ولا نقول: ألا يعود؛ لأنه لو فرضنا أن الشروط تمت، ثم بعد ذلك عاد فالتوبة الأولى صحيحة.

الخامس: أن تكون التوبة في الزمن الذي تقبل فيه، وذلك بأن تقع قبل الغرغرة، قبل حضور الأجل، فإن لم تقع إلا بعد حضور الأجل فقد قال تعالى:{وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ} [النساء: 18]، وهذا زمن خاص باعتبار كل أحد بنفسه.

وكذلك أيضاً تكون قبل طلوع الشمس من مغربها، وهذا زمن عام، فإن الشمس إذا طلعت من مغربها آمن الناس كلهم، وتابوا ورجعوا لكن {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام: 158].

قد يقول قائل: أين الدليل على أنه إذا أراد الخروج يعظ الناس، أليس النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى المصلى واستسقى

(1)

، فهل ورد أنه وعظهم؟

(1)

يأتي تخريجه ص (216).

ص: 204

والجواب: أنه يعظهم وعظاً عاماً، كما لو صادف أنه يتكلم في خطبة الجمعة فيعظ الناس فهذا طيب، ولا يقال: إنه وعظهم من أجل الاستسقاء، ولكن من أجل خطبة الجمعة والمناسبة.

‌وَالْخُرُوجِ مِنَ الْمَظَالِمِ وَتَرْكِ التَّشَاحُنِ،

........................

قوله: «والخروج من المظالم» ، من باب عطف الخاص على العام؛ وذلك لأن الخروج من المظالم من التوبة.

والمظالم: جمع مظلمة، فتشمل المظلمة في حق الله، والمظلمة في حق العباد.

مثال المظلمة في حق الله: عدم إخراج زكاته، أو عدم إخراج كفارة كانت عليه، فليبادر بإخراج هذا الحق.

مثال المظلمة في حق العباد: لو كان عنده حق لشخص كدراهم، أو منافع أو غيرها، فإنه يخرج منها أيضاً بإيفائه.

فإن كان الحق غير مالي كالغيبة مثلاً، فإنه يخرج منها بأن يذهب إلى من تكلم فيه، ويقول: إني تكلمت فيك فحللني، ولا يخرج من عُهدتها إلا بذلك.

وقال بعض العلماء: إن كان الذي تكلم فيه قد علم فليذهب إليه ويستحله، وإن لم يعلم فلا يذهب إليه، بل يستغفر له، ويذكره بخير في الأماكن التي اغتابه فيها؛ لأنه ربما لو ذهب إليه وطلب أن يحلله تأخذه العزة بالإثم فيأبى؛ لأن بعض الناس لا يهمه أن يأتي إليه أخوه معتذراً، فيأبى أن يسامحه.

وهذا القول هو الصحيح.

فإن قال: أنا لا أحلك إلا إذا أعطيتني عشرة دراهم

ص: 205

فيعطيه؛ لأن هذا حق له حتى لو طلب أكثر يعطيه؛ لأن إعطاءه في الدنيا أهون من إعطائه في الآخرة.

قوله: «وترك التشاحن» أي: يأمر الإِمام الناس أن يتركوا التشاحن فيما بينهم وهو: الشحناء والعداوة، والبغضاء؛ لأن التشاحن سبب لرفع الخير.

ودليل ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم: «خرج ذات يوم ليخبر أصحابه بليلة القدر فتلاحى رجلان من المسلمين فرفعت»

(1)

، أي: رفع العلم بها، أي: أن الرسول عليه الصلاة والسلام أُنسيها من أجل التشاحن.

قال العلماء: فنأخذ من هذا أنه إذا كنا نطلب الخير من الله فلا بد أن ندع التشاحن فيما بيننا.

فإذا قال قائل: كيف يمكن أن يزيل الإنسان ما في قلبه من الحقد أو الغل على أخيه؟

فالجواب: يستطيع الإِنسان أن يتخلص من ذلك بما يلي:

أولاً: أن يذكر ما في بقاء هذه العداوة من المآثم، وفوات الخير حتى إن الأعمال تعرض على الله يوم الاثنين والخميس، فإذا كان بين اثنين شحناء قال:«أَنظِروا هذين حتى يصطلحا»

(2)

، أي: الرب عز وجل لا ينظر في عملك يوم الاثنين والخميس إذا كان بينك وبين أخيك شحناء.

(1)

أخرجه البخاري (2023) عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه.

(2)

أخرجه مسلم (2565) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 206

ثانياً: أن يعلم أن العفو والإصلاح فيه خير كثير للعافي، وأنه لا يزيده ذلك العفو إلا عزاً؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«ما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً»

(1)

.

ثالثاً: أن يعلم أن الشيطان ـ وهو عدوه ـ هو الذي يوقد نار العداوة والشحناء بين المؤمنين؛ لأنه يحزن أن يرى المسلمين متآلفين متحابين ويفرح إذا رآهم متفرقين والعداوة والشحناء بينهم.

فإذا ذكر الإنسان المنافع والمضار فإنه لا بد أن يأخذ ما فيه المصالح والمنافع، ويدع ما فيه المضار والمفاسد.

فعليك أن تجاهد نفسك ولو أهنتها في الظاهر، فإنك تعزها في الحقيقة؛ لأن من تواضع لله رفعه، وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً.

وجرب تجد أنك إذا فعلت هذا الشيء وعفوت، وأصلحت ما بينك وبين إخوانك تجد أنك تعيش في راحة وطمأنينة وانشراح صدر وسرور قلب، لكن إذا كان في قلبك حقد عليهم أو عداوة فإنك تجد نفسك في غاية ما يكون من الغم والهم، ويأتيك الشيطان بكل احتمالات يحتملها كلامه، أي لو احتمل كلامه الخير والشر قال لك الشيطان: احمله على الشر.

مع أن المشروع أن يحمل الإِنسان كلام إخوانه على الخير ما وجد له محملاً.

فمتى وجدت محملاً للخير فاحمله على الخير، سواء في الأقوال أو في الأفعال، ولا تحمله على الشر.

(1)

أخرجه مسلم (2588) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 207

وبعض الناس ـ والعياذ بالله ـ يحمل الفعل أو القول على الشر ثم يؤزه الشيطان إلى أن يتجسس على أخيه، ويتابع أخاه، وينظر ماذا فعل؟ وماذا قال؟ فتجده دائماً يحلل أقواله وأفعاله، وليته يحمله على الأحسن، أو على الحسن، ولكن على السيء والأسوء، وذلك بإيحاء الشيطان ـ والعياذ بالله ـ.

والذي يجب على المؤمن إذا رأى من أخيه ما يحتمل الخير أو الشر أن يحمله على الخير ما لم توجد قرائن قوية تمنع حمله على الخير، فهذا شيء آخر، فلو صدر مثل هذا من رجل معروف بالسوء ومعروف بالفساد فلا بأس أن تحمله على ما يحتمله كلامه، أما رجل مستور ولم يعلم عنه الشر، فإذا وجد في كلامه، أو في فعاله ما يحتمل الخير والشر فاحمله على الخير حتى تستريح.

وربما يصاب هذا الرجل الذي يتبع عورات الناس وأخطاءهم القولية والفعلية بأن يسلط الله عليه من يتابعه هو بنفسه، ومن تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته فضحه ولو في جوف بيته.

‌وَالصِّيَامِ وَالصَّدَقَةِ،

........................................

قوله: «والصيام» ، أي: يأمرهم أن يصوموا.

قال بعض العلماء: يأمرهم أن يصوموا ثلاثة أيام، ويخرج في اليوم الثالث.

وقال بعضهم: يجعل الاستسقاء يوم اثنين أو خميس؛ لأن يومي الاثنين والخميس مما يسن صيامهما، فيكون خروج الناس وهم صائمون، والصائم أقرب إلى إجابة الدعوة من المفطر، فإن للصائم دعوة لا ترد، هكذا قال المؤلف رحمه الله.

ص: 208

ولكن في هذا نظر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حين خرج إلى الاستسقاء لم يأمر أصحابه أن يصوموا.

أما ما ذكره المؤلف أولاً من التوبة من المعاصي، والخروج من المظالم فهذه مناسبة، لكن الصيام طاعة تحتاج إلى إثباتها بدليل، وإذا كان الأمر قد وقع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يأمر أصحابه بالصيام، فلا وجه للأمر به.

لكن نقول: لو اختار يوم الاثنين ـ ولم يجعله سنة راتبة دائماً من أجل أن يصادف صيام بعض الناس، لو قيل بهذا لم يكن فيه بأس.

لكن كوننا نجعله سنة راتبة لا يكون الاستسقاء إلا في يوم الاثنين، أو نأمر الناس بالصوم، فهذا فيه نظر.

قوله: «والصدقة» أي: ويأمرهم أيضاً بالصدقة، والصدقة قد يقال: إنها مناسبة؛ لأن الصدقة إحسان إلى الغير، والإحسان سبب للرحمة لقول الله تعالى:{إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56]، والغيث رحمة لقول الله تعالى:{وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ} [الشورى: 28].

والصدقة هنا ليست الصدقة الواجبة، بل المستحبة، أما الصدقة الواجبة فإن منعها سبب لمنع القطر من السماء كما قال النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث المروي عنه:«وما منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء»

(1)

.

(1)

أخرجه ابن ماجه (4019) عن ابن عمر رضي الله عنهما. وقال في «الزوائد» : «هذا حديث صالح للعمل به، وقد اختلف في ابن أبي مالك وأبيه» .

ص: 209

‌وَيَعِدُهُمْ يَوْماً يَخْرُجُونَ فِيهِ، وَيَتَنَظَّفُ، وَلَا يَتَطَيَّبُ، وَيَخْرُجُ مُتَوَاضِعاً، مُتَخَشِّعاً، مُتَذَلِّلاً، مُتَضَرِّعاً .............................

قوله: «ويعدهم يوماً يخرجون فيه» ضمير الفاعل يعود على الإمام وضمير المفعول «هم» يعود على الناس. أي: يقول: سنخرج في يوم كذا، ويحسن أيضاً أن يعيِّن الزمن من هذا اليوم فيقول: في ساعة كذا؛ ليتأهبوا على وجه ليس فيه ضرر عليهم؛ لأن الناس ربما لو خرجوا مبكرين، وتأخر الإِمام حصل عليهم أذية من البرد إن كانوا في زمن شتاء صارم.

قوله: «ويتنظف، ولا يتطيب» ، إذا قال العلماء:«يتنظف» فالمراد إزالة ما ينبغي إزالته شرعاً أو طبعاً.

فإزالة ما ينبغي إزالته شرعاً مثل: الأظفار، والعانة، والإِبط، وما ينبغي إزالته طبعاً مثل: العرق، والروائح الكريهة.

وإنما قالوا: إنه يستحب أن يتنظف؛ لأن هذا مكان اجتماع عام، وإذا كان الناس فيهم الرائحة المؤذية، فإن هذا يؤذي بعض الحاضرين، فلهذا استحبوا أن يتنظف، ولكن لا يتطيب.

وهذا يمكن أن تجعله لغزاً فتقول:

ما الصلاة التي لا ينبغي للإِنسان أن يتطيب لها؟

الجواب: هي صلاة الاستسقاء؛ لأن صلاة الجمعة يستحب لها الطيب، وغيرها لا يؤمر به، ولا ينهى عنه.

والاستسقاء لا يتطيب لها، وعللوا ذلك: بأنه يوم استكانة وخضوع، والطيب يشرح النفس، ويجعلها تنبسط أكثر، والمطلوب في هذا اليوم الاستكانة والخضوع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خرج «متخشعاً متذللاً متضرعاً»

(1)

.

(1)

يأتي تخريجه ص (212).

ص: 210

وهذا أيضاً مما في النفس منه شيء؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعجبه الطيب، وكان يحب الطيب، ولا يمنع إذا تطيب الإنسان أن يكون متخشعاً مستكيناً لله عز وجل، ولهذا لو أراد الإِنسان أن يدعو الله بغير هذه الحال، لا نقول: الأفضل ألا تطيب من أجل أن تكون مستكيناً لله.

قوله: «ويخرج متواضعاً متخشعاً متذللاً متضرعاً» ، هذه أوصاف تدل على أن الإنسان لا يخرج في فرح وسرور؛ لأن المقام لا يقتضيه.

قوله: «متواضعاً» أي: بقوله، وهيئته، وقلبه.

والتواضع معروف، حتى إنك ترى الرجل وتعرف أنه من المتواضعين، وترى الرجل وتعرف أنه من المتكبرين، فيكون متواضعاً للحق وللخلق.

قوله: «متخشعاً» الخشوع: سكون الأطراف، وأن يكون على وقار وهيبة.

قوله: «متذللاً» من الذل وهو الهوان، بمعنى: أن يضع من نفسه، وهو قريب من التواضع لكنه أشد؛ لأن الإِنسان يُري نفسه أنه ذليل أمام الله عز وجل.

وقوله: «متضرعاً» التضرع يعني الاستكانة، أو شدة الإِنابة إلى الله عز وجل، قال تعالى:{ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55]، أي في شدة اللجوء إلى الله عز وجل، ودليل هذه الأوصاف قول ابن عباس رضي الله عنهما: «خرج

ص: 211

النبي صلى الله عليه وسلم للاستسقاء متذللاً، متواضعاً، متخشعاً، متضرعاً»

(1)

.

‌وَمَعَهُ أَهْلُ الدِّينِ وَالصَّلَاحِ، وَالشُّيُوخُ، وَالصِّبْيَانُ المُمَيِّزُونَ وَإِنْ خَرَجَ أَهْلُ الذِّمَّةِ مُنْفَرِدِينَ عَن المُسْلِمِين لَا بِيَوْمٍ لَمْ يُمْنَعُوا ...........

قوله: «ومعه أهل الدين والصلاح» ، لأن هؤلاء أقرب إلى إجابة الدعوة.

وقوله: «الدين والصلاح» من باب عطف المترادفين؛ لأن كل صاحب دين فهو صاحب صلاح.

قوله: «والشيوخ» ، أي: الكبار الذين أمضوا أعمارهم في الدين والصلاح؛ لأنهم أقرب إلى الإجابة.

قوله: «والصبيان المميزون» أي: الذين لم يبلغوا؛ لأنه لا ذنوب لهم، فيكونون أقرب إلى الإِجابة ممن ملأت الذنوب صحائفهم.

قوله: «المميزون» خرج به الصغار الذين لم يميزوا، فإنهم لا يخرجون؛ لأنه ربما يحصل منهم من الأذية والصياح والبكاء أكثر مما يحصل من المنفعة.

قول المؤلف: «معه» ، ظاهر كلامه أنهم يصحبونه في الممشى؛ لأنه قال:«يخرج ومعه» ، ويحتمل أنه أراد المعية في الصلاة، لا في كونهم يخرجون مصاحبين له في سيره إلى المسجد.

والأقرب: أن المراد بالمعية هنا المعية في الصلاة؛ لأنها هي المقصودة.

(1)

أخرجه الإمام أحمد (1/ 230، 355)؛ وأبو داود (1165)؛ والترمذي (558)؛ والنسائي (3/ 156)؛ وابن ماجه (1266)؛ وابن خزيمة (1405، 1419)؛ وابن حبان (2862) إحسان؛ والحاكم (1/ 326). وقال الترمذي: «حسن صحيح» .

ص: 212

قال في الروض

(1)

: «وأبيح التوسل بالصالحين» ، وهذه عبارة على إطلاقها فيها نظر، ولكنهم يريدون بذلك رحمهم الله: التوسل بدعاء الصالحين؛ لأن دعاء الصالحين أقرب إلى الإجابة من دعاء غير الصالحين.

ودليل هذه المسألة: ما حصل من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين خرج يستسقي ذات يوم فقال: «اللهم إنا كُنَّا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإننا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، ثم قال: قم يا عباس فادع الله فقام فدعا فسقاهم الله»

(2)

.

والتوسل بدعاء الصالحين مقيد بعدم الفتنة؛ بأن يكون دعاؤه سبباً لفتنته هو، أو لفتنة غيره، فإن خيف من ذلك ترك.

وأما التوسل بالصالحين بذواتهم فهذا لا يجوز؛ وذلك لأن التوسل فعل ما يكون وسيلة للشيء، وذات الصالح ليست وسيلة للشيء، فلا علاقة بين الدعاء، وذات الرجل الصالح.

وكذلك لا يجوز التوسل بجاه الصالحين؛ لأن جاه الصالحين إنما ينفع صاحبه، ولا ينفع غيره.

وأقبح من ذلك أن يتوسل بالقبور، فإن هذا قد يؤدي إلى دعاء أهل القبور والشرك الأكبر.

قوله: «وإن خرج أهل الذمة منفردين عن المسلمين لا بيوم لم يمنعوا» ، أهل الذمة هم: الذين بَقُوا في بلادنا، وأعطيناهم العهد

(1)

«الروض مع حاشية ابن قاسم» (2/ 547).

(2)

أخرجه البخاري (1010) عن أنس رضي الله عنه.

ص: 213

والميثاق على حمايتهم ونصرتهم بشرط أن يبذلوا الجزية.

وقد كان هذا موجوداً حين كان الإسلام عزيزاً، أما اليوم فإنه غير موجود، إلا أن يشاء الله وجوده في المستقبل، فإذا طلب أهل الذمة أن يستسقوا بأنفسهم منفردين عن المسلمين بالمكان لا باليوم، فإنه لا بأس به، مثل: أن يقولوا: نحن نخرج شمال البلد، وأنتم إلى جنوب البلد فإننا نمنحهم ذلك، وإن كانت صلاتهم باطلة ودعاؤهم باطلاً، ولكن إذا دعا المضطر ربه عز وجل فإنه يجيب دعاءه، ولو كان مشركاً، ولو علم الله أنه سيشرك بعد النجاة كما قال الله تعالى:{فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ *} [العنكبوت]، فينجيهم الله عز وجل؛ لأنه يجيب دعوة المضطر ولو كان كافراً.

فلا نمنعهم أن ينفردوا عنَّا بمكان، لا أن ينفردوا بيوم، فلو قالوا: نريد أن ننفرد بيوم الأحد، ونحن بيوم الاثنين، أو بالعكس، فإننا لا نوافقهم؛ لأنه ربما ينزل المطر في اليوم الذي استسقوا فيه فيكون في ذلك فتنة، ويقال: هم على حق.

ومثل ذلك أهل البدع، لو أن أهل البدع طلبوا منَّا أن ينفردوا بمكان أُذِن لهم، فإن طلبوا أن ينفردوا بزمان منعناهم؛ لأنه إذا منعنا أهل الذمة مع ظهور كفرهم فمنعنا لأهل البدع من باب أولى.

فلو جاءنا قوم من الصوفية أو الرافضة، وقالوا: نحن نريد أن نستسقي في يوم الاثنين، وأنتم يوم الأحد نقول: لا؛

ص: 214

لأنه لو صادف نزول المطر يوم استسقائهم حصل بذلك مفسدة كبيرة.

فإن قال قائل: هل هذا أمر ممكن، أو أمر فرضي أن ينزل المطر في يوم يستسقي فيه أهل الذمة أو أهل البدع؟

فالجواب: أنه أمر قد يقع.

فإن قال قائل: كيف يقع وفيه فتنة وإغراء بهذا المذهب الباطل، أو هذا الدين الباطل؟

فالجواب: أن ذلك من الفتن التي يفتن الله بها عباده ـ نسأل الله أن يعيذنا وإياكم من الفتن ـ فقد يفتن الله العباد بشيء يكون سبباً في ضلالهم من حيث لا يشعرون، فإن طلب أهل الذمة أن يخرجوا معنا بلا انفراد بالمكان ولا بالزمان فإننا لا نمكنهم؛ لقول الله تعالى:{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ *} [الأنفال].

فإن قيل: كيف نأذن لأهل الذمة بالخروج للاستسقاء، وقد كان اليهود على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكونوا يخرجون للاستسقاء؟

فالجواب: الظاهر أنهم لم يطلبوا الخروج للاستسقاء.

مسألة: هل أهل الذمة كل كافر عقدنا معه الذمة، أو يختص بجنس معين من الكفار؟

الجواب: المذهب: أنه يختص بجنس معين من الكفار، وهم ثلاثة: اليهود، والنصارى، والمجوس.

والصحيح: أنه عام لكل كافر أبى الإِسلام، ورضخ

ص: 215

للجزية، فإننا نعقد معه الذمة؛ لأن حديث بريدة بن الحصيب الذي ثبت في صحيح مسلم ذكر النبي عليه الصلاة والسلام له من جملة ما ذكر:«أنه إذا نزل على أهل حصن وأبوا الإِسلام فإنه يطلب منهم الجزية»

(1)

.

‌فَيُصَلِّي بِهِمْ، ثُمَّ يَخْطُبُ وَاحِدَةً يَفْتَتِحُهَا بِالتَّكْبِيرِ كَخُطْبَةِ الْعِيدِ، وَيُكْثِرُ فِيهَا الاسْتِغْفَارَ،

.........

قوله: «فيصلي بهم، ثم يخطب واحدة» الفاعل الإِمام، وأفادنا أن الخطبة تكون بعد الصلاة كالعيد، ولكن قد ثبتت السنة أن الخطبة تكون قبل الصلاة

(2)

، كما جاءت السنة بأنها تكون بعد الصلاة

(3)

.

وعلى هذا فتكون خطبة الاستسقاء قبل الصلاة، وبعدها ولكن إذا خطب قبل الصلاة لا يخطب بعدها، فلا يجمع بين الأمرين، فإما أن يخطب قبل، وإما أن يخطب بعد.

ومن هنا خالفت صلاة الاستسقاء صلاة العيد في أمور منها:

(1)

أخرجه مسلم (1731).

(2)

كما في حديث عائشة رضي الله عنها، وفيه قالت: «فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بدا حاجب الشمس، فقعد على المنبر فكبّر وحمد الله عز وجل ثم قال: إنكم شكوتم جدب دياركم

ونزل فصلّى ركعتين

».

أخرجه أبو داود (1173)؛ وابن حبان (2860) إحسان؛ والحاكم (1/ 328)؛ والبيهقي (3/ 349). وقال أبو داود: «هذا حديث غريب إسناده جيد» ، وصححه الحاكم على شرطهما، ووافقه الذهبي.

(3)

كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: «خرج نبي الله يستسقي فصلّى بنا ركعتين بلا أذان ولا إقامة ثم خطبنا، ودعا الله عز وجل» .

أخرجه الإمام أحمد (2/ 326)؛ وابن ماجه (1268)؛ والبيهقي (3/ 347)، وقال البوصيري في «زوائد ابن ماجه»:«إسناده صحيح» .

ص: 216

أولاً: أنه يخطب في العيد خطبتين على المذهب، وأما الاستسقاء فيخطب لها خطبة واحدة.

ثانياً: أنه في صلاة الاستسقاء تجوز الخطبة قبل الصلاة وبعدها، وأما في صلاة العيد فتكون بعد الصلاة.

ثالثاً: أنه في صلاة العيد تُبَيَّنُ أحكام العيدين، وفي الاستسقاء يكثر من الاستغفار، والدعاء بطلب الغيث.

قوله: «يفتتحها بالتكبير كخطبة العيد» سبق أن خطبة العيد يفتتحها بالتكبير على المشهور من المذهب، وأن في المسألة خلافاً، فمن العلماء من قال: يفتتحها بالحمد، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل في جميع خطبه وهكذا في خطبة الاستسقاء.

بل لو قال قائل: إن خطبة الاستسقاء تُبدأ بالحمد بخلاف خطبة العيد لكان متوجهاً؛ لأن خطبة العيد تأتي في الوقت الذي أُمرنا فيه بكثرة التكبير.

قوله: «ويكثر فيها الاستغفار» الاستغفار هو: طلب المغفرة، فيقول: اللهم اغفر لنا، اللهم إننا نستغفرك، وما أشبه ذلك.

والمغفرة هي: ستر الذنب، والعفو عنه. أي: أن يستر الله الذنب ويعفو عنه، فلا يؤاخذك به، مأخوذة من المِغْفَر، وهو الذي يضعه المقاتل على رأسه اتقاء السهام لئلا تصيبه.

ومعلوم أن المغفر يحصل به أمران: الستر، والوقاية.

ص: 217

‌وَقِرَاءَةَ الآيَاتِ الَّتِي فِيهَا الأَْمْرُ بِهِ، وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ، فَيَدْعُو بِدُعَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

قوله: «وقراءة الآيات التي فيها الأمر به» أي: مثل قوله تعالى: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} [نوح: 10]، {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} [هود: 3]، {فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} [هود: 61]، وغير ذلك من الآيات التي يستحضرها في تلك الساعة.

قوله: «ويرفع يديه، فيدعو بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم» ، أي: يرفع الإمام يديه، لحديث أنس بن مالك رضي الله عنه:«لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يرفع يديه في شيء من دعائه إلا في الاستسقاء حتى يرى بياض إبطيه»

(1)

. والمراد: أنه حال الخطبة لا يرفع يديه إلا إذا دعا للاستسقاء، وكذلك المستمعون يرفعون أيديهم؛ لأنه ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم:«لما رفع يديه حين استسقى في خطبة الجمعة رفع الناس أيديهم»

(2)

.

وينبغي في هذا الرفع أن يبالغ فيه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبالغ فيه حتى يُرى بياض إبطيه، ولا يرى البياض إلا مع الرفع الشديد حتى إنه جاء في صحيح مسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم: «جعل ظهورهما نحو السماء»

(3)

.

واختلف العلماء في تأويله:

فقال بعض العلماء: يجعل ظهورهما نحو السماء.

(1)

أخرجه البخاري (1031)؛ ومسلم (2096)(7).

(2)

أخرجه البخاري (1029) عن أنس رضي الله تعالى عنه.

(3)

أخرجه مسلم (896) عن أنس رضي الله عنه.

ص: 218

وقال بعض العلماء: بل رفعهما رفعاً شديداً حتى كان الرائي يرى ظهورهما نحو السماء؛ لأنه إذا رفع رفعاً شديداً صارت ظهورهما نحو السماء.

وهذا هو الأقرب، وهو اختيار شيخ الإِسلام ابن تيمية رحمه الله، وذلك لأن الرافع يديه عند الدعاء يستجدي ويطلب، ومعلوم أن الطلب إنما يكون بباطن الكف لا بظاهره.

‌وَمِنْهُ: «اللَّهُمَّ اسْقِنَا غَيْثاً مُغِيثاً»

............

قوله: «ومنه: اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً» . اللهم اسقنا: بهمزة الوصل من سقى يسقي، وبهمزة القطع من أسقى يسقي، وكلاهما صحيح قال الله تعالى:{وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا} [المرسلات: 27]، وقال تعالى:{وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} [الإنسان: 21]، الآية الثانية من سقى الثلاثي، والأولى من أسقى الرباعي.

والغيث: هو المطر، قال تعالى:{وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا} [الشورى: 28]، وقال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} [لقمان: 34].

ومغيثاً أي: مزيلاً للشدة، وذلك لأن المطر قد ينزل ولا يزيل الشدة، ولهذا جاء في الحديث الصحيح:«ليست السَّنَةُ ألا تمطروا، بل السَّنَة أن تمطروا ولا تنبت الأرض شيئاً»

(1)

.

وهذا يقع، فأحياناً تحصل أمطار كثيرة، ولا تنبت الأرض، وأحياناً تأتي أمطار خفيفة، ويكون الربيع كثيراً.

(1)

أخرجه مسلم (2904) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 219

‌إِلَى آخِرِهِ ............

قوله: «إلى آخره» يعني آخر الدعاء، وذكره في «الروض المربع» فقال:«هنيئاً مريئاً، غدقاً مجللاً، عاماً سَحًّا، طبقاً دائماً، اللهم أسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين» .

الهنيء: ما لا مشقة فيه، وما يفرح الناس به ويستريحون له.

والمريء: ذو العاقبة الحسنى.

والغدق: الكثير، قال تعالى:{وَأَلَّوِِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأََسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا *} [الجن].

والسح: أي: الذي ليس فيه العواصف؛ لأن العواصف مع الأمطار تؤذي وتؤلم، وربما تفسد الجدران، وتهدم البيوت.

عاماً: أي: شاملاً.

طبقاً: أي: واسعاً.

دائماً: أي: مستمراً، ولكن هذا الدوام مشروط بألاَّ يكون فيه ضرر.

مجللاً: أي: مغطياً للأرض، ومنه جلال الناقة الذي يغطى به ظهرها.

اللهم أسقنا الغيث: أي: المطر الذي يكون مغيثاً.

ولا تجعلنا من القانطين: القانط هو: المستبعد لرحمة الله، وهذه حال تعتري الإِنسان، فيستبعد رحمة الله عز وجل؛ لأنه يرى ذنوبه كثيرة، ويرى الفساد منتشراً، فيقول: بعيد أن الله يرحمنا، وهذا خطأ.

ص: 220

قال الله تعالى: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ} [الحجر: 56] فمن عرف حلم الله عز وجل ورحمته، فإنه لا يمكن أن يقنط حتى لو كانت ذنوبه كثيرة، ومعاصيه كبيرة، فإن عفو الله أوسع.

«اللهم سقيا رحمة لا سقيا عذاب، ولا بلاء، ولا هدم، ولا غرق» إلخ

(1)

.

مسألة: يسن على المذهب: أن يقلب رداءه في أثناء الخطبة، ويستقبل القبلة ويدعو.

وقال بعض العلماء: إنما يكون القلب بعد الدعاء؛ تفاؤلاً بأن الله أجاب الدعاء، وأنه سيقلب الحال من الشدة إلى الرخاء.

‌وَإِنْ سُقُوا قَبْلَ خُرُوجِهِمْ شَكَرُوا اللهَ، وَسَأَلُوهُ الْمَزِيدَ مِنْ فَضْلِهِ .........

قوله: «وإن سقوا قبل خروجهم شكروا الله» ، الضمير يعود على الناس، أي: إن سقاهم الله وأنزل المطر قبل أن يخرجوا، فلا حاجة للخروج، ولو خرجوا في هذه الحال لكانوا مبتدعين؛ لأن صلاة الاستسقاء إنما تشرع لطلب السُقيا، فإذا سقوا فلا حاجة لها، ويكون عليهم وظيفة أخرى وهي وظيفة الشكر، فيشكرون الله سبحانه وتعالى على هذه النعمة بقلوبهم وبألسنتهم وبجوارحهم؛ لأن الشكر يتعلق بهذه الأشياء الثلاثة: القلب، واللسان، والجوارح.

(1)

هذا الدعاء الذي أشار إليه الماتن؛ وذكره في الشرح روي مرفوعاً بنحوه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما عزاه السيوطي في «جمع الجوامع» (1/ 385) إلى الطبراني، وذكره الشافعي في «الأم» (1/ 251) عن سالم عن أبيه تعليقاً، فقال: «وروي عن سالم عن أبيه وذكره

». قال ابن حجر في «التلخيص» (2/ 99): «ولم نقف له على إسناد، ولا وصله البيهقي في مصنفاته، بل رواه البيهقي في «المعرفة» من طريق الشافعي، قال: ويروى عن سالم به

».

ص: 221

ـ أما القلب: فأن يوقن الإِنسان بأن هذه النعمة من الله عز وجل تفضل بها.

ـ وأما اللسان: فأن يثني بها على الله، فيقول: الحمد الله الذي سقانا، وما أشبه ذلك من الكلمات.

ـ وأما الجوارح: فأن يقوم بطاعة الله سبحانه وتعالى بفعل أوامره، وترك نواهيه.

ولهذا قال الشاعر:

أفادتكم النعماء مني ثلاثةً

يدي ولساني والضمير المحجبا

قوله: «وسألوه المزيد من فضله» ، أي: سألوا الله أن يزيدهم من فضله، ومن ذلك أن يقولوا:«اللهم اجعله صيباً نافعاً» ، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوله

(1)

.

‌وَيُنَادَى: الصَّلَاة جَامِعةً .............

قوله: «وينادى الصلاة جامعة» ، ينادى لصلاة الاستسقاء إذا حان وقتها: الصلاة جامعة، ويجوز فيها ثلاثة أوجه:

الأول: الصلاةُ جامعةٌ، مبتدأ وخبر.

الثاني: الصلاةَ جامعةً، فالصلاة مفعول لفعل محذوف، وجامعةً حال من الصلاة، أي احضروا الصلاة حال كونها جامعة.

الثالث: الصلاةُ جامعةً، فالصلاة خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هذه الصلاة، وجامعة حال من الصلاة، لكن هذا الوجه أضعفها.

(1)

لحديث عائشة رضي الله عنها «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى المطر قال: صيباً نافعاً» . أخرجه البخاري (1032).

ص: 222

فإذا جاء وقت صلاة الاستسقاء، وارتفعت الشمس قيد رمح يُنادى: الصلاةُ جامعة؛ ليحضر الناس؛ قياساً على صلاة الكسوف.

والمذهب: يرون أنه ينادى للكسوف، والعيد، والاستسقاء.

ولكن ما ذكره الأصحاب في المناداة للعيد، والاستسقاء، ضعيف جداً؛ وذلك لما يلي:

أولاً: أنه خلاف هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فالعيد وقع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن ينادى لها، وصلاة الاستسقاء كذلك لم يكن ينادى لها، وقد ذكرنا قاعدة فيما سبق:(أن كل شيء وجد سببه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يشرع له شيء من العبادات فشرع شيء من العبادات، من أجله يكون بدعة)، لأننا يلزمنا الوقوف عند الشرع، عند أسبابه، وعند جنسه، وهيئته.

ثانياً: أن إلحاق ذلك بصلاة الكسوف غير صحيح أيضاً، أي: أنه يمتنع القياس؛ لأن صلاة الكسوف تأتي على غير تأهب بغتة، وصلاة العيد معلومة من قبل، والناس يتأهبون لها، وكذلك الاستسقاء، وقد سبق في كلام المؤلف أنه قال:«إن الإمام يعدهم يوماً يخرجون فيه» ، فالصلاة معلومة الوقت.

ولو قال قائل: إننا اليوم نعلم بالكسوف متى يحصل ابتداء وانتهاء، وفي أي وقت من نهار أو ليل؟

فنقول: حتى في هذه الحال ينادى الصلاة جامعة؛ لأن الحسّابين قد يخطئون، ونحن قد علقت الصلاة منّا بوجود الكسوف لا بالعلم به، قال صلى الله عليه وسلم:«إذا رأيتموهما فصلوا وادعوا»

(1)

.

(1)

سبق تخريجه ص (180).

ص: 223

فالنداء لصلاة الاستسقاء والعيد لا يصح أثراً ولا نظراً، وأما أثراً؛ فلعدم وروده مع وجود سببه في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وأما نظراً؛ فلوجود الفرق بين الأصل والفرع.

‌وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِهَا إِذْنُ الإِْمَامِ. وَيُسَنُّ أَنْ يَقِفَ فِي أَوَّلِ المَطَرِ، وَإِخْرَاجُ رَحْلِهِ وَثِيَابِهِ لِيُصِيبَهُمَا المَطَرُ ...........

قوله: «وليس من شرطها إذن الإِمام» ، أي: ليس من شرط إقامتها أن يأذن الإِمام بذلك، بل إذا قحط المطر وأجدبت الأرض خرج الناس وصلوا، ولو صلى كل بلد وحده لم يخرجوا عن السنة.

بل لو وجد السبب، وقال الإِمام: لا تصلوا، فإن في منعه إياهم نظراً؛ لأنه وجد السبب فلا ينبغي أن يمنعهم، ولكن حسب العُرف عندنا لا تقام صلاة الاستسقاء إلا بإذن الإِمام.

اللهم إلا أن يكون قوم من البادية بعيدون عن المدن ولا يتقيدون، فهنا ربما يقيمونها، وإن كان أهل البلد لم يقيموها.

قوله: «ويسن أن يقف في أول المطر» ، السنة في اصطلاح الفقهاء: هي ما يثاب فاعله امتثالاً، ولا يعاقب تاركه.

قوله: «أن يقف» ، أي: أن يقف قائماً أول ما ينزل المطر.

قوله: «وإخراج رحله وثيابه ليصيبهما المطر» ، أي: متاعه الذي في بيته، أو في خيمته إن كان في البر، وكذلك ثيابه يخرجها؛ لأن هذا روي عن ابن عباس رضي الله عنهما

(1)

.

والثابت من سنّة النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه إذا نزل المطر حسر ثوبه»

(2)

،

(1)

أخرجه الشافعي في «الأم» (1/ 152).

(2)

أخرجه مسلم (898) عن أنس رضي الله عنه.

ص: 224

أي: رفعه حتى يصيب المطر بدنه، ويقول:«إنه كان حديث عهد بربه»

(1)

.

وهذه السنّة ثابتة في الصحيح، وعليه فيقوم الإِنسان ويخرج شيئاً من بدنه إما من ساقه، أو من ذراعه، أو من رأسه حتى يصيبه المطر اتباعاً لسنّة النبي صلى الله عليه وسلم وقوله في الحديث:«إنه كان حديث عهد بربه» ، لأن الله خلقه الآن، فهو حديث عهد بخلق الله.

وهل يقال: إن هذا التعليل يتعدى لغيره مما يُحدثه الله عز وجل، أو نقول: إن هذا تعليل بعلة قاصرة على معلولها؟

الجواب: أن نقول: إن هذه علة قاصرة على معلولها، ولهذا لا يمكن أن نقول للإنسان: إنه ينبغي أن يصيب من بدنه ما ولد من حيوان أو نحوه مما هو حديث عهد بالله.

ويستفاد من قوله: «إنه كان حديث عهد بربه» ، ثبوت الأفعال الاختيارية لله عز وجل التي تقع بمشيئته، خلافاً لمن أنكر ذلك، فإن إنكاره عن جهل، وليس عن علم؛ فالرب عز وجل تقوم به الأفعال الاختيارية، ويفعل ما يشاء في أي وقت شاء.

‌وَإِذَا زَادَتِ المِيَاهُ، وَخِيفَ مِنْهَا سُنَّ أَنْ يَقُولَ: «اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا، وَلَا عَلَيْنَا،

...........

قوله: «وإذا زادت المياه وخيف منها سنّ أن يقول: اللهم حوالينا ولا علينا» ، أي: إذا زادت مياه السماء أي: الأمطار، ومثل ذلك لو زادت مياه الأنهار على وجه يُخشى منه، فإنه يسنّ أن يقول هذا الذكر:«اللهم حوالينا ولا علينا» .

(1)

أخرجه مسلم (898) عن أنس رضي الله عنه.

ص: 225

ودليل ذلك: ما ثبت في الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه «أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب الناس يوم الجمعة، فقال: يا رسول الله، هلك المال، وتهدم البناء، فادع الله يمسكها عنا ـ فلم يدع الله بإمساكها، ولكنه دعا الله بإبقائها على وجه لا يضر ـ فقال: اللهم حوالينا ولا علينا

إلخ»

(1)

.

وقوله: «اللهم» ، هذه منادى حذفت منها ياء النداء، وعوض عنها الميم، ولم تجعل الميم في أول الكلمة تيمناً بالبداءة باسم الله، وجُعلت في آخرها ميمٌ؛ لأن الميم تدل على الجمع، فكأن الداعي جمع قلبه على الله عز وجل.

وقوله: «حوالينا» أي: أنزله حوالينا، أي: حوالي المدينة.

وحوالي هنا: ملحق بالمثنى؛ لأنه نُصب بالياء بدلاً عن الفتحة حيث إنه لا يدل على اثنين، بل على واحد أي: حولنا.

وقوله: «ولا علينا» ، أي: ولا على المدينة التي خيف أن تتهدم من كثرة الأمطار.

‌اللَّهُمَّ عَلَى الظِّرَاب وَالآكَامِ، وَبُطُونِ الأَوْدِيَةِ، وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ، رَبَّنَا لَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ»، الآيَة.

قوله: «اللهمّ على الظراب» هي الروابي الصغار، أي: الأماكن المرتفعة من الأرض، لكن ليس ارتفاعاً شاهقاً؛ وذلك لأن المرتفع من الأرض يكون فيه النبات أسرع نمواً لأنه مرتفع قد تبين للشمس والهواء فيكون أحسن.

(1)

سبق تخريجه ص (109).

ص: 226

قوله: «والآكام» الجبال الصغيرة، ولهذا يقال: أكمة للجبل الصغير.

قوله: «وبطون الأودية» أي: داخل الأودية، أي: الشعاب؛ لأن بطون الأودية إذا أمطرت سالت، ونبتت فيها أشجار كبيرة نافعة.

قوله: «ومنابت الشجر» ، هذا عام يعم كل أرض تكون منبتاً للشجر.

فإذا قال قائل: هذه الدعوات هل شملت الأرض كلها؟

فالجواب: لم تشمل الأرض كلها، فخرج منها رؤوس الجبال العالية؛ لأنها ليست آكاماً، ولا ظراباً، وخرج منها الأرض القاحلة السبخة التي لا تنبت؛ لأنها ليست من منابت الشجر، ولا من بطون الأودية، فالنبي صلى الله عليه وسلم دعا الله عز وجل أن يكون نزول المطر على أراضٍ نافعة وهي هذه الأنواع الأربعة: الظراب، والآكام، وبطون الأودية، ومنابت الشجر.

قوله: «ربنا لا تحمِّلنا ما لا طاقة لنا به» ، هذه لم ترد عن النبي صلى الله عليه وسلم لكنها مناسبة.

فإذا قالها الإِنسان لا على سبيل السنية فلا بأس، أما إذا قالها على أنها سنة فلا.

وهنا قال المؤلف: «ربنا لا تحمِّلنا» . وفي الآية: {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا} ، و «الواو» إنما حذفها المؤلف؛ لأنها في الآية حرف عطف على ما سبق، وهنا لم يسبقها شيء تعطف عليه،

ص: 227

فلهذا حذف الواو، فقال:«ربنا لا تحملنا ما لا طاقة لنا به» .

قوله: «الآية» ، أي: إلى آخر الآية، أي: أكمل الآية.

وإكمال الآية: {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا} [البقرة:286] أربع دعوات:

{رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} ، وهذا من باب التخلية.

{وَاعْفُ عَنَّا} ، كذلك من باب التخلية.

{وَاغْفِرْ لَنَا} ، كذلك من باب التخلية.

{وَارْحَمْنَا} ، من باب التحلية أي: من باب إيجاد الشيء.

فهذه الدعوات كلها دعوات مفيدة مناسبة، لكن بشرط ألا يتخذها الإِنسان على أنها سنة.

ذكر في الروض مسألة مفيدة قال: «يحرم أن يقول: مطرنا بنوء كذا، ويباح في نوء كذا، وإضافة المطر إلى النوء دون الله كفر إجماعاً، قاله في المبدع» .

النوء: هو النجم، أي: مطرنا مثلاً بالنجم الفلاني، بنجم الشولة، أو بنجم النعائم، أو بنجم سعد الذابح، أو بنجم سعد بلع، أو سعد السعود، وما أشبه ذلك.

ودليله: ما ثبت في الصحيح من حديث زيد بن خالد الجهني «أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في الحديبية على إثر سماء كانت من الليل ـ أي: مطر نزل في الليل ـ فلما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم من صلاة الصبح قال لهم: هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال:

ص: 228

مطرنا بنوء كذا وكذا، فهو كافر بي مؤمن بالكوكب»

(1)

.

وهذا نص صريح في أن من قال: مطرنا بنوء كذا فهو كافر، ولهذا حكى في المبدع إجماع أهل العلم على ذلك

(2)

.

إذاً قول الإِنسان: مطرنا بنوء كذا محرم، بل هو من كبائر الذنوب، وهل يكون كفراً أكبر مخرجاً عن الملة؟

الجواب: أنه بحسب عقيدة القائل، إن كان يعتقد أن النوء هو الذي خلق هذا المطر، فهو كافر كفراً مخرجاً عن الملة؛ لأنه ادَّعى أَنَّ مع الله خالقاً، وإن كان يعتقد أن النوء سبب فإنه كافر كفراً دون كفر.

وإنما كان كافراً فيما إذا اعتقد أنه سبب؛ لأنه أثبت سبباً لم يثبته الله عز وجل، فإن النجوم ليس لها أثر، وإنما هي أوقات فقط.

مسألة: لو قال: مطرنا في نوء كذا؟

الجواب: هذا جائز؛ لأن في للظرفية، ومن ذلك استعمال العامة عندنا الباء هنا، وهم يريدون الظرفية، يقولون مثلاً: مطرنا بالمربعانية، ومطرنا بالشبط، ومطرنا بالعقارب، العقارب هي: السعود الثلاثة، سعد الذابح، وبلع، والسعود.

فإذا قال: مطرنا بسعد السعود، وهو يقصد في سعد السعود كما هي اللغة العامية عندنا فهنا لا يكون كافراً، والباء قد تأتي بمعنى (في) مثل قوله تعالى:{وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ *} {وَبِاللَّيْلِ} [الصافات: 137، 138]، أي: في الليل.

(1)

أخرجه البخاري (1038)؛ ومسلم (71).

(2)

«المبدع» (2/ 212).

ص: 229

صفحة فارغة

ص: 230

‌كِتَابُ الجَنَائِزِ

ذكر المؤلف رحمه الله «الجنائز» في كتاب «الصلاة» ولم يذكرها في الوصايا والمواريث؛ لأن الصلاة أهم ما يفعل بالميت، وأنفع ما يكون له، حيث إنه يدعى له فيها.

والجنائز: جمع جنازة، وهي بفتح الجيم وكسرها، بمعنى واحد، وقيل: بالفتح اسم للميت، وبالكسر اسم لما يحمل عليه الميت، فإذا قيل: جَنازة أي ميت، وإذا قيل: جِنازة أي نعش.

وهذا تفريق دقيق؛ لأن الفتح يناسب الأعلى، والميت فوق النعش، والكسر يناسب الأسفل والنعش تحت الميت.

وينبغي للإنسان أن يتذكر حاله ونهايته في هذه الدنيا، وليست هذه النهاية نهاية، بل وراءها غاية أعظم منها، وهي الآخرة، فينبغي للإنسان أن يتذكر دائماً الموت لا على أساس الفراق للأحباب والمألوف؛ لأن هذه نظرة قاصرة، ولكن على أساس فراق العمل والحرث للآخرة، فإنه إذا نظر هذه النظرة استعد وزاد في عمل الآخرة، وإذا نظر النظرة الأولى حزن وساءه الأمر، وصار على حد قول الشاعر:

لا طيب للعيش ما دامت منغصة

لذاته بادّكار الموت والهرم

فيكون ذكره على هذا الوجه لا يزداد به إلا تحسراً وتنغيصاً، أما إذا ذكره على الوجه الأول وهو أن يتذكر الموت، ليستعد له ويعمل للآخرة، فهذا لا يزيده حزناً، وإنما يزيده إقبالاً

ص: 231

على الله عز وجل، وإذا أقبل الإِنسان على ربه فإنه يزداد صدره انشراحاً، وقلبه اطمئناناً.

مسائل:

الأولى: هل يُسْأَلُ المريض كيف يصلي وكيف يتطهر، أو نقول: إن هذا من باب التدخل فيما لا يعني؟

الجواب: الذي نرى أنه إن كان المريض من ذوي العلم الذين يعرفون، فلا حاجة أن تذكره؛ لأنه سيحمل تذكيرك إياه على إساءة الظن به، وأما إذا كان من العامة الجُهال فهنا يحسن أن يبين له؛ لأنه قد يخفى عليهم ما يحتاجون من الأحكام وقد عدت مريضاً فسألته عن حاله، فحمد الله وقال: لي شهر ونصف وأنا أجمع وأقصر الصلاة. فمثل هذا يحتاج إلى تنبيه وتعليم؛ لأنه يظن أن القصر مع الجمع، وأن من جمع قصر.

ومما ينبه عليه أيضاً: أنه اشتهر عند العامة أن من لا يستطيع الإيماء بالركوع والسجود فإنه يومئ بأصبعه، وهذا غير صحيح كما سبق بيانه.

الثانية: هل يؤمر المرضى بالتداوي؛ أو يؤمرون بعدم التداوي، أم في ذلك تفصيل؟

الجواب: قال بعض العلماء: ترك التداوي أفضل ولا ينبغي أن يتداوى الإنسان، واستدلوا لذلك بما يلي:

1 ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم «لما مرض وَلَدُّوه أمر بأن يُلَدَّ جميع من

ص: 232

كان حاضراً إلا العباس بن عبد المطلب»

(1)

، قالوا: وهذا دليل على أنه كره فعلهم. واللدود: ما يُلَدُّ به المريض وهو نوع من الدواء.

2 ـ أن أبا بكر رضي الله عنه «لما مرض، وقيل له: ألا ندعو لك الطبيب؟ قال: إن الطبيب قد رآني، فقال: إني أفعل ما أريد» ، وأبو بكر هو خير الأمة بعد نبيها وهو قدوة وإمام.

وقال بعض العلماء: بل يسنّ التداوي لما يلي:

1 ـ أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك.

2 ـ أنه من الأسباب النافعة.

3 ـ أنَّ الإِنسان ينتفع بوقته، ولا سيما المؤمن المغتنم للأوقات، كل ساعة تمر عليه تنفعه.

4 ـ أن المريض يكون ضيق النفس، لا يقوم بما ينبغي أن يقوم به من الطاعات، وإذا عافاه الله انشرح صدره وانبسطت نفسه، وقام بما ينبغي أن يقوم به من العبادات، فيكون الدواء إذاً مراداً لغيره فيسنّ.

وقال بعض العلماء: إذا كان الدواء مما علم أو غلب على الظن نفعه بحسب التجارب فهو أفضل، وإن كان من باب المخاطرة فتركه أفضل.

لأنه إذا كان من باب المخاطرة فقد يحدث فيه ما يضره،

(1)

أخرجه البخاري (5712)؛ ومسلم (2213) عن عائشة رضي الله عنها.

واللدود من الأدوية ما يسقاه المريض في أحد شقي الفم، ولديدا الفم: جانباه.

ص: 233

فيكون الإِنسان هو الذي تسبب لنفسه بما يضره، ولا سيما الأدوية الحاضرة (العقاقير) التي قد تفعل فعلاً مباشراً شديداً على الإِنسان بسبب وصفة الطبيب الخاطئة.

وقال بعض العلماء: إنه يجب التداوي إذا ظُن نفعه.

والصحيح: أنه يجب إذا كان في تركه هلاك، مثل: السرطان الموضعي، فالسرطان الموضعي بإذن الله إذا قطع الموضع الذي فيه السرطان فإنه ينجو منه، لكن إذا ترك انتشر في البدن، وكانت النتيجة هي الهلاك، فهذا يكون دواء معلوم النفع؛ لأنه موضعي يقطع ويزول، وقد خَرَّبَ الخَضِرُ السفينةَ بخرقها لإِنجاء جميعها، فكذلك البدن إذا قطع بعضه من أجل نجاة باقيه كان ذلك واجباً.

وعلى هذا فالأقرب أن يقال ما يلي:

1 ـ أن ما عُلم، أو غلب على الظن نفعه مع احتمال الهلاك بعدمه، فهو واجب.

2 ـ أن ما غلب على الظن نفعه، ولكن ليس هناك هلاك محقق بتركه فهو أفضل.

3 ـ أن ما تساوى فيه الأمران فتركه أفضل؛ لئلا يلقي الإِنسان بنفسه إلى التهلكة من حيث لا يشعر.

الثالثة: التداوي بالمحرم لا يجوز لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك حيث قال: «تداووا ولا تداووا بحرام»

(1)

، ولعموم

(1)

أخرجه أبو داود (3874) عن أبي الدرداء رضي الله عنه.

ص: 234

الأدلة في تحريم المحرم، فهي عامة وليس فيها تفصيل، ولأنه لو كان فيه خير لم يمنع الله العباد منه، بل أحله لهم.

الرابعة: قال في الروض: «ويكره أن يستطب مسلم ذمياً لغير ضرورة، وأن يأخذ منه دواء لم يبيّن له مفرداته المباحة» . أي: يكره أن تذهب إلى ذمي أي: يهودي أو نصراني عقدنا له الذمة لتتداوى عنده؛ لأنه غير مأمون، وإذا كان كذلك فجعل هؤلاء مسؤولين على أطباء مسلمين من باب أولى؛ لأن المسؤول له كلمته، وربما يوجه إلى شيء محرم، أو إلى شيء يضر المسلمين، ولهذا نقول: إن استطباب غير المسلمين لا يجوز إلا بشرطين:

الأول: الحاجة إليهم.

الثاني: الأمن من مكرهم؛ لأن غير المسلمين لا نأمن مكرهم إلا نادراً، ولا سيما في قضية الولادة أي التوليد؛ لأن هؤلاء النصارى في التوليد يحرصون على أن يقتلوا أولاد المسلمين، أو أن يمزعوا أيديهم عند إخراج الطفل في التوليد كما نقل لي بعض الناس، لذلك يجب التحرز منهم وسؤال الله عز وجل أن يرزقنا الاستغناء عنهم؛ لأنهم أعداء للمسلمين فإذا احتاج الناس إليهم وأمنوا منهم فلا بأس، فإن النبي عليه الصلاة والسلام استعمل دليلاً مشركاً يدله على الطريق من مكة إلى المدينة وقت الهجرة، مع أن هذا من أخطر ما يكون، فإن قريشاً كانوا يطلبون النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر رضي الله عنه، ولكن لما أمنه

ص: 235

النبي عليه الصلاة والسلام جعله دليلاً له

(1)

.

الخامسة: اختلفوا في حكم التداوي ببول الغنم، فالمذهب أنه لا يجوز التداوي إلا ببول الإبل، وقيل: يجوز التداوي ببول كل ما يؤكل لحمه، وقيل: لا يجوز التداوي بالبول مطلقاً حتى ببول الإبل؛ لأنه نجس عندهم، وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«أما أحدهما فكان لا يستبرئ من البول»

(2)

، لكن هذا قول ضعيف؛ لأن في بعض ألفاظ الحديث:«فكان لا يستبرئ من بوله» . والتداوي ببول الإبل ثبتت به السنة في قصة العرنيين

(3)

، وقياس ذلك أنه لو ثبت أن في أبوال الغنم فائدة فإنه لا فرق بينهما وبين أبوال الإبل.

‌تُسَنُّ عِيَادَةُ المَرِيضِ ............

قوله: «تسنّ عيادة المريض» ، السنة عند الفقهاء: ما أثيب فاعله، ولم يعاقب تاركه. فهي من الأمور المرغب فيها، وليست من الأمور الواجبة.

وقول المؤلف: «عيادة المريض» ولم يقل: زيارة؛ لأن الزيارة للصحيح، والعيادة للمريض، وكأنه اختير لفظ العيادة للمريض من أجل أن تكرر؛ لأنها مأخوذة من العود، وهو: الرجوع للشيء مرة بعد أخرى، والمرض قد يطول فيحتاج الإِنسان إلى تكرار العيادة.

وقول المؤلف: «عيادة المريض» (أل) هنا للجنس أي: من أصابه جنس المرض، وهي أيضاً باعتبار المريض عامة، فهي

(1)

أخرجه البخاري (2263).

(2)

سبق تخريجه (1/ 133).

(3)

أخرجه البخاري (4192)؛ ومسلم (1671) عن أنس رضي الله عنه.

ص: 236

باعتبار المرض للجنس، وباعتبار المريض الذي أصابه المرض للعموم؛ لأنها اسم محلى بأل، والاسم المحلى بأل يفيد العموم، على أن بعض النحويين يقولون: إن أل اسم موصول؛ لأنه إذا كان اسم فاعل أو اسم مفعول مقروناً بأل فإن أل عندهم بمعنى اسم الموصول.

إذاً عندنا عمومان:

الأول: المرض، لأن (أل) للجنس.

الثاني: المصاب بالمرض.

أما المرض فالمراد من مرض مرضاً يحبسه عن الخروج مع الناس، فأما إذا كان لا يحبسه فإنه لا يحتاج إلى عيادة؛ لأنه يشهد الناس ويشهدونه، إلا إذا علم أن هذا الرجل يخرج إلى السوق أو إلى المسجد بمشقة شديدة، ولم يصادفه حين خروجه، وأنه بعد ذلك يبقى في بيته، فهنا نقول: عيادته مشروعة.

فالمرض بالزكام مرض لا شك، فإن حبس الإِنسان دخل في هذا، وإن لم يحبسه كما هو الغالب الكثير فإنه لا يحتاج إلى عيادة، والمريض بوجع الضرس إن حبس في بيته عدناه، وإن خرج وصار مع الناس لا نعوده، لكن لا مانع أن نسأل عن حاله إذا علمنا أنه مصاب بمرض الضرس، والمريض بوجع العين كذلك ينسحب عليه الحكم، إذا كان المرض قد حبسه فإنه يعاد، وإن كان يخرج مع الناس لا يعاد، لكن يسأل عن حاله.

وأما المصاب بالمرض فإن كان غير مسلم فلا يعاد، إلا إذا

ص: 237

اقتضت المصلحة ذلك بحيث نعوده لنعرض عليه الإِسلام، فهنا تشرع عيادته إما وجوباً وإما استحباباً، وقد ثبت أنه «كان غلام يهوديٌّ يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فمرض فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده، فقعد عند رأسه، فقال له: أسلم فنظر إلى أبيه وهو عنده، فقال: أطع أبا القاسم صلى الله عليه وسلم فأسلم، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: الحمد لله الذي أنقذه من النار»

(1)

.

وأما الفاجر من المسلمين أعني الفاسق بكبيرة من الكبائر أو بصغيرة من الصغائر وأصر عليها، ففيه تفصيل أيضاً، فإذا كنا نعوده من أجل أن نعرض عليه التوبة ونرجو منه التوبة، فعيادته مشروعة إما وجوباً وإما استحباباً، وإلا فإن الأفضل ألا نعوده، وقد يقال: بل عيادته مشروعة ما دام أنه لم يخرج من وصف الإِيمان أو الإِسلام؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «حق المسلم على المسلم خمس»

(2)

، وفي رواية:«ست»

(3)

. وذكر منها عيادة المريض.

وتشمل عيادة المريض القريب والبعيد، أي: القريبَ لك بصلة قرابة، أو مصاهرة، أو مصادقة، والبعيد للعموم؛ لأن هذا حق مسلم على مسلم لا قريب على قريب، ولكن كلما كانت الصلة أقوى كانت العيادة أشد إلحاحاً وطلباً، ومن المعلوم أنه إذا مرض أخوك الشقيق فليس كمرض ابن عمك البعيد، وكذلك إذا

(1)

أخرجه البخاري (1356) عن أنس رضي الله عنه.

(2)

أخرجه البخاري (1240)؛ ومسلم (2162)(4) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

(3)

أخرجه مسلم (2162)(5) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 238

مرض من بينك وبينه مصاهرة أي: صلة بالنكاح فليس كمن ليس بينك وبينه مصاهرة، وكذلك الذي بينك وبينه مصادقة ليس كمن ليس بينك وبينه مصادقة، فالحقوق هذه تختلف باختلاف الناس.

وقوله: «تسنّ» ظاهره أنَّه سنة في حق جميع الناس، ولكن ليس هذا على إطلاقه؛ فإن عيادة المريض إذا تعينت براً أو صلة رحم صارت واجبة لا من أجل المرض، ولكن من أجل القرابة، فلا يمكن أن نقول لشخص مرض أبوه: إن عيادة أبيك سنة، بل واجبة؛ لأنها يتوقف عليها البر، وكذا عيادة الأخ؛ لأن الوجوب ليس لأجل المرض، ولكن من أجل الصلة في القرابة، أما من لا يعد ترك عيادته عقوقاً أو قطيعة فإن المؤلف يقول: إنه سنة.

وقال بعض العلماء: إنه واجب كفائي أي: يجب على المسلمين أن يعودوا مرضاهم، وهذا هو الصحيح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعلها من حق المسلم على المسلم

(1)

، وليس من محاسن الإِسلام أن يمرض الواحد منا ولا يعوده أحد، وكأنَّه مَرِضَ في برية، فلو علمنا أن هذا الرجل لا يعوده أحد فإنه يجب على من علم بحاله وَقَدِرَ أن يعوده.

وعيادةُ المريض مَعَ كونها من أداء الحقوق على المسلم لأخيه ففيها جلب مودة وألفة لا يتصورها إلا من مرض ثم عاده إخوانه، فإنه يجد من المحبة لهؤلاء الذين عادوه شيئاً كثيراً، فتجده يتذوقها، ويتحدث بها كثيراً، ففيها مع الأجر تثبيتُ الألفةِ بين المسلمين.

(1)

سبق تخريجه ص (238).

ص: 239

قوله: «تسنّ عيادة المريض» ولم يبيِّن المؤلف في أي وقت يعاد المريض، ولم يبيّن هل يتحدث عنده، ويتأخر في المقام، أو لا يتحدث، ويتعجل في الانصراف؟

فنقول: عدم ذكرها أحسن، أما بالنسبة للزمن المناسب فيختلف بحسب ما تقتضيه حالة المريض ومصلحته، ولا نقيدها بأنها بكرة أو عشياً كما قيدها بعض العلماء، بل نقول: إن هذه ترجع إلى أحوال الناس، وهي تختلف بحسب حال المريض، فإذا قدرنا أن المريض قد جعل له وقتاً يجلس فيه للناس فليس من المناسب أن نعوده في غير هذا الوقت؛ لأن تخصيصه لزمن يعوده فيه الناس، يدل على أنه لا يرغب في غير هذا، وإلا لجعل الباب مفتوحاً.

وأما بالنسبة لكونه يتأخر عند المريض ويتحدث إليه، أو يعوده ثم ينصرف بسرعة فهذه أيضاً ينبغي ألا تقيد، وإن كان بعض العلماء يقول: الأفضل ألا تتأخر وأن تبادر بالانصراف؛ لأن المريض قد يثقل عليه ذلك، وكذلك أهل المريض ربما يثقل عليهم البقاء عنده؛ لأنهم يحبون أن يأتوا إلى مريضهم.

ولكن الصحيح في ذلك أنه يرجع إلى ما تقتضيه الحال والمصلحة، فقد يكون هذا المريض يحب من يعوده سواء محبة عامة أو محبة خاصة لشخص معين، ويرغب أن يبقى عنده، ويتحدث إليه، ولا سيما إذا أنس بك المريض، ورأيت أنه يحب أن تتحدث إليه، مثل أن يسألك عن أحوال الناس مثلاً، أو عن أشياء يحب أن يطلع عليها، فهنا ينبغي لك أن تمكث عنده، أما

ص: 240

إذا علمت من حاله أنه يرغب ألا تبقى كثيراً، مثل: أن تراه يتململ، وأن صدره ضائق فهنا تخرج ولا تبقى؛ لأنك تعلم أنه لا يريد أن تبقى عنده، والناس يختلفون، لا المرضى ولا العائدون.

ولهذا أنا أرى أن إطلاق المؤلف هذا الإِطلاق بدون تقييد بزمن ولا ببقاء من أحسن ما فعل رحمه الله.

مسألة: الاتصال بالهاتف لا يغني عن العيادة؛ لا سيما مع القرابة، أما إن كان بعيداً يحتاج لسفر فتغني.

‌وَتَذْكِيرُه التَّوْبَةَ، وَالْوَصِيَّةَ ............

قوله: «وتذكيره التوبة والوصية» ، أي: ويسنّ أن يذكره التوبة والوصية، فالتوبة من المعاصي والمظالم، سواء كان ذلك فيما يتعلق بحق الله عز وجل، أو بحقوق العباد، ويؤكد على حقوق العباد، ويبيّن له أنه إن لم يقضها في الدنيا ويتب إلى الله منها في الدنيا، فسوف تؤخذ من حسناته يوم القيامة التي هو أحوج الناس إليها، وأيضاً يذكره بأن الورثة كثير منهم لا يخافون الله ولا يرحمون الميت، فتجدهم يلعبون بالمال، والميت محبوس بدينه؛ من أجل أن يحرص على أداء المظالم قبل أن يموت.

ويذكره أيضاً الوصية، وليس المراد بالوصية ما يفهمه كثير من العامة من أنها الوصية بالعشاء والضحية، كما هو عندنا في نجد، فأكثر الوصايا عندنا هي: أوصى بثلث ماله أو بجزء منه يقدره بعشاء وأضحية، ويستدلون بالحديث الضعيف: «استفرهوا

ص: 241

ضحاياكم فإنها مطاياكم على الصراط»

(1)

، أي: اتخذوا ضحايا فارهة، فإنها مطاياكم، فيقول: أنا أحب أن يكون لي مطية يوم القيامة، فأوصي بالأضحية. وليس هذا هو مراد العلماء.

وأهم شيء أن يوصي بما يجب عليه من حقوق الله وحقوق العباد، فقد يكون عليه زكاة لم يؤدها، وقد يكون عليه حج لم يؤده، وقد يكون عليه كفارة، وقد يكون عليه ديون للناس فيذكر بالوصية بهذا.

ويذكر بوصية التطوع، فيقال: لو أوصيت بشيء من مالك في وجوه الخير تنتفع به، وأحسن ما يوصي به للأقارب غير الوارثين؛ لأن الذي يترجّح عندي: أن الوصية للأقارب غير الوارثين واجبة؛ لأن الله قال: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ *} [البقرة]، وخص الوارث بآيات المواريث، ويبقى ما عداه على الأصل وهو الوجوب.

والصحيح: أن الآية محكمة لا منسوخة، وعلى هذا فيوصي بما شاء، بالخمس مثلاً، فيقول: أنا أوصيت بالخمس يعطي الوصي منه ما يرى لأقاربي غير الوارثين، والباقي لأعمال الخير،

(1)

أخرجه صاحب «مسند الفردوس» (267) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

وفي إسناده يحيى بن عبيد الله بن موهب قال عنه الحافظ ابن حجر في «التلخيص» بعد ذكر الحديث (4/ 138): «يحيى ضعيف جداً» . ونقل عن ابن الصلاح قوله: «هذا الحديث غير معروف ولا ثابت فيما علمناه» . وقال ابن العربي: «ليس في فضل الأضحية حديث صحيح» .

ص: 242

وإذا كان له أقارب غير وارثين فقراء فهم أحق بالخمس كله.

وظاهر كلام المؤلف: يدل على أنه يذكر بذلك، سواء كان المرض مخوفاً أو غير مخوف، وسواء كان المريض يرتاع بذلك أو لا؛ لأن بعض المرضى إذا قلت له: تب إلى الله، واستغفره وانظر إلى المظالم التي عليك فأوصِ، تُدْني إليه الموت وربما يموت؛ لأنه سيقول: هذا رأى فيّ الموت.

وبعض الناس يكون عنده يقين ولا يهتم بهذا الشيء، ويعرف أن الوصية لا تقرب الأجل، وترك الوصية لا يبعد الأجل، وكذلك الأمر بالتوبة.

وقال بعض العلماء: لا يذكره بذلك إلا إذا كان مرضه مخوفاً.

وفصل بعضهم فقال: أما التوبة فيذكره بها مطلقاً، ولو كان المرض غير مخوف؛ لأن التوبة مطلوبة في كل حال، والوصية لا يذكره بها إلا إذا كان المرض مخوفاً.

والذي يظهر لي أنه يذكره مطلقاً ما لم يخف عليه؛ وذلك لأن التوبة مشروعة في كل وقت، والوصية كذلك، قال النبي صلى الله عليه وسلم:«ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلة أو ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده»

(1)

، ولو كان صحيحاً ينبغي له إذا ذكره الوصية أن يبيّن له الوصية المشروعة، التي ليس لها آثار سيئة، بأن يقول: أوص بما أراد الله في الأقارب لغير

(1)

أخرجه البخاري (2738)؛ ومسلم (1627) عن ابن عمر رضي الله عنهما.

ص: 243

الوارثين، على نظر الوصي، ولبناء مساجد، أو شراء كتب، أو ما شابه ذلك، وتكون وصية منجزة لا تتأخر، وكذا إذا عرف من حال المريض أنه متهاون بمظالم الناس، وبما أوجب الله عليه، فينبغي أن يذكره على وجه لا يزعجه؛ لأن المريض ضعفت نفسه.

مثلاً: إذا كان مديناً يحسن أن يقال: كتابة الديون والإِشهاد عليها حسن، والآجال بيد الله، وما أشبه.

ويبيّن له مسألة هامة يهملها كثير من كتّاب الوصايا، فيكتب «وهذه الوصية ناسخة لما قبلها، أو سبقها» ؛ لأننا وجدنا أن بعض الموصين يوصي بوصيتين: وصية سابقة فيها أشياء يطلب تنفيذها، ووصية لاحقة فيها أشياء يطلب تنفيذها، غير الأشياء الأولى، فيحصل بذلك تضارب وارتباك عند الأوصياء، ولهذا ينبغي كلما كتب وصية أن يقول:«وهذه الوصية ناسخة لما سبقها» ؛ حتى لا يرتبك الوصي، وحتى لا يحصل تضارب الوصايا ويرتاح الإنسان، وهذه كلمة لا تضر، وإن كان قد يقول قائل: العبرة بالوصية الأخيرة؛ لأن المتأخر ناسخ، ولكن نقول: إذا أمكن الجمع فلا نسخ، وقد تكون الوصايا في الأولى كثيرة وفي الثانية كثيرة ولا يمكن الجمع بينهما.

ويسن إذا عاد مريضاً أن يرقيه، لا سيما إذا كان المريض يتشوف لذلك.

‌وَإِذَا نُزِلَ بِهِ سُنَّ تَعَاهُدُ بَلِّ حَلْقِهِ بِمَاءٍ أَوْ شَرَابٍ،

............

قوله: «وإذا نزل به» ، أي: نزل به الملك لقبض روحه، والملك الذي يقبض الروح هو ملك واحد يسمى «ملك الموت»

ص: 244

لقوله تعالى: {قُلْ يَتَوفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة: 11]، وتسميته (عزرائيل) لم تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم إنما هي من أخبار بني إسرائيل، ولم يثبت من أسماء الملائكة إلا خمسة أسماء، وهي: جبرائيل، وميكائيل، وإسرافيل، ومالك، ورضوان، فهذه هي الأسماء الثابتة فيمن يتولون أعمال العباد، فأما (منكر ونكير) اللّذان يسألان الميت في قبره، فقد أنكرهما كثير من أهل العلم، ولكن وردت فيهما آثار.

والمهم: أن ملك الموت لا يسمى عزرائيل؛ لأنه لم يثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا من الأمور الغيبية التي يتوقف إثباتها ونفيها على ما ورد به الشرع.

ثم إن ملك الموت له أعوان يعينونه على إخراج الروح من الجسد حتى يوصلوها إلى الحلقوم، فإذا أوصلوها إلى الحلقوم قبضها ملك الموت، وقد أضاف الله تعالى الوفاة إلى نفسه، وإلى رسله أي: الملائكة، وإلى ملك واحد، فقال الله تعالى:{اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر: 42]، وأضافها إلى ملك واحد في قوله تعالى:{قُلْ يَتَوفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة: 11]، وإلى الملائكة في قوله:{حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} [الأنعام: 61]، ولا معارضة بين هذه الآيات، فأضافه الله إلى نفسه؛ لأنه واقع بأمره، وأضافه إلى الملائكة؛ لأنهم أعوان لملك الموت، وأضافه إلى ملك الموت؛ لأنه هو الذي تولى قبضها من البدن.

قوله: «سُنَّ تعاهد بلّ حلقه بماء أو شراب» ، أي: يسن أن

ص: 245

يتعاهد الإِنسان بلَّ حلق المحتضَر بماء أو شراب، ولكن ليس بالماء الكثير؛ لأن الماء الكثير ربما يشرقه ويتضرر به، ولكن بماء قليل نقط تنقط بحلقه، وذلك من أجل أن يسهل عليه النطق بالشهادة؛ لأن المقام مقام رأفة بهذا المريض الذي بين يديك، فاسلك كل طريق يكون به أرفق.

وقول المؤلف: «بماء أو شراب» الماء معروف، والشراب: ما سوى الماء مثل العصير أو شبهه، المهم الشيء الذي يصل إلى حلقه ويبلّه.

‌وَتندَّى شَفَتَاه بِقُطْنَةٍ وَتَلْقِينُهُ لَا إِلهَ إِلاَّ اللهُ مَرَّةً ............

قوله: «وتندّى شفتاه بقطنة» ، أي: أن الحاضر ينبغي له مع تنقيط الماء في حلق المحتضَر أن يندي شفتيه بقطنة؛ لأن الشفة يابسة، والحلق يابس فيحتاجان إلى تندية.

قوله: «وتلقينه لا إله إلا الله مرة» ، أي: تعليمه إياها كما يلقن التلميذ.

وهل يقولها بلفظ الأمر، فيقول: قل: «لا إله إلا الله» أو يقولها بدون لفظ الأمر بأن يذكر الله عنده حتى يسمعه؟

الجواب: ينبغي في هذا أن ينظر إلى حال المريض، فإن كان المريض قوياً يتحمل، أو كان كافراً فإنه يؤمر فيقال: قل: لا إله إلا الله، اختم حياتك بلا إله إلا الله، وما أشبه ذلك.

وإن كان مسلماً ضعيفاً فإنه لا يؤمر، وإنما يذكر الله عنده حتى يسمع فيتذكر، وهذا التفصيل مأخوذ من الأثر، والنظر.

أما الأثر فلأن النبي صلى الله عليه وسلم: «أمر عمه أبا طالب عند وفاته أن

ص: 246

يقول: لا إله إلا الله، قال: يا عم قل: لا إله إلا الله»

(1)

.

وأما النظر: فلأنه إن قالها فهو خير، وإن لم يقلها فهو كافر، فلو فرض أنه ضاق صدره بهذا الأمر ولم يقلها فهو باق على حاله لم يؤثر عليه شيئاً، وكذا إذا كان مسلماً وهو ممن يتحمل فإن أمرناه بها لا يؤثر عليه، وإن كان ضعيفاً فإن أمرناه بها ربما يحصل به رد فعل بحيث يضيق صدره، ويغضب فينكر وهو في حال فِراق الدنيا، فبعض الناس في حال الصحة إذا قلت له قل: لا إله إلا الله، قال: لن أقول: لا إله إلا الله، فعند الغضب يغضب بعض الناس حتى ينسى، فيقول: لا أقول: لا إله إلا الله، فما بالك بهذه الحال؟

قوله: «تلقينه لا إله إلا الله» ولم يقل: محمداً رسول الله؛ لأن هذا هو الذي ورد فيه الحديث: «لقّنوا موتاكم لا إله إلا الله»

(2)

، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:«من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة»

(3)

. فكلمة التوحيد مفتاح الإِسلام، وما يأتي بعدها فهو من مكملاتها وفروعها.

ولو جمع بين الشهادتين؛ فقال: لا إله إلا الله محمد رسول الله، لا يمنع هذا من أن يكون آخر كلامه من الدنيا «لا إله إلا الله» ؛ لأن الشهادة للنبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة تابع لما قبلها ومتممٌ له،

(1)

أخرجه البخاري (1360)؛ ومسلم (24) عن المسيب بن حزن رضي الله عنه.

(2)

أخرجه مسلم (1916) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

(3)

أخرجه أبو داود (3116)؛ والحاكم (1/ 351) عن معاذ بن جبل رضي الله عنه وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.

ص: 247

ولهذا جعلها النبي صلى الله عليه وسلم مع الشهادة لله بالألوهية ركناً واحداً، فلا يعاد تلقينه، وظاهر الأدلة أنه لا يكفي قول المحتضَر: أشهد أن محمداً رسول الله، بل لا بد أن يقول: لا إله إلا الله.

‌وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ثَلَاثٍ إِلاَّ أَنْ يَتَكَلَّمَ بَعْدَهُ، فَيُعِيدُ تَلْقِينَهُ بِرِفْقٍ، وَيَقْرَأُ عِنْدَهُ «يَس»

......

قوله: «ولم يزد على ثلاث» أي: لم يلقنه أكثر من ثلاث؛ لأنه لو زاد على ذلك ضجر؛ لأنه سيقول: لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، ثم يسكت، فلو كرر ربما يتضجر المريض؛ لأنه بحال صعبة لا يدركها إلا من كان على هذه الحال، ولأن من عادة النبي صلى الله عليه وسلم غالباً أنه إذا تكلم تكلم ثلاثاً، وإذا سلم سلم ثلاثاً، وإذا استأذن استأذن ثلاثاً، فالثلاث عدد معتبر في كثير من الأشياء.

قوله: «إلا أن يتكلم بعده فيعيد تلقينه برفق» .

«إلا أن يتكلم» الفاعل المريض المحتضَر، فإذا تكلم بعد أن قال: لا إله إلا الله فإنه يعيد تلقينه، لكن برفق كالأول.

قوله: «فيعيدُ» بالرفع على الاستئناف؛ لأنها لا تصلح للعطف، والاستئناف بالفاء كثير، ومنه قوله تبارك وتعالى:{وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 284].

والمعنى يفسد فيما لو قلنا: «فيعيدَ» بالنصب عطفاً على «يتكلم» ؛ لأن المعنى يكون إلا أن يتكلم فإنه يعيد، وهذا ليس هو المقصود؛ لأن المقصود إلا أن يتكلم فإذا تكلم أعاد تلقينه برفق.

قوله: «ويقرأ عنده {يس *}» ، أي: يقرأ القارئ عند المحتضَر

ص: 248

سورة {يس *} لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «اقرؤوا على موتاكم يس»

(1)

، هذا الحديث مختلف فيه، وفيه مقال، ومن كان عنده هذا الحديث حسناً أخذ به. وقوله عليه الصلاة والسلام:«اقرؤوا على موتاكم» ، أي: من كان في سياق الموت، وسمي ميتاً باعتبار ما يؤول إليه، وتسمية الشيء بما يؤول إليه وارد في اللغة العربية، ومنه قول الرائي ليوسف:{إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف: 36]، وهو لا يعصر خمراً، وإنما يعصر عنباً يكون خمراً.

وقد ذكر بعض العلماء أن من فائدة قراءة يس تسهيل خروج الروح؛ لأن فيها تشويقاً، مثل قوله تعالى:{قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ} [يس: 26]، والتشويق للجنة فيه تسهيل لخروج الروح، ولهذا إذا بُشّر ـ نسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن تبشّر روحه بالجنة ـ إذا بشّر بالجنة سهل عليه، وأحب لقاء الله فأحب الله لقاءه. وفيها:{إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ *هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ *} [يس]، وفي آخرها إثبات قدرة الله عز وجل على إحياء الموتى.

ولكن هل يقرؤها سراً أو جهراً، أو في ذلك تفصيل؟

الجواب: قوله: «اقرؤوا على موتاكم»

(2)

، يقتضي أن تكون

(1)

و

(2)

أخرجه الإمام أحمد (5/ 26، 27)؛ وابن ماجه (1448)؛ وابن حبان (3002) إحسان؛ والحاكم (1/ 565) عن معقل بن يسار رضي الله عنه. قال الدارقطني: «هذا حديث ضعيف الإسناد مجهول المتن ولا يصح في الباب حديث» . وضعفه ابن القطان الفاسي في «بيان الوهم والإيهام» (5/ 49 ـ 50)؛ والنووي في «الأذكار» ص (112). وانظر: «التلخيص» (2/ 104).

ص: 249

قراءتها جهراً، ولا سيما إذا قلنا: إن العلة تشويق الميت لما يسمعه في هذه السورة، ولكن إذا كان يخشى على المريض من الانزعاج، وأنه إذا سمع القارئ يقرأ سورة {يس *} ، أو كان في شك في كون الإِنسان في النزع فلا يرفع صوته بها، وإن كان جازماً، فالإِنسان الذي يكثر حضور المحتضَرين يعرف أنه احتُضِر أو لا، فإذا عرف أنه في سياق الموت فإنه يقرؤها بصوت مرتفع، ولا حرج في هذا، لأن الرجل يُحْتَضَر.

وهذه القراءة لا يكون معها نفث على المحتضَر؛ لأنه لم يرد.

‌وَيُوَجِّهُهُ إِلَى القِبْلَةِ فَإِذَا مَاتَ سُنَّ تَغْمِيضُهُ،

............

قوله: «ويوجّهه إلى القبلة» أي: من حضر الميت يوجّه الميت إلى القبلة، أي: يجعل وجهه نحو القبلة، وذلك أن المحتضَر إما أن يستدبر القبلة، أو يكون رأسه نحو القبلة أو بالعكس، أو يستقبلها، والأخيرة أفضل الأحوال. وهذا يقتضي أن يكون على جنبه الأيمن، أو الأيسر حسب ما هو متيسر؛ لأن المجلس الذي يستقبل فيه الإنسان القبلة هو أفضل المجالس، كما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«أشرف مجالسكم ما استقبلتم به القبلة»

(1)

؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «البيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتاً»

(2)

، وهذا يشمل الميت المحتضر والميت بعد دفنه في

(1)

رواه الطبراني في «الكبير» (10781)؛ والحاكم (4/ 270)؛ والبيهقي (7/ 272) عن ابن عباس. وقال البيهقي: «ولا يثبت في ذلك إسناد» . وقال العقيلي في «الضعفاء» (4/ 341): «ليس لهذا الحديث طريق يثبت» .

وانظر: «مجمع الزوائد» (8/ 59).

(2)

أخرجه أبو داود (2875)؛ والحاكم (1/ 59، 4/ 259)؛ والبيهقي (3/ 408)

عن عمير بن قتادة رضي الله عنه. وقال الحاكم: «قد احتج برواة هذا الحديث غير عبد الحميد بن سنان» . قال الذهبي: «لجهالته، وقد وثقه ابن حبان» .

ص: 250

القبر، وكلا الحديثين ضعيف، لكن يشهد له ما أخرجه الحاكم والبيهقي عن أبي قتادة رضي الله عنه أن البراء بن معرور أوصى عند موته أن يستقبل به القبلة فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال:«أصاب الفطرة»

(1)

. فهذا يشهد للحديثين السابقين، وإلا فإن الذي يظهر من عمل النبي عليه الصلاة والسلام والصحابة أنهم لا يتقصدون أن يوجّه المحتضَر إلى القبلة، ومن ذلك ما حصل للنبي صلى الله عليه وسلم عند موته حيث مات في حجر عائشة، ولم يُذْكر أنها استقبلت به القبلة

(2)

، وإنما هذه الأحاديث، وإن كانت ضعيفة فربما تصل إلى درجة الحسن فتكون مقبولة.

قوله: «فإذا مات سنّ تغميضه» ، كل ما تقدم من الكلام محله قبل الموت، فإذا مات فإنه تشرع في حق الميت أمور:

أولها: تغميض الميت، أي: إذا تحققنا موته، والإِنسان إذا مات شخص بصره، أي: انفتح يتبع روحه أين تذهب، فإذا مات فإنه سوف يشخص بصره، فيسنّ تغميضه، ولذلك دليلان: أثري، ونظري.

أما الأثري: ففعل النبي صلى الله عليه وسلم بأبي سلمة، «فإنه لما دخل على أبي سلمة ورأى بصره قد شخص قال: إن الروح إذا قبض اتبعه البصر، فسمعه من في البيت فضجوا»، أي: علموا أن الرجل قد مات، «فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير، فإن

(1)

أخرجه الحاكم (1/ 353)؛ والبيهقي (3/ 384) عن يحيى بن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.

(2)

أخرجه البخاري (4440)؛ ومسلم (2444) عن عائشة رضي الله عنها.

ص: 251

الملائكة يؤمِّنون على ما تقولون»

(1)

؛ لأنه من عادة الجاهلية أنه عند المصائب يدعون على أنفسهم بالشر، فيقولون: واثبوراه، وانقطاع ظهراه، وما أشبه ذلك من الكلمات المعروفة عندهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأهل أبي سلمة:«لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير، فإن الملائكة يؤمِّنون على ما تقولون» ، وإِنَّ دعاءً تؤمِّن عليه الملائكة لحريٌّ بالإِجابة، ولا سيما في هذه الحال التي يكون فيها الإِنسان مصاباً خاضعاً خاشعاً مفتقراً إلى ربه، عارفاً أنه لا ينجيه من هذه المصيبة إلا الله، فيكون حرياً بالإِجابة، ولهذا سُخِّرت الملائكة لتؤمِّن على دعائه، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم:«اللهم اغفر لأبي سلمة وارفع درجته في المهديين، وافسح له في قبره، ونوّر له فيه، واخلفه في عقبه في الغابرين» ، دعوات عظيمة خير من الدنيا وما فيها، دعا له بهذه الدعوات الخمس، والأخيرة منها علمت، فإن الله تعالى خلفه في عقبه حيث سخر نبيّه صلى الله عليه وسلم أن يتزوج أم سلمة، ويكون أبناء أبي سلمة ربائب لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وما لم نعلمه من المغفرة، ورفع درجته في المهديين، والفسح له في قبره، وتنويره، فإننا نرجو أن يكون كذلك.

وأما النظري: فهو: لدفع تشويه الميت؛ لأنه إذا كان البصر شاخصاً ففيه تشويه، فالذي ينظر إليه يجده مشوهاً، ففي تغميضه إزالة لهذا التشويه.

قال العلماء: وفيه أيضاً حجب الهوام أن تصل إلى حدقة العين، ولكن هذا تعليل بعيد؛ لأن الميت لن يبقى حتى تتسلط

(1)

أخرجه مسلم (920) عن أم سلمة رضي الله عنها.

ص: 252

عليه الهوام؛ ولأنه سيأتي أنه يغطى، فالذباب وشبهه لن يصل إليه، لكن التعليل الأول الذي ذكرناه هو الأولى، وهو: درء التشويه؛ لأن الميت سوف يغسل، وسوف يكشف فإذا كشف وقد حصل له هذا يكون مشوهاً، وربما يتوجّه ما قاله بعض العلماء في منع الهوام من الوصول إلى الحدقة فيما إذا دفن في القبر؛ لأنه إذا بقي البصر منفتحاً ثم برد الميت لا يمكن أن ينضم بعد هذا فيبقى منفتحاً إلى أن يشاء الله.

وينبغي عند التغميض أن يدعو بما دعا به النبي صلى الله عليه وسلم لأبي سلمة فيقول: «اللهم اغفر لفلان، وارفع درجته في المهديين، وافسح له في قبره، ونوّر له فيه، واخلفه في عقبه» كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فيكون هنا سنّة فعلية وسنّة قولية، الفعلية هي: تغميض العينين. والقولية هي: هذا الدعاء.

‌وَشَدُّ لِحْيَيْهِ وَتَلْيِينُ مَفَاصِلِهِ،

............

قوله: «وشد لحييه» ، هذا هو الأمر الثاني مما يفعل بالميت، وهو: شد لحييه، أي: ربطهما، واللحيان: هما العظمان اللذان هما منبت الأسنان فليشدهما بحبل، أو بخيط، أو بلفافة؛ لأنه إذا لم يربطهما فربما ينفتح الفم، فإذا شدهما وبرد الميت بقي مشدوداً.

وهذا ليس فيه دليل أثري فيما أعلم، لكن فيه دليلاً نظرياً: وهو: درء تشويه الميت من وجه.

والوجه الثاني: حفظ باطنه من دخول الهوام عليه، ولو في القبر.

قوله: «وتليين مفاصله» ، هذا هو الأمر الثالث، وهو: تليين

ص: 253

مفاصل الميت، أي: أن يحاول تليينها، والمراد مفاصل اليدين والرجلين، وذلك بأن يرد الذراع إلى العضد، ثم العضد إلى الجنب ثم يردهما.

وكذلك مفاصل الرجلين: بأن يرد الساق إلى الفخذ، ثم الفخذ إلى البطن، ثم يردهما قبل أن يبرد؛ لأنه إذا برد بقي على ما هو عليه وصعب تغسيله، فيكون مشتداً لكن إذا ليّنت المفاصل صارت لينة عند الغسل وعند التكفين وربط الكفن، فسهل على الغاسل والمكفن التغسيل والتكفين، وهذا أيضاً لا أعلم فيه سنّة، لكن دليله نظري.

وهو ما فيه من تليين مفاصل الميت وهذه مصلحة، ولكن يجب أن تليّن برفق، وليس بشدة؛ لأن الميت محل الرفق والرحمة.

‌وَخَلْعُ ثِيَابِهِ، وَسَتْرُهُ بِثَوْبٍ وَوَضْعُ حَدِيدَةٍ عَلَى بَطْنِهِ ..........

قوله: «وخلع ثيابه» ، هذا هو الأمر الرابع؛ وهو: خلع ثياب الميت، ودليل هذا أثري ونظري أيضاً:

أما الأثري: فهو قول الصحابة حين مات النبي صلى الله عليه وسلم: «هل نجرد رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نجرد موتانا»

(1)

، فينبغي أن تخلع ثيابه.

أما النظري: فلأن الثياب لو بقيت لحمي الجسم، وأسرع إليه الفساد، أما إذا جرّد من ثيابه صار أبرد له، ويسجى كما سيأتي بثوب.

ويجب أن يكون الخلع برفق خلافاً لما رأيناه من بعض

(1)

أخرجه الإمام أحمد (6/ 267)؛ وأبو داود (3141)؛ وابن حبان (6627) إحسان؛ والحاكم (3/ 59) عن عائشة رضي الله عنها. وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم.

ص: 254

الناس، تجده ينزع الثياب بشدة، لا سيما في ثياب الشتاء إذا كانت على الميت، فهذا خلاف الرحمة والرفق.

قوله: «وستره بثوب» هذا هو الأمر الخامس، وهو: ستر الميت بثوب؛ أي: ستر الميت بثوب يكون شاملاً للبدن كله.

ودليل ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم «حين توفي سجي ببرد حِبَرة»

(1)

، والبُرد: ثوب يلتحف به يشمل كل الجسد، والحبرة: برود يمانية معروفة في ذلك العهد تأتي من اليمن، ولكنه صلى الله عليه وسلم لم يجرد من ثيابه، بل بقيت ثيابه عليه وستر بثوب

(2)

.

‌وَوَضْعُهُ عَلَى سَرِيرِ غَسْلِهِ مُتَوَجِّهاً مُنْحَدِراً نَحْوَ رِجْلَيْهِ، وَإِسْرَاعُ تَجْهِيزِهِ إِنْ مَاتَ غَيْرَ فَجْأَةٍ ..........

قوله: «ووضع حديدة على بطنه» هذا هو الأمر السادس، وهو وضع حديدة على بطن الميت أي: يسن أيضاً أن يوضع على بطنه حديدة أو نحوها من الأشياء الثقيلة.

واستدلوا على هذا: بأثر فيه نظر، وبنظر فيه عِلة.

أما الأثر: فذكروا عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: «ضعوا على بطنه شيئاً من حديد»

(3)

، وهذا الأثر فيه نظر، ولا أظنه يثبت عن أنس بن مالك رضي الله عنه، والذي يظهر من حال الصحابة أنهم لا يفعلون ذلك.

وأما النظر الذي فيه عِلة فإنهم قالوا: لئلا ينتفخ البطن، إذا وضع عليه حديدة أو نحوها من الأشياء الثقيلة.

ولكن هل هذا يمنع الانتفاخ؟ لا أظنه يمنع؛ لأن الانتفاخ

(1)

أخرجه البخاري (5814)؛ ومسلم (942) عن عائشة رضي الله عنها.

(2)

كما سبق في حديث عائشة رضي الله عنها.

(3)

أخرجه البيهقي (3/ 385).

ص: 255

إذا حصل لا يغني وضع الحديدة شيئاً إلا إن كان سيوضع عليه حديدة وزن الجبل فهذا شيء ثان، أما إذا كانت حديدة مألوفة فإنه إذا انتفخ فإنها سوف ترتفع، ثم إن الزمن ليس طويلاً؛ لأن السنة هي الإِسراع بتجهيز الميت، وفي عصرنا الآن نستغني عن هذا، وهو أن يوضع في ثلاجة إذا احتيج إلى تأخير دفنه، وإذا وضع في الثلاجة فإنه لا ينتفخ، لأنه يبقى بارداً فلا يحصل الانتفاخ في بطنه.

قوله: «ووضعه على سرير غسله متوجهاً منحدراً نحو رجليه» هذا هو الأمر السابع، وهو: وضع الميت على سرير الغسل، أي: ينبغي أن يبادر في رفعه عن الأرض؛ لئلا تأتيه الهوام، ولعل ذكر الفقهاء رحمهم الله لذلك؛ لكثرة الهوام في البيوت في زمانهم فلهذا قالوا: ينبغي أن يبادر فيرفع على سرير الغسل.

والسرير معروف، ويختلف سرير الغسل عند الناس، فمنهم من يكون السرير مختوماً أي: كله ألواح، ومنهم من يكون السرير غير مختوم أي: عبارة عن قطع من الخشب مصفوف بعضها إلى بعض مع الفتحات، كما هو موجود عندنا الآن.

وقوله: «متوجهاً» ، أي: إلى القبلة لأن هذا أفضل، ولا أعلم في هذا دليلاً من السنة.

وقوله: «منحدراً نحو رجليه» أي: يكون رأسه أعلى من رجليه لسببين:

الأول: لئلا يبقى الماء في السرير؛ وهذا لأن الأسرَّة كانت

ص: 256

عندهم فيما سبق ألواحاً مختومة، أما السرير الموجود الآن فليس كذلك.

الثاني: من أجل أن يسهل خروج ما كان مستعداً للخروج من بطنه؛ لأنه إذا كان مرتفعاً نازلاً نحو رجليه، فالذي يكون متهيئاً للخروج يخرج.

وقوله: «متوجهاً، منحدراً نحو رجليه» هذه صفة للوضع على السرير فلا نعدها أموراً مستقلة.

قوله: «وإسراع تجهيزه إن مات غير فجأة» ، هذا هو الأمر الثامن

(1)

، وهو: الإسراع في تجهيز الميت، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«أسرعوا بالجنازة فإن تك صالحة فخير تقدمونها إليه، وإن تك سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم»

(2)

، لكن ظاهره فيما لو كانت محمولة؛ لأن قوله:«فشرٌّ تضعونه عن رقابكم» ظاهر: في أن المراد بذلك الإِسراع بها حين تشييعها. لكن نقول: إذا كان الإِسراع في التشييع مطلوباً مع ما فيه من المشقة على المشيعين، فالإِسراع في التجهيز من باب أولى.

أما حديث: «لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهراني أهله»

(3)

، فهو ضعيف.

وقوله: «إن مات غير فجأة» ، فإن مات فجأة فإنه لا يسن الإِسراع بتجهيزه؛ لاحتمال أن تكون غشية لا موتاً، والمسألة

(1)

وهو آخر ما ذكره المؤلف مما يفعل بالميت.

(2)

أخرجه البخاري (1315)؛ ومسلم (944) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

(3)

أخرجه أبو داود (3159)؛ والبيهقي (3/ 386).

ص: 257

خطيرة؛ لأنه لو كانت غشية ثم جهزناه ودفناه، ولم تكن موتاً صار في ذلك قتلٌ لنفس، فالواجب إن مات فجأة أن ننتظر به.

وهذا الذي ذكره العلماء رحمهم الله قبل أن يتقدم الطب، أما الآن فإنه يمكن أن يحكم عليه أنه مات بسرعة؛ لأن لديهم وسائل قوية تدل على موت المريض. لكن إذا لم يكن هناك وسائل فإن الواجب الانتظار إلى أن نتيقن موته.

قال في الروض: «يعرف موته بانخساف صدغيه، وميل أنفه، وانفصال كفيه، واسترخاء رجليه» ، فهذه أربع علامات:

الأولى: انخساف الصُدْغ؛ لأن اللحيين ينطلقان فإذا انطلقا صار الصدغ منخسفاً.

الثانية: ميل أنفه، فإذا مات يميل الأنف؛ لأن الأنف مستقيم ما دامت الحياة بالإِنسان، ثم إذا مات ارتخى ولان ومال.

الثالثة: انفصال كفيه، أي: عن ذراعه فتنطلق الكف عن الذراع، وتجدها مرتخية.

الرابعة: استرخاء رجليه، فتنفصل الرجل عن الكعب، فترتخي وتميل.

فهذه أربع علامات يعلم بها الموت، وهي علامات حسية بدون آلات، لكن الآن لدى الأطباء آلات تدل على الموت دون هذه العلامات.

ويذكر: أن رجلاً أصيب بغشية فجهَّزوه، وحملوه إلى

ص: 258

المقبرة، فمروا برجل ذي خبرة فقال لهم: ما هذا؟ قالوا: هذه جنازة نريد أن ندفنها، قال: هذا لم يمت أنزلوه، فنزلوه، فأتى بسوط فجعل يضرب هذا الميت حتى تحرك فقالوا: ما الذي حملك على هذا؟ وما الذي أعلمك أنه لم يمت؟ قال: إن الميت تسترخي رجلاه فلا تنتصبان، وهذا الذي حملتم، رجلاه منتصبتان، وأما ضربي إياه بالسوط؛ فلأن الضرب يحمي الجسم، وإذا حمي جسمه زالت عنه البرودة التي هي سبب الغشي، ثم حملوه راجعين به إلى بيته.

فهذا شاهد على ما قاله الفقهاء رحمهم الله أن من علامات الموت استرخاء الرجلين.

فإسراع التجهيز بشرط أن يموت غير فجأة، فإن مات فجأة وجب الانتظار، وبهذا التقرير نعلم خطأ ما يفعله بعض الناس اليوم يؤخرون الميت حتى يأتي أقاربه، وأحياناً يكون أقاربه خارج المملكة في أوربا أو غيرها، فينتظرون به يوماً، أو يوماً وليلة من أجل حضور الأقارب، وهذا في الحقيقة جناية على الميت، فالميت إذا كان من أهل الخير، فإنه يود أن يدفن سريعاً؛ لأنه يبشر بالجنة عند موته ـ نسأل الله أن يجعلنا منهم ـ وإذا خُرِجَ به من بيته تقول نفسه: قدموني تحُثهم أن يوصلوها إلى القبر

(1)

، فإذا

ص: 259

حبسناه عما أعد الله له من النعيم صار في هذا جناية عليه مع مخالفة السنة، وأصبحت الآن الجنازة كأنها حفل عرس ينتظر به القادم حتى يحضر.

أما إذا أخر مثلاً لساعة أو ساعتين أو نحوهما، من أجل كثرة الجمع فلا بأس بذلك، كما لو مات بأول النهار وأخرناه إلى الظهر؛ ليحضر الناس، أو إلى صلاة الجمعة إذا كان في صباح الجمعة؛ ليكثر المصلون عليه، فهذا لا بأس به؛ لأنه تأخير يسير لمصلحة الميت.

فإن قال قائل: كيف نجيب عن فعل الصحابة رضي الله عنهم، حيث لم يدفنوا النبي صلى الله عليه وسلم إلا ليلة الأربعاء مع أنه توفي يوم الاثنين؟

فالجواب عن هذا: أنه من أجل إقامة الخليفة بعده، حتى لا يبقى الناس بلا خليفة، فالإِمام الأول محمد صلى الله عليه وسلم توفي، فلا نواريه بالتراب حتى نقيم خليفة بعده، وهو مما يحثهم على إنجاز إقامة الخليفة، ومن حين ما بويع أبو بكر رضي الله عنه شرعوا في تجهيز النبي صلى الله عليه وسلم ودفنه.

وعلى هذا إذا مات الخليفة، وكان لم يعين من يخلفه فلا حرج أن يؤخر دفنه حتى يقام خليفة بعده.

‌وَإِنْفَاذِ وَصِيَّتِهِ وَيَجِبُ الإِْسْرَاعُ فِي قَضَاءِ دَيْنِهِ .........

قوله: «وإنفاذِ وصيته» ، «إنفاذِ» بالكسر عطفاً على «تجهيز» ، أي: وإسراع إنفاذ وصيته، أما إنفاذ وصيته فهو واجب، لكن إسراع الإِنفاذ إما واجب أو مستحب؛ لأن الوصية إن كانت في واجب فللإِسراع في إبراء ذمته، وإن كانت في تطوع

ص: 260

فلإِسراع الأجر له، والوصية إما واجبة وإما تطوع.

قال أهل العلم: فينبغي أن تنفذ قبل أن يدفن، سبحان الله إذا رأيت هذا الكلام، ورأيت ما يفعله بعض الظلمة من الورثة الذين يؤخرون وفاء الدين عن الميت لمصالحهم الخاصة، فتجد الميت عليه ديون ووراءه عقارات، فيقولون: لا نبيعها؛ بل نوفيه من الأجرة ولو بعد عشر سنين، أو يقولون: الأراضي ـ مثلاً كسدت الآن فننتظر حتى ترتفع قيمتها، وربما ترتفع قيمتها، وربما تنزل، وهذا ظلم ـ والعياذ بالله ـ، وربما يكون هؤلاء من ذرية الميت، فيكون فيه من العقوق ما لا يخفى على أحد؛ لأن الميت يتأثر بالدين الذي عليه إن صح الحديث:«نفس المؤمن معلقة بدَينه حتى يقضى عنه»

(1)

، وإن لم يصح فلا بد أن تتأثر النفس بهذا الدين الذي عليه، فالوصية بالواجب يجب المبادرة بإنفاذها، وبالتطوع يسن، لكن الإِسراع بذلك مطلوب، سواء أكانت واجبة أم مستحبة قبل أن يصلى عليه ويدفن، هذه هي السنة.

قوله: «ويجب الإِسراع في قضاء دينه» ، أي دين الميت، سواء كان هذا الدَّين لله، أو للآدمي.

فالدَّين لله مثل: الزكاة، والكفارة، والنذر، وما أشبه ذلك.

والدَّين للآدمي: كالقرض، وثمن المبيع، والأجرة، وضمان

(1)

أخرجه الإمام أحمد (2/ 440، 475)؛ والترمذي (1079) وحسنه؛ وابن ماجه (2413)؛ وابن حبان (3061) إحسان؛ والحاكم (2/ 26) وصححه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 261

تالف، وغير هذا من حقوق الآدميين فيجب الإِسراع بها بحسب الإمكان، فتأخيرها حرام.

والدليل: أثري ونظري:

أما الأثري: فقول النبي صلى الله عليه وسلم: «نفس المؤمن معلقة بدَينه حتى يقضى عنه» ، فهذا الحديث فيه ضعف، لكن يؤيده حديث أبي قتادة «في الرجل الذي جيء به إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فسأل هل عليه دين؟ قالوا: نعم ديناران، فتأخر ولم يصلِّ عليه، فقال أبو قتادة: الديناران عليَّ يا رسول الله، قال: حقُ الغريم وبرئ منهما الميت؟ قال: نعم، فتقدم فصلى»

(1)

.

وأما الدليل النظري: فلأن الأصل في الواجب المبادرة بفعله ولا يجوز تأخير الواجب إلا إذا اقتضى الدليل تأخيره.

(1)

أخرجه الإمام أحمد (3/ 330)؛ والحاكم (2/ 58) وصححه؛ والبيهقي (6/ 75) عن جابر رضي الله عنه؛ وحسّنه الهيثمي في «المجمع» (3/ 39).

ص: 262

‌فَصْلٌ

‌غَسْلُ المَيِّتِ، وَتَكْفِينُهُ، وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِ، وَدَفْنُهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ ..........

فصل

قوله: «غسل الميت، وتكفينه، والصلاة عليه، ودفنه فرض كفاية» .

هذه أربع مسائل:

الأولى: قوله: «غسل الميت» .

ودليل ذلك:

1 ـ قول النبي صلى الله عليه وسلم في الذي وقصته ناقته يوم عرفة: «اغسلوه بماء وسدر»

(1)

، والأمر في الأصل للوجوب، ومن المعلوم أنه لا يريد من كل واحد من المسلمين أن يغسل هذا الميت، إنما يوجه الخطاب لعموم المسلمين، فإذا قام به بعضهم كفى.

2 ـ قول النبي عليه الصلاة والسلام للنساء اللاتي يغسلن ابنته:

«اغسلنها ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك»

(2)

، والأصل في الأمر الوجوب.

وهذان دليلان أثريان.

أما الدليل النظري:

فلأنَّ هذا من حقوق المسلم على أخيه، بل هو من أعظم الحقوق أن يقدم الإِنسان أخاه إلى ربه على أكمل ما يكون من الطهارة.

والثانية: قوله: «وتكفينه» ، ودليله قوله صلى الله عليه وسلم: «كفنوه في

(1)

أخرجه البخاري (1265)؛ ومسلم (1206) عن ابن عباس رضي الله عنهما.

(2)

أخرجه البخاري (1259)؛ ومسلم (939)(39) عن أم عطية رضي الله عنها.

ص: 263

ثوبيه». وهذا أمر، والأصل في الأمر الوجوب، ومن المعلوم أنه واجب كفاية؛ لأنه لا يمكن أن يؤمر كل واحد من الناس أن يكفن الميت، وإنما المقصود أن يحصل الكفن.

وهذا هو الفرق بين فرض الكفاية وفرض العين، ففرض العين مطلوب من كل واحد، وفرض الكفاية المطلوب فيه وجود الفعل.

الثالثة: قوله: «والصلاة عليه» ، فالصلاة عليه أيضاً فرض كفاية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي على الأموات باستمرار، وكان يقول:«صلوا على صاحبكم»

(1)

، «وأمر أن يصلى على المرأة التي رجمت»

(2)

، وقال الله عز وجل:{وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة: 84]، فلما نهى عن الصلاة على المنافقين دل على أن الصلاة على المؤمنين شريعة قائمة، وهو كذلك.

الرابعة: قوله: «ودفنه فرض كفاية» ، فدفن الميت أيضاً فرض كفاية؛ لأن الله تعالى امتن به على العباد فقال تعالى:{أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا *أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا *} [المرسلات]، فكما أنَّ علينا إيواء المضطر في البيوت، وستره فيها عند الضرورة، فكذلك علينا ستر الميت في قبره.

وكذلك قوله تعالى: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ *} [عبس]، فإن هذا سيق على سبيل المنة؛ لأن الله أكرمه بدفنه، ولم يجعله كسائر الجيف تلقى في المزابل والأسواق والأفنية، بل أكرمه بدفنه وستره.

إذاً هذه الأربع كلها فرض كفاية، وسيأتي إن شاء الله بالتفصيل كيفية التغسيل، وكيفية التكفين، وكيفية الصلاة، وكيفية الدفن.

(1)

أخرجه البخاري (2298)؛ ومسلم (1619)(14) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

أخرجه مسلم (1695)(1696).

ص: 264

واعلم أن كل فرض كفاية إذا قام به من يكفي سقط عن الباقين، فإن لم يوجد إلا واحد صار في حقه فرض عين.

وقول المؤلف: «دفنه فرض كفاية» ، وما يتوقف عليه الدفن فرض كفاية أيضاً، وكذلك ما تتوقف الصلاة عليه فرض كفاية، فحمله من بيته إلى المصلى فرض كفاية، وحمله من المصلى إلى المقبرة فرض كفاية؛ لأن (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب).

فإذا قال قائل: إذا كانت هذه الأشياء تحتاج إلى مال، فمن أين يؤخذ هذا المال، فالغسل ـ مثلاً ـ يحتاج إلى مال، والكفن يحتاج إلى مال، والدفن يحتاج إلى مال، والحمل قد يحتاج إلى مال؟

فالجواب: أنه يكون أولاً من تركة الميت، ثم على من تلزمه نفقته، فإن لم يمكن فعلى عموم المسلمين؛ لأنه فرض كفاية.

‌وَأَوْلَى النَّاسِ بِغَسْلِهِ وَصِيُّهُ،

.......................................

قوله: «وأولى الناس بغسله وصيه» ، أي: لو تنازع الناس فيمن يغسل هذا الميت؟

قلنا: أولى الناس بغسله وصيه، أي: الذي أوصى أن يغسله.

واستفدنا من قول المؤلف: «وصيه» أنه يجوز للميت أن يوصي ألاَّ يغسله إلا فلان، والميت قد يوصي بذلك لسبب، مثل: أن يكون هذا الوصي تقياً يستر ما يراه من مكروه، أو أن يكون عالماً بأحكام الغسل، أو أن يكون رفيقاً؛ لأن بعض الذين يغسلون الأموات يعاملونهم بشدة عند نزع ثيابهم، وكأنما يسلخون جلد شاة مذبوحة ـ نسأل الله العافية ـ، فيوصي لشخص معين، فإذا كان الميت قد أوصى لشخص معين بأن يغسله، فهو أولى الناس بتغسيله، فإن لم يوص فسيذكره المؤلف.

ص: 265

والدليل على استفادة أولوية التغسيل بالوصية: «أن أبا بكر رضي الله عنه أوصى أن تغسله امرأته»

(1)

، «وأوصى أنس بن مالك أن يغسله محمد بن سيرين»

(2)

.

‌ثُمَّ أَبُوهُ، ثُمَّ جَدُّهُ، ثُمَّ الأَْقْرَبُ فَالأَْقْرَبُ مِنْ عَصَبَاتِهِ، ثُمَّ ذَوُو أَرْحَامِهِ،

..........

قوله: «ثم أبوه، ثم جده، ثم الأقرب فالأقرب من عصباته» ، هنا قدموا ولاية الأصول على ولاية الفروع، وفي باب الميراث قدموا الفروع على الأصول، وفي ولاية النكاح قدموا الأصول على الفروع؛ فلو كان للشخص الميت أب وابن ولم يوص أن يغسله أحد، فالأولى الأب لما يلي:

أولاً: أن الأب أشد شفقة وحنواً على ابنه من الابن على أبيه.

ثانياً: أن الأب في الغالب يكون أعلم بهذه الأمور من الابن لصغره، مع أنه قد يكون بالعكس، فقد يكون ابن الميت طالب علم وأبوه جاهلاً.

وقوله: «ثم جده» ، أي: من قبل الأب.

وقوله: «ثم الأقرب فالأقرب من عصباته» ، أي: بعد الأب والجد الأبناء، وإن نزلوا، ثم الإِخوة وإن نزلوا، ثم الأعمام وإن نزلوا، ثم الولاء على هذا الترتيب، ومن المعلوم أن مثل هذا الترتيب إنما نحتاج إليه عند المشاحة، فأما عند عدم المشاحة كما هو الواقع في عصرنا اليوم، فإنه يتولى غسله من يتولى غسل عامة الناس، وهذا هو المعمول به الآن، فتجد الميت يموت وهناك أناس مستعدون لتغسيله، فيذهب إليهم فيغسلونه.

(1)

أخرجه عبد الرزاق (6117، 6124)؛ وابن أبي شيبة (3/ 249)؛ والبيهقي (3/ 397).

(2)

أخرجه ابن سعد في «الطبقات» (7/ 25).

ص: 266

قوله: «ثم ذوو أرحامه» ، أي: أصحاب الرحم.

وهم: كل قريب ليس بذي فرض ولا عصبة، فأب الأم مثلاً من ذوي الأرحام، وأم الأب ليست من ذوي الأرحام، لكن لا تغسل الرجل، فإذاً لا ترد علينا وإن كانت من ذوي الفروض.

‌وَأُنْثَى وَصِيَّتُهَا، ثُمَّ الْقُرْبَى فَالْقُرْبَى مِنْ نِسَائِها. وَلِكُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ غَسْلُ صَاحِبِهِ،

............

قوله: «وأنثى وصيتها» ، كما قلنا فيما سبق بالنسبة للرجل.

قوله: «ثم القربى فالقربى من نسائها» ، ولم يقل: ثم الأقرب فالأقرب من العصبات؛ لأن النساء ليس فيهن عصبة إلا بالغير أو مع الغير، ولهذا قال:«القربى فالقربى من نسائها» وعلى هذا نقول: الأولى بتغسيل المرأة إذا ماتت: وصيتها، ثم أمها وإن علت، ثم ابنتها وإن نزلت، ثم أختها من أب أو أم أو الشقيقة، ثم عماتها، فخالاتها، إلى آخره.

قوله: «ولكل من الزوجين غسل صاحبه» أي: تغسيله، فالزوج له أن يغسل زوجته إذا ماتت، والزوجة لها أن تغسل زوجها إذا مات.

ودليل هذا ما سبق من حديث أبي بكر رضي الله عنه: «أنه أوصى أن تغسله زوجته أسماء بنت عميس»

(1)

.

وكذلك بالعكس؛ لأنه يروى عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال لعائشة رضي الله عنها: «لو مُتِّ قبلي لغسلتك»

(2)

.

(1)

سبق تخريجه ص (266).

(2)

أخرجه الإمام أحمد (6/ 228)؛ وابن ماجه (1465)؛ وابن حبان (6552) إحسان؛ والبيهقي (3/ 378). وقال البوصيري في «الزوائد» : «إسناد رجاله ثقات» .

ص: 267

مسألة: لو مات زوج عن زوجته الحامل، ثم وضعت الحمل قبل أن يغسل فهل لها تغسيله؟

الجواب: ليس لها ذلك؛ لأنها بانت منه حيث إنها انقضت عدتها قبل أن يغسل فصارت أجنبية منه.

‌وَكَذَا سَيِّدٌ مَعَ سُرِّيَتِهِ، وَلِرَجُلٍ وَامْرَأَةٍ غَسْلُ مَنْ لَهُ دُونَ سَبْعِ سِنِينَ فَقَطْ، وَإِنْ مَاتَ رَجُلٌ بَيْنَ نسْوَةٍ، أَوْ عَكْسُهُ يُمِّمَتْ كَخُنْثَى مُشْكِلٍ.

قوله: «وكذا سيد مع سُرِّيَته» المراد: مع أمته، ولو لم تكن سُرِّيته، فلو قدر أنها مملوكة، لكن لم يتسرها أي: لم يجامعها، ثم مات فلها أن تغسله، وله أن يغسلها.

قوله: «ولرجل وامرأة غسل من له سبع سنين فقط» ، أي: من ذكر أو أنثى.

ودليل هذا: أن إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم غسلته النساء

(1)

؛ لأنه مات في الرضاعة أي قبل أن يفطم؛ ولأن عورة من دون السبع لا حكم لها، فإذا ماتت طفلة لها أقل من سبع سنوات فلأبيها أن يغسلها، وإذا مات طفل له أقل من سبع سنوات فلأمه أن تغسله، فإن ماتت طفلة لها سبع سنوات فأكثر فليس لأبيها أن يغسلها؛ لأنه لا يغسل الرجل المرأة، ولا المرأة الرجل إلا في الزوجين، والمالك وأمته.

قوله: «وإن مات رجل بين نسوة» ، أي إن مات رجل بين نسوة، وكذا من له سبع سنين فأكثر فإنهن لا يغسلنه إلا أن يكون معهن زوجة له أو أمة، فإن كان معهن زوجة أو أمة فإنها تغسله

(1)

لم نقف عليه.

ص: 268

كما سبق، أما إذا لم يكن معهن زوجة ولا أمة فإنه لا يغسل، وإذا كان معهن بنته أو أُمُّه فإنهما لا تغسِّلانه.

قوله: «أو عكسه» أي: أو حصل عكسه؛ بأن ماتت امرأة بين رجال، فإنهم لا يغسلونها إلا أن يكون أحد الرجال سيداً أو زوجاً.

قوله: «يُمِّمت كخنثى مشكل» ، أفادنا المؤلف بقوله:«يممت» أنه متى تعذر غسل الميت فإنه ييمم، وتعذره له صور منها:

أولاً: هاتان الصورتان: أن تموت امرأة بين رجال ليس معهم من يصح أن يغسلها، أو رجل بين نساء، ليس فيهن من يصح أن تغسله.

ثانياً: إذا كان الميت خنثى مشكلاً كما ذكر المؤلف.

ثالثاً: لو عدم الماء بأن مات ميت في البر، وليس عندنا ماء فإنه ييمم.

رابعاً: لو تعذر تغسيله لكونه محترقاً؛ فإنه ييمم كما سيأتي في كلام المؤلف رحمه الله؛ بناء على أن طهارة التيمم تقوم مقام طهارة الماء.

وقال بعض العلماء: إن من تعذر غسله لا ييمم؛ وذلك لأن المقصود بالتيمم التعبد لله تعالى بتعفير الوجه واليدين بالتراب، وهذا لا يحتاجه الميت، إذ إن المقصود من تغسيل الميت هو التنظيف؛ بدليل قوله صلى الله عليه وسلم في الرجل الذي وقصته ناقته:«اغسلوه بماءٍ وسدر»

(1)

، وقوله صلى الله عليه وسلم للنساء اللاتي يغسلن ابنته: «اغسلنها

(1)

سبق تخريجه (1/ 342).

ص: 269

ثلاثاً أو خمساً، أو سبعاً، أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك»

(1)

، بحسب ما يكون من نظافة جسد الميت أو عدم نظافته، فإذا كان نظيفاً فإنه لا يكرر إلا ثلاثاً، وإذا كان غير نظيف فإنه يكرر بحسب ما يحتاج إليه.

أما على القول بأنه ييمم فإنه يضرب رجل أو امرأة التراب بيديه، ويمسح بهما وجه الميت وكفيه.

‌وَيَحْرُمُ أَنْ يَغْسِلَ مُسْلِمٌ كَافِراً، أَوْ يَدْفِنَهُ، بَلْ يُوَارَى لِعَدَمٍ ..............

قوله: «ويحرم أن يغسل مسلم كافراً، أو يدفنه، بل يوارى لعدم» ، ووجه التحريم: أن الله تعالى قال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة: 84]، فإذا نهي عن الصلاة على الكافر، وهي أعظم ما يفعل بالميت وأنفع ما يكون للميت، فما دونها من باب أولى، ولأن الكافر نجس، وتطهيره لا يرفع نجاسته لقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28]، ولمفهوم قول النبي (ص):«إن المسلم لا ينجس»

(2)

، فيحرم أن يغسله.

فإن قيل: النجاسة في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} نجاسة معنوية؟

فنقول: من لم يطهر باطنه من النجاسة المعنوية فلا يصح أن يطهر ظاهره؛ ولهذا قال العلماء: من شرط صحة الغُسْلِ: الإسلامُ.

(1)

سبق تخريجه ص (263).

(2)

سبق تخريجه (1/ 25).

ص: 270

فالكافر بدنه ليس نجساً، لكنه ليس أهلاً للتطهير.

وكذلك يحرم أن يكفنه، والعلة ما سبق أنه إذا نهي عن الصلاة، وهي أعظم وأنفع ما يفعل للميت فما دونها من باب أولى.

قال في الروض: «أو يتبع جِنَازته» ، يجوز فيها وجهان حسب ما سبق، أي: لا يجوز للمسلم أن يتبع جنازة الكافر؛ لأن تشييع الجنازة من إكرام الميت، والكافر ليس أهلاً للإكرام، بل يهان، قال الله تبارك وتعالى:{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح: 29]، فدل هذا على أن غيظ الكفار مراد لله عز وجل، وقال تعالى:{وَلَا يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} [التوبة: 120]، وتشييع الكافر إكرام له، وإكرام لذويه؛ ولهذا يحرم أن يتبع جنازته.

وقوله: «أو يدفنه» لقوله تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة: 84]، والمراد: يحرم أن يدفنه كدفن المسلم، ولهذا قال:«بل يوارى لعدم» ، ومعنى يوارى: يغطى بالتراب، سواء حفرنا له حفرة ورمسناه بها رمساً، أو ألقيناه على ظهر الأرض وردمنا

ص: 271

عليه تراباً؛ لكن الأول أحسن أي: أننا نحفر له حفرة ونرمسه فيها؛ لأننا لو وضعناه على ظهر الأرض وردمنا عليه بالتراب فلربما تحمل الرياح هذا التراب، ثم تظهر جثته.

وقوله: «بل يوارى لعدم» أي يجب مواراة الكافر، ويشمل ذلك ما إذا وُوري بالتراب، أو وُوري بقعر بئر، أو نحوها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم:«أمر بقتلى بدر من المشركين أن يلقوا في بئر من آبار بدر»

(1)

.

ولئلا يتأذى الناس برائحته، ولئلا يتأذى أهله بمشاهدته.

وقوله: «لعدم» ، أي: لعدم من يواريه، فإن وجد من يقوم بهذا من أقاربه فإنه لا يحل للمسلم أن يساعدهم في هذا، بل يكل الأمر إليهم.

‌وَإِذَا أَخَذَ فِي غَسْلِهِ سَتَرَ عَوْرَتَهُ، وَجَرَّدَهُ، وَسَتَرَهُ عَن العُيُونِ،

............

قوله: «وإذا أخذ في غسله ستر عورته» ، ابتدأ المؤلف بكيفية تغسيل الميت.

وقوله: «وإذا أخذ في غسله» لا يرضى النحويون بهذا التعبير من الفقهاء؛ لأن أخذ هنا من أفعال الشروع، ولا بد أن يكون خبرها جملة فعلها مضارع، وعلى هذا تكون العبارة على قاعدة النحويين: وإذا أخذ يغسله، ولكن عبارة الفقهاء ليس فيها خلل؛ لأن كل واحد يعرف أن معنى قوله:«وإذا أخذ في غسله» أي: إذا شرع في غسله.

وقوله: «في غسله» أي: في تغسيله.

وقوله: «ستر عورته» وجوباً وهذا فيمن له سبع سنين فأكثر. والعورة بالنسبة للرجل ما بين السرة والركبة، وكذلك بالنسبة

(1)

أخرجه البخاري (3976) عن أبي طلحة رضي الله عنه.

ص: 272

للمرأة مع المرأة ما بين السرة والركبة، وعلى هذا فيجرد الميت من كل شيء إلا مما بين السرة والركبة إن كان رجلاً فهو بالنسبة للرجال، وإن كانت امرأة، بالنسبة للنساء.

فقول المؤلف: «عورته» يريد بها ما بين السرة والركبة.

قوله: «وجرَّده» ، أي: جرَّده من ثيابه فيستر عورته أولاً، ويلف عليها لفافة، ثم يجرده من ثيابه.

ودليل ذلك أثر، ونظر.

أما الأثر: فقول الصحابة حين أرادوا تغسيل النبي صلى الله عليه وسلم: «هل نجرد رسول الله (ص) كما نجرد موتانا»

(1)

.

وأما النظر: فلأن تجريده أبلغ في تطهيره، والمقام يقتضي التطهير، وكلما كان أكمل فيه كان أفضل.

قوله: «وستره عن العيون» ، أي: ينبغي أن يستره عن العيون، وهذا غير ستر العورة؛ لأن ستر العورة واجب، وهذا مستحب أي: ينبغي أن يغسله في مكان لا يراه الناس، إما في حجرة، أو في خيمة إن كان في بر وما أشبه ذلك؛ لأن ستر الميت عن العيون أولى من كشفه، فإن الميت قد يكون على حال مكروهة، فيكون ظهوره للناس نوعاً من الشماتة به، وأيضاً ربما يكون مفزعاً لمن يشاهده مروعاً له، لا سيما عند بعض الناس؛ لأن بعض الناس يرتاع جداً إذا شاهد الميت، فستره عن العيون أولى وأحفظ.

(1)

سبق تخريجه ص (254).

ص: 273

‌وَيُكْرَهُ لِغَيْرِ مُعِينٍ فِي غَسْلِهِ حُضُورُهُ ثُمَّ يَرْفَعُ رَأْسَهُ إِلَى قُرْبِ جُلُوسِهِ، وَيَعْصِرُ بَطْنَهُ بِرِفْقٍ، وَيُكْثِرُ صَبَّ الْمَاءِ حِينئِذٍ،

............

قوله: «ويكره لغير معين في غسله حضوره» .

«حضوره» نائب الفاعل أي: يكره أن يحضره شخص إلا من احتيج إليه لمعونته؛ وذلك لأنه ربما يكون في الميت شيء لا يحب أن يطلع عليه الناس، كالجروح، أو أن فيه عيباً من برص أو نحوه لا يحب أن يطلع عليه الناس.

وظاهر كلام المؤلف أنه لا يحضر ولو كان من أقاربه، مثل أن يكون أباه أو ابنه، أو ما أشبه ذلك، لأنه لا حاجة إليه.

وسبق أنه من حين أن يموت يوضع على سرير تغسيله، فلا يقال: هل نغسله على الأرض أو نقول: نغسله على السرير؟ لأن هذا مفهوم مما سبق.

قوله: «ثم يرفع رأسه إلى قرب جلوسه، ويعصر بطنه برفق، ويكثر صب الماء حينئذٍ» ، أي: بعد أن يجرده ويستر عورته يرفع رأسه إلى قرب الجلوس أي: رفعاً بيّناً، ويعصر بطنه برفق؛ لأجل أن يخرج منه ما كان متهيئاً للخروج؛ لأن الميت تسترخي كل أعصابه، فإذا رفع رأسه على هذا النحو، وعصر بطنه لكن برفق فإنه ربما يكون في بطنه شيء من القذر مُتهيئاً للخروج فيخرج، وربما لو تركنا هذا العمل فمع رجّ الميت عند حمله، وتقليبه في غسله، وتكفينه ربما يخرج هذا الشيء المتهيء للخروج، فلهذا قال الفقهاء رحمهم الله: ينبغي أن يرفع رأسه إلى قرب جلوسه ثم يعصر بطنه برفق، كما قال المؤلف.

أما الحامل فإنها لا يعصر بطنها؛ لئلا يسقط الجنين.

ص: 274

وقوله: «ويكثر صب الماء حينئذٍ» ، أي: حين يعصر البطن؛ لأجل إزالة ما يخرج من بطنه حينئذٍ.

‌ثُمَّ يَلُفُّ عَلَى يَدِهِ خِرْقَةً فَيُنَجّيهِ وَلَا يَحِلُّ مَسُّ عَوْرَة مَنْ لَهُ سَبْعُ سِنِينَ. وَيُسْتَحَبُّ أَلاَّ يَمَسَّ سَائِرَه إِلاَّ بِخِرْقَةٍ، ثُمَّ يُوَضّئهُ نَدْباً،

.............

قوله: «ثم يلف على يده خرقة فينجّيه» ، أي: أنه إذا فعل ما ذكر من رفع رأسه وعصر بطنه، وخرج ما كان مستعداً للخروج، يلف على يده خرقة، وإذا كان هناك قفازان كما هو الآن متوفر ـ ولله الحمد ـ فإنه يلبس قفازين، ثم ينجّيه أي: ينجّي الميت فيغسل فرجه مما خرج منه، ومما كان قد خرج قبل وفاته، ولكنه لم يستنج منه، فينجيه بها.

قوله: «ولا يحل مس عورة من له سبع سنين» ، أي: يجب أن يضع هذه الخرقة إذا كان الميت له سبع سنين فأكثر، فأما إذا كان دون ذلك فله أن ينجيه مباشرة؛ لأن ما دون سبع سنين عند الفقهاء ليس لعورته حكم، بل عورته مثل يده، ولهذا يجوز النظر إليها، ولا يحرم مسها، فإذا تم السبع فإنه لا ينجيه إلا بخرقة.

قوله: «ويستحب أن لا يمس سائره إلا بخرقة» ، هذه غير الخرقة الأولى، فالأولى واجبة إذا كان له سبع سنين فأكثر؛ لئلا يمس عورته، وهذه خرقة ثانية جديدة غير الأولى يضعها على يده؛ لأجل أن يكون ذلك أنقى للميت؛ لأنه إذا دلكه بالخرقة كان أنقى له مما لو دلكه بيده، فيستحب ألا يمس سائره إلا بخرقة، مع أن الميت الآن بالنسبة للانكشاف كل بدنه مكشوف إلا العورة.

قوله: «ثم يوضئه ندباً» .

ص: 275

ودليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم للنساء اللاتي يغسلن ابنته: «ابدأن بميامنها، ومواضع الوضوء منها»

(1)

.

وليس على سبيل الوجوب بدليل أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يغسل الرجل الذي وقصته ناقته بعرفة فمات، فقال:«اغسلوه بماءٍ وسدر»

(2)

، ولم يقل: وضئوه، فدل على أن الوضوء ليس على سبيل الوجوب، بل على سبيل الاستحباب.

ولو قال قائل: ألا يدل قوله صلى الله عليه وسلم: «ابدأن بميامنها، ومواضع الوضوء منها» على استحباب الوضوء؛ لأنه قرنه بالبدء بالميامن وهو مستحب؟ فنقول: لا يتم الاستدلال به على ذلك؛ لأن هذا من باب دلالة الاقتران وهي ضعيفة، بل الذي يصح دليلاً على الاستحباب: حديث الذي وقصته ناقته، وقد ذكرنا وجهه.

‌وَلَا يُدْخِلُ المَاءَ فِي فِيهِ، وَلَا فِي أَنْفِهِ، وَيُدْخِلُ إصْبَعَيْهِ مَبْلُوْلَتيْنِ بِالْمَاءِ بَيْنَ شَفَتَيْهِ فَيَمْسَحُ أَسْنَانَهُ،، وَفِي مِنْخَرَيهِ فَيُنَظِّفُهُمَا، وَلَا يُدْخِلُهُمَا المَاءَ، ثُمَّ يَنْوِي غَسْلَهُ، وَيُسَمِّي،

............

قوله: «ولا يدخل الماء في فيه ولا في أنفه» ، أي: لا يدخل الماء في فيه بدل المضمضة، ولا في أنفه بدلاً عن الاستنشاق؛ لأن الحي إذا أدخل الماء تمضمض به ومجّه وخرج، والميت لو صببنا الماء في فمه لانحدر لبطنه وربما يحرك ساكناً، وكذلك نقول في مسألة الاستنشاق: الميت لا يستنشق الماء، ولا يستطيع أن يستنثره، وحينئذٍ نقول: لا تدخل الماء في فمه ولا أنفه.

قوله: «ويدخل إصبعيه مبلولتين بالماء بين شفتيه فيمسح

(1)

أخرجه البخاري (1256)؛ ومسلم (939)(42) عن أم عطية رضي الله عنها.

(2)

سبق تخريجه ص (269).

ص: 276

أسنانه، وفي منخريه فينظّفهما»، وهذا يقوم مقام المضمضة، والاستنشاق.

وقوله: «يدخل إصبعيه» ، أي: ملفوفاً عليهما خرقة، وهي الخرقة التي كان يمس بشرته بها فيدخل إصبعيه في فمه ويمسح أسنانه، ويكون ذلك برفق، وكذلك يدخلهما في منخريه فينظّفهما برفق أيضاً.

قوله: «ولا يدخلهما الماء» ، لأنه لو أدخل فمه الماء نزل إلى بطنه، ولو أدخله إلى منخريه كذلك نزل إلى بطنه فيحرك ما كان ساكناً، ويغني عن ذلك ما ذكره المؤلف أن يجعل خرقة مبلولة فينظّف بها أنفه وأسنانه وبقية فمه.

قوله: «ثم ينوي غسله» ثم للترتيب، والنية بمعنى القصد.

وظاهر كلام المؤلف أن النية تكون بعد عمل ما سبق من الاستنجاء والتوضئة، ولكن هذا فيه نظر، بل النية تتقدم الفعل؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى»

(1)

، ولعل هذه نية أخرى ينوي بها عموم الغسل؛ لأن ما سبق لا بد أن يكون بنية.

قوله: «ويسمّي» أي: يقول باسم الله، وهذا أيضاً فيه نظر؛ لأن التسمية تكون بعد الاستنجاء قبل أن يوضئه، كما هي الحال في طهارة الحي.

(1)

سبق تخريجه (1/ 194).

ص: 277

‌وَيَغْسِل بِرَغْوَةِ السِّدْرِ رَأْسَهُ وَلِحْيَتَهُ فَقَط. ثُمَّ يَغْسِلُ شِقَّهُ الأَْيْمَنَ، ثُمَّ الأَْيْسَرَ، ثُمَّ كُلَّهُ ثَلَاثاً، يُمِرُّ فِي كُلِّ مَرَّةٍ يَدَهُ عَلَى بَطْنِهِ، فَإِنْ لَمْ يَنْقَ بِثَلَاثٍ زِيدَ حَتَّى يَنْقَى ..........

قوله: «ويغسل برغوة السّدر رأسه ولحيته فقط» .

أفادنا المؤلف رحمه الله أنه لا بد أن يعد الغاسل سدراً يدقه ويضعه في إناء فيه ماء، ثم يضربه بيديه حتى يكون له رغوة، وهذه الرغوة يغسل بها رأسه ولحيته، وأما الثفل الباقي فإنه يغسل به سائر الجسد.

وإنما خُصّ الرأس واللحية بالرغوة؛ لأننا لو غسلناهما بالثفل لبقي الثفل متفرقاً في الشعور وصعب إخراجه منها، أما الرغوة فليس فيها ثفل.

وقوله: «ويغسل برغوة السدر رأسه ولحيته» .

إذا قال قائل: ما الدليل على استحباب السدر في تغسيل الميت؟

فالجواب: أن الدليل قوله صلى الله عليه وسلم: «اغسلوه بماءٍ وسدر»

(1)

، مع أنه محرِم.

قوله: «ثم يغسل شقه الأيمن، ثم الأيسر» ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«ابدأن بميامنها»

(2)

، فيغسل الشق الأيمن، ثم الأيسر.

قوله: «ثم كلّه ثلاثاً» لقول النبي صلى الله عليه وسلم للنساء اللاتي يغسلن ابنته: «اغسلنها ثلاثاً»

(3)

.

قوله: «يُمر في كل مرة يده على بطنه» ، من أجل أن يخرج

(1)

سبق تخريجه ص (269).

(2)

سبق تخريجه ص (276).

(3)

سبق تخريجه ص (263).

ص: 278

ما كان متهيئاً للخروج، وعلى هذا فإنه يعصر بطنه أربع مرات، المرة الأولى التي قبل الاستنجاء عندما يرفع رأسه إلى قرب الجلوس، وثلاث مرات عند غسله.

قوله: «فإن لم ينق بثلاث زيد حتى ينقى» ، أي: إن لم ينق الميت بثلاث، فإنه يزيد حتى ينقى؛ لأن المقصود بذلك تطهيره، وعدم النقاء يكون في الغالب إذا كان الرجل صاحب حرفة بالطين والجبس، وما أشبه ذلك، أو كان مريضاً مرضاً طويلاً فإن الأوساخ تتراكم عليه، فإذا غسلوه ثلاث مرات ولم ينق فإنه يزاد حتى ينقى.

ودليل ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم للنساء اللاتي يغسلن ابنته: «اغسلنها ثلاثاً، أو خمساً، أو سبعاً، أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك»

(1)

. وهذا يرجع إلى رأي الغاسل، ولكن ليس مجرد رأي وتشهٍّ، وإنما هو الرأي الذي تقتضيه المصلحة.

وضابط تخيير التشهي من تخيير المصلحة هو: أنه إذا كان المقصود التيسير على الفاعل، والأمر يعود له هو لا لغيره فهذا تخيير تشهٍّ. وإذا كان يعود إلى الغير فهو تخيير مصلحة.

مثال تخيير التشهي: قوله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة: 89].

ومثال تخيير المصلحة: إذا قيل لولي اليتيم: بع مال اليتيم، أو ضارب به.

(1)

سبق تخريجه ص (263).

ص: 279

‌يَنْقَى وَلَوْ جَاوَزَ السَّبْعَ، وَيَجْعَل فِي الغَسْلَةِ الأَْخِيرَةِ كَافُوراً وَالْمَاءُ الحَارُّ، وَالإِشْنَانُ، والخِلَالُ يُسْتَعْمَلُ إِذَا احْتِيجَ إِلَيْهِ ............

قوله: «ولو جاوز السبع» أي: زاد عليها، وتعداها؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«أو سبعاً أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك» ، ولأن المقصود من تغسيل الميت التطهير، وقد لا ينقى بسبع مرات، فيزاد حتى ينقى.

لكن ينبغي قطع الغسل على وتر، فلو نقى بأربع زاد خامسة؛ لأن هذا هو الذي ورد به الحديث.

قوله: «ويجعل في الغسلة الأخيرة كافوراً» ، لقول النبي عليه الصلاة والسلام:«اجعلن في الغسلة الأخيرة كافوراً أو شيئاً من كافور»

(1)

، والكافور: طيب معروف أبيض يشبه الشب يدق، ويجعل في الإناء الذي يغسل به آخر غسلة.

قال العلماء: وإنما اختير الكافور من بين سائر الأطياب لفائدتين:

1 ـ أنه بارد.

2 ـ أن من خصائصه أنه يطرد الهوام عن الميت؛ لأن الميت في القبر تأتيه الهوام، فرائحته تطرد الهوام عنه.

قوله: «والماء الحار والإشنان والخلال يستعمل إذا احتيج إليه» ، الأفضل: أن نغسل الميت بماء بارد، ولكن إذا احتجنا إلى الماء الحار، مثل: أن تكون عليه أوساخ كثيرة متراكمة فإننا نستعمله، ولكن ليس الحار الشديد الحرارة الذي يؤثر على الجلد

(1)

أخرجه البخاري (1258)؛ ومسلم (939)(36) عن أم عطية رضي الله عنها.

ص: 280

برخاوة بالغة، ولكنه حار ليكون أنقى من البارد، ويسخن بأي وقود سواء بالكهرباء، أو بالغاز، أو بالحطب، أو بغير ذلك، وعند عوامنا يقولون: إنه لا يسخن الماء الذي يغسل به الميت إلا بسعف النخل فقط، وغير ذلك لا يسخن به، وهذا لا أصل له، بل يسخن بما تحصل به السخونة.

وقوله: «والإِشنان» والإشنان شجر معروف ينبت في البر يؤخذ وييبس ويدق، ويكون من جنس الرمل حبيبات تغسل به الثياب، ويغسل الإِنسان به جلده من أجل النظافة.

والإِشنان يستعمل عند الحاجة للتنظيف؛ لأنه قد يكون على الجلد أوساخ أو دهون لا يزيلها الماء وحده فيزيلها الإِشنان، فإن لم يحتج إليه فلا يستعمله.

وهل مثل ذلك الصابون؟

الجواب: نعم الصابون مثل الإِشنان، بل هو أقوى منه تنظيفاً، فإذا استعمل الصابون من أجل إزالة الوسخ، فلا حرج فيه.

وهل يستعمل مع الصابون ليفة؟

الجواب: لا؛ لأن الليفة تشطب الجلد، وربما هذا الذي يغسله من شدة الحرص على التنظيف يفركه بشدة فيتأثر الجلد، فيكفي أن يمسح باليد.

وقوله: «والخلال يستعمل إذا احتيج إليه» ، أي: خلال الأسنان، إذا كان بأسنانه طعام فإنه يستعمل؛ لأن في ذلك تنظيفاً لأسنانه.

ص: 281

‌وَيَقُصُّ شَارِبَه، وَيُقَلِّمُ أَظْفَارَه، وَلَا يُسَرِّحُ شَعْرَهُ، ثُمَّ يُنَشَّفُ بِثَوْبٍ، وَيُضفَرُ شَعْرُهَا ثَلاثَةَ قُرُونٍ، وَيُسْدَلُ وَرَاءَهَا.

..............

قوله: «ويقص شاربه، ويقلّم أظفاره، ولا يسرح شعره، ثم ينشف بثوب» .

خصال الفطرة خمس: الختان، والاستحداد، وقص الشارب، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط.

أما الختان: فلا يستعمل مع الميت، بل هو حرام؛ لأن الختان أخذ الجلدة، والجلدة جزء حي من الميت، فأخذها تمثيل بالميت ولا حاجة إليه؛ لأن الختان من حكمه أنه يطهر الإِنسان، ولهذا يسمى عندنا بالعامية «الطهار» ، لكن إذا مات الإِنسان فلا حاجة له؛ ولهذا قال العلماء:«يحرم ختان الميت» .

وأما الشارب والأظفار: فتؤخذ إذا طالت، فإذا كانت عادية، أو كان الميت أخذها عن قرب فإنها لا تؤخذ، بل تبقى على ما هي عليه.

وأما الإِبط: فكذلك، إن كثر فإنه يؤخذ، وإلا يبقى على ما هو عليه.

وأما العانة: إذا طالت وكثرت فإنها تؤخذ.

وقال بعض العلماء: إنها لا تؤخذ؛ لما في ذلك من كشف العورة بخلاف الإبط والأظفار، ولكن الأولى أن تؤخذ إذا كانت كثيرة، وكشف العورة هنا للحاجة.

وقوله: «ولا يسرح شعره» ، أي: أن الغاسل لا يسرح شعر الميت؛ لأن هذا يؤدي إلى تقطع الشعر بالتسريح والمشط.

ص: 282

وقوله: «ثم ينشف بثوب» ، أي: بعد أن يغسل يستحب أن ينشف؛ لأنه إذا بقي رطباً عند التكفين أثر ذلك في الكفن، فالأفضل أن ينشف بثوب.

وهذه الطهارة تخالف طهارة الحي من عدة وجوه:

منها: أن طهارة الحي لا تزيد عن ثلاث، وهذه تزيد إلى سبع أو أكثر.

ومنها: أن الأفضل في طهارة الميت التنشيف، وأما طهارة الحي فقيل: الأفضل عدم التنشيف، وقيل: إن التنشيف وعدمه سواء، وإنه مباح إن شاء فعل، وإن شاء لم يفعل.

قوله: «ويضفر شعرها ثلاثة قرون، ويسدل وراءها» ، أي: يجعل شعر المرأة ضفائر ثلاثاً، ويسدل من ورائها.

ودليل ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم «أمر النساء اللاتي يغسلن ابنته أن يضفرن شعرها ثلاثة قرون، ويسدلنه من ورائها»

(1)

.

مسألة: ما حكم أسنان الذهب وغيرها مما ركبه الإنسان في حياته هل تدفن معه أم تخلع؟

الجواب: أما ما لا قيمة له فلا بأس أن يدفن معه كالأسنان من غير الذهب والفضة والأنف من غير الذهب، وأما ما كان له قيمة فإنه يؤخذ إلا إذا كان يخشى منه المُثلة، كما لو كان السن لو أخذناه صارت المُثلة فإنه يبقى معه. ثم إن شاء الورثة بعد أن يفنى الميت أن يحفروا القبر ويأخذوا الذهب فلهم ذلك.

(1)

سبق تخريجه من حديث أم عطية رضي الله عنها ص (263).

ص: 283

‌وَإِنْ خَرَجَ مِنْهُ شَيءٌ بَعْدَ سَبْعٍ حُشِيَ بِقُطنٍ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَمْسِكْ فَبطِينٍ حُرٍّ، ثُمَّ يُغْسَلُ المَحلُّ، وَيُوَضَّأُ، وَإِنْ خَرَجَ بَعْدَ تَكْفِينِهِ لَمْ يُعَدِ الغسْلُ. وَمُحْرِمٌ مَيتٌ كَحيٍّ ...........

قوله: «وإن خرج منه شيء بعد سبع حُشي بقطن» ، أي: خرج من الميت شيء من بول، أو غائط، أو دم، أو ما أشبه ذلك حُشي بقطن، أي سُد بالقطن من أجل أن يتوقف.

قوله: «فإن لم يستمسك فبطين حر» ، الطين الحر: الذي ليس مخلوطاً بالرمل أي: بطين قوي؛ لأن الطين القوي يسد الخارج، واختاروا الطين، لأنه أقرب إلى طبيعة الإنسان؛ حيث إن الإنسان خلق منه، وسيعاد إليه.

قوله: «ثم يغسل المحل ويوضأ» ، يغسل المحل أي: الذي أصابه ما خرج، فيغسل للتنظيف وإزالة النجاسة إن كان نجساً، ثم يوضأ.

قوله: «وإن خرج بعد تكفينه لم يعد الغسل» ، أي: إن خرج شيء بعد التكفين لم يعد الغسل؛ لأن في ذلك مشقة؛ إذ إننا لو أزلنا الكفن ثم نظفناه، ثم كفّناه مرة أخرى ربما يخرج شيء، وحينئذٍ يكون فيه مشقة، فإذا خرج بعد التكفين تركناه.

قال الفقهاء رحمهم الله وهو من اجتهادهم ـ: «إذا خرج قبل السبع وجب غسل المحل وإعادة الغسل، وإن خرج بعد السبع وجب غسل المحل والوضوء، وإن خرج بعد التكفين لم يجب غسل المحل ولا إعادة الوضوء» ، فله ثلاثة أحوال.

قوله: «ومحرم ميت كحيّ» ، أي: في أحكامه، ودليل ذلك

ص: 284

قول النبي صلى الله عليه وسلم: «فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً»

(1)

، فدل ذلك على أنه باق على إحرامه، وإذا كان كذلك فهو كالحي.

‌يُغْسَلُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَلَا يُقَرَّبُ طِيباً، وَلَا يُلْبَسُ ذَكَرٌ مَخِيطاً، وَلَا يُغَطَّى رَأْسُهُ .......

قوله: «يغسل بماءٍ وسدر» ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الذي وقصته راحلته:«اغسلوه بماءٍ وسدر»

(2)

؛ ولأن استعمال السدر للمحرم ليس بحرام، بل هو جائز.

قوله: «ولا يقرّب طيباً» لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ولا تحنطوه»

(3)

؛ ولأن المحرم ممنوع من الطيب.

قوله: «ولا يلبس ذكرٌ مخيطاً» ، أي: لا يلبس الذكر قميصاً أو سراويل أو عمامة أو غيرها مما يحرم على الحي.

ودليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً»

(4)

.

قوله: «ولا يغطى رأسه» ، أي: لا يغطى رأسه، بل يبقى مكشوفاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«ولا تخمروا رأسه»

(5)

، ولكن لا بأس أن يظلل بشمسية أو شبهها، كما يفعل بالمحرم الحي، أما التغطية باللف عليه، فهذا لا يجوز.

وأما وجهه فإنه يغطى، لأنه جائز حال الإحرام في الحياة فجاز بعد الوفاة، وأما رواية «ولا وجهه»

(6)

في حديث الذي وقصته راحلته فشاذة.

(1)

و

(2)

و

(3)

و

(4)

و

(5)

سبق تخريجه ص (269).

(6)

أخرجه مسلم (1206)(98)(101)(102) عن ابن عباس رضي الله عنهما.

ص: 285

‌وَلَا وَجْهُ أُنْثَى ..........

قوله: «ولا وجه أُنثى» ، أي: لو ماتت أُنثى محرمة فإن وجهها لا يغطى، وهذا إن لم يُمر بها حول رجال أجانب، فإن مُر بها حول رجال أجانب فإن وجهها يستر، كما لو كانت حية.

وأما رأسها فيغطى؛ لأنه يجب تغطيته حال الحياة في الإحرام وغيره.

وظاهر كلام المؤلف اجتناب هذه الأشياء حتى بعد التحلل الأول، ولعله غير مراد؛ لأن المحرم بعد التحلل الأول لا يحرم عليه إلا النساء فقط، وعلى هذا يصنع به كما يصنع بالمتحلل تحللاً أولاً، ويمكن أن يؤخذ ذلك من قوله صلى الله عليه وسلم:«فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً» ؛ لأنه إذا شرع في التحلل الأول انقطعت التلبية؛ لأنها تنقطع عند رمي جمرة العقبة.

وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: «فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً»

(1)

، دليل على أنه لا يُقضى عنه ما بقي من نسكه ولو كان الحج فريضةً خلافاً لما ذهب إليه بعض أهل العلم، وقالوا: إنه يقضى عنه ما بقي من النسك إذا كان الحج فريضة؛ فإننا نقول رداً على هذا القول: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل لهم: اقضوا عنه بقية النسك، ولو كان قضاء بقية النسك واجباً لبيّنه النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولأننا لو قضينا عنه بقية نسكه لفوتنا عليه فائدة كبيرة جداً، وهي أنه يبعث يوم القيامة ملبياً؛ لأنه لو قضي عنه بقية النسك لتحلل وانتهى من النسك، فيكون في قضاء بقية النسك عنه إساءة للميت. ونقول: هذا الرجل شرع في أداء النسك ومات قبل إكماله، ومن خرج من بيته

(1)

سبق تخريجه ص (269).

ص: 286

مهاجراً إلى الله ورسوله ثم أدركه الموت فقد وقع أجره على الله، أما بالنسبة لنا فلا نتعرض له.

‌وَلَا يُغَسَّلُ شَهِيدٌ وَمَقْتُولٌ ظُلْماً .........

قوله: «ولا يغسل شهيد ومقتول ظلماً» .

«لا» نافية، والنفي يحتمل الكراهة ويحتمل التحريم، ولهذا اختلف أصحابنا رحمهم الله، هل تغسيل الشهيد حرام أو مكروه؟

فقال بعضهم: إنه مكروه.

وقال بعضهم: إنه حرام.

والصحيح: أنه حرام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم «أمر بقتلى أحد أن يدفنوا بدمائهم ولم يغسلهم»

(1)

، ولأن التغسيل واجب، ولا يترك من أجل فعل المكروه، فلا يترك إلا لمحرم.

وقوله: «شهيد» المراد به هنا: شهيد المعركة الذي قاتل لتكون كلمة الله هي العليا.

أما من قاتل لوطنية أو قومية أو عصبية فليس بشهيد ولو قتل، لكن من قاتل حماية لوطنه الإسلامي من أجل أنه وطنٌ إسلاميٌ فقد قاتل لحماية الدين، فيكون من هذا الوجه في سبيل الله، ولهذا يجب أن نبيّن لإخواننا في الجيش أنهم إنما يتأهبون للقتال لا دفاعاً عن وطنهم من أجل أنه وطنهم، ولكن من أجل أنه وطن إسلامي يقاتلون لحماية الإسلام حتى يكونوا عند الموت شهداء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم: «سُئل عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل ليُرى مكانه، أي ذلك في سبيل الله؟ قال:

(1)

أخرجه البخاري (1347) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.

ص: 287

«من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله»

(1)

.

فالذي قاتل حمية نقول له:

لماذا تقاتل حمية؟ هل هو حدب على قومك، أو رغبة في بقاء الإسلام في بلادك؟

إن قال بالأول فليس بشهيد، وإن قال بالثاني فهو شهيد، كما لو قال: أقاتل حدباً على قومي، ليبقى الإسلام في بلادي.

وقوله: «ومقتول ظلماً» ، أي: المقتول ظلماً لا يغسل أيضاً؛ لأن المقتول ظلماً شهيد، قال النبي صلى الله عليه وسلم:«من قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون ماله فهو شهيد»

(2)

.

والصحيح أن المقتول ظلماً يغسل كغيره من الناس؛ لأنه داخل في عمومات الأدلة الدالة على وجوب الغَسْل، وهذه العمومات لا يمكن أن يخرج منها شيء إلاَّ ما دلّ الدليل عليه، وهو شهيد المعركة.

ولا يمكن أن يساوى المقتول ظلماً بشهيد المعركة، وإن كان يطلق عليه اسم شهيد، فالمطعون شهيد، والمبطون شهيد، والغريق شهيد، والحريق شهيد، وليس كل ما أطلق عليه اسم الشهيد يكون حكمه كشهيد المعركة؛ لأن شهيد المعركة مدَّ رقبته إلى عدوه ليقطعها في سبيل الله، والمقتول ظلماً أُكره على المقاتلة حتى قتل، فبينهما فرق عظيم.

(1)

أخرجه البخاري (123)؛ ومسلم (1904) عن أبي موسى رضي الله عنه.

(2)

أخرجه الإمام أحمد (1/ 190)؛ وأبو داود (4772)؛ والترمذي (1421)؛ والنسائي (7/ 116). وقال الترمذي: «حسن صحيح» ، عن سعيد بن زيد رضي الله عنه.

ص: 288

ولهذا يجب ألا نظن أن الشهداء بمرتبة واحدة، وإن كانوا شهداء، فكل بمرتبته قال تعالى:{وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} [الأحقاف: 19].

فالصحيح أن جميع الموتى من المسلمين يغسلون ويكفّنون ويصلّى عليهم إلا شهداء المعركة فقط، فهؤلاء لا يغسلون، ولا يكفّنون، ولا يصلّى عليهم؛ لأن المقصود بالصلاة عليهم الشفاعة لهم، وكفى ببارقة السيوف على رؤوسهم شفاعة، فيشفع لهم هذا البذل الذي بذلوه، فإنهم بذلوا أغلى ما عندهم وهو النفس لإعلاء كلمة الله.

‌إِلاَّ أَنْ يَكُونَ جُنُباً.

.......

قوله: «إلا أن يكون جنباً» .

إذا كان المتن: «ولا يغسل شهيد معركة ومقتول ظلماً» فإن مقتضى القاعدة النحوية أن يقال: «إلا أن يكونا جنباً» ؛ لأن العطف بالواو يجعلهما شيئين، فيجب أن يكون الضمير عائداً على شيئين بصيغة المثنى، ولكنه في الروض المربع جعل المقتول ظلماً شرحاً، وهذا هو الذي يناسب العبارة «إلا أن يكون جنباً» ، أي: إلا أن يكون الشهيد جنباً؛ فإن كان الشهيد جنباً فإنه يغسل، وكذلك لو استشهدت امرأة أو قتلت ظلماً على المذهب، وكانت حائضاً ولم تغتسل من الحيض، فإنها كذلك تغسل، هذا ما ذهب إليه المؤلف.

ولكن ظاهر الأخبار أنه لا فرق بين الجنب وغيره، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يغسل الذين قتلوا في أحد

(1)

.

(1)

سبق تخريجه ص (287).

ص: 289

أما ما يذكر من أن حنظلة بن عبد الله رضي الله عنه غسلته الملائكة

(1)

، فهذا إن صح فليس فيه دليل على أنه يغسله البشر؛ لأن تغسيل الملائكة له ليس شيئاً محسوساً بماءٍ يطهر، بل إن صح فهو من باب الكرامة، وليس من باب التكليف.

فالصحيح أنه لا يغسل، سواء أكان جنباً أم غير جنب؛ لعموم الأدلة، ولأن الشهادة تكفر كل شيء، ولو قلنا بوجوب تغسيله إذا كان جنباً لقلنا بوجوب وضوئه إذا كان محدثاً حدثاً أصغر؛ ليكون على طهارة، ولم يقولوا به.

‌وَيُدْفَنُ فِي ثِيَابِهِ بَعْدَ نَزْعِ السِّلَاحِ وَالجُلُودِ عَنْهُ، وَإِنْ سُلِبَها كُفِّنَ بِغَيْرِهَا.

........

قوله: «ويدفن في ثيابه» ، أي: يدفن الشهيد في ثيابه التي قتل فيها؛ لأنه يبعث يوم القيامة على ما مات عليه من القتل، ولذلك يبعث وجرحه يثعب دماً، اللون لون الدم، والريح ريح المسك.

قوله: «بعد نزع السلاح والجلود عنه» ، أي: إذا كان معه جلود مثل: سير ربط به إزاره أو رداءه، أو ما أشبه ذلك، أو معه سلاح قد حمله فإنه ينزع منه؛ لأن هذا لا يدخل في الثياب؛ ولأنه ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم:«أنه أمر بقتلى أحد أن ينزع عنهم الحديد والجلود وأن يدفنوا في ثيابهم بدمائهم»

(2)

.

قوله: «وإن سُلبها كفن بغيرها» ، الضمير «ها» في قوله:

(1)

أخرجه ابن حبان (7025) إحسان؛ والحاكم (3/ 204)؛ والبيهقي (4/ 15). وقال الحاكم: «صحيح على شرط مسلم» ، وأقرّه الذهبي.

(2)

أخرجه الإمام أحمد (1/ 247)؛ وأبو داود (3134)؛ وابن ماجه (1515)؛ والبيهقي (4/ 14) عن ابن عباس رضي الله عنهما.

ص: 290

«سُلبها» مفعول ثانٍ يعود على الثياب، ومعنى سلبه إياها: أن تؤخذ منه. مثل: أن يأخذها العدو ويدعه عارياً، كفن بغيرها وجوباً؛ لأنه لا بد من التكفين للميت؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:«كفنوه في ثوبيه»

(1)

.

‌وَلَا يُصَلَّى عَلَيْه .........

قوله: «ولا يصلى عليه» ، أي: لا يصلي عليه أحد من الناس لا الإمام ولا غير الإمام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل على شهداء أحد

(2)

؛ ولأن الحكمة من الصلاة الشفاعة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً إلا شفّعهم الله فيه»

(3)

، والشهيد يكفر عنه كل شيء إلا الدَّين؛ لأن الدين لا يسقط بالشهادة، بل يبقى في ذمة الميت في تركته إن خلف تركة، وإلا فإنه إذا أخذه يريد أداءه أدى الله عنه.

فإن قال قائل: أليس النبي صلى الله عليه وسلم قد خرج في آخر حياته إلى أُحد وصلى عليهم؟

(4)

.

فالجواب: أن هذه ليست صلاة الميت؛ لأن صلاة الميت يجب أن تكون قبل الدفن، ولكن هذه إما: صلاة بمعنى الدعاء، وإما صلاة مودع كما مال إليه ابن القيم رحمه الله.

وأما القول: بأنها الصلاة التي تصلى على الميت فغير صحيح؛ إذ لا يمكن أن يبقى الرسول عليه الصلاة والسلام من

(1)

سبق تخريجه ص (269).

(2)

سبق تخريجه ص (287).

(3)

أخرجه مسلم (948) عن ابن عباس رضي الله عنهما.

(4)

أخرجه البخاري (1344)؛ ومسلم (2296) عن عقبة بن عامر رضي الله عنه.

ص: 291

السنة الثانية إلى السنة العاشرة أو الحادية عشرة لم يصلِّ عليهم.

‌وَإِنْ سَقَطَ عَنْ دَابَّتِهِ، أَوْ وُجِدَ مَيتاً، وَلَا أَثَرَ بِهِ. أَوْ حُمِلَ فَأَكَلَ أَوْ طَالَ بَقَاؤُهُ عُرْفاً غُسِّلَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ.

قوله: «وإن سقط عن دابته» ، أي: إن سقط الشهيد عن دابته بغير فعل العدو، غسل وصلي عليه. فإن سقط عن دابته بفعل العدو فمات من ذلك فإنه يكون شهيداً لا يغسل كما سبق.

قوله: «أو وجد ميتاً ولا أثر به» ، أي: ليس به أثر جراحة، ولا خنق، ولا ضرب، ووجد ميتاً فإنه يغسل ويكفن ويصلى عليه، وهذا له دليل نظري، وذلك أن هذا الميت وجب بموته أن يغسل ويكفن ويصلى عليه، وكون موته من فعل العدو مشكوك فيه؛ لأنه ليس فيه أثر، ولا يمكن أن ندع اليقين للشك، بل يجب أن يغسل ويكفن ويصلى عليه.

وقول المؤلف: «ولا أثر به» يخرج به ما لو وجد به أثر مثل: جرح، أو خنق، أو ضرب أي ضربات مميتة، فإنه يحكم بالظاهر هنا، وهو أن الذي فعل به ذلك العدو، وعلى هذا يكون شهيداً لا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه، وهنا غلّبنا الظاهر على الأصل؛ لأن الأصل وجوب التغسيل، وهنا أسقطنا هذا الواجب بهذا الظاهر الذي هو الأثر، وكذا إذا علمنا أنه مات بفعل العدو ولا أثر به كما لو استعمل الغازات.

واستثنى بعضهم من الأثر: الدم من الأنف، أو الفم، أو القبل، أو الدبر، قال: لأن هذا قد يقع ممن مات موتاً طبيعياً، فلا يدل على أن العدو هو الذي فعل به هذا، ولكن كلام المؤلف يدل على العموم فمتى وجد به أثر يحتمل أنه من فعل العدو فهو شهيد.

ص: 292

قوله: «أو حُمل فأكل» ، أي: من أرض المعركة فأكل، ثم مات، فإنه يغسل ويكفن ويصلى عليه، ولو علمنا أنه مات متأثراً بجراحه؛ لأن كونه يأكل يدل على أن فيه حياة مستقرة؛ إذ إن الذي في حكم الميت لا يأكل.

وظاهر كلام المؤلف أنه إذا أكل ومات ولم يطل الفصل فإنه يغسل.

وقال بعض الفقهاء: لا يغسل إذا لم يطل الفصل؛ لأنه قد يأكل بدون شعور وهو في النزع، ولكن هذا في الحقيقة بعيد أي إن أكله دليل على أن فيه حياة مستقرة.

وقول المؤلف: «أو حُمل فأكل» ظاهره: أنه إذا لم يحمل فأكل، ثم مات فإنه شهيد لا يغسل، وعبارة بعض الفقهاء:«أو جرح فأكل» ، وهذه العبارة الأخيرة أعم مما إذا حمل أم لم يحمل.

والأقرب: أنه إذا أكل سواء حمل، أم لم يحمل، فإن أكله دليل على أن فيه حياة مستقرة فيغسل ويكفن.

فإن قال قائل: ما الدليل على أن الشهيد إذا جرحه العدو جرحاً مميتاً وبقي حياً حياة مستقرة أنه يغسل ويكفن؟

فالجواب: قصة سعد بن معاذ رضي الله عنه فإنه جُرح في أكحله عام الأحزاب، ولكنه سأل الله أن لا يميته حتى يقر عينه ببني قريظة، فاستجاب الله دعاءه، وبقي الجرح ملتئماً حتى حكم في بني قريظة بنفسه لأنه هو حليفهم

(1)

.

(1)

أخرجه مسلم (1769) عن عائشة رضي الله عنها.

ص: 293

وانظر الفرق بين سعد بن معاذ وعبد الله بن أُبي، فعبد الله بن أبي قام يجادل عن حلفائه من اليهود؛ لأنه كافر، أما سعد فسأل الله ألا يميته حتى يقر عينه بهم، فأقر الله عينه بهم، وصار هو الحاكم فيهم، وحكم بهم بالحكم الذي شهد النبي عليه الصلاة والسلام بأنه حكم الله من فوق سبع سموات

(1)

، ولما حكم فيهم انبعث الدم ومات رضي الله عنه، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن عرش الرب عز وجل اهتز لموته

(2)

فرحاً بروحه؛ لأن روحه صعدت إلى الله عز وجل، وفي ذلك يقول حسان بن ثابت رضي الله عنه:

وما اهتز عرش الله من أجل هالك

سمعنا به إلا لسعد أبي عمرو

والحاصل: أن هذا دليل على أن الشهيد إذا طال بقاؤه، فإنه يغسل ويكفن ويصلى عليه، وألحق العلماء بذلك ما إذا وجد منه دليل الحياة المستقرة مثل الأكل.

قوله: «أو طال بقاؤه عُرفاً غسل وصلي عليه» ، أي: ليس مقدراً بزمان شرعاً بل إذا طال بقاؤه وعرف أنه ليس في سياق الموت فإنه يغسل ويكفن ويصلى عليه.

والذي يترجح عندي أنه إذا بقي متأثراً كتأثر المُحتضَر أنه لا يغسل، أما إذا بقي متألماً لكن بقي معه عقله فإنه يغسل ويصلى عليه.

وظاهر كلام المؤلف أنه لو شرب فإن ذلك لا يسقط حكم الشهادة، وهذا هو اختيار مجد الدين ابن تيمية ـ وهو عبد السلام

(1)

سبق تخريجه ص (293).

(2)

أخرجه مسلم (2466)(123) عن جابر رضي الله عنه.

ص: 294

جد شيخ الإسلام ابن تيمية ـ؛ لأن الإنسان قد يشرب، وهو في سياق الموت بخلاف الأكل، فكلام الماتن تابع لكلام المجد رحمه الله.

‌والسِّقْطُ إِذَا بَلَغَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ غُسِّلَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ، وَمَنْ تَعَذَّرَ غَسْلُهُ يُمِّمَ، وَعَلَى الغَاسِلِ سَتْرُ مَا رَآهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ حَسَناً.

قوله: «والسقط إذا بلغ أربعة أشهر غسل وصلي عليه» «السِّقط» بكسر السين، ويجوز الفتح، ويجوز الضم، ومعناه: الساقط، والمراد به: الحمل إذا سقط من بطن أمه.

فإذا بلغ أربعة أشهر من بدء الحمل، أي: إذا تم له أربعة أشهر، وليس المعنى إذا دخل الشهر الرابع.

والمراد بالأشهر هنا: الأشهر الهلالية؛ لأنها هي التي جعلها الله عز وجل مواقيت للناس، فقال تعالى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189]، وهي التي وضعها الله عز وجل للناس جميعاً منذ خلق السموات والأرض، قال تعالى:{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة: 36].

وأما الأشهر الاصطلاحية التي هي أشهر النصارى ومن تابعهم، فهذه لا أصل لها شرعاً ولا قدراً.

أما الأصل القدري فلأن الله تعالى جعل الأشهر الهلالية هي المواقيت {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189].

وأما الأصل الشرعي فإنه لم يرتب عليها لا صيام، ولا حج، ولا أشهر حرم، وكل أحكام الأشهر منفية عن هذه الأشهر الاصطلاحية التي جاءت من النصارى.

ص: 295

قوله: «غسل وصلي عليه» أي: وكفن، ودفن، فالمؤلف طوى ذكر الكفن والدفن؛ لأنه معلوم.

وإنما قيده ببلوغ أربعة أشهر؛ لأنه قبل ذلك ليس بإنسان، إذ لا يكون إنساناً حتى يمضي عليه أربعة أشهر، ودليل ذلك: حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حيث بين النبي صلى الله عليه وسلم: «أن الجنين يكون في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك» ، فهذه أربعة أشهر، «ثم يرسل له الملك، فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات»

(1)

إلخ.

وعلى هذا فهو قبل هذه المدة يكون جماداً قطعة لحم يدفن في أي مكان بدون تغسيل، وتكفين، وصلاة، لكن بعد أربعة أشهر يكون إنساناً كما قال تعالى:{ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} [المؤمنون: 14]، فيعامل معاملة من مات بعد خروجه.

قال العلماء: ويسمى؛ لأن هذا السقط يبعث يوم القيامة، فلا بد أن يسمى؛ لأن الناس يدعون يوم القيامة بأسمائهم وأسماء آبائهم، فيسمى حتى يدعى باسمه يوم القيامة.

قال العلماء: فإن شك فيه هل هو ذكر أو أنثى؟ ـ وهو بعيد ـ لكن ربما يقع، فإنه يسمى باسم صالح للذكر والأنثى مثل هبة الله، أو عطية الله، أو نحلة الله، وما أشبه ذلك.

أما إذا كان ذكراً فيسمى باسم الذكور كعبد لله، وإن كان أنثى يسمى بأسماء الإناث كزينب، وفاطمة.

(1)

سبق تخريجه (1/ 509).

ص: 296

قوله: «ومن تعذر غسله يُمم» ، أي: من امتنع غسله، أي: تغسيله، فإنه ييمم.

وكيفية التيميم: أنه يضرب الحي يديه على الأرض، ثم يمسح بهما وجه الميت وكفيه.

ويكون التعذر: إما بعدم الماء، وإما بتعذر استعماله في هذا الميت بأن يكون الميت قد تمزق، أو يكون محترقاً لا يمكن مسه إلا بتمزيق جلده فهنا ييمم؛ لأن تغسيل الميت طهارة مأمور بها، فإذا تعذر تطهيره بالماء عدلنا إلى بدله وهو التراب.

وقيل: بأنه لا ييمم إذا تعذر غسله؛ لأن هذه ليست طهارة حدث، وإنما هي طهارة تنظيف، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم للنساء اللاتي يغسلن ابنته:«اغسلنها ثلاثاً، أو خمساً، أو سبعاً، أو أكثر من ذلك» وطهارة الحدث لا تزيد على ثلاث، فإذا كان المقصود تنظيف الميت وتعذر الماء، فإن استعمال التراب لا يزيده إلا تلويثاً، فتجنبه أولى.

وهذا هو الراجح. وهذا أقرب إلى الصواب من القول بتيميمه.

قوله: «وعلى الغاسل ستر ما رآه إن لم يكن حسناً» ، أي: على غاسل الميت ستر ما رآه من الميت إن لم يكن حسناً، فربما يرى منه ما ليس بحسن، إما من الناحية الجسدية، وإما من الناحية المعنوية، فقد يرى ـ والعياذ بالله ـ وجهه مظلماً متغيراً كثيراً عن حياته، فلا يجوز أن يتحدث إلى الناس، ويقول: إني

ص: 297

رأيت وجهه مظلماً؛ لأنه إذا قال ذلك ظن الناس به سوءاً.

وقد يكون وجهه مسفراً حتى إن بعضهم يُرى بعد موته متبسماً فهذا لا يستره.

أما السيء من الناحية الجسدية: فإن الميت قد يكون في جلده أشياء من التي تسوؤه إذا اطلع الناس عليها، كما قال الله تعالى في قصة موسى:{تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} [طه: 22]، أي: قد يكون فيه برص يكره أن يطلع الناس عليه، فلا يجوز للإنسان أن يقول: رأيت فيه برصاً، وقد يتغير لون الجلد ببقع سوداء، والظاهر ـ والله أعلم ـ أنها دموية، فلا يذكرها للناس بل يجب أن يسترها.

قال العلماء: إلا إذا كان صاحب بدعة، وداعية إلى بدعته ورآه على وجهٍ مكروه، فإنه ينبغي أن يبين ذلك حتى يحذر الناس من دعوته إلى البدعة؛ لأن الناس إذا علموا أن خاتمته على هذه الحال، فإنهم ينفرون من منهجه وطريقه، وهذا القول لا شك قول جيد وحسن؛ لما فيه من درء المفسدة التي تحصل باتباع هذا المبتدع الداعية، وكذا لو كان صاحب مبدأ هدّام كالبعثيين والحداثيين.

وذكر في الروض كلاماً حسناً فقال: «فيلزمه ستر الشر، لا إظهار الخير» ، أي: ستر الشر واجب، وإظهار الخير ليس بواجب، ولكنه حسن ومطلوب لما فيه من إحسان الظن بالميت، والترحم عليه، ولا سيما إذا كان صاحب خير.

وقال: «ونرجو للمحسن ونخاف على المسيء» ، أي:

ص: 298

بالنسبة للأموات نرجو للمحسن رحمة الله، ونخاف على المسيء، وخوفنا على المسيء يستلزم أن ندعو الله له، إذا لم تكن إساءته مخرجة إلى الكفر.

فإذا مات الإنسان وهو معروف بالمعاصي التي لا توصل إلى الكفر، فإننا نخاف عليه، ولكننا ندعو الله له بالمغفرة والعفو؛ لأنه محتاج إلى ذلك.

وقال: «ولا نشهد إلا لمن شهد له النبي صلى الله عليه وسلم» ، أي: بالجنة أو بالنار، والشهادة بالجنة أو بالنار على نوعين:

النوع الأول: شهادة للجنس، أي: يشهد بالجنة لكل مؤمن ولكل متق؛ لأن الله قال: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133]، وهذا لا يخص شخصاً بعينه، بل يعم الجنس، وكذلك نشهد لكل كافر أنه في النار، قال الله تعالى في النار:{أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [آل عمران: 131].

النوع الثاني: شهادة للعين أي: أن تشهد لشخص بعينه، فلا نشهد إلا لمن شهد له النبي صلى الله عليه وسلم، مثل: العشرة المبشرين بالجنة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وستة مجموعون في بيت:

سعيد وسعد وابن عوف وطلحة

وعامر فهرٍ والزبير الممدح

ومثل: سعد بن معاذ، وثابت بن قيس بن شماس، وعبد الله بن سلام، وبلال، وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم.

نشهد لهم بالجنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم شهد لهم.

وألحق شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله من اتفقت الأمة أو جُلُّ الأمة على الثناء عليه.

ص: 299

مثل: الأئمة الأربعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم: لمَّا مرَّت جنازة وأثنوا عليها خيراً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«وجبت» ـ أي: وجبت له الجنة ـ ومرت جنازة أخرى فأثنوا عليها شراً، فقال:«وجبت» ثم قال لهم: «أنتم شهداء الله في أرضه»

(1)

.

وعلى هذا فنشهد لهؤلاء الأئمة الذين أجمعت الأمة، أو جلها على الثناء عليهم بالجنة. لكن ليست شهادتنا لهم بالجنة، كشهادتنا لمن شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم.

قال: «ويحرم سوء الظن بمسلم ظاهره العدالة» ، أي: يحرم سوء الظن بمسلم، أما الكافر فلا يحرم سوء الظن فيه؛ لأنه أهل لذلك.

وأما من عُرف بالفسوق والفجور، فلا حرج أن نسيء الظن به؛ لأنه أهل لذلك، ومع هذا لا ينبغي للإنسان أن يتتبع عورات الناس، ويبحث عنها؛ لأنه قد يكون متجسساً بهذا العمل.

قال: «ويستحب ظن الخير بالمسلم» ، أي: يستحب للإنسان أن يظن بالمسلمين خيراً، وإذا وردت كلمة من إنسان تحتمل الخير والشر، فاحملها على الخير ما وجدت لها محملاً، وإذا حصل فعل من إنسان يحتمل الخير والشر فاحمله على الخير ما وجدت له محملاً؛ لأن ذلك يزيل ما في قلبك من الحقد والعداوة والبغضاء ويريحك.

(1)

أخرجه البخاري (2642)؛ ومسلم (949) عن أنس رضي الله عنه.

ص: 300

فإذا كان الله عز وجل لم يكلفك أن تبحث وتنقب، فاحمد الله على العافية، وأحسن الظن بإخوانك المسلمين، وتعوذ من الشيطان الرجيم.

وأما ما يذكر عن النبي عليه الصلاة والسلام «احترسوا من الناس بسوء الظن»

(1)

، فهذا كذب لا يصح عن النبي عليه الصلاة والسلام، بل روى أبو داود من حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لا يحدثني أحد عن أحد شيئاً فإني أحب أن أخرج إليكم، وأنا سليم الصدر»

(2)

.

وهذا هو اللائق بالمسلم، أما من فُتن ـ والعياذ بالله ـ وصار يتتبع عورات الناس، ويبحث عنها، وإذا رأى شيئاً يحتمل الشر ولو من وجه بعيد طار به فرحاً ونشره، فليبشر بأن من تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته فضحه ولو في جحر بيته.

(1)

أخرجه الطبراني في «الأوسط» (598)؛ وابن عدي في «الكامل» (6/ 2398) عن أنس بن مالك رضي الله عنه وفيه معاوية بن يحيى وهو ضعيف جداً.

انظر ترجمته في: «الميزان» (8635).

(2)

أخرجه الإمام أحمد (1/ 395، 396)؛ وأبو داود (4860)؛ والترمذي (3896).

ص: 301

‌فَصْلٌ

‌يَجِبُ تَكْفِينُهُ فِي مَالِهِ مُقَدّماً عَلَى دَينٍ وَغَيْرِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ فَعَلى مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ .........

فصل

قوله: «يجب تكفينه» الكفن: ما يكفن به الميت من ثياب أو غيرها.

وحكم تكفين الميت الوجوب، والدليل:

1 ـ قول النبي صلى الله عليه وسلم في الذي وقصته راحلته: «كفنوه في ثوبيه»

(1)

، والأصل في الأمر الوجوب.

2 ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم: «أعطى النساء اللاتي غسلن ابنته حقوه، ـ أي: إزاره ـ، وقال: أشعرنها إياه»

(2)

، أي: اجعلنه شعاراً، وهو الذي يلي بدنها.

قوله: «يجب تكفينه» الوجوب هنا كفائي، والفرق بين الكفائي والعيني:

أن الكفائي يقصد به حصول الفعل بقطع النظر عن الفاعل.

والعيني يطلب الفعل من الفاعل، أي: يراعى فيه الفعل والفاعل.

وفرض العين أفضل من فرض الكفاية؛ لأنه أوكد بدليل أن الله أمر به جميع الخلق.

قوله: «في ماله» ، أي: في مال الميت.

ودليل كونه واجباً في ماله قوله صلى الله عليه وسلم: «كفنوه في ثوبيه»

(3)

، فأضاف الثوبين إلى الميت.

ولكن لو فرض أن هناك جهة مسؤولة ملتزمة بذلك، فلا

(1)

سبق تخريجه ص (269).

(2)

سبق تخريجه ص (280).

(3)

سبق تخريجه ص (269).

ص: 302

حرج أن نكفنه منها إلا إذا أوصى الميت بعدم ذلك، بأن قال: كفنوني من مالي، فإنه لا يجوز أن نكفنه من الأكفان العامة، سواء كانت من جهة حكومية، أو من جهة خاصة.

قوله: «مقدماً على دَين» ، «مقدماً» حال من قوله:«تكفينه» أي: حال كون التكفين مقدماً على دين وغيره.

والدَّين: هو كل ما ثبت في الذمة من ثمن مبيع، أو أجرة بيت، أو دكان، أو قرض، أو صداق، أو عوض خلع، وإن كان العامة لا يطلقون الدين إلا على ثمن المبيع لأجل، فهذا عرف ليس موافقاً لإطلاقه الشرعي.

قوله: «وغيره» يعني: الوصية، والإرث.

فالتكفين مقدم على كل شيء، وعموم قول المؤلف:«مقدماً على دين» يشمل ما إذا كان الدين فيه رهن أو لا، وعلى هذا فلو خلف الرجل شاة ليس له غيرها مرهونة بدين عليه، ولم نجد كفناً إلا إذا بعنا هذه الشاة واشترينا بقيمتها كفناً فتباع، ونشتري له كفناً؛ لأن الكفن مما تتعلق به حاجة الشخص خاصة، فيقدم على كل شيء وكذا لو أوصى بها.

قوله: «فإن لم يكن له مال فعلى من تلزمه نفقته» ، أي: إن لم نجد له مالاً، فعلى من تلزمه نفقته.

وإذا وجدنا ثوباً قد لبسه الميت وغترة، فهل نكفنه بهما أو لا بد أن نكفنه باللفائف؟

الجواب: إذا كانت ثيابه تقوم بالواجب، فإننا لا نلزم الناس أن يكفنوه ما دام في ماله ـ ولو ثيابه التي عليه ـ ما يكفي.

ص: 303

قوله: «من تلزمه نفقته» ، أي: الميت حال حياته، وهم الأصول والفروع، فتجب نفقة الوالدين والأولاد بكل حال سواء كانوا وارثين أم لا، وعلى هذا فتجب نفقة الجد على ابن ابنه، وإن لم يكن وارثاً لوجود الابن، أي: وإن كان محجوباً بالابن، وابن البنت تجب نفقته وإن لم يكن وارثاً، وعليه فيجب كفنه على جده من قبل أمه.

أما غير الأصول والفروع، فلا تجب النفقة، إلا على من كان وارثاً بفرض أو تعصيب.

مسألة: الأخ هل يجب أن ينفق على أخيه؟

الجواب: إن كان لأخيه أولاد فإنه لا يلزمه أن ينفق عليه؛ لأنه محجوب بهم، وإن لم يكن له أولاد وجب أن ينفق عليه؛ لأنه وارث.

هذه القاعدة على المشهور من مذهب الإمام أحمد، والمقام هنا لا يقتضي البسط والترجيح.

‌إِلاَّ الزَّوْجَ لَا يَلْزَمُهُ كَفَنُ امْرَأَتِهِ وَيُسْتَحَبُّ تَكْفِينُ رَجُلٍ فِي ثَلَاثِ لَفَائِفَ بِيضٍ ......

قوله: «إلا الزوج لا يلزمه كفن امرأته» ، أي: لو ماتت امرأة، ولم نجد وراءها شيئاً تكفن منه، وزوجها موسر، فإنه لا يلزمه أن يكفنها.

وعللوا: بأن الإنفاق على الزوجة إنفاق معاوضة مقابل الاستمتاع، وهي إذا ماتت انقطع الاستمتاع بها، مع أن بعض علائق الزوجية باقية، بدليل أن الزوج يغسل امرأته بعد موتها.

وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة.

والقول الثاني: أنه يلزمه أن يكفّن امرأته.

ص: 304

وعللوا: أن هذا من العشرة بالمعروف، ومن المكافأة بالجميل، ولأن علائق الزوجية لم تنقطع.

وهذا القول أرجح، ومحل النزاع إذا كان موسراً. فإن لم يوجد من تلزمه النفقة، أو وجد وكان فقيراً ففي بيت المال، فإن لم يوجد بيت مال منتظم فعلى من علم بحاله من المسلمين؛ لأنه فرض كفاية.

فالمراتب إذاً أربع:

1 ـ في ماله.

2 ـ من تلزمه نفقته.

3 ـ بيت المال.

4 ـ عموم المسلمين.

وإنما قُدم بيت مال المسلمين على عموم المسلمين؛ لأنه لا منّة فيه على الميت؛ بخلاف ما إذا كان من المسلمين، فإن هذا الذي سوف يعطيه سيكون في قلبه منة عليه.

مسألة: لو مات الزوج وكان فقيراً، وكانت الزوجة غنية، فلا يلزمها قيمة الكفن؛ وذهب ابن حزم رحمه الله إلى أنه يلزمها ذلك.

قوله: «ويستحب تكفين رجل في ثلاث لفائف بيض» ، الاستحباب هنا ليس منصباً على أصل التكفين؛ لأن أصل التكفين فرض كفاية، لكنه منصب على كون الكفن ثلاث لفائف، وكونها بيضاً.

ص: 305

والدليل على ذلك: أن هذا هو كفن النبي صلى الله عليه وسلم فإنه: «كفِّن في ثلاث لفائف بيض سحولية

(1)

، ليس فيها قميص ولا عمامة»

(2)

، وكان من جملة الصحابة الذين كفنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، وقد أمرنا باتباع سنتهما.

ثم إن بعض العلماء علل بعلة جيدة، فقال: لم يكن الله ليختار لنبيه صلى الله عليه وسلم إلا أفضل الأكفان على أيدي الصحابة رضي الله عنهم.

وكذلك أمر النبي عليه الصلاة والسلام أن نلبس البياض وأن نكفن فيها موتانا، وقال:«إنها خير ثيابكم»

(3)

، ولا شك أن البياض يبهج النفس أكثر من غيره من الألوان؛ ولهذا كان النهار أبيض، وتجد السرور إذا طلع الفجر بخلاف ما إذا جاء الليل.

وإن كفن بغير الأبيض جاز، وإن كفن بلفافة واحدة جاز أيضاً.

‌تُجَمَّرُ،

.........

قوله: «تجمّر» أي: تبخر، وسمي التبخير تجميراً؛ لأنه يوضع في الجمر، ولكن ترش أولاً بماء، ثم تبخر؛ من أجل أن يعلق الدخان فيها.

(1)

بضم أوله، ويروى بفتحه نسبة إلى سَحول قرية باليمن، وقال الأزهري: بالفتح: المدينة، وبالضم: الثياب، وقيل: النسبة إلى القرية: بالضم، وأما بالفتح: فنسبة إلى القصار؛ لأنه يسحل الثياب، أي ينقيها. «فتح الباري» (3/ 140).

(2)

أخرجه البخاري (1264)؛ ومسلم (941) عن عائشة رضي الله عنها.

(3)

أخرجه الإمام أحمد (1/ 247، 274، 355)؛ وأبو داود (3878)؛ والترمذي (994)؛ وابن ماجه (1472)؛ وابن حبان (5423) إحسان؛ والحاكم (1/ 354) عن ابن عباس رضي الله عنهما. وقال الترمذي: «حسن صحيح» وصححه الحاكم على شرط مسلم، ووافقه الذهبي.

ص: 306

‌ثُمَّ تُبْسَطُ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، وَيُجْعَلُ الحَنُوطُ فِيمَا بَيْنَهَا ثُمَّ يُوضَعُ عَلَيْهَا مُسْتَلْقِياً، وَيُجْعَلُ مِنْهُ فِي قُطْنٍ بَيْنَ أَلْيَتَيْهِ، وَيُشَدُّ فَوْقَهَا خِرْقَةٌ مَشْقُوقَة الطّرَفِ كالتُّبَّانِ ..........

قوله: «ثم تبسط بعضها فوق بعض» ، أي: تمد الأولى على الأرض، ثم الثانية، ثم الثالثة.

قوله: «ويجعل الحنوط فيما بينها» ، الحنوط: أخلاط من الطيب تصنع للأموات.

ويدل لهذا قول النبي صلى الله عليه وسلم في الذي وقصته راحلته: «ولا تحنطوه»

(1)

، فإن هذا يدل على أن من عادتهم تحنيط الأموات.

قوله: «ثم يوضع عليها مستلقياً» ، أي: على اللفائف مستلقياً؛ لأن وضعه مستلقياً أثبت، وأسهل لإدراجه فيها، إِذْ لو وضع على جنبه انقلب، وصار في إدراج هذه اللفائف شيء من الصعوبة.

قوله: «ويجعل منه في قطن بين أَليتيه» ، أي: من الحنوط في قطن بين أَليتيه، فيؤتى بهذا الطيب فيجعل منه ما بين الأكفان الثلاثة، ونأخذ منه بقطنة نجعلها بين أليتيه.

وعللوا: لئلا يخرج شيء من دبره، والغالب أنه إذا خرج شيء من دبره أن تكون رائحته كريهة، وهذا الحنوط يبعد هذه الرائحة الكريهة.

قوله: «ويشد فوقها خرقة مشقوقة الطرف كالتبان» ، أي: فوق الحنوط الذي يوضع في القطن، والتبان هو: السروال القصير الذي ليس له أكمام.

(1)

سبق تخريجه ص (269).

ص: 307

‌تَجْمَعُ أَلْيَتَيْهِ وَمَثَانَته، وَيُجْعَلُ البَاقِي عَلَى مَنَافِذِ وَجْهِهِ، وَمَواضِع سُجُودِهِ. وَإِنْ طُيِّبَ كُلُّهُ فَحَسَنٌ،

.............

قوله: «تجمع أليتيه ومثانته» أي: الخرقة المشقوقة، فيؤتى بخرقة مشقوقة الطرف من أجل أن يمكن إدارتها على الفخذين جميعاً، ثم تشد، ومعنى تشد، أي: تربط لتجمع بين أليتيه ومثانته.

إذاً تكون على السوءتين؛ لأنه لا يمكن أن تجمع المثانة مع الأليتين إلا إذا كانت ساترة لهما، وهذا من تمام الستر.

قوله: «ويجعل الباقي على منافذ وجهه، ومواضع سجوده» أي: الباقي من الحنوط الذي وضع في القطن يجعل على منافذ وجهه، وهي: العينان، والمنخران، والشفتان.

وفي الروض زيادة: «الأذنين» ، مع أن الأذنين من الرأس، لكنهما لقربهما من الوجه تلحقان به.

ويجعل الحنوط على المنافذ؛ من أجل أن يَمنع دخول الهوام من هذه المنافذ.

ويُجعل على مواضع السجود، وهي: الجبهة، والأنف، والكفان، والركبتان، وأطراف القدمين.

وعللوا ذلك بأن هذا من باب التشريف لها.

وكل هذا على سبيل الاستحباب من العلماء، أي: وضع الحنوط في هذه الأماكن، أما الحنوط من حيث أصله فقد جاءت به السنّة كما ذكرنا.

قوله: «وإن طيب كله فحسن» ، أي: إن طيب الميت كله

ص: 308

فحسن؛ لأنه يكون أطيب، لكن ينبغي أن يطيب بطيب ليس حاراً؛ لأن الحار ربما يمزق البدن، بل يكون بارداً، وهذا لم يعرف في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن فعله بعض الصحابة

(1)

.

‌ثُمَّ يُردُّ طَرَفُ اللِّفَافَةِ العُلْيا عَلَى شِقِّهِ الأَْيْمَنِ، وَيردّ طَرَفها الآخر مِن فَوْقِهِ، ثُمَّ الثَّانِيَة، والثَّالِثَة كذَلِكَ. وَيَجْعَلُ أَكْثَر الفَاضِلِ عِنْدَ رَأْسِهِ، ثُمَّ يَعْقِدُهَا،

............

قوله: «ثم يرد طرف اللفافة العليا على شقه الأيمن، ويرد طرفها الآخر من فوقه، ثم الثانية، والثالثة كذلك» ، أي: نرد طرف اللفافة العليا وهي التي تلي الميت على شقه الأيمن، ثم نرد طرفها من الجانب الأيسر على اللفافة التي جاءت من قبل اليمين، نفعل بالأولى هكذا، ثم نفعل بالثانية كذلك، ثم بالثالثة كذلك.

وإنما قال المؤلف هذا لئلا يظن الظان أننا نرد طرف اللفائف الثلاث مرة واحدة، بمعنى أن نجمع الثلاث ونردها على الجانب الأيمن، ثم نرد الثلاث على الجانب الأيسر، فأولاً أكمل رد اللفافة الأولى، فترد الطرف الذي يلي يمين الميت، ثم الطرف الذي يلي يساره، ثم الثانية، ثم الثالثة على نفس الطريقة.

قوله: «ويجعل أكثر الفاضل على رأسه» ، أي: إذا كان الكفن طويلاً، فليجعل الفاضل من جهة رأسه، أي: يرده على رأسه، وإذا كان يتحمل الرأس والرجلين فلا حرج، ويكون هذا أيضاً أثبت للكفن.

قوله: «ثم يعقدها» ، أي: يعقد اللفائف.

(1)

انظر: «مصنف عبد الرزاق» (3/ 414)؛ وابن أبي شيبة (3/ 256).

ص: 309

والحكمة من عقدها لئلا تنتشر وتتفرق.

أما بالنسبة لعدد العقد فيفعل ما يحتاج إليه، ومن المعلوم أنّ أقل ما يحتاج إليه هو عقدتان، عند الرأس، وعند الرجلين، وقد يحتاج إلى عقدتين أو ثلاث في الوسط، وأما أنه لا بد أن تكون سبع عقد فهذا لا أعلم له أصلاً.

‌وَتُحَلُّ فِي القَبْرِ وَإِنْ كُفِّنَ فِي قَمِيصٍ وَمِئْزَرٍ وَلِفَافَةٍ جَازَ، وَتُكَفَّنُ المَرْأَةُ فِي خَمْسَةِ أَثْوَابٍ إِزَارٍ، وَخِمَارٍ، وَقَمِيصٍ، وَلِفَافَتَيْنِ.

قوله: «وتحل في القبر» استدل في الروض «بأثر عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: «إذا أدخلتم الميت القبر فحلوا العقد»

(1)

.

ولأن الميت ينتفخ في القبر فإذا كان مشدوداً بهذه العقد تمزق.

ولو فرض أنه نُسي أن تحل، ثم ذكروا عن قرب، فإن القبر ينبش من أجل أن تحل هذه العقد.

وقال في الروض: «وكره تخريق اللفائف» ؛ لأنه إفساد لها.

إذا قال قائل: إذا خرقتها لم تستره؟

فنقول: لا، بل تستره فخرق مثلاً العليا، ثم خرق التي تحتها من جهة أخرى لا تقابل الخرق الذي في العليا، ثم الثالثة كذلك.

وإنما ذكر صاحب الروض هذا؛ لأن بعض أهل العلم قال: إذا خيف من النباش فإنها تخرق اللفائف؛ لأنه كان

(1)

لم نقف عليه عن ابن مسعود، ولكن روي مرسلاً عن النبي صلى الله عليه وسلم:«أنه وضع نعيم بن مسعود في القبر ونزع الأخلّة بفيه» . والأخلّة: العقد. أخرجه أبو داود في «المراسيل» (419)؛ والبيهقي في «السنن» (3/ 407).

ص: 310

هناك سُرَّاقٌ يأتون إلى المقابر ينبشونها ويأخذون الأكفان، فقال هؤلاء: إذا خفت من هؤلاء فخرق اللفائف؛ لكي تفسدها عليهم، كما خرق الخضر السفينة؛ لئلا يأخذها الملك الظالم.

لكن الفقهاء المتأخرين قالوا: لا تخرق.

قوله: «وإن كفن في قميص ومئزر ولفافة جاز» .

بعد أن ذكر المؤلف رحمه الله المشروع في تكفين الرجل، وأنه يكفن في ثلاث لفائف بيض، كما كفن النبي صلى الله عليه وسلم

(1)

بيّن القدر المجزئ من ذلك. فقال: «وإن كفن في قميص، ومئزر، ولفافة جاز» .

والقميص: هو الذي نلبسه، أي: الدرع ذو الأكمام.

والمئزر: ما يؤتزر به، ويكون في أسفل البدن.

واللفافة: عامة. أي: إذا كفن في هذه فلا بأس، ولكن غالب ما يكفن به الناس اليوم اللفائف الثلاث؛ لأن القميص يحتاج إلى خياطة ومدة أو إلى تجهيز أقمصة تكون مهيئة عند الذين يغسلون الموتى ويكفّنونهم.

قوله: «وتكفن المرأة في خمسة أثواب: إزار، وخمار، وقميص، ولفافتين» .

قوله: «إزار» من حيث الإعراب بدل بعض من كل.

(1)

سبق تخريجه ص (306).

ص: 311

والإِزار: ما يؤتزر به، ويكون في أسفل البدن.

والخمار: ما يغطى به الرأس.

والقميص: الدرع ذو الأكمام.

واللفافتان: يعمان جميع الجسد.

وقد جاء في هذا حديث مرفوع

(1)

، إلا أن في إسناده نظراً؛ لأن فيه راوياً مجهولاً، ولهذا قال بعض العلماء: إن المرأة تكفن فيما يكفن به الرجل، أي: في ثلاثة أثواب يلف بعضها على بعض.

وهذا القول ـ إذا لم يصح الحديث ـ هو الأصح؛ لأن الأصل تساوي الرجال والنساء في الأحكام الشرعية، إلا ما دلّ الدليل عليه، فما دلّ الدليل على اختصاصه بالحكم دون الآخر، خص به وإلا فالأصل أنهما سواء.

وعلى هذا فنقول: إن ثبت الحديث بتكفين المرأة في هذه الأثواب الخمسة فهو كذلك، وإن لم يثبت فالأصل تساوي الرجال والنساء في جميع الأحكام، إلا ما دلّ عليه الدليل.

‌وَالْوَاجِبُ ثَوْبٌ يَسْتُرُ جَمِيعَهُ.

قوله: «والواجب ثوب يستر جميعه» ، أي: الواجب في الكفن ثوب واحد يستر جميع الميت.

ص: 312

وقول المؤلف: «يستر جميعه» يدل على أنه لا بد أن يكون هذا الثوب صفيقاً بحيث لا ترى من ورائه البشرة، فإن رئيت من ورائه البشرة فإنه لا يكفي.

والدليل على أن هذا واجب: أن الصحابة الذين قصرت بهم ثيابهم عن الكفن «أمر النبي عليه الصلاة والسلام أن يجعل الكفن من عند الرأس ويجعل على الرجلين شيء من الإذخر»

(1)

، وهو: نبات معروف.

فإذا لم يوجد شيء، مثل: أن يحترق بثيابه، ولم يوجد ثياب يكفن بها، فإنه يكفن بحشيش أو نحوه يوضع على بدنه ويلف عليه حزائم، فإن لم يوجد شيء فإنه يدفن على ما هو عليه؛ لعموم قول الله تعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16].

(1)

أخرجه البخاري (3897)؛ ومسلم (940) عن خباب رضي الله عنه.

ص: 313

‌فَصْلٌ

‌السُّنَّةُ أَنْ يَقُومَ الإِْمَامُ عِنْدَ صَدْرِهِ، وَعِنْدَ وَسَطِهَا

قوله: «السنّة أن يقوم الإمام عند صدره وعند وسطها» ، لم يفصح المؤلف في هذا الفصل عن حكم الصلاة على الميت؛ لأنه ذكرها في أول الفصل في قوله:«غسل الميت، وتكفينه، والصلاة عليه، ودفنه، فرض كفاية» .

وعلى هذا فنقول: الصلاة على الميت فرض كفاية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالصلاة على الميت فقال في قصة الرجل الذي عليه الدين: «صلوا على صاحبكم»

(1)

.

وقال في الذي قتل نفسه بمشاقص: «صلوا على صاحبكم»

(2)

.

وقال: «صلوا على من قال: لا إله إلا الله»

(3)

.

ويشير إلى هذا قوله تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة: 84].

فإن هذا يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان من هديه أن يصلي على الأموات.

فالصلاة على الميت فرض كفاية، وتسقط بمكلف، أي: لو صلّى عليه مكلف واحد ذكر، أو أنثى، فإن الفرض يسقط.

وقد يقال: كيف لا يوجد إلا رجل واحد أو امرأة واحدة؟

الجواب: هذا ممكن، مثل: أن يموت شخص في مكان

(1)

أخرجه البخاري (2295) عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه.

(2)

أخرجه مسلم (978) عن جابر بن سمرة رضي الله عنه.

(3)

أخرجه الدارقطني (2/ 56)؛ والطبراني في «الكبير» (13622) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

ص: 314

مجهول، ولا يعلم عنه فيصلي عليه واحد من الناس فيكفي.

ومثل ذلك ما يسأل عنه بعض أهل البادية، يقولون: إنا كنا ندفن الأموات الصغار بدون صلاة؟.

فنقول لهم: يصلي واحد منكم على هؤلاء الذين دفنوا ويكفي، حتى لو صلت امرأة واحدة على أحد من الناس كفى؛ لأن فرض الكفاية يسقط بواحد.

واشترطنا أن يكون مكلفاً؛ لأن الصلاة على الجنازة فرض، والفرض لا يقوم به إلا المكلف.

وأمَّا كيفية الصلاة على الميت فبينها المؤلف رحمه الله بقوله: «السنّة أن يقوم الإمام عند صدره، وعند وسطها» .

فيستحبُّ على هذا أن يقوم الإمام عند صدر الرجل، وعند وسط المرأة.

والصحيح أنه يقف عند رأس الرجل، لا عند صدره؛ لأن السنّة ثبتت بذلك

(1)

.

وعند وسطها، أي وسط المرأة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم:«قام على امرأة ماتت في نفاسها عند وسطها»

(2)

.

والحكمة في ذلك: أن وسطها محل العجيزة والفرج، فكان الإمام عنده ليحول بين المأمومين وبين النظر إليها، هذه من الحكمة، والله أعلم.

(1)

أخرجه أحمد (3/ 118)؛ وأبو داود (3194)؛ والترمذي (1039)؛ وابن ماجه (1494) عن أنس بن مالك رضي الله عنه. وقال الترمذي: «حديث حسن» .

(2)

أخرجه البخاري (1332)؛ ومسلم (964) عن سمرة بن جندب رضي الله عنه.

ص: 315

والوقوف عند رأس الرجل ووسط المرأة مستحب، فلو وقف عند الرجلين أجزأ، ولكن لو لم يكن الميت بين يدي الإمام لم يجزئ.

وقوله: «أن يقوم الإمام عند صدره» ، يفهم منه أن هذه الصلاة كغيرها من الصلوات يكون الإمام هو المتقدم والمأمومون خلفه، وقد جرت عادة كثير من الناس اليوم أن يقوم مع الإمام الذين قربوا الجنازة إلى الإِمام، فيقومون عن يمينه غالباً دون يساره، وأحياناً عن يمينه وعن يساره، وكل هذا خلاف السنة.

بل السنّة أن يتقدم الإمام، وأما الذين قدموا الجنازة إلى الإمام، فإن كان لهم محل في الصف الأول صفوا في الصف الأول، وإن لم يكن لهم محل صفوا بين الإمام وبين الصف الأول من أجل أن يتميز الإمام بمكانه، ويكون أمام المأمومين، ثم إن قدر أن المكان ضيق لم يتسع لوقوف الإمام وصف خلفه فإنهم يصفون عن يمينه وعن شماله وليس عن اليمين فقط؛ لأن صف المأمومين كلهم عن يمين الإمام خلاف السنّة أيضاً.

ودليل ذلك: أن السنّة أولاً إذا كانوا ثلاثة وقاموا جماعة فإن الإمام يكون بين الاثنين دلّ ذلك على أنه متى كان الصف مع الإمام فإنهم يكونون عن يمينه وعن يساره.

فإذا قال قائل: السنّة إذا كانوا ثلاثة أن يتقدم الإمام؟

قلنا: نعم، هذا هو الذي آل إليه الحكم أخيراً، والحكم الأول وهو الصف مع الإمام عن يمينه وشماله نسخ، لكن الذي نسخ من الحكم الأول هو كون الإمام بينهما، أما إذا كانوا لا بد أن يصفوا معه، فإن السنّة باقية، أي: أن يكونوا عن يمينه وعن شماله.

ص: 316

تنبيه: لا يشترط أن يكون رأس الميت عن يمين الإمام، فيجوز أن يكون عن يسار الإمام ويمينه. خلافاً لما يعتقد بعض العامة من أنه لا بد أن يكون عن يمينه.

‌وَيُكَبِّرُ أَرْبَعاً يَقْرَأُ فِي الأُْولَى بَعْدَ التَّعَوُّذِ الفَاتِحَةَ،

...........

قوله: «ويكبّر أربعاً» التكبيرات عند الفقهاء هنا كلها أركان؛ لأنها بمنزلة الركعات، فكل تكبيرة عن ركعة.

والتكبيرات في الصلوات الأخرى، منها ما هو ركن، ومنها ما هو واجب، ومنها ما هو سنّة.

فالركن ـ في غير صلاة الجنازة ـ هي: تكبيرة الإحرام.

والسنّة هو: تكبيرة المسبوق إذا جاء والإمام راكع، فيكبّر تكبيرة الإحرام واقفاً، ثم يركع، والأفضل أن يكبّر للركوع وإن لم يكبر فلا حرج.

والواجب: ما عدا ذلك، هذا هو الراجح.

وذهب بعض العلماء: إلى أن التكبيرات سوى تكبيرة الإحرام سنّة، وأن الرجل لو تعمد تركها لم تبطل صلاته، لكن ما ذكرناه هو ما مشى عليه أصحاب الإمام أحمد رحمه الله.

قوله: «يقرأ في الأولى بعد التعوّذ الفاتحة» ، أي: في التكبيرة الأولى بعد التعوّذ، أي: بعد قول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، يقرأ الفاتحة.

ودليل التعوذ عموم قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ *} [النحل].

وعُلم من كلامه أنه لا استفتاح فيها.

وعلل العلماء القائلون بهذا: ـ بأن هذه الصلاة مبنية على

ص: 317

التخفيف، ولهذا ليس فيها ركوع ولا سجود، ولا قراءة مطولة زائدة على الفاتحة، بل ولا قراءة زائدة مطلقاً على قول بعض العلماء، ولا تشهّد، وليس فيها إلا تسليم واحد.

وقال بعض أهل العلم: بل يستفتح؛ لأنها صلاة، فيستفتح لها كما يستفتح لسائر الصلوات.

وقوله: «بعد التعوذ الفاتحة» ، أفادنا رحمه الله: أن الفاتحة لا بد منها، وهو كذلك.

والفاتحة في صلاة الجنازة ركن؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب»

(1)

، وصلاة الجنازة صلاة؛ لقوله تعالى:{وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} فسماها الله صلاة، ولأن ابن عباس رضي الله عنهما قرأ الفاتحة على جنازة، وقال:«لتعلموا أنها سنة»

(2)

.

‌وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الثَّانِيَةِ كالتَّشَهُّدِ، وَيَدْعُو فِي الثَّالِثَةِ فَيَقُولُ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنا وَمَيِّتِنا، وَشَاهِدنَا وَغَائِبِنَا، وَصَغِيرنا وَكَبِيرنَا، وَذَكَرنَا وأُنْثَانَا ......

قوله: «ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في الثانية كالتشهّد» ، أي: يصلي في التكبيرة الثانية «كالتشهّد» أي: كما يصلي عليه في التشهّد. والصلاة عليه صلى الله عليه وسلم في التشهّد هي: «اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد» .

وإن اقتصر على قوله: «اللهم صلّ على محمد» كفى كما يكفي ذلك في التشهّد.

قوله: «ويدعو في الثالثة» أي: في التكبيرة الثالثة يدعو

(1)

سبق تخريجه (3/ 62).

(2)

أخرجه البخاري (1335).

ص: 318

بالدعاء المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم إن كان يعرفه، فإن لم يكن يعرفه فبأي دعاء دعا جاز، إلا أنه يخلص الدعاء للميت، أي: يخصه بالدعاء.

والدعاء للميت: عام، وخاص، وقد ذكرهما المؤلف رحمه الله، فبدأ بالدعاء العام أوّلاً.

قوله: «فيقول: اللهم اغفر» ، أي: يا الله اغفر، والمغفرة: ستر الذنب مع التجاوز عنه، وليست ستر الذنب فقط، بل ستر وتجاوز، وهي مأخوذة من المغفر الذي يغطى به الرأس عند القتال؛ لأنه يتضمن ستراً ووقاية.

قوله: «لحينا وميتنا» ، أي: لحينا نحن المسلمين، وميتنا كذلك نحن المسلمين، وهذا عام؛ لأنه مفرد مضاف، والمفرد المضاف يعم فيشمل الذكر والأنثى، والصغير والكبير، والحر والعبد، والشاهد والغائب.

وإنما قلت هذا لتعتبر هذا فيما يأتي.

قوله: «وشاهدنا وغائبنا» ، هذا أيضاً عموم داخل في العموم الأول، والعموم الأول داخل فيه أيضاً أي: يشمل الذكر والأنثى، والصغير والكبير، والحر والعبد، والحي والميت.

قوله: «وصغيرنا وكبيرنا» كسابقه، فهو عام.

قوله: «وذكرنا وأُنثانا» كسابقه، فهو عام.

إذا قال قائل: لماذا التطويل والتفصيل؟

قلنا: لأن مقام الدعاء ينبغي فيه البسط.

والسنّة في الدعاء أن تبسط وتطول لستة أسباب:

ص: 319

الأول: أن إطالة الدعاء تدل على محبة الداعي؛ لأن الإِنسان إذا أحب شيئاً أحب طول مناجاته، فأنت متصل بالله في الدعاء، فتطويلك الدعاء وبسطك له دليل على محبتك لمناجاة الله عز وجل.

الثاني: أن التطويل يظهر فيه من التفصيل ما يدل على شدة افتقار الإنسان إلى ربه في كل حال.

الثالث: أن ذلك أحضر للقلب.

الرابع: زيادة الأجر والتعبد لله تعالى؛ فالدعاء عبادة يؤجر عليها الإنسان.

الخامس: أن هذا من باب الإلحاح في الدعاء والله يحب الملحِّين في الدعاء.

السادس: أن بالتطويل في الدعاء قد يذكر شيئاً قد نسيه من الدعاء.

واعتبر هذا بقوله صلى الله عليه وسلم: «اللهم اغفر لي ذنبي كله، دقه وجله، سره وعلانيته، وأوله وآخره»

(1)

، «اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني»

(2)

، «اللهم اغفر لي جدي وهزلي، وخطئي وعمدي، وكل ذلك عندي»

(3)

، فهذا فيه تفصيل وعمومات، لكن فائدته ما أشرت إليه من قبل.

ولو قيل: إن صلاة الجنازة مبنية على التخفيف؛ ولهذا لا يقرأ فيها دعاء الاستفتاح، فكيف نبسط في الدعاء ونطول؟

فالجواب: أن الدعاء هو مضمون الصلاة، فينبغي البسط

(1)

أخرجه مسلم (483) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

أخرجه مسلم (771) عن علي رضي الله عنه.

(3)

أخرجه البخاري (6399) عن أبي موسى رضي الله عنه.

ص: 320

فيه، أما دعاء الاستفتاح فإنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يستفتح في صلاة الجنازة.

‌إِنَّكَ تَعْلَمُ مُنْقَلَبَنَا وَمَثْوَانَا، وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ..........

قوله: «إنك تعلم منقلبنا ومثوانا» ، هذه الجملة تعليل لما سبق، أي: دعوناك بهذا الدعاء، لأننا نعلم أنك تعلم منقلبنا، أي: ما ننقلب إليه، ومثوانا، أي: ما نصير إليه؛ لأن المثوى والمصير معناهما واحد.

قوله: «وأنت على كل شيء قدير» تتمة للدعاء، ولكنها من زيادات بعض الفقهاء؛ لأنها لم ترد في الحديث الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم.

ومعناها: أن الله قادر على كل شيء، قادر على أن يوجد المعدوم، وأن يعدم الموجود، وأن يغير الحال من حسن إلى أحسن أو من حسن إلى أردى، وهذه جملة عامة لا يستثنى منها شيء.

وقول صاحب تفسير الجلالين في قوله تعالى في سورة المائدة: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ *} [المائدة].

قال: «خصّ العقل ذاته فليس عليها بقادر» ، فهذا القول منكر، وذلك؛ لأن قوله:«خص العقل ذاته» نقول: أين العقل الذي خصّ ذاته بأنَّهُ ليس قادراً عليها، أليس الله يفعل ما يريد؟!

والفاعل لما يريد يفعل بنفسه؛ فهو قادر على أن يفعل ما شاء وأن يدع ما شاء.

نعم الشيء الذي لا يليق بجلاله لا يمكن أن يكون متعلق القدرة؛ لأن أصل القدرة لا تتعلق به.

كما لو قال قائل: هل يقدر الله على أن يخلق مثله؟

نقول: هذا مستحيل؛ لأن المثلية ممتنعة، فلو لم يكن من

ص: 321

انتفاء المماثلة إلا أن الثاني مخلوق والأول خالق.

والأول: واجب الوجود.

والثاني: ممكن الوجود.

ويذكر أن جنود الشيطان جاءوا إليه فقالوا له: يا سيدنا نراك تفرح بموت الواحد من العلماء، ولا تفرح بموت آلاف العباد، فهذا العابد الذي يعبد الله ليلاً ونهاراً يسبّح ويهلل ويصوم ويتصدق لا تفرح بموت الألف منهم فرحك بالواحد من العلماء.

قال: نعم أنا أدلكم على هذا، فذهب إلى عابد فقال له: يا أيها الشيخ هل يقدر الله أن يجعل السموات في جوف بيضة؟

قال العابد: لا. وهذه غلطة كبيرة.

ثم ذهب إلى العالم وقال له: هل يقدر الله أن يجعل السموات في بيضة؟.

قال العالم: نعم، قال: كيف؟ قال: إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له: كن فيكون، فإذا قال للسموات: كوني في جوف بيضة كانت، فقال: انظروا الفرق بين هذا وهذا.

فالمهم أنه يجب أن نطلق فنقول: إن الله على كل شيء قدير.

فإن قال قائل: عبارة ترد كثيراً عند الناس (إنه على ما يشاء قدير) هل هذا جائز؟.

قلنا: لا يجوز إلا مقيداً؛ لأنك إذا قلت: «إنه على ما يشاء قدير» أوهم أن ما لا يشاء لا يقدر عليه، وهو قادر على الذي يشاء والذي لا يشاء.

لكن إذا قُيِّدَتِ المشيئة بشيء معين صح، كقوله تعالى:

ص: 322

{وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ} [الشورى: 29]، أي: إذا يشاء جمعهم فهو قادر عليه.

وكذلك في قصة الرجل الذي أدخله الله الجنة آخر ما كان فقال الله له: «إني على ما أشاء قادر»

(1)

؛ لأنه يتعلق بفعل معين.

‌اللَّهُمَّ مَنْ أَحْيَيْتَهُ مِنَّا فَأَحْيِهِ عَلَى الإِسْلامِ والسُّنَّةِ، وَمَنْ تَوَفَّيتَهُ مِنَّا فَتَوَفَّهُ عَلَيْهِما، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ،

..........

قوله: «اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام والسنّة، ومن توفيته منّا فتوفه عليهما» ، هذه الصيغة لم ترد، والوارد:«اللهم من أحييته منّا فأحيه على الإسلام، ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان»

(2)

.

فالوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم أولى أن من أحياه الله يحييه على الإسلام والانقياد التام، ومن أماته فليتوفه على الإيمان.

والحكمة من ذلك: أن الاستسلام الظاهر حين الوفاة قد لا يتمكن الإنسان منه؛ لأنه منهك وفي آخر قواه، فكان الدعاء له بالإيمان في هذه الحال أبلغ؛ ولأن الإيمان هو اليقين، ووفاة الإنسان على اليقين أبلغ.

وأما الإسلام فإنه استسلام ظاهر بالعمل، ويكون من المؤمن حقاً، ومن ضعيف الإيمان، ومن المنافق أيضاً.

مسألة: الدعاء الوارد عن النبي عليه الصلاة والسلام أولى بالمحافظة عليه من الدعاء غير الوارد، وإن كان الأمر واسعاً.

قوله: «اللهم اغفر له وارحمه» ، هذا الدعاء الخاص، وبدأ

(1)

أخرجه مسلم (187) عن ابن مسعود رضي الله عنه.

(2)

أخرجه أحمد (2/ 368)؛ وأبو داود (3201)؛ والترمذي (1024)؛ وابن ماجه (1498)؛ والحاكم (1/ 358). وصححه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي.

ص: 323

بالدعاء العام؛ لأنه أشمل، أما الخاص فهو خاص بالميت.

وقد وردت السنّة بكل من الدعاء العام والخاص، وقد قال العلماء: يجمع بينهما، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم:«أخلصوا له الدعاء»

(1)

فلا بد من تخصيصه بدعاء، وإن كان الدعاء العام يشمله.

والمغفرة: محو آثار الذنوب وسترها، والإنسان محتاج إلى ستر ذنوبه حياً وميتاً.

«وارحمه» أي: بحصول المطلوب.

ولهذا يجمع بين المغفرة والرحمة كثيراً؛ لأن بالمغفرة النجاة من المرهوب، وبالرحمة حصول المطلوب.

‌وَعَافِهِ وَاعْفُ عَنْهُ، وَأَكْرِمْ نُزُلَهُ، وَأَوْسِع مُدْخَلَهُ وَاغْسِلْهُ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ،

......

قوله: «وعافه واعف عنه» ، أي: عافه مما قد يصيبه من السوء كعذاب القبر مثلاً.

«واعف عنه» أي: تجاوز عنه ما فرط فيه من الواجب في حال حياته.

فالعفو: التسامح والتجاوز عن مخالفة الأوامر.

والمعافاة: السلامة من آثام المحرم.

والمغفرة: محو آثار الذنوب بالمخالفة.

قوله: «وأكرم نزله» ، «نُزُلَهُ»: بالضم، ويقال: نُزْله بالسكون، وهو القِرى، أي: الإكرام الذي يقدم للضيف، والإنسان الراحل هو في الحقيقة قادم على دار جديدة، فتسأل الله أن يكرم نزله أي ضيافته.

قوله: «وأوسع مدخله» ، يقال: مَدخل، ومُدخل، بالفتح

(1)

أخرجه أبو داود (3199)؛ وابن ماجه (1497)؛ وابن حبان (3076)(3077) إحسان، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 324

وبالضم، فبالفتح: اسم مكان، أي: مكان الدخول، وبالضم: الإدخال، وعلى هذا فالفتح أحسن، أي: أوسع مكان دخوله، والمراد به القبر، أي: أن الله يوسعه له؛ لأن القبر إما أن يضيق على الميت حتى تختلف أضلاعه ـ والعياذ بالله ـ وإما أن يوسع له مد البصر، فأنت تسأل الله أن يوسع مدخله.

قوله: «واغسله بالماء والثلج والبرد» ، الغسل بالماء: أي: استعمال الماء فيما تلوث، وما حصل فيه أذى؛ من أجل إزالة التلويث والأذى.

والمراد بالغسل هنا: غسل آثار الذنوب، وليس المراد أن يغسل شيئاً حسياً؛ لأن الغسل الحسي قد تم بالنسبة للميت قبل أن يكفن.

ولهذا قال: «بالماء، والثلج، والبرد» .

أورد بعض العلماء على هذا إشكالاً فقال:

إن الغسل بالماء الساخن أنقى، فلماذا قال:«بالماء، والثلج، والبرد» ؟.

والجواب عن ذلك: أن المراد غسله من آثار الذنوب، وآثار الذنوب نار محرقة، فيكون المضاد لها الماء والبرودة.

وقوله: «الثلج والبرد» الفرق بينهما: أن الثلج ما يتساقط من غير سحاب، فيتساقط من الجو مثل الرذاذ ويتجمد.

والبرد: يتساقط من السحاب ويسمى عند بعض أهل اللغة: حب الغمام؛ لأنه ينزل مثل الحب.

ص: 325

‌وَنَقِّهِ مِنَ الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأَْبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ، وأبْدِلْهُ دَاراً خَيراً مِنْ دَارِهِ، وَزَوْجاً خَيْراً مِنْ زَوْجِهِ،

...........

قوله: «ونقه من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس» ، والوارد في الحديث، «ونقه من الخطايا»

(1)

.

والخطايا: جمع خطيئة، وهي: ما خالف فيها الصواب، سواء كان فعلاً للمحظور أو تركاً للمأمور.

وقوله: «من الذنوب» ، لو صح الحديث بلفظ:«الذنوب والخطايا» كما أورده المؤلف. لقلنا: الذنوب: الصغائر، والخطايا: الكبائر.

ولكن الحديث ورد بلفظ «الخطايا» فقط.

وبناء عليه نقول: «الخطايا» هنا تشمل: الصغائر، والكبائر.

وقوله: «كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس» ، هذا التشبيه لقوة التنقية، أي: نقه نقاء كاملاً، كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وخص الأبيض؛ لأن ظهور الدنس على الأبيض أبين من ظهوره على غيره.

قوله: «وأبدله داراً خيراً من داره» الدار الأولى دار الدنيا، والثانية دار البرزخ، وهناك دار ثالثة وهي دار الآخرة.

قوله: «وأبدله داراً خيراً من داره» يشمل الدارين؛ دار البرزخ، ودار الآخرة.

قوله: «وزوجاً خيراً من زوجه» ، أي: سواء كان المصلى عليه رجلاً أم امرأة.

(1)

أخرجه مسلم (963).

ص: 326

وهناك إشكال؛ لأنه إن كان المصلى عليه رجلاً، وقلنا:«أبدله زوجاً خيراً من زوجه» ، فهذا يقتضي أن الحور خير من نساء الدنيا، وإن كان امرأة فإننا نسأل الله أن يفرق بينها وبين زوجها، ويبدلها خيراً منه. فهذان إشكالان؟

أما الجواب عن الأول: «أبدله زوجاً خيراً من زوجه» ، فليس فيه دلالة صريحة على أن الحور خير من نساء الدنيا؛ لأنه قد يكون المراد خيراً من زوجه في الأخلاق، لا في الخيرية عند الله عز وجل.

وبهذا الجواب يتضح الجواب عن الإشكال الثاني، فنقول: إن خيرية الزوج هنا ليست خيرية في العين، بل خيرية في الوصف، وهذا يتضمن أن يجمع الله بينهما في الجنة؛ لأن أهل الجنة ينزع الله ما في صدورهم من غل، ويبقون على أصفى ما يكون، والتبديل كما يكون بالعين يكون بالصفة، ومنه قوله تعالى:{يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} [إبراهيم: 48].

فالأرض هي الأرض بعينها، لكنها اختلفت، وكذلك السموات.

فإن قيل: إذا كان الميت لم يتزوج فكيف تقول: «وزوجاً خيراً من زوجه» ؟.

فنقول: المراد زوجاً خيراً من زوجه لو تزوج.

وفي الحديث: زيادة «وأهلاً خيراً من أهله»

(1)

، لكن حذفها المؤلف رحمه الله.

(1)

سبق تخريجه ص (326).

ص: 327

‌وَأَدْخِلْهُ الجَنَّةَ، وَأَعِذْهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَعَذَابِ النَّارِ،

..........

قوله: «وأدخله الجنة» هي: دار المتقين، كما قال تعالى:{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ *} [آل عمران].

قوله: «وأعذه من عذاب القبر» لأن القبر فيه عذاب، ولكن الله تعالى قد يقي الإنسان عذابه إذا ألح على الله بالدعاء كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم فقال:«تعوذوا بالله من عذاب القبر»

(1)

.

ولهذا أمر أن يتعوذ الإنسان في كل صلاة إذا تشهد التشهد الأخير، من عذاب القبر، وعذاب النار، وفتنة المحيا والممات، وفتنة المسيح الدجال

(2)

.

قوله: «وعذاب النار» معروف.

فإن قال قائل: أليس إدخال الجنة يغني عن سؤال أن يعيذه الله من عذاب القبر، وعذاب النار؟

الجواب: لا، فإن الإنسان قد يدخل الجنة بعد أن يعذب في القبر، وبعد أن يعذب بالنار، فأنت تسأل الله أن تدخل الجنة نقياً من عذاب سابق، لا في القبر ولا في النار.

وقوله: «اللهم اغفر له» الضمير للمفرد المذكر، فإذا كان الميت أنثى، فهل نقول: اللهم اغفر له، أو نقول: اللهم اغفر لها بالتأنيث؟

الجواب: بالتأنيث؛ لأن ضمير الأنثى يكون مؤنثاً، فنقول: اللهم اغفر لها وارحمها، وعافها، واعف عنها ..... إلى آخر الدعاء.

(1)

سبق تخريجه (3/ 174).

(2)

سبق تخريجه (3/ 200).

ص: 328

فإن قيل: الحديث ورد بالتذكير فكيف نؤنث الضمير إذا كان الميت أنثى؟

فالجواب: أن هذا الحديث ورد في الدعاء لميت ذكر، ولو أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «إذا صليتم على الميت فقولوا: اللهم اغفر له

إلخ» لتوجه عدم التأنيث، فنأخذ بالنص ونؤوله على ما يناسب الحال.

وإن كان المقدم اثنين تقول: اللهم اغفر لهما

وإن كانوا جماعة تقول: اللهم اغفر لهم.

وإن كن جماعة إناث تقول: اللهم اغفر لهن.

وإن كانوا من الذكور والإناث، فيغلب جانب الذكورية، فتقول: اللهم اغفر لهم، فالضمير يكون على حسب من يدعى له.

ونظير هذا من بعض الوجوه حديث ابن مسعود رضي الله عنه في دعاء الغمّ: «اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك .... »

(1)

.

والمرأة تقول: «اللهم إني أمتك بنت عبدك بنت أمتك .... » .

وإن كان الإنسان لا يدري هل المقدم ذكر أو أنثى، فهل يؤنِّث الضمير أو يذكِّرُه؟.

الجواب: يجوز هذا وهذا، باعتبار القصد، فإن قلت: اللهم اغفر له، أي: لهذا الشخص، أو للميت، وإن قلت: اللهم اغفر لها، أي: لهذه الجنازة.

(1)

أخرجه الإمام أحمد (1/ 391، 452)؛ وابن حبان (972) إحسان؛ والحاكم (1/ 509) عن ابن مسعود رضي الله عنه؛ وحسّنه ابن القيم في «شفاء العليل» ص (274).

ص: 329

‌وافْسَحْ لَهُ فِي قَبْرِهِ، وَنَوِّرْ لَهُ فِيهِ». وَإِنْ كَانَ صَغِيراً قَالَ: «اللَّهُمَّ اجْعلْهُ ذُخْراً لِوَالِدَيْهِ، وَفَرَطاً، وأَجْراً، وَشَفِيعاً مُجَاباً،

..........

قوله: «وافسح له في قبره» أي: وسع له؛ لأن الفسحة السعة، وهذا التوسيع ليس توسيعاً محسوساً بحيث يكون قبره متسعاً يملأ المقبرة، لكنه فَسْحٌ غير محسوس إحساساً دنيوياً؛ لأنه من أحوال الآخرة.

وكما ترون في المنام أن الإنسان يرى أنه في مكان فسيح، وفي نخيل، وأشياء تبهج نفسه، وهو لا يزال في فراشه، فعذاب القبر يشبه من بعض الوجوه ما يراه النائم، وإن كان أشد منه في كونه حقيقة.

وإنما قلنا ذلك؛ لئلا يورد علينا مورد بأن الناس في قبورهم لا تتسع القبور أكثر مما هي عليه في الواقع؟

فنقول له: هذا أمر غيبي، وليس أمراً حسياً معروفاً.

قوله: «ونور له فيه» ، أي: اجعل له فيه نوراً.

قال في الروض: «ولا بأس بالإشارة بالأصبع حال الدعاء للميت» ، وهذا فيه نظر!!

قوله: «وإن كان صغيراً قال .... » ، هذا فيه بيان صيغة الدعاء للصغير إذا صلي عليه.

ولكن هل ثبت هذا الدعاء بهذه الصيغة للصغير؟

الجواب: لا، لم يثبت بهذه الصيغة للصغير، ولكن ورد أنه يصلى عليه، ويدعى له، ويدعى لوالديه

(1)

.

(1)

لحديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، وفيه قال النبي صلى الله عليه وسلم:«والطفل يصلى عليه، ويدعى لوالديه بالمغفرة والرحمة» .

أخرجه الإمام أحمد (4/ 247،248، 249، 252)؛ وأبو داود (3180)؛ والترمذي (1031)؛ والنسائي (4/ 55)؛ وابن ماجه (1481)؛ والبيهقي (4/ 8، 24، 25). وقال الترمذي: «حسن صحيح» . وقوله: «ويدعى لوالديه» تفرد به البيهقي.

ص: 330

ولكن العلماء رحمهم الله استحسنوا هذا الدعاء.

قوله: «اللهم اجعله ذخراً لوالديه» الذخر: بمعنى المذخور، أي: أنها مصدر، بمعنى اسم المفعول، أي: مذخوراً لوالديه يرجعان إليه عند الحاجة.

قوله: «وفرطاً» الفرط: السابق السالف، وهنا إشكال كيف نقول: إنه فرط لوالديه إذا كانا قد ماتا قبله؟

فيقال: إنه فرط لوالديه في الآخرة يتقدمهما؛ ليكون لهما أجرهُ.

قوله: «وأجراً» أي: اجعله لهما أجراً، وهذا ظاهر فيما إذا كانا حيَّين؛ لأنهما سوف يصابان به؛ فإذا أصيبا به فصبرا على هذه المصيبة صار أجراً لهما. أما إذا كانا ميتين، فلا يظهر هذا، لكن لعل الفقهاء ذكروا هذا بناء على الأغلب.

قوله: «شفيعاً» الشفيع: بمعنى الشافع، كالسميع بمعنى السامع.

والشفيع: هو الذي يتوسط لغيره بجلب منفعة، أو دفع مضرة. وسُمي شفيعاً؛ لأنه يجعل المشفوع له اثنين بعد أن كان وتراً، فصار بضم صوته إلى صوت المشفوع له شفيعاً له.

ص: 331

قوله: «مجاباً» لأن الشفيع قد يجاب، وقد لا يجاب، فسأل الله أن يكون شفيعاً مجاباً.

‌اللَّهُمَّ ثَقِّلْ بِهِ مَوَازِينَهُمَا،

..........

قوله: «اللهم ثقل به موازينهما» أي: موازين الأعمال، وذلك في كونه أجراً لهما؛ لأنه كلما كان أجراً ثقلت به الموازين.

والموازين: جمع ميزان، وهو: ما توزن به أعمال العباد يوم القيامة.

واختلف العلماء هل هو ميزان حقيقي أو كناية عن إقامة العدل؟

فذهبت المعتزلة إلى أنه كناية عن إقامة العدل، وأنه ليس هناك ميزان حسي.

والصواب أنه ميزان حسي لحديث صاحب البطاقة «أن ذنوبه تُجعل في كفة، ولا إله إلا الله في كفة»

(1)

، وهو ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم:«كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان»

(2)

، فهو ميزان له كفتان، ولكن هاتين الكفتين لا نعلم كيفيتهما؛ لأن ذلك من أمور الغيب التي لم نعلم عنها.

وهل الذي يوزن العمل، أو العامل، أو صحائف العمل؟

(1)

أخرجه الإمام أحمد (2/ 213، 221)؛ والترمذي (2639)؛ وابن ماجه (4300)؛ وابن حبان (225) إحسان، والحاكم (1/ 6، 529) عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما. وقال الترمذي: «حديث حسن غريب» وصححه الحاكم على شرط مسلم، ووافقه الذهبي.

(2)

أخرجه البخاري (6682)؛ ومسلم (2694) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 332

على أقوال ثلاثة للعلماء:

القول الأول: أن الذي يوزن العمل.

القول الثاني: أن الذي يوزن العامل.

القول الثالث: أن الذي يوزن صحائف الأعمال.

وذلك لاختلاف النصوص في ذلك.

فحجة من قال: إن الذي يوزن العمل ما يلي:

1 ـ قوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ *} [الزلزلة].

2 ـ قول النبي صلى الله عليه وسلم: «كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان» .

وحجة من قال إن الذي يوزن صاحب العمل ما يلي:

1 ـ قوله تعالى: {فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً} [الكهف: 105].

2 ـ حديث ابن مسعود رضي الله عنه: لما قام فهبت الريح فضحك الناس منه؛ لأنه رضي الله عنه دقيق الساقين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«إن ساقيه في الميزان أعظم من أُحد»

(1)

.

وحجة من قال: إن الذي يوزن صحائف الأعمال: حديث صاحب البطاقة «الذي يؤتى له بسجلات عظيمة كلها ذنوب، حتى إذا رأى أنه قد هلك، قيل له: إن لك عندنا حسنة واحدة فيؤتى ببطاقة صغيرة فيها لا إله إلا الله، فيقول: يا رب ما هذه البطاقة مع

(1)

أخرجه الإمام أحمد (1/ 420)؛ وابن أبي شيبة (12/ 113) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

ص: 333

هذه السجلات؟ فيقول: إنك لا تظلم شيئاً، ثم توضع البطاقة في كفة، وبقية الأعمال في كفة، فترجح بهنَّ وتميل»

(1)

.

فيجاب: إن حقيقة هذا وزن الأعمال؛ لأن الصحائف إنما تثقل وتخف بما فيها من العمل.

وقد يقال: إن الأكثر وزن الأعمال، وقد توزن صحائف الأعمال.

ولكن الراجح والذي عليه الجمهور أن الذي يوزن العمل.

‌وَأَعْظِمْ بِهِ أُجُورَهُمَا، وَأَلْحِقْهُ بِصَالِحِ سَلَفِ المُؤْمِنِينَ، وَاجْعَلْهُ فِي كَفَالَةِ إِبْرَاهِيمَ، وَقِهِ بِرَحْمَتِكَ عَذَابَ الْجَحِيمِ».

قوله: «وأعظم به أجورهما» ، أي: اجعل أجورهما عظيمة، وهنا إشكال نحوي حيث قال:«أجورهما» مع أن المضاف إليه مثنى أي لم يقل: عظم به أجريهما؟

والجواب على هذا: أن الأفصح في اللغة العربية إذا أضيف إلى المثنى أن يؤتى بالجمع، ثم الإِفراد، ثم التثنية، إلا أن يكون هناك حاجة؛ لأن يؤتى بالتثنية، أو الإفراد، أو الجمع، قال تعالى:{إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4]، مع أنه ليس لهما إلا قلبان، كما قال تعالى:{مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} [الأحزاب: 4]، ولم يقل فقد صغى قلباكما، ولم يقل: فقد صغى قلبكما؛ لأن الأفصح الجمع.

قوله: «وألحقه بصالح سلف المؤمنين، واجعله في كفالة إبراهيم» ، أي: بصغار المؤمنين الذين سلفوا، وذلك أن الصغار

(1)

سبق تخريجه ص (332).

ص: 334

من الولدان يكونون في كفالة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وقد رآهم النبي صلى الله عليه وسلم حينما عُرج به ـ عند إبراهيم وسأل عنهم، فقيل له: هؤلاء ولدان المؤمنين

(1)

؛ ولهذا قال: «واجعله في كفالة إبراهيم» .

قوله: «وقه برحمتك عذاب الجحيم» ، «قه» من الوقاية، أي: اجعله سالماً من عذاب الجحيم.

«برحمتك» من باب التوسل بصفة الله عز وجل.

لكن كيف يقول: «قه برحمتك عذاب الجحيم» ، وهو صغير لم يبلغ، فليس عليه عذاب؟

قال بعض العلماء: ما من إنسان إلا ويلج النار، ومن ذلك الصغار؛ لقوله تعالى:{وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا *} [مريم]، فيكون هذا دعاء لهذا الصبي أن يقيه الله عذاب الجحيم إذا عرض عليها يوم القيامة.

‌وَيَقِفُ بَعْدَ الرَّابِعَةِ قَلِيلاً، وَيُسَلِّمُ وَاحِدَةً عَنْ يَمِينِهِ، وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ مَعَ كُلِّ تَكْبِيرَةٍ .....

قوله: «ويقف بعد الرابعة قليلاً» أي: يقف قليلاً؛ ليتميز التكبير من السلام، أو من أجل أن يتراد إليه نفسه.

وقوله: «يقف قليلاً» ظاهره أنه لا يدعو، وهو أحد الأقوال في المسألة.

واختار بعض الأصحاب رحمهم الله أنه يدعو بقوله: «اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده، واغفر لنا وله» .

(1)

أخرجه البخاري (1386) عن سمرة بن جندب رضي الله عنه.

ص: 335

وقال بعضهم يدعو بقوله: «ربَّنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار» ؛ لأن هذا الدعاء تختم به الأدعية، ولهذا جعله النبي صلى الله عليه وسلم في نهاية كل شوط من الطواف، حيث يقول بين الركن اليماني والحجر الأسود:«ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار»

(1)

.

والقول بأنه يدعو بما تيسر أولى من السكوت؛ لأن الصلاة عبادة ليس فيها سكوت أبداً إلا لسبب كالاستماع لقراءة الإمام، ونحو ذلك.

قوله: «ويسلم واحدة عن يمينه» وإن سلم تلقاء وجهه فلا بأس، لكن عن اليمين أفضل.

وظاهر كلام المؤلف أنه لا يسن الزيادة على تسليمة واحدة وهو المذهب.

والصحيح: أنه لا بأس أن يسلم مرة ثانية؛ لورود ذلك في بعض الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم

(2)

.

(1)

أخرجه الإمام أحمد (3/ 411)؛ وأبو داود (1892)؛ وابن حبان (3826) إحسان؛ والحاكم (1/ 455)؛ والبيهقي (5/ 84) عن عبد الله بن السائب رضي الله عنه. وقال الحاكم: «هذا حديث صحيح الإسناد على شرط مسلم» ووافقه الذهبي.

(2)

لحديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: «ثلاث خلال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعلهن تركهن الناس إحداهن التسليم على الجنازة مثل التسليم في الصلاة» .

أخرجه البيهقي (4/ 34)؛ وقال النووي في «المجموع» (5/ 239): «إسناده جيد» .

ص: 336

والذين قالوا: إنه يسلم واحدة استدلوا:

1 ـ بأثر في صحته نظر

(1)

.

2 ـ بالمعنى: أن هذه الصلاة مبنية على التخفيف، والتسليمة الواحدة أخف.

لكن لو سلم مرتين، فلا حرج، ولا ينكر عليه.

وكذلك إذا سلم الإمام تسليمة واحدة فللمأموم أن يسلم تسليمتين لأنه لا يتحقق به المخالفة.

قوله: «ويرفع يديه مع كل تكبيرة» ، «ويرفع» الضمير يعود على المصلي، أي: يرفع يديه مع كل تكبيرة على صفة ما يرفعهما في صلاة الفريضة، أي: يرفعهما حتى يكونا حذو منكبيه، أو حذو فروع أذنيه.

وقوله: «مع كل تكبيرة» ، هذا هو القول الصحيح والدليل على ذلك ما يلي:

1 ـ ورود السنة بذلك

(2)

، بسند جيد، كما قال الشيخ عبد العزيز بن باز ـ حفظه الله ـ، وأعله الدارقطني بعمر بن شيبة

(3)

، لكن قال الشيخ عبد العزيز: إن عمر ثقة، والزيادة من الثقة عند علماء الحديث مقبولة، إذا لم تكن منافية وهنا لا تنافي؛

(1)

وهو حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلّى على جنازة فكبّر عليها أربعاً، وسلّم تسليمة واحدة» .

أخرجه الدارقطني (2/ 72، 77)؛ والحاكم (1/ 360)؛ والبيهقي (4/ 43). وقال النووي في «الخلاصة» (2/ 982): «غريب الإسناد» .

(2)

أخرجه الدارقطني في «علله» كما في «نصب الراية» (2/ 285).

(3)

«نصب الراية» (2/ 285).

ص: 337

لأن المسكوت عنه ليس كالمنطوق، ولا منافاة إلا إذا تعارض منطوقان، أما إذا كان أحدهما ناطقاً والثاني ساكتاً فلا معارضة؛ لأن عدم النقل ليس نقلاً للعدم.

2 ـ أنه صح عن ابن عمر رضي الله عنهما موقوفاً

(1)

، وله حكم الرفع؛ لأن مثله لا يثبت بالاجتهاد.

ولو قيل: لعل ابن عمر رضي الله عنهما قاس ذلك على غيرها من الصلوات؟

فالجواب: أن الصلوات الأخرى ليس فيها رفع في كل تكبيرة، كما ثبت ذلك من حديث ابن عمر نفسه.

3 ـ أن المعنى يقتضيه؛ لأنه إذا حرك يديه اجتمع في الانتقال من التكبيرة الأولى قول وفعل، كسائر الصلوات، فإن الصلوات يكون مع القول فعل إما ركوع، أو سجود، أو قيام، أو قعود، فكان من المناسب أن يكون مع القول فعل، ولا فعل هنا يناسب إلا رفع اليدين؛ لأن الركوع والسجود متعذران فيبقى رفع اليدين.

وحينئذٍ يكون رفع اليدين في كل تكبيرة مؤيداً بالأثر، والنظر.

وقوله: «مع كل تكبيرة» ، سبق في كتاب الصلاة أنه: إن شاء ابتدأ رفع اليدين مع ابتداء التكبير، وإن شاء إذا كبر رفع، وإن شاء رفع ثم كبر.

(1)

ذكره البخاري تعليقاً (3/ 226)، ووصله في جزء رفع اليدين في الصلاة (105)؛ والشافعي في «المسند» (585) ترتيب، وعبد الرزاق (6360)؛ وابن أبي شيبة (3/ 296)؛ والبيهقي (4/ 44).

ص: 338

‌وَوَاجِبُهَا: قِيَامٌ، وَتَكْبِيرَاتٌ أَرْبَعٌ،

...........

قوله: «وواجبها: قيام» أي: ما يجب فيها، وليس المراد الواجب الاصطلاحي الذي هو قسيم الركن أو الشرط، بل المراد بالواجب هنا: ما يجب فيها فلا ينافي ذلك أن يكون ركناً، كما نقول: قراءة الفاتحة واجبة في الصلاة.

فقوله: «وواجبها» ليس قسيم أركانها؛ لأن هذا الذي ذكره المؤلف أركانها.

وقوله: «قيام» ، أي: واجب إذا كانت فريضة، وعلى هذا فإذا أعيدت صلاة الجنازة مرة ثانية كان القيام في المرة الثانية سنة، وليس بواجب؛ لأن الصلاة المعادة ليست فريضة.

قوله: «وتكبيرات أربع» أي: أركان؛ لأن كل تكبيرة منها كالركعة.

وقوله: «أربعٌ» أي: لا تقل عن أربع، وله الزيادة إلى خمس، وإلى ست، وإلى سبع، وإلى ثمان، وإلى تسع كل هذا ورد. لكن الثابت في صحيح مسلم إلى خمس

(1)

، ففيه أن زيد بن أرقم رضي الله عنه «صلى على جنازة فكبر عليها خمساً، وأخبر أن ذلك من فعل النبي صلى الله عليه وسلم» ، ولهذا ينبغي للأئمة أحياناً أن يكبروا على الجنازة خمس مرات إحياءً للسنة، وسيقول بعض الناس: إن إمامنا نسي فزاد خامسة، لكن إذا فعلها مرة بعد مرة، وبين للناس أن هذا من السنة فذلك حسن.

مسألة: إذا كبرنا خمساً، فماذا نقول بعد الرابعة والخامسة؟

(1)

أخرجه مسلم (957) عن زيد رضي الله عنه.

ص: 339

الجواب: لا أعلم في هذا سنة، لكنني إذا أردت أن أكبر خمساً جعلت بعد الثالثة الدعاء العام، وبعد الرابعة الدعاء الخاص بالميت، وما بعد الخامسة {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة]، ولهذا قد يعرف النبيه أنني أريد أن أكبر خمساً، إذا صار الدعاء بعد الثالثة قصيراً.

‌وَالْفَاتِحَةُ، وَالصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَدَعْوَةٌ لِلْمَيِّتِ، وَالسَّلَامُ.

.....

قوله: «والفاتحة» ، قراءة الفاتحة ركن؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب»

(1)

.

وقرأ ابن عباس رضي الله عنهما الفاتحة، وجهر بها، وقال:«ليعلموا أنها سنة»

(2)

، أي: أنها مشروعة، وليس المعنى إن شئت فاقرأها وإن شئت فلا تقرأها.

ولا وجه لمن قال بعدم وجوب قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة؛ مع عموم الحديث: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» ، وهذه صلاة بدلالة الكتاب والسنة.

وإذا انتهى المأموم من قراءة الفاتحة قبل تكبير الإمام للثانية فإنه يقرأ سورة أخرى؛ لأن ذلك قد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم

(3)

.

قوله: «والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم» ، أي: من واجبات الصلاة على الميت، وهو ركن على المشهور من المذهب، وهو مبني على القول بركنية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلوات.

(1)

سبق تخريجه ص (318).

(2)

سبق تخريجه ص (318).

(3)

أخرجه النسائي (4/ 74) عن طلحة بن عبد الله قال: «صليت خلف ابن عباس على جنازة فقرأ بفاتحة الكتاب وسورة وجهر حتى أسمعنا، فلما فرغ أخذت بيده فسألته فقال: سنة وحق» .

ص: 340

أما إذا قلنا: بأنها ليست ركناً في الصلوات فهي هنا ليست بركن، لكن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المقام لها شأن

(1)

؛ لأن الفاتحة ثناء على الله، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم صلاة عليه، والثالثة دعاء فينبغي للداعي أن يقدم بين يديه الثناء على الله، ثم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.

ولم يبين هنا كيفيته، ولكنه بين فيما سبق أنها كالتشهد، ويكفي أن يقول: اللهم صلِّ على محمد.

قوله: «ودعوة للميت» ، هذا من الأركان أيضاً؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء»

(2)

؛ ولأن هذا هو لبُّ هذه الصلاة، فأصل الصلاة على الميت إنما كانت للدعاء له.

قوله: «والسلام» أي: ركن، لكنه يكفي فيه تسليمة واحدة، كما سبق ذكره.

ودليله: قول عائشة رضي الله عنها: «كان يختم الصلاة بالتسليم»

(3)

، وهذا وإن لم يكن ظاهراً في عموم صلاة الجنازة،

(1)

لما رواه أبو أمامة بن سهل أنه أخبره رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة على الجنازة: «أن يكبّر الإمام، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ويخلص الدعاء للجنازة في التكبيرات الثلاث

».

أخرجه الحاكم (1/ 360)؛ والبيهقي (4/ 39) وصححه الحاكم على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي.

(2)

أخرجه أبو داود (3199)؛ وابن ماجه (1497)؛ وابن حبان (3076) إحسان؛ والبيهقي (4/ 40) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

(3)

سبق تخريجه (3/ 211).

ص: 341

لكن يصح أن يكون متمسكاً؛ ولأنها عبادة افتتحت بالتكبير، فتختتم بالتسليم كالصلاة المفروضة.

والترتيب بين أركان صلاة الجنازة واجب فيبدأ بالفاتحة، ثم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم الدعاء؛ فلا يقدم بعضها على بعض. وكذلك تكميل التكبيرات الأربع؛ فإن سلم من ثنتين ساهياً أكمل مع القرب، وأعاد مع البعد.

‌وَمَنْ فَاتَهُ شَيْءٌ مِنَ التَّكْبِيرِ قَضَاهُ عَلَى صِفَتِهِ.

قوله: «ومن فاته شيء من التكبير قضاه على صفته» ، أي على صفة ما فاته؛ لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم:«ما فاتكم فأتموا»

(1)

.

ويستفاد من قول المؤلف: «شيء من التكبير» ، أن التكبيرة بمنزلة الركعة.

مسألة: إذا دخل مع الإمام في التكبيرة الثالثة هل يقرأ الفاتحة، أو يدعو للميت؛ لأن هذا مكان الدعاء؟

الجواب: الظاهر لي: أنه يدعو للميت، حتى على القول بأن أول ما يدركه المسبوق أول صلاته، فينبغي في صلاة الجنازة أن يتابع الإمام فيما هو فيه؛ لأننا لو قلنا لهذا الذي أدرك الإمام في التكبيرة الثالثة: اقرأ الفاتحة، ثم كبر الإمام للرابعة، وقلنا: صلِّ على النبي ثم حملت الجنازة فاته الدعاء له.

وقول المؤلف: «ومن فاته شيء من التكبير قضاه على صفته» ، ظاهره: الوجوب.

وظاهره أيضاً: أنه يقضيه، سواء أخشي حمل الجنازة أم لم يخش.

(1)

سبق تخريجه (4/ 368).

ص: 342

ووجه ذلك: أنه إذا قدر أن الجنازة رفعت قبل أن يتم، فإنه يدعو لها ولو في غيبتها للضرورة.

ولكن قيده الأصحاب رحمهم الله فقالوا: «ما لم يخش رفعها» ، أي: إذا خشي الرفع تابع وسلَّم.

والغالب في جنائزنا أنها ترفع ولا يتأخرون فيها حتى يقضي الناس، وعلى هذا فيتابع التكبير ويسلِّم.

ومع هذا قالوا: «وله أن يسلم مع الإمام» ؛ لأن الفرض سقط بصلاة الإمام، فما بعد صلاة الإمام يعتبر نافلة، والنافلة يجوز قطعها.

وقيل: بل يقضيها على صفتها، والدليل قوله صلى الله عليه وسلم:«ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا»

(1)

، فيلزم من هذا أن يتمه على صفته.

إذاً أحوال المسبوق في صلاة الجنازة ثلاث حالات:

الأولى: أن يمكنه قضاء ما فات قبل أن تحمل الجنازة فهنا يقضي، ولا إشكال فيه؛ لعموم قوله عليه الصلاة والسلام:«ما فاتكم فأتموا»

(2)

.

الثانية: أن يخشى من رفعها فيتابع التكبير، وإن لم يدع إلا دعاء قليلاً للميت.

الثالثة: أن يسلم مع الإمام، ويسقط عنه ما بقي من التكبير.

وعلته: أن الفرض سقط بصلاة الإمام، فكان ما بقي مخيراً فيه.

(1)

و

(2)

سبق تخريجه (4/ 368).

ص: 343

ومع هذا فليس هناك نص صحيح صريح في الموضوع؛ أعني سَلَامَهُ مَعَ الإمام، أو متابعته التكبير بدون دعاء، لكنَّهُ اجتهاد من أهل العلم رحمهم الله.

‌وَمَنْ فَاتَتْهُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ صَلَّى عَلَى القَبْرِ وَعَلَى غَائِبٍ بِالنِّيَّةِ إِلَى شَهْرٍ ...........

قوله: «ومن فاتته الصلاة عليه صلى على القبر» ، أي: يصلي على القبر إن كانت دفنت، وإلا صلى عليها ولا ينتظر؛ لأن الصلاة على القبر إنما تكون للضرورة إذا لم يمكن حضور الميت بين يديه.

ودليل ذلك: قصة المرأة التي كانت تقمُّ المسجد، أي ترفع قمامته وتنظفه، فماتت ليلاً، ولم يؤذن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك تحقيراً لشأنها؛ ولئلا يشق على النبي صلى الله عليه وسلم، فلما سأل عنها أخبروه أنها ماتت فقال:«هلاَّ كنتم آذنتموني، ـ أي: أخبرتموني ـ، فقال: دلوني على قبرها فخرج بنفسه عليه الصلاة والسلام وصلى على قبرها»

(1)

.

وفي هذا من عناية الرسول عليه الصلاة والسلام بأهل الخير ما هو ظاهر، إذ ليس لها عمل إلا أنها تقم المسجد، مع أنها امرأة سوداء.

وفيه عناية الرسول صلى الله عليه وسلم بالمساجد، كما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم:«أمر ببناء المساجد في الدور، وأن تنظف وتطيب»

(2)

.

وفيه تواضع النبي صلى الله عليه وسلم للخروج إلى قبرها ليصلي عليه، وإلا فبإمكانه أن يدعو لها في مكانه.

(1)

أخرجه البخاري (458)؛ ومسلم (956) عن زيد بن ثابت رضي الله عنه.

(2)

سبق تخريجه ص (70).

ص: 344

وفيه تعظيم شأن هذه المرأة السوداء، والشكر لها على عملها.

مسائل:

الأولى: يصلى على القبر صلاة الجنازة المعروفة، إن كان رجلاً وقف عند رأسه، وإن كانت أنثى وقف عند وسط القبر، فيجعل القبر بينه وبين القبلة.

الثانية: لو سقط شخص في بئر ولم نستطع إخراجه، فيصلى عليه فيها ثم تطم البئر، ويسقط تغسيله، وتكفينه لعدم القدرة على ذلك.

الثالثة: إذا اجتمعت عدة قبور لم يصل عليها؛ فإن كانت كلها بين يديه فيصلى عليها جميعاً صلاة واحدة. وإلا فيصلى على كل قبر.

قوله: «وعلى غائب بالنية» ، لأن الغائب ليس بين يديه حتى ينوي الصلاة على شيء مشاهد، ولكن يصلي بالنية.

وقوله: «غائب» أي: غائب عن البلد، ولو دون المسافة، أما من في البلد فلا يشرع أن يصلي عليه صلاة الغائب، بل المشروع أن يخرج إلى قبره ليصلي عليه.

ولهذا يخطئ بعض الجهال الذين يصلون على الميت في أطراف البلد وهو ميت في بلده، فإن هذا خلاف السنة، فالسنة أن تخرج إلى القبر وتصلي عليه.

قوله: «إلى شهر» ، أي: يصلى على الغائب، وعلى القبر إلى نهاية شهر.

ص: 345

والدليل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم: «صلى على قبر إلى شهر»

(1)

.

ولكن كون الرسول عليه الصلاة والسلام صلى على قبر له شهر لا يدل على التحديد؛ لأن هذا فعل وقع اتفاقاً ليس مقصوداً، وما فعل اتفاقاً فليس بدليل اتفاقاً؛ لأنه لم يقصد.

وخلاف الأصحاب في هذه المسألة لا يقدح في هذه القاعدة؛ لأنهم يخالفون في كونه وقع اتفاقاً، ويقولون: بل وقع قصداً.

والصحيح: أنه يُصلى على الغائب، ولو بعد شهر، ونصلي على القبر أيضاً ولو بعد الشهر.

إلا أن بعض العلماء قيده بقيد حسن قال: بشرط أن يكون هذا المدفون مات في زمن يكون فيه هذا المصلي أهلاً للصلاة.

مثال ذلك: رجل مات قبل عشرين سنة، فخرج إنسان وصلى عليه وله ثلاثون سنة فيصح؛ لأنه عندما مات كان للمصلي عشر سنوات، فهو من أهل الصلاة على الميت.

مثال آخر: رجل مات قبل ثلاثين سنة، فخرج إنسان وله عشرون سنة ليصلي عليه فلا يصح؛ لأن المصلي كان معدوماً عندما مات الرجل، فليس من أهل الصلاة عليه.

ومن ثم لا يشرع لنا نحن أن نصلي على قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وما

(1)

أخرجه الدارقطني (2/ 78). وانظر: «التلخيص الحبير» (253).

ص: 346

علمنا أن أحداً من الناس قال: إنه يشرع أن يصلي الإنسان على قبر النبي صلى الله عليه وسلم، أو على قبور الصحابة، لكن يقف ويدعو.

وقوله: «وعلى غائب» أطلق فيشمل كل غائب؛ رجلاً كان أو امرأة، شريفاً أو وضيعاً، قريباً أو بعيداً، فتصلي على كل غائب.

وهذه المسألة اختلف فيها العلماء على أقوال ثلاثة:

القول الأول: أنه يصلى على كل غائب، ولو صلى عليه آلاف الناس.

وبناء على هذا القول اتخذ بعض العلماء عملاً لا يشك أحد في أنه بدعة، فقال: إذا أردت أن تنام فصلِّ صلاة الجنازة على كل من مات في اليوم والليلة من المسلمين تؤجر أجراً كثيراً، فقد يكون مات في هذه الليلة آلاف فيكون لك أجر آلاف الصلوات.

ولكن هذا القول لا شك أنه بدعة؛ لأن أعلم الناس بالشرع، وأرحم الناس بالخلق، وأحب الناس أن ينفع الناس الرسول عليه الصلاة والسلام لم يفعل ذلك، ولا فعله خلفاؤه الراشدون، ولا علم عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم.

القول الثاني: أنه يصلى على الغائب إذا كان فيه غناء للمسلمين، أي: منفعة، كعالم نفع الناس بعلمه، وتاجر نفع الناس بماله، ومجاهد نفع الناس بجهاده، وما أشبه ذلك، فيصلى عليه شكراً له ورداً لجميله، وتشجيعاً لغيره أن يفعل مثل فعله.

ص: 347

وهذا قول وسط اختاره كثير من علمائنا المعاصرين وغير المعاصرين.

القول الثالث: لا يصلى على الغائب إلا على من لم يصلَّ عليه. حتى وإن كان كبيراً في علمه، أو ماله، أو جاهه، أو غير ذلك، فإنه لا يصلى عليه، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.

واستدل لذلك: بأن الصلاة على الجنازة عبادة، والعبادة لا تشرع إلا من الكتاب والسنة، ولم يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى على غائب إلا على النجاشي؛ لأنه مات بين أمة مشركة، ليسوا من أهل الصلاة، وإن كان أحد منهم آمن، فلا يعرف عن كيفية الصلاة شيئاً. فأخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في اليوم الذي مات فيه، وهو في الحبشة، والرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة وقال:«إنه مات عبد لله صالح» ، وفي بعض الروايات:«إن أخاً لكم قد مات ثم أمرهم أن يخرجوا إلى المصلى»

(1)

، فالاستدلال بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي لا يصح؛ لأنه لا يصح الاستدلال بالأخص على الأعم، لكن يستدل بالأعم على الأخص؛ لأن العام يشمل جميع أفراده، فقضية النجاشي قضية خاصة، وليست لفظاً عاماً.

قوله: (أمرهم أن يخرجوا إلى المصلى): إما مصلى الجنائز؛ لأنه في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم كان للجنائز مصلى خاص، وإما مصلى العيد، والحديث محتمل للقولين، وبكل من القولين قال بعض العلماء.

(1)

أخرجه البخاري (1245)؛ ومسلم (951) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 348

فمن قال: إن المراد مصلى العيد قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذلك إظهاراً لشرف هذا الرجل، ورداً لجميله؛ لأنه آوى الصحابة الذين هاجروا إليه، وكونه يصلى عليه في مصلى العيد أظهر.

وقال بعض العلماء: المراد مصلى الجنائز؛ لأن «أل» للعهد، وهذه صلاة جنازة، فتحمل على المعهود في صلاة الجنازة، وهو مصلى الجنائز.

المهم: أنه لم يحفظ عن الرسول عليه الصلاة والسلام أنه صلى على جنازة غائبة غير النجاشي، ولا عن الصحابة، مع أنه لا شك أنه يموت العظماء وذوو الغناء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وفي عهد الخلفاء الراشدين.

وهذا القول أقرب إلى الصواب.

وقوله: «إلى شهر» ، أي: وبعد الشهر لا يصلى عليه إن صلي عليه، فإن كان لم يصلَّ عليه صلينا عليه، ولو بعد سنين.

وهذه مسألة تقع كثيراً في البادية في زمن الجهل، فقد يموت عندهم الرجل ويدفنونه بدون تغسيل، ولا تكفين، ولا صلاة. ثم يأتون الآن يسألون عن هذا، فالواجب أن يصلى عليه كما سبق.

‌وَلَا يُصَلِّي الإِمَامُ عَلَى الغَالِّ وَلَا عَلَى قَاتِلِ نَفْسِهِ،

..............

قوله: «ولا يصلي الإمام على الغال» ، إذا أطلق الفقهاء الإمام فالمراد به: الإمام الأعظم، أي: رئيس الدولة فلا يصلي على الغال.

ص: 349

والغال: هو من كتم شيئاً مما غنمه في الجهاد.

مثاله: أن يغنم مع المجاهدين شيئاً، ويكتمه يريد أن يختص به لنفسه، فهذا قد فعل إثماً عظيماً ـ والعياذ بالله ـ وأتى كبيرة من كبائر الذنوب. قال تعالى:{وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 161]. فسوف يأتي بما غله حاملاً إياه على رقبته يوم القيامة، خزياً وعاراً وفضيحة.

ولما كانت المسألة كبيرة ومتعلقة بعموم المسلمين، امتنع النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي على الغال، نكالاً لمن يأتي بعده. ولا تسقط الصلاة عن بقية المسلمين، فيجب عليهم أن يصلوا عليه.

ودليل ذلك: ما روى زيد بن خالد رضي الله عنه قال: «توفي رجل من جهينة يوم خيبر فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: صلوا على صاحبكم، فتغيرت وجوه القوم، فلما رأى ما بهم، قال: إن صاحبكم غلَّ في سبيل الله، ففتشنا متاعه، فوجدنا فيه خرزاً من خرز اليهود لا يساوي درهمين»

(1)

.

قوله: «ولا على قاتل نفسه» ، أي: لا يصلي الإمام على قاتل نفسه نكالاً لمن بقي بعده؛ لأن قاتل نفسه ـ والعياذ بالله ـ أتى كبيرة من كبائر الذنوب، وسوف يعذب في جهنم بما قتل به نفسه. فإن قتلها بخنجر ففي يده خنجر في نار جهنم يطعن به نفسه. وإن قتلها بسُم ففي فمه سم يتحسَّاه في النار، وإن

(1)

أخرجه أبو داود (2710)؛ والنسائي (1961)؛ وابن ماجه (2848).

ص: 350

قتلها بالتردي من أعلى جبل، أو جدار، أو ما أشبه ذلك فكذلك يعذب به في نار جهنم، كما جاء ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1)

.

وكثير من الناس غير المسلمين إذا ضاقت به الدنيا قتل نفسه والعياذ بالله ـ فيكون كالمستجير من الرمضاء بالنار؛ عجل العقوبة لنفسه ـ والعياذ بالله ـ؛ لأنه يعذب من حين أن يموت.

ودليل ذلك: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي برجل قد قتل نفسه بمشاقص فلم يصل عليه»

(2)

.

ولكن هل يصلي عليه بقية الناس؟

الجواب: نعم، يصلي عليه بقية الناس؛ لأنه مسلم لا يكفر، وإن كان يخلد في النار إلى أن يشاء الله.

ولو قال قائل: أفلا ينبغي أن يعدى هذا الحكم إلى أمير كل قرية أو قاضيها أو مفتيها، أي من يحصل بامتناعه النكال، هل يتعدى الحكم إليهم؟

فالجواب: نعم يتعدى الحكم إليهم، فكل من في امتناعه عن الصلاة نكال فإنه يسن له أن لا يصلي على الغال، ولا على قاتل نفسه.

مسألة: هل يلحق بالغال، وقاتل النفس من هو مثلهم، أو أشد منهم أذية للمسلمين، كقطاع الطرق مثلاً؟

(1)

أخرجه مسلم (109) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

سبق تخريجه ص (314).

ص: 351

الجواب: المشهور من المذهب: لا يلحق.

والقول الثاني: أن من كان مثلهم، أو أشد منهم، فإنه لا يصلي الإمام عليه؛ لأن الشرع إذا جاء في العقوبة على جرم من المعاصي، فإنه يلحق به ما يماثله، أو ما هو أشد منه.

فإذا كان الذي غلَّ هذا الشيء اليسير لم يصل عليه النبي صلى الله عليه وسلم فما بالك بمن يقف للمسلمين في الطرق، ويقتلهم ويأخذ أموالهم، ويروعهم، أليس هذا من باب أولى أن ينكل به؟

الجواب: بلى، ولهذا فالصحيح: أن ما ساوى هاتين المعصيتين، ورأى الإمام المصلحة في عدم الصلاة عليه، فإنه لا يصلي عليه.

مسألة: ما الجواب عن قوله صلى الله عليه وسلم فيمن قتل نفسه: «خالداً مخلداً فيها أبداً»

(1)

.

الجواب: هذا الحديث نظير الآية من بعض الوجوه: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا *} [النساء]، وقد أجاب العلماء عن هذا بأجوبة كثيرة منها:

أن هذا فيمن كان مستحلاً للقتل، وعرض هذا الجواب على الإمام أحمد فضحك وقال: سبحان الله، إذا استحل القتل فهو كافر سواء قتل أو لم يقتل.

ومنهم من قال: إنه على شرط، أي هذا جزاؤه إن جازاه الله.

(1)

سبق تخريجه ص (351).

ص: 352

ومنهم من قال: إن هذا سبب، والسبب قد وجد فيه مانع وهو الإيمان.

ومنهم من قال: إن هذا على ظاهره أن من فعل هذا فإنه يختم له بسوء الخاتمة فإن تاب تاب الله عليه، ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم:«لا يزال الرجل في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً»

(1)

، وهذا والذي قبله أحسن الأجوبة.

مسألة: إذا وجد بعض ميت فهل يغسل ويكفن ويصلى عليه؟

الجواب: إن كان الموجود جملة الميت؛ بأن وجدنا رجُلاً بلا أعضاء فإنه يغسل ويكفن ويصلى عليه، وإن كان الموجود عضواً من الأعضاء؛ فإن كان قد صلي على جملة الميت فلا يصلى عليه، وإن كان لم يُصلَّ عليه فإنه يصلى على هذا الجزء الموجود.

‌وَلَا بَأْسَ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ فِي الْمَسْجِدِ.

قوله: «ولا بأس بالصلاة عليه في المسجد» ، أي: لا بأس بالصلاة على الميت في المسجد، وإنما قال:«لا بأس» رداً لقول من يقول: تكره الصلاة على الأموات في المساجد؛ لأن المساجد إنما بنيت للصلاة، وقراءة القرآن والذكر، لا لأن تحمل إليها الجنائز؛ ليصلى عليها فيها والرسول صلى الله عليه وسلم قد جعل للجنائز مصلى خاصاً بها، ولأنه ربما يحصل من الميت تلويث المسجد فيخرج منه خارج، أو يكون فيه رائحة كريهة، أو ما أشبه ذلك.

والصحيح: أنه لا بأس بذلك.

(1)

أخرجه البخاري (6862) عن ابن عمر رضي الله عنهما.

ص: 353

والدليل عليه: حديث عائشة رضي الله عنها: «أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على سهل بن بيضاء في المسجد»

(1)

، والرسول صلى الله عليه وسلم وإن كان له مصلى للجنائز، لكنه أحياناً يصلي على الجنائز في المسجد.

فإذا قال قائل: على القول بالكراهة فأين يصلى على الجنائز؟

الجواب: يعدُّ مصلى خاص للجنائز، كما هو متبع في كثير من البلاد الإسلامية، وينبغي أن يكون قريباً من المقبرة؛ لأنه أسهل على المشيعين؛ فالناس إذا اجتمعوا مثلاً في مسجد في داخل البلد صار في ذلك مضايقة؛ فسينفرون مع الجنازة جميعاً، وقد تكون المقبرة بعيدة، لكن إذا كان مصلى الجنائز قريباً من المقبرة صار الناس يأتون أرسالاً من بيوتهم إلى هذا المصلى، ثم يصلون عليها، ثم يخرجون إلى المقبرة بلا مشقة.

وعندنا في نجد لا يخصصون مصلى للجنائز، بل الجنائز يؤتى بها إلى المساجد، وإذا كان لا بأس به فإننا لا ننهى عنه، ولا نقول: إنه يخشى من الميت على المسجد، إلا إذا كان هناك قضية خاصة بأن يكون الميت مات بحادث، والدم لا زال ينزف منه، فهذا نمنع أن يصلى عليه في المسجد؛ لأنه يلوثه.

(1)

أخرجه مسلم (99)(100).

ص: 354

‌فَصْلٌ

‌يُسَنُّ التَّرْبيعُ فِي حَمْلِهِ، وَيُبَاحُ بَيْنَ العَمُودَيْنِ ...........

قوله: «فصل» .

المؤلف رحمه الله مشى على الترتيب الآتي: تغسيل الميت، ثم التكفين، ثم الصلاة، ثم الحمل، والدفن.

قوله: «يسن التربيع في حمله» ، التربيع في حمل الميت سنة، لحديث ابن مسعود رضي الله عنه وفيه:«من اتبع جنازة فليحمل من جوانب السرير كلها فإنه من السنة»

(1)

؛ ولأن الإنسان إذا ربع حمل الميت من جميع الجهات.

وصفة التربيع: أن يأخذ بجميع أعمدة النعش، ولهذا سميناه تربيعاً؛ لأن أعمدة النعش أربعة.

فيبدأ بالجهة الأمامية بالعمود الذي على يمين الميت، والميت على النعش، ثم يرجع إلى العمود الذي وراءه، ثم يتقدم مرة ثانية للعمود الذي عن يسار الميت، ثم يرجع إلى الخلف، وبعد ذلك يحمل بما شاء.

هذا ما اختاره أصحابنا رحمهم الله.

وقال بعض العلماء: بل يحمله بين العمودين.

قوله: «ويباح بين العمودين» ، هذا بيان حكم الحمل بين العمودين.

وقال بعض العلماء: يسن أن يحمل بين العمودين، أي: بأن يكون أحد العمودين على كتفه الأيمن والآخر على كتفه الأيسر، هذا إذا كان النعش صغيراً، أما إذا كان واسعاً فيجعل

(1)

أخرجه ابن ماجه (1478) موقوفاً، وضعفه البوصيري لانقطاع إسناده.

ص: 355

عموداً على يده اليمنى، وعموداً على يده اليسرى، ولكن لا شك أن فيه مشقة على الحامل، ولا سيما إذا كانت الجنازة ثقيلة.

واستدلوا: بأنه صلى الله عليه وسلم حمل جنازة سعد بن معاذ بين العمودين

(1)

.

والذي يظهر لي في هذا: أن الأمر واسع، وأنه ينبغي أن يفعل ما هو أسهل، ولا يكلف نفسه، فقد يكون التربيع صعباً أحياناً، فيما إذا كثر المشيعون فيشق على نفسه وعلى غيره.

وأما الحمل بين العمودين فهو شاق أيضاً، اللهم إلا إذا كان هناك عمودان يلتقيان عن قرب، بحيث يكون كل عمود على عاتقٍ، فيمكن أن يكون سهلاً.

هذا إذا كان الميت محمولاً على نعش، وإن كان صغيراً فيحمل بين الأيدي إذا كان لا يشق.

مسألة: هل ينبغي أن يوضع على النعش «مِكَبَّة» أو لا؟

والمكبة مثل الخيمة أعواد مقوسة توضع على النعش، ويوضع عليها سترٌ.

الجواب: إن كانت أنثى فنعم، وقد استحبه كثير من العلماء؛ لأن ذلك أستر لها.

وقد ذكر البيهقي رحمه الله: أن فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم أوصت بذلك

(2)

، وقيل: غير هذا

(3)

.

وهذا مستعمل في الحجاز، ولكنه في نجد لا يعرف، ولو فعله أحدٌ لكان محسناً، ولا ينكر عليه؛ لأنه تقدم أحياناً بعض

(1)

أخرجه ابن سعد في «الطبقات» (3/ 431).

(2)

أخرجه في «السنن الكبرى» (4/ 34).

(3)

انظر: «مجمع الزوائد» (3/ 29).

ص: 356

الجنائز من النساء يشاهد الإنسان أشياء لا يحب أن يشاهدها، فإذا جعلت عليها «المكبة» فإنها تسترها.

قال في الروض: «فإن كانت امرأة استحب تغطية نعشها بمكبة؛ لأنه أستر لها ويروى أن فاطمة صنع لها ذلك بأمرها ويجعل فوق المكبة ثوب. وكذا إن كان بالميت حَدَبٌ ونحوه» ؛ لأجل ستر هذا التشويه.

أما الرجل فلا يسن فيه هذا، بل يبقى كما هو عليه؛ لأنه فيه فائدة، وهي: قوة الاتعاظ إذا شاهده من كان معه بالأمس جثة على هذا السرير، وإن ستر بعباءة كما هو معمول به عندنا فلا بأس.

‌وَيُسَنُّ الإِسْرَاعُ بِهَا، وَكَوْنُ المُشَاةِ أَمَامَهَا، وَالرُّكْبَانِ خَلْفَهَا، وَيُكْرَهُ جُلُوسُ تَابِعِهَا حَتَّى تُوضَعَ،

.........

قوله: «ويسن الإسراع بها» أي: يستحب؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «أسرعوا بالجنازة فإن تك صالحة فخيرٌ تقدمونها إليه، وإن تك سوى ذلك فشرٌ تضعونه عن رقابكم»

(1)

، إلا أن يخشى من تمزق الجنازة كما لو كان محترقاً، فيعمل ما يزول به هذا المحذور.

وليس المراد بالإسراع الخبب العظيم، كما يفعل بعض الناس، فإن هذا يتعب المشيعين، وقد ينزل من الميت شيء فيلوث الكفن، لارتخاء أعصابه، وأيضاً التباطؤ الشديد خلاف السنة؛ ولهذا قال في الروض:«الإسراع بها دون الخبب» ، والخَبَب: الإسراع الشديد.

قال الفقهاء مفسرين للإسراع المشروع: «بحيث لا يمشي مشيته المعتادة» .

وهذا الإسراع على سبيل الاستحباب؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم بَيَّنَ

(1)

سبق تخريجه ص (257).

ص: 357

أنّ هذا من باب الشفقة على الميت إذا كان صالحاً، أو الشفقة على الحامل إذا كان غير صالح، ولم نَرَ أحداً قال بالوجوب.

قوله: «وكون المشاة أمامها والركبان خلفها» ، أي: ينبغي إذا كان المشيعون مختلفين ما بين راكب وماش أن يكون المشاة أمامها، والركبان خلفها.

والدليل على ذلك: ورود السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وجاءت السنة أيضاً بتخيير الماشي بين أن يكون أمامها، أو عن يمينها، أو عن شمالها، أو خلفها، حسب ما يتيسر

(1)

.

وأما السيارات فإن الأولى أن تكون أمام الجنازة؛ لأنها إذا كانت خلف الناس أزعجتهم، فإذا كانت أمامها لم يحصل إزعاج منها؛ لأن ذلك أكثر طمأنينة للمشيعين، وأسهل لأهل السيارات في الإسراع وعدمه.

مسألة: حمل الجنازة بالسيارة لا ينبغي إلا لعذر كبعد المقبرة، أو وجود رياح، أو أمطار، أو خوف، ونحو ذلك؛ لأن الحمل على الأعناق هو الذي جاءت به السنة؛ ولأنه أدعى للاتعاظ والخشوع.

قوله: «ويكره جلوس تابعها حتى توضع» ، أي: أن المشيع لا يجلس حتى توضع الجنازة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا تبعتم

(1)

أخرجه الإمام أحمد (4/ 247 ـ 249)؛ وأبو داود (3180)؛ والترمذي (1031)؛ والنسائي (4/ 55)؛ وابن ماجه (1481) (عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه. وقال الترمذي: «حسن صحيح» .

ص: 358

جنازة فلا تجلسوا حتى توضع»

(1)

، ولأنه مشيع تابع، فإذا كانت الجنازة محمولة فلا ينبغي أن يجلس حتى توضع أي على الأرض للدفن ولحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لما انتهى إلى قبر ولمَّا يلحد، جلس على الأرض وجلس الصحابة حوله، وكان معه مخصرة ينكت بها الأرض

إلخ الحديث

(2)

.

‌وَيُسَجَّى قَبْرُ امْرَأَةٍ فَقَطْ. وَاللَّحْدُ أَفْضَلُ مِنَ الشَّقِّ ...........

قوله: «ويسجى قبر امرأة فقط»

أي: يغطى قبر المرأة فقط عند إدخالها القبر من أجل ألا ترى المرأة، وذلك أستر لها.

وقوله: «فقط» ليخرج قبر الرجل، فإنه لا يسجى؛ لما روي عن علي رضي الله عنه:«أنه مر بقوم يدنون ميتاً رجلاً، وقد سجوه فجذبه، وقال: إنما يصنع هذا في النساء»

(3)

.

مسألة: كيف يُدخل الميت القبر؟

الجواب؛ يدخل من عند رجليه، فيؤتى بالميت من عند رجلي القبر، ثم يدخل رأسه سلاً في القبر، هذا هو الأفضل

(4)

.

والطريقة الثانية: أن يؤتى بالميت من قبل القبر ويوضع فيه بدون سل، وهذا أيضاً جائز، وعليه عمل الناس اليوم، فإن أمكنت الصفة الأولى فهي الأفضل، وإن لم تمكن فإن ذلك مجزئ.

قوله: «واللحد أفضل من الشق» ، أي: القبر إذا كان لحداً فهو أفضل.

(1)

أخرجه البخاري (1310)؛ ومسلم (959) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

(2)

أخرجه البخاري (1362)؛ ومسلم (2647) عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

(3)

أخرجه البيهقي (4/ 54).

(4)

أخرجه ابن أبي شيبة (4/ 130).

ص: 359

واللحد: أن يحفر للميت في قاع القبر حفرة من جهة القبلة ليوضع فيها، ويجوز من جهة خلف القبلة، لكنها من جهة القبلة أفضل؛ وسمي لحداً، لأنه مائل من جانب القبر.

قوله: «أفضل من الشق» ، الشق: أن يحفر للميت في وسط القبر حفرة. ولكن إذا احتيج إلى الشق فإنه لا بأس به، والحاجة إلى الشق إذا كانت الأرض رملية، فإن اللحد فيها لا يمكن؛ لأن الرمل إذا لحدت فيه انهدم، فتحفر حفرة، ثم يحفر في وسطها ثم يوضع لبن على جانبي الحفرة التي بها الميت؛ من أجل ألا ينهد الرمل، ثم يوضع الميت بين هذه اللبنات.

وعلم من قوله: «اللحد أفضل من الشق» أن الشق جائز، وهو كذلك، ولكنه خلاف الأفضل.

مسألة: هل يحفر بطول قامة الرجل، أو نصف الرجل، أو أقل، أو أكثر؟

الجواب: التعميق سنة، فيعمق في الحفر، والواجب: ما يمنع السباع أن تأكله، والرائحة أن تخرج منه، وأما كونه لا بد أن يمنع السباع والرائحة: فاحتراماً للميت؛ ولئلا يؤذي الأحياء، ويلوث الأجواء بالرائحة. هذا أقل ما يجب، وإن زاد في الحفر، فهو أفضل وأكمل لكن بلا حد. وبعضهم حده بأن يكون بطول القامة وهذا قد يكون شاقاً على الناس. ثم إنه أحياناً يعترضنا عند الحفر ماء. ففي هذه الحال لا بد أن نتخذ الإجراءات اللازمة لمنع الماء، إما ببناء لبنات، أو ما

ص: 360

أشبه ذلك حتى يمتنع الماء عن الميت.

‌وَيَقُولُ مُدْخِلُهُ: «بِسْمِ اللهِ، وَعَلَى مِلَّة رَسُولِ الله»

...........

قوله: «ويقول مدخله بسم الله وعلى ملة رسول الله» ، أي: يقول مدخله عند وضعه بالقبر: بسم الله؛ لأن البسملة كلها خير وبركة، ودفن الميت أمر ذو بال، وكل أمر ذي بال لا يبدأ فيه باسم الله فهو أبتر، وقد جاءت السنة بذلك أيضاً

(1)

.

ولكن من الذي يتولى إدخاله؟

الجواب: إن كان له وصي، أي: قال قبل موته: فلان يتولى دفني فإننا نأخذ بوصيته، وإن لم يكن له وصي فنبدأ بأقاربه إذا كانوا يحسنون الدفن، وإن لم يكن له أقارب، أو كانوا لا يحسنون الدفن، أو لا يريدون أن ينزلوا في القبر، فأي واحد من الناس.

ولا يشترط فيمن يتولى إدخال الميتة في قبرها أن يكون من محارمها، فيجوز أن ينزلها شخص، ولو كان أجنبياً.

ودليل ذلك: [أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ماتت ابنته زوجة عثمان رضي الله عنهما، وخرج إلى المقبرة وحان وقت دفنها، قال:«أيكم لم يقارف الليلة؟» ـ لم يقارف: قال العلماء: أي لم يجامع ـ

(1)

لحديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا وضعتم موتاكم في اللحد، فقولوا: بسم الله، وعلى سنّة رسول الله» .

أخرجه الإمام أحمد (2/ 27، 40، 59، 69، 127)؛ وأبو داود (3213)؛ والترمذي (1046)؛ وابن ماجه (1550)؛ وابن حبان (3110) إحسان؛ والحاكم (1/ 366)؛ والبيهقي (4/ 55). وقال الترمذي: «حسن غريب» وصححه الحاكم على شرط الشيخين ووافقه الذهبي.

ص: 361

فقال أبو طلحة: «أنا، فأمره أن ينزل في قبرها» ]

(1)

، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم وهو أبوها، وزوجها عثمان بن عفان رضي الله عنه كانا حاضرين.

‌وَيَضَعُهُ فِي لَحْدِهِ عَلَى شِقِّهِ الأَْيْمَنِ، مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ ...........

قوله: «ويضعه في لحده على شقه الأيمن» ، ليس على سبيل الوجوب، بل على سبيل الأفضلية أن يكون على الشق الأيمن.

وعللوا ذلك: بأنها سنة النائم، والنوم والموت كلاهما وفاة، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قال للبراء بن عازب رضي الله عنه:«إذا اتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ثم اضطجع على شقك الأيمن»

(2)

، فالموت كذلك.

قوله: «مستقبل القبلة» أي: وجوباً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الكعبة قبلتكم أحياء وأمواتاً»

(3)

، وهذا الحديث ضعيف، إلا أنَّ له شاهداً من حديث البراء بن معرور رضي الله عنه

(4)

، ولأن هذا عمل المسلمين الذي أجمعوا عليه؛ ولأنه أفضل المجالس.

فإن وضعه على جنبه الأيسر مستقبل القبلة، فإنه جائز، لكن الأفضل أن يكون على الجنب الأيمن.

ولم يذكر المؤلف رحمه الله أنه يضع تحته وسادة كلبنة، أو حجر، فظاهر كلامه أنه لا يسن، وهذا هو الظاهر

(1)

أخرجه البخاري (1342) عن أنس رضي الله عنه.

(2)

أخرجه البخاري (247)؛ ومسلم (2710).

(3)

سبق تخريجه ص (250).

(4)

سبق تخريجه ص (251).

ص: 362

عن السلف، فإن من خطب عمر بن عبد العزيز رحمه الله أنه قال:«إنكم تَدَعُونَ الميت في صدع من الأرض غير موسد ولا ممهد» .

فالأصل: عدم السنية، ولا أعلم في ذلك سنة، ومن ادعى السنية فعليه الدليل، ولهذا عد ذلك بعض العلماء من البدع.

واستحب بعض العلماء: أن يوضع له وسادة لبنة صغيرة ليست كبيرة.

ثم إن المؤلف رحمه الله لم يذكر أنه يكشف شيء من وجهه، وعلى هذا فلا يسن أن يكشف شيء من وجه الميت، بل يدفن ملفوفاً بأكفانه، وهذا رأي كثير من العلماء.

وقال بعض العلماء: إنه يكشف عن خده الأيمن ليباشر الأرض.

واستدلوا: بأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: «إذا أنا مت ووضعتموني في القبر فأفضوا بخدي إلى الأرض» ، أي: اجعلوه مباشراً للأرض، ولأن فيه استكانة وذلاً.

فأما كشف الوجه كله فلا أصل له، وليس فيه دليل إلا فيما إذا كان الميت محرماً، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لا تخمروا وجهه»

(1)

. وإن كانت هذه اللفظة «وجهه» اختلف العلماء في ثبوتها، أما الرأس بالنسبة للمحرم فإنه لا يغطى.

(1)

سبق تخريجه ص (285).

ص: 363

مسألة: يسن لمن حضر الدفن أن يحثو ثلاث حثيات لفعل النبي صلى الله عليه وسلم

(1)

.

مسألة: تلقين الميت بعد الدفن لم يصح الحديث فيه فيكون من البدع.

‌وَيُرْفَعُ الْقَبْرُ عَنِ الأَْرْضِ قَدْرَ شِبْرٍ مُسَنَّماً. وَيُكْرَهُ تَجْصِيصُهُ، وَالْبِنَاءُ،

..........

قوله: «ويرفع القبر عن الأرض قدر شبر مسنماً» ، أي: السنة أن يرفع القبر عن الأرض، وكما أنه سنة، فإن الواقع يقتضيه؛ لأن تراب القبر سوف يعاد إلى القبر، ومعلوم أن الأرض قبل حرثها أشد التئاماً مما إذا حرثت، فلا بد أن يربو التراب.

وأيضاً فإن مكان الميت كان بالأول تراباً، والآن صار فضاءً، فهذا التراب الذي كان في مكان الميت في الأول سوف يكون فوقه.

وقول المؤلف: «قدر شبر» . الشبر: ما بين رأس الخنصر والإبهام، عند فتح الكف، ومعلوم أن المسألة تقريبية؛ لأن الناس يختلفون في كبر اليد وصغرها. فالإنسان الذي يده كبيرة وأصابعه طويلة سيكون شبره طويلاً، والعكس بالعكس.

والغالب: أن التراب الذي يعاد إلى القبر أنه يرتفع بمقدار الشبر، وقد يزيد قليلاً، وقد ينقص قليلاً.

واستثنى العلماء من هذه المسألة: إذا مات الإنسان في دار

(1)

أخرجه ابن ماجه (1565) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وجوّده النووي في «المجموع» (5/ 292). وقال الحافظ في «التلخيص» (165):«إسناده ظاهر الصحة» ، وصححه البوصيري في «الزوائد» .

ص: 364

حرب، أي: في دار الكفار المحاربين، فإنه لا ينبغي أن يرفع قبره بل يسوى بالأرض خوفاً عليه من الأعداء أن ينبشوه، ويمثلوا به، وما أشبه ذلك.

وقوله: «مسنماً» أي: يجعل كالسنام بحيث يكون وسطه بارزاً على أطرافه، وضد المسنَّم: المسطح الذي يجعل أعلاه كالسطح.

والدليل على هذا: أن هذا هو صفة قبر النبي صلى الله عليه وسلم

(1)

، وقبري صاحبيه.

قوله: «ويكره» ، المكروه في اصطلاح الفقهاء هو: الذي يثاب تاركه امتثالاً، ولا يعاقب فاعله، وهو كراهة التنزيه، لا كراهة التحريم.

قوله: «تجصيصه» أي: أن يوضع فوقه جص؛ لأن هذا داخل في تشريفه، وقد قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لأبي الهياج الأسدي:«ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا تدع صورة إلا طمستها، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته»

(2)

.

قوله: «والبناء» عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك.

والاقتصار على الكراهة في هاتين المسألتين فيه نظر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم: «نهى عن ذلك، أي: عن تجصيصها، وعن البناء

(1)

فعن سفيان التمار «أنه رأى قبر النبي صلى الله عليه وسلم مسنماً» .

أخرجه البخاري (1390).

(2)

أخرجه مسلم (969).

ص: 365

عليها»

(1)

، والأصل في النهي التحريم؛ ولأن هذا وسيلة إلى الشرك، فإنه إذا بني عليها عظمت، وفي النهاية ربما تعبد من دون الله؛ لأن الشيطان يَجُرُّ بني آدم، من الصغيرة إلى الكبيرة، ومن الكبيرة إلى الكفر.

فالصحيح: أن تجصيصها والبناء عليها حرام.

وقد قال بعض المتأخرين: إن الفقهاء أرادوا بالكراهة هنا كراهة التحريم، ولكن هذا غير مسلم؛ لأن هذا خلاف اصطلاحهم.

‌وَالْكِتَابَةُ، والجُلُوسُ، وَالْوَطْءُ عَلَيْهِ، والاتِّكَاءُ إِلَيْهِ، وَيَحْرُمُ فِيهِ دَفْنُ اثْنَيْنِ فَأَكْثَرَ إِلاّ لِضَرُورَةٍ .........

قوله: «والكتابة» أي: على القبر، سواء كتب على الحجر المنصوب عليه، أو كتب على نفس القبر؛ لأن ذلك يؤدي إلى تعظيمه، وتعظيم القبور يخشى أن يوصل صاحبه إلى الشرك.

وظاهر كلام المؤلف رحمه الله: أن الكتابة مكروهة، ولو كانت بقدر الحاجة، أي حاجة بيان صاحب القبر؛ درءاً للمفسدة.

وقال شيخنا عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله: المراد بالكتابة: ما كانوا يفعلونه في الجاهلية من كتابات المدح والثناء؛ لأن هذه هي التي يكون بها المحظور، أما التي بقدر الإعلام، فإنها لا تكره.

قوله: «والجلوس والوطء عليه» ، أي: الجلوس على القبر مكروه ـ وعلى كلام المؤلف ـ كراهة تنزيه.

والصواب: أنه محرم.

(1)

أخرجه مسلم (970) عن جابر رضي الله عنه.

ص: 366

فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الجلوس على القبر وقال: «لأن يجلس أحدكم على جمرة فتخرق ثيابه فتمضي إلى جلده خير له من أن يجلس على القبر»

(1)

.

وكذلك الوطء عليه، فيرى المؤلف: أنه مكروه.

والصحيح: أنه حرام؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن ذلك

(2)

؛ ولأنه امتهان لأخيه المسلم.

قوله: «والاتكاء إليه» ، أي: أن يتكئ على القبر فيجعله كالوسادة له؛ لأن في هذا امتهاناً للقبر.

وانظر كيف نهى النبي صلى الله عليه وسلم: «أن يجصص القبر، وأن يبنى عليه، وأن يكتب عليه، وأن يوطأ عليه»

(3)

، حيث جمع في هذا النهي بين ما يكون سبباً للغلو فيه، وسبباً لامتهانه.

فالغلو في البناء، والتجصيص، والكتابة.

والامتهان في الوطء؛ من أجل أن يعامل الناس أهل القبور معاملة وسطاً لا غلو فيها ولا تفريط.

قوله: «ويحرم فيه دفن اثنين فأكثر إلا لضرورة» ، أي: يحرم في القبر دفن اثنين فأكثر، سواءٌ كانا رجلين أم امرأتين أم رجلاً وامرأة.

والدليل على ذلك: عمل المسلمين من عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا أن الإنسان يدفن في قبره وحده.

(1)

أخرجه مسلم (971) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

رواه الترمذي (1052) عن جابر رضي الله عنه. وقال: «حديث حسن صحيح» .

(3)

سبق تخريجه ص (366).

ص: 367

ولا فرق بين أن يكون الدفن في زمن واحد بأن يؤتى بجنازتين وتدفنا في القبر، أو أن تدفن إحدى الجنازتين اليوم والثانية غداً.

قوله: «إلا لضرورة» ، وذلك بأن يكثر الموتى، ويقل من يدفنهم، ففي هذه الحال لا بأس أن يدفن الرجلان والثلاثة في قبر واحد.

ودليل ذلك: «ما صنعه النبي صلى الله عليه وسلم في شهداء أحد حيث أمرهم أن يدفنوا الرجلين في قبر واحد، ويقول: انظروا أيهم أكثر قرآناً فقدموه في اللحد»

(1)

.

وذهب بعض أهل العلم إلى كراهة دفن أكثر من اثنين كراهة تنزيه.

وعللوا: بأن مجرد الفعل لا يدل على التحريم: أي: مجرد كون المسلمين يدفنون كل جنازة وحدها لا يدل على تحريم دفن أكثر من واحدة، وإنما يدل على كراهة مخالفة عمل المسلمين.

وذهب آخرون: إلى أن إفراد كل ميت في قبره أفضل، والجمع ليس بمكروه ولا محرم.

ولا يلزم من ترك السنة والأفضل أن يقع الإنسان في المكروه؛ لأن المكروه منهي عنه حقيقة، وترك الأفضل ليس بمنهي عنه.

ولهذا لو أن الإنسان ترك راتبة الظهر مثلاً لا نقول: إنه فعل

(1)

أخرجه البخاري (1347) عن جابر رضي الله عنه.

ص: 368

مكروهاً، ولو أنه لم يرفع يديه عند الركوع لا نقول: إنه فعل مكروهاً.

والراجح عندي ـ والله أعلم ـ القول الوسط، وهو الكراهة كما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله

(1)

، إلا إذا كان الأول قد دفن واستقر في قبره، فإنه أحق به، وحينئذٍ فلا يُدخل عليه ثان، اللهم إلا للضرورة القصوى.

‌وَيُجْعَلُ بَيْنَ كُلِّ اثْنَيْنِ حَاجِزٌ مِنْ تُرَابٍ وَلَا تُكْرَهُ القِرَاءَةُ عَلَى القَبْرِ ...........

قوله: «ويجعل بين كل اثنين حاجز من تراب» ، أي: إذا جاز دفن اثنين فأكثر في القبر الواحد، فإن الأفضل أن يجعل بينهما حاجز من تراب ليكونا كأنهما منفصلان، ولكن هذا ليس على سبيل الوجوب، بل على سبيل الأفضلية.

قوله: «ولا تكره القراءة على القبر» ، القراءة على القبر لا تكره، ولها صفتان:

الصفة الأولى: أن يقرأ على القبر، كأنما يقرأ على مريض.

الصفة الثانية: أن يقرأ على القبر أي عند القبر؛ ليسمع صاحب القبر فيستأنس به.

فيقول المؤلف: إن هذا غير مكروه.

ولكن الصحيح: أنه مكروه، فنفي الكراهة إشارة إلى قول من قال بالكراهة، والصحيح أن القراءة على القبر مكروهة، سواء كان ذلك عند الدفن أو بعد الدفن؛ لأنه لم يعمل في عهد

(1)

«الاختيارات» ص (89).

ص: 369

النبي صلى الله عليه وسلم ولا عُهد عن الخلفاء الراشدين، ولأنه ربما يحصل منه فتنة لصاحب القبر، فاليوم يقرأ عنده رجاء انتفاع صاحب القبر وغداً يقرأ عنده رجاء الانتفاع بصاحب القبر، ويرى أن القراءة عنده أفضل من القراءة في المسجد فيحصل بذلك فتنة.

مسألة مهمة: قراءة (يس) على الميت بعد دفنه بدعة، ولا يصح الاستدلال لذلك بقوله صلى الله عليه وسلم:«اقرؤوا على موتاكم يس»

(1)

؛ لأنه لا فائدة من القراءة عليه وهو ميت، وإنما يستفيد الشخص من القراءة عليه ما دامت روحه في جسده، ولأن الميت محتاج للدعاء له؛ ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم من حضر الميت أن يدعو له، وقال:«فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون»

(2)

.

‌وَأَيُّ قُرْبَةٍ فَعَلَهَا، وَجَعَلَ ثَوَابَهَا لِمَيِّتٍ مُسْلِمٍ أَوْ حَيٍّ نَفَعَهُ ذَلِكَ ........

قوله: «وأي قربة فعلها وجعل ثوابها لميت مسلم أو حي نفعه ذلك» ، هذه قاعدة في إهداء القُرب للغير، هل هو جائز، وهل ينفع الغير أو لا ينفع؟

يقول المؤلف في هذه القاعدة: «أي قربة فعلها ـ أي: جميع أنواع القربات ـ إذا فعلها وجعل ثوابها لميت مسلم أو حي نفعه ذلك» . ولو قال رحمه الله: لمسلم ميت أو حي لكان أحسن؛ لأن قوله: لميت مسلم أو حي.

قد يقول قائل: أو حي مسلم أو كافر.

(1)

سبق تخريجه ص (249).

(2)

أخرجه مسلم (919) عن أم سلمة رضي الله عنها.

ص: 370

لكن لو قال: لمسلم ميت أو حي، لكان أوضح، وهذا مراده بلا شك.

وقول المؤلف: «أي قربة» لم يخصصها بالقربة المالية ولا بالبدنية بل أطلق.

مثال ذلك: أن يصوم شخص يوماً عن شخص آخر تطوعاً، فهل ينفعه؟

يقول المؤلف: ينفعه ما دام مسلماً.

مثال ثان: رجل تصدق بمال عن شخص فهل ينفعه؟ الجواب: نعم ينفعه.

مثال ثالث: رجل أعتق عبداً ونوى ثوابه لشخص؟

الجواب: ينفعه.

مثال رابع: رجل حج ونوى ثوابه لشخص؟

الجواب: ينفعه.

فإن كان ميتاً ففعل الطاعة عنه قد يكون متوجهاً؛ لأن الميت محتاج ولا يمكنه العمل، لكن إن كان حياً قادراً على أن يقوم بهذا العمل ففي ذلك نظر؛ لأنه يؤدي إلى اتكال الحي على هذا الرجل الذي تقرب إلى الله عنه، وهذا لم يعهد عن الصحابة رضي الله عنهم، ولا عن السلف الصالح.

وإنما الذي عهد منهم هو جعل القُرَب للأموات، أما الأحياء فلم يعهد، اللهم إلا ما كان فريضة كالحج، فإن ذلك عُهد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، لكن بشرط أن يكون المحجوج عنه عاجزاً عجزاً لا يرجى زواله.

ص: 371

فإن قال قائل: ما الدليل على أن ذلك نافع؟

فالجواب: الدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى»

(1)

.

فإذا نويت أن أتقرب إلى الله لفلان نفعه، ولا دليل على المنع.

وكذلك فبعض هذه المسائل وقع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأجازها.

فمن ذلك:

1 ـ أن سعد بن عبادة رضي الله عنه «تصدق ببستانه لأمه التي ماتت فأجازه النبي صلى الله عليه وسلم»

(2)

.

2 ـ حديث عائشة رضي الله عنها: «أن رجلاً قال: يا رسول الله، إن أمي افتلتت نفسها، وإنها لو تكلمت لتصدقت أفأتصدق عنها؟ قال: نعم»

(3)

.

3 ـ أن عمرو بن العاص رضي الله عنه: «سأل النبي صلى الله عليه وسلم هل يتصدق عن أبيه بعتق خمسين رقبة لأن أباه أوصى أن يعتق عنه مائة رقبة، فتصدق أخو عمرو بخمسين، وعمرو سأل النبي صلى الله عليه وسلم أيعتق الخمسين الباقية؟ فبين النبي صلى الله عليه وسلم له أنه لو كان أبوه مسلماً لنفعه، فترك الإعتاق»

(4)

لأنه كافر، والكافر لا ينتفع بعمل غيره، حتى عمله الذي عمله من خير، يقول الله فيه:{وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا *} [الفرقان]. فلما وجدت هذه

(1)

سبق تخريجه (1/ 194).

(2)

أخرجه البخاري (2756).

(3)

أخرجه البخاري (1388)؛ ومسلم (1004).

(4)

أخرجه أبو داود (2883).

ص: 372

المسألة الفردية، قلنا: الأصل الجواز حتى يقوم دليل على المنع، أما لو كان هناك دليل على المنع لقلنا: هذه القضايا التي وردت تكون مخصصة للمنع، لكن لم يرد ما يدل على منع التقرب إلى الله تعالى بقربة تكون للغير.

فإن قال قائل: ما الجواب عن قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى *} ؟ [النجم].

فالجواب: أن من قرأ الآيات عرف المراد بها قال تعالى: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى *وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى *أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى *وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى *} [النجم]، فكما أن وزر غيرك لا يحمل عليك، فكذلك سعي غيرك لا يجعل لك.

والمعنى: أن سعيك لا يضيع، وأنك لا تحمل وزر غيرك، لكن لو أن أحداً سعى لك فما المانع؟ أليس الذي يظلم غيره يأخذ الناس من حسناته، وتضاف إلى حسناتهم مع أنهم ما سعوا لها؟

فالمعنى: أن الإنسان كما لا يزر وزر غيره، لا يملك سعي غيره؛ فليس له إلا ما سعى، وأما أن يسعى غيره له فهذا لا مانع منه، فالآية لا تدل على منع سعي الغير له، بل تدل على أنه لا يملك من سعي غيره شيئاً، كما أنه لا يحمل من وزر غيره شيئاً.

يبقى النظر: هل عمل العامة اليوم على صواب؟ وعمل العامة أنهم لا يعملون شيئاً إلا جعلوه لوالديهم، وأعمامهم، وأخوالهم، وما أشبه ذلك، حتى في رمضان يقرؤون القرآن وأول

ص: 373

ختمة للأم؛ والثانية للأب، والثالثة للجدة، والرابعة للجد، والخامسة للعم، والسادسة للعمة، والسابعة للخال، والثامنة للخالة، فهذا غلط ليس من هدي السلف.

وكذلك في مكة يعتمرون، الأولى له، واليوم الثاني لأمه، والثالث لأبيه، والرابع لجده.

حتى إن بعض الناس يفتيهم، ويقول: لا بأس أن تكرر العمرة كل يوم إذا لم تكن لنفسك.

والذين لا يعتمرون يطوفون، ويكثرون الطواف لموتاهم، مع أنَّ هاديَ الخلق ودالَّهم إلى الله محمداً صلى الله عليه وسلم لم يرشد الأمة إلى هذا؛ فإنه صلى الله عليه وسلم قال:«إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له»

(1)

.

وسياق الحديث في الأعمال النافعة التي تنفع الإنسان، فلو كان العمل الصالح للإنسان بعد موته نافعاً لقال: أو ولد صالح يعمل له، فعدول النبي صلى الله عليه وسلم عن العمل إلى الدعاء، يدل: على أنه ليس من المشروع أن تجعل الأعمال للأموات، وإن كنت تريد أن تنفعهم فادع الله لهم، وهكذا قول المؤمنين:{رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10].

ونحن لا ننكر أن الميت ينتفع، لكن ننكر أن تكون المسألة بهذا الإفراط، فكل شيء يجعل للأموات!!

(1)

أخرجه مسلم (1631) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 374

حتى إنني حُدثت حديثاً عجباً، وهو أنه إذا قُدم الغداء أفاضوا عليه أيديهم وقالوا: اللهم اجعل ثوابه لفلان، والعشاء كذلك، فلم يبق شيء من الأعمال الصالحة إلا جعلوه لهم، وكل هذا من البدع.

لكن مع الأسف أن الناس إذا عملوا عملاً ولم ينبهوا عليه صار هذا العمل البدعي سنة عندهم، وصاحوا بمن ينكر عليهم: أتحسد أمواتنا؟!!

فأمواتنا محتاجون وأعمالهم منقطعة، فنقول: ادع لهم، فبدل أن تجعل العمل الصالح لهم، اجعله لنفسك وادع الله لهم، وهذا خير لك وأفضل، وأخذٌ بتوجيه النبي صلى الله عليه وسلم.

وكنا ونحن صغار لا نعرف الأضحية عن الحي أبداً، فكل الضحايا للأموات، ولكن الآن ـ الحمد لله ـ تنَّور الناس، وعرفوا أن الأضحية في الأصل للحي.

وقد يتعلل بعض الناس: بأن الناس في الأول كانوا في شدة فقر وليس عندهم من الأضاحي إلا الوصايا التي أوصى بها الأموات في أموالهم وأملاكهم وعقاراتهم، لكن هذه العلة ساقطة عند العامي.

لأن العامي لا يقول لك: ليس عندي فلوس، بل يقول: الأضحية لا تكون إلا للميت، وأمثال هذا.

‌وَسُنَّ أَنْ يُصْلِحَ لأَهْلِ المَيِّتِ طَعَامٌ يُبْعَثُ بِهِ إِلَيْهِمْ .........

قوله: «وسن أن يصلح لأهل الميت طعام يبعث به إليهم» ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم حين جاء نعي جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه:

ص: 375

«اصنعوا لآل جعفر طعاماً فقد أتاهم ما يشغلهم»

(1)

.

وظاهر كلام المؤلف: أن صنع الطعام لأهل الميت سنة مطلقاً، ولكن السنة تدل على أنه ليس بسنة مطلقاً، وإنما هو سنة لمن انشغلوا عن إصلاح الطعام بما أصابهم من مصيبة لقوله:«فقد أتاهم ما يشغلهم» ، والإنسان إذا أصيب بمصيبة عظيمة انغلق ذهنه وفكره ولم يصنع شيئاً.

فظاهر التعليل: أنه إذا لم يأتهم ما يشغلهم فلا يسن أن يصنع لهم.

ومع ذلك غلا بعض الناس في هذه المسألة غلواً عظيماً لا سيما في أطراف البلاد، حتى إنهم إذا مات الميت يرسلون الهدايا من الخرفان الكثيرة لأهل الميت، ثم إن أهل الميت يطبخونها للناس، ويدعون الناس إليها فتجد البيت الذي أصيب أهله كأنه بيت عرس، فيضيئون في الليل المصابيح الكثيرة، ويصنعون الكراسي المتعددة، وقد شاهدت ذلك بنفسي.

وهذا لا شك أنه من البدع المنكرة، فهل نحن مأمورون عند المصائب أن نأتي بالمسليات الحسية التي تختم على القلب حتى ننسى المصيبة نسيان البهائم؟! نحن مأمورون بأن نتسلى بما أرشدنا الله إليه:«إنا لله وإنا إليه راجعون» .

(1)

أخرجه الإمام أحمد (1/ 205)؛ وأبو داود (3132)؛ والترمذي (998)؛ وابن ماجه (1610)؛ والحاكم (1/ 372) عن عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما. وقال الترمذي: «حديث حسن صحيح» . وقال الحاكم: «صحيح الإسناد، ولم يخرجاه» .

ص: 376

لا بأن يأتي الناس من يمين وشمال؛ ليجتمعوا إلينا ويؤنسونا تأنيساً ظاهرياً.

وإذا لم تكن المصيبة منسية بما أمر الله عز وجل به ورسوله صلى الله عليه وسلم، فإنها لا خير فيها، فيكون هذا النسيان سلواً كسلو البهائم.

وقد قال الصحابة رضي الله عنهم: «كنا نعد صنع الطعام والاجتماع إلى أهل الميت من النياحة»

(1)

. والنياحة من كبائر الذنوب فإن النبي صلى الله عليه وسلم: «لعن النائحة والمستمعة»

(2)

.

وقد صرح بعض العلماء أن هذا الاجتماع بدعة؛ وهذا إذا خلا من المحاذير الشرعية.

‌ويُكْرَهُ لَهُمْ فِعْلُهُ لِلنَّاسِ.

قوله: «ويكره لهم فعله للناس» ، أي: صنع الطعام مكروه لأهل الميت، أي: أن يصنعوا طعاماً ويدعوا الناس إليه؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم «كانوا يعدون صنع الطعام والاجتماع لأهل الميت من النياحة» .

(1)

أخرجه الإمام أحمد (2/ 204)؛ وابن ماجه (1612). وقال البوصيري: «إسناده صحيح، رجال الطريق الأول على شرط البخاري، والثاني على شرط مسلم» عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه.

(2)

أخرجه الإمام أحمد (3/ 65)؛ وأبو داود (3128)؛ والبيهقي (4/ 63) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

ص: 377

‌فَصْلٌ

‌تُسَنُّ زِيَارَةُ القُبُورِ ..........

فصل

قوله: «تسن زيارة القبور» ، والسنة عند الفقهاء: ما أثيب فاعله امتثالاً ولم يعاقب تاركه. فهي في مرتبة بين المباح والواجب.

القبور: جمع قبر، وليس الجمع مراداً، بل تسن الزيارة ولو كان قبراً واحداً.

فلو أن شخصاً مات في فلاة من الأرض، ومررنا به، وعرجنا على قبره لنزوره فلا بأس به.

ودليل ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم: «استأذن الرب عز وجل أن يزور قبر أمه فأذن له، واستأذنه أن يستغفر لها فلم يأذن له»

(1)

. لأنها ماتت على الكفر قبل الإسلام، ولا يحل لإنسان أن يستغفر لأي إنسان كافر.

وقوله: «تسن زيارة القبور» وهذه الزيارة زيارة للدعاء لهم، وليست زيارة لدعائهم.

وهل هي زيارة للاعتبار، أو للتبرك بأتربتهم؟

الجواب: زيارة للاعتبار.

وسنية الزيارة ثابتة: بالسنة، والإجماع، كما نقله النووي رحمه الله.

أما السنة فمن قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله.

أما قوله فقد قال صلى الله عليه وسلم: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور

(1)

أخرجه مسلم (976) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 378

فزوروها فإنها تذكركم الآخرة»

(1)

.

وأما فعله: فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يخرج إلى البقيع فيسلم عليهم

(2)

.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم نهى أولاً عن زيارة القبور؛ لأن الناس حديثو عهد بالكفر والشرك، فخاف أن يكون ذلك وسيلة للإشراك، ولما استقر الإيمان في القلوب أذن لهم. فقال لهم صلى الله عليه وسلم:«كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها»

(3)

، ثم بين الرسول صلى الله عليه وسلم الحكمة من ذلك فقال:«فإنها تذكركم الآخرة»

(4)

، أي: تذكركم بلسان الحال لا بلسان المقال؛ لأن الإنسان إذا جاء إلى القبور، وتذكر أن فلاناً الذي في القبر الآن كان بالأمس معه، يأكل كما يأكل، ويشرب كما يشرب، ويتمتع بمتع الدنيا كما يتمتع، ويستطيع أن يعمل العمل الصالح كما يستطيع هو الآن، إذا تذكر ذلك فلا بد أن يؤثر على قلبه، وأن يستعد لهذا اليوم الذي آل إليه صاحبه بالأمس، فيتذكر أن مآله إلى هذا القبر، وأنه ربما يكون فيه عن قرب، فيتذكر، ويتعظ ويمتثل، ولهذا ينبغي للزائر أن يستشعر هذا المعنى، لا أن يستشعر مجرد الدعاء لهم؛ لأن هذا المعنى هو الذي علل به النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بالزيارة فقال:«فإنها تذكركم الآخرة» .

‌إِلاَّ لِنِسَاءٍ .........

قوله: «إلا لنساء» ، فليست بسنة، وفي المسألة خمسة أقوال:

(1)

و

(2)

و

(3)

أخرجه مسلم (977) عن بريدة رضي الله عنه.

(4)

أخرجه أبو داود (3235)؛ والترمذي (1054) عن بريدة رضي الله عنه، وقال الترمذي:«حسن صحيح» .

ص: 379

فقيل: إنها سنة للنساء، كالرجال.

وقيل: تكره.

وقيل: تباح.

وقيل: تحرم.

وقيل: من الكبائر.

والمشهور من المذهب عند الحنابلة: أنها تكره، والكراهة عندهم للتنزيه، أي لو زارت المرأة القبور، فإنه لا إثم عليها.

والصحيح: أن زيارة المرأة للقبور من كبائر الذنوب.

ودليل ذلك ما يلي:

1 ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم: «لعن زائرات القبور»

(1)

.

واللعن لا يكون إلا على كبيرة من كبائر الذنوب؛ لأن معناه الطرد والإبعاد عن رحمة الله، وهذا وعيد شديد.

2 ـ من جهة النظر، فلأنَّ المرأة ضعيفة التحمل، قوية العاطفة، سريعة الانفعال فلا تتحمل أن تزور القبر، وإذا زارته حصل لها من البكاء، والعويل، وربما شق الجيوب، ولطم الخدود، ونتف الشعور، وما أشبه ذلك.

وأيضاً إذا ذهبت وحدها إلى المقابر، فالغالب أن المقابر تكون في مكان خال، يخشى عليها من الفتنة أو العدوان عليها، فكان النظر الصحيح موافقاً للأثر.

(1)

أخرجه الإمام أحمد (1/ 229، 287، 324)؛ وأبو داود (3236)؛ والترمذي (320)؛ والنسائي (4/ 94)؛ وابن حبان (3179) إحسان؛ والحاكم (1/ 374)؛ والبيهقي (4/ 78) عن ابن عباس رضي الله عنهما.

ص: 380

واستثنى الأصحاب من فقهاء الحنابلة: قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وقبري صاحبيه، وقالوا: إن زيارة النساء لهذه القبور الثلاثة لا بأس بها.

وعللوا ذلك: بأن زيارتهن لهذه القبور الثلاثة لا يصدق عليها أنها زيارة؛ لأن بينهن وبين هذه القبور ثلاثة جدر، كما قال ابن القيم:

فأجاب رب العالمين دعاءه

وأحاطه بثلاثة الجدران

والذي يترجح عندي: أنه لا استثناء؛ لأن وصولهن إلى القبور إما أن يكون زيارة، أو لا يكون، فإن كان زيارة وقعن في الكبيرة، وإن لم تكن زيارة فلا فرق بين أن يحضرن إلى مكان القبر، أو أن يسلمن على النبي صلى الله عليه وسلم من بعيد، وحينئذٍ يكون مجيئهن للقبور لغواً لا فائدة منه، بل في زماننا هذا قد يكون هناك مزاحمة للرجال، وأعمال لا تليق بالمرأة المسلمة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم.

فإن قال قائل: ما تقولون في حديث عائشة رضي الله عنها: «أنها زارت قبر أخيها»

(1)

؟

فالجواب: أن قول النبي صلى الله عليه وسلم لا يعارض بقول أحد كائناً من كان، وها هي عائشة رضي الله عنها تقول: «شبَّهتمونا

(1)

أخرجه الترمذي (1055)؛ وابن أبي شيبة (3/ 343)؛ وعبد الرزاق (6711)؛ والحاكم (1/ 376)؛ والبيهقي (4/ 78)؛ وعزاه في «مجمع الزوائد» (3/ 60) للطبراني، وقال:«رجاله رجال الصحيح» ، وصححه الذهبي في «تلخيص المستدرك» .

ص: 381

بالحمير والكلاب»

(1)

، أي في قطع الصلاة إذا مرت المرأة من بين يدي المصلي مع أن النبي صلى الله عليه وسلم صرح بأن:«الكلب الأسود، والحمار، والمرأة تقطع الصلاة»

(2)

، فهي رضي الله عنها غير معصومة، ولا يمكن أن يستدل بفعلها مع قول النبي صلى الله عليه وسلم.

فإن قيل: ما تقولون في الحديث الثابت في صحيح مسلم «حيث فقدت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، وطلبته، ثم أدركته في البقيع يسلم عليهم، ثم رجع من البقيع ورجعت هي قبله حتى أدركها في البيت، .... قالت يا رسول الله: أرأيت إن خرجت ماذا أقول قال: قولي: السلام عليكم دار قوم مؤمنين .... »

(3)

إلخ؟

فالجواب: يفرق بين المرأة إذا خرجت بقصد الزيارة، وإذا مرت بالمقبرة بدون قصد الزيارة، فإذا مرت بالمقبرة بدون قصد الزيارة، فلا حرج أن تسلم على أهل القبور، وأن تدعو لهم بما قاله النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها.

وأما إذا خرجت لقصد الزيارة فهذه زائرة للمقبرة فيصدق عليها اللعن.

فإن قيل: ما تقولون في اللفظ الوارد في الحديث: «لعن الله زوَّارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج»

(4)

، «زوارات» بصيغة المبالغة؟

(1)

سبق تخريجه (3/ 285).

(2)

سبق تخريجه (3/ 282).

(3)

أخرجه مسلم (974)(103).

(4)

أخرجه الإمام أحمد (3/ 442)؛ وابن ماجه (1574)؛ والحاكم (1/ 374)؛ والبيهقي (4/ 78) عن حسان بن ثابت رضي الله عنه. وقال البوصيري في «الزوائد» : «إسناده صحيح، ورجاله ثقات» .

ص: 382

فالجواب: الحديث ورد بلفظين: «زائرات» ، و «زوارات» .

فإن كانت «زوارات» للنسبة فلا إشكال، وإن كانت للمبالغة فإن لفظ «زائرات» فيه زيادة علم، فيؤخذ به؛ لأن «زائرات» يصدق بزيارة واحدة.

و «زوارات» في الكثير للمبالغة، ومعلوم أن الوعيد إذا جاء معلقاً بزيارة واحدة، ومعلقاً بزيارات متعددة؛ فإن مع المعلق بزيارة واحدة زيادة علم؛ لأنه يحق الوعيد على من زار مرة واحدة على لفظ «زائرات» ، دون لفظ:«زوارات» .

ولو أخذنا «بزوارات» ألغينا دلالة «زائرات» . وقد تكلم شيخ الإسلام رحمه الله على هذه المسألة في مجموع الفتاوى

(1)

كلاماً جيداً ينبغي لطالب العلم أن يراجعه وذكر عدة أوجه في الرد على من قال: إن النساء يسن لهن زيارة القبور.

قوله: «ويقول إذا زارها» ، «يقولُ» بالضم، والفتح، فإن جعلنا الواو للاستئناف فبالضم، وإن جعلناها للعطف على «زيارة» فبالفتح؛ لأن المضارع إذا عطف على اسم خالص نصب بأن مضمرة جوازاً.

قال ابن مالك:

وإن على اسم خالص فعل عُطف تنصبه «أن» ثابتاً أو منحذف

(2)

واستشهدوا لذلك بقوله:

ولُبْس عباءة وتقرَّ عيني أحب إلي من لبس الشفوف

تقر: معطوف على «لبس» اسم خالص وهو مصدر.

‌وَيَقُولُ إِذَا زَارَهَا:

.........

و «يقول» عطف على «زيارة» فعليه يكون المعنى: ويسن أن يقول، أما إذا جعلناها بالرفع فإنها مستأنفة، «ويقول: إذا زارها، أو مر بها».

قوله: «إذا زارها» ، أي: قصد زيارتها وخرج إليها، أو مر بها مروراً قاصداً غيرها.

قوله: «السلام عليكم» السلام: اسم من أسماء الله كما في قوله تعالى: {السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ} [الحشر: 23]، لكنه في التحية لا يراد به اسم الله، وإنما يراد به التسليم، فهو اسم مصدر كالكلام بمعنى التكليم، والمعنى التسليم عليكم، أي: الدعاء بالسلام عليكم.

والسلامة بالنسبة لأهل القبور تكون من العذاب.

(1)

«مجموع الفتاوى» (24/ 344).

(2)

«ألفية ابن مالك» ص (52).

ص: 383

فقد يكون الإنسان معذباً في قبره، ولو عذاباً خفيفاً، فإذا سألت الله له السلامة سلم، ثم أنت تسلم على عموم القبور.

‌«السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ ..........

وقوله: «السلام عليكم» ، أتى بكاف الخطاب، فهل الكاف هذه تدل على أنهم يسمعون؛ لأنه لا يخاطب إلا من يسمع ما لم يكن دليل ظاهر على أن المخاطب لا يسمع، وإنما قلت: ما لم يكن دليل ظاهر؛ لئلا يورد علينا مورد قول عمر رضي الله عنه للحجر الأسود: «إني لأعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر، ولولا أنني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقبِّلك ما قبَّلتك»

(1)

، فهنا خاطبه وهو حجر،

(1)

أخرجه البخاري (1597)؛ ومسلم (1270).

ص: 384

لكن أهل القبور هل هم يخاطبون مخاطبة الحجر أو مخاطبة السامع؟.

الجواب: الظاهر الثاني، أي:«مخاطبة السامع» .

وقد ذكر ابن القيم في كتاب الروح

(1)

حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم: «ما مسلم يمر بقبر أخيه كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام» ، وقد صححه ابن عبد البر، وأقره ابن القيم عليه، فلا يبعد أن يكون أهل المقبرة عموماً إذا سُلم عليهم يسمعون، ولا نقيسهم بالحجر الأسود؛ لأن الحجر عندنا دلالة حسية ملموسة أنه لا يسمع وهي أنه حجر، وحتى الحجر فإنه قد يسمع أيضاً. قال الله تعالى عن الأرض عموماً:{يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا *بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا *} [الزلزلة].

«تحدث أخبارها» أي: ما عمل عليها من خير أو شر، سواء قول مسموع أو فعل مرئي فتحدث به يوم القيامة، والجلود تنطق أنطقها الله الذي أنطق كل شيء، فلا تستبعد هذه الأمور؛ لأن قدرة الله عز وجل لا يمكن أن يدركها العقل.

فلا يبعد أنك إذا قلت لأهل المقبرة: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين» أنهم يسمعون. وأما قول الله تعالى: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل: 80] أي موتى القلوب؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يخرج لأهل القبور يدعوهم.

(1)

«الروح» ص (7)، وعزاه لابن أبي الدنيا في كتاب «القبور» ، وليس في المطبوع منه، وأخرجه ابن عبد البر في «الاستذكار» برقم (1858)، وصححه عبد الحق الإشبيلي كما في «إتحاف السادة المتقين» (10/ 365).

ص: 385

قوله: «دار قوم مؤمنين» ، أي: يا دار قوم، والمراد بالدار هنا: أهلها، كما في قوله تعالى:{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] المراد: أهلها.

قوله: «وإنا إن شاء الله بكم لاحقون» ، لاحقون على ماذا؟

الجواب: إذا قلنا: لاحقون بالموت ورد علينا إشكال، وهو تعليق ذلك بمشيئة الله مع أنه محقق، والمحقق لا يحتاج إلى تعليق بالمشيئة، والتعليق بالمشيئة في أمر لا يدرى عنه فيوكل إلى الله عز وجل قال تعالى:{قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ} [الجمعة: 8]، ولم يقل: فإنه لاحقكم؛ لأن اللاحق قد يدرك، وقد لا يدرك، لكن الملاقي مدرك لا محالة.

فقيل في التخلص من هذا الإشكال ما يأتي:

1 ـ أن المراد على الإيمان، فيكون لحوقاً معنوياً لا حسياً، بدليل قوله:«دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون» . وحينئذٍ فتعليق ذلك بالمشيئة مشروع.

2 ـ أن المراد اللحاق على أصل الموت، لكن التعليق للتعليل، أي: أن لحوقنا إياكم سيكون بمشيئة الله.

3 ـ أن التعليق هنا ليس على أصل الموت، ولكن على وقت الموت، كأنه قال: وإنا إذا شاء الله أي: متى ما شاء الله، لحقناكم، أي: سنلحق بكم في الوقت الذي يشاء الله أن نلحق، والتعليق بالمشيئة هنا واضح.

ص: 386

والمقصود من هذه الجملة: توطين النفس على ما صار إليه هؤلاء من أجل تحقيق التذكر.

‌يَرْحَمُ اللهُ المُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَالمُسْتَأْخِرِينَ. نَسْأَلُ اللهَ لَنَا وَلَكُمُ الْعَافِيَةَ، اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُمْ، وَلَا تَفْتِنَّا بَعْدَهُمْ وَاغْفِرْ لَنَا وَلَهُمْ».

قوله: «يرحم الله المستقدمين منكم والمستأخرين» ، جملة خبرية لفظاً إنشائية معنى، أي: نسأل الله أن يرحم المستقدمين منكم، والمستأخرين.

قوله: «نسأل الله لنا ولكم العافية» ، أما بالنسبة لنا فإنها عافية حسية كعافية البدن، وعافية معنوية من الذنوب والمعاصي.

أما العافية لأهل القبور فهي: العافية من عذاب القبر.

قوله: «اللهم لا تحرمنا أجرهم» .

أجرنا على الأموات متعدد:

أولاً: الحزن عليهم، فكم من ميت في هذه المقبرة قد حزنت عليه، إما لقرابة، أو لصداقة، أو نفع، أو غير ذلك، ولا شك أن الإنسان إذا أصيب بمصاب وتحمل فله أجر.

ثانياً: أجر الزيارة، أي لا تحرمنا أجر الزيارة لهم؛ لأن زيارتنا لهم سنة أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم، وفعلها بنفسه، فنحن نفعلها امتثالاً واقتداءً.

امتثالاً لأمره، واقتداء بفعله صلى الله عليه وسلم.

قوله: «ولا تفتنا بعدهم» هذه جملة عظيمة، فتسأل الله ألاَّ يفتنك بعدهم؛ لأن الإنسان قد يفتن بعد موت أقاربه، وأصحابه، ومشايخه، وغير ذلك، فقد يفارقون هذا الرجل مستقيم الحال،

ص: 387

ثم يفتن وبالعكس، فتسأل الله ألاَّ يفتنك بعدهم بشبهات تعرض لك، أو بإرادات سيئة، وهي فتنة الشهوات، والإنسان ما دامت روحه في جسده، فهو معرض للفتنة.

يُذكر أن الإمام أحمد رحمه الله، وهو في سياق الموت يغمى عليه ويُسمع يقول: بعد، بعد، فلما أفاق قيل له: يا أبا عبد الله ما بعد، بعد، قال: رأيت الشيطان أمامي يعض على يديه، يقول: فُتَّنِي يا أحمد، أي: عجزت أن أدركك وأغويك، فأقول: بعد بعد. أي: ما دامت الروح في الجسد، فالإنسان على خطر، ويدل لهذا قول النبي صلى الله عليه وسلم:«إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيصدق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها»

(1)

.

ولهذا أوصي نفسي وإياكم أن نسأل الله دائماً الثبات على الإيمان وأن تخافوا؛ لأن تحت أرجلكم مزالق، فإذا لم يثبتكم الله عز وجل وقعتم في الهلاك، واسمعوا قول الله سبحانه وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم أثبت الخلق وأقواهم إيماناً:{ولَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً *} ، أي: تميل ميلاً قليلاً، ولو فعلت ذلك {لأََذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} [الإسراء: 74 ـ 75].

فإذا كان هذا للرسول صلى الله عليه وسلم فما بالنا نحن؛ ضعفاء الإيمان، واليقين، وتعترينا الشبهات، والشهوات؛ فنحن على خطر عظيم. فعلينا أن نسأل الله تعالى الثبات على الحق، وألاَّ يزيغ قلوبنا.

(1)

سبق تخريجه (1/ 344).

ص: 388

وهذا هو دعاء أولي الألباب: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ *} [آل عمران].

قوله: «واغفر لنا ولهم» الغفر: هو ستر الذنب مع العفو، والتجاوز عنه، يدل على ذلك الاشتقاق؛ لأنه مشتق من المغفر، وهو ما يوضع على الرأس أثناء القتال؛ لأجل وقاية السهام، فهو ساتر وواقٍ.

‌وَتُسَنُّ تَعْزِيَةُ المُصَابِ بِالْمَيِّتِ،

.........

قوله: «وتسن تعزية المصاب بالميت» ، السنة: ما يثاب فاعله، ولا يعاقب تاركه.

والتعزية: هي: التقوية، بمعنى: تقوية المصاب على تحمل المصيبة، وذلك بأن تورد له من الأدعية، والنصوص الواردة في فضيلة الصبر ما يجعله يتسلى وينسى المصيبة، لا أن تأتي إليه لتثير أحزانه مثل: أن تأتي لتعزيه بابنه، فتقول ـ مثلاً ـ: هذا ولد شاب صالح، فكيف يأخذه الموت، وما أشبه ذلك من الكلام.

ولما خرجوا بعقيل بن علي بن عقيل أحد الفقهاء الحنابلة، وكان هذا الولد طالب علم، وخرج الناس قام رجل وصاح بأعلى صوته:{يَاأَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 78]. فزجره ابن عقيل رحمه الله وقال: يا هذا، القرآن نزل لتسكين الأحزان، لا لتهييج الأحزان، وكلامك هذا يهيج الأحزان.

ص: 389

وأحسن لفظ قيل في التعزية: ما اختاره رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما جاءه رسول من إحدى بناته يقول: إن عندها طفلاً يُحْتَضَر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لها: «إن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فمرها فلتصبر ولتحتسب»

(1)

.

قال: «إن لله ما أخذ وله وما أعطى» ، أي: ولدك الذي أصبت به ليس لك بل لله، أبوك الذي أصبت به هو لله ليس لك.

وقال: «وكل شيء عنده بأجل مسمى» ، أي: معين. قال تعالى: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف: 34]، والمكتوب لا بد أن يقع، ولا يمكن أن يتغير عما كان عليه إطلاقاً، أي: لا تندم فتقول: ليتني ما فعلت كذا، وكذا وكذا.

قال: «مرها فلتصبر» ، أي: على هذه المصيبة.

والصبر مثل اسمه مر مذاقته

لكن عواقبه أحلى من العسل فالصبر شديد لكن عواقبه حميدة.

قال: «ولتحتسب» ، أي: تحتسب الأجر على الله سبحانه وتعالى؛ لأن الله قال: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10].

قوله: «تعزية المصاب» : ولم يقل: تعزية القريب؛ من أجل الطرد والعكس، فكل مصاب ولو بعيداً فإنه يعزى وكل من لم يصب ولو قريباً فإنه لا يعزى، من أصيب فعزِّه، ومن لم يصب فلا تعزه.

(1)

أخرجه البخاري (1284)؛ ومسلم (923) عن أسامة بن زيد رضي الله عنه.

ص: 390

مثال ذلك: إذا قدرنا أن هناك ولداً شريراً قد آذى أباه وأهله، ثم مات، وإذا وَجْهُ أبيه تبرق أساريره، ويقول: الحمد لله الذي أراحنا منه، فهذا لا يعزى، مع أن الناس يجعلون العلة في التعزية القرابة، وهذا غلط. فالعلة هي: المصيبة.

ولهذا قال العلماء: إذا أصيب الإنسان ونسي مصيبته لطول الزمن، فإننا لا نعزيه؛ لأننا إذا عزيناه بعد طول الزمن، فهذا يعني أننا جددنا عليه المصيبة والحزن.

‌وَيَجُوزُ البُكَاءُ عَلَى المَيِّتِ،

..........

قوله: «ويجوز البكاء على الميت» ، والدليل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم بكى على ابنه ابراهيم وقال: «العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون»

(1)

، «وبكى عند قبر إحدى بناته وهي تدفن» . وهذا في البكاء الذي تمليه الطبيعة، ولا يتكلفه الإنسان، فأما البكاء المتكلف فأخشى أن يكون من النياحة التي يحمل عليها قول النبي عليه الصلاة والسلام:«إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه»

(2)

.

«يعذب» : أي: في القبر، وقد اختلف العلماء في هذا الحديث، إذ كيف يعذب الإنسان على عمل غيره وقد قال الله تعالى:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الزمر: 7]؛ ولأن تعذيب الإنسان بعمل غيره ظلم له؛ فإنه عقوبة لغير الظالم بفعل الظالم، وهذا ينافي عدل الله وحكمته عز وجل؟!

(1)

أخرجه البخاري (1303)؛ ومسلم (2315) عن أنس رضي الله عنه.

(2)

أخرجه البخاري (1286)؛ ومسلم (928) عن ابن عمر رضي الله عنهما.

ص: 391

فقال بعض العلماء: إن هذا في حق من أوصى به، أي: قال لأهله: إذا مت فابكوني.

وقيل: هذا في حق من كانت عادتهم، أي في قوم عادتهم البكاء، ولم ينه أهله عنه، فيكون كأنه أقرهم على ما اعتاده الناس من هذا الأمر.

وقيل: إن هذا في الكافر يعذب ببكاء أهله عليه.

وقيل: إن التعذيب هنا ليس تعذيب عقوبة، ولكنه تعذيب ملل وشبهه، ولا يلزم من التعذيب الذي من هذا النوع أن يكون عقوبة، ويشهد لذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم:«السفر قطعة من العذاب»

(1)

، مع أن المسافر لا يعاقب، لكنه يهتم للشيء ويتألم به، فهكذا الميت يُعلم ببكاء أهله عليه فيتألم ويتعذب رحمة بهم، وكونهم يبكون عليه، وليس هذا من باب العقوبة.

وهذا الجواب هو أحسن الأجوبة.

ولكن البكاء الذي تمليه الطبيعة، ويحصل للإنسان بدون اختيار، فإن مثل هذا لا يؤلم أحداً؛ لأنه مما جرت به العادة، حتى الإنسان لا يتألم إذا رأى المصاب يبكي هذا البكاء المعتاد، وإنما يتألم ويرحم إذا بكى بكاء متكلفاً أو زائداً على العادة.

مسألة: هل يجوز للمصاب أن يحد على الميت بأن يترك تجارته أو ثياب الزينة، أو الخروج للنزهة، أو ما أشبه ذلك؟

(1)

أخرجه البخاري (1804)؛ ومسلم (1927) عن جابر رضي الله عنه.

ص: 392

الجواب: أن هذا جائز في حدود ثلاثة أيام فأقل إلا الزوجة، فإنه يجب عليها أن تحد مدة العدة أربعة أشهر وعشرة أيام إن لم تكن حاملاً، وإلا إلى وضع الحمل إن كانت حاملاً؛ ودليل هذا قوله صلى الله عليه وسلم:«لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً»

(1)

.

وإنما جاز هذا الإحداد لغير الزوجة لإعطاء النفوس بعض الشيء مما يهوِّن عليها المصيبة؛ لأن الإنسان إذا أصيب ثم كُبت بأن قيل له: اخرج وكن على ما كنت عليه، فإنه ربما تبقى المصيبة في قلبه، ولهذا يقال: إن من جملة الأدب والتربية بالنسبة للصبيان أنه إذا أراد أن يبكي أن يترك يبكي مدة قصيرة من أجل أن يرتاح؛ لأنه يخرج ما في قلبه، لكن لو أسكتّه صار عنده كبت وانقباض نفسي.

مسألة: هل يجوز أن يحد في أمر يلحقه أو عائلته به ضرر، مثل: أن يكون رجلاً متجراً، لو عطل التجارة لتضررت كفايته؟

الجواب: لا، هذا ليس مباحاً، بل هو إما مكروه، وإما محرم.

‌وَيَحْرُمُ النَّدْبُ، وَالنِّيَاحَةُ، وَشَقُّ الثَّوْبِ، وَلَطْمُ الخَدِّ، وَنَحْوُهُ.

قوله: «ويحرم الندب» ، الندب: هو تعداد محاسن الميت بحرف الندبة وهو «وا» فيقول: واسيداه، وامن يأتي لنا بالطعام والشراب، وامن يخرج بنا إلى النزهة، وامن يفعل كذا وكذا.

(1)

أخرجه البخاري (1281)؛ ومسلم (1486) عن أم حبيبة رضي الله عنها.

ص: 393

وسمي ندباً؛ كأن هذا المصاب ندبه ليحضر بحرف موضوع للندبة.

كما قال ابن مالك في الألفية

(1)

: وَوَا لِمَنْ نُدِبَ.

قوله: «والنياحة» وهي: أن يبكي، ويندب برنة تشبه نوح الحمام؛ لأن هذا يشعر بأن هذا المصاب متسخط من قضاء الله وقدره.

فلهذا ورد الوعيد الشديد على من فعل ذلك حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: «النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب»

(2)

.

وإنما خص النائحة؛ لأن النياحة غالباً في النساء لضعفهن، وإلا فالرجال مثلهن إذا ناحوا على الميت.

قوله: «وشق الثوب» ، فيحرم شق الثوب، كما يجري من بعض المصابين، فيشقون ثيابهم إما من أسفل، وإما من فوق؛ إشارة إلى أنه عجز عن تحمل الصبر على هذه المصيبة.

قوله: «ولطم الخد» ، أي يحرم لطم الخد، وهو أن يلطم المصاب خد نفسه؛ لأن بعض المصابين من شدة إصابته يأخذ بلطم نفسه، فيضرب الخد الأيمن، ثم الأيسر، ثم الأيمن، ثم الأيسر، وهكذا.

وكذلك أيضاً لو لطم غير الخد، بأن لطم الرأس، أو ضرب برأسه الجدار، وما أشبه ذلك فكل هذا من المحرم.

(1)

«ألفية ابن مالك» ص (44).

(2)

أخرجه مسلم (934) عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه.

ص: 394

قوله: «ونحوه» مثل: نتف الشعر، فيأخذ بشعر رأسه وينتفه؛ لأن هذا كله يدل على تسخطه من المصيبة، وقد تبرأ النبي صلى الله عليه وسلم من أمثال هؤلاء فقال:«ليس منا من لطم الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية»

(1)

.

ومثل أن يقول: يا ويلاه، يا ثبوراه، وما أشبهه؛ لأنه ينبئ عن التسخط.

وليعلم أن الناس إزاء المصيبة على درجات:

الأولى: الشاكر.

الثانية: الراضي.

الثالثة: الصابر.

الرابعة: الجازع.

أمَّا الجازع: فقد فعل محرماً، وتسخط من قضاء رب العالمين الذي بيده ملكوت السموات والأرض، له الملك يفعل ما يشاء.

وأمّا الصابر: فقد قام بالواجب، والصابر: هو الذي يتحمل المصيبة، أي يرى أنها مرة وشاقة، وصعبة، ويكره وقوعها، ولكنه يتحمل، ويحبس نفسه عن الشيء المحرم، وهذا واجب.

وأمّا الراضي: فهو الذي لا يهتم بهذه المصيبة، ويرى أنها من عند الله فيرضى رضاً تاماً، ولا يكون في قلبه تحسر،

(1)

أخرجه البخاري (2294)؛ ومسلم (103) عن أبي موسى رضي الله عنه.

ص: 395

أو ندم عليها؛ لأنه رضي رضاً تاماً، وحاله أعلى من حال الصابر.

ولهذا كان الرضا مستحباً، وليس بواجب.

والشاكر: هو أن يشكر الله على هذه المصيبة.

ولكن كيف يشكر الله على هذه المصيبة وهي مصيبة؟

والجواب: من وجهين:

الوجه الأول: أن ينظر إلى من أصيب بما هو أعظم، فيشكر الله على أنه لم يصب مثله، وعلى هذا جاء الحديث:«لا تنظروا إلى من هو فوقكم، وانظروا إلى من هو أسفل منكم، فإنه أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم»

(1)

.

الوجه الثاني: أن يعلم أنه يحصل له بهذه المصيبة تكفير السيئات، ورفعة الدرجات إذا صبر، فما في الآخرة خير مما في الدنيا، فيشكر الله، وأيضاً أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، فيرجو أن يكون بها صالحاً، فيشكر الله سبحانه وتعالى على هذه النعمة.

ويُذكر أن رابعة العدوية أصيبت في أصبعها، ولم تحرك شيئاً فقيل لها في ذلك؟

فقالت: إن حلاوة أجرها أنستني مرارة صبرها.

(1)

أخرجه مسلم (2963)(9) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 396

والشكر على المصيبة مستحب؛ لأنه فوق الرضا؛ لأن الشكر رضا وزيادة.

انتهى بحمد الله تعالى المجلد الخامس

ويليه بمشيئة الله عز وجل المجلد السادس

وأوله «كتاب الزكاة»

ص: 397