المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الشرح الممتع على زاد المستقنع   لفضيلة الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين غفر الله له - الشرح الممتع على زاد المستقنع - جـ ٨

[ابن عثيمين]

فهرس الكتاب

الشرح الممتع

على

زاد المستقنع

لفضيلة الشيخ العلامة

محمد بن صالح العثيمين

غفر الله له ولوالديه وللمسلمين

المجلد الثامن

دار ابن الجوزي

طبع بإشراف مؤسسة الشيخ محمد بن صالح العثيمين الخيرية

الطبعة الأولى 1425 هـ

ص: -1

‌كتاب الجهاد

قوله: «كتاب الجهاد» ، الجهاد مصدر جاهد الرباعي، وهو بذل الجهد في قمع أعداء الإسلام بالقتال وغيره؛ لتكون كلمة الله هي العليا.

وينقسم الجهاد إلى ثلاثة أقسام: جهاد النفس، وجهاد المنافقين، وجهاد الكفار المبارِزين المعاندين.

أما النوع الأول:

فهو جهاد النفس: وهو إرغامها على طاعة الله، ومخالفتها في الدعوة إلى معصية الله، وهذا الجهاد يكون شاقًّا على الإنسان مشقة شديدة، لا سيما إذا كان في بيئة فاسقة، فإن البيئة قد تعصف به حتى ينتهك حُرُمات الله، ويدع ما أوجب الله عليه، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم حينما رجع من غزوة تبوك أنه قال:«رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر» ، يعني جهاد النفس، لكنه حديث غير صحيح

(1)

.

أما النوع الثاني:

فهو جهاد المنافقين، ويكون بالعلم، لا بالسلاح؛ لأن المنافقين لا يقاتَلون، فإن النبي صلى الله عليه وسلم استؤذن أن يُقْتَلَ المنافقون

(1)

قال الزيلعي في «تخريج أحاديث الكشاف» (825): «غريب جداً وذكره الثعلبي هكذا من غير سند» ، وأخرجه البيهقي بمعناه في «الزهد» (373) عن جابر رضي الله عنه وضعف إسناده.

ص: 5

الذين علم نفاقهم فقال: «لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه»

(1)

، والدليل على أنهم يُجاهَدون قول الله تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} [التحريم: 9]. ولما كان جهاد المنافقين بالعلم، فالواجب علينا أن نتسلح بالعلم أمام المنافقين الذين يوردون الشبهات على دين الله؛ ليصدوا عن سبيل الله، فإذا لم يكن لدى الإنسان علم فإنه ربما تكثر عليه الشبهات والشهوات والبدع ولا يستطيع أن يردها.

أما النوع الثالث:

فهو جهاد الكفار المبارِزين المعاندين المحاربين، وهذا يكون بالسلاح، وقد يقال: إن قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60] يشمل النوعين: جهاد المنافقين بالعلم، وجهاد الكفار بالسلاح، ولكنّ قول الرسول صلى الله عليه وسلم:«ألا إن القوة الرمي»

(2)

، يؤيد أن المراد بذلك السلاح، والمقاتلة.

‌وَهُو فَرْضُ كِفَايَة وَيَجِبُ إِذَا حَضَرَهُ أَوْ حَصَرَ بَلَدَهُ عَدَوٌّ أَوْ اسْتَنْفَرَهُ الإِمَامُ

قوله: «وهو فرض كفاية» وفرض الكفاية هو الذي إذا قام به من يكفي سقط عن الباقين، وصار في حقهم سنّة، وهذا حكمه.

أما مرتبته في الإسلام فقد سمَّاه النبي صلى الله عليه وسلم: «ذروة سنام

(1)

أخرجه مسلم في الزكاة/ باب ذكر الخوارج وصفاتهم (1063) عن جابر رضي الله عنه.

(2)

أخرجه مسلم في الإمارة/ باب فضل الرمي (1917) عن عقبة بن عامر رضي الله عنه.

ص: 6

الإسلام»

(1)

، والسنام هو الشحم النابت فوق ظهر الجمل، وذروته أعلاه، وإنما جعله النبي صلى الله عليه وسلم ذروة سنام الإسلام؛ لأنه يعلو به الإسلام ويرتفع به، كما أن سنام البعير كان فوقه مرتفعاً.

وقوله: «وهو فرض كفاية» . لا بد فيه من شرط، وهو أن يكون عند المسلمين قدرة وقوة يستطيعون بها القتال، فإن لم يكن لديهم قدرة فإن إقحام أنفسهم في القتال إلقاء بأنفسهم إلى التهلكة، ولهذا لم يوجب الله سبحانه وتعالى على المسلمين القتال وهم في مكة؛ لأنهم عاجزون ضعفاء، فلما هاجروا إلى المدينة وكوّنوا الدولة الإسلامية وصار لهم شوكة أُمروا بالقتال، وعلى هذا فلا بد من هذا الشرط، وإلا سقط عنهم كسائر الواجبات؛ لأن جميع الواجبات يشترط فيها القدرة، لقوله تعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، وقوله:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286].

قوله: «ويجب إذا حضره» ، هذا هو الموضع الأول من المواضع التي يتعين فيها الجهاد. فيجب الجهاد ويكون فرض عين إذا حضر الإنسان القتال، لقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ *وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يُوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ

(1)

أخرجه الإمام أحمد (5/ 231)؛ والترمذي في الإيمان/ باب ما جاء في حرمة الصلاة (2616)؛ والنسائي في «الكبرى» في التفسير (11330)؛ وابن ماجه في الفتن/ باب كف اللسان في الفتنة (3973) عن معاذ بن جبل رضي الله عنه.

وقال الترمذي: «حسن صحيح» ، وصححه الحاكم على شرط الشيخين (2/ 412) ووافقه الذهبي.

ص: 7

مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ *} [الأنفال]، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: أن التولي يوم الزحف من الموبقات حيث قال: «اجتنبوا السبع الموبقات ـ وذكر منها ـ التولي يوم الزحف»

(1)

، إلا أن الله تعالى استثنى حالين:

الأولى: أن يكون متحرفاً لقتال بمعنى أن ينصرف؛ ليعمل من أجل القتال، كأن يستطرد لعدوه فإذا لحقه كرّ عليه فقتله.

الثانية: أن يكون منحازاً إلى فئة، بحيث يذكر له أن فئة من المسلمين من الجانب الآخر تكاد تنهزم، فيذهب من أجل أن يتحيز إليها تقوية لها، وهذه الحال يشترط فيها ألاَّ يَخَاف على الفئة التي هو فيها، فإن خاف على الفئة التي هو فيها فإنه لا يجوز أن يذهب إلى الفئة الأخرى، فيكون في هذه الحال فرض عين عليه لا يجوز له الانصراف عنه.

قوله: «أو حصر بلده عدو» ، هذا هو الموضع الثاني، إذا حصر بلدَه العدوُّ فيجب عليه القتال دفاعاً عن البلد، وهذا يشبه من حضر الصف في القتال؛ لأن العدو إذا حصر البلد فإنه سيمنع الخروج من هذا البلد، والدخول إليه، وما يأتي لهم من الأرزاق، وغير ذلك مما هو معروف، ففي هذه الحال يجب أن يقاتل أهل البلد دفاعاً عن بلدهم.

(1)

أخرجه البخاري في الوصايا/ باب قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى} (2766)؛ ومسلم في الإيمان/ باب بيان الكبائر وأكبرها (89) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 8

قوله: «أو استنفره الإمام» هذا هو الموضع الثالث.

إذا «استنفره» أي: قال: انفروا.

وقوله: «الإمام» هو ولي الأمر الأعلى في الدولة، ولا يشترط أن يكون إماماً عامّاً للمسلمين؛ لأن الإمامة العامة انقرضت من أزمنة متطاولة، والنبي صلى الله عليه وسلم قال:«اسمعوا وأطيعوا ولو تأمَّر عليكم عبد حبشي»

(1)

، فإذا تأمر إنسان على جهةٍ ما، صار بمنزلة الإمام العام، وصار قوله نافذاً، وأمره مطاعاً، ومن عهد أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه والأمة الإسلامية بدأت تتفرق، فابن الزبير في الحجاز، وبنو مروان في الشام، والمختار بن عبيد وغيره في العراق، فتفرقت الأمة، وما زال أئمة الإسلام يدينون بالولاء والطاعة لمن تأمر على ناحيتهم، وإن لم تكن له الخلافة العامة؛ وبهذا نعرف ضلال ناشئة نشأت تقول: إنه لا إمام للمسلمين اليوم، فلا بيعة لأحد!! ـ نسأل الله العافية ـ ولا أدري أيريد هؤلاء أن تكون الأمور فوضى ليس للناس قائد يقودهم؟! أم يريدون أن يقال: كل إنسان أمير نفسه؟!

هؤلاء إذا ماتوا من غير بيعة فإنهم يموتون ميتة جاهلية ـ والعياذ بالله ـ؛ لأن عمل المسلمين منذ أزمنة متطاولة على أن من استولى على ناحية من النواحي، وصار له الكلمة العليا فيها، فهو إمام فيها، وقد نص على ذلك العلماء مثل صاحب سبل

(1)

أخرجه البخاري كتاب الأذان/ باب إقامة العبد والمولى (693) عن أنس رضي الله عنه ولفظه: «اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة» .

ص: 9

السلام وقال: إن هذا لا يمكن الآن تحقيقه، وهذا هو الواقع الآن، فالبلاد التي في ناحية واحدة تجدهم يجعلون انتخابات ويحصل صراع على السلطة ورشاوى وبيع للذمم إلى غير ذلك، فإذا كان أهل البلد الواحد لا يستطيعون أن يولوا عليهم واحداً إلا بمثل هذه الانتخابات المزيفة فكيف بالمسلمين عموماً؟!! هذا لا يمكن.

فإذا استنفره الإمام وجب عليه الخروج؛ لقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ *} {إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} [التوبة: 38، 39]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:«وإذا استنفرتم فانفروا»

(1)

، وهذه أدلة سمعية، والدليل العقلي: هو أن الناس لو تمردوا في هذا الحال على الإمام لحصل الخلل الكبير على الإسلام، إذ أن العدو سوف يُقدم إذا لم يجد من يقاومه ويدافعه.

الموضع الرابع: إذا احتيج إليه صار فرض عين عليه.

مثاله: عندنا دبابات وطائرات لا يعرف قيادتها إلا هذا الرجل، فحينئذ يجب عليه أن يقاتل؛ لأن الناس محتاجون إليه، وربما نقول: إن هذه المسألة الرابعة تؤخذ من قولنا: إنه فرض كفاية؛ لأنه إذا لم يقم به أحد واحتيج إلى هذا الرجل ففرض

(1)

أخرجه البخاري في الجهاد/ باب لا هجرة بعد الفتح (3077)؛ ومسلم في الإمارة/ باب المبايعة بعد فتح مكة (1353) عن ابن عباس رضي الله عنهما.

ص: 10

الكفاية يكون فرض عين عليه، والحاصل أن الجهاد يجب وجوب عين في أربع مسائل:

الأولى: إذا حضر القتال.

والثانية: إذا حصر بلدَه العدوُ.

والثالثة: إذا استنفره الإمام.

والرابعة: إذا احتيج إليه.

وما عدا ذلك فهو فرض كفاية.

مسألة: هل يكون الجهاد بالمال أو بالنفس أو بهما؟.

الجواب: أنه تارة يجب بالمال في حال من لا يقدر على الجهاد ببدنه، وتارة يجب بالبدن في حال من لا مال له، وتارة يجب بالمال والبدن في حال القادر ماليّاً وبدنيّاً، وكما في القرآن الكريم فإن الله عز وجل يذكر الجهاد بالمال والجهاد بالنفس، ويقدم الجهاد بالمال في أكثر الآيات؛ لأن الجهاد بالمال أهون على النفوس من الجهاد بالنفس، وربما يحتاج الجند إلى المال أكثر مما يحتاجون إلى الرجال.

‌وَتَمَامُ الرِّبَاطِ أَرْبَعُونَ يَوْماً وَإِذَا كَانَ أَبَوَاهُ مُسْلِمَيْنِ لَمْ يُجَاهِد تَطَوُّعاً إِلاَّ بِإِذْنِهِمَا ..

قوله: «وتمام الرباط أربعون يوماً» الرباط مصدر رابط، وهو لزوم الثغر بين المسلمين والكفار، والثغر هو المكان الذي يخشى دخول العدو منه إلى أرض المسلمين، وأقرب ما يقال فيه ـ بالنسبة لواقعنا ـ: إنه الحدود التي بين الأراضي الإسلامية والأراضي الكفرية، فيسن للإنسان أن يرابط؛ لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ

ص: 11

تُفْلِحُونَ *} [آل عمران]، وأول ما يدخل في الآية الرباط على الثغور، فيرابط الإنسان ليحمي بلاد المسلمين من دخول الأعداء، ويجب على المسلمين أن يحفظوا حدودهم من الكفار إما بعهد وأمان، وإما بسلاح ورجال حسب ما تقتضيه الحال.

والرباط أقله ساعة، أي: لو ذهب الإنسان بالتناوب مع زملائه ساعة واحدة حصل له أجر، وتمامه أربعون يوماً، هكذا جاء في الحديث

(1)

، ولكن لو زاد على الأربعين هل له أجر؟

الجواب: نعم له أجر، لا شك.

ثم هل الأولى أن يذهب بأهله إلى هذه الثغور؛ ليسكنوا معه، أو الأولى ألاّ يذهب بهم خوفاً عليهم؟

الجواب: فيه تفصيل، إذا كان الثغر مخوفاً فلا ينبغي أن يذهب بأهله، وإذا كان غير مخوف فالأولى أن يذهب بهم ليزداد طمأنينة؛ لأن الإنسان إذا كان بعيداً عن أهله فإنه سوف يكون منشغل البال على أهله وولده.

قوله: «وإذا كان أبواه مسلمَيْن لم يجاهد تطوعاً إلا بإذنهما» أبَوا الشخص هما أمه وأبوه، وأُطْلِق عليهما الأبوان من باب التغليب، كما يقال: القمران للشمس والقمر، ويقال: العُمَران لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فإذا كان الإنسان له أبوان

(1)

أخرجه الطبراني في «الكبير» (7606)، وقال في «مجمع الزوائد» (5/ 292):«وفيه أيوب بن مدرك وهو متروك» ، وأخرجه ابن أبي شيبة (5/ 328) عن أبي هريرة رضي الله عنه موقوفاً وعن مكحول عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً (5/ 328)؛ والحديث ضعفه الألباني في «الإرواء» (5/ 23).

ص: 12

مسلمان، وأراد الجهاد تطوعاً فإنه لا بد من إذنهما، فإن أذنا له وإلا حرم عليه الجهاد.

فإن قال قائل: هل يلزم استئذان الأب والأم لكل تطوع قياساً على الجهاد، بمعنى أنه إذا أراد أن يقوم الليل هل يشترط إذن الأبوين؟ وإذا أراد أن يصلي الراتبة أو أراد أن يطلب العلم هل يستأذن الأبوين؟.

نقول: لا يشترط. والفرق أن الجهاد فيه خطر على النفس، وسوف تتعلق أنفس الأبوين بولدهما الذاهب إلى الجهاد، ويحصل لهما قلق، بخلاف ما إذا سافر لطلب العلم في بلد آمن، أو إذا تطوع في بلده بشيء من التطوع، فإن ذلك لا ضرر على الأبوين فيه، وفيه منفعة له.

ولهذا نقول: ما فيه منفعة للإنسان ولا ضرر على الأبوين فيه فإنه لا طاعة للوالدين فيه منعاً أو إذناً؛ لأنه ليس فيه ضرر وفيه مصلحة، وأي والد يمنع ولده من شيء فيه مصلحة له، وليس على الوالد فيه ضرر فإنه مخطئ فيه وقاطع للرحم؛ لأن الذي ينبغي للأب أن يشجع أولاده من بنين أو بنات على فعل كل خير، ونظير هذا أن بعض النساء يمنعن بناتهن من صوم أيام البيض، أو من صوم يومي الاثنين والخميس بحجة أن في ذلك مشقة، وكلفة عليهن، مع أن الذي يحس بالكلفة والمشقة هن البنات الصائمات، فلا يحل للوالد أن يمنع ولده من فعل طاعة، سواء أكان ذكراً أم أنثى، إلا إذا كان على أحد الأبوين في ذلك ضرر، كما لو كان الأب أو الأم يحتاج أحدهما إلى تمريض

ص: 13

مثلاً، وإذا اشتغل الابن أو البنت بهذه الطاعة ضَرَّ الأب أو الأم فحينئذ لهما أن يمنعاه، ويجب عليه هو أن يمتنع؛ لأن بر الوالدين واجب والتطوع ليس بواجب.

وقوله: «أبواه مسلمين» ظاهر كلامه أنه ولو كانا رقيقين فإنه لا يجاهد تطوعاً إلا بإذنهما؛ لأنه لم يقل: مسلمين حرين، بل قال:«أبواه مسلمين» وأطلق، فلو كانا رقيقين، ومنعاه من جهاد التطوع فلهما ذلك، ويجب عليه أن يمتنع.

وإذا كان أبواه كافرين فمنعاه من جهاد التطوع هل يلزمه طاعتهما؟.

الجواب: لا؛ لقوله: «وإذا كان أبواه مسلمين» ؛ ولأننا نعلم أن الأبوين الكافرين إنما يمنعان ولدهما من الجهاد وقاية للكفار وحماية لهم، لا رأفة بالولد، أو إشفاقاً عليه.

وإذا كان الأبوان فاسقين يكرهان الجهاد والمستقيمِين، ويكرهان أن تعلو كلمة الحق، لكنهما مسلمان، فهل يشترط إذنهما في جهاد التطوع؟ لأن بعض الناس في أيام الذهاب إلى الجهاد يمنع ولده من الذهاب لا خوفاً عليه، يقول: اذهب لما شئت لكن للجهاد لا تذهب، ونعلم أنه ليس ذلك من أجل الخوف عليه، ولكن من أجل كراهة الجهاد.

ظاهر كلام المؤلف أنه لا يجاهد تطوعاً إلا بإذنهما، ونيتهما إلى الله، لكن في النفس من هذا شيء، فإذا علمنا أنهما لم يمنعاه شفقة عليه، بل كراهة لما يقوم به من جهاد الكفار ومساعدة المسلمين، ففي طاعتهما نظر.

ص: 14

بدأ المؤلف رحمه الله بذكر ما يلزم الإمام والجيش فقال:

‌وَيَتَفَقَّدُ الإِمَامُ جَيْشَهُ عِنْدَ المَسِير، وَيَمْنَعُ المُخَذِّلَ والمُرْجِفَ وَلَهُ أَنْ يُنفِّلَ فِي بِدَايتِهِ الرُّبُعَ بَعْدَ الخُمُسِ، وَفِي الرَّجعَةِ الثُّلثَ بَعْدَهُ. وَيَلْزَمُ الْجَيْشَ طَاعَتُهُ وَالصَّبْرُ مَعَهُ

«ويتفقد الإمام جيشه عند المسير» الجيش الآن فيه طائرات ودبابات وصواريخ، فإذا ذهب الجيش المكون من إبل وخيل فما ينوب منابه مثله، نقول للإمام: تفقد إما بنفسك إن كنت ذا خبرة، أو بمن تثق به من ذوي الخبرة، وينظر الصالح فيقره، والفاسد فيمنعه حتى يكون صالحاً؛ لأنه لو ترك وأهمل فربما يكون في السلاح أو في المجاهدين من تكون الهزيمة بسببه لو ذهب به إلى المعركة، فلا بد أن يتفقد الجيش.

قوله: «ويمنع المخذِّل والمرجف» لو قال المؤلف: ويمنع كل من لا يصلح للجهاد لكان أعم، والمخذِّل هو الذي يزهد الناس في القتال يقول مثلاً: لماذا نجاهد؟ فهذا يفت في عضد الجيش بلا شك.

والمرجف هو الذي يهوّل قوة العدو، أو يضعف قوة المسلمين، فيقول مثلاً: السرية التي ذهبت قبلنا هُزِمَت، أو يقول: العدو جيشهم كثير، عندهم قوة وعندهم صواريخ وقنابل، وعندهم كيماويات، فمثل هؤلاء يجب على الإمام أن يمنعهم ولا يأذن لهم بالجهاد؛ لأن ضرر هؤلاء أكثر من نفعهم إن كان فيهم نفع.

مسألتان:

الأولى: إذا كان الجيش الذي أعد للقتال تربيته الجهادية ضعيفة، وغالبه مخذل ومرجف، فهل يقاتلون؟.

الجواب: لا، إذا كان الجيش على ما ذكر، والمخذل كثير

ص: 15

والمرجف كثير، فإنه لا يجاهد؛ لأن الجهاد لا بد أن يغلب على الظن أننا ننتصر، أما إذا غلب على الظن الهزيمة فلا يجوز أن يُغرر بالمسلمين، المسألة ليست هينة، وليست مسألة أشخاص يفقدون، بل هذا يعتبر ذلًّا حتى على الإسلام، إلا إذا اضطر الإمام لذلك، لأن الجهاد نوعان: جهاد هجوم، وجهاد دفاع، أما الدفاع فيجب بكل حال، وأما الهجوم فهو الذي ذكرنا.

الثانية: يجب على الإمام أن ينظم الجيش، ويرتبه، ويقسمه بحسب ما تقتضيه الحاجة، وفق خطط علمية مدروسة يضعها أهل الاختصاص، فبالضرورة نعلم أن الجيوش في عصرنا الحاضر تختلف عن الجيوش في الماضي، ففي الماضي كان يسمى الجيش خميساً؛ لأنه كان يقسم إلى خمسة أقسام: مقدمة، وميمنة، وميسرة، ومؤخرة، وقلب، ويوضع لكل قسم قائد، إلى غير ذلك، أما في الحاضر فقد تعددت الأسلحة وكثرت التخصصات، فينبغي للإمام مراعاة كل ذلك، حتى لا يبدو الجيش في حالة فوضى عند التحام الجيشين.

وهل له أن يبعث العيون يعني الجواسيس الذين يتطلعون إلى العدو ويعرفون أخباره؟.

الجواب: نعم، بل يجب عليه إذا دعت الحاجة إلى ذلك؛ لأن هذا من جملة ما يستعين به على القتال.

قوله: «وله أن ينفِّل في بدايته الربع بعد الخمس، وفي الرجعة الثلث بعده» ، «وله» أي: للإمام، ومعنى هذا أن الإمام إذا

ص: 16

دخل أرض العدو، وبعث سرية يعني دون أربعمائة نفر يبدؤون القتال فله أن يقول لهم: لكم بعد الخمس الربع؛ لأن هذه السرية إذا ذهبت فإنها تذهب وهي أقل خوفاً من السرية التي تبعث بعد رجوع الإمام؛ لأنهم يقولون: الجيش خلفنا فيقول: اذهبوا وقاتلوا وما تغنمون نأخذ الخمس منه، ولكم بعد ذلك الربع خاصة لكم، ثم يقسم الباقي على الجيش.

وكذلك ـ أيضاً ـ له أن ينفل الثلث بعده، أي: بعد الرجوع، وانتهاء القتال فيبعث سرية ربما تتفقد من بقي من العدو ويجعل لها الثلث، وزادت عن السرية الأولى؛ لأنها أشد خوفاً، ولأن العدو في البداية ربما يكون على غفلة وعلى غرة، وهنا العدو قد انتبه، وربما يكون في قلبه حنق، يريد أن ينتقم؛ ولأن الجيش لما فرغ من القتال صار متشوفاً ومتشوقاً لأهله ففي ذلك مشقة شديدة، ولذلك كان التنفيل في الرجعة أكثر من التنفيل في البدأة، فلذلك تعطى مقابل هذا أربعة من اثني عشر، أي: تزاد على الأخرى واحداً من اثني عشر؛ لأن الأولى لها ثلاثة من اثني عشر وهذه لها أربعة من اثني عشر.

وقوله: «له» عبَّر باللام الدالة على الإباحة في مقابلة المنع، فلا ينفي أن تكون سنة أو واجبة أحياناً، فإذا رأى أن السرية لن ترجع إلا بإعطاء شيء زائد أو لن تتقدم إلا بإعطاء شيء زائد ورأى من المصلحة إرسال السرية فإنه يكون واجباً.

قوله: «ويلزم الجيش طاعته» أي: طاعة أميره الذي هو نائب عن الإمام، وهو ما يسمى في عرفنا الآن القائد أو حسب

ص: 17

ما يعرف، فيلزم الجيش طاعته فيما أمر، ودليل ذلك قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]، ولكن يشترط لوجوب طاعته فيها ألاَّ يخالف أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فإن خالف أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ويدل لهذا:

أولاً: الآية الكريمة: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} ، أطيعوا الله هذا فعل، وأطيعوا الرسول فعل أيضاً، فأعاد الفعل بالنسبة لطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن طاعته مستقلة يجب أن يطاع بكل حال. أما الثالث فلم يُعد الفعل، فقال:{وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} ولم يقل: أطيعوا؛ لأن طاعة أولي الأمر تابعة لطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولهذا لو أمر ولي الأمر بمخالفة أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، قلنا: لا سمع ولا طاعة.

وظاهر كلام المؤلف أنه تجب طاعته ولو كان فاسقاً، وهو كذلك، فتجب طاعة ولي الأمر ولو كان من أفسق عباد الله؛ وذلك لعموم الأدلة الدالة على وجوب طاعة ولاة الأمور، والصبر عليهم وإن رأينا منهم ما نكره في أديانهم وعدلهم واستئثارهم، فإننا نسمع ونطيع فنؤدي الحق الذي أوجب الله علينا، ونسأل الله الحق الذي لنا، هكذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم

(1)

، وهكذا جرى عليه سلف هذه الأمة.

(1)

أخرجه البخاري في المناقب/ باب علامات النبوة في الإسلام (3603)؛ ومسلم في المغازي/ باب وجوب الوفاء ببيعة الخليفة الأول فالأول (1843)، عن ابن مسعود رضي الله عنه.

ص: 18

فإن أمر بمعصية فإنه لا طاعة له؛ لأنه هو نفسه عبد لله مأمور لله، فكيف يأمر بما يخالف أمر الله، نقول: ربنا وربك الله، ولا طاعة لك في معصية الله أبداً، ويدل لهذا قصة السرية الذين بعثهم الرسول صلى الله عليه وسلم وأَمَّرَ عليهم رجلاً وأمرهم أن يطيعوا أميرهم، وفي يوم من الأيام أغضبوه فأمرهم أن يجمعوا حطباً، فقالوا: سمعاً وطاعة فجمعوا الحطب، وأمرهم أن يوقدوا فيه النار، قالوا: سمعاً وطاعة وأوقدوا النار، قال: ألقوا أنفسكم فيها، فتردد القوم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يطيعوه، ولكن لماذا آمنوا؟ آمنوا خوفاً من النار، فقال بعضهم لبعض: كيف نلقي أنفسنا في النار، ونحن إنما آمنا فراراً منها، وهذا قياس صحيح، فأبوا أن يلقوا أنفسهم في النار، فلما رجعوا إلى المدينة، وأخبروا النبي صلى الله عليه وسلم بهذا، قال:«لو دخلوا فيها ما خرجوا منها»

(1)

؛ لأنهم قتلوا أنفسهم، ومن قتل نفسه بالنار عُذِّب بها في نار جهنم؛ لأن كل من قتل نفسه بشيء فإنه يعذب به في نار جهنم

(2)

، فلو قتل نفسه بخنجر فإنه يوم القيامة يعذب بهذا الخنجر في نار جهنم، ولو قتل نفسه بالتردي من شاهق فإنه يخلق له في النار شاهق فيتردى منه يعذب به في نار جهنم، ومن قتل نفسه بسُمٍّ بأن تحسَّى هذا السم عُذب به في نار جهنم، ولو دخلوا النار عذبوا بها في نار جهنم

(1)

أخرجه البخاري في المغازي/ باب سرية عبد الله بن حذافة

(4340)؛ ومسلم في الإمارة/ باب وجوب طاعة الأمراء

(1840) عن علي رضي الله عنه.

(2)

أخرجه البخاري في الأدب/ باب ما ينهى من السباب واللعن (6047)؛ ومسلم في الإيمان/ باب بيان غلظة تحريم قتل الإنسان نفسه (110)، عن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه.

ص: 19

ثم قال: «إنما الطاعة في المعروف»

(1)

أي: الذي ليس بمنكر، أما هذا فإنه منكر، إذاً إذا أمر بالمعصية فإنه لا سمع له ولا طاعة.

مسألة: في بعض البلاد الإسلامية لا يمكن أن يدخل الإنسان الجيش حتى يحلق لحيته فيأمرونه بحلق اللحية، فهل يلزمه طاعتهم؟.

الجواب: لا، بل يقول وبكل صراحة: لا سمع ولا طاعة، ولا أوافقك على معصية الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:«أعفوا اللحى»

(2)

، وأنت تقول: احلقوا اللحى! فهذا مصادمة فلا قبول.

وليت أن الجيوش في البلاد الإسلامية تتفق على هذا وتمانع، لكن مشكلتنا أن أكثرهم لا يهتم بمثل هذه الأمور فيبقى الإنسان منفرداً إذا أراد أن يمتنع عن المعصية، وحينئذ تبقى المسألة مشكلة، ولكن لو أن الجيش كله قال: نحن لا نطيعك في معصية الله وصمموا على هذا، لم يستطع الضابط ولا من فوق الضابط أن يجبرهم على ذلك، لكن مشكلتنا التخاذل، وعدم الاهتمام بمثل هذه الأمور، والناس يتهاونون في هذه المعصية، ولا يهتمون بعظمة من عصوه، ولا يرون أن الإصرار على الصغيرة يكون كبيرة، ولا يرون أن المعاصي سبب للفشل

(1)

أخرجه البخاري في الأحكام/ باب السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية (7145)؛ ومسلم في الإمارة/ باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية (1840)، عن علي رضي الله عنه.

(2)

أخرجه البخاري في اللباس/ باب إعفاء اللحى (5893)؛ ومسلم في الطهارة/ باب خصال الفطرة (259) عن ابن عمر رضي الله عنهما.

ص: 20

والهزيمة؛ لأن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، ولم يقل: وللمسلمين، لأن الإيمان أخص من الإسلام، فكل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمناً، قال تعالى:{قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14].

فالمعصية سبب الهزيمة، ولا أدل على ذلك من جيش هُزم بمعصية، مع أنه أفضل جيش مشى على الأرض منذ خلق آدم إلى أن تقوم الساعة، وهم الصحابة رضي الله عنهم وقائدهم محمد صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد، قال الله تعالى فيهم:{حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 152]، أي: حصلت الهزيمة بسبب هذه المعصية، وهي معصية واحدة، مع أنها معصية كان فيها نوع من التأويل؛ لأنهم لما رأوا انهزام المشركين، وأن المسلمين بدأوا يجمعون الغنائم ظنوا أن الأمر انتهى، فنزلوا من المكان الذي جعلهم النبي صلى الله عليه وسلم فيه حتى جاء المشركون من الخلف وحصل ما حصل.

إذاً يلزم الجيش طاعته بشرط ألا يأمر بمعصية الله، فإن أمر بمعصية الله فلا سمع له ولا طاعة، وإذا قلنا: لا سمع له ولا طاعة، فهل المعنى لا سمع له ولا طاعة مطلقاً، أو في هذه المعصية التي أمر بها؟.

الجواب: الثاني هو المراد.

قوله: «والصبر معه» أي: يلزم الصبر معه، وألاّ نتخاذل وننصرف؛ لأن في هذا كسراً لقلوب المسلمين، وإعزازاً لقلوب ا

ص: 21

لكافرين، فالواجب أن نصبر، وهذا في غير ما إذا تقابل الصفَّان، فإن تقابل الصفان؛ فالتولي من كبائر الذنوب.

‌وَلَا يَجُوزُ الغَزوُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِلاَّ أَنْ يَفْجَأَهُمْ عَدُوٌّ يَخَافُونَ كَلَبَهُ

قوله: «ولا يجوز الغزو إلا بإذنه إلا أن يفجأهم عدو يخافون كَلَبَه» أي: لا يجوز غزو الجيش إلا بإذن الإمام مهما كان الأمر؛ لأن المخاطب بالغزو والجهاد هم ولاة الأمور، وليس أفراد الناس، فأفراد الناس تبع لأهل الحل والعقد، فلا يجوز لأحد أن يغزو دون إذن الإمام إلاّ على سبيل الدفاع، وإذا فاجأهم عدو يخافون كلَبه فحينئذ لهم أن يدافعوا عن أنفسهم لتعين القتال إذاً.

وإنما لم يجز ذلك؛ لأن الأمر منوط بالإمام، فالغزو بلا إذنه افتيات وتعدٍّ على حدوده، ولأنه لو جاز للناس أن يغزوا بدون إذن الإمام لأصبحت المسألة فوضى، كل من شاء ركب فرسه وغزا، ولأنه لو مكن الناس من ذلك لحصلت مفاسد عظيمة، فقد تتجهز طائفة من الناس على أنهم يريدون العدو، وهم يريدون الخروج على الإمام، أو يريدون البغي على طائفة من الناس، كما قال الله تعالى:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9]، فلهذه الأمور الثلاثة ولغيرها ـ أيضاً ـ لا يجوز الغزو إلا بإذن الإمام.

وقوله: «إلا أن يفجأهم عدو يخافون كلَبه» أي: شره وأذاه.

قال في الروض

(1)

: «ويجوز تبييت الكفار» أي: مباغتتهم بالليل، ولكن هذا مشروط بأن يقدم الدعوة لهم، فإذا دعاهم ولم يستجيبوا فإنه لا بأس أن يباغتهم، ويدعوهم إلى أمور ثلاثة:

ص: 22

الأول: الإسلام.

الثاني: الجزية.

الثالث: فإن أبوا فالقتال.

هكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث البعوث على هذا الأساس

(1)

.

وقال: «ورميهم بالمنجنيق» والمنجيق بمنزلة المدفع عندنا، وكانوا في الأول يضعون المنجنيق بين خشبتين وعليهما خشبة معترضة، وفيها حبال قوية، ثم يُجعل الحجر بحجم الرأس أو نحوه في شيء مقبب، ثم يأتي رجال أقوياء يشدونه ثم يطلقونه، وإذا انطلق الحجر انطلق بعيداً، فكانوا يستعملونه في الحروب، فيجوز أن يُرمى الكفار بالمنجنيق، وفي الوقت الحاضر لا يوجد منجنيق، لكن يوجد ما يقوم مقامه كالطائرات والمدافع والصواريخ وغيرها.

وقال: «ولو قُتِلَ بلا قصد صبي ونحوه» من المعلوم أننا إذا رميناهم بالمنجنيق فإنه سوفَ يُتلف من مرّ عليه من مقاتل وشيخ كبير لا يقاتل، وامرأة وصبي، لكن هذا لم يكن قصداً، وإذا لم يكن قصداً فلا بأس، أما تعمد قصف الصبيان والنساء ومن لا يقاتل فإن هذا حرام ولا يحل، لكن يثبت تبعاً ما لا يثبت استقلالاً، وقد رمى الرسول صلى الله عليه وسلم: أهل الطائف بالمنجنيق

(2)

، فالسنة جاءت به، والقتال قد يحتاج إليه.

(1)

أخرجه مسلم في الجهاد/ باب تأمير الإمام الأمراء على الجيوش (1731) عن بريدة رضي الله عنه.

(2)

أخرجه أبو داود في «المراسيل» (335) عن مكحول مرسلاً، ووصله العقيلي في «الضعفاء» (2/ 244) عن علي رضي الله عنه، وإسناده ضعيف كما قال الحافظ في «البلوغ» (1282).

ص: 23

وقال: «لا يجوز قتل صبي ولا امرأة وخنثى وراهب وشيخ فانٍ وزمن وأعمى لا رأي لهم ولم يقاتلوا أو يُحرضوا» هؤلاء سبعة أجناسٍ لا يجوز قتلهم إلا بواحد من أمور ثلاثة:

الأول: أن يكون لهم رأي وتدبير، فإن بعض كبار الشيوخ ولو كان شيخاً فانياً لا يستطيع أن يتحرك، فإن عنده من الرأي والتدبير ما ليس عند الشاب المقاتل.

الثاني: إذا قاتلوا كما لو اشترك النساء في القتال فإنهم يقتلن.

الثالث: إذا حرَّضوا المقاتلين على القتال وصاروا يغرونهم بأن افعلوا كذا، اضربوا كذا إلى آخره، فإنهم يقتلون؛ لأن لهم تأثيراً في القتال.

وقال: «ويكونون أرقاء بسبي» أي هؤلاء السبعة يكونون أرقاء بسبي، والباء للسببية، أي: بمجرد أخذهم يكونون أرقاء في الحال، ولا يخير فيهم الإمام، وإذا كانوا أرقاء صاروا تبع الغنيمة؛ لأنهم صاروا مماليك، فإذا كانوا مماليك صاروا كجملة المال الآخر يضافون إلى الغنيمة.

وأما إذا سبي البالغ المقاتل، فإن الإمام يخير فيه بين أمور أربعة:

إما القتل، وإما أخذ الفداء، وإما الاسترقاق، وإما المنُّ بدون شيء.

ص: 24

والفداء قد يكون بمال أو منفعة أو أسير مسلم، فمثلاً: لو أننا أسرنا أحد المقاتلين نأتي به للإمام، والإمام إن شاء قتله، وإن شاء مَنَّ عليه مجاناً، وقال له: اذهب إلى أهلك، وإن شاء استرقه، أي جعله رقيقاً، وإن شاء طلب الفدية منه إما مالاً وإما منفعة وإما بأسير مسلم.

وهذه التخييرات الأربعة هل هي حسب اختيار الإمام أو حسب المصلحة؟.

الجواب: حسب المصلحة؛ لأن القاعدة الشرعية أن كل من يتصرف لغيره إذا خيِّر بين شيئين فإن تخييره للمصلحة وليس للتشهي، أما من لا يتصرف لغيره فإذا خير بين شيئين فهو للتشهي، إن شاء كذا وإن شاء كذا، ولهذا نقول في كفارة اليمين: يخير بين إطعام، وكسوة، وعتق رقبة، فهل ينظر للمصلحة أو يفعل ما شاء؟.

الجواب: يفعل ما شاء؛ لأن هذا التخيير للإرفاق بالمكلف فيختار ما يشاء.

‌وَتُمْلَكُ الغَنِيمَةُ بِالاستِيلَاءِ عَلَيْهَا فِي دَارِ الحَرْبِ. وَهْيَ لِمَنْ شَهِدَ الوَقْعَةَ مِنْ أَهْلِ القِتَالِ، فَيُخْرِجُ الخُمُسَ ..

قوله: «وتملك الغنيمة بالاستيلاء عليها في دار الحرب» أي: إذا قاتل المسلمون أعداءهم، وهزم الأعداء، واستولى المسلمون على المال، فإن المال يكون ملكاً للمسلمين، ولو كانوا في دار الحرب، أي في ديار الكفار.

فمثلاً: لو قاتلنا الكفار، ودخلنا عليهم أرضهم وهربوا وتركوا الأموال فإننا نملك الأموال، ولو كانت في دار الحرب، ولا يلزم أن نحوزها إلى بلاد الإسلام، هذا معنى قول المؤلف:«في دار الحرب» ، فلا يشترط أن نحوزها إلى ديار الإسلام، بل

ص: 25

بمجرد الاستيلاء عليها تكون ملكاً لنا، وإذا كانت ملكاً هل يجوز أن تقسم هناك؟ الجواب: نعم يجوز أن تقسم هناك؛ لأنها ما دامت ملكت فلا حاجة إلى تأخير قسمتها، فيعطى كل إنسان ما يناله منها ويتصرف به يميناً وشمالاً، وإن خيف من شر فللإمام ألا يقسمها إلا في بلاد الإسلام.

قوله: «وهي لمن شهد الوقعة من أهل القتال» وهم الرجال الذين يقاتلون، فمن شهد منهم فإنه يقسم له، وأما من جاء بعد انتهاء الحرب فإنه لا شيء له منها، وكذلك من انصرف قبل بدء الحرب فإنه ليس له منها شيء، وإنما هي لمن حضر الوقعة من أهل القتال، واستدل المؤلف في الشرح بقول عمر رضي الله عنه:«الغنيمة لمن شهد الوقعة»

(1)

، وأما من لم يشهدها فإنه لا حظَّ له فيها.

قوله: «فيخرج الخُمس» الضمير يعود على الإمام أو نائبه، أي: يخرج الإمام الذي هو الرئيس الأعلى في الدولة أو من ينوب عنه كقائد الجيش ـ مثلاً ـ الخمس، أي: خمس الغنيمة؛ لقول الله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال: 41]، فيخرج الخمس ويصرف على ما ذكر الله في القرآن:{فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} ، فهؤلاء خمسة، إذاً الخمس يقسم خمسة أسهم فيكون: (لله

(1)

أخرجه عبد الرزاق (9689)؛ وابن أبي شيبة (12/ 411)؛ وسعيد بن منصور (2791)؛ والطحاوي في «الشرح» (3/ 245)؛ والبيهقي (9/ 50)، وصحح إسناده، وأخرجه البيهقي (9/ 50، 51) عن أبي بكر وعلي رضي الله عنهما.

ص: 26

ورسوله صلى الله عليه وسلم من أصل الغنيمة جزء من خمسة وعشرين جزءاً.

وأين يصرف هذا؟

الجواب: خمس الخمس يكون فيئاً في مصالح المسلمين، هذا هو الصحيح.

وقيل: ما لله فهو فيء، وما للرسول صلى الله عليه وسلم فللإمام؛ لأن الإمام نائب مناب الرسول صلى الله عليه وسلم في الأمة، ولكن الصحيح أن ما لله وللرسول صلى الله عليه وسلم يكون فيئاً يدخل في بيت المال ويصرف في مصالح المسلمين.

{وَلِذِي الْقُرْبَى} ، وهم قربى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم بنو هاشم، وبنو المطلب، هؤلاء هم أصحاب خمس الخمس.

وكيف يقسم بينهم؟

قيل: يقسم بينهم بحسب الحاجة، وقيل: بل للذكر مثل حظ الأنثيين

(1)

، وقيل: بل الذكر والأنثى سواء.

أما من قال: بحسب الحاجة، قال: لأننا نعلم أن من مقاصد الشرع دفع الحاجات، لكن خص ذوي القربى؛ لأنهم أحق الناس بمثل هذه الغنيمة.

وأما من قال: هم سواء، فقال: لأنهم يستحقونه بوصفٍ وهو القرابة، وهذا يستوي فيه الذكور والإناث، كما لو وقف على قريبه فإنه يستوي الذكر والأنثى.

وأما من قال: إنه يفضل الذكر على الأنثى، فقال: لأن

(1)

وهو المذهب.

ص: 27

الإرث في القرابة يكون هكذا للذكر مثل حظ الأنثيين.

والأقرب الأول وهو أننا نراعي الحاجة، فإن كانوا كلهم سواء في الغنى أو في الحاجة أعطيناهم بالتساوي.

{وَالْيَتَامَى} جمع يتيم، وهو من مات أبوه قبل أن يبلغ، وسواء كان ذكراً أو أنثى، وهل يختص بالفقراء منهم

(1)

أو لا يختص؟.

الصحيح أنه لا يختص؛ لأننا لو جعلناه خاصاً بالفقراء لم يكن لعطف المساكين عليهم فائدة.

فالصواب أن اليتيم يستحق خمس الخمس من الغنيمة ولو كان غنيّاً؛ جبراً للنقص الذي حصل له بفقد أبيه، ولا سيما إذا كان اليتيم مترعرعاً في الشباب، أي يعرف قدر وجود أبيه، ويعرف ما يفوته بفقد أبيه، لكن لا شك أن من كان أحوج فهو أحق.

{وَالْمَسَاكِينِ} هم الفقراء، وهنا يدخل الفقراء في اسم المساكين.

{وَابْنَ السَّبِيلِ} هم المسافرون الذين انقطع به السفر، فيعطون ما يوصلهم إلى سفرهم، يعطون تذكرة أو متاعاً أو ما أشبه ذلك مما يحتاجون إليه.

وهل الفيء كالزكاة، بمعنى أنه يجوز الاقتصار على واحد من هؤلاء، أو يجب التعميم؟

المشهور من المذهب أنه يجب التعميم، أي: أننا نعمم

(1)

وهو المذهب.

ص: 28

بحسب القدرة والطاقة، فمثلاً اليتامى في البلد لا نقول: إنه يجزئ أن نعطي ثلاثة منهم، أي: أقل الجمع، بل نبحث عن كل يتيم في البلد ونعطيه من هذا الذي هو خمس الخمس، أما مستحق الزكاة فقد سبق أنه يجوز الاقتصار على واحد.

فإن قال قائل: ما الفرق؟ قلنا: الفرق أنه ثبت في السنّة جواز الاقتصار على واحد كما في حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه: «أعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم»

(1)

، ولم يذكر بقية الأصناف مع أن هذا بعد نزول الآية، وأما هنا فقال الله تعالى:{فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال: 41]، فكل من قام به هذا الوصف استحق.

‌ثُمَّ يَقْسِمُ بَاقِي الغَنِيْمَة لِلرَّاجِلِ سَهْمٌ، وَلِلفَارِسِ ثَلَاثَةُ أسْهُمٍ، سَهْمٌ لَهُ وَسهْمَانِ لِفَرَسِهِ.

.

قوله: «ثم يقسم باقي الغنيمة للراجل سهم، وللفارس ثلاثة أسهم، سهم له وسهمان لفرسه» الباقي أربعة أخماس، للراجل سهم، وللفارس ثلاثة أسهم، سهم له وسهمان لفرسه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك في خيبر، جعل للراجل ـ الذي على رِجْله ـ سهماً واحداً، وللفارس ثلاثة أسهم

(2)

، لماذا فرَّق بينهما؟.

الجواب: لأن غَناء الفارس ونفعه أكثر من غناء الراجل.

(1)

أخرجه البخاري في الزكاة/ باب وجوب الزكاة (1395) ومسلم في الإيمان/ باب الدعاء إلى الشهادتين (19).

(2)

أخرجه البخاري في المغازي/ باب غزوة خيبر (4228)؛ ومسلم في الجهاد/ باب كيفية قسمة الغنيمة بين الحاضرين (1762)، عن ابن عمر رضي الله عنهما.

ص: 29

فإذا قال قائل: فماذا تقولون في حروب اليوم؟ فالناس لا يحاربون على خيل وإبل، بل بالطائرات والدبابات وما أشبهها؟.

فالجواب: يقاس على كل شيء ما يشبهه، فالذي يشبه الخيل الطائرات؛ لسرعتها وتزيد ـ أيضاً ـ في الخطر، والذي يشبه الإبلَ الدباباتُ والنقلياتُ وما أشبهها، فهذه لصاحبها سهم ولها سهمان، والراجل الذي يمشي على رجله مثل القناصة له سهم واحد.

فإن قال قائل: الطيار لا يملك الطائرة، فهل تجعلون له ثلاثة أسهم؟.

نقول: نعم نجعل له ثلاثة أسهم سهم له وسهمان للطائرة، وسهما الطائرة يرجعان إلى بيت المال؛ لأن الطائرة غير مملوكة لشخص معين، بل هي للحكومة، وإذا رأى ولي الأمر أن يعطي السهمين لقائد الطائرة فلا بأس؛ لأن في ذلك تشجيعاً له على هذا العمل الخطير.

‌وَيشَارِك الجَيْشُ سَرَايَاهُ فِيمَا غَنِمَت، وَيُشَارِكُونَهُ فِيمَا غَنِمَ. وَالغَالُّ مِن الغَنِيمَةِ يُحْرَقُ رَحْلُهُ كُلُّهُ إِلاَّ السِّلَاحَ وَالمُصْحَفَ.

قوله: «ويشارك الجيش سراياه فيما غنمت ويشاركونه فيما غنم» لأن الجيش واحد، والمراد سراياه التي يبثها إذا دخل دار الحرب، وسبق أنه يمكن أن يبعث سرية في ابتداء القتال، وسرية في الرجوع بعد القتال، وما غنمته السرايا يضم إلى غنيمة الجيش، وكذلك غنائم الجيش تضم إلى غنائم السرايا، لكن سبق أن للإمام أن ينفل الثلث في الرجعة والربع في البدأة، قال ابن المنذر: روينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ترد سراياهم على قَعدهم»

(1)

،

(1)

رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، ويجير عليهم أقصاهم، وهم يد على من سواهم، ويرد مشدهم على مضعفهم، ومتسريهم على قاعدهم» .

أخرجه الإمام أحمد (2/ 180)؛ وأبو داود في الجهاد/ باب في السرية ترد على أهل العسكر (2751)؛ وابن ماجه في الديات/ باب المسلمون تتكافأ دماؤهم (2685)؛ وعبد الرزاق (9445)؛ وابن المنذر في «الأوسط» (11/ 151)، وصححه الألباني في «الإرواء» (7/ 265).

ص: 30

والعلة واضحة أن هذا جيش واحد انطلق في وجه واحد فصاروا شركاء.

قوله: «والغال من الغنيمة» الغال من كتم شيئاً مما غنمه واختصه بنفسه، والغلول من كبائر الذنوب، وقد قال الله تبارك وتعالى:{وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 161]، وحذر النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك وبين أن الإنسان يأت بما غل يوم القيامة إن كان شاة أو بعيراً أو أي شيء، يأتي به حاملاً إياه يوم القيامة على رؤوس الأشهاد

(1)

، فهو إذاً من الكبائر، حتى أن الرسول عليه الصلاة والسلام ذكر أن رجلاً غل شملة فقال: «

إن الشملة التي أخذها يوم خيبر من المغانم لم تصبها المقاسم لتشتعل عليه ناراً»

(2)

؛ والعياذ بالله.

(1)

أخرجه البخاري في الجهاد/ باب الغلول (3073)؛ ومسلم في الإمارة/ باب غلظ تحريم الغلول (1831) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

أخرجه البخاري في الأيمان والنذور/ باب هل يدخل في الأيمان والنذور الأرض والغنم والزرع والأمتعة (6707)؛ ومسلم في الإيمان/ باب غلظ تحريم الغلول وأنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون (115) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 31

قوله: «يحرق رحله كله» ظاهر كلامه أن هذا واجب، أي: يجب أن يحرق رحله كله.

قوله: «إلا السلاح» كالسيف والبندق وما أشبه ذلك.

قوله: «والمصحف» لاحترامه.

‌وَمَا فِيهِ رُوْحٌ ..................

قوله: «وما فيه روح» لأن ما فيه روح لا يعذب بالنار، مثل البعير والفرس، وما عدا ذلك فإنه يحرق مثل الدراهم التي كدراهمنا الآن وهي أوراق، والأواني، وشداد البعير، والسَّرْج، والمِقْوَد، وما أشبه ذلك.

وهنا نقول: لماذا يحرق؟ أفلا يكون من الأحسن أن يضاف إلى الغنيمة؟ أو من الأحسن أن يؤدب صاحبه بالضرب مثلاً، ويكون المال له؟.

الجواب: لا؛ لأن المقصود بهذا التحريق هو التنكيل بهذا الرجل، ومصلحة التنكيل أكبر من مصلحة ما يُضم إلى بيت المال أو إلى الغنيمة من المال، فيكون في هذا مصلحة أكبر من مصلحة المال الذي يحصل لو لم يُحرق، وأما كونه يُحرق ولا يُتلف بنوع آخر أو يُتصدق به فلأن هذا هو الوارد عن الصحابة رضي الله عنهم، وقال يزيد بن جابر: السنّة في الذي يغلّ أن يحرق رحله

(1)

.

(1)

عزاه في «المغني» (13/ 168) إلى سعيد بن منصور، ولم نقف عليه في «سننه» ، وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده:«أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر رضي الله عنهما حرقوا متاع الغال» .

أخرجه أبو داود في الجهاد/ باب في عقوبة الغال (2715)؛ والحاكم (2/ 131)؛ والبيهقي (9/ 102)، قال الحاكم:«غريب صحيح» ، وقال الحافظ في «التغليق» (3/ 466):«زهير بن محمد ضعيف الحديث والمحفوظ عن عمرو بن شعيب قوله: «وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا وجدتم الرجل قد غل فأحرقوا متاعه واضربوه» . أخرجه أبو داود (2713)؛ والحاكم (1/ 127)؛ والبيهقي (9/ 102). وضعفه أبو داود والبيهقي والحافظ في «التغليق» (3/ 264).

ص: 32

ولكن هل كلام المؤلف صحيح في أنه يجب إحراقه، أو نقول: إن الإحراق راجع إلى اجتهاد الإمام؟.

الجواب: المذهب هو أنه يجب إحراقه، والذي اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن هذا راجع إلى اجتهاد الإمام، فإن رأى من المصلحة أن يحرق حرقه، وإن رأى أن يبقيه أبقاه، ولكن لا بد أن ينكل بهذا الغال.

َ‌

‌إِذَا غَنِمُوا أَرْضاً فَتَحُوهَا بالسَّيْفِ خُيِّرَ الإِمَامُ بَيْنَ قَسْمِهَا وَوَقْفِهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، ويضْرِبُ عَلَيْهَا خَرَاجَاً مُسْتَمِرّاً يُؤْخَذُ مِمَّن هِي بِيَدِه.

............

قوله: «وإذا غنموا أرضاً فتحوها بالسيف خُيِّر الإمام بين قسمها ووقفها على المسلمين، ويضرب عليها خراجاً مستمرّاً يؤخذ ممن هي بيده» ، «إذا غنموا» الواو الفاعل تعود على المسلمين، «أرضاً» أي: من الكفار، «فتحوها بالسيف» ويسمى الفتح بالسيف عَنوة؛ لأنهم أخذوها قهراً.

مثال ذلك: قاتل المسلمون قرية ففتحوها، وجلا عنها أهلها، وصارت بأيدي المسلمين كالغنائم من الأمتعة وغيرها مما ينقل، في هذه الحال يُخير الإمام بين شيئين: إما أن يقسمها بين

ص: 33

الغانمين، وإما أن يوقفها على المسلمين عموماً، ويضرب عليها خراجاً مستمرّاً، فإن قسمها على المسلمين فله في ذلك سلف، وهو النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه قسم أرض خيبر بين المسلمين

(1)

، وإن لم يقسمها وجعلها وقفاً للمسلمين، وأعطاها الناس وضرب عليها خراجاً مستمرّاً فله في ذلك سلف، وهو عمر بن الخطاب رضي الله عنه

(2)

، فإن عمر بن الخطاب قال:«إذا قسمت الأرض بين المقاتلين الآن لم ينتفع بها من بعدهم» ، وهي أرض ليست شيئاً منقولاً تتلف بمرّ الزمن، بل هذه ستبقى أبد الآبدين إلى يوم القيامة، فكوني أقسمها بين الغانمين، وتبقى ملكاً لهم يتوارثونها فيما بينهم، ويتبايعونها فيما بينهم، هذا يحرم بقية أجيال المسلمين، فأنا أبقيها وقفاً وأضرب عليها خراجاً.

والخراج أن يقول مثلاً: كل ألف متر عليه ألف ريال سنويّاً يُؤخذ ممن هي بيده، فإن كانت بيد من عمرها بيتاً أخذ من صاحب البيت، وإذا كانت بيد من زرعها وغرسها أُخذت من الزارع والغارس، وهي تشبه ما يسمى عندنا هنا «بالصبرة» ، وما يسمى في الحجاز:«بالحكرة أو الحكورة» ، أي: أن تبقى الأرض لا تُملك، للمسلمين، لكن من هي بيده أحق بها من غيره، وعليه مقابل كونه ينتفع بها دراهم يقدرها الإمام، ولهذا قال:«بين قسمها ووقفها على المسلمين» ، وهذا التخيير تخيير مصلحة وليس تخيير تَشَهٍّ؛ وذلك للقاعدة التي سبقت (أن من خُيِّر بين شيئين ويتصرف لغيره

(1)

-

(2)

أخرجه البخاري في الحرث والمزارعة/ باب أوقاف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (2334)، وانظر:«الأموال» لأبي عبيد ص (60).

ص: 34

وجب عليه فعل الأصلح، وإن كان لنفسه فله أن يعدل إلى الأسهل سواء كان أصلح أو غير أصلح)، ولذلك نقول: من عليه كفارة يمين فهو مخير بين أيها شاء: عتق رقبة أو الكسوة أو الإطعام، حتى لو اختار الأقل، وهو الإطعام ـ في الغالب ـ فله ذلك.

ويجب على الإمام أن يستشير أولي الرأي بين أن يقسم الأرض بين الغانمين، ويجعل لكل إنسان أرضاً يتصرف فيها وتورث من بعده، وبين أن يجعلها وقفاً على المسلمين وليست ملكاً ولا يدخل فيها الإرث

(1)

، ويضرب عليها خراجاً مستمرّاً تؤخذ ممن هي بيده، بمعنى أنها تكون كأجرة تؤخذ ممن هي بيده كل عام، قد يكون الأفضل الأول وقد يكون الأفضل الثاني، حسب الحال.

‌والمَرْجِعُ فِي الخَرَاجِ والجِزْيَةِ إِلَى اجْتِهَاد الإِمَامِ ...............

قوله: «والمرجع في الخراج والجزية إلى اجتهاد الإمام» أي: المرجع في الخراج الذي يوضع على الأرض المغنومة إلى اجتهاد الإمام، أما الجزية ـ فذكرها المؤلف هنا استطراداً ـ وهي التي تُوضع على كل فرد من أفراد أهل الذمة عوضاً عن إقامتهم في دارنا وحمايتهم، وهذه ـ أيضاً ـ مرجعها إلى الإمام، ومعلوم أن هذه تختلف باختلاف الأراضي والأزمان واختلاف الأشخاص في باب الجزية، فيرجع فيها إلى اجتهاد الإمام، لكنهم قالوا: إذا وضعه من سبقه، فإنه لا يجوز للثاني تغييره ما لم يتغير السبب، فمثلاً ما وضعه عمر رضي الله عنه على الأراضي الخراجية ـ وإن كان الأمر الآن قد اندرس ـ لا يجوز أن نغيره الآن بزيادة أو

(1)

أي: إرث التملك.

ص: 35

نقص إلا إذا وجد سبب التغيير، بأن تكون الأراضي رخصت فننزل، أو زادت فنرفع الخراج حسب الحال، أما إذا لم يوجد سبب فالواجب اتباع ما ضربه الإمام الأول على هذه الأرض وعلى أهل الذمة، والذي يظهر لي أن مثل هذه المسائل إذا لم تكن صادرة من النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ أنها من أمور القضاء الوقتي، أي التي رأى الخلفاء في ذلك الوقت أنها أنسب.

مسألة: هل يتعلق الخراج بذمة المورث؛ ويكون دَيناً في ذمته تتعلق به نفسه بعد موته، أو هو على من انتقلت إليه؟.

الجواب: الثاني، إلا إذا كان بقي من الخراج الذي أدركه الأول حيّاً شيء فإنه يتعلق بذمته، فمثلاً: لو مضى عليه خمس سنوات لم يؤد الخراج، ثم مات فهذا يتعلق بذمته خمس سنوات، وما بعدها يتعلق بمن انتقلت إليه الأرض من الورثة.

وبهذا التقرير يطمئن الإنسان الذي اشترى بيتاً فيه صبرة، ثم أدى الصبرة التي حلت في حياته ومات، فهل نقول: هذه الصبرة تتعلق بذمة الميت؟.

الجواب: لا تتعلق؛ لأنه برئت ذمته في حياته.

وكذلك ـ أيضاً ـ لو أن الأرض المصبرة بيعت من شخص، فهل للذي صبرها الأول أن يرجع على البائع، أو يرجع على المشتري الذي هي بيده؟

الجواب: الثاني؛ لأنه جرت العادة أن الصبرة يُطالب بها من كانت العين في يده فلا يُطالب بها البائع.

قد يقول المصبر الأول: أنا صبرتك أنت فأعطني صبرتي؟

ص: 36

فيقال: لا؛ لأنه جرت العادة على أنه إذا باعها أن يطالب المشتري كالأرض الخراجية سواء.

‌وَمَنْ عَجَزَ عَن عِمَارَةِ أرْضِهِ أُجْبِرَ عَلَى إِجَارَتِهَا، أوْ رَفْعِ يَدهِ عَنْهَا. وَيَجْرِي فِيهَا المِيرَاثُ، وَمَا أُخِذَ مِنْ مَالِ مُشْرِكٍ كَجِزْيَةٍ وَخَرَاجٍ وَعُشْرٍ، وَمَا تَرَكُوهُ فَزَعاً، وَخُمسِ خُمسِ الغَنِيْمَةِ، فَفَيءٌ يُصْرَفُ فِي مَصَالِحِ المُسْلِمِينَ ........

قوله: «ومن عجز عن عمارة أرضه أجبر على إجارتها أو رفع يده عنها» هذا رجل من الناس اقتطع أرضاً من الأرض الخراجية يريد أن يزرعها، مساحتها كيلو مثلاً، فالإمام يجب أن يعطيه؛ لأن هذا من مصلحة المسلمين؛ إذ سيعود الدخل إلى بيت مال المسلمين، وبعد أن أخذها عجز عن عمارتها، نقول له: يجب عليك أحد أمرين، إما أن ترفع يدك ليأخذها غيرك، وإما أن تؤجرها، لأنه إذا عجز عن عمارتها وبقيت أرضاً بيضاء وأردنا أن نطالبه بالخراج فمن أين نأخذ؟ فيضيع حق المسلمين.

ولو طلب مهلة علينا أن نعطيه مهلة بشرط ألا يفوت بها موسم الزرع، فإن طلب مهلة يفوت بها زرعها لم نعطه؛ لئلا تتعطل الأرض ثم يتعطل خراجها.

قوله: «ويجري فيها الميراث» أي: الأرض الخراجية يجري فيها الميراث، فإذا مات إنسان قد استولى على أرض خراجية انتقلت الأرض بخراجها إلى الورثة، فإذا قال الورثة: لا نريدها ما دام قد ضرب عليها خراج، نقول لهم: ارفعوا أيديكم عنها، وتعطى أناساً آخرين، ولا نجبرهم عليها؛ لأن الذي التزم بها هو مورثهم.

قوله: «وما أخذ من مال مشرك» المراد بذلك من لا يدين بالإسلام، سواء كان يهوديّاً، أو نصرانيّاً، أو وثنيّاً، أو غير ذلك، المهم أنه كافر لا يدين بالإسلام.

ص: 37

قوله: «كجزية» التمثيل بالجزية، وما عطف عليها يدل على أنه أخذ بغير قتال؛ وذلك لأن ما أخذ من مال الكفار بالقتال فهو غنيمة، لكن هذا أخذ بغير قتال.

والجزية هي ما يوضع على أفراد أهل الذمة من يهود ونصارى، وغيرهم على القول الراجح.

قوله: «وخراج» كذلك ـ أيضاً ـ الخراج وهو المال المضروب على الأرض الخراجية التي غنمت ثم وقفت على المسلمين.

قوله: «وعشر» العشر يؤخذ من كل كافر اتجر في بلاد الإسلام

(1)

، ثم إن كان حربيّاً أخذنا منه العشر، وإن كان ذميّاً أخذنا منه نصف العشر، وهو حق للمسلمين وليس هذا بمكس، لأنه إذا اتجر في بلاد المسلمين يكون هو المستفيد، ويجوز للحربي أن يطلب الأمان؛ ليدخل التجارة إلى بلاد المسلمين ويبيعها ثم يمشي، فنأخذ عليه عشر التجارة بمعنى أنه إذا كان ما معه يساوي عشرة آلاف نأخذ منه ألفاً، أما إذا دخل بغير أمان فإننا نأخذه هو وماله؛ لأنه حربي.

أما إذا كان ذميّاً فنأخذ منه نصف العشر؛ لأن الذمي له شيء من الحق، وإن كان مسلماً لا نأخذ شيئاً، إذاً الناس ثلاثة أقسام:

الأول: الذمي، فهذا نأخذ منه نصف العشر، أي: واحداً من عشرين.

(1)

روي ذلك عن عمر رضي الله عنه أنه كان يأمر بذلك عماله، أخرجه عبد الرزاق (10124) والبيهقي (20919، 210).

ص: 38

الثاني: الحربي، الذي دخل بأمان، ونأخذ منه العشر كاملاً أي: واحداً من عشرة.

الثالث: المسلم، ولا يحل لنا أن نأخذ منه شيئاً؛ لأنه محترم بماله ونفسه.

قوله: «وما تركوه فزعاً» أي: ما تركه الكفار فزعاً منا، يعني لما علموا بأن المسلمين أقبلوا عليهم هربوا وتركوا الأموال، فهذه الأموال أخذت بغير قتال فتكون فيئاً؛ وذلك لأن المقاتلين لم يتعبوا في تحصيلها فلا تقسم بينهم، بل تكون فيئاً يصرف في مصالح المسلمين العامة، كرَزْقِ القضاة، والمؤذنين، والأئمة، والفقهاء، والمعلمين، وغير ذلك من مصالح المسلمين.

قوله: «وخمس خمس الغنيمة ففيء يصرف في مصالح المسلمين» خمس خمس الغنيمة هو واحد من خمسة وعشرين جزءاً يصرف في الفيء؛ وخمس خمس الغنيمة هو أن الغنيمة إذا غنمت يؤخذ منها الخمس لخمسة أصناف، وتقسم أربعة الأخماس الباقية على الغانمين، والخمس الذي يؤخذ أولاً يصرف إلى خمس جهات لقوله تعالى:{فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال: 41]، ولكن كيف يتم صرفه؟.

الجواب: لا بد أن يكون على ما فيه مصلحة للمسلمين، قال شيخ الإسلام في كتاب السياسة الشرعية: لا يجوز أن يُصرف هذا في غير المصالح فضلاً عن أن يعطى المغنِّين والمتمسخرين وما أشبه ذلك؛ لأن هذه منافع محرمة، فلا يجوز أن تبذل

ص: 39

الأموال فيها، وإنما تبذل في المصالح، وهنا أسئلة:

أولاً: هل إصلاح الطرق من المصالح؟ الجواب: نعم من المصالح.

ثانياً: هل إقامة السدود على الأودية من المصالح؟ الجواب: نعم من المصالح.

ثالثاً: هل غرس الأشجار في مواقف الناس التي يحتاجون إلى الوقوف فيها من المصالح؟ الجواب: نعم من المصالح.

إذاً المصالح عامة، فكل ما فيه مصلحة للمسلمين في دينهم أو دنياهم فإنه يؤخذ من بيت المال، ولا يجوز أن يصرف هذا الفيء، أعني بيت المال إلا فيما فيه مصلحة للمسلمين، فأما ما لا مصلحة فيه فإنه لا يجوز أن يصرف منه قرش واحد؛ لأن هذا من إضاعة المال، وإذا كان الإنسان منهيّاً عن إضاعة المال الذي يملكه، فكيف بإضاعة المال الذي هو للمسلمين عموماً.

وإذا بذل في محرم صار فيه إثمان:

الأول: اقتطاع جزء من مال المسلمين في غير مصالحهم.

الثاني: أنه صرف في المحرم فهو إعانة على المحرم.

ولهذا نقول: إن مسؤولية من يتولون أموال المسلمين، أشد من مسؤولية من يتولى مال اليتيم، أو مال سفيه، أو مال نفسه؛ لأن هذا يتعلق به جميع حقوق المسلمين، فكل المسلمين لهم حق فيه، ولا يخفى ما جرى لعمر بن الخطاب رضي الله عنه فيما يذكره أهل التاريخ، أنه كان رضي الله عنه في إحدى الليالي يمشي في شوارع المدينة يتفقد الناس فوجد ناراً فذهب إليها، وكان معه مولى يُقال له: أسلم، فذهب إلى هذه النار

ص: 40

فوجد امرأة عجوزاً عندها صبيان جوعى يصيحون، وقد أوقدت النار تحت قِدر ليس فيه إلا الماء لتسكتهم به، فجاء إليها وقال: ما لك يا أمة الله؟ قالت: هؤلاء صبيان، قال: ما الذي في القدر؟ قالت: ماء أسكتهم به، الله بيننا وبين عمر ـ كلمة عظيمة ـ، عمر ولاه الله على العباد لا بد أن يسأله الله عن هذه الولاية، فقال لها ـ وهي لا تعلم أنه عمر ـ: ما أدرى عمر بكم؟ قالت: يتولى أمرنا ولا يدري عنا؟ هذه كلمة أكبر من الأولى.

فذهب مسرعاً رضي الله عنه إلى خزانة الطعام وأخذ كيساً من دقيق، وأخذ ما يقابله من الودك وحمله، فقال له مولاه أسلم: يا أمير المؤمنين أنا أحمله، قال: إنك لو حملته عني لم تحمل عني أوزاري يوم القيامة، ثم خرج به وجعل هو ينفخ في النار حتى إن الدخان يتخلل لحيته، ويصب من الدقيق والودك في هذا القدر حتى طبخ هو بنفسه، خليفة المسلمين من مشرق الأرض إلى مغربها يطبخ بنفسه لهذه العجوز!! لأنه يطبخ مخلصاً لله بذلك ليبرئ ذمته بهذا، ففعل ثم تنحى ناحية وجلس وقال: والله لا أرجع حتى أرى هؤلاء الصبيان الذين يبكون يتضاحكون، فشبعوا من الطعام وجعلوا يضحكون ويتصارعون، فذهب وقال لها: إذا كان غداً فأتي إلى عمر، وذهب وهي لا تدري من هذا الرجل، قالت: والله إنك لخير لنا من عمر

(1)

؛ لأن عمر على زعمها نائم في فراشه، وهذا يتفقد الناس ويأتي إليهم بالطعام، فالمسؤولية عظيمة جداً، نسأل الله تعالى أن يعين ولاة أمورنا على ما فيه خير البلاد والعباد.

(1)

أخرجه الطبري في «تاريخه» (4/ 205).

ص: 41

يقول صاحب الروض المربع

(1)

:

«فصل في الأمان والهدنة»

«يصح الأمان من مسلم عاقل مختار غير سكران ولو قِنّاً أو أنثى، بلا ضرر في عشر سنين فأقل، منجَّزاً ومعلقاً، من إمام لجميع المشركين، ومن أمير لأهل بلدة جعل بإزائهم، ومن كلِّ أحد لقافلة وحصن صغيرين عرفاً، ويحرم به قتل، ورق، وأسر» .

قوله: «يصح الأمان» الأمان: عبارة عن تأمين الكافر مدة محدودة، أي يؤمن حتى يبيع تجارته ويرجع، أو حتى يشاهد بلاد المسلمين ويرجع، أو حتى يسمع كلام الله ويرجع، وهذا التأمين ليس عقداً بل أمان فقط، ولهذا صح من كل إنسان حتى من امرأة، وحتى من قن، لكن لا بد أن يكون المُؤَمِّنُ مسلماً، فلو فرضنا أن في البلد طوائف متعددة، نصارى ومشركين، لكنهم باقون في عهد المسلمين، فهؤلاء لا يصح منهم أن يؤمّنوا كافراً يدخل من بلاد الكفر؛ لأنهم لا يُؤْمَنُونَ، فقد يكون بينهم وبين هذا الطالب للأمان اتفاق فيؤمِّنونه حتى يأتي ليأخذ أسرار المسلمين وأحوالهم.

ولا بد أن يكون عاقلاً، وضده المجنون؛ لأن المجنون لا عقل له ولا قصد له.

ومختاراً لا مكرهاً، فلو دخل كافر مسلح، ووجد رجلاً من المسلمين وقال له: أمّنِّي وإلا قتلتك، فأمَّنه مكرهاً، فهذا الأمان

(1)

الروض مع حاشية ابن قاسم: 4/ 296.

ص: 42

لا يصح، ولكن اشترط المؤلف للأمان ألا يكون فيه ضرر على المسلمين، وأن يكون في عشر سنين فأقل، أي: لا يملك أي إنسان أن يُؤَمِّنَ الكافر أكثر من عشر سنين.

قوله: «منجَّزاً ومعلَّقاً» منجَّزاً مثل: أمَّنتك.

ومعلَّقاً مثل إذا دخل الشهر الفلاني فأنت في أمان.

قوله: «من إمام لجميع المشركين» أي: يصح الأمان من إمامٍ لجميع المشركين؛ لأن ولايته عامة، فجاز أن يكون تأمينه عامّاً.

قوله: «ومن أمير لأهل بلدة جعل بإزائهم» هذا أقل من عموم المشركين، فأهل البلدة يؤمِّنهم أمير جعل بإزائهم، مثل أن يكون هناك قرية مسلمة وعليها أمير مسلم، وبجانبها قرية كافرة فيؤمِّنها هذا الرجل المسلم.

قوله: «ومن كل أحد لقافلة وحصن صغيرين عرفاً» أيُّ واحد من عامة المسلمين يؤمن القافلة الصغيرة والحصن الصغير أو الرجل أو الرجلين وما أشبه ذلك، فإنه جائز.

وما الذي يترتب على الأمان؟.

الجواب: قوله: «ويحرم به» أي: بالأمان.

قوله: «قتل ورق وأسر» أي: إذا أعطينا الأمان لشخص حرم قتله ورقه وأسره؛ لأنه قد أعطي الأمان، والمسلمون هم أشد الناس وفاءً بالعهود. ومن طلب الأمان؛ ليسمع كلام الله، ويعرف شرائع الإسلام لزم إجابته ثم يرد إلى مأمنه، ودليل ذلك قوله

ص: 43

تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة: 6]، لكن بشرط ألاَّ نخاف أنه قال ذلك احتيالاً ومكراً، فإن خفنا هذا فإننا لا نؤمنه؛ لأنه يخشى من شره.

قوله: «والهدنة عقد الإمام أو نائبه على ترك القتال مدة معلومة ولو طالت بقدر الحاجة» كلامه هنا لا يخالف كلامه الأول، فالكلام الأول إنما هو تأمين فقط، وكلامه هنا عن عقد يكون بين الإمام وبين الكفار كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في الحديبية

(1)

، واشترط المؤلف بقوله:«عقد الإمام أو نائبه» أن الهدنة لا يعقدها إلا الإمام أو نائبه، ومعروف أن الإمام هو الذي له الولاية العامة على كل المسلمين، ولكن هذا فُقد من أزمنة طويلة، وأقر المسلمون الوضع على ما هو عليه، وقالوا: كل إنسان ولي أمرٍ على البلاد التي تحت سيطرته فتجب طاعته، كما ذكره الصنعاني في سبل السلام، وغيره ـ أيضاً ـ من أهل العلم.

قوله: «على ترك القتال مدة معلومة» فلا يصح أن يقول: نحن عاهدناكم مدة ألاّ نقاتلكم؛ لأنها مجهولة، فلا بد أن تكون معلومة.

ولو قال: نعقد الهدنة بيننا حتى يكون لنا قدرة على القتال، فلا تصح لأنها غير معلومة.

قوله: «ولو طالت لكن بقدر الحاجة» ، «لو» إشارة خلاف؛

(1)

أخرجه البخاري في الشروط/ باب الشروط في الجهاد (2731)، (2732).

ص: 44

لأن بعض العلماء يقول: لا تجوز الهدنة مع الكفار إلا في عشر سنين فأقل، أما أكثر من ذلك فلا تجوز

والحجة في هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم سالم قريشاً لمدة عشر سنوات، قالوا: والأصل وجوب قتال وجهاد الكفار، فلا نعدل عن هذا الأصل إلا بمقدار ما جاءت به السنة، والسنة جاءت بعشر سنوات فلا نزيد، فإن زاد على هذا بطلت الزيادة.

وقيل: يبطل العقد كله، وهذا مبني على تفريق الصفقة المعروفة في كتاب البيع.

والصفقة إذا باع الإنسان شيئاً يجوز بيعه وشيئاً لا يجوز، هل يبطل البيع في الجميع أو فيما لا يجوز؟.

الجواب: فيما لا يجوز.

مثاله: باع عبداً وحرّاً، أو باع سيارته وسيارة جاره، وجاره لم يوكله، فيصح بيع سيارته دون سيارة جاره.

وقيل: يبطل البيع كله.

والمذهب أنه لا بأس أن تزيد المدة على عشر سنين إذا كان في ذلك حاجة، وتقدير النبي صلى الله عليه وسلم المدة بعشر سنين؛ لأنه رأى أن هذا كافٍ، وأن المسلمين سوف يقوون، وتزيد قوتهم في هذه المدة فيكون تقدير المدة لا لاختصاصها بهذا القدر، ولكن تبعاً للحاجة.

فالمذهب أنها تصح مؤقتة ولو عشرين سنة أو ثلاثين سنة أو أكثر إذا دعت الحاجة لذلك، مثل أن يعرف المسلمون أنهم ضعفاء لا يستطيعون في خلال خمس سنوات، أو عشر سنوات،

ص: 45

أو عشرين سنة أن يقابلوا العدو فلهم أن يزيدوا إلى المدة التي تقتضيها الحاجة.

وقال شيخ الإسلام: يجوز عقد الهدنة مطلقاً بدون تحديد إذا كان في ذلك مصلحة، ولكن يكون هذا عقداً جائزاً، بمعنى أن للمسلمين أن ينقضوه إذا رأوا مصلحة في نقضه، فصارت الأقوال ثلاثة:

القول الأول: لا يجوز أن يعقد السلام أو الهدنة أكثر من عشر سنوات

(1)

.

القول الثاني: يجوز أكثر لكن يحدد؛ لأن العقد على وجه الإطلاق يعني إبطال الجهاد.

القول الثالث: يجوز مطلقاً بدون تحديد للمصلحة، ولكن هذا القول يجعله عقداً جائزاً، بمعنى أن المسلمين إذا رأوا من أنفسهم القوة نبذوا العهد، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، ولكن لا بد أن يُعلموا عدوهم بأننا عقدنا معكم هذه الهدنة للحاجة، والآن لا نحتاجها، فإما أن تسلموا، وإما أن نقاتلكم، وهذا الذي قاله شيخ الإسلام هو قياس المذهب في أن المرجع في ذلك إلى المصلحة، ولو زاد على عشر سنين، فما دمتم تقولون: إننا نزيد على عشر السنوات التي حددها الرسول صلى الله عليه وسلم في الصلح بينه وبين قريش من أجل المصلحة، فلنقل أيضاً: قد نظن أن المصلحة في عشر سنوات ـ مثلاً ـ أو عشرين

(1)

وهو المذهب.

ص: 46

سنة، ولكن يتبين أننا نحتاج إلى وقت أطول، فإذا أطلقناها وصار لنا الحق في أن نقول لهؤلاء القوم: نحن أطلقناها ولم نقيد مدة معينة فإذا لم نقيد مدة معينة، فإنكم لا تلزموننا بشيء، ونقول لهم: هذا إذا قوينا وصار عندنا قدرة نستطيع أن نجبرهم على الإسلام، أو دفع الجزية إن كانوا من أهل الجزية.

قوله: «وهي لازمة يجوز عقدها للمصلحة حيث جاز تأخير الجهاد لنحو ضعف بالمسلمين» ، «وهي» الضمير يعود على الهدنة، «لازمة» ؛ لأنها عهد بيننا وبين الكفار، وليعلم أن العهد الذي بيننا وبين الكفار له ثلاث حالات كلها في القرآن:

الحال الأولى: أن ينقضوا العهد هم بأنفسهم، فإذا نقضوا العهد انتقض العهد الذي بيننا وبينهم.

ومثاله: قصة قريش؛ لأن قريشاً نقضوا العهد حين ساعدوا حلفاءهم على حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم، وحينئذ ينتقض العهد، والدليل قوله تعالى:{وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ *} {أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ} [التوبة: 12، 13].

الحال الثانية: أن يستقيموا لنا ولا نخاف منهم خيانة ولم نر منهم خيانة، فحينئذ يجب علينا أن نستقيم لهم كما قال الله تعالى:{فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 7].

الحال الثالثة: أن نخاف منهم نقض العهد، فهنا لا يلزمنا

ص: 47

أن نبقى على العهد، ولا يجوز لنا أن نقاتلهم، بل ننبذ إليهم على سواء، وإليه الإشارة في قوله تعالى:{وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال: 58]، أي: انبذ العهد على سواء؛ لتكون أنت وإياهم على سواء في أنه لا عهد بينكم، وهذا هو الإنصاف؛ لأن الدين الإسلامي أقوم الأديان وأعدلها، فما استقاموا لنا فإننا نستقيم لهم، وإن نقضوا عهدنا فلا عهد لهم، وإن خفنا منهم ننبذ إليهم على سواء، فنقول: لا عهد بيننا وبينكم، ولا نأتيهم على غرة ونباغتهم؛ لأن الأصل قيام العهد.

قوله: «تجوز بشرط حيث جاز تأخير الجهاد لنحو ضعف بالمسلمين» وفي وقتنا هذا فينا ضعف؛ لذلك تجوز الهدنة على المذهب بدون تقييد، ولكن لا بد أن تكون المدة معلومة مقيدة.

قوله: «ولو بمال منا ضرورة» أي: ولو كان عقد الهدنة بمال، وعقد الهدنة بمال إما أن يكون منهم، وإما أن يكون منا ولا ثالث لذلك، ويكون منهم إذا كانوا هم الضعفاء فيفرحون أن نأخذ منهم ضريبة مالية وندع جهادهم، ويكون منا إذا كان الضعف فينا، ولهذا قيدها المؤلف بقوله:«لو بمال منا ضرورة» وهذا إشارة خلاف؛ لأن بعض العلماء يقول: لا يجوز أن نعطيهم على الهدنة مالاً أبداً، ولهذا «لما شاور النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن عبادة، وسعد بن معاذ على أن يعطي مالاً في مقابلة المصالحة أبوا، وقالوا: لا يمكن يا رسول الله، في الجاهلية لا يقدرون أن

ص: 48

يدخلوا المدينة إلا بأمان ليأخذوا التمر، فكيف نعطيهم الآن تمراً من المدينة

(1)

؟» فوافقهم النبي صلى الله عليه وسلم.

فقال بعض العلماء: إن عرض النبي صلى الله عليه وسلم ذلك يدل على الجواز، وقال بعض العلماء: إن موافقته للسعدين يدل على المنع، وأن هذا ذل للمسلمين أن يبذلوا مالاً لعدوهم، ولكن يقال: بذل المال أهون من القتل إذا كان العدو قويّاً، وليس لنا به طاقة إطلاقاً، فإن بذل شيء من أموالنا أهون من أن يسحقنا العدو نحن وأموالنا، فالمسألة كلها تعود إلى المصلحة ودفع الضرر، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.

قوله: «ويجوز شرط رد رجل جاء منهم مسلماً للحاجة» أي: لو شرط هؤلاء الكفار أنه من جاء منهم مسلماً رددناه إليهم كان ذلك شرطاً جائزاً، لكن إذا دعت الحاجة إليه، ومن دعاء الحاجة إلى ذلك أن يتوقف الصلح على هذا الشرط، فإذا توقف الصلح على هذا الشرط، وقالوا: لا نصالحكم إلا بهذا الشرط، فإن لنا أن نشترطه.

فإن قال قائل: في هذا غضاضة علينا.

قلنا: إن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك بأمر الله، فإن قريشاً اشترطوا عليه أن من جاء منهم مسلماً رده عليهم وفعل ذلك، وجعل الله لمن جاء مسلماً ورد إليهم فرجاً، حتى إنهم هم بأنفسهم أرسلوا

(1)

أخرجه البزار (1803)«كشف الأستار» ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه وعزاه الهيثمي في «المجمع» (6/ 135) للطبراني وقال: «فيه محمد بن عمرو وحديثه حسن وبقية رجاله ثقات» .

ص: 49

إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقولون: امنع الذين جاؤوا وأسلموا وألغ الشرط ففعل، والقصة مع أبي بصير رضي الله عنه؛ لأن أبا بصير جاء مسلماً من قريش فأرسلوا في طلبه رجلين، فما إن وصل المدينة حتى وصل الرجلان، ثم طلبا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يرد إليهم هذا الرجل الذي جاء مسلماً فرده إليهم حسب الشرط، ولما كان في أثناء الطريق وجلسوا يتغدون، قال لأحدهم: أرني سيفك هذا فإنه سيف جيد فأراه إياه؛ لأنه قال: هذا الرجل أسير في أيدينا؛ فلما أخذه ضرب به عنقه حتى أطار رأسه، وصاحبه الثاني هرب إلى المدينة وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلحقه أبو بصير، وقال: يا رسول الله إن الله أبرأ ذمتك وأوفى بعهدك ورددتني إليهم، ولكن الله أنجاني منهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«ويل أمه مِسْعَر حرب لو يجد من ينصره» ففهم أبو بصير رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم سيرده، فخرج من المدينة وجلس على قاعدة في البحر، وصار إذا مرت به تجارة لقريش أغار عليها وأخذها، فسمع به أناس من أهل مكة من الشبان فخرجوا إليه، فصاروا طائفة، وحينئذ عجزت قريش عنهم، فانتهى الأمر بردهم إلى المدينة

(1)

، والحمد لله.

قوله: «وأمَرَهُ سرّاً بقتالهم والفرار منهم» أي: نعطيه إياهم، ونقول: إن أمكنك أن تقتل أحداً منهم أو تقاتل فافعل، أو أمكنك أن تفر منهم فافعل، لكن إلى حيث لا يصلون إليك، فلا تأت إلينا، فإنك إن أتيتنا رددناك إليهم.

قوله: «ولو هرب قن فأسلم لم يردّ وهو حرّ» أي: هرب

(1)

سبق تخريجه ص (44).

ص: 50

عبدٌ مملوك من سيده من الكفار فأسلم لم يرد إليهم خوفاً من أن يرتد إلى الكفر؛ لأنه قن فيأخذه سيده ويكرهه على الكفر فيكفر.

قوله: «ويؤخذون بجنايتهم على مسلم من مال، وقَوَد، وحَدّ» الضمير في قوله: «يؤخذون» يعود على المعاهدين الذين بيننا وبينهم عهد، فلو أخذوا مال مسلم وجب عليهم رده، ولو قتلوا مسلماً قتلوا إذا أمكن، ولو قذفوا مسلماً حدُّوا للقذف؛ لأنهم معاهدون.

قوله: «ويجوز قتل رهائنهم إن قتلوا رهائننا» أي: لو كان بيننا وبينهم رهائن، وأحياناً يخافون أن ننقض العهد ونحن نخاف أن ينقضوا العهد فنقول: أعطونا رهائن، وهم أيضاً يقولون: أعطونا رهائن، أي: أشخاصاً يكونون عندهم، إذا غدر أحد قُتِل هؤلاء الرهائن، فإن قتلوا رهائننا فلنا أن نقتل رهائنهم.

فإن قال قائل: كيف نقتل رهائنهم وقد قال الله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الإسراء: 15]؟

قلنا: لأن القوم طائفة واحدة، فجناية واحد منهم جناية من الجميع.

واستفدنا من كلام المؤلف أنه يجوز أن نعطي الكفار رهائن، ولكن بشرط أن يعطونا رهائن، أما أن نعطيهم رجالنا يقتلونهم متى شاؤوا دون أن يكون لدينا رهائن نقتلهم إذا قتلوا رهائننا، فهذا لا شك أنه لا يجوز، لكن إذا أخذوا منا رهائن فإننا نطلب منهم مقابل ذلك.

قوله: «وإن خيف نقض عهدهم أعلمهم أنه لم يبق بينه

ص: 51

وبينهم عهد قبل الإغارة عليهم» دليل ذلك قوله تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال: 58]، أي: أنت وهم سواء في أنه لا عهد بينكم، أما أن تغير عليهم بدون أن تعلمهم فإن هذا لا يجوز؛ لأن الأصل بقاء العهد، وقد ذكرنا فيما سبق أن المعاهدين ينقسمون إلى ثلاثة أقسام:

الأول: من نقض العهد، فهؤلاء انتقض عهدهم ونقاتلهم.

والثاني: من استقام على العهد، فهؤلاء نستقيم على عهدهم؛ لقوله تعالى:{فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} [التوبة: 7].

والثالث: من خيف منه نقض لعهد، فهذا لا نغير عليه ولا نؤمِّنه، ولكننا نقول له: إن العهد الذي بيننا وبينكم قد نقض، وإذا انتقض العهد جاز لنا أن نغير عليهم.

ص: 52

‌بَابُ عَقْدِ الذِّمة وأحكَامِهَا

قوله: «باب عقد الذمة وأحكامها» هذا الباب اشتمل على مسألتين:

الأولى: عقد الذمة، وتتضمن: معنى عقد الذمة، ومن تعقد له.

الثانية: أحكام أهل الذمة، أي: ما يلزم المسلمين نحو أهل الذمة، وما يلزم أهل الذمة نحو المسلمين.

الذمة لغة هي: العهد، ودليل ذلك قوله تعالى:{لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلَا ذِمَّةً} [التوبة: 10]، والإل بمعنى القرابة والذمة بمعنى العهد؛ لأن الأصل أن الإنسان يحتمي بأمرين: إما بالقرابة، وإما بالعهد، قال تعالى:{وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} [الإسراء: 34]. وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه: «إذا حاصرت أهل حصن فأرادوا أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه، فلا تجعل لهم ذمة الله ولا ذمة نبيه، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك، فإنكم إن تخفروا ذممكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله»

(1)

، وعلى هذا فالذمة معناها العهد.

وتعريفه اصطلاحاً: «إقرار بعض الكفار على دينهم على وجه معين»

(1)

سبق تخريجه ص (23).

ص: 53

الوجه المعين يأتي في أحكام أهل الذمة.

وقولنا: «إقرار بعض الكفار على دينهم على وجه معين» يفيد أن الأصل عدم إقرار الكافر على دينه، وهو كذلك لقوله صلى الله عليه وسلم:«أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله»

(1)

، ووجه هذا الأصل الذي دل عليه القرآن ـ كما سنذكره ـ ودلَّت عليه السنّة، أن الخلق عبادٌ لله يجب عليهم أن يقوموا بمقتضى هذه العبودية من التذلل له والتزام أحكام شريعته، فإذا خالفوا ذلك خرجوا عن مقتضى هذه العبودية، فكان يجب أن يردوا إليها؛ لأنهم خلقوا من أجلها، ولكن لنا أن نقرهم على دينهم بالذمة والعهد.

ولكن ما معنى الذمة هنا، هل هي العهد السابق؟.

الجواب: معنى الذمة هنا إقرار بعض الكفار على كفرهم بشرط بذل الجزية والتزام أحكام الملة.

أما العهد السابق فهو الهدنة، فنعاهد الكفار، وهم في أرضهم مستقلون عن المسلمين ليس لنا من شأنهم شيء إلا وضع القتال.

وقولنا: التزام أحكام الملة، وليس التزام الملة؛ لأنهم لو التزموا الملة لكانوا مسلمين، لكن التزام أحكام الملة، أي: ما حكمت به الشريعة الإسلامية عليهم.

والأصل في هذا قوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ

(1)

أخرجه البخاري في الإيمان/ باب {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ}

} (25)؛ ومسلم في الإيمان/ باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله

(22) عن ابن عمر رضي الله عنهما.

ص: 54

صَاغِرُونَ *} [التوبة]، والخطاب في قوله:{قَاتِلُوا} للمسلمين عامة، فيكون قتالهم فرض كفاية، وقوله:{مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} ، «من» هنا يتعين أن تكون لبيان الجنس، وليس للتبعيض؛ وذلك لأن جميع أهل الكتاب لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ولا يدينون دين الحق، ولو جعلنا «من» للتبعيض لكان بعض أهل الكتاب على دين ومؤمناً، ولكن الأمر ليس كذلك، فيتعين أن تكون «من» هنا لبيان الجنس كقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ} [البينة: 6]، فإن «من» هنا لبيان الجنس، يعني صنف الكفرة إلى قسمين: أهل كتاب ومشركين.

‌لَا يُعْقَدُ لغَيْرِ المجُوسِ وَأَهْلِ الكِتَابَيْنِ وَمَنْ تَبِعَهُم،

...................

قوله: «لا يعقد» بالبناء للمجهول، وسيأتي أن الذي يتولى عقدها الإمام أو نائبه.

قوله: «لغير المجوس» المجوس هم الذين يعبدون النار وهم مشركون، لكنهم طائفة مستقلة عن الشرك العام بخصائص معروفة في دينهم، يقولون بالأصلين الظلمة والنور ـ وهم فِرَق وهذه من فرقهم ـ ويقولون: إن الحوادث إما خير وإما شر، فالخير خلقه النور، والشر خلقته الظلمة، ومع ذلك لا يرون أن هذين الإلهين متساويان بل يقولون: إن النور خير من الظلمة، ويقولون: إن النور قديم، ويختلفون في الظلمة هل هي حادثة أو لا؟ ولهذا قال شيخ الإسلام: لم يُعلم أن أحداً من أرباب المقالات قال: إن للخلق إلهين متساويين أبداً، حتى القائلين بالتثنية لا يرون أن هذا مساوٍ لهذا، فهؤلاء يعقد لهم.

ص: 55

ودليل ذلك أنه ثبت في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر

(1)

، وهجر هي الأحساء وما حولها وكان فيها مجوس؛ لأنها بجانب أرض الفرس، فأخذ منهم النبي صلى الله عليه وسلم الجزية، ومعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا أخذ الجزية فهي شريعة.

قوله: «وأهل الكتابين» الكتابان هما التوراة والإنجيل، أنزل الله التوراة على موسى عليه السلام والإنجيل على عيسى عليه السلام والمتمسكون بالتوراة يقال لهم: اليهود، والمتمسكون بالإنجيل يقال لهم: النصارى، فهؤلاء يعقد لهم بنص القرآن الكريم، قال تعالى:{قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ *} [التوبة]، «حتى» غائية لا تعليلية، والفرق بينهما: إذا كانت بمعنى إلى فهي غائية، وإذا كانت بمعنى اللام فهي تعليلية، فمثال التعليلية قوله تعالى:{لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} [المنافقون: 7]، أما قوله تعالى:{حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ} [التوبة: 29]، فالمعنى إلى أن يعطوا، إذاً فهي غائية.

وقوله تعالى: {عَنْ يَدٍ} ، قيل: معناها أن يعطوكم الجزية يداً بيد، بمعنى أن الواحد منهم يأتي ويسلم الجزية بيده لا يعطيها خادمه، ويقول له: اذهب بها إلى السلطان أو نائب السلطان، لا، هو بنفسه يأتي بها؛ لأن هذا أذل له مما لو أرسل بها خادمه.

(1)

أخرجه البخاري في الجزية/ باب الجزية والموادعة (3157) عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه.

ص: 56

وقيل: «عن يد» ، أي عن قوة منكم عليهم، بمعنى أننا نظهر أننا أقوياء أمامهم حتى يذلوا؛ لأنه كلما قوي الإنسان على عدوه ازداد العدو ذلًّا.

والآية تصلح للمعنيين جميعاً، فهي بمعنى أن الواحد منهم يأتي بها ويسلمها بيده، وأن نريه القوة والبأس حتى يكون ذلك أذل له.

أما ما قاله بعض الفقهاء: من أنه يطال وقوفهم عند تسليمها بحيث نصدُّ عنه أو نتلهى عنه بشيء لأجل إذلاله، ثم إذا أخذها منه تُجَر يدُه بقوة وربما تنخلع يده؛ لأن هذا من باب الإذلال.

لكن الصحيح خلاف ذلك، وأنه يكفي أن يأتوا أذلاء يسلمون الجزية عن يد.

إذاً لا تعقد إلا للمجوس واليهود والنصارى، ومن سواهم لا يقبل منهم إلا الإسلام أو القتال، فلا جزية، وهذا هو المشهور من المذهب.

واستدلوا بعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله» إلى آخر الحديث

(1)

، ففيه أننا نقاتل الناس عامة، خُص منهم المجوس؛ لأنه ثبت بالسنة أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخذ منهم الجزية، واليهود والنصارى في القرآن، فيبقى سائر الكفار على أنه لا يقبل منهم إلا الإسلام أو القتال.

(1)

سبق تخريجه ص (54).

ص: 57

لكن الصحيح أنها تصح من كل كافر، والدليل على هذا حديث بريدة الذي رواه مسلم في صحيحه:«أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أمّر أميراً على جيش أو سرية أوصاه بتقوى الله وبمن معه من المسلمين خيراً، ثم أوصاه بوصايا، منها: أنه إذا لم يسلم القوم فيدعوهم إلى أخذ الجزية فإن أبوا قاتلهم»

(1)

، وهذا دليل على العموم، ويدل لذلك أيضاً: كون النبي صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر

(2)

مع أنهم ليسوا من أهل الكتاب فيدل على أنها تؤخذ من كل كافر، والمعنى يقتضي ذلك؛ لأنه إذا جاز أخذها من أهل الكتاب والمجوس، فغيرهم مثلهم؛ لأن المقصود إقرار الكافر على دينه على وجه معين أو مخصوص وهو حاصل لكل كافر، وعلى هذا فإذا طلب أحد من المشركين أن نأخذ منه الجزية ويقر على دينه ورأينا المصلحة في ذلك فإننا نفعله.

تنبيه: زعم بعض العلماء أن المجوس لهم شبهة كتاب، ولكن نقول: أين الشبهة وأين الكتاب المشتبه فيه؟ إنما أخذها الرسول صلى الله عليه وسلم منهم؛ لأن الله تعالى قال: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39]، فإذا كان الدين لله وغلب الدين الإسلامي على غيره، وأعطى هؤلاء الجزية عن يد وهم صاغرون، فهذا هو الذي نريده، نحن لا نريد أن نلزم الناس بالإسلام، نريد أن يلتزم الناس بالإسلام، أي بأحكامه حتى يكون الإسلام هو العالي، وكلمة الله هي العليا، هذا هو الصحيح، وأن قتال الكفار لا لإلزامهم بالإسلام، ولكن لإلزامهم

(1)

سبق تخريجه ص (23).

(2)

سبق تخريجه ص (56).

ص: 58

بالخضوع لأحكام الإسلام، وذلك بأخذ الجزية منهم عن يد وهم صاغرون.

قوله: «ومن تبعهم» أي: من تبع أهل الكتاب، وإن لم يكونوا من بني إسرائيل، أو ممن أنزل عليهم الكتاب أو لا. قال في الروض: فَتَدَيَّنَ بأحد الدينين كالسامرة، والفرنج، والصابئين؛ لعموم قوله تعالى:{مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ}

(1)

فالعبرة بالدين لا بالنسب والجنس.

‌وَلَا يَعْقِدُهَا إِلاّ إِمَامٌ أوْ نَائِبُهُ ..................

قوله: «ولا يعقدها» أي: الذمة بين المسلمين والكفار.

قوله: «إلا إمام أو نائبه» إذا قال العلماء: «الإمام» فيعنون به صاحب السلطة العليا في الدولة، «أو نائبه» من الوزراء أو الأمراء أو من يوليهم الإمام مثل هذا العقد.

وإنما كان كذلك؛ لأنه عقد يترتب عليه أحكام كبيرة، وليس كالأمان، فالأمان سبق أنه يصح من كل إنسان، حتى من المرأة، قال النبي صلى الله عليه وسلم:«قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ»

(2)

، أما عقد الذمة، فلا بد أن يكون من إمام أو نائبه، ولأنه ـ أيضاً ـ عقد مؤبد، ليس فيه تقييد بسنة أو سنتين أو شهر أو شهرين، ولذلك صار يجب أن يتولاه الإمام أو نائبه. بخلاف الهدنة فإنها تكون مؤقتة وتصح مطلقة، ولا تصح مؤبدة؛ لأن عقد الهدنة على أن تكون

(1)

الروض مع حاشية ابن قاسم 4/ 304.

(2)

أخرجه البخاري في الصلاة/ باب عقد الإزار على القفا في الصلاة (357)؛ ومسلم في الصلاة / باب استحباب صلاة الضحى (336)(82)، عن أم هانئ رضي الله عنها.

ص: 59

مؤبدة يتضمن إلغاء الجهاد، وهذا لا يجوز؛ لأن الجهاد فرض كفاية فلا بد منه، والجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم

(1)

، لكن عقد الذمة فيه خضوع من الكفار، وعدم اعتداء على المسلمين، والتزام لأحكام الإسلام فتصح مؤبدة.

وإذا طلب الكفار بذلك الجزية، هل يجب علينا أن نقبل أو نقاتلهم ولو دفعوا الجزية؟.

الجواب: الأول إذا قالوا نحن لا نقاتلكم أيها المسلمون، لكن لكم علينا أن نعطيكم الجزية، فلا يجوز قتالهم؛ لأن الله قال:{حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة: 29]، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إذا أعطوا الجزية فاقبل منهم وكف عنهم»

(2)

، هكذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على كذب ما يدعيه اليهود والنصارى اليوم وغيرهم من أن الإسلام دين جبروت، وأنه يرغم الناس على الإسلام، فالإسلام لا يرغم أحداً، ثم لو فرض أنه أرغم فله الحق؛ لأن الإسلام دين الله عز وجل فرضه على عباده، فيلزم العباد أن يقوموا به، لكن من تخفيف الله عز وجل على العباد، ولو كانوا كفاراً أنه يقبل منهم الجزية بدلاً عن القتال.

ونقول: ابقوا على دينكم وسلموا الجزية، والغالب أنه إذا انفتح الناس هذا الانفتاح أنه يحصل بذلك تسهيل لدخول الناس

(1)

أخرجه بهذا اللفظ الطبراني في «الأوسط» (4775) عن جابر وعلي رضي الله عنهما؛ وأخرجه أبو داود (2532) بلفظ: «والجهاد ماضٍ منذ بعثني الله حتى يقاتل آخر أمتي الدجال» انظر: «نصب الراية» (3/ 377).

(2)

سبق تخريجه ص (23).

ص: 60

في الإسلام؛ لأنهم سوف يمتزجون بالمسلمين ويشاهدون أحوال الإسلام وربما يرغبون فيه.

‌وَلَا جِزْيَةَ عَلَى صبَيّ وَلَا امْرَأةٍ ولَا عَبْدٍ، وَلَا فَقِيرٍ يَعْجزُ عَنْهَا،

قوله: «ولا جزية على صبي ولا امرأة ولا عبد» الجزية لا تجب على كل أحد من الكفار، أي: لو عقدنا الذمة لهؤلاء اليهود أو هؤلاء النصارى الذين يقيمون في بلادنا فهل نجعل الجزية على رب العائلة وأفراد العائلة؟.

الجواب: لا؛ لأنه يقول: «لا جزية على صبي» وإنما لم يكن عليه جزية؛ لأنه ليس أهلاً للقتال، والجزية إنما تكون على من يقاتل، أما من لا يقاتل فلا جزية عليه؛ لأنه لا شر فيه.

وكذلك لا جزية على امرأة؛ لأنها ليست من أهل القتال، هذا هو الأصل أن النساء لسن من أهل القتال، ولا يجب عليهن الجهاد، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم حين سألته عائشة رضي الله عنها: هل على النساء جهاد؟ قال: «عليهنّ جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة»

(1)

.

وكذلك أيضاً لا جزية على عبد؛ لأنه لا يملك، فهو بمنزلة الفقير أو أشد، ومُلك العبد لسيده لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«من باع عبداً وله مال فماله للذي باعه إلا أن يشترطه المبتاع»

(2)

.

قوله: «ولا فقير يعجز عنها» لأن الفقير ليس له مال، وكل

(1)

أخرجه الإمام أحمد (6/ 71، 165) وابن ماجه في المناسك/ باب الحج جهاد النساء (2901) قال الحافظ في البلوغ (709) بإسناد صحيح.

(2)

أخرجه البخاري في المساقاة/ باب الرجل يكون له ممر أو شرب في حائط أو في نخل (2379)؛ ومسلم في البيوع/ باب من باع نخلاً عليها تمر (1543)(80)، عن ابن عمر رضي الله عنهما.

ص: 61

الأموال الواجبة من شرطها الغنى، أي: القدرة عليها، والغنى يختلف، فغنى الزكاة الذي يحصل به الوجوب غير غنى الزكاة الذي يحصل به الامتناع من أخذها، والغنى هنا غير الغنى هناك، والغنى في باب النفقات غير الغنى في هذه المواضع، فكل شيء بحسبه.

‌وَمَن صَار أهْلاً لَهَا أُخِذَتْ مِنْهُ فِي آخِرِ الْحَوْلِ، وَمَتَى بَذَلُوا الوَاجِبَ عَلَيْهِمْ وَجَبَ قَبُولُهُ وَحَرُمُ قِتَالُهُمْ، وَيُمْتَهَنُونَ عِنْدَ أخْذِها، وَيُطَالُ وقُوفُهُمْ، وَتُجَرُّ أَيْدِيهِمْ ..

قوله: «ومن صار أهلاً لها أخذت منه في آخر الحول» أي: من صار أهلاً لها من هؤلاء، كصبي بلغ، وعبد عتق، وفقير اغتنى، فإنها تؤخذ منه في آخر الحول، وكيف تؤخذ؟ هل تؤخذ منه جزية حول كامل أو بالحساب؟

الجواب: العدل بالحساب، فمثلاً: لو أنه بلغ في نصف العام، وكنا نأخذ منهم الجزية في آخر شهر ذي الحجة، والجزية مقدارها مائة درهم على كل واحد مثلاً، فنأخذ منه خمسين، هذا هو العدل، فلا نظلمه، ولا نظلم بيت المال، وكل شيء بحسابه.

قوله: «ومتى بذلوا الواجب عليهم وجب قبوله وحرم قتالهم» أي: إذا تم العقد بيننا وبينهم وبذلوا الواجب فإنه لا يجوز لنا أن نرجع في هذا العقد ونقول: لا نقبل منكم إلا الإسلام، بل يجب أن نقبل منهم ما بذلوا؛ لقول الله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]، وهذه الآية من أجمع الآيات في باب المعاملات، فكل عقد بينك وبين غيرك فإنه يجب عليك الوفاء به إذا كان قد أذن به الشرع، وهذا الشرط الذي ذكرته مأخوذ من قوله تعالى:{أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} ؛ لأن الله تعالى لا يأمر بوفاء ما لم يأذن به، فيجب علينا أن نقبله، وإذا بذلوا الجزية حرم قتالهم؛

ص: 62

لأنهم يؤمِّنون أنفسهم بهذه الجزية، فيجب أن ندافع عنهم؛ لأنهم مؤمَّنون ملتزمون بأحكام الذمة، ونحن نلتزم لهم بذلك أيضاً.

مسألة: إذا أسلم أحد في أثناء الحول فإنها تسقط عنه؛ لأنه أسلم فلم يكن من أهل الجزية، ولا يؤخذ منه شيء ترغيباً له في الإسلام.

قوله: «ويمتهنون عند أخذها» الضمير في «يمتهنون» يعود على أهل الذمة، أي: لا يكرمون عند أخذها، فإذا جاء الذمي يريد أن يعطي الجزية إلى الجابي فإنه لا يستقبله بالحفاوة والإكرام، ويقدم له الفراش والأكل والشراب بل يمتهنه؛ لقول الله تعالى:{حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]، والإكرام ضد الصَّغار.

قوله: «ويطال وقوفهم» ؛ أي: إذا جاء ليسلمها إلى الجابي فلا يأخذها منه، بل يدعه يبقى ويطال وقوفه، إلى متى؟

الجواب: إلى ما يحصل به الامتهان، فلا يباشرون بالأخذ منهم، وكل هذا إعزازاً للإسلام لا انتقاماً منهم ولا انتصاراً لأنفسنا، ولكن إعزازاً لدين الله وبياناً أن الدين قوي.

ولو أن الناس استعملوا هذا في الوقت الحاضر لقيل: هذه عنصرية، وهذا جفاء وهؤلاء أجلاف؛ لأن الأمور تغيرت، فمثلاً لو قدر أن المسلمين الآن عقدوا الذمة لأحد، هل يحسن أن يعاملوه هذه المعاملة؟ أو يقال: إن صَغار كل شيء بحسبه؟ فنحن إذا لم نكرمهم فهو في عرف الناس الآن يعتبر إذلالاً وإصغاراً، هذا محل نظر.

قوله: «وتجر أيديهم» أي: عندما يُقدم الجزية لا نأخذها من

ص: 63

طرف يده، بل نأخذ يده ونجرها بقوة، وكل هذا كما سبق من أجل إعزاز الإسلام وإعلائه حتى تكون كلمة الله هي العليا.

وقال بعض العلماء: لا يعاملون هذه المعاملة، بل يعاملون بالصغار دون أن يطال وقوفهم ودون أن تجر أيديهم، بل تستلم منهم استلاماً عادياً بشرط ألاّ نظهر إكرامهم، ويكفينا أن يأتوا بها إلينا.

فإن قال قائل: هل يجوز للواحد منهم أن يرسل بها خادمه أو ابنه؟

فالجواب: لا؛ لقوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]، وهل المعنى عن قوة؟ أو يداً بيد؟ أو الجميع؟

الجواب: الجميع؛ لأن لدينا قاعدة في التفسير وهي أنه متى احتملت الآية معنيين لا يتنافيان وجب حملها عليهما جميعاً؛ لأن ذلك أعم، وكلما عمت دلالة الآية كان أولى، فنقول عن يد: أي يعطونها بأيديهم.

والثاني: عن يد، أي: عن قوة، أي أننا نظهر لهم القوة، وأننا أعلى منهم.

ص: 64

‌فَصْلٌ

‌وَيَلْزَمُ الإِمَامَ أخْذُهُمْ بِحُكْمِ الإِسْلَامِ فِي النَّفْسِ والمَالِ والعِرْضِ ..

قوله: «فصل» أي: في أحكام أهل الذمة.

قوله: «ويلزم الإمام أخذهم بحكم الإسلام» أي: أخذ أهل الذمة بحكم الإسلام، أي: بما يقتضيه الإسلام من الأحكام، «فحكم» هنا مفرد مضاف فيكون عاماً؛ لأن المفرد إذا أضيف صار للعموم، ومنه قوله تعالى:{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [النحل: 18]، فقوله:{نِعْمَةَ اللَّهِ} هذا مفرد، والمفرد لو أريد به مدلوله لكنا نحصيه، لكن المراد كل النعم فهي لا تحصى، إذاً حكم الإسلام: أي جميع أحكام الإسلام.

قوله: «في النفس والمال والعرض» في النفس، أي: إذا قتلوا أحداً قتلناهم، وإذا قتلهم مثلهم قتلناه، وإن قتلهم مسلم لا نقتله؛ لأنه لا يُقتل مسلم بكافر خلافاً لمن ذهب إلى قتل المسلم بقتل المعاهد.

والصواب أنه لا يُقتل المسلم بالكافر، ومن حمل هذا الحديث:«لا يُقتل مسلم بكافر»

(1)

على أن المراد به غير المعاهد فحمله ضعيف جداً؛ لأن غير المعاهد يُقتل سواء قتل على وجه القصاص أو على وجه الحرابة؛ لأنه محارب.

وكذلك في المال فإذا أتلفوا مال مسلم ضَمَّناهم، وإن أتلف

(1)

أخرجه البخاري في الديات/ باب العاقلة (6903) عن علي رضي الله عنه.

ص: 65

مسلم مالهم ضَمَّناه؛ لأن هذا مقتضى حكم الإسلام أن متلف المال ضامن سواء كان مسلماً أو كافراً.

كذلك العرض فلا يجوز لنا أن نغتابهم، ولا أن نقذفهم بالزنا؛ وذلك لأنهم محترمون، فهم من المعصومين، فيجب على الإمام أخذهم بذلك كله، وهم ـ أيضاً ـ إذا اغتابوا أحداً من المسلمين أو قذفوا أحداً من المسلمين ألزموا بما يقتضيه الإسلام في هذا الأمر.

‌وَإِقَامَةِ الحُدُودِ عَلَيْهِمْ فيِمَا يَعْتَقِدُونَ تَحْرِيْمَهُ دُونَ مَا يَعْتَقِدُونَ حِلَّهُ

قوله: «وإقامة الحدود عليهم فيما يعتقدون تحريمه دون ما يعتقدون حله» الحدود هي عقوبة مقدرة شرعاً تمنع من الوقوع في مثلها وتكفر ذنب صاحبها، وإقامة الحدود فرض كفاية، والمطالب بها الإمام، فهؤلاء الذميون إذا فعلوا ما يوجب الحد إن كانوا يعتقدون التحريم أقمنا عليهم الحد، وإن كانوا لا يعتقدونه فإننا لا نقيم عليهم الحد، فالزنا مثلاً يقام عليهم الحد فيه؛ لأنهم يعتقدون تحريمه، فإذا ترافعوا إلينا في قضية زنا فإنه يجب علينا أن نحكم عليهم بمقتضى الإسلام، فإذا كانوا محصنين فالرجم، وإن كانوا غير محصنين فالجلد والتغريب، وإذا قدرنا أنهم يعتقدون التحريم، لكن لا يعتقدون إقامة الحد فهؤلاء نقول: إن ترافعوا إلينا ألزمناهم بحكم الإسلام، وإن لم يترافعوا إلينا تركناهم وشأنهم، مع أن حد الزنا ثابت حتى في التوراة والإنجيل.

ودليل ذلك ما ورد في قصة عبد الله بن صوريا في الذي زنا

ص: 66

بامرأة يهودية وترافع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وجيء بالتوراة فإذا فيها آية الرجم

(1)

.

وقوله: «دون ما يعتقدون حله» مثل الخمر، فالخمر يعتقد أهل الكتاب أنه حلال، فإذا جيء إلينا بسكران من أهل الذمة فإننا لا نقيم عليه حد الخمر، حتى وإن قلنا: إن عقوبة شارب الخمر حد فإننا لا نقيم عليه الحد؛ لأنه يعتقد حله، والذي يعتقد حل الشيء كيف يعاقب عليه؟! لكن سيأتي أنهم يمنعون من إظهار شرب الخمر، فإن أظهروا ذلك فإننا نعزِّرهم بما يردعهم.

ويؤخذ من هذا الحكم الذي أقره الفقهاء رحمهم الله أن من اعتقد حل شيء مختلف فيه فإنه لا يلزم بحكم من يرى تحريمه، مثل الدخان، فالدخان ليس مجمعاً على تحريمه، فمن العلماء من خالف فيه لا سيما أول ما ظهر، فإذا رأينا شخصاً يشرب الدخان وهو يرى أنه حلال فإننا لا نعزره، وإن كان يعتقد أنه حرام فإننا نعزره؛ لأن التعزير واجب في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة.

وهل نقره؟ بمعنى هل يجوز أن أجلس إلى جنب واحد يدخن ويعتقد حل الدخان؟.

الجواب: لا.

(1)

أخرجه البخاري في الحدود/ باب أحكام أهل الذمة (6841)؛ ومسلم في الحدود/ باب رجم اليهود في الزنى (1699) عن ابن عمر رضي الله عنهما.

تنبيه: ابن صوريا أحد أحبار اليهود، وقد ورد التصريح باسمه في رواية الطبري في «تفسيره» (11921) ط/شاكر.

ص: 67

ولو رأيت أحداً أكل لحم إبل ولم يتوضأ وقام يصلي وهو لا يعتقد وجوب الوضوء من لحم الإبل هل تنكر عليه؟.

الجواب: لا، وهل تصلي معه؟.

الجواب: نعم، وهذا إقرار وليس بإنكار.

إذاً ما الفرق بين ترك الواجب وفعل المحرم؟.

الجواب: لا فرق، لكن لا ينبغي لذوي المروءة أن يجلسوا مع الذين يشربون الدخان ولو كانوا يعتقدون حله؛ لأن هذا دناءة، وفي ظني أن الذين يعتقدون حله من العلماء لا يرون أنه من فعل ذوي المروءة، كما أننا مثلاً نرى أن أكل الفصفص لا بأس به، لكن لو أتى معلم يعلم الطلبة وعنده كيس فصفص يأخذ منه ويأكل، فهذا يعتبر مخالفاً للمروءة وإن كان ليس حراماً، لكن الإنسان يجب أن يكون عنده أدب، فيؤخذ من كلام الفقهاء رحمهم الله في هذه أن ما يعتقده الإنسان حلالاً ولو كان كافراً فإنه لا يلزم بحكم الإسلام فيه، وإذا كان ذلك في حق الكفار ففي حق المسلمين من باب أولى فيما ذهبوا إليه بتأويل سائغ، أما من عاند كإنسان مسلم يأكل الخنزير، ويقول: أنا أعتقد أنه حلال فلا نقره؛ لأنه مجمع عليه، ولا يمكن لأي إنسان أن يحلل لحم الخنزير بأي مسوغ، ففرق بين هذا وهذا.

‌وَيَلْزَمُهُمُ التَّمَيُّزُ عَنِ المُسْلِمِيْنَ، وَلَهُمْ رَكُوبُ غَيْرِ خَيلٍ بِغَيْرِ سَرجٍ بإِكافٍ

قوله: «ويلزمهم» الضمير مفعول به يعود على أهل الذمة.

قوله: «التميُّز عن المسلمين» أي: أن يكونوا متميزين عن المسلمين في الحياة وفي الممات.

أما في الممات فيلزم أن تكون قبورهم منفردة لا يقبرون مع

ص: 68

المسلمين، حتى لو كان صبيّاً مات وأبواه كافران فإنه لا يجوز أن يدفن في مقابر المسلمين، بل يتميزون.

وكذلك في الحياة يجب أن يتميزوا عن المسلمين في المظهر والملبس والمركب؛ لئلا يغتر الناس بهم، فمثلاً:

في المظهر قالوا: يحلقون مقدم رؤوسهم، أي: تكون لهم قصة للشعر يتميزون بها عن غيرهم من المسلمين.

وفي الملبس يشدون أوساطهم بالزِّنّار حتى يعرف أنهم من أهل الذمة.

وكذلك يجعل لهم علامة عند دخول الحمامات «جلجل» أي: جرس صغير أو طوق تطوق به أعناقهم، بشرط ألاّ يكون فيه الصليب؛ لأنهم يمنعون من إظهار الصليب؛ إذ إن الصليب شعار دينهم، فيمنعون من إظهاره.

وكذلك أيضاً في المراكب، لا يركبون الخيل أبداً؛ لأن الخيل هي مادة القتال والجهاد، وإنما يركبون الإبل والحمير.

ولهذا قال: «ولهم ركوب غير خيل بغير سرج بإكاف» أي: يركبون غير الخيل كالحمير، ولا يُسرجونها أي: لا يجعلون عليها سَرْجاً، والسَّرج هو عبارة عن الرحل المنمق المحسن، بل يركبون بإكاف، والإكاف هو البردعة، وهي عبارة عن شيء كالمخدة مستطيل على طول ظهر الحمار، تربط عليه ثم يركب عليها لأنها لا تنبئ عن كبرياء أو شرف، أما السرج فمعروف أنه يكون له نقوش، ووشي، وأشياء تتدلى، ويكون حسناً.

ويجب أن يكون ركوبهم عرضاً ليس كركوب المسلمين،

ص: 69

أي: إذا ركب الإنسان الدابة يجعل إحدى رجليه عن اليمين والثانية عن اليسار، وهم يجعلون الأرجل إما على اليمين، وإما على اليسار جميعاً، ولا يجعل الرجل اليمنى على اليمين واليسرى على اليسار؛ بل يركبون عرضاً، هكذا جرت الشروط التي بينهم وبين أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه

(1)

.

وفي عهدنا الآن ليس هناك خيل، ولا حمير تركب وتستعمل؛ ولكن يوجد سيارات، فماذا يركبون من السيارات؟ الجواب: أما الأشياء الفخمة فَيُمنعون منها؛ لأن هذا يدعو إلى شرفهم وسيادتهم وأن يشار إليهم بالأصابع.

ويحتمل أن يقال: إنهم منعوا من ركوب الخيل؛ لأنها مادة الحرب وآلة الحرب لا من أجل أن فيها الفخر وفيها الزينة، ولكن الأول أولى، أي: أنهم يمنعون من ركوب الأشياء الفخمة قياساً على الخيل.

‌وَلَا يَجُوزُ تَصْدِيْرُهُم فِي المَجَالِسِ، وَلَا القِيَامُ لَهُم ...........

قوله: «ولا يجوز تصديرهم في المجالس» أي: لا يجوز أن يكونوا في صدر المجلس بل في آخره، هذا عند ابتداء الجلوس لا إشكال فيه، أي: إذا دخل جماعة من المسلمين، ومعهم أحد من أهل الذمة، فإنه لا يمكن أن يتقدم أهل الذمة حتى يكونوا في صدر المجلس؛ لأن صدر المجلس إنما هو لأشراف القوم وأسيادهم، وهم ليسوا من أهل الشرف والسيادة.

لكن إذا كانوا في مجلس جالسين، ثم دخل جماعة من المسلمين هل يُقَامُون من صدر المجلس؟

(1)

أخرجه البيهقي (9/ 202)؛ وابن حزم في «المحلى» (7/ 346) عن عبد الرحمن بن غنم رضي الله عنه.

ص: 70

الجواب: نعم إذا كان المجلس عاماً، أما إذا كان المجلس بيتاً لهم فهم في بيوتهم أحرار، وإن كان عامّاً فإنهم لا يصدرون في المجالس؛ لأن الإسلام هو الذي له الشرف، وهو الذي يعلو ولا يُعلى عليه.

قوله: «ولا القيام لهم» أي: إذا أقبلوا فلا تقم لهم؛ لأن ذلك إكرام لهم، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول:«إذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه»

(1)

، فإن القيام لهم ينافي ذلك تمام المنافاة؛ لأنه إكرام لهم.

وعُلِمَ من قول المؤلف: «ولا القيام لهم» أنه يجوز القيام للمسلمين، فإذا دخَل إنسان ذو شرف وجاه فإنه لا بأس بالقيام له، لكن هو نفسه لا يحب ولا يتمنى أن يقوم الناس له، إنما إذا قاموا له فإنه لا حرج عليهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم:«يكره أن يُقام له»

(2)

، فتركه الصحابة استجابة لرغبة النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه لا بأس أن يقوم الإنسان لذي الشرف والجاه إكراماً له.

وليعلم أن القيام ينقسم إلى ثلاثة أقسام: قيام للشخص، وقيام عليه، وقيام إليه.

فالقيام له، أي: أنه إذا دخل قمت إجلالاً وإكراماً له، ثم

(1)

أخرجه مسلم في السلام/ باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام (2167)، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

أخرجه الإمام أحمد (3/ 132، 134)؛ والترمذي في الأدب/ باب ما جاء في كراهية قيام الرجل للرجل (2754) عن أنس رضي الله عنه. وقال الترمذي: «حسن صحيح» ، وفي «تخريج المشكاة» (3/ 331):«إسناده صحيح» .

ص: 71

إن شئت فقل: اجلس في مكاني، وإن شئت جلست.

والقيام إليه: أن يتقدم الإنسان إلى القادم ويخطو خطوات وهذا جائز، قال النبي صلى الله عليه وسلم لما أقبل سعد بن معاذ رضي الله عنه للتحكيم:«قوموا إلى سيدكم»

(1)

، فأمر بالقيام إليه إكراماً له.

وأما القيام على الشخص فإنه لا يجوز، إلا إذا كان في ذلك إغاظة للمشركين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن نقوم على غيرنا كما تقوم الأعاجم على ملوكها

(2)

، بل في الصلاة لما صلى جالساً وصلوا خلفه قياماً أمرهم أن يجلسوا

(3)

؛ لئلا تظهر صورة المشابهة حتى في الصلاة، فإن كان في ذلك إغاظة للمشركين فإنه لا بأس به، بل قد يكون محموداً ومأموراً به كما فعل المغيرة بن شعبة رضي الله عنه حين قام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقريش تراسله في صلح الحديبية

(4)

، فهذا لا شك أنه محمود؛ ليتبين لهؤلاء الكفار أن المسلمين يعظمون زعماءهم وعظماءهم.

إذاً القيام لأهل الذمة حرام، ولا يجوز ولو كان كبيراً، بأن كان وزيراً، أو كان رئيساً، لكن إذا لم يكن من أهل الذمة وقدم إلى بلد

(1)

أخرجه البخاري في الجهاد/ باب إذا نزل العدو على حكم رجل (3043)؛ ومسلم في الجهاد/ باب جواز قتال من نقض العهد (1768) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

(2)

أبو داود في الأدب/ باب الرجل يقوم للرجل يعظمه بذلك (5230) وابن ماجه في الدعاء/ باب دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم (3836) عن أبي أمامة رضي الله عنه.

(3)

أخرجه مسلم في الصلاة/ باب ائتمام المأموم بالإمام (413) عن جابر رضي الله عنه.

(4)

سبق تخريجه ص (44).

ص: 72

الإسلام فهل يقام له؛ لأنه من ذوي الشرف والجاه في قومه، ولأن ذلك مما جرت به العادة بين الناس ورؤساء الدول، أو لا يقام له؟

الجواب: هذا محل نظر، وفرق بين هذه المسألة وبين مسألة أهل الذمة؛ لأن أهل الذمة تحت ولايتنا، ونحن لنا الولاية عليهم فلا يمكن أن نكرمهم بالقيام لهم.

‌وَلَا بَدَاءَتُهُمْ بالسَّلَامِ .......

قوله: «ولا بداءتهم بالسلام» أي: لا يجوز أن نبدأهم بالسلام، فإذا لقيناهم لا نقول: السلام عليكم، فإن سلموا وجب الرد؛ لقول الله تعالى:{وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86]، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم:«إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم»

(1)

، فأمرنا أن نرد عليهم، أما البداءة فلا.

وهل يجوز أن نبدأهم بكيف أصبحت؟ وكيف أمسيت؟ وما أشبه ذلك؟

الجواب: المذهب لا يجوز؛ لأن النهي عن بداءتهم بالسلام؛ لئلا نكرمهم بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: «وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه»

(2)

، فإذا قلنا: كيف أصبحت؟ كيف أمسيت؟ كيف أنت؟ كيف حالك؟ فهذا نوع من الإكرام.

وقال شيخ الإسلام: يجوز أن نقول له كيف حالك؟ وكيف أصبحت؟ وكيف أنت؟؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما نهى عن بداءتهم

(1)

أخرجه البخاري في الاستئذان/ باب كيف الرد على أهل الذمة (6258)؛ ومسلم في السلام/ باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام (2163) عن أنس رضي الله عنه.

(2)

سبق تخريجه ص (71).

ص: 73

بالسلام، والسلام يتضمن الإكرام والدعاء؛ لأنك إذا قلت: السلام عليك فأنت تدعو له، أما هذا فهو مجرد ترحيب وتحية.

وينبغي أن يقال: إذا كانوا يفعلون بنا مثل ذلك فلنفعله بهم، أو كان هذا لمصلحة كالتأليف لقلوبهم فلنفعله بهم، أو كان ذلك خوفاً من شرهم فلنفعله بهم، فإذا قدر مثلاً أنك في شركة مديرها كافر، فإنك لو دخلت عليه لتراجعه في شأن هذه الشركة ولم تسلم عليه، لكان في قلبه عليك شيء وربما يضرك، فإذا قلت: كيف أصبحت؟ كيف حالك؟ فهذا يزيل ما في قلبه من الضغينة وتَسلم من شره، ولا يدخل هذا في نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن بداءتهم بالسلام.

وإذا سلموا فيجب علينا أن نرد عليهم بدلالة القرآن والسنة، ولكن هل نرد عليهم بقول: وعليكم؟ أو نرد عليهم بمثل ما سلموا؟

الجواب: نقول: لا يخلو السلام الذي ألقوه إلينا إما أن يكون صريحاً بقولهم: السلام عليكم، أو صريحاً بقولهم السام عليكم، أو غير صريح، لم يبيّنوا اللام ولم يحذفوها حذفاً واضحاً، فإن صرحوا بقولهم السلام عليكم كما يوجد الآن في الكفار الذين عندنا يقولون: السلام عليكم، صراحة؛ لأن ألسنتهم أعجمية فهم يتعلمون السلام تلقيناً فتجده يقول: السلام عليكم بصراحة، فهنا لنا أن نرد عليهم ونقول: عليكم السلام، ولنا أن نقول: وعليكم، وإن صرحوا بقولهم: السام عليكم فإننا نقول: عليكم السام، أو نقول وهو أولى: وعليكم، ودليل ذلك أن رجلاً

ص: 74

يهودياً مر بالنبي صلى الله عليه وسلم فقال: السام عليك يا محمد، فقالت عائشة رضي الله عنها: عليك السام واللعنة، فنهاها الرسول صلى الله عليه وسلم وقال:«إن الله رفيق يحب الرفق»

(1)

، وقال:«إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم»

(2)

، وفي الصحيح أنه قال:«إن أهل الكتاب يقولون: السام عليكم فإذا سلموا عليكم فقولوا: وعليكم»

(3)

.

وإن كان محتملاً فهنا يتعين أن نقول: وعليكم؛ لأنه إن قال: السلام فهو عليه، وإن قال: السام فهو عليه.

مسألة: هل يجوز أن نهنئهم، أو نعزيهم، أو نعود مرضاهم أو نشهد جنائزهم؟

الجواب: أما التهنئة بالأعياد فهذه حرام بلا شك، وربما لا يسلم الإنسان من الكفر؛ لأن تهنئتهم بأعياد الكفر رضا بها، والرضا بالكفر كفر، ومن ذلك تهنئتهم بما يسمى بعيد الكرسمس، أو عيد الفَصْح أو ما أشبه ذلك، فهذا لا يجوز إطلاقاً، حتى وإن كانوا يهنئونا بأعيادنا فإننا لا نهنئهم بأعيادهم، والفرق أنّ تهنئتهم إيانا بأعيادنا تهنئة بحق، وأن تهنئتنا إياهم بأعيادهم تهنئة بباطل،

(1)

أخرجه البخاري في الاستئذان/ باب كيف الرد على أهل الذمة (6927)؛ ومسلم في السلام/ باب النهي عن ابتداء أهل الذمة بالسلام (2593)، عن عائشة رضي الله عنها.

(2)

سبق تخريجه ص (73).

(3)

أخرجه البخاري في الاستئذان/ باب من لم يسلم على من اقترف ذنباً (6257)؛ ومسلم في الآداب/ باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام (2164)، عن ابن عمر رضي الله عنهما.

ص: 75

فلا نقول: إننا نعاملهم بالمثل إذا هنؤونا بأعيادنا فإننا نهنئهم بأعيادهم للفرق الذي سبق.

وأما تهنئتهم بأمور دنيوية كما لو ولد له مولود، أو وجد له مفقود فهنأناه، أو بنى بيتاً فهنأناه، أو ما أشبه ذلك فهذه ينظر، إذا كان في هذا مصلحة فلا بأس بذلك، وإن لم يكن فيه مصلحة فإنه نوع إكرام فلا يهنَّؤون، ومن المصلحة أن يكون ذلك على وجه المكافأة، مثل أن يكون من عادتهم أن يهنِّئونا بمثل ذلك فإننا نهنئهم.

وأما تعزيتهم فلا يجوز أن نعزيهم؛ لأن التعزية تسلية للمصاب وجبر لمصيبته، ونحن لا نود أن يَسلَموا من المصائب، بل نقول:{قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا} [التوبة: 52] وهذا لا شك في أهل الحرب.

لكن في أهل الذمة، قال بعض أهل العلم: تعزيتهم تجوز للمصلحة، كمصلحة التأليف لقلوبهم، أو للمكافأة، إذا فعلوا بنا ذلك فإننا نفعل بهم.

وأما عيادتهم فالصحيح جواز ذلك، لكن للمصلحة أيضاً، بأن يرجى إسلامه بعرض الإسلام عليه، كما زار النبي صلى الله عليه وسلم خادماً له يهودياً فعرض عليه الإسلام، فرد بصره إلى أبيه كأنه يشاوره، فقال له أبوه: أطع محمداً، فأسلم فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول:«الحمد لله الذي أنقذه من النار»

(1)

، فإذا كان في عيادتهم مصلحة كالدعوة

(1)

أخرجه البخاري في الجنائز/ باب إذا أسلم الصبي (1356)، عن أنس رضي الله عنه.

ص: 76

للإسلام فلا بأس، بل قد تكون مندوبة مستحبة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى»

(1)

.

‌وَيُمْنَعُونَ مِن إِحْدَاثِ كنَائِسَ، وَبِيَعٍ، وَبِنَاءِ مَا انْهَدَمَ مِنْهَا وَلَوْ ظُلْماً،

......

قوله: «ويمنعون من إحداث كنائس، وبِيَعٍ، وبناء ما انهدم منها ولو ظلماً» ، «يمنعون» الضمير يعود على أهل الذمة الذين في بلادنا، فيمنعون من الأمور الآتية:

أولاً: إحداث كنائس، والكنائس جمع كنيسة وهي متعبدهم سواء كانوا نصارى أو يهوداً، فيمنعون من بناء الكنيسة؛ لأن هذا إحداث شعائر كفرية في بلاد الإسلام.

ثانياً: إحداث بيع يمنعون من إحداثها وهي متعبد اليهود، كما يمنعون من إحداث الكنائس.

فإن قال قائل: إذا كانوا لا يمنعوننا من إحداث المساجد في بلادهم، فهل لنا أن نمنعهم من إحداث الكنائس في بلادنا؟

الجواب: نعم، وليس هذا من باب المكافأة أو المماثلة؛ لأن الكنائس دور الكفر والشرك، والمساجد دور الإيمان والإخلاص، فنحن إذا بنينا المسجد في أرض الله فقد بنيناه بحق، فالأرض لله، والمساجد لله، والعبادة التي تقام فيها كلها إخلاص لله، واتباع لرسوله صلى الله عليه وسلم، بخلاف الكنائس والبيع.

ومن سفه بعض الناس أنه يقول: لماذا لا نمكنهم من بناء

(1)

أخرجه البخاري في بدء الوحي/ باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) ومسلم في الإمارة/ باب قوله صلى الله عليه وسلم إنما الأعمال بالنية (1907) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

ص: 77

الكنائس في بلادنا كما يمكنوننا من بناء المساجد في بلادهم؟

الجواب: نقول: هذا من السفه، ليست المسألة من باب المكافأة، إذ ليست مسائل دنيوية، فهي مسائل دينية، فالكنائس بيوت الكفر والشرك، والمساجد بيوت الإيمان والإخلاص فبينهما فرق، والأرض لله، فنحن إذا بنينا مسجداً في أي مكان من الأرض فقد بنينا بيوت الله في أرض الله بخلافهم.

ثالثاً: بناء ما انهدم منها، أي: لو كان هناك كنائس موجودة قبل فتحنا البلاد واستيلائنا عليها، وصار أهلها أهل ذمة بالنسبة لنا لكن انهدمت هذه الكنائس فإننا نمنعهم من بنائها؛ لأن البناء إحداث فنمنعهم منه.

وقوله: «ولو ظلماً» أي: ولو هدمت ظلماً، كما لو سطا عليها أحد من المسلمين وهدمها فإنها لا تقام مرة أخرى، وهذه إشارة خلاف، أعني قوله:«ولو ظلماً» ، فإن بعض أهل العلم قال: إذا هدمت ظلماً فلهم إعادة بنائها، ولو قيل: إنه يعيدها من هدمها ويضمن لكان له وجه؛ لأن هذا عدوان وظلم، وأهل الذمة يجب علينا منع الظلم والعدوان عنهم.

فالصواب أنه إذا هدمت ظلماً فإنها تعاد؛ وذلك لأنها لم تنهدم بنفسها، فإن هدموها هم وأرادوا تجديدها فإنهم يمنعون منه.

‌وَمِن تَعْلِيَةِ بُنْيَانٍ عَلَى مُسْلِمٍ لَا مِن مُسَاوَاتِهِ لَهُ ..

رابعاً: قوله: «ومن تعلية بنيان على مسلم» أي: إذا كانوا في حي من الأحياء، وأرادوا أن يبنوا عمارات رفيعة تعلو بناء المسلمين فإننا نمنعهم.

ص: 78

وظاهر كلام المؤلف أنه لا فرق بين أن يكونوا مجاورين ملاصقين أو غير ملاصقين وهو كذلك، حتى لو كان بينهم وبين المسلم شارع، فإنه لا يجوز أن يمكنوا من تعلية البنيان على المسلم؛ لما في ذلك من إذلال المسلم واحتمال الأذى له؛ لأن العالي يستطيع أن يطلع على النازل ولا عكس، ونحن لا نأمن هؤلاء الكفار فلذلك يمنعون من تعلية البنيان على المسلم.

أما لو رضي المسلم وقال: لا مانع عندي، فهل يمنعون أو لا؟

الجواب: نعم يمنعون؛ لأن الحق هنا فيه شائبة حق لله، ولأن هذا المسلم موجود الآن، لكنه لن يبقى إلى الأبد فإنه سيموت أو يرتحل فيبقى البناء عالياً على من بعده، ولهذا لا يجوز أن يعلو البنيان على المسلم ولو بإذن المسلم ورضاه.

فإن ملكوه عالياً من مسلم، أي: اشتروا عمارة فخمة طويلة من المسلم فهل يجب أن نهدمها؟

الجواب: نقول: لكم الخيار إما أن نهدمها، وإما أن تردوا البيع.

فإذا قالوا: إذاً نرد البيع أهون علينا من الهدم ولكن المسلم أبى، وقال: أنا لا أريد فسخ البيع.

قلنا: نلزمك لأنك بعت عليهم بنياناً لا يجوز إقرارهم عليه، فأنت الذي اعتديت فنلزمك بأن تفسخ البيع.

قوله: «لا من مساواته له» أي: لا يمنعون من مساواة بنيانهم لبناء المسلمين؛ لأنهم لم يعلوا على المسلمين.

ص: 79

فإن قال قائل: هل يمنعون من تشييد بنيانهم، وتحسينه، ووضع الزخارف فيه وما أشبه ذلك؟

الجواب: نقول: أما من الداخل فإنهم لا يمنعون، وأما من الخارج فهذا يرجع إلى اجتهاد الإمام، إن رأى أنهم إذا أظهروا منازلهم بهذا المظهر، وبيوت المسلمين حولهم دون ذلك وأن في ذلك افتخاراً لهؤلاء الكفار فله أن يمنعهم؛ لأن هذا وإن لم يكن علوّاً حسيّاً فهو علو معنوي فيمنعون، وإن رأى أن الناس لا يهتمون بذلك ولا يقيمون له وزناً فليبقهم على ما هم عليه.

ويفهم من كلام المؤلف في قوله: «ومن تعلية بنيان على مسلم» أنهم لو ملكوه من مسلم عالياً فإنهم لا يمنعون، لكن الصحيح ما قررناه أولاً أنهم يمنعون، فيُهدم أو يفسخ البيع.

‌وَمِنْ إِظْهَارِ خَمْرٍ وَخِنْزِيرٍ، وَنَاقُوسٍ وَجَهْرٍ بِكِتَابِهم وَإِنْ تَهَوَّدَ نَصْرَانِيٌّ أَوْ عَكْسُهُ لَمْ يُقرَّ وَلَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ إِلاَّ الإِسْلَامُ أَوْ دِينُهُ ......

قوله: «ومن إظهار خمر وخنزير» أي: يمنعون من إظهار الخمر ومن إظهار أكل لحم الخنزير؛ لأن ذلك عند المسلمين حرام، فيمنعون منه، أما لو شربوه في بيوتهم أو صنعوه في بيوتهم ولم يبيعوه علناً فإننا لا نمنعهم.

وكذلك يقال في لحم الخنزير؛ لأنهم يعتقدون أن الخمر حلال، وأن لحم الخنزير حلال، فلا نتعرض لهم في ديانتهم، لكن إظهار ما هو ممنوع عند المسلمين ممنوع.

قوله: «وناقوس وجهر بكتابهم» الناقوس هو شيء يصوَّت به عند أداء شعائر دينهم، فإذا كان لهم ناقوس قوي الصوت يسمعه الناس فإننا نمنعهم من إظهاره، والمراد إظهار صوته لا إظهار

ص: 80

حجمه أو عينه، فأهم شيء هو إظهار الصوت، فنمنعهم من إظهار صوت النواقيس؛ لأنهم في بلاد الإسلام.

وكذلك نمنعهم من الجهر بكتابهم؛ لما في ذلك من الصد عن سبيل الله.

فإن قيل: وهذه الإذاعات التي تنشر الآن عبر المذياع، هل يمنعون منها؟

الجواب: ليس لنا سلطة عليهم؛ لأنها تبث من بلادهم وليس لنا سلطة عليها، لكن يجب علينا أن نحول بين الناس وبين سماعها بقدر الإمكان، فإذا أمكن أن نشوش عليها بأجهزة التشويش المعروفة، فيجب على المسلمين أن يشوشوا عليها.

فإن قيل: يُخْشَى إذا شوشنا عليهم دعوتهم للنصرانية أن يشوشوا علينا دعوتنا للإسلام، وهذا وارد، فهل نتركهم ونحذر المسلمين من شرهم؟ أم ماذا؟ هذا محل بحث ونظر.

تنبيه: هذا الكتاب مختصر، لم يستوعب جميع الأحكام التي تطبق على أهل الذمة، لكن ابن القيم رحمه الله توسع في ذلك في كتابه:«أحكام أهل الذمة» وهو مطبوع في مجلدين وموجود، وكنا قبل هذا الوقت نقول: لا حاجة لقراءة الجهاد؛ لأنه لا يوجد جهاد، ولا لقراءة أحكام أهل الذمة؛ لأنهم غير موجودين عندنا.

أما الآن فلا بد لطلبة العلم من أن يقرؤوا، ويحققوا أحكام الجهاد، وأحكام أهل الذمة وسائر الكفار؛ لأنه في هذا الوقت انفتحت جبهات للجهاد ولله الحمد، وأما الكفار فقد ابتلينا بهم

ص: 81

وكثروا بيننا ـ لا كثَّرهم الله ـ، فالواجب أن نعرف كيف نعامل هؤلاء الكفار.

ومن أهم الأشياء في مسألة الكفار، أنه لا يجوز إقرارهم في جزيرة العرب للسكنى؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك بل قال:«أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب»

(1)

، وقال وهو في مرض موته:«أخرجوا المشركين من جزيرة العرب»

(2)

، وقال:«لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع إلا مسلماً»

(3)

؛ لهذا يجب أن نعلم أنه لا يجوز إقرار اليهود أو النصارى أو المشركين في جزيرة العرب على وجه السكنى، أما على وجه العمل فلا بأس، بشرط ألا نخشى منهم محظوراً، فإن خشينا منهم محظوراً مثل بث أفكارهم بيننا، أو شرب الخمر علناً، أو تصنيع الخمر وبيعه على الناس، فإنه لا يجوز إقرارهم

(1)

أخرجه الإمام أحمد (1/ 195)؛ والدارمي (2498)؛ والبيهقي (9/ 208) عن أبي عبيدة رضي الله عنه، ولفظه:«أخرجوا يهود الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب» ، وقال الهيثمي في «المجمع» (5/ 328):«رواه أحمد بأسانيد، ورجال طريقين منها ثقات متصل إسنادهما» .

وأخرجه الطبراني في «الكبير» (23/ 265) عن أم سلمة، ولفظه:«أخرجوا اليهود من جزيرة العرب» .

وفي «المجمع» (5/ 328): «رواه الطبراني من طريقين، ورجال أحدهما رجال الصحيح» .

(2)

أخرجه البخاري في المغازي/ باب مرض النبي ووفاته (4431)؛ ومسلم في الوصية/ باب ترك الوصية لمن ليس له شيء يوصي فيه (1637)، عن ابن عباس رضي الله عنهما.

(3)

أخرجه مسلم في الجهاد والسير/ باب إخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب (1767) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

ص: 82

أبداً؛ لأنهم يكونون في هذه الحال مفسدين في الأرض، ثم من جملة أحكام أهل الذمة ما ذكره المؤلف.

قوله: «وإن تهوَّد نصراني أو عكسه» تهود نصراني، أي: صار النصراني يهوديّاً، وعكسه بأن تنصَّر يهودي، أي: صار اليهودي نصرانيّاً، وأيهما أكمل أن يتهوَّد النصراني، أو يتنصَّر اليهودي؟

نقول: كلها باطلة؛ لأن اليهودي إذا انتقل إلى النصرانية فقد انتقل إلى دين منسوخ لا يقبله الله عز وجل، وصحيح أن النصارى بعد اليهود، وأنهم أقرب إلى الحق من اليهود، وإن كانوا كلهم على باطل، لكن النصارى يؤمنون بعيسى، واليهود لا يؤمنون به؛ ولهذا كانوا أقرب إلى الحق من اليهود، أما من جهة الكفر فهم في الحقيقة على حد سواء.

وكان النصارى قبل البعثة ضالين يعبدون الله على ضلال ويريدون الحق، لكن عموا عنه ـ والعياذ بالله ـ واليهود كانوا مغضوباً عليهم؛ لأنهم يعلمون الحق ولكن لم يعملوا به، أما بعد بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم فكانوا كلهم مغضوباً عليهم، اليهود والنصارى؛ لأن اليهود تركوا الحق عن عمد، والنصارى ـ أيضاً ـ تركوا الحق عن عمد، فلا فرق بينهم، فيكون الجميع على دين غير مقبول عند الله لا اليهود ولا النصارى، لكن لا شك أن طبائع اليهود وغلظهم وخداعهم وخيانتهم ومكرهم أشد وأعظم من النصارى، ومع ذلك بعد الحروب التي وقعت بين النصارى والمسلمين صار النصارى يكنّون للمسلمين، مثل ما يكنّ اليهود لهم، فنسأل الله تعالى أن يدفع الجميع عنا.

ص: 83

قوله: «لم يقر ولم يقبل منه إلا الإسلام أو دينه» أي: لو أن النصراني صار يهودياً نقول: لا نقبل منك، فإما أن تسلم، وإما أن ترجع إلى دينك الذي انتقلت منه.

وإن تمجَّس نصراني فمن باب أولى، أو تنصَّر مجوسي فكذلك، فكل من انتقل عن دينه الذي هو عليه، قلنا له: إما أن ترجع وإما أن تسلم؛ وذلك لأنه لا يمكن أن ينتقل إلى دين أفضل من حيث القبول عند الله، فكل الأديان سوى الإسلام غير مقبولة عند الله، فلا فائدة من انتقاله.

وإذا تنصر يهودي ـ أيضاً ـ لا نقبل منه، فنقول: إما أن ترجع إلى اليهودية وإما أن تسلم.

وقال بعض أهل العلم: إن تهود نصراني لا يقبل منه إلا الإسلام؛ لأن انتقاله من النصرانية إلى اليهودية إقرار منه بأن النصرانية باطلة وانتقل إلى دين باطل، إذاً الدين الذي كنت عليه أولاً باطل، والذي انتقلت إليه ـ أيضاً ـ باطل، فلا نقرك على الباطل، ونقول: أسلم وإلا قتلناك، ولا شك أن لهذا القول وجهاً قويّاً، فإن أبى وقال: لا أرجع ولا أسلم، فإنه يقتل؛ لأنه على غير دين صحيح الآن، ولكن الإمام أحمد سئل عن ذلك فتوقف فيه أو قال: لا يقتل، ولكن الذي يظهر من الأدلة أنه يقتل؛ لأنه الآن على دين لا يقر عليه، لكن الإمام أحمد رحمه الله رأى أنه ذو ذمة وعهد، وأن ذمته وعهده لا ينتقض بذلك، فلا يجوز أن يقتل، هذا وجه قول الإمام أحمد: إننا لا نقتله.

ص: 84

‌فَصْلٌ

‌فَإِنْ أبَى الذِّمِيُّ بَذْلَ الجِزْيَةِ أَو التِزَامَ حُكْمِ الإِسْلَام أَوْ تَعَدَّى عَلَى مُسلِمٍ بِقَتْلٍ أو زِنا، أَوْ قَطْعِ طَرِيقٍ، أَوْ تَجَسُّسٍ، أَو إِيْوَاءِ جَاسُوسٍ، أَوْ ذَكَرَ اللهَ أَوْ رَسُولَهُ أَوْ كِتَابَهُ بِسُوءٍ انْتَقَض عَهْدُهُ دُونَ نِسائِهِ وَأَوْلَادِهِ، وَحَلَّ دَمُهُ وَمَالُهُ.

قوله: «فصل» هذا الفصل ذكر فيه المؤلف رحمه الله ما ينتقض به العهد.

والمعاهدون ينقسمون إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: من غدر فإنه قد انتقض عهده، ولا عهد له، كما قال تعالى:{وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ} [التوبة: 12].

القسم الثاني: من استقام لنا، فإننا نستقيم له، ويبقى على عهده، لقوله تعالى:{فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} [التوبة: 7].

القسم الثالث: من خيف منه الغدر، فإننا ننبذ إليه العهد، ونخبره بأنه لا عهد بيننا وبينه؛ لنكون نحن وإياه على سواء، كما قال تعالى:{وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال: 58]، أي: انبذ إليهم عهدهم لتكون أنت وإياهم سواء.

والذمي داخل في هذا، فإذا خرج عما يلزمه من أحكام الإسلام فإنه ينتقض عهده؛ لأن العهد الذي بيننا وبينه أن يلتزم بأحكام الإسلام، ومنها أن يبذل الجزية.

قوله: «فإن أبى الذمي بذل الجزية» أي: رفض إعطاء الجزية، فإن عهده ينتقض، ويحل دمه وماله.

قوله: «أو التزام حكم الإسلام» بأن صار يجهر بشرب الخمر ويعلنه، ولا يلتزم بإقامة الحدود عليه فيما يعتقد تحريمه، ولا يتورع عن نكاح ذوات المحارم في غير المجوسي؛ لأن المجوسي يرى أن نكاح ذوات المحارم جائز، لكن اليهود والنصارى لا

ص: 85

يرون ذلك، فإذا أبى التزام أحكام الإسلام انتقض عهده.

قوله: «أو تعدى على مسلم بقتل» إذا تعدى على مسلم بأن قتل مسلماً فإن عهده ينتقض حتى لو عفا أولياء المقتول فإن عهده ينتقض؛ لأن أولياء المقتول إن طالبوا بالقصاص اقتص منه وإلا لم يقتص منه، لكن بالنسبة للعهد ينتقض؛ لأنه إذا قتل هذا يمكن أن يقتل آخر.

قوله: «أو زنا» وكذلك إذا اعتدى على مسلم بزنا، فلو زنا بمسلمة ولو برضاها فإنه ينتقض عهده؛ لأن الواجب عليه أن يلتزم أحكام الإسلام، ومثل ذلك لو اعتدى على غلام بلواط فإنه ينتقض عهده.

وعلم من قول المؤلف: «فإن تعدى على مسلم بقتل، أو زنا» أنه لو تعدى على كافر مثله بقتل أو زنا فإن عهده لا ينتقض، ولكن ماذا نصنع به؟.

الجواب: إذا تمت شروط القصاص في القتل قتل قصاصاً، وفي الزنا إذا تحاكما إلينا أقمنا عليه الحد، وقد سبق أن الزنا محرم في جميع الشرائع، وأن حده في التوراة كحده في القرآن.

قوله: «أو قطع طريق» أي: تعدى بقطع طريق، بأن كان يعترض الناس في الطرقات فيغصبهم المال مجاهرة ومعه السلاح، فمن جاء إليه قال له: سلم المال، وقاتله، فإن هذا قاطع طريق ويعتبر فعله هذا نقضاً للعهد.

قوله: «أو تجسُّس» وهذا من أشر ما يكون إذا تعدى على المسلمين بالتجسس، فصار ينقل أخبار المسلمين إلى العدو، فإن

ص: 86

عهده ينتقض، ولا إشكال فيه، بل إن الجاسوس وإن كان مسلماً يجب أن يقتل إذا تجسس للعدو، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما اطلع على الجاسوس الذي تجسس لقريش وهو حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه وعلم به، استأذن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يقتله فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«إنه من أهل بدر، وما يدريك أن الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم»

(1)

، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم الجاسوسية مبيحة للدم، لكن وجد مانع وهو كونه من أهل بدر، وهذه العلة لا توجد في عهدنا الآن، فإذا وجد إنسان، جاسوس يكتب بأخبارنا إلى العدو، أو ينقلها مشافهة، أو ينقلها عبر الأشرطة، فإنه يجب أن يقتل حتى لو تاب؛ لأن ذلك كالحد لدفع شره، وردع أمثاله عن ذلك.

قوله: «أو إيواء جاسوس» أي: لم يتجسس لكنه آوى جاسوساً وتستَّر عليه، فإن عهده ينتقض؛ لأنه لما آوى الجاسوس، رضي بالجاسوسية، وهذا إضرار بالمسلمين.

قوله: «أو ذكر الله، أو رسوله، أو كتابه بسوء» وينبغي أن يلحق: «أو شريعته» ، فإذا ذكر الله بسوء، فسبَّ الله كما قالت اليهود:{يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة: 64]، فإذا قال: يد الله مغلولة، أو قال: إِن الله فقير، فإن عهده ينتقض؛ لأنه ذكر الله بسوء، أو قال: إن الله لم يعدل حيث جعل لأمة محمد صلى الله عليه وسلم كفلين من الأجر، وجعل لغيرهم كفلاً واحداً، وهذا غير عدل فإنه ينتقض

(1)

أخرجه البخاري في المغازي/ باب من شهد بدراً (3007)؛ ومسلم في فضائل الصحابة/ باب من فضائل أهل بدر (2494) عن علي رضي الله عنه.

ص: 87

عهده، أو قال: إن الله تعالى جاهل ولا يدري، فإن عهده ينتقض، المهم إذا ذكر الله تعالى بأي سوء فإن عهده ينتقض.

وكذلك إذا ذكر رسوله، والرسول هنا مفرد مضاف فيعم كل رسول، فلو ذكر اليهودي عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم بسوء فإن عهده ينتقض، ولو ذكر النصراني محمداً صلى الله عليه وسلم بسوء فإن عهده ينتقض، وكذلك لو ذكر الشريعة الإسلامية بسوء فإن عهده ينتقض؛ لأنه ليس هذا الذي بيننا وبينه.

قوله: «انتقض عهده دون نسائه وأولاده» فيتبعض الحكم لتبعُّض موجِبِه، فالنساء والأولاد لم يفعلوا شيئاً يوجب نقض العهد فيبقون على العهد، وهو فَعَلَ ما يوجب نقض العهد فينتقض.

قوله: «وحل دمه» أي: حتى لو قال إنه تاب، وإذا انتقض عهده انتقل من الذمة إلى الحرابة فصار حَرْبِيّاً، وإذا صار حَرْبِيّاً يخير فيه الإمام بين أربعة أشياء: إما القتل، أو الاسترقاق، أو المنّ بدون شيء ـ يعني مجاناً ـ، أو المن بفداء، والفداء إما بمال أو بمنفعة، المهم أن يكون حكمه حكم الحربي.

مسألة: إن كان انتقاض عهده بسب الرسول صلى الله عليه وسلم، فذهب بعض أهل العلم واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إلى أنه يتعين قتله إذا سب الرسول صلى الله عليه وسلم ولو تاب؛ لأن هذا حق للرسول صلى الله عليه وسلم ولا نعلم أنه عفا عنه، والأصل أن يؤخذ للرسول صلى الله عليه وسلم بالثأر، إلا إذا علمنا أنه عفا، فإنه عفا صلى الله عليه وسلم عن الناس الذين كانوا يسبونه في عهده، وارتفع عنهم القتل.

ص: 88

قوله: «وماله» إذا قال قائل: كيف يحل ماله، وأهله لم ينتقض عهدهم؟ أفلا نقول: إن المال يبقى للأهل؟

الجواب: لا؛ لأن أهله لا يملكون ماله إلا بعد موته، أما وهو حي فالمال ماله، وتبين الآن أنه لا حرمة له بنفسه، فلا حرمة له بماله.

ص: 89

صفحة فارغة

ص: 90

‌كتاب البيعُ

العلماء رحمهم الله يبدؤون تصانيفهم بالعبادات، ثم بالمعاملات، ثم بالأنكحة، ثم بما يتعلق بالدماء، ثم بالقضاء، فبدؤوا بالعبادات؛ لأنها هي التي خُلق الإنسان من أجلها، وبدؤوا بالصلاة؛ لأنها أهم العبادات، وقدموا الطهارة؛ لأنها من شروطها؛ لأن الطهارة فيها تنزيه ونزاهة.

فالترتيب السليم أن يبدأ أولاً بالتطهر ثم بعد ذلك يبنى عليه، ولهذا من العبارات المعروفة عند العلماء:«التخلية قبل التحلية» ، أي: يخلي المكان من الأذى، ثم يحلى بعد ذلك، ثم بعد الصلاة ذكروا الزكاة؛ لأنها آكد أركان الإسلام بعد الصلاة، ثم بالصوم؛ لأنه هو الركن الرابع، ثم بالحج.

ولماذا جعلوا الجهاد في قسم العبادات؟ ولم يجعلوه في كتاب الحدود مثلاً؟

الجواب: لأن كون الجهاد عبادة أظهر من كونه انتقاماً وردعاً، ولهذا جاءت النصوص الكثيرة في فضله وثوابه والحث عليه، فجعلوه من قسم العبادات، ثم بدؤوا في المعاملات بالبيوع وما يتعلق بها، ثم ذكروا النكاح وما يتعلق به؛ لأن الأصل ملء البطن قبل النكاح، فالناس محتاجون للطعام والشراب من حين ما يولدون، ومن أكبر طرق الحصول على ذلك البيع والشراء، ولهذا بدؤوا في المعاملات بالبيوع وما يتعلق بها، فالإنسان إذا شبع

ص: 91

يطلب النكاح؛ ولهذا جاؤوا بالنكاح بعد ذلك، ثم إذا تمت النعمة بشبع البطن وكسوة البدن وتحصين الفرج، فإنه قد يحصل له من الأشر والبطر ما يحتاج معه إلى ردع، فذكروا القصاص والحدود والقضاء

إلخ.

وجعلوا باب الإقرار آخر شيء مع أن باب الإقرار له مكان في البيوع كإقرار الإنسان بأنه باع، أو أنه اشترى، أو أنه استأجر تفاؤلاً أن يكون آخر كلام الإنسان من الدنيا الإقرار بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وجعل بعض العلماء آخر الأبواب العتق تفاؤلاً بأن يعتق من النار، ولكلٍ وجهة.

فهذا هو ترتيب العلماء رحمهم الله فيما ألفوه من الكتب، وبعضهم قد يدخل شيئاً من الأشياء في موضع لا يدخلها الآخرون، ولهذا رأى بعض المتأخرين أن يرتب الفقه على الحروف الهجائية؛ لأنها لا يغلط فيها أحد، لكن الأبواب الفقهية قد يكون ترتيب فقهاء الحنابلة فيها غير ترتيب فقهاء الشافعية أو الحنفية أو آخرين، لكن الناس متفقون على ترتيب حروف الهجاء، وهذه وجهة طيبة، وقد سلكها من ألفوا في الموسوعات الفقهية وبدؤوا بالألف.

قوله: «كتاب البيع» البيع جائز بالكتاب، والسنة، والإجماع، والنظر الصحيح.

أما الكتاب فقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275].

وأما السنة فمثل قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا تبايع الرجلان فكل واحد

ص: 92

منهما بالخيار ما لم يتفرقا وكانا جميعاً»

(1)

، وقوله:«لا يبع أحدكم على بيع بعض»

(2)

، والأحاديث في هذا كثيرة.

وأما الإجماع فمعلوم بالضرورة من دين الإسلام.

وأما النظر الصحيح فلأن الإنسان يحتاج لما في يد غيره من متاع الدنيا، ولا وسيلة إلى ذلك إلا بالظلم وأخذه منه قهراً، أو بالبيع.

فلهذا كان من الضروري أن يَحِلَّ البيعُ فأحله الله عز وجل، وفي حل البيع دليل على شمول الشريعة الإسلامية، وأنها ليست كما قال أعداؤها: لا تنظم إلا المعاملات التي بين الخالق والمخلوق، بل هي تنظم المعاملات بين الخالق والمخلوق، وبين المخلوقين بعضهم مع بعض، وتنظيمها للمعاملة بين المخلوقين بعضهم مع بعض من أهم الأمور؛ لأنه لولا ذلك لأكل الناس بعضهم بعضاً، واعتدى الناس بعضهم على بعض، فكان من الحكمة ومن مقتضى عدل الله عز وجل أن تنظم المعاملات بين الخلق؛ لئلا ترجع إلى أهوائهم وعدوانهم، ثم إن أطول آية في كتاب الله هي آية الدين، وهي في المعاملات بين الخلق فكيف يقال: إن الشريعة الإسلامية تنظم المعاملة بين الخالق والمخلوق فقط؟ ولهذا قال رجل من المشركين لسلمان

(1)

أخرجه البخاري في البيوع/ باب إذا خير أحدهما صاحبه (2112)؛ ومسلم في البيوع/ باب ثبوت خيار المجلس (1531)(44) عن ابن عمر رضي الله عنهما.

(2)

أخرجه البخاري في البيوع/ باب لا يبع على بيع أخيه (2139)؛ وأخرجه مسلم في النكاح/ باب تحريم الخطبة على خطبة أخيه (1412)(50) عن ابن عمر رضي الله عنهما.

ص: 93

الفارسي رضي الله عنه: «علمكم نبيكم حتى الخراءة؟ قال: أجل»

(1)

، يعني آداب قضاء الحاجة، ففي السنة آداب قضاء الحاجة، وفي القرآن آداب الجلوس، قال الله تعالى:{إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا} [المجادلة: 11]، وآداب الاستئذان، وآداب الدخول، قال الله تعالى:{فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النور: 61]، فالشريعة ـ والحمد لله ـ شاملة لكل شيء، لكن من الأشياء ما تنص عليه الشريعة بعينه، ومن الأشياء ما يكون داخلاً تحت قاعدة عامة من قواعد الشريعة، ولقد أخطأ من قال: إن النصوص لا تفي بعشر ما يحتاج الناس إليه، بل نقول: إن النصوص وافية بكل ما يحتاج الناس إليه، ولكن من الأشياء ما هو منصوص عليه، ومنها ما يدخل تحت القواعد العامة يدركها من رزق علماً وفهماً.

قال في الروض

(2)

: «وهو جائز بالإجماع؛ لقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275]، بعضهم يقول: إن هذا التعبير فيه نظر.

والصواب أن يقال: جائز بالكتاب والسنة والإجماع، لكن المؤلف له وجهة نظر، فأراد أن يبدأ بالإجماع، ثم يذكر مستنده؛ لأن الإجماع قاطع للنزاع بخلاف النص، فالنص قد يكون فيه مدخل لمؤول فلا يوافقك من استدللت عليه به على ما استدللت به عليه، ولكل وجهة. فمن قال: أبدأ بالكتاب والسنة والإجماع

ص: 94

فله نظر؛ لأن الكتاب أقوى الأدلة ثم السنة ثم الإجماع، والإجماع لا بد أن يكون له مستند من الكتاب والسنة، إما معلوم وإما خفي على بعض الناس، وإلا فلا يمكن أبداً أن يوجد إجماع بلا مستند في كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

‌وَهُوَ مُبَادَلَةُ مَالٍ وَلَو في الذِّمَّةِ أَوْ مَنْفَعَةٍ مُبَاحَةٍ كَمَمَرٍّ فِي دَارٍ بِمِثْلِ أحَدِهِمَا عَلَى التَّأبِيدِ غَيْرَ رِباً وَقَرْضٍ ......

قوله: «وهو» الضمير يعود على البيع.

قوله: «مبادلة

» إلى آخره هذا تعريف له في الاصطلاح، وله تعريف في اللغة أعم من تعريفه في الاصطلاح، وهكذا جميع الكلمات والحقائق التي لها حقائق لغوية وحقائق شرعية، تجد أن الحقائق اللغوية أوسع من الحقائق الشرعية، إلا في بعض كلمات كالإيمان مثلاً، فهو في اللغة محله القلب، لأنه إقرار القلب بالشيء، لكن في الشرع أعم، إذ يشمل قول الإنسان، وعمل الجوارح بالإضافة إلى إقرار القلب وهذا نادر، لكن الأكثر أن تكون المعاني اللغوية أوسع من المعاني الشرعية.

إذاً البيع في اللغة أعم من البيع شرعاً، فهو أخذ شيء وإعطاء شيء، حتى ولو كان على سبيل العارية أو الوديعة، فإذا مددت إليك شيئاً أعيرك إياه فهو بيع في اللغة؛ لأنه مأخوذ من الباع، إذ إن كل واحد من المتعاطيين يمد باعه إلى الآخر.

لكن في الاصطلاح يقول: «مبادلة مال ولو في الذمة، أو منفعة مباحة كممر في دار بمثل أحدهما على التأبيد غير ربا وقرض» .

وقوله: «مبادلة مال» المراد بالمال هنا: كل عين مباحة النفع بلا حاجة، فيدخل في ذلك الذهب، والفضة، والبر، والشعير،

ص: 95

والتمر، والملح، والسيارات، والأواني، والعقارات، وغيرها.

وقولنا: «مباحة النفع» معناه أنه لا بد أن يكون فيها نفع، فالعين التي لا نفع فيها لا تدخل في هذا التعريف.

وقولنا: «مباحة النفع» خرج به محرمة النفع كآلات الزمر، والمعازف، فهذه لا تدخل في اسم المال هنا.

وقولنا: «بلا حاجة» احترازاً مما يباح نفعه للحاجة أو للضرورة، فمثلاً الميتة تباح لكن للضرورة، وجلد الميتة إذا دبغ يباح للحاجة، وأيضاً لا يباح استعماله إلا في اليابسات على المشهور من المذهب، إذاً لا بد من هذا القيد «عين مباحة النفع بلا حاجة» .

فكلب الصيد عين مباحة النفع لكن لحاجة، ولهذا قيدت منفعته بقيد معين، فتبين الآن أن المال كل عين مباحة النفع بلا حاجة.

وقوله: «ولو في الذمة» لو تدل على أن هناك شيئاً مقابلاً لما في الذمة وهو المعيَّن، فالبيع قد يقع على شيء معين، وقد يقع على شيء في الذمة.

ويظهر هذا بالمثال، فإذا قلت: بعتك هذا الكتاب بهذا الكتاب، فهذا معين بمعين ليس في الذمة، وإذا قلت: بعتك هذا الكتاب بعشرة ريالات، فهذا معين بما في الذمة حتى إن قلت: عشرة ريالات، أي: ما عينتها بل هي في ذمتي.

وقوله: «ولو في الذمة» يشمل ما في الذمة بما في الذمة.

مثاله: اشتريت منك كيلو من السكر بعشرة ريالات، ثم

ص: 96

ذهب البائع يزن لي السكر، وأنا أخرجت الدراهم من جيبي وأعطيتها إياه، هنا العقد وقع على شيء في الذمة بشيء في الذمة.

وقوله: «أو منفعة مباحة» يعني مبادلة مال بمنفعة مباحة، مثاله: ممر في دار، هذا رجل له دار وله جار، والجار بينه وبين الشارع، فقال الآخر: أشتري منك ممراً في دارك إلى الشارع، قال: نعم، فاشترى منه الممر إلى الشارع بدراهم، فهذه يقال لها: مبادلة مال بمنفعة، فليس للجار الذي اشترى من جاره المنفعة إلا الاستطراق من داره عبر بيت جاره إلى الشارع، فلا يتصرف في هذا الممر، أي: لو قال: أنا أبلط الممر الذي يريد أن يعبر عليه إلى الشارع، فلصاحب الدار أن يمنعه ويقول: ليس بملكك، أنت لك الاستطراق فقط، والاستطراق هو المنفعة، لك علي ألاَّ أحول بينك وبين الانتفاع، لأنك تملك المنفعة فهذه مبادلة مال بمنفعة.

تبين الآن أن الذي يقع عليه العقد، إما أعيان، وإما منافع، والأعيان إما مشار إليها، وإما في الذمة.

وقوله: «منفعة مباحة» احترازاً من المنفعة غير المباحة، مثل لو اشترى منه الانتفاع بآلة عزف، قال: بع علي الانتفاع بهذه الآلة، فقال: أشتريها منك للانتفاع بها فقط بخمسين ريالاً، قال: بعتها عليك، فهذا لا يجوز؛ لأن المنفعة هنا محرمة، وكل عقد على محرم فهو باطل لقول الرسول صلى الله عليه وسلم:«من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد»

(1)

.

(1)

أخرجه مسلم في الأقضية/ باب نقض الأحكام الباطلة ورد المحدثات (1718)(18) عن عائشة رضي الله عنها.

ص: 97

وقوله: «بمثل أحدهما» متعلق بمبادلة، أي: أن يبادل المال ولو في الذمة أو المنفعة بمثل أحدهما، يعني يقع العقد على ثلاثة أشياء:

مال معين، ومال في الذمة، ومنفعة، إذا ضربت بعضها في بعض (ثلاثة في ثلاثة) صار الناتج تسع صور؛ وهي:

الأولى: مال معين بمال معين.

الثانية: مال معين بمال في الذمة.

الثالثة: مال معين بمنفعة.

الرابعة: مال في الذمة بمال معين.

الخامسة: مال في الذمة بمال في الذمة.

السادسة: مال في الذمة بمنفعة.

السابعة: منفعة بمال معين.

الثامنة: منفعة بما في الذمة.

التاسعة: منفعة بمنفعة.

قد يقال: ما دام أنها مبادلة، لماذا لا نجعلها ست صور؟

نقول: لأن ما دخلت عليه الباء فهو الثمن، وما وقع عليه الفعل فهو المُثمَن، فإذا قلت: بعتك كتاباً بدرهم، الفعل وقع على كتاب، إذاً هو المثمن، وقولنا: بدرهم، الباء دخلت على «درهم» فهو الثمن.

فالقاعدة: أن ما وقع عليه الفعل فهو المثمن، وما دخلت عليه الباء فهو الثمن.

وقوله: «على التأبيد» لا بد أن يكون هذا التبادل على التأبيد احترازاً من الإجارة، فالإجارة فيها مبادلة ولا شك، فإذا استأجرت

ص: 98

منك هذا البيت بمائة ريال فأنا الآن استأجرت معيناً بما في الذمة، ولا يقال: إن هذا بيع؛ لأنه ليس على التأبيد، فالبيع إذاً لا بد أن يكون على التأبيد، ولهذا لو قال قائل: بعت هذه الدار لمدة سنة بألف ريال، لم يصح هذا العقد على أنه بيع؛ لأنه ليس على التأبيد.

وهل يصح على أنه إجارة؟ هذا ينبني على قاعدة معروفة عند الفقهاء: «إذا وصف العقد بوصف على خلاف ما اتُّفِقَ عليه، هل يُنَزَّل على الوجه الصحيح، أو يلغى كله؟» فيه خلاف.

وقوله: «غير ربا» الربا لا يسمى بيعاً وإن وجد فيه التبادل، فإذا أعطيتك درهماً بدرهمين فهو عين بعين؛ لكنه ليس بيعاً، وما الذي أخرجه؟

الجواب: أن الله جعله قسيماً للبيع، وقسيم الشيء ليس هو الشيء، قال الله تعالى:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]، إذاً ليس الربا ببيع، وإلا لما صح التقسيم.

وقوله: «وقرض» أي: وغير قرض فلا يسمى بيعاً وإن وجدت فيه المبادلة.

مثاله: أن يأتي الإنسان الغني لمن طلب منه القرض ويقول: خذ هذه الدراهم أقرضتك إياها، فالدراهم الآن معينة والقرض في الذمة، فهو يشبه مبادلة معين بما في الذمة، لكنه لا يسمى بيعاً؛ لأنه لو كان بيعاً لبطل القرض في الأموال الربوية.

فمثلاً: لو بعتك درهماً بدرهم لا أقبضه منك إلا بعد يومين فهو ربا.

ولو أقرضتك درهماً قرضاً تعطيني إياه بعد يومين فجائز.

ص: 99

إذاً لو قلنا: إن القرض بيع، ما صح القرض في الأموال الربوية؛ لأنه يؤدي إلى تأخير القبض بإقراض الشيء بجنسه، ومعلوم أن تأخير القبض في بيع الشيء بجنسه حرام وربا.

إذا قال قائل: ما الذي أخرج القرض عن البيع، وهو مبادلة مال بمال؟

قلنا: أخرجه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى»

(1)

، فما الذي نواه المقرض، هل نوى المعاوضة والاتجار أو نوى الإرفاق؟ الجواب: الثاني، فهو نوى الإرفاق، ومن أجل أنه نوى الإحسان صار مقابلاً لنية المرابي؛ لأن الأصل في الربا هو الظلم كما قال تعالى:{فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 279]، فصار القرض على نقيض مقصود الربا، إذ إن المقصود منه الإرفاق، فلذلك خرج عن كونه بيعاً.

إذاً ما الدليل على خروج القرض من البيع؟

الجواب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى» ، وذلك أن المقرض والمستقرض لم ينو أحد منهما المعاوضة، إنما قصد المقرض الإرفاق وقصد المستقرض سد حاجته، ولهذا صار القرض ليس بيعاً، وقد سبق أننا لو جعلنا القرض بيعاً لبطل القرض في جميع الربويات بجنسها.

‌وَيَنْعَقِدُ بِإِيجَابٍ وَقَبُولٍ بَعْدَهُ وَقَبْلَهُ.

....

قوله: «وينعقد» أي البيع، والانعقاد ضد الانحلال، والعقد بمعنى الإحكام وربط الشيء بعضه ببعض، تقول: عقدت الحبل أي: ربطت بعضه ببعض، وكلمة:«ينعقد» وصف لجميع العقود،

(1)

سبق تخريجه ص (77).

ص: 100

سواء أكانت عقود بيع، أم إجارة، أم رهن، أم وقف؛ لأنها ربط وإحكام وشد.

قوله: «بإيجاب وقبول» الإيجاب هو اللفظ الصادر من البائع أو من يقوم مقامه، والقبول هو اللفظ الصادر من المشتري، أو من يقوم مقامه، والحقيقة أني قلت: أو من يقوم مقامه من باب التوضيح فقط، وإلا فمن يقوم مقام البائع يسمى بائعاً، فالوكيل مثلاً بائع، وكذلك من يقوم مقام المشتري.

قوله: «بعده» اشترط المؤلف أن يكون القبول بعد الإيجاب؛ لأنه فرع عنه، بحيث يقول: بعتك هذا، ويقول المشتري: قبلت، فلو تقدم القبول على الإيجاب، بأن قال المشتري: قبلت، ثم قال البائع: بعتك، فإنه لا يصح؛ لأن القبول فرع الإيجاب.

ولم يذكر المؤلف صيغة معينة للبيع؛ فدل هذا على أنه ينعقد بما دل عليه، مثل أن يقول: بعتك هذا الشيء، أعطيتك هذا الشيء، ملكتك هذا الشيء، فالمهم أنه ليس هناك لفظ معين للبيع، فأي لفظ يدل عليه فإنه ينعقد به.

وهل هذا شامل لجميع العقود؟

الجواب: فيه خلاف، فمن العلماء من اشترط لبعض العقود ألفاظاً معينة وقال: لا بد من الإتيان بها، كالنكاح مثلاً، قال: لا بد أن يقال: زوَّجتك وهذا يقول: قبلت.

ومنهم من قال: جميع العقود تنعقد بما دل عليه عرفاً، وهذا القول هو الراجح، وهو المتعين، وهو اختيار شيخ الإسلام

ص: 101

ابن تيمية رحمه الله؛ لأن المعاملات ليست عبادات يتقيد الإنسان فيها بما ورد، بل هي معاملات بين الناس، فما عدّه الناس بيعاً فهو بيع، وما عدّوه رهناً فهو رهن، وما عدّوه وقفاً فهو وقف، وما عدّوه نكاحاً فهو نكاح.

فالصواب: أن جميع العقود ليس لها صيغ معينة، بل تنعقد بما دل عليها، ولا يمكن لإنسان أن يأتي بفارق بين البيع وبين غيره، فإذا قالوا مثلاً: النكاح ذكره الله بلفظ النكاح، قلنا: والبيع ذكره الله بلفظ البيع، فهل تقولون: إنه لا بد أن تقول: بعت؟ يقولون: ليس بشرط، إذاً ينعقد بكل لفظ دل عليه عرفاً بإيجاب، وقبول بعده.

قوله: «وقبله» يعني ويصح ـ أيضاً ـ بقبول قبله، لكن في صور معينة، وهذه الصور لا بد أن تكون دالة على العقد، مثل أن يقول: بعني كذا بعشرة، فيقول البائع: بعتك، مع أن ما يدل على القبول قد سبق الإيجاب، لكننا قعَّدنا قاعدة وهي أنه ينعقد بما دل عليه.

لو قال: أتبيعني كذا بكذا؟ فقال: بعتك، هل ينعقد؟ الجواب: لا ينعقد، فإذا قال: بعتك، يقول: قبلت؛ ولهذا قال في الروض

(1)

: «بلفظ أمر أو ماض مجرد عن استفهام ونحوه» ؛ لأن المعنى حاصل به، فلو قال: اشتريت منك كذا بكذا، فقال: بعتك، ينعقد؛ لأنه دل على أن الرجل قابل، فصار ينعقد إذا تقدم القبول على الإيجاب بشرط أن يكون دالاً عليه، أما إذا كان لم يدل كمضارع، يستفهم هل تبيعني كذا؟ أو أتبيعني كذا؟ أو ما أشبه ذلك؟ فهذا لا يعتبر قبولاً مرضياً.

ص: 102

‌مُتَراخِياً عَنْهُ فِي مَجْلِسِهِ، فَإِن اشتَغَلَا بِمَا يَقْطَعُهُ بَطَلَ وَهِي الصِّيغَةُ القَوْلِيَّة وَبِمُعَاطَاةٍ وَهِيَ الفِعْلِيَّةُ ..

قوله: «متراخياً عنه في مجلسه، فإن اشتغلا بما يقطعه بطل» متراخياً: هذا حال من القبول، يعني أن القبول يجوز أن يكون عقيب الإيجاب، ويجوز أن يكون متراخياً عنه، أما كونه جائزاً عقيب الإيجاب فالأمر واضح، كأن يقول: بعتك هذا بعشرة، ويقول المشتري: قبلت، فالقبول هنا أعقب الإيجاب وهذا لا إشكال فيه، ويجوز أن يتراخى عن الإيجاب، فيقول: بعتك هذا بعشرة، ثم يسكت المشتري يفكر؛ لأن الإنسان قبل أن يبتاع الشيء يجد في نفسه رغبة فيه، فإذا قال: بعتك، ربما يتريث وتزول هذه الرغبة، وأحب شيء إلى الإنسان ما مُنِعَ، ولهذا تجد الصيادين الذين يصيدون الطيور قبل أن يرمي الطير يكون عنده رغبة في هذا الطير، فإذا رماه وسقط على الأرض صار لا يساوي شيئاً عنده، وهذه السلع التي في يد البائع، إذا قال: هل تبيعني هذا الشيء بعشرة؟ قال: نعم أبيعه بعشرة، فهنا لو تأخر القبول فلا بأس، لكن نقول: إذا تراخى عنه فلا بد من شروط:

الأول: أن يكون في مجلسه.

الثاني: ألا يتشاغلا عنه بما يقطعه.

الثالث: أن يطابق القبول الإيجاب.

أما كونه في المجلس فهو احتراز مما لو كان في غير المجلس، بأن قال: بعتك هذه السلعة بعشرة ثم تفرقا ثم رجع، وقال: قبلت فلا يصح هذا القبول لتغير المجلس.

وكذلك لو تشاغلا بما يقطعه بأن قال: بعتك هذه السيارة بثلاثين ألفاً، فقال: مررت اليوم بالكلية، ووجدت فلاناً ناجحاً،

ص: 103

وفلاناً راسباً، وفلاناً مكملاً، وقال: هذه النتيجة ليست بطيبة، ثم قال: قبلت فلا يصح؛ لأنه تشاغلَ بما يقطعه، فلا بد إذاً في صحة هذا العقد من أن يعيد البائع الإيجاب حتى يكون القبول عقبه.

وكذلك لا بد أن يطابق القبول الإيجاب كمية وجنساً ونوعاً، فلو قال: بعتك شرح ابن عقيل بعشرة، فقال: قبلت الروض المربع بعشرة فلا يصح؛ لأنه اختلف القبول عن الإيجاب، وكذا لو قال: بعتك شرح ابن عقيل بعشرة، فقال: قبلته بتسعة فلا يصح لعدم المطابقة، ولو قال: قبلته بأحد عشر صح؛ لأن ذلك في مصلحة البائع، فيقول: آخذ العشرة والباقي لك، إذا كان لا يريد أن يمن عليه بالزيادة فالظاهر الصحة، وأن الذي لا يصح إذا نقص الثمن عما أوجبه البائع.

فإذا زاد فقد زاده خيراً، وعادة لا يرد البائع الزيادة، هذا هو الغالب.

قوله: «وهي الصيغة القولية وبمعاطاة وهي الفعلية» إذاً للعقد صيغتان: صيغة قولية، وصيغة فعلية.

الصيغة القولية هي الإيجاب والقبول.

الصيغة الفعلية هي المعاطاة، وهي أن يعطي كل واحد الثاني بدون قول.

ولها ثلاث صور:

الأولى: أن تكون معاطاة من الجانبين.

الثانية: أن تكون معاطاة من البائع.

ص: 104

والثالثة: أن تكون معاطاة من المشتري.

مثالها من الجانبين: أن يكون هنا أدوية مثلاً قد كتب عليها سعرها، ووضع إلى جانبها وعاء للثمن، فيأتي المشتري، ويضع ثمن هذا الدواء بوعاء الثمن ويأخذ الدواء، هذه معاطاة من الجانبين.

معاطاة من البائع: قال المشتري: أعطني بهذا الدرهم خبزاً، فأخذ البائع كيس الخبز وأعطاه للمشتري، هذه معاطاة من البائع.

معاطاة من المشتري: قال البائع: خذ هذا الكتاب بعشرة فأخذه المشتري، ولم يقل: قبلت، ولكن أعطاه عشرة، فالمعاطاة هنا من المشتري، فالبائع قدر الثمن وأوجب فقال: بعتك هذا الكتاب بعشرة، أو قال: خذ هذا الكتاب بعشرة، فأخذ المشتري، ولم يتكلم وأعطاه العشرة، وهذا يدلنا على أن مسألة المعاملات أمرها سهل يرجع فيه إلى ما تعارفه الناس، والناس كلهم قد تعارفوا على أن هذه المعاطاة تعدّ عقداً واضحاً.

والخلاصة: أن لعقد البيع صيغتين: قولية وفعلية.

القولية: هي الإيجاب والقبول، والإيجاب هو اللفظ الصادر من البائع أو من يقوم مقامه، والقبول هو اللفظ الصادر من المشتري أو من يقوم مقامه، وقد ذكرنا شروط القبول.

وأما الصيغة الثانية فهي الصيغة الفعلية وهي المعاطاة.

وعلل الشارح

(1)

بعلة ينبغي أن نفهمها قال: «لعدم التعبد

ص: 105

فيه»، أي: لأنه لا تعبد بالصيغة، فكل ما دل على العقد فهو عقد.

قوله: «ويشترط التراضي منهما» لما ذكر المؤلف رحمه الله تعريف البيع، ذكر شروطه، وكان الأولى أن يذكر حكمه؛ لأن التعريف يستلزم تصور الشيء، وبعد التصور يكون الحكم، ولهذا من الكلمات السائرة عند العلماء:«الحكم على الشيء فرع عن تصوره» وقال ابن القيم في النونية:

إن البدار بِرَدِّ شيء لم تحط

علماً به سبب إلى الحرمان

فالبيع جائز، وقد سبق لنا أنه جائز بالكتاب والسنة والإجماع والنظر الصحيح، لكن لا بد فيه من شروط، ومن حكمة هذه الشريعة أنها جعلت للعبادات شروطاً، وللعقود شروطاً، وللتبرعات شروطاً؛ لأن هذه الشروط هي التي تضبط ما كانت شرطاً فيه، وإلا صارت المسألة فوضى، فالشروط من ضرورات انتظام الأحكام؛ ولهذا كان للبيع شروط، وللإجارة شروط، وللوقف شروط، وللرهن شروط، وهلم جرًّا حتى تنضبط الأحكام والعقود.

وهذه الشروط التي يذكرها العلماء، أو الأركان أو الواجبات ادّعى بعض الناس أنها بدعة، ولا يجوز التصنيف على هذا الوجه.

فيقال لهم: إنْ تعبدنا لله تعالى بذلك التصنيف فبدعة، وإن أردنا تقريب العلوم إلى طالبيها فليس ببدعة، وما زال الناس يؤلفون بالأبواب والفصول والكتب، نعم إذا وضع شرط لا دليل

ص: 106

عليه فحينئذٍ يرد، أما مع الدليل فليس فيه إشكال، والرسول صلى الله عليه وسلم يذكر أحياناً ما يدل على ذلك كقوله صلى الله عليه وسلم:«سبعة يظلهم الله في ظله»

(1)

، مع أن هناك آخرين يظلهم الله غير هؤلاء السبعة، وكقوله: «ثلاثة لا يكلمهم الله

»

(2)

، وما أشبه ذلك.

فالبيع له شروط سبعة، فإذا قال قائل: ما الدليل على هذا الحصر؟

فالجواب: التتبع، أي أن العلماء تتبعوا فوجدوا أنه لا بد من شروط يصح بها البيع وهي سبعة، وسنبين إن شاء الله ـ تعالى ـ أن هذه السبعة تدور على ثلاثة أمور: الظلم، والغرر، والربا، لكن التفصيل حسن.

‌وَيُشْتَرَطُ التَّرَاضِي مِنْهُمَا، فَلَا يَصِحُّ مِنْ مُكْرَهٍ بِلَا حَقٍّ ..............

وقوله: «ويشترط التراضي منهما» هذا هو الشرط الأول: التراضي منهما.

أي يشترط التراضي من البائع والمشتري، ودليل ذلك:

الأول: من القرآن قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]، ومعنى {تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ}: أي تجارة صادرة عن تراضٍ منكم.

الثاني: من السنة قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروى عنه: «إنما البيع

(1)

أخرجه البخاري في الأذان/ باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة (660) ومسلم في الزكاة/ باب فضل إخفاء الصدقة (1031) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

أخرجه مسلم في الإيمان/ باب بيان غلظ تحري إسبال

(106) عن أبي ذر رضي الله عنه.

ص: 107

عن تراضٍ»

(1)

.

الثالث: أن النظر الصحيح يقتضي ذلك أيضاً؛ لأننا لو لم نشترط التراضي لأصبح الناس يأكل بعضهم بعضاً، فكل إنسان يرغب في سلعة عند شخص يذهب إليه ويقول له: اشتريتها منك بكذا قهراً عليك، وهذا يؤدي إلى الفوضى والشغب والعداوة والبغضاء.

قوله: «فلا يصح من مكره بلا حق» أي: لا يصح البيع من مكره بلا حق، والمكره هو الملجأ إلى البيع، أي: المغصوب على البيع، فلا يصح من المكره إلا بحق، فلو أن سلطاناً جائراً أرغم شخصاً على أن يبيع هذه السلعة لفلان فباعها، فإن البيع لا يصح؛ لأنها صدرت عن غير تراضٍ، ومثل ذلك ما لو علمت أن هذا البائع باع عليك حياءً وخجلاً، فإنه لا يجوز لك أن تشتري منه ما دمت تعلم أنه لولا الحياء والخجل لم يبع عليك، ولهذا قال العلماء رحمهم الله: يحرم قبول هدية إذا علم أن الرجل أهداها له على سبيل الحياء والخجل؛ لأن هذا وإن لم يصرح بأنه غير راضٍ، لكن دلالة الحال على أنه غير راضٍ.

وقوله: «فلا يصح من مكره بلا حق» أفادنا رحمه الله أنه إذا كان مكرهاً بحق فلا بأس؛ لأن هذا إثبات للحق، أي: إذا أكرهنا الإنسان على البيع بحق، فإن هذا إثبات للحق وليس ظلماً ولا عدواناً.

(1)

أخرجه ابن ماجه في التجارات/ باب بيع الخيار (2185)؛ وابن حبان (4967) إحسان؛ والبيهقي (6/ 17) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

وقال البوصيري: «هذا إسناد صحيح رجاله ثقات» .

ص: 108

مثال ذلك: شخص رهن بيته لإنسان في دين عليه وحل الدين فطالب الدائن بدينه، ولكن الراهن الذي عليه الدين أبى، ففي هذه الحال يجبر الراهن على بيع بيته؛ لأجل أن يستوفي صاحب الحق حقه فيرغم على ذلك.

مثال آخر: أرض مشتركة بين شخصين وهي أرض صغيرة لا تمكن قسمتها، فطلب أحد الشريكين من الآخر أن تباع فأبى الشريك الآخر، فهنا تُباع الأرض قهراً على من امتنع؛ لأن هذا بحق من أجل دفع الضرر عن شريكه.

فالضابط إذاً: (أنه إذا كان الإكراه بحق فإن البيع يصح ولو كان البائع غير راض بذلك)؛ لأننا هنا لم نرتكب إثماً لا بظلم ولا بغيره فيكون ذلك جائزاً.

مسألة ذكرها في الروض

(1)

:

إذا أكره على شيء فباع ملكه من أجل دفع ما أكره عليه، بمعنى أنه جاء إنسان ظالم وأكرهه، وقال له: لا بد أن تدفع لي الآن مائة ألف ريال وإلا حبستك، والرجل ليس عنده شيء فباع بيته ليسدد مائة ألف ريال فما حكم بيعه لبيته؟

الجواب: إننا إذا طبقنا مسألتنا هذه على هذا الشرط، فهل هذا الرجل أكره على بيع البيت، أو أكره على دفع المال؟

الجواب: أكره على دفع المال، فجائز أن يذهب إلى شخص يستلف منه أو يستقرض أو يأخذ من الزكاة وما أشبه

ص: 109

ذلك، إذاً فهو لم يكره على بيع البيت فيكون البيع صحيحاً.

بقي أن يقال: هل يكره أن يُشترى منه بيته؛ لأنه مكره على بيعه ولا يرغب أن يخرج عن ملكه؟

الجواب: قال الفقهاء: إنه يكره أن يُشترى منه

(1)

.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: لا يكره؛ لأننا إذا اشترينا منه فقد أحسنا إليه لدفع ضرورته، والصحيح أن في ذلك تفصيلاً:

إن كان الناس كلهم سيُضربون عن شرائه ويؤدي ذلك إلى أن يتراجع المُكره، فهنا نقول: يحرمُ الشراء منه، ويجب علينا ألا نشتري إذا علمنا أن في ذلك رفعاً للإكراه.

أما إذا كان المُكره لا يمكن أن يتراجع عن إكراهه، فلا وجه لكراهة الشراء منه، بل إن الشراء منه في الواقع إحسان إليه.

‌وَأَن يَكُونَ العَاقِدُ جَائِزَ التَّصَرُّفِ. فَلَا يَصِحُّ تَصَرُّفُ صَبِيٍّ وَسَفِيهٍ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيٍّ.

قوله: «وأن يكون العاقد جائز التصرف» هذا هو الشرط الثاني: أن يكون العاقد جائز التصرف.

والعاقد هو البائع والمشتري، وهنا قال:«جائز التصرف» ولم يقل: «جائز التبرع» ؛ وذلك لأنه لا يشترط أن يكون البائع أو المشتري جائز التبرع، بل يشترط أن يكون جائز التصرف، فالتبرع أضيق من التصرف، فمن جاز تبرعه جاز تصرفه، وليس كل من جاز تصرفه جاز تبرعه.

وجائز التصرف من جمع أربعة أوصاف: أن يكون حرّاً، بالغاً، عاقلاً، رشيداً.

(1)

وهو المذهب.

ص: 110

فالأول: أن يكون حرّاً، وضده العبد، والعبد لا يصح بيعه ولا شراؤه إلا بإذن سيده؛ ووجه ذلك أن العبد لا يملك، فما في يد العبد ملك لسيده؛ والدليل على هذا، قول النبي صلى الله عليه وسلم:«من باع عبداً له مال فماله لبائعه إلا أن يشترطه المُبتاع»

(1)

، فهنا نقول: العبد لا يصح بيعه إلا بإذن سيده.

الثاني: أن يكون بالغاً، وضد البالغ الصبي.

ولهذا قال المؤلف: «فلا يصح تصرف صبي وسفيه بغير إذن ولي» حتى وإن كان مراهقاً له أربع عشرة سنة، وكان حاذقاً جيداً في البيع والشراء، فإنه لا يصح بيعه؛ لأنه صغير لم يبلغ.

والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6]، فاشترط الله لدفع أموالهم شرطين: بلوغ النكاح وذلك بالبلوغ، والرشد.

الثالث: أن يكون عاقلاً، وضده المجنون، فالمجنون لا يصح تصرفه، ومن ذلك المُهَذْري لا يصح بيعه، فلو أن رجلاً أصيب بالهذرات، أي: هرم وكبر، وجاء إلى إنسان، وقال له: أنا أبيع عليك بيتي وسيارتي فلا يصح البيع منه لفقد العقل، ومن شرط جواز التصرف أن يكون الإنسان عاقلاً.

الرابع: أن يكون رشيداً، والرشيد هو الذي يحسن التصرف في ماله، بحيث لا يبذله في شيء محرم، ولا في شيء لا فائدة منه، كأن يبيع الشيء الذي يساوي مائة بعشرة، أو يشتري ما يساوي عشرة بمائة، فالمهم أنه يحسن التصرف، وضد الرشيد

(1)

سبق تخريجه ص (61).

ص: 111

السفيه؛ ولهذا قال المؤلف: «وسفيه» أي ولا يصح تصرف سفيه بغير إذن وليّ، فإن أذن له فلا بأس.

والولي هو من يتولى مال السفيه، وسيأتي ـ إن شاء الله ـ في «باب الحجر» من الذي يتولى مال السفيه، ولكن ظاهر كلام المؤلف أنه يصح إذن الولي للسفيه بالتصرف المطلق والمعين.

المطلق، بأن يقول: خذ هذا المال واتجر به.

والمعين، أن يقول: خذ هذا المال اتجر به في شيء معين كبيع الدجاج، أو بيع البيض، أو بيع الأشياء الخفيفة، هذا ظاهر كلام المؤلف، ولكن هذا الظاهر غير مراد، بل يقال: بغير إذن وليه في الشيء المعين بأن يأتي إليه، ويقول: أنا أريد أن أشتري مثلاً دبَّاباً، فيقول: اشتر، أو يأتي إليه ويقول: أنا أريد أن أبيع دبَّابي ـ مثلاً ـ فيقول: بعه، إلا في الشيء اليسير الذي جرت العادة بإعطاء الصغار إياه فلا بأس.

ولكن هل يجوز أن يأذن للسفيه أو الصبي إرضاء لهما من غير مراعاة المصلحة المالية؟

الجواب: لا، ولذلك نقول: يحرم على الولي أن يأذن بدون مصلحة؛ لقول الله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أْحْسَنُ} [الأنعام: 24].

‌وأن تَكُونَ العَيْنُ مُبَاحَةَ النَّفْعِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ كَالبَغْلِ وَالحِمَارِ وَدُودِ القَزِّ وَبَزْرِهِ وَالفِيْلِ وَسِبَاع البَهَائِمِ الَّتِي تَصْلُحُ لِلصَّيْدِ إِلاَّ الكَلْبَ وَالحَشَرَاتِ وَالمُصْحَفَ وَالمَيْتَةَ وَالسَّرْجِينَ النَّجسَ،

..

قوله: «وأن تكون العين مباحة النفع من غير حاجة» ، هذا هو الشرط الثالث أن تكون العين مباحة النفع من غير حاجة، أي: أن تكون العين التي وقع العقد عليها بالشراء مباحة النفع بغير حاجة، وهذه تقتضي ثلاثة شروط:

ص: 112

الأول: أن يكون فيها نفع.

الثاني: أن يكون النفع مباحاً.

الثالث: أن تكون الإباحة بلا حاجة.

فخرج بقولنا: مباحة النفع، محرمة النفع، مثل آلات اللهو، فإنه لا يجوز بيعها؛ لأن منفعتها محرمة، وكذلك الخمر؛ لأن منفعته محرمة.

وخرج بقولنا: أن يكون فيها نفع، ما لا نفع فيه كالحشرات، فلا يصح بيعها، فلو أن شخصاً جمع صراصر في إناء، وقال لإنسان: أبيع عليك هذه الصراصر فلا يجوز بيعها؛ لأنها ليس فيها نفع، لكن لو جمع جراداً في إناء، وقال: أبيع عليك هذا الجراد فهنا يجوز البيع؛ لأن فيها نفعاً مباحاً؛ إذاً الحشرات لا يجوز بيعها؛ لأنها ليس فيها نفع.

وقولنا: من غير حاجة، احترازاً مما إذا كانت مباحة النفع لحاجة كالكلب، فالكلب يباح نفعه لكن لا مطلقاً بل لحاجة كالصيد، والحرث والماشية، فلا يصح بيع الكلب، حتى وإن كان كلب صيد، ولو كان معلماً مع أن فيه نفعاً مباحاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب

(1)

.

«أما الهر» فالواقع أن فيه نفعاً؛ لأنه يأكل الفأر، والحشرات، والأوزاغ والصراصر، وبعض الهررة يدور على الإنسان إذا نام، وتجد لصدره صوتاً وحركة، وإذا قرب من الإنسان النائم أي حشرة

(1)

أخرجه البخاري في البيوع/ باب ثمن الكلب (2237) ومسلم في البيوع/ باب تحريم ثمن الكلب (1567) عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه.

ص: 113

ضربها بيده، ثم إن اشتهاها أكلها أو تركها، فهذا نفع، ولهذا قال الفقهاء: إنه يجوز بيع الهر

(1)

، لكن قد ورد في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الهر

(2)

، ولهذا اختلف العلماء في ذلك.

فمنهم من أجازه، وحمل الحديث الذي فيه النهي على هرٍّ لا فائدة منه؛ لأن أكثر الهررة معتدٍ، لكن إذا وجدنا هرًّا مربى ينتفع به فالقول بجواز بيعه ظاهر؛ لأن فيه نفعاً.

أما «بيع الميتة» فالميتة فيها نفع مباح، لكنه للضرورة، ولهذا حرم بيعها.

إذاً مباح من غير حاجة، وهل نقول: من غير ضرورة أو نكتفي بقولنا من غير حاجة؟

الجواب: الثاني؛ لأنه إذا كان لضرورة فهو من باب أولى فلا.

أما إذا كان في العين نفع، لكنه نفع مقيد ليس نفعاً مطلقاً مثل جلد الميتة إذا دبغ، فالمشهور من المذهب أنه لا ينتفع به في كل شيء، وإنما ينتفع به في اليابسات، وبناءً على هذا يقولون: لا يصح بيعه؛ لأن نفعه ليس مطلقاً، بل هو نفع مقيد، فيشترط ألا يكون النفع مقيداً، فإن كان مقيداً فإنه لا يصح بيعه؛ لأن المشتري لا يملك به عموم الانتفاع، لكن الراجح في جلد الميتة أنه إذا كان يطهر بالدباغ يصح بيعه.

(1)

وهو المذهب.

(2)

أخرجه مسلم في المساقاة/ باب تحريم ثمن الكلب (1569) عن جابر رضي الله عنه.

ولفظه: عن أبي الزبير قال: «سألت جابراً عن ثمن الكلب والسنور؟ قال: زجر النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك» .

ص: 114

قوله: «كالبغل والحمار» البغل، حيوان متولد بين الحمار والفرس، وهو أن ينزو الحمار على الفرس فتلد ما يسمى بالبغل، وفيه من طبائع الحمير ومن طبائع الخيل، وحكمه أنه حرام؛ لأنه متولد من حلال وحرام على وجه لا يتميز فغُلبَ جانب التحريم.

فإذا قال قائل: كيف نغلب جانب التحريم؟ ولماذا لا نغلب جانب الحل؟

العلماء يقولون: إذا اجتمع موجب التحليل والتحريم على وجه لا تمييز بينهما غلب جانب التحريم؛ لأن اجتناب الحرام واجب، ولا يمكن اجتنابه إلا باجتناب الحلال، واجتناب الحلال حلال، فأنا إذا اجتنبت الحلال لا حرج عليَّ، لكن لو فعلت الحرام فعلي الإثم؛ لهذا غلب جانب التحريم.

وقيل: إن البغل حرام لكن يجوز بيعه؛ لأنه ما زال المسلمون يتبايعون البغال من عهد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، وكذلك الحمار يجوز بيعه، والدليل الإجماع، فالمسلمون مجمعون على بيع الحمير من عهد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا.

فإن قال قائل: يشكل على ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إن الله إذا حرم شيئاً حرم ثمنه»

(1)

والبغل حرام والحمار حرام؟

فنقول: حرم ثمنه، أي ثمن ذلك المحرم، ولهذا لو اشترى

(1)

أخرجه الإمام أحمد (1/ 247، 293، 332)؛ وأبو داود في البيوع/ باب في ثمن الخمر والميتة (3488)؛ وابن حبان (4938) إحسان، والطبراني (12887)؛ والبيهقي (6/ 13) عن ابن عباس رضي الله عنهما. وصححه ابن حبان، وقال ابن القيم في «الهدي» (5/ 746):«إسناده صحيح» .

ص: 115

شخص بغلاً ليأكله فهو حرام عليه، فلا يجوز أن يأخذ على شيء محرم عوضاً، وهو يشتريه لا لأكله، ولكن لركوبه، وركوبه والانتفاع به حلال، فلا يعارض الحديث.

قوله: «ودود القز» القز نوع من أفخر أنواع الحرير، وله دود هذه الدودة ـ بإذن الله ـ يظهر منها هذا القز، وهي بنفسها تطوي على نفسها هذا القز حتى إذا غمها، ماتت ويبست، فأُخِذَ هذا القز، لكنه بكميات كبيرة وهائلة.

فدود القز يجوز بيعه مع أنه حشرة؛ لأنه ينتفع بها.

قوله: «وبزره» كذلك بزر هذا الدود الذي لم يصل إلى حد أن يتولد منه القز، يجوز بيعه؛ لأنه ينتفع به في المآل.

قوله: «والفيل، وسباع البهائم التي تصلح للصيد» الفيل معروف، يجوز بيعه؛ لأنه يُحمل عليه الأثقال ففيه منفعة، وكذلك سباع البهائم التي تصلح للصيد كالنمور، والفهود، والآساد، إن كانت تصلح، وكذلك الصقور وغيرها، كل سباع البهائم من طائر وماش إذا كان يصلح للصيد فإنه يجوز بيعه، لأنه يباع لمنفعة مباحة فجاز كالحمار.

قوله: «إلا الكلب» فإنه لا يجوز بيعه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعه مع أن الكلب يصلح للصيد، أليس قد أباح النبي صلى الله عليه وسلم اقتناءه لثلاثة أمور: الحرث، والماشية، والصيد

(1)

؟ ومع ذلك لا

(1)

لحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من اقتنى كلباً إلا كلباً ضارياً لصيد أو ماشية فإنه ينقص من أجره كل يوم قيراطان» ، أخرجه البخاري في الذبائح والصيد/ باب من اقتنى كلباً ليس بكلب صيد أو ماشية (4581)؛ ومسلم في المساقاة/ باب الأمر بقتل الكلاب وبيان نسخه (1574).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «من أمسك كلباً فإنه ينقص من عمله كل يوم قيراط إلا كلب حرث أو ماشية» ، أخرجه البخاري في الحرث والمزارعة/ باب اقتناء الكلب للحرث (2322)؛ ومسلم (1575)(59).

ولمسلم: «من اقتنى كلباً ليس بكلب صيد ولا ماشية ولا أرض، فإنه ينقص من أجره قيراطان كل يوم» (1575) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 116

يجوز بيعه، حتى لو باعه لهذا الغرض، أي للصيد فإنه لا يجوز.

فإن قال قائل: كيف مُنع بيع الكلب مع ما فيه من المنافع، ولم تمنع سباع البهائم التي تصلح للصيد؟

قلنا: التفريق بالنص، فالنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب

(1)

، ولا يصح أن تقاس سباع البهائم التي تصلح للصيد عليه، لدخولها في عموم قوله تعالى:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275]؛ ولأنها أخف ضرراً من الكلب، إذ إن الكلب إذا ولغ في إناء يجب أن يغسل سبعاً إحداها بالتراب، وغيره من السباع لا يجب التسبيع فيه ولا التتريب، فظهر الفرق وامتنع القياس.

فإن قال قائل: أليس قد ورد فيما رواه النسائي

(2)

، وغيره، استثناء كلب الصيد؟

(1)

سبق تخريجه ص (113).

(2)

في البيوع/ باب ما استثني من بيع الكلاب (7/ 190، 309) والإمام أحمد (3/ 17) عن جابر رضي الله عنه، قال النسائي:«منكر» ، وانظر:«بيان الوهم والإيهام» (1288).

ص: 117

قلنا: بلى ولكن المحققين من أهل الحديث والفقه قالوا: إن هذا الاستثناء شاذ فلا يعول عليه، وأيضاً لو صح هذا الاستثناء لكان نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب من باب اللغو؛ لأن كلباً لا يصاد به لا ينتفع به في الحرث، ولا الماشية، لا يمكن أن يباع، فلذلك تعين أن يكون النهي عن ثمن الكلب إنما هو في الكلب الذي ينتفع به ويباح اقتناؤه.

قوله: «والحشرات» الحشرات لا يصح بيعها، والعلة أنه ليس فيها نفع، فبذل المال فيها إضاعة له، وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال

(1)

، وعلم من هذا التعليل أنه لو كان فيها نفع جاز بيعها؛ لأن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، ومن النفع العلق لمص الدم، والديدان لصيد السمك.

قوله: «والمصحف» رحمة الله على المؤلف في سياق هذه الصيغة؛ لأن عطف المصحف على الحشرات أسلوب ليس بجيد، لكن ـ عفا الله عنه ـ لو أنه أفرده بجملة وحده لكان أولى، لكن أراد رحمه الله أن المصحف لا يصح بيعه، والدليل على هذا أثر ونظر.

أما الأثر: فأثر ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: «وددت أن الأيدي تقطع ببيعه»

(2)

، فجعل آخذ ثمنه بمنزلة السارق تقطع يده.

(1)

أخرجه البخاري في الاعتصام/ باب ما يكره من كثرة السؤال (7292)؛ ومسلم في الأقضية/ باب النهي عن كثرة المسائل (1715) عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.

(2)

رواه ابن أبي شيبة (6/ 61)؛ والبيهقي (6/ 16).

ص: 118

وأما النظر فيقال: إن كان الإنسان مستغنياً عنه فبذله واجب، والواجب لا يجوز أخذ العوض عنه، وإن كان غير مستغن عنه فإن بيعه حرام عليه؛ لأنه محتاج له فلا يصح.

وتعليل نظري آخر هو أن في بيعه ابتذالاً له، كما تبتذل السلع، والمصحف يجب أن يحترم ويعظم.

وقال بعض العلماء: إنه يحرم بيعه ويصح، وفي هذا نظر؛ لأنه مخالف للقواعد

(1)

، إذ إن القاعدة أن كل عقد محرم فإنه لا يصح، فهذا القول فيه نظر، فإما أن نقول: يحرم ولا يصح، وإما أن نقول بما عليه جمهور العلماء وعمل المسلمين من أزمنة متطاولة: إنه يجوز، ويصح بيع المصحف.

والصحيح: أنه يجوز بيع المصحف ويصح للأصل، وهو الحل، وما زال عمل المسلمين عليه إلى اليوم، ولو أننا حرمنا بيعه لكان في ذلك منع للانتفاع به؛ لأن أكثر الناس يشح أن يبذله لغيره، وإذا كان عنده شيء من الورع وبذله، فإنه يبذله على إغماض، ولو قلنا لكل أحد إذا كنت مستغنياً عن المصحف، يجب أن تبذله لغيرك لشق على كثير من الناس.

وأما ما ورد عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فلعله كان في وقت يحتاج الناس فيه إلى المصاحف، وأن المصاحف قليلة فيحتاجون إليها، فلو أبيح البيع في ذلك الوقت لكان الناس يطلبون أثماناً كثيرة لقلته؛ فلهذا رأى رضي الله عنه ألا يباع.

(1)

وهذا هو المذهب.

ص: 119

قوله: «والميتة» هذا عطف على قوله: «إلا الكلب» ، يريد رحمه الله أن يبين ما يحرم بيعه من الأعيان: فذكر الكلب، والحشرات، والمصحف، والميتة.

والحشرات استثنينا منها ما يمكن الانتفاع به، ومثَّلنا لذلك بالعَلَق لمص الدم، والديدان لصيد السمك.

الميتة لا يصح بيعها؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله حرم بيع الميتة» ، وأضاف التحريم إلى الله تأكيداً له؛ لأن إضافة الشيء إلى ملك الملوك معناه قطع النزاع فيه، وأنه لا يمكن لأحد أن ينازع، فالله عز وجل حرم بيع الميتة.

وأورد الصحابة رضي الله عنهم وهم الحريصون على العلم، إيراداً «فقالوا: يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة فإنه تطلى بها السفن، وتدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس؟».

السفن من خشب وتطلى بالشحوم؛ ليكون بها الدهن الذي يزل عنه الماء ولا يدخل في الخشب، لأنه لو دخل في الخشب لأثقلها.

«وتدهن بها الجلود» ـ وهذا ظاهر ـ لتلين؛ لأن الجلد إذا دهن لان.

«ويستصبح بها الناس» ، أي: يجعلونها مصابيح، فقد كان الناس في الأول يجعلون الدهن بمنزلة (الوقود) يضعونه في إناء، ويضعون فيه فتيلاً ويوقدون رأس الفتيل للاستضاءة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«لا، هو حرام»

(1)

.

(1)

أخرجه البخاري في البيوع/ باب بيع الميتة والأصنام (2236)؛ ومسلم في المساقاة/ باب تحريم بيع الخمر والميتة (1581) عن جابر رضي الله عنه.

ص: 120

فاختلف العلماء رحمهم الله في قوله: «لا، هو حرام» فقيل: إنه البيع؛ لأنه موضوع الحديث، وهو المتحدثُ عنه:«إن الله حرم بيع الميتة» ، والصحابة إنما أوردوا الانتفاع بها ليسوِّغوا جواز بيعها، ويبينوا أن هذه المنافع لا تذهب هدراً فينبغي أن تباع، فقال صلى الله عليه وسلم:«لا، هو ـ أي البيع ـ حرام» .

وهذا القول هو الصحيح أن الضمير في قوله: «هو حرام» يعود على البيع حتى مع هذه الانتفاعات التي عدها الصحابة رضي الله عنهم؛ وذلك لأن المقام عن الحديث في البيع.

وقيل: «هو حرام» ، يعني الانتفاع بها في هذه الوجوه، فلا يجوز أن تطلى بها السفن، ولا أن تدهن بها الجلود، ولا أن يستصبح بها الناس، ولكن هذا القول ضعيف.

والصحيح أنه يجوز أن تطلى بها السفن، وتدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس.

مسألة: هل يستثنى من الميتات شيء؟

الجواب: يستثنى من الميتة الميتات الطاهرة التي تؤكل، فإن بيعها حلال؛ لأنها حلال، والله تعالى لا يحرم بيع شيء أحله لعباده، مثل السمك، فلو جاء إنسان بسمك ميت فإنه يحل بيعه، وكذلك الجراد يحل بيعه ولو ميتاً، فلو وجد الإنسان جراداً ميتاً على ظهر الأرض فحازه ثم باعه فلا بأس؛ لأن ميتته تؤكل.

مسألة: ما حكم بيع الثعلب المحنط؟

ص: 121

لا يجوز؛ لأنه ميتة وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الخمر والميتة

(1)

، وعلى هذا فالذي يوجد الآن في الأسواق يحرم شراؤه وبيعه.

فلو كان المحنط أرنباً فإن حُنِّطَ بدون تذكية بأن ضرب بإبرة أماتته وبقي هكذا فهو حرام لأنه ميتة، وإن ذُكِيَ ذكاة شرعية ولكنه لم يسلخ جلده وبقي، فينظر هل به فائدة أم لا؟ فإن كان فيه فائدة جاز شراؤه وبيعه وإلا فلا.

قوله: «والسرجين النجس» يعني ولا يصح بيع السرجين النجس.

والسرجين هو ما يعرف بالسماد الذي تسمد به الأشجار والزروع، وهذا السماد ينقسم إلى ثلاثة أقسام: سماد نجس، وسماد طاهر، وسماد متنجس.

فالسماد النجس لا يصح بيعه، كروث الحمير، وعذرة الإنسان، وما أشبه ذلك؛ والعلة في ذلك أن هذا النوع من السماد لا يصح أن يُسمد به، يعني لو أن الإنسان سمد بنجس كان حراماً.

لكن أكثر أهل العلم يجيزون السماد بالنجس وأن تسمد الأشجار والزروع بروث الحمير وعذرات الإنسان، فهل نقول على هذا القول: إنه يجوز بيعها؛ لأنه ينتفع بها؟

الظاهر لا يجوز، وإن كان ينتفع بها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما

(1)

سبق تخريجه ص (120).

ص: 122

قال: «إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام، قالوا: أرأيت شحوم الميتة فإنه تطلى بها السفن، وتدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس؟ يعني يتخذون منها المصابيح، قال: لا، هو حرام»

(1)

يعني البيع، مع أن فيه انتفاعاً، لكن منع النبي صلى الله عليه وسلم من بيعه؛ لأنه نجس، فعلى هذا نقول: السرجين النجس لا يصح بيعه، حتى لو قلنا بجواز السماد به.

الثاني من أقسام السماد: المتنجس يجوز بيعه؛ لأنه يمكن تطهيره.

ومثل المتنجس تراب بال عليه حيوان من الحيوانات التي بولها نجس، هذا التراب أصله طاهر، ووردت عليه النجاسة فيكون متنجساً، فهل يجوز بيع هذا التراب المتنجس قبل أن نطهره؟

الجواب: نعم يجوز، لأنه يمكن إزالة نجاسته، كما لو باع الإنسان ثوباً متنجساً، أليس إذا كان عنده ثوب متنجس وباعه على أحد من الناس فالبيع جائز، لكن يجب أن يخبر المشتري أنه متنجس؛ لئلا يغتر به.

الثالث: الطاهر، وبيعه حلال من باب أولى.

‌وَالأدهَانَ النَّجِسَةَ وَلَا المُتَنِجِّسَة

قوله: «والأدهان النجسة» كالأدهان التي تكون من شحم الميتة؛ لأن الميتة نجسة والأدهان الخارجة من شحمها نجسة، فالأدهان النجسة لا يجوز بيعها، ودليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم:

(1)

سبق تخريجه ص (120).

ص: 123

«إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام، قالوا: أرأيت شحوم الميتة فإنه تطلى بها السفن، وتدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس؟ قال: لا، هو حرام»

(1)

أي: بيعها، مع أنهم ذكروا أن الناس ينتفعون بها، وهل يجوز الانتفاع بها؟ الجواب: نعم، يجوز الانتفاع بها على وجه لا تتعدى، كأن تدهن بها الجلود، وتطلى بها السفن، ويستصبح بها الناس.

قوله: «ولا المتنجسة» يعني ولا يصح بيع الأدهان المتنجسة، وهي الأدهان الطاهرة التي وردت عليها النجاسة كإنسان عنده جالون من الزيت وقع فيه نجاسة، فالمذهب لا يجوز بيع الأدهان المتنجسة؛ لأنه لا يمكن تطهيرها، وإذا لم يمكن تطهيرها صارت كالنجسة، والصحيح أن بيع الأدهان المتنجسة جائز؛ لأنه يمكن تطهيرها، فتكون كبيع الثوب المتنجس.

إذاً كلام المؤلف في أن الأدهان النجسة لا يجوز بيعها صحيح، ودليله حديث جابر رضي الله عنه: «إن الله حرم بيع الخمر

»، والمتنجسة يقول المؤلف: إنه لا يجوز بيعها، والصحيح أن بيعها جائز؛ لأن منع بيعها بناءً على أنه لا يمكن تطهيرها، ولكن الصحيح أن تطهيرها ممكن، ولكن كيف يمكن تطهيرها وهي أدهان؟

الجواب: يمكن هذا بإضافة مواد إليها تطهرها، أو بإضافة ماء إليها وغليها، المهم أنه متى أمكن تطهيرها فإنه يجوز بيعها.

(1)

سبق تخريجه ص (120).

ص: 124

قوله: «ويجوز الاستصباح بها في غير مسجد» «بها» ، الضمير يعود على أقرب مذكور، وهو الأدهان المتنجسة.

‌وَيَجُوزُ الاسْتِصْبَاحُ بِهَا فِي غَيْرِ مَسْجِدٍ ............

«يجوز الاستصباح بها» أي: اتخاذ المصابيح منها.

وكيف ذلك؟ كانوا فيما سبق ليس عندهم الكيروسين ولا الغاز ولا الكهرباء، فبماذا يوقدون؟ يوقدون بالأدهان، يأتون بالدهن ويضعونه في إناء صغير ويضعون فيه فتيلة ويوقدون فيه النار، وما دام الدهن باقياً فإنها تشتعل، فيقول المؤلف:«يجوز الاستصباح بها في غير مسجد» .

وقوله: «يجوز الاستصباح بها» هذه الجملة جملة استطرادية؛ لأن الكلام هنا ليس في جواز الاستعمال وعدمه، ولكنه في جواز البيع وعدمه، ولكنه ذكرها رحمه الله استطراداً، والاستطراد في مسائل العلم إذا دعت الحاجة إليه أو اقتضته المصلحة من هدي النبي صلى الله عليه وسلم، ومثاله من السنة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم سئل عن الوضوء بماء البحر؟ فقال: «هو الطهور ماؤه، الحل ميتته»

(1)

، فقوله:«الحل ميتته» لم يرد عنها سؤال؛ لكن لاقتضاء المصلحة ذلك ذكرها.

(1)

أخرجه الإمام أحمد (2/ 237، 338، 361)؛ وأبو داود في الطهارة/ باب الوضوء بماء البحر (83)؛ والترمذي في الطهارة/ باب ما جاء في ماء البحر أنه طهور (69)؛ والنسائي في المياه/ باب الوضوء بماء البحر (1/ 176)؛ وابن ماجه في الطهارة/ باب الوضوء بماء البحر (386)؛ ومالك (1/ 22)؛ والشافعي في «المسند» (42) ترتيب؛ والدارمي (1/ 201)؛ وابن خزيمة (111)؛ والحاكم (1/ 141)؛ والبيهقي (1/ 3) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

وصححه: البخاري، والترمذي، وابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي.

انظر: «التلخيص» (1)؛ و «نصب الراية» (1/ 95).

ص: 125

إذاً الاستصباح بالمتنجسة جائز، لكن اشترط المؤلف ألا يكون ذلك في المسجد، فإن كان في المسجد فإنه لا يجوز الاستصباح بها.

مثال ذلك: رجل عنده إناء من دهن وقعت فيه نجاسة، فصار نجساً، فيجوز أن يستصبح به في بيته، أما في المسجد فإنه لا يجوز؛ لأن هذا يؤدي إلى تنجيس المسجد بالدخان، وتنجيس المسجد حرام.

وهذا ينبني على أن النجاسة لا تطهر بالاستحالة، فأما على القول بأن النجاسة تطهر بالاستحالة فإنه يجوز، وللعلماء في ذلك قولان سبقا في باب النجاسات، والاستحالة تحول العين من عين إلى أخرى، مثال ذلك: كلب وقع في مملحة فصار ملحاً، وهذا ممكن، فالحديد إذا وقع في المملحة صار ملحاً، وهل هو باق على نجاسته أو لا؟

الجواب على الخلاف: إن قلنا: بأن الاستحالة لا تطهر النجس فإن هذه الكتلة من الملح نجسة، وإن قلنا: بأن النجاسة تطهر بالاستحالة؛ لأنها انتقلت من عين إلى أخرى، قلنا: إن هذه الكتلة من الملح طاهرة.

فدخان النجاسة مستحيل من عين إلى دخان، فإذا قلنا بطهارة النجس إذا استحال، قلنا: يجوز الاستصباح بالأدهان النجسة والمتنجسة في المسجد وغير المسجد.

وفهم من قول المؤلف: «يجوز الاستصباح بها» أي بالمتنجسة: أنه لا يجوز الاستصباح بالنجسة كدهن الميتة، مطلقاً

ص: 126

لا في المسجد ولا غيره، وهذا محل خلاف بين العلماء مبني على قول النبي صلى الله عليه وسلم:«هو حرام» ، هل يعود الضمير على الانتفاع الذي ذكره الصحابة، أو يعود على البيع الذي تحدث عنه الرسول صلى الله عليه وسلم؟

الثاني على رأي، والأول على رأي آخر، والله أعلم.

يستثنى من جنس الميتات: كل ميتة يحل أكلها.

ويستثنى من أجزاء الميتة:

أولاً: ما هو في حكم المنفصل، مثل: الشعر، والوبر، والصوف، والريش، وما أشبه ذلك، فهذا يجوز بيعه، لأنه طاهر، فلو ماتت شاة لإنسان وفيها صوف، وجزه وباعه فلا حرج.

ثانياً: يستثنى من ذلك على القول الراجح الجلد؛ لأن الجلد يمكن تطهيره، فهو كالثوب المتنجس.

وقيل: لا يستثنى، لأنه جزء من أجزاء الميتة فهو نجس، ثم لا نعلم هذا الذي اشتراه أيدبغه فيطهر أم لا؟ وهذا القول أحوط، والأول أقعد، أنه ما دام يمكن أن يُطهر وينتفع به فإنه يجوز بيعه، والمذهب أن جلد الميتة لا يطهر بالدبغ، وأنه لا يجوز بيعه ـ أيضاً ـ ولو دبغ؛ لأنه لا يستعمل إلا في اليابسات.

‌وَأَنْ يَكُونَ مِن مَالِكٍ أَوْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ .............

قوله: «وأن يكون من مالك» . هذا الشرط الرابع من شروط صحة البيع، أن يكون من مالك أو من يقوم مقامه.

والدليل على هذا الشرط: القرآن، والسنة، والنظر الصحيح.

أما القرآن: فقوله تبارك وتعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ

ص: 127

مِنْكُمْ} [النساء: 29]، ومعلوم أنه لا يوجد أحد يرضى أن يتصرف غيره في ماله ويبيعه.

وأما السنة فقول النبي صلى الله عليه وسلم لحكيم بن حزام: «لا تبع ما ليس عندك»

(1)

، فنهاه أن يبيع ما ليس عنده، والمراد ما ليس في حوزته أو ما ليس قادراً عليه، كما سيأتي إن شاء الله في الشرح.

وأما النظر فلأنه لو جاز أن يبيع الإنسان ما لا يملك لكان في ذلك من العدوان والفوضى ما لا تستقيم معه حياة البشر، فلا يمكن أن يسلط الناس بعضهم على بعض في بيع أموالهم.

قوله: «أو من يقوم مقامه» يعني من يقوم مقام المالك وهم أربعة أصناف: الوكيل، والوصي، والولي، والناظر، هؤلاء هم الذين يقومون مقام المالك.

فالوكيل هو من أُذن له بالتصرف في حال الحياة، كرجل أعطى شخصاً سيارته، وقال: بعها، فهذا وكيل يصح أن يبيعها؛ لأنه قائم مقام المالك بالتوكيل؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم وكّل في البيع والشراء

(2)

، وهذا دليل من السنة.

الوصي وهو من أمر له بالتصرف بعد الموت، مثل أن

(1)

أخرجه الإمام أحمد (3/ 402، 434)؛ وأبو داود في البيوع/ باب في الرجل يبيع ما ليس عنده (3503)؛ والنسائي في البيوع/ باب بيع ما ليس عند البائع (7/ 289)؛ والترمذي في البيوع/ باب ما جاء في كراهية بيع ما ليس عنده (1232)؛ وابن ماجه في التجارات/ باب النهي عن بيع ما ليس عندك (2187).

وقال الترمذي: «حديث حسن» ، وصححه ابن حزم (5/ 519)؛ وصححه في «الإرواء» (5/ 132).

(2)

أخرجه البخاري في المناقب/ باب علامات النبوة (3642) عن عروة رضي الله عنه.

ص: 128

يوصي شخص بشيء من ماله إلى زيد، فهذا الموصى إليه يجوز أن يتصرف فيما وصي فيه بما يراه أصلح، وهو ليس بمالك، ولكنه قائم مقام المالك.

الناظر هو الذي جعل على الوقف، أي: وكل في الوقف، مثل أن يقول رجل: هذا البيت وقف على الفقراء والمساكين، والناظر عليه فلان ابن فلان، فهذا ـ أيضاً ـ يصح تصرفه مع أنه ليس بمالك، لكنه قائم مقام المالك، ونسمي هذا ناظراً، وقد وقف عمر رضي الله عنه ما ملكه في خيبر، وقال: تليه حفصة، ثم ذوو الرأي من آله

(1)

، فحفصة جعلها عمر رضي الله عنهما ناظرة على وقفه.

الولي: هو من يتصرف لغيره بإذن الشارع.

والولاية نوعان: عامة وخاصة.

فالعامة ولاية الحكام، كالقضاة مثلاً، فإن لهم ولاية عامة على الأموال المجهول مالكها، وعلى أموال اليتامى إذا لم يكن لهم ولي خاص، وعلى غير ذلك.

أما الولاية الخاصة فهي الولاية على اليتيم من شخص خاص، كولاية العم على ابن أخيه اليتيم، وجعلنا هذا وليّاً ولم نجعله وكيلاً؛ لأنه استفاد تصرفه عن طريق الشرع، والوكيل

(1)

أخرجه أبو داود في الوصايا/ باب ما جاء في الرجل يوقف الوقف (2879)؛ والبيهقي (6/ 160). وإسناده صحيح كما في «الإرواء» (6/ 30).

وأصل الحديث متفق عليه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما دون ذكر من يلي الوقف، أخرجه البخاري في الشروط/ باب الشروط في الوقف (2737)؛ ومسلم في الوصية/ باب الوقف (1632).

ص: 129

والوصي والناظر عن الطريق الخاص بالمالك، أما الولي فولايته مستفادة من الشرع.

وعلى هذا، فإذا وكل إنسان إنساناً في بيع شيء فباعه صح، مع أن الوكيل ليس بمالك، ولكنه قائم مقام المالك، لكن يجب على الوكيل أن يتصرف بما يراه أصلح، فإذا كانت السلعة تزيد فإنه لا يبيعها حتى تنتهي الزيادة، بخلاف الذي يتصرف لنفسه فإنه يجوز أن يبيع السلعة بما هو دون، والفرق بينهما أن المتصرف لغيره يجب أن يتصرف بالأحظ، والمتصرف لنفسه يتصرف بما شاء، فمثلاً لو أعطيت هذا الرجل مسجلاً يبيعه، فصار الناس يزيدون في المسجل حتى بلغ مائة أو مائتين، فلا يجوز له أن يبيعه والناس يزيدون فيه حتى يقف السعر، لكن لو باعه مالكه بمائة ريال وهو يساوي مائتين جاز؛ لأن المالك يتصرف لنفسه، وذاك يتصرف لغيره.

وانظر إلى هذه المسألة وهي التصرف للغير بالأحظ، حتى في العبادات، فالإمام يجب أن يصلي بالناس حسب السنة، وغيره يصلي ما شاء، قال النبي صلى الله عليه وسلم:«إذا صلى أحدكم بالناس فليخفف، وإذا صلى لنفسه فليطول ما شاء»

(1)

.

‌فَإِن بَاعَ مُلْكَ غَيْرِهِ أَوْ اشْتَرَى بِعَيْنِ مَالِهِ بِلَا إِذْنِهِ لَمْ يَصِح وَإِن اشْتَرَى لَهُ فِي ذِمَّتِهِ بِلَا إِذْنِهِ وَلَمْ يُسَمِّهِ فِي العَقْدِ صَحَّ لَهُ بِالإِجَازَة، وَلَزِمَ المُشْتَرِيَ بِعَدَمِهَا مُلْكاً ......

قوله: «فإن باع ملك غيره» لم يصح؛ لأنه ليس المالك لفوات الشرط وهو الملك، فلو باع ملك أبيه أو ملك ابنه لم يصح.

(1)

أخرجه البخاري في الأذان/ باب إذا صلى لنفسه فليطول ما شاء (703)؛ ومسلم في الصلاة/ باب أمر الأئمة بتخفيف الصلاة في تمام (467) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 130

فإن قال قائل: أليس الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «أنت ومالك لأبيك»

(1)

؟ قلنا: بلى، لكن إذا أراد الأب أن يبيع ملك ابنه فليتملكه أولاً ثم يبيعه ثانياً؛ لأنه قبل تملكه مِلْكٌ لابنه، فنحن نقول: لا مانع، تملك هذا المال، ثم بعه، أما أن تبيعه، وهو على ملك ابنك بدون إذنه فلا تملك ذلك.

قوله: «أو اشترى بعين ماله بلا إذنه لم يصح» مثاله: إنسان أعطاك دراهم، وقال: خذ هذه الدراهم وأوصلها إلى فلان، فأنت الآن أمين مرسل، فمررت بالسوق ومعك هذه الدراهم فاشتريت سلعة بهذه الدراهم، أي: قلت للبائع: اشتريت منك هذا الثوب بهذه الدراهم، إذاً اشترى بعين المال، فالبيع لا يصح؛ لأن شراءه بعين المال كبيعه عين المال، فكما أنه لا يجوز أن آخذ كتاب زيد وأبيعه كذلك لا يجوز أن أشتري بعين ماله، فالشراء بعين المال هو بيع لعين المال في الواقع، وعلى هذا فلا يصح، وظاهر كلام المؤلف أن هذا لا يصح، وإن كان فيه مصلحة، وظاهر كلامه ـ أيضاً ـ أنه لا يصح وإن أجازه المالك لفوات الشرط.

والصحيح أنه إذا أجازه المالك صح البيع، والدليل على

(1)

أخرجه ابن ماجه في التجارات/ باب ما للرجل من مال ولده (2291)، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. وصححه البوصيري على شرط البخاري، وصححه ابن حبان (410) إحسان، عن عائشة رضي الله عنها.

وأخرجه الإمام أحمد (2/ 179، 204، 214)؛ وأبو داود في البيوع/ باب الرجل يأكل من مال ولده (3530)؛ وابن ماجه في التجارات/ باب ما للرجل من مال ولده (2292)، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وحسن إسناده في «الإرواء» (3/ 325).

ص: 131

ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم وكل عروة بن الجعد رضي الله عنه أن يشتري له أضحية وأعطاه ديناراً، فاشترى أضحيتين بدينار واحد، ثم باع إحداهما بدينار، وُكِّل بأن يشتري أضحية فاشترى أضحيتين، وهذا فيه مصلحة لا شك، ثم باع واحدة من الأضحيتين بدينار، وهذا فيه مصلحة أيضاً، فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم بديناره وشاة فقال (ص):«اللهم بارك له في بيعه»

(1)

، فكان لا يتجر في شيء إلا ربح فيه ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى كلام المؤلف يكون هذا التصرف غير صحيح، ولكن الصحيح أنه جائز ونافذ إذا أجازه المالك.

فإن قال قائل: هل يجوز للإنسان أن يقدم على بيع ملك غيره بدون إذنه؟

قلنا: يجوز بقرينة، والقرينة هي أن أعرف أن صاحبي يريد أن يبيع بيته، فجاء إنسان واشترى البيت بمائة ألف، وهو يساوي تسعين، وأنا أعرف أن صاحب البيت يريد بيعه فيجوز لي أن أبيعه بمائة ألف؛ لأن هذا فيه مصلحة، فالرجل يريد أن يبيع بيته بتسعين فإذا جاء إنسان يشتريه بمائة فهذا مصلحة فيجوز أن أقدم على التصرف، وإلا فالأصل منع الإقدام على التصرف؛ لأنه ملك غيرك، لكن إذا رأيت المصلحة في ذلك فلا بأس.

وقوله: «اشترى بعين ماله» هذه أقل شأناً من الأولى؛ لأن الإنسان لا يهمه أن يأخذ هذا الدرهم أو هذا الدرهم، فإذا اشترى بعين ماله فالمذهب أن ذلك لا يصح؛ لأنه كبيع عين ماله؛ لأن العقد وقع على عين الدراهم المملوكة لغيره.

(1)

سبق تخريجه ص (128).

ص: 132

ولكن قد يقال بالفرق؛ لأن المشتري بعين ماله إذا أعطى صاحب الدراهم دراهمَ لا يهمه أن يعطيه دراهمه الأولى أو دراهم بدلها.

قوله: «إن اشترى له» أي للغير.

قوله: «في ذمته» أي: لا بعين ماله؛ لأن العقد إذا كان في الذمة لم يقع على ملك غيره لكن الممنوع أن يتصرف في ملك غيره، وأما الذمة فهي أوسع.

قوله: «بلا إذنه ولم يسمه في العقد صح له» أي: للغير.

قوله: «بالإجازة ولزم المشتري بعدمها» أي: بعدم الإجازة.

قوله: «ملكاً» أي: للمشتري.

وصورة المسألة: أعلم أن فلاناً يريد أن يشتري ساعة فوقفت على صاحب الساعات واشتريت لفلان في ذمتي وهو لم يوكلني، ولم يأذن لي، ولم أقل للبائع: اشتريت لفلان، ثم قلت للرجل الذي اشتريت له: إني اشتريت لك ساعة، فإن أجاز فالملك له، وإن لم يجز فالملك لي.

مثال آخر: أعرف أن فلاناً يريد أن يشتري شاة للدرِّ، أي: ليحلبها، فاشتريت له شاة ممن يبيع الغنم، ولم أقل: إنها لفلان ولم أسمه في العقد، ثم قلت لصاحبي الذي اشتريت له: اشتريت لك شاة، فقال: قبلت ذلك، فهي لمن اشتراها له، واللبن الذي حصل بعد العقد للذي اشتراها له، لأنه نماء ملكه.

فإن قال: لا أريدها فهي للمشتري، فتلزمه.

ص: 133

ولهذا قال: «ولزم المشتري بعدمها» أي بعدم الإجازة.

«ملكاً له» أي للمشتري، ويتملكها من العقد، وعلى هذا فيكون اللبن للمشتري، وهذه الصورة هي الصورة الوحيدة التي يصح فيها التصرف الفضولي على المذهب.

فإن اشترى له بعين ماله لا في ذمته فإنه لا يصح البيع، بأن قال للذي يبيع الغنم: أعطني بهذه الدراهم شاة ونواها لفلان فإن العقد لا يصح؛ لأنه اشترى له بعين ماله لا بذمته، وكذلك لو سمَّاه فقال لصاحب الغنم: اشتريت منك هذه الشاة بمائة لفلان، ثم اقتاد الشاة وأوصلها إلى فلان، فقبل بذلك، لم يصح البيع؛ لأنه سماه في العقد، وهو إذا سماه في العقد صار شراؤه له بالوكالة، وهو لم يوكله، ولهذا قالوا: إذا سماه في العقد لا يصح البيع؛ لأنه إذا سماه في العقد فقد نزَّل نفسه منزلة الوكيل، والواقع أنه لم يوكله.

والقول الثاني في المسألة، أنه يصح كما ذكرناه في السابق، من أن تصرف الفضولي إذا أجازه من تُصُرِّفَ له فهو صحيح، وقد ذكرنا الدليل والتعليل.

وإذا لم يجز لزم المشتري، فلا يملك المشتري أن يرده على البائع ويقول: أنا اشتريته لفلان، ولكنه لم يقبل، فالبائع له أن يرفض ويقول: أنت اشتريت مني على أنك أنت المشتري فيلزمك.

فإن قال قائل: هل الأولى أن يقبل المُشْتَرى له ذلك العقد أو الأولى ألاّ يقبل؟

ص: 134

قلنا: الأولى أن يقبل، لا سيما إذا علمنا أن هذا المشتري إنما اشتراها اجتهاداً لا تغريماً وإخساراً، فإنه لا ينبغي أن يجازى المحسن بالإساءة؛ لأنه ربما يكون ثمن السلعة باهظاً جدّاً، وهذا المشتري ليس عنده مال، فالأولى للمُشترى له أن يقبل ولو كان عليه بعض الغضاضة.

‌وَلَا يُبَاعُ غَيْرُ المساكِنِ مِمَّا فُتِحَ عَنْوَةً كَأرْضِ الشّامِ وَمِصْرَ وَالعِرَاقِ بَلْ تُؤَجَّرُ ....

قوله: «ولا يباع غير المساكن مما فتح عنوة كأرض الشام ومصر والعراق» ذكر المؤلف هذا تفريعاً على اشتراط كون البائع مالكاً.

فقوله: «المساكن» الدور فتشمل البناء والأرض، البناء: المساكن، والأرض هي الأرض البيضاء التي ليس عليها بناء، أو أرض البناء التي بُني عليها، فهذه الأرض أو هذه المساكن إذا باعها بأرضها فالبيع غير صحيح، وإن باع المساكن فالبيع صحيح في الأراضي التي فتحت عنوة.

ومعنى عنوة، أي: قهراً وقوة.

وقوله: «كأرض الشام ومصر والعراق» إذا قيل: الشام عند العلماء فإنه يشمل سوريا وفلسطين والأردن وكل ما كان شمال الجزيرة العربية، فأرض الشام ومصر والعراق لا يباع فيها إلا المساكن، وأما الأرض نفسها فإنها لا تباع؛ لأن عمر رضي الله عنه وقفها

(1)

، والوقف لا يباع، فعمر رضي الله عنه

(1)

سبق تخريجه ص (34).

ص: 135

لما فتح هذه الأمصار، رأى أن قسمها بين الغانمين يحرم الأجيال المستقبلة من أجيال المسلمين، فرأى أن يقفها، ويضرب عليها خراجاً، أي: كالأجرة يؤخذ منها كل سنة فصارت وقفاً، والوقف لا يجوز بيعه، وهذا الذي مشى عليه المؤلف.

وأما المساكن في هذه الأراضي فتباع؛ لأن المساكن ملك للساكن فهو الذي أقام البناء حتى استقام، فله ثمن هذا البناء الذي أقامه فيصح العقد عليه، أما الأرض فلا.

قوله: «بل تؤجر» الحمد لله لم ينسد الباب، نقول: لا تبعها، ولكن أجرها، والأجرة لك؛ لأن الأجرة في مقابل المنفعة لا في مقابل العين، فلهذا جاز تأجيرها، ولم يجز بيعها، وهذا القول ضعيف جدّاً

(1)

.

والصواب: أن بيعها حلال جائز وصحيح، وسواء المساكن أو الأراضي، وينزل المشتري منزلة البائع في أداء الخراج المضروب على الأرض، وكان هذا فيما مضى، أما الآن فلا خراج ولا وقف، لكن لا بد أن نفهم الحكم الشرعي.

أما الأمر الواقع فالناس يتبايعون الأراضي والمساكن والبساتين من غير نكير، بل هو شبه إجماع، ولهذا يعتبر هذا القول ضعيفاً جدّاً، فالصواب جواز بيع المساكن والأرض.

ثم هذا الوقف ليس وقفاً خاصّاً، حتى نقول: إن الأوقاف الخاصة لا تباع إلا أن تتعطل منافعها، فهذا وقف عام على

(1)

وهو المذهب.

ص: 136

المسلمين عموماً، فليس له مستحق خاص، وإذا كان كذلك كان منع المسلمين من تداوله بالبيع من أشق ما يكون على الناس، ورفع الحرج معلوم في الشريعة الإسلامية.

مسألة: لم يذكر الماتن بيوت مكة، لكن ذكرها الشارح؛ فبيوت مكة لا يجوز بيعها ولا إجارتها، فهي أضيق مما فتح عنوة، ودليلهم حديث «رباع مكة حرام بيعها، حرام إجارتها» ، ولكنه حديث ضعيف لا تقوم به حجة

(1)

، وهذا لو عمل الناس به لكان فيه إشكال كبير، لكن فَرَّج الفقهاء الذين يقولون بالتحريم للناس فقالوا: فإن لم يجد ما يسكنه إلا بأجرة لم يأثم بدفعها، والإثم على المؤجر؛ لأنه لا يستحق ذلك، وهذا في مكة، فما بالك بالمشاعر التي يتحتم على الإنسان أن يبقى فيها، فيكون بيعها أولى بالتحريم؛ ولهذا لا شك أن الذين بنوا في منى أو مزدلفة أو عرفة، غاصبون وآثمون؛ لأن هذا مشعر لا بد للمسلمين من المكوث فيه، فهو كالمساجد، فلو جاء إنسان إلى مسجد جامع كبير وبنى له غرفة في المسجد، وصار يؤجرها، كان حراماً، والآن منى مشعر يجب على المسلمين أن يبقوا فيها، والمبيت فيها واجب من واجبات الحج، فإذا جاء إنسان وبنى فيها وصار يؤجرها للناس فهو لا شك غاصب، آثم، ظالم، ولا

(1)

أخرجه الدارقطني (3/ 57)؛ والحاكم (2/ 53)؛ والبيهقي (6/ 35) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما وضعفه البيهقي، والذهبي، وصوب الدارقطني وقفه، وروي بلفظ:«مكة لا تباع ولا تكرى بيوتها» ، أخرجه الدارقطني (3/ 58)؛ والحاكم (2/ 53)؛ والبيهقي (6/ 35) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما وضعفه الدارقطني والبيهقي.

ص: 137

يحل له ذلك، وهو أشد إثماً ممن يبيع المساكن في مكة؛ لأن المساكن في مكة لا يلزم الإنسان أن يبقى فيها، إذ يجوز أن يبقى في الخارج وينزل.

واختار شيخ الإسلام جواز البيع دون الإجارة لقوله تعالى: {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [الحج: 25]، وقيل: يجوز بيعها وإجارتها وهذا مذهب الشافعي، وحجتهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له عام الفتح: أتنزل غداً في دارك؟ فقال: وهل ترك لنا عقيل من دار أو رباع؟!

(1)

وعقيل هو الذي ورث أبا طالب، وظاهر هذا الحديث أن بيوت مكة تملك، وإذا ملكت جاز بيعها، وجازت إجارتها، وما ذهب إليه الشافعي وغيره هو الذي نصره الموفق في المغني، وأيده بأدلة كثيرة وقال: إن الصحيح جواز البيع والإجارة في بيوت مكة، والعمل على هذا القول، وأما القول بأنه لا يجوز بيعها ولا إجارتها فهو قول ضعيف، وأما ما ذهب إليه شيخ الإسلام فهو وإن كان فيه شيء من القوة، فإنه يمكن أن يجاب عنه بأن الآية في أمكنة المشاعر، فهذه لا شك أنها لا تملك.

فصارت البلاد ثلاثة أقسام:

الأول: ما يجوز بيعه وإجارته.

الثاني: ما تجوز إجارته دون بيعه.

(1)

أخرجه البخاري في الحج/ باب توريث دور مكة وبيعها وشرائها (1588)؛ ومسلم في الحج/ باب نزول الحاج بمكة وتوريث دورها (1351) عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما.

ص: 138

الثالث: ما لا يجوز بيعه ولا إجارته.

فالذي فتح عنوة تجوز إجارته دون بيعه، إلا المساكن، ومكة لا يجوز بيعها ولا إجارتها، وبقية الأماكن يجوز بيعها وإجارتها كأرض المدينة وبيت المقدس وبقية الأراضي.

وقوله: «ولا يباع غير المساكن مما فتح عنوة» يؤخذ منه أنه يجوز بيع الأرض والمساكن مما فتح صلحاً، وهو كذلك؛ وذلك أن أرض العدو إما أن تفتح عنوة، وإما أن تفتح صلحاً على أنها لهم ونقرها معهم بالخراج، وإما أن تفتح صلحاً على أنها لنا، فإن كانت لهم فهي ملكهم يتصرفون فيها، وإن كانت لنا فهي ملكنا نتصرف فيها، هذا إذا كانت صلحاً، أما العنوة فقد بينا حكمها.

‌وَلَا يَصِحُّ بَيْعُ نَقْع البِئْرِ وَلَا ما نَبَتَ فِي أرْضِهِ مِنْ كَلأٍ وَشَوْكٍ، وَيَمْلِكُهُ آخِذُهُ،

..

قوله: «ولا يصح بيع نقع البئر» نقع البئر هو ماء البئر الذي نبع من الأرض، فلا يجوز بيع هذا الماء؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«الناس شركاء في ثلاث: الماء، والكلأ، والنار»

(1)

؛ ولأن هذا الماء لم يخرج بقدرة الإنسان؛ بل بقدرة الله عز وجل، فقد يحفر الإنسان بئراً عميقاً ولا يخرج الماء فليس من كَدِّه ولا فعله، بل هو سبب، فلذلك لا يملكه، وإذا كان لا يملكه فإنه لا يصح

(1)

أخرجه الإمام أحمد (5/ 364)؛ وأبو داود في الإجارة/ باب في منع الماء (3477) عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأخرجه ابن ماجه في الأحكام/ باب المسلمون شركاء في ثلاث (2472) عن ابن عباس رضي الله عنهما وضعفه البوصيري، وأخرجه ابن ماجه في الموضع السابق عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً (2473) ولفظه: «ثلاث لا يمنعن

»، وصححه البوصيري والحافظ في «التلخيص» (1304).

ص: 139

بيعه، أما إذا ملكه وحازه وأخرجه ووضعه في البركة، فإنه يجوز بيعه؛ لأنه صار ملكاً له بالحيازة.

إذا قلنا: لا يصح بيع نقع البئر، فلو جاء إنسان وَرَكَّبَ على بئري ما يستخرج به الماء، فهل لي أن أمنعه؟

الجواب: إذا لم يكن في ذلك عليّ ضرر فليس لي أن أمنعه، وإن كان علي ضرر فإن لي أن أمنعه.

والضرر مثل أن أتضرر بكونه يتخطى ملكي إلى البئر، أو بكونه يطلع على عورات النساء، أو بكونه يقلل الماء علي.

فالمهم أنه إذا لم يكن علي ضرر فإن الواجب علي أن أمكنه من أن يضع على بئري ما يستقي به الماء.

قوله: «ولا ما نبت في أرضه من كلأ وشوك» الكلأ هو العشب، والشوك الشجر، فما ينبت في الأرض بفعل الله عز وجل فإنه لا يجوز لي أن أبيعه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:«الناس شركاء في ثلاث: الماء، والكلأ، والنار»

(1)

فلا يصح بيع ما أنبته الله ـ تعالى ـ في ملكي من كلأ أو شوك.

فإن كنت أحتاجه لرعي إبلي أو بقري أو غنمي فأنا أحق به، ولي أن أمنع منه؛ لأنني أحق به، أما إذا كنت لا أحتاجه فليس لي أن أمنع من يريد أخذه، إلا إذا كان يلحقني في ذلك ضرر فلي أن أمنعه؛ لأنه لا يمكن أن يُرتَكب الضرر لمصلحة الغير وصاحب الأرض أحق به.

(1)

سبق تخريجه ص (139).

ص: 140

وقوله: «ولا ما نبت في أرضه» علم منه أن ما أنبته الإنسان في أرضه فله بيعه، كما لو غرس نخلاً أو شجراً، أو زرع زرعاً فإنه ملكه له أن يبيعه.

فما نبت في أرضه من الزرع والشجر في بيعه تفصيل:

أولاً: إذا أنبته هو فهو ملكه، ويجوز بيعه، لكن الزروع لا بد أن تشتد كما سيأتي إن شاء الله.

ثانياً: إذا كان من عند الله لم يتسبب فيه، فإنه لا يجوز؛ لأن الناس شركاء فيه وهذا هو القول الأول

(1)

.

القول الثاني: أنه إن استنبته فهو له يملكه، ويجوز بيعه، وإلا فلا، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، ومعنى استنباته أن يحرث الأرض حتى تكون قابلة للنبات إذا نزل المطر، أو أن يدع الأرض لا يحرثها لزرعه الخاص ترقباً لما ينبت عليها من الكلأ والحشيش؛ لأنه الآن باختياره أن يحرث الأرض ولا تنبت إلا ما زرعه هو.

وهذا أشبه ما يكون بالصواب كما قلنا في أحواض الماء التي يعدها لاستقبال الماء، فإذا جاء الماء ونزل فيها صار ملكه.

القول الثالث: أن له بيعه وأن قوله: «الناس شركاء في ثلاث»

(2)

في غير الأرض المملوكة، أما الأرض المملوكة فإن

(1)

وهو المذهب.

(2)

سبق تخريجه ص (139).

ص: 141

ما نبت عليها يتبعها فيكون ملكاً له، فالأقوال إذاً ثلاثة.

قوله: «ويملكه آخذه» يملكه الضمير يعود على نقع البئر، وعلى ما ينبت في أرضه من كلأ وشوك، فلو أن رجلاً دخل على بستان شخص وحشَّ الحشيش، وقطع الشجر فإنه يكون ملكاً له؛ لأنه حازه.

فإذا قال صاحب الأرض: لماذا اعتديت على أرضي وأخذته؟

قلنا له: هو أخطأ في اعتدائه، ولكنه ملكه بحوزه، ولهذا قال:«يملكه آخذه» .

‌وَأنْ يَكُون مَقْدُوراً عَلَى تَسْلِيمِهِ فَلَا يَصِحُّ بَيْعُ آبِقٍ وَشَارِدٍ وَطَيْرٍ فِي هَوَاءٍ وسَمَكٍ فِي مَاءٍ، وَلَا مَغْصُوبٍ مِن غَيْر غَاصِبِهِ، أوْ قَادِرٍ عَلَى أخْذِهِ

قوله: «وأن يكون مقدوراً على تسليمه» هذا هو الشرط الخامس، والضمير في قوله:«يكون» يعود على المعقود عليه سواء كان الثمن أو المثمن، أي: يشترط أن يكون المبيع أو الثمن مقدوراً على تسليمه، أي: يقدر على تسليمه، فيكون كل من البائع والمشتري قادراً على تسلم أو تسليم ما انتقل من ملكه أو إلى ملكه، ودليل هذا الشرط ما يلي:

أولاً: قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90]، فبيع ما لا يقدر على تسليمه من الميسر؛ ووجه ذلك أن بيع ما لا يقدر على تسليمه سيكون بأقل من ثمنه الحقيقي؛ لأن المشتري مخاطر قد يحصل عليه وقد لا يحصل، فإذا قدر أن هذا الذي لا يقدر على تسليمه يساوي مائة لو كان مقدوراً على تسليمه، فسيباع إذا كان لا يقدر على تسليمه بخمسين، فيبقى المشتري الآن إما غانماً

ص: 142

وإما غارماً، إن قدر عليه فهو غانم، وإن فاته فهو غارم، وهذه هي قاعدة الميسر.

ثانياً: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]، ووجه الدلالة أن ما يعجز عن تسليمه لا يرضى به الإنسان غالباً، ولا يقدم عليه إلا رجل مخاطر قد يحصل له ذلك، وقد لا يحصل له.

ثالثاً: حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر، أخرجه مسلم

(1)

؛ ووجه كونه غرراً أن المعجوز عن تسليمه لا بد أن تنقص قيمته، وحينئذٍ إن تمكن المشتري من تسلُّمِه صار غانماً، وإن لم يتمكن صار غارماً، وهذا هو الضرر.

والذي لا يقدر على تسليمه لا شك أنه غرر، إذ قد يبذل المشتري الثمن ولا يستفيد.

رابعاً: ونستدل عليه ـ أيضاً ـ بالنظر الصحيح، وهو أن المسلمين يجب أن يكونوا قلباً واحداً متآلفين متحابين، وهذا البيع يوجب البغضاء والتنافر؛ وذلك أن المشتري لو حصل عليه لكان في قلب البائع شيء يغبطه ويحسده عليه، ولو لم يقدر عليه لكان في قلب المشتري شيء يغبط البائع ويحسده عليه، وكل ما أدى إلى البغضاء والعداوة فإن الشرع يمنعه منعاً باتّاً؛ لأن الدين الإسلامي مبني على الألفة والمحبة والموالاة بين المسلمين.

(1)

في البيوع/ باب بطلان بيع الحصاة (1513).

ص: 143

فصار الدليل على اشتراط هذا الشرط: القرآن، والسنة، والنظر الصحيح.

ثم فرع المؤلف على هذا الشرط فقال:

«فلا يصح بيع آبق وشارد» الآبق هو العبد الهارب من سيده، والشارد هو الجمل الشارد من صاحبه.

فبيع الآبق لا يصح سواء عُلم خبره أم لم يعلم؛ لأنه غير مقدور على تسليمه، فالبائع لا يستطيع أن يسلمه للمشتري حتى لو علمنا خبره، وأنه أبق إلى البلد الفلاني؛ لأن العثور عليه يصعب، لا سيما مع ضعف السلطان، وعدم استتباب الأمن، وعدم الضبط فيصعب جدّاً أن يناله المشتري

(1)

.

وقوله: «فلا يصح بيع آبق» ظاهره سواء كان المشتري قادراً على رده أم غير قادر.

وقيل: إن كان قادراً على رده فإن البيع صحيح؛ لأن الحكم يثبت بعلته ويزول بزوال العلة، فإذا كان هذا الرجل يعلم مكان الآبق، وهو قادر على أخذه بكل سهولة؛ فما المانع من صحة البيع، لكن بشرط ألا يغر البائع، أي: ألاّ يوهمه أنه لا يقدر على العثور عليه؛ وذلك لأنه إذا أعلمه أنه قادر عليه فسوف يرفع السعر، أي: ثمنه، وإذا لم يعلم فسوف يخفض السعر، فلا بد من أن يعلمه.

وقوله: «ولا شارد» الشارد هو الجمل الهارب، وهذا مثال،

(1)

وهذا هو المذهب.

ص: 144

وإلا فلو أن بقرة هربت أو شاة أو ما أشبه ذلك، وعُجز عنها فهي داخلة في هذا.

قوله: «وطير في هواء» مثل أن يكون عند الإنسان حمام، وليس الآن في مكانه فيبيعه صاحبه، فإن بيعه لا يصح؛ لأنه غير مقدور عليه. وظاهر كلام المؤلف أنه لا يصح بيعه ولو ألف الرجوع، وكان من عادته أن يأتي في الليل ويبيت في مكانه فإنه لا يصح بيعه؛ وذلك لأنه ـ وإن كان آلفاً للرجوع ـ فقد يُرمى، وقد يهلك، إذ ليس بين أيدينا الآن.

وقيل: إن ألف الرجوع صح البيع، ثم إن رجع، وإلا فللمشتري الفسخ، وهذا القول أصح.

فإذا حضر وأراد البائع ألاَّ يسلمه إياه أجبرناه على تسليمه إياه؛ لأن البيع وقع صحيحاً، وإن لم يحضر فإن للمشتري الفسخ؛ لأن المشتري لم يشتر شيئاً لا ينتفع به، ولا يعود عليه.

قوله: «وسمك في ماء» أي: ولا بيع سمك في ماء ولو كان مرئياً فإنه لا يجوز بيعه.

وظاهر كلام المؤلف ولو كان مرئياً بمكان يمكن أخذه منه؛ لأنه أطلق قال: «سمك في ماء» ، ولكن الصحيح الذي مشى عليه في الروض

(1)

، أنه إذا كان مرئياً يسهل أخذه فإنه يجوز بيعه، كالسمك الذي يكون في برك بعض البساتين، لكن سمك في البحر أو في نهر لا يصح بيعه، أو في مكان ليس بحراً ولا نهراً؛

ص: 145

لكن يصعب أخذه فإنه لا يصح بيعه؛ وذلك لأن هذا السمك ربما ينغرز في الطين فلا يقدر عليه.

قوله: «ولا مغصوب من غير غاصبه أو قادر على أخذه» المغصوب ما أخذ من مالكه قهراً، أي: لا يصح بيع مغصوب من المالك، فلو أن مالك المغصوب باعه على طرف ثالث فإنه لا يصح؛ لأنه غير مقدور على تسليمه، إلا أن المؤلف استثنى قال:«من غير غاصبه أو قادر على أخذه» فإن كان من غاصبه بأن قال المالك للغاصب: اشتر مني ما غصبتني، فاشتراه فهذا صحيح؛ لأن العلة وهي القدرة على التسليم موجودة؛ إذ أن هذا المغصوب عنده فيصح البيع، لكن بشرط ألاَّ يمنعه إياه بدون البيع، فإن منعه الغاصب إياه إلا بالبيع فالبيع غير صحيح؛ لأنه بغير رضا ومن شرط البيع الرضا، أي: بأن قال الغاصب: أنا لا أرده عليك وأريد أن تبيعه علي، فالمالك باعه عليه اضطراراً؛ لأنه يقول: آخذ العوض، ولا يذهب مالي وعوض مالي فإن البيع لا يصح.

وإن بذل الغاصب ثمناً أكثر من قيمته أضعافاً مضاعفة، وباعه المالك عليه فهل يصح أو لا؟

الجواب: لا يصح ما دام لم يرض حتى لو أعطي أضعافاً مضاعفة؛ لأن المالك ربما لا يرضى أن يبيعه على الغاصب ولو أعطاه أضعاف أضعاف القيمة؛ لأنه يريد أن يتشفى منه، وهو يعرف أنه لو أخذ هذه القيمة اشترى عشرة من جنس ما أخذ منه، لكن يريد أن يحول بين الغاصب وبين جشعه وطمعه، فيقول: أنا لا أبيع أبداً، فهذا نقول: لا يصح البيع ولو كان بأضعاف مضاعفة.

ص: 146

وقوله: «أو قادر على أخذه» أي: على أخذه من الغاصب، مثل أن يغصبه شخص، فيبيعه المالك على عم هذا الشخص القادر على أخذه منه، أو على أبيه فإنه يصح؛ لأن علة صحة البيع وهي القدرة على أخذه موجودة، فإن كان المشتري اشتراه بناء على أنه قادر على أخذه ولكنه عجز فيما بعد، فله الفسخ؛ لأنه تعذر الحصول على مقصودهم.

قوله: «وأن يكون معلوماً برؤية أو صفة» هذا هو الشرط السادس من شروط البيع: أن يكون المبيع معلوماً برؤية أو صفة، أي: عند البائع والمشتري، فلا يكفي علم أحدهما، والجهل إما أن يكون منهما جميعاً، أو من البائع وحده أو من المشتري وحده، وفي كل الصور الثلاث لا يصح البيع، فلا بد أن يكون معلوماً عند المتعاقدين، ودليل ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر

(1)

، والمجهول بيعه غرر لا شك.

فإن قيل: لماذا نهي عن الغرر؟

قلنا: لما يحصل به من العداوة والبغضاء والكراهية؛ لأن المغلوب منهما سوف يكره الغالب فلذلك نُهي عن بيع الغرر.

مسألة: هل يشترط أن يكون المشتري عنده علم بالمبيع؟ مثل ما لو كان المبيع جوهراً ـ والجواهر معلوم أن أهلها مخصوصون ـ فأراد أن يبيع هذا الجوهر على شخص لا يعرف الفرق بين الخزف والدر، فظاهر كلام الفقهاء أن ذلك جائز، حتى

(1)

سبق تخريجه ص (143).

ص: 147

لو أتاه بحديدة وهو لا يدري ما هي، وظن أن فيها فائدة عظيمة فاشتراها، فالفقهاء يقولون: البيع صحيح، وهو الذي فرط، وقال بعض العلماء: لا بد أن يكون لدى المشتري علم بما يكون له هذا الشيء، وبقيمة هذا الشيء، وهذا لا شك أنه أحوط وأبرأ.

والقائلون بالجواز يقولون: إن البيع صحيح، ولكن الغرر والخطأ يمكن دفعه بخيار الغبن.

وقوله: «وأن يكون معلوماً برؤية أو صفة» أي: أن طرق العلم إما الرؤية وإما الصفة، ولكن هذا فيه قصور، فطرق العلم متعددة: الرؤية، والسمع، والشم، والذوق، واللمس، والوصف.

فالرؤية فيما يكون الغرض منه رؤيته، والسمع فيما يكون الغرض منه سماعه، والشم فيما يكون الغرض منه ريحه، والذوق فيما يكون الغرض منه طعمه، واللمس فيما يكون الغرض منه ملمسه، هل هو لين أو خشن؟ أو ما أشبه ذلك، والوصف سيأتي إن شاء الله.

‌وَأنْ يَكُونَ مَعْلُوماً بِرُؤيَةٍ أو صِفَةٍ فَإِن اشْتَرَى مَا لَمْ يَرَهُ، أَوْ رَآهُ وَجَهِلَهُ، أَوْ وُصِفَ لَهُ بِمَا لَا يَكْفِي سَلَماً لَمْ يَصِح ..

وقوله: «وأن يكون معلوماً برؤية» لم يشترط أن تكون الرؤية للجميع، وعلى هذا فإذا كانت رؤية بعضه دالة على الجميع اكتفي بها ولا بد من هذا؛ لأن كومة الطعام كالتمر أو البر ـ مثلاً ـ لا نرى كل حبة منها لكن نرى بعضها الدال على بقيتها، إذاً المؤلف أطلق ولم يقل برؤية الجميع، فيشمل رؤية الجميع ورؤية البعض الدال على الكل.

وقوله: «برؤية» هذه الرؤية متى تكون؟

الجواب: تكون حين العقد، أي: لا بد أن يراه حين

ص: 148

العقد، أو يراه قبل العقد بزمن لا يتغير فيه المبيع تغيراً ظاهراً بعد الرؤية، فمثلاً لو رأى رطباً قبل يومين وعقد عليه البيع الآن، فهل تكفي الرؤية السابقة قبل يومين؟ الجواب: لا، لأنه يتغير، ولو رأى بطيخة قبل يومين ثم عقد عليها البيع اليوم فكذلك لا يصح؛ لأنه في خلال هذه المدة تتغير.

إذاً الرؤية وقتها عند العقد، أو قبله بزمن لا يتغير فيه المبيع.

وقوله: «أو صفة» وهذا طريق العلم بالوصف، والموصوف ينقسم إلى قسمين:

أحدهما: أن يكون معيناً.

الثاني: أن يكون في الذمة.

مثال المعين: أن تقول: بعتك سيارتي الفلانية التي صفتها كذا وكذا.

مثال الذي في الذمة: أن تقول: بعتك سيارة صفتها كذا وكذا، فالسيارة هنا غير معينة.

وكلاهما صحيح ولكن يشترط أن تنطبق الصفة.

ودليل الاكتفاء بالوصف، حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال:«قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين، فقال: «من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم»

(1)

، فالعلم بالمسلم فيه هنا

(1)

أخرجه البخاري في السلم/ باب السلم في كيل معلوم (2240)؛ ومسلم في المساقاة/ باب السلم (1604).

ص: 149

بالوصف؛ لأنه يسلف السنة والسنتين في الثمار، وهي لم تخلق الآن، إذاً يكون العلم بالوصف، ولكن لا بد من شرطين:

الأول: أن يكون الموصوف مما يمكن انضباطه بالصفة.

الثاني: أن يضبط بالصفة.

فالبيع بالصفة أضيق من البيع بالرؤية أو ما يشبهها.

أما ما لا يمكن انضباطه بالصفة، كالجواهر واللآلئ وما أشبه ذلك، فإنه لا يجوز أن يباع بالوصف؛ لأنه يختلف اختلافاً عظيماً، فرب خرزة من اللؤلؤ تساوي ـ مثلاً ـ ألف ريال، وأخرى لا تساوي عشرة ريالات فلا يمكن ضبطها، فلا بد أن يمكن انضباطه بالصفة، ولا بد أن يضبط ـ أيضاً ـ بالصفة بحيث تحرر الصفة تحريراً بالغاً، حتى لا يحصل اختلاف عند التسليم.

وهل يمكن انضباط المصنوعات؟

الجواب: نعم يمكن، ومن أضبط ما يكون الأباريق والفناجيل والأقلام وما أشبهها، فهذه يمكن انضباطها، وقد يكون انضباط المصنوعات أكبر بكثير من انضباط البر والتمر كما هو ظاهر.

لكن إذا قال قائل: الناس يسلمون في الثمار في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن المعلوم أن انضباطه بالصفة على وجه دقيق جدّاً أمر لا يمكن إما متعسر وإما متعذر.

قلنا: ما يغتفر فيه الجهالة اليسيرة فإنه لا يضر.

مسألة: هل يصح بيع الأنموذج؟

ص: 150

وهو أن آتي بصاع أو ربع الصاع أو فنجال من البر، وأقول: أبيع عليك مثل هذا الصاع بكذا وكذا، فهذا ضبط بالصفة عن طريق الرؤية، فأنا ما رأيت الكل، لكن رأيت الفنجال، وقال: أنا عندي من الطعام مثل هذا الذي في الفنجال؟

الجواب: في هذا خلاف بين العلماء، منهم من يرى أنه لا يصح

(1)

، والصحيح أن البيع صحيح؛ لأن العلم مدرك بهذا، وما زال الناس يتعاملون به.

قوله: «فإن اشترى ما لم يره» مثاله: قال: بعت عليك السيارة الفلانية بكذا وكذا ولم يرها، أو بعت عليك كتاباً بكذا وكذا وهو لم يره فإنه لا يصح البيع، أما لو وصفه صح البيع إذا كان مما يمكن انضباطه بالصفة، ولهذا قال المؤلف رحمه الله في الروض

(2)

: «ما لم يره بلا وصف» ، وقد يقال: إن المؤلف الماتن قصر، وقد يقال: إنه لم يقصر بناء على أن العلم يكون بالرؤية وبالصفة.

قوله: «أو رآه وجهله» أي: قال: بعت عليك ما في هذا الكيس، وهو لا يدري هل هو رمل أو سكر، فلا يصح البيع؛ لأنه لا يدري.

فإن كان يجهل منفعته ولا يجهله هو، بأن باع عليه آلة ميكانيكية لكنه لا يدري ماذا يصنع بها، فهل يقال: إن هذا علْم فيصح البيع، أو يقال: إنه ليس بعلم فلا يصح؟

(1)

وهذا هو المذهب.

(2)

«الروض المربع مع حاشية ابن قاسم» (4/ 353).

ص: 151

الجواب: أن هذه الصورة تحتمل الأمرين، فقد يقال: إنها معلومة، وجهل المشتري بكيفية استعمالها لا يعد جهلاً بذات المبيع، بل هو نقص في المشتري العاقد، لا في المعقود عليه.

وقد يقال: بل لا بد من العلم بهذا، فقد يأتي إنسان غرير، ويرى هذه الآلات وهي تشتغل أمامه وتتحرك، ويظن أن هذا شيء يصنع القنابل أو الطائرات فيشتريه بغالي الثمن، وإذا هو لا يصنع ولا الإبرة، فيكون هذا جهلاً عظيماً؛ فلذلك نرى أنه لا بد أن يعلم الإنسان كيف يُنتفع بهذا الشيء، وإلا حصل غرر كبير.

قوله: «أو وصف له بما لا يكفي سلماً لم يصح» لعدم العلم بالمبيع ويأتينا ـ إن شاء الله ـ السلم وما الذي يمكن انضباطه والذي لا يمكن، فإذا وصف بما لا يكفي سلماً فإنه لا يصح البيع.

وقيل: إنه يصح أن يبيع ما لم يره ولم يوصف له، ولمشتر الخيار إذا رآه، فيقول مثلاً: بعت عليك سيارتي، فقال له: ما هذه السيارة؟ قال: إن شاء الله ستراها وتعرفها، قال له: بكم؟ قال: بخمسة آلاف، قال: اشتريت.

فعلى المذهب لا يصح؛ لأنه لم يرها ولم توصف له.

ومذهب أبي حنيفة رحمه الله أنه يصح البيع ويكون للمشتري الخيار إذا رآه وهذا هو الصحيح، وهو شبيه ببيع الفضولي؛ لأنه إذا كان له الخيار إذا رآه فليس عليه نقص.

فإذا قيل: كيف الطريق إلى تصحيح البيع على القول الأول؟

الجواب: أنه إذا رآه عقد عليه من جديد، وهذا هو الذي تظهر به ثمرة الخلاف بين القولين، فعلى القول بالصحة يكون

ص: 152

نماء هذا المبيع ما بين عقد البيع ورؤيته للمشتري، وعلى الرأي الأول يكون النماء للبائع؛ لأن البيع لم يصح.

‌وَلَا يُبَاعُ حَمْلٌ فِي بَطْنٍ، وَلَبَنٌ فِي ضَرْعٍ مُنْفَرِدَيْنِ، وَلَا مِسْكٌ فِي فَأرَتِهِ وَلا نَوَى فِي تَمْرِهِ وَصُوفٌ عَلَى ظَهْرٍ، وفِجْلٌ وَنَحْوُهُ قَبْل قَلْعِهِ.

قوله: «ولا يباع حمل في بطن، ولبن في ضرع منفردين» الحمل في البطن لا يصح بيعه إذا بيع منفرداً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر

(1)

، وهذا غرر فإن الحمل قد يكون واحداً أو أكثر، وقد يكون ذكراً أو أنثى، وقد يخرج حيّاً وقد يخرج ميتاً، فالجهالة فيه كبيرة، ولهذا نقول: إنه داخل في العموم، وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر، وورد النهي عنه بخصوصه:«أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن شراء ما في بطون الأنعام حتى تضع»

(2)

، ونهى عن بيع حَبَل الحبلة

(3)

.

(1)

سبق تخريجه ص (143).

(2)

كما في حديث أبي سعيد الخدري قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شراء ما في بطون الأنعام حتى تضع، وعما في ضروعها إلا بكيل، وعن شراء العبد وهو آبق، وعن شراء المغانم حتى تقسم، وعن شراء الصدقات حتى تقبض، وعن ضربة الغائص» .

أخرجه الإمام أحمد (3/ 42)؛ وابن ماجه في التجارات/ باب النهي عن شراء ما في بطون الأنعام (2196).

وضعفه الحافظ في «البلوغ» (821) وكما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع المضامين والملاقيح، أخرجه البزار (1267)«كشف الأستار» وضعفه الحافظ في «البلوغ» (824)، وأخرجه البزار (1268)«كشف الأستار» ؛ والطبراني في «الكبير» (11581) عن ابن عباس رضي الله عنهما وأخرجه عبد الرزاق (14138) عن ابن عمر رضي الله عنهما والحديث صححه ابن القيم في «الهدي» (5/ 819). والملاقيح جمع ملقوح وهو جنين الناقة، قاله ابن الأثير (4/ 263).

(3)

أخرجه البخاري في البيوع/ باب بيع الغرر وحبل الحبلة (2143)؛ ومسلم في البيوع/ باب تحريم بيع حبل الحبلة (1514) عن ابن عمر رضي الله عنهما.

ص: 153

وكذلك اللبن في الضرع لا يصح بيعه؛ لأنه مجهول، ولأن الدابة قد توافق على حلبها وتدر، وقد لا تدر ولا توافق على أن تُحلب، فهناك بعض البقر إذا أرادوا أن يحلبوها منعت إما برفسها برجلها، وإما أن تنطح بقرنها، وإما أن تمنع اللبن فلا تحلب أبداً، فلذلك يكون مجهولاً، ثم إذا قدِّر أنه انتفت هذه الموانع فكم مقداره؟ فيكون مجهولاً، والمسألة بسيطة نقول: بدلاً من أن تشتريه في الضرع انتظر حتى يحلب فهذا أحسن وأسلم.

وقوله: «منفردين» هذه حال من «حمل» ومن «لبن» ، ومفهومه أنهما إذا بيعا مع الأم في الحمل، ومع ذات اللبن في اللبن، فالبيع صحيح بشرط ألا يفردا بعقد، فيقول: بعتك هذه الشاة الحامل وما في بطنها؛ لأن المؤلف اشترط أن يكونا منفردين، فمفهومه إذا كانا تبعاً جاز، وهل إذا قال: بعتك هذه الحامل وما في بطنها هل هذا بيع انفراد؟

نقول: نعم؛ لأنه نص عليه، وهو إنما يجوز إذا كان تبعاً للأم، وكذلك يقال في اللبن، وقد أخذ الفقهاء هذا من قاعدة، وهي «أنه يثبت تبعاً ما لا يثبت استقلالاً» .

قوله: «ولا مسك في فأرته» الفأرة وعاء المسك المنفصل من غزال المسك، فإن من الغزلان ما يسمى بغزال المسك، وذلك على ما حدثنا به شيخنا عبد الرحمن السعدي رحمه الله، أن هذه الغزلان تركض ومع شدة ركضها وشدة تعبها ينزل من بطنها صرة من الدم، ثم تربط هذه الصرة برباط قوي جدّاً بحيث لا يصل إليها الدم الذي هو دم الغذاء، وإذا مر عدة أيام انفصلت

ص: 154

من الجلد فأخذوها، فإذا هذا الدم الذي احتقن في هذه الصرة هو المسك، وفي ذلك يقول المتنبي:

فإن تفق الأنام وأنت منهم

فإن المسك بعض دم الغزال

هذا ما ذهب إليه المؤلف أنه لا يصح بيع المسك في فأرته، وهو المذهب؛ لأنه مجهول، والمسك غالٍ إن قدرته بالوزن فقد تكون الفأرة سميكة، وإن قدرته بالحجم فكذلك.

القول الثاني: أنه يصح بيعه في فأرته؛ لأن هذه الفأرة وعاء طبيعي فهي كقشرة الرمانة، ومن المعلوم أن الرمانة يصح بيعها ووعاؤها قشرها، فقد يكون فيه شيء من الشحم كثير، وقد يكون فيه شيء قليل، ثم إن أهل الخبرة في هذا يعرفونه إما باللمس والضغط عليه، أو بأي شيء، وهم يقولون: إن هذا مستتر بأصل الخلقة، وقد تبايعه الناس في كل عصر ومصر من غير نكير، فيقال: أيضاً المسك في فأرته مستتر بأصل الخلقة، وهذا الذي ذهب إليه ابن القيم، فهو مستتر بأصل الخلقة كالبطيخ والرمان وما أشبه ذلك، وهذا هو الصحيح.

قوله: «ولا نوى في تمره» فلو أن إنساناً عنده تمر في وعاء، وقال له آخر: بعني نوى هذا التمر، وقال: نعم أبيعك النوى، فإن البيع لا يصح؛ لأنه كالحمل في البطن. ويصح بيع التمر بنواه، كما يصح بيع الحامل بحملها ولا يصح بيع النوى في التمر؛ لأنه مجهول فيكون داخلاً في بيع الغرر، والنوى يختلف حتى في النوع الواحد، ربما تأكل تمرة فتجد فيها نواة كبيرة، وربما تأكل تمرة من هذا النوع فتجد فيها نواة صغيرة؛ لذلك لا يصح بيع النوى في التمر.

ص: 155

وفهم من قوله: «بيع النوى في التمر» أنه لو أخرج النوى من التمر ثم باعه فالبيع صحيح؛ لأنه معلوم.

قوله: «وصوف على ظهر» لحديث ورد في النهي عنه

(1)

؛ ولأنه جزء من الحيوان أو متصل بالحيوان، فلم يجز بيعه كبيع الجزء من الحيوان كما لو باعه يداً، أو رجلاً، ولأنه يزيد فتكون الزيادة مجهولة، فإذاً عندنا دليل وتعليلان.

مثاله: إنسان عنده شاة فجاءه شخص يغزل الصوف، فقال: بعني ما على شاتك من الصوف فباعه عليه فلا يجوز

(2)

.

القول الثاني: أنه يصح بيع الصوف على الظهر بشرط الجز في الحال وألا تتضرر به البهيمة؛ لأنه مشاهد معلوم؛ ولا مانع من بيعه فلا يشتمل البيع على محذور، وهذا القول هو الصحيح؛ لأنه إذا بيع بشرط الجز في الحال فهو كما لو بيع الزرع بشرط الجز في الحال، والنماء الذي قد يحصل يزول باشتراط جزه في الحال.

(1)

رواه ابن عباس رضي الله عنهما قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تباع ثمرة حتى تطعم، ولا يباع صوف على ظهر، ولا لبن في ضرع» ، أخرجه الدارقطني (3/ 14)؛ والطبراني في «الكبير» (11935) وفي «الأوسط» (3708)؛ والبيهقي (5/ 340).

وأخرجه أبو داود في «المراسيل» عن عكرمة (183)، وأخرجه أيضاً موقوفاً على ابن عباس (182)، وكذا ابن أبي شيبة (6/ 533)، قال الحافظ في «البلوغ» (833):«إسناده قوي» .

ورجح البيهقي (5/ 340)؛ والحافظ في «الدراية» (2/ 120) وقفه على ابن عباس رضي الله عنهما

(2)

وهو المذهب.

ص: 156

فإن قال قائل: ما الجواب على الحديث الذي اسْتُدِلَّ به وهو حديث ابن عباس رضي الله عنهما؟.

قلنا الجواب: إن صح الحديث، فإنما نهى عنه؛ لأنه قد يتأذى الحيوان بجزه، ولا سيما إذا جزه في أيام الشتاء فيكون النهي ليس لعلة الجهالة ولكن لعلة الأذى.

وأما القياس وهو أنه متصل بالحيوان، فهو كجزء من أجزائه، فجوابنا على ذلك من وجهين:

الوجه الأول: أننا لا نسلم منع بيع الجزء المعلوم المشاهد، كبيع الرأس مثلاً، وبيع الرقبة، وبيع اليد من العضد فلا نسلم أن بيع هذا حرام؛ لأنه مشاهد معلوم، وليس فيه غرر ولا جهالة.

الوجه الثاني: أنه لا يصح القياس؛ لأن الشعر أو الصوف في حكم المنفصل، فكيف يجعل في حكم الجزء، والعجب أن الفقهاء رحمهم الله قالوا: إنَّ مس المرأة لشهوة ناقض للوضوء، ومس شعرها لا ينقض الوضوء، قالوا: لأنه في حكم المنفصل!!

فالراجح في هذه المسألة أن بيع الصوف على الظهر جائز، لكن بشرط أن يجز في الحال وألاَّ يلحق الحيوان أذى، أما إذا لحق الحيوان أذى مُنِعَ لا لأنه مجهول، ولكن لأذى الحيوان.

قوله: «وفجل ونحوه قبل قلعه» الفجل معروف، فلا يصح بيعه حتى يقلع من الأرض ويشاهد؛ لأنه مدفون في الأرض فقد يكون كبيراً وقد يكون متوسطاً وقد يكون صغيراً.

ص: 157

وقوله: «ونحوه» مثل البصل والجزر، فكل ما المقصود منه في الأرض فإنه مجهول لا يصح بيعه حتى يقلع، فإذا قلع وصار بارزاً ظاهراً على الأرض فإنه يباع، وهذا ـ أيضاً ـ فيه خلاف بين العلماء.

القول الثاني: أنه يصح بيعه؛ لأنه وإن كان المقصود منه مستتراً فإنه يكون معلوماً عند ذوي الخبرة فيعرفونه، فيمكن أن تأتي للفلاح وتقول: بعني هذه القطعة من الأرض التي فيها البصل أو الثوم أو الفجل بكذا وكذا، وذلك بعد تكامل النماء، فيصح بيعه، وهذا القول أصح، وهو الذي عليه العمل من زمن قديم، ولا يرون في هذا جهالة، ثم إذا قدر أن هناك جهالة فهي جهالة يسيرة لا تكون غرراً، واختار هذا القول شيخ الإسلام وابن القيم ـ رحمهما الله ـ.

‌وَلَا يَصِحُّ بَيْعُ المُلَامَسَةِ والمُنَابَذَةِ وَلَا عَبْدٌ مِنْ عَبِيْدِهِ وَنَحْوِهِ،

.......

قوله: «ولا يصح بيع الملامسة» الملامسة مفاعلة، والمفاعلة تكون غالباً من طرفين، وهي مأخوذة من اللمس، مثل أن يقول البائع للمشتري: أي ثوب تلمسه فهو عليك بكذا، فلا يصح البيع؛ لأن المشتري قد يلمس ثوباً يساوي مائة أو يلمس ثوباً لا يساوي إلا عشرة ففيه جهل وغرر، وهو يشبه القمار بلا شك إن لم يكن منه.

وهناك معنى آخر للملامسة وهو أن يقول: أي ثوب تلمسه فهو عليك بعشرة، ولو كانت الثياب من نوع واحد وعلى تفصيل واحد، وهذا الوجه مبني على عدم صحة تعليق البيع بالشرط؛ لأن «أي ثوب تلمسه» هذه جملة شرطية، ولكن هذا المثال الأخير إنما

ص: 158

يصح على قول من يقول: إن تعليق البيع بالشرط لا يصح، وهي مسألة خلافية، والصحيح أنه يصح تعليق العقد بالشرط.

قوله: «والمنابذة» مأخوذة من النبذ وهو الطرح، مثل أن يقول المشتري للبائع: أي ثوب تنبذه علي فهو بعشرة، فالذي يختاره البائع في هذه الحال أقل ما يمكن، فيكون مجهولاً، وربما ينبذ إليه ثوباً يساوي عشرة ويظن أنه ينبذ إليه ثوباً يساوي مائة، والدليل على عدم الصحة عام وخاص:

أما العام فحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: نهى عن بيع الغرر

(1)

، وهذا الحديث قاعدة عظيمة.

والخاص أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الملامسة والمنابذة

(2)

.

وبيع الحصاة مثله لا يصح، وله صورتان:

الصورة الأولى: أن يقول: احذف حصاة فعلى أي شيء تقع فهو بعشرة فحذف الحصاة، فوقعت على علبة كبريت فارغة فيكون بعشرة، وحذف حصاة أخرى، فوقعت على حلي مرصع بالجواهر يساوي آلافاً، ففيه جهالة.

الصورة الثانية: أن يقول: احذف هذه الحصاة فأي مدى بلغته من الأرض فهو لك بكذا وهذا ـ أيضاً ـ مجهول؛ لأنه يختلف الحاذف، فرجل نشيط وقوي إذا رمى أبعد، ورجل آخر

(1)

سبق تخريجه ص (143).

(2)

أخرجه البخاري في البيوع/ باب بيع المنابذة (2146)؛ ومسلم في البيوع/ باب بيع الملامسة والمنابذة (1511) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 159

دونه، فتختلف الحال، ثم تختلف ـ أيضاً ـ الأحوال باعتبار الريح فقد تكون مقابلة، وقد تكون على جنب وقد تكون مدابرة فتختلف، فبيع الحصاة منهي عنه ولا يصح؛ لأنه غرر وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر

(1)

.

مسألة: في بعض الدكاكين كل شيء بخمسة ريالات، كل شيء بعشر ريالات، هل هذا من هذا النوع؟.

الجواب: لا؛ لأنه لن يشتري إلا وقد علم ما أراد، فيقول: أخذت الحقيبة، أخذت الكتاب، أخذت القلم، أخذت الساعة بعشرة فكل شيء معلوم.

مسألة: لو أتى إنسان بكرتون فيه ثياب وطواقٍ وعبايات ونعال كلها مخلوطة، فقال: بعت عليك هذا الكرتون كل فرد منها بدرهم، فلا يصح؛ لأنه مجهول، لكن لو قال: فيه عشر من النعال، وعشر من الطواقي، وعشر من الثياب، وعشر من العبايات، وكل واحد بكذا فهذا يصح؛ لأنه معلوم لكنه يحتاج إلى حساب، أما إذا كان لا يعلم قدر كل شيء فهذا لا يصح.

قوله: «ولا عبد من عبيده ونحوه» أي: لا يصح أن يبيع عبداً من عبيده؛ وذلك لعدم التعيين فلا بد أن يكون المبيع معيناً فإذا لم يعين فإن البيع لا يصح، مثاله: إنسان عنده مائة عبد، وهذا قد يحصل، فالزبير رضي الله عنه كان عنده ألف عبد، وكان يخارجهم، أي: يعطيه كل واحد منهم كل يوم درهماً،

(1)

سبق تخريجه ص (143).

ص: 160

فكانوا يأتونه كل يوم بألف درهم، ويقول الباقي لكم، فهذه تسمى مخارجة، والمخارجة أن يقول السيد لعبده: ائتني كل يوم بدرهم، وما زاد فلك فهذا جائز، لكن إذا لم يحصّل الدرهم لا يلزمه به؛ لأنه إذا ألزمه به كان غير جائز.

وظاهر كلام المؤلف رحمه الله أنه لا يصح البيع ولو كانت القيمة واحدة، وهذا فيه خلاف بين أهل العلم.

فإن منهم من قال: إذا تساوت القيم صح البيع، وفي هذا القول ـ أيضاً ـ شيء من النظر؛ لأنها قد تتساوى القيم مع اختلاف الصفات، فمثلاً هذا قيمته مائة لأنه سمين، والثاني قيمته مائة؛ لأنه حامل، والثالث قيمته مائة لأنه كبير الجسم، فتساوي القيم في الواقع لا يرفع الجهالة إذا كان المقصود عين المبيع، أما إذا كان المقصود التجارة فإنه إذا تساوت القيم فلا جهالة؛ لأن التجارة يُراد بها الثمن أو القيمة، فإذا تساوت القيم فلا بأس أن نقول: إنه يصح البيع إذا كان المقصود التجارة، أما إذا كان المقصود عين المبيع فإنه لا بد أن يُعيّن، وتساوي القيم قد يحصل مع اختلاف الأغراض.

مثال آخر: هذه شاة حامل ولكنها هزيلة، وهذه شاة سمينة ولكنها صغيرة الجسم، وهذه شاة كبيرة الجسم ولكنها هزيلة.

والقيم متساوية فالحامل رفع قيمتها الحمل، والصغيرة السمينة رفع قيمتها السمن، والكبيرة الجسم القليلة اللحم رفع قيمتها كبر الجسم، والإنسان قد يكون له غرض في الحامل دون السمينة أو بالسمينة دون الحامل، أو بالسمينة دون الكبيرة الجسم.

ص: 161

إذاً يمكن أن يبيع عبداً من عبيده إذا لم يفت الغرض، وأما إذا فات الغرض فلا بد من التعيين.

مسألة: يوجد الآن بيع يتبايعه الناس يكون عنده كومة من الحبحب، فلو قال لك: بعت عليك واحدة من هذه الكومة بريالين، تخير، فعادة الناس الآن أن البيع صحيح نافذ وأن المشتري إذا أخذ الحبة التي يريدها، أجازها البائع أو منع، لكن البائع قد عرف أن أعلى ما يكون من ثمن هذه المجموعة أن يبلغ ريالين، ويعلم أنه غير مغبون فمثل هذا ينبغي أنه يقال بالصحة؛ لأن الناس تعارفوا على هذا البيع ولا يرون فيه جهالة ولا غرراً، والأصل في المبايعات والعقود الحل والصحة، وكذلك بيع شاة من قطيع، يأتي إلى قطيع من الغنم ويقول: اختر ما شئت بمائة ريال، هذه ـ أيضاً ـ جرى بها العرف، وهو إذا اختار فإن البائع يعلم أن أعلى ما يكون بمائة ريال.

‌وَلَا اسْتِثْنَاؤُهُ إِلاَّ مُعَيَّناً وَإِن اسْتَثْنَى مِن حَيوانٍ يُؤكَلُ رَأسَهُ وَجِلْدَهُ وَأطْرَافَهُ صَحَّ وَعَكْسُهُ الشَّحْمُ، والحَمْلُ وَيَصِحُّ بَيْعُ مَا مَأكُولُهُ فِي جَوفِهِ كَرُمَّانٍ وَبَطِّيخٍ، وَبَيعُ البَاقِلاَّء وَنَحْوِهِ فِي قِشْرِهِ والحَبِّ المُشْتَدِّ فِي سُنْبُلِهِ ....

قوله: «ولا استثناؤه إلا معيناً» أي: لا يصح استثناء عبد من العبيد إلا معيناً، فلو قال: بعتك هؤلاء العبيد إلا واحداً، فالبيع غير صحيح للجهالة.

قالوا: لأن جهالة المستثنى تستلزم جهالة المستثنى منه؛ إذاً استثناء المجهول من المعلوم يصيره مجهولاً.

مثاله: أمامنا عبيد عشرة، فالمستثنى منه الآن معلوم، لكن إذا استثنينا واحداً أصبح المبيع مجهولاً؛ لأن هذا الواحد ربما تكون قيمته نصف قيمة هذا المجموع، وعلى هذا فلا يصح هذا الاستثناء.

ص: 162

والخلاص إذا أردنا أن نستثني واحداً أن أعيِّن، فأقول: إلا العبد المسمى محمداً، أو المسمى عبد الله، أو ما أشبه ذلك، وبهذا يرتفع المحذور.

ولو قال: بعتك هؤلاء العبيد إلا هذا وأشار إليه؟ فالبيع صحيح؛ لأنه أصبح معيناً بالإشارة.

قوله: «وإن استثنى من حيوان يؤكل رأسَه وجلده وأطرافه صح» «رأسَه» مفعول لاستثنى؛ ولهذا لو قال المؤلف رحمه الله: «وإن استثنى رأس حيوان مأكول» ، لكان أحسن للعبارة وأوضح.

فقوله: «وإن استثنى من حيوان يؤكل رأسه وجلده وأطرافه صح» أي: فيصح هذا الاستثناء لأنه معلوم، فالرأس أمامنا كأنه كومة من لحم، والأطراف ـ أي الأكارع ـ والجلد كذلك، وإن كان يختلف أحياناً في الرقة واللين، أو الثخانة والشفافة، لكنه اختلاف يسير مغتفر.

فإذا قال: بعتك هذه الشاة إلا رأسها فالبيع صحيح، ولكن المشكل إذا طالب البائع بالرأس وأبى المشتري أن يذبحها فماذا نعمل؟

نقول: إن اشترط ذبحها أجبر عليه، وإن لم يشترط ذبحها فإنه يبقى له، وإذا أراد المشتري أن يبيعها، يبيع الشاة إلا رأسها؛ لأن رأسها ليس له.

في هذه الحال لو قيل: إذا أبى أن يذبح فإن إبقاء الشركة ضرر فيبقى النزاع دائماً، ففي هذه الحال نقومه ونجبر البائع على قبول التقويم، فننظر كم يساوي الرأس لو انفرد، فإذا كان يساوي

ص: 163

ريالين، وقيمة الشاة مائة ريال ففي هذه الحال نجبر البائع، ونقول له: خذ هذه قيمة الرأس وتبقى الشاة كلها للمشتري، وكذلك يُقال في الأكارع والجلد.

ولو استثنى من حيوان يؤكل أَلْيته، والأَلْية تكون في الضأن هل يجوز أو لا؟

الجواب: على قياس الرأس يجوز؛ لأن هذا عضو مستقل معلوم بالمشاهدة فيصح.

ولو استثنى من العنز ذيلها فهل له قيمة؟ الجواب: ليس له قيمة الآن، وعلى كل حال إذا استثنى صح لكن ليس له قيمة.

وقوله: «إن استثنى من حيوان يؤكل» ، «يؤكل» صفة للحيوان، فلو أنه استثنى من حيوان لا يؤكل، مثل أن يقول: بعت عليك هذا الحمار إلا رأسه، لم يصح؛ لأنه لا يستفيد من الرأس شيئاً، ولا يستفيد من الرأس إلا الأكل، والأكل محرم، والمحرم لا قيمة له، وعلى هذا فلا بد أن يكون الذي استثنى منه رأسه وجلده وأطرافه مما يؤكل.

مسألة: لو أن المشتري اشترى الشاة إلا رأسها استثناه البائع، فلما ذهب المشتري بالشاة وجد أن الشاة عوراء، والعور عيب تنقص به القيمة، فقال المشتري: أنا أريد أن أفسخ البيع؛ لأنها عوراء، فقال البائع: العور في الرأس، والرأس لي فليس لك الفسخ.

نقول: بل له الفسخ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه

ص: 164

عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر»

(1)

، فلا بد أن يكون هذا العيب مؤثراً في بقية البدن، وإذا قُدر أنه لم يؤثر لكونه برأ وانتهى فإنه يؤثر في القيمة، فأنا اشتريتها منك بمائة على أنها سليمة، وإذا كانت عوراء فستكون بثمانين فتنقص القيمة، وعلى هذا فنقول: إن للمشتري الفسخ بعيب يختص بالمستثنى، ولا يمكن للبائع أن يقول: هذا فيما استثنيت، ولا يمكن أن ترجع، والدليل الحديث، وإذا قدر أنه قد زال أثر هذا العيب فنرجع إلى التعليل بالقيمة.

قوله: «وعكسه الشحم» فلا يصح استثناء الشحم إذا باع الحيوان؛ وذلك لعدم العلم به؛ لأنه مجهول إذ هو مختلط باللحم، ولا يمكن العلم به إلا بعد أن تذبح ويكشط ويميز، أما وهي كذلك فإنه لا يمكن العلم به، ولهذا لو قال: بعت عليك هذه الشاة إلا شحمها فالاستثناء غير صحيح، وإذا لم يصح الاستثناء لم يصح البيع.

قوله: «والحمل» فاستثناء الحمل ـ أيضاً ـ لا يصح، مثل أن يبيع عليه شاة حاملاً، وقال: بعتك هذه الشاة الحامل إلا حملها؛ لأن البائع يعرف أنها شاة طيبة، وسيكون نتاجها طيباً فلا يصح الاستثناء؛ لأن الحمل مجهول، وهذا هو المذهب، وهو أحد القولين في المسألة.

(1)

أخرجه البخاري في الأدب/ باب رحمة الناس والبهائم (6011)؛ ومسلم في البر والصلة/ باب تراحم المؤمنين (2586) عن النعمان بن بشير رضي الله عنه واللفظ لمسلم.

ص: 165

والقول الثاني: صحة استثناء الحمل؛ لأن الحمل جزء منفصل، وإذا استثنيت الحمل فكأنني بعت عليك شاة حائلاً ليس فيها حمل.

فإن قال قائل: هذا يضاد نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الحمل

(1)

، قلنا: لا، لا يضاد، وحاشا لله أن نقول قولاً يضاد قول الرسول صلى الله عليه وسلم مع علمنا بذلك، ولكن الفرق أن بيع الحمل بيع معاوضة كل يشاح الآخر فيه، أما الاستثناء فهو استبقاء؛ لأن البائع لم يبع شيئاً، والمشتري لم يشتر شيئاً، غاية ما فيه أن البائع استبقى الحمل، والاستبقاء معناه عدم نقل الملك في الحمل، وهذا لا يضر المشتري شيئاً.

فالصواب: جواز استثناء الحمل.

فإن قال قائل: يمكن أن يكون الحمل اثنين أو ثلاثة، قلنا: لا يضر؛ لأنه لا معاوضة فيه، غاية ما هنالك كأنه باع عليه حيواناً حائلاً، وهذا أعني استثناء الحمل يقع كثيراً في الخيل، ويقع ـ أيضاً ـ في البقر، ويقع في الإبل، وربما يقع في الغنم فتكون هذه الأم كثيرة النتاج كثيرة اللبن وفي الخيل سريعة العدو، فيريد أن يأخذ من نتاجها.

مسألة: إذا استثنى شيئاً معيناً منه، مثاله:

قال: بعتك هذه الشاة إلا رطلاً من لحمها، فالفقهاء يقولون: لا يجوز؛ لأن الرطل معلوم واللحم مجهول، واستثناء المعلوم من المجهول يُصيره مجهولاً.

(1)

سبق تخريجه ص (153).

ص: 166

ولكن الصحيح أنه إذا كان المستثنى قليلاً بالنسبة لبقية الحيوان فإن البيع يصح؛ لأن رطلاً من اللحم، والحيوان مائة رطل، لا ضرر ولا غرر فيه.

لكن لو قال: بعتك هذه الشاة إلا ثلاثين رطلاً من اللحم، واللحم قد يكون ثلاثين رطلاً وقد يكون أقل، فهنا الاستثناء غير صحيح؛ لعدم التمكن من استيفائه، أما إذا كان يمكن استيفاؤه كرطل من اللحم أو قطعة من الفخذ أو قطعة من العضد فلا حرج في ذلك، ولهذا نقول: إذا استثنى شيئاً معيناً يمكن إدراكه وتحصيله فلا بأس به.

ولو استثنى الكبد فقال: بعتك هذه الشاة إلا كبدها، المذهب لا يصح، والصحيح أنه يصح؛ لأن هذا الاستثناء استبقاء.

فإذا قال قائل: ربما تكون الكبد كبيرة أو صغيرة.

قلنا: نعم هذا وارد، لكن هذا استبقاء، وهو جزء منفصل منفرد معلوم.

قوله: «ويصح بيع ما مأكوله في جوفه كرمان وبطيخ» ومثله: البرتقال، والفواكه، والبيض، فيصح بيع ما مأكوله في جوفه؛ لأنه جرت العادة بذلك، وتعامل الناس به من غير نكير؛ ولأن في فتحه إفساداً له، والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن إضاعة المال وإفساده

(1)

.

(1)

سبق تخريجه ص (118).

ص: 167

فلو قيل: لا تبع البيض إلا إذا فقشته أو لا تبع البرتقال إلا إذا فتحته لخرب وفسد، لكن لو قال المشتري: أنا لا أشتري حتى تفتح البطيخة، وهو ما يسمى عندهم بالعرف (على السكين) فهل يصح؟.

نقول: نعم يصح؛ لأن هذه صفقة معينة، فيوجد بعض الباعة الآن ولا سيما باعة الحبحب يفتح واحدة منها، وينشرها أمام الناس، فيراها الناس حمراء، أي: جيدة، فهذا يشبه بيع الأنموذج، فإذا اشترى واحدة ثم ذهب بها إلى البيت وفتحها وإذا هي بيضاء فهل له أن يرجع عليه؟ الظاهر له أن يرجع، وهذا وإن لم يكن شرطاً لفظيّاً فهو شرط فعلي، كأن هذا البائع يقول للناس: إن هذا الحبحب على هذا الشكل.

قوله: «وبيع الباقلاء ونحوه في قشره» الباقلاء هي الفول، والحمص، والجوز، واللوز معروفة، فكله مأكوله في جوفه.

قوله: «والحَب المشتد» أي: الذي صَلُب.

قوله: «في سنبله» «في» هنا بمعنى مع، فإن باع الحب وحده دون قشره فعلى رأي المؤلف لا يصح يقول: لأنه كبيع النوى في التمر، وقد تقدم أن بيع النوى منفرداً لا يجوز، فإذا بيع الحب في قشره منفرداً لا يجوز.

والدليل على صحة بيع هذه الأشياء مع قشرها ما يلي:

أولاً: السنّة وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم: نهى عن بيع الحب حتى

ص: 168

يشتد

(1)

، فالحب هو البر والشعير ونحوهما، نهى عن بيع ذلك حتى يشتد، ومعلوم أنه بمفهوم الحديث أنه إذا اشتد جاز بيعه، ومأكول السنبل في جوفه.

ثانياً: دعاء الحاجة إلى ذلك.

ثالثاً: تعامل الناس بذلك من غير نكير.

رابعاً: لأن فتحها يكون سبباً لفسادها.

‌وَأن يَكُونَ الثَّمَنُ مَعْلُوماً فَإِنْ بَاعَهُ بِرَقْمِهِ، أَوْ بِألْفِ دِرِهَمٍ ذَهَباً وَفِضَّةً، أَوْ بِمَا يَنْقَطِعُ بِهِ السِّعْرُ، أَوْ بِمَا بَاعَ بِه زَيْدٌ وَجَهِلَاهُ أو أحَدُهُمَا لَمْ يَصِح.

قوله: «وأن يكون الثمن معلوماً» هذا هو الشرط السابع، أن يكون الثمن معلوماً، برؤية أو صفة أو عدّ أو وزن، وما أشبه ذلك، والفرق بين المبيع وبين الثمن، قيل: الثمن ما كان من النقدين، أي: من الدراهم والدنانير، فإذا قلت: بعت عليك هذا الثوب بدرهم فالثمن درهم، وإذا قال: بعت عليك هذا الدرهم بثوب فالثمن الدرهم.

وقال بعض العلماء: الثمن ما دخلت عليه الباء، فإذا قلت: بعت عليك ثوباً بدرهم فالثمن الدرهم، وإذا قال: بعت عليك درهماً بثوب فالثمن الثوب، وبعت عليك قلماً بساعة، فالثمن الساعة، وبعت ساعة بقلم فالثمن القلم، وهذا هو الأظهر حتى في عرف الناس أن الثمن ما دخلت عليه الباء.

فيشترط أن يكون الثمن معلوماً كما يشترط أن يكون المبيع

(1)

أخرجه الإمام أحمد (3/ 221، 250)؛ وأبو داود في البيوع/ باب في بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها (3371)؛ والترمذي في البيوع/ باب ما جاء في كراهية بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها (1228)؛ وابن ماجه في التجارات/ باب النهي عن بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها (2217)؛ والحاكم (2/ 19) عن أنس رضي الله عنه. وصححه الحاكم على شرط مسلم ووافقه الذهبي، وقال في «الإرواء» (5/ 211):«صحيح» .

ص: 169

معلوماً، والدليل حديث أبي هريرة رضي الله عنه:«أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر»

(1)

؛ ولأنه أحد العوضين، فاشترط فيه العلم كالعوض الآخر، وإنما قلت بهذا القياس؛ لأن العوض الآخر قد وردت أحاديث في عين المبيع المجهول كبيع الحمل مثلاً

(2)

.

مسألة: لو قال: اشتريت منك هذا البيت بهذه الكومة من الدراهم فهل يصح البيع؟

يقول الفقهاء: إن ذلك صحيح؛ لأن الثمن هنا معلوم بالمشاهدة، مع أن هذا فيه غرر كبير، وكذلك لو قال: اشتريت منك هذه السيارة بهذه الربطة من الأوراق النقدية فئة خمسمائة ريال، فعلى المذهب يصح؛ لأنه معلوم بالمشاهدة، ولكن هذا غير صحيح؛ لأنه يختلف حتى الأوراق التي استعملت غير الأوراق الجديدة، فالأوراق الجديدة صغيرة السُّمْك ولكنها كثيرة العدد والعكس بالعكس، ولو قال: اشتريت منك هذه السيارة بوزن هذا الحجر ذهباً فعلى المذهب يجوز؛ لأن هذا مشاهد، ولو قال: اشتريت منك هذا البيت بملئ هذا الإناء فضة جاز على المذهب؛ لأنه مشاهد وأنا ذكرت هذا لأنه ذكره في «الروض»

(3)

، وكل هذا ضعيف وفيه من الغرر ما هو ظاهر، ويدخل في حديث أبي هريرة بلا شك.

قوله: «فإن باعه برقمه» أي: بما كتب على السلعة من الثمن كما يفعل الناس في الأدوية مثلاً؛ لأنه مجهول إما للبائع

(1)

سبق تخريجه ص (143).

(2)

سبق تخريجه ص (153).

(3)

4/ 363.

ص: 170

وإما للمشتري أو لهما جميعاً، فهل يمكن أن يكون مجهولاً للجميع؟

الجواب: يمكن أن تكون هذه البضاعة واردة مكتوباً عليها قيمتها من قبل المسؤولين، والبائع والمشتري كلاهما لا يدري.

هل يمكن أن يكون معلوماً للبائع مجهولاً للمشتري؟

الجواب: يمكن.

وهل يمكن أن يكون معلوماً للمشتري مجهولاً للبائع؟ يمكن، فإذاً لا بد أن يكون معلوماً، فإذا باع بالرقم فإنه لا يصح البيع، وهذا هو المذهب.

القول الثاني: أنه يصح البيع بالرقم إذا كان من قبل الدولة، بل هذا ربما يكون أشد اطمئناناً للبائع والمشتري، أما إذا كان البائع نفسه هو الذي يرقم ما شاء على سلعته، فهذا لا بد أن يكون معلوماً.

مثاله: إنسان مسعر للساعات، كتب ورقة صغيرة على الساعة سعرها خمسمائة ريال، قال المشتري: كم تبيعها؟ قال له: برقمها فلا يصح؛ لأن هذا البائع ربما يرقم عليها أضعاف أضعاف القيمة، لكن إذا علمنا أن هذا مقدر ومرقوم من جهة مسؤولة، فإنه لا شك في جواز البيع بالرقم.

لو قال البائع عندما سأله المشتري: كم القيمة؟ قال: برقمها فنظر المشتري، وإذا الرقم كثير فأبى أن يشتريها بذلك جاز، وإن نظر إلى رقمها وإذا هو مناسب فقال: قبلت صح؛ لأنه الآن عُلمَ الرقم.

ص: 171

وقوله: «باعه برقمه» أي: برقم لا يعرف حين العقد.

قوله: «أو بألف درهم ذهباً وفضة» هذه المسألة لها صورتان:

الأولى: أن يقول: بعتك بألف ذهباً وفضة.

الثانية: أن يقول: بعتك بألف درهم ذهباً وفضة.

والمذهب لا يصح في الصورتين، وقيل: يصح في الصورتين ويحمل على المناصفة فتكون القيمة خمسمائة درهم وخمسمائة دينار، لكن لو قال: بألف درهم ذهباً وفضة لا ندري كم سيعطي ربما يعطي أكثرها ذهباً والباقي فضة أو بالعكس فلا ندري.

لكن لو قال قائل: إذا كانت الدراهم والدنانير مقررة، كل اثني عشر درهماً يعادل ديناراً، فإذا قال: بعتك بألف درهم ذهباً وفضة صار معلوماً، سواء من الدنانير أو الدراهم صح.

لكن قد يكون له غرض في أن يكون أكثر الثمن دنانير أو أكثر الثمن دراهم، فيكون له غرض صحيح، وعلى هذا فقول المؤلف: إنه لا يصح قول صحيح، حتى لو فرض أن قيمة الدراهم من قيمة الدنانير لا تتغير، فإنه قد يكون له غرض في تعيينها.

والخلاصة: أنه لو قال: بعتك بألف ذهباً وفضة، فالبيع صحيح ويحمل على المناصفة، وإذا قال بألف درهم ذهباً وفضة لا يصح؛ لأنه ربما يجعل الأكثر ذهباً والأقل فضة أو بالعكس، وكذلك لو قال: بمائة دينار ذهباً وفضة لا يصح للجهالة.

ص: 172

قوله: «أو بما ينقطع به السعر» قال: أبيعك إياه بما يقف عليه في المساومة فإنه لا يصح

(1)

؛ لأننا لا ندري هل يقف على ثمن كثير أو على ثمن قليل، وربما يأتي شخص يناجش فيرتفع الثمن، وربما يكون الحضور قليلين فينقص الثمن؛ ولهذا لا يصح أن يبيعه بما ينقطع به السعر.

وقيل: إنه يصح، وأن بيعه بما ينقطع به السعر أشد طمأنينة من بيعه بالمساومة؛ لأن الإنسان يطمئن فيقول: ما دام الناس وقفوا على هذا السعر فذلك يدل على أن القيمة مطابقة، ولكن في النفس من هذا شيء.

والأقرب: أنه لا يصح بما ينقطع به السعر؛ وذلك لأن ما ينقطع به السعر مجهول، فلو حصل مناجشة زاد، ولو قل الحاضرون نقص، فالجهالة إذاً موجودة، ولهذا ينبغي ألاَّ يباع بما ينقطع به السعر.

قوله: «أو بما باع به زَيد وجهلاه أو أحدهما لم يصح» لأن بيع زيد مجهول، وهذا هو المذهب. وقيل: يصح لأنه يمكن معرفته بالرجوع إلى زيد، وقيل: إن كان زيد ممن يعتبر بتقديره الثمن، فإن البيع بما يبيع به صحيح، فمثلاً: زيد مشهور بالبلد معروف أنه هو الذي يعرف الأسعار، فقال البائع: أبيعك كما يبيع زيد.

(1)

هذا هو المذهب.

ص: 173

فالقول الثالث: أن ذلك صحيح؛ لأن هذا أوثق ما يكون، أي: اعتبار الناس بالرجل المشهور الذي قد نصب نفسه لبيع البضائع، أكثر من اعتبارهم ببيع المساومة.

فالصحيح في هذه المسألة أنه يصح، أما إذا كان زيد من عامة الناس الذين لا يعرفون التجارة فلا يصح أن يقول: بعتك بما باع به زيد؛ لأن زيداً قد يُغبن فيشتري بأقل أو بالعكس.

‌وَإِنْ بَاعَ ثَوْباً أَوْ صُبْرَةً، أَوْ قَطِيعاً كُلَّ ذِرَاعٍ أَوْ قَفِيزٍ أَوْ شَاةٍ بِدِرْهَمٍ صَحَّ وَإِن بَاعَ مِنْ الصُّبْرَةِ كُلَّ قَفِيزٍ بِدِرْهَمٍ، أَوْ بِمَائَةِ دِرْهَمٍ إِلاَّ دِينَاراً وَعَكسُهُ

قوله: «وإن باع ثوباً» الثوب يراد به المخيط وغير المخيط، والغالب أنه في غير المخيط.

قوله: «أو صُبرة» الصبرة هي الكومة من الطعام.

قوله: «أو قطيعاً» وهو الطائفة من الغنم.

قوله: «كل ذراع» يعود على الثوب.

قوله: «أو قفيز» يعود على الصبرة، والقفيز نوع من المكاييل.

وقوله: «أو شاة» يعود على القطيع، ففي الكلام إذاً لف ونشر مرتب؛ لأنه أجمل في الأول، ثم فصل على الترتيب.

قوله: «بدرهم صح» وإن لم يعلما القدر؛ لأنه باع الجملة، وجعل هذا التحديد تقديراً للثمن، أما المبيع فمعلوم.

مثاله: إنسان عنده قطيع من الغنم، فقال: بعتك هذا القطيع كله، كل شاة بدرهم، صح؛ لأن المبيع معلوم، وتقديره بالشاة أي بالواحدة من أجل معرفة قدر الثمن فيصح، وهذا القطيع ربما

ص: 174

يكون فيه مائة رأس، أو مائتان، فلا يضر هذا؛ لأنه معلوم بالمشاهدة، وكوني أحدد الثمن على كل رأس إنما هو لتقدير الثمن فقط.

ومثل ذلك ـ أيضاً ـ إذا باع عليه الصبرة كلها كل قفيز، وإن شئت فقل كل صاع بدرهم فلا بأس.

وكذلك لو باعه الثوب المتر بكذا وكذا، فهذا جائز.

قوله: «وإن باع من الصبرة كل قفيز بدرهم» أي: إن باع من الصبرة كل قفيز بدرهم، أو من الثوب كل ذراع بدرهم، أو من القطيع كل شاة بدرهم فهنا لا يصح البيع؛ لأن «مِنْ» للتبعيض فلا ندري هل يأخذ من هذا القطيع شيئاً كثيراً أو شيئاً قليلاً، فعاد الأمر إلى جهالة المبيع؛ لأنه قد يأخذ من القطيع مثلاً خمسين رأساً أو عشرين رأساً أو كل القطيع، فهو مجهول فلهذا لا يصح.

والفرق بين المسألتين: أنه في الأولى وقع البيع على الجميع، وكون كل واحد بكذا إنما هو لمعرفة قدر الثمن، فالمبيع الآن معلوم.

وفي المسألة الثانية يقول: من القطيع كل شاة بدرهم، «من» للتبعيض، فلو أخذ من القطيع ـ الذي عددُهُ ألفٌ ـ ثلاثاً لم نلزمه بأكثر من ثلاث؛ لأنه قال:«من» ، ومن تأتي للتبعيض، والحكم كذلك فيما لو أخذ أكثر، فلا أدري ماذا يأخذ من القطيع فهو مجهول لي، هذا هو الفرق.

والقول الثاني في المسألة الثانية: أن هذا صحيح؛ وذلك لأن البائع قد اطمأن على أنه ربما يأخذ المشتري جميع القطيع،

ص: 175

وأنه أتى بـ «من» للتبعيض لأجل أن يكون المشتري بالخيار، إن شاء أخذ كثيراً، وإن شاء أخذ قليلاً، ثم إن المسألة ستعلم، فإذا قال: أنا أريد عشرة من القطيع عُلم، فيصح، وهذا مثلها لأنه مثل الإجارة، لو قال: استأجرت منك هذا البيت كل سنة بمائة درهم فإنه يجوز، وقد روي عن علي رضي الله عنه أنه استؤجر على أن يسقي بستاناً كل دلو بتمرة

(1)

، فإذا صح هذا في الإجارة صح في البيع؛ لأن كلًّا منهما يشترط فيه العلم.

وهذا القول هو القول الراجح في هذه المسألة، أنه إذا باعه من القطيع كل شاة بدرهم، أو من الثوب كل ذراع بدرهم، أو من الصبرة كل قفيز بدرهم، فإن البيع صحيح كما لو باعه الكل، وقد ذكرنا سابقاً أن الناس جرت عادتهم أن المشتري إذا جاء إلى القطيع، وقال له صاحب القطيع: خذ ما شئت ـ مثلاً ـ شاتين أو ثلاثاً أو أربعاً تخير، فيأخذ واحدة أو اثنتين أو ثلاثاً أو أربعاً ويمشي، والناس يتبايعون بهذا، وعليه العمل، فالصواب إذاً صحة ذلك في هذا وفي هذا.

قوله: «أو بمائة درهم إلا ديناراً» لم يصح.

قوله: «وعكسه» بأن باعه بدينار إلا درهماً لم يصح، هاتان مسألتان:

المسألة الأولى: إذا باعه بمائة درهم إلا ديناراً فإنه لا

(1)

أخرجه الترمذي في صفة القيامة/ بابٌ (2473) وقال: «حسن غريب» ؛ وابن ماجه في الرهون/ باب الرجل يستقي كل دلو بتمرة (2447)؛ وصححه البوصيري في «مصباح الزجاجة» .

ص: 176

يصح؛ لأن المستثنى من غير جنس المستثنى منه، فإذا باعه بمائة درهم إلا درهماً، صح البيع؛ لأن المستثنى من جنس المستثنى منه.

وبمائة درهم إلا ديناراً لا يصح، ولو قال: نقدر قيمة الدينار ونسقطه من الدراهم، فمثلاً بعدما يتم البيع نقول: كم يساوي الدينار؟ قال: يساوي عشرة دراهم فيكون البيع بتسعين فلماذا لم يصح؟

قالوا: لأننا قد نقدر قيمته فربما يكون أكثر أو أقل، وبناءً على هذا نقول: إذا كانت الدراهم والدنانير معلومة القيمة، بمعنى أنها مقررة من قبل الدولة بأن عشرة الدراهم دينار، فقلت: بعت بمائة درهم إلا ديناراً، فإن البيع يكون صحيحاً لزوال الجهالة، وربما يكون هذا مراد الأصحاب رحمهم الله أنه إذا كانت قيمة الدينار غير معلومة، أما إذا كانت معلومة فإن الثمن سيكون معلوماً.

الثانية: بعتك هذا الشيء بدينار لا درهماً لا يصح البيع على كلام المؤلف؛ لأن قيمة الدرهم المستثنى غير معلومة بالنسبة للدينار، والمستثنى من غير جنس المستثنى منه فلا يصح، وبناءً على ما قررنا نقول: إذا كانت نسبة الدراهم إلى الدنانير لا تختلف فالبيع صحيح.

وكيف نأخذ الثمن من المشتري؟

نقول: إذا كان الدينار يساوي عشرة دراهم يكون البيع بتسعة، والأمر واضح.

ص: 177

والحاصل: أنه إذا استثنى أحد النقدين من الآخر فالبيع على المذهب غير صحيح، ونقيد ذلك بما إذا كانت القيمة قابلة للزيادة والنقص، أما إذا كانت القيمة مقررة بحيث يكون كل عشرة دراهم ديناراً فالاستثناء صحيح.

‌أَوْ بَاعَ مَعلُوماً وَمَجْهُولاً يَتَعَذَّرُ عِلْمُهُ وَلَمْ يَقُلْ كُلٌّ مِنْهُمَا بِكَذَا لَمْ يَصِحَّ فَإِن لَّمْ يَتَعذّرْ صَحَّ فِي المَعْلوِمِ بِقِسطِهِ

قوله: «أو باع معلوماً ومجهولاً يتعذر علمه ولم يقل: كل منهما بكذا، لم يصح» فإن قال: كل منهما بكذا صح.

مثاله: قال: بعتك هذه الناقة وما في بطن ناقة أخرى بألف درهم، فالثمن الآن معلوم، والمبيع بعضه معلوم وبعضه غير معلوم، يتعذر علمه الآن؛ لأنه حمل.

إذاً نقول: إن قال: كل منهما بكذا صح، بأن قال: بعتك هذه الناقة وما في بطن ناقة أخرى بألف درهم، فهذه الناقة بثمانمائة والحمل بمائتين يصح؛ لأن هذا ليس فيه جهالة، لكن بيع الناقة وما في بطن الأخرى بألف لا يمكن أن نقسم الثمن عليهما؛ لأن قيمة الحمل الذي في بطن الناقة الأخرى مجهول، ولا يمكن أن نصل إلى قيمتها فيبقى الثمن الآن مجهولاً، وهذا واضح.

فإن قال: بعتك هذه الناقة وحملها بمائة، هي بثمانين والحمل بعشرين يقولون: إنه لا يصح؛ لأن الحمل لا يصح بيعه إلا تبعاً، فإذا قلت: هذه الناقة بثمانين والحمل بعشرين صار الآن مستقلاً فلا يصح بيعه، كما لا يصح بيع حمل الناقة الأخرى في المثال الأول وتبقى الأم بثمانين.

ص: 178

قالوا: إذا صححنا البيع في الأم دون الحمل، صار كبيع الحامل مع استثناء حملها، وقد سبق أن بيع الحامل مع استثناء حملها على المذهب لا يصح، وبناءً على ما رجحناه من أن الإنسان إذا باع حاملاً واستثنى الحمل، فالبيع صحيح فإنه يصح هنا.

قوله: «فإن لم يتعذر صح في المعلوم بقسطه» أي: إن لم يتعذر علم المجهول صح في المعلوم بقسطه؛ لأنه يمكن أن يقسط الثمن على المعلوم وعلى المجهول، ويعرف ثمن المعلوم.

مثال ذلك: باع عليه السيارة الموجودة الآن هنا، وسيارة أخرى غائبة، فالسيارتان بعشرة آلاف، فالسيارة الأخرى الغائبة مجهولة، فيصح في الحاضرة، والغائبة لا يصح فيها البيع؛ لأنها مجهولة.

وكيف نقسط الثمن؟.

نقدر كم قيمة الموجودة بين أيدينا، فإذا كانت: قيمتها عشرة، وقيمة الأخرى خمسة، نوزع الثمن أثلاثاً، ثلثاه للحاضرة، وثلثه للغائبة، فصار يقسط الثمن على المعلوم الحاضر وعلى المجهول الغائب، ويؤخذ ثمن المعلوم الحاضر وذاك يسقط؛ لأنه لم يصح فيه البيع.

فصار بيع المعلوم مع المجهول ينقسم إلى قسمين:

الأول: أن يتعذر علم المجهول.

الثاني: ألا يتعذر.

إن تعذر علمه فالبيع لا يصح ما لم يقدر لكل منهما ثمناً،

ص: 179

وأما إذا لم يتعذر علمه وهو القسم الثاني فإنه يصح في المعلوم بقسطه، ونسقط قيمة المجهول من الثمن.

وهذه تسمى تفريق الصفقة، وهذه إحدى الصفقات الثلاث، لأن عندهم ثلاث صفقات يصح البيع فيها بما يصح عقد البيع عليه، ولا يصح في الباقي، فهذه المسألة إذا تعذر صح في المعلوم بقسطه هي إحدى مسائل تفريق الصفقة.

ومعنى الصفقة العقد؛ لأن المتعاقدين ولا سيما في الزمن الأول إذا باع قال له: بكم بعت علي؟ قال: بعت عليك بكذا ويصفق على يديه، فالصفقة هي العقد، وتفريقها، أي تصحيح بعضها وإبطال البعض، والمسألة التي معنا الآن إذا باع معلوماً ومجهولاً لا يتعذر علمه، هنا فرقنا الصفقة فصححناها فيما يصح وأبطلناها فيما يبطل.

‌وَلَوَ بَاعَ مُشَاعاً بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ كَعَبْدٍ أَوْ مَا يَنْقَسِمُ عَلَيْهِ الثَّمَنُ بِالأجْزَاءِ صَحَّ فِي نَصِيْبِهِ بِقِسْطِهِ وَإِنْ بَاعَ عَبْدَهُ وعَبْدَ غَيْرِه بِغَيْرِ إِذْنِه أَوْ عَبْداً وَحُرّاً، أَو خَلًّا وَخمراً صَفْقَةً وَاحِدَةً، صحَّ فِي عَبْدِهِ، وَفِي الَخلِّ بِقِسْطِهِ، وَلِمُشْتَرٍ الخِيَارُ إنْ جَهِلَ الحَالَ.

قوله: «ولو باع مشاعاً بينه وبين غيره» هذه المسألة الثانية «مشاعاً» أي مشتركاً بينه وبين غيره.

قوله: «كعبد» وكسيارة، أو أرض، أو أي شيء يكون مشتركاً مشاعاً باعه جميعاً.

فمثلاً هذه السيارة بيني وبين أخي فبعتها على إنسان كلها، فالآن بعت مشاعاً بيني وبين غيري، فبيعي لملكي صحيح؛ لأنه من مالك، وبيعي لملك أخي لا يصح؛ لأني لست وكيلاً، إذاً فرقنا الصفقة، فنقول للمشتري: لك الآن نصف السيارة؛ لأنه صح فيها البيع، أما بيع نصيب أخي فلا يصح.

ص: 180

لو قال المشتري: أنا سأذهب بالسيارة إلى مكة والمدينة، وقال الشريك الثاني: إذا سافرت عليها فيكون ذلك بنصف الأجرة، فهل يكون للمشتري الخيار في هذه الحال لتفريق الصفقة عليه؟.

نقول: نعم له الخيار؛ لأن تفريق الصفقة يضره.

قوله: «أو ما ينقسم عليه الثمن بالأجزاء» أي: ليس مشاعاً، لكن ينقسم عليه الثمن بالأجزاء كصاعين من بر، أحدهما لي، والثاني للآخر، خلطتهما ثم بعتهما، فهل يصح البيع في الصاعين، أو في الصاع الذي لي فقط؟ قال:

«صح في نصيبه بقسطه» أي: في الصاع الذي لي فقط، ولا يصح في الصاع الآخر، والفرق بين هذه المسألة والأولى، أن الأولى الشركة فيها مشاعة، والثانية الشركة فيها بالأجزاء؛ لأن الحب الآن، حبة لي وحبة للآخر، ولكن المشاع أي ذرة في المملوك فهي مشتركة.

فإذا باع ما ينقسم عليه الثمن بالأجزاء بعضه له، وبعضه للآخر، صح البيع فيما هو له، ولم يصح البيع للآخر؛ لأن الآخر لا يملكه ولم يوكل فيه، وهذه المسألة الثانية من مسائل تفريق الصفقة.

قوله: «وإن باع عبده وعبد غيره بغير إذنه» أي: باع عينين قائمتين كل واحدة قائمة بنفسها عبده وعبد غيره، أخذ عبد غيره

ص: 181

من بيته وذهب به معه إلى السوق ومعه عبده فنادى عليهما جميعاً وباعهما، فالآن وقع العقد على ما يملك بيعه وما لا يملك، فنقول: يصح في عبده، ولا يصح في عبد غيره، والفرق بين هذه وبين التي قبلها واضح، فهذه ليس فيها اختلاط، فكل عين متميزة، وكذلك باع سيارته وسيارة غيره يصح في سيارته، ولا يصح في سيارة غيره.

قوله: «أو عبداً وحراً» الحر غير مملوك، فباع عبده وحراً بثمن واحد صفقة واحدة، يصح في عبده ولا يصح في الحر؛ لأن الحر لا يصح عقد البيع عليه.

قوله: «أو خلًّا وخمراً صفقة واحدة صح في عبده، وفي الخل بقسطه» عنده الآن جَرَّتان، إحداهما: خمر، والثانية: خل، فباعهما جميعاً، فيصح في الخل ولا يصح في الخمر.

وقوله: «صح في عبده» فلو نودي على هذين العبدين كم يساوي كل واحد؟ قالوا: أحدهما يساوي ألفاً، والثاني يساوي ألفين، فإذا كان عبده يساوي ألفين أسقطنا الثلثين من الثمن، وعبد غيره يساوي ألفاً أسقطنا الثلث.

وإذا باع عبده وحراً كيف نقوِّم الحر؟ قلنا: يقدر أنه عبد، فيقال: يقدر أن هذا الحر عبد مع عبدك الذي بعته، قال: لو كان الحر عبداً لكان يساوي ألفين، وعبدي يساوي ألفاً فنسقط من الثمن الثلثين.

ص: 182

أما مسألة الخل والخمر، فمعلوم أن الخمر ليس له قيمة شرعاً، فماذا نصنع؟ قالوا: يقدر الخمر خلًّا، أي يقدر شراباً لم يتخمر، فلو كان خلًّا يساوي عشرة، والخل الذي معه يساوي خمسة، فنسقط من الثمن الثلثين فقط.

قوله: «ولمشتر الخيار إن جهل الحال» أي: في مسائل تفريق الصفقة له الخيار إن جهل، فإن علم فلا خيار له.

مثاله: باع الرجل عبده وعبد غيره على رجل، والرجل يعلم أن هذا العبد ليس له، فالعبد الذي ليس له لا يصح بيعه، فهل للمشتري الخيار؟.

الجواب: لا؛ لأنه دخل على بصيرة، فلا خيار له، إذاً للمشتري الخيار إن جهل الحال، وإلا فلا خيار له؛ لأنه دخل على بصيرة.

والخلاصة: أن مسائل تفريق الصفقة ثلاث:

الأولى: إذا باع معلوماً ومجهولاً لا يتعذر علمه.

الثانية: إذا باع مشاعاً بينه وبين غيره.

الثالثة: إذا باع شيئين، أحدهما يصح البيع فيه، والآخر لا يصح.

والمذهب فيها كلها أن البيع يصح فيما يصح ويبطل فيما يبطل، وللمشتري الخيار.

والقول الثاني في المسألة: أن البيع لا يصح في الجميع؛ لأن الصفقة واحدة ولا يمكن أن تتفرق ولكن الصحيح المذهب.

ص: 183

وبهذا انتهت شروط البيع، وتبين أن الشروط تدور على ثلاثة أشياء: الظلم، والربا، والغرر، فمن باع ما لا يملك فهذا من باب الظلم، ومن تعامل بالربا فهذا من باب الربا، ومن باع بالمجهول فهذا من باب الغرر.

ص: 184

‌فَصْلٌ

‌وَلَا يَصِحُّ البَيْعُ مِمَّنْ تَلْزَمُهُ الجُمُعَةُ بَعْدَ نِدَائِهَا الثَّانِي وَيَصحُّ النّكَاحُ وَسَائِرُ العُقُودِ.

قوله: «فصل» المؤلف رحمه الله لما ذكر شروط صحة البيع ذكر بعد ذلك موانع البيع، وإنما صنع ذلك؛ لأن الأشياء لا تتم إلا باجتماع الشروط وانتفاء الموانع؛ لأنه إذا تمت الشروط ولم تنتف الموانع لم تصح العبادة ولا المعاملة، وكذلك لو عدمت الموانع ولم تتم الشروط لا تصح، أرأيت الرجل يكون أباً للإنسان أو ابناً له فإنه يرث؛ ولكن إذا وجد فيه مانع من موانع الإرث لم يرث؛ لأنه لا يتم الشيء إلا بوجود شروطه، وانتفاء موانعه، وهذه القاعدة نافعة في باب الأحكام وفي باب الأخبار.

قوله: «ولا يصح البيع» يعني ولا الشراء.

قوله: «ممن تلزمه الجمعة» احترازاً ممن لا تلزمه، فيجوز له البيع والشراء كالنساء والأولاد الصغار فيما يتبايعونه بينهم؛ لأن من لا تلزمه الجمعة لا يلزمه السعي إليها، وإذا لم يلزمه السعي إليها صار البيع والشراء في حقه حلالاً، إذ إن الذي لا يصح البيع منه هو الذي يوجه إليه الخطاب في قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9]، فأمر بالسعي إلى ذكر الله، وهي الخطبة والصلاة، والمراد بالسعي هنا مجرد الانطلاق، وليس المراد به السعي الذي هو الركض؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الإسراع فيمن أتى إلى الصلاة

(1)

.

(1)

أخرجه البخاري في الأذان/ باب لا يسعى إلى الصلاة (636)؛ ومسلم في الصلاة/ باب استحباب إتيان الصلاة بوقار وسكينة (602) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 185

ونحن قلنا: لا يصح البيع ولا الشراء، أفلا يقول قائل: إن البيع والشراء متلازمان؟.

قلنا: مراده بالشراء هنا القبول؛ لأنه قد يوجب البائع البيع، فيقول: بعت عليك هذا بعشرة، وبعد ذلك يقول المؤذن: الله أكبر، فيقول الثاني: قبلت، فالذي وقع بعد النداء هو الشراء، وإلا فمن المعلوم أنه لا بيع إلا بشراء ولا شراء إلا ببيع، لكن قد يقع القبول بعد النداء، والإيجاب قبل النداء، فنقول: إن البيع لا يصح.

وقوله: «ممن تلزمه الجمعة» يشمل من تلزمه بنفسه ومن تلزمه بغيره، فالذي تلزمه بنفسه من اجتمعت فيه شروط الوجوب، وأما من تلزمه بغيره فهو من لم تجتمع فيه الشروط، ولكن إذا أقيمت الجمعة وجبت عليه، من ذلك المسافر الذي يلزمه الإتمام وهو ـ على المذهب ـ من نوى إقامة أكثر من أربعة أيام، وتفصيل ذلك يوجب علينا أن نرجع إلى شروط من تجب عليه الجمعة، وهي مذكورة في باب صلاة الجمعة.

قوله: «بعد ندائها الثاني» أفادنا المؤلف رحمه الله أن للجمعة ندائين، أولاً وثانياً، فأما الثاني فهو الموجود على عهد النبي صلى الله عليه وسلم حين يجيء الإمام فيؤذن المؤذن فحملت الآية عليه؛ لأنها نزلت في وقت لا يوجد فيه إلا أذان واحد وهو الثاني، فلذلك نقول: إن الحكم معلق به. أما الأذان الأول فإنما حدث في زمن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه حين اتسعت المدينة وبَعُدَ الناس، جعل للجمعة نداءين من أجل أن

ص: 186

يتهيأ الناس إلى الحضور فيمكنهم الحضور حين حضور الإمام

(1)

.

فإن قال قائل: إحداث ذلك بدعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع إلا أذاناً واحداً، والأذان عبادة لا يمكن شرعها إلا بإذن من الشارع؟.

فالجواب على ذلك من وجهين:

الأول: أن هذا من سنة الخلفاء الراشدين؛ لأن عثمان رضي الله عنه منهم، وللخلفاء الراشدين سنة متبعة بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم فقد قال:«عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي»

(2)

.

الثاني: أن عثمان رضي الله عنه لم يسنه إلا لسبب لم يكن موجوداً في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو سعة المدينة وتباعد الناس، فلا يقال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يشرعه؛ لأنه في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن هناك سعة يحتاج الناس معها إلى أن ينادوا للصلاة، وقد علم أن الرسول صلى الله عليه وسلم شرع أذاناً في آخر الليل ليس لصلاة الفجر، بل من أجل إيقاظ النائم، وإرجاع القائم، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «إن بلالاً يؤذن بليل ليوقظ نائمكم ويرجع قائمكم،

(1)

أخرجه البخاري في الجمعة/ باب الأذان يوم الجمعة (912) عن السائب بن يزيد رضي الله عنه.

(2)

أخرجه الإمام أحمد (4/ 126)؛ وأبو داود في السنة/ باب لزوم السنة (4606)؛ والترمذي في العلم باب ما جاء في الأخذ بالسنة (2676)؛ وابن ماجه في المقدمة/ باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين (42) عن العرباض بن سارية رضي الله عنه وقال الترمذي: «حسن صحيح» ، وصححه ابن حبان (5)؛ والحاكم (1/ 96).

ص: 187

فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم»

(1)

.

إذاً فقد شرع النبي صلى الله عليه وسلم أذاناً في آخر الليل لا من أجل وقت صلاة، ولكن من أجل أن يستعد الناس للسحور، قد يكون الداعي إلى مشروعية الأذان الأول يوم الجمعة أقوى من ذلك، فعلى هذا تكون هذه السنة التي سنها أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه سنة شرعية نحن مأمورون باتباعها.

وبهذا يعرف غرور بعض الأغرار الصغار من طلاب العلم الذين ينتسبون إلى علم الحديث، فيضللون أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه ويقولون: إنه مبتدع ـ نسأل الله العافية ـ وهم إذا قالوا: إن عثمان بن عفان رضي الله عنه مبتدع، لزم من ذلك أن يكون جميع الصحابة الذين أدركوا عهده مبتدعة؛ لأنهم أقروا البدعة، وهذا مبدأ خطير ينبئ عن غرور وإعجاب بالنفس ـ والعياذ بالله ـ وعدم اكتراث بما كان عليه السلف الصالح، ووالله إن علم السلف الصالح أقرب إلى الصواب من علم المتأخرين، وأهدى سبيلاً، وهذا شيء معلوم، حتى إن ابن مسعود رضي الله عنه كان يأمر باتباع هدي الصحابة رضي الله عنهم ويقول:«إنهم أعمق علوماً، وأبر قلوباً» ، فإذا اجتمع بِرُّ القلب وعمق العلم، تبين أن من بعدهم خَلْفٌ وليسوا أماماً، وإني أحذر إخواني طلبة العلم من ركوب مثل هذا الصعب، وأقول: لا ترتقوا مرتقًى صعباً، عليكم بسنة الخلفاء الراشدين كما أمركم نبيكم صلى الله عليه وسلم

(2)

، وإياكم أن تطلقوا ألسنتكم عليهم بمثل هذا الكلام السخيف، أيقال لأمير المؤمنين عثمان بن عفان ثالث الخلفاء

(1)

أخرجه البخاري في الأذان/ باب الأذان قبل الفجر (621)؛ ومسلم في الصيام/ باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر (1093) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

(2)

سبق تخريجه ص (187).

ص: 188

الراشدين: إنه مبتدع؟!! أو يقال لمن أدرك زمنه من الصحابة: إنهم مقرُّون للبدعة؟!! من أنت أيها الصبي؟ من أنت أيها الغر؟ اعرف قدر نفسك حتى تعرف قدر الناس، نسأل الله السلامة.

إذاً النداء الأول للجمعة إذا وقع البيع والشراء بعده فلا بأس؛ لأنه لا نهي فيه.

وشمل قوله: «بعد ندائها الثاني» بيع رجلين أقبلا إلى المسجد بعد الأذان فتبايعا وهما يمشيان إلى المسجد، فلا يصح بيعهما ما دام وقع بعد الأذان ولو قبل الخطبة لقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9].

وقوله: «لا يصح البيع» إذا قال قائل: ما الدليل على الفساد؟

قلنا الدليل: نهي الله عز وجل؛ لأن قوله {وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] يعني لا تبيعوا، والنهي يقتضي الفساد، هذه القاعدة التي دلت عليها سنة الرسول صلى الله عليه وسلم لقوله صلى الله عليه وسلم:«من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد»

(1)

، وقال:«كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط»

(2)

، ولأننا لو صححنا ما نهى عنه الله

(1)

سبق تخريجه ص (97).

(2)

أخرجه البخاري في المكاتب/ باب استعانة المكاتب (2563)؛ ومسلم في العتق/ باب إنما الولاء لمن أعتق (1504)(8) عن عائشة رضي الله عنها.

ص: 189

ورسوله صلى الله عليه وسلم لكان في ذلك مضادة لله ورسوله، إذ إن النهي يقتضي البعد عنه وعدم ممارسته، والتصحيح يستلزم ممارسة هذا الشيء ونفاذه، وهذا مضادة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

فإن قال قائل: لم لا تقولون هو حرام ولكنه صحيح، كما قلتم في تلقي الجَلَب؟

فالجواب: الفرق بينهما ظاهر، أولاً: لأن حديث التلقي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: «فإذا أتى سيده السوق فهو بالخيار»

(1)

، فثبوت الخيار فرع عن صحة العقد، فيكون في الحديث دليل على أن العقد صحيح.

ثانياً: أن النهي عن التلقي ليس نهياً عن العقد لذاته، ولكن نهي عن العقد لحق الغير، حيث إنه ربما يكون فيه خديعة للقادم فيشتريه المتلقي بأقل، ولهذا جعل الحق له في إمضاء البيع أو فسخه، وأما مسألتنا فإن النهي عن البيع بعينه، وما نهي عنه بعينه لا يمكن أن نقول: إنه صحيح، سواء في العبادات أو في المعاملات؛ لأن تصحيحنا لما جاء فيه النهي بعينه إمضاء لهذا الشيء الذي نهى الشارع عنه؛ لأن الذي نهى الشارع عنه يريد منا أن نتركه ونتجنبه، فإذا حكمنا بصحته فهذا من باب المضادة لأمر الله سبحانه وتعالى.

وعلى هذا نقول: إن البيع بعد نداء الجمعة الثاني حرام

(1)

أخرجه مسلم في البيوع/ باب تحريم تلقي الجلب (1519)(17) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 190

وباطل أيضاً، وعليه فلا يترتب عليه آثار البيع، فلا يجوز للمشتري التصرف في المبيع؛ لأنه لم يملكه ولا للبائع أن يتصرف في الثمن المعين؛ لأنه لم يملكه، وهذه مسألة خطيرة؛ لأن بعض الناس ربما يتبايعون بعد نداء الجمعة الثاني ثم يأخذونه على أنه ملك لهم.

وظاهر كلام المؤلف أن هذا الحكم شامل حتى فيما يتعلق بنفس صلاة الجمعة، مثل: لو أن إنساناً اشترى ماء للوضوء بعد نداء الجمعة الثاني، فهل يصح أو لا؟ ظاهر كلام المؤلف أنه لا يصح؛ لأنه لم يستثن، والعلماء لا بد أن نأخذ بظاهر كلامهم ثم نبين الصحيح، فهل هذا الظاهر مراد للمؤلف ومقصود له، أو أنه حذف الاستثناء اختصاراً؟ مثل هذه ينظر فيها إذا كانت مسألة إجماعية من أهل العلم فإن المؤلف حذفه اختصاراً لا شك؛ لأنه لا يخرج عن الإجماع، وإذا كانت المسألة خلافية فمعنى ذلك أن المؤلف يختار القول الثاني الذي ليس فيه استثناء، لكن الواقع أنه يستثنى من ذلك ما يتعلق بالصلاة، فإذا لم يكن على وضوء ووجد مع إنسان غير مكلف أو لا تجب عليه الجمعة فإنه يجوز لهذا أن يشتري الماء ليتوضأ به؛ لأن ذلك مما يتعلق بهذه الصلاة.

فإن قيل: إن الآية عامة {وَذَرُوا الْبَيْعَ} ؟ فالجواب: نعم الآية عامة، ولكننا نقول: ما الحكمة من النهي عن البيع؟ من أجل المحافظة على الصلاة، ولهذا قال:{فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} ، ومن المحافظة عليها أن نأتي بواجباتها، وهذا قادر على أن يأخذ ماء ويتوضأ.

ص: 191

قوله: «ويصح النكاح» أي: يصح عقد النكاح بعد أذان الجمعة الثاني؛ لأن الله إنما نهى عن البيع، وأما النكاح فلم ينه عنه؛ ولأن البيع عقد معاوضة يكثر تناوله بين الناس بخلاف النكاح.

قوله: «وسائر العقود»

(1)

ظاهر كلامه: أنه يصح الرهن، والضمان، والقرض، والإجارة، وإمضاء بيع الخيار، والإقالة وغير ذلك، وكل العقود تصح.

ولكن الصحيح خلاف كلام المؤلف رحمه الله وأن سائر العقود منهي عنها كالبيع، وإنما ذكر الله البيع بحسب الواقع؛ لأن هذا هو الذي حصل، فالصحابة رضي الله عنهم لما وردت العير من الشام خرجوا وبدؤوا يتبايعون فيها

(2)

، فتقييد الحكم بالبيع إنما هو باعتبار الواقع فقط، وإلا فكل ما ألهى عن حضور الجمعة فهو كالبيع ولا فرق.

والمؤلف في هذه المسألة أخذ بمذهب أهل الظاهر، وهو الاقتصار على لفظ النص فقط، وهو قوله:{وَذَرُوا الْبَيْعَ} .

فالصواب أن جميع العقود لا تصح، وأنها حرام، لا يستثنى من ذلك النكاح، ولا القرض، ولا الرهن، ولا غيرها، نعم ربما يقول قائل: إن عقود التبرعات كالهبة لا تضر؛ لأنها لا

(1)

وهذا هو المذهب.

(2)

أخرجه البخاري في البيوع/ باب قول الله عز وجل: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا} (2058)، ومسلم في الصلاة/ باب في قوله تعالى:{وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً} (863) عن جابر رضي الله عنه.

ص: 192

تُلهي ولا تشغل، فمثلاً لو أن رجلين أقبلا على المسجد، وفي حال إقبالهما أُذِّن لصلاة الجمعة، فوهب أحدهما الآخر شيئاً، فهنا قد يقال: إنه يصح؛ لأنه لم يحصل بذلك إشغال ولا إلهاء، لكن شيئاً يحتاج إلى معالجة، ونقول: إنه يصح مع أن الله نهى عن البيع هذا فيه نظر.

‌وَلَا يَصِحُ بَيْعُ عصِيرٍ ممَّن يَتَّخذُهُ خَمْراً. وَلَا سِلَاحٍ فِي فِتْنَةٍ

‌وَلَا عَبدٍ مُسْلِمٍ لِكَافِرٍ إِذَا لَمْ يَعْتُقْ عَلَيْهِ،

..........

قوله: «ولا يصح بيع عصير ممن يتخذه خمراً» أي: لا يصح بيع عصير على من يتخذه خمراً، والدليل قول الله تعالى:{وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2].

فإن قال قائل: ما الذي يدريني أن هذا الرجل اشترى العصير ليتخذه خمراً أو ليشربه في الوقت الحاضر؟.

نقول: إذا غلب على الظن أن هذا من القوم الذين يشترون العصير ليتخذوه خمراً كفى ذلك وصار هذا حراماً؛ لأنه من باب التعاون على الإثم والعدوان، والله سبحانه وتعالى قد نهى عن ذلك، وإلا فالأصل الصحة، وعدم المنع.

قوله: «ولا سلاح في فتنة» كذلك لا يصح بيع سلاح في فتنة بين المسلمين، فلو حصل فتنة وقتال بين المسلمين، وجاء رجل يشتري سلاحاً، وغلب على الظن أنه اشترى السلاح ليقاتل المسلمين، فإنه يحرم بيعه.

فإن قال صاحب السلاح: لعله اشتراه لأجل أن يصطاد به صيداً مباحاً فما الجواب؟.

نقول: لا نمنع إلا إذا غلب على الظن أنه اشتراه من أجل أن يقاتل المسلمين.

ص: 193

وكذلك لو اشترى رجل سلاحاً ليصطاد به صيداً في الحرم، بأن تعرف أن هذا الرجل من أهل الصيد، وهو الآن في الحرم واشترى السلاح لأجل أن يصطاد به صيداً في الحرم، فهذا حرام ولا يصح البيع؛ لأنه من باب التعاون على الإثم والعدوان، وتأمل القرآن الكريم في قوله:{وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] يدخل فيه آلاف المسائل؛ لأنها كلمة عامة تشمل التعاون على الإثم والعدوان، في العقود والتبرعات والمعاوضات والأنكحة وغير ذلك، فكل ما فيه التعاون على الإثم والعدوان فإنه حرام.

وكذلك لا يصح بيع أوانٍ لمن يسقي بها الخمر، بأن أعرف أن صاحب هذا المطعم يأتيه الناس يشربون الخمر عنده، وأتى ليشتري أواني يسقي بها الخمر، فلا يجوز بيعه؛ لأن هذا من باب التعاون على الإثم والعدوان.

وكذا إذا اشترى رجل أمواساً لحلق اللحى، وأعرف أنه اشتراها لذلك فلا يجوز؛ لأن هذا تعاون على الإثم والعدوان، وكثير من العامة يظنون أن حلق اللحية لا بأس به، حتى إن بعض الناس يسألنا في الحج يقول: إنني لبست ثيابي قبل أن أحلق يشير إلى لحيته، نقول: لا تحلق لا بعد الحل، ولا قبل الحل، فهذا حرام عليك.

وكذا إذا اشترى رجل مني بيضاً من أجل أن يقامر فلا يجوز؛ لأنه من باب التعاون على الإثم والعدوان، ولكن كيف القمار على البيض؟.

يقولون: إذا ضغطت على البيضة طولاً لا تكسرها أبداً، وعرضاً تكسرها، فالناس يقامرون عليه بهذه الصفة، فإن علمنا أن

ص: 194

هذا الرجل اشترى البيضة من أجل القمار عليها قلنا: هذا لا يجوز؛ لأنه من باب التعاون على الإثم والعدوان.

قوله: «ولا عبد مسلم لكافر» العبد المسلم لا يجوز أن تبيعه على كافر؛ لأنه من المعلوم أن السيد له سلطة وإمرة على عبده، فإذا بعت العبد المسلم على الكافر سلطت الكافر عليه، وأذللت المسلم أمام الكافر، وإذلال المسلم حرام، فلا يحل للإنسان المسلم أن يبيع عبده المسلم على كافر.

وبيع العبد الكافر على الكافر صحيح، بأن كان عند إنسان عبد كافر وباعه على كافر.

قوله: «إذا لم يعتق عليه» أي: على الكافر، فإن عتق على الكافر بالشراء صح بيعه عليه، ومن الذي يعتق على مشتريه؟ هو ذو الرحم المحرم

(1)

أي: ابنه، وابن بنته، وأخوه، وعمه، وخاله، وابن أخيه وما أشبه ذلك، فكل من بينهما رحم محرم إذا ملك أحدهما الآخر عتق عليه، فإذا كان هذا العبد ابن أخ للكافر

(1)

لحديث سمرة مرفوعاً: «من ملك ذا رحم محرم فهو حر» ، أخرجه الإمام أحمد (5/ 15، 18، 20)؛ وأبو داود في العتق/ باب فيمن ملك ذا رحم محرم (3949)؛ والترمذي في الأحكام/ باب ما جاء فيمن ملك ذا رحم محرم (1365)؛ وابن ماجه في العتق/ باب من ملك ذا رحم محرم فهو حر (2524)؛ والحاكم (2/ 214)؛ والبيهقي (10/ 289) عن سمرة رضي الله عنه قال الحافظ في «البلوغ» : رجح جمع من الحفاظ أنه موقوف (1425) وانظر: «التلخيص» (2149)؛ و «الدراية» (2/ 85)؛ و «نصب الراية» (3/ 278) وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما أخرجه عنه النسائي في «الكبرى» كما في «تحفة الأشراف» (7157)؛ وابن ماجه (2525)؛ والترمذي تعليقاً في الموضع السابق، قال النسائي: منكر، وقال الترمذي: هو حديث خطأ عند أهل الحديث.

ص: 195

وبعته على الكافر يصح؛ لأنه بمجرد ما يقول: قبلت يكون العبد حراً، وهذا في الحقيقة فيه مصلحة للعبد، إذ إن فيه تعجيلاً لحريته، ولا يمكن أن يبقى ملك الكافر عليه ولا لحظة؛ لأنه بمجرد ما يقول: قبلت يعتق، فإذا كان يعتق عليه فإنه يصح بيعه.

كذلك ـ أيضاً ـ لو كان يعتق عليه بالتعليق، بأن يقول: هذا الكافر إذا ملكت هذا العبد فهو حر، فإنه بمجرد ما يملكه يكون حراً، والمؤلف عمم قال:«إذا لم يعتق عليه» ، فإذا عتق عليه إما لرحم محرم، وإما بتعليق فإنه يصح بيعه عليه؛ لأن في ذلك استعجالاً لحريته.

وهل يصح بيع العبد الكافر لمسلم؟.

الجواب: يصح بيع العبد المسلم لمسلم، والكافر للكافر، والكافر للمسلم، أما المسلم فلا يصح بيعه للكافر.

‌وَإِنْ أسْلَمَ فِي يَدِهِ أُجْبِرَ عَلَى إِزَالَةِ مُلكِهِ، وَلَا تَكْفِي مُكَاتَبَتُهُ، وَإِنْ جَمَعَ بَيْنَ بَيْعٍ وَكِتَابَةٍ أَوْ بَيْعٍ وَصَرفٍ صَحَّ فِي غَيْرِ الكِتَابَةِ .......

قوله: «وإن أسلم في يده أُجبر على إزالة ملكه» إن أسلم في يد الكافر أجبر الكافر على إزالة ملكه؛ لأنه لا يمكن أن يكون للكافر ولاية وسلطة على مسلم.

مثال ذلك: رجل كافر عنده عبد كافر، ثم إن العبد الكافر منّ الله عليه بالإسلام فأسلم، فنقول للكافر لا يمكن أن يبقى على ملكك فلا بد أن تخرجه من ملكك بالعتق، أو بالبيع أو الهبة، لكن بشرط ألا يبيعه ولا يهبه لكافر، فإن باعه على كافر فالبيع حرام ولا يصح.

فقول المؤلف: «أجبر على إزالة ملكه» عام أي: إزالة ملكه ببيع أو هبة أو عتق أو غير ذلك، لكنه إذا كان ببيع أو هبة فإنه لا يبيعه ولا يهبه على إنسان كافر.

ص: 196

قوله: «ولا تكفي مكاتبته» أي: لو أن الكافر الذي أسلم عبده قال: أنا أكاتبه، والمكاتبة أن يبيع السيد عبده على نفسه، كما في قوله تعالى:{وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33]، فهذا الرجل الكافر، قال: ليس عندي مانع أن أزيل ملك عبدي لكني أريد أن أزيله بالمكاتبة، أبيع نفسه عليه، فنقول: هذا لا يكفي؛ لأن المكاتبة لا تخرج ملك السيد عن العبد حتى يوفي تماماً، وقبل الوفاء هو في رق السيد، فلهذا لا تكفي المكاتبة.

ولو قال: أنا أبيعه لكن أريد أن أشترط الخيار لي لمدة شهر فلا يكفي؛ لأنها لم تنقطع عِلَقُهُ عنه، فربما يقول: أنا فسخت البيع، إذاً لو كاتبه أو باعه بالخيار لم يكفِ.

قوله: «وإن جمع بين بيع وكتابة أو بيع وصرف صح في غير الكتابة» هذا الجمع بين العقدين، فإذا جمع بين عقدين فإن كان بشرط فالعقد غير صحيح، وإن كان بغير شرط فالعقد صحيح.

مثال ذلك: قال: بعت عليك بيتي هذا بمائة ألف، بشرط أن تؤجرني بيتك بعشرة آلاف، قال: قبلت لا مانع عندي، فالعقد غير صحيح لا البيع ولا الإجارة؛ لأنه شَرْطُ عقد في عقد فلا يصح، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع»

(1)

، هذا هو المذهب.

(1)

أخرجه الإمام أحمد (2/ 174)؛ وأبو داود في البيوع/ باب في الرجل يبيع ما ليس عنده (3504)؛ والترمذي في البيوع/ باب في كراهية بيع ما ليس عنده (1234)؛ والنسائي في البيوع/ باب بيع ما ليس عند البائع (7/ 288، 295)؛ وابن حبان (4321) إحسان؛ والحاكم (2/ 17) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.

وقال الترمذي: «حسن صحيح» ، وصححه ابن حبان والحاكم ووافقه الذهبي.

ص: 197

والصحيح أنه جائز إذا لم يتضمن محذوراً شرعيّاً، والحاجة داعية لذلك فقد يقول: أنا لا أحب أن أبيع عليك بيتي حتى أضمن أنني ساكن في بيت آخر، فيقول: بعت عليك البيت بمائة ألف، بشرط أن تؤجرني بيتك بعشرة آلاف أو بألف، فليس هناك مانع.

وأما قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «ولا شرطان في بيع» فالعبارة مطلقة فتحمل على المقيد، وهما الشرطان اللذان يلزم منهما الوقوع في محذور شرعي.

لكن إذا كان بغير شرط فجمع بين بيع وكتابة، أو بيع وصرف، أو بيع وإجارة، أو بيع ومهر، فإن العقد يصح.

وقوله: «بين بيع وكتابة» أي: قال لعبده: بعتك هذه السيارة وكاتبتك بعشرة آلاف، فالثمن واحد والصفقة واحدة، فيقول المؤلف: لا يصح البيع في هذه الحال؛ لأنه باع ملكه على ملكه، فهذا العبد الذي كاتبه لم يخرج عن ملكه فلا يخرج حتى يؤدي، فإذا باع ملكه على ملكه لم يصح، والمسألة فيها خلاف لكن هذا المذهب، والتعليل أن من شرط البيع أن يبيع على من يملك ملكاً تامّاً، وهذا لا يملك ملكاً تامّاً؛ إذ إنه ما زال

ص: 198

على ملك سيده؛ ولأن العبد إلى الآن لم يملك كسبَهُ فقد اجتمع المشروط وشرطه، ويشترط في الشرط أن يتقدم على المشروط، وقال بعض الفقهاء: إنه يصح الجمع بين البيع والكتابة ولا مانع من أن يجتمع الشرط مع المشروط؛ لأن المحذور أن يتأخر الشرط عن المشروط، أما إذا اقترن به فلا حرج، وهذا القول أقرب للصحة عندي ولا مانع.

واعلم أن قول المؤلف: «صح في غير الكتابة» فيه إيهام عظيم؛ لأن معنى قوله هنا أن الكتابة لا تصح والبيع يصح، هذا هو المتبادر من العبارة، ولكن المعنى صح البيع في غير ما إذا جمع مع الكتابة، فإذا جمع مع الكتابة لم يصح.

فإذا جمع بين بيع وإجارة قال: بعتك بيتي هذا بمائة ألف، وآجرتك البيت الثاني بعشرة آلاف، قال: قبلت فهذا صحيح، أو قال: بعتك بيتي هذا وآجرتك بيتي هذا بمائة ألف هذا أيضاً صحيح، ويقسط العوض عليهما عند الحاجة.

وقوله: «بيع وصرف» الواقع أن الصرف بيع، لكن يختص بأنه مبادلة نقد بنقد، وله أحكام معروفة، لكن الكلام على أنه مبادلة، فدنانير بدراهم صرف، ودنانير بثياب غير صرف، والصرف بيع لا شك، لكن لما كان الصرف له أحكام خاصة صاروا يفردونه بالقول، فيقولون: بيع وصرف.

مثاله: قال بعتك هذه الدنانير وهذه السيارة بعشرة آلاف درهم، الصفقة واحدة والثمن واحد، فيصح البيع، فإذا قبض الثمن فلا إشكال، وإن لم يقبض صح في السيارة دون الصرف،

ص: 199

لأنك إذا بعت دراهم بدنانير لا بد من التقابض قبل التفرق.

‌وَيُقَسَّطُ العِوضُ عَلَيْهِمَا وَيَحْرُمُ بَيْعُهُ عَلَى بَيْع أخِيْهِ كَأن يَقُولَ لَمِنَ اشْتَرَى سِلْعَةً بعَشَرَةٍ أَنَا أُعْطِيكَ مِثْلَهَا بِتِسْعَةٍ، وَشِرَاؤُهُ عَلَى شِرَائِهِ كَأن يَقُولَ لَمِنْ بَاعَ سلْعَةً بتسْعَةٍ: عِنْدِي فيهَا عَشَرَةٌ لِيَفْسَخَ لِيَفْسَخَ وَيَعْقِدَ مَعَهُ وَيَبْطُلُ العَقْدُ فِيهِمَا،

........

قوله: «ويقسط العوض عليهما» أي: يوزع العوض عليهما بالقسط، وذلك عند الحاجة.

مثال ذلك: بعتك هذه السيارة وآجرتك هذا البيت بمائة ألف، الثمن واحد، والعقد واحد، فلو قدر أن البيت انهدم، بأن جاءته أمطار فهدمته، فالإجارة تنفسخ؛ لأن العين المعقود عليها تلفت، وهذا العوض فيه أجرة وفيه ثمن، فكيف نوزع هذا العوض؟ الجواب: يوزع بالقيمة، فيقال: بكم يؤجر البيت؟ فقالوا: يؤجر بعشرين ألفاً، فتكون قيمة السيارة ثمانين ألفاً، إذاً ينزل من العوض عشرون، فإن قُدر أنه عند التقويم صار يساوي مائتي ألف، وقالوا: إن الإجارة قيمتها عشرون ألفاً والعقد بمائة ألف، نقول: عشرون ألف من مائتين تقابل 10%، فنرجع إلى الثمن الذي هو مائة فنخصم منه 10%، هذا معنى قول المؤلف:«يقسط العوض عليهما» أي: لو احتجنا إلى توزيع العوض، فإنه يقسط على قيمة المبيع وعلى الأجرة.

قوله: «ويحرم بيعه على بيع أخيه» أي: يحرم بيع المسلم على بيع أخيه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يبع بعضكم على بيع بعض»

(1)

، ولأن ذلك عدوان على أخيه، ولأنه يوجب العداوة والبغضاء والتقاطع، وكل ما أوجب العداوة والبغضاء بين المسلمين فإنه محرم، وهذه قاعدة عامة لقوله تعالى في تعليل تحريم الخمر والميسر: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ

(1)

سبق تخريجه ص (93).

ص: 200

وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسَرِ} [المائدة: 91]؛ ولأن هذا الدين دين التآلف، ودين الأخوة والمحبة حتى قال الرسول صلى الله عليه وسلم:«لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»

(1)

.

وكذلك ـ أيضاً ـ يحرم الشراء على شرائه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يبع بعضكم على بيع بعض»

(2)

، والشراء نوع من البيع، ولما فيه من العدوان على أخيه، وإحداث للعداوة والبغضاء.

وقوله: «على بيع أخيه» هل المراد أخوة النسب، أو أخوة الرضاع؟ أو أخوة الدين؟

الجواب: أخوة الدين؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «المسلم أخو المسلم»

(3)

.

وعلم من كلامه أنه يجوز أن يبيع على بيع الكافر، ولو كان له عهد وذمة؛ لأنه ليس أخاً له، والنبي عليه الصلاة والسلام قال:«على بيع أخيه» ، والكافر ليس بأخ، ولأن الكافر لا حرمة له، وإلى هذا ذهب أهل الظاهر، وقالوا: لنا ظاهر اللفظ، ولا يحرم البيع إلا على بيع المسلم.

والقول الثاني في المسألة: أنه يحرم البيع على بيع المعصوم، سواء كان مسلماً أو كافراً أو ذميّاً؛ لأن العدوان على

(1)

أخرجه البخاري في الإيمان/ باب من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه (13)؛ ومسلم في الإيمان/ باب الدليل على أن من خصال الإيمان أن يحب لأخيه المسلم ما يحب لنفسه (45) عن أنس رضي الله عنه.

(2)

سبق تخريجه ص (93).

(3)

أخرجه البخاري في المظالم/ باب لا يظلم المسلمُ المسلمَ (2442) ومسلم في الأدب/ باب تحريم الظلم (2580) عن ابن عمر رضي الله عنهما.

ص: 201

الكافر الذمي حرام لا يحل؛ إذ إنه معصوم الدم والعِرض والمال، وتقييد النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بالأخ بناءً على الأغلب، أو من أجل العطف على أخيك، وعدم التعرض له، وهذا القول أقرب للعدل.

قوله: «كأن يقول لمن اشترى سلعة بعشرة: أنا أعطيك مثلها بتسعة» هذا بيع على بيع.

مثاله: اشترى زيد من عمرو سيارة بعشرة آلاف فذهب رجل إلى زيد، وقال له: أنا أعطيك مثلها بتسعة، أو أعطيك أحسن منها بعشرة، فهذا بيع على بيع المسلم لا يحل.

فإن قال: أنا أعطيك مثلها بعشرة، فهل هذا بيع على بيع المسلم؟

ظاهر كلام المؤلف لا؛ لأنه لم يزده كمية ولا كيفية، لكن قد يقال: إنه بيع على بيع مسلم؛ لعموم الحديث، ولأن هذا المشتري قد يترك البيع الأول، لأن الآخر قد يكون قريباً له أو صاحباً له أو محابياً له أو ما أشبه ذلك.

والصحيح العموم، يعني سواء زاده كمية أو كيفية، أو لم يزده، حتى بالثمن المساوي.

قوله: «وشراؤه على شرائه، كأن يقول لمن باع سلعة بتسعة: عندي فيها عشرة ليفسخ» هذا شراء على الشراء.

مثاله: باع زيد على عمرو سلعة بتسعة فجاء آخر، وقال

ص: 202

للبائع: بعتها على فلان بتسعة؟ قال: نعم، قال: أنا أعطيك فيها عشرة، فهذا يسمى شراء على شرائه، فلا يحل لما سبق من الدليل الأثري والنظري.

وظاهر كلام المؤلف أن البيع على بيع أخيه جائز بعد زمن الخيار بدليل أنه قال: «ليفسخ» ، وهو لا يملك الفسخ إلا زمن الخيار، فأما بعد زمن الخيار فلا يملك الفسخ، وعليه فيجوز أن يبيع على بيع أخيه حينئذٍ وهو المذهب.

مثاله في زمن خيار المجلس: لو أننا كنا في مجلس فباع زيد على عمرو سلعة بتسعة، فقال أحد الحاضرين: أنا أعطيك عشرة بعد أن أوجب البيع عليه، فهذا شراء على شرائه في زمن الخيار فيحرم، وهنا يتمكن البائع من الفسخ.

وكذلك لو كان في زمن خيار الشرط، بأن باعه سلعة بعشرة وجعل لنفسه الخيار يومين، فجاء إنسان في اليوم الثاني، وقال: أنا أعطيك فيها أحد عشر فلا يحل؛ لأنه في هذه الحال يتمكن من فسخ البيع، والعقد مع الثاني، أما إذا لم يكن هناك خيار فقد اختلف العلماء في هذه المسألة، هل يجوز البيع والشراء أو لا يجوز؟

وأضرب مثلاً لهذا يتبين به الحكم، باع زيد على عمرو سلعة بعشرة واستلم الثمن وذاك استلم السلعة وتفرَّقا، وانتهى كل شيء، فجاء إنسان إلى المشتري، وقال: أنا أعطيك مثلها بتسعة، أو خيراً منها بعشرة، فهذا يسمى بيعاً على بيع، فهل يجوز أو لا يجوز؟

ص: 203

الجواب: في هذا خلاف بين العلماء، منهم من قال: إنه لا يجوز، ومنهم من قال: إنه يجوز.

أما من قال: إنه يجوز فقال: إن الخيار قد انتهى، ولا يمكن لأي واحد منهما أن يفسخ العقد، فوجود البيع على بيعه أو الشراء على شرائه كعدمه؛ لأنه لو أراد أن يفسخ لم يتمكن، وهذا هو المذهب.

القول الثاني في المسألة: أن ما بعد زمن الخيار كالذي في زمن الخيار، يعني أنه يحرم ولو بعد زمن الخيار.

وعلّلوا ذلك بما يلي:

أولاً: عموم الحديث: «لا يبع أحدكم على بيع أخيه»

(1)

، فهذا عام ليس فيه تقييد.

ثانياً: أنه ربما تحيل على الفسخ بأي سبب من الأسباب، كأن يدعي عيباً، أو ما أشبه ذلك مما يمكنه من الفسخ.

ثالثاً: أنه يؤدي إلى العداوة بين البائع الأول والمشتري؛ لأنه سيقول: غبنني، ويكون في قلبه شيء عليه.

وهذا القول هو الراجح، أي: أن البيع على بيع أخيه حرام، سواء كان ذلك في زمن الخيارين أو بعد ذلك، ولكن إذا كان بعد مدة طويلة فإن ذلك لا بأس به، يعني لو حصل هذا قبل أسبوع أو شهر أو ما أشبه ذلك، وجاء وقال: أنا أعطيك مثل

(1)

سبق تخريجه ص (93).

ص: 204

هذه السلعة بتسعة وهو قد اشتراها بعشرة فهنا لا بأس به؛ لأن محاولة الرد في مثل هذه الصورة بعيد.

قوله: «ليفسخ ويعقد معه» كلمة (ليفسخ) تعليل للتحريم وعلم منه: أنه لو كان على غير هذا الوجه، بأن كان المشتري يريد سلعاً كثيرة واشترى من فلان عشر سلع على عشرة، ولكنه ما زال يطلبها من الناس، فقال له إنسان: أنا أعطيك بتسعة وهو يعلم أنه لن يفسخ العقد الأول؛ لأنه يريد سلعاً كثيرة فهذا لا بأس به؛ لأنه في هذه الحال ليس فيه إغرار، على ما مشى عليه المؤلف، لكن هنا قد نقول: إنه لن يفسخ العقد، لكن ربما يجد في نفسه شيئاً على البائع الأول؛ لكونه غبنه، فالتحرز عن هذا مطلقاً أولى، وهو الموافق لظاهر الحديث، وهو الأبعد عن حلول العداوة والبغضاء بين المسلمين.

مثال آخر: اشترى رجل من زيد عشر قطع بعشرة ريالات ثم جاء ليلتمس في السوق من هذه القطع فجاءه رجل، فقال: أنا أبيع عليك بتسعة، فهذا بيع على بيعه، ونعلم أن المشتري لن يفسخ العقد؛ لأنه يحتاج سلعاً كثيرة سواء زاد الثمن أم نقص، فنقول: هذا لا يحرم على ظاهر كلام المؤلف، ولكنا ذكرنا أنه يمكن أن يقال بالتحريم؛ لأنه يحدث العداوة والبغضاء بين المشتري والبائع.

قوله: «ويبطل العقد فيهما» يعني في البيع على بيعه، والشراء على شرائه، والدليل النهي عن ذلك، والنهي عن الشيء بعينه يقتضي الفساد؛ لأننا لو صححناه لكان في ذلك مضادة

ص: 205

لحكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فالنهي عن الشيء بعينه يقتضي فساده، ولهذا لو صام الإنسان يوم العيد فصومه حرام باطل؛ لأنه منهي عنه، وكذلك إذا باع على بيع أخيه فالبيع حرام وباطل.

وقوله: «ويبطل العقد» نص على بطلان العقد؛ لأن بعض أهل العلم يقول: إن العقد صحيح، لأن النهي هنا لا يعود إلى ذات المعقود عليه، وإنما يعود إلى أمر خارج وهو العدوان على المسلم، فيكون العقد حراماً ولكنه صحيح.

ويدل على ذلك أن هذا الذي باع على بيع أخيه لو أذن له الذي بيع على بيعه لكان العقد صحيحاً ولا شيء فيه، فإذاً يكون التحريم غير عائد إلى ذات المنهي عنه ويكون العقد صحيحاً مع الإثم، ولكن القول بالمذهب من باب السياسة ويمنع العدوان على الناس، فيكون قولاً جيداً.

مسألة: لو استأجر على استئجار أخيه فما الحكم؟

الجواب: الحكم واحد؛ لأن الإجارة بيع منافع.

ولو خطب على خطبة أخيه لا يجوز أيضاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك

(1)

، ولأن العلة واحدة.

‌وَمَنْ بَاعَ رَبِويّاً بِنَسِيئَةٍ وَاعْتَاضَ عَن ثَمَنِهِ مَا لَا يُبَاعُ بِهِ نَسِيْئَةً أوْ اشْتَرَى شَيْئاً نَقْداً بِدُونِ مَا بَاعَ بهِ نَسِيئَةِ لا بِالعَكْسِ لَمْ يَجُزْ وَإِن اشْتَرَاه بِغَيْرِ جِنْسِهِ، أَوْ بَعْدَ قَبْضِ ثَمنِهِ، أو بَعْدَ تَغَيُّرِ صِفتِهِ أوْ مِنْ غَيْرِ مُشْتَرِيهِ، أوْ اشْتَرَاهُ أبُوهُ أوْ ابْنُهُ جَازَ.

قوله: «ومن باع ربوياً بنسيئة» أي: بثمن مؤجل.

قوله: «واعتاض عن ثمنه» ـ أي: ثمن ذلك الربوي.

قوله: «ما لا يباع» ـ نائب الفاعل يعود على الربوي.

(1)

أخرجه البخاري في البيوع/ باب لا يبع على بيع أخيه (2140)؛ ومسلم في النكاح/ باب تحريم الخطبة على خطبة أخيه حتى يأذن أو يترك؛ (1413) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 206

قوله: «به نسيئة» ، أي: شيئاً لا يباع بالذي باعه نسيئة فإنه لا يصح. والربويات ستة: (الذهب، والفضة، والبر، والشعير، والتمر، والملح)، فالبر ربوي: باع مائة صاع بر بمائتي ريال مؤجلة إلى سنة، فحين حل الأجل جاء البائع إلى المشتري، وقال له: أعطني الدراهم، قال: ليس عندي إلا تمر، وهل يباع التمر بالبر نسيئة أي بدون تقابض؟

الجواب: لا، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلاً بمثل سواء بسواء يداً بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد»

(1)

، إذاً لا يجوز أن يأخذ بدل الدراهم تمراً؛ لأن التمر لا يباع بالبر نسيئة، فإن فعل فقد اعتاض عن ثمنه بما لا يباع به نسيئة فيكون حراماً؛ لأنه قد يُتخذ حيلة على بيع البر بالتمر مع عدم التقابض، فيقول مثلاً: بعتك براً بمائتي ريال إلى أجل ثم يقضيه تمراً، فيتحيل على بيع البر بالتمر مع تأخر قبض الثمن، والحيل ممنوعة شرعاً؛ لأنها خداع لله ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ ولأنها من دأب اليهود، قال الله تعالى في الذين اعتدوا في السبت وتحيلوا عليه:{فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ *} [البقرة]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:«إنما الأعمال بالنيات»

(2)

.

(1)

أخرجه مسلم في المساقاة/ باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقداً (1587)(81) عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه.

(2)

سبق تخريجه ص (77).

ص: 207

مثال آخر: باع برّاً بدراهم، واعتاض عن الدراهم دنانير فهذا يجوز؛ لأن بيع البر بالدنانير يجوز نسيئة، فهذا الرجل مثلاً: باع مائة صاع بر بمائتي درهم، وعند حلول الأجل قال المشتري: ليس عندي شيء من الدراهم، لكن عندي دنانير، فهذا يجوز؛ لأن بيع البر بالدراهم أو الدنانير يجوز نسيئة فليس فيه محظور، ولكن اشترط النبي صلى الله عليه وسلم شرطين:

الأول: أن يكون بسعر يومها.

الثاني: أن يتقابضا قبل التفرق.

لأن ابن عمر رضي الله عنهما استفتاه قال: «يا رسول الله كنت أبيع الإبل بالدراهم، وآخذ الدنانير، وأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، فهل يجوز ذلك؟ قال: «لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تتفرقا وبينكما شيء»

(1)

.

وقال الموفق صاحب المغني: يجوز بيع ربوي بنسيئة، وأن تعتاض عن ثمنه ما لا يباع به نسيئة؛ لأن الحيلة هنا بعيدة، كيف يبيع برّاً بتمر بعد سنة؟ فهذا بعيد وما كان بعيداً فلا عبرة به.

(1)

أخرجه الإمام أحمد (2/ 83، 139)؛ وأبو داود في البيوع/ باب اقتضاء الذهب من الورق (3354)؛ والترمذي في البيوع/ باب ما جاء في الصرف (1242)؛ والنسائي في البيوع/ باب بيع الفضة والذهب (7/ 281)، وابن ماجه في التجارات/ باب اقتضاء الذهب من الورق (2262)؛ وصححه ابن حبان (18620) إحسان؛ والحاكم 2/ 44، وصححه على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وصوَّب شعبة والترمذي والبيهقي أنه موقوف (2/ 284)، ورجحه الحافظ في الدراية (2/ 155).

ص: 208

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: يجوز للحاجة، فتوسط بين القولين، وكيف يجوز للحاجة؟

مثاله: باع عليه براً بدراهم إلى سنة ولما حلّ الأجل، وجاء البائع للمشتري لأخذ الدراهم فقال المشتري: أنا رجل فلاح وليس عندي دراهم، ويسمونها الناس في العرف التجاري (سيولة) ولكن عندي تمر ـ فهذه حاجة ـ فقال: أنا آخذ التمر بدل الدراهم، فعلى رأي شيخ الإسلام يجوز.

فالمسألة فيها إذاً ثلاثة أقوال:

ـ الأول: المنع مطلقاً.

ـ الثاني: الجواز مطلقاً.

ـ الثالث: الجواز للحاجة.

وهذا عندي أنه أحسن الأقوال، دفعاً للشبهة، ولئلا ينفتح الباب لغيرنا، فنحن قد لا نفعل هذا حيلة، لكن غيرنا قد يتحيل.

بقي علينا شرط لا بد منه على القول بالجواز، وهو ألا يربح المستوفي، ونأخذ هذا الشرط من قول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر رضي الله عنهما:«لا بأس أن تأخذها بسعر يومها»

(1)

، ونأخذ هذا ـ أيضاً ـ من نهي الرسول صلى الله عليه وسلم «عن ربح ما لم يضمن»

(2)

، أي: نهى أن تربح في شيء لم يدخل في ضمانك.

(1)

سبق تخريجه ص (208).

(2)

أخرجه الإمام أحمد (2/ 174) وأبو داود في البيوع/ باب في الرجل يبيع ما ليس عنده (3504) والترمذي في البيوع/ باب ما جاء في كراهية بيع ما ليس عندك (1234) والنسائي في البيوع/ باب سلف وبيع (7/ 295) وابن حبان (4321) والحاكم 2/ 17 عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال الترمذي: حسن صحيح، وصححه ابن حبان والحاكم ووافقه الذهبي.

ص: 209

فمثلاً: باع عليه برّاً بمائتي درهم إلى سنة، ولما حلّت السنة قال: ليس عندي إلا تمر، فقال: أنا آخذ التمر، فأخذ منه أربعمائة كيلو تمر تساوي مائتين وخمسين درهماً، فهذا لا يجوز؛ لأنه الآن ربح في شيء لم يدخل في ضمانه، فهذا التمر يساوي مائتين وخمسين، والذي في ذمة الرجل مائتان فكسب بدل مائتين، مائتين وخمسين في شيء لم يدخل في ضمانه، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم «عن ربح ما لم يضمن» ؛ لأنه لو جاز ذلك لأمكن لكل إنسان يطلب شخصاً دراهم مثلاً، ثم تحلّ فيقول: أعطني بدلها طعاماً، فالدراهم مائتان ويقول أعطني طعاماً يساوي مائتين وخمسين، فيربح، ثم ربما كلما حلّ الديْن أخذ عوضاً أكثر من الدين، فتتكرر مضاعفة الربح على هذا الفقير، فيحصل بذلك ضرر.

قوله: «أو اشترى شيئاً نقداً بدون ما باع به نسيئة» مثاله: أنا بعت على زيد سيارة بعشرين ألفاً إلى سنة، فهذا بيع نسيئة، ثم إني اشتريتها من هذا الرجل بثمانية عشر ألفاً، فهذا حرام لا يجوز؛ لأنه يتخذ حيلة إلى أن أبيع السيارة بيعاً صورياً بعشرين ألفاً، ثم أعود فأشتريها بثمانية عشر ألفاً نقداً، فيكون قد أخذ مني ثمانية عشر ألفاً وسيوفيني عشرين ألفاً وهذا ربا، فهذا لا يجوز؛ لأنه حيلة واضحة، ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما

ص: 210

ـ: «دراهم بدراهم وبينهما حريرة»

(1)

وهذه تسمى «مسألة العِينة» ؛ لأن الرجل أعطى عيناً وأخذ عيناً، والعين النقد الذهب والفضة، وهي محرمة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلًّا لا ينزعه من قلوبكم حتى ترجعوا إلى دينكم»

(2)

. إذاً هو محرم، بل من كبائر الذنوب، أو قد نقول: ليس من الكبائر؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم جعله كبيرة إذا اجتمعت هذه الأمور الأربعة، وهذا واحد من أربعة، فعلى كل حال هذا الحديث يدل على التحذير من التبايع بالعينة.

ومن مسائل العينة أو من التحيل على الربا ما يفعله بعض الناس اليوم، يحتاج إلى سيارة، فيذهب إلى تاجر، ويقول: أنا أحتاج السيارة الفلانية في المعرض الفلاني، فيذهب التاجر ويشتريها من المعرض بثمن، ثم يبيعها بأكثر من الثمن على هذا الذي احتاج السيارة إلى أجل، فهذا حيلة ظاهرة على الربا؛ لأن حقيقة الأمر أنه أقرضه ثمن السيارة الحاضرة بزيادة؛ لأنه لولا طلب هذا الرجل ما اشتراها وهذه حيلة واضحة، وإن كان مع الأسف أن كثيراً من الناس انغمس فيها، ولكن لا عبرة بعمل الناس، العبرة بتطبيق الأحكام على النصوص الشرعية.

وكذلك ـ أيضاً ـ انتشرت حيلة سابقة، يأتي الفقير إلى

(1)

أخرجه ابن حزم معلقاً (9/ 48)، وعزاه ابن القيم في تهذيب السنن للحافظ مُطيٍّ وصححه ابن القيم.

(2)

أخرجه الإمام أحمد (2/ 28، 42، 84)؛ وأبو داود في البيوع/ باب في النهي عن العينة (3462) عن ابن عمر رضي الله عنهما وصححه ابن القطان في «بيان الوهم والإيهام» (2484)؛ وابن القيم في «تهذيب السنن» (5/ 104).

ص: 211

شخص فيقول: أنا أحتاج ألف ريال، فيذهب التاجر إلى صاحب دكان، عنده أكياس أرز أو أي شيء، فيشتري التاجر الأكياس من صاحب الدكان مثلاً بألف ريال، ثم يبيعها على المحتاج بألف ومائتين، ونحن نعلم أنه لا يجوز أن يباع قبل قبضه، فكيفية القبض عندهم أن يمسح على الأكياس بيده، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم:«نهى أن تباع السلع حيث تُبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم»

(1)

، فهل هذا قبض؟! هذا يسمى عداً لا يسمى قبضاً، لكن كانوا يفعلون هذا، بعد ذلك يأتي الفقير إلى صاحب الدكان الذي عنده هذه الأكياس، ويبيعها عليه بأقل مما اشتراها منه التاجر؛ لأن الفقير يريد دراهم ولا يريد أكياس طعام، فمثلاً يبيعها على صاحب الدكان بألف إلا مائة ريال، فيُؤكل المسكين الفقير من الجانبين، من جانب التاجر الأول ومن صاحب الدكان، فصاحب الدكان أخذ منه مائة ريال، والتاجر أخذ مائتين زائداً على الألف، وهذه سماها شيخ الإسلام رحمه الله المسألة الثلاثية، لأنها مكوّنة من ثلاثة أشخاص، ومسائل الربا لا تحل بالحيل.

(1)

أخرجه الإمام أحمد (5/ 191)؛ وأبو داود في البيوع/ باب في بيع الطعام قبل أن يستوفى (3499)؛ وصححه ابن حبان (4984)؛ والحاكم (2/ 40) عن زيد بن ثابت رضي الله عنه.

وقال صاحب التنقيح: «سنده جيد» كما في «التعليق المغني على سنن الدارقطني» (3/ 213)؛ وأخرجه البخاري في البيوع/ باب من رأى إذا اشترى طعاماً جزافاً

(2137)؛ ومسلم واللفظ له في البيوع/ باب بطلان بيع المبيع قبل القبض (1527)(38)، عن ابن عمر قال:«قد رأيت الناس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ابتاعوا طعاماً جزافاً يُضرَبون في أن يبيعوه في مكانهم ذلك حتى يؤوه إلى رحالهم» .

ص: 212

واعلم أنه كلما احتال الإنسان على محرم لم يزدد إلا خبثاً، فالمحرم خبيث، فإذا احتلت عليه صار أخبث؛ لأنك جمعت بين حقيقة المحرم وبين خداع الرب عز وجل والله سبحانه وتعالى لا تخفى عليه خافية، «وإنما الأعمال بالنيات»

(1)

، ولولا الزيادة الربوية ما عرفت هذا الرجل، والعجيب أن الشيطان يغر ابن آدم فيقول: نحن نفعل هذا رحمة بالفقير من أجل أن تتيسر أحواله، ولولا هذا ما تيسرت، لكن أقول كلما كان أفقر صارت الزيادة عليه أكثر، فهذه نقمة وليست رحمة، فمثلاً: يأتي إنسان متوسط الحال يستدين من هذا الرجل، فيبيع عليه ما يساوي ألفاً بألف ومائتين، ويأتي إنسان آخر يستدين من أجل أن يأكل هو وأهله، فيبيع عليه ما يساوي ألفاً بألف وخمسائة، فيقول: لأن هذا لا يفي، ومتى يفي؟ فأين الرحمة؟ ولو كان غرضه الرحمة بالفقير لكان هذا الثاني، أولى بالرحمة من الأول المتوسط الحال، لكن الشيطان يلعب على ابن آدم.

وقوله: «أو اشترى شيئاً نقداً» علم منه أن الشراء هو المحرم، وأما البيع الأول فكلام المؤلف يدل على أنه حلال، لكن إذا علمنا أنهم اتخذوا ذلك حيلة فإن البيع الأول يكون باطلاً أيضاً، لأنه صار وسيلة إلى محرم، ووسائل الحرام حرام، وانظر كيف أن الشريعة الإسلامية تسد الباب سداً منيعاً بالنسبة للربا؛ لأن النفوس مجبولة على حب المال فهي تتحيل عليه بكل وسيلة، وحماية الشرع لجناب الربا وإبعاد الناس عنه أمر ظاهر في الشريعة، مثل ما حمت الشريعة جانب التوحيد وأبطلت كل ما

(1)

سبق تخريجه ص (77).

ص: 213

يمكن أن يكون وسيلة للشرك، كذلك الربا حيث أن النفوس تطلبه وتحبه سدت الشريعة كل باب يمكن أن يوصل إلى الربا، والربا ليس بالأمر الهين ـ كما سيأتي إن شاء الله تعالى في باب الربا ـ وهو من أعظم الذنوب، فلا يوجد معصية علقت عليها عقوبة، وهي دون الكفر مثل الربا.

قوله: «لا بالعكس لم يجز» كلام الماتن يحتمل المعنى أنها عكس مسألة العينة، بأن يبيع شيئاً نقداً بثمن، ثم يشتريه مؤجلاً بأكثر، ويحتمل أن المعنى:«لا بالعكس» ، أي مثل ما باع به نسيئة؛ لأن المؤلف صور المسألة بقوله:«بدون ما باع به نسيئة» ، فعلى المعنى الثاني في قوله:«لا بالعكس» يعني لا مثل الثمن ولا أكثر من الثمن.

وذلك أنه إما أن يشتريها بأقل وهي مسألة المؤلف، أو بمثلٍ، أو بأكثر.

مثال ذلك: بعت على هذا الرجل سيارة بعشرين ألفاً إلى سنة، ثم عدت واشتريتها منه بعشرين ألفاً نقداً، فهذا يجوز؛ لأنه لا يوجد فيه ربا.

وكذلك لو بعتها بعشرين واشتريتها بخمسة وعشرين، فهذا جائز؛ لأنه ليس في هذا ربا، لأني إذا أعطيته أكثر مما بعت به فهذا من مصلحته، والربا الأصل فيه الظلم، وهذا ليس فيه ظلم، بل فيه فضل.

مسألة: عكس مسألة العينة، أن أبيع عليه شيئاً نقداً بثمن ثم اشتريه منه مؤجلاً بأكثر.

ص: 214

مثاله: أن أبيع عليه السيارة بعشرين ألفاً نقداً، ثم أشتريها منه بخمسة وعشرين إلى سنة، فهل هذا جائز؟

ظاهر كلام المؤلف: «لا بالعكس» أنه يجوز، لأن محذور الربا فيها بعيد، لكن فيها عن أحمد روايتان:

ـ رواية أنها كمسألة العينة فلا تجوز.

ـ ورواية أنه جائز بلا حيلة.

والصحيح الجواز إلا إذا علمنا أنها حيلة.

قوله: «وإن اشتراه بغير جنسه» أي اشترى الذي باعه مؤجلاً بنقد غير جنس النقد الذي باعه به، مثل أن يكون باعه بذهب فيشتريه بفضة، يقول المؤلف: إن ذلك جائز؛ لأن التفاضل بين الذهب والفضة جائز، وإذا كان جائزاً فلا حرج؛ لأننا منعنا فيما إذا اشتراه بأقل مما باعه نسيئة واشتراه نقداً، عللنا ذلك بأنه باع دراهم بدراهم مع التفاضل وجعل هذه السلعة واسطة.

وظاهر كلام المؤلف ولو كان جنسه مما يجري ربا النسيئة فيه بينه وبين الثمن، فإنه يجوز، مثاله: بعت هذا البيت بمائة دينار ـ تساوي ألف درهم ـ مؤجلاً ثم رجعت إليه واشتريته بثمانمائة درهم نقداً، فعلى كلام المؤلف يجوز؛ لأنني اشتريته بغير ما بعته به؛ لأن التفاضل بين الذهب والفضة جائز ولا يجري بينهما ربا الفضل، ولكن الصحيح أنه لا يجوز إذا اشتراه بثمن يجري ربا النسيئة بينه وبين الثمن الذي باعه به؛ لأننا نقول: وإن انتفى ربا الفضل فعندنا ربا النسيئة، وهو ممنوع شرعاً وقد يتحيل الإنسان عليه بمثل هذه الصورة.

ص: 215

نعم لو أنني بعت البيت بمائة درهم إلى سنة ثم اشتريته بمائتي كيلو تمر نقداً، فهذا جائز ولا إشكال؛ لأن التفاضل والنسيئة بين الدراهم والتمر جائزان، وإذا جاز التفاضل والنسيئة بينهما على وجه صريح، فهذه المسألة تجوز من باب أولى.

والخلاصة أن هذه المسألة لها ثلاث صور:

الأولى: بعت عليك هذا البيت بألف درهم لمدة سنة، واشتريته بثمانمائة درهم نقداً، فهذه الصورة لا تجوز، وهذه هي مسألة العينة.

الثانية: بعت عليك هذا البيت بعشرة دنانير إلى سنة ـ تساوي مائة درهم ـ ثم اشتريته نقداً بثمانين درهماً، فعلى كلام المؤلف تجوز، لأن الثمن الذي اشتريته به ليس من جنس الثمن الذي بعت به.

الثالثة: بعته عليك بمائة درهم إلى سنة، ثم اشتريته بمائة كيلو تمر نقداً، فهنا تجوز حتى على كلام المؤلف لأنه قال:«بغير جنسه» .

فعندنا الآن: إذا اشتراه بجنس الثمن فهو حرام قولاً واحداً.

إذا اشتراه بغير جنسه مما لا نسيئة بينه وبين الثمن، فهو جائز قولاً واحداً.

إذا اشتراه بغير جنسه ولكن يجري ربا النسيئة بينه وبين الثمن، فعلى كلام المؤلف يجوز، وعلى القول الراجح لا يجوز؛ لأننا نقول: وإن كان ربا الفضل بين الثمن الأول والثاني جائزاً لكن ربا النسيئة ممنوع.

ص: 216

وهذا قد يتخذ حيلة على بيع الذهب بالفضة مع التأجيل وهو غير جائز.

قوله: «أو بعد قبض ثمنه» أي: لو اشتراه بعد قبض ثمنه بأقل، فلا بأس، وكذلك لو اشتراه بأكثر أو بمساوٍ.

مثاله: باع السيارة بعشرين ألفاً إلى سنة، ولما تمت السنة قبض عشرين ألفاً، ثم اشتراها من المشتري بخمسة عشر ألفاً، فهذا جائز؛ لأن الحيلة منتفية هنا، فإذا اشتراها بأقل مما باعها به بعد قبض الثمن فلا بأس.

قوله: «أو بعد تغير صفته» مثاله: أن أبيع عليه بقرة سمينة بمائة درهم إلى ستة أشهر، وبعد مضي ثلاثة أشهر هزلت البقرة، فأصبحت لا تساوي إلا نصف القيمة، فاشتراها البائع بنصف قيمتها، أي: بأقل مما باع نقداً، يقول المؤلف: لا بأس بذلك؛ لأن النقص هنا ليس في مقابل الأجل، ولكن في مقابل تغير الصفة.

لكن ينبغي أن يقيد هذا بما كان الفرق بين الثمنين، هو ما نقصت به العين بسبب التغير، لا من أجل التأجيل والنقد، فلا بد أن يكون نقص الثمن بمقدار نقص الصفة.

فمثلاً إذا قدرنا هذه البقرة هزلت وصارت بعد أن كانت تساوي مائتين إلى أجل، لو بعناها الآن لكانت تساوي مائة وثمانين، فاشتراها بهذا السعر، فهذا جائز؛ لأن النقص مقابل نقص الصفة، لكن لو كانت لم تنقص إلا عشرين باعتبار الصفة، وهو اشتراها بمائة وستين، وفرق العشرين هذه من أجل الفرق بين التأجيل وبين النقد فهذا حرام؛ لأن الفرق الذي حصل الآن بين

ص: 217

الثمنين، من أجل تغير الصفة ومن أجل التأجيل، فلذلك كان حراماً؛ لأن هذه هي مسألة العينة فصار لا بد من هذا القيد.

مثال آخر: باع السيارة بعشرين ألفاً إلى سنة، وبعد مضي ثلاثة أشهر اشتراها بثمانية عشر ألفاً، والسيارة الآن تغيرت فصار فيها صدمات ومشت مسافة أكثر، فنقول: إذا كان نقص الألفين بمقدار نقص الصفة، فهذا جائز، ولكن إن كان أقل ونقص من أجل النقد، فهذا لا يجوز.

قوله: «أو من غير مشتريه» أي: إذا اشتراها بأقل من غير مشتريها، مثاله: إذا باع السلعة بثمن مؤجل، ثم إن الذي اشتراها باعها على آخر، ثم اشتراها البائع الأول من الآخر بثمن منقود أقل، فهذا جائز؛ لأن محذور الربا هنا بعيد، إذ إن التعامل صار مع طرف ثالث.

مثال آخر: بعت هذه السيارة بمائة ألف إلى سنة، ثم إن صاحبها باعها إلى شخص آخر بما شاء من قليل أو كثير، أو وهبها له، ثم اشتريتها أنا من الثاني بثمانين ألفاً نقداً، فهذا جائز؛ لأن المعاملة هذه مع طرف ثالث، ليست مع الطرف الذي بعت السيارة عليه، فإذاً يكون محذور الربا بعيداً فيصح.

مثال ثالث: بعت هذه السيارة بمائة ألف إلى سنة، ثم مات المشتري وانتقلت السيارة إلى وارثه، فاشتريتها من وارثه بثمانين ألفاً نقداً، فهذا جائز؛ لأني اشتريتها من غير مشتريها، فمحذور الربا بعيد.

قوله: «أو اشتراه أبوه» أي: أبو البائع، مثاله: باع زيد

ص: 218

سيارته بمائة ألف على شخص إلى سنة، ثم إن أبا زيد اشترى هذه السيارة ممن اشتراها من ابنه بثمانين ألفاً نقداً، فهذا لا بأس به؛ لأن المعاملة الآن مع طرف ثالث، إلا إذا كان للأب شركة في هذه السيارة فإنه لا يجوز؛ لأنها ستعود إلى الطرف البائع أولاً.

قوله: «أو ابنه جاز» : إذا اشتراها ابنه، بأن باع زيد هذه السيارة على شخص بمائة ألف إلى سنة، ثم إن ابنه اشتراها من الذي باع عليه أبوه بثمانين نقداً، فإن هذا لا بأس به؛ لأن المعاملة صارت مع طرف ثالث، ولهذا قال:«جاز» ، ولكن بشرط أن لا يكون شريكاً فيها.

قوله في الروض

(1)

: «ومن احتاج إلى نقد فاشترى ما يساوي مائة بأكثر ليتوسع بثمنه فلا بأس وتسمى مسألة التورق» .

يقول: «ومن احتاج إلى نقد» مثاله: إنسان يريد أن يتزوج وليس عنده أموال فاشترى ما يساوي مائة بأكثر، أي: اشترى سيارة تساوي مائة بأكثر مؤجلة ليتوسع بثمنه، بأن يبيعها نقداً لغير من باعها عليه بأقل مما اشتراها به مؤجلاً فلا بأس وتسمى مسألة التورق، وهذه المسألة فيها قولان للعلماء، هما روايتان عن الإمام أحمد.

فمن العلماء من قال: هي جائزة؛ لأن هذه السلعة قد يشتريها الإنسان لغرض مقصود بعين السلعة، كرجل اشترى سيارة

ص: 219

من أجل أن يستعملها، أو يكون الغرض قيمة السيارة، فاشتراها لأجل أن يبيعها ويتوسع بالثمن، فهذا الغرض كالغرض الأول، لكن الغرض الأول أراد الانتفاع بعينها، وهذا أراد الانتفاع بقيمتها فلا فرق.

القول الثاني: إنها حرام، وهو رواية عن الإمام أحمد، واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو المروي عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله.

ووجه ذلك: أن مقصود الذي اشترى السيارة هو الدراهم، فكأنه أخذ دراهم قدرها ثمانون بدراهم قدرها مائة إلى أجل، فيكون حيلة، وقد نص الإمام أحمد أن مسألة التورق من مسائل العينة.

ولكن على القول بأنها حلال لا بد أن يكون الباعث لها الحاجة لقوله: «ومن احتاج» ، فلو كان الباعث لها الزيادة والتكاثر فإن ذلك حرام لا يجوز؛ لأن قولهم:«ومن احتاج» ، ليست لبيان الواقع ولكنها شرط؛ لأنه إذا لم يكن حاجة فلا وجه لجوازها، إذ إنها حيلة قريبة على الربا.

قال ابن القيم رحمه الله في كتابه (إعلام الموقعين): إن شيخنا رحمه الله كان يُراجع فيها كثيراً لعله يحللها، ولكنه رحمه الله يأبى ويقول: هي حرام، والحيل لا تزد المحرمات إلا خبثاً.

لكن أنا أرى أنها حلال بشروط هي:

الشرط الأول: أن يتعذر القرض أو السلم، أي: أن يتعذر

ص: 220

الحصول على المال بطريق مباح، والقرض في وقتنا الحاضر، الغالب أنه متعذر، ولا سيما عند التجار إلا من شاء الله، والسلم ـ أيضاً ـ قليل، ولا يعرفه الناس كثيراً، والسلم هو تعجيل الثمن وتأخير المبيع، أي: آتي للشخص وأقول: أنا محتاج عشرين ألف ريال، اعطني عشرين ألف ريال أعطيك بدلها بعد سنة سيارة صفتها كذا وكذا، أو أعطيك بدلها برّاً أو أرزاً، ويصفه فهذا يسمى السلم، ويسمى السلف، وهو جائز فقد كان الصحابة رضي الله عنهم يفعلون ذلك السنة والسنتين في الثمار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم»

(1)

.

الشرط الثاني: أن يكون محتاجاً لذلك حاجة بيِّنة.

الشرط الثالث: أن تكون السلعة عند البائع، فإن لم تكن عند البائع فقد باع ما لم يدخل في ضمانه، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع السلع في مكان شرائها حتى ينقلها التاجر إلى رحله

(2)

، فهذا من باب أولى؛ لأنها ليست عنده، فإذا اجتمعت هذه الشروط الثلاثة، فأرجو ألا يكون بها بأس، لأن الإنسان قد يضطر أحياناً إلى هذه المعاملات.

(1)

سبق تخريجه ص (149).

(2)

سبق تخريجه ص (212).

ص: 221

‌باب الشروط في البيع

الشروط: جمع شرط، وهو في اللغة: العلامة، ومنه قول الله تعالى:{فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} [محمد: 18].

أما في الاصطلاح: فهو بحسب ما يكون شرطاً فيه، فقد يراد به ما تتوقف عليه الصحة، أي: ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده الوجود، ويختلف عن السبب بأن السبب يلزم من وجوده الوجود، ويشتركان في أنهما يلزم من عدمهما العدم.

فالوضوء شرط لصحة الصلاة يلزم من عدمه عدم صحة الصلاة، وهل يلزم من وجوده الوجود؟ لا؛ لأن الإنسان قد يتوضأ ولا يصلي.

ومنه شروط البيع السابقة فإنه يلزم من عدمها العدم ولا يلزم من وجودها الوجود، لأنه قد تتم الشروط كلها ويوجد مانع كأن يقع البيع بعد نداء الجمعة الثاني ممن تلزمه الجمعة.

الشروط في البيع غير شروط البيع:

الشروط في البيع: هي إلزام أحد المتعاقدين الآخر ما لا يلزمه بمقتضى العقد، وكذلك في غيره.

وأما ما يلزمه بمقتضى العقد، فإنه إن شرط فهو من باب التوكيد.

ص: 222

والفرق بين الشروط في البيع وشروط البيع، من وجوه أربعة:

الأول: أن شروط البيع من وضع الشارع، والشروط في البيع من وضع المتعاقدين.

الثاني: شروط البيع يتوقف عليها صحة البيع، والشروط في البيع يتوقف عليها لزوم البيع، فهو صحيح، لكن ليس بلازم؛ لأن من له الشرط إذا لم يوف له به فله الخيار.

الثالث: أن شروط البيع لا يمكن إسقاطها، والشروط في البيع يمكن إسقاطها ممن له الشرط.

الرابع: أن شروط البيع كلها صحيحة معتبرة؛ لأنها من وضع الشرع، والشروط في البيع منها ما هو صحيح معتبر، ومنها ما ليس بصحيح ولا معتبر؛ لأنه من وضع البشر، والبشر قد يخطئ وقد يصيب، فهذه أربعة فروق بين الشروط في البيع وشروط البيع.

وهل تكون هذه الفروق بين شروط النكاح والشروط في النكاح؟

نعم تكون كذلك، فهذه الشروط تكون في البيع أو في غيره من العقود.

مسألة: هل المعتبر من الشروط في البيع ما كان في صلب العقد، أو ما بعد العقد، أو ما قبل العقد؟

المذهب: أن المعتبر ما كان في صلب العقد، أو في زمن الخيارين: خيار المجلس، وخيار الشرط.

ص: 223

مثال: بعتك هذه السيارة واشترطت أن أسافر عليها إلى مكة، فهذا محله في نفس العقد وهو صحيح.

مثال آخر: بعتك هذه السيارة، وبعد أن تم العقد بالإيجاب والقبول، قلت: أنا أشترط عليك أن أسافر بها إلى مكة يصح؛ لأنه في زمن الخيار؛ لأنك لو قلت: لا، قلتُ: فسخت الآن؛ لأن بيدي الخيار ما دمنا لم نتفرق فلنا أن نزيد الشرط.

مثال آخر: بعتك هذه السيارة ولي الخيار ثلاثة أيام، وفي اليوم الثاني جئت إليك، وقلت: أشترط أن أسافر بها إلى مكة يصح؛ لأنه في زمن الخيارين.

وأما ما كان قبل ذلك مما اتفق عليه قبل العقد، فالمذهب أنه غير معتبر.

مثاله: اتفقت أنا وأنت على أن أبيع عليك السيارة، واشترط: أن أسافر عليها إلى مكة، وعند العقد لم نذكر هذا الشرط إما نسياناً وإما اعتماداً على ما تقدم، فهل يعتبر هذا أو لا؟ الجواب: لا يعتبر على المذهب.

والصحيح: أنه يعتبر لما يلي: ـ

أولاً: لعموم الحديث: «المسلمون على شروطهم»

(1)

، وأنا

(1)

علقه البخاري بصيغة الجزم في الإجارة/ باب أجر السّمسرة، وقد وصله أحمد وأبو داود في القضاء/ باب في الصلح (3594)؛ والحاكم (2/ 49) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

وقد أخرجه الترمذي في الأحكام/ باب ما ذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلح بين الناس (1352) عن كثير بن عبد الله المزني عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً حرم حلالاً أو أحل حراماً، والمسلمون على شروطهم إلا شرطاً حرم حلالاً أو أحل حراماً» ، وقال:«حسن صحيح» ، وفي إسناده كثير بن عبد الله ضعفه أحمد وابن معين (انظر:«تهذيب السنن» (5/ 213))، وللحديث شاهد عن عائشة وأنس رضي الله عنهما، أخرجه الدارقطني (3/ 27، 28)؛ والحاكم (2/ 49، 50)، بلفظ:«المسلمون عند شروطهم ما وافق الحق» ، ولكن إسناده واهٍ كما قاله الحافظ في «التلخيص» (1195)، ونقل تضعيف الحديث عن ابن حزم وعبد الحق وضعفه أيضاً ابن القطان في «بيان الوهم والإيهام» (1299)، ومن صححه فنظر إلى تعدد طرقه، والله أعلم، انظر:«الإرواء» (5/ 142).

ص: 224

لم أدخل معك في العقد إلا على هذا الأساس.

ثانياً: أنهم جوزوا في النكاح تقدم الشرط على العقد، فيقال: أي فرق بين هذا وهذا؟! وإذا كان النكاح يجوز فيه تقدم الشرط على العقد، فالبيع مثله، ولا فرق.

إذاً الشروط في البيع معتبرة سواء قارنت العقد، أو كان بعده في زمن الخيارين، أو كانت متفقاً عليها من قبل.

‌مِنْها صَحِيحٌ، كَالرَّهنِ وَتَأجِيْلِ الثّمَنِ وَكَوْنِ العَبدِ كَاتِباً، أو خَصِيًّا، أو مُسْلِماً، وَالأمَةِ بِكْراً ..

قوله: «منها صحيح» «من» هنا للتبعيض، وقد ذهب بعض النحويين إلى أن «من» التبعيضية اسم؛ لأنها بمعنى بعض، وعلى هذا تقول:«مِنْ» مبتدأ وخبره صحيح، وعلى المشهور تقول: منها جار ومجرور، خبر مقدم وصحيح مبتدأ مؤخر، والصحيح ضد السقيم، وضابط الصحيح ما لا ينافي مقتضى العقد، فإن نافى مقتضى العقد فليس بصحيح، ولا نقول: ما لا ينافي مطلق العقد؛ لأن كل شرط في البيع ينافي مطلق العقد.

فمثلاً: إذا بعت عليك شيئاً فمقتضى العقد أنني أتصرف فيه بالبيع والرهن والتأجير والتوقيف، وكل التصرفات التي أملكها

ص: 225

شرعاً، فإذا شرط عليَّ البائع ألا أبيعه على أحد، فهذا ينافي مقتضى العقد، فمقتضى العقد أنني أتصرف فيه، فكيف يحبسني؟!

أما ما ينافي مطلق العقد، فمثلاً إذا بعتك هذا الشيء واشترطت عليَّ أن يكون الثمن مؤجلاً، فهذا ينافي مطلق العقد، لكن لا ينافي مقتضى العقد؛ لأن العقد تم الآن، لكن يخالف مطلق العقد؛ لأن مطلق العقد أن تسلم الثمن نقداً، وأسلم المبيع كذلك حاضراً، ففرق بين قولنا ما ينافي مقتضى العقد، وما ينافي مطلق العقد؛ لأننا نقول كل شروط في عقد فإنها تنافي مطلقه، لأن مطلقه ألاَّ يكون هناك شروط.

قوله: «كالرهن» الرهن من الشروط الصحيحة، والذي يشترطه غالباً البائع.

فإذا اشترط البائع على المشتري رهناً بالثمن فالشرط صحيح، لأن فيه مصلحة للبائع وللمشتري أيضاً؛ لأن البائع إذا لم يلتزم المشتري بهذا الشرط فإنه لا يبيع عليه وحينئذٍ يحرم مما يريد من هذه السلعة.

مثاله: أن يقول المشتري: اشتريت منك هذا الشيء بمائة؟ فيقول: بعت عليك، لكن أريد أن تعطيني رهناً، فأعطاه رهناً، فهذا الشرط صحيح؛ لأنه لا ينافي مقتضى العقد، بل يزيد العقد قوة وتوثقة؛ لأن البائع الآن يطمئن إذا علم أن الثمن الذي باعه به فيه رهن، إذ أن فائدة الرهن أنه إذا لم يوف فإنه يُباع، ويستوفى الثمن منه.

قوله: «وتأجيل الثمن» يشترطه المشتري، عكس الأول،

ص: 226

فالرهن يشترطه البائع، وتأجيل الثمن يشترطه المشتري.

مثاله: باع عليه متاعاً بمائة، فقال: أنا ليس بيدي شيء الآن، ولكن أريد أن يكون الثمن مؤجلاً إلى شهر، فتم البيع على ذلك، فهذا البيع صحيح، والشرط صحيح؛ لأن هذا لا ينافي مقتضى العقد؛ بل يزيده قوة وإحكاماً، ولأنه لا يوجد ضرر لأنه من مصلحة المشتري لأجل أن يتوسع، ومن مصلحة البائع كأن يخشى من أحد ينم عليه أن عنده أموالاً ثم تجعل عليه ضرائب من الحكومة أو يعتدي السراق عليه، فصار من مصلحة البائع والمشتري وقد لا يكون من مصلحة المشتري، فالمشتري يود أن يسلم الثمن ويستريح.

وقوله: «وتأجيل الثمن» لم يبين أنه يشترط في الأجل أن يكون معلوماً، ولكنه شرط، فيشترط أن يكون الأجل معلوماً، بأن يقول: إلى رمضان، أو إلى ذي الحجة وما أشبه ذلك.

فإن قال: بثمن مؤجل إلى أن يقدم زيد؛ فهل يجوز؟

الجواب: لا؛ لأنه مجهول لا يُدرى متى يقدم، ولا يُدرى ـ أيضاً ـ هل يقدم أم لا؟ فهو أجل مجهول فلا يصح هذا الشرط.

وإذا اشترط المشتري أن يكون الثمن مؤجلاً إلى أن يوسر الله عليه؟

فالمذهب: لا يجوز؛ لأن الأجل مجهول، إذ لا يُدرى متى يوسر الله عليه، فقد يوسر الله عليه بعد ساعة، فيموت قريب له غني ويرثه، وقد يبقى سنين في عسرة، فالمذهب أن هذا الشرط

ص: 227

لا يصح، ويكون الثمن حالاً غير مؤجل، والعلة في ذلك الجهالة.

ولكن الصحيح أنه يصح لدليل أثري ونظري: ـ

أولاً: حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: «إن فلاناً قدم له بزٌّ من الشام، فلو بعثت إليه أن يبيعك ثوبين إلى ميسرة، فأرسل إليه فامتنع»

(1)

، ولعله امتنع؛ لأنه أراد أن يصفي البضاعة، ويأتي بأخرى، ولا بأس من امتناعه من البيع إذا كان لا يناسبه، كما امتنع جابر رضي الله عنه

(2)

.

أما النظر فما دام البائع يعلم أن المشتري معسر فإنه لا يحق له مطالبته شرعاً إلا بعد الإيسار، ولزم أن ينظره، سواء شرطه أو لم يشرطه؛ لقول الله تعالى:{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280]، فما زاد هذا الشرط إلا تأكيد الإنظار فقط، والإنظار واجب؛ ولهذا كان القول الصحيح في هذه المسألة أنه جائز.

قوله: «وكون العبد كاتباً» أي: العبد الذي عرض للبيع، اشتراه إنسان وقال: بشرط أن يكون كاتباً، فيصح الشرط؛ لأنها صفة مقصودة في المبيع.

ولكن كلمة «كاتباً» فيها شيء من الجهالة؛ لأن الكتابة

(1)

أخرجه الحاكم (2/ 23)؛ والبيهقي (6/ 25) وصححه الحاكم على شرط البخاري ووافقه الذهبي؛ وقال الحافظ في البلوغ (857): «رجاله ثقات» .

(2)

أخرجه البخاري في البيوع/ باب شراء الدواب والحمير (2097)؛ ومسلم في المساقاة/ باب بيع البعير واستثناء ركوبه (715)(111).

ص: 228

تختلف، فمن الناس من يكتب، لكن لا يقرأ كتابه إلا هو.

فالحاصل أن كلمة «كاتباً» فيها شيء من الجهالة، فلا بد أن يقال: كاتب تكون كتابته متوسطة، أي: يقرؤها الإنسان بدون تهجٍ وبدون ترتيب.

قوله: «أو خصيًّا» أي: اشترط المشتري أن يكون العبد خصياً، أي: قد قطعت خصيتاه، وهذا مقصود للمشتري؛ لأنه إذا قطعت خصيتاه فإنه يسلم الناس من شره، إذ إن شهوته تبطل أو تضعف جداً، حتى لا يكون له نظر في النساء، وهذا مقصود لمشتريه، ولكن يبقى النظر كيف يكون خصياً؟ لأنه إن قطع مالكه خصيتيه عتق عليه؛ لأنه إذا مثل بعبده، ولو بقطع أنملة من أصابعه فإنه يعتق.

فيقال: ربما يكون هذا خصياً قبل أن يُسترق، أو أنه خصاه غير مالكه فلا يعتق.

المهم أن شرط الخصاء شرط صحيح إذا اشترطه المشتري.

قوله: «أو مسلماً» ، إذا اشترط المشتري أن يكون العبد مسلماً، فهو شرط صحيح، أما إذا اشترط أن يكون كافراً فلا؛ لأن هذا شرط صفة مكروهة لله عز وجل حتى لو قال المشتري: أنا أريد أن يكون كافراً حتى لا يتعبني، فإنه إذا أذن المؤذن قال: أريد أن أصلي، وإذا جاء رمضان قال: أصوم، وإذا جاءت العمرة قال: أعتمر، وإذا جاء الحج قال: أحج، وأنا أريد عبداً كافراً، نقول: هذا مراد باطل فهو تشجيع للكافرين على البقاء على كفرهم ليكونوا عمالاً أو عبيداً عند المسلمين.

ص: 229

وظاهر كلام المؤلف أن الكفر ليس بعيب في الرقيق، وأن الإنسان لو اشترى عبداً فتبين أنه كافر فإن ذلك ليس بعيب، فلا يرده؛ وجه ذلك أنه ذكر أن الإسلام لا يثبت إلا إذا اشترط، فدل هذا على أن المشتري لو وجد العبد كافراً فلا خيار له، وعللوا ذلك بأن الأصل في الرقيق الكفر؛ لأن الأرقاء أصلهم مسبيون من الكفار، فالأصل فيهم الكفر حتى يتبين أنهم أسلموا.

قوله: «والأمة بكراً» إذا اشترط في الأمة أن تكون بكراً، فهو شرط صحيح؛ لأن البكارة صفة مقصودة، فيكون الشرط صحيحاً، فإن لم يشترط ووجدها ثيباً فلا خيار له؛ لأن المؤلف جعل كون الأمة بكراً من باب الشروط، ولو قال قائل: إن الأصل البكارة، قلنا: هذا الأصل معارض بظاهر، وهو أنها موطوءة؛ لأن الغالب أنها إذا كانت عند سيدها فالغالب أنه يطؤها، وهذا مما تعارض فيه الأصل والظاهر وقدم فيه الظاهر؛ لأنه ليس دائماً نقدم الأصل، فقد يكون الظاهر أقوى من الأصل فيؤخذ بها.

مسألة: ما حكم هذه الشروط إذا كانت صحيحة وفقدت؟

حكمها أن لصاحب الشرط أن يفسخ العقد إذا لم يتحقق شرطه؛ لأنه فاته شيء مقصود، ولكن لو قال: أنا لا أريد الفسخ، ولكني أريد أرش فقد الصفة، أي: الفرق بين قيمته متصفاً بهذه الصفة وخالياً منها، ولا أريد أن أرد المبيع، فأنا راغب فيه، كأن يشترط في العبد أن يكون كاتباً، فتبين أنه لا يكتب، ولكنه عبد جيد في العمل، وحسن الخلق، وقال: أنا لا

ص: 230

يهمني أن يكتب أو لا يكتب، لكن أنا أريد أرش فقد الصفة، فهل له ذلك؟

الجواب: في هذا خلاف، فمنهم من قال: إن له أرش فقد الصفة؛ لأن البائع غرَّه، فيقوَّم هذا العبد كاتباً، ويقوَّم غير كاتب، وما بين القيمتين يخصم من الثمن ويُدفع للمشتري.

وقال آخرون: ليس له أرش فقد الصفة، فإما أن يقبله مفقود الصفة التي اشترطها، وإما أن يرده.

والصحيح في هذه المسألة أن يقال: إن تبين أن البائع مدلس، وأنه غرَّ المشتري، فللمشتري أرش فقد الصفة، وإن لم يكن مدلساً فللمشتري الخيار بين الإمساك بلا أرش والرد؛ لأن البائع ـ أيضاً ـ قد يكون مغترّاً، ويقول: لم أرض ببيعه إلا بهذا الثمن، ولا أرضى أن ينزل من الثمن شيء.

‌وَنَحْوِ أنْ يَشْتَرِطَ البَائِعُ سُكْنَى الدّارِ شَهْراً وَحُمْلَانَ البَعِيْرِ إلَى مَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ، أو شَرَطَ المُشْتَرِي عَلَى البَائِع حَمْلَ الحَطَبِ، أو تَكْسِيْرَه، أو خِيَاطَةَ الثّوْبِ، أَوْ تَفْصِيْلَهُ،

..

قوله: «ونحو أن يشترط البائع سكنى الدار شهراً» أي: إذا اشترط البائع سكنى الدار شهراً، فإن هذا شرط صحيح.

وقوله: «الدار» أل فيها للعهد الذهني، أي: الدار المبيعة شهراً.

مثاله: أن يقول: بعتك داري هذه بمائة ألف درهم، على أن أسكنها لمدة شهر، فيصح البيع، ويصح الشرط، والدليل على ذلك عام وخاص.

أما العام فقوله صلى الله عليه وسلم: «كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل»

(1)

.

(1)

سبق تخريجه ص (189).

ص: 231

وقوله: «المسلمون على شروطهم إلا شرطاً أحل حراماً أو حرم حلالاً»

(1)

.

أما الخاص: فدليله «أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى من جابر بن عبد الله رضي الله عنهما جملاً اشترط جابر حملانه إلى المدينة فوافقه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك»

(2)

، وهذا نفع معلوم في المبيع فهو كسكنى الدار شهراً.

وقوله: «سكنى الدار شهراً» فهم منه، أنه لو اشترط سكنى دار غير المبيعة، فإنه لا يصح، فلو قال: بعتك هذا البيت بمائة ألف درهم على أن تسكنني دارك لمدة شهر، كما قال المؤلف فلا يصح البيع، ولا الشرط بناءً على ما سيأتي من أن شرطَ عقدٍ في عقد مبطل للعقد، إذاً لا بد أن يكون في نفس المبيع الذي تم عليه العقد، فإن كان في غيره فهو جمع بين بيع وإجارة، وهو لا يصح.

قوله: «وحملان البعير إلى موضع معين» هذا تعيين بالمكان، والأولى «سكنى الدار شهراً» تعيين بالزمان.

مثاله: بعتك هذا البعير على أن أسافر عليه إلى مكة وأرجع، فالبيع صحيح، والشرط صحيح.

مثال آخر: بعتك هذه السيارة بخمسين ألفاً، بشرط أن أحج عليها وأرجع فهنا البيع صحيح، والشرط صحيح؛ لأنه نفع معلوم في المبيع.

(1)

سبق تخريجه ص (224).

(2)

سبق تخريجه ص (228).

ص: 232

فإن قال: بعتك هذه السيارة بخمسين ألفاً على أن أطلب عليها ضالتي، فلا يصح الشرط؛ لأنه مجهول وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم «عن بيع الغرر»

(1)

، وإذا جُهل الشرط جهل الثمن؛ لأن مقابل الشرط المجهول من الثمن غير معلوم، وجهالة الثمن تؤدي إلى بطلان البيع؛ لأن من شروط البيع العلم بالثمن.

مسألة: لو قال البائع: بعتك هذا البيت على أن أسكنه لمدة سنة ما لم أشتر بيتاً، فالمدة هنا معلومة من طرف واحد فقط، وهذه المسألة قد اختلف فيها العلماء، قال بعضهم: إن ذلك لا يصح؛ لأنك لم تحدد في الحقيقة من أول السنة إلى طرفها فقد تجد بيتاً خلال شهر أو ثلاثة أشهر أو أكثر فتبقى المدة مجهولة، ولكن الصحيح جواز هذه المسألة؛ لأن المشتري قد تواطأ على أن البائع يسكنه لمدة سنة، فإن نقص شيء عن السنة فهو لمصلحة المشتري لا ضرر عليه في هذا، فإن قلت: ما الجواب عن حديث عائشة رضي الله عنها أن فلاناً قدم له بَزٌّ من الشام، فقالت عائشة للنبي صلى الله عليه وسلم: لو بعثت إليه فاشتريت ثوبين نسيئة إلى ميسرة، فبعث إليه فامتنع

(2)

، فقولها: إلى ميسرة مجهول، ومع ذلك أقر النبي صلى الله عليه وسلم فما الجواب؟

الجواب: أن هذا الشرط موافق لمقتضى العقد؛ لأن البائع إذا حُكِمَ بإعسار المشتري فإنه لا يستحق مطالبته حتى يوسر، فسواء شرطت أو لم تشرط لا أوفيك إلا عند الميسرة فيكون من باب التأكيد، والله أعلم.

(1)

سبق تخريجه ص (143).

(2)

سبق تخريجه ص (228).

ص: 233

قوله: «أو شرط المشتري على البائع حمل الحطب» أل في «الحطب» للعهد الذهني، أي: الحطب الذي تم عليه البيع.

مثاله: اشترى منه حطباً، وقال: بشرط أن تحمله إلى بيتي، وبيته معلوم في المكان الفلاني فيصح.

فإن قال قائل: ما الدليل؟

قلنا: لدينا دليل عام وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «المسلمون على شروطهم»

(1)

، وقياساً: على ما إذا شرط البائع على المشتري نفعاً معلوماً في المبيع، فإن اشترط عليه حمل حطب آخر غير المبيع فإنه لا يجوز.

قوله: «أو تكسيره» اشترط عليه أن يكسره، والحمل على المشتري وهنا «يكسر» فقط.

قوله: «أو خياطة الثوب» اشترط على الذي اشترى منه القماش أن يخيط الثوب، فالشرط هنا صحيح؛ لأنه نفع معلوم في المبيع.

قوله: «أو تفصيله» أي: تفصيل الثوب، والتفصيل غير الخياطة، فلو شرط الخياطة والتفصيل فسيأتي في كلام المؤلف.

‌وَإِنْ جَمَعَ بَيْنَ شَرْطَيْنِ بَطَلَ البيْعُ

؛ .....

قوله: «وإن جمع بين شرطين بطل البيع» أي: إن جمع بين الشرطين من قوله: «إذا اشترط البائع سكنى الدار» فإنه يفسد

(1)

سبق تخريجه ص (224).

ص: 234

العقد، فلو شرط البائع سكنى الدار شهراً، وشرط شرطاً آخر كسكنى الدكان ـ أيضاً ـ سنة، فالشرط غير صحيح ويبطل البيع، وكذلك لو شرط المشتري على البائع حمل الحطب وتكسيره جميعاً، فإنه لا يصح ويبطل البيع؛ لأن الشرط باطل، فإذا بطل الشرط فإن ما يقابله من الثمن مجهول، فيؤدي ذلك إلى جهالة الثمن، والعلم بالثمن شرط لصحة البيع فلا يصح.

ودليل ذلك: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا بيع ما ليس عندك»

(1)

، الشاهد قوله:«ولا شرطان في بيع» ، وإذا شرط المشتري حمل الحطب وتكسيره فهما شرطان في بيع، أو شرط البائع سكنى الدار والدكان لمدة شهر فإنه لا يصح، ولكن هذا الاستدلال بهذا الدليل غير صحيح.

والصحيح جواز الجمع بين شرطين، بل بين ثلاثة شروط وأربعة شروط حسب ما يتفقان عليه، والحديث لا يدل على هذا بوجه من الوجوه، وإنما المراد بقول النبي صلى الله عليه وسلم:«ولا شرطان في بيع» ، الشرطان اللذان يلزم منهما محذور شرعي، وهذا الجمع بين شرطين فيما ذكر، لا يلزم منه محذور شرعي، كالجهل، والظلم، والربا، وما أشبه ذلك.

ويقال: ألستم تجيزون أن يشترط المشتري على البائع كون العبد مسلماً وكاتباً؟ فسيقولون: بلى.

فنقول: هذان شرطان في البيع، وأنتم تقولون: إن هذا

(1)

سبق تخريجه ص (197).

ص: 235

جائز، فأي فرق؟! وعلى هذا فلو شرط حمل الحطب، وتكسيره، وإدخاله في المكان المعد له في البيت لكان هذا الشرط صحيحاً، ولو كانت ثلاثة شروط؛ لأنها شروط معلومة، ولا تستلزم محذوراً شرعيّاً، والأصل في المعاملات الحل والإباحة، فتبين لنا الآن أن الشروط الصحيحة تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

الأول: قسم ثابت، سواء شرط أم لم يشترط؛ لأنه من مقتضى العقد، مثل تسليم البائع المبيع والمشتري الثمن، وكون الثمن حالًّا، وما أشبه ذلك مما لا يحتاج إلى شرط، فهذا إذا شرط فهو توكيد، ولو جمع ألف شرط من هذا النوع فإنه يصح.

الثاني: ما يتعلق بمصلحة العقد وليس نفعاً مستقلاً، أي: ليس نفعاً ينتفع به البائع أو المشتري، ولكنه من مصلحة العقد، مثل: الرهن، وكون العبد كاتباً، والأمة بكراً، والدابة هملاجة وما أشبه ذلك.

الثالث: شرط نفع إما للبائع وإما للمشتري، والذي للبائع، مثل أن يشترط إذا باع داره سكناها شهراً، والذي للمشتري، مثل أن يشترط على البائع أن يحمل الحطب وما أشبه ذلك، فهذان النوعان إذا جمع فيهما بين شرطين، كان البيع على ما ذهب إليه المؤلف ـ وهو المذهب ـ فاسداً، والصواب أنه صحيح ولا بأس به.

‌وَمِنْهَا فَاسِد يُبْطِلُ العَقْدَ كاشْتِرَاطِ أحَدِهِمَا عَلَى الآخَرِ عَقْداً آخَرَ كَسَلَفٍ، وَقَرْضٍ، وَبَيْعٍ، وَإِجَارَةٍ، وَصَرْفٍ ...........

قوله: «ومنها فاسد يبطل العقد» هذا هو القسم الثاني من أقسام الشروط، وهي الشروط الفاسدة.

ص: 236

وقوله: «ومنها فاسد يبطل العقد» أي: وفاسد لا يبطل العقد، وسيأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ في كلام المؤلف.

قوله: «كاشتراط أحدهما على الآخر عقداً آخر كسلف» هذا فاسد يفسد العقد، فإذا شرط أحدهما على الآخر عقداً آخر بطل العقد «كسلف» أي: السلم، والسلم تقديم الثمن وتأخير المثمن، فيقول المشتري للبائع: هذه مائة درهم بمائة صاع من البر تعطيني إياها بعد سنة، فإذا باع أحدهما على الآخر شيئاً كدارٍ مثلاً، وقال: بشرط أن تسلمني مائة درهم بمائة صاع من البر، فالشرط هنا فاسد مفسد للعقد.

فإن قال قائل: لماذا فصل هذا عما سبق؟

قلنا: لأن ما سبق يكون صحيحاً ويكون فاسداً، فإذا شرط شرطاً واحداً كان الشرط صحيحاً، وإن جمع بين شرطين صار فاسداً، أما هنا فهو فاسد من أصله فليس فيه تقسيم، ولذلك فصله عما سبق.

قوله: «وقرض» كذلك لو اشترط قرضاً، مثاله: قال له: بع عليَّ بيتك هذا، فقال: أبيعه عليك بشرط أن تقرضني مائة ألف، فهذا الشرط فاسد ومفسد للعقد، فلا يصح القرض، ولا يصح البيع.

قوله: «وبيع» أي: لو اشترط عليه بيعاً فطلب منه أن يبيعه سيارته، قال: أبيعك إياها بخمسين ألفاً بشرط أن تبيع علي سيارتك بخمسين ألفاً أو بأقل أو بأكثر، فهنا لا يصح البيع لا الأصل ولا المشروط.

ص: 237

قوله: «وإجارة» مثاله، بعتك هذا البيت بمائة ألف، بشرط أن تؤجرني بيتك لمدة سنة فالعقد لا يصح؛ لأنه جمع بين عقدين.

قوله: «وصرف» مثل أن يقول: بعني بيتك بمائة ألف فيقول: نعم بشرط أن تصرف لي هذه الدنانير بدراهم، فهنا يبطل البيع والصرف. والدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم:«نهى عن بيعتين في بيعة»

(1)

، وقال:«من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا»

(2)

، وهذا الاستدلال بهذا الدليل غير صحيح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما نهى عن بيعتين في بيعة، وقال:«له أوكسهما أو الربا» ، وهذا لا ينطبق على ما ذكر، إنما ينطبق على مسألة العينة التي سبقت وهي أن يبيع شيئاً بثمن مؤجل، ثم يشتريه نقداً بأقل، فهنا نقول: هذه بيعتان في بيعة؛ لأن المبيع واحد والعقد اثنان، ولهذا قال:«له أوكسهما أو الربا» ، فهنا إذا باعه بمائة مؤجلاً، واشتراه بثمانين نقداً، فنقول: إما ألا تأخذ من المشتري شيئاً وهو الزائد، وخذ بالأقل، وهو الثمانون، فإن أخذت الزائد فقد وقعت في الربا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«له أوكسهما أو الربا» .

(1)

أخرجه الإمام أحمد (2/ 432، 475)؛ والترمذي في البيوع/ باب النهي عن بيعتين في بيعة (1231)؛ والنسائي في البيوع/ باب بيعتين في بيعة (7/ 296)؛ وابن حبان (4973) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

وقال الترمذي: «حسن صحيح» وصححه ابن حبان، وقال في «الإرواء» (5/ 149):«حسن» .

(2)

أخرجه أبو داود في البيوع/ باب فيمن باع بيعتين في بيعة (3461)؛ وصححه ابن حبان (4974)؛ والحاكم (2/ 45) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

وقال الحاكم: «صحيح على شرط مسلم» ووافقه الذهبي، وصححه ابن حزم في «المحلى» (9/ 16)؛ وقال في «الإرواء» (5/ 150):«حسن» .

ص: 238

مثاله: بعت هذه السيارة بمائة ألف إلى سنة، فهذه بيعة، اشتريتها من المشتري بثمانين نقداً، فهذه بيعة أخرى، أيهما أوكس؟ الثمانون، البائع إما أن يقتصر على الثمانين، ولا يطالبه بالزائد وهو عشرون، فإن طالبه بالزائد فهذا هو الربا، ولهذا قال:«له أوكسهما أو الربا» ، بمعنى أن نقول للبائع: ليس لك إلا الثمانون ولا تطالب المشتري بشيء، أو له «الربا» لأن هذا لا شك حيلة على الربا.

وأما من قال: بأن معنى الحديث: «نهى عن بيعتين في بيعة» ، هو أن يقول الإنسان: بعتك هذا بعشرة نقداً أو بعشرين نسيئة فغير صحيح، بل هذا لا بأس به، لأنه لا يخلو إما أن نتفرق بدون قطع ثمن، وإما أن نقطع الثمن من قبل التفرق، إن قطعنا الثمن قبل التفرق وقلت: أخذته بعشرة نقداً فالبيعة واحدة، وإن تفرقنا فإنه يبقى الثمن مجهولاً، ومعلوم أن من شروط البيع أن يكون الثمن معلوماً، فهنا ينهى عنه لا لأنه بيعتان في بيعة، ولكن لأن الثمن مجهول، ولهذا لو حدد بأن قال: بعتك هذا بعشرة نقداً أو بعشرين نسيئة ولك الخيار لمدة يومين فهذا جائز؛ لأنه لا محذور فيه.

إذاً البيعتان في بيعة لا تصدق إلا على مسألة العينة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا» وهذا الذي ذكر المؤلف لا يصدق عليه أوكسهما أو الربا، وعلى هذا فالقول الصحيح أنه إذا شرط عقداً في البيع فإن الشرط صحيح، والبيع صحيح إلا في مسألتين كما سيأتي.

ص: 239

ويدل لذلك أن الأصل في المعاملات الحل، وأنه لو جمع بين عقدين بلا شرط فهو جائز كما سبق، وسبق أنه إن جمع بين عقدين فلا بأس إذا لم يكن شرطاً، فنقول: إذا كان هذا يباح بلا شرط، فما الذي يجعله ممنوعاً مع الشرط، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم:«الشرط جائز بين المسلمين إلا شرطاً أحل حراماً أو حرم حلالاً»

(1)

، وهذا الشرط لا يحل حراماً ولا يحرم حلالاً، وعلى هذا فالصواب جواز ذلك إلا في مسألتين:

الأولى: إذا شرط قرضاً ينتفع به، فهنا لا يحل لأنه قرض جر نفعاً فيكون ربا.

مثال القرض: إذا جاء الرجل ليستقرض من شخص، فقال: أنا أقرضك، لكن بشرط أن تبيع بيتك عليّ بمائة ألف، وهو يساوي مائة وعشرين، فهنا شرط القرض مع البيع على وجه ينتفع به، فالبائع انتفع من قرضه حيث نزل له من قيمة البيت عشرون ألفاً، وهذا ربا فلا يصح.

الثانية: أن يكون حيلة على الربا، بأن يشترط بيعاً آخر يكون حيلة على الربا، فإنه لا يصح.

مثاله: أن يكون عند شخص مائة صاع بر جيد، وعند الثاني مائتا صاع بر رديء، فيأتي صاحب البر الرديء ويقول لصاحب البر الجيد: بعني المائة صاع البر الجيد بمائتي درهم، قال: لا بأس بشرط أن تبيع عليّ مائتي الصاع الرديئة بمائتي درهم، فهذا

(1)

سبق تخريجه ص (224).

ص: 240

لا يجوز لأنه حيلة على أن يبيع مائة صاع بر جيد بمائتي صاعٍ رديئة من البر، وهذا حرام، لأنه ربا، لأن البر بالبر لا بد أن يكون سواء.

وما رجحناه هو الذي ينطبق على القواعد الشرعية، وهو مذهب الإمام مالك رحمه الله، ومذهب الإمام مالك في المعاملات هو أقرب المذاهب إلى السنة، ولا تكاد تجد قولاً للإمام مالك في المعاملات إلا وعن الإمام أحمد نفسه رواية توافق مذهب مالك، لكن من المعلوم أن أصحاب المذاهب كلما ازدادوا عدداً، جعل المذهب ما كان الأكثر عدداً، هذا الغالب، لذلك لا يمكن أن نقول: إن مذهب الإمام أحمد مثلاً هو تحريم هذا البيع، وأنه عنه رواية واحدة، بل لا بد أن تكون له رواية توافق ما يدل عليه الدليل الصحيح، ومذهب الإمام مالك في هذه المسألة هو أحسن المذاهب وأقواها، ولدينا قاعدة مطردة:«الأصل في المعاملات الحل حتى يقوم دليل على التحريم» .

‌وَإِنْ شَرَطَ أَنْ لَا خَسَارَةَ عَليْهِ أَوْ مَتَى نَفِقَ المَبِيْعُ وَإِلاّ ردَّهُ، أوْ لَا يَبِيْع وَلَا يَهَبَهُ وَلَا يُعْتِقهُ أوْ إِن أعْتَقَ فَالولَاءُ لَهُ،

........

قوله: «وإن شرط أن لا خسارة عليه» هذا هو القسم الثاني وهو الشرط الفاسد غير المفسد، فيفسد الشرط، ويصح العقد.

وضابطه: أن يكون الفساد مختصاً بالشرط لمنافاته مقتضى العقد.

مثاله: شرط أن لا خسارة عليه، الشارط المشتري، قال المشتري: اشتريته منك بمائة ألف بشرط ألا يكون عليّ خسارة، أي لو نزلت السوق وبعته بأقل فلا خسارة علي، الخسارة على البائع، فهذا الشرط لا يصح؛ لأنه مخالف لمقتضى العقد؛ لأن

ص: 241

مقتضى العقد أن المشتري يملك المبيع فله غنمه وعليه غرمه، فهو مالك، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام:«الخراج بالضمان»

(1)

، أي من له ربح شيء فعليه خسارته، ومعلوم أنه لو ربح هذا المبيع فالربح للمشتري بلا شك، فإذا كان الربح للمشتري فلا يصح أن يشترط الخسارة على البائع.

والدليل على أن الشرط إذا كان مخالفاً لمقتضى العقد يكون باطلاً أن النبي صلى الله عليه وسلم أبطل شرط البائع لنفسه الولاء في قصة بريرة، حيث كاتبت أهلها على تسع أواقٍ من الورق وجاءت تستأذن عائشة رضي الله عنها فقالت عائشة: إذا أحب أهلك أن أعدها لهم ويكون ولاؤك لي، فذهبت لأهلها فأبوا إلا أن يكون لهم الولاء، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: خذيها واشترطي لهم الولاء، فأخذتها بهذا الشرط، فلما تم العقد خطب النبي صلى الله عليه وسلم وبيّن أن هذا شرط باطل، فقال: «ما بال رجال يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله، كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة

(1)

أخرجه الإمام أحمد (6/ 49، 80، 116)؛ وأبو داود في البيوع/ باب فيمن اشترى عبداً فاستعمله (3508، 3509، 3510)؛ والنسائي في البيوع/ باب الخراج بالضمان (7/ 254)؛ والترمذي في البيوع/ باب ما جاء فيمن يشتري العبد (1285)؛ وابن ماجه في التجارات/ باب الخراج بالضمان (2242، 2243)؛ وابن حبان (4927، 4928) عن عائشة رضي الله عنها. وصححه الترمذي وابن خزيمة وابن حبان والحاكم ووافقه الذهبي وصححه أيضاً المنذري في «مختصر أبي داود» (3367) وحسنه البغوي في «شرح السنة» (2119)؛ وصححه ابن القطان كما في «بيان الوهم والإيهام» (2718) وانظر الكلام حول هذا الحديث في: «مختصر أبي داود» للمنذري، و «التلخيص» (1189)؛ و «الإرواء» (5/ 158).

ص: 242

شرط، قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق»

(1)

، فأبطل الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الشرط، لأنه يخالف مقتضى العقد، إذ أن مقتضى العتق أن يكون الولاء للمعتق لا لغيره، ولهذا قال العلماء: كل شرط خالف مقتضى العقد فهو باطل.

فإذا قال قائل: هل العقد صحيح؟

قلنا: نعم؛ لأن العقد قد تمت فيه الشروط، وانتفت الموانع، والخلل هنا إنما هو بالشرط.

قوله: «أو متى نفق المبيع وإلا رده» نفق بمعنى زاد، وصار له سوق يُشترى، وإلا رده على البائع، هذا ـ أيضاً ـ شرط فاسد؛ لأنه يخالف مقتضى العقد، إذ إن مقتضى العقد أن المبيع للمشتري سواء نفق أو لا.

قوله: «أو لا يبيع» الشارط البائع، شرط البائع على المشتري ألا يبيعه، فيقول المؤلف: إن الشرط فاسد.

وهذا تحته صورتان:

الصورة الأولى: أن يشترط عليه أن لا يبيعه مطلقاً.

الصورة الثانية: أن يشترط عليه أن لا يبيعه على فلان خاصة.

وكلاهما على المذهب شرط فاسد، لأنهما يخالفان مقتضى العقد، إذ مقتضى العقد أن المالك يبيع ملكه على من شاء وإن شاء لم يبعه، فإذا قيد وقيل له: بشرط أن لا تبيعه، فإن هذا الشرط يرونه فاسداً لمخالفته مقتضى العقد.

(1)

سبق تخريجه ص (189).

ص: 243

ولكن الصحيح أن في ذلك تفصيلاً، وهو إن كان شرط عدم البيع لمصلحة تتعلق بالعاقد أو بالمعقود عليه فإن الصحيح صحة ذلك، مثال التي تتعلق بالعاقد: أنا أعرف أن هذا الرجل محتاج إلى بيت وأريد أن أبيعه بيتي، ولكن أعرف أن الرجل لا يحسن التصرف يمكن أبيعه عليه في الصباح ويبيعه هو في آخر النهار، وأنا إنما أريد أن أبيعه عليه من أجل أن ينتفع به ويسكنه، فأقول له: لا أبيعك هذا البيت إلا بشرط أن لا تبيعه، فيلتزم بهذا، فهذا من مصلحة العاقد (المشتري).

مثال مصلحة المعقود عليه: عندي عبد له منزلة عالية فجاءني شخص أثق به وآمنه على هذا العبد فقال: بعني عبدك، فقلت: أبيعك بشرط أن لا تبيعه؛ لأنني أخشى إذا باع عبدي على إنسان غشيم يظلمه ويذله، فقلت: نعم أبيعك عبدي بشرط أن لا تبيعه، فالمصلحة هنا تعود على العبد المعقود عليه.

والصحيح ـ أيضاً ـ في الصورة الثانية أنها جائزة؛ لأنه قد يكون شخص معروفاً بالشر والفساد وعندي عبد، فجاء شخص ثقة أمين، فقلت: لا بأس أبيع عليك العبد لكن بشرط أن لا تبيعه على فلان خاصة، فهذا من مصلحة المعقود عليه.

كذلك عندي ـ مثلاً ـ بعير، فأقول: أبيعك هذه البعير بشرط أن لا تبيعها لفلان؛ لأنه معروف أنه لا يرحم البهائم، يحملها ما لا تطيق ويضربها على غير خطأ، ويجيعُها ويجعلها في العراء في البرد، فأقول: بشرط أن لا تبيعها على فلان، خوفاً من أن يسيء لهذه البهيمة، فالصحيح أنه يجوز، لأن فيه مصلحة المعقود عليه.

ص: 244

قوله: «ولا يهبه» والهبة هي التبرع بالمال بدون عوض في حال الحياة، فإنه لا يصح الشرط.

مثاله: أن يقول: أبيعك هذا المتاع بشرط ألا تهبه لأحد، أو ألا تتصدق به على أحد، فلا يصح؛ لأن هذا ليس فيه مصلحة للبائع، وإنما هو مجرد تحجير على المشتري، فلا يصح؛ لأنه يخالف مقتضى العقد.

فإن قيل: ما الفرق بين الهبة وبين البيع، إذا شرط ألا يبيع فهو صحيح، وإذا شرط ألا يهبه فهو غير صحيح؟

قلنا: لا فرق، ولهذا نقول: القول الصحيح أنه إذا شرط عليه ألا يهبه ففيه تفصيل:

إذا كان له غرض مقصود فلا بأس، وإن لم يكن له غرض مقصود فإنه لا يصح هذا الشرط؛ لأنه تحجير على المشتري.

فإذا قال قائل: هو تحجير على المشتري بكل حال؛ لأنه إذا لم يهبه والتزم بالشرط أمكنه أن يخرجه عن ملكه بالبيع مثلاً.

قلنا: وكذلك نقول في البيع، ما دمنا نعرف أن البائع قصد باشتراط ألا يهبه ألا يخرجه من ملكه، فسواء جاء بلفظ الهبة أو جاء بلفظ البيع أو بغير ذلك؛ لأن الأمور بمقاصدها.

قوله: «ولا يعتقه» فالشرط فاسد والعقد صحيح؛ لأنه ينافي مقتضى العقد، إذ مقتضى العقد أن يتصرف المشتري تصرفاً تاماً.

فإن قال قائل: هل يمكن أن يكون للبائع غرض في اشتراط عدم العتق؟

نقول: ربما يكون له غرض، مثل أن يكون هذا العبد لا

ص: 245

يتمكن من الكسب، فيشترط ألا يعتقه لئلا يهمله، وربما يشترط ألا يعتقه؛ لأنه لو عتق صار حرّاً وتصرف كيف شاء، وربما يؤدي تصرفه هذا إلى الفسوق والفجور، أو الذهاب إلى الكفار ـ أيضاً ـ إذا كان أسيراً من قبل وما أشبه ذلك.

فالمهم أن الذي يترجح أنه إذا كان له غرض صحيح فإن الشرط صحيح، وغاية ما فيه أنه يمنع المشتري من بعض التصرف الذي جعله الشارع له، وهو ـ أي: المشتري ـ يسقطه باختياره، فكان الأمر إليه.

قوله: «أو إن أعتق فالولاء له» أي للبائع، فإن الشرط لا يصح، أي: أن البائع باع العبد على إنسان، وشرط عليه إن أعتقه أن يكون الولاء له، أي: للبائع، فهنا العقد صحيح، والشرط غير صحيح.

والدليل على ذلك: حديث عائشة رضي الله عنها في قصة بَريرة، أن بريرة كاتبها أهلها فجاءت تستعين عائشة، فقالت: إن أحبوا أن أنقدها لهم، ويكون ولاؤك لي فعلت، فذهبت بريرة إلى أهلها، وقالوا: لا، الولاء لنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«خذيها واشترطي لهم الولاء» ففعلت، ثم قام خطيباً في الناس فقال:«ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله، ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن شرط مائة مرة، قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق»

(1)

. فأجاز البيع، ولم يجز الشرط.

فما هو الولاء؟.

(1)

سبق تخريجه ص (189).

ص: 246

الولاء معناه أن الإنسان إذا أعتق عبداً صار كأنه من أقاربه، كما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«الولاء لُحْمَة كلُحْمَة النسب»

(1)

، أي: التحام بين السيد والعتيق كالتحام النسب، فيرثه المعتِق إذا لم يكن له وارث من النسب، حتى إنه إذا هلك هالك عن بنت أخ شقيق، وعن معتِق، فالمال للمعتِق مع أن الميت عمها، لكنها هي ليست بذي فرض ولا عصبة، فيكون المال للسيد المعتق، فالولاء في الواقع لحمة كلحمة النسب يثبت به ما يثبت بالنسب من جهة الميراث، والولاية، وما أشبه ذلك عند عدم عاصب النسب، لكنه ليس كالنسب في ثبوت المحرمية، ولذلك أعتق النبي صلى الله عليه وسلم صفية وجعل عتقها صداقها وتزوجها

(2)

.

‌أوْ أن يَفْعَلَ ذَلِكَ بَطَلَ الشَّرْطُ وَحْدَهُ إِلاَّ إِذَا شَرَطَ العِتْقَ وَبِعْتُكَ عَلَى أَنْ تَنْقُدَنِي الثَّمَنَ إِلَى ثَلَاثٍ وَإِلاَّ فَلَا بَيْعَ بَيْنَنَا صح، وَبِعْتُكَ إِنْ جِئْتَنِي بِكَذَا، أو رَضِي زَيْدٌ أَوْ يَقُولَ لِلْمرتَهِنِ: إِنْ جِئْتُكَ بِحَقِّكَ وَإلاَّ فَالرَّهْنُ لَكَ، لَا يَصِحُّ البَيْعُ .......

قوله: «أو أن يفعل ذلك بطل الشرط وحده» «ذلك» المشار إليه أن يبيع أو يهب أو يعتق، بأن يقول: بعتك هذا العبد بكذا وكذا بشرط أن تبيعه على فلان، فهنا لا يصح الشرط؛ لأن مقتضى العقد أن المشتري حر، يتصرف إن شاء باع، وإن شاء لم يبع، فهل يمكن أن نقول كما قلنا في الأول: إذا كان هناك غرض صحيح للبائع فلا بأس؟

(1)

أخرجه الشافعي في «المسند» (237)؛ وابن حبان (4950) إحسان؛ والحاكم (4/ 341)؛ والبيهقي (10/ 292) عن ابن عمر رضي الله عنهما، وله شواهد تقويه، وقد صححه ابن التركماني في «الجوهر النقي» (10/ 292)؛ والحافظ في «التلخيص» (2151)؛ والألباني في «الإرواء» (5/ 109).

(2)

أخرجه البخاري في صلاة الخوف/ باب التكبير والغلس بالصبح (947)؛ ومسلم في النكاح/ باب فضيلة إعتاقه أمته ثم يتزوجها (1365)(85) عن أنس رضي الله عنه.

ص: 247

الجواب: إذا أمكن أن يوجد غرض صحيح فلا بأس؛ لأن الحق في التصرف للمشتري فإذا أسقطه فهو حقه، لكن يبقى النظر هل هناك غرض صحيح يقابل إسقاط المشتري للتصرف؟

ربما يكون ذلك، مثل أن يكون عندي عبد وأعرف أن فلاناً لا يشتريه مني أبداً، إما رأفة بي أو لغير ذلك، فبعته على آخر، وقلت: بشرط أن تبيعه على فلان فهذا غرض صحيح؛ لأني أحب أن أبر فلاناً به، لكني أعلم أنه لو جاء من طريقي فإنه لا يقبل، فإذا جاء من طريق آخر فربما يقبل.

فإذا كان هناك غرض صحيح، فالصواب أنه لا بأس أن يشترط البائع على المشتري أن يبيعه، لكن الغرض الصحيح هنا لا بد أن يكون لشخص معين لا في البيع مطلقاً، وكذلك إذا شرط أن يهبه، نقول: هذا الشرط فاسد.

لو قلت: بعتك هذا الشيء بشرط أن توقفه على الغزاة في سبيل الله، فلا يصح على المذهب، ولكن ذكروا أثراً عن عثمان رضي الله عنه أنه اشترى من صهيب رضي الله عنه أرضاً واشترط عليه صهيب وقفها

(1)

، ومقتضى هذا جواز شرط وقف المبيع؛ لأن في ذلك مصلحة، مصلحة لي أنا ومصلحة لك، أما لي فلأن ذلك من التعاون على البر والتقوى، وأما لك فلأن الأجر سيكون لك، وهذا قد يكون خيراً لك من الدنيا، فالصحيح في هذه المسألة أنه إذا شرط أن يوجهه إلى شيء فيه خير فإنه لا بأس به ولا حرج.

(1)

لم نقف عليه.

ص: 248

قوله: «إلا إذا شرط العتق» فيستثنى، فإذا باع العبد على شخص وقال: بشرط أن تعتقه فوافق، فإن البيع والشرط صحيح؛ لأن الشارع له تشوف إلى العتق، ورغب فيه، ولأن الشراء يراد للعتق، فمن عليه كفارة يشتري عبداً ليعتقه، فلا يكون ذلك مخالفاً لمقصود العقد.

فإن قال قائل: لماذا يشترط على المشتري العتق ولم يعتقه هو بنفسه؟

قلنا: إن البائع محتاج للدراهم مثلاً، ومعلوم أنه إذا باعه بشرط العتق، فسوف ينقص الثمن إذا التزم بهذا الشرط، فيكون في هذا مصلحة للبائع، وهو قضاء حاجته بالدراهم، ومصلحة للمشتري وهو نقص الثمن؛ لأنه سوف ينقص بلا شك، وفيه أيضاً مصلحة وهو أن له الولاء؛ لأن المشتري هو الذي يُباشر العتق فيكون الولاء له.

وقوله: «إلا إذا شرط العتق» أي: إذا اشتراه المشتري وقد شُرط عليه العتق، ولكنه صار يماطل وفي النهاية أبى، فيقول الشارح: إنه يجبر المشتري على أن يعتق؛ لأنه مشروط عليه

(1)

.

قوله: «وبعتك على أن تنقدني الثمن إلى ثلاث وإلا فلا بيع بيننا صح» أي: على أن تعطيني الثمن قبل ثلاثة أيام، وإلا فلا بيع بيننا، فالشرط صحيح؛ لأن التعليق هنا تعليق للفسخ، وليس

ص: 249

تعليقاً للعقد فجاز التعليق؛ لأن الفسخ أوسع من العقد، فلهذا جاز تعليقه بخلاف العقد، ولأن فيه مصلحة للبائع إذا خشي المماطلة، ولا يخالف شرعاً.

قوله: «وبعتك إن جئتني بكذا أو رضي زيد» قال: بع علي هذا البيت، فقلت: بعتك إن أحضرت لي كذا وكذا غير الثمن، فهنا لا يصح؛ لأنه بيع معلق، ومن شرط البيع التنجيز، فالبيع المعلق لا يصح، وكذلك إذا قال: إن رضي زيد، فإنه لا يصح.

مثاله: قال: بعتك هذه السيارة إن رضي أبي، فقال: اشتريت، فالبيع هنا ليس بصحيح؛ لأنه بيع معلق، والبيع من شرطه أن يكون منجزاً، إذاً ماذا نصنع لو وقع العقد على هذه الصفة؟

نقول: لو وقع على هذه الصفة، فإنه يعاد بعد رضا زيد، فإذا رضي زيد فنقول: أعد العقد، لكن هل يترتب على هذا شيء؟

الجواب: نعم، فلو قلنا: بصحة العقد الأول، لكان النماء والكسب فيما بين العقد والرضا للمشتري، وإذا قلنا: لا بد من عقد جديد فالنماء فيما بين العقد والرضا للبائع، إذاً فبينهما فرق.

والصحيح: أن البيع المعلق جائز، وأنه لا بأس أن يقول: بعتك إن جئتني بكذا، لكن يجب أن يحدد أجلاً أعلى، فيقول: إن جئتني بكذا في خلال ثلاثة أيام مثلاً أو يومين أو عشرة أيام؛ لئلا يبقى البيع معلقاً دائماً، إذ قد لا يتيسر أن يأتي

ص: 250

بذلك في يوم أو يومين، مع أنه كان يظن أنه يتمكن من ذلك، ولكن قد لا يتمكن، لأنه إذا بقي معلقاً هكذا إن جئتني بكذا، ربما لا يأتيه إلا بعد مدة طويلة لا يتوقعانها، فإذا حُدد أجل فالصحيح أن البيع جائز؛ لأنه قد تمت فيه الشروط، وانتفت الموانع.

وقوله: «أو رضي زيد» الصحيح ـ أيضاً ـ أنه جائز، لكن ـ أيضاً ـ لا بد من تحديد المدة؛ لئلا يماطل المشتري في ذلك فيحصل الضرر على البائع.

وعلى القول بالصحة متى ينتقل الملك هل هو بالعقد أو بوجود الشرط؟ يحتمل وجهين:

الأول: أنه بالعقد، لأنه يقول: إن رضي زيد، أي: فالعقد هذا صحيح.

الثاني: يحتمل إن رضي زيد فقد تم العقد.

والظاهر الأول: أن الملك يثبت بالعقد الأول؛ لأن هذا عقد تام. لكن لزومه معلق على شرط، فإذا حصل الشرط تبين صحة العقد.

قوله: «أو يقول للمرتهن: إن جئتك بحقك» أي في وقت الحلول.

قوله: «وإلا فالرهن لك» فإنه «لا يصح البيع» وهل عندنا بيع؟ نعم: وهو قوله: «فالرهن لك» فهذا بيع؛ لأنه لا يشترط صيغة معينة للإيجاب، بل ما دل على الإيجاب تم به البيع.

ص: 251

مثال ذلك: شخص اشترى من آخر مائة صاع بر، وأعطاه ساعة تساوي مائة ريال، فقال: إن جئتك بحقك في الوقت الذي حددناه، وإلا فالساعة لك، أو إن جئتك بحقك في خلال يومين، وإلا فالساعة لك، ولم يأت بحقه في هذه المدة، فتكون الساعة للبائع، وهذا في الواقع بيع معلق فنقول: لا يصح؛ لأنه بيع معلق، والبيع المعلق لا يصح.

لو قال قائل: أليس الأصل في المعاملات الحل؟ قلنا: بلى، ولهذا كان القول الراجح أنه يصح أن يعطي البائع رهناً، ويقول: إن جئتك بحقك، أي: بالثمن في خلال ثلاثة أيام، وإلا فالرهن لك؛ لأن فيه مصلحة للطرفين، ولأنه شرط لا ينافي مقتضى العقد، وعلى المذهب إذا تمت المدة لم يملك البائع الرهن بل يبقى رهناً عنده، وعلى القول بصحة الشرط فإن البائع يملك الرهن، لكن إذا تأخر المشتري عن وقت الحلول بأمر قهري، وكان ثمن الرهن أضعاف أضعاف ما رهنه به، فهنا نقول: بأنه لا يصح العقد، أو نقول: بالصحة؛ لكن نقول: للمشتري الخيار؛ لأنه مغبون.

وهذا القول، أي: الراجح، رواية عن الإمام أحمد فإنه قد اشترى من بقّال حاجة ورهنه نعليه، وقال له: إن جئتك بحقك في وقت كذا وإلا فهما لك، فتكون رواية ثانية عن الإمام أحمد رحمه الله أن هذه المسألة جائزة.

فإن قال قائل: ما هو الدليل على أن هذا لا يصح؟

ص: 252

قلنا: لأنه بيع معلق؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يَغْلَقُ الرهن من صاحبه»

(1)

، أي: لا يؤخذ على سبيل الغلبة من صاحبه.

فيقال: أما هذا الحديث فلا دليل فيه؛ لأن الرهن هنا لم يؤخذ على سبيل الغلبة؛ بل على سبيل الاختيار، والمشتري هو الذي اختار هذا، وأما غلق الرهن من صاحبه، فمعناه أنه لا يحل للمرتهن إذا حل الأجل أن يأخذ الرهن قهراً على الراهن، أما إذا كان باختياره فلا إغلاق فيه، وأما التعليل بأنه بيع معلق فلا يصح فإنه غير مسلم، والقاعدة على المذهب أن كل بيع معلق على شرط فإنه لا يصح، إلا أنهم استثنوا من ذلك عقود الولايات والوكالات فإنه جائز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحاب غزوة مؤتة:«أميركم زيد، فإن قتل فجعفر، فإن قتل فعبد الله بن رواحة»

(2)

، فعلق الولاية بالشرط، فقالوا: كل الولايات التي

(1)

أخرجه الشافعي في «المسند» (2/ 164)؛ وابن ماجه في الرهون/ باب لا يغلق الرهن (2441)؛ وابن حبان (5934) إحسان؛ والدارقطني (3/ 32)؛ والحاكم (2/ 51)؛ والبيهقي (6/ 39) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه ابن حبان والدارقطني والحاكم على شرط الشيخين ووافقه الذهبي.

وأخرجه مالك في «الموطأ» (2/ 728)؛ والشافعي (2/ 163) ومن طريقه البيهقي (6/ 39)؛ وعبد الرزاق (15034)؛ وأبو داود في المراسيل (186، 187) عن الزهري عن سعيد مرسلاً قال البيهقي: «وهو المحفوظ» ، ورجحه ابن عبد الهادي في المحرر (892) وقال ابن عبد البر في التمهيد (6/ 430):«وهذا الحديث عند أهل العلم بالنقل مرسل وإن كان قد وصل من جهات كثيرة فإنهم يعللونها» ، وانظر:«بيان الوهم والإيهام» لابن القطان (2334)؛ و «نصب الراية» (4/ 320)؛ و «التلخيص» (1232).

(2)

أخرجه البخاري في المغازي/ باب غزوة مؤتة من أرض الشام (4261) عن ابن عمر رضي الله عنه.

ص: 253

يكون الإنسان فيها نائباً عن غيره يجوز تعليقها مثل الوكالة، وأما بقية العقود المحضة، فالأصل فيها عدم جواز التعليق.

والصحيح أنه يصح وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، إذا كان المعلق عليه أمراً ممكناً معلوماً، وقولنا:«ممكناً» يعني شرعاً وقدراً؛ لأن ذلك فيه مصلحة، وكوننا نفرق بين عقد وعقد فهذا تناقض، إلا بدليل واضح يقتضي التفريق، بل كوننا نفرق بين العقد والفسخ لا دليل عليه؛ لأن الأصل أنه إذا جاز تعليق الفسخ جاز تعليق العقد، إلا أنهم استثنوا من هذه القاعدة مسألتين:

الأولى: أن يعلقه بالمشيئة، فيقول: بعتك هذا بكذا ـ إن شاء الله ـ فالبيع صحيح؛ وذلك لأن تعليقه بالمشيئة، ثم وقوعه يدل على أن الله شاءه؛ لأن الله لو لم يشأه لم يقع.

الثانية: بيع العَرَبون وهو معروف عندنا ويسمى العُربون، وهو أن يعطي المشتري البائع شيئاً من الثمن، ويقول: إن تم البيع فهذا أول الثمن، وإن لم يتم فالعربون لك.

فإن قيل: كيف تصححون هذا، والبائع أخذ شيئاً بغير مقابل؟

فالجواب: أولاً: أن نقول: إنه أخذ هذا باختيار المشتري.

ثانياً: أن فيه مقابلاً؛ لأن السلعة إذا ردت نقصت قيمتها في أعين الناس، فمثلاً إذا قيل: هذا الرجل اشترى هذه السيارة بخمسين ألفاً وأعطاه خمسمائة ريال عربوناً، ثم جاء للبائع وقال:

ص: 254

أنا لا أريدها، فإن الناس سيقولون: لولا أن فيها عيباً ما ردها فتنقص القيمة، وقد روي عن عمر رضي الله عنه

(1)

.

‌وَإِنْ بَاعَهُ وَشَرَطَ البَرَاءَةَ مِنْ كُلِ عَيْبٍ مَجْهُولٍ لَمْ يَبْرَأ وَإِنْ بَاعَهُ دَارَاً عَلَى أنَّها عَشَرَةُ أذْرُعٍ فَبَانَتْ أَكْثَرَ أوْ أَقَلَّ صَحَّ، وَلَمِنْ جَهِلَهُ وَفَاتَ غَرَضُهُ الخِيَارُ.

قوله: «وإن باعه وشرط البراءة من كل عيب مجهول لم يبرأ» أي باع عليه شيئاً لأن (باع) تتعدى بنفسها وتتعدى بـ (على) تارة وبـ (مِنْ) تارة، فهنا «باعه» أي: إن باعه شيئاً، فالمفعول محذوف، وقال: بشرط أن أبرأ من كل عيب مجهول، فقال المشتري: نعم أنت بريء، فإن هذا الشرط لا يصح، فإذا وجد المشتري به عيباً فله الرد.

فإن قال البائع: هذا شرط عليك أن تصبر على كل عيب فيها.

فنقول: هذا شرط غير صحيح؛ لأن الرد بالعيب لا يثبت إلا بعد العقد، وهذا شَرَطَه مع العقد فلا يصح.

مثاله: باع عليه السيارة بشرط أن يبرئه من كل عيب، قال المشتري: أبرأتك، فالشرط هنا غير صحيح، فإذا وجد المشتري بها عيباً ردَّها، فإن قيل: أليس قد أبرأه؟

نقول: أبرأه قبل أن يثبت له حق الرد؛ لأن حق الرد إنما يثبت بعد العقد، فهي لم تدخل ملك المشتري.

فإن كان بعد العقد، فالبراءة صحيحة.

مثاله: اشتراها ثم أبرأه المشتري من كل عيب فتصح

(1)

أخرجه البخاري معلقاً في الخصومات/ باب الربط والحبس في الحرم، ووصله عبد الرزاق (9213)؛ وابن أبي شيبة (7/ 306)؛ والبيهقي (3416).

ص: 255

البراءة؛ لأنه الآن ملكها وملك ردها، وعليه فإن باعها وبعد البيع قال البائع: أنا أخشى أن يكون فيها عيوب، قال المشتري: أبرأتك من كل عيب، فالإبراء صحيح؛ لأنه الآن ملكها، وملك الرد بالعيب، فإن كان فيها عيب فقد أسقطه.

هذا هو التفصيل في هذه المسألة على المشهور من المذهب، وعلى هذا فالذين يبيعون في معارض السيارات، ويصوت ويقول: لا أبيع عليك إلا الكبوت بعشرين ألفاً، وهو لا يساوي هذا الثمن، لكن من أجل أن يبرأ، ويقول: ما تطالبني بشيء، فاشترى على هذا الشرط، فالشرط ملغى غير صحيح، فإذا وجد فيها عيباً فليردها.

أما لو كان الشرط بعد أن تمت البيعة، قال: أنا أخشى غداً أن تجد فيها عيباً، ثم تأتيني تقول: إن السيارة معيبة، فقال: أبرأتك؛ لأن المشتري الآن مقبل لا يهمه، ثم ذهب بها، وإذا فيها كل شيء، غير سليم، فلا يردها لأنه أبرأه بعد العقد.

ولكن الصحيح في هذه المسألة ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية:

وهو: إن كان البائع عالماً بالعيب فللمشتري الرد بكل حال، سواء شرط مع العقد، أو قبل العقد، أو بعد العقد.

وإن كان غير عالم فالشرط صحيح، سواء شرط قبل العقد، أو مع العقد، أو بعد العقد.

وما ذهب إليه شيخ الإسلام هو الصحيح، وهو المروي عن

ص: 256

الصحابة رضي الله عنهم

(1)

، وهو الذي يمكن أن تمشي أحوال الناس عليه؛ لأنه إذا كان عالماً بالعيب، فهو غاش خادع، فيعامل بنقيض قصده، بخلاف ما إذا كان جاهلاً، كما لو ملك السيارة قريباً، ولا يدري بالعيوب التي فيها وباعها واشترط البراءة، فالشرط صحيح.

قوله: «وإن باعه داراً» أو نحوها مما يذرع كالأرض.

قوله: «على أنها عشرة أذرع فبانت أكثر» فالبيع صحيح.

قوله: «أو أقل صح» أي: وإن بانت أقل فالبيع ـ أيضاً ـ صحيح، لكن إذا بانت أكثر، فالزيادة تكون للبائع؛ لأنه باعها على صفة معينة، وهي أنها عشرة أذرع فبانت خمسة عشر ذراعاً، فنقول: الزيادة للبائع فخذ من الخمسة عشر ذراعاً عشرة، وأعط البائع خمسة.

وكذلك إذا بانت أقل بأن باعها على أنها عشرون ذراعاً فبانت خمسة عشر، فالبيع صحيح، والنقص على البائع، فيسقط من الثمن بمقدار ما نقص من الأذرع، والذي نقص إذا باعها على أنها عشرون فبانت خمسة عشر هو ربع الثمن، فالزيادة للبائع، والنقص على البائع.

قوله: «ولمن جهله وفات غرضه الخيار» أي: جهل المقدار،

(1)

كعثمان وابن عمر رضي الله عنهم، «الموطأ» (2/ 613)؛ و «سنن البيهقي» (5/ 328).

ص: 257

وفات غرضه له الخيار، فاشترط المؤلف شرطين في ثبوت الخيار للمغبون.

مثال ذلك: اشترى إنسان هذه الأرض على أنها مائة متر، فتبين أنها تسعون متراً، فنقول: البيع صحيح؛ لأنه وقع على شيء معين معلوم بالمشاهدة، والتقدير اختلف، والتقدير يحاسب من عليه النقص بقدره، فإذا كان باعها بمائة ألف فينقص من الثمن عشرة آلاف، لكن إذا قال المشتري: أنا كنت أظن أن هذا التقدير صحيح، وقد خططت بأن أعمرها عمارة على هذه المساحة، والآن لما نقصت لا أريدها، فهل له الخيار؟

الجواب: نعم له الخيار؛ لأنه فات غرضه، فلما فات غرضه قلنا: لك الخيار.

فإن كان المشتري يعلم أنها تسعون متراً فإنه لا خيار له؛ لأنه دخل على بصيرة، وكان عليه أن يقول للبائع ـ حين قال: إنها مائة متر ـ: إن هذا غلط بل هي تسعون متراً.

إذاً شَرْطُ ملك الفسخ اثنان:

الأول: الجهل.

الثاني: فوات الغرض.

فإذا قال المشتري الذي اشتراها على أنها مائة متر، فبانت تسعون متراً: أنا أسمح بالعشرة، وقال البائع: أنا أريد أن أفسخ؛ لأنه تبين أن التقدير خطأ، فلا يملك البائع الفسخ؛ لأنه ليس له غرض الآن؛ لأنه باعها على أنها مائة متر، وتبين أنها أقل، وسومح بالناقص، فليس له غرض، إلا أنه أحياناً ربما تكون الأراضي قد زادت في هذه المدة، وأنها تساوي أكثر من مائة ألف،

ص: 258

وهي تسعون، فنقول: ليس لك أن تفسخ؛ لأنه لا ضرر عليك.

مثال آخر: اشتراها على أنها مائة متر فتبين أنها مائة وعشرون، فقال المشتري: أنا أريد أن أفسخ؛ لأنها تغيرت عما قُدِّرت به، فقال البائع: لك العشرون مجاناً لا تعطني إلا الثمن الذي اتفقنا عليه، فلا خيار للمشتري؛ لأنه لا ضرر عليه، فإذا قال المشتري: أنا قد قدرت أن أبني بيتاً قدره مائة متر، والآن صارت مائة وعشرين فتزيد عليّ المواد، وقيمة البناء؛ لأنه يلزم أن أوسع الحجر والغرف، فنقول له: اجعلها فسحة، فإذا قال: حتى لو جعلتها فسحة فيزيد عليَّ الجدار (السور)، نقول: اجعل الزائد مواقف أو شارعاً، إذاً ليس عليه ضرر.

والمؤلف اشترط أن يفوت غرضه، وهنا لا يفوت الغرض.

ولو تراضيا على النقص أو الزيادة جاز؛ لأن الحق لهما، فإذا تصالحا على إسقاطه، مثل: أن يقول: بعتها على أنها مائة متر فتبين أنها تسعون متراً وتصالحا بحيث قالا: يسقط من الثمن كذا وكذا، واتفقا على ذلك فلا بأس.

وفي «الروض»

(1)

صورة قد تكون مشابهة لها، ولكنها مخالفة لها في الحكم، قال:«وإن كان المبيع نحو صبرة، أي: كومة طعام، على أنها عشرة أقفزة فبانت أقل أو أكثر صح البيع ولا خيار، والزيادة للبائع والنقص عليه» .

أي: عنده كومة طعام، فقال: بعتك هذه الصبرة على أنها مائة كيلو فتبينت أقل من مائة، وأنها تسعون كيلو، فنقول: البيع صحيح

ص: 259

، وهذا كالأرض، لكن لا خيار للمشتري، ويجبر البائع على التكميل، وإن بانت أكثر، قال: بعتك هذه الكومة من الطعام على أنها مائة كيلو، فتبينت أنها مائة وعشرون كيلو، فالبيع صحيح والزيادة للبائع.

فإذا قال المشتري: إذا أخذ الزيادة فأنا لي الخيار، يقول الشارح:«إنه لا خيار له» .

ولو قال البائع: أنا لي الخيار بين أخذ الزيادة وبين فسخ البيع، نقول: ليس لك الخيار أصلاً، الزيادة لك فخذها.

لكن ما هو الفرق؟ نقول: الفرق أن الأرض لا يمكن الزيادة فيها ولا النقص، أي: لو باعها على أنها مائة متر فتبين أنها تسعون متراً، فلا يمكن أن يأتي بمتر يضيفه إلى هذه التسعين، لكن الصبرة من الطعام يمكن أن يأتي بطعام آخر من جنس هذا الطعام، ويكمل الناقص، وكذلك فيما إذا زاد.

لكن ينبغي أن يقال: إذا تبين أنها زائدة عن المقدر، وكان للمشتري غرض في نفس الصبرة، أي: هو مقدر أن هذه الصبرة تكفي الضيوف الذين عنده، فإذا كان البائع يريد أن يأخذ الزيادة، فهي في نظره لا تكفي الضيوف.

فنقول: إن هذا قد فات غرضه فله الخيار، ومقتضى القاعدة السابقة أن من فات غرضه له الخيار؛ لأنها نقصت، إلا إذا قال البائع للمشتري: أنا أكمل لك مائة الكيلو من جنس هذا الطعام، فهنا لا خيار للمشتري؛ لأن غرضه لم يفت، لكن إن قدر أنه فات غرضه بأن تأخر البائع عن التكميل أو أتى بطعام دون الطعام الذي وقع عليه العقد فهنا يكون للمشتري الخيار.

ص: 260

‌بَابُ الخِيارُ

‌وَهُوَ أَقْسَامٌ: الأوَّلُ خِيَارُ المَجْلِسِ.

قوله: «باب الخيار» .

الخيار اسم مصدر، وفعله اختار، ولا نقول: إنه مصدر؛ لأن مصدر اختار اختيار، وكل كلمة تدل على معنى المصدر، ولكنها لا تتضمن حروف الفعل فإنها تسمى اسم مصدر، مثل كلام اسم مصدر لتكليم، وسلام اسم مصدر لتسليم، وسبحان اسم مصدر لتسبيح، وهلم جرّاً.

والخيار هو الأخذ بخير الأمرين، يقال: اختار، أي: أخذ بخير الأمرين فيما يرى، وإن كان بعضهم يقول: طلب خير الأمرين، إلا أن قولنا: الأخذ بخير الأمرين، هو الأولى؛ لأنه قد لا يكون طالب ومطلوب.

والخيار هنا الأخذ بخير الأمرين من الإمضاء أو الفسخ، سواء كان للبائع أو للمشتري.

قوله: «وهو أقسام» أي: أقسام سبعة، وحصرت الأقسام بسبعة بناءً على التتبع والاستقراء، أي: أن أهل العلم تتبعوا النصوص الواردة في الخيار، فوجدوا أنها لا تخرج عن سبعة أو أنهم رأوا أنهم حصروها في هذا الباب بسبعة، وإن كانت هناك أشياء فيها الخيار لم تذكر في هذا الباب، ومنها آخر مسألة في الفصل الذي قبل هذا، فإنها لم تذكر في باب الخيار.

ص: 261

قوله: «الأول: خيار المجلس» الإضافة من باب إضافة الشيء إلى مكانه والمجلس موضع الجلوس، والمراد به هنا: مكان التبايع، حتى لو وقع العقد وهما قائمان، أو وقع العقد وهما مضطجعان، فإن الخيار يكون لهما وهو خيار مجلس؛ لأن المراد بالمجلس مكان التبايع، لا خصوص الجلوس.

‌يَثْبُتُ فِي الَبيْعِ والصُّلْحِ بِمَعْنَاهُ، وَإِجَارَةٍ، والصَّرْفِ، والسَّلَمِ، دُونَ سَائِرِ العُقُودِ

قوله: «يثبت في البيع» أي: للبائع والمشتري.

ودليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «البيعان بالخيار ما لم يتفرَّقا»

(1)

. وقوله: «إذا تبايع الرجلان فكل واحد منها بالخيار ما لم يتفرقا وكانا جميعاً، أو يخير أحدهما الآخر، فإن خير أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع»

(2)

، «ما» مصدرية ظرفية يعني مدة عدم تفرقهما، وقوله:«وكانا جميعاً» تأكيد لعدم التفرق، وفيها فائدة وهي ما إذا تبايع رجلان بالهاتف فإنه في هذه الحال لا خيار، بمجرد ما يقول أحد: بعت والثاني يقول: اشتريت وجب البيع.

وقد أخذ بالحديث الأئمة الثلاثة، وأنه يثبت خيار المجلس، وقال مالك: إن المراد به التفرق بالأقوال، وأنه إذا تم العقد فلا خيار في المجلس؛ لأن التفرق بالأقوال يحصل بالقبول

(1)

أخرجه البخاري في البيوع/ باب إذا بيّن البيعان ولم يكتما (2079)؛ ومسلم في البيوع/ باب الصدق في البيع (1532) عن حكيم بن حزام رضي الله عنه.

(2)

أخرجه البخاري في البيوع/ باب إذا خير أحدهما صاحبه (2112)، ومسلم في البيوع/ باب ثبوت خيار المجلس (1531)(44) عن ابن عمر رضي الله عنه.

ص: 262

بعد الإيجاب، والبيع من العقود اللازمة التي تلزم من حينها ولكن قوله رحمه الله ضعيف جداً، لأن حمله على التفرق بالأقوال يناقض الحديث؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال:«إذا تبايع الرجلان» ، والتبايع يتم بالإيجاب والقبول، ثم قوله:«ما لم يتفرقا وكانا جميعاً» ، المراد في المجلس.

فالصواب ما عليه الجمهور أن خيار المجلس ثابت ما دام المتعاقدان في المجلس.

والحكمة من خيار المجلس هي أن الإنسان قد يتعجل في بيع الشيء أو شرائه ويقع ذلك منه من غير تروٍّ، فيحتاج إلى أن يعطى هذه الفسحة، وإنما أعطي هذه الفسحة لأنه إذا وقع الشيء في ملك الإنسان فإن الرغبة التي كانت عنده قبل أن يتملكه تقل فجعل الشارع له الخيار، وهذا من حكمة الشارع، ولم يكن طويلاً لانتفاء الضرر.

قوله: «والصلح بمعناه» أي: يثبت الخيار في الصلح الذي بمعنى البيع، فالضمير في قوله:«بمعناه» يعود على البيع، وذلك أن الصلح قسمان، كما سيأتي في بابه، أحد القسمين ما كان بمعنى البيع، مثل أن يقر الإنسان لشخص بمائة صاع من البر، ثم يصالحه المقر له على هذه الأصواع بمائة درهم، فهذه مصالحة بمعنى البيع؛ لأنها معاوضة واضحة فيثبت به الخيار قياساً على البيع.

قوله: «وإجارةٍ» أي: وكذلك يثبت في الإجارة؛ لأن الإجارة بيع منافع، فالرجل إذا أجر آخر بيتاً سنة بمائة، فقد باع

ص: 263

عليه منافع هذا البيت، والدليل قوله صلى الله عليه وسلم:«إذا تبايع الرجلان»

(1)

ووجه دلالته على ذلك أن نقول: إن الإجارة إما أن تدخل في الحديث بالشمول اللفظي، أو تدخل في الحديث بالشمول المعنوي، فإن كانت الإجارة بيعاً فهي داخلة في الشمول اللفظي، وإن كانت بمعنى البيع وليست بيعاً فهي داخلة في العموم المعنوي، لأنه لا فرق بينها وبين البيع، كلاهما عقد معاوضة.

قوله: «والصرف» أي: ويثبت ـ أيضاً ـ في الصرف؛ لأن الصرف بيع، لكنه بيع خاص بالنقود، فبيع ذهب بفضة صرف، وبيع ذهب بحديد ليس بصرف، والعلماء رحمهم الله خصوا الصرف بباب وأحكام؛ لأنه يختلف عن غيره من أنواع المبيعات، ولذلك نصوا عليه بخصوصه، وإلا فهو من البيع، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء»

(2)

.

قوله: «والسلم» السلم يثبت به خيار المجلس، والسلم أن يسلم الإنسان إلى البائع دراهم مع تأجيل السلعة، مثل أن يقول: الرجل للفلاح أريد أن أشتري منك ثمراً بعد سنة أو سنتين بألف درهم، وهذه ألف الدرهم، هذا يسمى سلماً، ويسمى سلفاً، وكلاهما صحيح، أما تسميته سلماً؛ فلأن المشتري أسلم الثمن، وأما تسميته سلفاً؛ فلأنه قدم، والسلف بمعنى المقدم، ومنه قولنا: السلف الصالح؛ لأنهم متقدمون، فالسلم يثبت فيه خيار

(1)

سبق تخريجه ص (262).

(2)

أخرجه البخاري في البيوع/ باب ما يذكر في بيع الطعام والحكرة (2134) ومسلم في البيوع/ باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقداً (1586) عن عمر رضي الله عنه.

ص: 264

المجلس، لأنه بيع، وإن كان له أحكام خاصة فيدخل في قوله صلى الله عليه وسلم:«إذا تبايع الرجلان» ، فكل واحد منهما بالخيار.

قوله: «دون سائر العقود» ؛ وذلك لأن الأصل أن العقد بمجرد انعقاده يترتب عليه مقتضاه، خولف في البيع لورود النص فيه فيبقى ما عداه على الأصل، مثل: الرهن، والوقف، والهبة، والمساقاة، والحوالة، والعتق، والنكاح، وما أشبه ذلك، فهذه ليس فيها خيار مجلس؛ وذلك لأن هذه العقود لا تخلو من حالين:

الأولى: أن تكون من العقود الجائزة، فهذه جوازها يغني عن قولنا إن فيها الخيار؛ لأن العقد الجائز يجوز فسخه حتى بعد التفرق، سواء في مجلس العقد أو بعده.

الثانية: أن تكون من العقود النافذة، التي لقوة نفوذها لا يمكن أن يكون فيها خيار، مثل العتق والوقف.

أما المساقاة: فقيل إنها عقد جائز، وعلى هذا فلا خيار فيها؛ لأن المتساقين كل منهما له أن يفسخ.

والمساقاة أن يدفع الإنسان بستانه لشخص فلاح عامل، ويقول: خذ هذا اعمل فيه ولك نصف ثمره، فالمشهور من المذهب أنها عقد جائز، فللعامل أن يفسخ، ولصاحب البستان أن يفسخ، إذاً لا حاجة أن نقول: له خيار مجلس؛ لأن الخيار ثابت، سواء كانوا في مجلس العقد أو بعده، وعلى هذا يمكن أن نأخذ من ذلك قاعدة وهي أن كل عقد جائز فليس فيه خيار المجلس، لأنه يستغنى بجوازه عن الخيار، ما دام أن الإنسان يملك أن يفسخ هذا العقد ولو بعد التفرق فلا حاجة أن نقول: فيه خيار مجلس.

ص: 265

والرهن وهو عقد لازم من أحد الطرفين، وجائز من أحد الطرفين، فمن له الحق، فهو في حقه جائز، ومن عليه الحق فهو في حقه لازم.

مثاله: استقرضت من شخص مالاً فطلب مني رهناً فأعطيته كتاباً، فهذا الرهن من قبلي أنا لازم، ومن قبل صاحب الحق جائز؛ لأن له أن يفسخ الرهن، ويقول: خذ كتابك، ويبقى الدين في ذمتي ديناً مرسلاً.

العتق: لو أعتق الإنسان عبده ثم أراد فسخه في نفس المجلس لم يصح؛ لقوة نفوذه، ومثله الوقف؛ لأن الوقف أخرجه الإنسان لله فلا خيار فيه، ومثله الهبة إذا قبضت لا خيار فيها؛ لأنها ليست عقد معاوضة.

‌وَلكُلٍّ مِنْ المُتَبَايِعَينِ الخِيَارُ مَا لَمْ يَتَفَرّقَا عُرْفاً بِأبْدَانِهِمَا وَإِنْ نَفَيَاهُ أَوْ أسْقَطَاهُ سَقَطَ وَإِنْ أسْقَطَهُ أحَدُهُمَا بَقِي خِيَارُ الآخَرِ،

......

قوله: «ولكل من المتبايعين» ، وهما البائع والمشتري، سُمِّيا متبايعين؛ لأن كل واحد منهما يمد باعه إلى الآخر لتسليم ما انتقل عنه، فالبائع يمد يده لتسليم المثمن، والمشتري يمد يده لتسليم الثمن واستلام ما آل إليه.

قوله: «الخيار ما لم يتفرقا عرفاً بأبدانهما» أي: لكل منهما الخيار ما لم يتفرقا، والدليل حديث ابن عمر رضي الله عنهما:«إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا»

(1)

، فإن تفرقا فلا خيار، ولكن بماذا يكون التفرق، هل هو محدود شرعاً؟

الجواب: يقول العلماء: إنه محدود عرفاً؛ لأن الشرع لم

(1)

سبق تخريجه ص (262).

ص: 266

يحدده، وكل شيء يأتي به الشرع من غير تحديد، فإنه يرجع فيه إلى العرف، كما قال الناظم:

وكل ما أتى ولم يحدد

بالشرع كالحرز فبالعرف احدد

(1)

ولهذا قال المؤلف: «ما لم يتفرقا عرفاً بأبدانهما» .

ولكن كيف التفرق عرفاً؟.

الجواب: ننظر، فإذا كانا يمشيان من الجامع إلى المعهد العلمي فباعه عند الجامع، وجعلا يمشيان إلى المعهد العلمي، وهذا المشي يستغرق ثلث ساعة على الأقل، فهذان الرجلان لهما الخيار حتى يتفرقا عند المعهد، فما داما يمشيان جميعاً مصطحبين فلهما الخيار.

وإذا كانا في حجرة وتبايعا، ثم خرج أحدهما من الحجرة إلى الحمام لقضاء الحاجة فقد تفرقا؛ لأن المجلس الأول انتهى.

وإذا كانا في الطيارة متجهين إلى محل بعيد، مقداره ثلاث عشرة ساعة وتبايعا عند إقلاعها، ولا تهبط إلا بعد ثلاث عشرة ساعة، فتكون مدة الخيار ثلاث عشرة ساعة ما داما لم يتفرقا، وحل هذه المشكلة أن يتبايعا على أن لا خيار، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث:«فإن خير أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع»

(2)

، ومعنى ذلك أن يسقطا الخيار، فيتبايعا على أن لا خيار، وأنه بمجرد الإيجاب والقبول يلزم البيع ولا خيار.

(1)

«منظومة أصول الفقه وقواعده» لشيخنا رحمه الله ص (3).

(2)

سبق تخريجه ص (262).

ص: 267

مسألة: فإن لم ينفياه في العقد، وبعد مضي عشر دقائق، قال: يا فلان فلنقطع الخيار؛ لأنه خاف أن يفسخ صاحبه البيع فقطعاه صح؛ لأن الحق لهما وقد أسقطاه، فإن أبى أحدهما لم يصح، لكن هل يسقط خيار الآخر الذي قال: سنسقط الخيار؟

الجواب: في الحديث «أو يخير أحدهما الآخر»

(1)

، فإن خير أحدهما الآخر، أي: جعل الخيار له وحده، سقط خيار الذي أسقط خياره، والظاهر أن طلب إسقاط الخيار ليس إسقاطاً للخيار.

مسألة: لو أنه خاف أن يفسخ البيع، فهل يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله؟

الجواب: في مفارقته المكان إسقاط لحق أخيه الذي جعله الشرع له، فيكون هذا كالتحيل على إسقاط الشفعة في الشقص المبيع، وما أشبه ذلك، وعلى كل حال هو تحيل على إسقاط حق أخيه.

فإن قال قائل: الحديث عام ما لم يتفرقا وليس فيه تفصيل.

قلنا: المراد التفرق الذي لم يقصد به إسقاط حق الآخر، فإن قصد به إسقاط حق الآخر فالأعمال بالنيات، ولهذا جاء في الحديث:«ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله»

(2)

.

(1)

سبق تخريجه ص (262).

(2)

أخرجه الإمام أحمد (2/ 183)؛ وأبو داود في البيوع/ باب في خيار المتبايعين (3456)؛ والترمذي في البيوع/ باب البيعان بالخيار ما لم يتفرقا (1247)؛ والنسائي في البيوع/ باب وجوب الخيار للمتبايعين قبل افتراقهما بأبدانهما (7/ 252)؛ عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.

وحسنه الترمذي، وفي «الإرواء» (5/ 155):(حسن).

ص: 268

قوله: «وإن نفياه» أي: نفيا الخيار قبل ثبوته، وكيفية النفي أن يتبايعا على أن لا خيار بينهما، فيقول: أنا سأبيع عليك، لكن لا خيار بيننا، فقال: لا بأس، فيسقط الخيار، ويقع العقد لازماً بمجرد الإيجاب والقبول.

قوله: «أو أسقطاه سقط» بعد ثبوته، أي: بعد أن تم العقد ومضى دقيقة أو دقيقتان أو عشر دقائق، اتفقا على إسقاط الخيار فإنه يسقط، والتعليل أن الحق لهما، فإذا رضيا بإسقاطه سقط.

فإن قال قائل: إن هذا الشرط يحرم ما أحل الله؛ لأن الله أحل لكل منهما الفسخ، فإذا شرطا أن لا خيار أو أسقطاه، فهذا تحريم ما أحل الله.

قلنا: هذا التحريم ليس لحق الله، بل لحق الآدمي، وحق الآدمي الأمر فيه إليه، فإذا أسقطاه بعد العقد أو نفياه مع العقد فلا بأس.

قوله: «وإن أسقطه أحدهما بقي خيار الآخر» أي: إذا تم العقد، وقال: أحدهما أسقطت خياري، أو طلب منه الآخر أن يسقط خياره فأسقطه، بقي خيار صاحبه، ويدل لذلك قوله صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما:«فإن خير أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع»

(1)

. فدل ذلك

(1)

سبق تخريجه ص (262).

ص: 269

على أنه يصح أن يسقط أحدهما الخيار عنه لصاحبه.

‌وَإِذَا مَضَتْ مُدَّتُه لَزِمَ البَيْعُ

‌الثّانِي: أنْ يَشْتَرِطَاهُ فِي العَقْدِ مُدَّةً مَعْلُومَةً وَلَو طَوِيْلَةً وابتِدَاؤُهَا مِن العَقْدِ.

قوله: «وإذا مضت مدته لزم البيع» عبارة المؤلف توهم أن خيار المجلس له مدة معينة إذا مضت بطل، ولكن هذا ليس مراداً للمؤلف، بل مراده إذا كان التفرق، ولو قال المؤلف رحمه الله: وإذا تفرقا لزم البيع، لكان أولى لموافقة الحديث لقوله:«وإن تفرقا بعد أن تبايعا ولم يترك واحد منهما البيع، فقد وجب البيع»

(1)

.

وقوله: «لزم البيع» أي: وقع لازماً، ليس لأحدهما فسخه إلا بسبب، وهذه المسألة مجمع عليها، ومستند الإجماع، قول النبي صلى الله عليه وسلم:«فقد وجب البيع» ، واللزوم هنا من الطرفين، أي: يلزم من جهة المشتري، ومن جهة البائع، وبهذا عرفنا أن البيع من العقود اللازمة.

والعقود ثلاثة أقسام:

الأول: لازمة من الطرفين.

الثاني: جائزة منهما.

الثالث: لازمة من أحدهما دون الآخر.

فاللازمة من الطرفين لا يمكن فسخها إلا برضاهما، أو بسبب شرعي آخر، مثل: البيع والإجارة.

والجائزة من الطرفين يجوز فسخها برضاهما أو بغير رضاهما، كالوكالة.

(1)

سبق تخريجه ص (262).

ص: 270

والجائزة من طرف واحد كالرهن، فهو جائز من قبل المرتهن، لازم من قبل الراهن؛ لأن الراهن لا يمكنه أن يفسخ الرهن، أما المرتهن فله أن يفسخه.

مسألة ذكرها العلماء: قالوا: إذا تولى واحد طرفي العقد فمتى يكون الخيار؟

يقولون: ليس فيه خيار؛ لأننا لو قلنا له الخيار بقي البيع جائزاً؛ لأنه لا يمكن أن يفارق الشخص نفسه.

مثاله: وكلتك أن تشتري لي كتاباً ووكلك آخر أن تبيعه له، فقلت: اشتريت الكتاب من فلان لفلان، فهنا تولى الوكيل طرفي العقد، والصحيح أن تولي طرفي العقد فيه الخيار ويكون المدار على مفارقة هذا الرجل للمكان الذي أمضى فيه البيع، فإذا قال الوكيل: اشتريت هذا الكتاب من فلان لفلان، ثم قام ومشى فالآن لزم البيع.

قوله: «الثاني» أي من أقسام الخيار.

قوله: «أن يشترطاه» «الثاني» : مبتدأ، وجملة «أن يشترطاه» ، «أن» وما دخلت عليه في تأويل المصدر خبر المبتدأ، فنفهم من قول المؤلف:«الثاني: أن يشترطاه» أن هذا القسم خيار شرط، أي: الأصل عدمه إلا إذا اشترط؛ لأن إضافته إلى الشرط من باب إضافة الشيء إلى سببه، فهذا خيار الشرط.

وقوله: «أن يشترطاه» الفاعل المتبايعان فلا بد أن يكون الشرط من البائع والمشتري، والمفعول به الهاء تعود على الخيار، وهذا القسم دل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «كل شرط ليس في كتاب الله

ص: 271

فهو باطل»

(1)

، فمفهوم هذا الحديث أن كل شرط في كتاب الله فهو صحيح، وقوله صلى الله عليه وسلم:«المسلمون على شروطهم»

(2)

، ويمكن أن يستدل له من القرآن في قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]، والأمر بالوفاء بالعقد أمر بالوفاء بالعقد وما يشترط فيه؛ لأن الشروط التي في العقد أوصاف في العقد.

قوله: «في العقد» في للظرفية، فيقتضي أن يكون هذا الشرط في نفس العقد، أي: في صلب العقد، وليس قبله وليس بعده، لكن تقييد ذلك في صلب العقد فيه نظر.

والقول الثاني: أنه يصح في صلب العقد، وفي زمن الخيارين؛ لأن حال الخيار كحال العقد.

والقول الثالث: أنه يصح قبل العقد وفي صلب العقد وفي زمن الخيارين؛ لأن الحق لهما، فإذا اشترطاه، ورضي كل واحد منهما بذلك فلا بأس، فلو قال: أنا أشتري منك البيت، لكن اجعل لي الخيار لمدة شهر، فقال: لا بأس، ثم قال: بعتك البيت بمائة ألف، فقال: قبلت، فهنا يصح الشرط؛ لأنه حق لهما وقد اتفقا عليه، وهذا مثل ما سبق في الشروط في البيع.

إذاً قول المؤلف: «في العقد» ، يقتضي أنه لا يصح شرطه قبل العقد ولا بعد العقد، وظاهره ولو في زمن خيار المجلس أو الشرط.

فلو اتفقا على الشرط قبل العقد ما صح؛ لأنه إضافة شرط قبل وجود السبب، والسبب هو العقد، ولا خيار بدون عقد، والشيء قبل وجود سببه ملغى ولا عبرة به، ولو اتفقا عليه بعد

(1)

سبق تخريجه ص (189).

(2)

سبق تخريجه ص (224).

ص: 272

انتهاء زمن الخيار ـ أيضاً ـ لا يصح؛ لأنه إلحاق شرط بعد اللزوم، واللازم لا ينقلب جائزاً، وهذا الشرط مخرج للعقد عن مقتضاه الشرعي فلا يصح.

والصحيح أنه يصح قبل العقد؛ لأننا نقول: العقد هنا مبني على اتفاق سابق، وأنتم تجوِّزون في باب النكاح لو اشترط الزوج على الزوجة شرطاً، أو الزوجة على الزوج شرطاً قبل العقد فإنه يصح، وكذلك في شروط البيع السابقة إذا شرطت قبل العقد، فإن فيها وجهاً قوياً بالصحة، وعلى هذا نقول: الخيار نوع من الشروط، ولا فرق، ما دمنا نحن متفقين عند العقد أن لكل واحد منا الخيار شهراً، ما الذي يبطل هذا؟! وقد قال الله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1].

كذلك ـ أيضاً ـ الخيار بعد اللزوم، فاللزوم بالتفرق ـ مثلاً ـ من حق المتعاقدين، فإذا رضيا بعد التفرق أن يجعلا أجلاً معيناً لكل منهما الخيار فهو من حقهما، مثل ما يجوز أن يجعلا هذا الخيار عند العقد، فما الذي يمنعه بعد لزومه وهو من حقهما؟! فالصواب في هذه المسألة أنهما إذا ألحقا شرط الخيار بعد لزوم البيع فلكل منهما الخيار، فإن قال قائل: هذا يقتضي أن يكون العقد اللازم جائزاً، وهذا ينافي حكم الشرع.

قلنا: المنافاة نوعان: منافاة مطلقة ومطلق منافاة، أما المنافاة المطلقة، فنعم لا تصح، وأما مطلق المنافاة فتصح، فهنا سيجعل عقد البيع جائزاً إلى مدة لا دائماً، أليس الرجل إذا اشترى شيئاً ملكه ومنافعه من حين العقد، ومع ذلك لو شرط

ص: 273

البائع منافع المبيع لمدة سنة فإنه يجوز، وهنا نافى مطلق العقد لا العقد المطلق، لأنه لو كان العقد على كماله وتمامه ما استحق البائع المنافع ولو يوماً واحداً، ثم هذا قد تدعو الحاجة إليه.

وكذلك يصح شرط الخيار مع العقد، وبعد العقد، وزمن الخيار، إما خيار الشرط وإما خيار المجلس، لكن كيف في خيار الشرط؟ الجواب: أن يدخل شرطاً على آخر، مثل: أن يقول: اشتريت منك هذا البيت ولي الخيار ثلاثة أيام، فلما صار اليوم الثالث، قال: أريد أن أمدد الخيار إلى ستة أيام فله ذلك؛ لأن العقد لم يلزم الآن، فلا يلزم إلا بعد انتهاء مدة الخيار.

قوله: «مدة معلومة ولو طويلة» علم من هذا أنه لا بد أن تكون المدة معلومة، بأن يقول: إلى دخول شهر رجب أو يوم كذا أو سنة كذا، لو قال إلى وقت الحصاد والجذاذ، فالمذهب أنه لا يصح؛ لأن الحصاد يختلف، فمن الناس من يحصد مبكراً، ومنهم من يحصد متأخراً، وكذلك الجذاذ ـ جذاذ النخيل ـ يختلف فلا يصح؛ لأنه غير معلوم، والقول الثاني يصح ويكون الحكم متعلقاً بغالبه أو بأوله والمسألة متقاربة، وهذا هو الصحيح.

وقوله: «مدة معلومة» يُخرج المدة المجهولة، واختار ابن القيم أنه تجوز المدة المجهولة إذا كان لها غاية مثل أن يقول: أبيعك هذا البيت ولكن لي الخيار حتى أشتري بيتاً، فهذا له غاية، ولكن وإن قلنا: إن هذا له وجه ينبغي أن يحدد أعلاه بأن يقول: لي الخيار حتى أشتري بيتاً ما لم يتجاوز الشهر مثلاً؛ دفعاً للمماطلة.

ص: 274

والمدة إذا كانت مجهولة دخل ذلك في الغرر، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع الغرر

(1)

؛ ولأن المدة المجهولة يحصل فيها نزاع وخصومة، وكل شروط أو عقود تستلزم ذلك فإنها ملغاة في الشرع.

فإن شرطاه إلى مدة مجهولة وتبايعا على ذلك، وقلنا: إن الخيار فاسد، فهل لمن فات غرضه الخيار؟

نعم، سبق لنا في باب الشروط في البيع أن كل شرط فاسد لا يفسد العقد، فإن من اشترطه له الخيار إذا فات عليه.

وقوله: «مدة معلومة ولو طويلة» أي لو فرض أنه جعل خيار الشرط لمدة شهر أو سنة أو سنتين فلا بأس.

فإن قال قائل: إن هذا الشرط ليس في كتاب الله، لأنه يستلزم أن يكون العقد اللازم عقداً جائزاً؛ لأنه لو كان مدة الخيار شهراً ـ مثلاً ـ فلكل منها أن يفسخ، فهذا يكون منافياً لمقتضى العقد فيكون باطلاً.

فالجواب: أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز للمتعاقدين إسقاط خيار المجلس، وفي إسقاط خيار المجلس تنقيص للمدة التي يكون العقد فيها جائزاً، وهذا فيه زيادة للمدة التي يكون العقد فيها جائزاً ولا فرق بين الزيادة والنقص، بل قد يقال: إن الزيادة أرفق بالمتعاقدين من قطع ما هو لهما.

وظاهر كلام المؤلف: حتى فيما يفسد قبل تمام المدة، مثل

(1)

سبق تخريجه ص (143).

ص: 275

أن يشتري منه بطيخاً، وقال: لي الخيار لمدة أسبوع فيصح، فإذا خيف فساده بيع، ثم إن أُمضي البيع فالقيمة للمشتري، وإن فسخ البيع فالقيمة للبائع، ويرجع المشتري بثمنه، هكذا قالوا.

ولكن لو قيل: إنه إذا شرط الخيار في شيء يفسد قبل تمام المدة لا يصح لكان له وجه؛ لأنه إذا بيع فإن كانت القيمة أكثر، فسوف يختار المشتري الإمضاء، وإن كانت أقل فسوف يختار الفسخ، وحينئذٍ يكون ضرر على أحد الطرفين.

قوله: «وابتداؤها من العقد» أي: ابتداء مدة الخيار من العقد؛ لأنها شرطت في العقد فيكون ابتداؤها من العقد، فإذا عقد في تمام الساعة الثانية عشرة عند زوال الشمس، وجعل الخيار يوماً فانتهاؤه عند الساعة الثانية عشرة من اليوم التالي.

فإن قيل: ألا يقال: ابتداؤها من التفرق؛ لأن ما قبل التفرق ثابت بالشرع لا بالشرط؟

فيقال: بل من العقد؛ لأنه لا يمنع أن يتوارد سببان على شيء واحد فيكون ما بين العقد والتفرق ثابتاً بالشرع والشرط، ولا مانع.

لكن إن قال: لي الخيار ثلاثة أيام بعد التفرق فحينئذٍ يكون ابتداؤه من التفرق، على أنه لو قال قائل: لي ثلاثة أيام من التفرق لا يصح؛ لأن التفرق أمده مجهول، فيكون الأمد الذي قيد ابتداؤه به مجهولاً، لكن مثل هذا يتسامح فيه، وغالباً أن التفرق يكون قريباً.

وقوله: «ابتداؤها من العقد» لو شرط الخيار بعد العقد

ص: 276

بساعة وهما في مكان البيع، فهل تبتدئ المدة من العقد أو من حين الشرط؟ نقول: من حين الشرط، لكن المؤلف قال:«من العقد» ؛ لأنه يرى أن خيار الشرط إنما يكون في صلب العقد، ولهذا قال:«وابتداؤها من العقد» .

‌وَإِذَا مَضَتْ مُدَّتُهُ أَوْ قَطَعاهُ بَطَلَ وَيَثْبُتُ فِي البَيْعِ والصُّلْحِ بِمَعْنَاهُ، وَالإجَارَةِ فِي الذّمّة، أو عَلَى مُدّةٍ لَا تَلِي الْعَقْدَ ..........

قوله: «وإذا مضت مدته» أي: مدة خيار الشرط.

قوله: «أو قطعاه بطل» «بطل» جواب الشرط للمسألتين كلتيهما، أي: المسألة الأولى «إذا مضت مدته» ، والمسألة الثانية «إذا قطعاه» ، ولا يصح أن نقول: إذا مضت مدته بطل؛ لأنه تمت المدة ومضت على أنها صحيحة، فلو قال: إذا مضت مدته لزم البيع، وإن قطعاه بطل لكان أحسن؛ لأن بطلانه بعد تمامه لا وجه له، لكن قد يعتذر عن المؤلف رحمه الله بأنه أراد بذلك الاختصار.

وكذلك ـ أيضاً ـ لو قطعاه، أي: في أثناء المدة اتفقا على إلغاء الخيار فإن ذلك صحيح؛ لأن الحق لهما، مثل: أن يقول: اشتريت منك هذا الشيء ولي الخيار لمدة شهر، وفي أثناء الشهر قالا: نريد إلغاء هذا الشرط، حتى يكون لنا التصرف الكامل فلا بأس.

مثال آخر: بعت هذا البيت على رجل بمائة ألف والخيار لمدة شهر، وبعد مضي نصف الشهر جاء إليَّ المشتري، وقال: نريد أن نقطع الخيار حتى أتصرف بما شئت، وأنت ـ أيضاً ـ تتصرف في الثمن، فوافق البائع فإنه يكون ملغى ويبطل؛ ووجه ذلك أن الحق لهما، فإذا أسقطاه سقط ولا محذور في إسقاطه، فإن مات أحدهما فإن الخيار يكون لورثته؛ لأن المبيع انتقل بحقوقه إلى ورثته، فيكون الخيار لهم.

ص: 277

قوله: «ويثبت في البيع والصلح بمعناه» سبق أن خيار المجلس يثبت في البيع، ويثبت ـ أيضاً ـ في الصلح بمعناه، وقد سبق ـ أيضاً ـ معنى الصلح بمعناه، وهو الصلح على إقرار، مثل أن يقر له بعين أو بدَين، ثم يصالحه على بعضه أو على عين أخرى، أو ما أشبه ذلك، فهذا صلح بمعنى البيع.

قوله: «والإجارة في الذمة» الإجارة في الذمة، مثل أن يؤجره على خياطة ثوب، فيقول: خط لي هذا الثوب بعشرة ريالات، فهذه إجارة على عمل في الذمة، فقال: لي الخيار لمدة يومين فالشرط صحيح، لأنه لا محظور فيه؛ إذ إن هذه إجارة على عمل، والعمل يثبت في الذمة.

قوله: «أو على مدة لا تلي العقد» إذا كان على مدة بأن قال: أجّرتك هذا البيت بمائة ريال سنة من الآن، فإن كانت تلي العقد فإن خيار الشرط فيها لا يصح، وإن كانت لا تلي العقد فإنه يصح، ولو قال المؤلف: ابتداؤها بعد انتهاء الخيار لكان أوضح، وهذا يخالف خيار المجلس؛ لأن خيار المجلس يثبت في الإجارة على المدة مطلقاً، أما خيار الشرط فيثبت في الإجارة على مدة بشرط أن تكون ابتداء المدة بعد انتهاء زمن الخيار، على رأي المؤلف.

مثال الإجارة على عمل: قال: آجرتك على أن تحمل لي الحطب إلى بيتي، قال: لا بأس، وتم العقد على أن له الخيار لمدة يوم أو يومين، فيصح الشرط؛ لأنه على عمل وليس فيه ضرر ولا تفوت منفعة وليس فيها محظور إطلاقاً.

ص: 278

مثال على المدة: قال: آجرتك هذا البيت لمدة سنة بمائة ريال، وابتداء المدة من العقد، قال: لا بأس لكن لي الخيار لمدة عشرة أيام، فهذا لا يصح الشرط.

مثال آخر: قال: آجرتك بيتي هذا لمدة سنة بمائة ريال، على أن تبتدئ المدة في أول يوم من رجب، والخيار بيننا إلى خمس وعشرين من شهر جمادى الثانية، ونحن الآن في الليلة الثانية عشرة، فيجوز؛ لأن ابتداء مدة الإيجار بعد انتهاء مدة خيار الشرط وليس فيها ضرر.

ولكن لماذا لا يصح خيار الشرط في إجارة تبتدئ من العقد؟

التعليل؛ لأن ذلك يؤدي إلى أحد أمرين: إما تعطيل المنافع، أو استيفاؤها في مدة الخيار، وكلاهما لا يجوز.

الآن إذا قلت: أجرتك بيتي لمدة سنة بعشرة آلاف على أن لي الخيار شهراً، هذا الشهر الذي يمضي ما ندري هل يكون لصاحب البيت أو يكون للمستأجر؟ لأنه إن بقيت الإجارة صار للمستأجر، وإن فسخت الإجارة صار لصاحب البيت، وحينئذٍ تكون هذه المدة التي فيها الخيار لا يعلم لمن هي، فكان الأمر متردداً بين أن تكون الإجارة في مدة الخيار للمؤجر أو للمستأجر، وهذا يؤدي إلى الغرر وما أدى إلى الغرر فهو باطل.

وهذا التعليل عليل، والصحيح أنه يجوز اشتراط الخيار، ولو على مدة تلي العقد، ولو في خيار لا ينتهي إلا بعد بدء المدة التي لا تلي العقد.

ص: 279

مثال ذلك: قال: آجرتك بيتي مدة سنة بمائة ريال، ابتداء من اليوم، قال: نعم لكن لي الخيار لمدة شهر، فعلى كلام المؤلف وهو المذهب لا يصح؛ لأن المدة تلي العقد، وعلى القول الراجح يصح، فالعقد تم وسكن المستأجر، وبعد مضي عشرين يوماً فسخ الإجارة، فنقول: لا بأس، وعليك أجرة المثل في المدة التي سكنتها، فالآن لم يفت شيء لا على المستأجر ولا على المؤجر، وإنما قلنا: على المستأجر أجرة المثل وليس عليه القسط من الأجرة؛ لأن العقد بعد فسخه رُفع من أصله وتبين أنه لا عقد، والإنسان إذا استوفى منافع من غيره فعليه أجرة مثله، وهذا القول هو الصحيح في هذه المسألة؛ لأن هذا في الحقيقة لا يحل حراماً ولا يحرم حلالاً، ولا يضيع لأحدهما حقاً، وكل منهما رضي بهذا الشرط؛ لأنه في الحقيقة سوف يعطي صاحب البيت حقه، وسوف يستوفي المستأجر حقه أيضاً، فليس فيه غرر.

وهذا قد تدعو الحاجة إليه، فقد تدعو الحاجة إلى أن يستأجر هذا البيت لمدة سنة بكذا وكذا، يقول: ولي الخيار لمدة شهر؛ لأن بيتي الآن يعمر وربما ينتهي قبل الشهر، فالصواب أنه يصح خيار الشرط، ولو على مدة تلي العقد، أو على مدة تبتدئ قبل انتهاء وقت خيار الشرط، وإذا فسخ من له الخيار، فإن المدة التي سكنها تقدر عليه بأجرة المثل.

وسكت المؤلف عن أشياء مرت في خيار المجلس ولم يذكرها، مثل الصرف، فذكر أن خيار الشرط يثبت في البيع ولم يذكر أن خيار الشرط يثبت في الصرف؛ لأنه يشترط في الصرف

ص: 280

التقابض قبل التفرق؛ لأن الشارع إنما اشترط القبض قبل التفرق؛ لئلا يبقى لكل منهما علقة فيما تصرف فيه، فشرط الخيار ينافي ذلك، فلهذا لا يصح خيار الشرط فيما قَبْضُهُ قبل التفرق شرط لصحته.

ولكن الصحيح ثبوته في الصرف، ونقول: اقبضا قبل التفرق، ويبقى بأيديكما على حسب ما اشترطتما، فإما أن تمضيا البيع، وإما أن تفسخاه؛ لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم:«المسلمون على شروطهم»

(1)

، وقوله:«كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط»

(2)

.

‌وَإِنْ شَرَطَاهُ لأحَدِهمَا دُونَ صَاحِبِه صَحّ، وَإِلَى الغَدِ أوْ اللّيْلِ يَسْقُطُ بِأوَّلِهِ وَلِمِنْ لَهُ الخِيَارُ الفَسْخُ وَلَوْ مَع غَيْبَة الآخَرِ وَسَخَطِهِ، وَالمِلْكُ مُدَّةَ الخِيَارَينِ لِلمُشْتَرِي .....

قوله: «وإن شرطاه لأحدهما دون صاحبه صح» الألف في قوله: «شرطاه» تعود على المتعاقدين، والضمير «الهاء» يعود على خيار الشرط، أي: شرط المتبايعان الخيار «لأحدهما» ، أي: للبائع أو للمشتري، «دون صاحبه» صح وسقط خيار الآخر.

ويدل لذلك ما سبق من أدلة جواز خيار الشرط مثل قوله صلى الله عليه وسلم: «المسلمون على شروطهم» ، ويدل عليه ـ أيضاً ـ حديث ابن عمر رضي الله عنهما:«أو يخير أحدهما صاحبه»

(3)

، فما دام الحق لهما، وشرطاه لأحدهما دون الآخر فهو صحيح، وإن لم يشترطاه لأحدهما، ولا لهما نفذ البيع، فلا خيار.

قوله: «وإلى الغد أو الليل يسقط بأوله» أي إذا قال: لي

(1)

سبق تخريجه ص (224).

(2)

سبق تخريجه ص (189).

(3)

سبق تخريجه ص (262).

ص: 281

الخيار إلى الغد، أو لي الخيار إلى الليل فيسقط بأوله؛ لأن الغاية ابتداؤها داخل وانتهاؤها غير داخل، فإذا قال:«إلى الغد» لم يدخل الغد، فينتهي الخيار بطلوع الفجر.

و «إلى الليل» لا يدخل الليل، فينتهي الخيار بغروب الشمس؛ لقوله تعالى:{ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187].

وقال بعض العلماء: يرجع في ذلك إلى العرف، فإذا قال: إلى الغد، فيمكن أن يحمل على ابتداء السوق، وابتداء الأسواق في الغالب لا يكون من أذان الفجر؛ بل من ارتفاع الشمس، وخروج الناس إلى الأسواق.

وهذا هو الصحيح، فإذا كان عرف التجار أنهم إذا قالوا:«إلى الغد» ، أي: إلى افتتاح السوق، فالأمد إلى افتتاح السوق، نعم إذا لم يكن هناك عرف أو كان العرف غير مطرد فنرجع إلى اللغة، واللغة أن الغد يبتدئ من طلوع الفجر، وإلى الليل إلى غروب الشمس، فإن قدر أن هناك عرفاً يجتمع التجار فيه بعد العشاء، ويرون أن الآجال المؤجلة في الليل، أي: جلسة ما بعد العشاء فإنه يتقيد به، وهذه قاعدة ينبغي أن نعرفها «أن المرجع فيما يتداوله الناس من الكلام والأفعال إلى العرف» ، فإن لم يكن عرف أو كان العرف مضطرباً، رجعنا إلى اللغة ما لم يكن للشيء حقيقة شرعية، فإن كان للشيء حقيقة شرعية، فهي مقدمة على كل الحقائق.

قوله: «ولمن له الخيار الفسخ ولو مع غيبة الآخر وسخطه» أي: الذي له الخيار سواء كان البائع أو المشتري أو كليهما، فله

ص: 282

الفسخ، سواء كان بحضور الآخر أو غيبته أو رضاه أو كراهته؛ لأن الحق له، فإذا تبايعا هذه الدار وجعلا الخيار لهما لمدة عشرة أيام، ثم إن أحدهما فسخ، فقال الآخر: لا أرضى أنا لي الخيار أيضاً، وأنا لم أفسخ فينفسخ ولو لم يرض، ولا يشترط أيضاً علم الآخر بالفسخ؛ لأن القاعدة الفقهية:«أن من لا يشترط رضاه لا يشترط علمه» ، ولهذا يجوز للرجل أن يطلق زوجته وإن لم تعلم؛ لأنه لا يشترط رضاها، وإذا لم يشترط رضاها، فلا فائدة من اشتراط العلم.

ولكن كيف يفسخ في غير حضرته؟

الجواب: يُشهد أو يكتب كتابة ويرسلها له بالبريد أو يودعها عند إنسان ثقة، على أنه في اليوم الفلاني قد فسخ عقد البيع الذي اتفق عليه مع فلان

إلخ.

وقوله: «ولو مع غيبة الآخر وسخطه» والتعليل ما يلي:

أولاً: لأن الحق له.

ثانياً: أنه لا يشترط علم صاحبه، فلا يشترط رضاه، ولهذا يجوز أن يفسخ ولو مع غيبة صاحبه، لكن ينبغي أن يقال: يشهد على الفسخ؛ لئلا يقع النزاع بين البائع والمشتري، فيحصل في ذلك فتنة وعداوة وبغضاء.

قوله: «والملك مدة الخيارين للمشتري» فالمِلك، أي: ملك المبيع و «مدة الخيارين» ، أي: خيار المجلس، وخيار الشرط «للمشتري»

(1)

، وإن لم تتم مدة الخيار فله غنمه وعليه غرمه،

(1)

وهذا هو المذهب.

ص: 283

ولهذا لو تلف ولو بدون تعد أو تفريط، فالضمان على المشتري؛ لأنه ملكه، والدليل على هذا أمران: الأثر والنظر.

أما الدليل الأثري: فقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من باع عبداً وله مال فماله للذي باعه إلا أن يشترطه المبتاع»

(1)

، فقوله:«ماله للذي باعه» ، أي: من حين العقد؛ لأن البيع يتم بمجرد الإيجاب والقبول «إلا أن يشترطه المبتاع» فيكون للمبتاع الذي هو المشتري؛ لأن أصل هذا المال وهو العبد ملك للمشتري بمجرد العقد، هذا هو الدليل والدلالة فيه خفية جداً، فكون المال لم يدخل للمشتري إلا بشرطه، يدل على أن العبد قد دخل ملكه بدون شرط بل بمجرد العقد.

ولهذا اختلف العلماء في هذه المسألة، هل الملك مدة الخيارين للبائع أو للمشتري أو في ذلك تفصيل؟

فقيل: إنه للبائع؛ لأن البيع لم يلزم بعد؛ إذ أنه لا يلزم حتى تتم المدة قبل الفسخ، وعلى هذا فيكون الملك للبائع.

وقيل: إنه منتظر، فإن تبين الإمضاء فهو للمشتري، وإن فسخ فهو للبائع، وهذا القول من حيث النظر قوي، لكن قد يقال: إن الحديث مقدم على النظر، وهو أن الملك يثبت بمجرد البيع والشراء، يعني بمجرد الإيجاب والقبول، فهذا هو الدليل الأثري.

أما الدليل النظري: فلأن هذا المبيع لو تلف لكان من ضمان المشتري، وإذا كان من ضمانه فكيف نجعل عليه الغرم،

(1)

سبق تخريجه ص (61).

ص: 284

ولا نجعل له الغنم؟! فالصحيح ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله أن الملك من حين تمام القبول بعد الإيجاب يكون للمشتري.

‌وَلَهُ نَماؤُهُ المُنْفَصِلُ وَكسْبُهُ، وَيَحْرُمُ وَلَا يَصِحُّ تَصَرُّفُ أحَدِهِمَا فِي الْمَبِيعِ وَعِوَضِه المُعَيَّنِ فِيْهَا

قوله: «وله نماؤه المنفصل» «له» أي: للمشتري «نماؤه» أي: نماء المبيع، «المنفصل» الذي ينفصل عن المبيع، احترازاً من المتصل، فالمنفصل على اسمه، ما ليس متصلاً بالمبيع، مثل: اللبن، والولد، والثمرة، والنماء المتصل ما لا يمكن انفكاكه عن الأصل، مثل: السمن، وتعلم الصنعة، والصحة بعد المرض، وزوال العيب بعد وجوده، هذا نسميه نماء متصلاً؛ لأنه لا يمكن انفكاكه عن العين، فالنماء المنفصل للمشتري، والنماء المتصل للبائع.

مثال ذلك: اشترى شاة بمائة درهم، واشترط الخيار لمدة شهر، وهذه الشاة فيها لبن، ويأخذ منها كل ليلة ما شاء الله من اللبن، فاللبن للمشتري؛ لأنه نماء منفصل.

وهذه الشاة سمنت وصارت ذات لحم وشحم، فهذا الشحم واللحم للبائع؛ لأنه نماء متصل لا يمكن تخليصه من الأصل، فيكون تبعاً له ويثبت في التابع ما لا يثبت في المستقل.

ولو اشترى شاة حاملاً وفي أثناء الخيار وضعت؟

نقول: إن نشأ الحمل في زمن الخيار فهو نماء منفصل للمشتري، وأما إذا كان قد وقع عليه العقد فهو أحد المبيعين، فيكون للبائع؛ ولهذا لو ردها لرد الولد معها لأن الولد قد وقع عليه العقد.

قوله: «وكسبه» أي: الذي يحصله المبيع، إذا قدر أن

ص: 285

المبيع عبد واشترط المشتري الخيار لمدة أسبوع، وفي هذا الأسبوع كسب العبد بأن باع واشترى، فكسب في مدة الأسبوع مثلاً ألف درهم، فالألف للمشتري؛ لأن الكسب نماء منفصل.

وهذا العبد اشتراه وهو هزيل؛ لأنه يأكل وجبة ويحرم من وجبة عند بائعه، فلم يكن عليه لحم، فجاء عند المشتري ووجد ما شاء الله من الأكل، وراحة البال، فسمن في خلال أسبوع فهذا النماء للبائع؛ لأنه تابع ولا يمكن فصله عن الأصل، هذا ما ذهب إليه المؤلف.

وعن الإمام أحمد رواية، أن النماء المتصل لمن حصل في ملكه، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وقال: هذا حصل من عمل المشتري الذي هو في ملكه «والخراج بالضمان»

(1)

، أي: من عليه ضمان شيء فله خراجه، والنماء المتصل قد يكون أهم من المنفصل فيكون للمشتري، وإذا كان للمشتري فإذا فسخ البيع يُقَوَّمُ حين العقد، وهو هزيل وحين فسخ البيع وهو نشيط أحمر أزهر سمين، فالفرق نصف القيمة، فتكون نصف القيمة للمشتري، لكن إذا قال البائع: أنا لا أقبل، خذ نماءك المتصل، فماذا نفعل؟ هل نفعل كما فعل سليمان فنقول: ائت بالسكين أم ماذا نعمل؟ نقول: يلزمك ولا بد.

قوله: «ويحرم ولا يصح تصرف أحدهما» رتب على التصرف حكمين: التحريم، والفساد، كلمة تحرم غير كلمة لا يصح؛ لأنه

(1)

سبق تخريجه ص (242).

ص: 286

لا يلزم من التحريم عدم الصحة، ويلزم من عدم الصحة التحريم، والدليل قوله صلى الله عليه وسلم:«لا تَلقوا الجَلَب فمن تلقى فاشترى منه، فإذا أتى سيده السوق فهو بالخيار»

(1)

، فهذا تحريم والعقد الصحيح، لأن قوله:«فإذا أتى سيده السوق فهو بالخيار» ، يدل على صحة العقد؛ إذ لا خيار إلا بعد صحة العقد؛ لأن الخيار فرع عن الصحة، والدليل على أن كل شيء لا يصح فهو حرام، قول النبي صلى الله عليه وسلم:«كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط»

(2)

، قال ذلك محذراً من الشروط التي ليست في كتاب الله.

الأول: يسمى عند الأصوليين حكماً تكليفيّاً، والثاني: يسمى حكماً وضعيّاً؛ لأن عندهم ما ترتب عليه الثواب والعقاب، أو انتفى عنه الثواب والعقاب فهو تكليفي، وما كان صحة أو فساداً أو شرطاً أو مانعاً فهو وضعي.

وقوله: «ويحرم ولا يصح تصرف أحدهما» فيه تنازع بين يحرم ويصح فأيهما يعمل؟

الجواب: يجوز هنا هذا وهذا؛ لأن الضمير ليس ضميراً ظاهراً وإنما هو مستتر.

وقوله: «تصرف أحدهما» يعني البائع والمشتري؛ لأن البائع لو تصرف وأنفذنا تصرفه جَنَينا على المشتري، والمشتري لو

(1)

أخرجه مسلم في البيوع/ باب تحريم تلقي الجلب (1519)(17) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

سبق تخريجه ص (189).

ص: 287

تصرف وأنفذنا تصرفه جنينا على البائع، وعلى هذا فنقول: لا يجوز أن يتصرف لا البائع ولا المشتري في المبيع في مدة الخيار.

قوله: «في المبيع» أي: المنتقل من البائع للمشتري.

وظاهر كلام المؤلف أنه لا يصح مطلقاً حتى في التأجير، وأن ما يمكن تأجيره يبقى معطلاً، فالبيت مثلاً يبقى لا يؤجر؛ لأن التأجير نوع من التصرف، ولأنه إذا أجره ثم اختار البائع الفسخ تعلق به حق المستأجر فيمنعه بعض الحق، ولكن الصحيح أنه يصح تأجيره؛ لأن تأجيره خير من بقائه هدراً، ثم إن أمضي البيع فالأجرة للمشتري وإن فسخ فالأجرة للبائع.

قوله: «وعوضه المعين فيها» أي: المنتقل من المشتري إلى البائع، فالمؤلف قيد العوض الذي هو الثمن بكونه معيناً؛ لأن الثمن الذي في الذمة يتصرف فيه المشتري كما يشاء، فلو قال مثلاً: اشتريت منك هذه الساعة بعشرة ريالات، فالمبيع هنا معين والثمن مقدر ولكنه غير معين، فلم يقل له: بهذه العشرة، وتثبت العشرة في ذمة المشتري؛ لأنه غير معين، فلو كان المشتري في جيبه عشرة ريالات وكان في نيته أن يدفع هذه العشرة قيمة للساعة، ثم إن العشرة سرقت فلا ينفسخ البيع؛ لأن الثمن ليس العشرة التي في الجيب، بل هي في الذمة.

مثال المعين: أن يقول: اشتريت منك هذه الساعة بهذه العشرة، فوقع العقد الآن على عين العشرة، كما وقع على عين الساعة، وعلى هذا فيكون الثمن إما في الذمة، وإما معيناً.

ص: 288

والذي يحرم هو التصرف في الثمن المعين، أما الذي في الذمة فإن المشتري حر حتى يسلمه للبائع.

وفي المثال الذي ذكرتُ: اشتريت منك هذه الساعة بعشرة ريالات وهو ينوي أن ينقد العشرة التي في جيبه ثمناً للساعة، هل يمكن أن يتصرف في هذه العشرة؟

الجواب: نعم، لكن لو قال: بهذه العشرة ثم وضعها في جيبه، فإنه لا يمكن أن يتصرف فيها؛ لأنه لما وقع العقد على عين الثمن صار ملكاً للبائع بمجرد العقد، كما يكون المبيع الذي وقع العقد على عينه ملكاً للمشتري بمجرد العقد.

وهل يمكن أن يكون المبيع في الذمة؟

الجواب: نعم يمكن، فالسلم كان الصحابة رضي الله عنهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين

(1)

، والثمار معلوم أنها في الذمة، إذاً كل من الثمن والمثمن يمكن أن يكون في الذمة، فما كان في الذمة فإن صاحبه يتصرف فيه كما يشاء، وما كان معيناً فإنه لا يتصرف فيه من انتقل ملكه عنه، فالمشتري لا يتصرف في الثمن والبائع لا يتصرف في المبيع.

وقوله: «وعوضه» يشمل ما إذا كان العوض نقداً كما لو قال: اشتريت هذا البيت بهذه الدراهم، أو غير نقد كما لو قال: اشتريت هذا البيت بهذه السيارة، ولهذا قال المؤلف:«بعوضه» ، ولم يقل: والدراهم المعينة، حتى يشمل ما إذا كان العوض دراهم أو أعياناً أخر.

(1)

سبق تخريجه ص (150).

ص: 289

‌بَغَيْرِ إِذْنِ الآخَرِ بِغَيْرِ تَجْرِبَةِ المَبِيْعِ إِلاَّ عِتْقَ المُشْتَرِي وَتَصَرُّفُ المُشْترِي فَسْخٌ لِخِيَارِهِ وَمَنْ مَاتَ مِنْهُمَا بَطَلَ خِيَارُه .....................

قوله: «بغير إذن الآخر» فإن أذن أحدهما أن يتصرف الآخر في هذا بإجارة أو بإعارة أو بمنفعة فلا حرج، أما بغير إذن فلا.

قوله: «بغير تجربة المبيع» إذا كان تصرف المشتري بتجربة المبيع بأن كان فرساً فيُجرَّب عَدْوُهُ وامتثالُه للأمر، وإذا كانت سيارة يجربها إذا كانت تمشي أو لا جاز؛ فتصرف المشتري في المبيع من أجل التجربة جائز.

وهل من التجربة أن يحلب الشاة أو البقرة؟

الجواب: نعم؛ لأن بعض البقر إذا أردت أن تحلبها فإنها تضربك برجلها، فلا تتمكن من الحلب وكذلك بعض الغنم، وكذلك بعض الإبل، فإذا حلبها للتجربة فلا بأس، وهل يبطل خياره إذا كانت للتجربة؟

الجواب: لا؛ لأنه قد يكون من أسباب اشتراط الخيار تجربة المبيع.

وهل يصح التصرف مع البائع بتأجير أو بيع؟

نعم يجوز؛ لأن قبوله لهذا التصرف إذن لا شك فيه؛ فصار التصرف الجائز في ثلاثة أمور: إذا أذن من له الحق، وإذا كان التصرف مع من له الحق، وإذا كان التصرف لتجربة المبيع.

قوله: «إلا عتق المشتري» «عتق» مصدر مضاف إلى الفاعل، أي: إذا اشترى عبداً واشترط البائع الخيار أو المشتري، فإنه يجوز للمشتري أن يعتق العبد.

هل يحرم أو لا؟

ظاهر كلام المؤلف أنه لا يحرم ويصح.

ص: 290

وقيل: إنه يحرم ويصح وهذا المذهب.

وقيل: يحرم ولا يصح.

وتعليل المذهب أن للعتق نفوذاً قوياً فينفذ، ولذلك لو أن الرجل أعتق نصيبه من عبد، بأن يكون عبد بين اثنين فأعتق أحدهما نصيبه من العبد، فإن العبد يعتق كله، ويلزم هذا المعتِقُ بدفع قيمة نصيب صاحبه إليه، لقوة نفوذ العتق؛ ولأن الشارع يتشوَّف إلى العتق تشوفاً كبيراً، ويحرم لأنه تصرف بغير إذن صاحبه فهو إسقاط لحقه؛ لأنه إذا أعتقه لا يمكنه أن يفسخ البيع.

ولكن الصحيح أنه يحرم ولا يصح ولا يستثنى العتق، فالعتق كغيره من التصرفات، أما كونه يحرم؛ فلأنه اعتداء على حق صاحبه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام»

(1)

، وهذا من الاعتداء على الأموال، وأما كونه لا يصح فلقول النبي صلى الله عليه وسلم:«من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد»

(2)

، وليس أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم على العدوان على الناس، بل العكس، وعلى هذا فلا يصح.

وهناك ـ أيضاً ـ تعليل فيقال: إن العتق يقع قربة لله عز وجل وهل يمكن أن يتقرب إلى الله بمعصيته؟! لا يمكن فهذا تضاد ونوع من الاستهزاء بشريعة الله.

وقوله: «إلا عتق المشتري» لو أن البائع أعتق العبد فلا

(1)

أخرجه البخاري في العلم/ باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «رب مبلغ أوعى من سامع» (67)؛ ومسلم في القسامة/ باب تغليظ تحريم الدماء (1679) عن أبي بكرة رضي الله عنه.

(2)

سبق تخريجه ص (97).

ص: 291

يصح، والفرق بين البائع والمشتري، أن المشتري قد انتقل إليه الملك، وأما البائع فليس له ملك في هذا المبيع، فلهذا صح عتق المشتري دون عتق البائع.

قوله: «وتصرف المشتري فسخ لخياره» أي: إذا تصرف المشتري في المبيع الذي اشترط فيه الخيار له وحده، فإن تصرفه فسخ لخياره، ويؤخذ من كلام أهل العلم هنا أن الفسخ يثبت بما دل عليه من قول أو فعل.

مثال ذلك: اشترى الرجل بيتاً من شخص واشترط الخيار لمدة شهر، وفي أثناء الشهر آجَره من يسكنه فيبطل خياره، فإن قال: أنا ما أبطلت الخيار؟ نقول: تصرفك دليل على رضاك به، وأنك أسقطت الخيار، وكذلك البيع مع اشتراط الخيار لنفسه في هذا البيت لمدة شهر، وقد اشتراه بمائة ألف، ثم جاءه إنسان وقال: بعني إياه بمائة وعشرة، فباعه بمائة وعشرة فيبطل خياره؛ لتصرفه في البيت، وتصرفه فيه دليل على رضاه به، وأنه لا يريد رده.

ويستثنى من هذا ما سبق من تجربة المبيع، فإن تصرف المشتري بتجربة المبيع لا يفسخ خياره، ولو كان الخيار له وحده؛ لأن هذا هو المقصود من الشرط أن ينظر هل يصلح له أو لا؟

وقوله: «وتصرف المشتري فسخ لخياره» ظاهر كلامه أن تصرف البائع ليس فسخاً لخيار المشتري؛ لأن المشتري حقه باق.

ص: 292

أما لو كان الخيار للبائع وحده فلا يجوز أن يتصرف، وإذا تصرف فلا يصح تصرفه؛ لأن ملك المبيع للمشتري، ولكن يستطيع أن يقول: فسخت البيع ثم يتصرف، والصحيح أنه فسخ لخياره.

مثال ذلك: باع زيد على عمرو هذا البيت بمائة ألف، وقال البائع وهو زيد: لي الخيار لمدة شهر، ثم إن زيداً باعه على رجل آخر فهذا فسخ لخياره؛ لأن بيعه إياه يدل على أنه ألغى البيع الأول، وهذا الفسخ دلالته فعلية لا قولية، أما لو قال البائع: اشهدوا أني فسخت، فهذا دلالته قولية، ولا إشكال فيها، ولكن إذا كان فسخ خياره من أجل تصرفه، فهو فسخ فعلي.

قوله: «ومن مات منهما بطل خياره» أي: من البائع أو المشتري بطل خياره، سواء شرط الخيار له وحده، أو له ولصاحبه فإنه يبطل الخيار.

مثاله: اشترى رجل من آخر بيتاً بمائة ألف، وجعل الخيار له لمدة شهر، ثم مات فإن الخيار يبطل، وعلى هذا فلا خيار للورثة في هذا المبيع، وهذه المسألة ظاهر كلام الماتن فيها غير المذهب.

فإذا قال الورثة: لماذا لم يكن لنا خيار، أليس قد انتقل إلينا من مورثنا بحقوقه ومنها الخيار؟.

نقول: على كلام المؤلف، لا خيار؛ لأن اختيار الإمضاء أو الفسخ لا يكون إلا من قبل المشتري الذي مات، فلا ندري الآن، هل يريد الإمضاء أو يريد الفسخ فيبطل، فإن علمنا أنه يريد

ص: 293

الفسخ بحيث يكون قد طالب به، بأن قال: إني أريد الفسخ فإنه يورث من بعده؛ لأن مطالبته به دليل على أنه اختار الفسخ، أما إذا لم يطالب فإننا لا ندري، والأصل بقاء العقد، وهذا هو التعليل عند الأصحاب رحمهم الله.

ولكن تفسير المطالبة بهذا فيه نظر؛ لأنه إذا قال: فسخت، انفسخ البيع، ولم يبق خيار، وأما إذا فسرت المطالبة بأنه قد قال: أنا على خياري، فهذه ثابتة وإن لم يقلها؛ لأنه ما دام اشترى بشرط الخيار ولم يسقط الخيار فالأصل بقاؤه.

القول الثاني: أنه يورث سواء طالب به أم لم يطالب؛ وعللوا ذلك بأن الملك انتقل إلى الورثة بحقوقه، وهذا الذي اشتُرِيَ بشرط الخيار انتقل إلى الورثة بحقوقه، فيثبت لهم ذلك، وإذا كان الخيار للبائع فقد انتقل منه إلى الورثة، فيورث عنه؛ لقوله تعالى في المواريث:{وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} ، {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ} [النساء: 12]، وكلمة {تَرَكَ} تشمل كل متروكاته من أعيان أو منافع أو حقوق، وهذا هو القول الصحيح أنه ينتقل الحق إلى الورثة، ولهم الخيار بين الإمضاء أو الفسخ؛ لأنهم ورثوه من مورثهم على هذا الوجه.

وأما قولهم: لا بد أن يطالب، فيقال: إذا طالب لا حاجة أن نقول: إن خيار الشرط باقٍ؛ لأنه إذا طالب به فقد انتهى الخيار؛ لأنه اختار الفسخ.

مسألة: إذا اختلف الورثة فبعضهم قال: أريد الإمضاء، وبعضهم قال: أريد الفسخ.

ص: 294

فيقال: إن كان الوارث واحداً لم يتصور الخلاف إما أن يفسخ أو يُمْضي، وإن كان أكثر من واحد، واختار بعض الورثة الفسخ، واختار آخرون الإمضاء؛ فإن كان لا ضرر على البائع في تفريق الصفقة، فلكل حكمه، مثل ما لو كانت الصفقة عشر سيارات، كلها متساوية القيم ومن نوع واحد فمات الرجل وخلف أربعة أبناء وبنتين، فيكون لكل بنت سيارة واحدة ولكل ابن سيارتان، إذا قال أحد الأبناء: أنا أختار فسخ البيع، يرد على البائع سيارتين، ويعطيه ثمنهما ولا نقص على البائع، وإذا قالت إحدى البنات: أنا أختار فسخ البيع، يعطى البائع سيارة، ويعطيها ثمنها، وهذا لا إشكال فيه. ولكن إن كان باع عليه حذاء بمائة ريال، وقال: لي الخيار لمدة أسبوع، ومات خلال الأسبوع، وخلف ابنين أحدهما اختار الفسخ والثاني اختار الإمضاء، فهنا لا يمكن تفريق الصفقة؛ لأن البائع يتضرر، فيقال: إما أن تفسخا جميعاً، وإما أن تمضيا جميعاً.

وقوله: «ومن مات منهما بطل خياره» لو مات أحدهما في خيار المجلس يبطل خياره، وهذا لا إشكال فيه؛ لأن من أعظم التفرق التفرق بالموت، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا»

(1)

.

مسألة: لو نام أحدهما في خيار المجلس بأن كان متعباً جداً وفيه نوم، فقال البائع: بعتك هذا الشيء، فقال: قبلت، وإذا رأسه على صدره ينعس فنام، فهذا لا يبطل خياره ما داما في

(1)

سبق تخريجه ص (262).

ص: 295

المجلس، ولو طال نومه؛ لأنه لم يفارق الحياة بخلاف من مات.

‌الثَّالِثُ: إِذا غُبِنَ في المَبِيْعِ غَبْناً يَخْرُج عَن العَادَةِ وبِزِيَادَةِ النَّاجِشِ وَالمُستَرسِلِ.

قوله: «الثالث: إذا غبن في المبيع غبناً يخرج عن العادة» «الثالث» أي: من أقسام الخيار، خيار الغبن، وأشار إليه بقوله:«إذا غبن في المبيع» ، وكذلك إذا غبن في الثمن، فإذا كان الثمن غير نقود أو كان نقوداً مغشوشة أو ما أشبه ذلك، فالمهم أنه غبن في المبيع غبناً يخرج عن العادة، والغبن معناه الغلبة، أي: إذا غلب غلبة تخرج عن العادة فله الخيار، فالمؤلف قيد الغبن بأن يخرج عن العادة، فمثلاً إذا غبن بريال واحد من مليون بأن اشترى أرضاً بمليون وهي تساوي مليوناً إلا ريالاً، فهذا مما يتغابنه الناس، وواحد من ألف كذلك، وواحد من مائة كذلك لا يخرج عن العادة، وهل واحد من عشرة يعتبر غبناً؟.

الظاهر لي يعتبر غبناً، ولا سيما إذا كانت السيولة بأيدي الناس عزيزة؛ لأن واحداً من عشرة ربما يكون صعباً على كثير من الناس إذا كانت السيولة قليلة، أما مع وفرة المال، فقد يقال: واحد من عشرة ليس بشيء.

وقال بعض العلماء: إن الغبن الذي يخرج عن العادة هو واحد من خمسة، ونسبة واحد من خمسة إلى المائة عشرون في المائة، ولكن في القلب من هذا شيء، بل يقال: إذا جعلنا الأمر مرتبطاً بالعادة فهو أحسن، فإن اختلفنا نرجع إلى أهل الخبرة، إلى الدلاَّلين المعتبرين في البلد، فيقال: ما تقولون إذا غبن في واحد من عشرة؟ وقد يقال: أيضاً إنه يختلف باختلاف الأموال، بعضها الواحد من عشرة غبن، وبعضها غير غبن.

ص: 296

فإذا غُبن الإنسان غبناً يخرج عن العادة، فهل له الخيار به أو لا خيار له؟

يرى بعض العلماء أنه لا خيار له إلا إذا اشترط لنفسه وتحفظ، ويستدلون بحديث الرجل الذي شكى لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يُغبن في البيوع، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«إذا بايعت فقل: لا خلابة» ، فكان يبايع ويقول: لا خلابة

(1)

، فقالوا: إن الرسول عليه الصلاة والسلام جعله يشترط لنفسه أن لا خلابة، أي أن لا غلبة، فلو كان هذا الغبن موجباً للخيار بدون شرط، لقال له الرسول عليه الصلاة والسلام: إذا غبنت فرد ما غبنت به، ولم يقل له: إذا بايعت فقل: لا خلابة.

هذا رأي لبعض العلماء وهو قوي جداً، ويرى آخرون أنه يثبت به الخيار وإن لم يشترط، قالوا: إن هذا من الغش والخيانة، ولو لم نثبت الفسخ لكان في ذلك فتح لباب الغش والخيانة، والشارع يأتي بدرء المفاسد وجلب المصالح، فما دمنا نعرف أن في هذا درءاً للمفسدة وقطعاً على أهل الخيانة والغش طريقهم، فإن الواجب سلوك هذا الطريق، وهذا تعليل قوي، ولكنه يحتاج إلى الإجابة عن الحديث؛ لأن صاحب القول إذا رجح قوله لا بد أن يأتي بالمرجحات، وبالدافعات التي تدفع قول خصمه، فيقولون: إنما أمره الرسول عليه الصلاة والسلام أن يشترط وإن كان ثابتاً له بدون اشتراط، لأمرين:

(1)

أخرجه البخاري في البيوع/ باب ما يكره من الخداع في البيع (2117)؛ ومسلم في البيوع/ باب ما يخدع في البيع (1533) عن ابن عمر رضي الله عنهما.

ص: 297

الأول: أنه إذا قال: «لا خلابة» ، صار له الخيار فيما غلب فيه سواء كان يخرج عن العادة أم لا يخرج؛ لأن «لا» نافية للجنس، و «خلابة» نكرة في سياق «لا» النافية للجنس فتفيد العموم، أي: لا خلابة، قليلة أو كثيرة.

الثاني: قطع النزاع بين الطرفين لأنه إذا لم يشترط أنه لا خلابة، يمكن للبائع أن يقول: أنا ما غلبتك، فبمجرد ما يقول: لا خلابة، فإن البائع يمتنع من الخلابة من أول الأمر؛ لأنه إذا شرط عليه سيعرف أنه إذا غبن سوف يرد عليه، فهذا فائدة إرشاد النبي صلى الله عليه وسلم هذا الرجل لاشتراط أن لا غبن، وعلى هذا يتوجه أن القول الراجح إثبات خيار الغبن، سواء شرط أو لم يشترط.

وقوله: «يخرج عن العادة» أحالنا المؤلف إلى العرف، فما عدّه الناس غبناً فهو غبن، وما لم يعدّوه غبناً فليس بغبن، وقدره بعض العلماء بالثلث، وبعضهم بالربع، وبعضهم بالخمس.

ولكن ما ذهب إليه المؤلف أولى أن يرجع في ذلك إلى العادة، والمحكم في العادة هم أصحاب الخبرة، فإذا قالوا: هذا غبن؛ لأنه يخرج عن العادة، قلنا: يثبت الخيار له.

مسألة: هل خيار الغبن مقيد بشيء معين، أو متى حصل الغبن حصل له الخيار؟.

الجواب: هذه المسألة فيها خلاف، أما المذهب فإن خيار الغبن مخصص بثلاث صور:

الصورة الأولى: تلقي الركبان، أي: أن يخرج عن البلد ليتلقى الجالبين إليه فيشتري منهم، ومن المعلوم أن هذا المتلقي

ص: 298

سوف يشتري بأقل من الثمن، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«لا تلقوا الجلب، فمن تلقاه فاشترى منه ـ أي: من الجلب ـ فإذا أتى سيده السوق ـ وهو البائع ـ فهو بالخيار»

(1)

، هذا خيار غبن.

وقوله: «فهو بالخيار» إذا قال قائل: الحديث مطلق «فهو بالخيار» ، ولم يقل: إذا غبن؟.

فالجواب: أنه يحمل على الغالب المعتاد؛ لأن الجالب إذا قدم للسوق، ولم يجد أنه غبن فإنه لن يفسخ، إذ لا فائدة من الفسخ ثم البيع مرة أخرى، فيحمل الحديث على أنه إذا غبن، وإن كان ظاهر الحديث الخيار مطلقاً.

الصورة الثانية: قوله: «وبزيادة الناجش» «الباء» في قوله: «بزيادة» للسببية، أي: بسبب زيادة الناجش، والناجش اسم فاعل من نَجَش يَنْجُش، وأصل النجش الإثارة، فإثارة الشيء نجشه.

والناجش هو من يزيد في السلعة، وهو لا يريد شراءها، وإنما يريد الإضرار بالمشتري، أو نفع البائع، أو الأمرين جميعاً.

مثال ذلك: عرضت سلعة للسوم فصار الناس يتزايدون فيها، وكان أحد هؤلاء يزيد في الثمن، وهو لا يريد الشراء، ولكن من أجل منفعة البائع؛ لأنه صاحبه، أما هو فلا يريد السلعة، أو يريد إضرار المشتري؛ لأنه عدوه، أو يريد نفع نفسه كأن يكون عنده سلعة مثلها فزاد في ثمنها لأجل أن يزيد ثمن سلعته، أو يريد أن يقول الناس: فلان ما شاء الله يزيد في السلعة، وهذا معناه أنه عنده أموال وتاجر.

(1)

سبق تخريجه ص (287).

ص: 299

فالضابط هو: أن يزيد وهو لا يريد الشراء، وإنما يريد غرضاً آخر، فإذا غبن المشتري بسبب هذه الزيادة غبناً يخرج عن العادة فإن له الخيار.

والنجش محرم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه فقال: «لا تناجشوا»

(1)

ولأنه يورث العداوة والبغضاء بين المسلمين؛ لأنه إذا علم أن هذا ينجش من أجل الإضرار بالمشترين كرهوه وأبغضوه، ثم عند الفسخ في الغبن ربما لا يرضى البائع بالفسخ، فيحصل بينه وبين المشتري عداوة أيضاً.

الصورة الثالثة: قوله: «والمسترسل» وهو المنقاد مع غيره المطمئن إلى قوله، هذا في اللغة.

وفي الاصطلاح: من جهل القيمة ولم يحسن المماكسة.

والمماكسة هي المحاطة في الثمن، وهي التي تعرف عندنا بالمكاسرة، فإذا أتى إلى صاحب الدكان، وقال: بكم هذه الحاجة؟ قال: بعشرة ريالات، وهو رجل يجهل القيمة ولا يحسن أن يماكس فأخذها بعشرة، فلما عرضها على الناس، قالوا: هذه بخمسة ريالات، قال: ما علمت، فنسمي هذا مسترسلاً له الخيار؛ لأنه إذا كانت قيمة الشيء بخمسة، واشتراها بعشرة فهذا غبن يخرج عن العادة فله الخيار، والدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«من غش فليس منا»

(2)

، وهو من الخيانة للمسلمين، وكل من غش

(1)

أخرجه البخاري في الأدب/ باب {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ}

} (6066)؛ ومسلم في البر والصلة/ باب تحريم الظن (2563)(30) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

أخرجه مسلم في الإيمان/ باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من غشنا فليس منا» (164)(101)، وأبو داود في البيوع/ باب في النهي عن الغش (3452) والترمذي في البيوع/ باب ما جاء في كراهية الغش

(315) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 300

فيجب أن يحال بينه وبين مأربه، فإن كان يعلم القيمة ويدري أن قيمتها خمسة، ولكنه أخذها بعشرة تطييباً لقلب البائع، كما يعمله بعض الناس مثلاً إذا وجد رجلاً فقيراً عنده بسطة صغيرة، قال: بكم هذه يا فلان؟ قال: بعشرة وهو يعرف أنها بخمسة فأخذها بعشرة فلا يكون مسترسلاً؛ لأنه يعلم القيمة، وكذلك لو رأى مع صبي دجاجة تساوي عشرة، قال: بكم يا بني هذه؟ قال: هذه يا عم بعشرين وهو يدري أنها تساوي عشرة، لكن جبراً لقلب هذا الصبي وإدخالاً للسرور عليه، قال: خذ هذه العشرين، ثم بعدئذٍ ندم قال: كيف أبذل عشرين بما يساوي عشرة؟ فرجع إلى الصبي وقال: يا بني غبنتني فلا خيار له؛ لأنه يعلم القيمة ودخل على بصيرة.

وقوله في الروض

(1)

: «ولم يحسن المماكسة» ظاهره أنه إذا كان يحسن المماكسة فإنه لا خيار له ولو غبن، مثاله: رجل يجهل قيمة الأشياء لكنه جيد في المماكسة، فأتى إلى صاحب الدكان، وقال له: كم قيمة هذا المسجل؟ قال: قيمته مائتا ريال وصاحب الدكان وضع ورقة عليه صغيرة وكتب عليها مائتي ريال، وهو جيد في المماكسة، لكن ظن أن هذه قيمته في الأسواق، فأخذ المسجل ثم لما عرضه على إخوانه، قالوا: هذا يباع في السوق بثمانين ريالاً، فغبن بمائة وعشرين، فرجع إلى الرجل، وقال له: هذا بثمانين ريالاً، فعلى كلام المؤلف لا خيار له؛ لأنه يحسن المماكسة ويقدر أن يحاطه في الثمن حتى يصل إلى الثمانين.

(1)

حاشية ابن قاسم على الروض المربع (4/ 436).

ص: 301

ولكن الصحيح أن له الخيار لجهله بالقيمة ولتغرير البائع به، فلا ينبغي إلا أن نعامل البائع بنقيض قصده لما غره، ونقول: له الخيار.

فإذا قال: هذا الرجل يعرف البيع والشراء لماذا لم يماكسني؟.

نقول: جزاه الله خيراً وثق بك ولست أهلاً للثقة، والآن له الخيار.

ومن المناجشة وهي نوع من الاسترسال أن يقول البائع للمشتري: أعطيت في السلعة كذا وهو يكذب، والمشتري سوف يقول: إذا كانت سيمت بمائتين فسأشتريها بمائتين وعشرة، وفعلاً اشتراها بمائتين وعشرة، وتبين أن قيمتها مائة وخمسون فإن له الخيار؛ لأنه غبن على وجه يشبه النجش.

ومن ذلك ـ أيضاً ـ إذا قال: اشتريتها بمائة وهو كاذب اشتراها بخمسين فأخذها المشتري بمائة وخمسة؛ ليربح ذاك خمسة ريالات، وتبين أنه اشتراها بخمسين فإنه له الخيار؛ لأن هذا من النجش؛ لأنه استثار المشتري حتى اشتراها بأكثر من ثمنها.

فإن قيل: ما حكم النجش، وما حكم أن يفعل ما يسترسل معه المشتري؟.

فالجواب: كله حرام؛ لأنه خلاف ما يجب أن يكون عليه المؤمن لأخيه، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»

(1)

.

(1)

سبق تخريجه ص (201).

ص: 302

فإن قيل: بعض الباعة إذا سئل عن قيمة السلعة، قال: قيمتها مائة وهو يبيعها بثمانين، لكنه يخشى أن يكون المشتري ممن يماكسون، فقال: بمائة على تقدير أنه سيماكس حتى تنزل إلى ثمانين، فهل يجوز له ذلك؟.

الجواب: فيه تفصيل، إذا كان المشتري سيطمئن ويأخذها بما قدره فهذا حرام؛ لأنه من الغش، وإن كان البائع إذا رأى المشتري عازماً على الأخذ، قال له: اصبر يا أخي أنا قلت لك: بمائة؛ لأن بعض الناس يماكسني ويضطرني إلى أن أنزل، ولكن قيمتها الحقيقية ثمانون فهذا جائز، وإن كان فيه شيء بالنسبة للبائع، لكن هو الذي جنى على نفسه؛ لأنه إذا قال: يا أخي القيمة ثمانون، لكني قلت لك بمائة خوفاً من المماكسة فإن المشتري سوف لا يطمئن ـ أيضاً ـ إلى أن القيمة ثمانون، ولهذا نجد بعض المشترين إذا قال له البائع هذا الكلام يأنف ويستنكف ويذهب إلى غيره، فيقال للبائع: قل الثمن ثمانون ولا مماكسة، إن أخذ فهذا المطلوب وإن لم يأخذ فالسلعة باقية.

ويوجد ـ أيضاً ـ بعض الناس إذا جاءه الرجل المحنك الجيد في المماكسة أعلمه بالثمن فَوراً، وإذا جاءه الرجل الذي يكون سليم الصدر، ولا يعرف أو امرأة أو فتى شاب لا يعرف الأمور زاد عليهم في الثمن، فهذا لا يجوز؛ لأنه أخذ للناس بالغرات، فالإنسان الغرير له عنده ثمن، والذكي الجيد له ثمن فهذا حرام، فالواجب أن يكون مخلصاً ناصحاً للعباد؛ لأن هذا من الدين.

فإن قال قائل: هل الغبن يكون للبائع أيضاً؟

ص: 303

الجواب: نعم وهذه تقع كثيراً لا سيما فيما سبق من الزمان، ـ فمثلاً ـ يعلم التاجر بأن السكر ارتفعت قيمته، فيذهب إلى من عندهم السكر، ويشتري كل ما عندهم بالقيمة الحاضرة، وهم لا يعلمون أن قيمته ارتفعت فيكون غبناً ولا شك، وهم لم يفرطوا في الواقع في مثل الصورة التي ذكرتها الآن؛ لأنه باع على أن هذه القيمة، وأن الأسعار مستقرة.

والحاصل أنه كما أن للمشتري الحق إذا غبن في فسخ البيع، فللبائع الحق إذا غبن في فسخ البيع ولا فرق.

‌الرَّابِعُ: خِيَارُ التَّدْلِيْسِ، كَتَسْوِيدِ شَعْرِ الجَارِيَةِ، وَتَجْعِيدهِ، وَجمْع مَاءِ الرَّحَى، وَإِرسَالِهِ عِنْدَ عَرْضِهَا.

قوله: «الرابع: خيار التدليس» التدليس مأخوذ من الدُّلسة وهي الظلمة، ومعناه خيار الإخفاء؛ لأن الذي يخفي الشيء مدلس.

ولو صورتان:

الأولى: أن يظهر الشيء على وجه أكمل مما كان عليه.

الثانية: أن يظهر الشيء على وجه كامل وفيه عيب.

والفرق بينهما ظاهر، فالأولى ليس في المبيع عيب ولكنه يظهره على وجه أجود وأكمل، وفي الثانية فيه شيء ولكنه أخفاه وأظهره على وجه سليم.

أمثلة التدليس فعل الصحابي ـ عفا الله عنه ـ حين وضع الطعام السليم فوق الطعام الذي أصابته

(1)

السماء، فإن هذا تدليس.

(1)

سبق تخريجه ص (301).

ص: 304

ومنه أن يكون عند الإنسان بيت قديم فيليسه حتى يظهره، وكأنه جديد.

ومنه أن يكون عنده سيارة مخدشة فيضربها صبغاً حتى يظن الظان أنه ليس فيها شيء.

قوله: «كتسويد شعر الجارية» أي: عند بيعها، بأن يكون عنده جارية يريد أن يبيعها، وشعرها أبيض إما لآفة أو كبر فيسوِّده؛ ليظن الظان أنها شابة صغيرة، فهذا حرام، وفيه الخيار كما سيأتي.

قوله: «وتجعيده» بمعنى أن يدهنه بدهن يجعله مموجاً، لأنه إذا ظهر مجعداً دل ذلك على أنه قوي، وضده السَّبِط اللين الذي لا يكون له تجعيد، والأول أرغب عند الناس، فإذا كان الشعر قوياً متجعداً فهو أرغب من أن يكون ليناً سهلاً مسترسلاً، فهذا الرجل لما أراد أن يبيع الجارية جعد رأسها من أجل أن يزيد الثمن، فنقول: هذا حرام لا يجوز لأنه غش.

قوله: «وجمع ماء الرحى وإرساله عند عرضها» هذان شيئان، لكنهما شيء واحد في الواقع، وذلك بأن يجمع ماء الرحى ثم يرسله عند عرضها للبيع، والرحى كيف يكون لها ماء؟.

هناك أرحية تدور على حسب جريان الماء، فيجعل صاحب الرحى سداً ينحبس به الماء، فإذا أراد بيعها فتح هذا السد ثم اندفع الماء بشدة وسرعة فتدور الرحى دوراناً سريعاً، فيظن المشتري أن هذا هو وصفها وأنها جيدة، وأن الماء يندفع بسرعة

ص: 305

فيزيد الثمن، فهذا من التدليس؛ لأنه أظهر المبيع بمظهر مرغوب فيه، وهو خالٍ منه.

فإذا قال قائل: كيف يكون للرحى ماء وهي ستطحن الدقيق؟ وهذا يقتضي أن يكون الدقيق عجيناً؟.

نقول: تُجعل عجلة أي بكرة لها رِيَشٌ يضرب فيها الماء فتدور، ثم في هذه البكرة سير متصل بالرحى البعيدة عن الماء، وهذا السير هو الذي يدير هذه الرحى البعيدة، ويشبهه من بعض الوجوه جنزير العجلة (الدراجة)، فيظن الظان أن هذا هو ماؤها، وأن هذه قوتها فيزيد في ثمنها.

واقتصار المؤلف رحمه الله على هذه الأمثلة الثلاثة، تسويد شعر الجارية، وتجعيده، وجمع ماء الرحى وإرساله عند عرضها، لا يعني أنه لا يثبت إلا في هذه فقط، بل هذه أمثلة.

والضابط ما ذكرناه، وهو إظهار المبيع بصفة مرغوب فيها وهو خالٍ منها، ومن ذلك:

تصرية اللبن في ضرع بهيمة الأنعام، أي: جمع اللبن في ضرع البهيمة، وهو محرم، قال النبي صلى الله عليه وسلم:«لا تصروا الإبل والغنم» ، فيربط ضرع البهيمة ويجتمع اللبن في الضرع، فإذا جلبها في السوق ورآها المشتري ظن أن هذه عادتها، وأن لبنها كثير فيزيد في ثمنها، فإذا وقع هذا من البائع أعني هذا التدليس، نقول: أما التصرية فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم فيها بحكم الله عز وجل قال: «ومن ابتاعها بَعْدُ ـ أي بعد التصرية ـ فهو

ص: 306

بالخيار إن شاء أمسكها وإن شاء ردها وصاعاً من تمر»

(1)

، وفي رواية:«هو بالخيار ثلاثة أيام»

(2)

، أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل له الخيار ثلاثة أيام إن شاء أمسك، وإن شاء رد، وجعل الثلاثة لأجل أن يستقر اللبن؛ لأنه ربما يستقر على هذه الكثرة، فإن شاء أمسكها بلا أرش؛ لأن الحديث ظاهر في ذلك، وإن شاء ردها، ورد معها صاعاً من تمر، وربما يمسكها ولو كان لبنها قليلاً؛ لأنه يريد عين هذه البهيمة، أو يرتفع السعر في أثناء هذه المدة فيختارها ولو كان لبنها قليلاً، لكن إذا قال: أنا أريد أن أردها، فنقول: لا بأس ردها ورد معها صاعاً من تمر، وحينئذٍ يرد علينا مسائل:

الأولى: هذا الصاع من التمر هل هو عوض عن اللبن الحادث بعد العقد، أو هو عوض عن اللبن الموجود حين العقد؟

الجواب: هذا الصاع عوض عن اللبن الموجود حين العقد؛ لأن اللبن الموجود حين العقد ملك للبائع، أما ما حدث بعد العقد فهو ملك للمشتري، وقد سبق أن نماء المبيع المنفصل للمشتري.

الثانية: لماذا قدره بصاع، وقد يساوي أكثر من صاع، وقد يساوي أقل؟.

(1)

أخرجه البخاري في البيوع/ باب النهي للبائع أن لا يحفل الإبل

(2150)؛ ومسلم في البيوع/ باب تحريم بيع الرجل على بيع أخيه (1515)(11) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

أخرجها مسلم في البيوع/ باب حكم بيع المصراة (1524)(24)(25) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 307

الجواب: قدره النبي صلى الله عليه وسلم بصاع قطعاً للنزاع؛ لأنه ربما يتنازع المشتري والبائع، فيقول البائع: اللبن فيها كثير، والمشتري يقول: اللبن فيها قليل، فقطعاً للنزاع قدره النبي صلى الله عليه وسلم وقوَّمه للأمة إلى يوم القيامة.

الثالثة: لماذا لم يقل: صاعاً من طعام، وجعله كالفطرة من البر، أو الشعير، أو الزبيب، بل قال: صاعاً من تمر؟.

الجواب: لأن التمر أقرب ما يكون شبهاً إلى اللبن، ففي اللبن حلاوة، وغذاء، والتمر كذلك، فلو أنك أردت أن تشبه بين اللبن والخبز لوجدت الفرق أكثر، لكن اللبن والتمر متقارب، وكله يؤكل ويشرب طرياً بدون كلفة وبدون طبخ.

مسألة: إذا فقد التمر فما يقوم مقامه يجزئ عنه.

الرابعة: لو أراد المشتري أن يرد اللبن الذي حلبه، وقال للبائع: أنا حلبت صاعاً من اللبن أو نصف صاع من اللبن، وهو موجود الآن أرده عليك بعينه، فهل نقول: إنه يجب على البائع أن يقبله؛ لأنه رد عليه عين ملكه، أو نقول: إن الشرع ورد بتقديره من التمر، فلا نعدل عما جاء به الشرع؟.

الجواب: بعض العلماء قال: إذا رده بحاله لزم البائع أن يقبل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل هذا عوضاً عنه؛ لأنه في الغالب أن المشتري إذا حلبه استهلكه.

وقال بعض العلماء: إنه لا يجبر على قبول اللبن؛ لأنه باع اللبن متصلاً بالبهيمة، وفصله المشتري، فكان عرضة للحموضة

ص: 308

والفساد، والتمر جنس عيَّنه الرسول عليه الصلاة والسلام فلا نتعداه.

وعندي أن هذا أقرب إلى الصواب لو لم يكن فيه إلا اتباع السنة لكان كافياً، فيقال: للمشتري إذ أراد أن يرد اللبن: يجب أن ترد صاعاً من تمر، كما أن البائع لو أراد الحليب، قال: أعطني الحليب الذي حلبته، وهو عندك الآن لم تشربه ولم تتصرف فيه، وقال المشتري: أبداً أعطيك صاعاً من التمر، أيهما يقبل؟.

الجواب: يقبل قول المشتري أن يرد الصاع من التمر، إذاً يقبل قول من قال: أرد الصاع؛ لأن البائع ربما يقول للمشتري: أعطني اللبن الذي حلبت وهو عندك الآن، واللبن يساوي ثلاثة آصع من التمر، والمشتري يقول: لا أعطيك إلا ما قدره النبي صلى الله عليه وسلم.

والخلاصة: أن كل من طلب ما قدَّره الرسول صلى الله عليه وسلم وعيَّنه فهو المقبول.

الخامسة: إذا كان اللبن لا قيمة له شرعاً، كما لو اشترى حمارة مصراة، فهل يرد صاعاً من تمر؟ وذلك إذا قال المشتري: أنا عندي أتان صغير، واللبن هذا وإن كان ليس له قيمة بالنسبة للآدمي؛ لأنه حرام. لكن بالنسبة للأتان الصغير له قيمة.

فيقال: إن هذا ليس له قيمة شرعاً فليس له عوض، لكن ما دام قد دلس عليك واشتريت حمارة مصراة، فلك الرد.

ص: 309

‌الخَامِسُ: خِيَارُ العَيْبِ، وَهُوَ مَا يُنَقِّصُ قِيمَةَ الَمبِيْع كَمَرَضِهِ، وَفَقْدِ عُضْوٍ أوْ سِنٍّ أَوْ زِيادتِهِمَا،

..

قوله: «الخامس» أي: من أقسام الخيار.

قوله: «خيار العيب» خيار مضاف والعيب مضاف إليه وهو من باب إضافة الشيء إلى سببه، أي: الخيار الذي سببه العيب، والعيب ضد السلامة، فيقال: هذا معيب، وهذا سليم، ويقال في البهيمة التي لا تجزئ في الأضحية: هذه معيبة، والسالمة يقال لها: سليمة، فالعيب ضد السلامة، والمعيب ضد السليم والفرق بين خيار العيب وخيار التدليس، أن العيب فوات كمال، أما التدليس فهو إظهار محاسن والمبيع خالٍ منها.

قوله: «وهو ما يُنَقِّصُ قيمةَ المبيع» فإذا كان هذا المبيع لولا هذا العيب لكان يساوي ألفاً، وبالعيب يساوي ثمانمائة، فهنا نقص قيمة المبيع.

وظاهر كلام المؤلف أنه ولو كان النقص مما يتغابن به عادة، أي: ولو كان النقص يسيراً كاثنين في المائة فظاهر كلامه أن هذا عيب؛ لأنه أطلق فقال: «ما ينقص» وكلمة «ما» اسم موصول تفيد العموم.

وقوله: «ما ينقص قيمة المبيع» هذا هو الضابط، وما بعده فأمثلة.

قوله: «كمرضه» ولو كان المرض يسيراً؛ لأنه من الجائز أن يتطور هذا المرض حتى يتدهور، فإذا وجد في المبيع مرضٌ ولو يسيراً، حتى وإن كان لا ينقص القيمة إلا شيئاً يسيراً، فله الخيار.

ص: 310

قوله: «وفقد عضو» أي: وكفقد عضو، مثل إن وجد أحد أصابعه مقطوعاً فهذا فقد عضو، وظاهر كلامه رحمه الله ولو كان خصاءً، فإذا اشتراه على أنه فحل فتبين أنه خصي، فظاهر كلام المؤلف أنه عيب؛ لأن هذا فقد عضو حتى وإن زادت القيمة لأنه ربما تزيد القيمة.

أما في الرقيق فظاهر أن الخصي أرغب عند الناس من الفحل؛ لأنه أقل فتنة وشراً، وأما في البهائم فقد يكون الخصي أرفع قيمة من الفحل، وقد يكون الفحل أرفع قيمة من الخصي، فقد يشتري هذا الذكر من الضأن على أنه فحل من أجل أن يُنزيه على الشياه، فإذا كان خصيّاً لم ينفع فتنقص قيمته، وقد يشتريه للأكل على أنه فحل فيتبين أنه خصي والخصي في الأكل أرغب عند الناس من الفحل؛ لأنه أطيب لحماً وأكثر قيمة، وعلى كل حال، الخصاء، الصحيح أنه ليس بعيب مطلقاً وليس سلامة مطلقاً، بل على حسب مقاصد المشترين، إذا قصدوا فحلاً فتبين خصيّاً فهو عيب، وإن كان الأمر بالعكس فليس بعيب.

فإذا قال مشتري الرقيق: أنا أريد أن يكون فحلاً لعله في يوم من الأيام يتزوج ويأتيه أولاد، نقول: وإذا تزوج وأتاه أولاد ما فائدتك منه؟! لأنه إن تزوج بحرة فأولادها أحرار، وإن تزوج بمملوكة فأولادها لسيدها ولن تستفيد من ذلك شيئاً، فإن قال: لعلي إذا أعتقته تزوج وأنجب، فيقال: إذا تزوج وأنجب بعد إعتاقه فلا فائدة منه، والخصاء في الرقيق لا شك أنه رفعة لقيمته، وهذا أمر معروف.

ص: 311

والخلاصة: أن فقد عضو عيب، إلا في الخصاء ففيه التفصيل الذي سبق.

قوله: «أو سن» السن ليس عضواً؛ لأنه في حكم المنفصل، ولهذا لو مس إنسان سن امرأته بشهوة، وقلنا: إنه إذا مس امرأته بشهوة انتقض وضوؤه، فمس سنها، وحدث منه أعلى شهوة إلا أنه لم يخرج منه شيء فإن وضوءه لا ينتقض؛ لأنه ليس عضواً وفي حكم المنفصل؛ فلهذا قال:«وفقد عوض أو سن» ولا يقال: هذا من باب عطف الخاص على العام؛ لأن السن ليس من جنس الأعضاء، بل هو من عطف المغاير على مغايره.

وقوله: «سن» سواء كان من الأسنان أو من الأضراس، فإذا وجد في المبيع أنه فقد سناً واحداً أو أكثر فإنه عيب، ولو أنه جعل بدل السن تركيبة فإنه عيب؛ لأن المركب ليس كالأصلي.

قوله: «أو زيادتهما» فقد العضو أو السن إذا كانا زائدين فليس عيباً؛ لأن هذا زيادة خير والأصبع الزائد الناس يقطعونه، وكذلك السن الزائد، فبعض الناس يكون عنده أسنان مترادفة زائدة، فإذا فقد الزائد فليس بعيب، ولهذا قال:

«أو زيادتهما» فزيادة العضو عيب، وزيادة السن عيب أيضاً؛ لأن ذلك ينقص القيمة، فإذا كان له يدان من المرفق متساويتان، وقال المشتري: هذا عيب، وقال البائع: بل هذا زيادة خير بدلاً من أن يكون له يد واحدة تعمل صار له الآن اثنتان، يقال: يرجع إلى عرف الناس، فإذا قالوا: إن قيمته تزيد بزيادة هذا العضو فليس بعيب، لكن الغالب أنها عيب تنقص قيمته حتى وإن كان يعمل بهما سويّاً.

ص: 312

مسألة: هل يجوز قطع الإصبع الزائدة أو لا؟

الفقهاء يقولون: لا يجوز، ويعللون ذلك بالخطر، ولكن بناء على تقدم الطب الآن فإن الصحيح جواز ذلك؛ لأن هذا إزالة عيب، وليس من باب التجميل، ولو كان من باب التجميل لكان حراماً، ولهذا لعن النبي صلى الله عليه وسلم:«النامصة والمتنمصة»

(1)

، لأنها تزيل شيئاً خلقه الله للتجميل، وأما هذا فيقطع أصبعاً زائدة من باب إزالة العيب، وأنت الآن قدر نفسك قد أصبت بهذا الأمر ألست تحب أن لا يراك الناس؟ بلى ما في ذلك شك، فالصواب أن إزالة الأصبع الزائدة في وقتنا الحاضر جائزة ولا شيء فيها، وهذا نظير ما قال العلماء في البواسير، قالوا: إن قطع البواسير حرام؛ لأنه يمكن أن ينزف الدم حتى يموت، فيكون متسبباً في قتل نفسه، ولكنه في الوقت الحاضر أصبحت هذه العملية عملية بسيطة وليس فيها أي نوع من الخطر، فلكل مقام مقال، والحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً.

‌وَزنَا الرَّقِيقِ وَسَرِقَتِهِ، وإِبَاقِهِ، وَبَوْلِهِ فِي الفِرَاشِ.

قوله: «وزنا الرقيق» إذا زنا الرقيق فزناه عيب معنوي، وظاهر كلامه ولو مرة واحدة؛ لأن ذلك ينقص قيمته، إذا تبين أن هذا الرقيق الذي اشتراه قد زنا، إن كان ذكراً فالأمر واضح، وإن كان أنثى فكذلك. ولم يفصح المؤلف عن سن الرقيق إذا زنا؛ ولهذا اختلف الفقهاء رحمهم الله فقال بعضهم: يشترط أن

(1)

أخرجه البخاري في اللباس/ باب المتنمصات (5939) ومسلم في اللباس/ باب تحريم فعل الواصلة والمستوصلة

(2125) عن ابن مسعود رضي الله عنه واللفظ لمسلم.

ص: 313

يكون الرقيق قد بلغ عشراً وأطلقوا

(1)

.

ويحتمل أن يقال: إذا بلغ عشراً في الذكور، أو تسعاً في الإناث؛ لأن بنت التسع قد تحمل، وابن العشر قد يُحمل له، وما دون ذلك لا حمل.

وقال بعض الفقهاء: العبرة بالبلوغ؛ لأنه قبل ذلك ليس بمكلف.

ولكن الأقرب أن يحدد بعشر سنين في الذكور وبتسع سنوات في النساء، أما ما دون ذلك فينظر إن استمر به هذا الأمر فهو عيب، وإن كان وقع منه مرة واحدة فليس بعيب؛ لأن هذا يكثر فيما بين الصبيان الصغار.

قوله: «وسرقته» أي: أن يكون سارقاً، إذاً فهو من باب إضافة المصدر إلى فاعله، فإذا تبين أنه يسرق فإنه يعتبر عيباً.

وظاهر كلامهم ولو مرة واحدة؛ لأنه لا بد أن يخدشه حتى لو تاب من السرقة ومن الزنى، فإن الناس لا يزال في نفوسهم شيء من ذلك، وليست المسألة مبنية على عدالته في دينه، حتى يقال: إنه إذا تاب فقد زال فسقه، بل المسألة راجعة إلى عرف الناس، فإذا قالوا: إن زناه أو سرقته يوجبان أن تنقص قيمته فهذا عيب.

قوله: «وإباقه» أي: هربه، وسواء كان الإباق مطلقاً بمعنى أن يهرب أياماً، أو كان إباقه مؤقتاً مثل أن يخرج

(1)

وهو المذهب.

ص: 314

الصبح فلا يرجع إلا في الليل، فإذا كان هذا الرقيق قد عرف بالإباق فهو عيب؛ لأنه يهرب فيفوت على سيده، والإباق لا شك أنه ينقص قيمة المبيع.

قوله: «وبوله في الفراش» فإذا كان يبول في الفراش فهو عيب، وحدَّه الفقهاء بعشر سنوات، ولكن يجب أن يقيد بكونه في سن لا يبول فيها مثله في فراشه، فلو اشترى رقيقاً طفلاً، فالطفل لا بد أن يبول في الفراش، فيكون المراد بقوله:«وبوله في الفراش» أي: إذا بلغ سناً لا يبول فيها مثله في الفراش، وقيده في «الروض» بأن يكون قد بلغ عشر سنين

(1)

، ولكننا إذا كنا نقول: إن العيب ما ينقص قيمة المبيع عرفاً، فإننا نرجع في ذلك إلى العرف، والظاهر أن الناس إذا كان الطفل يبول وعمره ثمان سنوات يعتقدون أن هذا من العيب، وإذا كان به سلس فهذا عيب ومرض أيضاً.

وكونه أعسر لا يعمل بيمينه عملها المعتاد، ويعمل باليسار أكثر مما يعمل بيمينه، فيكتب بيساره، ويرمي بيساره، ويضرب بيساره، ويساره هي التي فيها القوة، واليمين لا يعرف أن يعمل بها شيئاً إلا الأكل، ولولا أنه نهي عن الأكل بالشمال لأكل بشماله، وهذا يسمى أعسر، فإذا اشترى عبداً وتبين أنه أعسر فهو عيب.

وقال بعض العلماء: إنه ليس بعيب إذا كان يعمل بيساره عمل يمينه لو كان غير أعسر، فإن ذلك لا ينقص قيمته، بل ربما يكون عمله باليسار أقوى، ولهذا يقول بعض الناس: هذه ضربة أشدف، والأشدف هو الأعسر الذي لا يضرب إلا باليسار،

(1)

الروض مع حاشية ابن قاسم (4/ 442)

ص: 315

ويقال: إن ضرب الأعسر أشد، فإذا كان عمله بيساره أشد من عمله بيمينه فكيف يكون عيباً؟! ولدينا قاعدة نبني عليها: هل تنقص قيمته إذا كان أعسر؟ إذا قال أهل البيع في الرقيق: إنها لا تنقص فليس بعيب، وإن قالوا: تنقص فهو عيب، فإذا كان أعسر يَسِر لم يكن عيباً؛ لأن هذا زيادة خير، والأعسر اليسر الذي يعمل بيديه جميعاً على حد سواء، فيوجد بعض الناس يعمل باليد اليمنى واليسرى سواءً، يكتب باليمنى ويكتب باليسرى، فنقول: إذا وجد أعسر يسر فهو زيادة خير.

اقتصر الماتن على أمثلة، وزاد في «الروض»

(1)

أمثلة كثيرة لا حاجة لقراءتها؛ لأن لدينا ضابطاً، وهو أن العيب كل ما ينقص قيمة المبيع.

‌فَإذَا عَلِمَ المُشْتَرِي العَيبَ بَعْدُ أمْسَكَهُ بَأرْشِهِ، وَهُوَ قِسْطُ مَا بَيْنَ قِيمَةِ الصّحَةِ والعَيْبِ، أَوْ رَدَّه وَأخَذَ الثَّمَنَ،

قوله: «فإذا علم المشتري العيب بعدُ» الفاعل المشتري، هذا إذا كان العيب في المبيع، أو البائع إذا كان العيب في الثمن وهذا يمكن.

مثاله: بعتك شاة بماعز، الشاة مبيع والماعز ثمن، فإذا علم سواء المشتري، أو البائع في ثمن معين.

وقوله: «بعدُ» فيه إشكال بكون الكلمة مرفوعة مع أنها ظرف زمان.

والجواب على الإشكال أنه حُذِف المضاف إليه ونوي معناه، فصار مبنيّاً على الضم، فالحركة هنا حركة بناء، وليست حركة إعراب.

ص: 316

وذكروا أن (قبل وبعد) لهما أربع حالات:

إما أن يذكر المضاف إليه، أو يحذف وينوى لفظه، أو يحذف وينوى معناه، أو يحذف ولا ينوى لفظه ولا معناه، فهو في الحالة الأخيرة معرب منون، ومنه قول الشاعر:

فساغ لي الشراب وكنت قبلاً

أكاد أغص بالماء الفرات

والشاهد قوله: «وكنت قبلاً» .

فإذا حذف المضاف ونوي لفظه، فهو معرب غير منون، فتقول: أتيت من قبلِ فوجدت صاحبي، فهنا معرب غير منون؛ لأنه نوي لفظ المضاف إليه.

وإذا حذف المضاف ونوي معناه، فحينئذٍ يبنى على الضم، فتقول: أتيت من قبلُ، أي: من قبل هذا الزمن فوجدت صاحبي.

وإذا ذكر المضاف إليه فحينئذٍ يعرب، وبالطبع لا ينون؛ لأن الشاعر يقول لمخاطبه:

كأني تنوين وأنت إضافة

فأين تراني لا تحل مكاني

فهنا نقول: حذف المضاف إليه ونوي معناه، ويمكن أن تنصب «بعد» وتنوي اللفظ؛ لأن هذا على نية المتكلم، فإذا قال مثلاً:«فإذا علم المشتري العيب بعدَ» ، عرفنا أنه حذف المضاف إليه ونوى لفظه.

وقوله: «بعد» أي علم المشتري العيب بعد العقد، فإذا علم به عند العقد فلا خيار له؛ لأنه عقده عليه مع علمه بعيبه يدل على رضاه به، وإذا رضي بالعيب فقد لزم البيع، وكذا لو شُرط عليه ولكن إذا لم يعلم ثم علم به يقول المؤلف:

ص: 317

«أمسكه» أي: أمسك المبيع المعيب.

قوله: «بأرشه، وهو قسط ما بين قيمة الصحة والعيب» والأرش فسَّره المؤلف: بقوله: «قسط» ، أي: قسط ما بين قيمة الصحة والعيب، وقال:«قيمة» ولم يقل: ثمن، والفرق بين القيمة والثمن، أن القيمة هي ثمنه عند عامة الناس، والثمن هو الذي وقع عليه العقد، فإذا اشتريت ما يساوي ثمانية بستة، فالقيمة ثمانية والثمن الستة، ولهذا انتبه عند كتابة العقود لا تقل: باعه عليه بقيمة قدرها كذا وكذا، قل: بثمن قدره كذا وكذا، وما أكثر الكُتَّاب الذين يخطئون في هذا، أو يقول: باعه بثمن قدره كذا وكذا، والقيمة واصلة، بدلاً من أن تقول: القيمة، قل: الثمن واصل.

ولهذا قال: «قسط ما بين قيمة الصحة والعيب» فيقوم هذا الشيء صحيحاً ثم يقوم معيباً، وتؤخذ النسبة التي بين قيمته صحيحاً وقيمته معيباً، وتكون هي الأرش، فيسقط نظيرها من الثمن، ويكون التقويم وقت العقد، ولا وقت العلم بالعيب، لأن القيمة قد تختلف فيما بين وقت العقد والعلم بالعيب.

مثال ذلك: باع سيارة قيمتها مائة ألف بخمسين ألفاً، ثم تبين بها عيب، وقلنا: لأهل الخبرة: قدروا العيب، قالوا: هي معيبة تساوي ثمانين وسليمة تساوي مائة، فالأرش الآن الخمس، والثمن كان خمسين ألفاً فينقص عشرة آلاف، ولو قلنا: ينقص ما بين القيمتين كان النقص عشرين وتبقى بثلاثين ألفاً وهذا غلط، ولو باعها بمائتي ألف وتبين بها عيب فقوِّمت السيارة، وقيل إن

ص: 318

السيارة سليمة بمائة ومعيبة بثمانين، فالقسط الخمس وينقص من الثمن أربعون ألفاً.

قوله: «أو رده وأخذ الثمن» أي: لك أن ترد المبيع وتفسخ البيع وتأخذ الثمن، فالمشتري بالخيار، هذا ما ذهب إليه الفقهاء رحمهم الله، لكن شيخ الإسلام يقول: إما أن يأخذه مجاناً وإما أن يرده، أما الأرش فلا بد من رضا البائع لأنه معاوضة، فالبائع يقول: أنا بعت عليك هذا الشيء إما أن تأخذه وأما أن ترده، أما الأرش فهذا يعتبر عقداً جديداً، وما ذهب إليه الشيخ وجيه إلا إذا علمنا أن البائع مدلس ـ أي عالم بالعيب لكنه دلس ـ فهنا يكون الخيار بين الإمساك مع الأرش وبين الرد، معاملة له بأضيق الأمرين، وكذلك يقال في خيار التدليس وخيار الغبن.

فإن باعه بشرط البراءة من العيب، فقد سبق أنه إن أبرأه بعد العقد فالإبراء صحيح، وقيل: العقد لا يصح على المذهب.

وتقدم أن القول الصحيح أنه إن أبرأه، وهو مدلس، أي: البائع، فإنه لا يبرأ، سواء كان قبل العقد أو بعده، وإن كان غير مدلس صح، سواء كان قبل العقد أو بعد العقد.

‌وَإِنْ تَلِفَ المَبِيعُ أَوْ عتَقَ العَبْدُ تَعَيَّنَ الأرْشُ وَإِنْ اشْتَرى مَا لَمْ يَعْلَمْ عَيْبَهُ بِدُونِ كَسْرِهِ كَجَوْزِ هِنْدٍ، وَبَيْضِ نَعَامٍ فَكَسَرَهُ فَوَجَدَهُ فَاسِداً فَأمسَكَهُ فَلَهُ أرْشُهُ وإِن رَدَّهُ رَدَّ أرْشَ كَسرِهِ .......

قوله: «وإن تلف المبيع أو عتق العبد تعين الأرش» المشتري بين خيارين، وإما أن يرد وإما أن يأخذ الأرش، لكن يتعين الأرش إذا تعذر الرد، فهذه القاعدة: إذا تعذر الرد تعين الأرش، ويتعذر الرد إذا تلف المبيع المعيب، وحينئذٍ يتعين الأرش.

مثاله: رجل اشترى ناقة فوجد فيها عيباً، ولكن الناقة ماتت قبل أن يردها فيتعين الأرش.

ص: 319

مثال آخر: اشترى عبداً فأعتقه، ثم وجد فيه عيباً، فيتعين الأرش؛ لأنه تعذر الرد.

فإذا قال قائل: العبد موجود فكيف يتعذر الرد؟.

قلنا: لأن عبوديته الآن زالت، فماليته تلفت في الواقع.

ويتعين الرد إذا لزم من الأرش الربا، مثل أن يبيع حليّاً من الذهب بوزنه دنانير ثم يجد في الحلي عيباً، فهنا لا يمكن أن يأخذ الأرش؛ لأنه يلزم منه الوقوع في الربا، إذ سيكون للمشتري ذهب بوزن الذهب الذي دفع، ثم يزاد على ذلك الأرش.

فالضابط: إذا تعذر الرد تعين الأرش، وإذا لزم منه الوقوع في الربا تعين الرد.

فيقال لهذا الذي وجد في الحلي عيباً: إما أن ترده، وإما أن تمسكه بدون أرش؛ لأنك لو أخذت الأرش لزم من هذا الربا فلا يجوز.

قوله: «وإن اشترى ما لم يعلم عيبه بدون كسره كجوز هند وبيض نعام فكسره فوجده فاسداً فأمسكه فله أرشه، وإن رده رد أرش كسره» إذا اشترى ما لم يعلم عيبه بدون كسره كجوز الهند، وجوز الهند كبير وكبيض النعام أو نحوه، والمقصود منه ما كان

ص: 320

داخل القشر، فإذا كسره فوجد ما كان داخل القشر فاسداً، وهذا عيب، فنقول: أنت الآن بالخيار إن شئت رددته وأخذت الثمن، وإن شئت أمسكته وأخذت الأرش، لكن إن رددته وأخذت الثمن لزمك رد أرش الكسر؛ لأن قشر بيض النعام ينتفع به كأوانٍ.

وظاهر كلام المؤلف أنه إذا لم يكن هناك فساد في الكسر فإنه لا يرد أرش الكسر، كما لو شذبه شذباً متساوياً فصار قطعتين، يمكن أن ينتفع بهما على أنهما إناءان فحينئذٍ نقول: لا أرش لهذا الكسر؛ لأنه لم يتأثر، ثم نقول: إذا كسره كسراً لا يبقى له قيمة بعده، مثل أن يكسره، فيرضَّه رضًّا فإنه حينئذٍ يتعين الأرش؛ لأنه تعذر الرد، فصارت هذه المسألة لها ثلاث حالات:

الأولى: أن يكسره متوازياً بحيث يصلح أن يكون إناء ولا تنقص به القيمة، فهذا لا أرش له؛ لأنه لم ينقص.

الثانية: أن يكسره كسراً لا تبقى معه قيمة، فيتعين الأرش؛ لأنه تعذر الرد.

الثالثة: أن يكسره كسراً تبقى معه القيمة لكنها تنقص، فهذا يأخذ أرش الكسر، وإن أبقاه وأخذ الأرش فهو بالخيار، يعني أنه على الخيار الأول.

‌وَإِنْ كَانَ كَبَيْضِ دَجَاجٍ رَجَعَ بِكُلِّ الثَّمَنِ، وَخِيَارُ عَيْبٍ مُتَرَاخٍ مَا لَمْ يُوْجَدْ دَلِيلُ الرّضَا.

قوله: «وإن كان كبيض دجاج رجع بكل الثمن» لأن بيض الدجاج لا ينتفع الناس بقشره، بل يرمى في الزبالة، فإذا كسر بيض الدجاج فوجده فاسداً لا يصلح للأكل، فإن المشتري يرجع بكل الثمن؛ لأنه تبين أن العقد عليه فاسد، إذ من شرط العقد أن يكون على عين ينتفع بها، وهذا لا نفع فيه.

ص: 321

ولو قال البائع: أعطني القشور إذا كنت تقول: إن العقد فاسد، فإنه لا يلزمه؛ لأنه لا قيمة لها عادة، وترمى في الزبالة.

وإذا كان بطيخة «حبحبة» فلما شقها وجدها فاسدة، فهل يرجع بكل الثمن؟.

الجواب: لا يرجع بكل الثمن؛ لأن هذه البطيخة يمكن أن تكون علفاً للدواب، فيقال له: لك أن تردها، ولكن ترد أرش الشق الذي حصل منك، والفرق بينها وبين البيض، أن البيض لا ينتفع بقشره بخلاف البطيخة.

قوله: «وخيار عيب متراخٍ»

(1)

أي: أنه لا يلزم المشتري أن يطالب بالرد بالعيب من حين أن يعلم به؛ بل له أن يؤخر الطلب، فإذا علم بالعيب في أول النهار، ولم يطالب بالرد إلا في آخر النهار فله ذلك، ولو قلنا: إنه على الفور لكان إذا علم في أول النهار ولم يطالب بالرد إلا في آخره فليس له الخيار، ولكن الصحيح أنه على التراخي؛ لأنه حق للمشتري لا يلزمه أن يطالب به فوراً، ولا يسقط إلا بما يدل على إسقاطه، ولكن بعض أهل العلم يقول: إنه على التراخي ما لم يؤخر تأخيراً يضر البائع، وهذا أرجح.

قوله: «ما لم يوجد دليل الرضا» ودليل الرضا له صور:

الصورة الأولى: أن يصرح بذلك بأن يقول لصاحبه: باع فلان عليَّ حاجة فوجدتها معيبة، ولكن نظراً لحقه عليَّ فأنا راضٍ بذلك ولن أطالبه بالرد، وهذا صريح فلا يمكن أن يرد بعد هذا القول.

الصورة الثانية: أن يتصرف فيه بعد أن علم بالعيب بأن باعه، أو وقفه أو رهنه أو ما أشبه ذلك، فعلى المذهب يسقط خياره؛ لأن تصرفه فيه دليل على رضاه به.

والصحيح أن في ذلك تفصيلاً، فإن قال: إني تصرفت فيه راضياً بالأرش وعدم الرد فله الأرش، وإن قال: تصرفت فيه مسقطاً للخيار سقط خياره؛ لأن هذا الأمر يعود إلى نيته.

فإن قال البائع: أنا أريد أن أُحلِّفَهُ أنه إنما تصرف فيه راضياً بالأرش لا بالعيب فإنه يُحَلَّف، ويقال: احلف أنك إنما تصرفت فيه إمضاءً للعقد ورضا بالأرش، فإذا حَلَفَ فالأمر موكول إلى ذمته.

(1)

وهذا هو المذهب.

ص: 322

‌وَلَا يَفْتَقِرُ إِلَى حُكْمٍ وَلَا رِضَا وَلَا حُضُورِ صَاحِبِهِ وَإِن اخْتَلَفَا عِنْدَ مَنْ حَدَثَ العَيْبُ، فَقَوْلُ مُشْتَرٍ مَعَ يمينِهِ، وَإِن لَمْ يَحْتَمِلْ إِلاّ قَوْلَ أحَدِهِمَا قُبِلَ بِلَا يَمينٍ.

قوله: «ولا يفتقر إلى حكم» أي: لا يفتقر الفسخ بالعيب إلى حكم حاكم، فلا يلزم المشتري إذا أراد أن يفسخ أن يذهب إلى القاضي، ويقول: إنني أريد أن أفسخ البيع الذي حدث مع فلان؛ لأن هذا حق من الحقوق ثابت لصاحبه فلا يحتاج إلى محاكمة، وليس شيئاً مختلفاً فيه حتى نقول: إن الحاكم يرفع حكمه الخلاف بل هو أمر متفق عليه.

قوله: «ولا رضا ولا حضور صاحبه» كذلك لا يفتقر إلى رضا وحضور صاحبه. و «رضا» هنا غير منونة؛ لأنها بنية المضاف إليه، فلا يفتقر إلى رضا صاحبه، ولا حضور صاحبه، أي: فلا يفتقر إلى رضا صاحب المشتري، وهو البائع، ولا إلى حضوره.

ص: 323

ووجه ذلك أن الحق للمشتري، فهو الذي له حق الفسخ، فلم يُشترط رضا المفسوخ عليه، كالطلاق بيد الزوج، ولا يشترط أن ترضى الزوجة ولا أن تحضر، ولهذا لو طلق زوجته، وهي غير حاضرة طلقت وإن لم تعلم إلا بعد يومين أو ثلاثة؛ لأنه لا يشترط رضاها، كذلك أيضاً لا يشترط رضا البائع ولا حضوره.

فإن ادعى المشتري أنه قد فسخ، وأنكر البائع، فالقول قول المشتري؛ لأن هذا لا يعلم إلا من جهته.

قد يقول قائل: إن الأصل عدم الفسخ، فعليه يكون القول قول البائع؟

فيقال: هذا الأصل معارض بأصل آخر، وهو أنه لا يعلم إلا من جهته، فإذا قال: إني فسخت، أخذنا بقوله.

قوله: «وإن اختلفا عند من حدث العيب» الفاعل البائع والمشتري، و «من» استفهامية، اختلفا فقال البائع: حدث العيب عندك فلا خيار لك، وقال المشتري: بل هو سابق للعقد فلي الخيار.

قوله: «فقول مشترٍ مع يمينه، وإن لم يحتمل إلا قول أحدهما قُبل بلا يمين» فهذه المسألة، أفادنا المؤلف رحمه الله أنها لا تخلو من حالين:

الحال الأولى: أن يمتنع صدق أحدهما، فهنا القول قول من لا يحتمل قوله الكذب.

ص: 324

الحال الثانية: أن يكون هناك احتمال، فهنا يكون القول قول المشتري.

مثال ما لا يحتمل قول البائع: الإصبع الزائدة، فإذا اشترى عبداً فوجد فيه إصبعاً زائدة، فأراد رده، فقال البائع: حدث هذا العيب عندك، وقال المشتري: أبداً، فالقول قول المشتري؛ إذ لا يمكن أن يحدث له إصبع زائدة، ولو أمكن أن يحدث لكان كل إنسان يتوقع أن يحدث له ذلك، وإذا قبلنا قول المشتري فلا يشترط أن يحلف؛ لأنه لا حاجة للحلف.

مثال ما لا يحتمل قول المشتري: اشترى بهيمة ثم ردها، والعيبُ الذي فيها جُرْحٌ، ادعاه المشتري فنظرنا إلى الجرح وإذا هو يثعب دماً، جرح طري والبيع له مدة أسبوع، فالقول قول البائع بلا يمين؛ لأنه لا يحتمل أن يكون هذا الجرح قبل العقد.

أما إذا كان يحتمل هذا وهذا، كعرج وفساد في طعام، وما أشبه ذلك فالمؤلف يقول: إن القول قول المشتري.

وعلة ذلك أن العيب فوات جزء في البيع وهو الكمال، فالمعيب قد فاته الكمال، والأصل عدم قبض هذا الجزء الفائت، والذي يدعي عدم قبضه المشتري، فيكون القول قول المشتري وهذا وجهه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«البينة على المدعي واليمين على من أنكر»

(1)

، فالبائع الآن يقول: إني بعت عليك هذا الشيء

(1)

أخرجه البخاري في التفسير/ باب {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بَعَهْدِ اللَّهِ} .. } (4552)؛ ومسلم في الأقضية/ باب اليمين على المدعى عليه (1711) عن ابن عباس رضي الله عنهما ولفظه: «لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه» واللفظ الذي أشار إليه الشيخ رحمه الله عند البيهقي (10/ 252) هكذا: «ولكن البينة على المدعي واليمين على من أنكر» ، قال الحافظ في «البلوغ» (1408): بإسناد صحيح.

ص: 325

سليماً، وهو يقول بعته علي معيباً، والمسألة محتملة فالقول: قول المشتري؛ لأن الأصل عدم قبض هذا الجزء الفائت بالعيب، فيكون المشتري مدعى عليه والبائع مدعياً، وهذه الرواية من مفردات مذهب الإمام أحمد رحمه الله.

والقول الثاني: أن القول قول البائع، وهو مذهب الأئمة الثلاثة رحمهم الله وهو القول الراجح؛ للأثر والنظر، أما الأثر فقول النبي صلى الله عليه وسلم:«إذا اختلف المتبايعان فالقول ما قال البائع أو يترادَّان»

(1)

، وهذا نص صريح؛ ولأن المشتري مدعٍ أن العيب سابق، حتى على قاعدة الفقهاء، المدعي: من إذا سكت تُرك، والمشتري هنا لو سكت لم يُطالب، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:«البينة على المدعي» ، والمدعي هنا بلا شك هو المشتري، فنقول له: إيت ببينة أن العيب حدث عند البائع.

وأما النظر فلأن الأصل عدمُ وجودِ العيب والسلامةُ، ودعوى أن العيب سابق على العقد خلاف الأصل، وإذا كان لا

(1)

أخرجه الإمام أحمد (1/ 466)؛ وأبو داود في البيوع/ باب إذا اختلف المتبايعان والمبيع قائم (3511) والنسائي في البيوع/ باب اختلاف المتبايعين في الثمن (7/ 302)؛ والترمذي في البيوع/ باب ما جاء إذا اختلف البيعان (1270)؛ وابن ماجه في التجارات/ باب البيعان يختلفان (2186)، واللفظ لأحمد وابن ماجه عن ابن مسعود رضي الله عنهما، والحديث صححه الحاكم (2/ 45) ووافقه الذهبي، وحسنه البيهقي (5/ 332) وقال:«قد روي بأسانيد مراسيل إذا جمع بينها صار الحديث بذلك قوياً» . وانظر: «التلخيص» (1222) و «الإرواء» (5/ 166).

ص: 326

يقبل قول المشتري في أصل العيب، فكذلك لا يقبل قوله في زمن العيب.

ولكن يجب أن نعلم أن كل من قلنا القول قوله، فإنه لا بد من اليمين، وهذه قاعدة عامة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«اليمين على المدعى عليه ـ وفي لفظ ـ على من أنكر، لو يُعطى الناس بدعواهم لادَّعى رجال دماء قوم وأموالهم»

(1)

.

فإن قال قائل: المدعي يسهل عليه أن يحلف، أولاً: لأجل أن يصر على قوله، وثانياً: طمعاً.

ولكن نقول: إذا حلف على يمين هو فيها كاذب يقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان، ولا يمكن لمؤمن أن يُقدم على هذا العمل، وقال الإمام أحمد رحمه الله: اليمين الفاجرة تدع البلاد بلاقع، أي: أنها متلِفة، وهذا هو الواقع.

ولقد حدثني أحد الأشخاص الموثوقين أنه صار له دعوى على شخص بدراهم، وليس له بها بينة وهي ثابتة، فتحاكموا إلى القاضي وحكم ببراءة المدعى عليه باليمين، وحلف أنه بريء منها، فدعا عليه المحكوم عليه، فخرج هو وعائلته من البلد التي جرى فيها التحاكم إلى بلد قريبة منها، فأصيب بحادث ومات هو وعائلته، وهذا شاهد لقول الإمام أحمد: إنها تدع الديار بلاقع، أي: خالية ليس فيها أحد، ففائدة اليمين أن فيها خطراً عظيماً دنيوياً وأخروياً، ولا يقدم عليها إنسان إلا رأى النتيجة سيئة قريباً أو بعيداً.

(1)

سبق تخريجه ص (325).

ص: 327

‌السّادِسُ: خِيَارٌ فِي البَيعِ بِتَخْبِيرِ الثّمَنِ، مَتَى بَانَ أقَلّ أوْ أكْثَرَ، وَيَثْبُتُ فِي التَّوْلِيَةِ، وَالشّرِكَةِ، والمُرَابَحَةِ، وَالمُواضعَةِ وَلَا بُدَّ فِي جَمِيْعِها مِن مَعرِفَةِ المُشتَرِي رَأسَ المَالِ ..

قوله: «السادس» أي من أقسام الخيار.

قوله: «خيار في البيع بتخبير الثمن» «بتخبير الثمن» متعلق بالبيع، وليس متعلقاً بخيار، أي: فيما إذا باعه بتخبيره بالثمن، وتخبير بمعنى إخبار؛ لأنه مصدر خبر يخبر تخبيراً، ويماثله أخبر يخبر إخباراً.

والظاهر ـ والله أعلم أن الفقهاء رحمهم الله تناقلوها، عبَّر بها الأول ثم تبعه الآخر، وإلا لو قيل: خيار يثبت فيما إذا أخبره بالثمن لكان أوضح، أي: إذا باع الشيء، وقال المشتري: كم الثمن؟ قال: الثمن مائة ريال وهو باعه برأس ماله، الآن أخبره بالثمن، بأن رأس المال مائة ريال، فإذا تبين أن رأس المال تسعون ريالاً، فحينئذٍ يثبت له الخيار بسبب إخبار البائع إياه بالثمن؛ فتبين أن إخباره بالثمن غير صحيح؛ لأنه قال: بمائة، ثم ثبت أنه اشتراه بثمانين.

مثال آخر: جاءني رجل فقال: أنا اشتريت سيارة بثمانين ألفاً، فجاءني رجل وقال: بعنيها برأس مالها، قلت: بعتها عليك برأس المال، فكم رأس المال؟ قلت: مائة ألف، فقال: قبلت، ثم تبين بعد ذلك أن الثمن ثمانون ألفاً، فالبائع حينئذٍ كذب على المشتري حيث أخبره بما لا صحة له.

فسبب ثبوت الخيار للمشتري التخبير الكاذب بالثمن؛ لأن البائع أخبره خبراً كاذباً بثمن هذه السلعة، وهو نوع من الغش والتدليس، فإنه أظهر السلعة بثمن كثير وهي في الواقع بثمن قليل، وهذا حرام، ولهذا جُعل للمشتري الخيار.

ص: 328

والبيع بالتخبير يقابله البيع بالمساومة، فالبيع بالتخبير فيه نوع من التقييد والبيع بالمساومة فيه نوع من التحرر، فالبائع والمشتري غير مقيدين بثمن، والبيع بالمساومة أسلم من وجه ولكنه أخطر من وجه آخر، أسلم من جهة أنه لا يكون فيه كذب، ولكنه أخطر من جهة أن البائع ربما يزيد في ثمن السلعة كثيراً، ففي كل منهما سهولة من وجه وخطورة من وجه آخر، والغالب أن التخبير أشد طمأنينة للمشتري.

قوله: «متى بان أقل أو أكثر» «متى بان أقل» واضح؛ لأن المشتري مغبون، أي: متى بان الثمن أقل مما أخبر به، لكن قوله:«أو أكثر» تصويرها صعب، ولهذا لا توجد هذه العبارة «أكثر» لا في «الإقناع» ، ولا في «المنتهى» ، ولا في «المقنع» الذي هو أصل هذا الكتاب، ولا غيره، وهي عند التأمل لا وجه لها، فلعلها سبق قلم من المؤلف.

فإذا بان أكثر فليس بمغبون، اللهم إلا إذا قال المشتري: أنا لا أريد أن يمن علي، أنا أريد الثمن الحقيقي بلا زيادة، فهذه ربما تكون صورة المسألة، وأما من الناحية المالية فمتى بان أكثر، فالواقع أن الحظ في جانب المشتري، فكيف يثبت له الخيار؟!

قوله: «ويثبت في التولية، والشركة، والمرابحة، والمواضعة» وجه حصره في هذه الأربع أن هذه هي الصور الممكنة عقلاً، فالبيع بالتخبير يمكن في صور أربع فقط.

ص: 329

التولية هي أن يبيعه برأس ماله، وسميت تولية؛ لأن المشتري صار بدلاً عن البائع، وكأنما يصير وليّاً له أي متابعاً له، كأنه يقول له: وليتك ما توليت، فيشتريه بمائة، ويأتيه آخر ليشتريه منه، فيقول: بعته عليك برأس المال فهذه تولية.

والشركة أن يبيع عليه بعضه بقسطه من الثمن، مثل أن يبيع عليه النصف فيكون على المشتري الثاني نصف الثمن، أو الثلث، أو الربع، أو أكثر، أو أقل، والبيع بالشركة قد يكون تولية وقد يكون مرابحة وقد يكون مواضعة.

والمرابحة أن يبيعه برأس ماله وربح معلوم، فيقول: بعتك برأس ماله وربح عشرة ريالات، أو بعتك برأس ماله مع ربح العشر، أي: سواء عين الربح أو نسبته.

المواضعة أن يضع من الثمن، فيقول: بعتك إياه بخسارة عشرة ريالات، أو العشر، أو الخمس، أو ما أشبه ذلك.

أمثلة أخرى على هذه الصور الأربع:

مثال التولية: أن يقول: اشتريت سيارة بمائة ألف، فجاءني رجل فقال: بعنيها برأس مالها، فقلت: بعتكها برأس مالها.

مثال الشركة: اشتريت أرضاً بمائة ألف، فجاءني رجل فقال لي: اجعل لي نصف الأرض، أنا أريد أن أعمر مستراحاً لي، فقلت: أشركتك بنصف الأرض على حسب رأس المال، فهذه شركة، لكنها حسب الثمن تولية؛ لأنه لم يربح عليه ولا نزل له من الثمن.

ص: 330

مثال المرابحة: اشترى سيارة بمائة ألف فجاءه إنسان، وقال: أنا أريد أن أربحك فبعنيها بربح عشرة آلاف، فيقول: بعتك، هذه مرابحة، أو يقول: بعنيها بربح العشر، فتكون مائة وعشرة آلاف، فالمرابحة تكون بالنسبة، وتكون بالتعيين.

مثال المواضعة: عكس المرابحة، فيقول: اشتريتها بمائة وأضع لك عشرة في المائة، أو يقول: العشر، فتكون بتسعين.

قوله: «ولا بد في جميعها من معرفة المشتري رأس المال» أي: إن بعتها تولية لا بد أن يعرف المشتري رأس المال؛ لأنه إذا لم يعرفه صار مجهولاً، ومن شرط صحة البيع العلم بالثمن.

وظاهر كلام المؤلف حتى ولو كان البائع ممن عرف بالمتاجرة، ووثق من شرائه، فإنه لا بد أن يعرف المشتري رأس المال، فلو جاءني وقال: اشتريت منك هذه الأرض برأس مالها، فقال: بعتك إياها، والمشتري لا يعلم كم رأس المال، فإن البيع لا يصح؛ لأن الثمن مجهول، ومن شروط البيع أن يكون الثمن معلوماً.

ويتخرج القول بالجواز على جواز البيع بمثل ما باع به فلان إذا كان المشتري معروفاً بالحذق في البيع والشراء، والمشتري الذي هو البائع في المسألة الثانية.

مثاله: اشتريتُ أرضاً بمائة ألف ريال، وأنا ممن يتجر في الأراضي ولا يُغبن فيها، فجاءني رجل وقال: بعني الأرض التي اشتريتها برأس مالها، فقلت: بعتها عليك، وهو لا يدري

ص: 331

بكم اشتريتها، لكنه يعرف أنني رجل متاجر حاذق لا أغبن في الشراء.

فعلى المذهب لا يجوز، لكن كما سبق يتخرج على القول بجواز البيع كما يبيع الناس أو كما يبيع فلان أنه يجوز، وهو الصحيح؛ لأن كثيراً من الناس إذا عرف أن هذا الرجل ممن يتاجرون بهذه السلعة، وأنه حاذق فيها يثق به، بل ربما لو أراد أن يشتريها لجاء إليه يستشيره، ولكن لا شك أن الأولى والأحسن أن يعلم بالثمن؛ لأن الإنسان قد يقدر ثمن هذه السلعة قليلاً ويكون كثيراً، وهذا يقع بكثرة، فإذا عقد البيع ولزم البيع، فإنه ربما يستحي أن يقول: رجعت، فمن ثم نقول: لا شك أن الأولى بيان الثمن للمشتري؛ لما يلي:

أولاً: للخروج من الخلاف.

ثانياً: لأنه أطيب للقلب، لكن كون هذا شرطاً فيه نظر، بل نقول: إذا كان البائع الذي باع برأس المال ممن عرف بالحذق بالتجارة فإنه يكفي الاعتماد على حذقه واتجاره.

قال في «الروض»

(1)

: «لا بد من معرفة المشتري والبائع رأس المال» الماتن حذف كلمة «البائع» والشارح قال: «والبائع» وإنما حذفها الماتن؛ لأن الغالب أن البائع يعلم رأس المال، لكن قد لا يعلم، بل كثيراً ما يقع وهو لا يعلم؛ مثل أن يكون البائع تاجراً له وكلاء، فاشترى وكيله له أرضاً ثم

ص: 332

جاء رجل، وقال للتاجر: بعني الأرض المذكورة برأس المال، قال: أبيعها عليك، فالبائع حينئذٍ لا يعلم، والوكيل هو الذي يعلم، واشتراط علم البائع برأس المال أوكد من اشتراط علم المشتري برأس المال؛ لأن البائع ربما يغبن غبناً كثيراً، فربما يكون وكيله قد اشتراها في زمن الرخص مثلاً بمائة ألف، وهي تساوي مائتين، أو ارتفع السعر وبلغت ضعف قيمتها، وهذا التاجر لا يعلم، فإذا باعها عليه برأس المال، وقال الوكيل: رأس مالها مائة ألف، وهي تساوي مائتي ألف أو أكثر، فسيقول البائع: إن هذا المشتري غبنني وخدعني ويكون في قلبه حسرة، لا سيما إن كان من الحريصين على الدنيا، ويمثلون قول المتنبي:

بليت بِلى الأطلال إن لم أقف بها

وقوف شحيح ضاع في الترب خاتمه

تشبيه عجيب!! الأطلال هي بقايا الديار، فهذا رجل شحيح ضاع خاتمه في التراب، فسيبقى في التراب يبحث حتى يجد الخاتم.

فالحاصل أنه لا بد في الخيار بتخبير الثمن من علم البائع والمشتري برأس المال؛ لأن عدم معرفتهما بذلك جهل، والجهل غرر، وقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر

(1)

.

فإذا باع عليَّ رجل سلعة برأس مالها، فقلت له: كم رأس المال؟ فقال لي: مائة، ثم تبين أن رأس المال ثمانون، فإن لي الخيار، إن شئت أمسكتها وإن شئت رددتها، وهذا الذي مشى

(1)

سبق تخريجه ص (143).

ص: 333

عليه المؤلف رواية عن الإمام أحمد، والمذهب أنه لا خيار، فيقال له: نضع عنك الزائد وتلزمك؛ لأن هذا من مصلحته، فكيف نثبت له الخيار بشيء اشتراه برأس المال، وقيل له: إن رأس المال مائة ورضي بمائة، ثم تبيّن أن رأس المال ثمانون، فالخيار لدفع الضرر، وهذا الذي اشترى برأس المال على أنها بمائة، ثم تبين أنها بثمانين وسيأخذها بالثمن الحقيقي ليس عليه ضرر فلا خيار له.

لكن لو رأى القاضي إذا ترافعوا إليه أن من المصلحة إثبات الخيار له؛ لكونه يعلم أن البائع مدلس، فحينئذٍ يتوجه القول بإثبات الخيار تأديباً للبائع على التدليس والكذب، وأما إذا لم يكن هناك شيء فلا يمكن؛ لأن المشتري قد يجعل كون الخيار له وسيلة لترك المبيع؛ لأن قيمته في السوق نقصت فنفتح باب الحيل على الناس.

لكن لو قال البائع: غلطت، قلت: إن الثمن مائة وظننت أنها السلعة الفلانية، أو أن قيمة هذه السلعة مائة غلطاً، فإنه لا يقبل قوله إلا ببينة؛ لأنه مدعٍ، وإذا لم يكن عنده بينة فالقول قول المشتري، فيحلف أنه لا يعلم أن البائع غلط، ويثبت له الخيار على القول بالخيار.

وسبق أنه لو قيل بقول وسط في هذه المسألة، وهو أنه إذا ثبت أن البائع كاذب متعمد، فإنه ينبغي أن يمكن المشتري من الخيار، تأديباً للبائع وعقوبة له.

‌وَإِن اشْتَرى بِثَمَنٍ مُؤجَّلٍ أوْ مِمّنْ لا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ، أَوْ بأكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهِ حيِلَةً،.

قوله: «وإن اشترى بثمن مؤجَّل» «اشترى» الفاعل يعود على

ص: 334

البائع تولية ولم يبين، مثل أن يقول: بعتك هذا الكتاب برأس ماله، وهذا بيع تولية، فقال: كم رأس ماله؟ قال: رأس ماله عشرون درهماً، قال: اشتريته، وكان هذا الذي باعه قد اشتراه بعشرين درهماً مؤجلاً ولم يخبر المشتري ـ ومعلوم أن الثمن المؤجل يكون أكثر ـ فاشتراه المشتري وصدقه وأخذه بعشرين، ثم تبين أن هذا الثمن كان ثمناً مؤجلاً، فهو صادق في أنه اشتراه بعشرين، لكنه ثمن مؤجل، فنقول: للمشتري الخيار إن شاء أمسكه وإن شاء رده؛ وتعليل ذلك أن البائع غرَّه وخدعه، وقد قال صلى الله عليه وسلم:«ليس لعرق ظالم حق»

(1)

، فجزاؤه أن يفسد عليه أمره، وأن يقال للمشتري: أنت بالخيار.

هذا هو الذي مشى عليه المؤلف ـ وهو وجيه جداً ـ وهو الصواب إذا كان البائع الذي باع برأس ماله قد خدعه فنعامله بنقيض قصده.

(1)

أخرجه البخاري تعليقاً في الحرث والمزارعة باب/ من أحيا أرضاً مواتاً؛ وأبو داود في الخراج/ باب في إحياء الموات (3073)؛ والترمذي في الأحكام/ باب ما ذكر في إحياء أرض الموات (1378)؛ عن سعيد بن زيد رضي الله عنه وقال الترمذي: (حسن غريب، وقد رواه بعضهم عن هشام بن عروة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً)؛ وأخرجه أبو داود (3074) عن عروة بن الزبير قال: قال رجل من الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحسنه الحافظ في «البلوغ» (897).

وقد روي أيضاً عن عائشة رضي الله عنها مرفوعاً عند الطيالسي (1440)؛ والدارقطني (4/ 217)؛ والبيهقي (6/ 142)، وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه في زيادات عبد الله على «المسند» (5/ 326)؛ والطبراني في الكبير كما في المجمع (4/ 174).

قال الحافظ في الفتح (5/ 19): «وفي أسانيدها مقال، ولكن يتقوى بعضها ببعض» ، ومثله في «الإرواء» (5/ 356).

ص: 335

والمذهب أنه ليس له حق الفسخ، ولكنه يأخذه بأجله؛ وتعليل ذلك أنه في هذه الحال لا ضرر عليه؛ إذ إنه زاده خيراً، فهو في الأول قد رضي أن يشتريه نقداً بعشرين، والآن صار عليه مؤجلاً بعشرين، والتأجيل أرفق به فيكون قد زاده خيراً؛ لأنه سينتفع بالثمن فيبيع به ويشتري، وإذا حل الأجل سلمه للبائع وليس له الخيار؛ لأن الخيار إنما هو لدفع الضرر، وهنا لا ضرر.

ولكن مع ذلك يقال: قد يكون زاده خيراً، وقد يكون زاده شراً، وربما يقول المشتري: أنا أَحَبُّ إلي أن أشتري بنقد؛ لأن الدراهم الآن معي فإن بقيت معي إلى الأجل فربما أصرفها في أشياء غير مفيدة لي، وقد لا يرضى بالتأجيل، فلا يريد أن يبقى الشيء ديناً في ذمته، وربما يكون ـ أيضاً ـ في بلد ظالم واليها، فيخشى إن بقي عنده شيء من المال أن يؤخذ منه مصادرة، ويقول: التعجيل أحب إلي من التأجيل.

ولكن الجواب على هذا أن يقال: إن هذه حال نادرة، والأصل عند جميع الناس من حيث العموم أن المؤجل أيسر على باذله من الحالّ.

ولكن كما سبق إذا علمنا أن البائع قد خدعه يقيناً فإنه في هذه الحال نقطع عليه الطريق، ونقول للمشتري: أنت بالخيار إن شئت افسخ، وإن شئت خذه بأجله.

فإذا قلنا: يأخذه بأجله، فهل يكمل الأجل، أو يبتدئ الأجل من جديد؟

ص: 336

الجواب: يأخذه من جديد؛ لأن الثمن من أوصافه أن يكون مؤجلاً، فيأخذه بأجله ابتداءً، فإذا قدر أنه باعه بعد أن اشتراه بثلاثة أشهر والأجل ستة أشهر يستأنف ستة؛ لأن هذا هو الثمن.

قوله: «أو ممن لا تقبل شهادته له» أي: أو اشترى البائع بتخبير الثمن ممن لا تقبل شهادته له، ثم باعه على آخر ولم يخبره فللثاني الخيار؛ لأن الغالب أن الإنسان مع من لا تقبل شهادته له، لا يستقصي في الثمن، فالغالب أنه لا يماكس.

والذي لا تقبل شهادته له أصوله وفروعه، الآباء والأمهات والأجداد والجدات، والأبناء والبنات وأبناء الأبناء وأبناء البنات، وكذلك الزوجان لا تقبل شهادة أحدهما للآخر.

مثاله: رجل اشترى من أبيه سلعة بمائة، ثم باعها على آخر برأس مالها، ثم تبين للمشتري أن الذي باع عليه قد اشترى من والده، فيقول المؤلف: له الخيار.

وظاهر كلامه أن له الخيار سواء غبن أم لم يغبن، بناءً على أن العادة أن الإنسان لا يستقصي فيما إذا اشترى ممن لا تقبل شهادته له.

ووجه الخيار للمشتري أن البائع لو اشترى من أجنبي لماكسه وكاسره، أما أبوه فيستحي منه، وكذلك يقال في الابن.

والصحيح في هذه المسألة أنه لا يثبت له الخيار إلا إذا ظهر في ذلك غبن، فله الخيار ويكون من باب خيار الغبن، أما إذا لم يكن هناك غبن فإنه كثيراً ما يشتري الإنسان من أصوله أو فروعه، ويستقصي في الثمن.

ص: 337

قوله: «أو بأكثر من ثمنه حيلة» أي: إذا اشترى البائع الذي باعه بتخبير الثمن بأكثر من الثمن حيلة.

مثاله: رجل يطلب من آخر مائة ريال، والمطلوب يماطل، كلما جاءه قال: انتظر، وفي يوم من الأيام اشترى منه سلعة تساوي ثمانين بمائة، فلما اشتراها، قال المشتري ـ الذي هو الطالب ـ للبائع ـ المطلوب الذي يماطل ـ: إذاً مقاصة، فهذا الشراء ليس لرغبة في السلعة؛ بل حيلة على استخلاص حقه؛ فإذا جاء رجل آخر، وقال له: بعني هذه السلعة، فقال: أبيعها عليك برأس المال مائة، ثم تبين بعد ذلك أنه اشتراها بمائة حيلة، ليخلص دينه من هذا المماطل وهي تساوي ثمانين فللمشتري الخيار.

وكذلك إذا كان بأكثر من ثمنه محاباة، أي أن الذي باع بالتخبير اشترى هذه السلعة من شخص صديق له، وهي لا تساوي مائة، لكن اشتراها بمائة؛ لأنه صديقه، أو اشتراها بمائة؛ لأنه رأى أن هذا الرجل فقير، فقال: أزيد الثمن محاباة له وجبراً لخاطره، ثم إن هذا المشتري باعها بالتخبير بالثمن، وقال: إن ثمنها مائة، فنقول للمشتري الذي اشترى بالتخبير بالثمن: لك الخيار إذا تبين أنها أكثر من ثمنها من أجل المحاباة؛ لأن الإنسان إذا حابى أحداً لا يهمه أن يزيد عليه ريالين أو ثلاثة أو عشرة، وأنه إذا باع عليه ـ أيضاً ـ لا يهمه أن ينقص ريالين أو ثلاثة أو عشرة.

قال في «الروض» : «أو لرغبة تخصه»

(1)

، أي الذي باع

(1)

الروض مع حاشية ابن قاسم (4/ 461).

ص: 338

بتخبير الثمن، اشترى هذه السلعة لرغبة تخصه ليس لأنها زادت في السوق، بل لرغبة تخصه.

مثاله: رجل اشترى بيتاً إلى جنب بيته، فالبيت يساوي مائة ألف، واشتراه بمائة وعشرين؛ لأنه إلى جانب بيته ويداخل البيت، فهذه رغبة تخص المشتري، فلو لم يكن جاراً له لم يشتره بمائة وعشرين، ثم إنه طابت نفسه من البيت وباعه على إنسان بالتخبير بالثمن، فقال المشتري الآخر: بكم اشتريته؟ قال: بمائة وعشرين، قال: أخذته برأس ماله، وتبين أن المائة والعشرين أكثر من الثمن، وأن ثمنه مائة، وزاد العشرين لرغبة تخص المشتري، وهو كونه إلى جنبه ومداخلاً بيته.

مثال آخر: اشترى شاة حلوباً بمائة وعشرين؛ لأن عنده خروفاً من الغنم يحتاج إلى لبن، فاشتراها بمائة وعشرين؛ من أجل أن ترضع هذا الخروف، ثم انتهى رضاعه، وجاء إنسان وقال: اشتريها منك برأس المال مائة وعشرين، ثم تبين أنه اشتراها بمائة وعشرين من أجل إرضاع الخروف.

قال في «الروض» : «أو موسم فات»

(1)

، أي: اشتراه في أيام الموسم.

مثاله: اشترى شاة في عيد الأضحى، وعادة أن الغنم في عيد الأضحى ترتفع قيمتها، فاشترى هذه الشاة بمائة وفي غير الموسم تساوي ثمانين، ثم إنه بعد أن فات الموسم باعها برأس مالها مائة، وهو أكثر من الثمن؛ لأنه اشتراها في موسم، والموسم قد فات.

(1)

الروض مع حاشية ابن قاسم (4/ 461).

ص: 339

أما لو باعها في نفس الموسم فهذا لا بأس، لكنه الآن قد فات، فنقول: للمشتري الخيار.

إذاً متى بان الثمن أكثر لسبب من الأسباب يتعلق بالمشتري أو يتعلق بالمبيع، فإن للمشتري الآخر الخيار.

‌أوْ بَاعَ بَعْضَ الصّفْقَةِ بِقِسْطِهَا مِنَ الثَّمَنِ، وَلَمْ يُبَيّن ذَلِكَ في تَخْبِيْرِهِ بِالثَّمَنِ، فَلِمُشْتَرٍ الخِيّارُ بَيْنَ الإِمْسَاكِ والرّدِ، وَمَا يُزَادُ فِي ثَمَنٍ، أَو يُحَطُّ مِنْهُ فِي مُدَّةِ خيَارٍ أوْ يُؤخَذُ أرْشاً لعَيْبٍ، أو جنَايةٍ عَلَيْهِ يُلْحَقُ بِرَأسِ مَالِهِ وَيُخْبِرُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ لُزُومِ البَيْعِ لَمْ يُلْحَقْ بِهِ وَإِنْ أخْبَرَ بِالحَالِ

فَحَسَنٌ.

قوله: «أو باع بعض الصفقة بقسطها من الثمن ولم يبين ذلك في تخبيره بالثمن، فلمشترٍ الخيار بين الإمساك والرد» مثال ذلك: اشترى ثلاث سيارات بستين ألفاً، ثمن كل واحدة عشرون ألفاً، باع واحدة منها بقسطها من الثمن عشرين ألفاً، ثم باع الثنتين تولية بأربعين ألفاً، ثم تبين أنه اشترى ثلاث سيارات وباع واحدة، فللمشتري الخيار، وهذا معنى قوله: أو باع بعض الصفقة بقسطها من الثمن فللمشتري الخيار، لماذا لم تقل له: إني بعتك سيارتين من ثلاث تولية من رأس المال؟ لا بد أن تبين.

والمذهب أنه إذا كان الثمن ينقسم على المبيع بالأجزاء فلا خيار؛ لأنه ليس فيه ضرر، وإن كان ينقسم عليه بالقيمة ففيه الخيار؛ لأنه إذا كان ينقسم عليه بالقيمة، فالقيمة قد تزداد إذا زاد المبيع وقد تنقص، كما هو معروف في بيع الجملة والتفريد.

أما إذا كان الثمن ينقسم عليه بالأجزاء بحيث إن كان جزء له قسطه من الثمن، فإنه إذا باع بعض الصفقة بقسطها من الثمن وباع الباقي تولية ولم يذكر أنه باع منها شيئاً، فلا خيار له؛ لأنه لا ضرر عليه، فلو باع ثلاث سيارات بستين ألفاً، قِيمتها مجموعة

ص: 340

ومفردة واحدة، فإذا باع واحدة بعشرين ألفاً، فإنه بالضرورة يكون الباقي بأربعين ولا ضرر على المشتري، بخلاف ما إذا اشترى كيساً من القمح بتسعين درهماً ثم باع ثلثه بثلاثين درهماً، فإنه في هذه الحال ربما يكون الباقي يساوي ستين وقد يساوي أكثر، فإذا كان الثمن ينقسم بالقيمة على المبيع، فإنه إذا باع بعضه ولم يخبر به فللمشتري الخيار، وإن كان ينقسم بالأجزاء فإنه لا حرج أن يبيع الباقي بقسطه من الثمن وإن لم يخبر المشتري، وهذا التفصيل أقرب إلى الصواب؛ لأن المشتري لا ضرر عليه إطلاقاً، أما ظاهر كلام المؤلف فإن فيه الخيار مطلقاً، سواء كان الثمن ينقسم على المبيع بالأجزاء أو ينقسم عليه بالقيمة.

فإذا قال قائل: كيف يكون له الخيار؟.

نقول: لأن الناس يفرقون بين بيع التجزئة وبيع الجملة، وقد يزيد الإنسان الثمن في الجملة أو في التجزئة حسب الرغبات، وبهذا نعرف حرص العلماء ـ رحمة الله عليهم ـ على الصدق في البيع والشراء، وإلا لقال بعض الناس: ما دام أنه باع النصف بنصف الثمن، فلماذا لا يكون ملك هذا بخمسين، فيجب أن يصدق، فيقال: هو لم يحصله بخمسين، وإنما حصل عليه مع البقية بمائة، وهذا يساوي خمسين، فالواجب أن يبين.

قوله: «وما يزاد في ثمن» أي: في مدة الخيار فإن يجب أن يخبر به.

مثاله: اشترى شيئاً بمائة وفي أثناء المجلس، قال البائع: أنا مغبون لا أبيعه إلا بمائة وعشرين، وإلا لي الخيار فنحن الآن

ص: 341

في المجلس، قال المشتري: قبلت بمائة وعشرين، فجاء رجل آخر يريد أن يشتري من المشتري برأس المال، هل يقول: رأس مالي مائة وعشرون؟

الجواب: لا، لا بد أن يخبر به فيقول: اشتريته بمائة، ثم في زمن الخيار زاد عليَّ؛ لأن العقد الأول كان على مائة فيجب أن يصدق، حتى في هذه الصورة يجب أن يلحق الزيادة برأس المال ويخبر به.

قوله: «أو يحط منه في مدة خيارٍ» أي: في مدة الخيار كذلك فيجب أن يخبر به.

مثاله: لما تم البيع بين البائع والمشتري وهما في المجلس، قال المشتري: أنا مغبون، اشتريته منك بمائة وهو لا يساوي إلا ثمانين، واتفقا على ثمانين فباعه بثمانين، فإذا اشتراه أحد منه برأس ماله فلا بد أن يقول: اشتريته بمائة، ثم حاططته إلى ثمانين مراعاة للعقد الأول؛ لئلا يلغى العقد الأول، أما إذا كان الإسقاط بعد التفرق، مثل: أن اشتريت هذا البيت بعشرة آلاف ريال وتفرقنا وأتيت بالدراهم إلى البائع، فقال: إني الآن أسقط عنك ألف ريال، فإنه هنا لا يجب الإخبار؛ لأنه قال: في مدة خيار وهنا الإسقاط وقع بعد لزوم البيع.

قوله: «أو يؤخذ أرشاً لعيب» مثاله: اشترى رجل شاة بمائة ريال، ثم وجد بها عيباً قُوِّمَ بعشرين، فدفعها البائع للمشتري، والذي اشترى الشاة باعها برأس مالها فهل يقول: إني اشتريتها بثمانين أو يقول بمائة ثم نزلت للعيب عشرين؟

ص: 342

الجواب: الثاني، فلا بد أن يقول هذا، حتى يكون صادقاً في أنه اشتراها بمائة، ثم رُدَّ عليه عشرون من أجل العيب.

قوله: «أو جناية عليه يلحق برأس ماله ويخبر به» .

مثاله: اشترى عبداً بمائة، ثم إن العبد جُنِيَ عليه، بقطع بعض أطرافه أو ما أشبه ذلك، وكان أرش الجناية التي جُنِيَ بها على العبد خمسين فباعه برأس مالها، فإذا باعه برأس ماله وهو معيب يجب أن يقول: إني اشتريته بمائة فجُني عليه بخمسين، فيبين الواقع.

قوله: «وإن كان ذلك» المشار إليه الزيادة والنقص، وليس الجناية.

قوله: «بعد لزوم البيع لم يُلحق به» لأن البيع استقر على الثمن الأول، وأما ما أخذ أرشاً لعيب أو أخذ أرشاً لجناية فيخبر به، وإن كان بعد لزوم البيع، لكن الزيادة والنقص في الثمن يشترط لأن يخبر به أن يكون ذلك قبل لزوم البيع، أما بعد لزوم البيع فإنه لا يجب، ولذلك لو أن البائع الأول الذي باعه بمائة وتم البيع وتفرقا أبرأ المشتري من الثمن، ثم إن المشتري باعه برأس ماله، هل يلزمه أن يقول: إني اشتريته بمائة وأبرأني منها؟

الجواب: لا يلزمه؛ لأن هذا بعد لزوم البيع؛ ولهذا قال: «وإن كان ذلك بعد لزوم البيع لم يُلحق به» .

ص: 343

مسألة: إنسان اشترى ثوباً متسخاً بعشرة دراهم ثم أعطاه القصَّار «الغسَّال» فغسله بدرهمين، فيكون قد تحصل عليه باثني عشر درهماً، فجاءه إنسان وقال: أريد أن تبيعني إياه برأس المال، قال: رأس المال اثنا عشر درهماً، فلا يجوز، مع أنه لم يتحصل عليه إلا باثنى عشر درهماً، فلا بد أن يقول: اشتريته بعشرة دراهم، وغسلته بدرهمين، كل هذا تحرياً للصدق في المعاملات؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المتبايعين:«إن صدقا وبيَّنا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما مُحقت بركة بيعهما»

(1)

.

وعلى هذا فكل شيء يتغير به الحال في باب التولية فلا بد من بيانه.

قوله: «وإن أخبر بالحال» يعني حتى ولو بعد لزوم العقد.

قوله: «فحسن» وعلل ذلك في «الروض» بقوله: لأنه أبلغ في الصدق

(2)

.

مسألة: هل يلزمه أن يخبر بكسب العبد، ونماء البهيمة المنفصل فيسقطه من الثمن أو لا يلزم؟.

الجواب: لا يلزم، فلو اشترى عبداً بعشرة آلاف، وبقي عنده شهراً أو شهرين وكسب في هذه المدة ألفين، ثم باعه برأس ماله، وقال: رأس ماله عشرة آلاف، ولا يلحق بها الألفين؛ لأن هذا نماء منفصل وهو للمشتري؛ لأنه في ملكه.

(1)

سبق تخريجه ص (262).

(2)

«الروض مع حاشية ابن القاسم» (4/ 464).

ص: 344

‌السّابِعُ: خِيَارٌ لاِخْتَلَافِ المُتَبَايِعَيْنِ، فَإذَا اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الثّمَنِ تَحَالَفَا، فَيَحْلِفُ بَائِعُ أوّلاً مَا بِعْتُهُ بكَذَا وَإِنّمَا بِعْتهُ بِكَذا، ثُمّ يَحْلِفُ المُشْتَرِي مَا اشْتَرَيتُهُ بِكَذا، وَإِنّمَا اشْتَريْتُهُ بِكَذَا،

قوله: «السابع: خيار لاختلاف المتبايعين» والخلاف بين المتبايعين من قديم الزمان، فيختلفان في الجنس أو في القدر أو في الصفة أو في العين، أو في أجل أو شرط، والاختلافات لا حصر لها.

والعلماء رحمهم الله ذكروا ما يشبه القواعد في هذا الباب، إذ إن جزئيات المسائل لا يمكن الإحاطة بها، وليس كل اختلاف يوجب الخيار، بل الاختلاف الذي دلت السنة على ثبوت الخيار في مثله، ولهذا يقول في «الروض»:«في الجملة»

(1)

، والفقهاء إذا قالوا:«في الجملة» ، فالمعنى أكثر الصور، وإذا قالوا:«بالجملة» ، فالمعنى جميع الصور، هذا مصطلح عندهم، والفرق أن «في» للظرفية و «الباء» للاستيعاب.

قوله: «فإذا اختلفا في قدر الثمن» بأن قال البائع: بعته بعشرة، وقال المشتري: اشتريته بثمانية، ولم توجد بينة، فإن وجد بينة تشهد بقول أحدهما فالأمر ظاهر، يحكم بما قالت البينة.

وهل القرينة هنا تنفع؟ أي: لو قيل: إن ما ادعاه المشتري أقرب إلى الثمن في السوق مما ادعاه البائع؟

الجواب: في هذا تفصيل، فإذا كان ما ادعاه أحدهما بعيداً لا يمكن، فهذا لا يقبل، ولا يلتفت له، ولا تُسمع دعواه، وإن كان محتملاً فعلى ما قال المؤلف وسيذكر إن شاء الله.

ص: 345

مثال هذا: باع شخص سيارة على آخر تساوي في السوق ستين ألفاً، ثم اختلفا في الثمن، فقال البائع: بعتها بستين ألفاً، وقال المشتري: اشتريتها بعشرة آلاف، فهذا لا يمكن إلا لسبب من الأسباب، والأصل عدم السبب، ولذلك لو أن أحداً عرض هذه السيارة التي تساوي ستين ألفاً بعشرة آلاف، لقيل: إن هذا سارقها، أو فيها بلاء، كما قلنا في العيب فيما سبق إذا لم يحتمل إلا قول أحدهما قبل بلا يمين.

قوله: «تحالفا» أي: كل واحد يحلف

(1)

، وهذا مشروط بما إذا لم يكن بينة أو قرينة تكذب قول أحدهما.

فإذ قال قائل: كيف نلزمهما بالحلف، والنبي صلى الله عليه وسلم قال:«البينة على المدعي واليمين على من أنكر»

(2)

؟

قلنا: حقيقة الأمر أن كل واحد منهما مدع ومنكر، فتلزم اليمين كل واحد منهما، فالبائع مدعٍ أن الثمن مائة ومنكر أنه ثمانون، والمشتري مدع أنه ثمانون ومنكر أنه مائة، ولهذا ألزمنا كل واحد منهما بالحلف، فيتحالفان.

قوله: «فيحلف بائع أولاً ما بعته بكذا وإنما بعته بكذا» لأنه هو الذي انتقل الملك عنه، فكان جانبه أقوى؛ لأن الأصل عدم خروج الملك من يد صاحبه، ولأن البائع يريد أن يثبت والمشتري يريد أن ينفي، والنفي لا يكون إلا بعد الإثبات، فيحلف البائع أولاً، فيقول: والله ما بعته بكذا، وإنما بعته بكذا، وعلى المثال

(1)

وهذا هو المذهب.

(2)

سبق تخريجه ص (325).

ص: 346

الذي معنا: والله ما بعته بثمانين وإنما بعته بمائة، فيبدأ بالنفي أولاً كما هي العادة أن التخلية قبل التحلية، ولدفع دعوى المشتري.

قوله: «ثم يحلف المشتري ما اشتريته بكذا، وإنما اشتريته بكذا» ، فيحلف المشتري: والله ما اشتريته بمائة وإنما اشتريته بثمانين، فإذ تمت المحالفة ولم يرض أحدهما بقول الآخر فلكل واحد منهما الفسخ.

وظاهر كلام المؤلف أنه لا بد من تقدم حلف البائع، فلو بدأ المشتري أولاً لم يصح، فإذا قلنا: للبائع احلف ثم حلف المشتري، فيلزم المشتري في هذه الحال أن يحلف ثانية؛ لأن المؤلف يقول:«فيحلف بائع أولاً» .

وظاهر كلام المؤلف ـ أيضاً ـ أنه لا بد من الجمع بين النفي والإثبات، نفي ما ادعاه خصمه وإثبات ما ادعاه هو، وإنما شرط ذلك ليكون دافعاً لما ادعاه خصمه بالنفي مثبتاً لما ادعاه هو بالإثبات، فلو نفى ما ادعاه خصمه فقط، وقال: والله ما بعته بثمانين، فلا يكفي حتى يحلف على ما ادعاه، ولو اقتصر على الإثبات فقط وقال: والله لقد بعته بمائة، وإن هذا المشتري كاذب، فهذا لا يكفي أيضاً، فلا بد أن يقول بالنفي: ما بعته بثمانين وإنما بعته بمائة، ولو قدم الإثبات على النفي فقال: والله لقد بعته بمائة، وما بعته بثمانين، فعلى كلام المؤلف لا يصح، فلا بد من أمور ثلاثة:

الأول: أن يحلف البائع أولاً.

الثاني: أن يجمع بين النفي والإثبات.

ص: 347

الثالث: أن يقدم النفي.

وكذلك يقال بالنسبة لحلف المشتري لا بد من أمور ثلاثة:

الأول: أن يكون هو الثاني في اليمين.

الثاني: أن يبدأ بالنفي قبل الإثبات.

الثالث: أن يجمع بين النفي والإثبات.

وقال بعض أهل العلم: إن القول قول البائع، والدليل على ذلك ما يلي:

1 ـ قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا اختلف المتبايعان فالقول ما قال البائع أو يترادَّان»

(1)

.

2 ـ أن الملك خرج من يده، ولا يمكن أن يخرج إلا بما يرضى به هو ما لم توجد بينة.

وهذا القول أقوى؛ لأنه يؤيده ظاهر الحديث، ويؤيده المعنى أيضاً، ويقال للمشتري: إن رضيت بما قال البائع وإلا فملكه باقٍ، إلا إذا ادعى البائع ثمناً خارجاً عن العادة فحينئذٍ لا يقبل، بأن قال: بعتها بمائة وهي لا تساوي خمسين في السوق.

فإذا قال قائل: لماذا لا يقبل ادعاء البائع؛ لأنه ليس على المشتري ضرر إذ إنه سيفسخ إذا لم يرض بما ادعاه البائع؟

فالجواب: أن في ذلك ضرراً على المشتري؛ لأن المشتري قد تكون حاجته متعلقة بهذه السلعة وقد اشتراها، أو يكون السوق ارتفعت أسعاره أو ما أشبه ذلك، فحينئذٍ نقول: إذا ادعى ثمناً أكثر مما جرت به العادة فإننا لا نقبل قوله لبعده.

(1)

سبق تخريجه ص (326).

ص: 348

وأما على القول بأنهما يتحالفان، فالصحيح أنه لا يحتاج إلى الجمع بين النفي والإثبات، والمقصود هو نفي ما ادعاه صاحبه فقط، أو إثبات ما ادعاه هو، وهذا يحصل بإفراد النفي أو إفراد الإثبات، والجمع بينهما ليس بلازم، وهذا ـ أيضاً ـ أقوى من وجوب الجمع بينهما؛ وذلك لأن المقصود من الألفاظ هو المعاني، فإذا ظهر المعنى اكتفينا به بأي صيغة كانت، فلا يشترط على القول الراجح الجمع بينهما بل نقول: إذا أثبت كفى سواء جاء بطريق الحصر: «والله ما بعته إلا بكذا» ، أو قال:«والله لقد بعته بمائة» .

وإذا قلنا بالجمع ـ أيضاً ـ فالقول الراجح أيضاً، أنه لا يشترط تقديم النفي، وأنه لو قال: والله لقد بعته بمائة وما بعته بثمانين كفى؛ لأن المقصود حصل.

فإن عكسا في الترتيب فبدأ المشتري أولاً ثم البائع فنقول: يعيد المشتري؛ لأنه لا بد من الترتيب كما قال: «فيحلف بائع أولاً» .

وقيل: إنه لا يشترط الترتيب، وأن المشتري لو بدأ أولاً لاعتبرت يمينه؛ لأن المقصود حاصل.

وقيل: يبدأ المدعي، فمثلاً إذا كان المشتري هو الذي قال: اشتريته بكذا قبل أن يدعي عليه البائع أنه باعه بكذا قدم المشتري.

والظاهر بناء على القاعدة العامة: «أن العبرة في الألفاظ

ص: 349

بمعانيها»، فإذا حصل المقصود فإنه يصح ويحكم به، سواء بالتقديم أو التأخير وبتقديم النفي على الإثبات، أو بالاقتصار على الإثبات.

وقوله: «فيحلف بائع أولاً ما بعته بكذا، وإنما بعته بكذا» المراد هذا اللفظ أو معناه، فلو قال: والله لست بائعاً له بثمانين بل أنا بائع إياه بمائة، فإن ذلك كافٍ، فالعبارة التي ذكرها المؤلف لا يشترط لفظها إنما المقصود المعنى، لكن يبدأ أولاً بالنفي، ثم بالإثبات.

‌وَلِكُلٍّ الفَسْخُ إِذَا لَمْ يَرْضَ أحَدُهُما بِقَوْلِ الآخَرِ، فَإِنْ كَانَتْ السّلْعَةُ تَالِفَةً رَجَعَا إِلَى قِيْمَةِ مِثْلِهَا فإِنْ اخْتَلَفَا فِي صِفَتِهَا فَقَوْلُ مُشْتَرٍ، وَإِذَا فُسِخَ العقدُ انْفَسَخَ ظَاهِراً وَبَاطِناً.

قوله: «ولكل الفسخ إذا لم يرض أحدهما بقول الآخر» أي: بعد التحالف نقول: الآن كل واحد منكما بالخيار، فإن رضي أحدهما بقول الآخر فلا فسخ.

فمثلاً المشتري لما رأى أن البائع حلف اتهم نفسه، وقال: إن هذا الرجل لن يحلف هذا الحلف البات إلا عن يقين، ثم رضي، فالقول ما قال البائع، وكذلك لو أن البائع لما رأى المشتري قد حلف وأكد، فقال: أنا أصدقه وأوهم نفسي فإنه يبقى المبيع على ما هو عليه، ولهذا قال:«إذا لم يرض أحدهما بقول الآخر» . قوله: «فإن كانت السلعة تالفة رجعا إلى قيمة مثلها» .

مثاله: اشترى شاة ثم ذبحها وأكلها، ولما أراد أن يسلم الثمن للبائع قال البائع: الثمن مائة، وقال الذي اشترى الشاة وذبحها: بل الثمن ثمانون، فلو فسخنا العقد فالمبيع تالف، فنرجع إلى قيمة المثل.

ص: 350

وصريح كلام المؤلف أننا لا نرجع إلى المثل بل إلى القيمة؛ وذلك لأن البائع أقر بأنها خرجت من ملكه بالقيمة، فهي مضمونة بالقيمة، وليست كضمان المتلف يرجع فيه إلى المثل ثم إلى القيمة.

وقوله: «قيمة مثلها» هل ذلك وقت العقد أو وقت التلف أو وقت التحالف؟ هذا ينبني على أن الفسخ هل هو رفع للعقد من أصله أو من حينه؟ إن قلنا: إنه رفع للعقد من أصله فهو وقت العقد، وإن قلنا: إنه رفع للعقد من حين الفسخ فالتقويم حين الفسخ، ولكن هنا قد يعارضه أمر آخر وهو التلف، إذ هي حين الفسخ تالفة، فكيف تقوَّم وهي تالفة؟! وعلى هذا يتحول إلى قيمتها وقت التلف؛ لأنه ربما يشتريها ولا يفسخ إلا بعد أسبوع ويتغير السعر، والظاهر أننا نرجع إلى قيمتها وقت العقد؛ لأنه من المعلوم أن المبيع وقت الخيار ملك للمشتري، وزيادة القيمة له، والبائع قد أخرجه من ملكه وقت العقد، فليس له إلا قيمتها وقت العقد.

بقي النظر الآن في اختلافها في القيمة، فظاهر كلام المؤلف أنه يرجع إلى قيمة المثل، ولو كانت أقل مما قال المشتري أو أكثر مما قال البائع.

مثاله: قال البائع: إنها بمائة، والمشتري قال: بثمانين، والسلعة تالفة، وقلنا: نرجع إلى قيمة المثل، فقالوا: إن قيمة المثل لهذه الشاة مائة وخمسون، فصارت القيمة أكثر مما قال البائع، أو قالوا: إن القيمة بستين فهي أنقص مما قال المشتري،

ص: 351

فالآن المشتري مقر بأن في ذمته لهذا الرجل ثمانين، والبائع قد أقر أنه لا يطالب المشتري بأكثر من مائة، والآن البائع سيأخذ مائة وخمسين، أو سيدفع المشتري ستين أقل مما ادعى، هذا ظاهر كلام المؤلف؛ وعللوا ذلك بأنه لما انفسخ العقد وصار لا عبرة به، رجعنا إلى الأصل، وهو قيمة المثل، فألغي قول البائع والمشتري.

وقال بعض أهل العلم: إذا صارت القيمة أكثر مما قال البائع فإنه لا يستحق أكثر مما ادعى، وإن كانت القيمة أقل مما قال المشتري ألزم بما أقر به، ولا شك أن هذا هو الورع ألا يأخذ البائع أكثر مما ادعى أنه باع به، والمشتري يدفع ما أقر أنه اشترى به، ولا شك أن هذا هو طريق الورع، لكن هل يلزم حكماً؟

هذا محل خلاف، المذهب أنه يلزم بالقيمة سواء كانت أكثر مما ادعى البائع أو أقل مما ادعى المشتري، ولهذا قال: رجعا إلى قيمة مثلها دون المثل؛ لأن البائع أقر بالخروج من ملكه بالقيمة فهو لا يستحق المثل.

قوله: «فإن اختلفا في صفتها فقول مشتر» أي: صفة السلعة التالفة فالقول قول المشتري.

مثاله: أن يقول البائع: إن العبد الذي هلك كان كاتباً، وقال المشتري: بل كان غير كاتب، فهنا إذا رجعنا إلى القيمة فبينهما فرق عظيم فالكاتب أغلى، فالقول قول المشتري، وذلك بناءً على القاعدة:(أن كل غارم فالقول قوله)؛ لأن ما زاد على

ص: 352

غرمه دعوى فيحتاج إلى بينة، فتقدر قيمته غير كاتب.

والعلة أنه غارم، والغارم لا يلزم بأكثر مما أقر به؛ لأن الأكثر مما أقر به دعوى تحتاج إلى بينة.

وقوله: «فإن اختلفا في صفتها فقول مشتر» هل مثل ذلك إذا اختلفا في قدرها؟ بأن قال البائع: إني قد بعت عليك شاتين، وقال المشتري: بل واحدة، وقد تلفت الشاتان، فالقول قول مشتر بناءً على القاعدة؛ لأن البائع يدعي الآن أن المبيع اثنتان والمشتري لم يقر باثنتين، بل أقر بواحدة وأنكر الثانية، والبينة على المدعي واليمين على من أنكر، إذاً إذا اختلفا في قدر المبيع أو في صفته فالقول قول المشتري.

قوله: «وإذا فسخ العقد انفسخ ظاهراً وباطناً» أي: ردت السلعة إلى البائع يتصرف فيها تصرف الملاك في أملاكهم، ورجع الثمن إلى المشتري يتصرف فيه تصرف الملاك في أملاكهم، سواء كان أحدهما صادقاً أم كاذباً، حتى الكاذب ينفسخ العقد في حقه. وقوله:«ظاهراً وباطناً» ظاهراً في الدنيا والحكم، وباطناً عند الله وفي الآخرة، فلا حق لأحدهما على الآخر ولو كان كاذباً

(1)

.

مثاله: اختلف البائع والمشتري في قدر الثمن، فقال البائع: بعت عليك هذه الشاة بمائة، وقال: المشتري: بل بثمانين، ولا بينة فتحالفا وتفاسخا، فترجع الشاة إلى البائع، والقيمة المدفوعة للمشتري إذاً انفسخ العقد الآن ظاهراً وباطناً، أما ظاهراً فواضح،

(1)

وهذا هو المذهب.

ص: 353

فلو ترافعا إلى الحاكم، لحكم برد السلعة إلى البائع، ورد الثمن إلى المشتري.

وأما باطناً فلو فرضنا أن البائع كاذب، وأن البيع بثمانين، والسلعة ردت إليه، الآن نقول له: تصرف فيها تصرف الملاك في أملاكهم، فإذا بعتها أو أجرتها أو وهبتها، فكل العقود التي تكون بعد فسخ العقد الأول تكون نافذة وصحيحة، حتى وإن كنت كاذباً، هذا ما مشى عليه المؤلف رحمه الله ولكن هذا قول ضعيف جداً.

والصواب أن الكاذب منهما لا ينفسخ العقد في حقه باطناً، وأنه لا يحل له أن يتصرف فيه، أي: فيما رجع إليه من ثمن إن كان مشترياً، أو من سلعة إن كان بائعاً، كما قالوا ذلك في الصلح فيمن ادعي عليه بدين وأنكر، وهو كاذب، وجرى الصلح بينه وبين المدعي، فإنهم قالوا هناك: من كذب لم يصح الصلح في حقه باطناً، فيقال: أي فرق بين هذا وهذا؟! فالصواب أن الكاذب منهما ينفسخ العقد في حقه ظاهراً فقط، أما باطناً فلا.

مثال: حلف أنه لم يبع بما قال المشتري، وإنما باع بما ادعاه، وفسخنا العقد فرجعت السلعة إلى البائع، ثم باعها لشخص آخر، فالبيع هذا صحيح ظاهراً وباطناً، حتى لو ترافعا إلى القاضي فيما بعد، فيما لو حصل خلاف بين المشتري الثاني وبين البائع، فإن الحاكم يحكم بأنها ملكه، أما إذا كان كاذباً فهنا محل الخلاف، فالمذهب أن البيع الثاني صحيح حتى عند الحاكم.

ص: 354

والقول الثاني أنه ليس بصحيح، وأن هذا البائع يعتبر كالغاصب الذي تصرف في ملك غيره؛ لأن أصل انفساخ العقد ظلم، إذ إن القول هنا ما قاله المشتري، لكن البائع ظلمه، فادعى أكثر من الثمن من أجل أن يسترد المبيع.

‌وإِن اخْتَلَفَا فِي أجَلٍ أوْ شَرْطٍ فَقَوْلُ مَن يَنْفِيِه وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي عَيْنِ المَبِيعِ تَحَالَفَا، وَبَطَلَ البَيْعُ،

قوله: «وإن اختلفا في أجل أو شرط فقول من ينفيه» مثال ما إذا اختلفا في أجل، أن يقول البائع: بعتك هذا الشيء نقداً غير مؤجل، فقال المشتري: بل بعتنيه مؤجلاً، فالقول قول البائع، أي: قول من ينفيه، فيلزم المشتري بدفعه نقداً؛ لأن الأصل عدم التأجيل، فلهذا كان القول قول من ينفيه.

وكذلك لو اختلفا في مقدار الأجل، فالقول قول من ينفي الزيادة، يعني اتفقا على أن الثمن مؤجل، لكن قال البائع: مؤجل إلى ستة أشهر، وقال المشتري: مؤجل إلى سنة، فالقول قول البائع؛ لأن الأصل عدم الزيادة، فهما قد اتفقا على ستة أشهر واختلفا فيما زاد، والأصل عدم الزيادة.

فإن قال قائل: هل يمكن أن نرجع إلى القرائن في هذه الحال؟ بمعنى أن هذه السلعة لو كانت نقداً لكانت بمائة، ولو كانت مؤجلة إلى سنتين أو أكثر لكانت بمائتين، والثمن الآن مائتان، والمشتري يقول: إنه مؤجل، والبائع يقول: غير مؤجل، فهنا الأصل مع البائع؛ لأن القول قول من ينفيه.

ولكن إذا كانت القرينة تؤيد قول أحدهما، فالقول قوله.

مثاله: هذه السلعة قيمتها في السوق مائة، وإذا كان الثمن

ص: 355

مؤجلاً فسوف تكون بمائتين، والثمن مائتان، فالبائع يقول: إنه نقد، والمشتري يقول: إنه مؤجل فالقرينة مع المشتري، ولو سألنا أهل السوق فقلنا: كم تساوي هذه نقداً؟ لقالوا: لا تساوي إلا مائة، وكم تساوي مؤجلة إلى سنتين؟ قالوا: تساوي مائتين فهنا القرينة مع المشتري وعلى هذا فيترجح جانبه، ويقال: يحلف على أن الثمن مؤجل إلى سنتين ويحكم بذلك.

وعلى هذا فيكون إطلاق المؤلف إن كان مراداً ففيه نظر، وإن كان غير مراد وأن هذه الصورة تخرج منه، فالأمر ظاهر.

إذاً إذا اختلفا في الأجل فالقول قول من ينفيه، ما لم تقم قرينة على أن القول قول من يثبته فيحكم بهذه القرينة.

فإذا قال قائل: القرينة أمر ظاهر، فكيف تغلبونه على الأصل، والأصل عدم الأجل؟

قلنا: هذه قاعدة في كل الدعاوى، وإلا فما الذي جعل القول قول المدعي إذا كان عنده بينة، لولا القرينة بالشهادة؟! ثم ما الذي جعل سليمان عليه الصلاة والسلام يحكم بأن الولد للصغرى حين تنازعت مع الكبرى

(1)

إلا القرينة؟!

وما الذي جعل حاكم يوسف يقول: {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ

(1)

أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء/ باب قوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ} (3427)؛ ومسلم في الأقضية/ باب بيان اختلاف المجتهدين (1720) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 356

فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ *} [يوسف: 26، 27] إلا القرينة؟!

وما الذي جعل الأصحاب يقولون: إذا ادعت المرأة المطلقة بأن دِلال المجلس ومبخرة المجلس لها، وقال الزوج: بل هي لي، فالقول قول الزوج إلا القرينة؟!

فالمهم أن القرائن دلائل، فإذا ادعى الإنسان ما يخالف الظاهر فإن القول مع خصمه؛ لأن مخالفة الظاهر قرينة على كذبه.

وقوله: «أو شرط» أي: إذا اختلفا ـ أيضاً ـ في شرط فالأصل عدمه.

مثال ذلك: باع رجل بيته على آخر بثمن، ثم ادعى البائع أنه قد اشترط سكناه لمدة سنة، فالقول قول المشتري؛ لأنه ينفي الشرط، والأصل عدم وجوده.

وأيضاً باع عليه عبداً فقال المشتري: إني اشترطت عليك أن يكون كاتباً، وقال البائع: لم تشترط أنه كاتب، فالقول قول البائع ما لم توجد قرينة، وهنا نضرب مثلاً، فإذا قدر أن هذا العبد بيع بعشرة آلاف ريال، وهو غير كاتب يساوي ألفي ريال، فالقول قول المشتري لوجود القرينة؛ لأنه إذا كان غير كاتب لا يباع بعشرة آلاف، وإنما بألفين، فالقول هنا قول المشتري.

لكن إذا اشتراه صاحب تجارة، ويغلب على ظننا أنه إنما اشتراه ليكون كاتباً عنده في المحل، فقال المشتري: إني قد اشترطت عليك أن يكون كاتباً، وقال البائع: لا، فهذه قرينة خاصة بالطالب الذي هو المشتري، وليست قرينة ظاهرة في

ص: 357

العموم، ومن المعلوم أن المشتري ولو كان تاجراً يمكن أن يشتريه للخدمة، لا للكتابة فهذه ليست قرينة، وبهذا نعرف أن القرائن قد تقوى وقد تضعف، لكن إذا كانت القرينة قوية فحينئذٍ ترجح جانب المدعي.

وقوله: «فقول من ينفيه» ظاهره بلا يمين، ولكن ليس مراداً، بل قول من ينفيه بيمينه، فيقول ـ مثلاً ـ: والله ما بعته مؤجلاً، وإنما بعته حالًّا، ويقول الآخر: والله ما اشتريته حالًّا، وإنما اشتريته مؤجلاً.

قوله: «وإن اختلفا في عين المبيع تحالفا» أي: البائع والمشتري، بأن قال البائع: بعتك هذه السيارة، وقال المشتري: بل هذه السيارة لسيارة أخرى، فهنا اختلفا في عين المبيع.

أو قال: بعتك هذا الجمل، فقال: بل بعتني هذه الناقة، فيقول المؤلف: إنهما يتحالفان ويُفْسَخ البيع، والتحالف هنا كالتحالف فيما سبق في قدر الثمن، فيقول البائع: والله ما بعتك هذه، وإنما بعتك هذه، ويقول المشتري: والله ما اشتريت هذه وإنما اشتريت هذه، فإذا تحالفا ولم يرض أحدهما بقول الآخر فسخ البيع، ورجع للمشتري الثمن إن كان قد سلمه، وإلا فالثمن عنده، هذا هو الذي مشى عليه المؤلف رحمه الله.

والقول الثاني في المسألة: أن القول قول البائع، وهذا هو الراجح وهو المذهب أيضاً، وهذه المسألة مما خالف فيها «الزاد» المشهور من المذهب.

فالصحيح أن القول قول البائع؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

ص: 358

«إذا اختلف المتبايعان فالقول ما قال البائع أو يترادان»

(1)

وعلى هذا فنقول للمشتري: إما أن تأخذ السلعة التي عيَّنها البائع، وإما أن تترك البيع؛ ولأن البائع غارم، فهو الذي ستؤخذ منه السلعة، فلا يغرم غير ما أقر به، فيكون في هذه المسألة دليل وتعليل.

ومثل ذلك الاختلاف في قدر الثمن على ما سبق، فالقول قول البائع للحديث، ولأنه غارم، فلا يمكن أن تخرج السلعة من ملكه إلا بثمن يرتضيه، فإما أن يقبل المشتري بذلك، وإما أن يفسخ البيع، ولا حاجة للتحالف، وهذا الذي اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية في قدر الثمن، وكذلك في عين المبيع من باب أولى.

قوله: «وبطل البيع» في هذا التعبير نظر عند أهل العلم حسب المصطلح بينهم؛ لأن البيع لم يبطل ولكن فسخ، وفرق بين البطلان وبين الفسخ، فصواب العبارة أن يقال: وانفسخ البيع.

‌وَإِنْ أَبى كُلٌّ مِنْهُمَا تَسْلِيمَ مَا بِيَدِهِ حَتّى يَقْبضَ العِوَض، والثّمَنُ عَيْنٌ، نُصِبَ عَدْلٌ يَقْبِضُ مِنْهُمَا، وَيُسَلِّمُ المَبِيْعَ ثُمّ الثّمَنَ، وَإِن كَانَ دَيْناً حَالاًّ أُجبِرَ بَائِعٌ ثُمّ مُشْتَرٍ إِن كَانَ الثّمَنُ فِي المَجْلِسِ ..

قوله: «وإن أبى كل منهما تسليم ما بيده حتى يقبض العوض» هذه ـ أيضاً ـ من مسائل الخلاف بين المتبايعين، فإذا اختلفا أيهما يسلم أولاً، فقال البائع: لا أسلمك حتى تسلمني الثمن، وقال المشتري: لا أسلمك حتى تسلمني المبيع، وهذه المسألة لها صور.

قوله: «والثمن عين» أي: معين، هذه الصورة الأولى.

(1)

سبق تخريجه ص (326).

ص: 359

قوله: «نصب عدل يقبض منهما ويسلم المبيع ثم الثمن» «نُصب» مبني لما لم يسم فاعله، والناصب هو الحاكم الشرعي، يعني أن هذين المتبايعين يختصمان إلى الحاكم، ثم ينصّب الحاكم رجلاً يستلم منهما، ثم يسلم المبيع أولاً ثم الثمن ثانياً.

مثاله: اشترى رجل من آخر ساعة، فقال المشتري: أعطني الساعة وأعطيك الثمن، فقال البائع: أعطني الثمن وأعطيك الساعة، تنازعا، فنقول: اذهبا إلى الحاكم في المحكمة الشرعية، ثم الحاكم يجب عليه أن ينصب رجلاً عدلاً موثوقاً، فيأخذ الساعة من البائع، ويأخذ الثمن من المشتري، ثم يسلم الساعة للمشتري، ويسلم الثمن للبائع، هذا هو الذي مشى عليه المؤلف.

قوله: «وإن كان دَيْناً حالاًّ أجبر بائع، ثم مشتر إن كان الثمن في المجلس» ، الضمير في قوله:«إن كان» يعود على الثمن؛ لأنه قال في الأول: «والثمن عين» فإذا كان ديناً حالاً أجبر بائع، ثم مشترٍ إن كان الثمن في المجلس. هذه الصورة الثانية.

وقوله: «وإن كان ديناً» أي: لم يقع العقد على عينه؛ لأن الثمن المعين هو الذي وقع العقد على عينه، والثمن الذي لم يقع العقد على عينه يسمى ديناً، فإذا قلت: بعني هذه الساعة بهذه الدراهم فالثمن معين، وإذا قلت: بعنيها بعشرة، فقال: بعتكها بعشرة، فالثمن هنا دَين؛ لأنه غير معين، والدين عند الفقهاء ليس

ص: 360

هو الدَّين الذي يعرفه العامة، فكل ما لم يعين من ثمن، فهو دين.

وقوله: «أجبر» مبني لما لم يسم فاعله، والمجبِر القاضي (الحاكم)، وعلى هذا نقول: إذا أبى كل واحد منهما أن يسلم ما بيده، والثمن غير معين يذهبان إلى الحاكم، فيقول للبائع: سلم المبيع، ويقال للمشتري: سلم الثمن، ولا حاجة إلى نصب عدل يقبض منهما، وهذا هو الفرق بين هذه المسألة والمسألة الأولى.

ووجه الفرق بينهما، أن الثمن في الثانية تعلق بذمة المشتري، وأما في الأولى فحق البائع تعلق بعين الثمن؛ لأنه قد عين له، ولهذا قلنا في الأولى: يُنْصَبُ عدل يقبض منهما، ثم يسلم المبيع ثم الثمن، أما هنا فقلنا: يجبر البائع.

فإذا قال: كيف تجبرونني؟ انصبوا عدلاً أنا الآن إذا سلمت المبيع أخشى أن يهرب المشتري، فلماذا تجبرونني ولا تنصبوا عدلاً يقبض مني ومنه، ثم يسلم المشتري ويسلمني؟

الجواب: عندنا حقان، الحق في المسألة الأولى تعلق بعين العوض، أما الآن فحقك في المسألة الثانية تعلق بذمته فلا حاجة أن ننصب عدلاً، فسَلِّمْه المبيع الآن وهو يسلمك الثمن، فإذا قال: أخشى إذا سلمته المبيع أن يهرب، قلنا: إذا هرب، فهو مدرك إن شاء الله.

قوله: «وإن كان غائباً في البلد حجر عليه في المبيع وبقية ماله حتى يحضره» «إن كان» الضمير يعود على الثمن.

وقوله: «غائباً في البلد» أي: ليس معه في المجلس، لكنه

ص: 361

في البلد في الدكان، فإنه يحجر على المشتري في المبيع وبقية ماله حتى يحضره، هذه الصورة الثالثة.

مثال ذلك: قال: اشتريت منك هذه الساعة بعشرة ريالات، وهي في بيتي، فإننا نعطيه المبيع لكن نحجر عليه في المبيع، فلا يتصرف فيه، وفي بقية ماله، فلو كان عنده من الأموال عقارات وسيارات وأدوات حراثة وغير ذلك حجرنا عليه، فنغلق الدكان فلا تتصرف في أي شيء من مالك حتى تحضر ثمن الساعة «عشرة ريالات» ، والدكاكين والعقارات بملايين، فنقول: الآن يوقف التصرف حتى تحضر عشرة ريالات؛ لأنه يخشى أن يتصرف في ماله تصرفاً يضر البائع، وهذا التعليل يقتضي أنه لا يحجر عليه إلا إذا كان الثمن كثيراً، أما إذا كان عنده من الملايين ما عنده، والثمن قليل كعشرة ريالات فنقول: نحجر عليك في هذه الساعة، فما تتصرف فيها ولا في أي شيء من مالك حتى تحضر الثمن!! هذا ظاهر كلام المؤلف.

والتعليل ظاهره: أنه يفرق بين الثمن الكثير والثمن القليل.

‌وَإِنْ كَانَ غَائِباً فِي البَلَدِ حُجِرَ عَلَيْهِ فِي المَبِيْعِ وَبَقِيَّةِ مَالِهِ حَتَّى يُحْضِرَهُ، وإِنْ كانَ غَائِباً بَعِيْداً عَنْها وَالمشتَرِي مُعْسِرٌ، فلِلْبَائِعِ الفَسْخُ. وَيَثْبُتُ الخِيَارُ للْخُلْفِ فِي الصِّفَةِ وَلِتَغَيُّرِ مَا تَقَدَّمَتْ رُؤْيَتُهُ.

قوله: «وإن كان غائباً بعيداً عنها» هذه الصورة الرابعة، فإن للبائع الفسخ.

مثال ذلك: قال: اشتريت منك هذه الساعة بعشرة ريالات، قلنا: سلِّم، قال: عشرة الريالات في منزلي في الرياض، ونحن الآن في عنيزة والرياض بعيدة، فنقول للبائع: لك الفسخ، فتفسخ البيع وترجع السلعة لك، وهذا ثمنه عنده، فصارت صور المسألة كالتالي:

ص: 362

الأولى: إذا كان الثمن معيناً فالحكم أن ننصب عدلاً يقبض من البائع والمشتري ثم يسلم المبيع ثم الثمن.

الثانية: إذا كان الثمن دَيناً حالًّا أي غير معين، وهو في المجلس، يجبر البائع أولاً ثم المشتري ثانياً.

الثالثة: إذا كان الثمن غائباً وهو في البلد، فإنه يحجر عليه في المبيع وبقية ماله حتى يحضره.

الرابعة: إذا كان بعيداً عن البلد فإن للبائع الفسخ.

وهناك صورة خامسة وهي أن يكون الثمن مؤجلاً فيجبر البائع على التسليم، وعلى الانتظار حتى يحل الأجل؛ لأنه دخل على بصيرة.

هذا هو التفصيل فيما إذا أبى كل واحد منهما أن يسلم ما بيده.

والقول الراجح في هذه المسألة أن للبائع حبس المبيع على ثمنه، فيقول: نعم أنا بعت عليك، لكني لا آمن أن تهرب ولا توفيني أو تماطل أو ما أشبه ذلك، فأبقيه عندي محبوساً حتى تسلمني، وهذا القول هو الذي لا يتأتى العمل إلا به، ولا تستقيم أحوال الناس إلا به؛ لأن هذه الصور التي ذكرها المؤلف، فيها مشقة على الناس، فإذا افترضنا أن المحكمة عندها مائة معاملة، تنجز منها كل يوم معاملتين، فعليه أن ينتظر خمسين يوماً، حتى يقال للحاكم: انصب عدلاً يقبض منهما، وهذا لا تستقيم به أحوال الناس، فالصواب أن يقال: إذا أبى كل واحد منهما أن يسلم ما بيده فللبائع أن يحبس المبيع.

ص: 363

وإذا كان كل منهما لا يثق بالآخر فهما بأنفسهما ينصبان عدلاً فيقول: أنت لا تثق بي، وأنا لا أثق بك، نذهب إلى فلان ونعطيه الثمن والسلعة ويسلمنا، هذا هو القول الراجح.

قوله: «والمشتري معسر فللبائع الفسخ» هذه العبارة فيها قلق؛ لأن ظاهر قوله: «والمشتري معسر» أنها قيد فيما إذا كان غائباً بعيداً عنها، وأن الواو للحال، ولكن الواقع خلاف ذلك، فالواو هنا بمعنى «أو» يعني وكذلك إذا ظهر أن المشتري معسر فللبائع الفسخ.

وقوله: «والمشتري معسر» أي: أو ظهر أن المشتري معسر، يدل على أنه لو كان البائع يعلم بعسرة المشتري، فإنه لا خيار له وهو كذلك، فالرجل مثلاً إذا باع على إنسان سلعة يظن أنه غني، ثم تبين أنه معسر فله الفسخ؛ لأن في إنظاره ضرراً عليه، أما إذا باع هذه السلعة على شخص، وهو يعلم أنه معسر فإنه لا خيار له؛ لأنه دخل على بصيرة، فإن ظهر أنه مماطل ليس معسراً، فهل له الفسخ؟

الجواب: نعم، والمذهب لا، فإذا ظهر أنه مماطل يحاكم عند القاضي حتى تجري عليه أحكام المماطلين.

لكن الصحيح أنه إذا ظهر أنه مماطل فللبائع الفسخ؛ لأن بعض المماطلين أسوأ حالاً من الفقراء، فإن الفقير ربما يرزقه الله المال فيوفي، والمماطل إذا كان هذا من عادته فإنه يصعب جداً أن يوفي، فالصواب أن للبائع الفسخ حفاظاً على ماله، وفيه ـ أيضاً ـ مع كونه حفاظاً على مال البائع ردع للمماطل؛ لأن المماطل إذا علم أنه إذا ماطل فُسِخَ البيع فسوف يتأدب ولا يماطل في المستقبل.

ص: 364

فثبت الآن عندنا خيار ثامن، وهو إذا ظهر أن المشتري معسر أو مماطل على القول الراجح.

قوله: «ويثبت الخيار للخلف في الصفة» وهذا هو الخيار التاسع، والخلف في الصفة غير الخلف في الشرط السابق، الذي قلنا: إنه يشترط أن يكون كاتباً أو غير كاتب، الخلف في الصفة أي: أنه باعه شيئاً موصوفاً، مثل أن يقول: بعتك سيارة صفتها كذا وكذا، ثم اختلفا في الصفة، فقال المشتري: وصفتها لي بكذا، وقال البائع: بل وصفتها بكذا وبكذا، فهنا لا مرجح لأحدهما فيثبت لهما الخيار.

والقول الراجح ما سبق من أن القول قول البائع، أو يترادَّان، فيقال: إما أن تقتنع بقول البائع، وإلا فالملك ملكه.

قوله: «ولتغير ما تقدمت رؤيته» أي: لو باعه شيئاً معيناً، ثم تغير بعد ذلك قبل العقد، فإنه يثبت الخيار للمشتري، وهذا فيما إذا كان المبيع مما يمكن تغيره في مدة وجيزة، مثل بعض الألبان التي يكون لها وقت معين، أو غير ذلك من الأشياء التي تتغير قبل العقد.

مثاله: باع عليه لبناً وقد شاهده المشتري بالأمس، ثم في اليوم الذي عقد عليه البيع تغيرت صفته، فتنازعا في ذلك، فإذا تنازعا في ذلك فللمشتري الفسخ؛ لأن المبيع تغير عن رؤيته السابقة.

وبذلك تمت أقسام الخيار، وعلى هذا فحصر الخيار في خمسة أو عشرة أو سبعة لا يستقيم؛ لأن الخيار يثبت فيما يفوت به مقصود أحد المتعاقدين، وإن لم يكن من هذه الأقسام التي عدها المؤلف رحمه الله.

ص: 365

‌فَصْلٌ

‌وَمَنْ اشْتَرى، مَكِيْلاً وَنَحْوَهُ صَحَّ وَلزِمَ بِالعَقْدِ، وَلَمْ يَصِحَّ تَصرفُهُ فِيه حَتَّى يَقْبِضَهُ وَإِنْ تَلِفَ قَبْلَ قَبْضِهِ فَمِنْ ضَمَانِ البَائِعِ، وَإِن تَلِفَ بِآفَةٍ سَمَاوِيّةٍ بَطَل البَيْعُ، وَإِنْ أتْلَفَهُ آدَمِيٌّ، خُيِّرَ مُشْتَرٍ بَيْنَ فَسْخٍ وَإِمْضَاءٍ وَمُطَالَبَةِ مُتْلِفِهِ بِبَدَلِهِ.

قوله: «فصل» هذا الفصل عقده المؤلف لمسألتين:

المسألة الأولى: التصرف في المبيع.

المسألة الثانية: في ضمان المبيع، هل هو من ضمان المشتري من حين العقد أو هو مضمون على البائع؟ وهل للمشتري أن يتصرف في المبيع بمجرد العقد، أو يحتاج إلى تقدم شيء على هذا التصرف؟

قوله: «من اشترى مكيلاً ونحوه» «من» اسم شرط جازم، وجواب الشرط قوله:«صح ولزم بالعقد» .

رتب المؤلف على شراء المكيل ونحوه أحكاماً ابتدأها بقوله:

«صح ولزم بالعقد» هذا هو الحكم الأول والثاني.

وقوله: «مكيلاً ونحوه» كالموزون، والمعدود، والمذروع، فهذه ثلاثة أشياء بالإضافة إلى المكيل تكون أربعة، فإذا اشترى شيئاً من ذلك «صح» ، والفاعل يعود على الشراء؛ لأنه قال: من اشترى شيئاً، ومعلوم أنه إذا صح الاشتراء صح الشراء. فيصح الشراء وإن لم يوكل وإن لم يوزن وإن لم يُعد وإن لم يُذرع.

وقوله: «ولزم بالعقد» أي: لزم الاشتراء بالعقد، أي: بمجرده، ولكن حيث لا خيار، أما إذا كان هناك خيار مجلس فلا يلزم العقد إلا بالتفرق بعده، فيلزم بالعقد إلا أن يكون فيه خيار.

قوله: «ولم يصح تصرفه فيه حتى يقبضه» فرتب المؤلف على هذا الاشتراء ثلاثة أشياء:

ص: 366

أولاً: الصحة، أي يصح العقد على المكيل قبل أن يكال وعلى الموزون قبل أن يوزن، وعلى المعدود قبل أن يعد، وعلى المذروع قبل أن يذرع، وهذه تقيد بما إذا تمت شروط الصحة وانتفت الموانع، وهذا أمر قد يقال: إنه معلوم من قوله: «ومن اشترى» ؛ لأن الاشتراء الشرعي لا يكون إلا إذا تمت الشروط وانتفت الموانع.

ثانياً: لزم بالعقد، ويقيد هذا حيث لا خيار.

ثالثاً: لم يصح تصرفه فيه حتى يقبضه، بكيل إن اشتراه بكيل، وبوزن إن اشتراه بوزن، وبذرعٍ إن اشتراه بذرع، وبِعَدٍّ إن اشتراه بِعَدٍّ.

وهل يقيد أو لا؟

ظاهر كلام المؤلف أن أي تصرف فيه فإنه لا يصح حتى يقبضه، سواء تصرف فيه ببيع، أو هبة، أو جعله صداقاً، أو عوض خلع، أو أجرة إجارة أو غير ذلك؛ لعموم قوله:«تصرفه» ؛ لأن «تصرف» مفرد مضاف فيكون عاماً حتى يقبضه، ولكن هذا العموم المستفاد من قوله:«تصرفه» عموم أريد به الخصوص، فالمراد التصرف العوضي، أي: أن يكون تصرفه بعوض، مثل البيع، والهبة بعوض، وجعله أجرة.

وأما تصرفه فيه بهبة أو صدقة أو هدية أو ما أشبه ذلك فلا بأس، هذا هو المراد وهو المذهب أيضاً؛ لأن عمر رضي الله عنه باع على النبي صلى الله عليه وسلم بعيراً، فوهبه النبي صلى الله عليه وسلم لابن عمر رضي الله عنه

ص: 367

وكان راكبها قبل أن يقبضها من عمر

(1)

رضي الله عنه، فهذا تصرف بهبة بغير معاوضة، ولهذا جاء في الحديث:«فلا يبعه حتى يقبضه»

(2)

، ومعلوم أن البيع معاوضة، وإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام ذكر البيع وحده، فهو دليل على أن ما شابهه كالأجرة، وهبة الثواب ـ يعني الهبة على عوض ـ فهي مثله، أما ما لم يوافقه في العلة ولم يقصد به المعاوضة، وإنما قصد به وجه الله إن كان صدقة، أو التودد والتحبب إن كان هدية وهبة، فإنه لا يساويه في الحكم، وقياس الهبة والهدية على البيع قياس مع الفارق.

وقوله: «ولم يصح تصرفه فيه حتى يقبضه» هذا هو الحكم الثالث. وظاهر كلامه ولو مع البائع يعني، ولو كان مع البائع.

مثاله: اشتريت مائة صاع من هذا الرجل، وهي عندي الآن بيدي، ثم بعتها عليه بثمنها أو أكثر فهل يصح؟

ظاهر كلام المؤلف أنه لا يصح، فلا يصح التصرف حتى مع البائع

(3)

.

واختار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه يصح تصرفه مع البائع، وأن قول الرسول صلى الله عليه وسلم:«فلا يبعه حتى يقبضه» ،

(1)

أخرجه البخاري في البيوع/ باب إذا اشترى شيئاً فوهب من ساعته (2115) عن ابن عمر رضي الله عنهما.

(2)

أخرجه البخاري في البيوع/ باب بيع الطعام قبل أن يقبض (2135)؛ ومسلم في البيوع/ باب بطلان بيع المبيع قبل القبض (1525)(30) واللفظ لمسلم، عن ابن عباس رضي الله عنهما ولفظه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتى يقبضه» ، قال ابن عباس:«وأحسب كل شيء بمنزلة الطعام» .

(3)

وهذا هو المذهب.

ص: 368

يعني لا يبيعه على غير بائعه؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما كنا نبيع الإبل بالدراهم فنأخذ عنها الدنانير ونبيعها بالدنانير، فنأخذ عنها الدراهم، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:«لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تتفرقا وبينكما شيء»

(1)

، وهذا هو الصحيح.

واختار ـ أيضاً ـ أنه إذا باعه تولية فلا بأس، ومعنى تولية أي: برأس المال، وقال: إن العلة في النهي أنه إذا باعه بربح، فقد ربح فيما لم يضمن، أي: فيما لم يدخل في ضمانه، وأيضاً فإن العلة من النهي خوف العداوة والبغضاء، أو محاولة البائع فسخ العقد؛ لأن البائع إذا رأى أن المشتري قد ربح فيه قبل أن ينقله إلى بيته فربما يحاول فسخ العقد بأي طريق، فيحصل بذلك نزاع وخلاف، ولكن الأولى أن يقال: إن النهي في الحديث على ظاهره، وأنه يشمل حتى ما إذا باعه على بائعه، أو باعه تولية أو مشاركة أو مواضعة أو أي شيء، فهذا هو ظاهر النص، والذي ينبغي لنا أن نأخذ بعموم الحديث، وقد سبق لنا أن العلة المستنبطة لا تقوى على تخصيص العموم؛ لأنه من الجائز أن تكون هذه العلة خطأ وأن استنباطنا لها ليس بصواب، فلا نخصص بها عموم الكتاب والسنة بمجرد أن نقول: إن الحكم مبني على هذه العلة، وعلى هذا فيكون هذا من المواضع التي يخالف فيها شيخ الإسلام رحمه الله مع أن غالب اختياراته أقرب إلى الصواب من غيره، كل ما اختاره إذا تأملته وتدبرته

(1)

سبق تخريجه ص (208).

ص: 369

وجدته أقرب إلى الصواب من غيره، لكنه ليس بمعصوم، لدينا نحو عشر مسائل أو أكثر نرى أن الصواب خلاف كلامه رحمه الله؛ لأنه كغيره يخطئ ويصيب، ثم هو ظاهر تعليل ابن عباس رضي الله عنهما لما سأله طاووس بن كيسان قال له: لم النهي؟ قال: لأنه دراهم بدراهم، والقبض مرجأ

(1)

، أي: مؤخر، وجه ذلك أنني إذا اشتريت من هذا الرجل سلعة بمائة دينار وأبقيتها عنده، ثم بعتها بمائة دينار وعشرة دنانير، صار كأنني بعت مائة دينار بمائة وعشرة فقط؛ وهذه السلعة ممر، وهذا الاستنباط من ابن عباس رضي الله عنهما قريب جداً؛ لأنها في هذه الحال تشبه العينة من بعض الوجوه.

وإذا كان ابن عباس رحمه الله ورضي عنه ـ يرى هذا التعليل، وهو صحابي جليل فقيه، فإنه يدلك على قبح المعاملات المشهورة الآن، والتي يسمونها التقسيط، بأن يختار المشتري سلعة معينة، ثم يذهب إلى تاجر من التجار ويقول: اشترها لي ثم بعها عَلَيَّ بربح، فهذا واضح أنه ربا ولا يخفى إلا على إنسان لم يتأمل؛ لأن حقيقته أنه أقرضه الثمن بزائد، فبدلاً من أن يقول: أعطني ـ مثلاً ـ قيمة هذه السلعة وأعطيك فيها ربحاً، قال: اشترها لي ثم بعها عَلَيَّ، والتاجر لم يرد الشراء إطلاقاً، ولولا هذا ما اشتراها بفلس واحد، وواضح أن المقصود هو الربا، ولا يشكل هذا على إنسان إذا تأمله، وإذا كان ابن عباس رضي الله عنهما يرى أن العلة في النهي عن بيع الشيء قبل قبضه، هو أنه يشبه بيع

(1)

سبق تخريجه ص (211).

ص: 370

الدراهم بالدراهم مع تأخير القبض، فهذه من باب أولى وأعظم، وهي واضحة جداً، لكن مع الأسف أن الناس الآن انكبوا عليها انكباباً عظيماً، ثم إن هؤلاء ينكرون إنكاراً عظيماً على الذين يتبايعون بالربا الصريح مثل البنوك، فالبنك يقول: خذ هذه الألف بألف ومائة صراحة، وهذا يقول: خذ هذه الألف بألف ومائة مع اللف والدوران، ومعلوم أن من يأتي الشيء صريحاً أهون ممن يأتيه مخادعة؛ لأن المخادعة يكون الإنسان قد وقع في مفسدة الربا مع مفسدة الخداع، ثم إن الذي يأتي الشيء بالخداع يأتيه وكأنه أمر حلال، يعني لا يكون عنده خشية لله عز وجل، أو يرى أنه مذنب فيخجل من الله، أو أنه مذنب فيحاول أن يستعتب؛ لكنه يرى أن هذا مباح، وأنه سيستمر عليه، لكن من أذنب ذنباً صريحاً فسيكون في قلبه شيء من خشية الله عز وجل، وخوف العقوبة والإنابة إلى الله عز وجل.

وقوله: «من اشترى مكيلاً ونحوه صح ولزم بالعقد ولم يصح تصرفه فيه حتى يقبضه» .

ظاهر كلام المؤلف أن المكيل ونحوه لا يجوز التصرف فيه ولو بيع جزافاً، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وهو الذي دل عليه حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما:«أنهم كانوا يتبايعون الطعام جزافاً فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيعوه حتى يحوّلوه»

(1)

، ولأن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال:

(1)

سبق تخريجه ص (212).

ص: 371

يا رسول الله إن لي بيوعاً فما يحل لي منها وما يحرم؟ فقال: «إذا ابتعت شيئاً فلا تبعه حتى تقبضه»

(1)

، و «شيئاً» نكرة في سياق الشرط فتكون للعموم، ويؤيد ذلك تفقه ابن عباس رضي الله عنهما لما قال ـ حينما ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الطعام حتى يقبض ـ:«ولا أحسب كل شيء إلا مثله»

(2)

. وهذا القياس من ابن عباس رضي الله عنهما قد دل عليه النص صريحاً، ولعل ابن عباس رضي الله عنهما لم يسمع هذا الحديث من النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم «نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم»

(3)

، فالصحيح أن كل شيء لا يباع حتى يقبض.

وقيل: إذا بيع جزافاً فلا بأس من التصرف فيه قبل القبض وهو المذهب.

ثم انتقل المؤلف إلى الكلام عن ضمان المبيع قبل قبضه، هل يكون على البائع أو يكون على المشتري؟

قوله: «وإن تلف قبل قبضه فمن ضمان البائع» الضمير يعود على المكيل ونحوه مما بيع جزافاً أو بتقدير فقط. وهذا هو الحكم الرابع.

فالمذهب أنه إذا كان بتقدير يعني بيع المكيل كيلاً، والموزون وزناً، والمعدود عدّاً، والمذروع ذرعاً، فهذا إذا تلف

(1)

أخرجه الإمام أحمد (3/ 402)؛ والنسائي في البيوع/ باب بيع الطعام قبل أن يستوفى (7/ 286)؛ وصححه ابن حبان (4983).

(2)

سبق تخريجه ص (368).

(3)

سبق تخريجه ص (212).

ص: 372

قبل القبض فمن ضمان البائع، وبعد القبض يكون من ضمان المشتري.

مثال ذلك: بعت عليك هذا الكيس من الحنطة، كل صاع بعشرة دراهم، وقبل أن نكيله تلف إما بسرقة أو بأمطار حملته، أو ما أشبه ذلك، فالضمان على البائع؛ لأنه لم يستوف حتى الآن، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«الخراج بالضمان»

(1)

، فكما أن الشارع منعني من بيعه والكسب فيه، فإن ضمانه على من هو في ملكه أولاً، وهذا قد يشكل عليك من جهة أن الملك انتقل بالعقد إلى المشتري. لكن هذا لما كان يحتاج إلى حق توفية منع الشارع من التصرف فيه، وجعل ضمانه على البائع.

قوله: «وإن تلف بآفة سماوية بطل البيع» «بطل» بمعنى انفسخ؛ وذلك لأن هذا التلف حصل به الانفساخ دون البطلان، فالبطلان يكون لفوات شرط أو لوجود مانع، وهنا لم يفت شرط، ولم يوجد مانع، فيجب أن يفسر البطلان بأنه الانفساخ، وهذا كقوله فيما سبق:«تحالفا وبطل البيع» ، وقلنا: إن الصواب انفساخ البيع.

وقوله: «وإن تلف بآفة سماوية بطل البيع» الآفة السماوية كل ما لا صنع للآدمي فيه، مثل أمطار أتلفته، أو صاعقة أحرقته، أو رياح حملته، إلى غير ذلك، فالآفة السماوية هي التي ليس للآدمي فيها صنع.

(1)

سبق تخريجه ص (242).

ص: 373

مثال ذلك: رجل باع على شخص كيس حنطة، كل صاع بكذا، ثم أتى السيل فحمله وأفسده وذهب به، فالتلف هنا بآفة سماوية، أو نزلت صاعقة فأحرقته، أو هبت رياح فحملته، فالضمان على البائع، فإن كان قد استلم الثمن رده على المشتري، وإن كان لم يستلمه فهو عند المشتري.

ويشبه الآفة السماوية من لا يمكن تضمينه، كما لو تلف بأكل حيوان له أو تلف بأكل الجند له، يعني مرت جنود السلطان فأخذته، فهذا يلحق بالآفة السماوية؛ لأنه لا يمكن تضمينه، فالحيوان الذي أكله لا يمكن أن يضمن، والجيش الذي مر به فأخذه لا يمكن أن يضمن، وحينئذ نقول: إذا أتلفه ما لا يمكن تضمينه ألحق بالآفة السماوية.

قوله: «وإن أتلفه آدمي» معين يمكن تضمينه.

قوله: «خُيِّر مشترٍ بين فسخ، وإمضاء، ومطالبة متلفه ببدله» فهذه ثلاثة أشياء، وإذا أمضى طَالَب مُتْلِفَهُ، وعلى هذا فقوله:«مطالبة متلفه» ليست داخلة في التخيير، لكنها مفرعة على الإمضاء، يعني فإذا أمضى طالب متلفه ببدله، إذاً: إذا تلف المكيل ونحوه فعلى أربعة أقسام:

أولاً: أن يتلفه البائع.

ثانياً: أن يتلف بآفة سماوية.

ثالثاً: أن يتلفه ما لا يمكن تضمينه.

رابعاً: أن يتلفه آدمي يمكن تضمينه.

ص: 374

وكل قسم من هذه الأقسام له حكم.

القسم الأول: إذا أتلفه البائع انفسخ البيع، وقيل: إن أتلفه البائع ضمنه، وهذا هو الراجح.

والفرق بين القولين أننا إذا قلنا: انفسخ البيع لم يرجع عليه المشتري بشيء، إن كان المشتري قد سلم الثمن فيأخذه، وإن كان لم يسلمه فهو عنده، وإذا قلنا: إنه يضمنه، فإنه ربما تكون القيمة قد زادت بين الشراء والإتلاف، فالمشتري يرجع على البائع بما زاد على الثمن إن زادت القيمة، وهذا القول هو الراجح؛ وذلك لأن البائع الآن أصبح ظالماً غاصباً.

القسم الثاني: أن يتلف بآفة سماوية فينفسخ البيع، ويرجع المشتري بالثمن إن كان قد سلمه، وإن لم يسلمه فالثمن عنده، ويستدل لذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم:«إذا بعت من أخيك ثمراً فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئاً، بم تأخذ مال أخيك بغير حق»

(1)

، فجعل ضمانه على البائع ولا يرجع بشيء.

القسم الثالث: أن يتلفه ما لا يمكن تضمينه من آدمي أو غيره، فحكمه حكم ما تلف بآفة سماوية، أي: أنه ينفسخ البيع.

القسم الرابع: أن يتلفه آدمي يمكن تضمينه، فهنا يخير المشتري بين أمرين، بين أن يفسخ البيع، ويرجع على البائع بالثمن، أو يمضي البيع ويرجع على المتلف بالبدل، والفرق بين

(1)

أخرجه مسلم في المساقاة/ باب وضع الجوائح (1554) عن جابر رضي الله عنه.

ص: 375

قولنا بالبدل وقولنا بالثمن، أنه إذا فسخ البيع فليس له إلا الثمن، وإذا لم يفسخه رجع بالبدل.

مثال ذلك: اشترى شخص كيساً من الحنطة، كل صاع بكذا، فجاء آدمي فأتلفه بإحراق أو أكل أو غير ذلك، فنقول للمشتري: الآن أنت بالخيار إن شئت فسخت البيع ورجعت على البائع بالثمن، فإن فسخ البيع يعطيه البائع مائة ريال، أو نقول: أبقِ البيع على ما هو عليه وارجع على المتلف بالبدل، فإذا كان الآن عند إتلافه يساوي مائة وعشرين فالمشتري في هذه الحال سوف يختار الإمضاء ويرجع على المتلف بالبدل، أي: بمثله إن كان مثليّاً، وقيمته إن كان متقوَّماً، فالحنطة من المثليات فيرجع عليه بمثل الحنطة التي أتلفها.

وعلى هذا فلا يمكن أن يكون المكيل إلا مثلياً ما لم ينتقل هذا الطعام إلى صنعة، فيصنع خبزاً أو طبيخاً، فحينئذ يكون غير مثلي.

‌وَمَا عَدَاهُ يَجُوزُ تَصَرّفُ المُشْتَرِي فِيهِ قَبْلَ قَبْضِهِ.

قوله: «وما عداه يجوز تصرف المشتري فيه قبل قبضه» أي: ما عدا ما اشتري بكيل، أو وزن، أو عد، أو ذرع، أو رؤية سابقة أو صفة، فيجوز تصرف المشتري فيه قبل قبضه.

مثاله: باع عبداً، أو بعيراً، أو داراً، أو سيارة معينة ولم يقبضها، فيجوز أن يتصرف فيها قبل القبض؛ لأنه لا يحتاج إلى توفية، أي ليس مبيعاً بكيل حتى يحتاج إلى كيل، وربما يزيد أو ينقص، أو وزن وربما يزيد أو ينقص، فهذا شيء معين يجوز أن تبيعه قبل قبضه ولو في مكان بيعه.

ص: 376

والقول الثاني: أنه لا يجوز أن يتصرف في المبيع قبل قبضه مطلقاً في كل شيء، وهذا ما ذهب إليه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما حيث قال:«ولا أحسب كل شيء إلا مثله»

(1)

، وهو الذي اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وقال: إن المبيع لا يباع قبل القبض سواء بيع بكيل أو وزن أو عد أو ذرع أو رؤية سابقة أو صفة، وهذا الذي يؤيده حديث ابن عمر رضي الله عنهما:«أنهم كانوا يبيعون الطعام جزافاً على عهد النبي صلى الله عليه وسلم في السوق فنهاهم أن يبيعوه حتى ينقلوه»

(2)

، أي: إلى مكان آخر.

واستدل الشارح لهذه المسألة: بحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: «كنا نبيع الإبل بالبقيع بالدراهم ـ وفي لفظ بالنقيع بالدراهم ـ فنأخذ عنها الدنانير وبالعكس» ، أي: بالدنانير فنأخذ الدراهم فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «لا بأس أن تؤخذ بسعر يومها ما لم يفترقا وبينهما شيء»

(3)

.

والحديث دليل لا يطابق المدلول؛ وجه ذلك أن الحديث إنما هو بيع ما في الذمة، وليس بيع شيء معين، فقد كانوا يبيعون الإبل بالدراهم، والدراهم ثابتة في ذمة المشتري، ويبيعونها بالدنانير وهي ثابتة في ذمة المشتري، فيأخذون عن الدراهم دنانير، وعن الدنانير دراهم، وكلامنا نحن في الشيء المعين، هل يجوز أن يباع قبل أن يقبض أو لا؟ وعليه فلا دلالة في الحديث

(1)

سبق تخريجه ص (368).

(2)

سبق تخريجه ص (212).

(3)

سبق تخريجه ص (208).

ص: 377

لما استدل به الشارح عليه

(1)

، وأنا سقت هذا الحديث لفائدة، وهي أنه يجوز بيع الدين على من هو عليه بشرطين:

الشرط الأول: أن يكون بسعر يومه.

والشرط الثاني: أن يتقابضا قبل التفرق، لكن هذا فيما يشترط فيه التقابض كالدراهم بالدنانير، والدنانير بالدراهم، والبر بالشعير، والشعير بالبر، وما أشبهها.

أما شرط التقابض بين الدراهم والدنانير ونحوها فظاهر، ووجه ظهوره أنه لا يباع الشيء بالشيء في مثل هذه الصورة إلا بالتقابض؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الذهب والفضة والبر والتمر والشعير والملح:«إذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد»

(2)

، وأما كونها بسعر يومها فلئلا يربح فيما لا يدخل في ضمانه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم «نهى عن ربح ما لم يضمن»

(3)

.

مثاله: أن يكون لي في ذمة رجل دنانير فبعتها عليه بدراهم، وبيع الدنانير بالدراهم يشترط فيه القبض ولا يشترط التساوي للحديث:«إذا اختلفت هذه الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد» ، فيعطيني الدراهم فقط، وليس بلازم أن يحضر الدنانير، فالدنانير عنده في ذمته قد قبضها.

مثال كونها بسعر يومها: إذا قدرنا أن عشرة دنانير قيمتها في السوق مائة درهم فأبيعها عليه بمائة درهم لا أزيد ولا أنقص؛

(1)

«الروض مع حاشية ابن قاسم» (481).

(2)

سبق تخريجه ص (207).

(3)

سبق تخريجه ص (209).

ص: 378

لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بسعر يومها»

(1)

، فلو بعت الدنانير بمائة وعشرة فهذا لا يجوز؛ لأني ربحت عشرة في شيء في ذمة البائع لم يدخل في ضماني إلى الآن، ولو بعت الدنانير العشرة ـ التي تساوي مائة ـ بتسعين، فإذا نظرنا إلى ظاهر الحديث قلنا: إنه لا يجوز، ولو نظرنا إلى العلة والحكمة فإن هذا الرجل الذي باع العشرة التي تساوي مائة بتسعين لم يربح، بل إنه أبرأ البائع من عشرة، لكن لم يُذْكر هذا في الحديث؛ لأنه أمر نادر، والذي يكون غالباً هو الربح، ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم:«بسعر يومها» ، وتحرير المسألة أن نقول: إذا باعها بأقل فقد زاد المدين خيراً، وإن باعها بأكثر فقد ربح فيما لم يدخل في ضمانه، وهذا حرام ولا يجوز.

وقوله: «وما عداه يجوز تصرف المشتري فيه قبل قبضه» ظاهر كلام المؤلف أنه يشمل حتى المبيع برؤية سابقة أو بصفة، ولم يتكلم على المبيع برؤية أو صفة، إنما تكلم على المكيل، والموزون، والمعدود، والمذروع، فظاهر كلامه أن ما عدا ذلك يجوز تصرف المشتري فيه قبل قبضه، ولكن المذهب يلحقون ما بيع بصفة أو رؤية سابقة بالمكيل ونحوه؛ لأنه يحتاج إلى حق توفية، ولهذا إذا تغير المبيع عن الرؤية السابقة أو الصفة فله الخيار كما سبق، ونحن رجحنا أن كل مبيع لا يجوز بيعه إلا بعد القبض.

(1)

سبق تخريجه ص (208).

ص: 379

مسألة: هل يجوز بيع ثمر النخل على رؤوس النخل؟ أي: إذا اشتريتُ ثمراً، ثم بعتُها جاز، وهي من ضمان البائع، فلو تلفت بآفة سماوية بعد أن بعتُها رجع المشتري عليّ، وأنا أرجع على البائع الأول.

إذاً ليس كل شيء يكون من ضمان البائع لا يصح التصرف فيه، بل قد يكون من ضمان البائع، ويصح التصرف فيه كالثمر على رؤوس النخل.

فصارت الأشياء التي يصح التصرف فيها قبل القبض ستة أشياء: ما بيع بكيل، أو وزن، أو عدٍّ، أو ذرع، أو صفة، أو رؤية متقدمة، فهذه لا يصح التصرف فيها حتى تستوفى، وكلها مضمونة على البائع قبل أن تستوفى، ويُزاد شيء سابع وهو الثمر على الشجر، فإنه من ضمان البائع ومع ذلك يصح تصرف المشتري فيه.

هذا القبض الذي عرف ينفع في مواضع كثيرة، ينفع في كل ما يعتبر فيه القبض شرطاً لصحته أو شرطاً للزومه، كل ما يعتبر القبض فيه شرطاً لصحته كمسائل الربا، أو شرطاً للزومه كمسألة الرهن والهبة، فإنه على المذهب لا تلزم إلا بالقبض، فمعرفة ما يحصل به القبض أمر لا بد منه وليس مسألة هينة؛ لأنه سيمر في مواضع كثيرة من أبواب الفقه.

‌وَإِنْ تَلِفَ مَا عَدَا المَبِيْعَ بِكَيْلٍ وَنَحْوِهِ فَمِنْ ضَمَانِهِ مَا لَمْ يَمْنَعْهُ بَائع مِن قَبْضِهِ.

قوله: «وإن تلف ما عدا المبيع بكيل ونحوه فمن ضمانه» أي: ضمان المشتري، و «ما» هنا اسم موصول بمعنى «الذي» و «عدا» بمعنى «جاوز» أو بمعنى «سوى» ، أي: إن تلف ما سوى

ص: 380

المبيع بكيل ونحوه وهو: الوزن، والعد، والذرع «فمن ضمانه» أي من ضمان المشتري.

ودليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من باع عبداً وله مال فماله للذي باعه إلا أن يشترطه المبتاع»

(1)

، فجعل الملك ينتقل بمجرد العقد، والأصل أن الضمان على من انتقل الملك إليه لحديث «الخراج بالضمان»

(2)

، أي: من له غنم شيء فعليه غرمه، فكما أن الملك للمشتري وله غنم المملوك فعليه ـ أيضاً ـ غرمه، فإذا تلف ما عدا المبيع السابق وقد عددناه سبعة أصناف فهو من ضمان المشتري؛ ولأن ذلك لا يحتاج إلى حق توفية وقال ابن عمر رضي الله عنهما:«مضت السنة أن ما أدركته الصفقة حياً مجموعاً فمن ضمان المشتري»

(3)

يعني ما أدركته الصفقة غير محتاج إلى أن يستوفى، فهو من ضمان المشتري.

وهل كلام المؤلف هنا على ظاهره؛ لأنه لم يستثن إلا ما بيع بكيل ونحوه؟

الجواب: ليس على ظاهره؛ لأننا نقول: وإن تلف ما عدا المبيع بكيل أو وزن أو عد أو ذرع أو صفة، أو رؤية سابقة أو الثمر على الشجر، فالمؤلف أسقط ثلاث مسائل،

(1)

سبق تخريجه ص (61).

(2)

سبق تخريجه ص (242).

(3)

أخرجه البخاري معلقاً بصيغة الجزم في البيوع/ باب إذا اشترى متاعاً أو دابة فوضعه عند البائع، دون قوله:«مضت السنة» ؛ ووصله الدارقطني (3/ 54)؛ والحافظ في «تغليق التعليق» (3/ 242) موقوفاً على ابن عمر رضي الله عنهما وصحح إسناده إليه، وصحح وقفه أبو حاتم كما في «العلل» (1182).

ص: 381

وعليه فيكون قوله: «ما عدا المبيع بكيل ونحوه» فيه قصور، والصواب أن يزاد ثلاثة أشياء المبيع برؤية سابقة، أو بصفة، والثمر على الشجر.

قوله: «ما لم يمنعه بائع من قبضه» «يمنعه» الهاء تعود على المشتري، أي: إلا إذا منع البائعُ المشتريَ من قبضه، فإنه يكون من ضمان البائع.

مثال ذلك: باع عليه سيارة، والسيارة ليست بكيل، ولا وزن، ولا عد، ولا ذرع، ولا برؤية سابقة ولا صفة، فأراد المشتري أن يأخذها فقال البائع: لا، فمنعه، فهنا الضمان على البائع، لكنه يضمنها ضمان غصب، ومعنى ضمان الغصب أن عليه أجرتها مدة منعه إياها، وأنها لو تلفت ضمنها بقيمتها وقت التلف، لا بما وقع عليه العقد، وإذا ضمنها ضمان غصب بما تساوي وقت التلف فإنه يضمنها بقيمتها، سواء زادت على ثمنها أم نقصت، فإن زادت فالأمر ظاهر؛ لأن الغنم للمشتري فزيادة سعرها من مصلحته، فإذا قدرنا أنه اشتراها بخمسين ألفاً ومنعه البائع من قبضها واحترقت وكانت تساوي حين الاحتراق ستين ألفاً، فإن البائع يضمن ستين ألفاً وهذا واضح؛ وذلك لأن المشتري له غنمها وعليه غرمها، وهذا الرجل يضمنها ضمان غصب.

فإن كانت حين احتراقها لا تساوي إلا أربعين، فهل يضمنها بأربعين أو بخمسين؟

الجواب: إذا قلنا: ضمان غصب، فإنه قد اختلف العلماء هل نقص السعر مضمون على الغاصب أو لا؟ فإن قلنا: إنه

ص: 382

مضمون على الغاصب فإنه يضمنها بخمسين، وإن قلنا: ليس بمضمون فإنه لا يضمنها إلا بأربعين، لكن ينبغي أن يقال: إنه يضمنها بخمسين على كل حال؛ لأنه معتد بمنعها.

وقوله: «ما لم يمنعه بائع من قبضه» سواء تمكن من قبضه أم لم يتمكن، واختار شيخ الإسلام رحمه الله أن المدار على التمكن من القبض، فما تمكن المشتري من قبضه فعليه، وما لم يتمكن من قبضه فعلى البائع. وقال: إن هذا هو منصوص الإمام أحمد، وكلامه أقيس؛ لأن الثمرة على الشجرة إنما كانت من ضمان البائع؛ لأن المشتري لا يتمكن من قبضها، لأن المشتري لن يأخذها جملة بل سيتفكه ويأخذها شيئاً فشيئاً، والمبيع بكيل أو نحوه ما دام لم يكل ولم يعرف مقداره فضمانه على البائع؛ لأن المشتري لا يتمكن من قبضه، وعلى هذا فإن بيع الشيء جزافاً فإنه لا يصح بيعه، ولكن إن تلف فمن ضمان المشتري؛ لتمكنه من قبضه.

وقوله: «ما لم يمنعه بائع من قبضه» يفهم منه أن ما كان ضمانه على شخص فمنع منه عاد الضمان على المانع؛ لأن الضمان فيما عدا ما بيع بكيل ونحوه من ضمان المشتري إلا إذا منعه البائع، والعكس كذلك، أي: فيما سبق أنه من ضمان البائع إذا سلمه البائع المشتري، ولكن المشتري أبى قال: لا أستلم حتى تلف، فإن الضمان حينئذٍ يكون على المشتري؛ لأن البائع قد بذله ولكنه امتنع، والبائع يقول: أنت الآن وضعته عندي على سبيل الوديعة، فضمانه عليك وأنا قد بذلته، وهذه تجري كثيراً،

ص: 383

ربما يكون المشتري لم يهيئ مكاناً للسلع، أو أراد أن يضار البائع بشغل مكانه بسلعه التي باعها، فحينئذ نقول: إنه من ضمان المشتري؛ لأنه هو الذي امتنع من قبضه الواجب عليه.

فصار البائع إذا منع المشتري من قبض ما يجب عليه إقباضه فالضمان عليه، وكذلك إذا امتنع المشتري من قبض ما يجب عليه قبضه، فإن الضمان ينتفي عن البائع حتى في الأمور التي ضمانها على البائع.

مثال ذلك: باع عليه براً مكايلة، ثم قال له البائع: خذه، ولكن المشتري قال: انتظر، ثم تلف، فالضمان على المشتري وليس على البائع؛ لأن البائع بذل ما يجب عليه والمشتري هو الذي تأخر وفرط، ولأنه ربما يؤدي ذلك إلى المضارة بالبائع بحيث يحبس المبيع عنده حتى يتضرر بشغل مكانه.

لنعود الآن ونقرر هذه المسائل، وهي مسائل عظيمة وليست هينة، أولاً لنحرر المذهب فيها:

أولاً: التصرف، فيجوز للمشتري أن يتصرف فيما اشتراه إلا في ست مسائل وهي: ما بيع بكيل، أو وزن، أو عد، أو ذرع، أو رؤية سابقة، أو صفة.

ثانياً: من جهة الضمان، الضمان على المشتري إلا في سبع مسائل وهي: ما بيع بكيل، أو وزن، أو عد، أو ذرع، أو رؤية سابقة، أو صفة، أو الثمر على الشجر، أما الثامنة وهي ما منعه البائع من قبضه فهذه على المذهب وغيره واضحة، والضمان فيها مخالف للضمان فيما سبق؛ لأن الضمان فيها ضمان غصب بمعنى

ص: 384

أنها لو تلفت بآفة سماوية فإنه يرجع المشتري على البائع بالبدل بمثلها إن كانت مثلية وبقيمتها إن كانت متقومة.

أما عند شيخ الإسلام رحمه الله فكل مبيع لا يجوز التصرف فيه قبل قبضه إلا إذا باعه تولية أو باعه على البائع، كما أنه يخص التصرف بالبيع، ونحن نقول: نلحق بالبيع ما كان بمعناه، وأما بالنسبة للضمان فيقول: إن المدار في الضمان على التمكن من القبض، فإن تمكن المشتري من القبض فالضمان عليه، وإن لم يتمكن فالضمان على البائع، ويوافق المذهب فيما إذا منعه البائع فإن الضمان على البائع، ويوافق المذهب أيضاً فيما إذا بذل البائع التسليم فأبى المشتري ـ فيما يضمنه البائع ـ فالضمان على المشتري.

‌وَيَحْصُلُ قَبْضُ مَا بِيْعَ بكَيْلٍ أوْ وَزْنٍ أوْ عَدٍّ أوْ ذَرْعٍ بِذَلِكَ وَفِي صُبْرَةٍ، وَمَا يُنْقلُ بِنَقْلِهِ، وَمَا يُتَنَاوَلُ بِتَنَاوُلِهِ، وَغَيْرِهِ بِتَخْلِيَتِهِ والإقَالَةُ فَسْخٌ، تَجُوْزُ قَبْلَ قَبضِ المَبِيْعِ بِمِثْلِ الثّمَنِ وَلَا خِيَارَ فِيْهَا، وَلَا شُفْعَةَ.

قوله: «ويحصل قبض ما بيع بكيل أو وزن أو عد أو ذرع بذلك» المشار إليه ما سبق، فما بيع بكيل يحصل قبضه بكيله، ووزن بوزنه، وعد بعده، وذرع بذرعه، ولا يكفي أن تستولي يد المشتري عليه، فلو فرض أن المشتري قبضه وهو مبيع مكايلة، ولكنه لم يكله، فإنه لم يقبضه حقيقة؛ لأنه لا يقبض إلا بالاستيفاء بكيل ما يكال، ووزن ما يوزن، وعد ما يعد، وذرع ما يذرع.

وظاهر كلام المؤلف أنه إذا حصل الكيل والوزن والعد والذرع جاز التصرف فيه وإن لم ينقله عن مكانه؛ لأنه حصل القبض، ولكن سبق لنا أن القول الراجح أن السلع لا تباع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم، وعلى هذا فلا يكفي

ص: 385

الكيل حتى يقبضه، فيكون ما بيع بكيل أو وزن أو عد أو ذرع بذلك لا يتم قبضه إلا بأمرين:

الأول: حيازته.

الثاني: استيفاؤه بالكيل أو الوزن أو العد أو الذرع، هذا هو القول الراجح في هذه المسألة.

أما على كلام المؤلف ـ وهو المذهب ـ فإنه متى حصل الكيل، أو الوزن، أو العد، أو الذرع، ولو في مكانه فهذا قبض.

قوله: «وفي صبرة» «الصبرة» هي الكومة من الطعام.

قوله: «وما ينقل بنقله» مثل: الثياب والحيوان والسيارات وما أشبه ذلك، يحصل قبضها بنقلها؛ لأن هذا هو العرف.

قوله: «وما يتناول بتناوله» أي: ما يتناول بالأيدي فإنه يحصل القبض بتناوله، مثل: الدراهم والجواهر والساعات والأقلام، فهذه نقلها باليد يناولها صاحبها.

قوله: «وغيره بتخليته» أي: ويحصل قبض غير هذه الأشياء بالتخلية، ومعنى التخلية أن يخلي بين المبيع والمشتري فيسلمه المفتاح ـ مثلاً ـ في البيت، وينتقل عن الأرض في الأرض، وما أشبه ذلك.

وإذا قال قائل: إنه يرجع في ذلك إلى العرف لكان صحيحاً ما دام لا يحتاج إلى حق استيفاء، أي: لا يحتاج إلى كيل أو وزن أو عد أو ذرع، فنرجع إلى العرف، فما عده الناس قبضاً فهو قبض وما لم يعدوه قبضاً فليس بقبض، لكن المؤلف رحمه الله

ص: 386

عين ما ذكره بناءً على أن هذا هو العرف في هذه الأشياء.

قوله: «والإقالة فسخ» الإقالة: هي أن يرضى أحد المتبايعين بفسخ العقد إذا طالبه صاحبه بدون سبب، أي: لا يلزمه بالعقد ويفسخه.

وحكمها التكليفي أنها سنة، وحكمها الوضعي أنها فسخ، ومعلوم في أصول الفقه أن الأحكام نوعان: تكليفية ووضعية، فحكمها التكليفي أنها سنة، ولكن هي سنة في حق المقيل، ومباحة في حق المستقيل، أي: لا بأس أن تطلب من صاحبك أن يقيلك، سواء كنت البائع أو المشتري، أما في حق المقيل فهي سنة لما فيها من الإحسان إلى الغير، وقد قال الله تعالى:{وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195]، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«من أقال مسلماً بيعته أقال الله عثرته يوم القيامة»

(1)

، ولأن فيها إدخال سرور على المُقال وتفريجاً لكربته، لا سيما إذا كان الشيء كثيراً وكبيراً، فتكون داخلة في قول الرسول صلى الله عليه وسلم:«من فرج عن مؤمن كربة من كرب الدنيا فرَّج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة»

(2)

، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «رحم الله امرءاً سمحاً إذا باع،

(1)

أخرجه أبو داود في البيوع/ باب في فضل الإقالة (3460)؛ وابن ماجه واللفظ له، في التجارات/ باب الإقالة (2199)؛ وابن حبان (5029)«موارد» ؛ والحاكم (2/ 45)، عن أبي هريرة رضي الله عنه وصححه ابن حبان والحاكم على شرط الشيخين ووافقه الذهبي وصححه ابن دقيق العيد وابن حزم؛ انظر:«التلخيص» (1197).

(2)

أخرجه مسلم في الذكر والدعاء/ باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن (2699) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 387

سمحاً إذا اشترى، سمحاً إذا قضى، سمحاً إذا اقتضى»

(1)

، فتكون سبباً للدخول في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم بالرحمة، فعليه إذا جاءك أخوك نادماً وقال: أنا اشتريت منك هذا الشيء وليس بيننا خيار، والعقد لازم، لكني ندمت فأرجو منك أن تفسخ العقد، فإننا نقول: يسن لك أن تفسخ رجاء هذا الثواب أن الله ـ تعالى ـ يقيل عثرتك يوم القيامة، ثم إن من المشاهد المحسوس أن الغالب أن الإنسان إذا أقال أخاه فإن الله ـ تعالى ـ يبارك له في المبيع وتزداد قيمته، وكم من أناس أقالوا بيعاتهم، ثم ارتفعت الأسعار فباعوها بأكثر من ثمنها الأول، وهذا جزاء دنيوي مقدم، أما بالنسبة للمستقيل فهي مباحة لا حرج فيها، وليست من السؤال المذموم، ونظيرها العاريَّة مباحة للمستعير سنة للمعير، والعلة في هذا أنها إحسان.

وقوله: «فسخ» هذا حكمها الوضعي، أي: أنها فسخ لا بيع، وعندنا ثلاثة أمور: إبطال وفسخ وعقد، والفرق أنه إذا قلنا: إنها إبطال صار معناه أن العقد الأول بطل، وإذا قلنا: إنها فسخ صار العقد الأول ثابتاً ويكون الفسخ من حين الإقالة، وعلى هذا فما حصل من نماء بين الإقالة والعقد يكون للمشتري، وما حصل من عيب يكون على المشتري، وإذا قلنا: إنها عقد، ترتب عليها شروط البيع، فكأنها تكون بيعاً جديداً، وإذا كانت بيعاً جديداً فلا بد أن تراعى شروط البيع، ولكن الصواب أن الإقالة فسخ؛ لأنها قبل الإقالة على ملك المشتري، وبعد الإقالة ليست إبطالاً

(1)

أخرجه البخاري في البيوع/ باب السهولة والسماحة في الشراء والبيع (2076) عن جابر رضي الله عنه.

ص: 388

للعقد الأول ولا عقداً جديداً، فلو جاء رجل واشترى مني سيارة، ثم جاء يطلب الإقالة والفسخ، فإن فسخت البيع فهو إقالة، وإن قلت: أنا لن أفسخ البيع ولكن أشتريها منك شراءً جديداً، أنت اشتريتها مني بعشرة آلاف ونقدت الثمن، وأنا أشتريها منك بثمانية آلاف ريال، فهذا بيع.

قوله: «تجوز قبل قبض المبيع» ولو كان المبيع مكيلاً أو موزوناً، فلو باع شخص على آخر كيساً من البر، كل صاع بدرهم، فإنه لا يجوز أن يبيعه على أحد ولا على بائعه نفسه حتى يقبضه بالكيل، لكن لو استقال من البيعة وأقاله البائع صح؛ لأنها ليست بيعاً؛ بل هي فسخ، أي إلغاء للعقد الأول فيرد ما كان على ما كان عليه، ولو قلنا: هي بيع ما جاز أن يقيله حتى يقبضه ويستوفيه.

قوله: «بمثل الثمن» أي: أنها لا تجوز إلا بمثل الثمن، فلا تجوز بزيادة ولا نقص ولا اختلاف نوع أو اختلاف جنس.

مثال ذلك: اشترى هذه السيارة بمائة دينار ثم ندم المشتري، وقال للبائع: أقلني، فقال: أقيلك بشرط أن تعطيني بدل الدنانير دراهم، فالإقالة هنا لا تصح؛ لأنه أقاله بغير مثل الثمن، أي بنوع آخر؛ إذ إنها انتقلت من الفسخ إلى المعاوضة والمصارفة.

مثال آخر: اشترى هذه السيارة بخمسين ألفاً ثم عاد إلى البائع وقال: أقلني، فقال: أقيلك بشرط أن تعطيني خمسة آلاف ريال فهذا لا يجوز؛ لأنها زادت على الثمن الآن، فسوف

ص: 389

تصير القيمة خمسة وخمسين ألفاً فلا تصح، قال الإمام أحمد رحمه الله: لأنها تشبه العينة، حيث ربح البائع على المشتري.

وكذلك ـ أيضاً ـ لو أن البائع طلب من المشتري الإقالة فقال: أقيلك على أن تعطيني كذا وكذا زيادة على الثمن فإنه لا يجوز؛ لأنها تشبه العينة حيث زيد على الثمن.

ولكن القول الراجح أنها تجوز بأقل وأكثر إذا كان من جنس الثمن؛ لأن محذور الربا في هذا بعيد فليست كمسألة العينة؛ لأن مسألة العينة محذور الربا فيها قريب، أما هذه فبعيد، وقد قال ابن رجب رحمه الله في «القواعد»: إن للإمام أحمد رواية تدل على جواز ذلك، حيث استدل ببيع العربون الوارد عن عمر رضي الله عنه

(1)

، وقال: الإقالة بعوض مثله، وعليه فيكون هناك رواية أومأ إليها الإمام أحمد بجواز الزيادة على الثمن والنقص منه، وهذا هو القول الراجح، وهو الذي عليه عمل الناس، وهو من مصلحة الجميع؛ وذلك لأن البائع إذا أقال المشتري، فإن الناس سوف يتكلمون ويقولون: لولا أن السلعة فيها عيب ما ردها المشتري، فيأخذ البائع عوضاً زائداً على الثمن من أجل جبر هذا النقص.

قوله: «ولا خيار فيها» أي: ليس في الإقالة خيار، و «خيار» نكرة في سياق النفي فتشمل خيار العيب، وخيار الشرط وغير ذلك؛ لأنها ليست بيعاً، وإنما هي رجوع في العقد، فلو أقاله

(1)

سبق تخريجه ص (255).

ص: 390

وبعد أن أقاله في مجلس الإقالة رجع، فهل له ذلك؟ لا، لما سبق أنها ليست بيعاً.

قوله: «ولا شفعة» أي: ليس فيها شفعة، والشفعة معناها انتزاع حصة الشريك ممن انتقلت إليه بعوض مالي.

مثال ذلك: رجلان بينهما أرض، فباع أحدهما نصيبه منها، فلشريكه أن يُشَفِّعَ، أي: أن يضم هذا السهم إلى نصيبه فيأخذه من المشتري قهراً، فمثلاً، زيد وعمرو شريكان في أرض، فباع عمرو نصيبه على بكر، فزيد هو الذي له حق الشفعة، لكن زيداً قال: إن بكراً حبيب إلي ولا أريد أن آخذها بالشفعة، فأسقط حقه من الشفعة، ثم إن بكراً جاء إلى عمرو وقال له: إني نادم وأحب أن تقيلني، فأقاله، أي: أقال عمرو بكراً، فهل لزيد أن يأخذها من عمرو بالشفعة؟

الجواب: لا؛ لأن الإقالة فسخ، ولو أن بكراً باعها على عمرو، يعني أن زيداً لم يأخذها بالشفعة من بكر، ثم إن بكراً باعها على عمرو بيعاً جديداً، فهل لزيد أن يأخذ بالشفعة؟

الجواب: نعم.

إذاً قول المؤلف: «لا شفعة» يعني أنه لو أقيل المشتري الذي أسقط الشريك شفعته عنه فإنه لا يرجع بالشفعة، لأنها ليست بيعاً.

ص: 391

‌بَابُ الرّبَا والصَّرْفِ

الربا في اللغة: الزيادة، ومنه قوله تعالى:{فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} [فصلت: 39] أي: اهتزت بأشجارها وعشبها، وربت أي: زادت، وليس المراد الأرض نفسها، بل المراد ما ينبت فيها.

وأما شرعاً فهو زيادة في أشياء ونسأ في أشياء، ولو قيل: إن ربا الفضل هو التفاضل في بيع كل جنس بجنسه مما يجري فيه الربا، وربا النسيئة تأخير القبض فيما يجري فيه الربا.

فليس كل زيادة ربا في الشرع، وليس كل زيادة في بيع ربا، إذا كان المبيعان مما تجوز فيهما الزيادة، فلو بعت سيارة بسيارتين فلا بأس، وكتاباً بكتابين فلا بأس؛ لأنه ليس كل زيادة تكون ربا، بل الزيادة التي تكون ربا هي ما إذا وقع العقد بين شيئين يحرم بينهما التفاضل، وسيأتي ـ إن شاء الله ـ بيان ذلك، وأما الصرف فسيأتي تعريفه.

والربا محرم بالقرآن، والسنة، وإجماع المسلمين، ومرتبته أنه من كبائر الذنوب؛ لأن الله تعالى قال:{وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 275]، وقال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ *} {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 278، 279]، ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم: «لعن آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه وقال:

ص: 392

هم سواء»

(1)

، فهو من أعظم الكبائر. وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في كتابه «إبطال التحليل» ، أنه جاء من الوعيد في الربا ما لم يأت في أي ذنب آخر سوى الشرك والكفر.

وهو مُجْمَعٌ على تحريمه، ولهذا من أنكر تحريمه ممن عاش في بيئة مسلمة فإنه مرتد؛ لأن هذا من المحرمات الظاهرة المجمع عليها.

ولكن إذا قلنا هذا، هل معناه أن العلماء أجمعوا على كل صورة؟

الجواب: لا، فقد وقع خلاف في بعض الصور، وهذا مثل ما قلنا في أن الزكاة واجبة بالإجماع، ومع ذلك ليس الإجماع على كل صورة، فاختلفوا في الإبل والبقر العوامل، واختلفوا في الحلي وما أشبه ذلك، لكن في الجملة العلماء مجمعون على أن الربا حرام، بل من كبائر الذنوب.

والربا ينقسم إلى قسمين، ربا الفضل، ربا النسيئة، ربا الفضل هو الزيادة، يعني أن يكون الربا بالزيادة كما لو بعت عليك صاعين من البر بثلاثة أصواع من البر.

وربا النسيئة هو أن أبيع عليك شيئاً ربوياً بشيء ربوي مع تأخير القبض فيهما، مثل أن أبيع عليك صاعاً من البر بصاع من الشعير مع تأخير القبض، واعلم أن هذين القسمين قد ينفردان وقد يجتمعان وقد يرتفعان، فإذا بعت عليك عشرة دراهم بدينار مع تأخير القبض فهذا ربا نسيئة، وإذا بعت عليك صاعاً من البر

(1)

أخرجه مسلم في البيوع/ باب لعن آكل الربا ومؤكله (1598) عن جابر رضي الله عنه.

ص: 393

بصاعين من البر مع القبض في مجلس العقد فهذا ربا فضل، وإذا بعت عليك صاعاً من البر بصاعين منه مع تأخير القبض، اجتمع فيه ربا النسيئة وربا الفضل، وإذا بعت عليك صاعاً من البر بصاع من البر مع التسليم انتفى ربا الفضل وربا النسيئة.

مسألة: ما هي الأشياء الربوية؟.

الجواب: حددها النبي صلى الله عليه وسلم بالعد، فقال صلى الله عليه وسلم:«الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والتمر بالتمر، والشعير بالشعير، والملح بالملح، مثلاً بمثل، سواء بسواء، يداً بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد»

(1)

.

وهذه الأشياء الستة مجمع عليها على حسب ما جاء في الحديث، أي مجمع على أنها هي الأموال الربوية، وأن الربا يجري فيها، واختلف العلماء في سواها، هل يلحق بها بالقياس أو لا يلحق؟

فأما أهل الظاهر فقالوا: لا يلحق بها شيء، والربا خاص بهذه الأشياء الستة؛ لأن أهل الظاهر يمنعون القياس.

وقال أهل المعاني: بل يقاس عليها ما يماثلها، ووافق بعض أهل المعاني ـ أعني القياسيين ـ أهل الظاهر، وأنه لا يجري الربا إلا في هذه الستة فقط لأن الرسول صلى الله عليه وسلم حصره، وقد أعطي عليه الصلاة والسلام جوامع الكلم

(2)

واختصر له الكلام

(1)

سبق تخريجه ص (207).

(2)

أخرجه البخاري في الجهاد/ باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «نصرت بالرعب مسيرة شهر» (2977)؛ ومسلم في الصلاة/ باب المساجد ومواضع الصلاة (523) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 394

اختصاراً

(1)

، ولو كان الربا يجري في كل مكيل أو موزون لقال: المكيل بالمكيل، والموزون بالموزون؛ لأن هذا أعم وأخصر وأوضح، فلما عيَّن لا نتعدى ما قال ولا نتجاوز ما جاءت به السنة، وهذا استدلال قوي في الواقع.

وقال ابن عقيل وهو من أصحاب الإمام أحمد وهو ليس من أهل الظاهر بل من أهل المعاني والقياس، قال: إنه لا يجري الربا إلا في الأصناف الستة؛ لأن العلماء اختلفوا في العلة، فلما اختلفوا تساقطت أقوالهم، فنرجع إلى القول الفصل وهو تخصيص الربا بهذه الأصناف الستة، وعلى هذا فهو يرى أن الربا لا يجري إلا في الأصناف الستة، لكن مأخذه غير مأخذ الظاهرية.

ولكن الراجح أن الشريعة عموماً لا يمكن أن تفرق بين متماثلين؛ لأن الشريعة محكمة من لدن حكيم خبير، والقياس فيها ثابت، فأي فرق بين بر ببر وأرز بأرز؟ فقد يكون الأرز في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن موجوداً فالشارع لا يمكن أن يفرق بين متماثلين، لكننا نحصر العلة على أضيق نطاق لأن الأصل الحل،

(1)

أخرجه أبو يعلى في «مسنده الكبير» كما في «المطالب العالية» (3851) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

قال الهيثمي في المجمع (1/ 173): «فيه عبد الرحمن بن إسحق ضعفه أحمد وجماعة» ، وأخرجه الدارقطني (4/ 144) عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال في التعليق المغني:«في إسناده زكريا بن عطية قال أبو حاتم: منكر الحديث» ، قال الألباني:«لكن في معناه قوله صلى الله عليه وسلم: «أعطيت فواتح الكلم وجوامعه وخواتمه، وهو حديث صحيح» ، انظر التعليق على بداية السول في تفضيل الرسول صلى الله عليه وسلم (74) والصحيحة (1483).

ص: 395

وكون الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر هذه الأشياء فعلى سبيل التمثيل؛ لأنه هو الذي كان موجوداً، مثل صدقة الفطر قال:«صاعاً من بر وصاعاً من شعير»

(1)

، مع أنه يوجد أشياء أخرى، ولكن ما هو مناط الحكم، أي: ما هي العلة الدقيقة التي يمكن أن نلحق بها ما سوى هذه الأصناف الستة؟ هذا ـ أيضاً ـ محل نزاع.

فقال بعض العلماء: العلة الكيل والوزن؛ لأن هذه الأشياء إما مكيلة أو موزونة، فالكيل في الأصناف الأربعة، والوزن في الذهب والفضة، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد، وبناءً على هذا نقول يجري الربا في كل مكيل قياساً على الأصناف الأربعة، وفي كل موزون قياساً على الصنفين الآخرين الذهب والفضة، ولا يجري الربا في غير المكيل والموزون، ولا يشترط أن يكون مطعوماً حتى ولو كان لا يؤكل، وعلى هذا فالإشنان يكال ولا يؤكل فيجري فيه الربا لأنه يكال.

ولو أبدل برتقالة ببرتقالتين فهذا يجوز، إذ ليس مكيلاً ولا موزوناً، ويعتبر من المعدود، والدليل حديث الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر، ولننظر هل الدليل يطابق المدلول أم المدلول أعم؟ ومعلوم أنه إذا كان المدلول أعم فإنه لا يصح الاستدلال؛ لأنه الدليل الأخص يخرج ما عدا المخصوص، وإذا كان الدليل أعم واستدللنا به على أخص يجوز؛ لأن الأخص فرد من أفراد العموم، فهذه قاعدة في الاستدلال أنه متى كان الدليل أخص فإنه لا يصح الاستدلال به على الأعم والعكس بالعكس،

(1)

أخرجه البخاري في الزكاة/ باب نص صدقة الفطر (1503) ومسلم في الزكاة/ باب زكاة الفطر على المسلمين

(984)(16).

ص: 396

فالرسول صلى الله عليه وسلم عين أشياء ولم يذكر أشياء، فإذا استدللنا بالحديث على كل مكيل أو موزون فقد استدللنا بالأخص على الأعم.

وقال بعض العلماء: العلة الطعم في الأصناف الأربعة، والثمنية في الذهب والفضة، وهذا هو المشهور من مذهب الشافعي، وبناءً على هذا إذا أبدل برتقالة ببرتقالتين فإنه لا يجوز؛ لأنها مطعومة، وأيضاً إذا أبدل طناً من الحديد بطنين من الحديد فهذا يجوز، وعلى القول الأول لا يجوز.

وأقرب شيء أن يقال: إن العلة في الذهب والفضة كونهما ذهباً وفضة، سواء كانا نقدين أو غير نقدين، والدليل على أن الربا يجري في الذهب والفضة، وإن كانا غير نقدين، حديث القلادة الذي رواه فضالة بن عبيد رضي الله عنه:«أنه اشترى قلادة فيها ذهب وخرز باثني عشر ديناراً ففصلها فوجد فيها أكثر، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تباع حتى تفصل»

(1)

. ومعلوم أن القلادة خرجت عن كونها نقداً، وعلى هذا فيجري الربا في الذهب والفضة مطلقاً سواء كانا نقداً أم تبراً أم حليّاً، على أي حال كانا، ولا يجري الربا في الحديد والرصاص والصفر والماس وغيرها من أنواع المعادن.

أما العلة في الأربعة فكونها مكيلة مطعومة، يعني أن العلة مركبة من شيئين الكيل والطعم، إذ هذا هو الواقع، فهي مكيلة مطعومة، ويظهر أثر الخلاف في الأمثلة:

فإذا باع صاعاً من الإشنان بصاعين، منه، فإذا قلنا: إن

(1)

أخرجه مسلم في المساقاة/ باب بيع القلادة فيها خرز وذهب (1591)(90) عن فضالة بن عبيد رضي الله عنه.

ص: 397

العلة الكيل فلا يجوز، وإن قلنا: إن العلة الطعم جاز، وإن قلنا: العلة الكيل مع الطعم جاز أيضاً.

وإذا باع فاكهة بجنسها متفاضلة، فإن قلنا: العلة الطعم فلا يجوز، وإن قلنا: العلة الكيل جاز، وإن قلنا: العلة الكيل مع الطعم جاز، فالأمثلة تبنى على الخلاف في تحديد العلة.

فإن قال قائل: سلمنا أنها مطعومة في البر والشعير والتمر، لكن ما القول في الملح؟ أجاب عنه شيخ الإسلام بأن الملح يصلح به الطعام فهو تابع له، ولهذا يقال:«النحو في الكلام كالملح في الطعام» ، فالملح من توابع الطعام، وبناءً على هذا التعليل يجري الربا في التوابل التي يصلح بها الطعام؛ لأنها تابعة له.

فإذا تأملنا هذه الأقوال الثلاثة وجدنا:

أولاً: أقربها إلى الصواب هذا القول؛ ووجه ذلك أننا إذا تأملنا الأصناف الستة التي بينها الرسول صلى الله عليه وسلم وجدنا أنها مطعومة مكيلة.

ثانياً: أن الأصل في البيع والشراء الحل فلا يمكن أن نحرم على الناس ما الأصل فيه الحل، حتى يتبين لنا ذلك على وجه بيَّن، فما دام لم يتبين إلا ما اجتمع فيه العلتان الكيل والطعم، فإننا نقول: ما عدا ذلك باقٍ على الأصل، وهذا القول هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.

‌يَحْرُمُ رِبَا الفَضْلِ فِي كُلِّ مَكِيْلٍ وَمَوْزُونٍ بِيْعَ بِجِنْسِهِ، وَيَجِبُ فِيْهِ الحُلُولُ والقَبْضُ وَلَا يُبَاعُ مَكِيْلٌ بِجِنْسِهِ إِلاّ كَيْلاً، وَلَا مَوْزُونٌ بِجِنْسِهِ إِلاّ وَزْناً وَلَا بَعْضُهُ بِبَعْضٍ جُزَافاً، فَإنْ اخْتَلَفَ الجِنْسُ جَازَت الثَّلَاثَةُ.

قوله: «يحرم ربا الفضل في كل مكيل وموزون بيع بجنسه» بناءً على أن العلة الكيل والوزن، الكيل في الأربعة، والوزن في

ص: 398

الذهب والفضة، فيحرم في كل مكيل وموزون بيع بجنسه.

وقوله: «ربا الفضل» أي: ربا الزيادة في كل مكيل بيع بجنسه بر ببر يحرم فيهما ربا الفضل، شعير بشعير يحرم، تمر بتمر يحرم، ملح بملح يحرم، ذهب بذهب يحرم، فضة بفضة يحرم، حديد بحديد يحرم على كلام المؤلف؛ لأنه موزون.

وقوله: «في كل مكيل وموزون بيع بجنسه» فبر بشعير لا يحرم؛ لأن المؤلف قيده فقال: «بجنسه» ، والشعير ليس جنساً للبر.

وكل شيء حرم فيه ربا الفضل فإنه يحرم فيه ربا النسيئة، لا العكس، ولهذا لم يقل المؤلف في «ربا الفضل والنسيئة» ؛ لأن هذا معلوم أنه متى حرم ربا الفضل حرم ربا النسيئة.

قوله: «ويجب فيه الحلول» أي: في مكيل أو موزون بيع بجنسه «الحلول والقبض» يعني أن يكون البيع حالًّا، وأن يقبض، فلو باع ذهباً بذهب مؤجلاً فهذا يحرم؛ لأنه يجب فيه الحلول، وإنما وجب فيه الحلول؛ لئلا يَدْخُلَهُ ربا النسيئة.

قوله: «والقبض» إذا قال قائل: أليس القبض يغني عن الحلول؟ يعني لو قال: يشترط فيه القبض، كما جاء في الحديث لقوله:«يداً بيد»

(1)

، في الواقع أنه يغني، لكن قد تأتي صورة يكون فيها القبض، ولا يكون فيها الحلول، مثل: أن يبيع عليه ذهباً بذهب مؤجلاً لشهر، ويقول: خذ هذا عندك وديعة، وإذا جاء الشهر فاقبضه، فهذا يمكن، ففيه قبض وليس فيه الحلول،

(1)

سبق تخريجه ص (207).

ص: 399

ولهذا بيّن المؤلف رحمه الله أنه يشترط الحلول والقبض.

فإذا قال قائل: الحديث ليس فيه إلا القبض، وكلام الرسول عليه الصلاة والسلام لا شك أنه أبلغ من كلام المؤلف.

قلنا: ليس في كلام المؤلف إلا زيادة الإيضاح فقط، فهو للحديث بمنزلة الشرح، وكلام النبي صلى الله عليه وسلم إنما يحمل على المعهود، والمعهود أنه إذا تقابض الرجلان في البيع فالبيع حال؛ لأنه ما معنى أن يقول: اشتريت منك كيلو من الذهب بكيلو من الذهب، وخذ هذا الكيلو عندك وديعة لمدة شهر، ثم بعد ذلك اقبضه لنفسك، فهي صورة نادرة أو لا توجد أيضاً، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما يتكلم في الأمور الدائمة المعروفة والغالبة.

فالقاعدة: «أنه إذا بيع مكيل بجنسه وجب شيئان التساوي والقبض قبل التفرق» .

لما بيّن المؤلف رحمه الله الضابط فيما يحرم فيه الربا، بيّن الطريق الذي نصل به إلى المساواة؛ لأن بيع الشيء بجنسه من الأموال الربوية يشترط فيه الحلول والقبض، فبأي شيء يكون القبض؟ وأي شيء نعرف به المساواة؟

بيّنه بقوله: «ولا يباع مكيل بجنسه إلا كيلاً ولا موزون بجنسه إلا وزناً» وعلى هذا فالتساوي في المكيل عن طريق الكيل، وفي الموزون عن طريق الوزن، فيضاف للتساوي قيد بناء على ما ذكره المؤلف وهو التساوي بالمعيار الشرعي، وهو كيلاً فيما يكال ووزناً فيما يوزن، والفرق بينهما أن المكيل تقدير

ص: 400

الشيء بالحجم، والوزن تقديره بالثقل والخفة، فالبر مكيل، فإذا بيع ببر فلا بد من أن يكون طريق التساوي هو الكيل، فلو بيع بجنسه وزناً فإنه لا يصح ولا يعتبر ذلك تساوياً، حتى فيما لا يختلف بالوزن والكيل كالأدهان والألبان، فإنهما من قسم المكيل؛ لأن كل مائع يجري فيه الربا فهو مكيل، فعلى هذا تكون الألبان من المكيلات، ولا يختلف فيها الوزن والكيل، ومع ذلك لو بيعت وزناً فإنها على كلام المؤلف لا يصح، فلو بعت لبناً بلبن من جنسه وزناً فإنه لا يصح مع أنه لو كيل لكان متساوياً.

واختار شيخ الإسلام رحمه الله أنه إذا كان الكيل والوزن يتساويان فلا بأس أن يباع المكيل بجنسه كيلاً أو وزناً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مثلاً بمثل»

(1)

، والمثلية هنا متحققة، أما ما يختلف بالكيل والوزن فلا بد أن يباع المكيل كيلاً، والموزون يباع وزناً.

وقوله: «ولا موزون بجنسه إلا وزناً» مثل اللحم، فلو باع الإنسان لحماً من خروف بلحم من خروف آخر فهذا موزون، فلو أراد أن يقطع اللحم قطعاً صغيرة ويضعه في إناء ويبيعه بجنسه كيلاً فإنه لا يصح؛ لأن معيار اللحم هو الوزن.

وقال بعض العلماء: يجوز أن يباع المكيل وزناً فيعتبر بالوزن، ولا العكس، يعني فلا يباع الموزون كيلاً، لكن الاحتياط ألاّ يباع المكيل إلا كيلاً، ولا يباع الموزون بمثله إلا

(1)

سبق تخريجه ص (207).

ص: 401

وزناً، إلا ما يتساوى فيه الكيل والوزن فلا شك في أن بيعه كيلاً أو وزناً جائز.

وقول المؤلف: «ولا يباع مكيل» كلمة «مكيل» نكرة في سياق النفي تشمل القليل والكثير والمساوي في الجودة والمخالف، فلو باع الإنسان تمرة بتمرة فالتساوي بالكيل، فلا بد من أن يتساويا كيلاً، لكن كيف تكال التمرة؟.

الجواب: يؤتى بإناء صغير كملعقة مثلاً، توضع التمرة في هذه الملعقة وتوضع التمرة الأخرى فيها.

وقال بعض أهل العلم: ما لا يكال لقلته وحقارته فإنه لا يعتبر فيه التماثل، كتمرة بتمرتين ـ مثلاً ـ فلا بأس، فمن أخذ بعموم الحديث: التمر بالتمر، مثلاً بمثل»

(1)

، قال: هذا يشمل التمر القليل والكثير، ومن أخذ بما تعارف عليه الناس، وقال: لا يمكن أن تكال التمرة، قال: هذا محمول على ما يعرفه الناس مما يمكن فيه الكيل، لكن ظاهر كلام المؤلف:«ولا يباع مكيل» أنه يشمل القليل والكثير.

قوله: «ولا بعضه ببعض جزافاً» يقال: جُزافاً، جِزافاً وجَزافاً، فهي مثلثة، أحياناً يقولون: مثلث اللام أو مثلث العين وأحياناً يقولون: بالمثلثة، والفرق بينهما أنهم إذا قالوا بالمثلثة أي: بالثاء، وإذا قالوا: مثلث الفاء يعنون الحركات.

ومعنى الجزاف: أي الذي يكون بدون تقدير، أي: ولا

(1)

سبق تخريجه ص (207).

ص: 402

يباع بعض المكيل بالمكيل جزافاً، ولا بعض الموزون بالموزون جزافاً؛ لأنه لا بد فيه من العلم بالتساوي، والجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل، يعني حتى لو فرض أننا أتينا بخارص حاذق، وقال: هذه الكومة من البر تساوي هذه الكومة من البر، فإنه لا يجوز تبايعهما؛ لأنه لا بد من العلم بالتساوي عن طريق الكيل، إلا أنه يستثنى مسألة واحدة تأتينا ـ إن شاء الله ـ، وهي العرايا، فإن العرايا يجوز أن تباع خرصاً.

وقوله: «ولا بعضه ببعض جزافاً» فلو باع بعضه ببعض جزافاً، وقبل التقابض كال كل منهما ما آل إليه فوجده مساوياً للآخر فيصح العقد؛ لأن المحظور قد زال وليس هناك جهل، فالمبيع معلوم من الطرفين، وإنما العلة هي معياره، وقد علمنا الآن أنهما سواء في المعيار الشرعي.

قوله: «فإن اختلف الجنس جازت الثلاثة» إن اختلف الجنس أي: بين المبيعين بأن يباع بر بشعير، فإنها تجوز الثلاثة وهي: أن يباع كيلاً، أو يباع وزناً، أو يباع جزافاً.

ووجه الجواز أنه إذا بيع الربوي بغير جنسه جاز فيه التفاضل.

مثال ذلك: اشترى شعيراً ببر، أي: كيلو بر بكيلو شعير فهذا جائز؛ لأنه من غير جنسه وإذا اختلف الجنس، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد»

(1)

، وإذا باع شعيراً بتمر وزناً، كيلو من هذا بكيلو من

(1)

سبق تخريجه ص (207).

ص: 403

هذا، فهذا جائز؛ لاختلاف الجنس، وإذا اختلف الجنس لم يشترط التساوي.

وإذا باع تمراً ببر من غير تقدير لا بالوزن ولا بالكيل، فهذا جائز أيضاً؛ وذلك أنه لا يشترط فيه التساوي.

وخلاصة الكلام أنه إذا بيع الربوي بجنسه يشترط فيه شرطان:

الأول: التقابض من الطرفين.

الثاني: التساوي بالمعيار الشرعي، المكيل بالمكيل، والموزون بالوزن.

وإذا بيع الربوي بربوي من غير جنسه اشترط شرط واحد، وهو التقابض قبل التفرق، أما التساوي فليس بشرط، ولهذا يجوز بيعهما مكايلة وموازنة وجزافاً.

فإن اختلفا في المعيار الشرعي بأن كان أحدهما مكيلاً والآخر موزوناً، يقول الفقهاء: إنه يجوز كل شيء، يعني يجوز الكيل والوزن والجزاف والحلول والتأجيل، مثل أن أبيع عليك رطلاً من الحديد بصاعين من البر مؤجلين إلى شهر، فهذا جائز؛ لأن معيار الحديد الوزن ومعيار البر الكيل.

وإذا بيع ربوي بغير ربوي فيجوز التفرق قبل القبض، ويجوز التفاضل، مثل أن يبيع شعيراً بشاة، أو يبيع شعيراً بثياب، أو ما أشبه ذلك، فهذا يجوز فيه التفرق قبل القبض والتفاضل، هذا هو خلاصة ما ذكره المؤلف رحمه الله تعالى.

مسألة: يجوز أن يبيع ورقاً نقدياً مئة ريال مثلاً بخمسة

ص: 404

وتسعين ريالاً من المعدن، والفرق بين هذه المسألة والمسألة السابقة أن هذا مقابل الجنس؛ لأن حقيقة الأمر أن هذا جنس مقصود بنفسه، وذلك جنس مقصود بنفسه أيضاً، وكوننا نقول: إن هذا الريال الورقي يقابل هذا الريال المعدني في قيمته النظامية، لا يلزم أن يكون مساوياً له في قيمته الحقيقية، وهذا هو المذهب، واختيار شيخنا عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله أيضاً أنه يجوز بيع الفلوس بعضها ببعض ولو متفاضلاً ولو تأخر القبض، لكن بشرط ألا يكون مؤجلاً بأن أقول: بعت عليك مائة دولار بأربعة آلاف ريال إلى سنة، فهذا لا يجوز عنده لكن إذا قال: بعت عليك مائة دولار بأربعة آلاف ريال ولم نتقابض فهذا صحيح عنده، لكن فيه نظر؛ لأنه مبني على أن هذا كالفلوس والفلوس على المذهب ليس فيها ربا نسيئة ولا ربا فضل، وفي المسألة قول آخر في الفلوس أنه يجري فيها ربا النسيئة دون الفضل، وهذا هو الأقرب؛ لأن الفلوس في الحقيقة قيمتها قيمة رسمية فقط، فالأوراق النقدية مثل الفلوس، وهذا قول وسط، وهناك قول آخر يحرم ربا النسيئة وربا الفضل، وهناك قول آخر أنه لا يجوز التعامل بها مطلقاً وأن التعامل بها حرام؛ لأنها دين على الحكومة فأنت إذا اشتريت بها أو بعت فقد اشتريت ديناً بدين، ولكن تتعامل بها للضرورة فتتقدر بقدرها.

فأرجح ما يكون عندي أنه يجري فيها ربا النسيئة دون ربا الفضل، فلا يجوز أن نتفرق إلا بالقبض، وهم الآن يجوزون أن يبيع الإنسان ثماني ورقات وثمانية قروش بريال واحد من الفضة

ص: 405

مع أن هذه الورقة معتبرة ريالاً، فهذه مثل تلك المسألة.

‌وَالجِنْسُ: مَا لَهُ اسْمٌ خَاصٌ يَشْمَلُ أنْوَاعاً؛ كَبُرٍّ وَنَحْوِهِ وَفُرُوعُ الأجْنَاسِ؛ كَالأدِقَّةِ، وَالأخْبَازِ، وَالأدْهَان، واللّحْمِ أجْنَاسٌ بِاخْتِلَافِ أصُولِهِ،.

قوله: «والجنس ما له اسم خاص يشمل أنواعاً كبُرٍّ ونحوه» الجنس ضابطه، هو الشيء الذي يشمل أشياء مختلفة بأنواعها.

والنوع ما يشمل أشياءً مختلفة بأشخاصها، هذا هو الفرق، فمثلاً البر جنس؛ لأنه يشمل أشياءً مختلفة بأنواعها، والبر فيه ما يسمى بالحنطة، وما يسمى بالمعية، وما يسمى بالجريباء، وما يسمى باللقيمي هذه أربعة أنواع، إذاً فالبر جنس شمل أنواعاً.

والنوع شيء يشمل أشياء مختلفة بأشخاصها، كالحنطة مثلاً تشمل أشياء مختلفة بأشخاصها، تشمل الحنطة التي عندي والتي عندك، وما أشبه ذلك.

الإنسان جنس أو نوع؟

الجواب: جنس يشمل أشياء مختلفة بأنواعها، وهو ذكر وأنثى.

والحيوان جنس، لكنه أعم من الإنسان؛ لأنه يشمل الإنسان وغير الإنسان، فيشمل الإنسان والإبل والبقر والغنم، وغير ذلك فهو أعم.

والجسم جنس أعم مما سبق، فيشمل الجماد والحيوان والإنسان، وكما سبق الحيوان يشمل أنواعاً.

فتبين بهذا أن الشيء قد يكون جنساً باعتبار ما تحته، ونوعاً باعتبار ما فوقه؛ وقد يكون الجنس نوعاً، باعتبار ما فوقه وجنساً باعتبار ما تحته، والمراد هنا الجنس الأخص لا الأعم، ولهذا لو بعنا بقرة ببعير فقد اتفقا في الجنس الأعم وهو الحيوانية،

ص: 406

لكن يجوز التفاضل ويجوز التفرق قبل القبض، لكن المراد هنا الجنس الأخص، أي: أخص الأجناس، وإذا أردنا أن نبتعد عن أهل الكلام واصطلاحاتهم، نقول:«البر، والتمر، والشعير، والملح، والذهب، والفضة» ، ما نحتاج أن نقول: الجنس الأعم والجنس الأخص؛ لأنه قد يشكل على الإنسان هذا الشيء، وعلى هذا فإذا قلنا: لا يباع الربوي بجنسه، فمعناه لا يباع البر بالبر، أما الشعير فإنه جنس مستقل، فإذا أردت أن تبيع براً ببر، فالواجب شيئان:

الأول: التقابض قبل التفرق.

الثاني: التساوي بالمعيار الشرعي.

وإذا أردت أن تبيع براً بشعير، فالواجب شيء واحد، وهو التقابض قبل التفرق.

قوله: «وفروع الأجناس كالأدقة والأخباز والأدهان واللحم أجناس باختلاف أصوله» فروع الأجناس أجناس، لكن هل هي أجناس مستقلة أو هي أجناس تابعة لأصولها؟

أفادنا المؤلف رحمه الله في كلامه هذا أنها أجناس تابعة لأصولها، وعلى هذا فإذا بيع برٌّ حباً ببرٍّ دقيقاً فإنه لا يجوز لتعذر التساوي؛ لأن الحب إذا طحن انتشر ولا يمكن تقديره بالكيل ولا يمكن ـ أيضاً ـ تقديره بالوزن؛ لأن البر لا يباع بالبر إلا كيلاً.

وإذا بيع برٌّ حباً بشعير دقيقاً يجوز بدون كيل ولا وزن؛ لأن بيع البر بالشعير لا بأس فيه بالتفاضل، والدقيق جنس باعتبار الأصل.

ص: 407

وكذلك ـ أيضاً ـ الأخباز، فإذا أردت أن تبيع خبزاً من البر بجريش، والجريش عبارة عن حب لكنه مطحون، ليس طحناً دقيقاً يطبخ فهذا لا يجوز لتعذر التساوي؛ لأن الجريش قد ترطب بالماء ولا يمكن كيله؛ وحتى إذا أمكن كيله فالخبز لا يمكن كيله.

فإذا قال قائل: يمكن أن نملأ إناءً من الجريش، ونفتت الخبز ونضع عليه ماء ونبدل هذا بهذا.

قلنا: لا يمكن التساوي والجنس واحد.

وخبز شعير بجريش من البر فهذا يجوز، لعدم اشتراط التساوي، هذا ما ذكره المؤلف رحمه الله أن فروع الأجناس تعتبر أجناساً بحسب أصولها.

وقال شيخ الإسلام رحمه الله: ما صنع من هذه الأجناس فإن خرج عن القوت بسبب هذا الصنع، خرج عن كونه ربوياً، بناءً على أن العلة في الربا هي كونه قوتاً، وإن لم يخرج فهو جنس مستقل ليس تابعاً لأصله، وعلى هذا فيجوز أن أبيع خبزاً من البر بجريش من البر؛ لأن كل واحد منهما اختلف اختلافاً بيناً، لا بالنسبة لأكله ولا بالنسبة للقصد منه فيكون جنساً مستقلاً، ولكن الاحتياط ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله لعموم قوله صلى الله عليه وسلم:«البر بالبر مثلاً بمثل» ، وهذا يعم البر على أي حال كان، «والشعير بالشعير»

(1)

، كذلك يعم الشعير على أي حال.

فإذا قال: أنا ما عندي إلا خبز، وأنا أريد جريشاً.

(1)

سبق تخريجه ص (207).

ص: 408

نقول له: بع الخبز واشتر جريشاً، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في التمر الجيد والتمر الرديء

(1)

.

وقوله: «الأدقة والأخباز» الأدقة جمع دقيق، والأخباز جمع خبز.

وقوله: «والأدهان» هذا بناءً على أن الربا يجري في الدهن لأنه يباع بالكيل في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم فهو مكيل، وكل مائع فهو مكيل كالدهن والزيت وغيره، أما إذا قلنا: إنه لا يجري في الدهن فلا بأس ببيع بعضه ببعض متفاضلاً أو متساوياً.

وقوله: «واللحم» اللحم ـ أيضاً ـ أجناس، فلحم الإبل جنس، ولحم الضأن جنس آخر، ولحم البقر جنس آخر، ولحم المعز جنس آخر، ولحم الأرانب جنس، ولحم الظباء جنس، واللحم موزون فلا يجوز أن أبيع كيلو من لحم الغنم بكيلوين من لحم الغنم ـ أيضاً ـ؛ ولأن الجنس واحد فلا يجوز فيه التفاضل.

وكيلو من لحم البقر بكيلوين من لحم الخروف، يجوز لاختلاف الجنس، وهذا ـ أيضاً ـ بناءً على أن اللحم يجري فيه الربا، وهو وجيه إذا كنا في بلاد قوتهم اللحم، أما إذا كنا في بلاد لا يعتبر اللحم فيها قوتاً فإنه لا يجري فيه الربا؛ لأنه ليس بقوت، والمذهب: أنه يجري فيه الربا؛ لأنه مما يوزن، والعلة على المذهب الكيل والوزن، فإذا بعت عليك خروفاً بخروفين

(1)

أخرجه البخاري في البيوع/ باب إذا أراد بيع تمر بتمر خير منه (2201)(2202)؛ ومسلم في المساقاة/ باب بيع الطعام مثلاً بمثل (1593)(95) عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما.

ص: 409

فهذا جائز؛ لأنه ليس بمكيل ولا موزون، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم:«يستقرض على إبل الصدقة، فيأخذ البعير بالبعيرين، والبعيرين بالثلاثة»

(1)

، وعلى هذا فلا ربا في الحيوان ما دام حياً، أما إذا ذبح فإنه يكون لحماً فيجري فيه الربا، فإذا بيع بجنسه فإنه لا بد من التساوي وإلا فلا يصح.

‌وَكَذَا اللَّبَنُ وَاللّحْمُ والشَّحْمُ والكَبِدُ أجْنَاسٌ، وَلَا يَصِحُّ بَيْعُ لَحْمٍ بِحَيَوانٍ مِن جِنْسِهِ، وَيَصِحُّ بِغَيْرِ جِنْسِهِ.

قوله: «وكذا اللبن» اللبن أجناس باختلاف أصوله، فلبن الإبل جنس، ولبن البقر جنس آخر، فلو بعت صاعاً من لبن الإبل بصاعين من لبن البقر فهذا جائز؛ لأن الجنس مختلف، ولو بعت صاعاً من لبن بقرة بكر وصاعين من لبن بقرة عجوز فهذا لا يجوز؛ لأن الجنس واحد.

قوله: «واللحم والشحم والكبد أجناس» انتقل المؤلف من الجنس باعتبار استقلال البهيمة إلى الجنس باعتبار وحدة البهيمة، فالبهيمة فيها لحم منوع، ففيها لحم وشحم وكبد وقلب وأَلية وطحال ورئة وكراع وعين ورأس، فهذه كل واحد منها جنس، وعلى هذا فيجوز أن يبيع عليك رطلاً من الكبد برطلين من الرئة، ولو من الضأن؛ لاختلاف الجنس، ويجوز أن أبيع رطلاً من الرئة برطلين من اللحم من الشاة نفسها؛ لاختلاف الجنس،

(1)

أخرجه الإمام أحمد (2/ 171)، وأبو داود في البيوع/ باب في الحيوان بالحيوان والرخصة في ذلك (3357)؛ والحاكم (2/ 56)؛ والبيهقي (5/ 287) عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.

وقال الحاكم: (صحيح على شرط مسلم) ووافقه الذهبي؛ وصححه البيهقي، قال الحافظ في «الدراية» (2/ 159):«في إسناده اختلاف لكن أخرجه البيهقي من وجه آخر قوي، وحسنه الألباني في «الإرواء» (5/ 205).

ص: 410

إذاً نفس البهيمة بأجزائها أجناس، وكل جزء يعتبر جنساً مستقلاً، وعلى هذا فيجوز بيع بعضها ببعض متفاضلاً، ولكن هل يجب التقابض؟

الجواب: نعم؛ لاتفاقهما في المعيار الشرعي، فاللحم كله موزون، فلما اتفقا في المعيار الشرعي كان لا بد من أن يتقابضا قبل التفرق، أما التساوي فليس بشرط.

قوله: «ولا يصح بيع لحم بحيوان من جنسه ويصح بغير جنسه» .

مثال ذلك: عندي كومة من لحم الضأن فأردت أن أبيعها بشاة فلا يجوز؛ لأنه من جنسه.

فإذا قال قائل: الذي عندي لحم والشاة أو الخروف فيها كبد وقلب ورئة، وأنتم ذكرتم أن هذه الأشياء كل واحد منها جنس مستقل؟

قلنا: إذا كان الذي عندك لحم، وفي الشاة لحم فقد بعت لحماً بلحم ومعه من غير الجنس، فيكون هذا من باب ما يسمى عند الفقهاء: بمُد عجوة ودرهم فلا يجوز.

وإذا بعت عليك عشرة أصواع من التمر، بصاعين من التمر ومعهما ثمانية أصواع من الشعير فهذا لا يجوز؛ لأنك بعت جنساً بجنسه ومع الثاني من غير جنسه، فهذه مسألة مد عجوة ودرهم بمد عجوة، أو بمُدَي عجوة ودرهم، كما سيأتي إن شاء الله.

إذاً بيع اللحم بحيوان من جنسه، يقول المؤلف: لا يجوز.

واستدل بما يلي:

ص: 411

أولاً: بعموم نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن بيع اللحم بالحيوان

(1)

، وهذا الحديث لو أخذنا بظاهره، لقلنا: إنه عام يشمل ما إذا كان الحيوان من جنس اللحم أو من غير جنسه، وهذا لا ينطبق على كلام المؤلف، فالمؤلف رحمه الله يقول: إنه لا يباع اللحم بحيوان من جنسه.

مثاله: خمسون كيلو من لحم الخروف بخروف من جنسه فلا يجوز للنهي عن بيع اللحم بالحيوان، وهذا الحديث في تصحيحه مقال بين أهل العلم وفيه اختلاف.

ثانياً: أنه إذا باع هذا اللحم بهذا الحيوان، فكأنه باع طعاماً بجنسه ومع الآخر من غير الجنس؛ لأننا إذا قدرنا أن هذه الكومة لحم، أي: هبر، فالحيوان الذي بيع، فيه لحم وشحم وكبد ورئة وقلب وطحال وكرش وأمعاء

إلخ، فيكون كالذي باع ربوياً بمثله ومع الآخر من غير جنسه، وهذا ما يعبر عنه الفقهاء بمد عجوة ودرهم، هذا هو حكم المسألة على كلام المؤلف.

وقال بعض أهل العلم: إنه لا بأس ببيع اللحم بالحيوان مطلقاً، سواء من جنسه أو من غير جنسه؛ وذلك لاختلاف المقاصد بين الحيوان وبين اللحم، فالحيوان يراد للأكل وللتنمية

(1)

أخرجه مالك في «الموطأ» (2/ 655)؛ وأبو داود في المراسيل ص (178)؛ وعبد الرزاق (14162)؛ والدارقطني (3/ 71)؛ والبيهقي (5/ 296) عن سعيد بن المسيب مرسلاً.

وقال ابن عبد البر في «التمهيد» (4/ 322): لا أعلم هذا الحديث يتصل من وجه ثابت من الوجوه عن النبي صلى الله عليه وسلم وأحسن أسانيده مرسل سعيد بن المسيب هذا. اهـ.

ص: 412

وللتجارة ولغير ذلك، واللحم يراد غالباً للأكل، فلما اختلفت المنافع والمقاصد صار كل واحد منهما لا صلة له بالآخر ولضعف الحديث الوارد في ذلك.

ويرى بعض أهل العلم أنه لا يجوز بيع اللحم بالحيوان مطلقاً سواء من جنسه أو من غير جنسه؛ لأنه بيع حي بميت، ويروون عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه «نهى عن بيع الحي بالميت»

(1)

، ولكن هذا القول ضعيف؛ لأن الحديث الوارد فيه ضعيف، والأصل في البيع الحل لقوله تعالى:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} .

وفصل بعض أهل العلم فقال: إن أراد بالحيوان اللحم فإنه لا يصح بيعه بجنسه، وإن أراد بذلك الانتفاع بالحيوان بركوب أو تأجير أو حرث أو غير ذلك فلا بأس؛ لأنه إذا أراد به اللحم اتفقت المقاصد فصار المراد بهذا الحيوان هو اللحم والأعمال بالنيات، وإذا أراد انتفاعات أخرى فإنه يختلف المقصود.

وهذا القول أصح الأقوال الأربعة: أنه إن أراد بالحيوان اللحم فإنه لا يجوز؛ لأنه صار كأنه باع لحماً بلحم من غير تساوٍ، أي: مع التفاضل، وإن أراد بالحيوان الانتفاع بغير الأكل فهذا لا بأس به، وهذا القول لا يعارض حديث النهي عن بيع اللحم بالحيوان؛ لأنه يمكن أن يحمل الحديث على ما إذا أراد الإنسان بالحيوان اللحم.

(1)

أخرجه أبو داود في المراسيل (166) عن سعيد بن المسيب مرسلاً، وأخرجه الإمام مالك (2/ 655) عن سعيد بلفظ:«نهى عن بيع اللحم بالحيوان» ، انظر: نصب الراية (4/ 39).

ص: 413

وهل يمكن أن يريد باللحم الحيوان؟

الجواب: لا يمكن؛ لأن هذا اللحم لا يمكن أن يعود حيواناً، لكن أن يريد بالحيوان اللحم فيمكن بأن يذبحه ويأكل اللحم، فهذا الحديث إن صح يحمل على ما إذا أراد الإنسان بالحيوان اللحم.

وقوله: «ويصح بغير جنسه» مثل أن يبيع لحم ضأن ببقرة؛ لأن اختلاف الجنس يدخل في قوله عليه الصلاة والسلام: «إذا اختلفت هذه الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد»

(1)

، فإذا باع لحماً مأكولاً بحمار جاز لاختلاف الجنس، واختلاف المقاصد أيضاً.

‌وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ حَبٍّ بِدَقِيْقِهِ وَلَا سَوِيقِهِ وَلَا نَيْئِهِ بِمَطْبُوخِهِ، وَأصْلِهِ بِعَصِيْرِهِ، وَخَالِصِهِ بِمَشُوبِهِ وَرَطْبِهِ بِيَابِسِهِ ....

قوله: «ولا يجوز بيع حب بدقيقه» ولو تساويا وزناً.

مثاله: إنسان عنده صاع من البر باعه بصاع من دقيق البر فإنه لا يجوز لعدم التساوي؛ لأن الحب بالطحن تنتشر أجزاؤه.

فإذا قال: أنا أزيد على الدقيق بمقدار ما يساوي وزن الحب.

قلنا: لا يجوز أيضاً؛ لأن المعتبر في الحب والدقيق هو الكيل، فلا يصح.

وقال بعض العلماء: إنه إذا تساويا في الوزن فلا حرج؛ لأن تساويهما في الوزن يدل على تساويهما في الكيل حباً، واستدلوا لذلك بأمرين:

(1)

سبق تخريجه ص (207).

ص: 414

أحدهما: قول الرسول عليه الصلاة والسلام: «البر بالبر مثلاً بمثل»

(1)

، والمثلية هنا محققة.

الثاني: أن الرسول عليه الصلاة والسلام أجاز بيع العرايا بخرصها تمراً

(2)

، والعرايا بيع رطب بتمر، والرطب أثقل من التمر وينتفخ أيضاً، والتمر يضمر ويخف لكن يحول الرطب إلى تمر ويباع بخرصه، وهذا إذا وزن فإنه قد حول إلى حب، وهذا القول هو الصحيح؛ لأن التماثل حاصل، والحاجة داعية إلى إبدال هذا بهذا أو يحول الدقيق إلى حب وذلك بالميزان.

وهذا كما قالوا فيما إذا جُبِّن التمر ـ أي: صار تمراً مرصوصاً يتعذر كيله ـ فإنه يعتبر بالوزن، وإن كان لا ينتقل عن كونه مكيلاً.

ولو باع شعيراً حباً ببر دقيقاً جاز لاختلاف الجنس، ولهذا يجوز أن يبيع صاعاً من البر بصاعين من الشعير.

فإذا قال: أنا أبيع عليك صاعاً من الحب بصاع من الدقيق واعتبر الزيادة في مقابلة الطحن، فهذا لا يجوز لأن الزيادة بالصنعة كالزيادة بالصفة، وقد منع النبي صلى الله عليه وسلم التفاضل مع اختلاف الصفة والدليل أنه جيء إليه بتمر جنيب جيد فقال:«أَكُلُّ تمر خيبر هكذا؟ فقال: لا يا رسول الله ولكن نأخذ الصاع بالصاعين والصاعين بالثلاثة، فقال: لا تفعل بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيباً»

(3)

.

(1)

سبق تخريجه ص (207).

(2)

أخرجه البخاري في البيوع/ باب تفسير العرايا (2192) ومسلم في البيوع/ باب تحريم بيع الرطب بالتمر إلا في العرايا (1539) عن زيد بن ثابت رضي الله عنه.

(3)

سبق تخريجه (409).

ص: 415

هنا زاد القدر لنقص الصفة وقلَّ القدر باعتبار الطيب لجودة الصفة، فجودة الصفة زيادة في وصف خلقه الله، والزيادة من أجل الصنعة زيادة في وصف من فعل الآدمي، فإذا كان لا يجوز فيما فعله الله فلا يجوز فيما فعله الآدمي، وهذا القول هو الراجح وإن كان بعض العلماء يقول: إذا زاد بقدر الصنعة فإنه لا بأس به.

قوله: «ولا سويقه» الفرق بين الدقيق والسويق، أن الدقيق يطحن الحب بدون أن يحمص على النار، والسويق يحمص، أي: يشوى على النار ثم يطحن ثم يُثَرَّى بماء أو عسل أو نحوه فيختلف، فإذا امتنع أن يباع الحب بالدقيق غير المحمص فمنع بيعه بالدقيق المحمص من باب أولى؛ لأن فيه شيئين:

الأول: تفرق الأجزاء بالطحن.

الثاني: اختلافها بالتحميص، فهو أشد من بيع الحب بالدقيق.

قوله: «ولا نيئه بمطبوخه» مثل حنطة بهريسة، والهريسة معروفة، فلا يجوز أن يباع الحب بالهريسة.

والجريش هو عبارة عن الحب يطحن طحناً ليس دقيقاً بحيث يتكسر، ويكون أجزاء، ثم بعد ذلك يطبخ على مرق من لحم أو غيره فيسمى جريشاً، ويسمى هريسة، وأحياناً يجعل معه شيء من الحلوى فيوضع عليه سكر أو نحوه حتى يكون له حلاوة، المهم أن النَّيء بالمطبوخ لا يجوز؛ لتعذر التساوي، فلو بعنا حب شعير بهريسة الحنطة، فهذا يجوز لاختلاف الجنس.

مثال آخر: مبادلة كيلو من اللحم النَّيء بكيلو من اللحم

ص: 416

المطبوخ فلا يجوز؛ لأن الطبخ يؤثر في الوزن، إذ يدخل فيه أشياء كالماء، وإذا كان من غير الجنس جاز.

قوله: «وأصله بعصيره» الأصل لا يباع بالعصير، كما لو كان إنسان عنده زيتون وزيت، ـ والزيت من الزيتون ـ فباع زيتوناً رطلاً منه أو أكثر أو أقل برطل من زيت فإنه لا يصح، ومثله أن يبيع تمراً بدبس، ـ والدبس هو الماء الذي يخرج من التمر ـ فإنه لا يجوز، وذلك لتعذر التساوي.

قوله: «وخالصه بمشوبه» الخالص هو الذي لم يخالطه غيره، والمشوب هو الذي خلط معه غيره، فهذا لا يجوز؛ لتعذر التساوي.

مثاله: رجل عنده صاع من البر الخالص، وآخر عنده صاع من البر المخلوط بشعير، فلا يجوز أن يباع هذا بهذا لتعذر التساوي، إلا أنه يستثنى من ذلك الخلط اليسير أو ما كان لإصلاح المخلوط كالملح في الطعام، فالخلط اليسير لا يضر، فإنك لا تكاد تجد براً خالصاً ليس فيه حبة شعير، وكذلك ما يكون لإصلاحه كما لو بعنا خبزاً من البر بخبز من البر أحدهما قد جعل فيه حلوى، ولكن بعناهما متساويين فلا بأس، أو أحدهما فيه ملح فلا بأس، فصار يستثنى الشيء اليسير، والشيء الذي خلط للإصلاح من قوله:«خالصه بمشوبه» .

قوله: «ورطبه بيابسه» رطبه، الضمير يعود على الربوي، أي: ولا يباع رطب الربوي بيابسه، مثل أن يبيع رطباً بتمر، فالتمر يابس والرطبُ رَطْبٌ، فلا يجوز حتى وإن تساويا وزناً؛

ص: 417

لأن الرطب أثقل من التمر، والذي أثقله من غير جنسه، فيكون محرماً، ولهذا لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع التمر بالرطب فقال:«أينقص إذا جف؟» ، قالوا: نعم، فنهى عن ذلك

(1)

، لكنه يستثنى من ذلك العرايا.

والعرايا هي أن يكون عند إنسان تمر من العام الماضي وجاء الرطب هذا العام، وأراد أن يتفكه بالرطب، لكنه ليس عنده دراهم، وليس عنده إلا تمر يابس من العام الماضي، فهنا رخص الشرع بجواز شراء الرطب بالتمر، وسميت عرايا لعروها عن الثمن، فيأتي هذا الرجل الفقير الذي عنده تمر من العام الماضي إلى صاحب البستان، ويقول: بعني تمر هذه النخلة الذي هو الآن رطب بالتمر فهذا جائز؛ لدعاء الحاجة إليه، فإن هذا الفقير يريد أن يتفكه كما يتفكه الناس، وليس عنده دراهم فيشتري الرطب على رؤوس النخل بالتمر، لكن بشروط هي:

الشرط الأول: ألاّ يجد ما يشتري به سوى هذا التمر، فإن وجد ما يشتري به سوى هذا التمر، كالدراهم والثياب والحيوان وما أشبه ذلك، فإنه لا يجوز أن يشتري رطباً بتمر.

(1)

أخرجه مالك (2/ 624)؛ وأحمد (1/ 175)؛ وأبو داود في البيوع/ باب في التمر بالتمر (3359)، والترمذي في البيوع/ باب ما جاء في النهي عن المحاقلة والمزابنة (1225)؛ والنسائي في البيوع/ باب اشتراء التمر بالرطب (7/ 268)؛ وابن ماجه في التجارات/ باب بيع الرطب بالتمر (2264) عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.

قال الترمذي: «حسن صحيح» ؛ وصححه ابن حبان (4997)؛ والدارقطني كما في «سننه» (3/ 49)، وانظر:«التلخيص» (1142).

ص: 418

الشرط الثاني: أن تكون من خمسة أوسق فأقل، والوسق ستون صاعاً، فتكون خمسة الأوسق ثلاثمائة صاع.

الشرط الثالث: أن يكون مآل هذا الرطب بقدر التمر، أي: أن يأتي الخراص الماهر العارف، ويقول: هذا الرطب إذا جف يكون مساوياً للتمر الذي اشتري به.

فإن قال: إن الرطب إذا جف سيكون أكثر من هذا التمر أو أقل، فإنه لا يجوز، فلا بد أن يكون مساوياً. وهنا اكتفي بالمساواة خرصاً؛ من أجل دفع حاجة الفقير.

الشرط الرابع: أن يكون محتاجاً للرطب، بمعنى أنه يريده للأكل والتفكه لا يريد أن يبقيه إلى أن يتمر؛ لأنه قد يقول: أنا أريد أن أشتري الرطب وأبقيه حتى يكون تمراً؛ ليكون هذا التمر تمر هذا العام، وهو أجَدُّ من تمر العام الماضي، فنقول: لا بد أن تكون محتاجاً إلى الرطب لتأكله، ولهذا قال العلماء: لو أنه اشترى عرية رطباً ثم أتمرت بطل البيع؛ لأن الشرط الذي من أجله جاز هذا فُقِدَ.

الشرط الخامس: أن يكون الرطب على رؤوس النخل، فإن كان في أوانٍ بمعنى أن صاحب البستان خرف النخل، وجعله في أوانٍ وعرضه للبيع، فجاء إنسان فقير، فقال: ليس معي دراهم، لكن عندي تمر فاخرص هذا الإناء من الرطب وأعطيك بمثل خرصه تمراً، فهذا لا يجوز؛ لأنه يفوت التفكه؛ لأن كونه على رؤوس النخل يتفكه به الإنسان شيئاً فشيئاً.

فإن قال قائل: كيف جازت العرايا وهي حرام من أجل

ص: 419

الحاجة دون الضرورة، والقاعدة أن المحرم لا يجوز إلا للضرورة؛ لقول الله تبارك وتعالى:{وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119]؟ فهذا إيراد جيد لا شك فيه.

فالجواب: أن نرده بالقاعدة المعروفة عند العلماء، وهي:(أن ما حرم تحريم الوسائل جاز للحاجة)؛ لأن المحرمات نوعان:

محرمات تحريم غاية لذاتها، ومحرمات تحريم وسيلة.

وربا الفضل هل تحريمه تحريم غاية أو وسيلة؟

الجواب: يقول العلماء: إن تحريمه تحريم وسيلة، ويستدلون على ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه:«إنما الربا في النسيئة»

(1)

، وهذه الجملة جملة حصر، كأنه قال: لا ربا إلا في النسيئة، فيقال: المراد بهذا الربا الربا الذي هو الغاية، أما ربا الوسيلة فموجود في التفاضل إذا بيع الشيء الربوي بجنسه.

مثال آخر: الحرير حرام على الذكور، ويجوز أن يلبسه الإنسان إذا كان فيه حكة من التهاب في جسده؛ ليخفف هذه الحكة، ومع أن هذا ليس ضرورة، لكن جاز؛ لأن أصل تحريم الحرير على الذكور أنه غير لائق بهم، وأنه وسيلة إلى أن يكون الإنسان الذكر الذي فضله الله بالرجولة بمنزلة الأنثى التي تنشأ في الحلية، ولهذا حرم الذهب والحرير على الذكور.

(1)

أخرجه البخاري في البيوع/ باب بيع الدينار بالدينار نساء (2178)؛ ومسلم في البيوع/ باب بيع الطعام مثلاً بمثل (1596)(104).

ص: 420

مثال ثالث: آنية الفضة حرام، فإذا كان عند إنسان إناء من غير الفضة وانكسر، وأراد أن يلم بعضه إلى بعض بسلسلة من فضة جاز، مع أنه سوف يستعمل هذا الإناء، وفيه شيء من الفضة، لكن يقال: يجوز للحاجة مع أنه في الأصل محرم؛ لأنه حرم تحريم الوسائل، إذ إن الذهب والفضة استعمالهما في الأواني يؤدي إلى الفخر والخيلاء والاستكبار والتعاظم، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:«إنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة»

(1)

.

والخلاصة أن قول المؤلف: «ورطبه بيابسه» يستثنى منه العرايا، وهي بيع الرطب على رؤوس النخل بالتمر، بالشروط السابقة.

فإن قال قائل: حاجة المشتري واضحة، أي: أن المشتري محتاج إلى رطب، لكن لو كان البائع محتاجاً لتمر، وليس عنده مال إلا ما في رؤوس النخل من الرطب فهل يجوز أو لا؟ والفرق بين الصورتين واضح، ففي العرايا التي ورد فيها الحديث يكون المشتري هو المحتاج للرطب، فإذا كان صاحب الرطب هو المحتاج للتمر، فهل يجوز أن ندفع حاجته إذا لم يكن عنده دراهم، ونقول: لا بأس أن تشتري تمراً بالرطب بالشروط التي ذكرناها؟

قال بعض العلماء: لا يجوز؛ لأن هذه الصورة مستثناة، والمستثنى لا يقاس عليه غيره.

(1)

أخرجه البخاري في الأطعمة/ باب الأكل في إناء مفضض (5426) ومسلم في اللباس/ باب تحريم استعمال إناء الذهب والفضة (2067) عن حذيفة رضي الله عنه.

ص: 421

وقال بعض أهل العلم: إنه يصح القياس؛ لأن المقصود دفع الحاجة.

والأقرب عندي: صحة ذلك، أنه لو كانت الحاجة لصاحب الرطب فلا بأس؛ إذ إن المقصود دفع حاجة الإنسان، فلا فرق بين كونه هو البائع أو المشتري.

فإن قال قائل: وهل تجوز العرايا في غير النخل؟ كإنسان عنده زبيب وأراد أن يشتري به عنباً يتفكه به، فهل يجوز أو لا؟

فالجواب: في هذا خلاف بين العلماء، منهم من قال: إنه يجوز قياساً على التمر، والزبيب طعام كما في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في زكاة الفطر قال:«وكان طعامنا يومئذ التمر والشعير والزبيب والأقط»

(1)

، فهو طعام، فإذا احتاج الإنسان إلى عنب، وليس عنده إلا زبيب فلا بأس بالشروط التي ذكرنا في العرية، وهذا ـ أيضاً ـ أقرب إلى الصواب من المنع واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله؛ لأن العلة التي من أجلها رخص في عرايا النخل موجودة في عرايا العنب، وهكذا ما كان مثله مما يحتاج الناس للتفكه به وليس عندهم مال.

والدليل على منع بيع الرطب بالتمر أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل «عن بيع الرطب بالتمر، فقال: أينقص إذا جف؟ قالوا: نعم، فنهى عن ذلك»

(2)

، فأراد صلى الله عليه وسلم أن يكون السائل مقتنعاً تماماً، فقال: «أينقص

(1)

أخرجه البخاري في الزكاة/ باب الصدقة قبل العيد (1510).

(2)

سبق تخريجه ص (418).

ص: 422

إذا جف؟» قالوا: «نعم، فنهى عن ذلك» أي عن بيع الرطب بالتمر.

أما التعليل؛ فلأن بيع الرطب بالتمر يفقد شرطاً من الشروط وهو التساوي.

‌وَيَجُوْزُ بَيْعُ دَقِيقِهِ بِدَقِيقِهِ إِذَا اسْتَوَيَا فِي النُّعُومَةِ، ومَطْبُوخِهِ بِمَطْبُوخِهِ، وَخُبْزِهِ بِخُبزِهِ إِذَا اسْتَوَيَا فِي النّشَافِ وَعَصِيرِهِ بِعَصِيرِهِ، وَرَطْبِهِ بِرَطْبِهِ، وَلَا يُبَاعُ رِبَوِيٌّ بِجِنْسِهِ وَمَعَهُ أوْ مَعَهُمَا مِن غَيْرِ جِنْسِهِمَا.

قوله: «ويجوز بيع دقيقه بدقيقه إذا استويا في النعومة» مثل أن يكون الطاحون الذي طحن الحب طاحوناً واحداً، ووزنه وزن واحد، فأبيع عليك دقيقاً من الحنطة بدقيق من اللقيمي، ـ وهو نوع من حب البر ليس بجنس ـ، فيجوز بشرط أن يستويا في النعومة، وإن اختلفا في النعومة بأن كان أحدهما ناعماً جداً والثاني دون ذلك فهذا لا يجوز؛ لأنه كلما كان أنعم كان انتشار الحب أكثر، فلا يمكن التساوي لكن كما قلنا أولاً لو وزناهما فكانا سواءً فلا بأس.

قوله: «ومطبوخه بمطبوخه» كسمن بقر بسمن بقر طبخاً، فيجوز بيع هذا بهذا؛ لأنه لا اختلاف بينهما.

قوله: «وخبزه بخبزه إذا استويا في النشاف» أي: وكذلك يجوز بيع خبزه بخبزه إذا استويا في النشاف، لكن الخبز بالخبز كيف نكيله؟

الجواب: يقولون: إن اعتبار المساواة في الخبز بالوزن لتعذر الكيل، ولكن هل إذا قلنا: إنه يعتبر بالوزن يخرج عن كونه مكيلاً؟

الجواب: لا يخرج؛ لأننا إنما عدلنا عن المعيار الأصلي،

ص: 423

وهو الكيل إلى الوزن للضرورة، لكن ليس معنى ذلك أن هذا الخبز ينتقل إلى كونه موزوناً، ولو قلنا: ينتقل إلى كونه من الموزونات لجاز أن يباع الخبز بحبه مع التفاضل، ولجاز بيعه ـ أيضاً ـ بحبه مع التفرق؛ لأن بيع المكيل بالموزون لا يشترط فيه التساوي ولا يشترط فيه التقابض، ولهذا يغلط بعض الناس إذا رأى الفقهاء رحمهم الله قالوا: إنه يعتبر بالوزن في هذا، أو التمر إذا جبن يظنون أنه ينتقل من كونه مكيلاً إلى كونه موزوناً، ولكن هذا غلط؛ بل هو باقٍ على كونه مكيلاً، لكن يعتبر بالوزن للضرورة لعدم إمكان كيله.

وإذا قلنا: إن الخبز يعتبر فيه التساوي بالوزن، وقلنا: إنه انتقل من كونه مكيلاً إلى كونه موزوناً، أي: جنساً موزوناً، لزم من ذلك أنه يجوز أن نبيع مائة خبزة بعشرة أصواع من البر ولو لم نعلم التساوي؛ لأن بيع المكيل بالموزون يشترط فيه التماثل، وكذلك يجوز أن أبيع هذا الخبز بالبر وإن لم يحصل القبض، وهذا غلط، بل نقول: لا بد من التقابض في مجلس العقد، ولا يجوز بيع الخبز بالحب لعدم إمكان التساوي. والتمر المعجون بخلاف التمر المفرد كل تمرة وحدها، فهذا الأخير يمكن كيله؛ لأنه حب متناثر، أما المعجون فلا يمكن كيله، فهل نقول: في هذه الحال لما كان لا يمكن كيله انتقل من كونه مكيلاً إلى كونه موزوناً، وبناءً على ذلك يجوز أن أبيع تمراً مكنوزاً بتمر غير مكنوز وإن اختلفا، ويجوز ـ أيضاً ـ أن أبيعه به وإن حصل التفرق قبل القبض؟

الجواب: لا نقول بهذا؛ لأن معنى قولهم: «إنه ينتقل

ص: 424

للوزن»، إنما يقصدون به تقديره بالوزن فقط، لا أنه ينتقل إلى كونه موزوناً، فهذه مسألة يجب التنبه لها لئلا يحصل الخطأ.

قوله: «وعصيره بعصيره» أي: عصير الربوي بعصيره، كعصير عنب بعصير عنب؛ لأنهما متساويان، ولكن بأي معيار يكون هذا التساوي؟

الجواب: يكون بالكيل؛ لأن العصير مائع وكل مائع فهو مكيل.

قوله: «ورطبه برطبه» كرُطَبٍ برُطَبٍ بشرط أن يتساويا في الرطوبة، فإن اختلفا في الرطوبة فإنه لا يجوز؛ لأن الجاف ناقص عن الرطْب.

قوله: «ولا يباع ربوي بجنسه ومعه أو معهما من غير جنسهما» هذه المسألة يعبر عنها الفقهاء «بمد عجوة ودرهم» .

مثال ذلك: باع تمراً بتمر، ومع كل واحد منهما دراهم، يعني باع صاعاً من تمر ودرهماً بصاع من تمر ودرهم، فلا يجوز، هذا معنى قوله:«أو معهما من غير جنسهما» ، فهنا مع المبيعين من غير جنسهما.

وقال بعض أهل العلم: إذا كان معهما من غير الجنس جاز ولا حرج؛ لأننا نجعل الجنس مقابلاً لغير جنسه ونسلم من الربا، مثل ما لو بعت عليك مداً ودرهماً بمد ودرهم، هذا ليس فيه محظور؛ لأنك إن جعلت المد مقابل المد فقد تساويا، وإن جعلت المد مقابل الدرهم فليس بينهما ربا.

ص: 425

وقوله: «ومعه» مثل أن يبيع صاعاً من التمر ودرهماً بصاع من التمر فلا يجوز أيضاً؛ لأن مع أحدهما من غير الجنس، وهذا مبني على أن الصفقة إذا جمعت بين شيئين وزع الثمن على الشيئين على وجه الشيوع، وحينئذٍ نجهل التساوي بين الربويين.

مثال ثانٍ: باع صاعين من التمر بصاعٍ ودرهم من التمر، فلا يجوز؛ لعدم التماثل بين التمر.

مثال ثالث: باع درهمين بدرهم وتمر فلا يجوز؛ لأن مع أحدهما من غير جنسه.

والدليل هو: حديث فضالة بن عبيد رضي الله عنه أنه اشترى قلادة فيها خرز وذهب باثني عشر ديناراً، ثم فصل الذهب من الخرز فوجد فيها أكثر من اثني عشر ديناراً، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تباع حتى تفصل

(1)

، أي: حتى يفصل بعضها من بعض، ويعرف قدر الذهب من الخرز، ووجه النهي أنه تبين الآن أنه اشترى ذهباً بذهب أقلَّ منه؛ لأنه لما فَصَلَ هذه القلادة وجد فيها أكثر من اثني عشر ديناراً، فلما كان الاحتمال وارداً في مثل هذا فإنه يمنع منه سداً للباب، حتى لا يتجرأ أحد على أن يبيع شيئاً ربوياً بجنسه ويضيف إلى أحدهما شيئاً يسيراً، مثل أن يقول: أنا أبيع مثلاً كيلو من الذهب بكيلو إلا يسيراً وأجعل مع الثاني (الذي نقص) أجعل معه منديلاً مثلاً، وهذه حيلة لا شك، فَسُدَّ الباب.

(1)

سبق تخريجه (ص 397).

ص: 426

وهذه هي قاعدة المذهب «أنه لا يباع ربوي بجنسه ومعهما أو مع أحدهما من غير الجنس» على أي حال من الأحوال، حتى لو قال قائل: إذا باع صاعاً من تمر ودرهماً بدرهمين، والصاع يساوي درهماً أفلا نجعل الصاع في مقابلة درهم، والدرهم في مقابلة الدرهم، وليس فيه ربا؟ ولهذا إذا قال: بعتك هذا الصاع بدرهم، وصارفتك هذا الدرهم بدرهم، لو قال هكذا جاز، فأي فرق بين أن أقول: بعتك صاعاً ودرهماً بدرهمين ما دام أن الصاع لا يساوي أكثر من درهم، ولا أقل؟

قال العلماء رحمهم الله: هذا سداً للذريعة؛ لأن باب الربا أمره عظيم فيجب أن يسد كل طريق يمكن أن يوصل إليه، ولهذا حرم النبي صلى الله عليه وسلم بيع العينة مع أنه قد يكون الربا فيها بعيداً

(1)

.

وبيع العينة هو أن يبيع شيئاً بثمن مؤجل، ثم يشتريه نقداً بأقل مما باعه به، فصورة المسألة ليس فيها شيء، لكن لئلا يكون وسيلة إلى التحيل على الربا بأن يعطيه ثمانين درهماً، وتكون مائة درهم في ذمته، فمن أجل هذا نسد كل باب يوصل إلى الربا.

ولكن شيخ الإسلام رحمه الله نازع في هذا، وقال: إذا كان المفرد أكثر من الذي معه غيره، وكانت هذه الزيادة تقابل الشيء الآخر، فإن ذلك جائز، ولا بأس به، والحاجة قد تدعو إليه.

(1)

سبق تخريجه ص (211).

ص: 427

مثاله: باع صاعين من التمر بصاع ودرهم، والصاع الزائد في الطرف الذي ليس فيه إلا التمر يساوي درهماً، قال: هذا لا بأس به؛ لأننا نجعل الصاع الزائد في مقابل الدرهم، والصاع الثاني الذي مع الدرهم، في مقابلة الصاع الآخر، وليس في هذا حيلة إطلاقاً، والحاجة قد تدعو إلى ذلك، فقد يكون هذا الإنسان عنده تمر من السكري صاعان، وهذا عنده تمر من نوع آخر، لكن ليس عنده صاعان، عنده صاع واحد وعنده دراهم، فقال: أنا أعطيك هذا الصاع ودرهماً، والصاع يساوي الصاع الآخر لا يزيد ولا ينقص.

وما ذهب إليه شيخ الإسلام رحمه الله أصح، فإذا تيقنا أنه لا ربا، وأن القيمة واحدة فإنه لا بأس به ولا حرج، والشارع الحكيم لا يحرم شيئاً يتبين أنه لا ربا فيه إطلاقاً، مع أن الحاجة قد تدعو إليه.

مثال آخر: إذا اشترى كيساً من البر بنصف كيس من البر ومع الثاني سيارة مثلاً، فلا يجوز؛ لأن البر لا يقابل السيارة، فلا يصح حتى على رأي شيخ الإسلام لا يصح، بل لا بد أن يكون المفرد يساوي أكثر من الصاع الذي معه غيره بحيث يقابل الزائد ما مع الآخر ولا يزيد عليه.

فإن قال أنا: أريد أن أبيع صاعاً ودرهماً بصاع ودرهم، فهذا لا يجوز على المذهب، وعلى رأي الشيخ يجوز إذا كانت القيمة واحدة، أو قال: صاع ودرهم لكن هذا الدرهم مقابل

ص: 428

الصاع وهذا الدرهم الثاني مقابل الصاع فهذا واضح؛ لأن هذه الصفقة وإن كانت واحدة، لكن كأنها صفقتان.

مسألة: إذا كان الذهب مصوغاً وأراد أن يعطيه ذهباً غير مصوغ، فهل يشترط التساوي؟

الجواب: جمهور العلماء على أنه يشترط التساوي وأن الصنعة لا تؤثر شيئاً، وقال بعض أهل العلم كشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم: يجوز أن يعطيه بمقدار الصنعة، مثلاً إذا كان هذا الذهب وزنه واحداً، ولكن أعطاه زيادة لأنه مصنوع، فعند شيخ الإسلام رحمه الله جائز وتجعل هذه الزيادة في مقابل الصنعة، لكن الجمهور على المنع واستدلوا بحديث التمر ـ بيع الطيب بالرديء ـ لكن يجاب عن هذا الاستدلال بأن التمر الطيب والرديء ليس من صنعة الإنسان، وهذا من صنعة الإنسان، والإنسان يريد أن يأخذ لنفسه أجراً، إلا أن سد الباب أولى؛ لأن تقدير قيمة الصنعة قد يحصل فيه اختلاف، وقد يطمع صاحب الذهب المصوغ ويحمل الثاني أكثر من قيمة الصنعة.

مثال ذلك: لو كان ذهب مكسر فجاء صاحبه إلى الصائغ وقال: أبدل هذا الذهب بحلي آخر وأعطيك مقابل الصنعة، ربما يكون صاحب الدكان يزيد أكثر من قيمة الصنعة نظراً لرغبة هذا، فسد الباب أولى وأصح.

‌وَلَا تَمْرٌ بِلا نَوَى بِمَا فِيْهِ نَوَى، وَيُبَاعُ النّوى بِتَمْرٍ فِيهِ نَوَى، وَلَبَنٌ وصُوفٌ بِشَاةٍ ذَاتِ لَبَنٍ وَصُوفٍ.

قوله: «ولا تمر بلا نوى بما فيه نوى» هناك تمر يعجن، وينزع نواه ويسمى عندنا (العبيط)، فإذا جاء إنسان وقال: أريد أن أبيع عليك تمراً فيه نوى بتمر لا نوى فيه، أي: بعبيط، فلا يجوز

ص: 429

حتى لو تساويا كيلاً أو وزناً فإنه لا يصح؛ وذلك لأن النوى زائد على التمر، فإذا وزناهما جميعاً فإن النوى سوف يكون لا مقابل له فلا يصح.

فإن قال قائل: إذا كان هذا الذي اشترى التمر لا يهمه النوى ولا يخطر على باله، لكنه رجل نزل به ضيف، وقال: إن قدمت له العبيط فإنه لا يليق، ولا يعد هذا إكراماً ـ حسب العادة ـ وأنا أريد أن أشتري تمراً فذهب إلى صاحب التمر واشترى منه تمراً بالعبيط، فنقول: هذا ـ أيضاً ـ لا يجوز؛ لأن النوى حجمه كبير يسع مساحة بالنسبة للكيل وبالنسبة للوزن أيضاً، فلا يمكن التساوي، ولو اشترى تمراً بلا نوى بتمر بلا نوى مع التساوي فهو جائز، وأيضاً تمر بنوى بتمر بنوى مع التساوي جائز كما جاء في الحديث.

وإذا قدر أن بعض النوى أكبر من بعض، فهذا شيء مغتفر، وإلا فمن المعلوم أنه أحياناً يكون نوى بعض التمر كبيراً، لكن الشرع لم يلتفت لهذا؛ لأنه أمر يشق اعتباره، وليس مقصوداً في الغالب.

قوله: «ويباع النوى بتمر فيه نوى» هذا غريب، النوى يباع بتمر فيه نوى، والتمر لا يباع بتمر ليس فيه نوى.

ووجه ذلك أن هذا غير مقصود؛ لأن الذي باع النوى بتمر فيه نوى يقصد التمر لا يقصد النوى؛ لأنه لو كان قصده النوى، لعرف أن النوى سوف ينقص عما اشتراه به، فتبين بهذا أن القصد له أثر في الحل والتحريم.

ص: 430

قوله: «ولبن وصوف بشاة ذات لبن وصوف» اللبن والصوف على المشهور من المذهب يجري فيهما ربا؛ لأن اللبن مكيل، والصوف موزون، وكان اللبن مكيلاً؛ لأنه مائع، والصوف كان موزوناً؛ لأنه لا يمكن كيله، فإذا باع لبناً وصوفاً بشاة ذات لبن وصوف فإن ذلك جائز، ولا يقال: إن هذا من مسألة «مد عجوة ودرهم» ؛ لأنه باع ربوياً بربوي، ومع أحدهما من غير الجنس، فلا يقول أحد هذا القول، فلبن وصوف بشاة فيها لبن وصوف أيهما الزائد على الآخر؟

الجواب: الشاة، أي: زاد اللحم والشحم والعظم وغير ذلك، فلا يقول قائل: إن هذا من باب مسألة مد عجوة ودرهم فلا يصح؛ لأن اللبن والصوف غير مقصود فيما إذا اشترى إنسان شاة ذات لبن وصوف بلبن وصوف، والدليل أنه غير مقصود أنه سوف يُقَوِّم الشاة نفسها باللبن والصوف الذي معه، ولا يعير اهتماماً لصوفها الذي على ظهرها، ولا للبنها الذي في ضرعها، فلما لم يكن مقصوداً لم يكن من باب مسألة «مد عجوة ودرهم» وبهذا نعرف أنه إذا كان مع الربوي شيء من الجنس لكن غير مقصود، فإنه لا يؤثر مثل الأبازير وما أشبه ذلك مما يصلح به الطعام فإنه لا يضر، والمسألة السابقة بناء على أن اللبن ربوي، والصوف ربوي.

والصحيح أن الصوف ليس ربوياً، وأما اللبن فإن كان أهل هذا البلد قد اعتادوا أن يكون قوتهم اللبن فإننا نلحقه بالبر والتمر والشعير، وأما الذين لا يرونه قوتاً كما عندنا في نجد فليس

ص: 431

ربوياً؛ لأنه لم يُنص عليه ولا هو في معنى المنصوص، بل هو من جنس الشراب الذي يشرب من غير اللبن.

‌وَمَردُّ الكَيْلِ لعُرفِ المَدِينَةِ، والوَزْنِ لعُرْفِ مَكَّةَ زَمَنَ النّبي صلى الله عليه وسلم، وَمَا لَا عُرْفَ لَهُ هُنَاك اعتُبِرَ عُرْفُهُ فِي مَوْضِعِهِ.

قوله: «ومرد الكيل لعرف المدينة، والوزن لعرف مكة زمن النبي صلى الله عليه وسلم» أي: مرد كون الشيء مكيلاً أو كون الشيء موزوناً إلى عرف مكة والمدينة، فالكيل نرجع فيه إلى عرف المدينة، فلو كان هذا الشيء مكيلاً في المدينة، وموزوناً في مكة فإننا نعتبر المكيل بالمدينة، ولو كان هذا الشيء موزوناً في مكة مكيلاً في المدينة رجعنا إلى مكة، فعليه يختلف الحكم فيما إذا كان الإنسان في مكة، أو إذا كان في المدينة، فإذا كان في المدينة فالمكيال مكيال المدينة، وإذا كان في مكة فالميزان ميزان مكة، فإن اتفق البلدان على كون الشيء مكيلاً أو موزوناً صار هذا الشيء مكيلاً أو موزوناً، سواء كان في مكة أو في المدينة والمعتبر عرف مكة على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وهذا قد يجهله كثير من الناس فلا يعلمه.

وقد ذكر أهل العلم رحمهم الله ضوابط للمكيل والموزون فيها ما سبق من أن كل مائع مكيل.

ومنها أن ما تعذر كيله يعتبر بالوزن كالخبز والتمر المكنوز المجبن وما أشبه ذلك، فإنه يعتبر بالوزن لكن لا يخرج عن كونه مكيلاً.

وهناك أشياء لا يعرف لها كيل ولا وزن في مكة والمدينة فإلى أي شيء نرجع؟ قال المؤلف:

ص: 432

«وما لا عرف له هناك اعتبر عرفه في موضعه» نرجع إلى العرف في موضعه، فإن كان الناس يتبايعونه بالوزن فهو موزون، أو بالكيل فهو مكيل، أو بالعدد فهو معدود؛ لأنه ليس هناك ضابط نرجع إليه بالنسبة لمكة والمدينة.

وقال بعض العلماء: نرده إلى أقرب الأشياء شبهاً به في مكة والمدينة، فإذا كان أقرب الأشياء إليه الكيل في المدينة فهو مكيل، أو الوزن في مكة فهو موزون، وهذا القول أقرب إلى النظر؛ لأن ما لا يمكن فيه اليقين يرجع فيه إلى غلبة الظن، وقد يقال: بل إنه إذا لم يكن له عرف في مكة والمدينة فإننا نطرح الشَّبَهَ ونقول: يرجع إلى ما تعارفه الناس، وهذا القول الثاني من جهة السهولة على المسلمين والتيسير أقرب إلى الصواب؛ لئلا يحصل النزاع فيقول: هذا يشبه المكيل في المدينة، وهذا يشبه الموزون في مكة، فيقال: ما دام ليس له عرف في مكة والمدينة، وإنما طرأ حديثاً فإننا نعتبر عرفه في موضعه، هذا هو الذي مشى عليه المؤلف رحمه الله وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«المكيال مكيال المدينة، والميزان ميزان مكة»

(1)

.

وقال بعض العلماء: ما نص الشرع على أنه مكيل فهو

(1)

أخرجه أبو داود في البيوع/ باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «المكيال مكيال أهل المدينة» (3340)؛ والنسائي في البيوع/ باب الرجحان في الوزن (7/ 284) عن ابن عمر رضي الله عنهما وصححه ابن حبان (3283)«إحسان» ، عن ابن عباس رضي الله عنهما وصححه الدارقطني والنووي وابن دقيق العيد والعلائي، قاله المناوي في «فيض القدير» (6/ 374)؛ وصححه الألباني في «الإرواء» (5/ 191).

ص: 433

مكيل، وما لم ينص عليه الشرع فالمرجع فيه إلى العرف؛ لأنه يضعِّف هذا الحديث:«المكيال مكيال المدينة والميزان ميزان مكة» ويقول: ما نص الشرع عليه، مثل التمر مكيل، والبر مكيل، والشعير مكيل، والزبيب مكيل، والملح مكيل، والدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم قدر زكاة الفطر بالكيل، فقال:«صاع من تمر وصاع من شعير»

(1)

، وكذلك قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه:«كنا نخرجها صاعاً من طعام وكان طعامنا يومئذ التمر والشعير والزبيب والأقط»

(2)

، فما نص الشرع على أنه مكيل فهو مكيل، وليس لنا أن نتعدى، أما ما لم ينص عليه فإنه يعتبر عرفه في موضعه إن كانوا يبيعونه بالوزن فهو موزون، وإن كانوا يبيعونه بالكيل، فهو مكيل وإن كانوا يبيعونه بالعد فهو معدود.

ولنطبق هذا القول على حالنا اليوم، فالآن الناس يتبايعون الرز والبر بالوزن، هل نعتبر الوزن فيه؟ أو نقول: هذا منصوص على أنه مكيل؟

الجواب: الثاني، فإذا أردنا أن نبيع براً ببر لا نعتبر الوزن، بل نعتبر الكيل؛ لأن هذا مكيل بالنص فلا نتعدى النص.

ولو فرضنا أن هناك ذرة يتبايعها الناس بالوزن فهل نقول: هي موزونة بناء على العرف؟ أو هي مكيلة لأنها كالبر؟

الجواب: نرجع إلى العرف؛ لأنه ليس هناك نص على أن الذرة من المكيل، وهذا القول يريح الإنسان أكثر؛ لأننا إذا قلنا:

(1)

سبق تخريجه ص (396).

(2)

سبق تخريجه ص (422).

ص: 434

إن المرد مرد المدينة أو مكة قد يحصل اشتباه عند كثير من الناس.

وقال بعض أهل العلم: المرجع إلى العرف مطلقاً، فما كان مكيلاً عند الناس فهو مكيل، وما كان موزوناً فهو موزون، فصارت الأقوال ثلاثة:

القول الأول: أن المرجع إلى ما كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، لكن الوزن لمكة والكيل للمدينة.

القول الثاني: الأصناف الستة تبقى على ما كانت عليه البر والتمر والشعير والملح مكيلة، والذهب والفضة موزونان، وما عدا ذلك فيرجع فيه إلى العرف، إن كانوا يتبايعون بالكيل فهو مكيل وإن كانوا يتبايعون بالوزن فهو موزون.

القول الثالث: أن المرجع في ذلك إلى العرف مطلقاً؛ لأنه هو الذي يكون به التساوي أو النقص أو الزيادة.

ص: 435

‌فَصْلٌ

‌وَيَحْرُمُ رِبَا النَّسِيئَةِ فِي بَيْعِ كُلِّ جِنْسَيْنِ اتَّفَقَا فِي عِلَّةِ رِبَا الفَضْلِ لَيْسَ أحَدُهُمَا نَقْداً.

قوله: «فصل» أي: في ربا النسيئة، فالذي سبق البحث فيه ربا الفضل.

وربا النسيئة وهو تأخير التقابض في بيع الربويين وهو الأصل، ومن أجله حَرُمَ ربا الفضل، كما جاء في حديث أسامة بن زيد:«إنما الربا في النسيئة»

(1)

، وقد اختار ابن عباس رضي الله عنهما هذا في أول الأمر، وقال: إن ربا الفضل جائز، وأنك إذا بعت صاعين من البر بصاع يداً بيد فهو جائز، لكن لما ناظره أبو سعيد الخدري

(2)

وغيره من الصحابة رضي الله عنهم رجع عن قوله.

ويُشكل على طالب الدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما الربا في النسيئة» ، لأن (إنما) من أدوات الحصر، وتكون النتيجة لا ربا إلا في النسيئة.

وأجاب العلماء عن ذلك أن هذا الحصر منقوض بالأحاديث الصحيحة الدالة على ثبوت ربا الفضل، والذي قال:«إنما الربا في النسيئة» ، هو الذي قال:«مثلاً بمثل سواءً بسواء، فمن زاد أو استزاد فقد أربا»

(3)

.

فإذا قال قائل: إذا كان كذلك، فلماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:«إنما الربا في النسيئة» ؟

(1)

سبق تخريجه ص (420).

(2)

أخرجه البخاري في البيوع/ باب بيع الدينار بالدينار نساء (2178)، (2179) ومسلم في البيوع/ باب بيع الطعام مثلاً بمثل (1956).

(3)

أخرجه مسلم في البيوع/ باب الصرف وبيع الورق نقداً (1584)(82) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

ص: 436

قلنا: لينبه على أن ربا النسيئة أعظم من ربا الفضل؛ لأن هذا هو المعروف في الجاهلية، حيث إن الإنسان إذا استدان من شخص آخر ثم حل الأجل ولم يوف قال: نؤخر ونزيد، فكأنه قال: إنما الربا الأعظم والأكثر إثماً هو ربا النسيئة، ومن هنا نعلم أنه لا يمكن أن يكون هناك تناقض بين كلام النبي صلى الله عليه وسلم الأول والآخر إذا صح عنه، بل لا بد أن يكون العمل بكل منهما ما لم يوجد نسخ.

فإذا قال قائل: إذاً ما الفائدة من حصره في هذا؟

قلنا: لأنه أعظم نوعي الربا، فلهذا قال:«إنما الربا في النسيئة» .

فما الأشياء التي يحرم فيها ربا النسيئة؟

قوله: «ويحرم ربا النسيئة» النسيئة معناها المؤخر، كما قال تعالى:{إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا} [التوبة: 37]، يعني التأخير، ولكن ليس المراد بالآية ربا النسيئة، بل المراد ما بينه الله في آخر الآية:{يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا} ، وذلك أن الأشهر الحرم وهي: رجب وذو القعدة وذو الحجة ومحرم، لا يجوز فيها القتال، فكان العرب يتلاعبون فيها، أحياناً يؤجلون المحرم إلى صفر، فيحلون شهر محرم ويحرمون صفراً، قال تعالى:{لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ} ، لا عين ما حرم الله؛ لأن العدة أربعة، فيوافقون العدة ولكن يخالفون التعيين، ولهذا قال:{فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ} ، فالنسيء المذكور في الآية غير النسيء الذي نتكلم عنه هنا، النسيء الذي نتكلم عليه هنا هو تأخير

ص: 437

القبض في بيع كل جنسين اتفقا في علة ربا الفضل عن مجلس العقد؛ وذلك أن البيع إما أن يقع في جنس واحد ربوي أو في جنسين ربويين اتفقا في علة ربا الفضل، أو في جنسين ربويين لم يتفقا في العلة أو في شيئين ليسا ربويين، فالأقسام أربعة:

الأول: إذا كان البيع في جنس واحد ربوي، حرم فيه التفاضل والنساء.

الثاني: إذا كان في جنسين ربويين اتفقا في علة ربا الفضل، حرم بينهما النساء فقط دون الفضل.

الثالث: إذا كان بين جنسين ربويين لم يتفقا في العلة، جاز الفضل والنساء.

الرابع: إذا كان بين شيئين ليسا ربويين، جاز كل شيء، الفضل والنسيئة.

قوله: «في بيع كل جنسين اتفقا في علة ربا الفضل» «كل جنسين» احترازاً من الجنس الواحد، فالجنس الواحد فيه ربا نسيئة وربا فضل، وكلام المؤلف الآن يبين ربا النسيئة، ولهذا نقول قاعدة:«أن كل شيئين يجري بينهما ربا الفضل فبينهما ربا نسيئة ولا عكس» ، ولهذا قال:«في بيع كل جنسين اتفقا في علة ربا الفضل» ، فما هي علة ربا الفضل؟

الجواب: سبق لنا في أول باب الربا أن العلماء اختلفوا فيها، والمذهب عندنا، وهو المشهور الذي مشى عليه المتأخرون من أصحاب الإمام أحمد أن العلة هي الكيل والوزن، سواء كان هذا المكيل مما يؤكل أو لا، أو مما يقتات أو لا، وكذلك

ص: 438

الموزون، فكل شيئين بينهما اتفاق في الكيل فإنه يجري بينهما ربا النسيئة، وهما قطعاً ربويان؛ لأن العلة هي الكيل.

فقوله: «اتفقا في علة ربا الفضل» إذا بعنا مكيلاً بمكيل من غير جنسه وجب التقابض قبل التفرق، سواء كان مطعوماً أو غير مطعوم، ولو بعنا صاعاً من البر بصاع من الإشنان ـ والإشنان عبارة عن دقيق يشبه الصابون الذي في العلب تغسل به الثياب، وهو من شجر ييبس ويدق، والإشنان مكيل ـ فإذا باع صاعاً من الشعير بصاع من الإشنان وجب التقابض قبل التفرق، ولا يجب التساوي؛ لاختلاف الجنس؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد»

(1)

. قوله: «كيف شئتم» أي: بزيادة أو نقص ولكن «يداً بيد» ، وإذا باع صاعاً من البر بصاع من الجص فلا بد من التقابض؛ لأن الجص يباع كيلاً، فقد كانوا بالأول يبيعونه بالكيل، فتأتي إليه، وتقول له: أعطني صاعاً من الجص فيعطيك.

قوله: «ليس أحدهما نقداً» فإن كان أحدهما نقداً فإنه لا يحرم النساء، كما لا يحرم التفاضل.

مثال ذلك: باع حديداً بدنانير، فعلة ربا الفضل موجودة فيهما، فكلاهما موزون، فمقتضى القاعدة أنه يحرم النساء، ولكن المؤلف رحمه الله استثنى فقال:«ليس أحدهما نقداً» ، ودليل هذا الاستثناء حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين

(1)

سبق تخريجه ص (207).

ص: 439

فقال: «من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم»

(1)

، وجه الدلالة من الحديث أن السلم لا بد فيه من تقديم الثمن وتأخير المثمن وهذا نسيئة وقد أقره النبي صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أن الإسلاف يكون في الدراهم وهي موزونة، أو في الدنانير وهي موزونة، ولهذا قال:«أو وزن معلوم» فدل هذا على أنه إذا كان أحدهما نقداً فإنه يصح النساء؛ لئلا ينسد باب السلم في الموزونات؛ لأننا لو لم نقل بهذا الاستثناء لم يصح السلم في الموزونات إذا كان الثمن دراهم أو دنانير.

ومعلوم أنه إذا كان أحدهما نقداً واشتري به مكيل أنه يجوز فيه النساء؛ لأنهما اختلفا في علة ربا الفضل، لكن المشكل الذي يرد عليه هذا الاستثناء هو إذا أسلف في شيء موزون، فلولا هذا الاستثناء لقلنا: لا يجوز الإسلاف في الموزون إلا إذا أسلف غير الذهب والفضة.

والتعليل: لأن النبي صلى الله عليه وسلم لو لم يجوِّز النَّساء في بيع النقد في الموزون لانسد باب السلم في الموزونات غالباً، ومعنى قولنا: غالباً أنه ربما نقول: إن السلم في الموزونات لا ينسد ونجعل الثمن مكيلاً، فيقول مثلاً: أسلمت إليك مائة صاع من البر بطن من الحديد، فهنا يجوز النساء؛ لأن العلة مختلفة، فهما لم يتفقا في علة ربا الفضل، ولهذا نقول: لانسد باب السلم في الموزونات غالباً، ولا نقول: دائماً، لأنه يمكن السلم في غير الموزون، كالمكيل، والحيوان.

(1)

سبق تخريجه ص (149).

ص: 440

وقوله: «ليس أحدهما نقداً» ، لم يقل: ليس أحدهما ذهباً ولا فضة؛ لأنه لو كان أحدهما ذهباً أو فضة فلا بد من التقابض في مجلس العقد، فلو بعتك درهماً بدينار فلا بد من التقابض في مجلس العقد كما جاءت بذلك الأحاديث الكثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلو بعت عليك حلياً من الذهب بشيء من النحاس فلا بد فيه من التقابض؛ لأن المؤلف يقول: ليس أحدهما نقداً ولم يقل: ذهباً أو فضة.

‌كَالْمَكِيلَيْنِ وَالمَوزُونَيْنِ، وَإِنْ تَفَرَّقَا قَبْلَ القَبْضِ بَطَلَ.

قوله: «كالمكيلين» أي: إذا بيع بعضهما ببعض.

قوله: «والموزونين» أي: إذا بيع بعضهما ببعض، فإنه يحرم فيهما النساء.

ودليل هذا: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد»

(1)

، فأوجب القبض، وإيجاب القبض يعني تحريم النساء.

الأمثلة:

باع شعيراً ببر لا يجوز النساء؛ لأنهما اتفقا في علة ربا الفضل، وهي الكيل.

باع براً بحديد يجوز النساء؛ لأنهما اختلفا في علة ربا الفضل.

باع طناً من الرصاص بطن من النحاس لا يجوز؛ لأنهما اتفقا في علة ربا الفضل، وهي الوزن.

(1)

سبق تخريجه ص (207).

ص: 441

باع صاعاً من التمر بصاع من البر، لا يجوز النساء؛ لأنهما اتفقا في علة ربا الفضل وهي الكيل.

اشترى صاعاً من البر بدرهم، يجوز النساء؛ لأنهما لم يتفقا في علة ربا الفضل.

اشترى طناً من الرصاص بمائة درهم، يجوز النساء؛ لأنهما اتفقا في علة ربا الفضل وهي الوزن، لكن استثني إذا كان أحدهما نقداً.

واستثناء النقد يدل على أن الموزونات ليس فيها ربا كما رجحناه من قبل وقلنا: إن الصحيح في الذهب والفضة العين والنقدية، فنفس الذهب والفضة يجري فيهما الربا مهما كانا بدليل حديث القلادة

(1)

، وأيضاً هما نقد للناس وأثمان وقيم للأشياء ليس لأنهما موزونان، والسلم يدل على هذا القول؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول:«أو وزن معلوم» ، ومعلوم أن الموزون سيشرى بدراهم، فدل هذا على أن الموزونات ليس فيها ربا وهو القول الصحيح، إلا ما كان قوتاً فهو يرجع للعلة الأخرى.

قوله: «وإن تفرقا قبل القبض بطل» إذاً القبض شرط لاستمرار صحة العقد، أي أن العقد تم وصح، لكن يشترط لاستمرار صحته القبض، ولهذا قال:«وإن تفرقا قبل القبض بطل» والدليل الحديث الذي ذكرنا.

مثلاً: باع عليه براً بشعير في الدكان، لكن الشعير في

(1)

سبق تخريجه ص (397).

ص: 442

المخزن وقال: ائتني بعد ساعة في المخزن لأعطيك الشعير، فهذا لا يجوز؛ لأنهما تفرقا قبل القبض، فإن قال: أعطني يدك ومشيا إلى المستودع وسلمه فهذا جائز؛ لأنهما لم يتفرقا.

‌وَإِنْ بَاعَ مَكِيلاً بِمَوْزُونٍ جَاز التّفَرُّقُ قَبْلَ القَبضِ والنَّسَاءُ، وَمَا لَا كَيْلَ فِيْهِ وَلَا وَزْنَ؛ كَالثِّيَاب والحَيوانِ يَجُوْزُ فِيْهِ النَّسَاءُ.

‌وَلَا يَجُوز بَيْعُ الدّينِ بِالدَّيْنِ.

قوله: «وإن باع مكيلاً بموزون جاز التفرق قبل القبض والنَّساء» مثاله: باع مائة صاع من البر بمائة كيلو من النحاس فهذا يجوز؛ لأنهما لم يتفقا في علة ربا الفضل وفي الجنس أيضاً، فيجوز التفرق ويجوز النساء.

قوله: «وما لا كيل فيه ولا وزن كالثياب والحيوان يجوز فيه النساء» لأنه ليس بربوي، إذ إن الربوي إما مكيل وإما موزون، فما لا كيل فيه ولا وزن فإنه يجوز فيه النساء، ولم يقل: ربا الفضل؛ لأنه إذا جاز النساء جاز الفضل ولا عكس، فقد يجوز الفضل ولا يجوز النساء كالبر بالشعير ـ مثلاً ـ يجوز فيه الفضل، ولا يجوز فيه النساء.

مثال ما سبق: لو بعت عليك ثوباً بثوبين، الثوب حاضر الثوبان بعد ستة أشهر جاز؛ لأن الثياب لا يقع فيها الربا؛ لأنها ليست مكيلاً ولا موزوناً.

مثال آخر: إنسان احتاج إلى بعير وليس عنده دراهم، فجاء إلى شخص وقال: أعطني بعيراً الآن وأعطيك بعيرين بعد سنة جاز؛ لأنه ليس بربوي؛ لأنه ليس فيه كيل ولا وزن؛ ويدل له أن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن

ص: 443

ينفذ جيشاً فكان يأخذ على قلائص

(1)

الصدقة البعير بالبعيرين، والبعيرين بالثلاثة

(2)

، وهو منطبق على القواعد حيث إنه جارٍ على التعليل الذي ذكرنا.

قوله: «ولا يجوز بيع الدَّين بالدَّين» هذا ليس على إطلاقه ولكن له صور:

الأولى: بيع الدين على الغير، فلا يجوز أن يباع بالدين، بل ولا بالعين على المذهب مطلقاً.

مثال ذلك: إنسان في ذمته لشخص مائة صاع بر، فجعل هذا الرجل يطلبه يقول: أعطني يا فلان، وهو يماطل به، فقيل للرجل الذي له الحق: نعطيك عنها مائة درهم، ونحن نأخذها من المطلوب فلا يجوز، حتى وإن كان بعين فإنه لا يجوز، فلو قيل لهذا الرجل الذي له مائة الصاع في ذمة فلان: سوف نعطيك عنها مائة ريال تأخذها نقداً، فإنه لا يجوز؛ لأنه يشبه أن يكون غير مقدور على تسليمه، وإذا كان كذلك فإنه يكون فيه غرر، إذ إن المطلوب قد يوفي كاملاً وقد لا يوفي، وقد يوفي ناقصاً، فلا يصح.

لكن لو كان الذي اشترى دَين فلان قادراً على أخذه منه، كرجل له سلطة يستطيع أن يأخذ هذا المال الذي في ذمة الرجل، فالصحيح أنه يجوز وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله؛ لأن العلة في النهي عن بيع ما في الذمم إنما هي

(1)

القلائص: جمع قلوص وهي الناقة المسنة.

(2)

سبق تخريجه ص (410).

ص: 444

الخوف من الغرر، وعدم الاستلام فإذا زالت العلة زال المعلول وزال الحكم، ثم إن عجز عن أخذه فله الفسخ، وبشرط ألا يربح فيه البائع بمعنى ألا يبيعه بأكثر من ثمنه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ربح ما لم يضمن

(1)

، ولحديث ابن عمر رضي الله عنهما

(2)

، وبشرط ألا يكون بينهما ربا نسيئة مثل أن أبيع عليه مائة صاع من التمر في ذمة فلان بمائة صاع من الشعير فهذا لا يجوز، لأنه يجري فيه ربا النسيئة وأنا لم أقبض العوض.

الثانية: بيع الدين على من هو في ذمته.

مثاله: أنا أطلب شخصاً مائة صاع بر، فجاء إلي وقال: أنا ليس عندي بر، ولكن أنا أعطيك عن مائة الصاع مائتي ريال؛ فهنا بيع دين بدين ففيه تفصيل:

إن كان باعه بسعر وقته فلا بأس، وإن باعه بأكثر فإنه لا يجوز، والدليل: حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: «كنا نبيع الإبل بالدراهم فنأخذ عنها الدنانير ونبيع بالدنانير فنأخذ عنها الدراهم» ، فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال:«لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تتفرقا وبينكما شيء» ، فاشترط النبي صلى الله عليه وسلم شرطين:

الشرط الأول: أن تأخذها بسعر يومها.

الشرط الثاني: ألاّ يتفرقا وبينهما شيء.

ووجه ذلك أنه إذا أخذها بأكثر فقد ربح فيما لم يدخل في

(1)

سبق تخريجه ص (209).

(2)

وهو قوله: «كنا نبيع الإبل

» وقد سبق ص (208).

ص: 445

ضمانه، مَثَلاً الدينار يساوي عشرة دراهم فقال: أنا آخذ منك بأحد عشر، فهذا لا يجوز؛ لأن الذي أخذ أحد عشر بدل الدينار ربح درهماً فربح في شيء لم يدخل في ضمانه؛ لأن الدنانير في ضمان من هي في ذمته، ولم تدخل عليه إلى الآن، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ربح ما لم يضمن، وقلنا فيما سبق: المفهوم لا عموم له، إذ يصدق المفهوم بالمخالفة ولو في صورة واحدة، فإذا أخذها بأقل من سعر يومها، أي: الدينار يساوي عشرة فأخذه الطالب بتسعة فمفهوم الحديث: «لا بأس أن تأخذها بسعر يومها» أن هذه الصورة لا تجوز، لكنها في الواقع تجوز؛ لأنه لم يربح فيما لم يدخل في ضمانه، بل نزل بعض حقه، فأبرأه من بعض حقه، وإبراؤه من بعض حقه لا بأس به، فصار المفهوم الآن ليس له عموم، وهذه مسألة ينبغي لطالب العلم أن يفهمها، أن المفهوم لا عموم له، بل يصدق بصورة واحدة مخالفة، والصورة الواحدة المخالفة في المثال إذا أخذها بأكثر، أي: الدينار يساوي عشرة وأخذها بأحد عشر، فهذا لا يجوز؛ لأنه يدخل في ربح ما لم يضمن.

فهمنا العلة في قول الرسول عليه الصلاة والسلام: «لا بأس أن تأخذها بسعر يومها» ، فما هي العلة في قوله:«ما لم تتفرقا وبينكما شيء؟» .

الجواب: العلة ظاهرة أيضاً؛ لأنه سيأخذ عن الدنانير دراهم، وبيع الدنانير بالدراهم لا بد فيها من القبض في مجلس العقد، وحينئذ لو لم يقبض لبطل العقد، كما لو باع دنانير بدراهم ولم يقبض فإنه يبطل العقد، فتبين أن حديث عبد الله بن عمر

ص: 446

رضي الله عنهما متمشٍ على القواعد العامة في الشريعة، والمعروفة في أبواب الربا.

ويشترط ـ أيضاً ـ ألا يتخذ حيلة على الربا، فإن اتخذ حيلة على الربا فهو حرام، مثل أن يبيع الدين الذي حل بدين أكثر مؤجلاً، فيقول: عندك الآن مائة صاع من البر وقد حل، ولكن ليس عندك، أبيعه عليك بمائة صاع من التمر مؤجلاً، ومائة الصاع من التمر أكثر قيمة من مائة الصاع من البر، فهذا لا يجوز لئلا يتخذ حيلة إلى قلب الدين.

إذاً بيع الدين بالدين: إذا باع ما في ذمة الغير لنفسه وهو مما يشترط فيه التقابض وجب القبض، وإذا كان لا يجب فيه التقابض فلا بأس أن يتأخر القبض لكن بشرط ألاّ تزيد القيمة لتأخر القبض.

مثاله: هذا الرجل في ذمته لفلان مائة ريال فجاء المطلوب وقال: ليس عندي مائة ريال، بل عندي عشرة دنانير، والدينار يساوي عشرة ريالات، قال: أعطني عشرة دنانير عن المائة، فهذا يجوز بشرط التقابض؛ لأنه بيع دراهم بدنانير، أما لو قال: أنا ليس عندي مائة ريال، وليس عندي دنانير لكن عندي بر، والصاع منه يساوي درهماً، فيكون عوض مائة الدرهم مائة صاع، قال: أنا أعطيك مائة صاع عن مائة درهم فوافق فلا يشترط التقابض؛ لأن بيع البر بالدراهم لا يشترط فيه التقابض؛ لعدم اتفاقهما في علة ربا الفضل.

أما لو قال: أنا أقبل البر؛ لكن أعطني عن مائة الدرهم مائة

ص: 447

صاع وعشرة أصواع فهذا لا يجوز؛ لأنه ربح في شيء لم يدخل في ضمانه.

أما لو قال: أنت فقير أعطني بدل مائة الدرهم ثمانين صاعاً فهذا يجوز، لأنه يُعتبر إحساناً منه حيث اقتصر على بعض حقه، إذ إن حقه أن يكون مائة صاع، لكنه اختار ثمانين صاعاً، فصار كلام المؤلف ليس على إطلاقه:«لا يصح بيع الدين بالدين» ، بل لا بد فيه من التفصيل، وصار حديث ابن عمر رضي الله عنهما

(1)

ميزاناً في هذا الأمر، أي: في بيع الدين على من هو عليه.

أما بيع الدين على غير من هو عليه فلا يجوز إلا على قادر على أخذه، ولكن إذا قلنا: يجوز إذا كان قادراً على أخذه لا بد أن يكون المدين قد أقر بالدين، أما إذا كان منكراً، وجاء إنسان وقال: أنا أريد أن أشتري دين فلان الذي هو لك وهو منكر ولم يقر، ولكن قال: أخاطر فأشتريه وأطالبه عند القاضي، فلا يجوز؛ لأنه مخاطرة، لكن كلامنا فيما إذا باع ديناً في ذمة مقر على شخص قادر على استخراجه، فالصواب أنه جائز، لأنه لا دليل على منعه، والأصل حل البيع لقول الله تعالى:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275].

(1)

سبق تخريجه ص (208).

ص: 448

‌فَصْلٌ

‌وَمَتَى افْتَرَقَ الْمتَصَارِفَان قَبْلَ قَبْضِ الكُلِّ أو البَعْضِ بَطَلَ العَقُدُ فِيْمَا لَمْ يُقْبَضْ.

قوله: «فصل» هذا الفصل ذكر فيه المؤلف حكم الصرف وهو بيع النقد بالنقد، وهذا لا يخرج عن ما سبق من القواعد في الربا، لكن خصّوه بفصل لطول فروعه والكلام عليه.

قوله: «ومتى افترق المتصارفان» المتصارفان هما المتبايعان بالصرف، والصرف في اللغة الصوت، ومنه ما جاء في حديث المعراج:«حتى بلغ مكاناً سمع فيه صريف الأقلام»

(1)

، يعني صوتها، والصرف بيع نقد بنقد، تبيع مثلاً ذهباً بفضة أو فضة بفضة يعني دراهم بدراهم أو دراهم بدنانير، وسمي صرفاً لأنهم كانوا يزنون الدراهم والدنانير، يتبايعون بالوزن، حينما نضعها في الميزان يكون لها صريف، أي: صوت ولهذا سمي صرفاً.

قوله: «قبل قبض الكل أو البعض بطل العقد فيما لم يقبض» أي: وصح فيما قبض.

مثال ذلك: اشترى مائة درهم بعشرة دنانير فهذا صرف، فإذا استلم كل واحد منهما ما آل إليه صح العقد، أي: تبين أن العقد صحيح، وإذا سلمه خمسين درهماً فقط وتفرقا، صح العقد في خمسين الدرهم ويقابلها خمسة دنانير والباقي لا يصح، وهذا بناء على تفريق الصفقة وأنه يمكن أن يصح بعضها دون بعض؛

(1)

أخرجه البخاري في الصلاة/ باب كيف فرضت الصلاة في الإسراء (349)؛ ومسلم في الإيمان/ باب الإسراء بالرسول صلى الله عليه وسلم (163) عن ابن عباس وأبي حبة الأنصاري رضي الله عنهم.

ص: 449

لأن الحكم يدور مع علته، فما وجد فيه شرط الصحة فهو صحيح، وما لم يوجد فيه شرط الصحة فليس بصحيح.

مثال آخر: أعطاه ديناراً يصرفه بعشرة دراهم فلم يجد إلا خمسة دراهم، فهل يصح؟

نقول: يصح العقد فيما قبض، ولا يصح فيما لم يقبض، فيصح العقد في نصف الدينار، ويبقى نصفه أمانة عند البائع، فيكون هذا الدينار مشتركاً بين البائع والمشتري.

وفائدة ذلك أنه لو زاد سعر الذهب فيما بين هذه الصفقة، وبين استلام حقه إذا وجد الآخر بقية الدراهم، فإذا تغير السعر فهو على حساب صاحبه، فمثلاً لو كان حين صرف الدينار بالدراهم يساوي الدينار عشرة دراهم، ثم صار يساوي عشرين درهماً فإنه يبقى نصف الدينار بعشرة دراهم؛ لأن ما بقي من الدينار بقي عند الآخر وديعة، ولا يصح العقد فيه.

فإن لم يسلم شيئاً إطلاقاً بطل العقد في الجميع، وهذه المسألة نظيرها إذا اشترى الإنسان حلياً من شخص بعشرة آلاف ريال وسلمه خمسة آلاف ريال فقط، والباقي قال: أحضره لك غداً فإنه يصح في النصف، والباقي لم يدخل في ملكه ولا يصح فيه العقد، فإن لم يعطه شيئاً بأن قال: سآتيك بالدراهم بعد العصر وأعطني الحلي الآن، بطل العقد في الجميع، فإن قال المشتري: أنا ليس عندي دراهم وأريد أن أشتري منك حلياً، فقال البائع: أنا أسلفك، فسلفه عشرة آلاف ريال ثم ردها على

ص: 450

البائع فهذا حيلة بلا شك، فلا يجوز؛ لأن مفاسد المحرمات لا تزول بالحيل عليها، بل إن الحيل لا تزيد المفاسد إلا مفاسد، أما لو سلفه آخر فلا بأس.

وقوله: «بطل العقد فيما لم يقبض» وجه ذلك أن القبض شرط لصحة العقد؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «بيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد»

(1)

.

‌والدراهم والدّنَانِيْرُ تَتَعَيَّنُ بِالتّعْيينِ فِي العَقْدِ، فَلَا تُبَدّلُ.

قوله: «والدراهم والدنانير تتعين بالتعيين في العقد فلا تبدل» هذه مسألة خلافية، ويترتب على الخلاف فيها عدة مسائل ذكرها ابن رجب رحمه الله في آخر كتاب «القواعد» ، هل الدراهم والدنانير تتعين بالعقد أو لا؟ في ذلك خلاف بين العلماء، منهم من قال: إنها لا تتعين؛ لأن المقصود واحد، فالمقصود بالدينار هذا والدينار هذا واحد، إنما اختلفا في عينهما فقط، وهذا لا يدل على أن الدراهم تتعين بالتعيين بالعقد.

ومنهم من قال: بل تتعين.

مثال ذلك: اشتريت منك هذا الثوب بهذا الدرهم، فالثوب الآن معين ولا إشكال فيه، ولهذا لو أراد البائع أن يبدل الثوب لم يستطع ذلك إلا بموافقة المشتري، لكن المشتري عين هذا الدرهم، فهل يتعين هذا الدرهم؟

فإذا قلنا بالتعيين فإن المشتري لا يمكنه أن يبدلها؛ لأنه لما

(1)

سبق تخريجه ص (207).

ص: 451

عيَّنَها ووقع العقد على عينها، وتم العقد صارت ملكاً للبائع، فلا يمكن أن يبدلها المشتري، كما أن البائع لا يمكن أن يبدل الثوب، أما إذا قلنا: إنها لا تتعين فله أن يبدلها، ويأخذ من جيبه درهماً غير الذي عينه ويسلمه للبائع، هذا مما يترتب على الخلاف، فإذا قلنا: إنها تتعين بالتعيين بالعقد فإنها لا تبدل، وإن قلنا: إنها لا تتعين فإنها تبدل؛ لأنه لا فرق بين هذا الدرهم وهذا الدرهم.

وفي الأوراق النقدية كذلك، لو قال: اشتريت منك هذا الثوب بهذه العشرة، ثم أراد أن يعطيه بدلاً عنها عشرة أخرى، فهل له أن يبدلها؟ على الخلاف، إن قلنا: إنها تتعين بالتعيين لم يملك أن يبدلها، وإن قلنا: لا تتعين ملك، والأقرب إلى مقصود الناس عدم التعيين، إذ إن البائع لا يهمه أن تكون هذه العشرة أو العشرة الأخرى.

ثم إنه ـ أيضاً ـ يمكن أن يختلف، فلو أنه اختلف بأن أخرج العشرة فإذا هي ورقة جديدة فأراد أن يغيرها إلى ورقة أخرى قديمة قد تكون آيلة إلى التلف عن قرب، فهل له أن يغير؟ على الخلاف، لكن حتى إذا قلنا: إنها لا تتعين فإنه في هذه الحال للبائع أن يقول: لا أريد هذا، ففرق بين ورقة آيلة للتلف عن قرب، وورقة جديدة، فالغرض هنا يختلف فالظاهر أنه حتى لو قلنا: إنها لا تتعين، فإنها في هذه الصورة تتعين؛ لأن الرغبة عند الناس تختلف بين هذا وهذا، فإن بدلت فهو عقد جديد على هذه الدراهم الجديدة.

ص: 452

‌وَإِنْ وَجَدَهَا مَغْصُوبَةً بَطَلَ.

قوله: «وإن وجدها مغصوبة بطل» الضمير يعود على الدراهم أو الدنانير التي عينها في العقد، أي: تبين أنها مغصوبة فإن العقد يبطل؛ لأنه وقع على عين مغصوبة لا يملك الغاصب أن يتصرف فيها، وتصرفه فيها باطل فيبطل العقد.

مثال ذلك: إنسان غصب درهماً من شخص، ثم جاء إلى صاحب الدكان، وقال: اشتريت منك هذا الثوب بهذا الدرهم، فتبين أن الدرهم مغصوب، فَمَالِكُ هذا الدرهمِ ليس المشتري، فهذا المشتري أجرى العقد على ما لا يملكه، والعقد على ما لا يملكه باطل، فيكون العقد باطلاً، كما لو كان الأمر بالعكس، بأن اشترى ثوباً بدرهم، فتبين أن الثوب مغصوب فلا يصح العقد؛ لأن المبيع يتعين بالتعيين، لا إشكال فيه، وعلى القول بأن الدراهم لا تتعين بالتعيين، إذا تبين أن الدراهم التي عيّنها مغصوبة أو مسروقة أو ما أشبه ذلك فهنا لا يبطل العقد، ويرد المغصوب إلى مالكه ويلزم المشتري ببدله.

فإذا قال البائع: أنا بعت عليك بثمن معين وقبضته، والآن لما تبين أنه ملك للغير فإني أريد أن أفسخ العقد؛ لأني أخشى أن تماطل بي فما الجواب؟.

الجواب: على الخلاف هل يفسخ لإعسار المشتري أو لا؟ لكن في هذه الصورة ينبغي أن يقال: بأن له الفسخ قولاً واحداً؛ وذلك لأن هذا الرجل خدعه وغره وخانه، ولا ينبغي أن يعامل الخائن إلا بما يردعه عن خيانته.

إذاً إذا وجدها مغصوبة أو مسروقة أو منهوبة، المهم تبين

ص: 453

أنها ليست ملكاً للمشتري، فإن العقد يبطل على القول بأنها تتعين.

‌وَمَعِيْبَةً مِنْ جِنْسِهَا أمْسَكَ أوْ رَدَّ.

قوله: «ومعيبة من جنسها أمسك أو رد» أمسك يعني بلا أرش، أو رد.

مثال ذلك: اشترى ديناراً بدينار ثم وجد أن الدينار معيب من جنسه، أي: مخلوط معه ذهب رديء، فالبيع واقع على دينار بدينار، ويشترط في بيع الدينار بالدينار التساوي، فهذا الرجل وجد أن الدينار الذي عينه معيباً من جنسه، فماذا نقول؟ نقول له: أنت الآن بالخيار إن شئت فأمسك بلا أرش، وإن شئت فرد، أما كونه يرد فواضح؛ لأنه معيب، وهو لم يشتر إلا شيئاً سالماً، وأما كونه بلا أرش، فلأن الأرش يستلزم زيادة في بيع الجنس بجنسه، ومعلوم حسب ما مر علينا من القواعد أن بيع الجنس بجنسه يشترط فيه التماثل، ولهذا قال:«أمسك» أي بلا أرش «أو رد» .

وعلم من قول المؤلف رحمه الله «من جنسه» ، أنه إذا كان من غير الجنس فإنه لا يصح العقد إذا وجدها معيبة من غير الجنس، فنقول: ليس فيه خيار بل هو باطل.

مثال ذلك: باع درهماً بدرهم، ووجد أن أحد الدرهمين معيب بنحاس فهنا يبطل العقد؛ لأن العيب من غير الجنس، فيكون من باب «مد عجوة ودرهم» لأنه باع جنساً بجنسه، ومع أحدهما من غير الجنس فلا يصح.

وهذا كله بناءً على أن الدنانير والدراهم تتعين بالتعين

ص: 454

بالعقد، أما إذا قلنا: إنها لا تتعين، فإنه إذا وجدها معيبة يبقى العقد على ما هو عليه، ويطالب ببدلها سليماً.

‌وَيَحْرُمُ الرِّبا بَيْنَ المُسْلِمِ والحَرْبِيِّ، وَبَيْنَ المُسْلِمِيْنَ مُطْلَقاً بِدَارِ إِسْلَامٍ وحَرْبٍ.

قوله: «ويحرم الربا بين المسلم والحربي» تحريم الربا ثابت بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين، وهذا من حيث الجملة إذ إن العلماء يختلفون في بعض المسائل اختلافاً كثيراً، أما الكتاب فنص صريح في قول الله تعالى:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]، وأما السنة فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه:«لعن آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه»

(1)

، وهذا يقتضي أن يكون الربا من كبائر الذنوب، وأما الإجماع فلم يختلف المسلمون في أن الربا محرم وإن اختلفوا في بعض المسائل، مثل اختلافهم في علة الربا وهل يتعدى الحكم إلى غير المنصوص عليه أو لا؟ وكما مر علينا فيما سبق أن هناك اختلافاً، لكن في الجملة هم مجمعون على تحريم الربا، كما نقول مثلاً: إن العلماء مجمعون على وجوب الزكاة وإن كانوا مختلفين في بعض الأشياء هل فيها زكاة أو ليس فيها.

وقوله: «يحرم الربا بين المسلم والحربي» كما يحرم بين المسلمين، والحربي مباح الدم والمال بالنسبة لنا، فماله حلال لو أخذناه قهراً فهو لنا، لكن عند المعاملة تُجرى المعاملة على ما تقتضيه الشريعة، ثم إن الحربي إذا عاقدت معه فإن العقد نوع من العهد، وقد قال الله:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]، وقال:{وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} [الإسراء: 34]، والربا في

(1)

سبق تخريجه ص (392) ..

ص: 455

الشريعة محرم، والنصوص عامة، فيحرم الربا بين المسلم والحربي، فلو أن إنساناً وجد حربياً، ومعه مال وليس بقادر على أخذه منه قهراً، فقال: أنا أريد أن أشتري منك مائة دينار بخمسين ديناراً فإن ذلك لا يجوز، أو مائة صاع برّ جيد بخمسين صاعاً رديئاً مثلاً أو بالعكس فإنه حرام؛ لأنه متى جرى الأمر بصورة العقد وجب أن يطبق على ما تقتضيه الشريعة.

وقال بعض العلماء: إنه لا يحرم الربا بين المسلم والحربي وأنه يجوز لك أن تتعامل مع الحربي بالربا؛ لأن ماله مباح كما أن دمه مباح، ولكن هذا قياس في مقابلة النص فيكون فاسد الاعتبار.

وبين المسلم والذمي من باب أولى أن يكون الربا جارياً؛ لأن مال الذمي محترم.

قوله: «وبين المسلمين مطلقاً» أي: يحرم ـ أيضاً ـ الربا بين المسلمين مطلقاً، وهذا الإطلاق فسره:

بقوله: «بدار إسلام وحرب» بدار إسلام كالبلاد الإسلامية، ودار حرب كالبلاد الحربية إذا دخلها المسلم بأمان وتبايع مع حربي، أو مع مسلم فإنه يحرم الربا؛ وذلك لعموم الأدلة.

ومن العلماء من اعتبر الدار، وقال: إن الدار إذا كانت دار حرب فلا ربا فيها بين المسلمين وأهل الحرب، وهذا أبعد من القول الأول؛ لأن دار الحرب لا تغير الحكم، والنصوص عامة، والعقود يجب أن تجرى على ما تقتضيه الشريعة.

ص: 456

مسائل في «الروض»

(1)

:

يقول: «لا ربا بين السيد ورقيقه» فيجوز للإنسان أن يشتري ثلاثة دراهم بدرهمين من رقيقه؛ لأن المال ماله لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من باع عبداً له مال فماله للذي باعه»

(2)

.

وهل يجري بين الأب وابنه؟

الجواب: نعم يجري بين الأب وابنه؛ لأن مال الابن مستقل، ومال الأب مستقل، وكون الأب يملك أن يتملك من مال ولده ما شاء لا يعني أن مال ولده ملك له، وأما قوله صلى الله عليه وسلم:«أنت ومالك لأبيك»

(3)

، فمراده أن لأبيك أن يتملك من مالك، وليس معناه أنك ملك لأبيك، أو أن مالك ملك له، فإن هذا يمنعه الإجماع، فالابن ليس ملكاً لأبيه، وإذا كان الابن ليس ملكاً لأبيه فماله ليس ملكاً له، ولهذا قال الله تعالى:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11]، فجعل الميراث جارياً بين الآباء والأبناء، ولو كان ملك الأبناء للآباء لم يكن هناك جريان للإرث.

وهل يجري الربا بين الزوج وزوجته؟

الجواب: نعم يجري.

مسألة: تشتري الأختان أحياناً حلياً، ثم إذا وصلتا إلى البيت قالت إحداهما: هذا الحلي لا أريده، فقالت الأخرى: أنا أريده، فقالت: نتبادل، وبينهما تفاضل، يعني هذه أسورتها واسعة

(1)

الروض مع حاشية ابن قاسم (4/ 529)

(2)

سبق تخريجه ص (61).

(3)

سبق تخريجه ص (131).

ص: 457

وثقيلة وهذه بالعكس، فقالت: ليس بيننا حساب خذي الأسورة التي لي، وآخذ التي لك وأتنازل، فهذه أسورتها مثلاً عشر أواق وهذه خمس عشرة أوقية، والفقهاء يقولون: البيع مبادلة مال بمال، فهذا الذي في هذه المسألة تبادل، فإن قالوا: تنازل، قلنا: التنازل لا يجوز إذا أدى إلى فعل محرم، وهذا يؤدي إلى فعل محرم، وإذا كانت تريد أن تتنازل عن الحلي لأختها مجاناً لا مانع، لكن بعوض والتفاضل بينهما ممنوع ولا ينفع كلمة «تنازل» ؛ فالحقائق إذا سميت بغير اسمها لا تتغير، وإلا فالكفار يسمون الخمر الشراب الروحي، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى قوم يشربون الخمر يسمونها بغير اسمها

(1)

، فالأسماء لا تغير حقائق المسميات.

إذاً يجري الربا بين الأقارب كلهم، وليس أحد يعامل أحداً بربا، وليس بينهما ربا إلا السيد مع رقيقه، وحقيقة الأمر أن تعامل السيد والرقيق ليس معاملة حقيقية؛ وإنما هي صورة معاملة؛ إذ إن مال الرقيق للسيد.

قوله: «وإذا كان له على آخر دنانير فقضاها دراهم شيئاً فشيئاً»

(2)

.

(1)

أخرجه الإمام أحمد (5/ 342) وأبو داود في الأشربة/ باب في الداذي (3688) وابن ماجه في الفتن/ باب العقوبات (4020) عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه، وأخرجه النسائي في الأشربة/ باب منزلة الخمر (8/ 312) عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وصححه الألباني في الصحيحة (90).

(2)

الروض مع حاشية ابن قاسم (4/ 529).

ص: 458

مثاله: إنسان في ذمته عشرة دنانير لشخص فقضاها دراهم شيئاً فشيئاً، فإن كان يعطيه كل درهم بحسابه من الدنانير صح؛ فالدنانير عشرة تساوي مائة، فصار هذا المطلوب كلما جاء بعشرة دراهم قال: هذه مقابل دينار فهذا يصح؛ لأن صاحب الدنانير قد قبضها في الواقع إذ هي عنده، وإن كان لا يقول هكذا لكنه يأتي كل يوم بعشرة دراهم حتى انتهى وسلمه مائة فإنه لا يصح.

قال: «وإن لم يفعل ذلك ثم تحاسبا بعده فصارفه بها وقت المحاسبة لم يجز؛ لأنه بيع دين بدين، وأن قبض أحدهما من الآخر ما له عليه، ثم صارفه بعين وذمة صح»

(1)

.

«إن لم يفعل» أي: إن لم يعطه كل درهم بحسابه يقول: هذا في مقابل كذا «ثم تحاسبا بعد» يعني بعد أن تمت الدراهم تحاسبا، وصارفه بها وقت المحاسبة لم يجز؛ لأنه بيع دين بدين، صار يأتي كل يوم بعشرة دراهم فانتهت المائة، وقال: الآن نتصارف فما عندك من المائة مقابل ما علي من الدنانير؛ ولم يحضر لا دنانير ولا دراهم، إذاً هو بيع دين بدين، بيع ما في ذمة المطلوب ـ دنانير ـ بما استلمه الطالب من الدراهم فلا يصح.

والطريق أن يحضر إحداهما ولهذا قال: «وإن قبض أحدهما من الآخر ما له عليه، ثم صارفه بعين وذمة صح» فيقال: أحضر عشرة دنانير ثم بعد ذلك قل: هذه الدنانير هي مقابل ما عندك من الدراهم، وهي مائة فيكون الصرف الآن عيناً بذمة، وإن أحضر

(1)

الروض مع حاشية ابن قاسم (4/ 529).

ص: 459

كل واحد ما عنده فيصح من باب أولى؛ لأنه الآن صرف عين بعين.

والصحيح أنه يصح في هذه المسألة وفيما إذا تصارفا في الذمة؛ لأن ظاهر حديث ابن عمر رضي الله عنهما: «كنا نبيع الإبل بالدراهم ونأخذ الدنانير، ونبيع بالدنانير ونأخذ الدراهم»

(1)

أنه لا تحضر الدراهم ويقع العقد على عينه فهذا ظاهر الحديث، ولأن التقابض قبل التفرق قد حصل، فالدراهم الآن في ذمتك والدنانير الآن في ذمتي، وتفرقنا وليس بيننا شيء، فالصحيح أنه يصح، وأنه ليس من باب بيع الدين بالدين، وإنما المنهي عنه من بيع الدين بالدين ما سبق تصويره ومر علينا.

مسألة: إذا اشترى إنسان أشياء من بقالة وكان يحاسبه كل شهر، فإذا انتهى الشهر قال: كم علي؟ قال البقال: كذا وكذا، فسلمه دون أن يعين الدراهم حين تسليمها فهذا يجوز، وهذا مما يؤيد القول بأنهما إذا تصارفا في الذمة، وكان كل واحد منهما قد قبض ما يؤول إليه فإنه صحيح.

(1)

سبق تخريجه ص (208).

ص: 460